تأصيلات دعوية
بين إدارة الوقت وإدارة الذات
خالد أبو الفتوح
روي عن الحسن البصري (رحمه الله) أنه قال: (يا ابن آدم، إنما أنت أيام،
كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك) .. وهذا (البعض) يتبعض أيضاً إلى ساعات ودقائق
وثوانٍ.. كلما ذهبت دقيقة أو ثانية ذهب بعضك؛ فالوقت هو الحياة، وهذا معنى
مشترك يعرفه الناس جميعاً، ولكن الإسلام زاد على ذلك المعنى حين جعل الوقت
بمثابة رأس مال يحاسب عليه الإنسان؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه ... )
[1] وتزداد المحاسبة حين يزداد رأس المال؛ قال (تعالى) : [أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ] (فاطر: 37) ، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(أعذر الله إلى امرئ أخّرَ أجله حتى بَلّغَه ستين سنة) [2] .
ولكن الوقت يزيد عن المال؛ فالمال يُدخر ويُقايض وقد يُعوّض إذا أُهدر،
ولكن الوقت لا سبيل لادخاره أو مقايضته أو استرجاعه، إضافة إلى ذلك: فإن
الوقت هو المورد الوحيد الذي نُرغم على صرفه سواءً أأردنا أم لم نرد!
لذا: فالإسلام يحثّ المسلم على الاستفادة القصوى من الوقت حتى في أشد
الظروف صعوبة؛ فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا
يقوم حتى يغرسها فليفعل) [3] .
كانت هذه نبذة عن قيمة الوقت، فماذا عن قيمته في حياة مسلمي زماننا؟ ..
يبدو أنه المورد الأكثر تبديداً في ثرواتهم، وإذا وقع هذا التبديد في أرصدة الدعاة
والمصلحين تعدى الضرر إلى فئات كثيرة، ولكننا إذا نظرنا إلى الممسكين بطرف
الحضارة اليوم رأينا أنهم يستثمرون أوقاتهم في الشر والخير بدقة محسوبة، فما هو
السبب في هذا التباين؟ إنه ليس راجعاً إلى فروق عنصرية أو صفات جسمانية أو
ذهنية موروثة، بل لأن الغرب استطاع أن يضع وينفذ نظاماً تربوياً يبث في أبنائه
من خلاله ضمن ما يبث مبادئ إدارية فعالة، قام عليها نظام حياتي تُمَارس فيه
أسس إدارية سليمة، بل أصبحت هذه الأسس والمبادئ علوماً قائمة بذاتها لها فروع
وفنون تسمى (علوم الإدارة) ، ويبرز من هذه العلوم فرع يسمى (إدارة الوقت) [4] .
وقفة مع الذات:
عزيزي القارئ..! حتى لا نبدد وقتك ونحن نتحدث عن الوقت وأهميته:
تمهل قليلاً وتأمل هذه الأسئلة، ثم أجب عليها بصدق واصفاً حالك:
هل تردد كثيراً: (ليس لديّ وقت لإنجاز ما أود القيام به) ؟
هل تتأخر دائماً عن مواعيدك؟ وهل تأخذ المهمات التي تقوم بها وقتاً أكبر
مما تحدده لها؟
هل تتضارب مواعيدك مع بعضها؟
هل تقدم تنفيذ العمل الذي تحبه أو الأكثر إلحاحاً على العمل الأهم؟
هل تفاجئك الأزمات، وبعدها تتصرف وتتخذ الإجراءات حسبما يتفق لك
وتسمح به الظروف، وليس بما تخطط له؟
إذا كانت إجاباتك على كل ما سبق بـ (لا) فأنت لست بحاجة إلى إكمال قراءة
هذا المقال، أنت بالتأكيد أحد شخصين: إما إنك منظم جداً تعرف كيف تستثمر
وقتك جيداً، وإما إنك صاحب أهداف متدنية ولا تجد ما تشغل فراغك به، فإذا كنت
كذلك فابحث لنفسك عن هدف يملأ عليك حياتك.
أما إذا كانت إجاباتك بـ (نعم) حتى ولو على تساؤل واحد منها، فأهلاً بك
ضيفاً في مصحة (إدارة الوقت) .. ولكن قبل أن ندخل سوياً هذه المصحة، هل
تعترف فعلاً أنك مريض وبحاجة إلى علاج؟ .. إن اعتراف المرء بأن العيب في
ذاته هو أول خطوة على الطريق الصحيح.. لعلك ما زلت غير مقتنع، ولعلك كنت
تنتظر من هذا المقال أن يرشدك إلى أدوات خارج ذاتك لإدارة وقتك.. إذا كان
الأمر كذلك فانتبه إلى أن أهم الممتلكات (الذي يسمى بالوقت) يوزع بالتساوي على
كل البشر بغض النظر عن المرحلة السنية أو الموقع الوظيفي أو المكان الجغرافي
أو الاعتقاد الديني، فكل شخص لديه (7) أيام في الأسبوع، و (24) ساعة في
اليوم ... حتى من يحركون (النظام العالمي الجديد أو القديم) .. لا يملكون إلا ما
تملكه أنت من الوقت.. قد تقول: إن تحت أيديهم إمكانات هائلة.. نعم، ولكنك
أيضاً لا تدير النظام العالمي، وليس لديك أهدافهم ولا طموحاتهم.. نحن نتحدث
عن إدارتك لبيتك أو لعملك أنت، نتحدث عن هدفك أنت وطموحاتك أنت.. إذن:
هل الوقت هو المشكلة أم إننا نحن المشكلة؟ .... إن أكثر الأشياء فائدة والتي يمكن
أن تقوم بها عندما تسيء التصرف في وقتك هي أن تعترف بذلك، فما دمت مستمراً
في الإنكار أو التسويغ فلن تحل المشكلة.. فإذا أدركت ذلك ورغبت أن تنتزع وقتاً
لك: فإنه ينبغي أن تكون راغباً في ذلك فعلاً.. فهل أنت راغب؟
نحن الآن نتحدث إلى صنف من الجادين في حياتهم المخلصين في أعمالهم،
كثير منهم يسهر على إنجاز عمله ويتفانى في ذلك، ولكنه لا يحسن استثمار وقته،
ولا يدرك أنه بقدر من المعرفة والممارسة يمكنه أن يحقق نتائج أفضل مثل غيره أو
أكثر منهم، ليس بالضرورة أن يكون مديراً أو موظفاً في منشأة، فقد يكون قائماً
على رأس عمل دعوي، أو طالب علم لا يستطيع السيطرة على وقته، أو حتى
ربة بيت في منزلها.. مرضهم واحد، وأيضاً قواعد علاجهم واحدة.. فالمهام
الكثيرة المتنوعة غير المتجانسة يصلح لها جميعاً أسس إدارة الوقت ومبادئه؛ لأن
العملية الإدارية كلها عملية نمطية وإن كان أسلوب ممارستها يختلف باختلاف الهدف
والموقف..
ولأنك لا تستطيع السيطرة على مقدار الوقت ذاته فأنت في حاجة إلى إدارة
ذاتك من خلال السيطرة على استخدام الوقت. فما هي الخطوات التي تقود إلى هذه
السيطرة؟ سنحاول في هذا المقال استخدام العملية الإدارية في إدارة الوقت
واستثماره؛ لذا: فقبل أن تشرع في اتخاذ الخطوة الأولى لا بد أن يكون حاضراً في
ذهنك أن العملية الإدارية تتكون من مهام: التخطيط، والتنظيم، والتنفيذ، والرقابة، وهي مهام يخدم بعضها بعضاً ...
التخطيط مدخل إدارة الوقت:
فإذا تم ذلك فاعلم أن الخطوة الأولى في العملية الإدارية هي أن تسترخي! ..
نعم تسترخي، وتنظر إلى الخلف لتخطط للسير إلى الأمام، أي أن تمارس
(التخطيط) ، خذ وقتاً كافياً للتخطيط ولا تترك الأزمات تضطرك للتصرف غير
المحسوب أو العشوائي، فبرغم أن التخطيط يأخذ وقتاً طويلاً أول الأمر، إلا إن
ذلك الوقت يعوض حين يثمر نتائج أفضل، فالمشكلة واضحة المعالم تصبح نصف
محلولة.. وعلى ذلك: يجب أن تخصص بعض الوقت للتفكير والتأمل والتخطيط
بأسلوب مبدع، وهو ما يسمى بـ (الساعة الهادئة) ، وهو وقت هادئ خالٍ من
المقاطعات والشواغل والمنغصات، يقع في أوج نشاطك وقمة منحنى صفائك
الذهني، فإذا لم تتوفر لك هذه العوامل حيث توجد فلا تتردد في البحث عن ركن
هادئ آخر تمارس فيه هذا التفكير الهادئ، فإذا لم تجد فابحث في مكان آخر.
ولكن احذر أن يكون التخطيط في (الساعة الهادئة) أحد وسائل الهروب من
مهمة غير سارة أو معقدة..
فماذا ستفعل في هذا الوقت طال أم قصر؟ .. ستشخّص مرضك..
ولأجل أن يكون التشخيص دقيقاً فقد تحتاج إلى بعض التحاليل! وبما أنك
تنظر إلى الخلف لتخطط للسير إلى الأمام فالتحاليل ستشمل هذا الخلف (الماضي) ...
وأيضاً ذلك الأمام (المستقبل) ، والمختبر الذي ستضع فيه الماضي (المستمر معك) ...
يسمى: (جداول تحليل الوقت) ، بينما تسمى جداول تركيب المستقبل (الذي تأمله) :
(جداول تنظيم الوقت) .
جداول تحليل الوقت:
فعادة استخدام (جداول تحليل الوقت) تهدف إلى أن تعلم كيف تتحكم في وقتك، بما يعني أن تغير بعضاً من عاداتك في تمضيته، ولكنك لن تستطيع تغيير عادات
وقتك حتى تعرف أولاً ما هي هذه العادات؟ .. كيف يمضي الوقت؟ .. وفي ذلك
يُقترح:
* الاحتفاظ بسجل تبين فيه كيف تمضي أسبوعاً أو أسبوعين أو أكثر..
* سَجّل كل ما تقوم به عند القيام به حتى لا تنسى أي شيء.
* وسجل أيضاً السبب الدقيق للنشاط وعلاقته بتحقيق هدفك.
* احذر أن تنشغل بحساب مقدار الدقائق التي قضيتها وتفقد الهدف الأساس
لتحليل الوقت؛ فقد تقوم من خلال محاولة حسابك للوقت الضائع بإضاعة وقت آخر
بدون مسوّغ.
* وفي نهاية كل أسبوع لخّص ما قمت به وتأكد من النسبة المئوية لكل نشاط.
* ثم قيّم أهمية هذه النشاطات أو تكرارها..
هذا التحليل يمكّنك من رؤية عاداتك السيئة في استخدام الوقت، ومن ثم:
القضاء على تلك العادات في المستقبل.. وسيعطيك تلخيص هذه الجداول فكرة جيدة
عما إذا كنت فعلاً متحكماً في وقتك أو أن وقتك تتحكم فيه مؤثرات خارجية، كما
يجب أن تخرج من هذه الجداول بفكرة واضحة عن: مضيعات الوقت لديك،
سلبيات أسلوبك في التعامل مع الأمور، نقاط الضعف والقوة الشخصية عندك..
وغير ذلك من النتائج المحددة.. هل انتهيت من التخطيط؟ ..
لم تنته بعد؛ فالتخطيط عملية مستمرة ومتصلة.. تستطيع القول: إنك
انتهيت من تحليل (الماضي) .. عليك الآن أن تخطط للمستقبل.. لتصحيح (ماضيك
المستمر) ولتنفيذ أعمالك.
أهداف × أولويات:
لماذا نهتم بتحديد الأهداف والأولويات؟ ..
لأنه عندما تكون أهدافنا واضحة أمامنا على الورق فإن ذلك يساعدنا على
تذكرها دائماً، إضافة إلى أننا نستطيع الحكم عليها دائماً من حيث كونها ما زالت
أهدافاً أو أنها بحاجة إلى تحديث، فإذا طرأت أولوية أخرى أكثر منها أهمية، فإنه
يمكن إحلالها في ترتيب متقدم مما نود إنجازه، ثم نعود إلى الأولوية السابقة،
وبدون تحديد الأولويات والأهداف نقع في (مصيدة النشاط) ، وهو التورط في
النشاط ذاته دون رؤية السبب الذي من ورائه نقوم بالنشاط، فيصبح النشاط هدفاً
مزيفاً، ويصبح غاية في حد ذاته، أي يصبح النشاط مجرد انشغال (بذل عرق) ،
وهو بخلاف (الشغل) ، وحتى الشغل ينبغي أن نفرق فيه بين (الكفاءة) و (الفاعلية) ، فالكفاءة تعني: مجرد القيام بالعمل وتحقيق النتائج المطلوبة، بينما تعني الفاعلية: تحقيق النتائج المطلوبة من أول مرة، ومن خلال القيام بالعمل الصحيح، حسب
التسلسل الصحيح في أهميتها، في الوقت المناسب، وبأدنى تكلفة، فعندما تكون
نشيطاً وكفءاً في مهمة خاطئة، أو في مهمة صحيحة في الوقت الخطأ، فإنك
تعتبر غير فعال حتماً..
إذن: حدد أهدافك أولاً.. الأهداف طويلة الأمد والأهداف قصيرة الأمد، ضَعْ
قائمة لكل نوع، فعندما تكون أفكارك وأعمالك منظمة ستكون منتبهاً إلى أن أهدافك
اليومية (قصيرة الأمد) تساهم بشكل مباشر في تحقيق الأهداف الطويلة الأمد، لذلك: عليك أن تدرّب نفسك على العمل وفي ذهنك في الوقت نفسه صورة من أعمال
الأسبوع القادم أو الشهر أو السنة، ولا يتم ذلك إلا بأن تكتب أهدافك: للعمل،
وللمهنة، وللحياة الشخصية، وحتى للأمور المالية.. ولا بد أن تكون هذه الأهداف:
* محددة وواضحة. * واقعية وممكنة التنفيذ. * ذات قيمة حقيقية. * يمكن
قياسها وتقييمها.
رتّب هذه الأهداف في صورة أولويّات، ثم قسّم أولوياتك في برنامج عملك
اليومي إلى قوائم: أعمال يجب القيام بها (ضرورية وملحة) ، وأعمال ينبغي
القيام بها (ضرورية وغير ملحة) ، وأخرى (يمكن القيام بها) .. مرة أخرى تطرق
(جداول الوقت) الباب علينا، وذلك لإعداد جدول الأهداف، وذلك قبل يوم العمل. ...
وهذا الجدول سوف يمكنك من وضع جدول تنظيم الوقت، حيث سيتم فيه تصنيف
أولويات الأعمال حسب (أهميتها) و (إلحاحها) (ليس كل مُلحّ يكون بالضرورة
مهماً) ، وإمكانية (تفويضها إلى غيرك) ..
ومن الواضح أن أكثر الأعمال أولوية هي تلك التي لا يمكن تكليف غيرك بها، والملحة، وفي الوقت نفسه: على درجة عالية من الأهمية..
بعد أن حددت الأولويات خصص الوقت حسب هذه الأولويات، وعليه: حدد
مواعيد للإنجاز؛ فعندما تحدد لنفسك مواعيد للإنجاز فإنك تمارس على نفسك نوعاً
من الضغط، وبعض الضغط يحدث دافعاً لديك، بينما زيادة الضغط عند عدم تنظيم
الوقت تضعفك.. وعند تخصيصك للأوقات حسب الأولويات ينبغي أن تكون مرناً،
فالذي يخطط لملء كل دقيقة من يوم العمل سيجد أنه غير قادر على اتباع الجدول
بسبب عدم المرونة فيه، وعلى هذا: يمكن أن نتوقع أن نصف الوقت سيمضي في
معالجة الأزمات والطوارئ وضغوط العمل، لذا: ينبغي أن ندرك أن 50% من
يوم العمل يمكن جدولته بأعمال مختارة للإنجاز خلال نصف اليوم، وفي الوقت
نفسه تستحق هذه الأعمال إنجازها، كما عليك أن تحتفظ ببعض المهام البسيطة في
متناول يدك لإنجازها في الوقت المعطل أو غير المستثمر، فيمكنك قراءة جريدة أو
كتاب وأنت في انتظار دورك عند طبيب أو وأنت راكب في وسيلة المواصلات،
أو التعرف على بعض الزملاء أو الاستماع إلى المذياع وأنت تتناول الطعام، وإذا
كنت مديراً أو مشرفاً فيمكنك قراءة البريد أو إجراء مكالمة هاتفية بينما تكون
منتظراً لتقرير من مرؤوسيك مثلاً.. فمثل هذه الأشياء لا تتطلب فترات محددة من
الوقت.. وذلك للاستفادة من كامل الوقت من ناحية، ومن ناحية أخرى حتى لا
تكتسب عادات سيئة في تمديد العمل والإبطاء فيه لملء الوقت المتاح.. تذكر دائماً: (يتمدد العمل ليشغل حيز الوقت المتاح له) وهذا ما يسمى بقانون (باركينسون) . ...
يكفي ما سبق على التخطيط؛ إذ إننا لن نقضي عمرنا تخطيطاً؛ فالتخطيط
ليس هدفاً في ذاته، بل هو الخطوة الأولى في الإدارة، ولكن نذكرك بأن عليك أن
تسأل نفسك وأنت تخطط: هل سلوكك مثمر أم غير مثمر؟ متى ستقوم بالعمل؟ كم
من الوقت ستصرف حتى تقوم بالعمل؟ مع من تقوم بالعمل؟ أين وصلت حتى
الآن؟ ..
من التخطيط إلى التنظيم:
ليس الأمر الذي نعنيه هنا متعلقاً بالترتيب؛ فهذا الترتيب نظري افتراضي،
وإنما تتم الأمور معاً، ولا متعلقاً بالكمال، ولكننا نريد إبراز مجموعة من الأدوات
والأساليب والطرق التي تساعدنا على الوصول إلى ما نريد.. وحتى تكون الأمور
واضحة فإن للتنظيم ثلاثة مجالات رئيسة: إدارة الناس، وإدارة الأوراق، وإدارة
الوقت بمعنى التحكم فيه واستثماره وتجنب مضيعاته.
أولاً: إدارة الناس: التفويض.. التفويض:
في إدارة الناس سنتحدث عن التفويض، باعتباره أحد العوامل المهمة
لاستثمار الوقت.
كم مرة رددت: (في الوقت الذي أشرح له فيه ما هو مطلوب منه أكون قد
أنهيت العمل وحدي بأعلى جودة وفي نصف الوقت) ؟ .. إن هذا المنطق البراق
يعتبر من أكثر الخدع التي يقع فيها كثير منا، فتفويض بعض الصلاحيات
والسلطات لآخرين يمكنهم إنجاز أعمال مطلوبة منك يعتبر على المدى البعيد
استثماراً لأوقات الآخرين لصالحك، لتتولى أنت القيام بالأعمال التي لا يمكن
تفويضها لغيرك.
ولكن ينبغي أن تلاحظ أن التفويض لكي لا يكون مهدراً للوقت (عندما يعاد
العمل مرة أخرى) لا بد أن يراعى فيه:
* أن يكون قائماً على أسلوب إداري قائم على تنظيم علاقة تتسم بروح الثقة
القائمة على التساؤل والتعاون والصراحة، حتى تتكون أرضية مشتركة بين
المتعاونين يمكن تنسيق العمل على أساسها.
* أن تكون الصلاحيات والسلطات واضحة، وكذا: الزمن المتاح لاستخدام
هذه الصلاحيات.
* أن يتم تحديد الأعمال التي سوف تستخدم فيها هذه الصلاحيات بدقة،
والنتائج المستهدفة منها.
* اختيار الشخص المناسب الذي سيتم تفويضه، والتأكد من أنه أفضل من
يصلح لذلك.
* أن تكون المسؤولية ودرجة المساءلة عند التفويض واضحة للجميع.
ننتقل الآن إلى الجانب الثاني من عملية التنظيم وهو:
ثانياً: إدارة الأوراق:
في نبذة يسيرة حيث لا يتسع المقام للتفصيل نستطيع القول: إن المقصود
بإدارة الأوراق هنا ليس تقسيمها حسب موضوعاتها، بل المقصود إدارتها حسب
حركتها بما يوفر الوقت؛ فالمشكلة الحقيقية في التعامل مع الأوراق ليس في ترتيبها
ولكن في اتخاذ القرار بشأنها، فمكتبك يجب أن يكون محطة مؤقتة مختصرة تقف
فيها الأوراق قليلاً حتى تحدد اتجاه كل منها سواء إلى آخرين أو إلى الملفات أو سلة
المهملات ...
ثالثاً: من التنظيم: إدارة الوقت..
ونقصد هنا إبراز الوسائل الفعالة لاستثمار الوقت، وأيضاً: معرفة (مضيّعات
الوقت) ومعرفة أساليب التنظيم التي تحد من هذه المضيّعات.
من مبادئ توفير الوقت:
وقبل أن ندخل في (مضيعات الوقت) بتفصيل أكثر هاك بعض العوامل التي
قد تساعد على استثمار أكبر للوقت:
* من العوامل المساعدة على تنظيم الشخص لنفسه: كتابة المعلومات المراد
تذكرها على ورق عند ورودها مباشرة، ثم وضع هذه الورقة في مكان تكون متأكداً
من وقوع البصر عليه..
* ومن موفرات الوقت: اعتماد مبدأ التجاهل المتعمد والإهمال المقصود؛
فبعض المشكلات عندما تترك وحدها فإنها تختفي كليّاً لعدم أهميتها.
* ومنها: تقسيم النشاطات المتشابهة إلى مجموعات؛ لأنها تتطلب لإنجازها
بيئة وموارد مماثلة، إضافة إلى الحضور الذهني والتهيؤ النفسي.
* ومنها: دمج بعض المهام المسجلة في جدول الأولويات، أو دمج بعض
خطوات إحدى المهام، وكذلك إسقاط المهام التي لا علاقة لها بك أو بالمحيط الذي
تعمل فيه ولا مكان لها في جدول أعمالك.
* ومنها: عدم ترك المهام غير منتهية؛ فالتنقل من مشكلة لأخرى سوف
يدمر فيما بعد قدرتك على التركيز على أي شيء لأكثر من بضع دقائق في المرة
الأولى.
* ومنها: الإقلال من الأعمال (الروتينية) ، وهي الأعمال اليومية ذات
الطبيعة النمطية والتي تشكل قيمة يسيرة لتحقيق الأهداف العامة.
* ومنها: استغلال الأجهزة والمعدات الحديثة لتفويض الأعمال المناسبة إليها، كأجهزة التصوير والهاتف المصور (الفاكس) والحاسب الآلي (الكمبيوتر) ...
* ومنها: أن تتعلم في الاتصالات الشفاهية (هاتف أو مقابلات) كيف تقطع
المحادثات أو النقاش بأسلوب لبق وواضح عندما تعتقد أن الموضوع قد تم تغطيته
تماماً.
* ومنها: إتقان قول (لا) عندما ترى أن الاستجابة معناها ضياع الوقت
وإفساد سلم أولوياتك، فالخجل والمجاملات قد يضران بك وبالآخرين كثيراً.
من التوفير: عدم التبديد:
قبل أن ندخل في بعض تفاصيل مضيعات الوقت (المعوقات) نذكرك بأن
العامل المهم في وقوع كثير من مضيعات الوقت حتى الخارجية منها يكون نمط
إدارتك لذاتك؛ ولذلك فإن عليك أن تتذكر (جدول تحليل الوقت) الذي كنت رصدت
فيه سلوكك (الماضي) وحللته.. لا بد أنك وجدت بعض المضيعات التي تشغل حيزاً
كبيراً من وقتك (البريد الجرائد الهاتف عدم التفويض الاجتماعات الزائرين التأجيل ... (.. عليك أن تختار بعضاً منها (خمسة مضيعات أو ستة) وترتبها حسب أولوياتها، ثم تتعامل معها واحداً واحداً؛ لأن محاولة تغيير العادات السيئة مرة واحدة يمكن أن يؤدي إلى الإحباط والفشل، كما ينبغي أن تكون غاياتك عند معالجة هذه المضيعات واضحة ومحددة ويمكن قياسها، حتى تستطيع أن ترى مدى تقدمك في تحقيقها.
وبدورنا نختار هنا مضيعاً شائعاً ونتحدث عنه بشيء من التفصيل، وهو:
الهاتف.
الهاتف:
يعتبر الهاتف في الأساس إحدى وسائل توفير الوقت، لكن إساءة استخدامه قد
تجعله من مضيعات الوقت، ولتفادي ذلك:
* عليك أن تنظر إلى الهاتف بوصفه آلة لتوصيل الرسائل فقط.
* ولهذا: أوقف المكالمة مباشرة عند انتهاء هذا الهدف.
* الاختصار في المكالمة يمكن تسهيله بأن تخطط للمكالمة والحوار من قبل،
وذلك بكتابة الموضوعات التي تود التحدث فيها وتضعها أمامك، كما عليك إجراء
المكالمات المتشابهة والتي تحتاج إلى إعداد متقارب وجو نفسي واحد ... عليك
إجراء هذه المكالمات متتابعة، وذلك في حالة طلبك لآخرين.
* ويمكنك تحديد وقت معين تستقبل فيه مكالمات الآخرين، إلا إذا كانت
المكالمة ذات أهمية فلا بد من استقبالها حال ورودها.
* والوقت المناسب للرد على مكالمات الآخرين هو في فترات انخفاض
إنتاجيتك، فلا تستخدم الهاتف في فترات صفائك وارتفاع إنتاجيتك. أما فترات
الصباح الباكر عندما يبدأ الناس أعمالهم فتتميز بأنها أفضل وقت لالتقاط الخط من
أول محاولة.
* كما ينبغي أن تلاحظ فترات وجود الشخص المطلوب.
* وعندما تكون المناقشة مثيرة للأعصاب، وعندما يوجد خطر تحطيم
العلاقات الجيدة مع الآخرين.. فلا بد أن تفكر أكثر من مرة قبل استخدام الهاتف؛
فالحوار الهاتفي السيئ يمكن أن يكلفك ساعات من الوقت الضائع فيما بعد لمعالجة
سوء الفهم الذي حصل.
التنفيذ لب العمل:
هناك بعض المبادئ والإجراءات التي تتصف بالصفة التنفيذية المحضة والتي
تساعد أيضاً على استثمار الوقت بشكل جيد، وهي تقوم على أن نأخذ بعنان
المبادرة بأنفسنا، فكلما قلّت إدارتنا للوقت وسمحنا للآخرين بتحديد ما نقوم به من
عمل: عملنا أكثر وأنتجنا أقل..
وللسيطرة على إدارتك للعمل لا بد من استحضار برنامج العمل اليومي،
وذلك:
* بصنع قائمة بالأشياء التي يجب القيام بها.
* ولا تنس أن يكون عملك مجزأً بين إنجاز عمل اليوم والتفكير في أعمال
الغد ونشاطاته.
* حدد ساعات اليوم التي تكون فيها في أوج طاقتك، وهي تختلف من
شخص إلى آخر..
* ضع أكثر النشاطات أهمية وأكثرها صعوبة والأعمال التي تتطلب تركيزاً
كبيراً في ساعات صفائك الذهني، والتي تكون فيها في أوج نشاطك.
* حاول أن تجمع الأعمال المتشابهة بعضها مع بعض في هذه القائمة.
* وعند إنجاز عملٍ ما من القائمة عليك شطبه منها، وهذا في حد ذاته يعتبر
حافزاً لك على مواصلة العمل، ولكن احذر أن يتسرب إليك إحساس خادع بالرضا
من شطب الأشياء من قائمة المهام، خاصة إن كان معظمها ذا أولية منخفضة..
* وفي نهاية اليوم احصر المهام المتبقية ولا تحتفظ بها في القائمة نفسها، بل
حوّلها إلى قائمة اليوم التالي، إلا إذا كنت فوّضت بعضاً منها إلى آخرين أو
أسقطتها لعدم أهميتها..
* وأثناء العمل: كن متأكداً بأنك تركز على تنفيذ العمل الصحيح بشكل
صحيح في الوقت الصحيح.
وأثناء التنفيذ:
* ابدأ يومك بطلبات تطلبها من الآخرين؛ فبينما تقوم أنت بعمل أشياء أخرى
سيعمل الآخرون في الوقت نفسه على إنجاز الأعمال التي طلبتها منهم، وإذا تعذر
وجود وقت للقيام بكل المهام فاعمل على إنجاز المهام الكبرى والمهمة أولاً، ذلك
من معاني: (اعمل بذكاء لا بجهد أكثر) .
* وعندما يكون الموضوع لا يزال جديداً أمامك فلا تتردد في أخذ موقف
حياله؛ لأن هذا يوفر عليك مشقة إعادة تذكر الموقف مرة أخرى.
* لا تضيّع وقتك في القيام بالمهام المستحيلة.
* وفي الوقت نفسه: حاول أن تكون لك قدرة على التنفيذ الفوري، وإذا لم
يكن للمهمة حل مباشر فعليك أن تستمر في القيام بعمل شيء آخر.
* تذكر أن المهام البسيطة التي لا ترتبط بوقت محدد والتي كنت وضعتها في
جدول أعمالك هي لمثل هذه الأوقات.
* لا تستهن بإنجاز أعمال الأهداف القصيرة الأمد المصاحبة للأهداف الطويلة
الأمد، فإننا إذا لم نقم بتحقيق الأهداف القصيرة الأمد فلن ترى الأهداف الطويلة
الأمد الحياة أبداً.
* لا بأس بأن تقدم عقارب ساعتك بضع دقائق إلى الأمام؛ فالأشخاص الذين
يهتمون بالإنجاز يفعلون ذلك غالباً؛ لأن ذلك يوجد إحساساً بالعجلة الزائدة..
* لكن لا تكن مهتمّاً بشكل زائد بمسألة إنهاء العمل بسرعة؛ فالنتائج غير
المتقنة تعني أنك ستضطر إلى إعادة القيام بالعمل، مما يعني ضياع وقت آخر.
* وجّه نظرك دائماً نحو النتائج بدلاً من القلق حول الإجراءات.. كثيراً ما
ننشغل بالوسائل وتغيب عن أعيننا الغاية.. وأثناء اهتمامك بالنتائج تجنب الوقوع
في (شلل الكمال) ؛ فبعض الأعمال ينبغي أن تنجز بأسرع ما يمكن، وحينها:
عليك أن تدرك أن هناك تضحية متبادلة بين الفاعلية والكمال.
عينك على المراقبة:
وننتقل الآن إلى الجزء الأخير في دائرة إدارة الوقت، وهو المراقبة،
والمقصود بالمراقبة: مراقبة العمل وليس التجسس على القائمين بالعمل أو (الوقوف
على رؤوسهم) أثناء عملهم وإحصاء الدقائق عليهم بحجة المحافظة على الوقت؛
فالهدف من المراقبة هو: (المراجعة والنقد المؤدي إلى التصحيح) ، مراجعة للعمل
ذاته من حيث خطته أو إجراءات تنظيمه أو خطوات تنفيذه، ومراجعة للقائمين
بالعمل لبيان جوانب القصور فيهم وما يحتاجونه من تعديل لسلوك أو اكتساب لعلم
أو تنمية لخبرة بما يوفر أوقاتهم؛ فتكرار الخطأ مرة بعد مرة يعد من أكثر العوامل
التي تضيع الوقت.
وعليك مراقبة مدى التقدم في إنجاز العمل، وذلك حتى لا تعود إلى ممارسة
عاداتك السيئة السابقة، وحتى تجري إصلاحات وتعديلات على خطتك، وذلك من
خلال مقارنة الأداء الفعلي بالخطة وبالجدول، بما يفيد معرفة العائد الحقيقي، وبما
يسمح بتعديل التخطيط أو التنظيم أو التنفيذ كلها أو بعضها لتتلاءم مع الهدف ومع
الظروف التي تواجهها.
وذلك يقودنا إلى (مبدأ إعادة التحليل) ؛ إذ ينبغي إعادة تحليل استخدام الوقت
على الأقل مرة كل ستة أشهر لتفادي العودة للعادات السيئة في إدارة الوقت عند
الإحساس بصعوبة تنفيذ الخطة اليومية السابقة.
وفي الختام:
فإن الأشخاص الفعالين لم يولدوا هكذا بالفطرة، بل هم مصنوعون، فإذا
كانت الخطوات والإجراءات المذكورة سابقاً قد كثرت عليك وطالت فلا تستصعبها،
ولا تتردد في تعديل الاقتراحات السابقة لتناسب حقيقة وضعك في العمل وفي الحياة؛ فالهدف ليس استخدام اقتراح معين لإدارة الوقت، بل إحراز تقدم وإنجاز، أيّاً
كان اختيارك للأفكار التي تناسب أسلوبك وتفيدك كثيراً، والنقطة المهمة والمحورية
التي يجب أن تتذكرها هي استمرار الوعي بالكفاءة من خلال الوعي بأهمية الوقت؛
فذلك أكثر أهمية من مجرد الانصياع وتطبيق كل المبادئ التي يمكن وصفها.
وتذكر أيضاً أنك لا تستطيع إرضاء كل شخص، وأن الطريقة التي ستستثمر
بها وقتك قد تزعج آخرين، وقد لا يعاونونك عليها.
وانتبه إلى أنك من السهل أن تجعل نفسك متحمساً أكثر من اللازم بالنسبة
لإدارة الوقت؛ فقد تكون تلك الظروف ناجحة معك تماماً، إلا إنها تتصف أيضاً
بأنها فردية الطابع والكفاءة لا جماعية الكفاءة، وهي لا تشجع على العمل الجماعي ... وعلى ذلك: فكل موقف يجب أن يكون مختلفاً بناءً على عوامل عديدة، مثل: نوع المحيط الذي تعمل فيه، وطبيعة العمل، وكمية الأعمال، والمهام المنوطة بالفرد، وحاجات الشخص المتعاون معك، وشخصية القائم على العمل.
__________
(1) أخرجه الترمذي، 2/67، والطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في (صحيح الجامع) ، ح/7300.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر.
(3) أخرجه الإمام أحمد، 3/191، وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة) ، ح/9، و (صحيح الجامع) ، ح/1424.
(4) يعتبر هذا المقال استعراضاً لموضوع إدارة الوقت، اعتماداً على كتاب (إدارة الوقت) ، ضمن سلسلة (فن وعلم إدارة الأعمال) لمحررها أديل تيمب ب، ترجمة: د وليد عبد اللطيف هوانة، وهو يضم 95 مقالة لمختلف المتخصصين في هذا المجال وهناك ملحوظتان على الكتاب لا بد من ذكرهما:
(أ) يعتبر الكتاب تعبيراً عن النظرية الإدارية الغربية من خلال رؤيتها الأمريكية، وبالطبع: هناك نظريات أخرى لم يتطرق الكتاب إليها، كالنظرية اليابانية، والنظرية الإدارية الإسلامية التي لم تخرج بعد إلى حيز التنظير المتكامل رغم وجود مبادئها المتميزة القائمة على أصول شرعية وأسس أخلاقية وشبكة علاقات اجتماعية مغايرة لما قامت عليه النظريات الأخرى.
(ب) الكتاب عبارة عن ضم شذرات مقالات مختلفة للعديد من الكتاب، مما أثر في عدم تماسك مادته المعلوماتية، إضافة إلى تشتت المعلومة الواحدة بين ثنايا الكتاب.(128/28)
فتاوى أعلام الموقعين
الأسباب والأعمال
التي يضاعف بها الثواب
العلامة: عبد الرحمن السعدي
التزود بالطاعات والاستكثار من الصالحات غاية ومطلب لكل مؤمن، ولقد
سُئل الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي [1] رحمه الله عن أسباب
مضاعفة ثواب الأعمال الصالحة، فأجاب رحمه الله بجواب نفيس؛ حيث ذكر
أسباباً متنوعة لمضاعفة ثوابها، مستدلاً بنصوص الوحيين ومراعياً مقاصد الشريعة
ومصالحها [2] .
قال رحمه الله:
(الجواب؛ وبالله التوفيق: أما مضاعفة العمل بالحسنة إلى عشر أمثالها،
فهذا لا بد منه في كل عمل صالح، كما قال تعالى: -[مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا] [الأنعام: 160] وأما المضاعفة بزيادة عن ذلك، وهي مراد السائل، فلها
أسباب: إما متعلقة بالعامل، أو بالعمل نفسه، أو بزمانه، أو بمكانه، وآثاره.
فمن أهم أسباب المضاعفة أن يحقق [3] العبد في عمله الإخلاص للمعبود
والمتابعة للرسول؛ فالعمل إذا كان من الأعمال المشروعة، وقصد العبد به رضى
ربه وثوابه، وحقق هذا القصد بأن يجعله هو الداعي له إلى العمل، وهو الغاية
لعمله، بأن يكون عمله صادراً عن إيمان بالله ورسوله، وأن يكون الداعي له لأجل
أمر الشارع، وأن يكون القصد منه وجه الله ورضاه، كما ورد هذا المعنى في عدة
آيات وأحاديث، كقوله تعالى: [إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] [المائدة: 27] أي:
المتقين الله في عملهم بتحقيق الإخلاص والمتابعة، وكما في قوله لله: (من صام
رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) [4] . وغيرها من النصوص.
والقليل من العمل مع الإخلاص الكامل يرجح بالكثير الذي لم يصل إلى
مرتبته في قوة الإخلاص، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة تتفاضل عند الله بتفاضل ما
يقوم بالقلوب من الإيمان والإخلاص؛ ويدخل في الأعمال الصالحة التي تتفاضل
بتفاضل الإخلاص ترك ما تشتهيه النفوس من الشهوات المحرمة إذا تركها خالصاً
من قلبه، ولم يكن لتركها من الدواعي غير الإخلاص وقصة أصحاب الغار [5]
شاهد بذلك.
ومن أسباب المضاعفة وهو أصل وأساس لما تقدم: صحة العقيدة، وقوة
الإيمان بالله وصفاته، وقوة إرادة العبد، ورغبته في الخير؛ فإن أهل السنة
والجماعة المحضة، وأهل العلم الكامل المفصل بأسماء الله وصفاته، وقوة لقاء الله، تضاعف أعمالهم مضاعفة كبيرة لا يحصل مثلها، ولا قريب منها لمن لم
يشاركوهم في هذا الإيمان والعقيدة. ولهذا كان السلف يقولون: أهل السنة إن قعدت
بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إن كثرت أعمالهم، قعدت بهم عقائدهم، ووجه الاعتبار أن أهل السنة مهتدون، وأهل البدع ضالون. ومعلوم الفرق بين
من يمشي على الصراط المستقيم، وبين من هو منحرف عنه إلى طرق الجحيم،
وغايته أن يكون ضالاً متأولاً.
ومن أسباب مضاعفة العمل: أن يكون من الأعمال التي نفعُها للإسلام
والمسلمين له وقعٌ وأثرٌ وغَناء، ونفع كبير، وذلك كالجهاد في سبيل الله: الجهاد
البدني، والمالي، والقولي، ومجادلة المنحرفين؛ كما ذكر الله نفقة المجاهدين
ومضاعفتها بسبعمائة ضعف.
ومن أعظم الجهاد: سلوك طرق التعلّم والتعليم؛ فإن الاشتغال بذلك لمن
صحت نيته لا يوزنه عمل من الأعمال، لما فيه من إحياء العلم والدين، وإرشاد
الجاهلين، والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، والخير الكثير الذي لا يستغني
العباد عنه؛ فمن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل له به طريقاً إلى الجنة، ومن
ذلك المشاريع الخيرية التي فيها إعانة للمسلمين على أمور دينهم ودنياهم التي يستمر
نفعها ويتسلسل إحسانها، كما ورد في (الصحيح) : (إذا مات العبد انقطع عمله إلا
من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له) [6] .
ومن الأعمال المضاعفة: العمل الذي إذا قام به العبد، شاركه فيه غيره،
فهذا أيضاً يضاعف بحسب من شاركه، ومن كان هو سبب قيام إخوانه المسلمين
بذلك العمل؛ فهذا بلا ريب يزيد أضعافاً مضاعفة على عملٍ إذا عمله العبد لم
يشاركه فيه أحد، بل هو من الأعمال القاصرة على عاملها، ولهذا فضّل الفقهاء
الأعمال المتعدية للغير على الأعمال القاصرة. ومن الأعمال المضاعفة إذا كان
العمل له وقع عظيم، ونفع كبير، كما إذا كان فيه إنجاء من مهلكة وإزالة ضرر
المتضررين، وكشف الكرب عن المكروبين. فكم من عمل من هذا النوع يكون
أكبر سبب لنجاة العبد من العقاب، وفوزه بجزيل الثواب، حتى البهائم إذا أزيل ما
يضرها كان الأجر عظيماً؛ وقصة المرأة البغي التي سقت الكلب الذي كاد يموت
من العطش، فغُفر لها بغيها، شاهدة بذلك [7] .
ومن أسباب المضاعفة: أن يكون العبد حسن الإسلام، حسن الطريقة، تاركاً
للذنوب، غير مُصِرّ على شيء منها، فإن أعمال هذا مضاعفة كما ورد بذلك
الحديث الصحيح: (إذا أحسن أحدكم إسلامه؛ فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف ... ) الحديث [8] .
ومن أسبابها رفعة العامل عند الله، ومقامه العالي في الإسلام، فإن الله تعالى
شكور حليم، لهذا كان أجر نساء النبي لله مضاعفاً. قال تعالى: [وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ] [الأحزاب: 31] ، وكذلك العالم
الرباني، وهو العالم العامل المعلّم تكون مضاعفة أعماله بحسب مقامه عند الله، كما
أن أمثال هؤلاء إذا وقع منهم الذنب، كان أعظم من غيرهم، لما يجب عليهم من
زيادة التحرز، ولما يجب عليهم من زيادة الشكر لله على ما خصهم به من النعم.
ومن الأسباب: الصدقةُ من الكسب الطيب، كما وردت بذلك النصوص.
ومنها شرفُ الزمان، كرمضان وعشر ذي الحجة ونحوها، وشرف المكان كالعبادة
في المساجد الثلاثة، والعبادة في الأوقات التي حث الشارع على قصدها، كالصلاة
في آخر الليل، وصيام الأيام الفاضلة ونحوها، وهذا راجع إلى تحقيق المتابعة
للرسول المكمل لله مع الإخلاص للأعمال المنمّي لثوابها عند الله.
ومن أسباب المضاعفة: القيامُ بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية،
والمعارضات الخارجية؛ فكلما كانت المعارضات أقوى والدواعي للترك أكثر، كان
العمل أكمل، وأكثر مضاعفة. وأمثلة هذا كثيرة جداً، ولكن هذا ضابطها.
ومن أهم ما يضاعف فيه العمل: الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان والمراقبة، وحضور القلب في العمل، فكلما كانت هذه الأمور أقوى، كان الثواب أكثر،
ولهذا ورد في الحديث: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها) فالصلاة ونحوها
وإن كانت تجزئ إذا أتى بصورتها الظاهرة، وواجباتها الظاهرة والباطنة، إلا أن
كمال القبول، وكمال الثواب، وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات، وتكفير
السيئات، وزيادة نور الإيمان بحسب حضور القلب في العبادة [9] . ولهذا كان من
أسباب مضاعفة العمل حصولُ أثره الحسن في نفع العبد، وزيادة إيمانه، ورقّة قلبه، وطمأنينته، وحصول المعاني المحمودة للقلب من آثار العمل؛ فإن الأعمال كلما
كملت، كانت آثارها في القلوب أحسن الآثار، وبالله التوفيق.
ومن لطائف المضاعفة أن إسرار العمل قد يكون سبباً لمضاعفة الثواب، فإن
من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم
شماله ما تنفق يمينه.. ومنهم: رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) [10] كما أن
إعلانها قد يكون سبباً للمضاعفة كالأعمال التي تحصل فيها الأسوة والاقتداء، وهذا
مما يدخل في القاعدة المشهورة: قد يعرض للعمل المفضول من المصالح ما يصيّره
أفضل من غيره. ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أن الاتصاف في كل
الأوقات بقوة الإخلاص لله، ومحبة الخير للمسلمين مع اللهج بذكر الله لا يلحقها
شيء من الأعمال، وأهلها سابقون: لكلّ فضيلةٌ وأجرٌ وثوابٌ، وغيرها من
الأعمال تبع لها؛ فأهل الإخلاص والإحسان والذكر هم السابقون السابقون المقربون
في جنات النعيم.
__________
(1) الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي التميمي، من كبار العلماء، ولد بعنيزة سنة 1307هـ، له مؤلفات نافعة في سائر علوم الشريعة، واشتغل بالتدريس، وله تلاميذ متميزون من أشهرهم الشيخ العلاّمة محمد الصالح العثيمين توفي بعنيزة سنة 1376هـ، انظر: علماء نجد لعبد الله البسام 2/422، والأعلام للزركلي3/340.
(2) الفتاوى السعدية، المسألة التاسعة، ص 43.
(3) في الأصل: (إذا حقق) .
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) حديث أصحاب الغار متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(6) رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) أي يكتب للإنسان من صلاته على حسب خشوعه فيها.
(10) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(128/38)
تأملات دعوية
حديث حول الشهرة والمشاهير
عبد الله المسلم
يعتني الناس كثيراً بالمشاهير، ويحرصون على اللقاء بهم والسماع منهم، بل
وربما رؤيتهم، ويعتنون كثيراً بمقولاتهم، وربما يصدرون عن رأيهم؛ ومن
الشواهد على ذلك استخدام أصحاب الإعلان التجاري أسماء بعض رموز الرياضة
والفن في ترويج سلعهم ومنتوجاتهم.
وهذه القضية تعني العاملين في الميدان الدعوي بدرجة كبيرة، وجدير بهم أن
يدرسوها ويعتنوا بها.
وأول سؤال يفرض نفسه: متى تكون الشهرة معبرة عن الواقع تعبيراً صادقاً؟ وإلى أي حد يستحق هؤلاء المشاهير ما حصلوا عليه من مكانة ومنزلة؟
إن التعرف على العوامل التي أدت إلى الشهرة يسهم في الإجابة على قدر
كبير من هذا السؤال؛ فثمة عوامل صادقة تعطي الشخص مكانته ومنزلته التي
يستحقها، وعوامل أخرى خلاف ذلك، تؤدي إلى اتساع مساحة الشهرة أكثر مما
ينبغي.
فأحياناً تكون الشهرة وليدة موقف أو مواقف رفعت اسم صاحبها، وأعطته من
الهالة فوق ما هو له. وقد يتحدث شخص حديثاً مسموعاً أو مكتوباً في موضوعات
لها أهمية وحيوية لدى الناس، وتلامس واقعهم، ويجتهد في ترتيب عناصره
وأفكاره فيقع حديثه موقعاً من الناس، فيعلو شأنه، ويرتفع صيته، مع أن ما قدمه
خال من الدراسة الواعية العميقة، ولا يعدو أن يكون حسن ترتيب وعرض لآراء
شخصية، وإجادة في طرق قضايا لها شأنها عند المتلقين.
وقد يكون ذا صوت جَهْوَري مؤثر، وأسلوب بليغ أخاذ، أو قلم سيّال فيعجب
الناس بما قدمه ويظنون به ما ليس أهلاً له.
وأحياناً يسهم الناس في إلحاق الشهرة بشخص ما من خلال الاجتماع حوله
وسؤاله والحديث إليه، وإبراز نتاجه.
وأحياناً يستمد شهرته من وظيفته الشرعية، أو توليه لإمامة مسجد أو جامع له
مكانته.
إن بروز هذه العوامل غير الكافية في صنع الشهرة وتأثيرها على الناس يكون
نتاج أسباب عدة منها:
1- ضعف مستوى الوعي لدى المجتمعات وسطحيتها في التفكير والحكم على
الظواهر.
2- عدم وجود معايير واضحة للتقييم لدى الناس، ومن ثم فقد ترى أن من
يكتسب الشهرة في الخطابة والوعظ يستفتيه الناس في قضايا من دقائق مسائل العلم، وقد يكون قليل الورع فيقتحم المشكلات، ويدرك المرء الأسى حين يرى فئات من
جيل الصحوة يتداولون قول واعظ أو متحدث بارع، أو غير هؤلاء في قضية
حاسمة من قضايا الدعوة أو مشكلة من مشكلات الأمة.
بل حتى أهل العلم الذين لهم باعهم في الميدان العلمي ومكانتهم التي لا تنكر
قد لا يجيدون إصدار حكم في قضية من مشكلات الأمة أو همّ من هموم الدعوة
والتربية لا يعانونه، وليس هذا من نقص مكانتهم أو منزلتهم أو الحط منها، أَوَليس
أهل القضاء أحياناً يحيلون الأمر على مختص يصدرون عن رأيه؟ بل وأهل
الإفتاء حين يناقشون قضية طبية أو اقتصادية يستعينون بمن يعيها أكثر منهم؟
3- وقد تكون الشهرة نتاج فراغ الساحة وخلوها من الشخصيات المؤهلة؛
فيصادف من يتصدى قلباً خالياً ومكانة فارغة.
4- وقد يسهم الدعاة في تكريس هذه القضية فيصرون على التعامل مع
المشاهير، فيؤصلون هذا المشرب لدى الناس، ويحرمونهم من طاقات لم تجد من
عوامل الشهرة ما يبرزها لدى الناس.(128/42)
قراءة في كتاب
كيف يُنَصَّر المسلمون..؟
عرض لكتاب (الدليل الشخصي للحوار مع المسلمين) [*]
إعداد وتقديم: أبو إسلام أحمد عبد الله
(الدليل الشخصي للحوار مع المسلمين) واحد من مئات الأدلة التي تتسابق
الكنائس الغربية والشرقية إلى إصدارها وتوزيعها لدعم حركة التنصير العالمية،
وتطوير أدائها، ورفع مستوى أدواتها، وترشيد جهودها، وتنمية قدرات أفرادها.
ويحتل الحوار الكنسي مع المسلمين مساحة كبيرة من هذا الاهتمام إلى الحد
الذي اقتضت معه الممارسة، إنشاء عشرات المراكز الدولية المتخصصة في إعداد
القادة والمتدربين من القُسُس والرهبان من كل الملل النصرانية التي تتجاوز 3000
كنيسة طائفية.
أما الدليل الذي سوف نتناوله بالعرض، فقد كان في البدء مشروعاً علمياً تقدم
به الباحث (راي ريجستر) تحت إشراف الدكتور (جورج برازويل) لنيل درجة
الدكتوراه اللاهوتية بمعاونة مباشرة من المؤتمر الإنجيلي الدائم بشمال أمريكا الذي
تأسس عام 1978م.
وقد تناولت الرسالة في أبوابها الستة على الترتيب:
1- تاريخ مختصر عن الإسلام (ص7) .
2- الحوار منهجاً للاقتراب من المسلمين (ص11) .
3- الخطوط العامة للحوار مع المسلمين (ص33) .
4- أسئلة وبيانات في الحوار مع المسلمين (ص30) .
5- الخطوط الرئيسة للحوار مع المسلمين (ص63) .
6- اقتراحات بما يجب عمله تجاه الذين يقررون تغيير عقيدتهم من المسلمين
إلى النصرانية أو من النصرانية إلى الإسلام (ص66) .
وأشار الباحث في مقدمة رسالته، إلى أن إعداده لهذه الأبواب التي أوجزها
في تسعين صفحة، قد استغرقت منه اثني عشر عاماً أمضاها في العمل التنصيري
بين المسلمين في أرض فلسطين المحتلة، بصفته ممثلاً معتمداً (من السلطات
الصهيونية) لمجلس البعثات الأجنبية المعمدانية في المنطقة، مما أتاح له التجول
بين بيروت والقاهرة وطهران ثم العودة بعد كل جولة إلى مقره الأصلي في فلسطين.
كما أشار الباحث المنصر إلى أنه أخضع (دليله) هذا باعتباره مشروعاً في
التخطيط للتنصير للتجربة الميدانية؛ حيث التقى على مدى ستة أشهر متواصلة
بأكثر من مائتي مسلم عربي في شمال وجنوب ولاية كارولينا الأمريكية، لكن اثني
عشر مسلماً منهم فقط هم الذين قبلوا التعاون والحوار معه، لذا فهو يؤكد على
صعوبة تحقيق أي مكاسب فعالة مع المسلمين على المستوى الفردي الذي أعد من
أجله رسالته العلمية! معلقاً الأمل على إمكانية تحقيق المكاسب فيما لو امتدت
إجازته لمدة ستة أشهر أخرى.
حدد الباحث في رحلته بين المسلمين، أن طرق الاتصال بهم كانت مقتصرة
على المنظمات والمعسكرات الطلابية، ونادي العرب ... ؛ حيث استجاب إلى
زيارة منزله عدد محدود من بين الاثني عشر الذين قبلوا الحوار معه والذين كانوا
من المصريين واللبنانيين والعديد من الفلسطينيين الذين نزح آباؤهم إلى أمريكا منذ
عام 1948م؛ حيث أثبت الدليل قيمته حسب تعبير الباحث في تمكن عدد من
المتدربين من الاقتراب من المسلمين، وهو ما كان بمثابة حلم وأمل في الماضي.
أهداف الدليل:
يصف الدكتور (جورج برازويل) المشرف على الرسالة، أهداف الدليل،
فيقول في مقدمته:
إن هذا الكتاب يمدنا بفرصة كبيرة لفهم عقيدة الإسلام، ونفسية الذين ينفذون
تعاليمه، وذلك لإيجاد سبيلٍ سهلٍ للاتصال الفعال معهم.
أما الباحث المنصّر، فيقرر في مقدمته (أن المسلم، هو ذلك الإنسان الذي
يستسلم ويركع أمام إرادة الله، متبعاً بهذه العقيدة، دين النبي العربي محمد! (لله)
وهم سواء أكانوا عرباً أو فُرساً أو من الباكستان أو إندونيسيا أو أفريقيا أو أتراكاً،
فهم مسلمون في عقيدتهم وثقافتهم وحياتهم الخاصة جداً) .
ثم يستطرد قائلاً: (لكن لسوء الحظ، فإن للإسلام وجهة نظر سلبية ومدمرة
تجاه النصرانية، تجعل المسلم مقاوماً بفطرته لكتابنا المقدس! الذي نفهمه،
ورافضاً لموت عيسى (عليه السلام) على الصليب، وهذا هو أكبر حاجز مانع لفهم
المسلمين للعقيدة النصرانية، ولذا فإن هدف الدليل، هو المساعدة في تجاوز الفرد
النصراني لهذا العائق من خلال الحوار الذي هو محاولة لإقامة جسر من الود يسد
الفجوة التي امتدت بين المسلمين والنصارى لقرون طويلة.
ومن أهداف الدليل أيضاً: أن يقاسم المسلمون النصارى عقيدتهم في عمق
الإيمان بيسوع المسيح الذي تجسد الله فيه حسب زعمه من خلال الروح القدس،
كي يحمل على كتفيه خطايا البشر!
وإن غاية الحوار النصراني مع المسلمين، أن يؤمن المسلمون ويعتقدوا بأن
صلاحهم لن يكون بغير الإيمان بقدرة يسوع الرب على تكفير خطاياهم من خلال
الصليب!
إنها وسيلة لتحقيق المصالحة التي أطلق عليها القس المنصّر (رويل هاو) اسم: (معجزة الحوار) في كتابه الشهير الذي حمل الاسم نفسه. ويختم الباحث مقدمته
فيقول:
(لن يتنازل المسلم عن معتقداته إلا إذا حاولنا أن نسمعه رغبتنا في أن
يشاركنا معتقداتنا بطريقة يجب أن يفهمها هو ويقر بها) .
خطورة دليل الحوار مع المسلمين: ونقفز إلى موضوع مقالنا مباشرة تحت
عنوان: (الحوار باعتباره منهجاً للاقتراب من المسلمين) (ص11) حيث يتناول
الباحث مجموعة من التعريفات لكلمة الحوار، ثم يحدد القاعدة اللاهوتية لهذا الحوار، منبهاً إلى ضرورة الحذر الشديد من أن يقدم النصراني في حواره مع المسلم أي
تنازلات، مشيراً إلى أهم الثغرات التي يمكن أن يسقط النصراني المحاور في
شراكها هي دعوى تجسد المسيح، ودعوى الصلب، ودعوى بنوة عيسى؛ ولذا
ينقسم الدليل إلى قسمين رئيسين:
أولاً: إرشادات للمُحاوِر النصراني: (الإنسان المسلم من اليسير جداً معرفته
وفهمه) هكذا يقول الباحث المنصّر، ثم يستطرد قائلاً:
(المسلم في لقائه يكون ودوداً واجتماعياً، خاصة بالنسبة للغرباء، وبخاصة
إذا كان لقاؤه خارج بلده، أي في دولة أجنبية بالنسبة له. فالمسلم بطبعه يحتاج إلى
رفيق، ولا يستغني عن صديق، ولذا فليس هناك أي صعوبة للدخول معه في
حوار، وإذا وثق بك مرة، فربما تجده أكثر الناس تعبيراً عن نفسه من أي جنس
إنساني آخر، ولسهولة التفاهم معه، فبإمكانك اكتشاف كل ملامح الشرق
(الإسلامي) الأخلاقية، وإذا ما استمر الحوار فإن الجدل سوف يبقى ساخناً وليس
بالضرورة أن يلتزم هذا الجدل بالمنطق، ولذا فإن التزامك أنت بالصبر والتحمل
هو من الفضائل التي يجب أن تتحلى بها في هذا الحوار.
ثانياً: استعراض الأسئلة التي يمكن أن تكون مثار نقاش، وأسلوب الحوار
حولها:
(اقترابك بالحوار الروحي، ومحاولة إقناع المسلم بأنه في حالة جوع روحي
وخواء كبير في القلب، سوف يحدد لك موقع الفرد وتطلعاته الروحية) .
وحول هذه العبارة الموجزة، دار الباحث المنصر كثيراً في ضوء إرشاداته
للنصراني الذي يحاور المسلم، لكنه ظل أبداً لا ينصح بأخذ الضوء الأخضر، أو
الظن ببساطة العقل المسلم أو إهمال وجدانياته، فيصف واقع المسلمين في عين كل
نصراني محاور أنه سوف يجد نفسه أمام تيارين متناقضين من المسلمين:
التيار الأول: ربما يكون مخلصاً لدينه، يؤدي الصلوات الخمس، يصوم
رمضان، يحفظ أجزاء من القرآن.
التيار الثاني: ربما يكون على النقيض تماماً؛ حيث يكون المسلم مادياً
علمانياً يشعر أن الدين ليس صالحاً ولا مكان له في الحياة المعاصرة.
فأي التيارين يكون مهيأ للحوار؟ وما المحكّ الذي يبدأ منه المحاور النصراني
مغامرته؟
يجيب الباحث المنصّر: إن المسلمين على كل مستوياتهم وتياراتهم سواء،
من حيث ارتباطهم بالعقيدة الإسلامية، فأي من التيارين سوف يبدي دفاعآً قوياً عن
الإسلام باعتباره منهج حياة وسلوك اجتماعي.
حتى لو كان المحاوَر مادياً ولا يمارس الشعائر الإسلامية في حياته اليومية؟
نعم، وربما يكون هذا الشخص نفسه، أكثر بيانآً وأفصح تعبيراً عن عظمة
الإسلام وتطوره وتقدمه على عقيدة النصارى في ضوء ما يراه في الولايات المتحدة
والأماكن الأخرى من فساد وانحرافات، وعليك بالاعتراف بأن آلاف النصارى لا
يعيشون عقيدتهم ولا يتبنون قيمها، ولا يحترمون مظاهرها، ولا يمارسونها على
الوجه الصحيح.
فإذا ما اعترفت له بذلك؛ وهو الأصوب؛ فسوف ينهي هجومه عليك ودفاعه
عن الإسلام، وإن من المسلمين آلافاً في مثل حال هؤلاء النصارى وتلك هي
الجولة الثانية التي يمكن أن تكسبها مع المسلم) .
استيعاب المسلم والتعلم منه: واضح مما فات، أن الباحث المنصّر، يلعب
على وتر العواطف الجياشة لدى المسلم والفطرة الصادقة التي تكمن داخله؛ ولهذا
فهو يلفت نظر المحاور إلى نقطة فهم محورية في كل صفحات دليله الذي بين أيدينا، التي يلخصها بقوله:
على كل الأحوال، إذا ما هاجمت عقيدته (أي المسلم) فإنه من المقبول أن
ينتقم منك بالمسلك نفسه، فدع الحوار يكون دائماً مقاسمة فيما يكون ذا معنى بالنسبة
لحياتكما، واقبل كل الأشياء الإيجابية في الإسلام، وأَكْثِرْ من عقد المقارنات بين
كل ما هو جيد في عقيدتك ويتفق مع عقيدته، فهماً وسلوكآً، فإن ذلك سوف يقودك
إلى اكتشاف ما هو المربح والمفيد في عقيدتكما، ومع التمرس فسوف تتضح نقط
الخلاف أمامك فتلمسها برفق) .
ثم يحذر الباحث القس كل محاور نصراني من أن يلمز محمداً (لله) ولذلك فإن
ردود الفعل لأي نزاعات قد تثيرها في حوارك مع المسلم سوف تفسد الحوار؛ لأن
قرآن محمد! (لله) يشترك مع عقيدتنا حول ميلاد المسيح من عذراء، وحول
معجزاته الكبرى، وحول صعوده إلى السماء، فابتعد بنفسك عن مواطن الخلاف) .
ثم يحدد الباحث القس، للمُحاوِر النصراني ثلاثة أشياء تحكم الحوار مع
المسلم:
أولاً: أن المسلم يعتقد بأن اليهود والنصارى قد حرّفوا التوراة والإنجيل
لإخفاء النبوءة بمجيء محمد (لله) .
ثانياً: يفترض المسلم أن النصارى يؤمنون بآلهة ثلاث، ويعلمهم القرآن بأن
النصارى يعتقدون التثليث المركّب من: الله، ومريم، ويسوع.
ثالثاً: يعتقد المسلم أن المسيح لم يمت على الصليب، لكن شبهه هو الذي
صُلب.
ثم يضيف محوراً رابعآً لا أدري لماذا لم يضمه إلى المحاور الثلاثة السابقة،
وهو: نظرة المسلم لمعتقد الخطيئة والخلاص، الذي يعتقده النصارى، ويرفضه
المسلمون إجمالاً وتفصيلاً، فيقول الباحث القس:
(إن هناك اضطراباً وغموضاً كبيرين عند المسلمين حول الخطيئة والخلاص، ففي حين أننا نحن (النصارى) نعتقد بأن كل الناس مذنبون، وأن المسيح وحده
هو صاحب القوة الذي يتحمل كل الآثام عن كل المذنبين؛ فهو قد حقق الخلاص،
بموهبة الله ومحبته ورحمته، وليس بعمل الإنسان وقدرته.
بينما المذنب المسلم بين نوعين من الذنوب لا انفلات له من أحدهما: الكبائر
أو الصغائر، ولا يسعى المسلم إلى مغفرة ذنوبه إلا بالعمل الصالح والتوبة؛
والدعاة المسلمون يؤكدون على عمل توازن بين قسوة القرآن حسب تعبير القس
النصراني وبين رحمة الله الواسعة التي وعدهم بها القرآن في العفو عن المذنبين إلا
في استثناء واحد وهو الشرك بالله) .
ويتساءل المنصر عن موقف المحاور النصراني من كل ذلك، وهو السؤال
الذي يطرحه، ثم يجيب عنه بأن هذه ليست هي الخلافات كلها، بل سوف تتولد
خلافات كثيرة مع استمرار الحوار، وعلى المحاور أن يتعامل معها برفق وصبر
واهتمام؛ لأن في ذلك كله تحصيلاً واكتشافاً لكل جوانب الشخصية المسلمة
واستبياناً لكل أركان معتقدها. والاستماع إليه طويلاً يحقق مكسبين:
أولهما: التعلم منه ومما يقوله من آيات القرآن ومن استدلالاته عن النبي
محمد (لله) ، وبهذا يتمكن المحاور من الإلمام بكل حجج المسلم التي يمكن أن يحاجّه
بها.
ثانيهما: أن الاستماع إلى المسلم يمثل إسهاماً ضخماً وركيزة في الإبقاء على
الحوار، وبذلك ستكون مالكاً لزمام القسمة المشتركة بينكما، وسوف يكون مذاقك
الشخصي للحوار أكثر فعالية من أي جدل، وبقدر فهمك للإنجيل يمكن أن تقدم له
الحقيقة التي تتمسك بها) !
خطوة مهمة في الحوار: إن موقف المسلم في كل معتقداته نحو عقيدة
النصارى، وارتباطه التام بثوابت الإيمان التوحيدي، حتى عند غير الملتزمين منهم، يؤرق الباحث المنصّر عند مواجهته لاعتراضات كثيرة عند مناقشة رسالته وعند
تطبيقها، وخوفاً وخشيةً من انزلاق المُحاوِر النصراني في شباك المتحاور المسلم،
حيث إن الأخير حسب تعبير الباحث النصراني على قناعة شديدة بأن النصراني
مخدوع من خلال أوهام ترتدي ثوب الدين، وسوف يحاول المسلم في الغالب أن
يقود النصراني إلى حقائق الإسلام، وهو معذور في ذلك؛ لأن قضايا الخلاف عنده
من الصعب تحريكها أو تعديلها إلا من خلال كلمات معينة يجب أن يستعملها
المحاور النصراني في حواره دون أن تثير حساسية لدى المسلم، مثل ألفاظ:
الإيمان، والبرهان، والشاهد، والكسب الروحي.
فإذا ما وافق المسلم على الاستماع لمثل هذه الألفاظ ولم تثر لديه نوازع
الرفض، فإن هذا النوع هو من الاقتراب الذي يُرغَم عليه النصراني وهو غير
محب له، فإن قرار المسلم بالإيمان ربما لا يعني أكثر من أسلوب مهذب لترضية
المحاور النصراني بدلاً من الإزعاج؛ لصعوبة معرفة المحاور النصراني لمضمون
الإيمان الذي يفهمه المسلم، وعما إذا كان هو الإيمان المقصود في النصرانية، أو
ذلك المقصود في الإسلام؟
ولذلك يرى الباحث المنصّر أن على المحاور النصراني أن يحاول معرفة
البواعث التي أقر المسلم على ضوئها بالإيمان:
هل هو مخلص وصادق؟
هل هو يناور ويحاور؟
هل يرغب في كسب مالي؟
هل يرغب في زوجة نصرانية غير زوجته المسلمة؟
(إن المسلمين في الشرق (الإسلامي) يحتاجون إلى عمق لفهمهم أكثر من
غيرهم، وتحوّلهم ليس بالأمر السهل؛ لأن لديهم من أسباب القبول ومسوّغاته،
مثل ما لديهم من أسباب الرفض ومسوّغاته، إلا أن قمة النجاح تتمثل في أن يقبل
سماع كلمات مثل: الخطيئة، الخلاص، الصليب، ابن الله، الثالوث المقدس،
الروح القدس، بفهم غير الذي عليه المسلم، وإلا فسوف يتخذ من النصراني موقفاً
عدائياً يسقط كل الخطوات السابقة، ويهزم كل الفروض الموضوعة، وبذلك يقطع
حبل الحوار والاقتراب) .
ولم يغفل الباحث المنصّر عن أن مناقشة الإنجيل مع المسلم تحتاج إلى قدر
كبير من الذكاء والكياسة، فيوصي المحاور (باستبعاد النصوص الإنجيلية التي
يمكن أن يقبلها المسلم بمفهوم غير مفهومها، أو التي يستنبط منها دلالات مخالفة
لدلالاتها عند النصارى، أو تلك التي تناقض آيات وردت في القرآن، وإلا انهالت
عليه الشواهد والبراهين القرآنية التي تقود إلى طريق مسدود) .
ثم يستطرد قائلاً: (وحتى يتفادى المُحاوِر النصراني هذا الطريق فلا بد أن
يجرب مع المسلم قدرآً كافياً من الصداقة الحميمة، وأن يريه من حياته الأخلاقية
والروحية والاتساق مع الاعتراف الإنجيلي؛ لأن المسلم سوف يكون حساساً في
حبه، ودقيقاً في ملاحظة القيم الحياتية التي يمنحها يسوع الرب حسب تعبير
الباحث القس للمحاور النصراني، فيوصيه بأن يعطي دائماً العظمة لله إذا ما أبدى
المسلم إعجاباً بهذه الحياة ونظمها وسوف يحترمها) .
المحاذير والمخاطر: وتحت سطوة الخوف والهلع من سقوط المُحاوِر
النصراني في شباك المتحاور المسلم، يُنبّه الباحث المنصّر إلى خمسة عشر خطراً، يحذّر منها المُحاوِر النصراني، ويبدؤها بالقدرات العقلية، وينهيها بالوعد
والوعيد، ونلخصها على لسانه فيما يلي:
* الحوار مع المسلم سوف يتحدى ذكاءك وروحك.
* وسوف يسبب إعادة التفكير في الأساس حول اعتقادك بالمسيح.
* ما يملكه المسلم من ثوابت عقدية يمكن أن يكون تحدياً حقيقياً.
* للإسلام قوة جذابة تتجلى لكل المخلوقات البشرية.
* أركان الإسلام تبدو مناسبة ومعقولة، وربما تكون مدمرة لك.
* إن روح المسلم مفطورة ضد (حب الله الذي تجسد في المسيح) نظراً لإنكار
المسلم للصلب أساساً.
* يجب أن تتجنب أي ملاحظة ولو دقيقة حول محمد والقرآن.
* إذا هاجم النصرانية فسوف تهدم الغرض من الحوار إن أبديت اعتراضاً.
* إن تاريخ العلاقة بين المسلمين والنصارى مليء بالجدل والغضب والدمار
والحروب، ولن ينسى المسلم كل ذلك بسهولة.
* ضع في اعتبارك أن أغلب المسلمين قادمون من بلاد أخرى مما يجعل
الاتصال محدوداً بل وممنوعاً أحياناً.
* للمسلمين عاداتهم وتقاليدهم التي ترتبط بالعقيدة؛ فاحذر أن تتجاوزها، مثل
اختلاطك بنساء بيته أو مصافحتهن لك، أو جلوسك معهن.
* إن المسلمين الأرثوذكس (يقصد الملتزمين بعقيدة السلف) متشددون حول
التسيب في علاقة المرأة بالرجل، فلقاء الخطيب بخطيبته ممنوع، والنظر إلى
عيون المرأة إثارة وفتنة، ولا حق لزوجتك أن تجلس مع واحد منهم؛ وهم على
العموم يرفضون الحرية بين الجنسين كما هي في الغرب.
* يمكن أن تصبح هدفاً للسخرية والاحتقار بالنسبة للمسلم عندما يعود إلى
وطنه ويحكي لأصحابه عن تجربته معك.
* اعرفْ أن هناك خطراً يهدد طرفي الحوار الذي تمثّل أحد طرفيه، وهو
الخطر العظيم الذي يقبل فيه أحدكما (التحول) عن عقيدته إلى عقيدة الآخر، فاعلم
أن لهذا تبعات غير محمودة لك وهي بالنسبة للمسلم التهديد بالقتل.
الدفاعات والتحصينات: بعد أن عدّد الباحث المنصّر كل هذه المحاذير
والأخطار، فقد أجمل الدفاعات والتحصينات التي يجب أن يتسلح بها النصراني
المُحاوِر حتى لا يقع في شراك المحاذير والمخاطر ونوردها أيضاً على لسانه فيما
يلي:
تذكر دوماً حاجتك إلى الاستمرار في حياة مخلصة دائمة.
لا تغفل عن الصلاة من أجل دعم عضوية غير النصارى.
قوة الصلاة وروح القدس تثري فهمك للكتاب المقدس.
لا تدع مجالاً لمشاعر الإحباط والصعوبات التي تواجهها.
وطد علاقتك بالله من خلال (يسوع الرب) !
اسمع للمسلم بصبر ولا تنفعل، وساعده على سحب استنتاجاته وما يفهمه
حول عقيدتك.
المسلم مذنب! ! فصلّ من أجله.
لا تحاول أن تدخل نفسك في معتقداته حتى لا تدخل دائرته.
دراسة المسلم للكتاب المقدس تشكل أقوى تأثير لقبوله الإيمان النصراني،
ودراستك للكتاب المقدس تكون أوْلى وأهم.
من المهم أن تتعلم وتقبل الأشكال الاجتماعية للمسلم.
النصارى العاملون في بلاد المسلمين ينسبون قدرآً كبيرآً من نجاح مهمة
الحوار إلى السلوك القويم والأخلاق الراقية.
النتائج في الغالب تعتمد على قدر إيمانك، فتذكر واطلب العون الدائم من
(يسوع الرب) !
المسلم العربي، وعلى وجه الخصوص وهو في بلاد أجنبية يكون أكثر
ارتباطاً بعقيدته، وأشد تعاطفاً مع أرضه التي تركها.
المسلم يعتز كثيراً بدينه وبنفسه وبآرائه وبأمته، والثناء عليه يختصر لك
الطريق كثيراً، فأكثر من المجاملات والهدايا.
المضمون المتوقع للحوار:
أفرد الباحث المنصّر باباً مستقلاً لاستعراض أهم الأسئلة التي يمكن أن
يطرحها المسلم على النصراني المُحاوِر، وكتب لكل سؤال إجابة، كما طرح عدداً
من الأسئلة التي يجب أن يوجهها المحاور النصراني للمسلم حتى يحاصره ويمتلك
زمام المبادرة.
ثم يشير الباحث المنصّر إلى أن (الأسئلة التي يوجهها أي مسلم، قد تعلمها
المسلمون جميعآً منذ كانوا أطفالاً صغاراً بالمدرسة، كما تعلموا في الوقت ذاته
الإجابات التي قدمها النصارى أو التي يمكن أن يقدموها، ولذلك فهم مهيؤون للرد،
وأكثر قدرة على التشكيك في عقيدة النصرانية) .
وهذه الأسئلة وتلك، ليست بالطبع هي كل شيء إنما هي فقط (دليل)
للموضوعات التي سوف يدور حولها الحوار، كما لا يصح أن يلتزم المحاور
بالترتيب الذي ورد في الدليل، إنما يكون ذلك تبعآً لمداخل الحوار والمستوى
المعرفي للمسلم.
هكذا يعمل القوم لنشر ديانتهم الباطلة بالأساليب المدروسة التي يقتنصون عن
طريقها الجُهّال والفارغين بزخرف القول غروراً؛ فكم نحن بأمسّ الحاجة لمعرفة
ديننا حق المعرفة، ومعرفة زيف ما يمكرون به لتجنبه والحذر منه؛ حتى لا نقع
في مخططاتهم الشريرة التي يعملون جاهدين لنشرها بكل الوسائل.
__________
(*) تأليف: القس الأمريكي راي ريجيستر، ترجمة: مركز التنوير الإسلامي القاهرة.(128/44)
نص شعري
أبا جهل!
شعر: مروان كُجُك
أَبَا جَهْلٍ تَقَمّصتَ الطّغَاةَ ... وَأَفْسَدْتَ المَنَابِتَ وَالنّبَاتَا
وَصِرْتَ إلَهَ أَقْوَامٍ تَنَادَوْا ... إلَى اللّذّاتِ فَانْفَتّوا انْفِتَاتَا
نَسُوا أَنّ الّذِي يُنْشِي وَيُعْطِي ... هُوَ الْبَارِي الّذِي خَلَقَ الْحَيَاةَ
فَأَصْبَحَ جَمْعُهُمْ زَيْفاً هَزِيلاً ... وَصَارَ نَهَارُهُمْ نَوْماً سُبَاتَا
وَلَمْ تُفْلِحْ يَدُ النّطّاسِ فِيهِمْ ... فَقَدْ عَافُوا الدّوَاءَ وَمَا أَقَاتَا
وَهَامُوا فِي دُجَى الأَوْهَامِ حَتّى ... غَدَوْا للذّلّ تَحْسَبُهُمْ مَوَاتَا
لَهُمْ سَمْعٌ وَلَكِنْ غَيْرُ مُجْدٍ ... وَأَفْهَامٌ تَرَى الإسْلامَ مَاتَا
أَضَاعُوا مَجْدَهُمْ فِي كُلّ صِقْعٍ ... وَقَدْ ظُلِمُوا وَمَا رَفَعُوا شَكَاةَ
وَكَانَ جُدُودُنَا أَبْنَاءَ جِدّ ... إذَا هَجَمَ الرّدى هَبّوا حُمَاةَ
أَبَا جَهْلٍ رُوَيْدَكَ بَعْضَ حِلْمٍ ... تَذَكّرْ يَوْمَ خَاطَبْتَ الدّعَاةَ:
رَقَيتُمْ مرتَقًى صَعْباً، وَصِرْتُمْ ... جُمُوعاً بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ شَتَاتَا
أَبَا جَهْلٍ فَلا تَفْرَحْ بِنَصرٍ ... وَلا يَغْرُرْكَ أَنّ اللّيْثَ بَاتَا
فَإنّ الْفَجْرَ يُوقِظُ كُلّ حُرّ ... وَيمحَقُ كُلّ طَاغِيَةٍ بَتَاتَا
سَنَنْهَضُ يَا خَسِيّ الْقَصْدِ مَهْمَا ... تَمَادَى الزَيْفُ حِقْداً وَاسْتَمَاتَا
وَمَهْمَا سَادَ بَاطِلُكُمْ وَطَابَتْ ... لَكُمْ دُنْيَا وَرُسّمْتُم ذَوَاتَا
فَإنّ نِهَايَةَ الطّغْيَانِ حَتْمٌ ... بِأمْرِ اللهِ صُبحاً أَوْ بَيَاتَا(128/52)
نص شعري
يا سبيل المجد
شعر: مشبب بن أحمد القحطاني
يا سليلَ المجدِ ماذا غيّرَكْ؟ ... أنتَ للمجدِ وهذا المجدُ لكْ
كيف تغفو يا فتى التّوْحيدِ هل ... هَيّأَ الأعداءُ في الدّرْبِ الشّرَكْ؟
كانتِ الدّنْيا ظلاماً دامِساً ... بِئْستِ الدّنيا وبئسَ المُعْتَرَكْ
بين مَوْؤُودٍ ومفتونٍ، وفي ... راحةِ الظّلْمِ زِمامٌ لا يُفَكْ
أمةٌ تاهتْ على غيرِ هُدىً ... بينَ تَضْليلٍ وإرهابٍ وشَكْ
فانبرى للحقّ نورٌ ساطعٌ ... أَنْزلَ القُرآنَ للدّنْيا مَلَكْ
أَسْفَر الصّبْحُ وعادتْ مَكةٌ ... مَنْبَعَ النورِ وإشْعاعَ الفَلَكْ
بعدها قامت جُيُوشٌ همّها ... نُصْرةُ الحقّ تدكّ الظّلْم دَكّ
وأَرى اليومَ حِمى الحقّ غدا ... مسْرحَ العابثِ حِلاّ مُنْتَهَكْ
يا سليلَ المجدِ هَلاّ قُلتَ لي: ... أيّ ذنبٍ بالمخازي ضَيّعَكْ؟
أيّهَا السادِرُ في لَذّاتِه ... هل ترى عيشَ المعاصي أَعجَبَكْ؟
أُمّتي قد علّقتْ فيكَ المُنَى ... فاستَفِقْ وانْهَضْ وغادِرْ مَضْجَعَكْ؟
عُدْ إلى الرّحمن في طُهْرٍ تَجِدْ ... مَرْكَبَ النّصْرِ إلى العليا مَعَكْ
وَتَرَ الأَبْطالَ آسادَ الشّرى ... تَشْتَهِي يومَ الفِدا أن تَتْبَعَكْ
نَسْأَلُ اللهَ صَلاحاً عاجِلاً ... إنّما الغَافِلُ في البَلْوى هَلَكْ
قَدْ كفانا ما مضى مِنْ بُؤْسِنا ... رَبّنا اكْشِفْ مَا بِنَا فَالأَمْرُ لَكْ(128/53)
ندوات ومحاضرات
ندوة عن:
هويتنا الإسلامية: بين التحديات والانطلاق
(الحلقة الأولى)
إعداد: وائل عبد الغني
ضيوف الندوة:
الدكتور/ مصطفى حلمي أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة.
الدكتور/ جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى سابقاً.
الدكتور الشيخ/ محمد بن إسماعيل المقدم الداعية المعروف وأخصائي الصحة
النفسية وخريج كلية الشريعة بجامعة الأزهر الشريف.
الأستاذ/جمال سلطان - الكاتب الإسلامي المعروف ورئيس تحرير دورية
(المنار الجديد) .
نرى أن أفضل ترحيب بضيوفنا الكرام، أن ننزل عليهم ضيوفاً، ليُثروا
قراءنا في قضية من أخطر قضايا العصر؛ ألا وهي (الهويّة) ..
أهمية الموضوع..
* في البداية نريد أن نحدد الهدف من الندوة لنصطحبه خلال تشعب الحديث
بنا.
* د/جمال عبد الهادي:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد..
فأرى أن الهدف هو: تذكير الأمة المسلمة بمقومات هويتها، وتبصيرها
بالأخطار التي تحدق بها، وأنه لا مخرج للأمة من محنتها المعاصرة إلا باستعادتها
لهذه الهوية؛ لأنها المخرج الوحيد لمواجهة التحديات المعاصرة، حتى تعود الأمة
لأداء دورها، باعتبارها الأمة الشاهدة التي حملها الله تعالى مسؤولية البلاغ وإقامة
حياتها وحياة الإنسانية على مقتضى منهاج الله.
وإذا اعتبرنا أن الهوية هي التي تحدد الأهداف والواجبات والتقاليد والأعراف
للفرد والمجتمع، فإن الحفاظ عليها يصبح ضرورة وجود وأداء رسالة.
من أجل هذا كان لا بد من طرح هذه القضية.
معنى الهوية:
* جرت عادة الربانيين أنهم إذا تحدثوا عن قضية ربطوا فيها بين الواقع
المشهود والحق المنشود حتى يكون الواقع حقاً والحق واقعاً، والحق صنو الحقيقة؛
فما حقيقة الهوية؟
نريد من ضيوفنا الكرام أن يوضحوا لنا معنى الهوية توضيحاً شافياً.
* الشيخ محمد بن إسماعيل:
الهويّة: (هي حقيقة الشيء، أو الشخص، التي تميزه عن غيره، فهي
ماهيته، وما يوصف ويعرف به، من صفات عقلية، وجسمية، وخلقية، ونفسية) ، كما في حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت:
(كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني
دونه، فلما قدم رسول الله لله المدينة، ونزل قباء، غدا عليه أبي وعمي مُغلّسين،
فلما يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينا،
فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: (أهو هو؟) ، قال: (نعم والله) ، قال
عمي: (أتعرفته وتثبته؟) ، قال: (نعم!) ، قال: (فما في نفسك منه؟) ، أجاب: (عداوته، والله ما بقيتُ!) [1] ، وفي قوله: (أهو هو؟) إشارة إلى هوية
النبي لله وأنه الموصوف في التوراة.
إذن فالهوية هي: (المفهوم الذي يكوّنه الفرد عن فكره وسلوكه اللذين يصدران
عنه، من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي) وبهذه الهوية يتميز الفرد ويكون
له طابعه الخاص، فهي بعبارة أخرى: (تعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافةً وأسلوب
حياة) .
كأن يقول مثلاً: (أنا مسلم) . أو يزيد: (منهجي الإسلام) أو يزيد الأمر دقة
فيقول: (أنا مؤمن ملتزم بالإسلام من أهل السنة والجماعة) .
* د/ مصطفى حلمي:
بنظرة مجردة فإن مقومات الشخصية التي تميزها عن غيرها، هي المفردات
التي تتحكم في تشكيل تلك الشخصية، ومنها المتكرر في جميع الهويات، ومنها
غير المتكرر. ولعل القدر المشترك يتمثل في:
العقيدة التي ينطلق منها الفرد بغض النظر عن صحتها، ويقابلها في
النظريات الوضعية الفكر الفلسفي.
القيم العالية المطلقة التي يؤمن بها المجتمع؛ التي تتمثل في أهداف الإنسان
في الحياة ونظرته للوجود، والأخلاقيات، والسلوكيات؛ وعلى ضوء ذلك نرى
تميز الهوية الإسلامية في مقوماتها من حيث الشكل والمضمون.
* وحتى يتبلور مفهوم الهوية أكثر؛ فإننا نريد أن نتعرف على أهم مقومات
الهوية التي تتشكل من خلالها.
* أ/جمال سلطان:
هوية أي أمة عبارة عن تراكم المعارف والثقافات، والتجارب والصراعات،
والأفكار والمؤلفات والكتابات، كل هذا المزيج يشكل المرجعية الأساسية لهويات
الشعوب.
بخلاف هويتنا التي تتميز بمرجعيتها الربانية الثابتة الصحيحة، والمحفوظة
أبداً، والتي تتمثل في الوحي بمصدريه، وبهذا تميزت الأمة عن سائر الشعوب
والأمم.
ومن حيث العموم فإنها تتكون من مجموعة من الدوائر المتداخلة، والتي يؤثر
فيها اعتبارات متعددة، لعل أبرزها الجغرافيا والتاريخ والدين، هذه المؤثرات
الثلاث، هي أبرز ما يؤثر في الإنسان وينشط من خلاله إنسانياً، إلى جانب المجال الحضاري ببعديه التاريخي والثقافي، وتراكماته، والتي ورثتها الأجيال عن
الأجيال وجعلت هناك صبغة لهذه الشخصية.
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
أهم أركان الهوية: العقيدة، ثم التاريخ، واللغة، وإذا ركزنا الحديث على
الهوية الإسلامية فسوف نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة،
بحيث تستغني تماماً عن أي (لقاح) أجنبي عنها.
فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة، وأصول ثابتة رصينة، تجمع
وتوحد تحت لوائها جميع المنتسبين إليها، وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه
أمة من الأمم، وتتكلم لغة عربية واحدة، وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة
وممتدة، وتحيا لهدف واحد؛ هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم، وتحريرهم
من عبودية الأنداد.
* من خلال كلامنا عن المقومات، يلح علينا أمر يحتاج أن نستفصل عنه
لأهميته؛ ألا وهو جوانب تميز الهوية الإسلامية عن سائر الهويات.
* د/مصطفى حلمي:
عنصر مهم تتميز به هويتنا الإسلامية، هو نظرتها للإنسان باعتبار أن الفرد
هو عنصر البناء الأخطر والأهم في أي حضارة. فبينما نجد أن (أرسطو (في
منطقه اليوناني يعرفه بأنه: (حيوان ناطق) ، هذا التعريف قد بنيت عليه أكثر
النظريات التي تناولت الجوانب الإنسانية، والذي قامت عليه الحضارة اليونانية
قديماً والغربية حديثاً.
وخلافاً لهؤلاء، نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد وفق في تعريفه
للإنسان بأنه: (حي حساس متحرك بالإرادة) ، أثناء معركته لحماية الأمة الإسلامية
من الغزو الثقافي اليوناني. وقد وقف اليوم الموقف نفسه علي عزت بيجوفيتش
الذي استمد تعريفه للإنسان من عقيدته، لمواجهة الغزو الثقافي المعاصر، الذي
عانى منه المسلمون في الغرب أشد المعاناة، في دول البلقان في ظل النظام
الشيوعي.
يقول بيجوفيتش: (إن الإنسان بصفة أساسية هو عنصر روحي، وليس
عنصراً بيولوجياً أو اجتماعياً، ولا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي) ،
معترضاً على (دارون) ، و (دي لامارك) ، اللذين اعتبرا الإنسان ليس أكثر من
(حيوان ذكيّ) ، وبهذا التعريف نقف على مفرق طريق بين هوية كل من الحضارة
الإسلامية وغيرها من الحضارات.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
إضافة إلى ما ذكره الأستاذ الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً يمكن أن نجمل
السمات المميزة لهويتنا في عدة نقاط:
1- فهي في المقام الأول: انتماء للعقيدة يُترجَم إلى مظاهر دالة على الولاء
لها، والالتزام بمقتضياتها. والعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية
المسلم وشخصيته.
2- هذه الهوية.. أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان؛
فقد استجمعت غايات الشرف، فهي انتماء إلى أكمل دين، وأشرف كتاب.. نزل
على أشرف رسول.. إلى أشرف أمة.. بأشرف لغة.. بسفارة أشرف الملائكة..
في أشرف بقاع الأرض.. في أشرف شهور السنة ... في أشرف لياليه، وهي ليلة
القدر.. بأشرف شريعة وأقوم هدي.
3- وقد امتدح القرآن الكريم هذه الهوية وأثنى عليها باعتبارات، منها:
أنها أحسن قولاً، وأحسن عملاً، وأحسن قضيةً، وأحسن نسبة، قال تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
(فصلت: 33) .
وهي الهوية الكاملة المرضية من الله تعالى: [ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ... ] [المائدة: 3] .
وهي صبغة الله، قال عز وجل: [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] [البقرة: 138] .
ومن خصائصها الوسطية في كل شيء كما في قوله: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... ]
[البقرة: 143] .
والانتساب إليها انتساب إلى خير أمة، كما قال تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] [آل عمران: 110] ؛
ولذلك كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجه (كاهانا) ، ويرد عليه مصححاً
مزاعمه: (نحن شعب الله المختار) .
إن الهوية الإسلامية انتماء إلى الله عز وجل وإلى رسول الله لله، وإلى عباد
الله الصالحين، وأوليائه المتقين، من كانوا، ومتى كانوا، وأين كانوا؛ قال تعالى: [إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ]
[المائدة: 55، 56] .
وقال سبحانه: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ]
[التوبة: 71] .
وكل مسلم في صلاته يقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) .
يقول الشاعر:
ومما زادني شرفاً وفخراً ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيا
4- إن الانضواء تحت هذه الهوية والاندماج فيها، ليس اختيارياً ولا مستحباً، ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين، إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها، قال عز وجل: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [الأعراف: 158] .
وروى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) [2] .
ولذلك كلّف الله تعالى هذه الأمة، بدعوة جميع البشر إلى الهوية الإسلامية،
وهي في هذه الوظيفة المقدسة نائبة عن رسول الله لله.
5- إنها هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية، وتحدد لصاحبها بكل دقة
ووضوح، هدفه ووظيفته وغاياته في الحياة: [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ]
[الأنعام: 162، 163] .
6- إنها مصدر العزة والكرامة للمتمسكين بها، كما قال تعالى: [لَقَدْ أَنزَلْنَا
إلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [الأنبياء: 10] .
وقال تعالى: [ ... وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ] [المنافقون: 8] .
وهذا ما استشعره عمر رضي الله عنه حين قال: (إنا كنا أذل قوم، فأعزنا
الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزّ في غيره أذلنا الله) .
7- وهي هوية متميزة عما عداها: [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] [الكافرون: 6] ، ...
ولكي يبقى هذا التميز ثابتاً في كل حين، أوجب الله علينا أن ندعوه في كل يوم
وليلة سبع عشرة مرة على الأقل أن يهدينا الصراط المستقيم، المغاير بالضرورة
لمنهج الآخرين: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] [الفاتحة: 6، 7] .
وقد حسم النبي لله ذلك بقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) [3] ، وقد
عرف اليهود ذلك، وشعروا أنه لله كان يتحرى أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة
بهم، حتى قال قائلهم: (ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا
فيه) [4] ولهذا قال لله: (من تشبه بقوم فهو منهم) [5] وقد صح كثير من الأحاديث
التي تفصّل هذه المخالفة وتحض عليها، في كثير من أبواب الدين.
* أ/جمال سلطان:
إضافة بسيطة إلى ما ذكر في هذا الجانب.. وهي أن: من السمات التي
تميزت بها الهوية الإسلامية لفظ (الأمة) الذي يطلق على جميع المنضوين تحتها،
هذا اللفظ بما يحويه من دلالات وإيحاءات لم تعرفه لغة من لغات الأرض قاطبة
سوى لغة هذه الأمة.
* مع هذا التميز الذي ترسخه الهوية نجد ظاهرة عكسية داخل المجتمع الواحد؛ هي ظاهرة (الاغتراب) التي تهدد الهوية من الخلف.
كيف نفهم هذه الظاهرة في إطار ها الصحيح؟ وماذا عن مخاطرها؟
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
كلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع، كلما تعمق إحساسه بالانتماء لذلك
المجتمع واعتزازه به وانتصاره له.
أما إذا تصادمتا فهنا تقع أزمة الاغتراب التي أشار إليها رسول الله لله حين
قال: (طوبى للغرباء) ، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: (ناس صالحون
في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) .
ولأن الانتماء الوجداني والانتساب إلى (الهوية) ينبع عن إرادة النفس، فهي
قابلة له، راضية عنه، معتزة به، فإن هذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس،
ويحدد أهداف صاحب الهوية، ويرتب أولياته في الحياة، فتنصبغ النفس به،
وتندمج فيه، وتنتصر له، وتوالي وتعادي فيه، مع رفض الانتساب إلى أي هوية
مضادة أو مزاحمة، أي أن هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بناء حواجز نفسية بين
الشخص وبين من يخالفونه الهوية؛ ومن هنا تنشأ الأزمة.
* أ/جمال سلطان:
الأقليات غالباً ما تعيش حالة من القلق والنفور، بالنسبة للجماعة؛ لشعورها
بالاغتراب، وأنها خارج كيان الجماعة، ولهذا الأمر تداعياته، التي من أخطرها،
توجه الأقلية نحو الخارج، وشعورها بالتقارب النفسي مع أعداء الأغلبية، ...
والتحالف معهم ضد مصالح الأغلبية، كما فعل الموارنة في لبنان الذين تحالفوا مع
الغرب ضد المسلمين، وكما فعل الأرمن الذين تحالفوا مع روسيا ضد المسلمين،
ويهود الدونمة في تركيا الذين تحالفوا مع الغرب لإسقاط الخلافة.
والخطر الآن يتجسد في أن بعضاً من هذه الأقليات بدأت تنتعش لتعارض
المصالح العامة داخل بعض نظم الحكم القائمة.
* إشكالية أخرى تواجهنا عند تحديد المفهوم الدقيق للهوية الإسلامية؛ ألا
وهي: طبيعة العلاقة بين الهوية الإسلامية وبين الهوية الوطنية أو القومية.
هل هي علاقة التعارض أم التكامل؟
* د/جمال عبد الهادي:
يمكن تقسيم دوائر الهويات إلى ثلاث دوائر متباينة أحياناً، ومتداخلة أحياناً
أخرى، وهي: الانتماء الجغرافي، والانتماء العرقي، والانتماء الديني.
والانتماءان الأولان هما المذكوران في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ] [الحجرات: 13] .، والإسلام بهذا أقرّ بهما دون أن يكون لأحدهما
استعلاءٌ عنصري، وذلك كله منصهر داخل الرابطة العقدية (رابطة الإسلام) الذي
صنع للأمة أسلوب حياتها ونظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لذلك فإن من
أبرز ما يميز هويتنا أن مرجعياتها لا تفرق بين الأجناس أو الأعراق، وهذا يعكس
قوة الوحدة السياسية المبنية على أساس عقدي واحد هو الإسلام.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
الهوية الإسلامية لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه
المسلم، ولا الحرص على خير هذا الوطن، بل المسلمون الصادقون هم أصدق
الناس وطنية؛ لأنهم يريدون لوطنهم سعادة الدنيا والآخرة بتطبيق الإسلام، وتبني
عقيدته، وإنقاذ مواطنيهم من النار، وحمايتهم من التبعية لأعدائهم الذين لا يألونهم
خبالاً، وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر،
ويتجلى في عصرنا في مواقف وجهاد وصمود رموز الدعوة الإسلامية في كافة
وطننا الإسلامي.
أما الوطن الحقيقي الخالد، الذي لا يبغي أهله عنه حولاً فهو الجنة؛ حيث
أقام أبوانا في الابتداء، ونحن في الدنيا منفيون عن هذا الوطن، ساعون في العودة
إليه.
والمنهج الإسلامي هو الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى ذلك الوطن.
كما أعرب عن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:
فحيّ على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيّمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلمُ؟
لا كما قال من سفه نفسه:
وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
أما في الدنيا.. فأحب الأوطان إلى قلب المؤمن: (مكة المكرمة) ، و (المدينة
النبوية) ، و (بيت المقدس) ، وقد بيّن النبي لله أن محبته مكة المكرمة مبنية على
أنها (أحب بلاد الله إلى الله) .
فمحبتنا لهذه البقاع التي شرفها الله وباركها وأحبها فوق محبتنا لمسقط الرأس،
ومحضن الطفولة، ومرتع الشباب.
أما ما عدا هذه البلاد المقدسة، فإن الإسلام هو وطننا وأهلنا وعشيرتنا،
وحيثما كانت شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة.. فثم وطننا الحبيب الذي
نفديه بالنفس والنفيس، ونذود عنه بالدم والولد والمال:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً ... الشام فيه ووادي النيل سيان
وحيثما ذكر اسم الله في بلد ... عددت أرجاءه من لب أوطاني
أما (الوطنية) بمفهومها المعروف اليوم، المحصور في قطعة أرض رسم
حدودها أعداؤنا، أو الارتباط بعرق أو لون أو جنس، فهذا مفهوم دخيل لم يعرفه
السلف ولا الخلف، وإنما طرأ علينا ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها
الاستعمار وأذنابه لمزاحمة الانتماء الإسلامي، وتوهين الهوية المسلمة التي أذابت
قوميات الأمم التي فتحتها في قومية واحدة هي: (القومية الإسلامية) ، ودمجتها في
أمة التوحيد.
ولخطر هذه القضية أسوق شهادة (شاهدين من أهلها: أولهما: المؤرخ
اليهودي (برنارد لويس) الذي قال: (كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة
الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي
وصحبه، وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية
آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام؛ اسمها: الدولة، والعنصر،
والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال
هرطقة القومية العلمانية، أو عبادة الذات الجماعية؛ كان أرسخ المظالم التي أوقعها
الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً
وإعلاناً..اهـ
ويقرر حقيقة ناصعة فيقول: (فالليبرالية، والفاشية، والوطنية، والقومية،
والشيوعية، والاشتراكية، كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدّلها أتباعها في
الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة،
وتعبر عن مشاعر الكتل الجماهيرية المسحوقة، وبالرغم من أن كل الحركات
الإسلامية قد هزمت حتى الآن، غير أنها لم تقل بعدُ كلمتها الأخيرة) .
أما الشاهد الثاني فهو وزير المستعمرات الإنكليزي (أورمسبي جو) الذي يقول
في وثيقة تاريخية: (إننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى،
شجعنا وكنا على صواب نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطراً من الوحدة
الإسلامية أو التضامن الإسلامي) اهـ
* يقال: إن أزمة الهوية أزمة عالمية.
فإلى أي مدى بلغت؟ .. ومتى بدأت إسلامياً؟ وما هي أجلى مظاهرها؟
* أ/ جمال سلطان:
أزمة الهوية أزمة عالمية، ففرنسا مثلاً ترى أن الأمركة خطر داهم يهدد أمنها
القومي، والفرنسيون في فزع شديد من هذا الخطر الداهم.. هذا رغم أن كلا
الطرفين تشملهما قاعدة التجانس الديني والحضاري والسلوكي والقيمي؛ إلا أن هذا
لم يمنع فرنسا من استشعار الخطر من الأمركة. إذن فنحن من باب أوْلى ينبغي أن
نكون أشد فزعاً من غيرنا. وبالمناسبة فإن فرنسا من أكثر الدول الغربية خوفاً على
هويتها، ومن بين مخاوفها الشديدة الغزو الثقافي الإسلامي؛ لذلك حظرت دخول
عدد كبير من الكتب الإسلامية إلى أراضيها، كما حظرت امتلاك الدش في بعض
ضواحي باريس ذات الوجود الإسلامي والعربي، لتمنع الجاليات الإسلامية
والعربية من استقبال البث العربي، والذي يوجد قدراً من الحاجز النفسي والثقافي
الذي يحول دون ذوبان الجاليات في المجتمع هناك، هذا رغم ما وصل إليه الإعلام
العربي من إسفاف!
وفي أماكن أخرى من العالم يحذر الباحثون من خطر الأزمة التي تعانيها
الهوية في بلادهم، كما في الصين واليابان وفي كثير من البلدان الإفريقية.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
لعلنا نذكر الصراع السياسي الذي احتدم في كندا حول مقاطعة (كويبك) بين
المتحدثين بالإنكليزية، وبين المتحدثين بالفرنسية الذين يريدون الاستقلال بهذه
المقاطعة.
ونذكر أيضاً أن فرنسا رفضت التوقيع على الجزء الثقافي من اتفاقية (الجات) ، والذي يضمن للمواد الثقافية الأمريكية، أن تباع بفرنسا بمعدلات اعتبرها
الفرنسيون تهديداً صارخاً لهويتهم القومية، وطالبوا بتخفيض هذه المعدلات.
ومتى بدأت الأزمة إسلامياً؟
* د/جمال عبد الهادي:
في الواقع أن الأمر سار في خط تاريخي، في محاولات لإفساد الهوية
الإسلامية، كمدخل لتنحية الأمة عن مركز القيادة.
أما محاولات الإفساد فقد بدأت منذ فتنة السبئية منذ عهد عثمان بن عفان
رضي الله عنه وكيف أن عبد الله بن سبأ بدأ يدس دسائسه التي تبلورت وتطورت
في شكل عقيدة باطنية.
أما الانحراف عن الهوية فيمكن توقيت بدايته بترجمة الفلسفة اليونانية على
عهد المأمون، وما ترتب على ذلك من ظهور كثير من الفرق كالمعتزلة والجهمية،
وفرق من الباطنية كإخوان الصفا، وما ترتب على ذلك من فساد في العقائد،
وظهور علمي الكلام والمنطق، حتى أصبحا هما القالب الذي تُقدّم فيه العقائد
الإسلامية إلى اليوم.
أما بداية الأزمة الفعلية حديثاً.. فقد كانت مع الاحتلال الفرنسي لمصر وحملة
نابليون. وقد كان من أسباب هذه الغزوة ما رصده لويس التاسع، عندما وقع أسيراً
بدار ابن لقمان، بالمنصورة؛ إذ أدرك بعد التمحيص والتدقيق أن سبب إخفاق
الغزو الصليبي للعالم الإسلامي إنما يرجع إلى عدة أمور كان أبرزها: احتفاظ العالم
الإسلامي بهويته الإسلامية، وما ترتب على ذلك من وحدته، وإحياء فريضة
الجهاد والتصدي للغزو، وتوصل (لويس التاسع) إلى أن الحملات الصليبية على
العالم الإسلامي، لن تنجح إلا إذا واكبها غزوة فكرية تستهدف إفساد العقائد
والأخلاق، من خلال إفساد برامج التعليم لإفساد الدين واللغة، والعبث بالتاريخ،
وإفساد المرأة لتحطيم بناء المجتمع!
* د/مصطفى حلمي:
كما ذكر الدكتور جمال جزاه الله خيراً فإن الأزمة بدأت مع دخول نابليون
بمدفعه ومطبعته إلى مصر، وتحويلها من مركز بث إسلامي إلى منطقة متفرنجة،
وبهذا بدأت عملية من الغزو المنظم المدروس الذي يمهد لإخفاء الهوية تدريجياً، أي
أن الهوية أصبحت على خريطة الأهداف.
لكن الفرنسيين سرعان ما خرجوا ليكمل الإنجليز الدور، وينجح القس
(دنلوب) في قلب ميزان التعليم وإقامته على الفصل بين الدين والحياة، لتتخرج
أجيال متغربة من المثقفين بينها وبين هويتها حواجز نفسية!
ويشبه ما جرى في مصر، ما فعلته فرنسا في الجزائر، وجاءت أمريكا بعد
ذلك لتكمل مسار الأزمة بمنظومتها الخداعة.
وإذا اختصرنا فيمكن القول: إن الأزمة الحديثة بدأت بالاستعمار الغربي
الحديث للبلاد الإسلامية لا سيما الإنجليزي والفرنسي منه.
كانت الأزمة إلى حد الاحتلال الإنجليزي لمصر تعتبر إقليمية، ولكن نقطة
التحول أو الانقلاب القوي في خط الهوية تمثلت في إسقاط الخلافة الإسلامية على
يد أتاتورك؛ لأن الخلافة كانت تعبر عن رابطة قائمة على الإسلام تظلل الجميع،
وكانوا يحسبون لها كل حساب.. فنجد إنجلترا تتوسل إلى الخليفة العثماني بكل
السبل حتى لا يعلن الجهاد عليها في الهند، لذعرها من فكرة الجهاد، وهذه نقطة
ينبغي أن تُجَلّى جيداً أمام الأجيال، نظراً لما يجري من تشويه صورة الخلافة
العثمانية من خلال التعليم؛ لأن من يعود إلى المراجع الموثقة يرى حجم الزيف
الذي يقدم لنا. والأمر العجيب أن اليهود كانوا يدركون قيمة الخلافة العثمانية أكثر
منا، فقد قرأت في بروتوكولاتهم عبارة تقول: (الوصول إلى القدس لا بد أن يمر
بالقسطنطينية) ! ! وفعلوها.. وكانت ضربة في سويداء القلب! ! .
* أ/جمال سلطان:
أريد أن أركز في الكلام السابق على بعض التطورات التي لم تسبق بمثلها من
قبل:
فحملة نابليون جاءت معها بمطبعة! !
وكان أول بيان وزعه نابليون يخاطب فيه المصريين يقول إنه يحترم النبي
صلى الله عليه وسلم، وإنه يحب الكعبة، وإنه جاء ليحررهم من ظلم المماليك!
كما جاء معه بمجموعة من الساقطين (فنانين رسامين راقصات!) وهذا
الأسلوب يعد نمطاً جديداً ظهر به الاستعمار إلى جانب القهر العسكري، لإعادة
تشكيل الشخصية المسلمة؛ لأن هذه هي التي تنهي المقاومة من أساسها، ولكن
نابليون خاب ظنه وأخفقت حملته.
لكن الخط سار في انحدار بمجيء محمد علي، الذي أكمل الدور بإرسال
البعثات إلى فرنسا وإيطاليا، ولكن يمكن اعتبار هذا الخط يمثل خطراً على الهوية
دون أن يحطمها.
ومع دخول الإنجليز بدأ التغريب الحقيقي والعميق؛ حيث استفادوا من
التجارب السابقة، ومن خبراتهم الواسعة، وبدأوا يعملون بتخطيط طويل المدى،
وليس عملاً أرعن كما فعل الفرنسيون.
* د/مصطفى حلمي:
أود أن أورد إضافة قصيرة إلى هذا الكلام القيم، وهو أن حملة نابليون
جمعت بين هدفين للحملة: استعمار الأرض الذي يمثله المدفع، واستعمار العقل أو
بتعبير يناسب موضوعنا: تغييب الهوية أو تدميرها والذي قامت به المطبعة،
لإزالة النخوة، ولتسهيل سياسة الأمة وفق ما يريد لها المستعمر.
* هل يمكن لنا أن نبرز بعض مظاهر هذه الأزمة التي من خلالها نتبين
حجمها؟
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
إن نظرةً إلى الحيز الإعلامي الذي شغله موت (أميرة ويلز) في كل أرجاء
العالم المنتسب إلى الهوية الإسلامية، وما صاحبه من الطقوس الكنسية التي
اقتحمت معظم البيوت، وبين الحيز الذي شغله موت الشيخ محمود محمد شاكر
رحمه الله في الفترة نفسها، تشرح لنا إلى أى مدى بلغت أزمة الهوية في عصرنا.
ومع هذا فإن مظاهر الأزمة متكاثرة، ويمكنك أن تراها في:
الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه، وفي سيارته..
وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم..
وفي المسلمين الذي يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم
يفتخرون (بالفوز) بجنسية البلاد الكافرة..
وفي المذيع المسلم أسير (الحظ الزائل) ، الذي يعمل بوقاً ينفخ فيه (العدو
الصائل) ؛ من أعداء دينه وهويته، من أجل حفنة دولارات أو جنيهات! ..
وفي الجاسوس والعميل الذي يخون أمته، ويبيع وطنه، ويفشي أسراره..
وفي أستاذ الجامعة الذي يسبّح بحمد الغرب صباح مساء..
وفي مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدول الكافرة المحاربة
لأمة الإسلام..
وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته، فيرى بعيون الآخرين، ويسمع بآذانهم،
ويسحق ذاته ليكون جزءاً من أولئك الآخرين، والعجيب أنه يعود مذموماً مخذولاً
من هؤلاء جميعاً، فيتحقق فيه قول القائل:
باء بالسّخطتين فلا عشيرته رضيت ... عنه ولا أرضى عنه العدا
* د/جمال عبد الهادي:
الأزمة بلغت إلى حد أن الأمة أصبحت تستورد قيمها من غيرها لتبني
حضارتها، ولا شك أن هذه أعظم مخادعة للذات؛ لأنها تبني بيتها على جرف هار!
إن من يتصور أن في اتباع قيم الآخرين ومنهاج حياتهم الوجاء والوقاية من
بطش أمم شاء الله لها العلو في الأرض زمناً، والإفساد فيها إلى حين لَهُوَ واهمٌ؛
لأن صِدام الحضارات والأديان والثقافات أصبح حقيقة واقعة، ومعلوم من التاريخ
والواقع بالضرورة، والله يقول: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ
مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ] [البقرة: 120] .
* إذن فإن في اتباع قيمهم إسقاطاً لمقاومة غزوهم لنا.
* د/مصطفى حلمي:
نعم.. لأننا إذا ما قارنا بين ماضي الأمة وحاضرها في مقاومة الغازي،
فسيظهر أثر الهوية في أن الأمة عندما قامت تحت راية التوحيد، نجحت في الحفاظ
على كيانها، ويوم أن رفعت شعارات أخرى لا تعبر عنها، ظهر الفشل والعمالة
والتآمر.
ولنأخذ على سبيل المثال: مصر، فنجد أن الشعب في ثورة 1919م لم يرفع
شعاراً غير الإسلام، لذلك كان الصراع متجسداً في النفوس، على أنه صراع بين
الحق والباطل، وكانت القيادة وقتها متمثلة في الأزهر الذي نجح في إجلاء
الفرنسيين، ولكن بعد أن بدأت الولاءات القومية والوطنية تزاحم الهوية المسلمة،
ظهرت الأزمة في مواجهة المستعمر.
وعلى وجه العموم فالناظر في تاريخ مصر، أو المغرب، أو الجزائر، أو
الهند يرى كيف تدهور الحال على يد العسكر في ظل القوميات المختلفة، بعدما
انسلخت الأمة من دينها تحت مظلة القومية، ومن هنا نجح المستعمر في زرع
(إسرائيل) التي ترفع شعارها العقدي، وتحاربنا من منطلق دينها، بينما يُتهم من
يستحضر البعد الديني في الصراع بالرجعية، ويُحجر على من يرفع راية الإسلام!
* الشيخ /محمد بن إسماعيل:
الأزمة بلغت إلى حد أن يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفو الكلم عن مواضعه، أن نفعل مثلهم، ونمارس هواية (التحريف) التي طالما تلطخوا بها، فقد كان من
محاور اتفاقية (كامب ديفيد) : (ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في
الإسلام) .
في تاريخ 19/2/1980 عقدت ندوة في جامعة (تل أبيب) حول (دعم علاقة
السلام بين مصر و (إسرائيل (أثار اليهود فيها موضوع ما ورد في القرآن من
اتهامات ضد اليهود، وتناقلت هذا مطبوعات أخرى بمصر، فقام د. مصطفى
خليل ليطمئن اليهود بقوله: (إننا في مصر، نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل
أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية) فرد عليه (ديفيد فيثال) قائلاً: (إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكننا في
إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط) .
لذلك نجد مواقف اليهود كلها صادرة عن هويتهم أو قل عن دينهم، ومن أعظم
الشواهد على ذلك؛ أنه عندما أراد العدو الصهيوني إقامة سفارة له في القاهرة،
أصر على أن يكون موقعها على الجهة الغربية من النيل احتراماً لعقيدتهم في: أن
حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية منه. وهو ما يعبر عنه علم دولتهم
الذي يحوي خطين أزرقين يرمزان للنيل والفرات، بينهما منطقة السيادة عليها
نجمة داود.
__________
(1) ابن هشام: 1/518 519.
(2) ابن هشام: 1/518 519.
(3) مسلم: كتاب الإيمان (153) .
(4) مسلم: الحيض، حديث 302 والترمذي في تفسير القرآن (2977) .
(5) سنن أبي داود: كتاب اللباس، حديث 4031.(128/54)
المسلمون والعالم
الحرب الأرترية الإثيوبية من أين وإلى أين؟
د.جلال الدين صالح
على نحو لم يكن في الحسبان عند كثير من المهتمين بشؤون القرن الأفريقي
تفجرت حرب شاملة وساحقة بين حليفي الولايات المتحدة (إرتريا وإثيوبيا) بسبب
خلافات حدودية ألجأت إثيوبيا إلى اتهام إرتريا باختراق معالم حدودها، والتوسع
داخل أراضيها، وطالبتها بالانسحاب الفوري دون شرط مسبق وهو الأمر الذي
رفضته إرتريا معيدة التهمة ذاتها إلى إثيوبيا، ومؤكدة بأن خرائط الحدود المرسومة
والموروثة عن المستعمر الإيطالي تفند الادعاء الإثيوبي، وتدعم حق الإرتريين
بالأرض المتنازع عليها، ولم تمض أيام على بروز هذا الخلاف حتى فوجئ العالم
بالاقتتال الدائر بين الدولتين الحليفتين في وقت كانتا تعملان فيه جنباً إلى جنب
وبدعم من أمريكا وتحريض منها على تصعيد الأزمة السودانية وتعقيدها من خلال
دعم المعارضة المتمركزة في كل من بلديهما، وانطلاقا من هذا الهدف ورد اسماهما
ضمن زعماء الدول الأفريقية التي حظيت بلقاء كلينتون في (عنتيبي بأوغندا) في
جولته الأفريقية التي شملت غانا، والسنغال.
وبدا الرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) أكثر حماساً واندفاعاً من نظيره
الإثيوبي للعب دور إقليمي أكثر انسجاماً مع رغبات أمريكا؛ فماذا وراء هذه الحرب؟ وهل هي حقاً حصاد خلاف حدودي أم أنها مجرد أعراض ظاهرية لأدواء أدق
وأعمق تلاحقت حتى تفاقمت واشتعلت؟
للإجابة على هذه الاستفسارات لا بد أولاً من إلقاء الضوء على سير العلاقات
بين النظامين من قبل وصول كل منهما إلى عاصمة بلده إثر سقوط النظام الماركسي
عام 1992م في إثيوبيا بعد أن أخفق في حل المشكلة الإرترية التي كان من
مضاعفاتها تصاعد النضال الثوري واندلاع ثورات عديدة منها (الجبهة الشعبية
لتحرير تقراي) التي أنشئت في 18 فبراير 1975م بزعامة ملس زناوي وآخر من
أبناء تقراي الإقليم الإثيوبي المجاور وإرتريا شمالاً والواقع بين فكي الحرب القائمة.
بداية العلاقة:
وقد بدأت الصلات تتوثق بين جبهة (ملس زناوي) وجبهة (إسياس أفورقي)
الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في الأدغال، وقمم الجبال وتوالت خطاها وتطورت
إلى حد بناء تحالف قوي يحشد كل طاقاته العسكرية ليس لإسقاط (منجستو) وانتزاع
الحكم منه وإنما أيضاً لتصفية كل الخصوم المحليين من المنظمات الثورية الوطنية
التي يرى فيها كل منهما الخطر على مستقبله السياسي، وبموجب ذلك أعلنَا معاً
حرباً على (جبهة تحرير إرتريا) أكبر تنظيم منافس لـ (إسياس أفورقي) وأول من
فجر الكفاح المسلح عام 1961م بدعم من المسلمين، وتمكنَا من إجلائه إلى الحدود
السودانية عام 1981م وتشتيت قيادته اليسارية (تجمع حزب العمل الماركسي)
والانفراد معاً بالهيمنة الكاملة على الساحة العسكرية والذي أدى بدوره إلى استقرار
التقراويين على (بادي وشرورا) وهي مناطق النزاع المتقاتل عليها ليقوموا بحماية
ظهر حليفهم (إسياس أفورقي) من أي هجوم مضاد قد يشنه عليه خصومه الإرتريون، كما أن إسياس، لم يبرم معهم ما يؤكد لهم أنهم مجرد ضيوف على هذه الأرض،
وأنها إرترية بحتة، وبقاؤهم فيها مرهون بأسبابه ومقتضياته مما جعلهم ينظرون
إليها كجزء من مناطقهم، ويعمقون فيها وجودهم؛ حتى زحف الحليفان معاً كل
باتجاه حاضرة بلده ليتربع على الحكم بمباركة من أمريكا حاملاً معه تطلعاته
السياسية واتفاقاته السرية سواء مع الأمريكان أو الطرف الآخر ليقلب صفحة جديدة
على ضوء تعاليم لقاء لندن الذي تم عام 1992م برعاية هيرمان كوهين مسؤول
دائرة القرن الأفريقي في وزارة الخارجية الأمريكية وقتها، ولا أحد من الشعب
الإرتري والإثيوبي يعرف عن هذه الاتفاقيات السرية سوى (ملس وأسياس)
والأقربين إليهما، وكل ما يردد حولها ما هو إلا مجرد تكهنات واستنتاجات جعلت
بعض الإرتريين يعتقد أنها خطوط ترسم ملامح دولة (أكوم الكبرى) المكونة من
إقليم تقراي و (إرتريا) ومما عزز هذا الاستنتاج والتخوف منه عند المسلمين
الإرتريين بالذات ذلك التصريح الذي أدلى به (أسياس أفورقي) ونشرته جريدة
الحياة في 25/4/1992م والذي قال فيه: (إن حكومته تسعى مع الحكومة الانتقالية
في أديس أبابا إلى اندماج تتوحد فيه السياسة الاقتصادية والتجارية والنظام المالي
بين البلدين مؤكداً (أن الكونفدرالية مع إثيوبيا أحد الصيغ المطروحة للاندماج مع
هذا البلد) وقائلاً: (لماذا نستبعد الكونفدرالية إذا كانت لمصلحة البلدين ونفذت
استناداً إلى رغبه شعبيهما من خلال المؤسسات الديمقراطية) وحيث إن هذه
الكونفدرالية لم تكن مطروحة من قِبَلِ الشعب الإرتري أبداً فليس لها من دون
الأمريكان طارح، وقد ظل هنا التخوف عند غالب المسلمين الإرتريين يمثل أحد
أهم معايير التحليل السياسي لتطورات الأحداث التي لعب النظامان دوراً أساسياً في
تأجيجها لا سيما النزاع مع السودان بصفة خاصة، الذي من المتوقع أن يخف
سلطانه عليهم الآن بعد اندلاع هذه الحرب؛ ليس لأنه كان مجرد هاجس متوهم
كشف واقع الحرب بين الحليفين زيفه وإنما لترديه وسقوطه قبل الوصول إلى
المآرب والغايات، وأياً كان الأمر فإن الرئيس الإرتري ظل يشيد بعلاقة بلاده مع
إثيوبيا ويقدمها للشعب الإرتري والعالم كأروع مثل يحتذى به في التعبير عن القيم
الإنسانية والترفع على أحقاد حرب الثلاثين عاماً بعد أن وقع معها معاهدات أمنية
واقتصادية واصفآً لها كما جاء في مجلة (الأمانة) لسان حزبه الحاكم عدد يونيو
1996م بقوله: (المعاهدات الإرترية الإثيوبية هي من أجل الاستقرار والفائدة
المعنوية للتعاون العسكري المشترك للبلدين، وليست لها أية مطامع، أو برامج
خفية) وعلى نقيض من هذه النظرة يرى كثير من المحللين السياسيين في المنطقة
أن هذه المعاهدات الأمنية والعسكرية كان المقصود منها بالدرجة الأولى على
الصعيد المحلي تقوية نفوذ قومية التجرنية وتكريس سلطانها في كل من إثيوبيا
مقابل الأرموا أكبر القوميات الأثيوبية، والأمهرا، وفي إرتريا مقابل المسلمين
باعتبار انحدار الرئيسين المتحالفين منها، وباعتبارها ذات عدد قليل يوحدها اللغة
والثقافة والمعتقد الديني وتبقى دون حد التأثير في صياغة وجهة البلدين من دون
تحالف شطريها في كل من إثيوبيا وإرتريا. أما على الصعيد الأقليمي فكان مقابل
السودان، والصومال، وجيبوتي، واليمن، وسائر البلدان العربية المطلة على
البحر الأحمر والقرن الإفريقي؛ ومما يقوي هذه الرؤيا أن الرئيس الإرتري في
الوقت الذي ضيق فيه الخناق على المسلمين وثقافتهم داخلياً اندفع بشره وحماس
منقطع النظير إلى التصادم مع اليمن والسودان، والتحرش بهما على وجه جعل منه
لغزاً محيراً في المنطقة تتضارب فيه وجهات نظر المحللين حتى خسر كل جيرانه
بما فيهم إثيوبيا التي يخوض اليوم حرباً عسكرية ضدها من بعد أن شتم مصر
بالتسول على الأسواق الأمريكية، واتهم جيبوتي بتلقي الرشاوي من اليمنيين وطعن
الخاصرة من الخلف متوعداً إياها على ما كسبت يمينها من جرم الخيانة والغدر
حيث قال بالحرف الواحد في مجلة الأمانه العدد المذكور نفسه: (لم يكن يجب على
حكومة جيبوتي أن تدخل في مثل هذا الوحل.. إن ذلك جرم.. إنه جرم بيّن وضار
بمساعي بناء علاقة جوار حسنة. إن استغلال انشغال إرتريا بالنزاع مع اليمن،
ومحاولة إثارة نزاع مفتعل بهدف تحقيق مكاسب في (زحمة المولد) مسألة غير سهلة، وقد لا يكون الجيبوتيون قد أدركوا ألم الطعنة الغادرة التي أصابونا بها، وقد
يأتون بمختلف المسوغات والأعذار، ولكننا لن نترك هذه المسألة تمر مرور الكرام، ولن نتهاون في التعامل معها، وستجد الحل في وقتها المناسب) أي الاقتصاص
منها فهو أمر مفروغ منه وكل ما في الأمر أن الوقت لم يحن بعد. كذلك فإن (ملس
زناوي) زحف بدباباته إلى الصومال للعبث فيه وضرب أوكار ما أسماه بالأصولية
مدعوماً بقوات إرترية.
من التحالف إلى التقاتل:
ولكن ها هي رياح الأحداث تهب من حيث لا تشتهي السفن، وتأتي على
عكس المراد لتعصف بالحلف الثنائي القومي ولترجمه بغارات جوية وهجمات
أرضية تستخدم فيها شتى أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة بعد قرار برلماني من
الحكومة الإثيوبية ينذر الإرتريين بأمرين أحلاهما مر: الانسحاب، أو الحرب،
دون جدوى كل الوساطات التي قادتها أمريكا، ورواندا ورئيس منظمة (إيقاد)
(حسن جوليد) رئيس جيبوتي، ولم يجد رئيس الوزراء الإثيوبي (ملس زناوي) في
نفسه حرجاً من أن يتهم حليفه (أسياس أفورقي) بحمل أفكار توسعية والتطلع إلى
دور يجعل منه إمبراطور القرن الأفريقي، وهو الأمر الذي نفاه (أفورقي) في
المقابلة الهاتفية التي أجراها معه تلفزيون الـ ... مساء الأحد 7/6/1998م كما أن
سكرتير حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الحاكم في إرتريا، الأمين محمد
سعيد نعت قيادات التغراي الحاكمة في أديس أبابا والتي تحالف معها بالأمس
لتضرب قوى إرترية منافسة في مقابلة له نشرتها الشرق الأوسط في 2/6/1998م
بأنها (لم تستطع حتى الآن أن تتخلص من أطماع بعض إقطاعيي مقاطعة (تقراي)
الذين كانوا ينادون ومنذ القرن الثامن عشر بالاستيلاء على أراضي وجزر، وبحر
إرتريا) وهذه الاتهامات المتبادلة بين الحليفين المتقاتلين من الممكن أن تكون وليدة
الإحساس بخيبة الأمل بسبب سعي كل طرف منهما للفوز بأكبر قدر ممكن من النفوذ
والهيمنة، وفرض السيادة على الآخر مما نمى بينهما روح التنافر والتباعد بعد
التآلف والتحالف، ويظهر أن إفرازات هذه الخيبة ظلت تتراكم وتتكدس منذ أمدٍ
بعيد حتى طفت على السطح بوجهها الدموي؛ إذ هجر الإثيوبيون ميناء عصب
الإرتري، وآثروا استخدام ميناء جيبوتي عوضاً عنه، وحجروا التعامل مع العملة
الإرترية (تقفه) في أسواقهم المحلية، وطالبوا بتسديد كل الفواتير بالعملة الصعبة
مما أرهق كاهل التاجر الإرتري الذي يستورد بعضاً من بضائعه من أديس أبابا
بالعملة الإثيوبية (بر) وهذا بدوره انعكس على الحالة المعيشية للمواطن الإرتري؛
فقد ارتفعت الأسعار، واختفى من الأسواق (الطافُ) أفضل مأكول زراعي عند
سكان الهضبة الإرترية الذي يستجلب من إثيوبيا، ويشبه (الدخن) في حجمه.
وتوحي التعزيزات العسكرية وإعلان التعبئة العامة من الجانبين بطول أمد الحرب؛
فالرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) عندما سئل في مقابلة الـ ... تلك عما ينبغي
اتخاذه من قبله لإيقاف الحرب بأن هذا من مسؤولية النظام الإثيوبي الذي أعلنها
بقرار برلماني، وكذلك فإن كلاً من الرئيسين تغيب عن مؤتمر منظمة الوحدة
الإفريقية الذي انعقد في (واغا دوغو (ببوركينا فاسو، وهذا التغيب يكشف عزم كل
منهما على عدم ملاقاة الآخر والتباحث معه وجهاً لوجه بالرغم من تصريحاتهما
الداعية إلى الحل السلمي عبر طرف ثالث، وتؤكد إثيوبيا ثقتها في قدرتها العسكرية
على حسم الصراع لصالحها، ولا يشك المحللون العسكريون أيضاً في تفوق إثيوبيا
العسكري جواً وبراً من حيث أفراد القوات المسلحة بالإضافة إلى التعداد السكاني،
إلا أنهم من جانب آخر لا يهمشون ما أحرزته القوات الإرترية من خبرة قتالية عالية
اكتسبتها من حرب التحرير الطويلة التي دامت ثلاثين عاماً إلى جانب الترسانة
العسكرية التي ورثتها عن نظام منجستو أقوى جيش في القرن الأفريقي وقتها. وفي
نظري إذا كان هناك مخاوف تقلل من فرص انتصار الجيش الأرتري وتفوقه،
وتجعل ذلك أمراً مشكوكاً فيه فإنها قد تكمن في الاعتقالات التي طالت بعض قيادات
الجيش وزجت بهم في السجون لما أبدوه من مواقف رأى فيها (أسياس أفورقي)
نوعاً من التطاول على مقامه. وفي احتكار (أسياس) لصناعة القرار وتفرده به فإن
القرار الإرتري لا يسلك المسالك ذاتها التي ينبثق منها القرار الإثيوبي من برلمان
وغيره، وإنما هي إرادة (إسياس) تعلو ولا يعلى عليها، وإن نوقشت فعلى خوف
واستحياء، وكل هذا لا محالة أن من شأنه أن يصيب التلاحم الداخلي بشيء من
الوهن، ويغذي روح التذمر، وما يقال من أن الإرتريين ما زالوا مفعمين بتعاظم
الثقة القتالية في أنفسهم، والاعتزاز بكيانهم الوطني الناشئ بالرغم من كونه صحيحاً، إلا أنه يجب أن لا يحملنا على تجاهل هذا العنصر ذاته في الإثيوبيين أنفسهم؛
ولا سيما أن نخبة التقراي الحاكمة لا بد أن تثبت ولاءها للوطن وتبرئ ذمتها مما
رميت به، من ضعف واهتزاز الشخصية أمام شخصية الرئيس الارتري (أسياس
أفورقي) والتواطؤ معه على تمزيق إثيوبيا وتقطيع وحدتها، وفي سبيل كسب التأييد
الإقليمي نشطت دبلوماسية كل من البلدين في التحرك الخارجي بشرح وجهة نظر
بلادها؛ ولهذا الغرض أوفد الرئيس الإرتري وفداً عالي المستوى إلى الدول العربية
يقوده الرجل الثاني في الدولة (محمود شريفو (لكن ما يثير الغرابة إن كان في الأمر
ثمة غرابة أن سفير إرتريا بكينيا صرح خلال جولة الوفد الإرتري في العواصم
العربية حسبما نشرت جريدة القدس في 2/6/1998م أن إرتريا قادرة على إلحاق
الهزيمة بالجيش الإثيوبي مهما كان تسليحه وكثرته؛ فقد انهزم العرب على كثرتهم
أمام إسرائيل بقلة عددها، والجدير بالذكر أن دبلوماسياً غربياً أفاد كما نشرت ذلك
الحياة في 12/6/1998م بأن (الذين التقوا الرئيس الإرتري أخيرآً شعروا بأنه لا
يخفي بأن لديه القدرات على بناء مشروع (إسرائيل ثانية) في القرن الأفريقي) .
ومهما كانت طموحات النظام الإرتري فإن مثل هذه التصريحات بالتأكيد لا تتورط
فيها الدبلوماسية الحكيمة في هذا الظرف مهما كان اغترارها بإسرائيل كبيراً،
وازدراؤها العرب شديداً، ولكن هذه هي العقلية الحاكمة في إرتريا التي لا تتردد
في انتهاز كل سانحة للتعبير عن اعتزازها بالدولة العبرية وجعلها مثال الصمود
والتحدي، والتقليل من شأن العرب، وجعلهم مضرب المثل في الفرار والانهزام
حتى في أشد أوقاتها احتياجاً إلى عونهم السياسي والمالي.
الموقف الأوروبي والأمريكي:
أما الموقف الأوروبي والأمريكي من هذا النزاع فلم تتحدد معالمه حتى الآن
بشكل جلي وقاطع؛ وكل ما هو بادٍ لم يتجاوز نطاق البيانات الداعية إلى ضبط
النفس، وقد أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً ندد فيه بالحرب، وعقب المهلة المحددة
من الإثيوبيين لاستئناف القصف الجوي سارعت الدول الأوروبية التي لها رعايا في
إرتريا إلى إجلاء رعاياها ونقلهم إلى أوطانهم، وهذا الموقف البارد كما يبدو لي
مثار كثير من التساؤل؛ فإن الأمريكان بنفوذهم القوي على النظامين يملكون قدرة
الضغط عليهما معاً، أو إرغام أحدهما على الانقياد لتعليمات البيت الأبيض، ولكن
المعلن من الدور الأمريكي اقتصر على المكالمات الهاتفية التي أجراها كلينتون مع
زعامة البلدين، وعلى المساعي التي قامت بها (سوزان رايس) مساعدة وزير
الخارجية للشؤون الأفريقية، وأخيراً الوفد المصغر الذي شارك فيه (ديفد دان)
المسؤول عن أفريقيا في وزارة الخارجية الأمريكية، و (روبرت هوديك) عضو
مجلس الأمن القومي. وقال الرئيس الإرتري معلقاً على المبادرة الأمريكية كما
نشرت الحياة في 12/6/1998م: (إن الأمريكيين يؤمنون بالترتيبات السريعة، إن
هذا الأمر لا يصلح، إنها ليست ثقافتنا) .
ويرى البعض في هذا النزاع إخفاق السياسة الأمريكية في المنطقة وعجزها
عن قراءة نقاط الضعف في علاقة النظامين اللذين جعلت منهما حليفاً مشاغباً
للضغط على السودان، وتنفيذ سياساتها في منطقة القرن الأفريقي، بينما لا يستبعد
آخرون من أن يكون كل ذلك من صنع أمريكا ذاتها حتى توجِد لنفسها مسوغاً
للتدخل العسكري بحجة الفصل بين الدولتين وإيقاف الاقتتال بينهما.
وتذكر بعض التحليلات أن رئيس الوزراء الإثيوبي (ملس زناوي) فاجأ
الأمريكان بموقف صلب لم يكن متوقعاً منه في تحليلهم، وإذا كان هذا صحيحاً فإنه
يعني أن النظرة الأمريكية المقارنة بين قوة شخصية كل من (ملس) و (إسياس)
كانت قد وضعت (أفورقي) في مرتبة متقدمة على (زناوي) وقد تكون هذه النظرة
نابعة من إملاءات اللوبي الصهيوني الذي كسب (إسياس) وجعل منه مدخل ولاء
إلى المؤسسات الأمريكية مستغلاً فقدان (إثيوبيا) نفوذها على البحر الأحمر باستقلال
إرتريا وهو نفوذ يحسب له اليهود حسابه المعتبر، ويمنحونه الصدارة في وضع
استراتيجياتهم العسكرية، والأمنية، والاقتصادية، فهل هذا يعني انحيازاً أمريكياً
نحو إرتريا؟ ذلك ما يرجحه بعض المحللين بحجة أن (دولة صغيرة وفقيرة مثل
إرتريا يكفيها إنذار أمريكي بسحب قواتها وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل12
أيار (مايو) والدخول في مفاوضات مع إثيوبيا وهو ما لم يحدث) [1] وهذا التحليل
مهما كان منطوياً على شيء من الحقيقة فإن الأمر في نظري أعمق منه بكثير، ولا
أتصور جنوح الأمريكان إلى إرتريا وترجيح كفتها على إثيوبيا بهذه السهولة
لاعتبارات كثيرة أهمها مكانة إثيوبيا النصرانية في تصور الغرب بصفة عامة،
ونظرتهم إليها منذ اتصالهم بالعالم الإسلامي كجزيرة نصرانية مطوقة بطوق إسلامي. وإضعافها في صراعها مع إرتريا يعني أحد أمرين:
أولاً: تقوية إرتريا التي ينظر إليها الغرب كدولة في الأصل ذات انتماء
إسلامي وتطلع عربي وإن كان رئيسها نصرانياً.
ثانياً: إن انهزام إثيوبيا، وكسر شوكتها سوف يحفز سكانها المسلمين من
الأرومو ذات الأغلبية البشرية، والقالا، والصوماليين على العصيان والخروج مما
يؤدي إلى انهيارها الشامل على النمط الذي انهار به الصومال؛ وهو ما لا يرضاه
لها الغرب؛ ومن هنا فإني أعتقد أنه إذا كان للغرب موقف ترجيح فإنه إلى إثيوبيا
أقرب منه إلى إرتريا؛ ويمكن أن نستشف هذا من التصريح الذي أدلى به مصدر
دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في حفل أقامه على شرف المراسلين الغربيين
والأجانب في مبنى السفارة الأمريكية في إثيوبيا ونشرته الحياة في 12/6/1998م
حيث حمّل ذلك المصدر إرتريا عرقلة الجهود الأمريكية، قائلاً: إن أسمرة أعطت
موافقتها على الاقتراحات الأمريكية في بداية حزيران يونيو الجاري ثم غيرت
موقفها منها. وتحدث هذا الدبلوماسي طبقاً لإفادة الحياة عن صعوبة التعاون مع
الجانب الإرتري في التعامل مع الاقتراحات الأمريكية، وأوضح أن (ما يتم الاتفاق
عليه في الجولة الأولى يتم نسفه في الجولة الثانية) بينما وصف الموقف الإثيوبي
بأنه متعاون ومتفهم للاقتراحات الأمريكية وأكد (أن إثيوبيا نفذت ما تم الاتفاق عليه
مع واشنطن) .
أثر الحرب على الدولتين وخصومهما:
وكشأن كل الصراعات الدموية لا بد أن تترك هذه الحرب من ورائها
جراحات عميقة وتنبش خصومات دفينة، إلى جانب ما تجلبه من إهلاك البنية
التحتية وتدمير المنشآت الاقتصادية والعمرانية؛ وإرتريا الدولة الحديثة الناشئة أشد
حاجة من غيرها إلى السلم والاستقرار لبناء هياكلها وتأسيس ذاتها ولا سيما بعد تلك
المرارة التي ذاقتها خلال حرب التحرير، وخلفت من الآثار ما يجعلها سباقة إلى
المسالمة لا المصادمة، ولكن ها هي كل يوم في شقاق مع جيرانها: اصطدمت مع
السودان، ثم فتحت جبهة مع اليمن وأخيراً مع إثيوبيا، وفي كل ذلك تبدو الدولة
المظلومة المعتدى عليها، وأياً كان الأمر فإنها المتضرر الخاسر، ويكفي أن الإنذار
الإثيوبي بإجلاء الرعايا الأجانب من العاصمة أسمرة خلال ثلاث عشرة ساعة قد
أحرجها سياسياً، وفرض عليها حصاراً شاملاً في حيث أنها ليست من القوة في
المستوى الذي يؤهلها لتوجيه الإنذار نفسه إلى العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا)
بالرغم من تهديدات (إسياس) .
أما إثيوبيا فإذا ما خسرت الحرب فإن وحدتها ستعلق على حافة الخطر، أو
على الأقل ستفقد نخبة (التقراي) الحاكمة سلطانها، وتتحمل كل ما ستتعرض له
إثيوبيا من عواقب ضارة، وستكون عرضة للنقد والإدانة من سائر الاتجاهات
السياسية الإثيوبية لا سيما (الأمهرا) الذين يضمرون لها الكراهية الحادة، ويحملونها
كل أوزار انفصال إرتريا، وظهورها كدولة مستقلة. وعلى كل فإن ضعف كل من
النظامين وسقوطه هو ضعف الآخر وسقوطه؛ لكون كل منهما مرهوناً بالآخر،
ومعتمداً عليه في حماية نفسه.
من جهة أخرى وعلى الصعيد الإقليمي جاءت الحرب في وقت يعاني فيه
السودان والصومال من تدخلات دول الجوار الثلاث: إرتريا، إثيوبيا، أوغندا؛
واندلاعها يعني بالنسبة لهما (إحراز كسب من غير فأس) فقد سحب الإرتريون
قواتهم التي كانت ترابط على الحدود الشرقية السودانية، ونقلوا معظمها إن لم يكن
كلها إلى جبهة (التقراي) حيث النزاع المسلح، علاوة على أن السلاح الأمريكي
الذي زودت به الولايات المتحدة حلفاءها المتحاربين لدعم المعارضة السودانية وقلب
نظام الخرطوم وجه وبكل ضراوة إلى تدمير قدرات الحليفين العسكرية والاقتصادية، وهكذا بالنسبة للصومال الممزقة الذي استثمرت فيه إثيوبيا أوضاعه المتردية ...
لصالح سياساتها الإقليمية، بعد أن أسكتت المعارضة الأرمية في الداخل، وشلت
ذراعها العسكرية بضربات موجعة وقوية مستعينة بقوات إرترية، حيث اضطرت
هي أيضاً إلى نقل قواتها المرابطة فيه إلى حدودها الساخنه مع إرتريا ضمن الحشود
التي يقوم بها كل من الطرفين.
وبالقدر الذي تمثله هذه الحرب من مكسب أمني للحكومة السودانية ترى فيها
المعارضة طالعاً سيئاً جاء ليعصف بكل الآمال التي ظلت تعلقها على تحالف
النظامين الإرتري والإثيوبي ضد السودان، وستحرمها من اهتمامها بها بشكل كامل
وكاف.
وإذا كان هذا هو الشعور المتوقع من المعارضة السودانية فعلى النقيض منه
شعور المعارضة الإرترية التي ظلت تستبعد حدوث هذا الفصام، بل وتذهب بعلاقة
البلدين إلى حد بناء الدولة المتحدة ذات الثقل السياسي والاقتصادي في المنطقة، ولا
أعتقد أنها على قدر من البناء العسكري الذي يمكنها من استغلال هذا الحدث على
الوجه الذي يقوي ظهرها، ويجعل منها رقماً صعب التجاوز على المدى القريب أو
البعيد.
__________
(1) مجلة الشعب العربي عدد 54 1/6/1998م.(128/68)
المسلمون والعالم
حزب المؤتمر إلى أين يقود اليمن؟
أيمن بن سعيد
بعد انتخابات إبريل 1997م تفرد حزب المؤتمر الشعبي العام في قيادته لليمن؛ وفي هذه المقالة سنحاول التأمل في مسيرة هذا الحزب، وذكر أبرز توجهاته
الداخلية والخارجية في قيادة البلد. وحتى يتضح لقارئنا الأمر فلا بد من ذكر نبذة
عن تاريخ المؤتمر منذ قيامه إلى اليوم.
يمكن تقسيم المراحل التي مر بها حزب المؤتمر إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى: منذ تأسيسه عام 1982م في ما كان يعرف باليمن الشمالي
وكان مظلة سياسية تضم كافة القوى الاجتماعية والسياسية إلى قيام الوحدة عام
1990م.
ولقد كان للإسلاميين داخل المؤتمر حضور قوي منذ التأسيس نتيجة خروجهم
منتصرين في المعركة ضد الحزب الاشتراكي حاكم ما كان يعرف باليمن الجنوبي.
ولذا كان لعلماء اليمن ودعاته فعالية واضحة في صياغة مشروع الميثاق
الوطني، وهو النظام الأساس للمؤتمر الشعبي العام؛ حيث ألغي الدستور
الاشتراكي العلماني.
المرحلة الثانية: منذ قيام الوحدة إلى نهاية حرب عام 1990م وقد شهدت هذه المرحلة التي أبيحت فيها التعددية الحزبية دستورياً خروج عامة الإسلاميين وكثير من العلمانيين من مظلة المؤتمر، وأنشؤوا أحزاباً كثيرة، ولم يبق في المؤتمر إلا متنفذو العلمانيين في السلطة، وقلة من ذوي الصلات القوية بقيادة المؤتمر من الإسلاميين.
وقد شهدت هذه المرحلة معركة الدستور الشهيرة بين الإسلاميين من جهة،
وبين حزبي المؤتمر والاشتراكي من جهة أخرى، ولقد أدار الإسلاميون المعركة
باقتدار، واستطاعوا أن يعطوا الصراع بعداً عقدياً لدى عامة الشعب، وكان
شعارهم المرفوع: (نعم للوحدة، لا للدستور) واقياً لهم بتوفيق الله من إلصاق تهمة
عداء الوحدة والعمالة لجهات أخرى، التي سعى لها حزبا المؤتمر والاشتراكي
ومناصروهم من الأحزاب العلمانية والبدعية كثيراً.
المرحلة الثالثة: منذ هزيمة الحزب الاشتراكي في حرب 1994م على يد تحالف الإسلاميين والمؤتمر وخروجه من الحكم، وهروب الصف الأول من قياداته خارج البلد، إلى انتهاء انتخابات عام1997م.
وفي بداية هذه المرحلة لم يكن بوسع قيادة المؤتمر وعلمانييه أن يقلبوا ظهر
المجنّ بصورة مباشرة وعلنية للإسلاميين من الناحية الأدبية أمام الشعب؛ إذ هم
شركاء فاعلون في صناعة النصر، ومن الناحية الواقعية؛ إذ إن كثيراً من
الإسلاميين ما يزالون يشعرون بنشوة النصر، ولديهم الاستعداد لمجابهة من يحاربهم
عموماً، فكيف إذا كان ينازعهم في قضيتهم الإسلامية التي هي أهم قضاياهم؟
ولكن ويا للأسف فإن فرح الإسلاميين بسقوط الاشتراكي ألهى بعضهم عن
استشراف المستقبل ووضع الخطط والسياسات اللازمة لذلك، كما ألهى بعضهم عن
تحقيق المزيد من المكتسبات الإسلامية الجديدة التي كان بإمكانهم تحقيقها في ذلك
الوقت مثل: طرح مشروعات إسلامية كبيرة وتدعيمها، وتعميق التوجه الإسلامي
القوي لدى العامة بالتعليم والتربية الشرعية، وإزالة ما يستطاع من منكرات شرعية، والسعي إلى إزالة رموز التوجه العلماني من مواقع التأثير والنفوذ، والعمل على
إلغاء القوانين المتخذة سابقاً، والمعادية للتوجه الإسلامي في اليمن مثل قانون إلغاء
المعاهد العلمية مع وقف السريان من الرئيس اليمني.
وقد أخذ المؤتمر في هذه المرحلة يرص الصفوف ويعيد هيكلة الحزب ليستفيد
من كافة قيادات الحزب الاشتراكي وعناصره التي تسابقت إليه، وقيادات الأحزاب
الأخرى وعناصرها المحسوبة عليه.
وعليه فقد صار حزب المؤتمر في هذه المرحلة قبلة جمهور العلمانيين وسائر
النفعيين، والذين لم يعد لهم عدو يواجه أطروحاتهم ويهدد نفوذهم ومصالحهم إلا
الإسلاميون؛ ولذا فقد أخذت عمليات تشويه الإسلاميين وإلصاق النقائص بهم تتزايد، وأخذوا يعدون العدة للانتخابات منذ فترة مبكرة فقاموا بتجنيد كافة قوى الدولة
البشرية والمادية والإعلامية وإمكاناتها لتحقيق ثلاثة أمور:
الأول: الحصول على أغلبية مريحة في مجلس النواب تجاوز الثلثين.
الثاني: عدم تجاوز الإسلاميين نسبتهم في مجلس النواب السابق، أي 20%
تقريباً.
الثالث: الحيلولة دون فوز بعض الشخصيات الإسلامية والدعوية غير
المرغوب استمرارها في مجلس النواب، وقد تحقق لهم ما أرادوا.
المرحلة الرابعة: منذ انتهاء انتخابات إبريل 1997م إلى اليوم.
وهذه المرحلة هي التي خرج فيها الإسلاميون من السلطة مع أنه كانت توضع
العراقيل تلو العراقيل للحيلولة دون نجاح وزراء حزب الإصلاح في أداء مهامهم.
وبخروج حزب الإصلاح من السلطة بمباركة خارجية انفردت قيادة حزب
المؤتمر وعلمانيوه بإدارة البلد، ودخلوا في مواجهة علنية مع الإسلاميين، وقامت
قيادته بخطوات كثيرة سواء في مجابهة الصحوة ودعاتها، أو في تنفيذ مخططات
وتطبيق سياسات من المتوقع أن يكون لها أثر كبير في تحديد هوية البلد ومستقبله.
أبرز ملامح السياسة التي تنفذها قيادات المؤتمر في اليمن:
توالت المخططات التي أخذ حزب المؤتمر في تنفيذها في اليمن في شتى
الجوانب، وألخص ذلك من خلال الجوانب التالية:
أولاً: الجانب السياسي:
أدركت القيادة اليمنية خطأ موقفها في أزمة الخليج، والآثار السيئة التي نتجت
عن ذلك الموقف، سواء كان ذلك بعودة مئات الألوف من المغتربين، أو بتوقف
تدفق المساعدات الضخمة من دول الخليج على شكل هبات أو قروض ميسرة، أو
بشعور بعزلة في المحيط الإقليمي.
ولذا عملت لمعالجة ذلك الوضع على تقوية الصلة بالدول الكبرى عبر
الاستجابة لمطالبها وتقديم التسهيلات لها، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا
وفرنسا لتقوم تلك الدول بدورها بالمساعدة على تحسين مستوى العلاقة بين اليمن
ومحيطها الإقليمي. وقد قطعت اليمن في ظل حكومة المؤتمر شوطاً كبيراً في هذا
المضمار كان من جوانبه المعلنة حضور مؤتمر الدوحة الاقتصادي، وإجراء
مناورات عسكرية في البحر الأحمر بين سلاح البحرية اليمني، وفرقة من سلاح
البحرية الأمريكي، وتسليم إدارة المنطقة الحرة في عدن لشركات بريطانية، وما
تردده بعض أحزاب المعارضة والصحف اليمنية من السماح بإقامة قواعد عسكرية
أمريكية في جزيرة سوقطرة وأن توقيع الاتفاق أصبح في المرحلة النهائية، وهذا ما
نفته الحكومة اليمنية وذكرت أنه لا يعدو كونه مجرد زيارات لمسؤولين أمريكيين
للجزيرة!
بالإضافة إلى تسليم كثير من المواقع الهامة في الدولة لشخصيات محل رضى
لدى صناع القرار في عواصم تلك الدول، وقبول إشاراتهم فيما يتعلق بجوانب
التعددية السياسية ومكافحة الإرهاب.
كما سعت اليمن للخروج من العزلة الإقليمية في ظل حكومة المؤتمر إلى
الدخول في عدد من التجمعات الدولية والإقليمية كرابطة دول الكومنولث، والدول
المطلة على المحيط الهندي وغيرها.
ثانياً: الجانب الاقتصادي والإداري:
قام حزب المؤتمر برفع شعار إصلاح الأوضاع الاقتصادية والإدارية ومحاربة
الفساد، وتبنى قبل الانتخابات الأخيرة وبعدها القبول بشروط البنك وصندوق النقد
الدوليين لإصلاح الأوضاع الاقتصادية. والحديث في هذا الجانب يطول، ولذا
فسأختصره في النقاط التالية:
1- يسلم الجميع بحاجة اليمن إلى إجراء إصلاحات اقتصادية وإدارية عميقة
نتيجة تضخم حجم الفساد في هذين المجالين، لكن الملحوظ على الإصلاحات التي
تبنّى تطبيقاتها حزب المؤتمر أنها ليست يمنية المنشأ فلم تأتِ عن طريق المخلصين
من الخبراء اليمنيين وغيرهم ممن يراعي قيم الشعب وأصوله العقدية، ويأخذ بعين
الاعتبار في إصلاحاته ضرورة التخفيف من المعاناة الاقتصادية الكبيرة للشعب،
وتحسين مستوى معيشته، ولذا فقد تم إغراق الشارع اليمني بالربا عن طريق رفع
سعر الفائدة، وطرح أذونات الخزانة، كما تم تتالي تنفيذ الجرعات الاقتصادية التي
زادت معدلات الفقر في الشارع اليمني وأحدثت نتائج سيئة كثيرة مثل: اختلال في
الأمن نتيجة تكاثر موجات السرقة وعصابات الاختلاس، وتفشي الرشوة في أجهزة
الدولة حتى وصلت إلى حد المشكلة، وما ينتج عن ذلك من إضاعة الحقوق وتوقف
النمو والاستثمار، وتفشي ظاهرة الكسب غير المشروع كالغصب وبيع المخدرات
وغيرها من الأمور الأسرع في الحصول على المال، وتفشي ظاهرة الفساد الخلقي
من أجل توفير الاحتياجات الضرورية وغيرها.
2- أن الإصلاح الاقتصادي سبق الإصلاح الإداري، وكان نتيجة ذلك أنه لم
يتم مراعاة الأمانة والكفاءة في القيادات التي ستقوم بتحويل ذلك الشعار إلى أرض
الواقع لاعتبارات حزبية وقبلية ومصالح شخصية غالباً.
كما لم يتم إصلاح أوضاع القضاء وما فيه من الفساد، وتفعيل دور الرقابة
حتى يتم من خلال ذلك التعرف على المفسدين وإدانتهم مما يعني أن مفسد الأمس
الذي امتلك نفوذه السلطوي والاجتماعي وحصل على المال عبر بوابة الفساد هو
مصلح اليوم!
وهذا يعني أن المبالغ التي يتم توفيرها عن طريق الجرعات الاقتصادية التي
يكتوي بنارها عموم الشعب والمساعدات والقروض التي تؤخذ لدعم جهود الإصلاح
وعملية التنمية، سيقضى عليها من قِبَلِ تلك الشخصيات المتنفذة ذاتها في آن واحد، وتكون نتيجتها فقط زيادة حجم الديون، وتشويه صورة البلد أمام الجهات الداعمة، وزيادة أوضاع الطبقة الاجتماعية سوءاً وهي المتضررة من عملية التقشف
الاقتصادي وهم عامة الشعب، وحصول إحباط لدى كثير من الراغبين بإحداث
إصلاح وتنمية حقيقيين من كافة القوى السياسية والاجتماعية.
كما يعني أيضاً أمن المفسدين من أن يلحقهم أدنى محاسبة، وخصوصاً إذا
علمنا أن الحرب الضروس التي يقيمونها لتنحية كل نزيه ساع للإصلاح يعمل على
تحقيق ذلك.
ولقد أدت تلك الأمور إلى توقف الكثير من عمليات الاستثمار والتنمية،
وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج نتيجة خوف أصحابها وقلقهم على أموالهم،
وزيادة كبيرة في معدلات البطالة في أوساط الشعب.
3- لم يقم حزب المؤتمر عبر سياساته الاقتصادية بتأهيل العمالة عبر إقامة
المعاهد المهنية والتقنية، وتشجيع فعلي لأصحاب رؤوس الأموال على إقامة
مؤسسات وشركات استثمارية قوية في مجالات الزراعة والصيد والصناعة
والخدمات العامة وغيرها من الأمور التي تُوجِد بنية تحتية قوية وتساهم في التقليل
من معدلات البطالة المرتفعة، بل قام بمحاولة امتصاص السيولة من عامة الشعب
عبر طرح أذونات الخزانة ذات سعر الفائدة العالية وجعلها في البنوك، وفي النهاية
فإن تلك السيولة في ظل الفساد الإداري والضعف الرقابي تزيد الطين بلة.
4- تبنى حزب المؤتمر عملية تخصيص المؤسسات العامة ذات الكلفة العالية
بدعوى التخفيف من حجم مصروفات الدولة، لكن لم يتم بيعها عن طريق طرحها
في مزاد علني بحيث يحصل عليها من هو الأقدر على القيام بها ودفع ثمنها، ولكن
جلها بيع بأسعار بخسة قد لا تسلم في نهاية الأمر لخزينة الدولة لبعض ذوي النفوذ
ووكلائهم، أو لشركات أجنبية في وجودها مصلحة لبعض القوم.
ثالثاً: الجانب الاجتماعي:
أحسب أن تغيير هوية أبناء المجتمع اليمني وتقاليدهم الإسلامية الأصيلة،
وقصر اهتماماتهم، وجعلها تدور حول كيفية توفير القوت الضروري، وتحقيق
الشباب لشهواتهم الجسدية همّ كبير من هموم علمانيي المؤتمر وأصحاب الشهوات
فيه، وهناك دلائل وسلوكيات كثيرة تؤكد ذلك، منها:
1- استدراج كثير من العامة إلى معاداة الدعوة الإسلامية؛ فتحتَ مسمى
المجابهة الحزبية للإصلاح تم العمل على إسقاط هيبة ومكانة العلماء والدعاة وطلبة
العلم من نفوس العامة، والقيام بتجريء بعض السفهاء عليهم لغمزهم وإيذائهم،
سواء أكان هؤلاء السفهاء من المنتمين لبعض البيوتات ذات المكانة الاجتماعية، أم
من عامة الشعب. بل إن عملية التسفيه تلك تتجاوز في أحيان كثيرة الأشخاص إلى
ما يحملونه ويدعون إليه من مبادئ وقيم نسأل الله السلامة.
ولا شك أن مثل تلك أعمال ستزرع الفتنة وتولد الكراهية بين هؤلاء السفهاء
ومن خلفهم من العلمانيين ذوي النفوذ من جهة، وبين غيرهم من علماء اليمن
ودعاته وعامة الشعب من جهة أخرى، وهو مما ينذر في بلد كاليمن فيه ما يزيد
على خمسين مليون قطعة سلاح بتهديد السلم الاجتماعي ما لم يعمل عقلاء القوم على
تلافيه.
2- يستهدف علمانيو المؤتمر المرأة اليمنية بشكل واضح، ويحرصون عبر
وسائل كثيرة على إخراجها من منزلها واختلاطها بغير بنات جنسها تحت مسمى
إعطائها حقها في الوظيفة والعمل، وتحت مسمى ممارستها لحقوقها الدستورية في
الترشيح والتصويت، وعبر تشجيع بعض المستغربات والعلمانيات على قيادة
القطاع النسائي، وتقديمهن في وسائل الإعلام على أنهن طليعة نساء اليمن وعبر
تشجيع الرياضة النسائية التي قدم لها الدعم الكبير من جهات غربية، وتم مشاركة
اليمن في الدورة الرياضة في طهران، وما لم يعطِ الإسلاميون هذا الأمر حقه من
الاهتمام، ويقوموا بقطع الطريق على القوم فإنهم سيندمون في وقت قد يكون قريباً
لا قدر الله ولكن لن يجدي فيه الندم.
3- يدير علمانيو المؤتمر وذوو الشهوات فيه جل مؤسسات الإعلام الرسمية
والحزبية ووسائل الترفيه والرياضة والفنون، ويمارسون من خلالها أعمالاً بشعة
بحق مجتمعهم تصب جميعها في مجرى إلهاء شباب اليمن عن أن يحمل رسالة أو
هماً، وتعمل على أن تقدم له قدوات سافلة في ميزان الشرع والعقل وتقاليد المجتمع، وفي أحيان كثيرة تكون غير مسلمة وتدعوه إلى الاقتداء بها والسير حذوها.
4- استهدفت حكومة المؤتمر إسلامية التعليم في اليمن، وعملت على إضعافه
في هذا الجانب بشكل واضح، فمن إقصاء الإسلاميين عن مواقع النفوذ داخل
وزارة التربية وإداراتها العامة، إلى تعديل المناهج وخصوصاً مواد التربية
الإسلامية والاجتماعية، إلى إقصاء مدراء ومدرسي المدارس ذوي التوجهات
الإسلامية أو التضييق عليهم والعمل على عدم أدائهم لمهامهم الإدارية والتربوية.
هذا بالنسبة للتعليم العام. أما المعاهد العلمية ومدارس التحفيظ فاستهدافها خاصة
واضح، ولذلك صور كثيرة منها: محاولة إلغائها بالكلية، ومنها دمج ميزانياتها
بميزانية التعليم العام، ومنها محاولة الإلغاء الجزئي لبعضها بحيث يتم تحويل
بعضها إلى مدارس عامة، ومنها إيكال إدارتها والتدريس فيها إلى بعض الأشخاص
غير المؤهلين أخلاقياً وتعليمياً بغرض التشويه، ولدفع أولياء الأمور إلى المطالبة
بتغييرها إلى مدارس عامة، ومنها استغلال الأخطاء التي تقع من بعض إدارات
بعض المعاهد ومدرسيها وطلابها بحيث يتم نشر تلك الأخطاء وتعميمها بغرض
التشويه والإساءة إلى سمعة المعاهد عموماً، وفي بعض المعاهد التي لا يجدي معها
ذلك يتم تسليم رواتب إداراتها ومدرسيها إلى بعض قيادات المؤتمر في منطقة المعهد
ليؤذوهم في أقواتهم وأرزاق أبنائهم، إلى غير ذلك من الأمور التي لو تمت كما
يريد لها القوم لكانت كفيلة بإفراغ العملية التعليمية والتربوية في اليمن برمتها ومنعها
أن تغرس قيمة أو تسعى لتحقيق غاية إسلامية.
5- استهدفت حكومة المؤتمر العمل الخيري والاجتماعي الذي تقوم به
الجمعيات الخيرية الإسلامية في اليمن التي تسعى إلى مساعدة الشعب في محنته
التي يمر بها.
وعملت على تضييق الخناق على أنشطتها عن طريق أسلوب رتيب تسير فيه
معاملاتها داخل أجهزة الدولة والتي لا تكلل بالنجاح إلا بعد مضي أوقات طويلة
وتقديم رشاوى كبيرة، وعن طريق محاولة التدخل في توجيه وتسيير أنشطتها
بإيكال الإشراف عليها إلى قيادات المؤتمر في المحافظات.
6- تقوم حكومة المؤتمر بتشجيع قدوم الأجانب إليها للسياحة، وخصوصاً
الأوروبيين والآسيويين تحت ذرائع اقتصادية، وتقوم بتوفير كافة التسهيلات
اللازمة لذلك بما فيها توفير متطلبات السياح غير المشروعة في أكثر المناطق التي
يتوافدون إليها.
ولهذه الأمور مجتمعة وغيرها أصبح المرء ينظر إلى العبث والفراغ الذي
يعاني منه الشباب، بل وكثير من كبار السن ذكوراً وإناثاً، ويشاهد ارتفاع معدلات
الجريمة الخلقية، وانتشار الخمور والمخدرات نسأل الله السلامة حتى إنها في بعض
المناطق صارت تمثل ظاهرة إن لم تصل إلى حد المشكلة، ويبدو أن إهمال
الأجهزة مواجهة هذه الظواهر إحدى وسائل حزب المؤتمر في مواجهة انتشار
الصحوة الإسلامية، وهو ما صرح به أحد المسؤولين الأمنيين في إحدى المحافظات.
رابعاً: الجانب الأمني:
المتحدثون عن الأمن في اليمن يقعون بين إفراط وتفريط؛ فطائفة تضخم
بعض حوادث الخلل الأمني، وتجعل منها الأصل، وطائفة تلغي وجود بوادر
وإرهاصات خلل قد يؤدي في النهاية لا سمح الله إلى انفراط العقد ووصول
الأوضاع إلى ما وصلت إليه في بلدان أخرى كالجزائر أو الصومال.
ويمكن القول حقيقة إن الأوضاع الأمنية في اليمن مستتبة، ولكن هناك بوادر
خلل أمني عمل حزب المؤتمر من خلال سياساته التي يقوم بها على تشجيعه
وتغذيته؛ إذ إن الأمن الحقيقي لا يتحقق إلا بإيمان عميق بالله عز وجل والدار
الآخرة يردع المرء في قرارة نفسه عن الوقوع في الخطيئة والخلل، والمؤتمر
بمجابهته الدعوة الإسلامية وأبنائها، وتشجيعه انتشار الانحراف، وتعلق الشعب
بالشهوات والملهيات، وسعيه لأن لا يحمل الشباب هموم أمتهم ورسالة ربهم التي
يجب أن يبلغوها قد ساعد على عدم تعميق الإيمان في النفوس، وبذلك يكون قد
زرع بأعماله تلك بذرة الخلل الأمني ورعاها.
كما أنه بحمايته لكثير من المفسدين وتمكينه لهم من تولي زمام الأمر،
وإصرار قيادته على عدم الإصلاح الإداري في الدولة وإعادة النظر في شؤون
الرقابة والقضاء، وإقصائه للأيدي النزيهة عن توجيه الشعب والقيام بخدمته في
كافة مناحي الحياة قد أوجد نواة القلق الأمني ونماها، ولن يتعمق الأمن في اليمن
بدون تجذر الإيمان بالله واليوم الآخر، وإيكال الأمر إلى من هو قوي أمين.
خامساً: الجانب الدعوي:
بعد انتخابات إبريل 1997م، وانفراد حزب المؤتمر بقيادة البلد، دخلت
الدعوة الإسلامية في اليمن المرحلة التي دخلتها الدعوة الإسلامية في كثير من الدول، وهي مرحلة الإيذاء للدعاة، والسعي القوي لتجفيف المنابع، والانتقال من مرحلة
الانتشار إلى مرحلة الدفاع، وحماية الأنفس والمكتسبات.
والدعوة الإسلامية في اليمن كما هي في كل مكان مستهدفة من أعدائها في
الداخل والخارج، ولذا نجد بأن أمانة المؤتمر والكثرة الكاثرة من قيادييه الذين
يقعون على سلم السلطة يقومون بمهمة الكيد للدعوة وأبنائها ومكتسباتها إرضاء لكثير
من القوى الدولية المتربصة بالإسلام ودعاته، وتمهيداً لتحقيق مآربهم وأطماعهم
الذاتية، التي لن يقف حجر عثرة أمام نَيْلها إلا علماء الإسلام ودعاته الغيورون
لتحقيق ذلك الهدف، بسلوك سبل وطرق مختلفة، منها:
1- إبعاد أبناء الدعوة الإسلامية والمتعاطفين معهم من عامة الشعب عن تولي
زمام وزارات الأوقاف والإرشاد والتربية والعدل؛ فكيف بوزارات الإعلام والثقافة
والرياضة والشباب والسياحة، وغيرها من وزارات التوجيه والتأثير على الرأي
العام.
2- إفساح المجال أمام المبتدعة من صوفية ورافضة وباطنية للعمل من خلال
المؤسسات الرسمية كوزارات الأوقاف والإرشاد والعدل، والجامعات والكليات
الأهلية والمعاهد العليا ومراكز البحوث ووسائل الإعلام المختلفة والتعليم الأهلي
العام بكافة مستوياته.
وما لم ينتبه أبناء الدعوة الإسلامية وكافة أهل السنة لخطورة الأمر، ويقوموا
بإعطائه ما يستحق من اهتمام، وما يليق به من جهد ومال فإن اليقظة البدعية في
اليمن، وهي التي تملك أرضاً وقوة وتاريخآً وحماية ستجتاح كثيراً من المواقع،
وعلى وجه الخصوص حين تصب جهودها في خدمة علمانيي المؤتمر الذين لن
يبخلوا عليها بحماية أو جهد أو حتى مال.
ومن دلائل التنسيق بين الفئتين أن قيادة المؤتمر قد اتخذت رموز المبتدعة من
صوفية ورافضة واجهات إسلامية لها في كثير من المواقع والمناطق لتجابه بهم
جهود علماء الصحوة ودعاتها حين يحتاج الأمر إلى رفع راية إسلامية أمام عامة
الشعب.
3- منع بعض الدعاة من الانتقال للدعوة خارج مساجدهم ومدارسهم بعد
أحداث التفجيرات الأخيرة، التي أرجعت بعض القيادات الأمنية تهمة الضلوع بها
لجهات خارجية، والبدء في تحجيم حرية الكلمة والقيام بواجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر على ضعف شديد من الدعاة في القيام به، ومنع القيام بممارسة
بعض الأنشطة الدعوية في بعض المواقع.
4- اشتراء ذمم بعض العلماء والدعاة وأبناء الصحوة وإغراؤهم بالأموال
والمناصب ليتحول كثير منهم أداة طيعة بيد القوم لضرب إخوانهم الدعاة.
وحين لا يجدي الإغراء يمارس التهديد والإيذاء، ويتم تسليط الآخرين عليهم
من مشايخ قبائل وسفهاء وأجهزة أمنية.
5- إنشاء دائرة الدعوة والإرشاد داخل حزب المؤتمر، والسعي إلى استقطاب
بعض المشايخ والدعاة وأئمة المساجد ليمثلوا قاعدة إسلامية للمؤتمر في أوساط
الشعب، وليتم تحسين أعمال المؤتمر وتسويغ مواقفه إسلامياً.
6- المساعدة على زرع وتجذير الخلاف بين الفصائل الدعوية، والقيام
بتسليط بعضها على بعض من أجل زوال الثقة بينهم، وعدم اجتماع كلمتهم على
مواقف موحدة، فكيف بالوحدة؟ والملاحظ أن المستهدف من علمانيي المؤتمر
وقيادته اليوم بالدرجة الأولى هو حزب الإصلاح والعلماء والدعاة المنضوون تحته،
ولذا نجد أن التضييق عليهم أشد، والمحنة إليهم أقرب، والسعي إلى تجفيف
منابعهم أسرع، لكونهم الأوسع انتشاراً والأكثر نفوذاً وفاعلية، وفي المقابل نجد
إعطاء المجال لأفراد من السلفيين للعمل، والقيام بدعم أنشطتهم معنوياً، والثناء
عليهم وعرض تقديم الخدمات والحماية والتمكين لهم.
وفي ظني أن الدعاة ما لم يتقوا الله فيجتمعوا على كلمة سواء فإن الفتن
ستتوالى عليهم واحدة تلو أخرى، وستقول كل فئة يوم يحل البلاء بها: أُكِلْتُ يوم
أُكِلَ الثور الأبيض؛ إذ المستهدف من القوم الإسلام ذاته، لا فئة من علمائه ودعاته
فحسب.
7- اختراق طوائف الدعاة وغرس بعض منسوبي الأجهزة في صفوفهم
للرصد أولاً، ولزعزعة ثقة الداعية بأخيه في الطائفة نفسها ثانياً، ولإحلال الخوف
وبث الذعر في نفوس الدعاة ثالثاً، وللقيام بأعمال يستنكرها المجتمع يتم إلصاقها
بالدعاة وطلبة العلم رابعآً. وفي ظني أن أول الخاسرين من جراء هذه الأعمال
الشنيعة، والسياسات السيئة، والسلوكيات غير المقبولة هي زعامة المؤتمر نفسه؛
إذ هي بإقرارها لذلك تعمل على تهديد السلم الاجتماعي والاستقرار الذي تنعم به
البلاد نسبياً، كما أنها بذلك تفقد ورقة كانت تقارع بها أعداءها أزمة بعد أخرى
وأحداث 1979م، و1994م خير شاهد، وإن تراءى لها أن الأمر قد سلم لها فغير
صحيح؛ إذ الأحداث في المنطقة تتوالى، والأيام حبلى بكل جديد.
أسباب ساعدت المؤتمر على تطبيق سياساته:
هناك العديد من الأسباب التي ساعدت المؤتمر على تطبيق سياساته، أذكر
منها:
1- نسيان الكثيرين للآخرة وركونهم إلى الدنيا، وما ينتج عن ذلك من كثرة
الذنوب والمعاصي وتفشي المنكرات، والابتعاد عن دين الله عز وجل إذ ما نزل
بلاء إلا بذنب، ولارفع إلا بتوبة.
2- تفرق الدعاة والمصلحين، وفساد ذات بينهم حتى صار بأسهم بينهم شديداً، وصارت هموم كثير منهم وجهودهم مقتصرة على كيفية القضاء على جهود الدعاة
الآخرين ومنافحتهم والوقيعة بهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
3- عدم تصدي الدعاة للمنكرات العامة بشكل جاد وقوي، وترك القيام
بتحذير العامة منها وبيان خطرها الدنيوي والأخروي على الأفراد والمجتمعات
بالصورة المطلوبة.
4- ضعف توعية الجماهير ودعوتهم، وعدم تفرغ طائفة من أهل العلم
والدعوة لتعليمهم أمور دينهم بتفصيل وعمق، وحثهم على الاستمساك بالدين في
كافة مناحي حياتهم الفردية والاجتماعية.
والاكتفاء بالطرح السطحي لأحكام الإسلام، وفي معظم الأحيان يتم الاكتفاء
بالتغني بأمجاد الأسلاف، وإيراد النصوص والمآثر الشرعية الواردة في فضل اليمن
وأهلها والتي من الواجب أن تكون دافعة إلى التعلم والعمل بالدين؛ لا أن تكون
معطلة عن ذلك، ومقعدة لكثير عن القيام بالمحاسبة والتصحيح وفق النصوص
الشرعية.
5- عدم تمايز بعض من الدعاة عن حزب المؤتمر وقيامهم بإضفاء الشرعية
الإسلامية عليه وترديد أن الاختلاف معه اختلاف برامج لا مناهج، مع أنه لا يرفع
شعار الإسلامية إلا في نطاق ضيق جداً، وفي أوقات الأزمات والمحن، والحقيقة
أن اختلاف الدعاة مع حزب المؤتمر في المناهج والبرامج لا في البرامج فحسب.
وقد يكون عذر طائفة من الدعاة القول بأن تمايز الصفوف مع المؤتمر سيؤجج
الصراع، وهو كذلك؛ ولسنا ندعو إلى ذلك إلا أنه ينبغي إدراك أن الظروف
بالنسبة للإسلاميين تسير من سيئ إلى أسوأ، وأن ما لم يُقَل اليوم فالظاهر أنه لن
يقال الغد، مع أن تأخير البيان في هذا الجانب بالذات لا يجوز؛ إذ الشعب
مستهدف من الصراع بين قوى الخير والشر، ولا بد من بيان جوهر الخلاف
وحقيقته للشعب حتى يحذر وينجو؛ وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ لأن
نتيجة ذلك ازدياد الداخلين في ركب الظلام وموجه يوماً بعد آخر.
6- تضخيم بعض كبار الدعاة لحجم التعديلات الدستورية، وهي مع أهميتها
إلا أن الواجب إدراك أنها بقيت في الإطار النظري، ولم يتم تحويل خطط البلاد
وسياساتها الداخلية والخارجية المطبقة لتتوافق مع تلك التعديلات، بل إن المتأمل لا
يشاهد فروقاً واقعية بين فترة ما قبل التعديلات، وما بعدها، بل يرى أن الأمور
متجهة نحو الأسوأ فترة بعد أخرى.
فكيف يليق ببعض الدعاة عفا الله عنهم الزعم بزوال الأحزاب العلمانية بمجرد
ذلك التعديل، والقول بأن الواقع صار إسلامياً ولم يبق إلا أخطاء في الممارسة
والتطبيق؟ !
7- قوة المؤتمر وتلقيه دعماً خارجياً تنظيمياً ومالياً، وامتلاكه كافة قدرات
الدولة البشرية والمالية والإعلامية وجعلها تحت سيطرته، واستغلاله كل ذلك في
تحقيق أهدافه وتطبيق سياساته.
وأخيراً: فإن الأمور في اليمن في ظل حكومة المؤتمر تتردى، والأحوال
تتبدل من سيئ إلى أسوأ، وقد تصل الحال إلى حد المأساة إن تمادت قيادة الحزب
وعلمانيوه في غيهم، ولا عاصم من ذلك إلا عودة الشعب الصادقة إلى الله،
واجتماع كلمة الدعاة ومواقفهم، وقيامهم بقدر استطاعتهم وفق ضوابط الشرع
وقواعده بما أوجب الله عليهم القيام به من إصلاح ومعالجة.
نسأل الله أن يلهم اليمنيين رشدهم، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه،
والباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، والله من وراء القصد.(128/78)
المسلمون والعالم
حِلم العرب.. وأحلام اليهود
(2من2)
إسرائيل الكبرى.. من يسابق من؟
عبد العزيز كامل
هناك اتفاق بين الساسة المتنفذين في الدولة العبرية على أن العمل لاستكمال
(مشروع إسرائيل الكبرى) هدف كبير واعد، ولكنه بعيد آجل، ولا بد من الوصول
إليه عبر مراحل في الزمان والمكان.
غير أن هناك مفهومين سائدين ومختلفين في الوسيلة التي يمكن من خلالها
الوصول إلى تنفيذ هذا المشروع، وأحد هذين المفهومين يتبناه الصقور وتمثلهم
(كتلة الليكود) التي تضم بعض الأحزاب اليمينية والدينية، والآخر يتبناه (الحمائم)
ويمثلهم (حزب العمل) الذي يضم يساريين وليبراليين. وبأدنى قدر من الفهم
يستطيع المراقب لسياسات الاتجاهين أن يدرك أنهما يتبادلان الأدوار على حسب ما
تقتضيه المرحلة في كل ظرف. لكن الحزبين في النهاية يعملان لأهداف مشتركة
وإن اختلفت الوسائل.
أما المفهوم الأول: وهو الذي تتبناه كتلة الليكود في عملها لصالح ذلك
المشروع، فيعتمد على المفهوم (الهرتزلي) في ذلك؛ حيث قال هرتزل للمستشار ...
الألماني (هوهنكر) حين سأله عن الأرض التي يريد: (سنطلب ما نحتاجه، وتزداد
المساحة المطلوبة مع ازدياد السكان) [1] وهذا يعني أن باب التوسع مفتوح ... ...
دائماً ... وقد سار (بن جوريون) أول رئيس لدولة اليهود على الخط نفسه، وعبر عن ذلك بقوله: (حدودنا حيث يصل جنودنا) [2] .
فالقوة وسياسة الأمر الواقع هي السبيل الأوحد للوصول إلى الهدف.. في
نظر بن جوريون! وقد كان هذا الرجل يشخص ببصره نحو (إسرائيل الكبرى) ..
في مبدأ إنشاء الدولة على أرض محدودة عام 1948م يقول: (إن الصهيونية حققت
هدفها في الرابع عشر من مايو 1948م ببناء دولة يهودية أكبر مما كان متفقاً عليه
في مشروعات التقسيم وبفضل قوات (الهاجاناه) . وليست هذه نهاية كفاحنا، بل إننا
اليوم قد بدأنا، وعلينا أن نمضي لتحقيق قيام الدولة التي جاهدنا في سبيلها من النيل
إلى الفرات) ! [3]
وسار على الدرب نفسه (ليفي إشكول) فخاض حرب عام 1967م لقضم أكبر
قطعة من أرض (إسرائيل الكبرى) وقد بدأ يكثف حديثه علناً عن هذا المشروع منذ
شهر أكتوبر عام 1967م، ويشاركه فيه دايان وآلون وكبار الحاخامين وزعماء
الأحزاب.
والمرأة التي كانت تفخر بأن يقال لها: (أنت أقوى رجل في إسرائيل) (جولدا
مائير) كانت تؤمن بالأسلوب نفسه فيما يتعلق بالعمل لصالح (إسرائيل الكبرى) وقد
قالت في خطاب لها: (إن إسرائيل يجب أن تكون دولة وقوة عظمى في الشرق
الأوسط، لها حق التصرف كما تريد) [4] وجاء بعدها مناحم بيجن فكان صريحاً
فصيحاً في التعبير عن النوايا اليهودية تجاه أرض إسرائيل (الكاملة) . يقول بيجن
في كتابه (الثورة) : (منذ أيام التوراة، وأرض إسرائيل تعتبر أرض الأمم لأنبياء
إسرائيل، وقد سُميت هذه الأرض فيما بعد (فلسطين) ، وكانت تشمل دوماً ضفتي
نهر الأردن ولبنان الجنوبي وجنوبي غرب سورية.. إن تقسيم الوطن عملية غير
مشروعة، وإن تواقيع الأفراد والمؤسسات على اتفاقية التقسيم باطلة من أساسها،
وسوف تعود أرض إسرائيل إلى شعب إسرائيل بتمامها إلى الأبد) [5] وقد أشار
محمد كامل وزير الخارجية المصري الأسبق في كتابه: (السلام الضائع في كامب
ديفيد) إلى أن برنامج حزب (حيروت) ضمن كتلة الليكود، بزعامة بيجن كان يقوم
على أساس السعي لإقامة إسرائيل الكبرى [6] .
أما شامير، زعيم الليكود بعد بيجن، فكان أصرح وأفصح الزعماء في
الإعلان عن قيمة مشروع (إسرائيل الكبرى) في الفكر والوجدان اليهودي.
قال ذات مرة وهو يخاطب أحد الصحفيين: (إن (إسرائيل الكبرى) هي
عقيدتي وحلمي شخصياً، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة، ولا الصعود إلى
أرض الميعاد) [7] . وقد فاز في الانتخابات الإسرائيلية لمنصب رئاسة الوزراء
بسبب برنامجه الهادف إلى السعي من أجل إسرائيل الكبرى.
وجاء اليهودي الليكودي الجَلْد (نتنياهو) ليمثل مرحلة ساخنة على طريق
السعي اليهودي المسعور نحو (إسرائيل الكبرى) . لقد ولد نتنياهو ونشأ في بيئة
تغلب عليها أفكار حزب (حيروت) العقل الأيدولوجي لتكتل ليكود، ولذا فمن البدهي
أن يكون تأييده لمبادئ الحزب جزءاً من طبيعته ونشأته وتفكيره، وتلك المبادئ
يأتي على رأسها حقهم المزعوم في (إسرائيل الكبرى) .
وقد انتخب نتنياهو عام 1996م تأييداً لبرنامجه الانتخابي القائم على عدم
التنازل عن شبر من أرض إسرائيل المستعادة، وهو بالطبع يطمع في ترشيح نفسه
لرئاسة ثانية في انتخابات عام 2000م، وهو أيضاً لن يستطيع أن يقدم نفسه
للناخبين مرة ثانية إلا وهو في موقع المحافظ على وعوده الانتخابية للمرة الأولى
ومنها عدم التنازل عن الأرض والسيادة، لا في جنوب لبنان ولا في الضفة ولا
القطاع ولا في الجولان، والتحالف القائم الآن بين الأحزاب اليمينية اختار له اسم
هو: (أرض إسرائيل) .
المفهوم الثاني: ويرتكز على فهم خاص لدى بعض ساسة اليهود، مؤداه أن
الشعب اليهودي لن يستطيع أن يسيطر على ما حوله من الشعوب إلا بالدهاء
والحيلة والقوة بأشكالها المختلفة، بحيث تعوض هذه القوة الكيفية، الضعف الكمي
عندهم، وفي هذا يقول بن جوريون مخاطباً الشعب اليهودي: (لقد ذكر أنبياؤنا منذ
أكثر من ثلاثة آلاف سنة أنكم أقل الشعوب جميعاً، ولذلك يجب على شعب إسرائيل
أن يكون شعب قدرات وتفوق، بحيث يستطيع أن يقف أمام شعوب أكبر منه) [8] . ...
وحزب العمل كان ولا يزال يتبنى هذا المفهوم، ولعل من أبرز المتحمسين
لهذا المسلك، حمامة السلام المفترسة (شمعون بيريز) تلك الشخصية الأفعى، التي
تصدت دائماً لمشروعات امتصاص دماء الشعوب المحيطة وابتزازها. إما
بالترغيب، عن طريق مشروعات السلام الوهمي، أو بالترهيب عن طريق
الترسانة النووية التي يُعد مهندسها وأبوها الروحي.
ما مفهوم شمعون بيريز لمشروع إسرائيل الكبرى؟
لقد كان شمعون بيريز ينادي دائماً بـ (إسرائيل العظمى) أولاً، قبل إسرائيل
الكبرى، بمعنى أن تستكمل الدولة اليهودية أسباب القوة لتصبح قوة عظمى، ثم
تستكمل بعد ذلك المساحة لتكون أرضاً كبرى.
وهو يسير على محورين للتوصل إلى تلك الغاية، أولهما: السعي لزيادة قوة
الدولة اليهودية دون أدنى خضوع لعقبات أو عراقيل تفرضها الأوضاع أو الأعراف
الدولية، والثاني: العمل على توهين وإضعاف قوة البلاد العربية المجاورة بكل
وسيلة ممكنة، واستغلال أسباب قوتها ومصادر مواردها لغير صالح شعوبها.
وقد برهن عملياً على هذين المسلكين، فهو في نظر اليهود (بطل) القوة
النووية الإسرائيلية وراعي مسيرتها منذ البداية حتى النهاية. وهو من جهة أخرى
عرّاب عمليات السلام مع العرب في مرحلة ما بعد كامب ديفيد، وهو واسطة
الوصول للمأمول عبر (القنوات السرية) في أوسلو الأولى والثانية ووادي عربة.
وعندما أعلن عن خططه لعمليات السلام في عام 1991م برز حرصه كأي
زعيم صهيوني على قضية أمن اليهود وتحصينهم ضد الأخطار العسكرية وكذلك
الأخطار الاقتصادية التي ليست بأقل في نظره من الأخطار العسكرية.
أما الأخطار العسكرية فقد كفاهم إياها بمنجزاته النووية، وأما الأخطار
الاقتصادية، فقد اختار لمواجهتها طروحاته شرق الأوسطية؛ حيث دعا إلى
مشروع يهدف إلى جعل الدولة العبرية جزءاً من نسيج المنطقة المحيطة بها، بحيث
تتمدد في جسدها سرطانياً لتقتلها ببطء وترث تركتها بأمان!
اعتبر (شمعون بيريز) أن مشروع (الشرق أوسطية) يمكن أن يقوم على تكامل
الطاقات: المياه التركية والسورية والعراقية ... الأيدي العاملة المصرية
والفلسطينية ... الأسواق والثروة النفطية الخليجية مع الخبرة والذكاء و (الألمعية)
الإسرائيلية لإنشاء الشرق الأوسط الجديد..!
لماذا الشرق الأوسط؟ ! وهل الشرق الأوسط إلا تسمية أخرى حداثية لـ
(أرض الميعاد) وما حولها؟
لقد اعتبر بيريز أن أنهار المنطقة الرئيسية: (النيل، والفرات، والأردن،
ودجلة) بحاجة إلى مشروع (إقليمي) لتنظيمها وتحقيق الاستفادة منها، وكذلك
الثروات الأخرى بما فيها (السياحة) ، سواء كانت سياحة دينية أو مدنية.
ولا شك أن إسرائيل الطامعة في الإشراف على تلك المشروعات الشمعونية
الإقليمية كانت تتطلع إلى عقد معاهدات صلح مع كل جيرانها العرب تتمكن خلالها
من تحقيق مآربها في أن تصبح جزءاً من نسيج المنطقة، أو بالأحرى تصبح
المنطقة جزءاً من نسيجها وساحة لتحقيق أهدافها، وفي مقابل هذا ... أو لتحقيق
هذا؛ لا ضير على إسرائيل على حد تعبير بيريز أن تترك للعرب (بعض)
الأراضي مقابل سلام قد يعده البعض تنازلاً عن الحق التاريخي والديني في أرض
إسرائيل، وهو من وجهة نظره قيام بواجب تاريخي تجاه مصلحة إسرائيل!
فما هو هذا الواجب؟ يقول: (إنها بذلك تكون قد أدت واجبها تاريخياً بحماية
طابعها الخاص من الإفساد والتشويه) ويقصد طبعاً الوضع الناجم عن وجود
الفلسطينيين بين الإسرائيليين ضمن كيان واحد؟ وبعد أن يتم (تطهير) الجسم
الإسرائيلي من العناصر غير الإسرائيلية وتضع إسرائيل يدها على المواقع المهمة
في الضفة الغربية المنزوعة السلاح، وتعقد الصلح مع الجيران، بعدها تدخل في
علاقات أعمق مع الدول المحيطة، وعندما تحقق إسرائيل هذا المشروع المتعدد
والمتداخل الحلقات؛ فإنها تكون قد وضعت رجلها حقاً في رأي شمعون بيريز على
طريق (إسرائيل الكبرى) .
