المسلمون والعالم
لتر الماء.. لتر النفط أيهما أغلى؟
(1من2)
خالد محمد مسعود القحطاني
قد لا تكون مسألة المياه في المنطقة العربية، وحساسيتها، وخطورتها على
كافة الأصعدة، موضع خلاف بين المهتمِّين والباحثين للقضية.
فإذا أدركنا حجم المشكلة ليس على المستوى العربي فحسب بل على المستوى
العالمي لأمكننا الخروج بتصور واضح لهذه القضية وأبعادها المثيرة في الحاضر
والمستقبل.
إن العالم اليوم يواجه أزمةً حقيقية فيما يتعلق بالمياه الصالحة للشّرب؛ فقد
جاء في البيان الختامي الصادر عن مؤتمر دبلن [1] أن كمية المياه الموجودة في
الطبيعة عند بداية هذا القرن تبلغ 9000 كيلو متراً مربعاً عندما كان سكان الأرض
ألف مليون نسمة فقط؛ والآن عدد سكان الأرض تجاوز 5000 مليون نسمة
يتنافسون على الكمية نفسها [*] . وورد في إحصائيات أخرى نُشرت عام 1991م
أن 800 مليون نسمة من البشر يعانون من فاقة مائية رهيبة تتخطى في حجمها
مشاكل الكرة الأرضية برمتها، بل إنّ المخابرات الأمريكية أحصت عشر مناطق
حول العالم على الأقل مرشحة لقيام أزمات سياسية سببها المياه.
أين يقع العالم العربي من هذه الأزمة؟ !
لعل أبرز ما يميز المطر السنويّ المصدر الوحيد للمياه النقية في الوطن
العربي هو أن قلب الوطن العربي الذي يشغل الجزء الأكبر من مساحته ويضم
الصحراء الكبرى الأفريقية، والصحراء العربية وامتدادها الشمالي في بادية الشام:
يكاد يخلو من المطر؛ ذلك أن مجموع المطر السنوي في هذه الجهات لا يتعدى
عشرة سنتيمترات؛ ومن المدن التي تمثل هذا النظام على سبيل المثال: الرياض
في (السعودية) ، وأسوان في (مصر) ، وعين صلاح في (الصحراء الجزائرية) .
على أنه يطوّق هذا القلب الجاف نطاقان مطيران في الشمال والجنوب، ولكن
ذلك يتأثر بحول الله وقدرته بالموقع والتضاريس وامتداد خطوط الساحل بالنسبة
لاتجاه الرياح [2] .
ونخلص من ذلك إلى أن قلب العالم العربي برمته يواجه أزمة حقيقية في توفر
المصادر الطبيعية للمياه، مما يجعله من أشد مناطق العالم تأثراً بذلك، وإذا أضفنا
إليه بعض العوامل الأخرى التي أهمها على الإطلاق: الصراع العربي الإسرائيلي، كما أن النمو السكاني المتزايد، وانخفاض كفاءة استخدام المياه: كل ذلك يجعل
العالم العربي يعيش أزمة حقيقية، ويقف في مصاف المناطق الأولى عالمياً
المرشحة للانفجار في أية لحظة في حرب مائية غير مأمونة العواقب، والله وحده
المستعان.
المصادر المائية العربية وأهميتها المطلقة:
تواجهنا حقيقة وهي أن 85% من الموارد المائية العربية على الأنهار تأتي
من دول غير عربية (وإن كانت إسلامية) ؛ فمن تركيا ينبع نهرا دجلة والفرات،
في حين أن أثيوبيا تستطيع التحكم بنهر النيل، وكلا الدولتين على علاقات ممتازة
مع دولة العدو (إسرائيل) التي نشأت بينها وبين تركيا أفكار ومباحثات لمشاريع
مائية ضخمة إذا ما تمت فستكون قاصمة الظهر لكل من العراق وسوريا اللتين
تعتمدان على نهري دجلة والفرات ليس في توفير الماء الصالح للشرب فقط بل
وتوليد الطاقة الكهربائية اللازمة لهما. وحتى تتضح الرؤية تماماً لنستعرض على
عجالة أهم المصادر المائية العربية وما تشكله من أهمية استراتيجية بعيدة المدى:
1- نهر النيل: من أطول أنهار العالم؛ إذ يبلغ طوله من منبع (كجيرا) عند
درجة الخط الرابعة، جنوب خط الاستواء إلى مصب رشيد عند البحر المتوسط
6700 كلم، ومساحة حوضه (000ر900ر2 كلم مربع) وهو ثالث أحواض
الأنهار الكبرى اتساعاً بعد الأمازون والكونغو. والبلاد التي يضمها حوض النيل:
تنجانيقا (وبها الشطر الجنوبي من بحيرة فكتوريا) كينيا (وبها الأطراف الشرقية
لبحيرة فكتوريا) أوغندا (وبها أشهر منابع النيل (نيل فكتوريا [السودان أثيوبيا
مصر رواندا زائير بوروندي.
ويبلغ متوسط الإيراد السنوي لنهر النيل 84 مليار متر مكعب (بعد الفواقد
الطبيعية) وهو ما يشكل 99% من مصادر المياه العذبة في مصر والسودان.
وتكمن أهمية نهر النيل لمصر في حقائق ثلاث رئيسة] 3 [:
أ- أن أمن مصر يعتمد على ذلك النهر سواء أكان للشرب أو الزراعة أو
المواصلات وغيرها من الأعمال الاقتصادية.
ب- أن كميات المياه الحالية قد تكفي حاجة البلاد الآن، ولكنها لا تكفي في
المستقبل القريب؛ نظراً للتوسع البشري والعمراني والاقتصادي المتوقع] 4 [.
ج- أن مصراً بالنسبة لنهر النيل تعتبر دولة مصب فقط، وتشارك معها
ثماني دول في حوض ذلك النهر.
2- نهر الفرات: أطول أنهار غرب آسيا؛ إذ يبلغ طوله 2330 كلم، منها
455 كلم في تركيا، 675 كلم في سوريا، وحوالي 1200 كلم في العراق، وينبع
من هضبة آرضروم في تركيا، ويبلغ معدل التصريف السنوي لهذا النهر عند
دخوله سوريا 26 مليار متر مكعب، وتبلغ مساحة حوضه 444 ألف كيلو متراً
مربعاً 28% في تركيا، 17% في سوريا، 40% في العراق، ويحمل معه
رواسب ترابية تقدر بحوالي مليون متر مكعب تتدفق إلى حوضه الأدنى وتسبب
مشاكل فنية كثيرة للمنشآت القائمة على الحوض، ومياه نهر الفرات عذبة ويتراوح
معدل الملوحة فيها ما بين: 300 600 جزء من المليون.
3- نهر الأردن: ينبع من مرتفعات سوريا ولبنان ويحتوي على 1287
مليون متر مكعب من الماء، ويعتبر نهر اليرموك الرافد الرئيسي لنهر الأردن وهو
أي الأخير الفاصل الطبيعي بين سوريا والأردن، ويفصل فلسطين أيضاً عن
الأردن. إذن: فإن ثلاث دول تستفيد من نهر الأردن وهي: الأردن، وسوريا،
وفلسطين (ممثلة في المحتلين الغاصبين) .
4- الخليج العربي: مشكلة المياه في الخليج العربي مختلفة عن بقية العالم
العربي؛ فهي ليست مشكلة صراع مع عدو خارجي، ولكنه صراع مع الظروف
الطبيعية: التصحر، الجفاف ... وقد حاولت بعض دول الخليج التعاون مع دول
غير خليجية عبر مشاريع تجري دراستها لمد خطوط مياه من إيران وتركيا وهي
بشكل عام مشاريع عالية التكلفة؛ ولعل أقرب مثال للحاجة إلى مصادر المياه في
الخليج يتمثل في البحرين حيث يصل حجم الاستهلاك الفعلي إلى 190 مليون متر
مكعب؛ وهناك قانون يقضي بتخفيض ذلك الاستهلاك إلى 100 مليون متر مكعب
فقط، كما أن الحاجة إلى التوازن في المحافظة على مصادر المياه تؤكد ضرورة
تخفيض الاستهلاك إلى 90 مليون متر مكعب سنوياً خاصة وأن البحرين تعتمد على
المياه الجوفية بنسبة 90% ولا تحصل من محطات التحلية إلا على 10% فقط،
ومن ثم فإن هناك عدداً من الخطط لقلب الوضع وتغطية 90% من احتياجات البلاد
من إنتاج محطات التحلية والاعتماد على المياه الجوفية بنسبة 10% فقط] 5 [.
5- المغرب: على الجانب الآخر فإن المغرب يعاني من نقص المياه؛ وبرز
ذلك في حالة الجفاف التي حدثت عام 1976م؛ ولذلك تبنت الحكومة سياسة بناء
سد كل عام لتخزين مياه الأمطار، فأصبح لديها 30 سداً كبيراً إضافة إلى عشرات
السدود الصغيرة التي تستهدف دعم الجهود لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء
والمنتجات الزراعية في مواجهة نقص معدل سقوط الأمطار، ولكن مع الزيادة
السكانية في المغرب عام 2000 إلى 31 مليون نسمة تتزايد التوقعات باحتمال
حدوث ضغط شديد على مصادر المياه بكل الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على
ذلك] 6 [.
هذه نظرة سريعة لأهم المصادر العربية المائية؛ ويتضح بإمعان النظر إليها
أنها في مجملها تحمل عناصر الانفجار السريع في أي لحظة، وأن المنطقة مقبلة
على مستقبل مخيف لا يعلم خطورته وآثاره السلبية على المنطقة والعالم برمته إلا
الله وحده.
إن اليوم الذي سوف يصبح فيه لتر الماء أغلى من لتر النفط قادم وليس ببعيد.
عود على بدء:
سبق أن تعرضنا لمؤتمر دبلن المنعقد عام 1412هـ، وأوردنا عنه بعض
الإحصاءات، ونستكمل هنا شيئاً منها مما له علاقة بموضوعنا؛ حيث جاء فيه أن
ثلث سكان العالم محرومون كلياً من مياه الشرب والغسيل، وأن 80% من
الأمراض في العالم، و33% من الوفيات في العالم الثالث مصدرها المياه الملوثة،
وأن المدن تنتج يومياً مليوني طن من مخلفات أمعاء الإنسان وحدها لا يعالج منه
سوى 2% فقط.. إذن فالمشكلة ليست في نقص الموارد المائية فقط؛ بل في
التلوث في مياه الشرب وحرمان شريحة واسعة من سكان كوكبنا الأرضي من مياه
الشرب النقية الصالحة للاستخدام البشري.
مصادر المياه في منطقتنا:
وبالنظر إلى مشكلة المياه في المنطقة العربية نلاحظ أنها من حيث النشأة
تنقسم إلى قسمين] 7 [:
أ- النشأة على أرض الواقع: لم تكن مشكلة المياه ونقص الموارد المائية
غائبة عن صناع القرار في المنطقة العربية، وبالذات في عقد الثمانينات؛ إذ شعر
الجميع أن هناك أخطاراً حقيقية تهدد وصول مياه ثلاثة أنهار عربية قادمة من بلاد
غير عربية لها علاقات مشبوهة مع (إسرائيل) ، والمعروفة بالضلع الثالث في
الصراع العربي الإسرائيلي.
ففي حوض النيل تردد أن هناك خبراء يهود يجرون أبحاثاً في إثيوبيا
وأوغندا لإقامة مشروعات للري على النيل؛ وهو ما يؤثر سلبياً على مصر أكبر
وأهم المستفيدين من هذا النهر. وقد تحدث الرئيس أنور السادات محذراً أثيوبيا عام
1977م؛ إذا ما أقدمت على أي إجراءات من شأنها التأثير على إيراد مصر من
المياه وبأنه سيستخدم ضدها القوة العسكرية] 8 [.
وأما تركيا فقد قطعت تدفق نهر الفرات إلى سوريا والعراق في شهر يناير
1990م لملء خزان سد أتاتورك العملاق رافضة بذلك كلاً من من طلبي دمشق
وبغداد بتقليص قطع المياه إلى (أسبوعين بدلاً من شهر) وسدّ أتاتورك هذا أكبر سد
في مشروع يتضمن إنشاء 22 سداً وبدأ في إنتاج الطاقة عام 1991م.
وهو ما أدى إلى إعادة النظر في العلاقات التركية العربية وإلى اتصال مباشر
بين بغداد ودمشق.
ب - النشأة على المستوى الأكاديمي: منذ منتصف العقد الماضي ومراكز
الأبحاث الغربية القريبة من صنع القرار في العواصم الكبرى تعمل في صمت
وكتمان وفي تخطيط تام مع مراكز البحوث اليهودية أو مع حلقات البحوث المشتركة
على دراسة وتحليل واستشراف مستقبل أحواض الأنهار ومنابع المياه العربية، وقد
أضحت الفائدة الكبرى راجعة إلى (اليهود) بالمقام الأول؛ وهذا ما حدا باليهود إلى
تنمية وتطوير هذه الدراسات؛ والبحوثُ حول هذه شديدةُ الحساسية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد عكفت مراكز بحوث المياه والمراكز
الاستراتيجية والسياسات فيها على دراسة حوض النيل والفرات والأردن بشكل
يجعل مشكلة المياه أحد الأخطار التي تستهدف دول الشرق الأوسط، وجعلت من
الحل النهائي لها جلوس أطراف الصراع العربي اليهودي معاً لتقرير مصير
المنطقة] 9 [.
أسباب المشكلة المائية:
لخصت (الأسكوا) ] 10 [أسباب المشكلة من الناحية الفنية وهي باختصار:
1- انخفاض كفاءة استخدام المياه: دلت الدراسات التي أجرتها الأسكوا أن
كفاءة استخدام المياه في الري في بعض دول غرب آسيا لا تتجاوز في أفضل
حالاتها 50%.
فإذا علمنا أن 80 90% من كمية المياه المتوفرة تذهب لأغراض الزراعة،
فإننا ندرك مدى الهدر في هذا القطاع الذي يصل في بعض الدول إلى 40%.
2- تدهور نوعية المياه: ويرجع ذلك إلى سوء استعمال الموارد المائية،
فعدم ملاءمة استخدام أساليب الري ووسائله، والتسميد، والوقاية، وانعدام شبكة
الصرف الصحي، وطرح النفايات السائلة والصلبة في الأنهار والوديان، وطغيان
المياه المالحة، والإفراط في الضخ ... كل ذلك يؤدي إلى تدهور نوعية المياه ومن
ثَمّ المساهمة في العجز المائي.
3- عدم وجود سياسات وتشريعات مائية واضحة فيما بين الدول المشتركة:
وهذا يتضح في أحواض الأنهار الكبرى (النيل الأردن اليرموك دجلة الفرات) .
4- عدم إيلاء التدريب أهمية خاصة في الأوجه المختلفة في قطاع المياه: إن
التدريب من الأسس التي يرقى بها هذا القطاع في تحسين قاعدة المعلومات، ويوفر
إمكانية استخدام تقنيات جديدة ترفع من شأن تنمية الموارد المائية واستكشافها
وحفظها] 11 [.
__________
(1) مؤتمر دبلن، عُقد في شهر رجب، 1412هـ.
(*) ورد في تفسير ابن كثير عند قوله تعالى:] وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاَّ كُفُوراً [] الإسراء: 89 [ما نصه: أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: ليس عام بأكثر مطره من عام؛ ولكن الله يصرفه كيف يشاء تفسير ابن كثير، ج3، ص 513.
(2) الوطن العربي: أرضه وسكانه وموارده محمد صبحي وآخرون، ط 2، 1985م، دار الأنجلو المصرية.
(3) السياسة الدولية، عدد 105، إبريل، 1990م، ص 140، السياسة الخارجية المصرية تجاه نهر النيل، د علاء الحديدي.
(4) بلغ عدد سكان مصر عام 1412هـ 57 مليوناً و758 ألف نسمة، وهم يزيدون فرداً كل 24 ثانية كما أوضحه جهاز الإحصاء المصري، الحياة، عدد.
(10710) ، 5/2/1412هـ.
(5) مجلة الشرق الأوسط، العدد 244، الجمعة، 6/12/1991م.
(6) انظر: المصدر السابق.
(7) السياسة الدولية، المنظور المائي للصراع العربي الإسرائيلي، ص 132، د حسن بكر.
(8) المرجع السابق، ص 156.
(9) المرجع السابق، وقد تم ذلك في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م.
(10) (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) منظمة تابعة لهيئة الأمم المتحدة تبحث في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية ونلحظ هنا أن هناك أسباباً أخرى أهمها: الزيادة السكانية في المنطقة، وكذا حرب المياه التي يشنها اليهود، وكذلك النمو الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة.
(11) الفرسان، عدد 713 7/11/1991م.(122/98)
منتدى القراء
إلقاء السلام وذبح الحمام
بقلم: عبد الله بن محمد الحسن
السلام الذي يعلنون سلام هش، كراعٍ قال لغنمه (كش) ، فهذا يتمتع، وذاك
يتمنع، والكل منه يتجرع، لا أظن سلاماً حقيقياً يحصل، وإن بدا فيه غياب أو
تنصّل؛ فكل هذا محبوك من زمن، مذ ظهرت في أرض القدس المحن، والسلام
الذي يدعون ما كان، إلا حبراً على ورق (سلوفان) ، فالفاصل الآن هو القتال بين
المسلمين، وقتلة المرسلين، فأمة اليهود أمة تعاهد، على البنود وترتضي الشاهد،
ولكنها لا تستمر في العهود، ليس ذاك بل تقاتل الشهود؛ لأنهم شهدوا على اتفاق لا
يرضيها، ولأن فيها (تنازلات) من ملك الغير تعطيها، للمسلمين على أراضيهم،
ولا هناء لهم مع ذويهم! ، ولكن المسلمين أُذِلّوا؛ لأنهم لسيوفهم لم يسلوا، وإنما
رضوا بالدنايا، على الأمور الحسان والبقايا، ورفعوا راية غير دينية، راية القوم
والوطنية، فبقوا على هامش الزمن، تلفهم البلايا والفتن.
أما اليهود المحتلون، لأرض الجولان وفلسطين، فلا يزالون قابعين متحفزين، يهدمون البيوت والبساتين، بمجرد عملية من شجاع، يزال بيته بالمقلاع،
وبعدها يقاسي المرارة الأهلون، لمقتله ولسفاهة الفرعون، ولا أظن أحداً من أهله
يرقد، وأمة الكفر تزرع الغرقد، مكان بيت أهله الأعزاء؛ لأنهم يقاومون الكفر
وأنواع البلاء.
اليهود أمة الخيانة؛ لأن عهودهم لم تعرف الصيانة، بل لقد نقضوا العهود
قبل التوقيع، فقالوا لصاحب الأرض أن يبيع، وبدأوا بعد أن باعهم المجنون،
مشروع استيطان ملعون، وهكذا سيطروا على حيفا ويافا، وكل يوم يزيدون التفافا، على العرب النائمين، ليكونوا بعد سنوات مالكين، لأرضٍ قاتلَ الأسلاف لردها،
إلى ملكهم وشدها، بكل ما أوتوا من قوة، من شيوخ وشباب وفتوة، وقبل كل
شيء يريد اليهود التنازل، من كنعان وبابل، ليتم الاتفاق على ما يريدون تماماً،
وبعدها يذبحون الحماما، فهل لنا، أن نعود كما كنا، نحكّم الشريعة ونعادي اليهود، ونزيل بين دولنا الحدود، وتعود قلوبنا صافية، فهذه الحالة كافية، بأن نهزم
القرود، ونرفع القيود، ونعلي راية التوحيد، ونعيد سالف مجدنا التليد.(122/108)
منتدى القراء
حصانة المؤمن
بقلم: سليمان بن محمد الهذال
إن الداعية إلى الله وطالب العلم مهما كان يمتلك من قوة وجلد فلا بد له من
حصانة تقيه مصاعب الدنيا وشهواتها وفتنها؛ فهذا النبي-صلى الله عليه وسلم- وقد
غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يخاطبه ربه بضرورة النصب بعد الفراغ. قال
تعالى: [فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ] [الشرح: 7] .
بل (لما عد نعمه السالفة ووعوده الآنفة حثه على الشكر والاجتهاد في العبادة
والنصب فيها. وأن يواصل بين بعضها وبعض، ويتابع، ويحرص على أن
يتخلى وقتاً من أوقاتها فيها. فإذا فرغ من عبادة ذَنَبَها بأخرى) [1] وهذا هو السر
في صبره-صلى الله عليه وسلم- وحلمه على قومه حينما بلغ به من الأذى ما بلغ؛
فما يكون منه-صلى الله عليه وسلم- إلا أن يقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا
يعلمون) [2] .
وهل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وكان-صلى الله عليه وسلم- لا يغفل عن عبادة الله دائماً؛ فكان-صلى الله
عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه
من بعده [3] . وهذا بخلاف العاملين لهذا الدين اليوم؛ إذ تجد الواحد منهم يتعذر
بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتعب الجسد، فيدخل الشيطان عليه من هذا الباب.
وكان مما أنزل الله على نبيه-صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى [يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ *
قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً]
[المزمل: 1-4] .
وقال تعالى: [وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً] [الإنسان: 26] .
كما أن الله عز وجل أمر عباده أن يختموا الأعمال الصالحة بالاستغفار؛ فكان-
صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح: إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثاً. وقال
تعالى: [وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ] [آل عمران: 17] فأمرهم الله سبحانه وتعالى
أن يقوموا الليل ويستغفروا بالأسحار. وقيل إن آخر سورة نزلت على الرسول:
[إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] [النصر: 1- 3] فأمر الله نبيه-صلى الله عليه
وسلم- أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار وكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
يقول: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة) [4] .
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (فما تركتها بعدُ، ولا ليلة
صفين) [5] . فهكذا كان حال صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وسلف
الأمة أن لا يدعوا نصيبهم من العبادة مهما كان عندهم من المشاغل؛ فهذا علي بن
أبي طالب رضي الله عنه لم يدع وصية رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في أشد
الليالي عليه شغلاً. وهكذا الحال مع شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فيقول ابن القيم عنه:
(حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة: صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى
قريب من انتصاف النهار ثم التفت إليّ، وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغدّ الغداء
سقطت قوتي أو كلاماً قريباً من هذا) [6] . ويقول ابن القيم: (وقد شاهدت من قوة
شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وكتابه أمراً عجيباً. فكان يكتب في اليوم
من التصانيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في
الحرب أمراً عظيماً [7] . فهكذا كان حال سلف الأمة فما إن تقرأ لعَلم من أعلام هذه
الأمة إلا ويقال عنه: كان صاحب عبادة؛ وهذا هو السر في صبرهم أمام المحن
وقول الحق.
ختاماً:
حريّ بنا أن ننهج هذا النهج، وأن يكون لنا نظر وتأمل في حياة الأنبياء
والسلف الصالح حتى نكون من أولياء الله الذين قال الله فيهم: [أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ
لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] [يونس: 62] .
وهذا ما أقول؛ فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان. وصلى الله على نبينا محمد.
__________
(1) الكشاف، 4/267 ذنبها: أي أتبعها.
(2) البخاري، ح/3477، ومسلم، ح/1792.
(3) البخاري (33) كتاب الاعتكاف.
(4) مسلم، ح/2702، وأبو داود، ح/1515.
(5) البخاري، ح/ 5362.
(6) صحيح الكلم الطيب، (84) .
(7) صحيح الكلم الطيب، (144) .(122/106)
منتدى القراء
دور المرأة المسلمة تجاه الفتن
بقلم:بدرية سعيد الدوسري
نحن نعيش في زمن كثرت فيه الفتن؛ فيا أيتها الأخت المسلمة: إن الله خلقك
لمهمة معينة ودور يناسب رسالتك؛ فإذا خرجت المرأة عما خطهُ الله لها كانت الفتنة
التي ضررها لا يعدله ضرر؛ ومن هذا المنطلق سوف أذكر بمشيئة الله تعالى دور
المرأة المسلمة تجاه الفتن حتى تكون على بصيرة من أمر دينها.
دور المرأة المسلمة والضوابط الشرعية تجاه الفتن:
1- الرفق: إن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (ما كان الرفق في شيء
إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) رواه مسلم. يعني أن الرفق محمود في الأمر
كله؛ فعلى المرأة الرفق في الأفكار والمواقف؛ فلا تكوني غضوبة وخذي بالأمر
الحسن.
2- التأني: يقول الرسول-صلى الله عليه وسلم- لأشج بن قيس: (إن فيك
لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) . فعليك بعدم العجلة قال تعالى:
[وَيَدْعُ الإنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً] [الإسراء: 11] .
3- الحلم: عليك بالحلم عند تقلب الأحوال؛ لأنه يمكن رؤية الأشياء على
حقيقتها.
4- لزوم الإنصاف والعدل في الأمر كله: [وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا
قُرْبَى] [الأنعام: 152] بمعنى أن توازن المسلمة بين الأمور الحسنة والأمور
السيئة لتفعل الحسن وتتجنب السيئ.
5- لزوم الجماعة وترك الفرقة: قال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
وَلا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] . فالمعتصمون بحبل الله لا نخرج عن قواعدهم
ولا ضوابطهم؛ لأنهم يعلمون من الأدلة الشرعية ما لا يعلمه كثير من الناس.
6- ضبط القول والعمل في الفتن: يجب على المرأة النظر في عواقب
الأمور.
7- الاعتصام بالكتاب والسنة: قال رسول الله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم
به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) ، رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
8- التسلح بالعلم الشرعي: إن المسلمة لا بد أن تكون على بصيرة من أمر
دينها؛ فالعلم نور والجهل ظلام.
9- الصبر: الصبر هو حبس النفس عن الجزع والتسخط بالمقدور؛ فعليك
أختي أن تلتزمي بالصبر حيال الفتن؛ لأنه من الإيمان.
10- البعد عن مواطن الفتن: يقول النبي-صلى الله عليه وسلم- كما في
حديث المقدام بن الأسود رضي الله عنه: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد
لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً) أخرجه أبو داود.
11- التعوذ بالله من الفتن: أمرنا الله بالدعاء وتكفل بالإجابة، ورسول الله-
صلى الله عليه وسلم- أمرنا بالتعوذ من الفتن؛ لأنها إذا أتت لا تصيب الظالم وحده
وإنما تصيب الجميع؛ كما في حديث زيد بن ثابت عن النبي-صلى الله عليه وسلم-
قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) رواه مسلم.(122/106)
منتدى القراء
الإسلام والعقل
بقلم: موسى ضيف الله المطرفي
الإنسان ابتداءً هو ذلك المخلوق الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض،
ثم سواه ونفخ فيه من روحه، لا ذلك الحيوان الذي دعاه دارون، ولا المادة التي
زعمها التفسير المادي للتاريخ. ومقياس علو الإنسان وهبوطه ليس هو الإنتاج
المادي والعمارة المادية للأرض: [كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا] [الروم: 9] لكنهم كانوا جاهلين؛ لأنهم رفضوا الهدي الرباني، وأصابهم في
النهاية ما يصيب الجاهلية من الدمار، على الرغم من كل القوة التي يملكونها،
ومن أثارة في الأرض وعمارتها.
إنما مقياس علو الإنسان أو هبوطه هو مقياس الإنسانية الذي يتمثل في التزامه
بمقتضيات الكتاب والسنة في عمارة الأرض، ووفق المنهج الرباني لا بأي منهج
سواه، وحين يتحقق الوعي التاريخي؛ لا في صورة ذهنية تجريدية، ولكن في
صورة وعي لواقع الأمة يكون هذا عوناً كبيراً للإنسان الراشد يوجهه إلى السلوك
الناضج المستقيم الذي يتحقق به الوجود الأعلى للإنسان الذي يمثل الرشد البشري
في أعلى حالاته.
إن الإسلام يعطي العقل مكانه اللائق به بلا إفراط ولا تفريط؛ فالرؤية
الإسلامية لا تغالي في تقدير قيمة العقل فتقحمه فيما ليس من شؤونه، أو تجعله
المرجع الأخير لكل شيء حتى الوحي الرباني، ولا هي تبخسه قدره فتمنعه من
مزاولة نشاطه في ميادينه الطبيعية التي يصلح لها ويحسن العمل فيها.
فتكل إلى العقل مهام خطيرة وواسعة: تكل إليه مهمة حراسة الوحي الرباني
الذي تكفل الله بحفظه من كل تأويل فاسد مضل، وحراسة أحكام الله من الانحراف
بها عن مقاصد الشريعة، وحراسة المجتمع من الآفات الاجتماعية والسياسية
والفكرية والخُلقية التي تؤدي إلى تدميره، كما تكل إليه مهمة التقدم العلمي والبحث
وعمارة الأرض، ولكنها لا تكل إليه ولا تسمح له أن يحيد عن الوحي الرباني
والمنهج الرباني، ولا يجتهد من عنده بما لا يأذن به الله؛ لأنه عندئذ يجانب
الصواب، وتلك هي الرؤية المتوازنة حيال ما يمكن أن يطلق عليه: عقلانية
الإسلام.(122/109)
منتدى القراء
وبكل دار مأتم وعويل
بقلم: وائل محمد
ما للقوافي وقعهن هزيل ... والشعر أجهش بالبكاء يقولُ:
ما عاد معنى للجمال يعنّ لي ... أو بات أصلاً في الحياة جميل
في كل أرض صرخة ومناحة ... وبكل دار مأتم وعويل
في أرض بوسنة أو فلسطين التي ... فيها لأبطال الحجارة جيل
في أرض أفغان الأبية محنة ... كم دق فيها للقتال طبول
في أرض مورو في جزائر ديننا ... في كل قطر لليهود سبيل
يا للمآسي قد تتابع نزفها ... في كل قطر خطبهن جليل
من للحرائر دنست أعراضها؟ ... نفسي الفداء أما لهن وصول؟ ؟(122/108)
منتدى القراء
بانت سعاد
بقلم: عيسى علي آل خماش
يا أيها الشجنُ الغادي إلى هدفٍ ... تقسمته البراري والعراقيل
يقضى علينا بأسباب نحبذها ... كأنها فوقنا طيرٌ أبابيل
قل للشباب لنا دِين يصيحُ بنا ... حتامَ يشغلنا فنٌ وتمثيل؟
ويمكرون وعين الله شاهدة ... يملي وليس لوعد الله تبديل
هناك تسمع للأبطال جلجلة ... ويستحثك تكبير وتهليل(122/109)
الورقة الأخيرة
هنا (واق الواق)
خالد أبو الفتوح
هل تسمعني سيد مشتاق؟ .... . سيد مشتاق! .. يبدو أن الخط قد انقطع مع
السيد مشتاق.. معنا على الخط الآخر السيد محظوظ ... (وبعد الحديث مع السيد
محظوظ يتم العثور على السيد مشتاق، فيستكمل حديثه الذي كان سوء الخطوط
الهاتفية قد قطعه عليه، ويظن الرجل (المحنّك) أنه أمام فرصة ثمينة للتعبير عن
رأيه بصراحة من خلال منبر إعلامي (حر) ، ولكنه يفاجأ بالصوت نفسه يقاطعه
عند أهم نقطة يود توضيحها: (سيد مشتاق.. وقت البرنامج لا يسمح.. نحن
مضطرون إلى التحوّل الآن إلى ضيفنا في الاستوديو دكتور نبهان ... ) .
هذا أحد المقاطع المتكررة بصورة ملفتة للنظر من القسم العربي بإحدى
إذاعات (واق الواق!) الغربية وطيوفها المسماة بالمحطات الفضائية، بل بعض
الإذاعات العربية! وكلها تدعي تبنيها مبدأ الإعلام الحر؛ ولكن الحقيقة أنها تسهم
بشكل فعّال في تكوين الرأي العام، بممارسة توجيه إعلامي مركّز ولكنه مغلّف
بتعدد الآراء، بل تسهم في التأثير على صناعة القرار، وذلك من خلال:
1- اختيار الشخصيات التي يتم التحاور معها بصورة تجعل الحوار في دائرة
معينة، ويرسم لكل منهم دوره (المتشدد أو المعتدل أو اللين) الذي يؤديه في هذه
الدائرة واعياً بذلك أو غير واعٍ.
2- انتقاء الموضوعات المثارة بدقة، مع عرض بعض الحقائق، بحيث تخدم
التوجه الذي تريده الإذاعة دون أن تفقد مصداقيتها لدى المستمع.
3- وضع إطار محكم للموضوع الذي يتم نقاشه بما يخدم الهدف من البرنامج، ولا يُسمح بالخروج على ذلك الإطار.
4- دفع الحوار أو التقارير في مسار محدد يسيطر عليه المذيع أو مخرج
البرنامج.
5- منع أي محاور من تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة أو عرض وجهة
نظر غير مرغوبة، وذلك من خلال: المقاطعة عند نقطة التجاوز وتحويل الحوار
إلى شخص آخر.. وتغيير مجرى الحديث إلى موضوع آخر بطرح سؤال يشتت
انتباه المتحدث وتركيزه.. والعودة بكلام المتحدث إلى نقطة معينة مع التذكير بأن
هذا هو محور الحديث الذي لا ينبغي الخروج عنه.. وكثيراً ما تظهر (كرامات)
الخطوط الهاتفية التي تنقطع فجأة أو تشوش في لحظة حاسمة، كما تضيف
المحطات الفضائية إلى هذه (الكرامات) الإعلانات التي تتدخل في اللحظة المناسبة! .
6- إذا كان الأستاذ (مشتاق) مسؤولاً فإنه يُعمَد إلى توجيه أسئلة إليه تعمل
على إحراجه أو استفزازه أو تأليبه على جهة بعينها.
إلى بعض المصابين بداء التلقي من الغرب والثقة العمياء فيه نسوق إحدى
الشهادات من مؤرخ بلجيكي الأصل والجنسية أخذ على عاتقه نشر الحقائق التي
تفضح الزيف الذي دأب الغرب على ترويجه، يقول (سيجفريد فيربيكا) في لقاء مع
جريدة البيان الإماراتية (27/7/1997م) : (الحقيقة هي أن غالبية وسائل الإعلام
الأوروبية تقع تحت سيطرة (لوبي صهيوني اقتصادي سياسي قوي) ذي نفوذ لا
أستطيع إنكاره، وهذا اللوبي له مصالح تختلف مع الحقائق؛ لذلك فسرعان ما تتهم
مختلف وسائل الإعلام التي ذكرتها الباحثين والدارسين والمؤرخين الحياديين لحقائق
التاريخ بالكذب، وتصل لوصفهم بالتطرف والإرهاب في حالة إعلانهم لتفاصيل
وشواهد تثبت وجهة نظر مخالفة لهم أو تظهر حقائق تكشف أكاذيبهم ... لذا فإن
الإعلام الغربي يتهم ويهاجم أهل الفكر والتاريخ من بني جنسه عندما يحيدون عن
الخطوط المرسومة لسياسة بلاده الداخلية والخارجية.
وأضاف (سيجفريد فيربيكا) : لا تستغرب إذا قلت لك بأن إعلام غرب
أوروبا بصفة خاصة موجه من قبل حكوماته، وللأسف الشديد: إن الاعتقاد السائد
في كثير من دول العالم بأن منطقتنا ديمقراطية وبها حريات في التعبير عن الرأي
هي الأخرى أكذوبة كبرى) .
أيها السادة.. ألا ترون معي أننا سئمنا من استغفالنا بهذه الطريقة المكشوفة
وأن العبقرية الإعلامية الصهيونية في حاجة إلى طريقة جديدة تخادعنا بها؟ !(122/111)
ذو القعدة - 1418هـ
مارس - 1998م
(السنة: 12)(123/)
كلمة صغيرة
رأي نعتز به
مجلة البيان ولله الحمد منذ بدايتها صوت من أصوات أهل السنة والجماعة
تنطلق من منهجهم، وتدعو الجميع لمبادئهم والسير في ركابهم، وهي بفضل من
الله تعالى محل ثناء وتقدير العلماء والدعاة الأبرار؛ وإن لم تسلم من تسلط بعض
المثبطين و (المصنفين) رجماً بالغيب بهدف الإساءة بمناسبة وبغير مناسبة، بجهل
أو تجاهل، ولهذه الفئة المحدودة نقول: (الموعد الله) .
ولقد أسعدنا وأثلج صدورنا تقريظ (محدِّث العصر) العلامة الجليل الشيخ
ناصر الدين الألباني حينما سئل عن مجلة البيان، فقال: (مجلة البيان التي تصدر
من بريطانيا جيدة، وهي تصلني بحمد الله، وأنا مطلع عليها، واتجاهها لا غبار
عليه فيما علمت) .
ونحن إذ نقدر هذا الموقف الموضوعي من فضيلته تجاه البيان نرجو الله له
طول العمر وحسن العمل، وأن يعينه لإنجاز الموسوعات والمصنفات الحديثية
الكثيرة، وأن ينفع الله بجهوده المباركة في خدمة السنة؛ وهو الذي لم يصل إلى
درجته في هذا المضمار أحد من المعاصرين فيما نحسب.
ويسعدنا في الوقت نفسه أن تصل البيان إلى علماء الأمة ودعاتها، وهم
يقتطعون جزءاً من وقتهم الثمين المزدحم بأعباء الدعوة والتعليم ليطلعوا عليها
ويقوِّموها.
ولا شك في أن هذا الموقف الموضوعي لفضيلة الشيخ يضاف إلى التشجيع
الذي نتلقاه من كُتّابنا وقرائنا، فيزيدنا ثباتاً على المنهج، ويدفعنا إلى التطوير إلى
الأفضل في الشكل والمضمون بما سيُسَرّ له قراؤنا قريباً إن شاء الله.(123/1)
افتتاحية العدد
الحوار المفروض ... والحوار المرفوض
التحرير
الحوار.. التفاوض.. المباحثات ... المداولات من أجل إتمام عملية السلام.. أو استتئنافها.. أو إنقاذ عملية السلام! أصبح كل هذا فرضاً لازماً وأمراً جازماً
على من يمثلون العرب والمسلمين. فعبر سنوات، ومنذ أن أطلق الشيطان المريد
(قطار مدريد) ، ظل يتعثر على قضبانه المعوجّة، فيضل تارة عن محطاته، أو
يفقد إحدى عجلاته، أو يخرج عن مساراته.. ومع كل هذا.. فلا بد أن يستمر
القطار ليكمل المشوار!
- المستوطنون يُسلّحون، ويُقتِّلون، ويتوسعون ويغتصبون.. لا بأس! لا
بد أن تستمر عملية السلام!
-المصلون أريقت دماؤهم بالعشرات في صلاة الفجر داخل المسجد
الإبراهيمي وعلى عتبات المسجد الأقصى ... لا ضير.. فلتستمر عملية السلام! !
- قنابل عناقيد الحقد والغضب تحصد الأبرياء داخل مساكنهم في لبنان ...
ولا يكفي هذا لإيقاف عملية السلام!
- يموت رابين ويجيء النتن بنيامين، فيوسع الاستيطان، ويتوعد الجيران
لتحقيق خطط التهديد والتهويد، ويخطط لإعادة احتلال الضفة والقطاع ... ولا مفر
من ركوب القطار واستئناف المسار، مهما كانت الأخطار!
وإذا سألت القاصي والداني: مَنْ أولئك الذين يحرص العرب كل الحرص
على استمرار الحوار معهم؟ فلن يختلف معك أحد في أن هؤلاء هم أعداء الماضي
والحاضر والمستقبل اليهود خصمنا التاريخي وعدونا التقليدي، الطامع في أرضنا
وعرضنا، والطامح في إخضاعنا وإذلالنا! !
ومع اتفاق العقلاء على ذلك، فيا ويل من يجرؤ على المناقشة العلنية
لمشروعية هذا الحوار المهين معهم؛ إنّ من يجرؤ على ذلك لن يسلم من الاتهام
بالخروج عن (النص) و (الإجماع) العربي، ومخالفة (الاجتهاد) و (القياس)
السياسي!
إن المرء يكاد يجزم وهو يرى كل هذا أن قطار السلام ذاك، قد حُدِّدت
محطته النهائية بعناية، فلن يتم السماح بأن يصيبه عطل أو تعطيل مهما كانت
الظروف والأسباب إلى أن يصل إلى غايته المرسومة، ويفرِغ بضاعته المشؤومة!
ونظن أنه حتى لو قامت الحرب، فسوف تنتهي (العمليات الحربية) بعد أن
تحقق أهدافها بالدعوة إلى استئناف (العملية السلمية) حتى ولو ماتت القضية ...
فيكفي أن تبقى (روح السلام) حية! !
ما هو الحوار المرفوض؟
وسنترك إلى حينٍ الحوارَ المفروض مع اليهود أعداء السلام إلى الحوار
المرفوض مع دعاة الإسلام ...
ماذا سنرى على الجهة الأخرى؟ سنرى إصراراً موازياً وتصميماً محاذياً، لا
لتدشين الحوار ودفعه، بل لتكفينه ودفنه!
فكم من دعوة للحوار قد رفعها الإسلاميون في أكثر من بلد إسلامي، فكانت
الإجابة عدم الاستجابة ... لماذا؟ ! تقول الأنظمة الرافضة للحوار إذا سئلت عن
سبب الرفض: (مع مَنْ نتحاور) ؟ وكأنهم لا يرون في كل شرائح العاملين للإسلام
من هو أهل للمحاورة! !
وقد أصبحت هذه إجابة تقليدية لا يسأمون من تردادها: (نتحاور مع من) ؟ !
فيجيب عقلاء الناس: تتحاورون مع مواطنيكم.. مع رعاياكم.. مع من يفترض
أنكم تشتركون معهم في الدين واللغة والوطن والتاريخ والمصير.. و.. فتأتي
الإجابة دائماً: لن نتحاور مع (الإرهاب) ولا مع من حمل السلاح!
حسناً ... نجيبكم متسائلين: من الذي لجأ أولاً إلى حمل السلاح ثم ألجأ الناس
إلى حمله؟
ثم ماذا عمن لم يحملوا سلاحاً ولم يمارسوا إرهاباً، لماذا يشملهم القرار بحظر
الحوار؟
لقد دعا حزب الرفاه في تركيا العلمانيين مدنيين وعسكريين إلى قبول الحوار
من أجل مصلحة البلاد ... فأبوا إلا الاستعلاء على هذه الدعوة، معتبرين
الإسلاميين من مخلفات الماضي الذي لا يتحملون رؤيته، ولا يطيقون السماع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
عنه ... مع أن هؤلاء الرافضين المتعالين المتكبرين، هم هم، بشحومهم ولحومهم ودمائهم الذين يتكففون الرحمة، ويستجدون الشفقة من الأسياد في مجلس ... التعاون الأوروبي، لاهثين وراء قبول العضوية، ولو في المقاعد الخلفية في ... السوق المشتركة الأوروبية!
وها هي (محكمتهم الدستورية) ! ! تحل (حزب الرفاه) وتجرد (أربكان)
وخمسة نواب من حقوقهم السياسية؛ ومع إمكانية (الاستئناف) إلا أن البوادر غير
مطمئنة لنتيجة إيجابية. لكن مهما كانت مواقف أذناب أتاتورك فلن يستطيعوا أن
يمحوا الإسلام من أفئدة الشعب التركي المسلم الذي عرف حقيقة هؤلاء العلمانيين
المتطرفين، وليعلم الجميع حقيقة العلمانية في بلداننا وماهيتها في أوطاننا المبتلاة
بها!
وفي الجزائر أطلقت الجبهة الإسلامية للإنقاذ وهي المجني عليها بشهادة
المنصفين أطلقت مبادرة سلمية تدعو للتحاور مع السلطة من أجل وضع حد للأزمة
الدموية في البلاد التي أغرقها فيها العسكريون العلمانيون ... فيجيء الرد المبرم ...
لا حوار معكم فأنتم إرهابيون، ومع أن رائحة تورط السلطة في عمليات الإرهاب
هناك باتت تزكم الأنوف، حتى إن العالم بدأ يطالب بتحقيق (جاد) في المذابح التي
تجري هناك وسط جو رهيب مريب!
وفي مصر، انطلقت من داخل السجون دعوة للحوار، وأصدر القادة القدماء
للجماعات الإسلامية بياناً يدعو لوقف العنف وإلقاء السلاح وبدء الحوار بحياد
وموضوعية. ومع أن الداعين لا يزالون في قيودهم، والمدعوين طلقاء في كامل
حرياتهم وقوتهم، إلا أن الحوار رُفض بشكل حاسم بالرغم من أن هذه الدعوة
تكررت أكثر من ثلاث مرات خلال السنوات والأشهر الماضية.
وهذه الدعوات التي أطلقها الإسلاميون في هذه البلدان، هي على الأقل ما
سمعنا به وما أعلن عنه من دعوات للحوار، وإلا فإن الظاهر أن هناك دعوات
أخرى تتكرر هنا وهناك في أنحاء العالم الإسلامي، ولكنها تقابَل بالرد، وتجابَه
بالرفض.
إننا لا نجد إجابة عند من يفتحون مصاريع الحوار مع اليهود عن سبب ذلك
الإعراض والصدود عن محاورة المنتسبين للإسلام، سواء أكانوا مسلحين أو
مسالمين.. متشددين أو معتدلين.
وحتى عندما تواضعت بعض الأنظمة ووافقت على الحوار، اشترطت أن
يكون داخل السجون! ! وذلك حتى يؤتي الحوار ما يريدونه من ثمار، وهي مزيد
من المفتونين الذين يُطلق عليهم وصف: (التائبين) !
وعَوْداً إلى الحوار المفروض مع اليهود ... لقد أخذ هذا الحوار بُعداً جديداً،
وذلك بفتح قنوات أخرى من (الحوار) معهم، ليست سياسية هذه المرة، ولكنها
دينية، وذلك بعد الزيارة التي دُعي إليها الحاخام الأكبر لليهود الغربيين (إسرائيل
لاو) فلبى الدعوة الرسمية، وزار الأزهر والتقى بشيخه.... . لماذا؟ للحوار..!! الحوار في ماذا؟ ... في الدين! ! !
هكذا قال المدافعون عن الزيارة، يقولون إنها محاورة في الدين، والإسلام
يدعو إلى التحاور مع كل أصناف الكفار والكتابيين لدعوتهم إلى الإسلام!
نقول لهؤلاء: وهل جاء الحِبْر الخبيث للتحاور في الدين؟ هل جاء مستفهماً؟ هل جاء مستهدياً؟ أو حتى مجادلاً ومناظراً في مسائل تتعلق بالدين؟ أم جاء
ليصطاد في الماء العكر، وليستصدر إعلاناً مشتركاً بإدانة ما أسماه (الإرهاب) ؟ !
نعم: إدانة الإرهاب، وماذا يعني مصطلح الإرهاب لدى اليهود؟ إننا نعرف، وهو
يعرف، والأزهر يعرف؛ ولذلك فقد رفض شيخ الأزهر أن يوقع معه وثيقة الإدانة، وهذا شيء طيب، ولكن الأطيب والأسلم والأشرف كان يتمثل في رفض الحوار
ابتداءً مع شيطان في صورة إنسان، كان مسؤولاً مع غيره من أمثاله في إصدار
الفتاوى لليهود في إباحة كل ما يفعلون من جرائم بحق العرب والمسلمين كانت وما
زالت.
إن هذا الرفض لو تم لكان منسجماً على الأقل مع مبدأ الرفض التقليدي
للتحاور مع (الإرهاب) ... ولكن المشكلة بالفعل تكمن في أن الحوار منه ما هو
مفروض، ومنه ما هو مرفوض! وتلك هي المأساة.
والله المستعان(123/4)
في إشراقة آية
[ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة]
بقلم: د. عدنان علي رضا النحوي
[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] [النحل: 125] ...
يطلق كثير من المسلمين هذه الآية الكريمة حجّة لهم في موقع غير موقعها
ليسوّغوا عجزاً أو تنازلاً أو عدم تقدير حقيقي لعظمة هذه الآية الكريمة وشدّة
ارتباطها مع كامل منهاج الله في تناسق وإعجاز مع يُسْر للناس في فهمها وتدبّرها.
إن الآية الكريمة تمثّل حقّاً مطلقاً جاء من عند الله وحياً على نبينا محمد -
صلى الله عليه وسلم-. وستظل هذه الآية الكريمة غنيّة الممارسة والتطبيق في كل
واقع بشري. ولنفهمَ الآية الكريمة ونتدبرها يجب أن نفهم القضيّة التي تعالجها.
إن الآية تبتدئ بعرض القضية والموضوع: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ... ]
هذه هي القضية التي تتحدث عنها هذه الآية الكريمة متناسقة مع جميع الآيات
الأخرى في القرآن الكريم، الآيات التي تتحدث عن هذه القضية وأساليبها ووسائلها. إنها قضية الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الله ورسوله، إلى دين الله الحق
الإسلام لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ومن عبادة العباد
والأوثان والأهواء إلى عبادة الله الذي لا إله إلا هو.
إن هذه القضية تمثل القضية الكبرى في الكون والحياة، القضيّة التي من
أجلها بعث الله الرسل والأنبياء الذين خُتموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-،
وبالقرآن الكريم الذي جاء مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه. إنها تمثل
الهدف الرّبانيّ الثابت الأول في حياة المسلم وفي مسيرة الدعوة الإسلامية. ومن
أجل هذه القضيّة تقوم الدعوة الإسلامية في الأرض لإنقاذ الناس من عذاب الدار
الآخرة لمن يموت على الشرك أو الكفر، ولإنقاذ الناس من فتنة الدنيا.
القضية التي تدور حولها الآية والآيات التي قبلها وبعدها هي قضية دعوة
الناس إلى الإيمان والتوحيد. ومن أجل هذا الهدف العظيم تتحدّد علاقة المسلم بسائر
الناس على ضوء قواعد ربّانية يفصّلها منهاج الله.
إن التوجيه في هذه الآية للداعية العامل، الداعية المجاهد الذي عرف دربه
وهدفه، وعرف عهده مع الله ليكون الحافز الدائم ليمضي على الدرب يبلّغ رسالة
الله.
فمن أجل ذلك جاء التوجيه الرباني: [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] هذه هي
القاعدة الأولى الهامة: أن تكون الدعوة بالحكمة أولاً، باختيار الأسلوب الأمثل
المليء بالحكمة لتبلغه رسالة الله واضحة جليّة دون مواربة ولا تنازلات ولا
مساومات. لا يحلّ للداعية المسلم أن يغيّر أو يبدّل في دين الله، وفي الأساليب
التي بيّنها منهاج الله، ثم يقول: إن هذا التغيير أو التنازل هو من باب الحكمة.
والحكمة هي في بعض الآيات تعني ما أنزل من عند الله، وفي آيات أخرى
تجمع معانيها بأنها: فقه الموهبة المؤمنة والمسؤولية والأمانة.
وهنا يحاول بعض المسلمين أن يقرّب الإسلام من العَلمانية مدّعياً أن تقريبهما
هو من باب الحكمة، أو ضرورات الواقع، أو المصلحة العامة التي يتوهمها.
إن أسلوب الحكمة نستطيع أن نفهمه من كتاب الله نفسه، ومن هذه الآية
الكريمة بقوله سبحانه وتعالى: [وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] والموعظة هي أن تبيّن لهم
عظمة الإسلام والإيمان وقوة ثباتك أيها الداعية المسلم عليه. الموعظة الحسنة هي: الوضوح في الكلمة المؤمنة الطيبة، والصدق فيها، حتى لا يكون هناك مجال
لسوء الفهم أو التغرير. إنها تتأكد بقوله سبحانه وتعالى: [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ... ] [البقرة: 83] ، وبقوله سبحانه وتعالى: [وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا
إلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ] [الحج: 24]
ويجمع الله سبحانه وتعالى معاني [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً] ، [الطَّيِّبِ مِنَ
القَوْلِ] ، [وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] ، [صِرَاطِ الحَمِيدِ] ، وغير ذلك من الآيات
الكريمة، بقول جامع في آية جامعة: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ
صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) .
إنها آية جامعة لكل ما سبق، مفصِّلةٌ لمعنى: [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ]
وغير ذلك مما ذكرناه أعلاه. إنها تجمع ذلك في ثلاث قضايا أو خطوات:
أولاً: [دَعَا إلَى اللَّهِ] : أن تكون الدعوة إلى الله هي جوهر العلاقة دون
تغيير ولا تبديل، ودون تمويه ولا مماراة، ودون ضعف أو تردد.
ثانياً: [وَعَمِلَ صَالِحاً] ، حتى يرى الناس أن قولك مطابق لعملك، وأنك
ملتزم بما تقتضيه دعوة الناس إلى الله: كلمة ونهجاً وتطبيقاً، ليروا الإسلام ليس
في الكلمات ولكن ليروه في واقع الحياة حيّاً ناطقاً بالحق.
ثالثاً: [وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] إنه الوضوح والجلاء وإعلان الهُويّة لمن
تدعوه، حتى يطمئنّ إلى صدقك واستقامتك، وأنك تعلن الحق ولا تتنازل عن شيء
منه أبداً، وترفض الباطل ولا تقبل منه شيئاً.
إن اللحظة التي يتنازل فيها الداعية عن شيء من الحق، أو يقبل فيها شيئاً
من الباطل، تكون دعوته قد انتهت وسقطت وخسر الموقف كله، وفتح الباب
لشياطين الإنس والجنّ أن تلج وتتسلل، ثم تمتد وتقوى، وإذا الداعية المسلم أصبح
يدعو بدعوة هؤلاء تحت شعار الحكمة إذا به يدعو إلى الحداثة أو العلمانية أو
الديمقراطية أو الاشتراكية، كل ذلك بدعوى الحكمة والموعظة الحسنة.
الأمثلة على ذلك كثيرة: داعية مسلم يدعو في قلب أمريكا إلى الديمقراطية،
وداعية مسلم ينتقل من بلد إلى بلد، يبذل جهده وماله ووقته ليبيّن للناس فضائل
الديمقراطية؟ لأنها المثل الذي يحتذى) ، ولا يتطرّق إلى الإسلام ودعوته، وداعية
ينتقل ليبيّن للناس أنه لا خلاف بين مقصود الشريعة الإسلامية والعلمانية) ،
وداعية مسلم يحتضن الاشتراكيين، ويقبل بعض مناهجهم المنحرفة، فإذا هو
داعية اشتراكي. أو يحتضن الحداثيين، ويتنازل لهم ويسكت عن بعض مناهجهم
المنحرفة، فإذا هو راضٍ عنها أو داعية لها؛ ذلك لأنّ الشيطان يُزيّن للإنسان سوء
عمله حتى يراه حسناً دون أن يشعر أنه مخطئ. إنه أمر طبيعي! إن الحق يرفض
أن يُتنازَل عنه أو عن شيء منه أو أن يتجزّأ؛ لأنه عزيز قوي من عند الله، وإن
الحق يرفض أن يُشرَك معه باطل؛ لأن الحق من عند الله والباطل من الشيطان
وأعدائه.
ليس أمام الداعية المسلم إلا سبيل واحدةٌ: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108]
نعم: [أَدْعُو إلَى اللَّهِ] ! وليس إلى غيره. أبلّغ رسالة الله إلى الناس. نعم: [عَلَى بَصِيرَةٍ] ! على إيمان ويقين، ونهج واضح ودرب جليٍّ، وأهداف
مشرقة لا انحراف عنها!
[أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] ! فالمؤمنون أمة واحدة تمضي على سبيل واحدة إلى
أهداف واحدة، تنزيهاً لله دون شرك أبداً.
إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أبداً أن لا تدعو إلى الله، أو أن
تعطّل الدعوة إلى الله بالانشغال عنها بما هو أقل منها شأناً عند الله، أو تُفرِّق
الدعوة أجزاءً غير مترابطة لا تكوّن نهجاً متصلاً ولا سبيلاً ممتداً: [قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي] ! فالأمر من الله جَليّ حاسم: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ] ! بلّغ رسالة الله إلى
الناس!
إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن تدعو إلى شيء من دون الله، ولا إلى أمر من دون الله؛ فقد جاء النهي من الله عن ذلك جليّاً حاسماً: [وَلا
تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإن فَعَلْتَ فَإنَّكَ إذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ]
[يونس:106] ...
[وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً] [الجن: 18] .
[قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً] [الجن: 20] .
إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن لا تبلّغ رسالة الله كاملة، كما
أنزلتْ من عند الله، أو أن تخفي منها شيئاً، مداراة لوهم قذفه الشيطان في نفسك،
أو ظنّاً منك أنك بإخفاء شيء من رسالة الله أو تحويره تبلغ هدفك؛ فالله أعلم، ولقد
جاء أمره جليّاً حاسماً:
[يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ] [المائدة: 67] .
[وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ
نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ
وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً] [الكهف: 29]
إنك أيها الداعية المسلم إن أخفيت شيئاً خسرت أمرين: خسرت احترام مَنْ
تدعوه؛ لأنه يعرف دينك الذي لا يؤمن هو به، ويعرف أنك غيّرت وبدّلت،
وخسرت رضاء الله وعونه ونصره؛ فما النصر إلا من عند الله.
إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن تخالف أمر الله وما أوحى به
إلى عبده ورسوله محمد، أن تخالف ذلك إلى هواك واجتهادك البشري على غير
أساس من دين؛ فلقد جاء أمر الله جليّاً حاسماً: [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى
يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] [يونس: 109] .
[فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ
عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ] (هود: 12) .
ليس من الحكمة أن نُصَوِّر الإسلام أنه دين المسالمة والمساومة والتنازلات كي
نركن إلى من لا يؤمن بالله، أو انحراف عن دين الله، أو ربما إلى غير الله، أو
افترى على الله كذباً وادّعى باطلاً، أو أخفى وبدل وغير. ولا هو من الحكمة أن
نخفي ما فرضه الله نصّاً صريحاً في الكتاب والسنة من عدم موالاة المشركين
والكافرين والمنافقين، أو نخفي ما أمر الله به من جهاد في سبيل الله. ليس من
الحكمة أن نخفي ما بيّنه الله للناس، ولا أن نركن إلى الظالمين، فقد جاء الأمر من
عند الله جليّاً حاسماً في كل ذلك، وأمر المؤمنين بالصبر على ما يلقونه في سبيل
الله: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا
تُنصَرُونَ] (هود: 112-113) .
وكذلك فإنه ليس من الحكمة أن نتهم الإسلام بأنّه دين العدوان والظلم،
بادعاء باطل يقوم على تأويل فاسد للجهاد في سبيل الله، لنسوّغ الجريمة في
الأرض، ونخفي أن الإسلام دين الحقِّ والعدل، ودين الرحمة والعزّة والقوة، وأن
الحقّ والعدلَ والرحمة والعزّة لا تتحقّق في الأرضِ إلا بالجهاد في سبيل الله.
إن أساس الحكمة والموعظة الحسنة أن نبلّغ رسالة الله كما أُنزلتْ على محمد، لا نخفي شيئاً ولا نبدّل ولا نغيّر؛ ذلك لأن الموازنة في كتاب الله معجزة كلّ
الإعجاز، لا نستطيع بلوغها إلا باتباعها، ولا نستطيع بلوغها إذا لم نبلّغ الإسلام
بتكامله ووضوحه، أو إذا بلّغنا جزءاً أو حذفنا جزءاً، أو إذا قبلنا باطلاً؛ فذلك ما
يسعى إليه المجرمون في الأرض منذ عهد النبوة الخاتمة؛ ليفتنوا المؤمنين عما
أوحي إلى محمد: [وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ
وَإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إذاً
لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً] ...
[الإسراء: 73-75] .
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أََنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ]
[البقرة: 159]
وكذلك: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أََبْنَاءهُمْ وَإنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ]
[البقرة: 146-147] .
إذن نستطيع أن نفهم ما هي الحكمة والموعظة الحسنة في طريق الدعوة إلى
الله من كتاب الله ومن سنة نبيه محمد. ولقد أتينا بقبسات فقط؛ لأننا لا نستطيع أن
نعرض هنا كل ما جاء في منهاج الله، فلا بد للمسلم أن يعود إلى منهاج الله عودة
صادقة ليرى الصورة الجليّة بتكاملها وترابطها وتناسقها.
ثم يأتي الأمر الثاني من عند الله: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ! نعم!
يجب مجادلتهم بالتي هي أحسن؛ ذلك والمسلم الداعية قائم بالدعوة إلى الله، يبلغ
رسالة الله بتكاملها، يعرض الحق لا يتنازل عن شيء منه أبداً، ويرفض الباطل
ولا يقبل منه شيئاً أبداً. إذن، وهو في طريق الدعوة، يدعو ويبلغ، قد يضطر
إلى المجادلة، ليعرض حجّته بأسلوب مشرق صادق واضح مقنع.
الأسلوب الحسن في الجدال نفهمه كذلك من كتاب الله وسنة نبيّه، كما بيّنا قبل
قليل. الأسلوب الحسن هو الوضوح والجلاء، والصدق والبيان، والحجّة القوية
المقنعة، تعرض الحقّ وترفض الباطل، وليطابق القول العمل، وذلك كله بأدب
وخلق، بالكلمة الطيّبة، والعمل الصالح.
ويعلمنا القرآن الكريم جميع جوانب [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ، وحدودَها
وأسلوبَها، وبصورة عملية جليّة. فلنأخذ قبسات من ذلك: [وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ
إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] [العنكبوت: 46]
هذه هي الحدود: [إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ] والظالمون هم الذين يدعون إلى
باطل ويصرّون عليه، والذين يعتدون ويظلمون الناس. والكافرون والمنافقون:
الذين يفسدون في الأرض.
وهذا هو الأسلوب الأحسن: [وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا
وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] إنه الصدق والحق والوضوح، بأدب عالٍ وبيان
وخلق. ليس الأسلوب الأحسن أن نقول إننا علمانيون، أو أن علمانيتكم قريبة من
ديننا، ولا أن ديمقراطيتكم هي من الإسلام، والحداثة من الإسلام، والاشتراكية من
الإسلام، وعدِّد ما شئت، ثم تقول إن ذلك كله من الإسلام! ولو فعلنا ذلك لما
عرفَ الناس عندئذ ما هو الإسلام في وسط هذا الخليط المضطرب، ولا ما هي
حقيقته!
وانظر كيف يعلمنا الله ممارسة الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن:
[الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ * إنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ وَإنَّ
اللَّهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] [آل عمران: 60 - 62] .
فهل هنالك أبلغ من هذا الدرس العظيم، إلا أن يكون درساً آخر من كتاب الله، فاستمع إلى درس ثانٍ في قوله سبحانه وتعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] . [آل عمران: 64]
وضوح وجلاء، وقول فصل حاسم، بأعلى درجات الخلق والقول الحسن
والحكمة والموعظة الحسنة والجدال الحسن، واستمع أيضاً إلى أدب الجدال الحسن
في صورة تطبيقية عملية:
[يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلاَّ مِنْ
بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم
بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ
حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ] . [آل عمران: 65- 68]
وضوح وجلاء، قول فصل حاسم، حجّة بالغة تخاطب النفس والعقل، لتبلِّغ
الحقّ لا باطل معه ولا شوائب. موقف حاسم لا مساومة فيه ولا محاولة لتقريب
الحق من الباطل أو الباطل من الحق؛ إذ لا لقاء بينهما أبداً.
واستمع إلى هذه الآيات الكريمة تعرض لنا الحكمة والموعظة الحسنة والقول
الحاسم عندما ينتهي دور الجدل والجدال:
[قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ
مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن
شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا
وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] [الممتحنة: 4، 5]
مواقف كثيرة نتعلم منها من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-،
كيف يجب أن نمضي في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الحقيقة الكبرى في
الكون والحياة، إلى الله ورسوله، وكيف تكون الحكمة والموعظة الحسنة والجدال
بالتي هي أحسن.
إن هذه القواعد الربانيّة يجب التزامها لتكون نهجاً متصلاً واعياً في حياة
المؤمن الداعية، سواء أكان يدعو كافراً ومشركاً، أو أحداً من أهل الكتاب، أو
رجلاً منتسباً إلى الإسلام فيه انحراف وضلالة في بعض جوانب فكره كما يبدو
للناس. لا بدّ من الوضوح والجلاء والقول الحاسم والحجة البالغة المقنعة، ولا بد
للداعية أن يلتزم هو أولاً ما يدعو إليه، ليكون قوله مطابقاً لموقفه وعمله.
لقد كشف واقعنا بالأمثلة الحيّة الواقعيّة أن أيّ تنازل من الداعية عما يؤمن به، وقبوله ببعض ما يرفضه مداراة للطرف الآخر، بدعوى أنه قبول مرحليّ وتنازل
مرحلي، حتى يتألف القلوب، إن أي تنازل مثل هذا فتح ثغرات واسعة في صفّ
المسلمين، تسلل منها الطرف الآخر بدعوته ورسالته، فإذا المسلم الذي كان يرفض ... الحداثة مثلاً، أصبح بعد تنازله يسكت عن أخطاء الحداثة، ثم أصبح يألفها، ثم
أصبح يدعو لها، بعد أن زيّن له الشيطان ذلك بالخطأ أو الانحراف: [أَفَمَن كَانَ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ] [محمد: 14]
[أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن
يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] [فاطر: 8] .