ويتساءل بيريز: (ماذا ينفع إسرائيل في هذه المرحلة لو ضمت الأراضي
الواسعة وخسرت بالمقابل يهوديتها وخصائصها؟ وماذا يضيرها لو أنها تخلت عن
مساحات صغيرة من الأرض (وهي تحت سلطانها الفعلي) لقاء تحولها من كيان
محاصر ومعزول إلى قوة إقليمية عملاقة؟)
ويخلص بيريز إلى تلخيص رؤية حزب العمل فيما يتعلق بـ (العمل) لصالح
إسرائيل الكبرى فيقول: (إن إسرائيل تواجه خياراً حاداً بين أن تكون (إسرائيل
الكبرى) اعتماداً على عدد العرب الذين تحكمهم، أو تكون (إسرائيل الكبرى)
اعتماداً على حجم واتساع السوق الواقعة تحت تصرفها) .
ويهاجم بيريز مفهوم حزب الليكود القائم على اعتبار ضم الأراضي هدفاً في
حد ذاته، فيقول: (إسرائيل الكبرى بمفهوم ليكود ستضم الفلسطينيين والعرب،
فيمثلون جسمها، وتظل حبلى بالمشاكل والاضطرابات، وتبقى عرضة للمجابهات
المسلحة مع الجيران والتوتر في علاقاتها الاقتصادية المتقلبة، والانخفاض في عدد
المهاجرين إليها) .
إنه بهذا الكلام لا يتخلى عن (إسرائيل الكبرى) كهدف، ولكنه ينتقد أسلوباً
ومفهوماً مغايراً في تحقيق هذا الهدف، إنه لا يريد حكم الفلسطينيين والعرب،
ولكنه يريد التحكم فيهم والسيطرة عليهم. عبر (الشرق أوسطية) التي ستوضع كما
قال تحت إمرة إسرائيل ورهن تصرفها باعتبارها الكيان الأكثر تطوراً..
فطريق حزب العمل إلى (إسرائيل الكبرى) يمر عبر الدبلوماسية واللياقة التي
تستند إلى التهديد الدائم بالرعب النووي الرابض في صحراء النقب! ولهذا كان
بيريز في آخر فترات توليه المسؤولية وزيراً للخارجية في وزارة رابين الهالك؛
كان لا يكف عن استشراف إمكانات تحقيق حلمه لحكم العرب عن طريق تقمص
شخصية (التاجر اليهودي الجشع) بدلاً من (اليهودي الإرهابي الدموي) .
فكان يتنقل بين العواصم العربية داعياً للسلام، من الرباط إلى مسقط!
إن الفارق بين المفهومين في نهاية المطاف أعني مفهوم حزب الليكود وحزب
العمل هو بين زعامة أكولة عجولة نهمة، تريد أن تأكل العرب بيديها وأسنانها
وأرجلها أيضاً، وبين زعامة تتعالى في أناقة أَنِفَةٍ فلا تحب أن تأكل العرب إلا
بالشوكة والسكين!
إن هناك إذن سباقاً محموماً بين اليهود واليهود، للوصول إلى غرض مشترك
مقصود، بالحرب لا بأس، فحزب العمل مستعد لخوضها إذا كان ذلك ما تقتضيه
المرحلة، وبالسلام أيضاً لا بأس، فحزب الليكود مستعد للاشتراك فيها إذا كان في
السلام خدمة للمرحلة. ونحن لا ننسى أن رئيس الأركان في حرب عام 1967م
كان هو (رمز السلام) في نظر العرب إسحاق رابين، بينما تم التوقيع على اتفاقية
كامب ديفيد (للسلام) في عهد الليكودي المخضرم مناحيم بيجن، وجاء من الليكود
أيضاً (شامير) راوي الأساطير في مباحثات مدريد (للسلام) !
نعم ... السلام، فالسلام في مفهوم اليهود هو مرحلة الإعداد لمزيد من
الحروب. وإذا كان لا بد من سلام حقيقي فهو لليهود؛ فحسب قول مناحيم بيجن:
(لن يكون سلام لشعب إسرائيل ولأرض إسرائيل حتى ولا للعرب، ما دمنا لم
نحرر وطننا بأجمعه بعد، حتى لو وقّعنا معاهدات صلح) [9] .
وتأمل أيها القارئ في تلك التوصية التي صدرت منذ أكثر من أربعة عقود
عن أحد مؤتمرات اليهود تحت عنوان: (الحاخام (جوهاشيم برنز) يشرح وثائق
المخطط الأخير) .. جاء فيها: (التخطيط المتفق عليه سهل في مظهره وفي تنفيذه،
ولا يعرض من يعملون لتحقيقه إلى أي نوع من الخطر، وكل ما في الأمر يتلخص
في كتمان القصد من الدعوة لهذا المخطط حتى لا يكتشفه أحد، ولقد أطلق على هذا
المخطط اسم: (مخطط السلام) . والعمل على تحقيقه لا يتطلب منا سوى الإلحاح
والمثابرة على الدعوة للمحافظة على السلام، والقصد منه ذو شقين:
أحدهما: الحصول على الوقت اللازم لنا ولحلفائنا لكي نتمكن من تسليح
جيوشنا وتقوية أجهزتنا الحربية؛ لأننا في هذا الوقت لم نستكمل العدة لخوض
حرب عالمية ثالثة تكفل لنا النصر.
وأما الشق الأخر: فهو سباق التسلح السائد الآن لدى الدول المعادية لنا
ولحلفائنا، وإرغام الدول على تدمير أسلحتها الذرية وتخفيض جيوشها، وقتل
الروح العسكرية في الأوساط الشعبية، ودفع الجماهير إلى غير الجندية وتنفيرهم
منها، بينما سنثابر نحن وحلفاؤنا على التسلح إلى أبعد مدى مستطاع.
ولكي نتوصل إلى تحقيق هذه الأهداف، عليكم العمل دون هوادة على دعوة
الناس إلى مناصرة السلام، وتسفيه كل منهاج أو رأي يدعو إلى التسلح، والهجوم
على كل من يناصر الجندية، وإثارة الإنكار على كل مشروع دفاعي، وتحريض
الناس على الامتناع عن الإسهام في الأغراض العسكرية، والتنديد بما ينفق في
أمور الحرب.
أيها الإخوة ... ربما استغرب أحدكم انقلابنا المفاجئ وسأل عن الأسباب التي
دفعتنا إلى أن نكون دعاة سلم بعد أن كنا دعاة حروب وثورات، واعلموا إذن أن
الأسباب التي حملتنا في الماضي على إشعال نار الثورة الفرنسية ثم الثورة الروسية، ولافتعال الحربين العالميتين، هي نفسها تدفعنا اليوم إلى الدعوة إلى السلام لأول
مرة في التاريخ، وما هذه الأسباب بخافية عليكم، فهي ما تعرفونه من أهدافنا
الخاصة التي يتطلب تحقيقها تجريد خصومنا من أسلحتهم ريثما نتمكن من التسلح
والتأهب لجولاتنا القادمة.
وعندما نتيقن من نجاح مخططاتنا هذه؛ ستكون ساعة الصفر قد أزفت،
فتزحف جيوشنا إلى الميادين المعينة لها، وتقضي سريعاً على مقاومة أعدائنا التي
ستكون حتماً هزيلة، ونزيل الدول المنهارة عن طريقنا، ثم نعلن للعالم انتصارنا،
ونفرض سيادتنا تحت ظل دولتنا الموحدة وعلمها ذي النجمة المقدسة) [10] .
ولقد تهافت العرب على هذا السلام المبيت بليل، تهافت الفراش على النور
المنبعث من النار، وهرولت وفودهم في دهاليز وسراديب المفاوضات السرية
والعلنية، لتقامر بمستقبل الأمة، وتجعله رهينة اتفاقات (رسمية) (دولية) ملزمة،
لا تُلزم جيلنا فحسب، بل تُلزم وتُخضع أجيالاً قادمة..
عجباً لشأن ذلك المفاوض العربي (العلماني) وهو يسارع الخطا في طريق
الظلمات.. ما أغفله وما أجهله وما أعرض قفاه وهو يطاوع اليهود ناقضي العهد
وناكثي الوعود، ألم يسمع لقول الله عنهم [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] [البقرة: 100] .
فإلى متى هذا الحِلْم الطويل يا بني إسماعيل، على ذاك الحُلم الكبير لبني
إسرائيل..؟ ! وهل سنظل في الحلم حالمين حتى نكون رعايا في (إسرائيل
الكبرى) ؟ !
__________
(1) مذكرات هرتزل (2/702) .
(2) حياة بن جوريون ص327.
(3) المصدر السابق.
(4) صحيفة معاريف الإسرائيلية (29/10/1972م) .
(5) (الثورة) لمناحيم بيجن ص 325.
(6) (السلام الضائع في كامب دفيد) لمحمد كامل ص27.
(7) جريدة الحياة، عدد (10475) .
(8) أخطر من النكسة ص102.
(9) كتاب (الثورة) لمناحيم بيجن (235) .
(10) نشرة الصليب والعلم الدورية الصادرة عام 1955م.(128/88)
مرصد الأحداث
لماذا المرصد..؟
في هذه الزاوية، تنقل (البيان) للقارئ، أخبار ما أهملته الأخبار، من
الأقوال والأحداث والمواقف.. ننقلها كما هي من مصادرها دون تصرف إلا في
وضع العنوان الذي يعبر عن دلالة الخبر ... والدعوة مفتوحة لقرائنا الكرام أن
يرسلوا إلينا ما يرون أنه جدير بلفت اهتمام المسلم لما خلف الخبر، على أن يرسل
لنا أصل الخبر ومصدره مع التعليق والاسم. ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
آمنا بالله وكفرنا بالحداثة
إن من يحصر الحداثة، في الشعر يفكر بطريقة غير حداثية، ويفصل بين
الحداثة والتحديث؛ لأن الحداثة معناها: أن تؤمن بالمجتمع المدني، وبحرية العقل
التي يجب أن تنطلق بلا حدود، وأن تؤمن بأهمية وضع الأشياء موضع المساءلة،
وأن تؤمن بنسبية الأشياء، وأن لا توجد مطلقات ينبغي أن يستسلم لها الإنسان،
وأن تؤمن بالمتغير الذي يحرك الحياة ويجددها، وأن تتخلى عن التقاليد الجامدة
المتحجرة، وتنتسب إلى تقاليد متجددة تتوثب العافية، هذه هي الحداثة.
[د. جابر عصفور، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة بمصر جريدة ... الخليج، عدد: (6954) ]
بئست المرضعة!
ليس من المبالغة القول إن حزب البعث، هو الحزب الأم الذي أنجب معظم
الأحزاب القومية، والقسم الأكبر من السياسيين والمثقفين المشارقة وبعض المغاربة
أيضاً على مختلف توجهاتهم العقائدية والسياسية القائمة الآن.
... ... ... ... ... ... ... [مجلة اليسار، عدد: (99) ]
ولا عزاء للطغاة
إن موبوتو وسوهارتو وماركوس خدموا المصالح الأمريكية خلال فترة الحرب
الباردة وأخلصوا في محاربة الشيوعية والشيوعيين، ولكن الشيوعية ... انتهت.
[د. لاري ناكش الخبير الأمريكي في جنوب شرق آسيا، مجلة المجلة، عدد: (954) ]
ثم تكون عليهم حسرة! :
1- يقوم المليونير اليهودي الأمريكي آرفينغ موسكوفيتش ممول الجمعيات
الاستيطانية الناشطة في احتلال وتهويد العقارات العربية في القدس الشرقية حالياً
بتمويل أنشطة حركة يمينية جديدة تشكلت في (إسرائيل) مؤخراً بهدف إفشال ومنع
تنفيذ الانسحاب العسكري من الضفة الغربية.
... ... ... ... ... [جريدة الخليج، عدد: (1966) ]
2- رجل الأعمال الملياردير البريطاني تايني رولاند الذي كان له دور مشبوه
على المسرح السوداني فيما يتعلق بتهريب اليهود الفلاشا، يقوم الآن بتمويل خطة
تقسيم جنوب السودان.
... ... ... ... ... ... [روزاليوسف، عدد: (3649) ]
نخشى عليكم العناية المركزة
لا شك أن العلاقات مع أمريكا ستحظى بعناية خاصة، فنحن ننظر إلى
العلاقات مع أمريكا من زوايا مختلفة أساسها المصلحة الوطنية لليمن، وإزاء ما
تلعبه أمريكا من أدوار فإننا نريد أن يكون لنا وجود على خارطة العالم، فاليمن له
قضاياه الحيوية ولا يريد أن يعزل نفسه، وسوف يقاوم من يحاول أن يعزله.
[عبد القادر باجمال نائب رئيس الوزراء اليمني، جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7143) ]
حُماتُها ... مجرموها:
أقال المجلس التنفيذي للمجلس الشعبي لولاية غليزان بغرب الجزائر رئيسي
بلديتي غليزان وجديوية المتهمين بارتكاب مجازر في الولاية، وأفادت مصادر
محلية أن الإقالة تأتي استجابة لمطالب العديد من سكان الولاية لتورطهما في عمليات
قتل خارج نطاق القانون.
... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (12885) ]
النووي.. والنوايا الطيبة
كشف الأستاذ الجامعي الإسرائيلي: (إسرائيل شاحاك) في كتابه الجديد الذي
يحمل عنوان: (الأسرار العلنية) ، كشف النقاب عن أن إسرائيل تمتلك من ستين
إلى ثمانين رأساً نووياً موجهة إلى كل العواصم العربية وإلى منشآت باكستانية
نووية وبعض المواقع في الجمهوريات السوفياتية السابقة.
... ... ... ... [جريدة الوطن الكويتية، عدد: (7969) ]
قبل أن يُهدم الأقصى
ذكر المتحدث باسم الشرطة (الإسرائيلية) أن نحو ثلاثين مستعمراً يهودياً من
المتطرفين والمتدينين بدأوا عمليات تنقيب عن الآثار قرب المسجد الأقصى المبارك
في البلدة القديمة من القدس الشرقية المحتلة، وينفذ المستعمرون من جمعية
(عطيرت كوهانيم) الدينية المتشددة عمليات التنقيب وتمويلها بموجب اتفاق مع دائرة
الآثار الإسرائيلية.
... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7132) ]
الأيام بيننا!
إن تأييدي لأن تكون القدس عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة يقوم على
أساس قانون أمريكي أقره الكونجرس ووقعه كلينتون وتنتقل بموجبه السفارة
الأمريكية من تل أبيب إلى القدس العام المقبل، القدس هي عاصمة إسرائيل، لا
أعرف أحداً يظن أنها ستتوقف عن كونها عاصمة لإسرائيل، وأعتقد أنه حتى
عرفات لا يظن أنها ستتوقف عن كونها عاصمة لإسرائيل.
[نيوت جنجريتش، رئيس مجلس النواب الأمريكي، جريدة الأنباء، عدد: (7912) ]
كنز الوهم النازي
عرضت المصارف التجارية الثلاثة الأكبر في سويسرا 600 مليون دولار
تعويضات من أجل التوصل إلى (تسوية عالمية) لمطالب اليهود ضحايا المحرقة
النازية، لكن الناطق باسم المنظمة اليهودية العالمية للتعويضات في إسرائيل،
رفض على الفور هذا العرض، وقالت المصارف: إن التعويضات التي اقترحتها
تتضمن 70 مليون دولار دفعت فعلاً إلى صندوق لمساعدة الناجين من المحرقة
النازية.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (12891) ]
جماعة كوبنهاجن: تمويل أمريكي إسرائيلي
بعد تأسيس (جمعية القاهرة للسلام) التي أقامها أنصار التطبيع مع القوى
الصهيونية، وبعد توزيع المناصب والمزايا، تنوي جماعة كوبنهاجن إنشاء مركز
بحوث تحت اسم: مركز الدراسات الإسرائيلية، بتمويل أمريكي (إسرائيلي) ضخم
قدره 40 مليون دولار.
... ... ... ... [جريدة الشعب القاهرية، عدد: (1255) ]
الفاتيكان والأزهر يحاربان الإرهاب..! !
شكل الفاتيكان والأزهر لأول مرة في التاريخ لجنة مختلطة إسلامية مسيحية،
لمحاربة التعصب الديني والإرهاب، وتعهد الطرفان بأن يكافحا معاً التعصب
باعتباره تعبيراً لرفض الآخر ومصدراً للحقد والعنف والإرهاب، كما تعهد بالسهر
على أن تلعب الأديان دورها في المجتمعات الإنسانية لإرساء الأخوة والتضامن
والتعاون والعدل والسلام.
... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7122) ]
دعوة بابوية لمصالحة يهود
وجه يوحنا بولس الثاني نداء إلى مسيحيي أوروبا للتصالح مع اليهود، وقال
في خطابه: إن على هذه القارة ألا تنسى الفصول المظلمة للنازية، معتبراً أنها قوة
قد تعود إذا ابتعدنا عن شرعة الله.
... ... ... ... ... ... [جريدة الأنباء، عدد: (7936) ]
حتى أنتِ يا قيرغيزستان!
أصدر رئيس جمهورية قيرغيزستان: (عسكر أكايف) توجيهات إلى دوائر
الأمن بالتصدي لنشاط جميع المنظمات الدينية التي يزعم أنها متطرفة، وقد تم
القبض على جماعة من الأجانب يقومون بانتقاء الشباب بحجة إرسالهم لدراسة
العلوم الشرعية في الدول الإسلامية، بزعم أنه توجد معسكرات خاصة لتدريبهم
على القيام بعمليات عسكرية للاستيلاء على السلطة لاحقاً.
... ... ... ... ... [جريدة المسلمون، عدد: (694) ]
من وراء الستار؟
إن الولايات المتحدة أول من زود إيران أيام حكم الشاه بمفاعل نووي قادر
على تخصيب اليورانيوم بنسبة كبيرة، وإن واشنطن قامت بإعداد خبراء إيرانيين
في الحقل النووي بصورة رفيعة المستوى.
[جيورجي كاؤورف، الخبير في وزارة الطاقة النووية الروسية، جريدة الأنباء، عدد: (7922) ](128/94)
في دائرة الضوء
الغرب والقنبلة النووية الإسلامية
د. باسم خفاجي - إسلام المرابط
(إن التسلح النووي لـ (إسلام أباد) هو سلاح الدمار الشامل الأول من نوعه
في العالم الإسلامي.. إن الدين والمجموعة الحاكمة التي تعتبر الأشد تطرفاً، والتي
تمثل أكبر تهديد غير متوقع للعالم الغربي من ناحية العقلية والتصرفات، قد
وضعت يدها على وسيلة تأثير مهمة للغاية) .
[جابور زورد صحيفة مجرية]
(إذا استخدمنا القوة العسكرية.. فلا بأس بذلك.. لأننا أمريكا! نحن أمة لا
يستغني عنها العالم.. هاماتنا عالية.. ونتطلع إلى المستقبل)
[مادلين أولبرايت]
هكذا كتب العالم عن القنبلة الباكستانية، وهكذا عبرت أولبرايت عن سبب
اهتمام الغرب بنزع السلاح النووي من العالم، وإبقائه في يد أمريكا. هكذا قدم
الإعلام الغربي ووزيرة الخارجية الأمريكية المسوغ القانوني للعبة المعايير
المزدوجة. هكذا قدمت أولبرايت الصلف الأمريكي في أقسى وأشد الصور نفاقاً.
ولقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن العالم قد يشهد تحولاً حاداً في موازين القوى
العسكرية، وخاصة فيما يتعلق بميزان التسلح النووي. فقد كان للتفجيرات النووية
التي أجرتها كل من باكستان والهند خلال الفترة الماضية أثر كبير على النظرة
العالمية للتفوق النووي للغرب، ومدى إمكانية منافسة دول العالم الثالث في هذا
الشأن.
ويبدو أن دراسات الخبراء والأكاديميين فضلاً عن توقعات وتحليلات
الإعلاميين، كثيراً ما تصطدم بتسارع الأحداث وانفجارها على أرض الواقع،
وعند رصد تاريخ الشعوب والأمم، وبعد قراءة ما (سقط عمداً) ، يتضح لنا أن
(للعقائد الدينية) و (النزعات العرقية) (والدوافع المصلحية) النصيب الأكبر في
توجيه سياسات الدول، وتشكيل ثقافات الشعوب وقناعاتها مهما استترت تلك
السياسات والثقافات خلف الشعارات البراقة، أو تقنعت بالمدنية وتقبل (الآخر) ، بل
حتى إن ذهبت أبعد من ذلك فارتدت لباس النصح والتهاون والتكامل!
تاريخ الصراع:
تتسم المنطقة الواقعة في أدنى الوسط الآسيوي التي تتقاسمها الصين والهند
وباكستان بالتوتر والأجواء المشحونة، وليس ذلك مستغرباً؛ فقد نشبت بين الهند
والصين حرب في عام 1962م، كما دخلت الهند في ثلاث حروب مع باكستان كان
أولها عام 1948م عقب استقلال البلدين عن بريطانيا، وثانيهما في عام 1965م،
وثالثهما عام 1971م وهي الحرب التي أسفرت عن نشأة بنجلادش بدلاً عما كان
يُعرف بباكستان الشرقية، وقد لعبت مشكلة احتلال الهند لكشمير دوراً رئيساً في
الصراع بين الهند وباكستان.
هذه الأجواء المشحونة كانت أسباباً رئيسة في سعي الدول الثلاث لزيادة
وتطوير ترسانتها من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية. أما الصين فإضافة إلى
اهتمامها بزيادة ممتلكاتها من الأسلحة التقليدية وتطويرها للأسلحة المتقدمة
كالصواريخ ذات الكفاءة العالية، امتلكت السلاح النووي في وقت مبكر، وحصلت
على مقعدٍ دائم في مجلس الأمن الدولي.
باكستان والقنبلة الإسلامية:
في وسط منطقة متوترة توجد بها قوى عسكرية ونووية وسكانية كبيرة، لم
يكن أمام باكستان خيار غير تطوير ترسانتها من الأسلحة التقليدية، ومحاولة امتلاك
القوة النووية لتوفيرمناخ من (الردع النووي) في المنطقة، خاصة مع العداء
الواضح بينها وبين الهند. استقلت باكستان عن بريطانيا عام 1947م، ولم يكن
لديها جيش معتبر أو صناعة عسكرية قوية، مما حدا بها إضافة إلى العديد من
الظروف الأخرى إلى التركيز على بناء قدراتها العسكرية وتطويرها، وكان لاعتماد
باكستان الكبير على ذاتها في هذا المجال الأثر الواضح في الخبرة والتقدم العسكري
الذي ظهرت به في العقود الأخيرة.
وفي باكستان خمسة عشر مجمعاً للصناعات الحربية أنشأتها باكستان بعيداً عن
المناطق الحدودية تحسباً للطوارئ. وفي مجال الصواريخ أيضاً أعلنت باكستان
وقبل شهر تقريباً من التجارب النووية الهندية الأخيرة عن نجاح تجربة صاروخ
(غوري) الذي يصل مداه إلى 1500كم تقريباً ويمكنه أن يحمل رأساً حربياً بزنة
700 كجم. وأخيراً وبعد سنوات من التوقعات والشك والترقب حول قدرات
باكستان النووية، ردت باكستان بعد سبعة عشر يوماً على التجارب النووية الهندية
في مايو الماضي بتفجيرات نووية مماثلة.
ولعل مما يجدر ذكره في هذا المقام أن اختيار أسماء بعض الصواريخ الهندية
والباكستانية له دلالاته التاريخية؛ فالصاروخ الباكستاني الجديد غوري المشار إليه
سابقاً هو نسبة إلى السلطان شهاب الدين الغوري الذي هزم الراج برثيفي (سمي به
صاروخ هندي) ، وأقام دولته الإسلامية شمال بلاد الهند في القرن الثاني عشر
الميلادي. وإذا وضعنا في اعتبارنا كذلك الحروب الثلاث التي قامت بين الهند
وباكستان من قبل، فإن كل هذه الأمور تجعل الجانب الديني أمراً لا يمكن تهميشه
أو التغاضي عنه في الصراع كما يحاول البعض أن يفعل.
أمريكا والغرب وردود الفعل:
تركزت ردود الفعل الأمريكية والأوروبية الرسمية في مجموعة من المواقف
التي يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- معارضة زيادة أعضاء النادي النووي:
لقد أعلنت أمريكا أنها ستعارض اشتراك أي من الهند أو باكستان في النادي
النووي بحجة أنه قد قُرّرَ عام 1964م مَنْ هي الدول النووية، ولذلك فلا يمكن
تغيير ذلك الآن! ومن الغريب أن أمريكا تعلن أن قوة أية دولة ومكانتها في التاريخ
لا تتحدد بمدى امتلاكها للسلاح النووي، وقد وجه هذا الخطاب مؤخراً إلى كل من
باكستان والهند، ولكن أمريكا في المقابل تعلن بكل قوة أنها سوف تقف ضد رغبة
أي دولة من هذه الدول في الانضمام إلى النادي النووي، فإذا كان هذا النادي لا
يمثل أي تميز أو يرمز إلى أية قوة تاريخية، فلماذا تستميت أمريكا في تحجيم من
يتأهل للمشاركة فيه؟ !
لقد أعلن أكثر من مسؤول أمريكي أن أمريكا سوف تطالب كلاً من الهند
والباكستان بالتوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، في الوقت الذي
يرفض فيه الكونجرس الأمريكي التصديق على المعاهدة نفسها حتى الآن.
2- منع تكرار مثال باكستان والهند:
أعلن نائب وزير الخارجية الأمريكي في لقائه بالصحفيين في صباح يوم 28
مايو 1998م، أن الإدارة الأمريكية منزعجة للغاية من تفجيرات الهند وباكستان؛
لأنهما سيقدمان نموذجاً سيئاً على حد تعبيره لباقي الدول التي تفكر في اقتناء السلاح
النووي [1] . إن من مصلحة الغرب وأمريكا خاصة ألا توجد أية أخطار نووية في
القرن القادم. ورغم ذلك فلم تعلن أمريكا التي تمتلك آلاف الرؤوس النووية نيتها في
التخلص النهائي منها، ولكنها تكتفي بمطالبة العالم بعدم اقتنائها!
3- التركيز على آثار التسلح النووي الباكستاني:
رغم أن الهند هي التي بدأت التفجيرات، إلا أن التحليلات السياسية لهذا
الحدث قد تناولت الباكستان بشكل أكبر بكثير من تناولها للتفجير الهندي. وقد أكد
ذلك نائب وزير الخارجية الأمريكي في لقائه بالصحفيين الأمريكيين يوم 28 مايو
1998م عندما سئل عن سبب التحامل على باكستان رغم أنها لم تكن هي التي بدأت
هذه الأزمة، رد قائلاً ومتجاهلاً للموضوع: (ليس من المفيد الآن أن نبحث من هو
صاحب الخطيئة الأولى، وسنسمع من الكثير من الهند وخارجها تكهنات عديدة
حول هذا الموضوع) .
4- الخداع الإعلامي:
برز الخداع الإعلامي الغربي بصورة مزعجة وغير عادلة تجاه الباكستان
والعالم الإسلامي بشكل عام؛ ولعل أبرز دليل على ذلك هو اللقطات المتكررة التي
أعادت بثها القناة الأخبارية الأمريكية قبل التفجيرات الباكستانية لرئيس وزراء
الباكستان وهو في زيارة لمحطة راديو باكستان، وقد ظهر رئيس الوزراء وهو
يتفقد الأجهزة والمعدات الخاصة بالبث الإذاعي. وبدلاً من أن يذاع الخبر الخاص
بزيارة محطة الإذاعة، فقد قامت القناة بوضع صور تلك الزيارة كخلفية لخبرها
حول استعدادات باكستان للتفجير النووي، فيما ظهر للمشاهد وكأن نواز شريف في
زيارة لمقر العمليات الخاصة بهذا التفجير. وساهم ذلك بلا شك في الإحساس
بالرعب من الخطر الإسلامي القادم، مما دعا أحد المسؤولين في وكالة المخابرات
المركزية الأمريكية إلى اتهام القناة التلفزيونية بالتحايل؛ لأنه قد ظن شخصياً أن
صور الزيارة هي لمركز التفجير وليس لمحطة إذاعية.
لقد أخفى الإعلام الغربي كذلك حقيقة أن أمريكا قد زودت الهند بأكثر من
600 رطل من البلوتونيوم الذي ادعت الهند في البداية أنه سيُستخدم للأغراض
السلمية. لقد قامت كندا ببناء المفاعل النووي الهندي الذي بدأ في العمل في عام
1960م. وقامت أمريكا بتزويد المفاعل بأكثر من 21 طناً من الماء الثقيل اللازم
لتشغيل المفاعل. ولم يذكر الإعلام الغربي أياً من هذه الحقائق ضمن منظومة
متكاملة من التعتيم الإعلامي حول هذا الأمر.
تخوف الغرب من القنبلة الإسلامية:
ذكرت إحدى الصحف المجرية المحافظة (نابي ماجيار ورزاج) في صفحتها
الأولى تعليقاً على خطر القنبلة النووية الإسلامية أن (الحقيقة أن مساحة إسرائيل
صغيرة للغاية، والتركز السكاني فيها كبير جداً لدرجة أن سلاحاً نووياً واحداً
يهاجمها من أي ناحية يمكن أن يؤدي إلى تغييرات ضخمة في خريطة الشرق
الأوسط) [2] . أما عن الخطر الذي يمثله هذا التفجير على العالم الغربي، فقد
ذكرت الجريدة ما نصه: (إن التسلح النووي لإسلام أباد هو سلاح الدمار الشامل
الأول من نوعه في يد العالم الإسلامي.. إن الدين والمجموعة الحاكمة التي تعتبر
الأشد تطرفاً والتي تمثل أكبر تهديد غير متوقع للعالم الغربي من ناحية العقلية
والتصرفات، قد وضعت يدها على وسيلة تأثير مهمة للغاية) .
أما جريدة (دير ستاندرد) النمساوية المستقلة، فقد كتبت في مقال بعنوان:
(القنبلة الإسلامية) يوم 29مايو 1998م أن العالم لم يشارك أمريكا في توقيع
العقوبات الاقتصادية على الهند، أما اليوم فإن باكستان سوف ينظر لها بشكل آخر؛
لأن قنبلتها (إسلامية) .
أما الصحف الإسرائيلية فقد تصدرت الحملة ضد القنبلة الإسلامية. وظهرت
الصحف المعارضة هناك في حملة شديدة على سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي
التي ربطت بين تفجيرات الهند، وبين إسرائيل مما سيقدم الغطاء الشرعي للدول
العربية والإسلامية المحيطة بإسرائيل للحصول على السلام النووي أيضاً. ولذلك
خرجت صحيفة معاريف لتعلق على تفجير الباكستان قائلة: (إن علاقة باكستان
وإيران تضاعف من قلقنا بشأن (القنبلة الإسلامية الأولى) . وإذا كان هناك من
أسباب مقنعة للتعجيل بعملية السلام، فلا شك أن هذا السبب هو أكثرها جاذبية) .
لقد سئل السناتور أكرم زكي، رئيس الوفد البرلماني الباكستاني الذي زار
أمريكا مؤخراً لشرح وجهة نظر الباكستان في التجارب النووية الأخيرة عن (القنبلة
الإسلامية) فعلق قائلاً (إن القنابل لا دين لها، ولم يتعود العالم أن ينسب للقنابل إلى
أي دين حتى الآن، فلماذا تسمى قنبلة باكستان (إسلامية) . لقد لمس أكرم زكي
بانتقادٍ لطيفٍ هذه الازدواجية العجيبة في الإعلام الغربي فيما يتعلق بالإسلام والعالم
الإسلامي. فلماذا لا يتحدث العالم الآن عن (القنبلة الهندوسية) ، ولماذا لا نتحدث
عن (القنبلة اليهودية) ، ولماذا لا نسمع عن آلاف (القنابل النصرانية) ، والتي يكفيها
فخراً بل وضاعة أن واحدة منها قد ألقيت على مدينة يابانية فأبادتها. إنه التاريخ
الذي يحاول الغرب أن يعيد كتابته. وإذا كان الغرب يخشى من القنابل ذات الأديان، فلماذا لا نراه يتقدم الجميع في القضاء على هذا الخطر الذي يتهدد البشرية بدلاً
من الإبقاء المستميت على التقدم في هذا المجال، ومنع العالم من اقتناء الأدوات
نفسها التي بدأت تنتسب إلى الأديان مؤخراً.
وفي لقاء على الهواء مباشرة مع أحد أساتذة جامعة ويسكنسون، وهو الدكتور
ميلهولين، ورداً على سؤال حول الخطر النووي الذي يتهدد أمريكا، ذكر الدكتور
ميلهولين أنه (في حال امتلاك إيران أو العراق للسلاح النووي، فسوف يستخدمونه
ضد المدن الأمريكية! وأنا أعتقد أن هذه الدول ستكون مستعدة لاستخدام الجماعات
الإرهابية إذا لزم الأمر لتحقيق ذلك) [3] .
لقد أعلن السيناتور الأمريكي دانيال موينهان أن (العالم على وشك الدخول في
حرب نووية بسبب التفجيرات النووية في باكستان والهند) . وذكر السيناتور الذي
كان سفيراً سابقاً لأمريكا في الهند (نحن الآن نواجه قنبلة نووية إسلامية ... وهذه
القنبلة يمكن أن توضع الآن على رأس صاروخ يمكن أن يعني فناء إسرائيل. إن
كل ما كنا نتخوف منه من قبل حول السلاح النووي قد أصبح واقعاً أخيراً) [4] .
أما هانتجتون صاحب كتاب (صراع الحضارات) فقد أعلن مؤخراً أن صراع
الحضارات قد بدأ يتحول إلى صراع نووي. وأعلن كذلك أن الصراع بين الهند
وباكستان ليس صراعاً سياسياً، وإنما هو صراع بين الهندوسية والإسلام.
حقائق أظهرتها الأزمة الأخيرة:
* المعايير المزدوجة:
لقد كانت أمريكا وراء كل المحاولات التي جرت في السنوات الأخيرة لتقليل
أو منع انتشار أسلحة الدمار الشامل. ومع ذلك تبقى أمريكا صاحبة أكبر ترسانة من
الأسلحة النووية. وهي الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت الأسلحة النووية
لضرب المدنيين في أكبر كارثة نووية عرفها العالم حتى اليوم، فضلا عن
الازدواجية في التعامل.
فبينما تعلن في الأيام الأخيرة عن المقاطعات الاقتصادية المتتالية على باكستان
والهند مثلاً لمحاولاتهما الحصول على السلاح النووي، نجد أن (إسرائيل) تحصل
بصفة مستمرة وحتى الآن على كافة أنواع المساعدة التقنية والعلمية في برنامجها
النووي.
لقد تسابقت الصحف الغربية في الأيام الأخيرة على تناول الخطر القادم فيما
إذا امتلكت أية دولة عربية أو شرق أوسطية السلاح النووي، وخطورة ذلك على
أمن العالم، ولكننا لم نسمع أحداً يتحدث عن خطورة امتلاك إسرائيل لعشرات
الرؤوس النووية التي تهدد العالم الإسلامي بأكمله!
فهل يلام العرب أو المسلمون إذا أرادوا أن يدفعوا عن أنفسهم بمثل السلاح
الذي يمتلكه عدوهم؟
لقد كتبت جريدة (جانج) الباكستانية في افتتاحيتها يوم 13 مايو: (إن أمريكا
مهتمة فقط بمنع السلاح النووي عن العالم الإسلامي، لأنها لا تستطيع قبول فكرة
وجود دولة إسلامية تقتني التقنية النووية. ولذلك فإن الدول الإسلامية هي التي
تتعرض فقط للمقاطعات الاقتصادية الحادة) [5] .
إن هذه الازدواجية تعني للعالم أن الواقع والأفضل (أن تفعل كما تفعل أمريكا.. لا كما تقول) . إن أمريكا قد أجرت أكثر من ألف تفجير نووي خلال السنوات
الماضية، وتمتلك ما يزيد عن 000ر10 رأس نووي. فكيف يمكن لها أن تطالب
العالم بإيقاف التجارب النووية فقط لأن أمريكا لم تعد تشعر بحاجة لإجراء المزيد
منها؟ !
* لفت أنظار العالم:
أبرزت الأحداث النووية الأخيرة في شبه القارة الهندية كثيراً من القضايا التي
لم تكن معروفة بشكل واضح على الساحة الدولية، ومن ذلك أن أمريكا قد تسلمت
مبلغ 600 مليون دولار من باكستان لتزويدها بـ 40 طائرة مقاتلة من طراز 16،
ورغم أن المبلغ قد تسلمته الإدارة الأمريكية بالكامل، فهي ترفض حالياً تسليم
الطائرات، أو إعادة المال، كما أظهرت الأحداث مدى التعاون الوثيق بين الهند
وإسرائيل في مجالات التسلح النووي.
وفي مقال نشرته جريدة (الأخبار) الباكستانية التي تمثل خط الوسط، كتب
عادل نجم الأستاذ المساعد في العلاقات الدولية في جامعة بوسطن بأمريكا قائلاً:
(إن العالم قد بدأ أخيراً يهتم بنا، ويعاملنا باحترام؛ وإذا لم يكن هناك من فائدة من
التفجير النووي إلا ذلك لكفى) .
* تعاون باكستان مع القوى العالمية:
تعاونت باكستان مع الصين وفرنسا وروسيا وعقدت اتفاقات دفاع مع إيران
والصين، وتثير العديد من التقارير إلى أن الصين قد ساعدت باكستان في بعض
الجوانب في برنامجها النووي، وتحاول باكستان بذلك تكوين جبهة تقف بجوارها
في مواجهة الهند، حيث تساور باكستان الشكوك في تطلع الهند إلى فرض هيمنتها
على المنطقة والوصول إلى ثروات الجمهوريات المستقلة عن روسيا؛ فضلاً عن
تطلع الهند لإنهاء قضية كشمير بالكيفية التي تريد، إلا أن موقع الباكستان يفسد
على الهند كل ذلك. والقيادات الباكستانية المتعاقبة تدرك خطورة التهديدات الهندية
، مما حدا بعلي بوتو رئيس وزراء باكستان قبل أكثر من عشرين عاماً أن يصرح
بأن بلاده مستعدة لأكل الحشائش إذا اقتضى الأمر في سبيل نجاح برنامجها النووي.
* التعاون الهندي الإسرائيلي:
أشار العديد من التقارير والدراسات إلى ضلوع (إسرائيل) بوضوح في تطوير
البرنامج النووي الهندي، ولا تخفى الزيارات المتبادلة بينهما على أعلى المستويات
. وتجدر الإشارة إلى حديث الحاخام اليهودي الهالك مائير كاهانا في عام 1987م
حول (ضربة استباقية) تخطط لها الهند وإسرائيل ضد مفاعل كاهوتا الباكستاني.
لقد كانت (إسرائيل) من الدول القليلة في العالم، والتي لم تعترض على
التفجيرات النووية في الهند. وذكرت صحيفة هآرتز أن وزير الخارجية الإسرائيلي
قد رفض طلباً من أمريكا بأن تقوم (إسرائيل) بشجب ما فعلته الهند والمشاركة في
المقاطعة الاقتصادية التي دعا إليها الرئيس الأمريكي [6] . ولقد زار المسؤول
الهندي عن البرنامج النووي إسرائيل أكثر من مرة عامي 1996م، 1997م، وفي
مقال نشر في صحيفة واشنطن تايمز، ذكر الدكتور براهما شيلني وهو باحث في
شؤون الأمن القومي في معهد الدراسات السياسية في نيودلهي أنه قد قام بزيارة
إسرائيل عقب تفجيرات الهند مباشرة، والتقى هناك بالمسؤولين الصحفيين
الإسرائيليين، وأعرب لهم أن التعاون بين إسرائيل والهند وثيق وخاصة في
مجالات التقنية العسكرية.
* حمى المقاطعة وعدم جدواها:
ذكر نائب وزير الخارجية الأمريكي في لقاء صحفي مؤخراً أن أمريكا ستسعى
إلى استخدام المقاطعة الاقتصادية كوسيلة فعالة لمنع الدول الأخرى من التفكير في
إجراء التجارب النووية. فما كان من أحد الصحفيين الأمريكيين إلا أن سأله:
(كيف تعتقد أن ذلك سيكون فعلاً، وقد أعلنت كل من الباكستان والهند أنهما كانتا
على إدراك تام بأن أمريكا سوف توقع عليهما هذه المقاطعات، ومع ذلك لم يمنعهما
هذا من إجراء التجارب؟) وتجاهل نائب الوزير الرد على ذلك السؤال المحرج.
ويبقى الأمر واضحاً، وهو أن الشرطي الأمريكي قد فقد هيبته أمام المجتمع الدولي)
فإذا كانت دولة فقيرة وضعيفة اقتصادياً كالباكستان تتجاهل هذه المقاطعة في سبيل
تعزيز أمنها القومي، فإن كثيراً من دول العالم في وضع أفضل من الباكستان
لتحدي مثل هذه القرارات الاقتصادية التي بدأت تفقد جدواها.
لقد استخدمت أمريكا المقاطعات الاقتصادية أكثر من 120 مرة خلال الثمانين
عاماً الماضية، إلا أن أكثر من نصف هذه الحالات قد حدث خلال إدارة الرئيس
كلينتون! إن المقاطعة الأمريكية تشمل حالياً أكثر من 70 دولة من دول العالم،
وتمس حياة أكثر من 67% من البشر على وجه الأرض. فهل هناك جدوى ملموسة
لمثل هذه المقاطعات التي أوشكت أن تشمل العالم كله؟ لقد ذكر توماس أومستاد في
مقاله الأخير: (إدمان المقاطعة) أن المقاطعات الاقتصادية قد سببت خسائر ضخمة
للصناعات الأمريكية وكلفت الاقتصاد الأمريكي ما يزيد عن 15 19 مليار دولار
في عام 1995 وحده؛ إضافة إلى خسارة أكثر من 260 ألف وظيفة عمل.
* تبعية مؤسسات الاقتصاد العالمي للغرب:
أظهرت الأزمات الأخيرة في آسيا مدى تلاعب أمريكا بالمؤسسات الاقتصادية
العالمية، واستخدامها كوسائل ضغط تحقيق المآرب الأمريكية والمصالح الخاصة
للولايات المتحدة. وقد أعلن مايك ماكري المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض أن
أمريكا ستمارس ضغوطها على كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لمنعهما
من إقراض كل من باكستان والهند أية أموال في الفترة القادمة. وذكر للصحفيين:
(لقد رأيتم في حالة البنك الدولي مع الهند، فقد كان لدينا تأثير كبير على قرارات
البنك الدولي، أما في حالة باكستان فما علينا إلا أن ننتظر) [7] .
* إخفاق الشرطي الأمريكي:
لقد أثبتت الأزمة الأخيرة إخفاق أمريكا في القيام بدور فعال كشرطي للعالم؛
فقد أظهرت الأزمة إخفاق الإدارة الأمريكية مرة أخرى في التأثير على باكستان
ومنعها من الرد على الهند بإجراء تفجيرات نووية أيضاً. وقد علق على ذلك
المتحدث الرسمي للبيت الأبيض قائلاً: إن الأحداث الأخيرة قد وضحت أن
(أمريكارغم ثرائها وقوتها لا تستطيع أن تتحكم في الأحداث في المناطق المختلفة
للعالم) . كما كان لإخفاق الإدارة الأمريكية في الحصول على التأييد الدولي اللازم
لفرض المقاطعات الاقتصادية أثر كبير على بروز هذا الإخفاق على ساحة المجتمع
الدولي.
لقد كتب الدبلوماسي الهندي م. ن. باخ في افتتاحية جريدة (الرواد) الهندية
التي تعبر عن خط الوسط يوم 3 يونيو 1998م قائلاً: (الهند لا تخشى من اليابان
وأوروبا؛ فإن سياساتهم تجاه قضايا الدفاع معتدلة وغير عدوانية، وروسيا هي
صديقتنا، أما أمريكا فهي لا تعدو أن تكون سمكة أخرى في حوض الأسماك! ..
لقد أثبتت الأحداث لنا المرة تلو الأخرى أن أمريكا لا ترغب في رؤية الهند قوية)
وإذا أصر كلينتون على أن يعزل الهند؛ فنحن قادرون بقوة على القيام بثورة
صناعية وتقنية ضد ذلك) [8] .
لقد عجزت المخابرات الأمريكية عن اكتشاف استعدادات باكستان لتجربة
الصاروخ بعيد المدى (غوري) ، التي أجريت في بداية إبريل 1998م، كما
عجزت المخابرات عن ملاحظة استعدادات الهند للتفجيرات النووية التي فاجأت
الحكومة الأمريكية، ووضعت المخابرات الأمريكية في موقف حرج للغاية. وقد
انتشرت النكات اللاذعة على وكالة المخابرات المركزية في كافة البرامج الفكاهية
في القنوات التلفزيونية الأمريكية في الفترة الأخيرة، مما يساهم في إضعاف الهيبة
الأمريكية في العالم.
* التغيرات في موازين القوى الدولية:
كتبت جريدة (نيزافيز مايا جازيت) الروسية المعروفة بتوجهاتها المعتدلة في
افتتاحية عددها الصادر في 30 مايو 1998م: (إن تصرفات الباكستان الأخيرة قد
أظهرت مدى ضعف تأثير أمريكا على أحداث جنوب آسيا. وعلى النقيض من ذلك
، فقد ظهرت الصين قوة مؤثرة. إن الباكستان تعتبر الصين صديقة، وربما
الصديقة الوحيدة بين دول عالم اليوم) [9] .
أما ورنر آدم من صحيفة (فرانكفورتر) اليمينية في ألمانيا، فقد صدّر افتتاحية
عدد 1 يونيو 1998م، بمقال بعنوان: (العجز الأمريكي) ، وفيه ذكر أن أمريكا قد
عجزت عن الحصول على الدعم الكافي من روسيا لممارسة الضغط على الهند
والباكستان، وأن عجز أمريكا يعني بالضرورة عجز الأمم المتحدة عن القيام بأي
دور فاعل في هذه الأزمات) [10] .
أمريكا ومصالحها الخاصة:
إن تمسك أمريكا بالماضي في محاولة ضمان السيطرة على انتشار الأسلحة
النووية قد يخدم المصالح الأمريكية بصورة مؤقتة، ولكن العالم يكتشف في كل يوم
أن أمريكا تسعى لخدمة مصالحها على حساب المجتمع الدولي؛ وسيأتي قريباً اليوم
الذي تصبح هذه الحقيقة جلية بدرجة كافية لوقوف العالم ضد كل من يسعى لتقديم
مصلحة دولة بعينها مهما عظمت على مصالح كافة ساكني الأرض. لقد أظهرت
الأحداث الأخيرة أن دولاً كفرنسا، والصين، قد تحدثت علانية عن عدم موافقتها
على اللحاق بالركب الأمريكي، وتلبية رغباته الملحة. وسوف يظهر ذلك بصورة
أكثر وضوحاً مع الأزمات القادمة.
ومن ناحية أخرى، فإن أمريكا لا تعير العالم أي اهتمام عندما يختص الأمر
بمصالحها الخاصة. فرغم أن كل أصابع الاتهام الدولية قد أشارت إلى الصين بتهمة
معاونة باكستان في برنامجها النووي، فإن ذلك لم يمنع كلينتون من أن يطلب من
الكونجرس في تلك الفترة نفسها معاملة الصين على أنها (دولة ذات تفضيل خاص)
من قبل الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بالتعاملات التجارية، في الوقت الذي تهدد فيه
الإدارة الأمريكية بتوقيع أشد العقوبات الاقتصادية على باكستان! وقد علقت على
ذلك الوكالة الفرنسية للأنباء بأن ذلك يمثل صورة من صور النفاق الأمريكي
الممجوج.
وفي جلسة استماع للجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس يوم 3 يونيو 1998م
، تحدث كارل إندرفارث، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب آسيا،
معبراً عن أهمية المصالح الأمريكية قائلاً: (لن نسمح للهند أو باكستان بالمطالبة
بالدخول في النادي النووي.. وسنبذل قصارى جهدنا في ظل القانون لتقليل الأثر
السلبي لقرارات المقاطعة على الشركات الأمريكية المتعاملة مع الهند وباكستان)
[11] .
استقراء المستقبل:
إن كثيراً من دول العالم تسعى لاستثمار فكرة القنبلة النووية الإسلامية
لمصالحها الخاصة. وقد تبدو العبارة لأول وهلة براقة وممتعة في أن يكون
للمسلمين (قنبلتهم النووية) . ولكن العالم الإسلامي لا بد أن يحذر من المحاولات
المتكررة لأعداء الإسلام لزرع الخوف في العالم من الإسلام والمسلمين، وتصوير
اقتنائهم لمثل هذا السلاح، بأنه انتحار للعالم. لقد كتب هيرنامي كاركار في أحد
مقالات جريدة (الرواد) الهندية حول هذه الفكرة قائلاً: (إن الهند دولة علمانية
ديمقراطية تؤمن بالعصرنة والمساواة بين الجنسين، وهذه الأمور هي ضد التطرف
الإسلامي. إن الهند تعتبر الآن العقبة الأولى أمام المد الإسلامي، وإذا نجحوا في
القضاء عليها، فإن باقي دول العالم ستتعرض للخطر نفسه بما فيها الولايات
المتحدة.. إنهم سيستخدمون الإرهاب.. وهذا سوف يؤثر بالتأكيد على مستوى
الرفاهية التي تحياها أمريكا في الوقت الحالي.. ولعل ذلك يشعر أمريكا بأهمية
وجود الهند القوية القادرة على الدفاع عن نفسها، وسوف يكون ذلك في مصلحة
الغرب، وقد يرى أن من مصلحته أن يدعم التسلح النووي الهندي بدلاً من الوقوف
في مواجهته) ! .
وأخيراً فلم تكن تلك اللمحات السريعة عن الأسلحة النووية ومشكلة الهند
وباكستان قصداً لذاتها، ولكنها صورة من صور الأوضاع العالمية والإقليمية التي
يكون اسم السلام طرفاً فيها؛ فكلما هدأت العواصف قليلاً، ومالت الشعوب المسلمة
بخاصة إلى تصديق أو هكذا أريد لها أن العالم يشهد مرحلة جديدة من (الحضارة)
و (المدنية) تحكمها قائمة طويلة من القواعد و (المسلّمات) أمثال: (حقوق الإنسان)
(حقوق الشعوب في تقرير المصير) (عدم التدخل في الشؤون الداخلية) (المصالح
المشتركة) (السلام العادل والشامل) (الأمن والسلام العالمي) (المجتمع والأسرة
الدولية) (منع انتشار الأسلحة النووية) وغير ذلك من الشعارات، كلما حسبت
الشعوب أن تلك الأمور قد أصبحت أبجديات يجب الانطلاق منها، ووسائل لا
يصح العمل إلا من خلالها، وغايات وأهدافاً يتحتم الانتهاء إليها، وكلما مالت إلى
تصديق ذلك، تجددت الأحداث ووقع (ما لم يكن في الحسبان!) ، وإذا الأسئلة
تمثل أمام تلك الشعوب من جديد: أهكذا وبسرعة تُنسى الأبجديات، وتُعطل
الوسائل، وتُهمش الغايات والأهداف؟ ولا زال البعض يركض وراء القوم أو
يتظاهر بذلك في دعواه لمحاولة إعادة الحقوق إلى أصحابها وتطبيق (القرارات
الدولية) .
فعندما تمس القضايا (العالمية) و (الإقليمية) و (الداخلية) من يحملون اسم
الإسلام أو رسمه من قريب أو بعيد فعندئذٍ تتجلى (ازدواجية المعايير) وتسفر
الصليبية عن وجهها الفاضح في عداء الإسلام، وإذا تلك القائمة الطويلة من
الشعارات تُنَحّى جانباً وتخرج قائمة جديدة من التجاهل وغض الطرف، والحث
على الاستعجال في الإجهاز على الضحية قبل أن تلتقط أنفاسها أو يُسمع صياحها،
فإن حدث (لسوء الطالع!) وسمع المعترضون والمتسائلون فلا تزال هناك مهلة
لشغلهم بمزيد من التنديد والوعيد بمعاقبة الفاعل.
__________
(1) اللقاء الصحفي مع نائب وزير الخارجية الأمريكي، تالبوت، 28 مايو 1998م، واشنطن.
(2) متابعة الإعلام الغربي، خدمة صحفية للمجموعة الإعلامية الدولية، مايو 1998م.
(3) أرض ساعة الصفر، برنامج تلفزيوني لقناة، عرض مساء يوم 15 يونيو 1998م.
(4) وكالة الأنباء الدولية نيويورك، 29 مايو 1998م.
(5) أفضل رد على تفجيرات الهند، افتتاحية جريدة جانج الباكستانية، 13، مايو 1998م.
(6) التعاون الهندي الإسرائيلي يلفت انتباه المنطقة، السياسة، 3 يونيو 1998م، شبكة الأخبار العربية الإليكترونية.
(7) اللقاء الصحفي مع المتحدث الرسمي للبيت الأبيض، 21 مايو 1998م.
(8) الهند: انطلقي للأمام، ولا تخشي الطور بيدو جريدة الرواد الهندية، 3 يونيو 1998م.
(9) أمريكا تفقد تأثيرها، جريدة نيزافيز مايا جازيت، الافتتاحية، 30 مايو 1998م.
(10) خطاب كارل إندرفارث المقدم للجنة الشؤون الخارجية الأمريكية بالكونجرس، يوم 3 يونيو 1998م.
(11) لماذا على أمريكا أن تساند الهند في التسلح النووي؟ مقال بجريدة الرواد الهندية، 22 مايو 1998م.(128/98)
من ثمرات المنتدى
في هذه الزاوية يسر المنتدى الإسلامي أن يتواصل مع قرائه الكرام بإيقافهم
على آخر الأنشطة والمستجدات والفعاليات التي تتم بفضل الله تعالى في مختلف
مكاتبه المنتشرة في أفريقيا وآسيا، سائلين الله تعالى أن يخلص النيات، ومتمنين
من أحبابنا الكرام أن يزودونا بملحوظاتهم واقتراحاتهم، وأن يقفوا معنا بدعائهم
وعونهم.
إسلام خمسين شخصاً:
في محافظة نيانزا في جمهورية كينيا اعتنق ابن نائب الوزير السابق الإسلام
في حين أن جميع أبناء أسرته وقريته يتيهون في متاهات الشرك والضلال
ويتخبطون خبط عشواء في دياجير الكفر والإلحاد، وعند وفاته، حضر المسلمون
لأداء ما وجب عليهم نحو أخيهم المسلم، وبعد الدفن قام أحد دعاة المنتدى الإسلامي
بإلقاء كلمة قصيرة عن الإسلام ومزاياه، إلا أنه قبل أن تنتهي كلمته فوجئ بأصابع
كثيرة ممتدة إلى السماء، فظن أنها لم ترفع إلا لمعارضته، ولكن بدا له ما لم يكن
في الحسبان؛ حيث أن الذين رفعوا أصابعهم أعلنوا إسلامهم واحداً بعد الآخر،
حتى بلغوا خمسين شخصاً، وأبدوا أسفهم على كل لحظة قضوها في غير دين الحق.
إنها عبرة لمن يعتبر، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام.
دورة للأئمة والدعاة:
تم بحمد الله تعالى عقد دورة علمية مكثفة متخصصة للأئمة والدعاة في
جيبوتي شارك فيها اثنان وأربعون إماماً وداعية، واستمرت لمدة أسبوعين. وكان
لها أثر كبير جداً على المستوى الرسمي والشعبي.
بناء مساجد، مسابقات قرآنية، حفر آبار:
تم البدء في بناء أربعة مساجد في دولة كينيا، وتم كذلك حفر بئر جوفي في
منطقة كاكيوني.
وعقدت في دولة الصومال مسابقة في حفظ القرآن الكريم والأربعين حديثاً
النووية وبلغ عدد المتسابقين 146 طالباً وطالبة.
قرية بأكملها تُسلم:
سيّر المنتدى قافلة دعوية إلى قرية غرب مدينة كانو في نيجيريا، وبفضل الله
تعالى أسلم زعيم الوثنيين في تلك القرية، ثم تبعه أربعة وستون شخصاً في الحال،
ثم تتابع إسلام أهل القرية حتى غدت شبه خالية من الوثنيين، وهذه نعمة عظيمة
نرجو الله تعالى أن يوفق دعاة المنتدى لمتابعة هؤلاء وتعليمهم أصول الإسلام
وشرائعه.
ملتقيات ودورات دعوية:
عُقِدَ ملتقى دعوي لمدة ثلاثة أيام في دولة مالي بعنوان: (المنهج العلمي
لتأهيل الدعاة) يعنى برفع كفايات الدعاة العلمية والمنهجية. وفي دولة بنين عقدت
دورة لأئمة المساجد شارك فيها اثنان وخمسون إماماً. وفي دولة توجو أقيمت دورة
لأئمة المساجد شارك فيها ستون شخصاً لمدة أسبوع، كما أقيم ملتقى دعوي شارك
فيه عشرون داعية.
لقد كنت صفراً:
في أمسية ثقافية عن: (واجبات الشباب المسلم) نظمها مكتب المنتدى
الإسلامي في غانا للطلبة الجامعيين، وفي نهاية المحاضرة قام شاب يدرس الصيدلة
وقد ظهرت عليه مظاهر التشبه بالغرب وقد بدا عليه التأثر، وارتسمت على
قسمات وجهه مشاعر الغيرة، وبدأ يتحدث عن واقع الشباب المسلم في بلده وعن
مدى غياب الفهم الصحيح لحقيقة الإسلام لديهم. واستطرد هذا الشاب في حديثه
بعبارات قوية ونبرات حزينة نزلت على أسماع الحضور وكأنما هي سياط ساخنة،
فألهبت مشاعرهم، وانتزع منهم عبارات التكبير مرات ومرات.
فحمّل الدعاة المسؤوليةَ أمام الله، وطالبهم بالقيام بواجبهم تجاه دينهم، ولقد
استوقف الحضور عبارة أطلقها هذا الشاب دوّى بها المكان حين قال: (أشعر أنني
ولدت في هذه الدورة؛ ومن هذه اللحظة بدأت أفهم حقيقة الإسلام، أما ما مضى من
حياتي في الإسلام فقد كان صفراً) .
كم تشعرنا هذه الكلمات بعظم المسؤولية وحجم التقصير والإهمال لشريحة من
أهم شرائح المجتمع ألا وهي فئة الشباب المثقف الذي وجد نفسه في بيئات تموج بها
تيارات العلمنة تارة والتغريب تارة والخرافة تارة آخرى، حتى عُزلت عن دينها بل
وأُشربت قلوبها وعقولها ولاءً وإعجاباً بأعدائها، وهي تجهل أبجديات دينها؛
ومصداق ذلك أن كثيراً من الشباب الذين شاركوا في تلك الدورة لم يكونوا يجيدون
حتى فاتحة الكتاب! فكانت الدورة لهم سبيلاً للفهم والعمل، وطريقاً للعلم؛ إن شاء
الله.
إن هذا الأمر ليُبرِز مدى الحاجة للتركيز أكثر من ذي قبل على هذه الفئات
التي تمتلك مقومات عديدة لنجاح الدعوة في أوساطها من حماس لدينها، واستعداد
لتعلمه، والدفاع عنه، وإن التركيز على هذه الشريحة يعني صناعة دعاة يحملون
الهمّ والحماس ينتشرون في مواقع عديدة وتخصصات مختلفة لم يستطع الدعاة في
تلك البلدان الوصول إليها.
فيا أيها الدعاة كفى تهميشاً وإغفالاً لهؤلاء!
وحقاً إنه لموقف يبعث الأمل ... ويدفع للعمل!
الكتاب الإسلامي في أوغندا:
يُعنى المنتدى بنشر العلوم الإسلامية وتيسيرها بين أيدي الناس، وقد وزع
مكتب أوغندا ما يزيد على مائة مكتبة طالب علم باللغة الإنجليزية والسواحلية،
بالإضافة إلى أحد عشر مكتبة طالب علم باللغة العربية، بالإضافة إلى العديد من
الكتب العلمية مثل: أعلام السنة المنشورة، وتفسير تيسير الكريم الرحمن للسعدي.
مُصلّى في مدرسة تنصيرية
سيّر مكتب أوغندا قافلتين دعويتين ممّا أدى إلى تنشيط المسلمين في القرى
التي وصلت إليها، حتى إنهم أجبروا مدرسة أمبوما الكاثوليكية على الموافقة على
إقامة الصلوات فيها، وتخصيص مكان لذلك.
قوافل دعوية:
حرصاً من المنتدى لنشر الإسلام والدعوة الصحيحة فقد سيّر بفضل الله تعالى
عدداً من القوافل الدعوية التي تهدف إلى نشر الإسلام والعقيدة الصحيحة إلى القرى
والأرياف النائية، ففي مالي سيرت خمس قوافل شملت خمس قرى، وفي جيبوتي
سيرت ثلاث قوافل، وفي بنين ست قوافل. وكان لها ولله الحمد آثار عظيمة
مباركة نسأل الله عز وجل أن يكتب فيها الأجر.
افتتاح مركزين تعليميين في بُرتنلي وقرضو:
تم بحمد الله تعالى افتتاح مركزين تعليميين في شمال شرق الصومال، في
مدينتي برتنلي وقرضو، وهما معهدان ثانويان شرعيان يعنيان بتعليم مختلف العلوم
الشرعية والعربية، ويحتوي كل معهد على ثمانية فصول، يدرس في كل منهما
(120) طالباً وطالبة.(128/106)
الورقة الأخيرة
وقفة مع أزمة الثقة
سالم فرح سعد
إن كثيراً من أعمالنا وأقوالنا وجهودنا في حاجة إلى توثيق وتحقيق.. خاصة
تلك التي تمثل فكراً ناضجاً، أو عملاً مثمراً لإقامة شرع الله في الأرض، ويكون
ذلك بمراجعة دون تراجعٍ أو رجوع، وبمحاسبة دون تقريع وتوبيخ.. ومع طول
الطريق، وعُمق الثقة، يقوم العمل، ويصحح المسار؛ وأزمات (الدعوة الإسلامية)
لن تنتهي ما دام هناك خلل في الصف، وانعدام في الثقة، واستبدادٌ بالرأي.
فإن أصل الفتن: الاستبداد وترك الشورى؛ وكل ذلك إفرازات عن (أحادية
التفكير) و (انعدام الثقة) .. فلا بد من وقفة بل وقفات للنقد الذاتي الهادف الناصح
البنّاء مع العمل الإسلامي المعاصر وأبنائه العاملين المجاهدين؛ إذ أخذوا على
عاتقهم بناء الأمة، وإقامة الدين، طالبين من الله العون والمدد.
وهذه الوقفة تبدأ بالنظر في صدقية أعمالنا، وجدية جهودنا، وثقة شخصيتنا؛
فالشخصية الإسلامية شخصية سوية قويمة لم تشوّه جِبِلّتها، ولم تمسخ فطرتها،
وهي جديرة بأن تكسب ثقة الناس بها من خلال صدقها في التعامل، وإخلاصها في
التأسيس والبناء..
وتلك حكمة قرآنية في ارتباط الإيمان بالعمل الصالح الذي يجعل صاحبه في
أحسن تقويم، كما في قوله تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ
رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ]
[التين: 4 - 6] .
أما إذا انتكست فطرتها، وتشوّشت أفكارها، واستبدت برأيها، وكتمتْ الحق
الذي يخالف أهواءَ الناس وحرصتْ على إبراز ما يوافقها ويؤيدها عندها يكون
الإفساد أكثر من الإصلاح، والخطأ أكثر من الصواب.
وعندها يكون الداعية المجاهد عوناً للباطل دون أن يدري، ثم بعد انكشاف
الحقائق، واتضاح الأمور، يفقد أهل الحق صدقيتهم وثقة الناس بهم.
ولا يعني الإلحاح على (عمق الثقة) وأنها أزمتنا الحاضرة أن نبالغ فيها
ونتكلف في تحصيلها فنترك العمل أو نبطل شرعيته لفقدانها فلا بد من التوازن.
ما من شك في أهمية هذا المطلب وفعاليته، لكن شرعية العمل وصحته شيء، والثقة والمعاملة شيء آخر.
فإن من أشد فتن العلم والعمل: ذلك التسويغ الفاسد، والورع البارد، حيث
يتعلل المرء بترك المأمور أو إتيان المفضول ويجد لذلك من تصيّدِ الرخص
والأسانيد الواهية ما يقنع به نفسه، ويمنعه من بلوغ هدفه. وهذا فقه نبه إليه شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذ يقول: (ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة
صار في الناس من يتعلل لترك ما وَجب عليه من ذلك بأن يطلب السلامة من الفتنة، كما قال تعالى في المنافقين: [وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ
سَقَطُوا] [التوبة: 49] [1] .
فذكر هنا مظهراً من مظاهر التسويغ، وهو ترك الجهاد لطلب السلامة من
الفتن، وقس على ذلك أموراً كثيرة وقضايا كبيرة في حقل العمل الإسلامي، تترك
أو تبطل وتنقض بمعاذير واهية أو تسويغات ساذَجة.
وأزمة الثقة لا تتجسد في كونها عائقاً عن العمل والالتقاء، وإنما في كونها
خللاً ينبغي على الجميع العمل لسده، وعلاجه كي لا يتسع ويستفحل، ولا يتأتى
ذلك إلا بسعة الأفق، ورحابة الصدر، فالفقه فقه العمل، والسير سير القلب.
__________
(1) الفتاوى: (28/166) .(128/111)
جمادى الأولى - 1419هـ
سبتمبر - 1998م
(السنة: 13)(129/)
كلمة صغيرة
أما لهذا الليل من آخِر؟ !
إلى متى يستمر مسلسل القتل والتدمير في الجزائر؟ !
هذا هو السؤال الكبير الذي يردده أهل الجزائر، وجميع المتابعين
والمراقبين لهذه المآسي الملأى بألوان صارخة من الظلم والقهر والاعتداء على
الأنفس والأموال والأعراض، والتي تتصدر الأخبار الجزائرية. تهدأ الأوضاع
أياماً قليلة، وفجأة يضج الناس بالصياح والبكاء، وتتزلزل الأرض من تحت
أقدامهم. وهاهو بكاء الثكالى ونحيب الأطفال وأنين الشيوخ، وأزيز الرصاص
يطغى على كل شيء في أرض المليون شهيد!
ست سنوات من الهلع والخوف.. ست سنوات من القلق والاضطراب، منذ
أن أطلقت الطغمة العسكرية الحاكمة الرصاصة الأولى، ثم أتبعتها بوابل من القنابل
والمتفجرات.
ما الذي يجنيه العسكريون من ذلك كله..؟ !
أيريدون ترويض الشعب؛ ووأد البقية الباقية من العزة والكرامة في نفوسهم؟ ! أيريدون تشويه الحركة الإسلامية وتنفير الناس منها؟ ! لقد اتضحت الصورة
وانكشفت الحقيقة، وسقطت الأقنعة المزيفة التي تتخفى وراءها القيادة العسكرية،
وأسفرت عن وحشيتها وخيانتها؛ وقد أدرك المتابعون بمختلف اتجاهاتهم الفكرية أن
الاستخبارات العسكرية وراء أكثر الأعمال وحشية في الجزائر، حتى إن الصحافة
الغربية وهي المعروفة بتحيزها وانتقائيتها لم تطق صبراً، واعترفت بالحقيقة.
وها هنا نقول للعسكريين في الجزائر: إن الإسلام هو قدر الله في الجزائر،
وإن أطنابه ضاربة في أعماق الأرض، ولن تقوى وحشيتكم وجبروتكم على إبعاد
الإسلام عن تلك الأرض الطيبة، وسوف تُخْفِق كل الدعوات التغريبية والقبلية..
ولن يبقى بإذن الله إلا كلمة التوحيد [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] .(129/1)
الافتتاحية
المناهج
بين التطوير والتدمير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فالمناهج التعليمية في كل بلدان العالم يحرص المسؤولون المخلصون
والتربويون الصادقون على أن تعكس الخصائص العقدية والثقافية والاجتماعية لكل
بلد وتكون مرتبطة بالواقع المعاش لتسهم في نهضته وانطلاقته الحضارية.
ومن هنا توضع هذه المهمة في أيد أمينة لتوصيل تلك الأهداف للأجيال:
تتلقاها، وتؤمن بها، وتسير على ضوئها.
إلا أنه منذ السيطرة العلمانية على الساحة التعليمية أخذت المناهج تسير نحو
الصبغة اللادينية في موضوعاتها وطرق تناولها، ثم تحولت هذه المساعي إلى
انحراف أعمق. وفي السنوات الأخيرة ظهر اتجاه مشبوه يريد العبث بالمناهج
وبمنطلقاتها وبخاصة الشرعية منها بالتغيير والمسخ والخلط والمزج بدعاوى
التطوير والتنوير! !
ومن هذا المنطلق لفت نظر كل مسلم متابع الحوارات الساخنة التي أثيرت
حول قانون لتطوير التعليم الأزهري؛ حيث خرج كثير ممن تناولوا الموضوع عن
الموضوعية، وتراشقوا بالاتهامات، حتى اعتبر فضيلة شيخ الأزهر، أن أصحاب
الأصوات المخالفة يهاجمون الأزهر وقد وصفهم بأنهم مرتزقة وجبناء وتجار دين!
كما وصف كل الأصوات التي تردد عبارة: (اختراق الأزهر فكرياً وتعليمياً)
بالجهل والحماقة.
وبعيداً عن دائرة التراشق المتبادل، وبعد أن هدأت حدة العاصفة، بإقرار
القانون المذكور وحل مجلس إدارة جبهة علماء الأزهر التي كانت رأس الحربة في
معارضة ذلك القانون.. نريد تقديم وجهة نظر حول هذا المشروع.
ولكن قبل ذلك نود إيضاح أن الاهتمام بشأن الأزهر لا يقتصر على
المصريين فقط، بل يجب أن يشمل كل مسلم يهتم بأمر المسلمين؛ ذلك أن أثر
الأزهر يتعدى مصر إلى بقاع كثيرة من العالم الإسلامي؛ وذلك من خلال كونه:
1- مرجعية علمية ومصدراً للفتوى لملايين المسلمين على اختلاف جنسياتهم
ومذاهبهم وتوجهاتهم.
2- لكونه مصدر إمداد أنحاء كثيرة من بلدان العالم الإسلامي بالدعاة والعلماء، حتى إن بعض البلاد تقوم الدعوة فيها على دعاة الأزهر المبتعثين، كما أن بعض
الجامعات الإسلامية أُسست على علماء معظمهم أزهريون.
3- وباعتباره جامعة إسلامية علمية لكثير من أبناء العالم الإسلامي، الذين
يعودون إلى بلادهم باعتبارهم دعاة وعلماء أو حتى قادة وساسة! !
4- لأنه قدوة تحتذي به مؤسسات علمية أخرى.
فإذا كان الأمر كذلك، فما أبعاد الأزمة الأخيرة؟
في مذكرة إيضاحية لمشروع القانون المقترح بعث بها فضيلة شيخ الأزهر إلى
مجلس الشعب المصري أكد فيها على الحاجة الملحة للتطوير، قال: (لقد بات من
الضروري تطويع التعليم الأزهري ليتلاءم مع متغيرات العصر، وليحقق الفرص
المتكافئة للطالب الأزهري الذي يعاني من العبء الكبير الملقى على كاهله في
المرحلة الثانوية الأزهرية التي يدرسها في أربع سنوات؛ في حين أن زميله
بمدارس وزارة التربية والتعليم يدرسها في ثلاث سنوات فقط) . ومن ثم: اقترح
مشروع القانون تخفيض سنوات الدراسة الثانوية إلى ثلاث سنوات، إضافة إلى
تقديم خطة دراسية لهذه المرحلة تتواءم وأهداف القانون المقترح. كما اقترح القانون
إنشاء أقسام فنية تابعة للتعليم الأزهري (زراعي صناعي تجاري) .
وفي ضوء ذلك نود تسجيل الملحوظات الآتية:
أولاً: أن منهج الطالب الأزهري مزدحم ومرهق بالفعل، وهناك صعوبة
ملموسة في استيعابه لكل هذا الكم من المعلومات الشرعية والمواد الأخرى، ولكن
مقارنته بطالب مدارس التربية والتعليم في عدد السنوات الدراسية غير مفهوم؛ لأن
المواد التي يدرسها هذا غير التي يدرسها ذاك من ناحية المادة العلمية وحجمها.
ثانياً: أن حاجة عالم الدين إلى العلوم غير الشرعية (وإن كانت مشروعة)
هي بمقدار ما يعينه على فهم الواقع المحيط به لتنزيل أحكام الشريعة على هذا
الواقع، أو للدعوة إلى الله على بصيرة، فليس من المناسب عزله عن هذه العلوم،
ولكن ليس من الحكمة إغراقه فيها، ومن أراد التوسع فيها فيمكنه الاستزادة من
المراكز والمؤسسات الأخرى المتخصصة في هذه العلوم، أو بذل جهوده الفردية في
ذلك.
ثالثاً: أن من يقف ضد مبدأ التطوير فإنه يقف ضد الزمن، ولا نظن أن أحداً
يرفض هذا المبدأ، ولكن ما هو التطوير المناسب الذي ينبغي إدخاله في هذه
المؤسسة العلمية؟
رابعاً: يجرنا هذا إلى التذكير بالمهمة المناطة بالأزهر باعتباره مؤسسة
تعليمية متخصصة في علوم الدين في المقام الأول، لا يشاركه في ريادة هذا
التخصص أي مؤسسة أخرى في مصر، بينما ينافسه ويتفوق عليه في التخصصات
العلمية الأخرى أكثر من جامعة ومركز للبحوث.
وهنا نصل إلى النظر في محطات بارزة في المسيرة المعاصرة (لتطوير)
الأزهر:
في سنة 1911م سنت الحكومة المصرية قانوناً ينظم الدراسة الأزهرية على
ثلاث مراحل: (أولية، وثانوية، وعالمية) ، وفيه أصبح تدريس العلوم الحديثة
المسماة بالعلوم العقلية إجبارياً بعد أن كان اختيارياً.
في سنة 1930م صدر قانون ينظم التعليم في الأزهر في ثلاث مراحل:
(ابتدائية ومدتها أربع سنوات، وثانوية ومدتها خمس سنوات، وعليا ومدتها أربع
سنوات) كما أنشئت كليات الأزهر الثلاث: (اللغة العربية، والشريعة، وأصول
الدين) .
في سنة 1936م أدخل تدريس اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومبادئ الفلسفة
وتاريخها، ومادتي القانون الدولي والقانون المقارن لطلاب الشريعة، إلى جانب
بعض المواد العلمية في المرحلة الثانوية.
في العهد الناصري (سنة 1961م) صدر قانون تطوير الأزهر الشهير، الذي
كان أهم ملامحه:
إضافة مناهج وزارة التربية والتعليم إلى مناهج العلوم الشرعية المقررة على
طلاب المراحل الأزهرية دون الجامعية، كما أنشئت كليات أزهرية للتجارة
والإدارة والطب والهندسة والزراعة..
ولأجل استيعاب هذا التطور فقد خفضت المواد الشرعية بنسبة 33%، كما
تقلص مجموع سنوات المرحلتين الإعدادية والثانوية من تسع سنوات إلى ثمان، ثم
إلى سبع، واختصرت المواد الشرعية مرات عديدة حتى عام 1996م، بمجموع
يدور حول 60% للمرحلة الثانوية و53% للمرحلة الإعدادية، بينما ظلت مناهج
وزارة التربية والتعليم كما هي.
وفي القانون الأخير محل النقاش تم تقليص عدد سنوات المرحلتين الإعدادية
والثانوية إلى ست سنوات، واختصار المواد الشرعية بنسب متفاوتة، مع الإبقاء
على مواد التعليم العام كما هي أيضاً.
ويبدو أن هذه المحطة ليست الأخيرة في مسيرة التطوير، التي نلاحظ عليها:
أنه صاحبها مد علماني جارف تناسب حجمه مع حجم كل خطوة تطوير؛
فالمقصود هو عملية إفراغ ثم إحلال.
وصاحبها أيضاً إلغاء أو تحجيم لمرجعيات علمية أخرى كهيئة كبار العلماء
ولجان الفتوى بالأزهر.
أن اتجاه التطوير كان نحو إيجاد أزمة تتمثل في صعوبة استيعاب الطالب
لهذا الكم الكبير من العلوم الشرعية والمدنية، ثم حل هذه الأزمة بتخفيض المواد
الشرعية وحدها والإبقاء على المواد الأخرى.
فماذا لو استمرت مسيرة التطوير على هذا المنوال؟
سيؤول مصير التعليم الأزهري إلى مصير المحاكم الشرعية؛ حيث أنشئت
في إحدى المراحل المحاكم المختلطة، ثم تحولت جميعها إلى المحاكم المدنية بكامل
قوانينها الوضعية.
سيخطو العلمانيون خطوة كبيرة على طريق تجفيف المنابع وهذا ما يبذلون
له كل الجهود.
سيفقد الناس على نطاق واسع معين مرجعيتهم العلمية، فمن أين سيخرج
علماء الدين إن لم يخرجوا من مؤسسات علمية متخصصة؟
سيفتح المجال واسعاً لأنصاف العلماء والرؤوس الجهال الذين سوف يتبوؤون
مكانة التحدث باسم الدين، وحينها يُطوّع الدين للمآرب والمصالح لا أن يكون هو
المهيمن والموجه.
ستُشجّع بلاد أخرى على المضي قدماً في مثل هذا الطريق باعتبار الأزهر
نموذجاً يحتذى.
هذا ما يلوح في الأفق؛ إذ إن هناك جهوداً على قدم وساق في أكثر من بلد
مسلم لمحاولات التطوير المشبوهة تارة بتخفيض حصص المواد الشرعية؛ وتارة
بحذف بعض المواضيع المعينة كالجهاد والولاء والبراء مثلاً، ثم دمج المواد
ببعضها وتسميتها بمسميات جديدة.
والذي يدعو إلى هذه الخطوات أناس تسنمو ذرى وزارات التربية والتعليم؛
وقد تشبعوا بالتوجهات الغربية وهم يعملون جاهدين لتطبيق الأفكار العلمانية
بخطوات مدروسة وماكرة قد لا تلفت الانتباه إليها حتى يحققوا آمالهم في قطع صلة
الأجيال المسلمة بعقيدتها وتاريخها وتراثها، تارة باسم التطبيع، وتارة باسم تطوير
المناهج، وتارة بعقلية العسكر الأتراك الحاقدة على الإسلام.
فمتى نعي ذلك المخطط الرهيب [1] ؟
إنها دعوة صادقة لمن يهمه الأمر قبل فوات الأوان!
__________
(1) لمن يريد الاستزادة في معرفة المخطط باعتباره نموذجاً لتطوير المناهج في بلداننا فليقرأ
(الخديعة: مآساة التطوير المزعوم للمناهج التعليمية) دراسة أعدها مركز الإعلام العربي بالقاهرة، وكذلك (دعوة لإنقاذ التعليم) لنخبة من الأساتذة المختصين؛ ليعرف أن ما أشرنا إليه ليس إلا جزءاً يسيراً من الكارثة.(129/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أصول التربية والتعليم
كما رسمها القرآن
د. أحمد بن شرشال
إن صلاح الإنسان لا يستقيم إلا إذا صلح تعليمه؛ لأن التعليم هو الذي يطبع
المتعلم بالطابع الذي يريده المعلّم، ولا ينفع هذا التعليم إلا إذا رجعنا به إلى التعليم
النبوي في شكله وموضوعه، وفي مادته وصورته، كما كان يتعلم النبي -صلى الله
عليه وسلم- من جبريل، وكما كان يعلم أصحابه رضي الله عنهم فقد صح عنه -
صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنما بعثت معلماً) .
وإن مناهج الدراسة ومقرراتها في الجامعات قد نأت عن هذا وتضمنت مواد
جافة مجردة من الحوافز التي تدفع الطالب للعمل بما علم، ولا تعطي الثمار
المرجوة منها؛ فهي أشبه بالصنعة التي يتعلمها أي إنسان آخر.
ثم هي إن لم تكن واضحة المعالم عند الطالب، ولا هي عند الأستاذ الذي
تصدّر للتدريس، فلا تحدث في نفس الطالب انفعالاً لهذه المادة أو تلك، ولا تولّد
في نفسه حرارة الإيمان، ولا تزوده بزاد التقوى، ولا تحدث في نفسه ذكراً،
بخلاف ما إذا ربطنا صناعة التعليم ومناهجه بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-
ومنهجه وطريقته.
وإذا أردنا أن نصحح اتجاه الأمة فلنبدأ بتصحيح المناهج التعليمية كما رسمها
القرآن الكريم.
ومن ثم كان من الواجب علينا قبل الإقدام على وضع نظم المناهج التعليمية أن
نتلمس هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه في التربية والتعليم.
إن صفة منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في التعليم، قد رسم القرآن
معالمها الكبرى، واستقل ببيانها، وفصّلتها السنة النبوية.
قال تعالى في بيان صفة هذا المعلم ومنهجه في سورة البقرة: [كَمَا أََرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولاًً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنََا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ
تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] [البقرة: 151] .
وقال في سورة آل عمران: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً
مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] [آل عمران: 164] . ومثل هذه الآيةُ الثالثة في سورة الجمعة.
فقد صرحت هذه الآيات بالمنهج العام لأصول التربية والتعليم الذي لا منهج
سواه، والذي لا ينبغي أن يتغير أو يتبدل، وهو منهج أصيل يسعد الإنسان في
دنياه وأخراه؛ لأن منزلَه هو الخالق لهذا الإنسان، العليم بطبيعة تكوينه، الخبير
بدروب نفسه ومنحنياتها.
وقد جاء هذا المنهج مطابقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام وقد حكى القرآن نص
الدعوة فقال: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] [البقرة: 129] .
ولقد حقق الله دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ووافقت قدر الله السابق،
ولذلك قال: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى بي) [1] .
ولقد بيّن القرآن أن هذا المنهج وما تضمنه من مواد لم يكن مقصوراً على
الموجودين مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو صالح لكل من يأتي بعد النبي- صلى الله عليه وسلم- من العرب والعجم، ولم يكن يومئذ قد ولد، فقال: [هُوَ
الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ] . [الجمعة: 2، 3] .
والمراد بالآخرين منهم لما يلحقوا بهم: هم كل من يأتي بعد الصحابة رضي
الله عنهم إلى يوم القيامة، فيعلمهم، ويعلم الآخرين الكتاب والحكمة، ويزكيهم
ويزكي الآخرين.
قال القرطبي: (لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمن كان كله مسنداً إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه) [2] .
فمنهج التربية والتعليم في القرآن موصول ومتواصل لا انقطاع فيه، ولذلك
جاء عقب نص دعوة إبراهيم أن من لم يقبل هذا المنهج وانحرف عنه يعد سفيهاً،
فقال عزّ من قائل: [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ
فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] [البقرة: 130] أي امتهن نفسه
واستخف بها وظلمها. وما أكثر السفهاء اليوم لتنكبهم عن هذا المنهج الرباني، ولن
يكون أحدٌ داخلاً في دعوة إبراهيم وإسماعيل حتى يمتثل ويقبلَ هذا التعليم الجامع
بكامل مفرداته؛ لأن القرآن سماه سفيهاً.
إن الإنسان مهما كان مقامه عالياً ومنصبه سامياً لا يستغني عن التعليم؛ فهذا
نبي الله داود عليه السلام مع حصوله على الملك والنبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه
قال تعالى: [وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ] [البقرة: 251] .
وهذا موسى يلتمس من العبد الصالح أن يرافقه ليتعلم الرشد قال تعالى:
[قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلََى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] [الكهف: 66] .
وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يعرف هذا الكتاب المنزل، ولم يكن يتلو أي
كتاب قبله، ولم يكن يعرف الكتابة.
قال تعالى: [مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ
مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا] [الشورى: 52] .
وقال: [وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لاَّرْتَابَ
المُبْطِلُونَ] [العنكبوت: 48] ، وكان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً -
صلى الله عليه وسلم- لا يقرأ ولا يكتب قال تعالى: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ] . [الأعراف: 157] .
وقد علمه الله ما لم يعلم، وأنزل عليه الكتاب. قال تعالى: [وَأَنزَلَ اللَّهُ
عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ] [النساء: 113] .
وطلب منه المزيد [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] [طه: 114] .
وذكر بعض المفسرين أنه -صلى الله عليه وسلم- ما أمر بطلب الزيادة من
شيء سوى العلم، وكان يقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني،
وزدني علماً) وكان يستعيذ من العلم الذي لا ينفع، وقد تضمن هذا المنهج أصول
التعليم: التلاوة، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، ثم التزكية، فهو منهج متكامل
لكل ما يصلح الفرد والمجتمع من جميع الجوانب، ولا يحتاج إلى ما يكمله، وقد
جاء ترتيبه في أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول تبليغه يكون بتلاوة القرآن، ثم بيان معانيه ثم تعليم الحكمة وبها تحصل التزكية.
ونلاحظ أن جميع الآيات بدأت بذكر الأصل الأول وهو التلاوة؛ لأنها هي
مفتاح كنوز القرآن، ولا عجب في ذلك؛ إذ كانت أول آية نزلت تأمره -صلى الله
عليه وسلم- بالقراءة فقال سبحانه: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ
مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَاً وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]
[العلق: 1-5] .
أولاً: نبدأ بالمَعْلَم الأول بما بدأ الله به في جميع الآيات التي تقدمت، وهي
تلاوة القرآن، ومعناها القراءة المتتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض، وأول
صفات هذا المَعْلَم: يتلو عليهم آياتك، أي يقرأ عليهم القرآن، وأصلها من الاتباع،
ومنه قولهم: تلاه إذا تبعه، وهي ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام تأليف القرآن
وترتيبه ومنه قوله تعالى: [وَالْقَمَرِ إذَا تَلاهَا] [الشمس: 2] .
وقد أمر هذا المعلم -صلى الله عليه وسلم- أن يتلو القرآن على أصحابه كما
قال تعالى: [وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ]
[النمل: 91، 92] .
وقال: [قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن
قَبْلِهِ] [يونس: 16] .
فكان -صلى الله عليه وسلم- يعلم الصحابة القرآن كما جاء ذلك في قولهم:
(كان يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن) [3] .
وِجيء بالمضارع في قوله: [يَتْلُو] للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر
تلاوته، ولهذا جاء في وصف هذا القرآن: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً
مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ] [الزمر: 23] .
من صفات هذا الكتاب أنه يثنّى ويكرر فقوله: [مثاني] بمعنى التكرار
والإعادة، وقد كرر الله الأمر بالقراءة في سورة العلق فتُثنى وتكرر قراءته وأحكامه
وحكمه وأخباره ...
والمراد بالآيات جمع آية، وهي في اللغة العلامة آيات القرآن الكريم، فكان- صلى الله عليه وسلم- يتلوها ليحفظوا ألفاظها كما نزلت، ويتعبدوا الله بتلاوتها.
وبعد أن أمره الله بالقراءة والتلاوة بيّن له صفة التلاوة؛ فعناية الله لنبيه -
صلى الله عليه وسلم- لم تنقطع، بل قد رسم القرآن لنبيه كيفية القراءة، فقال:
[فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) ] [طه: 114] .
وقال في بيان كيفية التلاوة: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإذَا قَرَاًنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) ] ...
[القيامة: 16-19] .
وقال: [سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى (6) إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ] [الأعلى: 6، 7] .
المعلّم الأول للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو جبريل؛ كما بيّنه القرآن،
فقال: [إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى (5) ] [النجم: 4، 5] .
فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبادر إلى أخذ الوحي، ويسابق الملك في
قراءته قبل أن ينتهي جبريل المعلّم، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن
يستمع وينصت حتى ينتهي جبريل من القراءة، فإذا انتهى أمره أن يتابع القراءة
بالكيفية التي قرأ بها جبريل المعلم، ولذلك أقرأ أصحابه -رضي الله عنهم- بهذه
الكيفية وأمرهم أن يقرأوا بها فقال: (اقرأوا كما علمتم) [4] . قال الحافظ ابن كثير: (كان إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على
حفظ القرآن فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه) [5] .
فبين القرآن له كيفية التلقي فقال: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإذَا قَرَاًنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]
[القيامة: 16-19] ، أي فإذا قرأه جبريل عليك وانتهى فاتبع قراءته؛ فالقرآن هنا مصدر بمعنى القراءة، ثم نهاه عن السرعة والعجلة في التلاوة، فقال: [فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي
عِلْماً (114) ] [طه: 114] ، بل أنصت واستمع؛ فإذا فرغ جبريل المعلم من قراءته عليك؛ فاقرأه بعده.
قال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: (كان -صلى الله عليه وسلم- إذا
نزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عُرِفَ في تحريكه شفتيه يتلقى
أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره فأنزل الله هذه
الآية: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ] مخافة أن ينساه) .
فيجب في طلب العلم التأني والتثبت في تلقي العلم، وألا يحمله الحرص على
مبادرة المعلم بالأخذ قبل فراغه من كلامه، فأمره الله بترك الاستعجال في تلاوة
القرآن حتى ينتهي جبريل، ثم يقرأه بعد فراغه عليه [6] .
وقد وعده الله وطمأنه وأخبره بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها فقال: [سَنُقْرِئُكَ
فَلا تَنسَى (6) إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى] [الأعلى: 6، 7] ، وقال: [إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ] .
ثم بيّن له القرآن أدب التلقي فقال: [وَإنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ]
[النمل: 6] .
ومادة (تلقى) من اللقيا؛ فيها لقاء بين اثنين هما المتلقي بكسر القاف،
والمتلقّى منه بفتح القاف، والمتلقي هنا هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
والمتلقى منه هو الله تعالى [7] ، ولكن الواسطة جبريل المعلم؛ لأن الله قال: [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
بِإذْنِهِ مَا يَشَاءُ] [الشورى: 51] .
وقال تعالى في بيان هذا المعلم: [إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ
القُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى] [النجم: 4-6] .
هكذا علمه الله كيف يتلقى الوحي: [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ عَظِيماً] [النساء: 113] .
ثم بعد ذلك لم يكله إلى نفسه وحفظه، بل أرسل إليه المعلم جبريل يعارضه
القرآن ويدارسه في كلة ليلة من رمضان، وليس معنى ذلك أيضاً أن يتخلى عنه
طيلة أشهر السنة إلا في رمضان؛ بل كان ينزل عليه في كل الأحوال كما قال
تعالى: [وَلا يَاًتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً] [الفرقان: 33] .
ولذلك نزل عليه القرآن في الحضر والسفر والليل والنهار ... إلخ.
وإنما المدارسة والعرض والسماع كان في رمضان من كل عام، وفي العام
الذي قبض فيه عارضه بالقرآن مرتين.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: (كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل في
كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح
المرسلة) [8] .
وفي حديث فاطمة عند البخاري في فضائل القرآن قال رسول الله: (إن
جبريل يعارض بالقرآن في كل سنة وإنه عارضني العام مرتين) ، ومعنى هذا أن
جبريل يعرض القرآن، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع ومن ثم أمر
بالإنصات والاستماع كما تقدم، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرض القرآن
وجبريل يسمع؛ يدل على هذا رواية عن ابن عباس: (كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- أجود بالخير، وأجود ما يكون في رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل
ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
القرآن) .
هذه هي طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلقي القرآن، وتسمى:
(العرض والسماع) .
فعلينا أن نقتدي به وبفعله في قراءة القرآن، وقد وجه الله عباده إلى هذا
الأدب بالاستماع والإنصات فقال: [وَإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ] [الأعراف: 204] ، وبين لهم شروط الانتفاع بالقرآن فقال: [إنَّ فِي
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] [ق: 37] .
فيحصل الانتفاع بالقرآن لمن كان له قلب حتى يعقل الكلام ويتدبره، ولمن
وجه سمعه، وأصغى إلى ما يقال له، وهو حاضر القلب غير غائب، قال ابن
قتيبة: (استمع كتاب الله، وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه) [9] .
قال سفيان بن عيينة: (أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل،
ثم النشر) [10] .
ومن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقته في التلاوة أنه كان يرتل
ترتيلاً امتثالاً لأمر الله: [وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] [المزمل: 4] بعد أن نهاه عن
العجلة أمره بترتيل القرآن كما أنزله الله مرتلاً، وأمره أن يقرأه على الناس مرتلاً؛
فالترتيل أمر ملحوظ في النزول كالقراءة نفسها، وقد بيّن ذلك القرآن نفسه فقال:
[وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] [الإسراء: 106] .
ومعنى قوله: [وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] أي ترسّل في تلاوته، وأحسِنْ تأليف
حروفه بالتأني في قراءته، وتبيين حروفه وحركاته ليكون ذلك عوناً على فهم
القرآن وتدبره، كما سيأتي. وأثر عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: (الترتيل
هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف) [11] .
وقد امتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر، وقد كانت قراءته -صلى
الله عليه وسلم- ترتيلاً؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان -
صلى الله عليه وسلم- يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها) [12] .
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة النبي -صلى الله عليه
وسلم- (فإذا هي تَنْعَتُ قراءة مفسرة حرفاً حرفاً) [13] .
ومنها ما رواه البخاري في صحيحه: باب مدّ القراءة يصف فيها قراءة النبي-
صلى الله عليه وسلم-، فعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه-
عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (كان يمد صوته مدّاً) .
ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن ما لك -رضي الله عنه- أنه سئل:
كيف كانت قراءة النبي؟ فقال: (كانت مدّاً) ثم قرأ: [بسم الله الرحمن الرحيم]
يمد [بسم الله] ويمد بـ[الرحمن] ويمد بـ[الرحيم] .
وقد أخذ عنه صفة التلاوة وكيفيتها أصحابه؛ فهذا عبد الله بن مسعود -رضي
الله عنه- كان يقرئ رجلاً، فقرأ الرجل: [إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ]
[التوبة: 60] مرسلة، فقال ابن مسعود: (ما هكذا أقرأنيها النبي -صلى الله عليه
وسلم-، فقال الرجل: (وكيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها: (إنما
الصدقات للفقراء والمساكين) فمدّها) [14] .
فهذا عبد الله بن مسعود الذي هو أشبه الناس سمتاً برسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أنكر على الرجل أن يقرأ كلمة: (الفقراء) من غير مدّ، وبيّن للرجل
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قرأ بهذه الصفة التي قرأ بها الرجل، وبيّن عبد
الله بن مسعود للرجل صفة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- للكلمة ومدّها، ولم
يقرّه على ترك المدّ مع أن فعله وتركه سواء في عدم التأثير على دلالة الكلمة
ومعناها، فدلّ على أن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول كما قال زيد بن
ثابت.
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يقرأوا القرآن كما علّمهم.
أخرج ابن جرير الطبري عن عبد الله بن مسعود قال: قال علي رضي الله عنهما:
(إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن تقرأوا كما علمتم) [15] .
فهذه النصوص المتوافرة في صفة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- دلت
على أن قراءة القرآن بالكيفية التي قرأ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- توقيفية فلا
يجوز العدول عنها ولا الإخلال بها.
وإذا انتقلنا إلى باب الوقف والابتداء في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-
نجد نصوصاً صريحة تبين عناية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوقف واختياره
لمواضع يحسن الوقف عليها والابتداء بما بعدها، وقد تعلم ذلك من جبريل المعلم.
وقد وصفت أم سلمة رضي الله عنها عناية النبي -صلى الله عليه وسلم-
بالوصل والوقف علمياً وعملياً.
روي عنها أنها سئلت عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هي
تنعت قراءة مفسرةً حرفاً حرفاً، وقالت: كان يقطع قراءته يقول: (الحمد لله رب
العالمين) ثم يقف، (الرحمن الرحيم) ثم يقف، وكان يقرأ (مالك يوم الدين) .
وفي لفظ لأبي داود: (كان يقطعُ قراءته آية آية) [16] .
وقد أخذ هذه الصفة وهذه الكيفية في تلاوة القرآن الصحابة رضي الله عنهم.
يذكر ميمون بن مهران عن الصحابة أنهم كانوا يراعون في الوصل والوقف تمام
المعنى فقال: (إني لأقشعر من قراءة أقوام يرى أحدهم حتماً عليه ألا يقصر عن
العشر إنما كانت القراءة تقرأ القصص إن طالت أو قصرت) . وقال عبد الله بن أبي
الهذيل: (إذا قرأ أحدهم الآية فلا يقطعها حتى يتمها) [17] .
هذا هو معنى المعلم الأول في أصول التربية والتعليم كما رسمه القرآن في
قوله: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياته] [الجمعة: 2] ، وهذا هو منهج النبي -صلى الله عليه
وسلم- في صفة التلاوة وكيفيتها، فعلينا أن نقتدي به وبفعله.
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/197) ، القرطبي (1/124) .
(2) الجامع، للقرطبي (9/83) .
(3) صحيح البخاري (7/162) .
(4) فتح الباري (9/23) ، المختصر (1/183) .
(5) تفسير ابن كثير (3/185) .
(6) انظر: بدائع التفسير (5/82) .
(7) سنن القراءة ص 45.
(8) فتح الباري (1/30) .
(9) غريب القرآن ص419، بدائع التفسير (4/191) .
(10) الجامع للقرطبي (6/96) .
(11) تفسير ابن كثير (4/459) ، الجامع للقرطبي (10/36) .
(12) تفسير ابن كثير (4/451) .
(13) رواه الترمذي في أبواب التفسير.
(14) الإتقان (1/9) .
(15) فتح الباري (9/23) .
(16) غاية المريد ص 112، ابن كثير (4/459) .
(17) النشر (1/240) ، المكتفي ص 135.(129/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
عيد الأسبوع.. يوم الجمعة
خصائصه وفضائله وأحكامه وآدابه
(1من2)
بقلم: عبد اللطيف بن محمد الحسن
فضل الله تبارك وتعالى يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع، ونوّه بأمره
وعظم شأنه فقال عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الجمعة: 9] .
وقال تعالى [وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ] [البروج: 3] ، وفُسِّر الشاهد بيوم الجمعة [1] ،
فكان إقسام الله به دليلاً على شرفه وفضله، وهذا أمر واضح.
وقد شرعت صلاة الجمعة، واتّخِذَت لها آداب، وخصائص تزيد في جلالها،
وصارت من أعلى الفرائض، وأعظم الشعائر.
والرجل المشغول المكدود يحتاج إلى يوم يتفرغ فيه باله للعبادة والقربات،
ويجلو فيه صدأ القلب الحاصل من الكد ومعاناة الحياة، فكانت هذه الصلاة من
رحمة الله تعالى بهذه الأمة، وكانت الجمعة ميزان الأسبوع، فمن صح له يوم
جمعته وسَلِمَ، سلمت له سائر جمعته [2] .
ولم يزل المسلمون يعظمون هذا اليوم، ويخصونه بمزيد من الاهتمام، حتى
أولئك الذين لا يحافظون على الصلوات الأخرى تراهم يواظبون على صلاة الجمعة
على الرغم من تفريطهم في غيرها.
والحق أن صلاة الجمعة ذات أثر عظيم في حياة المسلمين، فالمنبر مصدر
تعليم وتثقيف وإصلاح، واجتماع المسلمين منبع أخوة وتآلف. كما أن للجمعة
والجماعة فضلاً في وحدة المسلمين في العبادات، وإحكام الدين من الانحراف وبقاء
مظاهر الحياة الإسلامية، وحفظ المسلمين من الانسلاخ، ومزيد من الفرقة، كما
في الأديان الأخرى [3] .
ولكنك ترى أن اهتمام المسلمين بهذه الشعيرة تضاءل، وصارت كغيرها من
الشعائر تؤدى بصفة لا أثر لها في نفس صاحبها، خاصة مع تقصير كثير من
الخطباء في أداء واجبهم.
ولإحياء جذوة الاهتمام بهذه الفريضة العظيمة كانت هذه السطور، وهي
متضمنة بعض خصائص الجمعة، وفضائلها، والوعيد في تركها، وما ينبغي
للتهيؤ لها، وشروطها، وأحكامها، وآداب استماع خطبتها، أسأل الله أن ينفع بها؛
إنه سميع مجيب الدعاء [4] .
أولاً: سبب تسمية هذا اليوم بالجمعة، واختصاص الأمة به:
كان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية يوم (العَروبة) بفتح العين، وسمي بالجمعة؛ لأن خلْق آدم جُمع فيه، لحديث سلمان مرفوعاً، وفيه: (يوم الجمعة به جمع
أبوك أو أبوكم) [5] .
ولأن أهل المدينة اجتمعوا قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصلى
بهم مصعب بن عمير، وسموها جمعة. وقد فرضت بمكة، ولم يتمكن النبي -
صلى الله عليه وسلم- من فعلها، وقد هدى الله عز وجل هذه الأمة لهذا اليوم. قال
رسول الله: (أضل الله عز وجل عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله عز وجل بنا، فهدانا ليوم الجمعة فجعل
الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة، ونحن الآخرون من أهل
الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيّ لهم قبل الخلائق) [6] .
وهي من النعم التي يحسدنا عليها اليهود.
ثانياً: من خصائص يوم الجمعة:
1- أنه يوم عيد متكرر: فيحرم صومه منفرداً؛ مخالفة لليهود، وليتقوى
على الطاعات الخاصة به من صلاة ودعاء ونحوه. قال: (إن يوم الجمعة يوم عيد؛ فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده) [7] .
2- أنه يوم المزيد يتجلى الله فيه للمؤمنين في الجنة: كما في حديث أنس
الطويل وفي آخره: (فليس هم في الجنة بأشوق منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا
نظراً إلى ربهم عز وجل وكرامته ولذلك دعي يوم المزيد) [8] .
3- كراهية تخصيص ليلة الجمعة بالقيام: لحديث النبي: (لا تختصوا ليلة
الجمعة بقيام من بين الليالي،....) [9] الحديث، ومما يدل عليه الحديث بطلانُ
ما يسمى: (صلاة الرغائب) وهي صلاة على صفة مخصوصة يجعلونها في أول
ليلة جمعة من رجب.
4- قراءة: [الّم (1) تَنزِيلُ] [السجدة: 1، 2] و [هَلْ أَتَى عَلَى
الإنسَانِ] [الإنسان: 1] في صلاة الفجر يوم الجمعة: كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يقرؤها [10] ؛ ولعل ذلك لما اشتملت عليه من ذكر خلق آدم، وأحوال
القيامة؛ لأن ذلك كان وسيقع يوم الجمعة، وليس المقصود السجدة التي فيها [11] .
5- فضل التبكير إلى الجمعة وغسل الجنابة يومها: قال: (من اغتسل يوم
الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية،
فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشاً، ومن راح في
الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب
بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) [12] فجعل التبكير إلى
الصلاة مثل التقرب إلى الله بالأموال، فيكون المبكر مثل من يجمع بين عبادتين:
بدنية ومالية، كما يحصل يوم الأضحى.
والمراد بطي الصحف: طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة،
دون غيرها من سماع الخطبة ... ونحوها. والراجح في الساعة الأولى أنها من
أول النهار. والله أعلم [13] .
6- فيه ساعة الإجابة: قال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم
يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه) ، وأشار بيده يقللها [14] .
وهذه الساعة في قول أكثر السلف هي آخر ساعة بعد العصر، وعلى هذا تدل
أكثر الأحاديث، ومنها حديث: (فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر) [15] .
وجاء في حديث آخر عند مسلم [16] أنها: (ما بين أن يجلس الإمام على
المنبر إلى أن تقضى الصلاة) ، وهذه ساعة أخرى ترجى فيها إجابة الدعاء.
7- إكثار الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة: لحديث:
(من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه
الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ، فقالوا: يا
رسول الله كيف تعرض عليك صلاتنا، وقد أَرِمْت؟ يعني: قد بليت قال: إن الله
عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم) [17]
فاجتمعت الصلاة على سيد الأنام، في خير الأيام؛ وهو الذي دل أمته على كل خير.
8- فضل الأعمال الصالحة فيه: قال: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله
من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح إلى الجمعة،
وأعتق رقبة) [18] . والمراد: أن صيامه وافق يوم الجمعة بدون قصد.
9- أنه يوم تقوم فيه الساعة: لحديث النبي: ( ... ولا تقوم الساعة إلا في
يوم الجمعة) [19] .
10- (من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي فتنة القبر) [20] .
11- قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة، ويوم الجمعة: قال أبو سعيد رضي
الله عنه: (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له فيما بينه وبين البيت
العتيق) [21] ، وهو في حكم المرفوع الذي قاله؛ لأن هذا لا يمكن أن يقال بالرأي. وأما قراءة سورة الدخان فلم يصح الحديث الوارد فيها [22] .
12- جواز الصلاة نصف النهار يوم الجمعة، دون سائر الأيام: كما في
أحاديث عدة: (ثم يصلي ما كتب له) [23] .
ثالثاً: فضائل يوم الجمعة وما جاء من الوعيد في تركها:
1- فضل المشي إلى الجمعة ومضاعفة أجره: قال: (من غسّل يوم الجمعة،
واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى، ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغُ،
كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها) [24] .
2- الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينها وزيادة ثلاثة أيام: قال: (من ثم أتى
الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه،
غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام) [25] .
3- وعيد من ترك الجمعات: قال: (لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات، أو
ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) [26] .
رابعاً: التهيؤ للجمعة والاهتمام بها: ويتمثل ذلك في أمور:
1- الاشتغال عن القيلولة والغداء بالتهيؤ والاستعداد للجمعة:
كان الصحابة يتغدون، ويستريحون قبل الزوال كل يوم، إلا يوم الجمعة،
فكانوا ينشغلون بالاستعداد للجمعة، والتبكير إليها، فلا يبقى لهم وقت يسع للقيلولة
قبل صلاة الجمعة. (والقيلولة: الاستراحة وسط النهار، وإن لم يكن معها نوم) .
قال سهل -رضي الله عنه- رضي الله عنه: (ما كنا نقيل، ولا نتغدى إلا بعد
الجمعة) [27] .
2- الغسل:
اختلف في حكمه بين الوجوب والاستحباب، فاستدل الموجبون: بقوله:
(الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) [28] ، وقوله: (إذا جاء أحدكم الجمعة
فليغتسل) [29] .
واستدل القائلون بالاستحباب بقوله: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت،
ومن اغتسل فالغسل أفضل) [30] فينبغي الاغتسال إدراكاً للفضل، وخروجاً من
الخلاف.
3- استعمال السواك والطيب:
قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستنّ، وأن يمس طيباً
إن وجد) [31] . قال الحافظ: قوله: (أن يستن) : أي يدلك أسنانه بالسواك.
4- تخصيص لباس للجمعة:
عن عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على
المنبر في يوم الجمعة: (ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوب
مهنته) .
خامساً: شروط صلاة الجمعة: وهي نوعان:
أ- شروط الوجوب:
1- الإسلام. 2- والعقل:
وهما شرطان في جميع الأحكام الشرعية، باتفاق الأمة، والأدلة عليها
متوافرة.
3- البلوغ:
عن حفصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (رواح الجمعة واجب على
كل محتلم) [32] .
4- الحرية. 5- والذكورية. 6- وعدم العذر:
قال النبي: (الجمعة حق واجب على كل مسلم، في جماعة، إلا أربعة:
عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض) [33] .
7- الإقامة: لحديث: (ليس على مسافر جمعة) [34] وعلى هذا قول الأئمة
الأربعة [35] .
8- أن لا يكون في الطريق مطر، ولا وحل:
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لمؤذن في يوم مطير: إذا قلت: (أشهد
أن محمداً رسول الله) ، فلا تقل: (حي على الصلاة) ، قل: (صلوا في بيوتكم) ،
فكأن الناس استنكروا! قال: (فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني
كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحض) وبوّب البخاري: باب الرخصة
إن لم يحضر الجمعة في المطر [36] .
9- مسألة: اشتراط العدد:
في المسألة خمسة عشر قولاً ذكرها ابن حجر في الفتح، وذكر أن القول
باشتراط الكثير بغير قيد: هو أرجحها من حيث الدليل [37] . واختار الشوكاني
أنها تصح باثنين، كسائر الصلوات [38] . ورجح بعض العلماء أنها تصح بثلاثة:
الإمام واثنين معه، وتجب عليهم [39] .
10- مسألة: اشتراط المدن لإقامة الجمعة:
لا يشترط لإقامة الجمعة أن تكون في المدن دون غيرها، بل تقام في القرى
أيضاً، قال ابن عباس: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- في مسجد عبد القيس، بجواثى من البحرين [40] وجواثى:
قرية، ولم يجمّعوا إلا بأمر رسول الله. وسيأتي دليل آخر في المسألة التالية.
ومن الناس من وقع في الوسواس فتراه يصلي الظهر بعد الجمعة إذا كان في
قرية، خوفاً من عدم صحة الجمعة، وهذه بدعة! !
وضابط القرية التي تقام فيها الجمعة: أن تكون مبنية بما جرت به العادة،
وأن تكون مجتمعة البناء بما هو مألوف [41] .
11- مسألة: اشتراط إذن السلطان:
استنبط الزهري رحمه الله من حديث: (كلكم راع) أن إذن السلطان لا
يشترط [42] وقال ابن قدامة: الصحيح أنه ليس بشرط، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور. ثم ذكر من الأدلة: صلاة علي زمن حصر عثمان، ولم يُنكر. وقول عثمان: (إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساؤوا فاجتنب إساءتهم) [43] . ولأنها من فرائض الأعيان، ولأنها صلاة أشبهت الصلوات [44] .
ب- شروط الصحة:
1- تقدم الخطبة على الصلاة: لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيأتي
الكلام عنها مفصلاً، في الحديث عن الخطبة.
2- الوقت: عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الجمعة
حين تميل الشمس [45] وهذا يدل على أن وقت الجمعة: عند زوال الشمس، أي: وقت صلاة الظهر، وعن سلمة قال: (كنا نصلي مع النبي -صلى الله عليه
وسلم-، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه) [46] وهذا يدل على أنهم
كانوا يصلونها في أول الوقت عند الزوال، بلا إبراد، بخلاف ما كانوا يفعلون في
صلاة الظهر عند اشتداد الحر.
وسئل جابر: متى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الجمعة؟
قال: (كان يصلي ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها) زاد عبد الله في حديثه: (حين
تزول الشمس، يعني: النواضح) [47] ، وهذا دليل لمن يقول بصحة الجمعة قبل
الزوال؛ فإن الخطبة والصلاة لو كانتا بعد الزوال لما أمكن بحال أن تكون إراحة
النواضح عند الزوال، بل بعده بكثير [48] .
3- تحديد المكان الذي تؤتى منه الجمعة إذا كان الرجل في مكان لا تقام فيه
الجمعة:
جاء في خبر الأعمى: (هل تسمع النداء بالصلاة؟) فقال: نعم، قال:
(أجب) فإذا كان هذا في مطلق الجماعة، فالقول به في خصوصية الجمعة أوْلى.
وهذا الأمر في حق من كان في مكان لا تقام فيه الجمعة، أما من كان في بلد
تقام فيه الجمعة فعليه الإجابة سمع النداء أم لم يسمع، لقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الجمعة: 9]
__________
(1) رواه أحمد موقوفاً على أبي هريرة، وصحح الشيخ شاكر إسناده، المسند 2/298.
(2) انظر: زاد المعاد 1/398، والأركان الأربعة، لأبي الأعلى المودودي، ص 59، 60.
(3) انظر: الأركان الأربعة، ص 61، 62.
(4) أصل هذا الموضوع رسالة علمية بعنوان: (أحاديث الجمعة دراسة نقدية وفقهية) لعبد القدوس محمد نذير، مع زيادات كثيرة، ومباحث عديدة.
(5) رواه ابن خزيمة برقم (1732) 3/118 قال د الأعظمي: إسناده حسن وأخرجه أحمد والطبراني.
(6) رواه مسلم برقم (856) .
(7) رواه أحمد، وقال شاكر: إسناده صحيح، المسند 15/175، ح/8012.
(8) أخرجه ابن أبي شيبة 2/58 وأخرجه الطبراني في الأوسط، (مجمع البحرين ح/4879) ، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: بإسناد جيد، وانظر صحيح الترغيب والترهيب للألباني
1/291، ح 694.
(9) رواه مسلم برقم (1144) .
(10) البخاري برقم (891) .
(11) زاد المعاد، 1/375.
(12) البخاري برقم (881) .
(13) راجع بحثاً فيها في زاد المعاد، 1/399 407.
(14) رواه البخاري برقم (935) .
(15) رواه النسائي في كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة، وصححه الألباني في صحيح النسائي (1316) .
(16) رواه مسلم برقم (853) .
(17) مسند أحمد (4/8) ، وسنده صحيح.
(18) أخرجه ابن حبان، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لابن بلبان برقم (2771) وقال المحقق: إسناده قوي وصححه الألباني في صحيح الجامع،.
(3252) .
(19) أخرجه مسلم برقم (854) .
(20) رواه أحمد في المسند (2/202) ، وقال شاكر: إسناده صحيح، ح/ 7051.
(21) رواه الدارمي برقم (3283) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
(6471) .
(22) الحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: (من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأورده الألباني في ضعيف الترمذي (545) .
(23) البخاري، حديث (883) .
(24) رواه أبو داود برقم (345) وأورده الألباني في صحيح أبي داود (333) .
(25) أخرجه مسلم برقم (857) .
(26) رواه مسلم برقم (865) .
(27) رواه البخاري برقم (939) ، وانظر بمعناه الحديثين بعده في الصحيح.
(28) رواه البخاري برقم (858) في الأذان، باب وضوء الصبيان.
(29) رواه البخاري برقم: (877) .
(30) سنن النسائي في كتاب الجمعة، وأورده الألباني في صحيح النسائي برقم (1307) .
(31) رواه البخاري برقم: (880) .
(32) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، وأورده في صحيح النسائي برقم.
(1299) .
(33) أخرجه أبو داود برقم (1076) ، وأورده في صحيح أبي داود (942) .
(34) انظر صحيح الجامع للألباني برقم: (5405) .
(35) انظر المغني لابن قدامة 2/338.
(36) أخرجه البخاري برقم (901) الفتح، 2/446.
(37) الفتح 2/490.
(38) نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار، 3/285.
(39) الشيخ ابن باز، انظر: فتاوى إسلامية، 1/425.
(40) رواه البخاري، ح/892.
(41) المغني 2/327.
(42) الحديث رواه البخاري برقم (893) ، وانظر الفتح (2/443) .
(43) البخاري برقم 695.
(44) انظر المغني، 2/330.
(45) أخرجه البخاري برقم: (904) .
(46) رواه البخاري، 2/386، ونحوه لمسلم برقم: (860) .
(47) أخرجه مسلم برقم: (858) والنواضح: جمع ناضح: الصب، والمراد به: البعير الذي يستقى به الماء.
(48) وذهب بعض أهل العلم إلى مشروعية الإبراد في صلاة الجمعة أيضاً، ومال إليه البخاري، ولم يجزم به، ومنع ابن المنير بناء عليه أداءها قبل الزوال؛ إذ لو جاز تقديمها قبل الزوال، لأغنى عن الإبراد بها، انظر: باب: إذا اشتد الحر يوم الجمعة، من كتاب الجمعة في الصحيح، وشرحه في الفتح، 2/451.(129/18)
دراسات تربوية
الأخوة في الله
بين الواقع والمثال
طارق محمد العمودي
إن أشد ما أخشاه أن نكون في زمن يَعِزّ فيه وجود أخٍ واحدٍ في الله يغنمه
الواحد منا في زماننا هذا، فينعم برباط الأخوّة الصادقة التي ندر وجودها، وأُطلقت
تساهلاً على مفاهيم دون مرتبتها بكثير.
نعم، أقول ذلك خوفاً من وقوع ما قاله الصادق المصدوق: (قلّما يوجد في
آخر الزمان درهم حلال، أو أخ يوثق به) [1] .
خشيت ذلك مع أني أتمنى من صميم قلبي عدم وقوع ما في الحديث في زماننا، فنحرم بذلك نعمة الأخوة الصادقة التي لم يبق منها غير المعرفة السطحية
المقتصرة على الابتسامة، والتلطف في أسلوب الكلام ولا تتعدى ذلك غالباً إن
كثرت الملاقاة.
ولقد قرأت كلاماً محزناً قاسياً ولكنها الحقيقة للإمام الواعظ ابن الجوزي (ت:
سنة 597 هـ) رحمه الله يقول فيه [2] : (جمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم
صديق في الظاهر، أما الأخوة والمصافاة فذاك شيء نسخ فلا يُطمَع فيه) ثم بيّن
سبب نسخ وجود الأخوة والصفا لكون السلف كانت همتهم الآخرة وحدها فصفت
نياتهم في الأخوّة والمخالطة فكانت ديناً لا دنيا.
أما الآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب إلا ما شاء الله. ...
فانظر رحمك الله إلى مقولة هذا الإمام وهو في القرن السادس الهجري؛ حيث
يرى بهذه النظرة معنى الأخوة في زمانه، فكيف في زماننا هذا؟ والأصل في كل
زمان متأخر عن سابقه وقوع صفة الشرفية للسابق، واقتراب الفتن وأشراط الساعة، والرقة في الدين.
ولكن لا يخلو الأمر من تنفيس، والخير في أمة نبينا -صلى الله عليه وسلم-
إلى يوم القيامة.
ولعل من أسباب ضعف رباط الأخوة في الله غموض الرؤية لدى بعض الناس
لمعانيها في زماننا. ولذا رأيت أن أسوق من أقوال وصور السلف حول هذا
الموضوع ما تنحلّ به حبوة القارئ، ويسيل لعابه عجباً واندهاشاً من هؤلاء الرجال
الكبار، لنرى البون الشاسع بين ما قد حققوه من معاني الأخوة الصادقة فيما بينهم،
ونرى بالمقابل ما آلت إليه في زماننا، فنصلح الخلل، وإلا تحقق فينا الحديث
الشريف السابق الذكر.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (إذا رزقكم الله عز وجل مودة امرئ
مسلم فتشبثوا بها) [3] .
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يذكر الرجل من إخوانه في بعض
الليل، فيقول: يا طولها من ليلة، فإذا صلى المكتوبة غدا إليه، فإذا التقيا
عانقه [4] .
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا خرج إلى أصحابه قال: أنتم جلاء
حزني [5] .
ولمّا أتى عمر الشام استقبله أبو عبيدة بن الجراح، وفاض إليه ألماً، فالتزمه
عمر، وقبّل يده، وجعلا يبكيان [6] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أَحبّ إخواني إليّ إذا رأيته قَبِلَني، وإذا
غبت عنه عذرني [7] .
وكان الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُقبّل رأس أبي بكر [8] .
ورئي على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ثوب كأنه يُكثر لبسه، فقيل
له فيه، فقال: (هذا كسانيه خليلي وصفيّي عمر بن الخطاب، إنّ عمر ناصح الله
فنصحه الله) [9] .
ولقي الصحابي حكيم بن حزام عبدَ الله بن الزبير رضي الله عنهما بعدما قُتل
الزبير فقال: كم ترك أخي من الدّيْن؟ قال: ألفي ألف. قال: عليّ منها ألف
ألف [10] .
ودخل رجل من أصحاب الحسن البصري عليه، فوجده نائماً على سريره،
ووجد عند رأسه سلة فيها فاكهة، ففتحها، فجعل يأكل منها، فانتبه، فرأى الرجل
يأكل، فقال: (رحمك الله، هذا والله فعل الأخيار) [11] .
وقال أبو خلدة: دخلنا على ابن سيرين أنا وعبد الله بن عون، فرحب بنا،
وقال: (ما أدري كيف أتحفكم؟ كل رجل منكم في بيته خبز ولحم، ولكن سأطعمكم
شيئاً لا أراه في بيوتكم. فجاء بشهدة، وكان يقطع بالسكين ويطعمنا) [12] .
وقال محمد بن واسع: (لا خير في صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا
كانوا عبيد بطونهم؛ لأنهم إذا كانوا كذلك ثبّط بعضهم بعضاً عن الآخرة) [13] .
وقال عثمان بن حكيم الأودي: (اصحب من فوقك، ودونك في الدنيا) [14] .
وكان بلال بن سعد الأشعري يقول: (أخ لك كلما لقيك ذكّرك بحظك من الله
خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً) [15] .
وكان المحدث القارئ طلحة بن مصرف إذا لقي مالك بن مغول يقول له:
(لَلُقياك أحبّ إليّ من العسل) [16] .
وقال ابن عيينة: سمعت مساور الورّاق يحلف بالله عز وجل: ما كنت أقول
لرجل إني أحبك في الله عز وجل فأمنعه شيئاً من الدنيا [17] .
وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول لأصحابه: يُدخِل أحدكم يده في كُمِّ
صاحبه ويأخذ ما يريد؟ قلنا: لا. قال: فلستم بإخوان كما تزعمون [18] .
وأخيراً: فمن أمثلة أخوة زمن المتأخرين من علمائنا ما كان بين شيخ الإسلام
ابن تيمية، وشيخ المحدثين جمال الدين المزّي رحمهما الله، فقد تأثر الثاني
بشخصية شيخ الإسلام التي كانت قد اكتملت، فأعجب به المزي الإعجاب كله،
وترافق معه طيلة حياته. قال مؤرخ الإسلام الذهبي: (ترافق هو وابن تيمية كثيراً
في سماع الحديث، وفي النظر في العلم، وكان يقرر طريقة السلف في
السنة..) [19] .
ولقد أخلص (المزي) لرفيقه (ابن تيمية) الإخلاص كله، ولآرائه التجديدية،
وجعله مثله الأعلى، ويظهر ذلك جلياً من خلال دفعه لثمن ذلك من الأذى الذي
تعرض له عدة مرات من سجن وعدم تمكينه من التحديث، ووضع العراقيل عند
توليه لرئاسة دار الحديث الأشرفية.
ولما توفي شيخ الإسلام (ابن تيمية) مسجوناً بقلعة دمشق لم يسمح لأحد
بالدخول أول الأمر إلا بخواص أصحابه منهم (المزي) وكان ممن ساعد في غسله.
وبالجانب الآخر كان (ابن تيمية) كثير الاعتماد على (المزي) وعلمه ومعرفته؛ فحينما خرج من سجنه بـ (مصر) سنة 709 هـ، وجلس في القاهرة ينشر
علمه، واحتاج إلى بعض كتبه التي بالشام، كتب إلى أهله كتاباً يطلب جملة من
كتبه، وطلب منهم أن يستعينوا على ذلك بـ (جمال الدين المزي) وسبب ذلك ما
قاله ابن كثير: (فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريد من الكتب التي أشار
إليها) [20] .
وحينما ولي (المزي) أكبر دار حديث بـ (دمشق) وهي الأشرفية سنة
718هـ، فرح (ابن تيمية) فرحاً عظيماً بذلك وقال: (لم يَلِ هذه المدرسة من حين بنائها إلى الآن أحق بشرط الواقف منه) .
وكان شرط واقف الدار أن يُقَدّم من اجتمع فيه الرواية والدراية على من
اجتمع فيه الرواية فقط، ففضله (ابن تيمية) بذلك على علماء عظام قد تولوا هذه
الدار كـ (ابن الصلاح) ، و (أبي شامة) و (النووي) .
وحصل أن أخرج (ابن تيمية) رفيقه (المزي) من السجن بنفسه.
وبعدُ: فإن ما سقته من صور الأخوة في الله من حياة سلفنا لجديرة بالتأمل.
ولعل من أسباب الفتور الحاصل بين شباب الصحوة ضعف رباط الأخوة
الصادقة.
فأين واقعنا الذي لا يخلو من المشاحنات والخلافات والبحث عن الزلات من
واقع سلفنا الصالح رضي الله عنهم: (هيا بنا نؤمن ساعة) ؟ ، و (هيا بنا نبك من
خشية الله، فإن لم نجد بكاءً تباكينا علّ الله يرحمنا) .
وأين الفائدة العلمية ومذاكرة العلم بيننا، مع وجود وسائل الاتصال الحديثة
التي تسهّل وتحفز للحرص على لقاء الفائدة؟
نسأل الله صلاح الأحوال والقلوب للفوز بمرضاته إنه مجيب الدعاء.
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/94) وفي إسناده محمد بن أيوب الرقي، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عزيز الحديث، وله شاهد من حديث حذيفة بلفظ (سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاثة) فذكر: (أخ يستأنس به) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/88) ، وأبو نعيم في الحلية (4/370) وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وضعفه الأكثر، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن لغيره بإذنه تعالى.
(2) الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية، للغماري، ص 326، وله كلام طويل فلينظر.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب (الإخوان) ، ص 81، ورجاله ثقات.
(4) رواه أحمد في مسنده (123) ، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص134، ورجاله ثقات.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص 135، بإسناد فيه شعبة لم يدرك ابن مسعود والبقية ثقات.
(6) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (7/101) ، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 182 ورجاله ثقات.
(7) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في المصدر السابق، ص 113.
(8) أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد لا بأس به، كتاب (الإخوان) ، ص 199.
(9) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب (الإخوان) ، ص 248 بإسناد رجاله ثقات وفيه انقطاع.
(10) أخرجه البخاري في صحيحه (6/227) .
(11) أخرجه ابن أبي الدنيا في (الإخوان) ، ص 245.
(12) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 239، وأبو نعيم في الحلية (4/269) ، بإسناد حسن.
(13) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص 100.
(14) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 96.
(15) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص 167، وأبو نعيم في الحلية (5/ 225) ، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 136، ورجاله ثقات وصرح الوليد بن مسلم بالسماع في رواية ابن المبارك.
(16) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في المصدر السابق، ص 138، وأبو نعيم في الحلية (5/17) بسند حسن.
(17) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في المصدر السابق، ص 202، وأبو نعيم في الحلية (7/299) بسند حسن.
(18) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/187) ، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 203.
(19) تذكرة الحفاظ (4/1499) ، وانظر مقدمة الدكتور (بشار عواد) لكتاب تهذيب الكمال للمزي.
(20) البداية والنهاية (14/54) .(129/26)
تأصيلات دعوية
المفاهيم وأزمة تحديد المصطلحات
في الفكر الإسلامي الحديث
عبد العزيز التميمي
يدور جدل طويل في العصر الحديث حول كثير من المفاهيم التي يكثر تداولها
دون أن تأخذ حظها من التدقيق والتحديد ... هذه المفاهيم إما أن تكون مفاهيم شائعة
الاستعمال في التراث التاريخي للأمة، ولكنه أعيد شحنها بمفاهيم جديدة بعيدة عن
المعنى الذي وضعت له أصلاً، أو تكون مفاهيم دخلت في جسم الثقافة الإسلامية
ضمن ما دخله من الوافد الحديث، أو مفاهيم استحدثت لمعالجة مستجدات فكرية،
وهي غير ذات نسب بالثقافة الموروثة، ولا الثقافة الوافدة.
في هذه المقالة نحاول إزاحة الغبار عن بعض هذه المفاهيم، وتحديد موقف
علمي أقرب ما يكون للدقة المنهجية الممكنة من هذه المصطلحات..
وقبل الولوج في هذه المهمة البالغة الأهمية، لا بد من تحديد نظرية المعرفة
الكامنة التي تتولد منها وترد إليها هذه المصطلحات والمفاهيم؛ إذ إن الاتفاق على
نظرية سديدة في المعرفة خطوة لا مندوحة عنها للباحث عن الحقائق العلمية، الجاد
في الوصول إليها، العازم على دفعها لنهاياتها المنطقية مهما كان الجهد المبذول في
سبيلها، والوقت المصروف لاقتفاء أثرها.
إن خفاء الحقائق العلمية، والتباس المفاهيم نابع من أحد عيبين خطيرين:
أزمة في المعرفة، أو أزمة في الخلق.. ذلك أنه في بعض الحالات تتبين الحقيقة
العلمية لكل ذي عينين، ولكن الإباء والاستكبار يكونان مانعاً أخلاقياً من اعتناقها..
[سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ
يُؤْمِنُوا بِهَا وَإن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلاً ... ] [الأعراف: 146] فهي ضلالة متعمدة وغيّ مقصود..
أما إن كان الالتباس ناتجاً من جانب معرفي علمي فأمره أيسر، وخطبه أهون؛ فما هو إلا أن تبين المسائل بحجمها حتى يهتدي الضال ويستقيم المعوج..
في نظرية المعرفة:
إن لحقائق العلم، ومصادر المعرفة طرقاً محدودة، وسبلاً معدودة اختلف فيها
الناس اختلافاً كثيراً عبر التاريخ.. كما اختلفوا في ترتيبها بعد عدّها وحصرها،
وكان لذلك الاختلاف والتنويع أثر عميق في المذاهب والديانات والاعتقادات التي
اعتنقها جماعات البشر قديماً وحديثاً ... والحديث في ذلك الاختلاف والاضطراب
يطول جداً، ولذلك فلن أعرض له في هذه العجالة.
وللمعرفة العلمية الصحيحة مصادر، منها:
1-الوحي: وهو أهم المصادر وأكثرها ثراء وغنى، وعظمة ... [الّر كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ] [هود: 1] .
2- الكون: الذي تقع عليه وسائل الحس المباشر من سمع أو بصر، أو غير
المباشر بوسائل متعددة متنوعة، من أجهزة وآلات.
3- العقل: بما فطر عليه من الاستدلال باللازم على الملزوم، والترتيب
المنطقي للظواهر الحسية، ورفض التناقض واستحسان الحسن ... إلخ.
4- التاريخ: باعتباره المخزون الأول للتجربة الإنسانية عبر مسيرتها
الطويلة، مع التحقق من صحة الوقائع والروايات بمناهجه الدقيقة التي يجيء في
الذروة منها مناهج المحدثين المسلمين.
وذلك إلى جانب روافد ثانوية أخرى: من إلهام وفراسة ورؤى منامية وحديث
قلب ... إلخ.
ولكل واحد من هذه المصادر نظام داخلي، وضوابط منهجية تقي من الزلل
فيه أو الخطأ في استخدامه، ليس هذا موضع بسطها وبيانها ... المهم أن كل
معلومة لا تعتمد على واحد أو أكثر من هذه المصادر فهي باطلة لا تستحق الاهتمام، وزخرف من القول لا يستحق الالتفات فإذا حصل الاتفاق على هذه المصادر،
وتبلور بوضوح الموقف منها، فإن الاختلاف بعد ذلك في بقية المسائل خطب يسير، وشأن يسهل تجاوزه ...
مفاهيم كثر حولها الاختلاف:
كثيرة هي المفاهيم التي يتنازع حولها المتنازعون، ويختلف فيها المتحاورون ... فمن ذلك مثلاً:
(أ) مفهوم الحاكمية
وهو مفهوم بلوره المفكر الباكستاني المسلم أبو الأعلى المودودي، وتناوله في كتابات عدة، أشهرها كتابه: (المصطلحات الأربعة في القرآن) .. وعنه
أخذ المفكر المصري المسلم سيّد قطب في عدد من كتاباته وخصوصاً كتابه: (معالم في الطريق) ، وكتابه: (في ظلال القرآن) ... ثم شاع بعد ذلك استخدام هذا المصطلح، واختلف الناس حوله بين مادح وقادح، وبين رافض وموافق ... وهذا المصطلح يتناول المشروعية الدينية للنظم المختلفة، وبيان أن ثمة نظاماً واحداً فقط يرضى عنه الله ورسوله والمؤمنون، ويخضع له المؤمنون، ذلك هو النظام الحاكم بالشريعة المفصلة المنزلة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن أي نظام يخالف شريعة ظاهرة متواترة مما أنزل الله على رسوله فليس له حق الطاعة والخضوع ... ويظهر من هذا العرض أن هذا المفهوم مبلور وواضح.. ورغم ذلك فقد ثار حوله جدل عريض قديماً وحديثاً ... ولا يزال الجدل سارياً حوله حتى الآن؛ ولو قال قائل: إنه يعتبر من أهم المفاهيم التي يثور حولها الجدل، لما كان غالطاً ... !
فمن أين أتى الغموض في هذا المفهوم؟ وما هو مصدر الالتباس فيه ... ؟
مصدره والله أعلم من اللوازم التي تلزم على هذا القول، ومن تنزيله الخاطئ
على الواقع..
فما تزال للأسف الشديد جماعات كثيرة هنا وهناك تكفّر المسلمين، وتحمل
السلاح عليهم موظفة هذا المفهوم بشكل خاطئ يعيد رؤية الخوارج التاريخية
للمجتعات الإسلامية، ويكرر مآسيهم في إثارة الفتنة داخل الصف المسلم، بدل
مواجهة العدو الخارجي والانخراط في الجهد البناء لإيقاظ المسلمين، وإعادة جذوة
الحضارة فيهم ... إن هذا المفهوم لم يستخدم في الكتاب ولا في السنة، كما لم
تتداوله كتابات السلف رضي الله عنهم وبذلك فلا يمكن ضبط معناه بشكل نهائي ...
ولذلك فهو عرضة للتأويلات والتفسيرات الغالية، والخاطئة ومن الأفضل عند
الجدال حوله، استخدام مفاهيم أكثر وضوحاً وضبطاً في نصوص الكتاب والسنة
وسلف الأمة، مثل مفهوم الكفر والإيمان والطاعة والمعصية ... إلخ.
(ب) مفهوم الديموقراطيّة:
وهو مفهوم حديث في إدارة الدولة، وفد على الفكر الإسلامي من الغرب..
وقد حاول بعض الملبّسين وضع الإسلاميين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما رفض،
هذا المفهوم، أو قبوله على عجره وبجره ... فالقابل لهذا المفهوم كما يراه الملبّسون
مستنير متطور متقدم ... والرافض له رجعي متخلف ديكتاتوري.. ولا منزلة بين
هذين الأمرين ...
إن مفهوم الديموقراطية يحمل مضمونين: أحدهما إجرائي عملي، والآخر
نظري فلسفي.. أما الجانب الإجرائي التنظيمي، فهو من باب الخبرة البشرية التي
لا يجد المسلم غضاضة في الاستفادة منها، كما يستفيد من سائر سبل تنظيم الحياة
الأخرى كالجامعات والشركات ... إلخ، فالانتخابات والمجالس النيابية والمجالس
البلدية ... إلخ، إنما هي رصيد تجربة اجتماعية لا بأس من استعمالها وتوظيفها.
أما الفكر العقدي والفلسفة الأيديولوجية الكامنة خلف الديموقراطية، المتمثلة في
إعطاء حق التشريع وإنشاء القوانين ووضع القيم الأخلاقية والاجتماعية لمثل هذه
المجالس والدوائر، فهو مما لا ترضاه الشريعة ولا تقبله ولا تقره ... ومن هنا كان
الالتباس والتعارض الظاهر بين مواقف الدعاة في مسألة الديموقراطية ... فبعضهم
يدعو إليها ويبشر بها باعتبارها أفضل الضمانات للاستقرار السياسي والاجتماعي ... وآخرون يقفون على النقيض من ذلك؛ حيث يرى فيها كفراً بواحاً لا يجوز إقراره أو السكوت عليه، وإنما ينشأ الاختلاف المتضاد هذا من الاختلاف في تحديد المفهوم، وتعريف المصطلح، بل إن الكثيرين من الكتاب للأسف الشديد يميلون لتغيير الألفاظ بقصد التعمية، والإبعاد عن المقصود عن الهدف الحقيقي، كما قال رسول الله: (يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) [1] . فبدل الحديث عن العلمانية وحق ممثلي الشعب في وضع النظم والقوانين، يكون الحديث عن (المجتمع المدني) باعتباره نقيضاً للمجتمع (الكهنوتي) الذي يحكمه رجال الدين كما في الرؤية النصرانية لإدارة المجتمع ...
والإسلام وهو يرفض الكهنوت، والعصمة لرجل أو طبقة أو فئة كالإكليروس
فهو كذلك يرفض بلا هوادة الرؤية العلمانية للحياة والكون والإنسان والمجتمع،
ويعتبرها بحق خطراً جارفاً يدمر البشرية، ويشوّه الفطرة الإنسانية، وينشئ
حضارة الغاب التي يأكل فيها القوي الضعيف، ويدمّر المتسلط حضارة المقهور كما
يجري عياناً الآن.
(ج) مفهوم النهضة والتطور:
هذان المفهومان: مفهوم الحرية، ومفهوم التقدم والتطور هما المفهومان
الأكثر استعمالاً في الفكر الغربي الحديث ... وفي فكر نخب دول الأطراف، تلك
النخب العميلة للفكر المستورد تردد عباراته، وتتبنى مقولاته تبنياً أعمى دون وعي
ولا جدية في حفظ أمانة الثقافة والهوية لأمتهم التي ينتمون إليها، بل في خيانة
صارخة لهذه الأمة وتاريخها دون أدنى خجل أو حياء ... ولو ألقيت نظرة فاحصة
لمقولة التقدم والتطور التي ترددها هذه النخب وتدعو إليها بلا هوادة ولا كلل،
وبحثنا بعمق في هذا السؤال الخطير: هل البشرية في العصر الحديث منذ الثورة
الفرنسية خاصة تسير صعداً في سلم الحضارة وبناء المجتمع؟ أم تراها تهبط
وتنحدر؟ أم هي تهبط وترتقي في آن ... ؟ !
أقول: إنه، وباستخدام مصادر المعرفة التي تحدثنا عنها فيما سبق، فإن
للمرء رؤيتين: رؤية واقعية نابعة من شهادة الحس المنضبط، والعقل السويّ؛
تعترف بأن البشرية في مجال العلوم الطبيعية والتقنية لا تزال تثب صعداً من كشف
لكشف، ومن إنجاز لآخر ... ولكن هل يكفي الفتح والانتصار في مجال العلوم
لتحقيق سعادة الإنسان وازدهاره الأرضي....؟ !
تُرى هل زادت هذه الكشوف والاختراعات في عقلانية الإنسان وتوجهه
للسلام الاجتماعي، وحل المشكلات على أساس العدالة والمساواة ... ! ؟
وهل خفّت الحروب، ووضعت أوزارها، واتجهت الإنسانية لما هو أجدى
وأنفع..؟ !
لقد قامت بعد ثورة التنوير هذه أعتى الحروب والمجازر في التاريخ.. لقد
اندلعت الحربان العالميتان اللتان لم يشهد لهما التاريخ مثيلاً، وزاد عدد ضحاياهما
على الأربعين مليوناً ... كما برزت ظاهرة استرقاق العبيد في إفريقيا، واستعمار
دول الأطرف التي قلّما نجا من نيرها بلد من البلدان، وإبادة الشعوب غير
الأوروبية، كما جرى للهنود الحمر في أمريكا الشمالية.
هذا فضلاً عن الهدر الهائل في الطاقة والتبذير الذي لا نظير له، وتدمير
الغابات، وتلويث البيئة، وثقب طبقة الأوزون، وملايين العاطلين عن العمل،
وتفشي الجريمة، وفقدان الأمن، والتمزق الأسري ... هذه حقيقة؛ فهل يملك
مراقب له أدنى قدرة على النفوذ إلى أعماق الحقائق إلا أن يعترف أن الحضارة
المعاصرة هي حضارة الأرض اليباب، والرجال الجُوف، كما يقول بحق الشاعر
الأمريكي الإنجليزي (ت. إس. أليوت) .
إن شواهد الحسّ والتاريخ والواقع العياني لتشهد بصحة النبوءة النبوية: (لا
يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم..) [2] .
وقوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم ... ) [3] .
نعم ... إن شواهد التاريخ لتصدق الرؤية الدينية النبوية التي تقول بأن سيرة
البشرية في انحطاط دائم مهما بلغت من التقدم في العلم الظاهري الذي لا ينجم عنه
سلوك حضاري أو ممارسة جماعية راشدة.. فإذا التبست الرؤية على مُشاهِد غير
متعمق في النصوص، ورأى أن مثل هذا الحديث يعارض أحاديث أخرى، من
مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (أمتي كالغيث لا يُدرى خير أوله أم آخره) [4] ،
أو قوله: (إن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) [5] ،
فنقول: إن الحديث الأول من تواضعه -صلى الله عليه وسلم- وإخباته لربه؛ ذلك
أنه في آخر هذه الأمة ينزل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام كما تواترت بذلك
الأحاديث فيكسر الصليب، ويقتل الخنزيز، ويضرب هذا الدين بجرانه في الأرض، وتلك فترة محدودة لا تلبث أن تزول وهي من إرهاصات قرب الساعة. أما
أحاديث التجديد، فهي لا تعارض الخط البياني الهابط لمسيرة البشرية ... بل هي
قفزات في خط هابط لا ترد الخط لقمته الأولى، وإنما تنهض به يسيراً ثم يعاود
النزول ... إن هذه الكلمات لا يقصد بها البتة إشاعة روح اليأس والاستسلام ولكنها
من باب بيان حقائق الأمور كما هي عليه، وكما أفادها شاهد الحس، وخبر الوحي
قبله من السماء.. لقد قال رسول الله: (من قال هلك الناس؛ فهو أهلكَهم) أو (فهو
أهلكُهم) بضم الكاف وفتحها.. نحن لا نحب أن تشيع بين الناس روح الاستسلام
والتشاؤم، ولكن إدراك الأشياء في وضعها الصحيح تعين على مزيد من الواقعيّة
والاتزان في تقديم الإسلام وعرضه للناس، وتخفف كثيراً من الشروط المثالية التي
يطالب بها الدعاة أو كثير منهم؛ وهم في ذواتهم، وفي حياتهم اليومية عاجزون عن
تطبيق جزء يسير منها، فضلاً عن أن يأتوا بها كلها..
إن الوعي العميق بالذات، وبالآخر، والبصيرة النافذة في واقع الناس،
ومراد الله تبارك وتعالى منهم ... إن ذلك شرط أساس لأي دعوة ناضجة تأملُ في
حدود الممكن أن تنقل الناس من حال أدنى إلى حال خير منه.. [يَا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ وَاًمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الأُمُورِ] [لقمان: 17] وفقنا الله لما يحب ويرضى.
__________
(1) أحمد (5/342) .
(2) البخاري، الفتن رقم (6) .
(3) البخاري: شهادات رقم (9) ، وفضائل أصحاب النبي، رقم (1) .
(4) الترمذي: الأدب، رقم (91) .
(5) أبو داود: الملاحم، رقم (1) .(129/30)
بأقلامهن
يا نساء الدعاة احتسبن..!
فاطمة بنت عبد الله البطاح
(وراء كل رجل عظيم امرأةِ) !
هذا المثل تختلف وجهات نظرنا حوله بين مؤيد ومعارض!
لكني أحسب أننا جميعاً نتفق على أهمية المرأة في حياة زوجها.
ونثق أن لها دوراً لو أدته فسوف تسير السفينة كما يريد ربانها!
لذا نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أشار إلى أهمية المرأة في أكثر من
موضع؛ حتى نبه الشاب المسلم إلى ضرورة البحث عن (ذات الدين) التي تخاف
ربها في الزوج والبيت والولد! !
وأحسبكم لا تختلفون معي في أن (الداعية) هو أكثر الناس حاجة إلى وجود
امرأة متميزة تسير خلفه، وتقر في بيته، وتساعده على أداء رسالته. أما لماذا؟
فلأسباب؛ من أهمها:
1- تميز الرجل الداعية عن غيره؛ إذ إنه ليس كغيره من الناس؛ فلا وقته
كأوقاتهم، وليست همومه مثل همومهم. وبذلك تختلف أعماله وجهوده عن أعمالهم
وجهودهم!
فإذا كان الرجل أي رجل لا يحمل عادةْ إلا همومه الشخصية من مأكل
ومشرب وبيت وأولاد! فإن الداعية لا تقف همومه عند حد البيت والولد؛ لكنها
ترقى إلى درجة حمل همٌَ إصلاح الأمة بكاملها، وإخراجها من الواقع المنكوب الذي
تعيشه.
وإذا كان الرجل العادي ليس له إلا السعي في تحصيل رزقه وإسعاد أهله
بتحقيق رغباتهم؛ فإن الداعية تكثر أعماله حتى يضيق وقته عنها؛ ولربما وجدته
مع كثرتها وتشعبها يردد مع القائل قوله:
تكاثرت الظباء على خٌراش ... فما يدري خراش ما يصيد! !
وعلى هذا؛ فإن لم تكن المرأة التي تقف خلف هذا الداعية تحفل بشيء من
التميز في نظرتها للأمور وفي همها وهمتها! فلا شك أن سفينة الداعية سوف
يصعب عليها مواصلة الإبحار، وربما كان الأمر إيذاناً بدق المسمار الأول في
نعشها! !
تصوروا رجلاً داعية كلما عاد إلى بيته بعد جهدُ مضن وعمل قدمه للأمة يريد
به وجه الله! وجد امرأة تعلن تبرمها وضيقها من الوقت الطويل الذي أمضته وحدها! أو تعيد على مسامعه قائمة الطلبات الملقاة على ظهره ولم يعبأ بها!
وتصوروا امرأة تطيل النظر في وجه زوجها الداعية، وتندهش للأفكار التي
يحملها في رأسه، أو لهذه الهمة التي جعلته يسعى لإصلاح أمور تخص عامة الناس
ولا تعنيها! !
كأني أرى هذه المرأة وهي تٍثني زوجها عن عزمه، وتسحب شيئاً من رصيد
غيرته على دينه وأمته، وتسعى جادة في إدخال اليأس إلى نفسه، ذاكرة له أموراً
كثيرة يصعب تغييرها! !
2- كثرة الصعوبات والمخاطر التي تعترض درب الرجل الداعية، والسهام
الدامية التي تٍصوَّب ناحيته؛ مما يجعل حاجته ماسة إلى وجود امرأة تتفهم متطلبات
المرحلة التي يعيشها زوجها، أو يمر بها؛ فتصبر وتصابر، وتوقن أن زوجها لم
يكن الوحيد الذي سار في هذا الدرب المزروع شوكاً وآلاماً؛ فالتاريخ يمتلئ بأسماء
رجال كانت دماؤهم ثمناً لمبادئ سامية تبنوها وجاهدوا لأجل نشرها! !
وتوقن أيضاً بأن الأذى الذي سيحيق بزوجها لا يعني أنه خسر (المعركة)
فلربما اختبأ النصر في ثوب الخسارة، ولربما تفاجأ الناس بأفكار ومبادئ من
رؤوس أصحابها متجاوزة الحدود التي أدخلوا فيها لتنشر وتطبق، ويتناقلها الركبان!!
أما إذا لم يكن في بيت الرجل الداعية (امرأة واعية) تؤمن بكل هذا، فإن بيته
لا شك سيفقد استقراره العائلي؛ مما يؤثر على سلوكيات من فيه من أبناء وبنات.
3- حاجة أبناء الرجل الداعية إلى أم مؤمنة متميزة تتحمل تبعات إصلاحهم
وتربيتهم في ظل غياب أبيهم المحتمل والمتكرر! !
فإذا علمنا أن بعضاً من هؤلاء المجاهدين الدعاة قد رٍزقوا بأبناء لم يروهم؛
فإن هذا يزيد من يقيننا بحاجة الرجل الداعية إلى امرأة ليست كسائر النساء!
ويزيد من حجم قناعتنا بأن زوجة الرجل الداعية بحاجة إلى تربية خاصة
تؤهلها لتحمل ما قد يّجدٍَ في حياتها من عقبات ومسؤوليات جسام؛ لتكون بمثابة
جبهة داخلية تدفع الزوج بصمودها وصبرها للثبات والاستمرار على موقفه وجهاده؛ وخاصة أننا نعيش في هذا العصر العجيب الذي عز فيه الثبات وكثر المتخاذلون
والمتنازلون! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أختاه! أيتها الأمل! اعلمي أن معاناتك وصبرك إنما هو استجابة لأمر الله
تعالى بالصبر والمصابرة؛ وحري بمن يصبر على طريق الحق أن ينال الجزاء
الأوفى من الله.
أختاه الحبيبة:
(1) اجعلي من خديجة رضي الله عنها قدوة وأسوة؛ فقد كانت العضد الأقوى
والساعد الأشد لزوجها نبينا عليه الصلاة والسلام في رسالته؛ حيث نصرته
وصدقته وزمَّلته وقالت له قولتها الشهيرة: (والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل
الرحم، وتحمل الكّلَّ، وتٍكسب المعدوم ... ) [1] .
(2) سهام الليل أطلقيها في الأسحار، واسألي ربكٌ لزوجك ولكل دعاة الحق
الثبات والعزة والتأييد والنصرة.
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمدِ وللأمد انقضاء! [2]
(3) انشغلي بتربية أبنائك بأن تزوديهم بالعلم النافع والعمل الصالح الذي
ينشئ التقوى، وازرعي في دواخلهم قناعة بأن المبادئ كلما كانت صحيحة كان ثمن
نشرها أوًلى.
(4) ارفعي رأسك وافتخري! بأن زوجك من حملة الحق، وثقي بأن لواء
الحق لا يسقط وإن سقط حامله!
وأخيراً:
أختاه قد تلقين ضيماً أو أذىْ ... فثقي بربكٌ واثبتي لعداكٌ
فالابتلاء يزيد دينكٌ قوةْ ... والمؤمنات صبرنّ قبلٍ لذاك
فلأمٌَ عمارُ وأمٌَ عمارةُ ... أسمى المواقف من ذوي الإشراكٌ!! [3]
ٌ ...
__________
(1) من حديث عروة بن الزبير عن عائشة: (أول ما بدئ به رسول الله من الوحي) البخاري كتاب بدء الوحي.
(2) ديوان الإمام الشافعي.
(3) مجلة البيان العدد (23) جمادى الأولى 1410هـ.(129/36)
تأملات دعوية
السنن والاعتبار
عبد الله المسلم
لقد أحسن الله تبارك وتعالى كل شيء خلقه، وخلق هذا الكون وفق نظام
وسنن مطردة، واطراد السنن في الحياة المادية ومعرفة الإنسان بها أعانه على
الاستفادة كثيراً مما في هذا الكون من قوى مادية.
وكما أن الله تبارك وتعالى جعل سنناً مادية تعين الإنسان على فهم أوجه الحياة
المادية واستخراج قوانين ثابتة تشكل الأساس في فهم الظواهر المادية والانطلاق
منها، فقد أودع الله تبارك وتعالى الكون سنناً تحكم حياة الناس والمجتمعات.
إن ذكر قصص السابقين والأولين والأمر بالاعتبار والاتعاظ بها دليل واضح
على أن هناك سنناً تحكم حياة الناس ومجتمعاتهم، وأن الأمة إذا سلكت ما سلكه
الأولون آلت إلى ما آلوا إليه، فبعد أن ساق الله قصة بني النضير وما أصابهم
أعقبها بقوله: [فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] [الحشر: 2] . وأمر الله الناس
بالسير في الأرض والاعتبار بما أصاب السابقين [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا]
[محمد: 10] . والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي مقابل سير المعرضين والمكذبين يعرض تبارك وتعالى سير المؤمنين:
[فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ
الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ] [يونس: 98] .
وينكر القرآن على المؤمنين اعتقادهم أن بإمكانهم تحقيق النصر دون أن
يصيبهم ما أصاب السابقين من قبلهم: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاًتِكُم مَّثَلُ
الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: 214] .
ويرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى ذلك فيقول: (لقد كان من
قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن
دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه،
وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا
الله) .
إن كثرة هذه النصوص لتعطي دلالة على أهمية هذه الحقيقة الغائبة اليوم عن
كثير من المسلمين، وجدير بالدعاة إلى الله والذين يتخذون القرآن هدياً ومنهاجاً لهم
أن يعنوا بهذه السنن؛ ومن أوجه العناية بها ما يأتي:
1-السعي للتعرف عليها، واستنباطها. ومن أعظم المصادر في ذلك كتاب
الله عز وجل فيما حكاه عن الأولين والسابقين، وما قصه النبي -صلى الله عليه
وسلم- من قصص وأخبار السابقين. ومن المصادر المهمة دراسة التاريخ دراسة
واعية، وقد أمر الله في كتابه بذلك في غير ما موطن: [أفلم يسيروا في
الأرض] . [أوَلم يسيروا في الأرض] . [قل سيروا في الأرض] ويعقب ذلك بالأمر بالنظر والاعتبار.
2- إعادة تقويم الدراسات الاجتماعية والإنسانية على ضوئها.
3- إبراز هذه السنن أمام مجتمعات المسلمين، وتضمينها الخطاب الدعوي
الموجه لهم.
4- الانطلاق منها في رسم برامج التغيير والإصلاح، وأخذها بالاعتبار
والسير وفقها؛ فالله سبحانه وتعالى قد شاء أن يكون نصر هذا الدين قائماً على بذل
الجهد والسبب [فَإذَا لَقِيتُمُ الَذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الوَثَاقَ فَإمَّا مَناً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ
مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ]
[محمد: 4] .(129/40)
ندوات ومحاضرات
ندوة عن:
هويتنا الإسلامية: بين التحديات والانطلاق
(الحلقة الثانية)
إعداد وائل عبد الغني
تعتبر الهوية عنصراً هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول، في
إدارتها لصراعاتها مع أعدائها، والمطلع على خطط الدول، سواء الأمنية أو
التنموية يلحظ أن قضية الهوية تحظى بعناية خاصة.
فإلى أي حدٍّ يستوعب المسلمون هذه القضية؟ وكيف ينظر أعداؤنا إلى هويتنا
من خلال هذا المنظور بالذات؟
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
قضية الهوية قضية محورية أزعجت كل الناس إلا أصحابها، والمشكلة تكمن
في أن أكثر المسلمين لمّا يقتنعوا بعدُ أن الأعداء من حولهم، على اختلاف مذاهبهم
وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية،
وصهرها في أتون الأممية وإزالتها من الوجود؛ لأنها لا غيرها تعتبر الخطر الماثل
أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي، والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة، قال تعالى: [ ... وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا ... ]
[البقرة: 217] .
إن أيّ جماعة تفرّط في هويتها سيسهل في عالم تحكمه شريعة الغاب
استقطابها والهيمنة عليها، وتذويب شخصيتها عن طريق تدمير البنية التحتية
لهويتها العقائدية والثقافية التي تحفظ عليها سياج شخصيتها، فيتحول الإنسان إلى
كائنٍ فارغٍ، مغسول المخ.
أما هذه الأمة فلا عزة لها بدون هويتها [ ... وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ... ] [المنافقون: 8] ، وحين تمسكنا بهويتنا سدنا العالم، وخافت بأسنا الأمم، حتى كانت كنائس أوربا لا تجرؤ على دق نواقيسها، حينما
كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط، وحين تخلينا عنها نزع الله من قلوب
عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت.
قال رسول الله: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع،
وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) [1] .
ومما يؤسف له أن أعداءنا يدركون جيداً أن (الهوية الإسلامية) أقوى وأخطر
سلاح يجب نزعه من المسلمين، بإثارة النعرات القومية.
في عام 1967م ألقى (أبا إيبان) وزير خارجية الدولة اللقيطة محاضرة
بجامعة (برنستون) الأمريكية قال فيها: (يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف
على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة! وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل، ولذا
كان من أول واجباتنا أن نُبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي) !.
هذا مع أن المجتمع اليهودي في فلسطين يتألف من مهاجرين من (102) دولة
مختلفة، يتكلمون (70) لغة مختلفة من شتات الأرض، جمعتهم عقيدتهم الواحدة
رغم اختلاف اللغات والألوان والقوميات والعناصر والأوطان وهذا (أدولف كريمر)
اليهودي يعلنها: (جنسيتنا هي دين آبائنا، ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية
أخرى) .
وجاء في صحيفة (أحرونوت) اليهودية بتاريخ 18/3/78: (إن على وسائل
إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامةً هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع
العرب، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا، في إبعاد الإسلام
عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن
المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع
استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل، وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة
بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش، لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في
المنطقة المحيطة بنا) !
وصدق رسول الله إذ يقول: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) وهذا ما يدركه
أعداؤنا، ولذلك قال (أشعيا بومان) : (إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على
العالم الغربي من الإسلام، ولهذا الخوف أسباب، منها: أن الإسلام منذ ظهر في
مكة لم يضعف عددياً، بل إن أتباعه يزدادون باستمرار، ومن أعظم أسباب الخوف
وأفظعها أن هذا الدين من أركانه الجهاد) .
وقد رصد الأستاذ يوسف العظم سبباً من أعظم أسباب هزيمة 1967م؛ فقال: (لقد سمعت وزير إعلام عربياً، إبّان حرب حزيران يقول: (دعونا من خالد بن
الوليد وصلاح الدين، ولا تثيروها حرباً دينية) قال ذلك، وهو يعلق على ما يذيعه
بعض الدعاة، من حث الجند على الثبات وتشجيع للمقاتلين على الجهاد والاستشهاد، فقلت لمن كان حولي: (منهزمون ورب الكعبة!) .
للأسف أصبح عدونا يعي هذه الحقيقة أكثر منا.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
نعم، الأمر متجسد في حسهم، لدرجة أن (إسحاق نافون) رئيس كيانهم
الأسبق، في خطابه بجامعة (بن جوريون) ، أمام السادات، في 27/5/1979م،
قال: (إن تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن الترتيبات العسكرية والسياسية) ،
وجلّى الأمر أكثر، أمام قيادات الحزب الوطني بمصر في 28/10/1980م حين
قال: (إن أي صياغة أدبية أو دينية تخالف التصورات الإسرائيلية تعد مساساً
بالسلام الإسرائيلي) ! .
نريد أن نرسم إطاراً نظرياً لحجم العداء الغربي للهوية الإسلامية، يعيننا
على إدراك مكائده العملية.
* د/مصطفى حلمي:
قضية الهوية ظاهرة جداً في تفكير ساستهم ومنظريهم، والكلام فيها كثير،
وكثيراً ما تعبر مواقفهم السياسية عن هذا المنطلق، لذلك هم يعتبرون أن أمامهم
تحديات؛ لأنه ثبت لهم عبر مراكز بحوثهم ودراستهم وجامعاتهم ومستشرقيهم أن
هذه الأمة عصية على الهزيمة إذا حافظت على شخصيتها الإسلامية، ومن ثَمّ
فالطريق الوحيد للقضاء عليها؛ هو القضاء على تفرد شخصيتها؛ لذلك نجد أن
الهدف الأساسي من النظام العالمي الجديد، وما يعرف بالعولمة وأمركة العالم،
ومحاولة التمييع بين الأمم، نجده كله: القضاء على شخصية الأمة المتميزة من
أجل تفتيتها والقضاء عليها.
ورغم أنهم يعتبرون أن الهوية اليابانية قد تخطت مرحلة تحدي الوجود، على
حد قول (لاتوش) في كتابه (تغريب العالم) : (يشكل النجاح الأكيد لليابان الذي
خلص آسيا من أسطورة الرجل الأبيض، تحدياً رهيباً، لتفوق العرق الأبيض) ،
رغم هذا التحدي نجدهم يغضّون الطرف عن اليابان؛ لأن أمامهم ما هو أخطر..
أمامهم الإسلام الذي يهددهم كعقيدة في منهجه وأصوله، وكنظام في فكرتي: الدعوة، والجهاد.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
من باب التمثيل على ما ذكر الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً أذكر قول
(نيكسون) في كتابه: (انتهز الفرصة) : (إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكننا
نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب) ! إذن
المسألة بالنسبة إليهم مسألة حياة أو موت، لذلك يقول في الكتاب نفسه: (إن العالم
الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية
الخارجية في القرن الحادي والعشرين) .
وقال (إيوجين روستو (رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية،
ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس (جونسون) لشؤون الشرق
الأوسط حتى عام 1967: (إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء
مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم
الشرقي الإسلامي، بفلسفته، وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع
أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم
الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها
وثقافتها ومؤسساتها) .
وبهذا يتضح لمن لديه أدنى بصيرة أن هدف القوم الأكبر؛ هو طمس هويتنا
باستبدالها بأخرى أياً كانت، سواء أكانت هوية تفتتنا كالهويات الوثنية أو القومية أو
القطرية، أو كانت تميعنا وتذوبنا فيها كالعولمة؛ فالمهم عندهم محو الهوية
الإسلامية المتميزة، ليحال بين الإسلام وبين الشعوب، في حاضرها ومستقبلها،
ويصبح مثلنا كمثل الذي قيده عدوه، بعد أن جرده من سلاحه وانتزع أظفاره،
وخلع أسنانه، ثم وضع الغل في عنقه، والقيد في معصمه، ومع هذا يطلب منه:
شكر العدو على هذا الصنيع، والفخر بالغل، والتباهي بالقيد، والاعتزاز باستعباد
ذلك السيد إيانا!
هذا التصور ليس وساوس أو تهيؤات، ولكنه حقيقة تشهد لها شواهد، منها
قول (كلينتون) : (إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا
نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا) .
قبل أن نتناول مظاهر الحرب على الهوية، نريد أن نعرف حكم الشرع في
المساس بهذه الهوية.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
تشويه الهوية أو إضعافها عمل إجرامي تآمري يرقى بل ينحط إلى مستوى
الخيانة العظمى لأمة التوحيد. قال الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الجامع
الأزهر السابق رحمه الله تعالى: (إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة
كبرى، وجناية عظمى) ، ولقد لعن رسول الله لله من غيّر منار الأرض، فكيف
بمن يغير هوية أمة، ويُضلها عن طريق النجاة؟ !
في ضوء قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]
[الأنعام: 55] .
نود أن نذكر -بشيء من التفصيل- مجالات وأساليب طمس الهوية الإسلامية.
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
أما عن الأساليب التي استعملت لطمس هويتنا فمنها:
إضعاف العقيدة، وزعزعة الإيمان: لأن العقيدة هي خط الدفاع الأول، ومن
وسائل ذلك: زرع الصراعات الفكرية التي تشوش الأفكار، وتشتت الأذهان عن
طريق بعث الفلسفات المضادة للتوحيد، وإحياء التصوف الفلسفي، ونشر تراث
الفرق الضالة كالباطنية والمعتزلة والرافضة، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم
والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة، وهز الثقة في السلف الصالح، والتركيز
على عرض ما يناقض التوحيد بصورة تغري بالإلحاد، كنظرية (داروين) ، وتاريخ
الأمم الوثنية كالفراعنة وغيرهم، دون أي نقد، لا: [لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]
[الأنعام: 55] ، ولكن لننبهر ونفخر بسبيل المجرمين.
* د/مصطفى حلمي:
يضاف إلى ما ذكره الشيخ محمد في هذا الباب: إنشاء وتغذية المذاهب
والمبادئ الهدامة، التي تطعن من الخلف، كالماسونية، والبهائية، والقاديانية،
وأمثالهم، واشتغال المسلمين بها لتفتنهم عن دينهم.
* د/جمال عبد الهادي:
ومن هذه الأساليب: محاولة تجفيف المنابع: عبر وسائل التسلية والإعلام،
وتشويه صورة الإسلام ورموزه، وتقليص المقررات الشرعية والتاريخ واللغة
العربية، باعتبارها روافد تغذي الهوية، وعن طريق حصار المسجد وتكميم أفواه
الدعاة، وإغلاق الكتاتيب ومدارس المعلمين التي تخرّج المحفظين.
* د/ مصطفى حلمي:
إضافة لما ذكره الدكتور جمال حفظه الله في هذه النقطة، فإن سياسة تجفيف
المنابع المراد منها إلغاء أي سلطة شرعية على المجتمع، وبأي صورة، سواء
كانت في الصور التي ذكرها الدكتور، أو في إلغاء المحاكم الشرعية، أو في
السيطرة على أوقاف المسلمين، أو في إنشاء مؤسسات معلمنة لتنافس البقية الباقية
للمؤسسات الشرعية، كإنشاء كليات الحقوق لتزاحم كليات الشريعة.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
في الحقيقة أن من أخطر أساليب طمس الهوية ومسخها (تسميم الآبار
المعرفية) التي تستقي منها الأجيال، أعني تخريب مناهج التعليم بكافة مراحله،
وهذا ما يسمونه بكل صراحة: (تجفيف منابع الإسلام) ! ! هذه المؤامرة لم تبدأ
اليوم، ولكن منذ أكثر من قرن، ولم تبدأ من الصفر، ولكنها تُستمد من معين
المنطلقات التي صنعها الاستعمار والاستشراق والتبشير، ويكفي أن القس (دنلوب)
تمكن في عشرين سنة من تخريب العقول والنفوس والضمائر والعواطف من خلال
سياسته التعليمية، بصورة ما كانت تحلم بريطانيا بتحقيق ربعها لو جندت في سبيل
ذلك مليون جندي بريطاني.
وقد أنطق اللهُ (كرومَر) رائدَ التغريب في مصر بهذه الحقيقة، فقال: (إن
الحقيقة أن الشباب المصري الذي قد دخل في طاحونة التعليم الغربي، ومر بعملية
الطحن يفقد إسلاميته، وعلى الأقل أقوى عناصرها وأفضل أجزائها، إنه يتجرد
عن عقيدة دينه الأساسية) .
* د/ جمال عبد الهادي:
من صور التجفيف التي آتت أكلها الخبيثة عزل المؤسسات الدينية عن أداء
دورها أو التأثير في المجتمع وهو ما أفلح (دنلوب) في نيل نصيب منه، وتجري
بقية فصول المؤامرة إلى اليوم، وهذه أعظم فرصة للاستعمار الثقافي ليقوم بدوره
في الفكر والتشريع والحياة، والذي ينشأ عنه ضعف الوازع الديني رغم أنف كثير
من الناس، بل إن كثيراً منهم قد لبس الإسلام كما يلبس الثوب مقلوباً.
ولهذا كانت الجولة الحالية لصالح الاستعمار، لما جُنّب الإسلام قصداً عن
المعركة، ولكن لم يكن بالدبابة والمدفع، ولا بالأسطول والطائرة، وإن كانت هذه
الأسلحة قد وقفت تدعم سلاحاً أعمق جرحاً وأبلغ أثراً؛ الأستاذ الذي أفسد التفكير،
والعلم الذي زرع الشك، والكتاب الذي أمرض اليقين، والصحيفة التي نشرت
الرذيلة، والقلم الذي يزين الفاحشة، والفن الذي يشجع على الفجور، والمهازل
التي قتلت الجد والرجولة، والمسكرات التي تذهب بكل شيء، والشهوات التي
تخرم المروءة، والكماليات التي تشغل الكواهل، والأعراف التي تناقض فطرة الله، والمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب، هذا هو حصاد تجفيف
المنابع المرير، ولله المشتكى!
* أ/جمال سلطان:
ومن أساليب طمس الهوية أيضاً: إفساد اللغة العربية واللعب في مجال
الثقافة:
نشطت عملية الإفساد في اللغة العربية بصورة كبيرة مثلها مثل بقية الأبعاد
منذ وقت مبكر.
فنجد دور (طه حسين) في ذلك؛ إذ نحا منحى أستاذه (مرجليوث) في التشكيك
في مصادر اللغة والقرآن، وأكمل معه الدور أحمد لطفي السيد، الذي سعى سعياً
حثيثاً (لتمصير العربية) ، من أجل إزالة فكرة الولاء والبراء، مدعياً أن المصالح
وحدها هي التي تربط بين الشعوب، لذلك استنكر تعاطف المصريين مع إخوانهم
في ليبيا منذ الاحتلال الإيطالي، واعترض على دستور عبد الناصر الذي نص على
أن مصر جزء من الأمة العربية، فأطلق شعار: (مصر للمصريين) ! .
ومن هنا يظهر أن تدمير اللغة لا يعني سوى تحريف العقيدة، وقد قام بدور
مشابه لهذا، (الموارنة) في لبنان، الذين أقاموا جمعيات أدبية وشعرية كانت تغذيها
قوى مشبوهة لتدمير اللغة والأدب، على اعتبار أنهم مجموعة (الرابطة القلمية)
ذات العلاقات الماسونية، والتي ضمت جبران ومخائيل نعيمة، وتعجب من تلميعهم
رغم أن كل أعمالهم كانت للكيد للغة العربية، لصلتها القوية بالإسلام، فيقدمونهم لنا
كمجموعة أدبية متميزة، مع أن لهم أقوالاً في منتهى الخطورة؛ منها على سبيل
المثال: (نحن لن ننتمي إلى الشعب العربي، ولا إلى الجنس العربي نحن
فينيقيون) .
ونعجب من إبراز مثل هؤلاء على حساب النماذج الإسلامية الأصيلة،
فندرس في الهند عن (طاغور) الهندوسي، ولا نعرف شيئاً عن (إقبال) المسلم،
رغم أنه إلى جانب كونه مسلماً فإنه صاحب قضية، بل وصل اللعب في هذا
المجال إلى حد من التسطيح والتحريف، لدرجة أنهم كانوا يدرسون لنا قصيدة
لمطران بعنوان: (فتاة الجبل الأسود) ، وكان مطران يتغزل بفتاة صربية كافرة،
ويتغنى ببسالتها في مقاومة (الغزو التركي العثماني) حسب قولهم أو (المسلمين) كما
هو معلوم، ولأن الأمة قد مزقت وغيب وعيها، فلم يعد أحد يعرف ما الجبل
الأسود أو البوسنة، أو أفغانستان أو غيرها؟
وأعود فأقول: إن هذا التدمير قد واكبه تدمير في جميع أبعاد الهوية، سواء
في الشريعة أو الاجتماع أو الأخلاق أو السلوك، ولأن الهوية تكامل نفسي وفكري،
فلذلك كان عليهم أن يلعبوا على كل الخيوط من أجل إفساد الهوية.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
أعظم دافع للتآمر على اللغة العربية هو شدة ارتباطها بالقرآن والإسلام،
وأثرها في وحدة الأمة، وقد تم ذلك عبر محاور عدة منها: تشجيع اللهجات العامية، والمطالبة بكتابتها بالحروف اللاتينية، وتشجيع اللغات الأجنبية على حساب لغة
القرآن الكريم، وتطعيم القواميس العربية بمفاهيم منحرفة كقاموس (المنجد) ،
والطعن في كفاءة اللغة العربية وقدرتها على مواكبة التطور العلمي.
وإذا كانت (الثقافة) هي مجموع القيم التي ارتضتها الجماعة لنفسها، لتميزها
عن غيرها من الجماعات، فإن اللغة هي وعاء الثقافة، ومظهرها الخارجي الذي
يميزها.
إن لغتنا ليست لغة قومية، لكنها لغة دينية تجمع حولها المسلمين جميعاً عرباً
وعجماً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اللغة العربية من الدين، ومعرفتها
فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية،
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) اهـ.
وقال المرتضي: (من أبغض اللسان العربي أدّاه بغضه إلى بغض القرآن
وسنة الرسول لله، وذلك كفر صراح، وهو الشقاء الباقي، نسأل الله العفو) اهـ.
إن للغة دوراً خطيراً في توحيد الأمة، وهاك أمثلة توضح ذلك:
الأول: (إيرلندا) التي رزحت تحت الاحتلال الإنكليزي منذ أوائل القرن
الثاني عشر الميلادي، وذاقت منه الويلات، خصوصاً على يد (كرومويل) الذي
أعمل السيف في رقاب الإيرلنديين، وشحن عشرين ألفاً من شبابهم وباعهم عبيداً
في (أمريكا) ، ونفى أربعين ألفاً خارج البلاد، وتمكن من طمس هويتهم بمحو لغتهم
الإيرلندية، وتذويبهم في المجتمع البريطاني.
ولما حاول بعض الإيرلنديين الوطنيين بعث أمتهم من جديد أدركوا أن هذا لا
يتم ما دامت لغتهم هي (الإنكليزية) ، وما دام شعبهم يجهل لغته التي تميز هويته،
وتحقق وحدته.
وأسعفهم القدر بمعلّم يتقن لغة الآباء والأجداد؛ دفعه شعوره بواجبه إلى وضع
الكتب التي تقرب اللغة الإيرلندية إلى مواطنيه، فهبوا يساعدونه في مهمته حتى
انبعثت من رقادها، وشاعت، وصارت (النواة) التي تجمع حولها الشعب، فنال
استقلاله، واستعاد هويته، وكافأ الشعب ذلك المعلم بانتخابه أول رئيس لجمهورية
(إيرلندا) المستقلة هو الرئيس (ديفاليرا) .
الثاني: (ألمانيا) التي كانت مقاطعات متفرقة متنابذة، إلى أن هبّ (هَرْدِر)
الأديب الألماني الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ينادي بأن (اللغة)
هي الأساس الذي يوحّد الشعوب، والنواة التي تؤلف بينها، فانطلق الأدباء يعكفون
على تراثهم القديم أيام كانوا أمة واحدة، وقاموا بإنعاش تراثهم الأدبي، ونسجوا
حوله قصصاً وبطولات خلبت ألباب الشباب، وتغنوا بجمال بلادهم، وأمجاد
أسلافهم، فتجمعت عواطفهم على حب الوطن الكبير، وتطلعت نفوسهم إلى
الانضواء تحت لواء (هوية ألمانية) واحدة، الأمر الذي مهّد الطريق أمام (بسمارك)
لتعبئة الشعور القومي، وتوحيد ألمانيا، وإقامة (الإمبراطورية الألمانية) التي كان
(بسمارك) أول رئيس وزارة (مستشار) لها.
الثالث: أعاد اليهود اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة وبعثوها من
مرقدها، حتى صارت لغة العلم بالنسبة لهم، وألفوا بها أدباً نالوا به ما يسمى جائزة
نوبل، لقد وحدت هذه اللغة لسان الشتات المتفرق بين (70) لغة، وحولته إلى
لسان واحد.
ومن هنا يتضح أن إهمال العربية أو تهميشها أو ترقيعها يصب في خط واحد، هو: هدم الهوية الإسلامية!
والعجب كل العجب من شماتة المستشرق الألماني (كاممفاير) إذ يقول: (إن
تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً) لماذا؟ (فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس
مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، وإن قراءة القرآن العربي
وكتب الشريعة الإسلامية، قد أصبحت الآن مستحيلة، بعد استبدال الحروف
اللاتينية بالحروف العربية) .
* د/مصطفى حلمي:
* ومن أساليب طمس الهوية: تزييف التاريخ الإسلامي: والتشكيك في
حوادثه، وإبراز النماذج المنحرفة، والحوادث المؤسفة، وتضخيمها؛ لتتشبع
الأجيال الناشئة بكراهية الإسلام والنفور من تراثهم وتاريخهم.
ومن هذا الباب السخرية من رموز الإسلام من أجل إضعاف التأثر بهم.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
من محاولات تزييف التاريخ الإسلامي؛ محاولة تفسيره تفسيراً قومياً كما
يفعل البعثيون الذين يريدون أن يبتلعوا الإسلام في بطن قوميتهم حين يزعمون أن
الإسلام مرحلة في تاريخ العروبة.
أو تفسيره تفسيراً مادياً كما يفعل الماركسيون حيث يصورونه على أنه تاريخ
صراع طبقي، أو صراع مصالح بين الأمراء والخلفاء والملوك.
والهدف من وراء كل ذلك واضح، وهو الحيلولة بين الأمة وبين اتخاذ
تاريخها الحقيقي منطلقاً للنهوض من كبوتها.
أما المنهج الصحيح والواقعي فهو: فهم التاريخ البشري كله على أساس أنه
تاريخ دين سماوي واحد؛ هو (الإسلام) ، من لدن آدم عليه السلام إلى محمد لله
وحتى يرث الأرض ومن عليها.
ومن تزييف التاريخ أيضاً: طمس المعالم التاريخية، والحفريات التي تصحح
تاريخ العقيدة، وتكشف أن التوحيد هو الأصل وأن الشرك طرأ عليه، وكذا الوثائق
التي تثبت التحريف في كتب أهل الكتاب، والتي تدعم الإسلام وتؤيده.
ويجدر بنا الإشارة إلى مؤامرة تزييف تاريخ (الإبراهيمية الحنيفية) التي هي
جذر الإسلام، وذلك عن طريق نشر فكرة (السامية) التي تركز على القول، بأن
هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود، هو (سام بن نوح) ، في حين أن
القصد الحقيقي من ورائها هو التعمية على انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم
عليهما السلام وعزو تاريخ إسماعيل وذريته إلى مصدر غامض مجهول السند.
وذلك بقصد صرف الأنظار عن هويتنا الحقيقية التي هي ملة إبراهيم عليه
السلام التي أولاها القرآن الكريم أعظم الاهتمام ونسبنا إليها، وحثّنا على اتباعها
وبرّأ إبراهيم عليه السلام من كونه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً.
ومن أساليب طمس الهوية كذلك: الحرب النفسية المدعمة بالأساليب التعسفية: لقمع وإنهاك رموز الإسلام والدعاة إلى الهوية الإسلامية، وتنحيتهم عن مواقع
التأثير الإعلامي والتربوي، وتسليط الحملات التي تصفهم بالتطرف والإرهاب
والأصولية، مع تركهم مكشوفين في العراء، عرضة لانتقاد وسخرية أعداء الهوية؛ كيلا يشكل الدين أي مرجعية معتبرة للأمة.
ومنها: إشغال المسلمين بالشهوات ووسائل الترفيه التي تستهلك طاقات
المسلمين وأوقاتهم، وتدفع المجتمع إلى السطحية في النظر إلى الحقائق، وذلك
بزيادة معدلات تعرضه للإعلام الترفيهي، مع تقليل الزمن المتاح للتأمل والتفكر
والتدبر في الأحداث اليومية، وبذا تعد وسائل الترفيه آلات الجراحة النفسية
المطلوبة لاستبدال الهوية.
* أ/جمال سلطان:
إذا اعتبرنا وسائل الترفيه بمثابة آلات تخدير واسترخاء فمن المعلوم أنه في
فترات الاسترخاء تضعف (المناعة الاجتماعية) بألوانها المختلفة، مما يعني اتساع
دائرة نفاذ الغزو الخارجي والتأثير على الهوية.
وبالتأمل في تاريخ الأندلس، وبالذات مرحلة السقوط، نجد أن الخطر ظهر
منذ أن غزت مظاهر الترف المجتمع من قمته إلى قاعدته، والترف ناشئ عن
الشعور بالاسترخاء وعدم وجود تحدّّ أو صراع؛ لأنه لا خوف من الصراع؛ إذ
يستنفر الطاقات ويوقظها، كما قال تعالى معللاً أخذ المؤمنين الحذر: [ ... وَدَّ
الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ... ]
[النساء: 102] ، والحذر واجب ومتأكد حتى في الصلاة. والجسم المستنفر يقظ
قوي يصعب اختراقه، على عكس المسترخي والمستأنس الذي غابت عنده قضية
الولاء والبراء، فبدأت اللوثات في المزاحمة.
* د/مصطفى حلمي:
من هذه الأساليب: اتباع سياسة التصفية العرقية والتهجير: وتعد الهند
أنموذجاً لذلك، فبعد أن كانت قارة مسلمة، حولتها بريطانيا إلى مقاطعات، وفصلت
بين المسلمين وإخوانهم بالهندوس.. ومكّنت الهندوس من الحكم برغم أنهم كانوا
أقلية؛ وقد تم مثل هذا الأمر في أماكن عديدة أقربها ما حدث في البوسنة والهرسك.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
يضاف إلى ما ذكره الدكتور مصطفى حفظه الله ما جرى من طمس للمعالم
التاريخية التي تؤكد الانتماء الإسلامي، كما فعل النصارى في الفردوس المفقود:
(الأندلس) ، وكما فعل (أتاتورك) في تركيا؛ حينما حوّل مسجد (أيا صوفيا) إلى
مُتْحَفٍ وبيت للأوثان، وطمس منه آيات القرآن والأحاديث، وأعاد كشف ما كان
الفاتحون قد طمسوه من الصور التي زعمها النصارى للملائكة، وكذا صور من
يسمونهم القديسين، والصلبان، والنقوش النصرانية.
وكما فعلت الوحوش الصربية في البوسنة، حيث كانت تنتقي بعناية
المواريث الرمزية والتاريخية الإسلامية لتقصفها وتدمرها، من أجل تجريد الذاكرة
الجماعية لشعب البوسنة من رموز الهوية الإسلامية ومعالم حضارتها.
وكما يفعل اليهود لعنهم الله في القدس وغيرها من مناطق فلسطين السليبة.
* د/جمال عبد الهادي:
ومنها: إفساد الأخلاق من خلال إشاعة الفاحشة: وتشجيع الشباب والفتيات
عليها تحت مسمى التحرر وإباحة الاختلاط واللواط والشذوذ، وهو ما يسمونه
(زواج الأفراد) ! ، ويعقد من أجل ذلك مؤتمرات رسمية دولية كمؤتمر السكان،
ومؤتمر السكان والصحة الإنجابية، ومؤتمر المرأة.
* أ/جمال سلطان:
في هذا المجال يبرز دور الأفلام والمسرح المهرج، الذي لعب دوراً خطيراً
في تشويه صورة النموذج الإسلامي وإفساد الأخلاق والسلوك، والتسويق للنموذج
التغريبي بقيمه وعاداته وسلوكياته.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
ومن أخطر هذه الوسائل: استقطاب المرأة المسلمة، والتغرير بها: عن
طريق دعاوى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، والترويج لفكرة (القومية النسائية)
التي تربط المسلمة باليهودية، والنصرانية، وعابدة الأبقار والأوثان، والملحدة،
كأن قضيتهن واحدة! ومعتقداتهن واحدة! ومطالبهن واحدة! ومعركتهن ضد
(الرجل) واحدة أيضاً! !
* د/ مصطفى حلمي:
ومن هذه الوسائل: إقامة دولة لليهود في قلب العالم الإسلامي: وتحويل اسم
المنطقة إلى مسمى (الشرق الأوسط) لتذويب الوجود الإسلامي فيها.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
ومن هذه الوسائل: النشاط التنصيري: الذي يستغل الفقر والمرض، كما
حدث ويحدث في إفريقيا وفي إندونيسيا، وكما كان يحدث في المدارس الأجنبية،
من دعوة صريحة للتنصر، وإن كان تم تطوير أساليبهم الآن بحيث تكتفي بقطع
صلة التلاميذ بالإسلام، وتذويب هويتهم الإسلامية وتحقيرها، وصبغهم بصبغة
غربية، تمهيداً لاعتلائهم مراكز التأثير في المجتمع في المستقبل، وقد قال عميد
المبشرين يوماً: (المبشر الأول هو المدرسة) .
ومنها: استلاب الهوية الإسلامية وتشتيتها: عن طريق ضربها بهويات
أخرى قومية أو وطنية، وكذلك تشجيع النزعات الطائفية والقبلية الاستقلالية،
لتسخيرها لتكون عوامل إثارة وقلقلة لضرب وحدة المجتمع المسلم، وإثارة البلابل
والفتن، وأوضح مثال حي اليوم: قضية البوليساريو في المغرب، والبربر في
الجزائر.
ومنها: تجهيل العلم: بحيث يفقد صلته بالخالق سبحانه ودلالته على توحيده، فإن العلم أقوى مؤيد لدعوة التوحيد ودين الفطرة، بما يكشف عنه من آيات الله
في الآفاق وفي الأنفس، وفي سبيل ذلك يعمدون إلى تجاهل ذكر الله عز وجل
ونسبة الآيات الكونية إلى الطبيعة، ومحاولة عزو أحداث الكون إلى الظواهر
الطبيعية دون ربطها بمشيئة الله وقدرته عز وجل.
ومن هذه الأساليب: تذويب الهوية الإسلامية في الثقافة الغربية: عن طريق
اصطناع عملاء مأجورين، يبيعون كل شيء إرضاءً لساداتهم، فيمارسون جريمة
محو ذاكرة الأمة، وارتباطها بتاريخها المجيد، الذي هو خميرة المستقبل، وتمجيد
كل ما هو غربي، وتحقير كل ما هو إسلامي، ومزاحمة رموز الإسلام برموز
ضلالات التنوير والحداثة والعصرانية، وعرض أنماط الحياة الاجتماعية في
الغرب بكل مباذلها وسوءاتها بصورة جذابة ومغرية.
* د/ مصطفى حلمي:
ومن أكثر الوسائل تأثيراً: التغريب: و (التغريب) كما يعرّفه د. محمد
محمد حسين رحمه الله: (هو طبع العرب والمسلمين أو غيرهم بطابع المدنية
الغربية، وهذا الذي يسميه سماسرته (تطويراً) ، وهو ما يعنونه عندما يتكلمون عن
بناء المجتمع من جديد، وهم ماضون في الهدم، لا يرضيهم إلا أن يأتوا على
بنياننا من القواعد، ولكنهم سوف يعجزون عن البناء فيهدمون مجتمعاتنا ثم
يتركونها وسط أنقاض النظام القديم في فوضى لا سكن فيها ولا قرار.
وحتى نعلم كيف تتم عملية التغريب وفق تصور الغرب أنفسهم نقرأ كلاماً لـ
(لاتوش) إذ يقول في كتابه: (تغريب العالم) : (ينطلق فيض ثقافي من بلدان المركز، ليجتاح الكرة الأرضية، يتدفق على شكل صور.. كلمات.. قيم أخلاقية..
قواعد قانونية.. مصطلحات سياسية.. معايير.. كفاءة، ينطلق كل ذلك، ليجتاح
بلدان العالم الثالث من خلال وسائل الإعلام، المتمثل في إذاعات وتليفزيونات،
وأفلام وكتب، وأسطوانات فيديو، وأطباق استقبال فضائية (دش) ، ينطلق عبر
سوق المعلومات التي تحتكرها الوكالات العالمية الأربع: أسوشيتدبرس،
ويوناتيدبرس (الولايات المتحدة) ، ورويتر (بريطانيا) ، وفرانس برس (فرنسا) ،
وتسيطر الولايات المتحدة على 65% من تدفق هذه المعلومات.
هذا الفيض من المعلومات يشكل رغبات وحاجات المستهلكين، أو بتعبير
آخر: (الأسرى السلبيين) : أشكال سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط
حياتهم) ، وبذلك تذوب الهويات الذاتية في هذا الخضم من الغزو؛ لأن مواد الغزو
تصنع في معامل الغرب وفق معاييره ومواصفاته المعيبة.
ومن هذا الكلام يتضح لنا أن التغريب، والاستعمار، والتنصير ما هي إلا
ثلاثة أوجه لحقيقة واحدة، وأن الاستعمار بدأ يتشكل في أشكال جديدة.
__________
(1) أبو داود: كتاب البيوع، حديث رقم (3462) .(129/42)
البيان الأدبي
الانحراف الفكري لأصداء
السيرة الذاتية لنجيب محفوظ
د. محمد بن عبد الله الشباني
الكلمة تكون أداةً لزرع اليقين وتحقيق السمو النفسي والحفاظ على التماسك
الفكري للأمة حتى يتحقق التغيير الذاتي، فيتحقق التغيير الكامل لواقع الأمة وفق
المبدأ الذي أوضحه القرآن الكريم في قوله تعالى: -[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] أو أداةً للهدم وزرع الشك والعبث
بمرتكزات الأمة الفكرية؛ مما ينتج عنه فقدان القدرة على التحرر من عبودية
الشيطان، وقيام مجتمع لا يعرف غاية لوجوده غير المتعة واللذة.
من هذا المنطلق سيتم مناقشة ما تم نشره ضمن الملحق الخاص الذي نشرته
جريدة الرياض بالتعاون مع اليونسكو بتاريخ 9 رمضان 1418هـ الموافق 7 يناير
عام 1998م للروائي نجيب محفوظ؛ فهذا الملحق الذي تقوم بنشره جريدة الرياض
ضمن سلسلة من الملاحق يتم نشرها تحت عنوان: (كتاب في جريدة) تتولى ثلاث
جهات إعداده وتمويله؛ وهذه الجهات هي: منظمة اليونسكو، وكتاب زايد العربي، ومؤسسة صخر. ويتم إصداره بالتعاون مع كبريات الصحف في الوطن العربي
من الخليج إلى المحيط. والهدف من ذلك كما أشير إليه في الصفحة الرابعة من
الملحق هو الاندماج الثقافي، وتعميم القراءة والتواصل؛ من أجل مزيد من التلاحم
وترسيخ وحدة اللغة والثقافة. ويتم توزيع هذا الملحق مجاناً عبر الصحف المشتركة
في التوزيع.
إن الغاية التي سعى إليها المنظمون لهذا الملحق الذي تُنفَق عليه أموال طائلة
هي غاية طيبة إذا تم توجيهها نحو غرس الثقافة العربية ذات التجذر الإسلامي؛ أما
إذا انحرفت عن هذا المسار فإن الأمر ينقلب إلى أن يصبح هذا الملحق أداة هدم
للحصن الثقافي للأمة العربية، وزرع للفتنة، وتمزيق للنسيج الثقافي الذي يربط
بين أبنائها؛ بحيث يتحول دور الكلمة التي سعى إليها المنظمون لهذا الكتاب إلى
أداة لنشر سرطان العبث والتشكيك بمرتكزات الأمة الثقافية والعقائدية؛ بما يفضي
إلى إيجاد الأجواء المناسبة لتمزيق وحدتها.
إن كتاب أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ هو الإصدار الثالث لهذه
المنظومة من الملاحق تحت اسم: (كتاب في جريدة) وإن أهمية مناقشة ما ورد في
أصداء السيرة الذاتية يعود إلى أن مؤلفه الروائي المشهور نجيب محفوظ قد منحه
الله القدرة على استخدام اللغة بصور شتى؛ إلا أنه يستغل هذه المقدرة في تسريب
أفكاره ذات البعد التخريبي لمرتكزات الأمة الاعتقادية بالشكل الذي يؤدي إلى تقبّل
السم الزعاف من شاربيه بنفس رضية؛ ولو أدى ذلك إلى الموت المحقق؛ كما أن
شهرته في عالم الأدب، والهالة التي صُنعت له، تدفع كثيراً من الناس إلى قراءة
كتاباته وتقبّل ما فيها من انحراف؛ وهذا هو مكمن الخطر على الأمة.
إن كتاب أصداء السيرة الذاتية يعكس المسيرة الفكرية لنجيب محفوظ وما
استقرت عليه أفكاره في خريف عمره بعد أن آذنت شمس حياته بالمغيب.
إن الدارس لهذه الأصداء من خلال كتابه هذا يتضح له عدة محاور ترتكز
عليها آراؤه وأفكاره وما يدعو إليه، وتتمثل في المحاور التالية:
أولاً: عبثية الحياة وأنه لا غاية من وجودها ولا معنى لها، والشك في وجود
حياة أخرى بعد الموت، وأن ما يقال عن الحياة الأخرى ترهات غير مقبولة! !
هذا المفهوم الفلسفي العدمي مصادم مصادمة كلية للعقيدة الإسلامية. وهو يصرخ
بهذا العبث الفكري بدون مواربة ولا تورية!
يقول في صفحة 18 تحت عنوان: (فيلسوف صغير جداً) ما نصه:
(يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة. لا أدري كيف أتناسى دنو
النهاية وهيمنة الوداع. تحية للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة، تحية
لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة. الآن يؤذن الصوت الأبدي بالرحيل،
ودع دنياك الجميلة واذهب إلى المجهول، وما المجهول يا قلبي إلا الفناء. دع عنك
ترهات الانتقال إلى حياة أخرى، وكيف، ولماذا، وأي حكمة تبرز وجودها؟ أما
المعقول حقاً فهو ما يحزن له قلبي. الوداع أيتها الحياة التي تلقيت منها كل معنى،
ثم انقضت مخلفة تاريخاً خالياً من أي معنى) .
إن هذا القول الذي ينشره نجيب محفوظ من خلال كتابه هذا ويريد من العرب
الإيمان به يصادم بدهية من بدهيات عقيدة الأمة؛ فهو يزرع الشك والكفر،
ويرغّب في نزع الإيمان؛ وينشر الفكر الإلحادي؛ فالحياة الآخرة عنده ما هي إلا
ترهات، وأنه لا حكمة من وجود الحياة الأخرى؛ فهو بهذا لا يعدو أنه يكرر ما
قاله الأقدمون من مثل أبيقور الذي قال: (إن الحياة مهزلة فيها من الخبل ما يستحيل
معه أنه يكون قد أبدعها عقل إلهي) وأن الهدف من الحياة تحصيل اللذة والتعبير عن
الألم كما يقول به محفوظ في كتابه هذا، ومثل ما قاله أحد فلاسفة العصر الحديث
(شو بنهور) الذي صرح بأنه كان يفضل أن يترك في السكينة وسلام العدم من أن
يوجد في هذه الحياة التي ليس لها أي مغزى أو معنى سوى ما بها من شقاء [1] .
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الإلحاد في قوله تعالى: [وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ
أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ
إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] . [الأحقاف: 17] .
وقوله تعالى: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)
فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ] [المؤمنون: 115، 116] .
أما ادعاء محفوظ بأنه لا توجد حكمة للخلق فقد رد القرآن الكريم على ذلك في
قوله تعالى: [وَهُوَ الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى
المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (هود: 7) وقوله تعالى: [إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن
نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2] ) [الإنسان: 2] .
وأن من مقتضى ذلك أن يكون هناك حياة أخرى ليتم التحقق من اجتياز هذا
الابتلاء؛ ولهذا أوضح الله ذلك في قوله تعالى: [أُوْلَئِكَ الَذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ وَالإنسِ إنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا
عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ] [الأحقاف: 18-20] ، وأن
جحود الحياة الآخرة وعدم الإيمان بها يعود في نفس كل من لا يؤمن بها إلى ما
ذكره الله سبحانه في قوله: [وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُراباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ
(67) لَقَدْ وعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] .
[النمل: 67-68] .
إن الحكمة من وجود الحياة الأخرى هو ما ذكره الله تعالى في قوله: [إنَّ
رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] [السجدة: 25] . وقوله
تعالى: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ] [ص: 27-28] .
ثانياً: زعم أن الحياة مصادفة عمياء، وأن الإنسان ما هو إلا ابن المصادفة،
وأنه لا هدف من خلق الإنسان ولا غاية في موته؛ حيث يصبح بعد موته كأنه لم
يكن. ولقد أفصح عن ذلك فيما قاله في صفحة (24) تحت عنوان لا تصدق ما
نصه: (قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني رجل قال لي: لا تصدق؛ ما أنت إلا
ابن الصدفة [2] العمياء وصراع العناصر.. بلا هدف جئت، وبلا هدف تذهب؛
وكأنك لم تكن. فقلت له: سبق أن صدق أبوك ما لا يجب تصديقه فخسر الراحة
والنعيم) ، والراحة والنعيم في فكر نجيب محفوظ حسب ما أشار إليه في مواقع
كثيرة في كتابه: (أصداء السيرة الذاتية) هو الاستمتاع باللذة والمتعة الجنسية؛ فهو
يقول في الصفحة نفسها موضحاً هذه الفكرة: (رأيت الشيخ عبد ربه التائه ماشياً في
جنازة، ولعلمي بأنه لا يشيّع إلا الطيبين انضممت إلى صفه حتى صلينا عليه معاً،
ثم سألت الشيخ عنه، فقال: رجل نبيل؛ وما أندر الرجال النبلاء ... أبى رغم
طعونه في العمر أن يقلع عن الحب حتى هلك) .
وهذا الحب الذي أشار إليه نجيب محفوظ يقصد به ما جاء في الصفحة 52
تحت عنوان: (الفائز) : (قال الشيخ عبد ربه التائه: ذاع في الحارة أن المرأة
الجميلة ستهب نفسها للفائز، وانهمك الشباب في السباق بلا هوادة، ومضى الفائز
إلى المرأة، ثملاً بالسعادة، مترنحاً بالإرهاق، وعند قدميها تهاوى قريناً للوجد
فريسة للثغب، وظل يرنو إليها في طمأنينة حتى لعب النعاس بأجفانه) وقد أفصح
عن ذلك بشكل أكثر وضوحاً في صفحة 27 بقوله: (لم يكن الشيخ عبد ربه التائه
يخفي ولعه بالنساء ولذلك قال: الحب مفتاح أسرار الوجود!) وفي موضع آخر
تحت خطبة الفجر صفحة 29 يقول ما نصه: (قال الشيخ عبد ربه التائه لسمار
الكهف: أسكت أنين الشكوى من الدنيا، لا تبحث عن حكمة وراء المحير من فعالها، وفر قواك لما ينفع، وارض بما قسم، وإذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحب
والنغم) ! .
ويحدد نجيب محفوظ سر الوجود بأنه الزمن؛ فهو القوة المسيطرة. يقول
تحت عنوان: (الزمن) صفحة (29) : (قال الشيخ عبد ربه التائه: يحق للزمن أن
يتصور أنه أقوى من أي قوة مدمرة، ولكن يحقق أهدافه دون أن يسمع له صوت)
إن ما يردده نجيب محفوظ حول الزمن ما هو إلا الفكر القديم المتجدد الذي أشار إليه
القرآن الكريم في قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ وَمَا
لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ] [الجاثية: 23، 24] وقوله تعالى: [زُيِّنَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] [البقرة: 212] .
ثالثاً: الصوفية الغارقة في الحلولية هي السمة البارزة التي يتصف بها فكره
الديني التي يدعو إليها في كتابه: (أصداء السيرة الذاتية) وهذه الصوفية الحلولية
مرتبطة بالمفهوم الوجودي الفلسفي، ونجد ذلك في أقوال عديدة أفصح عنها في
كتابه هذا، ومن ذلك ما نصه: (قال الشيخ عبد ربه التائه: في الكون تسبح
المشيئة، وفي المشيئة يسبح الكون) . وقوله: (قال الشيخ عبد ربه التائه: لولا
همسات الأسرار الجميلة السابحة في الفضاء لانقضّت الشهب على الأرض بلا
رحمة) ، وقوله: (أصابتني وعكة فزارني الشيخ عبد ربه التائه ورقاني، ودعا لي
قائلاً: اللهم مُنّ عليه بحسن الختام؛ وهو العشق) .
وقوله: (قال الشيخ عبد ربه التائه: كنا في الكهف نتناجى حين ارتفع صوت
يقول: أنا الحب لولاي لجف الماء وفسد الهواء وتمطى الموت في كل ركن) .
إن هذا الفكر الذي يدعو إليه نجيب محفوظ والذي تسهم اليونسكو وبعض
الصحف العربية بنشره من خلال تقديمه للقارئ العربي من خلال هذا الكتاب
بدعوى أنه فكر إبداعي إنما هو فكر تخريبي يجب أن تقف الأمة ممثلة في الجهات
المختصة في مختلف أنحاء الوطن العربي لتقويمه؛ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين
لله.
__________
(1) دروس في الفلسفة، للدكتور محمد كمال جعفر.
(2) استخدام كلمة الصدفة من الأخطاء الشائعة التي وقع فيها نجيب محفوظ، والكلمة الصحيحة المعبرة في هذا المجال هي: (المصادفة) .(129/56)
البيان الأدبي
مفاوضة
علي محمد الغريب
(صالة تتوسط ثلاث حجرات ومنافعها.. يرفع الستار فنجد أسرة أبي عطية
المكونة من أبي عطية وأم عطية والابن عطية، قد جلسوا أمام التلفزيون، وقد
انصرف انتباههم لما يعرض على الشاشة، نسمع لغطاً وأصواتاً متداخلة تنبعث من
التلفزيون، ولكننا لا نستطيع تمييزها.
الجميع آخذون أماكنهم، وبيد كل منهم مشروب ساخن.. يُسمع صوت شخير
حاد.. الجميع يصغون للصوت، وينظر بعضهم لبعض) .
أبو عطية: (ينظر إلى زوجته ويتساءل في دهشة) : أنت؟ !
أم عطية: (تهز رأسها بالنفي، وقد عقدت الدهشة لسانها) .
أبو عطية: (لعطية) أنت؟ ! (عطية يهز رأسه نافياً) .
أم عطية: (لأبي عطية) أنت؟
أبو عطية: كيف وأنا مستيقظ يا امرأة؟
أم عطية: ولماذا سألتني مع أنك تعلم أني مستيقظة؟
أبو عطية: زيادة في التأكد من الجائز أن تشخري وأنت مستيقظة.. من
يدري.. ربما!
أم عطية: أنا التي أشخر وأنا مستيقظة، أم أنك الذي تزعجنا بألحانك النشاز
طوال اليوم؟
أبو عطية: (بغضب) أنا يا امرأة؟
أم عطية: (محتدة) نعم أنت.
عطية: (يتدخل) يا جماعة.. يا أبي.. يا أمي.. اهدآ من فضلكما.
أم عطية: ألم تسمع ما قاله أبوك؟
عطية: اهدئي يا أمي، فلا أنت التي تشخرين، ولا هو الذي يشخر.
أبو عطية: إذاً أنت.. لماذا لم تقل ذلك من البداية يا قليل الأدب؟ !
عطية: لا أنا، ولا أنتما يا أبي.
أبو عطية: لا بد أن أحدنا يشخر.
عطية: قلت لا أحد منا، لسبب واضح وهو أننا مستيقظون، فلو أن أحدنا
شخر لاكتشف الاثنان الآخران صوت شخيره، ثم.. أصغيا قليلاً.. هناك شخص
رابع بالشقة يا جماعة.
الاثنان: (مبهوتان) شخص رابع!
عطية: نعم (يمد يده ويطفئ التلفزيون) استمعا جيداً (يصغيان للصوت) .
أم عطية: بسم الله الرحمن الرحيم.. يمكن أن يكون جاناً؟
عطية: لا يا أمي إنه صوت إنسان.. ثم إنه ينبعث من ناحية حجرتَيِ النوم.
أبو عطية: من حجرتَيِ النوم؟ أيهما؟ .. لعلها حجرتك يا عطية (يضحك) .
عطية: من حجرتي؟ هذا احتمال ضعيف، لكنه على الأرجح ينبعث من
حجرتكما.
أبو عطية: وما يدريك يا ملك الفراسة؟
عطية: (يحرك يديه؛ وعيناه في حركة ذات معنى) لأن حجرتكما بها الخزانة
و (الرزم) و.. و.. وصندوق المجوهرات يا أمي.
أم عطية: (تصرخ) كله إلا المجوهرات.
أبو عطية: تقصد أن هذا لص؟
عطية: بالضبط.
أبو عطية: أعوذ بالله منك.. يا ابن أم عطية!
أم عطية: ماذا تقصد يا رجل؟
أبو عطية: لا شيء.. لا شيء.
أم عطية: (مرتبكة) إذاً تحركا.. ألستما رجلين.. أخرجا هذا اللص من بيتنا
(تبكي) مجوهراتي.. يا ويلي!
أبو عطية: لا تنوحي.. فأنت تريدين جنازة تشبعين فيها لطماً.
أم عطية: لن أنوح ولكن تصرّف.. قم إلى هذا اللص وأخرجه من بيتنا.
أبو عطية: ولِمَ أتحمل المخاطرة وحدي.. فربما كان مسلحاً.. لِمَ لا نحاول
إخراجه جميعاً؟
عطية: (ينهض ويتجه نحو الحجرة) لا بد أن نتصرف ونعمل شيئاً يا أبي.
أبو عطية: (خائفاً) ط ط طبعاً.
(عطية ينظر من فرجة في باب الحجرة فيجد اللص نائماً على فراش أبيه
وأمه، يشير لأبيه بيده وعيناه ما زالتا على الفرجة) .
عطية: (ينادي في صوت خفيض) أبي تعال إنه نائم ومستغرق.. لا تخف.
(أبو عطية يتقدم في خوف بينما أم عطية قابعة في مقعدها تضرب كفاً بكف
وهي خائفة) .
أبو عطية: (يحاول أن ينظر من الفرجة) دع.. دعني أنظر إليه.
عطية: (يتنحى عن مكانه) لا تحدث صوتاً لئلا يصحو.
أبو عطية: لا تخف (يضحك ضحكة مكتومة) صندوق مجوهرات أمك في
حضنه (يشير بيده لأم عطية) تعالي لتري مجوهراتك في حضن اللص.. لقد قرر
أن يأخذها.
أم عطية: (تتقدم نحوهما وهي منزعجة) مجوهراتي.. أخذ مجوهراتي؟ !
أبو عطية: نعم تعالي وانظري بنفسك (يخلي لها المكان) .
أم عطية: (تنظر من الفرجة) مجوهراتي! ! ربنا ينتقم من الظالم.. ولكن
انظر إلى (الرزم) التي إلى جواره.. لقد فتح الخزانة واستولى على ما فيها.
أبو عطية: (منزعجاً) لا لم يحصل إلا على مجوهراتك فقط.
أم عطية: بل إنه فتح الخزانة وأخرج ما فيها.. امسح نظارتك لترى بنفسك.
أبو عطية: (ينظر من فرجة الباب) صحيح.. آه ... يا لك من مجرم!
أم عطية: وماذا سنفعل الآن؟
أبو عطية: لنفكر!
عطية: (متحمساً) الأمر لا يحتاج إلى تفكير.. لا بد أن نقتحم عليه الحجرة،
ثم نسترد مالنا ومجوهراتنا ونسلمه للشرطة.
أبو عطية: وإذا استيقظ وقتلنا جميعاً؟
عطية: لن يستطيع؛ لأننا أصحاب الحق.. لو استيقظ من نومه ورآنا فجأة
أمام عينيه لمات من الرعب.
أبو عطية: أنت ما زلت صغيراً وطائشاً.. دعنا نفكر في حل أحسن من هذا
الكلام الفارغ.
أم عطية: اسمع كلام أبيك يا عطية.
عطية: نحن أصحاب الحق.
أبو عطية: لو نظرت من الفرجة جيداً، لرأيت أمارات الشر بادية على
وجهه.. ثم انظر لهذا السكين الكبير الملقى إلى جواره (يشير بيده في خوف) لو
استيقظ وأمسكها لقضى علينا.
عطية: سأقتحم الحجرة، ولا عليكما (يهم بوضع يده على المزلاج فتمسكه
أمه) .
أم عطية: (في رجاء) أرجوك يا عطية.. اسمع كلام أبيك.. إنني أخشى
عليك منه يا بني.
عطية: (مغيظاً) يعني أن نقف نتفرج عليه وهو يغط في نومه في فراشنا وقد
سرق مالنا؟ لا.. لا يمكن أبداً.
أبو عطية: (يعنفه وهو خافض صوته) دعك من هذه العنتريات.. بلا خيبة.. دعنا نفكر في حل.. الوقت يمضي، واللص إذا أخذ كفايته من النوم استيقظ
وقتلنا، ثم يأخذ مالنا ومجوهراتنا ويرحل (لأم عطية في نبرة ذات مغزى)
مجوهراتنا.. هيه.. مجوهراتنا يا أم عطية.. أليس كذلك؟
أم عطية: (خائفة) بلى.. بلى يا أبا عطية مجوهراتنا جميعاً.
أبو عطية: إذاً دعونا نفكر في حل (يتجه ناحية المقاعد ثم يجلس) .
أم عطية: (تجذب عطية المتسمر في مكانه من يده) تعال.. تعال يا عطية
(يجلسون جميعاً) .
عطية: (يحمل ذقنه على راحتيه) هيه.. تفضلا.. هاتا ما عندكما من أفكار.
أبو عطية: لا تجلس لنا هكذا كالقرد.. ولا تعقد الأمور.. استرخِِ، استرخِِ
حتى نتوصل لحل.
عطية: (يتصنع الاسترخاء ويرسم ابتسامة على وجهه) هأنذا قد استرخيت.
أبو عطية: أحسنت.. لنفكر إذاً (لحظة صمت قصيرة) اسمعوا لقد وجدت
مخرجاً من هذه الورطة.
أم عطية: (متلهفة) خيراً يا أبا عطية.. قل ما هو بسرعة.
أبو عطية: سنقوم بعمل معاهدة مع هذا اللص لنخرج من هذا المأزق بأقل
الخسائر.
عطية: (يضحك رغماً عنه) رائع.. ثم نسميها معاهدة (كامب) أبو عطية.
أبو عطية: (يوبخه) تمزح.. تمزح يا فالح.. هل هذا وقته؟
أم عطية: أنت غلطان يا عطية.. اعتذر لأبيك.
عطية: أنا آسف.
أبو عطية: (يتابع) سنكتب لهذا اللص رسالة، نخبره أننا سنتنازل له عن
جزء من مالنا مقابل السلام، وليكن هذا الجزء من المجوهرات مثلاً.
أم عطية: ولِمَ لا يكون من النقود؟
أبو عطية: نحن نريد أن نحل الموقف بسلام، ثم لا فرق بين المجوهرات
والنقود، ألم تعترفي منذ قليل أن المجوهرات مجوهراتنا جميعاً؟
أم عطية: بـ بـ بلى، ولكن هذا ظلم.
أبو عطية: هذه هي الطريقة الوحيدة.
أم عطية: ولِمَ لا تكون من النقود والمجوهرات معاً؟
أبو عطية: هذااقتراح وجيه (يسحب ورقة وقلماً من فوق المنضدة ويبدأ في
كتابة الرسالة.. الجميع مشغولون بالرسالة.. يخرج اللص حاملاً المجوهرات
والنقود ويمر بهم في طريقه للخروج فيلمحونه) .
أبو عطية: (صائحاً) انتظر.. انتظر يا هذا.. لقد أوشكنا على الانتهاء من
صياغة المعاهدة.. لا تتعجل يا رجل (يخرج اللص) .
عطية: (في غيظ) قلت لكما لا بد من مواجهته (يخرج مندفعاً خلف اللص) .
أبو عطية: أرأيت ما سيفعله ابنكِ بتهور.. اجلسي لنراجع نص الرسالة قبل
أن يفر اللص.
ستار،،،(129/62)
نص شعري
الحليم حيران
فيصل الحجي
سَلِ الذين فهموا: ... أما لديكم حَكَمُ
يحكمُ في أمر لديـ ... ـه المبصرون قد عَمُوا؟
قالوا: لدينا حَكَمٌ ... مدرب.. مُعَلّمُ
إذا عرضت الأمرَ يأ ... تيك الجواب المُحْكَمُ
يا سيدي يا حَكَمُ ... هذا سؤالي المُبْهَمُ:
جاري (سعيدٌ) عالمٌ ... مطّلِعٌ.. مُخَضْرَمُ
موسوعةٌ في كلّ فـ ... نّ.. بالعلوم مُغْرَمُ
... وعقلُهُ جوهرةٌ ... بل للذكاءِ منجمُ
إبداعُهُ في كُتُبٍ ... بها يُضَاءُ المُعْتِمُ
... وفكرةٍ رائعةٍ ... تهفو إليها الأُمَمُ
وإن أردتَ المرشدَ الـ ... واعي فذاكَ العَلَمُ
كم عَلّمَ الأجيالَ.. كم ... من علمه قد غنموا.!
... علومُهُ كنوزُهُ ... لكنّ جاري مُعْدِمُ
يعيش في ضيقٍ توا ... رَتْ في سواه النّعَمُ
كأنما الأرزاقُ (صَيْدٌ) ... والتعيسُ (مُحْرِمُ)
... يسعى إليها جاهدا ... لكنها تنهزمُ
... لكنّ جاري (سالِماً) ... أحوالُهُ تبتسمُ
كأنما الأرزاقُ حو ... ل بابه تختصمُ
تسعى له.. وما سعى ... بل إنها تزدحمُ
لأنه بـ (الكُرةِ) الشم ... اء صَبّ مُغْرَمُ
أسطورة (النادي) وفي النـ ... ادي تشعّ الأنجُمُ
تأتي (المباراةُ) فيأ ... تي للسخاءِ موسِمُ
وإن يُحَقّقْ (هَدَفاً) ... تهطِلْ عليه النّعمُ
... سَيْلُ الهدايا دافقٌ ... كأنه عرمرمُ
... سيارةٌ جديدةٌ ... ومبلغٌ (مُحتَرمُ)
كأنما (الشيكاتُ) مو ... ج حولَه يلتطِمُ
أو أنها مِن حوله ... طَوْدٌ عَلا أو هَرَمُ
و (سالمٌ) لدى (سعيـ ... ـدٍ) جاهلٌ لا يفهمُ
لكنّ ذاك جائعٌ ... وإنّ هذا مُتْخَمُ
وذاك ظمآن.. وذا ... تهمي عليه الدّيَمُ
(الألْفُ) تأتيه ولا ... يأتي لذاكَ الدرهمُ
فيا عزيزي الحَكَمُ ... عقلي غَزَتْهُ الظّلَمُ
حيرانُ لا يدري فَقُلْ: ... كيف يكون الكَرَمُ؟
ما سِرّ هذا الحيفِ؟ ما ... تفسيرُهُ؟ ما الحِكَمُ؟
غمغمَ قاضينا وقد ... غامَتْ لديه القِيَمُ
وصاح مِن أعماقهِ: ... يا ليت رأسي قَدَمُ(129/66)
هذا سؤالي..
وفاء بنت عبد الله
قفا بأطلالِ عزيزٍ رَحَلْ ... قد فعل الدهر بها ما فَعَلْ
وأسبلا الدمع وجودا به ... فإن المنى والليالي دُوَلْ
فجابة السؤال الذي طالما ... أكسف بالي وبنفسي اعتملْ
تريكما أن الذي رُمْتُهُ ... مما ظننتم أي وربي أجلّ
هذا سؤالي صغتهُ من أسى ... وصاغ قلبي قطعة من كللْ:
ما قلعة ينثال منها السنا ... تسكن بالعزة أعلى زحلْ
قريبة مما يحب الهدى ... بعيدة عما يُثير الزَللْ
غراء يجري الماء في روضها ... ماء التقى القراح منذ الأزلْ
لكنها سرعان ما غرّها ... حبّ الدنا الجمّ وطول الأملْ
وضعضعت أركانها غفلةٌ ... وأسلمتها في دروب الوَحَلْ؟!
ما قلعة رجالها استأنسوا ... وأصحبوا همتهم ما سَفلْ
ملأى بهم ساحُ الغناء الذي ... شبّ عليه طفلهم واكتهلْ
والساح صفرٌ منهمُ في اللقا ... الخائفون من غرار الأمَلْ؟ !
ما قلعة نساؤها استرجلتْ ... ثم اشترت جرأتها بالخَجَلْ؟ !
فهندُها تُصغي لأبواق من ... يدرون بالتغريب كيف الحِيَلْ؟ !
ما قلعة أهدى لها خصمها ... سُمّاً زعافاً في كؤوس العسلْ
وإبلها تاهت وما أوردَتْ ... وسَعْدُها رامَ الكرى فاشتملْ؟ !
ما قلعة عاشت بنور الهدى ... شكرى، وكانت مضرباً للمثَلْ؟ !
كانت وكانتْ.. إنها أمتي ... واحسرتاه من مراد الجُمَلْ
ذي أمتي ما قلت أغلوطةً ... يعيا بها بين الورى من عقَلْ
كلا، فقصدي مثل شمس الضحى ... بل إنه يا ويح نفسي أدلّ
هذا سؤالي روضُهُ مُمْحلٌ ... وجرحهُ في خافقي ما اندملْ
أُسْمعهُ في أملٍ أمتي ... ولا أبالي بدموع المقلْ
لعلها تُرجع أمجادها ... فالروح في أحنائها لم تزلْ(129/67)
المسلمون والعالم
من يطفئ الأمل ... في أفغانستان؟ !
د. طارق العولقي
مدخل:
الصراع الأفغاني الذي اندلع إبان القضاء على الحكم الشيوعي في أفغانستان،
جعل المسلمين ينقسمون على أنفسهم في فهم أسباب النزاع أو في أهدافه، وقد
قدمت تحليلات كثيرة ولكنها لم تضع يدها على الأسباب الحقيقية والكاملة للصراع،
وبالنظر إلى أن فهم ما يدور الآن في أفغانستان، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتفصيلات
النزاع الذي وقع بعد تحرير كابل، فإننا بحاجة إلى تحليل مترابط وواضح يجلّي لنا
خلفيات تلك الفصول الأخيرة من القضية التي اجتمعت حولها قلوب المسلمين في
العالم في يوم من الأيام بما لم يحدث مع أي قضية أخرى، ونريد أن نؤكد من
البداية أن قضية الجهاد الأفغاني لم تنته بعد، والدروس المستفادة منها لا ينبغي أن
تدفن تحت أكوام التجاهل والنسيان بمجرد مرور سحابات سود فوق سمائها مهما
كانت داكنة؛ فآلاف الشهداء وملايين المهاجرين والمشردين، وبلايين الأموال التي
أنفقت في صناعة الأحداث هناك، لا يمكن إهدارها وعدم اعتبارها لمجرد التعبير
عن موقف (احتجاج) من المسلمين الصادقين.
نعم إننا لا نسوّغ ولا يمكن أن نسوّغ الخطأ لأحد؛ فالخطأ مردود على
أصحابه مهما كانوا، ولكننا أيضاً لا ينبغي أن نشطّب على التجربة بكاملها بسبب ما
اعتور مسيرتها من خلل في بعض مراحلها، وأخطاء واضحة في نهاية مراحلها لا
يمكن اعتبارها مجرد اجتهادات.
ونحاول الآن أن نرجع بالقارئ إلى بعض النقاط المهمة التي ربما تكون قد
نسيت في معمعة الأحداث وتداخلها مما أوجد نوعاً من الضبابية المتشائمة واليائسة
من ترقب بصيص من الأمل لاستنقاذ ثمرات أو بعض ثمرات الجهاد الأفغاني
الطويل.
وإننا نذكر القارئ بتلك النقاط المهمة لكي نفهم معاً ما الذي حدث؟ وما الذي
يمكن أن يحدث في أرض الأمل الذي يراد له أن يضيع إلى غير رجعة؟
أولاً: جذور النزاع الداخلي:
من المعروف أن المجتمع الأفغاني مجتمع قبلي مختلف في أجناسه وأعراقه
ولغاته ولهجاته، وهذا يكرس العصبية القبلية على شكل يجعل منها مقياساً لكل
شيء في حياة الإنسان الأفغاني، ومعظم القبائل في أفغانستان تتحدث لغة (البوشتو)
وهي لغة تنتشر في جنوب وجنوب شرق وغرب أفغانستان، والقبائل التي تنطق
(البوشتو) كبيرة جداً إذا ما قورنت بقبائل الوسط والشمال، ولذلك فإن قبائل البوشتو
ينظر أهلها إلى أهل الولايات الشمالية والوسطى على أنهم أغراب عن المجتمع
الأفغاني؛ فمعظمهم نزحوا من بلاد طاجيكستان أو إيران أو تتراستان باحثين عن
الرزق، متنقلين وراء فرص الحياة الأفضل، وهؤلاء يتحدثون اللغة الفارسية،
ونظراً إلى أن هذه اللغة هي التي كتبت بها العلوم والثقافة لكون بلادها أكثر تقدماً
علمياً وصناعياً، فإن هذا جعل من قبائل الناطقين بها من أهل الشمال أقرب إلى
مراكز الثقافة والعلوم من سكان الأرض الأصليين البالغين نحو 65% من إجمالي
تعداد السكان الذين يحتلون نحو 60%من أراضي أفغانستان.
أما التعليم فنسبة المتعلمين من البوشتو (تعليماً دينياً ومدنياً) تبلغ 17% من
مجموع المتعلمين، بينما تصل نسبة المتعلمين من الطاجيك إلى نحو 80%.
ويلاحظ أيضاً أن التوزيع المذهبي فيه اختلاف؛ فبينما تنتسب قبائل البوشتو إلى
مذهب أهل السنة (على المذهب الحنفي) بنسبة 100% فإن نسبة أهل السنة من
الطاجيك لا تزيد عن 70% بينما ينتمي نحو 30% منهم إلى المذهب الرافضي
الاثني عشري، ويعطون ولاءهم لإيران.
إن هذا الاختلاف في طبيعة التكوين القبلي، أوجد نظرة شبه عدائية بين أهل
الشمال وأهل الجنوب؛ فالشماليون ينظرون إلى أهل الجنوب على أنهم (متخلفون)
ليست لهم ثقافة ولا حضارة فليسوا، إلا مجرد قبائل من الرعاة.
وبطبيعة الحال فإن الأوضاع المذكورة سهلت لأهل الشمال السيطرة على
مجريات الحياة بما لا يسمح لقبائل البوشتو أن تزاحمهم عليه.
أما ما يراه البوشتو ميزة لهم على الطاجيك فهو أنهم يمثلون الأكثرية العددية،
وأصحاب المواطنة الأصلية، وعندما يتعالى عليهم الطاجيك بثقافتهم يقول لهم
البوشتو: نحن الذين آويناكم من الظلم، وأنقذناكم من التشرد، فنحن أفغانستان،
واللغة الأفغانية التي يتحدث بها شعبنا (البوشتو) نسبت إلينا.
ثانياً: صراع القطبين على أرض أفغانستان:
لقد ألقت هذه الخلفيات ظلالها على الأحداث في تاريخ أفغانستان المعاصر؛
ففي أواخر عهد الملك ظاهر شاه (الطاجيكي) كان الخطر الشيوعي قد لاحت بوادره
في الشمال، وكان مدعوماً من الاتحاد السوفييتي (السابق) المتطلع إلى السيطرة
على أفغانستان للتسرب منها إلى جنوب غرب آسيا والتوغل إلى أواسطها؛ حيث
المياه الدافئة ومنابع النفط والدول الاستهلاكية.
وبينما كان السوفييت يضعون أعينهم على تلك الأهداف وهم يدفعون بالعملاء
الشيوعيين الأفغانيين، كان الأوزبك يرمقون تلك النوايا الشيوعية بعين الترقب
والحذر، الذي ترجم بعد ذلك إلى جهود مركزة للانقضاض على هذا المخطط
وإجهاضه.
والحاصل أن حلبة الصراع الدولي قد نصبت في شكل حرب باردة بين
السوفييت والأمريكان على أرض أفغانستان، ودار الصراع هناك على مرأى
ومسمع من الأطراف الدولية والإسلامية والعربية حيث فضل الكثيرون التمتع
بمشاهدة مباراة المصارعة بين القطبين الدوليين دون التورط في عنفها وتداعياتها.
ولم تلبث تلك الحرب الباردة في الخارج أن تتحول إلى حرب ساخنة في
الداخل، وذلك عندما خرج الملك (داوود) إلى وسائل الإعلام منتقداً بعض تعاليم
الإسلام؛ حيث أعلن عن تأييده لسفور المرأة وانتقد ما أسماه (عهود الظلام) التي
كانت تعيش فيها المرأة الأفغانية، معرّضاً بذلك بدين الإسلام نفسه، وسخر صراحة
من الزي الإسلامي للمرأة، وسخر من اللحية والقلنسوة بأسلوب مستفز مستنداً إلى
الدعم المفتوح من القوة الكبرى الثانية في العالم (الاتحاد السوفييتي) وزاد على ذلك
أن أعلن أن النظام الذي ستتبناه الدولة طريقاً للحكم هو (الشيوعية) .
وقد وقع هذا الكلام على جماهير العلماء والمثقفين الأفغان وقوع الصاعقة،
وأيقنوا أن أفغانستان وقعت فريسة في مخالب الدب الأحمر بالفعل، ولم يبق إلا أن
يفتح فمه لابتلاعها وهضمها، وعندها لم يتردد علماء الدين في اتخاذ القرارات في
أصعب الأوقات.. لقد أعلنوا الجهاد.
ثالثاً: موقف الغرب من الصراع:
كانت دول الغرب وعلى رأسها أمريكا أول من قرر التصدي للمد الشيوعي
في أفغانستان؛ لأن مصالحهم كانت تفرض عليهم ذلك، فالتقت بذلك إرادة الشعب
الأفغاني الرافض لسيطرة الإلحاد مع إرادة الدول الغربية الرافضة لمخطط الهيمنة
الماركسية على الدول المجاورة، ولكن عكّر على هذا الاشتراك في الإرادة والهدف
أن الغرب الصليبي الحانق على السوفييت كان حاقداً على الإسلام أيضاً؛ فهو لا
يريد أن يقال في يوم من الأيام إن الإسلام جدير بمواجهة الخطر الماركسي على
العالم، فإن هذا القول قد يأتي عليهم بخطر أكبر من الخطر الماركسي ذاته! !
لهذا قرر الغرب أن يخوض صراعاً مشتركاً مع الطرفين معاً: (الماركسية
والإسلام) ثم يتفرغ بعد ذلك للخطر الأكبر: (الخطر الأصولي) ! !
ولهذا فإن الغرب ألقى بثقله خلف الجهاد الأفغاني داعماً ومؤيداً، لا حباً
للأفغان أو الإسلام ولكن حرصاً على إسقاط المعسكر الشيوعي المناوئ عبر حروب
لا تكلف الغرب خسائر جسيمة.
رابعاً: طبيعية القبائل وطبيعة الأرض:
لقد أثرت طبيعة القبائل وطبيعة الأرض في طبيعة الحرب التي اندلعت فوق
ربوع أفغانستان؛ فالأراضي هناك ذات طبيعة جبلية، وكان لذلك أثره الواضح في
رسم معالم الصراع هناك؛ حيث تنتشر الجبال الشاهقة التي من أشهرها
(الهندكوش) وسلسلة جبال (الهملايا) من الجهة الشرقية، وهي امتداد لجبال
(الهملايا) مع الحدود الصينية والكشميرية؛ هذه الطبيعة الجبلية الرهيبة جعلت
للقبائل نفوذاً كبيراً على الأرض. وطبيعة المعركة أيضاً فرضت على القبائل
التدخل المباشر في القتال دفاعاً عن الإسلام الذي يرتبط بوجدان الإنسان الأفغاني
العادي، أو على الأقل حمية للأرض والدم والعرض والقبيلة والشرف.
وكان تدخل بعض القبائل في بعض الأحيان تدفع إليه عوامل مادية نفعية
وأحياناً انتهازية. مما جعل مشاركتها في الجهاد عبئاً عليه؛ لأن تلك القبائل كانت
تدخل معترك الجهاد دون أدنى إدراك لمعانيه وفقهه وروحه، وفي أحيان أخرى
كانت الأعراف القبلية تفرض على أفراد القبيلة أن يدخلوا الجهاد احتراماً لقرار قائد
القبيلة؛ فعندما يقرر الزعيم انحياز قبيلته للقتال في معركة ما، فلا يستطيع أحد
أفرادها أن يعارض ذلك، ولهذا فإن شريحة لا يستهان بها من المقاتلين كانوا
يقاتلون طاعة للقبيلة وإذعاناً لرغبتها وتنفيذاً لأوامرها، وهذا كان يحصل من
التعارض بين مصلحة القبيلة وقراراتها وبين المصلحة العامة للجهاد التي كانت
تحتم النزول على رأي قيادة موحدة تقود ذلك كله.
إذن؛ لم يكن بوسع قادة الجهاد من زعماء الأحزاب والفصائل الجهادية أن
يلزموا قادة القبائل في كل الأحيان بخط الجهاد، ولم يكن بوسعهم أيضاً أن
يستبعدوهم من المشاركة في الجهاد أو يمنعوهم من القتال معهم في المعركة
المصيرية التي تحتاج إلى كل جهد وكل مشاركة، ولم يكن ثمة وقت لتعليم تلك
القبائل فقه الجهاد وروحه؛ فالأحداث كانت تتسارع بما لا يدع فرصة لالتقاط
الأنفاس أو الوقوف مع النفس للتأمل والنظر والتنظير.
خامساً: تطور الجهاد ... إخفاق القيادة:
عندما بدأ الجهاد كان القادة الملمّون بالعلم الشرعي (المولويون) كثيرين نسبياً، ومع استمرار المعارك، استشهد العشرات منهم، ولم يبق من العناصر الجهادية
المنضبطة بأصول الشرع إلا القليل، وبرز منهم خمسة وهم: (سياف، ويونس
خالص، ورباني، وحقاني، وجميل الرحمن) على تفاوت بينهم رسوخاً في العلم
والمنهج أما القادة الميدانيون فكانوا رجالاً مجاهدين غير علماء، ولا شك أنهم قدموا
الكثير الكثير، وكانوا السواعد القوية للقادة المولويين، ومن هؤلاء القادة الميدانيين: (أحمد شاه مسعود) من قادة رباني (الجمعية الإسلامية) و (توربلية) و (سازنور)
من قادة سياف (الاتحاد الإسلامي) وخالد الشهيد من قادة حكمتيار (الحزب الإسلامي) . هؤلاء القادة وغيرهم، قام كثير منهم بعمليات كبيرة وقدموا تضحيات عظيمة،
وكان لهيب المعركة يغيبهم في أتونه الرهيب حتى إن منهم من لا يستطيع حلق
رأسه لعدة أشهر أو يغير ملابسه لعدة أسابيع، أو يتناول طعاماً عادياً لعدة أيام؛ كل
ذلك في مراحل الجهاد الأولى، ولكن الأحوال بعد ذلك بدأت تتغير، وهذا الزخم
الروحي الجهادي بدأت تطغى عليه عوامل الانشغال، خاصة بعد أن كبر حجم
المنظمات المجاهدة وكثر أتباعها، وتفرعت مكاتبها في العواصم المختلفة حتى
صارت كالسفارات، وقد فرض تعاظم حجم المنظمات عليها أن تنشئ لها فرقاً من
العاملين في الأنظمة المالية والإدارية والإعلامية والصحية، وكذلك ما كان بمثابة
نواة لأجهزة اتصال ومخابرات. لقد غدا كل تنظيم بمثابة دويلة صغيرة لها ما
للدولة من مقومات، وهذا كله أوجد الحاجة للوفاء بالتزامات مالية كبيرة كانت تصل
مع بعض الأحزاب إلى أكثر من 250 مليون دولار في السنة، هذا بخلاف تكلفة
شراء الأسلحة أو تصنيعها والإنفاق على المجاهدين وذويهم، وأدى كل هذا إلى
تعاظم المسؤولية الملقاة على عاتق القادة الأفغانيين الكبار.
سادساً: نشوء الفجوة بين القمة والقاعدة:
لقد أدى ذلك التطور في حركة الجهاد الأفغاني إلى نشوء فجوة قادت إلى جفوة
بين قادة الجهاد وشريحة العوام من الشعب الأفغاني، أولئك الذين هاجروا أو هُجّروا
إلى باكستان، ولم يعد القادة قادرين على متابعة شؤون هذه الجماهير مع متابعتهم
لشؤون المقاتلين على ساحة الجهاد، والمثال الواضح على ذلك كان في قطاع التعليم
والثقافة؛ حيث شمل فقر الإمكانيات ما يزيد عن 90% من الشعب الأفغاني المهاجر
وأعجزهم عن أن يوفروا لأبنائهم قدراً من التعليم أو الثقافة فترة الحرب، وقد
تزامن هذا مع تزايد تدفق الأموال على الجهاد والمجاهدين، فبدأت جموع الشعب
المهاجر تنظر إلى المنظمات الجهادية على أنهم مرتزقة يتكسبون من الحرب
ويتاجرون بآلام الشعب، وعليه فإنهم لا يريدون نهاية لتلك الحرب، واستولت على
بعضهم ظنون بأن كل قائد يتصرف كرئيس دولة، ويفعل ما يشاء في ميزانيات
ضخمة تخص تنظيمه. وظلت مشاعر السخط هذه شبه مدفونه إلى أن حركتها
الأحداث بعد ذلك عندما دُكت المدن وصُبت النيران على رؤوس المواطنين بعد
التحرير بسبب خلافات بين أولئك القادة. أضف إلى ذلك أن مشاعر العداوة القبلية
ظلت تحرك الضغائن وتزيد من غلوائها.
سابعاً: سُنّة التدافع تتجسد في أفغانستان:
لقد كان من تدبير الله أن يقف الغرب مع الجهاد الأفغاني وقوفاً مصلحياً فضلاً
عن دعم دول عربية وإسلامية، في البداية فزاد التعاطف الجماهيري الهائل وراء
جهاد الأفغان، وكان ذلك يصب في النهاية في اتجاه الانتقام الإلهي من إمبراطورية
الإلحاد.
وانتهت الحرب بانتصار الأفغان، وأعقب ذلك تفكك الاتحاد السوفييتي، وبدا
للدول الغربية أن الجهاد الأفغاني كان له دور هام في هذه النهاية التعسة لعملاق
الطغيان الإلحادي؛ فالشيوعية كُسرت في أفغانستان، وبدأت تنحسر في أنحاء
أخرى من العالم، وأصبحت كل المؤشرات تدل على مستقبل واعد للمد الإسلامي
يحل محل المد الشيوعي، وهنا صمم الغرب على أن يتحول الصراع في أفغانستان
من معركة لإخراج الشيوعية إلى معركة لإحراج الإسلام وزلزلة أركانه والحيلولة
دون تمكينه على أرضها. لقد كبر على الأوربيين والأمريكان أن يقال: إن الإسلام
أسقط القوة الإلحادية الكبرى في العالم، فقرروا أن يدبروا فصولاً أخرى بطريقة
أخرى في المعركة ... لقد قادوا حرباً مع المجاهدين عن طريق دعم القوى المناوئة
لهم، وبعد عامين أدركوا أن القضاء على قوة الجهاد مستحيلة، فزجوا بالأمم
المتحدة لكي توجد حلاً في أفغانستان لا يتعارض مع رغبات الغرب، وأعلن الأمين
العام للأمم المتحدة آنذاك (ديكويلار) أن لديه حلاً يتمثل في تنصيب مجلس حكم
لأفغانستان، يتشكل من أربعة عشر رجلاً، والعجيب أن هذا المجلس المقترح
يتكون من أعضاء يحملون الجنسية الأمريكية! ممن لم يكن لهم طيلة سنوات
الحرب أي اهتمام بالجهاد وهمومه؛ وبذلك ظهر للجميع أن أمريكا تريد حكومة
أفغانية في مظهرها، أمريكية في توجهها.
وبدا الضغط على المجاهدين حتى يسلموا رقابهم لهذا الحل المفجع، وكان من
الطبيعي أن يرفض قادة الجهاد هذا الحل، وأن يرفضوا التوقيع على أي من بنوده، بل إنهم أعلنوا أنهم سيرحبون بأعضاء الحكومة الجديدة على طريقتهم الخاصة،
وذلك برصهم جميعاً في صف واحد ثم رشهم بالرصاص ليتم بعد ذلك دفنهم في
أربعة عشر قبراً متجاورة.
ولكن الضغوط مورست تجاه هذا الموقف الصلب للقادة، حتى تُفَلّ حدته
وتلين شدته؛ فأمريكا استغلت الموقف الباكستاني الموالي لها، وطلبت من الحكومة
الباكستانية الضغط على بعض المنظمات الجهادية المرتبطة بها، وضغطت عليها
أيضاً بطريق غير مباشر، وبالفعل أقدمت بعض المنظمات على التوقيع على
الاتفاقية في باكستان، وبدأ التوقيع من (سميع الله) قائد الجماعة السلفية الأفغانية
خليفة الشيخ جميل الرحمن، وأعقبه في التوقيع رباني، ثم حكمتيار، وكان هؤلاء
القادة يستجيبون تحت الضغط على التوقيع، ويظهرون للناس يقينهم بأن الاتفاقية
فاشلة وغير قابلة للتنفيذ عملياً لأسباب عديدة منها تغير الأوضاع في البلاد بعد
سنوات الحرب الطويلة، ثم طبيعة الشعب الأفغاني الرافضة تقليدياً لكل وضع
يفرض عليه قسراً، وأظهرت الأحداث شدة ما وقع من ضغوط على القادة حتى
تسلسلوا في الاستدراج للتوقيع، ثم وقعوا جميعاً باستثناء قائد واحد أصر على
رفض الاتفاقية شكلاً ومضموناً وهو الشيخ عبد رب الرسول سياف.
انتقلت الدول الغربية من خلال الأمم المتحدة إلى خطوات عملية لتنفيذ الاتفاق
فبدأت الترتيبات لنقل أعضاء الحكومة المفروضة لتتسلم مقاليد الحكم، وتسارعت
الخطوات لتنفيذ بنود الاتفاقية الموقع عليها من جل القادة قبل أن يبدؤوا في التفكير
في وضع بدائل أو حلول أخرى تخرجهم من المأزق الذي وصلوا إليه.
وأدرك المجاهدون أن الغرب جادّ في إخضاع أفغانستان لسيطرة أمريكا
النصرانية بعد أن استنقذها الله بالجهاد من الحكم الشيوعي السوفييتي، وهنا اتخذ
القادة السياسيون والعسكريون والقادة الدينيون أيضاً قراراً استراتيجياً موحداً بدخول
كابل لقطع الطريق على أمريكا قبل أن تجني هي ثمار سنوات من الجهاد المر الذي
ذهب بما يقرب من مليوني شهيد، فضلاً عن آلاف المشردين والمهجرين
والمتضررين بشتى أنواع الضرر.
ثامناً: السقوط.. مع سقوط كابل:
لم تكن هناك وسيلة لدخول كابل إلا عن طريق مدينة جلال أباد؛ فجبال
أفغانستان الشاهقة لم تكن تسمح بدخول المدينة بسهولة من أي مكان آخر. وبعد
دراسة معطيات الواقع وضعت خطة الهجوم لفتح كابل؛ بحيث يهاجم حكمتيار من
الجهة الجنوبية الشرقية، وقوات مولوي حقاني وسياف ويونس خالص من الجنوب
الغربي، وقوات رباني بقيادة أحمد شاه مسعود من الشمال، (الشمال الشرقي لكابل)
وكانت الجبهة في شمال كابل عبارة عن بعض قوات للجيش الحكومي الشيوعي
تغلب عليها ميليشيات عبد الرشيد دوستم، وهو من مرتزقة الحرب، وقد حالف
الشيوعيين طيلة سنوات القتال، وهو من الطاجيك، ويتخذ من مزار شريف
عاصمة ولاية بدخشان مركزاً له في شمال أفغانستان؛ فقواته كانت تسيطر على
شريان الشمال وهو الطريق الواصل بين الاتحاد السوفييتي وأفغانستان وباكستان،
وقد هيأ له هذا الوضع نفوذاً كبيراً وقوة لا يستهان بها في إدارة المعركة حيث
طريق السلاح والعتاد والمؤن.
لقد حدث أن تحالف أحمد شاه مسعود مع دوستم ضد الشيوعيين، وسلمه
الأخير مناطق مهمة، وساعده في دخول كابل من جهة الشمال، وكان حكمتيار
يحارب في ذلك الوقت في جبهات الجنوب في معارك شرسة، حيث دارت رحى
قتال رهيب استشهد فيه أكثر من عشرة آلاف مقاتل قاتلوا ببسالة نادرة لفتح جلال
أباد طمعاً في الوصول منها إلى كابل من الجنوب.
فلما تم لأحمد شاه مسعود دخول كابل من الشمال بعد تحالفه مع دوستم، أُسقط
في يد حكمتيار، وهاله أن تكون كل التضحية منه ومن حزبه، وكل الثمرة لمسعود
وحزبه، لقد وقعت كابل في يد مسعود غنيمة باردة بينما كانت الجبهات الأخرى
مشتعلة في الجنوب والشرق والغرب، وقد سقطت بالفعل مدن من أجل تحرير كابل
في تلك الجبهات مثل (جرديز) ولكنها كانت تبعد كثيراً عن كابل، وكذلك سقطت
جلال أباد التي استمات الشيوعيون في الدفاع عنها حتى بعد سقوط كابل بيومين.
لقد كان سبق أحمد شاه مسعود إلى العاصمة يعني سبقه إلى السيطرة على كل
مرافق ومؤسسات الدولة كالمطار والطائرات والوزارات والمباني الحكومية
والمدارس والمستشفيات والمصانع ووسائل المواصلات والجسور ومحطات الطاقة
ومخازن الأسلحة؛ وبعد أن وضع يده عليها بالفعل كان حكمتيار لا يزال يقاتل في
الجنوب، وتفنى قواته في أتون معركة من أشرس المعارك في تاريخ الجهاد،
خاضها حكمتيار بإصرار لقطف الثمرة الأخيرة وفق الخطة الموضوعة.
وباختصار: يمكن القول إن حكمتيار دفع الفاتورة كاملة واستلم مسعود السلعة
كاملة، وقد كان هذا كافياً لأن يثير الشيطان بينهما الضغائن، ولكن ما زاد الطين
بلة أن مسعود عقد اتفاقية مع دوستم أفاض فيها عليه من التكريم والمكافأة ما أطار
لب حكمتيار؛ فقد كان من بنود الاتفاق بين أحمد شاه مسعود وعبد الرشيد دوستم أن
يضمن مسعود لدوستم السيطرة على الشمال، وأن يشارك في الحكم، وأن يستلم
حقيبة رئاسة الوزراء، وأن ينصب بعض رجاله في مواقع حساسة في الدولة.
ولكل هذا لم يستطع حكمتيار أن يقاوم إرادة التمرد على هذه النتيجة المحبطة
لآماله، وأصر على إسقاط التحالف بين مسعود ودوستم بأي وسيلة ممكنة ولو أدى
ذلك إلى استخدام القوة. وفي الحقيقة أن القادة الآخرين كانوا غير راضين عن
سياسة مسعود مع دوستم ولكنهم آثروا التريث حتى تستبين الأمور، وحتى لا
تضيع ثمرة النصر.
أما حكمتيار فقد ذهب بعيداً في التحرش بمسعود وحلفائه، بل ذهب إلى أبعد
من ذلك حيث اعتبر نفسه شريكاً رئيساً في النصر، وقد علل ذلك بأنه كان بوسعه
أن ينسحب من المواجهة بعد دخول أحمد شاه مسعود لكابل ويترك الفرصة للقوات
الشيوعية أن تدخلها من الجنوب فتستردها من يد مسعود ودوستم فينقلب الأمر، أما
وقد انصرف عن ذلك تنفيذاً للخطة المتفق عليها، فإن هذا يعد مؤازرة منه لمسعود، ومشاركة حقيقية في النصر الذي لم يحظ منه بأي ثمرة.
ولهذا لم يجد أي غضاضة في أن يطالب بوزارات ومؤسسات في الدولة،
منها حقيبة وزارة الدفاع؛ ولكن مسعود عارض مطالب حكمتيار ولم ير له ما يراه
لنفسه، وخاصة حقه في وزارة الدفاع، ثم إنه خشي إن إجابه إلى مطالبه أن يفقد
تأييد حلفائه الآخرين من الفصائل الشيعية التي تحالف مسعود معها أيضاً، والتي
كانت تضمر وتظهر كل العداء لحكمتيار، ومن جهة أخرى كان مسعود يواجه
ضغوطاً كبيرة من شريكه في اقتحام كابل (دوستم) .
تاسعاً: الفرصة السانحة لأعداء الجهاد:
في هذه الأجواء الملبدة والنفوس المعبأة وجد الغرب أن الفرصة مهيأة للقيام
بدور آخر؛ فبدأت أمريكا تلعب بورقة دوستم الطاجيكي المرتزق، وبدأت بالفعل
اللقاءات تتم على مستوى عال بين دوستم ومسؤولين أمريكيين على الحدود
الطاجيكية، وقد أدت تلك اللقاءات إلى دفع دوستم ميلشياته للتحرش بقوات حكمتيار، مما تطور إلى مناوشات ثم اشتباكات ثم معارك كبيرة بين الشيوعي المرتزق،
وبين واحد من قادة الجهاد الرئيسيين، واستغلت آلة الإعلام الغربية المسيطرة هذه
المعارك، وضخمت من تأثيرها لتحوّل دمعة الفرح الباردة بالنصر، إلى دموع
حارة ساخنة وساخطة على ما آل إليه الأمر بين رفاق السلاح بالأمس القريب؛
حيث تحولوا بسرعة إلى فرق تتصارع على السلطة والسيطرة.
لقد وقفت الشعوب الإسلامية التي تعاطفت مع الجهاد وساندته بصدق طوال
مسيرته، وقفت تراقب الأحداث بحسرة وفجيعة، وظل الناس مشدوهين وهم
يشاهدون على الشاشات وابل الصواريخ وهي تنفجر على رؤوس المدنيين في
المدن المحررة، ودندنت الإذاعات الدولية حول التبشير بحرب أهلية شاملة في
أفغانستان، وظلت الأجهزة العالمية المغرضة في البلاد العربية تطنطن حول
المعاني التي يريد الغرب الحاقد بثها عن ما يسمى بـ (الأصولية الإسلامية) .
لقد نجحت الفتنة في تلويث سمعة الجهاد، ونجح (المجاهدون) في إعطاء
المسوغات الكافية لأعداء الإسلام للطعن فيه من خلال سلوكهم الذي لم ينضبط
للأسف بضوابط الدين الحنيف الذي قاموا من أجله.. ففي غمرة الاختلاف والفتنة
تجاهل المقاتلون جهود الوساطة والصلح، وتناسوا الهدف الذي قاتلوا من أجله،
وغضوا الطرف عن شماته الأعداء في كل الأرجاء، وجرحوا الأمة في مشاعرها
بل أدموا قلوبها حسرة على نصر طال انتظاره ثم عجل بانكساره.
حركة طلاب العلم:
في تلك الأجواء.. تكونت.. ثم تجمعت.. ثم تحركت.. ثم خرجت حركة
طلاب العلم (الطالبان) .. فمن هم الطالبان؟ ومن الذي حركهم؟ وما هي أسباب
نجاحهم الساحق على ساحة النزاع في مراحله المتأخرة؟ وما هو التقويم المبدئي
لمسيرتهم منذ بدأوا؟
هذا ما سنتعرض إليه.. إن شاء الله في لقاء قادم. والله المستعان.(129/68)
المسلمون والعالم
أثر المراكز الفكرية على السياسة الخارجية الأمريكية
د. باسم خفاجي
تعكس هذه الدراسة أهمية الدور الذي تلعبه المراكز الفكرية في صياغة
وتوجيه السياسة الخارجية في الإدارة الأمريكية، كما يظهر من بحث هذا الموضوع
أن اللوبي اليهودي قد نجح في توفير عدد من المؤسسات الفكرية المتخصصة في
شؤون الشرق الأوسط. وتزود هذه المراكز السياسيين في واشنطن بالبحوث
والدراسات في كافة أمور السياسة الخارجية دون منافسة تذكر في ذلك من قبل
المؤسسات الفكرية الإسلامية التي تعد على أصابع اليد الواحدة، وتفتقر إلى
القدرات المالية والبشرية التي تسمح بالمنافسة الحقيقية في مجال الأفكار والرؤى،
ولذلك لا بد للإسلاميين من السعي الجاد نحو تكوين العديد من المراكز الفكرية
القادرة على مواجهة سيل البحوث والدراسات المعادية للإسلام والتي تعج بها ساحة
السياسة الخارجية الأمريكية، وعندها فقط يمكننا أن نحاول إعادة التوازن إلى
الرؤى الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، والله غالب على أمره ولو كره المشركون.
أثر المراكز الفكرية:
تتأثر القيادات السياسية في العالم بما يقدم لها من دراسات وأبحاث سياسية
وفكرية، ومن المفيد دراسة العلاقة بين القيادات السياسية وبين الجهات التي تتولى
تقديم النصح لها لمعرفة كيف يصنع القرار السياسي في دولة ما [1] ، وقد انتشرت
مراكز الأبحاث الفكرية والسياسية في الولايات المتحدة بشكل كبير منذ بداية
السبعينات من القرن الميلادي الحالي، وظهر تأثير هذه المراكز في صناعة القرار
الخاص بالسياسة الخارجية الأمريكية بشكل واضح وملموس في السنوات الأخيرة.
ويبلغ عدد المؤسسات الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية حسب آخر
الإحصاءات ما يزيد على 1200 مركز ومؤسسة، وأغلب المراكز الفكرية في
أمريكا هي مؤسسات غير ربحية تضم مجموعة متخصصة من الأكاديميين
والسياسيين الذين يشتركون في الاهتمام بمجموعة من المواقف والقضايا السياسية
العامة، ويعملون بشكل منظم من أجل التعريف بهذه القضايا، وزيادة الوعي
بجوانبها المتعددة، وفيما عدا ذلك القاسم المشترك، فإن الكثير من الأكاديميين قد
وجدوا صعوبة في وضع تعريف محدد للمراكز الفكرية في أمريكا، بل إن بعض
الباحثين يرى عدم إمكانية وجود تعريف واحد يجمع ويشرح دور وأهداف كل هذه
المؤسسات.
ويقسم الباحثون المراكز الفكرية في أمريكا إلى ثلاثة أنواع: جامعات بلا
طلاب (أي مؤسسات تقدم الأبحاث الأكاديمية المتخصصة في القضايا السياسية)
ونشأت هذه النوعية في بدايات هذا القرن ومنها (مجلس العلاقات الخارجية) الذي
تطور ليصبح أبرز المراكز الرسمية المتخصصة في العلاقات الخارجية وتصدر
عنه دورية مشهورة هي (شؤون خارجية) وهو يهتم بدراسة المشكلات التي تقابل
المجتمع الأمريكي داخلياًً وخارجياًً وتقديم الحلول لها، ومؤسسات استشارية (وهي
المراكز التي تقدم حلولاً علمية وخطوات تنفيذية واستثمارات متخصصة للتعامل مع
المشكلات السياسية التي تعرض للإدارة الأمريكية) ، ونشأت بعد الحرب العالمية
الثانية. مراكز ضغط سياسية (وهي المراكز الفكرية التي تستخدم الدراسات
والبحوث والوسائل الأخرى كطرق ضغط مباشر على الإدارة الأمريكية للتأثير على
صناعة القرار السياسي فيها) . وحدثت هذه المراكز في السنوات الأخيرة. ويجمع
أكثر الباحثين على أن السنوات الأخيرة قد شهدت تنامياً كبيراً في النوع الثالث من
المراكز الفكرية التي تعمل كمؤسسات ضغط سياسية في مقابل تناقص عدد المراكز
الفكرية المتخصصة في البحث العلمي والأكاديمي.
وقد أبدت هذه المؤسسات الجديدة رغبة واضحة في ممارسة الضغط السياسي
للوصول إلى تغيير توجهات السياسة الأمريكية بما يخدم أهداف هذه المؤسسات.
ولعل من أبرز هذه المؤسسات الفكرية التي دعمت هذه الاتجاه الجديد هي مؤسسة
التراث Heritage Foundation التي ارتبطت بالتيار المحافظ في عهد الرئيس
الأمريكي ريجان [2] .
كما ظهر في الوقت نفسه مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية، Center
for Strategic and International Studies الذي ضم بين أعضائه نخبة
من الشخصيات السياسية البارزة من بينها زبيجنيو بريجنسكي، وهنري كيسنجر،
وهارولد براون، ولعل من أبرز المراكز الفكرية من هذا النوع الثالث (مؤسسات
الضغط السياسي الفكرية) الخاصة بالشرق الأوسط: معهد واشنطن لسياسات الشرق
الأدنى، Washington Inslitule For Near East Policy الذي أنشئ في
عام 1985م ليتبنى الدفاع عن المصالح السياسية الإسرائيلية ودفع قضايا واهتمامات
إسرائيل في الإدارة الأمريكية، كما ظهر في السنوات الأخيرة أيضاً (المعهد
اليهودي لشؤون الأمن القومي) Jewish Institute for National Security
Affairs الذي يعمل كغطاء للدعاية لإسرائيل في المجالات العسكرية والاستشارات
الأمنية.
العلاقة بين المراكز الفكرية والإدارات الأمريكية:
يذكر بريجنسكي في مذكراته أن أغلب مناصب الشؤون الخارجية في الإدارة
الأمريكية في عهد كارتر كانت من نصيب خبراء المراكز الفكرية، فمن بين
الشخصيات المعروفة في مركز (الثلاثي الجانبي الفكري) Trilateral
Commissioners التي تولت مناصب سياسية هامة في عصر كارتر كان هناك
سيروس فانس وزير الخارجية، وأندرو يانج سفير الولايات المتحدة في الأمم
المتحدة، وزيبيجنيو بريجنسكي مساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي. كما عمل ما
يزيد عن 55 خبيراً من مجلس العلاقات الخارجية Council on Forergn
Affairs في إدارة كارتر، وكان من بينهم فيليب حبيب مساعد وزير الخارجية،
وستانزفيلد تيرنر مدير وكالة المخابرات المركزية.
أما في عهد ريجان فقد عمل أكثر من 200 خبير من خبراء المراكز الفكرية
الأمريكية في الإدارات المختلفة للحكومة الأمريكية، كان من بينهم أكثر من 55
خبيراً من معهد هوفر Hoover Institute و 36 من مؤسسة التراث، و34 من
المعهد الأمريكي للاستثمار Amcrican Enterprise Institute و32 من لجنة
الأخطار الحالية Comnritiee On the Prescnt Danger و 18 من مركز
الدراسات الدولية والاستراتيجية Center for Strategic and
International Studies [3] .
أما في عهد كلينتون فقد استمرت الاستفادة من خبراء المراكز الفكرية في عدد
من الوزارات والمناصب العليا في الإدارة الأمريكية، ولكن اختلف هذا المعهد عن
سابقيه بظهور الذراع الفكري الإسرائيلي في واشنطن، وهو معهد واشنطن
لسياسات الشرق الأدنى، Washington Institute for Near East Policy
كقوة مؤثرة في السياسة الخارجية الأمريكية، وقامت إدارة كلينتون باختيار مدير
المعهد السابق مارتن إنديك ليشغل منصب مدير شؤون الشرق الأوسط بمجلس الأمن
القومي، ولكي يتولى تمثيل وجهة النظر الأمريكية في مباحثات السلام، وصياغة
سياسات الشرق الأوسط.
تمويل المؤسسات الفكرية:
تتميز المؤسسات الفكرية الأمريكية بميزانياتها الضخمة مقارنة بالمراكز
الفكرية في باقي أنحاء العالم. ويذكر أحد السياسيين الأمريكيين السابقين أن إجمالي
الميزانية السنوية لأكبر عشر مراكز فكرية في أمريكا تتجاوز 500 مليون دولار.
ويتم تمويل معظم هذه المؤسسات من الهبات والمنح التي تقدم للمراكز سواء من
أفراد أو مؤسسات خيرية أو الحكومة الأمريكية التي تتعاقد مع المراكز الفكرية للقيام
بأبحاث معينة مقابل مبالغ مالية محددة.
أثر المراكز الفكرية على السياسة الخارجية:
ينقل الأستاذ أحمد منصور في كتابه: (أضواء على السياسة الأمريكية في
الشرق الأوسط) رأي الدكتور روبرت كرين مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق
نيكسون في أثر المراكز الفكرية على السياسة الخارجية الأمريكية فيقول: تلعب
هذه المراكز دوراً هاماً في الانتخابات الرئاسية فضلاً عن انتخابات مجلس الشيوخ
والنواب، إلا أن دورها في الانتخابات الرئاسية أخطر، ولا يستطيع رئيس
أمريكي الآن أو مستقبلاً الوصول إلى مقعد الرئاسة دون مساعدة هذه المراكز التي
كان لها دور بارز وملحوظ في وصول الرئيس كلينتون إلى السلطة رغم تفوق
الرئيس السابق بوش عليه من ناحية الخبرة والتاريخ السياسي [4] .
وتتعدد الوسائل التي تستخدمها المراكز الفكرية في التأثير على مجريات
السياسة الخارجية الأمريكية، وتختلف هذه الوسائل من مركز فكري لآخر، كما
أنها تتغير تبعاً لطبيعة القضية المطروحة، وملاءمة أسلوب بعينه للتعامل معها،
وكذلك نوعية المخاطب والرغبة المطلوبة في التأثير. وفيما يلي سرد لنماذج من
أبرز الوسائل التي تتبعها المؤسسات الفكرية للتأثير على صناعة قرارات السياسة
الخارجية الأمريكية:
مساعدة المرشحين في الانتخابات:
تقوم كثير من المراكز الفكرية بتقديم أفكارها إلى المرشحين للمقاعد النيابية
وكذلك لمناصب الإدارة الحكومية في محاولات مبكرة لاجتذاب مساندة المرشحين في
حال فوزهم في الانتخابات أو الترشيحات للمناصب الحكومية.
ولاستخدام هذه الوسيلة الفعالة فإن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى
Washington Institute for Near East Policy، يقوم كل أربع سنوات
بإعداد ورشة عمل يشارك فيها عدد كبير من السياسيين والأكاديميين لوضع مشروع
(التصور العام لسياسة الحكومة المقبلة تجاه الشرق الأوسط) . وتعد هذه الدراسة
بشكل عملي ومنظم، وتقدم إلى الإدارة الجديدة للبيت الأبيض مرفقة بتزكيات
الشخصيات السياسية الكبرى في أمريكا مما يعطي هذه الدراسة قيمة سياسية كبيرة.
وتمثل هذه الدراسة في حقيقتها ورقة ضغط مباشرة على الإدارة الجديدة لاتباع
سياسة محددة تجاه الشرق الأوسط تصب في الغالب في كل ما من شأنه خدمة
المصالح الإسرائيلية في المنطقة، وقد قدمت أحدث دراسة من هذا النوع في بداية
1957م، بعنوان: (العمل لبناء السلام والأمن في الشرق الأوسط: التصور
الأمريكي) ، وأرفقت بتزكيات وثناء أكثر من 40 شخصية سياسية من أعضاء
ورشة العمل. وتركز الدراسة على ثلاثة محاور رئيسة هي: الخليج العربي،
والعلاقات العربية الإسرائيلية، واتفاقات التعاون الثنائي مع الشركاء في المنطقة.
نشر الدراسات والأبحاث:
تهتم معظم المراكز الفكرية الأمريكية بنشر أبحاث دورية مختصرة حول أهم
القضايا المطروحة على قائمة اهتمام كل مركز، وإتاحة هذه الدراسات وإيصالها
إلى صناع القرار السياسي في أمريكا. ويؤكد الباحث الأمريكي هوارد ويراردا في
كتابه حول السياسة الخارجية [5] هذه النقطة قائلاً: (تتحرك الحكومة الأمريكية
عن طريق الرسائل والخطابات المكتبية، وإذا كان المسؤول في أي من وزارة
الخارجية أو الدفاع أو المخابرات المركزية أو مجلس الأمن القومي مطلعاً على
دراستك أو بحثك، وهذه الدراسة مفتوحة أمامه وهو يعد خطاباً لمديره أو حتى
للرئيس الأمريكي، فإن لديك فرصة ضخمة للتأثير عليه وهو يكتب هذا الخطاب
بأن يقبس بعض أفكارك أو تحليلاتك. وفي المقابل إذا لم تكن دراستك على مكتبه،
أو الأسوأ من ذلك إذا كنت لا تعرف هذا الشخص ولا تراسله بدراساتك وأبحاثك،
فلا توجد أي فرصة للتأثير عليه، إنها معادلة بسيطة وواضحة) .
والمتابع للمؤسسات الفكرية في أمريكا يجد عشرات الدراسات والأبحاث التي
تصدر كل شهر، وترسل مجاناً إلى مكاتب الساسة وصناع القرار من أجل تحقيق
هذا الهدف السابق، وهو الوصول إلى احتمالية التأثير على القرار الصادر عن هذا
السياسي. ويروي أحد المقربين من الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان أن الرئيس قام
بإعطاء نسخة من دراسة أعدتها مؤسسة التراث حول (خطة إقامة حكومة محافظة)
إلى كل عضو من أعضاء إدارته، وطلب منهم قراءتها [6] ، ويرى أحد الباحثين
لتلك الفترة أن 60% من هذا التقرير قد تم تنفيذه خلال فترتي رئاسة الرئيس
ريجان [7] .
ويقوم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، Washington Institute
for Near East Policy بإصدار عدد من الدراسات الدورية التي تتراوح بين
50 100 صفحة، حول القضايا الهامة المتعلقة بالشرق الأوسط، وترسل هذه
الدراسات إلى أعضاء الكونجرس، وكذلك إلى الإدارات والوزارات المهتمة بهذه
القضايا. كما يقوم المركز بإصدار أكثر من 40 شريطاً سمعياً كل عام تتضمن
تسجيل المحاضرات والندوات التي يعقدها المعهد.
دعوة إلى صانعي القرار
إلى المؤتمرات والملتقيات:
تركز بعض المراكز الفكرية على هذه الطريقة كوسيلة أساسية في التأثير على
مجرى السياسة الخارجية الأمريكية، فقد قامت مؤسسة التراث في عام 1993م
وحده بعقد 125 محاضرة ولقاء حضرها أكثر من عشرة آلاف شخص، إضافة إلى
نقل كثير من هذه المحاضرات على الهواء مباشرة في إحدى القنوات التلفزيونية
المتخصصة في البث الإخباري (C-Span) [8] .
أما معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، Washington Institute for
Near East Policy فإنه يعقد سنوياً ما يزيد على أربعين لقاء ومحاضرة، أي
بمعدل يقارب محاضرة أو لقاء أسبوعياً. ويركز المعهد في هذه اللقاءات على دعوة
المسؤولين في الإدارة الأمريكية، والسفراء الأجانب، وممثلي المؤسسات الصحفية، والأكاديميين، بهدف تشكيل قناعات متقاربة حول الشرق الأوسط، ويقوم المعهد
بدعوة شخصيات عالمية بارزة للحديث في هذه اللقاءات، ويجمع بينها جميعاً قاسم
واحد مشترك وهو الاهتمام بمصالح إسرائيل بصورة مباشرة. أو غير مباشرة،
ومن أبرز من دعي للحديث في هذه اللقاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي، ورئيس
تركيا، إضافة إلى مسؤولي البيت الأبيض، والخارجية الأمريكية.
وإضافة إلى ذلك يعقد المعهد مؤتمرين كبيرين كل عام، يعقد الأول منهما في
الربيع من كل عام ويخصص لدراسة التحديات التي تواجه السياسة الخارجية
الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وكان من أبرز المتحدثين في هذه المؤتمرات نائب
الرئيس الأمريكي آل جور، ووزير الخارجية السابق وارن كريستوفر. أما لقاء
الخريف فيعقد في أحد المنتجعات، ويدعى له القيادات السياسية الأمريكية والأجنبية
في حوارات غير رسمية ومحادثات خاصة تهدف إلى تقوية الارتباط بسياسة المعهد
وتوجيهاته.
تزويد وسائل الإعلام بخبراء في قضايا الساعة:
تدعو كثير من المراكز الفكرية الباحثين فيها إلى الكتابة في الصحف
والمجلات والدوريات السياسية والعامة، وتقوم هذه المراكز بإرسال البحوث
المختصرة، وأوراق العمل إلى الصحف الكبرى لعرضها للنشر في هذه الصحف
مما يكسب المراكز الفكرية شعبية لدى عامة الناس.
ويقوم معهد هوفر Hoover Institute المعروف بعلاقاته القوية مع الرئيس
السابق ريجان باستغلال هذه الوسيلة بشكل مكثف للغاية. ويروي جلين كامبل أن
معهد هوفر كان يسعى دائماً إلى إرسال مقال واحد على الأقل من كتابات الباحثين
بالمعهد يومياً طوال العام إلى الصحف والمجلات الأمريكية، وغالباً ما يتم نشر هذا
المقال في عشرات الصحف اليومية، ونشر في أحد الأعوام السابقة أكثر من 350
مقالاً من المعهد، ويعلق على ذلك قائلاً: (إن وسائل الإعلام تتعطش للأفكار
الجديدة، ونحن نساهم في سد هذا الاحتياج) [9] .
أما مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية والاستراتيجية Center for
Strategic and International Studies، فله السبق في هذا المجال دون
منازع. فقد أجرى الباحثون في المعهد في عامين أكثر من 1200 حوار تلفزيوني،
و1000 لقاء إذاعي، و2500 خبر بالصحف، وكتبوا ما يزيد على 2500 مقال
للصحف والمجلات الأمريكية [10] .
وبالطريقة نفسها يقوم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى Washington
Institute for Near East Policy بنشر مقالات في الصحف والمجلات
الأمريكية بصورة دورية، فقد نشرت صحيفة الرول ستريت جورنال اليومية
مؤخراً أحد المقالات لإحدى الباحثات في المعهد وهي إمي ماركوس حول الصراع
بين عرفات وحسين حول القدس [11] ، وكالمتوقع فقد ركزت الباحثة على
الجوانب السلبية في هذه العلاقة، مع التأكيد على أن قضية القدس محلية داخلية
خاصة بدولة إسرائيل.
فتح قنوات الاتصال مع الإدارة الأمريكية:
يتم فتح قنوات الاتصال مع المؤسسات السياسية الأمريكية عن طريق إقامة
دورات تدريبية للسياسيين في مجالات السياسة الدولية والعلاقات الدولية، وعن
طريق تعيين موظفين سابقين في الإدارات الأمريكية في هذه المراكز، وكذلك تقديم
استشارات عاجلة ومختصرة للمسؤولين السياسيين حول القضايا التي تطرأ على
الساحة، وأخيراً دعوة العاملين في الإدارات الحكومية إلى زيارات دورية إلى هذه
المراكز للتعرف على القائمين عليها.
ونجد مثلاً أن المعهد الأمريكي للاستثمار قد قدم فرصة عمل وبحث متميزة
للرئيس فورد بعد أن ترك الرئاسة، وكذلك لديك تشيني وزير الدفاع السابق. أما
مركز الدراسات الاستراتيجة والدولية فقد قدم فرص عمل متميزة لكل من
بريجنسكي وهنري كيسنجر. وقدم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى
Washington Institute for Near East Policy، عضوية مجلس الأمناء
لكل من جورج شولتز، وإليكسندر هيج، ووارن كريستوفر، وكلهم من وزراء
الخارجية الأمريكية السابقين. وكما يشرح جورج شولتز، فإن وجود السياسيين
السابقين في مناصب أي مركز فكري يفتح أمام هذا المركز فرصاً متعددة
للتأثير [12] .
أما المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي Jawish Institute for
National Secuirty Affairs، المعروف بعلاقته القوية بالمؤسسة العسكرية
الأمريكية، وارتباطه المباشر أيضاً باللوبي الصهيوني، فيقوم بتنطيم رحلات
لمجموعات من الضباط الأمريكيين لزيارة إسرائيل لتوطيد العلاقات مع الجيش
الإسرائيلي، كما يقوم بإعداد زيارات لطلاب الكليات العسكرية للتدريب الصيفي في
وحدات الجيش الإسرائيلي [13] .
التطوع للعمل والإدلاء بالشهادات في لجان العمل السياسي:
تهتم كثير من المؤسسات الفكرية الأمريكية بتقديم الباحثين فيها كخبراء في
الموضوعات المطروحة على الساحة، وتسعى إلى أن توجه لهم الدعوات للإدلاء
بآرائهم في القضايا المختلفة على لجان العمل وجلسات الاستماع والبحث في كل من
مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأمريكي. ويكفي أنه في عام واحد فقط قام أكثر من
176 باحثاً من 21 مركزاً فكرياً بالإدلاء بشهاداتهم أو تقديم رؤيتهم رسمياً إلى لجان
الكونجرس الأمريكية [14] .
وقد قام خبراء من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى Washington
Institute for Near East Policy، بالإدلاء بشهاداتهم في العديد من القضايا
المتعلقة بالشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بصفة خبراء وأكاديميين، فقام المدير
العام للمعهد روبرت ستالوف بالإدلاء برأيه أمام لجنة العلاقات الدولية بدعوة من
مجلس النواب الأمريكي في إبريل 1997م حول (السياسة الأمريكية تجاه مصر) ،
ولا شك أن الخلفية الشخصية له بصفته يهودياً، والصفة الرسمية له كرئيس للذراع
الفكري الإسرائيلي في واشنطن قد لعبا دوراً هاماً في الرأي الذي قدمه أثناء شهادته. وكانت الشهادة مليئة بالهجوم على مصر وموقفها من التطبيع السياسي مع إسرائيل، وأهمية المد الإسلامي في مصر، وضرورة التعاون الأمني على أعلى مستوى في
ذلك، وطالب أن تتوقف مصر عن أية تهديدات لإسرائيل!
تأثير المراكز الفكرية على الرأي العام:
للمراكز الفكرية الأمريكية آثار مباشرة على الإعلام الغربي، ومن ثَمّ على
الرأي العام الأمريكي، وقد رصد أكثر من باحث أكاديمي كيف أن المراكز الفكرية
تنجح في كثير من الأحيان في تغيير الرأي العام الأمريكي تجاه قضية معينة عن
طريق مجموعة خطوات إعلامية مدروسة بعناية لتحقيق هدف محدد، وهو تغيير
قناعات ومواقف الرأي العام لتبني وجهة نظر المركز الفكري والجهات التي تموله.
ويذكر تشارلز وليام ماينز، محرر دورية (السياسة الخارجية) Foreign
Policy كيف يتم تغيير الرأي العام الأمريكي بطريقة منظمة تبدو عفوية، فيقول:
تبدأ العملية بمقال في أحد الدوريات السياسية المتخصصة يكتبه باحث أكاديمي
متميز ومعروف، ويُقدّم هذا الباحث في المجلة أو الدورية على أنه (خبير أو عالم)
مما يوحي بالتوازن والاعتدال في الطرح، ولا يذكر عادة أن هذا الباحث موظف
يعمل براتب في أحد المراكز الفكرية معروفة التوجه!
يلي ذلك تولي عدد من المطبوعات الأخرى الموالية لنفس الاتجاه الثناء على
المقال الذي نشر في الدورية، وإبراز الأفكار الهامة في هذا المقال، والتأكيد عليها
مرة أخرى، ثم يُعقد بعد ذلك عادة مؤتمر عام، يدعى إليه متحدثون يمثلون نفس
وجهة النظر، ويتم اختيارهم بعناية للتعبير عن نفس الفكرة، وحشد الآراء حولها،
ويدعى إلى مثل هذه المؤتمرات مجموعة من الصحفيين المختارين بعناية لإبراز
هذا الحدث في المجلات والصحف التي يمثلونها، مما يضفي هالة جديدة من
الاهتمام حول المؤتمر وموضوعه، والأفكار التي يراد نشرها، وبالطبع يكون
مفهوماً للجميع بشكل لا يقبل الشك، أن الجوائز الصحفية، والدعوات للحديث في
المحافل العامة، ووسائل الإعلام، والجوائز التقديرية، كل ذلك سيكون من نصيب
أولئك أولئك فقط الذين يدافعون عن الفكرة ويدعون إليها في كل مكان. وهكذا وبهذه
المهارة المنظمة، تصبح الفكرة داخلة ضمن التيار العام للأفكار المقبولة للرأي العام
الأمريكي، وبذلك تؤثر بطريق غير مباشر على القناعات السياسية للإدارة
الأمريكية [15] .
ومن المفارقات التي تلفت النظر أن نجد أن بعض المؤسسات الفكرية تدعم
برامج وثائقية وتلفزيونية؛ لأنها تخدم وجهة نظرها، وتعبر عنها؛ ومثال واضح
على ذلك هو ستيف إيمرسون صاحب البرنامج التلفزيوني الشهير (جهاد في أمريكا) . وقد سبب هذا البرنامج ضجة ضخمة في الولايات المتحدة ومعظم أنحاء العالم
الغربي لهجومه الشديد غير المستند على أي أدلة مادية على الإسلام والمسلمين في
أمريكا، واتهامهم بأنهم أكبر الأخطار الداخلية في القارة، وأنهم يهددون الأمن
الداخلي للولايات المتحدة. وذكر ستيف إيمرسون لجريدة واشنطن بوست أنه تلقى
مبلغ 000ر325 دولار أمريكي من مؤسسة برادلي Bradley Foundation
لإتمام هذا البرنامج، ويبقى أن نعرف أن دانيال بايبس، مدير معهد الدراسات
الخارجية في فيلادلفيا Foreign Policy Research Institute، كان هو
المسؤول عن توزيع وإنفاق هذه المنحة على البرنامج كما ذكر ذلك روبرت كابلان
في مقدمة كتابه (العربي) الذي دعم أيضاً من نفس المؤسسة، وتولى أيضاً دانيال
بايبس متابعة إنفاق المنحة المخصصة لذلك الكتاب [16] .
المراكز الفكرية العربية والإسلامية في أمريكا:
رغم أن الساحة الفكرية الأمريكية تزخر بالمراكز الفكرية التي تمثل كافة
التوجهات الفكرية، إلا أن التواجد الإسلامي في هذا المجال لا يزال محدوداً للغاية؛
وقد يرجع ذلك إلى عدد من الأسباب من بينهما قلة الموارد المالية التي تخصصها
المؤسسات الإسلامية للأنشطة الفكرية بوجه عام، وكذلك قلة القدرات الفكرية
المتميزة القادرة على الخطاب الفكري القوي باللغة الإنجليزية، إضافة إلى الإحساس
السائد لدى الجالية الإسلامية في أمريكا بعدم جدوى مثل هذه الجهود الفكرية خاصة
مع الأجواء العدائية للإسلام والمسلمين التي يبثها الإعلام الغربي بصورة يومية،
وتلقى نوعاً من الاستجابة من الرأي العام، وصناع القرار.
وقد ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تأخر الاهتمام بمثل هذه المشروعات،
وإن كانت السنوات الأخيرة قد شهدت تزايد الاهتمام الإسلامي في أمريكا بالنزول
إلى الساحة الفكرية، والسعي إلى التأثير على صناعة القرار السياسي الأمريكي،
ورغم ذلك تبقى المؤسسات القكرية الإسلامية والعربية في أمريكا قليلة للغاية، وفيما
يلي أهم هذه المراكز الفكرية الإسلامية في القارة:
مؤسسة: الأمريكيون المسلمون:
American Muslim Foundation
وهي مؤسسة غير ربحية في واشنطن العاصمة، وتهتم بالسعي إلى زيادة
الوعي والفهم للثقافة والقيم والتاريخ الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية،
ويرأس المؤسسة الأستاذ عبد الرحمن العمودي المدير التنفيذي السابق لمجلس:
الأمريكيون المسلمون American Muslim Council، والمؤسسة لا تزال في
بداية نشأتها، ولم تقدم حتى الآن أنشطة لمعرفة أثرها على الساحة الفكرية.
المؤسسة المتحدة للدراسات والبحوث (يسر) :
United Association for Studies and Research (UASR)
وهي مؤسسة فكرية بحثية تتخصص في دراسة أسباب الصراع في الشرق
الأوسط وشمال إفريقيا، والتغيرات السياسية التي تؤثر على مستقبل السكان
الأصليين للمنطقة، وعلاقة المنطقة بدول العالم المتقدم، ويرأس المؤسسة الدكتور
أحمد يوسف، الذي عرف بالعديد من الكتابات المتميزة في كثير من صحف
ومجلات العالم الإسلامي، ومركز المؤسسة يقع في إحدى ضواحي العاصمة
الأمريكية واشنطن، ويعمل في المركز عدد من الباحثين المتفرغين، وللمركز
أرشيف متميز في قضايا الصحوة الإسلامية.
وينشر المركز دراسات دورية حول قضايا الشرق الأوسط وخصوصاً ما
يتعلق منها بالقضية الفلسطينية، ويعقد كذلك لقاءاً شهرياً يدعى إليه سياسيون
وأكاديميون بارزون، كما تصدر عن المركز دورية متخصصة في قضايا العالم
الإسلامي وعلاقته بالغرب بعنوان: (شؤون الشرق الأوسط) ويعتبر المركز من
أنشط المراكز الفكرية الإسلامية في أمريكا، وإن كان تأثيره لا يزال ضعيفاً لقلة
الإمكانات المادية مقارنة بالمراكز الفكرية الأخرى في العاصمة.
مركز دراسات الإسلام والعالم
World & Islam Studies Enterprise (Wise)
وهو مؤسسة فكرية أنشئت عام 1990م في ولاية فلوريدا، والمركز عرف
بإقامة الندوات ونشر الدراسات، وإصدار دورية متميزة تسمى: (قراءات سياسية)
وتوقفت عن الصدور في نهاية 1995م. وقد تقلص نشاط المركز للغاية بعد أن
اتهمته الصحف الأمريكية وتبعتها الإدارة الأمريكية بعلاقته بتنظيم الجهاد الفلسطيني، وخاصة بعد تولي رمضان عبد الله شلح الذي كان أحد المحررين في الدورية
مسؤولية تنظيم الجهاد بعد اغتيال فتحي الشقاقي، وقد أدى ذلك إلى مهاجمة
المخابرات الأمريكية للمركز وإيقاف العاملين فيه رهن التحقيق.
__________
(1) American Think Tanks and their role in US Foreign Policy Donald E Abelon, St Martin Press, Inc New York, 1996 PP 1.
(2) مرجع رقم (1) ص 3.
(3) مرجع رقم (1) ص 15.
(4) أضواء على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، أحمد منصور، دار ابن حزم، بيروت 1994، ص 18.
(5) مرجع رقم (3) ص 171.
(6) مرجع رقم (1) ص 17.
(7) Feulner Edwin J, Ideas Think Thinks and Gove Rnment (the Hertitage Lectures, 51 (Washington) DC The Hertilege Foundnion, 1985.
(8) التقرير السنوي لمؤسسة هيرتيتج، 1993م.
(9) حوار مع أحد الباحثين بمعهد هوفر، أجري في عام 1990م.
(10) Marc Cooper, and Lawerence Soley, (all the Righr Sources) , Mother Jones, February 1990, PP 26.
(11) وول ستريت جور، عدد 35 فبراير 1997، صفحة 16.
(12) مقابلة مع جورج شولتز في مارس 1990م نشرت في المرجع رقم (1) صفحة 70.
(13) اتفاق معادلة المعرفة والسلطة: اللوبي اليهودي في أمريكا، سمير كرم، مجلة الحوار، واشنطن عدد إبريل 1998م ص16.
(14) Weaver, Kent, (Think- Tanks, the Media and the American Policy Policy Process) , Paper Presented at the Annual Poliy Conference of the Association for Public Policy Analysis and Management, Washingtol, DC, October 1993.
(15) كلمة ختامية تشارلز وليام وايلز، مجلة السياسة الخارجية عدد مارس 1997م.
(16) العربي، روبرت كابلان، فري برس، نيويورك 1994، المقدمة.(129/78)
المسلمون والعالم
" الفرنكوفونية " كما هي
الميلاد والنشأة والسياسة
سيدي غالي لو
المقدمة:
الفرنكوفونية: اسم يطلق على تنظيم سياسي تشترك فيه عدة دول ناطقة
بالفرنسية ألفت بينها هذه الرابطة لتحقيق مصالح مشتركة؛ وهي تنظيم يقابل
منظمة الكومنولث البريطاني، إلا أنها أشد خطورة منها؛ حيث إن الفرنكوفونية
تضرب جذورها في أعماق طبيعة الاستعمار الفرنسي، قبل أن تستنزف الثروات
والخيرات ويَهلك الحرث والنسل فيجعل أعزة القوم أذلة.
الميلاد والنشأة:
لقد مهدت لميلاد منظمة (الفرنكوفونية) عوامل متعددة؛ ففي أواخر الستينات،
وخاصة بعد إعادة انتخاب (الجنرال ديجول) رئيساً لفرنسا للفترة الثانية في 5/12/
1966م بعد أن كانت حركات التحرر والاستقلال تتقوى من مختلف الدول التي
كانت تخضع للاستعمار الفرنسي في آسيا وإفريقيا. ومن ثم ركز (ديجول) سياسة
فرنسا على المحاور الآتية:
1- تثبيت الاقتصاد الفرنسي.
2- التقارب مع ألمانيا للتخلص من النفوذ الأمريكي.
3- إبعاد بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة.
4- دخول فرنسا ميدان الإنتاج الذري.
فلا غرابة إذن أن يختفي المستعمر الفرنسي خلف الستار بعد استقلالات
الستينات ليحرك بأصابعه من خلف الكواليس أناساً قد أحكم صبغتهم، يتشدقون بقيم
الاستعمار الجديد وثقافته، ويتعهدون بنبذ الثقافات الوطنية والقيم الدينية الأصيلة
وراء الظهور فكانت (الفرنكوفونية) وسيلة من وسائل الاستعمار الجديد اتخذتها
فرنسا للضغط على مجموعة من الدول النامية وتوجيه سياستها.
وكانت فرنسا تتظاهر بالانعزال عن فكرة تأسيس منظمة (الفرنكوفونية) في
أوائل انبثاق الفكرة سنة 1960م لعاملين رئيسين: الأول: شعورها بالعار من
جراء الجرائم البشعة التي ارتكبتها ضد الشعوب في عهد الاستعمار. والثاني:
تخوفها من أن تتهم بمحاولة استخدام اللغة الفرنسية كأداة جديدة للإمبريالية والسيطرة
على الدول التي فقدتها منذ عهد قريب. فمن المعلوم تاريخياً أن الدول التي تعتبر
مهد اللغة الفرنسية ومنبعها الأصيل مثل فرنسا وبلجيكا وكيبيك ليست هي التي
دعت علناً إلى تأسيس منظمة الفرنكوفونية، ولكنها كانت تحرك الحبال من خلف
الستار.
وقد برز من بين المتشدقين بالفرنكوفونية كل من (ليوبولود سيدار سنغور) من
السنغال و (هماني ديوري) من النيجر و (الحبيب بورقيبة) من تونس و (شارل
حلو) من لبنان و (نورو دوم سيهانوك) من كامبودجيا.
ولقد لقيت دعوة هؤلاء في بداية أمرها مقاومة عنيفة من قبل قادة التحرر
الوطني في إفريقيا وآسيا، الذين كانوا يصفون دعاة الفرنكوفونية بالخونة، مما أخر
تنظيم الحركة رسمياً وهيكلتها حتى عام 1970م حيث أنشئ أول فرع من فروعها
المتخصصة وهو A. C. C. T. (وكالة التعاون الثقافي والتقني) . في (نيامي)
عاصمة النيجر.
وكان بعض رؤساء الدول ينتمون إلى فكرة (الفرنكوفونية) بالاسم فقط دون
الاندماج الحقيقي فيها، خلافاً لرئيس كيبيك الذي كان يصرح بالانتماء إليها كما كان
يسعى جاداً لتحقيقها. وتستطيع كيبيك أن تنحو هذا النحو وتقف ذلك الموقف آنذاك؛ لكونها منطقة ناطقة بالفرنسية باعتبارها لغة أصلية لها من جهة، ولكونها
محتضنة من قِبَلِ كندا التي لم يسبق لها احتلال بلد إفريقي من جهة ثانية، وهو
الأمر الذي يبعد عنها أصابع الاتهام، ولذا لما نجحت فكرة الفرنكوفونية، وتم
تأسيس وكالة التعاون الثقافي والتقني A. C. C. T. كان أول من اختير
لرئاستها هو الزعيم الكيبكي الكندي جان مارك ليجي Jean Marc Leger
أما اليوم فقد أصبحت الفرنكوفونية حقيقة ملموسة، وصارت تلعب دوراً
بارزاً في توجيه سياسة فرنسا وعلاقاتها بالدول الأعضاء في هذه المنظمة البالغ
عددها الآن 49 دولة. وتتخذ هذه المنظمة من جامعة ليوبولد سيدار سينغور
بالإسكندرية جمهورية مصر العربية مقراً لها.
السياسة العامة للفرنكوفونية:
تشمل السياسة العامة لمنظمة الفرنكوفونية ما يلي:
1- ربط الدول الأعضاء في المنظمة بفرنسا سياسياً وثقافياً وفكرياً واقتصادياً. وتعتمد معظم الدول الإفريقية المنضمة إلى (الفرنكوفونية) على الفرنك الإفريقي
المرتبط بالفرنك الفرنسي في الأسواق المالية. وقد قامت فرنسا بتعويم عملة الفرنك
الإفريقي سنة 1994م مما سبب تزعزعاً اقتصادياً خطيراً لعديد من الدول الإفريقية.
2- التأثير على دول المجموعة الفرنكوفونية لاتخاذ مواقف مماثلة تجاه
القضايا والقرارات الدولية والإقليمية وخاصة القضايا والقرارات التي تمس مصالح
فرنسا.
3- إيجاد فرص غير متكافئة للتبادل التجاري بين فرنسا والدول الأعضاء في
المنظمة، والعمل على كسر الحواجز أمام الصادرات الفرنسية إلى الدول
الفرنكوفونية.
4- تقديم المساعدة للدول الأعضاء في مختلف المجالات، وخاصة في مجال
الثقافة والإعلام والتطوير التكنولوجي وتعليم اللغات والزراعة وحماية البيئة..
وتعتاد فرنسا أن تعلن خلال مؤتمرات الفرنكوفونية عن تنازلها عن ديونها المترتبة
على عدد من الدول الأعضاء في هذه المنظمة.
دور فرنسا ومآثر ميتران:
لم تقم فرنسا بدور هام داخل الفرنكوفونية إلا في عهد الرئيس السابق:
فرانسوا ميتران الذي انتخب رئيساً للجمهورية الفرنسية سنة 1981م؛ وذلك أن
فرنسا كانت تنتظر لحظة انتهاء تلامذتها الأبرار من إعداد اللبنات الصلبة ووضع
الأسس المتينة لهذا الصرح العلماني العملاق قبل أن تقوم هي بدور المهندس الماهر
الذي يتولى تشكيله وتنظيمه داخلياً وخارجياً.
ففي عهد ميتران تم تأسيس قمة رؤساء الدول الفرنكوفونية التي تعقد كل
سنتين، ومؤتمر الوزراء الذي
يعقد كل سنة. كما تم تأسيس فروع ووكالات متخصصة تابعة لمنظمة
الفرنكوفونية مثل صندوق حماية البيئة، والمنظمة الزراعية لمساعدة دول الصحراء، والقناة الدولية TV5 للبث التلفزيوني المباشر، وبنك المعلومات الفرنكوفونية،
والمجلس الدائم للفرنكوفونية ... ، كما تم إنشاء لجان خاصة لمتابعة قرارات
مؤتمرات الفرنكوفونية، ووضع لوائح تصنف الأعضاء حسب الدرجات والمراتب، وتحدد السلطات والمسؤوليات داخل هذه المنظمة. كما عقدت منظمة الفرنكوفونية
في عهد الرئيس ميتران خمسة مؤتمرات: 1986م في فرساي، 1987م في كيبيك، 1989م في دكار، 1991 في باريس، 1993م في موريس. وبلغت جملة
الديون التي تنازلت عنها فرنسا في عهد ميتران لصالح الدول الأعضاء في
الفرنكوفونية (16) مليار فرنك فرنسي شملت خمساً وثلاثين دولة، بالإضافة إلى
المساعدات المادية والفنية.
المؤتمرات والقرارات:
مؤتمرات الفرنكوفونية لقاءات دورية تعقد في إحدى الدول الأعضاء في
المنظمة بإشراف من فرنسا. وتتمخض هذه المؤتمرات عن قرارات وتوصيات
تُتّخذُ لها لجان خاصة لمتابعتها وتنفيذها.
وقد عقدت (الفرنكوفونية) حتى الآن سبعة مؤتمرات على مستوى رؤساء
الدول والحكومات، وفيما يلي سرد تاريخي موجز لتلك المؤتمرات:
1- مؤتمر فرساي (1986م) :
انعقد المؤتمر الأول للفرنكوفونية في مدينة فرساي بفرنسا في الفترة من 17
حتى 19 فبراير 1986م بحضور 42 دولة، ومن أهم القرارات التي تمخض عنها
هذا المؤتمر ما يلي:
1- تأسيس وكالة دولية للتصوير التلفزيوني. وقد عرفت هذه الوكالة بعد
إنجازها بقناة TV5 التي تغطي مناطق إفريقيا السوداء وجنوب أمريكا حيث توجد
شعوب تتكلم الفرنسية.
2- إقامة معرض دولي للكتاب الفرنسي كل سنتين في العاصمة الفرنسية
باريس.
3- تنظيم جائزة باسم الفرنكوفونية.
4- تأسيس وكالة زراعية لمساعدة دول الصحراء.
2- مؤتمر كيبيك (1987م) :
عقد المؤتمر الثاني للفرنكوفونية في (كيبيك) في الفترة من 2 حتى 4 سبتمبر
1987م. وقد شاركت في هذه القمة 41 دولة، و16 منها على مستوى الرؤساء
و10 دول على مستوى رؤساء وزراء، و15 دولة على مستوى مندوبي حكومات.
وفي هذه القمة تم اتخاذ خمسة قرارات للتعاون في مجال الزراعة والطاقة
والثقافة واللغات والاتصال والتكوين التكنولوجي. كما قررت كندا في هذه القمة
إعفاء ديونها المترتبة على سبع دول إفريقية في جنوب الصحراء والبالغ قدرها
(246) مليون دولار أمريكي، وقد شملت كلاً من السنغال وكوت ديوار وغابون
وزائير ومدغشقر والكونغو والكاميرون، على الرغم من عدم انضمام الكاميرون إلى
منظمة الفرنكوفونية في ذلك الوقت.
3- مؤتمر دكار (1989م) :
عقدت القمة الفرنكوفونية الثالثة في العاصمة السنغالية دكار في الفترة من 24
حتى 26 مايو 1989م بحضور 41 دولة، 17 منها على مستوى الرؤساء، و9
على مستوى رؤساء وزراء، و15 على مستوى مندوبي حكومات.
وقد حضر الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران هذه القمة، وأعلن فيها
عن إعفاء فرنسا ديونها المستحقة على خمس وثلاثين دولة إفريقية، وهي ما يعادل
ستة عشر مليار فرنك فرنسي، ومن أهم نتائج هذه القمة ما يلي:
1- تأسيس صندوق الفرنكوفونية للبيئة.
2- وضع فكرة تأسيس المنظمة الزراعية لدول الصحراء موضع التنفيذ.
3- ابتداء بث القناة الدولية TV5 القناة الفرنسية C. F. I في إفريقيا.
4- إنشاء بنك المعلومات الفرنكوفونية.
5- إعلان فرنسا عن تقديم المساعدة للدول الفرنكوفونية بقيمة (237) مليون
فرنك فرنسي في السنة.
6- توقيع كندا على وثيقة لتقديم المساعدة للدول الفرنكوفونية بقيمة (280)
مليون فرنك فرنسي خلال سنتين ونصف.
4- مؤتمر باريس (1991م) :
عُقدت القمة الفرنكوفونية الرابعة في العاصمة الفرنسية في الفترة ما بين 19
حتى 21 نوفمبر 1991م، بحضور 45 دولة، 21 منها على مستوى رؤساء
الدول، و13 على مستوى رؤساء وزراء، و11 دولة على مستوى وفود حكومات. وقد تميزت هذه القمة عن سابقاتها بالتركيز على إعادة هيكلة منظمة الفرنكوفونية
وتنظيمها داخلياً. ومن أهم نتائجها ما يلي:
1- اعتبار القمة الفرنكوفونية التي تعقد كل سنتين أعلى سلطة في المنظمة،
ويليها مؤتمر الوزراء الذي يعقد كل سنة.
2- تأسيس (المجلس الدائم للفرنكوفونية) .. C. P. F. ويضم هذا
المجلس ممثلين لرؤساء الدول الأعضاء في المنظمة، ويجتمع مرتين في السنة
لمتابعة ومراقبة تنفيذ القرارات الصادرة عن مؤتمر الفرنكوفونية.
3- اعتبار (وكالة التعاون الثقافي والتقني) A. C. C. T. الجهة الفنية
المختصة بتقديم المساعدات في إطار الفرنكوفونية.
4- تأسيس هيئة قانونية تختص بالشؤون المالية القانونية للفرنكوفونية،
وتزويد الدول الأعضاء فيها باللوائح والدراسات القانونية وخاصة في مجال القضاء
ونظام الأسرة، مما يمكن الدول الفرنكوفونية من الاعتماد على نصوص قانونية
موحدة، وقد جاء هذا الاقتراح من كندا.
5- إعلان كندا عن تزويد الدول الفرنكوفونية بمنح دراسية باسم الفرنكوفونية
تقدر بخمسين مليون فرنك فرنسي سنوياً وتستمر لمدة خمس سنوات؛ وذلك لإتاحة
الفرصة لثلاثمائة وخمسين طالباً ينتمون إلى الدول الفرنكوفونية لمواصلة الدراسة
في الجامعات الكندية.
5- مؤتمر موريس (1993م) :
عقدت القمة الفرنكوفونية الخامسة في موريس في الفترة من 16 حتى 18
أكتوبر 1993م بحضور 47 دولة، 19 منها حضرت المؤتمر على مستوى
الرؤساء، و13 على مستوى الوزراء، و15 على مستوى وفود حكومات. وهي
آخر قمة فرنكوفونية حضرها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، كما مهدت
هذه القمة لفكرة تخفيض عملة الفرنك الإفريقي. ومن بين التوصيات الصادرة عنها
ما يلي:
1- حث الدول الإفريقية على تطبيق الديمقراطية ونظام التعددية الحزبية
تأكيداً لقرارات (بول) الفرنسية.
2- العمل على إقرار السلم في العالم.
3- العمل على تجسيد التعاون بين الدول الفرنكوفونية.
4- تخويل (المجلس الدائم للفرنكوفونية) . C. P. F سلطة خاصة لرسم
سياسة الفرنكوفونية في العالم.
6- مؤتمر كوتونو (1995م) :
أما القمة السادسة للفرنكوفونية فقد عُقدت في عاصمة جمهورية بنين (كوتونو
(في شهر ديسمبر 1995م، وهي أول قمة فرنكوفونية حضرها الرئيس الفرنسي
الحالي جاك شيراك بوصفه رئيساً للجمهورية الفرنسية، حيث كان يحضر
المؤتمرات الفرنكوفونية السابقة بصفته رئيساً للمنظمة العالمية لرؤساء بلديات الدول
الفرنكوفونية (A. I. M. L. F.) .
وقد قررت هذه القمة اعتماد المشروع الذي قدمه المجلس الدائم للفرنكوفونية
بخصوص سياسة هذه المنظمة طبقاً للتوصيات الصادرة عن مؤتمر موريس سنة
1993م، كما قررت اختيار أمين عام للفرنكوفونية في دورتها السابعة التي ستعقد
في فييتنام.
7- مؤتمر هانوي (1997م) :
عقدت القمة السابقة للفرنكوفونية في (هانوي) بفييتنام سنة 1997م. وفي هذه
القمة ظهرت الفرنكوفونية في وجه جديد؛ حيث تم اختيار أول أمين عام لها وهو
الدكتور بطرس بطرس غالي على حساب بقية المرشحين الأفارقة وغير الأفارقة
بقرار من فرنسا.
ولم يأت اختيار بطرس غالي أمينا عاماً للفرنكوفونية عفوياً؛ فهو من أشد
الناس ولاء للعلمانية والتغريب، وقد جربه الغرب (النصراني والعلماني) فترة توليه
منصب الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، وكانت فترة حالكة ترجمت فيها أمم الغرب
فعلياً عداوتها للإسلام وأهله، كما أن فرنسا قد ثأرت من الولايات المتحدة بنصب
بطرس غالي على رأس الفرنكوفونية بعد الضغوط الأمريكية التي أدت إلى تنحيته
عن منصب الأمين العام للأمم المتحدة. وبناء على السلطات المخولة للدكتور
بطرس غالي بصفته أميناً عاماً للفرنكوفونية فقد أصبح المتكلم الرسمي باسم هذه
المنظمة وممثلها الشرعي لدى الهيئات والمحافل الدولية، وصار يوقع على جميع
الاتفاقيات المبرمة بين وكالة التعاون الثقافي والتقني (A. C. C. T) الجهات
الأخرى، كما يشرف على نشاطات هذه الوكالة بالتعاون مع مفوّض رسمي من قبل
المجلس الوزاري للفرنكوفونية (C. M. E.) .
مخاطر الفرنكوفونية:
تكمن في منظمة الفرنكوفونية مخاطر جسيمة على العالم الإسلامي، وتتمثل
في الأمور التالية:
1- سعيها لإحلال القوانين المستمدة من الفكر العلماني محل القوانين المحلية
في الدول الأعضاء التي معظمها دول إسلامية ذات صلة بتعاليم الإسلام؛ فقد
تضمنت التوصيات الصادرة عن القمة الفرنكوفونية الرابعة ضرورة تأسيس هيئة
قانونية تزود الدول الفرنكوفونية بلوائح ودراسات قانونية في مجال القضاء ونظام
الأسرة لتمكين هذه الدول من الاعتماد على نصوص قانونية علمانية موحدة!
2- نشر اللغة الفرنسية مع محاربة اللغات المحلية وخاصة العربية الفصحى
في الدول الأعضاء في الفرنكوفونية. ويقام في باريس كل سنتين معرض دولي
للكتاب الفرنسي، كما تنظم جائزة عالمية باسم الفرنكوفونية.
3- ممارسة الغزو الفكري وعملية غسل المخ من خلال إنشاء جامعة
فرنكوفونية عالمية عبر الفضاء.
4- خلخلة القيم الدينية والأخلاقية في البيئات الإسلامية وتوجيهها نحو الحياة
الاجتماعية الغربية الفاسدة من خلال البث التلفزيوني المباشر عبر قناة TV5 وقناة
C. F. I.
5- تشتيت شمل المسلمين، وبث الخلافات بين الدول الإسلامية بسبب موالاة
بعضها لمعسكر الفرنكوفونية ضد البعض الآخر الموالي لمعسكر الكومنولث
البريطاني، مما يحول دون تحقيق وحدة حقيقية بين هذه الدول. وخير شاهد على
ذلك ما تعانيه منظمة الوحدة الإفريقية في داخلها من صراع حاد بين هذين
المعسكرين.(129/90)
مرصد الأحداث
لماذا المرصد ... ؟
في هذه الزاوية، تنقل (البيان) للقارئ، أخبار ما أهملته الأخبار، من ...
الأقوال والأحداث والمواقف.. ننقلها كما هي من مصادرها دون تصرف إلا في
وضع العنوان الذي يعبر عن دلالة الخبر ... والدعوة مفتوحة لقرائنا الكرام أن
يرسلوا إليناما يرون أنه جدير بلفت اهتمام المسلم لما خلف الخبر، على أن يرسل
لنا أصل الخبر ومصدره مع التعليق والاسم. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
جهاد المسلمين في الفلبين ما زال مستمراً
بينما كانت الحكومة الفلبينية الصليبية مشغولة في الاحتفالات بمناسبة تنصيب
الرئيس الجديد جوزف ايسترادا وتوليه زمام الحكم في غرة شهر يوليو الجاري في
هذه البلاد التي تفتخر دائماً بأنها الدولة المسيحية الكاثوليكية الوحيدة في الشرق
الأقصى، قامت القوات المسلحة الفلبينية بهجوم مكثف على مواقع المجاهدين في
حدود المناطق الإسلامية المحررة ابتداء من مساء يوم الأحد الرابع من شهر ربيع
الأول (28 يونيو 1998م) واستمرت المعركة إلى اليوم التالي، وتصاعدت في يوم
الثلاثاء السادس من ربيع الأول (30 يونيو 1998م) وفي هذا اليوم بالذات أدى
رئيس العدو الجديد جوزف استرادا حلف اليمين حيث يبدأ توليه لمهام رئاسة الفلبين
في اليوم التالي (يوم الأربعاء غرة شهر يوليو) وإضافة إلى ما ذكر: فإن هناك
مواجهات مسلحة أخرى بين المجاهدين والقوات المسلحة الصليبية في أماكن متفرقة
في منطقة مورو. وعلم من مصدر موثوق أن عدداً من رجال العدو قتلوا وأصيب
بعضهم ودمرت بعض مدافعهم ومراكزهم في مرتفعات منطقة بيناباي؛ وأما
المجاهدون فقد أصيب بعضهم بجروح خفيفة.
أما في بلدية بيجكاويان في محافظة كوتباتو الشمالية فقد دارت معركة بين
فصيلة من فصائل المجاهدين في هذه المنطقة يوم السبت (10 ربيع الأول 4 يوليو
(ومجموعة من الجنود الصليبيين وقتل خلال المعركة جنديان صليبيان، وأصيب
ثلاثة منهم، واستولى المجاهدون على أسلحة القتيلين والجرحى، وأما المجاهدون
فقد استشهد أحدهم كما استشهدت زوجته التي كانت تنقل الطعام والماء إلى
المجاهدين أثناء المعركة.
[لجنة الإعلام الخارجي لجبهة تحرير مورو الإسلامية 11/3/1419هـ]
لا لتحويل قبر الشعراوي لمزار
اعترض عدد من علماء الأزهر في مصر على بعض الممارسات التي حدثت
حول قبر الشخ محمد متولي الشعراوي؛ حيث أخذت أعدادٌ من أهل القرى المجاورة
لقريته في التوافد على القبر حاملين معهم أوراقاً ورسائل موجهة إلى الشيخ رحمه
الله قاموا بإلقائها داخل المقبرة، وقام بعضهم بذبح الذبائح على سبيل النذر؛ وذلك
وسط تكهنات بتحويل القبر إلى مزار كبير بعد أن أعلنت المشيخة العامة للطرق
الصوفية في نعيها للشيخ أنه أحد أولياء الله الصالحين وأصحاب الكرامات الكبيرة
وأنه لا يقل شأناً عن الأقطاب الكبار في تاريخ الصوفية، وقد طالب بعض زوار
القبر بالاحتفال بمولد الشعراوي في منتصف إبريل من كل عام وقال فضيلة الدكتور
حمدي البربري أستاذ الشريعة في جامعة الأزهر: إن هذه السلوكيات التي ترتكبها
العامة تسيء للشيخ الشعراوي ويجب التصدي لها بحزم؛ لأنها تتعارض مع صريح
السنة النبوية؛ فالشيخ الشعراوي رغم فضله وعلمه الذي أفاد به الناس إلا أنه
أفضى إلى ما قدم ولم يعد يملك لأحد نفعاً ولا ضراً، وقال: إن الإسلام ينهى عن
اتخاذ القبور مساجد. ... ...
... ... ... ... ... ... ... [المسلمون، العدد (701) ]
أدعياء التنوير والرأي الآخر
قال الناقد المعروف د. عبد الحميد إبراهيم في لقاء معه: (يجب أن ننتبه إلى
بعض الحقائق، منها: أنه إذا كان هناك إرهاب قد يكون سافراً أحياناً فإن هناك
إرهاباً مستتراً أشد خطورة؛ لأنه يرتدي أقنعة الثقافة، ويتم تصدير بذور هذا
الإرهاب عن طريق حاملي ألوية هذه الأفكار من الكتاب العرب. وأضاف قائلاً:
وتسود في أوساط المثقفين الآن دعاوى تحت شعارات التنوير وهي حق يراد به
باطل لكن تنويرهم لا يحتمل رأياً يناقشهم.
... ... ... ... ... ... ... [الأنباء، العدد: (7965) ]
أحلام بكداشية
المدعوة (وصال بكداش) زوجة الأمين العام السابق للحزب الشيوعي السوري
(خالد بكداش) وأمينة الحزب الحالية قالت: (إن الأحزاب الشيوعية كانت موجودة
قبل الاتحاد السوفييتي.. وإن العدالة الاجتماعية هاجس دائم للمفكرين والساسة
الذين ناضلوا وضحوا من أجلها تحت أسماء مختلفة! !
وقالت: إن الشعب الروسي سينهض مجدداً من بين الركام وسيستعيد سيادته
وكرامته بعد أن وجهت ضربة كبرى للشيوعية في روسيا. وقالت عن فشل
الأنظمة البديلة عن الشيوعية: (إن ذلك ليس دليلاً على فشل الاشتراكية بل على
فشل الأنظمة البديلة) . ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... [الخليج، العدد: (6917) ]
تحالف أحفاد القردة وأحفاد الدببة
استقبل سيرجي شيباشين وزير الداخلية الروسي الجنرال إيهود فيلك قائد
جهاز الشرطة الإسرائيلية، وقالت المصادر الروسية إن الموضوع الرئيس
لمباحثاته مع ضيفه الإسرائيلي تتركز حول المشاكل المتعلقة بمناهضة التطرف
الإسلامي، وقال الجنرال الإسرائيلي إن بلاده تمتلك خبرة طويلة في مكافحة ما
أسماه (التطرف الإرهابي) . ...
... ... ... ... ... ... [الشرق الأوسط، العدد (7161) ]
نائمة (نامية) حتى الموت
تقدر ديون العالم الثالث بحدود [1. 25 تريليون جنيه استرليني] ، وحسب
التصنيف الدولي، هناك 150 دولة تعد في لائحة الدول النامية، منها 52 دولة لم
تستطع تسديد ديونها، أي ما قيمته 233 بليون جنيه، لكن ما لا يعلمه أحد هو أن
كل جنيه تقدمه المنظمات والدول كمساعدات إنسانية تدفع مقابله الدول النامية تسعة
جنيهات لقاء الديون. ...
... ... ... ... [مجلة المشاهد السياسي، العدد: (122) ]
السجل الأسود لحقوق الإنسان بتركيا
رئيس الجمعية التركية لحقوق الإنسان (أكين بروال) الذي أصيب بجروح
خطيرة في محاولة لاغتياله وصف سجل حقوق الإنسان في بلاده بأنه أسود وأن
أكثر من ثلاثين ألف كردي قتلوا حتى الآن، وتم تدمير ثلاثة آلاف قرية، وأجبر
5، 3 مليون كردي على الفرار من تركية. وقال: إنه يوجد في تركية 152 قانوناً
و11 قراراً من المحكمة و370 بنداً في النظام القضائي تمنع جميعها من حرية
التعبير وحرية الصحافة. وقدحكمت السلطة على المذكور بالسجن لمدة سنة..
... ... ... ... ... [الشرق الأوسط، العدد (7175) ]
المصارف الإسلامية تزدهر رغم المؤامرات
بلغت قيمة صناعة المصارف الإسلامية 150 بليون دولار، وهي تنمو بمعدل
10% سنوياً. جاء ذلك في حديث لرئيس مجلس إدارة شركة المستثمر الدولي
الأستاذ (عدنان البحر) وقال: إن الصناعة المصرفية الإسلامية أقدر من غيرها
على النمو والاستمرار في ظل المنافسة الدولية.
... ... ... ... ... ... ... [الخليج، العدد: (12907) ]
تعريب أم تغريب
في مقال: (الجزائر والبحث عن الهوية الثقافية) قال الكاتب رغيد الصلح:
التعريب في نظر الكثيرين مشروع يحظى بتأييد أكثرية الجزائريين، ومن هنا فإنه
ليس من حق المطالبين بإعطاء جماعة أقلية جزائرية حقوقها المشروعة أن تطالب
بحرمان الأكثرية من هذه الحقوق ... إلا إذا كان معارضو التعريب يريدون فرض
رأيهم بالقوة على أكثرية الجزائريين بينما هم يدعون إلى احترام حقوق الأقلية منهم.
... ... ... ... ... ... ... [الحياة، العدد: (2918) ]
اللوبي الصهيوني يحكم أمريكا
حقق (اللوبي الإسرائيلي) انتصاراً مهماً حين أقر الكونجرس اتفاقاً جديداً
للمساعدات الأمريكية لإسرائيل، يحرم الرؤساء الأمريكيين من حقهم في تعليق تلك
المساعدات أو اقتطاع أي جزء منها، وينص الاتفاق الجديد على زيادة حجم
المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل مع الإبقاء على المساعدات الاقتصادية
والمالية الأخرى على حالها، وبمقتضى هذا الاتفاق سترتفع المساعدات العسكرية
بمعدل 60 مليون دولار كل سنة من حجمها الحالي 1800 مليون دولار حتى تصل
إلى 4، 2 مليار دولار في السنة بحلول العام 2008م.
... ... ... ... ... ... [مجلة الوسط، العدد (338) ]
كلما أوقدوا ناراً
كشفت الصحف الإسرائيلية النقاب عن تقارير في شعبة الاستخبارات
العسكرية تتضمن تقديرات حول عام 1999م تفيد بأنه في حالة تعطل العملية
السلمية سوف تنشب صدامات مسلحة بين إسرائيل والعرب، وليس فقط مع
الفلسطينيين، وجاء في التقديرات أن مجموعات في اليمين الإسرائيلي اليهودي تقوم
بتجميع الأسلحة والذخيرة وترتبط في تنظيمات داخلية محكمة، تعد للقيام باعتداءت
مسلحة على الفلسطينيين وربما مقاومة مسلحة لأية محاولة انسحاب من الأراضي
الفلسطينية أو السورية المحتلة.
... ... ... ... ... [الشرق الأوسط، العدد (7165) ]
الرقيق الأبيض في أوروبا
ذكرت دراسة أعدتها الجمعية الألبانية (مفيد النساء) ونشرت نتائجها في مؤتمر
عقد في تيرانا ومنها أن أكثر من 14000 ألبانية يمارسن البغاء في عدد من الدول
الأوروبية. ونقلت عن مسؤولة في الشرطة الألبانية أن ما بين 30 40% منهن
خطفن من ألبانيا وأجبرن على ممارسة البغاء في الخارج، وأن 40% منهن
قاصرات. وقد أحصت الجمعية ما بين 8 9 آلاف مومس ألبانية في إيطاليا بينهن
2500 قاصر، وأكثر من 5000 في اليونان بينهن 7000 قاصر و250 في النمسا
وأكثر من 150 في فرنسا. وأضافت الدراسة أن معظم أولئك المومسات يخضعن
لشبكات من (القوادين) الذين يستغلونهن ولا يترددون في قتلهن إذا لجأن للشرطة.
... ... ... ... ... ... ... [الجزيرة، العدد (9425) ](129/96)
قضايا ثقافية
تقويم العلوم الاجتماعية المعاصرة
والأسلوب الإسلامي البديل
د. محمد منظور عالم
[وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نّصِيبكَ مِنَ الدُّنْيَا وأحْسِنْ كَمَا
أحْسَنَ اللَّه إلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إنَّ اللَّه لا يُحِبُّ المفْسِدِين]
[القصص: 77] .
في وقت يمر فيه العالم بمرحلة حرجة من التغيير الاقتصادي، والنمو
السكاني، والصراعات المسلحة وموازنة القوى والأمن الوطني (في إطار تقليدي
من التفكير) وعدم الاستقرار ... من جهة، والنمو التحوّلي السريع والتدهور البيئي، والطفرات التقنية العالية، وارتفاع في درجة الحرارة العالمية من جهة أخرى،
أضف إلى ذلك أن القرن العشرين يودِّعنا ونحن نستقبل الآن القرن الحادي
والعشرين؛ حيث تتوقع البشرية أن تعيش تغيرات هائلة في التقنية وتحوّل أعداد
كبيرة من اللاجئين الاقتصاديين من المناطق الفقيرة في العالم إلى المناطق الغنية؛
فالعالم في مفترق طرق حيث يمكن أن تسيطر الفوضى وتنفصم عرى الأخوة ولا
يسود العدل في المجتمع.
إذن: فإن عبء التحديات والمسؤوليات يقع على كاهل العلماء الاجتماعيين
عموماً والمسلمين منهم على وجه أخص؛ وحتى نتمكن من الاستيعاب الجيد للوضع
فإننا نعرضه في ثلاثة أقسام: نستعرض في القسم الأول تقويماً من منظور تاريخي، وفي القسم الثاني: نتناول بعض المتغيرات التي يحتمل أن تحدث في المستقبل،
أمّا في المرحلة الأخيرة: فإننا نحاول تقديم بعض البدائل.
مما لا شك فيه اليوم: أن العلوم الحديثة جزء لا يتجزأ من الحضارة
الأوروبية (والطريقة الغربية في الحياة) ، وهي تعكس أخطاءها وكذلك فضائلها
[راريت 1975، ص 375] ، إن أي معالجة للطريقة في العلوم كما يقول (جوذ
قلترنغ) (1977م) (دون الرجوع للهيكل الاجتماعي الذي يشكل الأساس، إنما هو
خطأ وديكتاتورية..) (ص 113) .
وقد أصاب (بيرقن) (1980م) حين قال: لقد فقد العلم سلطته السابقة كمصدر
مسيطر على الحقيقة، وينعكس هذا التغيير على التحليل الذي يوضح العلم كشكل
ثقافي محسوس وقيمة ناقلة؛ وعلى الرغم من وجود قناعة بأهمية الأسلوب العلمي
إلا أن هناك خداعاً عاماً من حيث الطريقة التي استخدم بها هذا الأسلوب العلمي
وعدم القناعة بأنه هو العلاج لأمراض الإنسانية.
إننا إذا أجرينا تحليلاً دقيقاً لمفهوم الطرق (العلمية) في إطار الإنسانية فربما
نصل مباشرة إلى (التجريبية المنطقية والإيجابية) كما أن التعريف القياسي للطريقة
العلمية التقليدية توضح أسسها الإيجابية التجريبية، والطريقة العلمية كما يعرفها
(ثيرودورسان) هي: (بناء جسم من المعرفة العلمية من خلال الملاحظة والتجربة
والعموميات والتحقق) . ودون الدخول إلى تفاصيل الانحيازات وتحديد (الطريقة
العلمية) (التجريبية المنطقية) و (الإيجابية) فيمكن أن يقال: إنها تتجاهل وتقصي
نهائياً جميع المصادر الأخرى للحصول على المعرفة وامتلاكها، وبالأخص الوحي.
وهكذا يبدو أن هناك اتفاقاً عاماً اليوم على أن ظهور ذلك التقليد المنحاز من
الإيجابية والتجريبية بتركيزها ذي العقلية الأحادية على تجربة الحس الإنساني،
كان هو الثمرة المرّة لذلك الصراع بين الكنيسة والعلم أثناء ما يسمى بعصر النهضة
وحركة التنوير الفلسفية، وفيما صمّم العلماء على الانعتاق من سلطة الكنيسة مهما
كلف الأمر فقد كان يبدو أنهم قرروا (إلقاء الجنين الوليد مع ماء الغسيل)
[ليفي 1975، 261، تاولمن 1975، 378، إبراهيم رجب 1993] .
وكان من المؤسف أن العلماء الاجتماعيين أيضاً تبنوا ما يعرف بـ (الطريقة
العلمية) عند دراستهم للإنسانية ويكفي أن نورد ما يلي:
(تعد أساليب العلوم الطبيعية الوسائل الوحيدة الدقيقة للحصول على المعرفة؛
لذا ينبغي أن تقتصر العلوم الاجتماعية على استخدام هذه الأساليب وتقتدي بالعلوم
الطبيعية) [ثيودورسون 1969، 306] .
لا أحد ينكر الأثر العميق للأسلوب (العلمي) على العلوم الاجتماعية، وقد
استخدمت (أساليب البحث وتعميماته مما يعكس الادعاءات المتكررة نفسها
وادعاءات نظرية المعرفة [فورد 1984] كل هذا قد جرى دون توجيه نقد حقيقي؛
فقد اختلف موضوع مسألة العلوم الاجتماعية بطريقة متميزة جداً عن العلوم
الطبيعية) [ويكي 1987، 222] وقد كانت التأثيرات موهنة للغاية.
ولسنا بحاجة إلى الاستمرار في توثيق إخفاق العلوم السلوكية والاجتماعية في
فهم الإنسانية وتقويم سلوكياتها؛ لأن ذلك موثق جيداً ومعروف، وهناك نقد يوجه
الآن نحو الربط بين هذه لإخفاقات؛ وفائدة تلك النظرة العتيقة للعالم والعلوم التي لا
تزال تهيمن على العلوم الاجتماعية [إبراهيم رجب 1998: 481] وقد قال
(هوارد) في ذكاء لماح: (إذا امتلك الإنسان خصائص تختلف عن خصائص
موضوع المسألة التي تدرس بواسطة العلوم الأخرى فعندها ربما تكون العلوم
الملائمة بحاجة لأن تكون مختلفة إلى حد ما عن العلوم الموجودة الآن)
[1985: 259- 260] .
ومن المفيد أن نذكر هنا أن الطفرة في الفيزياء وعلوم الأعصاب وعلم
الكونيات وعلم النفس تؤثر في نشاط علماء الاجتماع أيضاً؛ وذلك في تغيير
نموذجهم نحو ثقافتنا ومعرفتنا، يقول (كابري) (1982) : لقد تسببت التغييرات
المثيرة في المفاهيم والآراء التي حدثت في الفيزياء وفي نظرياتنا المعاصرة للمادة،
في إحداث تغيير ملحوظ في رؤيتنا العالمية من الميكانيكية إلى رؤية روحانية وبيئية، وبقدر كبير من التبصر نحو طبيعة المادة وعلاقتها بالعقل الإنساني.. وقد أجابتنا
رؤية العالم بالفيزياء الحديثة التي تتناقض مع مجتمعنا الحاضر. وسوف تكون
هناك حاجة لشكل اجتماعي واقتصادي يختلف جوهرياً: ثورة ثقافية بالمعنى
الحقيقي للكلمة [الصفحات 17- 18] .
لا يسعنا المكان ولا الزمان للاستمرار في مدح التقدم المدهش الذي يحدث في
مجال الفيزياء وغيرها من العلوم، فنحن نحتاج هنا لأن نتوقف لحظة لتلخيص
التحليلات السابقة؛ فمن الواضح أننا نلج إلى عصر ما بعد الإيجابية في العلوم
الاجتماعية، وإن النموذج الجديد يضع اعتباراً للدور المهم الذي تلعبه الظواهر
الإدراكية وغيرها من الوعي الداخلي في تحديد السلوك الإنساني؛ وبهذا نجد أن:
(التجريبية في مكانها الصحيح؛ بمعنى أنها واحدة من أساليب كثيرة للمعرفة)
[ويك 1987، 223] .
إننا على قناعة بأن العوامل الروحية والبصيرة الدينية فوق كل ذلك ولها موقع
مهم تستحقه في المؤسسة العلمية، وسوف نتناول ذلك في القسم الأخير.
نحن لا نهدف إلى الخوض في تفاصيل النمو السكاني والتطور التقني
المتسارع، والطفرة في وسائل الاتصالات وفي الأموال، وظهور المؤسسات متعددة
الجنسيات، والصراعات العسكرية وعدم الأمان، والتطور المذهل في التقنية
الحيوية وفي تقنيات الإنسان الآلي، والطفرة الصناعية الحديثة والمخاطر التي تهدد
البيئة الطبيعية، والتهديد الكبير غير العسكري للسلامة ولشعوب هذا الكوكب،
ولكننا على كل حال قد نشير إلى بعض التغييرات في مجال الانفجار الديموغرافي
والتطور التكنولوجي والطفرة المالية وظهور المؤسسات متعددة الجنسيات وغيرها
في مقابل العدالة الإنسانية والاستقرار.
هناك جدل حول مسألة زيادة السكان وتبديد الموارد بالمعدل نفسه حول العالم. ويختلف الناس بأعراقهم ومجموعاتهم في أساليب الحياة؛ وذلك كله مجتمعاً
يتسبب في مسألة شائكة ذات صلة بالسياسة العالمية والمحلية والنسيج الاجتماعي
وسياسات الغذاء والطاقة والهجرة.
ودون الدخول في تفصيلات ما سبق فلننظر إلى الحقيقة المؤلمة وهي: أنه
بحلول عام 2025م وعام2050م ربما يصل تعداد سكان العالم إلى 8. 5 أو 9. 5
بليون نسمة على التوالي وهو أمر مرعب من منظور تاريخي، فقبل عام 1925م
كان تعداد سكان العالم بليونين؛ ولكنه تضاعف عام 1975م إلى 4 بلايين، وفي
عام 1990م وصل التعداد إلى 5. 3 بلايين نسمة [الإيكونمست 20/1/1990م،
ص 90] . وعلى الرغم من انخفاض النمو السكاني في البلدان النامية وركوده
وانخفاضه الحاد في بعض البلدان المتقدمة إلا أن عدد السكان الهائل سوف يتزايد
على ظهر هذا الكوكب.
ويرى معهد (مالثوزيان) للاقتصاديين والديموغرافيين أن (العبء الذي سوف
يقع على هذه المدن والتي تفتقر أصلاً إلى الإسكان الملائم (أو أنه غير متوفر
أصلاً) وإلى التصريف الصحي، والنقل، وتوزيع الغذاء، ونظم الاتصالات إذا
تضاعف عدد السكان مرتين أو ثلاثاً ... فكيف يمكن توفير الغذاء للسكان خاصة في
أوقات المجاعات؟ وماذا يحدث لتلك العلاقات الحساسة وغير الواضحة بين المدن
والبلدان؟ وحتى إذا توفر الغذاء: فهل يمكن توفير الصحة والتعليم لهذه البلايين من
الشباب وبعد ذلك توفير الوظائف بمعدل يمنع البطالة وعدم الاستقرار الاجتماعي؟
[كنيدي 1993م، ص 27] .
وإذا أخذنا مصطلحات الاقتصاد الضخم مع القيم والمبادئ الاجتماعية الغربية
فإننا سوف نواجه مشكلة حقيقية لأولئك الذين تعدّت أعمارهم الخامسة والسبعين،
فإن (معدل استغلال الكبار) سوف يتسبب في معاملة غير إنسانية نظراً للاعتبارات
الاقتصادية التي تدعو إلى توظيف أفضل للموارد في الصناعة والتصنيع.
وربما يتفاقم الوضع بزيادة الاتصالات وبوجود المؤسسات متعددة الجنسيات،
إننا نعلم أن منتجي التقنية والذين يتحكمون فيها هي المؤسسات متعددة الجنسيات
التي تتزايد أحجامها واتصالاتها العالمية؛ ناهيك عن وضع الحلول للفجوة بين عالم
يملك وآخر لا يملك، وربما تتسبب الهياكل المتغيرة للتجارة الدولية والاستثمار في
تفاقمها [كنيدي، ص 49] .
ونحن جميعاً نعرف أن تطور الاقتصاد العالمي كان دائماً في مصلحة الاقتصاد
الصناعي المتقدم وليس مصلحة البلدان النامية؛ ونتيجة لذلك وبعد حوالي خمسين
سنة من النمو الاقتصادي العالمي الذي ليس له مثيل: يستقبل العالم القرن الحادي
والعشرين بأكثر من بليون شخص يعيشون في حالة الفقر وهو رقم مخيف؛ خاصة
إذا اتضح أن هذا البليون يكابد ليبقى على قيد الحياة بأقل من (370) دولاراً في
السنة.
إن هذا السعي نحو الرخاء العالمي قد حدث في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه
الشركات الكبيرة ذات الجنسيات المتعددة وتفاعل معها وهي التي لا صلة لها
بمصالح أو قيم بلدانها الأصلية، وحيث إنها تتنافس مع غريماتها المماثلة لها في
الحصول على النصيب الأوفر من السوق العالمية؛ فقد ابتدعوا استراتيجية لتوجيه
الاستثمار والإنتاج من مكان إلى مكان آخر في العالم؛ وقد ساعدها على ذلك تلك
الطفرة الهائلة في وسائل الاتصال والتقنيات المالية التي وفرت سوقاً عالمية
للبضائع والخدمات [ب. كنيدي، ص 49] .
إن التحرر المالي لم يكتف بتوسيع التجارة العالمية بل فتح أيضاً مجالاً
للاستثمار المباشر في التصنيع والخدمات من خلال التخصص في عملة معينة أو
في أدوات مالية أخرى، إن هذا الاندفاع في تدفق رؤوس الأموال العالمية يقود إلى
ظهور شيئين: إعادة ترتيب الأسواق المالية العالمية، وطفرات هائلة في
الاتصالات العالمية نتيجة للتقنيات، وبدون الزيادة الهائلة في طاقات الكمبيوتر
وبرامجه، والأقمار الصناعية والبصريات العصبية والكابلات والناقلات الإلكترونية
عالية السرعة والأسواق العالمية؛ فلم يكن من الممكن أن تعمل في وحدة اقتصادية
واحدة، كما أن المعلومات والسياسة والأفكار والتقدم الهائل الثقافي وتوجهات
الاستهلاك لم يكن من الممكن توفيرها فوراً لما يزيد على 200. 000 مؤشر
متصلة كلها بنظام الاتصال العالمي، وكل هذا حسب بعض آراء العلماء ربما يكون
فقط المرحلة الأولى.
ولا تكتفي المؤسسات متعددة الجنسيات بتمتعها بالمعايير الاقتصادية؛ ولكن
مؤسيسها أيضاً يضعون الحماية لأنفسهم من التقلبات غير المتوقعة للعملات،
ومختلف أشكال النمو الاقتصادي والتدخلات السياسية، ولن يهمهم أي نوع من
الركود الاقتصادي أو تراجع معدلاته، والشركة التي ترغب الاستثمار في بضائع
محظورة ببعض البيروقراطيات (خاصة في الصناعات البيوكيميائية) تستطيع أن
تحوّل صناعتها إلى جزء آخر من العالم لا توجد فيه مثل هذه القوانين، والمؤسسة
متعددة الجنسيات التي تقلق من الرقابة التطوعية التي تفرضها الحكومات لحماية
الشركات المحلية من المنافسة المفتوحة تستطيع دوماً أن تدور حول تلك الموانع
وأن تضع مشروعات داخل تلك المنطقة المحمية، وعندما يجدون ثغرة في
المعوقات التي يضعها المخططون فإنهم في الأغلب يجدون فرصاً طيبة للربح،
على الأقل في السنوات الأولى للسوق التي استطاعوا دخولها حديثاً
[ب. كنيدي، ص 51] .
لقد اشتهرت العالمية كثيراً ولكنها في الحقيقة ذات آثار عكسية على المصلحة
الوطنية والسوق المحلية وعمل العمال والمحليات التي تنكمش فيها العمالة الماهرة.
ومن الواضح أن الطفرة في علم التقنية الحيوية تتضمن احتمالاً لإعادة توزيع
أماكن إنتاج المحاصيل الزراعية (أو بدائلها) خارج العالم النامي؛ مما يتسبب في
تدهور الموقف التجاري والدخول في ديون، والاعتماد بشكل عام على الأقطار
الغنية، وهكذا فإن من غير الواضح مدى استطاعة المجتمعات العالمية على معالجة
النتائج الاقتصادية والاجتماعية ذات الحجم الكبير عندما تتحول إلى الزراعة بالتقنية
الحيوية وكذلك معالجة الأغذية) [ص، 81] .
ولنوجز هذا القسم في أن الانفجار الديموغرافي مع التطور السريع في التقنية
في مجالات الاتصالات والمؤسسات المالية والمستوى الراقي للتقنية في مجال
الزراعة من خلال التقنية الحيوية واستخدام الآلات سوف يتسبب في مشكلة خطيرة
لبقاء الجنس البشري.
إن البطالة والوظائف والنسيج الأخلاقي مسؤوليتنا؛ وواجبنا أن نتناول هذه
القضايا بالمناقشة والبحث حتى نجد لها الحلول.(129/100)
منتدى القراء
غداً سنكون كما نحب
جمال الدين عبد الرحيم
سَلِمْتَ وإن شابه اليومُ أمسا ... ونِلْتَ السعادة جسماً ونفسا
وما بي غرورٌ ولكنّ عصري ... بشيرٌ بنصرٍ قريبٍ ومرسَى
وقد آنَ أن نرتوي باليقين ... نعيدُ لإسلامنا الحرِّ قوسَا
ونطردُ عنا خُنُوعَ الليالي ... ونبعثُ في الناس روحاً وبأسا
ونسقي العِدا من صنوف المنايا ... ونهرِ الهزيمةِ كأساً فكأسا
(كنانتنا أتخمت بالسهام) ... وبأس المهيمن أقوى وأقسى
ويلتئم الشملُ شملُ الأباة ... وكيدُ الطغاة لنا كان درسا
ويجمعنا عند داعي الجهاد ... ضمير يحرك قلباً ورأسا
ونقتلعُ الشوكَ شوكَ الطغاةِ ... وحبُ الفضائل يصبحُ غَرسا
وبين جوانِحنا معجزاتٌ ... ودمعٌ غزيرٌ إذا الليل أمسى
وسوف نجدد عهد التآخي ... وتصبح أيامُنا الدهرَ عُرسا
ونصبح للحق جنداً وأهلاً ... بتمكين ربي فنُبعثُ شمسا
وننعمُ بالخير دوماً لأنّا ... نسيرُ مع الحق معنىً وحِسّا(129/107)
منتدى القراء
إنما تؤخذ الدنيا غلابا
عبد الرحمن التركي
الحق والقوة هما السبيل للحصول على الحقوق، والضعيف ولو كان صاحب
حق فإنه يبقى ضعيفاً وربما أخذ حقه. ومما يذكر على سبيل التندر المثل المعروف: (أوسعتُهم سباً وساروا بالإبل) ذلك المثل الذي يحكي مهزلة الأعرابي الذي بعثته
أمه ليرعى الإبل فأخذها العدو فوقف يسب ويشتم اللصوص حتى تعب لسانه وذهبوا
بالإبل؛ وهو عين ما حصل لفلسطين حينما سرقها يهود بمعاونة إخوانهم النصارى.
إن الذين ملأوا الدنيا شجباً وهجاءاً لليهود ثم ناموا، بينما اليهود استقروا في
فلسطين، أدخلونا في مأساة يا لها من مأساة؛ فماذا ينفعنا أن تمدحنا جرائد العالم
بأننا طيبون ومهذبون بينما يهود يرتعون في مسرى الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
إن المسجد الأقصى وفلسطين حق صريح للمسلمين؛ لأنها أرض إسلامية ولا
ينبغي أن نتنازل عن شبر منها لمخلوق؛ لأن في ذلك تنازلاً عن حقنا وشرفنا؛ وما
كان دين الإسلام أبداً دين ذلة وخنوع. فإلى متى نقبل بتعالي يهود وتسلطهم على
مقدراتنا؟ وحتى متى نرضى بالذل؟(129/109)
عفوًا أستاذي
ساير هليل المسباح
عذرًا أيها الأستاذ الفاضل، فما كانت الكتابة يومًا سبيلي في التعبير، ولم ألجأ
إليها إلا بعد أن سدت أمام طرق هي أولى وبالبيان أحرى.
طالما نظرت إليك بعين الإكبار والاقتداء، فلا تجعلني أنظر إليك بعين ملؤها
الإهمال والازدراء، ولا يكن قبولي لك القبول المبطن بالرفض.
أيها الأستاذ: لست ناكرًأ جميلك يوم دللتني على طريق الخير وقدتني إلى
درب الهداية، فأشرقت أركان قلبي، وابتهجت كل ذرة في كياني، أشكر لك ذلك
وأرجو لك الخير في صلواتي ودعواتي.
فقد قمت بدورك فأحسنت العمل حين انتشلتني من طرق الضلال في وقت لم
أجد توجيهًا لا من قريب بعيد، فجئت أنت في وقت تاه وانجرف كثير ن زملائي
وأقراني مع تيار الحرية الضالة، والركض خلف الشهوات المؤقتة، ولا زلت أذكر
تلك الأوقات التي كنت فيها تأخذني من يدي ناصحًا، وتطوف بي بعيدًأ عن الناس
وانحرافاتهم بينما كان زملائي ييممون الطرف يحثون الخطى نحو ملهى أو مسرح.
هم القليل مثلي الذين سعدوا بأستاذ مثلك عرف الحق فدل عليه، وعلم الباطل
فحذر منه، وأخرج فتية مؤمنين يكملون الدرب، ويحملون مشعل الهداية، غير
أني اليوم أيها الأستاذ لم أعد ذلك التلميذ المراهق، ولا ذاك الصبي الطائش الذي
تخاف عليه خوف الأمس، إني زوج وأب ورب عمل، فلا تلمني إذا خالفت لك
رأيًا، ولا تغضب مني إذا لم أوافقك في كثير مما تفعل، فأنت قد اخترت طريقك
في العمل فدع لي طرقًا أخرى لعلي أن أكون فيها أجدى وأنفع.
أيها المربون الفضلاء: أقولها بكل صراحة: أرفض الوصايا حتى لا أكون
نسخة منك؛ إني لا أخالفكم في الهدف إن لم يكن في طريقي إثم ولا خطأ، والجنة
واحدة والأبواب ثمانية، أو لم تقل لي يا أستاذي الفاضل: لكل زمن دولة ورجال؛
فاجعلني من رجال هذا الزمن، وأنا تارك لك ما مضى، ولست بمزاحمك فيه
وأرجو أن يكون كلانا على خير.(129/106)
منتدى القراء
يا خير جيل
(أبيات في مدح الصحابة رضي الله عنهم)
محمد الحوفي
يا خير جيل على الأرض التي بسطت ... ما سار مثلٌ لكم في البر والبحَرِ
يا خير جيل لكم فضل وسابقةٌ ... كالنجم يعلو وباقي الناس في الحُفَرِ
فرسان حربٍ إذا ما الحرب قد حميت ... رهبان ليلٍ إذا ما جُلْتَ في السّحَرِ
صدقتم الله حقاً حيث صدقكم ... من فوق سبعٍ ويكفي ذاك من فِخَرِ
يا خير جيل صحبتم خير من وطئت ... أقدامه الأرض في حلٍ وفي سَفَرِ
إن القلوب لها شغلٌ ومشغلة ... بجنةِ الخلد لا بالبهم والبقرِ
هم الذين لشرع الله قد حملوا ... هم الهداةُ بآي اللهِ والسورِ(129/106)
منتدى القراء
بُشرى
سبيكة سلمان آل خليفة
هذه كلمات من القلب كتبتها تحية لإحدى البنات عندما أتمت بفضل الله حجابها: وأوصيتها بتقوى الله في السر والعلن، والدعاء فإنه سلاح المؤمن، وبالتزود
بالعلم الشرعي وسير الصحابة.. والتمسك بتلاوة القرآن الكريم؛ فإنه العروة الوثقى
المنجية في خضم الحياة المليئة بالفتن.. فأهلاً يا أخية!
سيري على درب الهدى بسلامٍ ... وبنور هادي الخلق للإيمانِ
بشرى تُزف لمسمعي يا طيبها ... من لحظةٍ غابت بها أحزاني
بشرى بأخت تنضوي للوائها ... وتعود عودة مؤمن ندمانِ
بشرى تُزف لمسمعي أهلاً بها ... كوميض نور في دجى الحيرانِ
يا مرحباً بطوالع الخير الذي ... يبني لنا مجداً على الأركان
بك يا سليلةَ خولةٍ وسميةٍ ... نرقى العُلا ونَجِدّ في البنيانِ
فاسقي شباب الله ديناً ناصعاً ... برئت معالمه من البهتانِ
كوني له صدراً يَدُرّ عقيدةً ... للروح تقوية وللأبدانِ
تهبين للإسلام جيلاً صامداً ... يجلو الظلام بهمة وتفاني
ولنا بعزمك يا ابنة الإسلام ... آمال تمزق كل ذاك الفاني
وتعود أمتنا تقود بعزةٍ ... وبسنة المبعوث من عدنانِ
بمشاعل التنزيل تحدو عالماً ... تاهت لديه معالم الفرقانِ(129/107)
منتدى القراء
الحَوَل الفكري
في تقويم الرجال وعواقبه
محمد نجيب لطفي
من الإشكاليات الفكرية المعاصرة إشكالية الحَوَل الفكري في تقويم الرجال،
وما يترتب عليها من آثار سيئة وعواقب وخيمة.
والناظر في أحوال المسلمين في هذا العصر يرى عجباً في هذا الصدد؛ فعند
القوم يستوي الواعظ قليل العلم البعيد عن التأصيل الشرعي مع عالم شرعي تبحّر
في علوم الشريعة وبلغ فيها مبلغاً، وكذلك يستوي الأديب صاحب الإنتاج الأدبي
الضحل مع المفسر البارع والأصولي المحقق والمحدث الحجة.
بل ربما تنفرج زاوية الحول الفكري فيصبح الواعظ قليل العلم أعظم عند
القوم من العالم الشرعي المتبحر في علوم الشريعة، ويصبح كذلك الأديب الضحل
أسمى من المفسر البارع والأصولي المحقق والمحدث الحجة. ويستوي كذلك
المعتزلي صاحب العقيدة الكلامية الأشعرية مع السلفي المنتمي إلى عقيدة السلف
عقيدة أهل السنة والجماعة.
ويستوي المتمذهب المتعصب مع من يأخذ بالدليل ويجله وييمم شطره.
بل ربما يستوي الصوفي القبوري مع صاحب عقيدة خالية من الشرك بكل
صوره وألوانه. وهناك الكثير من هذا، وعواقب ذلك وخيمة جداً، منها على سبيل
المثال:
1- عدم وضوح صورة الأنموذج الأمثل الذي يجب أن يكون محل القدوة
والأسوة بالنسبة لسائر المسلمين.
2- الظلم البين الواقع على العلماء الربانيين حيث يُهضمون ويُنتقص قدرهم
وتُضيّع حقوقهم وكذلك حرمان الناس من علمهم وورعهم.
3- ظهور جيل مشوش الفكر مفتقد الثقة.
ولذا يجب أن يكون الأمر كما يلي:
1- تقويم الرجال كما ينبغي دونما حرج، ولعل في علم الجرح والتعديل
وكتب الرجال خير دليل على ذلك.
2- إعطاء كل ذي حق حقه، وعدم تلميع الأشخاص، وعدم الانبهار كذلك
بهم كما يحدث كثيراً.
3- إبراز منهاج السلف، وتقويم الأمور كلها وفق ما يقتضيه ويلزمه.
ونأمل أن تعتدل الموازين قريباً في هذا الأمر الخطير جداً.
[وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ] [الأحزاب: 4](129/108)
منتدى القراء
سلام الله أبعثه إليكم
عبد الله سعد الغانم
سلام الله أبعثه إليكم ... فأنتم إخوتي خير الصحاب
نؤمل فيكم أملاً كبيراً ... فسيروا في الطريق بلا هياب
كتاب الله دستورٌ عظيمٌ ... به نهدي إلى سبل الصواب
به الآدابُ والأخلاقُ طراً ... وتمجيدٌ لخالقنا المهاب
تحلوا بالفضائل واستقيموا ... وإن كان التفرنج كالعُباب
وكونوا قدوة في الخير تعلوا ... على الأقران بل كل الشباب
وجدّوا في طريق العلم حتى ... تنالوه وتحظوا بالثواب
شباب الدين أمتكم تنادي ... فلبوا ذا النداء بلا ارتياب
حماكم ربي الرحمن دوماً ... من الأشرار بل كل الذئاب(129/109)
الورقة الأخيرة
هواة التقويم ... وهواة جمع الطوابع
عبد العزيز السعدي
تكثر سهام الانتقاد والتأنيب من الباحثين والتربويين تجاه العديد من
الاهتمامات الوضيعة من جهة، وتجاه أصحابها ومحترفيها على مختلف ميولهم
وأعمارهم من جهة أخرى، كهواية جمع الطوابع، وتربية الكلاب، والمراسلة،
وغيرها من تلك الهوايات والاهتمامات التي تشترك في غير ما هدف مع ضيق
النظر وسطحية التفكير.
وهذه الاهتمامات بطبيعة الحال لا تحتاج إلى شاهد من غير أهلها يشهد عليها
بالسفافة والتفاهة.. بل كفى بها شهيداً على حالها، والحق كل الحق مع من تعرض
لها في نقده وبين تفاهة مقاصدها، بالإضافة إلى وضوح أن احترافها والانكباب
عليها عديم الجدوى؛ فهذه الهوايات لا تنفع ولا تفيد الأمة بشيء.. ولا تتكفل
بتوجيه طاقات أبنائها توجيهاً صحيحاً نافعاً يكفل العطاء والنتاج المنتظر، إنما هي
قتل للإبداع، وبعثرة للجهود، وكبكبة لقوالب التفكير، ودناءة ووضاعة في
اتجاهات النظر لدى أبناء الأمة.
ومما يجدر النظر إليه أن هناك هوايات أخرى وأؤكد على أنها هوايات لا
تتعدى ذلك المسمى بأي حال من الأحوال قد بدأت بالانتشار والذيوع بين عدد من
الشباب الذين يظهر عليهم طابع الخير والاستقامة، وأصبحت تشغل مجالسهم
وأوقاتهم كثيراً، وتدير دفة الحديث بين أفرادهم على مستويات مختلفة.. وهي في
الحقيقة لا تختلف كثيراً في منطلقاتها وأهدافها وركائزها عن هواية جمع الطوابع
والمراسلة. ولتلمح أخي القارئ عنوان المقالة مرة أخرى!
نعم.. لعلّي لا أبالغ حين أصفها بأنها هواية ... وكم من هواية قد جرّت إلى
غواية.. وكم من هادٍ احترف هوايته فأصبح غاوياً لا هادياً.. ومن هذه الهوايات
المفخخة التي لا تكلف صاحبها جهداً إلا تقليب اللسان في حنكه: هواية التقويم ...
تقويم الأشخاص والعلماء والمناهج وكل ما من شأنه أن يُقَوّم.
لا جدال أبداً على أن التقويم رادف مهم.. بل وسندٌ رئيس لتسير عجلة
الصحوة على بصيرة في الوجه المطلوب وعلى المسار الصحيح ... ولكن أي تقويم
نعني؟ وأي تقييم نريد؟ إنه التقويم العلمي المنضبط المدروس ... لا تقويم الهواية.. وهذا النوع من التقويم أعني المنضبط يعتمد على ضوابط كثيرة ليس مجال
عرضها مثل هذا المقال، بل ولا ينبغي أن يعرضها من هو مثلي، قال الإمام
الذهبي: الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتامّ المعرفة تام الورع، (ميزان الاعتدال 3
/46) وإن كان من أهمها الإخلاص لله في النقد والتقويم، ومن ثم وجود عدة النقد
عند المقوّم، ووجود مسوغ التقويم، بل وصياغته بعبارات منضبطه لا تزيد شيئاً
في حق المقوّم أو تنقصه.. إلى غيرها من الضوابط التي لا تجد رائحتها في تقويم
الهواية فضلاً على أن تلاحظ أسسها وركائزها فيه.
إنه حين تنعدم تلك الضوابط عند المقوّم فإنه يتحول إلى هاوٍ.. وأي هاوٍ ...
يكيل المدح لفلان بمكاييله، ويكيل الذم لفلان بمكاييله، ويطري فلاناً وينتقد فلاناً..
وربما لا يكون ذلك المقوم الهاوي قد بلغ قيد أنملة من فضل فلان المقوّم، فليته قد
جمع الطوابع أو انشغل بتربية الطيور فأراحنا وأراح نفسه من ذلك العناء.
مهلاً هواة التقويم وغواته؛ فأنتم لستم ببعيدين عمن جمع الطوابع إن لم
تكونوا أهدر منهم للوقت! فمن جمع الطوابع فإنما وزره على نفسه ... وأنتم قد
انتقلت آثار أوزاركم إلى غيركم ممن جرحت كبرياءَه وعطاءَه وطهارتَه ألسنتُكم ...
[وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإذَا كَالُوهُمْ أَو
وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ] [المطففين: 1-6] .(129/111)
جمادى الآخرة - 1419هـ
أكتوبر - 1998م
(السنة: 13)(130/)
كلمة صغيرة
المعارضة للمعارضة
في دول العالم الذي يعدونه متحضراً يوجد ما يسمى بالمعارضة التي عادة ما
تحمل تصورات ومنطلقات تتباين مع الحزب الحاكم لكنها تعمل في نسق ديمقراطي
لخدمة البلاد وعمل كل ما من شأنه توجيه الحزب الحاكم لما يعود على بلادها بالنفع
والفائدة. وربما يستفيد الحزب الحاكم من طروحات المعارضة لتصحيح الأوضاع
وتصويب الآراء، وعادة ما تكون العلاقة سائرة على وتيرة متناغمة وفي إطار
الصالح العام. لكن المعارضة فيما يسمى بالعالم الثالث أو على الأخص عالمنا
العربي والإسلامي نجدها أوطأ ما تكون في أساليب عملها الذي لا تتورع معه عن
أن تورط من يعارضون في كثير من المشكلات، وربما وضعت يدها مع العدو
الخارجي الذي قد يخالفها في المبادئ والمنطلقات، وربما صارت (طابوراً خامساً)
يعمل للتفجير والتدمير. ونجد المعارضة في السودان تمثل هذا التوجه بكل عمالته
ووقاحته إلى حد أنها حاربت بلادها ووضعت يدها بيد عدو صليبي معروف بعداوته
للأمة ولدينها ولمبادئها؛ وها هم بكل صفاقة يؤيدون العملية الأمريكية الظالمة
بضرب مصنع الشفاء للأدوية بدعاوى لا يؤيدها أي دليل، بل إن كل الشواهد تدل
على كذب الأمريكيين بأن المصنع مخصص لصنع أسلحة كيمياوية، بل بدأت
الحقائق تظهر أن هناك غربيين شاركوا في تأسيس ذلك المصنع ومنهم أمريكي
وبريطاني أنكرا التهمة التي بموجبها ضُرب المصنع.
ولكن حينما نعرف من هي المعارضة السودانية في رموزها من عُبّاد السلطة
ومصاصي دماء الشعب السوداني ونعرف مواقفهم العلمانية من الإسلام وصلاتهم
المشبوهة مع أعدائه لا نستغرب أن يكونوا بتلك العقليات التي تضحي في سبيل
الحكم بكل المبادئ والقيم.
وقريباً من موقف المعارضة السودانية كان هناك موقف مشابه ولكنه أغرب
وهو موقف المعارضة الأفغانية، لكونه موقفاً يصدر من مجاهدين سابقين، فهل
لأجل (بغض الطالبان) يُتغاضى عن جرائم الأمريكان؟ !(130/1)
الافتتاحية
حرب القرن القادم..
وراء افتعال علاقة بين الإسلام والإرهاب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد: فمنذ سنوات قلائل، والدعوات والصيحات تخرج من الغرب مبشرة بصراع
قادم لا محالة ... وظلت التصريحات تتناثر هنا وهناك محذرة من (الأصولية
الإسلامية) باعتبارها العدو الأول للحضارة الغربية بعد زوال الشيوعية. وجرى في
الوقت ذاته ربط مريب بين ثلاث مفردات، لتصبح ذات مدلول واحد في النهاية
وهي: (الإسلام الأصولية الإرهاب) وليتم التسلسل التلقائي بينها وتتعود عليه
الأفهام والأسماع؛ فالتمسك بالإسلام: يعني الأصولية، والأصولية: تعني الإرهاب! ولسنا في حاجة الآن لاستعراض الدلائل على هذا الربط المتعمد؛ لأنها أكثر من
أن تحصى.
وعلى إيقاع دوران الآلة الإعلامية الغربية لإتقان تلك المعزوفة؛ كانت آلات
الإعلام العربي تكرر الأنشودة السمجة ببلاهة وبلادة حيناً، وبخبث ومكر أحياناً..
وظلت النغمة النشاز تتعالى شيئاً فشيئاً، حتى عدنا لا نسمع لهؤلاء حديثاً عن
الإسلام إلا قليلاً ولكن نسمع عن الأصولية الإسلامية.. ومع الوقت قلّ الحديث عن
الأصولية ليحل محلها: الإرهاب؛ لتكون تلك الكلمة هي المرادف المباشر لـ
(الإسلام) ! حتى إذا كاد (المصطلح) أن يستقر، بدأنا نسمع عن السعي لخطوات
عملية للاستعداد لدخول الصراع القادم ... مع الإسلام؟ ! لا لا ... مع الإرهاب!
وأصبح كل عدو لدود يقول: نحن لا نحارب الإسلام، بل نحارب الأصولية.. لا
بل نحارب الإرهاب. وعلى هذا الزعم بدأت الحرب بصورة إقليمية في أكثر بلاد
المسلمين ضد الإسلاميين باسم محاربة الإرهاب، والأمثلة على ذلك ماثلة أمامنا من
كل مكان، ولا تحتاج إلى برهان.
ثم بُدئ في إعطاء تلك الحرب بُعداً دولياً، وتعالت صيحات متشنجة هنا
وهناك بضرورة عقد المؤتمرات الدولية لمكافحة الإرهاب بصورة جماعية!
ثم بلغت الأمور ذروتها عندما انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية الدعوة
الصريحة إلى خوض (حرب عالمية) تقودها أمريكا (ضد الإسلام) عفواً ضد
الإرهاب! !
لقد انتهز الرئيس الأمريكي بيل كلينتون حوادث تفجير السفارتين الأمريكيتين
في كينيا وتنزانيا ليدشن مرحلة البدء بتلك الحرب، فقبل أن تنتهي التحقيقات في
حوادث التفجير، وقبل أن تثبت أي جهة دولية أو غير دولية التهمة ضد أحد بدأ
بتوجيه ضربات جوية ضد أهداف في السودان وأفغانستان. ولكم كانت عجيبة
غريبة ومريبة تلك التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته بُعيد
توجيه تلك الضربات. قال كلينتون: (لقد بدأنا حربنا ضد الإرهاب.. وعلينا
الاستعداد لحرب طويلة) ! في حين زادت في الصراحة والوقاحة وزيرة خارجيته
اليهودية (مادلين أولبرايت) فقالت: (على الأمريكيين أن يعدوا أنفسهم للحرب ضد
الإرهاب.. إنها حرب القرن القادم) ! بينما تحدث وزير الدفاع عن حرب تشبه
الحرب العالمية الأولى والثانية.
والظاهر أن الصراع الذي بشر به (هنجتون) في كتابه (صراع الحضارات)
والسيناريو الذي وضع خطوطه (واينبرجر) في كتابه: (الحرب القادمة) والظروف
المواتية التي تحدث عنها نيكسون في كتابه (عام 1999 نصر بلا حرب)
و (اغتنموا الفرصة) والنهاية المزعومة التي نظّر لها (فوكوياما) في كتابه: (نهاية
التاريخ) يبدو أن تلك الاحتفالية الألفية، قد قص شريط افتتاحها الرئيس المراهق
(كلينتون) ! فما هي ملامح تلك الحرب المرتقبة، أو التي أعلنت بالفعل؟
يمكننا من خلال أولى جولاتها في السودان وأفغانستان أن نلمح أبرز معالم تلك
الحرب فيما يلي:
* إنها ستكون صليبية عالمية، بأسلحة غربية وتوجيهات يهودية.
* أن العدو الوحيد فيها هم: الإسلاميون باعتبارهم عدو الغرب الباقي الذي لم
يركع.
* أن تلك الحرب لن تقيم وزناً لما يسمى بـ (الشرعية الدولية) إلا إذا خدمت
أهداف تلك الحرب المعدة سلفاً.
* أنها ستكون حرباً ذرائعية، تتصيد الفرص وتصطنعها إن لم تجدها.
* أن تأييد العالم أو تنديده سيستويان، ولن يقيم الأمريكان وزناً لمعارض أياً
كان.
* أنها ستدوس على سيادة الدول وحريتها في أراضيها، إذا ما تعارضت مع
خطوات هذه الحرب.
* أنها ستعتمد أسلوب الغدر والمباغتة حتى لا تترك أحداً في مأمن..
أما عن هدف تلك الحرب والاستمرار فيها، فالواضح أنها ترمي إلى إبقاء
المسلمين في ذيل الأمم، ومؤخرة الركب، وتجريدهم من أي قدرة على المبادرة أو
المبادأة. سواء أكانت على مستوى مجموع دولهم أو بعضها أو حتى على مستوى
التجمعات التي تتطلع إلى الخروج من الأزمة المصيرية التي تعيشها أمتنا الإسلامية..
إن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين لا يخفون إصرارهم العنيد
على فرض الحصار الحضاري على أمة الإسلام، بمنعها من كل أسباب التقدم،
وشغلها بمشكلاتها الداخلية والخارجية، لتنعم دولة اليهود بعد ذلك بالاستقرار والقوة
والعلو.
نعم: يجب ألا نتجاهل الرمز الذي تشير إليه كلمات (مادلين) و (كوهين)
اليهوديين في الإلحاح على إعطاء الحرب بُعداً كونياً وزمنياً أبعد مما يتصور..
فنحن نعتقد جازمين أن وقود تلك الحرب المعلنة يُستمد من حقد اليهود.. وليست
أحقادهم القديمة وتصريحاتهم العدائية بأفصح ولا أصرح من تصريحاتهم التحريضية
الجديدة. ففي عام 1993م قال (حاييم هيرتزوج) الرئيس الإسرائيلي السابق أثناء
زيارة قام بها لبريطانيا: (إن الأصولية الإسلامية هي الخطر الأكبر على العالم
الحر) وأعاد التحريض بأسلوب آخر زعيم آخر، هو الهالك (رابين) فقد قال في
مؤتمر لاتحاد المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة (إيباك) في إبريل 1993م
(إننا نريد التأكد من أن الرئيس كلينتون وفريقه يدركان تماماً خطر (الأصولية
الإسلامية) والدور الإسرائيلي الحاسم في محاربتها) واستطرد قائلاً: (إن مقاومتنا
ضد الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها أيضاً إيقاظ العالم الذي يرقد في سبات
عميق على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد السلام العالمي، والآن نقف نحن
الإسرائيليين في خط النار الأول ضد الإسلام الأصولي، ونحن نطالب كل الدول
وكل الشعوب أن يكرسوا انتباههم إلى الخطر الضخم الكامن في الأصولية
الإسلامية) .
ولما جاءت الأغلبية اليهودية إلى (الكونجرس الأمريكي) بدأت تترجم هذه
الصيحات التحذيرية إلى سياسات عملية، حتى إن رئيس مجلس النواب الأمريكي
(بنوت جنجريتش) ترأس جلسة للمجلس عرض فيها برنامجاً شاملاً للسياسة
المقترحة لمواجهة الأصولية الإسلامية في العالم، وضمت الجلسة التي عقدت في
واشنطن ما يزيد على 400 من كبار الخبراء في الشؤون الأمنية والعسكرية، وقدم
خطة من أربعة بنود تهدف إلى كسر شوكة الإسلاميين في العالم، وقال
(جينجرتش) في هذا المؤتمر بالحرف الواحد: (الأصولية تعني إعلان الحرب علينا
وعلى الحضارة الغربية، فيجب التعامل معها من واقع الحرب المعلنة) .
أما نحن فعلى يقين قبل هذه التصريحات وبعدها أن اليهود والنصارى
مجتمعين لم يكونوا يوماً إلا أعداء للإسلام نفسه، دون وصف الأصولية والإرهاب، لأنهم كما قال الله يتمنون أن يرونا كفاراً ولو كنا مسالمين مهادنين: [وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً] [النساء: 89] وهم سيناصبوننا ذلك العداء إلى
حد القتال [وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا]
[البقرة: 217] وقال تعالى: [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] [الممتحنة: 2] ولن يرضوا عنا مهما أظهرنا لهم من رغبة في الود والحب وحسن الجوار إلا إذا كنا على ديانتهم الباطلة [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] [البقرة: 120] . وإن الذي أخبرنا عن ذلك كله سبحانه هو الذي أكد أن النصر حليفنا عليهم إن اعتصمنا به والتجأنا إليه: [وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِياً وَلا نَصِيراً] [الفتح: 22] .
فاللهم كن للمسلمين جميعاً ولياً ونصيراً،،،(130/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
عيد الأسبوع.. يوم الجمعة
خصائصه وفضائله وأحكامه وآدابه
(2/2)
بقلم: عبد اللطيف بن محمد الحسن
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن فضل يوم الجمعة وسبب تسميته
واختصاص الأمة به، وخصائص هذا اليوم، وما جاء من الوعيد في ترك صلاة
الجمعة وعن أهمية التهيؤ لها والاهتمام بها. ثم عرج على ذكر شروط صلاة
الجمعة وقسمها إلى نوعين: شروط الوجوب، وشروط الصحة. ويتابع في هذا
العدد حديثه عن أحكام الصلاة والخطبة وآداب الخطيب، وآداب الجلوس في
المسجد يوم الجمعة. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
سادساً: من أحكام صلاة الجمعة:
1- حكمها: هي فرض عين على الرجال، وهذا أمر ظاهر. تقدم من
النصوص ما يدل عليه.
2- حكم صلاة الجمعة إذا اجتمع يوم الجمعة ويوم العيد: عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه
من الجمعة، وإنا مجمّعون) [1] .
وهذا ظاهره أن الجمعة تعد رخصة بعد صلاة العيد، فمن شاء شهدها، ومن
شاء صلى الظهر أربعاً، سواء في ذلك الإمام أو غيره لشمول النص لذلك.
والأوْلى والله أعلم أن يصليهما جميعاً تحرياً للفضيلة، وطلباً للأجر.
3- إدراك الجمعة: عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (من أدرك ركعة من
الجمعة أو غيرها فقد أدرك الصلاة) [2] . وهذا يدل على أن الجمعة تصح بإدراك
ركعة؛ ومفهومه: إذا لم يدرك ركعة فإنه لم يدرك الجمعة، فيتمها ظهراً أربع
ركعات [3] . واشترط بعض الفقهاء لصحة الجمعة إدراك شيء من الخطبة، وقالوا: فإنْ لم يدرك شيئاً منها صلى أربعاً.
4- استحباب قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة، أو الأعلى
والغاشية، أو الجمعة والغاشية: جاء كل ذلك في صحيح مسلم [4] . قال ابن القيم: (ولا يستحب أن يقرأ من كل سورة بعضها، أو يقرأ إحداهما في الركعتين، فإنه
خلاف السنة) [5] .
5- صلاة النفل قبل صلاة الجمعة: لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- سنة راتبة للجمعة، ولكن إذا دخل المصلي المسجد، سُنّ له أن يصلي تحية
المسجد ركعتين، ثم يصلي ما كتب له كما ورد في الأحاديث، قال ابن القيم: (فإن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج من بيته فإذا رقي المنبر أخذ بلال في أذان
الجمعة، فإذا أكمله أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة من غير فصل،
وهذا كان رأي عين، فمتى كانوا يصلون السنة؟ ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال
من الأذان قاموا كلهم، فركعوا ركعتين، فهو أجهل الناس بالسنة) [6] .
6- السنة بعد الجمعة: قال: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها
أربعاً) [7] .
وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بعد الجمعة
ركعتين في بيته. أخرجاه [8] .
وللجمع بين الحديثين ذهب بعض العلماء إلى أنه: إن صلى في المسجد صلى
أربعاً، وإن صلى في بيته صلى ركعتين [9] وذهب آخرون إلى أن الركعتين
خاص به -صلى الله عليه وسلم-، والمشروع في حق أمته أربع ركعات.
7- المستحب أن يفصل بين الفريضة والسنة بالتحول من مكانه، أو بالكلام:
فقد قال معاوية رضي الله عنه لرجل رآه صلى السنة بعد الجمعة بلا فصل: (لا تعد
لما فعلت، إذا صليت الجمعة، فلا تَصِلْها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بذلك: أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو
نخرج) [10] . والأوْلى أن يتحول إلى بيته.
8- استحباب القيلولة بعد الجمعة: حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على
القيلولة فقال: (قيلوا؛ فإن الشياطين لا تقيل) [11] وحدد وقتها في يوم الجمعة بعد
الصلاة؛ لحديث أنس قال: (كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة) [12] .
سابعاً: أحكام الخطبة:
1- الأذان عند جلوس الإمام على المنبر للخطبة: عن السائب بن يزيد قال:
(كان النداء يوم الجمعة، أوله إذا جلس الإمام على عهد النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وأبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، قال: فلما كان عثمان رضي الله
عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء) [13] .
وعلى الإمام أن يجيب وهو على المنبر إذا سمع النداء كما في البخاري [14] .
2- حمد الله في الخطبة والثناء عليه والإتيان بخطبة الحاجة: عن ابن مسعود
رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا تشهد قال: (الحمد لله
نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن
يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،
أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن
يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً) [15] .
3- الشهادة في الخطبة: قال رسول الله: (الخطبة التي ليس فيها شهادة كاليد
الجذماء) [16] .
4- يخطب خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس: روى البخاري عن ابن عمر
رضي الله عنه قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب قائماً، ثم يقوم كما
تفعلون الآن) [17] .
5- موعظة الناس وتذكيرهم: عن جابر بن سمرة قال: كانت للنبي -صلى
الله عليه وسلم- خطبتان يجلس بينهما: يقرأ القرآن ويذكّر الناس [18] . وقوله:
(يذكر الناس) فيه دليل على جواز الخطبة بلغة غير العربية، لكن لا بد له من
قراءة الآيات والأحاديث بالعربية كما لا يخفى، ثم يترجم معانيها بلغة المخاطبين.
وإذا فهم المقصود من الخطبة عُلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن
خطبته مجرد كلام لا حياة فيه ولا روح، ولا رسالة ولا توجيه، بل كانت متصلة
بالحياة، وبالواقع كل الاتصال [19] ، وقد كانت خطبه تملأ القلوب إيماناً وتوحيداً، لا كخطب غيره التي قد لا يحصل منها إلا النوح على الحياة، فتخلو من ذكر ما
يعرّف بالله ويذكّر بأيامه، ويبعث النفوس على محبته، والشوق إلى لقائه.
6- استحباب قصر الخطبة: قال رسول الله: (إن طول صلاة الرجل،
وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإن من البيان
سحراً) [20] .
فإقصار الخطبة سنة، وهو التوسط، وعلامة لفقه الرجل، لكونه مطلعاً على
جوامع الألفاظ، فيعبر باللفظ المختصر عن المعاني الكثيرة، وكذلك كانت خطب
النبي -صلى الله عليه وسلم- واقعية بليغة مؤثرة، لكنها لم تكن طويلة مملة.
والمقصود بإطالة الصلاة أن تكون بحيث لا تشق على المؤمنين، فتكون
طويلة نسبة للخطبة. وإطالة الصلاة تنبيه إلى المقصود والأهم من الاجتماع وهو
الصلاة.
7- قراءة شيء من القرآن في الخطبة: عن يعلى بن أمية أنه سمع النبي -
صلى الله عليه وسلم- يقرأ على المنبر: [وَنَادَوْا يَا مَالِكُ] [21] [الزخرف: 77] .
وهذا الحديث وغيره يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ آياً من
القرآن بدون ملازمة لسورة أو آية في خطبة الجمعة.
8- استحباب قراءة سورة (ق) : لحديث أم هاشم بنت حارثة بن النعمان قالت:
(.. وما أخذت [ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ] [ق: 1] إلا عن لسان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس) [22] .
قال العلماء: وسبب اختياره هذه السورة لما اشتملت عليه من ذكر البعث
والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة.
وقد كان ذلك لقوم يفهمون معانيها، ويدركون أسرارها، فيتأثرون بها أعظم
التأثر، ويتعظون بها أجلّ الاتعاظ، أما قراءتها عند قوم لا يفهمون معانيها، ولا
يدركون مغازيها، فلا ينبغي إلا مع الشرح والبيان، حتى يتحقق المقصود.
9- مشروعية الدعاء في الخطبة: لحديث الأعرابي الذي شكى الجدب
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب فدعا، فمُطروا حتى الجمعة
الأخرى، فشكا أعرابي في الجمعة التالية كثرة المطر، فقال -صلى الله عليه
وسلم- وهو يخطب: (اللهم حوالينا ولا علينا) ورفع يديه فدعا [23] . وأيضاً فهي
ساعة يجاب فيها الدعاء.
10- المستحب أن تكون الخطبة حسب مقتضى الحال: وهو أمر تضافرت
عليه الدلائل من أحوال خطب النبي؛ ومن أمثلته حديث أبي سعيد الخدري قال:
جاء رجل يوم الجمعة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب بهيئة بذة، فقال له
رسول الله: (أصليت؟) قال: لا، قال: (صل ركعتين) ، وحث الناس على
الصدقة، فألقوا ثياباً، فأعطاه منها ثوبين.
11- جواز أن يتكلم الإمام في غير موضوع الخطبة عند الحاجة: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- ربما رأى رجلاً في الشمس، فأمر بتحوّله إلى الظل، أو
رأى رجلاً ترك السنة فأمره بها، كما في تحية المسجد، أو رأى مرتكِباً منهياً فنهاه؛ كمن تخطى رقاب الناس.
ثامناً: آداب الخطيب:
1- أن يسلم على المأمومين إذا صعد المنبر ويُقبل عليهم بوجهه: عن عطاء
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس فقال: السلام عليكم. وهذا مرسل صحيح [24] .
2- أن يجلس على المنبر بعد صعوده قبل الخطبة: عن محمد بن عمر بن
علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوم الجمعة إذا استوى على المنبر يجلس، فإذا جلس أذن المؤذن، فإذا سكتوا قام يخطب، فإذا فرغ من الخطبة الأولى جلس، ثم قام فخطب الخطبة الآخرة [25] .
3- أن يخطب على المنبر: أخرج البخاري [26] عن جابر قال: (كان جذع
يقوم إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما وُضع له المنبر سمعنا للجذع مثل
أصوات العِشار؛ حنيناً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي تركه، وقد
كان يخطب عليه، وحنيناً لما كان يسمع الذكر) حتى نزل النبي -صلى الله عليه
وسلم- فوضع يده عليه وقد صنع المنبرَ امرأةٌ، كما في حديث سهل، وفيه:
(فاحتمله النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضعه حيث ترون) [27] .
4- أن يخطب قائماً: أخرج ابن ماجه بسنده: سئل عبد الله: أكان النبي -
صلى الله عليه وسلم- يخطب قائماً أو قاعداً، قال: أوَ ما تقرأ: [وَتَرَكُوكَ قَائِماً]
[الجمعة: 11] [28] . ويدل على هذا أيضاً حديث كعب بن عجرة في مسلم [29] .
5- أن يتكئ على عصا أو قوس: دل عليه حديث الحكم بن حَزَن
الكَلَفي [30] .
والحكمة: الاشتغال عن العبث، وقيل: أربط للجأش.
6- أن يرفع الصوت ويبجل شأن الخطبة: عن جابر قال: كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه،
حتى كأنه منذر جيش يقول: صبّحكم، ومسّاكم، ويقول: (أما بعد: فإن خير
الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة
ضلالة ... ) [31] .
7- كراهة رفع اليدين وتحريكهما، وجواز الإشارة بأصبع أو أصبعين حال
الخطبة: أخرج مسلم [32] عن حصين عن عمارة بن رويبة قال: رأى بشرَ بن
مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا [اي: يشير بها] ، وأشار
بأصبعه المسبحة.
واختلف الرواة عن حصين؛ فقال بعضهم: رافعاً يديه يدعو، وبعضهم لم
يذكر الدعاء؛ لذا اختلف العلماء في فهم الحديث على قولين:
1- ففهم البيهقي والشوكاني المعنى الأول: وهو ذكر الدعاء، وقالوا: ليس
من السنة رفع اليدين حال الدعاء في الخطبة.
2- وفهم الطيبي المعنى الثاني، وذكر أن المقصود بالنهي رفع اليدين أثناء
الكلام حال الخطبة كما هو دأب الوعاظ والقصاص.
8- أن ينهى عن المنكر إذا رآه وهو يخطب: وهذه المسألة تقدم لها شواهد
وأدلة كثيرة.
تاسعاً: آداب الجلوس في المسجد يوم الجمعة:
1- أن يصلي ركعتين تحية المسجد قبل الجلوس؛ للأمر العام، ولقوله: (إذا
جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما) [33] .
2- أن يجلس حيث وجد المكان: قال: (لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم
ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا) [34] .
3- ألاّ يتخطى رقاب الناس ولا يفرق بينهم: قال عبد الله بن بسر: جاء
رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب،
فقال له النبي: (اجلس فقد آذيت) [35] .
ويستثنى من ذلك: الإمام إذا لم يجد طريقاً، ومن رأى فرجة لا يصل إليها
إلا بالتخطي على خلاف ويتأكد التخطي إذا ترك الناس الصفوف الأولى وجلسوا في
آخر المسجد، قال الحسن: (تخطوا رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد؛
فإنه لا حرمة لهم) ويستثنى أيضاً: من جلس في مكان ثم خرج لحاجة، ثم عاد إلى
مكانه [36] .
4- أن ينصت إذا بدأ الإمام يخطب: قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت
والإمام يخطب فقد لغيت) [37] . وقال: (من مس الحصى فقد لغا) [38] . ...
5- يجوز أن يشير إذا احتاج إلى الكلام: روى ابن خزيمة في صحي [39] عن أنس قال: دخل رجل المسجد، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-
على المنبر يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن
اسكت، فسأله ثلاث مرات، كل ذلك يشيرون إليه أن اسكت ... الحديث [40] .
6- أن يدنو من الإمام: وهو أمر قلّ الحريصون عليه، وغفل الكثير عما
ورد فيه من ترغيب، بل عن قوله: (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام؛ فإن
الرجل لا يزال يتباعد حتى يُؤخّر في الجنة وإن دخلها) [41] .
7- أن يجتنب اللغو: قال: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها يلغو
بلغو، وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا الله عز وجل إن
شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة
مسلم، ولم يؤذ أحداً فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن
الله عز وجل يقول: [مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] [الأنعام: 160] [42] .
8- أن لا يحتبي: عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن
الحبوة يوم الجمعة، والإمام يخطب [43] .
والاحتباء: أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعها به مع ظهره،
ويشده عليهما، وقد يكون باليدين عوضاً عن الثوب، وهو يجلب النوم، ويعرِّض
لانتقاض الطهارة، ومثله الاستناد إلى الجدار ونحوه وقد يكون أشد منه في جلب
النوم.
9- أن يستقبل الإمام: عن عدي بن ثابت عن أبيه قال: كان النبي -صلى
الله عليه وسلم- إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم [44] .
10- أن لا يتحلق قبل الجمعة: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن
الشراء والبيع في المسجد، وأن تُنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن
التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة [45] . وهذا يدل على كراهة ذلك [46] ؛ لأنه ربما
قطع الصفوف، مع كونهم مأمورين يوم الجمعة بالتبكير والتراص في الصفوف
الأول فالأول.
11- أن يتحول من مكانه إذا نعس: لحديث: (إذا نعس أحدكم يوم الجمعة
فليتحول عن مجلسه ذلك) [47] .
12- مسألة: حكم الكلام بعد نزول الإمام من المنبر وقبل الصلاة: والأوْلى
أن لا يتكلم إلا لحاجة؛ لأحاديث منها حديث سلمان بلفظ: (وينصت حتى يقضي
صلاته) [48] .
عاشراً: كيفية الاستفادة من خطبة الجمعة:
إن خطبة الجمعة وسيلة متاحة للدعاة، ليخاطبوا بها جميع المسلمين بمختلف
طبقاتهم، واتجاهاتهم، وقد شرع الله عز وجل لهذه الوسيلة ما يعين على الاستفادة
منها، من أمر المسلمين جميعاً من الذكور بالسعي للصلاة، والإنصات للخطيب.
وهي وسيلة متاحة في كل أسبوع، فيستمع المسلم في العام الواحد إلى (52) خطبة؛ ومع إقبال الناس على صلاة الجمعة، فإنهم يتأثرون إذا وجدوا خطيباً جيداً.
وهذا مما يوجب على الدعاة وخاصة الخطباء أن يراجعوا أساليبهم في مخاطبة
الناس، وينظروا دائماً في إصلاح أخطائها [49] .
__________
(1) رواه أبو داود برقم: (1073) ، وأورده في صحيح أبي داود برقم: (948) .
(2) رواه ابن ماجه برقم: (1123) ، وأورده في صحيح ابن ماجه (922) .
(3) انظر المغني، 3/183 184.
(4) انظر رقم: (877) ، (878) .
(5) زاد المعاد 1/381.
(6) ج1/432 وللتوسع في المسألة، انظر (فتح الباري 2/476، 493، 494، وزاد المعاد 1/431 440 ورسالة (سنة الجمعة) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(7) رواه مسلم برقم (881) .
(8) البخاري برقم: (937) ، ومسلم برقم: (882) .
(9) وإليه ذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، انظر زاد المعاد 1/440.
(10) رواه مسلم برقم: (883) .
(11) ذكره في صحيح الجامع، ح/4431.
(12) رواه البخاري برقم: (905) .
(13) أخرجه البخاري برقم: (912) والنداء الثالث، هو: المعروف اليوم بالأذان الأول، وإنما صار ثالثاً على اعتبار أذان الجمعة نداء أول، والإقامة نداء ثانياً لأنها تسمى أذاناً كما في حديث: (بين كل أذانين صلاة) ، والمراد بين الأذان والإقامة.
(14) برقم: 2/396.
(15) رواه أبو داود برقم: (1097) ، وأورده الألباني في الضعيف ولكن له شواهد منها ما أخرجه النسائي وأورده الألباني في صحيح النسائي برقم (1331) عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (علمنا خطبة الحاجة: الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) .