وكذلك كان شأن من تنازل للديمقراطية عن حقائق الإسلام، حتى أصبح
داعية للديمقراطية في كل موطن باسم الإسلام ونسي أمر الله سبحانه وتعالى:
[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ] .
وكذلك صار بعض المسلمين يملؤون الندوات بالدعوة إلى الاشتراكية حين
كانت أيام مواسمها، وكذلك صار بعض الدعاة المسلمين دعاةً إلى العَلمانيّة بصورة
ظاهرة واضحة، في الندوات والمؤتمرات!
والذين أخذوا يُمارُون النصارى ودعاة النصرانية ويُوادّونهم، فَيَسْمعون منهم
دون أن يُسْمعوهم، بحجة الحكمة دون الدعوة إلى الله ورسوله، ودون الموعظة
الحسنة، فما لبث بعضهم أن وجد نفسه يألف ما يدعونه إليه من باطل، ويغيب
عنه الحق الأبلج في الإسلام، ولا يجد حوله من يوقظه أو يعظه، فإذا هو تارك
لدينه، مرتمٍ في شرك وضلالة أهلك نفسه بها.
إنها الخطوة الأولى دائماً، ثم تتلوها الخطوات.
الخطوة الأولى التي يزيّنُها الشيطان هي السكوت عما يؤمن به المسلم الداعية
أو ما يدّعي أنه يؤمن به، السكوت عما يؤمن أنه حق فلا يدعو ولا يبلغ، وإنما
يصمت ويستمع.
وتأتي الخطوة الثانية التي يزينها الشيطان حين يقبل المسلم بعض ما يدعو
إليه الطرف الآخر بحجة الحكمة وتألف القلوب والاحتضان. طرف يعلن رأيه
بوضوح وقوة وتصميم غير عابئ بودّك أيها الداعية المسلم، أو يتظاهر بودك حيناً، وأنت صامت لا تبلِّغ دعوتك ولا رأيك الحق، فماذا تتوقع أن تكون النتيجة؟
كيف تسكت والأمر من عند الله مدوٍّ في الكون كله:
[وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ... ] !
[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ... ] !
أيها المسلمون! قولوا الحق وادعوا إلى سبيل ربكم، وبلغوا رسالة الله إلى
الناس كما أنزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم-، افعلوا ذلك ثم تحدّثوا عن
الحكمة والموعظة الحسنة!(123/8)
دراسات شرعية
أضواء شرعية على..
العلاج بالرقى والقرآن
(2من2)
بقلم: فتحي الجندي
أوضح الكاتب في الحلقة الماضية أن التوسع في مسألة الرقى صاحبه بعض
بدع محدثة وممارسات مخترعة، ثم حذر المسلمين من ضعف التوكل والوقوع في
الأوهام والوساوس، وعرّج على مشروعية التداوي وهدي النبي -صلى الله عليه
وسلم- في التحصين والعلاج فيما يخص موضوعنا، وأخيراً: أخذ في بيان
الوسائل المبتدعة في هذا العلاج.. ويواصل في هذه الحلقة توضيح جوانب أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
رد الاحتجاج بالمجربات استقلالاً:
هذا الكلام مستخرج من كلام شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله، في أن
استجابة الدعاء وقضاء الحاجات من الله عز وجل لا يعني ذلك أن الوسيلة مشروعة؛ فقد يستجيب الله عز وجل مع تعدي العبد في الدعاء، بل مع الشرك الصريح،
وفي هذا ردّ على من يحتج بأن عمله مشروع؛ لأنه ربما دعا فاستجاب الله لدعائه،
أو أنه قد جرّب أمراً فنفعه؛ مما يعني مشروعيته بزعمه. والنقول في ذلك كثيرة
نكتفي ببعضها:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقد يحكى من الحكايات التي فيها
تأثير، مثل: أن رجلاً دعا عندها أي المشاهد فاستجيب له، أو نذر لها إن قضى
الله حاجته فقضيت حاجته، ونحو ذلك. وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام.
فإن القوم كانوا أحياناً يُخاطَبون من الأوثان، وربما تُقضى حوائجهم إذا
قصدوها؛ ولذلك يجري لهم مثل ما يجري لأهل الأبداد [1] من أهل الهند وغيرهم، وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج، والحجر الأسود الذي
شرع الله استلامه وتقبيله، كأنه يمينه، والمساجد التي هي بيوته.
وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس، وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في
أهل الأرض) [2] .
وقال رحمه الله أيضاً: (فكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته في
ذلك الدعاء، وكانت سبب هلاكه في الدنيا والآخرة.
تارة بأن يسأل ما لا تصلح له مسألته، كما فعل بلعام وثعلبة، وكخلق كثير
دعوا بأشياء فحصلت لهم، وكان فيها هلاكهم.
وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله. كما قال سبحانه: [ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] [الأعراف: 55] فهو سبحانه لا يحب
المعتدين في صفة الدعاء، ولا في المسؤول. وإن كانت حاجتهم قد تقضى؛ كأقوام
ناجوا الله في دعواتهم بمناجاة فيها جرأة على الله واعتداء لحدوده، وأُعطوا طلبتهم
فتنة ولما يشاء الله سبحانه. بل أشد من ذلك: ألست ترى السحر والطلّسمات
والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضي الله بها كثيراً من
أغراض النفوس الشريرة؟ ومع هذا فقد قال سبحانه: [وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا
لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونََ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] [البقرة: 102، 103]
فإنهم معترفون بأنه لا ينفع في الآخرة. وأن صاحبه خاسر في الآخرة. وإنما
يتشبثون بمنفعته في الدنيا. وقد قال تعالى: [وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ]
[البقرة: 102] .
وكذلك أنواع من الداعين والسائلين قد يدعون دعاء محرماً يحصل لهم معه
ذلك الغرض، ويورثهم ضرراً أعظم منه. وقد يكون الدعاء مكروهاً ويستجاب له
أيضاً.
ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي، وقد لا يعلمه على وجه لا يعذر فيه
لتقصيره في طلب العلم، أو تركه للحق. وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه، بأن
يكون فيه مجتهداً أو مقلداً، كالمقلد أو المجتهد اللذين يعذران في سائر الأعمال.
وغير المعذور: قد يتجاوز الله عنه في ذلك الدعاء لكثرة حسناته من صِدْقِ
قصده، أو لمحض رحمة الله به، أو نحو ذلك من الأسباب.
فالحاصل: أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهة شرعية بمنزلة سائر
أنواع العبادات.
وقد عُلِمَ أن العبادة المشتملة على وصف مكروه: قد تغفر تلك الكراهة
لصاحبها لاجتهاده أوتقليده، أو حسناته، أو غير ذلك. ثم ذلك لا يمنع أن يعلم أن
ذلك مكروه ينهى عنه، وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه.
ومن هنا يغلط كثير من الناس؛ فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين
عبدوا عبادة، أو دعوا دعاء، وجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء. فيجعلون ذلك
دليلاً على استحسان تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبي. وهذا غلط لما ذكرناه، خصوصاً إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب
فاعله حين الفعل، ثم تفعله الأتباع صورة لا صدقاً فيضرون به؛ لأن هذا العمل
ليس مشروعاً؛ فلا يكون له ثواب المتبعين، ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل الذي
لعله بصدق الطلب وصحة القصد يُكفّر عن الفاعل ...
ومن هذا: أني أعرف رجالاً يستغيثون ببعض الأحياء في شدائد تنزل بهم
فيفرج عنهم؛ وربما يعاينون أموراً، وذلك الحي المستغاث به لم يشعر بذلك، ولا
علم له به البتة. وفيهم من يدعو على أقوام أو يتوجه في إيذاء أولئك. وربما رآه
ضارباً له بسيف، وإن كان الحي لا شعور له بذلك. وإنما ذلك من فعل الله سبحانه
بسبب يكون بين المقصود، وبين الرجل الدافع من اتّباعٍ له، وطاعةٍ فيما يأمره من
طاعة الله ونحو ذلك. فهذا قريب.
وقد يجري لعُبّاد الأصنام أحياناً من هذا الجنس المحرم ما يظنون أنه محبة من
الله بما تفعله الشياطين لأعوانهم. فإذا كان الأثر قد يحصل عقب دعاء من يتيقن أنه
لم يسمع الدعاء، فكيف يتوهم أنه هو الذي تسبب في ذلك، أو أن له فيه فعلاً؟
وإذا قيل إن الله يفعله بذلك السبب.
فإذا كان السبب محرماً لم يجز، كالأمراض التي يحدثها الله عقب أكل السموم، وقد يكون الدعاء المحرم في نفسه دعاء لغير الله، وأن يدعو الله مستشفعاً بغيره
إليه كما تقول النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله، وقد يكون دعاء لله،
لكنه توسل إليه بما لا يحب أن يُتوسل به إليه؛ كما يفعل المشركون الذين يتوسلون
إلى الله بأوثانهم. وقد يكون دعا الله بكلمات لا تصلح أن ينادى بها الله، أو يُدعى
بها؛ لما في ذلك من الاعتداء.
فهذه الأدعية ونحوها وإن كان قد يحصل لصاحبها أحياناً غرضه لكنها محرمة
لما فيها من الفساد الذي يربو على منفعتها، كما تقدم. ولهذا كانت هذه فتنة في حق
من لم يهده الله، وينوِّر قلبه ...
وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة: فعامته إنما تجد اعتقاده عند أهل الجهل
الذين لا يميزون بين الدليل وغيره، ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد؛
وإنما يقع في أهل الظلمات من الكفار والمنافقين أو ذوي الكبائر الذين أظلمت قلوبهم
بالمعاصي، حتى لا يميزون بين الحق والباطل.
وبالجملة: فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب، أو شرط السبب،
في هذا الأمر الحادث، قد يُعلم كثيراً، وقد يُظن كثيراً، وقد يُتوهم كثيراً وهماً ليس
له مستند صحيح، إلا ضعف العقل.
ويكفيك أن كل ما يُظن أنه سبب لحصول المطالب مما حرمته الشريعة من
دعاء أو غيره؛ لا بد فيه من أحد أمرين:
- إما أن لا يكون سبباً صحيحاً: كدعاء من لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني
عنك شيئاً.
- وإما أن يكون ضرره أكثر من نفعه.
فأما ما كان سبباً صحيحاً منفعته أكثر من مضرته، فلا ينهي عنه الشرع
بحال. وكل ما لم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه من
باب المنهي عنه كما تقدم) اهـ[3] .
سادساً: الرقية وضوابطها: تعريف الرقية:
قال ابن منظور في لسان العرب: (الرقية: العوذة، [وهي] معروفة) .
وقال الحافظ ابن حجر: (.. لكن يحتمل أن يقال: الرقي أخص من التعوذ،
وإلا فالخلاف في الرقي مشهور. ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى
والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع) [4] .
قلت: معلوم أنهم كانوا يرقون في الجاهلية برقى كثيرة معروفة لهم ومجربة
عندهم. فعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله عن الرقى فجاء آل عمرو
بن حزم إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من
العقرب، وإنك نهيت عن الرقى؛ قال: فعرضوها عليه، فقال: ما أرى بأساً:
من استطاع منكم أن ينفع أخاه فيلفعل) [5] .
وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: (كنا نرقي في الجاهلية
فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس
بالرقى ما لم يكن فيه شرك) [6] .
وهنا يبرز سؤال: هل الرقى توقيفية أم اجتهادية؟
وهل يدخل الاجتهاد على التوقيفية؟ وما ضوابط ذلك الاجتهاد؟
والجواب: أن النبي لم يصادر ما كان موجوداً من الرقى ولم يسد الباب ابتداء
ليقدم لهم بعد ذلك ما يراه جائزاً من تلك الرقى، ولكنه ترك الباب مفتوحاً ليمارس
المسلمون بأنفسهم عملية التمحيص، وليقبلوا من الرقى ما لم يَحْوِ شركاً أو محرماً،
أو ما يؤدي إلى محرم، كما يُفهم من سائر نصوص الشريعة.
وهنا يجمُل بنا أن نستحضر حديث أبي سعيد في رقية اللديغ بالفاتحة؛ وفيه
قول النبي: (وما أدراك أنها رقية؟) [7] .
قلت: لاحظْ قوله: (وما أدراك أنها رقية؟) فإن هذا يعني أن أبا سعيد
رضي الله عنه قد اجتهد أو نقول: إنه قد وُفّق من الله وفهم أن هذه رقية، وتأكد
ذلك بحصول البرء للديغ، وبإقرار النبي هذا ما كان مع أبي سعيد، أما غيره ممن
لن يقره النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد يخطئ ويصيب، فيجب الرد إلى الكتاب
والسنة لتمحيص ذلك.
هذا وليس بغريب على الله أن يختص بعض خلقه بفهمٍ فوق فهم الآخرين،
ربما لم يكن ليخطر لهم على بال. قال تعالى: [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً
وَعِلْماً] [الأنبياء: 79] .
ولذلك قال النبي: (وما أدراك أنها رقية) [8] .
الرقية والدعاء: هذا وأمر الرقية يشبه الدعاء، فالدعاء بالمأثور وإن كان
أوْلى إلا أن الدعاء بغير المأثور مباح بلا خلاف: ما لم يَحْوِ محرماً، أو يؤدي إلى
محرّم كما جاء في بعض الأحاديث.
فعن أنس أن رجلاً جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس فقال: الحمد لله حمداً
كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته قال:
(أيكم المتكلم بالكلمات؟) فأرمّ القومُ فقال: (أيكم المُتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأساً)
فقال رجلٌ: جئت وقد حفزني النفس فقلتها. فقال: (لقد رأيت اثني عشر ملكاً
يبتدرونها أيهم يرفعها) [9] .
قلت: سكوت هذا الصحابي رضي الله عنه يدل على أنه خشي أن يكون قد
أخطأ بوجهٍ ما في دعائه هذا، وخشي ألا يقرّه النبي.
وهناك نموذج آخر لمن يدعو بما لا يصلح:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً،
ولا ترحم معنا أحداً! فلما سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأعرابي: لقد
تحجّرت واسعاً! يريد رحمة الله [10] .
من أجل هذا نقول: إن الدعاء بغير المأثور وإن كان مباحاً إلا أنه يجب ألا
يشتمل على محرم، وألا يكون ذريعة لمحرم: كهجر الدعاء بالمأثور مثلاً، ولأنه
من باب استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعليه فتحرِّي المأثور أوْلى وأسلم
في الدعاء والرقية على السواء.
الرقى وأنواعها: تنقسم الرقى إلى ثلاثة أنواع:
الأول: حلال: وهي ما كانت مأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو
من جنس المأثورة، ونعني بقولنا: أو من جنس المأثورة: ما يكون من الدعاء
المباح والنفث في اليدين والمسح بهما ونحو ذلك مما ورد في النصوص الصحيحة
دون زيادة أو استحداث هيئة غامضة لا يدرى لها وجه على ما سيأتي.
الثاني: حرام: وهي التي تشتمل على شرك أو طلسم لا يُدرى ما هو، أو
تحتوي على أي محرم بالنص.
الثالث: ما تتباين فيه فتاوى أهل العلم؛ فمنهم من يميل إلى إباحته، ومنهم
من يقول بالمنع؛ على ما سيأتي تفصيله وهذا النوع يمكن أن يطلق عليه اسم:
(المختلَف فيه) .
الرقية الشرعية: قال ابن حجر رحمه الله: (وقد أجمع العلماء على جواز
الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته،
وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر
بذاتها بل بذات الله تعالى ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال: (كنا
نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ
رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك) وله من حديث جابر: (نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم، فقالوا: يا رسول الله
إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، قال: فعرضوا عليه، فقال: ما أرى
بأساً، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه) . وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل
رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من
الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك
فيمتنع احتياطاً. والشرط الآخر لا بد منه) [11] .
قلت: ينبغي أن يضاف إلى منع ما لا يعقل معناه وأنه قد يؤدي إلى الشرك،
أنه قد يؤدي إلى تقرير البدع وتسويغ أعمال السحرة والمشعوذين. ...
هل الرقى يدخلها الاجتهاد والتغيير؟ الرقية كما قلنا: نوعان: توقيفية،
واجتهادية مباحة بضوابط، ولكن هل يجوز إدخال الاجتهاد على الرقى التوقيفية
المأثورة؟
الجواب: لا؛ لأن ذلك يُعدّ بمثابة الاستدراك على النبي -صلى الله عليه
وسلم- والمخالفة له. فإذا قال -صلى الله عليه وسلم- مثلاً: قل ثلاثاً فليس لقائل
أن يقول: قل عشراً. فلا يجوز تغيير عدد منصوص أو هيئة أو صفة أو زمان
بدون مسوّغ شرعي.
أما الرقى غير المأثورة فهي مباحة ما لم تحوِ محذوراً شرعياً ولا سيما إذا
جربت وصح نفعها بقدر الله، أما أن يُحتج لرقية ما بأنها جربت وصح نفعها بمجرد
التجريب فقط؛ فهذا وحده لا يكفي كما سبق تقريره.
فالرقية التي تكون على هيئة غامضة وأوامر معتسفة بحيث تشبه أفعال
السحرة والمشعوذين وطقوسهم، مثل هذه الرقية لا تجوز وإن زعموا أنها قد جُربت
ونفعت.
والمسلم يجب أن يكون على بصيرة من أمره في كل ما يأتي أو يذر فيزن كل
ما يعرض له بميزان الشرع. وأن يتريّث قبل العمل بمثل هذه الأمور التي لا يوجد
فيها نقلٌ صحيح صريح.
فهذه الأشياء التي لا يُعقل معناها، إذا لم نتأكد أنها من الأسباب الشرعية أو
العادية التجريبية؛ فلا يجوز التسليم بها أو تعاطيها؛ لأن هذا يفتح باباً عظيماً من
الفتن؛ إذ إنه ذريعة إلى تصديق السحرة والدجالين وتلبيس أمرهم على العامة.
يقول ابن قدامة رحمه الله: (وقد توقف أحمد لما سئل عن رجل يزعم أنه
يحل السحر فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء،
ويغيب فيه، ويفعل كذا، فنفض يده كالمنكر، وقال: ما أدري ما هذا؟ وسئل ابن
سيرين عن امرأة تعذبها السحرة، فقال رجل: أخط خطاً عليها، وأغرز السكين
عند مجمع الخط وأقرأ عليها القرآن، فقال محمد: ما أعلم بقراءة القرآن بأساً على
حال ولا أدري ما الخط والسكين) [12] .
فانظر رحمك الله إلى ورع أحمد ومن قبله ابن سيرين رحمهما الله.
ويقول الباجي: (وكره مالك أن يرقي الراقي وبيده الحديدة أو الملح، والعقد
في الخيط أعظم كراهية عنده، وروي عنه أنه كره الحديدة والملح، والعقد في
الخيط أشد كراهية، ووجه ذلك عندي أنه لم يعرف وجه منفعته فإنه يكره استعماله
لما يضاف إليه، والله أعلم) [13] .
وقال الباجي في موضع آخر أيضاً: (وروى ابن وهب عنه عن المرأة التي
ترقي بالحديدة والملح، وعن الذي يكتب الحرز ويعقد فيما يعلقه به عقداً، والذي
يكتب حرز سليمان أنه كره ذلك كله، وكان العقد عنده في ذلك أشد كراهية، لما في
ذلك من مشابهة السحر، ولعله تأوّل قول الله تعالى: [وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ] ...
(والله أعلم) [14] .
قلت: في الموضع الأول علّل كراهيته أنه لم يعرف وجه منفعته، وهنا عللها
لما في ذلك من مشابهة السحر، ولكن هناك وجه آخر من كلام مالك ذكره
القسطلاني قال: (وفيه جواز الرقية لكن بشروط: أن تكون بكلام الله تعالى أو
بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن
الرقية غير مؤثرة بنفسها بل بتقدير الله عز وجل. وقال الربيع: سألت الشافعي
عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله عز وجل، وبما يعرف من ذكر الله
إلى أن قال: وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط
والذي يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم [15] .
سابعاً: فتنة المال للمعالجين وحكم التفرغ لذلك:
لقد تضافرت النصوص في التحذير من فتنتي المال والنساء، ولم ينتفع بذلك
إلا القليل؛ ذلك أن حب المال مركوز في الفطرة، وكذلك حب النساء.
وفي سنن الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما ذئبان
جائعان أُرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف
لدينه) [16] .
وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب، فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن
لدغك قتلك سمه. قيل: ما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. وقال:
مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما، قيل: ما هما؟ قال:
يؤخذ منه كله، ويُسأل عنه كله) [17] .
حكم أخذ الأجرة على الرقية:
لا يختلف اثنان ممن يتعاطون الفقه في جواز أخذ الأجرة على الرقية الشرعية
لحديث أبي سعيد الخدري رضي لله عنه في رقية سيد الحي اللديغ وغيره.
ولكن إذا نظرنا إلى حال ذلكم الحي، الذي لُدغ سيده فسنجد في الحديث نفسه، أنهم كانوا قوماً لئاماً، وقد كانوا على الشرك، وقد منعوا الصحابة حق الضيف
الذي لهم.
قلت: فكان من المناسب استيفاء الحق منهم كاملاً جزاءً وفاقاً لخبثهم ولؤمهم
في منع حق الضيف.
ومع هذا فلا نقول ولم يقل أحد إنه لا يجوز أخذ الأجرة إلا ممن كان في مثل
حالهم، ولكن الذي يقال: أن المسلم أوْلى بالإكرام والمسامحة على أي حال، فيجب
مراعاة ذلك قال تعالى: [أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ]
[السجدة: 18]
وعليه فقد قال بعض أهل العلم بأنه مع جواز أخذ الأجر على الرقية إلا أن
الأوْلى تركها حسبة لله تعالى.
هذا وينبغي التفريق أيضاً: بين من يطلب المال بنفسه، وبين من يُعرَض
عليه المال من غير طلب؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه حيث قال:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قد كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يعطيني العطاء. فأقول: أعطه أفقر إليه مني؛ حتى أعطاني مرة مالاً،
فقلت: أعطه أفقر إليه مني. فقال رسول الله: (خذه؛ وما جاءك من هذا المال
وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا؛ فلا تتبعه نفسك) [18] .
قلت: يجب أن نلاحظ أيضاً أن هناك فرقاً بين الحالين، ففي حال الرقية قد
يكون عرض المال من أهل المريض خاصة إذا كانوا أهل ضعف ومسكنة من باب
الحرج، فالأوْلى هنا التعفف عن هذا المال، ولا سيّما إذا لم يكن المعالج في حاجة
ماسة إلى هذا المال.
متى تستحق الأجرة للراقي؟ يقول ابن عبد البر عن النشرة: (وإذ كانت
مباحة فجائز أخذ البدل عليها وهذا إنما يكون إذا صحّ الانتفاع بها فكل ما لا ينتفع
به بيقين فأكل المال عليه باطل محرم) [19] .
قلت: هذا الذي قاله ابن عبد البر قد نطقت به الأدلة ففي حديث أبي سعيد وقد
تقدم: (فبرأ الرجل) وفي رواية: (فكأنما نشط من عقال) .
وفي رواية: (فانطلق يمشي وما به قَلَبَة) .
فهذا ما كان، وهذا ما أفتى به أهل العلم حيث نطقت به الأدلة. فأين هذا مما
يفعله العديد من المعالجين في هذا الزمان؟ !
فالبعض لهم عيادات أو قل مستشفيات لاستقبال المرضى، وفتح الملف بكذا.. والمقابلة بكذا والقراءة بكذا ... إلخ. وبسبب تكاثر عدد المرضى صرنا نسمع
عن جلسات العلاج العامة منها والخاصة، ولكل جلسة سعرها الخاص بها.
يضاف إلى ما سبق ما يبتزّه البعض من المرضى بأسلوب غير كريم، عن
طريق بيع بعض الأدوية أو الأغراض الأخرى مثل: عسل النحل، وزيت حبة
البركة (الحبة السوداء) وزيت الزيتون، وأحياناً زجاجات المياه المعدنية وبأسعار
مرتفعة، لماذا؟ لأن المعالج قد نفث فيها من ريقه المبارك!
ومن الأشياء التي سمعنا أنها توصف وتباع أيضاً من البعض: مكتبة مقروءة
وأخرى مسموعة! وغالباً ما تحويان كتباً تجارية وأشرطة دعائية للمعالج نفسه،
يظهر فيها المعالج غالباً كولي من أولياء الله الصالحين؛ أصحاب الهمة العالية،
والذكاء الخارق والفقه في الدين، والورع، وغالباً ما يحقق الانتصارات الخارقة
على ملوك الجن وقادتهم الكبار! دع عنك صغار الجن وغوغاءهم! كل هذا يجري
في حملة تجارية دعائية منظمة.
حكم التفرغ لهذا العمل: (بالنظر إلى سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وسيرة أصحابه وسيرة علماء الإسلام الموثوق بعلمهم وفضلهم، لم نر أحداً منهم
انقطع عن أعماله، وقصر نفسه على معالجة المرضى بالرقى، واتخذها حرفة،
واشتهر بها بين الناس، بحيث إذا ذكر اسمه اقترن بهذه الحرفة؛ [20] ولا شك أن
الناس في كل زمان تكثر فيهم الأمراض، ولم نر أحداً من خلفاء المسلمين نصّب
قارئاً يقرأ على المرضى، كما يُنصّب المُفتون والقضاة، وإنما المريض يقرأ على
نفسه من كتاب الله، وإن قابله عالم ذو فضل وديانة وطلب منه الرقية وقرأ عليه
فلا حرج، ومن المعلوم أن المشروع بأصله قد يُمنع إذا صاحبته كيفية مستحدثة.
ولو كان الانقطاع لمعالجة المرضى بالرقى، واتخاذها حرفة والاشتهار بها
بين الناس خيراً لسُبقنا إليه، ولا يظن أحد أن المرضى في هذا الزمان أكثر منهم
في الأزمان الأخرى) [21] .
ويحسن أن نختم كلامنا بهذا الكلام النفيس لصدِّيق حسن خان حيث يقول في
كتابه: الدين الخالص (2/343- 344) : ( ... وكل عمل ودعاء ينشر المرض
والداء وينفع من الأسقام والأدواء يصدق أنه نشرة، يجوز الانتفاع به، إن كان من
ألفاظ القرآن والسنة، أو من المأثور من السلف الصلحاء، الخالي عن أسماء
الشرك وصفاته، باللسان العربي وإلا كان حراماً أو شركاً.
وفي الباب كتب ومؤلفات لأهل الدعوات، تشتمل على رَطْب ويابس، وعلى
ما جاز ولم يجز.
فَلْيَتَحرّ المؤمنُ الموحد عند الاعتمال بما فيها، ما هو ثابت صحيح، مُبرّأٌ من
كل شك وشبهة، ولْيَدَعْ ما هو على غير طريقة الإسلام، وإنما هو فعل أهل العزائم
والأوفاق، الذين يكتبون التعاويذ في الهندسة، والحروف، والخطوط ونحوها فإن
ذلك لا يصلح لشيء. وكذلك النفث في الخيوط المعقودة.
والله سبحانه كافٍ لعبده، إن توكل عليه، ولم يتعلق بغيره، واكتفى بالأدعية
المسنونة، والأدوية المباحة. ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وحيث إن
الشرك أخفى من دبيب النّمل؛ يجب غاية التحري فيه والتجنب من أنواعه
وأطرافه وما يشبه ذلك. وبالله التوفيق، وهو المستعان) .
__________
(1) الأبداد لعلها جمع بُدّ، والبُدّ: الصنم.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 320.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم، 359 563 باختصار وانظر: النذير العريان، للكاتب
(123- 138) .
(4) فتح الباري، (10/207) .
(5) مسلم في السلام (14/186 نووي) .
(6) مسلم في السلام، (14/187 نووي) .
(7) مسلم في السلام، (14/187 نووي) .
(8) قلت: في هذا تقرير من النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز تخصيصه، ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الشيخ حامد الفقي رحمه الله، حيث علّق في مدارج السالكين 1/55 بقوله: (لم نجد في الروايات الصحيحة أن أحداً من الصحابة لا في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا بعده فعل مثل ذلك مرة ثانية ولعله والله أعلم كان هذا الحادث بصنع الله لأولئك الصحابة الذين كانوا في حاجة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومنعهم أهل الحي حقهم من الضيافة، مع جوعهم وشدة حاجتهم، فسلط الله الحشرة على رئيسهم فلدغته، ليستخرج لهم بتلك اللدغة والرقية حقهم) اهـ.
(9) مسلم في المساجد، 1/419 (600) .
(10) أحمد (2/239، 283) ، وأبو داود في الطهارة (380) وغيرهما.
(11) فتح الباري (10/206) .
(12) الكافي لابن قدامة (4/166 - 167) .
(13) المنتقى شرح الموطأ، 7/258.
(14) المصدر السابق، 7/261.
(15) إرشاد الساري 8/388، شرح الزرقاني على الموطأ، 4/417.
(16) أحمد (4/60) ، والترمذي في الزهد (2367) وغيرهما.
(17) مختصر منهاج القاصدين، ص 184 185.
(18) البخاري في الزكاة (1473) ، ومسلم في الزكاة (1045) .
(19) التمهيد، 6/241.
(20) في صحيح مسلم/ك السلام (66) في وصف الصحابي الذي رقى سيد الحي اللديغ: (ما كنا نظنه يحسن رقية) وفي رواية: (ما كنا نأبنه برقية) أي أنه لم يكن معروفاً بذلك.
(21) عن كتاب (الرقى في ضوء عقيدة أهل السنة) .(123/18)
دراسات شرعية
الإيمان بالله وأسمائه وصفاته
وتقوية المراقبة الإلهية
بقلم: عبد السلام الأحمر
لا غرو أن صفات الله وأسماءه غير محصورة؛ لأن كمالاته غير متناهية،
وما أخبرنا به الشرع منها يكفي لصحة الاعتقاد في الله وتحقيق العبودية له ...
والإحساس بعظمته وجلاله وكماله، وملازمة خشيته ومراقبته في السر والعلن.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لله تسعة وتسعون اسماً مئة إلا واحداً لا
يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر) [1] .
والراجح أن المقصود بحفظ أسماء الله هو العمل بها ومراعاتها على الدوام؛
قال ابن بطال: (طريق العمل لها أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم،
فإن الله يحب أن يرى حلاها على عبده؛ فليمرن العبد نفسه على أن يصح له
الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى كالجبار والعظيم فيجب على العبد
الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف
منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة،
فهذا معنى أحصاها وحفظها) [2] .
فالمؤمن وهو يطالع أسماء الله الحسنى وصفاته العلى في القرآن والحديث
ويتكرر ذكرها على مسامعه مرات عديدة، ترسخ معانيها في نفسه فيزيد إيمانه بالله
ومعرفته بصفاته وبتغير سلوكه بما يناسبها ويتجاوب معها.
أسماء الله وكيف تقوي بها المراقبة:
يمكن تحديد العلاقة بين أسماء الله الحسنى وتحقيق المراقبة الإلهية واستشعار
المسؤولية تجاه العلي القدير، بتمييزها إلى مجموعات بحسب أثرها المرتقب في
تكوين الإحساس بالمسؤولية وتنميته:
1- مجموعة تضم أسماء الله الحسنى التي تشتمل على معاني القدرة
والجبروت والملك والتدبير والخلق ... مثل: القادر، القاهر، الملك، الجبار،
المتكبر، العزيز، المهيمن، الخالق، المصوِّر، الرزاق.
وهذه الأسماء تثير في النفس الإحساس بعظمة الله واستحقاقه للطاعة والعبودية. ...
2- مجموعة تضم أسماء الله الحسنى التي تحمل معاني العلم ومراقبة أفعال
العباد مثل: العليم، الرقيب، الحفيظ، السميع، البصير، الخبير، الشهيد؛ فهذه
الأسماء توحي بانكشاف أحوال العباد الظاهرة والباطنة لعلم الله، فتقوى بها مراقبة
النفس لما يصدر عنها من إرادات وأعمال في جميع الأوقات والظروف.
3- مجموعة تضم أسماء الله الحسنى التي تفيد معاني الحلم والعفو والمغفرة
مثل: الحليم، الرحيم، الغفور، الحنان، المنان، العفو، التواب.
وهي أسماء تملأ معانيها قلب المذنب أملاً ورجاء في الرحمة والمغفرة وقبول
التوبة لاستئناف السير على الصراط المستقيم.
4- مجموعة تضم أسماء الله الحسنى التي تنطوي على معاني المحاسبة
والعقاب والعدل والحكم مثل: الحسيب، الحكم، العدل، الخافض، الرافع، الحق، مالك الملك ... فالمكلّف الذي يؤمن بهذه الأسماء تذكِّره بأن الله سيبعثه بعد الموت
ويعرض عليه أعماله، من خير وشر، ثم يجازيه عنها بعدل وإنصاف، فيحمله
ذلك على مراقبة نفسه والمسارعة إلى فعل الصالحات.
الصفات الإلهية وتقوية المراقبة:
وبتمعن كل صفة على حدة يتضح أثرها في تقوية الإيمان بالله تعالى وإحياء
معاني الأمانة والتكليف في أعماق النفس، وتذكّر يوم القيامة، وما ينتظر النفس من
فوز أو خسران. وفيما يلي أمثلة عن ذلك:
أولاً: الوحدانية:
ومعناها أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له في خلق الخلائق
وتدبير أمرها، وهي جميعاً ملكه ورهن قبضته وطوع مشيئته الغالبة. وكل هذا
الإحساس الذي تنشئه صفة الوحدانية في النفس الإنسانية يخدم مبدأ المسؤولية
ويجلِّيه في الفكر والشعور. فالخالق الواحد هو: الآمر، الناهي، الرقيب،
الحسيب، المعز، المذل، الحكم، العدل، لا شريك معه يُخشى فيطاع أو يُرجى
فيسأل؛ وإنما هو إله واحد فرد صمد.
فالإنسان إذا تحقق من معنى الوحدانية، أشرقت في قلبه معاني المسؤولية
العظمى تجاه الذي خلقه فسواه ثم أطعمه وسقاه؛ فأدرك أن الذي يستحق الطاعة
والعبادة هو الله الواحد الديان، وأنه وحده أهلٌ للخشية والتقوى والشكر والإنابة،
فإذا أسلم وجهه إليه اطمأن على نفسه من كل الشرور، وأمن عليها من كل الأخطار، وتيقن أنه لا يقع في ملك الله إلا ما أراد واختار. فالتوحيد الذي تقوم عليه
الديانات السماوية ينسجم تماماً مع مسؤولية الإنسان بحيث تتحدد به وجهته في
الحياة، ويحتمي في ظله من التمزق النفسي والتشتت الفكري الملازم لتعدد الأرباب
وتضارب مراداتهم [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً
لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ] [الزمر: 29] .
إن وحدانية الله تعالى تحقق التوحيد في مصدر المسؤولية ومقاييسها ونتائجها، وتقيمها على أساس العدل المبين. ويبرز ذلك في متعلقات التكليف من الجهات
التالية:
توحيد مصدر التكليف: فمصدر المسؤولية الشرعية هو الله وحده، وكل
تكليف يتوجه إلى الإنسان في إطار الشرع المستوعب لقضايا الحياة يلزم أن يؤسس
على مراد الله من عباده، وكل اجتهاد تشريعي لا بد أن يوصل بكليات الدين
ومقاصده العامة، ويربط إلى الأدلة الشرعية المعتبرة [شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ] [الشورى: 13] . وقال سبحانه [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم
مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ] . [الشورى: 21]
وزادت السنة هذا الأمر تأكيداً ووضوحاً. فعن عائشة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [3] .
توحيد التكليف: الناس كلهم موحدون تجاه مسؤوليات الدين وتكاليفه العامة
الاعتقادية والعملية؛ فلا يملك أحدهم أن يزيد عليها أو ينقص منها إلا وفق ما يسمح
به الشرع وضوابطه الثابتة، وهذا ما يسقط أعذار المتقاعسين أمام الله، ويجعلهم
خاضعين للمحاسبة الاجتماعية التي وكل أمرها للسلطان.
توحيد المكلِّف: فالمكلِّف هو الله تعالى في جميع أوامر الدين ونواهيه بحيث
يكون امتثال العبد في جميع مسؤولياته لله وحده، ولمن أذن الله في طاعته وجعلها
دليلاً على تنفيذ أمره، كطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأولي الأمر: [يَا
أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَاًوِيلاً] [النساء: 59] .
وأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما: [وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإن
جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ] [العنكبوت: 8] .
فطاعة غير الله مشروطة بإذن الله ومقيدة بدليل الشرع عليها؛ لذا فإنها تمنع
عندما تؤدي إلى معصية الله ومخالفة ما أمر به. وقد أخرج الإمام البخاري في
صحيحه تحت باب: (لا تطيع المرأة زوجها في معصية) ، عن عائشة رضي الله
عنها أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فتمعط شعر رأسها فجاءت إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له فقال: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها، فقال لا، إنه قد لعن الموصلات) [4] .
بل إن الإنسان مطالب بأن يعصي نفسه، ويخالف هواها إذا خالف تعاليم
الشرع وتوجيهاته: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإنَّ
الجَنَّةَ هِيَ المَاًوَى] [النازعات: 40، 41] .
ثانياً: العلم:
يعرف علم الله بكونه صفة ينكشف بها المعلوم على ما هو به انكشافاً لا
يحتمل النقيض بوجه من الوجوه. فلا تغيب عن علم الله كليات الوقائع والحقائق
ولا جزئياتها الدقيقة، كما لا تنحجب عنه أحوال الظاهر ولا أحوال الباطن، ولا
يحول دونه زمان ولا مكان، وإنما كل ذلك أمام علم الله سواء. وتعتبر صفة العلم
من الصفات التي يحكم بها الشرع والعقل لله تعالى، لأنها توجب له ما هو أهله من
العظمة والكمال.
ولقد حظيت هذه الصفة في نصوص القرآن الكريم بمكانة خاصة لارتباطها
الشديد بالمسؤولية الإنسانية، وما تنبني عليه من الإحساس بمراقبة الله المطبقة على
أعمال الإنسان الظاهرة والباطنة، لذلك نجد الإشارة إليها تتخلل آيات القرآن من
أوله إلى آخره، مع التركيز على علم الله بأفعال العباد حسنها وسيئها، لكي يظل
الوعي بها قائماً في أعماق النفس، وباعثاً لها على الإجادة والإحسان في القصد
والعمل. ثم إنه يربط دائماً بين الاعتقاد في هذه الصفة وإصلاح السلوك الإنساني:
[وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]
[البقرة: 235] .
ويسوق الحديث عن العلم الإلهي المحيط بكل شيء، مشفوعاً بما يترتب عنه
من إحصاء للأعمال والمحاسبة عليها، والمجازاة بالنعيم والجحيم: [وَإن تُبْدُوا مَا
فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ] [البقرة: 284] . وقال أيضاً: [قُلْ إن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ
تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] [آل عمران: 29- 30]
فتيقن المؤمن بأن الله عليم بما يصنع بجوارحه وما يعزم عليه في قرارة نفسه، يجعله دائماً نازعاً إلى الطاعة وفعل الصالحات، مجانباً للمعصية بعيداً عن ...
الخبائث، مراقباً لنفسه بنفسه وحذراً من نفسه على نفسه، متعبداً بمقتضى أسماء
الله التي ترتبط بصفة العلم. قال ابن قيم الجوزية: (والمراقبة هي التعبد باسمه:
(الرقيب) (الحفيظ) (العليم) (السميع) (البصير) . فمن عقل هذه الأسماء وتعبد
بمقتضاها حصلت له المراقبة) [5] .
ولقد أبرز القرآن العلاقة القوية بين الاعتقاد الصحيح في صفة العلم الإلهية
والامتناع عن الآثام والأرجاس، والمسارعة في أعمال البر والطاعات، فقال تعالى: [وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً
(107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى
مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً] [النساء: 107-108] . وقال أيضاً:
[وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ] [الأعراف: 188] .
فبقدر قوة إيمان المرء بحقيقة علم الله تزداد خشيته وورعه ويحسن عمله،
وترتدع نفسه عن المنكرات والفواحش، وبقدر ضعف إيمانه وجهله بصفات الله
وأسمائه الحسنى يكثر زلله، ويتوالى انحرافه.
ثالثاً: العدل:
إن الله تعالى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، بل لا عدل إلا عدل الله الذي
من أنواره يقبس العادلون، وبهديه يهتدي المقسطون إلى الحق والإنصاف.
ويمكن إبراز أثر صفة العدل الإلهية في سلوك المؤمن في اتجاهين:
أ- اتجاه الاطمئنان: فالمؤمن يطمئن إلى حكم الله وعدله فيما أوجب ومنع وما
أمر ونهى، وإلى أن شرع الله ملائم لواقع الإنسان متجاوب مع طبيعته محقق
لمصلحته، ودافع لمضرته، فإذا حصل اليقين في النفس بعدل الله نشطت الجوارح
في الطاعات ونهضت بالواجبات، ولم تتثاقل في أدائها، وعزفت عن المحرمات
والمنهيات، وتورعت عنها لأنه ما خامرها شك في عدالة التكاليف الشرعية،
وعدالة إفراد الله وحده بالعبودية الحقة: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا
وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ] [فصلت: 46] .
ويطمئن الإنسان على نيل الأجر الموعود عن عمله المبرور وسعيه المشكور
في الدار الآخرة: [وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [البقرة: 281] .
ب- اتجاه الخوف: فإذا استحضر المرء أن عدل الله يقتضي المجازاة على
قدر العمل: إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، تملّكه الخوف من عقاب الله الشديد
وخشي أن يقصر عمله عن استحقاق النجاة، فيكون من المعذبين [سَيُصِيبُ الَذِينَ
أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ] [الأنعام: 124] . وأدى
به التفكير في ذلك إلى أن يُحكم المراقبة على نفسه ويتشدد في محاسبتها على
الكبيرة والصغيرة من الذنوب، ورام الاستكثار من الطاعة والعبادة حتى يضمن
لنفسه يوم القيامة الدخول في زمرة الفائزين المنعمين.
رابعاً: القدرة:
إن قدرة الله تامة كاملة لا تحدها حدود أو تقيدها قيود، فإذا أراد الله أمراً كان
كما أراد من غير نقصان، وإذا وعد بشيء وفى به وفاء تاماً كاملاً؛ وما يعجزه
سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء.
فالقدرة الإلهية التي بها خلق الإنسان أول مرة وخلقت السماوات والأرض،
هي ذاتها القدرة التي تبعث الأموات من قبورهم وتعرض عليهم أعمالهم غير
منقوصة، وهي القدرة أيضاً التي خلقت نعيم الجنة الأبدي وعذاب جهنم السرمدي.
والإيمان بقدرة الله يجعل المكلّف واثقاً من علم الله المحيط بكل شيء وبعدله الذي لا
تشوبه شائبة ظلم، وبصدق وعده ووعيده وتحققه في الدنيا والآخرة؛ إذ إن قدرة
الله تعالى عامة شاملة تتكامل مع صفات الله الأخرى وتتضافر آثارها جميعاً في بناء
النفس الأمينة المؤمنة المستقيمة.
ولهذا اقترن ذكر علم الله وحسابه للإنسان بذكر قدرته المطلقة في آيات عديدة
منها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإنَّا خَلَقْنَاكُُم مِّن تُرَابٍ
ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى
وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإذَا
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ
وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ
اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ] [الحج: 5 - 7] .
فالإيمان بعلم الله المطلق وعدله التام، لا ينتج عنه إحساس النفس بالمسؤولية
دون الإيمان بقدرة الله العظيمة، التي تصاحب علم الله وعدله وباقي صفات الذات
الإلهية، محققة وحدانية الله تعالى الذي يُعبد ويتقى ويُسأل بجميع أوصافه وأسمائه.
__________
(1) صحيح البخاري، الدعوات، باب لله مئة اسم غير واحد، فتح الباري، ج11، ص218.
(2) فتح الباري، ابن حجر، ج11، ص 226.
(3) صحيح البخاري، الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، وصحيح مسلم الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
(4) صحيح البخاري، كتاب النكاح.
(5) مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، ج2، ص 66.(123/30)
تأملات دعوية
[اتقوا الله ما استطعتم]
بقلم: عبد الله المسلم
حين تطرح قضية من قضايا هموم المسلمين في أحد المجالس، ويتبادل
الناس الحوار والحديث حولها يتحدث الناس عن قضايا كبار، كالتآمر العالمي على
الدعوة، وتجفيف المنابع، ومواجهة الصحوة، وأن هذه المسائل تحتاج إلى حلول
جذرية ربما تضيق عنها جهود أمم ودول، فضلاً عن فئات محدودة من الدعاة،
وتربط كل قضية عملية تطرح أمام الناس بهذه القضايا الكبار.
وتبدو نتيجة النقاش أن هذه القضايا أكبر من جهد الأفراد وطاقتهم، ويقف
الأمر عند هذا الحد، وحين تبحث عن جهود هؤلاء ودعوتهم فإنك لا ترى شيئاً
يذكر؛ فالطالب في جامعته، والمعلم في مدرسته، والموظف والعامل في قطاعه
ليس لهم أثر في محيطهم، بل لا يرون ذلك ضمن دائرة اهتمامهم.
وهي القضية التي تحدث عنها أحد التربويين من خلال (دائرة الاهتمام)
و (دائرة التأثير) [1] .
وبغض النظر عن كون هذا المنطق من التفكير وسيلة لتسويغ القعود والكسل، أو أنه نتاج اجتهاد واقتناع شخصي فالنتيجة العملية لذلك واحدة.
ودون الدعوة لتسطيح الاهتمام وقصر التفكير على المحيط الشخصي المحدود، فإنه ينبغي أن يُرَبّى الناس على الاهتمام بالميادين العملية التي يجيدون التأثير فيها، بغض النظر عنها، وعن مدى ضآلة حجمها بالنسبة لقضايا الأمة الكبار.
ينبغي أن يكون هَمّ الإنسان أن يعمل، وأن يؤدي جهده في نطاقه ومحيطه،
منطلقاً من قوله تبارك وتعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] [التغابن: 16] وقوله:
[لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] [البقرة: 286] وهي قاعدة شرعية عظيمة.
ويدل على هذا المعنى أيضاً قوله: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون) .
وتأمل قوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه) .
وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يعيشون هَمّ العمل، ويُعْنَوْنَ
بدرجة كبيرة به، دون أن يحلِّقوا في الخيال والتنظير، أو الإفراط في النظر
للمشكلات وتضخيمها: [وَمَا أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] [الأحقاف: 9] [إنْ عَلَيْكَ إلاَّ
البَلاغُ] [الشورى: 48] ، ثم يسلمون أمرهم لخالقهم تبارك وتعالى يحكم بينهم
وبين قومهم بما يشاء.
وحين يحقق المسلم هذا المعنى، ويقوم بهذه المهمة في محيطه، ينطلق بعد
ذلك في التفكير فيما وراء هذا، والبحث عن وسائل تعينه على توسيع دائرة تأثيره.
فلنحقق التوازن في هذا الميدان بين علو الاهتمامات، والنظرة البعيدة العميقة، وبين الميادين العملية.
__________
(1) انظر: التربية والتجديد لماجد عرسان الكيلاني (32- 39) .(123/38)
دراسات تربوية
التلقي للتنفيذ.. سمة إيمانية
بقلم: سلمان بن عمر السنيدي
تلقِّي النصوص الشرعية لتنفيذ ما فيها من أوامر وتطبيق ما فيها من أحكام من
سمات التربية الجادة التي تُفترض في أفراد الأمة الإسلامية. وهذه السمة تحتاج إلى
رصيد من الإيمان القوي والتربية الزاكية. ولقد دلت النصوص الشرعية على
أهمية هذه السمة في أكثر من آية وحديث؛ فمن ذلك قوله تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
[الأحزاب: 36] وقال تعالى: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] ...
ولقد ابتلى الله صحابة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بآية في كتاب الله
وقفوا منها موقف المتلقي للتنفيذ المشفق على نفسه من القصور، مع شعور ... قوي بمسؤولية الأمانة تجاه أنفسهم في تلقي أحكام النصوص الشرعية فظنوا أنهم عاجزون عن العمل بمقتضاها، فراجعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها إشفاقاً على أنفسهم لا اعتراضاً؛ ومع ذلك سمعوا وأطاعوا؛ فنسخ الله حكمها وبقي لفظها. وكم من سامع لها بعدهم ممن لا يحمل همّ التلقي للتنفيذ يمر عليها لا يحسب لها حساباً، ولا يقف عندها بل يستوي الأمر عنده: أنسخت الآية، أم لم تنسخ!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله: [لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ
لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [البقرة: 284] قال: فاشتد
ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كُلِّفنا من الأعمال ما
نطيق: الصلاة والجهاد والصدقة، وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال
رسول الله: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟
بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فقالوا: سمعنا وأطعنا
غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في
إثرها: [آمََنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ
المَصِيرُ] [البقرة: 285] . فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل عز وجل: [لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا
أَوْ أَخْطَاًنَا] [البقرة: 286] (قال: نعم) [رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِنَا] (قال: نعم) [رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ] (قال: نعم)
[وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ]
(قال: نعم) [1] .
أهمية هذه السمة: تبرز أهمية هذه السمة في الأمور التالية:
أ -أن الغاية من الأحكام الشرعية التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة هي
العمل بها بتنفيذ أوامرها واجتناب نواهيها.
قال الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ] [النساء: 64] ، وقال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] [الحشر: 7] .
قال الخطيب البغدادي: والعلم يراد للعمل، كما يراد العمل للنجاة، فإذا كان
العلم قاصراً عن العمل، كان العلم كلاّ على العالم، ونعوذ بالله من علم عاداً كلاّ،
وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غلاّ) [2] .
ولذلك قال الفضيل: إنما نزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً.
وقال أبو رزين: في قوله تعالى: [يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ] [البقرة: 121] قال: يتبعونه حق اتباعه يعملون به حق عمله.
* أن الله عاب على أمم سابقة ما تلقوا به النصوص الشرعية فقال عنهم:
[قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَاًمُرُكُم بِهِ إيمَانُكُمْ
إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [البقرة: 93] ، وقال تعالى عن اليهود خاصة: [مَثَلُ الَذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [الجمعة: 5] . وعن قوله تعالى: [نَبَذَ
فَرِيقٌ مِّنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ] [البقرة: 101] ، قال مالك
بن مغول: تركوا العمل به. وقال ابن تيمية: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم
ينفعه الله بعلمه، فذنبه من جنس ذنب اليهود) .
* أن الإعراض عن آيات الله بتعطيل أحكامها من أعظم صور الظلم. قال
الله تعالى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا] [الكهف: 57] .
أن الإنسان محاسب ومسؤول يوم القيامة عن علمه كما ثبت من حديث أبي
برزة الأسلمي أنه قال: قال رسول الله: (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل
عن أربع: عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه
وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) [3] .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف على نفسي أن يقال لي: يا عويمر هل علمتَ؟ فأقول: نعم، فيقال: فماذا عملت فيما علمت؟
* أن الأقوال الصالحة مرهونة بالأعمال الصالحة؛ فقد قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، من
قال حسناً وعمل غير صالح رده الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه
العمل، وذلك بأن الله تعالى يقول: [إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] [فاطر: 10] .
* أن العلم النافع لا بد له من العمل وإلا صار حجة على صاحبه قال:
(القرآن حجة لك أو عليك) [4] .
ولذلك قال ابن عيينة: العلم إن لم ينفعك ضرك.
مظاهر غياب هذه السمة: إن غياب هذه السمة أو وجود خلل فيها يبرز في
واقع الأمة صوراً من الخلل والانحراف ومن أبرزها المظاهر التالية:
* جعل النصوص الشرعية للتزود الثقافي، وانحصار استخدامها في
الخطابات الإنشائية التي لا رصيد لها في الواقع ولا تأثير لها في تصريف مجرياته.
* ضعف تعظيم كلام الله تعالى وكلام رسوله؛ وذلك بالاعتراض عليهما
بآراء العقول وتصورات الأفهام التي يبعثها الواقع المنحرف وهوى الأنفس.
* ضعف الالتزام بالآداب الشرعية والأحكام المرعية؛ تكاسلاً وتساهلاً وعدم
الاكتراث بترك السنن والمستحبات، بل قد يصل الأمر إلى ترك الواجبات
والأركان بلا خوف أو ندم.
نماذج مشرقة: من أسمى الصور التي تتحقق فيها سمة التلقي للتنفيذ، تلك
الصورة التي يتلقى فيها المؤمن الحث على أعمال مستحبة غير ملزم بفعلها،
فيأخذها مأخذ العزيمة، ويلتزم بما فيها من أعمال من لحظة تلقيه للنصوص
الشرعية بلا تردد أو تكاسل أو انقطاع أو فتور، وهذه بعض النماذج المشرقة التي
تتجلى فيها هذه الصفة:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-
منذ نزل عليه: [إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] [النصر: 1] يصلي صلاة إلا قال
فيها: (سبحانك ربي وبحمدك، اللهم اغفر لي) [5] .
2- عن سالم بن عبد الله بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهم، عن أبيه:
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي
من الليل) قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً) [6] .
3- عن ابن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً، والحمد الله كثيراً،
وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فقال رسول الله: من القائل كلمة كذا وكذا؟) قال
رجل من القوم: أنا يا رسول الله! قال: (عجبت لها! فتحت لها أبواب السماء) .
قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول
ذلك [7] .
4- وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: سمعت أبي رضي الله
عنه، وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله: (إن أبواب الجنة تحت ظلال
السيوف) ، فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول ذلك؟ قال: نعم، فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم
السلام. ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى
قُتِلَ [8] .
5- عن علي رضي الله عنه قال: اشتكت فاطمة رضي الله عنها ما تلقى من
الرحى في يدها، وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبيٌ فانطلقت فلم تجده؛
فأخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليه، فجاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلينا وقد
أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال النبي: على مكانكما. فقعد بيننا، ثم قال: (ألا
أعلمكما خيراً مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما: أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين،
وتسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين؛ فهو خير لكما من خادم) . قال علي
رضي الله عنه: ما تركته منذ سمعته من النبي. قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال:
ولا ليلة صفين [9] .
6- قال الإمام مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو خالد يعني
سليمان بن حيان عن داود بن أبي هند، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوسٍ، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسارّ إليه
[يُسَرّ به] قال: سمعت أم حبيبة تقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِيَ لهُ بهن بيت في الجنة) قالت
أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله. وقال عنبسة: فما تركتهن منذ
سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوسٍ: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة.
قال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوسٍ [10] .
7- عن أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من
ركع أربع ركعات قبل الظهر وأربعاً بعدها حرم الله عز وجل لحمه عن النار.
قالت: فما تركتهن منذ سمعتهن [11] .
8- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه؛ يبيت ثلاث ليالٍ إلا ووصيته
مكتوبة. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك إلا وعندي وصيتي [12] .
9- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول: اقتلوا الحيّات، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر؛ فإنهما يلتمسان البصر
ويستسقطان الحبالى. قال عبد الله بن عمر: فلبثت لا أترك حية أراها إلا
قتلتها..) [13] .
10- عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) [14] . قال ابن
القيم رحمه الله: (قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما كنت أرى أحداً يعقل
ينام قبل أن يقرأ الآيات الأواخر من سورة البقرة) [15] .
11- قال البخاري: ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة حرام. إني
لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً [16] .
12- عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال: (من قرأ آية الكرسي عقب
كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) [17] . قال ابن القيم رحمه الله: (بلغني عن شيخ الإسلام أنه قال: ما تركتها عقب كل صلاة إلا نسياناً أو
نحوه) [18] .
13- وقال الإمام أحمد رحمه الله: (ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به، حتى
مر بي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فأعطيت
الحجام ديناراً حين احتجمت) [19] .
__________
(1) رواه مسلم، ح/125.
(2) اقتضاء العلم العمل، 158.
(3) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح، وصححه المنذري.
(4) رواه مسلم، ح/223.
(5) رواه مسلم، ح/484.
(6) رواه البخاري، 3/5، 6، ومسلم ح/2479.
(7) رواه مسلم، ح/601، ورواه أحمد 4399.
(8) رواه مسلم، ح/1902؛ والترمذي 1659.
(9) رواه مسلم، ح/2727، وأبو داود، 4403، وأحمد 797.
(10) رواه مسلم، ح/728، ك 6، ب 15 وروى الحديث النسائي، 1773، وأبو داود 1059، وابن ماجة 1131 وأحمد 25543، والدارمي 1402.
(11) رواه أحمد، 25539، والنسائي، 1789.
(12) رواه أحمد، 4239، ومسلم، 3075، والنسائي، 3559.
(13) رواه مسلم، 4141.
(14) رواه البخاري ومسلم.
(15) أخرجه أبو بكر بن أبي داود في (شريعة القارئ) بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
(16) انظر الطبقات للسبكي، 2/9.
(17) رواه النسائي وابن السني، 121 بسند حسن.
(18) الوابل الصيب، ص 229.
(19) سير أعلام النبلاء، 11/213.(123/40)
مقال
أبعاد التخريب العلماني
محمد أركون.. أنموذجاً
بقلم: د. أحمد إبراهيم خضر
بالأمس ... طلب خالدُ بن عبد الله القسري، أمير العراق، الجعدَ بن درهم،
حتى ظفر به، فخطب بالناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قاله في خطبته:
أيها الناس، ضحّوا، تقبّل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ فإنه زعم
أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد
علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، فكان ضحية، ثم طفئت تلك البدعة
فكانت كأنها حصاة رُمِيَ بها [1] .
واليوم.. المرعى الإسلامي غداً بابه مفتوحاً لكل (عرجاء) و (عوراء) لا
يجزئ لحمها في الأضحية [2] .
إنهم أهل التخريب العقدي، يحاربون الإسلام من داخله بإثارة شكوك
المسلمين بما يؤمنون به، يهدفون عبر زعزعة الترابط العقدي تفكيكَ المجتمع
الإسلامي برمته [3] . يصفون أنفسهم بأنهم علماء مجتهدون متفرغون لتطوير
المعرفة [4] ، ولا تخرج مقولاتهم عند كونها لوناً من ألوان (الرقاعة الثقافية) [5] ،
يميزون أنفسهم عن المسلمين الآخرين (المقلدين) ، أما هم، فإنهم باحثون تحرروا
مما أطلقوا عليه (المعارف الخاطئة) التي تعارف عليها كل المسلمين عن الإسلام.
يدعون إلى العقلانية ويطالبون باتساع العقل وحرية البحث حتى في القضايا الدينية
الحساسة التي ترتبط بما هو مقدس ولا يمس (كالوحي والقرآن والسنة) . يشجعون
الإبداع الفكري الذي يصل عندهم إلى حد القول بأن الاعتقاد بأن الشريعة ذات أصل
إلهي (وهمٌ كبير) [6] ومع كل هذا الانحراف والضلال يطالبون الآخرين بالتسامح
معهم، والإقبال على مناظرتهم، وعدم الخلط بين العرض العلمي للقضايا ومواقف
العوام، والتقيد بما يفرضه البرهان العقلي. يتهمون ما يسمى (بالخطاب الإسلامي)
بأنه خطاب مليء بالنقائض والرذائل والمثالب، يحمّل المفكرين (أمثالهم) ما لم
يفكروا فيه، وما لم يدّعوه، وما لم ينطقوا به [7] .
ماذا يريدون بالضبط؟
همهم الأول القضاء على الإيمان العقدي ومحوه من الأفق البشري: حتى لا
يبقى هناك إلا الأفق الاجتماعي. يريدون منا أن ندخل تجربة الغرب التاريخية التي
خاضها منذ أكثر من قرنين فتخلص من الأفق الديني القروسطي (نسبة إلى القرون
الوسطى) .
لا يجهلون الإسلام وإنما يصرون على تحليله في ضوء النصرانية الكنسية
والقرون الوسطى التي ارتبطت في أذهان الغرب بالتصور المظلم والمرعب عن
الدين. أفقهم المعرفي لا يخرج عن حدود الفكر الغربي والثقافة الأوروبية.
يتزلفون للغربيين حتى القسس منهم على حساب دينهم؛ ولهذا يضيقون ذرعاً
بمطالبة الإسلاميين بخصوصية إسلامية وأصالة عقلية وعلمية مطلقة جعلتهم في
غنى عما أبدعته انحرافات الفكر الغربي والبحث العلمي خارج دائرة المعارف
الإسلامية المتأصلة في القرآن والمنطلقة منه، فراحوا يتصورون أن الإسلاميين
كآباء الكنيسة يقتلون في الإنسان حس المبادرة والحركة ويدعون إلى الاستكانة
والاستسلام ورفض الانخراط في العالم [8] .
أهل السنة والجماعة في نظر أهل التخريب العقدي (أورثوذكسيون) :
لأنهم يُجمعون على عقيدة إسلامية صحيحة ومستقيمة، ويُبرزون معايير
التفرقة بينها وبين البدع والاعتقادات الطارئة المنحرفة عن الإسلام.
(والأورثوذكسية) أصلاً مصطلح غربي نقله أهل التخريب إلى العربية ولا يربطونه
بالمذهب الأورثوذكسي في النصرانية؛ لأنه مصطلح سابق على ظهور هذا المذهب. لا يروق لهم المعنى الحرفي للكلمة (وهو الطريق المستقيم أو الطريق الصحيح)
إنما يأخذون معناها الاصطلاحي وهو (النواة العقائدية الصلبة والمغلقة على ذاتها
لدين ما، أو لأيديولوجية ما، أو اتجاه سياسي ما، والتي ترفض كل ما يقع
خارجها باعتبار أنه ضلال وهرطقة) . يقول أهل التخريب إنهم لم يستطيعوا
ترجمة مفهوم (الأورثوذكسية) بكل أبعاده الأيديولوجية بالسنّة؛ لأن أهل السنة
والجماعة قد احتكروا المفهوم لصالحهم وعدلوا به عن معناه في القرآن [9] ، ولم
يعط أهل التخريب العقدي دليلاً واحداً مقنعاً يبين صحة تأويلاتهم الفاسدة الخارجة
أصلاً عن حدود القرآن والسنة.
وحتى لا يُتهم أهل التخريب العقدي بالكفر، سارعوا إلى وضع مفهوم جديد
للإيمان والكفر. فهموا من الإمام الغزالي أن الكفر هو تكذيب الرسول عليه الصلاة
والسلام في شيء مما جاء به، والإيمان هو تصديقه في جميع ما جاء به، فاليهودي
والنصراني كافران لتكذيبهما الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والبرهمي كافر
بالطريق الأوْلى؛ لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين.
هذا الذي يتبنى مفهوم الغزالي عن الكفر ويطبقه على (العلماء المجتهدين)
أمثالهم رجل مقلد بلغ درجة من العمى والتعصب في أحكامه؛ لأن الإيمان والكفر
في فلسفة أهل التخريب العقدي مرتبطان بالبحوث النفسانية واللغوية عن تكوين
البنية الشخصية والجماعية التي ينشأ فيها كل فرد. ولم يكتف أهل التخريب
العقدي بذلك بل ألقوا مسائل الحلال والحرام والمقدس والقصص الديني في أحضان
العلوم الحديثة (علوم الإنسان والمجتمع) [10] التي تعطي لها تفسيراً خاصاً يخرج
بها كلية عن ارتباطاتها العقدية. ومن المسلّم به في العلوم الاجتماعية أن نظرياتها
التقليدية ترى أن الأفكار الدينية زيف ووهم، أما نظرياتها الحديثة فتتجنب مسألة
حقيقة الدين، لكنها تغذي هذه التحليلات التي تحقر من أي رؤية جدية للأفكار
الدينية وتنظر إليها على أنها غير حقيقية [11] .
موقفهم من خاصية ثبات الأصول:
واجهت أهل التخريب العقدي مشكلة النظرة العقلية المستمرة والمتكررة التي
ترى وجود إسلام صحيح يتطابق مع مفهوم الدين الحق لمكافحة البدع والرد على
أهل الأهواء والنحل، وإبطال الملل الضالة المضلة، وإبعاد أو إخضاع جميع
المنحرفين عن الصراط المستقيم والحق المبين، فقالوا: إن الإجماع بأن هناك
إسلاماً جوهرياً لا يقبل التغير ولا يخضع (للتاريخانية) [12] هو هو كالأقنوم
الإلهي يؤثر في الأذهان والمجتمعات ولا يتأثر بها ليس إلا تحجراً عقلياً وتطرفاً
وتعصباً وإرهاباً، ودعوا إلى العدول عن هذه النظرة التقليدية والإقرار بضرورة
التعددية العقائدية؛ ويسوِّغون دعواهم الضالة والمضلة بأن النصوص القرآنية قد
ألهمت ولا تزال تلهم (تأويلات) بتغير الزمان والمكان [13] .