(16) رواه أحمد في المسند 2/302 قال شاكر: إسناده صحيح، ح/ 8004 والجذماء: المقطوعة.
(17) برقم: (920) .
(18) رواه مسلم برقم: (862) .
(19) انظر: الأركان الأربعة، ص 57.
(20) رواه مسلم برقم: (869) .
(21) رواه البخاري برقم: (4819) .
(22) رواه مسلم برقم: (873) .
(23) رواه البخاري برقم (933) .
(24) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن عطاء 1/192.
(25) وهذا مرسل حسن الإسناد، ويقويه حديث معاوية في إجابة الخطيب للمؤذن، فذكر فيه جلوسه حال أذان المؤذن.
(26) برقم: (918) ، والعشار: النوق الحوامل التي قربت ولادتها.
(27) تلخيص الحبير، 2/126.
(28) برقم: (1108) ، وأورده في صحيح ابن ماجه: (909) .
(29) برقم: (864) .
(30) رواه أبو داود برقم: (1096) وسنده حسن كما قال الحافظ وحسنه الألباني في صحيح
أبي داود (971) .
(31) رواه مسلم برقم: (867) .
(32) برقم: (874) .
(33) رواه مسلم برقم: (875) .
(34) رواه مسلم برقم: (2178) .
(35) رواه مسلم برقم: (1118) وأورده في صحيح أبي داود برقم: (989) .
(36) انظر تفصيل ذلك في المغني 2/39، 350.
(37) رواه مسلم برقم: (851) .
(38) رواه أبو داود برقم: (927) ، وأورده في صحيح أبي داود (1050) .
(39) 3/149 وإسناده حسن كما أفاد صاحب (أحاديث الجمعة) ص: 426، 427.
(40) وحديث أنس في سؤال الأعرابي عن الساعة، وقول الرسول: ماذا أعددت لها؟ أخرجه البخاري ومسلم وأحمد بعدة طرق، ولكن ليس فيها كما في رواية ابن خزيمة من أنه كان يخطب، ولا ذكر يوم الجمعة.
(41) سنن أبي داود (1108) ، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (980) .
(42) رواه أبو داود برقم: (1113) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ح/984.
(43) رواه أبو داود برقم: (1110) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (982) .
(44) أخرجه ابن ماجة برقم: (1136) وصححه الألباني (932) .
(45) رواه أبو داود برقم (1079) وصححه الألباني (956) .
(46) وهو قول الجمهور، انظر مثلاً: معالم السنن، للخطابي، 1/651.
(47) رواه الترمذي عن ابن عمر برقم: (532) وصححه وأورده في صحيح سنن الترمذي (436) .
(48) النسائي برقم: (1330) وصححه الألباني.
(49) انظر تفصيلاً مهماً في مقال بعنوان: (حتى نستفيد من خطبة الجمعة) للشيخ محمد الدويش، في مجلة البيان، عدد 65، ص 18، عدد 66، ص 9.(130/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أصول التربية والتعليم
كما رسمها القرآن..
(2/2)
د. أحمد بن شرشال
دعا الكاتب في الحلقة الأولى إلى ربط التعليم ومناهجه بفعل النبي -صلى الله
عليه وسلم- ومنهجه وطريقته، ووضح المنهج النبوي في التعليم على ضوء ما
ورد في القرآن الكريم من آيات مستخرجاً منها أصولاً مهمة، وذكر منها (تلاوة
القرآن) وبين كيفيتها المأثورة وأَخْذَ الصحابة بها، داعياً للاقتداء بها. ثم يواصل
بيان بقية الأصول فيما يلي: ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
الأصل الثاني من أصول التربية والتعليم الذي تضمنه هذا المنهج: تعليم
الكتاب، وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: [وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ] [الجمعة: 2] ، عطفاً على قوله: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] [الجمعة: 2] ، عطف جملة على جملة.
ومما لا شك فيه ولا خلاف عند المسلمين أن القرآن الكريم تضمن علوماً
ومعارف يعجز البشر عن الإتيان بها، وتضمن حِكَماً وأحكاماً وأسراراً بها يحقق
الإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، ولا سبيل إلى معرفة هذه العلوم وهذا التشريع،
وهذه الهدايات والوقوف عليها والعمل بها إلا بفهم القرآن وتفسيره وتدبره؛ لأن
مَلَكَةَ الفهم دخلها الفساد فصار الناس لا يفهمون القرآن ولا يفقهون ما فيه، وبدون
فهم للقرآن وتفسيره لا يمكن الوصول إلى كنوزه مهما ردّدنا تلاوته وأقمنا حروفه.
قال الحافظ السيوطي: (ونحن محتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا
إليه من أحكام الظواهر؛ لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم؛ فنحن أشد
الناس احتياجاً إلى التفسير) [1] .
فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحتاجون إلى تفسير النبي -صلى الله عليه
وسلم- كما أثر عنه أنه فسّر لهم قوله عز وجل: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] .
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية قال
الصحابة: (وأينا لم يظلم نفسه؟ وشق ذلك عليهم فقال: (إنه ليس الذي تعنون، ألم
تسمعوا ما قال العبد الصالح: (إن الشرك لظلم عظيم) إنما هو الشرك) [2] .
من صفات هذا المعلم أنه يتلو عليهم القرآن، ويعلمهم معاني الكتاب وما خفي
وأشكل عليهم، فكان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إليه عند الحاجة.
وتعليم الكتاب يكون ببيان ما خفي من معانيه وحقائقه، وما اشتمل عليه من
أحكام وحِكَم ومواعظ وآداب وأخلاق. وبالجملة: هو بيان المقاصد التي من أجلها
نزل القرآن. وتعليم الكتاب غير تلاوته؛ لأن تلاوته تكون بقصد حفظ الألفاظ،
وتعليم الكتاب يكون بقصد حفظ المعاني والأحكام والحكم التي اشتمل عليها وفهمها،
وهو تفسير القرآن. ومن مهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووظيفته البلاغ
والبيان؛ وكل منهما يتضمن الآخر، قال تعالى: [بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ] [النحل: 44] . وقال: [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ
البَلاغُ المُبِينُ] [النور: 54] ، وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات
البيان.
قال ابن تيمية: (إن الصحابة رضي الله عنهم نقلوا عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة) ، وقال: (وأخذوا عن
الرسول لفظ القرآن ومعناه) [3] .
فالرسول المعلم -صلى الله عليه وسلم- بيّن لأصحابه القرآن لفظه ومعناه،
فبلّغهم معانيه كما بلّغهم ألفاظه، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا ببيان لفظه
ومعناه؛ فنقل معاني القرآن عنه -صلى الله عليه وسلم- كنقل ألفاظه سواء.
وعلى هذه الطريقة سار الصحابة رضي الله عنهم. قال ابن القيم: (ولم يكن
للصحابة كتاب يدرسونه وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك) [4] .
وهكذا تلقى السلف الصالح هذا القرآن لفظاً ومعنى؛ إحكاماً للفظ وإتقاناً
للمعنى، وكانوا ينكرون على من انصرف عن فهم القرآن. روى ابن جرير
الطبري عن سعيد بن جبير قال: (من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالأعمى) وفي
بعض الروايات: (كالأعرابي يهذ الشعر هذّاً) [5] .
وذكر الحافظ ابن كثير وابن القيم أن عدم فهم القرآن والتفقه فيه وتدبره نوع
من أنواع هجر القرآن [6] ؛ فالقرآن الكريم لم ينزل لمجرد التلاوة اللفظية، بل
نزل من أجل هذا، ومن أجل ما هو أعم وأكمل، وهو فهم معانيه والتذكر بما فيه،
والعمل به.
إن تلاوة القرآن تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت،
إنها تعني تلاوته بفهم وتدبر ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذاك وسلوك.
وأقول: إن انفصال المواد الدراسية على إطلاقه ليس من طبيعة هذا الدين،
ولا من شأن عمل السلف الصالح؛ فإنهم كانوا يأخذون بالقرآن كلاً لا يتجزأ، ولا
بد من ربط كل هذه العلوم، وهذه المواد الدراسية بالقرآن الكريم. والذي يحقق هذه
الغاية هو تفسير القرآن والتفقه فيه دون سواه؛ فهو وحده الكفيل بتحقيق شمولية
التربية والتعليم من جميع النواحي، فيجب علينا أن نستغني بمعاني القرآن وأحكامه
وحكمه عن غيره من كلام الناس.
وهذا الفضيل بن عياض يصحح للطلاب توجههم في طلب العلم، فقد ذكر
الإمام القرطبي أن الفضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: (لو
طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون) فقالوا: قد تعلمنا القرآن، فقال: (إن
في تعلمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم) فقالوا: كيف يا أبا علي؟ قال:
(لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه، ومحكمه، ومتشابهه، وناسخه من منسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة) [7] .
والمراد بالإعراب في كلام الفضيل البيان والتفسير.
إذن: كيف نستغني عن كتب الناس وعن مادة الفقه والحديث والعقيدة، كما
نص غير واحد من العلماء. الأمر في غاية السهولة.
أقول: إن جميع علوم الشرع قد استقل ببيانها القرآن، وقد أدرك هذا المعنى
الإمام القرطبي رحمه الله فقال في مقدمته: (فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع
علوم الشرع ... رأيت أن أشتغل به مدى عمري، واستفرغ فيه قوتي) [8] .
ومن أهم العلوم التي يتعلمها الطالب في تفسير القرآن هو علم التوحيد، وقد
أخذ حيزاً كبيراً من كتاب الله تعالى قال ابن القيم: (وغالب سور القرآن متضمنة
لأنواع التوحيد، بل كل سورة في القرآن؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه
وصفاته وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادة الله وحده، فهو التوحيد
الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته؛ فذلك من حقوق التوحيد
ومكملاته) .
وقال حافظ الحكمي: (والقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير هذين
التوحيدين) [9] .
وقال ابن ابي العز شارح متن الطحاوي: (فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه
وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم) [10] .
وإذا كان القرآن كله في تقرير التوحيد بأصنافه وأنواعه، وإكرام الله لأهله،
وبيان خطر الشرك وذم أهله، فإن تفسير القرآن والتفقه فيه هو الذي يغطي هذا
المجال الواسع؛ وبغير التفسير يبقى المجال ناقصاً؛ فالذي يأخذ أحكام العقيدة من
القرآن بانتقاء وفصل كل ما يتعلق بالتوحيد لا يستطيع ذلك، وإذا اقتصر على
بعض منها فهذا فيه قصور ونقص؛ لأنه لم يستوعب كل الآيات، بل إن كان هناك
بعض الآيات متعلقة ببعض الآحكام وفي ضمنها ما يتعلق بالعقيدة، فثبت أن فهم
القرآن والتفقه فيه أكمل وأجمع لجميع العلوم.
ومن العلوم التي يتعلمها الطالب في تفسير القرآن الحديث النبوي الشريف،
فإنه المبيّن لمراد الله من الآية، ويشهد بما شهد به القرآن. قال الواحدي: (لا
يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) .
وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني
القرآن) [11] .
قال ابن حزم في كتاب الأحكام وهو يتحدث عن السلف الصالح كيف كانوا
يتعلمون الدين: (كان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي -
صلى الله عليه وسلم- والفقه والقرآن الكريم) [12] .
ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى الأحاديث النبوية التي تبين معنى الآية،
فالأحاديث الصحيحة المروية في أسباب نزول القرآن وبيان المراد منه، تشهد
باتفاق القرآن والحديث؛ فهذه الأحاديث تقرر نصوص القرآن وتكشف معانيها كشفاً
مفصلاً، وتقرب المراد وتدفع عن الآيات الاحتمالات، وتفسر المجمل منه وتبينه
وتوضحه، وخير من يمثل هذا الاتجاه في ذكر الأحاديث بعد الآيات من المفسرين
الحافظ ابن كثير في تفسيره، بل التفسير الصحيح المقدم على غيره هو ما صح عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحينئذ فإن الحديث يندرج في علم التفسير لحاجته
إلى البيان.
ومما يتعلمه الطالب في علم التفسير علم الفقه، وإني أرى عرض مادة الفقه
بالطريقة المستقلة عن القرآن؛ لأنها تؤدي الغرض المطلوب؛ حيث يؤدي أستاذ
المادة عرضه بذكر المسألة والتعريف بها، ثم بأقوال العلماء فيها، ثم بإيراد الدليل
من القرآن أو السنة أو هما معاً، فيقول: دليل هذه المسألة كذا، ودليل هذا القول
كذا، ودليل تلك كذا، ويسرد الدليل؛ هذا إذا كان يذكر الدليل وهو أحسن أحواله.
فالطالب هنا لا يعرف القرآن إلا دليلاً، ولا يفهم معنى هذا الدليل. وقد كنا
نعاني الشيء الكثير من ذلك عندما كنا طلاباً حتى إننا لم نستطع إيجاد علاقة بين
الدليل والمدلول عليه لجهلنا بمعنى الدليل وهو الآية القرآنية.
فالطالب يحتاج إلى استخراج هذه العقيدة وهذا الفقه من هذه الآية، وهذا
الدليل ببيانها وشرحها، وأسباب نزولها، وأفهام العلماء فيها واستنباط الفقه منها،
وحينئذ يؤول الفقه والعقيدة بهذه الطريقة إلى تفسير وفهم للقرآن وربط للطالب به.
هذه هي الطريقة المثلى التي أراها تحقق الغاية المرجوة إن شاء الله.
وقد أثر عن بعض المفسرين القول بأن قوله تعالى: [وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ]
يعني الكتابة، مصدر كتب كتاباً وكتابة، فذكر القرطبي عن ابن عباس: [الْكِتَابَ] الخط بالقلم؛ لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط [13] .
والتفسير الأول أعني يعلمهم معاني القرآن هو المشهور في تفسير هذه الآية
وعليه الجمهور، بل إن جل المفسرين لم يذكروا إلا القول الأول، ولا يعني ذلك
التهوين من شأن الكتابة والخط، فلقد نوّه الله بشأن الخط والكتابة فقال: [اقْرَاً
وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] [العلق: 1-5] .
التعليم بالقلم كالتعليم الذهني نعمة عظيمة على عباده؛ إذ به تخلد العلوم،
ويصل الخلف بالسلف، وتضبط الأحكام والعلوم والمعارف [14] .
وكان له -صلى الله عليه وسلم- كُتّاب يكتبون بين يديه الوحي، وقد أخبر
تعالى عن فضله ورحمته أن علّم الإنسان البيانين: البيان النطقي، والبيان الخطي.
قال القرطبي: (القلم نعمة من الله، عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح
عيش، فدلّ على كمال كرمه سبحانه وتعالى بأن علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من
ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبّه على فضائل علم الكتابة لما فيه من المنافع
العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو.
وما دُوّنت العلوم، ولا قُيّدت الحكم، ولا ضُبطت أخبار الأولين ومقالاتهم،
ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا) [15] .
الأصل الثالث من هذا المنهج: تعليم الحكمة. أي أن من صفات هذا المعلّم
أنه يعلمهم الكتاب ويعلمهم الحكمة، وقد بين القرآن أن الله أنزلها وأنها تتلى فقال:
[وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ] [النساء: 113] ،
وقال: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِِّنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يََعِظُكُم بِهِ]
[البقرة: 231] وقال: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ]
[الأحزاب: 34] .
ففي هذه الآيات بيان لهذا المعلم وأنه يعلمهم الكتاب ويعلمهم الحكمة، وأن الله
أنزل عليه الحكمة كما أنزل عليه القرآن وهي السنة كما قال غير واحد من السلف،
فنوّع المتلو إلى نوعين: آيات وهي القرآن، وحكمة وهي السنة؛ وبها تتبين
مقاصد الكتاب وأسراره وحكمه وأحكامه.
وقد تطلق الحكمة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي وهي العمل بما جاء
في القرآن أمراً ونهياً كما جاء ذلك في قوله تعالى: [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ
الحِكْمَةِ] [الإسراء: 39] ، واسم الإشارة يعود إلى ما تقدم ذكره من التكاليف
الشرعية التي لا يتطرق إليها النسخ، والتي تبلغ خمسة وعشرين تكليفاً بدءاً من
قوله تعالى: [لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً] [الإسراء: 22] .
وختمها بقوله: [وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً]
[الإسراء: 39] .
وفسرها الحافظ ابن كثير بالسنة وعزا ذلك إلى غير واحد من السلف، وهو
ما أخذ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سوى القرآن: (ألا إني أوتيت القرآن
ومثله معه) ومصداق ذلك في كتابه الكريم: [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ
وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى] [النجم: 35] .
ونزع ابن عباس في تفسيره للحكمة إلى المعرفة بالقرآن وفقه ما فيه من
العلوم، وهو من أوسع التفسيرات فيما أعلم.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ
وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: 269] . قال: (المعرفة بالقرآن
ناسخه ومنسوخه، محكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله)
وفي رواية عنه: (التفسير والتفقه في القرآن) [16] .
وتعني من بين ما تعنيه الفقه والفهم في القرآن ويدل له قوله: [وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الحِكْمَةَ] [لقمان: 12] ، وقوله: [وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ
الخِطَابِ] [ص: 20] .
قال مجاهد في هذه الآية: (يعني الفهم والعقل والفطنة) [17] .
وقد خص الله سليمان بالفهم فقال: [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً] [الأنبياء: 79] .
وكل ذلك لا ينافي من فسر الحكمة بالسنة؛ لأن بها يحصل العلم، فهي
المفسرة والمبينة للقرآن الكريم؛ فالأحاديث الصحيحة تقرر نصوص القرآن،
وتكشف معانيها كشفاً مفصلاً، وتقرب المراد، وتدفع عن الآيات الاحتمالات،
وتفسر المجمل منه وتبينه وتوضحه، وبكل هذا يحصل الفهم والفقه.
قال القرطبي: (فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة؛ وأصل الحكمة ما يمتنع
به من السفه) [18] ، ومن ثم اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب: -[وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] [الجمعة: 2] فتلاوة للآيات، وتعليم للكتاب، وتعليم للسنة.
الأصل الرابع: مما تضمنه هذا المنهج: التزكية، ومن صفات هذا المعلم -
صلى الله عليه وسلم- أنه: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ] [الجمعة: 2] ، تلاوة
للآيات وتعليم للكتاب والحكمة، وتزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح
والمنكرات، وهي ثمرة لتطبيق المنهج السابق، وهي ثمرة لتلاوة القرآن، وثمرة
لفقه القرآن والتفقه فيه، وثمرة لفهم السنة، وهي العمل بما علم من التلاوة والكتاب
والسنة.
التزكية: تطهير الإنسان ظاهراً وباطناً من دنس الذنوب والمعاصي والآثام،
ومن أعظمها التطهير من أرجاس الشرك، وهي العمل بالعلم، وامتثال الأوامر
واجتناب النواهي.
قال تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]
[الأعلى:14، 15] .
وقال جل وعلا: [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا]
[الشمس: 9، 10] .
فقد فاز بكل مرغوب وظفر بكل محبوب من زكى نفسه وهذّبها ونمّاها بالعلم،
وزكاها بالتلاوة وفقه القرآن والسنة والعمل بذلك. ومادة التفعّل للتكلف وبذل الجهد، أي بذل جهده في تطهير نفسه بالأعمال الصالحة [19] .
وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يزكي أصحابه، فيتلقون منه خمس آيات
أو عشر آيات ويتعلمون منه صفة أدائها وقراءتها، ويتعلمون ما فيها من العلم
والعمل به.
قال أبو عبد الرحمن السلمي أحد أكابر التابعين الذين أخذوا القرآن ومعانيه
عن مثل عبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وتلك الطبقة: (حدثنا الذين كانوا
يقرئوننا القرآن من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يجاوزوها
حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل؛ فتعلمنا القرآن والعمل) [20] .
فكانوا لا يجاوزوهن حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، فقد روى الطبري
عن عبد الله بن مسعود قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى
يعرف معانيهن والعمل بهن) [21] .
فالعمل بالقرآن هو الذي يحقق التزكية قال تعالى: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ] [الأنعام: 155] .
روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: (واللهِ ما تدبره من حفظ حروفه
وأضاع حدوده؛ حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ولا يُرى للقرآن عليه
في خلق ولا عمل) [22] .
وقد أُثر عن بعض السلف في معنى: [يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ] [البقرة: 121]
يتبعون القرآن ويعملون به، قال عبد الله بن مسعود: (والذي نفسي بيده إن حق
تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن
مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله) [23] .
ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، قالت: كان خلقه القرآن.
قال الحافظ ابن كثير مبيناً هذا الخلق: (ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام
صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجية له وخلقاً تطبّعه وترك طبعه الجِبِلّي؛ فمهما
أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه) [24] .
ولما بين الله هذا المنهج ورسمه في كتابه، وبين أن من صفات هذا المعلم
الذي بعث في الأميين أن يزكيهم ويطهرهم من أدران الشرك والذنوب والآثام عقّب
على ذلك بمثال من يحفظ هذا المنهج ولا يعمل به لا يحصل له التطهير والتزكية
فقال: [مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ
مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [الجمعة: 5] .
وكل من علم ولم يعمل بعلمه، فهذا مثله، وهذه صفته، وهذه حاله، وبئس
المثل.
وكل من رغب عن هذا المنهج بطريقته التي بيّناها يُعد سفيهاً، ولذلك عقّب
على ذكره بقوله: [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ] [البقرة:130]
ومن معاني الملة اللغوية: الطريقة.
هذا هو المنهج التعليمي كما رسمه القرآن الكريم وبينته السنة لبناء الإنسان
المستقيم ذي الشخصية المتزنة المعتدلة.
وكل منهج مخالف لما سطّره القرآن يعد شذوذاً عن الجادة يؤدي إلى انحراف
في السلوك.
وأخيراً أقول: فليزن طلاب علم هذا الزمن تعليمهم بهذا المنهج الذي رسمه
القرآن الكريم، ولينظروا أين مكانهم من فهم القرآن، وما هو حظهم من هدايته؟
__________
(1) الإتقان 2/385.
(2) تفسير ابن كثير 2/170، التفسير والمفسرون 1/50.
(3) التفسير الكبير 2/104، 253.
(4) الصواعق المرسلة 441.
(5) تفسير الطبري 1/35، الإتقان 2/.
(6) تفسير ابن كثير 3/349، بدائع التفسير 3/292.
(7) الجامع للقرطبي 1/30، فتح القدير 1/14.
(8) الجامع للقرطبي 1/14.
(9) معارج القبول 1/57.
(10) شرح الطحاوية 41.
(11) الإتقان 1/62، مناهل العرفان 1/110.
(12) آثار عبد الحميد 4/75.
(13) الجامع 9/83.
(14) بدائع التفسير 5/283.
(15) الجامع للقرطبي 10/107.
(16) الإتقان 2/385، فتح القدير 1/291.
(17) تفسير ابن كثير 4/33.
(18) الجامع للقرطبي 1/124.
(19) التحرير والتنوير 30/288.
(20) المصنف 10/416، الصواعق 443.
(21) جامع البيان 1/35.
(22) تفسير ابن كثير 4/36.
(23) تفسير ابن كثير 1/175، الطبري 1/567.
(24) تفسير ابن كثير 4/425، القرطبي 9/210.(130/16)
دراسات تربوية
المبادرات الذاتية
وتنميتها
محمد بن سعد الخالدي
تحتاج الأمة فيما تحتاج إلى أشخاص يحملون زمام المبادرة بأنفسهم غير
منتظرين أن يسلك الطريق سواهم.. وذلك في كل مجال من شأنه رفعة الأمة
وعزتها وإخراجها من هذا النفق المظلم الذي تسير فيه.. وهؤلاء المبادرون قلة
قليلة وعملة نادرة في مجموع الأمة.. لذا رأيت أن من واجبي أن أبادر بالحديث
عن الموضوع علّه أن يحرك أنفساً ساكنة.. وهمماً متقاعسة..
وفي بداية الحديث عن المبادرة يحسن إيضاح المعنى اللغوي لها؛ إذ هي
مأخوذة من: بدر إلى الشيء، إذا أسرع وبادر إليه أيضاً، وتبادر القوم تسارعوا،
وابتدروا السلاح تسارعوا إلى أخذه. وسمي البدر بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع في
ليلته كأنه يعجلها المغيب، وقيل: سمي به لتمامه.
وفي القاموس: (بادَرَهُ: مُبادَرَةً وبِداراً، وابْتَدَرَهُ، وبَدَرَ غيرَهُ إليه، عاجَلَهُ.
وبَدَرَهُ الاًمْرُ، وإليه: عَجِلَ إليه) [1] .
كون المبادرة تجديداً:
لا شك أن المبادرات فردية كانت أو جماعية تحمل في ذاتها نوعاً من التجديد؛ إذ هي إحياء لأمر اندرس أو لم يكن قد قام أصلاً. ولذا فإن الحديث عن التجديد
وأهميته قد ينساق في بعض صوره هاهنا.
ما هي المبادرة المنشودة؟
إننا في حديثنا عن المبادرة هنا إنما نعني: أن يسابق المرء إلى الأمور التي
تبدو له فائدتها دون انتظار تقدم الآخرين وإقدامهم، فيأخذ الزمام ويُقْدِم على الأمر
بعد دراسة وتخطيط، فإن نجح المبادر في مسيره.. فهو مأجور من طريقين:
طريق الاجتهاد، وطريق الإصابة؛ إذ هو مجتهد مصيب، وإن أخطأ ولم يصب
فهو مأجور كذلك له أجر الاجتهاد ولو لم ينل أجر الإصابة.
أدلة مشروعية المبادرة والحث عليها:
أتت النصوص الشرعية كتاباً وسنة بالحث على المسابقة على أعمال الخير
والتنافس فيها والمسابقة إليها، وهذا النوع من المبادرة هو ما لا ينتظر المرء غيره
في الإقدام على الطاعة، بل يتقدم هو لذلك جاعلاً نفسه قدوة للناس وإماماً، والله
تعالى يقول على لسان نبيه إبراهيم الخليل: -[وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً]
[الفرقان: 74] أي: قدوة يحتذى بفعاله. والمسلم يسأل الله تعالى أن يكون مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر.. وطبيعة المفتاح أنه أول الداخلين، مما يعني كون الداعي مبادراً للعمل سابقاً إليه.
وقد حكى لنا القرآن الكريم قصة الرجلين المبادرين اللذين قال الله فيهما: [وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى] [القصص: 20] قال الوزير ابن هبيرة:
(تأملت ذكر أقصى المدينة؛ فإذا الرجلان جاءا من بُعدٍ في الأمر بالمعروف ولم
يتقاعدا لبعد الطريق) .
وأما مبادرات الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالحديث عنها طويل جداً،
غير أنني أشير إلى القصة الشهيرة التي تروي لنا أنه (فزع أهل المدينة ذات ليلة،
فانطلق الناس قِبَلَ الصوت فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سبق الناس
وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا) وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه
سرج، في عنقه سيف) [2] . فدل الحديث على أن الرسول -صلى الله عليه
وسلم- سبق إلى استطلاع الأمر.
وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك الصحابي الذي بادر بالصدقة
كما في حديث المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي
السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعّر وجه رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلى،
ثم خطب فقال: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ]
[النساء: 1] إلى آخر الآية [إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] والآية في الحشر:
[اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ] [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) .
وفي الحديث تصريح بأجر المبادر للخير، وكونه ينال أجره وأجر كل من
سلك طريقه واقتفى أثره الذي بادر إليه، وهذا من أعظم الدواعي للمبادرة للخير؛
إذ يستشعر المبادر أن أجور السائرين من بعده على هذا الطريق ستكون في موازين
أعماله.
وفي الحث على المبادرة تساق قصة ذي الجوشن الضبابي حينما دعاه الرسول - صلى الله عليه وسلم- بعد معركة بدر للدخول في الإسلام قائلاً له: (هل لك إلى
أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك
كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن
ظهروا عليك لم أتبعك) فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول
الله؛ إذ قد ترك المبادرة إلى الإسلام وإلا لكان من أوائل الداخلين إليه فكان على
ذلك نادماً.
والحث على المبادرة بالعمل واردة في حديث أبي هريرة أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل
مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من
الدنيا) [3] وكذا حديثه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة) .
ومن أعظم ما يوقظ الهمة إلى المبادرة للخير وما يحث عليها ما ذكره الله في
كتابه من أحوال الكافرين في مبادراتهم الدنيئة في الأمر بالمنكر والنهي عن
المعروف، والكيد الكبير، والمكر الكُبّار.. كما في قوله تعالى: [وَانطَلَقَ المَلأُ
مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ] [ص: 6] ، وقوله تعالى: [وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ] [المائدة: 62] فالمؤمنون أوْلى
بالمسارعة في الخير والبر.
ومن المبادرات الجريئة ما صنعه البراء بن مالك في قصة الحائط الشهيرة،
يوم أن قعد على ترس وقال: (ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم) فألقوه ثم أدركوه بعدُ
وقد قتل منهم عشرة، وجُرح يومئذ بضعاً وثمانين جراحة [4] .
أهمية المبادرات:
تعد المبادرة الفردية سفينة النجاة في حالة انحطاط الأمة، وتربيتُها لدى الناس
جزء من المنهجية الصحيحة في بناء الإيجابية، وتعني المبادرة رفع أفراد من الأمة
إلى مستواها وسقف حيويتها واندفاعهم نحو ما يتمنى الناس حصوله، لكنهم يفقدون
العزم والإرادة للبدء به، وقد علمتنا التجربة أن معظم الناس يحبون الخير ويقدرون
فاعليه، وهم على استعداد للمشاركة في مشاريعه؛ لكن المشكلة الكبرى هي أن
المستعدين فيهم لخطو الخطوة الأولى ووضع أول لبنة قلة قليلة، وهذه القلة هي
ملح المجتمع وبركته، إنهم أناس يحبون الخير ويثقون في أنفسهم ويحبون خدمة
الآخرين، وهم إلى ذلك مستعدون لتحمل نتائج مبادراتهم وما قد تجره إليهم من
مشكلات ومتاعب.
(كثير من الناس يملك الاستعداد للقيام ببعض الأدوار التي تملى عليه وفق
خطوات محددة، لكنه يقف عند هذا الحد، ويطرح التساؤل في كل مناسبة وكل
حين: ماذا يعمل؟ وما واجبه؟ ويعتذر عن القيام بأي دور بأنه لم يتلق توجيهاً
وتكليفاً.. ولذا فإن من ثمار التربية الجادة: (المبادرة الذاتية) . إن من نتائج التربية
السلبية السائدة في مجتمعاتنا: الاتكالية وانعدام المبادرة، وحتى العاملون للإسلام
أصاب بعضَهم ما أصابه، فأصبح ينتظر الأمر، ولا يعمل إلا من خلال توجيه
محدد، فتعطلت طاقات فعّالة في الأمة، وصارت الصحوة تفكر من خلال عقول
محددة، وكم هي الأفكار والأعمال والجهود التي لم تتجاوز نطاق تفكير صاحبها،
والسبب أنه لم يعتد على المبادرة ولم يربّ عليها.
وإن التربية الجادة تنتج فيما تنتج تنمية المبادرة الذاتية، فيعمل صاحبها ابتداءً
دون انتظار التكليف أو التوجيه، ويرى أن جدية الهدف وصدق العمل يتطلب منه
ألا تكون الاستشارة والاستفادة من آراء الآخرين حاجزاً وهمياً وعائقاً دون أي عمل، فينطلق ويعمل ويبادر ويفكر محيطاً ذلك كله بأسوار الاستشارة جاعلاً إياه في
دائرة الانضباط والالتزام) [5] .
إن علينا أن نعترف أن حرصنا على أن يكون كل شيء وفق نظام محدد،
واحتياطاتنا الشديدة لكل شيء، والتعليم التلقيني، والحرص على أن يكون لكل
شيء نموذج سالف إن ذلك كله أدى إلى خشية المسلم من أن يكون في الطليعة
وصار الواحد منا يقول في داخله: (ليبدأ غيري) و (علينا أن ننتظر النتائج) ، وهذا
أدى إلى المؤاخذة الشديدة لكل من يبادر إلى خير ثم يُخفق فيه، أو تكون عواقبه
على غير ما يريد، مع أن هذا المبادر لو لم يكن له سوى فضل الانتصاب بين
الأموات لكفى!
إن الصمود والاستمرار وعدم الخوف من الإخفاق عمد أساسية في خلق
الإيجابية، وعبادات الإسلام وتكاليفه تصب جميعهاً في تنمية إرادة الصمود؛ حيث
يظل المسلم يلاحق هدفاً واحداً طول حياته بفعل الخيرات وترك المنكرات، هذا
الهدف هو نيل رضوان الله تعالى والفوز بالجنة.
إن ما نراه من نجاحات في عالم الواقع ليس وليد المحاولة الأولى؛ بل إن
هناك مئات بل ألوف التجارب المخفقة التي سبقت النجاح الكبير؛ ومما يُذكر أن
(أديسون) واجه في بحثه الدؤوب عن (سلك الملف) المناسب لصناعة المصباح
الكهربائي ثلاثة آلاف حالة إخفاق، وهي بالطبع ثلاثة آلاف عقبة مؤقتة، قبل أن
يتوصل للمادة المناسبة بعد ثلاثة آلاف محاولة. ويمكن لأي رجل عادي أن يعترف
بالهزيمة إن كان لا يتمتع بخاصية الصبر والإصرار على الظفر غير المحدود!
إن علينا أن نشجع من غير ملل كل أولئك الذين يصرون على عملية المحاولة
والخطأ، أولئك الذين يملكون الإرادة الحديدية للاستمرار في طريق البناء
والإصلاح والخير إلى آخره.. مهما كانت التكاليف [6] .
نماذج واقعية لمبادرات ذاتية في الزمن المعاصر:
أشرت في البداية إلى أن المبادرين في هذه الأمة صاروا أقل من القليل..
ولذا فإن نماذج المبادرة التي يمكن أن توصف بالنجاح المميز.. ليست بالكثيرة،
وهذا بلا شك ثمرة لقلة المبادرات أصلاً.. ولعل من النماذج المتميزة في هذا الزمان: المبادرة بإنشاء مجلة إسلامية نسائية تسد فراغاً مهماً في حياة المسلمة، وتقف أمام
هذا الزخم الضخم من الإعلام المضل الموجه للمرأة المسلمة.. ومنذ بدايات
الصحوة الإسلامية وهذه الثغرة لم تسد.. وأهل الإصلاح يتمنون من زمن بعيد أن
توجد تلك المجلة الناضجة.. غير ان ذلك لم يجاوز الأمنيات إلى حيز الواقع إلا
قبل سنيات محدودة.. فكانت هذه المبادرة فتحاً.. فتتابعت المجلات ذات التوجه
الإسلامي والموجهة للمرأة في الصدور.. والسبب الذي أخرها إلى هذه الفترة هو
ضعف روح المبادرة.
والأمر نفسه يقال في مجلة الأطفال.. حيث لم تكن في الساحة مجلات تتبنى
المنهج الإسلامي إلا قبل فترة يسيرة.. وكم من الأحلام والأفكار والمقترحات ما
يدور في خلد الكثيرين.. غير أن القليل من يقول: أنا لها..
وما تزال قطاعات أخرى من الأمة في حاجة إلى حديث خاص بها.. وطرح
موجه نحوها بشتى الوسائل الممكنة.. غير أن الإقدام على ذلك.. لم يحصل
بانتظار من يخرق السكون.
ويمكن أن يقال الأمر نفسه في نماذج أخرى من المبادرات الناجحة كالمبادرة
بإنشاء متاجر الفيديو الإسلامي.. والمبادرة بإنشاء مكاتب دعوة الجاليات المسلمة
وغير المسلمة، والمبادرة بإنشاء المبرات الخيرية والجمعيات الإغاثية التطوعية،
والمبادرة بإنشاء مواقع للدعوة للإسلام على شبكة الإنترنت.. إلى غير ذلك من
المبادرات الفردية والمؤسسية.. على نطاق الأمة ككل أو على النطاقات المحلية
والإقليمية والأسرية.
مقترحات لتنمية روح المبادرة:
1- تحلي المربين والأساتذة ورجال الأمة ودعاتها بروح المبادرة وكونهم
قدوات عملية صالحة ونماذج تحتذى في هذا المجال.
2- حث المربي لمن دونه على المسابقة لأوجه الخير والمبادرة إليها دون
انتظار الآخرين.
3- إشعار المتربين بأن إنقاذ الأمة من واقعها واجب الجميع، وهو مسؤولية
مشتركة، وأن على كل فرد من أفرادها أن يسعى بحسب ما أوتي نحو الإصلاح..
4- تشجيع المبادرين، والثناء عليهم، وإظهار صنيعهم، وجعل مبادراتهم
سبباً في حث الآخرين على الاقتداء بهم.
5- تقبّل الأخطاء الواقعة من المبادرين واحتوائها، ومحاولة التخفيف من
آثارها، وعدم تعنيف فاعليها، وبيان صحة الدافع لذلك العمل بغض النظر عن
تحقيق النتيجة من عدمه.
6- أهمية عدم تضخيم العوائق أمام المبادرة ومحاولة التغلب عليها، وعدم
الوقوف عندها طويلاً.
7- عقد الجلسات والندوات لبحث سبل إحياء روح المبادرة ومجالاتها.
نصائح لمريد المبادرة:
1- الثقة بالله والتوكل عليه، وإخلاص النية قبل البدء في أي أمر من الأمور.
2- دراسة المشروع المقدم عليه قبل البدء فيه، ودراسة جوانبه حتى لا
تذهب الجهود سدى.
3- الثقة بالنفس والتخلص من الهزيمة النفسية وترك الخوف من الإخفاق
الذي طالما قصم مشاريع وقوض من عزائم.
4- سمو الأهداف وعلو الهمة مما يجعل المبادرة تحقق أفضل النتائج، وأن
لا يكون المبادر قصير النظر ممن لا يجاوز نظره قدميه بل يحاول إنجاح المبادرة،
وتوسيع فاعليتها، وبثها بين الآخرين.
5- التربية الجادة التي من ثمارها كما سبق أن يشعر المرء بالمسؤولية الملقاة
على عاتقه مما يجعل المرء مبادراً بطبيعته.
6- الجرأة المنضبطة، والإقدام المدروس؛ حيث إن الخوف سبب رئيس
للإخفاق، غير أن التهور سبب آخر كذلك، ونحن بحاجة إلى جرأة وشجاعة
مضبوطة بزمام العقل والدراسة والتأمل العميق، مع العلم والمعرفة لحدود الإمكانات
والمواهب والعمل بموجبها.
7- التضحية بالمصالح الذاتية لمصلحة الأمة؛ فالمبادرة قد تجر على صاحبها
مادياً أو معنوياً؛ ما تجر، ومع ذلك فاستشعاره للأجر والمثوبة يدفعه للتضحية.
8- أن تعلم أيها الأخ الكريم أن المشكلة ليست في أن تخطئ؛ وإنما المشكلة
أن لا تعمل، وأما من يعمل ويبادر فإنه سوف يخطئ بلا شك ولكنه خطأ في سلسلة
من الإصابات والنجاحات، والمحاولةُ والتكرارُ سبيل للنجاح والتميز.
واجب المصلحين:
ولا بد للمصلحين من تشجيع المبادرة الفردية لدى المسلم، ومكافأة الذين
يطلقون أكبر عدد ممكن من المبادرات الجديدة [7] ، وأن يحرصوا على أن يكون
اللوم على من بادر وعمل ثم وقع في الخطأ أقل من اللوم على من لم يبادر أصلاً.
وفي الختام:
أرجو أن أكون قد وُفّقْت في إثارة شيء من الاهتمام وإلقاء الضوء على هذا
الموضوع المهم، آملاً أن تكون المبادرة بإثارة الموضوع على صفحات هذه المجلة
دافعاً للمربين والدعاة إلى إثراء الموضوع بمقالات أكثر عمقاً وموضوعية، وعذري
هاهنا أنني مبادر.. ومن شأن المبادر أن يكون على عمله آثار الجدة والحداثة مما
يجعل المطاعن عليه أكثر.. وحسبي أنني لفتّ النظر إلى الموضوع، سائلاً الله
تعالى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، والله من وراء القصد، وصلى الله
وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) القاموس المحيط، للفيروز أبادي، (باء الراء، فصل الباء) .
(2) رواه البخاري.
(3) صحيح مسلم كتاب الإيمان.
(4) أسد الغابة، 1/206.
(5) التربية الجادة ضرورة، للشيخ محمد الدويش.
(6) مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د عبد الكريم بكار.
(7) مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د عبد الكريم بكار.(130/26)
تأصيلات دعوية
الوحدة بين المسلمين
ودورها في بناء الكيان الحضاري للأمة الإسلامية
لؤي عباس الهزايمة
إن موضوع الوحدة بين المسلمين، موضوع قديم حديث، ينبغي على الأمة
ألا تمل طرحه لما له من أهمية في بناء حياتها وكيانها، وسأعرض للموضوع
بشكل سريع دون الدخول في ثناياه وتفاصيله المترامية؛ فالموضوع يستقي أهميته
من عدة جوانب:
الجانب الأول: تركيز القرآن الكريم والسنة النبوية على هذه القضية،
واعتبارها هدفاً وغاية من غايات هذا الدين وأصلاً من أصوله.
والجانب الثاني: هو المنظور التاريخي، الذي يتمثل في بيان دور هذه
الوحدة في بناء حضارة الإسلام المجيدة؛ فالحديث عن الوحدة حديث عن عوامل
بناء دولة الإسلام في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي تمثلت في المؤاخاة
بين المهاجرين والأنصار، والتي شكلت بدورها حضارياً أرسى دعائم هذه
الحضارة لقرون متتالية.
أما الجانب الثالث: فهو منظور الواقع، الذي يتمثل في حاجة المسلمين في
هذا الزمان إلى هذه الوحدة حتى يستعيدوا ريادتهم في قيادة الأمم، فالحديث عن
الوحدة بأشكالها وألوانها هو حديث عن مستقبل الإسلام، وحديث عن الحضارة
الإسلامية المقبلة؛ إذ لن يتسنى للمسلمين في زمننا هذا استعادة هويتهم وشهادتهم
على الناس إلا بتوحدهم؛ لأن مخالفة هذا التيار تيار الوحدة إنما يعني التشرذم
والتفكك ومن ثَمّ الانهيار الحضاري، والله سبحانه وتعالى يقول: [وَلا تَقْتُلُوا
أَنفُسَكُمْ..] [النساء: 29] ، والقتل هنا قد يراد به المعنى الحقيقي ويراد به
المعنى المجازي الذي يعني التشرذم والتفكك المنافي للوحدة والذي يشكل معولاً من
معاول انهيار الحضارة الإسلامية، وعقبة من عقبات المسيرة الحضارية.
وإننا إذ نسعى إلى تحقيق الوحدة في واقع المجتمعات الإسلامية، نسعى إلى
تحقيقها ضمن مفهومها الواسع والشامل، بكل أشكالها وألوانها، فنريد [1] :
الوحدة الفكرية أو التصورية: وتعني اتفاق الأمة على الأسس المنهجية وعلى
وحدة النظر في شؤون الكون والحياة للوصول إلى الحقائق.
ونريد الوحدة الثقافية: والتي تعني اتفاق الأمة على الآليات التي يتم من
خلالها إنجاز الأمور النظرية علمياً في أرض الواقع.
ونريد الوحدة السياسية: والتي تعني وجود كيان سياسي واحد تتوجه إليه
أنظار المسلمين كافة، والذي يشكل المرجعية لتمكين منهج الله في واقع الناس.
ونريد الوحدة الوجدانية: والتي تمثل المشاركات العاطفية التي يحس بها
المسلمون تجاه بعضهم، فيفرح المسلم لفرح إخوانه المسلمين، ويحزن لأحزانهم،
ويتألم لآلامهم.
بهذه الوحدة وبمفهومها الواسع، قام الكيان الحضاري للأمة الإسلامية في عهد
النبي.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى رأسه
الجهاد في سبيل الله والذي يمثل العامل الأكبر لصيانة هذا الكيان، ما كان لتقوم له
قائمة لولا الوحدة، ولذا اعتبرها القرآن الكريم شرطاً من شروط القيام بمهمة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يظهر ذلك
من تقديم قوله تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ... ] [آل عمران: 103] ،
على قوله تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: 104] .
السبيل إلى الوحدة:
لقد وجه الخطاب الإلهي أتباعه إلى سبيل الوحدة، فقال سبحانه وتعالى:
[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ... ] [آل عمران: 103] ، فالسبيل هو الاعتصام
بحبل الله المتين، والتمركز حول العقيدة الإسلامية، واعتبار نصوص الوحيين هما
المرجعية في تحديد الغايات، والمنطلق، والمسيرة (آليات العمل) ، للوصول إلى
الأهداف المرسومة.
وإن هذه الأمة لن تجتمع حتى تتوحد نظرتها العقدية، وفق فهم السلف الصالح، وتختط منهجاً يتفق ونهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع مراعاة أوجه التغيير
ومواكبة تطورات الزمان والمكان، يقول تعالى: [إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: 92] .
وإننا بقدر ما نؤمن بحاجة الأمة إلى التغيير الفاعل في واقعها للخروج من
أزمتها الراهنة، بقدر ما نؤمن بأن العامل الأمثل للتغيير هو (تغيير الذات) ، [إنَّ
اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، ومن مقتضيات تغيير
الذات: التعالي عن معاني الحقد والتحاسد والبغض والكره للمسلمين، وتخلية النفس
من شوائب الازدراء والسخرية لأفراد المجتمع المسلم. وبالمقابل فإنه ينبغي تحلية
النفس بالمعاني النبيلة، والمعاني السامية: بمعاني الحب والود والعطف والشعور
بالرحمة والرأفة نحو المسلمين، وتبني قضاياهم وهمومهم، والسعي على ضعافهم
ببذل المعروف والمال، والصبر على إيذائهم والدعاء وبذل النصيحة لهم، فإن هذا
بمجموعه يولد مجتمعاً مترابطاً متماسكاً متآخياً، وهي الحالة التي أشار إليها النبي -
صلى الله عليه وسلم- بحالة الجسد الواحد في قوله: (مثل المؤمنين في توادهم
وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى) [2] .
وحينما شرع الله سبحانه وتعالى الوحدة ودعا إليها، ووجه المسلمين نحوها،
شرع ما يؤدي إلى تحقيق هذه الوحدة ويعين عليها، ويعمل على صيانتها، فشرع
صلاة الجماعة التي يصلي فيها المسلمون ضمن حركات متناسقة تنساب كأنها أمواج
البحر، لا يشوبها تضارب أو تضاد، وبألفاظ واحدة، خلف إمام واحد، متجهين
إلى قبلة واحدة، يدعون إلها واحداً، وشرع الزكاة التي تمثل أكبر مظاهر التكافل
الاجتماعي في الإسلام، والتي تظهر فيه معاني التراحم والتعاطف، وشرع الصيام
الذي تظهر فيه معاني الشعور نحو الآخرين، والحج الذي يمثل بحق المؤتمر
العالمي الإسلامي السنوي، الذي يظهر فيه المسلمون بمظهر واحد يلبون نداء رب
واحد.
الفرقة وأثرها في الانهيار الحضاري:
إن للفرقة دوراً كبيراً في تعطيل مسيرة الأمة نحو غاياتها المثلى، وأهدافها
النبيلة، لتحقيق كيانها الحضاري للقيام بأمر الله، وتبليغ دينه، وتنزيل منهجه في
أرض الواقع لإسعاد البشرية في الدنيا والآخرة.
فالفرقة تبدد الطاقات وتنأى بها عن استثمارها في مساربها الصحيحة، وتثني
النفس عن عزيمتها وهمتها، وتجعل نظرة الأمة قاصرة، بعيدة عن التطلع نحو
آفاقها ومراميها، منشغلة بوضعها الداخلي، دون الانتباه إلى ما يحوم حولها ويحاك
ضدها من الدسائس والمؤامرات التي يقوم بها أعداء هذه الأمة، ومن هنا فقد حذر
القرآن الكريم المسلمين من الفرقة؛ يقول تعالى: [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] .
وبما أن المثال الواقعي والمترجم عملياً في أرضية الواقع، هو أبلغ في التمثل
والتأسي والاقتداء والاعتبار، ركز القرآن الكريم على هذا الجانب الذي يمثل
الجانب القصصي والتاريخي من الكتاب العزيز، فضرب القرآن لنا أمثلة واقعية
من واقع التاريخ الإنساني من واقع أهل الكتاب ليبين لنا دور الفرقة وخلخلة الصف
في زوال الأمم وانهيارها وذهابها، يقول تعالى: [وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ] [آل عمران: 105] ، ويقول: [إنَّ الَذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [الأنعام: 159] .
وإن نظرة إلى واقع المجتمعات الغربية، بما فيها أمريكا وأوروبا، يرى
الفاحص المدقق أنها مجتمعات آيلة إلى السقوط وفق هذه السنة الإلهية؛ فهي
مجتمعات مريضة من داخلها وإن استحسن الناس ظاهرها، مجتمعات منهارة،
متفككة، خربة، وخاصة على الصعيد الاجتماعي. وصدق الله القائل: [تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] [الحشر: 14] .
ولا شك أننا بحاجة إلى دراسات جادة تشخص لنا أسباب الفرقة وعوامل
انهيار الوحدة، حتى يتسنى للعاملين في الحقل الإسلامي مواجهتها والتصدي لها
وإيجاد الحلول المناسبة. إلا أنه يمكن الإشارة إلى أبرز هذه الأسباب؛ فمنها:
1- الخلل العقدي: الذي يعتبر أكبر العوامل في انهيار الوحدة بين المسلمين؛
لأن من مقتضيات وجود خلل في التصور، وجود خلل في السلوك واضطراب في
وحدة الصف، وخذ مثلاً: هزيمة المسلمين وتفرقهم يوم حنين [3] .
2- الغزو الاستعماري: بأشكاله وألوانه، الذي عمل على تمزيق الأمة فكرياً
وثقافياً وسياسياً وجغرافياً ...
ومن العوامل أيضاً: العصبية والعنصرية، والأطماع الشخصية التي تولد
الأحقاد والضغائن والسعي إلى تحقيق الذات ولو على حساب الآخرين، وهذه
الأخيرة تمثل في الحقيقة انعكاساً للخلل العقدي والغزو الاستعماري.
الاختلاف الفقهي هل ينافي الوحدة؟
إن الاختلاف الفقهي وتعدد الآراء ووجهات النظر ضمن إطار الدليل الشرعي
وضمن ضوابط الشريعة، وفي إطار مسوغات وحجج مقبولة؛ لا يناقض الوحدة،
ولا يعاديها؛ بل على العكس من ذلك؛ فإنه يساندها ويعاضدها ويقويها.
وتعتبر هذه القضية ميزة تتحلى بها الأمة المحمدية؛ لأن الإسلام يمثل الدين
الخاتم الصالح والمصلح لكل زمان ومكان، فجاءت نصوص الوحيين تحمل في
طياتها إمكانية تعدد الأفهام لمراعاة التغير على مر العصور، ولمواكبة التطورات
والتغيرات المستحدثة.
فإن الاختلاف يصبح مذموماً، إذا كان بعيداً عن ضوابط الشرع، وبما يؤول
إليه من التشرذم والتحزب والتناحر والتحاقد، وإن نظرة إلى واقع التاريخ الإسلامي، نجد أن هذا الاختلاف في مراحل معينة قد استنفد طاقات الأمة، وعطل مسيرتها
الفكرية والثقافية والحضارية، وللأسف فإننا ما زلنا نعيش بهذه العقلية إلى الآن،
وأعداء الإسلام والمسلمين قد توحد شملهم للنيل من هذه الأمة ومنهجها الرباني.
ومما تجدر الإشارة إليه أن وجود تيارات إسلامية في الساحة الإسلامية، ليس
من الاختلاف والفرقة المشار إليها في الحديث: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين
أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين
فرقة..) [4] ، بل هو من تعدد الآراء والاجتهاد وتنوع آليات العمل ووسائله مع
الاتفاق على القواعد العامة والمبادئ الكلية، ما دامت تلك الاتجاهات في إطار
الاختلاف التنوعي لا اختلاف التضاد.
كما أن لحرية الرأي دوراً كبيراً في الوحدة الفكرية بين المسلمين؛ يقول
الدكتور عبد المجيد النجار [5] : (وقد جعل القرآن الكريم حرية الرأي بمعنى
الصدع به وإفشائه بين الناس، أساساً من أسس الاجتماع في قيام الأمة، والحفاظ
عليها، وتمكين وحدتها، وذلك في قوله تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى
الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (104) وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ] [آل عمران: 104، 105] ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صميم حرية الرأي في تبليغه والاحتجاج له، وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن تعطيل هذه الحرية أو الزهادة فيها يفضي إلى الانقطاع في وحدة الأمة، والانقطاع في صلة العباد بالله، فقال في ذلك: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطراً؛ أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم) [6] .
__________
(1) انظر: عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، ص75 وما بعدها.
(2) رواه مسلم، رقم (2856) .
(3) انظر تفاصيل المعركة: سيرة ابن هشام 4/70.
(4) رواه الترمذي، رقم (2645) ، وقال: حسن صحيح.
(5) دور حرية الرأي، ص 47.
(6) رواه أبو داود، رقم 4336.(130/34)
تأملات دعوية
معيار تصحيح الأخطاء
عبد الله المسلم
لا شك أن تصحيح الخطأ أمر يسعى إليه كل امرئ جاد في حياته حريص
على تحقيق أهدافه، فضلاً عن المؤمنين الصادقين، الذين يرون الخطأ يأخذ مدى
أبعد من مجرد لوم الضمير وعتاب النفس.
لكن علاج الأخطاء أحياناً يوقع في خطأ آخر، ومن ثم فوقوع الخطأ ليس هو
وحده المعيار الأوحد في تقبل مقولة من ينتقِد واعتباره أنه على الحق، والسعي
لإثبات وقوع الخطأ ليس منجياً للمنتقَد ولا كافياً في سلامة موقف المنتقِد.
وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- ينكر على أصحابه في أكثر من موقف
أسلوب تعاملهم مع الخطأ وعلاجهم له، ومن ذلك القصة المشهورة للرجل الذي بال
في المسجد، وقصة معاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة، وقصة الشاب
الذي جاء يستأذن بالزنا فهمّ به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغيرها
كثير.
وحين نتحدث عن أخطاء إخواننا فإن دراسة الظروف والأجواء التي ولّدت
الموقف الخاطئ أمرٌ له أهميته في إعطاء الخطأ حجمه الطبيعي والمعقول، إضافة
إلى إدراك البيئة وطبيعة المجتمعات التي يعيشها إخواننا.
ومن الأمور المهمة لتقويم أخطاء إخواننا أن نطبق المقياس والمعيار الشرعي
في الحكم على الأعمال والمشروعات والبرامج؛ فمجرد كون الأمر لا يروق لنا،
أو لم نألفه، أو لم يعجب فلاناً من الناس، أو حكم عليه بأنه غير مناسب.. مهما
كان شأن هذا الشخص، كل ذلك ما لم يكن منطلقاً من جانب شرعي فلا يسوغ قبوله، فضلاً عن أن يكون سبباً في الحكم على إخواننا وإسقاطهم.
وأحياناً في تقويمنا للأعمال والبرامج الدعوية نفترض الكمال في البشر،
فنريد فقيهاً متمكناً، وأن يكون في الوقت نفسه سياسياً ماهراً، واقتصادياً بارعاً،
ومفكراً يدرك القضايا الساخنة في عصره ويعيها، وقيادياً يجيد فن الإدارة وتوجيه
الناس وتفعيل الطاقات، إلى غير ذلك مما يصعب أن يتحقق في جماعة فضلاً عن
فرد. ولماذا لا نقبل في فرد من الأفراد أن يتميز في ميدان من الميادين ولو على
حساب ثغرة أخرى يسدها غيره؟
وحين يُلْجِئُ إخوانَنا صراعُهم مع أعداء الله تبارك وتعالى إلى الوقوع في
أخطاء وتجاوزات، فذلك وإن كان لا يسوغ منهم، ونبل مقصدهم لا يسوّغ لهم ذلك، إلا أن من يتحدث عنهم ينبغي أن يتحدث عن الجميع، ولا يسوغ له أن يشن
حملة ظالمة على إخوانه، ويدع الظالم الأكبر الذي يتربص بأهل الإسلام الدوائر،
فظلمه وجوره وخطؤه لا يقارن بخطأ الدعاة.
بل الأدهى من ذلك أن يقف المنتقِد في صف واحد مع أعداء الله في مواجهة
إخوانه ورفاق دربه، وأن يسوّغ للظالمين بطشهم وجورهم.
فمتى ندرك حق إخواننا علينا؟ ومتى نعي مسؤوليتنا عن نصرتهم وموالاتهم
والوقوف معهم في صف وخندق واحد؟
كل ذلك لا يعني ألا نتحدث عن الأخطاء وألا ننتقد؛ بل هذا من النصح
الواجب للمؤمنين، لكن ينبغي أن يكون في إطار ما يحقق المصلحة، وألا يخل ذلك
بواجب الولاء والنصرة للمؤمنين.(130/40)
ندوات ومحاضرات
ندوة عن:
هويتنا الإسلامية: بين التحديات والانطلاق
(الحلقة الثالثة)
إعداد: وائل عبد الغني
تناول أصحاب الفضيلة ضيوف الندوة في الحلقة السابقة إيضاح قضية: إلى
أي حد يستوعب المسلمون قضية الهوية؟ وكيف ينظر أعداؤنا إلى هويتنا الإسلامية؟ ثم بيان صور مختلفة لأساليب طمس هويتنا الإسلامية. وهذه الحلقة تتناول
جوانب أخرى من الموضوع نترككم معها. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
* نريد أن نتتبع مسيرة التغريب في بلادنا منذ بداية الأزمة، وما العوامل
التي أسهمت في نجاحه؟
أ/ جمال سلطان:
نأخذ مثال مصر باعتباره مثالاً واضحاً وقوي الأثر؛ فقد نشط الإنجليز في
الجانب التعليمي وترجمة القوانين حتى الفرنسية منها.
أسسوا مؤسسات علمية منافسة للمؤسسات الشرعية الموجودة، كدار القضاء
في مقابل الأزهر، والمحاكم المختلطة في مقابل المحاكم الشرعية، مع التضييق
على المحاكم الشرعية، كما أقاموا المدارس الأجنبية كذلك في مواجهة المعاهد
الأزهرية، ثم رُبط النظام التعليمي الجديد بالوظائف.
ثم بدأ بتغذية بعض الحركات الجديدة وإنعاشها، كتبني بعض الشوام، عن
طريق إعطائهم دورات في الفنون، وإرسالهم إلى مصر لإنشاء مؤسسات فنية
تروّج لأفكار جديدة، ورؤى جديدة، لم يكن ينتبه إليها أبناء ذلك الجيل.
وبدأ اللعب على النخب الموجودة والقيادات، وربط مصالحهم بالمصالح
الإنجليزية، ثم تأسيس أحزاب على أسس علمانية.
كما استفادوا من نشر الكتب في بث أفكارهم المنحرفة، لأمثال قاسم أمين
الذي دافع عن الهوية والحضارة والحجاب والشريعة في أول أمره، ثم انقلب بعد
خمس سنوات بزاوية (130) في كتابه (تحرير المرأة) ثم زادت الهوة فبلغ الانقلاب
إلى (180) في كتابه: (المرأة الجديدة) ، وكذلك علي عبد الرازق.
وهناك أسلوب أخطر رصده د. محمد حسين هيكل في كتابه: (ثورة الأدب)
في فترة العشرينات، يقول: (إننا كنا نرى في الجامعة أناساً مستشرقين وغيرهم،
يحتكّون بالطلبة ويقيمون صداقات مع بعض الطلبة النابغين، ويغلفون هذه الأنشطة
بالبحث العلمي والأدبي) .
يقول: (ولكني أزعم) والرجل كان رجل فكر وسياسة وأدب يقول: (ولكني
أزعم أن هذه الأمور لم تكن متعلقة بالأدب، بقدر ما كانت متعلقة بأمور أخرى
خطيرة) .
والشاهد أن الاحتلال الإنجليزي قد نجح نجاحاً بالغ الخطورة في مسألة
(التغريب) على حساب الهوية الإسلامية التي ضُيعت جوانب منها كثيرة، حتى
وصل الأمر إلى درجة بالغة من الانهيار في فترة الخمسينات والستينات، قبل أن
يتدارك الله بفضله ورحمته أمتنا بالصحوة الإسلامية، لتنتعش الهوية من جديد.
لعلنا استطردنا في النموذج المصري؛ لأنه كان أسبق في التغريب، كما أنه
كان أخطر؛ لما كانت تمثله مصر من كونها قبلة للكفاءات والطاقات الثقافية
والفكرية في العالم الإسلامي، إلى جانب أنه كان يتم تصدير المشاريع الموجودة بها
سواء الإسلامية أو التغريبية من خلالها، ولكنا نجد أن الأمور سارت بشكل متقارب
في عدة مواضع، كما فعل الفرنسيون في تونس والجزائر، أما تركيا فقد بدأت هذه
الأمور فيها منذ وقت مبكر عن مصر.
الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
لديّ إضافة بالنسبة لتركيا وما صنعه أتاتورك لتغريب المجتمع هناك، وكيف
أنه يتكرر بحذافيره في كثير من بلادنا اليوم، فالرجل قد ألغى الخلافة، وعطل
الشريعة، وألغى نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد، وألغى
المحاكم الشرعية، والمدارس الدينية والأوقاف، وحوّل الأذان العربي إلى التركية،
واستبدل الحروف العربية باللاتينية، وكان يقول: (لقد انتصرت على العدو،
وفتحت البلاد، هل أستطيع أن أنتصر على الشعب؟) .
وهو الذي قال: (كثيراً ما وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان
في البحر) ! ، وهو الذي استدعى وهو على فراش الموت السفير الإنكليزي (بيرس
لورين) ، في قصر الرئاسة بإستانبول، وعرض عليه أن يخلفه في منصب الرئيس، ورفض السفير بلباقة!
وبلغ الشغف بالتغريب إلى حد أن قال أغا أوغلي أحمد وهو أحد غلاة
الكماليين: (إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في
رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم) .
* نود الحديث عن أهم القنوات التي تُسلل من خلالها لتغريبنا.
د/ جمال عبد الهادي:
أخطر قنوات التغريب التي ركز عليها الاستعمار قناتا: (التعليم، والإعلام) ،
وقد تكلم عن أثرهما (هاملتون جب) في حديثه عن تغيير الهوية الإسلامية، قال:
(ومن ثمّ نستطيع أن نقول حسب سير الأمور: إن العالم الإسلامي سيصبح خلال
فترة قصيرة لا دينياً في كل مظاهر حياته ما لم يطرأ على الأمور عوامل ليست في
الحسبان فيتغير اتجاه التيار) .
لذلك فإن النفوذ الغربي قد ركز في سبيل تفريق وحدتنا الإسلامية على التعليم
كعامل هام في إدخال مفاهيم الكراهية للإسلام، والافتتان بالغرب من أجل خلخلة
الانتماء، والتشويش عليه، ومن ثمّ القضاء عليه مع امتداد الأجيال، وقد جاء ذلك
عن طريق الثقافة الغربية المبثوثة في مختلف العلوم الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية على أساس أن هذه المفاهيم لها طابع نصراني.
أما وسائل الإعلام فقد نجحت في تشكيل ثقافة الأمة، والتأثير عليها إلى حد
بعيد جداً، وسر نجاحها أنها استطاعت أن تتخطى حاجز الأمية بالوسائل المرئية
والمسموعة، بل والمقروءة أحياناً والتي أصبحت تُقرأ عبر التلفاز، وتكمن
الخطورة في أنها أصبحت تملك المصداقية لدى رجل الشارع العادي الذي لا يجد
أمامه خياراً آخر سوى تصديقها، أضف إلى ذلك مستوى التقدم المذهل في تقنيات
الإرسال والاستقبال، وبرامج المعلومات، وتقنيات التأثير النفسي على الجماهير،
من خلال الوسائل الإعلامية التي تحاول فرض الهيمنة الفكرية والثقافية عليها،
تحت شعار: (ما أريكم إلا ما أرى) .
* وماذا عن وسائل الإعلام ودورها في أزمة الهوية؟
أ/ جمال سلطان:
يعد الإعلام من أخطر وسائل الاسترخاء، بل والتخدير في العصر الحديث،
فخطر التليفزيون على سبيل المثال أعظم من أن يوصف، لذلك لما وصفه أحد
الباحثين بأنه: (الأب الثالث) للطفل، رد عليه آخر قائلاً: (لا.. بل هو الأب
الأول) .
فالإعلام أصبح موجهاً ومربياً وبرامجه قائمة على دراسات نفسية واجتماعية
عميقة لتحدث الأثر المطلوب.
وأكبر مثال على ذلك هو كيفية تقديم الرئيس الأمريكي عند انتخابه: كم نسبة
من يعرفونه من الشعب إلى من لا يعرفونه قبل الانتخاب؟
الواضح أن الجماهير لم تكن لتعرفه إلا عن طريق الشخصية الإعلامية
الملمعة.
وعليه فإن الذي يصنع آلة الإعلام هو الذي يصنع الرئيس الأمريكي،
ويصنع قبل ذلك العقول والأذواق وأساليب التفكير. ولننظر إلى الصحف كيف
تشكل الرأي العام، وهي مسألة في منتهى الخطورة، وتقف وراءها مؤسسات
متخصصة كاملة.
د/مصطفى حلمي:
يرى (لاتوش) في كتابه: (تغريب العالم) أن أروع نجاحات التغريب يكمن
في انتشار أدوات السلطة التي من أهمها الإعلام، ويستدل على ذلك بما رصده
(كاستورياديس) بفطنة ثاقبة عن تقنيات السلطة، أي (تقنيات الخبل الجماعي) :
(هناك مكبر صوت في كافة القرى يبث خطاب الزعيم، هناك تليفزيون يهتم بنفي
الأخبار.. إلخ، وتنتشر هذه التقنيات بسرعة النار في الهشيم، وقد اجتاحت
الأرض بأسرها، وسرعان ما انتشر في كل مكان أن أيّ أومباشي في أي بلد من
بلدان العالم الثالث، يحسن استخدام سيارة الجيب، والرشاشات، والبشر،
والتليفزيون، والخطب، وكلمات (الاشتراكية) ، و (الديمقراطية) ، و (الثورة) وكل
هذا، قمنا نحن بمنحه لهم، وتلقينه إياهم بسخاء بالغ) ! ! .
* كيف نجح الغرب عبر التعليم في طمس هويتنا من أجل تغريبنا؟
د/ جمال عبد الهادي:
الغرب لم يعد يقنع في تغريب التعليم بما حققه، ولكنه ما زال يطمع في
المزيد؛ لأن التعليم هدف استراتيجي بعيد المدى خطير الأثر.
فبعدما نجح في تغريب النخبة عبر التعليم، إذا بنا نراه يطمح لتغريب
المجتمع كله، عبر وضع المناهج الدراسية العامة! .
فهل يعقل مع هذا أن نستجلب مستشارين من غير جلدتنا، ليضعوا لنا
مناهجنا التربوية، وسياستنا التعليمية؟ ! ..
هل يعقل أن نسلم كل عقول الأجيال القادمة إلى أناس لا يرقبون فينا إلاً ولا
ذمة، ونسلّم لهم في كل ما يقولونه؛ ونطلق أيديهم للعب في المناهج التعليمية بدءاً
من المناهج الدينية إلى العلوم الإنسانية والتطبيقية، وعلوم التقنيات الحديثة؟
وقد ظهر أخيراً إلى أي حد بلغ التآمر على هويتنا؛ فحذف كل ما يعمق الفهم
الإسلامي ويقوي الانتماء، وكل ما يذكر بعدوان الغرب لنا أو حتى انتقاده، أو
بعداوة اليهود والنصارى، ولو كانت نصوصاً من القرآن والسنة، بالإضافة إلى
التسطيح المتعمد للعلوم الإنسانية والتجريبية؛ بحيث تصبح بلا دلالة ولا مضمون،
فيقف الطالب عند الحد النظري منها دون أن يستفيد أي خبرة أو مهارة عملية.
يضاف إلى ذلك علمنة المفاهيم، وتغريب التقاليد والعادات، وإشاعة المساوئ
الأخلاقية من خلال نشر الصور العارية، والقصص المبتذلة الساقطة في مناهج
اللغات الأجنبية، ومحاولة نشر الفاحشة عن طريق ما يسمونه بالثقافة الجنسية،
التي بدأوا يقيمون لها دورات وندوات، تشمل في بعض الأحيان تلاميذ المرحلة
الابتدائية! لنرى إلى أي حد تتأثر سياساتنا بمخططات أعدائنا.
ونحن نسأل: ماذا يريد المسؤولون عن التعليم في بلادنا أن يُخرجوا لنا؟ !
هل سيخرّجون نموذجاً إسلامياً؟ أو حتى قومياً أو وطنياً؟ أو على أقل تقدير
إنساناً لديه أي قيم؟
للأسف! ليس شيئاً من ذلك.
وبدون أدنى تحقيق فإن الناظر فيما يجري، يرى مدى الخطر الداهم الذي
يهدد هويتنا الإسلامية، بل وحتى الهويات البديلة المصطنعة من أجل مزاحمة
الهوية الإسلامية.
الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
إذا أحببنا أن نشبه تأثير التعليم الغربي اللا ديني، فيمكن اعتباره (كالحامض)
الذي يذيب شخصية المسلم، وهذا ما عبر عنه المستشرق (جب) : (والسبيل
الحقيقي للحكم على مدى التغريب؛ هو أن تتبين إلى أي حد يجري التعليم على
الأسلوب الغربي، وعلى المبادئ الغربية، وعلى التفكير الغربي ... هذا هو السبيل
الوحيد ولا سبيل غيره، وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي
في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين، وقليل من الزعماء
الدينيين) اهـ.
إنه من غير المعقول ولا الجائز، أن تستورد أمة لها شخصيتها ورسالتها،
ولها عقائدها ومناهج حياتها، ولها طبيعتها ونفسيتها، ولها تاريخها وماضيها أن
تستورد نظاماً تعليمياً أجنبياً عنها، ثم تكل وظيفة التعليم والتربية، وتنشئة الأجيال، وصياغة العقول إلى أناس لا يؤمنون بهذه الأسس والقواعد، بل يناصبونها العداء!
أمثلة ونماذج على تخريب التعليم:
* هل يمكن ذكر نماذج واقعية من خلال ما يجري في مناهج التعليم من
تزوير للهوية تحت مسمى التطوير؟
د/ جمال عبد الهادي:
ألغي في مصر التاريخ الإسلامي من المرحلتين الابتدائية والثانوية لحساب
تاريخ الفراعنة والغرب.
فبينما كان التاريخ الفرعوني يدرس في (75) صفحة، وفي المرحلة الإعدادية
فقط، أصبح يدرس في المراحل الثلاث وفي (317) صفحة.
هذا التوسع جاء على حساب التاريخ الإسلامي الذي كان يدرس في المراحل
الثلاث في (307) صفحة، ليختزل في مرحلة واحدة هي الإعدادية إلى (32)
صفحة! .
وبينما نجد أن عصر النبوة كله يدرس في (10) صفحات نجد أن الملك (مينا)
وحده يدرّس تاريخه في تسع صفحات، واختزل تاريخ خالد بن الوليد رضي الله
عنه وفتوحاته في (6) أسطر، في حين يدرس (نابليون) وحملته على مصر في
(34) صفحة.
أما السيرة النبوية الشريفة فتبدو وكأنها تعرض سيرة شخص من عامة الناس، لا سيرة أعظم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو على أقل المفروض سيرة
مصلح أو زعيم تقليدي؛ حيث حذفت مواطن العظمة ونماذج القدوة، فضلاً عن
التشويه المتعمد لكثير من الوقائع التاريخية، مثل ما يثار من شبهات حول الخلفاء
الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم.
أما الحضارة الإسلامية فقد طمست أهم معالمها؛ كالنظام السياسي والإداري
والمالي، والقضائي، وشوهت فترات القوة فيها، فصوروا حياة الخلفاء فيها على
أنها حياة لهو ومجون، ووصموا الحضارة بالعنصرية والطبقية، بل وحذفت أي
جملة، أو كلمة تحيي روح الانتماء للإسلام والاعتزاز به.
ومن جوانب المؤامرة كذلك:
ما تم إخفاؤه من حقائق؛ مثل إخفاء حقيقة الحملات الصليبية، تحت
مسوغات مادية أو مصالح غربية لإضعاف حس الولاء والبراء والحمية للإسلام.
كذلك ما يتم في معالجة التاريخ الحديث لبلادنا على ضوء التاريخ الأوروبي
الحديث، وبنظرة ومفاهيم غربية بحتة، لذا لم تبين لنا مثل هذه المعالجة مدى
المصائب التي أضرت باقتصادنا وسلبت ثرواتنا وما زالت، وحرمتنا من إنتاج
رغيف خبزنا، بل ومنعتنا من تطبيق شريعتنا، وذلك منذ بدء الاحتلال الأوروبي
الصليبي وحتى اليوم.
كما أخفت أن سياسة أوروبا الاستعمارية القديمة ما زالت مستمرة، وأن النظام
الدولي الجديد ما هو إلا امتداد للنظام الاستعماري القديم، كما حذفت أي عبارة تشير
إلى دور أمريكا وبريطانيا في غرس الكيان اليهودي في أرض فلسطين.
وهكذا اقترنت الغزوة العسكرية والاقتصادية لديارنا بغزوة فكرية، تعزل
الإسلام تماماً عن حركة التاريخ، ومعترك الحياة.
فلا عجب إذا ما فرّغت كتب التاريخ والجغرافيا من مضمونها، وحُرم النشء
المسلم من معرفة تاريخ أمته العربية الإسلامية وأدوار قوتها وضعفها، ومن هم
أعداؤها في الماضي والحاضر، وما هي أهم واجباته لمواجهة مخططاتهم،
وبخاصة مخطط تمزيق وحدة الأمة، وبعثرة جهودها وسلب خيراتها، ومحاولة
تكبيلها للسيطرة عليها.
تم إغفال إبراز فكرة التعاون والتكامل الإسلامي العربي (الوحدة الإسلامية)
لحساب المشروعات الوافدة، كمشروع الشرق أوسطية، أو البحر متوسطية، لذلك
تم حذف كل ما يشير إلى التضامن الإسلامي، أو الخلافة الإسلامية، أو الجامعة
الإسلامية.
الثقافة والهوية:
* وماذا عن الاختراق الثقافي للعقل الإسلامي، وما مدى تأثير ذلك على
الهوية؟
د/ جمال عبد الهادي:
الاختراق الثقافي أصبح قضية تحدٍ خطيرة؛ لأن القضية دوّلت، ففي عام
1987م أعلنت الأمم المتحدة؛ أن السنوات العشر القادمة ستكون للتنمية الثقافية.
ومفهوم التنمية لديهم معروف لذي الفطن! ولكن بعد مضي السنوات العشر ما الذي
جنيناه من جراء هذا الإعلان؟ لم تتحقق أي تنمية، بل على العكس من ذلك؛ إذ
كان تحريفاً وتزييفاً وتضليلاً، ورغم توقيع غالب الدول على هذه الاتفاقية غير أن
ما يمارس اليوم من هيمنة إعلامية وثقافية غربية، وبالذات الأمريكية منها، يمكن
اعتباره حرباً عالمية ثقافية حقيقية تدعمها القوة المسلحة، مصحوبة بالاستخدام
الواسع لوسائل الاستخبارات والتقنية الحديثة، فضلاً عن وسائل الردع والضغط
الاقتصادي، لاستخدام قيم العدو، وهنا يكمن الخطر؛ ورغم هذا يسمونه (البديل
الديموقراطي) .
وتسعى الولايات المتحدة إلى فرض تصورها بالقوة، كما جاء ذلك في خطاب
كلينتون؛ الذي ألقاه يوم تنصيبه رئيساً في 20 يناير 1993م: (إن أمريكا تؤمن
بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً
لتحويل العالم إلى صورتنا) ! .
لعبة الديمقراطية:
* إذن فالبديل الديمقراطي ما هو إلا لعبة تغريبية، يُمارس من خلالها الخداع، والتسويق الثقافي لفلسفات جامدة.
د/مصطفى حلمي:
هناك الكثير من المصطلحات مثل: (الديموقراطية) ، و (التحرر) ،
و (البحث الحر) ، وأمثالها، هذه الشعارات ارتبطت بالتغريب، وهي في حقيقتها
شعارات خادعة تخفي الواقع المخالف لها تماماً، لذلك لا يسمح الغرب للقيم الحقيقية
أن تنافس قيمه الزائفة، ويقولون بصراحة: (لن نسمح لهذه القيم أن تطبق، إنها
مجرد شعارات) ، فهدفهم هو تغريب العالم ككل، ولو من أقصر طريق. يقول
(لاتوش) : (إذا كان للحضارة أن تختزل إلى الشرطة والجيش، فإن العالمية متحققة
إذن من الآن) فنحن نواجه اليوم (إمبريالية ثقافية غربية) وبالأخص
(إنجلوساكسونية) ، أما دورنا فمجرد مستقبلين! فأين (الديمقراطية) المزعومة إذن؟ !
د/جمال عبد الهادي:
اسمحوا لي بمداخلة بسيطة مع الدكتور مصطفى: هناك صورة من أخطر
صور التغريب والتضليل، أحب أن ألقي عليها بعض الضوء، وهو ما يمارس
لفرض منهج معيب في البحث تحت مسمى (العلم) ، بينما لا نجد هذا المنهج مطبقاً
في بلاده، ولا بين أهله، وهذا يعني أنه منهج مصمم خصيصاً للمستعمرات،
وبالذات لبلادنا الإسلامية للقضاء على كيانها، من أجل الحيلولة بين الأجيال الجديدة، وبين روافد هويتها الحقيقية.
(فالأدب العربي) وفق هذا المنهج: أدبٌ منفصل، نشأ في العصر الحديث،
وارتبط بالحملة الفرنسية، ومعنى هذا؛ أنه أدب منفصل تماماً عن الأدب العربي
والإسلامي في عصوره الممتدة.
و (الفكر العربي) : عبارة عن فكر نشأ في ظروف الاتصال بالغرب؛ وعليه
فإنه لا يمتّ إلى المنهج الإسلامي ومصادره بأية صلة.
و (دراسة التاريخ) تتم من أجل النقد (أو قل: الطعن) في رموز الإسلام، أو
تهميشها، أو التعمية عليها، والمقابل هو إبراز النماذج الشعوبية والتآمرية المنحرفة، بدعوى الحياد في السرد التاريخي.
والدافع الذي يفسر به التاريخ، ليس هو دافع العبودية، أو الصراع الأبدي
بين الخير والشر، أو الحق والباطل، وإنما يفسر بالنفعية أو الذاتية.
ولنا أن نتصور حجم المصيبة إذا نشأت عقول باحثينا، ومن يقرأون لهم على
مثل هذا المنهج المضلل.
ولا غرابة إذا رأينا من يطعن في الإسلام بحجة التطوير، أو في رموزه
بحجة النقد، أو في تاريخه بدعوى الحياد، ولا عجب بعدها إذا ما نظروا إليه على
أنه تخلف وغموض ووساوس، والله المستعان.
مفهوم التنمية:
* قضية التنمية، أو ما يعبر عنه بـ: (التنمية) اليوم، أو (الدول النامية) .
ما صلة هذا اللفظ بحرب الهويات؟
د/ مصطفى:
يمكن لنا أن نضع قذائف التغريب الثقافي في كفة، وما يجتاح (العالم الثالث)
من حمّى الغزو الاقتصادي في كفة أخرى، لا لقوته التي تفوق الغزو الثقافي فحسب، ولكن لخفائه أيضاً وتسربه الخادع إلى العقول والنفوس؛ لأنه يتخفّى تحت عنوان
باهر باسم (التنمية) . يقول د. جلال أمين: (إن هذا الغزو الغربي لاقتصاديات
وثقافة بلاد العالم الثالث هو بالضبط ما يحدث منذ أن رفع شعار: تنمية هذه البلاد،
وإطلاق اسم التنمية على هذا الغزو، وتسمية الدول الخاضعة له باسم (الدول
النامية) ، هو مثال من أسوأ ما يمكن أن يقدّم من أمثلة على الاستعمال الفاسد للغة،
وعلى تسمية الأشياء بغير أسمائها.
ولكن أن نذهب إلى حد وصف تلك المجتمعات الرافضة، أو المقاومة لهذا
الغزو، أو التي لا تخضع له بالسرعة الواجبة، بوصف (الدول المتخلفة) ، فهذا
من قبيل عدم الاكتفاء بإيقاع الأذى، بل وإضافة الإهانة إليه) .
أ/ جمال سلطان:
تعتبر التنمية الاقتصادية جزءاً هاماً من البعد الحضاري الذي يشكل بعداً من
أبعاد الهوية، هذا البعد في مجمله له أثر في غاية الخطورة على قضية الانتماء؛
لأن التغريب استطاع أن يكسب من خلاله أرضية واسعة في غزوه للهويات؛ لأنه
يتعلق بالمناخ الفكري، والثقافي، والمعرفي، والقيمي، والسلوكي، والأخلاقي
الذي يعيش فيه الإنسان، وفي هذا المجال يتلاعب التغريب عبر وسائله بشكل
مباشر، لدرجة أنه يحدد الذوق الشخصي للإنسان، ويملك أن يقنعه بالمتناقضات
في آن واحد.
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك؛ إدخال نمط الطعام الغربي لحياتنا، حتى
أصبح الطعام بهذه الصورة ثقافة، ونستشعر ذلك في الاحتفال الضخم الذي أقامه
الأمريكان لافتتاحهم أول فرع لـ (ماكدونالد) في القاهرة أو في روسيا، فالربح
الماديّ باعتباره العامل الاقتصادي الأكبر لم يكن هو الدافع الوحيد لكل هذا الابتهاج، ولكن المسألة تتلخص في أنه بافتتاح (ماكدونالد) باعتباره واجهة تغريبية يمكن
نشر مجموعة من التقاليد والسلوكيات الأمريكية، مما يمثل نوعاً من الغزو المستتر، ونموذجاً للحرب الطاحنة للنفاذ إلى العقول والقلوب، التي قد تصل في بعض
الأحيان إلى التلويح باستخدام القوة، من أجل فرض قيم معينة.
ومن نماذج هذا الصراع، ما يجري بين (الأمركة) و (الفرانكوفونية) ، على
النفوذ والوجود الثقافي في القارة السوداء، والمستعمرات الفرنسية السابقة.
* وهل من علاقة بين (التنمية) و (التنصير) على اعتبار أن (التنصير) هو
أعلى غايات (التغريب) ؟
د / مصطفى حلمي:
الغرب من حيث أنه يمثل وحدة تركيبية تتفاعل فيه مجموعة مؤثرات دينية،
وأخلاقية، وعرقية، واقتصادية، والأقرب أنه كيان ثقافي، وظاهرة حضارية.
لكن التنصير يبرز ممثلاً أحد مظاهر نشاطه التغريبي، وأبرز أشكاله
البروتستانتي بزعامة الولايات المتحدة، والكاثوليكية بزعامة فرنسا، ويقدم تحت
ستار (النشاط الإحساني) وفق تعبيرهم المتمثل في المساعدات والإعانات الخيرية
والاجتماعية، أو تحت ستار (النشاط العقلاني) عبر المدارس التنصيرية والنشرات
وجهود المستشرقين، وغالباً ما تقرن مشروعات التنمية بـ (تحت راية الصليب) ،
ويزداد الأمر دهاءً في بعض الأحيان فيطلقون على التنصير نفسه وصف التنمية.
* في أحيان كثيرة يبرز دور الشركات المتعددة الجنسيات فيما يطلق عليه
(التنمية) ، هذه الشركات التي قد تفوق ميزانيتها ميزانيات بعض الدول.
فما صلتها بخطط التغريب؟
د/ مصطفى حلمي:
نعم، لقد أصبح لها دور خطير في توجيه سياسات الدول واقتصادياتها،
وأنماط حياتها، فلم يعد الربح هو الهدف الوحيد، ولكن (السّلطة) أيضاً إلى جانب
تبديل الوعي الثقافي، وهذا يعتبر نقضاً للميثاق الذي يقضي بأنه (لا يجوز من مثل
هذه الشركات، التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد التي تعمل فيها) ، وقد بين لاتوش
سذاجة من يثق في هذا الميثاق.
* مظهر آخر لعله من أخطر مظاهر (التغريب) ، أو (التخريب) ، ما يسمى
بـ (حوار الأديان) ، الذي صار الغرب يلعب من خلاله، على كثيرٍ ممن ينتسب
إلى العلم والتوجيه الشرعي، ويلبّس به على عامة الشعوب.
د/مصطفى حلمي:
تكاثرت في الفترة الأخيرة الدعوة إلى الحوار بين الأديان، ولهذه الدعوات
مغزاها ودلالاتها، وحصادها الخبيث الذي بدأنا نصطدم به في واقعنا.
والمتابع للمؤتمرات التي تعقد تحت هذا المسمى، فإنه يدرك من مجرياتها
مدى الغزو الفكري، والعقدي المقنع، الذي يُدس من خلال التشكيك والاتهام من
جهة واحدة، ضد جهة واحدة، (الأديان الأخرى) ضد (الإسلام) .
د/جمال عبد الهادي:
لا يجوز بأي حال من الأحوال، أن تطرح مسائل العقيدة، والقيم، والأمور
المعلومة من الدين بالضرورة للحوار، أو تكون موضوعاً للتفاوض؛ لأنها من
النظام العام لهويتنا؛ بل هي النظام العام نفسه، الذي لا ينبغي لتعليم ولا لإعلام أن
يخالفها، وإلا كان هادماً لهوية الأمة، معرضاً أمنها للخطر، ومستقبلها للضياع،
وأما ما يجري في مثل تلك المؤتمرات بحجة مسايرة العصر، أو التفاعل مع
الحضارات الأخرى، ففرية تحيل الأمة إلى (قرد) يقلد الآخرين، و (ببغاء) يردد ما
يقال دون أن يعلم له معنى.
وأما الاحتجاج بمصلحة الوطن فوهمٌ؛ لأنه لا قيمة للوطن إذا كان يسكنه
شعب ضائع، مستعبد على أرضه، يعيش ليأكل، ويتمتع كما تتمتع الأنعام.
ما الحل؟
* بعد أن تبين حجم التحدي وقدر المخاطر المحدقة بنا نريد أن نرسم خريطة
تكون بمثابة ورقة عمل تجمع الجهود المتناثرة، وتحدد الأدوار التي يمكن تقديمها
من أجل استعادة الهوية المضيعة.
الشيخ/ محمد:
ابتداءً، نحن لا نبتدع هوية مفقودة، ولكننا نريد استعادة الوعي بالهوية
الموجودة التي صارت كأنها صفحة مكتوبة تراكمت عليها طبقات الأتربة، حتى
صارت غير مقروءة؛ لأن أحداً لم يحاول قراءتها منذ زمن، فالواجب هو إزالة
هذه الأتربة، واستحضار واجترار، وإحياء الأفكار والقيم التي يطلب الوعي بها
من وراء حائط النسيان، وهذا الهدف لا يتم إلا بعد تحديد الوسائل، وتوظيف
الطاقات المتاحة.
وأهم هذه الوسائل:
تدعيم دور الإعلام الإسلامي بكافة أشكاله ليؤدي دوره في:
1- إحياء حركة تجديد الدين بالمفهوم السلفي الواضح، لنعود إلى منابع
الإسلام الصافية متمثلة في (منهاج النبوة) ، بعيداً عن مخلفات القرون.
2- الدعوة إلى حتمية الحل الإسلامي لمعضلات واقعنا الأليم، وتحرير
الهوية من كل مظاهر الخَوَر والتبعية، والقضاء على العقبات التي تحول دون
تطبيق الإسلام كمنهج شامل للحياة.
3- التصدي لمحاولات تذويب الهوية الإسلامية، وقطع صلة الأمة بدينها،
والتي تجري اليوم على قدم وساق من خلال تخريب مناهج التعليم، وتشويه التاريخ
الإسلامي، وإضعاف اللغة العربية، ومزاحمة القيم الإسلامية بقيم غربية، وغير
ذلك من أنشطة (التبشير) العالماني والغزو الفكري، وتسميم الآبار الإسلامية، أو ما
يُطِلق عليه الذين لا خلاق لهم عبارة: (تجفيف المنابع) بلا مواربة نسأل الله أن
يجفف الدم في عروقهم، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويريح البلاد والعباد من
شرورهم.
د/جمال عبد الهادي:
يمكن إضافة هذه النقاط إلى ما ذكره الشيخ محمد، وهي:
4- بذل الجهد الشخصي في الدعوة إلى الله، ونشر الدين بين الناس؛ مثل
إقامة حلقات تحفيظ القرآن ولو في البيوت: [ ... وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] [يونس: 87] ، وكذلك في الجامعات والمدارس والمساجد.
5- فتح المدارس الإسلامية، وتشجيع القائمين عليها، وتحفيزهم،
والإصرار على إنجاح هذه الفكرة من الجميع.
6- تأسيس الجمعيات والمؤسسات الخيرية، التي تنشر الدين، وتحفّظ القرآن
وتعلّم واللغة.
7- تنبيه أولياء الأمور إلى خطورة المدارس الأجنبية على دين أولادهم
وانتمائهم.
8- إعداد خريطة إسلامية في مجالي التعليم والإعلام، ومن ذلك توجيه نظر
المعلمين إلى خطورة المسؤولية الملقاة على عاتقهم؛ لأنه رغم كل ما يجري،
يستطيع المعلم بفضل الله أن يربي النشء على التمسك بهويته الإسلامية، وكذلك
الحرص على إيجاد منافذ إعلامية لمخاطبة الناس من خلال إعلام إسلامي بديل.
9- الإشادة بالدعاة والعلماء، وتوجيههم إلى أهمية أن يكون الخطاب الدعوي
متكاملاً، يركز في جوانب منه على مقومات الشخصية الإسلامية، وعرض الدين
كنظام حياة متكامل، (كخلافة للإنسان في الأرض) .
10- فضح ما يجري في مجالي التعليم والإعلام، تحت مسمى التنوير
لتخدير الأمة، ويدخل في ذلك؛ مقاطعة المجلات والصحف التي تحارب الهوية
الإسلامية، وتشيع أنماطاً للحياة غير الإسلامية.(130/42)
في دائرة الضوء
نحن والجمهور الأوروبي
د. محمد يحيى
تنشغل الأوساط الدينية والإعلامية الرسمية في العديد من البلدان العربية
والإسلامية في الآونة الحالية بقضية عريضة متشعبة تُطرح تحت اسم عام هو:
(الإسلام والغرب) وقد انشغلتُ بدوري في مقالات سابقة (ولاحقة بإذن الله) في
متابعة جوانب من الطروحات المتصلة بهذه القضية والتعليق النقدي عليها. ومن
هذه الجوانب ما يتصل بالجمهور الغربي (الأوروبي ثم الأمريكي) الذي يتوجه إليه
المنشغلون بهذه القضية بالخطاب.
وأذكر بادئ ذي بدء أن الخطاب أو الكلام الموجه من الجانب العربي
الإسلامي إلى الجانب الغربي لا يصدر عن (جمهور) إسلامي ليوجه إلى الجمهور
الغربي؛ فالمتحدثون والمنشغلون، بل والمندفعون والخائضون في هذا الهم، في
الغالب ليسوا من قلب (الجمهور) الإسلامي بمعنى القطاع العريض والمثقف من
أبناء الأمة.
وإنما تتحرك فئات بحكم الوظيفة وفي إسارها ووفق التعليمات الصادرة إليها؛
ولهذا فإن الذي يتصدى لمخاطبة الجمهور الغربي مصاب منذ البداية بقصور خطير؛ وأخطر ما فيه هو خضوعه لتوجيهات وتعليمات قصيرة النظر وربما تكون
مغرضة الهدف. كما أن هذا الطرف المخاطِب للجمهور الغربي يستبعد منذ البداية
أن يكون هدف الخطاب أو الحوار كما قد يسمى أحياناً أو الاتصالات أو التفاعل:
هو القيام بواجب الدعوة الإسلامية أو حتى التعريف بالإسلام وعقيدته؛ بل على
العكس يحدد دور الخطاب وهدفه مسبقاً في غرض محدود الأفق هو ما يوصف عادة
بتحسين صورة الإسلام لدى الجمهور الغربي، أو تصحيح هذه الصورة أو طرح ما
يوصف بالمفاهيم الإسلامية الصحيحة في وجه مفاهيم أخرى يقال إن الإسلام
المتطرف والمتعصب والإرهابي قد روّجها لدى ذلك الجمهور.
إذن: نحن منذ بدء العلاقة مع الجمهور الغربي نجد فئة معينة تحتكر أو
يحتكر لها حق الخطاب الموجه لهذا الجمهور؛ فضلاً عن حق إدارة ما يسمى
بالعلاقة بين الإسلام والغرب، وهذه الفئة تعاني من قيود وأوجه قصور عديدة حتى
إذا استبعدنا جانب سوء القصد والنية.
وفضلاً عن أوجه القصور والعيوب هذه التي تنفي أن تكون هذه الفئة ممثلة
للإسلام والمسلمين؛ فإن الهدف الموضوع لخطابها الموجه للجمهور الغربي هو
هدف محدود ومغرض له طابع سياسي نفعي، ولا صلة له بدين الله أو عقيدة
الإسلام وشريعته؛ ذلك أن هدف تحسين الصورة وتصحيح المفاهيم لا يقصد به كما
يدل الواقع هذه الأشياء على محدوديتها، بل يرمي كما سبق لكاتب هذه السطور أن
أشار مراراً إلى تقديم نسخة من الإسلام عُدلت وبُدلت (أو قل شُوهت وابتُسرت)
حتى ترضي الجمهور الغربي المخاطَب بها، وتستجيب لما يحب هذا الجمهور نفسه
أن يرى الإسلام عليه ديناً معلمَناً متغرباً يشبه ما آلت إليه المسيحية هناك؛ بل
ويفتقر إلى الحيوية والفاعلية التي ما زالت الكنائس هنا تتسم بها. هذا عن القائمين
بالخطاب؛ فماذا عن الجمهور الغربي المخاطَب؟
من الواضح أن الخطاب الصادر عن الجانب العربي الإسلامي الموصوف فيما
سبق والداخل في إطار عملية التفاعل بين الإسلام والغرب لا يستهدف الجمهور
الغربي العام كأفراد وجماعات عريضة قدر ما يوجه إلى قطاعات ومؤسسات بعينها
فاعلة في المحيط الغربي ويرتجى نفعها وقوتها لصالح القائمين بالخطاب وللقوى
السياسية الحاكمة والنخب العلمانية المؤثرة في البلدان الإسلامية. وهذه المؤسسات
هي: المؤسسة السياسية في الحكم، والأحزاب الرئيسة، والبرلمان، والقوى
السياسية الضاغطة، ثم المؤسسة الدينية في الكنائس الكبرى وتنظيماتها الكثيرة،
ثم المؤسسة الإعلامية الأخطبوطية الواسعة الانتشار والبالغة النفوذ، ثم المؤسسة
الأكاديمية وبالذات فرعها الاستشراقي، وأخيراً ما يمكن أن يسمى بالمؤسسة
السياحية أو القطاع المشرف على ترويج وتوريد السياح للبلاد الإسلامية المعنية.
والخطاب الموجه إلى كل مؤسسة على حدة وإليها جميعاً قد شكل بطريقة
تستجيب كما قلنا لما تحب هذه المؤسسات أن يكون عليه الإسلام؛ وأيضاً بطريقة
تستجلب رضا هذه المؤسسات (ومن ثَمّ مساعدتها ومعونتها الاقتصادية والإعلامية
والسياسية وحتى الأمنية) للقائمين بالخطاب على الجانب الإسلامي ولمن يقف
وراءهم من نخب حاكمة وعلمانية؛ فالخطاب الموجه للمؤسسة السياسية في الغرب
يقول: إن الإسلام دين سلام ومحبة وتعاون مع غير المسلمين، وليس دين حرب
أو عنف كما يتصور الغربيون على ضوء تجربتهم مع المسلمين (كما يزعم القائمون
بالخطاب) . لكن هذا الطرح الجميل الوردي يخفي وراءه الرسالة الحقيقية التي يراد
توصيلها للحصول على رضى تلك المؤسسة السياسية الغربية ألا وهي أن الإسلام
ينبغي أن يكون دين خمول وسكون يستكين للضيم، ولا يحارب دفاعاً عن الحق
والدين والعرض أو لدفع العدوان والكيد. ووصول هذه الرسالة يستجلب استمرار
المعونات الاقتصادية التي أصبحت أنظمة معينة لا تستطيع الاستغناء عنها كما
يستتبعه إسباغ الحماية والدعم الأمني والإعلامي للنخب العلمانية الحاكمة في وجه
خصومها من الإسلاميين وحتى غير الإسلاميين.
والخطاب الموجه للكنائس الغربية لا يدعو هذه الكنائس مثلاً إلى إيقاف أو
حتى تخفيف حدة عمليات التنصير في الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية الموجودة
في بلدان إسلامية؛ بل يتركز هذا الخطاب في سذاجة ولا مبالاة معاً على القول بأن
الإسلام يعترف بالأديان السابقة عليه؛ وكأن هذا الاعتراف يقصد به الصور الحالية
للنصرانية واليهودية، أو كأنه يقر بعقائد التثليث وغيرها. ولا يهتم القائمون بهذا
الخطاب بحقيقة أن هذه الأديان السابقة نفسها لا تعترف بالإسلام في أحسن الحالات
إن لم تحاربه وتعاديه. والغريب أن دعاوى الاعتراف بالأديان السابقة هذه على
فرط تهافتها وتخاذلها لا تؤدي إلى رد كريم من جانب الكنائس الغربية يتمثل في
تخفيف غلوائها النصرانية على أقل الأحوال، وإنما على العكس من ذلك فإنها
تستخدم هذه الدعاوى في تدعيم تحركات الكنائس التنصيرية في البلاد الإسلامية؛
حيث يقال للمسلمين في أفريقيا وآسيا وغيرها: إن كبار رجال الدين (الرسميين)
في البلاد المعتبرة قلب العالم الإسلامي يعترفون بهذه الكنائس، ويزورونها هاشِّين
باشِّين ويبجلون رجالاتها.
أما للمؤسسة الأكاديمية الغربية فالخطاب لا يتضمن تصحيحاً لمفاهيم أو
تحسيناً لصورة، بل يقدم لهم الإسلام بعد مروره في آلة طبع المفاهيم الغربية
ليخرج صورة تحلو لهم. فالقرآن يوصف لهم بأنه كتاب مقدس يشبه الإنجيل،
ويجوز عليه ما جاز على الإنجيل من تأويل ونسخ وتبديل وإسقاط، والأحاديث
النبوية أو السنة ليست سوى موضوعات لتخدم أهدافاً سياسية وقبلية، أما الشريعة
والفقه فليست هي الأخرى سوى قوانين وتعاليم وضعية ألفها الفقهاء والعلماء ويجوز
بل يجب أن تتغير. ولما كانت هذه الصورة هي التي آل إليها حال النصرانية في
الغرب منذ قرون عديدة؛ على يد حركات فكرية عديدة؛ فإن المؤسسة الأكاديمية
هناك تعتقد أن كل الأديان وبالذات الإسلام يجب أن تؤول إلى هذا المصير.
والمؤسسة الإعلامية الغربية التي تروِّج الأكاذيب المعروفة حول شهوانية
وقسوة المسلمين وظلم المرأة والحجاب والمحرمات الإسلامية.. إلخ تقدم لها صورة
(ليبرالية) عن الإسلام المتفتح الذي لا يمانع في اختلاط الرجال بالنساء، ولا يعبأ
كثيراً بالرقص والغناء، ولا يعادي أنماط الحياة الغربية وأساليبها، بل يباركها
ويحث عليها بدءاً من الفنون (الجميلة) وانتهاءاً بالفوائد المصرفية. وهذه الصورة
ترضي الإعلام الغربي وتستجلب السياحة فيما يظن القائمون بالخطاب إلى هذه
القطاعات من الجمهور الغربي.
هذا هو حالنا مع الجمهور الغربي في إطار العلاقة مع الغرب التي فرضت
موضوعاً ينشغل به البعض من فئة قليلة انخلعت من الانتماء للإسلام.(130/54)
مقالات مُعَربة
إيهود أو لمرت: [*]
(أنا أكثر اليهود حظاً في الكون)
لقاء صحفي مع عمدة القدس
ترجمة: د. باسم خفاجي
س: هل للديانات التوحيدية الرئيسة في نظرك مطالب دينية فيما يتعلق
بالقدس؟ أي الإسلام، والنصرانية، واليهودية؟
أولمرت: لا، فهناك اختلاف بينها؛ إذ لا توجد مقارنة بين مركزية القدس
في الديانة اليهودية من ناحية وبين وضعها في الديانة المسيحية والإسلامية من ناحية
أخرى، إن الإسلام لم يعتبر القدس أبداً أهم مدينة؛ فالقدس حسب التقاليد الإسلامية
هي فقط ثالث أهم مدينة، ومركز الإسلام هو مكة.
وعندما يصلي المسلمون فإنهم يتجهون بوجوههم نحو مكة، وبالمناسبة فإنهم
عندما يقفون في المسجد الأقصى فإنهم يديرون ظهورهم لجبل الهيكل. إضافة لذلك
فإنه لم تكن القدس عبر تاريخها الطويل أبداً ولأي لحظة عاصمة لأي كيان عربي
أو مسلم [!] ،
لقد كانت الرملة (وهي بلدة صغيرة تقع على بعد40 كيلو متراً شمال القدس)
عاصمة لذلك الكيان لفترة ما خلال بداية الحكم الإسلامي للقدس، وذلك من أجل
عدم جعل القدس بالذات العاصمة حتى لا تزاحم مكانة مكة، أما النصارى، فإن أهم
وأقدس مكان لهم في القدس هي كنيسة القيامة والتي يعتقد أنها مكان دفن المسيح
وطريق الآلام الذي سار فيه المسيح. إن القدس بلا شك مكان مهم (للمسيحية) ، أما
بالنسبة لنا نحن اليهود فإن القدس هي كل شيء؛ فهي مركز التاريخ اليهودي،
ومركز الحياة اليهودية، ومركز الديانة اليهودية. إن القدس تمثل أطهر تعبير لكل
ما صلى اليهود من أجله وحلموا به وصرخوا من أجله وماتوا من أجله خلال الألفي
عام التي تلت تدمير الهيكل الثاني، كان على كل يهودي ملتزم خلال الألفي عام
تلك أن يصلي ثلاث مرات في اليوم، على الأقل، ويذكر القدس في كل صلاة وهو
يتوقع أن يرجعنا الإله بفضله إلى القدس يوماً ما.
س: هل يجب أن تترجم المطالب الدينية إلى حقوق سياسية وإقليمية؟
أولمرت: بالتأكيد، فالحقوق السياسية لا تنبع من فراغ، والأمر بسيط؛ فهذه
الحقوق تتبع إطاراً ذا أبعاد تاريخية ودينية وسياسية، فما هو بعد ذلك كله أساس
الادعاءات الفلسطينية حول كون القدس عاصمتهم؟ إن هذه الادعاءات يجب أن
يكون لها جذور في التاريخ حتى يكون لها أساس، ثم انظر إلى التفاصيل بعد ذلك؛
فما هو التاريخ الفعلي للشعب الفلسطيني في القدس؟
س: ماذا عن حقوق السكان المسلمين الذين يقطنون القدس اليوم؟
أولمرت: إن 28% من سكان القدس اليوم هم فلسطينيون، وأنا لا أنكر هذه
الحقيقة، وفي نفس الوقت فإن القدس ليست أول مدينة تحتوي على أقلية قومية،
ولا توجد أي مدينة تحتوي على أقليات من هذا النوع وتم تقسيمها بحدود عرقية،
إن ذلك لم يحدث أبداً، والقدس لن تكون أول مدينة تقسم بهذا الشكل.
س: هل يمكن القول إن كلاً من اليهود والمسلمين يسعى لكسب الدعم
النصراني لموقفهم؟ بكلمات أخرى: هل يكون النصارى هم العامل الحاسم؟
أولمرت: إن هذا أحد الطرق لتفسير ذلك، إلا أنه ليس أدقها حيث إننا لن
نسمح لأي كائن من كان بأن يحدد هذا الصراع. وهذا الصراع في الواقع قد تم
تحديده بالفعل منذ ثلاثة آلاف سنة. إن القدس ليست حقيقة نحاول خلقها الآن، إن
القدس كانت وهي الآن وستظل عاصمتنا للأبد، ولن يقوم النصارى أو غيرهم
بتحديد نتيجة هذه المعركة لنا بشكل مفتعل أو فني. نحن من سنحدد نتيجة هذا
الصراع، ولدينا المثابرة، والعزيمة وقوة الإرادة والقوة النابعة من الالتزام، والآن
فمن الصحيح القول إن المجتمع النصراني هو الأقوى سياسياً في العالم، ونتيجة
لذلك يسعى طرفا المعركة لكسب هذا المجتمع في صالحهما، ولا يقتصر ذلك على
القدس فقط بل وعلى النزاع العربي الإسرائيلي، إننا نرغب أن تكون الدول
المأهولة بالنصارى كالأوروبيين والأمريكان داعمة لنا، وإنني أعتقد أنها كذلك
لدرجة كبيرة، إلا أنني أكرر مرة أخرى أن ذلك لا يعني أنهم يقررون من الذي
سينتصر في القدس.
س: هل أنت قلق من أن تتحول القدس اليهودية إلى مدينة الحاريدين
(Haredi) وبمعنى أصح أن تصبح القدس مكاناً يهيمن عليه التقليديون المتطرفون؟
أولمرت: إنني لست قلقاً. نعم! الحاريديون لهم معدل ولادة مؤثر إلا أن ما
لا يدركه الناس هو أن الحاريديين لهم أعلى معدل هجرة من القدس، والسبب لذلك
اقتصادي، حيث إن أثمان الإسكان في القدس مرتفعة جداً والحاريديون هم الأقل
قدرة مالية؛ ولذلك يبحثون عن السكن خارج المدينة، ولهذا السبب ذاته فإن بلدات
كبيتار، وكريات سيفر، وما تينونياهو تطورت، بالإضافة للمناطق السكنية
للحاريديين في بلدات بيت شمس، وكريات غات وأشدود، لقد تطورت هذه بشكل
سريع على مدى السنوات الثلاث الماضية.
س: ماذا عن التطلعات الاقتصادية للقدس وهي إحدى أفقر المدن الإسرائيلية؟
أولمرت: إننا نحاول تحسينها من خلال القيام يجهود منسقة بين البلدية
والحكومة الوطنية، إن الالتزام بتقوية القدس ليس مجرد مصلحة محلية أو أمل أي
رئيس لبلدية القدس يريد أن ينجح في عمله، بل إنها أولوية إسرائيلية على أعلى
المستويات، (إن ضمان تقوية القدس يجعل الناس يرغبون السكن هنا؛ وانتقال
الأعمال إلى هنا يعني إعطاء هؤلاء الناس الحوافز الصحيحة، وإنني أعتقد أنه
بإمكاننا ذلك وسنقوم بذلك في النهاية، إن الحكومة الوطنية وحدها تمتلك المعدات
والوسائل لتحقيق تغيير كهذا، فبإمكانها على سبيل المثال أن تقرر أن كل مهاجر
جديد لإسرائيل سيحصل على منحة إضافية في حال قرر السكن في القدس بدلاً من
أي مكان آخر في إسرائيل، وعندما يحصل ذلك سترى كيف سيفضل المهاجرون
السكن في القدس، وبنفس المنوال في حال حصلت كل من المحطات التصنيعية
على منحة إضافية إذا قررت العمل في القدس فإنك سترى المزيد من ذلك في
المدينة؛ إن الموضوع متعلق بالأولويات الوطنية.
س: وهل سيقدم المهاجرون والمصانع بالرغم من المشاكل العالقة في القدس
وبالرغم من الصراع الذي يأخذ مكانه الآن حول مستقبل المدينة؟
أولمرت: أجل؛ وذلك لأنه في النهاية لا يوجد اختلاف سياسي رئيس بين
القدس وتل أبيب. إن القدس تعاني من التفجيرات الانتحارية وكذلك تل أبيب،
وبشكل عام فإن أي شخص مستاء من الوضع في القدس وقد يكون له الحق في ذلك
سيجد أن المشاكل ليست مقتصرة على تلك المدينة فقط، ومن ناحية أخرى فإن
مزايا العيش في القدس الطقس الرائع والهواء الرائع والدمج الجميل بين القديم
والحديث وديناميكية مجتمع القدس، والتطوير في الاقتصاد والصناعة في القدس
هي حوافز كبرى للناس ليأتوا ويسكنوا هنا.
س: لو قبلنا أن العرب واليهود لهم حق العيش حيثما يرغبون، فهل ستقوم
باحترام تقليد الأحياء المنفصلة كما هو الآن؟ أم ستفضل رؤية هذه مفككة؟
أولمرت: ليس بإمكاني أن أقول لك إن حلمي هو أن أجد المزيد من العرب
يعيشون في القدس، إنني آمل أن لا يكون هناك المزيد من العرب يعيشون في
القدس؛ وذلك لأن الاختلافات القومية لها أثر على نمط الحياة والمناخ والعلاقات
بين مختلف السكان. لدينا ما يكفي من المشاكل في القدس، إن أولئك القاطنين في
القدس لديهم الحق في حياة متساوية، وليس لدينا القدرة والسلطة لطردهم؛ إلا أنني
لا أبحث عن حلول من شأنها أن تجلب المزيد من العرب للمدينة. لا، أنا لا أحبذ
ذلك.
س: لنفترض أن هناك عدداً معيناً من العرب في القدس، هل يجب أن
يعيش هؤلاء مع اليهود جنباً إلى جنب دون زيادة أو نقص في هذا العدد؟
أولمرت: ذلك ليس على قمة أولوياتي، وهو شيء لا أخشى منه.
س: إلا أنه يبدو أن العرب لا يريدون التكامل، وهم يفضلون مدارس
منفصلة وأماكن منفصلة للعيش؟
أولمرت: ذلك مرة أخرى ليس على قمة أولوياتي، وأنا لا أخشى حدوث ذلك، وفي حالة حدوثه فليكن الأمر كذلك.
س: ما هي أولى أولوياتك إذن؟
أولمرت: القيام باستثمارات رئيسية في مناطق ذات أهمية لمستقبل القدس،
هذا هو السبب الذي جعلني أفضل بناء المجمع السكني في حارهوما (جبل أبو غنيم) .
س: ولماذا هذا المشروع على هذه الدرجة من الأهمية؟
أولمرت: إنه مشروع استراتيجي سيوفر 7000 وحدة سكنية إضافية للقدس،
مما يجعله مدينة صغيرة بحد ذاته. وذلك من أجل تخفيف المشاكل السكنية في
المدينة. إن الآلاف من الأطفال يعيشون الآن في المدينة من دون سكن ملائم بإمكان
آبائهم شراؤه، وهناك مصلحة حقيقية كما ترى في البناء في حارهوما، إضافة لذلك
فإن المشروع يقع في موقع استراتيجي سيؤثر في مستقبل القدس.
س: بأثر رجعي، هل تم التعامل مع قرار البناء السابق بشكل سليم؟
أولمرت: بالتأكيد، لم يكن هناك أي طريق آخر لبناء حارهوما، وأنا سعيد
جداً لبنائنا حارهوما، وإنني أعدك أننا سنستمر في بناء حارهوما، إن المشروع لم
يتم تجميده.
س: لقد نقلت صحيفة مصرية تصريحاً لك ذكرت فيه أن إطالة فترة
محادثات مسيرة السلام يخدم المصالح الإسرائيلية؛ لأنه يسمح للإسرائيليين (بإنهاء
مشاريع البناء الاستيطانية) هل هذا ما تشعر به بالفعل؟
أولمرت: لا أذكر أنني قلت شيئاً من هذا القبيل؛ إلا أننا لا نحتاج إلى أي
عذر لاستمرار البناء في أي مكان نرى ضرورة البناء فيه، ربما قلت: إن العرب
قد يعتقدون أنهم يعاقبون إسرائيل من خلال تعليق المحادثات ليكتشفوا في النهاية
أنهم يعاقبون أنفسهم بالفعل، إنني لا أتذكر أنني تفوهت بما ذكرته؛ ولكن كما
تعرف فإن الصحافة العربية لا تحتاج لأي حقائق من أجل بناء جدالهم، إنه بإمكانهم
بكل سهولة خلق الحقائق التي تناسبهم.
س: هل ستقوم بفتح نفق (ألهسمونيان) (تحت المسجد الأقصى) بطريقة
مختلفة عن السنة الماضية لو أتيح لك أن تقوم بذلك مرة أخرى؟
أولمرت: لا، بل يجب ألا يتغير أي شيء قمنا به، باستثناء أنه في المرة
القادمة على رئيس الوزراء أن يتأكد من كون الجيش متأهباً لمنع ردود الفعل التي
سببت العنف قبل عام، فلو كان الجيش جاهزاً وفي مواقعه السليمة لما حدث هناك
عنف ضد أناس أبرياء كما حصل بالفعل.
س: لقد ذكر صائب عريقات أحد كبار معاوني عرفات حول حادثة النفق (أن
الحكومات الإسرائيلية كلما وجدت نفسها تواجه أزمات داخلية سواء نتيجة الفساد،
أو انتهاك الثقة أو الرشوة فإنها تحاول صرف الانتباه، إن هذا ما حدث مع أيهود
أولمرت عندما تم اتهامه بالرشوة، لم يكن أمامه خيار آخر سوى فتح نفق القدس من
أجل صرف الأنظار عمّا كان يجري في المحاكم) هل لك تعليق على ذلك؟
أولمرت: في الواقع هذا لا يستحق أي تعليق، لقد اتهمت بترتيب حفلة من
أجل الحصول على تبرعات غير قانونية، وقد تم تبرئتي بشكل قطعي ودون أي
التباس في محكمة تل أبيب، قبل عدة أسابيع، ولذلك فإنني نظيف من أي أثر لأي
نشاط إجرامي. إن هذا النقاش يجسد التفكير العربي، وهو حالة واضحة للإسقاط
الذهني، حيث يصمونني بالطريقة نفسها التي يعالج بها عرفات ومساعدوه مشاكلهم.
س: لقد ذكرت فور انتخابك رئيساً للبلدية أنك تفضل التفاوض على وضع
القدس الآن قبل الغد، بمعنى أنك تريد القفز لمفاوضات الوضع النهائي، فهل لا
زلت تشعر بالشيء نفسه؟
أولمرت: أجل، إلا أن ذلك متأخر الآن، لقد طرحت ذلك قبل ثلاث سنوات، عندما كنا لا نزال في المراحل البدائية لتطبيق أوسلو، لقد كان تسويغي لذلك
بسيطاً وهو أنه إذا تركنا قضية القدس للنهاية فقد نجد أنفسنا ندعو المجتمع الدولي
ليضغط علينا من أجل تقديم التنازلات في القدس. وكما حدث فإننا الآن على
مشارف المرحلة النهائية من المسار التفاوضي، وعليه فليس هناك الكثير مما يمكن
لإسرائيل القيام به الآن؛ فالمدينة سيتم التفاوض حولها الآن على أي حال.
س: ما هو الحل طويل الأمد الذي تفضله لحل الخلاف حول القدس؟
أولمرت: لقد تم تفصيل الحل قبل ثلاثة آلاف سنة، القدس مدينة واحدة،
مدينة موحدة وعاصمة لإسرائيل، لقد حسم الأمر، فأي حل آخر يمكن أن يكون
غير هذا؟
س: هل تشتمل هذه الرؤيا على نوع من الحكم الذاتي لعرب القدس؟
أولمرت: حكم ذاتي؟ لا، حرية؟ نعم.
س: ماذا عن أي تدابير خاصة أو حقوق طائفية للقاطنين العرب؟
أولمرت: لا شيء يتعدى الحرية الشخصية، هم مخولون بممارسة جميع
حقوق المواطنين الأحرار في مجتمع ديمواقراطي. سيكون لهم حقوق فردية تماماً
كما يمتلك كل يهودي حقوقاً فردية، لن يمتلك العرب أو اليهود أي حقوق طائفية
خاصة في القدس.
س: لقد توصل يوسي بيلين وأبو مازن لاتفاقية من ثلاثة عناصر؛ حيث
سيقوم الفلسطينيون ببناء مركز حكومة في قضاء أبو ديس ويطلقون عليه (القدس)
وستكون القدس الغربية لإسرائيل، أما القدس الشرقية فستبقى موضع النزاع في
الوقت الراهن مع بقائها تحت السيطرة الإسرائيلية؛ أما جبل الهيكل فإنه سيبقى
تحت السيطرة العربية. ماذا تعتبر هذه الاتفاقية؟
أولمرت: إنها خطة غبية ومتهورة وغير مسؤولة، إنها تتحدث عن وضع
أجزاء من القدس تحت السيادة الكاملة للفلسطينيين بما فيها بعض الأماكن المسيحية
المقدسة. هل لك أن تتخيل قيام اليهود بمنح المسلمين الحقوق فوق كنيسة القيامة
وهي أقدس مكان للنصارى في القدس؟ وأي مسلمين؟ منظمة التحرير الفلسطينية؟ يا للغباء!
س: وماذا عن فكرة كون أبو ديس العاصمة الفلسطينية. وأي قيمة لتلك
الفكرة؟
أولمرت: إنها سخيفة، إن أولئك الذي يتحدثون عن تلك الخطة يعتقدون أن
العرب سيقبلون بحل يبقيهم خارج القدس الفعلية، لو كان العرب جاهزين لذلك فإن
السؤال سيكون مختلفاً جداً إلا أنني أشك بذلك جداً.
س: هل تقول إن أبو ديس تشبه الحملة القديمة التي تقول بأن (الأردن هو
فلسطين) أي منح الفلسطينيين شيئاً لا يرغبونه بالذات على أمل إزاحة عبئهم عن
إسرائيل؟
أولمرت: أجل، ربما يأخذون ما قدم لهم، إلا أن ذلك لن يقنعهم لفترة طويلة.
س: هل من العدل القول إن السياسة الأمريكية الرسمية تجاه القدس مجمدة
زمنياً؟ بمعنى أنها لا زالت تدعو لتدويل المدينة وترفض الاعتراف بالسيطرة
الإسرائيلية على الجزء الشرقي منها ولا زالت تحتفظ بالسفارة في تل أبيب؟
أولمرت: للأسف فإن السياسة الأمريكية الرسمية لم تتحرك بأي تطورات
فعلية ولا بالنظرة التي يبديها معظم الشعب الأمريكي.
س: ولِمَ لا؟
أولمرت: إن هذا شيء ربما بإمكان الأمريكان تفسيره أفضل مني. إنه
بإمكاني فقط ملاحظة أنه إذا كان الكونغرس يعكس فعلياً التوجهات الشعبية الأمريكية، ... ويفترض فيه هذا؛ لأن مجلس النواب ينتخب كل سنتين، فليس بإمكان أحد أن
يتجاهل حقيقة أن الغالبية العظمى من رجال الكونغرس (والشيوخ) قد صوّتوا
لصالح الاعتراف بالقدس العاصمة الموحدة وغير المقسمة لدولة إسرائيل؛
وبالإضافة إلى ذلك فقد طالبوا بنقل السفارة الأمريكية للقدس.
س: وهل تتصرف إدارة كلينتون وفق القانون فيما يتعلق بالاعتراف بالقدس
عاصمة لإسرائيل؟
أولمرت: حسب الجدول الزمني في القانون؛ فإن الإدارة لا زال لديها بعض
الوقت، حتى عام 1999م، لتقوم بنقل السفارة، ولا استشعر أن الإدارة تقوم
بجهود كبيرة في ذلك، إنني آمل استمرار تزايد الضغط حتى تصبح السفارة
الأمريكية بالفعل في القدس بحلول عام 1999م.
س: لقد قال أحمد الطيبي مستشار عرفات حول إسرائيل (أنا لا أعرف ما
الذي يحرك أيهود أولمرت) إن هذا الموضوع يستحق بحثاً جدياً؛ فهل لك أن ترد
على ذلك؟
أولمرت: لماذا لا يقوم الطيبي باستغلال وقته ويُجري أبحاثاً حول هذا
الموضوع ينصح فيها عرفات بدلاً من هدر طاقته كعميل أجنبي، إن دوافعي بسيطة
وهي حماية وحدة القدس، هذا هو طموحي وتطلعي وحلمي.
س: هل تستمتع بوظيفتك؟
أولمرت: إنني أعتبر نفسي ربما أكثر يهودي تميزاً في الكون؛ وذلك نتيجة
المصادفة التاريخية التي منحتني القوة لقيادة هذه المدينة في هذا الوقت من تاريخها، ماذا يمكن أن يكون أكثر إثارة وأكثر سحراً وأكثر أهمية وأكثر مسؤولية من أن
تكون قائداً للمدينة التي صلى من أجلها كل يهودي على مدى الألفي سنة الماضية؟
س: ماذا يعني كونك عمدة لبلدية القدس؟
أولمرت: دعني أخبرك بقصة قد تعطيك فكرة عن ذلك. لقد وصلت إلى
نيويورك قبل أيام قليلة على متن الطيران الفرنسي بعد تغيير الطائرات في باريس،
وعند وصولي جاءني أحد موظفي شركة الطيران وكنت مع زوجتي عندما كنا نهم
بمغادرة الطائرة وسألني: (هل أنت السيد أو لمرت؟) أجبته (نعم) فقال: إذن لديّ
بعض الأخبار السيئة لك، لقد خفق قلبي؛ حيث كان هناك تفجيران انتحاريان
رئيسيان في الشهرين السابقين وخفت على الفور من أخبار انفجار آخر، أو أي
نوع من الكوارث في المدينة، فسألته بقلق: (ما الأمر؟) فأجاب: إن حقائبك لم
تلحق الطائرة في باريس، ولن تصل لهنا قبل الغد. عندها بدأت أضحك بارتياح،
ونظرت إليّ امرأة تعمل في شركة الطيران معتقدة أنني مجنون. إن هذا ما يعنيه
أن تكون عمدة لبلدية القدس. إنها ليست بالوظيفة المريحة.
__________
(*) هو رئيس بلدية القدس منذ عام 1993م، وهو من مواليد فلسطين عمل محامياً وكاتباً صحفياً ودخل البرلمان الإسرائيلي عام 1973م وعيين وزيراً للصحة في الفترة من 1988 1992م وقد أجرت معه هذه المقابلة دورية (الشرق الأوسط) الربع سنوية ديسمبر 1997م وهي دورية تهتم بالدعاية للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ويرأس تحريرها (دانيال بايبس) وهو كاتب معروف بعدائه الشديد للمسلمين ودفاعه المستميت عن مصالح إسرائيل في أمريكا.(130/58)
من ثمرات المنتدى
في هذه الزاوية يسر المنتدى الإسلامي أن يتواصل مع قرائه الكرام بإيقافهم
على آخر الأنشطة والمستجدات والفعاليات التي تتم بفضل الله تعالى في مختلف
مكاتبه المنتشرة في أفريقيا وآسيا، سائلين الله تعالى أن يخلص النيات، ومتمنين
من أحبابنا الكرام أن يزودونا بملحوظاتهم واقتراحاتهم، وأن يقفوا معنا بدعائهم
وعونهم.
صحوة بعد ثمانين عاماً من البدعة:
لقد وُفق ذلك الشيخ الهرم للاشتراك في دورة للأئمة نظمها المنتدى الإسلامي
في دولة التوجو، وكان يؤم الناس لثمانية عقود، ولم يكن تلقى تعليماً جامعياً، بل
درس على مشائخ محليين، وورث الكثير من البدع والمخالفات السائدة في بيئته
لقلة العلماء في زمانه. وعندما أراد الله هدايته وفقه للاشتراك في دورة للأئمة،
وبعد أن عرف الكثير فيها أدرك ما هو عليه من البدع والمخالفات، وفي نهاية
الدورة قام ليبدي انطباعاته، وقال أمام المشاركين إنه يعلن توبته من هذه اللحظة
ويبرأ إلى الله من ثمانين سنة من البدع والأخطاء التي كان يمارسها ويعلمها للناس،
ولم يتمالك ذلك الشيخ المسن نفسه فأطلق لعينيه العنان فدمعتا فبكى وأبكى
الحاضرين، فكان ذلك موقفاً لا يوصف في شدة تأثيره، ولم يكتف بذلك بل عاد
وجدد توبته أمام الناس في مسجده ليبرئ ذمته ويبرئ دين الله مما كان يعلم الناس
خلال هذا العمر الطويل.. فالحمد لله الذي وفق لمثل هذا، ونسأله أن يبارك في
الجهود المخلصة.
كتب بنجلادش ثلاث قوافل دعوية شملت ثلاث قرى في شهر صفر
1419هـ.
* وفي شهر ربيع الثاني سير مكتب بنين ست قوافل دعوية شملت ستاً
وثلاثين قرية، أسلم فيها ولله الحمد (15) شخصاً. * كما سير مكتب توجو سبع
قوافل دعوية شملت (63) قرية.
* وقام مكتب المنتدى الإسلامي بأكرا عاصمة غانا بتسيير قافلة دعوية موجهة
إلى المسلمين الذين يعيشون في القرى النائية، ويجهلون أمور دينهم، وكانت القافلة
في رحلة إلى المنطقة الغربية من البلاد خلال الفترة 29/3 13/3/1419هـ،
وشارك فيها ثلاثة من دعاة مكتب غانا، وقاموا بزيارة تسع قرى في المنطقة
المذكورة، شرحوا لهم خلالها أركان الإسلام، وشكرهم أهالي تلك القرى على ما
قدموه من دعوة وتعليم، وطالبوا بالمزيد، نسأل الله تعالى أن يتقبل ذلك، ويوفق
المكتب لتسيير مزيد من القوافل الدعوية.
وقد ألقيت من خلال هذه القوافل الدروس العلمية والمحاضرات واللقاءات
الاجتماعية والشبابية.
دورة إدارية لمديري ومدرسي المعاهد الإسلامية
* أقام مكتب أوغندا ضمن دوراته التأهيلية دورة في العلوم الإدارية والتربوية
لمديري ومدرسي المعاهد الإسلامية في مختلف أنحاء الدولة.
مركز إسلامي في مدينة كوتونو
يقام الآن في كتونو عاصمة بنين مركز إسلامي تابع للمنتدى الإسلامي يتوقع
افتتاحه خلال الأشهر القريبة إن شاء الله ويحتوي المركز على مسجد جامع
يستوعب 500 مصلّ، بالإضافة إلى مصلى للنساء، ومكاتب إدارية للمركز
ومكتبة عامة وفصول دراسية.
مخيمات طلابية
أقام مكتب بنين في بداية ربيع الثاني 1419هـ مخيماً لطلبة جامعة بنين
الحكومية استمر لمدة خمسة أيام وشارك فيه 85 طالباً.
كما أقام مكتب توجو مخيماً لطلبة الجامعة استمر لمدة ثمانية أيام وشارك فيه
120 طالباً.
وتهدف هذه المخيمات إلى تربية الطلاب وتعليمهم العلوم الإسلامية.
الدروس العلمية لمكاتب المنتدى
تولي مكاتب المنتدى الإسلامي النشاط العلمي اهتماماً كبيراً، يتجلى ذلك في
الدروس العلمية التي بلغت (1613) درساً أسبوعياً على نطاق أحد عشر دولة في
مختلف العلوم الشرعية ففي العقيدة (371) درساً، وفي الحديث وعلومه (452)
درساً وفي التفسير (230) درساً، وفي الفقه وأصوله (216) درساً، وفي السيرة
والتاريخ الإسلامي (104) دروسٍ، وفي الآداب والمواعظ (107) دروسٍ، وفي
التجويد (51) درساً، وفي علوم اللغة العربية (74) درساًٍ، وفي الفرائض (8)
دروسٍ.
هذا فضلاً عن المحاضرات والندوات واللقاءات الثقافية الدورية.
دورات للأئمة والدعاة
نظم قسم الإشراف التعليمي بمكتب غانا الدورة التمهيدية الثانية لمعلمي ...
المدارس الإسلامية بغانا، أكرا في الفترة من 6- 13/4/1419 هـ الموافق: ...
29/7 /1998م - 5/8/1998م، وقد شملت برامج الدورة الجوانب الفنية ... التربوية بالإضافة إلى العديد من المحاضرات والندوات العامة في شتى الجوانب الإسلامية، وكان عدد المشاركين (50) مدرساً. علماً بأن هذه هي الدورة التمهيدية الثانية بالنسبة لمعلمي العاصمة، وسوف تعقبها دورات تكميلية أخرى بإذن الله.
* أقام مكتب أوغندا الدورة الشرعية الثانية لتأهيل الدعاة في بداية شهر ربيع
الأول 1419هـ شارك فيها (39) داعية واستمرت لمدة عشرين يوماً.
* كما أقام مكتب تشاد دورة شرعية في الفترة نفسها استمرت لمدة سبعة أيام
11 - 17/3/1419هـ شارك فيها (45) داعية.
* وفي جمهورية توجو أقام المكتب دورة علمية للدعاة استمرت (19) يوماً
شارك فيها (65) داعية.
* في دولة بنجلادش أقيمت دورة شرعية للأئمة والدعاة شارك فيها (84) من
الأئمة والدعاة لمدة 9 أيام من 13- 21/3/1419هـ.
* في نيجيريا أقيمت دورة شرعية للأئمة ومحفظي القرآن الكريم بلغ عدد
المشاركين فيها (30) مشاركاً وكانت دورة مكثفة استمرت مدة (45) يوماً من 8/1
إلى 24/2/1419هـ.
* وفي أثيوبيا أقيمت دورة تدريبية للأئمة والدعاة لمدة (10) أيام من
21- 30/ 2/1419هـ. بلغ عدد المشاركين فيها (60) ما بين إمام ومعلم وداعية.
وتهدف هذه الدورات إلى رفع كفاءة الدعاة العملية والدعوية.(130/66)
نص شعري
إن وعد الله حق..
عبد العزيز الشهري
فِراقُكَ يا زمَانَ الرّغْدِ حَقّ ... أَتحسَبُ أنّ كلّ الدّهْرِ طَلْقُ
فلا تَغْرُرْكَ ضَاحكَةُ الليَالي ... كَذلِكَ أَولُ الطّوفَانِ وَدْقُ
غَداً نَصْحُو ... ولكِنْ لَسْتُ أدْرِي ... بذكْرَى؛ أمْ بفاجعةٍ تَحِقّ
يَثُوبُ الوَعْيُ في صَخَبِ المآسِي ... وَيَنْضُجُ مِنْ لَهِيبِ الشّمْسِ عِذقُ
مَصَائِبُ أمّتِي اقْتَسَمتْ فُؤادِي ... تَرَى شِقّاً هُنَا؛ وَهُناكَ شِقّ
تَنَوّعتِ الجرَاحُ فلا تَلُمْنِي ... إذا لَمْ يَبْقَ في جَنْبَيّ خَفْقُ
هُنَالكَ في حَمَاةَ تَلُوحُ ذِكْرَى ... فَتَكْتُمُ حَرّ عَبْرَتِها دِمَشْقُ
وبالفُسْطَاطِ للإصْلاحِ كَيْدٌ ... يُحَاكُ؛ وفِي بِلادِ التّركِ خَنْقُ
وفِي أَرْضِ الجَزَائِر ألْفُ جُرْحٍ ... يَسِيحُ، وفي رُبَى كَشْمِيرَ سَحْقُ
رُبَى الإسْلام مُثْخْنةٌ أراهَا ... تُشِيرُ، فلَمْ يَعُدْ للثّغْر نُطْقُ
ضَنَنّا بِالدمُوع فليت شِعْري ... أَنبْذُلُ بَعْدَ ذلك مَا يَشِقّ؟ !
هُرِعْنَا للسّلام فَهَل تَدلّى ... لنا مِنْ غَرْقَد الأنجاسِ عِذْقُ؟ !
وَلَمْ أرَ مِثلَ قومِي.. غَيْر غَيم ... بِلا غيْثٍ لَهَ رَعْدٌ وبَرْقُ
كَمِ امْتَشَقُوا حُساماً من كَلامٍ ... وَهَل غيْرُ الكَلامِ يُجِيدُ شَرْقُ
مَكَارمُ في بلاد العُرْبِ عُقّتْ ... وَمَا قَدْ كُنْتُ أحْسَبُها تُعَقّ
تُغَرْبِلُنَا الكُرُوبُ فَكُلّ يَوْمٍ ... نَرَى ذِمماً تُبَاعُ وتُسْتَرَقّ
فَكَمْ مِنْ مَعْشرٍ في الحقِ كَانُوا ... صِلاباً، ثُمّ في الأحْدَاثِ رَقّوا
فَمَا من بُقْعةٍ إلا وفيهَا ... أَخَاديدٌ لِصَحْوتِنَا تُشَقّ
أَمامَكَ إنْ أَبيْتَ سُجونُ قَهْرٍ ... وَإنْ لَمْ تستجبْ ... فَهُنَاك شَنْقُ
وَمَا لَكَ فِي الكَرامَةِ أيّ حَظٍّ ... وَمَا لَكَ فِي رَغيْدِ العَيْشِ حَقّ
إلهي غَيْرَ بَابِك لا أَدُقّ ... وَدَرْباً.. غَيْرَ دَرْبِكَ لا أَشُقّ
فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ هُدًى وَهَبْ لي ... فُؤَاداً فِي الهَزاهِز لا يَرِقّ
يُسَائِلُني بَنُو قَوْمي حَيَارَى: ... أبَيْنَكَ يَا فَتى والمَوْتِ عِشْقُ؟ !
أَنَا يَا قَوْمِ إنْ لَمْ تَعْرِفُوني ... فَتىً صَلْبُ العَقِيدَةِ لا أَرِقّ
سَلُوا الجَوْزاءَ عَنّي والثريّا ... فبينِي والعُلا نَسَبٌ وعِرْقُ
لَكَمْ عَانيتُ من نَفْسِي فَصَدْرِي ... يَكادُ لفَرْطِ هِمّتها يُشَقّ! !
وَمَا طَعْمُ الحَيَاةِ وقَدْ تَبَدّى ... لِرُوحِي مِنْ وَرَاءِ المَوْت أُفْقُ
إذا مَا الرّوحُ بالفِرْدَوْسِ هَامَتْ ... يَهُونُ عَلى الفتَى ألمٌ وَسَحْقُ؟ !
فَليْسَ يَرُوعُنِي فِي الحقِ سَيْفٌ ... وَلَيْسَ يُزِيغُنِي ذَهَبٌ وَعِلْقُ
أَقُولُ الحَقّ لا أخْشى وَإنّي ... لأُبصِرُ خَلْفَه عُنُقِي تُدَقّ! !
وَلستُ بِجَازِعٍ مَا دَامَ قَلبي ... يُرَدّدُ: إِنّ وَعْدَ اللهِ حَقّ(130/68)
المسلمون والعالم
طالبان.. وقدر أفغانستان
(1/3)
طالبان.. والمهام الجسام
عبد العزيز كامل
ما إن ظهرت حركة طلاب العلم.. أو (طالبان) في أفغانستان، حتى حامت
حولها الشكوك، وتجمعت فوقها سحب كثيفة من علامات الاستفهام والاستهجان
والتعجب والترقب..! ذلك أن تلك الحركة ظهرت في جو أزمة مؤصد الأبواب،
قادت إليها أجواء مسممة، بأهواء متبعة وشح مطاع.
ومما زاد من اللغط المثار حول الحركة؛ أنها أظهرت بمجرد بروزها تبني
مشروعات كبرى، كانت تبدو خيالية، أو قل خرافية في ذلك الوقت، كدعواها أنها
تهدف إلى توحيد أراضي أفغانستان كلها تحت قيادة واحدة، وستنشئ حكومة
إسلامية تطبق الشريعة بحذافيرها، وأظهرت كذلك أنها تنوي إقصاء كل القوى التي
شاركت في فتنة الحرب الأهلية، إضافة إلى نيتها في إعادة بسط الأمن، وإعادة
الحياة الطبيعية، وقمع الفساد والجريمة التي استشرت في البلاد في ظل غياب
سلطة حقيقية طيلة سنوات عديدة..
لقد استخف الجميع في الداخل والخارج بتلك الحركة في مبدأ أمرها، ولم تكن
نظرة الاستخفاف بأولئك الطلاب مقصورة على قادة الفصائل الأفغانية المتصارعة،
بل تعدتها إلى نظرة عامة خارج أفغانستان؛ حيث جوبهت تلك الحركة بالتجهم
والتجاهل أحياناً، وبالشك والتشكيك أحياناً أخرى، ولم يكن ذلك من جماهير عوام
المسلمين فقط، بل كان موقف الكثير أو الأكثرية من الإسلاميين العاملين، حتى
كادت حركة (طالبان) أن تكون الحركة الإسلامية الوحيدة التي لم يكلف الناس
أنفسهم بشيء من الموضوعية في النظر إليها أو الحكم عليها، وكأن الناس قد
أصيبوا بحالة من الكسل الفكري، بعدما أرهقتهم الأحداث المتسارعة في العالم
المتصارع حولهم، وبعدما كَدّت أذهانهم التحليلات المتناقضة لما يدور في العالم من
أحداث يُنسي بعضها بعضاً، ويرقق بعضها بعضاً، فكان من نتيجة هذا كله أن
أكثر الناس نفضوا أيديهم وعقولهم أيضاً من المشاركة، مجرد المشاركة في الاهتمام
ولو وجدانياً بما يدور في أفغانستان، بل ما يدور في أنحاء العالم الإسلامي، وكان
هذا انعكاساً لحالة من الفتور العام.
لكن أفغانستان بالذات، يمكن التماس العذر للناس في الانفضاض من حول
رموزها القيادية، بعدما صدموا الأمة في مشاعرها برفع السلاح في وجوه بعضهم
البعض بعد انتهاء الحرب مع الشيوعيين، وتلك قصة لن نقف عندها هاهنا؛ لأنها
باتت معلومة مفهومة.
لكن ما يمكن أن يكون عذراً لعوام الناس، قد لا يصلح عذراً لخواصهم،
فمتابعة أحوال المسلمين في أفغانستان وغيرها، من الهموم التي لا يسع المسلم
الحريص إهمالها، لهذا أقول: إن ما يحدث في أفغانستان، كان ولا يزال بسلبياته
وإيجابياته شأناً من شؤون الأمة الإسلامية، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
ونحن المسلمين لنا موازيننا المستقلة والعادلة التي نضبط بها الأشياء ونقيس
بها الأمور؛ فالموازين التي قادت الأمة أول مرة للوقوف بكل ثقلها خلف الجهاد
الأفغاني ضد الشيوعيين هي نفسها الموازين التي دفعتها بعد ذلك لإدانة خروج قادة
الجهاد أو بعضهم عن خط الجهاد وخُلُق الجهاد، وتلك الموازين هي بعينها التي كان
ينبغي لنا أن نتحرى وفق معاييرها الحكم على المستجدات الأخيرة عبر سنوات
أربع من ظهور حركة طلاب العلم على الساحة الأفغانية.
ونحن ننطلق في نظرتنا وتقويمنا لهذه الحركة من أمرين:
الأول: الموازين الشرعية في الحكم على الأشياء من حيث كونها حقاً أو
باطلاً.
الثاني: المعطيات المتوافرة، والمعلومات المتاحة لما يدور من أحداث، مع
تحليله بحياد وموضوعية قدر الإمكان.
ومع استصحاب هذين الأمرين، سنحاول إلقاء الضوء على حركة (طالبان)
دون أدنى خضوع للمؤثرات الإعلامية الغربية وتوابعها العربية؛ حيث لا يُعرف
عن أرباب هذا الإعلام حرصٌ على الحق أو العدل إلا ما أُشرب من هواهم.
طالبان وظروف النشأة:
هم مجموعات من الشباب من طلاب العلم الشرعي الذين شاركوا في الجهاد
الأفغاني ضد الشيوعيين، ثم عادوا بعد انتهاء الحرب إلى التفرغ للعلم والدراسة،
ثم كان أن اندلع الصراع بين قادة الفصائل الأفغانية كما هو معروف بعد الاستيلاء
على العاصمة الأفغانية كابول وتحريرها من الحكم الشيوعي. وتسبب هذا الصراع
في خراب كبير وفوضى شاملة، سقط خلالها ما لا يقل عن ثلاثين ألف قتيل [1] ،
ونحو مئة ألف جريح، بخلاف من شُرّدوا وهُجّروا. ولم تنجح كل الجهود
والوساطات في الوصول إلى نهاية لهذا الصراع، ولم تفلح أيضاً الصيغ المقترحة
لتقاسم السلطة بين الرفقاء الذين غدوا فرقاء؛ حيث حلت الأثرة محل الإيثار،
وأثبتت الأيام أن قوة المؤثرات القبلية والمذهبية، كان لها دفع أكبر من قوة دفع
الجهود الإصلاحية، ولهذا أجهضت محاولات الصلح. وبدا شبح التقسيم يهدد
أفغانستان، بعد أن سكنتها أشباح أخرى تمثلها الحرب الأهلية والمجاعات والأزمات
والمؤامرات الداخلية والخارجية، بل إن خطراً آخر برز في الآفاق ظل يتهدد
أفغانستان، هو عودة السيطرة الأجنبية في أثواب جديدة، بل لم يعد مستبعداً أن
تعود الشيوعية نفسها بعد أن استعاد أذنابها عافيتهم، بعدما أنعشتهم روائح الدخان
والنار والدمار!
ومن رحم الأزمة وعنفوانها ولدت الحركة فخطفت الأضواء وغيّرت ... ...
الأجواء ... ولدت حركة الطلاب لتكون صرخة ميلادها احتجاجاً تاماً على ما وصلت إليه الأمور. جاء الوليد ليقول لكل من ساهموا في إخراجه وميلاده العسير: أن كفوا.. قفوا ... انتهوا..!
واندفع طلبة العلوم الإسلامية في مدينة قندهار إلى إعلان مقاومة الفساد
والشيوعيين والأحزاب معاً في ربيع الثاني عام 1415هـ.
وكان أول بروز إعلامي لحركة الطلبة في منتصف شهر نوفمبر من
عام 1994م في مدينة (قندهار) العاصمة الملكية القديمة، تلك المدينة التي تفلّتَ زمامها ليصير إلى أيدي السرّاق والفساق وقطاع الطرق أثناء الحرب الأهلية، وحدث أن تربصت تلك العصابات بقوافل إغاثية قادمة من باكستان ومكونة من
20 شاحنة،وعدا قطاع الطرق عليها، فاعتبر الطلاب في المدينة هذا ضرباً من البغي والإفساد الذي لا يمكن السكوت عليه، فتصدى جمع منهم لاستنقاذ هذه القافلة من أيديهم.
وبالفعل نجحوا في تخليصها منهم، ولقد أكسبت هذه الحادثة طلبة العلم
مصداقية عند الناس من مدينة (قندهار) فالتف حولهم متعاطفون كُثر، وأصبح لهم
نفوذ ظل يتنامى ويتعاظم في الولاية، وتطلع الطلاب إلى استثمار هذا القبول وهذه
القوة الناشئة بعد تنظيمها في إصلاح ما يمكن إصلاحه في الوسط المحيط بهم.
وواصل الطلاب وأتباعهم عملية التصدي لأعمال الفساد والإفساد في أنحاء
الولاية.
وكانت (قندهار) التي يبلغ سكانها 300 ألف نسمة، نقطة البدء وقاعدة
الانطلاق. لقد بسط الطلاب بعد أن أصبحوا حركة منظمة سيطرتهم على الولاية
حتى استتب لهم الأمر فيها في ظل فراغ إداري في بلاد مترامية الأطراف لا
تحكمها حكومة موحدة ولا قوية. وكغيرها من ولايات أفغانستان التي تقاسمتها
الفصائل والقبائل والأحزاب؛ خضعت قندهار لإدارة هؤلاء الطلبة المنتمين في
معظمهم إلى قبائل البوشتون، وولوا فيما بينهم واحداً منهم وهو الملا محمد عمر
الذي كان ممن شاركوا في الجهاد عملياً، بقرينة شاهدة على ذلك، وهي فقده لإحدى
عينيه في الجهاد، وكان قد عاد كأقرانه إلى طلب العلم بعد انتهاء موجبات الجهاد،
فلما كوّن الطلاب حركتهم ورأّسوه عليهم، تشكل بعد ذلك مجلس شورى يضم ثمانية
أفراد.
ويبرز هنا سؤال:
هل كان قادة المجاهدين القدامى على معرفة بالأفراد البارزين في حركة
(طالبان) أم أن هؤلاء كما يشاع نكرات مجهولون لا يعرف لهم أصل ولا انتماء؟
الحقيقة أن كثيراً من قادة المجاهدين المعروفين، قد أثنوا في مبدأ الأمر على
قادة الحركة باعتبار أشخاصهم، بل قد راهن الكثير منهم على أن يضموهم إلى
صفوفهم، أو أن يستفيدوا منهم على الأقل.
فحكمتيار الذي يشاركهم في الانتماء القبلي حاول استمالتهم مظهراً الود لهم،
ولكنهم لم يشاركوه تلك المشاعر، بل رأوا فيه مسؤولاً أساسياً عن الدمار الذي حاق
بأفغانستان بعد الحرب!
أما أحمد شاه مسعود، فقد كف عنهم في البداية متعمداً لا حباً فيهم بل بغضاً
في حكمتيار، ولعلهم يشاركونه في التخلص منه.
وأما الشيخ سياف وهو من أصدق القادة لهجة فيما نظن فقد أثنى عليهم
أشخاصاً لا حركة، وقد سئل عن (طالبان) في حديث صحفي أجرته معه جريدة
الحياه (7/2/1417هـ) : فقال (قادتها معروفون لدينا) وقصارى ما أخذه عليهم عدم استقلالية قرارهم، ولكنه قال أيضاً لمجلة الإصلاح عندما سألته عنهم: (هم أحبابنا، ولا زالوا على صلة بنا، وبعضهم في المواقع المرموقة في قيادة الطالبان يصارحوننا، بأنهم لا يعرفون ماذا سيفعلون) (الإصلاح:15/2/1417هـ) .
ولكن الشيخ سياف كان يشارك القادة الآخرين نظرة الاستهانة بقدرات تلك
الحركة في بدايتها، حتى إنه عندما سئل في المجلة نفسها عن مدى تهديد طالبان
للعاصمة قبل دخولها قال: (أعتقد أنهم ليسوا على مستوى الاستيلاء على العاصمة) . ...
أما رباني: فكان على معرفة جيدة بقادة (الطالبان) وقد صرح بذلك في بداية
الأمر فقال: (تعاونا مع طالبان منذ البداية وقدمنا لهم كل الدعم، غير أن هذا
التنظيم تخلى عن مبادئه الأصلية) وعن طريق يونس خالص، وعن طريق محمد
نبي محمدي الذي كان نائباً له قبل دخول طالبان إلى كابول كان رباني يتابع شأن
طالبان، وقد حاول محمد نبي أن يقنع رباني بالاستفادة من هؤلاء الشباب،
واختلف معه بشأنهم وهما لا يزالان في السلطة وحاول أن يثنيه عن عزمه على
التصدي لهم، وظهر هذا الاختلاف في العلن، حتى إن محمد نبي هاجم رباني بعد
ذلك متهماً إياه بـ (افتعال القتال ضد حركة طالبان لإيجاد مسوّغ يتيح لقواته إدخال
البلاد في دوامة جديدة) ثم عبر محمدي عن رأيه الصريح فيمن يسعى للسيطرة
لمجرد السيطرة، هل هم طلبة العلم، أم المعادون لهم فقال: (إن رباني وحكمتيار
هما المتحاربان اللذان يحبان الكراسي، وسيظلان يتحاربان من أجلها)
(الحياة 16/ 10/1415هـ) .
أما يونس خالص فكان منذ البداية متعاطفاً مع حركة الطلبة، بل إنه شاركهم
عملياً في مساعيهم لتوحيد البلاد تحت حكومة واحدة، وخاصة عندما طلبت منه
حركة طالبان أن يتولى تأمين العاصمة كابول، عندما حشدوا أكثر قواتهم صوب
مزار الشريف في المحاولة الأولى لفتحها.
فالحاصل هنا أن الزعماء البارزين في حركة طالبان كانوا معروفين لدى
الزعماء البارزين من قادة المجاهدين القدامى، وهذا مهم في نفي صفة النكارة عنهم، والتي يتعلق بها منتقدوهم ليصفوهم بعد ذلك بما هو أسوأ كوصفهم بأنهم عملاء
لباكستان وأمريكا.. أو من الشيوعيين القدامى، أو أصحاب توجهات علمانية مخفية.. إلخ! !
مسيرة الحركة في توحيد أفغانستان:
كان لقادة حركة الطلاب نظرة ثابتة فيما يتعلق بعلاج مشكلة الصراعات في
أفغانستان، وتتلخص نظرتهم في الحل: في ضرورة تخليص البلاد من القوى
والعناصر المتسببة في استمرار الشقاق؛ إذن لا بد من توحيد ولايات أفغانستان من
أقصاها إلى أقصاها تحت قيادة موحدة لا عنصرية ولا قبلية ولا مذهبية، وقد
تبلورت هذه النظرة وتحولت إلى هدف ثابت بعد النجاحات التي أحرزتها الحركة
بإخضاعها ولايات عديدة لسيطرتها بعد قندهار، وقد لمسوا من جموع الشعب
الأفغاني ترحيباً بهذا التوجه؛ فالناس قد سئموا من الخلافات والعداوات والمواجهات
التي لا يدفع ثمنها الباهظ إلا البسطاء والفقراء من أرزاقهم ودمائهم وأرواحهم.
ورأى هؤلاء البسطاء في حركة الطلاب أملاً يلوح في الأفق، فانحازوا إلى صفهم، وكان أهالي كل ولاية يحدثون غيرهم عن أحوال ولايتهم بعد مجيء الطالبان؛
حيث عم الأمن، وعادت التجارة، وانعدمت القلاقل والفتن التي كانت تحدثها
العصابات المسلحة في كل مدينة، وكان شباب الطلاب عندما يقدُمون إلى ولاية من
الولايات يُقدّمون بين أيديهم وفوداً من علماء الدين، ليطلبوا من زعماء القبائل
النزول لحكم طالبان، حتى لا تزهق الأرواح أو تزداد الفتن، ثم يعقب تلك الوفود، قدوم الجنود، رافعين المصاحف بأيمانهم والسلاح بشمائلهم، فكان الصلحاء من
الناس تتعلق قلوبهم بالمصاحف رغبة، أما غير الصلحاء فكانت ترتعد فرائصهم من
السلاح رهبة. وتتالت فتوحات حركة الطلاب، حتى دانت لهم المدن والولايات
وسيطروا خلال عام واحد على ما يقرب من ثلث أراضي أفغانستان!
كل هذا، والقادة الكبار يرون فيهم حركة طارئة، ونبتة طرية، يدفعها حماس
فوار لن يلبث أن يفتر، وتجربة قليلة قصيرة لن تلبث أن تخفق.. وكل الأطراف
سائرة فيما هي ماضية فيه غير عابئة بهذه (السحابة) المارة، حتى الأمم المتحدة،
ظلت ماضية في خططها لتسويات تمكّن للقوى الغربية في أفغانستان، عن طريق
عناصر من غير الفصائل، والفصائل بدورها ظلت ماضية فيما يشبه لعبة الكراسي
الموسيقية، تتناوب التحالفات والتعاهدات.. وتتقلب في الولاءات والعداوات.
وفي سبتمبر من عام 1995م انتهت الحرب الأهلية، بين حكمتيار ورباني،
تلك الحرب التي كانت عجباً في انتهائها، كما كانت عجباً في ابتدائها؛ حيث عاد
المصطرعون من حيث بدأوا، فقد تصالح حكمتيار بعد خراب الديار مع أحمد شاه
مسعود (القائد العسكري لرباني) وعلل حكمتيار قبوله للصلح بقوله: (في الواقع لقد
بدأوا يقدمون لنا يقصد رباني وحكومته تنازلات أكثر مما كنا نطالبهم به أثناء
وجودنا في جهارسياب) ! ولكن تنازلات رباني لم تكن هي في الحقيقة السبب في
المصالحة والتحالف فيما يظهر، بل كانت منازلات (الطالبان) هي السبب والمحرك
الرئيسي لهذا الانقلاب المفاجئ؛ فحكمتيار الذي كان يمطر كابول بوابلات النيران،
ولم يستطع أحد صده ولا رده أخرجته حركة قوات طالبان من معاقله في جنوب
كابول، حيث كان يتمركز في (جهارسياب) .
وغدت قوات الطلبة رقماً صعباً يتهدد كل القوى الرئيسة في أفغانستان؛
فبعدما طرد حكمتيار من (جهارسياب) تحركت قوات طالبان إلى أكبر المدن الواقعة
تحت سيطرة رباني بعد كابول وهي مدينة (جلال أباد) فأسقطتها بعد قتال خفيف مع
القوات الحكومية في (25/4/ 1417هـ الموافق 9/9/1996م) أما العميل العنيد
(دوستم) فقد تعجل تسوية الخلاف مع الحكومة الائتلافية الجديدة لينسق معها في
مواجهة (طالبان) وكان قد تم إشراك دوستم في منصبين وزاريين في حكومة
حكمتيار.
ولكن طالبان لم تترك لغرمائها فرصة لالتقاط الأنفاس؛ فحكمتيار واصلت
طالبان مطاردته في معقله الجديد في (ساروبي) وبالفعل تم لطالبان السيطرة على
معقله الثاني، وظلت قوات طالبان تتعقب المدن التي كان يسيطر عليها رباني،
حتى لم يعد يسيطر، قبل فتح كابول إلا على خمس ولايات من أصل ثلاث وثلاثين
ولاية. ثم انتقلت قوات طالبان إلى مدينة (كونار) بعد أن استدعى (سميع الله) أمير
الجماعة السلفية طلاب جماعته من باكستان لقتال (الطالبان) وتم لقوات طالبان
دخول مدينة (كونار) وأخرجوا منها سميع الله الذي كان وزيراً أيضاً في وزارة
حكمتيار.
فتح كابول:
ظلت الولايات الكبرى تتساقط الواحدة تلو الأخرى في أيدي مقاتلي (الطالبان)
ولكن العاصمة كانت لا تزال في أيدي التحالف الحكومي بزعامة رباني، إلا أن
عين الحركة كانت على العاصمة وهي تزحف من حولها في كل جانب، وظلت
الأطراف كلها تراهن على الاحتفاظ بالعاصمة، بكل ما يعنيه ذلك من التمتع بمركز
القوة الأكبر في البلاد، ولكن قوات الطلبة، استجمعت قواها، وحفزت عزائمها،
ثم توجهت بكثافة كبرى نحو العاصمة في 14/5/1417هـ الموافق 27/9/1996م
وتمكنت من دخولها في ذلك اليوم دون مقاومة كبيرة!
ماذا يعني فتح كابول؟
كان يعني أن أكثر من ثلثي البلاد قد خضعت لحكومة واحدة هي حكومة
طالبان وأنها أصبحت تقود البلاد من العاصمة نفسها، وفتح كابول كان يعني أيضاً
أن القوى الكبرى في أفغانستان من زعماء الأحزاب، لم يعودوا مؤهلين في نظر
الشعب لحماية البلاد، بعد أن فروا من العاصمة دون مقاومة وكان يعني أيضاً
الانتهاء عملياً من الحكومة القائمة؛ حيث أطلق عليها من ذلك اليوم: - (حكومة
رباني المخلوعة) ، وكان فتح كابول يعني أيضاً نهاية أطماع الأمم المتحدة في إيجاد
واقع جديد في أفغانستان يخدم الأطراف التي تحرك الأمم المتحدة.
وبعد سقوط حكومة رباني [2] : بدأ السعي لإنشاء تحالف عسكري للمعارضة! وبالفعل تشكل ما أطلق عليه (الجبهة الوطنية الموحدة) من قوات رباني مع بقايا
قوات حكمتيار، مع من تحالف معهما من الشيوعيين والشيعة. وتم توقيع اتفاق
التحالف في 26/5/1417هـ الموافق 9/10/1996م.
وأعلنت كل من روسيا والهند وإيران دعم هذا التحالف المناهض لحكومة
طالبان!
وبعد توقيع التحالف الجماعي المذكور، تم توقيع تحالف ثنائي آخر في
(30/ 5/1417هـ الموافق 13/10/1996م) ، بين أحمد شاه مسعود وعبد الرشيد دوستم، في مدينة جيحان شمال ممر (سالانج) وقد حضره وللأسف القنصل الروسي في مزار الشريف ولكن هذا التحالف سُددت له ضربه قوية، باستيلاء طالبان على قاعدة باجرام الجوية في شمال كابول في (5/9/1417هـ الموافق
14/1/1977م) .
وجرت بعد ذلك محاولات كثيرة لإبرام صلح بين حكومة طالبان ومعارضيها
يسمح لرموز المعارضة بالعودة إلى كابول بعد أن تنسحب منها طالبان، ولكن
حكومة الطلاب رفضت رفضاً حازماً أن يشارك أحد من العناصر السابقة في
السلطة.
وهنا أعلنت فصائل المعارضة أن كابول لا بد أن تُسترد بالقوة! ولكن.. أي
قوة؟ ! ألم تكن كابول في أيدي قوات رباني ومسعود وحكمتيار؟ ! فتركوها دون
قتال وفضلوا الفرار؟ !
فلماذا القوة الآن؟ !
المشكلة أن القادة تعللوا وقتها بأنهم آثروا حقن الدماء! ! أي دماء؟ إن ثلاثين
ألفاً أو أكثر قتلوا أثناء الحرب الأهلية من سكان كابول وحدها؛ فأين كان حقن
الدماء؟
ولمزيد من حقن الدماء قررت موسكو في 22/4/ 1997م أن تزود أحمد شاه
مسعود بـ 12 طائرة مقاتلة من طراز سوخوي وميج 21، ولمزيد من حقن الدماء
تحالف حكمتيار بعد مسعود مع دوستم الدموي؛ وكريم خليلي الرافضي،
واستجمعوا قواهم جميعاً لخوض المعركة الكبرى انطلاقاً من معقل الأوزبكي
الشيوعي (دوستم) من مزار الشريف! !
فما هي قصة المزار الشريف؟
هي المدينة التي يعتقد الأفغان أن قبر علي رضي الله عنه موجود فيها، وقد
اتخذها (دوستم) معقلاً له، إضافة إلى سيطرته على المحافظات الشمالية المحاذية
لحدود أوزبكستان. ويزيد عدد سكان مدينة المزار الشريف عن سكان كابول نفسها
بأربعة أضعاف، وميليشيات دوستم كانت قوية جداً وجيدة التسليح، وهي أقرب
لجيش نظامي يضم أكثر من خمسين ألف مقاتل، وتضاعفت قوتهم بعد تشكيل
تحالف المعارضة مع مسعود وحكمتيار وحزب الوحدة الشيعي، ومما زاد من أهمية
هذه المنطقة أنها غنية بالثروات الطبيعية من البترول والغاز الذي لم يستغل بعدُ.
وكان دوستم يتلقى الدعم المباشر من روسيا؛ حيث كانت تعتبره سداً منيعاً لحدود
طاجيكستان الملاصقة لها. كان دوستم قد أُعطي وزارتين في حكومة رباني، ومع
ذلك ظل ساخطاً ورفض الاعتراف بها. ورغم كل أسباب القوة الحقيقية والوهمية،
فإن طالبان لم تُخْفِ عزمها على إخراجه من مزار الشريف، ولم تفلح محاولات
تركيا لإنشاء تحالف بين طالبان ودوستم ضد بقية الفصائل. وكان قادة طالبان
يقولون ببساطة: لا فرق بين دوستم ونجيب الله، ولو ظفرنا به لألحقناه بمصير
نجيب الله، الذي أعدم في اليوم الأول من دخول كابول.
وظلت محاولات طالبان موجهة نحو معقل دوستم، حتى لاحت فرصة
اعتبرها قادة الحركة حقيقية ونادرة لحرصهم على عدم إراقة الدماء وهي انشقاق
أحد قادة دوستم الرئيسيين وهو (عبد المالك بهلوان) وقد أغرى (طالبان) بتسهيل
دخول المدينة مقابل مكاسب متفق عليها، وبالفعل حشدت (طالبان) قواتها لهذه
الغنيمة السهلة، حتى إنهم لم يحرصوا على التزود بالأسلحة الثقيلة للاقتحام،
وبالفعل استولت قواتهم على المدينة في 24 /5/1997م الموافق 16/1/1918هـ، وولت قوات دوستم الأدبار بعد ارتباك عظيم دب في صفوفها، وفر دوستم نفسه
إلى تركيا، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ سرعان ما غيّر (بهلوان) ولاءه
ونكث بعهده، ومن غير الواضح، ما إذا كان قد فوجئ بطلب قوات طالبان من
جنوده أن يسلموا أسلحتهم، أو أنه كان ناوياً الغدر منذ البداية للإيقاع بقوات الحركة
في فخ كبير؟
الحاصل: أن قوات (بهلوان) رفضت نزع سلاحها، وأشعلت الحرائق في
المدينة، ودخلت في معركة كبيرة مع قوات طالبان غير المستعدة لها مما اضطر
طالبان لأن تنسحب من المدينة انسحاباً تكتيكياً، بعد أن دخلت قوات أحمد شاه
مسعود المعركة ضدهم أيضاً، ووقع ما لا يقل عن عشرة آلاف من قوات طالبان
في الأسر، وقتل منهم الكثير، وأسر عدد من قادتهم ووزرائهم، وعاد دوستم من
تركيا ليعيد تنظيم قواته مرة أخرى!
درس لا ينسى:
انت مأساة مزار شريف درساً تعلمت منه القيادة الطالبانية ألا تتساهل في أي
تحالفات تدخلها، وأن تستبعد بشكل نهائي الاتكاء على قدرات الغير، وبرغم
الهزيمة، فقد ظل هدف استرداد المدينة شاخصاً أمام أعين القادة، ولكنهم اعتمدوا
مبدأ التريث والصبر لعل حرارة الأحداث تنضج ظروفاً تهيئ للعودة، خاصة وأن
جنود دوستم (المرتزقة) قد بدأوا يتململون بسبب تدهور الأحوال المادية عنده بما لا
يمكنه من دفع رواتبهم.
الفتح الأخير:
حدث ما توقعه قادة الطالبان، واشتعلت الانقسامات داخل صفوف قوات
دوستم من جهة، وبين صفوف حركة الوحدة الشيعية من جهة أخرى، وبين بعض
قيادات التحالف المناهض لطالبان من جهة ثالثة، ولم تضيّع حكومة طالبان الفرصة، فحشدت قواتها لاقتحام آخر العقبات الكبرى في سبيل توحيد أفغانستان، وبالفعل
تمكن المقاتلون من دخول المدينة في (16/4/1419هـ) (9/8/1998م) دون مقاومة
تذكر، وأصبحت طالبان بذلك تحكم سيطرتها على 85% من الأراضي الأفغانية،
ثم استأنفت السعي لضم البقايا المتبقية من الأراضي الواقعة تحت سيطرة مسعود
ورباني، بعد أن دحر دوستم بشكل نهائي عندما تمت سيطرة الحركة على مطار
مزار الشريف.
وبعد يومين من الاستيلاء على المطار، استولى مقاتلو طالبان على مدينة
(نهرين) المقر القيادي لأحمد شاه مسعود، وتقدموا منها إلى مدينة (بولي خمري)
عاصمة ولاية (بغلان) ، وسيطروا عليها، وهي بلدة استراتيجية تقع على ممر
سالانج الرابط بين العاصمة كابول ومدينة مزار الشريف. وسيطروا أيضا على
مدينة (حيراتان) على الحدود بين أفغانستان وأوزبكستان، وأسروا فلول قوات
دوستم الفارين إليها.
ثم بدأت الحركة في (20/4/1419هـ) (14/8/1998م) هجومها على معقل
الشيعة الرئيسي في وسط أفغانستان، وبدأوا في حصار مدينتهم (باميان) وبعد ذلك
بيومين سيطرت حركة طالبان على مدينة (أيبك) عاصمة مقاطعة سامنغان في
الشمال، وهي من بقايا المقاطعات التي كانت تابعة لدوستم ورباني، وقد سيطرت
الحركة بعد فتح تلك المدينة على مخازن أسلحة ثقيلة تابعة لعبد الرشيد دوستم،
تحوي صواريخ سكود (1) وسكود (ب) التي يبلغ مداها 180 و270 كم على
التوالي، ويبلغ عدد هذه الصواريخ 110، وأكثرها صالح للاستعمال، وعثرت
قوات طالبان أيضاً على أربع منصات متحركة لإطلاق هذه الصواريخ التي كانت
القوات الروسية قد أحضرتها معها إلى أفغانستان في أواسط الثمانينات إبان الاحتلال
السوفييتي، ثم سلمتها إلى الحكومة الشيوعية، وبدورها عمدت تلك الحكومة إلى
نشر الصواريخ في مدينة مزار الشريف.
لقد أتمت حركة الطلاب بعد تلك الانتصارات السيطرة على 90% من
أراضي أفغانستان، فأطارت بذلك عقول زعماء الدول المجاورة، وبدا أن الصراع
سيأخذ بعداً آخر، وسيتحول إلى صراع بين دول بعد أن كان صراعاً بين حركات
وأحزاب، فقادة طهران خرجوا عن سكوتهم الظاهري المصطنع بل خرجوا عن
حدود اللياقة والدبلوماسية، بعد أن أسرت قوات طالبان عدداً من خبرائهم
العسكريين في مدينة مزار شريف، إضافة إلى عدد من الدبلوماسيين الذين اتهمت
إيران حكومة طالبان باحتجازهم، ووصفتهم بسبب ذلك بـ (الحقراء) و (الجهلة)
و (اللاعبين بالنار) واعتبر وزير الخارجية الإيراني هذا الفعل (مخالفة لكل الأعراف
والقوانين التي اصطلح عليها المجتمع الدولي والشرعية الدولية، وقال إنها تحرم
وتجرم احتجاز الدبلوماسيين كرهائن) . ونسي وزير الخارجية الإيراني أنه كان في
يوم من الأيام ممن شاركوا في احتجاز (الدبلوماسيين) الأمريكيين في مبنى السفارة
الأمريكية بعد نجاح ثورتهم عام 1979م.
أما روسيا، فقد أصيبت زعامتها المتهالكة بذعر واضطراب من انتصارات
الطالبان، ودعا الرئيس الروسي (بوريس يلتسين) في (15/8/1998م) إلى إقامة
حاجز يمنع تقدم طالبان نحو آسيا الوسطى، وقال إنه تحدث إلى نظرائه رؤساء
طاجيكستان وأوزبكستان مؤكداً ضرورة وضع حاجز على الحدود الجنوبية
لجمهوريات آسيا الوسطى، أو الجمهوريات الإسلامية التي كان الاتحاد السوفييتي
البائد قد اغتصبها وضمها إلى اتحاد الإلحاد الذي هوى.. وباد.
واليوم تنقلب المعادلة، وتصرخ روسيا التي تحشد خمسة وعشرين ألفاً من
جنودها على الحدود الطاجيكية مع أفغانستان تصرخ من اقتراب خطر المد
الإسلامي إلى البلاد المجاورة لها ...
وتعود أفغانستان إلى واجهة الأحداث العالمية مرة أخرى.. بعد طول انشغال.
وإلى بقية في عدد قادم إن شاء الله،،،
__________
(1) بعض المصادر توصل عدد القتلى إلى خمسين ألف قتيل، ولكن لا توجد أي إحصاءات دقيقة.
(2) يشكك الكثيرون في شرعية هذه الحكومة حتى قبل إسقاطها على يد طالبان، فبرهان الدين رباني انتخب للرئاسة مدة مؤقتة هي أربعة شهور، ثم مدد له أربعة أشهر أخرى، ثم طلب تمديداً ثانياً وانتهت رئاسته في 26/3/1413هـ الموافق (28 ديسمبر 1994) ، ثم ظل يمدد لنفسه تلقائياً وقد كان محمود المسيري المبعوث الدولي لأفغانستان يصارح رباني بتلك الحقيقة، فقد قال له: (أنت رجل تستحق الاحترام، ولكن بصراحة لست حاكماً شرعياً للبلاد) (صحيفة الاتحاد/24/5 /1417) ولا يزال للآن، بعد سيطرة طالبان على كامل أرض أفغانستان تقريباً يقول: الحرب لم تنته ضد طالبان!! .(130/70)
المسلمون والعالم
علماء العراق والدولة العلمانية
سليمان الظفيري
تمهيد:
بعد رحيل العثمانيين عن العراق وسقوطه في قبضة الاستعمار البريطاني شهد
تكوين حكومة هشة على رأسها فيصل بن الحسين [1883-1933] ليكون ملكاً
شكلياً على عرش العراق، وموظفاً في الحكومة البريطانية حقيقة، وقد نودي به
ملكاً على العراق في 32 آب 1921م، واستمر حكم اسرته وأبنائه إلى سنة 1958م؛ حيث قامت مجزرة الهاشميين. ثم جاء العهد الجمهوري واستمر إلى الآن؛ وقد
تميز هذا العهد بالانقلابات العسكرية والمجازر الدموية الرهيبة، وتخريب الأخلاق، ومحاربة الإسلام، والتآمر عليه، وقتل علمائه، وجعل الدين في زوايا ضيقة من
الحياة. وهذه الفترة الطويلة التي تشمل حكم الهاشميين تحت الحراب الإنجليزية،
وكذلك العهد الجمهوري بعهوده الثلاثة [القاسمي، العارفي، والتكريتي] هي مقصدي
بالدولة العلمانية، وهي علمانية بكل ما تحمله الكلمة من حرب للإسلام وتحجيم
لدوره؛ كما سنرى.
منزلة علماء العراق قبل العهد العلماني:
كان العلماء على العهد العثماني الإسلامي محل احترام الوالي ومساعديه،
وكانوا محل المشورة والنصرة والتأييد؛ فالشيخ عبد الله السويدي (1693 -761م)
وهو جد الأسرة السويدية في العراق استدعاه الوالي العثماني للمناظرة الشهيرة التي
رغب بها دولة الوالي مع علماء شاه إيران وهي التي دارت في مسائل بين السنة
والشيعة، دان في نهايتها كبيرُ علماء الشيعة للسويدي رحمه الله [1] .
وقد كان العلامة محمد فيضي الزهاوي (1797- 1890) والعلامة أبو الثناء
الآلوسي (1217- 1270م) من المقدمين عند ولاة العراق العثمانيين وهم أهل الفتيا،
والقضاء، وشيوخ العلماء في ذلك الوقت، ولهم مكانة واحترام الدولة والعامة، وقد
كانت العناية بالعلماء الوافدين لنشر العلم في العراق جارية وقائمة؛ فالشيخ غلام
رسول الهندي (1912م) أعطي مكانة مرموقة واستمر على ذلك حتى وفاته، بل
كان المتطوعون لخدمته كثراً؛ لأنه غريب لا أهل له والعلاّمة الشيخ محمود شكري
الآلوسي (1857- 1942م) كان رسول السلطان العثماني إلى الملك عبد العزيز آل
سعود خلال الحرب الأولى، والسلطان العثماني جعل بلاطه وإكرامه لمن قدم عليه
من علماء العراق وغيرهم.
ولكن لما سيطر العلمانيون على أرض الرافدين قربوا المتهمين في دينهم
والمنحرفين، قربوا الصوفي وقربوا المبتذل؛ حتى كان وزير الأوقاف على عهد
فيصل أول رجل تخرج ابنته وتجالس الرجال وتدرس في كلية الحقوق وهي
صبيحة الشيخ داود (1912- 1975م) ، وقد كانت فخرية سعيد زوجة جعفر
العسكري المربي للملك غازي نجل الملك فيصل تدخل لندن سافرة من غير حجاب، كاسية عارية. وكان يحظى كل من الشاعر الضال جميل صدقي الزهاوي،
والشاعر العلماني محمد مهدي الجواهري بقدر عالٍ من الاحترام والتبجيل؛ بخلاف
علماء السّنّة الذين أسيئت معاملتهم، ولم يتبوأ أحد منهم الوزارة في حين تولى
الوزارة من الشيعة الشيخ محمد الصدر (1883-1965م) ورستم حيدر وهو من
شيعة لبنان، وتولى رئاسة مجلس النواب الشيخ محمد رضا الشبيبي
(1889-1965م) .
كان المخطط محبوكاً بقصد إبعاد علماء السنة من الوظائف الكبيرة،
وحصرهم في وظائف الأوقاف. وقد بلغ الاستهتار درجة عالية في العهد الهاشمي
بالعلماء وتهميش دورهم؛ فكم من المرات تم إغلاق جمعية الأخوة الإسلامية وسحب
امتياز مجلتها وكان صاحب الامتياز محمد محمود الصواف رحمه الله.
أما في العهد الجمهوري فقد نال العلماء السجن والتعذيب والإعدام، فالعلاّمة
أمجد الزهاوي (1882 1967م) سجنه عبد الكريم قاسم، ثم بعد ذلك ترك العراق
مع الشيخ الصواف، وهكذا العلامة فؤاد الآلوسي (1321ـ 1384هـ) سجنه قاسم
الذي قام بحل الحزب الإسلامي وإلغائه، وإلغاء صحيفة الحياد، وصحيفة الحزب،
وكذلك صحيفة السجل للأستاذ طه الفياض رحمه الله تعالى. وفي العهد البعثي قُتل
من أعلام الحركة الإسلامية: الشيخ عبد العزيز البدري (1930- 1969م)
والأستاذان العسكريان: محمد فرج الجاسم، وعبد الخالق السيد عثمان، والمشايخ:
محمود أبو سعدة، والشيخ تلعة، وغيرهم؛ هذا غير الذين تركوا العراق وفروا
مستوطنين بلاداً أخرى، وتركوا بلادهم كالشيخ محمد محمود الصواف يرحمه الله.
تجميد الأوقاف الإسلامية وتحجيم المدارس الإسلامية:
أما الأوقاف الإسلامية فقد كانت تشمل عدداً كبيراً جداً من البنايات، والبساتين، والدكاكين، فالأوقاف الكيلانية أوكلت إلى آل النقيب، وهي ضخمة جداً
وآل النقيب مشهورون أيام الهاشميين بالقرب منهم، ولا يعرف أن أحداً منهم من العلماء
بل كان منهم شيخ الصوفية. وكانت الدولة العثمانية تحرص على أن لا تكون
الأوقاف وزارة يرتقي إليها أحدٌ من غير أهل السنة؛ فيذهب شرط الواقف؛ لكن
العهد العلماني غيّر إدارة الأوقاف إلى وزارة قامت بتضييع الأوقاف والإشراف على
تبديد أموالها وإضاعة شرط الواقف.
كانت هذه الأوقاف مصدر تمويل المدارس الإسلامية والقائمين عليها من
العلماء وغيرهم، الأمر الذي أغنى علماءنا وجعلهم بعيدين عن الحاجة إلى غيرهم.
والقادة العلمانيون إدراكاً منهم لأهمية هذه المؤسسة ودورها في تعزيز الإسلام
وعلمائه بأرض العراق قاموا أولاً بتبديد هذه الأوقاف، ثم قاموا بتحجيم المدارس،
ثم كانت الخطوة الثالثة القيام بإلغائها، ومثلاً على ذلك: مدرسة الشيخ عبد العزيز
ابن سالم السامرائي (1917- 1973م) في الفلوجة التي ما زالوا بها حتى أضعفوها
وحاصروها، ثم ألغيت بعد موته رحمه الله تعالى وأكثر علماء المنطقة الغربية من
الجيل الحاضر والجيل الماضي هم خريجو هذه المدرسة. والحلقة العلمية للعلاّمة
الشيخ عبد الكريم المدرس ما زالوا خلفها حتى تهدمت وانفلّ أركانها؛ وحدثني العالم
الفاضل الشيخ الأديب مصعب العزاوي رحمه الله تعالى قال: كنت أدرس فيها
فكانوا يأتون بطلاب الأدب يجلسونهم معنا لكي يروا المقارنة بين التعليم القديم،
والتعليم الجامعي الحديث، قال: فكان هؤلاء الجامعيون يأتون بالأمثلة على القواعد
من الكتاب المقرر عندهم ولا يبرحونه أبداً، أما طلابنا فكانوا يمطرونهم بالأمثلة
الكثيرة من القرآن الكريم والحديث والشعر، وكان أساتذتهم يتعجبون من كفاءة
طلابنا العالية ومستوى طلابهم المتدني.
وهذا المعهد العلمي في سامراء الذي تخرج فيه كبار مشايخ سامراء من
الأساتذة أصبح أثراً بعد عين، وقل مثل ذلك في المعهد الإسلامي في سيو أبكار،
والمعهد الإسلامي في حلبجة، والمعهد الإسلامي في البصرة.
وأكبر خراب حلّ بدور العلم هو إغلاق مدرسة النجاة في الزبير التي أسسها
العلاّمة المجاهد محمد الأمين الشنقيطي (1293- 1332هـ) في مدينة الزبير وكانت
هذه المدرسة محضن الكثير من أعلام الخليج والجزيرة العربية ولا سيما الكويت؛
لقد أغلقوها بعد موت الشيخ فصارت أطلالاً باكية.
ثم قف واسأل الحيدر خانة عن مدرسة العلاّمة الإمام محمود شكري الآلوسي
وما فُعِلَ بتلك المدرسة؛ ولقد خلفه في هذا المسجد العظيم شيخ مشبوه كان يغش في
الامتحان في كلية الشريعة.
واسأل أيضاً بدموع باكية أطلال مدرسة جامع مرجال حيث مكان العلاّمة
الإمام نعمان خير الدين الآلوسي؛ حيث كانت مدرسته العلمية؛ لقد خربوها كلها
وصرفوا الناس عنها، فقلّ العلماء وكثر الجهل، وألزموا العلماء زيادة في الإذلال
بالخدمة العسكرية لا ليجاهدوا عدواً ولكن لينالوا من كرامتهم ويحطوا من منزلتهم
ويعطلوا دورهم في التعليم والإرشاد.
لقد تخرج من هذه المدارس أعلام العراق الكبار من العلماء والأدباء وأهل
الفضل بل حتى بعض العلمانيين فقد أخذ كامل الجادرجي (1897-1967م) علوم
العربية وآدابها من الشيخ العلاّمة علي علاء الدين الآلوسي، والشاعر معروف
الرصافي (1875-1945م) تخرج من بين يدي العلامة محمود شكري الآلوسي.
رجال اليهود والنصارى وقربهم من صناعة القرار:
على طول هذه الفترة للدولة العلمانية نهج العلمانيون طريقاً واحداً تمثل في
إبعاد العلماء وتقريب من عداهم؛ حتى اليهود والنصارى؛ حيث حصلوا على
ترخيص بإنشاء مدرسة الاليانس الخاصة، وكان رجال الحكم يرسلون أولادهم إليها، بل كان الملك فيصل الأول وجعفر باشا العسكري ممن يزورون هذه المدرسة
ويحضرون مناسباتها ومن رجال اليهود العراقيين الذين برزت أسماؤهم: (ساسون
عقيل) فقد قربه الحكام آنذاك إليهم حتى صار وزيراً للمالية، ومن رجال الخارجية
المشهورين (مير البصري) وهو ما زال حياً يقيم في لندن يكتب كتباً كثيرة في
تراجم رجال العراق مع نبز أعيان السنة.
ومن النصارى أبرزوا القس انستاس الكرملي (1866-1947م) وكان هذا
القس من العملاء المخلصين للإنجليز وقد أرسلوه بذهب ومال إلى العلاّمة محمود
شكري الآلوسي لإقناعه بوظيفة الإفتاء أو القضاء في دولة الإنجليز فرفض الشيخ
الذهب والوظيفة، بل ورفض مقابلة الملك فيصل الأول إلا بعد إلحاح شديد.
وهذا القس له جهود ونشاطات في التاريخ، وعلم اللغة والأدب العربي،
وبصماته النصرانية واضحه في آثاره.
وقد أتيح للنصارى فتح المدارس التنصيرية، وبناء الكنائس، وتعمير
مقابرهم، وفتحت لهم الأبواب إلى الوظائف الكبيرة والوصول إلى الوزارات،
وليس (طارق حنا عزيز) نائب رئيس الوزراء العراقي الحالي المثال الوحيد، بل
السفارات، وموقع التأثير الاقتصادي كانت لهم، وما زالت تحت سلطانهم! نسأل
الله أن ينقذ العراق وأهله من ظلم وجبروت البعث وأزلامه.
__________
(1) انظر المناظرة مطبوعة تحت اسم (مؤتمر النجف) مع كتاب (الخطوط العريضة) للعلاّمة محب الدين الخطيب رحمه الله.(130/80)
المسلمون والعالم
الجذور الفكرية
للتدخلات الأمريكية المسلحة في العالم
حسن أبو حلو
في إبريل عام 1914م خاطب الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت الكونجرس
من أجل إقرار استخدام القوات المسلحة الأمريكية ضد المكسيك؛ وذلك لأن
المكسيكيين لم يقوموا بتحية العلم الأمريكي! ! [1] . هكذا بكل بساطة حشدت
الولايات المتحدة جيوشها وهاجمت دولة ذات سيادة من أجل أن بعض المواطنين من
دولة أخرى تجرأوا وتمادوا ولم يرفعوا أيديهم إجلالاً وتحية لعلم الولايات المتحدة.
والآن بعد أكثر من ثمانين عاماً انبرت الولايات المتحدة وجيّشت قوتها
البحرية والجوية والبرية، واستنفرت الدول للإجهاز على البقية الباقية من قوة
العراق، ولإجهاض احتمالات استعادة قوته في المستقبل.
وتسابق المحللون بمنطقتنا في تحليل الدوافع الأمريكية لهذا الغزو،
وتضاربت الآراء واختلفت التسويغات، وكثرت التنبؤات: هل هناك ضربة
متوقعة؟ أم لا، وغير ذلك من التكهنات المتناقضة التي تعكس خللاً ما في منهجية
التفكير وطرائق التحليل؛ مغفلين الظروف التاريخية التي صاحبت التدخلات
الأمريكية العسكرية في العالم؛ لذلك حاولنا البحث عن هذه الدوافع والأهداف من
البداية الأولى منذ تأسيس أمريكا؛ متتبعين بإيجاز قدر الإمكان البواعث التي دفعت
الزعماء الأمريكيين الأوائل أو ما يصطلح عليه: (الآباء المؤسسون) إلى الاندفاع
خارج أمريكا، وبسط النفوذ العسكري في العالم.
إن تاريخ أمريكا يحفل طوال مائتي سنة بأمثلة كثيرة من استخدام القوة
العسكرية من أجل التدخل في شؤون الأمم الأخرى. ومصطلح التدخل في الفكر
السياسي يتضمن: التهديد بالقوة أو استخدامها، وتدبير المؤامرات للإطاحة
بالحكومات القائمة وتغيير الأنظمة السياسية، والحصار الاقتصادي، والمقاطعة
السياسية وغير السياسية، وسنحاول في هذا المقال أن نحلل بطريقة موجزة تطور
الاستراتيجية التوسعية للولايات المتحدة وفق مبادئ وأسس لا زالت حتى الآن تتحكم
لدى صانعي القرار في أمريكا. وقليل من تدبر الأحداث الحالية يدل على صحة هذا
الاتجاه.
1- مبدأ: القوة العسكرية هي الفيصل النهائي:
أي أن الوسيلة الأساسية والنهائية لتسوية مشكلات السياسة الخارجية المتنازع
عليها هي الحرب. وقد قال ألكسندر هاملتون: (إن الناس طموحون، حقودون،
مهابون) [2] وفي معرض تفسيره لأسباب حتمية الحروب في حياة الجنس البشري
يقول: (إن التطلع إلى استمرار التوافق بين عدد من الدول المستقلة ذات السيادة
والمنفصلة بعضها عن بعض معناه التغاضي عن المسار المطرد للأحداث الإنسانية
والعمل على تحدي الخبرة المتراكمة للأجيال) [3] . وبعد أن قام هاملتون بتلخيص
تلك الخبرة ابتداء من أثينا في عصر بركليز إلى انجلترا وفرنسا في أيامه أطلق
على الذين يعتقدون أن من الممكن تحقيق سلام دائم بين الأمم صفة المثاليين وهو
يعتبر (ما يشبه البدهي في السياسة أن المجاورة أو قرب الموقع هو الذي يشكل
الأعداء الطبيعيين للأمم) [2] .
وقال (هنري ويجر هالك) ، وهو واحد من المنظرين العسكريين الأمريكيين
الأوائل في بعض جداله مع أنصار نزعة المسالمة الأمريكيين الذين أكدوا أن
الحروب كافة تمضي ضد إرادة الله: (ولكن الكتاب المقدس لم يحظر الحرب في أي
من مواضعه، إننا نجد الحرب في العهد القديم، بل نجد حروب الفتح مأموراً بها،
وعلى الرغم من أن الحرب كانت مشتعلة النيران في العالم أيام المسيح وحوارييه،
إلا أنهم لم يقولوا كلمة واحدة عن أنها غير مشروعة أو غير أخلاقية) [3] .
يقول ألكسندر هاملتون: (إن القوة المسلحة هي التي تستطيع أن تملي شروط
العلاقة بين العالم القديم والجديد) [2] .