يؤمن أهل السنة والجماعة بأن التأويل الذي دلت عليه النصوص وجاءت به
السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص
وما جاءت به هو التأويل الفاسد. وكل تأويل وافق ما جاء به الرسول -صلى الله
عليه وسلم- فهو المقبول وما خالفه فهو المردود. لكن أهل التخريب العقدي بعد أن
طرحوا بعيداً ربط الكفر بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ردوا السنة برمتها
إلى دائرة (البحث التاريخي) [14] ، وسعوا إلى إعادة قراءة النصوص الدينية،
تلك التي أسموها بالنصوص التاأسيسية أو النص الأول (القرآن) والنصوص الثانية
(السنة وغيرها) ، في ضوء العلوم الحديثة.
والتأويل عند أهل التخريب العقدي لا يخرج عما يقوله عنهم (ابن القيم) من
أنه (استخراج معاني النصوص وصرفها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب
اللغات ومستنكر التأويلات، فأدى بهم هذا الظن الفاسد إلى نبذ الكتاب والسنة
وأقوال الصحابة والتابعين وراء ظهورهم، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف
والكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. (والتأويل) إذا
تضمن تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فحسبه ذلك بطلاناً) وتأويلات أهل
التخريب العقدي من هذا الطراز [15] .
القطيعة المعرفية ماذا تعني؟
خرج علينا أهل التخريب العقدي بمصطلح جديد أسموه: (القطيعة المعرفية)
ومن المعروف عنهم أنهم لا يأتون بجديد، وإنما يستخرجون أفكارهم بعد أن يدخلوا
جحر كل ضب دخله قبلهم المفكرون الغربيون، ثم يلوكون هذه الأفكار ويطبقونها
على الإسلام.
ومصطلح (القطيعة المعرفية) طرحه أصلاً المفكر الإيطالي (فيكو) وكتب فيه
الأمريكي (توماس كون) وعالم الرياضيات الفرنسي (رينيه توم) . تناول كل هؤلاء
مسألة القطيعة في تاريخ العلوم وكيفية تفسيرها: متى تحدث القطيعة في فكر ما؟
ما هي الشروط الموضوعية التي ينبغي توافرها لكي تحصل القطيعة؟ أي: لكي
يتوقف الناس فجأة عن التفكير بالطريقة التي كانوا يفكرون بها سابقاً منذ مئات
السنين. ولأن الحقد والغل يملأ قلوب أهل التخريب العقدي على الإسلام طبقوا هذا
المفهوم على الإسلام؛ فدعوا إلى التوقف عن التفكير في الإسلام بالطريقة التي
يؤمن بها الناس حالياً والتفكير فيه بطريقتهم التدميرية.
ويدعونا أهل التخريب العقدي إلى أن ندرك معنى القطيعة المعرفية، أي أن
نتخلى عن معارفنا التقليدية عن الإسلام التي يصفونها بأنها معارف (خاطئة ...
أسطورية ذات معانٍ خيالية) وأن نفكر بالطريقة التي فكر بها الأوربيون منذ القرن
السادس عشر، فنغير مثلهم نظرة العقل إلى المعرفة وطرق إدراكه للواقع وتعبيره
عن تأويلاته لهذا الواقع.
هل نحن بحاجة إلى الفلسفة؟
وعبر إصرارهم المستميت على تخريب عقيدة الإسلام يزرعون الألغام الواحد
تلو الآخر، فتجدهم يدعون إلى الانفصال بين الحكمة والشريعة ويفسرون الحكمة
بأنها (الفكر العلمي) ويسمون الشريعة (بالظاهرة الدينية) [16] مع أن الحكمة تعني
العلم والفقه والمعرفة بالقرآن وخشية الله والفهم والبصر والعقل، كما جاء ذلك عن
ابن عباس ومجاهد وابن مسعود، وزيد بن أسلم، ومالك؛ وذلك في تفسير قوله
تعالى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ
إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [البقرة: 269] ، وقوله تعالى: [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ]
[لقمان: 12] [17] .
وتارة أخرى ينظرون إلى (الحق) على أنه خاضع (للتاريخانية) بمعنى أن
وجوده ومظاهره تتغير بتغير نظرة العقل إليه، كما يتغير العقل بدوره بتغير النتائج
ووجوه الحق التي يستبينها ويتعقلها.
كما يتبنون وظيفة الفلسفة لتسويغ الموجودات والأحكام إلى العقل في كل
الممارسات والمعالجات بما في ذلك إثارة مسائل وقضايا ومواقف معرفية ما كان
التفكير فيها ممكناً بل كان مستحيلاً، ولذلك تجدهم يُرجعون انتشار المدّ الإسلامي
إلى غياب الفلسفة عن معظم المدارس والجامعات بالبلدان الإسلامية. والحقيقة أن
الفلسفة لا تمارس تأثيرها إلا في غيبة نور الوحي الإلهي، أو في حالة خفوته، أو
في حالة جهل الناس بحقيقتها وجهلهم بالمنهج النبوي على وجهه الصحيح. وتملك
الفلسفة القدرة على التلبيس بما تملكه من أدوات، فهي تتزيّا بزي العقل حيناً،
وبزي العلم حينا آخر، وتملأ الفراغ المخيف الذي تتركه غيبة الهداية الإلهية عن
العقول [18] .
وبينما اشتهر أهل التخريب العقدي في مصر وسوريا باستخدام مصطلحات:
(نقد الخطاب الديني) و (نقد الفكر الديني) ، استخدم نظراؤهم المستوطنون في دول
الغرب مصطلح: (نقد العقل الإسلامي) .
يعرِّف أهل التخريب العقدي (العقل الإسلامي) بأنه هذا العقل المتقيد بالوحي
أو المُعطَى المنزل. ويقر بأولوية المعطَى لأنه إلهي، وأن دور العقل ينحصر في
خدمة الوحي، أي فهم وتفهيم ما ورد فيه من أحكام وتعاليم وإرشاد، ثم الاستنتاج
والاستنباط منه، فالعقل تابع وليس بمتبوع اللهم إلا بالقدر الذي يسمح به اجتهاده
المصيب بفهم وتفهيم الوحي.
لا يقر أهل التخريب العقدي بذلك، ويصبون كل انتقاداتهم على علاقة العقل
بالمُعطى المنزل، وعلى رضاه بأن يبقى دائماً في الدرجة الثانية، أي في حدود
الخادم دون أن يجرؤ أبداً على مبادرة أو سؤال أو تأويل لا يسمح به الوحي المحيط
بكل شيء، بينما العقل لا يدرك شيئاً إدراكاً صحيحاً إلا إذا اعتمد على الوحي
المبين [19] .
إنه ما عُصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه؛ ومن أعظم معصية العقل
إعراضه عن كتاب الله ووحيه، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل؟ إن علم
الأنبياء وما جاؤوا به عن الله لا يمكن أن يدرك بالعقل ولا يكتسب، وإنما هو وحي
أوحاه الله إليهم بواسطة الملك، أو كلام يكلم به رسوله منه إليه بغير واسطة كما كلم
موسى. وهذا متفق عليه بين جميع أهل الملل المقرين بالنبوة المصدقين بالرسل،
ولا يخالفهم في ذلك إلا جهلة الفلاسفة وسفلتهم. ولكن أهل التخريب العقدي
يريدون أن يعكسوا شرعة الله وحكمته؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل الوحي إماماً
والعقل مؤتماً به، وجعله حاكماً والعقل محكوماً عليه، ورسولاً والعقل مرسلاً إليه،
وميزاناً والعقل موزوناً به، وقائداً والعقل منقاداً له؛ فصاحب الوحي مبعوث،
وصاحب العقل مبعوث إليه، والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله، وصاحب
العقل مخصوص ببحث عن رأي أو فكرة. الرسول يقول: معي كتاب الله، وهم
يقولون: معنا العقل. الرسول يقول: معي نور خالق العقل به أهدي وأهتدي،
ويقول: قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا، وهم يقولون: قال فيكو.. قال بيير
بورديو.. قال جاك دريدا.. قال فرانسوا إيوالد.. إلخ.
بين العقل والوحي:
إن قضايا العقل تشمل على العلم والظن والوهم، وقضايا الوحي كلها حق؛
فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عاجز عرضة للخطأ، من قضايا مأخوذة عن
خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته؟ ! [20] .
(العقل هو المصدر والعامل في كل ما يعبر عن الإنسان ويبلغه بلغة من
اللغات، وهو المسؤول عن عملية تركيب المعاني في إنتاج جميع المنظومات) ،
هكذا يقول أهل التخريب العقدي في دفاعهم عن (فتنة خلق القرآن) ، وقد وصل بهم
التبجح إلى القول بأنه (لو استمرت المناظرات بين العقل القائل بخلق القرآن والعقل
الخادم الخاضع للقرآن غير المخلوق، لكان الوضع المعرفي للعقل الإسلامي اليوم
على غير ما هو عليه، بمعنى: أن الفسحة العقلية ما كانت لتصبح ضيقة محدودة
تسودها الأرثوذكسية العقائدية المعروفة اليوم) [21] أي انتصار أهل السنة
والجماعة، الذين يقولون إن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ، فنزل غير مخلوق،
ألفاظه ومعانيه عين كلام الله، سمعه جبريل من الله، والنبي سمعه من جبريل،
والصحابة سمعوه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو القرآن المكتوب
بالمصاحف المحفوظ بالصدور المتلو بالألسنة. القرآن عند أهل السنة والجماعة
كلام الله تعالى بالحقيقة وليس بمخلوق ككلام البرية، ومن سمعه وزعم أنه ككلام
البشر فقد كفر، وقد ذمه الله تعالى وعابه، أو أوعده عذابه حيث قال: [سَأُصْلِيهِ
سَقَرَ] [المدثر: 26] التي أوعدها الله لمن قال: [إنْ هَذَا إلاَّ قَوْلُ البَشَرِ]
[المدثر: 25] [22] .
البؤس الفكرى لدي بعض المفكرين العرب:
وقد اعترف أهل التخريب العقدي بأن التوجه الإسلامي الصحيح قد كشف
أزمة المجتمع في العمق، وكشف في الوقت نفسه عن البؤس الفكري لمعظم
المثقفين العرب ومراهقتهم الفكرية، كما أنه كشف كذلك عن التخلف المنهجي
والمعرفي للفكر العربي المعاصر؛ فالواقع في واد وهم في واد آخر؛ فبؤسهم
الفكري عاجز عن طرح أي مشكلة بشكل صحيح بل عاجز حتى عن رؤية المشكلة
ذاتها.
أقر أهل التخريب العقدي بأن زميلهم (المثقف العربي) يقف أمام نظيره
الغربي (كالفلاح الفقير الذي يقف خجلاً بنفسه أمام الغني الموثر) ويقولون في ذلك:
(يقف مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير
اللائق ولغته غير الحضارية ودينه المتخلف، ويستحسن المثقف الغربي منه هذا
الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر حتى ليكاد يلعن نفسه أو يخرج من
جلده لكي يصبح حضارياً أو حداثياً مقبولاً) [23] .
لقدأحسن أهل التخريب العقدي وأجادوا في وصف حال المثقفين العرب الذين
هم أيضاً من دعاة هذا التخريب. لكن حال أهل التخريب العقدي أمام المثقفين
الغربيين ليس بأفضل من حال المثقفين العرب الذين يهاجمونهم. هاهم يقفون
خجلين أمامهم من الخطاب الإسلامي الذي يتحدث عن التوحيد والصلاة والصيام
والزكاة والحج والحجاب والجهاد. إنهم يقدسون لغة الغرب، ويكتبون بها،
ويرونها مؤيدة للنقد الفلسفي والتاريخي والعلمي وأن لها أرضية خصبة من الجهاز
المفهومي الداعي إلى المزيد من الدقة والتعمق في النقد. أما لغتهم (اللغة العربية)
فلا تتحمل اقتران النقد بالعقل الإسلامي. ها هم يعتذرون عن شكلهم غير اللائق،
ولغتهم غير الحضارية، ودينهم المتخلف فيحذرون الإسلاميين من أن خطابهم
المتردد على ألسنة الخواص والعوام يمجه جميع الناس في الغرب، وأنه لا يتيح إلا
المزيد من الرفض والاستبعاد وسوء التفاهم، ويحذرون أيضاً بأن على الخطاب
الإسلامي أن يغير من طريقته التي تثير ردود فعل وتحريض للغرب على الإصرار
في الهيمنة واستراتيجية الإخضاع والتسيير التحكمي للعالم (الإسلامي) المتخلف. ثم
يدافعون عن الغرب ويقولون: (بأن للغرب حق الحماية لقيم مدنيته والدفاع عن
أمانته أمام قوى العنف والجهل وعدم التسامح) [24] .
يريد أهل التخريب العقدي خطاباً إسلامياً يتحدث للغرب بلغة ما وراء
الحداثة [25] والديموقراطية، ومفهومي الفرد والمواطن، والتعاقد والتفاعل بين دولة القانون والمجتمع وأن يراعي الجانب الحقوقي والفلسفي للتجربة الديموقراطية، وإلا فهو خطاب متخلف يستحق أن يمجه الغربيون ويرفضوه.
__________
(1) الجعد بن درهم مبتدع ضال: قال بخلق القرآن، وكان مؤدب مروان بن محمد، قتله خالد بن عبد الله القسري سنة 118هـ يوم النحر، انظر ابن قيم الجوزية، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق د، علي بن محمد الدخيل الله، ج3، دار العاصمة، الرياض، 1412هـ،
ص 1071.
(2) سليمان بن صالح الخراشي، محمد عمارة: في ميزان أهل السنة والجماعة، دار الجواب، الرياض، 1413هـ 1993م، ص 9.
(3) أمين أبو عز الدين (نقلاً عن محمد وقيع الله أحمد) ، الدين والعلمنة في طروحات محمد أركون، الآداب، عدد 5، مايو 1993م، ص 29.
(4) محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، ص 7.
(5) (الرقاعة الثقافية) تعبير استخدمه الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه، قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، الدار الذهبية، القاهرة، ص13.
(6) أمين أبو عز الدين، مرجع سابق، ص 24.
(7) محمد أركون، مرجع سابق، ص 3.
(8) المرجع السابق، ص 30، 66، ص 8.
(9) المرجع السابق، ص 16، 9.
(10) المرجع السابق، ص 5، 7، 6.
(11) انظر: الأساس الإلحادي للنظريات المعاصرة في علم الاجتماع، في كتابنا: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، المنتدى الإسلامي، لندن، 1413هـ 1993م، ص 177 193.
(12) (التاريخانية) مصطلح طبقه أهل التخريب العقدي على الإسلام، ويعنون به فهم الإسلام في حدود الحقبة الزمنية التي ظهر فيها، وفي ضوء البيئة الاجتماعية والثقافية التي عمل عبرها؛ مع التأكيد على نسبية وعدم اتساع قواعده ومفاهيمه لتطبق على حقب زمنية لاحقة.
(13) محمد أركون، مرجع سابق، ص 4، 17.
(14) انظر التاريخانية.
(15) ابن القيم (بتصرف) مرجع سابق، ج1، ص 163، 187، 192.
(16) محمد أركون، مرجع سابق، ص 4، 7، 11.
(17) محمد رشاد خليل، الفلسفة وأثرها في أصول الدين، مجلة كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عدد 5، 1403 1404هـ، ص 259.
(18) المرجع السابق، ص 260.
(19) محمد أركون، مرجع سابق، ص 15.
(20) ابن القيم (بتصرف) ، مرجع سابق، ص 880، 891.
(21) محمد أركون، مرجع سابق، ص 15.
(22) أبو جعفر الأزدي الطحاوي، عقيدة أهل السنة والجماعة، تعليق محمد بن مانع، مكتبة المعارف، الطائف، ص 8.
(23) محمد أركون، مرجع سابق، ص 23 25.
(24) المرجع السابق، ص 21.
(25) في الوقت الذي يدعونا فيه أهل التخريب العقدي بالتعامل مع الغرب بعقل ما بعد الحداثة فإن هناك من المثقفين العرب من يؤجل دخول مجتمعاتنا الإسلامية هذه المرحلة على أساس أن ما بعد الحداثة نقد غربي يسوي حسابات غربية ولا يقدم لنا مشروعية تاريخية؛ لأن مجمعاتنا في نظرهم مجتمعات ما قبل الحداثة وعلى كل فإن ما بعد الحداثة اتجاه ثقافي غربي يسدل الستار على الحداثة كمشهد عابر في العرض المسرحي الممتد للتقدم الثقافي، ويرى أن الحداثة قد استنفدت أغراضها وأن قيمتها المعرفية بهتت أو ربما صارت أصباغاً على لوحة لم يعد لها ملامح أو هوية وما بعد الحداثة مفهوم ينكر ثنائية الحداثة التقليدية، ولا يقدم بالضرورة على القطيعة مع الماضي أو الميراث الثقافي، ولا يقبل النموذج الارتقائي الذي يجعل المجتمع الأوروبي هو الصورة النموذجية للعالم المتخلف انظر: محمد السعيد سعيد، ما بعد الحداثة ومصير التنوير، العربي، عدد 413 إيريل 1993م، ص 24- 28 وهذا لا يعني أن أهل التخريب العقدي قد عدلوا بهذا المفهوم موقفهم من الإسلام، ويكفينا لبيان ذلك أن نشير إلى أنهم أعطوا للوحي مفهوماً يخالف ما هو معروف عنه، ونظروا إليه على أنه جملة من الإكراهات والقيود وتكرار الشعائر والطقوس والقيام والقعود، وفرض القوالب النهائية الجامدة (انظر محمد أركون، مرجع سابق، ص 75) .(123/46)
دراسات في السيرة النبوية
خصائص المرحلة المكية
في مجال المعرفة
(2من2)
بقلم: د.محمد أمحزون
أوْلى الإسلام العلم والمعرفة عناية واضحة وذلك مع أول آيات الوحي في
الرحاب المقدسة، وسبق أن أوضح الكاتب أن من خصائص العلم في هذه المرحلة: الاهتمام بالعلم (العقيدة وتوحيد الله) عز وجل، وأصلَيِ الدين: (التوحيد،
والاتباع) ، ثم بين أن ذلك يتضمن أن يكون الإيمان: قولاً وعملاً.. ويواصل
الكاتب في هذه الحلقة إيضاح جوانب أخرى للموضوع ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
توحيد الله عز وجل في ربوبيته:
جاء القرآن المكي موضحاً لنوع آخر من التوحيد هو توحيد الربوبية، ومن
مقتضياته أن الإحياء والإماتة، والرزق والنفع والضر وتدبير شؤون الخلق،
والتشريع من تحليل وتحريم، من خصائص رب العالمين.
وقد أفصح القرآن المكي عن ذلك في مواضع كثيرة، من ذلك قوله تعالى:
[لا إلَهَ إلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ] [الدخان: 8] وقوله تعالى:
[إنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] [الإسراء: 30] وقوله تعالى: [وَإذَا
مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إلَيْهِ] [الزمر: 8] وقوله تعالى: [أَلا لَهُ الخَلْقُ
وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ] [الأعراف: 54] وقوله تعالى: [إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ
الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن
شَفِيعٍ إلاَّ مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] [يونس: 3] .
وقد بيّن القرآن الكريم أن العلة في اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم
أرباباً من دون الله هي بما أعطوهم من حق التشريع في التحليل والتحريم
وأطاعوهم فيه، كما في قوله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ
اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً وَاحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ] [التوبة: 31] .
وقد علّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه تجريد هذا النوع من
التوحيد، فنفوا حسّاً وواقعاً كل ما يضاد توحيد الربوبية من اعتقاد متصرف مع الله
عز وجل في أي شيء من تدبير الكون، حيث استقر في قلوبهم إلى درجة اليقين
أن الله عز وجل هو المحيي المميت، وأنه هو الضار النافع، وأنه هو الرزاق ذو
القوة المتين، وأنه هو المدبر المشرع بيده كل شيء.
كما رسخ في قلوبهم بفعل التوجيهات القرآنية والنبوية أن المخلوقات البشرية
إن هي إلا أدوات لقدر الله، وأنها حين تضره فهي تضره بشيء قدره الله له،
وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له، فلا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.
وحين كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلِّم أصحابه هذه العقيدة
ويربيهم عليها، إنما كان ينشئ بقدر الله ذلك اليقين القلبي الذي ينبثق منه السلوك
العملي. فليست العقيدة مفهوماً معرفياً ذهنياً تستوعبه الأذهان وكفى، إنها على هذا
النحو لا تصنع شيئاً في عالم الواقع، كالفلسفة في الأبراج العاجية لا تغير شيئاً في
واقع الناس، إنما هي عقيدة ترسخ وترسخ حتى تصبح يقيناً قلبياً تنطلق على هداه
مشاعر القلب، ويجري بمقتضاه السلوك العملي للإنسان [1] .
وبهذه الصورة الناصعة آتت العقيدة ثمارها المباركة في مواقف الصحابة
وهديهم؛ فلم يخشوا إلا الله، ولم يتوكلوا إلا عليه، ولم يلتجئوا إلا إليه، وصدعوا
بالحق في وجه الباطل لا يخافون لومة لائم؛ لأنهم علموا حق العلم أن كلمة الحق لا
تقدم أجلاً ولا تؤخر رزقاً.
تُرى: كم يحتاج الشاب المسلم الذي يعمل في حقل الدعوة من جلسة علمية
ودرس وموعظة وتوجيه ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الأرزاق والآجال بيد
الله وحده، فهو المحيي المميت، وهو الضار النافع، وهو المعطي المانع، وهو
الذي بيده مقاليد كل شيء، ذلك أن كثيراً من المسلّمات العقدية تبقى بدهيات ذهنية
تستقر في وقت السلم والأمن في الشعور، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة ومحك
الاختبار؛ لأنها ليست عميقة الجذور، ولم تعد يقيناً قلبياً بمفعول التربية.
توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته:
وكذلك جاء القرآن المكي مقرراً لتوحيد الأسماء والصفات، فغالب الآيات
تختم بصفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، لتأكيدها وترسيخها في النفوس، كي يعبد
الله عز وجل بمقتضاها. مثل ذلك قوله تعالى: [قُلْ أَنزَلَهُ الَذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً] [الفرقان: 6] ، وقوله تعالى: [وَهُوَ
القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ] [الأنعام: 18] ، وقوله تعالى: [فَالِقُ
الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سََكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ]
[الأنعام: 96] .
ولما كان لتوحيد الأسماء والصفات شأن عظيم وأثر كبير في النفوس والقلوب، ولا يصح إيمان عبد إلا بإيمانه بأسماء الله وصفاته، فقد أمر الله عز وجل عباده
أن يدعوه بها: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] [الأعراف: 180] . ...
كما أمرهم أن ينزهوه عن مشابهة المخلوقين وعن تأويل صفاته وتحريفها،
وأن يؤمنوا بصفات جلاله ونعوت كماله كما جاءت في كتابه الكريم بلا كيف، كما
في قوله تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] [الشورى: 11] ،
وقوله تعالى: [يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً] [طه: 110] .
وهنالك بُعْدٌ آخر في فهم الأسماء والصفات، وهو فقهها والشعور بآثارها
القلبية والتعبد لله عز وجل بها، وتحقيق ما تقتضيه من فعل المأمورات وترك
المنهيات اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم الذين
تعلموا منه الإيمان والعمل؛ فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا مع
النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة [2] ، فتعلمنا الإيمان قبل أن
نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً) [3] ، فنظروا إلى كل اسم من
أسماء الله بأن فيه حقاً من العبودية لله عز وجل على العباد يتعبدون لله سبحانه
وتعالى. وهذا جلي وواضح من سيرهم ومواقفهم وأعمالهم [4] .
ويذكر ابن القيم رحمه الله مقتضيات هذه العبودية وآثارها بقوله: (لكل صفة
عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها أعني من موجبات العلم بها والتحقق
بمعرفتها وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فعلم
العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق،
والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته
ظاهراً، وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه
يعلم السرّ، ويعلم خائفة الأعين وما تخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه
وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه
الله ويرضاه، فيثمر له ذلك: الحياءَ باطناً؛ ويثمر له الحياءُ اجتناب المحرمات
والقبائح. ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب سعة الرجاء،
ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك
معرفته بجلال الله وعظمته وعزه يثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، فرجعت
العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات) [5] .
ويقول ابن بطال رحمه الله عن طريقة العمل بالأسماء والصفات: (فليمرن
العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها) [6] .
ومن هذا يتبيّن أن المقصود من توحيد الأسماء والصفات ليس مجرد المعرفة
الذهنية فحسب، وإنما الغاية منها أن نحققها علماً وعملاً، ونفهمها كما فهمها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام لفظاً ومعنى، وتعبدوا الله تعالى بها،
وعملوا بمدلولها في واقع الحياة [7] .
وهكذا تربى الجيل الأول رضوان الله عليهم على تعلم وفهم صفات الله
وأسمائه الحسنى فعبدوه بمقتضاها، وعرفوه حق معرفته، وقدروه حق قدره،
فمُلئت قلوبهم بتعظيمه وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لعظمته وكبريائه،
واستشعار مراقبته في كل الأوقات، فأصبح رضاه سبحانه وتعالى غاية قصدهم
ونهاية آمالهم.
الإيمان بالله واليوم الآخر:
أما الإيمان، فقد ركز القرآن المكي على عرض قضايا الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر عرضاً مفصلاً ومجملاً، يتناول الملائكة وأعمالهم
وصفاتهم، والكتب وما فيها، والنبيين ودعوتهم وقصصهم، ومقادير الخلق،
وأحوال البرزخ، ويوم القيامة، وأحوال المنعمين والمعذبين، وكيفية البعث وحشر
الناس ومحاسبتهم، بأسلوب معجز حتى لكأن الإنسان ينظر إلى يوم القيامة رأي
عين: [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلاَّ مَن شَاءَ
اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا
وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ
زُمَراً حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاًتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ
عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى
الكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ (72)
وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ
خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ
وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ (74) وَتَرَى المَلائِكَةَ
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ] [الزمر: 68 - 75] .
على أن قضية الإيمان باليوم الآخر والحساب والجزاء من قضايا العقيدة
الرئيسة التي جاء بها الإسلام، والتي يقوم عليها بناء العقيدة بعد توحيد الله، لما لها
من أهمية في تهيئة النفوس وإعدادها للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي
تعلم أنه مناط العوض والجزاء في اليوم الآخر.
ولأجل ذلك لم يناقش القرآن المكي قضية من القضايا بالتفصيل مثل عرضه
لأمر الإيمان باليوم الآخر.
ولا شك أن الاهتمام الشديد بذكر اليوم الآخر في كتاب الله، وتقريره في كل
موقع ومناسبة، وورود ذكره في القرآن بأسماء كثيرة مع العلم أنه كلما كان للمسمى
شأن عظيم كلما كثرت أسماؤه يعطي الانطباع ويوحي بخطورة هذا الأصل في تقويم
حياة الإنسان وتوجيهه لعمارة الدنيا بالعلم النافع والعمل الصالح.
ولذلك ركز النبي -صلى الله عليه وسلم- على ربط أصحابه بعقيدة اليوم
الآخر، وعلّمهم بقوله وفعله كيفية الاستعداد للقاء الله عز وجل، فأثمر لهم هذا العلم
واليقين بالنبأ العظيم عدّة ثمرات منها: الإخلاص لله عز وجل والصدق معه،
والحذر من الدنيا والزهد فيها، والصبر على شدائدها، والتزود بالأعمال الصالحة، والاستعداد للجهاد في سبيل الله وتحمل الأذى والمشقة في سبيل ذلك [8] .
مع العلم بأن الجهاد من حيث هو قمة العمل في الإسلام وذروة سنامه،
ووسيلة هذا الدين لتحقيق مهمته في الأرض وأهدافه العليا التي أراد الله عز وجل
تحقيقها في عالم الإنس، يحتاج إلى عقيدة إيمانية تعد بمثابة الوقود الذي يمدّ النفوس
بالصبر والصمود في معركتها مع الباطل والطغيان في واقع الحياة.
وقد كان الجيل الأول يدرك هذه الحقيقة إدراك من تعلمها وتربّى عليها،
ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو إليها ويغرسها في النفوس تمهيداً
للمرحلة التالية وهي مرحلة إقامة الدولة الإسلامية.
وخلاصة القول: أن التوحيد هو الحقيقة الكبرى في الكون؛ فالخالق تعالى
واحد، والكون بسنته ونواميسه واحد، والإنسان في جوهره وغايته ووجوده واحد.
والكون بكامله يتجه إلى الله عز وجل اتجاهاً واحداً بالعبادة والطاعة: [وَلَهُ أَسْلَمَ
مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً] [آل عمران: 83] ، وكذلك ينبغي
للإنسان أن يتجه إلى الغاية نفسها والهدف ذاته، وإلا حصل التصادم والتمزق
والضياع في مسيرة حياته.
ولذلك نص القرآن المكي على قاعدة الوجود الكبرى وغاية الوجود الإنساني:
[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: 56] ، وهي ترسم الإطار
العام للعقيدة والدائرة الشاملة للحياة البشرية.
ولهذا لم يكن مصادفة أن يقضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة
عشر عاماً يحدث الناس عن قضية العقيدة، ويعلم أصحابه تجريد التوحيد بأنواعه
السالفة الذكر، حيث رسخ في قلوبهم المعرفة الحقة بالله تعالى التي تقتضي
الاستسلام التام له، والطاعة المطلقة له، وعدم التقديم بين يديه، والرضا والتسليم
بقضائه. وكان مثالاً حيّاً للمؤمن الموحد الذي يُقتدى به في هذا الشأن.
ولأهمية العلم بالعقيدة على هذا النحو، وجب ربط المسلمين وخاصة الدعاة
إلى الله بهذا العلم الذي يعد من أولويات البناء في حقل العقيدة؛ لأن المفاهيم
الرئيسة في العقيدة إذا لم تكن صحيحة وأصابها الانحراف، فكل ما يستند إليها
سيلحق بها؛ إذ على فهمها يترتب فهم سائر الأحكام، وانطلاقاً منها توزن الأقوال
والمواقف والأحداث.
فمثلاً لا يمكن عرض الانحرافات الجوهرية التي تعيش اليوم بين المسلمين
مما له تعلق بجوانب الاعتقاد، مع بيان خطرها وتأثيرها والتحذير منها حتى يكون
الداعية ملمّاً بأركان توحيد الألوهية الثلاثة وهي: إفراد الله بالحكم، وإفراد الله
بالولاء، وإفراد الله بالنسك.
على أن سورة الأنعام وهي سورة مكية ويكاد موضوع التشريع يستغرقها،
تستوعب هذه الأركان الثلاثة في قوله تعالى: [أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً]
[الأنعام: 114] ، وقوله تعالى: [قُلْ أََغَيْرَ اللَّهِ أََتَّخِذُ وَلِياً] [الأنعام: 14] ، وقوله تعالى: [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ]
[الأنعام: 162] .
فالجاهل بتوحيد الحكم وإفراد الله به يكون عاجزاً عن طرح قضية الحكم بغير
ما أنزل الله وحكمه الشرعي، وأهمية ردّ الأمور كلها إلى شرع الله؛ لأن هذا هو
مقتضى الإسلام والتسليم، وشرط الإيمان الذي لا يكون إلا به، وبذلك لا يكون
مؤهلاً لتعليم الأفراد وتربيتهم على الولاء لشريعة الإسلام، والحذر من تنقصها، أو
اعتقاد أفضلية غيرها، أو مساواته لها، أو جواز الحكم بغيرها، بحيث يصبح
الإيمان المطلق بشريعة الله قناعة راسخة لدى المخاطبين، حتى لو فرضت عليهم
النظم الوضعية الجاهلية.
ومن لا يعرف معنى الولاء والبراء لا يمكنه الحديث عن موالاة الكافرين
والمنافقين، وحكمها وتأثيرها على النفوس، والخطر الزاحف بسببها سواء على
مستوى الفرد أو الجماعة أو المجتمع، والتركيز على ضرورة استقلال الأمة
المسلمة وتميزها، واستعلائها بإيمانها وشريعتها على الأوضاع والعقائد والنظم
والمناهج الجاهلية.
ومثل هذا وذاك التركيز على توحيد النسك في البلاد والأماكن التي جهل فيها
الناس معنى الألوهية، وصرفوا العبادة للشيوخ والأولياء، وقدسوا الأضرحة أكثر
من تقديس المساجد [9] .
وعلى العموم، فإن العلم بالعقيدة فريضة على كل مسلم، فضلاً عن كل داعية؛ لما لها من أهمية واعتبار في معرفة المنطلقات والثوابت وتحديد الأهداف
والغايات، والتمييز بين الواقع الشركي والواقع الإيماني، وتأصيل المنهج الشرعي
لئلا تنحرف الدعوة عن أهدافها المرسومة.
تلك هي الخطوط الكبرى لهذه العقيدة التي ركز عليها القرآن المكي خلال
ثلاثة عشر عاماً، ووقف عندها لا يتجاوزها، وكانت غايته تقريرها في النفوس،
بحيث تكون عقيدة إيجابية ثابتة مستقرة، قائمة على العلم والعمل، مبنية على
الوعي والنظر والمعايشة.
__________
(1) محمد قطب: واقعنا المعاصر.
(2) غلام حزوّر: إذا قوي واشتد أبو البقاء العكبري: المشوق المعلم، ج 1، ص 190.
(3) أخرجه ابن ماجه في السنن، رقم 61، وقال المحقق: في الزوائد: إسناده صحيح، ج1،
ص23.
(4) انظر على سبيل المثال: الحلية لأبي نعيم، وسير أعلام النبلاء للذهبي، والإصابة لابن حجر العسقلاني.
(5) ابن القيم مفتاح دار السعادة، ج2، ص 95.
(6) ابن حجر: الفتح، ج11، ص 229.
(7) عبد العزيز الجليل: إن ربك حكيم عليم، ص 11.
(8) عبد العزيز الجليل: قل هو نبأ عظيم، ص 99، 113.
(9) التجديد في الإسلام، مجلة البيان، عدد 2، ص 18، 19.(123/56)
مرتكزات للفهم والعمل
الرغبة في الصدارة
رؤية دعوية حول حقيقتها ومظاهرها وآثارها
(2من2)
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
تناول الكاتب في الحلقة الماضية خطر الرغبة في الصدارة لدى العاملين في
الحقل الدعوي، موضحاً ما جاءت به النصوص الشرعية بالتحذير من التطلع
للإمارة، ثم أوضح مظاهر الحرص على الإمارة والظهور، وآثار ذلك الحرص
ومفاسده.. ويتابع في هذه الحلقة إلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع. ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
أسباب الرغبة في الزعامة والتطلع للصدارة:
يُبتلى بهذه الشهوة العلماء والعباد والدعاة والمجاهدون ونحوهم؛ وذلك أنهم
منعوا أنفسهم من المعاصي والشهوات، حتى لم يعد لهم فيها مطمع، ولكن نفوس
بعضهم تبحث عن بديل ومكافأة لشدة المجاهدة، فتجده في التظاهر بالصلاح والعلم
والدعوة ... ولذة القبول عند الخلق، وتوقيرهم له واحترامهم وطاعتهم، فيهون
عليها ترك المعاصي؛ لأنها وجدت لذة أعظم منها، وهذه مكيدة عظيمة؛ فقد يظن
العبد نفسه مخلصاً، وهو في عداد المنافقين [1] والعياذ بالله ولكن يا ترى ما أسباب
هذا الأمر في الحقيقة؟ [2] .
1- ضعف الإيمان والرغبة فيما عند الله، الذي بسببه يركن هؤلاء إلى الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة، وأشد من هذا: فساد النيّة، واتخاذ سبيل العلم والدعوة
سُلماً لنيل الأغراض الشخصية، وما لهذا في الآخرة من نصيب، فلْيَنَلْ حظه من
الدنيا! !
2- وهناك أخطاء تربوية تسهم في إشعال فتيل حب الزعامة، منها: الإكثار
من مدحه والثناء عليه، أو عدم الكشف عن الطاقات الكامنة في المتربي لتوظيفها
فيما يناسبها، مما يجعله يسعى لتوظيفها في هلاكه، ومنها: الغفلة عن بذور هذا
المرض الأولية التي قد تبدو في سن مبكرة من المراحل التربوية، فتحتاج إلى
تهذيب وترشيد ومتابعة؛ لئلا تجمح بصاحبها.
3- التوهم بخدمة الدعوة من خلال المنصب، والظن أحياناً بأن الإصلاح لا
يكون إلا من مصدر القوة، وسبب هذا: عدم وضوح المنهج النبوي في الدعوة.
4- طبيعة الشخص نفسه، فقد يكون فيها من الثغرات ما يسبب مثل هذا،
كالغيرة من أقرانه الذين نالوا ما يتمناه هو، أو غروره بسبب تفوقه على غيره، أو
بروزه في الدعوة أو النسب، أو توليه بعض المسؤوليات والمهام.
5- الظن بأن المنصب تشريف، والغفلة عن كونه تكليفاً ثقيلاً، ومسؤوليةً
ضخمة، وعبئاً ثقيلاً، وهذا يتطلب من صاحبه التضحية بوقته وماله ونفسه
وراحته لمصلحة الآخرين، وأن التقصير فيه خيانة للأمانة وتضييع للواجب.
علاج الآفة وحلول المشكلة:
بعد تدبر الأسباب يظهر أن العلاج يتطلب خطوات أهمها [3] :
1- تكثيف التربية الإيمانية؛ القائمة على الإخلاص والتجرد لله تبارك وتعالى، والعمل للآخرة، والزهد في الدنيا.
2- التربية على الطاعة وهضم النفس منذ الصغر، والرضا بالموقع الذي
يعمل فيه، وأداء واجبه أياً كان نوعه، كما صوّر النبي -صلى الله عليه وسلم-
تلك الحال في قوله: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٍ رأسه،
مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في
الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفّع) [4] .
3- التزام الضوابط الشرعية في المدح، وتجنب مدح أحد الأقران أمام قرينه
مطلقاً.
4 - توضيح الأسس الشرعية لاختيار الأمير، وأنه لا يجوز طلب الإمارة،
ولا الحرص عليها، وأن من طلبها لا يُوَلاّها، وإن وُلِّيها لم يُعَن عليها.
5- المصارحة والمكاشفة لمن تبدو عليه علامات الحرص، مع إحسان الظن
به، فقد يكون متميزاً أو لديه مهارات فطرية، ومن ثَمّ النصيحة الفردية، فقد نصح
النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر رضي الله عنه في هذا الأمر خاصة [5] .
6- تبيان الآثار المفسدة لنفس العالم والداعية من جرّاء حرصه عليها [6] .
7- توضيح تبعاتها في الدنيا والآخرة. ومما ورد في ذلك: قوله: (ما من
عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة) [7] . وقوله: (ما
من أمير عشيرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً، لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه
الجور) [8] .
8- الاعتبار بحال السلف الصالح في تواضعهم لله تعالى، وكراهيتهم الشهرة
والتصدّر، وكل ما يؤدي إليها، ومحاولة عزل أنفسهم من بعض المواقع كما حصل
من أبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف، والحسن، وعمر بن عبد العزيز رضي الله
عنهم، والأمثلة كثيرة ... تركوها لله، لانشغالهم بمرضاته، وتوحّد همّهم وقصدهم، فتكفّل الله لهم بخير الدارين، فعوّضهم الله بشرف التقوى، وهيبة الخلق، قال
عز وجل: [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وداً]
[مريم: 96] ، وقال: (وما تواضع أحد لله إلارفعه) [9] . وقال: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) [10] .
ولا يمكن بحال تحصيل هذه المنزلة لمن كان في قلبه حب المكانة في قلوب
الخلق في الدنيا؛ لأن هذا من أعظم الصوارف عن الله تعالى. كتب وهب بن منبه
إلى مكحول: (أما بعد: فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفاً ومنزلة،
فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من
الأخرى) . والمراد بالعلم الباطن: المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته
ومراقبته، والتوكل عليه والرضى بقضائه والإقبال عليه دون سواه ... فمن أغل
نفسه بالمحافظة على ما حصل له من منزلة عند الخلق كان ذلك حظه من الدنيا،
وانقطع به عن الله [11] .
التوازن بين كراهية الصدارة والشهرة، وبين وجوب قيادة الناس:
لا ينبغي أن يفهم من هذا الموضوع إرادة قتل الطموح، وتفضيل دنو الهمة
والقعود والخمول والعجز والكسل والتهرب من المسؤولية، وترك العمل، والتخاذل
عن الواجبات، وفروض الكفايات خاصة إذا تعينت على الأكفاء، وترك اغتنام
الفرص النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل.
وقد جعل ابن القيم رحمه الله تعالى الفرق بين الأمرين كالفرق بين تعظيم أمر
الله وتعظيم النفس. فالناصح لله المعظم لله يحب نصرة دينه، فلا يضره تمنيه أن
يكون ذلك بسببه وأن يكون قدوة في الخير. أما طالب الرياسة فهو ساعٍ في حظوظ
دنياه، ولذا ترتب على قصده مفاسد لا حصر لها [12] .
والمقصود أن الداعية المخلص يكره التصدر والإمارة والشهرة بطبعه؛
لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب المبادرة الخيرة،
وهو فارس الميدان إذا تعين عليه التصدر؛ وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم:
[وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً] [الفرقان: 74] أي: أئمة هدى يقتدى بأفعالهم، وهذا
لشدة محبتهم لله، وتعظيمهم لأمره، ونصحهم له، ليكون الدين كله لله، وليكون
العباد ممتثلين لأمره.
وقال سبحانه وتعالى قاصاً كلام يوسف عليه السلام: [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى
خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] [يوسف: 55] ، وليس ذلك حرصاً منه على
الولاية، وإنما هو رغبة في النفع العام، وقد عرف من نفسه الكفاية والأمانة
والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه، فقصده إصلاح أموال الناس، وهو جزء من رسالة
الداعية إلى الله، الذي يكون همه الأول فعل الخير طلباً لمرضاة الله تعالى، وليس
قصده إرواء غليله، وإرضاء شهوته في الزعامة؛ فالضابط فيها هي النية
والموازنة بين المصالح والمفاسد العامة.
فبالجملة: هاتان الآيتان توضحان أن المسلم هو الرائد والدليل، بل قد ينبغي
له طلب هذه الوظيفة الشريفة، بل قد تتعين عليه للمصلحة. والأدلة والأقوال
المحذرة لا تنطبق على داعية تصدّر لإرجاع قومه إلى الحق، حتى لو اشتهر
وعرف فلا بأس [13] . ويجب التنبيه إلى أن هذا الأمر مزلق؛ لالتباس النية فيه
كثيراً، وصعوبة تمحيص القصد، وذلك علمه إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما
تخفي الصدور: [وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] [آل عمران: 30]
الكشف عن القدرات:
كون بعض الدعاة لا يصلح للإمارة لا يعني إخفاقه وضعفه في كل شيء، بل
إن غاية الأمر أنه لم يؤت قدرة في هذا الجانب، وقد يكون لديه من القدرات
والإمكانات في العلم والعمل ما يفوق ما عند غيره ممن أُهل للإمارة مثلاً، وهذه
سنة الله تعالى في توزيع القدرات، ليحصل التكامل والتوازن، قال تعالى: [وَهُوَ
الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] [الأنعام: 165] فعلى العبد أن يفتش في
نفسه عما هو أهل له، ليقوم بحق الله تعالى فيه.
وهكذا كانت نصيحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين قال له: (يا
أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين،
ولا تَولّيَنّ مال يتيم) [14] . ولا يقدح هذا في شيء من منزلة أبي ذر رضي الله
عنه وجلالته وقدره.
__________
(1) انظر مختصر منهاج القاصدين، ص 267 وانظر سير أعلام النبلاء، ج18، ص 191، 192.
(2) انظر: مشكلات وحلول، للبلالي، ص 85، 143.
(3) انظر آفات على الطريق، ج1، ص 72، ومشكلات وحلول، ص 86، 144.
(4) رواه البخاري، ح/2887.
(5) رواه مسلم، ح/1826.
(6) انظر كلاماً نفيساً حول هذا للآجري في: أخلاق العلماء، ص 100، 121، 122.
(7) رواه البخاري، ح/7150.
(8) رواه أحمد، ج2، ص 231، وانظر: صحيح الجامع، ح/5695.
(9) رواه مسلم، ح/2588.
(10) رواه مسلم، ح/2965.
(11) انظر: شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ، ص 65.
(12) انظر: الروح، ص 560 562.
(13) انظر: التنازع والتوازن في حياة المسلم، محمد بن حسن بن عقيل بن موسى، ص55، 61.
(14) رواه مسلم، ح/1826.(123/64)
البيان الأدبي
بعد ثمانية وعشرين عاماً من الغياب
علي أحمد باكثير.. الكاتب الذي قرأت له الملايين
بقلم: علي محمد الغريب
في وقت ساد فيه العبث حياتنا الثقافية، والأدبية، وفي فترة من الزمن تسللت
(شلل) الملحدين إلى وسائل الإعلام المختلفة كالأدب، والصحافة، والمسرح،
يُقْصُون كل من كان مؤمناً بقيم هذه الأمة، يدبرون له المكائد، وينصبون له
الشراك حتى يختفي من حياتهم أو يموت كمداً.
في هذه الأجواء الرهيبة وفي هذه العتمة الحالكة قدم من حضرموت إلى
القاهرة عام 1934م شاب يرغب في دراسة اللغة العربية والدين الإسلامي في
الأزهر، لكنه ما لبث أن غيّر رأيه ودخل كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة
فؤاد الأول (القاهرة حالياً) وكان هذا الاتجاه ناجماً عن تشجيع من العالم والأديب
محب الدين الخطيب؛ ليدرس الآداب الأجنبية، حتى يستطيع أن يرد السهام التي
يرمي بها دعاة التغريب في الأدب والحياة في وجه التيار الإسلامي؛ ولقد صدقت
فراسة الشيخ فأثبت الشاب فيما أنتجه من أدب فيما بعد أنه خير من حمل لواء الدفاع
عن الاتجاه الإسلامي مقتحماً عش (الدبابير) فكان نسمة لطيفة محملة بعبق مجد
مجيد، ورحيق تاريخ تليد، هذا الشاب هو: علي أحمد باكثير.
نبذة عن حياته: ولد علي أحمد باكثير في مدينة (سورا بايا) بأندونيسيا لأبوين
حضرميين حيث كان أبوه يعمل تاجراً، ولم تكن رحلات الحضارمة في أصقاع
الأرض حباً في التجارة فقط، فقد حملوا عقيدتهم مع بضاعتهم، وكانوا دعاة بالقدوة
الحسنة والسلوك القويم، وكان لهم دور بارز في نشر الإسلام في أنحاء الأرض،
وكان لهم الفضل بعد توفيق الله في دخول الكثير من الشعوب في الإسلام بخُلُقهم
الصدوق.
وعندما بلغ (علي) الثامنة من عمره أرسله والده إلى حضرموت ليتقن لغته،
وليأنس بأهله؛ فالحضرمي شديد التعلق ببلده.
لم يكد الفتى يبلغ الثالثة عشرة حتى أقبل على الشعر يقرضه، وينظمه، وقد
حفظ من أشعار القدماء، وكان ولوعاً بشعر المتنبي، ولكم حدثتْه نفسه وداعبت
مخيلتَه وهو صبي صورة شاعر عظيم كالمتنبي.. أخذ ينظم الشعر ثم يعرضه على
أصدقائه، وأساتذته، فأطروه وشجعوه؛ فكان لذلك الإطراء والتشجيع أثر بالغ في
إقباله على المزيد من القراءة، والدرس، والنظم أيضاً.
تزوج أديبنا في مرحلة مبكرة من فتاة أعجب بها، وأحبها حباً شديداً، نورة
باسلامة لكن لم يُقدّر لهذا الحب أن ينضج، أو أن يثمر وهو لا يزال غضاً فتوفيت
تلك الشابة، فحزن عليها حزناً شديداً.
ثم راح ينتقل من بلد إلى بلد؛ فمن حضرموت إلى عدن، ثم إلى الحبشة ماراً
بالصومال، ثم إلى السعودية التي مكث بها فترة غير طويلة، تعرّف خلالها على
أدباء وعلماء الحجاز والطائف يغشى مجالسهم، ويتدارس معهم أخبار الأدباء العرب. ثم عزم باكثير بعد ذلك على الرحيل إلى القاهرة حيث الحركة الأدبية نشطة.
وصل القاهرة عام 1934م، فالتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ثم حصل
منها على الليسانس عام 1939م. وفي عام 1940م حصل على دبلوم تربوي عمل
بعده مدرساً للإنجليزية بمدرسة الرشاد الثانوية بمدينة المنصورة بدلتا مصر.
دخوله المعترك الأدبي: دخل أديبنا معترك الحياة الأدبية منضماً إلى الركب
الإسلامي، فدافع ببسالة، وناضل بشجاعة منقطعة النظير، وكان جواده فكره،
وسلاحه يراعه يمده دمه. وقد اتسم أديبنا بتواضعه الجم، وبحيائه العذري؛ فكان
محياه كصفحة النهر هادئة صافية، بينما دخيلته كانت نهباً للصراع، والاضطرام،
والتحرق شوقاً للحفاظ على تاريخ أمته والنهوض بها.
حقد اليساريين عليه:
تألق الرجل في دنيا الأدب، فما من مسابقة تقام إلا كان باكثير في طليعة
الفائزين. ففي سنة 1947م أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية في مصر عن مسابقة
في ست روايات في مواضيع معينة، فتلقت الوزارة خمسمائة رواية، ولما فحصت
اللجنة المختصة ذلك الكم الهائل من الروايات كان باكثير قد فاز بروايتين من الست، فحقق نجاحاً مدهشاً. فكان ذلك النجاح والكثير غيره وهذا الاتجاه الإسلامي من
بواعث حقد اليساريين على باكثير المسلم، المتمسك بقيم الإسلام، الرافض لكل
التيارات الملحدة الزاحفة نحو ديارنا. بدأ أعداؤه في تدبير الحملات ضده سواء من
التشويه أو التجاهل، وكانوا يتغامزون ويتلامزون عليه في منتدياتهم قائلين عنه في
سخرية: (علي إسلامستان) فكان الرجل يرحمه الله يقول: (إنه لشرف عظيم لي
أن أتهم بالإسلامية فيما أقدمه من أدب) .
عندما صدر قانون التفرغ الأدبي كان باكثير أول من حصل على منحة للتفرغ
مدتها عامان، أنجز خلالهما رائعته: (الملحمة الإسلامية الكبرى عمر) فكانت
تاريخاً أدبياً لفترة الخليفة الثاني العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقعت في
ثمانية عشر جزءاً، استطاع من خلالها إلقاء الضوء على الحضارة الإسلامية الفذة،
وصوّر فيها الصراع الخالد بين قوى الخير والشر، بين القوة الإسلامية الواثقة من
عقيدتها، المؤمنة بربها، وبين أباطرة الروم وطغاة البشر، فصورها تصويراً
حاذقاً حتى لكأنك وأنت تقرأ تلك الملحمة تشم غبار المعارك، وتسمع صليل
السيوف من خلال أسلوبه الجزل، وبراعته الفائقة.
اهتم باكثير بقضايا أمته، ومن أبرز القضايا التي احتلت حيزاً كبيراً من
تفكيره ووجدانه (قضية فلسطين) فقد كتب فيها خمس مسرحيات أبرزها: (شيلوك
الجديد) ، (شعب الله المختار) ، (إله إسرائيل) ، (التوراة الضائعة) وترجم مسرحيته: (شيلوك الجديد) التي تنبأ فيها بقيام دولة إسرائيل وهزيمة الجيوش العربية إلى
الإنجليزية، وذلك لتوصيل صوته إلى الرأي العام العالمي محذراً من الصهيونية،
لكن دور النشر يا للأسف لم تقبل نشرها، فظلت حبيسة الأدراج حتى يومنا هذا،
ثم جاءت هزيمة الجيوش العربية أمام العدو الصهيوني فحزن باكثير حزناً شديداً
اعتلت بسببه صحته، وفي هذا يقول الأستاذ خيري حماد: (أبصرت بالدمعات
تتساقط من عيني الأستاذ المرحوم الفقيد الغالي باكثير وهو يقف عند شريط الحدود
الفاصل بين قطاع غزة والأرض المحتلة على بعد أمتار قليلة، وهو يرى الثكنة
الإسرائيلية وقد ارتفع عليها العلم الإسرائيلي.. رأيت عبرات باكثير فلم أتعجب،
فلقد أحب باكثير فلسطين كما أحب وطنه حضرموت، والقاهرة، وكل وطن عربي، بل إن لفلسطين مكانة خاصة في نفسه رافقته طوال حياته، فلقد أحب باكثير
فلسطين حباً عميقاً) ويكفي ما خلده فيها من أعمال أدبية رائعة.
قدّم باكثير للمكتبة الإسلامية قرابة خمسين كتاباً من بينها: (الملحمة الإسلامية
الكبرى عمر) التي لو لم يكتب غيرها لحفظت له مكاناً مرموقاً بين أعلام الأدب
وفرسان البيان، وفي سنوات عمره الأخير اشتدت الحملات المحمومة المسعورة
ضده للنيل منه؛ فما زاده ذلك إلا إيماناً وتثبيتاً، وفي ذلك يقول الدكتور عبده بدوي: (في الأعوام الأخيرة لم نعرف لباكثير مكتباً أو وظيفة، فقد تم تجميده تماماً،
وأسهمت أسماء لامعة في عالم اليسار من إحكام الحصار حوله، وحجب الضوء
عنه خوفاً من فكره الإسلامي وشخصيته الملتزمة) .
وكان يقول: (إنهم يحسبون أنهم سيقتلونني عندما يمنعون الأخبار عني، أو
يحاربون كتبي، ويحجبون مسرحياني عن الناس. أنا على يقين أن كتبي وأعمالي
ستظهر في يوم من الأيام، وتأخذ مكانها اللائق بين الناس، في حين تطمس
أعمالهم وأسماؤهم في بحر النسيان؛ لهذا فأنا لن أتوقف عن الكتابة، ولا يهمني أن
ينشر ما أكتب في حياتي، إني أرى جيلاً مسلماً قادماً يتسلم أعمالي ويرحب بها) .
ولقد صدقت نبوءته ويا ليته بيننا ليرى أن الذين حاربوه آنذاك لم يعد لهم ذكر
ولا لكتبهم، أما كتبه، وكتب صديقه محمد عبد الحليم عبد الله فقد تألقت، وأعيدت
وتعاد طباعتها مرات ومرات. بينما اختفت من السوق كتب من هاجموه، وهكذا
الحق والباطل؛ فالحق يبقى أبداً، أما الباطل فيمضي زهقاً.
وفي اليوم العاشر من نوفمبر عام 1969م خلع باكثير ملابس الأحياء مرخياً
أهدابه بعد أن فاضت روحه إلى بارئها، ولم يترك ذرية من صلبه إلا أنه كان نعم
الأب، ونعم الراعي لابنة زوجته التي رعاها حق الرعاية. رحل بعد أن سجل
تاريخه بصمات واضحة في حياتنا الأدبية، ورسمت خطواته علامات سباقة على
مسيرتنا الثقافية، فلقد تفرّد دون غيره بكثير من المواهب التي أضاءت نفسها
بنفسها، رغم مساحة الظل الكبيرة التي فُرِضت عليه أثناء حياته.
فسلام عليه رباناً مخلصاً لم تصافه الرياح، وسلام عليه مجاهداً لم يغمد قلمه
حتى واراه التراب.
رحم الله (باكثير) وجزاه خير الجزاء عما قدم من جهود أدبية إسلامية رائعة.(123/70)
البيان الأدبي
ثقافتنا بين حاملها والمحمولة إليه
بقلم: مشبب بن أحمد القحطاني
الدارس لتاريخ الأمّة عبر القرون الخالية يلمس بوضوح أن الأمّة امتلأت
بنماذج عديدة من العلماء والمثقفين والساسة والمصلحين ...
بل لا تكاد تجد لوناً إلا وله رجاله؛ وعليه قامت مدارس ومؤلفات ودراسات،
وانتهت إلى زماننا ثمرة غرس السابقين؛ وهذه الخصيصة من محامد هذه الأمّة،
ولعلّ هذا الجيل إنما يقوم بعمل ترتيب الأوراق السابقة وتهذيبها وبثها وتوجيهها.
وأحسب أن السابق إن لم يستوف جميع العناصر المطلوبة فهو بلا شك قد ألمح إليها
وبدأ طريقها، وأنا لا أغمط المتأخر حق مقارعة المتقدم؛ فالكل مجتهد وربما فاق
التلميذ أستاذه.
وفيما بين زرع السابق وجني اللاحق تكمن أمور مهمّة بدءاً بالأمانة العلميّة
وضبط المنقول ونسبة الفضل لأهله ...
وليس بغريبٍ أن يخرج مؤلِّفٌ أو محاضرٌ بمقالة: (إنّي لا آتي بجديد)
والأدْهى من هذا ظهور نوعيات في عصرنا ما بين مترجم لكتب الغرب، أو سارق
لتراث الشرق، أو متعالمٍ ومستكتبٍ له، ولهذا نال شهرة في زمن ضياع الأمانة
وسطحية المتلقّي وفقره المعرفي، وكان المنبري لكشف الحقائق نفرٌ قليل، ولربما
فسر هؤلاء المعاصرون أقوال المتقدمين وأطروحاتهم حسب المصالح الخاصة،
ومنهم من يرى أنّ الأفكار والخلاصات ليست حكراً لأحد ولا فضلاً خاصاً به، بل
من وجدها بعد جهله بها كان أحق بها كضالة الغنم. ولولا مخافة الإملال لحدثتك
أخي القارئ بأعاجيب من هذا النوع؛ ولعلِّي إلى هنا أضرب صفحاً، وأحترم
القارئ أيضاً عن ذكر كثير من حملة الثقافة إلينا.
وأما المتلقِّي محط الرحال فهو بين همّين: همِّ الثقة في الناقل، وهمِّ الريبة
حول المتناقض، وضعف المعلِّم وحرج الاختيار. والذي صعد سُلّم المعرفة وأتقن
مهاراتها فهو بلا شك يعلم على أيّ سقف يقف وليس المعني بحديثي هذا بخلاف
المبتدئ القابع في بداية السّلّم ولا يرى إلا السور أمامه كالشبح، فيا ترى من يتحمّل
مسؤوليّة الانحراف الفكري أو القصور الثقافي أو التيه المعرفي؟ وهل يسوغُ
للصانع عيب صنعته في زمن أدعياء الرِّيادة وزعماء الميدان؟ ولعلك إن دخلتَ
مستودع كتبٍ ونظرتَ في الجديد المأمول لتجد أنك دخلت عالماً غريباً متصارعاً،
متناقض الأفكار، بارد العرض، ضعيف الهدف، مشوّش الغاية. وبين هذا
الخضم المَهُول تجد فرداً يتيماً أو فردين مستوحشَيْن تأنس فيهما بالفائدة راجياً ألاّ
تعود بخفّي حنين فقد أصبح العلم تجارة وسباقاً.
ومن المؤسف أننا نسعى لإيجاد هوية لنا ونحن لا نزال نفتقر إلى الأدوات
المطلوبة والآليّة الفاعلة والنضوج المطلوب، والحقبة التي كنّا نقول فيها بأعلى
صوت: نحن سادة العالم وأرباب الفكر وروّاد الثقافة مضت برجالها الطامحين
المحترمين تاريخاً وعند خصومهم أيضاً، ولكي نصل إلى ما وصلوا إليه فلا بد من
دراسة مراحل تطورهم المعرفي والزّمني وكيف تسلّموا مقاليد العلوم.
ولعلي أذكر بعض الخطوات الهامة لتحقيق الهدف المنشود والغائب المنتظر؛
فمن ذلك: تبسيط المعروض ومفرداته، ثم التدرج وفق معيار الحاجة والمفترض،
وترتيب الأولويّات، والبداءة بالمهم فالأهم، والتفهم الدقيق والتفريق بينه وبين الذي
قبله، وتأمين القاعدة المناعية السلمية من الملوّثات الخارجية، وعدم الاستسلام
للعوائق، واختزال العناصر المتشابهة وتنقية المعروض، ورسم الأهداف المطلوبة
والغايات المنشودة، وأخيراً الرقابة على الموجود في الساحة وبيان الحق بأدلته....
إلخ.
وعندها نأمل خروج جيل واعٍ منطقي، واضح الهدف، وصافي الفكرة.
وأعتقد أن المُتَلَقِّي لو وَجَدَ كفَاية من الاحترام والاهتمام تحت رعاية الواجهات
المتجردة للحق المشْبِعَة للرغبات فقد بدأنا الطريق وإن بلغ ألف ميل؛ وأنا هنا أنظر
من نافذة الأمل الباسم والغد المشرق وذو الفرس السبّاقة هو من يبسم في النهاية.(123/74)
البيان الأدبي
رضى الناس
شعر: د. محمد بن ظافر الشهري
ضحِكْتُ فقالوا: ألا تحتَشِمْ؟ ! ... بكيتُ فقالوا: ألا تبتسمْ؟ !
بسمتُ فقالوا: يرائي بها ... عَبستُ فقالوا: بدا ما كَتَم
صَمَتّ فقالوا: كليل اللسان ... نطقت فقالوا: كثير الكَلِمْ
حَلُمت فقالوا: صنيع الجبان ... ولو كان مقتدراً لانتَقَم
بَسُلتُ فقالوا: لطيشٍ بهِ ... وما كان مُجْترِئاً لو حَكُمْ
يقولون: شذّ؛ إذا قلتُ: لا، ... وإمّعة حين وافَقْتُهُم
فأيقنت أنّيَ مهما أُرِدْ ... رِضى الناس لابدّ مِنْ أنْ أذَمّ(123/76)
البيان الأدبي
رجاء
شعر: صالح بن عبد الكريم العبودي
سألتك ربي فلا تأخذني ... بذنبي وإن كان أعظم ذنبِ
فعفوك أوسع من زلتي ... وذلي إليك ضميمة حبي
أقصر حتى إخال الرجا ... تولّى بعيداً وراء المهبِّ
وأطمع حيناً فأحسب أني ... ملأت بحبك نفسي وقلبي
رجائي ويأسي كنوري وناري ... وكم أوعداني ببعد وقرب
أقول هلكت وذابت حياتي ... كما ذاب ملح بدلو وغرب
وصرت هشيماً حصيداً بلا ... رجاء أرجّيه في عفو ربي
وضاعت مناي على صحصح [1] ... يباب وحسبي من الهم حسبي
ويقوى رجائي فأزعم أني ... بلغت الثريا بطهري وكسبي
وأني البريء فلا زلة ... فعلت ولا أُبتُ يوماً بحوْب
وأني علوت على شهوتي ... ولذة جسمي وصحت بخطبي
فما ثَمّ إلا جهاد يُرجّى ... ولا ثَم إلا وعود بكتبي
وتلك حياتي وما زلت فيها ... على الأمر هذا ببغضي وحبي
فيا رازق النمل في جحرها ... ويا ساقي الضب من غير شرب
ويا حافظ الحوت في لجةٍ ... تروعها برياح ونكب
ويا ممسك الطير في جوّه ... ولولاك ما جاوز الطير كعبي
أَمِدّ فؤادي بنور يريني ... بتلك المهاوي المخيفة دربي
فإني أخاف إذا ما الدجى ... غشاني وأخشى مزلة وثبي
فثبت خطاي على سنة ... مشاها محمد في خير صحب
ولا تتركني بكل طريق ... أهيم وحيداً أروح لنحبي
__________
(1) الصحصح: الأرض الجرداء المستوية ذات حصى صغار.(123/77)
المسلمون والعالم
الخطة السرية للآيات
في ضوء الواقع الجديد
عرض وتعليق: د. عبد الرحيم البلوشي
نشرت رابطة أهل السنة في إيران مكتب لندن هذه الرسالة السرية للغاية
الموجهة من شورى الثورة الثقافية الإيرانية إلى المحافظين في الولايات الإيرانية.
ومتن الرسالة على درجة من الوضوح بحيث لا أرى حاجة إلى التعليقات المفصلة؛
ولذا اكتفيت ببعض التعليقات الضرورية. وهذه الخطة (البروتوكول) موجهة إلى
المناطق السنية في إيران، من جهة، وموجهة إلى دول الجوار من جهة أخرى؛
لاسيما وإن إيران بعد فترة من المقاطعة الغربية لها رأت أن ذلك ليس في مصلحتها، وسياسات تصدير الثورة لم تعد ذات جدوى بل ضررها عليها أكبر؛ فنشأ الاتجاه
الأقل تطرفاً والداعي إلى الحوار والتهدئة والذي نشأ منه بروز (تيار خاتمي)
وبخاصة بعد تولي إيران رئاسة (المؤتمر الإسلامي) بعد مؤتمر طهران فهل سيعدِّل
القوم من رسالتهم؟ لا نظن ذلك؛ وهذه الرسالة تؤكد ذلك وحدها، وهذا ما أعلناه
ونحذر منه إخواننا في كل مكان. والله المستعان.