ولكن الأمريكيين في بعض الأحيان يلجأون إلى عدم استخدام ألفاظ الحرب
مباشرة، ويخترعون مصطلحات متنوعة لتشويه جوهر الأشياء وإحاطتها بالتعمية
محاولين التنكر في الإعلان عن الهدف الحقيقي؛ فهناك على سبيل المثال مصطلح: (المجمع السلمي) الذي شاع استعماله في الإشارة إلى القوات المسلحة الأمريكية؛
فبالإضافة إلى جورج واشنطن دافع قادة كثيرون غيره وبخاصة ألكسندر هاملتون
دفاعاً قوياً عن فكرة الاحتفاظ (بمجمع سلمي) قادر على التأثير، ويعتبر المؤرخون
العسكريون الأمريكيون المعاصرون هاملتون فيلسوفاً عسكرياً من أصحاب النزعة
الواقعية ومناصراً ثابت العقيدة لموقف التأهب القتالي الهجومي.
2- مبدأ: المصلحة الذاتية المستنيرة:
وهذا المبدأ يعتبر مسلّمة رئيسة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية؛ فهو
المفتاح والعامل المحرر لنشاط أمريكا على الساحة العالمية؛ وهو يمثل النظرة
للسياسة الخارجية الأمريكية من منظور المدى الطويل.
وعلى وجه التحديد؛ لقد كانت درجة الأفضلية الممنوحة لانتصار استراتيجي
طويل المدى بالنسبة إلى ميزة عابرة مرحلية هي التي اتخذت مقياساً للاستنارة
والمصلحة القومية؛ فإذا تشبث قادة دولة بمكاسب قليلة الأهمية وفورية متغاضين
عن المصالح الأكثر جوهرية التي يمكن تحقيقها بواسطة التضحية بمكسب مرحلي
فإن معنى ذلك أنهم (ليسوا مستنيرين) بما فيه الكفاية، وأن معرفتهم ضئيلة
بالأهداف العظمى للطبقة الحاكمة في السياسة الخارجية، وهم لهذا يُخفقون في
تطبيق مبدأ (المصلحة المستنيرة) وحينما تترجم مسلّمة (المصلحة الخاصة
المستنيرة) في السياسة الخارجية إلى لغة الاستراتيجية فإنها تعني الاحتفاظ بحرية
المناورة للولايات المتحدة في أي ظرف من الظروف. ويقول جورج واشنطن
مطوراً مفهوم حرية المناورة: (لماذا نترك أرضنا لكي نقف على أرض أجنبية؟
لماذا نعرقل سلامنا ورخاءنا بحبائل ومعاداة مصالح أوروبا ومنافساتها في مصالحها
وأمزجتها وأهوائها إذا جعلنا مصيرنا ملتحماً بأي جزء من أوروبا؟ إن سياستنا
الحقة هي أن نوجه سفينتنا بعيداً عن التحالفات الدائمة مع أي جزء من العالم
الأجنبي) [4] . ويمضي قائلاً: (إنه يجب اعتبار أي تحالف مع دولة أجنبية مؤقتاً، أي لا تلتزم به الولايات المتحدة إلا إذا كان هذا التحالف مفيداً لتنمية مصالحها،
ولكن بمجرد أن يصير هذا التحالف عبئاً على الولايات المتحدة ويزج بها في غمار
الصراع من أجل المصالح الأجنبية فإن من الواجب تصفيته وإحلال تحالف آخر
مكانه إذا كان ذلك ضرورياً؛ حتى ولو كان ذلك مع عدو الأمس إذا دعت الحاجة
إليه للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة الخاصة) [5] .
لذلك نجد أن الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى تتبع في سياستها
البعد عن التدخلات العسكرية؛ فهي سياسة تجميع القوى وحشدها قبل أن تزج بها
في ساحة الصراع العالمي.
3-مبدأ (القدر المرموق) :
أو المصير الذي سبق به القضاء، أو قضاء الله السابق.
في هذا المبدأ تتجلى العقيدة الدينية النصرانية في السياسة الأمريكية؛ حيث
تصور النموذج الأمريكي على أنه رسالة إلهية إلى العالمين.
لقد كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة شديدي التدين، وقد وجدوا
بالإضافة إلى تسويغ أفعالهم باعتبارات العقل والضرورة الاقتصادية.. إلخ. أن من
الواجب التصديق على أن كل ما أنجزته الثورة الأمريكية من جانب سلطة إلهية
غير أرضية هي إرادة الخالق، وكل ذلك أدى إلى ولادة مبدأ (القدر المرموق) .
وبما أن الجمهورية الأمريكية أي النظام الأمريكي وفقاً لتعاليم (الآباء
المؤسسين) أفضل ما تم إيجاده قبل هذه الجمهورية أو النظام؛ فلا بد أن تكون في
رأي هؤلاء الآباء نموذجاً ومثالاً لسائر الجنس البشري، نموذجاً على جميع الأمم
أن تقتدي به.
وقد أدت مُسَلّمة الأيديولوجيين الأمريكيين عن الطابع الشامل لتجربة الولايات
المتحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى ميلاد فكرة الرسالة الأمريكية، رسالة
تعليم الأمم الأخرى أن تألف طريقة الحياة الأمريكية، وحثها بكل الوسائل على أن
تنتهج مساراً يحاكي الديموقراطية الأمريكية، وأن هذا النظام هو الأفضل ليس
للأمريكيين وحدهم ولكن لجميع الأمم، وأن الذي يعترض على هذا جاهل وضال،
وأنه يجب نشر هذه الفضائل بواسطة القدرة أو قوة السلاح. ويقول العالم السياسي
الأمريكي المعروف (هانزجيه مورجنتاو) ساخراً: (لقد كان لهذا المفهوم أثر على
أمريكا، فسار التوسع الأمريكي يضم الأراضي خارج حدود القارة عند نهاية القرن
يداً بيد مع نزعة توسعية قوية واثقة بنفسها لنشر المبادئ الأمريكية وطرائق
الممارسة الحكومية الأمريكية) [6] .
ويؤكد مورجنتاو بناء على ذلك: (وهنا يمتزج المفهوم التنصيري عن العلاقة
بين وضعنا الداخلي وبين سياستنا الخارجية ليشكلا شيئاً ثالثاً هو الحملات الصليبية؛ فنحن باعتبارنا (مبشرين) برسالة التجربة الأمريكية كنا نقدم مساعدتنا للآخرين
وهم أحرار في قبولها أو رفضها، أما نحن باعتبارنا فرساناً طيبين فسنفرضها
فرضاً على بقية العالم بالنار والسيف إذا كان ذلك ضرورياً، وستكون الحدود العقلية
لهذه الحملة الصليبية هي حدود القوة الأمريكية؛ فإن حدودها الممكنة ستكون حدود
الكرة الأرضية، لقد تحول النموذج الأمريكي إلى صيغة فكرية للخلاص الشامل
ستلتزم بها الأمم ذات التفكير الصحيح طوعاً. أما الأمم الأخرى فيجب أن تخضع
لها كرهاً) [6] .
ومن الحقائق الفعلية كما يسلم مورجنتاو (أن فكرة الرسالة الأمريكية إلى
شعوب العالم الأقل حظاً، هي بكل تأكيد أيديولوجية سياسية أي هي إضفاء طابع
عقلاني وتسويغي على السياسات التي تجري ممارستها لأسباب أخرى هي أسباب
أنانية في المحل الأول) [6] .
ويقول المؤرخ الأمريكي البارز (جوليوس وبرات) بمزيد من التخصيص: إن
(القَدَر المرموق) أصبح تسويغاً لأي استيلاء على أرض إضافية يكون لدى الولايات
المتحدة النية والقدرة على أخذها) [7] .
4- مبدأ: الحرب العادلة:
هذا المبدأ نشأ عن مفهوم إشباع حاجات الشعوب الأخرى من خلال جذبها إلى
طريقة الحياة الأمريكية بقوة السلاح؛ فوفقاً لنظرية الرسالة الأمريكية يتم القيام بهذه
الأفعال لا لأي غرض آخر سوى تحرير هذه الشعوب. لذلك فأي حرب على وجه
الإطلاق تخوضها الولايات المتحدة هي من وجهة النظر الأمريكية حرب تحرير؛
ولذلك فهي حرب عادلة. يقول البروفيسور (روبرت تكر) من جامعة جون هوبكنز: (يمكن اعتبار أي استعمال للعنف وأي وحشية حرباً عادلة) .
5- مبدأ (مونرو) :
في عام 1823م في رسالة الرئيس مونرو إلى الكونجرس قال: (إنه من الآن
فصاعداً فإن بلاد القارة الأمريكية لا يمكن اعتبارها موضوعاً للاستعمار من جانب
أي دولة أوروبية، ومن حقنا ألا ننظر إلى أي تدخل يستهدف إخضاعها أو التحكم
بأي طريقة أخرى في مصيرها من جانب أي دولة أوروبية إلا في ضوء أنه
انعكاس لنوايا غير ودية تجاه الولايات المتحدة) [8] .
كان هذا المبدأ أول بداية حقيقية عملية لتدخل أمريكا في العالم، وإن اقتصر
على قارتي أمريكا أو نصف الكرة الغربي فإنه طبق المبادئ السابقة باعتبارها نتيجة
لها، وأظهر السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة عندما تنظر إلى أي جزء من
العالم وكأنها منطقة نفوذ لها.
6- خطاب (مسيرة الراية) :
في 16 سبتمبر 1898م أُلقي خطاب ممتلئ بالحماسة في مدينة (أنديانا
بوليس) دفاعاً عن السياسة الجديدة للولايات المتحدة، وقد عرف هذا الخطاب في
التاريخ الأمريكي باسم: (مسيرة الراية) وكان مُعد هذا الخطاب هو (ألبرت بفريدج)
الذي كان مرشحاً لمجلس الشيوخ في انتخابات ذلك العام؛ وكان يعتمد على تأييد
الدوائر الصناعية والمالية ذات النفوذ وقد أعلن (أن مسألة التوسع الاقتصادي أكبر
من أن تكون مسألة حزبية؛ إنها مسألة أمريكية: هل سيواصل الشعب الأمريكي
زحفه نحو السيادة التجارية على العالم؟ هل سنحتل أسواقاً جديدة لما ينتجه
مزارعونا وما تصنعه مصانعنا وما يبيعه تجارنا؟ إننا اليوم ننتج أكثر مما نستطيع
استهلاكه، ونصنع أكثر مما نستطيع استعماله؛ لذلك يجب أن نجد أسواقاً جديدة
لمنتجاتنا) [9] .
لقد كان مستقبل السياسة الاقتصادية الأمريكية حيوياً بالنسبة إلى دائرة رجال
الأعمال، وفي الشهر نفسه في ذلك العام ظهر في المجلة الأمريكية الشمالية مقال
بقلم (تشارلس كونانت) في مجلة نيويورك للتجارة عنوانه: (الأساس الاقتصادي)
جاء فيه: (إن الميل الذي لا تمكن مقاومته إلى التوسع الذي يؤدي بالشجرة النامية
إلى أن تفجر أي حاجز، هو الميل الذي ساق القوط والوندال والساكسون في
موجات متعاقبة لا يمكن مقاومتها للتغلب على أقاليم روما المتدهورة. هذا الميل
يبدو الآن فعالاً مرة ثانية؛ ولذلك فلا بد من منافذ جديدة لرأس المال الأمريكي،
ولفرص جديدة للمشروع الأمريكي. إن قانون المحافظة على النفس وكذلك قانون
البقاء للأصلح يدفعان شعبنا في طريق هو بلا جدال تحوّل عن سياسة الماضي،
ولكنه طريق لا يحيد عن أن ترسم حدوده شروط الحاضر ومتطلباته) [10] .
وكانت هذه هي طريقة التفكير في الولايات المتحدة الكامنة خلف المنافسة على
فتح البلاد التي لاحظها إنجلز عام 1884م بوصفها سمة مميزة مهمة للسياسات
الخارجية للدول الكبرى.
7- استنتاج روزفلت:
في عام 1904م أثرى تيودور روزفلت نظرية العلاقة بين الدول الأمريكية
بتفسيره الخاص لمذهب مونرو، وقد عرف هذا التفسير في التاريخ باسم: -
(استنتاج روزفلت) أعلن فيه: (إن تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية
لأمريكا اللاتينية سيعتبر أمراً مسوغاً قانونياً إذا وجدت هذه البلاد نفسها عاجزة عن
القيام بحل مشكلاتها الداخلية، أو إذا قامت من جانبها بأفعال قد تؤدي إلى تدخل
الدول الأوروبية في شؤون بلدان في القارة الأمريكية، وأن أي بلد يحسن شعبه
السلوك يستطيع أن يعتمد على صداقتنا المخلصة القوية، فإذا أظهرت إحدى الأمم
أنها تعرف كيف تسلك بكفاءة ولياقة معقولتين في المسائل الاجتماعية والسياسية،
وإذا حافظت على النظام وأدت التزاماتها فهي ليست بحاجة إلى أن تخشى تدخلاً من
الولايات المتحدة. أما ارتكاب الأخطاء على نحو متكرر أو حدوث عجز ينجم عنه
تحلل لروابط المجتمع المتحضر فقد يتطلب في أمريكا كما يتطلب في أي مكان آخر
تدخلاً في النهاية تقوم به أمة متحضرة، كما يتطلب في نصف الكرة الغربي تمسك
الولايات المتحدة مهما يكن ذلك على كره منها بأن تلعب دور قوة شرطة عالمية في
الحالات الصارخة من ارتكاب الخطأ أو العجز) [11] .
هذا الاستنتاج الخطير يؤكد أن الولايات المتحدة هي الوحيدة التي لها الحق
المطلق في تحديد شرعية أية أفعال معينة تصدر عن بلاد تكون الولايات المتحدة لها
مصلحة فيها! !
لقد كتب تيودور روزفلت في الثلاثين من عمره مؤلفاً تاريخياً عنوانه: (الفوز
بالغرب) بسط فيه آراءه (عن الحاجة إلى أن تغزو الشعوب الأكثر تحضراً وتقدماً
الشعوب البدائية، وأن أخلاقاً منحرفة غبية هي وحدها التي تدين سيطرة الأمريكيين
على الغرب) [12] .
وفي يونيو 1897م حينما كان ما يزال مساعداً لوزير الأسطول تكلم أمام
المتخرجين من الكلية البحرية مدافعاً عن سياسة خارجية عدوانية قائلاً: (إن أخطر
مزاج نفسي على الأمة هو مزاج مسرف في النزعة السلمية لا المزاج المولع
بالحرب، إن جميع الأجناس السائدة كانت أجناساً محاربة) [12] .
ولقد شرح روزفلت سياسة إدارته في الحكم قائلاً: (لا نستطيع أن نجلس
قابعين داخل نطاق حدودنا ونصرح بأننا جماعة من الباعة الجائلين الميسورين لا
يأبهون بأي شيء يحدث وراء هذه الحدود. يجب علينا أن نصمد في الصراع من
أجل السيادة البحرية والتجارية، ويجب أن نبني صرح قوتنا خارج حدودنا ...
ويجب أن نستولي على أفضل المواقع التي ستمكننا من أن يكون لنا القول الفصل
في تقرير مصير محيطات الشرق والغرب) [13] .
هذه هي المبادئ التي تحكمت في فكرة النخبة السياسية الأمريكية ولا زالت
تتحكم فيها وإن تغيرت الاستراتيجيات وتبدلت الخطط؛ فالمراقب لجميع تدخلات
أمريكا العسكرية في العالم يلاحظ أثر هذه الأفكار وما تحمله من غرور وعنجهية
واستعلاء على الأمم الأخرى، وفي الوقت نفسه القدرة على المناورة، وتحيّن
الفرصة المناسبة، والوقوف عند المصلحة البعيدة المدى، ويفسر لنا ذلك كثيراً من
المواقف التي تقفها أمريكا الآن في خضم الصراع في المنطقة.
__________
(1) الحرب والسلطة الرئاسية تأليف: تافت إيجلتون، ص54.
(2) مجلة الدستور الجديد، نيويورك سنة 1945، العدد 35 ص 231.
(3) مجلة الفكر العسكري الأمريكي، إنديانا بوليس، سنة 1966، ص 129.
(4) كتابات جورج واشنطن، (ج26/ص374) .
(5) كتابات جورج واشنطن، (ج26/ص374) .
(6) كتاب (سياسة خارجية جديدة للولايات المتحدة) ج3/234.
(7) مقال: إيديولوجية التوسع الأمريكي، مجلة شيكاغو سنة 1935 ص3.
(8) كتاب (تاريخ تسجيلي للولايات المتحدة) ص 89 90.
(9) الكتاب الأول لتعليم أمريكي ص 645: 648.
(10) كتاب (الأعمال المختارة) ج2/320.
(11) الوثائق الأساسية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية ص 72.
(12) التقليد السياسي الأمريكي والناس الذين صنعوه ص209.
(13) روزفلت الكاريبي ص1.(130/84)
مرصد الأحداث
لماذ االمرصد..؟
في هذه الزاوية، تنقل (البيان) للقارئ، أخبار ما أهملته الأخبار، من
الأقوال والأحداث والمواقف.. ننقلها كما هي تقريباً من مصادرها دون تصرف إلا
في وضع العنوان الذي يعبر عن دلالة الخبر ...
... ... -البيان-
في الفلبين معارك عسكرية وسياسية أيضاً
بين لحظة وأخرى تتجدد المعارك بين جنود الإيمان وجنود الكفر في منطقة
مورو، وبينما كانت الإدارة الفلبينية الجديدة تعلن وتؤكد قرارها لمواصلة
المفاوضات بينها وبين جبهة تحرير مورو الإسلامية تقوم قواتها المسلحة بهجوم
مكثف على مواقع المجاهدين في حدود المناطق المحررة، وأثناء هذه العمليات
العسكرية الوحشية بعث رئيس الفلبين الجديد أحد وزرائه وأمين سره الذي يقال إنه
أقرب رفاقه في الحكم إليه إلى قاعدة أبي بكر الصديق أكبر قواعد جبهة مورو
الإسلامية لتسليم رسالته يداً بيد إلى أمير المجاهدين ورئيس جبهة تحرير مورو
الإسلامية الشيخ سلامات هاشم. وأهم ما ورد في الرسالة تفاؤل الرئيس الجديد
بإمكانية إيجاد جسر تواصل بين الشعبين (الفلبيني والمورو المسلم) الذي يمهد
الطريق لحياة أفضل للجميع.
... ... ... [بيان لجنة الإعلام الخارجي لجبهة مورو الإسلامية]
متدينون في أحضان الجيش! !
كشفت مصادر إسرائيلية أن جمعية استيطانية يهودية أنشأت كليات تدريب
عسكرية لأتباعها من الشباب اليهودي المتدينين، وقال مدير كبرى هذه الكليات
(أفرايم أورين) إن وزارة الدفاع الإسرائيلية تقدم الدعم المالي لهذه الكليات من خلال
الوحدة القتالية الشبابية الخاصة في الجيش، وأوضح أن الكليات تضم ما يزيد عن
700 تلميذ بعضهم وصل إلى مستوى عالٍ من التدريب القتالي وأضاف: (إن
الجيش يحبنا كثيراً) . ...
... [جريدة الحياة، العدد: (12926) ]
... ... ... ... الباطن والظاهر
استوردت الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة كميات متزايدة من النفط
العراقي، وكان العراق في (إبريل) الماضي أحد أكبر عشرة موردين للنفط الأجنبي
إلى الولايات المتحدة، وذكر محللون أنه ليس من الواضح ما إذا كان العراق يحاول
عامداً زيادة صادراته النفطية إلى الولايات المتحدة لغاية سياسية أم أن الأمر يرجع
إلى عوامل السوق وحدها؟ غير أنه لوحظ أن العراق خفض بدرجة كبيرة أسعار
نفطه للمشترين الأمريكيين على مدى العام الماضي.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، العدد: (1290) ]
صوت شجاع من تونس
أعتقد أن علينا أن لا نقبل الرضوخ لأي قوى عالمية تدعي الزعامة الدولية
وتحاول فرض إرادتها على الآخرين، وعلينا أن نعمل معاً على التعامل بندّية،
وأن نفرض احترامنا على جميع القوى الكبرى. ولا بد لنا أن نتذكر أننا نملك
70 % من احتياطي الطاقة في العالم، ونملك موقعاً متميزاً وإمكانات هائلة؛ لكن هذا لا يجب أن يخفي عنا سلبياتنا ووجود ضعاف ومغامرين في صفوفنا.. وبالمناسبة أنا أدعو إلى عدم استعمال تعابير (أصوليين) و (إرهابيين) لأنها ترجمة خاطئة
ومشوهة وغريبة عن فكرنا العربي.
[محمد المصمودي وزيرخارجية تونس الأسبق، الخليج، العدد: 7018) ]
بدون عنوان
دعا تسعون عضواً في الكونجرس الأمريكي الرئيس كلينتون إلى اتخاذ جميع
التدابير المناسبة من أجل ترسيخ علاقات التعاون بين الولايات المتحدة والمغرب،
وجاء في الرسالة التي وجهت لذلك: في عام 1777م كان المغرب أول من اعترف
بالولايات المتحدة كدولة مستقلة، وما زال يروج لمصالحنا الأمنية والاقتصادية،
ولعب المغرب دوراً مهماً في تشجيع إقامة السلام بين إسرائيل والدول العربية، كما
تمثل المملكة المغربية حاجزاً أمام التطرف الذي تشهده المنطقة.
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7188) ]
تكسير أسنان سياسي
قالت طالبان إنها ستسحق إيران إذا نفذت تهديداتها باللجوء لعمل عسكري
لتحرير مواطنيها الذين تحتجزهم. وقال الملا محمد حسن في مؤتمر صحفي بكابول: إذا أرادت إيران اللجوء لعمل عسكري فإن الأفغان سيحطمون أسنان طهران في
فمها وأضاف: إننا نحذر إيران ألا تقوم بإشعال فتيل الحرب وإذا فعلت فإنها
ستحترق بنيرانيها. ... ... ...
[الرياض، عدد: (11014) ]
أربعة.. صابرون
أفادت صحيفة محلية تصدر في مدينة حيفا أن أربعة شبان من المناطق
المحتلة ضربوا عشرة جنود (إسرائيليين) ضرباً مبرحاً، مضيفة أن الشرطة
(الإسرائيلية) سعت إلى عدم نشر أي معلومات عن القضية باعتبارها (عاراً قومياً) !
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (12933) ]
مجموعة الاستئصال!
أشار مصدر فرنسي مختص في شؤون البلقان في باريس أن (مجموعة
الاتصال) الغربية حول (يوغوسلافيا السابقة) أعطت الرئيس اليوغسلافي الضوء
الأخضر لتحطيم البنية الأساسية لجيش تحرير كوسوفا، وتضم (مجموعة الاتصال)
كلاً من الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وأضاف
المصدر أن السيناريو الحالي الذي يعني إضعاف الجيش يسير وفقاً للتصور
الأمريكي للحل في الإقليم.
[جريدة الاتحاد الإماراتية، العدد: (8461) ]
أمريكا في نظر مفكر قبطي
فكرة هيمنة (المسيحية) على العالم والشعار الذي يستخدم الآن يدور حول
ضرورة أن يكون العالم (مسيحياً) ولكن المسيحية في العالم لا تقودها أوروبا الآن
لأنها خرجت من (المسيحية) .. وأصبحت أمريكا ترى نفسها أنها (المبشر) بـ
(المسيحية) في العالم وتود أن يكون لها الريادة في هذا الشأن وهذا التيار يعادي
الإسلام ويعتبره العدو الأول بعد سقوط العدو الأول (الشيوعية) .
... ... [من لقاء مع د. رفيق حبيب. الأنباء، العدد: (7992) ]
الكيل بمكيالين
منطقان متقاربان يقدمان نموذجاً فجاً عن كيفية تعاطي أمريكا مع نفسها ومع
العالم خصوصاً العالم الثالث ففي فضيحة (مونيكا يت) التي لم تنته فصولها بعد
عمدت أمريكا إلى التعاطي معها كدولة حضارية ديمقراطية فشكلت لجاناً للتحقيق
حتى في أدق التفاصيل، وفي الجانب الآخر من القضية الذي قدمته أمريكا وجرت
فصوله بالغارات على السودان وأفغانستان كان مناقضاً للدرس الداخلي؛ إذ ظهرت
أمريكا دولة متغطرسة لا تعير القانون الدولي أدنى اهتمام، وتستند في أقوالها
وأفعالها على القوى السافرة التي تملكها في أحكامها وحساباتها الخاصة ...
... ... ... ... ... ... ... [الخليج، العدد: (7033) ]
والإسلام خير.. لو كانوا يفقهون
طالب عدد من النساء اللاتي ينتمين إلى طوائف الروم والسريان والكاثوليك
والبروتستانت في مصر بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية والتي تعطي الحق للمرأة
في حضانة أطفالها الذكور إلى سن العاشرة والبنات إلى الثانية عشرة مع حق الطفل
في إقامة دعوى خصومة يطلب فيها استمرار حضانته مع أمه حتى سن الخامسة
عشرة والبنت حتى تتزوج.
... [روز اليوسف، العدد: (3659) ]
... ... كوفي.. مع الكوفة أو ضدها..؟ !
العراق كان حتى الأزمة الأخيرة يتعاون بشكل جيد مع فريق الأمم المتحدة
المكلف بالتأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، خاصة البيولوجية
والكيماوية ولكن الأزمة الجديدة التي جعلت الولايات المتحدة تجدد تهديداتها بعمل
عسكري لا تتعلق بدخول مواقع وإنما بالحصول على وثائق وأشياء أخرى من
العراق.
[كوفي أنان، معلقاً على الأزمة الأخيرة بين العراق وأمريكا،الخليج، العدد: (7023) ]
يخربون بيوتهم بأيديهم
قالت مجلة (برايفت آي) البريطانية إن مسؤولاً كبيراً في الاستخبارات
البريطانية (إم آي هـ) كتب مذكرة بعد الهجوم على السفارة الإسرائيلية في يوليو
1994م قال فيها إنه يعتقد أن الإسرائيليين أنفسهم قاموا بالتفجير بهدف إحراج
الحكومة البريطانية ودفعها إلى تقوية إجراءات حماية المباني والشخصيات
الإسرائيلية في لندن، وكانت هناك شكوك منذ البداية عن تورط إسرائيل لكن
المراقبين اعتبروا أن الدافع هو إلقاء المسؤولية على الإرهاب الفلسطيني وليس
مجرد الحصول على إجراءات حماية أفضل.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، العدد: (12938) ](130/92)
قضايا ثقافية
تقويم العلوم الاجتماعية المعاصرة
والأسلوب الإسلامي البديل
(2/2)
د. محمد منظور عالم
في الحلقة الأولى تحدث الكاتب عن أن العالم في مفترق طرق؛ حيث يمكن
أن تسيطر الفوضى وتنفصم عرى الأخوة ولا يسود العدل المجتمع، وبيّن أن عبء
التحديات والمسؤوليات يقع على كاهل العلماء الاجتماعيين عموماً والمسلمين منهم
على وجه أخص. وقد أوجز القسم الأول بقوله: إن الانفجار السكاني مع التطور
السريع في التقنية في مجال الاتصالات والمؤسسات المالية والمستوى الراقي للتقنية
في مجال الزراعة من خلال التقنية الحيوية واستخدام الآلات سوف يتسبب في
مشكلة خطيرة لبقاء الجنس البشري، وواجبنا أن نتناول هذه القضايا بالمناقشة
والبحث حتى نجد لها الحلول.
إن الإسلام هو دين السلام والتقدم والرخاء، إنه دين ومرشد للناس جميعاً؛
وله أسلوبه المتميز في البحث عن الحقيقة.
فالحق في المبادئ العامة للإسلام هو الحكم بين الناس، ولا مجال في الإسلام
للحواجز الاصطناعية في الفصل، إنه يدمج بين الناس، ولذا فإن الإنسان في
النموذج الجديد هو تركيبة من: الوجوه المادية الملموسة التجريبية (الجسم) والوجوه
الروحية غير التجريبية (الروح) . والسلوك البشري هو نتيجة تفاعل ديناميكي بين
هذه القوى، وبذلك لا يمكن اعتبار الإنسان أحد تروس عجلة التنمية أو التقليل من
شأنه ليصبح واحداً من هذه المكونات فقط.
إن النموذج الجديد يحدد دوراً ديناميكياً ليلعبه في خدمة الإنسانية؛ وذلك
بتفعيل العوامل الروحية في تحديد السلوك البشري. إذن: يمكن أن نخلص إلى أنه
بالنموذج الجديد، أو في الإسلام، ليس هناك (علم) في السلوك البشري يستبعد
الوجوه الروحية للبشر، إن علاقة البشر بالخالق هي أقوى وأهم مؤثر في حياة
الإنسان. كيف يستطيع علماء الاجتماع تحقيق نظرة فاحصة إلى صنع الإنسان
(غير المرئي) وإلى ديناميكيات التفاعلات بين مكونات (غير المرئيات) إلا من
خلال الوحي الإلهي [القرآن والحديث الثابت، إبراهيم رجب 1993، ص 488] ،
بيد أن السؤال الأهم هو: كيف لنا أن ندرس الوجه غير التجريبي لوجودنا؟ من
الواضح أن الظواهر الروحية تعلو على التجارب الحسية وهي فوق المكان والزمان، فالسبب وحده لا يستطيع أن يدرك كنهه؛ لذا علينا أن ندخل الوحي في نظرية
المعرفة وكذلك في طريقتنا وأسلوبنا، ويمكن أن يتم ذلك ببناء نظرية بواسطة دمج
طريقة النموذج التقليدي المعروف والنموذج الجديد.
يقول (تيرنر) (1978م) : (إن هدف العلوم هو تطوير النظرية) (ص24) كما
أن (دوز) يذكر أن (النظرية هي المفتاح الأخير للنشاط العلمي والرفض النهائي إذا
ظهرت نظرية أفضل) [1984م، ص 468] . ودون الدخول في تفاصيل الكثير
مما كُتِبَ حول موضوع بناء النظرية والمصادر المتعددة للمعرفة التي تنمي الإدراك
يكفينا أن نورد ما قاله (ويلبر) (1990م) :
(إن الصراع بين العلم والدين هو وقد كان دوماً صراع بين المظهر العلمي
الزائف للدين والمظهر الديني الزائف للعلم، وإذا ظل العلم علماً والدين ديناً فليس
هناك احتمال للصراع، أو أن أي صراع قد يحدث يمكن أن يظهر ليقلل من خطأ
الفئة) (ص 35) . إذن فإن الاستراتيجية الأساسية لدمج الإدراك الديني في تطوير
نظريات العلوم الاجتماعية دون فقدان صلاحيتها الخارجية، سوف يتضمن ما يلي:
[رجب، الصفحات 490 -491] :
1- إطارات نظرية للطبيعة البشرية، وموقع الإنسانية من الكون،
والترتيبات الاجتماعية، وأسباب المشكلات الفردية والاجتماعية. ويستنبط ذلك من
الدين أي القرآن والحديث المثبت مع تفسير ذوي الشأن.
2- سوف تتولد الافتراضات من هذه الإطارات النظرية لاختيارها على
الواقع الكلي الذي يشتمل على العالم التجريبي والوجوه غير التجريبية.
3- إذا أثبتت الافتراضات المستنبطة من الإطارات النظرية التي تولدت من
المصادر الدينية فإن هذا يعني:
أ- نجاحنا في إحداث حقائق صالحة.
ب- ثقتنا في الإطار النظري الذي يستنبط من المصادر الدينية سوف تتزايد.
4- إذا رفضت الافتراضات فإن هذا يعني:
أ- أن طرقنا البحثية وإجراءاتنا ليست على المستوى المطلوب.
ب- أن فهمنا أو تفسيرنا للوحي غير صحيح ويحتاج إلى إعادة صياغة.
5- نحن لا نتوقع حدوث تعارض بين القرآن والحديث المثبت، أو بين هذا
التفسير من جهة والحقائق الثابتة من جهة أخرى؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو
مصدر الوحي وهو خالق الكون.
وتعتمد الاستراتيجية المقترحة على الافتراضات التالية:
1- إذا كان تفسيرنا للقرآن وفهمنا للحديث المثبت صحيحاً فيمكننا عمل إطار
نظري يلبي احتياجات الاختبار الدقيق والقوي في (الواقع الكلي) .
2- استنباط مثل هذا الإطار النظري من المصادر القرآنية والحديث يضمن
إدراكاً قيماً بدرجة عالية من الثقة والتأكد عند مقارنتها بمجرد الحدس والتخمين؛
إضافة إلى أن فيها نوعاً من الاقتصاد إذا وضعنا في اعتبارنا الجهود التي تبذل في
البحث.
3- إذا لم تصمد الافتراضات المستنبطة من هذه الإطارات أمام البحث في
(الواقع الكلي) فمن الحكمة تكرار فحص إجراءاتنا البحثية قبل القفز إلى نتائج
الإطار النظري. ويعرف العاملون في مجال الأبحاث ذلك الكم الهائل من وجوه
النقد التي يمكن أن توجّه إلى إجرءاتنا البحثية.
إن اختبار الافتراضات التي تستنبط من هذه الإطارات النظرية يملي علينا
ابتكار أساليب وتقنيات قادرة على لمس (الواقع الكلي) . ويخبرنا (سيبورين)
(1985م، 212) حول الرغبة في الحصول على طرق أفضل لفهم الموضوعية
ووعي الفرد، وكذلك كيفية الوصل بين الأشخاص في كامل إنسانيتهم بما في ذلك
الأبعاد الأخلاقية والدينية.
وقبل الختام يجدر أن نخصص بعض الصفحات لبعض القضايا المهمة التي
يمكن أن تُسمى تحديات تواجه علماء الاجتماع المسلمين:
1- نحن جميعاً نعلم أن حجر الزاوية في صرح الإيمان (الإسلامي) هو
القناعة بأن الإسلام هو آخر الديانات ويصلح لحياة البشرية في جميع الظروف،
غير أن عقول المسلمين عموماً والمسلمين في (الهند) بخاصة أخفقوا في تشكيل
نموذج بديل لبيئة اجتماعية ثقافية مختلفة بالكامل وظروف مختلفة إذا ما قورنت
بالنموذج الكلاسيكي.
2- ويشير القرآن بوضوح تام إلى أن هناك صلة مباشرة بين الإنكار والذنب
والجهل، ورغم ذلك ساد ولفترة طويلة من الزمن إهمال لأهم جزء من القوة
الديناميكية للإسلام ألا وهي المعرفة؛ إذ تراجعت حتى وصلت مرحلة فرض الكفاية، ونتيجة لذلك يُصنّف مجتمع المسلمين بأنه أكثر المجتمعات تخلفاً في التعليم وفي
معرفة القراءة والكتابة، وينطبق هذا على النوعين من التعليم الديني والدنيوي
[عابدين، 1993م، ص 230] .
3- ولا شك في أن الإسلام هو طريقة منزلة من السماء للحياة، ورسالته هي
لجميع الجنس البشري، ويمتلك حلولاً لجميع مشكلات البشر، وهذه الرسالة في
ذاتها تدعو إلى الارتقاء بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي للظروف المعاصرة،
والنظر في الوجوه التاريخية للماضي. ويعني ذلك أنه ينبغي على المسلمين عموماً
وعلماء الاجتماع منهم بخاصة الارتقاء إلى مستوى التحدي، والقيام بدراسة مبادئ
السلوك وقواعده خاصة في البيئة التعددية.
4- في الطريقة الإسلامية لا تكون الدعوة كالوصايا العشر، فهي في جوهرها
وظيفة إنسانية يؤديها الإنسان وسط البشر [عابدين، 1993م، ص 233] ، ولكن
للأسف فمن الناحية الأخلاقية والروحية وليس فقط من الناحية الاجتماعية والسياسية
فإن المسلمين لا يمثلون قدوة يحتذيها بقية البشر، وفي هذه الناحية فإن للأقليات
الإسلامية دوراً أكبر لتقوم به ومسؤولية تتحملها وأن تواجه التحديات؛ فهم يتعاملون
أكثر مع غير المسلمين، ويتصلون بهم؛ حيث إنهم يعيشون معهم جنباً إلى جنب،
وعلى علماء الاجتماع المسلمين أن يقتربوا أكثر ليباشروا هذا الدور حتى يُخرِجوا
الجنس البشري من جميع أنواع الاستعباد والإهانة إلى مستوى العزّة والكرامة.
5- وهناك قضايا كثيرة مثل تعليم المرأة ووضعها الشرعي ومشاركتها في
الحياة الاجتماعية هذا من جهة، والتفاهم المشترك بعد التمدين بين الأمم وغير ذلك، مما يستحق عنايتنا حتى نعطي الإرشاد والتوجيه.
إذاً: فإن الحاجة إلى عالم الاجتماع المسلم ينبغي أن تزداد قوة ويجب إدراكها، وعليهم أن يعيدوا النظر في قوانينهم وأساليبهم من خلال الاستفادة من الوحي
الإلهي.
أضف إلى ذلك أن علماء الاجتماع المسلمين بحاجة لأن يرتقوا بعلمهم وفهمهم
لما يسمى بالعلوم الدينية، وأن يزيلوا الحواجز الاصطناعية التي ناقشناها سابقاً.
وفي الختام نرجو أن نعلن بوضوح تام أن هدف علماء الاجتماع المسلمين بعد
إبراز النموذج الجديد هو:
أ - خدمة الإنسانية: إنها مسؤوليتنا وواجبنا نحن علماء الاجتماع أن نضع
تصورات للسبل والوسائل، وأن نقوم بوضع تصاميم لدراساتنا وأبحاثنا حتى
تساعدنا على إزالة الفوارق في جميع الوجوه الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير مناخ
من المساواة والأخوة التي تسمى الينابيع الرئيسة للتوحيد أو الإسلام.
ب - تأسيس العدالة في جميع مناحي الحياة، وهنا أيضاً يتعاظم دور علماء
الاجتماع بوصفهم سفراء للإسلام وخبراء في ما نعاصر من مجالات للدراسة.
وأخيراً وليس آخراً ...
ج - توفير الاستقرار في المجتمع؛ لأن عدم الاستقرار يقود إلى الصراعات
والفوضى والكراهية، وهو ينحرف بالقدرات الإيجابية ويجعل من الجنس البشري
حيوانياً غير إنساني وعدوانياً. وعلى عالم الاجتماع المسلم أن يقوم بدور متميز في
تغيير الحال وفي تأسيس الاستقرار في المجتمع.
ويقول الحق تبارك وتعالى: [فَإمَّا يَاًتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا
يَضِلُّ ولا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى] [طه: 123، 124] .
إذا كان الدين ديناً حقاً والعلم حقائق صادقة فلا مجال للصراع بينهما أهمية
الاستقرار في المجتمعات أن نقيضها يقود للفوضى والكراهية والصراعات على
الحقيقة، وينعكس هذا التغيير على التحليل الذي يوضح العلم كشكل ثقافي محسوس
وقيمة ناقل.(130/96)
دراسات إعلامية
الاتصال ودوره في النمو الثقافي
(1/2)
أحمد حسن محمد
تعتبر قضية الاتصال محوراً أساسياً تدور حوله علل كثير من مظاهر الحياة
الإنسانية؛ فإن الله سبحانه يوم خلق آدم عليه السلام إنما كان ذلك لحكمة ربانية
ولرسالة سامية تقام على أرض الله سبحانه ومنها إقامة حق الله بإحياء سننه،
وعمارة الدنيا بعبادته سبحانه ومن ثم يقام المجتمع القادر على استخدام مخلوقات الله
في الكون كله عن وعي وإدراك سليم بما يحقق المنافع ويدرأ المفاسد، وصدق الله
العظيم: [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي
قَرِيبٌ مُّجِيبٌ] [هود: 61] .
وما كان لمثل هذه المهمة أن تتحقق دون تلاحم الناس وتعارفهم واتفاقهم، أي
اتصال بعضهم ببعض بما تحمل هذه الفطرة، فطرة الاتصال: من مواقف اتفاق
ومواقف اختلاف، مواقف تعاون ومواقف منافسة ...
بل إن قيم الإنسانية ومثلها العليا ونشأة الآمال والتطلعات وكافة الرغبات
البشرية تنبع من هذا التلاحم، وتتبادل الأخذ والعطاء، فتقام الحضارات، وتنشأ
الثقافات سواء في المجال المادي والإنشائي، أو المجال الفكري والثقافي.
وعلى ذلك فإن الاتصال البشري كان وما زال وسيلة أساسية ودافعاً لاستمرار
الحياة ودفع النشاط الاجتماعي وإحداث التغييرات الثقافية والاجتماعية. بل يدفع
النشاط الاجتماعي والتعبير عن الحضارة؛ حيث ينتقل بالأفراد والشعوب من
التعبير الغريزي إلى الإلهام بما ينشئ اتفاقاً عامّاً بين الأفكار، ويؤكد الشعور بأن
الناس يعيشون مع بعضهم البعض من خلال تبادل الرسائل وترجمة الفكر إلى عمل، تعبيراً عن العواطف والحاجات ابتداء من أبسط المهام التي تكفل بناء الإنسان
حتى أسمى مظاهر الإبداع أو أشد مظاهر التدبير) [1] .
الأقمار الصناعية وأهميتها الاتصالية:
نظراً لأهمية الوظيفة التي تقوم بها هذه الأقمار الصناعية يجدر بنا الإشارة
إلى هذه الأهمية وما تقوم به من دور فعال في العملية الاتصالية [2] ؛ إذ نشأت
فكرة هذه الأقمار خلال عام 1945م لتحقيق الاتصال عبر الفضاء، وساعدت على
ذلك الحرب الباردة التي تسببت في انتشار الصواريخ العابرة للقارات، ولم يتم
استخدام الأقمار الصناعية في مجال الاتصال إلا في عام 1958م بإطلاق الصاروخ
أطلس ثم القمر الصناعي إكو (1) Echo (1) 1960م. وتوالت أنواع جديدة من
الأقمار زودت بأجهزة استقبال وتسجيل لإعادة البث حتى استطاعت هذه الأقمار نقل
المكالمات الهاتفية، وبرامج التلفاز والفاكس، والمعلومات العلمية والصور، بعد
إدخال العديد من التقنيات المتطورة إليها فاستخدمت في نقل الأحداث والأنشطة
المختلفة.
حتى ظهر ما يسمى بالقمر التجاري عام 1965م الذي عرف باسم (طائر
الصباح) وبواسطته أمكن لأوروبا أن ترى وتسمع بابا الكنيسة الكاثوليكية بولس
السادس وهو يلقي خطابه في الأمم المتحدة في سبتمبر 1965م.
وفي أغسطس عام 1964م وقّعت 47 دولة مواثيق لإرساء نظام عالمي
للاتصال عبر الفضاء؛ حتى كان عام 1974م حيث تم توقيع ميثاق الأقمار
الصناعية الذي وافقت فيه الدول السبع والأربعون على طبيعة هذه الأقمار التجارية.
ومن الطريف أن هذه الأقمار كان لها دور في بعض المواقف الاجتماعية؛
حيث تم التعرف على مجرم خطير بعدما وجه التلفاز الكندي أوصافه عن طريق
(قمر الصباح) بل استخدمت في المزاد العلني الذي أجري عام 1975 واستطاع أحد
الأفراد أن يشتري صورة المستر ونستون تشرشل المعروضة في صالة عرض
بلندن عن طريق الدائرة المغلقة بينما هو لم يبارح مكانه في نيوريوك.
كما تمكن أطباء في جنيف من متابعة إحدى عمليات القلب الدقيقة التي أجريت
في هيوستون بولاية تكساس الأمريكية. هذا عدا نقل العديد من المؤتمرات العلمية
والدورات الرياضية والأنشطة المختلفة.
الأقمار الصناعية والاتصال الدولي:
مع تطور تقنيات الاتصال كما سبق الإشارة إليه أصبحت دول العالم تتنافس
في الحصول على شبكات ونظم اتصال متقدمة، وظهرت النظم الإقليمية مثل شبكة
تلفزيون أوروبا الغربية، وشبكة أوروبا الشرقية، ودول الشمال وآسيا وأفريقيا،
ثم الشبكة العربية حتى أمكن الوصول إلى صورة للاتصال العالمي المنظم فظهرت
الشبكة العالمية لتحقيق بث مباشر على المستوى العالمي لبرامج تشترك فيها خدمات
كثيرة، ونجحت أول محاولة من هذا النوع يوم 27 أغسطس 1950م؛ حيث أمكن
بث العديد من البرامج الرياضية والأحداث العالمية.. ومن أبرز البرامج التي تم
إنتاجها عالمياً آنذاك برنامج عالمنا Our Warled الذي تم بثه على مستوى الكرة
الأرضية وذلك يوم 25 يونيو 1967م.
والذي يهمنا هنا مضمون هذا البرنامج لما له من أثر ثقافي تنموي؛ حيث
تبادل عرضاً لأطفال حديثي الولادة في اليابان وكندا والدانمارك والمكسيك لمدة
ساعتين تقريباً تضمن مشاهد لعلماء داخل معاملهم بحثاً عن الطعام اللازم وتوفير
السكن في عدد من بلدان العالم؛ ولقاءات القمة من أجل الموقف العالمي. وكان هذا
البرنامج يهدف إلى معرفة ما إذا كان بالإمكان مساعدة كل فرد في العالم أن يتعرف
على جاره وأن يفهمه بصورة أفضل لتحقيق أخوة المجتمع، عارضاً لمشاكل العالم
الرئيسة من حيث كثافة السكان، ومشكلة الجوع، والإسكان، وتوقعات الحضارة
في مستقبل العالم.
وبعد أربع سنوات أي حوالي عام 1971م تم بث برنامج أطفال العالم Les
enfants du wardl وكان معلق البرنامج يدير الحوار من مقر الأمم المتحدة في
نيويورك ومعه أطفال يمثلون العالم، واستطاعت حوالي 45 دولة في العالم متابعة
هذا البرنامج من خلال 22 محطة أرضية وأربعة أقمار صناعية، وقد استغرق
إعداد هذا البرنامج حوالي ستة شهور [3] . ومما هو جدير بالذكر أنه على الرغم
من هذا الإنجاز التقني المهم فإن بعض الصعوبات تعترض العملية الاتصالية من
خلال هذه النظم نذكر منها بإيجاز:
1- مشكلة الاختلاف في التوقيت بما يجعل عدد الساعات التي يمكن أن ينجح
فيها بث برنامج عالمي عدداً محدوداً؛ حيث لا توجد وحدة عالمية للتوقيت؛ بمعنى
أن العالم يستحيل أن يكون جميعاً في وقت الصباح مثلاً أو المساء، وعليه فإن ما
تبثه اتصالات أوروبا مساء لا يراه مشاهد أمريكا إلا ظهر اليوم التالي، بينما يراه
مشاهد شرق آسيا صباح اليوم الثالث وهكذا.
2- مشكلة اللغة؛ إذ يؤثر عامل اللغة في نوعية البرامج ومدى صلاحيتها
للبث المباشر.
3- اختلاف الأنظمة المستخدمة في البث والاستقبال وإن كانت المحاولات
الآن تبذل نحو التغلب على مثل هذه المشكلة.
إيجابيات وسائل الاتصال الإلكترونية:
أ - إن النجاح الذي حدث في تحقيق تواصل آلي بين أجزاء العالم ألغى
عنصر الزمن وعنصر المكان؛ فلم يعد البعد المكاني حائلاً دون الاتصال بين
المجتمعات ووصول الحدث مرئياً ومسموعاً لأي مكان في العالم بل كافة المعلومات
والمعارف؛ مما جعل هذا كله شريكاً متساوياً في الحصول على المعرفة والثقافة،
وأصبحت الرسالة المرسلة يتم استقبالها والتعامل معها والحصول على رجع الصدى
من المتلقي في الوقت نفسه وذلك باستخدام الفاكس والتلكس.. ولعل ما يشاهده
المسلمون ويعايشونه خلال موسم الحج يعد دليلاً ساطعاً على هذه المشاركة القادرة
على تحقيق تواصل مؤثر. وانعكس هذا النشاط على كافة مظاهر الحياة،
واستفادت منه الوسائل التقليدية في تطوير برامجها ومضامينها كالصحافة مثلاً التي
استخدمت القنوات الفضائية في طباعة إصداراتها ونشرها في أسرع وقت ممكن
لجميع أنحاء العالم [4] .
ب - القدرة على تخزين المعلومات وحفظها باستخدام الحاسب الإلكتروني
الذي يقدم إمكانات هائلة لحفظ المعلومات واستخدامها في الوقت المطلوب بما يسمى
الحاجة الآلية للمعلومات Lufarmaties. ومنذ اختراع الحاسب الرقمي فإن معظم
الأنشطة الإنسانية ارتبطت وتأثرت بالتعامل معه مباشرة مما أنتج ما يسمى بـ
(الانفجار المعلوماتي) فأضاف بعداً جديداً وأهمية عالمية أكبر لقدرة الإنسان على
التعامل مع المعلومات واستخدامها في النشاط العلمي أفادت منه الدول النامية بشكل
خاص حيث ظهرت بنوك المعلومات التي تساعد على تقديم المعلومات والانتفاع بها
على نطاق عالمي؛ حيث وجدت شبكات متخصصة في الزراعة (اجريس) وشبكات
للمعلومات النووية (ينس) وشبكات خاصة بالتنمية (دفسيس) وأخرى خاصة
بسياسات العلم والتكنولوجيا (سبانتز) [5] .
ومما لا شك فيه أن القدرة على معالجة هذه الكميات المتاحة من المعلومات
ستؤدي إلى تغيير نوعي في عملية الاتصال ذاتها؛ وبذلك ستظهر لها بل وظهرت
فعلاً آثار اجتماعية وسياسية يمكن أن تحطم أو تلغي أنماطاً قائمة للمعلومات مما
سيجعل الناس يعيدون النظر في قدرة وسائل الإعلام التقليدية.. ولعل الأزمة التي
تواجه كثيراً من الصحف مثلاً في بعض البلدان إنما كانت وليدة انصراف الناس إلى
الوسائل الحديثة والحصول على المعلومات من مخزونها في البنك (بنك المعلومات)
كما أن احتكار الإذاعات سيقل تدريجياً لشيوع وسيلة الحصول على المعلومة
بالطرق الحديثة.
وهكذا سيظل ارتباط تاريخ الحضارة بتاريخ الاتصال ابتداء بالكلمة واللغة
مروراً بالكتابة والطباعة والراديو حتى عصرنا الحاضر عصر الانفجار المعلوماتي
تحكي قصة الإنسان وتحدد المراحل المستجدة في تطوره والفرص الجديدة
المتاحة [6] .
__________
(1) أصوات متعددة، وعالم واحد، الاتصال والمجتمع اليوم، شون ماكيرايد، ص27.
(2) لمزيد من المعلومات يرجع إلى د انشراح الشال، الإعلام عبر الأقمار الصناعية.
(3) د انشراح الشال: الإعلام عبر الأقمار الصناعية، دراسة لشبكات التلفزيون، دار الفكر
العربي، 1993م.
(4) د سعد لبيب، وسائل الاتصال الحديثة وأثرها على المجتمع، ندوة عقدتها الإيسيسكو، القاهرة.
(5) سون ماكبرايد، الاتصال والجميع، ص 210.
(6) د فاتح زغل، قدرة وسائل الاتصال الحديث في التأثير على المجتمع، ندوة وسائل الاتصال، الإيسيسكو، ص 167.(130/102)
المنتدى
وقل اعملوا!
علي حسن العتيق
شكلت الحضارة الإسلامية قفزة في السلوكيات والمبادئ وأسلوب الحياة
وأسلوب المعيشة التي تعيشها متفردة عن الأمم الأخرى تميزاً وغنى..
كانت بحق حضارة متميزة قبل أن تعرف البشرية حضارات العالم الجديد التي
تحيط بنا الآن فارضة نفسها إلى درجة المحاولة الجادة بلا هوادة أن تطمس في
تيارها الجارف كل ملمح لغيرها وبالذات الهوية الإسلامية التي كانت قروناً خلت
هوية العالم!
إنه لغني عن القول أنه ما من سبب للقوة التي كانت تحياها الأمة سوى السير
على منهج الله القويم الذي يصنع الشخصية المتكاملة الرصينة؛ فلقد عدّت إظهار
الكبرياء أمام العدو مطلباً مهماً، في حين أنها أي الكبرياء محرمة بين المسلمين؛
فالله تعالى يريد فينا القوة؛ وما كان الضعف ولا الضعيف مهاباً أبداً ولن يكون،
ويعلمنا أن الضعف علة وداء تأتي من أحد سببين: الرزق، والأجل.
فأما الرزق فالقرآن يقرر أنه بيد الله وحده ولا يملك أحد سواه أن يمنعه أو
يزيده أو ينقصه قال تعالى: [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ] [الذاريات: 22، 23]
وكذا الأجل: [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً]
[آل عمران: 145] .
والرزق مكتوب ومحدد قد جفت صحفه، وكذا الأجل لا يطيله جبن ولا
ينقصه جهاد، والحياة حلوة، والنفس تواقة إلى الخلود، ولذا نجد الإسلام يربي فينا
التطلع إلى أعظم خلود وأدوم نعيم.. إلى الشهادة التي لا يعد فيها المسلم ميتاً إلى
حين يبعث فقد قال تعالى: [وَلا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ
عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] . [آل عمران: 169]
إنه منطق القوة الحقة.. ولذلك أمرهم بإعداد القوة وأسبابها: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] [الأنفال: 60]
لقد فهم المسلمون الأولون القرآن الكريم الفهم المطلوب؛ ذلك الفهم الذي
منحهم القوة في كل وقت وعلى أي حال، ذلك الفهم جعل بعض الصحابة رضوان
الله عليهم وهم قلة مستضعفون لا يملكون اللجوء إلى المدينة؛ وفق شروط (صلح
الحديبية) . إنهم أسارى في مكة تحت القهر والعنت، لا يستطيعون الفرار ولا
القرار براحة، جعلتهم هذه التربية القرآنية أقوياء؛ فـ (أبو بصير) وحده يفعل
الأفاعيل بقريش. فلماذا تعجز أمتنا بما لديها من قدرات وثروات عن اقتلاع العدو
الجاثم على صدرها؟(130/108)
يا قدس
شعر: خليفة بن عربي
يا قدس يا محبوبتي ها قد أتيتُ من الركامْ ...
ها قد أتيت أفُلّ أشرعتي وأقتات الظلامْ ...
ها قد أتيت حدائيَ الآهات من شعب يضامْ ...
من رعشة الليل البهيم ونبض جرح لا ينامْ ...
* * *
لا تسألي يا قدسيَ العذراء عنّي من أنا ...
أنا شاعر أبني القوافي من نحيبك والوَنَى ...
في كلّ قافية أنين، نزفةٌ من جرحنا ...
في كلّ حرف زفرة هوجاء من آهاتنا ...
* * *
في ذا العراء وحيدةً تركوكـ في ثوب الهمومْـ ...
وجدائل الأحزان مسبلة يجلّلها الوجومْ ...
لا الشمس تشرق في ربوعك ليس تسقيك الغيومْ ...
تبكي البدور وترسل الشكوى وتنتحب النّجومـ ...
وعيونك الخجلى صحارى قطرها سيل السّجومـ ...
* * *
وهناك في ذاك الطريق وفوق تلك الرابيهْ ...
أمّ يبلل دمعُها الهطّالُ أرضاً غاليهْ ...
شيخ ضعيف ضمّ مصحفه بأيد واهيهْ ...
شعب جريح صابر يصلى سياطاً قاسيهْ ...
* * *
يا قدس صبراً إننا آتون كالسّيل العَرِمْ ...
نحن الّذين نصوغ نصراً من بُنيّاتِ الألمْ ...
بالله بالقرآن نقشع عن نواحيك الظّلمْ ...
بالسيف بالإيمان لا بالإرتهان أو السّلمْ ...
وعدٌ ونبذل في سبيل الوعد أشلاءً ودمْ ...(130/109)
الورقة الأخيرة
إحياء مقبور الأدب العلماني
خالد أبو الفتوح
كان أدب العلمانيين (اليساريين على وجه الخصوص) يعاني دوماً بأنه (أدب
نخبة) ، نخبة أدبية منفصلة عن القاعدة الشعبية العريضة، تماماً مثل النخب
السياسية التي تمثل هذا التوجه، ولم يُحدِث هذا الأدب تأثيره على القاعدة الشعبية
إلا عن طريق تحويله إلى أعمال فنية (تمثيلية أو غنائية) وهو المجال الذي يسيطر
عليه ويوجهه أصحاب هذه التوجهات، بينما ظلت محاولاتهم في تشكيل العقل
الثقافي الراسخ محدودة الأثر رغم جهود فرضها على قطاعات كبيرة من الأمة، بما
فيها بعض الأعمال الأدبية والثقافية في مناهج التعليم العام، وإعادة طبع بعض هذه
الأعمال لطرحها في الأسواق على نطاق واسع وبتكاليف زهيدة عسى أن يكون لهم
موضع قدم في العقل العربي.
ولكننا رأينا مؤخراً تدخلاً دولياً في العقل العربي لتكثيف جهود إحياء مقبور
الأدب العربي العلماني (الإنساني!) وحشد الإمكانات الهائلة لذلك الهدف، وذلك
من خلال (ابتكار أدوات جديدة لنقل روائع الإبداع والفن وإيصالها إلى أكبر رقعة
من الناس) على حد تعبير (فديريكو مايور) المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية
والثقافة والعلوم (يونسكو) التي تبنت (أكبر مشروع عربي مشترك يهدف إلى إيصال
الكتاب العربي مجاناً إلى قارئه أينما كان في الوطن العربي وخارجه) ، وهو
المشروع الذي خرج باسم (كتاب في جريدة) ، والهدف منه يوضحه شوقي
عبد الأمير المشرف العام على هذا المشروع؛ حيث يقول: (ولأن (كتاب في جريدة)
بحكم المساحة الشعبية الهائلة التي يحتلها والتي تتسع رقعتها إلى الملايين يُخرج
الأدب من دائرة (القراء) التقليدية إلى دائرة (القارئين) ! الأرحب حضوراً ومدى؛
فهو بهذا يحدث اختراقاً لحواجز ثقافية اجتماعية اقتصادية متراكمة منذ أزمان، ليقيم
علاقات جديدة في منطقة قصوى تقع بين الأدب والفن وبين مستهلكيه من أبناء لغته
وثقافته) .
ولأن منظمة (اليونسكو) لا تعمل لوجه الله وإن كانت تدعي أنها تعمل لوجه
(الإنسانية) فقد اختارت (من أجل مزيد من التلاحم وترسيخ وحدة اللغة والثقافة) نحو
خمسة وعشرين كتاباً لأعمال أدبية سبق نشرها لتقدمها مجاناً إلى ملايين القراء
العرب خلال سنتين عبر أكبر الصحف العربية، وإليك بعضاً من أصحاب هذه
الأعمال حتى تعرف الثقافة المقصودة بالإلحاح والإغراء:
المتنبي (مختارات) سعد الله ونوس نجيب محفوظ بدر شاكر السياب الجاحظ
(مختارات) صلاح عبد الصبور غسان كنفاني أمل دنقل قصص المرأة العربية
(مختارات) غالب طعمة فرمان قيصر بايّاخو (شاعر إسباني) يوسف إدريس زيد
مطيع دماج غالب هلسا توفيق الحكيم حنا مينة عبد المجيد بن جلون محمد خضير
الطيب صالح إلياس خوري الطاهر وطار محمود المسعدي ...
فهي أعمال موجهة مختارة لكتّاب أصحاب توجه فكري واضح ومعلوم..
وليس هذا بمستغرب؛ حيث لا بد أن القائمين على اختيار الأعمال سينتقون
ما يتوافق مع قناعاتهم، ولتعرف هذه القناعات نذكر قائمة (الهيئة الاستشارية) كما
جاؤوا في (كتاب في جريدة) ومنهم: أدونيس محمود درويش جابر عصفور
عبد العزيز المقالح يمني العيد ناصر الظاهري أحلام مستغانمي توفيق بكار بدر عبد الملك.
فمن الذي وضع هؤلاء أو أولئك أوصياء على وعي الأمة؟ !
ومن الذي أعطى لليونسكو سلطة تشكيل العقل العربي (أو الإنساني) ؟ !(130/111)
رجب - 1419هـ
نوفمبر - 1998م
(السنة: 13)(131/)
كلمة صغيرة
بين الذلة والاستعلاء
درجت الإدارة الأمريكية على النظر إلى العالم الإسلامي بكل صلف واستكبار، وأصبحت لا تبالي على الإطلاق بمواقف وحقوق الدول والشعوب الإسلامية،
وتمادت في الآونة الأخيرة إلى حد بعيد، مستهينة بما يسمى بالأعراف الدولية
والقواعد الدبلوماسية، فهي تنظر إلى المنطقة الإسلامية على أنها مجرد منطقة نفوذ
استهلاكية، ليس من حقها النظر إلى مصالحها، أو التمسك بحقوقها، أو الاعتزاز
بهويتها الفكرية والثقافية: والدولة التي تملك القوة هي التي تعلِّم الناس المثل والقيم، كما أن الدولة التي تملك الإعلام هي التي تعطي دروساً في السلوك والآداب، وأما
الضعفاء فلا يحق لهم إلا الخضوع والاستسلام، وفتح قلوبهم وجيوبهم بكل ولاء
وعبودية.
بهذه الفوقية والصفاقة تتعامل أمريكا مع القضايا الإسلامية خصوصياً، ولشدة
غرورها نسيت أن الأمة الحية الكريمة - حتى وإن كانت مستضعفة في يوم من
الأيام - لن تذعن دوماً للاستبداد، بل إن ذلك الغرور والتعنت قد يكون سبباً من
أسباب حيويتها، وقد يستثيرها للتغيير، ويجعلها تتململ وتنتفض، وتسعى جاهدة
لاستعادة عزتها وكرامتها. نعم قد لا تقوى على المواجهة في مرحلة من المراحل،
ولكنها في الوقت نفسه لن ترضى الدنية في دينها، ولن تبقى مكتوفة اليدين كالعاجز
الذليل الذي ينظر إلى جلاده باستجداء واستعطاف..! !(131/1)
الافتتاحية
دروس في الصراع مع يهود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى
بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلم يَجْنِ الفلسطينيون من مسار السلام بعد خمس سنوات من اتفاق (أوسلو)
غير قبض الريح؛ وهذا نتيجة طبيعية لاتفاقيات السلام؛ إذ يصر العدو على
الحصول على الأمن والسلام معاً ويرفض قيام الدولة الفلسطينية. وهذا ليس رأي
الإسلاميين وحدهم، بل هو ما توصل إليه كل مراقب محايد لعملية السلام منذ
بدايتها؛ فهذا الصحفي الشهير (روبرت فسك) في تحليل له بعنوان: (السلام يقتل
حقوق الإنسان) [1] يقول: (لم يعد هناك إدانة للسلام بين (إسرائيل) و (منظمة
التحرير) أكثر من التقرير الذي نشرته منظمة العدل الدولية قبل أيام والذي تضمن
العديد من الأمثلة والشواهد على ما يرتكبه (الإسرائيليون) والفلسطينيون من أعمال
التعذيب والموت والحجز والاعتقال العشوائي واحتجاز بدون محاكمة وإجراء
محاكمات غير عادلة ... ) .
كم نحن بحاجة ماسة للوقوف بموضوعية لنعرف حقيقة الصراع مع العدو
وكيف نتعامل معه بعيداً عن فلسفات أدعياء السلام وتنظيرات كثير من المنهزمين
من مثقفي أمتنا الذين ما زالوا يحلمون بسلام قادم مع العدو وأنه أمر لا مفر منه
وبخاصة أنه قد مرت خمسة عقود على دخول اليهود إلى فلسطين، ودخل العرب
في حروب عدة مع اليهود، ثم رضوا بعد ذلك بـ (السلام) ، والجلوس على موائد
المفاوضات، ونعتقد بأن هذه الحقبة التاريخية المديدة في عمر الأمة جديرة بالدراسة
والبحث والتقويم، ومعرفة المكاسب والخسائر التي حصلت عليها الأمة مما يعين
في رؤية الواقع، واستشراف المستقبل.
وها نحن نحاول الوقوف على بعض الدروس والعبر:
أولاً: إنّ الأمة التي تنطلق من خلفيات وقواعد عقدية أياً كانت هذه العقائد
أقدر على الثبات والمواجهة، وهذا هو الذي تميزت به الدولة اليهودية؛ إذ إنها
انطلقت في بنائها من التعاليم التوراتية، التي أصبحت هي الأصل في كل مواقفها
السياسية والعسكرية، بينما مع الأسف الشديد تنكّر العرب لعقيدتهم الإسلامية
وخلفيتهم الحضارية، ورفعوا شعار القومية تارة، والوطنية تارة ثانية، والبعثية
تارة ثالثة ... ونخرت هذه الشعارات النفعية في جسد الأمة نخراً شديداً، حتى
أصابها التشتت والتمزق، ولم تعد قادرة على انتزاع أيسر حقوقها وأوضحها؛
فالإحباطات المتراكمة تسيطر عليها من كل جهة.
ولمّا رجع بعض الناس إلى هويتهم الأصيلة، وتعالت في صفوفهم آيات
الأنفال وآل عمران، وارتفعت ألوية التوحيد، جُنّ جنون اليهود، واضطربت
عقولهم، وأخذوا يبطشون بكل قسوة وجبروت، لعلهم يئدون هذا الوليد في مهده،
ويخنقون صوته، لكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً.. عندها جاؤوا بمهزلة السلام التي
يراد منها قطع الطريق على هذه الوجوه الكريمة المتوضئة، وإعادة تلميع تلك
القيادات المهترئة التي أفلست وانكشفت وجوهها المظلمة..!
إنّ الأحداث المتتالية علمتنا أن اليهود لا يمكن مواجهتهم إلا بسلاح العقيدة،
وأن الرجال الصادقين المخلصين هم وحدهم القادرون على الثبات وإن أصابهم ما
أصابهم من شدة وقتل، ولا يمكن ترويضهم أو تذليلهم؛ فهم حريصون على الشهادة
أكثر من حرص غيرهم على الدنيا.
ثانياً: نتج من تلك الخلفية العقدية عند اليهود جديتهم في تحقيق مطالبهم،
التي أرخصوا في سبيلها كل نفيس، وشحذوا كل طاقاتهم السياسية والعسكرية
والبشرية لتحقيق ذلك. وها هو ذا قائلهم يقول: (أدركت أنه لا يكفي لشعب ضعيف
أن يثور كي ينال عدلاً لمطالبه، أما مبدأ (نكون أو لا نكون) فعلى كل أمة أن تعمل
به، وتقرر مصيرها بطرقها الخاصة، وعلى اليهود ألا يعتمدوا على أحد من أجل
تقرير مصيرهم) . لقد عرف اليهود أن دولتهم: (لن تدوم بالتصفيق ولا بالدموع ولا
بالخطابات أو بالتصريحات!) ، ولهذا صَدَقوا في بنائها وحمايتها.
بينما كشفت لنا الأيام تلك المسرحية العبثية التي أدار فصولها بكل صفاقة
وخيانة أدعياء العروبة والوطنية، ودهاقنة الديموقراطية والحرية، الذين إذا أعيتهم
الحيلة لم يجدوا بداً من الشجب والاستنكار بصوت يمتلئ شجاعة وبسالة (!) ،
ولكنه بلا صدق أو إرادة (! !) .
إن ما دُعي بالنخب السياسية العربية أضحت عاجزة عن الخروج بهذه الأمة
من المأزق الذي تعيشه، وأصبحت الأمة تائهة تتردى في مستنقعات الهزيمة،
وتتجرع كؤوس المهانة والذل والخزي؛ ولن تخرج من هذا النفق المظلم إلا بالعودة
الصادقة الجادة إلى دين الله تعالى، وأما ما يسمى بالشرعية الدولية فلن تصنع شيئاً، وكذا الجري اللاهث وراء ما يسمى بـ (راعي السلام) لن يجر إلا مزيداً من
الخزي والعار، ومزيداً من الذلة والصغار.
ثالثاً: إن الأمة العربية في الوقت الراهن غير مهيأة على الإطلاق للمواجهة
العسكرية مع اليهود؛ فقد استهلكت قدراتها وإمكاناتها في التغريب والعلمنة،
وأصبحت أكثر الجموع أقرب إلى اللهو والعبث منها إلى الجد والعمل. وهذا
يستدعي بلا شك أن تستنفر كافة الإمكانات الإسلامية لانتزاع جذور التغريب
والإفساد في العالم الإسلامي، والعمل على بناء الرجال المخلصين القادرين على
تحمل المسؤولية؛ وهذا عمل في غاية الصعوبة والمشقة، وهو كذلك عمل طويل
جداً، ولكنه هو السبيل الوحيد لاستعادة الهوية الإسلامية، ولعله من أولى الأشياء
دخولاً في إعداد العدة الواجبة شرعاً في قوله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] [الأنفال: 60] .
إن إعادة بناء الأمة وتجديد طاقاتها وإحياء رجالها وصناعتهم من جديد هو
التحدي الأكبر الذي يواجه العمل الإسلامي المعاصر، وهو العدة الحقيقية لمواجهة
الطغيان اليهودي والغربي.
رابعاً: إن قضية القدس قضية عقدية لا تقبل المساومة أو المداهنة السياسية.
وإن كان بعض النفعيين أرادوا أن يجعلوا الصراع مع اليهود صراعاً قومياً، فإن
قضية القدس تنسف ذلك كله وتعيد إلى الأذهان تلك الخلفية الدينية لذلك البيت
المبارك.
إن الغباء كل الغباء أن تُهَمّشَ قضية القدس، أو توضع في القائمة الشكلية
للمفاوضات، وإذا رضي بذلك فئة وضيعة ممّن لا يعيرون البعد الديني أدنى اهتمام، فإن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لن يرضوا بذلك، وإن عجزوا في
الوقت الراهن لأي سبب كان عن التصرف الإيجابي الفاعل لإنقاذ القدس، فإن هذه
القضية سوف تبقى القضية الكبرى في حاضرهم ومستقبلهم. وقضية فلسطين ليست
خاصة بالفلسطينيين فقط وإن كانوا هم أوْلى الناس بها ولكنها القضية الكبرى للأمة
الإسلامية بعامة، ولهذا فإن أي مؤامرة على مقدسات المسلمين لن تنتهي بسلام، بل
سوف تستحث الشعوب الإسلامية إلى الرجوع إلى دينها، وستحيي فيهم روح
الجهاد والغيرة على المقدسات المنتهكة.
خامساً: مع تزايد الإخفاقات المتتالية للسلطة الفلسطينية ازدادت شعبية
الاتجاهات الإسلامية وعلى رأسها منظمة حماس، وهذه نعمة من الله تعالى حقها
الشكر والرعاية، والإخوة في حماس يدركون حجم المؤامرة، وهذا يتطلب رؤية
أكثر عمقاً للمستقبل ترسم فيها الخطط والبرامج بشمولية ودقة.
إنّ ردود الأفعال العاطفية مهمة جداً، ولكنها تبقى محدودة الأثر، قليلة التأثير، بينما يكون التخطيط العملي بعيد المدى، عميق الأثر، قوي التأثير. والمطلوب
من رجالات الحركة الإسلامية في فلسطين أن يكونوا على مستوى الحدث والطموح
والتحدي، وأن يعيدوا بناء البيت من الداخل بناء متماسكاً يتلاءم مع المهمة العظيمة
التي يواجهونها. ولن يقف العالم متفرجاً على نجاحات الحركة الإسلامية، بل
سوف تُسَخّر كافة الإمكانات والاستخبارات السياسية والعسكرية لتفتيتها وتمزيق
أركانها.. فهل ينجح الإسلاميون في هذا مواجهة التحدي الصعب؟
والذي نجزم به أنهم سينجحون بالتأكيد ما داموا معتصمين بحبل الله المتين،
موفين بقواعد النصر الشرعية، مدركين لضرورة التراص والتآلف، فقد قال الله
تعالى: [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..] [العنكبوت: 69] .
ومن واجب المسلمين عموماً أن يقفوا بجانب إخوانهم، ولا ينظروا إلى
حماس على أنها خاصة بالمنتمين لها فحسب، بل على أنها منظمة لكل المسلمين
الصادقين، ومن حقها علينا أن نقف بجوارها قلباً وقالباً، معنوياً ومادياً، ومن حقنا
عليها أن تسمع إلى نصح الناصحين وآرائهم، وأن تقدر ذلك، وصحيح أنهم أعرف
بأحوالهم وأقدر على معرفة واقعهم، ولكن ربما يرى غيرهم رأياً أبعد عن التأثر
بالضغوط اليومية والشخصية.
وبالجملة فإن الحوار الصادق المخلص من أعظم وسائل النصر بإذن الله تعالى.
__________
(1) نشرته الإندبندنت ونقلته الأنباء الكويتية، العدد: (8022) في 24/5/ 1419هـ.(131/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
مسائل وأحكام في ذبائح أهل الكتاب
د. أحمد أمحرزي علوي
شكلت فتوى أبي بكر بن العربي المعافري الفقيه المالكي (ت 543 هـ) في حكم
جواز أكل ذبائح أهل الكتاب على أي صفة ذكيت مرجعاً لبعض الفقهاء قديماً وحديثاً، في الترويج لإباحة طعام أهل الكتاب، والدعوة إلى أكل ذبائحهم، في كل حال
وأنه ليس في ذلك حرج ولو من غير ضرورة لقوله تعالى: [وَطَعَامُ الَذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ] [المائدة: 5] ، ونظراً لما تنطوي عليه هذه الفتوى من مآخذ ولما
يترتب عليها من عواقب، وأيضاً لما يتضمنه كلام ابن العربي من تناقض فقد
آثرت أن أبين وجه الحق في ذلك حتى يتضح المراد وتنكشف الغشاوة، وذلك من
خلال الأمور التالية:
أولاً: حكم ذبائح أهل الكتاب:
أجمع الفقهاء في الجملة على إباحة ذبائح أهل الكتاب لقوله تعالى: [الْيَوْمَ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ] [المائدة: 5] [1] ، والجائز
هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالاً لهم، إلا ما حُرّم علينا كلحم الميته والخنزير
والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وغيرها، ولو لم يُعلم أنهم سموا الله
تعالى. قال الإمام النووي: (ذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله تعالى
عليه أم لا؛ لظاهر القرآن العزيز؛ هذا مذهبنا ومذهب الجمهور) [2] ، وكره مالك
والشافعي وأحمد في رواية، ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم؛ لما فيها من تعظيم
شركهم، ولأن الذابح قصد بقلبه الذبح لغير الله تعالى مع تركه التسمية، قال
النووي: (فإن ذبحوا لكنائسهم فقد كرهه ميمون بن مهران وحماد والنخعي ومالك
والليث وأبو حنيفة وإسحاق وأحمد وجمهور العلماء، ومذهبنا تحريمه) [3] .
كما أجمعوا أيضاً على أن ذبائحهم لا تحل إلا إذا ذكيت بالطريقة التي تتم بها
الذكاة عند المسلمين، وكره مالك أكل ذبائحهم ولو استوفت جميع الشروط؛ ففي
المدونة: (قلت: هل كان يكره مالك ذبائح اليهود والنصارى من أهل الحرب؟ قال: أهل الحرب والذين عندنا أهل الذمة من النصارى واليهود عند مالك سواء في
ذبائحهم، وهو يكره ذبائحهم كلها من غير أن يحرمها، ويكره اشتراء اللحم من
مجازرهم ولا يراه محرماً) [4] .
ثانياً: حكم أكل ما ذبحوه من كل ذي ظفر:
حرم الله عز وجل على أهل الكتاب كل ذي ظفر، قال تعالى: [وَعَلَى الَذِينَ
هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ] [الأنعام: 146] . والمراد به ما ليس بمنفرج الأصابع
كالإبل والنعام والأوز والبط وما يصيد بظفره من سباع الطير والكلاب [5] .
واختلف فقهاء المالكية فيما لو ذبح أهل الكتاب كل ذي ظفر، فأجاز أكله ابن
وهب وجمهور العلماء. وقال أصبغ وأشهب وابن القاسم وابن حبيب: ما كان
محرماً في كتاب الله من ذبائحهم فلا يحل أكله؛ لأنهم يدينون بتحريمها [6] ،
واختاره ابن العربي فقال: (والصحيح تحريمه؛ لأن ذبحه منهم ليس بذكاة) [7] .
والصحيح الذي عليه جمهور العلماء جواز أكله إلا ما ثبت تحريمه في
شريعتنا [8] .
الأمر الثالث: حكم أكل ما حرم على أهل الكتاب:
اختلف الفقهاء في ما لو ذبح أهل الكتاب ما أحل الله لهم في التوراة وتركوا ما
حرم عليهم مثل شحومهما إلا ما حملت ظهورهما، هل يحل لنا أم لا؟ قال مالك في
رواية: هي محرمة [9] ، وقال ابن القاسم: أكرهه؛ واختاره ابن الجلاب [10] ،
وروي عن مالك أنها حلال، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وعامة أهل
العلم [11] .
واختاره ابن العربي فقال: (والصحيح أكلها؛ لأن الله رفع التحريم بالإسلام
ولا يضر اعتقادهم عند ذكاتها بأنها محرمة، فإنه اعتقاد فاسد) [12] .
قال القرطبي: (ويدل على صحته ما رواه الشيخان عن عبد الله بن مغفل قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه فالتفتّ
فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستحييت منه [13] . ولفظ البخاري، ولفظ
مسلم: قال عبد الله بن مغفل: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته،
وقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً، قال: فالتفتّ فإذا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، مبتسماً [14] ، قال علماؤنا: تبسمه عليه السلام إنما كان لما رأى
من شدة حرص ابن مغفل على أخذ الجراب ومن ضنته به ولم يأمره بطرحه ولا
نهاه. وعلى جواز الأكل مذهب أبي حنيفة والشافعي وعامة العلماء؛ غير أن مالكاً
كرهه للخلاف فيه، وحكى ابن المنذر عن مالك تحريمها وإليه ذهب كبراء أصحاب
مالك؛ ومتمسكهم أنهم يدينون بتحريمها ولا يقصدونها عند الذكاة فكانت محرمة
كالدم، والحديث حجة عليهم) [15] .
رابعاً: فتوى ابن العربي والرد عليها:
تقدم إجماع العلماء على أن ذبائح أهل الكتاب لا تحل إلا إذا ذكيت بالطريقة
التي تتم بها الذكاة عند المسلمين، وذلك بقطع الودجين والحلقوم والمريء.
واضطرب كلام ابن العربي في هذه المسألة، فذكر في موضع من الأحكام الكبرى
أن الجائز هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالاً لهم إلا ما حُرّم علينا كالخنزير،
وكانت ذكاته مقبولة عند المسلمين، فقال: (فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه
الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب: أن هذه ميتة وهي حرام بالنص؛ وإن
أكلوها فلا نأكل نحن، كالخنزير؛ فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام
علينا) [16] ، فوافق بهذا جمهور أهل العلم.
واختار في موضع آخر أكلها كيفما كانت تذكيتها فقال: (وقوله تعالى: [أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم..] [المائدة: 4] إلى قوله: [أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ...
وَطَعَامُ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ] [المائدة: 5] . دليل قاطع على أن الصيد وطعام أهل ...
الكتاب من الطيبات التي أباحها الله عز وجل وهو الحلال المطلق، وإنما كرره
سبحانه ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات، ولكن الخواطر الفاسدة هو التي توجب
الاعتراضات وتخرج إلى تطويل القول.
ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل يؤكل معه أو
تؤخذ طعاماً منه؟ فقلت: تؤكل؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن
هذه ذكاة عنده، ولكن الله أباح طعامهم مطلقاً، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال
لنا وفي ديننا إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه) [17] .
وقد لاحظ البعض على هذا الكلام ما يلي:
1- أن قوله في الموضع الأول: (فإن قيل فما أكلوه على غير وجه ... )
غير موجود في الأحكام الصغرى له، ولا في غيرها من كتبه، وغير موجود في
إحدى النسخ الخمس المخطوطة لأحكام القرآن الكبرى كما نبه على ذلك محمد علي
البجاوي ومحمد عبد القادر عطا، مما جعل البعض يعتبر الكلام مدسوساً عليه.
2- إن هذا الكلام جاء عرضاً؛ إذ إن الحديث قبله وبعده وارد عن التسمية لا
عن التذكية.
3- إن القرطبي وهو الذي نقل كلام ابن العربي في تفسيره لم يشر إلى هذه
الفتوى أصلاً.
4- إن الشيخ صالح العود في كتابه: (أحكام الذكاة في الإسلام) نفى أن يكون
ابن العربي أفتى بجواز أكل الدجاج المفتول العنق، واعتبر ذلك مدسوساً عليه،
لكن وجود ذلك في كتبه وكتب من نقلوا عنه يرده.
والذي يتضح من خلال مطالعاتي لكتب ابن العربي المخطوط منها والمطبوع، واستقرائي لآرائه الفقهية أن كل ذلك من كلامه ولا وجه لنفيه عنه أو نفي
اضطرابه فيه كما سيتضح، والذي يقرر ذلك أن عدداً من المالكية نقلوا كلامه
واستشكل عليهم، وحاول أبو عبد الله الحفار المالكي حل هذا الإشكال، فقال: (ولا
إشكال فيها عند التأمل؛ لأن الله تعالى أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم
على الوجه الذي أبيح لهم من ذكاة فيما شرعت لهم فيه الذكاة على الوجه الذي
شرعت، ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا في ذلك الحيوان المذكى) [18] .
ولم يقدم ابن الحفار كابن العربي دليلاً على كلامه واكتفى بقوله: (قد يكون
شرع في غير ملتنا سل عنق الحيوان، على وجه الذكاة، فإذا اجتزأ الكتابي بذلك
أكلنا طعامه كما أذن لنا ربنا سبحانه ولا يلزمنا أن نبحث عن شريعتهم في
ذلك) [19] .
وإلى هذا الكلام أيضاً مال الونشريسي في المعيار، والزياتي والوزاني في
النوازل الصغرى.
وأفتى به الشيخ محمد عبده ورشيد رضا، والدكتور يوسف القرضاوي،
والشيح حسنين محمد مخلوف، والشيخ محمد بيرم، والشيخ عبد الله بن زيد بن
محمود وغيرهم [20] .
آراء العلماء المعاصرين في المسألة:
يقول الشيخ محمد عبده: (وأما الذبائح فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك
الأطراف بنص كتاب الله تعالى في قوله: [وَطَعَامُ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ]
[المائدة: 5] . وأن يعوّلوا على ما قاله أبو بكر بن العربي المالكي من أن المدار
على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم، ويعد طعاماً لهم
كافة) [21] وقال الشيخ رشيد رضا بعد أن نقل أقوال المفسرين في جواز أكل ذبائح أهل الكتاب: (فعلم من هذه النقول أن ذبائح أهل الكتاب حلال عند جماهير المسلمين، وإن لم يكن ذبحها على الطريقة الإسلامية، بل وإن كانت على خلاف الطريقة الإسلامية عملاً بمطلق الآية الكريمة التي هي آخر ما ورد في الأكل نزولاً) [22] .
وقال الشيخ يوسف القرضاوي بعد أن نقل كلام ابن العربي: (وعلى ضوء ما
ذكرنا نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر
المحفوظة، مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه؛ فما داموا يعتبرون هذا
حلالاً مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية) [23] .
غير أن كثيراً من شيوخ المالكية وقفوا في وجه هذه الفتوى لابن العربي حتى
قال البسطامي: (ليت قوله لم يخرج للوجود ولا سُطّر في كتب الإسلام) [24] .
وقال ابن سراج: (إن ما وقع لا بن العربي هفوة) [25] .
واعتبروا فتواه هذه شذوذاً، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: وقول ابن العربي
شذوذ [26] . وردوا على استدلاله بأن أحبارهم يصدقون في قولهم أن ذلك من
طعامهم بأن أهل الكتاب لا يُصدّقون ولا يُكذّبون كما ورد في الصحيح عن أبي
هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا
تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم) [27] .
قال ابن حجر: (لم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن
تصديقهم فيما ورد شرعنا بخلافه؛ نبه على ذلك الشافعي رحمه الله) [28] ،
وقد أجمع العلماء على أن شرع من قبلنا لا يجوز العمل به إذا كان شرعنا مخالفاً له [29] ؛ وبهذا يتضح أن دعوى ابن العربي أن كل ما يراه أهل الكتاب في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه، معارضة للنصوص والإجماع الدال دلالة قطعية على تحريم العمل بما يرونه في دينهم إذا كان مخالفاً لشريعتنا، وعلى فرض تصديقهم، فلا وجه لتصديقهم في أن المنخنقة ومسلولة العنق والموقوذة المضروبة في الرأس بشاقور مثلاً حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم، وما فرق به من أن الله قد كذبهم في الخمر والخنزير دون المضروبة بشاقور مثلاً وما ذكر معه لا يصح؛ لأنه إن عني أن الله كذبهم في أخبارهم بحلّيتها، فليس في القرآن ولا في الأحاديث شيء من ذلك، وإن عني أن الله كذبهم بقوله: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ] [المائدة: 3] ، فهذه مصادرة؛ لأن الله قد كذبهم فيما زُعِمَ أنهم يصدقون فيه؛ لأنها إما منخنقة أو موقوذة، وقد ذكر الله حرمة كل واحدة منهما في الآية نفسها [30] .
وقد اعترف بهذا ابن العربي فقال في الأحكام: (وأما قولهم: إن الله حرم غير
ذلك كالمنخنقة وأخواتها فإن ذلك داخل في الميتة؛ وشرح ما يستدرك ذكاته مما
تفوت ذكاته لئلا يُشْكل أمرها ويُمزَج الحلال بالحرام في حكمها) [31] .
فإذا كانت المنخنقة ميتة باعترافه فكيف لا تكون الدجاجة المفتولة العنق ميتة؟
وفتل العنق والخنق شقيقان؛ لأن معناهما واحد عقلاً وحساً ومشاهدة، وهذا أيضاً
بإقرار ابن العربي نفسه حيث قال: (المنخنقة هي التي تخنق بحبل بقصد أو غير
قصد أو غير حبل) [32] .
فاتضح مما تقدم تناقض ابن العربي [33] وغرابة فتواه، ولذلك لم يذكرها
القرطبي في تفسيره وهو ممن نقل جُلّ كلام ابن العربي، ولم يقل بها أحد من
العلماء قبله [34] ، ولا وجه لما قاله الشيخ رشيد رضا من أن جواز أكلها مذهب
جماهير المسلمين، ولا لما قاله الشيخ القرضاوي مِنْ أنه مذهب فقهاء المالكية، بل
صرحوا بعكس ما قاله تماماً، يقول الباجي: (وإذا علمت أن مَنْ دينه النصرانية
ممن يستبيح الميتة فلا تأكل من ذبيحته إلا ما شاهدت ذبيحته؛ ووجه ذلك أنه إنما
يستباح من ذبيحته ما وقع على وجه الصحة، والمسلم أصح ذبيحة وهذا حكمه،
فإذا علم أنه ربما قتل الحيوان على الوجه الذي لا يبيج أكله وجب الامتناع من أكل
ما مات على يده من الحيوان إلا أن يعلم أن ذكاته وجدت منه على وجه
الصحة) [35] .
وقد ساق ابن العربي في المسالك هذا الكلام نفسه وأقره [36] ، ونص في
موضع آخر على أن من شرط الذابح غير المسلم أن يكون كتابياً، وأن يكون
عارفاً بالذبح وشروطه؛ لأنه إن لم يكن عارفاً بالذبح آلمَ الحيوان وحرم الأكل
منه [37] .
زبدة القول:
والخلاصة: أن ذبيحة الكتابي لا يحل منها إلا ما كان بذكاة صحيحة معتبرة
شرعاً، وأن ما كان منه بفتل العنق أو الصدمة الكهربائية أو ضرب الرأس وغيره
فهو ميتة لا يحل أكله بوجه من الوجوه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا ينبغي
للمسلم أن يتخذ أهل الكتاب ذباحين؛ لأن في ذلك موالاة لهم كما نبه على ذلك ابن
عبد البر وغيره [38] .
وقد كان الباجي دقيقاً في كلامه حين اشترط في الإباحة (مشاهدة ذبح الكتابي)
وهو توجيه دقيق؛ إذ كثيراً ما تكون ذبائحهم على غير الوجه المشروع فيختمون
عليها خاصة في زماننا هذا بختم يوهم أنها ذبحت على الطريقة الإسلامية لكي
يروج شراؤها في صفوف المسلمين.
وقد انطلت هذه الحيلة الماكرة على كثير من المسلمين مع قيام الأدلة على أن
ذلك مجرد خداع لابتزاز الأموال، بل ويقصد بذلك أحياناً الاستخفاف بعقول
المسلمين؛ فقد ذكرت مجلة الاقتصاد الإسلامي وجريدة الشرق الأوسط منذ مدة، أن
بلاد غير المسلمين لا تقوم بعملية الذبح الشرعي بل تقدم لحوماً توصف بأنها ميتة
أو منخنقة أو موقوذة ... وليس ببعيد عنا ما سمعناه عن صفقات الدجاج المستورد
الذي وصل إلى أبو ظبي ودبي ووجدت رقبته كاملة وسليمة دون أي أثر للذبح رغم
كتابة العبارة التقليدية عليها أنها ذبحت حسب الشريعة الإسلامية، بل وبلغ
الاستخفاف بعقول المسلمين أن وجد مكتوباً على صناديق السمك المستورد أنه ذبح
حسب الشريعة الإسلامية [39] .
__________
(1) انظر: بداية المجتهد 1/330- الشرح الكبير 2/99 - المنتقى 2/ 112- الجامع لأحكام القرآن 6/76 التفريع 1/406 بدائع الصنائع 5/45 - رد المحتار 5/208 - مختصر الطحاوي، ص296 - مغني المحتاج 4/266 - الحاوي 91/111.
(2) المجموع للنووي، 9/80.
(3) المجموع للنووي 9/78.
(4) المدونة، 2/67.
(5) الجامع لأحكام القرآن، 7/125.
(6) نفس المرجع 7/127.
(7) أحكام القرآن 2/770، الأحكام الصغرى 1/408.
(8) انظر: فتح الباري، 9/237.
(9) الجامع لأحكام القرآن 7/126، القوانين الفقهية، ص178، الإشراف للقاضي عبد الوهاب،
2/257.
(10) انظر المصادر السابقة، التفريع، 2/406.
(11) الجامع لأحكام القرآن، 7/127، القوانين الفقهية، ص178.
(12) الأحكام الصغرى، 1/480، أحكام القرآن 2/770.
(13) أخرجه البخاري، 6/580.
(14) أخرجه مسلم، 3/1393.
(15) الجامع لأحكام القرآن، 7/126 - 127.
(16) أحكام القرآن، 2/555.
(17) أحكام القرآن، 2/556، الأحكام الصغرى 1/354.
(18) المعيار، 2/9، والنوازل الصغرى 1/325 - 326.
(19) انظر: المعيار 2/9، والنوازل الصغرى 1/325 - 326.
(20) انظر: الفتاوى الإسلامية، 4/1299، حكم اللحم المستورد من أوروبا 98، المعيار 2/9، النوازل الصغرى 1/327، الحلال والحرام في الإسلام، ص: 61.
(21) الفتاوى الإسلامية 4/1299، تاريخ الأستاذ الإمام، لرشيد رضا، 1/ 683.
(22) تاريخ الأستاذ الإمام 1/678.
(23) الحلال والحرام في الإسلام، ص 63.
(24) حاشية الشيخ كنون، 3/5.
(25) حاشية الشيخ كنون، 3/5.
(26) التحرير والتنوير، 6/122.
(27) أخرجه البخاري 8/514 - 515، والبغوي 1/269.
(28) فتح الباري 9/327.
(29) أحكام الفصول، للباجي، ص327.
(30) انظر: حاشية الرهوني، 3/13، حكم اللحم المستورد من أوربا، ص29 وما بعدها.
(31) أحكام القرآن، 2/767، الأحكام الصغرى 1/479.
(32) أحكام القرآن 2/238، الأحكام الصغرى 1/341.
(33) نفى الدكتور يوسف القرضاوي وجميل محمد بن مبارك التناقض في كلام ابن العربي وما ذكرته من نصوص من كلامه يثبته، فلا وجه لنفيه (انظر: نظرية الضرورة الشرعية، ص 374، والحلال والحرام في الإسلام، ص61، وأحكام الذكاة في الإسلام، ص 41 - 42) .
(34) ما ذهب إليه القرضاوي في الحلال والحرام، ص61، أن ما أفتى به ابن العربي هو مذهب جماعة من المالكية غير صحيح؛ ومن اطلع على مصادر الفقه الإسلامي لن يجد أحداً منهم أباح ذلك، بل سيجد أن المالكية شددوا في الذكاة التي يحل بها الحيوان (راجع المنتقى، 3/111) .
(35) المنتقى، 3/111112.
(36) المسالك، ورقة 784.
(37) المسالك، ورقة 777.
(38) راجع حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 3/109.
(39) راجع مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد2، سنة 1981م، ص 9 - 10، انظر جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 21/9/1983م.(131/8)
فتاوى أعلام الموقعين
فتوى في الحذر من كتاب
إحكام التقرير في أحكام التكفير
من المعلوم أن أهل السنة والجماعة وسط في باب الإيمان بين الوعيدية من
الخوارج والمعتزلة، وبين المرجئة، وقد حذّر سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى من
غلو الخوارج ومن سلك سبيلهم الذين يُكفّرون بمطلق المعاصي، كما حذّروا من
تفريط المرجئة؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، وكان ردّ
السلف الصالح على تلك الطوائف بعلم وعدل، وحجة وبرهان، فلم يواجهوا البدعة
بالبدعة، بل واجهوا البدعة بالسنة.
وقد ظهر في زماننا من أصابته لوثة الخوارج الغلاة، فانبرى بعض
المنتسبين إلى السنة للرد عليهم بنَفَس إرجائي، فلا أظهروا السنة، ولا أماتوا
البدعة..
ونسوق في هذا العدد فتيا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية
في التحذير من كتاب معاصر ذي نزعة إرجائية غالية. نسأل الله تعالى أن يهدينا
وسائر إخواننا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. ... ...
- البيان -
فتوى رقم (20212) وتاريخ 7/2/1419هـ:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ... وبعد: فقد اطلعت
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من
المستفتي إبراهيم الحمداني، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
برقم (942) وتاريخ 1/2/1419هـ وقد سأل المستفتي سؤالاً هذا نصه:
سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن
باز.. سلمه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: يا سماحة الشيخ نحن
في هذه البلاد المملكة العربية السعودية في نعم عظيمة ومن أعظمها نعمة التوحيد.
وفي مسألة التكفير نرفض مذهب الخوارج ومذهب المرجئة، وقد وقع في يدي هذه
الأيام كتاب باسم: (إحكام التقرير في أحكام التكفير) بقلم مراد شكري (الأردني
الجنسية) ، وقد علمت أنه ليس من العلماء، وليست دراسته في علوم الشريعة، وقد
نشر فيه مذهب غلاة المرجئة الباطل، وهو أنه لا كفر إلا كفر التكذيب فقط، وهو
فيما نعلم خلاف الصواب وخلاف الدليل الذي عليه أهل السنة والجماعة، والذي
نشره أئمة الدعوة في هذه البلاد المباركة، وكما قرر أهل العلم في (الكفر) أنه يكون
بالقول وبالفعل وبالاعتقاد وبالشك. نأمل إيضاح الحق حتى لا يغتر أحد بهذا الكتاب
الذي أصبح ينادي بمضمونه (الجماعة المنتسبون للسلفية في الأردن) [*] ، والله
يتولاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد دراسة اللجنة العلمية للاستفتاء أجابت بأنه بعد الاطلاع على الكتاب
المذكور، وجد أنه متضمن لما ذكر من تقرير مذهب المرجئة ونشره، من أنه لا
كفر إلا كفر الجحود والتكذيب، وإظهار هذا المذهب المردي باسم السنة والدليل،
وأنه قول علماء السلف، وكل هذا جهل بالحق، وتلبيس وتضليل لعقول الناشئة
بأنه قول سلف الأمة والمحققين من علمائها، وإنما هو مذهب المرجئة الذين يقولون
لا يضر مع الإيمان ذنب، والإيمان عندهم هو التصديق بالقلب، والكفر هو
التكذيب فقط، وهذا غلو في التفريط، ويقابله مذهب الخوارج الباطل الذي هو غلو
في الإفراط في التكفير، وكلاهما مذهبان باطلان مرديان من مذاهب الضلال،
ويترتب عليهما من اللوازم الباطلة ما هو معلوم، وقد هدى الله أهل السنة والجماعة
إلى القول الحق والمذهب الصدق، والاعتقاد الوسط بين الإفراط والتفريط من
حرمة عرض المسلم، وحرمة دينه، وأنه لا يجوز تكفيره إلا بحق قام الدليل عليه، وأن الكفر يكون بالقول والفعل والترك والاعتقاد والشك كما قامت على ذلك
الدلائل من الكتاب والسنة. لما تقدم فإن هذا الكتاب لا يجوز نشره ولا طبعه، ولا
نسبة ما فيه من الباطل إلى الدليل من الكتاب والسنة، ولا أنه مذهب أهل السنة
والجماعة، وعلى كاتبه وناشره إعلان التوبة إلى الله؛ فإن التوبة تغفر الحوبة.
وعلى من لم ترسخ قدمه في العلم الشرعي أن لا يخوض في مثل هذه المسائل
حتى لا يحصل من الضرر وإفساد العقائد أضعاف ما كان يؤمله من النفع والإصلاح. وبالله التوفيق..
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم..
__________
(*) نرى أن من ينادي بمضمونه جماعة من المنتسبين للسلفيين وليس كلهم.(131/16)
دراسات تربوية
بعضهم أولياء بعض
عبد الملك بن محمد القاسم
تميز عصرنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم
الإسلامي، فأُفردت لهم الصفحات، ودُعوا إلى التحدث في المنتديات، واحتفلت
بهم التجمعات، وسيطروا على كثير من وسائل الإعلام كما يلاحظه القاصي والداني
لفشو الأمر وظهوره.
وحالُ المنافقين ليست بجديدة على أمة الإسلام.. فهم أعداء ألِدّاء لهذا الدين
منذ بعثة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم يكيدون ويدبرون ويخططون
وينفذون، وقد وصفهم الله عز وجل في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن، وسميت
سورة كاملة باسم المنافقين، وأفاضت السنة النبوية المطهرة في ذلك الأمر العظيم
وتوضيحه وجلائه.
ولأن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة؛ فإننا لا نزال نرى
الصفات نفسها تتوارثها الأجيال المنافقة زمناً بعد زمن حتى وقتنا الحاضر. يقول
الله عن صفة من صفاتهم: [وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ] [المنافقون: 4] .
فما أكثر المستمعين لحديثهم المنصتين لهرائهم المتابعين لإنتاجهم وهم يلبّسون
على الناس ويدّعون فيهم الإصلاح والفلاح كما كان فرعون يقول لقومه عن موسى
نبي الله عليه الصلاة والسلام: [إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ
الفَسَادَ] [غافر: 26] .
ومن العجب أن يتولى نفر من المنافقين والمنافقات، إفساد الأمة ومسخها عن
دينها ودعوتها إلى التحرر والإباحية والرذيلة، ومن تأمل في التاريخ القريب مثلاً
أدرك أن (هدى شعراوي) و (قاسم أمين) ، وحثالة لا يزيدون عن المائة قوّضوا
أركان الفضيلة مما أدى إلى نزع الحجاب عن وجه المسلمات، وأوردوا قومهم
موارد الهلاك وما ترتب على ذلك من شيوع قله الحياء والتهاون بالحشمة والفضيلة؛ حتى ظهرت المرأة متبرجة في الشارع والمكتب والمسرح، بل صارت شبه
عارية على شواطئ البحر؛ وقد كان لا يُرى لأمها وجدتها ظفر أو خصلة شعر
حتى جاء هؤلاء فأسقطوا الحجاب شيئاً فشيئاً! !
وهكذا هم المنافقون في كل أمة وفي كل قطر يتحينون الفرص، ويقطعون
الطريق [وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ] [ص: 6] .
ها هم يسيرون متكاتفين متماسكين يتواصون بالباطل ولهم جَلَد وصبر عجيب
[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ]
[التوبة: 67] .
والعجب ليس من حرص هؤلاء وجدهم واجتهادهم لهدم صروح العفة
والفضيلة؛ بل ومحاولة تقويض ركائز الدين بعامة، إنما العجب كيف يرضى بذلك
عقلاء القوم وكبارهم، وكيف تترك سموم هؤلاء تنتشر في الفضاء وتنفذ إلى
القلوب؟ وكثيرٌ اليوم من أشرف الناس ينادون بالقضاء على تلوث البيئة وحصار
البعوض وإزالة النفايات.. ولا نجد لهؤلاء القوم وعقلائهم كلمة في إسكات أهل
الباطل من المنافقين والمنافقات ممن يحفل بهم جل إعلام العالم الإسلامي شرقاً
وغرباً وشمالاً وجنوباً حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبى ...
والعجب موصول أن نرى لَبِنات هذا البناء الديني والاجتماعي تتساقط واحدة
تلو الأخرى ونحن ننتظر المزيد! إن الأمر ليس خوفاً على هذا الدين فحسب؛ فالله
ناصره حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله، ولكنه خوف على أبنائا ونسائنا
وشبابنا من أن يأخذهم الطوفان ويجرفهم التيار والمؤمل فيهم أن يكونوا أهل عفة
وحياء ومرتع فضيلة ومأوى كل خير.
وإن أردت أن تلقي نظرة فاحصة على كتاباتهم وكثرة إنشائهم وتسويد أوراقهم، فهي من النطيحة والمتردية فكراً وأسلوباً؛ فأكثر أفكارهم (بهيمية) وجل كتاباتهم
سوقية، حتى إنك تخشى أن يقرأها صغارك لركاكة ألفاظها وتفاهة معانيها.. ثم
ترى للواحد منهم عدداً من المقابلات في شهر واحد.. وهم في أكثر المطبوعات
يتكررون حتى لا يحرم أحد من شرهم.. ثم ترى أحدهم إذا أتته الأسئلة مشرّقة
صرفها نحو المغرب جهلاً وغباءً، وهو مع ذلك يمدح ثلة من أتباعه ويطلق عليهم
صفات تنوء بحملها الجبال، ولو لم تعرف حقيقة أذنابهم من الممدوحين لقلت:
مرحى لأمة منهم هؤلاء؛ لما يلقى عليهم من صنوف المديح والبهرج الكاذب.
وآخر منهم يفتعل الغضب والخلاف مع صاحبه وهو في ثنايا كلماته الواهية
يشيد به ويروّج لآثاره وكتاباته ومؤلفاته.. وإن تطفلت وقلت: لا أدع هذه الثروات
تفوتني، لَهَالَكَ اسم هذه المؤلفات وعددها وتناثُر حروفها وفحش غلافها وتهالك
مادتها.. وإن يممت نحو العلماء الحقيقيين ممن رفعت بهم الأمة رأساً، ولهم قدم
صدق وجهاد في الأمة لوجدت عشرات المجلدات: السطر الواحد منها يعجز أن
يأتي ببعضه أمثال أولئك القوم؛ ولكنْ بتآمر عجيب وخطط ماكرة أُخمد ذكرهم
وطُويت سيرتهم وأُخفي أثرهم، وسُميت أوراقهم الذهبية ومؤلفاتهم العظيمة: (كتباً
صفراء) استهتاراً واستهزاءً بهم، وتنفيراً وتحقيراً لشأنهم.
وتأمل حال المنافقين والمنافقات؛ فهم أولياء بعضهم لبعض، قد ملؤوا الساحة
ضجيجاً وعفناً في الصحف وعلى الشاشات المرئية وفي بث الإذاعات. إننا نجد
غزواً عجيباً لا تسلم منه خيمة ولا بيت، ولا امرأة ولا رجل، ولا طفل ولا شيخ،
وتتقزز نفسك وأنت ترى تلك الكتابات والصور التي يطل عليك من خلالها شؤم
المعصية؛ فهي كغثاء السيل، وحاطب الليل يتبرأ منهم بل هو خير منهم صفاتٍ.
وحتى يكتمل الحديث وتتضح الصورة لبعض القرّاء أُورد بعضاً من صفات
المنافقين حتى يكون على بينة من أمره ولا يسلك مسلكاً خطيراً، وطريقاً وعراً،
وهو تصنيف الناس بالظن والحدس والتوقع، بل أمامه ركائز يعتمد عليها ومنائر
يسير على هداها، وليعرف المنافق برأسه وعينه متثبتاً متيقناً هم العدو؛ فاحذرهم:
الأولى: الكسل في العبادة قال تعالى: [وَإذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى] [النساء: 142] .
الثانية: قلة ذكرهم الله عز وجل قال تعالى: [وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً] ...
[النساء: 142]
الثالثة: لمز المطوعين من المؤمنين والصالحين والنيل منهم: [الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ] [التوبة: 79] .
الرابعة: الاستهزاء بالقرآن والسنة. يقول الله تعالى: [قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ] [التوبة: 65، 66] .
الخامسة: الوقوع في أعراض الصالحين غيبة وحقداً. يقول الله تعالى عنهم: [فَإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ] [الأحزاب: 19]
[الأحزاب: 19] .
السادسة: التخلف عن صلاة الجماعة؛ قال ابن مسعود: (وما يتخلف عنها
إلا منافق معلوم النفاق) رواه مسلم.
السابعة: مخالفة الظاهر للباطن. وهذه المسألة تدور عليها جميع المسائل.
يقول الله تعالى: [إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] [المنافقون: 1]
فما أكثر ترديدهم دعوى الحدب على صلاح هذا الدين وشريعته والحرص
على هذا المجتمع؛ وما إن ترى أفعالهم حتى تتمثل لك تلك الآية تفضح خبيئة
نفوسهم وبواطن قلوبهم.
الثامنة: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. يقول الله تعالى: [يَاًمُرُونَ
بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ] [التوبة: 67] .
وتأمل آراءهم حول الحجاب والتحرر وعمل المرأة وغيرها ترى الضلال
المبين والدعاية للمبطلين.
التاسعة: عدم الفقه في الدين؛ فتجد الكثير يملك معلومات عجيبة وتفصيلات
دقيقة وجزئيات صغيرة في أمور الدنيا دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، ولكن
إذا سئل عن المسح على الخفين سكت! ! يقول الله عنهم: [هُمُ الَذِينَ يَقُولُونَ لا
تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ
المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ] [المنافقون: 7] .
هذه تسع من ثلاثين أو تزيد من صفاتهم، ولكن حسبك من العقد ما أحاط
بالعنق.. وبواحدة من هذه تعرف من يبارز الحرب والعداء لله ولرسوله وللمؤمنين؛ ولعظم الأمر وخطورته، ولأنهم بؤرة فساد وموطن سوء جعلهم الله في الدرك
الأسفل من النار وهم أشد عذاباً من الكفار: [إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً] [النساء: 145] .
وقد قال بعض السلف: لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا السير في
الشوارع والطرقات من كثرتها! ! وفي أمة الإسلام اليوم أكثر من ذلك، والله غالب
على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(131/18)
دراسات إعلامية
الاتصال ودوره في النمو الثقافي
(2/2)
أحمد حسن محمد
تناول الكاتب في الحلقة الماضية أهمية (الاتصال) في حياة الإنسان، ثم
تطرق لتاريخ الأقمار الصناعية وأهميتها الاتصالية، ودورها في الاتصال الدولي،
والصعوبات التي تواجهها، ثم تطرق لوسائل الاتصال الإلكترونية وإيجابياتها..
وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب جوانب أخرى من الموضوع.
الاتصال والمستقبل:
على الرغم من التطور الكبير في وسائل الاتصال الذي أعطى مضامين
ووظائف جديدة لعملية الاتصال مما نتج عنه آثار ملموسة في المجتمع البشري
وقضايا التنمية بكل فروعها وتخصصاتها؛ فإن الواقع الملموس يدل على مستقبل
متجدد تنمو فيه عملية الاتصال بصورة أسرع وبطرق أكثر فاعلية؛ وستتعدى
عملية الاتصال الدور الفردي في الإرسال أي المرسل الفرد لتصبح وسائل جديدة
للتفاكر والمشاركة والأخذ والعطاء، أي تتحول وسائل الاتصال إلى مجالات حية
يتعايش فيها الأفراد والجماعات حول عمل مشترك، أو مشروع جامع؛ ومؤشر
ذلك في هذا الاختراع الحديث (إنترنيت) الذي يتيح اتصالاً مزدوجاً لا بين فرد وفرد
فقط بل بين فرد وجماعات، وبين جماعات وجماعات، أي يصبح جامعة أو منتدياً
يلتقي فيه الناس يسمعون ويشاهد بعضهم بعضاً.. كإجراء عملية جراحية يمكن أن
تكون محاضرة لطلاب الطب في أكثر من بلد وأكثر من قطر يشاهدون ويسألون
ويجدون الإجابة، بل ويتعاملون مع المعلومة الجاهزة في الوقت الذي يريدون.
ومما لا شك فيه أن انتشاراً أفضل لثقافات وحضارات ستحقق من خلال هذه
الوسائل بل ومعالم جديدة لمجتمعات إنسانية ستظهر نتيجة هذا النوع من الاتصال.
وحتى تتوفر للباحثين الآثار المترتبة على هذا الاختراع الجديد نرى الاكتفاء
بالإشارة إليه في هذه العجالة استكمالاً للموضوع.
فاعلية الاتصال والنمو الثقافي:
ولم تعد هذه الوسائل الاتصالية قاصرة على نقل الحدث أو المعلومات، ولا
حتى القيام بتفسيرها فحسب، ولكنها تقوم بصنع الحدث نفسه وصياغة القرار الذي
يتعلق بالحدث المعني بما يحمله من قيم وأفكار ومبادئ لها قدرة على الثقافة بمعناها
العام (القيم والمواهب والاتجاهات وأنماط السلوك) .
إن ما توفر للإنسان اليوم من تقنيات حديثة أسهم بصورة فاعلة في ترسيخ
القيم أو زلزلتها مما ساعد في بناء الإنسان أو هدمه. صحيح أن هذه التقنيات أدت
دوراً بارزاً في تقرير التفاهم والتقارب بين الشعوب، ولكنها أيضاً أسهمت في
تشويه كثير من الحقائق حول الآخرين بالتعتيم المتعمد على قضاياهم، وتزييف
الواقع وفق الأهداف والأطماع التي يملكها صاحب الرسالة ... [1] .
لقد أثر الاتصال في احتكار العملية التعليمية والثقافية، بل أصبح وسيلة هامة
في نشرها بعد استخدام التقنيات الحديثة التي أتاحت الكثير من فرص الحصول على
الأخبار ورؤية البرامج الإعلامية المختلفة، ومعايشة الأحداث المحلية، والعالمية
والاطلاع على المتغيرات الثقافية والسياسية والاقتصادية وآثارها على المجتمعات
المختلفة التي كانت محكومة بقوة وسائل اتصالية تقليدية، حتى كانت القنوات
الفضائية وتقنيات النقل وأساليب النشر مما جعل المجتمع البشري معرضاً للمشاهدة
والاستماع، بل والتحرك إلى مكان الحدث محلياً وعالمياً بصورة سريعة لم تكن
ميسرة من قبل [2] . وهنا قد يقال بأن مثل هذا الجمهور هو من الصفوة القادرة
على امتلاك التقنيات الحديثة أو استخدام وسائل النقل السريعة؛ غير أنه يمكن
القول أيضاً بأن أمثال هؤلاء أنفسهم يعتبرون وسائل اتصالية بما يحملونه إلى
مجتمعاتهم من مؤثرات ثقافية وحضارية، ومثال على ذلك طلاب البعثات الخارجية
إذ لا يعودون من دراساتهم وبعثاتهم بالتخصصات العلمية وحدها بل يعودون بعادات
وتقاليد جديدة قد يجد الكثير منها قبولاً في مجتمعاتهم الأم.
الثقافة والمجتمع:
تعتبر الثقافة هي الصورة الحية للأمة التي تحدد ملامح شخصيتها وتعمل على
ضبط اتجاهات سيرها بل وترسم أهدافها.. وتصدر معالم الثقافة عن ما يسود الأمة
من عقائد ومبادئ ونظم؛ بجانب سيرتها التاريخية ورصيدها المعرفي. وتظل
الثقافة القائمة على هذه الأسس مسايرة للأمة في سيرتها مع حركة الحياة.
وتعتبر القيم السائدة في المجتمع هي محور الثقافة التي تميز هذا المجتمع أو
ذاك، ويوم أن تتمزق هذه القيم أو تضيع في متاهات التغيير والاستلاب الثقافي؛
فإن المجتمع آنذاك يعاني مأساة حقيقية لشعوره بالتمزق وفقدان الهوية، ومن ثم
استسلامه لتيارات غريبة عن أصالته مما يؤدي إلى شعور بالسلبية والضياع وتشتت
الانتماء.
إن تأكيد الأصالة وتحصين الهوية الثقافية والمحافظة على الذاتية الثقافية
للمجتمع المسلم تعتبر أمراً ضرورياً ومتطلباً أساسياً من قادة الفكر والإعلام والتعليم
في الدول النامية على وجه الخصوص، أو على الأقل بالنسبة للدول التي تمتلك
قيماً ومثلاً خاصة قائمة على مفاهيم عقدية راسخة؛ إذ يتطلب المحافظة عليها
وتأكيد فاعليتها في عملية التكوين الذاتي لتحول دون الاجتياح الإعلامي الثقافي الذي
يهدد بقاء هذا المجتمع [3] .
وهنا يعرض لنا تساؤل أساسي: هل للاتصال وحده القدرة المطلوبة على
التأثير؟
صحيح أن لوسائل الاتصال تأثيراً ملموساً على ثقافة الأمم والشعوب، غير
أن هذا التأثير قد يقل إلى درجة كبيرة إذا ما ووجه بعوامل أساسية تحد من قدرته
ونجاحه في تحقيق المضامين التي سعى إليها من خلال عملية الاتصال، ومن هذه
العوامل ما نراه ممثلاً بصورة واضحة في مجتمعاتنا الإسلامية نموذجاً للمجتمعات
التي قد لا يسهل على وسائل الاتصال وحدها أن تحدث فيها التغيير الكلي الشامل
ونذكر منها:
أولاً: قادة الرأي والتوجيه في المجتمع لهم أثرهم في العملية الاتصالية نجاحاً
أو إخفاقاً؛ ولا سيما إذا كانوا ممن يتمتعون برصيد أدبي أو مكانة فكرية وعقدية.
ولقد ظلت أوروبا نفسها حبيسة الفكر الكنسي قروناً طويلة ترفض أي جديد مهما
كان مقنعاً، وترد علم العلماء؛ لأن رجال الكنيسة لم يقبلوه. وفي المجتمع القروي
مثلاً في كثير من البلاد العربية والإسلامية ما زالت سلطة القبيلة والأب أو الجد
الأكبر تتحكم في كثير من الأمور الاجتماعية للأبناء سواء من حيث الزواج أو
الطلاق، أو حتى اختيار صيغة التعليم والعمل ... وتزداد أهمية قادة الرأي إيجابياً
إذا ما كانوا على بينة واضحة، ويملكون وسائل الإقناع المبرهنة بالعقل والعلم
والحجة وفق أسس وأفكار متفق عليها في المجتمع مع اشتهارهم بالالتزام والصلاح
والقبول؛ وهذا ما يجب أن يكون عليه علماء الإسلام بما يعطيهم قدرة القيادة
الناصحة ضد تيارات الإفساد والتبديل السلبي لما عليه المسلمون الصالحون.
ثانياً: قدرة وسائل الاتصال في المجتمع المستهدف حيث إن هذه الوسائل إنما
تعمل في صراع؛ وكلما توفرت القدرة للوسيلة الاتصالية في التأثير أمكن لها إلغاء
تأثير غيرها على المجتمع.. ومما لا شك فيه أن الوسائل الاتصالية المحلية أقدر
على التعامل مع المجتمع الذي تنطلق منه؛ لقدرتها على استيعاب احتياجاته
ومتطلباته وفهم جذور الثقافة والفكر في هذا المجتمع الذي تنطلق منه؛ فإذا ما
توفرت لها عناصر القوة والتقنية الفاعلة والانتشار والتقبل من جمهور المستقبلين
أمكن لها احتلال الأولوية في عقولهم وأفكارهم؛ مما يصعب معه غزو وسائل
أخرى بأفكار مغايرة؛ ولعل هذا الأمر دعا كثيراً من الدول النامية إلى أن تتنبه إلى
وسائلها الاتصالية وفي مقدمتها وسائل الإعلام. ولتأخذ أولوية في برامج التنمية
المحلية بل وتسارع الكثير منها للاستقلال بأنظمة خاصة تعطيها فضل السبق في
البث، ليس على المستوى المحلي فقط بل على المستوى الدولي؛ وهذا ما يفسر
انتشار القنوات الدولية في كثير من الدول النامية رغم ما تعانيه بعضها من مشاكل
اقتصادية حادة!
ثالثاً: المستوى التعليمي والثقافي في المجتمع بما يتيح للأفراد قدرة الانتقاء
أمام هذا الكم الهائل من المعلومات والأفكار والثقافات التي تحملها وسائل الاتصال
على اختلاف أنواعها، سواء أكانت على مستوى التخاطب المباشر أو الانتقال أو
الإرسال الإعلامي مما جعل الجمهور المستقبِل هدفاً للعديد من الاتجاهات التي
صنعتها خبرات وقدرات علمية متخصصة؛ حيث لم يعد الاتصال اليومي أمراً
تلقائياً ولا عشوائياً بل قضية تخدمها عقول وأجهزة وقدرات عالية الثقافة متقدمة في
مهاراتها وتخصصاتها؛ وعلى ذلك فإنه لا بد أن يقابلها جمهور على قدر من الفهم
والإدراك للتعامل مع هذه الرسائل، ويملك أداة التمييز والتحري عن كل رسالة:
ماذا يريد؟ ومن يريد؟ ولماذا؟ وبماذا يريد؟ وبذلك يستطيع تصنيفها وفق أسس
فكرية ثقافية، فيأخذ منها على بينة، ويترك ما يتركه على بينة، وصدق الله
العظيم: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ] [الزمر: 9] .
والعالم الإسلامي الذي يقع معظمه ضمن دائرة البلدان النامية، بل معظمها
ضمن البلدان الفقيرة؛ كان أكثر استهدافاً من غيره من قِبَلِ دول الغرب خاصة التي
تسوّدت عالم الاتصال تقنياً وعلمياً وإبداعياً ... وليس من العسير على من يتابع
الأحداث العالمية أن يلمس المواجهة الشرسة بين الغرب بكل اتجاهاته الثقافية
والسياسية للمجتمع الإسلامي في أي بقعة من هذا العالم المعاصر، ولعل هذه
المواجهة كانت نتيجة لما يظنه الغرب من خطر الإسلام على كياناته وأطماعه في
السيادة على دول العالم، ولما أصبح يسمى بالنظام الحديث أو الجديد الذي تنفرد به
إلى حد ما الولايات المتحدة الأمريكية بعد زوال منافستها الأساسية دولة الاتحاد
السوفييتي..
لقد أصبحت عملية الاتصال بالنسبة للعالم الإسلامي وفق الحسابات المشاهدة
تمثل جانباً سلبياً خطيراً لكيان هذه الأمة ونموها الثقافي من خلال المشاهد الآتية:
1- إغراق العالم الإسلامي بتدفق مركّز من المعلومات والأفكار الغربية،
وإخضاع مؤسسات التوجيه والتثقيف والإعلام للنموذج الغربي مما يشكّل استعماراً
من نوع جديد بدلاً من الاستعمار العسكري الذي عانته أمم المسلمين سنوات عديدة.. نتج عنه اختلال توازن في التبادل الإعلامي والثقافي كان الخاسر فيه هو عالم
المسلمين.
2- ضرب حصار شديد حول العالم الإسلامي بما يحول بينه وبين الانعتاق
من سيطرة التدفق الغازي؛ إذ تم إغلاق كثير من منافذ الاتصال سواء ما كان منها
اتصالاً حركياً كحصار الطيران، أو حصاراً اقتصادياً مثل سلاح المقاطعة المعلنة
وغير المعلنة، أو قيود السفر والتعسف في منح تأشيرات الدخول للبلدان الغربية،
أو ما كان حصاراً إعلامياً يظل فيه العالم الإسلامي عالة على ما يجود به الغرب من
معلومات أو ثقافات؛ في حين يتم التعتيم الشديد على كل حدث داخل العالم
الإسلامي، ولا ينشر إلا ما يمثل جانباً سلبياً في حياة هذه الشعوب المغلوبة.. بل
أعطى الغرب نفسه حق تفسير الأحداث من وجهة نظر بعيدة عن الحياد، وأصبغ
عليها مسميات لها دلالتها السلبية على كل نشاط إسلامي بما في ذلك مفهوم الشريعة
الإسلامية.
3- استجابة كثير من قيادات العالم الإسلامي لوسائل الضغط الغربي، وتأثر
بعضهم بمضامين الرسالة الصادرة عن بلاد الغرب ودول الاستعمار الحديث؛ مما
كان له أثره الواضح على ما يصدر من قيود على حرية المواطنين في هذه البلاد
الإسلامية بحجة ما يشيعه الغرب عن الإرهاب والأصولية والتطرف الذي لا يصدر
في نظرهم إلا عن مسلم؛ بينما لا يُذكر شيء عن إرهاب إسرائيل وقتلهم وتشريدهم
علناً جموع الشعب الفلسطيني، ولا عن عصابات المافيا أو جيش إيرلندا وما
يقومون به من قتل وسلب وتدمير، أو حتى عن مجازر الصرب لأبناء وبنات
وأطفال المسلمين في البوسنة.
الاتصال والتنمية الثقافية:
لقد اتجهت حركة النمو الثقافي في كثير من بلاد المسلمين نحو النموذج
الغربي نتيجة هذا الانفلات عن قيم وعناصر البناء الإسلامي للفكر والتعامل
الحضاري؛ مما أوجد صداماً حقيقياً بين ثقافة غربية تحملها وسائل اتصال متطورة
يحملها فكر قادر على التعامل مع ما يريده، فضلاً عن صدامه بالإسلام، وبين
أصالة إسلامية لم تجد من يدرك قيمها ومثلها العليا إما جهلاً أو حقداً عليها ...
ولما كان الإسلام بطبيعته لا يعمل في فراغ بل يعمل من خلال نفس إنسانية
تدرك معاني العبودية لربها، وتميز بين خيرها وشرها؛ وصدق الله العظيم:
[وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ
مَن دَسَّاهَا] [الشمس: 7 - 10] . لذلك فإن ابتعاد المسلمين عن هذه الفاعلية في
كثير من ممارساتهم الاجتماعية والثقافية أوجد هذا الخلل والاضطراب في المجتمع
الإسلامي؛ حيث ظهرت العنصريات وتعددت اللهجات، واختلفت الجماعات حول
الفروع دون الأصول، وظهرت مدارس فكرية أقرب إلى الصراع منها إلى الالتقاء
والتفاهم تغذي بعضها أحياناً مصادر معادية للدين الإسلامي؛ فانحرفت بذلك قدرة
الاتصال، وكادت أن تختفي لغة التفاهم مما أضعف معه مسيرة التنمية الثقافية
المرجوة؛ لضعف وسائل الاتصال البشري بل والتقني والحركي من مواصلات
وهاتف. وظلت المعلومات المثمرة حبيسة مصادرها يصعب الانتفاع بها داخل
المجتمع المسلم؛ فضلاً عن الانتفاع بها خارج المجتمع المسلم.. وفي أحسن
الحالات تظهر فاعلية إيجابية بين الصفوة من الناس؛ بينما عامة المجتمع انشغلوا
في تحصيل القوت اليومي ومصارعة مطالب الحياة وتأمين مستوى معيشي مقبول!
وحتى تستقيم مسيرة التنمية الثقافية في البلاد الإسلامية وفق قواعد الإيمان
وهدي هذا الدين؛ فإنه لا بد من انعتاق وسائل الاتصال وتحريرها من السيطرة
الغربية على المسلمين، وذلك وفق مسارين متوازيين:
المسار الأول: إعادة بناء الاتصال ووسائله في العالم الإسلامي بما يجعله
عاملاً فاعلاً في تنمية ثقافية ومعرفية واعية قائمة على هدي الكتاب والسنة
ومستجيباً لحاجة المجتمع المسلم الحقيقية؛ سواء في المجال الإعلامي أو الاجتماعي
أو الاقتصادي أو السياسي ليقود في النهاية إلى التوافق ووحدة التوجه لدول العالم
الإسلامي وشعوبه، ومن ثَمّ القيام بواجب دعوة كل شعوب العالم إلى هذا الدين وفق
النموذج الأمثل الذي تصل إليه مجتمعات المسلمين باعتبارها الناتج الأفضل للثقافة
الواعية الهادية.
أما المسار الثاني: فيتطلب التصدي لتدفق وسائل الاتصال الأجنبية بما يساعد
على تنقية مضامينها، فيؤخذ الصالح منها ويرد الضار؛ وفق مقاييس شرع الله
وتطلعات الصالحين في المجتمع.
والأمر يتطلب في كلا المسارين الأخذ بأحدث النظم الاتصالية ما أمكن، مع
استثمار العلاقات الإنسانية التي دعا إليها الإسلام لتكون أساساً للتعامل والتخطيط
والتأصيل لعمليات الاتصال في كل وسائلها وأجهزتها.
إن للاتصال بمعناه الواسع الشامل وظيفته الملموسة الظاهرة في التنمية
الثقافية، وصناعة الفكر، وتحديد اتجاهات الأفراد والجماعات إذا ما استطاع
تخطي حواجز الثقافات المحلية للمجتمع المستهدف؛ وقد استفاد الغرب من تقنيات
الاتصال الحديثة على حساب التخلف التقني الذي يعانيه عالم المسلمين؛ فكان تأثيره
واضحاً في تغريب الأمة وتهديد العديد من تراثها العقدي والفكري.. ولولا طبيعة
هذا الدين التي تميزه بالثبات والأصالة والرسوخ والشمول فضلاً عن حفظ الله لها.. لوصلت الأمة الإسلامية المعاصرة إلى مرحلة الفناء لا قدر الله.
ولكنه الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- محفوظ بحفظ الله، ثابت مصدره الثقافي والعلمي؛ وصدق الله العظيم: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] .
ولم يعد أمام المجتمع المسلم في عالمنا الإسلامي المعاصر إلا العودة إلى هذا
الدين ومصادره الأساسية من الكتاب والسنة بما يقوده إلى نمو ثقافي يضمن خير
الدنيا وخير الآخرة.
__________
(1) أحمد فرح، ندوة وسائل الاتصال في التأثير على المجتمع، الإيسيسكو، ص21: 135.
(2) انظر: د سعد لبيب، وسائل الاتصال وتأثيرها على المجتمع، ندوة الاتصال، الإيسيسكو،
ص142.
(3) أحمد فرح، المرجع السابق.(131/22)
تأملات دعوية
هل نستفيد من التجربة الإيرانية؟
عبد الله المسلم
كان من خاتمة أحداث القرن الهجري الماضي قيام الثورة الإيرانية ونجاحها
في إقامة دولة باسم الإسلام تسعى إلى تطبيقه، وكان لهذا الحدث صيته وأثره على
مستوى العالم أجمع.
ومما لا شك فيه أننا نختلف تماماً مع النموذج والتجربة الإيرانية، ونرى أن
الرافضة لا يمكن أن يمثلوا الإسلام أو يقيموا دولة تتحدث باسمه، وتاريخ الإسلام
مليء بالصفحات السوداء التي سطرها هؤلاء في العداء لأهل ألسنة والتعاون مع
أعداء الإسلام، ونرى أيضاً أن ما يتحدث عنه الرافضة في إطار تصدير الثورة أو
نشر الإسلام إنما هو مصطلح جديد لنشر عقيدة الرفض والطعن في عقيدة الإسلام.
لكن مع براءتنا منهم واقتناعنا بعدم إمكان الالتقاء معهم في منتصف الطريق؛
فما مدى استفادتنا من دراسة تجربتهم؟
لقد رسم هؤلاء برنامجاً ضخماً في الدعوة لنشر مذهبهم وطريقتهم،
واستطاعوا الوصول إلى ميادين جديدة ومناطق شتى فما السر وراء نجاحهم في ذلك؟
لقد واجهوا تحدياً جديداً في صياغة المناهج التربوية والتعليمية؟ فهل بقي
هؤلاء على الإرث العلماني السابق؟ أم استطاعوا رسم خطوات علمية لمنهج
تربوي تعليمي جديد؟ وما الصعوبات والعقبات التي واجهتهم في ذلك؟ وكيف
تعاملوا معها؟
وكيف صاغوا مؤسسات وبرامج إعلام ما بعد الثورة؟ وكيف سدوا الفراغ
الهائل بعد النظام البائد؟ ومؤسسات الدولة كيف بنيت؟ وكيف تمت أسلمتها
وتحويلها إلى مؤسسات تدعم الفكر والتوجه الرافضي؟ ولماذا نرى سفراء تلك
الدولة ومؤسساتها الإعلامية - ظاهرياً على الأقل - واجهة تمثل المذهب،
ونساءهم يتميزن عن بقية المسلمات الدبلوماسيات بالعناية بالحجاب والالتزام به؟
وكيف استطاع هؤلاء بناء المجتمع الحديث على أسس جديدة وقد ورثوا
مجتمعاً مليئاً بالتفسخ والانحلال والبعد عن أخلاق الإسلام وشرائعه؟
وكيف استطاع هؤلاء صياغة خطاب يقوم على أساس ديني ليخاطب المرأة
المعاصرة والشاب والفتاة في وسط الزخم الإعلامي المادي؟
وكيف تعاملوا مع النظام الاقتصادي القائم في مؤسسات الدولة، وقطاعات
المجتمع الاقتصادية الخاصة؟ وهل نجحوا في تخليصها من الربا والفساد
والمعاملات المحرمة في مذهبهم علي الأقل؟
وهل نجح هؤلاء في الحد من المظاهر المخالفة للشرع بإيجاد نظام للحسبة أم
لا؟
والأمر باختصار: أن هؤلاء ورثوا تركة المجتمع العلماني الفاسد ومؤسساته
وصبغوه بالصبغة الدينية، فهل لذلك رصيد؟ أم أنه مجرد طلاء خارجي؟ وما
الصعوبات والعقبات التي واجهتهم وما مظاهر الاخفاق لديهم؟
إننا نفتقر لمعلومات كثيرة عن هذه التجربة، ودراستها - أياً كان موقعها من
النجاح والإخفاق - أمر كفيل بأن يختصر لنا خطوات كثيرة. ولن ننجح في
الاستفادة من هذه التجربة إلا إذا استطعنا إلغاء الربط بين دراسة تجربتهم والاستفادة
من درسهم وبين الرفض لبدعتهم وإنكارها والبراءة منها.
لقد أمرنا القرآن الكريم بأن نأخذ الدرس من سَيِر الآخرين ونعتبر بما هم عليه
وما يبذلون من جهد [ولا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا
تَاًلَمُونَ] [النساء: 104] .
وقال معاذ -رضى الله عنه-: (خذ الحق أنَّى جاءك؛ فإن على الحق نوراً) . رواه الحاكم في المستدرك 513/4.
وقال شيخ الإسلام: (.. فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني - فضلاً
عن الرافضي - قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من
الباطل دون ما فيه من الحق) . (منهاج السنة 342/2) .(131/28)
ندوات ومحاضرات
ندوة عن:
(هويتنا الإسلامية)
بين التحديات والانطلاق (الحلقة الأخيرة)
إعداد: وائل عبد الغني
بعد استعراض ماهية (الهوية) وأهميتها تناول ضيوف الندوة الكرام نظرة
أعداء الأمة إلى هويتنا وأساليبهم في محو الهوية الإسلامية لاستبدال التغريب بها،
فكان من هذه الأساليب: التعليم، والإعلام، وخدعة الديمقراطية والتحرر،
والتدخل بذريعة التنمية، وحوار الأديان.. ثم طرحت على مائدة النقاش بعض
النقاط التي تمثل إطاراً للخروج من هذا المأزق.. وفي الحلقة الأخيرة هذه يستكمل
الضيوف ما تبقى من جوانب الموضوع. ... ...
... - البيان -
* كان لا بد لنا من التفصيل فيما سبق من النقاط تفسيراً يجلي خطرها وأثرها.
ولما تشعّب بنا الحديث نريد أن نخلص إلى نتائج مجملة.
نريد من والدنا الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً، أن يلخص لنا أهم النتائج
والتحديات.
د/ مصطفى:
بعد اجتياح العالم الإسلامي من قِبَلِ الاستعمار العسكري، نجد أن الغرب
الظافر لم يضيّع وقته؛ بل أسرع في اهتبال كارثة إلغاء الخلافة على يد أتاتورك
اليهودي الدونمي، وجهّز جيوش الغزو الثقافي بطريقة تفوق نجاحه في الغزو
العسكري؛ إذ استغل تفوقه العلمي والتكنولوجي، وامتلاكه لزمام السلطة بحكم
احتلاله العسكري وتجنيده لضعاف النفوس، والمنافقين، وأتباع كل ناعق؛ لكي
يسرع الخطا بالمجتمعات الإسلامية، للسير وفق فلسفته وقيمه وعاداته، وليسلبها
هويتها الخاصة التي تكمن فيها عناصر المقاومة.
كذلك استفاد من صدمة الهزيمة النفسية للأمة، فاستغلها، مستفيداً من تحليل
ابن خلدون لهذه الحالة التي أفرد لها فصلاً خاصاً بمقدمته بعنوان: (أن المغلوب
مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره، وزيّه، ونحلته، وسائر أحواله) .
وقد تعددت مسالك الغزو الثقافي وتفنن خبراء الاستعمار في تنويع أدواته،
ومن واجبنا الاعتراف بأنه نجح في قطف ثمار ما غرسه بأناة وصبر طوال
عشرات السنين؛ ونكتفي باستعراض أهم (قذائف) الغزو الثقافي:
أمسك الاستعمار بنظام التعليم لتخريج أجيال ضعيفة العقيدة ومفتونة بحضارة
الغرب وفلسفته، وهو ما أفصح عنه المستشرق الإنجليزي (جب) : (إن الهدف
الرئيسي من التعليم المدني (بعد عزل التعليم الديني) ، هو صبغ حياة المسلمين
الفكرية، والاجتماعية، والأخلاقية بصبغة مسيحية غربية) .
وعمّق الغرب الخلافات بين الأمة، بإحياء حضارات ما قبل الإسلام
(فرعونية، وآشورية، وبربرية، وفينيقية) ، مع إظهار أي دعوة إلى التمسك
بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر!
وأبعد الشريعة الإسلامية، وأجبر المجتمعات على تطبيق القوانين الوضعية
الغربية، وهي قوانين تخالف أخلاق المسلمين وأعرافهم الاجتماعية، فضلاً عن
مخالفتها لدينهم وشريعتهم.
وحارب اللغة العربية الفصحى؛ مشجعاً اللهجات العامية؛ لتفقد الأمة صلتها
بالقرآن الكريم، ويزداد تمزقها.
وكانت هناك أيضاً حروب علمية وفكرية، شنها المستشرقون على المسلمين، وتظهر على أيديهم، وأيدي تلامذتهم والمعجبين بأفكارهم المروّجين لمفترياتهم،
فضلاً عن ترويج المذاهب الفلسفية، التي ارتبطت باليهودية أمثال (الماركسية)
و (الوجودية) وآراء (فرويد) في علم النفس، وبعض آراء (دوركايم) في علم ...
الاجتماع.
وحدّث ولا حرج عن نشر الخمور، والمخدرات، ودور البغاء، والقمار،
والأفلام الجنسية الفاضحة، وكل ما من شأنه إفساد الأخلاق، وإشاعة التفسخ
والانحلال، كمعاول هدم في كيان المجتمعات الإسلامية.
وما زلنا نعاني من وسائل الإعلام التي بدأت بطريقة متواضعة باصطناع
الجرائد والمجلات التي تخدم المستعمر، وتهيئ الأذهان لقبوله والرضا بحكمه، ثم
تطورت هذا التطور المذهل الذي أصبح يغزونا في عقر دارنا، بالقنوات الفضائية
التي لا يكاد يصدّها حاجز، حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه!
قراءة مستقبلية:
* هل ستعود إلى المسلمين هويتهم التي هي مناط عزّهم ومجدهم؟
الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
نعم، كما وعدنا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: [هُوَ
الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]
[التوبة: 33] ، وقال رسول الله: ( ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) [1] ،
وقد بيّن الله هوية الذين سيسلطهم على اليهود، إن عادوا إلى الإفساد في الأرض:
[بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَاًسٍ شَدِيدٍ] [الإسراء: 5] ، وأخبر -صلى الله عليه
وسلم- أن (الهوية الإسلامية) ستكون هي هوية الذين يقاتلون اليهود، حتى إن
الحجر والشجر ليقول: (يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله) [2]
الحديث، فالإسلام وعبادة الله وحده هو مفتاح النصر والتمكين.
أما شعارات الدجاجلة الذين بدلوا نعمة الله كفراً، والذين هم من جلدتنا
ويتكلمون بألسنتنا، فهؤلاء ستجرفهم سنة الله: [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] [الرعد: 17] ، فما هؤلاء الضالون المضلون،
من دعاة التغريب والقومية والعلمانية.. إلخ سوى (فقاقيع) ، سنحت لها الفرصة
لتطفو على السطح، ثم تتلاشى كأن لم تكن، وسينتصر الإسلام رغم أنف الجميع.
إن العالم الإسلامي هو الآن الأجدر بالوصاية على المجتمع البشري، بعد
انسحاب الأديان الأخرى من معترك الحياة، وبعد انهيار الشيوعية الملحدة، وإفلاس
الغرب المادي من القيم الروحية السامية.
قصّ الأستاذ يوسف العظم؛ أن وزير الحرب اليهودي (موشي دايان) ، لقي
في إحدى جولاته شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب، في حيٍ من أحياء قرية
عربية باسلة، فصافحهم بخبث يهودي غادر، غير أن الشاب المؤمن أبى أن
يصافحه، وقال له: (أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن
يوم الخلاص منكم، لا بد آتٍ بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول: (لتقاتلن اليهود،
أنتم شرقي النهر، وهم غَربِيّه) ، فابتسم (دايان) الماكر وقال: (حقاً! سيأتي يوم
نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً.. ولكن متى؟) ،
واستطرد اليهودي الخبيث قائلاً: (إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه،
ويقدر قيمه الحضارية..
وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة،
وينتهي حكم إسرائيل) .
* استعادة هوية الأمة فرض مؤكد على الأمة كلها، ولا شك أن المسؤولية
تتأكد في شأن من حمّلهم الله هذه الأمانة.
فمن هم أصحاب هذه المسؤولية؟
د/ جمال عبد الهادي:
المسؤول عن إيجاد الشخصية ذات الهوية الإسلامية والحفاظ عليها من
التيارات الهدامة هم أولياء الأمور، وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة عقدية؛ فإن
الأمة لا بد أن تُربى على الإسلام، وإليه يُدعى الناس، وأولياء الأمور هؤلاء كلٌ
بحسبه وحسب ما ولاه الله، ابتداءً من الحاكم، وانتهاءً بالأب في بيته، والمدرس
في مدرسته، وعلى ذلك فإننا بحاجة لأن نستنفر طاقات الأمة لحماية هذه الهوية.
* بعد أن تشعب بنا الحديث في جوانب عدة، نحتاج لأن نجمل التحديات في
طريق صعودنا نحو قمتنا الشماء (الهوية الإسلامية) ؟
د/ جمال:
يمكن أن نجمل أكبر التحديات التي تواجه الهوية في ثلاثة تحديات عظمى هي:
1- التحدي المنبعث من واقع المسلمين المتمثل في الانحراف العقدي
والسلوكي، والجمود الفقهي، والإفساد الفكري.
2- التحدي المنبعث من داخل المجتمع الإسلامي نتيجة الاحتلال، ويتمثل في
الشعوبية ونفوذ التبشير، ومناهج التربية والتعليم التي أخرجت الإسلام من قلب
وعقل المسلم، وفتحت أمامه طريقاً لترسخ مكانه الأوهام والأهواء، عن طريق
ربائب الغرب وصنائعه في بلادنا.
3- التحدي الخارجي، ويتمثل في الغرب ومناهجه ودعوته، ومِن ورائه
الاستشراق والتغريب ليملأ الفراغ الذي تركته مخططات الاستعمار، في تفريغ
التربية والتعليم من مضمونيهما، وتسطيح الأفكار والحقائق العلمية والتربوية في
عالمنا الإسلامي، وقد تظاهرت الحركات الاستشراقية والتبشيرية على هذا العمل.
وفي رأيي أننا لو حسمنا التحدي الأكبر وهو الأول، نكون بذلك قد حسمنا
قدراً كبيراً من المشكلة؛ لأن عداوة الغرب متحققة ومستمرة بنص القرآن: [..وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا ... ] [البقرة: 217]
واستطاعتهم مرهونة بشرط؛ هو ضعفنا نحن، ولأن سنة الله الماضية أن أعداءنا
لا يتمكنون منا إلا بضعف منا أو تقصير: [ ... وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [آل عمران: 120] .
لذا علينا أن نعالج المستوى الداخلي، ونعطيه أولوية، دون إغفال علاج باقي
التحديات.
د/مصطفى حلمي:
القضية ليست في الهوية، ولكنها في الأمة الإسلامية نفسها؛ لأن منظري
الغرب عامة، والأمريكيين على وجه الخصوص، يعلمون أن الإسلام هو (البديل
الحضاري) القوي، الذي يمكنه دون غيره أن يملأ الفراغ الذي تعانيه الحضارة
الغربية اليوم، بخلاف الأطروحة الصينية أو اليابانية، التي لا تقدم نموذجاً متكاملاً
للحضارة.
هذه الحقيقة ملموسة رغم أنها تغيب عن كثير منّا، وقد اعترف بها غير واحد
من باحثيهم، على سبيل المثال: (هانتنجتون) ، و (أرنولد توينبي) الذي توقع قدوم
الإسلام، لعمق شعوره بأزمة الحضارة الغربية؛ حيث قال: (هناك مناسبتان
تاريخيتان، أثبت الإسلام فيهما، أنه يستطيع أن يقود العالم: الأولى: على أيام
النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلافة الراشدة، والثانية: في الحروب الصليبية،
عندما قام صلاح الدين بقيادة الأمة على أساس الإسلام) ، وله نبوءة مستقبلية إذا
حدث تغيرٌ على المسرح العالمي، فيقول: (سيعود الإسلام ليؤدي دوره من جديد،
وأرجو ألا أرى ذلك اليوم) لذلك لا نعجب من إعلان حلف شمال الأطلسي: أن
الخطر القادم هو الإسلام، ومن هنا يتضح أن الأمة مستهدفة لذاتها ولدينها.
أ/جمال سلطان:
الأمة الإسلامية هي التي تمتلك البديل الحضاري المتكامل والمتميز: ذات
عقيدة صحيحة متوافقة مع الفطرة والكون.. كتاب محفوظ، وهي خصيصة لا
مثيل لها عبر الزمان والمكان، وهي بالغة الأهمية، لدينا عمق حضاري بصورة
مدهشة، والعجيب أن الأوربيين يدركون أكثر منا قدرالإمكانيات الحضارية للتراث
الإسلامي!
د/جمال عبد الهادي:
بالنسبة للحضارة فأرى أن (الحضارة الإسلامية) هي التي يمكن أن نطلق
عليها مصطلح: (الحضارة) ، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح؛ لأن الحضارة الغربية
لا تُعتبر كذلك، وإنما نطلق عليها هذا اللفظ تجوّزاً؛ لما لديها من تقدم صناعي
وتقني حديث، وإلا فإن مفهوم الحضارة يرمي إلى ما هو أبعد من التقدم التقني،
يرمي إلى القيم التي تحكم الإنسان.
وإذا ما نظرنا إلى المشروع الغربي، وما ينبني عليه من تصوره لـ (حقائق
الكون) ، و (الحياة) ، و (نظرته إلى الغير) ، بل وإلى (تعريفه لنفسه) وما يتفرع
عن هذا التصور من قيم وأخلاق، فلا يمكن بحال أن نعتبر هذا المسخ الإنساني
حضارة، وهم هناك يدركون مدى ما هم فيه من أزمة.
أ/جمال سلطان:
الجانب الحضاري له أهمية خاصة ومؤكدة في الحفاظ على الهوية؛ لأن العدو
استطاع من خلال غزوه الحضاري لبلادنا أن يوجد نخبة ذات تبعية أمكن عن
طريقها تعبيد النفوس لكل ما يقول، ابتداءً بالدين، وانتهاءً بمظهر اللباس وأسلوب
الطعام والشراب، بعد أن نجح في تأهيله نفسياً في أن يتقبل منه كل ما يقول.
ومن التجارب الواقعية البارزة في الدلالة على أهمية الجانب الحضاري
لتنشيط هويتنا والانتماء إليها، ما حدث في البوسنة والهرسك والشيشان في فترة
الحرب؛ إذ كان أفضل أسلوب يعمق الانتماء، هو إحياء الشعور بالانتماء
الحضاري لأمة الإسلام، وكان هذا مدخلاً جيداً لتصحيح العقيدة والسلوك والعبادات، لذلك فإن أهمية هذا الجانب تزداد الحاجة إليه بإلحاح في أطراف الجسد الإسلامي؛ لأنها أكثر تعرضاً للغزو.
وعليه فنقول: إذا كانت قضية مرجعية الكتاب والسنة تحظى بأولوية في
الخطاب الدعوي في بلادنا العربية الإسلامية؛ كمصر أو اليمن أو الأردن مثلاً،
فإن الجانب الحضاري لا بد أن يطرح بإلحاح على قائمة الخطاب الدعوي في
أطراف الجسد الإسلامي.
* يدعي البعض أن جميع موروثاتنا الثقافية تعد جزءاً من هويتنا، وفي هذا
الادعاء مغالطة مقصودة في بعض الأحيان، ومغبشٌ بها على البعض في أحيان
كثيرة.
نرجو بيان ذلك من جهة الثقافة والتاريخ.
أ/ جمال:
مخطئ من يقرن بين إعادة نشر تراثنا الإسلامي الأصيل، وبين إعادة نشر
الكتابات المنحرفة في التراث، من أجل إحيائها من جديد، على اعتبار أنها جزء
من تراثنا، وجزء من هويتنا.
لأن هذه الكتابات جهد بشري، والجهد البشري فيه المنحرف والقويم،
والمنحرف لا يعوّل عليه ولا يملك قداسة، بل هو مهدرٌ؛ لأنه مخالف لمرجعيتنا
ومقاييسنا الثابتة، ونحن بحمد الله نملك وحدنا ثوابتنا القياسية التي يمكن من خلالها
التفريق بين الأمور، التي تتمثل في أصول شريعتنا، والتي إن عزلناها فإن الأمور
تبدو كلها نسبية.
أما التاريخ باعتباره أيضاً من مقومات هويتنا فهو مصبوغ بالكتاب والسنة،
وكذا الثقافة والمعرفة، وهذا لا يعني عدم الاستفادة من باقي الثقافات؛ إذ يمكننا
وفق أصولنا أن نستفيد منها بما لا يتعارض مع شرعنا؛ لأننا إذا كررنا فقلنا: إن
خبرات الشعوب وتراثها هي المرجعية للهويات؛ ففي الحالة الإسلامية يمكن أن
نعتبر أن هذه الخبرات مؤسسة على الكتاب والسنة هي مرجعيتنا في الهوية.
* ويدعي البعض أيضاً أن الحضارة الإسلامية حضارة متجمدة؛ لأنها مقيدة
بالنصوص.
ولا شك أن هذه شبهة مدحوضة لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل.
أ/ جمال سلطان:
نتيجة لأن التغريب قد حوّل الثقافة العربية إلى نوع من التقليد والمحاكاة،
والترويج للتيارات الوافدة، فلا عجب أن تظهر مثل هذه الدعاوى، وأن يُسوّق لها
تسويقاً فذّاً، ولكن الحقيقة على خلاف ذلك، فحضارتنا ثرة معطاء، تتميز بما
رموها به، من وجود مرجعية ثابتة متمثلة في الوحي، وهذه المرجعية تصنع
جوانب الحضارة كلها دون استثناء، وتطلق الطاقات، وتشجع على الإبداع، في
حدود صلاح الناس على الأرض، فنجد على سبيل المثال أن الفن الإسلامي قد
أبدع في الزخرفة التي تعتمد على المنحنيات وتتحاشى الأشكال المستقيمة للبعد عن
الأشكال الموحية بالصلبان، كما ابتعدت عن رسم ذوات الأرواح.
والمتأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية، يرى كيف أن الشريعة أوجدت
الإبداع والإضافة والتطوير حتى قدّمت لنا بديلاً مبهراً للأوروبيين الذين يعانون من
الفراغ الشديد، والذين يصورون لنا مثلاً بعض الوثنيات الإفريقية أو الهندية على
أنها فن وحضارة، وهم يدركون جيداً أن الإسلام وأمته هما اللذان يشكلان بديلاً
حضارياً يمكن أن يجتذب ويحتوي القطاع الأوسع من البشر؛ لأنه أقرب إلى
الفطرة والعقل والإدراك، إلى جانب القوة الضخمة التي يتيحها له الميراث
الحضاري.
د/جمال عبد الهادي:
لماذا يريدون لنا أن نُقصي الدين عن كل شيء؟ إن مسألة الدين قد أصبحت
مسألة جوهرية للغاية في تشكيل وصياغة هويات الشعوب اليوم، وهذا ما يعترف
به الغرب نفسه، والقضية تاريخية قديمة، ولكن الغرب لم يدركها في وقت كما
أدركها اليوم، يقول (هنري بيرانجيه) : (إن مسألة الدين أهم ما يشغل العالم المتدين
اليوم؛ لأن مستقبل الأمم المتحضرة يتوقف على حلها) ، ولكن الواضح أن الذي
أصبح يواجه الحل الإسلامي اليوم ليسوا هم وحدهم، وإنما أناس من جلدتنا
ويتكلمون بألسنتنا؛ سواء في تركيا أو في الجزائر أو في غيرهما.
د/مصطفى حلمي:
يخشى الغرب مما يسميه الحركات الأصولية، التي تمثل بعثاً جديداً للهوية
الإسلامية؛ إذ إنها في حالة صعود مقلق بالنسبة لهم؛ بل يعترفون أن الجماهير
العربية التي أثرت فيها الحركات الإسلامية الشائعة اليوم، كانت ناصرية أو بعثية
منذ عشرين سنة، وتخلت عن هويتها المصطنعة من التراث والحداثة بعد أن
شعرت بضعفها، وعادت إلى هويتها الأصيلة من جديد.
وهذا يمثل خيبة أمل غربية من جراء نجاح هذه الحركات في إفساد جهد
السنين من محاولات التغريب الكامل للمجتمعات المسلمة، وهذا لا يعني أننا
متملكون من الأمر، أو أننا لا نواجه أخطاراً جساماً، فالأخطار ما زالت محدقة
ذات أفنان، ونحن أقدر على تجاوزها بعون الله بشرط التمسك بهويتنا، كما قال
تعالى: [ ... وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [آل عمران: 120] .
نقاط على الطريق..
* هذا يجعلنا نعود إلى قضية البعث الإسلامي الحضاري الجديد والحديث عنه.
د/مصطفى حلمي:
من أعجب ما قرأت في قضية الحضارات وبعثها تقسيم المؤرخ (أرنولد
توينبي) الحضارات إلى حضارات (متحجرة) كاليهودية، و (نائمة) كالحضارة
الإسلامية، ويقول: (لا بد للنائم أن يستيقظ) ولعل من المبشرات قيام إسرائيل؛
لأن قيام الحضارات يخضع لفكرة (التحدي والاستجابة) لأن الحضارة تقوم عندما
توجد ظروف صعبة جداً في مجتمع ما فيتحدى تلك الظروف لتقوم الحضارة وتنجح
وتتغلب على المعوقات.
وهذا ما توصل إليه (توينبي) الذي حذر من قيام إسرائيل في وسط العالم
الإسلامي، لا لحبه الإسلام، ولكن لخوفه من وجود خطر يوقظ (المارد النائم) ،
بناءً على القانون الذي فسّر به قيام الحضارات، أي: (التحدي والاستجابة) ، أو
بتعبير الشيخ (أبي الحسن الندوي) : (حركة المد والجذر الحضاري) ، خلافاً للغرب
الذي يرى أن الحضارة تسير في خط مستقيم منطلق دون تعثر، وأن آخر مراحله
هي النظام العالمي الجديد، أو ما يعرف بالعولمة.
ولا شك أن انتشار الإسلام وتمدده داخل ديارهم، ودخول عدد من الصفوة من
أمثال (هوفمان) و (محمد أسد) ، يدل على قدرة الإسلام على الانتشار حتى في ظل
الصعاب، والمستحضر لكمّ المؤامرات والمخططات التي مورست، وتمارس ضد
المسلمين ودينهم، لا يشك لحظة بمقاييس البشر في زوال الإسلام، ولكن تلك
طبيعة العقل الغربي الملحد الذي انزعج بشدة عندما استيقظت الأمة من جديد.
* نعود لقضية التعليم والإعلام لنرسم دورها في العلاج.
د/جمال عبد الهادي:
الهدف من التعليم والإعلام في الإسلام هو: تربية الشعوب وتثقيفها على
أساس العقيدة والقيم التي تعتقدها، ونقل المعارف العلمية مجردة غير مشوبة بقيم
الآخرين وأساليب حياتهم؛ لأن الله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، لذلك فإن المهمة
الكبرى للتعليم والإعلام؛ هي (البناء) لا (الهدم) ، وتهذيب السلوك وليس إثارة
الغرائز، أو مجاراة العادات والميول الفاسدة للناس وإن كانوا أغلبية.
إن منظومة التعليم والإعلام لا بد أن تكون منظومة قوية مؤثرة، وإلا فإن
الناس سوف ينفضّون عنها؛ لأن هناك من الوسائل البديلة عنهما في الوقت
الحاضر ما لا تعجز عن ابتكاره القرائح.
وقد يدفع الفضول معظم الناس إلى متابعة الغث مما يعرض عليه، ثم لا
يلبثون أن يعودوا إلى الحق أو يثوبوا إلى رشدهم؛ لأن الحق باقٍ لا يبطله شيء.
* قضية الهدي الظاهر باعتباره معبّراً عن العقيدة ومظهراً للانتماء، تحتاج
إلى عناية خاصة من القائمين على أمر هذا الدين، والحريصين على الهوية
الإسلامية، ولا شك أن قضية التغريب والحرب على الهوية الإسلامية قد صاحبتها
دعوة إلى تقسيم الدين إلى مظهر وجوهر، بحيث يتخلى الناس عن المظهر بحجة
أن الجوهر كافٍ، ولا شك أن هذه الدعوى لها مخاطرها.
الشيخ /محمد بن إسماعيل:
هذه الدعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها العذاب، وقد انطلت على كثير من
السذج حتى صاروا يروّجون لها دون أن يدركوا أنها قناع نفاقي قبيح، وأنها من
لحن قول العلمانيين الذين يتخذونها قنطرة يمرقون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام
دون أن يُخدَش انتماؤهم إليه.
وإذا كانت القضية تتوقف عند حَسَني النية من المسلمين المخلصين عند نبذ ما
أسموه: (قشراً) للتركيز على ما دعوه: (لبّا) ، ولكنها عند المنافقين الحريصين
على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها مدخل لنبذ اللّب والقشر معاً، تماماً كما
يرفعون شعار الاهتمام بـ (روح النصوص) وعدم الجمود عند منطوقها.
ومع أن هذا كلام طيب إذا تعاطاه العلماء وطبقه الأسوياء؛ إلا أنه خطير إذا
تبناه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ إذ يكون مقصودهم
حينئذ هو إزهاق روح النص بل اطّراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بعد تحريفه
عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
إنهم يريدونه ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة الذي
يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا له بالبقاء على هامش الحياة.
ولقد لفتنا سلفنا الصالح إلى أهمية التمايز الحضاري بالمحافظة على (قشرة)
معينة تفترق بها أمتنا عن سائر الأمم، وهذه القشرة التي تحمي الهوية الإسلامية
المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله ب: (الهدي الظاهر) ، وأفاضوا في بيان
خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها.
فالقضية إذن قضية مبدأ وليست مجرد شكل ومظهر؛ فنحن كما نخاطب
الكافرين: (لكم دينكم ولنا دين) نقول لهم أيضاً: (لكم قشرتكم ولنا قشرتنا) ، ولأننا
بشر مأنوسون ولسنا أرواحاً لطيفة، فإن ذلك يقتضي أن يكون لنا مظهرٌ ماديٌ
محسوس، هذا المظهر شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز
الأمة المسلمة في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها؛ بل إن أهل كل
ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبّراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك
أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم
عن غيرهم، وتترجم عن أفكارهم، وترمز إلى عقيدتهم.
وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون بصرامة بطاقيتهم،
ولحاهم، وأزيائهم التقليدية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب،
وفي السيخ والبوذيين وغيرهم.
أليس هذا كله تميزاً صادراً عن عقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بالهوية؟ !
وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان، فكيف لا نتمسك نحن بصبغة
الرحمن التي حبانا الله عز وجل [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُونَ] [البقرة: 138] .
لماذا تقدس الحرية الدينية لكل من هب ودب، وفي نفس الوقت تشن
(الحروب الاستراتيجية) على المظاهر الإسلامية كاللحية والحجاب، حتى إنه لتعقد
من أجلها برلمانات، وتصدر قرارات، وتثور أزمات، وتجيّش الجيوش، وترابط
القوات، هذا ونحن أصحاب الدار.
كل دارٍ أحق بالأهل إلا ... في رديء من المذاهب رجس
أحرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس
أفكل هذا من أجل ما أسموه (قشوراً) لا! بل هم يدركون ما لهذه المظاهر من
دلالة حضارية عميقة، ويدركون أنها رمز يتحدى محاولات التذويب والتمييع،
ويصفع مؤامرة استلاب الهوية كمقدمة للإذلال والاستعباد.
إن من يتخلى عن (القشرة الإسلامية) سيتغطى ولا بد بقشرة دخيلة مغايرة لها، فلا بد لكل (لب) من (قشر) يصونه ويحميه، والسؤال الآن: لماذا يرفضون
(قشرة الإسلام) ويرحبون بقشرة غيره؟ فيأكلون بالشمال، ويحلقون اللحى،
ويُلبسون النساءَ أزياء من لا خلاق لهن، ويلبسون القبعة، ويدخنون (البايب)
و (السيجار) ؟ !
إن تقسيم الدين إلى قشر ولب غير مستساغ، بل هو محدَث ودخيل على الفهم
الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير في اتباعهم
واقتفاء آثارهم، فضلاً عن أنه يؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، ويورثهم
الاستخفاف بالأحكام الظاهرة التي يعتبرونها قشوراً، فتخلو قلوبهم من أضعف
الإيمان، ألا وهو: الإنكار القلبي.
* في الختام.. نرجو أن نكون قد وُفّقنا لا نقول: في معالجة القضية، ولكن
في طرحها والإشارة إلى أبرز نقاطها؛ لأن القضية ما زالت تحتاج إلى تفعيل على
كافة المستويات، من رسم أدوار.. وبذل جهود.. وفضح مؤامرات.. وتصدّ
لمكائد ومخططات.
جزى الله مشائخنا وأساتذتنا الذين شاركونا في الندوة خير الجزاء..
وأثابهم على جهدهم هذا أضعافاً مضاعفة في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،
__________
(1) أحمد (17939) .
(2) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة (2922) ، أحمد (27502) .(131/30)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
فاتحة الملف
حمَّى الخرافة
يعد هذا العصر عصر التقنية والانفجار العلمي والمعرفي؛ فقد تقدمت فيه
العلوم والصناعات تقدماً مذهلاً، وأصبحت الدول الصناعية تتبارى في الاختراع
والابتكار.. ومع ذلك كله فهذا العصر نفسه لم يخل من الخرافة والدجل، كما انتشر
فيه الإلحاد والضلال انتشاراَ واسعاً؛ فالشرك بشتى صوره يضرب بأطنابه في
أنحاء المعمورة؛ حيث تسيطر البوذية على عقول الناس في اليابان والصين وكوريا، والهندوسية وجدت لها في القارة الهندية مرعى خصيباً، بينما تستوطن الديانات
الوثنية أدغال أفريقيا وأمريكا الوسطى واللاتينية منذ زمن بعيد، وفي أمريكا
وأوروبا عادت المعتقدات الشركية الصريحة كعبادة الشيطان ونحوها، لتنتشر من
جديد، إضافة إلى رواج الكهانة والسحر والشعوذة بين أبناء الحضارة المادية
المعاصرة بصورة لافتة للأنظار وهذا ليس بغريب؛ لأن الدين النصراني نفسه لم
يسلم من المعتقدات الوثنية عندما انحرف به أتباعه عن الدين الصحيح؛ حيث
أصبحت الكنيسة رمزاً من رموز الشرك والخرافة.. هذا فضلاً عن الإلحاد المطلق
الذي يسيطر عملياً على العقل الغربي المعاصر.
ومع الأسف الشديد فإن بعض العقائد الوثنية والخرافية تسللت إلى فئام من أمة
الإسلام؛ فانتشرت بينهم البدع والضلالات، وشابتهم شوائب - الجهالة، حتى
قدسوا القبور والأضرحة، وتعلقوا بالموتى، ولجؤوا إلى السحرة والعرافين.. كل
ذلك في غفلة من بعض العلماء وعجز من بعض الدعاة، نسأل الله السلامة.
ولأننا نرى أن هذا الداء هو أحد الأدواء الخطيرة التي أصابت الأمة، والتي
يجب أن يوليها الدعاة والمصلحون أولى اهتمامهم، ولأن توحيد العبادة لله - تعالى- وحده لا شريك من أولى أولويات الدين، فيسرنا في هذا العدد من البيان والعدد
الذي يليه - إن شاء الله تعالى - أن ننشر ملفاً خاصاً عن (القبور والأضرحة -
دراسة وتقويم) .. نرجو أن يجد فيه القارئ الكريم مادة علمية جادة تعين على
معالجة هذه الظاهرة بنهج علمي وبموضوعية.
والله من وراء القصد،،(131/39)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها
(1/2)
فسطاط الخرافة.. الجذور والواقع
خالد محمد حامد
تقديس القبور والأضرحة) مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في إشارة يسيرة، بل
جاءت نصوصه الثابتة بالنهي الصريح عن كل ذريعة تفضي إلى ذلك المفهوم الذي
يمثل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك؛ فمن الأقوال القاطعة لرسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بما لا يدع مجالاً لتوهم نسخ أو تخصيص أو تقييد ما
جاء عنه: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ؛ فإن
صلاتكم تبلغني حيث كنتم) [1] ، وعنه: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، لعن الله
قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) [2] .. هذا في قبره الشريف وفي كل قبر، وعن
علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله: أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته) [3] ، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن (يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) وفي
زيادة صحيحة لأبي داود: (أو أن يكتب عليه) [4] .. ولعن (المتخذين عليها [أي
القبور] المساجد والسُرج) [5] .
من النور إلى الظلمات:
وعلى ذلك سار سلفنا الصالح من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ومن تبعهم بإحسان (ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء
في بلاد الإسلام، لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر،
ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا على قبر نبي، ولا
صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدَثة
بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك
من دولة المقتدر في أواخر المئة الثالثة؛ فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية
القدّاحية في أرض المغرب، ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر) [6] .
(ولم يكن في العصور المفضلة (مشاهد) على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في
دولة بني بويه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة
كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض
ذلك. ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا
المشاهد المكذوبة كمشهد علي -رضي الله عنه- وأمثاله ... ) [7] .
( ... وفي دولتهم أُظهر المشهد المنسوب إلى علي -رضي الله عنه- بناحية
النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي -
رضي الله عنه- بقصر الإمارة بالكوفة) [8] .
فعندما بدأت المحدَثات تدب في حياة المسلمين، كان منها ذلك الأمر الجلل
(فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا
ببناء المشاهد وتعطيل المساجد ... ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء
عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى
صنف كبيرهم (ابن النعمان) كتاباً في (مناسك حج المشاهد) وكذبوا فيه على النبي -
صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا
الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب) [9] .
الرواد الأوائل:
وعلى ذلك يتضح أن الذين بذروا بذورَ شرك القبور كانوا رافضة، وهذا ما
تؤكده لنا عالمة الآثار الدكتورة سعاد ماهر فهمي عندما تسرد أوائل الأضرحة ذات
القباب، فتقول: (.. ويليها من حيث التاريخ: ضريح إسماعيل الساماني [10]
المبني سنة 296 هـ في مدينة بخارى، ثم ضريح الإمام علي - رضي الله عنه -
في النجف الذي بناه الحمدانيون سنة 317 هـ، ثم ضريح محمد بن موسى في
مدينة قم بإيران سنة 366 هـ، ثم ضريح (السبع بنات) في الفسطاط سنة 400هـ،
وقد احتفظت لنا جبّانة أسوان بمجموعة كبيرة من الأضرحة ذات القباب التي
يرجع تاريخ معظمها إلى العصر الفاطمي في القرن الخامس الهجري) [11] .
فبدايات تعظيم القبور واتخاذها مشاهد وأضرحة ارتبطت تاريخياً بأسماء:
القرامطة، وبني بويه، والفاطميين (العبيديين) ، والسامانيين، والحمدانيين ...
وجميعهم روافض وإن تفاوتوا في درجة الغلو [12] .
على أن الدكتورة سعاد ماهر تذكر لنا (أن أقدم ضريح في الإسلام أقيمت عليه
قبة يرجع إلى القرن الثالث الهجري، وقد عُرف هذا الضريح باسم (قبة الصليبية) ، ويوجد في مدينة سامرّا بالعراق على الضفة الغربية لنهر دجلة إلى الجنوب من
قصر العاشق ... ، ويقول الطبري: إن أم الخليفة العباسي استأذنت في بناء ضريح
منفصل لولدها فأذن لها؛ إذ كانت العادة قبل ذلك أن يدفن الخليفة في قصره،
فأقامت قبة الصليبية في شهر ربيع الثاني سنة 284هـ، وقد ضم الضريح إلى
جانب المنتصر الخليفة المعتز والمهتدي، وتعتبر قبة الصليبية [13] أول قبة في
الإسلام) [14] .
ولكن الدكتورة سعاد تذكر لنا الأضرحة (ذات القباب) فقط، ولا ندري هل
كانت قبل قبة الصليبية أضرحة أخرى ليست ذات قباب أم لا؟
تعانق الجبت مع الطاغوت:
على أن الذي يعنينا في هذا المقام هو أن (تقديس القبور والأضرحة) أمر
حادث في الإسلام، وإحداثه لم يرتبط بأهل التقوى والعلم، بل ارتبط بأصحاب
الدعوات الهدامة وأهل السلطان، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل ذلك في قوله
تعالى عن أصحاب الكهف: [قَالَ الَذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً]
[الكهف: 21] فالذين أرادوا اتخاذ مسجد على قبور الفتية هم أهل الغلبة.
ولعلنا نلمح أن في ذلك جنساً من اتباع سَنَن من كانوا قبلنا في تعانق الجبت
مع الطاغوت عند حدوث الانحراف العقدي، وذلك كما في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ
إلَى الَذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ..] [النساء: 51] ؛ حيث يتآزر دعاة الأوهام والخرافة مع أصحاب الطاعة والتشريع من دون الله،
ويتبادلون الأدوار أحياناً، فتجد الكهان والمنجمين والسحرة يطلبون الطاعة ممن
يؤمن بخرافاتهم ويحلون له الحرام، ويُحرمون عليه الحلال، كما أنهم يمدون
أصحاب السلطان والطاعة بالشرعية التي هم في حاجة إليها، وتجد أصحاب
السلطان ممن يُطاعون في معصية الله يستشيرون الخرافيين ويقربونهم ويفسحون
المجال للترويج لبدعهم بين الناس.. ولا شك أن لكل ذلك أثراً في الواقع.
دينهم وديدنهم:
كما أن مكانة القبور والأضرحة (المقدسة) ! غير قابلة للمساومة في دين
الرافضة؛ فطائفة البهرة الإسماعيلية (من غلاة الرافضة) ذات نشاط واسع في
عمارة وتجديد المساجد ذات الأضرحة بحجة الاهتمام بالعمارة الإسلامية، وبخاصة
في مصر ... والقبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير في دمشق وهو القبر
المنسوب إلى السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ما زال مكتوباً
عليه إلى الآن: قام بعمارة البناية الضخمة عليه والمسجد حولها والقبة المزخرفة:
محمد بن حسين نظام وأولاده من طائفة الشيعة [15] .
وأيضاً فإن أصحاب الأضرحة الكبرى ممن ينسب إلى التصوف هم في
الحقيقة من غلاة الشيعة الباطنية؛ حيث (من العراق انطلق أحد أتباع الرفاعي إلى
مصر، وهو (أبو الفتح الواسطي) (جد إبراهيم الدسوقي) لنشر دعوتهم الباطنية بها، وقد كان ذلك في العهد الأيوبي، وبعد موت الواسطي جاء (البدوي) ليخلفه في
دعوته تلك، وقد توزع هؤلاء الدعاة في مصر، فكان (الدسوقي) بدسوق و (أبو
الحسن الشاذلي) بالإسكندرية، و (أبو الفتح الواسطي) ما بين القاهرة وطنطا
والإسكندرية، ولما مات الواسطي حل محله البدوي بطنطا، وجميعهم من فلول
العبيديين الذين طردهم صلاح الدين الأيوبي من مصر، ثم حاولوا العودة تحت
ستار التصوف والزهد ... كما أن كلاّ من ابن بشيش وابن عربي قد تتلمذا على يد
(أبي مدين) بالمغرب) [16] .
(وفي أواخر عهدهم أنشأ الفاطميون المشهد الحسيني عام 550هـ عندما
شعروا بأن سلطتهم قد ضعفت ليجذبوا إليهم المصريين، وعهدوا إلى ابن مرزوق
القرشي (564هـ (تربية مريدي الصوفية، فانتظم أتباعه في طوائف وطرق لنشر
الدعوة الشيعية؛ إلا أن هذه التنظيمات انهارت بانهيار الدولة الفاطمية وتحول
المشهد الحسيني إلى ضريح صوفي) [17] .
والحاصل: أن تقديس القبور وزيارة المشاهد تقليد شيعي في نشأته، فالشيعة
هم أول من بنى المشاهد على القبور؛ حيث تتبعوا أو زعموا قبور من مات قديماً
ممن يعظمونهم من آل البيت، وراحوا يبنون على قبورهم ويجعلونها مشاهد
ومزارات، ثم جاء الصوفية فنسجوا على هذا المنوال، فجعلوا أهم مشاعرهم هو
زيارة القبور وبناء الأضرحة والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة
بالأموات [18] .
الحاجة أمّ الاختراع:
وأصبح تقديس القبور والأضرحة لازماً من لوازم الطرق الصوفية؛ بحيث لا
يتصور أحد وجود طريقة صوفية من غير ضريح أو أكثر تقدسه.. ومع تمكن الداء
من جسد الأمة ظهرت (الحاجة) إلى تعدد الأضرحة والمزارات لتلبي رغبات من
صرعتهم الأوهام، وضاق بالقبوريين أن يتحروا ثبوت قبور الأولياء المشهورين
لدى جمهورهم، ولأن الحاجة أُمّ الاختراع كما يقال فقد وجدوا لهذه الأزمة بعض
المخارج والحيل:
- فظهر ما يسمى بأضرحة الرؤيا، تقول الدكتورة سعاد ماهر: (ظهر في
العصور الوسطى وخاصة في أوقات المحن والحروب التي لا تجد فيها الشعوب من
تلوذ به غير الواحد القهار أن يتلمسوا أضرحة آل البيت والأولياء للزيارة والبركة
والدعاء ليكشف الله عنهم السوء ويرفع البلاء، ومن ثم: ظهر ما يعرف بأضرحة
الرؤيا، فإذا رأى ولي من أولياء الله الصالحين في منامه رؤيا مؤداها أن يقيم
مسجداً أو ضريحاً لأحد من أهل البيت أو الولي المسمى في الرؤيا فكان عليه أن
يقيم الضريح أو المسجد باسمه) [19] .
وتلك كانت الدعوى نفسها التي أقيمت عليها (مزارات الشهداء) عند النصارى
(وكان ذلك إبان القرن الخامس الميلادي؛ حيث أصبح لكل قرية مزار لشهيد يحوي
عظاماً لبعض الموتى المجهولين، أخرجت من القبور، ومنحت كل التبجيل
والاحترام، دون أدنى دليل يثبت أنها على الأقل بقايا مسيحيين، ويُخلع على هذه
الرفات أسماء وألقاب لائقة، وفي حالات كثيرة كان المرجع الوحيد في هذا الشأن
(حلم) أو (رؤيا) لكاهن أو راهب) [20] .
وعلى ذلك لا يلزم أن يكون الولي المقام الضريح باسمه ثبت وجوده في ذلك
المكان، بل لا يلزم أن يكون وطئت قدمه أرض تلك البلاد أصلاً، ومن هنا ظهرت
أضرحة مزعومة ومكذوبة في طول البلاد وعرضها، وتعددت الأضرحة للولي
الواحد في أكثر من قُطْر، ولتسويغ ذلك الخطل نسجوا خرافة واضحة الزور
والبهتان، فقالوا: إن الأرض لأجسام الأولياء كالماء للسمك، فيظهرون بأماكن
متعددة ويزار كل مكان قيل عنه إنه فيه نبي كريم أو ولي عظيم [21] .
- ومن الحيل الرائجة لإقامة ضريح أو مشهد: نسج الكرامات حول الشخص
المزعوم بأنه ولي، أو حول المكان المزعوم بأنه مكان قبر ولي.
فمما ينسج حول الأشخاص: ما حدث مع (الشيخ) صالح أبي حديد الذي كان
وبعض صحبه من قطاع الطريق، وحين كشف أمره هرب ولجأ إلى بيت مغنية
مشهورة، فأخفته وادعت أنه مجنون ووضعت في رجليه قيداً من حديد، وقد اعتقل
لسانه من شدة الخوف، ثم أشاعت هي والمجتمعون من حوله أن له كرامات
وإخباراً بالمغيبات، فأقبل عليه الناس بالهدايا والنذور حتى ذاع صيته، وزاره
الخديوي إسماعيل واستبشر به وبنى له قبراً بقبة عالية بعد وفاته ووقف عليه
الأرض وغيرها [22] .
ومن ذلك: مسجد في حلب يعرف بمسجد العريان، يعتقده أهل المحلة
الموجود بها، ويقولون: إنه عرف بالعريان؛ لأنه في أكثر أوقاته يتجرد من ثيابه، ويدّعون أن ذلك لغلبة الحال عليه [23] .
الواقع الأليم.. شبكة أضرحة:
ولغفلة جموع كثيرة من الأمة عن حقيقة دينها فقد أنبتت هذه الجذور شبكة
واسعة من القبور والأضرحة (المقدسة) عمت معظم أنحاء العالم الإسلامي، بل إن
بعض الباحثين يقدر عدد الأضرحة في القطر الذي يعيش فيه بما لا يقل عن عدد
المدن والقرى في هذا القطر، حيث يقول: (وأضرحة الأولياء التي تنتشر في مدن
مصر ونحو ستة آلاف قرية: هي مراكز لإقامة الموالد للمريدين والمحبين،
ويمكننا القول: إنه من الصعب أن نجد يوماً على مدار السنة ليس فيه احتفال بمولد
ولي في مكان ما بمصر) [24] ، بل أصبحت القرى التي تخلو من الأضرحة مثار
تندر وتهكم سدنة الأضرحة، فقد ذكر الدكتور زكريا سليمان بيومي أن من القرى
التي تخلو من أضرحة الأولياء: (بِيّ العرب) و (أبو سنيطة) و (ميت عفيف) وهي
جميعاً مركز الباجور منوفية، وأطلق المشايخ أمثلة شعبية على بخل هذه القرى
وخلوها من البركة ما زالت سارية بين الناس حتى الآن! [25] .
ولكي ندرك حجم المأساة أكثر سنورد بعض ما تيسر من نماذج توضح حجم
انتشار هذه الأضرحة في بعض بقاع العالم الإسلامي، وبالطبع، فليس من بلد به
ضريح إلا وله مريدون ممن يعتقدون فيه..
فمن بين ألوف الأضرحة المنسوبة إلى الأنبياء والصحابة والأولياء في العالم
الإسلامي يشتهر في مصر من بين أكثر من ستة آلاف ضريح (على تقدير من
أشرنا إليهم (أكثر من ألف ضريح [26] ، (ويذكر صاحب الخطط التوفيقية علي
باشا مبارك أن الموجود في زمنه في القاهرة وحدها مئتان وأربعة وتسعون
ضريحاً) [27] ، أما خارج القاهرة فيوجد (على سبيل المثال في مركز فوّة.. (81) ضريحاً، وفي مركز طلخا (54) ، وفي مركز دسوق (84) ، وفي مركز
تلا (133) ، وهي الأضرحة التابعة للمجلس الصوفي الأعلى، بخلاف الأضرحة التابعة للأوقاف أو غير المقيدة بالمجلس الصوفي) [28] كما يوجد في أسوان أحد المشاهد يسمى مشهد (السبعة وسبعين ولياّ) [29] .
وتنقسم الأضرحة إلى كبرى وصغرى، وكلما فخم البناء واتسع وذاع صيت
صاحبه زاد اعتباره وكثر زواره.
فمن الأضرحة الكبرى في القاهرة: ضريح الحسين، وضريح السيدة زينب،
وضريح السيدة عائشة، وضريح السيدة سكينة، وضريح السيدة نفيسة، وضريح
الإمام الشافعي، وضريح الليث ابن سعد ... وخارج القاهرة تشتهر أضرحة:
البدوي بطنطا، وإبراهيم الدسوقي بدسوق، وأبي العباس المرسي بالإسكندرية،
وأبي الدرداء بها أيضاً، وأبي الحسن الشاذلي بقرية حميثرة بمحافظة البحر الأحمر، وأحمد رضوان بقرية البغدادي بالقرب من الأقصر، وأبي الحجاج الأقصري
بالأقصر أيضاً، وعبد الرحيم القنائي بقنا ...
أما في الشام فقد أحصى عبد الرحمن بك سامي سنة (1890م) في دمشق
وحدها 194ضريحاً ومزاراً، بينما عد نعمان قسطالي المشهور منها 44 ضريحاً،
وذكر أنه منسوب للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبراً، لكل واحد منها قبة ويزار
ويتبرك به.
وفي الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية كان يوجد 481 جامعاً يكاد لا يخلو
جامع فيها من ضريح، أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسوب إلى أبي أيوب
الأنصاري في الآستانة (القسطنطينية) .
وفي الهند يوجد أكثر من مئة وخمسين ضريحاً مشهوراً يؤمها الآلاف من
الناس.
وفي بغداد كان يوجد أكثر من مئة وخمسين جامعاً في أوائل القرن الرابع
عشر الهجري، وقلّ أن يخلو جامع منها من ضريح، وفي الموصل يوجد أكثر من
ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع، وهذا كله بخلاف الأضرحة
الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة [30] .
وفي معظم مناطق أوزبكستان كثير من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة
والمشائخ ورجال العلم والأولياء، وأصبحت هذه القبور مزارات يفد إليها مريدوها
جماعات وأفراداً، يدعون ويبكون، ومن أهم تلك المزارات ضريح قثم بن العباس
ابن عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سمرقند، وضريح الإمام البخاري في
قرية خرتنك [31] .
بين الحقيقة والوهم:
وإذا كان ذكر أسماء الأضرحة المشهورة في العالم الإسلامي قد يشق على
المتابع فسنذكر هنا طرفاً من الأضرحة المكذوبة والمشكوك في نسبتها:
فضريح الحسين بالقاهرة (كذب مختلق بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند
أهل العلم، الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم) [32] ، (فإنه
معلوم باتفاق الناس: أن هذا المشهد بني عام بضع وأربعين وخمسمئة، وأنه نقل
من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمئة.. فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني على رأس الحسين - رضي الله عنه- قول بلا حجة أصلاً..) [33] .
وقد ورد عن المشائخ: ابن دقيق العيد وابن خلف الدمياطي وابن القسطلاني
والقرطبي صاحب التفسير وعبد العزيز الديريني إنكارهم أمر هذا المشهد، بل ذكر
عن ابن القسطلاني أن هذا المشهد مبني على قبر نصراني [34] .
وإضافة إلى مشهدي عسقلان والقاهرة هناك ضريح آخر في سفح جبل
الجوشن غربي حلب ينسب إلى رأس الحسين -رضي الله عنه- أيضاً، وهو من
أضرحة الرؤيا، وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال إن بها رأس الحسين: في
دمشق، والحنانة بين النجف والكوفة، وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها، وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه -رضي الله عنه-، وفي كربلاء حيث
يقال: إنه أعيد إلى جسده [35] .
ورغم أن المحققين يقولون إن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما ماتت
بالمدينة ودفنت بالبقيع، إلا أن القبر المنسوب إليها والذي أقامه الشيعة في دمشق
هو (القبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير إليه ... ) [36] .
ولا يقل عنه جماهيرية ذلك الضريح المنسوب إليها في القاهرة، والذي لم
يكن له وجود ولا ذكر في عصور التاريخ الإسلامي إلى ما قبل محمد علي باشا
بسنوات معدودة كما يذكر أحمد زكي باشا [37] ، ويقول علي مبارك في الخطط
التوفيقية: (لم أرَ في كتب التاريخ أن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما
جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات) [38] .
وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء مدفون في
الضريح المنسوب إليه في مدينتهم، ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في
تلك المدينة [39] .
ومن أضرحة الرؤيا: مشهد السيدة رقية بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بالقاهرة، أقامته زوجة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، وذلك بلا خلاف [40] ،
ومنها كذلك: ضريح السيدة سكينة بنت الحسين ابن علي رضي الله عنهم [41] ،
ويذكر المقريزي في خططه (2/45) جملة من الأضرحة المزعومة، منها: (قبر
في زقاق المزار تزعم العامة ومن لا علم عنده أنه قبر يحيى بن عقب، وأنه كان
مؤدباً للحسين بن علي بن أبي طالب، وهو كذب مختلق وإفك مفترى، كقولهم في
القبر الذي بحارة برجوان إنه قبر جعفر الصادق، وفي القبر الآخر إنه قبر أبي
تراب النخشبي ... إلى غير ذلك من أكاذيبهم) [42] .
ومن أشهر الأضرحة أيضاً: ضريح الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله
عنه- بالنجف بالعراق، وقد مرّ بنا سابقاً كلام ابن تيمية رحمه الله من أنه قبر
مكذوب، وأن علياً -رضي الله عنه- دفن بقصر الإمارة بالكوفة [43] .
وفي البصرة عدد من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة منها: قبر
عبد الرحمن بن عوف رغم أنه مات بالمدينة ودفن بالبقيع [44] .
وفي بلدة الرها من أعمال حلب ضريح يقال إنه لجابر بن عبد الله الأنصاري
رضي الله عنهما مع أن جابراً توفي في المدينة [45] .
وفي مدينة نصيبين بالشام (حالياً بجنوب تركيا) قبة يزعمون أنها لسلمان
الفارسي، مع أنه -رضي الله عنه- مدفون في المدائن [46] .
ويضيف ابن تيمية رحمه الله: (وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد يقال:
إنه قبر أُبَيّ بن كعب، وقد اتفق أهل العلم على أن أبيّاً لم يقدم دمشق، وإنما مات
بالمدينة، فكان بعض الناس يقول: إنه قبر نصراني، وهذا غير مستبعد ... فلا
يستبعد أنهم [اي: النصارى] ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر من يعظمه
المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه) [47] .. وما لم يستبعده رحمه الله حدث مثله في
العصر الحاضر (ففي الجزائر كان الشعب هناك يؤم ضريحاً في بعض المناطق
الشرقية ويتبرك بأعتابه، ثم اكتُشف أن هذا القبر كان لراهب مسيحي، ولم يصدق
الناس ذلك حتى عثروا على الصليب في القبر) [48] .
وفي دمشق أيضاً: قبور منسوبة إلى أمهات المؤمنين: عائشة وحفصة وأم
سلمة وأم حبيبة رضوان الله عليهن مع أنهن مدفونات بالمدينة المنورة، وفيها كذلك
قبر لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مع أنها ماتت في مكة بعد مقتل ولدها
عبد الله بن الزبير بأيام قليلة [49] .
وينسب الناس في الشام قبراً إلى (أم كلثوم) و (رقية) بنتي رسول الله (وقد
اتفق الناس على أنهما ماتتا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة المنورة
تحت عثمان، وهذا إنما هو بسبب اشتراك الأسماء؛ لعل شخصاً يسمى باسم من
ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة، فظن الجهال أنه أحد من
الصحابة) [50] ، (ومنها (قبر خالد) بحمص، يقال: إنه قبر خالد بن يزيد بن
معاوية ... ، ولكن لما اشتهر أنه خالد، والمشهور عند العامة خالد بن الوليد: ظنوا
أنه خالد بن الوليد، وقد اختلف في ذلك: هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد) [51] .
ولعل لهذا السبب أيضاً وجد ضريح (سيدي خالد بن الوليد) بكفر الحما مركز
أشمون منوفية بمصر، وضريح (الشيخ عمار بن ياسر) بناحية بني صالح تبع
مركز الفشن [52] .