نص الرسالة: (إذا لم نكن قادرين على تصدير ثورتنا إلى البلاد الإسلامية
المجاورة فلا شك أن ثقافة تلك البلاد الممزوجة بثقافة الغرب [1] سوف تهاجمنا
وتنتصر علينا.
وقد قامت الآن بفضل الله وتضحية أمة الإمام الباسلة دولة الإثني عشرية في
إيران بعد قرون عديدة، ولذلك فنحن وبناءاً على إرشادات الزعماء الشيعة المبجلين
نحمل واجباً خطيراً وثقيلاً وهو تصدير الثورة؛ وعلينا أن نعترف أن حكومتنا
فضلاً عن مهمتها في حفظ استقلال البلاد وحقوق الشعب، فهي حكومة مذهبية [1]
ويجب أن نجعل تصدير الثورة على رأس الأولويات.
لكن نظراً للوضع العالمي الحالي والقوانين الدولية كما اصطلح على تسميتها
لا يمكن تصدير الثورة بل ربما اقترن ذلك بأخطار جسيمة مدمرة.
ولهذا فإننا خلال ثلاث جلسات وبآراء شبه إجماعية من المشاركين وأعضاء
اللجان وضعنا خطة خمسينية تشمل خمس مراحل، ومدة كل مرحلة عشر سنوات،
لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع الدول المجاورة ونوحد الإسلام أولاً [2] ؛
لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام الوهابيين وذوي الأصول السنية [3] أكبر بكثير
من الخطر الذي يواجهنا من الشرق والغرب [4] ؛ لأن هؤلاء (الوهابيين وأهل
السنة) يناهضون حركتنا وهم الأعداء الأصليون لولاية الفقيه [5] والأئمة
المعصومين، حتى إنهم يعدون اعتماد المذهب الشيعي كمذهب رسمي دستوراً للبلد
أمراً مخالفاً للشرع والعرف [6] ، وهم بذلك قد شقوا الإسلام إلى فرعين
متضادين [7] .
بناء على هذا: يجب علينا أن نزيد نفوذنا في المناطق السنية داخل إيران،
وبخاصة المدن الحدودية، ونزيد من عدد مساجدنا و (الحسينيات) [8] ونقيم
الاحتفالات المذهبية أكثر من ذي قبل، وبجدية أكثر، ويجب أن نهيئ الجو في
المدن التي يسكنها 90 إلى 100% من السنة حتى يتم ترحيل أعداد كبيرة من
الشيعة من المدن والقرى الداخلية إليها، ويقيمون فيها إلى الأبد للسكنى والعمل
والتجارة، ويجب على الدولة والدوائر الحكومية أن تجعل هؤلاء المستوطنين تحت
حمايتها بشكل مباشر ليتم إخراج إدارات المدن والمراكز الثقافية والاجتماعية بمرور
الزمن من يد المواطنين السابقين من السنة [9] والخطة التي رسمناها لتصدير
الثورة خلافاً لرأي كثير من أهل النظر، ستثمر دون ضجيج أو إراقة للدماء أو
حتى رد فعل من القوى العظمى في العالم، وإن الأموال التي ستنفق في هذا السبيل
لن تكون نفقات دون عائد.
طرق تثبيت أركان الدولة: نحن نعلم أن تثبيت أركان كل دولة والحفاظ على
كل أمة أو شعب ينبني على أسس ثلاثة:
الأول: القوة التي تملكها السلطة الحاكمة.
الثاني: العلم والمعرفة عند العلماء والباحثين.
الثالث: الاقتصاد المتمركز في أيدي أصحاب رؤوس الأموال.
إذا استطعنا أن نزلزل كيان تلك الحكومات بإيجاد الخلاف بين الحكام والعلماء، ونشتت أصحاب رؤوس الأموال في تلك البلاد ونجذبها إلى بلادنا، أو إلى بلاد
أخرى في العالم نكون بلا ريب قد حققنا نجاحاً باهراً وملفتاً للنظر؛ لأننا أفقدناهم
تلك الأركان الثلاثة.
وأما بقية الشعوب التي تشكل 70 إلى80% من سكان كل بلد فهم أتباع القوة
والحكم ومنهمكون في أمور معيشتهم وتحصيل رزقهم من الخبز والمأوى؛ ولذا فهم
يدافعون عمن يملك القوة.
ولاعتلاء أي سطح فإنه لا بد من صعود الدرجة الأولى إليه.
وجيراننا من أهل السنة والوهابية هم: تركيا والعراق وأفغانستان وباكستان
وعدد من الإمارات في الحاشية الجنوبية ومدخل (الخليج الفارسي) ! التي تبدو دولاً
متحدة في الظاهر إلا أنها في الحقيقة مختلفة. ولهذه المنطقة بالذات أهمية كبرى
سواء في الماضي أو الحاضر كما أنها تعتبر حلقوم الكرة الأرضية من حيث النفط،
ولا توجد في العالم نقطة أكثر حساسية منها، ويملك حكام هذه المناطق بسبب بيع
النفط أفضل إمكانيات الحياة ...
فئات شعوب المنطقة: وسكان هذه البلاد هم ثلاث فئات:
الفئة الأولى: هم البدو وأهل الصحراء الذين يعود وجودهم في هذه البلاد إلى
مئات السنين.
الفئة الثانية: هم الذين هاجروا من الجزر والموانئ التي تعتبر من أرضنا
اليوم، وبدأت هجرتهم منذ عهد الشاه إسماعيل الصفوي، واستمرت في عهد
نادرشاه افشار وكريم خان زند وملوك القاجار وأسرة البهلوي، وحدثت هجرات
متفرقة منذ بداية الثورة الإسلامية [10]
والفئة الثالثة: هم من الدول العربية الأخرى ومن مدن إيران الداخلية.
أما التجارة وشركات الاستيراد والتصدير والبناء فيسيطر عليها في الغالب
غير المواطنين الأصليين، ويعيش السكان الداخليون من هذه البلاد على إيجار
البنايات وبيع الأراضي وشرائها، وأما أقرباء ذوي النفوذ فهم يعيشون على
الرواتب العائدة من بيع النفط.
أما الفساد الاجتماعي والثقافي والأعمال المخالفة للإسلام فهي واضحة للعيان.
ومعظم المواطنين في هذه البلاد يقضون حياتهم في الانغماس في الملذات الدنيوية
والفسق والفجور!
وقد قام كثير منهم بشراء الشقق وأسهم المصانع وإيداع رؤوس الأموال في
أوروبا وأمريكا وخاصة في اليابان وإنجلترا والسويد وسويسرا خوفاً من الخراب
المستقبلي لبلادهم.
إن سيطرتنا على هذه الدول تعني السيطرة على نصف العالم.
أسلوب تنفيذ الخطة المعدة: ولإجراء هذه الخطة الخمسينية يجب علينا بادئ
ذي بدء أن نحسن علاقاتنا مع دول الجوار ويجب أن يكون هناك احترام متبادل
وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم حتى إننا سوف نحسن علاقاتنا مع العراق بعد
الحرب وسقوط صدام حسين [11] ؛ ذلك أن إسقاط ألف صديق أهون من إسقاط
عدو واحد.
وفي حال وجود علاقات ثقافية وسياسية واقتصادية بيننا وبينهم فسوف يهاجر
بلا ريب عدد من الإيرانيين إلى هذه الدول؛ ويمكننا من خلالهم إرسال عدد من
العملاء كمهاجرين ظاهراً ويكونون في الحقيقة من العاملين في النظام، وسوف
تحدد وظائفهم حين الخدمة والإرسال.
لا تفكروا أن خمسين سنة تعد عمراً طويلاً؛ فقد احتاج نجاح ثورتنا خطة
دامت عشرين سنة، وإن نفوذ مذهبنا الذي يتمتع به إلى حد ما في في الكثير من
تلك الدول ودوائرها لم يكن وليد خطة يوم واحد أو يومين، بل لم يكن لنا في أي
دولة موظفون فضلاً عن وزير أو وكيل أو حاكم [12] ، حتى إن الفرق الوهابية
والشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية كانت تعتبرنا من المرتدين وقد قام أتباع هذه
المذاهب بالقتل العام للشيعة مراراً وتكراراً، صحيح أننا لم نكن في تلك الأيام،
لكن أجدادنا قد كانوا، وحياتنا اليوم ثمرة لأفكارهم وآرائهم ومساعيهم وربما لن
نكون نحن أنفسنا في المستقبل لكن ثورتنا ومذهبنا باقيان. ولا يكفي لأداء هذا
الواجب المذهبي التضحية بالحياة والخبز والغالي والنفيس، بل يتوجب أن يكون
هناك برنامج مدروس، ويجب إيجاد مخططات ولو كانت لخمسمئة عام مقبل فضلاً
عن خمسين سنة؛ فنحن ورثة ملايين الشهداء الذين قُتِلوا بيد الشياطين المتأسلمين
(السنة) وجرت دماؤهم منذ وفاة الرسول في مجرى التاريخ إلى يومنا هذا، ولم
تجف هذه الدماء ليعتقد كل من يسمى مسلماً بـ (عليّ وأهل بيت رسول الله)
ويعترف بأخطاء أجداده، ويعترف بالتشيّع كوارثٍ أصيل للإسلام [13] . مراحل مهمة في طريقنا:
أولاً: ليس لدينا مشكلة في ترويج المذهب في أفغانستان وباكستان وتركيا
والعراق والبحرين، وسنجعل الخطة العشرية الثانية هي الأولى [14] في هذه
الدول الخمس، وعلى ذلك فمن واجب مهاجرينا العملاء المكلفين في بقية الدول
ثلاثة أشياء:
1- شراء الأراضي والبيوت والشقق، وإيجاد العمل ومتطلبات الحياة
وإمكانياتها لأبناء مذهبهم ليعيشوا في تلك البيوت ويزيدوا عدد السكان.
2- العلاقة والصداقة مع أصحاب رؤوس الأموال في السوق والموظفين
الإداريين خاصة الرؤوس الكبار والمشاهير والأفراد الذين يتمتعون بنفوذ وافر في
الدوائر الحكومية.
3- هناك في بعض هذه الدول قرى متفرقة في طور البناء، وهناك خطط
لبناء عشرات القرى والنواحي والمدن الصغيرة الأخرى، فيجب أن يشتري [15]
هؤلاء المهاجرون العملاء الذين أرسلناهم أكبر عدد ممكن من البيوت في تلك القرى
ويبيعوا ذلك بسعر مناسب للأفراد والأشخاص الذين باعوا ممتلكاتهم في مراكز
المدن، وبهذه الخطة تكون المدن ذات الكثافة السكانية قد أُخرجت من أيديهم.
ثانياً: يجب حث الناس (الشيعة) على احترام القانون وطاعة منفذي القانون
وموظفي الدولة، والحصول على تراخيص رسمية للاحتفالات المذهبية وبكل
تواضع وبناء المساجد والحسينيات؛ لأن هذه التراخيص الرسمية سوف تطرح
مستقبلاً على اعتبار أنها وثائق رسمية.
ولإيجاد الأعمال الحرة يجب أن نفكر في الأماكن ذات الكثافة السكانية العالية
لنجعلها موضع المناقشة في المواقع الحساسة، ويجب على الأفراد في هاتين
المرحلتين أن يسعوا للحصول على جنسية البلاد التي يقيمون فيها باستغلال
الأصدقاء وتقديم الهدايا الثمينة، وعليهم أن يرغِّبوا الشباب بالعمل في الوظائف
الحكومية والانخراط خاصة في سلك الجندية. وفي النصف الثاني من هذه الخطة
العشرية يجب بطريقة سرية وغير مباشرة استثارة علماء السنة والوهابية ضد الفساد
الاجتماعي والأعمال المخالفة للإسلام الموجودة بكثرة في تلك البلاد، وذلك عبر
توزيع منشورات انتقادية باسم بعض السلطات الدينية والشخصيات المذهبية من
البلاد الأخرى، ولا ريب أن هذا سيكون سبباً في إثارة أعداد كبيرة من تلك
الشعوب، وفي النهاية إما أن يلقوا القبض على تلك القيادات الدينية أو الشخصيات
المذهبية أو أنهم سيكذبون كل ما نشر بأسمائهم [16] وسوف يدافع المتدينون عن
تلك المنشورات بشدة بالغة وستقع أعمال مريبة [17] وستؤدي إلى إيقاف عدد من
المسؤولين السابقين أو تبديلهم، وهذه الأعمال ستكون سبباً في سوء ظن الحكام
بجميع المتدينين في بلادهم؛ وهم لذلك سوف لن يعملوا على نشر الدين وبناء
المساجد والأماكن الدينية، وسوف يعتبرون كل الخطابات الدينية والاحتفالات
المذهبية أعمالاً مناهضة لنظامهم، وفضلاً عن هذا سينمو الحقد والنفرة بين العلماء
والحكام في تلك البلاد؛ وحتى أهل السنة والوهابية سيفقدون حماية مراكزهم
الداخلية ولن يكون لهم حماية خارجية إطلاقاً.
ثالثاً: وفي هذه المرحلة حيث تكون ترسّخت صداقة عملائنا لأصحاب
رؤوس الأموال والموظفين الكبار، ومنهم عدد كبير في السلك العسكري والقوى
التنفيذية وهم يعملون بكل هدوء ودأب، ولا يتدخلون في الأنشطة الدينية، فسوف
يطمئن لهم الحكام أكثر من ذي قبل، وفي هذه المرحلة حيث تنشأ خلافات وفرقة
وكدر بين أهل الدين والحكام فإنه يتوجب على بعض مشايخنا المشهورين من أهلك
تلك البلاد أن يعلنوا ولاءهم ودفاعهم عن حكام هذه البلاد وخاصة في المواسم
المذهبية، ويبرزوا التشيع كمذهب لا خطر منه عليهم، وإذا أمكنهم أن يعلنوا ذلك
للناس عبر وسائل الإعلام فعليهم ألاّ يترددوا ليلفتوا نظر الحكام ويحوزوا على
رضاهم فيقلدوهم الوظائف الحكومية دون خوف منهم أو وجل. وفي هذه المرحلة
ومع حدوث تحولات في الموانئ والجزر والمدن الأخرى في بلادنا، إضافة إلى
الأرصدة البنكية التي سوف نستحدثها سيكون هناك مخططات لضرب الاقتصاد في
دول الجوار. ولا شك في أن أصحاب رؤوس الأموال وفي سبيل الربح والأمن
والثبات الاقتصادي سوف يرسلون جميع أرصدتهم إلى بلدنا؛ وعندما نجعل
الآخرين أحراراً في جميع الأعمال التجارية والأرصدة البنكية في بلادنا فإن بلادهم
سوف ترحب بمواطنينا وتمنحهم التسهيلات الاقتصادية للاستثمار.
رابعاً: وفي المرحلة الرابعة سيكون قد تهيأ أمامنا دول بين علمائها وحكامها
مشاحنات، والتجار فيها على وشك الإفلاس والفرار، والناس مضطربون
ومستعدون لبيع ممتلكاتهم بنصف قيمتها ليتمكنوا من السفر إلى أماكن آمنة؛ وفي
وسط هذه المعمعة فإن عملاءنا ومهاجرينا سيعتبرون وحدهم حماة السلطة والحكم،
وإذا عمل هؤلاء العملاء بيقظة فسيمكنهم أن يتبوؤوا كبرى الوظائف المدنية
والعسكرية ويضيِّقوا المسافة بينهم وبين المؤسسات الحاكمة والحكام، ومن مواقع
كهذه يمكننا بسهولة بالغة أن نشي بالمخلصين لدى الحكام على أنهم خونة؛ وهذا
سيؤدي إلى توقيفهم أو طردهم واستبدالهم بعناصرنا. ولهذا العمل ذاته ثمرتان
إيجابيتان:
أولاً: إن عناصرنا سيكسبون ثقة الحكام أكثر من ذي قبل.
ثانياً: إن سخط أهل السنة على الحكم سيزداد بسبب ازدياد قدرة الشيعة في
الدوائر الحكومية، وسيقوم أهل السنة من جراء هذا بأعمال مناوئة أكثر ضد
الحكم، وفي هذه الفترة يتوجب على أفرادنا أن يقفوا إلى جانب الحكام، ويدعوا
الناس إلى الصلح والهدوء، ويشتروا في الوقت نفسه بيوت الذين هم على وشك
الفرار وأملاكهم.
خامساً: وفي العشرية الخامسة فإن الجو سيكون قد أصبح مهيأ للثورة؛ لأننا
أخذنا منهم العناصر الثلاثة التي اشتملت على: الأمن، والهدوء، والراحة؛
والهيئة الحاكمة ستبدو كسفينة وسط الطوفان مشرفة على الغرق تقبل كل اقتراح
للنجاة بأرواحها.
وفي هذه الفترة سنقترح عبر شخصيات معتمدة ومشهورة تشكيل مجلس شعبي
لتهدئة الأوضاع، وسنساعد الحكام في المراقبة على الدوائر وضبط البلد؛ ولا ريب
أنهم سيقبلون ذلك، وسيحوز مرشحونا وبأكثرية مطلقة على معظم كراسي المجلس؛ وهذا الأمر سوف يسبب فرار التجار والعلماء حتى الخَدَمة المخلصين، وبذلك
سوف نستطيع تصدير ثورتنا الإسلامية إلى بلاد كثيرة دون حرب أو إراقة للدماء.
وعلى فرض أن هذه الخطة لم تثمر في المرحلة العشرية الأخيرة فإنه يمكننا
أن نقيم ثورة شعبية ونسلب السلطة من الحكام، وإذا كان في الظاهر أن عناصرنا
الشيعية هم أهل تلك البلاد ومواطنوها وساكنوها، لكننا نكون قد قمنا بأداء الواجب
أمام الله والدين وأمام مذهبنا، وليس من أهدافنا إيصال شخص معين إلى سدة الحكم
فإن الهدف هو فقط تصدير الثورة؛ وعندئذ نستطيع رفع لواء هذا الدين الإلهي،
وأن نُظهر قيامنا في جميع الدول، وسنتقدم إلى عالم الكفر بقوة أكبر، ونزين العالم
بنور الإسلام والتشيع حتى ظهور المهدي الموعود) اهـ.
هذه رسالة سرية واحدة وفقنا الله تعالى لنشرها؛ وهناك كتب ورسائل
وبحوث مهمة جداً ألفها كبار آياتهم ومراجعهم ودعاتهم تنطوي على كيد كبير بأهل
السنة.
اغتيالات علماء السنة بعد مجيء خاتمي [*] :
اغتيال علماء السنة وتوقيفهم المتتالي والعشوائي مستمر في إيران حتى بعد
مجيء خاتمي؛ وقد بدأت أمواج الاضطهاد تتسرب من مدن أهل السنة إلى قراهم،
وفي الأسبوعين الأخيرين اقتيد الشيخ نظام الدين روانبد ابن الشيخ عبد الله رحمه
الله العالم والشاعر الشهير في بلوشستان الإيرانية إلى السجن، وكان الشيخ نظام
الدين بصدد بناء مسجد، وكان يدير مدرسة صغيرة، ولم يعرف مصيره حتى الآن، علماً أن بناء مسجد أو مدرسة دينية للسنّة في إيران يُعتبر من الجرائم التي لا
تغتفر. كما اغتيل في الأسبوع الماضي الشيخ يار محمد كهرازهي إمام جمعة أهل
السنة في مدينة خاش الذي كان يدير مدرسة دينية أيضاً، وجميع الشواهد تدل على
أن المخابرات الإيرانية هي التي اغتالته؛ لأنها اغتالت قبل سنتين ونصف تقريباً
مدير المدرسة نفسها: الشيخ عبد الستار رحمه الله إمام الجمعة والعالم الشهير لأهل
السنة في مدينة خاش البلوشية؛ وذلك ضمن حملتها المسعورة بقيادة مرشد الثورة
خامنئي لإخلاء إيران من علماء السنة؛ ليتسنى لهم تشييع البلد كلياً بعد ذلك كما
كتبوا ذلك في مخططاتهم الخمسينية السرية.
وأما خليفة الشيخ وهو يار محمد رحمه الله فقد كان يخضع لاستجواب
المخابرات الإيرانية كغيره من مشايخ السنة، وطلب منه فصل الطلاب من غير
أبناء المنطقة ليقطعوا أدنى صلة بين السنة في إيران حيث يعيشون في أطراف
إيران الأربعة وحين رفض الشيخ ذلك ألقي القبض على الطلاب وتم إعادتهم بعد
السجن والتعذيب إلى بلادهم، وكان للشيخ يار محمد موقف مشهود في الدفاع عن
هؤلاء الطلاب.
هذا في بلوشستان الواقعة في جنوب شرقي إيران، أما بالنسبة للتركمان السنّة
الساكنين في شمالي إيران فقد وصلنا الخبر التالي:
هاجمت عناصر المخابرات الإيرانية في الساعة الثانية والنصف ليلاً (من
شهر آب) 1997م منزل الشيخ آخوند ولي محمد ارزانش الذي هرب من إيران
ولجأ إلى تركمانستان (أسوة بمئات من طلبة العلم من السنة الإيرانيين الذين هربوا
إلى البلاد المجاورة) ؛ وعندما لم يجدوه في المنزل أوسعوا ابنه ضرباً، ثم استولوا
على بعض الصور والمستندات والوثائق المتعلقة بالتركمان، وغادروا البيت بعدما
هددوا أهله بالموت إذا هم أخبروا الشرطة، وهذه الحادثة كانت هي الثانية من
نوعها؛ إذ إنه في شهر نيسان/ إبريل 1997م هجم شخص مجهول (من مجاهيل
إمام الزمان لديهم وهي كناية عن المخابرات) مسلح بسكين على منزل الشيخ ولي
محمد ليقتله ونجا الشيخ بعدما أصيب بجروح خطيرة، وكل هذه الأعمال والقرائن
المتعلقة بها تدل على ضلوع المخابرات الإيرانية في مثل هذه الأعمال التي بدأت
بأمر من الخامنئي بالتصفية الجسدية والاغتيال والإعدام ودس السم والقتل بالطرق
المتعددة لعلماء السنة في الداخل والخارج.
ونحن نناشد المسلمين النصرة، ونناشد الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية
لتقصي الأمور وإدانة التعصب الطائفي لعل هذا يردعهم عن الاستمرار في هذه
الممارسات، فيتوقفوا عن قتل العلماء الأبرياء وهدم المساجد والمدارس، ويتركوا
أهل السنة يعيشون في إيران موطن آبائهم وأجدادهم كغيرهم من الأقليات، علماً
أنهم ثاني أكبر نسبة في إيران؛ إذ إن عددهم يصل إلى ثلث البلد أي من 15 إلى
20 مليون نسمة.
نسأل الله أن يوفق إخواننا أهل السنة لمعرفة هذه المخططات الشيطانية وأن
يرد سبحانه كيد من يريد بالمسلمين شراً إلى نحورهم.
والله من وراء القصد،
__________
(1) قارن هذا الاعتراف بما يردده بعض الببغاوات بأن إيران دولة إسلامية؛ فيالها من غفلة!.
(2) أي أن نشيِّع جميع الدول المجاورة وفي نهاية الرسالة بيان لهذه العبارة الواضحة.
(3) وفي العبارة الأصلية: المتسننين.
(4) ولذا قالت المخابرات الإيرانية للعلاّمة الشهيد الشيخ محمد صالح ضيائي قبل أن يمزقوه إرباً إرباً: إن الطلاب الذين أرسلتهم للدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أخطر علينا من صواريخ صدام حسين! ! .
(5) ولاية الفقيه هي الحكم المزعوم بأنه إلهي لنائب إمام المهدي الذي بإمكانه أن يعطل الصلاة والحج، وبإمكانه أن يعطل توحيد الله كما كان يقول الخميني ويردد ذلك أتباعه ليلاً نهاراً! ! .
(6) وهذا الذي قاله الشيخ عبد العزيز ملا زاده نائب أهل السنة في بلوشستان في مجلس الخبراء لكتابة الدستور قائلاً للخميني: إن الدول الإسلامية لا يوجد لها مذهب رسمي في دستورها، فلماذا تكرسون الخلاف والاختلاف إلى الأبد بجعلكم للبلد مذهباً رسمياً في الدستور؛ ألا يكفي أن يكون دين الدولة هو الإسلام ثم انسحب من المجلس.
(7) وهذا الكلام للاستهلاك المحلي وإلا فهم يعرفون جيداً أنهم هم الذين فرقوا المسلمين ثم ها هم يطلبون منهم الاعتراف بالإمامة وإعادة حقوق أهل البيت المغصوبة في زعمهم! .
(8) الحسينية هي المكان الذي يجتمعون فيه؛ خاصة في شهر المحرم، لضرب الخدود وشق الثياب في ذكرى استشهاد الحسين رضي الله عنه مع سب عظماء الإسلام، ونقد تاريخ المسلمين ويهتمون بهذه الحسينيات أكثر من اهتمامهم بالمساجد وأما في خارج إيران فأصبحت مراكز تجسس لإيران كما نشرت ذلك بالتفاصيل جريدة (انقلاب إسلامي) لأبي الحسن بني صدر أول رئيس إيراني بعد الثورة في العام الماضي وأعلنت عن المراكز الجاسوسية الإيرانية في دول الخليج خاصة في الإمارات بالاسم والعنوان والتاريخ وكيف أن المخابرات الإيرانية تجمع الأموال من التجار الإيرانيين في الإمارات دون أن تدخل هذه المبالغ الطائلة إلى البنك المركزي الإيراني ودون أن تعلم الدولة عنها شيئاً، لكن هل من قومنا من يقرأ؟ ! ! .
(9) وقد بدئ بكثير من هذه الخطط بالفعل.
(10) هؤلاء المهاجرون كلهم من السنة طبعاً، هذا من وقت طرح هذه البروتوكولات التآمرية، أما الآن فقد حدثت هجرات كثيرة كما خططوا لها في جميع المناطق السنية في إيران.
(11) لأن هذا البروتوكول كما أشرنا من قبل كان وقت الحرب ولم يستطيعوا إسقاط صدام حسين؛ فغيروا التكتيك ولكن الخطة مستمرة تجاه تحسين العلاقات وكما نعلم أن طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي التقى مع الرئيس الإيراني الخاتمي على هامش المؤتمر الإسلامي المنعقد في طهران في 11/12/ 1997م.
(12) ونرى من عملائهم بوضوح هنا في لندن في الجرائد الفارسية المخالفة للنظام من مشايخهم الذين كانوا من وعاظ الشاه والآن يكتبون في الجرائد الفارسية والعربية من الدجل والنفاق باسم الوحدة ما تريده إيران وتطبقه بالفعل ولكن باسم مخالفة النظام الإيراني؛ ولبعضهم جولات في البلاد العربية باسم الوحدة الإسلامية ولكنهم يطبقون بالفعل ما تتكلم عنه هذه البروتوكولات الآياتية؛ ولذا شن أحدهم على رابطة أهل السنة هجمة شعواء لما أعلنت الرابطة أنباء اضطهاد أهل السنة في إيران، وبدأ هذا المشبوه يسب سيدنا عثمان وتاريخ المسلمين، وكانت الافتراءات والاتهامات دون أدنى وازع إنساني أو ديني أو علم أو بحث علمي، ومع كل هذا يعتبر نفسه من أبطال الوحدة الإسلامية! ! .
(13) فليسمع هذا جيداً ولْيَعِهِ الببغاوات الذين ينادون بالوحدة معهم.
(14) لكونهم تجاوزوا الخطة الأولى إلى الخطة أو البروتوكولية الثانية.
(15) طبقوا بعض هذه الخطط في قرى سوريا وتشيّع من أبنائها عدد من المسلمين ورأينا منهم من يشتغل في المركز الثقافي الإيراني في ساحة المرجة في دمشق من هؤلاء المتشيعين وأصحاب الأقلام المرتزقة من الدول العربية من العلمانية والمنافقة والمتصوفة وغيرهم الذين يلتقونك هناك.
(16) وكلاهما ينفع أتباع ابن سبأ هؤلاء؛ لأنها تثير الفتن في كلتا الحالتين، وسيقع الخلاف بين الحكام والعلماء، وهذا الذي يريدونه؛ ومن نسي أعمالهم هذه في التاريخ فعليه بكتيب صغير ومهم وهو: (بروتوكولات آيات طهران وقم) للدكتور ناصر القفاري.
(17) أي أن الشيعة هم الذين سوف يرتكبون أعمالاً مريبة وفتناً للوقيعة بين الحكام والعلماء واستعداء الحكومات على الدين ودعاته.
(*) رابطة أهل السنة في إيران.(123/78)
المسلمون والعالم
لتر الماء ... لتر النفط
أيهما أغلى؟
(2من2)
بقلم: خالد محمد مسعود القحطاني
وضح الكاتب في الحلقة السابقة أهمية المياه الصالحة للشرب كمورد
استراتيجي تتنافس عليه الأمم في العصر الراهن، ثم بين موقع العالم العربي من
هذه الأزمة معدداً المصادر المائية العربية وأهميتها والأخطار والمشكلات التي
تهددها.. ويواصل في هذه الحلقة إيضاحه لجوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
(إسرائيل) ومشكلة المياه:
تقع فلسطين في الطرف الشمالي من البحر المتوسط، غرب الأردن وجنوب
لبنان، وتقع على أطراف المنطقة المطيرة في الشمال، وتمتد حتى تصل إلى
المناطق الجافة في الجنوب، وتتراوح كميات الأمطار بين 900 1000 ملليمتر في
منطقة صفد وحتى 39 ملم سنوياً في منطقة إيلات العقبة [1] .
وقد أدرك اليهود منذ القدم أهمية السيطرة على مصادر المياه في فلسطين،
وتحدثنا المراجع التاريخية أن التعاون بين الاستعمار البريطاني والصهيونية العالمية
تعاون كامل، وحقائق التاريخ تؤكد أن الحكم الصهيوني مبنيٌ على حقائق مائية؛
ومن ذلك كان سَعْيُ الآباء الأوائل لليهود: هرتزل، ووايزمان، وبن جوريون؛
لتأمين هذا الجانب حتى قبل إنشاء ما يسمى بـ (إسرائيل) وشملت طموحاتهم ليس
فلسطين فقط؛ بل كل المصادر المائية في غرب آسيا والنيل [2] .
ففي رسالته المؤرخة في 29/2/1919م والمرسلة إلى لويد جورج رئيس
وزراء بريطانيا يطالب حاييم وايزمان بتحسين حدود الوطن القومي لليهود..
وكانت ذريعته الكبرى في ذلك: المياه، ولقد رأى وايزمان أنه من الضروري أن
يضم المشروع الصهيوني في ثناياه حوض الليطاني وجبل الشيخ وحرمون الذي
يحتوي على منابع أنهار: الأردن، وبانياس، واليرموك؛ بحجة أن هذه المياه
ضرورية للدولة اليهودية.
وقضية بهذا الحجم شغلت بال السياسة اليهودية وصارت تمثل قضية حياة أو
موت؛ وبقراءة لتاريخ الحركة الصهيونية يتضح لنا وبجلاء مراحل السيطرة
اليهودية على مصادر المياه في فلسطين ولبنان والأردن وسوريا (هضبة الجولان:
* ففي عام 1903م تقدم تيودور هرتزل إلى الحكومة البريطانية في عهد
الملكة فيكتوريا واللورد سالبوري وجوزيف شميزلت وآرثر بلفور وإلى الحكومة
المصرية في عهد الخديوي عباس الثاني ومصطفى باشا فهمي وبطرس باشا غالي
والمعتمد البريطاني اللورد كرومر بهدف تحويل مياه النيل إلى سيناء، وقد بذل
هرتزل نشاطات كبيرة لتحقيق المشروع الهادف إلى توطين اليهود في شبه جزيرة
سيناء، وقد لقي موافقة مبدئية من الحكومة البريطانية، إلا أنه أخفق بسبب
الظروف الدولية حينذاك التي فرضت على إنجلترا سياسة الوفاق الودي مع فرنسا
عام 1904م تأهباً لمواجهة ألمانيا واستعداداً للصدام مع تركيا وألمانيا عند الانتقال
لتنفيذ سكة حديد الحجاز.
*وفي عام 1919م وأثناء تقديم المذكرة الصهيونية المقدمة إلى مؤتمر الصلح
في باريس كانت تنص على أن تبدأ حدود فلسطين عند نقطة على البحر المتوسط
بالقرب من صيدا وتتبع منابع المياه النابعة من سلسلة جبال لبنان حتى جسر فرعون، ثم إلى البير، ثم تتبع الخط الفاصل بين حوض وادي القرن ووادي تيم، ويتجه
جنوباً لتتبع الخط الفاصل بين المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ.
*وفي عام 1941م قُدِّم اقتراح للرئيس اللبناني الفريد نقاش لاستثمار المصادر
المائية في لبنان على يد المؤسسات الصهيونية، ولكن انكشفت أبعاد هذا المشروع
ومراميه فأوقفته بعض الأصوات الوطنية في حينه.
*وفي عام 1948م اندفع اليهود ومنذ الأشهر الأولى لقيام ما يسمى (إسرائيل)
لاستغلال ما تحت أيديهم، وشكلوا لهذا الغرض لجنة من سبعة عشر خبيراً،
ووضعت خططاً وأهدافاً وهي التي عرفت بالخطة السبعية؛ وبدئ في تنفيذها عام
1953م بالعمل على زيادة استثمار الموارد المائية في فلسطين من 810 ملايين متر
مكعب (إنتاج عام 1953م) إلى 1730 مليون متر مكعب في نهاية الخطة عام
1960م، ويحتاج تدبير الكمية اللازمة وحجمها 920 مليون متر مكعب إلى:
*مشاريع زيادة استغلال الينابع والمياه الجوفية والسطحية داخل فلسطين
لتوفير 380 مليون متر مكعب.
*استغلال نهر الأردن وروافده التي توفر نحو 540 مليون متر مكعب.
*وفي عام 1964م أعلن اليهود أنهم على وشك الانتهاء من المراحل الأولى
من مشروعهم لإيصال مياه الأردن إلى النقب، ولأجل ذلك اجتمع مجلس الجامعة
العربية في القاهرة في 13/1/1964م وأقر تشكيل هيئة لاستغلال مياه نهر الأردن
وروافده، وتشكيل قيادة عربية مشتركة مهمتها إعداد ما يلزم لحماية المشروع
العربي الطموح! ! ! وتكفل المجتمعون بتغطية نفقات المشروع.. ولكن المشروع
انتهى بنهاية مضحكة مبكية عندما استولى اليهود عام 1967م على مواقعه في
الجولان واستولوا على آلياته ومنذ ذلك الحين ونهر الأردن وروافده في أيدي اليهود.
*وفي عام 1967م تقاقمت أزمة المياه في إسرائيل نتيجة الهجرة اليهودية
المكثفة إلى فلسطين؛ وقد حلت المشكلة بعد حرب 1967م، وحصلوا على 500
مليون متر مكعب دفعة واحدة كأكبر المكاسب التي حققها اليهود.
والجدير ذكره أن هضبة الجولان قد احتلها اليهود في هذه الحرب وهي في
غاية الأهمية؛ إذ إنها تعتبر المصدر الأول للمياه في فلسطين، وتتلقى سنوياً أكثر
من 500 ملم من الأمطار، ويصل ارتفاع الثلج إلى 30 سم ويوجد بها حوالي 100
نبع توفر سنوياً ما بين 50 و 60 مليون متر مكعب.
كما تمكن الغاصبون من إحكام السيطرة على نهر اليرموك، وأتيح لهم أيضاً
السيطرة على منابع نهر بانياس [3] . ويستغل اليهود حالياً 31. 5 مليون متر
مكعب من المياه في جنوب الهضبة، و6 مليون متر مكعب في المنطقة الوسطى،
وما بين 7 8 مليون متر مكعب في المنطقة الشمالية منها.
*وفي عام 1971م بدأ الاستغلال المركّز من قِبَلِ السلطات الإسرائيلية لمياه
الجولان في إطار الخطة الخمسية لتلك الفترة، وقامت شركة يهودية بحفر مجموعة
من الآبار الارتوازية لصالح المستوطنات اليهودية هناك، كما أقيمت محطة لضخ
المياه من بركة رام التي تقع على أقدام جبل الشيخ ومساحتها 900 متر مربع
ويتراوح عمقها ما بين 8 و 9 أمتار وطاقتها 1. 500. 000 متر مكعب؛ وذلك
لنقلها إلى المستوطنات اليهودية.
*وفي عام 1978م قامت إسرائيل بتركيب مضخات بطول 10كم من مجرى
نهر الليطاني مجاورة لبلدة سوريان وحتى خزانات مشروع الطيبة، كما قامت
بتركيب خط آخر بطول 25كم من خزانات الطيبة وحتى بلدة عنيا الشام حيث
شيدت خزانات ضخمة قرب البلدة تستقبل مياه الليطاني وتوزعها على الجبل.
*وفي عام 1982م وبعد غزو لبنان عمدت إسرائيل إلى تقديم الأسلاك الشائكة
مسافة تتراوح بين 3 و 5 كلم داخل الحدود اللبنانية حول نهر وبلدة الوزاني جنوب
شرق الحدود مسيطرة بذلك على سبعة كيلومترات مربعة من الأراضي. كما شقت
نفقاً من قرية كفر كلا حتى وادي ميماس في مرج عيون لسحب مياه الليطاني إلى
فلسطين (إسرائيل) ، ويبلغ طوله 17كلم وقد أدى إلى تعريض 250 قرية لبنانية
للعطش في الوقت الذي سمح فيه لليهود باستغلال مياه الليطاني بسبب انخفاض
مستوى الأرض في فلسطين. وتجدر الإشارة إلى أن كميات المياه التي حصل عليها
اليهود جراء اجتياح لبنان عام 1982م هي 800 مليون متر مكعب من المياه. وفي
عام 1987م أتم اليهود تحويل مياه الحاصباني ونبع الوزاني ومياه الليطاني، وبتمام
هذا العام يكون اليهود قد استولوا على: 65 مليون متر مكعب في السنة من ينابيع
الوزاني، و110 مليون متر مكعب في السنة من نهر الحاصباني، و400 مليون
متر مكعب في السنة من نهر الليطاني!
نرى من جميع ما سبق أن اليهود يأخذون عنوة: من سوريا 200 مليون متر
مكعب (عدا الاحتياطي الكبير من المياه في هضبة الجولان) و 575 مليون متر
مكعب من لبنان، إضافة إلى 600 مليون متر مكعب سنوياً من الضفة الغربية.
إن مشكلة نقص الموارد المائية الأصلية في إسرائيل تتزايد بتزايد ضغوط
النمو السكاني والهجرة المكثفة؛ وبذلك أصبحت مشكلة المياه هاجس إسرائيل الدائم، بل إنها حلت في المرتبة الثانية بعد أمنها [4] .
وينبغي أن نشير هنا إلى بعض التقارير الخاصة التي صدرت عن بعض
الجهات الحكومية الإسرائيلية التي ألمحت بشكل أو بآخر إلى تفاقم أزمة المياه هناك.
فقد أوردت صحيفة (الهاآرتس) اليهودية في 11/6/1990م أن الدكتورة
جوليس ستار الباحثة في معهد الدراسات الاستراتيجية بواشنطن أوضحت في مؤتمر
صحفي عقد في تل أبيب خلال زيارة عمل أن مسألة المياه ومصادرها ستطرح في
أية تسوية محتملة بين الفلسطينيين واليهود كمسألة من الدرجة الأولى، وحذرت في
الوقت نفسه من أن العجز المائي في فلسطين سيصل إلى 30% [5] .
وفي التقرير الصادر في 3/5/1990م حذر بنك إسرائيل من تدني مخزون
المياه في أعقاب السحب الزائد والمستمر من هذه المياه وزيادة حدة المشكلة إذا لم
يتوفر تقليل استهلاك المياه [6] . وبشكل عام فإن نقص المياه الذي يزداد سوءاً
بعامل التغيرات المناخية التي وسّعت من القحط الدوري، وبعامل الإدارة غير
الكفء للمياه ساهمت في جعل المياه مسألة مصيرية تشغل بال حكومات المنطقة
كاملة، كما تساهم الأوضاع السياسية والإقليمية أيضاً في تفاقم مشكلة المياه حيث
كانت الدول التي تشارك في شبكات الأنهار الرئيسة في المنطقة عاجزة عن الارتفاع
فوق الصراعات التاريخية من أجل التعاون في تنمية موارد المياه الثمينة. وبالنسبة
للمستقبل المنظور يحذر الخبراء من عدم وجود أي علاج شامل في التعامل مع
نقص المياه الوشيك [7] .
وفي الجانب الآخر يتميز الوضع الاستراتيجي لحوضي دجلة والفرات بموقع
متأزم وخطير لوجود طرف غير عربي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإن
كان يرتبط بكل من العراق وسوريا بكونه دولة إسلامية، ولا شك أن ارتباط تركيا
السياسي والعسكري يفوق ارتباطها الديني وذلك بالنسبة لقيادتها السياسية.
ولعل إسرائيل قد استطاعت وبسياسة متعمدة توثيق علاقاتها مع تركيا،
وكذلك مع أثيوبيا وكينيا وكلها من دول المنبع لأهم المصادر المائية العربية،
وتستخدمها إسرائيل في تزويدها بما تحتاجه من المياه مقابل خدمات فنية وتمويلية،
وتستخدمها في الوقت نفسه ورقة ضغط سياسية على دول مصب هذه الأنهار مثل
مصر والعراق والسودان وسوريا. وتجدر الإشارة هنا إلى ما أعلنته تركيا عن
مشروع خط السلام التركي وهو خط يتكون من أنبوبين: الأنبوب الشرقي ويبلغ
طوله 2800 كلم، والآخر يصل طوله 4000 كلم، وهذا المشروع من شأنه
تحويل مياه نهري دجلة والفرات إلى بحيرات وأنابيب تتحكم تركيا في مفاتيحها؛
وقد بدأ الإعداد لهذا المشروع منذ عام 1986م على يد شركة بروان أندرت
الأمريكية، التي أعلنت أن دراسة الجدوى لهذا المشروع انتهت عام 1991م، وأن
تكاليفه تقدر بواحد وعشرين مليار من الدولارات، وإذا كان العرب قد عارضوا
بشدة مثل هذا المشروع فإن تركيا قد بدأت بتنفيذ المراحل الأولية منه بالتعاون مع
إسرائيل؛ وذلك بمد خط أنابيب لنقل 2. 300. 000 مليون متر مكعب من المياه
إلى إسرائيل [8] .
وإذا كانت الحرب المائية قد بدأت بالفعل ضد العرب عند الفرات بعد التعاون
التركي الإسرائيلي، فإن فصول هذه الحرب يتم إعدادها دون يأس عند منابع النيل
بالتعاون مع أثيوبيا وكينيا لسرقة المياه على حساب مصر والسودان.
وبالعودة إلى نهر الفرات فإن هناك أربعة محاور رئيسة ينبغي مراعاتها:
الأول: المياه بتركيبتها الاستراتيجية المعروفة ثلاثية الاستخدام: (الشرب،
الري، توليد الكهرباء) ولذلك فإن تأثيرها اليوم في حياة البشر تأثير مباشر سريع،
ومن ثَمّ يمكننا فهم حساسية الموقف وصعوبته بالنسبة لسوريا التي يجري فيها نهر
الفرات، ومن مياهه تقوم الحياة عليها؛ وخاصة في شمال وشرق سوريا، وكذلك
الوضع بالنسبة للعراق الذي يخترقه هذا النهر.
الثاني: الأقليات العربية: فعند التقاء الحدود السورية التركية، والعراقية
التركية؛ تشتعل أزمة الأقليات خاصة الأكراد الذين يعيشون على الحدود العراقية
والسورية والإيرانية والسوفييتية (سابقاً) مكونين واحدة من أعقد المشاكل العرقية في
المنطقة.
الثالث: وهو دخول إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر في مسلسل
الصراعات في المنطقة المحيطة بها لإشغالها بأي وسيلة. فمن مصلحة إسرائيل
إشغال المنطقة بالصراعات بعيدة عن الحدود الإسرائيلية، وشد الانتباه العربي بعيداً
عن القضية الفلسطينية.
الرابع: محور التوترات السياسية والعسكرية السائدة، فإسرائيل ترى في
سوريا أخطر أعدائها، وإيران ما زالت متحفزة لاستئناف حربها مع العراق، كما
أن ثورة الأكراد قائمة على أشدها في تركيا والعراق [9] .
الخاتمة:
فهذه نتف من أخبار مشكلة المياه في المنطقة العربية من العالم الإسلامي وإني
أرجو أن أكون قد وفقت في إيضاح الصورة أمام القارئ الكريم حتى تتضح معالم
وأبعاد هذه القضية الحساسة.
ومما لا شك فيه أن هناك جوانب كثيرة لم أتطرق إليها ولعل من أشهرها
طريقة الحرب اليهودية وقصصها المؤسفة على ضفاف الأنهار العربية؛ وكذلك
الحلول العامة لهذه القضية وهي من المسائل الهامة التي أرجو أن تتاح فرصة في
المستقبل لتناولها بالشرح والتفصيل.
وأسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل
معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر؛ إنه على ذلك قدير
وبالإجابة جدير. والحمد لله أولاً وآخراً..
__________
(1) دائرة معارف الشباب، د، فاطمة محجوب، ص 742.
(2) الحرب القادمة حرب المياه، سمير عيسى، ط1، 1412هـ، دار أسامة للنشر والتوزيع، الرياض.
(3) انظر في جميع ما سبق (التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيوني) وكذا ملف السياسة الدولية، وانظر في جغرافية الجولان (الحرب القادمة حرب المياه) .
(4) السياسة الدولية.
(5) الفرسان، عدد 713/7/11/1991م.
(6) المرجع السابق.
(7) انظر السياسة الدولية.
(8) مجلة الإصلاح العدد، 160 صفر، 1412هـ.
(9) مجلة الفرسان/ عدد 713 الإثنين 7/11/1991م.(123/90)
المسلمون والعالم
الإسلام والمسلمون في نيجيريا
بين الماضي والحاضر
بقلم: محمد بابنجيدا محمد
لمحة تاريخية: إن للإسلام تاريخاً قديماً وعريقاً في الدولة التي تعرف اليوم
بـ (نيجيريا) ، وكانت المنطقة في العهد الماضي تسمى بلاد (الهوسا) أو بلاد غرب
(السودان) ، ويرجع تاريخ انتشار الإسلام وتغلغله في هذه الديار إلى القرن الخامس
الهجري، فقد تحدث علماء التاريخ العرب مثل: (القلقشندي) في صبح الأعشى عن
قدم ملوم (برنو وكانم) في الإسلام وعلاقتهما بـ (مصر) في أواخر الدولة
الظاهرية [1] ، أما (كانو) و (كاتسينا) ، وبقية مدن (هاوسا) ، فقد تأخر تغلغل الإسلام فيها إلى القرن الثامن الهجري.
ومن الجدير بالذكر أن انتشار الإسلام في هذه المنطقة كان عن طريق سلمي
بحت لم يَشُبْهُ أي ضغط أو إجبار؛ فلقد أراد الله بأهل هذه البلاد خيراً، فسيّر إليهم
الإسلام، وكانت الوثنية العمياء قبل ذلك قد أدت بهم إلى أسوأ الأخلاق وفساد النظام
حتى كادت أن تهوي بهم إلى مكان سحيق.
دور التجار المسلمين: ويرجع فضل انتشار الإسلام في بلاد (الهوسا) بعد
فضل الله إلى التجار المسلمين من (مالي) وشمال إفريقيا، فاشتهرت بعض مدنهم
مثل (كانو) و (كاتسينا) بوصفها مراكز تجارية عريقة، وكانت هذه الأسواق تجذب
التجار من مناطق نائية ومن بينهم التجار المسلمين، وكان التجار المسلمون
يتميزون بقيم وسلوك تجعلهم محل إعجاب؛ فقد كانوا أهل صدق وأمانة ووفاء،
وأهل نظافة ونظام دقيق وخاصة عندما يشاهدهم الناس في وضوئهم وصلاتهم،
ومن أحسن الناس لباساً وهيئة، يجيدون الكتابة والقراءة، ويعاملون الناس في
شرائهم وبيعهم وغير ذلك بود وسماحة؛ مما دعا الناس إلى حبهم والثقة بهم
والإقبال على تلك العقيدة السامية التي توجِّه هؤلاء التجار إلى هذا السلوك.
عدم الإدراك الكامل: بيد أن من اعتنق الإسلام في أول الأمر لم يدركوا
حقائق التعاليم الإسلامية، فاستمروا على ما يشبه جاهليتهم، مع تأديتهم بعض
شعائر الإسلام مثل الصلاة والصوم، ولكن ذلك لم يمنعهم من التعلق بغير الله،
والذبح للجن والأشجار، وإتيان الكهنة والسحرة، والتطير، وإدمان الخمر، وتبرج
النساء، وغير ذلك، وزاد الطين بِلّة أن أكثر السلاطين الذين ادعوا الإسلام لم
يؤمنوا به حق الإيمان، وإنما أرادوا استغلاله لمصالحهم؛ لما رأوا إقبال الناس
على ذلك الدين الجديد.
وكان العلماء أيضاً في أول العهد قلة، ولم يكن لدى التجار الذين هم سبب
انتشار الإسلام الكفاءة العلمية التي تؤهلهم لشرح المعاني الدقيقة والقواعد الأساسية
للإسلام، ويضاف إلى ذلك كثرة ترحال التجار وعدم استقرارهم في محل واحد؛
مما جعل إمكانية التعليم الجاد المستمر أمراً عسيراً.
إلا أن الأمور تحسنت لما بدأ العلماء يفدون إلى هذه البلاد ومن أشهر من
زارها من العلماء (الإمام السيوطي) رحمه الله، فانكب جمع من الناس على طلب
العلم، ونشأت مدارس ومراكز علمية في بعض المدن.
المذهب السائد: ومن فضل الله أن المذهب السني هو الذي ترسخ في هذه
البلاد، إلا أنه في السنوات القليلة الماضية تحمس بعض الشباب للثورة الإيرانية
فزلت أقدامهم، وأُتُوا من حيث يدرون أو لا يدرون، فأخذوا بالمذهب الشيعي
الجعفري.
وإن كان للطرق الصوفية دور في نشر الإسلام في بدايات الأمر، غير أنها
خلّفت رصيداً من البدع والخرافات لا تزال البلاد تعاني من آثارها السيئة حتى الآن.
حركة الشيخ عثمان بن فودى التجديدية: ثم شاء الله أن تهبّ رياح الخير
والبركات في أوائل القرن الحادي عشر الهجري، فيبزغ على التتابع نخبة من
العلماء الراسخين في العلم، ومن هؤلاء [2] : الشيخ (محمد ثمب بن عبد الله) ،
وكان عالماً تقياً، رحل إلى الحرمين وأقام فيهما بضعاً وعشرة حجة، ومنهم الشيخ
(محمد بن الراجي) ، أخذ صحيح البخاري وكتب السنة عن علماء الحجاز، وله
سند للبخاري عن شيخه (أبي الحسن السندي) عن (محمد بن حياة السندي) ، وعلى
هذا اشترك فيما يبدو مع الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) في التلمذة على (محمد بن
حياة) . ومن هؤلاء النخبة أيضاً الشيخ (جبريل بن عمر) ، الذي كان عالماً ربانياً،
شديد التمسك بالسنة والسير على منهج السلف الصالح عقيدةً وعملاً وسلوكاً، وصار
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ديدنه، ولم يكن يخاف في ذلك لومة لائم.
كان الشيخ (جبريل) أبرز من حارب البدع والعادات الجاهلية ودعا إلى العقيدة
الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وأخذ عنه هذه الفكرة
تلميذه الشيخ (عثمان بن محمد بن صالح بن فودي) ، وكان رجلاً ورعاً تقياً صالحاً
وعالماً متفنناً، ساءته أحوال البلاد من قلة العلم وانتشار البدع والخرافات وظلم
الأمراء وغير ذلك، مقتفياً في ذلك أثر شيخه (جبريل بن عمر) فجال المدن والقرى
يدعو الناس ويعلمهم دينهم، فدعا إلى إحياء السنة النبوية وطرح كل ما خالفها،
ومن اطلع على كتبه يدرك حماسة الرجل للسنة وشدة تمسكه بها، وأحسن مثال
لذلك كتابه: (إحياء السنة وإخماد البدعة) ، وكتاب: (بيان البدع الشيطانية) ،
وكتاب: (بيان وجوب الهجرة) وغيرها التي تزيد عن مئة كتاب.
وقد وقف رحمه الله أمام سلاطين (الهوسا) وأنكر عليهم انحرافهم عن الدين
وظلمهم الرعية، وحملهم إياهم على أحكام جاهلية وتقاليد موروثة، فقابلوا دعوته
بالرفض والاضطهاد له، قال الشيخ (عثمان) في كتابه (نجم الإخوان) : (أرسلنا إلى
جميع ملوك الهوسا أن ينصروا دين الله ويعينونا في إقامة الدين، فاستكبروا وأبوا؛
فاستأصلهم الله، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [3] ، وجمع
السلاطين قواتهم، وكان أشدهم عداوة للمسلمين سلطان (غوبر يُنْنَى) ، فدارت
مناوشات وحروب انتهت إلى النصر المبين لجماعة الشيخ.
وهكذا تم الأمر بانتصار الإسلام والمسلمين، وأقام الشيخ (عثمان) دولة
إسلامية هي الوحيدة على نمطها في القارة الإفريقية، وكانت على ما يذكر الدكتور
(حسن عبد الظاهر) أول تجربة إسلامية بإطلاق في تاريخ المنطقة، صبغت
المنطقة بصبغة الإسلام، وأعطت المسلمين مفهوماً صحيحاً عن الإسلام، وكانت
تجربة رائدة وقدوة اقتفى أثرها كثير من الحركات الإسلامية في المناطق المجاورة
لها شرقاً وغرباً [4] ؛ إذ طبقت الشريعة بكل جوانبها، وساد الأمن والخير والبركة
في البلاد، واستمرت خلافة (سوكوتو (على المنهج الإسلامي وإن وجدت بعض
الانحرافات عن المنهج الأمثل لدى بعض أمرائها، ولكن قواعد الدولة ظلت على
أساس الشريعة الإسلامية إلى أن سيطر الإنجليز عليها عام 1903م.
الاستعمار وأسلوبه الماكر في الهدم: طمع الإنجليز في دولة (سوكوتو)
الإسلامية وخططوا لهدمها والسيطرة على أرضها وسرقة كنوزها، وأرسلوا عيونهم
على فترات من الزمن ليستكشفوا أسرار الدولة، ومن أبرز هؤلاء العيون:
(كلابرتون) Clapperton و (دينهام) Denham و (أدني) Oudney، وقد
زار هؤلاء منطقة (برنو) ، و (كانو) ، و (سوكوتو) عدة مرات بعد الرحلات
الاستكشافية التي قام بها (مونجو بارك) Mungo park قبلهم [5] وفعلاً حصلوا
على بغيتهم، فبعد مدة من الزمن مشوبة بالمكر والمكائد واختلاق اتفاقيات تجارية
وسياسية قام الإنجليز بحملة شرسة على دولة (سوكوتو) الإسلامية، وقاومهم جنود
الإسلام ولكن لما لم تكن المقاومة من الإمارات الإسلامية موحدة فلم تُجْدِ شيئاً،
وسقطت الإمارات الإسلامية على يد الإنجليز واحدة تلو الأخرى، وأخيراً سقطت
العاصمة (سوكوتو) عام 1903م.
سيطر الإنجليز على الحكم وأوثقوا قبضتهم على البلاد، ولكنهم أدركوا من
أول وهلة أن التعرض المباشر لمعالم الدين سيوقظ حفيظة الناس ويثيرهم ضد الحكم
الإنجليزي النصراني الغاصب، فاستغلوا نظام الحكم القائم وحكموا البلاد بطريق
غير مباشر وهو ما أسموه Indirect rule؛ إذ كانوا يصدرون أوامرهم للأمراء
المحليين؛ وهم يقومون بدور تنفيذها على رعيتهم، وعلى هذا يكون الحاكم الحقيقي
هو الممثل الإنجليزي.
وكذلك لم يقم الإنجليز بإلغاء الشريعة الإسلامية جملة واحدة عن طريق
مراسيم، بل كانوا يرددون في كل المناسبات أن لا دخل لهم بديانة الناس وتقاليدهم، وقد يُظهِرون في بعض الأحيان (في نفاق سافر) تأييدهم لبعض مظاهر الدين،
ولكن ما أن تَمّتْ لهم السيطرة على البلاد حتى كشفوا القناع؛ فظهرت عداوتهم
للإسلام وبدؤوا يستخفّون به، ويصفون شريعته بالهمجية، واستطاعوا أن يلغوا
الشريعة تدريجاً حتى لا يتفطّن لذلك المسلمون.
نعم: غلب الإنجليز المسلمين في ساحة القتال، ولكن روح الإسلام بقيت في
قلوب الناس، فقابلوا تلك الهزيمة برفض كل ما ينتمي إلى الإنجليز، وهجرَ
جمهور الناس مدارس الإنجليز، واستقبحوا التشبه بهم في كلامهم ولباسهم وكل
تقاليدهم، ويرى بعض الناس أن هذا كان سبب تأخر المسلمين خصوصاً في الشمال
في العلوم المدنية، غير أن الحقيقة هي أن هذا الموقف ساعد المسلمين إلى حد كبير
في الحفاظ على دينهم إلى جانب أن الإنجليز لم تكن لهم رغبة صادقة في تعليم
المسلمين العلوم التي تؤهلهم لإدارة أمورهم من غير الاعتماد على غيرهم، وكان
سعي الإنجليز نحو تأهيل النصارى والوثنيين كبيراً ليتولوا شؤون البلد بعد
مغادرتهم؛ وهذا ما حصل بالفعل.
حاضر نيجيريا: هي أكبر دول أفريقيا السوداء: فهي ذات طاقات بشرية
ومعدنية ولها موقع جغرافي استراتيجي وحساس؛ مما جعلها محل اهتمام القوى
الغربية، ولما تملكه من مميزات يسهل عليها التأثير على الدول المجاورة لها مثل
(النيجر) و (الكاميرون) و (بنين) و (تشاد) و (غانا) وغيرها، ويشمل هذا التأثير
الأمور الاقتصادية والسياسية والدينية والفكرية.
يبلغ عدد سكان (نيجيريا) حالياً أكثر من مئة مليون نسمة، ويشكل المسلمون
حوالي 70% من عدد السكان، وفيها قبائل كثيرة جداً يصل عددها إلى أكثر من
مئتين كلها متباينة اللغات واللهجات، وأكبر قبائل الإسلام هي (الهوسا) و (الفلاني)
و (كانوري) في شمال (نيجيريا) و (يوروبا) في الجنوب.
و (نيجيريا) دولة بترولية، وعلاوة على ذلك فهي غنية بمعادن هائلة قلما
يوجد مثلها مجتمعة في دولة واحدة؛ ففيها الذهب، والفضة، واليورانيوم، والفحم
الحجري، والنحاس، والحديد، وغير ذلك [6] ، وفيها أيضاً أراضٍ واسعة صالحة
للزراعة وتربية المواشي.
ولكن كل هذه الطاقات الطبيعية تكاد تكون مهدورة؛ إذ لم يستغل منها إلا
القليل جداً، فلا تزال الدولة تعاني من المشاكل الاقتصادية، وتتصاعد الديون
الدولية عليها، ويعيش أغلبية الناس في فقر مدقع بجانب طبقة قليلة تتقلب في ثروة
قارونية وترف فاحش، وتستغل الهيئات التنصيرية العالمية هذا الوضع السيئ
لاصطياد ضعفاء النفوس وتنصيرهم.
المسلمون ودستور الدولة: إن دستور الدولة عبارة عن خليط من النظام
الإنجليزي الموروث والنظام الديمقراطي الغربي، وظلت العلمانية القاعدة الأساسية
التي تقوم عليها الدولة. نعم توجد محاكم إسلامية في الولايات الشمالية تحكم في
دائرة الأحوال الشخصية، ولكن هذا ولما فيه من بعض تحريفات وقيود لا يشفي
غليل المسلمين.
الصراع العنيف بين الكفار والمسلمين: منذ أن ضمت المناطق الشمالية
والغربية والشرقية في سنة 1914م، لتكوِّن دولة (نيجيريا) ، عرف الناس أن
الخطأ الفظيع الفاحش قد ارتكب؛ فهي مناطق بينها اختلاف ومباينة في الدين
واللغات والتقاليد والتاريخ والطموحات، وقد فقدت الدولة المصطنعة كل شروط
ومقومات الوحدة والاستقرار، أو ما يسميها (ابن خلدون) بالعصبية؛ فالمنطقة
الشمالية تعتز بمجدها الإسلامي وتتطلع لإعادة ذلك، والمنطقة الجنوبية (ما عدا
مناطق اليورباة المسلمة) ترحب بالنفوذ النصراني؛ فشتان ما بينهما، وكان هذا
سبباً لحدوث صراعات مريرة بين الكفار والمسلمين كادت أن تقضي على كيان
الدولة؛ ففي سنة 1966م، قام بعض (الإيبو) بانقلاب عسكري أدى إلى قتل عدد
من القادة المسلمين، منهم رئيس الوزراء الحاج (أبو بكر تفاوا بليوا) ، والحاج
(أحمد بلو) حفيد الشيخ (عثمان بن فودي) ، وكان الحاج (أحمد بلو) قبل ذلك قد أثار
غضب الدول الغربية ودولة الصهاينة بجولاته الدعوية ومساندته الظاهرة لقضايا
الإسلام، ثم زاد على ذلك قولته المشهورة لما سئل عن العلاقة مع إسرائيل: (ليس
في قاموسي ولا في خريطتي لإسرائيل وجود) ، فقتلوه بعد ذلك، قتلهم الله.
الحرب الأهلية (1966م 1970م) : ثم ولجت الدولة في حرب أهلية دامية
بسبب إعلان (الإيبو) انفصالهم عن (نيجيريا) وإقامة دولة (بيافرا النصرانية
الانفصالية) ، فأخفقت تلك المحاولة وأرغموا على البقاء في (نيجيريا) ، ولكن لا
تزال فكرة الانفصال واردة لديهم، ففي سنة 1992م، قام بعضهم بمحاولة غير
ناجحة لانقلاب عسكري، وكان من القرار المتفق عليه لديهم هو إخراج الولايات
الشمالية المسلمة من دولة (نيجيريا) ، ومع هذا فقد شاء الله أن يكون لبعض (الإيبو)
نصيب من الإسلام، فهناك الآن عدد منهم يُقْبِلون على الإسلام مع أن الجهود التي
يبذلها المسلمون في دعوتهم قليلة جداً. إن هناك الآن أقلية مسلمة من (الإيبو)
ونشاهد المساجد في بعض قرى ومدن تلك الفئة؛ إذ يوجد مسجد كبير ومدرسة
إسلامية في (أغبور) ، ومسجد جامع في الجامعة النيجيرية بـ (إنسوكا) ومركز
إسلامي تابع لرابطة العالم الإسلامي في (آبيكبو) (كلها في وسط الإيبو (، وهناك
حاجة إلى دراسة واعية لاحتياجات الدعوة في تلك المنطقة حتى تتم للعمل الإسلامي
أهدافه.
أخطار الفتن الطائفية: لقد اتخذ النصارى أسلوب إثارة الفتن الطائفية بقصد
الاستئصال العرقي للمسلمين، ومن ذلك ما قامت به بعض قبائل الأقلية النصرانية
في الولايات الشمالية المسلمة من قتل المسلمين وتحريق بيوتهم ومساجدهم وتخريب
حقولهم، حدث هذا في (زانجون كاتف) (Zangon Kataf) سنة 1990م ثم في
سنة 1994م. وفي 1995م هاجم الكفار الكتفيون المسلمين يوم الجمعة وهم
يصلون فقتّلوهم تقتيلاً؛ حتى إن المرأة الحامل بقروا بطنها واستخرجوا الجنين ثم
ضربوا برأسه الحائط.
وقد قام النصارى بمثل هذا أيضاً عدة مرات في (تفاوا بليوا) Tafawa
Balewa، وفي (كافنشان) Kafancan، وفي (تيجنو وادوجو) Tigno
Wadugu وقع ألف من المسلمين ضحايا أثناء هذه الأعمال الإجرامية التي قام بها
النصارى، وفي كل مرة تحدث هذه المذابح تقوم أجهزة الإعلام بعملية تشويه
للحقائق تزويراً للأمور وتبرئة للنصارى.