انفراط العقد:
وفي دمشق كذلك ضريح يدعي الناس أنه لرأس يحيى بن زكريا عليهما السلام
يقع في قلب المسجد الأموي، وله قبة وشباك، وله نصيبه من التمسح والدعاء،
وبجانب المسجد الأموي قبر القائد صلاح الدين الأيوبي، وإلى جانبه في القبة قبر
عماد الدين زنكي، وقبور أخرى تزار ويتوسل بها ... وفيها قبور أخرى كثيرة
كقبر زيد بن ثابت، وأبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، والراجح أنه قبر
معاوية بن يزيد بن معاوية، أما قبر معاوية الصحابي فقيل إنه بحائط دمشق الذي
يقال إنه قبر هود عليه السلام، وفي دمشق أيضاً قبور كثير من التابعين والقواد
العظماء، ومعظم ما يقال عن هذه القبور تخرصات وتكهنات معظمها من وضع
الشيعة والصوفية، وإلا فليس هناك دليل مادي يثبت قبر كل فرد بعينه [53] .
وإضافة إلى ضريح دمشق المنسوب ليحيى بن زكريا عليهما السلام فإن له
مزاراً آخر في صيدا جنوب لبنان في قمة جبل يشرف على البلد والبحر، وله
أيضاً مقام ثالث في الجامع الأموي بحلب؛ حيث توجد حجرة تعرف بـ (الحضرة
النبوية) يقال إن بها رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام في صندوق جرن، وقيل
إن بها عضواً من أعضاء نبي الله زكريا عليه السلام في صندوق مرمر [54] .
وفي حلب أيضاً: (مسجد يعرف بمسجد النبي، منسوب إلى نبي يدعى كالب بن يوفنا من سبط يهوذا) [55] .
ونحو الجنوب إلى معان بشرقي الأردن يوجد مزار النبي هارون، ولا يوجد
عند أهل هذه الناحية مقام أشد إكراماً ولا أوفر آياتٍ منه! ، كما يوجد في شرقي
الأردن أيضاً مقام النبي هوشع (يوشع) على قمة جبل بالقرب من السلط، وهو
مبني بحجارة قديمة يرتئي الباحثون أن أكثرها يرتقي إلى عهد الصليبيين! ، كما
يوجد في غربي الكرك مزار النبي نوح، وفي بادية البلقاء وموآب يوجد مقام
(الخضر الأخضر) [56] .
كما يوجد ضريح آخر للخضر عليه السلام في مغارة بمعرة النعمان بشمال
سورية بالشام، ويوجد بها كذلك ضريح آخر ليوشع عليه السلام، وفي معرة
النعمان أيضاً يوجد ضريح شيث عليه السلام، مع أن هناك جامعاً كبيراً في
الموصل يسمى بجامع النبي شيث داخله ضريح يعتقد الناس أنه مدفون فيه، ولم
يكن هذا القبر معروفاً قبل القرن الحادي عشر للهجرة، حيث رأى أحد ولاة
الموصل في ذلك القرن مناماً يدل على موضع القبر، فبنى الضريح [57] .
ومن المقابر المكذوبة باتفاق أهل العلم القبر المنسوب إلى هود عليه السلام
بجامع دمشق، فإن هوداً لم يجئ إلى الشام [58] . وهناك قبر منسوب إليه في
حضرموت، وفي حضرموت أيضاً قبر يزعم الناس أنه لصالح عليه السلام، رغم
أنه مات بالحجاز، وله أيضاً عليه السلام قبر في يافا بفلسطين، التي بها كذلك
مزار لأيوب عليه السلام [59] .
ويونس عليه السلام له ضريح في بلدة حلحول بفلسطين، وضريح آخر بقرية
نينوى قرب الموصل بالعراق، وثالث في غار بضيعة قرب نابلس بفلسطين،
وكلها يُدّعى أن فيها قبره عليه السلام [60] ، وفي نابلس أيضاً ضريح الأسباط
إخوة يوسف عليه السلام، وله عليه السلام قبر في مسجد الخليل بمدينة الخليل
بفلسطين، وفي المسجد نفسه ضريح إبراهيم عليه السلام، وكذا: أضرحة تنسب
إلى إسحاق ويعقوب عليهما السلام [61] .
ورغم وجود مزار لداود عليه السلام في قضاء كلّز من أعمال حلب بسورية،
إلا أن له مزاراً آخر في جنوب غرب صيدا بلبنان، التي في جانبها الشرقي مزار
شمعون يزعم الناس أنه من أنبياء بني إسرائيل، وله نفسه مزار آخر في قضاء
كلّز أيضاً، وفي صيدا أيضاً مزار (صيدون) يزعم الناس أيضاً أنه من أنبياء بني
إسرائيل [62] .
وذكر الفيروزآبادي في تعريفه لبلدة قرب نابلس تسمى (عَوْرَتا) : (قيل بها
قبر سبعين نبياً، منهم: عزير، ويوشع) [63] .
وبعد هذا السرد إليك ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في نسبة قبور الأنبياء،
فقد حكى عن طائفة من العلماء (منهم عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة
إلى الأنبياء، لا يصح شيء منها إلا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أثبت
غيره أيضاً قبر الخليل عليه السلام [64] [، ويقول أيضاً: (وأما قبور الأنبياء:
فالذي اتفق عليه العلماء هو قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن قبره منقول
بالتواتر، وكذلك قبر صاحبيه، وأما قبر الخليل فأكثر الناس على أن هذا المكان
المعروف هو قبره ... ولكن ليس في معرفة قبور الأنبياء بأعيانها فائدة شرعية،
وليس حفظ ذلك من الدين) ] 65 [.
وماذا بعد؟
ولم يقف الأمر عند حد نسبة القبور زوراً إلى شخصيات لها نصيبها من الحب
والاحترام لدى الناس، بل وصل الادعاء إلى اختلاق بعض هذه الشخصيات من
الوهم والعدم ونسبة الأضرحة إليها، فمن ذلك: قبر في طريق بلدة (طورخال)
بتركيا لصحابي أسموه (كيسك باش! (، وفي معرة النعمان ضريح لرجل يدعى
(عطا الله) يزعمون أنه صحابي أيضاً] 66 [.
وذكر المقريزي أن في القاهرة قبراً على يسرة من خرج من باب الحديد
ظاهر زويلة، يزعمون أنه لصحابي يدعى: زارع النوى!] 67 [.
وفي مدينة الشهداء بمصر ضريح داخل مسجد منسوب إلى (شبل) بن الفضل
بن العباس عم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، رغم أن المصادر العلمية تتفق
على أن الفضل بن العباس -رضي الله عنه- لم ينجب إلا بنتاً واحدة اسمها (أم
كلثوم) ] 68 [.
وأخيراً:
فإننا ربما لا ننتهي إذا حاولنا استقصاء حقيقة القبور والأضرحة المنتشرة في
أنحاء العالم الإسلامي، والتي على فرض ثبوت صحة نسبتها فإن إقامة المساجد
عليها وممارسة الأفعال التي اعتاد الناس على القيام بها حولها.. ليس من دين الله
في شيء، بل يقع معظمه في دائرة المحرمات بدرجاته المختلفة، ومنها ما قد يصل
إلى حد الشرك المخرج من الملة.
ولكن إذا ثبت أن ديننا ينهى عن تلك الأفعال، وثبت أن سوس الجهل
والأوهام يرتع ناخراً في فسطاط الخرافة، فما الذي يدفع مرتادي الأضرحة
والمعتقدين فيها إلى ولوج هذا الكيان والتمسك به؟ !
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد، 2/367، وأبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود، ح/1769.
(2) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل 2/246، وصححه الألباني في تحذير الساجد، ص25.
(3) أخرجه مسلم في الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور، وأبو داود والترمذي والنسائي.
(4) أخرجه مسلم في الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر، وأبو داود، ح/3226، وانظر: صحيح سنن أبي داود للألباني، ح/ 2763.
(5) أخرجه الترمذي وأبو داود والإمام أحمد، وقال أحمد محمد شاكر في تعليقه على (سنن الترمذي) 2/137: (الشواهد التي ذكرناها ترفعه إلى درجة الصحة لغيره، إن لم يكن صحيحاً بصحة إسناده هذا) ، وضعف الألباني لفظ (السرج) ، انظر: الضعيفة، ح/225.
(6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج/ 27، ص466.
(7) السابق، ص 167.
(8) السابق، ص 466.
(9) السابق: ص161 162.
(10) ينتسب السامانيون إلى رجل فارسي يسمى (سامان) ، كان مجوسياً واعتنق الإسلام أواخر عهد الدولة الأموية، وإسماعيل المذكور هو: إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، آلت زعامة السامانيين إليه عام 279هـ، وتوفي سنة 295هـ انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر،
ج/6، ص91، 107،.
(11) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، ص46.
(12) انظر: التاريخ الإسلامي، ج 6، ص149.
(13) نسبة إلى موقع الضريح عند تقاطع طريقين.
(14) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون ج1، ص46.
(15) انظر: شهر في دمشق، لعبد الله بن محمد بن خميس، ص 67.
(16) بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص: 247، نقلاً عن (السيد البدوي دراسة نقدية) للدكتور عبد الله صابر.
(17) عمار علي حسن، الصوفية والسياسة في مصر، ص88.
(18) انظر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق، ص: 427.
(19) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، ص102 103.
(20) موالد مصر المحروسة، لعرفة عبده علي، ص71.
(21) الانحرافات العقدية، ص285.
(22) انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، د زكريا سليمان بيومي
ص125، والانحرافات العقدية، ص299 300، وبدع الاعتقاد ص267.
(23) انظر: الانحرافات العقدية، ص300.
(24) عرفة عبده علي، موالد مصر المحروسة، ص7.
(25) انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، ص126.
(26) د سعاد ماهر فهمي، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1 ص 44.
(27) الانحرافات العقدية، ص293.
(28) د زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، ص127، 153.
(29) انظر: الآثار الإسلامية في مصر من الفتح العربي حتى نهاية العصر الأيوبي، مصطفى عبد الله شيحة، ص152.
(30) انظر: الانحرافات العقدية، ص289، 294، 295.
(31) انظر: مجلة (دراسات إسلامية) العدد الأول سنة 1418هـ، مقال.
(مسلمو أوزبكستان) ، لعبد الرحمن محمد العسيري، ص217، 218.
(32) مجموع الفتاوى، ج27، ص451، وانظر: ص465.
(33) السابق، ص456.
(34) السابق، ص485، ص493.
(35) انظر: الانحرافات العقدية، ص288، ومجلة (لغة العرب) ، ج7 السنة السابعة (1929م) ، ص557- 561، ومعالم حلب الأثرية، عبد الله حجار.
(36) عبد الله بن محمد بن خميس، شهر في دمشق، ص 67.
(37) سمير شاهين، الوثنية في ثوبها الجديد، ص81.
(38) السابق.
(39) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج2، ص33.
(40) مصطفى عبد الله شيحة، مرجع سابق، ص143.
(41) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، ص102.
(42) عن مقال: تأملات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين، لحسين أحمد أمين، مجلة العربي، ع/226، رمضان 1397هـ، ص135.
(43) انظر أيضاً: مجموع الفتاوى ج27، ص493.
(44) الانحرافات العقدية، ص291.
(45) السابق، وانظر: مجموع الفتاوى، ج27، ص494.
(46) السابق، ص290.
(47) مجموع الفتاوى، ج27، ص460.
(48) الانحرافات العقدية، ص288.
(49) انظر: السابق، ص290، ومجموع الفتاوى، ج27، ص170.
(50) مجموع الفتاوى، ج27، ص494.
(51) السابق، ص492.
(52) انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، ص159، هامش 4،
ص138.
(53) انظر: عبد الله بن محمد بن خميس، شهر في دمشق، ص 66، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج27، ص447، ص491.
(54) الانحرافات العقدية، ص278، 279.
(55) السابق، ص 284.
(56) انظر: المزارات في شرقي الأردن، بقلم الخوري بولس سلمان، مجلة المشرق،
11/11/ 1920م، ص902- 910.
(57) انظر: الانحرافات العقدية، ص282 283.
(58) انظر: مجموع الفتاوى ج27، ص491، ص484.
(59) الانحرافات العقدية، ص283، ص281.
(60) انظر: السابق، ص281، ص282.
(61) السابق، ص282، ص281.
(62) نفسه، ص281، ص280.
(63) القاموس المحيط، مادة (ع ور) .
(64) مجموع الفتاوى، ج27، ص446.
(65) السابق، ص444.
(66) انظر: الانحرافات العقدية، ص290، ص291.
(67) حسين أحمد أمين، مرجع سابق.
(68) انظر: الوثنية في ثوبها الجديد، سمير شاهين، ص82.(131/40)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انحرافات القبوريين ... الداء الدواء
(1/2)
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين
وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا يخفى أن الغلو في القبور بشتى صوره وأنواعه قد عمّ وطم في غالب
البلاد، وتلبس بهذه المظاهر الشركية وطرائقها الكثير من الناس، وصارت هذه
القبور مزارات و (مشاعر) يقصدها الناس، ويشدون إليها الرحال من سائر
الأمصار؛ وسدنة هذه الأضرحة وعلماء الضلالة يزيّنون الشرك للعامة بشتى أنواع
الدعاوى والشبهات، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله تعالى.
إن على المنتسبين للعلم والدعوة واجباً كبيراً تجاه هذا التيار الوثني، وفي هذا
المقالة نورد بعض المسالك الرئيسة التي تسهم في حل وعلاج انحرافات القبوريين
وشبهاتهم.
أ- المسلك الدعوي: ويتمثل هذا المسلك من خلال0 عدة أمور:
1- أن يُعنى العلماء والدعاة بتقرير التوحيد في تلك المجتمعات المولعة
بتعظيم القبور والغلو فيها، وأن يجتهدوا في تجلية مفهوم التوحيد من خلال
القصص القرآني وضرب الأمثال وضرورة تعلق القلب بالله سبحانه وتعالى، وأن
الله عز وجل هو المتفرد بالنفع والضر والخلق والتدبير، ومن ثَمّ فهو المألوه
المعبود الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وخشية ورجاءاً.
وأن يضمّن هذا التقرير بيان عجز المخلوقين وضعفهم، وأنهم لا يملكون
لأنفسهم فضلاً عن غيرهم نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وأن يسعى إلى تحبيب هذا التوحيد إلى الناس من خلال الحديث عن فضائل
التوحيد وبيان ثمراته وآثاره، وأخبار الأنبياء عليهم السلام والصالحين الذين حققوا
التوحيد، كما ينبغي الاهتمام بإظهار أثر التوحيد على الحياة العامة.
2- أن تربى الأمة عموماً وهذه المجتمعات المعظمة للقبور خصوصاً على
أهمية التسليم لنصوص الكتاب والسنة والتحاكم إليها وانشراح الصدر لها.
يقول سبحانه: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
وإذا كان طواغيت هذا العصر يفرضون على الناس احترام الشرعية الدولية
والإذعان والتسليم لقرارات الأمم المتحدة؛ فإن علينا معشرَ الدعاة إلى الله أن ندعو
المسلمين إلى ما أوجبه الله عليهم من التسليم والانقياد لنصوص الوحيين وعدم
معارضتها بأي نوع من المعارضات سواءً أكان تقليداً، أو معقولاً، أو ذوقاً، أو
سياسة أو غيره؛ فالإيمان مبني على التسليم لله تعالى والإذعان لشرعه [1] .
يقول أبو الزناد رحمه الله: (إن السنن لا تخاصم ولا ينبغي لها أن تتبع
بالرأي، ولو فعل الناس ذلك لم يمضِ يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولكنه
ينبغي للسنن أن تُلزَم ويُتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه) [2] .
3- أن يدعى الناس إلى الالتزام بالشرع والعمل بالسنة؛ فإن إظهار السنن
والتمسك بها يستلزم زوال البدع واندثارها، وكذا العكس فإنه ما ظهرت بدعة إلا
رفع مثلها من السنة، والنفوس إن لم تشتغل بسنة وتوحيد؛ فإنها ستشتغل ببدعة
وشرك؛ فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك [3] .
وقد تتثاقل النفوس تجاه الالتزام بالأحكام الشرعية، وتنشط تجاه ما أحدثته من
بدع ومحدثات، ومن ثم يتعين على دعاة الإصلاح أن يأخذوا على أيدي هؤلاء
ويذكّروهم بفضل التمسك بالشرائع، وأن هذه الشرائع غذاء وروح، وقرة عين
وسرور قلب [4] . يقول أبو الوفاء ابن عقيل متحدثاً عن تلك النفوس المتثاقلة تجاه
الشرائع:
(لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى
تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى
الشرع عنه، ومن: إيقاد النيران، وتقبيلها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب
الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا ... ) [5] .
4- دعوة المخاطبين إلى تدبر آيات القرآن الحكيم، وحثهم على التأمل
والتفكر في معاني القرآن، كما قال سبحانه: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا
آيَاتِهِ] [ص: 29] .
وقال عز وجل: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً] . [النساء: 82] .
وإن من أعظم أسباب الضلال واستفحال الشرك: الإعراض عن تدبر آيات
القرآن، والاقتصار على مجرد قراءته دون فهم أو فقه.
فإذا نظرنا مثلاً إلى مسألة إفراد الله عز وجل بالدعاء والاستغاثة، فإنها من
أوضح الواضحات في كتاب الله، فقد تحدث عنها القرآن في ثلاثمائة موضع [6] ،
ومع ذلك فما أكثر الذين يتلون هذه الآيات بألسنتهم وينقضونها بأفعالهم وأحوالهم.
يقول العلاّمة حسين بن مهدي النعمي رحمه الله (ت/1187هـ) متحدثاً عن
ضلال القبوريين:
(لا جرم لما كان ملاك أمر الجميع وحاصل مبلغهم وغايتهم هو التلاوة دون
الفقه والتدبر والاتباع، خفي عليهم ذلك، وعموا وصموا عنه، وأنّى لهم ذلك؟ وقد
منعهم سادتهم وكبراؤهم من أهليهم، وممن يقوم عليهم ويسوسهم، وقالوا: كتاب
الله حجر محجور، لا يستفاد منه، ولا يقتبس من أنواره، ولا ينال ما فيه من العلم
والدين..
فلعمر الله للخير أضاعوا، وللشر أذاعوا، وإلا فلولا ذلك لكانت هذه المسألة
[إفراد الله بالدعاء] من أظهر الظواهر، لما أن العناية في كتاب الله بشأنها أتم وأكمل، والقصد إليها بالتكرير والتقرير والبيان في كتاب الله أكثر وأشمل) [7] .
ويقول الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في هذا المقام:
(فمن تدبر عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث
الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه، والوعيد على فعله، والثواب على تركه، وقد هلك
من هلك بإعراضه عن القرآن وجهله بما أمر الله به ونهى عنه) [8] .
وعلينا أن نتواصى بتطهير القلوب وتزكيتها لكي يحصل الانتفاع بمواعظ
القرآن وأحكامه.
يقول ابن القيم عند قوله: [لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ] [الواقعة: 79] . (دلّت
الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة،
وحرام على القلب المتلوّث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه وأن يفهمه كما
ينبغي) [9] .
5- مخاطبة عقولهم، ودعوتهم إلى التفكير والتأمل؛ فإن الولوع في تقديس
الأضرحة والغلو فيها لا يظهر إلا عند أقوام ألغوا عقولهم، وعطلوا تفكيرهم،
وأشربوا حبّ التقليد ومحاكاة الآباء دون حجة أو برهان.
وقد عني القرآن بمخاطبة ذوي الألباب وأثنى عليهم، وحضّ على التفكر
والنظر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، كما تضمن القرآن أدلة
عقلية وحججاً برهانية في تقرير التوحيد والنبوة والمعاد.
ومن ذلك قوله تعالى: [قُلِ ادْعُوا الَذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن
ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ] [سبأ: 22، 23]
يقول ابن القيم عند هذه الآية الكريمة: (فتأمل كيف أخذتْ هذه الآية على
المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؛ فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرجُ منه منفعة لم
يتعلق قلبه به، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده أو
شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة، وقد يشفع
عنده؛ فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت، انتفت أسباب الشرك
وانقطعت مواده، فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول المشرك: قد
تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً، فقال: (وما له منهم من ظهير) ، فلم يبق إلا الشفاعة
فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه) [10] .
ومن الأجوبة العقلية في الرد على دعوى القبوريين في أنهم ينتفعون بهذه
الأضرحة ما ذكره شيخ الإسلام بقوله: (عامة المذكور من المنافع كذب؛ فإن هؤلاء
الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر، ويدعو
الرجل منهم ما شاء الله من دعوات، فيستجاب له في واحدة، ويدعو خلق كثير
فيستجاب للواحد بعد الواحد، وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء أوقات الأسحار،
ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلاتهم وفي بيوت الله؟ فإن هؤلاء إذا ابتهلوا من
جنس ابتهال المقابريين لم تكن تسقط لهم دعوة إلا لمانع، بل الواقع أن الابتهال
الذي يفعله المقابريون إذا فعله المخلصون، لم يُرَد المخلصون إلا نادراً، ولم
يُستجب للمقابريين إلا نادراً، والمخلصون كما قال النبي: (ما من عبد يدعو الله
بدعوة ليس فيها إثم ول قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن
يعجل الله دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها.
قالوا: يا رسول الله! إذن نكثر. قال: الله أكثر) [11] فهم في دعائهم لا يزالون
بخير.
وأما المقبريون فإنهم إذا استجيب لهم نادراً، فإن أحدهم يضعف توحيده،
ويقل نصيبه من ربه، ولا يجد في قلبه من ذوق الإيمان وحلاوته ما كان يجده
السابقون الأولون) [12] .
6- من الجوانب الدعوية المهمة أن نميّز بين مراتب الشر والانحراف؛
فالغلو في القبور والافتتان بها له مراتب متعددة ومتفاوتة، فمنها ما يكون شركاً بالله
تعالى في توحيد العبادة كالاستغاثة بأرباب القبور، ومنها ما يكون أشنع من ذلك كأن
يستغيث بالأموات معتقداً فيهم الضر والنفع والتصرف في الكون، ومن الغلو في
القبور ما يكون محرماً ووسيلة إلى الشرك كالصلاة عند القبور وتحري الدعاء
عندها.
ويخطئ بعض الدعاة فلا يفرقون بين هذه المراتب من جهة الحكم عليها، كما
قد يخطئون فلا يميّزون من جهة ترتيبها وأولويتها في الإنكار، والمتعيّن أن تميّز
هذه الانحرافات وفق ما جاءت به الأدلة الشرعية، وكما نهتم بآكد الأمور تقريراً
ونقدمها، فكذا علينا أن نُعنى بأشنعها تحذيراً ... فيحذّر ابتداء من الشرك في
الربوبية؛ فالشرك في الإلهية، ثم ينظر إلى وسائل الشرك وذرائعه فما كان أشدها
حرمة وأعظمها وسيلة للشرك فيشتغل بمنعها، ثم ينتقل إلى ما دونها.
يقول شيخ الإسلام في هذه المسألة: (والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور
الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة،
والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو
دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في
عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما
يفسد أكثر مما يصلح) [13] .
7- من الوسائل الوقائية النافعة تجاه هذا الانحراف: العمل بقاعدة سدّ الذرائع؛ فكل ما كان وسيلة أو ذريعة تؤول إلى الشرك فينبغي التحذير منها ومنعها حماية
لجناب التوحيد؛ فالتهاون في هذه الوسائل يفضي إلى الوقوع في الشرك بالله عز
وجل والخروج عن الملة، فمثلاً الصلاة عند القبور والبناء عليها أمور حرمها
الشارع؛ لأنها طريق ووسيلة تفضي إلى الشرك بالله تعالى، وقد أشار العلامة
الشوكاني رحمه الله إلى أن البناء على القبور سبب رئيس في عبادة القبور فقال:
(فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما
زينه الشيطان للناس من رفع القبور ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزيينها
بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسن؛ فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من
القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج
المتلألئة، وقد سطعتْ حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه
تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله
من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد
الشيطان للمسلمين، وأشدّ وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، فيصير في
عداد المشركين) [14] .
ب- المسلك العلمي:
وهذا المسلك يقوم به أهل العلم وطلابه تجاه دعاوى القبوريين وشبهاتهم،
وسنعرض لجملة من الأجوبة العلمية على النحو الآتي:
1- إذا كان أهل السنة ينطلقون من منهج متين أصيل في التلقي والاستدلال،
فإن القبوريين يعوّلون في تلقيهم واستدلالهم على المنامات والأحاديث المكذوبة
والحكايات المزعومة.
فيحتجون بأحلام شيطانية على تجويز شركهم وكفرهم بالله تعالى، ومن ذلك
أن أبا المواهب الشاذلي يقول: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال لي: إذا كانت لك حاجة وأردت قضاءها فأنذر لنفيسة الطاهرة ولو فلساً؛ فإن حاجتك
تقضى) [15] .
فهذا حلم شيطاني، ودعوة صريحة للشرك بالله عز وجل، ونقض التوحيد،
وتنقّص لمقام سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- الذي مكث ثلاثاً وعشرين عاماً
يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، ويسد كل طريق يفضي إلى الشرك.
وعلى كلّ؛ فالمنامات لا يمكن ضبطها، وصاحبها ليس نبياً معصوماً، ومن
ثم فلا يعتمد عليها؛ فكيف إذا كانت حلماً شيطانياً وخالف الأحكام الشرعية، بل
وخالفت الأصل الأصيل وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة؟
يقول شيخ الإسلام: (وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين
بناء على أنه رُئِيَ في المنام هناك؛ ورؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الرجل
الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها، وتتخذ مصلى
بإجماع المسلمين، وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب) [16] .
ويحتجون بأحاديث مكذوبة مثل: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور) .
(فهذا الحديث كذب مفترى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، بإجماع
العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث
المعتمدة) [17] .
وأشار ابن القيم رحمه الله إلى أن هذا الحديث من الأحاديث المختلَقة التي
وضعها أشباه عبّاد الأصنام من المقابرية على رسول الله [18] .
كما يعتمدون على حكايات في تجويز الغلو في القبور والاستغاثة بها، وأن
الدعاء عندها هو الترياق المجرّب..
وغالب هذه الحكايات من اختلاق الدجّالين الأفاكين الذين لا يهمهم إلا أكل
أموال الناس بالباطل والصدّ عن دين الله تعالى [19] .
وقد أشار ابن تيمية إلى أن هذه الحكايات (إما كذب، أو غلط، أو ليس
حجة) [20] ، كما ذكر أن إجابة الدعاء، قد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمراً قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى [21] .
وقد تكون تلك الحكايات صحيحة، ولكنها من الشيطان، فإنه قد يتراءى
لبعضهم في صورة من يعتقد فيه، ويتسمى باسمه، وقد تقضي الشياطين بعض
حوائج من استغاث بالأموات..
يقول ابن تيمية: (وهكذا كثير من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى
هذه الأمة؛ فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت.. ويرى ذلك
الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلّمه ببعض ما سأله عنه.. وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصوّرت على صورته لتضله، وتضل أتباعه،
فتحسّن لهم الإشراك بالله ودعاء غير الله) [22] .
فيتعين على أهل العلم كشف عوار مسلك القبوريين وبيان تهافته، وفساد
التعويل على المنامات والأحلام، والأحاديث الموضوعة، والحكايات المزعومة،
مع تقرير المنهج الصحيح في التلقي والاستدلال كالاعتماد على الكتاب والسنة
الصحيحة، واعتبار فهم السلف الصالح ونحو ذلك.
2- ومن الأجوبة المجملة المحكمة ما ذكره إمام الدعوة رحمه الله في الرد
على شبهات القبوريين بقوله: (جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل.
أما المجمل: فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى:
[هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ] [آل عمران: 7] . وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أنه قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمى الله
فاحذروهم) أخرجه البخاري ومسلم.
مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا
هم يحزنون، وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاماً للنبي- صلى الله عليه وسلم- يُستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى هذا
الكلام الذي ذكره فجاوِبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ
يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن
المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء، مع قولهم:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وهذا أمر محكم بيّن لا يقدر أحد أن يغير معناه.
وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن، أو كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي -صلى
الله عليه وسلم- لا يخالف كلام الله عز وجل، وهذا جواب سديد، ولكن لا يفهمه
إلا من وفقه الله فلا تستهن به) [23] .
فهذا جواب سديد وحجة ظاهرة تجاه كل شبهة. وقد ساق المؤلف جواباً في
توضيح هذا الجواب، فإقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية وأن كفرهم بسبب
اتخاذهم وسائط بينهم وبين الله تعالى، يسألونهم ويدعونهم يُعَدّ أمراً محكماً ظاهراً لا
اشتباه فيه ولا التباس، وأما احتجاج المبتدع لباطله ببعض النصوص الشرعية فهو
أمر مشتبه ومشكل لا يُعلم معناه بالنسبة لذلك الموحد ولا يترك المحكم الواضح
ويتبع المتشابه إلا أهل الزيغ؛ مع يقيننا أن أدلة الحق لا تتناقض سمعية كانت أو
عقلية؛ فالنصوص الشرعية يصدّق بعضها بعضاً، فما كان متشابهاً فيردّ إلى ما
كان محكماً، بل نجزم أن أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية ولا عقلية إلا
وهي عند التأمل حجة عليهم لا لهم [24] .
وهؤلاء القبوريون من أهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة، ليس
نظرهم في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه، بل نظر مَنْ حكم
بالهوى، ثم أتى بالدليل كالشاهد له [25] .
وشبهاتهم التي احتجوا بها إن صحت من المتشابهات التي يتعين ردّها إلى
المحكمات من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب إفراد الله تعالى بالدعاء
والاستغاثة وسائر أنواع العبادة والنهي عن الشرك وذرائعه.
3- وإذا انتقلنا إلى الجواب عن شبهاتهم، فنقول ابتداءً: لا يوجد لدى
القبوريين دليل صحيح صريح في تجويز استغاثتهم بالقبور، وما قد يصح من
شبهاتهم إنما قد يُستدل بها عند البعض على جواز التوسل إلى الله تعالى بالذوات،
فلا تدل على جواز الاستغاثة بالقبور. والتوسل إلى الله تعالى بالذوات بدعة محدثة، بينما الاستغاثة بالقبور كفر وردة، فالفرق بينهما ظاهر.
يقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب موضحاً الفرق بين التوسل
والاستغاثة: (وبينهما فرق عظيم أبعد مما بين المشرق والمغرب.. فالعامة الذين
يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو
بملائكتك، أو بالصالحين، أو بحق فلان وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون
أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، ولا يسألونها وينادونها؛ فإن المستغيث بالشيء
طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه، ولا يسأل وإنما يطلب
به، وكل أحد يفرّق بين المدعو به وبين المدعو والمستغاث، ولا يعرف في لغة
أحد من بني آدم أن من قال: أتوسل إليك برسولك أو أتوجه إليك برسولك؛ فقد
استغاث به حقيقة، فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، فيفرّقون بين
المسؤول وبين المسؤول به) [26] .
ومع ذلك فالتوسل إلى الله تعالى بالذوات أو الجاه قد صار ذريعة إلى دعاء
القبور والتعلق بها، وما قد يُستدل به على التوسل إلى الله بالذوات أو الجاه، فإما
أن يكون صريحاً لكنه لا يصح ولا يثبت، وما قد يكون صحيحاً فلا يدل على
مرادهم، وإنما يدل على التوسل المشروع كالتوسل بأسماء الله وصفاته والعمل
الصالح كما بسط في موضعه [27] .
وأمر آخر وهو أن القبوريين قد لبّسوا على العوام وأشباههم بهذه الألفاظ
المجملة المشتركة، فصاروا يطلقون لفظ (التوسل) مثلاً على الاستغاثة بالقبور
ودعائها، فيظن البعض أن مرادهم التوسل إلى الله بالذات أو الجاه.. فيقع اللبس
والإشكال.
والتحقيق أن هذه الألفاظ المجملة يتعين تفصليها وبيانها، وقد بيّن أهل العلم
ما يحمله لفظ (التوسل) من الإجمال والاشتراك، ومن ذلك ما قاله الشيخ العلامة
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (إن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعبّاد
القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله ودعائه رغباً ورهباً، والذبح والنذر
والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق.
وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة، فيتوسلون إلى الله بما شرعه
لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا
هو التوسل في عرف القرآن والسنة.. ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه
نبيه أو بحق عبده الصالح، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين
كالسبكي والقسطلاني وابن حجر (الهيثمي [] 28 [.
ومن شبهات القبوريين قولهم: إن مشركي العرب لم يكونوا يعترفون
بالربوبية لله تعالى ونحن نعترف بأن الله تعالى هو الرب المدبّر الخالق.
فالجواب عن هذه الشبهة: أن مشركي العرب مقرون بتوحيد الربوبية، فلم
ينازعوا فيه، بل إن هذا التوحيد لم ينازع في أصله أحد من بني آدم] 29 [،
والدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
واستحل دماءهم كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق المدبّر لقوله سبحانه:] قُلْ
مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ
المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [
] يونس: 31 [.
قال قتادة رحمه الله: (إنك لست تلقى أحداً منهم إلا أنبأك أن الله ربه وهو
الذي خلقه ورزقه وهو مشرك في عبادته) ] 30 [.
وقال ابن جرير رحمه الله عند قوله تعالى:] فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [
] يونس: 31 [: (أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئاً ولا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) ] 31 [.
فالإقرار بربوبية الله تعالى لا يتحقق به التوحيد المطلوب، فمشركو العرب
مقرون بتوحيد الربوبية، ومن ذلك قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
واستحل دماءهم حتى يفردوا الله عز وجل بجميع أنواع العبادة.
ومن شبهاتهم: دعواهم أن الآيات القرآنية نزلت فيمن يعبد الأصنام والأحجار.. فلا تشملهم.
وجوابها: أن الشرك بالله أن يجعل لله نداً في العبادة سواءً كان صنماً أو
حجراً أو نبياً أو ولياً.
ومما قاله العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله جواباً عن هذه الشبهة:
(الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه سواءً أطلق على ذلك الغير ما
كان تطلقه عليه الجاهلية كالصنم والوثن أو أطلق عليه اسماً آخر كالولي والقبر
والمشهد) ] 32 [.
وإن أراد القبوريون بمقولتهم: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، بأنه
لا يجوز تنزيل هذه الآيات على من عمل عملهم؛ فهذا من أعظم الضلال.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن هذه المقولة: (فهذا ترس قد
أعدّه الجهال الضلاّل لردّ كلام، إذا قال لهم أحد: قال الله كذا، قالوا: نزلت في
اليهود، نزلت في النصارى، نزلت في فلان ...
وجواب هذه الشبهة (الفاسدة) أن يقال: معلوم أن القرآن نزل بأسباب، فإن
كان لا يُستدل به إلا في تلك الأسباب بطل استدلاله، وهذا خروج من الدين، وما
زال العلماء من عصر الصحابة فمن بعدهم يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود
وغيرهم على من يعمل بها) ] 33 [.
ومن شبهاتهم: أن سؤالهم أرباب القبور من أجل طلب الشفاعة، فهؤلاء
الموتى شفعاء بينهم وبين الله تعالى.
والجواب: أن الله قد سمى اتخاذ الشفعاء شركاً، فقال سبحانه:] وَيَعْبُدُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [
] يونس: 18 [.
وأمر آخر أن الشفاعة كلها لله تعالى كما قال سبحانه:] قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ
جَمِيعاً [] الزمر: 44 [، وقال عز وجل:] وَلا يَمْلِكُ الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ
الشَّفَاعَةَ [] الزخرف: 86 [.
يقول ابن تيمية: (فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال، ولا يتصور أن يكون نبي
فمن دونه مالكاً لها، بل هذا ممتنع، كما يمتنع أن يكون خالقاً ورباً.
قال سبحانه:] وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [] سبأ: 23 [فنفى نفع
الشفاعة إلا لمن استثناه، لم يثبت أن مخلوقاً يملك الشفاعة، بل هو سبحانه له
الملك وله الحمد، لا شريك له في الملك) ] 34 [.
وجواب ثالث: أن الله تعالى أعطى الأنبياء والأولياء الشفاعة، لكن نهانا عن
سؤالهم ودعائهم، فقال سبحانه:] وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ
فَإن فَعَلْتَ فَإنَّكَ إذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ [] يونس: 106 [، والشفاعة نوع من الدعاء] 35 [، ولا يكون الدعاء إلا لله تعالى وحده.
كما أن إعطاء الله الأنبياء والأولياء الشفاعة ليس تمليكاً مطلقاً، بل هو تمليك
معلّق على الإذن والرضا، وسيد الشفعاء -صلى الله عليه وسلم- لا يشفع حتى يقال
له: ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفّع) ] 36 [.
والحديث عن شبهات القبوريين والرد عليها طويل جداً، وإنما ذكرنا بعضاً
منها، وقد صُنفت مصنفات نافعة تتضمن الرد على شبهات القبوريين، مثل قاعدة
جليلة في التوسل والوسيلة، والرد على البكري والرد على الأخنائي كلها لشيخ
الإسلام ابن تيمية، وإغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيم، والصارم
المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، وكشف الشبهات، للشيخ محمد بن
عبد الوهاب، وتطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد للصنعاني، والنبذة الشرعية
النفيسة في الرد على القبوريين لحمد بن معمر، والدر النضيد في إخلاص كلمة
التوحيد، لمحمد ابن علي الشوكاني، وصيانة الإنسان عن وسوسة دحلان لمحمد
بشير السهسواني، وتطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران، لأحمد بن
حجر آل بوطامي، وتحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، لمحمد ناصر الدين
الألباني، والدعاء ومنزلته في العقيدة الإسلامية لجيلاني بن خضر العروسي،
وغيرها كثير.
يتبع في العدد القادم إن شاء الله،،،
__________
(1) انظر: الصواعق المرسلة، لابن القيم، 4/1560.
(2) الحجة لقوام السنة، الأصفهاني، 1/281.
(3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، 2/617.
(4) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 1/25، 26.
(5) تلبيس إبليس، لابن الجوزي، ص455، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم، 2/611، وإغاثة اللهفان، 1/133.
(6) انظر: الدرر السنية، 9/418، واقتضاء الصراط المستقيم، 2/705.
(7) معارج الألباب، ص216، باختصار.
(8) قرة عيون الموحدين، ص33.
(9) التبيان في أقسام القرآن، ص143.
(10) الصواعق المرسلة، 2/461، 462.
(11) أخرجه أحمد، 3/18، والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
(12) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/689.
(13) جامع الرسائل، 2/305، وانظر الرد على البكري، ص55.
(14) انظر شرح الصدور بتحريم رفع القبور، ص 17.
(15) طبقات الشعراني، 2/74.
(16) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/650.
(17) مجموع الفتاوى، /356.
(18) انظر: إغاثة اللهفان، 1/332.
(19) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/652، وإغاثة اللهفان، 1/333.
(20) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/688.
(21) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/653، وانظر: إغاثة اللهفان، 333، 334.
(22) مجموع الفتاوى، 71/456، باختصار، وانظر: الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية، لجيلاني خضر العروسي، 1/447، 2/812.
(23) كشف الشبهات، ص43، 44.
(24) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 6/354، 514، وحادي الأرواح، لابن القيم،
ص208.
(25) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/221.
(26) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 1/70.
(27) انظر: قاعدة جليلة في التوسل الوسيلة، لابن تيمية، والتوسل، للألباني، والتوصل إلى حقيقة التوسل، لمحمد نسيب الرفاعي رحمه الله.
(28) منهاج التأسيس، ص267، وانظر: مصباح الظلام ص178.
(29) انظر: التدمرية، لابن تيمية، ص181، ومجموع الفتاوى، 2/38.
(30) تفسير ابن جرير، 13/78.
(31) تفسير ابن جرير، 11/114.
(32) الدر النضيد، ص18، بتصرف يسير.
(33) تاريخ ابن غنام، 2/285، بتصرف يسير.
(34) مجموع الفتاوى، 51/604، باختصار.
(35) انظر: مجموع الفتاوى، 1/200.
(36) انظر: تأسيس التقديس، لأبي بطين، ص82.(131/50)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
سيف السياسة..
بين نصرة الحق.. ومظاهرة الباطل
عبد العزيز مصطفى
عبادة الأضرحة والقبور شرك لا شك فيه، ومنكر عقدي تتضاءل بجانبه
ومقارنة به المنكرات العملية الأخرى؛ فهو المنكر الذي ينبغي ألا تلين لأهل
التوحيد قناة في إنكاره بالقلب واللسان واليد ... والمنكر الذي لا يسع العامة السكوت
عليه، ولا الخاصة التغافل عنه ...
فهو يزداد ويقوى بضعف الإنكار وقلته، ويمحق ويضعف بقوة الإنكار وشدته.. وواجب الإنكار هذا؛ ليس مفروضاً على الأفراد فقط، ولا هو مسؤولية
الحكومات فحسب، بل هو واجب مشترك على كلٍ بحسبه، وكل بمقدار استطاعته
ووسعه.
والذي لا شك فيه أن قدرات الحكومات والدول على إنكار مثل هذه المنكرات
لو حصل فإنه يكون أوقع للأثر المطلوب وأقطع لدابر الفتنة، وأمنع لذرائع الشرك، وهذا ما تعلمناه من قول عثمان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان، ما لا
يزع بالقرآن) ... وهذا تعلمناه أيضاً من درس التاريخ الذي يُجمل لنا بمجموع
قصصه حقيقة مؤداها: أن الحق لا ينتصر لمجرد أنه حق، بل لا بد من قوة تسنده
وفئة تعاضده وأنصار يقومون به.
ولهذا لمّا شرع الله تعالى الجهاد قال: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن
لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] [محمد: 4] ، ولهذا أيضاً شرع الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وجعله عنواناً لخيرية الأمة المسلمة المنتصرة للحق.. [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]
[آل عمران: 110] ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن، وظيفة أمة، ومسؤولية أفراد ودولة، بل هو ألصق بالدولة في بعض الأحيان من الأفراد. فهذه الفريضة أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من وظيفة الدولة في الإسلام، فهي ليست مجرد جهود شخصية من بعض المتطوعين أصحاب النوايا الحسنة، وليست أصواتاً تعلو فوق المنابر تخاطب البناء التحتى للمجتمع الذي لا يملك حولاً ولا قوة حيال المنكرات والمفاسد المدخولة ... لا، ليس الأمر كذلك، ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان خطة الدولة في الإسلام، وهو الشعيرة التي تمثل الأرضية التي تنطلق منها السياسات التعليمية والإعلامية والاجتماعية وغيرها.
ومعلوم أن هناك منكرات لا تكفي لها جهود الأفراد، ولا هبّات المجموعات،
وإن كان ذلك مطلوباً بل لا بد فيها من سلطة تملك، وقوة تتحرك، ودولة تتصرف؛ فتغيير مثل هذه المنكرات والتمكين للمعروف الذي يناقضها، هو أحد أغراض
الولاية العامة، بل هو أهمها.
فالحكام إنما ينصّبون في الإسلام لولاية الأمر، وهو الدين. والدين لا يقوم
إلا بالأمر به والنهي عن ضده، يقول ابن تيمية رحمه الله (.. وولي الأمر إنما
ينصّب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان
الوالي يمكّن من المنكر، كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على
عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً يجاهد به في سبيل الله، فقاتل به
المسلمين) [1] .
لا بد إذن من سلطة تنصر الحق وتقمع المنكر، وهذا ما دل عليه القرآن
أيضاً، في قول الله تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ] [الحديد: 25] (فالكتاب والميزان هما ما نُقل صدقاً،
وما شُرع عدلاً لإقامة الناس على شريعة الحق اتباعاً للرسل، فمن أبى جعل الحديد
رادعاً لكل معاند بعد قيام الحجة) [2] .
وإذا كان لا بد من إنكار المنكر والأمر بالمعروف، فإن أنكر المنكرات هو
الشرك، كما أن أعرف المعروفات هو التوحيد، ولذلك كانت دعوة الأنبياء جميعاً
في جوهرها أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك ... فقد قاوموا الشرك بكل صوره بكل
ما آتاهم الله من قوة في العلم والبيان والنطق واللسان والسيف والسنان.
وعندما نستعرض أخبار هؤلاء الأنبياء في تعاملهم مع واقع المنكرات العظيمة
الموجودة في عصورهم، نرى حقيقة ماثلة، تستلفت الانتباه، وهي: أن جهودهم
في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، كانت تحتاج دائماً إلى نصرة، وأحياناً إلى سُلطة، فبعض هؤلاء الأنبياء كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بمفرده، أو مع فئة
قليلة معه، كنوح وإبراهيم وهود وصالح، ومنهم من صارت له قوة وشوكة،
وأنصار وسلطة، كيوسف وموسى وداود وسليمان ومحمد صلوات الله عليهم
أجمعين فهل كانت دعوة الحق قبل التمكين كحالها بعد التمكين؟ وفي المقابل: هل
كان المنكر المنتصر بالقوة والمستعلن بالسلطان، كالمنكر المخبوء في أوكاره،
والمتخفي بأفكاره؟ ! .. لا يستوون..
فإذا جئنا إلى رسالة النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم-، نراه يبطل
الشرك منذ مبدأ بعثته، ويسفّه أحلام المشركين، ويحقّر آلهتهم، لكنه لم يُعطَ في
البداية إذناً بالتغيير، ولم يؤيّد في مكة قبل الهجرة بالسلطان، ولهذا كان يأتي الكعبة
عابداً ناسكاً ... لا يستطيع أن يمس أصنام المشركين المحيطة بالكعبة، وفي سائر
البلد الحرام، بل في سائر الجزيرة. ولكن ... ماذا كان الأمر عندما مكّن الله له،
وجعل له السلطان على أهل مكة بعد الفتح ... ؟ إنه لم يتأخر عن تغيير المنكر
الأكبر في مكة؛ فلم يكد ينتهي من صلاة الظهر يوم الفتح، إلا وهو يصدر الأمر
بأن تكسّر الأصنام وتحرّق، وكان يشارك بيده الشريفة في ذلك..
لقد كان بمكة يومها من الأصنام ما يبلغ ثلاثمائة وستين صنماً، منها أصنام
حجرية وأوثان شجرية، ولم تشرق الشمس بعدها على صنم يُعبد في مكة ما دام
للحق فيها سلطان.
ولقد استؤنفت المسيرة بعد ذلك في حرب الشرك والوثنية في كل الجزيرة
العربية، حتى لا يبقى فيها دينان ... وعندما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم-
معاذاً إلى اليمن كي يلي أمر أهلها؛ قال له: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا
صورة إلا طمستها) [3] .
لقد كانت مظاهر الشرك والوثنية مقموعة ممنوعة في أرض الإسلام طيلة
عهود الخير وقرون التفضيل، في عصور الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهكذا ظل
الأمر في كل عهد كان لأهل الحق فيه صولة ودولة.
فالحق يظهر دائماً بظهور أهله ... ويخفى ويضعف بخفتهم وضعتهم..
نحن في حاجة إلى أن نتجول في مسارب التاريخ ومدارات الزمن، لنستيقن
من هذا السَنَن، فلو ألقينا نظرة على سيرة المصلحين من أتباع الأنبياء، لوجدنا في
قصصهم عظة كما أن في سير النبيين عبرة.
أمامنا نموذجان لدعوات رامت الإصلاح واستهدفت إقامة شعائر الدين،
وجعلت التمكين للتوحيد غايتها ورايتها.
النموذج الأول: هو دعوة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله.
النموذج الثاني: هو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
أما دعوة ابن تيمية، فكما نعلم أنها جاءت في ظروف تاريخية حرجة، جابه
سلطان الإسلام فيها أعظم الأخطار؛ فالمغول من بعد الصليبيين؛ واجهت الأمة بهم
فتناً دهماء بكماء صماء، وقد ولد ابن تيمية رحمه الله في أيام حكم المماليك الذين
كانت دولتهم تضم ما يمثل في عصرنا مصر وسورية ولبنان وفلسطين، وكانوا قوة
لا يستهان بها في ذلك الوقت بالرغم من الضعف العام الذي انتاب بقية أجزاء العالم
الإسلامي. وكان ابن تيمية مدركاً لطبيعة عصره، متفهماً لحقيقة الصراع، وكان
على يقين بحاجة الأمة في مصر والشام إلى ولاية شرعية عامة، تقف وراءها
لمواجهة الفتن، ولم يكن أمامه من يصلح لتمثيل تلك الولاية إلا المماليك، فقد رأى
فيهم قوة للدين بالرغم من مثالبهم المتعددة، فأعطاهم تأييده المشروط وهو: الطاعة
في المعروف.
لقد استطاع هؤلاء المماليك أن يؤسسوا حكماً مستقلاً، فكانوا بذلك أملاً في
الخروج من المحنة، ورأى ابن تيمية المصلحة في شد أزرهم وتقويم اعوجاجهم
وتقويم الأمة بهم حتى تتعافى أمام الصعاب.
والمتأمل في سيرته رحمه الله يرى أنه كان يستمد من تلك السلطة العون بعد
الله في إنكار المنكرات، ومواجهة أصحاب البدع والمحدثات، الذين زادوا الأمة
ببدعهم وهناً على وهن.
وبالنظر إلى عداوته الشديدة لهؤلاء المبتدعة وأمثالهم من الأحمدية
والكسروانية والحشاشين، فقد (سعى جاهداً لإزالتهم من الوجود، وحث السلطة
على إبادتهم قدر الإمكان) [4] .
وقد أعلن حرباً لا تعرف الهوادة ضد فكر الصوفية الغلاة، وخاصة (ابن
عربي) الملحد، فلم يدخر وسعاً في تفنيد آرائه ونقض أفكاره، وكذلك إقناع الحكام
بوضع حد لسريان خدعه وبدعه وضلالاته التي كانت تسري في العامة سريان النار
في الهشيم.
لقد رأى ابن تيمية أن أوضاع المسلمين تسير نحو الأسوأ إذا تُرِكَ أمثال
هؤلاء الذين يوجهون الأمة نحو الشعوذة والسحر والخرافة ... بما ينتهي بهم إلى
ضروب من البدع الاعتقادية الشركية ...
ولم يشأ أن يقصر جهده على مقاومة العدو الخارجي، بل كان على يقين أن
عدو الداخل من المنافقين، هو السند والمعين لعدو الخارج [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ]
[المنافقون: 4] .
لقد رأى غلاةَ الصوفية يستغلون ضعف العلم والإيمان في طبقات من الناس
فيغرونهم بأفكار عن وحدة الوجود ووحدة الشهود، وكرامات الأولياء ومنازل
الأقطاب وقداسة الأضرحة والأعتاب..
فتصدى لهم وكان لهم بالمرصاد في دمشق ومصر.
وقد كان من حسن حظ المسلمين في ذلك العصر، أن بعض الولاة بالرغم من
مثالب كثيرة عندهم كانوا يكنون للعلماء احتراماً، ويمكنون لهم في دعوتهم، ويرون
لهم حقاً في توجيه مسار الأمة. وكان ابن تيمية بدوره يعطي لهم ما أرادوا من
الطاعة في غير معصية، ويستعين بهم بعد الله في إنكار المنكرات وإظهار الشعائر
وإقامة الدين.
وكان يقول في ذلك: (يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات
الدين، بل لا قيام للدين إلا بها) [5] .
وكان يستصحب هذا المفهوم النظري في تطبيقه العملي، ففي عام خمس
وسبعمائة خرج ابن تيمية مع طائفة من جيش المسلمين في صحبة نائب السلطنة،
فساروا في بلاد تسيطر عليها طائفة غالية من الروافض، فغزوهم وانتصروا عليهم
بإذن الله، وهلك كثير من فرقتهم الضالة وعاد نائب السلطنة إلى دمشق وفي
صحبته ابن تيمية وجنود الجيش [6] .
وكان قد قام قبل ذلك بأمر من قبيل إنكار المنكر باليد، فذهب إلى مسجد
يسمى (التاريخ) وعمد هو وأصحابه إلى صخرة مجاورة للمسجد على ضفاف نهر،
كان الجهال يزورونها ويفعلون عندها الأفاعيل الشركية، فاصطحب معه حجّارين،
وتعاون هو وأصحابه معهم في تحطيمها وتقطيعها. قال ابن كثير: (فأزاح عن
المسلمين شبهة كان شرها عظيماً، وبهذا وأمثاله حسده الأعداء، وأبرزوا له
العداوة) [7] .
والنموذج الثاني الذي سنعرض له، هو نموذج دعوة الشيخ محمد بن
عبد الوهاب، فقد كانت الفترة التي عاصرها (مطلع القرن الثاني عشر الهجري) فترة انتكاس في الفطر، وارتكاس في العقائد؛ ذلك أن مظاهر الشرك الجلي قد ظهرت في مواطن كثيرة من بلاد الإسلام، وتمثل هذا الشرك في تحول فئام من الناس إلى عبادة الأولياء والصالحين أمواتاً وأحياءً؛ فكل ما يجب أن يصرف لله تعالى من العبادات القلبية والعملية، كان يصرفها أولئك للمقبورين بزعم أنهم كانوا صالحين، فاستغاثوا بهم في النوازل ونذروا وطافوا وتمسحوا بآثارهم ومدافنهم، بل تعدى الأمر إلى الشرك بالجمادات كالأحجار والأشجار.
وقد كان في بلاد نجد من تلك الانحرافات ما قض مضجع الشيخ وأنقض
ظهره، فلم ير لنفسه عذراً في السكوت على هذا الشر المنتشر في الآفاق.
ففي (الجبيلة) كان الناس يقصدون قبر (زيد بن الخطاب) رضي الله عنه
ويدعونه لتفريج الكرب وكشف النوب، فعكف الناس على عبادتها، وصارت لعبادة
تلك المقابر أعظم المنزلة في صدور الناس رغباً ورهباً، وكان في أسفل الدرعية
غار كبير يزعم الجهال أن الله تعالى شقه في جبل لإنقاذ امرأة من بعض الفسقة
الذين أرادوها بسوء، فكان الجهلة يرسلون إلى الغار وهو أحجار اللحم والخبز
وصنوف الهدايا. وفي شعيب (غبيرة) كان الناس يأتون من المنكر ما لا يعهد مثله
عند قبور الصالحين. وخاصة عند القبر الذي يزعمون أن فيه (ضرار بن الأزور)
وكانت طوائف من الخلق تأتي إلى شجرة (الطرفية) فيتبركون بها ويعلقون الخرق
عليها إذا رزقوا ولداً لعله يسلم من الموت!
هذا في بلاد نجد، أما في بلاد الحجاز، فلم يكن الأمر بأقل سوءاً من هذا؛
ففي مكة كانت تعلو الاستغاثات والأدعية عند قبر (أبي طالب) وقبر (المحجوب)
وكان تعظيم هذين القبرين يفوق تعظيم الكعبة عند كثير من الجهال؛ حتى إن
السارق أو المعتدي أو الغاصب إذا لجأ إلى أحد هذين القبرين لم يتعرض له أحد بما
يكره، أما إن تعلق بالكعبة فإنه يسحب فيها بالأذيال؛ تفريطاً منهم بحقها.
وكذلك كانت ترتكب الشنائع الاعتقادية والأخلاقية عند قبر (ميمونة بنت
الحارث أم المؤمنين) رضي الله عنها في (سَرِف) وكذلك عند قبر أم المؤمنين
(خديجة) رضي الله عنها في (المعلاّة) .
وفي الطائف كان قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يُتخذ مزاراً يقف
أمامه المكروبون مستغيثين، والخائفون متضرعين، وأصحاب الحاجة والمسألة
داعين مسترزقين.
أما في المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فقد خالف الناس
سنته، واتخذوا قبره عيداً، وهو الذي برئ من ذلك وقال (اللهم لا تجعل قبري وثناً
يعبد) [8] .
ولكن تلك المظاهر الوثنية التي حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها
تسللت إلى جزيرة الإسلام، وأبت إلا أن تشوه نقاء التوحيد فيها، وحق على بعض
أهلها قول الرسول: (لا تقوم الساعة حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) [9] .
فتعددت البقاع التي يعصى فيها الله بتلك الموبقات. فإلى جانب ما ذكرنا كانت
ذرائع الشرك تقام على نطاق كبير في الأماكن المحيطة بالمدينة، وفي المزارات
التي تكثر فيها مقابر الصحابة، في قباء والبقيع وغيرها.
أما في جدة، فقد بلغ الضلال والفحش غايته عند القبر المزعوم أنه لحواء
عليها السلام فكانت تجبى إليه الأموال كل عام، ويأكل السدنة عنده أموال الناس
بالباطل ويصدون عن سبيل الله [10] .
وإذا كانت هذه بعض مظاهر الانحراف داخل الجزيرة العربية مهد الإسلام فما
بالنا بما كان خارجها من الانحرافات؟ !
المقصود هنا أن مظاهر الانحراف في العقيدة عمت تلك الجزيرة إلا من رحم
الله. ولكن لطف الله استنقذ الناس من هذه الوهدة بمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله
فقد قام بوجه الفتنة كأمة وحده، ونافح ودافع عن عقيدة التوحيد الخالص لينقيها
ويصفيها من شوائب الشرك وأدران الوثنية.
ونتساءل هنا: أكان بوسع الشيخ أن يصمد أمام طوفان الانحرافات بمجرد
كلمات وعظية أو خطب منبرية ونصائح وقتية فحسب؟ ! الجواب الذي لا شك فيه
أن لا! ... إن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد سار وفق سيرة رسول الله محمد
ابن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قام يطلب النصير لدعوته: (من يحميني
حتى أبلغ دعوة ربي) [11] . وهذا ما سارت عليه كل الدعوات الإصلاحية في
تاريخ أمة الإسلام بعد ذلك.
كان مبدأ تحرك الشيخ لمحاربة مظاهر الشرك عندما عرض على رئيس بلدة
العيينة (عثمان بن حمد بن معمر) الدعوة، فاستجاب لها واتبعه عليها وناصره فيها، وألزم الخاصة والعامة أن يستجيبوا إليها.
عند ذلك لم يجد الشيخ مناصاً من التحرك العملي بهؤلاء الأنصار لتغيير
المنكرات الشركية، وبدأ بالعيينة نفسها، لقد انطلق مع نفر من الأتباع المخلصين
فخلصوا العيينة مما كان فيها وحولها من القباب والمشاهد والمساجد المبنية على
قبور الأولياء والصالحين، وكذلك قطعوا الأشجار التي كان الناس يعظمونها
ويتبركون بها.
وكان الشيخ هو الذي تولى بنفسه هدم القبة المقامة فوق قبر زيد بن الخطاب،
وسوّاها بالأرض امتثالاً للأمر النبوي لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن.
ولقد كان لهذه الأعمال الإصلاحية وقع الصاعقة على المنتفعين بالانحراف في
البلدان المجاورة، وخاصة أصحاب السلطان منهم، فلقد خافوا من تلك الدعوة
وتأهبوا لمواجهتها، ولكن الشيخ لم يأبه بهم، وظل على سيرته في الدعوة العلمية
والعملية، إلى أن انتكس والي العيينة بعدما هدده والي الأحساء، وطلب منه التخلي
عن الشيخ.. هنا وجد الشيخ أن دعوة مثل دعوته لا يمكن لها أن تقبع داخل أسوار
بلدة بعينها، لا العيينة ولا غيرها، فترك العيينة، وانتقل إلى (الدرعية) فوجد من
واليها (محمد بن سعود) التأييد والنصرة، مما شجعه على المضي في دعوته..
وهنا أمر لا بد من التنبيه عليه، وهو أن الشيخ رحمه الله وجد أن للقبورية
الوثنية أنصاراً يدافعون عنها، ويتشبثون بها، ويظهرون كامل الاستعداد للذود عنها
بالدم والروح بعد المال والجاه! ظهر له ذلك من موقف جمهرة الكبراء في البلدان
المحيطة الذين بادروا دعوته بالعداء حتى قبل أن يسمعوها أو يفهموها!
وهنا لم يعد الأمر متعلقاً بمظاهر من الانحراف تحتاج إلى محتسبين من
الآمرين الناهين فقط، بل رأى هذا الانحراف واقعاً مستقراً، تقوم عليه مصالح،
وتؤسس عليه زعامات ورئاسات تقاوم وتساوم عليه، بل تجاهد وتكابد من أجله..
فلم يكن بُد والحالة هذه من أن يواجه العناد بالجهاد، ولهذا انتقل الشيخ من مرحلة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مرحلة الجهاد ... ! .
أجل.... (لقد بقي رحمه الله يدعو إلى سبيل ربه بالحجة الواضحة
وبالموعظة الحسنة، فلم يبادر أحداً بالتكفير، ولم يبدأ أحداً بالعدوان؛ بل توقف
عن كل ذلك ورعاً منه وأملاً في أن يهدي الله الضالين، إلى أن نهضوا عليه
جميعهم بالعدوان وصاحوا في جميع البلاد بتكفيره هو وجماعته، وأباحوا دماءهم،
ولم يُثبتوا دعواهم الباطلة بالحجة من كتاب الله أو سنة رسول -صلى الله عليه
وسلم-، ولم يكتفوا بما ارتكبوه بحقه من الزور والبهتان، وما اتبعوه من وسائل
لإجلائه وجماعته عن البلاد، ومطاردتهم بالتعذيب والاضطهاد، أجل، لم يأمر
رحمه الله بسفك دم ولا قتال على أكثر أهل الضلال والأهواء، حتى بدأوه بالقتل
والتكفير، فأمر الشيخ حينئذٍ بالجهاد، وحض أتباعه عليه فامتثلوا الأمر) [12] .
لقد ظلت دعوة الشيخ ثابتة على هذه الخُطا ... تأمر بالمعروف وتمكّن له،
وتنهى عن المنكر وتتمكن منه وتقضي عليه ... ففتح الله له ولأتباعه كثيراً من
البلاد، ودان له ساكنوها من العباد، ذلك في حياته ومن بعد وفاته.
وفي مقابل كل ما ذكرنا من الدلالات والشواهد على أن القوة السياسية لها أبلغ
الأثر في إخماد الباطل ومنكراته العملية، نذكر بلمحات تدل على العكس، وهو أن
القوة السياسية عندما تزيغ بها الأهواء، وتتفرق بها السبل عن الكلمة السواء ...
فإنها تنزل بكل ثقلها في خندق الباطل، لتساهم معه في تسديد سهام الشك والإيهام.. ورماح الشر والشرك والحرام على قلوب العوام ... !
وفي تاريخ أمتنا من الشواهد على ذلك الكثير والكثير ...
سنتجاوز تلك الدول التي قامت أصلاً على البدع والخرافات، وغرستها غرساً
في أرض الإسلام، كالدولة العبيدية الرافضية (الفاطمية) وممالك الفرق الباطنية
الأخرى كالقرامطة والإسماعيلية والحشاشين والبويهيين وغيرها مع خطورتها
وعظيم ضلالها وانحرافها.
ولهذا سنقفز فوق معابر التاريخ إلى العصور الحديثة ... العصور التي
يفترض أنها تناوئ الهرطقة، وتناقض الشعوذة.. وتحارب الدجل.
هل نأت الثقافات عن الخرافات؟ ... هل تخلت السياسات في هذا العصر
عن نصر الخزعبلات أو الاستنصار بها؟
للأسف ... إننا سنسمع من التاريخ الحديث حديثاً، لا يختلف عما أخبرنا به
التاريخ القديم ... فالحِلْفُ غير المقدس بين الخرافة والسياسة لا يزال قائماً ...
فكلاهما يخدم الآخر ويقايض به..
إننا سنبدأ بمرحلة متقدمة نسبياً في التاريخ المعاصر، وهي مرحلة الدولة
العثمانية، خاصة بعد أن أصابتها أدواء الأمم، لقد زاد توغل واتساع الطرق
الصوفية في تلك الدولة في مراحل انحدارها، مما كان له أثره الضار على شرائح
كبيرة من المجتمعات الإسلامية التابعة لها في مصر والشام وبلاد المغرب والحجاز
والعراق وغيرها، وزاد الطين بلة أن السلاطين العثمانيين كانوا يتخذون من مشايخ
الطرق خاصة الطريقة النقشبندية مرجعية دينية، فظلت للصوفية هيمنتها وسيطرتها
على العامة من الناس، وظلت للخرافة والبدع بذلك تأثيراتها عليهم.
استمر هذا حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث احتضنت سلطات الاحتلال
الأجنبي الطرق الصوفية في البلاد التي بسطت سلطانها عليها.
وعمل بعض أولئك على رد الجميل للمحتلين، فكانوا يضفون الشرعية على
وجودهم ويسوّغون للناس بقاءهم، ووصل الأمر إلى أن بعض مشايخ الصوفية في
مصر، قاموا بجمع توقيعات أثناء ثورة 1919م تطالب ببقاء الإنجليز في مصر!
وكان من هؤلاء شيخ الطريقة (السمانية) : محمد إبراهيم الجمل. لقد أدرك الإنجليز
أن الطرق الصوفية تلعب دوراً مهماً من خلال مزاولة أنشطتها بين الطبقة العامة
من الشعب، فالصوفية بدعوتها الظاهرية إلى الزهد وترك مباهج الحياة
والانصراف عن الدنيا، يمكن أن تضفي الصبغة الدينية على موقف الخنوع
والخضوع للمحتل الأجنبي بخلفيات قدرية اتكالية استسلامية، ولهذا حرصت
سلطات الاحتلال في مصر وغيرها على إطلاق يد الطرق الصوفية في ممارسة
أنشطتها، وقد ساعد على ذلك سيطرة سلطات الاحتلال على وزارة الداخلية مما
مكنها من السيطرة على تلك الطرق ومعرفة تحركاتها وأساليبها وتوجيهها إلى
الوجهة التي تضمن للمحتل خدمات أكثر.
سنأخذ من مصر مثالاً على العلاقة بين السياسة والخرافة، وسنرى أنه كان
في مصر كما في بلاد كثيرة غيرها ذلك الحلف غير المقدس بين هاتين القوتين.
لقد كانت الصوفية في عهد الملكية المصرية، تضفي طابعاً دينياً على
المناسبات المتعلقة بالحكام، حتى تلك المناسبات الخاصة منها؛ فكان مشايخ الطرق
يعدون العدة مثلاً للاحتفال بعيد ميلاد الملك، الذي يبدأ من صلاة الفجر بالمواكب
التي تجوب الشوارع بالرايات والشارات، وكانت المشيخة العامة تصدر منشوراً
عاماً يوزع على الطرق في هذه المناسبة، وتتصل بمأموري المراكز لحماية تلك
المواكب، وكانوا كذلك يحرصون على إحياء الذكريات الحزينة لوفاة من يموت من
الأسرة الملكية، كذكرى اليوم السابع ويوم الأربعين، والذكرى السنوية الأولى
والثانية والثالثة ... إلخ. وكانت بعض الطرق الصوفية بدورها تتلقى المكافأة على
تلك المداهنة إلى حد يوصلها إلى المنزلة والقربى بل تتعداها أحياناً إلى السطوة
والسيطرة على ساحة التوجيه.
ماذا كان يعني هذا النفوذ لهذه الطريقة أو تلك في أوساط المسؤولين السياسيين؟!
إنه يعني ضمن ما يعني أن تبسط الحماية (الرسمية) على تلك الطرق
ورموزها وأفرادها وأملاكها ومصالحها ... وأهم من هذا وذاك ... تؤمن لها طرق
الانتشار الآمن في أوساط العامة.. والخاصة أيضاً! وهذه الحماية الرسمية لأرباب
الصوفية؛ أحد الأسباب الرئيسة في انتشار الفكر الصوفي وتغلغله في بلد كمصر
في ذلك الوقت..
لا نستطيع أن نجزم بقناعة السياسيين الدينية بهذه الطرق في كل حال، ولكننا
نجزم بأنهم كانوا يستفيدون منهم غاية الاستفادة، وفي أدق وأخطر المسائل المتعلقة
بالسياسات العليا أحياناً.
ومن الأمثلة الصارخة على هذا، أن الملك فؤاد عندما تطلع إلى تولي منصب
(الخلافة) في أعقاب إلغاء الخلافة العثمانية في تركيا، صدّر لهذه المهمة الشيخ
(محمد ماضي أبو العزايم) أحد مشايخ الطرق المشهورين في مصر في ذلك الوقت.. ولكن جهود الملك لإعلان نفسه خليفة لم تكلل بالنجاح بعد ذلك، لأسباب كثيرة
منها تخلي أبي العزايم نفسه عن هذه الدعوة لصالح الملك فؤاد، وانتهى الأمر بوفاة
الملك دون أن يحقق هذا الأمل. وجاء بعد فؤاد ابنه فاروق، وظلت آمال أبيه
تداعبه، ومن أجل ذلك سعى لدى نقيب الأشراف في مصر في ذلك الوقت (علي
أحمد البيلاوي) كي يبحث له عن أية وسيلة للربط بين أسرة محمد علي (الألبانية)
التي جاء منها فؤاد وفاروق وبين النسب النبوي الشريف! !
وبالفعل شكل نقيب الأشراف هذه اللجنة وكان صوفياً وجعل تلك اللجنة تحت
إشرافه، وفي عضويتها جمع من مشايخ الطرق وبعض الأزهريين والشخصيات
العامة وكان الهدف المعلن من تشكيل اللجنة إثبات نسب الأسرة المالكة بالنسب
النبوي الشريف.
لم تكن الحكومات فقط هي التي تستعمل الصوفية مستغلة لها في كل أغراضها، بل كذلك كانت الأحزاب السياسية المعارضة، حتى ذوات الصبغة ا?علمانية الفجة
منها.
فحزب الوفد العريق في علمانيته، كان يعتمد على بعض الطرق الصوفية
لحشد التأييد الشعبي له، وكان من هذه الطرق (الطريقة البغدادية) وشيخها (سيد
عفيفي البغدادي) واستتل أيضاً الطريقة العفيفية وشيخها: (عبد العزيز عفيفي) وهذه
الطريقة تولى مشيختها بعد وفاة شيخها أحد أعضاء حزب الوفد وهو (أحمد الساكت) ، وقد بذل زعيم الوفد (مصطفى النحاس) جهوداً لترشيح عضو الوفد (أحمد
الصاوي) شيخاً لمشايخ الطرق الصوفية بمصر!
ولما انتهى العهد الملكي في مصر، كان لضباط الثورة مواقف خاصة بهم
لضمان ولاء الطرق الصوفية لهم ... لقد كانت الثورة تنظر نظرة عدائية لأي نشاط
إسلامي حر، باستثناء الطرق الصوفية؛ حيث اعتبرتها أداة لفريق الثورة الذي كان
يستهدف فرض الاشتراكية الإلحادية لا في مصر وحدها، بل في المحيط العربي
كله.
وأصبح للطرق الصوفية مجلة تصدر عن مجلسهم الأعلى، وكانت شبه ناطقة
باسم الحكومة، ومسوّغة لكل إجراءاتها الثورية الاشتراكية.
لقد وجد كثير من الناس في الطرق الصوفية سبيلاً إلى ممارسة التدين بطريقة
مأمونة تحت المظلة الحكومية، فانتعش الوجود الصوفي الطرقي في تلك الحقبة،
بكل ما يعنيه وما يترتب عليه من انتشار الخرافة والدجل والبدعة التي لا يؤمن بها
الثوريون أصلاً ولا بغيرها من قيم الدين الصحيحة، ولكنهم وجدوا في الصوفية
ضالتهم لإفراغ الإسلام من محتواه الإصلاحي الحقيقي، وليصنعوا منه خادماً
لأصول الاشتراكية الثورية.
لقد اتسع انتشار الصوفية في بدايات عهد الثورة، حتى إن المجلس الصوفي
الأعلى لم يكن بمستطاعه وحده أن يشرف على أنشطة الصوفية، فدفعت السلطة
بحزبها السياسي الوحيد في ذلك الوقت وهو (الاتحاد الاشتراكي) لكي يستغل
احتفالات ونشاطات الصوفية ليوزع المنشورات ويطلق الشعارات وربما الشائعات
للدعاية للنظام.
وظلت السلطة مستمرة في دفع عجلة الصوفية للأمام على حساب الاتجاهات
الدعوية الأخرى، حتى إنها صدّرت رجلاً من رجالها وهو (أحمد رضوان) وأقحمته
لرئاسة مشيخة الطريقة (الخلوتية) التي كان تدعيم الحكومة لها أكثر من غيرها.
ولما توفي الشيخ الحكومي سنة 1967م، بُني له ضريح، ونُسجت حوله
الأساطير، وأسندت إليه الكرامات، والخواراق والمعجزات، التي ربما لم يُسمع
عنها لغيره، وربما لم يعلم هو عنها شيئاً طيلة حياته.
وقد استمر الدعم الحكومي للطرقية بعد عهد عبد الناصر، حتى أصبحت
الطرق الصوفية التي تقرب من الخمسين طريقة، هي النشاط الديني الوحيد التابع
لرئاسة الجمهورية رأساً، وله ميزانيته الخاصة في الدولة.
وإمعانا في تسويغ الصوفية وتلميع رموزها، تم تعيين استاذ جامعي في
منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية وهو (أبو الوفا التفتازاني) واعتبرت الصوفية
هذا تكريماً زائداً لهم وعدّوه رداً كافياً على خصومهم الذين يتهمون الطرقية
باللاعصرية والجهل مقارنة بالجماعات الإسلامية الأخرى ... وهكذا أخذت الخرافة
والدجل والشعوذة باسم الدين طابعاً (أكاديمياً) وإلى الله المشتكى! ! .
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/303) .
(2) تفسير ابن كثير (4/315) .
(3) أخرجه أحمد في مسنده (1/96) .
(4) البداية والنهاية (14/37) .
(5) السياسة الشرعية، ص72.
(6) البداية والنهاية (14/37) .
(7) البداية والنهاية (14/36) .
(8) أخرجه مالك في الموطأ/85، وأحمد في مسنده (2/246) .
(9) أخرجه أبو داود (الفتن/1) وابن ماجه (فتن/9) وأحمد (5/278) .
(10) راجع تاريخ ابن غنام ص 14، 16، 17.
(11) أخرجه أبوداود (السنه/20) والترمذي (ثواب القرآن/24) وابن ماجه (مقدمة/13) .
(12) تاريخ ابن غنام ص89.(131/62)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها
(1/2)
قبس من الظلمات
(ما وراء الطقوس)
خالد أبو الفتوح
ليس من الطبيعي أن يتوجه إنسان إلى حجر أو شجر أو قبر أو أي مخلوق
آخر بأشكال التقديس والتقرب، ولذا: فإن الصورة الساذجة المباشرة لهذه الأعمال
لا يتصور أنها تنطلي من أول وهلة وبصورتها الساذجة على المخلوق المكرم بعقله، المميز بفطرته؛ إذ لا بد من وجود حجج وحيثيات تزين هذا الانحراف وتسوغه
له، أي: لا بد من وجود (فلسفة) لهذا الأمر حتى ولو لم تظهر مصاحبة له، فهي
في كثير من الأحيان تظهر في صورة أشبه ما تكون بالاتجاه النفسي [1] لدى
المبتلين بهذا الداء، وهنا تكمن الصعوبة في هذا الجانب من البحث؛ لأننا نريد
دخول منطقة (اللاوعي) عند القبوريين للخروج بالوعي الكامن الذي يحركهم
ويدفعهم إلى هذه الأفعال التي من المفترض ألا يقبلها عقل راشد، ولا تستسيغها
فطرة سليمة، ولا تسمح بها شريعة منزلة.. فكيف فعلها هؤلاء؟ بل كيف تمسكوا
بها ودافعوا عنها؟
عودة إلى الوراء:
الأمر يستدعي منا أن نعود إلى الوراء لننظر: كيف كان يُدعى الناس من
خلال (الحكمة والفلسفة) إلى الانحراف العقدي؟
في البدء كان التوحيد، ولم يكن شرك على وجه الأرض، وكان في الناس
بعض المميزين بصلاحهم المبرزين بعبادتهم، ثم طالت فترة الناس عن نور الوحي
فقلّ فيهم عدد هؤلاء المميزين، ولكن يبقى الناس مجلين هؤلاء الصالحين،
متمسكين بشعاع التقوى والعبادة يريدون عدم الانسلاخ منه، وهنا يبرز الشيطان
مزيناً بداية خط الانحراف: (لو صوّرتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم) ، و (أرى
جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكون في ناديكم فتذكرونه به) ،
فقط اتخاذ (الرمز) ؛ للتذكرة بالعبادة والصلاح..! ، فصوروا، ثم ماتوا.. فنشأ
قوم بعدهم فقال لهم إبليس: (إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها) فعبدوها.. إنه
(التقليد) ..
فباتخاذ (الرمز) واحترامه وتعظيمه، ثم بـ (التقليد) الذي قاد إلى التقديس
حدث أول شرك، وهذا ما حدث في قوم نوح عليه السلام [2] . فكيف كانت
(فلسفة) الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام؟ !
نشأت عبادة الكواكب عندهم من التعلق بالملائكة، واعتقاد أنهم (وسطاء) بين
الله وخلقه، وأنهم موكول إليهم تصريف هذا العالم، ثم اعتقدوا أن الأفلاك
والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى، وزعموا أنها أحياء ناطقة مدبرة
للعالم، وأنها بالنسبة للملائكة كالجسد للروح، فهي الهياكل، والملائكة الأرواح،
وأنها متصفة بصفات مخصوصة، ولوجود هذه الصفات استحقت أن تكون آلهة
تعبد.. فكانوا يتقربون إلى الهياكل تقرباً إلى الروحانيات، ويتقربون إلى
الروحانيات تقرباً إلى الباري تعالى، وهؤلاء يسمون (أصحاب الهياكل) .
ولما كانت هذه الكواكب يختفي أكثرها في النهار وفي بعض الليل لما يعرض
في الجو من الغيوم والضباب ونحو ذلك رأوا أن ينصبوا لهذه الكواكب أصناماً
وتماثيل على هيئة الكواكب السبعة (الشمس، والقمر، والزهرة، والمشتري،
وعطارد، والمريخ، وزحل) حينما تصدر أفعالها عنها كما يزعمون، كل تمثال
يقابل هيكلاً ... واعتقدوا أن التقرب إلى هذه الأصنام هو (الوسيلة) إلى الهياكل
التي هي وسيلة إلى الروحانيات، التي هي وسيلة إلى الله تعالى.. وهؤلاء يسمون
(أصحاب الأشخاص) [3] .
مرة أخرى: إنه (الرمز) ، ولكن يظهر هنا جليّاً دور قدسية (الأرواح) التي
نسبوها إلى الملائكة، وعقيدة (الواسطة) و (الوسيلة) .
ويعيد إبراهيم عليه السلام إرساء عقيدة التوحيد صافية نقية، وينشر إسماعيل
عليه السلام ملة أبيه إبراهيم بين العرب، ويظل أبناؤه على ذلك التوحيد، معظّمين
أول بيت وضع للناس الذي جدده خليل الله مع ابنه إسماعيل.. إلى أن بعدت الفترة
بين العرب ونور النبوة، ثم اندرس كثير من آثار العلم، فقلّت حصانتهم ضد
الانحراف، وأصبحت الفرصة مواتية للتحريف، وهنا برز عمرو بن لحيّ
الخزاعي آتياً بالأصنام إلى مكة، فنصبها وأمر الناس بعبادتها وتعظيمها [4] ،
فعبدوها، ولكنهم لم يعبدوها لمجرد كونها حجارة أو أخشاباً، بل عبدوها (معتقدين
أنها منازل الأرواح كما بيّن الإخباريون) [5] .. مرة أخرى: إنه (الرمز) ...
و (الأرواح) .. ثم: بسبب (التقليد) وبسبب ضعف تمثل تعاليم الملة الحنيفية في نفوس الناس بل ربما كانت تفاصيل هذه التعاليم قد ضاعت استمرت فيهم هذه الوثنية مع شعائرها وعاداتها واعتقاداتها عقوداً متتابعة [6] ، ووصل الولع بـ (تقديس الرمز) إلى هاوية سحيقة، حيث روى أبو الرجاء العطاردي: (كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير (!) ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..) [7] .. ومع ذلك قالوا: [مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى] [الزمر: 3] ، وقالوا أيضاً:
[هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه] [يونس: 18] ... إنها: (الواسطة) و (الوسيلة) .
ونفترض هنا سؤالاً مهماً: لو كان عمرو بن لحي خرج في صحابة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى عبادة الأوثان تقرباً إلى الرحمن، أكان يجد
من يتبعه منهم؟ بداهة: لا، وإذا كان الأمر كذلك: فلماذا لم يرفض العرب ما جاء
به عمرو من تحريف دين إبراهيم وعبادة الأصنام من أول وهلة؟ ..
يوضح الإجابة على مثل ذلك كلام لابن القيم رحمه الله حيث يقول: (قبول
المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان
فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة
لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع ... وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء
الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا
مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته ... ) [8] .
لم يكن عمرو بن لحيّ أول من ألقى إلى العرب مفهوم تقديس الرمز وإن كان
هو أول من جسده في صورة أوثان وأصنام، لقد كان العرب بسبب ضعف آثار علم
النبوة الذي أشرنا إليه، وبذريعة (تقديس الرمز) وصلوا إلى ما يمكن أن نطلق عليه: (حالة القابلية للشرك) ، فلقد ذكر ابن الكلبي في كتابه (الأصنام) وابن إسحاق في
سيرته (أنهم كانوا لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم؛
تعظيماً للحرم وصبابة به، فحيثما حل وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة؛ تيمناً
منهم بها، وصبابة بالحرم، وحباّ له) [9] .
فتقديس (الرمز) ذريعة إلى الشرك، (وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي
التي أوقعت كثيراً من الأمم: إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإن
النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب، ونحو ذلك، فلأن يُشْرَك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه.. أعظم من أن
يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله؛ ولهذا تجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها،
ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد، بل ولا في
السّحَر..) [10] .
حقيقة القبورية:
وهنا نأتي إلى القبوريين: كيف تبدأ علاقتهم بالقبر أو الضريح؟ وكيف
تنتهي بهم إلى الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك حسب تعبير ابن تيمية رحمه
الله؟ .. تبدأ العلاقة بتقديس (الرمز) .. رمز الصلاح والتقوى والمنزلة الرفيعة عند
الله، ومن ثم: تستحب زيارة تلك البقاع، ليس لتذكر الموت والآخرة، بل لتذكر
(الرمز) والاعتبار به، ولأن هذه الأماكن (مباركة) ، ولأن الملائكة و (الأرواح)
تنتشر حولها كما يزعمون، فإن دعاء الله يحسن عندها، فهو أرجح منه في البيت
والمسجد وأوقات السّحَر، كما أن البركة (تفيض) على كل شيء حول القبر، فمن
أراد التزود منها فليلمس، ويقبّل، ويتمسح، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة تالية:
من دعاء الله عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، أي: اتخاذه (واسطة)
و (وسيلة) للاستشفاع به عند الله؛ فصاحب الضريح طاهر مكرم مقرب له جاه عند
الله، بينما صاحب الذنب أو الحاجة يتلطخ في أوحال خطيئته، غير مؤهل لدعاء
الله، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة أخرى: فما دام هذا المقبور مكرماً فليس بممتنع
أن يعطيه الله القدرة على التصرف في بعض الأمور التي لا يقدر عليها طالب
الحاجة، فيُدعى صاحب القبر، يُرجى ويُخشى، يستغاث به، ويطلب المدد منه،
ولِمَ لا؟ ! ؛ فهو صاحب (السر) الذي توجل منه النفوس، وترتجف له القلوب،
وتتحير فيه العقول! ، فإذا تقرر ذلك هبط دركة ليست أخيرة، حيث (يتخذ قبره
وثناً، يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به، وتقبيله، واستلامه، والحج إليه، والذبح
عنده، ثم ينقله [الشيطان] درجة أخرى: إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً
ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم ... ) [11] .
هذا هو الواقع: ليست المسألة مظاهر وطقوساً مجردة، بل هي أعمال
جوارح، نتجت عن أعمال قلوب، تحركها تصورات واعتقادات رسخت في
النفوس وتخللتها وذابت فيها إلى الحد الذي لم تعد فيه بارزة منفصلة عن تلك
المظاهر والطقوس.. هذا هو التصور المقنع لما يعمله أي إنسان عاقل؛ ف (مبدأ
كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات،
والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره
تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها
بفسادها) [12] .
فالحقيقة أن: (من يدعو الأموات ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم
ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، لا يصدر منه ذلك إلا عن اعتقاد
كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم، هذا إن أراد من الميت الذي يعتقده ما كان
تطلبه الجاهلية من أصنامها من تقربهم إلى الله، فلا فرق بين الأمرين. وإن أراد
استقلال من يدعوه من الأموات بأن يطلبه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا
أمر لم تبلغ إليه الجاهلية ... ) [13] .
فالمسألة في حقيقتها: تقديس (الرمز) واتخاذه (واسطة) أو (وسيلة) لقضاء
الحاجات وللشفاعة عند الله..
هكذا هي في أدبيات القبوريين: (جاء في الرسالة (42) من رسائل إخوان
الصفا [14] (4/21) قولهم: من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم
وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين والتعظيم لهم
ومساجدهم ... فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل
بوصاياهم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم والدعاء والصلاة
والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة
على أشكالهم، لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك،
طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه ... ) [15] ..، ومما نقله الشيخ محمد رشيد رضا
عن كتاب لأحد دعاة القبور: (وكل ما في الأمر أنه [اي: المتوسّل بغير الله] يرى
نفسه ملطخاً بقاذورات المعاصي، أبعدته الغفلات عنه [اي: عن الله] أيما إبعاد،
فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه وقضاء حاجاته، وله الحق في
هذا الفهم ... ) [16] .
وهكذا هي في مكنون تراثهم الشعبي؛ فإذا استطلعنا الأمثال الشعبية المصرية
كنموذج لهذا التراث في العالم الإسلامي نجد منه قولهم: (من زار الاعتاب ما خاب)
أي: من زار الأضرحة والأعتاب (المقدسة) قضيت حاجته ونال مراده، (فالاعتقاد
الشعبي في الأولياء يتلخص في أن الله قد منح بعض عباده المقربين (امتيازات) لا
حدود لها.. يكوّنون حول الرسول ديواناً سماوياً ينشر قدرته) [17] .
ونجد في هذا التراث أيضاً: (يوضع سره في أضعف خلقه) ، والمفهوم من
كلمة (سره) أنها القدرة المستندة إلى أسباب غيبية ومحيرة، وأضعف خلقه مقصود
بهم: المجانين والمجاذيب والأطفال ...
ولعل من دقيق فقه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في دين الله،
وإحاطة فقهه بواقع الناس وحالهم.. ما جاء في معرض تعريفه للألوهية والإله؛
حيث قال: (فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا: السر،
والولاية. والإله معناه: الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ، وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص
الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلجأ إليهم، ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم
واسطة بينه وبين الله) [18] ، ويقول أيضاً: ( ... هذا الذي يسميه المشركون في
زماننا: الاعتقاد، هو الشرك الذي نزل فيه القرآن..) [19] .
وكذلك هي في واقعهم؛ يقول أحدهم: (إن الوهابيين يقولون: إن أولياء الله
لا يستطيعون دفع الذباب عن قبورهم، ولكنهم لا يعلمون أن لهم قدرة أن يقلبوا
العالم كله، ولكنهم لا يتوجهون إلى ذلك) ، ونقلوا عن محمد الحنفي أنه قال في
مرض موته: (من كانت له حاجة فليأت إلى قبري، ويطلب حاجته أقضها
له) [20] ، (فالاعتقاد السائد: أن البركة إنما تسري من الولي إلى الضريح إلى المناديل والملابس التي مسحت بها، والأغرب من ذلك: ما يحدث عند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي الخاصة، هنا يسعى الجميع للحصول على قطع من هذه الكسوة أو العمامة مع استعدادهم لسداد أي مبلغ يطلب منهم ... ) [21] .
وذكر المؤرخ الحضرمي صلاح البكري: أن بعض المرضى يأكلون من
تراب بعض تلك القبور طلباً للشفاء [22] ، وتقول إحدى الفرق في قبر شيخها:
(إن قبره ومزاره دار الشفاء للمرضى، وأنه حلاّل المشاكل، ومسهّل الأمور،
وقاضي الحاجات) و (إن المرضى كانوا يستشفون من عيسى، ولكن أحمد رضا
يحيي الأموات!) [23] .
والمسألة في حقيقتها: اعتقاد في تأثير (الأرواح) ؛ (فإنهم قالوا: الميت
المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى
وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به وأدناه منه: فاض من
روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من
المرآة الصافية والماء ونحوهما على الجسم المقابل له) [24] .
ويقول الشيخ أخلاق حسين القاسمي، أحد أبناء طائفة الديوبندية الصوفية:
(إن أرواح المؤمنين وخاصة أرواح الأولياء والصالحين قادرة على التصرف في
هذا الكون بعد مفارقة الأجساد ... ) [25] .
وهذا ما يشهد به واقعهم: فأعراب شرق الأردن يسمّون المقام ولياً؛ لأن
أرواح الصالحين تقطن في ذلك البناء، بل يزعمون (أن أرواح الأولياء تسكن في
القبور حيث يرقد جثمانها، وهي كالبشر في جميع احتياجاتهم من أكل وشرب،
فيدّعون أن الرياح والثلوج تؤثر بهم، والجوع يفنيهم) [26] .
وينقل الشيخ محمد رشيد رضا عن أحد دعاة القبورية قوله: (إن الدعاء
والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم أحياء في
قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها وفي خارجها) [27] ، ويقول آخر: (إن تصرف
الأولياء يزداد بعد وفاتهم) [28] .
فالقبوريون (أمام قبر الولي يركعون ويبكون ويتوسلون إليه، معتقدين أن
الولي ينظر إليهم ويراهم، وأن روحه الطاهرة تحوم حولهم) [29] .
ومما يؤكد اعتقاد القبوريين في تأثير أرواح (الأولياء) بالتصرف أن كثيراً من
هؤلاء المقبورين كانوا في معظم حياتهم (غير فعالين) في الخوارق، ووجد
القبوريون فيهم ذلك بعد مماتهم؛ فالشيخ عبد الله في معان بالأردن عاش بالصلاح
والتقوى وكان خطيباً ينذر القوم بالوعد والوعيد، فلم يجد في عشيرته من يعي
كلامه ويحفظه، فلما استوفى أيامه أظهر الله كراماته بشفاء كثير على ما
زعموا [30] ...
بل وصل الأمر إلى حد (أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً مر عليهم في سفره، ولحبهم فيه أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها) [31] .
وهكذا هي في التراث الشعبي، فمن الأمثال الشعبية المصرية: (بعد ما راح
المقبرة بقى سكّره) أي: أصبح مرغوباً فيه مثل السكر.. فما الفرق بين الحياة
والممات إلا في انفصال (الروح) عن الجسد؟ ! .
والمسألة في حقيقتها: تعلق القلوب بالضريح وصاحبه والتوجه إليه بمشاعر
الإجلال والمهابة..
هكذا يشهد حالهم: (فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع
ورقّة القلب والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم
فيها نظيره ولا قريب منه) [32] .
ولعل السبب في ذلك أن (غرّهم الشيطان، فقال: بل هذا تعظيم لقبور
المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً، وأشد فيهم غلوّاً، كنتم بقربهم
أسعد، ومن أعدائهم أبعد) [33] .
وهذا ما يقرره أحد مشائخ القبوريين، الذي يقول: (إن صاحب هذا القبر
شيخنا محمد إلياس يوزع النور الذي ينزل من السماء في قبره بين مريديه حسب
قوة الارتباط والتعلق به) [34] .
فكلما توغل القبوري في غيّه كلما حرص على إبراز قوة الارتباط والتعلق
بالضريح وشدة تعظيمه وغلوه فيه، وفي ذلك قال ابن الرومي في (شرح المختار) :
(قد قرر الشيطان في عقول الجهال أن الإقسام على الله بالولي والدعاء به أبلغ في
تعظيمه، وأنجح لقضاء حوائجه، فأوقعهم بذلك في الشرك) [35] ، وعلى ذلك (فقد
يقسم الأعرابي بالله دفعات متوالية على أنه يخشى أن يذكر اسم (شعيب) بالكذب
مرة واحدة؛ لأنه (مظهر الأسرار وموضح الخفيّات ( [36] ، وعندما سئل أحد
التجار: لماذا يقسم بصندوق ضريح القرية، ولا يقسم بالله عندما يحاسب زبائنه؟
أجاب: (إنهم هنا لا يرضون بقسم الله، ولا يرضون إلا بقسم صندوق نذور
الضريح أو سور الضريح لسيدنا فلان) [37] .. فهل هذا إلا للتعظيم والإجلال
والرهبة وتعلق القلب بالضريح وصاحبه؟
وأحوالهم في ذلك عديدة: فمقام (النبي هارون) بالأردن: (يهجع الزائر
(المؤمن) تحت ظله فيشعر بما لا يوصف من المسرة والحبور) ، وتزور المرأة
العاقر مقام (النبي يوشع) (حافية خاشعة، وتجثو أمام الضريح وتقبله بدموع
وتضرع.. ومنهن من يرقدن الليالي الطويلة بين أسواره بالصوم والصلاة ثم
يغادرنه وفي أنفسهنّ الآمال والمسرات) [38] .. ويلخص هذا التعلق أبو الثناء
الآلوسي عندما يصف موقفاً مر به في إحدى زياراته للأضرحة والمزارات، فيقول: (حتى أتينا قرية يقال لها (قارحين) وهناك قبر عليه قبة ثلجية قد زرناه فلم نحس
منه (بروحانية ( [39] .. ويقول البريلوي أحمد رضا المسمي نفسه بعبد المصطفى: (إنني لم أستعن في حياتي بأحد ولم أستغث بغير الشيخ عبد القادر، وكلما أستغيث
أستغيث به، ومرة حاولت أن أستغيث وأستعين بولي آخر، وعندما أردت النطق
باسمه للاستغاثة والاستعانة ما نطقت إلا بـ (يا غَوْثاه) ، فإن لساني يأبى أن ينطق
الاستعانة بغيره) [40] .. وهذا الموقف النفسي يرصده شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله عندما يتحدث عن تفرق القبوريين حسب تمسك كل منهم بالضريح الذي
تتوق نفسه إليه، فيقول: (ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من
الشرك ما فيهم قد فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم، ويقولون: الدعاء عند قبره يستجاب، وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور
الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه، كما أن عباد الكواكب والأصنام كل منهم
قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد ما يألهه وإن كان غيره أفضل منه) [41] .
وهكذا هي في تراثهم الشعبي، فيقول المثل الشعبي: (الشيخ البعيد سره باتع) ، أي: صاحب الضريح البعيد سره مؤكد مقطوع به، والبعد: مسألة نسبية،
فالبعيد بالنسبة إلى هؤلاء قريب لغيرهم، والقريب إليهم الذي لا يرغبونه بعيد عن
غيرهم، فما الذي يجعل الضريح البعيد مرغوباً أكثر من غيره؟ .. إنه شوق القلب
وحنينه الذي يساعد البعد في تولده، وهذا ما يعبرون عنه في مثل آخر يقول:
(ابعد حبة (بعض الشيء) تزيد محبة) .. فتعلق القلب رغبة ورهبة ومحبة تجعل
(آمال وآلام الزائرين لا تمضي إلى أي ضريح بالمصادفة، ولكن شهرة الولي
واختصاصه بالشفاعة، والبعد المكاني، لهم تأثير كبير في قصد الزيارة؛ فالضريح
الذي نتكبد إليه مشاق السفر يصبح أكثر جذباً ورهبة من ذلك الضريح القريب
المتاح زيارته في أي وقت) [42] .
وتبقى التساؤلات:
- ما الذي يدفعهم للاعتقاد في الأضرحة أنها قوة قاهرة وسلطة نافذة وإن
اعتبروها (واسطة) و (وسيلة) ؟
- وما الذي يدفعهم لإسناد ذلك إلى الأرواح، أو بتعبير أدق إلى سرّ غيبي
محيّر؟
- وما الذي يدفعهم إلى التوجه بمشاعر قلوبهم نحوها لجلب رضاها أو دفع
مضرتها، أو للتمتع بالمسرة والحبور في أنفسهم؟
- لماذا تحولت العلاقة بالرمز من ذكرى واحترام إلى تقديس واعتقاد إلى
تعلق وانجذاب؟
إن الذي حملهم على كل ذلك وحمل غيرهم على نظيره هو إشباع (التأله) لدى
قلوبهم المحرومة من التأله للإله الحق؛ وهذا ما يقرره الإمام ابن تيمية رحمه الله
حين يقول: (ومن لم يكن محبّاً مخلصاً لله، عبداً له، قد صار قلبه معبّداً لربه
وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له
خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين ... وهذا أمر
ضروري لا حيلة فيه؛ فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه،
كان مشركاً) [43] .
ويقرر ذلك أيضاً تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله، حين يقول: (العبد لا
يترك ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما
محبة) [44] .
وهذا ما تقرره أيضاً الدراسات الإنسانية الحديثة، فقد (أيدت دراسات
الأنثربولوجيا [علم الإنسان] وعلم الأديان أن الحاجة إلى الدين موجودة عند جميع
الناس في كل العصور وفي جميع المجتمعات، فالإنسان منذ القدم وهو يبحث عن
إله يعبده، ويتوسل إليه، يعتقد أنه قوي مسيطر على الكون، خالق كل شيء، حي
لا يموت) [45] ، (هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان
والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، حتى
قال أحد كبار المؤرخين: لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا قصور، ولا مصانع، ولا
حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد) [46] .
وهذه الغريزة هي التي أضفت على (الرمز) حتى عند أهل الإلحاد أشكال
المهابة و (القداسة) ، ف (في ظل نظام كالنظام الشيوعي الذي لا مكان للدين في
فكره العلمي، اصطبغ الإيمان بالمادية الديالكتيكية بصبغة الحماس الديني، واتخذت
الاجتماعات والاستعراضات سمة الاحتفالات والمواكب الدينية، وأحيط واضعو
النظرية ومؤسسو الدولة بهالة دونها هالة القديسين والرسل؛ فهم يوصفون بالخالدين، أو بالشمس التي لا تغرب، وها هي تماثيلهم الضخمة وصورهم وقد حلت مكان
التماثيل الدينية والأيقونات تطل على الجماهير في الساحات وكافة المباني العامة،
وعلى الأفراد في مساكنهم الخاصة، وها هي قبورهم وقد تحولت إلى مزارات
مقدسة تحج إليها الملايين، وتصطف الصفوف خارجها لساعات من أجل إلقاء
نظرة، أما كتبهم فهي بمثابة الكتب المقدسة، من قبيل التجديف أن ينسب إلى فكرة
فيها الخطأ، بل ويبيت البعض ليلهم (كالحرس الأحمر في الصين) وهي إلى
جوارهم أو تحت وسائدهم حتى تصرف الشرور عنهم!) [47] .
ويؤيد القول بأن دافع إشباع التأله هو الذي يحرك القبوريين عدة أمور، منها:
أولاً: إن بعض طقوس القبوريين تعتبر امتداداً لعادات وثنية كانت سائدة في
أجدادهم قبل الإسلام، (وأول هذه العادات: تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت
رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ،
ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر
الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة..) [48] .
وعلى ذلك نرى أن الطقوس التي كانت تقام داخل معبد الأقصر للإله (آمون)
في عصر الفراعنة هي الطقوس ذاتها التي تتبع في مولد (أبي الحجاج الأقصري)
والذي يقع ضريحه داخل معبد الأقصر نفسه، وأهم ظاهرة في هذا المولد: تلك
المراكب التي يجرها جموع المريدين وسط صيحات التكبير والتهليل، مما يلقي
بظلاله على ما كان يحدث في المهرجانات الدينية في عصور الفراعنة؛ حيث كان
لمعظم الآلهة عدد من القوارب التي تلعب دوراً رئيساً في طقوس الاحتفالات الدينية، وإلى الآن يستمر هذا التقليد في مولد (أبي الحجاج الأقصري) ، على الرغم من
تأكيد أهالي الأقصر على أن هذه القوارب مرتبطة بمجيء أبي الحجاج من مكة، أو
بحجه إليها، كما يتماثل أيضاً في مولد (عبد الرحيم القنائي) الذي أقيم قبره على
طلل معبد إله من آلهة قدماء المصريين [49] ..
ولعل منشأ كل ذلك عائد إلى التقديس الخاطئ للرموز الإسلامية إضافة إلى
القياس الفاسد على من كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فقد يبدأ الأمر بالرغبة في
تعظيم الرمز الإسلامي والزعم بأن الأولياء ليسوا بأقل من الذين كانوا يعظمونهم في
جاهليتهم، فيعظمونهم بمثل ما كانوا يمارسونه مع معبوداتهم الوثنية.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: ضريح الشيخ (هلال) المقام على قبر مزعوم قرب
دمشق، حيث كان القدماء يعبدون (القمر) .. وكذلك: فإن عبادة الأشجار معروفة
في الوثنيات القديمة و (الحديثة) ، وقد ظهر التأثر بهذا الانحراف الوثني عند
القبوريين إما في صورة شجرة قائمة إلى جوار الضريح، وإما بزعم أن روح الولي
المقبور تسكن فيها، وكثيراً ما يحظر قطع الأشجار المحيطة بقبر الولي [50] .
ثانياً: إن بعض هذه الطقوس تعتبر طقوساً مشتركة بين القبوريين وأصحاب
الديانات الأخرى، يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ
القبورية في تسويغ اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: (هذا عين ما كان
يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله تعالى عنهم ... وهو ما يفعله بعض
النصارى عند قبور القديسين) ، ويقول أيضاً: (ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم
كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري ... واحتج لهم بأنهم
كأنجاس الهند المنبوذين، ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله تعالى بنفسه، بل لا بد له
من أحد هؤلاء المعتقدين ليقربه إليه زلفى) [51] ، ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: (وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد
التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم
والاستعانة بهم، ومدّ يد الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم..) [52] ، ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: (في
بنارس [في الهند] قبر أبي البشر آدم عليه السلام وقبر زوجه وقبر أمه! (ويقال:
إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة) وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب
كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره ... وجميع هذه القبور تعبد
بالطواف حولها والتمسح بها وتلاوة الأدعية والأوراد عندها كغيرها من تماثيل
معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن
الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء وثنيي الهند
يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في
عبادتها) [53] .
ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى أن شريف مكة (الشريف عون)
عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز، اعترض
القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، بحجة أن حواء أم لجميع الناس
وليست أمّاً للمسلمين فقط [54] .
فحقيقة الأمر: أن ما يفعله القبوريون عند القبر والضريح هو بعينه الذي
تفعله الجاهلية الوثنية (وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله
القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، والأسماء لا أثر لها ولا تغير
المعاني) [55] .
ثالثاً: إن الاهتمام بالقبور والتوجه إليها تجاوز حواجز الملل والمذهبيات
والفرق ليشكل طقساً مشتركاً من طقوس التدين (الباطل) يجتمع عليه القبوريون مع
إخوانهم في التأله للمقبورين؛ ففي كثير من الأحيان يمارس القبوريون هذه الطقوس
بالاشتراك مع غيرهم ممن أشرنا إليهم.
ولأن النصارى يعيشون بين المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات
الأخرى فقد ظهر هذا الاشتراك جليّاً منذ القِدَم، فقد ثبت أن منشأ الأضرحة
الموهومة والمكذوبة كان واحداً عند النصارى والقبوريين، وهو (أضرحة الرؤيا) ،
إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أخذ شكل الاشتراك العملي في ممارسة
الطقوس والعبادات؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر أن كثيراً (من جهال
المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم
يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم) [56] .
وكثير من (موالد) النصارى ليست مقصورة عليهم، بل يشارك فيها كثير من
جهلة المسلمين (وهذا أمر ليس بمستغرب، فهم يذهبون أيضاً لبعض القساوسة
ليخلصوهم من الأرواح الشريرة! .. وكما تتردد بعض القبطيات على أضرحة
الأولياء؛ لتحقيق أمنية بالحمل، وتنذر نذراً إن تحققت أمنيتها..) [57] ، وأيضاً
فإن بعض النصارى يشارك جهلة المسلمين في الاعتقاد في ضريح الشيخ
أبي الحجاج الأقصري [58] .
ومثل ما توضع الرسائل في أضرحة الأولياء وخاصة ضريح الإمام الشافعي
توجد أوراق وأقلام على قبر البابا كيرلس السادس وغيره، لمن يرغب في تحقيق
أمنية أو رجاء منه، ويوضع في مدخل الكنيسة أو الدير صندوق للنذور، كذلك
توهب الأضاحي التي تذبح هناك [59] .
والأهالي على اختلاف مللهم ومذاهبهم وطبقاتهم يزورون مقام (النبي يوشع)
في أكبر الأعياد الإسلامية وأيام المصائب والنكبات [60] .
ويحكي الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربة شخصية له كيف أن إحدى
قريباته عندما مرضت أصر أهلها على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس
أيضاً [61] .
فما الذي جعل هؤلاء يشاركون أولئك إلا أنهم جميعاً وجدوا في القيام بتلك
المظاهر إشباعاً لدافع واحد يجمعهم هو: التدين، أو (التأله) ؟
رابعاً: من أوضح الأمور التي تدل على أن الدافع لدى القبوريين هو إشباع
التأله في قلوبهم: تعلقهم بمشخصات لا علاقة لها بالأولياء مطلقاً، بل هي أنصاب
وأوثان صريحة، يصرفون إليها مشاعر المحبة والخوف والرهبة والرجاء..
فإضافة إلى ما زعمه القبوريون من القبور المكذوبة على أصحابها، والقبور
المنسوبة إلى صحابة وأولياء مزعومين ليس لهم وجود في السيرة والتاريخ.. هناك
القبور الموهومة التي ليس بها أي دفين، فلقد (وُجِدت بعض الأضرحة الوهمية
التي لا يوجد بها جثمان لأحد المشايخ، بل عبارة عن هيكل أو كوم من الطوب
تحت قبة توارث الناس الاعتقاد فيها، وتفيد محافظ المجلس الصوفي عن حالة كهذه.. واتضح أنه ليس هناك شيخ، بل هناك كوم تراب يدعونه الناس سيدي
فرج) [62] .
ولأن أمر هذه القبور المكذوبة والموهومة أصبح شائعاً، ولأن الأمر ليس في
حقيقته إلا إشباع التأله في القلوب، فقد قرروا ذلك في صراحة، فقال أحدهم: (ولا
يحتاج أن يطلب دليل وسند لصحة نسبة هذه الآثار إلى أصحابها، ويكفي أن تكون
نسبتها مشهورة بين الناس) [63] ، وقال الآخر: (وعلى كل حال: فلا بأس من
زيارته [أي: القبر] على من توهم من وجوده) [64] ، فالمهم أنه (يجب علينا
التسليم في ذلك كله، واعتقاد تعظيم القبور المذكورة بما يعد تعظيماً، وبكل ما يليق
من الاحترام، ولو على تقدير توهم الصحبة ... ) (10) ، ليس هذا فحسب، بل
وصل الأمر إلى أَضْرَحة (دواب الأولياء) ، ففي اللاذقية بسورية حضرة يقال إنها
مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي، لا تزال حتى اليوم تزار
وتبخر [65] ، فالقبوريون عباد كل ضريح حتى لو ثبت عدم صحة نسبة الضريح إلى صاحبه أو كان الضريح لدابة أو ثبت عدم وجود قبر أصلاً.
وما دام الأمر كذلك، فما الفرق بين كوم تراب وحجارة أو أخشاب أو نحاس ... أو أي شيء من المخلوقات؟ .. لا فرق.. المهم وجود (السر) والتوجه إلى صاحبه! ..
وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا خفاء فيها ولا مواربة.
ففي الهند (يأخذون قليلاً من التراب من مكان ما، ويعطونه حكم نعش الإمام
الحسين، ويضعونه على مكان مرتفع كصُفّة وغيرها، ثم يقدمون له كل يوم أنواعاً
من الشراب والحلاوة، والزهور والعطور وغيرها، ولا يسمحون لأحد أن يمر
بتلك الصفة متنعلاً، ويسجدون لذلك التراب الذي أعطوه حكم قداسة جنازة الحسين، ويطلبون منه المال والأولاد ... ) [66] .
ولقد شاهد الشيخ محمد رشيد رضا بعض الرجال والنساء من العامة في مسجد
(الحسين) بالقاهرة (يطوفون بعمود من الرخام، ويتمسحون به التماساً للبركة وتقرباً
إلى (السيد البدوي) ! معتقدين بأنه يجلس بجانب هذا العمود عند زيارة جده الحسين، ومنهم من يزعم أن روح السيد ترفرف دائماً هناك..) [67] ، وفي نابلس
بفلسطين عمود حجري كان مقدساً قبل الإسلام فوجد من يطلق عليه بعد انحراف
الناس عن دينهم الحق: قبر الشيخ العمود [68] .
وفي أوزبكستان أوقع الفراغ الروحي الذي خلفته الشيوعية الناس هناك في
التعلق بأي شيء (مقدس) ، وهذا ما دعاهم إلى ترتيب عملية سطو منظمة للظفر
بقطعة من كسوة الكعبة، ومن ثم: جلبوها إلى بلادهم ووضعوها في إطار زجاجي
علق في فناء المسجد؛ ليأتي الناس للتمسح والتبرك بها، كما يتبركون ويتمسحون
هناك أيضاً بصورة الكعبة! [69] .
بل ويتزاحم الناس في مولد البدوي بمصر (حول حمار يأتي به دراويش
الطريقة الشناوية إلى قبر السيد، فيتسابقون لنزع شعرات من جسمه يصنعون منها
الأحجبة، وهذا بالضبط ما كان قدماء المصريين يفعلونه بهذا الحيوان!) [70] ..
إلى غير ذلك من مظاهر لا يقبلها عقل رشيد ولا دين صحيح.
هذا ما تيسر ذكره حسب المصادر المتاحة لي، وهي تعتبر عينة عشوائية لما
يحدثه القبوريون في معظم أنحاء العالم الإسلامي..
فما الذي دعاهم إلى هذا الاعتقاد وتقديم هذه القرابين والطقوس غير إغواء
الشيطان لهم بالتأله لغير الله؟ .. وإلى أي مدى تأخذ الخرافة والوهم والدجل من
يريدون أن يضيئوا حياتهم بقبس من الظلمات؟
__________
(1) الاتجاه النفسي: (ميل عام مكتسب، نسبي في ثبوته، عاطفي في أعماقه، يؤثر في الدوافع النوعية، ويوجه سلوك الفرد) ، انظر: أسس علم النفس الاجتماعي، للدكتور مختار حمزة،
ص244.
(2) انظر: ما أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، سورة نوح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قوله تعالى: [ولا تذرن ودَاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونّسراً]
[نوح: 23] ، وانظر: تفسير الطبري، ج 29، ص62، وإغاثة اللهفان، لابن القيم، ج1،
ص184.
(3) بتصرف عن: التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام، لعبد المجيد بن سالم بن عبد الله المشعبي، ص43، ص45 وانظر: تفسير ابن كثير، ج2، ص140 141.
(4) روى القصة بتفاصيلها ابن إسحاق (1/76) عن أبي هريرة مرفوعاً، وصححها محمد بن رزق بن طرهوني في (السيرة الذهبية) ، 1/65، وانظر: فتح الباري، ج6 ص 634، وصحيح مسلم، ك/كسوف الشمس، باب رقم 9، 60، والمسند: 3/353، 5/137.
(5) د أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة، ج1، ص84.
(6) انظر: السابق، ص83، 84.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة.
(8) الفوائد، ص44، 45.
(9) د محمد محمد أبو شهبة، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، ج 1، ص71.
(10) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص 334، وانظر: حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد، لمحمد بن سلطان المعصومي.
(11) ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ج1، ص217.
(12) ابن القيم، الفوائد، ص236.
(13) الإمام محمد بن علي الشوكاني، رسالة وجوب توحيد الله عز وجل، ت: د محمد بن ربيع هادي المدخلي، ص80.
(14) تعتبر (رسائل إخوان الصفا) مرجعاً مهماً في تسويغ عقائد الباطنية الشركية، وقد ألفها مجموعة من الفلاسفة أشياع الفاطميين (العبيديين) في القرن الرابع الهجري.
(15) عن: هذه مفاهيمنا، للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ص 32، ص102.
(16) مجلة المنار، ج3، م33، ص216.
(17) موالد مصر المحروسة، عرفة عبده علي، ص85.
(18) رسالة (هدية طيبة) ، ضمن مجموعة التوحيد، ص152.
(19) رسالة (كشف الشبهات) ، ضمن مجموعة التوحيد، ص102، ص 113.
(20) عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د شمس الدين السلفي الأفغاني،
ص1083، وانظر: البريلوية، عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير، ص74، ص59.
(21) هيام فتحي دربك، مقال بعنوان: موالد الأولياء في مصر، المجلة العربية، ع/131،
ذو الحجة 1408هـ، ص43.
(22) انظر: الانحرافات العقدية، ص335.
(23) البريلوية، ص75.
(24) محيي الدين البركوي الحنفي، زيارة القبور الشرعية والشركية، ص 48.
(25) الديوبندية تعريفها، عقائدها، سيد طالب الرحمن، ص78.
(26) الخوري بولس سلمان، المزارات في شرقي الأردن، مجلة المشرق، 11/11/1920م،
ص901.
(27) المنار، ج3، م33، ص216.
(28) البريلوية، عقائد وتاريخ، ص74.
(29) هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص43.
(30) المزارات في شرقي الأردن، مجلة المشرق، ص908.
(31) د زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص23، هامش1.
(32) ابن القيم، إغاثة اللهفان، ج1، ص198.
(33) السابق، ص189.
(34) الديوبندية، ص132.
(35) حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد، لمحمد بن سلطان المعصومي الحنفي، ص25.
(36) مجلة المشرق، المزارات في شرقي الأردن، ص905.
(37) د عبد الكريم دهينة: الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص117.
(38) مجلة المشرق، ص906، ص903، ص 913.
(39) الانحرافات العقدية، ص347.
(40) عن: البريلوية عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير، ص58 (10) مجموع الفتاوى، ج27
ص164.
(41) موالد مصر المحروسة، ص81، 82.
(42) رسالة العبودية، ت: محمد بشير عيون، ص65، 66، وانظر: مجموع الفتاوى، ج10، ص216.
(43) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، تحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، ص277.
(44) د محمد محمد عودة، ود كمال إبراهيم مرسي، الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام، ص103.
(45) د يوسف القرضاوي، الإيمان والحياة، ص99.
(46) حسين أحمد أمين، تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين، مجلة العربي، ع/226،
رمضان 1397هـ، ص131.
(47) د زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص128.
(48) انظر: موالد مصر المحروسة، ص69، والصوفية والسياسة في مصر، ص50، ومقال: تأملات في حقيقة أولياء الله، ص137، ص136.
(49) انظر: مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين) ، ص135.
(50) مجلة المنار، ج3، م33، ص216 218.
(51) عن: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، لمحمد عبد الرؤوف القاسم، ص780.
(52) مجلة المنار، ج3، م33، ص220.
(53) انظر: الانحرافات العقدية، ص304.
(54) تطهير الاعتقاد، للإمام الصنعاني، ص18 19.
(55) مجموع الفتاوى، ج27، ص461.
(56) موالد مصر المحروسة، ص73.
(57) الصوفية والسياسة، ص50.
(58) انظر: موالد مصر المحروسة، ص72، 75.
(59) انظر: مجلة المشرق، مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص902 904.
(60) اعترافات كنت قبورياً، ص30.
(61) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص159.
(62) البريلوية، ص138.
(63) الانحرافات العقدية، ص285.
(64) نفسه، ص293.
(65) انظر: السابق، ص300.
(66) رسالة في تحريم اتخاذ الضرائح، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ص21.
(67) عن: السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعة والدينية، لمحمد أحمد درنيقة، ص222.
(68) انظر: مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين) ، ص 315.
(69) انظر: مقال (مسلمو أوزبكستان) ، د عبد الرحمن محمد عسيري، مجلة: دراسات إسلامية، ع/1، ص218.
(70) حسين أحمد أمين، مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين) ، ص136.(131/72)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
دمعة على الإسلام
مصطفى لطفي المنفلوطي [1]
كتب إليّ أحدُ علماء الهند كتاباً يقولُ فيه إنه اطلع على مؤلف ظهر حديثاً بلغة
(التاميل) ، وهي لغة الهنود الساكنين بناقور وملحقاتها بجنوب مدراس، موضوعه:
تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني، وذكرُ مناقبه وكراماته، فرأى فيه من
الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب السيد عبد القادر ولقّبه بها صفات وألقاباً
هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة، فضلاً عن مقام الولاية كقوله: (سيد
السموات والأرض) و (النفّاع الضرّار) و (المتصرّف في الأكوان) و (المطلع على
أسرار الخليقة) و (محيي الموتى) و (مبرئ الأعمى والأبرص والأكمه) و (أمره من
أمر الله) و (ماحي الذنوب) و (دافع البلاء) و (الرافع الواضع) و (صاحب الشريعة)
و (صاحب الوجود التام) إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب [2] ! ويقول
الكاتب: إنه رأى في ذلك الكتاب فصلاً يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن
يتكيّف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني يقول فيه: (أول ما يجب على
الزائر أن يتوضأ وضوءاً سابغاً، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجّه
إلى تلك الكعبة المشرفة، وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول:
(يا صاحب الثقلين، أغثني وأمدّني بقضاء حاجتي وتفريج كربتي. أغثني
يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر،
أغثني يا بادشاه عبد القادر، أغثني يا خوجة عبد القادر) .
(يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبد القادر الجيلاني، عبدك ومريدك
مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة) .
ويقول الكاتب أيضاً: إن في بلدة (ناقور) في الهند قبراً يسمى (شاه الحميد)
وهو أحد أولاد السيد عبد القادر كما يزعمون وأن الهنود يسجدون بين يدي ذلك
القبر سجودَهم بين يدي الله، وأن في كل بلدة من بلدان الهنود وقراها مزاراً يمثل
مزار السيد عبد القادر، فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد،
والملجأ الذي يلجأون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون من الأموال على خدمته
وسدانته، وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض لصاروا أغنياء.
هذا ما كتبه إليّ ذلك الكاتب؛ ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى
دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أُبصرُ مما حولي شيئاً
حزناً وأسفاً على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام نكروه بعدما عرفوه، ووضعوه
بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها، ولا شأن له بها!
أيّ عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرةً واحدةً من الدمع، فلا تريقُها
أمام هذا المنظر المؤثر المحزن، منظر أولئك المسلمين، وهم ركّع سجّدٌ على
أعتاب قبر ربما كان بينهم من هو خيرٌ من ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك
بعد مماته!
أي قلبٍ يستطيعُ أن يستقرّ بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعاً
حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكاً بالله؛
وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة، وكثرة المعبودات!
لِمَ ينقُمُ المسلمون التثليث من المسيحيين؟ لِمَ يحملون لهم في صدورهم تلك
الموجدة وذلك الضغن؟ وعلامَ يحاربونهم؟ وفيم يقاتلونهم وهم لم يبلغوا من الشرك
بالله مبلغهم، ولم يغرقوا فيه إغراقهم؟
يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة، ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن
العقل، فيتأولون فيه، ويقولون إن الثلاثة في حكم الواحد. أما المسلمون فيدينون
بآلاف من الآلهة، أكثرها جذوع أشجار، وجثث أموات، وقطع أحجار، من حيث
لا يشعرون!
كثيراً ما يضمر الإنسان في نفسه أمراً، وهو لا يشعر به، وكثيراً ما تشتمل
نفسُه على عقيدة خفية لا يحس باشتمال نفسه عليها. ولا أرى مثلاً لذلك أقرب من
المسلمين الذين يلتجئون في حاجاتهم ومطالبهم إلى سكان القبور ويتضرعون إليهم
تضرعهم للإله المعبود، فإذا عتب عليهم في ذلك عاتب، قالوا: إنا لا نعبدهم،
وإنما نتوسل بهم إلى الله، كأنهم يشعرون أن العبادة ما هم فيه، وأن أكبر مظهر
لألوهية الإله المعبود أن يقف عباده بين يديه ضارعين خاشعين، يلتمسون إمداده
ومعونته، فهم في الحقيقة عابدون لأولئك الأموات من حيث لا يشعرون.
جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم
الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رِقّ العبودية، فلا يذل
صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان
إلا بالحق والعدل. وقد ترك الإسلامُ بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في
نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة، وإباء وغَيْرة،
يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده: قف مكانك،
ولا تغلُ في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود، واعلم أنه لا
إله إلا الله.
هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد. أما اليوم وقد داخلَ
عقيدتَهم ما داخلَها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى، فقد ذلت رقابهم وخفقت
رؤوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حميتهم، فرضوا بخطة الخسف، واستناموا
إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم، وملكوا
عليهم نفوسهم، وأموالهم، ومواطنهم، وديارهم، فأصبحوا من الخاسرين.
واللهِ، لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم
من سعادة الحياة وهناءتها، إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها، وانصباب ماء النهر في منبعه، أقرب من رجوع
الإسلام إلى سالف مجده، ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين
يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني: (أنت المتصرف في الكائنات، وأنت
سيد الأرضين والسموات) .
إن الله أغيرُ على نفسه من أن يسعدَ أقواماً يزدرونه، ويحتقرونه، ويتخذونه
وراءهم ظهرياً؛ فإذا نزلت بهم جائحة، أو ألمت بهم ملمة ذكروا الحجر قبل أن
يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه.
بمن أستغيث؟ وبمن أستنجد؟ ومن الذي أدعوه لهذه الملمة الفادحة؟ أأدعو
علماء مصر وهم الذين يتهافتون على (يوم الكنسة) [3] تهافُتَ الذباب على الشراب؟ أم علماء الآستانة وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني [4] فيلسوف الإسلام
ليحيوا أبا الهدى الصيّادي شيخ الطريقة الرفاعية؟ أم علماء العجم وهم الذين
يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى البيت الحرام؟ أم علماء الهند وبينهم أمثال
مؤلف هذا الكتاب؟
يا قادة الأمة ورؤساءها! عَذَرْنا العامة في إشراكها، وفساد عقائدها، وقلنا:
إن العامي أقصر نظراً، وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة
في النصب، والتماثيل، والأضرحة والقبور؛ فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرأون صفاته ونعوته، وتفهمون معنى قوله تعالى: [قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ] [النمل: 65] . وقوله مخاطباً نبيه: [قُل لاَّ
أََمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَراً] [الأعراف: 188] . وقوله: [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ
قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ] [الأنفال: 17] ؟
إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم: (كل خير في اتباع من
سلف، وكل شر في ابتداع من خلف) فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا
يجصصون قبراً، أو يتوسلون بضريح؟ وهل تعلمون أن واحداً منهم وقف عند قبر
النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته، يسأله قضاء حاجة، أو تفريج هم؟
وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم
وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟
وهل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما نهى عن إقامة الصور
والتماثيل، نهى عنها عبثاً ولعباً، أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟
وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منها يجر إلى
الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟
واللهِ، ما جهلتم شيئاً من هذا ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة، فعاقبكم
الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم يسلبون
أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب.
__________
(1) كاتب وأديب مصري مبدع، وهو في هذا المقال يعلق على موضوع القبور والأضرحة بوجهة نظر الفرد المسلم الذي يحز في نفسه ما آل إليه حال بعض المسلمين وهو من كتاب (النظرات) تحقيق مجيد طراد.
(2) للتعرف على شخصية الجيلاني يراجع كتاب: (الشيخ عبد القادر الجيلاني: آراؤه الاعتقادية والصوفية) للدكتور سعيد بن مسفر بن مفرح وهو رسالته للدكتوراه وتعتبر بحثاً قيماً في بابه.
(3) يوم يذهب فيه علماء الدين إلى ضريح الإمام الشافعي للتبرك بكنس ترابه.
(4) جمال الدين الأفغاني بالرغم مما له من جهود في خدمه الإسلام إلا أن عليه مآخذ وأخطاء عظيمة انظر: (جمال الدين الأفغاني) للدكتور علي عبد الحليم محمود ولمعرفة من هو (أبو الهدى الصيادي) انظر: موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية.(131/84)
المسلمون والعالم
طالبان.. وقدر أفغانستان
(2/3)
طالبان.. ما يُراد لها.. وما يُراد منها
عبد العزيز كامل
بانتهاء الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب في أوائل التسعينيات،
خفت حدة التدخلات المباشرة لتوسيع مناطق النفوذ في العالم الثالث؛ حيث لم تعد
هناك حاجة لتلك المنافسة بعد تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالجلوس على كرسي
القطبية الواحدة. وترتب على هذا تعاظم دور القوى الإقليمية، وحلت تلك القوى
محل القطبين الدوليين أو أحدهما في التنافس والصراع، وعلى هذا فإن هناك
قضايا عديدة بردت دولياَ بانتهاء الحرب الباردة، وانحلت تلقائياً بزوال المنافسة بين
القطبين كما حدث في كمبوديا ونيكاراجوا وموزمبيق وأنجولا وجنوب إفريقياً بينما
حلت السخونة إقليمياً في أماكن أخرى للسبب نفسه وهو انتهاء الحرب الباردة؛
حيث تفجر بانهيار المعسكر الشرقي الشيوعي الصراع بين روسيا الاتحادية وريثة
الاتحاد السوفييتي وبين أقاليم عديدة مثلما حدث في الشيشان وتتارستان وغيرهما،
وتفجر صراع آخر بعد انهيار الاتحاد اليوغسلافي، فاشتعلت بسبب ذلك منطقة
البلقان بالأزمات والأحداث في البوسنة وألبانيا وكوسوفا والجبل الأسود.
ويدخل ضمن التنافس على الزعامة الإقليمية بعد غياب المنافسة القطبية ذلك
التسارع المحموم للأحداث في جنوب آسيا، وخاصة بين الهند وباكستان، وكذلك
بين دول جنوب شرق آسيا والصين من جهة، وبين كل من الهند وإيران وباكستان
من جهة أخرى على مناطق آسيا الوسطى؛ حيث الجمهوريات الإسلامية التي ولدت
مرة أخرى بموت الاتحاد السوفييتي، تلك الجمهوريات التي تتطلع الأطماع إلى
حقولها الغنية بالبترول والغاز وإلى أسواقها القابلة للزيادة والنمو.
أما عن موقع أفغانستان من كل هذا، فهي أحد المعابر التي تمر من فوقها تلك
المطامع، ولا يمكن لأي طرف من المتنافسين أن يتجاهل أهمية أفغانستان في
الوصول لما يريد.
وعلى الرغم من أن الصراع يبدو إقليمياً بحتاً بين باكستان من جهة والهند
وإيران من جهة أخرى فوق أرض أفغانستان إلا أن أطرافاً دولية تقف أيضاً خلف
هذا التنافس.
فللولايات المتحدة تطلعاتها وأطماعها في آسيا الوسطى، وروسيا تحاول الحد
من تفرد الولايات المتحدة بتركة الاتحاد السوفييتي السابق.. وجاء موقع أفغانستان
في وسط حلبة المصارعة الدولية الجديدة، ليجدد مرة أخرى نزاعاً سياسياً
واقتصادياً بين أطراف خارجية على أرضها، وهو نزاع قد تراه الأعين للوهلة
الأولى نزاعاً داخلياً فقط.
لعل ما تقدم ذكره يفسر بعض الخلفيات التي تدفع الأطراف الدولية والإقليمية
للتدخل في الشأن الأفغاني، ولعل الأمر يتضح أكثر عندما نستعرض مواقف تلك
الأطراف من أحداث السنوات الأخيرة، وبالذات منذ برزت حركة طالبان وتمكنت
من إتمام السيطرة شبه الكاملة على ربوع أفغانستان.
أولاً: باكستان:
بدا دور باكستان غامضاً في إنشاء ودعم حركة (الطالبان) ولا يزال هذا
الموقف يكتنفه بعض الغموض، ولكن هناك حقائق يمكن أن تجلّي الكثير من
غموض الموقف الباكستاني في علاقته بأفغانستان بوجه عام وحركة الطلاب بوجه
خاص، ومن تلك الحقائق ما يلي:
1- لإسلام أباد مطلب ملحّ في إحلال سلام واستقرار في أفغانستان، تعلم أنه
سينعكس إيجاباً على الاستقرار في باكستان؛ فأفغانستان بلد مجاور لها، وكل دولة
تتطلع إلى الاستقرار على حدودها، والسياسيون في إسلام أباد لا يخفون أنهم
يحملون همّاً كبيراً لما دار ويدور في أفغانستان بعد انتهاء الحرب مع الشيوعية،
تلك الحرب التي حولتها إلى ترسانة ضخمة للأسلحة من كل نوع، بدءاً من
المسدسات وانتهاء بالطائرات والصواريخ؛ وهي أسلحة ظلت منتشرة في أنحاء
أفغانستان في أيدي أطراف مختلفة، بدأت تتصارع فيما بينها كما هو معروف، ولم
يكن بمقدور أحد تلك الأطراف السيطرة على الآخرين، ومن ثم السيطرة على
السلاح المنتشر في طول البلاد وعرضها، ومعلوم ما يمكن أن يثيره هذا الوضع
من توترات وتقلبات ومشاكل أمنية وسياسية وعسكرية لباكستان المجاورة وقد عبر
وزير الداخلية الباكستاني السابق عن هذه الهموم الباكستانية بقوله: (تعرفون أننا
نتعامل مع آثار الحرب الأفغانية الطويلة، إن في أفغانستان أسلحة بقيمة 30 مليار
دولار، بينها عشرة مليارات دفعها الغرب، والآن يجب تنظيف البلد من كل هذا)
(الوطن الكويتية 9/3/1995م)
إذن فباكستان تحمل هماً له ما يسوّغه، وبقدر عِظم هذا الهم، كانت همة
باكستان متوافرة على الوقوف مع أي جهة يمكن أن تضع حداً للفوضى في
أفغانستان، وكان بروز حركة طالبان أملاً ولو كان بعيداً للوصول إلى حل لتلك
المشكلة، ولكن هذا الأمل ظل يتعاظم مع الإيقاع المتسارع للانتصارات التي ظلت
(طالبان) تحرزها بلا توقف على أطراف النزاع الداخلي، وزاد من التفاؤل
الباكستاني، نجاح طالبان الكبير في نزع السلاح من القبائل والعصابات
والميليشيات المسلحة في كل منطقة تقع تحت أيديها دون مشاكل كبيرة.
2- يحدو باكستان الأمل في أنه إذا ما ساد السلام في أفغانستان، فسوف
يمكنها ذلك من الاستفادة من مد خطوط أنابيب الغاز من الحقول الضخمة فيما بين
تركمانستان والمحيط الهندي، وهذه الخطوط لا بد أن تمر عبر أفغانستان. وتحلم
باكستان أيضاً بفتح طريق للتجارة يصل بين باكستان وأسواق آسيا الوسطى، وهذا
الطريق لا بد أن يمر أيضاً بأفغانستان، ولا شك أن استمرار الحرب الأهلية في
كابول وما حولها، سيحبط تلك الآمال ويعرقل الجهود المبذولة لتحقيقها.
ومع اقتناع باكستان بالأهمية القصوى لمثل تلك المشاريع بالنسبة لها
ولأفغانستان أيضاً، إلا أنها وجدت من يتحدى آمالها ويتوعدها بالإخفاق، وعلى
رأس هؤلاء أحمد شاه مسعود الذي أقسم في تصريح علني بأن مشروع خط الأنابيب
الذي تتطلع إليه باكستان لن يرى النور!
3- من المعروف أن باكستان دولة تحكمها دائماً المؤسسة العسكرية، وأن
جهاز الاستخبارات الباكستاني هو الجهاز المتحكم في تحديد وتوجيه السياسة
الخارجية للدولة، وما مناصب الوزراء ورؤساء الوزارات إلا أدوات تنفيذية فقط.
ويتردد أنه كان هناك التقاء في المصالح بين هذا الجهاز الذي بلغ قوته في عهد
ضياء الحق، وبين جماعة (علماء الإسلام) ويُلحظ أن هذه الجماعة كان لها إشراف
مباشر على تعليم الطلاب الأفغان في معاهدها العلمية الباكستانية وهي التي دفعت
بالكثير منهم منذ أيام الجهاد لتلقي التدريب العسكري، وقد كانت السياسة الباكستانية
عبر العهود تتوافق بشكل تقليدي وتتلاقى مع الأغلبية (البشتونية) في أفغانستان،
وحركة طالبان هي في أغلبيتها بشتونية، ولهذا فإن الحكومة الباكستانية التي كانت
تدعم الحزب الإسلامي (البشتوني) بزعامة حكمتيار، لم تعد ترى فيه ما يحقق
سياستها، فسحبت تأييدها له، وأعطته لحركة الطالبان، ولكن ليس معنى ذلك أن
يقال: إن طالبان صنيعة باكستانية؛ فالتحالفات لا تعني التبعية في كل حال، وإلا
لكانت الأحزاب الأفغانية السابقة كلها بل باكستان نفسها صنيعة أمريكية غربية؛
لأنها تلقت دعماً غير محدود من الأمريكان والغرب طوال سنوات الجهاد ضد
الشيوعيين! ومن العجيب أن البعض يحلو له أن يردد أن حركة طالبان أنشأتها
(بنازير بوتو) ! ! وأنها أرادت بذلك أن تضرب الأحزاب المجاهدة، وهؤلاء
يتجاهلون الموقف الباكستاني الداعم دائماً للبشتون قبل أن تجيء بوتو للحكم؛ هذا
من جهة؛ ومن جهة أخرى يتجاهلون موقف بنازير المعلن في ازدرائها لحركة
طالبان! فكيف لبنازير ذات الأصول الشيعية ثم التوجهات العلمانية، أن تدعم
تمكين حركة سنية للوصول إلى الحكم في بلد مجاور؟ لقد كانت تلك المرأة تُظهر
دائماً وعلناً كراهيتها لحركة طلاب الشريعة، وقد سئلت وهي لا تزال في السلطة
عما يشاع عن دعم حكومتها لحركة طالبان فقالت: (طالبان تبقي النساء وراء أربعة
أبواب مقفلة؛ فكيف يمكن لزعيمة مثلي أن تساعدهم في الاستيلاء على السلطة؟)
(المشاهد السياسي 8/4/1995م) وقد قال متحدث باسمها للصحفيين: (لنتحدث
بصراحة: إن أسوأ نتيجة لنا هنا في باكستان هي أن تحقق حركة طالبان انتصاراً
في كابول وأضاف: ليس هناك باكستاني عصري يمكن أن يرحب بحكومة في
كابول تسجن النساء وتمنع الفتيات من الذهاب إلى المدرسة، وتنفذ عمليات إعدام
عامة ينقلها التليفزيون) ولعل هذا كان من بين أسباب تفاقم الخلاف بين بنازير وبين
مؤسسة الرئاسة، حتى انتهى الأمر إلى إقصائها.
فالحاصل هنا، أن باكستان يمكن أن تكون قد قدمت دعماً قوياً لطالبان، لكننا
على قناعة بأنها لم تصنعها؛ فلطالبان تحالفاتها، ولكن أيضاً لها خصوصيتها.
ثانياً: الولايات المتحدة الأمريكية:
التقت مصلحة الولايات الأمريكية مع مصلحة باكستان في ضرورة وجود
سلطة موحدة في أفغانستان تنشد الاستقرار، ولو كانت هذه السلطة هي حركة
طالبان؛ فالحكومة الموحدة يمكن التعامل معها ورسم السياسات بناء على مواقفها،
بخلاف المواقف المتعارضة لأحزاب متصارعة.
والولايات المتحدة أصبح لها مصالح في أفغانستان لا يمكن الوصول إليها إلا
بعد استقرار الأوضاع فيها. فمن المعلوم أن لأمريكا سياسة معلنه تجاه إيران،
تقضي بعزلها عن الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ولهذا أقلقها أن يكون لإيران نفوذ
في أفغانستان؛ لأن هذا النفوذ سوف يكون مدخلاً لنفوذ أعمق في جمهوريات آسيا
الوسطى. وازداد قلق الولايات المتحدة من التقارب الإيراني الروسي الذي أصبح
يهدد كل خططها في آسيا الوسطى؛ وقد تحول هذا القلق إلى خطر حقيقي عندما
اختارت الحكومة السابقة لبرهان الدين رباني الميل لجهة التعاون مع كل من إيران
وروسيا ضد باكستان؛ ولكل هذا قررت أمريكا أن تعود إلى أفغانستان لقطع
الخطوط على روسيا وإيران، ولم يكن أمامها لتحقيق هذا الهدف إلا باكستان، ولم
يكن أمام باكستان إلا طالبان، وهكذا تتلاقى المصالح وتتوافق الأهداف، وتتم سنة
دفع الناس بعضهم ببعض.
ولكن كلاً من باكستان وأمريكا، وجدتا في طالبان شريكاً مشاكساً، لا يُسلس
قياده بسهولة، فقلة التجربة التي يأخذها الكثيرون على قيادات طالبان تجعلهم يقفون
بصلابة مع قناعات ومبادئ ربما تسبب إحراجاً لمن يريد التحالف معهم. فطالبان
على ما يبدو تجاري الدولتين، وتريد أن تستفيد منهما دون أن تعطيهما كل ما أرادتا، وخاصة مع الولايات المتحدة، ومما يدل على إخفاق واشنطن في احتواء (طالبان)
أنها بذلت مساعي مبكرة ومطولة لإقناع قادتها بقبول عودة الملك السابق (ظاهر شاه)
إلا أن هؤلاء القادة رفضوا ذلك في النهاية بصراحة وشدة.
وقد أظهرت أحداث الغارتين الأمريكيتين على أفغانستان والسودان، أن النظام
الجديد في أفغانستان لم يكن تحت السيطرة الأمريكية، ولكن الأمريكيين الذين
يتخذون من (المصالح) دينآً وديدناً، يغلّبون في النهاية حكم المصلحة على حكم
المبادئ أياً كانت، ولن تقف دعاوى دعم الإرهاب أو انتهاك حقوق الإنسان حائلاً
دون توصل الأمريكيين إلى ما يريدون من المصالح.
لقد صارت أفغانستان حلقة بالغة الأهمية في الاستراتيجية الأمريكية للتغلغل
في آسيا الوسطى التي يعتبرها الأمريكان أرضاً بكراً غنية بالثروات، وخاصة
النفط والغاز، ولا يخفى أن الولايات المتحدة تسعى لإيجاد بدائل أو على الأقل
مصادر إضافية للطاقة المستمدة من الخليج، وقد شرعت أمريكا بالفعل في اتخاذ
خطوات عملية للسبق إلى هناك، وأبرمت شركة (أنوكال) الأمريكية اتفاقاً مع
حكومة تركمانستان (رابع منتج للغاز الطبيعي في العالم) لبناء خط أنابيب لنقل الغاز
من تركمانستان إلى الساحل الباكستاني على المحيط الهندي، باستثمارات تزيد على
3 مليارات دولار، وتنافس شركة (برايوس) الأرجنتينية شركة (أنوكال) الأمريكية
على هذا المشروع، ويقول القائمون على الشركة الأرجنتينية: إن إقامة خط
الأنابيب يمكن أن يعود على أفغانستان بما يقرب من 300 مليون دولار. وقال
مسؤول في الحكومة الأمريكية: (أوضحنا للأفغان بأن خط الأنابيب يمكن أن يدر
على الشعب الأفغاني دخلاً يعينه على إعادة إعمار بلاده) (الرأي العام 16/12/ 1997م) .
ويمر الخط المزمع إنشاؤه عبر مناطق خاضعة تماماً لسيطرة طالبان في غرب
أفغانستان؛ وجنوبها، ويفترض أن يكون ذلك الخط هو الأول في سلسلة من
خطوط أنابيب نقل الغاز والبترول من حقول آسيا الوسطى عبر طرق بعيدة عن
روسيا؛ وهو توجه يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتحقيقه بكل السبل، لفك أي
ارتباط لدول آسيا الوسطى بروسيا ورابطة الكومنولث عموماً، وكذلك حرمان إيران
من مجرد التفكير في إمكانية نقل بترول وغاز آسيا الوسطى عبرها إلى الأسواق
العالمية، وهذا يمكن أن يفسر لنا الموقف الأمريكي الحازم من إيران عندما حشدت
قواتها على حدود أفغانستان، فقد حذرتها تحذيراً شديد اللهجة من أي نوايا عسكرية
لغزو أفغانستان، هذا بالرغم من أن الغارة الأمريكية على أفغانستان لم يكن بينها
وبين ذلك التحذير الأمريكي إلا نحو أسبوعين فقط، مما يدل على أن الولايات
المتحدة تريد أن تفرض وصاية من نوعٍ ما على أفغانستان.
على أي حال، فإنه إضافة إلى المصالح الاقتصادية لأمريكا في أفغانستان،
فيمكن رصد أهداف ثلاثة أخرى تقف وراء التمرير الأمريكي لتمكين حركة طالبان
في أفغانستان، وهذه الأهداف هي:
1- الإمساك بورقة ضغط دائمة ومستقبلية ضد روسيا، وإيجاد مصدر إزعاج
لها على حدودها الجنوبية؛ فروسيا التي أركعها يلتسين لأمريكا والغرب، لا تزال
تمثل هاجساً للغربيين، فلا أحد يضمن استمرارها في حالة الخضوع والخنوع هذه،
خاصة وأن هناك تيارات سياسية قوية تدعو إلى العودة إلى الشيوعية.
2- استخدام الحكومة الأفغانية الجديدة لإثارة إزعاج آخر لإيران، استغلالاً
للتناقضات والاختلافات المذهبية والمصلحية والعرقية بين أفغانستان وإيران،
وإبقاءً على قنابل موقوتة على الحدود قابلة للانفجار في أي لحظة يريدها المستعمر
العالمي الجديد المتربع على قمة النظام الدولي الجديد.
3- استغلال (طالبان) في إبراز النموذج الإسلامي السياسي إعلامياً على وجه
مشوّه، وتقديمه على أنه الوجه الآخر للمشروع التغييري الإسلامي الذي يمثل السّنّة، في مقابل المشروع الإيراني الذي يمثل الشيعة.
ولهذا فإن أمريكا تريد أن تستغل طالبان دون أن تمكنها من أي نجاح، ولو
كان هذا النجاح هو الاعتراف بها كحكومة نجحت في توحيد البلاد حسبما تريد
أمريكا. قال (كارل أندرفورت) مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب
آسيا في حديث لصحيفة الحياة (17/1/1998م) : (إن واشنطن لن تعترف بحكومة
طالبان، حتى لو بسطت سيطرتها على كامل أفغانستان) ! ! ولا ندري.. ما هي
الصيغة التي تريد أن تتعامل بها أمريكا مع الحكم الجديد في أفغانستان وهي محتاجة
إليه ... هل تريد أن تتعامل معه على أنه مجرد (عصابة) تتفاوض معها وتتقاسم
معها الصفقات.. هل تريد أن تستنفد منها أغراضها ثم تقلب لها الطاولة على
طريقة الكاوبُوي الأمريكي؟ !
الظاهر أن الأمريكيين قد بلغوا في بغضهم للإسلام حداً جعلهم يحارون في
الاختيار بين الفعل ونقيضه؛ فهم يؤيدون الطالبان لمصالحهم، ولكنهم لا يطيقون
أفغانستان تُحكم بالإسلام، لقد بدت تلك البغضاء من أفواههم على لسان (مادلين
أولبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية في تصريح أدلت به في منتصف نوفمبر
1997م فقالت: (حركة طالبان موضع للازدراء، بسبب ممارساتها في مجال
حقوق الإنسان ومعاملة المرأة) !
ثالثاً: روسيا:
القلق الروسي من سيطرة طالبان على أفغانستان ليس له حدود، ويرجع هذا
القلق إلى تخوّف روسيا من محاولة الحكومة الأفغانية الجديدة مدّ نفوذها إلى
طاجيكستان التي يحكمها نظام موال لموسكو، والتي يقوم الجنود الروس بدوريات
مستمرة لحماية حدودها مع أفغانستان، وكان مستشار الأمن القومي الروسي السابق
الجنرال (ألكسندر ليبيد) قد أعلن أن بلاده ستظل تساند حكومة رباني المخلوعة،
وبعد استيلاء طالبان على كابول دعا الرئيس الروسي (يلتسن) إلى عقد قمة طارئة
لرؤساء جمهوريات آسيا الوسطى، وبالفعل عقدت القمة في (ألما آتا) عاصمة
قزخستان السابقة، وطرح رئيسها (نور سلطان باييف) مبادرة لإعادة الاستقرار إلى
أفغانستان عن طريق دعم الفئات المتنازعة المعارضة لطالبان! لكن تظل روسيا
من أكثر البلاد قلقاً من انتصارات طالبان في أفغانستان؛ فهي تعتبر تلك
الانتصارات مداً (أصولياً) على حدودها الجنوبية، خاصة وأن هناك في
الجمهوريات المحيطة بروسيا حالات من الحماس الديني المشابه لحماس (طالبان)
وتخشى أن يتحول يوماً إلى جهاد، بل إن يلتسن عبر عن مخاوفه من أن يكون ما
يحدث في أفغانستان دافعاً لتحركات (أصولية) داخل الحدود الروسية نفسها، وذكر
أن الجبهة الطاجيكية تمثل الحدود الوطنية لروسيا بسبب استمرار التهديدات من قبل
المقاتلين الإسلاميين.
(التايمز 8/10/1996م)
وتصل التوجسات الروسية من التغيرات في أفغانستان إلى حد الندم على ترك
النظام الشيوعي السابق وحده ليواجه مصيره المحتوم، وقد عبر عن ذلك (أرتيوم
بورفيك) الذي كان من أشهر المراسلين الروس في حرب أفغانستان بقوله: (لقد
ارتكبنا خطأ كبيراً لانسحابنا من أفغانستان، وها نحن الآن نواجه بعدد من الدول
ذات النهج الأصولي على مقربة من حدودنا، وأصبحت تشكل خطورة على روسيا
نفسها.
(التايمز: 8/10/1996م)
رابعاً: إيران:
لم يحدث في تاريخ ثورة الروافض أن فضحت نواياهم الباطنية الحاقدة بمثل
ما حدث في الآونة الأخيرة، عندما صعّدت إيران وتيرة العداء لحكومة أفغانستان
الجديدة؛ فإيران تحب أن تكون الحكومة في أفغانستان على الدوام حكومة ضعيفة
يمكن السيطرة عليها، أو النفاذ من خلالها إلى خدمة مآربها ومخططاتها. لقد
استنفدت إيران جهودها لفرض الوصاية على الجهاد الأفغاني أيام الحرب مع
الشيوعيين، ولما لم تفلح في هذا أرادت أن تضمن لعملائها وجوداً بارزاً في
حكومات ما بعد الحرب، فلما لم تفلح أرادت أن تبقي لها مراكز قوية تعمل لحسابها
داخل أفغانستان، فلما رأت من حركة طالبان صداً لتسللها ورداً لأطماعها..
جاهرت بالعداء، وأمدت أعداء الحركة الناشئة بكل الأسباب المعينة على مواجهتها
وإسقاطها، وقد ضاعف من ثوران أحقاد إيران أن حركة طالبان أفسدت عليها كل
مخططاتها التآمرية في أفغانستان؛ سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو مذهبية، مما
دعاها إلى تبني كل جهد معارض لهذا العدو الجديد (طالبان) . لقد لعبت إيران الدور
الأخطر في إقامة التحالف المناهض لحكومة طالبان، وهي التي شجعت كلاً من
دوستم وأحمد شاه مسعود على توحيد صفوفهما لتشكيل مجموعة (الدفاع) عن
أفغانستان (ضد من؟) ولم تكتف حكومة (الثورة الإسلامية) في طهران بذلك، بل
نسقت جهودها مع الهند وروسيا وأوزبكستان لإجهاض المشروع الهادف إلى توحيد
أفغانستان، زاعمة أن قيام حكومة طالبان في أفغانستان ستمثل نموذجاً يشوه صورة
الإسلام في العالم! ! وكأن الناس في هذا العالم قد تلقوا بالقبول نموذجها
(الحضاري) القائم على بث الفتن هنا وهناك. ولكن إيران المتواطئة مع الهندوس
والروس ضد جيران مسلمين، لم يشف غليلها كل هذا، فاستغلت أحداث (مزار
الشريف) لتتخذ منها ذريعة للكشف عن أنياب البغي والعدوان، فإيران التي ظلت
تندد بالتدخل الباكستاني في أفغانستان، كان لها في مزار الشريف وجود ظاهر
مفضوح، طالما ظلت تخفيه وتنكره، وجاء فتح مزار الشريف ضربة عنيفة لإيران، حيث كانت تدفع بالمساعدات لمعارضي طالبان عن طريق مطار مزار شريف،
ثم جاءت الضربة الأعنف بفتح (باميان) معقل حزب الوحدة الشيعي في أفغانستان،
لقد استغلت طهران واقعة قتل تسعة إيرانيين في مزار الشريف [1] فقامت بأكبر
تظاهرة عسكرية على حدودها الشرقية منذ قيام الثورة عام 1979م بل قبل قيام تلك
الثورة، فبعد مناورة استعراضية للإرهاب، حشدت إيران نحو مئتي ألف من
جنودها على الحدود الأفغانية، وهو إجراء لا يتناسب مطلقاً مع مشكلة لها ألف حل
وحل بالطرق الدبلوماسية، التي يمكن أن تكون إيران استفادتها من قضية احتجاز
الرهائن الدبلوماسيين الأمريكيين لمدة 444 يوماً إبان قيام ثورتها.
إن كل هذا الثوران والفوران الإيراني، لم نره، ولم نر عشر معشاره، أيام
كانت أفغانستان خاضعة لحكومة إلحادية تحارب الإسلام علناً؛ فإيران (الثورة) لم
تثر على الوجود الشيوعي، ولم تنظر إلى الاتحاد السوفييتي أو الاتحاد الروسي من
بعده على أنه شيطان أكبر ولا أصغر، ولكن ثورة (المستضعفين) تستأسد اليوم على
(إمارة) ناشئة لا يزال العالم يضن عليها بوصف (حكومة) بل لا زالت تسمى حركة!
إن إيران قد تُدفع تحت وطأة غشم القوة وغبش الرؤية إلى التورط في
أفغانستان إما بالتدخل المباشر وإما بالقصف الجوي على الطريقة الأمريكية، ولكن
هذا إن حدث، فسوف يكون نوعاً من الانتحار؛ وقد تدق الثورة (الشيعية) في
نعشها مسماراً كذاك الذي دقته الثورة (الشيوعية) ليضم رفاتهما معاً في إحدى
جبانات التاريخ. ومن يدري؟ ألم يكن سقوط الدولة (الصفوية) الشيعية عام 1148هـ /1735م على أيدي الأفغان؟ وربما تخدم إيران حركة الطالبان من حيث تريد
الإضرار بها، فإن شدة التحديات غالباً ما تقوي عود الحركات، وتجمع حولها
الشعوب، حتى لو لم يكن لها ذلك القبول الشعبي الواسع. والثورة الإيرانية نفسها
هي مثال بارز على ذلك، فقد عركتها وقوّتها تحديات ومغامرات صدام حسين
عندما بادرها بالحرب بعد قيامها.
إن المرء وهو يطالع التحديات الجسيمة التي تواجه تلك الحركة الإسلامية
الجديدة في أفغانستان، يضع يده على قلبه خوفاً من توريطها في مواجهات أكبر من
حجمها، فيتكرر بذلك إخفاق آخر لا قدر الله في مسيرة التطلع إلى الخلاص، ولا
يسع المراقب المسلم وهو يرى شجاعة يخالطها صدق ودين لدى شباب (طالبان) إلا
أن يدعو الله تعالى أن يقيلهم عثرات الطريق، ويقيهم وعثاءه وعناءه؛ فإن ما
قطعته طالبان من شوط لتوحيد أراضي أفغانستان، لا يزال وراءه أشواط وأشواط
لتوحيد صفوف الأفغان بمختلف أعراقهم ومذاهبهم تحت راية التوحيد الخالص،
وعليهم أن يستفيدوا من أخطاء الأحزاب السابقة التي لم تعط لسلامة العقيدة وبنائها
وتصحيحها حظاً وافياً من جهودها في الداخل وتحالفاتها في الخارج، وعلى طالبان
أيضاً أن تحذر من تجذر الصراع على أسس قبلية، مما يطيل أمد النزاع دون طائل، خاصة في ظل التدخلات الخارجية، ويُطلب من طالبان ألا تستدرج إلى صِدام
مدمر مع إيران؛ فالضرورة تحتم عليها أن تتعامل مع الوجود الشيعي في أفغانستان
بحكمة، حرصاً على حقن الدماء في غير ما قضية، فمن حق الشعب الأفغاني الذي
جاهد طويلاً أن يذوق طعم الاستقرار، وينعم بثمرة الانتصار.. ولن يكون هذا إلا
بإقامة الدين الذي جاهد الشعب الأفغاني من أجله، بعيداً عن الأهواء القبلية،
والمذاهب البدعية: [الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: 41] .
وإلى بقية في لقاء قادم إن شاء الله،،،
__________
(1) سبق لعملاء إيران أن قتلوا 900 طالباني أثناء لمحاولة الأولى لفتح مزار الشريف.(131/88)
المسلمون والعالم
حرب المياه القادمة
حوض النيل أنموذجاً
حسن الرشيدي
باتت موارد المياه في الشرق الأوسط من بين التحديات المتعددة التي تهدد أمن
المنطقة واستقرارها في ظل المتغيرات الدولية المعاصرة، ليس فقط لكون حدود
الموارد لا تتفق مع الحدود السياسية بل وأيضاً من تفاقم المنافسة في حالة تنازع
المصالح التي أصبحت وشيكة.
ومع كثرة البحوث والدراسات التي تناولت هذه المشكلة؛ فإن سلاح الماء لم
ينل حظاً وافراً من اهتمام الباحثين باعتباره سلاحاً سياسياً يستخدم أداةً للتكافل
والاستفادة المشتركة أو أداة للخلاف وإثارة الصراعات. وقد اخترت (الصراع على
مياه النيل) أنموذجاً لتجدده في الآونة الأخيرة وندرة البحوث المتعمقة في هذا الجانب.
الميزان المائي لدول الحوض: باستعراض طبيعة المشكلة التي سماها بعض
الباحثين بالميزان المائي نجد أنهم يعنون به: الموارد المتاحة حالياً والموارد
المطلوبة والقابلة للاستثمار والاحتياجات الحالية والمستقبلية على ضوء التزايد
السكاني والاتجاهات التنموية القائمة والمتوقعة مستقبلاً.
وفي الواقع أنه من الصعب القياس بميزان حساس للمياه في الشرق الأوسط،
لاعتبارات عديدة، بعضها فنية وأخرى سياسية. أما الفنية فهي صعوبة حصر
الموارد المائية (السطحية والجوفية والمحلاة) الواردة من وإلى أي من دول الشرق
الأوسط، خاصة أن المياه تتعرض في دورة جريانها إلى عوامل التبخر والنتح،
وأحياناً أخرى الهدر وقت الاستعمال أو إعادة الاستعمال.
فرغم الاهتمام الملحوظ في الفترة الأخيرة بموارد المياه وما يمكن أن تحدثه
من أزمات في العلاقات بين دول الشرق الأوسط، وما تجلبه من كوارث على
المستوى القطري؛ إلا أن الاهتمام بحصر تلك الموارد حصراً دقيقاً لا زال مبدئياً
ويعاني من غياب الدقة المطلوبة، بل إنه يعاني في حالات أخرى من قلة المعلومات
أو عدم توافرها أصلاً، وهذا ينقلنا إلى الصعوبات السياسية المتمثلة في منهجية
خبراء شؤون المياه في تناول الأرقام المتعلقة بموارد المياه وهي التي غالباً ما تكون
لخدمة أغراضهم أو بالأحرى مصالح دولهم، ولذلك قد لا يرون غضاضة في كشف
عجز أو فائض أو توضيح هبوط أو صعود نصيب الفرد من المياه في دولة ما بما
يخدم أغراضهم؛ الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تضارب الأرقام من خبير لآخر،
ومع ذلك؛ ورغم تلك الصعوبات الجمة، فإننا لم نجد بداً من اقتحام تلك الأسلاك
الشائكة في محاولة للتوصل إلى الرقم الأقرب إلى الصحة بشأن تحديد درجة
التوازن المائي في المنطقة وهو الرقم الذي يشكل في الغالب إما القاسم المشترك بين
عدد من الخبراء الثقاة في هذا المجال، أو رقماً مستقى من وثيقة أصلية لا يختلف
عليها اثنان.
يبلغ الحجم المتوسط السنوي للأمطار على حوض النيل حوالي 900 مليار م3 سنوياً [1] يمثل السريان السطحي منه 137 مليار م3، بينما إيراد النيل طبقاً
لآخر التقديرات لا يتجاوز 84 مليار م3، يأتي 72 مليار م3، أي 87% من مياه
النيل من النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة (تانا) في أثيوبيا، بينما يأتي 13% من
منطقة البحيرات العظمى أي حوالي 12 مليار م3.
ويبلغ تعداد السكان بحوض النيل ما يقرب من مائتي مليون نسمة، وتبلغ
احتياجاتهم المثلى نحو 170 مليار م3، سنوياً من المياه، ويمكن المزج بين مياه
النهر والآبار والأمطار لتحقيق اكتفاء ذاتي من المياه دون أي مشاكل.
واذا انتقلنا إلى مصر الدولة الأكبر والأكثر اعتماداً على مياه النيل، فالأمطار
شبه معدومة، والمياه الجوفية غير متجددة، ومن هنا فإن مياه النيل تمثل حوالي
97% من موارد مصر المائية، وتبلغ حصة مصر 5، 55 مليار م3، وعدد
سكانها 60 مليون نسمة، طبقاً لتقديرات 1996م، والأرض المزروعة 3. 6
مليون فدان، وهذا القدر من المياه لا يكفي لاحتياجات السكان مما يضطر
المصريين لإعادة استخدام المياه لمرة ثانية بالرغم من انخفاض نوعيتها وتأثيرها
المستمر على خصوبة الأرض الزراعية وعلى معدلات الإنتاج.
وفي عام 2000م سيصل عدد السكان إلى نحو 70 مليون نسمة، ولكي
تحافظ مصر على نصيب الفرد من المياه فإنها ستكون في حاجة إلى نحو 77 مليارم3، بعجز 22 مليار م3.
أما السودان فتختلف التقديرات بشأن المساحة المزروعة من 1. 1 إلى
3. 1 مليون هكتار، في حين تتراوح تقديرات المياه المستخدمة ما بين 12 إلى 17 مليون هكتار [2] وتدعو الخطة الوطنية السودانية إلى استصلاح ما يقرب من
4. 2 مليون هكتار جديدة من الأرض الزراعية وهي تتطلب 15 مليار م3 إضافية من المياه. ولكن وسط وجنوب السودان لا يُحتاج كثيراً إلى المياه من نهر النيل؛ فمعدل مياه الأمطار يصل إلى 1500 ملم على الأغلب في العام. والجدير بالذكر أن السودان حالياً يستغل فقط 5، 13 مليار م3، من حصته في مياه النيل البالغة 5، 18 مليار م3.
وإثيوبيا توصف بأنها نافورة أفريقيا حيث ينبع من مرتفعاتها أحد عشر نهراً
تتدفق عبر حدودها إلى الصومال والسودان وتصب هذه الأنهار 100 مليار م3،
من الماء إلى جيران إثيوبيا والنيل الأزرق أكثر هذه الأنهار.
وتتميز أنهار إثيوبيا التي تجري صوب الغرب بانحدارها الشاهق؛ فالنيل
الأزرق ينحدر 1786 متراً عن مجراه الذي يبلغ 900 كم، وهذا الانحدار الشاهق
لتلك الأنهار يجعل من إثيوبيا بلداً ضعيفاً جغرافياً في التحكم في جريان النهر.
البعد السياسي للمشكلة: يمكن وصف حالة نهر النيل بأنها حالة مساومة
وتهديد؛ فدائماً تستخدم ورقة المياه من جانب أثيوبيا أو الدول الكبرى للضغظ على
مصر والسودان لتليين مواقفهما السياسية إزاء مشكلة ما. فعلى سبيل المثال وفي
الماضي البعيد كثيراً ما كان الأحباش يلوّحون به من إبادة مسلمي الحبشة وتحويل
مجرى النيل عن مصر حتى يموت أهلها جوعاً، وقد كان حكام الحبشة يسوّغون
مواقفهم تلك بأنها نوع من الانتقام إزاء ما يزعمونه بسوء معاملة الأقباط المصريين
وقياداتهم الدينية [3] .
كذلك لعبت القوى الكبرى من قديم الزمن دورها في هذا المضمار، ولم يتردد
البرتغاليون في الاتصال بملك الحبشة لإقناعه بشق مجرى يمتد من منابع النيل
الأزرق الذي هو الرافد الرئيسي لنهر النيل حتى البحر الأحمر؛ وذلك لحرمان
مصر من المياه وجعلها من الواحات المفقودة [4] .
واتخذ الاستعمار البريطاني من مياه النيل أداة للضغط والمساومة والانتقام ضد
مصر والسودان وقد قال أحد الباحثين الإنجليز ويدعى (تشيرول) (كانت خطط
تخزين مياه النيل الأزرق والأبيض في السودان توضع تحت تصرف وإشراف
اللورد كتشنر شخصياً، وكان يوجه اليها كل اهتمامه، لا لأنها ستفتح إمكانيات لا
حدّ لها تقريباً من الماء لمصر والسودان، ولكنها ستكون ورقة سياسية تُحَل بها أي
مسألة سياسية تثار في هذا البلد) [5] .
إن الدارس لجغرافية نهر النيل وطبوغرافيته يلاحظ الأمرين التاليين:
الأول: أن هذا النهر قد سيطر سيطرة كاملة على اقتصاد وحياة الدول الواقعة
على حوضه وخاصة مصر ثم السودان؛ حيث أصبحت قوة مصر السياسية تتناسب
طردياً مع كمية المياه المتاحة لها، حتى إن دخلها القومي يساوي تقريباً دخلها المائي.
الثاني: الدولة الأولى المستفيدة من هذا النهر وهي مصر لا يوجد على إقليمها
أي منابعه، مما جعلها دائماً في علاقة خاصة مع باقي الدول الأخرى التي توجد بها
هذه المنابع، وهذه العلاقة فيها من مظاهر الضعف أكثر مما فيها من مظاهر القوة؛
حيث إنها حتمت على مصر انتهاج سياسة مرنة وتهادنية نوعاً ما إزاء الصراعات
الداخلية والإقليمية والدولية في المنطقة.
مستوى الصراع القائم بين دول الحوض: ونرصد هذه الدرجة من خلال
بعدين:
الخلافات المصرية السودانية.
الخلافات مع دول أعالي النيل.
أولاً: الخلافات المصرية السودانية: السودان ومصر هما في الأصل دولة
واحدة، ولكن التدخلات الأجنبية وإبعاد الإسلام عن حياة الصفوة في الدولتين تسببا
في انفصالهما.
وفي عام 1929م توصلت بريطانيا ومصر إلى اتفاق أخذ شكل مذكرات
تبادلية بين رئيس الوزراء المصري والمندوب السياسي البريطاني، وتُعد بريطانيا
في هذه الاتفاقية نائبة عن السودان وكينيا وأوغندا وتنزانيا، ولقد نصت الاتفاقية
بوضوح على عدم قيام أعمال ري، أو توليد طاقة هيدروكهربائية على النيل أو
فروعه، أو على البحيرات التي تنبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة
تحت الإدارة البريطانية من شأنها إنقاص مقدار المياه الذي يصل إلى مصر، كما
ينص أيضاً على حق مصر في مراقبة مجرى النيل من المنبع إلى المصب.
ومن الواضح أن الاتفاقية كانت اتفاقية سياسية قصد بها استخدام مياه النيل من
جانب بريطانيا للانتقام من السودان بسبب مقتل السير (لي ستاك) سردار الجيش
المصري وحاكم السودان العام.
لذلك كان من الطبيعي أن تُواجَه هذه الاتفاقية بانتقادات عديدة من الجانب
السوداني، تصاعدت حدتها بعد نيله استقلاله عام 1955م، فقد اعتبرها السودان
جزءاً من تسوية سياسية مع طرف أجنبي وفي غياب القيادة السودانية وبغير إرادتها، وعلى ذلك فهي من طرف واحد لا بين طرفين، فضلاً عن أنها تعطي مصر حق
النقض (الفيتو) بل والسيادة الهيدرولوجية المطلقة في كل حوض النيل وعلى كل
مشاريعه المائية.
وبذلك امتنع السودان عن الموافقة على قيام مصر ببناء السد العالي في بادئ
الأمر مما أدى بالفعل إلى تأخير بنائه بعض الوقت.
وفي عام 1958م زادت الأزمة بين البلدين حيث أعلنت السودان من جانب
واحد عن نيتها في بناء سد الروصيرص لأعمال التوسع في مشروع الجزيرة
بالرغم من اعتراضات مصر على المشروع [6] .
ومع مجيء الفريق عبود بانقلابه في السودان تحسنت العلاقات بين البلدين،
وأدى هذا إلى التوصل إلى اتفاق عام 1959م، ألغى حق مصر في أعمال الرقابة
على المشروعات التي تقام على النيل، وتم الاتفاق على بناء خزان الروصيرص
في السودان مقابل بناء السد العالي في مصر، وتم الاتفاق على توزيع حصص
المياه: 48 مليار م3، لمصر، و4 مليار م3، للسودان. فضلاً عن ريع السد
العالي بمعدل 5، 14مليار م3، للسودان، و 5، 7 مليار م3، لمصر.
وفي التوتر الأخير الحادث في العلاقة بين مصر وحكومة البشير في السودان، أثيرت مسائل توزيع حصص المياه؛ ولكن سرعان ما هدأت هذه المسائل عند
بدء عودة العلاقات لطبيعتها.
ثانياً: - الخلافات مع دول أعالي النيل: - يسود التفكير لدى دول منابع
النيل وبخاصة أثيوبياً فيما تعتبره حقها في استغلال مياه النيل وفقاً لاحتياجاتها
التنموية، وترى أن على دول المصب مواءمة احتياجاتها مع ما يتبقى من استخدام
دول المنابع.
من هذا المنطلق فقد تقدمت إثيوبيا رسمياً بمطالبها إلى مؤتمر الأمم المتحدة
للدول النامية عام 1981م حيث أعلنت رغبتها في استصلاح 227 ألف فدان في
حوض النيل الأزرق وأكدت أنه نظراً لعدم وجود اتفاقيات بينها وبين الدول النيلية
الأخرى فإنها تحتفظ بحقها الكامل في تنفيذ مشروعاتها مستقلة [7] .
وقد قامت بالفعل مع بداية عام 1984م بتنفيذ مشروع سد (فيشا) ، أحد روافد
النيل الأزرق بتمويل من بنك التنمية الإفريقي وهو مشروع يؤثر على حصة مصر
من مياه النيل بحوالي 5، 0 مليار م3، كما تقوم أثيوبيا بدراسة ثلاثة مشروعات
أخرى. إن تلك المشروعات سوف تؤثر على مصر بمقدار 7 مليار م3 سنوياً [8] .
إن حجج دول أعالي النيل وعلى رأسها إثيوبيا في إقامة هذه المشروعات
تتلخص في الآتي:
1- تترسخ عند حكام الحبشة منذ القدم فكرة مؤداها القدرة على تحويل مياه
النيل عن مصر رداً على سعي مصر للسيطرة والهيمنة.
هذه الرؤية الإثيوبية فضلاً عن اختلاف توجهات النظم في كل من أثيوبياً
ومصر والسودان، دفعت العلاقات في هذه الفترة (أواخر السبعينات) إلى التوتر فقد
أعلن السادات في 16/12/1979م في حديثه لمجلة أكتوبر عن نيته في توجيه قدر
من مياه النيل إلى القدس (إسرائيل) مما أثار إثيوبيا بمذكرة قدمتها لمنظمة الوحدة
الإفريقية في مايو 1980م وهددت بإجراء تغييرات في مجرى النهر بالقوة
العسكرية إن اقتضى الأمر ذلك مما حدا بوزير خارجية مصر آنذاك إلى أن يصرح
في مجلس الشعب المصري: (إن مصر ستمضي إلى خوض الحرب من أجل تأمين
استراتيجيتها) .
وفي مؤتمر مركز الدراسات الإفريقية والشرقية في جامعة لندن عن مياه النيل
(2 - 3 مايو 1990م) أوضح خبير المياه الإثيوبي (د. زيودي أباتي) مدير عام
هيئة تنمية الوديان في إثيوبيا ومندوبها في المؤتمر: أن مصر والسودان قد اقتسمتا
مياه النيل دون التشاور مع دول أعالي النيل أو مجرد إخطارها، وبالرغم من
تعرض إثيوبيا لموجات من الجفاف فهي لا تستغل سوى 6، 0 مليار م3، من مياه
النيل بينما بقية دول أعالي النيل لا تستخدم سوى 5، 0 مليار م3، وهذه الدول في
حاجة إلى مزيد من المياه للأمن الغذائي وري الأرض.
ولا تزيد حجج بقية دول أعالي النيل مثل كينيا وتنزانيا وأوغندة عن لب
القضية وهي أن هذه الدول لم يستشرها أحد في اتفاقيه توزيع المياه، ولم يكن لها
ترضية ما سواء بالمياه أو غيرها بالرغم من حالة الجفاف واحتياجاتها الشديدة للمياه
في مشاريعها الزراعية الطموحة، وأن الاتفاقيات الموقعة وقعت أيام الاستعمار
وهي لم تكن طرفاً أصيلاً فيها.
والجدول (1) يوضح استخدامات بعض دول حوض النيل عام 1980م
ومطالبها المتوقعة عام 2000م.
أما الطرف المصري والسوداني فيرى أن الاحتياجات المائية لدول أعالي
النيل المعلنة مبالغ فيها، وأنها لا تقوم على أساس سليم، وهذه الدول مطالبة بأن
تدرس مطالبها من مياه النيل على أسس علمية سليمة، فليس من المعقول أن تكون
كمية المياه التي تطالب بها لعام 2000م عشرة أضعاف الكميات التي تستخدمها عام
1980م؟
والرؤية المصرية تعتمد تقليدياً على نظرية الحقوق المكتسبة والتاريخية
والقائمة على الممارسة الظاهرة للحقوق المصرية بشكل مستمر ومؤكد، وقد استمر
الموقف السلبي طوال فترة زمنية كبيرة من قِبَلِ دول أعالي النيل كقرينة على حقوق
مصر.
كما أنها تعتمد على ثلاث اتفاقيات وقعت مع ملك الحبشة في الماضي وهي:
1- البروتوكول الأنجلو إيطالي في 15 إبريل عام 1891م.
2- المعاهدة المبرمة بين بريطانيا وإثيوبيا في 15 مايو 1902م.
وتبنى النظرية المصرية على أن منظمة الوحدة الإفريقية قد أقرت مبدأً عرفياً
ينص على أن الحدود والاتفاقيات التي تم توريثها من الاستعمار تظل كما هي تجنباً
لإثارة النزاعات والحروب بين دول القارة. وهذا المبدأ أقرته إثيوبيا نفسها في
نزاعها الحدودي مع الصومال.
-------------------------------------- ---
الدولة ... الاستخدامات 1980 ... ... مطالب سنة 2000
... مليار م3 سنوياً ... ... ... مليار م3 سنوياً
-------------------------------------- ---
تنزانيا ... ... 34, ... ... ... ... ... 3.34
أوغندا ... ... 14 , ... ... ... ... ... 42,3
كينيا ... ... 26, ... ... ... ... ... 35,1
رواندا ... ... 13, ... ... ... ... ... 53,
بوروندي ... 01, ... ... ... ... ... 16,
-------------------------------------- ---
الجملة 88 , ... ... ... ... 80 , 8
------------------------------------------
(1) المصدر: رئاسة الجمهورية، المجالس القومية المتخصصة، تقرير في
شأن حقوق مصر الطبيعية والتاريخية وما يرتبط بها من اتفاقيات، القاهرة، يناير
1992م، ص12.
الدور اليهودي في الصراع على مياه النيل:
هناك مظهران لهذا الدور: دور مباشر، وآخر خفي.
* الدور المباشر:
تعد محاولة الحركة الصهيونية للاستفادة من مياه النيل قديمة قدم التفكير
الاستيطاني في الوطن العربي، وظهرت الفكرة بشكل واضح في مطلع القرن
الحالي عندما تقدم الصحفي اليهودي تيودور هرتزل مؤسس الحركة عام 1903م
إلى الحكومة البريطانية بفكرة توطين اليهود في سيناء واستغلال ما فيها من مياه
جوفية وكذلك الاستفادة من بعض مياه النيل، وقد وافق البريطانيون مبدئياً على هذه
الفكرة على أن يتم تنفيذها في سرية تامة [9] .
ولقد رفضت الحكومتان المصرية والبريطانية مشروع هرتزل الخاص
بتوطين اليهود في سيناء ومدهم بمياه النيل لأسباب سياسية تتعلق بالظروف الدولية
والاقتصادية في ذلك الوقت.
وفي الوقت الراهن يمكن القول إن هناك أربعة مشاريع أساسية يتطلع إليها
اليهود بهدف استغلال مياه النيل:
1- مشروع استغلال الآبار الجوفية: - قامت (إسرائيل) بحصر آبار جوفية
بالقرب من الحدود المصرية، وترى أن بإمكانها استغلال انحدار الطبقة التي يوجد
فيها المخزون المائي صوب اتجاه صحراء النقب. وقد كشفت ندوة المهندسين
المصريين أن (إسرائيل) تقوم بسرقة المياه الجوفية من سيناء وعلى عمق 800 متر
من سطح الأرض، وكشف تقرير أعدته لجنة الشؤون العربية بمجلس الشعب
المصري في يوليو 1991م أن (إسرائيل) تعمدت خلال السنوات الماضية سرقة
المياه الجوفية في سيناء عن طريق حفر آبار إرتوازية قادرة؛ وذلك باستخدام آليات
حديثة على سحب المياه المصرية.
2- مشروع اليشع كالي: - في عام 1974م طرح اليشع كالي وهو مهندس
(إسرائيلي) تخطيطاً لمشروع يقضي بنقل مياه النيل إلى (إسرائيل) ، ونشر
المشروع تحت عنوان: (مياه السلام) والذي يتلخص في توسيع ترعة الإسماعيلية
لزيادة تدفق المياه فيها، وتنقل هذه المياه عن طريق سحارة أسفل قناة السويس،
وقد كتبت صحيفة معاريف في سبتمبر 1978 تقريراً بأن هذا المشروع ليس طائشاً؛ لأن الظروف الآن أصبحت مهياة بعد اتفاقيات السلام لتنفيذ المشروع.
3- مشروع (يؤر) : قدم الخبير الإسرائيلي شاؤول أولوزوروف النائب
السابق لمدير هيئة المياه الإسرائيلية مشروعاً للسادات خلال مباحثات كامب ديفيد
يهدف إلى نقل مياه النيل إلى (إسرائيل) عبر شق ست قنوات تحت مياه قناة
السويس وبإمكان هذا المشروع نقل 1 مليار م3، لري صحراء النقب منها 150
مليون م3، لقطاع غزة. ويرى الخبراء اليهود أن وصول المياه إلى غزة يبقي
أهلها رهينة المشروع لدى (إسرائيل) فتتهيب مصر من قطع المياه عنهم.
4- مشروع ترعة السلام [10] : - هو مشروع اقترحه السادات في حيفا عام
1979م، وقالت مجلة أكتوبر المصرية: (إن الرئيس السادات التفت إلى
المختصين وطلب منهم عمل دراسة عملية كاملة لتوصيل مياه نهر النيل إلى مدينة
القدس لتكون في متناول المترددين على المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط
المبكى) .
وإزاء ردود الفعل على هذه التصريحات سواء من أثيوبيا أو المعارضة
المصرية ألقى مصطفى خليل رئيس الوزراء المصري بياناً أنكر فيه هذا الموضوع
قائلاً: (عندما يكلم السادات الرأي العام يقول: أنا مستعد أعمل كذا فهو يعني إظهار
النية الحسنة ولا يعني أن هناك مشروعاً قد وضع وأخذ طريقه للتنفيذ) ! !
* الدور الخفي:
تطمع (إسرائيل) في أن يكون لها بصورة غير مباشرة اليد الطولى في التأثير
على حصة مياه النيل الواردة لمصر وبدرجة أقل السودان؛ وذلك كورقة ضغط
على مصر للتسليم في النهاية بما تطلبه (إسرائيل) . يقول محمد سيد أحمد: (إن
للخبراء الإسرائيليين لغة في مخاطبة السلطات الإثيوبية تتلخص في ادعاء خبيث
هو أن حصص المياه التي تقررت لبلدان حوض النيل ليست عادلة؛ وذلك أنها
تقررت في وقت سابق على استقلالهم، وأن (إسرائيل) كفيلة أن تقدم لهذه الدول
التقنية التي تملكها من ترويض مجرى النيل وتوجيهه وفقاً لمصالحها) .
من أجل ذلك تتوارد الأنباء والأخبار عن مساعدات (إسرائيلية) لإثيوبيا لإقامة
السدود وغيرها من المنشآت التي تمكنها من السيطرة والتحكم في مياه النهر.
ولقد دأبت العواصم المعنية بدءاً من أديس أبابا مروراً بالقاهرة وانتهاء بتل
أبيب على نفي هذه الأنباء.
--------------------------------------------------------
الموضوع ... ... ... ... التكرار ... ... النسبة المئوية
------ -- ----------------------------------------------
مشاركة (إسرائيل) في مساعدة
إثيوبيا في إنشاء السدود. ... 25 ... ... ... 67.5%
عدم مشاركتها ... ... ... 12 ... ... ... 32.5%
-----------------------------------------------------
المجموع ... ... ... 27 ... ... ... 100%
--------------------------------------------
[جدول (2) ]
لذلك نورد بعض الجداول التي تعنينا على تتبع هذه القضية:
جدول (2) يبين مضمون ما أوردته وسائل الإعلام العربية والعالمية حول
السدود الإثيوبية على النيل الأزرق في الفترة من أول نوفمبر 1989م حتى
منتصف فبراير 1990م.
من هنا يتضح أن الاحتمال الأرجح هو تورط (إسرائيل) بالمشاركة في
مساعدة إثيوبيا في إنشاء السدود على النيل الأزرق.
مستقبل الصراع على مياه النيل: - والمتتبع لتوقيت ظهور الخلافات
وإبرازها يرى ذلك؛ وليس أدل على ذلك مما يحدث بين مصر والسودان بين آن
وآخر، وأيضاً ما حدث بين مصر وإثيوبيا في أواخر السبعينات حينما وصل إلى
سدة الحكم في إثيوبيا نظام عسكري ماركسي التوجه يرتبط بعلاقات سياسية
وعسكرية وثيقة مع الاتحاد السوفييتي السابق في الوقت الذي كانت فيه القيادة
السياسية المصرية ترتبط بعلاقات سياسية وثيقة مع الولايات المتحدة، وعليه
اندلعت الخلافات السياسية بين الجانبين، وسرعان ما انعكست على قضية المياه.
وحتى الخلاف الأخير عندما أعلنت إثيوبيا عن إقامة سد على النيل الأزرق
بتمويل من صندوق النقد الدولي جاء هذا مع لعب مصر دوراً رئيساً في المصالحة
الصومالية واستضافتها لأطراف النزاع في القاهرة؛ الأمر الذي شعرت معه إثيوبيا
بأن مصر تحاول أن تنال من دورها الإقليمي في القرن الإفريقي. وكان هذا أيضاً
متقاطعاً مع محاولة مصر الخروج من دائرة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط
واعتراضها على المحاولة الأمريكية الأخيرة لضرب العراق، فأرادت أمريكا اللعب
بورقة المياه عبر بوابة صندوق النقد الدولي (الممول له حقيقة أمريكا) وفتح
الاعتمادات اللازمة لتمويل سد إثيوبيا مما أثر بالفعل على الموقف المصري الذي
بدا متراجعاً عن موقفه السابق مع العراق.
__________
(1) غالبية الأرقام في هذا المقال من كتاب (نقص المياه والآثار المترتبة عليها) د محمد عبد الهادي راضي.
(2) مستقبل الاستفادة من مياه النيل، د رشدي سعيد، ص20.
(3) الجذور التاريخية للعلاقات العربية الإفريقية، يوسف فضل حسن، ص 31.
(4) سخصية مصر، د جمال حمدان ص 718، 719.
(5) المسألة المصرية، فالنتين تشيرول.
(6) مصر ونهر النيل، وزارة الخارجية المصرية، ص3.
(7) شخصية مصر، د جمال حمدان 937.
(8) الأبعاد السياسية والاقتصادية والقانونية لأزمة المياه، ياسر هاشم.
(9) النيل في خطر، كامل زهيري، ص66.
(10) انظر (التطلعات الاستعمارية لمصر في بحيرة تانا والنيل الأزرق) للأستاذ الأثيوبي بجامعة أديس أبابا ويند ميلاهون) وهاجم المؤلف السودان كذلك.(131/96)
مقالات مُعَربة
سحب من الشك
شهادة أمريكية على الإرهاب الأمريكي
ترجمه واختصره: د. يوسف الصغير
على الرغم من الطابع الاستعراضي لضرب أمريكا للسودان وأفغانستان، مع
عدم معرفه الذين قاموا بتفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام على
وجه التحديد؛ فإن المشكلات الشخصية دفعت إلى الاستعجال برد فعل غير مدروس، ومع ذلك كان هناك شبه إجماع سياسي وإعلامي في أمريكا انطوى على التهليل
والتطبيل لهذه العملية في شبه تظاهرة يغلب عليها العنصر اليهودي، ومن
الاستثناءات الموضوعية القليلة المقال الافتتاحي لصحيفة Investor's
Business Daily المنشور يوم الثلاثاء 1 سبتمبر 1998م، والذي نحاول فيما
يلي أن نقدم ترجمة أمينة لأجزاء منه وبما يسمح به حجم الزاوية جاء في المقال:
(لقد أخذنا كلمة الرئيس كلينتون أن ضرب السودان وأفغانستان كان ضرورياً، وأن قواتنا قد عاقبت الناس الحقيقيين، لكن يجب أن نعرف بصورة أفضل أن
قصته الأصلية في 20 أغسطس، بعد ثلاثة أيام من نصف الاعتراف بالكذب حول
(مونيكا لوينسكي) ، أمر كلينتون قواتنا بإطلاق حوالي 20 من قذائف (توماهوك)
على مصنع في السودان وهي دولة مسلمة ليس بيننا وبينها حتى الآن أي نزاع ذي
شأن. كلينتون أمر أيضاً باستخدام 60 صاروخاً أو حولها من (التوماهوك) أطلقت
على ستة من المعسكرات حول خوست، بأفغانستان.
ولتسويغ الضربة فإن البيت الأبيض ادعى شبهة وجود غاز أعصاب واجتماع
إرهابيين دوليين.
منذ أكثر من أحد عشر يوماً حتى الآن، والتقارير الإخبارية توضح كذب
العديد من البيانات التي أطلقت بواسطة كلينتون وموظفيه لتسويغ الضربتين. وكلما
أصبحت التسويغات غير فعالة أضيفت حجج جديدة، مما زاد الشكوك أن الضربات
أمر بها لتحويل الانتباه عن مشكلاته الشخصية ليس إلا.
المصنع المحمي بقوة:
هكذا وصفت الإدارة المصنع المضروب بأنه مصنع للكيماويات ذات العلاقة
بالأسلحة، بعد ساعات من تدمير القذائف الأمريكية له.
لكن المهندس البريطاني (توم كارنافين) الذي عمل في المصنع من عام
1992م إلى 1996م أخبر نيويورك تايمز أنه ليس هناك مطلقاً احتياطات أمنية
على المصنع؛ حيث تستطيع أن تتمشى في أي مكان تريده ولا أحد يحاول أن
يمنعك.
مجمع صناعات عسكرية:
بعد يوم من الضربة صرح رسميو كلينتون أن المصنع كان مملوكاً للسودان
باعتباره جزءاً من مجمع صناعات عسكرية.
لكن الصحف وجدت أن المالك الكامل هو مصرفي عربي له مكاتب في لندن!
ليس له إنتاج تجاري:
ادعت الإدارة مبكراً أن المصنع لم يكن ينتج أدوية (نحن لا نملك أي أدلة ولم
نر أي إنتاج تجاري تم بيعه) قال ذلك مصدر رسمي للصحفيين.
لكن الأمر ليس كذلك؛ فقد كان من الواضح تماماً أن المصنع يمد الدولة
بأقراص لملاريا الأولاد وبالعقاقير البيطرية. وفي الحقيقة فإنه يموّن تقريباً نصف
حاجة السودان من العقاقير، بل ولديه عقد مع الأمم المتحدة.
المراسلون الصحفيون الذين تجولوا في المنطقة بعد الضربة شاهدوا بين
الحطام منتجات لها علاقة بالعقاقير، والصور التلفزيونية أوضحت أكواباً من
زجاجات الدواء.
رسميو كلينتون يسلمون الآن بأن للمصنع استعمالات تجارية إلا أنهم قالوا أنها
يمكن أن تنتج كلاً من الأدوية ومكونات لأسلحة كيميائية!
دليل مادي:
لأيام عديدة بعد الضربة، رفضت الإدارة الأمريكية الحديث عن أدلتها
بالتفصيل؛ غير أنها كانت أدلة قوية ومقنعة لا تُدحض، لكن الصحافة تبحث عن
التفاصيل، وبعد ثلاثة أيام من الضربة فإن مستشار الأمن القومي (سندي بيرقر)
ذهب إلى (سي إن إن) ليؤكد على أن المصنع كان ينتج المواد الأساسية لغاز
الأعصاب القاتل. وأضاف: نحن نملك الدليل المادي!
ولما سأله (دولف بلتزر) مراسل (سي إن إن) : هل ستسرب الأدلة للجمهور؟
أجاب بيرقر: لا، إنها معلومات سرية.
وفي اليوم التالي أخبر اثنان من موظفي الإدارة (نيويورك تايمز) أن الولايات
المتحدة حصلت سراً على عينة من التربة من الموقع قبل الضربة، قالت المصادر
المجهولة: إنها تحتوي على مواد كيميائية تستعمل في إنتاج غاز الأعصاب،
ولكنهم لم يعطوا اسم المادة.
وتحت مزيد من الضغط لإعطاء مزيد من التفاصيل قال الموظفون في اليوم
التالي: إن المادة هي حمض يسمى (EMPTA) . لقد ادعوا أنها ليس لها استعمال
إلا في صنع الأسلحة الكيميائية.
لكن هذا الادعاء فيه مشكلتان رئيستان:
الأولى: أن هذه المادة (EMPTA) لا توجد في قائمة المواد الكيميائية
الممنوعة طبقاً للمعاهدة الدولية للحد من الأسلحة الكيميائية.
وقول منظمة منع الأسلحة الكيميائية: إن (EMPTA) يمكن استخدامها
(لأغراض تجارية) قول صحيح؛ لأن المصنع ينتج مضادات الفطريات.
وأيضاً ذكرت (نيويورك تايمز) أن التركيب الكيميائي لـ (EMPTA'S)
مشابه جداً لمبيدات الحشرات ومبيدات الحشائش الضارة التي تباع تجارياً مثل قاتل
الأعشاب الضارة (راوند أب) ؛ ولأن الحكومة كما أعلنت أخذت عينة من تربة
واحدة فقط فإنه يمكن الخطأ في الفحص.
وحتى لو كانت العينة (EMPTA) فإنها لا تثبت أن المصنع ينتجها، ومن
الممكن أن الحمض خُزّن هناك أو تسرب أثناء النقل.
إن مصنع الأسلحة الكيميائية يحتاج إلى مفاعلات مبطنة بالزجاج، وأنابيب
خاصة تتحمل التآكل الناتج من المواد الكيميائية عالية السّمّية، كذلك يحتاج إلى
مساحة كبيرة لهذه الأجهزه وأيضاً لتخزين المواد الكيميائية، وكل هذا غير موجود
كما هي إفادة كل من العاملين السابقين والمراسلين الصحفيين الذين شاهدوا حطام
المصنع.
ومن أجل تقليل الخسائر بين العاملين فإن البيت الأبيض يقول إنه اختار
ضرب المصنع بعد أن أغلق أبوابه (أي بعد نهاية الدوام) .
المراسلون المحليون قالوا إن عشرة أشخاص قد جرحوا، منهم أربعة جراحهم
خطيرة، وأن شخصاً وأحداً قد قتل.
لكن مصنع (شركة الشفاء للصناعات الدوائية) موجود وسط مدينة الخرطوم
فلو كانت الإدارة الأمريكية واثقة أن المصنع ينتج مواد كيميائية مميتة مما يحمل
خطورة انتشار أبخرة في الهواء لقتل المئات أو الآلاف من السودانيين ولأظهرت
الضربة ذلك؛ وهذا لم يحدث!
ملاحظة أخرى غريبة: بعد الهجوم أوضحت الصور التلفزيونية أن رجال
الإطفاء السودانيين كانوا يكافحون النيران داخل المصنع بدون ملابس واقية، ومن
المؤكد أنه في حال وجود مواد كيميائية مميتة فإن هؤلاء سيقضى عليهم بواسطة
الأبخرة، فقطرة واحدة فقط من (VX) عند استنشاقها تقتل البالغ في دقائق.
وأبرز دعاوى كلينتون أهمية لتدمير المصنع هو ادعاء علاقة لـ (بن لادن)
به وهذه غير موجودة.
في يوم الضربة، قال وزير الدفاع (وليام كوهين) : إن المذكور له بعض
المصلحة الاقتصادية في المصنع.
وبيرقر وافق وزير الدفاع فقال: نحن نعرف أن بن لادن كان مساهماً أساسياً، إلا أن الصحافة لم تجد صلة تمويلية؛ فمالك المصنع لم يتعامل مطلقاً مع بن لادن. أيضاً فإن بن لادن لم يُقِم في السودان منذ 1995م.
وبعد كل هذا فإن أحد المسؤولين المجهولين يسلم الآن بأن الصلة غير واضحه
تماماً، وأحدهم قال: إنها غامضة.
وعندما نمت الشكوك حول علاقة بن لادن فإن قصة جديدة برزت لتسويغ
الضربة وهي ادعاء أن للعراق دوراً في المصنع.
حتى لو كان هذا صحيحاً فإنه ليس هو القضية. لقد قال كلينتون إن الضربة
كانت رداً على ضرب السفارات في أفريقياً، وأن بن لادن خلف التفجيرات؛ وأنه
يمول مصنع الأسلحة الكيميائية في السودان. إن الفكرة هي عقاب بن لادن وليس
العراق.
أفغانستان:
المبالغة في تدمير البنية التحتية للإرهاب:
في اليوم التالي لإمطار أفغانستان بالقذائف الأمريكية، ادعى الرسميون أنهم
دمروا أو ألحقوا أضراراً بكثير من المباني التي توصف بأنها قواعد للإرهابيين.
لقد ثبت أن مركز قيادة بن لادن لم يكن أكثر من أكواخ طينية وخيام متناثرة
في الجبال؛ حيث أختبأ فيها المجاهدون أيام حرب السوفييت. قال الرسميون: إنهم
دمروا البنية التحتية لاتصالاته؛ ولكن التقارير الصحفية توضح أن المذكور يستعمل
التليفونات الخلوية المرتبطة بالأقمار الصناعية، وليس له أنظمة مركزية يمكن
ضربها بالقذائف.
بعد ثمان وأربعين ساعة كاملة من الضربة، فإن البيت الأبيض قال إنه لم
يستطع الحصول على صور من الأقمار الصناعية. لماذا؟
السحب تحجب المنطقة عن الفضاء الخارجي:
في اليوم الثالث قال الناطق (مايل ماكيري) : إن الصور أوضحت أن القذائف
أصابت أهدافها، ولكن السحب لا تزال تمنع أي استعراض كامل للتدمير!
ونتيجة لعدم الرضا عن التفصيلات السطحية فإن مراسلين مشتركين من
الصحف ووكالة رويتر رحلوا إلى الموقع قرب (خوست) حيث شاهدوا مجموعة من
حفر القنابل، ولكن لا يوجد أنقاض كثيرة مما ادّعِيَ بأنه البنية التحتية.
محادثات الإرهابيين:
لقد قال كلينتون: (إن هناك اجتماعاً لقادة الإرهاب في المعسكر عجل
بالغارات، وأن التقارير الأولية أوصلت عدد الإرهابيين إلى 600 إرهابي، وأن
قذائفنا التي ذكرت الإدارة أنها ضربت أثناء الليل وأصابت (الثكنات) قتلت منهم ما
يقارب 21 إرهابياً.
وكوهين يقول إنه ليس من الواضح إن كان الاجتماع قد عقد في الحقيقة،
وبعض الأنباء تقول إن معظم المعسكرات كانت فارغة.
هل حققت الضربات أهدافها؟
بيرقر قال: إن معسكرات الإرهابيين أصبحت غير فعالة ووزيرة الخارجية
(مادلين أولبرايت) قالت: إننا قمنا بصدمة مؤثرة على المعسكرات الإرهابية
الأساسية.
بالإضافة إلى مغالاتهم حول التدمير فإنهم قد أهملوا حقيقة أن هناك آخرين
يستخدمون المعسكرات. وهناك رسميون باكستانيون قالوا إنهم يستخدمون اثنين من
المعسكرات الأربعة التي ضربت بالقذائف لتدريب باكستانيين وكشميريين للحرب
ضد الهند في كشمير، وفي الحقيقة فإن هناك 15 باكستانياً بين القتلى.
معسكر آخر كان يستعمل من قِبَل عرب من بلدان مختلفة، ومعسكر واحد فقط
كان يستخدم من قِبَل جماعة بن لادن.
مزيد من الأسئلة:
السودان وبلدان أخرى منها الكويت دعت أمريكا لتوضيح الحجة الداعية
لضرب المصنع السوداني.
فلماذا حتى الآن ترفض الإدارة الإجابة؟ ولماذا أيضاً لم تدع الأمم المتحدة
لتقوم بالتحقيق؟
إدارة كلينتون تمانع في نشر تفاصيل المعلومات الاستخباراتية للجمهور من
أجل تسويغ ضربتها العسكرية وذلك في تعارض صارخ مع نهج الإدارات الأمريكية
السابقة.
فإدارة ريجان ذهبت بعيداً في نشر حل الشفرة الدبلوماسية الليبية من أجل دعم
ضرب طرابلس. كما أوضحوا كثيراً في الصور لشرح غزو (قرينادا) التي تشبه
الأفلام الكرتونية. وإدارة بوش أوضحت دوافعها ضد دكتاتور (بنما) المتعامل
بالمخدرات؛ فلماذا تكون هذه الإدارة سرية جداً؟
في الحقيقة، وضّحت التقارير أن كلينتون شخص اختار الضربة واحتفظ
بالقرار سراً، أطلع عليه قليلاً من المستشارين ولم يستشر أحداً من الحلفاء؛ حتى
إن أناساً في مكتب كوهين لم يُخبَروا بالأمر؛ فإن كان هذا الفعل العسكري هو من
كلينتون على ضوء مشكلاته الشخصية؛ فإن هذا تفكير مروّع! !
نحن قد وقفنا للحكم على ما قد يبدو لنا تصرفات غير عادلة حيث صدرت
أوامر عدوانية بواسطة رئيس محاصر.. إننا نُقِرّ أننا لسنا أفضل من الإرهابيين. اهـ
أجمع عدد من الفنيين الأجانب الذين عملوا بالمصنع على خلوه من المواد
الكيماوية المشبوهة؛ وهذا ما يعلل رفض أمريكا للتحقيق حول المصنع حتى لا
يظهر كذبها للجميع
شاهد المراسلون الأجانب آثار العدوان في أفغانستان ووجدوا حفراً لكن لم
يجدوا ما ادعي أنه البنى التحتية للإرهاب.(131/106)
منتدى القراء
ألبسوها الأكفان..!
عباس شعيب حسن موسى
ألبسوها الأكفان والتزموا ... هجرها فاعتراهم الندمُ
جعلوها مع الرفاةِ ولمْ ... يحصدوا جنيها ويغتنموا
هي زاد لذي النهى ... ولها العز فيه والكرمُ
ما ارتقى للسمو مبتسل ... دونها، واستقلت القَدَمُ
هي رمز الحياة في غدِنا ... هي بدر تحيطه النجُمُ
هي نبض الأبي في زمنٍ ... ساد فيه الهوانُ والسَقمُ
هي رسم الحروف في كلمي ... هي شعر يخطه القلمُ
سلمونا الأُلى أزِمّتها ... وقضوا نحبهم فيا لهمُ
ناح شعري على الفراق كما ... ناح قلبي وناحت القيمُ
يسألون اللئام عن ألمي ... ولِمَ الأنّ بل لِمَ السأمُ؟
فأشاح الهوان حربته ... قائلاً: قد ماتتِ الهِممُ!(131/112)
التمام التمام..
سالم بن جروان الضوي
واجب على كل إنسان أن يسعى جاهداً لتكميل ما عنده من فضائل وخصال
حميدة، وواجب عليه كذلك أن يسعى جاهداً لعلاج على ما عنده من نقائص وعيوب
طيلة أيام عمره؛ فلا يمر يوم إلا وقد اكتسب فيه فضيلة، وتخلص في مقابل ذلك
من نقيصة، فلا يزال كذلك حتى يرحل عن هذه الدنيا وهو ماضٍ على هذا النهج.
قال إبراهيم الحربي: (لقد صحبت الإمام أحمد عشرين سنة.. فما لقيته في
يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس)
إنه عزم الرجال المؤمنين، ومضاؤهم وحرصهم على المراتب العالية
والمنازل الشريفة. لم يعرف الوقوف فضلاً عن التخلف ورجوع القهقرى.
إن الجنة منازل ودرجات، ولا ينال منازل الجنة العالية من كان مفرطاً
مخلطاً راضياً بالدون. لا ينال المنازل العالية في الجنة إلا من كان ذا همة عالية لا
يرضى بالدون، له من كل خير نصيب، وله في كل عبادة مضرب سهم، لا يدع
فضيلة إلا ويحرص على ضمها إلى ما عنده من فضائل، ولا نقيصة إلا ويسارع
في التخلص منها.
إنها لمصيبة عظيمة أيها الأخ الحبيب أن تمر عليك السنون وأنت لم تتغير
ولم تبرح مكانك. إيمانك هو هو، وعلمك هو هو، وأدبك هو هو، إذن ما الذي
استفدته من مرور الأيام وتعاقب الأعوام. وليكن شعارك المرفوع، وهاجسك الدائم: التمام التمام.
القلوب الحائرة
ماجد عائض النصَّار
القلوب الحائرة تلك القلوب التي تاهت عن طريق الحق وزاغت، فلم تعد تعلم
أين طريق الحق، وأصبح الحق لديها باطلاً والباطل حقاً.. وحارت القلوب،
فيمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً.. فانظر كيف
يقلّب الله القلوب كيف يشاء.. لذلك يقول عليه الصلاة والسلام في دعائه: (اللهم
يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فإن القلب بين أصبعين من أصابع الله يقلّبه كيف يشاء.
قلوب حائرة وأعجب كيف تحار القلوب والله قد بيّن لها طريق الهداية
والراحة طريق الجنة يقول سبحانه وتعالى: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون]
[الأنعام: 153] .
قلوب حائرة.. وجدت نفسها في زمن المادة بعيداً عن معنى الإيمان بالله..
في زمن الأفكار التي يروج لها بين أبناء المسلمين من علمانية إلى حداثية فقومية
فرأسمالية فديمقراطية فاشتراكية فإباحية تدعو إلى الرذيلة، وغيرها مما بليت به
الأمة الإسلامية من مبادئ وقيم بعيدة عن المنهج الرباني، تلقفتها قلوب حائرة..
فكل سلك طريقاً.. وهدفهم الوصول.. ولكن إلى أين؟ !
نهاية طريقهم حيرة، فلا هم كسبوا الدنيا وإن كسبوها، ولا هم نالوا الآخرة
إن كانوا عرفوها.. لأن صاحب القلب الحائر يكون قلبه فارغاً من كل شيء حتى
مفاتيح زوال الحيرة أعرض عنها! وإلا هل يعقل أن حائراً يُدل على الطريق
المستقيم ثم لا يسلكه؟ يرى الناس يروون ظمأهم خمس مرات في اليوم والليلة
يقفون بين يدي ربهم معلنين راحة نفوسهم.. ونجاتهم من الحيرة التي يغرق فيها
أصحاب القلوب الحائرة.(131/113)
قضايا ثقافية
التفكير العلمي والإبداعي..
حول التفكير: مقدمات عامة
(1/3)
عبد الله بن عبد الرحمن البريدي
مدخل:
يجسد التفكير نعمة عظيمة وهبها الله تعالى للإنسان ليتعرف عليه ويعبده،
وليعمر الأرض ويقيم البناء الحضاري على هدي الرسالات النبوية. ولقد امتاز
الإنسان بها وتفرد عن بقية المخلوقات، وهي نعمة لا ينفك عنها إنسان عاقل، ولا
يتصور خلو الحياة الإنسانية منها لحظة من الزمن. ومن هنا تتجلى أهمية التفكير
في حياتنا الخاصة والعامة.. الدينية والدنيوية.. العلمية والعملية.. ومن هذه
الأهمية تنبثق ضرورة مراجعة أساليب التفكير السائدة، لتحديد ما إذا كانت قادرة
على تحقيق هدف العبودية الشاملة؛ أم أنها تحتاج إلى إعادة بناء وهيكلة؛ وذلك
بعد القيام بعملية هدم للأساليب المغلوطة، وفل للقيود الذهنية، وتكسير للحواجز
العقلية التي قد تعيق التفكير السليم والإنتاج الإبداعي.
والتفكير قضية معقدة من حيث ماهيتها، ومنهجيتها، وما يؤثر بها من الدوافع
النفسية الذاتية والعوامل البيئية الخارجية. إن التفكير في حقيقة الأمر ليس مجرد
منهجية جوفاء تهذر بها الألسنة، وتؤلف بها الكتب، وتنمق بها الدراسات، بل هو
ما يسترشد به الفكر، وما يضيء به العقل، وما تنجذب إليه النفس من خطوات
ذهنية، يحوطها انفعال صادق يروم العطاء والبذل، وتزحمها رؤى متناثرة،
استجلبها تعلّم فطن وتأمل حاذق.
وثمة أسئلة كثيرة تعوزها إجابات دقيقة، من خلالها يمكن تصحيح طرائق
التفكير واسترداد (العافية الذهنية) الكاملة، ومن ثم ترقية الأهداف ورفع الأداء،
كما أنها بدرجة ثانية تجسّد ما يحيط بعملية التفكير من تعقيد وإشكالية، وأهم هذه
الأسئلة ما يلي:
ما هو التفكير؟ وكيف يفكر الإنسان؟
هل ثمة عوامل تنضج التفكير وتخصبه، وأخرى تفسده وتسطحه؟
لماذا يبدو أحدنا مندفعاً في قضية دون أخرى؟ ! ! وفي وقت دون آخر؟ !
ما علاقة اللغة بالتفكير؟ وهل نستطيع أن نفكر بدون لغة معينة؟
ألا يمكن أن تمارس حواسنا خداعاً لنا في عملية الإدراك التي تسبق عملية
التفكير؟
هل تؤثر العوامل البيئية على التفكير إيجاباً أم سلباً؟
كيف يؤدي التفكير بالإنسان إلى النجاح بعد توفيق الله تعالى؟
أيمكن اكتساب التفكير العلمي بالتعلم والممارسة أم أنه فطري جِبِلّي؟
ما مدى انسجام التفكير السائد مع التفكير العلمي؟
لماذا لا نستفيد في بعض الأحيان عندما نفكر جماعياً؟ !
ما هو التفكير الإبداعي؟ وهل يمكن تحول الإنسان إلى مبدع؟ وكيف؟ !
بإيجاز مشوب بشيء من التفصيل، يحاول هذا الموضوع أن يتلمس إجابات
لما سبق، مصاغةً بقالب يرجى أن يكون واضحاً، ومدعمة بأمثلة تطبيقية.
قبل المضي قدماً:
أود لفت نظر القارئ الكريم قبل قراءة هذا الموضوع إلى ما يلي:
1- أن القراءة في موضوع كالتفكير يجب أن تتلبس بتركيز شديد.
2- أهمية إعادة قراءة بعض أجزاء الموضوع التي يشعر القارئ بأهميتها،
أو على الأقل تلك التي طولب بإعادة قراءتها.
3- ثبت علمياً أن التفكير لا يمكن أن يكتسب من خلال قراءة عجلى وتفاعل
بارد، بل لا بد من القراءة المتأنية والتفاعل الجاد مع التطبيقات المبثوثة في ثنايا
الموضوع، والتقيد الدقيق بخطواتها المحددة.
4- أهمية الربط بين أجزاء الموضوع وحلقاته، وذلك بإعادة قراءة
الموضوعات السابقة التي تعتبر تمهيداً لموضوعات لاحقة.
5- ضرورة الاعتقاد بأن التفكير السديد المنتج مهارة يكسبها التعلم وعادة
يصنعها التدرب..، والإيمان بخبر القرآن: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .
الوحي يحث على التفكير:
ثمة نصوص قرآنية كثيرة تحث على التفكير والتفكر، وتعلي من شأن العقل
والعقلاء؛ فلقد وردت مادة (فكر) في القرآن الكريم (20) مرة بصيغ مختلفة، منها:
قول الله تعالى: [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]
[البقرة: 219] [أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم] [الروم: 8] وقوله: [فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [الأعراف: 176] [1] .
كما جاء في الكتاب العزيز صيغ أخرى تؤكد على أهمية التفكير، كما في
قوله عز وجل: [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ
لأُوْلِي الأَلْبَابِ (190) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلََى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] [ال عمران: 190، 191] ، وقوله: [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [البقرة: 242] ، وقوله: [ ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] [الأنعام: 65] ، وقوله: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ
الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [البقرة: 269] .
ماهية التفكير:
فكر في الأمر: أعمل العقل فيه، ورتب بعض ما يعلم ليصل به إلى مجهول، وأفكر في الأمر: فكر فيه فهو مفكر، وفكّر في الأمر: مبالغة في فَكَرَ وهو أشيع
في الاستعمال من فَكَرَ، فالفكر: إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى المجهول.
والتفكير: إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها، الفِكَر: جمع أفكار، وهي
تردد الخاطر بالتأمل والتدبر بطلب المعاني [2] .
هذا في اللغة، أما في الاصطلاح فلعله من المناسب أن أتجاوز إشكالية
التعريف التي تحيط بهذا المصطلح إلى التعريف الذي أرتئيه للتفكير وهو:
«العملية الذهنية التي ينظم بها العقل خبرات ومعلومات الإنسان من أجل اتخاذ قرار معين إزاء مشكلة أو موضوع محدد» .
ومن التعريف السابق نخلص إلى أن التفكير يتطلب:
قالباً ينتظم خبرات ومعلومات الإنسان.
مخزناً يحتويها ويحتفظ بها لحين استدعائها.
بيئة نفسية معينة ومحيطاً اجتماعياً محدداً (التفكير لا يمكن أن يحدث في
فراغ وإنما في بيئة ما) .
ولذا كان من الواجب أن أعرض لعلاقة اللغة والذاكرة والحالة النفسية من جهة، والتفكير من جهة أخرى؛ ذلك أن اللغة هي القالب الذي يشكّل الخبرات
والمعلومات، والذاكرة هي ذلك المخزن الذي يحتويها، والحالة النفسية
(سيكيولوجية التفكير) هي الجو الذي يتنفس فيه التفكير.
ثراء لغتك سبب في عمق تفكيرك:
ثمة علاقة عضوية متينة بين اللغة والتفكير، فاللغة هي القالب الذي ينصبّ
فيه الفكر، والفكر هو المضمون الذي يحتويه ذلك القالب اللغوي. ويعبر البعض
عن هذه الوشيجة بالقول بأن اللغة والفكر يعتبران وجهين لعملة واحدة.
يتعذر التفكير التجريدي (الذي هو في المعنويات لا في المحسوسات) في حالة
انعدام اللغة ويتسطح بضعفها؛ ذلك أنها السبيل الأوحد لتحويل التفكير الحسي (في
المحسوسات) إلى تفكير تجريدي نافع. ويستلزم التفكير العميق ثراءً لغوياً وعمقاً
في فهم دلالات وإيحاءات الكلمات المكونة للبناء اللغوي، وفي هذا المعنى يقول د.
محمد الشنيطي: «وليس من شك في أننا حين نفكر لا سبيل لنا إلى التفكير إلا في
لغة، ولا حيلة لنا إلى ضبط هذا التفكير إلا إذا كان القالب اللغوي واضح المعالم لا
يفضي إلى غموض ولا يدعو إلى لبس، ولا ينم عن قلق واضطراب ينعكس بالتالي
على تفكيرنا» [3] .
ولتأكيد هذه الأهمية المتناهية للثراء اللغوي، أشير إلى أن التفكير في أي
مشكلة إنما يعتمد على مجموعة محددة من الكلمات والمصطلحات، وبدهي أن من
كان فهمه أعمق لهذه الكلمات والمصطلحات فإن تفكيره سيكون أعمق وأنضج،
فهب أن مشكلة ما تعتمد على الكلمات التالية:
أناس حق واجب استطاعة كذب صدق حرية دقة ضوابط حوافز نجاح تحقق
ذات استشعار المسؤولية اجتهاد صواب خطأ استئناف العمل ثقافة أزمة إدارة.
ومن هنا فإن كل من يتفهم هذه الكلمات والمصطلحات، بجانب سيرورة
تفكيره وفق المنهج العلمي سيكون أحظى بالصواب وأظفر بالنجاح بعد توفيق الله
تعالى له من كل من تتمنع عليه هذه الكلمات، وتتشوه في عينيه هذه المصطلحات!
[يمكنك لاحقاً مراجعة معنى ما يلي: الصدق، تحقق الذات، الاستئناف] .
ولقد أثبتت بعض الدراسات قوة العلاقة بين اللغة والتفكير؛ حيث اكتشفت
دراسة متخصصة أن لغة قبيلة هوبي الهندية لا تحتوي على صيغة الماضي
والمستقبل، وإنما تحتوي فقط على صيغة الحاضر، ولذا فإن أفراد هذه القبيلة
يتكلمون كل شيء وكأنه يحدث الآن، مما أثّر على تفكيرهم! ! [4] .
التفكير السليم وعاؤه ذاكرة جيدة:
سبق أن أسلفت أن التفكير عملية ذهنية ينظم بها العقل الخبرات والمعلومات
من أجل اتخاذ قرار معين، ومن هذا التعريف نخلص إلى أهمية الذاكرة لهذه العملية، ذلك أنها المخزن الذي يحوي تلك الخبرات والمعلومات التي يستخدمها العقل
الإنساني في التفكير، ومن هنا تبرز أهمية التعرض لآلية الذاكرة، وكيفية تفعيلها
بقدر معقول من التفصيل بحيث يسهم في تعميق التفكير وتسهيل مهامه وتسريع
عمله.
تنقسم الذاكرة إلى [5] :
1- مخزن المعلومات الحسي: ولا تستطيع الذاكرة الاحتفاظ بالمعلومات في
هذا المخزن بما يتجاوز ثواني؛ فعند سيرك في شارع عام في سيارتك تلحظ لافتات
المحلات عن اليمين والشمال، وتجد أن تلك المعلومات لا تلبث أن تزول.
2- الذاكرة قصيرة المدى: وهي التي تحتفظ لمدة ساعات بالمعلومات التي
يشعر الإنسان بأهمية تخزينها وبضرورة اصطحابها على الدوام؛ فأنت عندما تسأل
عن رقم هاتف لا تحتاج الاتصال به إلا مرة واحدة تجد أنك تردده في نفسك بضع
مرات لكي تتمكن من تخزينه في ذاكرتك القصيرة حتى تنهي الاتصال، ثم لا يلبث
هذا الرقم في تلك الذاكرة إلا لمدة تتناسب مع تقديرك لأهميته في المستقبل القريب.
3- الذاكرة طويلة المدى: وهي التي تحفظ لمدة طويلة المعلومات التي يبذل
الانسان في سبيل تخزينها جهداً كبيراً ويمضي وقتاً طويلاً، ويعتقد بعض علماء
النفس أن تلك المعلومات يستديم وجودها في تلك الذاكرة؛ بمعنى أنها لا تزول
بمرور الوقت، والحقيقة أنه قد تزول وتتشوه بعض أجزائها، إلا أن الجزء الأكبر
يبقى على سبيل الدوام. ويجب التنبيه إلى أن عدم استرجاع معلومة من تلك
المعلومات في لحظة معينة لا يعني عدم وجودها، وإنما يعني فقط عدم مناسبة
طريقة الاسترجاع، ولوجود اضطرابات نفسية معينة.
وتمر آلية التذكر بالمراحل التالية:
1- استقبال المعلومة المراد تخزينها في أيٍ من أقسام الذاكرة وفق ما سبق
تفصيله، ويجب أن تتعود على التركيز عند استقبالك للمعلومات.
2- ترميز تلك المعلومة وذلك بإعطائها رمزاً معيناً تستدعى من خلاله عند
الحاجة إليها، وتعتبر هذه المرحلة الأخطر والأهم؛ فكلما كان ترميزك للمعلومة
أدق وأوضح كلما استطعت أن تخزّن المعلومة لمدة أطول وتسترجعها بطريقة أسرع.
هل تتذكر من قتل الآخر ... قابيل أم هابيل؟ قد تتذكر بسرعة وقد لا تتذكر
بسرعة، بل قد لا تتذكر مطلقاً؟ ! لكن أرأيت لو أنك تعوّدت على ترميز معلوماتك
بصورة دقيقة، كأن تقول في نفسك عند سماعك أو قراءتك لهذه المعلومة لأول مرة
ومعرفتك بأن قابيل هو القاتل: قابيل هو القاتل.. ق ق (البدء بحرف القاف) ، هل
تعتقد انك ستنسى تلك المعلومة؟ ! وخذ مثالاً آخر.. عند استماعك للرقم الجديد
لهاتف صديقك حاول ترميزه بشكل منطقي، فبافتراض أن الرقم هو 1545/240.. سيبدو لك ذلك الرقم صعباً في البداية! لكن ماذا لو قلت 240 ... قبل وفاة الإمام
أحمد رحمه الله بسنة واحدة، 1545 ... بينه وبين نهاية الحرب العالمية الثانية
400 سنة! ! وكذلك بالنسبة للتواريخ، فإنك تستطيع أن تثبت تواريخ معينة في
كل قرن أو قرنين لتصبح كالأوتاد الذهنية التي تشد بها غيرها.
ومن طرق الترميز الجيدة استخدام الصور الذهنية، فمثلاً: هب أنك تريد
شراء قلم ودفتر من المكتبة، وخبز وقشطة ولعبة لطفلك الصغير من الدكان، فإنه
يمكنك حينئذ أن تتخيل نفسك أنه بعد تناولك للإفطار قمت بكتابة موضوع عن لعب
الأطفال! !
3- تخزين المعلومات في خلايا الذاكرة التي يبلغ تعدادها ما يقارب 10
مليارات خلية، كل خلية تستوعب 100 ألف معلومة! ! كما دلت الدراسات
المعاصرة المتخصصة على أن الإنسان في المتوسط يخزّن 15 تريليون معلومة..
فما أعظم الخالق عز وجل وما أجهلنا بقدراتنا! !
4- استدعاء المعلومة المطلوبة من خلال رمزها.
وثمة نوعان للذاكرة هما:
1- الذاكرة الدورية: وهي التي تعتمد على الترداد والتكرار وهي مفيدة في
حفظ النصوص المختلفة.
2- الذاكرة المنطقية: وهي التي تعتمد على الترتيب والربط المنطقيين، كما
في الأمثلة السابقة، ويجب أن تفعّل دور هذه الذاكرة بقدر استطاعتك.
وأخيراً لماذا ننسى؟
ثمة أسباب أربعة بل خمسة تؤدي إلى النسيان هي:
1- ضعف انطباع المعلومة (الصورة الذهنية) في الذاكرة لضعف التركيز!
2- عدم تثبيت المعلومة بعد تخزينها إلا بعد وقت طويل.
3- تداخل المعلومات بعضها على بعض.
4- طرد المعلومات غير السارة (الكبح في علم النفس) !
5- تجاهل ما أوصى به (وكيع) من ترك المعاصي! !
سيكيولوجية التفكير:
التفكير عملية ذهنية تتأثر بالعامل النفسي سلباً أو إيجاباً، وبمدى الاقتناع
بالقضية محل التفكير، فإذا ما تمتع الإنسان بصحة نفسية رائقة حال تفكيره في
قضية توافرت أسباب اقتناعه بها، فإنه يندفع للتفكير فيها بحماس وانفتاح بطريقة
قد توصل إلى الحل المناسب بعد توفيق الله تعالى له، في حين أنه قد يعجز ذلك
الإنسان عن مجرد إقناع نفسه بأهمية استمراره في التفكير في تلك القضية في حالة
اعتلاله نفسياً! ! ويمكن تسمية تلك الحالة بـ «الانغلاق الذهني النفسي» ، وربما
يجد أحياناً أن لا مفر من هجر التفكير حينذاك والانهماك في عمل آخر ريثما تعاوده
صحته النفسية! !
كيف نفكر؟
على الرغم من كون التفكير عمل لا ينفك عنه إنسان حي، إلا أنه حقيقة
معقدة من حيث تفاصيلها وخطواتها، ويتفق علماء الجهاز العصبي على أن الدماغ
الإنساني هو أعقد شيء في كون الله الواسع [6] ، غير أن هذا لا يعني استحالة
الإحاطة العامة بمثل تلك التفاصيل والخطوات بعيداً عن تعقيدات بعض المناطقة،
وسفسطة جُل الفلاسفة التي يمكن تلخيصها بما يلي:
1- وجود مثير في قوالب مختلفة تنجذب إليه عقولنا من خلال حواسنا
(الانتباه) . والعوامل التي تؤثر على قوة ذلك الانتباه ما يلي:
عوامل داخلية: كالدوافع، والقيم، والميول.
عوامل خارجية: كطبيعة المثير وقوته وموضعه ومدى حداثته.
2- ترجمة ذلك المثير في المخ بمساعدة الذاكرة والمخيلة إلى رموز يدركها
العقل (أشخاص، أشياء، معاني) (الإدراك) [7] .
3- إعمال العقل لتلك الرموز من أجل الوصول إلى نتيجة معينة.
ويمكن تقسيم العقل البشري في ضوء العملية الذهنية التي يقوم بها إلى: [8]
أ - العقل الواعي (الوعي) : وعن طريقه يمكننا إدراك الأشياء والمعلومات،
وتخزينها وربط بعضها ببعض على نحو مفيد، واتخاذ القرار بالفعل أو عدمه.
ب - العقل الباطن (اللاوعي) : وهو الذي يتحكم بالوظائف التلقائية
(اللاإرادية) ، وتخزين الأحداث ودفع الإنسان لممارسة ما اعتاد عليه (العادات) .
وهناك تواصل بين الوعي واللاوعي وتكامل في الأدوار.
ومن الشرود ما قتل:
كثير من الناس يشكون من «الشرود الذهني» أثناء تفكيرهم، مع أنهم
يدّعون مجاهدة أنفسهم للظفر بنسبة من التركيز تمكنهم من إنهاء عملية التفكير
بسرعة قبل أن يفترس الشرود بنات أفكارهم! !
فما هو التركيز؟ وكيف نظفر به؟
لا يعني التركيز كما هو شائع أن يبقى العقل عاكفاً على قضية واحدة، أو
حول فكرة واحدة، أو في مكان واحد، وإنما يعني تناول مشكلة أو موضوع
باستمرار ووضعه نصب عيني الشخص حتى يتم التوصل إلى نتائج معينة.
ويرجع أغلب التشتت الذهني إلى عدم الاقتناع بأهمية ما نفكر به، أو إلى أن هناك
ما هو أهم منه [9] .
والآن كيف السبيل إلى التركيز؟
إذا رغبت في اصطحاب التركيز دائماً فعليك:
1- أن تعتاد على التركيز؛ فالتركيز هو عادةٌ قبل أي شيء آخر، كما أن
الشرود عادةٌ! فجاهدْ نفسك وكن صارماً مع الأفكار التي تحاول أن تصدك عن
تفكيرك، وقم بقطع حبالها قبل أن تخنقه، ولا تكن عينك رقيباً يجوب أطراف
المكان ويتعاهد أجزاءه، ولا تكن أذنك جهاز ترصّد للأصوات المشتتة! ! .
2- أن تقتنع بما تفكر به، ثم تختار الوقت المناسب للتفكير.
3- أن ترخي ذهنك وبدنك. وبعضهم يقول بأن عدم الاسترخاء أفضل
للتركيز، وقد يكون الرأي الأرجح أن الناس يختلفون في ذلك، فاختر الأنسب
لك [10] .
وثمة طريقة قد تؤدي إلى التركيز خاصة عند من يعانون من نوبات التشتت
المزمنة، وهي الإمساك بقلم والاستعداد لتدوين أمالي العقل وتدفقات الفكر، وهي
طريقة مجربة استخدمها بعض النابهين، وأشادوا بجدواها وأبانوا عن طيب نتائجها، وقد يشعر من يمسك بقلمه لتدوين أفكاره في حالات خاصة بأنها تتدفق بقوة دافعة، وحينئذ قد يحسن إلقاء القلم والاسترسال في عملية التفكير، ريثما تخف درجة
التدفق، ومن ثم معاودة التدوين، فإن في وسعك أنت تجريبها [11] !
فيروسات يعتل بها تفكيرنا:
ثمة فيروسات خطيرة متناثرة في بيئتنا الثقافية بمنظوماتها المختلفة، أصابت
تفكيرنا بفقر الدم، وأذهاننا بالشلل، وعقولنا بالكساح، مما يظهر أهمية تفعيل جملة
من النصوص الشرعية في عقلنا الجمعي والفردي للاستشفاء والتداوي بها، والتي
من شأنها إجراء عملية (جراحة ذهنية) نتمكن بها من إزالة تلك الفيروسات وإزهاقها، كقوله تعالى في الحث على الثتبت والتحري: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]
[الحجرات: 6] ، وقوله: [إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً] [يونس: 36] ،
وقوله جل وعز في الحث على العدل ومجافاة الهوى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) ] [النساء: 135] ، وقوله تعالى في بيان سبب
المصائب: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]
[الشورى: 30] ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الانتفاش
الكاذب: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قيل: إن الرجل
يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر
بطر الحق وغمط الناس» [12] .
ومع أهمية استحضار هذه النصوص وغيرها وتفعيلها في العقول، يجب
تعاهد تلك العقول بالتربية والإنضاج، والحزم في إزالة ما علق بها من تلك
الفيروسات لسبب أو لآخر، والجرأة في «الإنكار الذهني» على المعتلين
والمتلبسين بها، والديمومة في تذكير الغافلين أو المتغافلين! ! .
ومن أهم هذه الفيروسات ما يلي [13] :
1- التفكير القائم على أساس الهوى (اللاموضوعية) .
2- التفكير القائم على مشاعر الكمال الزائف (الانتفاخ الذهني) .
3- التفكير المستند على المواقف المسبقة (التحيز المسبق) .
4- التفكير المبني على المشاعر وكأنها حقائق ثابتة (المراهقة الذهنية) .
5- التفكير المبني على التمنيات وكأنها توقعات حقيقية (التوهم الذهني) .
6- التفكير المتكئ على العادة (الجمود الذهني) .
7- التفكير الذي يعتقد صاحبه دوماً أن جهة ما مسؤولة عن كل ما يحدث
(عقدة المؤامرة) .
8- التفكير الذي يعتقد صاحبه أنه يستطيع دائماً أن يعرف ما يفكر فيه
الآخرون (الفراسة المتوهمة) .
9- التعميم في التفكير من خلال رؤى محدودة غير كافية (الأرنبة الذهنية) .
10- التردد والبطء في التفكير (السلحفة الذهنية) .
11- التردد والبطء في اجترار الأفكار (الاجترار الذهني) .
التفكير المعلّب:
أصحاب هذا اللون من التفكير هم أولئك الذي يستنتجون قواعد عامة من
حوادث شخصية، أو تجارب ناقصة، أو ملاحظات سطحية، فيخلصون منها إلى
تعميمات متسرعة، وأحكام جاهزة، وقوالب جامدة، وهم لا يعترفون بتغير
الظروف والملابسات، ... وترى الواحد منهم يسألك عن مسألة شائكة ويطالبك
بجواب يتلخص بنعم أو لا! ! ، وإذا خالفته قاطعك، وحسم القضية بقوله: «إن
المسألة كلها تتلخص في ... » ، ثم يصدر حكماً نهائياً ... وربما التفت إليك
مستطيلاً حديثك، مستغرباً عجزك عن حسم المسألة، ومستجدياً عينيك نظرة
إعجاب وإكبار على قدرته الفائقة على الحسم! ! .. إن نتائج تفكير أولئك أشبه ما
يكون بما نخرجه من جوف المعلبات التي نشتريها من الأسواق [14] ! !
تطبيقات عملية:
وقبل أن أعرض للمنهج العلمي في التفكير، ومن أجل استفادة تطبيقية أكيدة
من الموضوع، أرجو أن نفكر (فردياً وجماعياً) بشكل جاد ومكتوب ومتكامل في
إيجاد حل للمشاكل التالية:
التطبيق الأول: اكتشف الأستاذ أحمد مدير التسويق في شركة ناجحة أن ابنه
البالغ من العمر (16) سنة يتعاطى الدخان، وتفاجأ أحمد بمثل هذا الخبر، وبدأ
يتساءل.. حقاً إنها مشكلة خطيرة.. ولكن كيف؟ فأنا لا أتعاطاه ولا أحد إخوته!! ... ومضى في حيرته ... (مع العلم أن أحمد يمنح ابنه مصروفاً مدرسياً قدره
خمسة ريالات يومياً) .
التطبيق الثاني: أذهل الجميعَ ... الأستاذ حسن! كيف يطلب من مديره
الموافقة على انتقاله من القسم الذي خدم فيه طيلة 17 سنة، والذي أتقن جميع
الأعمال المتعلقة به لدرجة أصبح معها مرجعاً ومستشاراً!
حاول المدير ثنيه عن طلبه بحجة عدم وجود من يخلفه في قسمه، بالإضافة
إلى عدم إتقانه لأعمال القسم الآخر..
التطبيق الثالث: طلب المعلم من أحد تلاميذه الذي أخفق في الاختبار كشرط
لاجتياز المادة: أن يرسم خطين متساويين ويضع في طرفي الخط الأول رأس سهم، وفي طرفي الثاني مقلوب رأس سهم، وأعطاه مسطرة. فقام التلميذ برسم هذين
الخطين كما يلي:
<----------------> ... ... ... >-----------------<
... ... ... الأول ... ... ... ... الثاني
صعق المعلم! وصرخ في التلميذ: تستحق الرسوب بجدارة!
هل توافقه على ما ذهب إليه؟ وهب أنه يعنيك أمر ذلك التلميذ.. هل ثمة
مساعدة يمكنك تقديمها له؟ !
ملاحظة: ستتم مناقشة تلك التطبيقات في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) محمد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص666 667.
(2) د إبراهيم أنيس، المعجم الوسيط، مادة فكر، ص698، وانظر: المنجد في اللغة والإعلام، مادة فكر، ص591.
(3) د محمد الشنيطي، أسس المنطق والمنهج العلمي، ص137.
(4) د محمد نجاتي، علم النفس في حياتنا اليومية، ص258.
(5) د عبد المجيد نشواتي، علم النفس التربوي، ص373 402، وانظر جيفري ديدلي، كيف تضاعف قدرتك على الدراسة والنجاح، ترجمة د عمر علي، ص13 46 90.
(6) د/ مالك بدري، التفكر من المشاهدة إلى الشهود، (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، ط3) ، ص26 - 27.
(7) د حمد المليجي، علم النفس المعاصر، ص167 168.
(8) (هذا التقسيم ليس عضوياً فسيولوجياً وإنما هو اصطلاحي من أجل التوضيح) د عيسى الملا، الإنسان والتفكير الإيجابي، ص54 62.
(9) هنري هازليت، التفكير علم وفن، ترجمة د حامد العبد، ص73 80.
(10) كيف تضاعف قدرتك على الدراسة والنجاح، ص96 110.
(11) أرنست دمينة، ترجمة رشدي السيسي، فن التفكير، ص129 132.
(12) رواه مسلم (19) ، أبو داود (4091) ، والترمذي (1999) .
(13) د محمد الخطيب وآخرون، التفكير العلمي، لدى طالب التعليم العام في المملكة العربية السعودية الواقع والطموحات، ص52 53، د جليل شكور، كيف تجعلين ابنك مجتهداً ومبدعاً،
ص65- 67.
(14) د/ رجبسون، كيف تفكر، ص69 - 81.(131/114)
مرصد الاحداث
لماذا المرصد..؟
في هذه الزاوية، تنقل (البيان) للقارئ، أخبار ما أهملته الأخبار، من
الأقوال والأحداث والمواقف.. ننقلها كما هي تقريباً من مصادرها دون تصرف إلا
في وضع العنوان الذي يعبر عن دلالة الخبر ... ... ... ...
- البيان-
وماذا عن حملات القرن العشرين؟ !
فوجئ المارة في منطقة رأس بيروت خلال عطلة الأسبوع بمجموعة من
الأجانب، يستوقفونهم ويقدمون اعتذاراتهم شفهياً وخطياً عن جرائم أجدادهم
الصليبيين الذين غزوا منطقة الشرق الأوسط قبل 900 عام، وارتكبوا المجازر
بحق أهلها.
ومجموعة الأجانب هي الأولى من فريق (مسيرة المصالحة) الذي بدأ زيارة
إلى لبنان مطلع سبتمبر (أيلول) الحالي تمتد إلى مارس (آذار) العام المقبل. أما
دافع هذه الرحلة إلى لبنان التي يقوم بها ناشطون من 25 دولة في أوربا الغربية
وأمريكا وأستراليا وجنوب إفريقيا فهو (التكفير عن ذنب الصليبيين ومدّ يد
المصالحة للاعتذار عن الموت والدمار والاحتلال التي تسببت بها الحملات
الصليبية التي بدأت عام 1095م على الشرق الأوسط، كما أوضح رئيس الفريق
(ماثيو هاند) ، في مؤتمر صحافي عقد في مقر نقابة الصحافة.
وأوضح هاند أن الخطوة الأولى في هذه المسيرة بدأت في فرنسا صيف
1996م وتابعها من ألمانيا حوالي 1000 شخص عام 1997م معظمهم من سلالة
الصليبيين كما أورد هاند فبدأوا بزيارة تركيا حيث قدّموا إلى المسؤولين فيها
اعتذارهم عن جرائم أجدادهم.
ويفترض أن تقابل المجموعة المسؤولين السياسيين والرؤساء الدينيين إضافة
إلى أفراد من الشعب اللبناني على أن تنتهي الحملة في القدس في ذكرى مرور
900 عام على دخول الصليبيين إلى هذه المدينة المقدسة عام 1099م.
... ... ... ... ... ... [الشرق الأوسط، عدد: (7225) ]
ولكن ... لا حياة لمن تنادي!
ذكرت صحيفة (الجارديان) البريطانية أمس أن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون
علم من تقارير أجهزة المخابرات قبيل الهجوم على مصنع الدواء السوداني في
الخرطوم، أن المصنع لا ينتج غاز الأعصاب القاتل، وأنه غير مخصص
للأغراض العسكرية وعلى الرغم من ذلك أصدر أوامره بشن الهجوم عليه.
... ... ... ... ... ... ... [الخليج، عدد: (7036) ]
قرنق والتمويل.. الذاتي..!
نحن نمول أنفسنا من مصادرنا الداخلية، السكان يزرعون ويحصدون
ويبيعون للدول المجاورة، لدينا ثروة خشبية ضخمة، ولدينا الذهب الذي يستخرجه
السكان ونستخدمه في المقايضة، فلا مجلس الكنائس العالمي يمولنا، ولا منظمات
الدعوة الإسلامية تدعمنا، نحن بقينا نحارب على مدى 14 عاماً، وقد تكوّن لدينا
من الأسلحة أكثر مما نحتاج إليه، وفي واقع الأمر أن أول مساعدة عسكرية حصلت
عليها الحركة في عام 1983 1984م كانت من بلدين عربيين لن أسميهما.
... ... ... ... ... ... [مجلة الوسط، عدد: (344) ]
أنموذج من الضياع..
(ديبي بروفي) من منطقة ستريثام في جنوب لندن حانقة على الرجال، كل
الرجال، إلى حد أنها تعتزم الزواج من شجرة. وكانت ديبي قد أعلنت قبل ستة
أشهر عن خطبتها لشجرة في أحد المنتزهات الكبرى جنوبي العاصمة البريطانية،
وقالت إنها والشجرة قد ضاقتا ذرعاً بطول مدة الخطوبة، وأنهما تنتظران بفارغ
الصبر موعد الزفاف وبدء حياة زوجية مستقرة. لكن سبب التأخير هو أن ديبي
متدينة ولا تريد الزواج إلا في كنيسة، ولم تجد حتى الآن كنيسة توافق على عقد
قرانها بالشجرة. وذكرت أنها وقعت في حب الشجرة من أول نظرة، وأنها تحس
في داخلها أن الشجرة تبادلها الحب. ... ...
[الجديدة، عدد: (636) ]
الجماهيرية (الإفريقية) الشعبية..
أطلق الرئيس الليبي معمر القذافي مبادرة لتشكيل تجمع إقليمي لبلدان الساحل
الإفريقي (مركزه في ليبيا ورئيسه القذافي) معلنا بدء مرحلة ثالثة للبحث عن
(المفتاح) الذي يقود إلى بوابة الوحدة وتكريساً لهذا الخيار الإفريقي الجديد سعى
الزعيم الليبي إلى إلغاء وزارة الوحدة. ...
[الحياة، عدد: (12980) ]
عبرة.. لمن؟
التاريخ سيذكر أن الرئيس الأمريكي وقع ضحية لوينسكي التي أنقذت رئيس
الوزراء الإسرائيلي.
[عن صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية الشرق الأوسط، عدد: (7204) ]
عوداً حميداً! !
هناك دلائل على تحول مهم طرأ على موقف الفتيات الأمريكيات من العذرية، إذ بدأن يجاهرن بفخر بالتزامهن عدم ممارسة الجنس قبل إبرام عقد الزواج.
حوالي 50% منهن يتجهن إلى المحافظة على عذرياتهن، كما جاء في أحدث
الاستطلاعات، وهذا ما جعل المراقبين يهتمون بهذه الظاهرة الجديدة، لا سيما أن
الفتاة الأمريكية كانت في الماضي موضع سخرية زميلاتها إن هي حافظت على
عذريتها. تقول الإحصاءات إن عدد المراهقات اللواتي وقعن تعهداً (بعدم ممارسة
الجنس قبل الزواج) جاوز المليون! منذ أن شنت حملة تحت الشعار (الحب الحقيقي
يستحق الانتظار) ... ... ... ... ...
[الحياة، عدد: (12978) ]
أسلحة محرمة على من..؟ !
كشفت صحيفة (هيوستن كرونيكل) النقاب عن أن مصنعاً في ولاية لويزيانا
الأمريكية ينتج (غاز الخردل) السام الذي يعتبر أحد أكثر الأسلحة الكيماوية خطورة
في العالم؛ إذ يكفي سقوط نقطة واحدة منه على بشرة أي إنسان لتسبب وفاته خلال
دقيقة على أبعد تقدير، ويذكر أن معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية التي صدّقت عليها
الولايات المتحدة في العام الماضي تمنع الإنتاج المقصود لكل مشتقات الخردل،
وكشفت الصحيفة عن أن المصنع يستخدم أيضاً مركباً كيماوياً آخر يعرف باسم
(كلوريد الإثيلين) وهو سائل يهاجم الكبد والرئتين والكلى، ويمكن أن يسبب
السرطان أيضاً. ... ...
... [الشرق الأوسط، عدد: (7211) ]
(اسكت يا سكوت..) الوقت غير ملائم
اتهم كبير مفتشي الأمم المتحدة السابق (سكوت ريتر) الحكومتين الأمريكية
والبريطانية بالازدواجية، وقال أمام لجنتي مجلس الشيوخ للشؤون الخارجية
والقوات المسلحة: إن واشنطن لجمت (أونسكوم) بغرض ضغوط على أرفع
المستويات في الحكومة لتجنب مواجهة مفتوحة مع العراق في الوقت الحاضر.
... ... ... ... ... ... [الأنباء الكويتية، 5/9/1998م](131/124)
الورقة الأخيرة
تأملات في المسألة الكلنتونية
عبد العزيز عبد الله الحامد
إن إيقاف أكبر مسؤول في أعظم دولة للمساءلة في تهمة شخصية، يُعَدّ
(مفخرة) للشعب الأمريكي على شعوب العالم، أما أن تزداد شعبية هذا الرئيس
المتهم بعد تلك المساءلة، وبعد ثبوت التهمة عليه، فهذا يجعل من الأمريكيين
(مسخرة) أمام العالم!
إن ما دار ويدور في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب فضيحة (مونيكا
لوينسكي) يجعل المرء يقف مشدوهاً مدهوشاً أمام حقائق كثيرة ماثلة، تبعث على
التأملات التالية:
* قيم بلا قيمة: عندما يطالبنا علماء الاجتماع في الغرب، بأن نعترف بأن
(القيم) الحضارية للغرب هي النموذج الأمثل لسعادة الإنسان، فإنه يحق لنا أن
نطالبهم بالمعايير التي يزنون بها تلك القيم، بعد أن بدأت حقيقتها تظهر بغير خفاء، بعدما فضحتها تقارير (ستار) !
* حرية الفرد ... حرية الشعب: رأينا الحرية الشخصية (المطلقة) في
الغرب، تُطلق إلى حد التحول إلى حرية ملايين البشر في (التمتع) بهتك الأستار
وفضح الأسرار، فلأجل (حرية) الشعب الأمريكي في أن يعرف الحقائق (كاملة) ،
انطلقت جيوش التجسس والتحسس والتلصص لفضح (الرئيس) على الهواء، في
أعمدة الصحف وأروقة القضاء ... وارتفع كلنتون عالياً في فضاء الفضائح،
محمولاً على ساعد تمثال (الحرية) ... ليكون شعلة تحرق الحضارة الأنجلوسكسونية
الإباحية المادية.
* السقوط من القمة: البشرية لم تتعود من قبل سماع لقب (الرجل الأول في
العالم) ، ولكنها ألِفَت أن تسمع عن كلنتون هذا اللقب، ومع هذا، فلا يبالغ من قال
إن البشرية لم تسمع عن فضيحة (متلفزة) بهذه الضخامة والانتشار، وصدق رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ يقول: (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا
إلا وضعه) [1] .
* الستار الفاضح: إذا ساء حظ ابن آدم، ورفع عنه الستر الإلهي، فلا مفر
من شقائه، ولو كان أقوى وأقنى وأغنى البشر؛ فقد يجعل الله ضعفه في قوته،
ونقصانه في سلطانه. ومهانته في وجاهته ... ومن أراد الله هتك ستره؛ لم تُجِنّه
أستار الدنيا، ومن عجائب الأقدار، أن نسمع عن (فضيحة كبرى) عنوانها (ستار) !
* عندما تعمى البصيرة: قد نفهم أن الإنسان يصيبه عمى القلب، حتى
يصبح كفيفاً في بصيرته ولكن عمى البصيرة في أمة بأكملها حتى تفضل قيادة
العميان لها، فهذا أشبه بالاستدراج والإملاء ... فأين العقلاء في أمم تؤله العقل؟
* لا مسؤولية للمسؤول: وُضع كلنتون في أخطر مواقع المسؤولية الدولية،
ففي صلاحياته شن الحرب وفرض السلام في العالم، وتحت تصرفه التحكم في
الترسانات النووية المدمرة، والكيماوية والبيولوجية الرهيبة، ولكن رجلاً قال أطباء
النفس إنه (مريض) حتى إنه لا يستطيع التحكم في نزواته، كيف يمكن أن يتحكم
في أزارير الأجهزة الجبارة التي يمكن أن تؤدي إلى دمار شامل؟
* ديمقراطية الذئاب: أشاحت الديمقراطية (الأمريكية) بأستارها عن وجه
قبيح خلال تلك الأزمة، وأسفرت عن تصارع شرس بأساليب منحطة بين الحزبين
الديمقراطي والجمهوري، حتى برز مصطلح (حرب الفضائح) وأصبح التكالب
على السلطة هو سيد الموقف في غابة التهاوش والتناهش بين الذئاب.
* غانيات اليهود في بلاط السلاطين: من تأمل في حكاية (مونيكا) اليهودية،
يتأكد أنها لم تكن مجرد مغامرات لفتاة لعوب مع كهل مراهق، ولكنها قصة تلك
الغانيات اليهوديات التي تكررت عبر العصور داخل القصور للإيقاع بأشباه الرجال؛ فالبيت الأبيض الذي تلطخ بسموم تلك الأفعى الملساء، لم يشهد مجرد نزوات
عابرة لرغبات طائشة، ولكنه شهد خطوات مبرمجة، ومخططات مدونة ومحددة
باليوم والساعة واللحظة.. وقد شهد على هذا التدبير، حروف وكلمات (مونيكا) في
المذكرات.. أو قل (التقارير) التي قدمت لـ (ستار) .
* عقولهم في جيوبهم: الشعب الأمريكي لا يزال حسب استطلاعات الرأي
متمسكاً بزعامة كلنتون رغم كل ما جرى، لماذا؟ لأن الرجل حر في حياته
الشخصية هذا من ناحية، ثم إن الاقتصاد الأمريكي قد تحسن في أيامه، إذن
فلتخرب القلوب ما دامت الجيوب عامرة!
* إرهاصات السقوط: ليس الرئيس الأمريكي (كلنتون) هو أول الزعماء
تورطاً في الفضائح الأخلاقية، ولن يكون آخرهم، فقد يسقط أو لا يسقط، ولكننا
على يقين بأنه قد دشن مرحلة السقوط لحضارة المجتمع الأمريكي والأوروبي
(المتمدن) . وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أنبأ من قوله: (وما
شاعت الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم
تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) [2] .
فما أعظم الإسلام، وما أجدره بقيادة البشرية البائسة في عصر التشرد
الأخلاقي والتفرد الأمريكي ...
__________
(1) أخرجه البخاري ح (2872) ، فتح الباري (6/86) .
(2) أخرجه ابن ماجة في الفتن (4019) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (106) .(131/127)
شعبان - 1419هـ
ديسمبر - 1998م
(السنة: 13)(132/)
كلمة صغيرة
الإجرام المسكوت عنه
بينما كان المفتشون الأمريكان المستظلون بعلم الأمم المتحدة يقومون بالتنقيب
في كل أرجاء العراق على مدار الساعة لسنوات سبع بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل
العراقية، أو ما يمكن أن يدخل فيها، فاحت رائحة فضيحتين تكمل إحداهما
الأخرى. الأولى: تنسيق فرق التفتيش الوثيق مع المخابرات الإسرائيلية. والثانية: ... انكشاف حقيقة حمولة طائرة الشحن الإسرائيلية التي تحطمت في هولندا قبل ست
سنوات.
لقد كانت حمولة الطائرة أطناناً من المواد الكيميائية اللازمة لتصنيع غاز
الأعصاب المميت والمنقولة من أمريكا إلى (إسرائيل) عن طريق هولندا. وإذا كان
من المنطقي أن تخفي أمريكا و (إسرائيل) حقيقة الحمولة فإن ما يصعب فهمه هو
كيفية مشاركة الحكومة الهولندية التي أدى الحادث إلى خسائر فادحة في أرواح
مواطنيها وخداع الناس في منطقة الحادث الذين فهموا بعد انكشاف اللغز علة وجود
رجال إنقاذ غير هولنديين في مكان الحادث وانتشار مرض الاكتئاب في المنطقة.
إن انكشاف السر بعد ست سنوات يطرح السؤال الآتي: كم هي جرائم اليهود التي
تحتاج إلى فضح؟ وما هو دورنا في ذلك؟ وهل نترك الأمر فقط على كاهل
مجموعة من الأفراد القلائل في الغرب ممن يملكون الشجاعة لمواجهة سيطرة اليهود
شبه الكاملة على بلادهم؟
إن الجواب البدهي هو أن دعمهم ومشاركتهم بجدية في هذه المهمة ضروري
للتعجيل في ارتخاء قبضة اليهود ورفع مظلة الحماية العالمية عن الإجرام اليهودي.(132/1)
الافتتاحية
محنة كوسوفا مع الغرب..
أنه الخصم والحكم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
لو كانت كفاءة الصرب في القتال الجاري مثل كفاءتهم في ارتكاب المجازر
ضد العزل من المدنيين سواءاً كانوا رجالاً أو نساءاً، صغاراً أو كباراً لما احتاج
الغرب للتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصالح الصربية في البوسنة، حتى ولو
كان لديهم القليل من الحنكة السياسية ولما وصلت الأمور لما وصلت إليه في كوسوفا.
لقد كانت أحداث البوسنة درساً وعاه الغرب جيداً؛ فقد هيأت الظروف
للصرب ابتلاع مناطق المسلمين في البوسنة، فمنع عن المسلمين السلاح، ولم
يسمح للدول الإسلامية في البداية أن تقوم بأي دور ولكن استمرار الحرب بالمجازر
الرهيبة التي ارتكبت في حقهم وتدمير مدنهم أوجد حالة شديدة من التعاطف الشعبي
معهم جاوز المسلمين إلى غيرهم، ونجحت مجموعات كبيرة من المسلمين في
التسلل إلى البوسنة والمشاركة الفعالة في مواجهة الصرب، بل وأسهمت حكومات
إسلامية بتسليح المسلمين؛ وهنا بدأ الميزان العسكري يتغير، وباتت هزيمة
الصرب قاب قوسين أو أدنى، وأصيبوا بحالة من الانهيار جعل أمريكا تسارع إلى
فرض ما يسمى بـ (اتفاقية دايتون) التي أقرت الصرب على المناطق التي احتلوها
في بداية الحرب، وفرضت على المسلمين كياناً مشتركاً مع الكروات، وبدأت في
محو الآثار السلبية للموقف الأوروبي فكان الهم الأول لأمريكا إخراج المجاهدين
العرب من البوسنة، بل الطلب الصريح من حكومة البوسنة بإبعاد الضباط
المسلمين الذين نجحوا في إقامة جسور تعاون مع بعض الدول الإسلامية. وتُطبخ
الآن على نار هادئة عملية تخفيف الوجود الإسلامي في البوسنة عن طريق تشجيع
هجرة المسلمين من جهة، وعدم السماح للاجئين بالعودة إلى مناطقهم السابقة.
إن الإخفاق الصربي في التعاطي مع أحداث البوسنة جعل أمريكا تتدخل منذ
البداية في كوسوفا لتفرض على الصرب العمل بصورة منطقية مع الوضع حتى لا
يخرج عن السيطرة.
إن التدخل الغربي الحاصل رغماً عن الصرب وحلفائهم الروس هو في النهاية
في صالح الصرب؛ حيث إن الغرب لم يعد قادراً على تكرار المخطط نفسه الذي
جرى تنفيذه في البوسنة؛ لأن الوضع أكثر تعقيداً في كوسوفا؛ ولأن الوجود
الصربي في الإقليم أقل من عشرة في المئة بينما الألبان المسلمون يمثلون 90% من
السكان بالإضافة إلى أن الألبان موجودون في المنطقة المحيطة بالإقليم ولهم دولة.
لقد كانت كوسوفا هي الباب الذي ولج منه (سلوبودان ميلوسيفتش) إلى
الزعامة المطلقة للصرب؛ فبصفته رئيساً لجمهورية صربيا الداخلة ضمن جمهورية
يوغسلافيا الاتحادية السابقة فقد قام بزيارة جمهورية كوسوفا التي تتمتع بالحكم
الذاتي ضمن صربيا، وأعلن بمناسبة مرور 600 سنة على هزيمة الصرب في
كوسوفا ضم كوسوفا إلى صربيا وطرح نفسه منقذاً لقومه ومحققاً لآمالهم في إقامة
صربيا الكبرى.
إن إلغاء ميلوسيفتش لقرار اتحادي والخوف من تسلط الصرب دفع رؤساء
الجمهوريات الأخرى إلى التعجيل بالانفصال عن الاتحاد مما أدى إلى دخول
المنطقة في دوامة من الحروب كان أشدها وآخرها حرب البوسنة منذ عام 1989م.
وحتى انفجار الأوضاع في كوسوفا فإن السياسة الصربية في هذا الإقليم كانت تقوم
على محاولات عقيمة لإلغاء وجود 90% من السكان المسلمين.
إن مأساة ألبان كوسوفا الأولى هي عدم اعترافهم بضم صربيا لهم، ومن ثمّ
إعلانهم عن تشكيل حكومة لهم لم تعترف بها بلغراد، بل ولم يكلف الصرب أنفسهم
حتى عناء إجراء حوار مع الألبان؛ حتى تحول خيار كثير من الألبان إلى الخيار
العسكري عوضاً عن الخيار السياسي وكذلك التوجه إلى خيار الاستقلال عوضاً عن
الحكم الذاتي، حتى إن السياسي المعتدل إبراهيم روجوفا يتحرج من الرضى في
الظروف الحالية بالحكم الذاتي.
إن قيام جيش تحرير كوسوفا بإعلان خيار العمل العسكري من أجل الاستقلال، وقلة نسبة الصرب في الإقليم دفع الصرب لإرسال أعداد كبيرة من الشرطة
والجيش الصربيين الذين قاموا بما يتقنونه من قتل المدنيين وإحراق البلدان والقرى
لإرغام الألبان على الهجرة، وكانت المفاجأة أن 80% من المهجرين انتقلوا إلى
أماكن أخرى داخل الإقليم بالإضافة إلى أن الاستمرار بهذه السياسة سيؤدي إلى
انفجار الأوضاع في كل المنطقة.
إن التغاضي الغربي حيال كوسوفا بعد الاستفادة من دروس البوسنة يقوم على
المحاور الآتية:
1- إن كوسوفا الألبانية المسلمة التي أهداها الغرب لصربيا في بداية هذا
القرن يجب أن تبقى جزءاً من صربيا الكبرى.
2- إن الظروف الحالية تقتضي تمتع الإقليم بالحكم الذاتي؛ ولهذا فقد تم
إطلاق يد الصرب مؤقتاً من أجل إضعاف جيش تحرير كوسوفا، ولهذا أيضاً قام
الجيش بتركيز العمليات على الحدود الألبانية مع الإشارة إلى احتمال انتشار قوات
أطلسية على الحدود.
3- قيام الغرب بمنع تدخل أي دولة من العالم الإسلامي؛ ولهذا فقد سمعنا
عنتريات الأتراك العلمانيين في بداية الأزمة وتهديدهم بالتدخل ثم تحولت العنتريات
إلى سورية فيما بعد.
4- الحرص على عدم بروز أي وجهة إسلامية للصراع في كوسوفا وحصره
في الجانب القومي؛ وهذا ما يردده قطاع كبير من الإعلام العربي بكل خبث أو
بلاهة.
5- التضييق على النشاطات الإغاثية الإسلامية في المنطقة، ومطاردة بعض
الإسلاميين في ألبانيا خوفاً من بروز تيار جهادي يقلب الموازين.
6- إن فرض الرؤية الغربية على الصرب يحتاج إلى حوار سياسي معهم
بالإضافة إلى التلويح باستعمال القوة بصورة استعراضية مع الحذر من إمكانية
استفادة الألبان منها؛ وكما يقول مسؤول أمريكي كبير: نحن لا نريد أن نصبح
سلاح جو للكوسوفيين!
7- إن الغرب حريص على تهدئة الوضع مع عدم حصول الألبان على
الاستقلال، ولهذا فإن موافقة الألبان ليست ضرورية لحصول اتفاق مع الصرب؛
ومن الأمثلة الاتفاق على إرسال بعثة للتحقق من الانسحاب الصربي والعمل على
تثبيت الأوضاع مما يعني أن يحل حلف الأطلسي محل الصرب في مهمة حفظ
تبعية كوسوفا لصربيا.
8- اللعب على التناقضات بين الألبان من السياسيين وجيش تحرير كوسوفا
فمن ناحية يتم الضغط على (روجوفا) للتفاوض مع الصرب مع إعطاء الضوء
الأخضر لحملة عسكرية عنيفة على جيش تحرير كوسوفا لإضعافه وإخراجه من
اللعبة.
وفي الختام فإن تهمة دعم الإرهاب جاهزة لأي دولة أو منظمة إغاثية أو
دعوية تقوم بأي حركة لم يأذن بها الغرب؛ حتى إن بعض الدول تتصنع عدم
المبالاة بما يجري خوفاً من هذه التهمة الجاهزة.
هذه عينة من مواقف الغرب مع المسلمين لمسناها، في فلسطين والبوسنة
وقبرص وغيرها وغيرها؛ فمتى نعي ذلك الواقع؟
ومتى نعد للأمر عدته؟
وكيف لا نكون كالجسد الواحد يشد بعضه بعضاً؟
والله سبحانه يقول: [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] [الممتحنة: 2] .
نسأل الله أن يرينا في أعدائنا يوماً أسود، وأن يجمع قلوبنا على الحق، وأن
يوفقنا للتعاون على البر والتقوى.
والله المستعان،،،(132/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الظلم ...
حقيقته، والتحذير منه
(1/2)
عبد العزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا
محمد وآله وصحبه، وبعد: فإن الناظر اليوم في أكثر بلدان المسلمين وأحوالهم
ليحزنه ما ظهر في هذا الزمان من نبذ لشريعة الله عز وجل وتحاكم إلى القوانين
الوضعية التي تقنن الظلم وتهدر قيمة الإنسان، وتحطم القيم والأخلاق وتجعل الناس
مستعبدين لحفنة من شياطين الإنس الذين كرهوا ما أنزل الله تعالى فظلموا وبغوا في
الأرض بغير الحق، وكثرت من جراء ذلك المظالم بين الناس؛ حيث لا رادع من
دين ولا سلطان، وبغى الناس بعضهم على بعض وامتلأت المحاكم ودور القضاء
من خصومات الناس ومظالمهم. ولم يقف هذا الداء العضال عند عامة المسلمين
وسلاطينهم فحسب، بل تعداهم إلى بعض أهل الخير والدعوة فيهم، فظهرت صور
من البغي والظلم بين بعض الدعاة والصّلاّح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
وفي هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ذكرٌ لبعض صور الظلم الشائعة في هذا
الزمان؛ لعل في ذكرها نصيحة وعظة لنفسي وإخواني المسلمين.
وأبدأ الموضوع بمقدمة مهمة تتضمن تعريف الظلم وحقيقته وما ورد في ذمه
من بعض الآيات والأحاديث والآثار.
كما تتضمن بيان أقسام الظلم وما يتفرع عن كل قسم من بعض الصور
والمظاهر.
تعريف الظلم وحقيقته:
(الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه
المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه، ومن هذا يقال:
ظلمت السقاءَ، إذا تناولته في غير وقته ويسمى ذلك اللبن ظليماً. وظلمت الأرض: حفرتها ولم تكن موضعاً للحفر، وتلك الأرض يقال لها: المظلومة، والتراب
الذي يخرج منها ظليم) [1] اهـ
وفي القاموس المحيط: (الظلم بالضم: وضع الشيء في غير موضعه) [2] .
وفي ضوء هذه التعريفات يتبين لنا أن كل ذنب عُصي الله به سواء كان ذلك
الذنب شركاً بالله عز وجل أو دون ذلك من سائر المعاصي ومظالم العباد، داخل في
مسمى الظلم؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه الذي يرضاه الله عز وجل مع
التفريق بين ظلم أكبر وظلم دون ظلم؛ كما سيتبين في المبحث الآتي إن شاء الله
تعالى.
والظلم مصدر ظَلَمَ، والذي يفهم من لفظ الظلم وجود ظالم صدر منه الظلم،
ومظلوم وقع عليه الظلم، فمن هو الظالم ومن هو المظلوم في ضوء الكتاب والسنة؟
إنه هذا الإنسان المسكين؛ فهو الظالم والمظلوم؛ حيث ظلم نفسه وأوبقها،
وظلم عباد الله عز وجل فأساء إليهم وأساء إلى نفسه وظلمها بما يعرضها له من
العقوبات في الدنيا والآخرة. قال الله عز وجل: [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أََنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ] [البقرة: 57] وقال سبحانه: [سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ] [الأعراف: 177] وقال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ
شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] [يونس: 44] .
والآيات الواردة في ذم الظلم وأهله كثيرة جداً ومتنوعة، ويمكن تقسيمها إلى
المجموعات الآتية:
1- ما ورد في وصف الشرك والكفر بالظلم والمشركين والكافرين بالظالمين
ومنها قوله تعالى: [يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13]
وقوله تعالى: [وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] . [البقرة: 254]
2- ما ورد في ذكر خيبة الظالمين ومقت الله لهم وعدم هدايتهم وتوفيقهم يقول
تعالى: [إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] [الأنعام: 21] [فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]
[المؤمنون: 41] .
3- ما ورد في ذكر إهلاك الله تعالى للظالمين في الدنيا وما أعده لهم من
النكال والعذاب في الآخرة. يقول تعالى: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ
ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] [هود: 102] وقوله تعالى: [وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا
عَذَابَ النَّارِ الَتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ] [سبأ: 42] .
4- ما ورد في وصف ما دون الشرك من المعاصي بالظلم سواء ما كان منها
بين العبد وربه أو ما كان ظلماً للعباد ومنها قوله تعالى: [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ] [الطلاق: 1] وقوله تعالى: [إنَّ الَذِينَ يَاًكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا
يَاًكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] . [النساء: 10]
5- ما ورد في تنزيه الله تعالى نفسه عن الظلم، وأمره سبحانه بالعدل،
ومحبته للمقسطين يقول تعالى: [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ] [غافر: 31] ، وقوله
تعالى [وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] [الحجرات: 9] .
أما الأحاديث الواردة في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين فكثيرة جداً أقتصر
منها هنا على بعض الأحاديث التي وردت في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين بعامة. ويلاحظ أن معظم هذه الأحاديث كانت تتوجه إلى صورة واحدة من صور الظلم
ألا وهو ظلم العباد والاعتداء على حقوقهم.
ومن هذه الأحاديث العامة ما يلي:
الحديث الأول:
عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: قال الله تبارك وتعالى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على
نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا ... ) الحديث القدسي [3] وكان
أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
الحديث الثاني:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [4] .
الحديث الثالث:
عن أبي معبد مولى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- بعث معاذاً إلى اليمن فقال: ( ... واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين
الله حجاب) [5] .
الحديث الرابع:
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] [هود: 102] [6] .
وبعد هذه الأحاديث أذكر جملة من مواقف السلف رحمهم الله تعالى من الظلم،
وخوفهم الشديد من سوء عاقبته في الدنيا والآخرة:
* قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن أبي سَبْرة، عن عبد المجيد بن سُهيل،
عن عوف بن الحارث: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت:
قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك كله وحلّلك الله من ذلك، فقالت: سررتِني سرك الله. وأرسلت إلى
أم سلمة، فقالت: لها مثل ذلك [7] .
* وعن أبي الدرداء قال: (إياك ودعوات المظلوم؛ فإنهن يصعدن إلى الله
كأنهن شرارات من نار) [8] .
* وقال ميمون بن مهران: (الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء) [9] .
* وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على
العباد) [10] .
أقسام الظلم:
يتفاوت الظلم من حيث شدته وعظمه وشناعته ومن حيث الجهة التي وقع
عليها، مع أن من صدر منه الظلم هو في حقيقته ما ظلم إلا نفسه؛ لأنه أوبق نفسه
بظلمه لها بالمعاصي ومظالم العباد.
وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث اختلف العلماء في صحته؛
فمنهم من ضعفه ومنهم من صححه، لكنه يُستأنس به في هذا المجال وبخاصة أنه
صحيح المعنى، وقد اعتمده كثير من السلف في ذكر أنواع الظلم وصوره. ونص
الحديث: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الظلم ثلاثة:
فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه؛ فأما الظلم الذي لا يغفره الله
فالشرك، قال الله: (إن الشرك لظلم عظيم) ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد
أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم
بعضاً حتى يدير لبعضهم من بعض) [11] .
وفي ضوء هذا الحديث وما ذكره العلماء حول أنواع الظلم فإنه يمكن تقسيم
الظلم إلى قسمين كبيرين يندرج تحتهما أنواع الظلم الثلاثة المذكورة في الحديث،
وهذان القسمان هما:
1- الظلم الأكبر: وهو ظلم العبد نفسه بالكفر والإشراك بالله عز وجل.
2- الظلم الأصغر: وهو ما دون الشرك، وهو نوعان:
(أ) ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين الله عز وجل.
(ب) ظلم النفس بمظالم العباد والتعدي على حقوقهم.
والكلام الآن حول هذه الأنواع الثلاثة:
1- ظلم النفس بالظلم الأعظم؛ وهو الإشراك بالله عز وجل.
2- ظلم النفس بظلم العباد.
3- ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين ربها عز وجل [12] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
(والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله
منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وديوان لا يترك الله
تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً؛ فإن الله تعالى يستوفيه كله،
وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فإن هذا
الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً؛ فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات
الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك؛ فإنه لا يمحى إلا
بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها،
ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرّم الجنة على أهله، فلا
تدخل الجنةَ نفسٌ مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد؛ فإن التوحيد هو مفتاح بابها،
فمن لم يكن معه مفتاح لم يُفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن
الفتح به) [13] .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: [فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ
بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 81، 82] .
(قال الله تعالى فاصلاً بين الفريقين: (الذين آمنوا ولم يلبسوا) أي: يخلطوا
(إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأمن من المخاوف، والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم.
فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً، لا بشرك، ولا بمعاصي، حصل لهم
الأمن التام، والهداية التامة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم
يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم
كمالها. ومفهوم الآية الكريمة: أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم
هداية، ولا أمن بل حظهم الضلال والشقاء) [14] .
والحاصل مما سبق أن من كان ظلمه من جنس الظلم الأعظم والذي هو
الشرك بالله عز وجل والكفر به سبحانه ومات منه بلا توبة فقد خاب الخيبة الأبدية، وحرم مغفرة الله عز وجل وجنته، ومأواه جهنم خالداً فيها وبئس مثوى الظالمين.
ومن كان ظلمه دون ذلك فإنه يسلم من الخلود في النار بما معه من الإيمان. ولكن
إن كان ظلمه هذا متعلقاً بحقوق العباد ومات دون أن يرد الحقوق إلى أهلها فإن
أمامه القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وقد يتعرض بسبب ذلك للعذاب
والتطهير. وإن كان ظلمه لنفسه بمعاصي بينه وبين الله عز وجل ومات منها بلا
توبة، فإن كانت من الصغائر فإنها تكفرها الصلاة والقيام والحج وغيرها، إذا
اجتنبت الكبائر وإن كانت من الكبائر فإن صاحبها تحت المشيئة إن شاء الله عاقبه
بها، وإن شاء عفا عنه بنحو الأسباب التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في
مجموع الفتاوى [15] ، ومن ذا الذي يقطع بمغفرة الله عز وجل؟ ومن ذا الذي
يطيق ولو لحظة واحدة في نار جهنم؟
وبعد هذه المقدمة عن الظلم وأقسامه نفصل القول إن شاء الله تعالى في ذكر
جملة من الصور المختلفة لكل قسم من أقسام الظلم، وبخاصة ما ظهر منها وشاع
في زماننا اليوم لعلنا نحذرها أو نتخلص منها إن وجدنا أنفسنا قد تلبسنا بها. وهذا
موضوع الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، ص: 513.
(2) القاموس المحيط: ص 1464.
(3) جزء من حديث رواه مسلم (2577) في البر والصلة.
(4) مسلم (2578) في البر والصلة باب تحريم الظلم.
(5) البخاري، كتاب المظالم، (5/121، 2448 الفتح، ومسلم بأطول منه (19) كتاب الإيمان باب الدعاء.
(6) البخاري في التفسير (4686) ، ومسلم في البر والصلة (2583) .
(7) سير أعلام النبلاء، 2/322.
(8) سير أعلام النبلاء، 2/350.
(9) مساوئ الأخلاق، للخرائطي، ص279.
(10) سير أعلام النبلاء، 10/41.
(11) البزار (3439) من حديث أنس، وقد جاء بنحوه عن غير واحد من الصحابة انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته، 2/734 (3961) وقد قال عنه الألباني: حديث حسن، وذكره أيضاً في الأحاديث الصحيحة، 1957 وانظر مجمع الزوائد (10/248) .
(12) تم الاعتماد في هذه التقسيمات على تناول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للموضوع في كتابه القيم (الإيمان) ، تحقيق العلاّمة الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو بحث نفيس في بابه، ص75- 79.
(13) الوابل الصيب ص 33، ت: محمد عبد الرحمن عوض.
(14) تفسير الكريم المنان (2/39) .
(15) ارجع لمعرفة هذه الأسباب إلى مجموع الفتاوى (7/487 501) .(132/8)
قضايا ثقافية
التفكير العلمي والإبداعي..
كيف تكون علمي التفكير؟
(2/3)
عبد الله بن عبد الرحمن البريدي
التفكير نعمة ربانية اختص الله بها الإنسان، فإن كان تفكيره سليماً ومستقيماً
هداه إلى معرفة الله وعبادته على بصيرة. وفي الحلقة الأولى تناول الكاتب مقدمات
عامة تطرق فيها إلى ماهية التفكير، وكيف يفكر الإنسان، وآلية التفكير، وكيف
يعتل التفكير.
ويواصل الكاتب أبعاداً أخرى في صلب الموضوع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
أهمية التفكير العلمي وخصائصه:
تكمن أهمية التفكير العلمي في نتائجه وثماره، وتتجلى في خصائصه وميزاته، وتنبثق من منهجه وآليته؛ فهو يؤدي إلى الوصول إلى الحل المناسب بعد توفيق
الله تعالى في الوقت الملائم وبتكلفة أقل. ويمتاز بأنه:
1- تفكير واضح المنهج، مترابط الخطوات.
2- تفكير موضوعي.
3- تفكير منطقي.
4- تفكير هادف.
إنه باختصار تفكير واعٍ، منظّم، منطقي، واضح، إنه تفكير: ماذا؟ ..
ولماذا؟ ... وكيف؟
قد لا يدرك أهمية التفكير العلمي من لم يتفحص طريقته في التفكير، ومن لم
يعش ضمن منظومة اجتماعية يفكر أفرادها علمياً، كما قد لا يستشعر أهميته من لم
يتلبس بمنهجية التفكير العلمي يوماً من الدهر ولم يذق طيب ثمارها. وقد لا يقتنع
البعض إلا بالتطبيق والمثال؛ وهذا أمر طبيعي، مما يحتم مزج الطرح النظري
بالتطبيق.
منهج التفكير العلمي:
يتمخض عن التفكير إزاء مشكلة معينة أو مشروع معين قرار ما، بمعنى أن
المفكر في الأغلب عندما يكدّ ذهنه في التفكير فإنه لا يخلو من حالتين:
إما تفكير في مشكلة ماضية أو قمة أو متوقعة.
أو في مشروع معين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه قد يفكر الإنسان في موضوعات جزئية كالتفكير
في العلاقة بين قضيتين، وهذا ما يخرج في نظر البعض عن الحالتين السابقتين،
وبالتأمل نجد أن مثل هذا التفكير عادة ما يكون حلقة في منظومة تفكير متكاملة إزاء
مشكلة أو مشروع معين، وإن لم يكن كذلك، فالمنهج العلمي يشدد على أهمية أن
يستحضر صاحب التفكير في مثل ذلك الموضوع الأهداف التي دفعته إلى التفكير،
مع إمكانية وضرورة الاستفادة من المنهج الخاص بالحالتين السابقتين.
ومن أجل وضوح أشد في المنهج، وثمرة أطيب في النتائج فإنه من المناسب
أن تفرد كل حالة بمنهج خاص، وفق ما يلي من تفصيل نظري وإيضاح تطبيقي: (أ) التفكير في حل مشكلة معينة:
دخلتُ ذات يوم المنزل بخطى استعجلها صوت والدتي: إخوتك جميعهم قد
ناموا! وماذا في ذلك؟ الصغار استيقظوا من النوم ليجدوا الباب مقفلاً ... والكبار
أصابتهم نومة أهل الكهف. بدأنا نصرخ جميعاً: قوموا.. انهضوا.. استيقظوا..
لا أحد يجيب غير الصغار وبصراخ يتزايد.. أصابتني رعشة أحسست معها بأنني
أفكر بطريقة بدائية! ! يممت وجهي شطر زاوية من الزوايا.. وأخذت أسائل نفسي..
ما المشكلة؟ وما أسبابها؟ وماذا أريد بالضبط؟ وكيف أصل إلى ما أريد؟
إذاً من المهم جداً ونحن نفكر أن ندرك كيف نفكر (ما وراء التفكير) ؟ !
المشكلة انحباس الصغار داخل الغرفة ... والسبب هو إغلاق الباب بالمفتاح
وعدم استيقاظ الكبار لفتحه.. وما أريده هو إخراج الصغار بسرعة لئلا يتأثروا
نفسياً.. فما هو الحل؟ !
إما كسر الباب.. أو إيصال صوتنا بطريقة توقظ الكبار.. كسر الباب يبدو
أنه مزعج ومكلف والحالة لا تستدعيه.. إذاً فالحل المناسب الثاني؛ ولكن كيف؟
الغرفة في الطابق العلوي ولكن نافذتها مفتوحة.. لماذا لا أسجل صوتي في شريط
كاسيت ثم أقوم بإنزال جهاز المسجل من أعلى المنزل إلى النافذة ... حل معقول!
نجحت الفكرة بإيقاظهم من جراء الصوت المتطاير من الجهاز..
قصة ليست من نسج الخيال، قصدت من إيرادها فهم خطوات التفكير العلمي
بعمق، والتأكيد على منطقيتها وسلامة نتائجها بعد توفيق الله تعالى، والإشارة إلى
أنه يمكن للواحد منا أن يفكر علمياً بسرعة جيدة متى عوّد نفسه على المنهج العلمي
وتمرّس عليه ...
إذاً فعند تفكيرك في مشكلة معينة يجب اتباع الآتي:
1- تحديد المشكلة بدقة وتعرية أسبابها (بماذا تفكر) .
2- تحديد الهدف من حل المشكلة (لماذا تفكر) .
3- تحديد البدائل (الحلول) الممكنة (كيف تصل لما تريد) .
4- اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه. (كيف تصل إلى ما تريد على
أفضل وجه) .
قبل المضي قدماً أرجو أن تعيد قراءة الخطوات السابقة مرة أخرى..
والآن من المناسب أن أتعرض لهذه الخطوات على نحو مفصّل كما يلي:
1- تحديد المشكلة بدقة وتعرية أسبابها:
(أ) تحديد المشكلة بدقة:
ما هي المشكلة؟ وكيف يُشعر بوجودها؟ ولماذا تُحدد؟ وكيف؟
بعبارة بليغة موجزة يعرّف د. سيد الهواري المشكلة بأنها: (انحراف الواقع
عما يجب) [1] ، وهذا التعريف إن إردنا أن يتضمن المشكلة الماضية والمتوقعة
إلى جانب المشكلة القائمة فيجب أن نقول:
المشكلة هي: (الانحراف عما يجب) .
ولا يمكن أن تشعر بوجود المشكلة إلا من خلال:
* معرفة واقع الحال.
* ومعرفة ما يجب أن يصير إليه ذلك الواقع.
فإذا كان هناك انحراف بين ما هو قائم واقعاً وبين ما كان يجب أن يقوم، فإنه
بإمكانك إدراك أن ثمة مشكلة معينة تحتاج إلى حل.
ويمثل تحديد المشكلة بوابة العبور إلى جزيرة الحلول الملائمة، والقنطرة إلى
الوصفات الناجعة؛ إذ لا وصف للدواء إلا بعد تشخيص الداء؛ وهذا أمر بدهي لا
يعوزه برهان. لقد أجمع علماء الإدارة على أن من أهم أسباب نجاح الإدارة اليابانية
(أو التفكير الياباني) هو التركيز على تحديد المشكلة بدقة، وإمضاء وقت طويل
لتحقيق ذلك بعكس البعض؛ إذ يفترضون دوماً أن المشكلة واضحة لدرجة لا يجوز
معها أن يضيعوا شيئاً من الوقت في تحديدها! مع أنهم في حالات كثيرة يفكر كل
واحد منهم في مشكلة تختلف عن تلك التي يفكر فيها الآخر!
هل اعتاد الواحد منا أن يسأل من يفكر معه عن المشكلة: ما هي المشكلة التي
نفكر فيها؟
ولقد ثبت لديّ بالتجربة العملية أنّ من طالبتهم بالتفكير الجماعي في مشكلة
معينة لم يسأل أحدهم الآخر عما يفكرون فيه؛ مع أنه بسؤالي بعضهم تبين لي أن
البعض كان في الشمال والآخر في الجنوب! أو في الشمال الغربي!
وهنا نتلمس سبباً رئيساً من أسباب إخفاق التفكير الجماعي:
(يفكر بعضنا غرباً وبعضنا الآخر شرقاً!) .
ويجب في حالة التفكير الجماعي أن تكون القناعة بأهمية المشكلة متجانسة،
أو متقاربة، ولا بد أن يكون إلمام المشاركين في التفكير الجماعي بتفاصيل المشكلة
وأجزائها كذلك، كما أنه من البدهي تقارب مستوياتهم الفكرية والثقافية، وإلا فإنه
يجب أن يُصار إلى التفكير الفردي؛ إذ إنه حينذاك يصبح أكثر كفاءة وأعظم
جدوى [2] .
من الأمور المُعِينة على تحديد المشكلة أن توجه مجموعة من الأسئلة لنفسك،
على أن تتناسب مع طبيعة المشكلة، فمثلاً:
ما هو الخلل؟ ما هو النقص؟ ما هو الانحراف؟ ما هو الخطأ؟
ما هو الشيء الذي وقع فيه الخلل؟ وكيف؟
وأين يوجد الخلل في الشيء نفسه؟
متى لوحظ الخلل أول وآخر مرة؟
هل الخلل في ازدياد أم في نقص؟ ماذا كان يجب أن يكون؟ وكيف كان؟
من هو المسؤول عن الخلل؟
هل أنا جزء من المشكلة أم من الحل؟ ؟ ! !
وعندما تتلمس المشكلة يجب أن تفرق بين:
1- المشكلة الظاهرية (العرضية) : وهي تلك التي تبدو في الوهلة الأولى
بأنها هي المشكلة التي يجب حلها، غير أنه بالتركيز والعمق يتبين لك زيفها
ويتعرى خداعها.
في التطبيق الأول: ما هي المشكلة ... أهي تعاطي الابن للدخان [3] !
وفي التطبيق الثاني: ما هي المشكلة.. أهي خسارة ذلك الموظف [4] الجاد في قسمه وعدم وجود من يخلفه فيه؟
وفي التطبيق الثالث: ما هي المشكلة.. أتراها إخفاق الطالب في جعل
الخطين متساويين [5] !
2- المشكلة الحقيقية: وهي ما يجب حلها والتركيز عليها، وهي قد لا تجود
بنفسها لمن أصيب بـ (العجلة الذهنية) وقد تحتاج لكي تكتشفها إلى ارتداء (نظارة
ذهنية ثاقبة) .
في التطبيق الأول: ألا توافق أن المشكلة أعمق من تعاطي الابن للدخان،
وأنها تتمثل بحدوث تغير فكري لدى ذلك الابن، تمخضت عنه رؤية القبيح حسناً؟
وفي التطبيق الثاني: ألا تعتقد أن المشكلة قد تكمن في معاملة مدير القسم
القاسية لذلك الموظف، أو لعدم وجود الحوافز في القسم كما هي في الأقسام الأخرى، أو غير ذلك من المشاكل التي توجد داخل القسم نفسه! !
وفي التطبيق الثالث: ... ألم تسأل نفسك بدءاً عن مدى وجود هذه المشكلة
أصلاً ... لو قمت بقياس الخطين لاكتشفت أنه ليس هناك مشكلة ... فالخطان
متساويان! ألا زلت توافق المعلم؟
ترى كم من المشاكل المتوهمة استهلكتنا فكرياً واستنزفتنا مادياً ونفسياً؟
حواسنا تمارس خداعاً:
إن التطبيق الثالث يبين لنا أن حواسنا قد تمارس خداعاً لنا؛ فكل من يرى
بعينه المجردة الخطين السابقين فإنه يعتقد أن الثاني أطول من الأول! وهذا ما يؤكد
على أهمية التفطن لمثل هذا الخداع من جهة، وعلى أهمية التأكد من مدى وجود
المشكلة التي تعتني بالتفكير في إيجاد حل لها.
حاول أن تقرأ الجملة التالية بصوت مسموع:
عند التفكير في مشكلة معينة يجب أن نتأكد
من من مدى وجودها فعلاً قبل المضي في إيجاد حلٍ لها.
هل لاحظت تكرار من؟ هل قرأت (من) من مدى..؟ أم أنك اكتفيت بمن
واحدة؟
من الطبيعي أن تكتفي بواحدة؛ ذلك أن رؤية عينك تتأثر بما تفكر به ...
فأنت لم تتعود على تكرار حرف الجر مثلاً ... و (لا وعيك) يوحي إلى عينك بعدم
إمكانية مثل ذلك التكرار..
وربما لا نستطيع أن نتغلب دائماً وبشكل تام على مثل هذا الخداع، غير أننا
نستطيع أن نقلل من تأثيره من خلال:
* الاعتماد على أكثر من حاسة؛ فمثلاً يمكننا استخدام العين لإبصار شيء
معين والأنف لشمه في آن..
* عدم الاعتماد على ما تمليه علينا حواسنا فقط، فمثلاً يمكننا القياس الكمي
للشيء ...
* جعل العقل مفتوحاً بحيث لا نستبعد شيئاً..
* التركيز الشديد ...
(ب) تحديد أسباب المشكلة:
وبعد تحديد المشكلة بدقة وصياغتها بعناية، يجب تحديد الأسباب التي أوجدتها؛ ويفضل تصنيف تلك الأسباب وتقسيمها وفق اعتبارات معينة مع ترتيبها وفق
اهميتها، فمن هذه التصنيفات ما يلي:
* أسباب رئيسة وأخرى فرعية.
* أسباب داخلية وأخرى خارجية.
* أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة.
* أسباب مادية وأخرى معنوية.
من الأخطاء الشائعة عند التفكير في الأسباب الاعتقاد بأن هناك سبباً واحداً
لكل مشكلة، في الوقت الذي يكون فيه هناك أكثر من سبب. فتجد بعض الناس
عندما يسألك عن مشكلة انحراف الأحداث مثلاً فإنه يقول لك: ما السبب في
انحراف الأحداث؟ وهو ينتظر منك أن توقفه على سبب واحد، ولذا تجده يتبرم إذا
فصّلت في الأسباب، وربما ينفجر إذا أوصلتها إلى أربعة أو خمسة، أو قمت
بتصنيفها! [6] إن أولئك يوقفون مشاكل بحجم الفيل على رأس دبوس.. إن تلك
الظاهرة التي يمكن تسميتها بظاهرة (دبوس الفيل) تنتشر عادة في البيئات الثقافية
الضحلة، ذلك أن الضحالة؛ تحجب عن أصحابها بعض جوانب الموضوع وربما
أهم زوايا التفكير! ! وبهذه الظاهرة أضحت القضايا الكبيرة عند أولئك مجرد
(بالونات منتفخة) تفتقر فقط إلى ذلك (الدبوس) !
2 - تحديد الهدف من حل المشكلة:
لماذا تفكر في تلك المشكلة دون غيرها؟
قد تقودك الإجابة أحياناً إلى الامتناع عن البدء أو الاستمرار في التفكير في
المشكلة عندما تشعر أن الأهداف التي يمكن تحقيقها بعد حل المشكلة لا تستحق ما
سيبذل في سبيلها من جهد وعطاء..، وتفيد هذه الخطوة إذا عزمت على البدء أو
الاستمرار في التفكير في مشكلة معينة:
* في إضاءة الطريق الذي يجب أن تسلكه لحل المشكلة.
* وفي المساعدة في تحديد كافة البدائل.
* وفي اختيار أفضل البدائل الممكنة؛ وذلك أنها تعد معياراً موضوعياً
للاختيار؛ فالبديل المناسب هو الذي يحقق الأهداف على أفضل وجه كمّاً وكيفاً.
ومن أجل اختيار موضوعي للبديل المناسب، يجب أن:
* ترتب الأهداف طبقاً لأهميتها.
* تعطي لكل هدف وزناً خاصاً (تقييم الأهداف) .
مثال: أحصِ أهدافك تكن موضوعياً أكثر!
بافتراض أن هناك ثلاثة أهداف وبديلين، وتوفرت المعلومات الآتية:
--------------
الهدف ... ... الوزن
--------------------
الأول 5 نقاط
الثاني 3 نقاط
الثالث نقطتان
البديل الأول يحقق الهدفين الثاني والثالث، في حين أن البديل الثاني يحقق
الهدفين الأول والثالث.
مجموع النقاط التي يحققها البديل الأول = 3 + 2 = 5.
مجموع النقاط التي يحققها البديل الثاني = 5 + 2 = 7.
البديل الذي يجب اختياره هو الثاني.
قد تقول إننا لا نستطيع دائماً أن نعطي أهدافنا أوزاناً معينة؛ وهذا صحيح،
ولكن لا أظنك تدّعي عدم استطاعتنا ترتيبها وفق أهميتها، وهذا قد يكفي كمعيار
للاختيار في مثل تلك الحالات.
3 -تحديد البدائل الممكنة:
عند التفكير في البدائل الممكنة يجب اصطحاب الأهداف وتذكرها؛ لأن ذلك
مُعينٌ على توليد البدائل من جهة، وعلى استيعاب كافة البدائل الممكنة من جهة
أخرى.
اشتكى المستأجرون لصاحب العمارة بطء المصاعد في العمارة، وهددوا
بالخروج ما لم يتم استبدالها! خشي صاحب العمارة أن ينفذ المستأجرون تهديدهم
فيخسر ما يدفعونه من إيجارات مرتفعة، فكاد أن يتخذ قراراً بالاستبدال! فاقترح
البعض أن يخفض شيئاً من الإيجار نظير بطء المصاعد، وأشار عليه البعض
بتركيب مرايا في كل طابق عند كل مصعد! في حين بارك الأغلبية قرار الاستبدال
وشجعوه على الإسراع لئلا يخسر!
ما رأيك بهذه البدائل؟ قد يبدو لك أن بعضها غريب وساذج في آن.. أليس
كذلك؟
في هذه الخطوة يجب تسجيل كافة البدائل الممكنة التي تخطر على بالك،
حتى تلك التي قد تبدو لك معالم سذاجتها ومواطن سطحيتها ونقاط ضعفها! لماذا؟
* لأن هذه الخطوة تركز فقط على تسجيل كافة البدائل الممكنة.
* لأنك قد تكتشف أو يكتشف غيرك ممن يشاركك التفكير أن البديل الناضج
هو ذلك البديل الذي سبق اعتباره ساذجاً!
تعد تقنية (العاصفة الذهنية) من التقنيات الجيدة والطرق الناجحة والمجربة في
توليد البدائل. (سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى لاحقاً في الحلقة القادمة) .
4 - اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه:
يجب إخضاع البدائل التي تم تحديدها لدراسة علمية موضوعية يتمخض عنها
تحديد البديل المناسب، من خلال تحديد البديل الذي يحقق الأهداف على أفضل
وجه كمّاً وكيفاً. بمعنى أن هذه الخطوة تعادي نظرية: (أنا لا أرتاح نفسياً لهذا
البديل) واضطرابها! !
في الحالة السابقة اقتنع صاحب العمارة بضرورة عرض المشكلة على مكتب
استشاري، فقام المكتب بدراستها وأوصى بتركيب المرايا؛ لأن الدراسة أثبتت أن
المصاعد جيدة وليست بطيئة، وتوصلت إلى أن السبب في تبرم المستأجرين يعود
إلى عدم وجود ما ينشغلون به أثناء انتظارهم للمصعد، ومن هنا جاءت فكرة
تركيب المرايا لكي ينشغل كل واحد منهم بهندامه ريثما يأتيه (الفرج) ! !
أثبتت الدراسة أن بطء المصاعد ليس المشكلة الحقيقية.. إذاً ما هي تلك
المشكلة من وجهة نظرك؟ أرجو أن تكون قد أدركت قدر المبالغ التي وفرها ذلك
البديل (الساذَج!) على صاحب العمارة ترى كم من المبالغ والجهود ننفقها في
بدائل فاشلة؟
وكم من الأفكار العظيمة اعتبرناها ساذجة وفيها الدواء!
ويجب أن تتضمن هذه الخطوة متابعة تنفيذ البديل وذلك باستشراف المستقبل
وما ينطوي عليه من عقبات وصعوبات، تمهيداً لرسم البرنامج العملي اللازم
لتجاوزها وتلافيها.
(ب) التفكير في مشروع معين:
يقصد بالمشروع (عملٌ يراد القيام به لتحقيق أهداف معينة) . وقد يكون هذا
المشروع خاصاً أو عاماً، عملياً أو ذهنياً، دنيوياً أو دينياً.... أو خليطاً بين هذا
وذاك.
ما هي الخطوات التي تعتقد أنه يجب اتباعها عند التفكير في مشروع معين؟
حدثني أحد أولئك الذين يفكرون علمياً أنه كان جالساً في مجلس شرع أحد
الحاضرين فيه في عرض مشروع خيري، وقال ما مفاده:
أيها الإخوة ... تعلمون أهمية مثل هذا المشروع للفقراء والمحاويج وعظم
أجره عند الله تعالى، وهذا المشروع الخيري يتلخص في جمع تبرعات من
المحسنين لتوزيعها على هؤلاء الفقراء ... وقبل معرفة من سيشارك منكم في أعمال
المشروع أود أن أتيح الفرصة للإضافة والتعقيب!
تجاذب الحاضرون أطراف الكلام وتدافعوها حتى ظفر صاحبي بطرف،
فشكر المقدم واستحسن الفكرة واستجاد المشروع، غير أنه فاجأ الجميع بأن تحدث
عن:
أولاً: أهمية تحديد الأهداف لهذا المشروع بدقة:
فالأهداف قد تكون خيرية فقط، أو خيرية دعوية، أو خيرية اجتماعية ...
ثانياً: البدائل:
من جهة الزمن: يتم التوزيع مرة في السنة، مرتين، ثلاث..
ومن جهة النطاق الجغرافي للمشروع: يغطي المشروع حياً واحداً، اثنين،
ثلاثة ... كافة الأحياء في المدينة. ومن جهة طريقة التوزيع: توزيع نقدي، أو
عيني، أو نقدي عيني.
ومن جهة الإشراف الإداري ...
ومن جهة.... .
ثالثاً: يجب بعد تحديد البدائل والموازنة بينها، واختيار أفضلها في ضوء
الأهداف المحددة.
لم يحتج صاحبي إلى ساعات طويلة ولا إلى جهد كبير من أجل بلورة أفكاره
التي استجادها الحاضرون.. لماذا؟
لأنه عوّد نفسه على التفكير بطريقة علمية.
إذاً فالخطوات التي تتبع في حالة التفكير في مشروع معين هي ذاتها التي تتبع
في حالة التفكير في مشكلة معينة باستثناء الخطوة الأولى، وعليه تكون الخطوات
هي:
1- تحديد الأهداف التي يجب أن يحققها المشروع.
2- تحديد البدائل الممكنة.
3- اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه.
وحيث إنه سبق تناول هذه الخطوات بتفصيل لا يسوّغ الإعادة، فإنني
سأعرض للنقاط التي لها تعلق أكبر في التفكير في مشروع معين عبر ما يلي:
كيف تحدد أهدافك؟
بدءاً يجب التأكيد على أن نقطة الانطلاق في التفكير في مشروع معين هي
الاقتناع بالأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال هذا المشروع.
وثمة اعتبارات علمية ينبغي مراعاتها عند تحديد الأهداف لمشروع معين،
يمكن تلخيصها فيما يلي [7] :
1- أن تحدد الأهداف بدقة ووضوح؛ بحيث تُفهم من قِبَلِ الجميع فهماً واحداً.
2- تناسق الأهداف وتكاملها وعدم تعارضها.
3- واقعية الأهداف، وذلك بإمكانية تحقيقها، وهذه الواقعية على مستويين
هما:
(أ) على مستوى كل هدف على حدة، وذلك بكونه ممكن التحقق.
(ب) على مستوى الأهداف مجتمعة، وذلك بكونها ممكنة التحقق في وقت
واحد.
4- صياغة الأهداف بشكل قابل للقياس من أجل تحديد نسبة النجاح في
تحقيقها، وذلك بربطها بأمر أو أكثر من الأمور التالية:
(1) الزمن: توزيع المواد العينية على الفقراء في بداية كل شهر.
(ب) الكمية: إعطاء كل فقير ثلاثة أكياس من الأرز.
(ج) التكلفة: يجب ألا تزيد قيمة المواد الموزعة على كل فقير عن مبلغ
3000 ريال.
5- ترتيب الأهداف بحسب أهميتها.
6- أن تكون الأهداف من نوع واحد، فإما أن تكون رئيسة (استراتيجية أو
نهائية) أو فرعية (تكتيكية أو مرحلية) ، وذلك أن النوع الأول يتضمن الثاني.
ومن الأمور التي تعين على صياغة الأهداف وتحقيقها ومتابعة ذلك التحقيق
أن تقسّم وتصنّف اعتماداً على أساس أو آخر، فمثلاّ يمكن تقسيمها:
* من حيث النوع: إلى أهداف رئيسة وأهداف مرحلية.
* من حيث الزمن: إلى أهداف طويلة الأجل (5 -10سنوات) ومتوسطة
الأجل (1- 5 سنوات) وقصيرة الأجل (أقل من سنة) .
أقدِم إلى حيث يحجم الآخرون! :
لا يكن إخفاق غيرك في تنفيذ مشروع تضافرت اسباب اقتناعك به صارفاً لك
عن محاولة إيجاد آلية تمكن من تنفيذه على نحو يوصلك إلى تحقيق أهدافك..
لتتصف بالشجاعة الذهنية ... فكم من المشاريع الرائعة حكم عليها البعض بالإخفاق
لأن عبقرياً أو (متعبقراً) أخفق في إنجاحها! !
فما لبثتْ أن انتشلها شجاع اقتنع بها ثم فكر.. ثم استشار.. ثم نفّذ.
ألا يمكنك أن تكون شجاعاً ولو مرة في حياتك؟ !
ولا إخالك إلا مفرقاً بين (الشجاعة الذهنية) و (التهور الذهني) ! !
تطبيقات عملية:
قبل التعرض لموضوع التفكير الإبداعي في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى
أرجو أن تفكر بشكل جاد ومتكامل ومكتوب في التطبيقات التي سأوردها لضمان
الاستفادة وترسيخ الفهم.
التطبيق الأول:
لاحظت إدارة شركة رائدة في الإنتاج الحيواني زيادة غير عادية في استهلاك
إطارات الشاحنات التي تستخدمها الشركة في تسويق منتجاتها، وبعد البحث
والتحري عن سبب مثل هذه الزيادة تبين للإدارة أن سائقي الشاحنات يقومون ببيع
الإطارات في السوق، ومن ثم استبدالها بأخرى جديدة والادعاء بأنها تلفت.
بافتراض أنك إداري فاعل في تلك الشركة. فكر في المشكلة السابقة إبداعياً
وحدد البديل الذي تراه مناسباً وكافياً لكي نخلع عليك لقب مبدع.
التطبيق الثاني: أمامك الشكل التالي:
5 5 5
5 5 5
5 5 5
المطلوب أن توصل بين هذه الدوائر بخطوط، بالشروط الآتية:
أن يكون عدد الخطوط أربعة.
أن تكون مستقيمة.
ألا ترفع قلمك عن الورقة وألا تعيد الخط مرتين [8] .
__________
(1) د سيد الهواري، الإدارة الأصول والأسس العلمية، ص457.
(2) د عبد الكريم بكار، فصول في التفكير الموضوعي، ص 39
(3) هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .
(4) هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .
(5) هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .
(6) هاي روتشليس، التفكير الواضح، ترجمة لطيف دوس، ص 32.
(7) عبد الله البريدي، نظرات في التربية في الأهداف، مجلة البيان، العدد 122، شوال 1418هـ.
(8) TOM VERBERNE , CREATIV FITNESS , TRAING & PEVELOPMENT , 1997, P 69-70.(132/14)
بأقلامهن
دور المرأة المسلمة في مواجهة التغريب
رهام أديب الزعبي
تمر أمتنا الإسلامية في الوقت الحاضر بمرحلة في غاية الخطورة هي محاولة
إرساء التغريب في أرضها وإحكام الهيمنة عليها من قِبَلِ أعدائها. والتغريب هنا هو
تحويل الثقافة العربية والإسلامية من عقيدة وسلوك، وعادات وتقاليد إلى ثقافة
وعادات وتقاليد تابعة للغرب مخالفة تماماً لعقيدتنا وتراثنا الإسلامي، ومن ثم تصبح
الهيمنة على أمتنا والسيطرة عليها واحتواؤها سهلاً ميسوراً؛ بحيث تخضع خضوعاً
تاماً لما يريده الغرب، الذي يحاول جاهداً دون كلل أو ملل بث أفكاره وثقافته بكل
السبل التي يستطيع الدخول من خلالها.
وهذا التغريب قائم على أبحاث ودراسات حشدت لها كل الطاقات والإمكانات
لكي تطبق على المسلمين، منها ثقافية وفكرية، ومنها نظم سياسية واقتصادية بعيدة
كل البعد عن الإسلام وتشريعاته، مما يؤدي في النهاية بالمجتمع الإسلامي إلى أن
يتشبع بالفكر الغربي وثقافته وحضارته المعادية للإسلام، فيقضي على شخصية
المجتمع وولائه لدينه وأمته، ويصبح من السهل قيادته وتنفيذ كل ما يطلب منه.
والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أهمها ما يتعلق بشؤون المرأة.
ولما كان للمرأة المسلمة أهمية كبيرة في تربية الأجيال ولها تأثيرها المباشر
في تنشئتهم على الإسلام عقيدة وسلوكاً، فقد أعطى أعداء الإسلام أهمية قصوى
لمحاولة تغريبها والتركيز عليها؛ وذلك من خلال الدعوات البراقة الكاذبة التي
انخدع بها كثير من أبناء وبنات أمتنا ... تلك الدعوات المسماة بالتحرر وانتزاع
الحقوق، وطلب المساواة بينها وبين الرجل!
فإذا استجابت المرأة المسلمة لدعوتهم تلك فسيؤدي ذلك حتماً إلى إفسادها ثم
إلى فساد المجتمع وتدميره بأقصر الطرق وأسرعها؛ لما لها من تأثير فعال في ذلك، مما لا يستطيع أن ينكره عاقل.
ومن المؤسف حقاً أن نجد فئة من نسائنا قد انجذبت وانساقت لتلك الأباطيل،
فتبنت أفكارهم المضللة تلك، والدعوة لها، وعشن بتبعية كاملة لهم فكرياً
واجتماعياً وسلوكياً، مقلدات المرأة الأوربية تقليداً أعمى دون إدراك أو تفكير بحيث
ينطبق عليهن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لتتبعن سنن من كان
قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل:
يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) [1] .
ولقد غاب عن وعي أولئك النسوة أن الظروف الاجتماعية والقانونية
والتاريخية التي واجهت المرأة الأوربية مختلفة تماماً عمّا واجهته المرأة المسلمة؛
فالمرأة هناك تعيش مجتمعاً قائماً على قوانين من وضع البشر وليست شرائع ربانية؛ فكان هناك انتهاك وهضم لحقوق المرأة مما جعلها تثور وتتمرد لتحصل على
حقوقها.
أما المرأة المسلمة فقد أعطاها الإسلام حقوقها كاملة منذ أربعة عشر قرناً؛
فيحق لها أن تفخر وترفع رأسها عالياً بتلك الحقوق التي لم تحصل عليها كثير من
النساء في أكثر البلدان التي تدعي الحضارة والتقدم إلى الآن.
لقد كرم الإسلام المرأة أحسن تكريم، ورفع مكانتها ووضعها في المكان اللائق
بها، ولم يفرق بينها وبين الرجل، بل ساوى بينهما في الحقوق والواجبات،
والثواب والعقاب. ولا أدري والله ما هي الحقوق التي تطالب بها المرأة المسلمة؟
وقد أعطاها الإسلام كامل حقوقها الدنيوية والأخروية.. أما الدنيوية: فمنها حق
التعلم والعمل، وحق التملك والتصرف بملكها وتجارتها دون تدخل من زوج أو أب. كما أعطاها حق اختيار الزوج؛ وحق الخلع إذا لم توفق بزواجها. ومن حقها
أيضاً المحافظة على اسم عائلتها بعد الزواج؛ وذلك بعكس المرأة الأوربية التي
تحمل اسم عائلة زوجها بعد الزواج. وأيضاً أُعطيت المسلمة حق الإرث فهي ترث
وتورث، يقول تعالى: [لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً]
[النساء: 7] .
وأما حقوقها ومساواتها مع الرجل في الأجر فقد بينه قوله تعالى: [فَاسْتَجَابَ
لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى] [آل عمران: 195] .
وقوله تعالى: [إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ والْقَانِتَاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ
وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] [الأحزاب: 35] . وبعد ذلك:
ماذا تريد المرأة أكثر من هذا؟
وهنا سؤال يطرح نفسه: ما هو المطلوب من المرأة المسلمة أن تفعله؟
المرأة المسلمة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى أن تكون سلاحاً في وجه
أعدائها؛ وذلك من خلال رفضها لكل الدعوات الكاذبة والخادعة التي ظاهرها
الرحمة وباطنها العذاب، متمثلة قوله تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ] [الكافرون: 1، 2] .
فعلى المرأة المسلمة أن تقف سداً منيعاً إلى جانب الرجل المسلم في وجه ما
يخطط للأمة الإسلامية من خلالها، فلا تكون عوناً لأعدائها وأعداء أمتها؛ بل يجب
عليها أن تعي وتدرك ما يدور حولها من خطط لإبعادها عن دينها ورسالتها في هذه
الحياة وتهميش دورها في بناء مجتمعها الإسلامي، وإشغالها بتوافه الأمور،
وإضاعة وقتها في تتبع ما تبثه الفضائيات، وما تنشره المجلات الهابطة من
عروض للأزياء وآخر الموديلات من مكياج وعطورات، ومتابعة أخبار الفنانين
والفنانات!
إنه من المؤلم حقاً أن نرى إلحاح الإعلام المرئي والمقروء على جعل تلك
الشخصيات الفنية قدوة لأخواتنا وبناتنا المراهقات.. وما كثرة استضافتهن على
شاشات التلفزيون وصورهن على أغلفة المجلات وداخلها، غير تأكيد على ذلك؛
وكأن الدنيا قد خلت إلا من هؤلاء!
إن أكثر ما يغيظ الغرب هو تمسك هذه الأمة بدينها؛ فدعوتهم إلى تحرر
المرأة المسلمة والمتمثل عندهم بخلعها الحجاب واختلاطها بالرجال حتى يعم الفساد
في المجتمع الإسلامي ما هو إلا دليلاً كبيراً على ما يكنه الغرب لنا من عداء؛ فلن
يهنأ لهم بال ولا يستقر لهم حال حتى نترك ديننا ونعيش بتبعية كاملة لهم منفذين
رغباتهم وأمانيهم التي لا تنتهي إلا باتباع ملتهم كما أخبرنا به سبحانه وتعالى بقوله: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] [البقرة: 120] .
فالواجب على المرأة المسلمة أن تعود إلى إسلامها وتتمسك به بكل قوة،
وتعيش تعاليمه كلها منهجاً وسلوكاً، وتطبقها على نفسها أولاً ثم على من هم تحت
رعايتها. فلا بد أن تعلم المرأة المسلمة قبل كل شيء أن الإسلام كلّ لا يتجزأ؛
عقيدة، وعبادة، ومنهج حياة؛ فإذا أرادت أن تأخذ منه ما يطابق هواها وتترك ما
يغايره فإن هذا ينقض العقيدة وسلامتها. يقول تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب: 36] .
لذلك يجب عليها أن تلتزم التزاماً كاملاً بما أمرها الشرع من حقوق وواجبات،
والبعد عن كل ما نهاها عنه قبل أن يستشري الداء ويزيد البلاء، فيعمنا الله بعقابه
في الدنيا من قبل أن نلقاه. كما قال تعالى: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا
مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] [الأنفال: 25] .
ومن الواجب على المرأة المسلمة أيضاً أن تعمل على تثقيف نفسها والتسلح
بالعلم الشرعي، وذلك من خلال حضورها لبعض الدروس الشرعية المتاحة في
مجتمعها، وسماعها للأشرطة المأمونة المتوفرة في السوق، وكذلك تلاوتها للقرآن
وتدبر آياته وحفظ ما تيسر منه، وخصوصاً آيات الأحكام، وكذلك الآيات الكونية،
والاطلاع على كتب التفسير والسيرة حتى يساعدها ذلك على أداء مهمتها في الدعوة
لهذا الدين العظيم، ذلك الدين الذي جعلنا خير أمة؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى
عن المنكر كما قال تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: 110] فإن وجدت في نفسها الكفاءة والقدرة
للدعوة لهذا الدين العظيم في محيط مجتمعها فينبغي ألا تدخر جهداً في ذلك؛ فهذا
واجب عليها. فإن لم تستطع فبإمكانها الدعوة بين أقربائها وجيرانها، فإن لم تستطع
فيكفيها أن تنشئ أبناءها على العقيدة السمحة، وتربيهم التربية الصالحة، وتبث في
نفوسهم حب هذا الدين والولاء له والبراء من أعدائه، وأن تشرح لهم معنى قوله
تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..] [المجادلة: 22] لأننا اليوم في أمسّ الحاجة لكي يعلم أبناؤنا ما يخططه لنا الغرب
الصليبي واليهود الحاقدون ومن شايعهم في محاولتهم الخبيثة لتذويب شخصية شبابنا
المسلم في بوتقة الانحراف، وإبعادهم عن هويتهم الإسلامية الصحيحة؛ ففي هذه
الظروف التي نراها الآن وتعيشها الأمة الإسلامية وقد تداعت عليها الأمم كما
تداعت الأكلة على قصعتها، نرى أمتنا وقد هانت على أعدائها وتكالبوا عليها
لتضليل أبنائها ونهب ثرواتها وخيراتها.. فهم كما نرى يصطنعون الأحداث في
بلادنا ويضعون لها الحلول.. يخططون وينفذون ما يريدون؛ ففي مثل هذه
الظروف يجب أن تتكاتف الأيدي جميعاً.
فلتكن المرأة المسلمة عوناً للرجل تسانده وتشجعه بالدعوة لهذا الدين والذود
عنه، فلا تضيع وقتها فيما لا يعود عليها ولا على أمتها بالخير؛ فالعمر هو الوقت، والمسلم سوف يسأل عن عمره فيما أفناه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن
شبابه فيما أبلاه، وعن رزقه من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل
به) [2] .
فعلى المرأة المسلمة الحذر كل الحذر من أن تقع في شراك أدعياء تحرير
المرأة؛ فإنهم يهدفون من وراء ذلك الطعم اصطيادها وتحللها من دينها وقيمها
وأخلاقها؛ وحينها تكون ذيلاً لهم وتابعة ذليلة لمناهجهم.
إن الأمر جد خطير؛ فلا بد من تعبئة كل القدرات وتهيئتها وتضافر الجهود
وبذل الطاقات من أجل صحوة دينية نسائية صادقة هادفة تقوم على أسس هذا الدين
ومبادئه؛ فقد آن الأوان لكي نرد لهذا الدين عزته، وللمؤمنين كرامتهم؛ فنحن أحق
بأنفسنا من التبعية للأجنبي الغريب، بل نحن أحق بقيادة هذا العالم؛ لأن ديننا
صالح لكل زمان ومكان، وهو ينشر العدل والأمن والسلام بين البشر وميزانه:
[إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] و (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) .
فلله العزة ولرسوله والمؤمنين ... ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
__________
(1) البخاري: كتاب الأنبياء، حديث (50) وكتاب الاعتصام، حديث (14) ومسلم: كتاب العلم، حديث (6) .
(2) الترمذي: كتاب القيامة، حديث رقم (1) .(132/24)
حوار
حوار مع فضيلة الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
التحرير
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، عالم جليل أفنى ما مضى من حياته
في العلم والتعليم والإفتاء ... ، اشتهر بتواضعه، وسعة صدره، وصبره، كما
عُرف باجتهاده وعلو همته، حتى صار له في الأسبوع: اثنا عشر درساً منها ما
يمتد لثلاث ساعات، ويجلس لبذل العلم كل يوم بين العصر والمغرب، هذا
بالإضافة إلى عمله (عضو الإفتاء) في دار الإفتاء بالرياض، وذلك إلى قبل أشهر
يسيرة؛ حيث أحيل للتقاعد حفظه الله، ومتعه بالصحة والعمل الصالح الذي يرضي
الله.
وقد كان لنا معه هذا اللقاء المبارك؛ حيث اقتطعنا جزءاً من وقته الثمين،
فتفضّل بالإجابة على أسئلة (البيان) وإنا لنرجو أن يجزيه الله عن الجميع خير
الجزاء، وأن يوفقه لأداء رسالته في العلم والتعليم والتوجيه، وأن يختم له بصالح
الأعمال. وإلى الحوار مع فضيلة الشيخ حفظه الله.
1-هل لفضيلتكم أن تحدثنا باختصار عن طلبكم للعلم.. كيف كان؟ وعلى يد
مَنْ مِنَ العلماء تلقيتم العلم؟
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه.
وبعد: فإن الله سبحانه له الحمد والفضل والمن والثناء الحسن، فهو الذي
يوفق من يشاء ويهدي من يشاء فضلاً منه وكرماً، ويضل من يشاء عدلاً منه
وحكمة، ولا يظلم ربك أحداً.
أقول: إنني معترف بالنقص والقصور، وقلة التحصيل، وضعف المعلومات، وكثرة النسيان، وضياع الكثير من العمر في غير فائدة؛ فعندما أقرأ في تراجم
بعض العلماء كالشافعي وأحمد وابن راهويه، والبخاري، وابن معين ونحوهم،
أعرف الفرق الكبير، والنقص الجلي في نفسي، وأن لا نسبة إلى أحدهم ولو من
بعيد، وكذا عندما أقرأ في مؤلفات بعض العلماء الربانيين، كابن قدامة، وابن
تيمية، وابن القيم، وأمثالهم ممن فتح الله عليهم، وألهمهم العلم والفهم، والإدراك
والذكاء والفطنة، أرى ما منحهم الله ووفقهم له مما لا أصِلُ إلى عُشر معشاره، ولا
أحلم بإدراك معلوماتهم، ولو بعد التأمل والتفكر، وهكذا عندما نسمع سيرة إمام
الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبنيه وتلامذته، ومن تبعهم، ونقرأ في
رسائلهم ومسائلهم، نرى ما وهبهم الله تعالى، وما منحهم من العلم النافع، والفهم
الثاقب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
نشأة الشيخ:
ثم أقول إنني نشأت في قرية (الرين) التابعة للقويعية، وفي كل صيف غالباً
أكون في قرية (محيرقة) من قرى (القويعية) فابتدأت بتعلم القرآن والهجاء من
والدي رحمه الله، ومن إمام جامع محيرقة العم سعد بن عبد الله بن جبرين رحمه
الله، وذلك في سنة تسع وخمسين من القرن الرابع عشر الهجري، وفتر العزم عن
الحفظ؛ حيث لم يكن من يتابع معي، فلم أكمل حفظ القرآن إلا في سنة ثمان
وستين، وقد قرأت قبل ذلك على والدي رحمه الله في النحو والفرائض والحديث،
وبعض الكتب المطولة، فبعد إكمال حفظ القرآن ابتدأت في القراءة على فضيلة
قاضي الرين، الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، وشهرته (أبو حبيب) ،
وواصلت القراءة عليه في المتون والشروح في التوحيد والعقيدة والحديث والفقه
والتفسير، وحصل بذلك خير كثير، ثم في عام أربع وسبعين انتقلنا إلى الرياض؛
حيث فتح معهد إمام الدعوة العلمي، وانتظمت فيه، وكانت قراءتنا في الصباح
على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، وفي أثناء النهار
على غيره من المشايخ كإسماعيل الأنصاري، وحماد الأنصاري، وعبد العزيز بن
رشيد، ومحمد المهيزع وغيرهم رحمهم الله تعالى، ونقرأ في المساء على سماحة
الشيخ عبد العزيز بن باز بعد العصر وبعد المغرب، وأنهيت الدراسة النظامية في
عام 1382هـ، ومنحت الشهادة العالية من المعهد، وتعادل الجامعة، وفي عام
1388هـ انتظمت في المعهد العالي للقضاء حتى عام 1390هـ، حيث منحت
شهادة الماجستير، بعد أن قدمت رسالة في أخبار الآحاد وهي مطبوعة، وفي عام
1407هـ حصلت على الدكتوراه؛ حيث قمت بتحقيق شرح الزركشي على
مختصر الخرقي الذي طبع بعد ذلك بتحقيقنا في سبعة مجلدات. والله الموفق.
2- لو أردنا المقارنة بين ذلك الوقت، وبين اليوم؛ من حيث إقبال الشباب
على العلم، فهل نجد فوارق بارزة بين المرحلتين، وهل كانت تتوسطهما مرحلة
أخرى تتميز عنهما؟
لا شك أن هناك فوارق كبيرة لها تأثيرها في كل من المرحلتين، ولكل منهما
ميزة ظاهرة، فقبل خمسين عاماً كان في هذه المملكة قلة في العلماء الربانيين
البارزين، سيما في القرى والبلاد النائية؛ وذلك لأن طلاب العلم أفراد وأعداد
قليلون وتغلب العامية على الأكثر؛ وذلك لأنهم عاشوا في فقر وفاقة، وشظف عيش، وقلة في الإمكانيات؛ فالمواطنون يهمهم الحصول على لقمة العيش، فالبوادي
الرحل يتبعون مواضع القطر لمواشيهم التي بها معاشهم ومعاش عوائلهم، فهم
أميون، لا يقرؤون ولا يكتبون، وأكثرهم جهلاء، قد لا يحسنون قراءة الفاتحة،
ولا صفة الطهارة والصلاة، إلا ما شاء الله، وأهل القرى منشغلون بتحصيل
الرزق والقوت، إما في حرث وغرس فيعملون طوال الوقت في السقي والحرث،
والأبر والغرس والإصلاح، وإنما يتفرغون لأداء الفرائض جماعة، وسماع ما يقرأ
في الصلاة، ولا يجدون غالباً من يلقنهم تعاليم الدين، وآخرون أهل صناعة من
الصناعات اليدوية، كحدادة ونجارة، وخرازة ودباغة، وحياكة ونحوها مما
يتحصلون منه على القوت الضروري، كغذاء أو كسوة وسكن يكنهم عن الحر والقر، وآخرون منشغلون في التجارة التي تتوقف على الرحلات، والأسفار الطويلة،
حيث تستغرق الأشهر، يقطعون فيها المفازات والصحاري، مما لا يتفرغون معه
لتعلم أو تفقه في الدين، وإنما يتلقون من آبائهم العلوم الضرورية في العبادات قولاً
أو فعلاً، ومع هذه الأحوال فإن هناك من اهتموا بالطلب والتعلم، فتجشموا
الصعاب، وقطعوا المراحل البعيدة، وتغربوا عن الأوطان؛ ولازموا العلماء في
المدن أو في بعض القرى، على ملء بطونهم، وكسوة ظهورهم، وأكبوا على
التلقي، واهتموا بالحفظ والفهم، واستهموا على الوقت، وأقبلوا بكلياتهم على التعلم، فوفقهم الله وسدد خطاهم، وأعطاهم ما تمنوا رغم قلة الإمكانيات، وبُعد المسافات، وكثرة المعوّقات، ولكنهم صبروا على المشقة، وركبوا الصعوبات، حتى مكنهم
الله وأعطاهم ما تمنوا، ولكنهم قلة قليلة يتواجدون في المدن، وحول حملة العلم،
وأكابر العلماء الذين أنزل الله في علمهم البركة، واهتموا بتعليم العقائد والعبادات
والأحكام، وبارك الله في سعيهم، وذلك لحسن النيات والمقاصد؛ حيث لا يريدون
عَرَضَ الدنيا، وإنما قصدوا الاستفادة وحمل العلم، والتفقه في الدين، ولا شك أن
هذا الجهد الذي يبذلونه، وهذه المشقة التي يتجشمونها، قليلة بالنسبة إلى ما نسمع
ونقرأ عن جهود سلفنا الصالح، وعلماء صدر هذه الأمة، في القرون المفضلة،
ومن سار على نهجهم، الذين يتغربون عن أهليهم عدة سنوات، للتعلم والاستفادة،
ويسافر أحدهم للتحمل والأخذ عن المشايخ الأكابر الشهر والأشهر، ويسهرون
الليالي في طلب المعاني، مما كان سبباً في بقاء علومهم، والانتفاع بآثارهم،
والبركة في مؤلفاتهم، وبقاء لسان صدق لهم فيمن بعدهم، فرحمهم الله وأكرم
مثواهم.
3- تتباين وجهات النظر في الأسلوب الأمثل والطريقة الأكمل لطلب العلم؛
من الاكتفاء بمجالسة العلماء، أو إدامة القراءة، أو حفظ المتون، أو الدراسات
المنهجية في الجامعات.. نود تجلية الأمر للإخوة القراء من خلال خبرتكم الطويلة
في التعليم؟
لا شك في اختلاف الرغبات، والتباين الكبير في طرق التحصيل عند طلاب
العلم، والذي أراه أن لكل طالب التمشي على ما يميل إليه ويتأثر به، ويرى فيه
الفائدة وإدراك المعلومات، ومع ذلك فإن مجالس العلماء، وحضور الحلقات،
وإدامة الملازمة للدروس اليومية أو الأسبوعية التي تقام في المساجد ونحوها، مفيدة
ونافعة، ولها تأثير كبير في تحمل العلم، وتجديد المعلومات، وما ذاك إلا أن الدافع
إليها غالباً هو الاستفادة؛ حيث يتوافد الطلاب إلى تلك الحلقات، ويأتون من أماكن
بعيدة أو قريبة، وتراهم خاشعين منصتين، وكل منهم غالباً يحمل معه كتاباً يتابع
فيه المدرس، أو دفتراً لتعليق الفوائد، وكتابة المعلومات؛ بحيث يرجع الطالب
بحصيلة علمية نافعة، تبقى معه طوال حياته، ومع ذلك فإن المطالعة وإدامة قراءة
الكتب العلمية مفيدة جداً، لكن لا بد قبل ذلك من معرفة المقدمات، والأساليب
والاصطلاحات للمؤلفين، ولا بد من معرفة اللغة الفصحى، وما يتصل بها من
النحو والصرف والبيان، حتى تتم الاستفادة منها؛ حيث إن الكثير من الطلاب
يصدهم عن القراءة في الكتب جهلهم بالمصطلحات، وقصورهم في المعلومات
اللغوية، حتى فضّل الكثير ما كتبه المتأخرون، وأكبوا على القراءة للمعاصرين،
وإن لم نعرف الصوارف عن مؤلفات الأقدمين. ثم نقول: إن حفظ المتون
والمختصرات، واستظهار الأحاديث، والقواعد، والأركان والواجبات، له الأثر
الكبير في بقاء المعلومات، فلقد كان مشايخنا الأكابر يذكرون عن نشاطهم وتسابقهم
إلى الحفظ، ويحثون تلامذتهم على ذلك، حتى رأينا منهم العجب في استحضار
النصوص والأدلة عند الحاجة إليها، وكانوا يلزمون من أراد الالتحاق بالتعلم أولاً:
بحفظ القرآن الكريم، وثانياً: أثناء الاستعداد بحفظ المختصرات في النحو
والفرائض، والأحاديث في الأحكام، والتوحيد والعقائد والفقه، والتفسير، أما في
هذه الأزمنة فقد لاحظنا فتوراً ظاهراً في الحفظ والاهتمام بالمتون، وإنما يكتفون
بالفهم وإدراك المعاني من المتون، أو من الشروح، أو من التقارير والتعليقات،
وذلك قد يكفي لمن حصل له الفهم التام، ورزق حفظاً دائماً. فأما الدراسات
المنهجية فقد أصبحت من الضروريات؛ بحيث لا يخل بها إلا القليل، بل يلتزم
الأكثرون بها، رجالاً ونساءً، انتظاماً وانتساباً، والغالب أن القصد منها هو
الحصول على المؤهل الذي يمنح لهم بعد الانتهاء من كل مرحلة، ولا شك أن
الالتزام بذلك مع المواصلة إلى نهاية المرحلة الجامعية مما يفيد كثيراً؛ حيث إن
الطفل يبدأ من مبادئ العلوم، ثم يترقى إلى ما بعد ذلك سنة بعد سنة، ومرحلة بعد
مرحلة، فمتى كان قصده الاستفادة، وتحصيل المعلومات النافعة، فإنه سيحصل
من ذلك على قسط كبير، يبقى معه أثر طوال حياته، ولكن لا بد مع ذلك وبعده من
مواصلة التعلم، وبذل الجهد في التحصيل، فإن العلم كثير، وطالب العلم لا يكتفي
بما حصل عليه، كما في الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) . وكان العلماء يوصون تلاميذهم بالاستمرار في الطلب، ويقول أحدهم: (اطلب
العلم من المهد إلى اللحد) ، ويقولون: (مع المحبرة إلى المقبرة) فعلى المسلم الجد
في الطلب بما يقدر عليه، وما يراه نافعاً في حقه. والله أعلم.
4- لا يخفاكم واقع مناهج التعليم في جل بلاد العالم الإسلامي.. مما جعل
بعضهم يرغب عن التعليم النظامي جملة: ما الموقف الصحيح تجاه هذا المنهج:
ألا ترى فضيلتكم أن لذلك سلبيات لا سيما مع قلة العلماء العدول فضلاً عن حاجة
الأمة لتعليم ناشئتها مختلف العلوم والفنون؟
لا شك في صلاح النية، وحسن الأهداف عند تقرير المناهج التعليمية، في
أغلب البلاد الإسلامية، ثم مع مرور الزمان، نشأ من يريد في الظاهر قصداً حسناً، والله أعلم بما يضمره، فاقترح تغيير المناهج القديمة، أو الاقتضاب من بعضها،
وإضافة علوم أو مواد ثانوية، وفرض دراستها، مع قلة الحاجة إليها، أو عدم
أهميتها، أو اختصاصها ببعض الأفراد، فكان ذلك سبباً في عزوف كثير عن
التعليم النظامي، إما لصعوبته، أو لنفرة بعض النفوس عنه، أو لقة الفائدة التي
تعود إلى ذلك الطالب، وميل نفسه إلى علوم وأعمال أخرى، وكان الأوْلى أن
يجعل لهؤلاء مدارس خصوصية، يقرر فيها دراسة العلوم الدنيوية الضرورية، مع
المواد الشرعية، ويعفى من ينتظم فيها عن علم الجبر والهندسة، واللغات،
والفيزياء وشبهها، ثم إن هذه العلوم لا شك في أهميتها، ومسيس الحاجة إليها،
ولكن ذلك في حق من يرغبها، ويجد من نفسه ميلاً إلى التعلم والعمل بها، ثم إن
طالب العلم في المدارس والمعاهد العلمية والجامعات الإسلامية وغيرها، يجب عليه
حسن النية في دراسته لتلك المواد، فيقصد أولاً: حمل العلم النافع، ليفوق الجاهل
به، فقد قال تعالى: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ]
[الزمر: 9] ، أي لا سواء بين العالم بالفن والجاهل به، ويقصد ثانياً: نفع نفسه ونفع الأمة، سواء في أمر الدين أو أمر الدنيا؛ حيث تمس الحاجة إلى تعلم هذه الفنون، ويستفيد حاملها، ويعلّم غيره، ويغني نفسه، ويكتفي بصناعته أو حرفته، ويقصد.
ثالثاً: فيما يتعلق بالعلوم الشرعية فضل حاملها، كقول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن
الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل
شيء حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر
على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا
درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) . ويقصد رابعاً: العمل على
بصيرة؛ فإن من شرط قبول العمل موافقته لما ورد به الشرع، فمن عمل على
جهل فعمله مردود، وخصوصاً إذا تمكن من التعلم فأعرض عنه، ولا شك في خطأ
الذين عزفوا عن التعليم النظامي، لأي سبب عرض لهم، ولذلك نراهم أصبحوا
عالة على أهليهم، قد عطلوا أنفسهم، وصاروا كلاً وثقلاً على أولياء أمورهم، وقد
روي عن بعض السلف رحمهم الله أنه قال: الناس ثلاثة أقسام: عالم رباني،
ومتعلم على سبيل النجاة، وسائر الناس همج رعاع لا خير فيهم، يغلون الأسعار،
ويضيقون الديار، ثم إنهم بعد أن أفاقوا من سكرتهم، وانتبهوا من رقدتهم، أسفوا
أشد الأسف على ما ضاع من أوقاتهم، ولكن ذلك بعد أن تفارط الأمر، وفات
الأوان. والله المستعان.
5- يشكو كثير من طلاب العلم المواظبين على حِلَقِ العلم من طول مدة إنهاء
كتاب من الكتب، التي قد تمتد لسنوات.. فما تعليقكم؟
هذا مشاهد ملحوظ، ولكنه ليس مطرداً في جميع طلبة العلم الذين يرغبون في
المواصلة والاستمرار في الطلب، ولا تكل جهودهم، ولا تضعف هممهم، فنوصي
طالب العلم، أن تكون همته عالية، وأن لا يعتريه سآمة ولا ملل، وأن يتذكر
أحوال السلف وعلماء صدر هذه الأمة، وما بذلوه من الجهد، والتعب والنصب في
طلب العلم، وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه رحمه الله أنه قال: (أول سنة خرجت
في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف
فرسخ، ولما زاد على ألف فرسخ تركت الحساب. وذكر أنه سار ماشياً من الكوفة
إلى بغداد مرات عديدة، ومن مكة إلى المدينة مراراً، ومن البحر من قرب مدينة
صلا إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة، ومن الرملة إلى بيت المقدس،
ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن
دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى إنطاكية، ومن إنطاكية إلى طرسوس، ثم من
طرسوس إلى حمص، ومن حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، وقبل ذلك
من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشياً في سفره الأول، وسنه
عشرون عاماً، وقد نقل عن غيره أكثر من ذلك. وبالجملة نوصي طالب العلم
بالمواصلة، ولو طالت المدة، سواء في الدراسة النظامية، أو في الحلقات العلمية،
ونوصي المشايخ أن يتنزلوا على رغبات جمهور الطلبة، في تعليمهم ما يساعدهم
على حمل العلم، من المختصرات المفيدة، حتى لا يملوا، فمن رغب في
المطولات، واستمر على المواصلة فهو أوْلى، حتى يتزود من المعلومات المفيدة.
والله أعلم.
6- ما يزال الشباب يتوافدون بحمد الله على دروس العلم، لكن الملاحظ
سرعة تبدل بعض الطلبة بحيث لا يستمر بعضهم إلا أشهراً، وقد يكون ممن ابتدأ
قراءة كتاب على بعض أهل العلم ... ويخشى بعض المحبين من خطورة الأمر..
فما رأي فضيلتكم في العلاج الأمثل لحث الطلبة على مواصلة العلم وتلقيه عن
العلماء المشهود لهم؟
نوصي طالب العلم أن لا يعتريه ملل، ولا يثنيه كسل؛ فإن العلم كثير،
والعمر قصير، وذلك أن الطالب للعلم همته رفيعة، فهو لا يشبع من التعلم، ولا
ينثني عن المواصلة، ولقد كان الكثير من العلماء الأكابر يقرؤون ويستفيدون، حتى
من تلامذتهم، ولا يحتقر أحدهم من دونه أن يتلقى منه فائدة، وكان التلاميذ
يلازمون مشايخهم، ويتكرر أحدهم على مجالس العلم، إما للتذكر أو للتزود، حتى
ولو كان عالماً بما يقول شيخه، وذكروا أن من آداب التلاميذ أن يظهروا لمشايخهم
الشكر، والدعاء لهم، حتى لو كانت المسألة معلومة عندهم، فإذا سمع الفائدة أظهر
لشيخه أنها جديدة، وأعلن بشكره عليها، ولو كانت معلومة له من قبل، واستشهد
بعض المشايخ بقول الشاعر:
إذا أفادك إنسان بفائدة ... من العلوم فلازمْ شكره أبدا
وقل: فلان جزاه الله صالحة ... أفادنيها، وألقِ الكِبَْر والحسدا
وعلى المدرس أن يحث الطلبة على المواصلة والاجتهاد، والحرص على
إكمال الدراسة، سواء كانت نظامية أو علمية، وأن يتصور فائدة المواصلة
والمتابعة، وما يترتب على الانقطاع من ضياع المعلومات، وذهاب ما بذله من
الجهد، وليعلم أن العلم لا يحصل لمتكبر، أو متوان، أو مستحْيٍ، وأن العلم
بالتعلم، وبالحفظ والإتقان والفهم والإدراك.
7- لعل من أسباب ضعف الاستمرار: سوء اختيار الطالب للدرس الذي
يحضره، أو الكتاب الذي يدرسه؛ لكونه لا يناسب مستواه العلمي، ألا ترون أن
هناك حاجة إلى جعل الطلبة على مستويات اثنين أو ثلاثة مثلاً ينظر في إلزام
الطالب الراغب في الالتحاق بما يناسب مستواه؟
قد عرف أن طلبة العلم يتفاوتون في المستويات، وهكذا في الرغبات، ولذلك
يكثر تواجدهم في بعض الفنون دون بعض، وعند بعض المشايخ دون البعض،
وقد يكون السبب قلة الرغبة من بعضهم في إحدى المواد؛ حيث إن منهم من لا
يرى الاشتغال بالفقه الذي يغلب عليه أنه اجتهاد من الفقهاء، والكثير منه لا دليل
عليه، وبعكس هؤلاء آخرون رأوا أهميته؛ لأنه يتعلق بواقع الحياة، ويحتاج إليه
الفرد والمجتمع، ولا بد من الفتوى به عند وقوع حادثة، فهو من العلوم الضرورية
في كل زمان ومكان، ولهذا كثرت فيه المؤلفات من العلماء الذين رزقهم الله العلم
والفهم بالوقائع، وتطبيق النصوص على الحوادث، ثم إن من الطلاب من يفضل
نوعاً من العلوم الفقهية، كقسم العبادات، ويحب تكرارها في عدة كتب، ولا
يرغب في قسم المعاملات وما بعده، وبعكسه آخرون يفضلون الاجتهاد في فهم
المعاملات، لمسيس الحاجة إليها، فعلى هذا لا مانع أن يقسم المدرس الوقت بين
الطلاب؛ فمن رغب في النحو واللغة والصرف والبلاغة والبيان جعل لهم وقتاً،
واختار مادة أو مختصراً يناسبهم جميعاً، ومن رغب في الحديث حدد لهم درساً في
يوم أو أيام، ومن رغب البدء من أول العلوم ابتدأ بالتوحيد والعقيدة التي تناسب
المبتدئين، ومن رغب في الفقه من أوله أو من وسطه أعطاهم رغبتهم، ولعله بذلك
يفيد المستفيدين، ويحصل كل منهم على ما تميل إليه نفسه. والله الموفق.
8- تلقى فتاواكم بحمد الله ارتياحاً عاماً، يعزى فيما نحسب بعد توفيق الله
تعالى لحسن فهمكم روح الشريعة ومراعاة مقاصدها، واعتبار المصالح والمفاسد..
هل من توجيه لطلبة العلم في هذا الصدد؟
أعترف على نفسي بالقصور والنقص، وكثرة الخطأ، وأسأل الله العفو
والغفران، وستر العيوب والنقائص؛ حيث إني أكتب أجوبة الأسئلة التي ترفع إليّ
بدون مراجعة، أو بحث في أقوال العلماء غالباً، نظراً إلى كثرة الأعمال، وعجلة
السائل، والارتباط بالمواعيد والدروس، وأعتمد فيما أكتب على معلومات قديمة
علقت بالذهن وقت الطلب والتلقي عن المشايخ، أو تجددت وقت التدريس الرسمي
الذي كنت أستعد له وأراجع وأحضّر قبل الإلقاء، أو حصلت من الممارسة وتكرر
المرور، ومن المطالعات والدروس الجديدة التي أقوم بإلقائها في المساجد. فأما
القابلية لها عند العامة أو التلاميذ فلعل ذلك لحسن الظن، ولما يتلقونه من الدروس
التي يتقبلونها، واثقين بصحتها ومع ذلك فإني أقول: ما كان فيها من صواب فمن
الله تعالى وهو الذي وفّق له وهدى، وما كان من خطأ أو زلل فمني ومن الشيطان،
وأستغفر الله مما وقع مني. وأقول: على طلاب العلم أن لا يعتمدوا على فتوى
تخالف الدليل أو الحق والصواب، فإن على الحق نوراً، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، فلا بد من مراجعة الكتب والمؤلفات، وتطبيق الفتاوى
الاجتهادية لي ولغيري على كلام العلماء، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، والله أعلم.
9- (لحوم العلماء مسمومة) ؛ فما واجب أهل العلم وطلبته في حماية
أعراضهم؟
اشتهرت هذه العبارة بين الأمة، وهي تفيد معرفتهم بفضل العلماء، ومكانتهم
في المجتمعات، ومنزلتهم بين الأمة، ولعل من أسباب تكرار هذه الكلمة ما وقع فيه
البعض من الطلبة أو العامة، أو المنتسبين إلى العلم، من كثرة القدح والعيب
والتنقص والاغتياب لبعض علماء الأمة، وأكابر الدعاة والمعلمين، وقد يكون
الحامل لهؤلاء الحسد الذي يكثر بين حملة العلم، وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله
في (جامع بيان العلم وفضله) باباً كبيراً في طعن العلماء بعضهم في بعض، قال:
والصحيح أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته
بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها
جرحته، ... والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور المسلمين إماماً في الدين،
قول أحد من الطاعنين، أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم كلام كثير
في حالة الغضب، ومنه ما حمل على الحسد، كما قال ابن عباس: (استمعوا علم
العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من
التيوس في زُرُبِها) . وفي قول له: (خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول
الفقهاء بعضهم على بعض؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة) . ثم نُقِل عن
أبي حازم عن أبيه أنه قال في أهل زمانه: فصار الرجل يعيب مَنْ فوقَه ابتغاء أن
ينقطع عنه، حتى يرى الناس أنه ليس بحاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله،
ويزهو على من هو دونه، فهلك الناس ... إلخ. وقد ذكر أمثلة من طعن بعض
العلماء في بعض نظماً ونثراً، وقد اشتهر طعن الإمام مالك وهشام بن عروة في
محمد بن إسحاق، وبالعكس، ولم يكن ذلك موجباً لرد روايتهم، وهكذا طعن ابن
حجر في العيني، والعيني في ابن حجر، وكذا ما حصل بين السيوطي والسخاوي؛ وذلك لأن الحامل على ذلك المنافسة والحسد، وحب الظهور، وإذا كان ذلك ليس
من أخلاق العلماء المتواضعين، فعلى هذا لا يجوز سماع الطعن في العلماء
المشهورين، ولا يلتفت إلى من أخذ ينقّب عن مثالبهم، ويتتبع أخطاءهم، فيجعل
من الحبة قبة، ويتغافل عن فضائلهم وآثارهم، وعلومهم الجمة التي نفع الله بها،
والله عند لسان كل قائل وقلبه.
10- ما أهم ما يميز العالم من الخُلق، مما يمنحه قبول الناس له؟ وما
جوابكم على من يخلط بين الهيبة والتعالي؟
لقد كتب العلماء في أخلاق العالم وأكثروا، سيما إذا تولى عملاً ذا أهمية
كالقضاء والتعليم ونحو ذلك، ونحيل القارئ على كتاب: (تذكرة السامع والمتكلم،
في آداب العالم والمتعلم) ، لابن جماعة رحمه الله ولا شك أن العالم له مكانته بين
الناس، وأن عليه أن يتواضع لمن سأل، ويصغي لمن يستفيد منه، ويلين جانبه،
ويظهر للطلاب الفرح والاستبشار، ويلقاهم بصدر رحب، ووجه منبسط، ويفرح
بتوافدهم وكثرتهم عنده، ويسره أن يستفاد منه، وعليه أن يبدأ بطلب القراءة عليه، ويعرض على التلاميذ أن يجلس لهم في مادة كذا وكذا، أو يسألهم عن رغبتهم،
ويجيب مطلبهم، وأن يلتمس ما يميلون إليه من البسط أو الاختصار، ومع ذلك فلا
يضع نفسه موضع الذل والاستضعاف والهوان، بل يترفع عن مجالس السفه واللهو
واللعب، وإضاعة الوقت، مما يسقط مكانته، ويضع قدره عند تلاميذه، وأن لا
يشمخ بأنفه، ويتكبر على بني جنسه، مما يعيبه به العلماء والتلاميذ، ولكن بين
ذلك، فيكون ليناً بلا ضعف، قوياً من غير عنف، حليماً ذا أناة، كما ذكروا ذلك
في القاضي.
11- من المشتغلين بالعلم من يرى ضرورة احتجابه عن مخالطة العامة؛
لأجل توفير الجهد والوقت؛ فما مدى توافق ذلك مع الهدي النبوي؟ وهل القاعدة
في هذا الأمر مطّردة، أم يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة؟
وما ضوابط المخالطة المناسبة لأهل العلم وطلابه؟
قد علم أن لحامل العلم مكانته ومنزلته التي فضله الله بها على غيره، ومتى
خالط السفهاء وعوام الناس، واندمج معهم، لقي إهانة وذلاً واحتقاراً، وسمع من
سخيف القول، ومستهجن الكلام، ما يترفع عنه حملة العلم الذين قال الله عنهم:
[يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ] [المجادلة: 11] ولقد صور ذلك الشيخ أبو الحسن الجرجاني رحمه الله بقوله:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
ولم أتبذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظّما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
وأقول أيضاً: إن الاحتجاب العام عن الجميع غير لائق؛ فإن الناس بحاجة
إلى مجالسة أهل العلم، والتلقي عنهم، والبحث معهم عن المعضلات وما يشكل
عليهم، فلهذا متى ابتعد العالم عن العامة حتى عن الطلاب عيب عليه هذا الابتعاد،
ومتى اختلط بالعامة وغوغاء الناس ومن لا يعرف مكانته عيب ذلك عليه، فلا بد
أن يحفظ نفسه ووقته للاستفادة والقراءة والمذاكرة، ولا بد أن يتبسط ويفتح صدراً
رحباً لمن زاره أو استزاره لتحصل الاستفادة من معلوماته، ويتجدد ما في ذاكرته
من معلومات ومفاهيم، وينفق مما أعطاه الله، ولا شك أن الناس يختلفون، وبينهم
تباين كبير في الآراء والأعمال؛ فمن كان ميله إلى المذاكرة والكتابة والتأليف آثر
ذلك على التعليم والتدريس، وساغ له أن يتفرغ للقراءة والبحث والكتابة ونحو ذلك، ولكن لا ينبغي له أن يحتجب دائماً، بل عليه أن يفسح المجال لبعض الزوار
والمستفيدين. وأما من آثر التعليم والإفتاء والتدريس، فإنه يحب الانبساط
والاختلاط، ويرغب الاندماج مع الناس، ولكن عليه أن يرفع نفسه عن مواقف
الذل والهوان.(132/28)
تأملات دعوية
لا تهملوا الموعظة
عبد الله المسلم
إن النفوس تصيبها القسوة والغفلة، وتبتعد القلوب عن الله وتتعلق بالدنيا وما
فيها، ويلابس الناس الذنب والمعصية، فيحتاجون للتذكير والوعظ.
ومن يتأمل سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى أنه كان يُعنى بالموعظة،
وكان كثيراً ما يذكّر أصحابه ويرقق قلوبهم، ولم تكن الموعظة خاصة بحديثي العهد
بالإسلام والتوبة، ولا بالمقصرين المخلطين، إنما كانت هدياً راتباً له يتخوّل بها
أصحابه.
عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا) [1] .
ويصف حنظلة الأسيدي: وكان من كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يصف مجالسه فيقول: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت:
نافق حنظلة. قال: سبحان الله: ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رَاًيَ عين، فإذا خرجنا من
عند رسول الله عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر:
فوالله إنّا لنلقَى مثل هذا ... ) [2] .
وحين دَفَنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدَ أصحابه جلس على القبر وهو
لم يُلحد بعد، فوعظ أصحابه موعظة بليغة، وذكر لهم ما يلقاه العبد بعد موته من
أحوال البرزخ وأهواله [3] .
وفي خطبه الجمعة كان يُعنى بهذا الأمر؛ فعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان
قالت: ما حفظت (ق) إلا مِن فِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بها كل
جمعة، قالت: وكان تنورنا وتنور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحداً [4] .
وقد أخبر تبارك وتعالى عن عباده المتقين وأنهم بحاجة إلى تعاهد النفوس
ورعايتها، فقال: [وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] [آل عمران: 133-135] .
بل أخبر عن نفسه فقال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم
مائة مرة) [5] .
فإذا كانت هكذا نفوس المتقين الذين بلغوا الرتب العالية والمنازل الرفيعة،
فكيف بمن هم دون ذلك بكثير؟ كيف بنا اليوم ونحن نعيش عالماً مليئاً بالفساد
والمنكرات، ونلابس ونواقع كثيراً منها صباح مساء، ناهيك عن الاستغراق في
فضول المباحات والوقوع في المشتبهات، وهذه دائرة ربما لم نفكر فيها لأنّا لم
نتجاوز ما قبلها.
فلئن كان الرعيل الأول وخير القرون يتعاهدهم نبيهم بالوعظ والتذكير،
ويتخوّلهم بها، ويسمعون منه كل جمعة ذلك، فكيف بجيلنا نحن؟
بل وكيف نتصور بعد ذلك أن المواعظ إنما هي لفئات خاصة من حديثي العهد
بالاستقامة والتوبة، في حين نظن أن الدعاة ومن قطعوا شوطاً في الطريق، في
غنى عن ذلك كله، وهم بحاجة للحديث عن القضايا الفكرية والدعوية والمسائل
الساخنة؟ !
__________
(1) رواه الترمذي (2157) ، وأبو داود (4607) ، وابن ماجة (42) .
(2) رواه مسلم (2750) .
(3) رواه أحمد (18063) .
(4) رواه مسلم (873) .
(5) رواه مسلم.(132/38)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها
(2/2)
عاصفة الأوهام (عوامل الاستمرار)
خالد محمد حامد
لا تحمل الخرافة في ذاتها قوة الدفع اللازمة لاستمرار ترويجها لدى المصابين
بها؛ فهي لا تصمد أمام الحقائق العقلية والشرعية في حلبة صراع الأفكار، ومع
ذلك فقد استمر داء تقديس القبور والأضرحة، بل انتشر واستفحل حتى إنه يذكر
عن عدد الذين يحضرون مولد البدوي أو الدسوقي في مصر مثلاً أنهم: يقدرون
بالملايين من البشر [1] ، فما هي العوامل التي ساعدت على هذا الانتشار
والاستمرار؟
إن المتأمل في شأن القبورية يستطيع القول: إنه لم يكن السبب في هذا
الانتشار عاملاً واحداً، بل هناك عدة عوامل متشابكة عملت جميعها على ذلك
الانتشار والاستمرار، نذكر منها: العوامل الدينية، والنفسية، والاجتماعية،
والاقتصادية، والسياسية.. وإليك بيان بعض هذه العوامل:
العوامل الدينية:
فـ (فلسفة القبورية) تعد من أهم عوامل استفحال داء تقديس القبور
والأضرحة، وأعني بذلك: مع تقديم مسوّغات لهذه الممارسات، ووجود الفراغ
(التوحيدي) لدى القبوريين مع بقاء الدافع الفطري في (التأله) لدى البشر عموماً،
كما أن القبوريين توهموا سهولة الدخول تحت طقوس القبور والأضرحة مقابل
تخليهم عما عدوه صعوبة تكاليف التوحيد الخالص، فكانوا كما قال فيهم ابن قيم
الجوزية نقلاً عن أبي الوفاء بن عقيل رحمهما الله: (لما صعبت التكاليف على
الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم،
فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم ... ) [2] ، فإذا أضفنا إلى ذلك:
ترويج مشايخ القبورية لشبهات ساقطة على أنها أدلة شرعية وحقائق دينية تسمح
بهذه الطقوس لازداد تأثير هذا العامل في ترسيخ فتنة القبورية، لذلك فإننا نلمح أن
انتشار هذا الداء يتناسب عكسيّاً مع تصاعد أمرين:
الأمر الأول: محاولة القضاء على الدين عموماً والعمل على قتل فطرة
الإيمان بالغيبيات في القلوب، الأمر الذي يصرف هذه الفطرة إلى نوع آخر من
الإيمان بنوع تأليه للمادة والعقل بدلاً من الغيب والخرافة، وهذا ما ظهر واضحاً
عقب الانقلاب العلماني على الخلافة العثمانية، (ويذكر رشيد رضا لعباد القبور ما
فعله ملاحدة الأتراك عندما استلموا الحكم، فقد حارب هؤلاء البدع والخرافات
وعبادة القبور، وقاموا بنبش قبور بعض الأولياء، وعرضوا أمام الناس رميم
عظامهم وعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم وعن مراقدهم، بله أن يجلبوا النفع أو
يدفعوا الضر عن الناس) [3] .
الأمر الثاني: ملء الفراغ التوحيدي الذي شغلته الخرافة عندما تألهت القلوب
للأضرحة والقبور وساكنيها، كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: (من غَمَرَ قلبه
بمحبة الله تعالى وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، أغناه ذلك عن
محبة غيره وخشيته والتوكل عليه) [4] ، لذا: رأينا أن انتشار هذا الداء تناقص
نسبياً في الأماكن والأوقات التي نمت فيها الصحوة الإسلامية المباركة، التي أخذت
على عاتقها الدعوة إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك كبيره وصغيره، والرد
على شبهات أهل الزيغ، وهنا يبرز الدور الخطير سلباً وإيجاباً الذي يمكن أن يقوم
به العلماء والدعاة، فعلى الرغم من جهود مشكورة لكثير من العلماء والدعاة الذين
بينوا للناس حقيقة التوحيد وحذروهم من الوقوع في الشرك إلا أن القبوريين خادعوا
أنفسهم ووجدوا ملاذاً لهم في بعض من ينسب إلى العلم والدين فأبوا إلا أن يُصغوا
آذانهم ويفتحوا مغاليق قلوبهم لكل من ساهم بقول أو فعل في التلبيس على الناس
وفتنتهم عن دينهم الحق.
وإليك إيضاحاً لبعض مواقف هؤلاء الداعين بأقوالهم أو أفعالهم إلى القبورية:
فحضور هؤلاء المشائخ لهذه الأماكن وعدم إنكارهم لما يحدث فيها، بل
مشاركتهم في طقوسها في أحيان كثيرة.. فتنَ كثيراً من الدهماء. فمما يذكره
الجبرتي بعد وصف المنكرات التي تحدث في أحد الموالد (مولد العفيفي) :
(.. ويجتمع لذلك أيضاً الفقهاء والعلماء ... ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء ... فضلاً عن كونهم يفعلونه..) [5] .
ويقول محمد أحمد درنيقة: (وهذه الأمور كانت تجري في بيت الله ويراها
ويسمعها العلماء الذين لا يفعلون شيئاً للتخلص من هذه الانحرافات، لا، بل ...
ذهب بعض العلماء إلى تهنئة هذه الفئة بهذا الموسم الشريف والدعاء لهم بأن يطول
بهم العمر لإحياء مثله أعواماً عديدة. يرى رشيد رضا أن هذا السكوت من قِبَل
العلماء قد أوقع في ذهن العامة أن هذه الأعمال وأضرابها من مهمات الدين) [6] .
ومن المواقف المعاصرة العديدة في ذلك: أنه (قد زعم الخليفة الحالي للسيد
البدوي في مولد عام 1991م: (أن السيد البدوي موجود معك أينما كنت، ولو
استعنت به في شدتك وقلت: يا بدوي مدد، لأعانك وأغاثك) ! قال ذلك أمام
الجموع المحتشدة بسرادق وزارة الأوقاف في القاهرة أمام العلماء والوزراء، وقد
تناقلته الإذاعات وشاشات التلفاز) [7] .
ليس هذا فحسب، بل تؤلف الكتب في الدعوة إلى ذلك، ويتواطأ (العلماء) في
إقرارها، فقد ذكر رشيد رضا أن أحد (المنسوبين للعلم) ألّف كتاباً يدعو فيه إلى ذلك
التوجه (المنافي للحنيفية) ، (وواطأه على ضلاله وإضلاله (63) عالماً أزهرياً كما
ادعى، وذكر أسماءهم وإمضاءات أكثرهم بخطوطهم، وبنى على هذا أنه انعقد
الإجماع؛ لأن سائر علماء الأزهر يوافقونهم فيه، وأنه يجب على جميع المسلمين
اعتقاده والعمل به..) [8] ..
والأمر تجاوز التنظير والتسويغ ليصل إلى الممارسة الفعلية كما يقوم بها أي
خرافي، فهذا (أحد المشايخ الكبار في عهد إسماعيل باشا كتب شكوى ضده وأرسلها
بالبريد إلى طنطا، ومنها إلى قبر السيد البدوي، حيث تقوم محكمته داخل قبره!) [9] ، (ولما وقع صراع بين الأحناف والشوافع حول مشيخة الأزهر بسبب تعيين
أحد مشايخ الأحناف شيخاً للأزهر، هرع الشوافع بقيادة الشيخ محمد بن الجوهري
الشافعي إلى ضريح الإمام الشافعي، ولم يزالوا فيه حتى نقضوا ما أبرمه العلماء
والأمراء وردوا المشيخة إلى الشافعية!) [10] .
وانظر إلى إنكارهم.. لأي شيء وقع؟ ! : (فعندما صودر أولاد سعد الخادم
وهم سدنة ضريح السيد البدوي هاج العلماء في الأزهر وامتنعوا عن التدريس إنكاراً
لمن قام بمصادرته، ولم يعودوا إلا بعد أن طيبت خواطرهم ووعدوا بتلبية
رغبتهم) [11] .
ثم انظر إلى إقرارهم.. على أي شيء وقع؟ : (ذكر الشيخ رشيد رضا أنه
كان مرة في قبة الإمام الشافعي، وكان ثَمّ جماعة من أكابر علماء الأزهر وأشهرهم، فأذن المؤذن العصر مستدبراً القبلة، فقال لهم: لِمَ لم يستقبل هذا المؤذن القبلة كما
هي السنة؟ فقال أحدهم: إنه يستقبل ضريح الإمام! .. وذكر أيضاً أنهم لا ينكرون
على من يستقبل قبر الإمام في صلاته) [12] .
ثم هم لا يسكتون على من يقوم بواجب إنكار المنكر حقيقة، بل ينكرون على
من ينكر المنكر الشركي، (كما حدث حين اعترض الواعظ الرومي (التركي) في
سنة 1711م ... وأبدى رأيه في اعتباره زيارة الأضرحة وإيقاد الشموع والقناديل
على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم من قبيل الكفر، بل وطالب بهدم الأضرحة
والتكايا، فثار عليه مشايخ الأزهر الصوفية وأصدروا فتوى بكرامات الأولياء
وتوسطوا لدى الحاكم السياسي حتى نفاه) [13] .
فما الذي يحمل هؤلاء (العلماء) على تلك الممارسات؟
يحملهم على ذلك ما يحمل غيرهم من دهماء القبوريين:
فهم يرون أن ذلك من شعائر الدين، حتى إن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً
يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الحسين في القبر
المنسوب إليه: (إنك (جئت تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية، فإنك
تريد أن تطيّر البقية من دينهم ( [14] .
وهم يعتقدون في القبور والأضرحة وأصحابها الضر والنفع، تماماً مثلما يعتقد
الدهماء والعامة من القبوريين، (ويبين رشيد رضا أن الذي دفع العلماء إلى
السكوت عن هذه الأمور خوفهم من الوقوع في قضية إنكار الكرامات أو الاعتراض
على الأولياء الذي يخشى معه أن يلحقوا بهم الأذى والضرر) [15] ، وليس أدل
على ذلك من أنه (في أيام حكم السلطان المملوكي جقمق قيل لأحد العلماء أن يفتي
بإبطال مولد البدوي لما يحدث فيه من زنا وفسق ولواط وتجارة مخدرات، وما
يشيعه الصوفية من أن البدوي سيشفع لزوار مولده، فأبى هذا العالم أن يفتي، قائلاً
ما معناه: إن البدوي ذو بطش شديد) [16] ..
فإذا كان هذا هو حال شريحة من العلماء المقتدى بهم، فماذا يُنتظر من العامة
والدهماء؟ .. إن الذي يعرض منهم عن السماع للعلماء الربانيين ويتخذ مثل هؤلاء
قدوة وأسوة فلا بد أن يتخبط من مس الخرافة والأوهام.
العوامل النفسية:
يرتبط بما سبق بعض الأسباب النفسية التي تعمل على انتشار تقديس القبور
والأضرحة واستمراره، حيث يمثل (الخوف) منها الذي نتج عن الاعتقاد فيها
حاجزاً لمنع هدم الأسطورة التي قامت عليها، وكذلك تمثل (المسرة والحبور)
الناتجين عن الاعتقاد فيها أيضاً أحد المرغبات في استمرار هذا الكيان.
وهذا ما يذكره الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربته القبورية.. (شيء آخر
أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء.. أن الدكتور [الذي يدعوه إلى الكفر
بهذه الطقوس الوثنية] يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء، والخطباء على المنابر صباح مساء يعلنونها صريحة: إن الذي يؤذي ولياً فهو في
حرب مع الله سبحانه وتعالى.. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور
والأضرحة؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه جل جلاله) [17] .
وعن أحد أسباب عشقهم يقول: ( ... لأني أحب أشعارهم، وأحب موسيقاهم
وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي، وخليط من ألحان قديمة متنوعة ... أو
ناي مصري حزين ينفرد بالأنين مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب
بمحبوبه ... وكل حجتي التي أبسطها في معارضة (الدكتور) أنه وأمثاله من الذين
يدعون إلى (التوحيد) لا يريدون للدين روحاً، وإنما يجردونه من الخيال!) [18] .. ولعل ذلك الخيال الذي كان يريد للدين أن يسبح فيه هو ما عبّر عنه بقوله:
(أحياناً أخترع لهم كرامات، أو أتصورها، أو أتخيلها..) [19] .
وهنا تلعب الإشاعات ونسج الأكاذيب دوراً مهماً في بناء العامل النفسي؛
فالصوفية دأبوا على تحذير الناس من غضب (الأولياء) ، (وقد صاغوا هذه الأفكار
المخيفة في صورة حكايات مرعبة حول رجال لهم سمعتهم العلمية ومكانتهم الفقهية
اعترضوا على الصوفية فأذاقهم طواغيتهم من العذاب الأليم ألواناً) [20] .. وليس
هذا الإرهاب النفسي مع العلماء والفقهاء فقط، (فمع أن الحكام من المماليك كانوا
يسيرون في ترهات أباطيل الصوفية ويقيمون لهم الخوانق والرباطات والزوايا، فلم
تخل قصص التخويف من تخويفهم، وأطلقوا على البدوي لقب: العطاب) [21] ..
فإذا كان هذا الحال هو ما يشاع بين العلماء والحكام فما بالنا بما يروج بين دهماء
الناس ويؤثر على نفسيتهم المستسلمة لهذا الداء؟ .. لننظر إلى بعض الصور:
فأهالي الإسكندرية بمصر يتحدثون بكثرة عن الكرامات التي تحدث لضريح أبي
الدرداء، (ويذكرون على سبيل المثال ما حدث عندما أرادت بلدية الإسكندرية سنة
1947م نقل الضريح إلى مكان آخر ... وبدأت فعلاً في تنفيذ المشروع، ولكن
واحداً من العمال الذين يعملون في نقل الضريح توقفت يداه وأصيب بالشلل! ،
فامتنع باقي العمال عن العمل ... واضطرت البلدية أن ترضخ لاعتقاد العامة وأبقت
الضريح كما هو [22] ) .
ومما رصده الشيخ رشيد رضا بخصوص هذه الظاهرة أنه (شاع لدى العامة
أن من تعوّد على حضور هذه الموالد أو على إنفاق شيء فيها، ثم امتنع عن قيامه
بعادته تلك: لا بد أن يصاب بنكبة أو مصيبة..) [23] .
فماذا لو تم بالفعل إبطال أحد الموالد؟ ! .. (حدث أن السلطان جقمق أبطل
مولد البدوي لما فيه من الوثنيات الموبقات والفواحش بين الرجال والنساء، وحدث
لبعض المقيمين بإبطال هذا المولد ابتلاء لهم ... فمنهم من عزل من منصبه، ومنهم
من أمر السلطان بنفيه، ومنهم من وضع في السجن، فأشاع الصوفية أن كل ذلك
من عمل البدوي؛ لأنه غضبان عليهم) [24] فآلة الحرب النفسية الصوفية تعمل
على كل حال.
وهناك بعد آخر في العامل النفسي، وهو أن أضرحة الأولياء تمثل للعامة
تعويضاً وهميّاً لانتصارها أوقات الاستبداد والتسلط السياسي؛ (فالإنسان المقهور
يكون بحاجة إلى قوة تحميه تجسدت في الأولياء، فهم المحامون والملاذ؛ ويتضح
هذا جليّاً في كرامات الأولياء؛ فهي تشكل النقيض تماماً لوضعية الإنسان المقهور،
وحيث ترسم صورة الإنسان المتفوق ضد الإنسان المهان واقعيّاً، وتجسد أماني
المغلوبين في الخلاص من خلال وجود نموذج الولي صاحب الخوارق الذي يفلت
من قيود الزمان والمكان، ولذا: نرى أن الجماهير المقهورة تتجمع حول أضرحة
الأولياء كما يتجمع أعضاء حزب معين حول شخص زعيمهم) [25] .
النساء والعامل النفسي في استفحال داء القبور والأضرحة:
لوحظ من خلال متابعة الواقع وتتبع الوقائع أن للنساء دوراً ملحوظاً في
ترويج تقديس القبور والأضرحة والمزارات، نشأةً وارتياداً:
فأم الخليفة العباسي المنتصر هي أول من أنشأ قبة في الإسلام كما مر ذكره
في حلقة سابقة، ويذكر أن الخيزرانة أم هارون الرشيد هي أول من كسا الحجرة
النبوية الشريفة، وصارت من بعدها سنة الملوك والسلاطين [26] ، ويذكر أيضاً
أنها أول من حوّل البيت الذي ولد فيه الرسول إلى مسجد [27] ، كما قامت والدة
السلطان العثماني عبد العزيز بترميم قبب مسجد الزبير بن العوام بالبصرة
وتكبيره [28] .
ويسجل الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام
الرباني ومجدد الألف الثاني ظاهرة كثرة ارتياد النساء للقبور والأضرحة في الهند
فيقول: (وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع عنه بواسطة كمال الجهل
فيهن، يطلبن دفع البلية من هذه الأسماء الخالية عن المسميات، ومفتونات بأداء
مراسم الشرك وأهل الشرك، خصوصاً وقت عروض مرض الجدري ... بحيث لا
تكاد توجد امرأة خالية من دقائق هذا الشرك.. إلا من عصمها الله تعالى..) [29] .
كما لوحظ أيضاً تخصيص بعض الأضرحة والمزارات بالنساء، كمزار
(بنات العين) بالأردن الذي يعرف بـ (المستشفى النسائي) ، وضريح الشيخة مريم
التي (اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم) ، وضريح الشيخة صباح بطنطا التي
اشتهرت بالبركة ذاتها! [30] ... إلى غير ذلك من الأضرحة والمزارات الخاصة
بالنساء، بينما لم يبلغ علمنا اهتمام الرجال بتخصيص أضرحة تقتصر عليهم
وحدهم أو يزعمون أن لها ميزات تخصهم دون غيرهم.
ولعل ذلك راجع إلى طبيعة نفسية النساء التي تغلب عليها العاطفة والانبهار
بالمظاهر، كما يتعاظم فيهن الإحساس الفطري بالضعف البشري وحاجتهن إلى قوة
خفية تجبر هذا الضعف، ولعل لهذا السبب أيضاً جاء في السنة النبوية تخصيص
النساء بالزجر الشديد عن أن يكن زوارات للقبور، فعن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (لعن زوارات القبور) [31] ، وورد فيهن كذلك أنهن أكثر
أتباع الدجال ( ... فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى
حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه) [32] .
العوامل الاجتماعية:
حيث تمثل المسايرة الاجتماعية والمجاملات دوراً مهماً في انتشار هذا الداء
وعدم الانخلاع عنه، وهذا ما يسجله الأستاذ عبد المنعم الجداوي في تجربته أثناء
خروجه من الاعتقادات القبورية، وذلك عندما وجد نفسه في صراع بين ما اعتقده
من خطأ هذه الاعتقادات الباطلة وما يمليه عليه الواجب الاجتماعي من ضرورة
مجاملة ابنة خالته وأسرتها، بمشاركته لهم في الوفاء بنذر تقديم (القربان) إلى السيد
البدوي؛ حتى يعيش ابنهم الوحيد كما يعتقدون [33] .
ويدخل في هذه العوامل أيضاً: صفة الهيبة والوجاهة الاجتماعية التي يخلعها
تقديس القبور والأضرحة على سدنتها وخدمها والقائمين عليها، مما يصعب معه إلا
على من رحم الله الاعتراف بخطأ الاعتقادات والممارسات التي تقام وتنسج حول
هذه الأضرحة؛ الأمر الذي يعني تخليهم عن هذه المكانة التي أكسبتها لهم الأضرحة
والقبور، فلقد (كان سادن الضريح سيداً مطاعاً وشخصاً مهاباً، يستمد طاعته
وهيبته من الضريح الذي يقوم على سدانته ... وكانت سدانة الأضرحة وظيفة
متوارثة يرثها الأبناء عن الآباء، وتنتقل في عقبهم وذراريهم، ولا ينزعها منهم إلا
ظالم كما يزعمون، ولم تكن لتنزع من أسرة إلا ليعهد بها إلى أسرة أخرى) [34] .
ويدخل في هذه العوامل كذلك: التفاخر بين أهل القرى والمدن والمحلات بهذه
القبور والأضرحة؛ حيث يعتبر المعتقدون فيها أن وجود ضريح وخاصة إذا كان
من ذوي الشهرة والمكانة من دواعي فخرهم بين أهل البلاد الأخرى، يقول الغزي
بعد أن ذكر الخلاف في دفين الجامع الأموي بحلب: (وعلى كل حال فليس يخلو
الجامع من أثر شريف نبوي جدير أن تفتخر حلب بوجوده) [35] .. ومن هذا
الوجه أيضاً: الاهتمام بالأضرحة باعتبارها آثاراً وتراثاً تاريخياً ينبغي عدم تضييعه، فالدكتورة سعاد ماهر ترثي وتأسف لحال ضريح (ذي النون المصري) ، حيث
تقول: (والضريح في مكان مهجور خرب وبحالة سيئة للغاية، ومكانه بجوار
مسجد سيدي عقبة بن عامر بجبانة الإمام الليث، وإني أناشد وزارة الأوقاف أن
تعيد بناء ضريح أول صوفي في مصر الإسلامية، بل ومن أبرز متصوفي الرعيل
الأول في العالم الإسلامي كله) [36] .
فكيف بعد هذا كله يستمعون لمن يقول لهم: إن بقاء هذا الكيان عار على
عقيدتهم ودينهم وعقولهم؟
العوامل الاقتصادية:
ونستطيع أن نطلق عليها: المنافع المادية، وهذه المنافع ظهرت مصاحبة لهذا
الداء، فمنذ القدم استعمل الشيعة القبور والأضرحة والعتبات المقدسة وسيلة للتكسب
والعيش، مثل الفاتحة والقصاص، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد والقبور [37] ،
وعندما راجت هذه التجارة وازدهرت ظهر من يبتكر للناس أصنافاً من هذه
الأضرحة لزيادة دخله، وهذا ما يذكره ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول: (..
حدثني بعض أصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، وكان أحدهما قد اتخذ قبراً
تجبى إليه أموال ممن يزوره وينذر له من الضلال، فعمد الآخر إلى قبر، وزعم
أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف، وجعل فيه من أنواع الطيب ما
ظهرت له رائحة عظيمة) [38] ، واستمرت هذه البضاعة رائجة عند أهل الوهم
والدجل حتى أضحى استمرار تقديس القبور والأضرحة ضماناً لاستمرار تدفق مورد
رزق مهم لكثير من فئات المنتفعين بترويج هذا الداء.
ويقف على رأس هؤلاء المنتفعين: سدنة الأضرحة وخدمها والقائمون عليها،
فقد مثّلت هذه الأضرحة مراكز حضرية جذابة، مما دعا الأهالي إلى (بناء مساكن
حول الأضرحة، وأصبحت الأضرحة بذلك وسط المدن والقرى توحي للسكان
باستمرار هذه العادات.
ومن أهم العادات التي تبعت هذه العادة: تقديم النذور والصدقات، وهو أمر
أثّر في مزيد من الإقبال على العمل في هذه الأضرحة.. [39] ، فصناديق النذور
شكّلت وعاءً استثمارياً مهماً لمروجي الخرافة، و (مما يوضح أهمية هذا المورد
بالنسبة للمجلس الصوفي وكافة الطرق التابعة له أيضا: الموقف الشديد الذي وقفوه
ضد المفتي حين أصدر فتوى شرعية ببطلان النذور شرعاً، واعتبار الباب الثالث
من لائحة الطرق الصوفية الذي يقر ويبيح هذه النذور مخالفاً للشرع والدين ...
وهذا الأمر يدعو البعض لتفسيره بأنه دفاع عن مصالح طبقية أكثر من كونه دفاعاً
عن مبادئ شرعية. ومن الموارد المهمة أيضاً: الصدقات التي كان يمنحها
أصحاب الجاه والقادرون سواء أكان عطاؤها سراً أم جهراً، وسواء أكانت عينية أم
نقدية..) [40] .
ليس ذلك فحسب، بل يضاف إلى ذلك: الموارد الرسمية كالأوقاف التي
كانت توقف على هذه الأضرحة وخدامها وسدنتها، والإعانات المالية والعينية التي
تصرف لهم من وزارتي الأوقاف والشؤون الاجتماعية [41] ، وهكذا صار لهذه
الأضرحة (ألوف من السدنة يعيشون في رغد وثراء من ورائها، وكانوا يتوارثون
هذه الوظائف ... ويكفي أن تعلم أن ما كان يصل إلى ضريح الجيلاني في السنة من
أموال الزائرين، يفوق ما كانت تنفقه الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين في
السنة الواحدة أضعافاً مضاعفة) [42] .
والأمر لا يقتصر فقط على الأوقاف والصدقات والنذور التي يدفعها المعتقدون
في الأضرحة لدفع الضرر عن أنفسهم أو لشكر نعمة، والتي تمثل المصدر الرئيس
لهذا الدخل، بل يتعداه إلى كل الطرق الموصلة إلى المال بما فيها الاحتيال على
السذج المعتقدين في هذه الأضرحة، فعند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي
يمزقون الكسوة والعمامة القديمتين إلى قصاصات صغيرة، وهنا (تظهر العملية
التجارية غير الرسمية التي يقوم بها خدم المسجد، فيبيعون هذه القصاصات نظير
مبالغ كبيرة) [43] ، وبالطبع يتم ذلك وسط تهافت هؤلاء المعتقدين في الأضرحة
للحصول على أي بركة من (ريحة) الولي.. وربما لأجل مثل هذه النشاطات
وغيرها ذكر الجبرتي عن سدنة الأضرحة أنهم أغنى الناس! [44] .
ويتحدث الدكتور زكريا سليمان بيومي عن أهمية فئة خدام الأضرحة
باعتبارها مركز ثقل دعائي واقتصادي للطرق الصوفية فيقول: ( ... فئة خدام
الأضرحة، التي تشكل أكبر فئة من حيث العدد والأهمية الاجتماعية والاقتصادية
بالنسبة للطرق الصوفية، فهم بمثابة مراكز متناثرة في كل مصر لنثر أساليب هذه
الطرق والدعوة لها، ويروجون للاعتقاد في الأولياء بكل مراتبهم، ويكثرون من
ذكر كراماتهم وخوارقهم، مدفوعين إلى ذلك بدافع الانتماء للطرق من خلال عملهم، وبدافع أساسي وهو أن هذه الأضرحة تمثل مصدر معيشتهم ... وكانت هذه
الأضرحة تستوعب عدداً كبيراً من الخدم، فمن الممكن أن نجد أسرة كاملة تخدم في
ضريح واحد، ولم تكن هذه الوظيفة مقصورة على الفقراء والمحتاجين، بل كانت
لما تدره من دخل كبير مغرية لفئات متعددة؛ فنجد مشايخ طرق كبيرة يسعون لهذه
الوظيفة، بل ويفضلونها أحياناً على مشيخة الطرق..) [45] .
فكيف يهدمون بأيديهم الكيان الذي يغلون من وراء إقامته مصدر دخلهم ورغد
عيشهم؟ لا بد أنهم سينافحون بكل ما يملكون لاستمرار هذا الكيان، إلا من رحمه
الله ولفظ من قلبه حب الدنيا وشهواتها.
ومن المنتفعين باستمرار وجود كيان الأضرحة والقبور: (آلاف من الفقراء
الذين يتعيشون بجوار الأضرحة ويستفيدون من الموالد، وهذا أمر واضح عياناً
بياناً، لاحظه الباحث في كل الأضرحة التي زارها، وخاصة الحسين والسيدة
زينب..) [46] ، ولقد كان الفلاحون يحرصون على المشاركة في الولائم التي
تقام حول الضريح، حيث (يقصدون بها استجلاب البركة) [47] .. كما أن هناك
مئات الأسر التي تتعيش على استمرار الأضرحة من خلال المقاهي والمطاعم
والفنادق وغيرها من الخدمات المنتشرة حول كل ضريح، إضافة إلى السيارات
ووسائل المواصلات التي تغدو وتروح على حساب الزوار [48] .
ومن الموارد المهمة التي ارتبطت بتقديس القبور والأضرحة: ما يجري في
الاحتفالات والموالد التي تقام لهذه الأضرحة التي (اعتبرها رجال الصوفية مواسم
للإرشاد وتعليم الآداب الاجتماعية والدينية، وكمدارس شعبية للوعظ والإرشاد
الديني..) [49] ، ولكنها تحولت إلى بؤر متحركة لنشر المفاسد والانحرافات،
وقد تعددت هذه الموالد وكثرت حتى إنها لم تكن تقام أحياناً (بمناسبة تاريخ وفاة
صاحب الضريح أو مولده، وكان يصادف أحياناً أن تقام في مواسم الحصاد ...
ونادراً ما كان يحدث مولد لشيخين في ليلة واحدة إلا إذا كانت المسافة بينهما بعيدة
حيث كان مشايخ الطرق يحرصون على ترتيب هذه الموالد بحيث يتمكنون من
الانتقال بينها..) [50] ، وقد كانت ليالي الموالد تصل في بعض الأحيان إلى
شهرين ونصف [51] ، يصاحبها نشاط وافر لفئام من المنشدين والمداحين
والمشببين الذين يحيون هذه الموالد بشتى أنواع الاحتفالات، ومنها ما يطلقون عليه: (الذكر) ، (وقد اعتاد من يحضر (الذكر) أو يمارسه أو يشاهده خصوصاً في
السرادقات المقامة أمام المسجد من أن يقوم بدفع (النقوط) ، وهي المبالغ التي تدفع
للمنشد لتشجيعه على حسن الأداء، وهي في هذه المناسبة تعتبر تحية لولي الله نفسه، حيث يعتقد بأن هذه النقوط هدية ترد إلى مقدمها من جانب الولي صاحب المولد،
سوف يردها في شكل آخر، فينعم عليه بكثير من الهبات التي تتمثل في زيادة
الدخل ووفرة المحصول وسداد الديون ... ) [52] ، أما النشاطات الأخرى: فـ
(يبدو الجامع كتلة من الأنوار المبهرة، وتنتشر السرادقات حوله في ساحته وفي
المنطقة المحيطة به، وتظل المطاعم والمقاهي تستقبل روادها طوال (24) ساعة،
ومع غروب الشمس ليس هناك موطئ لقدم، ضجيج الميكروفونات يتصاعد من
جميع السرادقات ... روائح البخور والعطارة والشواء تتضوع في الأجواء، شوادر
الحمص والحلوى بأنواعهتا تشارك بالإعلان عن بضاعتها في الضجيج العام، باعة
الشاي على الأرصفة، وباعة المسابح والطراطير الملونة ولعب الأطفال..) [53] .. فهي أنشطة حياتية متكاملة، وهذا ما أكده علي مبارك باشا، فيقول:
(وفي هذه الموالد ما لا يخفى على أحد من المزايا والمنافع، كمنفعة من يكترى منهم
الدواب أو المراكب أو سكة الحديد للمضي إليه والانصراف عنه، ومنفعة من يكون
فيه من الفراشين والطباخين وغيرهم من أرباب الحرف والصناع وأصحاب الدور
التي تكترى والأشياء التي تشترى، ثم ما يكون فيه من سعة التجارة، فإنا نرى
كثيراً من التجار في طنطا وغيرها من سائر مدن مصر يعلقون أداء ديونهم وقضاء
بعض شؤونهم على هذا المولد..) [54] .
وبالطبع: فخلف كل نشاط جمهور من المنتفعين الذين يحرصون على
استمرار هذه الموالد التي تقام حول الأضرحة ضماناً لتدفق مورد رزقهم.
وأخيراً: فإن من العوامل الاقتصادية لاستمرار تقديس القبور والأضرحة:
اهتمام بعض الدول بهذه الأضرحة باعتبار ما تدره الأنشطة المرتبطة بها وحصيلة
صناديق نذورها والأوقاف التي توقف عليها ... أحد الموارد الاقتصادية للدولة التي
بها مثل هذه الأضرحة.
__________
(1) انظر: موالد مصر المحروسة، ص40، والأضرحة وشرك الاعتقاد، ص64، وعقيدة المسلم، لمحمد الغزالي، ص76.
(2) إغاثة اللهفان، ج 1، ص195.