وأجهزة الإعلام عندنا يسيطر عليها النصارى، وإن وجدت مسلماً في جهاز
إعلاميٍّ مّا، ألفيته غير واع لواقعه ولا جاداً في دينه إلا قليلاً ممن عصمهم الله
وهداهم.
ومما يزيد الأسف أن رجال الأمن الموكلين بمكافحة الشغب أغلبهم من
النصارى؛ فهم يزيدون النار تأججاً، ويُنزلون الويلات بالمسلمين، ويساعدون
إخوانهم النصارى خفية وجهراً، وهذا من نتائج تفريط المسلمين؛ إذ تمكن
النصارى من الوصول إلى المراكز الحساسة في الدولة بينما أهمل المسلمون العمل
الجاد الموجه نحو تحقيق العزة للإسلام والمسلمين.
والحال على هذا المنوال في كل الجوانب؛ فالنصارى هم أصحاب الشركات
الكبيرة، وهم المتسلطون على الأعمال التجارية المهمة، وهم أصحاب المهارات
العلمية والمهنية، في حين تجد أكثر المسلمين في أعمال تجارية تافهة مثل بيع
القصب والكعك إضافة إلى مهن يدوية لا تحتاج إلى علم ولا مهارة مثل إصلاح
الأحذية والحلاقة، ولا ننكر وجود عدد من المسلمين أصحاب ثروات طائلة
وأصحاب مهارات علمية ومهنية، غير أن عددهم لا يتناسب والأغلبية الكبيرة
للمسلمين في الدولة، ومع هذا فلو أحسن المسلمون استغلال الثروات التي في أيديهم
والطاقات التي لديهم لتحسنت أحوالهم إلى حد كبير، ولكنهم نائمون ويحتاجون إلى
من يوقظهم ويحركهم؛ فإذا تحركوا فإن إفريقيا بأجمعها ستتحرك بإذن الله معهم،
ولعل هذا هو السر الذي أدركه أعداء الإسلام، فركزوا أكبر جهودهم التضليلية على
دولة (نيجيريا) فقد أصبحت (نيجيريا) معملاً لكل التجارب الأجنبية المشبوهة ومن
هذا القبيل: فإن في مدينة (كانو) حالياً فقط أكثر من عشر جمعيات عالمية غير
حكومية كلها تروِّج فكرة تحديد النسل وقضية حقوق الطفل والمرأة، وهناك هيئة
UNICEF التي تسعى إلى تعديل مناهج المدارس الإسلامية الأهلية وخلاوي
تحفيظ القرآن بحجة تحسين الوضع الاقتصادي لخريجي هذه المدارس؛ فإن لم
ينتبه المسلمون ويعملوا لتأهيل إخوانهم وتعليمهم في شتى التخصصات العلمية
والعملية فستكون هذه هي القاضية التي تكسر ذلك الحاجز الذي حال دون تنصير
المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.
__________
(1) المد الإسلامي في أفريقيا، عباس محمد جلال، المختار الإسلامي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1398هـ.
(2) ابن فودي، عبد الله، تزيين الورقات، (مخطوط) .
(3) نجم الإخوان، عثمان فودي، مكتبة دار إحياء الكتب العربية، بدون تاريخ، ص 104.
(4) الدعوة الإسلامية في غرب أفريقيا وقيام دولة الفولاني، حسن عيسى عبد الظاهر.
(5) Sulaim, ibragim; The Islamic State and the challenge of history, Mansell pub Ltd , New York, 1987PP 74-88.
(6) انظر: اقتصاديات العالم الإسلامي، محمود شاكر، مؤسسة الرسالة، ط4، 1404هـ،
ص 100، ص 102، 113، 161، 181.(123/98)
منتدى القراء
ديغوس لا.. ديفوسي
بقلم: عبد الله صالح
اطلعت على العدد الأخير من مجلة البيان (عدد شعبان) وسررت لما جاء فيه
من مواد مناسبة وطيبة بحمد الله، ولديّ بعض الملاحظات المتواضعة التي آمل أن
تتسع صدوركم لها حول تقرير دعوي.
أظن أن الأخ الكاتب لم يتحرّ الاسم الصحيح لاسم المنطقة وهو (ديغوس)
بالغين لا بالفاء.
وديغوس تقع في محافظة داباو (بالواو) وليس دابار، وهي أكبر مدينة بعد
مدينة داباو. فالأخطاء كثيرة وأظن أن الأخيرين خطآن مطبعيان. والله أعلم.
ثم إن عدد سكان الفلبين ليس خمسة ملايين ولا حتى خمسين مليوناً؛ فآخر
الإحصاءات كما نشرته مجلة آسيا ويك تبين أن عدد سكان الفلبين هو 71.8
مليون نسمة. وجزاكم الله خيراً.(123/104)
منتدى القراء
غفلة
شعر: عبد الله بن محمد السرحاني
الناس في غفلةٍ والدهر يقظانُ ... والحادثات لها في الناس ميزانُ
قد مات من حاز في الدنيا لذائدها ... ولم يخلِّد بذي الدنيا سليمانُ
وانظر لفرعون طاغوت الطغاة فكم ... دعاه موسى فلم يردعه برهانُ
نبينا المصطفى يدعو لدين هدى ... دعا طغاة قساة القلب ما لانوا(123/105)
منتدى القراء
تتحدث عن نفسها
شعر:أسامة أنور عيسى
كيف الحياةُ؟ تعطلَتْ كلماتي ... وُئِدَتْ على جسرِ الشفاهِ حياتي
قد كنْتُ في ثغرِ الجدودِ يمامةً ... خفّاقةَ الأجناحِ والنبضاتِ
محبوبةً، منطوقةً، مسرودةً ... ممزوجةً بالحبِ والصلواتِ
أنا صاحبي نهرٌ لذيذٌ لفظُهُ ... يهدي إليك روائعَ الحسناتِ
أهملتني ورميْتَ كلَ حلاوتي ... للصمتِ والنسيانِ كالأمواتَ
فإذا أتيتُك من فؤادٍ مسلمٍ ... ألقيتَ بي في سلةِ العثرات
آهٍ لماذا تستبيحُ كرامتي ... وتدمرُ الخيراتِ بالهفوات؟
وإذا عطفْتَ عليّ يوماً لم تقلْ ... إلا كُلَيْمَةَ كارهٍ أو عاتي
هذا السلامُ بساحتى يمحو الوغى ... ويزيلُ حقداً من فؤادِ عِدَاتي
والرحمةُ الخضراءُ تغمرُ ساحتى ... لتصبّ ضوءَ الحبِ في الظلمات
وتقاومُ الكرهَ الدفينَ بحاقدٍ ... وتمد دفءاً في قلوبِ قُساةِ
يا ظالمي عدلاً فإنّ تشتتي ... سمٌ تسللَ في مسيلِ فُراتِ
أنا دعوةُ الهادي لنشرِ محبةٍ ... أفشو السلامَ لرائحٍ أو آتٍ
لا تهجروني للزمانِ برطنةٍ ... كمشعوذٍ في أقبحِ الجلساتِ
تتلقفونَ من الفرنجِ تحيةً ... (ولْكَمْ) تعربدُ في ربيعِ حياتي
لا عِمْ صباحاً في الصباحِ تحيتي ... لا عِمْ مساءً في المساءِ لغاتي
فسلوا القُرانَ وقد أتيتُ بلفظِهِ ... مغموسةً بالطهر والرحماتِ
وسلوا الجنانَ أنا الرحيقُ بثغرها ... وفراشةٌ آبتْ من الزهرات
وسلوا الصحابة كيف كنت أُظلّهُمْ ... بالحل والترحالِ والصلواتِ
قُلْ كيفَ تحيا يا أخي بين الورى ... وَتَحَجّرٌ بالفعل والكلمات
فامسكْ زمامي كاملاً وانطقْ به ... تجدِ الوئامِ يطوفُ بالطرقاتِ
فأنا السلامُ ورحمةٌ من خالقي ... فانزلْ بساحي تمتلكْ بركاتي(123/106)
منتدى القراء
مناجَاة
شعر: د. حمدي محمد شتا
أنا دون عطفكَ يا إلـ ... ـهي لستُ في دُنْيَاي شَيّا
لَمْ أستعن أبداً بغيـ ... رك لَمْ أكُن عَبداً عصيّا
وإذا ظَمِئتُ فكوثر الرّ ... حْمن يروي القلبَ ريّا
فقِني إلهي شرّ نفـ ... سي واهدني الدربَ السّويّا
وإذا لقيتك فاعف عنِي ... حينَ تطوي العُمْرَ طيّا(123/107)
منتدى القراء
صرخة من سراييفوا
شعر: أنور الزهراني
أنا صوت يا نائمون أفيقوا ... أين أهلُ التقى وأهل الصلاةِ
أنا طفل لم يرحموني ولكن ... تركوني أذوقُ مُرّ الحياةِ
كالبتني الأحزان من كلِّ صوبٍ ... وأخي أوجعوه بالطعناتِ
يا بلادَ البلقان أنْت مثال ... نستقي منْه أنبلَ الوقفاتِ
أنتِ صبرٌ وتضحياتٌ وعزٌ ... أنْتِ أسد الغاباتِ في التضحياتِ(123/108)
منتدى القراء
إنا على العهد
شعر: حسن بن أحمد القرني
جرح العقيدة يا ابن الدين ينهمرُ ... فلا إخالُ أخا الإسلام ينتظرُ
فاليوم يومك فانهض دونما كسل ... واشمخ بأنفك وارفض درب من كفروا
واخلع من الغمد عزماً شاههُ صدأٌ ... واصمدْ فإنك بالإسلام تنتصرُ
ومن جماجمنا نبني حضارتنا ... نحيي مسيرتنا والفسقُ ينتحر
يا أرض بلقان طال الذل فاحتسبي ... إنا على العهد مهما نالك الأشِرُرُ(123/109)
منتدى القراء
أنّة الروح
شعر: عبد الله بن عبيد العبيد
أنا مسلمٌ قد كنت أكتم عزتي ... قد كنت أكتمُ رايةَ التوحيدِ
فصرختُ أشهدُ: لا إله سوى الذي ... أحيا وأوجدَ في الوجودِ وجودي
ثم انطلقتُ لمسجدي وجوانحي ... تهفو لذكرٍ خالدِ التمجيدِ
وشرعت أمسح مصحفي في لهفةٍ ... لأُرتّلَ الشورى وسورة هودِ
وكأن كلّ الكون غرد وانتشى ... طرباً لكسر القيد والتقييد
لكن حظي أنني في عالمٍ ... لا يرتضي لي أن أذيب جمودي
لا يرتضي لي أن أعيش ورايتي: ... الله أكبر حُلتي ووقودي
هم قد أرادوا أن أعيش مكمماً ... لا يستفيضُ بالابتهال نشيدي
هم قد أرادوا أن أعيش لغايةٍ ... أدنى وأحقر من فتات العودِ
لكنني والله يشهدُ أنني ... أهوى الحياة لربنا المعبودِ
والمسلمون فعالهم أحلامهم ... وجهادهم في ضجةِ التنديدِ(123/110)
منتدى القراء
قادم ديني
شعر: عبد الرحمن عبد الهادي العمري
آيةٌ في الصف تمحو كل شيء قد يشينْ ...
كل حزنٍ كل جرح أو دموع أو أنين ...
كل شبرٍ من ترابٍ فوقه ظلم مبين ...
وكذاك الحق يبقى عالياً في كل حين ...
قادمٌ ديني بحقٍ وانتصارِ المسلمين ...(123/111)
منتدى القراء
الأدمغة الأسيرة
شعر:محمد أحمد عبد الله الزهراني
ونضحَكُ فاكهينَ بما اعترانا ... مِنَ الأسقامِ والغُصَصِ العَصيّهْ
فلسطينُ اليتيمةُ مُبتَغَاها ... جناحُ أبٍ.. رضا أُمٍّ وفيّهْ
فكيفَ تقومُ خيلُ الذّودِ عنها ... وأرْجُلُها مُعطّبةٌ وَهِيّهْ
حُروفُ لِسَانِنِا أوهى دُروعٍ ... فهل صدّتْ رصاصةَ بُندقيّهْ؟ !
سَرَابٌ.. لن يُجمِّعَ شملَ قومٍ ... من الوديان والطرق الرديهْ
فيا أزمانَ عِزّتنا تعالَيْ ... لتشهد عينُكِ الأقصى ضحيّهْ!
فتلكَ حرائِقُ العُدوان تسمو ... وبركانٌ يشبّ بلا رويّهْ
إلهي أنت ناصرُ سيفِ حقٍّ` ... فأسعِفْنا لكي تُطوَى الأذيّهْ`(123/112)
منتدى القراء
نشرة الأخبار
بقلم: عاطف كامل
أحبائي أعزائي ...
أحييكم..فهذا موعدي معكم ...
إليكم نشرة الأخبار: ...
شهيدٌ في ثرى القدس.. ...
وآخرُ في جبال النار ...
وباراكٌ وطغمته بصحن الدار.. ...
نكرّمْهم بطوق الغار ...
وطيارٌ يهودي يعربد في سما لبنان.. ...
ونارٌ تحرق الأحجار.. في كشمير والشيشان ...
وأنظمةٌ تمارس لعبة الإرهابِ ...
تلصقها بمن شاءت من الأطهار [*] ...
وجلادٌ عروبي من الثوار والسمّار ...
يريق دماء من ثاروا على الطغيان والفجار ...
أحبائي أعزائي.. بكل مكان ...
إليكم خالص الأعذار ...
من همِّ يوافيكم مع الإفطار ...
ويغزوكم.. إلى الأسحار ...
وأشكركم.. على أمل اللقاء بكم بغير عثار ...
__________
(*) نشرت وسائل الإعلام أن العمليات الإرهابية في بلد عربي تقوم بها فصائل حكومية وأكد هذا جندي هارب أفشى ذلك السر.(123/113)
الورقة الأخيرة
أهمية استغلال السوانح
بقلم: د.شاكر عبد الرحمن السروي
إن الدعاة إلى الله في طريق دعوتهم إنما هم في تجارة مع الله، قد أبرموا
عقدها وأتموا صفقتها؛ فلا يقيلون ولا يستقيلون: [إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ
أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاً
فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَذِي بَايَعْتُم
بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] [التوبة: 111]
وإن التاجر الحاذق ليتحين الفرص لينتهزها، بل ويشحذ فكره ويبذل جهده
لإيجاد هذه الفرص وبعثها من بين ركام الصفقات اليومية.
إن سمو البيع وقدسية الصفقة التي أبرم عقدها كل داعية إلى الله، لَتحتّم عليه
أن يكون على الغاية من إعمال الفكر وبذل الوسع وانتهاز الفرص ليحقق أعظم
المكاسب، فيسعد في الدنيا والآخرة.
وإن أنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه كانوا أصحاب السبق في ذلك،
فهذا نوح عليه الصلاة والسلام جرّب كل الطرق وحاول بكل الوسائل المتاحة
لإبلاغ الدعوة. قال تعالى: [قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَائِي إلاَّ فِرَاراً* وَإنِّي كُلِّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَاراً] [نوح: 5 - 9] .
فلا بد إذن من طرق كل الوسائل المشروعة، وانتهاز كل الوسائل المتاحة
لأداء مهمة البلاغ، ولدعم الانتشار الأفقي لهذه الدعوة في انسياب كانسياب الماء،
ما إن يعترضه حاجز إلا ويلتف حوله متابعاً سيله حتى يبلغ مستقره.
ولتحقيق ذلك فإننا بحاجة إلى طائفة توقف حركتها (الميكانيكية) وتنتصب
قائمة، رافعة الرأس وسط جموع العاملين، بل وحبذا لو ارتقت عالياً لتنظر إلى
أفق أوسع وتحيط بنظرتها ميدان العاملين لتؤدي مهمة استكشافية تيسّر السبل لتحديد
الغرض فتستعد لاقتناصها، وتعرف الإمكانيات فترتب لاستغلالها.
إننا وفي غياب هذا التفريغ الجزئي نصبح مجموعة من التروس الصغيرة
وسط آلة ضخمة ندور معها ونحسب أنّا نديرها، أو كالأكمه الذي لا يعرف من
الألوان إلا اسمها.
أما أحسنُنا حالاً فهو من يحتذي حذو سلف اقتنصوا فرصاً، فهو يتقمص تلك
الشخوص في وتيرة باردة هذا إن لم تكن تلك الفرص الخوالي مما لا وجود له في
واقع الحاضر بعيداً عن الإبداع الذاتي ومتخلفاً عن مجاراة ما يستجد من سوانح
الفرص التي إنما تمر مرّ السحاب؛ وقليل من يرتوي بمائها.(123/114)
ذو الحجة - 1418هـ
أبريل - 1998م
(السنة: 12)(124/)
كلمة صغيرة
البيان والتطوير
الشكل وإن كان ليس بأهمية المضمون في كل عمل إبداعي إلا أن له قيمته
وأثره في الاندفاع لاقتناء أي كتاب أو مجلة؛ ومن هنا كان اهتمام الإعلاميين
بالشكل والمضمون معاً.
ولقد كانت رسائل كثير من قرائنا الكرام تؤكد على مسألة الاهتمام بالشكل،
والدعوة إلى حسن الإخراج ليكون لذلك تأثيره في لفت نظر المطلع والقارئ؛ مما
يدعوه إلى أن يسعى إلى اقتناء هذه المجلة التي عملنا ونعمل جاهدين على أن تكون
(لسان حق) و (داعية خير) في خضم الكم الإعلامي الهائل من الوسائل المقروءة
والمسموعة والمرئية.
وباعتقادنا أن المقروء ومهما كانت الوسائل الأخرى أشد جاذبية وأكثر تأثيراُ
منه فإن له جمهوره ومحبيه، ومن هنا جاء أملنا في المحاولات التطويريه الجديدة
للرقي بعملنا الإعلامي إلى مستوى أفضل من ناحية، ولكسب الإخوة القراء ولاسيما
ممن لم يسبق لهم الاطلاع على هذه المجلة حينما يقرؤونها لأول مرة. ونحسب أننا
قد عملنا جاهدين لجذب القارئ بالشكل والمضمون معاً، ليكون من قرائنا ومتابعينا: بالكلمة الصادقة، والتحليل الموضوعي، والمعلومة الموثقة، والفكرة الطريفة.
ونرحب في الوقت نفسه بكل رأي جديد ونصيحة صادقة وفكرة مميزة للتعاون
على البر والتقوى والعمل معاً، وليكن رائدنا جميعاُ: (التواصي بالحق والتواصي
بالصبر) ، راجين لمجلتنا أن تصافح قلوبكم قبل أعينكم في تطويرها الجديد الذي
سيكون حافلاً بالعديد من المقالات والأبحاث والمتابعات والهموم الثقافية مما يخدم
مصلحة قرائنا الأعزاء.
راجين أن يسهم ذلك في مسيرة الدعوة الإسلامية إلى الأفضل والأحسن. ...
والله نسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.(124/1)
افتتاحية العدد
هذه غابة العولمة.. وتلك وحوشها!
يجتذب مصطلح (العولمة) يوماً بعد آخر المزيد من النقاش، والكثير من
الجدل؛ لما لهذا المصطلح من تأثير مباشر متراكم آخذ في القوة على حياة البشرية
منذ أن أخذت وسائل الإعلام ومؤسسات صنع العقول في طرحه وتسويقه إلى
المثقفين والعامة ... هذا المصطلح الذي يأتي امتداداً لرؤية عالم الاتصال الكندي
الشهير (مارشال ماكلوهان) بتحول العالم إلى قرية كونية أو عالم واحد يثير اليوم
غباراً كريهاً من الممارسات والفواجع والكوارث.
لنتفق أولاً على أن (العولمة) ليست مخلوقاً جديداً أو فكرة ترفل في ثياب
جديدة مع تسليمنا بأن وجود مصطلح العولمة يقصد به وجود نمط عالمي واحد،
وباختصار: امتداد طبيعي لنمو (المركز) الغربي وانبساطة في الأرض (مبشراً)
بنموذجه المادي المغرق في حب السيطرة، أو كما يقول أحد المفكرين الغربيين:
(إنها روما الجديدة ... كما كانت روما في السابق تصر على أن كل الطرق تؤدي
إليها؛ فإن العولمة حتماً لا تعرف سوى طرق تؤدي إلى أمريكا، وكما كانت روما
جنة السادة وجحيم العبيد فإن أمريكا تعيد الفكرة نفسها حيث لا يوجد قرية كونية إنما
مدينة مقسمة: واحدة للأثرياء، وأجزاء شاسعة للفقراء الذين يشعرون بالسعادة؛
لأنهم يجاورون السادة ويشاركونهم اسم المدينة) .
ولنتفق ثانياً أن من حق الأمة المسيطرة أن تسعى لفرض ثقافتها وسلوكها
ومعتقدها ومصالحها؛ عملاً بمبدأ التدافع في الأرض.
ولنتفق ثالثاً على عدم طرح العولمة على أنها شر محض ونقبل ما فيها من
مصالح مثل انتقال المعلومات المجردة، ونقل أيسر للتقنية ورأس المال اللازم
لتنمية البلدان الفقيرة والأقل نمواً.
(هل هناك داعٍ لذكر أن المسلمين يشكلون رقماً لا بأس به في هذه القائمة؟)
ولنطرح أيضاً موقفاً محايداً من كل العوامل السلبية التي يراد لنا أن نبتلعها ونتلذذ
بطعمها المر ثم لنسأل أسئلة مدوية بحجم القضية المطروحة.
لماذا يبشر النموذج الأمريكي بالعولمة في الوقت الذي تزداد السياسة الأمريكية
والغربية انغلاقاً وعنصرية ورفضاً (للعالمي) إذا مس أرضها ومصالحها ونمط
معيشتها أدنى مس..؟
لماذا تتفق مراكز العولمة وأركان صنع قرارها على اتخاذ الإسلام عدواً وحيداً
أمام النموذج الذي تدعوه بـ (المتحضر) والذي يعكس تفاهة تلك الثقافة وغوغائيتها؟
لماذا يراد لنا نحن المسلمين أن نقبل بعضوية (نادي العولمة) دون أن نسأل
عن شروط العضوية، ورسوم الاشتراك، وطقوس النزع التي تنتظرنا، ودرجة
حرارة النار التي سوف يطبخ عليها (العشاء الأخير) الذي سيزيل من أجسادنا آخر
ذرات المقاومة ليجهز في النهاية على أنفاسنا؟
إن هذه الأمة بشهادة خبراء العولمة أنفسهم كانت حتى هذه اللحظة ولا تزال
أصعب الأمم على القولبة وأشدها مراساً في مواجهة النموذج الاستعماري المتغطرس.
والعولمة لا تعني انتقال البضائع والخدمات والنقد والتقنية والمعلومة والشركة
والسلوك والثقافة منفردة الواحدة تلو الأخرى.. كلا إنها تعني أن يقدم هذه الطّعم
ضمن سياق فكري لا نحتاج إلى ذكاء شديد أو حتى بلاهة أشد لنعرف حقيقة أنه
الثقافة الغربية: النصرانية/ المادية في نموذجها الأشد فجاجة وغطرسة وتعالياً!
وإذا كان من حق فرنسا أن تقاتل وتحارب وترفع صوتها وتتصدى بالقوانين
والممارسة لهذا النموذج ... فلا أظن أن اللاعقين لجراح (داحس والغبراء)
المعاصرة إلا أن يفتحوا عيونهم قليلاً وعقولهم كثيراً لهذه الهجمة المتواصلة منذ
انحسار الإسلام كقوة عالمية ودولية مؤثرة!
إن الأسئلة تزداد توغلاً في صدورنا ونحن نرى اليوم ثمار العولمة تنبت في
أراضينا شجراً من علقم..
المسلمون في جنوب شرق آسيا كانوا قبل أشهر ضحية للعولمة مضافاً إليها
مخزون كراهية متفجر.. فالخبراء الأوروبيون يرون أن تحطم الأسواق الآسيوية،
كانت عملية مدبرة بين البنك الدولي والبنوك الغربية الكبرى وامتدادها الياباني حيث
أغرقت هذه الأسواق بالقروض الربوية القصيرة الأمد والتي كانت تقدم بشكل مثير
وبأرباح هائلة تدفع لأصحاب الثروات البنكية، ثم اتضح بعد الأزمة أن البنك
الدولي تَقَدّم لمساعدة هذه الدول شريطة تسديد أرباح البنوك الغربية الفلكية وإغلاق
البنوك الوطنية الربوية هي أيضاً لينفرد النموذج الوحيد نفسه للعولمة بالساحة؛
وتنتهي مقولة النموذج الآسيوي أو النمور الصاعدة التي تُروّض بأمثال اليهودي
البشع (سورش) .
هذه العولمة يقودها كما يطمئننا الخبراء المروِّجون للعولمة الأفراد لا
الحكومات، وإذا كان سورش بإجماع الخبراء هو (نجم العولمة القادم) فلنقرأ شيئاً
من سيرته.
قام سورش بدعم المافيا اليهودية الحاكمة في روسيا؛ وهذه المافيا تشمل
إمبراطوريات المال والإعلام، ويستثمر ما يزيد على 30 بليون دولاراً متحالفاً مع
عصابات المافيا والإجرام التي يحركها اليهود هناك.
قام بالمضاربة في بورصات جنوب شرق آسيا لأشهر قبل الأزمة؛ ويتفاخر
بأنه حطم أسعار البورصات إلى النصف، وكانت ماليزيا وأندونيسيا أكثر الدول
تضرراً حيث ما زالتا تعانيان الأمرّيْن.
يدعم حالياً صناعة الألماس (الإسرائيلية) بـ 20 بليون دولاراً حتى لا ينهار
سعر الألماس المصنّع الذي يشكل مصدراً هاماً للدخل للدولة الصهيونية.
ساد الهلع سوق المال المصرية بعد إعلانه استثمار بلايين الدولارات في
السوق المصري الذي أكد خبراء المال أن دخوله إليه سيحطمه وبسرعة!
إذن هذه هي بعض (لقيمات) العولمة الاقتصادية التي هبت لمساعدة كوريا
وتايلاند بينما تركت أندونيسيا وماليزيا تلعق جراحها رغم أن كوريا ليست في
أمريكا الشمالية وتايلاند لا تمت إلى القارة الأوروبية بصلة! !
أما العولمة العسكرية فنحن في هذا الجزء من العالم نشهدها ونلمسها حين
تصر واشنطن على الخيار العسكري المدمر في الخليج بينما كل دول العالم ترى أن
خيارات المفاوضات العالمية بعد ذلك لإرضاء (غطرسة العولمة) التي لا تنظر للعالم
سوى بمنظار السادة والعبيد.
أما العولمة الثقافية فهي برأي الخبراء والمفكرين تروِّج لثقافة (الهمبرجر)
(والكوكاكولا) والغناء على الطريقة نفسها، وهي طلائع العولمة التي لا تبشر إلا
بمزيد من الشقاء والتعاسة للبشرية.
فكم من (سورش) على الطريق يعمل لوأد كل اتجاه صاعد في عالمنا ...
الإسلامي؟ ! وهل يا ترى ننتبه لما يراد لنا أم على قلوب أقفالها؟ !
وأخيراً: فالعولمة تحدٍّ كبير يحتاج من الأمة أن تستدعي مثقفيها وعلماءها
ومفكريها إلى رصدها والتصدي لها من منظور إسلامي، وهي قضية شائكة تتطلب
التفهم الإيجابي لبعض مكوناتها كالاستفادة من التقنية أو الجوانب الاقتصادية التي لا
تتعارض مع مصالح الأمة المسلمة..
وهذه الدعوة تحتاج إلى عقول ورجال وإمكانات بحجم التحدي الهائل وبحجم
الإحجام والإهمال الذي نشعر به من مثقفي المسلمين الأصلاء، والذين نخجل من
نتاجهم في هذا الجانب مقارنة باهتمام ومتابعة ومقاومة الاتجاهات الفكرية الأخرى
داخل وخارج عالمنا الإسلامي.
بقيت حقيقةٌ هي منطلق هذه المحاولات والدعوات، كما أنها هي الضوء في
نهاية نفق التحدي المليء بالوطاويط.
أبداً لن تَهزِمَ ثقافةُ (ميكي ماوس) الإيمانَ الحقيقي الفعال.. إيمانَ الغلام حين
يُستدعى للموت فيطلب الشهادة شريطة أن يُنادى بسمع الكون وبصوت عالٍ ...
باسم الله رب الغلام.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 21] .(124/4)
دراسات شرعية
صلة علم التفسير بالعلوم الأخرى
(1من2)
بقلم: ميمون بن عبد السلام باريش
يُعَدّ علم تصنيف العلوم من بين العلوم المنهجية التي اعتنى بها العلماء
المسلمون عناية فائقة تجسدت أساساً في كتب ورسائل امتازت بالدقة في التصنيف
والبراعة في الترتيب سواء ما كان منها مقلداً للترتيب الأرسطي للعلوم، أو ما كان
منها خاضعاً للمنهج الإسلامي الأصيل في تصنيف المعارف [1] . ويرجع السبب
الرئيس في هذا الاهتمام إلى ما شهدته الساحة الإسلامية من تشعب العلوم وتنوع
الفنون المعرفية. ولعل هذا ما عبّر عنه العلاّمة طاش كبرى زاده [968هـ] حيث قال: (إن الفنون كثيرة، وتحصيل كلها بل جلها لعلها عسيرة، مع أن مدة العمر
قصيرة، وتحصيل آلات التحصيل عسيرة، فكيف الطريق إلى الخلاص من هذا
المضيق؟ فتأمل فيما قدمت إليك من العلوم اسماً ورسماً وموضوعاً ونفعاً، وفيما
اخترعت من التفصيل في طريق التحصيل) [2] .
أما الغاية من وراء هذا الاهتمام، فهي غاية تربوية تعليمية تستهدف أساساً
توجيه العقل المسلم إلى الميادين المعرفية المتنوعة لاستيعابها وتمثلها أولاً بأول،
لاسيما أن العلوم بأسرها تمثل كلاً متكاملاً ووحدة متناسقة تمتزج فيها علوم المقاصد
وعلوم الوسائل على حد سواء. وفي هذا الصدد يقول الغزالي (505هـ) : (على
المتعلم ألا يخوض في فنون العلم دفعة، بل يراعي الترتيب، فيبدأ بالأهم فالأهم،
ولا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله؛ فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً
وبعضها طريق إلى بعض [ ... وعليه] ألاّ يدع فناً من فنون العلم ونوعاً من أنواعه
إلا وينظر فيه نظراً يطّلع به على غايته ومقصده وطريقه، ثم إن ساعده العمر
وواتته الأسباب طلب التبحر فيه، فإن العلوم كلها متعاونة مترابطة بعضها
ببعض) [3] .
بل أبعد من ذلك أن العلوم الإنسانية يطبعها طابع التكامل والتداخل، وفي
العلوم الإسلامية يمكن التمييز بين تداخلين اثنين: أحدهما التداخل الداخلي وهو
الذي يحصل بين العلوم التراثية الأصيلة فيما بينها؛ والثاني: التداخل الخارجي
وهو الذي يتم بين العلوم الإسلامية والعلوم الدخيلة: يونانية كانت أو فارسية أو
هندية [4] .
وإذا كان هذا التدخل قد تجسد بنوعيه في علم أصول الفقه باعتباره منهج
بحث ومعرفة لاستنباط الأحكام الشرعية والاستدلال عليها انطلاقاً من النقل واعتماداً
على العقل [5] ؛ فإن الضرب الأول منه أقصد التداخل الداخلي قد تجسد في علم
التفسير باعتباره نسيجاً متكاملاً ومتناسقاً من العلوم الإنسانية المتنوعة سواء أكانت
من علوم الوسائل أم من علوم المقاصد. ولتفسير هذه الظاهرة لا بد من الأخذ بعين
الاعتبار أمرين هامين:
أولهما: ما كان عليه علماء التفسير من اتساع العقل وكمال العلم البشري؛
ذلك أن أغلب المفسرين كانوا من الموسوعيين الذين رسخت أقدامهم في العلوم
العقلية والنقلية على حد سواء، ويكفينا مثالاً على ذلك العالم العلاّمة والبحر الفهّامة، صاحب التصانيف المشهورة، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310هـ) الذي
تمكن من ناحية مختلف العلوم التي كانت سائدة في زمانه، فكتب في كل منها بقلم
العالم المتخصص.
وثانيهما: أن علم التفسير علم لصيق بالظاهرة القرآنية، وهي في حد ذاتها
لصيقة بالظاهرة الإنسانية والاجتماعية؛ إذ القرآن الكريم في مجمله إما حديث عن
الإنسان، أو حديث إلى الإنسان. ولقد أصاب ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من أراد علم الأولين والآخرين، فليثوِّر القرآن) [6] .
ولا بد من الإشارة إلى أن نظرة أولية في تعريفات العلماء الأجلاء لعلم
التفسير من شأنها أن تكشف عن مظاهر التداخل بين هذا العلم وغيره من العلوم،
ومنها مثلاً تعريف أبي حيان التوحيدي القائل: (التفسير علم يبحث فيه عن كيفية
النطق بألفاظ القرآن الكريم ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي
تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك) [7] . وقد نص هذا التعريف على أن
تفسير كتاب الله عز وجل لا يتأتى إلا لمن جمع زاداً علمياً يؤهله لذلك، ويدخل في
ذلك علم القراءات، واللغة، وعلم التصريف وعلوم البلاغة والدلالات، وعلوم
أخرى متممة للفهم السديد كالناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، والقصص،
والتاريخ، وغيرها من العلوم المساعدة على توضيح ما أشكل من الذكر الحكيم.
وهذا نفسه ما عبّر عنه الإمام الزركشي (794هـ) حيث قال: (التفسير علم يفهم به
كتاب الله المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وبيان معانيه، واستخراج
أحكامه وحِكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان
وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ) [8] .
وعلى هذا النحو جاءت باقي تعريفات علم التفسير، وفي كل منها تنصيص
على بعض العلوم التي يحتاج إليها علم التفسير مما كان سائداً في زمن قائليها. ولقد
نص جلال الدين السيوطي (911هـ) على أن تبيين ما أبهم من الآي لا يتأتى إلا لمن
كان جامعاً للعلوم التي يحتاج إليها المفسر، وذكر من ذلك خمسة عشر علماً بما في
ذلك علم الموهبة، وكل ما ذكر هي مما يتوقف عليه فهم المعنى القرآني وبيان
المراد الإلهي [9] . وإذا كان علماء السلف قد اقتصروا على ذكر العلوم التي كانت
سائدة في عصر كل منهم، فإن التطور الزمني بما فيه من إبداع حضاري سيكشف
عن علوم أخرى هي بمثابة وسائل تعين على الفهم الدقيق لمراد الله عز وجل من
خطابه وخاصة إذا سلمنا أن الشمولية والجمع بين الثبات والتطور والصلاحية لكل
زمان ومكان ... خصائص لازمة للقرآن الكريم، إذاً (فمن المحال على البشرية أن
تفهم كمالات القرآن الكريم في نواحي الوجود كلها في عصر واحد؛ إذ باستطاعة
كل عصر أن يضيف إلى تفسير الآيات المتعلقة بتلك الموضوعات مما يستجد أمامه
من العلوم والمعارف نتيجة لتطور الحضارة ونمو الثقافة) [10] لا سيما إذا تعلق
الأمر بالآيات الكونية، والظواهر الاجتماعية، وأسرار النفس البشرية ...
وبناءً على المعطيات السالفة ننتهي إلى القول: إن علم التفسير قد استمد،
ولا يزال يستمد مادته بالإضافة إلى القرآن الكريم من علوم مختلفة. وهي الآتي:
علم اللغة: الأمر الذي وقع عليه إجماع السلف والخلف على السواء أن العلم
باللغة العربية شرط آكد لتفسير كتاب الله عز وجل فقد روي عن مجاهد رضي الله
عنه أنه قال: (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم
يكن عالماً بلغات العرب) [11] وروي عن الإمام مالك أيضاً، أنه توعد من رام
تفسير القرآن الكريم وهو يجهل اللغة حيث قال: (لا أُوتى برجل غير عالم بلغة
العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً) [12] .
وإنما حصل هذا الإجماع؛ لأن القرآن الكريم قد نزل باللغة العربية وعلى
مقتضى ألسنة العرب. قال تعالى: [الّر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ (1) إنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [يوسف: 1-2] ؛ إذ لا يمكن فهم المراد القرآني إلا
بامتلاك ناصية العربية التي بموجبها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب
الوضع؛ ولذا كان لزاماً (على متدبر كتاب الله بتعمق أن يبحث في معاني الكلمات
الواردة فيه بحثاً علمياً لغوياً بالرجوع إلى أمهات المعاجم اللغوية، وبالتبصر في
مختلف معاني الكلمة واستعمالاتها الحقيقية والمجازية في لغة العرب إبّان نزول
القرآن) [13] . وهذا لا يتأتى إلا لمن كان ملماً بمعاني اللغة، وعالماً بكيفية وقوع
الأسماء على المسميات، بصيراً بعلاقة الدوالِّ والمدلولات، خبيراً بطبيعة
المفردات ومدلولاتها واستعمالاتها المختلفة حسب ما يقتضيه السياق ... ولا يكفي
من ذلك كله الشيء اليسير، بل لا بد من عُدة لغوية كافية؛ وذلك لأن الألفاظ تتسم
بصبغة تجوالية وتتلون تبعاً للتلونات المعرفية، وأن المشتركة منها تحمل أكثر من
معنى، وأن المقام مقام استنباط الأحكام العقدية والتشريعية، وبيان لمراد الله عز
وجل من خطابه العظيم. وفي هذا يقول الشيخ أحمد بن السمين الحلبي (756هـ) :
(أما بعد: فإن علوم القرآن جمة، ومعرفتها مؤكدة مهمة، ومن جملتها المحتاج إليها
والمعوّل في فهمه عليها مدلولات ألفاظه الشريفة ومعرفة معانيه اللطيفة؛ إذ بذلك
يترقى إلى معرفة أحكامه وبيان حلاله وحرامه ومناصي أقواله وإشارة مواعظه
وأمثاله؛ فإنه نزل بأشرف لغة: لغة العربية المحتوية على كل فن من
العجب) [14] .
وإذا كان العلم باللغة من آكد شروط المفسر، فمن تحصيل الحاصل أن يُرى
أثر هذا الشرط في كتب التفسير.
علم النحو: وهو من علوم الوسائل التي يحتاج إليها المفسر لتدبر كتاب الله
عز وجل، ذلك أن المعنى يتغير ويختلف باختلاف العوامل الإعرابية، فلا بد إذاً
من اعتباره، وإلا فكيف يتسنى للجاهل بالنحو وعامله أن يستنبط معنى لائقاً بقوله
تعالى: [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) . بحيث إن في تقديم
المفعول في هذه الآية دلالة على معنى يختلف عن المعنى الذي تفيده الآية لو أخر
فيها. يقول الزمخشري (528هـ) : (فإن قلتَ: هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول
في هذا الكلام أو أخر؟ قلتُ: لا بد من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت
العلماء كان المعنى: إن الذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم. وإذا
عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله. كقوله تعالى: [وَلا
يَخْشَوْنَ أَحَداً إلاَّ اللَّهَ] [الأحزاب: 39] ، وهما معنيان مختلفان) [15] .
من هنا، فإن مادة النحو لا بد منها لتلاوة كتاب الله عز وجل تلاة تدبّر وتأمّل، وقد أوجب الإمام الزركشي العلم بالقواعد الإعرابية على كل متعامل مع الذكر
الحكيم حيث قال: (وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلاً للمعنى وجب على المفسر
والقارئ تعلّمُه ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم، ويسلم القارئ من اللحن) [16] .
علم الصرف: وهو كذلك من علوم الوسائل التي لا غنى عنه لمتدبر خطاب
الله عز وجل؛ لأن الأبنية والصيغ به تعرف ... وفي حقه يقول ابن فارس: (من
فاته علمه فاته المعظم) [17] . ألا ترى أن لفظة (وجد) لفظة مبهمة، فإذا صُرِّفت
اتضحت بمصادرها:
فوَجَدَه يَجِدُه وُجُوداً، إذا عثر عليه.
ووَجَدَ يَجِدُ وُجْداً ووِجْداً ووِجْدَاناً وجِدّةً، إذا صار غنياً ذا مال.
ووَجَدَ يَجُدُ وَجْداً وجِدَة وموجدة إذا انفعل وغضب.
ووَجَدَ يَجِدُ بفلانة وَجْداً شديداً إذا كان يهواها ويحبها حباً شديداً.
ووَجَدَ يَجِدُ لفلان وَجْداً إذا حَزِن [18] .
ولا شك أن الجهل بالتصريف أو تجاهله هو الذي أوقع بعض المفسرين في
أخطاء شنيعة لا مكان لها في ميزان العقل، من ذلك مثلاً من فسر قوله تعالى:
[يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ ... ] [الإسراء: 71] . أن الإمام في هذه الآية جمع
(أم) ، وأن الناس يُدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون
الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا
يفتضح أولاد الزنا. وهذا من أبدع التفاسير؛ لأنه روعي فيه بهاء الحكمة وغيبت
فيه صحة اللفظ؛ إذ لفظة (أم) لا تجمع على (الإمام) ولو روعيت صحة اللفظ لكان
المعنى: يوم ندعو كل أناس بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو
دين ... [19] .
علم الاشتقاق: ومعرفته ضرورية لكل من رام تفسير كلام الله عز وجل؛ إذ
إن في القرآن الكريم ألفاظاً كثيرة لا يستقيم معناها بحسب الوضع إلا بعد معرفة
اشتقاقها اللفظي، والاسم إذا كان مشتقاً من مادتين مختلفتين اختلف المعنى تبعاً
لاختلافهما. فتأمل اختلاف المفسرين في الكشف عن سر وصف (عيسى ابن مريم)
عليه السلام بالمسيح. فقال بعض السلف: وصف كذلك لكثرة سياحته، وقيل لأنه
كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقال آخرون: لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي
العاهات برئ بإذن الله تعالى [20] ، وأصل هذا الاختلاف اختلافهم في أصل
الصفة: هل هي مشتقة من المسح، أم من السياحة؟
علوم البلاغة: وهي علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، (وهي من
أعظم أركان المفسر؛ لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك
بهذه العلوم) [21] .
فأما المعاني فيعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى؛ وأما
علم البيان فيعرف به خواص تراكيب الكلام من حيث اختلافها بحسب وضوح
الدلالة وخفائها؛ وأما علم البديع فيعرف به وجوه تحسين الكلام. ولا بد للمفسر أن
يكون ملماً بدقائق هذه العلوم الثلاثة بالتعرف عليها ورياضة النفس لامتلاكها
وتدريبها على ذلك حتى يتسنى له الحفاظ على إعجاز القرآن الكريم وما وقع به
التحدي من النظم القرآني.
وللحديث بقية في العدد القادم -إن شاء الله-
__________
(1) مما ألفه مفكرو الإسلام في ترتيب العلوم بطريقة تقليدية أو تأصيلية ما يأتي: (إحصاء العلوم) للفارابي (339هـ) ، (مفاتيح العلوم) للخوارزمي (387هـ) ، (الفهرست) لابن النديم (438هـ) ، (رسالة مراتب العلوم) لابن حزم (426هـ) .
(جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر (463هـ) ، (طبقات العلوم) للأبيوري (207 هـ) ، (مقدمة ابن خلدون) (808هـ) ، (مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم) لطاش كبرى زاده (968هـ) ، (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لحاجي خليفة (1076هـ) ، (كشاف اصطلاحات الفنون) للتهانوي (1128هـ) ، (أبجد العلوم) للقنوجي (1307هـ) وانظر مظاهر التقليد والتجديد في علم تصنيف العلوم عند مفكري الإسلام في كتاب: (مباحث في منهجية الفكر الإسلامي) للدكتور عبد المجيد عمر النجار، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت 1992م، ص 33 وما بعدها.
(2) مفتاح السعادة، 1/3، دار الكتب العلمية، بيروت 1405هـ/1990م، ط1، وفي تعريف هذا العلم يقول: (علم باحث عن التدرج من أعم الموضوعات إلى أخصها ليحصل بذلك موضوع العلوم المندرجة تحت ذلك الأعم) ، 1/324.
(3) ميزان العمل، منشور ضمن مجموع (النصوص المختارة في الفكر الأخلاقي العربي) لماجد
فخري، 1/209، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1979م.
(4) د طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 45، 46، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1994م.
(5) د ميمون باريش: مظاهر التداخل والتفاعل بين علم المنطق وعلم أصول الفقه، مقال منشور بملحق الفكر الإسلامي بجريدة (العلم) [الحلقة الأولى عدد 3 يناير 1997م، الحلقة الثانية عدد7 فبراير 1997م] .
(6) السيوطي، الاتقان في علوم القرآن، 4/197، تحقيق أبو الفضل إبراهيم المكتبة العصرية، بيروت، 1408هـ /1988م فليثوِّر القرآن: أي فليبحث عن معانيه وعن علمه.
(7) البحر المحيط، 1/13، مطبعة السعادة، 1348هـ.
(8) البرهان في علوم القرآن، 2/152، مطبعة عيسى الحلبي، 1956م.
(9) الإتقان في علوم القرآن، 4/185.
(10) د محسن عبد الحميد: دراسات في أصول تفسير القرآن، ص 9، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط2، 1404هـ، 1984م.
(11) الإتقان في علوم القرآن، 4/185.
(12) المصدر السابق، 4/182.
(13) الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، ص 317، دار القلم، دمشق، ط2، 1409هـ، 1989م.
(14) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، 1/37، تحقيق وتعليق الدكتور محمد التنوجي، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1414هـ، 1993م.
(15) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، 3/611، ترتيب وضبط وتصحيح خادم السنة مصطفى حسين أحمد، دار الكتاب العربي.
(16) البرهان في علوم القرآن، 2/164.
(17) الإتقان في علوم القرآن، 4/186.
(18) الزمخشري: الكشاف، 2/682.
(19) ابن منظور: لسان العرب، مادة وج د، 3/445، 446، دار صادر، بيروت، ط3، 1413هـ 1994م.
(20) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 1/362، مكتبة النور العلمية، بيروت، ط1، 1412هـ 1991م.
(21) السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، 4/186.(124/8)
دراسات تربوية
المعلم المسلم والهدف البعيد
بقلم: إبراهيم داود
(إني أعالج أمراً لا يُعين عليه إلا الله، قَدْ فَنِيَ عليه الكبير، وكبر عليه
الصغير، وفصح عليه الأعجميّ، وهاجر عليه الأعرابيّ، حتى حسبوه ديناً لا
يرون الحقّ غيره) [1] .
لا زالت هذه العبارة البليغة التي قالها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز
ترسم لنا صورة المعلم المسلم في هذه الأيام، وإن لم يعد هذا المعلم (يعالج) الأمر
الذي يهمّه كما كان خامس الراشدين رحمه الله ورضي عنه يفعل.
لا شك أن الذين ما زالوا يعالجون أمر التربية والتعليم من المعلمين المسلمين
يعانون مثلما عانى عمر، ولكنهم أفذاذ قليلون لا يُقاسون بالكثرة الكاثرة التي تعكس
صورة الحيرة والتردد حيناً وصورة الغفلة والضياع أحياناً. وممّا لا سبيل إلى
إنكاره أنّ المسلم في هذه الأيام معلماً وغير معلم مُوَزّعٌ بين إسلامٍ يأمره بالمعروف،
وواقع يغريه بالمنكر أو يُكرهه عليه إكراهاً، وأنّ هذه الحال تعرقل عمل المعلم
وتزيد معاناته أضعافاً مضاعفة!
فبحسب المعلم المسلم المعاصر أن المَثَل التربويّ الأعلى الذي يُراد له أن
يصبّ تلاميذه في قالبه هو التربية الغربية الغريبة التي يتولى كبرها ويضع مناهجها
وبرامجها رجال لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [2] ، وبحسب المعلم أنّ له شركاء
في التربية يحادّونه ويعادونه: يُفسدون إذا أصلح، ويهدمون إذا بنى، ويُدمّرون إذا
عمّر، وأنهم وهذا أدهى وأمرّ يملكون من أسباب النجاح في الإفساد والهدم والتدمير، ما لا يملك هو مثله ولا دونه في الإصلاح والبناء والتعمير، وأنّ الهدم أهون من
البناء كما أن القائمين عليه أمضى سلاحاً وأكثر عدداً:
فلو أَلْفُ بانٍ خلفهم هادم كَفَى ... فكيف ببانٍ خلفه أَلْفُ هادم؟ !
وبحسب المعلم كذلك أنّ نجاح عمله موقوف على كفاءة النظام التربوي السائد، وعلى اضطلاع الأسرة بواجباتها، وعلى قيام وسائل الإعلام بمسؤولياتها، بل
وعلى كون المجتمع بكافة قطاعاته ومؤسساته ساعياً بصدق وقوة إلى تحقيق الغاية
الكبرى من الحياة الدنيا، وهي عبادة الله تعالى وتعبيد الأجيال له سبحانه ... فإنْ
صَحّ ذلك وإنّه لصحيح فهل تبقى على المعلم حجة إن غفل أو فشل أو نكص على
عقبيه؟ ! نعم؛ لأن تفريط أحد لا يكون حجة لأحد، ولأنّ أسباب الفشل وإن
تعددت وتجمعت لا تُبطل حقاً ولا تُحقّ باطلاً؛ ولأن المسلمين لا يكونون إمّعات،
ولا يقول قائلهم:
وهل أنا إلا من غَزِيّة إنْ غوتْ ... غويتُ وإنْ ترشدْ غزيّة أرشد
إنّ إحجام مَنْ يُحجم عن أداء واجبه لا يسقط وجوب الواجب، ونكوص من
ينكص من أهل المسؤولية لا يُحلّ لغيره النكوص، ولا يُبطل ذلك ولا يقدح فيه ما
يكون بين درجات المسؤولية ومستوياتها من التكامل والتكافل وصِلات التأثّر
والتأثير، بل الحق الذي لا ريب فيه أنّ فشل الأفشال ونكول الناكلين ما هو في
أعراف المجاهدين الصابرين إلا دوافع إلى مزيد من الصبر والثبات:
ومَن تكن العلياء همّة نفسه ... فكلّ الذي يلقاه فيها مُحبّبُ
والنفوس الكبيرة تثق بفضل ربها وقدرته ورحمته، أكثر مما تثق بالقوى
الخاصة والظروف المحيطة، وطاعة الله تعالى حقّ على الفرد والمجتمع وإن
كثرت الأعباء وثقلت التكاليف، وبلوغُ الهدف كما يقول الدكتور محمد عبد الله دراز
رحمه الله تعالى يتطلب تأسيس العمل على نيّة تستهدف أعلى درجات الكمال
المستطاع، وإلا كان التوقف والتهافت والنكوص؛ ولذا يأمرنا القرآن الكريم بأن
نجاهد في الله حقّ الجهاد، وأن ننشد الأفضل، ونُسابق على المراتب الأولى،
ويأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقنع ونرضى بما قسم الله لنا من نعيم
الدنيا، وأن نسمو إلى مَنْ هم أَسْمى منا في مضمار التقوى والعمل الصالح. يقول:
(خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابراً، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا
شاكراً ولاصابراً: مَنْ نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه
إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضّله به عليه، كتبه الله شاكراً صابراً. ومن
نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته
منها لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً) [3] .
ومن الثابت قطعاً أنّ الله تعالى لم يكلّف نفساً إلا وسعها، ولم يأمرها إلا بما
تستطيع؛ ولكن الوُسْعَ في قوله تعالى: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا]
[البقرة: 286] ، والاستطاعة في قوله عز وجل: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] [التغابن:16] لا يدل أيّ منهما على تكليف الفرد أو الجماعة ببذل أدنى الجهد؛ بل كلاهما دليل على التكليف ببذل أعظم الجهد، وهذا ظاهر في كلمة [وسْعَهَا] .
قال الرازي: [والوُسْع والسّعة بالفتح الجدة والطاقة، وأَوْسَع الرجل صار ذا سَعَة
وغنى ومنه قوله تعالى:] وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإنَّا لَمُوسِعُونَ [] الذاريات: 47 [أي
أغنياء قادرون، والتوسيع خلاف التضييق..] [4] ، وقال صاحب الظلال في
تفسير قوله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] [الأنفال: 60] فهي
حدود الطاقة إلى أقصاها بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة
يدخل في طاقتها) [5] ؛ ولذا كان المسلم بعشرة من الكفار في حال قوته، وباثنيْن
منهم في حال ضعفه كما نص على ذلك قوله تعالى: [إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] [الأنفال:
65، 66] .
ولو جاز لامرئ أن يُقيم حركة حياته على الأخذ بالرّخَص، للزم أرباب
المسؤوليات الكبرى والمعلمُ منهم أن يقيموها على العزائم، والأمة المسلمة هي أمة
جهاد واجتهاد على كل حال؛ وهذا المعنى جليّ في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [آل عمران: 200] .
فهل صبر المعلم وصابر؟ وهل بذل وسعه، وأدّى ما عليه من حقّ الجهاد
والاجتهاد؟ ما بال أكثر أبناء المسلمين إذاً يتأسّوْن بـ (نجوم الفنّ) و (أبطال الكرة) ، ويلتمسون المجد في ملاعب الرياضة ودور الأزياء ومعاهد التمثيل؟ ! بل ما بال
الأمة عامة تستبدل بالأعمال الجليلة ألفاظاً طنانة، وبالمبادئ العظيمة شعارات تافهة، وبالجهاد في سبيل الله أشكالاً عقيمة من الشجب والنّدب والتنديد والاحتجاج؟ !
لقد سقط المعلم إلا من رحم الله في مستنقع الواقع، وأصبح قانعاً بشرح ما
بين يديه من معلومات أيّاً ما كانت مكتفياً بحشو رؤوس تلاميذه بها دون أدنى اهتمام
ببناء الشخصية المسلمة، القادرة على التأثير والتغيير، وهكذا اتّخذت المظاهر
الجوفاء أرباباً تُعبد من دون الله، وتَحَوّل أكثر طلبة العلم إلى (مرتزقة) ، لا يرون
فيه إلا سبباً لكسب الرزق، أو سبيلاً إلى تحقيق الوجاهة الاجتماعية، ونسي
الطالب والمعلم كلاهما أنّ العلم لا يُطلب في شرعة الإسلام إلا للعمل، وأنّ كلاً من
العلم والعمل عبادة يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة، وأنّ الأجيال التي تتخرج في
المدارس والجامعات وهي لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً إلا ما أُشربتْ من
هواها ليست من العلم على شيء.
إنّ الغاية من التربية والتعليم هي نفسها الغاية من خلق الله تعالى الإنسان في
هذه الدنيا: أن تُعمر الأرض وفق مقتضى المنهج الإلهي العظيم، فما ينبغي لمعلم
مسلم أن يهون عليه عمله حتى يصبح مجرد دروس تُلقى، ثم يتفرق الطلبة بعدها
أشتاتاً، ثم يُسألون عنها فينجحون أو يرسبون، وما ينبغي للغاية العظمى أن تتحول
من إعداد أجيال تحمل مسؤولية الدعوة إلى الله على بصيرة، إلى تخريج أجيال
تحمل الشهادات، وتميل مع الشهوات، ثم لا يكون أكبر همّها إلا أنْ تتقلّد الوظائف، وتُخلد إلى الأرض، وترضى من الدنيا بمتاعها الرخيص!
كلا، بل التعليم تربية للأقوياء الأمناء، العلماء العاملين، الذين لا يزالون
(ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [6] ، ولقد
وعى أسلافنا الأوائل ذلك حقّ الوعي، وأخلصوا له كل الإخلاص، فوفّقهم الله
تعالى لتخريج أجيال عالمة عاملة، تجعل رضوان الله عز وجل غاية غاياتها،
وتتخذ من عقيدة الإسلام قوام حياتها، كما تتخذ من الحلال والحرام مقياساً لسلوكها
وضابطاً لتصرفاتها.
إنّ الله تعالى لم يخلقنا عبثاً ولن يتركنا سدى، وإنّ ذلّنا المعاصر ليُشير إلى
انحراف خطير عن صراط الغاية التي خُلقنا من أجلها، والتي نحن محاسبون على
تحقيقها، فكان حقاً علينا أن نُغَيِّر ما بأنفسنا من انحراف ليغيّر الله تعالى ما بنا من
ذلّ: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، وليت
شعري ما فَرْقُ بين مَنْ أسلم لله تعالى ومَنْ لم يسلم إذا استويا في الافتتان بزهرة
الحياة الدنيا، ولم يعلما أنّ ما عند الله خير وأبقى؟ !
إن الله تعالى لم يأمرنا إلا بالسعي الذي يحقّق شَرْطي الإخلاص والإصابة،
فما نحن بمسؤولين عن تحقيق النتائج وقطف الثمرات:
على المرء أن يسعى إلى المجد جهده ... وليس عليه أن تتم الرغائب
حسبنا أن نخلص ديننا لله ربنا، وأن نحرص على أن نكون الأمناء الأقوياء،
فإن وُفّقنا إلى تحقيق طلبتنا وبلوغ غايتنا، فذلك فضل الله علينا، وإلا فقد أبرأنا
ذممنا واعتذرنا إلى ربنا. قال تعالى في شأن الناهين عن المنكر من بني إسرائيل:
[وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً
إلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] . [الأعراف: 164، 165] .
إنّ العمل نفسه مقصود في نظر الإسلام؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (إنْ
قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك
أجر) [7] ، ولا ريب أن نتيجة العمل مطلوبة بقوة، ولكنها ليست شرطاً في قيام
العمل نفسه، وإلا لكفّ الناس عن العمل بمجرد تحقيق النتائج، على أن ذلك لا
يعني أبداً عدم الاهتمام بالنتائج، فلا بد من درس النتائج ومراجعتها والوقوف على
أسباب تحققها أو تخلّفها، واستخلاص العِبَر المستفادة منها، ومن ثم تقويم العمل
نفسه على ضوئها، ويبقى المعيار الأمثل لنجاح أي عمل في نظر هذا الدين هو أن
يُرضي الله عز وجل، وبهذا المعنى لا يُخفِق عَمَلُ عاملٍ مسلم ما دام يجمع بين
فضيلتي الإخلاص من جهة والصواب (بموافقة الشرع) من جهة أخرى.
فليكن كل معلم مسلم على بصيرة، وليعلم واقعه وواجبه، ثم ليأت من ذلك
الواجب ما استطاع. ومن يدري فلعل الله تعالى يبارك عمل المعلمين العاملين،
فيكشف بهم ما نزل بأمتهم من هوان وخذلان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو
حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز؛ لابن عبد الحكم/ 37.
(2) من الإنصاف أن نشير إلى أن التعليم في المملكة العربية السعودية يمتاز عن التعليم في سائر أنحاء العالم الإسلامي بصبغته الإسلامية الظاهرة؛ فما ذكرناه حكم عام.
(3) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 58 وانظر: دستور الأخلاق في القرآن، للدكتور محمد عبد الله دراز، ص 666، وما بعدها، والحديث إسناده ضعيف، ضعفه الألباني في الضعيفة رقم (1924) والأرناؤوط فيشرح السنة رقم (4102) - البيان -
(4) مختار الصحاح، مادة: وسع.
(5) في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله تعالى، ج3، ط9، دار الشروق، ص 1544.
(6) من حديث رواه مسلم، وأوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين) .
(7) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني، باب الحرث والزراعة.(124/16)
دراسات دعوية
التخطيط في خدمة الدعوة إلى دين الله
بقلم: خالد صقير الصقير
لا يخفى على كل داعية نذر نفسه لتحمل هذه الأمانة العظيمة مدى الحاجة إلى
دعوة راشدة تنهض بهذه الأمة، وتستند إلى قواعد صلبة من كتاب الله، وسنة
رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهدي السلف الصالح.
ولا ريب أن من أهم السمات المطلوبة في الداعية إلى الله هي البصيرة
بمفهومها الواسع، والتي تشمل غير العلم بموضوع الدعوة معاني أخرى كثيرة من
أهمها: وجود الفهم الشامل لدى الداعية بأهداف دعوته ومقاصدها، وإدراكه
للوسائل الشرعية التي ينبغي أن يسلكها لتحقيق هذه الأهداف، والتنبؤ بما قد
يعترضه من عوائق ومشكلات، وهذا الوعي والإدراك لمثل هذه الأمور هو ما
نسميه بلغة الإدارة: (التخطيط) .
ماهية التخطيط:
لا شك أن كل داعية إنما يهدف من وراء دعوته إلى تحقيق جملة من
الأهداف؛ إذن: فما هي أهدافه؟ ولديه العديد من الوسائل التي ينوي القيام بها:
فما هي أفضل هذه الوسائل لتحقيق أهدافه؟
ويطمح لأن تتحقق أهدافه ومقاصده: فكيف تتحقق هذه الأهداف بالشكل
المطلوب؟
ويرد في ذهنه العديد من العوائق والصعوبات عند رسم برامجه: فما السبيل
لتلافي هذه المعوقات وتوقعها مسبقاً؟
إن هذه الخواطر والتساؤلات تبرز مسيس الحاجة إلى التخطيط في برامجنا
الدعوية؛ لأن ضعف جانب التخطيط أحياناً وانعدامه في أحيان أخرى أسهم في
إضاعة الكثير من جهود الدعاة وأضعف ثمار أعمالهم الدعوية وأضحى الكثير من
البرامج تنفذ لمجرد التنفيذ فقط أو لتكون أرقاماً تضاف إلى أعداد البرامج المنفذة.
وإذا تأملت في آثارها فلا تكاد تجد لها أثراً في الواقع أو أنها قد حققت الحد
الأدنى من أهدافها، وبتتبع معظم السلبيات في الجهود الدعوية نجد أن الكثير منها
يمكن إرجاعه إلى ضعف أو انعدام التخطيط.
وهذا لا يعني إغفال العوامل الأخرى كسلامة المنهج وإخلاص النوايا لدى
العاملين، وغيرها، ولكن هذه الجوانب قد تكون معلومة لدى معظم الدعاة وليست
بخافية كما هو حال التخطيط الذي لا زال قليلاً أو شبه معدوم في واقع كثير من
الدعاة أو الجهات العاملة في حقل الدعوة؛ ولا زالت الارتجالية والعشوائية
والفوضى المالية والإدارية أحياناً هي السمة البارزة في كثير من الأعمال الدعوية.
إيجابيات التخطيط:
ويمكن أن نبرز أهم ما يمكن أن يسهم به التخطيط للنهوض بالأعمال الدعوية
والارتقاء بها حتى تحقق أهدافها بإذن الله تعالى ثم بجهود الدعاة الصادقين
المخلصين، وأبرز هذه الإيجابيات هي:
1- أن التخطيط يحدد أهداف الدعاة وغايات البرامج والمشروعات الدعوية،
كما يفيد في حسن الأداء أثناء التنفيذ والتقويم الدقيق بعد ذلك، ولا زال هذا الأمر
وهو وضوح الهدف غائباً عن كثير من العاملين في الدعوة؛ فهو لا شك يدرك
الهدف العام وهو تبليغ دين الله ولكنه قد يجهل الأهداف الخاصة لكل برنامج مما
يُوجِد في كثير من الأحيان سلبيات كثيرة على هذه البرامج.
2- يساعد التخطيط في اختيار طرق الدعوة المناسبة والملائمة لكل داعية
بحسب قدراته وإمكاناته والمتوافقة مع طبيعة البرنامج والأهداف المرسومة له؛
وفي تحديد الرأي الأقرب للتقوى لكل برنامج؛ فأحياناً قد يختار الداعية أساليب
للدعوة لا تؤدي إلى نجاح البرنامج: إما لعدم مناسبتها لأهداف البرنامج، أو لطبيعة
البرنامج وأهدافه، أو لعدم مناسبتها لإمكانات من يتولى تنفيذ البرنامج وقدراته
الدعوية، أو أنها غير ملائمة لبيئة الدعوة أو نوع المدعوين وطبيعتهم، وقد
(يجتهد) الداعية أحياناً في اختيار وسيلة غير منضبطة بضوابطها الشرعية.
3- يجعل من السهل التوقع لمعوقات البرنامج الدعوي التي قد يفاجأ بها
الداعية أثناء أو قبل تنفيذ البرنامج، ويتم هذا بالاستفادة من المعلومات والبيانات
التي يجمعها واضع الخطة الدعوية مما يجعله بإذن الله أكثر أماناً وأقل عرضة
للمفاجآت التي قد تُذهب جهوده أو تضعف ثمارها إضافة إلى أنه يعالج الخطأ في
الوقت المناسب وقبل أن يتراكم فيمنع الرؤية وتصعب معالجته.
4- يسهم التخطيط في ترتيب الأوليات لدى العاملين والقائمين على البرنامج
الدعوي مما يساعد في اختيار الأهم منها عند حدوث تضارب أو تداخل، أو عند
الحاجة لتقديم برنامج على الآخر، أو إلغاء أحدهما، أو غير ذلك.
5- يُحدث التخطيط كثيراً من الانسجام والتناسق بين أعمال الداعية، مما
يمنع الازدواجية والتضارب في أعماله وبرامجه؛ فلا تضيع بفعل ذلك كثير من
الجهود والأوقات التي يمكن استغلالها لتنفيذ برامج أخرى.
6- يعمل التخطيط على توفير كثير من النفقات المالية والجهود البشرية التي
توضع في غير موضعها بسبب ضعف التخطيط أو انعدامه مما يساعد على استثمار
هذه الجهود والنفقات لإقامة برامج دعوية أخرى.
ولا شك أن عدم وجود تصور واضح للميزانيات المتوقعة لتنفيذ البرنامج هو
من آثار ضعف التخطيط.
7- يفيد التخطيط في تحديد مواعيد زمنية تضبط بدء الأنشطة وانتهاءها؛
وهذا يجعل الداعية قادراً على تقويم أعماله ومدى التزامه بالمدة الزمنية المحددة
لتنفيذها، وكذلك في حسن التوقيت لإقامة البرامج ومنع التضارب مع أنشطة أخرى.
8- يفيد التخطيط في التجديد في الأساليب والوسائل الدعوية وفي البعد عن
الرتابة والتمسك بالأساليب التقليدية؛ مع التمسك بثوابت المنهج الصحيح في الدعوة.
9- يفيد التخطيط في التنسيق بين العاملين أو الجهات الدعوية في الساحة
الدعوية بأشكال مختلفة سواء في التنسيق في توزيع المواقع الجغرافية، أو
التخصص في البرامج الدعوية، أو غير ذلك. كما يفيد في منع التكرار في البرامج
ويحول دون إضاعة الجهود أو إغفال برامج أخرى قد تكون الحاجة إليها أكثر.
10- يفيد التخطيط في تقويم الواقع الدعوي في المواقع المختلفة التي تنفذ
فيها الخطط الدعوية، وفي تحديد مواطن الضعف في الخطة أو في أسلوب التنفيذ
ليتم تلافيها في الخطط القادمة؛ وهذا مما يؤكد أهمية التخطيط في أنه يساعد في
عدم تكرار الأخطاء التي ترتكب، وفي عمل مراجعات شاملة في نهاية كل خطة
دعوية ليتم تقويم النتائج والنسب المتحققة من أهدافها وأبرز سلبياتها وإيجابياتها.
11- يجعل من السهل على الداعية أن يحصر حاجاته من البرامج والأنشطة
والخطط اللازمة لتوجيه مسار الدعوة بالشكل الصحيح.
12- يسهم في معرفة مواضع الضعف في القوى البشرية ومن ثَمّ في تحديد
البرامج التدريبية اللازمة للارتقاء بالكفايات الدعوية من كافة الجوانب العلمية
والإدارية والقيادية.
13- يساعد التخطيط القائمين على الأعمال الدعوية في وضع معايير وأسس
لمتابعة أداء الدعاة والعاملين في البرامج، ومدى تحقيقهم لأهداف البرنامج.
14- يفيد التخطيط في تحديد مهام العاملين في البرنامج الدعوي أو الخطة
الدعوية عموماً، وطريقة أدائهم؛ مما يساعد على إدارتهم وتوجيههم بالطريقة
المناسبة لتحقيق الأهداف المطلوبة.
15- يزيد التخطيط من فاعلية وإنتاجية المديرين للبرامج أو الخطط الدعوية؛ فما دام أن التخطيط يساعد في وضع الأهداف بشكل واضح ومحدد فإنه كذلك
يساعد القائمين عليه في اتخاذ القرارات المناسبة التي تحكمها الأهداف الموضوعة
للخطة الدعوية.
16- يساعد التخطيط في استغلال الفرص الدعوية حيث يفيد في الإعداد
المبكر وحسن التوقيت للبرامج وجمع المعلومات الخاصة بالبرامج وخصوصاً
مواعيد إقامتها، وتحديد ذلك مسبقاً والإعداد الجيد له.
17- يفيد التخطيط في جعل البرامج والخطط أكثر شمولية وتكاملاً؛ ويلاحظ
أثر ذلك في جهود بعض الدعاة أو الجهات الدعوية حيث تركز على شرائح معينة
من المجتمع أو على موضوعات وجوانب معينة في برامجها، وتهمل غيرها؛ بينما
التخطيط يجعل للعمل الدعوي والجهود الدعوية سمة الشمولية في طروحاتها
وبرامجها.
18- يساعد التخطيط على استمرار الجهود الدعوية بإذن الله فكثيراً ما تتوقف
الأنشطة وتتعطل البرامج بسبب حدوث المفاجآت كانقطاع الدعم، أو سوء التنفيذ،
أو سوء التوقيت، ولعدم وضع بدائل لهذه الحالات الطارئة.(124/22)
سياسة شرعية
نحو بناء لمصطلح النخبة من منظور إسلامي
بقلم: كمال حبيب
يشير مصطلح النخبة في العلوم الاجتماعية إلى الصفوة المتميزة التي تمتلك
من القدرات التنظيمية والخصائص النفسية ما يؤهلها لأن تكون فاعلة ومؤثرة في
الجماعات التي تنتمي إليها، ولأن كل مجتمع يتكون من جماعات متعددة فإننا
سنكون بإزاء صفوة في كل جماعة، وهو ما جعل بعض المهتمين يتحدث عن نُخَبٍ
(بالجمع) وليست نخبة واحدة.
وقد ركّز المنظور النخبوي في صيغته التقليدية على النخبة السياسية أيْ
الأقلية المتميزة التي تنخرط في الصراع السياسي والاجتماعي للحصول على القوة
التي تُساعدها في التأثير على توجيه القرارات السيادية التي تخصِّص القيم للقوى
السياسية المختلفة في المجتمع لصالحها أيْ أن النُخَب الوسيطة في الوظائف والمهن
والنقابات قد وصفها منظِّرو النخبة التقليديون بأنها نخب غير سياسية فهي وفقاً لهذا
المنظور تحتل مكاناً مرموقاً بَيْن جماعاتها لكنها لا تمارسُ عملاً سياسياً. ويبدو أن
منظِّري النخبة المعاصرين قد شعروا بأن وصف: (النُخب الوسيطة) بأنها غير
سياسية يمثل نقطة ضعف في المنظور التقليدي؛ ولذا طوروا مقولاتهم وتحدثوا عما
أطلقوا عليه: (الطبقة السياسية) وهي أوسع من النخبة السياسية؛ إذ إن مفهوم
الطبقة لا يُطْلَق فقط على الذين يشتركون بشكل مباشر في صناعة القرار السياسي
وإنما يتسع ليشمل قطاعات من النخب الوسيطة التي تنخرط بالضرورة في العملية
السياسية للحصول على جزء من القيم السيادية لصالح جماعاتها.
حقيقة المنظور النخبوى:
يركز المنظور النخبوي على فكرة الصراع السياسي بَيْن الجماعات للحصول
على القوة السياسية التي تُمكِّنها من التحكم والسيطرة، لكنه وخلافاً للمنظور
الماركسي لا يجعل من القوة الاقتصادية العامل الوحيد في حسم الصراعات السياسية؛ وإنما هناك مصادر أخرى للقوة مثل: الخصائص النفسية والسمات الشخصية
للنخبة، وكذلك القدرات التنظيمية، ثم الاقتراب من دوائر صناعة القرار السياسي.
ويرى منظرو النخبة أن الدولة كيان ضروري وهام لا يمكن لمجتمع أن يعيش
بدونها؛ لذا فإنهم يرون أن المجتمع ينقسم أفقياً إلى: أقلية حاكمة النخبة وأغلبية
محكومة، والأقلية النخبة هي التي تسيطر وتوجه وتتحكم، بينما الأغلبية لا يمكنها
إلا الطاعة والخضوع؛ وحتى إذا حاولت الفعل فإنها ستجد نفسها محاطة بقيود
السيطرة التي تفرضها عليها النخبة الحاكمة.
كما يتحدث منظرو النخبة عما يطلقون عليه (دوران النخبة) أي ضرورة
سعيها إلى التكيف مع المتغيِّرات الجديدة بحيث تتقبل الأفكار والدماء الجديدة من
النخب الصاعدة التي تمثل ناتج الصراع السياسي في المجتمع. وكلما كانت النخبة
أكثر قابلية للدوران وأكثر استجابة للتفاعل مع مُسْتَجدات الواقع كلما استطاعت أن
تبقى مسيطرة وحاكمة بينما عجزها عن ذلك يؤدي إلى انهيارها، وبالطبع إحلال
وصعود نخبة جديدة محلها؛ أيْ أن الدولة هي انعكاسٌ للصراع النخبوي تبين القوى
السياسية التي تنخرط في استباقٍ محموم للحصول على أكبر قدر ممكن من النفوذ
والقوة السياسية؛ وهذا يعني أن النخبة هي الفاعل الرئيس في توجيه سير التاريخ
وأحداثه وليس الاقتصاد كما ذهب ماركس.
والمنظور النخبوي قد ظهر في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر كتعبير
عن اجتهاد رأسمالي ليبرالي في مواجهة اكتساح التحليلات الماركسية للقارة. وفي
الواقع فإن الفكر الإسلامي لم يعرف مصطلح (النخبة) وفقاً للتحديد السابق؛ ومن ثم
فإن المصطلح يحتاج إلى إعادة بناءٍ وتحرير من خلال المنظور العربي الإسلامي.
مصطلح النخبة إسلامياً:
يذكر لسان العرب أن نُخْبة القوم هُمْ خيارهم وأنهم الجماعة المختارة من
الرجال وفي حديث علي: وخرجنا في النُخْبة أي المُنْتَخبُون من الناس، المُنْتقون
وفي حديث (سلمة بن الأكوع) : انتُخب من القوم مئةُ رجل أيْ اختارهم، فانتزعهم
من بقية الرجال أيْ أن النُخْبة في اللغة تعني الخلاصة المنتقاة والمنتزعة من الناس
وهُمْ بذلك أقلية متميزة داخل الجماعات التي يمثلونها وهنا يتطابق المعنى اللغوي
لكلمة (النخبة) في اللغة العربية مع أهم ما يشير إليه المصطلح في العلوم الاجتماعية
وهو أن النّخب تمثل صفوات مجتمعاتها.
وفي الإسلام نجد ترتيب أوضاع الناس داخله وفقاً لما نطلق عليه: (التمييز
الوظيفي) أيْ: درجة تمثّل الناس لأوامر وأحكام الإسلام، فالسابق بالخيرات
المُحْسن أرفع درجة من المقتصِد المؤمن وهُو أرفع درجة من المسلم الذي قد يظلم
نفسه باقتراف بعض المعاصي وهنا فإن معيار الانتخاب يكون مبنياً على أسس
وظيفية مرتبطة بالدين الإسلامي وكيفية تحمله وتمثله. وبالطبع فإن قصدنا من
درجة التزام الدين الإسلامي لا يقتصر فقط على العبادات وإنما يتسع ليشمل كل
جوانب الحياة بدءاً بالممارسات الفردية الضيقة، وانتهاءً بالممارسات العليا السياسية
والاجتماعية فالفرز الاجتماعي والسياسي للنخبة من المنظور الإسلامي لا يستند إلى
امتلاك القوة السياسية بمصادرها المختلفة، وإنما يستند بشكل أساس إلى تحقيق
المثالية الإسلامية التي تعني تحويل الدين الإسلامي إلى واقع حَيٍّ متحرك وهنا فإن
النخبة الإسلامية في العهد النبوي والراشدي تمثل (نخبة الخبرات الإسلامية)
باعتبارها الأكثر تعبيراً عن تمثل رُوح الشريعة، كما أن جيل الصحابة الذين
شاركوا في بناء هذه الخبرة يمثلون (النُخْبة المرجعية) لكل الأجيال التالية عليها؛
لأنهم كانوا الجيل الأكثر تمثلاً للإسلام في واقعه وحياته؛ وهُمْ في التحليل النهائي
الصفوة التي وضعت أسس التعامل بين الشريعة والواقع عبر الوسائط المنهاجية
التي كونت فيما بعد المذاهب الفقهية في صياغتها الكاملة.
وكما يستبعد المعيار الوظيفي الإسلامي أن تكون القوة السياسية هي أساس
تصعيد النُخب في البناء السياسي؛ فإنه يستبعد أيْضاً أن يكون التنافس والصراع
على امتلاك القوة السياسية هُو القانون الحاكم لسلوك النخبة؛ إذ إن السلطة السياسية
في المنظور الإسلامي يتم النظر إليها باعتبارها محنة وابتلاء وليست شيئاً مرغوباً
فيها؛ ولذا لما سأل (الصحابي) أبو ذر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يعطيه
ولاية أي سلطة قال: (إنك ضعيفٌ، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا
من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) . كما جاء في الحديث: (ما من راعٍ أيْ
صاحب ولاية يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غَاشّ لها إلا حرم الله عليه
رائحة الجنة) ويلاحظ أن المنظور الإسلامي يربط غايات العملية السياسية
والاجتماعية بما وراء الدنيا أي بالآخرة؛ وهو ما يجعل الصراع والتدافع بين
النخب السياسية والاجتماعية محكوماً بضوابط أخلاقية تخفف من نتائج هذا الصراع
وحدّته، وتجعله في المستوى الذي يحافظ على الفعالية السياسية للمجتمع دون
تصعيد مدمر للصراع والتدافع من ناحية، ودون فقدان المجتمع لتوتره الإيجابي
المبدع من ناحية أخرى.
إذا كان المنظور النخبوي في التقاليد الغربية يجعل من الأغلبية مجرد كمٍّ
يستقبل توجيه الأقلية الفاعلة التي تتحكم وتوجه، فإن المنظور الإسلامي يرفض أن
يكون واحد ممن ينتمون إلى الإسلام مجرد قابل سلبي لعمليات قطاع أو قطاعات
فاعلة في المجتمع، فالمسلم له موقف إيجابي من الكون والخلق والخالق وهذا هو
المقصود بالآية الكريمة: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: 110] ، وأيضاً: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِّتَكُونُوا شُهَدََاءََ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] ، وفي
الحديث: (من رأى منكم مُنْكراً فليُغَيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم
يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الإيمان) أيْ أن النخبة لا تقف في مواجهة الناس أو
العوام أو الجماهير أو الشعب، ولكنها جزءٌ منهم وتعمل لصالحهم بما في ذلك
السماح للنخب الجديدة التي تنبت من قلب الواقع الحي للجماهير بأن تصعد وتبزغ
دون اعتبار لما يسمى في التقاليد الغربية بـ (القانون الحديدي للأوليجاركية) ، بل
إن الشعب أو الأغلبية في حال فساد النخبة يفرز ما يسمى بـ (النخبة المضادة)
وذلك وفقاً لما يمكن أن نطلق عليه: (قانون تداول النخب) ، ففي كل حالة تم فيها
فساد النخبة فإن الآلية الداخلية للإسلام المستندة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر تنتج نخباً جديدة تنازع النخبة الفاسدة شرعيتها، وفي الغالب استطاعت
هزيمتها وتحقيق شرعية جديدة عن طريق نخبة جديدة؛ فالدولة الأموية نازعتها
النخبة العباسية واستطاعت هزيمتها وتأسيس الدولة العباسية، وفي إطار الدولة
العباسية ظهرت دول في مناطق الأطراف مثل السلاجقة، كما ظهر الطولونيون
والإخشيديون ثم الدولة العثمانية، وكل دولة كما هو واضح تسمت باسم مؤسسيها،
وهؤلاء المؤسسون يمثلون النخبة الحاكمة.
مصطلحات إسلامية في الموضوع:
عرف الفقه السياسي الإسلامي مصطلحات قريبة في دلالتها من مصطلح
النخبة مثل مصطلح: (أهل الحل والعقد) و (أهل الشورى) و (أهل الاختيار)
و (أهل الاجتهاد) وقدم (ابن خلدون) مصطلح العصبية. وفي الواقع المعاصر فإن
(النخبة) حين تُطْلق يسبق إلى الذهن مصطلح (المثقفون) وقد حاول بعضهم تقديم
بديل معاصر فاقترح ما أسماه: (السُرَاتيّة) واللفظ مأخوذ من بيت الشعر العربي:
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سُراةَ لهم ... ولا سراة إذا جُهّالهُم سادوا
ونعرض في حدود ما يسمح به المقام لمعاني هذه المصطلحات:
1- أهل الحل والعقد: هُو مصطلح تاريخي عبّر به الفقهاء عن طوائف
متعددة في المجتمع المسلم يشير إجماعها أو اتفاق جمهورها على أن ما ذهبوا إليه
هو محل قبولٍ ورضا لدى الأغلبية المسلمة، كما يشير أيضاً إلى ضرورة الرجوع
إلى من يعبر عنهم هذا المصطلح لإدارة شؤون الجماعة بالإمضاء أو المنع.
وقد عبر مصطلح أهل الحل والعقد في الخبرة الإسلامية عن الذين يمثلون
قطاعات متنوعة من أصحاب السلطة في المجتمع؛ فالولاة وقواد الجيوش يمثلون
السلطة التنفيذية، وقادة القبائل ووجوه الناس يمثلون السلطة المجتمعية، والعلماء
والفقهاء يمثلون السلطة القضائية وسلطة الإفتاء فالمصطلح في الواقع هو تعبير عن
المصطلح القرآني: (أولو الأمر) بالمعنى الواسع.
2- أهل الاجتهاد: وهُمْ الفقهاء الذين يؤهلهم تخصصهم في الشريعة أن
يكونوا مراجع فقهية لأهل الحكم في التعرف على الأحكام الشرعية الاجتهادية؛ كما
أنهم المراجع الشرعية للجماهير أيضاً، ومنهم يتم اختيار القضاة والمفتين؛ ويدخل
ضمن هؤلاء المؤهلون في التخصصات العلمية الأخرى في كافة مناحي الحياة.
3- أهل الشورى: وهم قِطاع من أهل الحل والعقد يغلب على عملهم التشاور
مع السلطة التنفيذية قبل اتخاذها القرارات السياسية، ويلاحظ أن الفقهاء استخدموا
المصطلحات السابقة بشكل غير محدد؛ إذ كان يتم استخدام أحدها للتعبير به عن
الآخر؛ وهذا مرده في الواقع لبساطة المؤسسات في بدايتها، وحين بدأ تكاملها
وتعاظم تعقيدها انفصلت كل مؤسسة وتحدد بشكل واضح النخبة التي تمثلها.
4- العصبية: استخدم ابن خلدون مفهوم العصبية أداةً تحليلية لفهم الاجتماع
العربي الإسلامي؛ إذ إن الانتماء القرابي والعشائري كان سبباً للتعاضد والتلاحم
الذي يؤدي إلى القوة والشوكة ومن ثَمّ التحكم والسيطرة؛ وبهذا المعنى فإن العصبية
عند (ابن خلدون) قريبة من مصطلح النخبة؛ حيث العصبية تشير إلى الأقلية
الحاكمة المستندة إلى قوة النسب، وتشير النخبة إلى الأقلية الحاكمة المستندة إلى
القدرة التنظيمية أو الاقتصادية أو السمات النفسية والشخصية، ولم يكتف (ابن
خلدون) بالإشارة إلى رابطة النسب في تحقيق السلطة السياسية بل تحدث عن الدين
باعتباره مصدراً للقوة يزيد من قوة العصبية وقد يستقل لتأسيس اجتماع بشري كما
حدث في الدولة النبوية الأولى. وتحدث (ابن خلدون) عن عصبية الدولة التي
تستخدم الموالي كقاعدة سياسية لها؛ وقد حدث ذلك في الدولة العباسية حين استقدم
المعتصم العباسي الترك، وجعلهم عصبية الدولة. فالعصبية باعتبارها أساساً
للتماسك السياسي هي وجهٌ هُو أقرب التحليلات للمنظور النخبوي، أو إن شئنا الدقة
فهو المنظور النخبوي في صيغته العربية الإسلامية.
وأخيراً:
حاول بعضهم كما أسلفنا الاجتهاد فقدّم مصطلح (السُرَاتية) وعرفه بأنهم:
(الأفراد الذيتن بيدهم أمر الحل والربط، ويمكن أن نعينهم بذواتهم دون الدخول في
إشكالية الأنظمة) .
ونحن من جانبنا نقبل مصطلح (النخبة) لكنه في بنائه الإسلامي يعني:
الجماعة المختارة والخلاصة المنتقاة من كافة قطاعات المجتمع التي تدير شؤونه
العامة استناداً إلى المرجعية الإسلامية بقصد تحقيق المصالح الكلية الضرورية
والحاجية والتحسينية) .
إن مصطلح النخبة في مدلوله الغربي شديد الشبه بمصطلح (العصبية) بيد أن
تركيز الحضارة الغربية على قيم الصراع المفتوح بلا ضوابط، واعتبار امتلاك
القوة والسلطة غاية، وتعظيم الفردية السياسية يجعلنا نحدد بناءه من جديد بحيث
نُطَعِّمه بقيم الحضارة الإسلامية التي توازن بين مصلحة الفرد والجماعة، وتضبط
أسباب الصراع ودوافعه كما تجعل الحركة السياسية محكومة بإطار المرجعية
الإسلامية.(124/26)
مقال
في فقه السنن والحضارات..
كيف نتجاوز سلبيات المرحلة ونعاود البناء؟
بقلم: د. سليمان عبد الدايم الخطيب
في إطار جهودنا الفكرية والدعوية المعاصرة، نحن في حاجة إلى استعادة
الثقة بقدرة منهجنا الإسلامي على تجاوز مرحلة التردي الحضاري التي يحياها
المسلم المعاصر برغم كل ما يحيط بواقع الأمة المسلمة. وهذه القضية تطرح علينا
معاودة التذكير بفقه السنن والحضارات في خطابنا الفكري، حتى يتسنى لنا الوقوف
على قدر من المعالم والرؤى المنهجية التي تمكننا من تجاوز تحديات المرحلة التي
تفرض علينا إعادة صياغة وسائلنا الفكرية ووعينا الحضاري لتحويل (فقه التمكين) : [الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: 41] ، وكذلك (فقه الاستعمار الأرضي
لعمارة الكون والحياة) : [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] [هود: 61] ،
وتحويل هذه السنن القرآنية إلى واقع حضاري فعال.
تخلفنا الحضاري: أسبابه، وعلاجه:
لقد تخلفنا كثيراً عن فقه التمكين لعدم وعينا بأوليات التوجيهات القرآنية التي
تمكن المسلم إن هو التزم بها من استعادة كيانه الحضاري، وسط الكيانات المعاصرة، التي تسعى لافتراسه ومحوه من الخارطة الكونية، وبهذه الاستعادة يسدي المسلم
المعاصر إلى العالم المعاني والقيم التي عجزت حضارة الصراع والتأزم الغربية عن
تقديمها إلى الإنسان المعاصر.
فكيف عالج العقل المسلم قضية السقوط الحضاري؟ وكيف نستطيع من خلال
الوعي بحقائقها بث أخلاقيات التفاؤل والتحصن بالرشد المطلوب للخروج من
مرحلة التيه التي تكاد تعصف بالمسلم خارج الدائرة الحضارية؟ . فتكاد أن تجمع
مذاهب التفسير الوضعي للتاريخ، على القول بحتمية سقوط الدول والحضارات
بشكل أو بآخر ف (ماركس) يخضع حركة التاريخ، بدولها وحضاراتها وتجاربها،
لحتمية تبدل وسائل الإنتاج وانعكاسه على الظروف، وأن كل وضع تاريخي مآله
الزوال بمجرد هذا التبدل الدائم، أما (شبلنجر) و (توينبي) فيعلنان عن حتمية
السقوط كأمر لا مفر منه، وبينما يغرق (شبلنجر) في تشاؤميته نجد (توينبي) يقع
في تناقض صريح هو الآخر، عندما يؤكد في الأجزاء الأخيرة من دراسته للتاريخ
على أن هنالك أملاً في بقاء الحضارة الغربية المعاصرة أمام الأعاصير [1] .
وعلى المستوى الإسلامي، نجد أن الدورة التاريخية عند (ابن خلدون) ، دورة
محتومة لا مفر منها، والدول جميعاً تخضع لها، فليس هناك دولة تبقى لا يغلبها
غالب، فكل دولة لها عمر كعمر الأفراد، تبدأ فيه نشيطة مزدهرة، ثم تهرم
وتموت، فحركة الحضارة عنده تتخذ صفة الضرورة، الأمر الذي جعل نظريته
تتصف بالحتمية التاريخية؛ فالدولة في دور انحطاطها أو هرمها، هي كالإنسان؛
إذ يكون هَرمه أمراً طبيعياً لا يتبدل، وأنه حتى إذا تدارك بعض أهل الدول ذلك
التدهور بالإصلاح، فإن الأمر لن يزيد عن ومضة المصباح قبل انطفائه، توهم
أنها اشتعال وهي انطفاء، ولكل أجل كتاب [2] .
ويعترض (مالك بن نبي) على حتمية (ابن خلدون) قائلاً: (إن التعارض
الداخلي بين أسباب الحياة والموت في أية عملية حيوية (بيولوجية) هو الذي يؤدي
بالكائن إلى قمة نموه ثم إلى نهاية تحلله، أما في المجال الاجتماعي، فإن هذه
الحتمية محدودة بل مشروطة؛ لأن اتجاه التطور وأجله يخضعان لعوامل نفسية
زمنية، يمكن للمجتمع المنظم أن يعمل في نطاقها حين يعدل حياته، ويسعى نحو
غاياته في صورة متجانسة منسجمة) [3] .
ولأن (مالك بن نبي) لا ينظر إلى ظاهرة (الحضارة) منفصلة عن ظاهرة
(الانحطاط) ، فقد رأى أن العالم الإسلامي اليوم في حاجة إلى بلورة تحدد له قانون
حركته التاريخية، وتهدي سعيه نحو النهضة، ولذلك راح يبحث عن الأسباب
البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه.
وقد عزا الأسباب الجوهرية لسقوط الحضارة الإسلامية، إلى فقدان القيم
الروحية والفضائل الخلقية، باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات،
بالإضافة إلى خصوصية الحدث الحضاري الإسلامي الذي شكلته قيم ومعايير نبعت
من العقيدة الإسلامية ذاتها، قبل أن تتحول هذه القيم إلى حركة حضارية في عالم
الواقع.
وعندما تنقلب أوضاع القيم في عصور الانحطاط، بحيث تبدو صغائر الأمور
ذات خطر كبير (إذا ما حدث هذا الانقلاب) انهار البناء الاجتماعي؛ إذ هو لا يقوى
على البقاء بمقومات الفن والعلم والعقل فحسب؛ لأن الروح والروح وحدها هي
التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة
وانحطت؛ لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير جاذبية
الأرض) [4] .
وما الذي يحدث عندما تضعف العقيدة في نفوس أصحابها: (وهو درس
للمسلم في كل زمان ومكان) عندما يبلغ مجتمع هذه المرحلة، أي عندما تكف الرياح
التي منحته الدفعة الأولى عن تحريكه (وقد عبر عنها مالك بن نبي بالدفعة القرآنية
الحية) تكون نهاية دورة وهجرة حضارة إلى بقعة أخرى، تبدأ فيها دورة جديدة،
طبقاً لترتيب عضوي تاريخي جديد [5] .
ولكن ما هي قيمة العقل في غياب الدوافع العقدية والإيمانية؟ (في البقعة
المهجورة يفقد العلم كل معناه، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل؛ إذ
يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان [6] .
إن (مالك بن نبي) هنا لا يفصل النتاج العقلي عن مناخه الثقافي الذي ينمو فيه، والفرق واضح بين ثقافة تتفاعل مع وسط تتحدد ذاتيته الحضارية وفق قيمه
الإيمانية والعقدية، وبين ثقافة منفصلة عن أرض الواقع؛ لأنه أصبح واقعاً بدون
هوية؛ لأنه فقد مقومات جذوره العقدية والإيمانية: فالعقل يختفي؛ لأن آثاره تتبدد
في وسط لا يستطيع أن يفهمها أو يستخدمها، ومن هذا الوجه يبدو أن أفكار (ابن
خلدون) قد جاءت إما مبكرة أو متأخرة عن أوانها: فلم تستطع أن تنطبع في
العبقرية الإسلامية التي فقدت مرونتها الخاصة، ومقدرتها على التقدم والتجدد،
حتى إذا وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي كما يتوقف المحرك عندما
يستنفد آخر قطرة من الوقود، وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ
مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو (الإيمان) ولذا لم تستطع النهضة
الحديثة أن تمنح العالم الإسلامي (حركة) لم يعد هو في ذاته يملك مصدرها [7] .
وبفقدان الإيمان ينهار البناء الاجتماعي من الداخل؛ لأنه لا يملك مقومات
تماسكه: لقد بلغت عوامل التعارض الداخلية قمتها، وانتهت إلى وعدها المحتوم،
وهو تمزق عالم واهن، وظهور مجتمع جديد ذي معالم وخصائص واتجاهات جديدة، فكانت تلك مرحلة الانحطاط [8] .
وبما أن الدين هو مركب القيم الاجتماعية، فإنه يقوم بهذا الدور في حالته
الناشئة، حالة انتشاره وحركته، عندما يعبر عن فكرة جماعية، أما حين يصبح
الإيمان إيماناً جذبياً دون إشعاع (أي نزعة فردية) فإن رسالته التاريخية تنتهي على
الأرض؛ إذ يصبح عاجزاً عن دفع الحضارة وتحريكها، إنه يصبح إيمان رهبان
يقطعون صلاتهم بالحياة، ويتخلون عن واجباتهم ومسؤولياتهم [9] .
إن حركة الإنسان داخل الحضارة يجب أن تتم من خلال محور قيمي تحدده
ذاتية عقدية وفكرية، تصبح غاية الإنسان ومنطلقه نحو الفعل الحضاري؛ فالتاريخ
يبدأ بالإنسان المتكامل الذي يطابق دائماً بين جهده وبين مثله الأعلى وحاجاته
الأساسية، والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة، كممثل وشاهد: [وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدََاءََ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً]
[البقرة: 143] ، وينتهي التاريخ بالإنسان المتحلل الذي لم يعد يقدم لوجوده أساساً روحياً أو أساساً مادياً [10] .
إن تمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، يعد من أوضح صور السقوط
الحضاري؛ إذ إن أول عمل يؤديه مجتمع معين في طريق تغيير نفسه مشروط
باكتمال هذه الشبكة من العلاقات، وعلى هذا نستطيع أن نقرر أن شبكة العلاقات
هي الدور التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، ومن أجل ذلك كان
أول عمل قام به المجتمع الإسلامي هو الميثاق الذي يربط بين الأنصار
والمهاجرين [11] .
وعندما تتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، يذكرنا مالك بن نبي بحديث
الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يجب أن نتدبره للتربية لا لمجرد الخبر:
(يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أوَ من قلة
نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل،
ولينزعن الله عن صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل:
وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت) [12] .
لقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار، استحضار صورة العالم
الإسلامي بعد أن تتمزق فيه شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعاً،
بل مجرد تجمعات لا هدف لها، كغثاء السيل، ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك
هذا الحديث؛ لأنه يصف في مضمونه العالم المستعمر والقابل للاستعمار [13] .
عوامل تجدد الحضارة:
ولكن كيف يستعيد الكيان الحضاري ذاته؟ وكيف يتغلب الإنسان على
عوامل السقوط ويتجاوزها إلى البناء والإنجاز؟ يقدم لنا مالك بن نبي في هذا
الجانب صورة تدعو إلى الأمل والتفاؤل فيقول: إن العواصف الجوية والأعاصير
تجر معها غالباً سيولاً هائلة من الماء، سيولاً تترك وراءها في البلد الذي تجتاحه،
الخراب والموت، ولكنها تترك أيضاً على وجه الأديم طمْياً تتجدد به الحياة في هذا
البلد، فتنشط وتنمو فيه الطبيعة الجديدة بأنواع النبات والحيوان المتجدد، فكذلك
شأن الأحداث الكبرى في التاريخ، إنها تجر وراءها الموت والخراب، وتخلف
طمياً مخصباً.. طمياً من دماء الشهداء والأبطال، ولكنها تخلف أيضاً طمياً من نوع
آخر تخلفه في العقول، حيث تترك بذوراً تنبعث منها الأفكار التي تغير مجرى
التاريخ ووجه العالم [14] .
لذلك فإن على الإنسان المسلم أن يطرح بعث الحضارة، بمنطق البقاء حتى
يستطيع أن يتقدم إلى الأمام، وحتى يستطيع أن يرفع مستواه إلى مستوى الحضارة، ويجب على المسلم الذي يضطلع برسالته أيضاً أن يفكر في إعجازه أي في إسلامه
وإعجازه لا يتأتى إلا بتحقيق شرط جوهري، وهو تغيير ما بنفسه وتغيير ما في
محيطه مصداقاً للآية الكريمة: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
[الرعد: 11] . ولا يمكن أن يغير شيئاً في الخارج إن لم يغير شيئاً في نفسه،
وحينما نقول هذه الكلمة نقولها باعتبارها علماً، ولا نقولها لمجرد التبرك بالآية
فحسب، وإنما نقولها علماً ونعلم مقدارها من الصحة، حيث لا يستطيع المسلم أن
يغير ما حوله إن لم يغير أولاً ما بنفسه، فهذه حقيقة علمية، يجب أن نتصورها
كقانون إنساني وضعه الله عز وجل في القرآن كسنة من سنن الله التي تسير عليها
حياة البشر، وإذن لكي يتحقق التغيير في محيطنا، يجب أن يتحقق أولاً في أنفسنا، وإلا فإن المسلم لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين [15] .
ومن خلال التغيير الداخلي للإنسان تتحدد مسؤوليته تجاه التاريخ والأحداث،
وهذه القيمة التغييرية: (بدلاً من أن تلقي على أكتافنا ثقل الأحداث تجعلنا نحدد
إزاءها مسؤوليتنا، فبقدر ما ندرك أسبابها ونقيسها بالمقياس الصحيح، نرى فيها
منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا، وبقدر ما نكتشف من أسرارها، نسيطر عليها
بدلاً من أن تسيطر علينا، فنوجهها نحن ولا توجهنا هي؛ لأننا حينئذ نعلم أن
الأسباب التاريخية، تصدر عن سلوكنا وتنبع من أنفسنا، من مواقفنا حيال الأشياء، أعني (من إرادتنا في تغيير الأشياء تغييراً يحدد بالضبط وظيفتنا الاجتماعية) كما
رسمها القرآن في قوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: 110] [16] .
وعندما يقول الحق تبارك وتعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]
[آل عمران: 140] ، فإنها ترد من هذا الإطار القرآني تعقيباً على تجربة المسلمين التاريخية في أحد: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] [آل عمران: 137-141] .
إن القرآن يطرح في هذا المقطع التاريخي ذي المغزى العميق، والذي ترد
فيه كلمات ذات علاقة وثيقة بالمسألة: سنن، مداولة، تمحيص.. قاعدة أساس في
موقفه إزاء الدول والتجارب البشرية والحضارات، إنه يقرر منذ البدء عدم ديمومة
أي من هذه المعطيات، ولا يستثني الإسلام والمسلمين [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ] ، وقد قال: بين الناس، بمعنى عموم هذه (السنة) التي لا محيص عنها،
والتي تقوم بلا ريب على أسبابها ومقدماتها في صميم الفعل الإنساني نفسه؛ حيث
توصي هذه المداولة بالحركة الدائمة وبالتجدد وبالأمل البشري الذي يرفض السكون، ويرغب في الانطلاق نحو الفعل الحضاري الإيجابي الذي يمكنه من استعادة ذاتيته
الحضارية [17] .
ومع أن الإسلام يعترف بسقوط الدول والحضارات، عندما تتكاتف الأمراض
الحضارية في شكل ظاهرة يطلق عليها القرآن: (الاستبدال) و (الاستخلاف) ،
[وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] [محمد: 38] ، ويقول تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] [يونس: 14] ، إلا أن الإسلام لم يجعل ذلك حتمية لا يمكن أن تفلت منها أية جماعة أو أمة
استطاعت أن تستعيد إرادتها وتصحح مسارها الفكري والنفسي، في ضوء الوعي
الحضاري بهاتين الآيتين المتقابلتين المتكاملتين إيجاباً وسلباً: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الأنفال: 53] .
بل إن القرآن والسنة ليحملان لنا وعداً صريحاً بأن هذه المحاولات التغييرية
في اتجاه الحق مستمرة إلى يوم القيامة وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: [يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ (8) هُوَ الَذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]
[الصف: 8، 9] ، وهو أيضاً ما يدل عليه الحديث الشريف: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة) [18] .
إن التناول الإسلامي لسقوط الدول والحضارات، يؤكد على أن أية أمة،
مؤمنة كانت أم غير مؤمنة، إنما تحمل مسؤوليتها كاملة إزاء نفسها، أمام الله وأمام
التاريخ، ولن تحمل تبعة أمة أخرى إلا بالقدر الذي تفرضه عليها مسؤولية الإنسان
عن أفعاله فحسب: [وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى] [النجم: 39] ، فكذلك الحال
على مستوى الأمم والجماعات: [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [البقرة: 134] .
وهذه المسؤولية (المستقلة) إزاء الذات الجماعية تجيء تأكيداً للارتباط العادل
الوثيق بين التجربة الحضارية وبين مصيرها الذي تؤول إليه تقدماً وتطوراً أو
تأخراً وانحلالاً [19] .
وبهذه المسؤولية الفردية الجماعية تجاه الفعل الحضاري، ينطلق هذا الفعل
في مجابهة كافة التحديات على مختلف الأصعدة، حيث أصبح الإنسان فرداً وجماعة
السند المحسوس للنشاط الحضاري، يمارس فعاليته المسؤولة دونما سكون أو سلبية، وبذلك تستمر دورة حضارته وتستعيد كيانها ودورها في إعلاء كلمة الحق: [هُوَ
الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] [الفتح: 28] .
إن من يؤمن بمرحلية الحدث التاريخي، قد تستعصي عليه فكرة تطويع
التاريخ لمبدأ التغيير، وعلينا أن نحاول تخليص مفهوم التغيير الحضاري من قيود
السببية المقيدة، كما تربطه بها النظرة الشائعة عند المؤرخين، الذين يرون أن
الأشياء في التاريخ تسير طبقاً لسببية مرحلية، والأشياء تسير فعلاً كذلك، إن
تركت لشأنها ولكن التغيير أي التاريخ يخضع أيضاً لقانون النفوس، وتصفية هذه
المناقضة لا يكون إلا بأن تتخذ الآية الكريمة: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، محوراً لمجابهة السقوط الحضاري، وبذلك
تتغير وجهة النظر في سير التاريخ؛ إذ إن المراحل التي تتقبل التغير أو لا تتقبله
حسب طبيعتها، تصبح مراحل قابلة كلها للتغيير؛ لأن الحتمية المرتبطة بها
أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس [20] .
وبذلك تتحدد دورية الحضارة، بأن الإنسان هو محور الفعالية في حركتها؛
بما يملك من قيم عقدية وأخلاقية، تمكنان دوماً من الإنجاز الحضاري وتماسكه.
إن فكرنا الإسلامي المعاصر قد قدم العديد من الاجتهادات حول مشكلات
المسلم في مواجهة التحديات المعاصرة التي تسعى إلى تدميره من الداخل، وبذلك
يسهل الاختراق لصالح قوى الاستكبار والتغريب والتآمر، فهل نستطيع من خلال
سنن التغيير الذاتي أن نعاود الانطلاق؟ وصدق الحق سبحانه: [إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] [غافر:51]
__________
(1) انظر في تفصيل ذلك: التفسير الإسلامي للتاريخ: للدكتور عماد الدين خليل: فيما يتعلق بمسألة سقوط الحضارات، ص 250 وما بعدها، بيروت، دار العلم للملايين، ط2، 1978م.
(2) انظر مقدمة ابن خلدون: فصل أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع.
(3) مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص 24، ترجمة: د عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1981م.
(4) المرجع السابق، ص 27.
(5) المرجع السابق، ص 27.
(6) المرجع السابق، ص 28.
(7) المرجع السابق، ص 28.
(8) المرجع السابق، ص 28.
(9) المرجع السابق، ص 28.
(10) ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، ص 25، دمشق دار الفكر، ط3، 1977م.
(11) ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، ص 25، دمشق دار الفكر، ط 3، 1977م.
(12) رواه أبو داود في سننه: كتاب الملاحم، 4/158، وأحمد في مسنده، ج 5، ص278.
(13) يستخدم مالك بن نبي مصطلح (القابلية للاستعمار) للتعبير عن الاستعداد الداخلي لدى الإنسان لكي يستعمر، ولو أن الإنسان مكتمل التكوين الداخلي لمقاومة الاستعمار بكل أنواعه، لاستطاع التغلب عليه وتجاوزه، وذلك عن طريق العامل العقائدي ودوره في تحريك الفعالية الإنسانية.
(14) مالك بن نبي: تأملات: ص 95، دمشق، دار الفكر، ط3، 1977م.
(15) دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، مالك بن نبي، ص57 58، دمشق، دار الفكر، 1978م.
(16) تأملات، ص 126.
(17) التفسير الإسلامي للتاريخ، مرجع سابق، ص 256، وما بعدها.
(18) رواه البخاري: كتاب العلم/13، والدارمي: كتاب الفتن/1، وابن ماجة: كتاب الفتن/9.
(19) التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 263 264.
(20) من مقدمة مالك بن نبي في تصديره لكتاب: جودت سعيد، (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ،
ص 10، 11، دمشق، دار الفكر، 1977، ط 3.(124/34)
تأملات دعوية
أدومه وإن قل
بقلم:عبد الله المسلم
ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ،
وأخبر: (أن أحب الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه) [1] وكان هديه -صلى الله
عليه وسلم- المداومة على العمل، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملاً
أثبته [2] ، وحين سئلت عائشة رضي الله عنها عن عمله -صلى الله عليه وسلم-
قالت: كان عمله ديمة [3] .
والعمل الذي يداوم عليه صاحبه، مع أنه أحب إلى الله تبارك وتعالى وأنه
هدي النبي؛ ففيه ما أخبر عنه بقوله: (إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له مثل ما
كان يعمل مقيماً صحيحاً) [4] ، وهذا إنما يتأتى لمن له عمل يداوم عليه.
ويتحدث أرباب السلوك عن هذا الحديث ومعانيه، ويمثلون له كثيراً بالصلاة
والذكر والصيام والصدقة، ولا شك أن هذه الأعمال أوْلى ما تدخل فيه، بل هي
تدخل فيه بالنص.
لكن: ألا يمكن أن يستضيء الدعاة إلى الله تبارك وتعالى في دعوتهم بمعاني
هذا الحديث ويتمثلوها؟ ويعلموا أنه ما دام أن أحب العمل إلى الله أدومه؛ فالدعوة
إليه تبارك وتعالى وهي من أفضل الأعمال، ينبغي أن تسلك هذا المسلك.
والمداومة في الدعوة تعني معاني عدة، منها:
1- أن يكون للدعوة عموماً أهدافٌ واضحة محددة، لا أن تكون خطوات
مرتجلة مبعثرة.
2- أن لا تكون الدعوة مجرد ردود فعل لمواقف معينة؛ إذ يتوجب أن تأخذ
ردود الأفعال موقعها الطبيعي؛ فلا تكون مصدراً لرسم برامج الدعوة وأهدافها.
3- أن لا تكون الدعوة دعوة مواسم ومناسبات، أو محصورة بأوقات فراغ
الداعية وإجازاته، بل ينبغي أن تكون جزءاً أساساً من وقته، ليسمع الناس داعي
الخير في كل زمان ومكان.
4- لزوم الداعية موقعه والمحافظة عليه؛ ذلك أنه تبدو أمامه كل وقت
مجالات وفرص متعددة هنا وهناك، وحين يتاح له موقع من المواقع يسد فيه ثغرة، فينبغي أن يحافظ عليه، ولا يجاوزه إلا لمصلحة ظاهرة، أما أولئك الذين ينتقلون
كل يوم من ميدان إلى آخر فما أقلّ إنتاجهم.
5- عدم احتقار الميادين المهمة التي لها أثر عميق لكنه غير عاجل الثمرة،
كميادين التربية والبناء، فهي وإن قلّ أثرها القريب الظاهر، إلا أنها ضرورة لا
غنى للدعوة عنها. والذي يعي مفهوم المداومة يرى أنه ليس بالضرورة أن تكون
الأعمال ذات الأثر العاجل السريع خيراً منها وأوْلى.
ومما يتأكد على الدعاة إلى سبيل الله تبارك وتعالى في ميدان المداومة: أن
يكون لأحدهم نصيب وقدر من العمل الصالح، من الصلاة والذكر والتلاوة والصيام
والصدقة وإن كان قليلاً لا يخلّ به؛ فهم أحوج الناس للصلة بالله تبارك وتعالى،
ولهم في ذلك أسوة بنبيهم محمد.
__________
(1) رواه مسلم، ح/785.
(2) رواه مسلم، ح/746.
(3) رواه البخاري، ح/1987.
(4) رواه البخاري، ح/2996.(124/44)
دراسات شرعية
السوق.. آدابه وأحكامه
بقلم: محمد علي حيدة
السوق في اللغة: موضع البياعات، وجاء في (لسان العرب) أنها تذكّر
وتؤنّث، والجمع أسواق، وقد ورد في القرآن الكريم: [يَاًكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي
الأَسْوَاقِ] [الفرقان: 7] وتسوّق القوم إذا باعوا واشتروا. ويُقصد بالسوق في
الاصطلاح الاقتصادي: المكان الذي يلتقي فيه البائعون والمشترون، ويتم فيه
التبادل.
والسوق كما يعرِّفه الاقتصاديون الغربيون: المنطقة التي يكون فيها البائعون
والمشترون على اتصال وثيق بعضهم ببعض بحيث يكون للسعر الذي يدفع في
مكان من السوق أثر على الأسعار التي تدفع في أي مكان آخر منه؛ وبذلك فهم
يرون أن للسوق وظيفتين رئيستين:
التقاء البائعين والمشترين واتصال بعضهم ببعض.
إمكانية التعامل في السلع والخدمات وسهولته.
وعلى هذا: فالسوق هو المجال الذي يلتقي فيه عرض وطلب السلعة سواء
كانت عملية العرض والطلب تتم بشكل مباشر بين شخصين أو عن طريق غير
مباشر بواسطة أدوات الاتصالات الحديثة مثل البرق والبريد والهاتف وغيرها،
وهذا يعني أن العالم بأسره قد يكون سوقاً لبعض السلع ذات الأهمية الاستراتيجية
في التجارة الدولية.
ويطلق السوق على مكان معين تباع فيه بعض السلع مثل الطماطم أو السمك؛
وهذه هي الصورة المبسطة للسوق، وقد يطلق على مجموعة من العلاقات المتشابكة
والمعقدة مثل: سوق القطن، أو سوق البترول، أو سوق الذهب. وإذا كان الباعة
والمشترون في الحالة الأولى يلتقون مباشرة بعضهم ببعض فإنهم في الحالة الثانية قد
لا يلتقون مباشرة وإنما عن طريق وسائل الاتصال الحديثة.
وقد عُنِي الإسلام بالسوق عناية ظاهرة؛ ففي أول قدوم الرسول -صلى الله
عليه وسلم- إلى المدينة كان فيهم من يبخس في الكيل، ويبدو أنهم قد تعلموا هذه
الأفعال من اليهود، فأنزل الله سبحانه وتعالى [وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ] [المطففين: 1]
فأحسنوا الكيل بعد ذلك، وعندما استقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة
وفرغ من بناء المسجد، التفت إلى مكان البيع والشراء السوق فوجدها في بني
قينقاع حي من أحياء اليهود وكانوا على سجيتهم من أكل السحت والسعي وراء
الكسب من أي باب، فكانوا يضربون على الناس فيها الخراج، ويؤجرون لهم
الأماكن، فمضى الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مكان فسيح وضرب فيه
برجله، وقال: (هذا سوقكم؛ فلا ينتقص، ولا يضرب عليه خراج) [1] وأقام
السوق؛ وخُصِّصَ لكل سلعة مكان: للتمر مكان، وللقمح مكان، وللإبل مكان،
وللغنم مكان، وكأني بسعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما
وأحدهما يعرض على الآخر نصف ماله ونصف داره فيتعفف عبد الرحمن من ذلك، ويشكر لأخيه هذا الفعل، ويدعو له بالخير والبركة، ويقول له: (دلني على
السوق؛ فإني أعرف التجارة) .
وارتاد المسلمون الأسواق بعدها في جو من الطمأنينة؛ حيث لا غش ولا
استغلال ولا احتكار، وتميز من يومها صنف جديد من الناس، وفُتحت لهم أبواب
الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء: إنهم التجار الصادقون.
السوق يأتي إذاً في المرتبة الثانية بعد المسجد في حياة المسلم؛ فالمسجد
موضع للتعامل مع الله وحده كما ورد في كتابه العزيز: [وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا
تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً] [الجن: 18] وأما السوق فهي موضع للتعامل مع الناس ومع
الله سبحانه وتعالى، إذا اتّبعت أوامره واجتُنبت نواهيه وخلصت النوايا، وهنا
تحضرني مقالة عطاء رحمه الله: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف
تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق.. إلخ، وإذا كان صح عن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوله: (.. وأبغض البقاع إلى الله تعالى الأسواق)
فلِما يقع فيها من ظلم وغش وأيمان كاذبة، لكنا قد نستطيع أن نحوِّل أسواقنا إلى
محاريب للعبادة بإقامة العدل فيها والرحمة والتسامح! !
وفي السعي لإقامة مجتمع إسلامي نظيف تقوم دعائمه على العدل والرحمة،
ينبغي أن نتعامل مع آداب السوق وأحكامه كما نتعامل مع آداب المسجد وأحكامه،
وإلا فسيظل بيننا وبين تحقيق هدفنا مسافات طويلة بل وستزداد هذه المسافات مع
مرور الأيام.
وقد اهتم علماء السلف بالسوق وأحكامه وأفردوا له الدراسات والمؤلفات،
ولعل من أبرزهم في هذا الميدان يحيى بن عمر (ت 89هـ) في كتابه: (أحكام
السوق) ومن بعده القاضي أبو يوسف (ت 182هـ) صاحب الإمام أبي حنيفة في
(كتاب الخراج) ويمكن أن نجعل أهم آداب السوق وأحكامه في النقاط التالية:
دعاء دخول السوق: يسن لمن يدخل السوق بغرض البيع أو الشراء أو
المشاهدة أن يدعو بالدعاء المأثور عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك
فيقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت،
وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير) [2] .
فقه أحكام البيع والشراء: فإنه ينبغي على كل من تصدى للعمل بالسوق
وممارسة العمل التجاري أن يكون فقيهاً بأحكام البيع والشراء، عالماً بالحلال
والحرام، حتى تكون معاملته صحيحة بعيدة عن الفساد؛ ففي الصحيح من سنن
الترمذي يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يَبِعْ في سوقنا إلا من
تفقه في الدين) وقد روي عنه أنه كان يطوف بالسوق ويضرب بعض التجار بالدرة
ويقول: (لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى) .
وأحسب أن كل من عمل بالسوق وخاض غمار التجارة ومارس البيع والشراء
حتى يُعرف بأنه امتهن العمل في هذا المجال، ثم لا يعرف أحكام المعاملات:
الحلال منها والحرام، وما يفسدها وما يصلحها، أحسبه والله أعلم آثم بحسب
تقصيره في هذا الجانب، وقد امتلأت أسواقنا بكثير من المسلمين الذين أغفلوا هذا
الفقه بقصد أو بدون قصد وأصبحوا لا يبالون بالفرق بين الحلال والحرام، وخلت
من الصالحين والمتفقهين، الذين آثروا السلامة، فنأوا بأنفسهم تزهداً وتورعاً،
أقول لهم: افعلوا ما فعل أجدادكم، اطرقوا أبواب الأسواق، وأخلصوا النية لله تفتح
لكم الشركات والمؤسسات، وتسلموا من غل الوظيفة وقيدها، وتفتح لكم قلوب
العباد، كما فتحت لأسلافكم حينما ذهبوا بتجارتهم إلى الصين وإلى الهند وإلى
الجنوب من إفريقيا.
النهي عن التطفيف في الكيل والميزان: نهى الحق سبحانه وتعالى البائعين
والمشترين عن خلق ذميم، كان قد تأصل في المعاملات التجارية بين الناس في
المدينة قبل مقدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها، ألا وهو التطفيف في الكيل
والميزان في سورة قرآنية سميت باسم: (المطففين) وأنذرهم فيها وحذرهم من ذلك
وذكّرهم بالآخرة: [أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ] [المطففين: 4-6] ، ولم يكتف الإسلام بترهيب الناس من
عقاب الله في الآخرة ولكنه وضع من الضوابط والآليات ما يردع ضعاف النفوس
ممن تسول لهم أنفسهم التلاعب بحقوق الناس، من ذلك ما ذكره يحيى بن عمر في
كتابه: (أحكام السوق) من قوله: ينبغي للوالي الذي يتحرى العدل أن ينظر إلى
أسواق رعيته ويأمر أوثق من يعرف ببلده، أن يتعاهد السوق ويعيِّر على أهله
صنجاتهم وموازينهم ومكاييلهم كلها، فمن وجده قد غيّر من ذلك شيئاً عاقبه على
قدر ما يرى من بدعته.. ثم أخرجه من السوق حتى تظهر منه التوبة والإنابة إلى
الخير، فإذا فعل هذا رجوت له أن يخلص من الإثم، وتصلح أمور رعيته إن شاء
الله، ولما سئل الإمام مالك رضي الله عنه عن رجل جعل في مكياله زفتاً ليرفع به
الكيل، قال: (أرى أن يعاقَب بإخراجه من السوق) فهو يرى أن إخراجه من السوق
أشد عليه من الضرب، وقد أفتى بعض تلامذته في قضية مثل هذه القضية بقولهم:
(الصواب عندنا أن يعاقبه الإمام بالضرب والسجن، أو الإخراج من السوق، إن
كان قد عرف الغش والفجور من عمله) وفي أيامنا هذه يمكن عقابه بسحب
التراخيص الممنوحة له أو عدم تجديد سجلاته التجارية.
النهي عن الغش والنجش والاحتكار: الاحتكار هو الإمساك عن البيع
وانتظار الغلاء مع الاستغناء عن السلعة وحاجة الناس إليها، وقد اختلف فيما يجري
فيه الاحتكار، فقال البعض: يجري في كل شيء من طعام أو غيره، وقال بعضهم: يجري في أقوات الآدميين فقط، لقول النبي: (من احتكر طعاماً فهو خاطئ) وفي
رواية: (لا يحتكر إلا خاطئ) ، كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الغش
فقال: (من غشنا فليس منا) [3] وقد روى الإمام البخاري قوله: (لا تصرّوا الغنم)
والتصرية تكون بأن يعمد صاحب الغنم إلى ترك لبنها في ضرعها حتى تبدو غزيرة
اللبن. ومما يدخل تحت النهي عن الغش: ألا يُثْني البائع على السلعة بما ليس فيها
من محاسن، وأن لا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها ووزنها ومقدارها وسعرها ما لو
عرفه المشتري لامتنع عن الشراء. وأما النجش: فهو الزيادة في ثمن السلعة ممن
لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، ومما يؤسف له أن كل أو بعض هذه المفاسد كثيراً
ما تحدث في أسواقنا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
النهي عن بيع العِينة: وبيع العِينة هو أن يبيع الرجل سلعة لآخر بثمن
مؤجل ثم يشتريها منه بثمن حالٍّ نقداً يقل عن الثمن المؤجل، وقد أفردته بالحديث
لأهميته وخطورته وكثرة المتعاملين به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهو
حرام باتفاق العلماء؛ لأن اشتراط المشتري على البائع أن يشتريها منه بثمن معلوم
ما هو إلا حيلة لتحليل الربا، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة نذكر منها قول
عبد الله بن عمر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله: أنزل الله بهم بلاءً، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) وفي رواية: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) . وفي مسند الإمام أحمد بلفظ: (لئن تركتم الجهاد، وأخذتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم، لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا عما كنتم عليه) . وفي هذه الأحاديث تحذير وبشرى: تحذير من مغبة مخالفة منهج الله، وأن مصيرنا في ذلك إلى الذل والبوار، وبشرى بأن أمامنا فرصة للمراجعة والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن نسرع إليها قبل فوات الأوان.
وهناك قاعدة ذهبية في المعاملات أصّل لها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
مفادها: أن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات، يعود إلى تحقيق العدل، والنهي عن الظلم: دقه وجله، أي قليل الظلم وكثيره، والضابط الكلي في
المعاملة العادلة الخالية من الظلم، هو كما قال الغزالي في الإحياء: (ألا يحب
لأخيه إلا ما يحب لنفسه؛ فكل ما لو عومل به شق عليه وثقل على قلبه، فينبغي
ألا يعامل غيره به، بل ينبغي أن يستوي عنده درهمه ودرهم غيره) قال بعضهم:
من باع لأخيه شيئاً بدرهم وليس يصلح له لو اشتراه إلا بخمس دوانق، فإنه قد ترك
النصح المأمور به في المعاملة، ولم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. والدانق هو سدس
الدرهم [4] .
الامتناع عن التعامل مع اليهود [5] : تثور بين الحين والآخر تساؤلات عن
حكم التعامل الاقتصادي مع اليهود وارتيادهم أسواقنا وارتيادنا أسواقهم، بين مؤيد
ومعارض، لكن الثابت بالتجربة التاريخية والمعاصرة، أن التعامل مع اليهود تحفّه
المخاطر على الفرد والمجتمع من نواحي عديدة؛ فهم يتعاملون بالربا وهو محرم
شرعاً، ولا يتورعون عن التجارة بيعاً وشراءً في السلع الخبيثة، كالخمر
والمخدرات والمقامرة، ولم يعملوا في مجال إلا أفسدوه، ولم ينزلوا بسوق إلا
خربوه؛ وفضلاً عن ذلك فإنهم يربحون من وراء تجارتهم معنا ونزولهم أسواقنا
أموالاً طائلة يوقفونها للصد عن سبيل الله: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى
جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] [الأنفال: 36] .
وقد يحتج البعض في جواز التعامل مع اليهود بحادثة وفاة الرسول -صلى الله
عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي، والقصة معروفة في كتب السيرة، وقد
رواها البخاري ومسلم رحمهما الله، ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-
يتعامل مع هؤلاء من منطلق قوة وكانت للرسول -صلى الله عليه وسلم- الصولة
والغلبة، وفي هذا الأسلوب من التعامل النبوي ما يظهر عظمة هذا الدين ونظرته
الإنسانية السامية، وإلا فماذا كان يمنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من البطش
باليهودي الذي كان يلقي القاذورات كل يوم أمام بيته عليه الصلاة والسلام؟ لقد عاده
النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما مرض في يوم لم يلق القاذورات كعادته، فشهد
له اليهودي بالنبوة وأعلن إسلامه، لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتحمل
الأذى الشخصي؛ لأن ذلك من خصائص النبوة، وقد رهن الرسول -صلى الله
عليه وسلم- درعه عند يهودي في وقت كانت جزيرة العرب كلها قد دانت له،
ولكنه فعل ذلك لحكمة أرادها؛ أما الآن فالوضع مختلف، والحال غيره بالأمس؛
فاليهود اليوم يحتلون أرضنا، ويستحلون حرماتنا، ويسفكون دماءنا، ويسخرون
من مقدساتنا، ويصادرون دورنا، فهل نقوم بعد كل هذا بإعطاء أموالنا لهم لنقوِّيهم
بها علينا؟ إن ذلك لعجب! ! وقد تبين لنا كيف أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أسّس سوقاً مستقلة للمسلمين وفصله نهائياً عن سوق اليهود في بني قينقاع، حتى
يتميز المسلمون بأسواقهم ومعاملاتهم.
ضابط التسعير: عن أنس رضي الله عنه أن الناس قالوا: يا رسول الله:
غلا السعر؛ فسعِّر لنا! فقال: (إن الله تعالى هو الخالق، القابض، الباسط،
الرازق، المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها
إياه في دم ولا مال) [6] .
ومعلوم أن شريعة الإسلام بينت الحلال والحرام، والحق والباطل، ورسمت
الطريق واضحاً أمام المسلمين في كل زمان ومكان. واليقينُ: في أن الناس إذا ما
تحروا الحلال وتنزهوا عن الحرام، فلن تكون هناك مشكلات تعترضهم، أو
أزمات تخنقهم، ولا ريب أن امتناع الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن التسعير
للناس في الحديث راجع إلى أن الغلاء لم يكن بسبب امتناع البائعين عن بيع ما
لديهم بالسعر المعتاد؛ إذ لم يحدث ذلك في حضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
ولم يَشْكُ منه الناس، لكن الناس شَكَوْا؛ لأن (السعر غلا) غلا وفقط؛ فقد يكون
الغلاء بسبب قلة العرض عن الطلب، أو قد يكون بسبب زيادة الطلب عن
المعروض من السلع، وهي أمور خارجة عن إرادة الجميع، وفي هذه الحالة فلا
يسعنا إلا أن نقول: إن ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو عين الصواب؛ فالتسعير كما يقول ابن القيم: (منه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز،
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم
مما أباح الله لهم، فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما
يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، فهو جائز بل واجب) [7] ، فشتان بين أيام
الاشتراكية التي كانت تعدّ على الناس أنفاسهم، وسعّرت لهم حتى (سندوتش) الفول؛ فجاعوا وافتقروا، وبين شريعة الإسلام في مبادئه الرائعة في الحرية الاقتصادية:
(دَعِ الناس يرزقْ بعضُهم بعضاً) [8] .
وهكذا يتبين لنا أن السوق المثلى في الإسلام لم تأت نتيجة للتدخل المباشر في
النشاط الاقتصادي حول كل صغيرة وكبيرة مثل ما هو معروف في النظم
الاشتراكية، ولا نتيجة لعدم التدخل مثل ما هو معروف في النظم الرأسمالية وإنما
عن طريق التوجيه المستمر الجدير بأن يقيم العدل بين البائعين والمشترين وإزالة
كافة ممارسات الضرر بالآخرين، سواءً كانوا أفراداً أو جماعات.
__________
(1) ابن ماجه: التجارات، رقم (2233) ضعف إسناده الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه
رقم (2233) .
(2) الترمذي، 5/291، والحاكم 1/538.
(3) رواه مسلم.
(4) السوق في الإسلام، د أحمد صفي الدين عوض.
(5) باختصار من كتابنا: (التربية الاقتصادية) .
(6) رواه أحمد، وأبو داود وإسناده صحيح كما في صحيح الجامع رقم (1842) .
(7) المصدر السابق.
(8) مسلم: البيوع، رقم (1522) .(124/46)
مقال
مدلولات الأمن الإسلامي
نوع آخر من القرآن الكريم
بقلم: د. محمد البرزنجي
لا شك أن القرآن هو منهج رباني أنزله الله سبحانه وتعالى ليحكم الحياة
البشرية بجميع مرافقها. ولا نستطيع أن ندعي أن في القرآن تعريفاً لمصطلح الأمن
الإسلامي؛ ولكنا نجد إشارات في ثنايا الآيات القرآنية تشير إلى أمور تدخل في
تكوين هذا المصطلح.
والمتدبر لآيات القرآن الكريم يرى أن الآيات القرآنية تتحدث عن مستويين
من الأمن أو نوعين منه:
الأول: الأمن على مستوى الفرد (عامل الأمن النفسي) .
الثاني: الأمن على المستوى الجماعي (الأمة) .
أولاً: الأمن الفردى أو (عامل الأمن النفسي) :
يذكر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام وهو يحاور قومه المشركين: [فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 81-82] .
من المعروف أن عقيدة التوحيد تأخذ مساحة واسعة من الآيات القرآنية؛ وفي
هذه الآية رَبْطٌ واضح وعلامة قوية بين رسوخ عقيدة التوحيد في النفس البشرية
وبين الأمن والاطمئنان؛ أما الذين لم تخالط عقيدة التوحيد قلوبهم، ولم تملأ نفوسهم
فلن يشعروا أبداً بذلك الاطمئنان والأمن النفسي؛ فهُمْ في الدنيا وَجِلُونَ من سخط الله، وفي الآخرة ينتظرهم عذاب من الله أليم، ويظلون طول حياتهم يخافون من
المستقبل المجهول، ولا يعرفون معنى لوجودهم في هذا الكون الرحيب. والملايين
الضالة في العالم المادي فقدت الأمن والاطمئنان عندما مسخت فطرتها؛ ومهما
لهثت وراء ذلك فلن تحصل عليه؛ فذلك الأمن منحة ربانية للذين آمنوا ولم يخلطوا
إيمانهم بشرك؛ هكذا ترشدنا الآية القرآنية؛ وذلك نوع من التحدي والإعجاز
القرآني للبشر على مدى العصور؛ فلو راجعنا نشرات منظمة الصحة العالمية
وسجلات المصحات النفسية والعيادات النفسية في دول الغرب لوجدنا أمراً مذهلاً؛
فجميع وسائل الترفيه والترف المادي لم تمنح الإنسان الغربي ذلك الأمن والاطمئنان
النفسي الذي رُزِقه المسلم حتى ولو كان وراء القضبان، ولو راجعنا حياة الصحابة
والتابعين وأعلام هذا الدين حتى يومنا هذا لبدا لنا ذلك واضحاً.