(3) عن: السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، لمحمد أحمد درنيقة،
ص223- 224.
(4) إغاثة اللهفان، ج 1، ص214.
(5) عن: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص161، وجهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د شمس الدين السلفي، ص1004.
(6) السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص208.
(7) محمد حامد الناصر، بدع الاعتقاد، ص256، عن: السيد البدوي، دراسة نقدية، وانظر: الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص121.
(8) مجلة المنار، ج3، م33، ص216.
(9) الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص116.
(10) الانحرافات العقدية، ص352.
(11) السابق، ص306.
(12) السابق، ص350.
(13) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص83 84.
(14) مجلة المنار، ج3، م33، ص 222.
(15) محمد أحمد درنيقة، مرجع سابق، ص 207.
(16) د عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص 120.
(17) اعترافات كنت قبورياً، ص 9 10.
(18) السابق، ص12.
(19) السابق، ص 8.
(20) د عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص125.
(21) السابق، 127.
(22) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، د سعاد ماهر فهمي، ج2، ص 33.
(23) محمد أحمد درنيقة، مصدر سابق، ص211.
(24) الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص127.
(25) د مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكيولوجية الإنسان المقهور،
ص149- 150، انظر: الصوفية والسياسة، ص180.
(26) انظر: الانحرافات العقدية، ص275.
(27) انظر: مقال (تأملات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين) ، ص134 135.
(28) انظر: الانحرافات العقدية، 292.
(29) عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د شمس الدين السلفي الأفغاني،
ص452، ولزيادة توضيح مثل هذه الأحوال، انظر: الانحرافات العقدية، ص311، ومقال (مسلمو أوزبكستان) ، مجلة (دراسات إسلامية) ، ع/1، ص 218، ومقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين) ، مجلة العربي، ع/226، ص135.
(30) انظر: المزارات في شرقي الأردن، ص907، وموالد مصر المحروسة، ص53، والانحرافات العقدية، ص336.
(31) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والبيهقي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهكذا حكم الألباني على الحديث، انظر: مشكاة المصابيح، ح/ 1770، وصحيح سنن ابن ماجه، ح/1281.
(32) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، 2/67، وابن ماجه، وهو صحيح لغيره، انظر: الصحيح المسند من أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، لمصطفى العدوي، ص497.
(33) انظر: اعترافات كنت قبورياً، ص 20.
(34) الانحرافات العقدية، ص 306.
(35) السابق، ص 280.
(36) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج 1، ص 134.
(37) انظر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 427.
(38) مجموع الفتاوى، ج 27، ص 459.
(39) د زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص 129.
(40) السابق، ص 104 105.
(41) انظر: السابق، ص 99 102.
(42) محمد حامد الناصر، بدع الاعتقاد، ص 267.
(43) هيام فتحي دربك، مقال (موالد الأولياء في مصر) ، المجلة العربية، ع/131، ص 43، 44.
(44) انظر: الانحرافات العقدية، ص 309.
(45) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص 126، 127.
(46) عمار علي حسن، الصوفية والسياسة في مصر، ص 110.
(47) السابق، ص 129.
(48) انظر: شهر في دمشق، لعبد الله بن محمد الخميس، ص 67.
(49) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص 130.
(50) السابق، ص 106.
(51) انظر: السابق.
(52) هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص 44.
(53) موالد مصر المحروسة، ص50، وانظر: ص 51 55.
(54) عن: (السيد البدوي ودولة الدراويش في مصر) ، لمحمد فهمي عبد اللطيف، ص 127.(132/40)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انحرافات القبوريين الداء والدواء
(2/2)
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
في عرضه لسبل معالجة انحرافات القبوريين تطرق الكاتب في الحلقة السابقة
إلى المسلك الدعوي، وأوضح فيه ضرورة أن يُعنى العلماء بتقرير التوحيد وتربية
الأمة على الانقياد للشرع انقياداً والتزاماً، ومخاطبة عقول الناس لبيان تهافت
اعتقادات القبورية، ثم شرع في إيضاح المسلك الثاني، وهو: المسلك العلمي الذي
بين فيه ضرورة إيضاح قواعد الاستدالال عند أهل السنة وأهل البدع، والتنبيه
على أن أدلة اعتقاد أهل السنة هي غالباً من المحكمات بخلاف أهل البدع، ثم بين
تهافت استدلالات القبوريين على انحرافاتهم، ويواصل في هذه الحلقة مقارعة ما
تبقى من دعاويهم، وبيان جوانب أخرى في الموضوع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
4- ومن دعاويهم العريضة: احتجاجهم بأن الكثير من المسلمين في القديم
والحديث يبنون على القبور، ويتخذون المشاهد والقباب، ويتحرون الدعاء عندها.
والجواب عن هذه الدعوى من وجوه:
أحدها: أن أكثر هذه المشاهد مكذوبة لا تصح نسبتها إلى أصحابها، وكما
يقول شيخ الإسلام: (وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال إنه قبر نوح؛ فإن أهل المعرفة يقولون
إنه قبر بعض العمالقة، وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبيّ بن كعب
الذي في دمشق، اتفق العلماء على أنه كذب) [1] .
ويقول في موضع آخر: (عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق،
لا يكاد يوقف منه على العلم إلا في القليل منها بعد بحث شديد؛ وهذا لأن معرفتها
وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام.. بل قد نهى النبي -صلى الله عليه
وسلم- عما يفعله المبتدعون عندها..) [2] .
ثانياً: إن البناء على القبور وتحري الدعاء عندها ونحو ذلك من البدع المنكرة
التي حذّر منها الشارع أيما تحذير، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله
اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذّر ما صنعوا) متفق عليه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (قد كان من قبور أصحاب رسول بالأمصار
عدد كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، وما استغاثوا عند قبر
صاحب قط، ولا استسقوا عند قبره ولا به، ولا استنصروا عنده ولا به. ومن
المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، تيقن قطعاً أن القوم ما كانوا
يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً، بل كانوا ينهون عن ذلك
من كان يفعله من جُهّالهم) [3] .
ويقول ابن القيم مبيّناً أن صنيع القبوريين مفارق لما كان عليه سلف الأمة:
(هل يمكن لبشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم [أي: السلف
الصالح] بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة
قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلّوا عندها، أو يسألوا الله
بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في
ذلك ... ) [4] .
يقول العلامة الصنعاني جواباً عن هذه الشبهة: (إن أردت الإنصاف وتركت
متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل، لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً
بعد جيل وقبيلاً بعد قبيل؛ فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى
في هدم منارها صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ينشأ الواحد
فيهم فيجد أهل بلدته يلقنونه: أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون له،
ويرحلون إلى محل قبره ... فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا
يسمعون من أحد عليهم من نكير ... ولا يخفى على أحد يعرف بارقة من علم
الكتاب والسنة والأثر أن سكوت العالم على وقوع المنكر ليس دليلاً على جواز ذلك
المنكر) [5] .
ويقول العلامة الشوكاني: (اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم
وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء
عليها من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول -صلى الله عليه وسلم-
لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين) [6] .
ثالثاً: أن سكوت العلماء عن هذه المظاهر الشركية والبدعية عند المشاهد
والقبور لا يعني الرضا والإقرار، فقد يتعذر عليهم الإنكار باليد وباللسان، ولم يبق
لهم إلا الإنكار بالقلب، لا سيما وهذه المشاهد والقباب قد بناها حكام وسلاطين؛ كما
يقول الصنعاني: (فما كل سكوت رضى؛ فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف
والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلامه،
فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد. فإن هذه القباب والمشاهد أعظم
ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، وغالب
بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة إما على قريب لهم، أو
على من يحسنون الظن فيه ... ) [7] .
ومن هذا القبيل ما يحتج به القبوريون بأن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-
قد ضُمّن المسجد النبوي دون نكير، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه، كما يحتجون
بوجود القبة على قبره صلى الله عليه وآله وسلم.
والجواب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن في حجرة عائشة رضي الله
عنها شرقي المسجد، فلم يدفن في المسجد، والأنبياء يدفنون حيث يموتون كما
جاءت بذلك الأحاديث.
كما أن الصحابة رضي الله عنهم دفنوه في حجرة عائشة كي لا يتمكن أحد
بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه: (لعن الله اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: فلولا ذلك أُبرِزَ قبره غير أنه خشي
أن يتخذ مسجداً) أخرجه البخاري ومسلم.
وأمر آخر وهو أن الحجرة النبوية إنما أُدخلت في المسجد في خلافة الوليد بن
عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة [8] ؛ حيث أمر الوليد بن
عبد الملك سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج النبي -صلى
الله عليه وسلم- إليه على سبيل التوسعة، فأدخل فيه الحجرةَ النبويةَ حجرةَ عائشة،
فصار القبر بذلك في المسجد [9] .
فلا يصح الاحتجاج بما وقع بعد الصحابة؛ لأنه مخالف للأحاديث الثابتة وما
فهمه سلف الأمة، وقد أخطأ الوليد في إدخاله الحجرة النبوية ضمن المسجد، وكان
باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة النبوية [10] .
وأما دعوى عدم الإنكار فهذه دعوى بلا دليل، وعدم العلم ليس علماً بالعدم،
وسكوت العلماء لا يعني الرضا والإقرار؛ كما سبق الإشارة إليه آنفاً؛ لا سيما وأن
الذي أدخل القبر النبوي ضمن المسجد خليفة ذو شوكة وسلطان وهو الوليد بن عبد
الملك وكذا الذي اتخذ القبة هو السلطان قلاوون.
ومع ذلك فإن المعوّل عليه هو الدليل والبرهان وليس واقع الناس وحالهم.
والله المستعان.
ومما يبين تهافت هذه الدعوى: ما نقل عن علماء أنكروا هذا الصنيع وحذّروا
منه.
فيحكى عن سعيد بن المسيب رحمه الله: أنه أنكر إدخال حجرة عائشة في
المسجد، كأنه خشي أن يتخذ مسجداً [11] .
وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى إنكار هذه القبة؛ حيث قال: (ثم بعد ذلك
بسنين متعددة بنيت القبة على السقف، وأنكره من كرهه) [12] .
يقول العلاّمة حسين بن مهدي النعمي في الرد على هذه الدعوى: (قوله [أي
المخالف] : ومن المعلوم أنه -صلى الله عليه وسلم- له قبة، وأولياء المدينة وأولياء
سائر البلدان.
أقول: الأمر كذلك؛ فكان ماذا؟ بعد أن حذر -صلى الله عليه وسلم- وأنذر
وبرأ جانبه المقدس الأطهر -صلى الله عليه وسلم-، فصنعتم له ما نهى عنه، أفلا
كان هذا كافياً لكم عن أن تجعلوا أيضاً مخالفتكم عن أمره حجة عليه وتقدماً بين يديه! فهل أشار بشيء من هذا أو رضيه أو لم ينه عنه؟) [13] .
وقال العلاّمة الصنعاني في الجواب عن هذه الشبهة: (فإن قلت: هذا قبر
رسول الله قد عمرت عليه قبة عظيمة، أنفقت فيها الأموال. قلت: هذا جهل عظيم
بحقيقة الحال: فإن هذه القبة ليس بناؤها منه، ولا من الصحابة، ولا من تابعيهم،
ولا تابعي التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على
قبره -صلى الله عليه وسلم-، من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو
قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678هـ، ذكره في تحقيق
النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة، فهذه أمور دولية لا دليلية، يتبع فيها الآخر
الأول) [14] .
ويُذكر أن الإخوان رحمهم الله قد هموا في زمن الملك عبد العزيز بن
عبد الرحمن آل سعود رحمه الله عند دخولهم المدينة المنورة أن يزيلوا هذه القبة، ولكنهم خشوا من قيام فتنة أعظم من إزالة القبة [15] .
ج - المسلك الاحتسابي: وهذا مسلك يقوم به أصحاب الحسبة، الآمرون
بالمعروف والناهون عن المنكر، لاسيما أصحاب النفوذ والسلطة والشوكة.
ويتمثل هذا المسلك في أمرين:
أحدهما: أن يسعى إلى هدم هذه القباب ونقضها وإزالتها، امتثالاً للوصية
النبوية واتباعاً لسلف الأمة.
فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: (ألا أبعثك على ما
بعثني عليه رسول؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) .
أخرجه مسلم.
ولما ذكر ابن القيم هدم مسجد الضرار وتحريقه، قال: ففي هذا دليل على
هدم ما هو أعظم فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها
أن تهدّم كلها حتى تسوّى بالأرض، وهي أوْلى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك
القباب التي على القبور، يجب أن تهدم كلها؛ لأنها أسست على معصية الرسول؛
لأنه قد نهى عن البناء على القبور.. فبناءٌ أسس على معصيته ومخالفته بناء غير
محترم) [16] .
ومن الأمثلة على هذا المسلك الاحتسابي ما فعله الحارث بن مسكين رحمه الله
(ت 250هـ) عندما هدم مسجداً كان قد بني بين القبور [17] .
قال ابن كثير في حوادث سنة 236هـ: (فيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن
علي بن أبي طالب، وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس: من وجد
هنا بعد ثلاثة أيام ذهبنا به إلى المطبق (السجن [] 18 [.
وقال أبو شامة (ت 665هـ) : (ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق
الجبينأني أحد الصالحين ببلاد أفريقية في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح
أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدّب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية
كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذّر عليها نكاح أو ولد قالت:
امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله: فإنا في السحر ذات
ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذّن الصبح
عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتُها لك فلا ترفع لها رأساً، قال: (فما رُفِعَ لها رأس
إلى الآن) ] 19 [.
وذكر ابن غنام في تاريخه ما فعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع
عثمان بن معمر من هدم القباب وأبنية القبور فقال: (فخرج الشيخ محمد بن الوهاب
ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم إلى الأماكن التي فيها الأشجار التي
يعظمها عامة الناس والقباب وأبنية القبور، فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد
والقبور، وعدلوها على السنة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه) ] 20 [.
ومما يجدر التنبيه عليه أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد سلك هذا المسلك
الاحتسابي العملي لما كان عنده من شوكة وقوة، ولكنه كان في أول أمره قد سلك
مسلك الدعوة برفق ولين كما قال تلميذه وحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن
محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: (كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه
الله في ابتداء دعوته، فإذا سمعهم يدعون زيد ابن الخطاب -رضي الله عنه- قال:
(الله خير من زيد) تمريناً لهم على نفي الشرك بلين الكلام، نظراً إلى المصلحة
وعدم النفرة) ] 21 [.
ويذكر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما فعلوه أثناء دخولهم مكة
شرّفها الله سنة 1218هـ فكان مما قاله: (فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يُعبد
بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع، ودفع الضر بسببه مع جميع البناء على
القبور وغيرها، حتى لم يبق في البقعة المطهرة طاغوت يُعبد؛ فالحمد لله على
ذلك) ] 22 [.
ومما سطره المؤرخ ابن بشر عن بعض الأعمال التي قام بها الأمير سعود بن
عبد العزيز رحمه الله ما يلي:
ففي حوادث سنة 1216هـ حين توجه سعود بالجيوش إلى كربلاء، فهدم
القبة الموضوعة على قبر الحسين) ] 23 [.
ويقول أيضاً: (وفي حوادث سنة 1217هـ حين دخل سعود مكة وطاف
وسعى، فرّق جيوشه يهدمون القباب التي بنيت على القبور والمشاهد الشركية،
وكان في مكة من هذا النوع شيء كثير في أسفلها، وأعلاها، ووسطها، وبيوتها) .
فأقام فيها أكثر من عشرين يوماً، ولبث المسلمون في تلك القباب بضعة عشر
يوماً يهدمون، يباكرون إلى هدمها كل يوم، وللواحد الأحد يتقربون، حتى لم يبق
في مكة شيء من تلك المشاهد والقباب إلا أعدموها، وجعلوها تراباً) ] 24 [.
وفي سنة 1343هـ قام أتباع الدعوة السلفية بهدم القباب والأبنية على القبور
بمكة، مثل القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها.
وقام الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي في جنوب الجزيرة العربية بهدم قبة في
الساحل بمشاركة بعض زملائه، وبقايا قبة على قبر الشريف حمود المكرمي في
سامطة] 25 [.
ويقول الشيخ الألباني: (ومن تلك الأشجار شجرة كنت رأيتها من عشر سنين
شرقي مقبرة شهداء أحد، خارج سورها، وعليها خرق كثيرة، ثم رأيتها سنة
1371هـ قد استأصلت من أصلها، والحمد لله، وحمى المسلمين من شر غيرها
من الشجر وغيره من الطواغيت التي تعبد من دون الله تعالى) ] 26 [.
الأمر الثاني: أن يسعى إلى فضح وكشف مكائد أرباب القبور وسدنتها،
وبيان حقيقة هؤلاء الدجالين الملبسين، وما هم عليه من الفجور والولوغ في
الفواحش، وأكل أموال الناس بالباطل، وأنهم خونة وعملاء للاستعمار وأذنابه.
وقد كشف أهل العلم حقائق مخزية وأحوالاً فاضحة لأولئك السدنة المضلين
وأتباعهم، وما يرتكبونه من انخلاع عن شرائع الله تعالى، وولع بالفجور
والقاذورات.
يقول العلاّمة النعمي حاكياً بعض أوضاعهم: (ومن ذلك أن رجلاً سأل من فيه
مسكة عقل، فقال: كيف رأيتَ الجمع لزيارة الشيخ؟ فأجابه: لم أرَ أكثر منه إلا
في جبال عرفات، إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الأيام
فريضة.
فقال السائل: قد تحمّلها عنهم الشيخ.
قلت] النعمي [: وباب (قد تحمّل عنهم الشيخ) مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه، وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد
والمشهد) ] 27 [.
ومما سوّده المؤرخ الجبرتي في شأن مشهد عبد الوهاب العفيفي (ت 1172هـ)
وما يحصل عنده من أنواع الفسوق والفجور ما يلي: (ثم إنهم ابتدعوا له موسماً
وعيداً في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد، فينصبون خياماً كثيرة ومطابخ
وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي
الأرياف وأرباب الملاهي والبغايا، فيملؤون الصحراء، فيطؤون القبور ويوقدون
عليها النيران، ويصبون عليها القاذورات ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون
ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً، ويستمر ذلك نحو
عشرة أيام أو أكثر) ] 28 [.
وتحدث الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عن مفاسد
عُبّاد القبور، فكان مما قاله: (ومنها: ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من
الفجور والفواحش، وترك الصلوات وفعل الخلاعات التي هي في الحقيقة خلع
لربقة الدين والتكليف، ومشابهة لما يقع في أعياد النصارى والصابئة والإفرنج
ببلاد فرنسا وغيرها من الفجور والطبول والزمور والخمور) ] 29 [.
ويصف الشيخ عبد الرحمن الوكيل أحوال عبّاد القبور من الصوفية وغيرهم
ويشير إلى جملة من صور الكفر والفجور في تلك المشاهد والموالد، فيقول: (وسلِ
الآمّين تلك الموالد عن عربدة الشيطان في باحاتها، وعن الإثم المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها.. فما ينقضي في مصر أسبوع
إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعبّاد أوثانها عند مقبرة يسبّحون بحمد جيفتها، ويسجدون أذلاء لرمتها، ويقترفون خطايا المجوسية في حمأتها، ويحتسون آثام
الخمر و (الحشيش) ، والأجساد التي طرحها الإثم على الإثم فجوراً ومعصية،
ويسمونها موالد، أو مواسم عبر وذكريات خوالد ... ) ] 30 [.
وسرد الكاتب أحمد منصور أقوال المؤرخين في الانحلال الخلقي عند مشهد
الإنبابي.. وأن فيه من الفساد ما لا يوصف، حتى إن الناس وجدوا حول هذا
المشهد أكثر من ألف جرة خمر فارغة، وأما ما حكي من الزنا واللواط فكثير لا
يحصى.. حتى أرسل الله تعالى عليهم ريحاً في تلك الليلة كادت تقتلع الأرض بمن
عليها ... ] 31 [.
وأمعن عبّاد القبور في أكل أموال الناس بالباطل، وارتكبوا أنواع الأكاذيب
والدجل في سبيل نهب أموال العامة وممتلكاتهم.
وقد حكى العلامة الشوكاني هذه الحالة فقال: (وربما يقف جماعة من
المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم
النذور، ويستدروا منهم الأرزاق ويقنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما
يعود عليهم وعلى من يعولون ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً ... ) ] 32 [.
وصندوق النذور عند ضريح البدوي في مصر يستقطع من الدهماء ملايين
الجنيهات، وللحكومة 39% من هذه الأموال! ! وسائر الأموال لسدنة الضريح
والعاملين عليه! ! وحسبك أن تعلم أن ما يناله خادم الضريح من هذه الأموال أكثر
مما يناله كبار الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات ... ومع ذلك لم يقف طمع
أولئك السدنة وشرههم عند هذا الحد، بل ويعمدون إلى التلاعب والتزوير في هذا
الصندوق من أجل مزيد من الأموال] 33 [.
وأما الحديث عن خيانتهم وعمالتهم للاستعمار، فنكتفي بهذا المثال وهو أن
فرنسياً أسلم وتنسّك وصار إماماً لمسجد كبير في القيروان بتونس، فلما اقترب
الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير
لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل الضريح ثم خرج مهولاً لهم بما
سينالهم من المصائب، وقال لهم بأن الشيخ ينصحكم بالتسليم، فاتبع أولئك البسطاء
قوله واستسلموا لعدوهم] 34 [.
__________
(1) الرد على البكري، ص 310، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم، 2 /646 649، ومجموع الفتاوى، 27/459.
(2) مجموع الفتاوى، 27/449، 450، باختصار.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/681.
(4) إغاثة اللهفان، 1/318.
(5) تطهير الاعتقاد، ص 36، باختصار.
(6) شرح الصدور، ص 8.
(7) تطهير الاعتقاد، ص 41.
(8) انظر: الرد على الأخنائي، ص 184، ومجموع الفتاوى، 27 323.
(9) انظر: تاريخ ابن كثير، 9/74.
(10) انظر: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، للألباني، ص 93، وصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق محمد، ص 106.
(11) انظر بحثاً: حول القبة المبنية على قبر الرسول، لمقبل الوادعي، ص 357.
(12) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/279.
(13) معارج الألباب، ص 147، بتصرف يسير.
(14) تطهير الاعتقاد، ص 43.
(15) انظر بحثاً حول القبة المبنية على قبر الرسول، لمقبل الوادعي ص 275.
(16) إغاثة اللهفان، 1/327.
(17) انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض، 1/332، والديباج المذهب، لابن فرحون، 1/339.
(18) تاريخ ابن كثير، 1/315.
(19) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 103، 104.
(20) تاريخ ابن غنام، 1/78، بتصرف يسير.
(21) مجموع التوحيد، ص 339.
(22) الهدية السنية، ص 37.
(23) عنوان المجد، 1/257.
(24) المرجع السابق، 1/263.
(25) انظر: الشيخ حافظ الحكمي، حياته ومنهجه في العقيدة، لأحمد علوش، ص 357.
(26) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص 139.
(27) معارج الألباب، ص 177.
(28) تاريخ الجبرتي، 1/304، باختصار.
(29) منهاج التأسيس، ص 55.
(30) هذه هي الصوفية، ص160، 161، باختصار.
(31) انظر: السيد البدوي، ص 323 236، وانظر: الصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق، ص 49، 50، والألوهية في العقائد الشعبية، لعبد السلام البسيوني، ص 9698.
(32) الدر النضيد، ص 27.
(33) انظر تفصيل ذلك في كتاب: (الله توحيد وليس وحدة) لمحمد البلتاجي، ص 302، 308، وكتاب: البدوي، لأحمد منصور، ص 298، 299.
(34) انظر: التصوف بين الحق والخلق، لمحمد الشقفة، ص 211، 212.(132/50)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها
(2/2)
أفيون الشعوب الإسلامية
(النتائج والآثار)
خالد أبو الفتوح
عندما أطلق (ماركس) عبارته الشهيرة (الدين أفيون الشعوب) لاقت رواجاً
بين كثير من الشعوب الأوروبية؛ حيث كانت تتلطخ في أوحال النصرانية المحرفة
المشبعة بالوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية التي آلت إلى طغيان كنسي شامل
سيطر على عقول الناس وأرواحهم وأموالهم ونظم حياتهم، صاحبه فساد خلقي
واسع لرجال الكنيسة واستعباد لأتباعهم وصل إلى حد توزيع قسائم حجوزات في
الجنة (صكوك غفران) مقابل أموال يدفعها الراغبون، مستغلين في ذلك شيوع
الخرافة والدجل بين هذه الشعوب.
وجدت مقولة (ماركس) رواجاً بين هذه الشعوب التي أرادت أن تنعتق من
طاغوت الكنيسة، فكفرت بما ينبغي الكفر به، ولكنها - بدلاً من الإيمان الصحيح
بالله - انتقلت إلى عبادة طاغوت جديد قديم شعاره: تقديس المادة والعقل.
وما كان للإسلام أن تطوله هذه الشطحات أو تلك الخزعبلات، فهو من جهة
يعلي قيمة التفكر والتدبر ويراعي الحاجات الطبيعية التي غرزها الله في بني
الإنسان والتي تمثل عوامل الدفع للاستخلاف في الأرض وعمارتها، ومن جهة
أخرى: فإن العروة الوثقى في دين الله تعني بكل وضوح: الإيمان بالله والدخول
في عبوديته وحده لا شريك له، وذلك لا يتم إلا بالخروج من عبادة كل مخلوق أو
الخضوع له، حياً كان أو ميتاً، تقياً كان أو فاجراً، عظيماً أو حقيراً، غنياً أو
فقيراً.. [فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ
لَهَا واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] [البقرة: 256] : (جئنا لنخرج من شاء الله من العباد من
عبادة العباد (كل العباد) إلى عبادة رب العباد) .
وعلى الرغم من وضوح هذه القيم في النصوص الشرعية وممارسات الرعيل
الأول وأتباعهم، إلا أنه في غفلة من أهل الإسلام تسلل رويداً رويداً انحراف
عقدي وشذوذ فكري أخذ ينخر في جسد الأمة، فعشش في عقول كثير من أبنائها
وتربع على قلوبهم حتى أفرخ وثنية سافرة حيناً ومستترة أحياناً.. أعني بذلك: داء
تقديس القبور والأضرحة والمزارات! ، ذلك الداء الذي فعل في أمة الإسلام - أو
كاد - ما فعلته خرافات الكنيسة وطغيانها بأمة النصارى.. أفيون اجتماعي مدمر
للشعوب تماثل آثاره أفيون المخدرات المدمر للأفراد مع تغييبهم وتخديرهم - إن لم
تزد عليها -..
فما هو حصاد السنين من نتائج وآثار تقديس القبور والأضرحة؟
أصل الانحرافات وأخطرها:
من الصعب على الباحث أن يحصر آثار تقديس القبور والأضرحة، ولكن
هناك آثاراً يمكن إبرازها، لخطورتها، ولكونها تعتبر أمهات لانحرافات أخرى
نتجت عن هذا الداء، ويقف على رأس هذه الآثار: أظلم الظلم: الشرك بالله -
تعالى -، فالراصد لأحوال القبوريين يلحظ بوضوح انتشار الشرك بينهم بجميع
أنواعه وصوره ودرجاته.. شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في
الأسماء والصفات.. شرك أكبر، وشرك أصغر ... وما أدراك ما يحدثه الشرك من
آثار نفسية واجتماعية على الفرد والمجتمع!
فمن شرك الربوبية ظهر واضحاً اعتقاد القبوريين في الأضرحة وأصحابها:
أنهم يسمعون ويبصرون ويجيبون من يتوجه إليهم، وأنهم يعلمون الغيب الذي لا
يعلمه إلا الله، وأن لهم قدرة في التصرف والتأثير في الكون بما ليس في طاقة
البشر: كالخلق والإفناء، والإحياء والإماتة، وشفاء الأمراض، والنفع والضر،
والعطاء والمنع، والإغناء والإفقار، وتحويل الأشياء عن حقيقتها ...
كما زعم القبوريون أن في الأضرحة وأصحابها القدرة على الرفع والوضع
في الدنيا والآخرة، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، ومحو الذنوب وغفرانها..
وبناءً على هذا التصور المنحرف في الربوبية نشأ شرك الألوهية، حيث
توجه القبوريون إلى الأضرحة وأصحابها بالعبادات والتقربات التي لا يصح صرفها
إلا لله - عز وجل -، ففضلاً عن تبركهم بها على وجه غير مشروع وجعلهم إياها
عيداً ومنسكاً حتى إنهم ليحجون إليها ... فإنهم عظموها كما لو كانوا يعظمون الله -
سبحانه -، فاقسموا بها، واستشفوا، واستنصروا، ولاذوا.. وأيضا: فإنهم
دعوها، واستغاثوا بها، وذبحوا لها، ونذروا، وطافوا حولها، وسيّبوا لها
السوائب، وساقوا إليها الهدي ...
فإذا بدأنا بأقل الصور الشركية، وهو ما يحتمل أن يكون ذريعة إلى الشرك أو
يكون شركاً أكبر نجد أن التبرك بالقبور والأضرحة من أبرز هذه الصور؛ فلقد
اعتاد القبوريون على (أنهم بزيارتهم لهذه الأضرحة ستأتيهم البركة ويشفون من
مرضهم أو يفكون عقم نسلهم ... وكانوا يَمَسُّون عمامة صاحب الضريح - بعد
الولائم - أملاً في شفاء أوجاع الرأس، ويَمَسّون قفطانه للعلاج من الحمى، ولحس
الحجر لفك عسر اللسان، وتقديم العرائض طلباً لرفع الظلم، وتمسح النساء في
الضريح أملاً في إنجاب الذكور..) [1] ، ولم يستحي القبوريون في طلبهم المنهوم
للبركة المزعومة أن يستسيغوا المعاشرة الزوجية في هذه الأضرحة، فهذا الشعراني
صاحب أكبر سجل لخرافات القبوريين يذكر من (كرامات) البدوي أنه دعاه إلى
فض بكارة زوجته فوق قبة قبره (فكان الأمر!) [2] ، وفي السودان (وصل الأمر- في العصر الحاضر- عند بعض الرجال المخرفين إلى مجامعة زوجاتهم عند
أضرحة الأولياء، بدعوى نيل البركة) [3] .
وبالطبع فإن هذا التبرك يفتح باب الرقى والتمائم الشركية على مصراعيه.
من الأصغر إلى الاكبر:
فإذا ما تركنا التبرك وقصدنا بيان الشرك الصريح في أقوال المعتقدين في
الأضرحة وأفعالهم، فإننا نكاد ألا نستطيع الفصل بين أنواع الشرك في هذه
الممارسات؛ فالشرك في الربوبية مصاحب للشرك في الأسماء والصفات، وينبني
عليه باعتباره نتيجة حتمية: الشرك في الألوهية.. وإليك بعض نماذج لهذا الشرك
أو ذاك:
من النماذج الصارخة التي تحوي أنواع الشرك كله (ربوبية - وألوهية -
وأسماء وصفات) ما أورده أبوبكر العراقي عن أحد القبوريين (وهو إمام وخطيب
في أحد مساجد ديالى المهمة، يقول: دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم
أرزق، وذهبت إلى شيخي مصطفى النقشبندي في أربيل فما أن استغثت به وطلبت
منه الولد حتى رزقت بطفلين توأمين!) [4] تعالى الله عما يقول الظالمون علواً
كبيراً.
فهذا (الإمام) أشرك في الربوبية لاعتقاده أن لشيخه النقشبندي القدرة على
التصرف والتأثير في الكون بالنفع والعطاء من دون الله، ومن ثم فإنه: أشرك في
أسماء الله الحسنى: النافع الضار، والوهاب، والرزاق.. وأشرك في الألوهية
لصرفه عبادة لغير الله؛ وذلك بدعائه لشيخه النقشبندي أن يرزقه الذرية.
فالانحراف في توحيد الربوبية عند القبوريين يتبعه دوماً انحراف في توحيد الألوهية، وإليك إيضاحاً آخر:
يقول عرفة عبده علي: (وقد احتشدت مؤلفات مناقب السيد البدوي بكرامات
أسطورية غريبة لا تحصى، منها - على سبيل المثال -: إحياء الموتى، وانقاذ
الأسرى في بلاد الفرنجة، وقوله للشيء كن فيكون بإذن الله!) ..
فماذا ترتب على هذا الاعتقاد في البدوي؟ .. يقول الكاتب نفسه: (وكثير
من أتباعه يجعلونه في منزلة أسمى من مرتبة الأنبياء! [5] .. فما هذه المنزلة؟
استمع إلى شهادة أحد العلماء: فقد رأى الشيخ رشيد رضا جماعة من هؤلاء
القبوريين) تطوف حول قبر السيد البدوي، الذي تحول إلى كعبة ثانية، وكانت
هذه الجماعة تطلب من السيد، لما شاع بينها من القصص والحكايات حول مقدرته
العجيبة في قضاء الحوائج [6] ، فإذا كان ذلك في أحد القبور، فهل يختلف الحال في الأضرحة الأخرى؟
تفشى الداء:
إذا شملنا واقع الأضرحة بنظرة عامة وجدنا أن الطقوس التي يمارسها
المعتقدون في القبور تعدت إلى كثير
من الصور التي تجسد أنواع الشرك بدرجاته المختلفة، وهذا هو واقع
القبوريين:
* فبالأضرحة والقبور أقسموا: يقول الإمام الصنعاني: ( ... ويقسمون
بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله - تعالى - لم يقبلوا منه، فإذا حلف
باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه) [7] ( ... ولن يصدق أحد من الحالف إلا إذا
حلف بواحد منهم، وهذا كان شيئاً طبيعياً كنا نراه في القرى ونحن صغار، ولا
زال يجري للآن) [8] .
وهذا الانحراف العقدي أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله - تعالى -: العظيم [*] ، والرقيب، والشهيد، والعليم ...
* وبها لاذوا واحتموا: فكما جعل الله - سبحانه - البيت الحرام ملاذاً من
دخله كان آمناً، جعل سدنة الأضرحة (تلك الأضرحة الوثنية حرماً آمناً يهرع إليها
المجرمون والفارون، ويلجأ إليها الخائفون، ليأمنوا في رحابها، ويستريحوا في
ظلالها، ... وكثيراً ما عفي عن اللائذين بالأضرحة من المجرمين إكراماً للمدفونين
أو خشية ورهبة من انتقامهم وبأسهم) [9] .
وقد يدخل ذلك في الإلحاد في أسمائه - تعالى -: الكافي، والولي، والنصير، والعزيز ...
* واليها توجهوا بالطلب والدعاء: وهذه بدأت بأن (بث بعض المتصوفة
فكرة أن الدعاء عند قبور الأولياء والصالحين مستجاب) ، وانتهت بأن (أخذ العوام
يطوفون بقبور الصالحين، يستعينون بهم، ويخاطبونهم، ويستنهضون هممهم
بالصياح والصراخ) [10] ، حتى أصبح الواقع (أن الناس قد أكثروا من دعاء غير
الله - تعالى - من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان،
أغثني..) [11] .
ولا شك أن من الدعاء: الاستغاثة والاستعانة: ومن المفارقات أن تلك العبادة
تتجلى واضحة عند القبوريين في المواطن التي كان المشركون يخلصون فيها الدعاء
لله وحده؛ لأنهم يعلمون أن آلهتهم لا تجيبهم ولا تنفعهم في تلك المواطن، ويحكي
محمد السنوسي أنه (حين كان راكباً في البحر، وهاجت الرياح، وتلاطمت
الأمواج حتى كادت السفينة أن تغرق، أخذ يستجير-كما يقول- بكل ما يستحضره
من الأولياء كي يكشفوا كربته!) [12] ، وليس هذا حالة خاصة، بل إن (من
المشاهد اليوم أن كثيراً من الناس يستغيثون بالمشائخ والأنبياء والأئمة والشهداء [13] .
فأمثال تلك المشاهدات المستقاة من الواقع الشركي للقبوريين دعت كثيراً من
العلماء إلى التصريح بأن شرك الأولين من عباد الأصنام أخف وطأة من شرك
القبوريين، وذلك من عدة وجوه بينوها في كتبهم [14] .
ومن الدعاء أيضا: الاستشفاء، ولعلنا نوضح هذا الجانب لاحقاً عند الحديث
عن الآثار الاجتماعية للاعتقاد في القبور والأضرحة.
ولا شك أن هذا الانحراف في الدعاء أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله -
تعالى - الحسنى، ومنها:
السميع، المجيب، المعطي، الرزاق، القادر، النافع , الضار، النصير،
العليم، الشافي ...
* ولها ذبحوا ونذروا: وهذه أيضاً من الشعائر اللازمة للاعتقاد في القبور
والأضرحة، فالرعاة في شرقي الأردن يطوفون بالأغنام حول مقام النبي يوشع)
في أزمان الأوبئة ويختارون خير النعاج، ويصعدونها إلى سطح المقام وينحرونها
فيسيل دمها على عتبته [15] ، فـ (غاية الزيارات لمقامات الأولياء هي تقديم
الذبائح) [16] .
وكثيراً ما يقترن الذبح بالنذر، ولا شك أن الذبح والنذر (سواء أكان ذبحاً، أو ...
إهداء زيت، أو إعطاء نقود..) من العبادات التي لا تجوز إلا لله - تعالى -،
لذلك يقول الإمام الصنعاني - رحمه الله -: (والنذر بالمال على الميت ونحوه،
والنحر على القبر، والتوسل به، وطلب الحاجات منه، هو بعينه الذي كانت تفعله
الجاهلية، وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه
ولياً وقبراً ومشهداً.
والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني، ضرورة لغوية وعقلية وشرعية، فإن
من شرب الخمر وسماها ماءً , ما شرب إلا خمراً ... ) [17] .
ابحث عن الضريح! :
وكل ذلك لا يخص ضريحاً دون آخر، بل هو عام في جميع الأضرحة
المقصودة بالتوجه والاعتقادت فحيثما كان ضريح يعتقد فيه؛ كان الشرك بجميع
صوره وأنواعه ودرجاته؛ فهذا قبر ابن عربي بدمشق، يحكي عبد الله بن محمد بن
خميس مشاهداته عنده، فيقول: (لقد ذهبت إلى قبر ابن عربي في دمشق فوجدت
فئاماً من الناس يغدون إليه ويروحون.. وجدتهم يطوفون حوله، ويتوسلون به،
ويعلنون دعاءهم له من دون الله. وجدت المرأة تضع خدها على شباك الضريح
وتمرغه وتنادي: اغثني يا محيي الدين. وجدت الصبايا البريئات يجئن إليه،
ويمددن أمامه الأكف، ويمسحن الوجوه، ويخشعن، ويتضرعن) [18] ..
باختصار: عند قبر ابى عربي في دمشق يمارس القبوريون شتى ألوان الشرك
الأكبر) [19] .
وفي الهند: أصبح قبر الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني (مرجع الخلائق في
العصر الأخير، ويطوفون حوله، ويعملون ويصنعون على قبره جميع الأعمال
اللائقة بالمعبود، كالسجود، والنذور، وما أشبه ذلك.. وضريح الشيخ علي
الهجوري في لاهور في باكستان، وهو من القبور العظيمة، والناس يزورونه كل
سنة، بل كل يوم، ويطوفون حوله، ويسجدون له، ويقدمون النذور، ويستغيثون
به، ويطلبون العون والمدد) [20] ، و (عند القبر المنسوب إلى هود في
حضرموت يحدث من الشرك الأكبر ما يعجز القلم عن وصفه، شأنه في ذلك شأن
كل الأضرحة في البلاد الأخرى. وقد بولغ في تقديس هذا الضريح، فتراهم
يشدون الرحال لزيارته وعندهم شيء من بقايا الشعور الوثني الذي كان يشعر به
العرب للات والعرى، يستعينون به ويتوجهون إليه، ويولون وجوههم شطره
لقضاء الحاجات، واستنزال البركات، ودفع الكربات) [21] .
بل لقد اعترف أحد كبار منظِّري القبورية وهو الشيخ أحمد بن محمد بن
الصديق الغماري بوجود الشرك الأكبر والكفر الصراح في القبورية، فقال: (إن
كثيراً من العوام بالمغرب ينطقون بما هو كفر في حق الشيخ عبد القادر الجيلاني،
وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء، فيسجد له، ويقبل
الأرض بين يديه في حال سجوده، ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى
والذرية، ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله - تعالى - وإن عندنا بالمغرب من
يقول في ابن مشيش: إنه الذي خلق الابن والدنيا، ومنهم من قال - والمطر نازل
بشدة -: يا مولانا عبد السلام، الطف بعبادك! . فهذا كفر) [22] .
بين الفرد والمجتمع:
كان هذا عرضاً لأهم صور الشرك، الذي هو أخطر مساوئ الاعتقاد في
القبور والأضرحة على دين الإنسان ودنياه، فهو يناقض أساس الاسلام ويهدم الركن
الأول منه، كما أنه يحمل في طياته مما يحمل: (التمزق النفسي والتفكير الخرافي , فإذا أمعنا النظر إلى أثر هذا الشرك في المجتمعات وجدنا آثاراً لا يستهان بسوئها، اقترنت بهذه المظاهر الشركية، ومنها:
شرك في التوحيد وشرك فى التشريع:
لا شك أن التشريع مرتبط بالتأله والتعبد، فهو أحد أقسام التوحيد، لذا: رأينا
دائماً أن الانحراف في توحيد العبادة والنسك يصاحبه انحراف في توحيد التشريع
والتحاكم،) فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه:
[ولا يشرك في حكمه أحدا] [الكهف: 26] ... وقال في الإشراك به في عبادته:
[فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً]
[الكهف: 110] فالأمران سواء كما ترى إيضاحه) [23] ، وعلى هذا (يرتبط التحليل والتحريم (التشريع) بالمعبود ارتباطاً وثيقاً، حتى لقد توافقت وتزامنت دعوة العرب للشرك بالله في عبادته وتغيير دين إبراهيم - عليه السلام -، مع إدخال تشريعات لم يأذن بها الله، بل أمر بها الطواغيت، فعمرو بن لحي الذي كان أول من غير دين إبراهيم - عليه السلام - وأدخل عبادة الأصنام في العرب، كان هو نفسه أول من سيَّب السوائب وشرع لهم الشرائع الجاهلية في الأنعام
وغيرها) [24] .
وفي هذا يقول الشيخ محمد رشيد رضا: [وأكثرهم لا يعقلون]
[المائدة: 103] ، أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم، وأن ذلك من أعمال الكفر به، بل يظنون أنهم يتقربون إليه ولو بالواسطة، لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب.. ليست بزعمهم إلا وسائط بينهم وبين الله - تعالى -.. وهكذا شأن كل مبتدع في الدين بتحريم طعام أو غيره، وتسييب عجل للسيد البدوي أو سواه) [25] .
وتعدى أمر التشريع عند القبوريين تسييب عجل للضريح، إلى التلاعب في
بعض العبادات المفروضة، ويمثل الحج أبرز مثال لهذا التلاعب، الذي بدأ بسن
آداب وطقوس معينة لزيارة تلك الأضرحة، (فالزيارة ليست مجرد مرور عابر،
ويجب أن تؤخذ بمعناها الدقيق، فعملية الاستقبال داخل الضريح هي لقاء بين الولي
(الداعي) والزائر (الضيف) [26] ، لذلك لم يقتصر القبوريون) .. على إقامة
المباني والأضرحة عليها فحسب، بل صنعوا في آداب زيارتها وترتيبها المصنفات
الطوال، منها: كتاب شمس الدين محمد بن الزيات المعروف (الكواكب السيارة في
ترتيب الزيارة) [27] .
ومن (آداب للزيارة) إلى (مناسك للحج) ، فقد (آل الأمر بهؤلاء الضلال
المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض
غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه: (مناسك حج المشاهد) مضاهاة منه بالقبور للبيت
الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عُبَّاد
الأصنام) [28] .
ولم يكتفوا بتصنيف الكتب في ذلك، بل أشاعوا ذلك التشريع في جمهورهم،
فالدكتور عبد الكريم دهينة يذكر عن قريته التي بها أكثر من ثلاثين ضريحاً تقام لها
موالد ونذور ونسك، أنه (قد أفتى بعضُ الفسقة بأن الحج ينفع إليهم) [29] ، كما
(أن شطراً من العامة في صعيد مصر يرى أن الطواف سبع مرات بقبر الشيخ
القناوي بقنا.. فيه غناء عن أداء الحج إلى بيت الله الحرام..) [30] .
وعلى ذلك فليس بمستغرب أن يقول السخاوي: (جاء الحُجاج هذه السنة
لسيدي أحمد البدوي من الشام وحلب ومكة، أكثر من حجاج الحرمين!) [31] .
فهذا باب من التشريع، وهو أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله الحسنى:
الحكيم، والحكم، والعليم، والعزيز، والملك، والعظيم ...
وكل ذلك أدى إلى الاستهانة بأوامر الله - عز وجل -، واستبدالها بتعظيم
شعائر الأضرحة وأوامر سدنتها، وبذا كانت القبورية أحد الأسباب التي هيأت
شعوب العالم الإسلامي لقبول العلمانية الوافدة وتشريع ما لم يأذن به الله.
شرك في التوحيد، ونكوص عن مجاهدة الأعداء:
ولست هنا بصدد تقييم علاقة أهل التصوف بمقاومة الأعداء - سلباً وايجاباً -، ولكننا نريد بيان أثر الأضرحة في جهاد أعداء الأمة، ضمن تأثيرها على حياة
الشعوب الإسلامية في شتى المناحي. والمتتبع لأثر الأضرحة في هذا المجال يجد
أن الأضرحة والقبور هيمنت على هذا الجانب ضمن هيمنتها على الحياة كلها،
فأصبحت الأضرحة والمزارات تمثل بحق (أفيون الشعوب الإسلامية) ! ..
فقد اتخذتها الشعوب مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، باعتبار أنها (الرموز
المقدسة) التي لا ينبغي أن تمس، (ففي ريف المغرب الذي كان يحتله الإسبان
قامت القبائل هناك بثورة عارمة ضدهم، حين بنى الإسبانيون مركزاً للحراسة
بقرب ضريح تقدسه القبائل) [32] ، وقد فطن الأعداء لهذا الأمر، فحرصوا على
عدم المساس بهذه القبور والأضرحة لعدم إثارة الذين يقدسونها، بل ساهموا في
الترويج لها ولطقوسها، بينما كانوا يبدلون منهج حياة المسلمين تبديلاً كاملاً،
وينهبون ثروات البلاد نهباً منظماً، (ويرحل بنا المؤرخ العظيم عبد الرحمن الجبرتي
إلى زمن الحملة الفرنسية، يوم تقلد الشيخ خليل البكري نقابة الأشراف ... (وفيه
سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ ! ، فاعتذر الشيخ
البكري بتعطيل الأمور وتوقُّف الأحوال، فلم يقبل، وقال: لابد من ذلك، وأعطى
له ثلاثمئة ريال فرنساوية معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع
الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ... ) ( [33] .
وكما مثلت القبور والأضرحة لدى المعتقدين فيها مثير قتال الأعداء ودافع
مجاهدتهم، فإنها شكلت عندهم بديلاً لأي جيش يناهض هؤلاء الأعداء.
فهي عندهم (هيئة المستشارين) التي تقرر قتال الأعداء أو لا تقرره، يقول
الدكتور عمر فروخ:) لا ريب في أن الأوروبيين قد عرفوا ذلك واستغلوه في
أعمالهم الاستعمارية، ذكر مصطفى كامل بطل الوطنية المصرية في كتابه (المسألة
الشرقية) قصة غريبة في أذن القارئ العادي، قال:
ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان في تونس: أن رجلاً
فرنسياً دخل في الاسلام وسمى نفسه سيد أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل
الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير في القيروان، فلما
اقترب الجنود الفرنساويون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن
يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل (سيد أحمد) الضريح، ثم
خرج مهولاً بما سينالهم من المصائب، وقال لهم: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم؛
لأن وقوع البلاد صار محتماً، فاتبع القوم البسطاء قوله ولم يدافعوا عن مدينة
القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين في (26) أكتوبر سنة 1881 م) [34] .
وهي عندهم (حرس الحدود) الذي يقوم على صد الأعداء، بل ومنع الفتن
والأوبئة! ، فـ (كل مدينة كبيرة أو صغيرة محروسة بولي من الأولياء، فهو
الذي يحميها من العين ومن الغارات ومن نكبات الطبيعة، ومن طمع الطامعين) [35] ، وبناء على ذلك الاعتقاد يذكر الكوثري (أن أرض الشام يحرسها من الآفات
والبلايا أربعة من الأولياء الذين يتصرفون في قبورهم!) [36] .
وبخلاف الأضرحة الكبرى التي (تحرس) المدن المهمة والمراكز الحيوية،
يشيع هذا الاعتقاد أيضاً عند القبوريين في القرى والنجوع، ففي (مركز مغاغة
بالمنيا، وعلى وجه التحديد بقرية (بني واللمس) على البحر اليوسفي، يشتهر مقام
سيدي (حسن أبو رايتين) ... ويعتقدون أنه يحرس القرية ويحفظها من السرقة
وعداوات الدم، ويلجؤون إليه لرفع المظالم ... ) [37] .
وهي عندهم (وسائل دفاع جوي!) ، فضريح (علي الروبي) بالفيوم بمصر
(أنقذ المدينة من الدمار خلال الحرب العالمية الثانية، ببركته التي حولت مسار
القنابل إلى بحر يوسف!) [38] .
وهي عندهم (معين المدد والذخيرة) ، فأثناء الثورة العرابية روَّج القبوريون
إشاعة قوية مفادها (أن كبار الأولياء (الدسوقي - البدوي - عبد العال) أهدوا أحمد
عرابي ثلاثة مدافع ليستعين بها على منازلة الإنجليز) [39] .
وعندما يستدعي الموقف الإمداد بـ (قوات خاصة) لمنازلة عدو شديد البأس
يطلب القبوريون المدد من الأضرحة وأصحابها أيضاً، فعندما أغار التتار على بلاد
الشام (كان القبوريون يخرجون يستغيثون بالموتى عند القبور، ولذا قال بعض
شعراء القبورية:
ياخائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر) [40]
وحين أغار جنود الفرنسيين والإفرنج على مصر (صاح المحاربون في
المسلمين وصرخوا مستغيثين بغير الله مع الله: (يا رب يا لطيف، ويا رجال الله،
ونحو ذلك)) [41] .
وذكر الشيخ رشيد رضا (أنه عندما زحفت روسيا على مدينة بخارى فزع
الناس إلى الاستغاثة بحامي بخارى! - كما يسميه أهلها - شاه نقشبند، فلم يغن
عنهم شيئاً) [42] .
وذكر أيضاً أنه (انتشر بين أهل مراكش، عند حلول النوائب بهم، وتعدي
الأجانب عليهم، الاجتماع حول قبر الشيخ إدريس في فاس، طالبين أن يكشف ما
نزل بهم من الشدة، تاركين ما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم والإعداد
العسكري للأعداء) [43] .
- وهي عندهم (جيوش متكاملة) ، فلماذا الإعداد، والقبور والأضرحة عند
المعتقدين فيها بمثابة جيوش متكاملة تفعل ما لا يستطيعه المحاربون؟ ! ، فقد قال
أحد كبار الصوفية في زمن احتلال الإنجليز لمصر، ما معناه: (لو أراد إبراهيم
الدسوقي خروج الإنجليز من مصر ما بقي إنجليزي واحد، وقال بعضهم في نكسة
سنة 1967 م ما يدور حول هذه الفكرة) [44] .
وذكر الدكتور سيد عويس في كتابه المهم (رسائل إلى الإمام الشافعي) أن
إحدى الرسائل الموجهة إلى ضريح الإمام الشافعي، والمؤرخة في أكتوبر سنة
1955م، يطلب صاحبها فيها (عقد جلسة شريفة يحضر فيها معه سيدنا الحسين
وسيدنا الحسن، والست زينب أم هاشم، وجميع أهل بيت النبي! ويطلبون من الله
مسح إسرائيل اليهود، وإزالتها من على وجه الأرض المقدسة في الأسبوع، ويكون- إن شاء الله - آخر ميعاد يوم الثلاثاء القادم! ! [45] .
ولها تعقد احتفالات النصر، فمما يذكره الجبرتي أنه عند (مغادرة الفرنسيين
للقاهرة سنة 1216هـ هرع قائد الجيش العثماني (حسين باشا القبطان) إلى زيارة
المشهد الحسيني، وذبح فيه خمس جواميس وسبعة أكباش، واقتسمتها خدمة
الضريح) [46] . فهل أضر مؤثر بقوة الأمة أعظم من هذا (التخدير) الذي سرى
في جسدها بفعل أفيون تقديس القبور والأضرحة؟
شرك فى التوحيد وتخلف في المجتمع:
وترتفع الخرافة إلى ذروتها حينما يعمد القبوريون إلى إضافة التخصصات
للأضرحة بعد تقسيم درجاتها إلى كبرى وصغرى، فمثلما كان للإغريق - ومن
بعدهم للرومان واليونان - إله لكل شيء. إله للحرب، والهة للحب، وإلهة
للخصب، إله للخمر.. وجدنا عند القبوريين أضرحة ومزارات تشتهر بتخصصها
في حاجات مختلفة، يخصونها بالتوجه إليها لطلب هذه الحاجة منها.
ولعل من هذا القبيل: الأضرحة والمزارات النسائية، كمقام (الشيخة مريم
التي يحتفل بمولدها مرتين: مرة في شم النسيم [**] ، والأخرى في ذكرى مولد
النبي، وقد اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم) [47] ، وكذلك يطلب القبوريون
(من ضريح الشيخة صباح في طنطا إبراء النساء من العقم) [48] ، ومزار (بنات
عين) في معان بالأردن: (انتشر ذكره بين العواقر، يفدن إليه بالقرابين والمصابيح
لنيل البرء والشفاء، وهو مختص بالنساء فقط ويدعونه بالمستشفى النسائي!) [49]
وإضافة إلى تلك الأضرحة والمزارات التي اشتهرت بتخصصها النسائي،
هناك ضريح (النبي شعيب) في وادي السلط الجنوبي بالأردن (وهو ولي! مرهوب
مختص بالأقسام الكبرى، إذا أشكلت الدعاوى واستعجمت مذاهبها.. ويطلب
القاضي البدوي القسم الرهيب في بركة شعيب..) [50] ، وفي حلب بسورية
(اعتاد بعض الناس هناك أن يسافروا إلى ضريح الشيخ ريح زاعمين أنهم يشفون من
ريحهم ... وللناس في قبر أبي العلاء المعري [بمعرة النعمان بسورية أيضاً] اعتقاد
عظيم، يبيِّتون على قبره شربة ماء ويستعملونها للبرء من الحمى.
وفي مدينة طنطا [بمصر] يطلب الناس هناك من ضريح عز الرجال - وهو
أحد تلاميذ البدوي - شفاء الأطفال.. ومن ضريح محمد الحدري المعروف بالعمري
شفاء أمراض الروماتيزم!) [51] .
فإذا كان هذا الاعتقاد الناشئ عن الانحرافات في اسم الله - تعالى -: الشافي، دعا المعتقدين في الأضرحة إلى التوجه إليها بالقربات والعبادات لنيل مرادهم،
فإنه أثمر أيضاً تخلفاً اجتماعياً مريعاً؛ حيث استغنى الناس بالأضرحة عن الطب
وعلومه، فما حاجتهم إلى طب (الكفار!) وعندهم أضرحة المسلمين التي تشفيهم -
وبأيسر السبل - مما يعجز عنه الأطباء؟ ! ، وذلك صرف الناس عن تعلم الطب،
فأثر ذلك بدوره في تدني مستوى الطب في المجتمع، مما كان يدفع الناس نحو
الأضرحة مرة أخرى لطلب الشفاء منها.
وإضافة إلى إهمال تعلم الطب فقد أهملت العلوم الأخرى، بل أهملت الخدمات
الاجتماعية للأحياء لانشغال الناس بإعمار مراقد الأموات! .
شرك فى التوحيد، وفساد في الأخلاق:
إضافة إلى المفاسد الأخلاقية التي تحدث حول الأضرحة [52] ، هناك أشكال
من هذه المفاسد ارتبطت بها أيضاً، وفي ذلك تضرب (الموالد) بنصيب وافر،
حيث يشيع فيها الفساد الأخلاقي مقترناً بالشرك الأكبر والأصغر.
ويجدر بالذكر هنا الإشارة إلى الأثر النصراني واليهودي في هذه الموالد،
حيث تكاد تتطابق أشكال طقوس احتفالات أعياد الميلاد والموالد للقديسين
و (الأولياء) النصارى واليهود مع ما يحدث في موالد الأولياء المسلمين [53] ، حتى
إن مولد (أبي حصيرة) اليهودي في قرية (ميتوه) بدمنهور في مصر - والذي كان
يُحتفل به قبل التطبيع مع اليهود على أنه ولي مسلم، ويعقد مولده كل عام على هذا
الأساس - يأتي إليه اليهود من أنحاء شتى ليقيموا مولده، وفيه: (تقاد الشموع
وتسكب زجاجات الخمر على القبر، ويرقص النساء والرجال عرايا أو شبه عرايا
على أنغام شرائط الكاسيت، وفي نهاية الليل يتمددون وهم سكارى فرادى
ومتزاوجين في ظل حراسة جنود الشرطة والأمن المركزي!) [54] .
هذه صورة من موالد (اليهود) ، فماذا عن موالد (المسلمين) ؟
في صدر مقالها عن موالد الأولياء في مصر، تعرف هيام فتحي دربك
(المولد) بأنه: (الاحتفال بيوم ميلاد ولي من أولياء الله، والاحتفالات بالموالد
تمارس في المنطقة التي فيها قبر الولي، وهي حفلات فولكلورية شعبية من غناء
ورقص وتسلية، والاستماع إلى الموسيقى الصاخبة وألعاب الأطفال والمراجيح
وحلقات الذكر الذي يتخذ مظهر الرقص أحياناً ومظهر الشعوذة أحياناً أخرى، ففيها
يقوم الرجال بعمل حركات من قيام وقعود والى الشمال وإلى اليسار وهم يذكرون
لفظ الجلالة.. الله، الله، حي، حي.. وقد يندمج بعضهم في حلقات الذكر فيشد
شعره ويتمرغ على الأرض!) [55] .
ولكن ماذا عن حالة المولد فيما مضى؟ يصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي
أحد الموالد على عهده منذ حوالي مئتي عام، فيقول: (ينصبون خياماً كثيرة،
وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالَم الأكبر من أخلاط الناس،
وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي والملاعب والغوازي
والبغايا والقرادين والحواة، فيملؤون الصحراء والبستان، فيطؤون القبور،
ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول
والزمور ليلاً ونهاراً..) [56] .
فالموالد ما هي إلا فرصة للتحلل من كل الضوابط والتفلت من كل القيود
سواء أكانت أخلاقية أو شرعية أو حتى تنظيمية، حتى أصبحت كلمة (مولد) تطلق
على المواقف التي تشيع فيها الفوضى وعدم الانضباط.
فالمولد فرصة لأن (تنتهك فيه حرمات النساء، وتشرب الخمور) ، حتى إنه
(أصبح مجال حياة الناس في الترويح عن أنفسهم ومكاناً للهو والرقص والغناء
الساقط) [57] .
وفي أيام الربيع في الأردن يفد الزائرون إلى مزار (جعفر الطيار) (فترى
الفتيات يرقصنَ حول المزار بأغاني مطربة ونغمات رقيقة..) [58] ..
فليس هذا خاصاً ببلد دون آخر، بل هو موجود حيثما كانت قبورية وأينما
كانت موالد أو (احتفالات) أو (أعراس) للأضرحة.
وبعد:
فقد كانت هذه صورة لبعض نتائج تفشي داء تقديس القبور والأضرحة في
العالم الإسلامي، والملاحظ أن هذه الصورة ما كانت إلا تعبيراً عن الهيمنة السلبية
على حياة الناس كلها، وليس هذا الحال خاصاً بمحلة دون أخرى، بل وصل الحال
إلى أن أصبح (أكثر المسلمين في العالم قد عبدوا القبور بأنواع من العبادات، بل
عبدوا الأشجار والغارات، وقد ارتكبوا أنواعاً من الشرك بالله - تعالى -!) [59] ..
ولم يقتصر ذلك على الجهال والطغام، بل شمل جمهرة من المنتسبين إلى
العلم الشرعي أو من يسمون أنفسهم بالمثقفين والمتحضرين! ، لا ينجو من ذلك إلا
المتحصن بعقيدته، المستحضر توحيد ربه، الذي امتلأ قلبه بمحبة الله - عز وجل- وخشيته ورجائه.
إن تقديس القبور والأضرحة داء يعمل في أعز مشخصات هذه الأمة وأبرز ما
يميزها، وهو التوحيد، وإن من علامات صحة الجسد إحساسه بالألم؛ فالجسد
الميت أو الواقع تحت تأثير مخدر لا يحس بالألم رغم وجود مقتضاه، وهذه الأمة لا
تموت ولا تنتهي إلا عند الإيذان بانتهاء الحياة في هذه الدنيا، ولكنها قد تدخل في
غيبوبة عن أمر دينها أو أمر دنياها، إما بسبب غفلة من أبنائها أو بسبب كيد من
أعدائها، أو بكليهما، وعند ذاك فإن كل من يساهم في إزالة أثر المخدر عنها،
وكل من يساعد في (إيلامها) أو إظهار ألمها، فإنه يضرب بسهم في معافاتها، لأنها
عندما تحس بالألم تعرف أنه أصابها داء، وعندما تدرك أنها مريضة تبحث عن
الداء الذي أصابها لتقضي عليه وتفيق من رقادها.
فهل يبذل الدعاة -بل كل مسلم موحد -جهودهم ويجردون سيوف دعوتهم
لإنقاذ الغارقين في غيبوبة الخرافات والأوهام الشركية، الذين أوشكوا على الهلاك؟
هذا ما نرجوه ونأمله، وندعو الله العلي القدير أن يوفقنا وإياهم لما يحب
ويرضى.
__________
(1) د زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر، ص 129.
(2) عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د شمس الدين السلفي الأفغاني،
ص 744، نقلاً عن الطبقات الكبرى للشعراني.
(3) د ناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع، التبرك - أنواعه وأحكامه، ص 473 - 474.
(4) حوار مع الصوفية، ص 56.
(5) موالد مصر المحروسة، ص 80.
(6) محمد أحمد درنيقة، السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص 207.
(7) تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، ص 26.
(8) د عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص 89.
(*) نلاحظ أن الإلحاد في اسمه - تعالى -: العظيم، يدخل فيه معظم الشركيات، لأنها ناتجة عن تعظيم القبوريين لهذه الأضرحة واصحابها.
(9) الانحرافات العقدية، ص 339.
(10) محمد أحمد درنيقة، السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص217.
(11) روح المعاني، م 3، ج6، ص 128.
(12) الانحرافات العقدية، ص 321.
(13) جهور علماء الحنفية، ص 416، نقلاً عن أبي الحسن الندوي في رسالته (تقوية الإيمان) .
(14) انظر على سبيل المثال: رسالة (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورسالة (أربع قواعد) له أيضاً، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، لمحمد بشير السهسواني الحنفي، ص 166، وغاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الألوسي، 1 /295.
(15) مقال (المزارات في شرقي الأردن) ، ص 903.
(16) السابق، ص 914.
(17) تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، ص 18 - 19.
(18) شهر في دمشق، ص 64.
(19) علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العقدية، ص 327.
(20) السابق.
(21) السابق، ص 326.
(22) عن: جهود علماء الحنفية، ص 479 - 480، نقلاً عن: إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد على القبور، للغماري.
(23) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، ج7، ص 162.
(24) بتصرف عن: أضواء على ركن من التوحيد، لعبد العزيز بن حامد، ص 16، وحديث أن عمراً بن لحي (أول من سيَّب السوائب) في البخاري، ك / التفسير، ب /13.
(25) تفسير المنار، ج7، ص 204.
(26) موالد مصر المحروسة، ص 83.
(27) د سعاد ماهر فهمي، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج 1، ص 47.
(28) إغاثة اللهفان، لابن القيم، ج 1، ص 197.
(29) الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص 128.
(30) حسين أحمد أمين، مقال (تأملات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين) ، ص 137.
(31) نقلاً عن: بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص 268.
(32) الانحرافات العقدية، ص 305.
(33) عرفة عبده علي، موالد مصر المحروسة، ص 14.
(34) نقلاً عن: التصوف بين الحق والخلق، لمحمد فهر شقفة، ص 211، وانظر: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص 171.
(35) الانحرافات العقدية، ص 324.
(36) عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د شمس الدين السلفي الأفغاني،
ص 461.
(37) موالد مصر المحروسة، ص 53 - 54.
(38) السابق، ص 53.
(39) الصوفية والسياسة، ص 120.
(40) جهود علماء الحنفية، ص 458.
(41) السابق، ص 460.
(42) عن: الانحرافات العقدية، ص 320.
(43) محمد أحمد درنيقة، مصدر سابق، ص 218.
(44) د عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص 120.
(45) نقلاً عن: مقال (الأضرحة - مدخل تاريخي واجتماعي) ، للأستاذ/ وليد فكري فارس، مجلة التوحيد المصرية، السنة (24) ، العدد (4) ، وانظر: الصوفية والسياسة، ص 51.
(46) عن: بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص 269.
(**) أصله عيد فرعوني، ويراد له الانتشار الآن مزاحمة لأعياد المسلمين.
(47) موالد مصر المحروسة، ص 53.
(48) الانحرافات العقدية، ص 336.
(49) مجلة المشرق، 11 / 11 / 1920 م، مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص 907.
(50) السابق، ص 903.
(51) الانحرافات العقدية، ص 336.
(52) انظر على سبيل المثال: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، للدكتور زكريا سليمان ...
بيومي، ص133 - 137.
(53) انظر: موالد مصر المحروسة، ص 17.
(54) جريدة (الوفد) القاهرية، 4/8 /1416 هـ، ص 6.
(55) هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص 41.
(56) نقلاً عن: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص 161.
(57) د زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص 131.
(58) المزارات في شرقي الأردن، ص 906.
(59) الشيخ مسعود الندوي، نقلاً عن: جهود علماء الحنفية، للدكتور شمس الدين السلفي،
ص 472.(132/58)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
الأضرحة في العالم الإسلامي
مشاهد متفرقة
الخرطوم: عثمان محمد سليمان
دكا: عبد الله الشهيد
القاهرة: أحمد محمد
أسمرة: إدريس محمد إدريس
هذه بعض المشاهدات التي أرسلها للبيان بعض الكتاب نضعها بين يدي
القارئ ليزداد بصيرة بحجم هذا المرض الفتاك (تقديس القبور والأضرحة)
وللمارسات غير الشرعية التي تقوم بها العامة تحت سمع وبصر بعض العلماء،
ومما يندى له الجبين أن بعض العلماء يشارك في هذه الطقوس المبتدعة تحت اسم
مولد الولي فلان أو الرجل الصالح علان.
ومن هذا القبيل شد الرحال لما يسمى بالعتبات المقدسة وما يحصل فيها من
استغاثات للأموات وتمسح بها. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ...
- البيان -
القبور والأضرحة مزيد من البيان:
منذ عصر دولة بني عبيد بن القداح الذين ادعوا زوراً وبهتاناً أنهم فاطميون
عرفت البدع الشركية طريقها إلى السودان، وأخذت تنتشر وتستفحل، ثم زاد
الطين بلة وجود التوجهات الصوفية البدعية في عصر الدولة العثمانية، فأعطت
زخماً جديداً لهذه البدع التي أضحت أحد العناصر الأساس في الحياة الاجتماعية
لأكثر السودانيين، قبل أن تأتي الدعوة السلفية وتحاول الوقوف أمام هذا الطوفان..
ويقف على رأس هذه البدع: ما يتعلق بالقبور؛ فقد أصبح اتخاذ القباب
والأضرحة على قبور من يُعتقد صلاحهم أحد ذرائع البدع القولية والعملية،
والكبيرة والصغيرة في حياة الناس.
والقبة عبارة عن بناء شاهق يُتخذ على شكل مخروطي أو نصف كروي، يقام
على قبر من يُعتقد فيه الصلاح والولاية.. ولكن كيف يعرف احتواء هذا القبر على
من يعتقد في صاحبه الصلاح أو الولاية؟ ..
يتم ذلك عن طريق ما يسمونه بـ (البيان) ! ، فحسب الاعتقاد السائد في
السودان: يمكن أن يرى شخص ما رؤية منامية، يرى فيها شيخاً من الشيوخ ممن
ماتوا ودفنوا في مكان ما، فيرى الرائي أن هذا الشيخ دله على مكان معين و (بيّن) ، أي: ظهر فيه، فيبادر هذا الرائي عند استيقاظه بالتوجه إلى ذلك المكان فيرفعه
عن سطح الأرض، وينصب عليه الخرق والرايات، معلناً أن الشيخ الفلاني بيّن
في هذا المكان، فيعرف المكان بأنه (بيان) الشيخ الفلاني، ثم يزار كغيره من
الأضرحة والقباب، وتُعقد له وحوله الطقوس المعروفة بهذه الأضرحة.
ومن حيث أماكن اتخاذها تنقسم القباب والأضرحة إلى قسمين:
أ - قباب تبنى في مقابر المسلمين العامة، حيث تبدو القبة شاهقة وسط
القبور.
ب - قباب تبنى في المساجد، أو تبنى عليها المساجد، وقد تكون في قبلة
المسجد، أو في الخلف، أو في أحد جوانبه.
ومن أشهر القباب والأضرحة في السودان:
* قبة الشيخ/ محمد عثمان عبده البرهاني (شيخ الطريقة البرهانية) بالخرطوم
السوق الشعبي.
* قبة الشيخ/ قريب الله، بأم درمان، ودنوباوي.
* قبة الشيخ/ دفع الله الصائم ديمة، بأم درمان أميدة.
* قبة الشيخ/ حسن ود حسّونة، بالخرطوم بحري.
* قبة الشيخ/ دفع الله الفرقان، بأم درمان، جنوب السوق.
* قبة الشيخ/ أبو زيد، بأم درمان، سوق ليبيا.
* قبة الشيخ/ حمد النيل، بأم درمان.
* قبة الشيخ/ محمد بن عبد الله كريم الدين (شيخ الطريقة المحمدية الأحمدية
الإدريسية) .
* قبة الشيخ/ إبراهيم ود بَلاّل، بالقطينة.
* قبة الشيخ/ الطيب ود السايح، بأبي شنيب، قرب الحداحيد.
* قبة الشيخ/ حمد ود أم مريوم، بالخرطوم بحري، حي حِلّة حمد.
* قبة الشيخ/ خوجلي أبو الجاز، بالخرطوم بحري، حلة خوجلي.
* قبة الشيخ/ صديق ود بُساطي، غرب النيل الأبيض.
* قبة الشيخ/ طه الأبيض البطحاني، بشمال الجزيرة.
* قبة الشيخ/ الطريفي ود الشيخ يوسف، بأبي حراز.
* قبة الشيخ/ عبد الرحيم ود الشيخ محمد يونس، بأبي حراز.
وجدير بالذكر أن منطقة أبي حراز بها ما يقارب (36) قبة، من أشهرها
إضافة إلى ما سبق:
* قبة الشيخ أحمد الريح، وقبة الشيخ دفع الله المصوبن (أبو النعلين) .
وقد لوحظ على بعض القباب أنها حظيت برعاية بعض القادة السياسيين، مثل
قبة الشيخ يوسف أبو سترة، التي شيدت برعاية الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، وكذلك قبة الشيخ مدني السني، بمدينة ود مدني، كما لوحظ أيضاً عدم اقتصار
اتخاذ القباب على قبور المعظمين في المسلمين، بل من شدة الجهل والغفلة اتخذت
قبة على مقبرة (الرفيق) الصيني الشيوعي يانغ تشي تشنغ، في ود مدني، ولوحظ
كذلك: أن بعض هذه القباب يتوسط المساكن.
أما في إريتريا: فمن أشهر الأضرحة التي يرتادها الناس:
* ضريح الشيخ بن علي بقرية (أم بيرم) القريبة من مدينة مصوع الميناء
الرئيس لإريتريا.
* ضريح سيدي هاشم الميرغني وبنته الست علوية بمدينة مصوع، وعلى
كل من هذين القبرين مبنى مستقل على شكل مكعب ومغطى بالقماش مثل الكعبة،
وفي كل زاوية منه خشبة مستديرة الشكل يتبرك بها بعد الانتهاء من الطواف بالقبر!
* ضريح الشيخ جمال الأنصاري، وله وقت مخصص لزيارته، وإن كانت
أهميته لدى الناس أقل من سابقيه.
* ضريح جعفر، وقد بني عليه مسجد، ويقوم المصلون في المسجد بزيارته
بعد كل صلاة مفروضة.
* ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهو ضريح وهمي في قرية
(حوطيت) بالقرب من مدينة جندع على ساحل البحر الأحمر.
* ضريح الشيخ الأمين المقام في أحد مساجد مدينة (أسمرا) العاصمة.
* ضريح سيدي هاشم في مدينة (كرن) التي تقع على الساحل الجنوبي من
إريتريا، وهو يعتبر من أكبر المشاهد التي يقصدها الناس من أنحاء عديدة في
البلاد، بل ومن الدول المجاورة كالسودان.
* ضريح أحمد النجاشي في (عدي قرات) التي تقع على الحدود الإريترية
الإثيوبية، وله يوم محدد (مولد) يقصده الناس فيه من أنحاء إريتريا وإثيوبيا.
بنجلاديش:
ولا تختلف الصورة كثيراً في شرق العالم الإسلامي حيث تنتشر الأضرحة
و (المزارات) ففي بنغلاديش، خاصة في مدن داكا (العاصمة) وشيتاغونج وسلهت
وخولنا، ولكن من الغريب ارتياد الناس لمزارات يوجد بها سلاحف وتماسيح يعتقد
فيها بعض الجهلاء النفع والضر، فيقدمون الأكل لها أملاً في الحصول على وظيفة
أو لتفريج كربة، وتحرص بعض النساء على مس هذه الحيوانات أملاً في حدوث
الحمل والرزق بالذرية، وقد نتجت هذه الاعتقادات والممارسات عن الزعم بأن هذه
الحيوانات تحولت إلى هذه الصورة بعد أن كانت من الأولياء الصالحين! وهناك
أيضاً مزارات تحتوي على أشجار يعتقد فيها وتعلق على أغصانها الخيوط والخرق.
ويولي المعتقدون في هذه الأضرحة والمزارات اهتماماً كبيراً بعمارتها
ومظهرها حيث تكون المباني مزخرفة ومزينة، ولكل قبر قبة مبنية بأحجار قيمة،
وتقوم على أمر هذه المزارات لجنة تضم أصحاب السلطة والمنتفعين من ورائها؛
حتى أصبح حالنا وحال هذه الأضرحة كما قال الشاعر المصري حافظ إبراهيم:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف يرزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أحجارها الصلوات
تعددت المظاهر والانحراف واحد:
يعتبر الغلو والبدع والانحراف عن التوحيد الخالص عوامل مشتركة بين
مرتادي الأضرحة والمعتقدين فيها وإن تنوعت المظاهر حسب بيئة كل بلد وعادات
أهله.
ففي إريتريا يقصد كثير من القبوريين الأضرحة حاملين معهم الأغنام والأبقار
والسكر والقهوة والشاي وغيرها من أنواع الأطعمة إضافة إلى الأموال؛ ليقدموها
قرباناً إلى صاحب الضريح، وقد يذبحون الأنعام تقرباً أيضا للولي أو الشيخ،
ويطوفون بالقبر وبتمرغون بترابه، ويطلبون قضاء الحوائج وتفريج الكربات منه،
كما يحصل من الفساد الأخلاقي حول الأضرحة ما يستحيي الإنسان من ذكر
تفاصيله وخاصة الاختلاط وانتهاك الأعراض، وتكثر هذه الممارسات حول
الأضرحة الشهيرة، كضريح الشيخ (بن علي) وضريح سيدي هاشم الميرغني
وبنته الست علوية، وضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وضريح سيدي هاشم
وضريح أحمد النجاشي.
ويزداد الأمر سوءاً في السودان؛ حيث يحرص أتباع هذه الأضرحة
والمنتفعون منها على التأصيل لهذه الانحرافات، فتلقى المحاضرات وتؤلف الكتب
في الحث على ذلك، ومن أشهرها:
رسالة عبد الله المحجوب الميرغني، المتوفى سنة (1207هـ) ، واسمها:
(تحريض الأغبياء على الاستعانة بالأنبياء والأولياء) ، يقول فيها:
(ولهذا يتبين لك (وجوب) التعلق بالوسائل والأسباب، وتأكد لزوم التزام
الوسائط والأبواب، فتعلق بالوسائل والأسباب، والجأ واستغث، وانده [من النداء]
لخواص الله والأحباب، واطرق لدى الخطوب ما شئت من الأبواب، تنل بذلك من
فيض الوهاب ما لا يدخل في حساب) .
ونتج عن إشاعة هذا الاعتقاد والدعوة إليه أن تأثيره لم يقتصر على الطرقيين
فقط، بل امتد ليشمل جماهير عريضة في الشعب السوداني، وهذا ما شاهدته
بنفسي أثناء مطالعتي لتلك المزارات، فهناك عادات ارتبطت بتلك القباب، يقوم بها
روادها، منها:
1- ينبغي أن يخلع الزوار نعالهم خارج القبة، وبعضهم يخلعها خارج ساحة
المسجد، احتراماً لصاحب الضريح. وعلى أية حال: فمن المسلّم به عندهم أنه لا
يجوز دخول القبة بالنعلين.
2- يتم دخول القبة بإذن من حارسها، كما يتولى خادم الضريح (تطويف)
الزوار.
3- يتبرك الزوار بالضريح والقبة بطرق شتى: فمنهم من يأخذ من ترابها،
ومنهم من يضع يديه على السياج المعدني الذي حول القبر ويتمسح بها، ثم يمسح
على جسده وملابسه.
4- الطواف داخل القبة حول القبر من الممارسات الشائعة والمألوفة عند
هؤلاء الزائرين.
5- وكذلك دعاء المقبور والاستعانة به والإلحاح عليه في الدعاء، فقد رأيت
بعض الزائرين يجلس عند القبر ممسكاً بسياجه، ويلح في طلب حاجته، وأحياناً
يصرخ، وبعضهم الآخر يدعو المقبور أثناء الطواف حول القبر، ومما يندى له
الجبين أن امرأة شوهدت عند قبة الشيخ عبد الباقي تحمل طفلاً، ترفعه بيديها
وتهزه وهي تخاطب الشيخ المقبور راجية منه البركة في صغيرها، ثم تقول:
(يا شيخ.. سمعت؟) لتتيقن سماعه وقضاء حاجتها!
6- ومنهم من يلتزم القبر بداخل القبة، ويصيح عنده ويجأر به.
7- ورأيت من يسجد وهو مستقبل القبة نسأل الله السلامة.
8- ومن المعتاد: تقديم النذور عند هذه القباب.
9- ومن الناس من يعكف عندها أياماً وشهوراً، التماساً للشفاء أو لقضاء
حاجة من حوائجه، وقد أُلحقت ببعض القباب غرف انتظار الزائرين لهذا الغرض.
10- وقد لوحظ أن زيارة القباب تتم في جميع أيام الأسبوع، وتزداد في أيام
الجمع والأعياد؛ حيث يكتظ كثير من القباب بالزوار في هذه المناسبات، كما لوحظ
اختلاط الرجال والنساء في هذه الزيارات، وأن معظم الزائرين من النساء.
وفي بنجلاديش يأتي الناس إلى المزارات ويظنون أنها أقدس مكان على وجه
الأرض، لذا: فهم يسجدون أمام الأضرحة إجلالاً لها واحتراماً، ويطلبون من
أصحابها الذرية ودفع المصائب وتفريج الكروب، كما يقدمون لهم النذور من
الأموال والحيوانات كالغنم والبقر التي تذبح باسم صاحب القبر، وأخيراً ينصرفون
وهم يظنون أنهم فعلوا خيراً كثيراً؛ لأنهم يعتقدون أن لأصحاب هذه الأضرحة يداً
في تصريف الأمور، بل وفي إدخالهم الجنة، ويكون عدد المترددين أكثر بعد
العصر وخاصة ليلة الجمعة.
وينتشر حول هذه الأضرحة بعض القبوريين الذين يعيشون في ساحاتها
ويلازمونها، وهم صنفان من حيث مظهرهم:
الأول: أناس أصحاب هيئة رثة لا يلبسون إلا القليل من الملابس، التي تكاد
ألا تستر غير عوراتهم، ويطلقون شعورهم ولحاهم وشواربهم التي بدا عليها التلبد
والقذارة، فهم لا يغتسلون من أوساخهم ولا ينظفون ملابسهم.. ومع ذلك يختلط
الناس بهم طلباً للبركة منهم، وتبيت معهم النساء، ولا يتحرزن عن معاشرتهم.
الثاني: يهتمون بمظهرهم وينظفون ملابسهم إلى حد ما، يجلس الواحد منهم
في ساحة الضريح وحوله الناس ينادونه بكل شوق ورغبة باسم (بابا) ، وهم دائماً
يحققون ما يأمر به، وتبيت النساء أيضاً عنده من غير تحرز عن ارتكاب الفواحش
معه، حيث يتناولون المخدرات والمسكرات ويغنون بإيقاع خاص أشعار الشرك
والفجور، ولا يتورعون عن ارتكاب الزنا.
وفي مصر تلقى الأضرحة احتراماً وتبجيلاً لدى كثير من الناس، حيث يندفع
أكثرهم لا شعورياً للقيام ببعض الممارسات المتنوعة والمتعلقة بهذه الأضرحة،
وتبدأ هذه الممارسات بالحرص على الصلاة في المسجد الذي به الضريح، ثم
الحرص على زيارته وترديد بعض الكلمات والصلوات والدعوات. وبالطبع فإن
هذا الحرص يتفاوت حسب شهرة الضريح ومكانته في نفوس الناس وحسب دوافع
الزائر له، ويلي ذلك: التمسح بالضريح وتقبيله طلباً للبركة، ويليه: التوسل بجاه
صاحب الضريح اعتقاداً أن ذلك أقرب إلى إجابة الدعاء، ثم ينتهي المطاف ببلوغ
غاية الضلال والخرافة عندما يتوجه إلى صاحب الضريح بالدعاء والرجاء وطلب
قضاء الحاجات منه، وغالباً ما يصحب الدعاء استقبال للضريح حتى ولو كانت
القبلة خلف ظهره، كما يظهر على الزائر الخشوع والسكينة والتأثر الذي قد يصل
إلى حد البكاء، وقد يصل الولع والوجد ببعضهم إلى الإغراق في حالة من انعدام
الوعي، فيصبح (مجذوباً) .
وعادة ما يضع الزائر بعض ما تجود به نفسه في صندوق النذور صدقة أو
قربة لصاحب الضريح.
ومن الملاحظ أن طبيعة النذور المقدمة تطورت من الماضي إلى الحاضر،
كما أنها تختلف بحسب وجود الضريح في وسط قرى ريفية أو وسط تجمعات
عمرانية حضرية.
ومن الملاحظ أيضاً: أن حركة الناس في الدخول إلى الضريح والخروج منه
تختلف حسب مكانة صاحب الضريح، ولكنها عموماً تزداد في أوقات الصلوات،
وهذا بالطبع بخلاف أوقات الموالد التي تعج بالزائرين.
وماذا عن الموالد؟
تكثر الموالد في مصر، ويشتهر منها: المولد النبوي، ومولد البدوي الذي
حضره عام 1996م حوالي 3 ملايين زائر، حسب تقرير الحالة الدينية في مصر
الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية، ومولد إبراهيم الدسوقي، ومولد أبي
الحسن الشاذلي، ومولد المرسي أبي العباس، ومولد أبي الحجاج الأقصري، ومولد
إبراهيم القنائي.
والاحتفال بالمولد النبوي كغيره من الموالد يغلب عليه مظاهر الاحتفال الشعبي
الفولكلوري المصطبغ بالصبغة الدينية، ويشترك مع غيره من الموالد في سمة
حضور جمهور كبير من أنحاء متفرقة، وإقامة بعضهم حول أحد الأضرحة،
وإنشاد المدائح الخاصة بصاحب المولد، مع نشاط اقتصادي واجتماعي حول أحد
الضريح، إضافة إلى ما سبق أن ذكرناه من ممارسات وطقوس يقوم بها الزائر تجاه
صاحب الضريح. وتعجب أشد العجب أن تجد بعضاً ممن ينتسب إلى العلم والدعوة
يحضر بعض هذه الموالد، بل ويروج لها عند العامة، ولا يتورع عن ممارسة
بعض البدعيات المحدثة، فيكون قدوة سيئة للجهلة، نعوذ بالله من الخذلان.
ويوم الاحتفال بالمولد النبوي يكون إجازة رسمية في البلاد، ويقام بصفة
رسمية في كل محافظة بمصر حيث تشرف عليه السلطات لضمان سيره بانتظام
وأمان، وهو يقام في ساحة عامة بجوار أحد المساجد الكبيرة غالباً، وعادة يكون
المسجد ضريحاً لأحد الأولياء المشهورين، وقبل المولد تهيأ الساحة والشوارع
بالزينات والأضواء، ويستعد أصحاب كل نشاط بما يلزم من جلب البضائع ونصب
الملاهي، ويزدهر نشاط الباعة والمحلات وبخاصة أنشطة بيع الحلوى والألعاب
وأنشطة المقاهي والمطاعم وبيع الأدوات المنزلية، وتزدحم الفنادق، وهي غالباً
ذات مستوى متدنٍ.. ويشيع جو من المرح والضجيج في مكان المولد.
وقد شاهد مندوب البيان احتفال (الليلة الكبيرة) للمولد النبوي في القاهرة،
حيث سار موكب ممثلي الطرق الصوفية لمدة (45) دقيقة تقريباً مشياً على الأقدام
حاملين الأعلام والرايات في جو من البهجة والاحتفال بدءاً من ضريح الشيخ صالح
الجعفري بمنطقة الدرّاسة إلى مسجد الحسين، وهناك وجدوا في انتظارهم بعض
المستقبلين، على رأسهم شيخ مشايخ الطرق الصوفية، فقاموا بالسلام عليه وقراءة
الفاتحة والدعاء جماعيّاً. ويشهد هذا الاحتفال أيضاً كبار رجال الدولة أو ممثلون
عنهم، وعلى رأسهم شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ورئيس جامعة الأزهر
ووزير الأوقاف ومحافظ القاهرة؛ حيث يلقي معظمهم كلمات في الاحتفال، كما
يشهد حضوراً إعلاميّاً واضحاً من صحافة وإذاعة وتلفاز.
وبعد نهاية الاحتفال الرسمي ينصرف أتباع الطرق الصوفية لإلقاء أناشيدهم
ومدائحهم وأذكارهم في أماكن معدة لذلك سلفاً، ويستمرون في ذلك حتى منتصف
الليل تقريباً.
ولا تختلف نوعية زوار المولد النبوي عما ذكره (تقرير الحالة الدينية بمصر)
عن زوار مولد البدوي، فهم يشملون:
* فريقاً هدفه إحياء ذكرى المحتفل به.
* وآخرين يحرصون على التبرك، ومنهم البسطاء والفقراء والأغنياء،
الأميون والمثقفون، ويرى هؤلاء أنه إذا لم يتمكنوا من الحضور لأي سبب، سواء
أكان بإرادتهم أو رغماً عنهم، فسيصيبهم أذى أو ضرر، ويعتقدون أن الزيارة
ستفتح أبواب الرزق أمامهم، بل وتغمرهم بسعادة بالغة.
* ومنهم من كان مريضاً جاء لطلب الشفاء، أو من كانت عاقراً وعقيماً تأمل
في تحقيق أملها بإنجاب طفل.
* وفريقاً آخر يبحث عن الترفيه والسياحة وقضاء وقت ممتع، وهم الفئة
الشبابية.
* وهناك نمط آخر من الزوار يهدف للتسويق والتجارة سواء بالبيع أو الشراء.
وبالإضافة إلى ذلك: هناك الجمع الغفير من أتباع الطرق الصوفية، هدفهم
إحياء الذكرى ونوال البركة ونشر طريقتهم الصوفية. أما عن المشاركة بين
المسلمين والأقباط فهي قديمة جدّاً؛ إذ إن التاريخ يذكر أن ابن طولون كان يقيم
الولائم وكان المسلمون يحتفلون بالأعياد القبطية مشاركة للأقباط، وسار على نهج
الطولونيين الإخشيديون في الاحتفال بأعياد النصارى.. ولا تزال هذه المشاركة
موجودة حتى عصرنا الراهن! ومن أغرب الأمور بهذا الصدد؛ أن مولداً يقام
سنوياً باسم (مولد سيدي أبو حصيرة) وهو يقام عند ضريح لرجل يهودي بهذا الاسم، وتأتيه كل عام وفود كبيرة من السياح اليهود من إسرائيل، وتقام حراسة مشددة
لحماية الاحتفال حتى ينفض! !
وفي السودان يتم الاحتفال بالمولد النبوي في صورتين:
الصورة الأولى: الاحتفال في الميادين والساحات:
وقد تأصل هذا النوع من الاحتفالات حتى خصصت لها ميادين معينة، عرفت
بميادين المولد؛ ففي كل مدينة ميدان يسمى ميدان المولد الكبير، وهو ساحة متسعة
مخصصة لهذا الغرض، وتلتقي فيه كل الطرق الصوفية المشتركة في الاحتفال
بالمولد، وتتم المشاركة فيه بعد الحصول على تصديق رسمي من الدولة يتم بموجبه
السماح للطريقة المعينة بنصب سرادقها في المكان المخصص لها في ساحة المولد،
وعمل تجهيزاتها اللازمة لها..
وتقوم كل طريقة بعمل الأذكار التي تخصها والمدائح المتعلقة بالمولد، كما تتم
قراءة الكتب المؤلفة في المولد النبوي في شكل حلقات تشبه حلقات تلاوة القرآن،
وعند مرورهم بمواطن معينة في هذه الموالد المؤلفة يقف الحاضرون اعتقاداً منهم
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحضر عند ذكر ولادته، ويرددون في صوت
واحد عبارة (مرحبا بالمصطفى يا مرحبا ... ) وفي بعض المواضع من القراءة
يضعون الأيدي على الرؤوس، وفي مواضع أخرى يضربونها أو يوجهونها نحو
الأرض عند الاستعاذة من بعض الأمراض أثناء قراءة المولد.
وفي المولد يضربون أيضاً على الطبول الكبيرة (النوبة) التي تصدر أصواتاً
قوية، ويرددون معها القصائد الملحنة كنوع من الذكر الذي يُتقرب به إلى الله..
وكل هذا مع الحركة والاضطراب الشديد، وربما دار أحد الدراويش على رجل
واحدة وهو (يترجم) ، أي: يصدر أصواتاً لا تفهم، فيوصف بأنه غرق في الذكر.
ويزداد الزحام في الليلة الأخيرة، ويكون الناس في هذه الساحات خليطاً من
الرجال والنساء، وقد شاهدت في أحد الموالد نساءً يصفقن ويتحركن مع رجال
يضربون هذه الدفوف (النوبة) حتى انتهين إلى أحد السرادقات المقامة وهن يصفقن
على أصوات المديح، ويتحركن على صوت ضربات الطبول، إلى أن يستقبلهن
شيخ ممسك بمسبحته وهو يهز رأسه استحساناً لهذا الصنيع.
أما الصورة الثانية للمولد: فهي الاحتفال به في المساجد والزوايا الخاصة:
وفيها يتم قراءة كتاب المولد المؤلف لكل طريقة، وإطعام الطعام لا سيما في
الليلة الختامية، ويكون صبيحة هذه الليلة عطلة رسمية في البلاد بمناسبة ميلاد
النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفي بنجلاديش تكون الاحتفالات حول الأضرحة أسبوعية وسنوية، حيث
تعتبر ليلة الجمعة عيداً أسبوعيّاً حول الضريح يأتي إليه الزوار من جميع الأصناف: أغنياء، وفقراء، ومسؤولين في الحكومة، وغيرهم، ويشاركون في المعاصي
من شرك واختلاط وغناء وتكون الفرصة مهيأة للفاحشة والزنا، ويستمر هذا
الاحتفال حتى الصباح، ويكون لكل (بابا) مجلس خاص ويتحلق حوله مريدوه.
وبمثل هذا ولكن بشكل موسع يتم الاحتفال السنوي الذي يسمى (عرساً) تحت
إشراف لجنة نظامية حكومية ويستمر مدة أطول قد تصل إلى أسبوع، فيجتمع
الناس من أماكن مختلفة بعيدة حاملين معهم نذورهم من ماشية وأموال، وتنتشر كل
مجموعة حول صاحب بدعة (البابا) الذي يرتدي ملابس غير ساترة مدعين أنهم
وصلوا إلى مرتبة تؤهلهم لعدم التمثل بشريعة الله، ويصدقهم الجهلاء في ذلك،
ويشيع في هذه الاحتفالات شرب الخمر والمخدرات ولعب الميسر والخرافات إضافة
إلى ترك الصلاة، وأيضاً السجود لغير الله، وغير ذلك من الشرك الصريح.
كما يحضرها كذلك كبار المسؤولين والأغنياء والفقراء على حد سواء،
وبعض هؤلاء من يشاركون (البابات) الإثراء والمنافع المادية الكبيرة من وراء
رواج سوق الخرافة حول الأضرحة.
ونلاحظ أن أهل البدع ينقسمون أقساماً عدة في ممارساتهم البدعية:
فمنهم: أناس لا يؤدون الشعائر ويلبسون الملابس القصيرة، ولا يهتمون
بنظافتهم، ويقيمون في بيوت أتباعهم حفلات أسبوعية كل ليلة جمعة، يبدؤون
الحفلة بما يسمونه (ذكر الله) بصوت مرتفع، ثم ذكر بعض من سيرة السيدة فاطمة
الزهراء والحسن والحسين رضي الله عنهم ثم يوردون بعضاً من أخبار عبد القادر
الجيلاني، ثم بعد ذلك يدخلون في ذكر جماعي مختلط، تنزع فيه النساء الحجاب؛
لأنهمن يزعمن أن الحجاب الأصلي هو الحجاب الداخلي في القلب، فلا حاجة
للحجاب الخارجي، ويرقص الجميع مع الموسيقى، ثم تُطفأ الأنوار، ويحدث ما
يحدث. (والله المستعان)
ومنهم: من يدعي أنه يؤمن بالله ورسوله وأنه محب للرسول ويطيل شعره
ولحيته ويلبس الملابس البيضاء، وهو مع ذلك لا يصلي ويستحل الغناء والموسيقى، ولكنه لا يصل إلى أفعال القسم الأول، ويظن أنه بهذه الأفعال يدخل الجنة.
ومنهم: من يصلي ويصوم ويدعي أنه أقرب الناس إلى الله، ولكن مرشده لا
يشدد عليه لاتباع الشريعة كلها، ويكتفي ببعض النصائح فقط، وأتباع هذا الشيخ
يظنون أنه أقرب الناس إلى الله، وأن له قدرة على تفريج كروب الدنيا والآخرة،
ويقبل الناس قدمه ويسجدون عليها من غير إنكار منه؛ لأنه مستفيد من وراء
استمرار هذه الأوضاع في الأعراس وغيرها.
نسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ويهدينا وإياهم سواء السبيل.(132/70)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
خاتمة الملف
الأمل مع العمل
الحمد لله وصلى الله على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد تجولنا بكم إخواننا القراء في هذا الملف في عددين متواليين، اطلعتم من
خلالهما على شؤون وشجون في هذا الموضوع بعد تحرينا الحقيقة والبحث عن
مصادرها الموثوقة.
نعم قد تبدو الصورة قاتمة، وهي بالفعل كذلك في بعض أجزائها، وقد يبدو
أن الجرح الذي أحدثته الخرافة في عقل الأمة عميق، ولا شك أن له امتداداً طولياً
وعرضياً في تاريخ الأمة وواقعها، وقد يبدو أن المرض مزمن وعلاجه صعب؛ إلاّ
أن الأمور الجسام تحتاج إلى جهود عظيمة غير عادية في طبيعتها وفي حجمها.
ومع كل ذلك فإننا نعتقد أن الصورة التي أبرزتها مشاركات الملف ليست
صورة كلية، بل هي جزئية مجهرية اقتضتها فنون التشخيص التي لا بد من
اجتيازها للوصول إلى العلاج الناجع لأحد الأمراض التي سرت في الأمة.
وتستكمل هذه الصورة بأن سوق الخرافة كان ولا شك أكثر رواجاً وانتشاراً
في الماضي القريب، فبعد عقود من جهود دعوية (غير منظمة وغير مركزة) تشكك
كثير من معتقدي الخرافة في معتقداتهم، إضافة إلى صفوف من شباب الصحوة نبذ
الخرافة كلياً وحمل لواء محاربتها.
ولذا لا بد أن يُستحضَر في الذهن حقيقة أن المظاهر والممارسات الخرافية
التي أوجدها ابتداع الأضرحة والعتبات المقدسة تقل في الأماكن والأزمنة التي ينشط
فيها الدعاة إلى الله على بصيرة.
وهذا ينقلنا إلى نقطة تالية، وهي: أن التغيير لا يتم تلقائياً ولا يحدث
بالأماني، ولكنه يحدث بالفعل والعمل ف [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] وفضلاً عن كون أصحاب هذه المعتقدات لن يغيروها من
تلقاء أنفسهم، فإن أئمة الخرافة والمنتفعين من وراء رواجها لن يكلّوا في الدفاع
عنها والترويج لها.
ولذلك كله فإننا نرى أن الأمل موجود، ولكن تحقيقه معقود ببذل الجهد
والإخلاص من كل مسلم لإنقاذ هؤلاء التائهين في دروب الخرافة والوهم، بدءاً من
أئمتهم وانتهاءً بدهمائهم وعوامهم.. ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن
يكون لك حُمْرُ النّعَم) [أخرجه البخاري] .
ويتعين على العلماء العاملين الذين هم ورثة الأنبياء أن يولوا أمر نشر التوحيد
ومحاربة الشرك أولى اهتماماتهم؛ فالتوحيد أصل الدين ورأسه، فينبغي تقديمه على
كل معروف وتقديم النهي عن ضده الشرك على كل منكر، وهذا ما وجه به رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- حين بعث معاذاً إلى اليمن: فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله عز وجل..) [أخرجه البخاري ومسلم] .
وفق الله الجميع إلى العلم النافع والعمل الصالح.(132/79)
المسلمون والعالم
المقاومة الفلسطينية خلال نصف قرن 1948- 1998م
مدخل للتقييم
(1/2)
د. محسن محمد صالح
شهد عام 1948م إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين؛ حيث تمكن
من الاستيلاء على 78% من هذه الأرض المباركة، وتشريد معظم أبنائها، وقد
أخذ هذا الكيان يرسخ أقدامه في المنطقة، ويستقدم اليهود من شتى أنحاء العالم،
كما استطاع أن يشكل خطراً كبيراً على المنطقة العربية والإسلامية وأمنها
واستقرارها، وأن يسهم في إضعافها وتمزيقها، مستفيداً من دعم الدول الكبرى غير
المحدود وخصوصاً الولايات المتحدة. ولم تنجح الجيوش العربية سنة 1948م في
مواجهة هذا الخطر، كما هزمت مرة ثانية سنة 1967م وضاع ما تبقى من فلسطين
فضلاً عن أراض عربية أخرى. غير أن المقاومة الفلسطينية للكيان الصهيوني
استمرت بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة طوال الفترة الماضية.
وفي هذا المقال نحاول تسليط الضوء على تجربة المقاومة الفلسطينية ضد
الكيان الصهيوني خلال الخمسين سنة الماضية، وسنقسم هذا الموضوع إلى قسمين:
الأول: نستعرض فيه مراحل المقاومة التي خاضها الفلسطينيون خلال تلك
الفترة.
والثاني: نحاول فيه تقديم تقييم أولي لهذه التجربة.
أولاً: مراحل المقاومة:
المرحلة الأولى: 1948 1967م:
منذ البداية وجد ثلثا شعب فلسطين أنفسهم مشردين لاجئين (أكثر من 800
ألف) [1] بعد أن وضع الكيان الصهيوني يده على أربعة أخماس فلسطين، وتم
تغييب دور القيادة الفلسطينية الوطنية الممثلة يومذاك بالحاج أمين الحسيني ورفاقه
الذين شكلوا حكومة عموم فلسطين التي حُرِمت ممن ممارسة صلاحياتها على
الأرض، وضَمّت الأردنّ الضفةَ الغربيةَ فيما وضعت مصر قطاعَ غزة تحت
إدارتها.
وفي هذه المرحلة علّق الفلسطينيون آمالهم على (قومية المعركة) وعلى
الأنظمة العربية وخصوصاً مصر بزعامة عبد الناصر، وكان شعار: (الوحدة
طريق التحرير) هو الشعار البراق لتلك المرحلة. غير أن الأنظمة العربية اتخذت
صبغات علمانية ذات مضامين اشتراكية أو غربية أو محافظة، وشهدت فترة
الخمسينيات والستينيات مداً قومياً ويسارياً جارفاً، وانحساراً مؤلماً للتيار الإسلامي، ورغم حالة العداء والحروب مع الكيان الصهيوني، إلا أن الخط البياني للأنظمة
العربية كان يسير باتجاه (التسوية) وليس باتجاه (التحرير) وتم تبني المقاومة
الفلسطينية لأسباب تكتيكية مرحلية وليس لأسباب استراتيجية شاملة. وسارت
سياسات دول المواجهة مع المقاومة الفلسطينية ضمن خطين:
الأول: ضمان أمن النظام وبقائه، وعدم تعريضه لمخاطر الانتقام الصهيوني، ومن ثم ضبط العمل الفدائي، ووضعه تحت السيطرة ما أمكن، ومنعه من
استخدام الحدود للقيام بعمليات مسلحة.
والخط الثاني: السماح المرحلي التكتيكي بوجود المقاومة وعملها، تحقيقاً
لمكاسب سياسية وشعبية أو تجنباً لاضطرابات داخلية، وتنفيساً عن غضب
الجماهير، ولذلك بقيت حدود دول المواجهة مع العدو مغلقة محرمة على العمل
الفدائي الفلسطيني طوال الخمسين عاماً الماضية، مع استثناءات لفترات محدودة
فرضتها ظروف معينة، وكان أهم هذه الاستثناءات جنوب لبنان، الذي تشكلت فيه
قاعدة مقاومة قوية بعد 1967م، ليس بسبب رغبة النظم الحاكمة هناك، وإنما
بسبب ضعفه وقوة الثورة وقاعدة تأييدها الواسعة.
وفي هذه المرحلة، اتخذت المقاومة الفلسطينية أشكالاً بسيطة محدودة التأثير،
بانتظار دور عربي حاسم، فكثرت عمليات اختراق الحدود الفردية لاسترجاع
ممتلكات للعائلات أو للانتقام من الغاصبين. ونشط الإخوان المسلمون في قطاع
غزة في تشجيع وتجنيد الشباب للقيام بالعمليات الفدائية، وساعدهم في ذلك ضباط
إسلاميون مصريون من أمثال عبد المنعم عبد الرؤوف، وقام الإخوان في النصف
الأول من الخمسينيات بزرع الألغام، ونسف المنشآت، وتخريب خطوط المياه
والكهرباء مما أدى إلى ردود فعل صهيونية متغطرسة، وإثر مذبحة غزة التي قامت
بها القوات الصهيونية في 28 شباط / فبراير 1955م، وإثر انتفاضة غزة في
الأول من آذار/ مارس 1955م وافقت القيادة المصرية على العمل الفدائي
الفلسطيني، ووضعته تحت إشراف الضابط المصري مصطفى حافظ الذي قام
بواجبه خير قيام. وتدفق الآلاف للتطوع؛ غير أنه تم انتقاء العناصر ذات الخبرات
القتالية وذات المعرفة بالأرض، وزاد عدد الفدائيين العاملين عن الألف، وكثير
منهم من أبناء الحركة الإسلامية ومؤيديها، وقاموا بعمليات يومية خاطفة، وأحياناً
بعمليات كبيرة واسعة شارك في إحداها 300 فدائي في نيسان / إبريل 1956م
توغلوا لمسافات كبيرة ونجحوا في مهامهم [2] .
وحتى بعد حظر نشاط الإخوان المسلمين في القطاع، وتعرضهم للمطاردة فقد
استمروا في عملهم الجهادي السري، وشكلوا مجموعات جهادية مسلحة مثل (شباب
الثأر) و (كتيبة الحق) وكان لهم دورهم المشهود في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي
للقطاع تشرين الثاني/ نوفمبر 56 آذار/ مارس 1957م إثر العدوان الثلاثي على
مصر. وبرز من الإخوان خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان أحد أنشط عناصرهم
العسكرية. غير أن ظروف محاربة النظام الحاكم في مصر للإخوان، وإفساح
المجال للتيارات القومية واليسارية، فضلاً عن هجرة العديد من الكفاءات ورموز
الإخوان إلى الخارج وخصوصاً دول الخليج، كل ذلك أضعف من قوة حركة
الإخوان في القطاع وهمّش دورها منذ أواخر الخمسينيات وحتى عام 1967م [3] .
ومنذ تلك الفترة استمر سلوك الحركة الإسلامية العام بالمحافظة على النفس
والتركيز على الجوانب الإيمانية والتربوية؛ غير أن هذا لم يمنع من ظهور
تساؤلات وسط الصف الشبابي (الإخواني) عن وسائل العمل الممكنة لقضية فلسطين، فأخذ يظهر توجه للقيام بعمل منظم مسلح لا يتخذ أشكالاً إسلامية ظاهرة، وإنما
يتبنى أطراً وطنية عامة تمكن من تجنيد قطاع واسع من الشباب، ولا تصطدم
بعداء وملاحقة الأنظمة، وقدم خليل الوزير مشروعاً بذلك إلى قيادة الإخوان في
غزة، لكنه لم يحصل على ما يرجوه. وفي المقابل شكلت تجربة الثورة الجزائرية
المظفرة بارقة أمل، ودفعة معنوية كبيرة للقيام بعمل وطني. وقد كانت هذه هي
البذور الأولى لنشأة حركة فتح التي خرجت أساساً من أحضان الإخوان المسلمين،
وبالذات أبناء قطاع غزة ورغم عدم استجابة المسؤولين من الإخوان إلا أن عدداً من
ذوي المكانة والاحترام بين القواعد ممن اقتنعوا بهذا التصور قاموا بدعوة إخوانهم
الآخرين للانضمام لهذه الحركة، وكان منهم سعيد المزين (أبو هشام) وغالب الوزير، وانضم إليهم عدد من الإخوان المرموقين في ذلك الوقت مثل: سليم الزعنون (أبو ...
الأديب) وصلاح خلف (أبو إياد) وأسعد الصفطاوي، ومحمد يوسف النجار، وكمال
عدوان، ورفيق النتشة، وتمكنت فتح من تجنيد أفراد كثيرين ممتازين من الإخوان، وكان الإخوان يعتبرون هذه الحركة منهم أو رصيداً لهم، وقد نشأت فتح في
الكويت في أواخر 1957م؛ وتشير إحدى المصادر الإخوانية أن قيادتها الأولى
كانت من خمسة أعضاء أربعةٌ منهم من الإخوان أو ذوو جذور إخوانية هم: أبو
جهاد، ويوسف عميرة، وعبد الفتاح حمود، وسليمان حمد، والخامس (أبو عمار)
ياسر عرفات الذي كان قريباً من الإخوان. لكن على ما يبدو فإن قيادة الإخوان في
غزة أصرت إما على الإشراف الكامل على الحركة بوجود ثلاثة أعضاء تعينهم
بنفسها أو بالانفصال عن الحركة، ولما لم تستجب فتح لذلك فقد أمر الإخوان
قواعدهم بالانفصال وخيّروهم بين إحدى الجهتين وذلك في عام 1963م، وهكذا
خسر الطرفان بعضهما بعضاً وتوسعت فتح في تجنيد العناصر من تيارات
مختلفة [4] .
استطاعت حركة فتح تشكيل جناح عسكري (العاصفة) وقامت بأول عملياتها
العسكرية في مطلع 1965م وتمكنت من شن حوالي 200 عملية منذ ذلك الوقت
وحتى حرب حزيران/ يونيو 1967م وقد اتهمتها الأنظمة العربية بالرجعية والعمالة، ومحاولة جرها للحرب مع العدو قبل الأوان، وقامت بملاحقة أفرادها وسجنهم،
ومنعهم من التحرك والعمل، لكن هزيمة الأنظمة في 1967م فتحت أمامها آفاقاً
جديدة [5] .
ومن جهة أخرى دعمت الأنظمة العربية منظمة التحرير الفلسطينية في
حزيران/ يوليو 1964م بزعامة أحمد الشقيري، ورغم أن هدف بعض هذه الأنظمة
كان وضع المقاومة الفلسطينية تحت الإشراف والسيطرة بعد شعورهم بما كانت
تموج به الساحة من حركات سرية وأنشطة بعيدة عن التحكم الرسمي، ورغم ذلك
فإن (م. ت. ف.) لقيت تأييداً شعبياً باعتبارها ممثلاً للكيان الفلسطيني والهوية
الوطنية التي جرى تغييبها، هذا مع تحفظ عدد من الجهات ومنها فتح على خلفيات
إنشائها، وعدم قدرة (م. ت. ف.) على القيام بواجباتها، وقد تم تشكيل المجلس
الوطني الفلسطيني الذي أقر إنشاء (م. ت. ف.) وميثاقها، كما تقرر تشكيل
جيش التحرير الفلسطيني ليتبع (م. ت. ف.) وتم القيام بعدد من الجهود التعبوية
والإعلامية [6] .
المرحلة الثانية، 1967م 1987م:
كشفت حرب حزيران/ يونيو عام 1967م مدى الضعف الذي كانت تعاني منه
الأنظمة العربية، ووضعت حداً للآمال التي كانت معلقة عليها، وشعر الفلسطينيون
أكثر من أي وقت مضى بضرورة أخذ زمام المبادرة بأيديهم، واضطرت الأنظمة
تفادياً لموجات الغضب الشعبي أن تفسح المجال للعمل الفدائي، الذي استطاع أن
يبني قواعد قوية وواسعة في الأردن ولبنان، واستطاعت التنظيمات الفدائية بزعامة
فتح أن تصل إلى قيادة (م. ت. ف.) التي أصبحت برئاسة (أبو عمار) منذ
شباط / فبراير 1969م، وبرز خط الكفاح الشعبي المسلح وحرب العصابات،
واكتسبت الشخصية الوطنية الفلسطينية زخماً كبيراً، وتمكنت (م. ت. ف) في
مؤتمر الرباط في تشرين الأول/ أكتوبر 1974م من الحصول من الأنظمة العربية
على الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وفي الشهر التالي
حققت انتصاراً سياسياً عندما ألقى أبو عمار خطابه في الأمم المتحدة (دون أن
يتنازل عن أي من حقوق الفلسطينيين، وتم قبول (م. ت. ف) عضواً مراقباً،
وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في منتصف السبعينيات قرارات تؤيد حق
شعب فلسطين في تقرير مصيره، بل وفي الكفاح المسلح لنيل حقوقه.
كانت الفترة بين 1967م 1970م هي الفترة الذهبية للعمل الفدائي الفلسطيني، وكانت معركة الكرامة في 21 آذار / مارس 1968م إنجازاً معنوياً ومادياً كبيراً
لحركة فتح، بعد أن تم تكبيد العدو الصهيوني خسائر كبيرة، فاندفع الآلاف للتطوع
وتسجيل أنفسهم، وخلال 48 ساعة كان حوالي خمسة آلاف قد طلبوا الانضمام لفتح
فقبلت منهم 900 فقط حسب إمكاناتها ومعاييرها. وتطورت العمليات الفدائية من
12 عملية شهرياً 1967م إلى 52 شهرياً سنة 1968م ثم إلى 199 عملية شهرياً
سنة 1969م وإلى 279 عملية شهرياً في الأشهر الأولى من سنة 1970م [7] .
ومن جهة أخرى فإن الكيان الصهيوني ظل يقوم بحملات متواصلة ضد قواعد
الفدائيين في لبنان، بل وضد المدنيين وقراهم ومحاصيلهم ليمنع أي دعم محتمل من
السكان لإخوانهم، فكان من ذلك هجماتهم على العرقوب بين 1970 1972م،
واغتيال ثلاثة من قيادة المنظمة في بيروت في نيسان/إبريل 1973م (محمد يوسف
النجار، كمال عدوان، كمال ناصر) وقاموا بحملة اجتياح واسعة للجنوب اللبناني
في مارس 1978م، نجحوا على إثرها في إنشاء حزام أمني بقيادة سعد حداد، وفي
معركة الشقيف في 19 آب / أغسطس 1980م حققت المقاومة الفلسطينية نجاحاً
كبيراً ضد الهجوم الصهيوني. وكان اجتياح الجيش الصهيوني للبنان في صيف
1982م هو الأضخم والأعنف، وقد تمكنت من اجتياح الجنوب بسهولة وسرعة
نسبية، غير أنه توقف عند أسوار بيروت حوالي ثمانين يوماً، وُوجِه خلالها
بمقاومة عنيفة. لكن الهجوم نجح على أي حال في تدمير معظم البنية التحتية للعمل
الفدائي في لبنان، وفي إخراج آلاف المقاتلين الفلسطينيين إلى معسكرات بعيدة في
اليمن وتونس والجزائر والسودان، وهكذا ضُيّق الخناق على أي مقاومة فلسطينية
محتملة من خارج فلسطين.
وبالتأكيد فإن معدل العمليات الفدائية ضد الكيان الصهيوني قد انخفض في
السبعينيات، وتراجع إلى حدود متواضعة جداً في الثمانينيات، غير أن هناك عدداً
من العمليات النوعية التي تجدر الإشارة إليها مثل عملية سافوي التي قامت بها فتح
في تل أبيب في 6 آذار / مارس 1975م وأدت إلى مقتل وجرح خمسين جندياً
وخمسين مدنياً [8] ، وعملية كمال عدوان بقيادة دلال المغربي في آذار / مارس
1978م مما أدى على الأقل لمقتل 37 وجرح 82 من الصهاينة [9] .
وقامت منظمات فدائية أخرى بعمليات مثل اختطاف الطائرات، والتي برزت
فيها الجبهة الشعبية خصوصاً في 1970م، والهجوم على مطار اللد في
30/5/ 1972م مما أدى إلى مقتل 31 وجرح 80 آخرين [10] ، وعملية الخالصة) التي نفذتها الجبهة الشعبية القيادة العامة في 11 نيسان / إبريل 1974م [11] ، وعملية الطائرة الشراعية التي نفذتها الجبهة نفسها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987م، وغيرها.
وهكذا، فمنذ عام 1982م أدى الإنهاك العسكري إلى استضعاف سياسي،
وكسب أنصار تيار (الواقعية) في (م. ت. ف.) دفعات جديدة باتجاه تبني حلول
سلمية. والحقيقة أن (م. ت. ف.) بدأت تغيّر خطابها السياسي منذ فترة مبكرة،
خصوصاً منذ تبنيها برنامج النقاط العشر سنة 1974م، وكثرة الحديث عن الحلول
المرحلية إلخ.. وكانت موافقة (م. ت. ف.) على مشروع فاس 1983م علامة
فارقة لما يتضمنه من اعتراف بحق دول المنطقة في العيش بسلام (بما فيها الكيان
الصهيوني) [12] .
وواجهت قيادة (م. ت. ف.) سنوات عجافاً خلال 1983م 1987م
انعكست على شكل تراجع في الأداء النضالي المسلح، وانتكاسات على المستوى
السياسي.
أما من جهة التيار الإسلامي فإن مرحلة 1967م 1987م كانت مرحلة تصاعد
تدريجي في الشعبية، ومع نهاية السبعينيات بدأ الاتجاه الإسلامي الفلسطيني يحقق
نجاحات واسعة في الداخل والخارج، فعلى الصعيد الطلابي أخذ يسيطر على عدد
من الاتحادات الطلابية، وتوسعت دائرة نفوذه في النقابات المهنية، وأخذ الرصيد
الشعبي العام في الاتساع على حساب الاتجاهات الأخرى، ولكن هذا التوسع كان
في الميدان الشعبي والاجتماعي والخيري والتربوي، بينما بقي العمل الجهادي
والسياسي منعدماً أو منحسراً حتى أواخر السبعينيات، ويبدو أن قيادات التيار
الإسلامي عملت على بناء قاعدة صلبة لعمل طويل المدى، وعدم الاستعجال في
حرق المراحل، وخشيت من تكرار تجارب غير ناضجة لتنظيمات مسلحة ما لبثت
أن تحولت إلى (دكاكين) ومكاتب إعلام تخدم أطرافاً عربية معينة لها مصالحها
وحساباتها الخاصة، ورأت أن مثل ذلك يلطخ الصورة التي يريدون تقديمها ويورث
الإحباط.
وعلى أي حال، فقد كانت هناك مشاركة محدودة للإخوان المسلمين في
(معسكرات الشيوخ) في الأردن 1968م 1970م حيث تم تدريب حوالي (300)
رجل توزعوا على سبع قواعد فدائية، وعملوا تحت مظلة فتح؛ وعلى محدودية
إمكاناتهم، فقد قدموا نماذج مشرفة، فخاضوا عمليات قوية ناجحة مثل الحزام
الأخضر 31 آب / أغسطس 1969م ودير ياسين 14 أيلول / سبتمبر 1969م
وسيد قطب 28 آب / أغسطس 1970 واستشهد منهم حوالي 13 رجلاً [13] .
وفي أواخر السبعينيات، كانت الظاهرة الإسلامية قد قويت في الأرض التي
احتُلت سنة 1948م، وكُشف في 1980م تنظيم (أسرة الجهاد) بقيادة فريد أبو مخ
وعبد الله نمر درويش، واعتُقل حوالي ستين عضواً، وكان قد قام بعشرات
العمليات في الأرض المحتلة [14] . وفي قطاع غزة، برز دور المجمع الإسلامي
بقيادة الشيخ أحمد ياسين، وفي سنة 1983م قبض على الشيخ أحمد ياسين وعدد
من رفاقه، بعد اكتشاف مخزن أسلحة في أحد المساجد، بتهمة إنشاء تنظيم معاد
للكيان الصهيوني [15] . أما حركة الجهاد الإسلامي فكان أبناؤها المؤسسون
أعضاء في (الإخوان) حيث تكونت نواتهم الأساسية من الطلبة الفلسطينيين
الدارسين في مصر في أواخر السبعينيات برئاسة د. فتحي الشقاقي، وبدأوا
تشكيلاتهم في فلسطين منذ 1980م، ودعوا إلى (الإسلام منطلقاً، والجهاد وسيلةً،
وفلسطين هدفاً للتحرير) وكان من أبرز عملياتهم عملية باب المغاربة التي أدت إلى
إيقاع حوالي ثمانين إصابة في جنود العدو الصهيوني في 16 تشرين الأول/ أكتوبر
1986م [16] .
المرحلة الثالثة: 1987م- 1998 (الآن) :
بقدر ما تجلت قدرات شعب فلسطين في هذه المرحلة على التضحية والعطاء
من خلال الانتفاضة المباركة، بقدر ما كانت الحصيلة مخيبة للآمال لقد كانت
الانتفاضة التي اندلعت في 9 كانون الأول ديسمبر 1987م من أروع وأنبل ما شهده
تاريخ فلسطين المعاصر عندما واجه الشعب الأعزل بأطفاله ونسائه وشيوخه الجيش
الصهيوني المدجج بالسلاح، و (تحدّت العين المخرز) وواجه الحجر الرصاصة
والدبابة. في هذه الانتفاضة شارك الشعب تحت الاحتلال في الضفة والقطاع بكل
فئاته واتجاهاته وقطاعاته، وتميزت هذه الانتفاضة بأمرين جديدين: الأول: أن
(الداخل) المحتل أخذ زمام المبادرة النضالية، بعد أن كانت بيد العمل من (الخارج) . والثاني: (أن التيار الإسلامي شارك بقوة وعنف وفاعلية، وبرز لأول مرة على
ساحة المواجهة بحجم منظم مؤثر. لقد أكدت هذه الانتفاضة رفض أبناء فلسطين
للاحتلال وإصرارهم على المقاومة، وراقب العالم في ذهول أطفال فلسطين وهم
يفضحون آلة القمع الصهيونية، ويكشفون وجهها القبيح، وبدأ العالم يستذكر أن
هناك شعباً مقهوراً مستعمَراً اغتُصبت أرضه.
وتميزت المرحلة الأولى من الانتفاضة المباركة بالمواجهة الشعبية الواسعة،
والإضرابات، والمظاهرات، ومقاطعة الإدارة المدنية الصهيونية، وتنظيف
المجتمع من العملاء ومروجي الفساد والمخدرات، أما المرحلة الثانية: فقد شهدت
تنامي العمليات المسلحة ضد الصهانية مع تراجع الأنشطة الجماهيرية خصوصاً منذ
أوائل 1992م وحسب مصادر (م. ت. ف.) فإنه خلال الفترة من كانون الأول / ديسمبر 1987م إلى كانون الأول / ديسمبر 1993م، كان قد استشهد 1540
فلسطيني وجرح 130 ألفاً واعتقل 116ألفاً [17] .
وقد تلازم إنشاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مع بداية الانتفاضة،
واعتبرت من أكثر الأطراف فاعلية، إن لم تكن أبرزها جميعاً. وقد عرّفت حماس
نفسها بأنها جناح للإخوان المسلمين وامتداد لهم، وذكرت في ميثاقها أنها (تعتبر
الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها، وإليه تحتكم، ومنه
تسترشد خطاها) . وهدفت إلى تحرير فلسطين، وإقامة دولة الإسلام على أرضها،
ودعت إلى تربية متكاملة للأجيال لتحقيق الغايات المرجوة [18] . وقد استطاعت
حماس أن تحقق شعبية واسعة فكان مؤيدوها يحصلون على ثلث الأصوات وأحياناً
نصفها عادة في انتخابات الطلاب والنقابات المهنية. وفي مقابلة صحفية للدكتور
هشام شرابي المعروف بميوله العلمانية قال: إن حماس هي الشكل الجديد للمقاومة
وأنها (نجحت حتى الآن فيما عجزت عنه (م. ت. ف.) وفصائلها خلال أكثر
من ربع قرن في استنباط أشكال جديدة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من
الصراع العسكري الفعال باستقلال عن كل عون خارجي) [19] ، وقد تطور عمل
وأنشطة حماس من المظاهرات والمواجهات الشعبية إلى قذف القنابل الحارقة
والطعن بالسكاكين وتصفية العملاء، إلى العمليات الجهادية المسلحة ونصب الكمائن، إلى العمليات الاستشهادية، غير أن أطراف (م. ت. ف.) سعت لاستثمار
سياسي سريع للانتفاضة بدخول مؤتمر مدريد 1991م، ثم توقيع اتفاقية أوسلو
1993م وبدء مشروع الحكم الذاتي 1994م، وقد زاد هذا من صعوبة عمليات
حماس، وأصبحت تتعرض لضغط فلسطيني وصهيوني مشترك؛ ورغم ذلك فقد
شهدت الفترة من 1994م 1997م عدداً من العمليات النوعية القوية ومن ذلك ردها
على مذبحة المسجد الإبراهيمي بخمسة عمليات عنيفة، وردها على مقتل المجاهد
يحيى عياش (الذي كان مهندساً لعمليات أدت لقتل حوالي سبعين إسرائيلياً وجرح
340 آخرين) بعدة عمليات في شباط / فبراير، وآذار / مارس 1996م هزت
الكيان الصهيوني واستدعت عقد مؤتمر (شرم الشيخ) الدولي بحضور الدول الكبرى
لمكافحة (الإرهاب) [20] .
وحسب إبراهيم غوشة الناطق الرسمي باسم حماس فإن الحركة قدمت منذ
الانتفاضة حوالي سبعمائة شهيد [21] ، ولا تزال حماس تتعرض للملاحقة
والمطاردة والاجتثاث، من قِبَل سلطات الحكم الذاتي ومن قِبَل الكيان الصهيوني.
ومن جهة أخرى فقد قامت حركة الجهاد الإسلامي بعدد من العمليات النوعية
والاستشهادية مثل عملية نتساريم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994م وعملية (بيت
ليد) في 22 كانون الثاني/ يناير 1995م وعملية (تل أبيب) في 4 آذار/ مارس
1996م كما قتل قائد الحركة د. فتحي الشقاقي ونحسبه من الشهداء في عملية
اغتيال نفذها الموساد الصهيوني في 26تشرين الأول/ أكتوبر 1995م [22] .
وبلا شك فإن الاتجاه الإسلامي الفلسطيني يعمل الآن في ظروف غير مواتية،
ولكنها ظروف تمكنه من التمايز، ومعرفة العدو من الصديق.
ومن جهة أخرى فقد عدّت قيادة (م. ت. ف.) الانتفاضة رافعة سياسية لها، فحاولت استثمارها بشكل مبكر؛ وقامت بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة
لتتولى توجيه فعالياتها، وشاركت الفصائل الفلسطينية وخصوصاً فتح بفعالية في
المرحلة الأولى من الانتفاضة، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1998م طرحت
(م. ت. ف.) مبادرتها السلمية واعترفت لأول مرة بقرار الأمم المتحدة رقم 242 وهو ما كانت ترفضته طوال 21عاماً، وأسهم سقوط الاتحاد السوفييتي وانحلاله، والهجرة اليهودية الواسعة إلى فلسطين المحتلة منه ومن أوروبا الشرقية (حوالي 700 ألف) وكذلك الاحتلال العراقي للكويت، وما رافقه من نتائج سلبية أضعفت البلاد العربية والإسلامية، كل ذلك أعطى فرصة ذهبية للضغط على الفلسطينيين للذهاب إلى مؤتمر مدريد في تشرين الأول (أكتوبر) 1991م وفق شروط مجحفة، ثم التوصل إلى اتفاقية أوسلو في أيلول/ سبتمبر 1993م ضمن شروط أكثر إجحافاً.
ونتج عن ذلك قيام حكم ذاتي فلسطيني محدود على أجزاء من الضفة والقطاع
(لم تتعد إلى الآن 30% من قطاع غزة و6% من الضفة الغربية) وذلك دون أن
تحل قضايا الاستيطان الصهيوني وقضية القدس وعودة اللاجئين ودون أن يعطى
الفلسطينيون حق تقرير مصيرهم. وقد أمل الكثير من الفلسطينيين أن يكون اتفاق
أوسلو أساساً تبنى عليه مطالب جديدة، ولكنه كما يبدو الآن فإن الآمال تسعى إلى
الوصول إلى سقف أوسلو، بعدما أبدى الصهاينة من مماطلات وشروط تعجيزية
إلخ [23] .
والآن فإن مناضلي الأمس الذين قاتلوا لتحرير أرض 1948م قبل سقوط
الضفة، والقطاع، يجدون أنفسهم في مواجهة مجاهدي اليوم، وها هم يتهمون
مجاهدي اليوم بما اتّهموا هم به عندما بدأوا نضالهم قبل أكثر من 30 عاماً من قِبَل
معارضيهم! فلمن تكون العاقبة؟ لا شك في أن (العاقبة للمتقين) .
__________
(1) انظر الموسوعة الفلسطينية، إعداد إبراهيم المرعشلي وآخرين، ط 1 (دمشق، هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984م) ، ج 4، ص 579.
(2) انظر: المرجع نفسه، ج 3، ص 393 396، وعبد الله أبو عزة، مع الحركة الإسلامية في الدول العربية (الكويت، دار القلم 1986م) ص 26 53.
(3) أنظر عبد الله أبو عزة، مرجع سابق، ص 26 53.
(4) المرجع السابق، ص 71، 96.
(5) سليمان حمد، رسالة الكويت، 17 يوليو 1994م.
(5) انظر صلاح خلف (أبو إياد) فلسطيني بلا هوية، ط 2 (عمان: دار الجليل للنشر 1996) ،
ص 75- 83.
(6) حول (م ت ف) ونشأتها انظر: أسعد عبد الرحمن، منظمة التحرير الفلسطينية، والموسوعة الفلسطينية، ج 4، ص 313- 325.
(7) صلاح خلف، مرجع سابق، ص 96 98.
(8) الموسوعة الفلسطينية، ج 2 ص 567.
(9) المرجع السابق، ج 3، ص 661 662.
(10) المرجع السابق، ج 4، ص 42.
(11) المرجع السابق، ج 2، 313 314.
(12) انظر: منير الهور وطارق العيسى، مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية 1947م 1985م،
ط 2، (عمان: دار الجليل، 1986م) ص 220 221.
(13) حول معسكرات؛ الشيوخ انظر: محسن صالح، الطريق إلى القدس، ط 2 (لندن: فلسطين المسلمة 1998م) ، ص 996.
(14) انظر: زياد محمود غنيمة، عداء اليهود للحركة الإسلامية (عمان: دار الفرقان: 1982م)
ص 100- 102.
(15) ربعي المدهون (الحركة الإسلامية في فلسطين 19281987) مجلة شؤون فلسطينية،
عدد 187، أكتوبر 1988م، 20 23.
(16) انظر: مقابلة للدكتور فتحي الشقاقي مع مجلة الوسط، لندن 6 نوفمبر 1995م.
(17) جريدة صوت الشعب (الأردن) 8 ديسمبر 1993م.
(18) انظر ميثاق الحركة الإسلامية حماس (نشر في 19 أغسطس 1988) .
(19) جريدة الحياة، لندن، 5 مارس 1995م.
(20) انظر حول تفصيلات عمليات حماس: غسان دوعر، مرعد مع الشاباك (لندن: فلسطين المسلمة، 1995م) وغسان دوعر، المهندس (لندن: فلسطين المسلمة، 1997م) .
(21) جريدة الأردن، عمان (الأردن، 17 أغسطس 1996م) .
(22) انظر: مجلة فلسطين المسلمة، ديسمبر 1994، وجريدة الرأي، عمان (الأردن، 23- 25 يناير 1995م وجريدة الحياة 30 اكتوبر 1995م.
(23) حول التسوية السلمية وانعكاساتها انظر مثلاً: جواد الحمد، عملية السلام في الشرق الأوسط وتطبيقاتها على المسارين الفلسطيني والأردني (عمان: مركز دراسات الشرق الأوسط، 1996م) ، وعماد يوسف وآخرون، الانعكاسات السياسية لاتفاق الحكم الذاتي الفلسطيني (غزة أريحا أولاً) (عمان: مركز دراسات الشرق الأوسط، 1994م) .(132/80)
المسلمون والعالم
طالبان.. وقدر أفغانستان
(3/3)
طالبان.. في الميزان!
عبد العزيز كامل
هناك قاعدة ذهبية، أشار إليها الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله مستخلصاً إياها
من مجمل نصوص الشريعة، وقد نص عليها في مواضع عديدة من مؤلفاته، يقول
رحمه الله: (إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة
ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير،
واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر) [1] . وما قاله رحمه الله عن
الفرد، يصدق على الجماعات وعلى المجتمعات.
ونحن في حاجة دائمة إلى استصحاب تلك القاعدة في تقويمنا للأشخاص
والأفكار والمناهج النظرية، وأنواع السلوك العملية لكل الطوائف الإسلامية، ومنها
طالبان أو غيرها؛ فكل من يتصدى للعمل لدين الله، نزنه بميزان هذا الدين الذي
لا يعرف التطفيف أو البخس أو الميل، [وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا
المِيزَانَ] [الرحمن: 9] .
لسنا إذن أمام مواقف مطلقة، ولا مواقف مسبقة، فما أكثر ما جنت تلك
المواقف المرتجلة على روح الحقيقة، وما أكثر ما تسببت أيضاً في اضطراب كفتي
الولاء والبراء.
وفيما يتعلق بتقويم (التجربة) الطالبانية، هناك أمور ينبغي التنبيه إليها قبل
إجراء هذا التقويم:
أولاً: أن هذه التجربة صغيرة جداً في عمرها (لا تتجاوز أربع سنوات) وهذه
مدة لا تكفي أبداً لظهور نتائج مواقفها سلباً أو إيجاباً بشكل متكامل.
ثانياً: أن هالة الاتهام المحيطة بطالبان كان لا بد أن تخضع للمنطق العادل
وهو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وليس المتهم مداناً حتى تثبت براءته!
ثالثاً: أن الحركة عملت ولا تزال تعمل في ظروف استثنائية غير طبيعية
(حرب، فقر، معارضة داخلية، حصار، دمار) فلا بد من مراعاة ذلك عند التقويم.
رابعاً: أن الصورة المرسومة لها في الأذهان، خطّت معالمها اليد الإعلامية
الغربية بخبث مقصود، وحاكتها في ذلك بعض أجهزة الإعلام العربي بتحامل مبيت؛ فمهمة استخلاص الحقيقة من بين براثن ذلك التشويش ليست يسيرة.
خامساً: أن حركة (الطالبان) ظهرت في ظرف ضرورة، بمعنى أن أكثر ما
قامت به للآن كان القيام به ضرورياً فلا يسع عاقل منصف فضلاً عن ناصح
مخلص أن ينكر هذا الفضل لهم.
وهذه النقطة الأخيرة بالذات لنا معها بعض الوقفات.
* لقد كان استنقاذ ثمرة الجهاد الأفغاني الباهظة التكاليف ضرورة ... وقد
استنقذوها بإجهاض مخططات الأمم المتحدة ومن وراءها لفرض العلمنة على
أفغانستان.
* وكان إنهاء الحرب الأهلية (الكارثية) بين الفصائل ضرورة ... وقد نجحوا
في إنهائها بكف الأيدي التي تسببت فيها.
* وكان لمّ شمل أقاليم أفغانستان المبعثرة تحت سلطة واحدة ضرورة ... وقد
قاموا بذلك فوحدوا معظمها تحت حكومة رضيتها القاعدة الشعبية.
* وكان الإجهاز على بقايا الشيوعيين وكسر صلبهم ضرورة ... وقد نفذوا
ذلك بشكل تام بإخراج دوستم وأتباعه من مزار الشريف.
* وكان تحجيم الوجود الشيعي المدعوم والمتنامي ضرورة ... وقد تم هذا
التحجيم بفتح معقلهم الرئيسي القوي في مدينة (باميان) .
* وكان نزع سلاح المدنيين لإنهاء فرص العودة إلى الحرب الأهلية ضرورة.. وقد تم لهم ذلك في كل الولايات التي سيطروا عليها.
* وكان القضاء على ظاهرة الفساد المتفشي والجريمة المنظمة ضرورة، وقد
خطوا في سبيل ذلك خطوات واسعة، بالشروع في تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود.
ولا شك أن هناك ضرورات وتحديات أخرى كثيرة تنتظر الحكومة الناشئة
داخلياً وخارجياً، وقد أشرت إلى جانب منها في المقال السابق.
وإذا سألنا أي مهتم بأمر المسلمين: هل هذه المصالح كانت مطالب أم لا؟
لأجاب على الفور: لا شك أنها كانت مطالب تبحث عن منفذ لها؛ لأنها
تصب في مصلحة الإسلام في هذه البلاد، سواء قامت بها طالبان أو غيرها.
وأنا لا أشك في أن ما قامت به (الطالبان) لو كان قام به رباني عندما كان
رئيساً للجمهورية، أو حكمتيار عندما كان رئيساً للوزراء، أو مسعود عندما كان
وزيراً للدفاع، لصفق لهم المسلمون في العالم..! ! ولكن طالبان جاءت بعد أن
رفع الناس أيديهم وانفضت الوليمة ... ولعل في ذلك حكمة إلهية عليمة.
لا أظن الدعوة إلى الإنصاف ستكون غريبة في أوساط الإسلاميين؛ صحيح
أنه ليس أندر في الدنيا من الإنصاف كما قال الإمام الشافعي ولكني أظن أن هذه
الندرة محلها هؤلاء المسلمون الصادقون وحدهم.
إن الإنصاف لا يعني بداهة التعامي عن الأخطاء أو تزيين العيوب، بل يعني
اقتسام الحق نصفين: حق يُعطى، وحق يؤخذ.
فإذا أعطينا مسلماً حق الولاء والنصيحة، فعليه أن يعطينا حق الوفاء
بموجبات هذا الولاء وقبول النصيحة، وجرياً على قواعد هذا التناصف؛ نناقش
بعضاً من أبرز القضايا المتعلقة بسياسات طالبان الداخلية بعد أن استعرضنا في
مقال سابق ملابسات أوضاعها الخارجية.
أولاً: طالبان والمنهج:
لعل أول ما يعني المسلم الحريص تجاه أي طائفة إسلامية، هو النظر في
منهجها الإصلاحي، وخاصة فيما يتعلق بالاعتقاد، فإصلاح عقائد الناس هو أكبر
عمل إصلاحي يمكن أن تقوم به فئة ولاّها الله أمر العباد، والأمر المشهور: أن
الشعب الأفغاني كغيره من غالبية الشعوب الإسلامية وقعت طوائف منه فريسة
للدعوات الخرافية، وقد نشأ بسبب ذلك تنوع في الانتماء العقدي، يشتمل بلا شك
على انحرافات خطيرة في الاعتقاد، وهذا أمر متوقع خصوصاً في ظل غياب
حركات علمية إصلاحية قوية.
والآن وقد سيطرت على أفغانستان حركة تنسب نفسها للعلم ولطلب العلم،
فأول ما يتوقع منها وما يظن بها هو أن تنشر في البلاد أنوار العلم لتقضي به على
ظلمات الخرافة والجهل والانحراف، والطرح الاعتقادي لحركة طلاب العلم أو
(طالبان) والمجهود المبذول في نشره، قد لا يكون على المستوى المطلوب الآن،
ولا شك بأنّ هذا تقصير، فالدعوة إلى تصحيح التوحيد، ونبذ الشرك والخرافة،
من أولى الأولويات، وعلى رأس الواجبات. ولكن المصادر الشحيحة المتوافرة عن
انتمائهم العقدي تستبعد كثيراً من الاتهامات الفجة الموجهة إليهم كدعوى انتسابهم
للقبوريين أو غلاة الصوفية، وباطلاعي على عدد من النشرة الرسمية لطالبان
والمعنونة بـ (مجلة الطالب) وجدت فيها دعوة صريحة لنبذ القبورية، ونبذ التوسل
بغير الله عز وجل [2] .
وذلك لا يعني بالضرورة أن هذا اتجاه عام داخل الحركة، ولكنه تيار موجود
على كل حال ويحتاج إلى التشجيع.
كما وجدت سلسلة في المجلة المذكورة بعنوان (عقيدة أهل السنة والجماعة) ،
وكاتبها هو (مولوي بير محمد) المتخرج من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، تكلم
صاحبها عن معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، بما لا يُشم منه أي
رائحة للخروج عن المعتقد الصحيح فيها [3] .
لا شك أن هذه الكتابات غير كافية في بيان معالم المنهج لدى طالبان، ومع
هذا أقول: إن العلم بالتعلم، والفهم بالتفهم، وليت الحركة تستفيد من الإنتاج العلمي
الغزير من الأبحاث المتعلقة بالعقيدة لعلماء موثوقين في أنحاء العالم الإسلامي،
وتستغل فرصة ثقة الشعب الأفغاني وحبه للعلماء ولطلاب العلم، لعل الله يحقق
على أيديهم هذا الأمل الكبير، وهو تربية شعب كامل على المنهاج الصحيح لأهل
السنة، وهذا ليس بالأمر المستحيل؛ فكم من أمم عبر التاريخ تغيرت مذاهبها من
باطل إلى حق، أو من حق إلى باطل.
إن أمام طالبان معركة جديدة ضد الخرافة والبدعة، تتطلب نفساً طويلاً،
وحكمة بالغة، تجيّش فيها كافة إمكاناتها العلمية والدعوية لنشر السنة ومنهج السلف
الصالح، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على تحمل هذه المسؤولية العظيمة.
ثانياً: برنامج الحركة الإصلاحي:
لن نطالب الحركة بإبراز هذا البرنامج فقد أبرزوه ولكنا نحاكمهم إليه؛ لأنه
حجة لهم أو عليهم، وقد مكنهم الله من الأخذ بناصية البلاد، فلا عذر لهم في
التقاعس بعد ذلك عن التنفيذ، وقد ذكرت حركة طالبان على لسان أحد أنصارها
وهو الدكتور (شير علي شاه) أستاذ علوم الحديث والتفسير بجامعة (منبع العلوم)
هذه الأهداف العملية فيما يلي:
1- إعلان دستور للبلاد ينطلق من الشريعة الإسلامية وحدها.
2- إشاعة العدل والأمن.
3- المساواة في الحقوق في جميع الولايات.
4- التمكين للوحدة الإسلامية ومحاربة القومية والعصبية العنصرية.
5- التعاون مع الدول الإسلامية وتعميق الروابط الإسلامية.
6- إقامة الحياة السياسية والاقتصادية وفق الشريعة الإسلامية.
7- تطبيق نظام الحسبة، وتشكيل هيئة مسؤولة عن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
8- الاهتمام بالجيش وتحديث القوات المسلحة، وتقديم الكفاءة على الولاء في
تولية المناصب.
9- الاهتمام بمجالات الزراعة والصحة والتعليم، مع الاهتمام بترويج العلوم
الإسلامية في كافة المراحل [4] .
وهذا البرنامج يحتاج إلى صدق في التزامه، وقوة في تنفيذه، وهذان معياران
سيحددان مع الأيام مدى صدقية القائمين عليه.
ثالثاً: الاختلافات العرقية والقبلية:
طالبان حركة ينتمي معظم أفرادها إلى قبائل البشتون التي تمثل معظم الشعب
الأفغاني، ولهذه القبائل تقاليدها الخاصة المحافظة التي ميزت الأفغان على مر
العصور، وهي تقاليد اختلطت بالهوية الدينية والظروف البيئية لهذا الشعب، وهي
تميل إلى البساطة والتلقائية والغيرة واحترام الملكية الشخصية، ولكن هل يمكن أن
يكون لهذا الانتماء تأثير على طريقة طالبان في إدارة البلاد؟ يخطئ من يظن أن
هذا الانتماء لن يكون له تأثيره بالمرة، ولكن السؤال المهم هو: هل سيكون هذا
الانتماء معياراً للولاء والبراء كما كان الشأن مع كثير من الأحزاب السابقة في
تقديمها هذا الانتماء العرقي على الولاء الديني؟ هذا في الحقيقة مكمن خطورة،
ومحك اختبار؛ خاصة في بلاد مثل بلاد الأفغان التي يمكن أن تستثار فيها العصبية
بسهولة، والأيام وحدها هي التي ستجيب عن هذا التساؤل، وهي التي ستبين على
مدى صدق الطالبان في تحرير معتقد الولاء والبراء من أدران رانت عليه عبر
قرون. إن موقفهم المعلن ينفي أن تكون لهذه القبلية آثار على طريقتهم في التعامل
مع الآخرين، ولكن الأمل في العمل. وقد ذكر الدكتور محمد المستيري المبعوث
السابق للأمم المتحدة في أفغانستان أنه أثار هذا الموضوع مع بعض قياديي طالبان
فقال له ذلك القيادي: (كيف نتحدث عن البشتونية ونحن لا نعترف بالأفغانية؟ بل
ننادي ببلد إسلامي واحد، ومن ثَمّ فلا فرق بيننا وبينك أنت الرجل القادم من بلد
مسلم وبعيد عنا آلاف الأميال) [5] .
رابعاً: الموقف من المرأة:
انتماء معظم الطالبان إلى العرقية البشتونية، يبدو أنه كان له تأثيره على
قضية المرأة في أفغانستان، ونذكر هنا أن المجتمع الأفغاني البشتوني في معظمه
مجتمع أشبه بمجتمعات القرى والأرياف؛ فالأمية بين الرجال تصل إلى 90%،
والمتعلمون منهم يركزون على العلم الديني، هذا بين الرجال، فما بالنا بنسبة ذلك
التعليم بين النساء؟ إن هذا التعليم بحكم واقع الشعب لا فلسفة طالبان لا يغطي إلا
شريحة نادرة جداً من الإناث في الشعب الأفغاني؛ هذه واحدة، وتنبني عليها أخرى
وهي: أن عمل المرأة الأفغانية بسبب ذلك لا يمثل إلا شريحة أندر وأندر؛ لأن
تقاليد ذلك المجتمع أن الرجل وحده هو المسؤول عن أعمال التكسب والإعاشة،
والمرأة تتفرغ لعملها الأصلي في خدمة بقية الأسرة، ومن هنا؛ نستغرب
ونستعجب من تلك الضجة الكبرى التي أثارها ولا يزال يثيرها الإعلام الغربي
وصداه العربي عن موقف الطالبان من تعليم المرأة وعمل المرأة، وكأن ما حدث
في أفغانستان كان تسريحاً لطبقة تشمل الملايين من العاملات، وإغلاقاً لمدارس
تضم الملايين من الطالبات!
إن الأمر وباختصار هو أن المرأة الأفغانية في الأصل لا تعمل خارج البيت،
كما هو الشأن في كثير من المجتمعات المحافظة، ولكن ظروف الحرب اضطرت
كثيراً من النساء للخروج والعمل بعد فقد الرجال أو أسرهم أو انشغالهم. فخروج
المرأة للعمل كان ضرورياً لتوفير مبلغ بسيط من المال، تستطيع به أن تنفق على
أسرة غاب عائلها، ولا توجد حكومة تهتم بأمرها، فلما جاءت طالبان، أذنت
للمرأة العاملة المترملة أن تعود إلى بيتها على أن تدفع لها راتباً وهي في بيتها،
وإذا اختارت العمل على المكث في البيت، فلها ذلك على ألا تعمل إلا في عمل
يناسب المرأة كعمل الطبيبات والمعلمات والممرضات.. فهل في هذا العمل جريمة
تستحق كل تلك الضجة الإعلامية العالمية؟ ! لقد ثار (أنصار المرأة) في العالم لهذا
الإجراء، وتباكوا على بضع مئات أو حتى بضعة آلاف من النساء أقعدتهن حكومة
في حالة حرب، بين شعب في حالة فقر، ولم تتحرك سواكن هؤلاء للبطالة التي
يعاني منها ملايين الشباب والرجال في ظل حكومات تتوالى استمراراً وتدعي
استقراراً! هذا عن عمل المرأة، فماذا عن تعليمها؟
نسأل أولاً: ما هو التعليم الذي منعت منه الفتاة الأفغانية المسلمة؟
إنه التعليم الذي وضع مناهجه فلاسفة حفيظ الله، ونجيب الله، وبابراك
كارمل، إنها مناهج شيوعية صرفة، لم يتمكن رباني ولا حكمتيار ولا غيرهما من
تغييرها لانشغالهم على مدى سنوات يما يرونه أهم! !
فمن يقول: إن منع أو بالأحرى إيقاف هذا التعليم مؤقتاً جريمة لا تغتفر وعار
لا يزول؟ ! إن الجريمة الكبرى والعار المخزي هو استمرار التضحية بالأجيال في
ظل تلك المناهج الكفرية الإلحادية؛ فتلك الفتاة التي ستتعلم في ظل دولة إسلامية
فلسفة ماركس، أو تعاليم لينين، هل ستُخرج للأمة بعد ذلك إلا أجيالاً من أمثال
دوستم وبهلوان؟ !
إن الأمر فقط يحتاج من أرباب الإعلام المزوّر إلى شيء من الحياء!
طُرح سؤال على الملا محمد حسن وزير الخارجية في حكومة طالبان هذا
نصه: (لا زالت قضية تعليم وعمل المرأة، وبعض إجراءات (طالبان) الشغل
الشاغل للصحافة العالمية ولجان حقوق الإنسان، وحتى بعضُ علماء المسلمين
ومؤسساتهم لا يقرون حرمانها من التعليم والعمل ضمن ضوابط الشرع الحكيم، فما
هي رؤيتكم؟) .
فأجاب: (جاهد الشعب الأفغاني أربع عشرة سنة، كي يقيم الإسلام ويعطي
الحقوق بموجبه، ورغم أن بعض المفسدين قد ضيعوا ثمرته، وباعوا بثمن بخس
دماء الشهداء والأيتام والأرامل حباً في السلطة؛ فهؤلاء الآن ومن والاهم بتباكون
على حقوق المرأة في عهد طالبان، نحن لم ننكر ولن ننكر حقوق المرأة وخاصة
حقها في التعلم والتعليم والعمل، ولم نقل إننا لن نعطيها حقها، ونؤكد أننا سنعطيها
حقها الذي أعطاه الله لها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولن نخترع لها حقوقاً
كي نرضي الآخرين، وهؤلاء الذين يتباكون على المرأة وحقوقها يريدوننا أن نحتكم
إلى قوانين البشر في هذه المسألة، ونعمل على إفساد المرأة وتحررها بمعناه السلبي، ولكننا على قناعة أن قوانين الله عز وجل فوق قوانين البشر والمرجع إليه) [6] .
خامساً: شعيرة الحسبة وإنكار المنكرات:
هناك قضية أخرى، لم تكن أقل إثارة للقيل والقال من قضية المرأة وعملها
وتعليمها، وهي القضية المتعلقة بمسلك طالبان في إنكار المنكرات، لقد كانت بداية
الحركة أنها نشطت في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ولاية (قندهار) ، فلما دانت لها البلاد، فرّغت فرقاً لممارسة شعيرة الحسبة. والحسبة كما هو
معلوم من الشرع ومن التطبيق العملي لها في البلاد التي تقيمها، لا تكتفي بالوعظ
النظري والتوجيه الكلامي فقط، بل تصل إلى حد الإلزام. والحسبة التي تقوم بها
طالبان من هذا النوع، وهي متعددة في مناحيها، ولكن الإعلام الغربي المغرض
ركز على نواحٍ محددة فيها، صادفت استهجانه، بل أثارت غليانه؛ باعتبار أن
الموازين عندهم مختلفة، أو قل مختلة، وكذلك أثارت المتباكين على حريات
الانفلات من المفكرين والصحفيين العلمانيين العرب وغيرهم من تجار الكلام.
فإلزام الناس بصلاة الجمعة وإغلاق المحلات وقتها.. أو أمرهم بصلاة
الجماعة ... هذا أمر غريب! وإلزام الناس رجالاً ونساءً باحترام الهدي الظاهر
للإسلام ومنع المرأة من السفور والتبرج.. هذا شأن عجيب ومريب! وأما إنكار
القمار والميسر ومنع الوسائل التي تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.. فهذا عند هؤلاء
أمر لا يحتمل ولا يتصور!
وقد خلط الإعلام الغربي والعربي الخيال بالحقيقة، والشك باليقين، والكذب
بالصدق في كل هذا عبر سنوات أربع لكي يصنع من الحكم الإسلامي أضحوكة
وأمثولة يسخر منها كل رويبضة من التوافه الذين يتحدثون في أمر العامة.. ووجد
المغرضون ضالتهم في التصريح بمهاجمة شعائر الإسلام بدعوى نقد طالبان.
ومع هذا نقول: لا دفاعَ عن الانحراف في تطبيق الإسلام؛ فالانحراف في
التطبيق أمر وارد، وقد يحدث من طالبان أو غيرها، فقد تستبد الحماسة بأهلها في
بعض الأحوال، فيختل ميزان الأولويات.. هذا جائز الوقوع، ونموذج طالبان في
ذلك ليس معصوماً، فنقده أو حتى نقضه أمر وارد ومقبول ممن ينقد بعلم وعدل،
أما ما لا يقبل ولا يعقل فهو أن يتولى هذا النقد أرباب الفساد والإفساد المنهجي
المبرمج من أدعياء الفكر (الحر) المتسنمين قمم الأهرامات الإعلامية في كل مكان؛
فهؤلاء لن يرضيهم أي برنامج للإصلاح ما دام مستمداً من الإسلام، وسواء كان من
طالبان أو غيرها.
إن هناك ألسنة تطاولت بالهمز واللمز في سُنّة إعفاء اللحية وتحريم حلقها،
بجرأة وفجور، لكنا لم نجد لها تلك الجراءة في نقد الأنظمة العسكرية التي يعتبر
فيها (تلميع) اللحية يومياً هو أول الواجبات وأهم الطقوس العسكرية الوطنية، حتى
إن القائد ليمر بـ (كارت) معه على ذقون الجنود في طابور الصباح، ليعاقب من
طالت شعيراته فزادت على جزء من الجزء من السنتيمتر! ! فأين الحرية
الشخصية يا دعاة الليبرالية؟ !
سادساً: إقامة الحدود:
لما اتجه الرئيس السوداني الأسبق (جعفر النميري) إلى اجتزاء قدر من إقامة
الدين بإقامة الحدود، قامت ضده حملة إعلامية واسعة، ولم تخفّ تلك الحملة إلا
بعد أن نكص النميري عن ذلك وعاد إلى ما كان عليه، واليوم تعاد تلك الضجة،
كلما سمع الغرب حديثاً عن إقامة الحدود الإسلامية في أي بلد من بلاد الإسلام،
وأفغانستان اليوم، لن تكون استثناء من هذا؛ فإقامة الحدود فضلاً عن إقامة الدين
كله أمر سيغضب أعداء هذا الدين في كل مكان.
ولكن حتى لا تكون إقامة الحدود (ديكوراً) يزين واجهة الدولة الجديدة فقط،
وحتى لا يقع النكوص بسبب الضعوط الدولية، فعلى طالبان أن تعمل على إقامة
الدين كله وجمع الأمة عليه، وألا تخشى في ذلك لومة لائم، وسوف يكون هذا إن
وقع أوضح برهان على صدق النوايا. [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى
المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ] [الشورى: 13] وأول ما يُطلب إقامته من الدين في حياة
الناس إقامة الصلاة، فهذا شرط بقاء شرعية الولاية؛ وإن في الناس فطرة تستجيب
لهذه الدعوة لو صدقت في إقامتها النوايا، وبذلت من أجلها الجهود، كما قال سبحانه: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ] [الروم: 30، 31] .
سابعاً: قضية المخدرات:
من إقامة الدين، أن يُعرض على الناس في صورة نقية بهية، تدعو الناس
إلى قبوله واعتناقه. والسلوك العملي للأفراد والجماعات وكذلك الدول، هو أحد
الأسباب الأساسية في نجاح الدعوة إلى الله، أو انتكاس تلك الدعوة إلى صد عن
سبيل الله.. ونحن أمة دعوة، وإنما جعل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر لخدمة الدعوة.. لهذا فإن صورة الداعين للإسلام سواء كانوا أفراداً أو
جماعات أو دولاً، لا بد أن تعلو عن مستوى الشبهات، فضلاً عن الاتهامات
والإدانات.
وقضية المخدرات في أفغانستان تأتي في صميم هذا الموضوع، صحيح أن
زراعة المخدرات والاتجار فيها موجودة في أفغانستان منذ أزمنة بعيدة، حتى شبت
وشابت عليها أجيال وأجيال، إلا أن هذا لا يعني أن القضاء على هذه الظاهرة أمر
مستحيل، فتطهير أفغانستان من حقول الأفيون ليس أكثر صعوبة من عملية نزع
السلاح فيما أظن. والكلام المعلن لمسؤولي طالبان عن مقاومة المخدرات ليس كافياً، واعتذارهم عن استمرار وجود هذه الظاهرة ليس مقنعاً، وفي رأيي: أن هذه
القضية، يمكن أن تصيب الطالبان في المقاتل، وأن تسقطهم من الأعين، وأن
تجلب عليهم سخط الله وسخط الناس، إن تهاونوا فيها أو ساوموا بها، فكيف يمكن
أن يقال عن (الإمارة الإسلامية) إنها أولى دول العالم انتاجاً للأفيون؟ ! هذا عار
نربأ بهم وبالمسلمين عنه، ونناشدهم الله والدين أن يمسحوا عن جبين أفغانستان
المجاهدة، بل عن المسلمين جميعاً هذا العار، والأمر لا يحتاج إلى تلكؤ وتعلل؛
فالفقر مع النزاهة غنى، والغنى بالحرام ضياع.
ولكن الله تعالى لن يضيّع من آمن به، واتقى محارمه كما قال: [وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]
[الأعراف: 96] هم يقولون: نحن نحرّم في فتاوينا الشرعية الرسمية زراعة المخدرات وتعاطيها والاتجار فيها، ولكن ظروف الفقر واتساع البلاد تعيقنا عن إتمام القضاء عليها.
نقول: هذا كلام يضيق عن الطموحات العريضة التي ترفعها طالبان،
وتضيق به قلوب المتطلعين إلى عزة الإسلام. فلتُقِمْ حركة طالبان حركة جهاد
أخرى ضد هذا اللون من الفساد الذي لا يقل إضراراً بالبلاد عن الحروب الأهلية
والاختلافات العرقية والمذهبية، بل إن ضرره يتعدى إلى المسلمين في العالم الذين
يعانون من هجمة عالمية جائرة، تريد أن تلصق بهم كل مذمة وتنسبهم إلى كل
نقيصة؛ ولا يصلح هنا أن يقال: لا نهتم بكلام الناس ما دمنا ننوي العمل، هذا لا
يصلح؛ لأن نظرة الناس معتبرة في الشرع، وقد كف النبي -صلى الله عليه
وسلم- عن قتل من يستحق القتل حتى لا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه،
فامتنع عن أمر جائز، لمنع كلام الناس، فما بالنا إذا كان الأمر مقطوعاً بتحريمه؟
نحن في انتظار معركة سقوط مراتع المخدرات على أيدي الطالبان، كما
سقطت قبل ذلك على أيديهم مواقع المليشيات المتهمة بالإفساد.
ولئن كسب الشعب الأفغاني رضى الله، وعاد إلى الحياة في ظل شرع الله،
وعادت إليه ولاءات المسلمين، فهذا خير له من حيازة البلايين بما لا يجوز في
الدين.
وليستبشر بالنصر والغلبة بكسب ولاية الله وولاية أوليائه [وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ] [المائدة: 56] .
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/209) ، وانظر (28/229) ، (11/13 - 18) ، (4/17 - 20) .
(2) مجلة الطالب، العدد 10، 11 ص.
(3) المصدر نفسه ص 12.
(4) جريدة المسلمون (29 / 5 / 1417هـ) .
(5) جريدة الاتحاد، (24 / 5 / 1417هـ) .
(6) مجلة الإصلاح، (1 / 5 / 1997م) .(132/90)
مرصد الأحداث
من فضائح أونسكوم
أعلن الرئيس السابق للمفتشين الدوليين في العراق الأمريكي سكوت ريتر أن
الأمم المتحدة استفادت من مساعدة (إسرائيل) النشطة في جهودها الرامية لنزع
أسلحة العراق. وقال ريتر الذي تخلى عن منصبه إنه زار (إسرائيل) سراً مرات
عدة، وقال: بصدق لو لم تكن هناك (إسرائيل) لما كان بوسع اللجنة الخاصة
متابعة جهودها لمنع العراق من إخفاء (برامج التسلح التي ينفذها) ، لقد تعاملت
الولايات المتحدة مع عمل اللجنة الخاصة لنزع أسلحة العراق (أونسكوم) وكأنها
مسألة أكاديمية، وأعتقد بأن (إسرائيل) نظرت إليها كما هي: أي مسألة حياة أو
موت. ... ... ... ... ...
[جريدة الأنباء، العدد: (36 80) ]
تنصير صناعة كورية! !
قررت الكنيسة البروتستانتية في كوريا الجنوبية إرسال عشرة آلاف منصّر
إلى مختلف دول العالم قبل سنة 2000م، وقد تمكنت الكنيسة الكورية من إرسال 5
آلاف منصر ينتشرون في 138 دولة في العالم نصفهم في آسيا هذا العام. ...
... ... [نشرة الكوثر، لجنة مسلمي إفريقيا العدد: (19) ]
القط والفأر.. والنفط:
أكدت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن واردات الولايات المتحدة من النفط
الخام العراقي قفزت في (أغسطس) أكثر من ضعفين عما كانت عليه في (يوليو)
الماضي.
وبلغ مجموع شحنات الخام العراقي في (أغسطس) 275، 20 مليون برميل
بارتفاع نسبته 136 في المئة عما استوردته الولايات المتحدة من النفط العراقي في
يوليو ومقداره 587، 8 مليون برميل.
وبحسب التقديرات المبدئية للإدارة جاء العراق في المرتبة السادسة بين
مصدري النفط للولايات المتحدة (أغسطس) وخلال الأشهر الثمانية الأولى من هذه
السنة شحن العراق 264، 53 مليون برميل من النفط الخام إلى الولايات المتحدة
وكان 38 في المئة منها في أغسطس.
[جريدة الحياة، عدد: (13009) ]
بقرة تحلب ذهباً
أفادت أنباء صحافية أن ألمانيا دفعت أكثر من 200 بليون مارك (122 بليون
دولار أمريكي) تعويضات لليهود وغيرهم من ضحايا النازية.
وأفادت صحيفة (ويلت أم سونتاغ) الألمانية في مقال لها أن هذا المبلغ جاء
بناء على حسابات أجرتها وزارة المال الألمانية، مضيفة أن نحو نصف المبلغ جاء
من أموال عامة وأن معظمه أرسل إلى (إسرائيل) واليهود الناجين من المحرقة
(هولوكست) .
وتابعت: (في الوقت الحالي يذهب نحو 25، 1 بليون مارك سنوياً إلى
صناديق التقاعد لنحو 106 آلالف شخص) . ومن المتوقع أن تكلف هذه العملية نحو
24 بليون مارك في السنوات المقبلة.
وأشارت إلى أن نحو 100 بليون مارك دفعت تعويضات للأضرار التي
تسببت بها الحرب. وأوضحت أن المصانع الألمانية دفعت حتى تاريخه نحو 75
مليون مارك تعويضات عن الأفراد الذين استعبدوا كعمال خلال الحرب.
يذكر أن الناجين من المحرقة يحصدون بلايين الدولارات تعويضات من
المصانع الألمانية بعد رفع دعاوى في الولايات المتحدة. كذلك وافق بعض هذه
المصانع الآن على إنشاء صناديق تعويض.
[جريدة الحياة، عدد: (12997) ]
اختلاف اللصوص.. نعمة
في هجوم اعتبر رداً بـ (المدفعية الثقيلة) قال الجنرال محمد بتشين المستشار
السياسي للرئيس الجزائري: إن السلطة الجزائرية في بداية التسعينات قامت
بتشكيل (كتائب الموت) وهي المرة الأولى التي تنشر فيها معلومة من هذا النوع في
الجزائر ويذاع فيها سر خطير من أسرار الحرب المستمرة.
... ... ... ... ... ... [مجلة الوسط، عدد: (348) ]
أريحا.. أولى بلحوم الثيران
يقول أهل الهمس من أنصار (كازينو أريحا) ، إنه سيكون منتجع الرفاهية
لأغنياء العرب وأن (جحا أحق بلحم ثوره) فبدل أن يتبدد المال العربي على موائد
(القمار) في مونت كارلو أو ميامي أو غيرها فهي ستصب في الخزانة الفلسطينية،
ولقد سأل أحد أهل الهمس: ألن يساعد ذلك على الدفع للتطبيع حين يجمع عرباً من
مختلف الجنسيات مع (الإسرائيليين) حول طاولات الروليت ومساقات النرد؟
فأجاب مندهشاً: إنهم أيضاً في مونت كارلو وميامي يتحلقون معاً حول الموائد
الخضراء. ... ...
[مجلة المشاهد السياسي، عدد: (133) ]
من خاف.. سلم! !
صرح المستشار القانوني لمصنع (الشفاء) للأدوية بالخرطوم بحري الذي تم
تدميره في الهجوم الأمريكي مؤخراً، أن الشركة صاحبة المصنع مصممة على
إعادة بنائه مرة أخرى في أسرع وقت، وأن المناقصة ستقتصر على الشركات
الأمريكية، حتى لا يتعرض المصنع مرة أخرى للاتهامات.
... ... ... ... ... [جريدة الاتحاد، عدد: (8490) ]
عربون الصداقة الأمريكية
صرح المستشار القانوني لمصنع (الشفاء) للأدوية بالخرطوم بحري الذي تم
تدميره في الهجوم الأمريكي مؤخراً، أن الشركة صاحبة المصنع مصممة على
إعادة بنائه مرة أخرى في أسرع وقت، وأن المناقصة ستقتصر على الشركات
الأمريكية، حتى لا يتعرض المصنع مرة أخرى للاتهامات.
... ... ... ... ... ... [جريدة الاتحاد، عدد: (8490) ]
هل هو وحده من الدونمة؟
لا يتعدى عدد الأقلية اليهودية في تركيا 26 ألف شخص، لكن الظاهرة الأهم
هي أن اليهود غارقون في الوظائف الحكومية ويشكلون نصف الجهاز الحكومي
التركي رغم أن عددهم لا يقارن بأي أقلية أخرى؛ وهو ما يدل على ما وصلوا إليه
داخل نسيج الحياة التركية، ويقال إن إسماعيل جيم وزير خارجية تركيا الحالي
تعود أصوله إلى أسرة يهودية من طائفة (الدونمة) .
... ... ... ... ... [مجلة الأهرام العربي، عدد: (79) ]
مع (الموساد) فيما وراء الكواليس
كشف كتاب (جرائم أجهزة المخابرات) الذي صدر مؤخراً في ألمانيا لاندرياس
بو برلو أن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) نجح خلال فترة حكم الرئيس
الأمريكي الأسبق رونالد ريجان في تجنيد مستشاره للشؤون العسكرية (روبرت
ماكفرلين) للعمل لصالح إسرائيل، وقال المؤلف (الذي كان يشغل منصب وزير
العلوم ومدير عام وزارة الدفاع) : إن مستشار الرئيس ريجان أهدى للموساد ثروة
من المعلومات خاصة عن المخابرات الأمريكية، وأضاف إن معظم أجهزة
المخابرات الغربية ومن بينها الأمريكية والـ الألمانية قد تعاونت جميعاً فيما بينها
على مدى سنوات طويلة مع رؤساء منظمات ألمافيا العالمية لتهريب المخدرات
وإعداد وتنفيذ العمليات الإرهابية، ويضيف المؤلف: إن أجهزة المخابرات الغربية
قد حققت أرباحاً طائلة من وراء صفقات المخدرات، وبهذه الأرباح غير الشرعية
تم الاتفاق على عمليات غير شرعية ضد دول أخرى، وكشف المؤلف أن بشير
الجميل قائد الميليشيات المسيحية كان عميلاً للموساد والـ وأنه كان يتلقى من
الموساد راتباً شهرياً قدره 20 ألف دولار وأنه قد سمح لسلاح البحرية (الإسرائيلية)
بنصب محطة رادار سرية في لبنان عمل فيها 30 جندياً (إسرائيلياً) ، كما تناول
الكتاب الصراع الذي كان قائماً بين جهازي مخابرات ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية
وقيام شركة سيمنس بتزويد جهاز ألمانيا الشرقية بأجهزة متقدمة لتعقب مواطنيه.
... ... ... ... ... [مجلة الأهرام العربي، عدد: (79) ]
الأكراد شعب الله ... المختار
نفى نائب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية ديفيد ويلش أن يكون هدف
الاتفاق الذي رعته الولايات المتحدة بين زعيمي الحزبين العراقيين الكرديين
الرئيسيين: مسعود بارزاني وجلال طالباني، هو التمهيد لإقامة دولة كردية منفصلة
عن العراق، وشدد على أن الهدف هو الحيلولة دون تكرار انتهاكات حقوق الإنسان
لسكان المنطقة، وقال: إن الولايات المتحدة لا تدعم كردستان مستقلة سواء في
شمال العراق أو أي مكان آخر، نحن ندعم عراقاً متحداً ونعتقد بأن العراق له وحدة
جغرافيّة ولا نسعى إلى تغيير تركيبته! !
[جريدة الحياة، عدد: (13009) ](132/98)
مقالات معربة
الاقتصاديات الحديثة للنفط
(مختصر المقال بتصرف) [*]
بقلم: بيتر كوي وجاري ماك وليامز
لقد خفضت التقنية من تكلفة التنقيب عن الذهب الأسود (النفط) ولذا فلن ترتفع
أسعاره في المستقبل رغم ازدياد الطلب عليه.
تبدو أسعار النفط الخام هذا الخريف وكأنها تتحرك كالكرات الفولاذية
المتدافعة؛ فقد تأثرت بالأخبار والإشاعات عن المشكلات المحتملة في منطقة
الشرق الأوسط في الفترة القادمة. ورغم محاولات تذكير العالم باحتمال تعرض مصادر النفط للخطر فإن استهلاك النفط سيبقى مرتفعاً. إن الأمريكيين قد وقعوا في حب السيارات ذات الاستهلاك الشره للوقود، وحتى في البلدان النامية أصبح في مقدور عامة الناس ولأول مرة أن يقتنوا سيارة، فقد ذكر استطلاع في صحيفة (شباب الصين) أن 75% من العائلات في العاصمة بكين قد خططوا لشراء سيارة خلال السنوات الخمس القادمة. أيعقل هذا؟ !
الأسعار بين الارتفاع والانخفاض:
هل نحن على حافة أزمة نفطية أخرى؟ الجواب: بإمكانك أن تظن ذلك؛
فالمستثمر الكبير (ريتشارد راينوتر) قد وضع حوالي 30% من ثروته المقدرة بـ
5ر1 بليون دولار في مجال استثمارات الغاز والنفط؛ لأنه يعتقد أن الأسعار سترفع
ما بين 50% إلى 75% خلال السنوات القادمة، وقد يكون هذا ممكناً إلا أن هناك
(منحًى) آخر مختلف تماماً عن التوقعات السابقة يبين أن أسعار النفط لن ترتفع
إطلاقاً على المدى البعيد، بل إنها ستزداد انخفاضاً. فما السبب؟
أولاً: إن منتجي النفط في منطقة الشرق الأوسط وغيرها بحاجة لعائدات
النفط المالية، وهم لهذا لن يختاروا إيقاف تصديره لمدة طويلة رغم المناوشات
السياسية والعسكرية.
أما السبب الثاني والأهم: فإن زيادة الطلب لن ترفع الأسعار طالما ظلت
متوازنة مع زيادة العرض، وهذا ما سيحدث بالفعل؛ فمنحنى العرض يتجه دائماً
نحو الأعلى بفضل التقنية.
الكنوز النفطية:
لقد أدى التقدم التقني إلى خفض أسعار التنقيب عن النفط وإنتاجه وتكريره،
يقول (فيليب كارول) المدير التنفيذي لشركة (شل النفطية) : إن التقنية تدفع دائماً
نحو خفض الأسعار. ولا أظن أن تأثيرها على هذه الصناعة سيكون مختلفاً.
إذاً لا داعي للقلق من المشكلات الأخيرة في (الشرق الأوسط) فلن تقدر أيّ من
دوله على خفض إمدادات النفط العالمية أو رفع الأسعار طويلاً، كما أن انتهاء
الحرب الباردة وانتشار الرأسمالية في العالم لم يؤد فحسب إلى ازدياد الطلب على
النفط بل إلى ازدياد إمداداته كذلك (زيادة العرض) ويعود ذلك لترحيب العديد من
الدول بدءاً من فنزويلا إلى كازاخستان بالاستثمارات الأجنبية في استخلاص ثرواتها
النفطية.
إن التقدم الذي تم إنجازه من خلال التقنية أمر مذهل حقاً، فقد انخفض معدل
سعر برميل النفط تنقيباً وإنتاجاً إلى حوالي 60% خلال السنوات العشر الماضية في
الوقت الذي تأكد لنا أن الاحتياطيات العالمية المسجلة من النفط الآن هي أعلى
بحوالي 60% مما كان مثبتاً في عام 1985م.
لقد أخطأ الخبراء في حساباتهم وتوقعاتهم بشأن كمية احتياطي النفط منذ عام
1874م؛ إذ حذر الجيولوجيون في ولاية بنسلفانيا من أن (الولايات المتحدة لا
تمتلك من البترول إلا ما يكفي لإشعال مصابيح الجاز لمدة أربع سنوات فقط. وجاء
خبراء لاحقون ليسفهوا توقعات تاريخ استنفاد النفط في العشرينات ثم الأربعينات
من هذا القرن. وفي عام 1972م أعلن نادي روما أن العالم يمتلك فقط ما بين 20
إلى 31 عاماً من احتياطي النفط. أما الآن فإننا نجد أن الاحتياطات المقدرة هي
أعلى بكثير من أي وقت مضى.
والحقيقة أن مفهوم الاحتياطي النفطي ذاته يتغير؛ فبدلاً من تعريفه على أنه
عدد ثابت من البراميل، أصبح ينظر إليه على أنه شيء ينمو في الوقت الذي
تكشف فيه التقنية مصادر جديدة للنفط وتستخلص المزيد من النفط الموجود في
الحقول الحالية، ولنأخذ على سبيل المثال حقول الأربعينات الضخمة في القطاع
البريطاني في بحر الشمال، فقد قدرت شركة (بريتش بتروليوم) احتياطي النفط في
هذا الحقل بحوالي 8 , 1 بليون برميل عام 1970م إلا أنه بحلول عام 1995م
أنتج الحقل حوالي 6، 3 بليون برميل، وتقول الشركة إنه ما زال هناك 8، 2
بليون برميل من الاحتياطي المثبت وجوده في الحقل.
لقد كان أثر التقدم التقني على أسعار النفط كبيراً؛ ففي عام 1980م استقدمت
جامعة ستانفورد عشرة من كبار خبراء النفط، فكان المعدل الذي توقعه ستة منهم
لأسعار النفط لعام 1997م هو 98 دولاراً للبرميل! بل وحتى في عام 1991م كان
الخبراء يتوقعون أن يكون سعر البرميل في حدود 45 دولاراً في عام 1997م،
ولكنّ ما حدث هو العكس تماماً؛ حيث ازدادت أسعار النفط انخفاضاً، حتى أصبح
النفط أرخص من المياه المحلاّة. يقول مايكل لينش خبير الطاقة في معهد (غبيس
مستيوستس) للدراسات التقنية: (إن متنبئي أسعار النفط جعلوا الخراف تبدو وكأنها
قادرة على التفكير المستقل) ويضيف: (لا يوجد دليل على أن أسعار المعادن تزداد
مع الوقت، إن التقنية تتفوق دائماً على النقص) .
انخفاض سعر البرميل:
إن الرأي يتجه ببطء بعيداً عن (آراء المتنبئين) يقول (جوليان لي) الاقتصادي
الكبير في مركز دراسات الطاقة العالمية (CGFS) في لندن: (إننا لا نرى أي
احتمال لارتفاع أسعار النفط تأثراً بأي سبب عدا الأسباب السياسية) وقد حذرت
مؤسسة (ماكيلسي) زبائن النفط من وجود احتمال متزايد (لسيناريو يهبط بالأسعار) .
إن الأسعار المنخفضة للنفط تشجع الاقتصاد العالمي على الحركة، فهذه
الأسعار تدعم نمواً سريعاً وتضخماً منخفضاً في الولايات المتحدة اليوم، وإذا
انخفض سعر النفط الخام إلى 5 دولارات للبرميل وبقي كذلك للسنوات الخمس
التالية فإن معدل تضخم المستهلك السنوي في الولايات المتحدة سينخفض في مقابل
زيادة الناتج الاقتصادي، وبعد مرور عقد من الزمان فإن الربح المتراكم في الإنتاج
المحلي الإجمالي الناجم عن انخفاض أسعار النفط سيصل إلى حوالي 400 بليون
دولار.
إن أرباح صناعات النفط تتغير زيادة ونقصاً بحسب تغير النفط الخام، إلا أن
التقنية تسمح للشركات بالمحافظة على مكتسبات جيدة من خلال أسعار نفط منخفضة
بشكل ثابت. وقد قامت معظم الشركات الرئيسة اليوم بتخفيض كلفة استخراج النفط، وستقفز الشركات ذات التقنيات المتقدمة مثل (شل) و (إكسون) و (بريتش
بتروليوم) أمام الشركات التي لا تمتلك مثل تلك التقنيات، ومما يجدر ذكره أن كثيراً
من شركات النفط المستقلة كذلك قد بلغت أحدث ما توصلت إليه التقنيات المتقدمة
في مجال استخراج النفط.
الحفر في أعماق المياه:
إن الاقتصاديات الجديدة للنفط مبنية على تطور كل ركن من أركان الصناعة؛ ففي مجال التكرير مثلاً يتم استخلاص المزيد من البنزين والديزل من كل برميل
نفطي بسبب فعالية العوامل الحافزة والقدرة على التخلص من مشكلة عنق الزجاجة
في مرحلة المعالجة. لقد أغلق القطاع الصناعي في الولايات المتحدة 29 مصفاة
منذ عام 1990م، ومع ذلك تمكن من زيادة الإنتاج بمعدل 000ر105 برميل يومياً.
أما القفزات الأكبر فكانت في مجال التنقيب فقد وجدت آلات الحفر التي تنقب
عمودياً وأفقياً والتي تتبع مسار النفط لعدة أميال في باطن الأرض، وهنالك
المجسات التي تستخدم التصوير عن طريق الرنين المغناطيسي تماماً كأجهزة الـ
MRI في المستشفيات وتستكشف الطريق أمام آلة الحفر للبحث عن أرخص الطرق
للوصول إلى الذهب الأسود.
وتقول شركة (إكسون) : إن تقنيات من هذا النوع قد أسهمت في خفض تكلفة
التنقيب بمقدار 85%خلال عشر سنوات.
كذلك أصبحت أعماق المياه ضمن المجالات المربحة للتنقيب عن النفط بعد أن
كانت خارجة عنها؛ وذلك نتيجة للتقدم التقني في مجال الحفارات العائمة، كما
وجدت الغرازات التي تعمل بالحاسب الآلي والتي تحافظ على ثبات سفن وعوامات
الحفر في أماكنها حتى في البحار الهائجة.
إن شركة (بريتش برونيو بتروليوم) تخطط للبدء في تشغيل أول منصة تنقيب
منخفضة الكلفة بالقرب من سواحل لويزيانا في العام المقبل؛ إذ تم تصميم منصة
عائمة مثبتة في قاع المحيط ذات نسبة إنتاج منخفضة مقارنة بالمنصات الثابتة بكلفة
85 مليون دولار فقط، وسيكون بمقدورها إنتاج 000ر35 برميل من النفط يومياً،
وفي المقابل فإن أول منصة عائمة والتي صممتها شركة (شل) للتنقيب في خليج
المكسيك كانت بتكلفة 2ر1 بليون دولار عام 1994م بقدرة إنتاجية مقاربة لمنصة
(بريتش برونيو) وهي 000ر46 برميل يومياً.
إن هذه التكاليف المنخفضة لاستخراج النفط تفسح المجال للتغلغل في الحقول
الصغيرة كذلك؛ ففي الماضي كان يجب أن يحتوي الحقل على 80 مليون برميل
ليكون استخراج النفط منه أمراً مربحاً. أما الآن فإن منصة (بريتش برونيو)
المذكورة بإمكانها وبطريقة مربحة تفريغ حقول تحتوي على 30 مليون برميل فقط، ويضيف (جاينور) المدير التنفيذي: (ومن المحتمل أن نخفض الرقم إلى أدنى من
ذلك أيضاً) .
ويدور البحث حول السرعة والخفة في كل مكان، وربما كان الانتصار
الأخير للأسلوب القديم في استخراج النفط يتمثل في مشروع النفط الأيرلندي في
الضفاف الكندية العظمى بتكلفة قدرها 2، 4 بليون دولار، ومن المفترض أن يبدأ
إنتاج هذا المشروع قريباً، وقد صممت له المنصات الثابتة التي تحوي 550000
طن من الفولاذ والخرسانة لمواجهة الجبال الجليدية الضخمة في تلك المناطق،
وتطلّب إتمام المشروع سبع سنوات من العمل، فإذا قارنا هذا المشروع بمشروع
المنصات العائمة (تيرانوفا) الأرض الجديدة التي سيمكن سحبها عن طريق سفن
السحب بعيداً عن الجبال الجليدية في حالة الأخطار المحتملة، نجد أن تكلفة
المشروع 2. 2 بليون دولار، وأنه سيتطلب ثلاث سنوات من التصميم والبناء.
كذلك نجد أن كمية النفط التي يمكن استخلاصها من حقل معين في تزايد؛
فالحقل الواحد يُعطي عادةً ما معدله 35% من محتواه؛ لأن الضغط الطبيعي الذي
يدفع النفط نحو الأعلى يتبدد تدريجياً، إلا أن شركة أموكو تمكنت من استعادة
70 % من محتوى بعض الحقول التجريبية عن طريق استخدام أسلوب الضغط الهوائي. كما يقوم المنتجون الآن بالتقاط صور دورية اهتزازية لحقول النفط ويعتمدون لرفع الإنتاج على الحقول (الذكية) عن طريق توظيف المرتفع في حقل معين لدفع النفط خارج حقل مجاور ذي ضغط منخفض.
رأس المال الأجنبي:
إن كثيراً من الأفكار بدأت تخرج من مختبرات (أموكو) و (إكسون)
و (سنتروليوم) و (ساسول بجنوب أفريقيا) من أجل إنتاج نفط صناعي من الغاز الطبيعي شريك النفط في باطن الأرض؛ إذ يتم إعادة تجميع الغاز الطبيعي الرخيص والمتوفر وتحويله إلى سوائل بترولية كالميثانول أو نواتج مكررة (كالديزل) و (البنزين) .
واليوم نجد أن الدول الغنية بالنفط التي وقفت في وجه شركات النفط الغربية
باعتبارها إمبريالية في فترة ما.. بدأت تدرك أنها قد تخسر الكثير إذا وقفت مثل
هذا الموقف مرة أخرى؛ لذلك نجدها ترحب بهذه الشركات وبالتقنية التي تجلبها؛
فمثلاً فنزويلا تعمل مع (كونوكو) و (أركو) و (تكساكو) ، والجزائر ترحب برأس
المال الغربي حيث وقّعت عقوداً مع شركات كشركة أرض لويزيانا المحدودة
للتنقيب، وإيران تعمل مع الشركات الفرنسية مثل (توتال) و (إلف) وإندونيسيا
وماليزيا وقطر عقدت اتفاقيات مع شركة (إكسون) . أما روسيا فمع أنها انقسمت
بين مرحب ومعارض لمثل هذه المشاريع المشتركة إلا أن (ريتشارد فريمان) مدير
مكتب (تكساكو (في موسكو يقول: (إن التقنية الغربية هي التي وضعتنا هنا موضع
الاعتبار) .
إذا أضفنا كل ما سبق إلى بعضه فسنجد أمامنا وصفة لانفجار محتمل في سوق
إنتاج النفط، والطريقة الوحيدة التي بإمكان السعودية أن تؤدب بها أولئك الذين
يخالفون نصاب (الأوبيك) هي رفع الإنتاج بشكل هائل بحيث يؤدي إلى هبوط
الأسعار؛ وهذا ما حدث خلال أواسط الثمانينات عندما انخفض السعر العالمي للنفط
الخام لأقل من 10 دولارات للبرميل؛ ويقول وزير النفط السعودي الأسبق (أحمد
زكي) : (إن ما حدث قد يتكرر) .
إن من الممكن طبعاً أن نشهد ارتفاعاً لأسعار النفط لفترة وجيزة؛ لأن
المصدات الواقية اليوم هي أضعف من ذي قبل؛ فمنتجو النفط القلقون بشأن
الأسعار لا يبنون الحفارات حتى يحتاجوها، أما مكررو النفط فقد خفضوا
المحتويات الخام للحد الأدنى، وفي الوقت ذاته نجد أن الحكومات الغربية،
لشعورها بالأمان تقوم بتقليص احتياطاتها الاستراتيجية، فوزارة الطاقة الأمريكية
مثلاً أعلنت في السادس من أكتوبر أنها ستقوم ببيع 78% من أرباحها في احتياطي
(ألك هيلس) لشركة أوكيدنتال بتروليوم الغربية بسعر 65، 3 بليون دولار.
وإذا وضعنا الحروب والسياسة جانباً فعلينا أن ندرك أن التقنية هي القوة
الحقيقية الدافعة في الصناعة النفطية اليوم، ورغم أن الطبيعة قد منحتنا [1] الكثير
من النفط إلا أن التقنية ستقوم بسحب هذا النفط بكميات أكثر مما تخيله الناس في
أي وقت مضى.
__________
(*) أعد خصيصاً لـ (البيان) بالاتفاق مع المجموعة الإعلامية الدولية في أمريكا تعريف بصاحب المقال: بيتر كوي هو أحد كتاب مجلة بيزنس ويك، ومتخصص في تغطية الأخبار الاقتصادية بالمجلة، وكان يشغل من قبل مهمة تغطية أخبار التقنيات الحديثة أما جاري ماك وليامز فهو كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية بمدينة هيوستن بولاية تكساس تعريف بالدورية: مجلة بيزنس ويك هي إحدى أهم المجلات الأمريكية المتخصصة في الموضوعات الاقتصادية وكل ما يهم رجال الأعمال وتتميز المجلة بعمق التحليلات الاقتصادية التي تقدم فيها، وكثرة استخدام المجلة للإحصاءات والجداول التوضيحية والمجلة تصدر أسبوعياً، ولها أكثر من 200 مراسل من كل أنحاء العالم، إضافة إلى مكاتب في 26 دولة، وتصل إلى ما يزيد عن ستة ملايين قارئ على مستوى العالم الغربي.
(1) ينسب الكاتب كغيره من الكتاب الغربيين صفة العطاء والمنع للطبيعة بدلاً من أن ينسبها لخالق الطبيعة عز وجل.(132/102)