نرجع مرة أخرى إلى الآيات القرآنية لنرى مثالاً عظيماً تتجلى فيه مسألة
الأمن النفسي؛ ففي غزوة أحد بعد أن أصيب المسلمون بجراحات كثيرة من بينها
استشهاد سبعين صحابياً منهم حمزة عم النبي؛ وعقب هذه الإصابات المؤلمة وفي
تلك اللحظة الحرجة جداً كان الذين في قلوبهم مرض يتوجسون شراً، ويرتعدون
خوفاً من كَرّة قريش مرة أخرى ولكن الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان، ونعمت
نفوسهم بالتوحيد رُزِقوا أمناً عجيباً؛ وكما قالت العرب قديماً: (الإناء ينضح بما
فيه) فالأمن الذي ملأ قلوبهم انعكس على جوارحهم؛ فغطوا في نوم هادئ مريح.
قال الحق سبحانه: [ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ] [آل عمران: 154] . ...
قال الطبري في تفسير هذه الآية: ثم أنزل الله أيها المؤمنون من بعد الغم
الذي أتاكم ربكم بعد غم تقدمه قبله (أمنة) وهي الأمان على أهل الإخلاص واليقين
دون أهل النفاق والشك. ثم أخرج الطبري الرواية (8072) عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه قال: أمّنهم يومئذٍ بنعاس تغشّاهم وإنما ينعس من يأمن ... وأخرج
رواية أخرى (8086) عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية: الطائفة الأخرى:
المنافقون ليس لهم همّ إلا أنفسهم أجبن قوم وأرهبه وأخذله للحق يظنون بالله غير
الحق ... إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله.. وأخيراً فقد أخرج الطبري
الروايتين: (8089، 8090) عن ابن زيد وقتادة في قوله تعالى: [ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ] ظن أهل الشرك. اهـ
قلت: وهنا تلتقي الآية مع آية سورة الأنعام السابقة في ربط الأمن
والاطمئنان النفسي بالتوحيد وفقدان ذلك الأمن بالشرك نسأل الله الأمن والأمان وهذا
هو أحد صحابة رسول -صلى الله عليه وسلم- حين يجتمع عليه مشركو قريش
ليقتلوه يصلي ركعتين خفيفتين ولا يطيل فيهما القراءة حتى لا يتصور الأعداء أنه
وَجِلٌ من الموت في سبيل الله، ويطلب شفرة يتنظف بها من الشعر الزائد؛ وينسى
القوم أنهم تركوا عنده طفلاً، فيهرعون إليه خشية أن يذبحه فيرون الطفل في
أحضانه هادئاً؛ والصحابي مطمئن النفس هادئ الجوارح والجوانح غير مضطرب. وسنعود مرة أخرى للحديث عن عامل الأمن النفسي في نهاية حديثنا هذا.
ثانياً: الأمن الجماعي (أمن الأمة الإسلامية) :
قال الحق سبحانه: [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الفَاسِقُونَ] [النور: 55] .
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: والمعنى أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما
كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويُذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه
بحيث لا يخافون إلا الله ولا يرجون غيره [1] .
ولنا وقفة طويلة عند هذه الآية: أما أسباب الخوف كما قال الشوكاني فسنرجع
إليه بعد برهة، ونبدأ بالعبارة القرآنية: [يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] فمعظم
المفسرين كالقرطبي والشوكاني وغيرهما يرجحون كون هذه الجملة في محل نصب
على الحال، ويجوز كون الجملة استئنافية، ولقد التقيت يوماً في بعض أسفاري
بفضيلة الدكتور ياسين الجاسم رئيس قسم اللغة العربية بإحدى الجامعات الإسلامية
فسألته عن إعراب هذه الجملة: [يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] فقال: هذه
الجملة في محل نصب حال أو أنها استئنافية، ولكن المعنى يرجح كونها في محل
نصب حال. والله تعالى أعلم.
والذي يهمنا هنا هو ترجيح المفسرين وعلماء اللغة كونها في محل نصب حال، أي أن المعنى يصير: وعد الله المؤمنين بالأمن والتمكين في حال عبادتهم
وإخلاصهم. قال القرطبي: (12/300) [يَعْبُدُونَنِي] : هو في موضع الحال،
أي في حال عبادتهم بالإخلاص. ونقل القرطبي عن ابن العربي قوله: هذا وعد
عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره
على حاله؛ وحقيقة الحال أنهم (أي المسلمين) كانوا مقهورين فصاروا قاهرين،
وكانوا مطلوبين فأضحوا طالبين؛ فهذا نهاية الأمن والعز.
وقال النحاس كما نقل عنه القرطبي (12/297) : فكان في هذه الآية دلالة
على نبوة رسول الله؛ لأن الله عز وجل أنجز ذلك الوعد.
أما تفسير قوله تعالى: [وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ] فقد أخرج الطبري (شيخ
المفسرين بالأثر) بسنده المتصل إلى أبي العالية أنه قال: أي من كفر بهذه النعمة [
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] وليس يعني الكفر بالله.
ثم ذكر الطبري عبارة جديرة بالتأمل؛ إذ قال: فأظهره الله على جزيرة
العرب، فآمنوا، ثم تجبروا؛ فغير الله ما بهم؛ لأنهم كفروا بهذه النعمة، فأدخل
الله عليهم الخوف الذي كان أنعمه عليهم، قال القاسم (شيخ الطبري) : قال أبو علي: بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه. اهـ
وهذا يعني اتفاق الطبري وابن العربي والقرطبي حول المعنى نفسه.
والمتتبع لحال المسلمين يستنتج ما يلي: كلما كانت الأمة المسلمة مطيعة لله ورسوله
يحكم التوحيد حياتها كاملة كان الأمن على قدر ذلك. والله تعالى أعلم.
ونأتي أخيراً إلى تفسير عوامل الأمن التي تقابل عوامل الخوف التي أشار
إليها الشوكاني بقوله: (ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه) . فنقول وبالله
التوفيق: المتدبر لآيات القرآن الكريم يرى أن الآيات القرآنية تشير أحياناً إلى
عاملين رئيسين: العامل الاقتصادي، والعامل المادي العسكري [الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن
جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ] [قريش: 4] وهنالك آية أخرى تبدو الإشارة فيها إلى
هذين العاملين الرئيسين من عوامل الأمن الجماعي واضحة؛ إذ يقول الحق سبحانه: [وَقَالُوا إن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى
إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ] [القصص: 57] .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ] أي لا يعقلون: أي هم غافلون عن الاستدلال بأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم
يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في حال إسلامهم.
وقال صاحب الظلال رحمه الله تعالى: وهم ينسون الله، ينسون أنه وحده
الحافظ وأنه وحده الحامي، وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في
حمى الله، وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله؛ ذلك أن
الإيمان لم يخالط قلوبهم ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تفسيرهم
للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في
البعد عن هداه. اهـ
قلت: ومن إعجاز القرآن الكريم أننا نرى اليوم اليهود يملكون أقوى الأسلحة
المادية، ومعظمهم مجندون ومدربون على القتل والفتك والنهب، ويملكون أموالاً
طائلة ومع ذلك فهاجسهم الوحيد ظل لحد الآن: الأمن؛ لأنهم بعيدون عن هدى الله
عز وجل وبدا ذلك واضحاً في الزيارة الأخيرة لأولبرايت لإسرائيل؛ إذ أكدت
وكالات الأنباء أن أمن إسرائيل كان محور المباحثات هناك؛ ولكن هيهات أن
يناموا ملء جفونهم مصداقاً لقوله تعالى: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ
بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ] [آل عمران: 112] .
ولا بأس إذا فصلنا شيئاً قليلاً في عامل الأمن العسكري ما دام الحديث في
اليهود؛ فالآية القرآنية في سورة الإسراء تتحدث عن أمرين هامين (يعتبرهما
خبراء الحرب عاملين هامين في الأمن العسكري ... أولاهما: الأعداد الغفيرة من
الجنود المدرّبة، والثاني: هو المال الوفير وهو جزء من عامل الأمن الاقتصادي)
يقول الحق سبحانه متحدثاً عن بني إسرائيل: [وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ
أَكْثَرَ نَفِيراً] [الإسراء: 6] ، ومع الأسف فإن اليهود يأخذون بعوامل الأمن المادية
المتاحة لديهم؛ فهم يجمعون يهود الحبشة ويهود روسيا وغيرهما، ثم يدربونهم على
أحدث الأسلحة ويحاولون في الوقت نفسه إدخال الأخطبوط المالي اليهودي إلى كافة
الأسواق؛ فهل فكرت الأمة الإسلامية الممزقة في عشر معشار ما يفكر به اليهود؟
نعود كرة أخرى إلى مدلولات الأمن الإسلامي في القرآن الكريم وهذه المرة
نستعين ببعض الأحاديث النبوية الشريفة؛ فالسنة مبينة لآيات القرآن الكريم؛ وهنا
لا أريد أن أطيل أكثر مما سبق، وإنما أقول: مصطلح الأمن الإسلامي يختلف عن
مصطلحات الأمن القومية وغير ذلك؛ فالعوامل الداخلة في تعريف هذا المصطلح
ليست عوامل مادية فقط وإنما العامل الأول هو الالتزام بعقيدة التوحيد على مستوى
الفرد والجماعة سواءً بسواء ثم اتخاذ السياسات الاقتصادية وخطط التنمية والدفاع
وما إلى ذلك، أضف إلى كل هذا عاملاً رئيساً آخر لا يوجد إلا في الأمن الإسلامي
ألا وهو الدعاء. نعم الدعاء! فلا تستغرب أخي القارئ! ولكن: رويدك حتى نفهم
سوية دور الدعاء في الأمن؛ فعلى أن الإسلام حرّض المسلمين على الاهتمام
بالاكتفاء الذاتي ومن ذلك الاكتفاء الاقتصادي، ومنه الاكتفاء الزراعي؛ إذ إن
الإسلام يحضّ على الزرع حتى في آخر الزمان وقبيل قيام الساعة بلحظات.
ولكن في الوقت نفسه يطلب الإسلام من المسلمين أفراداً وجماعات أن يكونوا
مربوطي القلب بتوفيق الله، راجين منه سبحانه أن يبارك في زرعهم وجهودهم
فتكون مباركة كثيرة كبيرة عميمة النفع؛ كما جاء في صحيح مسلم (9/4125) كان
الناس إذا رأوا الثمر جاؤوا به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (اللهم
بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في
مُدِّنا) .
هنالك إشارة أوضح من مسألة الأمن الاقتصادي والاكتفاء الذاتي في مجال
الزراعة؛ فقد أخرج الترمذي في سننه (3451) وحسنه والدارمي (2/4) أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان
والسلامة والإسلام، ربي وربك الله) .
ويتبين لنا من الشروح السابقة أن تعريفَ الدكتور صباح وإن كان مشكوراً
لجهوده في إيجاد تعريف للأمن الإسلامي غيرُ متكامل؛ فالأمن الإسلامي: منحة
ربانية يهبها الحق سبحانه للجماعة (الأمة المسلمة) إذا حققت الإيمان وانصبغت
حياتها بصبغة إسلامية [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ]
[البقرة: 138] ومحت آثار الشرك من الحياة العامة والخاصة، ثم أخذت بالأسباب
المادية من تنمية اقتصادية وإعداد عدة [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ]
[الأنفال: 60] وما إلى ذلك من السياسات الداخلية والخارجية التي تنظمها السياسة الشرعية المعروفة القواعد والأسس عند فقهاء هذه الأمة، ومع كل تلك الإجراءات المادية والمعنوية تظل نفوس الأمة مشدودة إلى توفيق ربها، راجية أن يهبها الأمن والأمان والسلامة والإسلام.
وبعد هذه الشروح السابقة نقول: إن مصطلحات الأمن الاقتصادي والأمن
السياسي والأمن القومي وما إلى ذلك لم تتوضح إلا في القرن الأخير وذلك بعد مئات
الدراسات والأبحاث واستقراء الأحداث الكونية، وما إلى ذلك. ومعلوم أن محمداً -
صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجل الأمي الذي عاش قبل أربعة عشر قرناً لم يتخرج
من أكاديميات عسكرية متطورة، ولم يكن خبيراً اقتصادياً؛ فهو الذي كان يقول:
(أنتم أعلم بأمور دنياكم) [2] ولم يكن مشرفاً على مراكز الدراسات السياسية
والاستراتيجية؛ فمن أين جاء بهذه الإشارات العلمية إن لم يكن وحياً منزلاً وكما قال
سبحانه: [قُلْ أَنزَلَهُ الَذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] [الفرقان: 6] ، وقال
سبحانه: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ
وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ] [الشورى: 52] ونحن نقول: إن القرآن
الكريم ليس كتاب طب أو فيزياء أو علم اجتماع أو اقتصاد، ولكنه منهج رباني
أنزله الله ليحكم حياة الناس، وقد وردت فيه إشارات إلى نواميس عظيمة في هذا
الكون؛ ومجرد هذه الإشارات يكفي حافزاً للإنسان لكي ينظر ويتدبر ويتأمل،
وكلما اكتشف الإنسان سراً من أسرار الحياة والكون، وكلما تجلت له حقيقة كونية
تتعلق بحياة البشر أو غير ذلك ازداد إيماناً ويقيناً؛ والحق سبحانه يقول: [سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ] [فصلت: 53] .
ولقد حاولت في مقالتي هذه أن أستند إلى شروح المفسرين الأعلام كالطبري
والقرطبي والشوكاني وغيرهم، وحاولت جهد المستطاع أن لا أُحَمِّلَ النصوص فوق
ما تحتمل؛ فإن كنت وقعت في ذلك فأرجو أن ينبهني القراء لذلك.
أقول قولي هذا؛ فإن كان صواباً فمن الله التوفيق، وإن كان خطأ فمني؛
وأستغفر الله.
__________
(1) فتح القدير، 4/70.
(2) مسلم: كتاب الفضائل، رقم (2363) .(124/54)
دراسات دعوية
قصة مؤمن آل ياسين
دروس وعبر
بقلم: عبد الحميد السسحيباني
إن الدفاع عن العقيدة الصحيحة والمنهج الحق مطلب كل داعية مؤمن بالله
تعالى ورسُله. والدعوة إلى الحق والهدى بعد معرفته وتبيّنه: صفة المسلم الصادق، يفعل ذلك ويؤديه حسب قدرته، باذلاً لذلك كل وقته، ومستمراً عليه حتى لو أدى
به ذلك إلى القتل وإزهاق الروح؛ لأنه يعلم أنه لن يموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً،
وتلك هي صفة مؤمن آل ياسين الذي تحدث الله تعالى عنه وعن قومه ضمن آيات
من سورة يس، يقول فيها سبحانه: [وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إذْ جَاءهَا
المُرْسَلُونَ (13) إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ
(14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ
(15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ (17) قَالُوا
إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُم
مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19) وَجَاء مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ
يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ
لا أَعْبُدُ الَذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ
بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ (23) إنِّي إذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (24)
إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ
مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ]
[يس: 13-29] .
فقد أخبر سبحانه في هذه الآيات أنه أرسل إلى أهل مدينة اثنين من الرسل
يدعوانهم إلى عبادة الله تعالى وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع،
فبادروهما بالتكذيب، فعززهما الله تعالى وقوّاهما برسول ثالث، فقالوا لأهل تلك
القرية: إنا إليكم مرسلون من ربكم الذي خلقكم، يأمركم بعبادته وحده لا شريك له،
فقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، وكيف أوحي إليكم وأنتم بشر، ونحن بشر، فلِمَ لا
يوحى إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة، وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما قال سبحانه: [ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّاًتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا]
[التغابن: 6] وقوله: [وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِّثْلَكُمْ إنَّكُمْ إذاً لَّخَاسِرُونَ] [المؤمنون: 34] وعندما قال أولئك المكذبون ما قالوا من التكذيب قالت لهم رسلهم: إنا رسل الله إليكم، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار كما قال جل شأنه: [قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] [العنكبوت: 52] . وتمادى أهل القرية في طغيانهم، وراحوا يتطيرون بهؤلاء المرسلين، ويقولون كما قال قتادة: إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم، وإنكم إذا لم تنتهوا فسوف نرجمكم بالحجارة، وسيصيبكم منا عقوبة شديدة، فقالت لهم رسلهم: إن طائركم معكم، مردود عليكم، وأنتم ما قابلتمونا بهذا الكلام، وتوعدتمونا وتهددتمونا إلا من أجل أنّا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له، بل أنتم قوم مسرفون، لتطيركم وكفركم وفسادكم [1] .
ولأن تلك الساحة لم تخل ممن عمرَ الإيمانُ قلوبهم، وتعمقت الدعوة في
أفئدتهم وأقضّ المنكر كل ذرة في أبدانهم، لأجل ذلك قيض الله تعالى لهؤلاء الرسل
من يدافع عنهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى، لينصرهم من قومه، قيل: إن اسمه حبيب النجار، وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير
الصدقة، يتصدق بنصف كسبه، مستقيم الفطرة، وقيل: كان منزله عند أقصى
باب من أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم،
لعلهم يرحمونه، ويكشفون ضره، فاستجابوا له، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة
الله تعالى فقال: هل من آية؟ قالوا: نعم: ربنا على ما يشاء قدير؛ وهذه لا تنفع
شيئاً ولا تضر. فآمن، ودعوا ربهم، فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس،
فحينئذ أقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدق بكسبه، فأطعم عياله نصفاً، وتصدق
بنصف. فلما همّ قومه بقتل الرسل جاءهم، فوعظهم أحسن ما تكون الموعظة،
وذكّرهم بحق الله تعالى من العبادة والتعظيم، فقتلوه، واختلف المفسرون في كيفية
قتله، فقال بعضهم: وطئوه بأرجلهم، وقيل: رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهدِ
قومي؛ حتى قتلوه، وقيل: حفروا حفرة، وجعلوه فيها، وردموا فوقه التراب،
فمات ردماً. وقيل: حرقوه حرقاً، وعلقوه بسور المدينة. وقيل: نشروه بالمنشار
حتى خرج من بين رجليه فما خرجت روحه إلا إلى الجنة، فدخلها، فذلك قوله: [قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ] فلما شاهدها قال: [يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي
رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ] قال الإمام القرطبي: (قلت: والظاهر من الآية أنه لما
قُتل قيل له: ادخل الجنة. قال قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق، أراد
قوله تعالى: [وَلا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ] [آل عمران: 169] .
وإذا تأمل العبد المسلم هذه الحادثة المؤثرة استنبط منها الدروس والعبر، ومن
ذلك:
1- الحث على سرعة الاستجابة للحق، متى ما ظهرت علامته، واتضحت
دواعيه. ثم الدعوة إليه دون بطء أو تكاسل؛ فإن هذا المؤمن الشهيد حينما استشعر
حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره، فلم يطق عليها سكوتاً، ولم يقبع
في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله، والجحود، والفجور، ولكنه سعى
بالحق الذي استقر في ضميره، وتحرك في شعوره. سعى به إلى قومه وهم
يكذبون ويجحدون ويتوعدون، ويهددون. وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم
بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم
الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين) [2] . ونجد في الآيات الكريمة وصفاً لهذا
المؤمن الشهيد بالسعي، وهذا كما يقول صاحب تفسير التحرير والتنوير: (يفيد أنه
جاء مسرعاً، وأنه بلغه هَمّ أهل القرية برجم الرسل أو تعذيبهم، فأراد أن ينصحهم
خشية عليهم وعلى الرسل، وهذا ثناء على هذا الرجل، يفيد أنه ممن يُقتدى به في
الإسراع إلى تغيير المنكر) [3] .
2- ومن الدروس والعبر كذلك هنا: أن من أسباب قبول دعوة الداعين إلى
الحق عدم طلبهم أجراً دنيوياً أو كسباً مادياً. ولذا قال هذا المؤمن لقومه: [اتَّبِعُوا
مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ] وقد قُدم عدم سؤال الأجر على الاهتداء (لأن
القوم كانوا في شك من صدق المرسلين، وكان من دواعي تكذيبهم اتهامهم بأنهم
يجرّون لأنفسهم نفعاً من ذلك؛ لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال،
وصاروا بُعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يعدّون كل سعي يلوح على امرئ
إنما يسعى به إلى نفعه فقُدِّم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة ... ) [4] . (والأجر
يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله، فيشمل المال والجاه والرئاسة. فلما
نفى عنهم أن يسألوا أجراً فقد نفى عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع
دنيوي يحصل لهم) [5] .
3- ومن الدروس والعبر في قصة المؤمن الشهيد، مؤمن آل ياسين: الحث
على استخدام أسلوب الإقناع في الجانب الدعوي. فقد كان من ضمن نصح حبيب
لقومه أنه قال لهم: [وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَذِي فَطَرَنِي] حيث (أخرج الحجة عليهم في
معرض المخاطبة لنفسه تأليفاً لهم، ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب
في العقول، مستهجن تركها، قبيح الإخلال بها، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها بعدُ تابعة لإيجاده وخلقه، وقد جبل الله العقول والفطر على شكر
المنعم، ومحبة المحسن، ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك،
فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع) [6] . ونجد في مخاطبة
هذا المؤمن لقومه (أنه احتج عليهم بما تقر به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره،
وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره، فقال: [أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ
بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ (23) إنِّي إذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] أفلا
تراه كيف لم يحتجّ عليهم بمجرد الأمر، بل احتج عليهم بالعقل الصحيح ومقتضى
الفطرة) [7] .
4- الاستمرار في الدعوة إلى الهدى والحق مهما وقف في سبيل منعها الطغاة
والمفسدون، ما دام الداعية يعلم أنه لا يدعو إلا إلى الخير والهدى، وما دام يعلم أن
في استمرار الدعوة صلاح الناس واستقامتهم، وأن في تركها فسادهم وغفلتهم،
فيستمر في ذلك ولو عُذب وأهين، بل حتى لو أزهقت نفسه، وقتل، كما هو حال
مؤمن آل ياسين، وذلك سبيل الأنبياء والمرسلين، ومن نهج نهجهم من العلماء
الربانيين، والدعاة الصادقين إلى يوم الدين.
5- ومن الدروس والعبر كذلك الحث على تطهير القلب من الحقد والحسد
وكل أمر قبيح، أرأيت قول هذا المؤمن لما قتله قومه، وأدخل الجنة: [يَا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ] قال الأستاذ محمد
الطاهر بن عاشور: (والمعنى: أنه لم يلهه دخوله الجنة عن حال قومه، فتمنى أن
يعلموا ماذا لقي من ربه ليعلموا فضيلة الإيمان، فيؤمنوا، وما تمنى هلاكهم ولا
الشماتة بهم، فكان متسماً بكظم الغيظ، وبالحلم على أهل الجهل؛ وذلك لأن عالم
الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض، ولا قيمة للحظوظ الدنية،
وسفاسف الأمور) [8] . وقال الإمام القرطبي: (وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة
على وجوب كظم الغيظ، والحلم على أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه
في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه،
والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقَتَلَته،
والباغين له الغوائلَ، وهم كَفَرة عَبَدة أصنام) [9] .
6- بيان عاقبة كل معاند ومفسد، وكل واقف في وجه الدعوات الربانية
الهادية. فإنه لما قُتل حبيب غضب الله له، وعجل النقمة على قومه، فأمر جبريل
فصاح بهم صيحة، فماتوا عن آخرهم، قال سبحانه: [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ
بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإذَا هُمْ
خَامِدُونَ] وهذه عاقبة كل محارب لله ولرسوله وللمؤمنين، أن يأخذه الله كما أخذ
السابقين، كما حكى جل وعلا عن أهل الكتاب أنه ضرب الذلة عليهم، وغضب
عليهم، وعلل ذلك بأنهم كانوا يكفرون بكل دعوة صالحة تأتيهم، ويقتلون الأنبياء
بغير حق: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] [آل عمران: 112] .
ولما عاند قوم نوح نوحاً وعصوه وتمردوا عليه قال سبحانه في شأنهم: [وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى
الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] (هود: 44)
نعم إن قصة قتل مؤمن آل ياسين ينبغي أن يعتبر بها الناس جميعاً، ويوقنوا
أن في اتباع المصلحين الفلاح والنجاة، وأن في مخالفتهم الهلاك والبوار والعَطَب؛
فاللهم يا رحمن! ارزقنا الاهتداء بهدي المرسلين، وأعذنا من صفات الكافرين
والمكذبين! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تفسير ابن كثير.
(2) الظلال.
(3) تفسير التحرير والتنوير.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.
(6) بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم، جمع: يسري السيد.
(7) المرجع السابق.
(8) التحرير والتنوير.
(9) الجامع لأحكام القرآن.(124/62)
نص شعري
عرفات يخرج عن صمته
أحمد حسبو
عرفاتُ ذكِرْ أمةَ المختارِ ... واقرأ عليها نشرة الأخبارِ
فلربما أرْعت خطابَك سمعَها ... واسترشدت بالنصح والتّذكارِ
ولربما بعد استماعك ترعوي ... وتهبّ من نوم إلى اسْتنفارِ
ولربما آن الأوان لكي ترى ... ما قد دهاها اليوم من أخطارِ
إني أرى هذا التجمعَ فرصةً ... فحذارِ من إهدارها فحذارِ
فالمسلمون على ثراك تجمعوا ... وتدفقوا من سائر الأقطارِ
حملوا الذنوبَ الموبقاتِ وأسرعوا ... يُلْقونها في ساحة الغفارِ
يومٌ له يُهدي الزمانُ تحيّةً ... سيمرّ مرّ البارق السيّارِ
فإذا أفاضوا من حِماكَ عشِيّةً ... عصفت بك الأحزان كالإعصارِ
لَهفي عليك وقد وقفتَ مودِّعاً ... ونظرْتَ نحو الركب باستعبارِ
أنا لا ألومك إن حفظْتَ عهودَهُم ... إنّ الوفاءَ سجية الأخيارِ
لكنْ ألومُك إن رأيتُك ساكتاً ... وانفضّ هذا الجمع دون قرارِ
فاكسرْ جدارَ الصمتِ واقرعْ سمعَهم ... فلكم وراءَ الصمت من أسرار! !
واقرأ على الدنيا مآثِرَ عِزّةِ ... وأَذِعْ عليها سيرة الأطهارِ
أغضى حياءً ثمّ ألقى نظرةً ... ضمّت معاني الحبِّ والإكْبارِ
ثم استدار إلى الجموعِ وقد بدا ... طلقَ الحديث، مرتّب الأفكارِ
حمْداً لمن جمعَ الحجيجَ بساحتى ... وصلاته تَترى على المختارِ
يا أمةً بالشوقِ أرقُب عوْدَها ... كالرّوض يرقبُ عوْدة الأمطارِ
أنا لن أقدم للحديث إليكم ... لا وقتَ للتقديم والإكثارِ
لكنْ بذاكرتي مشاهدُ عِشتُها ... ستظلُ مِلءَ السمع والأبصارِ
فهنا بكى خيرُ العبادِ (محمدٌ) ... وروى الصّعيدَ بدمعهِ المدرارِ
وهناك يخطب في الجموع مودِّعاً ... وكلامُهُ فيضٌ من الأنوارِ
وهنا، جثا (الصدِّيق) يرجف خائفاً ... وَجِلاً يُحاذِرُ غضبة الجبارِ
وهنا، أتى (الفاروق) يبكي بعدما ... لاقى (أُوَيْس) وفازَ باستغفارِ
وهنا بدا (عثمان) في استحيائهِ ... وعليه ثوبُ سكينةٍ ووقارِ
وهنا (عليّ) قد تفجّر حكمة ... ولباسهُ الإيمانُ خير دثارِ
ولكم رأيت على صعيدي إخوة ... فهموا معاني الحب والإيثارِ
عاماً هنا حجّوا، وعاماً جاهدوا ... يرجون وجه الواحدِ القهّارِ
عزّوا ولم يعطوا الدنية مطلقاً ... فالموت أسمى من حياةِ العارِ
الفرق بين الحاضرين ومن مضى ... كالفرق بين الشَوْكِ والأزهارِ! !
فإلى متى تستقبلون دواهِياً ... حلّتْ بكُمْ بالشّجْبِ والإنْكارِ؟ !
وإلى متى والغاصبون بأرضِكم ... يتَصرّفون تصرّفَ الأحرارِ؟ !
وإلى متى تلك الحواجز بينكم؟ ؟ ... ولِمَ الحياةُ بذِلةٍ وصَغارِ؟ !
وإلى متى والقدس ترقب فجرها ... والليلُ يضربُ حولَها بحصارِ؟ !
كلّ المنافذ دونها قد أُغلِقتْ ... لَمْ يبْق غير الصّارمِ البتارِ
فاقضوا المناسك وارجعوا لدياركمْ ... وتفرّغوا للفتكِ بالكُفّارِ
إما حياةً بالجهاد كريمة ... أو جنةً؛ فَلَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ(124/68)
المسلمون والعالم
الأزمة الجزائرية: تدويل أم.. تمويل؟ !
قراءة في الملف الدامي للمأساة في عامها السادس
بقلم:حسن قطامش
دخلت الأزمة الجزائرية عامها السادس، ومع بداية هذا العام دخلت كذلك
منعطفاً جديداً مع إعلان الغرب الصليبي رأفته وشفقته على الشعب الجزائري المسلم؛ ... ولذا فقد قرر التدخل في الأزمة بشكل جدي للوقوف على أسباب العنف ومعرفة:
من القاتل الحقيقي؟ ! ! وذلك من خلال قيام وفد الترويكا الأوروبية، ووفد البرلمان
الأوروبي بزيارة الجزائر. وحتى نصل إلى مغزى هذه الدعوة المتأخرة سنقف قليلاً
عند بعض النقاط المهمة لتعيننا على فهم هذا الموقف الجديد للذئب الغربي، المساعد
لسلطة متسلطة أكثر من حدود العقل.
لقد أصبح من المقصود في الخطاب الإعلامي الرسمي أن نقتنع أن ما يحدث
في الجزائر ما هو إلا لغز يستعصي على الحل أو الفهم، ولا عجب أن نرى أناساً
كُثُراً تردد بأفواه فاغرة: ما الذي يحدث في الجزائر؟ !
إن أسوأ ما في هذه الأزمة والمأساة الرهيبة هو أن الإنسان المسلم في الجزائر
لم يعد يملك من مقومات الإنسانية سوى أنه (رقم) ينضم إلى أرقام أخرى، أو تنضم
هي إليه، نقرؤها كل يوم، نسمعها كل يوم، ونشاهد دماءها كل يوم، ثم تُقبر هذه
الأرقام كغيرها، وتجمع وتطرح بعد ضربها بالفؤوس ليستشهد بها كل من تحدث
عن تلك المأساة.
أوصل بعضهم هذه الأرقام إلى مئتي ألف قتيل، وهبط بها آخرون إلى أقل
من ذلك بقليل، إلا أن الإحصاء الرسمي الذي صدر مؤخراً ولأول مرة وعلى لسان
رئيس الحكومة الجزائرية (أحمد أويحيى) ذكر أن (الرقم الصحيح) هو 26563 فقط
لا غير! !
وعلى افتراض صحة الرقم الذي لم يوافق عليه الحكومةَ الجزائريةَ إلا
الحكومةُ الجزائريةُ نفسها؛ فهل يعني هذا أنه رقم قليل؟ ! أم أن هناك حسابات
أخرى تسمو فوق الإنسان المسلم الذي أُنزلت مكانته إلى أسفل سافلين؟
تناقضات الأزمة تفك طلاسمها:
ذكرتني هذه القصة السمجة، وهذا السؤال المكرور: (من القاتل) ؟ بما كنا
نطالعه صغاراً من الروايات البوليسية ك (رجل المستحيل) ، و (المخبر السري) ، ...
و (الشياطين الـ 13) ، ولكني وجدت أننا لو سرنا على خطى هذه الروايات فقد
نصل إلى معرفة (القاتل) من خلال طرح الأسئلة التالية والإجابة عنها:
1- لا يشك أحد أن الحكومة الجزائرية تمتلك جيشاً قوياً جداً عدداً وعدة
مقارنة بـ: العصابات المسلحة؛ وهذا الجيش هو صمام الأمان الداخلي والخارجي، فلا تدخل نملة كما يقال على سبيل التمثيل عبر الحدود إلا بإذنه، وقوام هذا
الجيش حسب الأرقام الرسمية 180 ألف جندي، أضف إلى هذا العدد 200 ألف
رجل من المدنيين قد سلحتهم الحكومة للدفاع عن أنفسهم! ! فهل الجيش لا يستطيع
حماية المدنيين حتى يقوموا بهذا الواجب؟ وإن كان الأمر كذلك: فهل تلك
(العصابات) تفوق في عددها الربع مليون مسلح، وهي مجرد (عصابات) اللهم إلا
إن كانت الحكومة تعتبر أن بقية الشعب (عصابات) ؟ ! ثم من أين كل هذا العتاد
طيلة هذه السنوات مع أن (الجيش) يحرس الحدود!؟
2- إذا كانت هذه القوات الحكومية غير قادرة على القضاء على هذه
العصابات، فلماذا على غرار قصص الأطفال لم يلفت نظر الحكومة أن هذه
العصابات تركز هجماتها على مناطق محددة، وهي غالباً: (البليدة ثلالة المدية)
وهي المناطق المؤيدة لجبهة الإنقاذ، فلماذا لا تصنع لهم حفراً كبيرة عند مدخل هذه
القرى وتغطيها بالأسلاك وأوراق الشجر، حتى إذا حضر الأشرار سقطوا فيها،
واستراح الناس منهم! ! ؟ خصوصاً أن هذه المناطق مليئة بالثكنات العسكرية
للجيش!
3- لماذا لم تتمكن هذه العصابات من دخول مناطق البربر، أو الأحياء
الراقية في العاصمة الجزائرية؟ ولماذا لم تستطع الوصول إلى المنشآت الحيوية،
كمناطق الغاز والبترول التي تمد (الحكومة) بالطاقة والحياة! ! ؟
4- لماذا وفرت الحكومة الأمن لكل الناس وقت الانتخابات الرئاسية والنيابية
والاستفتاء على الدستور حين أرادت ذلك؟
5- لماذا زادت حدة الذبح بعد إطلاق الشيخ عباسي مدني وعبد القادر حشاني
مباشرة؟
6- لماذا ازدادت وحشية المذابح وارتفعت مأساويتها في شهر رمضان على
الرغم من أن أشد الفئات المنسوبة إلى الإسلام تطرفاً لا يرون جواز انتهاك
الأعراض في هذا الشهر المبارك على الأقل؟
7- أكدت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في نشراتها، وأكد عدد كبير من الضباط
الفارين أن ما يسمى (الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر) مخترقة من الجيش
بشكل كبير، وأنها صنيعة المخابرات، فلماذا تكون هذه الاتهامات هي الوحيدة التي
لم تضمها الحكومة إلى قائمة الاتهامات الموجهة للجماعة المذكورة! ؟
8- في يوم الأربعاء 23/9/1418هـ الموافق 21/1/1998م ألقى رئيس
الحكومة الجزائرية أحمد أويحيى خطاباً أمام المجلس الوطني تحدث فيه عن
(الإرهابيين) فقال: (تركوهم يخرجون ويذهبون إلى أفغانستان، ليتدربوا ويعودوا
إلى الجزائر من دون أن يمسهم أحد) اهـ
السؤال: من يقصد بضمير الجمع في قوله (تركوهم) .. من هم! ؟ ولماذا لم
يصرح بهم حقيقة ولماذا لا يكشفون؟
9- لماذا ترحب الحكومة الجزائرية وتهلل وتستبشر بكل من يبرئها من
ارتكاب (المذابح) وترفض وترغي وتزبد وتتهم كل من تلفظ بكلمة اتهام لها بالقيام
بـ (المذابح) باعتباره تدخلاً في الشؤون الداخلية، على الرغم من أن الحديث واحد
عن: (المذابح) ! ؟
10- في يناير 1995م وقّعت كل الأحزاب الجزائرية على ميثاق (سانت
إيجيديو) في روما، وقدمت الجبهة الإسلامية للإنقاذ تنازلات مهمة، حيث تنازلت
عن العودة إلى الوضع الذي أسفرت عنه انتخابات 1991م، كما تنازلت عن حقها
بأنها تمثل الحكومة الشرعية في الجزائر، والتزمت بأن تتحول إلى معارضة سلمية
كبقية الأحزاب مع اشتراط عدم تدخل الجيش في الشؤون السياسية، فرفضت
الحكومة الجزائرية هذا الميثاق.
فلماذا رفضت الحكومة هذا الإجماع، وقبلت التدخلات الأوروبية! ؟
من يتمكن من الإجابة على هذه الأسئلة فسيعرف قطعاً: (من القاتل) .
موقف (الإنقاذ) من المذابح:
لعل أشد المذابح الأخيرة وحشية حتى كتابة هذه السطور هي مذبحة (غليزان)
وهي إحدى الولايات التي أعطت أصواتها لمرشحي جبهة الإنقاذ في الانتخابات
المحلية والنيابية، واتهمت الإنقاذ ما يسمى ب: (الجماعة الإسلامية المسلحة) وجاء
بعد تفاصيل الاتهام الذي أوردته نشرة (الرباط) التي نقلتها جريدة الخليج الإماراتية
في العدد 6822/24/9/1418هـ: (إننا نعلن هذه المعلومات للملأ، لكي يعرف
المسلمون سبب مذابح (غليزان) إننا نعارض النظام ونخاصمه، لكنّ هناك فرقاً بين
معارضة النظام والدفاع عن الإجرام) .
الشرعية المرقعة:
إن من أهم المسلّمات الضرورية التي ينبغي لأي نظام حكم أن يوفرها لشعبه، هو الأمن، لامتلاكه وسائل توفيره من عتاد وجنود ومال وموارد، وقد امتلك
النظام الجزائري كل هذه المقومات لفرض الأمن، إلا أن الرعب والخوف والفزع
هو الذي ساد، وهذه الحالة لا تُخرِج النظام عن إحدى حالتين:
الأولى: أنه على علم ورضى بما يحدث ولن نقول إنه مشارك فهو غير
شرعي لعدم قدرته على فرض أهم الضروريات الإنسانية لشعبه.
الثانية: أنه عاجز عن مواجهة ما يحدث، فهو غير مناسب؛ لأنه يمتلك
أسباب القوة ويعجز عن توظيفها لأمن الناس.
أضف إلى ذلك أن هذا النظام جاء (بانقلاب ديمقراطي) للمحافظة على
الديمقراطية وإضفاء الشرعية المرقعة التي تمت بالشكل الآتي:
بعد إلغاء الانتخابات وإقالة الشاذلي بن جديد، جيء بالتيس المستعار،
(بوضياف) ، ولكن ما أن بدأت قرونه في الظهور حتى قطعوا رأسه، ثم جاؤوا بـ
(الأمين زروال) ، وخطط مع من يخططون لإضفاء الشرعية على النظام، فأعلن
أنه سيُجري انتخابات رئاسية (حرة وديمقراطية) وفاز فيها زروال بـ (61%) ،
وعقب الفوز دُعيت القوى السياسية في الجزائر باستثناء جبهة الإنقاذ لمناقشة
الوضع في الجزائر ومستقبلها، وخلال عام 1996م طلب الرئيس إجراء تعديلات
دستورية لإعادة تشكيل البرلمان، وكان الهدف الواضح من تلك التعديلات هو
الحيلولة دون حصول أي حزب إسلامي على قوة شبيهة بالتي حصلت عليها الجبهة
الإسلامية للإنقاذ.
وقام الجزائريون بالتصويت على تلك التعديلات في نوفمبر 1996م وتبعاً
لحكومة الرئيس فإن أكثر من 85% من المقترعين كما ادّعيَ أعطوا موافقتهم، وقد
رفض العديد من الجزائريين تصديق هذه النتائج لملاحظتهم أن مراكز التصويت
كانت خالية! !
وفي عام 1997م أجريت انتخابات أخرى، وكانت هذه المرة برلمانية، غير
أنه لم يكن مفاجئاً أن يفوز حزب الرئيس (المنتخب) بغالبية المقاعد.
الموقف العربي:
لقد جاء الموقف العربي الرسمي من مأساة الجزائر ليضع هماً ثانياً على كاهل
الشعب المسلم الذي لم يرَ منه نجدة ولا شهامة كالتي رأوها حين أوشكت الحيوانات
على الموت في حدائق لندن، أو حتى من تلك الجمعيات العربية التي تنادي بالحفاظ
على حياة حيوان (الباندا) في الصين أو النمر البنغالي في بنجلاديش، مع أن
المسلمين في الصين يذبحون، وفي بنجلاديش يموتون جوعاً وبرداً! !
وقد أحسن الخبير في شؤون شمال أفريقيا بالأمم المتحدة، محمد محاميدو في
المقال الذي كتبه في صحيفة لوموند الفرنسية، ونشرته صحيفة الأنباء الكويتية في
عدد/7725/18/11/1997، حيث قال: لقد غاب العالم العربي بشكل يدعو إلى
الدهشة والفضول عن المناظرة الدائرة حول مأساة الجزائر، رغم أن العالم يشعر
بالتعاطف الشديد مع الشعب الجزائري المسكين.
لقد أصبح المصير الجزائري في ثنايا عقل وضمير الجميع ما عدا العالم
العربي؛ حيث ساد اعتقاد متعمد عن غباء، مفاده: أنه لا داعي لإثارة الطبيعة
الراديكالية للأحداث في الجزائر، فمن نواكشوط حتى بغداد يرثي العرب بألم حال
الجزائر التي تُحتَضر ... ، إنه جو من الحيرة والتردد والتكتم والتناقضات تنبع
أساساً من الخوف من (الأصولية) . والحقيقة أن المأساة الحالية التي تعيشها الجزائر
تقض مضاجع الغرب.
لقد أصبح العالم العربي آثماً لتستره على ما يجري في الجزائر، ومن ثم
تواطؤه مع طغمة عسكرية، ولا يمكن تفسير جو اللامبالاة المحيط بهذا الوضع في
الجزائر على أنه يتم بدافع الخوف من انتشار عدوى (الأصولية الإسلامية) .
ونتساءل بكل مرارة: لماذا أقيمت المؤتمرات، وعُقدت الندوات لإنهاء اللبننة
والصوملة حتى وجدت حلاً، وبقيت النماذج التي يتعمد الإساءة فيها للنموذج
الإسلامي كأفغانستان والجزائر! ؟ إذا عرفت الإجابة على هذا السؤال، فستعرف
كذلك: من القاتل الثاني لشعب الجزائر.
أليس من المؤسف أن جامعة الدول العربية وأمينها العام لم يتقدموا حتى الآن
إلا برسائل تضامنية تأييدية للحكومة الجزائرية؟!!
ثم تأتي ثالثة الأثافي من تلك النخب المثقفة من الإعلاميين والكتاب ورؤساء
منظمات حقوق الإنسان العربية، الذين طالما سوّدوا صحائفهم بمداد قلوبهم الأشد
سواداً محذرين من خطورة كارثة ستحل بالجزائر إذا حكم الإسلام، ومنهم من
واصل الكتابة ليلاً ونهاراً يحذر ويحذر حتى انجلت (الغمة الأصولية) ثم جاءت
المذابح، فواصلوا إلصاقها (بالأصولية) حتى أسكت الله أفواههم بما تواتر من
تقارير إعلامية وليست رسمية غربية تثبت غير ما يثبتون، وعلى غير عادة القوم، لم يسارعوا إلى المصادر الغربية لمجاراتها فيما تقول، بل اكتفوا بفتح ملفات عن
فضائح كلينتون الجنسية وأشباهها!
إن أولئك يصدق فيهم قول الله تعالى في اليهود والنصارى وغيرهم: [وَإذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] [آل عمران: 187] .
قال الشيخ السعدي: كتموا الحق وأظهروا الباطل وتجرؤوا على محارم الله
وتهاونوا بحقوقه تعالى وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمناً قليلاً، وهو ما
حصل لهم إن حصل من بعض الرياسات والأموال الحقيرة من سفلتهم المتبعين
أهواءهم المقدمين شهواتهم على الحق [1] .
بئس الوفد الموفود:
لا نعتبر مسألة التدخل في الجزائر سوى حلقة من تلك السلسلة الحديدية التي
أحاطنا بها الغرب الصليبي، وهي كحلقات السحرة، يُسمعوننا كل يوم رنين إحداها، مما يختلف عن سابقتها ولاحقتها، وفي أسوأ الأحوال، فإنها أفضل من ذلك
الصندوق الحديدي العربي المصمت الذي ليس له إلا صوت واحد، وكان أول
الغيث الغربي زيارة وفد الترويكا الأوروبية في رمضان ثم تبعته زيارة وفد البرلمان
الأوروبي في شوال 1418هـ. وقبل التطرق لأهداف الزيارة ونتائجها نستعرض
مواقف الدول الغربية قبل تلك الزيارة بأيام قليلة ثم نتبعه بالموقف الجزائري منها:
1- وزير الخارجية الفرنسي، هوبير فيدرين: (إن المعلومات التي جمعها
الأوروبيون لا تتوافق مع فكرة تورط الجيش الجزائري في المذابح التي تعرض لها
المدنيون) .
2- روبن كوك، وزير الخارجية البريطاني، وأمام النواب الأوروبيين في
ستراسبورغ: (لا وجود لأي دليل يثبت ضلوع السلطات الأمنية في المجازر) .
3- أما نويل مارين، مفوّض الشؤون المتوسطية في المفوضية الأوروبية فقد
أكد اقتناعه بعدم ضلوع الحكومة الجزائرية في المذابح الأخيرة [2] .
4- رونالد نيومان، السفير الأمريكي السابق في الجزائر وعقب لقائه
بالرئيس الجزائري قال: إن حكومة الولايات المتحدة وأنا بصفة شخصية نتمنى
للرئيس زروال أن يحقق النجاح في مساعيه للسير قُدُماً في الطريق الذي اختاره
علانية.
5- روبرت بلليترو، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأوسط:
إن الولايات المتحدة لا تضع الأزمة الجزائرية ضمن أولياتها، وليس لديها أي نية
للتدخل بشكل مباشر، إن هذه الأزمة تخص فرنسا قبل كل شيء [3] .
إن كان هذا هو الموقف الغربي قبل الزيارة الأولى وبعدها، وهو في حد ذاته
إعلان مسبق عن نتائج زيارة تقصي الحقائق: فلماذا إذن إيفاد الوفود، وإرهاق
المسؤولين! ؟
قبل الإجابة، لا بد أن نطلع على المشهد الجزائري في هذه المسرحية حتى
نتمكن من الدعاء بإخلاص لشعب الجزائر، فقد انحصرت مفردات الخطاب
الحكومي المهاجمة للزيارة في الآتي:
أ - إن الاتحاد الأوروبي يوفر الملجأ للإرهابيين، ويجعل من أراضيه قاعدة
خلفية لدعم وتمويل الإرهاب الدولي.
ب - إن أوروبا تريد مهما كان الثمن التدخل في شؤوننا الداخلية؛ لأنها لا
تفهم الشفافية إلا من خلال وجود مراقبين أجانب على أرضنا.
ج - إنها ستكون مهزلة سيئة، وحوار طرشان.
لقد أوصل هذا الاستئساد الإعلامي وزير خارجية فرنسا إلى القول الأكثر
تضليلاً: يجب أن لا نهمل فكرة أن الترويكا تمكنت من زيارة الجزائر! ! ثم تبعه
رئيس الوفد الأوروبي أندريه سولييه بقوله: للمرة الأولى طرحت أسئلة متعلقة
بالمفقودين والتعذيب والإرهاب! ! بل لقد زايد هذا مزايدة إعلامية فجة، عندما قام
بتمزيق الرسالة التي أرسلتها جبهة الإنقاذ، دون أن يفُضها أمام كاميرات الإعلام،
قائلاً: إننا لن نتعامل مع أحزاب محظورة.
وبعد كل هذه الملاطفة الغربية، وكل هذه العنترية الحكومية كانت نتائج هذه
الزيارة الأوروبية ما يلي:
*أُعلن أن الزيارات لتقصي الحقائق والتحقيق في أسباب العنف وزيارة مواقع
المذابح، ومقابلة عامة الناس والاستماع إليهم مباشرة، وهذا كله لم يتم منه شيء،
فلم تقم الوفود إلا بزيارة الأحياء الجميلة في العاصمة، ولم يقابل إلا كبار المسؤولين، ولم يستمع لأحد سواهم!
*أُعلن أن الزيارات تأتي لمساعدة (الشعب الجزائري) للخروج من محنته،
ولكن الزيارات جاءت لتُخرج (النظام الجزائري) من أزمته بإعطائه صك غفران
وبراءة رسمية مما ينسب إليه، فقد صرح رئيس الوفد الأوروبي قائلاً: إن الوفد لم
يجد ما يدعم الاتهامات القائلة بتورط قوات الأمن الجزائرية في المذابح الأخيرة،
وإن على من يتهمون الجيش وأجهزة الأمن السري في الجزائر بالوقوف وراء
عمليات القتل أن يقدموا أدلة على ذلك! !
*إمداد النظام الجزائري بما يحتاج إليه من مساعدات لمواجهة (الإرهاب
الإسلامي) فما دام النظام بريئاً فإن غيره متهم، وهو بحاجة إلى مساعدة لإيقاف هذا
المتهم ووقف هذا العنف. وجاء هذا الدعم هذه المرة علانية بصورة فجة، ولكنه
مستند إلى واقع زيارة تقصي الحقائق! !
شنشنة معروفة:
لعله قد اتضح من عرض هذه المشاهد من المأساة الجزائرية مدى التآمر
المزدوج على الشعب المسلم، ونختم هنا ببعض الإشارات التي توضح جلياً ما قلناه:
*الأولى: وهو ما نؤكد عليه دوماً وأبداً في صراعنا مع الغرب أنه صراع
عقدي، مهما تلوّن الصراع بالإنسانية أو القومية أو المتوسطية، والغرب لا يحركه
في المقام الأول إلا العقيدة؛ وهذا ما لمسناه في مواقفه الظالمة من مأساة البوسنة
والهرسك.
*الثانية: وهي دائماً تأتي ثانية ونقصد بها المصلحة الغربية وطمعه في
خيرات المسلمين، فلماذا كل هذه الثورة أمام طغيان النظام العراقي، والتسامح مع
الطغيان الجزائري؟ لماذا قدمت بريطانيا هدية قيِّمة بقيمة 63 مليون جنيه استرليني
تمثلت بأسلحة ومعدات عسكرية للحكومة الجزائرية، مما جعل أحد النواب في
البرلمان العمالي (بول فلين) يقول: (نحن نبدو وكأننا نزود هؤلاء القتلة بالأسلحة
على حساب الشعب) أم أن هذه الهدية عربون من أجل حماية خط النفط والغاز الذي
سيمتد من الجزائر إلى بريطانيا، وستقوم على تنفيذه شركة (بريتين بتروليوم) بكلفة
بليوني جنيه استرليني؟ !
*الثالثة: الصراع الغربي الغربي على هذه المصالح؛ فأمريكا ترفض التدخل
لاعتبار أعلنه أحد تقارير السفارة الأمريكية في الجزائر، وهو أن الجزائر لم تحدد
هويتها! ! وتقصد بالهوية، المعسكر الذي تبيت فيه، فهل تسير في اتجاه العالم
الفرانكفوني، أم العربي الإسلامي، أم أمريكا! ! ؟ ولذلك فقد تركت الملف برمته
لفرنسا؛ لأنه يخصها، ليس حباً في فرنسا، ولكنها تعلم أن فرنسا ستعجز عن
الحل، وهذا العجز سيأتي بمصلحة مزدوجة لأمريكا من ناحيتين:
أولاهما: استمرار الأزمة الجزائرية التي يستمر معها التشويه المتعمد للإسلام، ... وهذا هو الأهم.
ثانيهما: تأديب الدول الدائرة في الفلك الفرنسي حتى الآن، نائية بنفسها عن
القطب الوحيد في العالم.
*الرابعة: أن التدخل الغربي لا يكون إلا في حالات محددة معروفة وهي:
1- إذا لاحت تباشير نصر للمسلمين؛ وهو ما حدث في البوسنة.
2- إذا تأثرت مصالح الغرب بصورة مباشرة؛ وهو كما حدث في حرب
الخليج.
3- إذا هُدد الأمن الداخلي له وانتقل الصراع إليه؛ كما حدث مع فرنسا في
التفجيرات التي حصلت في مدن عدة، وكالخوف من المخاطر التي يسببها تزايد
أعداد المهاجرين.
4- استنفاد أسباب التدخل لمساعدة نظم موالية، مع جلاء جرمها ووضوحه،
فيأتي الدور الإعلامي الغربي ليضغط بكشف بعض (الحقائق) ، فيتدخل لتقصي
(الحقائق) والأهداف معروفة.
وعلى الرغم من كل هذا التواطؤ؛ فأملنا في العزيز القهار أن يرفع الظلم عن
هذا الشعب المسلم، وما زلنا وسنظل نردد قوله تعالى: [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [المجادلة: 21] .
__________
(1) تفسير السعدي، ج1، ص 302.
(2) الحياة، ع/ 12739، 19/9/1418هـ.
(3) الأنباء، ع/ 7792، 26/9/1418هـ.(124/70)
المسلمون والعالم
من أسقط (الرفاه) ولماذا؟
بقلم: د. محمد حرب [*]
بعد أن استلمت قيادة حزب الرفاه الإسلامي الوزارة في تركيا، بعد فوزها
بالانتخابات البرلمانية ظلت تمشي على حقل من الألغام السياسية المحفوف بجدران
من الأشواك الدبلوماسية.. فهكذا أرادها لهم العلمانيون الأتراك ... تجربة وعرة
تمر عبر مخاض عسير وولادة أعسر ... ثم يموت الجنين بعد حين.
وقد جاءتنا هذه الدراسة من الدكتور محمد حرب، لتلقي ضوءاً على أبرز
القوى والعقبات التي وضعت في طريق هذه التجربة القصيرة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
القوة الأولى: الجيش:
يأتي في المقدمة الجيش التركي الذي يحمل رسالة تاريخية في الجمهورية
التركية هي المحافظة على أسس قيام الجمهورية التي أعلنها بمبادئها (كمال
أتاتورك) والتي تلتزم بالعلمانية في مفهومها الأصلي الأوروبي الذي أخذه (أتاتورك)
وهو فصل الدين عن أمور الدولة.
لكن التطبيق التركي للعلمانية أخذ بُعداً آخر عندما قال أتاتورك في مجلس
الأمة التركية عام 1937م: إن الدولة التركية ستأخذ في بنائها بالعلمانية ولن تلتفت
إلى ما (يُظَن أنه كتب نزلت من السماء) ! و (لن تأخذ بالغيبيات) وذلك ما سجلته
مضبطة مجلس الأمة التركي آنذاك.
لهذا يسعى الكماليون إلى تطبيق العلمانية في تركيا تطبيقاً تركياً محليّاً يأخذ
موقفاً عدائياً من الدين، فعلى سبيل المثال نجد أن أتاتورك ألزم الشعب التركي
بالقبعة الأوربية، وفي سبيل تطبيق ذلك أعدم عدداً من العلماء الذين كانوا قد
أصدروا فتوى بعدم جواز لبس القبعة الأوروبية، قبل صدور أمر أتاتورك في هذا
الصدد.
وبحكم الدستور التركي فإن هناك (مجلس الأمن القومي) ويتكون من قادة
الجيش وأعضاء الحكومة للمحافظة على أسس الدولة التركية العلمانية، ويمكن لهذا
المجلس إصدار (توصيات) أصبحت بالضرورة أوامر.
ويبدو أن الجيش لم يفهم الحركة الإسلامية بعامة وحركة حزب الرفاه بخاصة؛ فنقدُ الجيش للرفاه أنه حزب يريد جعل تركيا تسير وفق الشريعة الإسلامية فإن
هذا يعارض العلمانية، والواقع أن حزب الرفاه يدرك جيداً أن تركيا دولة مؤسسات، وهو يصبو إلى مجتمع مسلم، وهو حزب وصفه (مسعود يلماظ) رئيس الحكومة
الحالية بأنه حزب (له ميول إسلامية) وما نادى به الرفاه لا يرقى إلى مستوى أن
تتحداه الدوائر العسكرية.
والرفاه لم يصل إلى السلطة إلا بعد مسيرة 27 عاماً منذ تأسيس حزب (النظام
الوطني) الذي أسسه (أربكان) عام 1970م ثم حزب (السلامة الوطني) ثم (حزب
الرفاه) المهدد الآن بإغلاق أبوابه بل الذي أُغلق فعلاً [1] .
ولم يكن الإسلام السياسي إذا جاز هذا التعبير مضاداً للقوات المسلحة ولا حتى
مضاداً للعلمانية نفسها؛ فقد كتب (نجم الدين أربكان) في كتابه (النظرة الوطنية) :
(إنه يقبل بالعلمانية بشرط ألا يفهم منها اضطهاد المسلمين) ! والجيش التركي هو
الذي أجهض انتصارات الرفاه.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتدخل فيها الجيش؛ فقد تدخل بانقلابه عام
1960 عندما شعر أن هناك (اتجاهات إسلامية) داخل الحزب الديمقراطي، وكان
الجيش قاسياً عندما أعدم (رئيس الوزراء عدنان مندريس) في ذلك الوقت مما جعل
الشعب التركي يعتبره (شهيداً) رغم أنه لم يقدم للحركة الإسلامية ما يستوجب
الشهادة إلا بعض (سماح) يتعلق بالأذان وكتاتيب تحفيظ القرآن الكريم، والسماح
لنمو طبقة الحرفيين بعد أن كان حزب الدولة قبله يتولى أمور اقتصاد البلاد. ورغم
هذا، يُذكر أن (عدنان مندريس) هو الذي أصدر (قانون حماية أتاتورك) الذي يعتبر
سيفاً مسلطاً على كل من تسوِّل له نفسه نقد أتاتورك وأعماله.
وقام الجيش بانقلاب عام 1971م ثم 1980 ثم 1997م وجاء تدخله عام
1997م، مختلفاً ولم يكن انقلاباً عسكرياً تقليدياً؛ نظراً لأن تركيا كانت تسعى
للتقارب مع الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن وقوف (أولبرايت) لتعلن وقتها أن أمريكا
ضد تدخل العسكريين عموماً، وذلك بعد أن سربت وزيرة الداخلية (تابعة لحزب
تشيلر في حكومة أربكان) للأمريكان نتائج تجسس الداخلية التركية على ضباط
الجيش ورغبتهم في القيام بانقلاب. لم يقع انقلاب تقليدي وإنما أصدر (مجلس
الأمن القومي التركي) جناح قادة الجيش بياناً دعا فيه إلى إغلاق مراكز (الطرق
الصوفية التركية) باعتبارها مقاومة في نظرهم للإجراءات المضادة، ودعا إلى
جعل التعليم الإلزامي العلماني لمدة ثماني سنوات بعد أن كان خمس سنوات، وإلى
مراقبة مصادر تمويل تلك الطرق من شركات وجمعيات وأوقاف، ومنع الكوادر
الإسلامية من دخول مؤسسات الدولة الرسمية كموظفين، ومنع استخدام الضباط
وصف الضباط المفصولين من الجيش لأسباب إسلامية في البلديات، وجعل تدريس
القرآن الكريم تابعاً لوزارة التعليم، التي لم تكن في يوم من الأيام في يد وزير
إسلامي، والتشدد في تطبيق (قانون الزي) الذي يمنع المرأة التركية من ارتداء
الحجاب والرجل التركي من لبس العمامة أو الجبة.
القوة الثانية: الحكومة التركية:
الحكومة الحالية برئاسة مسعود يلماظ (رئيس حزب الوطن الأم) الذي يعتبر
نفسه زعيم اليمين التركي، هي الحكومة التي خلفت أربكان وتشكلت من 38 وزيراً
يمثلون 3 أحزاب: حزب الوطن الأم (حزب يلماظ) وقد حصل على 21 وزيراً؛
وحزب اليسار الديمقراطي الذي يرأسه بلند أجاويد (11 وزيراً) وحزب تركيا
الديمقراطية الذي يرأسه جين دوروك (5 وزراء) ووزير واحد مستقل. فالحكومة
هي الوجه الآخر المضاد للحركة الإسلامية في تركيا وذلك لوجود رموز معادية
للإسلام بشدة داخلها: فوزير خارجية الائتلاف الحكومي في تركيا هو الصحفي
البارز (إسماعيل ابكجي) وهو ينتسب إلى (عائلة ابكجي) ولها تاريخ في تركيا،
فهي أسرة تنحدر من يهود الدونمة، ووزير الدفاع في هذه الحكومة (عصمت
سزكين) الذي تقول المراجع إنه كان قد استوزر أول مرة في حكومة يرأسها سليمان
دميريل في تركيا عام 1965م وكان بها 13 وزيراً ماسونياً والمذكور واحد منهم.
والوزير المستقل في هذه الحكومة (ياليم أرز) كان يرأس سابقاً مجلس العمل
التركي الإسرائيلي المشترك.
وتضم الحكومة (بلند أجاويد) نائب رئيس الوزراء والمعادي بشدة للإسلاميين.
هذا غير ما يتردد من أن النائب الثاني لرئيس هيئة أركان حزب الجيش
التركي (جويك أر) ، هو المحرك الأساسي للعلاقات العسكرية التركية الإسرائيلية
والذي حصل من جمعية أتاتورك بالولايات المتحدة الأمريكية على جائزة العلمانية
والديمقراطية، هو من (الطائفة العلوية في تركيا) [2] .
ثالث القوى: رئيس الجمهورية:
الرئيس الحالي سليمان دميريل معروف بماسونيته وصداقته لإسرائيل؛ وقد
حضر مؤتمر شرم الشيخ (مع الوفد الإسرائيلي) على طائرة واحدة متحدياً الشعور
الإسلامي في تركيا.
صحيح أن سليمان دميريل حكم كرئيس لوزراء تركيا سبع مرات في عهد
الجمهورية من 1965 إلى 1967 ومن 1967 إلى 1970 ومن 1970 إلى 1971
ومن 1975 إلى 1977 ومن 1977 إلى 1978 ومن 1980 إلى 1981 ومن
1992 إلى 1993 أقام أثناءها 327 مدرسة للأئمة والخطباء، إلا أنه قام بما يمكن
تسميته بالانقلاب الرئاسي، وكان ذلك عندما أشار مجلس الأمن القومي بالضغط
على أربكان للاستقالة بعد أقل من سنة من تشكيله الحكومة الإسلامية الأولى في
تاريخ الجمهورية التركية ليتيح له تنفيذ وعده لشريكته في الحكم الدكتورة (طان صو
تشيللر) لتخلفه في رئاسة الحكومة، وأرفق أربكان استقالته بطلب تولي تشيللر
رياسة الوزارة حسب بروتوكول التعاون بينهما، كما قدم أربكان عريضة موثقة من
283 نائباً هم نواب حزب الرفاه وحزب الطريق القويم وحزب الوحدة الكبير،
وكانت الأغلبية المطلوبة هي 276 نائباً فقط لكن الرئيس (سليمان دميريل) تجاهل
مطلب أربكان وتجاهل العريضة المذكورة وكلف (مسعود يلماظ) بتشكيل الوزارة،
وكأن الأمر قد قضي بليل.
رابع القوى:
فئات منسوبة للإسلام تتمثل في (مجموعة الشيخ فتح الله خوجه) من
(النورسيين) وغيرهم. تقول المخابرات الأمريكية في تقرير هام لها عن تركيا،
تمت ترجمته بعد نشره إلى اللغة التركية، إن القوى الأساس الإسلامية في تركيا
هي الآتي:
1- النقشبنديون:
وهم أتباع الطريقة النقشبندية التي اشتهرت بمواقفها المناوئة منذ بداية العهد
الجمهوري، وقد أعدمت الحكومة الكمالية العديد منهم، ولما حصلت الانفراجة
الديمقراطية في تركيا في الأربعينات بعد موت أتاتورك واضطرار (إينونو) إلى
تعدد الأحزاب، تمتع المسلمون بقسط ما من الحرية النسبية، هذه الحرية التي لم
تتأكد إلا منذ 27 عاماً فقط هي عمر بداية أربكان مع العمل السياسي. وقد أفرزت
إحدى حلقات النقشبندية في استانبول وهي جماعة محمد زاهد أفندي شيخ جامع
إسكندر باشا في حي الفاتح باستانبول، مجموعة أربكان وصحبه.
2- السليمانيون:
وهم تلامذة الإمام سليمان حلمي طوناخان الذين يقولون إنه لا عودة للإسلام إلا
بانتهاج اللغة العربية ونشر تحفيظ القرآن ودراسة العلوم الإسلامية بلغتها العربية.
3- النورسيون:
أتباع بديع الزمان سعيد النورسي الذي اعتمد على الفلسفة وعلم الكلام طريقاً
منظماً ومنطقياً للتدليل على التوحيد والإيمان لإعادة الإسلام إلى تركيا، وجمع
أتباعه كل ما كتبه أو أملاه في ثمانية مجلدات باسم: (رسائل النور) هي كل زاد
أتباعه.
وقد انقسم النورسيون بعد موت شيخهم إلى عدة طوائف: طائفة تقول:
نتدارس رسائل النور التي ألفها النورسي بخطها العربي، وأخرى تقول: بل
ندرسها بالحرف اللاتيني. لكن أهم طوائف النورسية:
جماعة محمد قوطلولار، وتسمى جماعة جريدة آسيا الجديدة، ثم جماعة
سوزلر أو جماعة فارس قايا، وأخيراً جماعة إزمير أو جماعة فتح الله.
وكلها تعمل لهدف واحد وهو نشر رسائل النور التي ألفها أستاذهم بديع الزمان
سعيد النورسي بمختلف الوسائل، وتقديم شروح لها وكتب عنها ومؤتمرات،
ومسابقات، والهدف نشر فكر الرجل وإشاعته في العالم الإسلامي. وهي جهود
يتعاون فيها دعاة رسائل النور من ناحية والتاجر النورسي الذي لا يبخل شأنه شأن
الأتراك في قضايا الإسلام.
عود على بدء:
إن جماعة النور أو النورسيين يؤمنون إيماناً قاطعاً بقول مرشدهم في كل
الأمور بلا نقاش؛ يقول النورسي: إنه لا مجال لقيام حزب سياسي إسلامي طالما
أن عدد المسلمين المخلصين للإسلام في بلد ما لم يبلغ 70% إلى80% من مجموع
السكان، لذلك أخلص النورسيون لهذا المبدأ، وبالتالي وقفوا عائقاً أمام نمو حزب
الرفاه بأشكاله الثلاثة حتى الآن: النظام السلامة الرفاه.
وبلغ عداء النورسيين للحركة السياسية الإسلامية أن قال لي أحد مديري
تحرير جريدة (زمان) التابعة للنوريسيين فرع فتح الله خوجه: إننا لن نسمح
لأربكان بالنجاح في الانتخابات التشريعية أبداً بعد نجاحه في انتخابات البلديات،
ومع هذا فقد نجح أربكان.
وأذكر أيضاً أن جماعة أزمير (فتح الله خوجه) قد عملت على إسقاط مرشح
حزب السلامة عن أزمير في السبعينات وهو (طورغوت أوزال) الذي أصبح فيما
بعد رئيس الجمهورية التركية.
واللافت للنظر أن النورسيين رغم عدائهم للحركة السياسية الإسلامية وادعاء
بعض فروعهم بعدم العمل بالسياسة، فهم غالباً وبخاصة جماعة فتح الله خوجه
وجماعة قوطلولار يؤيدون وبحماس (سليمان دميريل) وحزبه (العدالة) أولاً، ثم
الطريق القويم ثانياً، حتى أصبح رئيساً للجمهورية.
بعد ذلك أيدت بعض أفرعه (طان صو تشيللر) ، ووصل الأمر بفتح الله
خوجه أن هاجم أربكان ووقف بجانب الجيش ضده، في وقت كان أربكان في أشد
الحاجة لوقفة مؤيدة أو على الأقل الصمت؛ وهذا ما يؤكده الحديث النبوي الصحيح: (من كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) ! ، فأين منه
هؤلاء القوم؛ هدانا الله وإياهم إلى الحق.
تعقيباً على هذا، نجد أن المدعي العام التركي قد استمع إلى أقوال نجم الدين
أربكان في دفاعه ضد الاتهام الذي يرمي إلى إغلاق حزب الرفاه. والغريب أن من
بين التهم التي وجهت إليه، فتحه لمدارس الأئمة والخطباء وهي المدارس التي
تعتبر منبعاً لكوادر جديدة شابة لحزب الرفاه، وكان دفاع أربكان أنه لكي يفتح
مدرسة للأئمة والخطباء لا بد من قرار من وزير التعليم، وأن المرات التي اشترك
فيها أربكان في الحكم أو رأس فيها الوزارة، لم يسمح لأحد من الرفاه بتولي وزارة
التعليم. وبالتالي فهو بريء من هذه التهمة.
أما في حالة اتخاذ المحكمة قرارها بإلغاء حزب الرفاه فسيكون الرفاهيون
جاهزين بمشروع حزب جديد بمسمى جديد لا يتغير فيه إلا المسمى فبدلاً من الرفاه
سيكون الفرح، ويظهر هذا في الحروف اللاتينية أوضح Rafah تصبح Farah
وآخرون يقولون: بل نسميه حزب السعادة، ويبدو أنهم سيستقرون على مسمى:
(حزب الفضيلة) .
خامس القوى:
الفعاليات الديمقراطية والعلمانية القائمة: والتي تدعمها وسائل الإعلام بكافة
أشكالها المقروءة والمسموعة والمرئية. إن كل المؤسسات والآليات العلمانية تقف
في مواجهة حزب الرفاه (الإسلامي) وهذا لا يعود بالدرجة الأولى إلى ما يدعيه
العلمانيون من (راديكالية) أو أصولية الإسلاميين في تركيا؛ فالتجربة عبر 27 عاماً
من العمل الإسلامي أثبتت حتى بشهادة المحاكم أن ليس لإسلاميي تركيا صلة
بالإرهاب ولا صلة بالأصولية بالمعنى الأوروبي، ولا صلة بأحداث العنف، وإنما
يقف العلمانيون بمؤسساتهم كلها خاصة الأحزاب التركية القائمة الآن ضد الإسلام
بالمعنى الشرعي، وينسون اعتدال الحركة الإسلامية في تركيا. والأغلب على
الظن أن موروث معاداة الإسلام لدى الأحزاب التركية باستثناء 3 أحزاب من
مجموعها يأتي من الفهم الكمالي الأتاتوركي للإسلام، ويأتي من ليّ عنق الجواد
الأناضولي؛ يعني شبه جزيرة الأناضول التي تشكل 90% من مساحة تركيا
الجغرافية أو أكثر قليلاً، من وجهته نحو الشرق ليتجه إلى الغرب: أوروبا وأمريكا
بحجة (أوروبية) تركيا! وليس في تركيا من أوروبا إلا 10% من مساحتها أو أقل
قليلاً.
يعني أن دولة عاصمتها أنقرة في قلب آسيا الصغرى تجري فيها اجتماعات
سياسية لتوكيد شخصية تركيا (الأوروبية) ؟ كيف؟
أما الأحزاب العلمانية التركية القائمة على مختلف أشكالها فلها مواقفها
المناقضة للتوجه الإسلامي فهي كما يلي:
- حزب النهج القويم وترأسه الدكتورة طان صو تشيللر.
- حزب الوطن الأم ويرأسه مسعود يلماظ.
- حزب تركيا الديمقراطية ويرأسه حسام الدين جن دوروك.
- الحزب الديمقراطي الاجتماعي يرأسه بلند أجاويد.
- حزب الشعب الجمهوري ويرأسه دنيز بايقال.
- حزب الحركة القومية التركية ويرأسه دولت باغجه لي.
- حزب العمل ويرأسه دوغو برين جك.
- حزب هادَبْ ويرأسه مراد بوزلاق.
أما الأحزاب ذات الاتجاه الوطني وغير المعادية للإسلام ولديها روح دينية
نوعاً ما فهي:
- الحزب الديمقراطي الجديد ويرأسه حسن جلال كوزال.
- حزب الوحدة الكبرى ويرأسه محسن يازيجي أوغلو.
- والحزب الديمقراطي ويرأسه قورقود أوزال.
والجدير بالذكر هنا أن حسن جلال كوزال رئيس الحزب الديمقراطي الجديد
أثبت إنصافه عندما اعترض على جنرالات الجيش التركي واتجاه الدولة التركية
لإلغاء حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان، وقال: إنه لا يمكن أن تكون في تركيا
ديمقراطية مع إلغاء حزب يعمل بالفعل ومعترف به ويمثل قطاعاً هاماً من الشعب
في تركيا. وتعرض حسن جلال كوزال من جراء دفاعه عن حق الرفاه في البقاء
والوجود إلى اعتقالات متواصلة.
كما ينبغي تسجيل موقف (محسن يازيجي أوغلو) الذي جعل من حزبه أداة
لديمقراطية تركية تؤمن بوحدة الأتراك وبدينها الإسلامي وقال رأيه صراحة: إن
الديمقراطية معناها عدم التدخل في الشؤون الديمقراطية، بمعنى أن مهمة الجيش
هي الدفاع الخارجي عن الوطن وليس التدخل الداخلي، وإعطاء الناس حقهم في
التصويت الحر، وأن التدخل في إرادة الأمة هو تدخل في الديمقراطية.
تذييل على المقالة [**] :
الحقيقة التي ظهرت للقارئ الكريم من خلال هذا العرض السريع تؤكدها
رؤية صحيفة تركية علمانية هي (دتركيش ديلي نيوز) بعد إغلاق حزب الرفاه
(وتحت عنوان: نظام الدولة يتساقط) : قالت: (إن إغلاق (الرفاه) كان قراراً
سياسياً وليس قضائياً؛ لأنه كان يتعين طبقاً للمادة (103) من قانون الأحزاب
السياسية تحذير الحزب عدة مرات من الأخطاء التي يقع فيها قبل رفع دعوى
لإغلاقه، وهو ما لم يحدث في هذا الموضوع؛ ولذلك فإن قرار إغلاقه يُعد انتهاكاً
للقانون. وأشار المقال إلى عجز النظام القضائي وتورط كبار المسؤولين في الدولة
في عمليات تجارة المخدرات والفساد والرشوة مما يؤكد تساقط نظام الدولة مع
حيلولته دون إجراء إصلاحات جذرية في مناخ ديمقراطي لتفادي قيام الجيش بالعمل
غير المسوّغ بالنسبة لنا (التدخل) وهذا ما ثبت إخفاقه في الانقلابات العسكرية التي
وقعت من قبل) .
مفارقات:
بعد قرار حل حزب الرفاه: أدانت هذا القرار كثير من الدول وبخاصة دول
الاتحاد الأوروبي التي رأت فيه انتكاسة خطيرة للديمقراطية التي كانت تركيا في
طريق الوصول إليها، كما رأوا في القرار نفسه عائقاً جديداً أمام انضمام تركيا
للاتحاد الأوروبي لا سيما أن حزب الرفاه ليس حزباً هامشياً بل هو صاحب الأغلبية
البرلمانية وصاحب الشعبية الجارفة.
والأعجب من ذلك صمت القبور من قِبَلِ بعض من يُعتَب عليهم حيال هذا
القرار الجائر، وكأن الإنصاف لا يأتي إلا من قِبَلِ الأجانب؛ فيا لله للإسلام،
ويالله للمسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
__________
(*) رئيس مركز بحوث العالم التركي بالقاهرة.
(1) في 18/9/1418هـ، قررت ما يسمى بالمحكمة الدستورية في تركيا حل حزب الرفاه بدعوى قيامه بأنشطة مناهضة للعلمانية مع حرمان رئيسه (نجم الدين أربكان) وخمسة من زملائه في الحزب من حقوقهم السياسية لمدة خمس سنوات مع حرمانهم من عضويتهم البرلمانية المنتخبة! ! وقررت المحكمة مصادرة ممتلكات الحزب كلها ووضعها في تصرف خزينة الدولة وقال المدعو (أحمد نجدت) رئيس المحكمة للصحفيين: (إن القرار اتخذ بأكثرية 9 أصوات في المحكمة ضد 2 والتي تضم 11 عضواً) وتم تنفيذ القرار وأغلق الحزب أبوابه في فبراير/1998م (وكالات الأنباء) .
(2) العلويون في تركيا هم الفئة الباطنية التي لا تمت في معتقداتها ومبادئها للإسلام ولمزيد من الأضواء على حقيقتهم انظر إلى (العثمانيون التاريخ والحضارة، د محمد حرب) ومن أشهر رموزهم الأديب الملحد (عزيز نسين) .
- (البيان) -
(**) عن صحيفة (الرياض العدد 10804، الصادر في 24/9/1418هـ.(124/80)
في دائرة الضوء
حتى لا ننساق وراء لعبة الردود
بقلم: د.محمد يحيى
في قول مشهور وصف فيه نابليون الإنجليز بازدراء بأنهم أمة من أصحاب
المحلات. وقد عَنّ لي في لحظة ضيق أن أصف أمتنا تندراً ومبالغة بأنها أصبحت
أمة من (الردّادين) من الرد والردود. وقد طاف هذا الخاطر في ذهني بعدما قرأت
توصية مهمة صدرت عن ندوة عقدتها مؤخراً هيئة دينية كبيرة في بلد عربي تنص
على ضرورة إنشاء مراكز متخصصة في الرد على كتابات المستشرقين في كل بلد
إسلامي؛ وكأن الرد على المستشرقين قد أصبح من فروض الكفاية، وقد زاد من
عجبي أن رئيس هذه الجهة الدينية نفسه قد صرح في الفترة ذاتها بأن المستشرقين
قوم من أصحاب الرأي الموضوعي وقليلاً ما يتحيزون أو يتعصبون! إذن فما
الحاجة إلى مراكز كبرى متخصصة ترد على هؤلاء الناس الذين يقول عنهم رئيس
الجهة المشار لها: إنهم علماء دارسون للإسلام؟ والقضية التي تشغلني هنا هي ذلك
الانشغال الغريب والاقتصار المعيب والانغلاق على المستشرقين وكأنهم أصبحوا
محور الكون الذي يحتكر لنفسه كل الانتباه رداً عليهم أو إعجاباً بهم.
إن السنوات القليلة الماضية قد شهدت ظاهرة الانشغال بالعلاقة مع الغرب
والتمحور حولها إلى حد أن الهمّ المقيم لبعض أو كثير من الهيئات الدينية الإسلامية
الرسمية قد أصبح عقد المؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية حول العلاقة بين
الإسلام والغرب والمستشرقون في القلب من هذه العلاقة وكأنه لم يعد هناك للمسلمين
من همٍّ آخر، أو كأنه لا يوجد على وجه الأرض غير الغرب والمستشرقين! وإذا
كنا نرى في هذا التمحور غرابة؛ فالأغرب منه أن العلاقة بين الإسلام والغرب كما
تراها هذه الهيئات الرسمية ومَنْ وراءها مِن دوائر ذات نفوذ ثقافي وسياسي في
الحكومات والأنظمة تنحصر في شكل عجيب هو شكل الرد والدفاع من جانب،
وتوجيه التهم المختلفة من الجانب الآخر.
إن الإسلام يقف في تلك العلاقة في موقف المتهم المريب الذي تصوّب إليه
التهم الواحدة تلو الأخرى وبتكرار ممل حتى لا يصبح أمامه سوى أن يتحول إلى
تلميذ يجلس في خشوع أمام أستاذه الغربي ويرد باستمرار على أسئلته واتهاماته،
وهذا هو ما عنيته بعبارة: (أمة من الردادين) .
والمسألة خطيرة وجادة وليست هزلية؛ فإن الوقوف الدائم في وضع المتهم
المدافع عن نفسه والرد على الاتهامات التي لا تنقطع يحوِّل الآلة الفكرية والعقلية
الإسلامية ومعها الذهن المسلم إلى حالة شاذة يُشل فيها التفكير ومرونته وتنعدم فيها
تعددية الأفكار وتنوعها، وتنمحي الطروح الإيجابية بحيث لا يصبح لدى هذا العقل
المسلم ما يطرحه أو يفكر فيه سوى ردود مكررة مملة على اتهامات مكررة مملة.
وحصر الذهن أو العقلية في وضع واحد لا تعرف سواه هو في وضع الرد السلبي
بكل محدوديته ورتابته يصل بنا في الواقع وفي نهاية المطاف إلى إلغاء العقل نفسه
ومعه إلغاء الطرح الإسلامي الإيجابي الواسع بكل منهجيته وشرائعه وإسهامه في
الحضارة الإنسانية؛ وهذه هي الخطورة الحقيقية لموقف الرد الدائم على التهم التي
توجه من الغرب سواء جاءت من الإعلام أو المستشرقين.
إن أي نظرة ولو سريعة على العقائد والمذاهب الفكرية والدينية والفلسفية في
الغرب نفسه وفي غير الغرب تظهر أن الجانب الدفاعي أو جانب الردود لم يكن
يشغل إلا حيزاً صغيراً فيها على الرغم من أن بعضها أو كلها مهلهل بالعيوب
والنقائص في المضمون والمنطق. وهذا الحيز الدفاعي لم يكن يظهر إلاحين تظهر
الضرورة الملحة له وبقدرها؛ لكنه بأي حال لم يتحول إلى الجانب الأصيل
والأساسي أو الأوحد من جوانب العقيدة والفكرة كما يراد الآن للإسلام. وجانب
الردود والدفاع تراعى فيه اعتبارات لا تراعى عند هؤلاء الذين يريدون أن يحولوه
إلى الجانب الوحيد للفكر الإسلامي؛ فهو في الوضع الطبيعي كما عهدناه في
الفلسفات الغربية ذاتها يميز بين اتهامات وانتقادات يحسن الرد عليها لأهميتها وبين
أخرى تهمل لتفاهتها ووضوح التعصب والغرض وراء طرحها. وهو كذلك لا
ينحصر في التعامل الدائم مع تهم تكرر بشكل أبدي بل يكتفي بالرد على التهمة
الواحدة مرة واحدة وبشكل مقنع وقاطع، ولا ينساق وراء لعبة الرد المتكرر على
التهم نفسها وهي اللعبة التي تروج الآن على الوسط الإسلامي بهدف الإشغال
والتحويل عن الواجبات الفكرية الأكثر أهمية وإلحاحاً. والجانب الدفاعي أو جانب
الردود في الفلسفات والمذاهب يأنف من انتهاج المدخل الاعتذاري المتراجع أو من
اتباع أسلوب تقبل حجج المهاجمين ومنطقتهم، ثم محاولة الرد عليها بعد فوات
الأوان؛ لأن تقبل منطق الخصم ومبادئه الفكرية يجعل الرد غير ذي قوة أو معنى،
بل يفرض الهزيمة منذ البداية على الطرف المدافع. لكن كل هذه العيوب نلمحها
الآن في ممارسات (الردادين) الجدد الذين يريدون أن يحتكروا ساحة العمل الفكري
الإسلامي لأنفسهم.
إنني لا أطالب بأن تترك الاتهامات والانتقادات التي توجه للإسلام في الغرب
أو من الفئات العلمانية داخل البلدان الإسلامية بدون أن يرد عليها؛ فالرد مطلوب،
ولكنْ بهدف التوضيح والإفهام، وأيضاً بهدف قطع الطريق على أي بلبلة قد تحدث
في أوساط المسلمين نتيجة للإلحاح على هذه التهم والانتقادات وطرحها من خلال
أوسع أجهزة الإعلام والتعليم ذيوعاً وتأثيراً. الرد مطلوب بلا شك ولكن لهذه
الأهداف وليس كما نلحظ الآن على الساحة الإسلامية لأهداف أخرى؛ وهذه
الأهداف الأخرى تشمل مجاراة الغربيين في تصوراتهم أو علمنة الإسلام والخروج
بنسخة منه تتماشى مع الفكر العلماني اللاديني، كما تشمل بث الدونية في نفوس
المسلمين وإشعارهم بأن الغرب متفوق عليهم دوماً في الفكر والنظر، وأن دورهم
الوحيد ينحصر في تحسين صورتهم أمامه والرد على انتقاداته وتعديل مناهجهم
وشرائعهم بل وعقيدتهم! حتى تتماشى مع ما يريد الغرب ويعجب به وهو القدوة
الأعلى للمسلمين كما يراد الآن. وهناك أهداف أخرى مغرضة لهذه العملية الفكرية
ومنها: استمرارية ترسخ التبعية للغرب بفكره العلماني أو الصليبي؛ بحيث يتصور
المسلم العادي أنه لا فكاك من الغرب، ولا مناص من الدخول معه في علاقة التبعية
الفكرية علاقة التلميذ الخائب بالأستاذ المعلم، وهناك الهدف الأهم والأكبر وهو
هدف تنحية الدعوة لعقيدة الإسلام وهو الواجب الإسلامي الأصيل؛ فالمسلمون يراد
لهم الآن من جانب (الردادين) أن ينشغلوا عن واجب الدعوة الإسلامية التي تتزايد
حاجة البشرية إليها بل وفي الغرب نفسه قبل غيره. وهم ينشغلون عن واجب
الدعوة الأصيل بلعبة فكرية لا معنى لها؛ فبدل عرض الإسلام على الغربيين فإذا
بالمسلمين في ظل لعبة (الردادين) يتحولون إلى أتباع أذلاء يعتذرون للسادة الغربيين
، ويردون على انتقاداتهم في ذلة مع التقبل الكامل لطروحاتهم. ويا ليت لعبة الرد
الفكري على الاتهامات والانتقادات تجدي بل إنها لا تجدي كما تدل على ذلك طبيعة
الاتهامات نفسها. فنحن الآن ما زلنا نرد على الاتهامات نفسها التي وُجهت للإسلام
في الغرب منذ قرنين أو يزيد، وحتى تهمة الإرهاب ليست جديدة كما قد يُظَن؛
فهي امتداد لنظرة الغرب القديمة إلى المسلمين باعتبارهم يهددون بلادهم! وعلى
الرغم من كل الردود التي تراكمت طيلة القرن على هذه الانتقادات فإنها ما زالت
تصدر وبالشكل نفسه والقوة ذاتها فما الذي تغير؟ لا شيء سوى حصر المسلمين
في هذا الاتجاه الضيق السلبي الذي يحمل كل مثالب التبعية؛ بل وأكثر من ذلك فإنه
يحمل خطر علمنة الإسلام وكبت الدعوة الإسلامية لتحل محلها لعبة عبثية ليس إلا.(124/92)
متابعات
تعقيب
على محاورة الأخ د. محمد عبد الله الشباني
بقلم: أ. د. يوسف القرضاوي
وصلنا تعقيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي على مقال: (وقفات متأنية
مع آراء فضيلة د. القرضاوي حول العلاقة مع أهل الكتاب) للدكتور محمد الشباني، وقد أسعدنا تواصل فضيلته مع المجلة، ويسرنا أن ننشر تعقيبه بتمامه، وإن كنا
نختلف معه في مسائل ذكرناها تعليقاً، ومع ذلك نرحب بكل نقد بناء جاد. وفّق الله
الجميع لما يحبه ويرضاه.
أطلعني بعض الإخوة الأفاضل على عدد من مجلة (البيان) التي تصدر في
لندن (العدد 112 أبريل مايو 1997م) وفيها حوار أو مناقشة لبعض ما لخصه أحد
الإخوة بمجلة (المجتمع) الكويتية من تعقيب لي على محاضرة الأستاذ الدكتور رجاء
جارودي، حينما دعي إلى جامعة قطر بالدوحة. وكان كاتب المقال هو الدكتور
محمد عبد الله الشباني، تحت عنوان: وقفات متأنية مع آراء فضيلة د. القرضاوي
في العلاقة مع أهل الكتاب.
وأنا شاكر للأخ الدكتور د. الشباني حسن أدبه في تناول الموضوع، وأقدِّر
له غيرته واجتهاده، وإن كنت أخالفه فيما انتهى إليه من آراء تخص موقفي.
التوحيد والأخلاق:
أولاً: أخذ عليّ الأخ الشباني قولي: إن رسالة الإسلام رسالة أخلاقية في
الدرجة الأولى، وكأنه فهم من هذه الجملة أني أعتبر (التوحيد) في الدرجة الثانية أو
الثالثة، وطفق يذكر الأدلة على أهمية التوحيد، كأني أنكر ذلك أو أجهله.
والحق أني أعتبر (التوحيد) كما يعتبره كل مسلم أساس الدين، بل أساس
الديانات السماوية كلها، ولكني أيضاً اعتبره من جملة الأخلاق؛ لأنه من (العدل)
الذي يعطي كل ذي حق حقه، ولا حق لأحد أن يعبد غير الله تعالى الرب الخالق
المعلم للإنسان. ولا غرو أَنِ اعتبر القرآن الشرك من (الظلم) بل هو ظلم عظيم،
كما جاء في القرآن على لسان لقمان؛ إذ قال لابنه وهو يعظه: -صلى الله عليه
وسلم-[يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13] .
وقد صحح الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- للصحابة فهمهم للآية
الكريمة من سورة الأنعام: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] حين قالوا: وأينا لم يظلم نفسه يا رسول الله؟ فقال:
ليس كما فهمتم، إنه الشرك. ألم تقرؤوا قول العبد الصالح: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ] [1] .
ونجد القرآن الكريم يعتبر الإيمان والشعائر العبادية وعمل الصالحات، وفعل
الخيرات والجهاد في سبيل الله ونحوها من جملة الأخلاق المحمودة، ويصف أهلها
من المؤمنين والأبرار والمتقين بصفات أخلاقية مثل (الصدق) وهو فضيلة أخلاقية
بلا ريب.
يقول تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] [الحجرات: 15] .
وقال عز وجل: [لَيْسَ البِرَّ أََن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ
ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقََابِ وَأََقَامَ الصَّلاةَ
وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البََاًسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ
البَاًسِ أُوْلَئِكَ الَذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] [البقرة: 177] .
ومن هنا أثنى الله على أولي العزم من الرسل فوصفم بصفات أخلاقية، كما
قال عن نوح: [إنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً] [الإسراء: 3] .
وقال عن إبراهيم الخليل: [وَإبْرَاهِيمَ الَذِي وَفَّى] [النجم: 37] .
وخاطب خاتم رسله محمداً بقوله: [وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم: 4] .
ولا غرو أن قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [2] .
ولقد ذكر الإمام ابن القيم في (مدارج السالكين) ما نقله الكتاني عمن قبله أنهم
قالوا: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في
التصوف [3]
وعلق على ذلك ابن القيم بقوله: (بل الدين كله هو الخلق، فمن زاد عليك في
الخلق، فقد زاد عليك في الدين) [4] .
وقد عرّف بعضهم التصوف فقال: هو الصدق مع الحق، والخُلُقُ مع الخَلْق.
ولا يخفى أن الصدق خلق أيضاً، فقد أصبح التصوف كله خلقاً. بل هذا هو
الدين كله: أن تكون مع الله بالصدق، ومع الناس بحسن الخُلُق.
أو أن تكون كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مع الله بالتقوى، ومع الناس
بالإحسان، كما يشير إليه قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ مَعَ الَذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون] [النحل: 128] .
وفي ضوء هذه المفاهيم الإسلامية الصحيحة يجب أن يُفهم معنى قولي: إن
الإسلام رسالة أخلاقية في الدرجة الأولى، فأنا أُدخِل في هذا المفهوم: العقائد
والعبادات وعمل الصالحات والدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله. وقديماً قال
علماؤنا: لا مشاحّة في الاصطلاح.
معركتنا مع اليهود:
ثانياً: علق الأخ الشباني على قولي: إن معركتنا مع اليهود ليست من أجل
العقيدة، بل من أجل الأرض التي اغتصبوها، والحرمات التي انتهكوها، والدماء
التي سفكوها. وقال: إنها تحتمل معنى صحيحاً لا غبار عليه، وهو أن صراعنا
مع اليهود في هذه المرحلة من أجل أرض فلسطين. وإذا كان هذا المعنى الصحيح
محتملاً، فلماذا نفترض المعنى الآخر؟
والذي جعلني أقول هذا القول: أن اليهود يشيعون في أنحاء العالم أنهم جنس
مضطهد مجني عليه، مظلوم من الناس كافة، وأن اضطهاده إنما هو من أجل
عقيدته وعنصره، أي لأنهم يهود، ولأنهم ساميون. ولذا نراهم يتاجرون بمعاداة
السامية.
ونحن نريد أن نقول لهم: إننا لم نحاربكم من أجل عقيدتكم اليهودية، ولا
عنصريتكم السامية [5] ، فنحن المسلمين نعتبركم أهل كتاب، حتى إن القرآن أباح
مؤاكلتكم ومصاهرتكم، ونحن العربَ ساميون مثلكم، فأنتم أبناء عمومتنا. وبذلك
نبطل الدعوى التي يتشدقون بها ويستدرّون بها عطف الأمم كافة عليهم.
على أني إذا قلت: إن المعركة من أجل الأرض التي بارك الله فيها للعالمين،
فهذا لا ينفي الطابع الديني عن المعركة؛ لأنها معركة (في سبيل الله) يقيناً، معركة
دفاع عن الحق والأرض والعرض والشرف والدين، وكل المقدسات. وكل معركة
يخوضها المسلم دفاعاً عن أرضه وحرماته هي معركة دينية؛ لأنها في سبيل الله لا
في سبيل الطاغوت، وقد قال تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ] [النساء: 76] .
فكيف إذا كانت الأرض التي يدافع عنها المسلم تتميز بأنها أولى القبلتين،
وبها ثالث المسجدين المعظمين، وهي أرض الإسراء والمعراج، وأرض النبوات
والبركات، وأرض الرباط والجهاد؟ أجل، إنها معركة تحرير القدس وإنقاذ
الأقصى؟ !
ولا يُتصور من مثلي أن ينفي الطابع الديني عن المعركة بيننا وبين اليهود،
وأنا أنادي في كتبي وفي محاضراتي وفي فتاواي وخطبي منذ سنين طويلة بفرضية
الجهاد من أجل فلسطين، وضرورة (إسلامية) المعركة، وأننا لم نُهزم إلا أننا
دخلناها عرباً ولم ندخلها مسلمين.
ويمكن أن يراجع من يشاء كتبي: درس النكبة الثانية، الحلول المستوردة،
أولويات الحركة الإسلامية وغيرها، وكذلك فتاويّ حول الصلح مع إسرائيل، وعن
زيارة القدس والصلاة في الأقصى في ظل الاحتلال، والمشاركة في انتخابات
الكنيست، وردودي على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وغيرها، ليعرف منه
حقيقة موقفي من إسلامية المعركة مع الصهيونية الباغية المغتصبة.
هل هناك أصول مشتركة بيننا وبين أهل الكتاب؟
ثالثاً: أثار الأخ الشباني زوبعة حول ما نقل عني أني قلت معقباً على موقف
جارودي ما معناه: لا مانع من وقوف أتباع الديانات السماوية في خندق واحد، أي
في مواجهة الإلحاد والإباحية، وقد يختلفون في بعض الأمور، ولكن بينهم من
الأصول المشتركة ما يجمعهم ضد الذين ينادون بوحدانية الدولار، ووحدانية السوق، ويعتبرون أنه (لا إله إلا المادة) .
أنكر الأخ الكاتب هذا القول، وزعم أنه يناقض أصول الإسلام وحقائق
التوحيد.. وقال: ليس بيننا وبين اليهود والنصارى أي أصول مشتركة، فهم
مشركون كفرة، وقد حكم الله عليهم بالكفر.. إلخ
ولو كان ما قاله الكاتب صحيحاً، لم يكن هناك معنى ولا مبرر لأن يميزهم
الإسلام عن غيرهم من سائر الكفار، ويعتبرهم (أهل كتاب) وأهل دين سماوي
ويناديهم: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ] [آل عمران: 64] وأن يقول القرآن فيهم: [وَطَعَامُ
الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ... ] [المائدة: 5] فأباح مؤاكلتهم ومصاهرتهم،
والمصاهرة أحد الرابطين الأساسين بين البشر [وَهُوَ الَذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً
فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً] [الفرقان: 54] .
فكيف أجاز للمسلم أن تكون شريكة حياته، وربة بيته، وأم أولاده من أهل
الكتاب؟ ومن لوازم ذلك: أن يكون أبو زوجته الكتابية وأمها جدين لأولاده،
وإخوانها أخوالهم، وأخواتها خالاتهم، ولهؤلاء جميعاً وأولادهم حقوق الأرحام
وذوي القربى؟
ولا ريب أنهم كفار؛ لأنهم لم يؤمنوا برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-،
ولكنهم غير (المشركين) أو (الذين أشركوا) [6] فهم صنف آخر يذكر معطوفاً عليهم
في القرآن، والعطف يقتضي المغايرة، كما في قوله تعالى: [مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ] [البقرة: 105]
وقوله: [لَمْ يَكُنِ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حََتَّى تَاًتِيَهُمُ البَيِّنَةُ] [البينة: 1] ، [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا] [البينة: 6] ، [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ] [الحج: 17] .
فدلّت هذه الآيات الكريمة على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى غير
المشركين الذين ذكرهم القرآن، ويقصد بهم عباد الأوثان، كما كان عليه مشركو
العرب.
ولو لم يكن هناك أصول مشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب ما أجاز
للمسلمين أن يصاهروهم، ولحرم ذلك عليهم كما حرم مصاهرة المشركين، حيث
قال: [وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ] [البقرة: 221] .
والواقع أنه توجد أصول مشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب في الجملة [7] ،
منها: الإيمان بالله، والإيمان بوجوب التعبد له، والإيمان بالنبوة والوحي،
والإيمان بالآخرة، والإيمان بالقيم الأخلاقية. ومن ثم يمكن أن يقف هؤلاء مع
المسلمين في خندق واحد، لمقاومة النزعات الإلحادية، ودعوات الانحلال والإباحية، والوقوف في وجه المظالم والاعتداءات البشرية.
وهذا ما جعل الأزهر ورابطة العالم الإسلامي والفاتيكان يقفون في صف واحد
في مؤتمر السكان الذي انعقد بالقاهرة في صيف سنة 1994م ضد دعاة الإجهاض
والإباحية الجنسية.
وهو ما جعل الكثيرين يرحبون بالحوار الإسلامي المسيحي [8] ، كما فعل
ذلك وفد رابطة العالم الإسلامي برئاسة أمينها العام الشيخ محمد علي الحركان،
وعدد من الأساتذة الكبار، حيث ذهبوا إلى الفاتيكان، وحاوروا كبار أساقفته،
ووصلوا إلى نتائج مهمة سجلوها في كتاب نشرته الرابطة.
وكذلك قام حوار في ليبيا شارك فيه عدد من الشيوخ والمفكرين المسلمين،
وقُدِّمت فيه بحوث من كلا الطرفين في أربعة موضوعات محددة، وانتهوا إلى
توصيات مشتركة، أعتقد أنها نافعة.
ولو كان أهل الكتاب كالمشركين الأقحاح سواء بسواء كما يقول الأخ المعقب
لما حزن المسلمون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة حين
انتصر الفرس وهم مجوس يعبدون النار ويقولون بإلهين اثنين على الروم، وهم
نصارى أهل كتاب، على عكس ما كان عليه المشركون من أهل مكة، الذين
فرحوا بانتصار الفرس على الروم، معتبرين أن الروم أهل كتاب، فهم أقرب إلى
المسلمين من المجوس.
وقد نزل في ذلك قرآن يتلى يبشر المسلمين بأن هذه الغلبة للفرس لن تدوم،
وأن اتجاه الريح سيتغير لصالح الروم في بضع سنين، وقال تعالى: [الّم) (1)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ
لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ] 4 [بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ
وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] [الروم: 1 - 5] .
إن القرآن الكريم أمرنا ألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأن نركز
على القواسم المشتركة بيننا وبينهم، لا على نقاط التمايز والاختلاف، يقول تعالى: [وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا
بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]
[العنكبوت: 46] .
وما أحوج الدعاة اليوم إلى هذا الأدب القرآني في عصر تقارب فيه العالم
حتى أصبح قرية كبرى كما قال بعض الأدباء، وأنا أقول: إنه أصبح قرية صغرى، نتيجة ثورة الاتصالات، ورسالة الدعاة اليوم يجب أن تركز على تبليغ دعوة
الإسلام إلى العالم بلغاته المختلفة عبر الإذاعات الموجهة، والأقمار الصناعية،
والرسائل المكتوبة، وترجمة معاني القرآن إلى الألسنة المختلفة، وهذا هو الجهاد
الأول اليوم، وهذا كله قد أخفق فيه المسلمون إخفاقاً بيناً، ولكنهم نجحوا في
استفزاز الآخرين وإيغار صدورهم، وتخويفهم من ظهور الإسلام، الذي لن يعاملهم
إلا بسل السيف على رقاب الجميع، وإعلان الحرب على البشرية كلها [9] .
أسأل الله أن يرزقنا فقه الدعوة، وفقه الفتوى، حتى نفرق بين الثوابت
والمتغيرات، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال وغيرها،
فالدعوة وأساليبها أوْلى بالتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) البخاري، ج1، كتاب الإيمان، ص 13، باب 23، البخاري، ج6، كتاب تفسير القرآن،
ص20، ح/31، ج8، كتاب استتابة المرتدين، ص 48.
(2) أحمد، ج2، ص 381، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح، ج8، ص 18، صححه الحاكم، ج2، ص 613، ووافقه الذهبي، البخاري في الأدب المفرد رقم 374، ص 105، صحيح الجامع، ج2، رقم 2345.
(3) جاء في مدارج السالكين (2/307) : (الدين كله خُلُق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين وكذلك التصوف؛ قال الكتاني: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك في التصوف) وعلى كلٍّ فإن مصطلح (التصوف) فيه إجمال واشتراك، فيحتاج إلى تفصيل، كما حرر ذلك المحققون من أهل العلم كابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/28، 29) والشاطبي في الاعتصام
(1/265) ، فقد يطلق التصوف على ما يحبه الله ورسوله من زهد وورع، كما يطلق على ما يكرهه الله ورسوله من البدع الحادثة والمنكرات الظاهرة ... ... ... ... ... ... - البيان -
(4) مدارج السالكين، ج2، ص 307.
(5) يقول فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: (إننا لم نحاربكم من أجل عقيدتكم اليهودية ولا عنصريتكم السامية) وقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ] [التوبة: 123] ، وقوله سبحانه: [فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] [التوبة: 5] فدلت هذه الآيات على أن موجب القتال هو الكفر بالله تعالى أيّاً كان هذا الكفر، ولو فرّق فضيلة الشيخ بين عقيدة اليهود وبين جنسهم لزال اللبس، فقتال اليهود لأجل عقيدتهم الفاسدة، وليس من أجل عرقهم أو جنسهم كما يزعمون وقد يسوّغ لفضيلة الشيخ القرضاوي أن يقرر أن الموقف من اليهود في ظل ضعف المسلمين وتسلط الكفار على مراحل وأحوال، ففي ظل الأوضاع الراهنة يكون قتالهم بسبب محاربتهم المسلمين وقتلهم واعتدائهم.
(6) وقول الشيخ القرضاوي: (ولكنهم غير (المشركين) أو (الذين أشركوا)) فاليهود والنصارى كفار بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، ص 19 ولكن هل يقال: إنهم مشركون؟ هذه محل خلاف بين أهل العلم، فأطلق بعضهم على النصارى أنهم مشركون محتجين بقوله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً وَاحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] [التوبة: 31] ولذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: لا أعلم شركاً أعظم ممن تقول: إن ربها عيسى ابن مريم، وقد يقال: إن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد؛ فكل من آمن بالرسل والكتب، لم يكن في أصل دينهم شرك، ولكن النصارى ابتدعوا الشرك كما قال: [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] [يونس: 18] انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/91 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
(7) وأما دعوى هذه الأصول المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب ففيها مبالغة ظاهرة: فأي إيمان بالله عند من قال: إن المسيح ابن الله، أو عزير ابن الله؟ وأيّ إيمان لمن سب الله عز وجل غاية المسبة فنسب إليه الولد، وقال: إن الله فقير تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً؟ وأي إيمان بالرسل عند يهود قتلة الأنبياء والرسل، وكذا النصارى الذين كفروا بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال الله تعالى: [إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ] [النساء: 150] الآية؟ وعلى كلٍّ فمع هذه المباينة والمفارقة الشاسعة بين ملة الإسلام وبين اليهودية والنصرانية فلا شك أنهم أقل بعداً عن سائر طوائف المشركين ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
(8) والحوار الإسلامي النصراني إن أريد له دعوة النصارى إلى الحق والصواب والالتزام بالتوحيد فهذا هو المطلوب، ونحن نفرح بإسلام هؤلاء النصارى وقبولهم للدليل والبرهان لكن غالب هذه المؤتمرات التي تعقد باسم الحوار الإسلامي المسيحي ما هي إلا ذريعة لمداهنة النصارى وموالاتهم، وقد تكون سبيلاً إلى الدعوة إلى زمالة الأديان والتقارب فيما بينها وقد صدرت فتوى عن اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية عن خطر هذه الدعوة وبيان حكمها وجاء فيها: (إن من يحدث نفسه بالجمع أو التقريب بين الإسلام واليهودية والنصرانية كمن يجهد نفسه في الجمع بين النقيضين: بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، وما مثله إلا كما قيل: أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرك الله كيف يلتقيانِ هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يماني فتاوى اللجنة 2/85 ... ... - البيان-
(9) الذي يعنيه الدكتور القرضاوي كما هو واضح: الصورة البشعة المزعومة التي يريد أعداء الإسلام رسمها في أذهان الآخرين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-(124/96)
منتدى القراء
تأمل في مقولة لابن تيمية
بقلم: أم طلحة بنت عبد الغفور
(جنتي في صدري.. إن رحت فهي معي لا تفارقني: إن حبسي خلوة..
وقتلي شهادة.. وإخراجي من بلدي سياحة) .
هذا ما قاله ابن تيمية في أصعب لحظات حياته عندما دخل سجن القلعة حيث
توفي هناك.. موقف عصبي ومشهد تتحرك فيه المشاعر.. يضيق الصدر وتبدأ
نجمة الأمل بالأفول.. ويصبح الطائر المغرد مكسور الجناح غضيض الطرف،
يشدو بصوته الحزين.. وابن تيمية ينظر إليها وكأنها سياحة.. وخلوة.. بمعنى
راحة نفسية.. أنعم بها من مقولة.. هذا هو موقف المسلم: صلب شديد.. قوي
أريب.. متأمل في سيرة الأنبياء والسلف الصالح.. ليجد النماذج الحية في الصبر
والتسلي عن المصائب.. تتوالى النكبات تلو النكبات والمصائب تلو المصائب..
وكأنه لم يحدث شيء ... يرسم ابتسامة رضى على شفتيه.
هذا هو منهج الأنبياء ومنهج السلف.. محمد عليه السلام ربى أصحابه على
ذلك؛ نراه وقد خرج من الطائف إلى مكة وقلّ الناصر والمعين.. لا أهل ولا
عشيرة ولا أقربين.. تغير وجه الأرض، وتنكر له العالم.. عندما قال: لا لعل الله
يخرج من أصلابهم من يعبده.. وموسى وعيسى ويوسف وأيوب وإبراهيم عليهم
الصلاة والسلام.. تعامل فذ وحنكة في التصرف.. جعلهم جباهاً شامخة صامدة
تواجه كل الصعاب.. إن تخطي المصائب الدنيوية يورث قوة إرادية وعزيمة
وحنكة.. ولذة في العبادة.. فالمرء بحاجة إلى تفكير بعين الفاحص المتأمل حتى
يحيا مع الله دون عوائق ومشاق.(124/103)
منتدى القراء
هل من أولي بقية؟ !
بقلم: عماد الدين سعد العسقلاني
يقول الله تعالى: [فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ
الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ] [هود: 116] .
كلمات قليلة العدد عظيمة المعنى قد نمر عليها مر الكرام فلا تلفت لنا نظراً
ولا تحرك لنا فكراً، وفي هذه الكلمات لا أريد شرح الآية ولكن لفت النظر إلى قوله
تعالى: [أُوْلُوا بَقِيَّةٍ] فما أهمية تلك الكلمات؟ !
في هذه الآية ينبئنا الله عن سبب رئيس من أسباب هلاك القرون والأمم من
قبلنا، ولكن نلاحظ أنه سبحانه لم يقل إن هلاكهم بسبب فسادهم وإن كان سبباً ولكن
ركز على جانب آخر وصفة أخرى، عدمها فيهم أدى إلى عدمهم، وفناؤها فيهم
أدى إلى فنائهم.
ما هذه الصفة؟ وما هذا الجانب؟
إنها عدم وجود فئة تنهى عن الفساد في الأرض.
ليس المطلوب أن تكون الأمة بأكملها أمة قائمة بأوامر الله دون نقص،
فالنقص من صفات البشر الملازمة لهم، وليس المطلوب أيضاً أن تكون من الأمة
فئة صالحة تتعبد لله وتقدسه سبحانه بغض النظر عما يفعله الآخرون.
لا.. ليس هذا المطلوب لتنجو الأمة من عذاب شامل يصيب الصالح والطالح، وإنما كل ما هو مطلوب للنجاة أن تبقى فئة تنهى عن الفساد، تأمر بالمعروف
عندما ينكره الناس، وتنهى عن المنكر عندما يتعارف عليه الناس، تدعو أمتها
وقومها إلى طاعة ملك الملوك، رب الأرباب، الذي خلقهم فعصوه، وأنعم عليهم
فكفروه، وأمهلهم فنسوه، تدعو قومها ولسان حالها يقول: [وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ
إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ] (غافر: 41) .
نعم لأن الأمة لن تسمح لهذه الفئة الباقية على أمر الله أن تأمر وتنهى وتدعو
للنجاة، بل ستعتبرها فئة مزعجة تنغص عليها حياتها ومتعتها وما تعارفت عليه
الأمة من فساد.(124/104)
منتدى القراء
صبراً يا دعاة.. إن نصر الله قريب
بقلم: حسين إدريس حامد
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله فقلنا:
يا رسول الله، ألا تستنصر لنا ربك؟ قال: فجلس وكان متكئاً على برد له في ظل الكعبة، وقال: (كان ممن قبلكم يؤتى بالرجل، فيحفر له ويدفن إلى قامته، ويشق بمنشار الحديد فلقتين، ويمشط ما بين لحمه وعظمه وعصبه بأمشاط الحديد، ولا يثنيه ذلك عن دينه شيئاً، والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) [1] .
لنا في رسول الله أسوة حسنة؛ فهو الصابر المثابر المستهين بعنت المشركين، يمشي في بطحاء مكة واثقاً بأن الإسلام دين الله الذي ارتضاه لعباده وأنه سينتشر
ويعم أرجاء المعمورة رضي الناس أم سخطوا. لم يأبه النبي -صلى الله عليه
وسلم- بقسوة قريش وأذاها، واستمر في دعوته مبيناً أنه رسول رب العالمين،
ورسالته للناس أجمعين، وانطلقت الدعوة إلى الله تشق طريقها رغم الصعاب
والعقابيل التي يضعها المشركون ليحولوا بين الناس وبين نور الهدى، [وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] .
أيها الدعاة: إن رسالة الإسلام لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود، ومن
يعترضها فإنما يعترض قضاء الله وقدره، وقد تكفل المولى سبحانه وتعالى من فوق
سبع سماوات بحمايتها وكتب على نفسه نصر عباده الصالحين، وجعلهم المستخلفين
في الأرض [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ] [الأنبياء: 105] .
__________
(1) رواه البخاري (3612، 3852، 6943) وأبو داود (2649) وأحمد (5/109، 110، 111) ، (359) ، والحميدي (157) والطبراني (4/62، 63، 65، 66) .(124/105)
منتدى القراء
الغضب
بقلم: أحمد بن سعد الصاعدي
إن الغضب شعلة من نار تلظى تطلع على الأفئدة تحرق الوقار والسكينة
وحسن السمت. فهو جدير بهدم البناء الخلقي؛ لأنه مدعاة إلى المقت والخذلان
وصفة ذميمة تعافها النفوس، وتشمئز منها القلوب، وتُمَزِّق التعاون والتآلف،
وتنحدر بصاحبها إلى الهاوية؛ لأن الغضب طبع ذميم يشوبه الكبر والغطرسة
والعجب والغرور؛ فما إن يتمكن في القلب حتى يجعله كالرميم؛ لأنه محرق للفؤاد، ومشتتٌ للذهن، ومنغصٌ للحياة، ومدمرٌ للأسر، وقاطع للأرحام، ومفرق
للجماعات، ومزهق للأرواح، ومظهر للأفعال بدون ترتيب ونظام وتفكير وبناء
للألفاظ؛ فهو جالبٌ للخصوم، ومضيع للحقوق، وساكبٌ للأحقاد في قلوب العباد.
فحري بكل مسلم ومسلمة أن يكون بعيداً عن أسبابه؛ لكي ينجو من الانحطاط
الخلقي الذي يمارسه الغاضب من سوء في المقال، وخبث في الأفعال بدون تمعنٍ
في عاقبة الخذلان. وما هذا كله إلا لأن الغاضب لنفسه يقدم العاطفة على العقل في
أقواله وأفعاله؛ فهو يتصرف بعاطفته لا بعقله، ولو علم حقيقة ما يغضب من أجله
لعد نفسه من المجانين؛ لأنه بعيد عن واقع ما يغضب من أجله.
والمتأمل في كثير ممن يمارسون سرعة الغضب وانفعاله لديهم يرى أنهم
يندمون على فعلهم في حال غضبهم، فهم في تعاسة في حال فعلهم، وحسرة على
ما صدر منهم بعد زوال الغضب. فهم في شقاق وشقاء وظلام؛ لأنهم يفعلون ما لا
يريدون، ويبغضون ما يصنعون، ويطلبون السلامة بما لا يقدرون إلا بتوفيق الحي
القيوم.(124/106)
منتدى القراء
تعاملنا مع الحقائق
بقلم: سالم بن جروان الضوي
يقع الناس في تعاملهم مع الحقائق في أخطاء كثيرة، وتناقضات مثيرة.
والمفترض في العاقل أن يتعامل مع الحقائق التي تيقنها بما يناسبها ويلائمها.
والحقائق التي أعنيها هنا هي الحقائق الشرعية التي دل الكتاب والسنة على
أنها حقائق.
وقصدت الحقائق الشرعية بالحديث لسببين:
1- لأنها حقائق يقينية؛ فإن كل مسلم يؤمن إيماناً كاملاً ويوقن يقيناً تاماً
بالحقائق التي دل الكتاب والسنة عليها.
2- لأن أمر غيرها يسير بالنسبة إليها، فإن غاية الضرر الحاصل نتيجة
التناقض في الحقائق التجارية مثلاً هو أن يخسر الإنسان المال، وخسارة المال أمر
هين فإنه يمكن تعويضه.
أما الحقائق الشرعية فإن أمرها صعب وخطير؛ لأنه قد يترتب على التناقض
فيها والتعامل معها بما لا يناسبها دخول النار. وها أنا ذا أسوق بعض الأمثلة
لبعض الحقائق الشرعية لنرى كيف يتعامل الناس معها:
من الحقائق الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة هي حقيقة الموت قال
تعالى: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ] [آل عمران: 185] وقال: [إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم
مَّيِّتُونَ] [الزمر: 30] .
أيضاً لم يتعامل الناس مع هذه الحقيقة تعاملاً يناسبها خصوصاً أن هناك حقيقة
أخرى تقول: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ] [الزلزلة: 7، 8] .
حتى إن الناس كأنهم بهذه الحقيقة يكذبون، وينظرون إليها بمنظار خاطئ هو
أن فلاناً كبير السن فالموت منه قريب، وفلاناً صغير السن فالموت منه بعيد.
والموت لا ينظر في أخذه للناس بهذا المنظار، ولكنه يتعامل معهم بحقيقة
[وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاًخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ] [الأعراف: 34]
كباراً كانوا أم صغاراً.
ولهذا قال بعضهم مبيناً خطأ هذه النظرة:
ولا تقل الصبا فيه امتهال ... وأبصر كم صبياً قد دفنا
وتعجّب آخر من تعامل الناس مع هذه الحقيقة فقال:
ولم أرَ مثل الموت حقاً كأنه ... إذا ما تخطته الأمانيّ باطل(124/107)
منتدى القراء
المؤمن مرآة أخيه
بقلم: عبد العزيز بن مشاري الصعب
المسلم في هذا الزمن وخاصة الملتزم والمحافظ على إسلامه والداعية إليه
بحاجة إلى من يواسيه ويشاركه همّ الدعوة إلى الله، ومن يوجهه ويأخذ بيده وينصح
له وينقده نقداً بناءً يهدف إلى تقويمه لا إلى تثبيطه والتشهير به، فقد ثبت في
الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (المؤمن
مرآة المؤمن) . [صححه الألباني.. صحيح الجامع، 6656] وقال شيخ الإسلام
أحمد بن تيمية رحمه الله: فإنّ المؤمن للمؤمن كاليدين؛ تُغَسِّل إحداهما الأخرى.
وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة؛ لكن ذلك يُوجب من النظافة، والنعومة
ما نحمد معه ذلك التخشين) .
وهذه النصيحة مما يتعبد لله بإسدائها للمنصوح له، كما قال ابن تيمية رحمه
الله: وأعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه. بل إنها تعتبر من الصدقة كما في الحديث
الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) ، وقال ابن تيمية رحمه الله: ما
تصدق رجل بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها جماعة، فيتفرقون وقد نفعهم الله
بها. ونعمت الهدية كلمة من الخير يسمعها الرجل ثم يهديها إلى أخ له.(124/108)
منتدى القراء
خلق مكروه
بقلم: ماهر بن يوسف شحاده
مكارم الأخلاق وحسن الخلق هما الدعائم الكريمة والركائز المتينة في الأدب
الإسلامي، فالمسلم الحق الملتزم بدين الله وأوامره لا يحمل في قلبه حقداً لأحد ولا
بغضاً ولا نفوراً منه، بل تجد قلبه مفعماً بحب الناس؛ لأن المؤمن الصادق يألف
ويُؤْلف.
أما الصنف الآخر من الناس فهو الذي تعوّد أن يدس أنفه في كل شيء سواءً
كان يعنيه أو لا يعنيه يضيع وقته في تتبع ما يجري بين الناس، يدخل طرفاً ثالثاً
بين المتحدثين، يفتي في أمورهم بما ليس له به علم أو خبر. يحثنا الدين الإسلامي
الحنيف أن نترك ما لا يعنينا، ونحفظ ألسنتنا من لغو الحديث؛ لأن كل إنسان
محاسب على ما يصدر عنه من قول. يقول تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ] [ق: 18]
وفي توجيه نبوي كريم يقول المصطفى عليه السلام عما يجب على المسلم أن
يفعله إذا أطلت الفتن بوجهها: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على
خطيئتك) .(124/109)
الورقة الأخيرة
الأنوثة الفكرية؟
بقلم: محمد المغيري
السلوك ترجمة للفكر، وكلما كان الفكر أصيلاً، خالصاً من الشوائب، نقياً
من العوالق، واضحاً في الرؤية، متجذراً في المنهج كلما أنتج ذلك سلوكاً رشيداً،
وأثمر تعاملاً سديداً.
وصاحب الفكرة، ومعتنق المبدأ لا يرضى أن يلحق بفكرته أذى، أو أن
يشوب مبدأه عالقة من نقص أو خلل. وهذا ما ينبغي أن يكون، وهو ما كان ولا
يزال عند أصحاب العقول الرشيدة، والمبادئ الناصعة المستنيرة، والقيم المضيئة
عند أتباع الحق وأنصار السنة المستمسكين بها في سرّائهم وضرّائهم.
وعندما تنخرم هذه القيمة قيمة توافق الفكر والسلوك وتظهر أعراض التصادم
بينهما، وتبرز نتوء التناقض المريب، ويغدو الفكر سلعة في المزاد، ولباساً يُلبس
ويُخلع تبعاً للحاجة إليه فإن حامله داخل في زمرة المصابين بمرض (الأنوثة
الفكرية) .
والمصابون بهذا المرض تعرفهم أحياناً بسيماهم، وتعرفهم كثيراً في لحن
القول: [مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ] [النساء: 143] هم فئام
كثيرة في مجتمعاتنا الإسلامية، مشكلتهم الكبرى أنهم محسوبون على المتدينين؟ ! ، ومصيبتهم أنهم طوعاً أو كُرها ينسبون إلى الصالحين؟ ! إما بماضيهم، أو
بهيئاتهم، أو بألسنتهم، أو بمسمى وظائفهم، أو ببعض ذلك، أو جميعه.
وهم ليسوا سواء؛ بل هم مراتب ومنازل، أدناهم من: [فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ
جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ] [العنكبوت: 10] وأقصاهم وأشدهم وطأة من إذا:
[لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ] [البقرة: 14] .
فكم يجني هؤلاء بعلم أو بجهل أو بمماحكة على الدعوة وأهلها؟ !
رضي الله عنك يا عمر.. يستحلف حذيفة رضي الله عنه: هل عَدّهُ رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين..؟ وهو عمر!
لو تدبر مرضى الأنوثة الفكرية هذا الموقف.. وتأملوا ما فيه من الخشية
والرهبة والمحاسبة لهانت عليهم الدنيا بمناصبها.. ودراهمها.. وكل حطامها.
ولكن أكثر الناس لا يعقلون.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك.. وأفقرهم إليك.. ولا تجعل بيننا وبينك في
رزقنا أحداً سواك.(124/111)
المحرم - 1419هـ
مايو - 1998م
(السنة: 13)(125/)
كلمة صغيرة
هذه عدالة الغرب! !
مرت في الأيام الأخيرة وتحت سمع وبصر العالم كله حادثتان خطيرتان؛
ومع أهميتهما وعلاقتهما بحرية الفكر وحقوق الإنسان اللتين طالما جعجع الغربيون
حيالهما ودعوا إلى احترامهما ومؤاخذة بعض البلدن التي قد يحدث فيها شيء من
عدم احترامهما، إلى حد أنه تم وصم بعض البلدان بالإرهاب وتشجيعه ومقاطعتها،
بل وحصارها. بينما سكت الغرب نفسه وصمت صمت القبور حيال هاتين
الحادثتين وهما:
1- محاكمة المفكر المعروف (رجاء جارودي) بتهمة تجاوز بعض القوانين
الفرنسية التي تحمي (اليهود) من أي تهجم عليهم أو كشف لأباطيلهم وأدين الرجل
وحكم عليه بدفع (20. 000) دولار جزاءً لجرمه المزعوم؛ ولطالما استفاد
الصهاينة من الملايين زوراً! !
2- حل حزب الرفاه الإسلامي في تركيا، ذلك الحزب الذي نال ما لم ينله أي
حزب تركي آخر من شعبية جعلته الأول في آخر انتخابات رسمية وبكل غطرسة
(العسكر) الأتراك وعنجهيتهم يدان الحزب المسالم ويلغى من الحياة السياسية بجرة
قلم، ويحرم رموزه من حقهم المدني لخمس سنوات لا لشيء إلا لأنهم أعلنوا
انتماءهم الإسلامي؛ وهذا يهدد الهيمنة العلمانية التي ابتلي ذلك البلد.
كان موقف الغرب وهو يحتج على ما حصل باستحياء وبهدوء حتى ليكاد يقال
إنهم متواطئون فيما حصل.
نحن لا نطالب بعدالة الغرب؛ لأننا نعرف أن عدالتهم لبني جنسهم وملتهم
ولتحقيق مصالحهم ومصالح أتباعهم؛ ولا مانع من خرق تلك الدعاوى المكرورة ما
دام أن الضحايا هم أهل الإسلام والمنتمون له.
فيا لله للإسلام، ويا لله للمسلمين.(125/1)
الافتتاحية
بعد التطوير الجديد
البيان على العهد كما عرفتموها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فانطلاقاً من مسؤوليتنا في أداء رسالتا الدعوية والإعلامية ما زلنا نواصل هذا
الدور؛ فيما قد مناه ونقدمه من دراسات وأبحاث ومقالات نتوخى فيها الفائدة للجميع
وبهذا العدد تدخل به المجلة السنة الثالثة عشر، فنحمد الله ونشكره على ما يسره لنا
من عون وتوفيق ونسأله جل وعلا السداد في القول والعمل.
ومن تحصيل الحاصل تأكيد ما يعانيه العالم الإسلامي من حرب ضروس من
أعدائه الأصليين ممن كفروا به، ومن أعدائه في الداخل من المنتسبين له الذين هم
من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألستنا، لكنهم يعملون بكل وسائلهم الخسيسة وكيدهم
ومكرهم المتمثل في النقد الظالم والتحليل الكاذب والكاريكاتير المسف محاولين
إطفاء جذوة هذا الدين في نفوس أبنائه والمنتمين له، بقصد الهدم والتضليل بغزو
العقول وتغريب الأفكار ليتسنى لهم تحقيق أهدافهم الدنيئة ومقاصدهم المشبوهة
ليصلوا إلى تشكيك الناس بعامة والأجيال بصفة خاصة بعالمية الإسلام وكونه
المهيمن على الشرائع كلها، ولكن الله مخيب آمالهم ومبطل كيدهم و [إنَّ اللَّهَ لا
يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ] [يونس: 81] .
وعلى المنتسبين لهذا الدين والمؤمنين برسالته للناس كافة أن يكونوا على
مستوى التحدي لمقاومة تلك الاتجاهات الظالمة وكشف أولئك الذين يحاربون دين
الله بوسائلهم المعروفة التي يدّعون عن طريقها أنهم أصحاب فكر ودعاة تنوير، وقد
يتبن لنا أنهم مغرضون ومضللون ويكفي لكشف دعاواهم معرفة مواقفهم المتشنجة
من الإسلام باعتباره منهج حياة متكامل لا سيما ونحن اليوم نعيش عصر الإعلام
حتى يكاد أن يصبح العالم قرية كونية تقوم فيها كل الاتجاهات العقدية والفكرية ببث
رسائلها ومنطلقاتها بكل الوسائل المتاحة، بينما بعض الدعاة مشغول بعضهم ببعض
مشككون حتى في النوايا! فهل يصح أن يكون دعاة الإسلام على هذه الصورة؟
وكيف تصبح أمة الدعوة أقل الناس اهتماماً بالوسائل الإعلامية وأفقرهم معرفة
بأصولها الفنية حتى غُزِينا في عقر دورنا، وصرنا مستهلكين وغير مبدعين إلى حد
أن جُلّ وسائل إعلامنا في كثير من البلدان تنقل عن أعدائنا كثيراً مما يبثونه من
زبالات الأفكار؛ وهذا وبلا شك له آثاره الكبرى في جعل أجيالنا مقلدة ومستلبة
الفكر وممسوخة العقول؛ وفي هذا ما فيه من الإفساد والتدمير لكل المتلقين لذلك
الإعلام بكافة وسائله.
وهذا مما جعلنا لم نصل بعد في اهتماماتنا الإعلامية للمستوى المطلوب بما
يتفق ورسالة ديننا الحنيف في البلاغ والدعوة حتى إن جل الإعلاميين الإسلاميين
سواء في أقسام الإعلام بالجامعات أو العاملين في بعض الوسائل الإعلامية منظِّرون
أكثر من أن يكونوا فاعلين ومؤثرين في مجتمعاتهم، وقلّ أن نجد لهم عملاً إعلامياً
متميزاً؛ وهذا له أسباب سبق أن تناولناها أكثر من مرة.
فما أحرانا بأن نكون يداً واحدة على من سوانا وألا ينشغل بعضنا ببعض بالنقد
الجارح والتصنيف الظالم والاشتغال بتوافه الأمور ناسين أو متناسين رسالتنا
الكبرى في التوعية والتوجيه [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً
وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) .
ونحن في مجلة (البيان) مع إسهامنا بجهد المقل في هذا المجال ونحن ولله
الحمد منذ العدد الأول الصادر في عام 1406هـ نؤكد وما زلنا ندعو إلى العمل
الإعلامي المتكامل في مجال تبليغ رسالة الإسلام داعين إلى معالم مهمة في الطريق
لأداء هذه الرسالة منطلقين من أسس ثابتة من أهمها:
1- عقيدتنا التي ندين لله بها هي عقيدة أهل الحديث المأخوذة من الوحيين.
2- الأخذ بفهم سلفنا الصالح وتربيتهم بإحسان: نذكِّر بمنهجهم، ونأخذ
بأصولهم بعيداً عن النزعات الحزبية والمنطلقات الطائفية والإقليمية.
3- البحث عن الوسائل الصحيحة التي تخدم عملنا وتصل منهجنا بأساليب
تعتمد العمق في التحليل والوضوح في الرؤية.
ونؤمن بأن (البيان) هي مجلة كل مسلم مهما كان لونه وجنسه وموقعه، ولا
ندعي أنها صوت المسلمين الوحيد، ولا نزدري الأصوات الأخرى في الساحة
الدعوية؛ مع البعد عن التورط في أيِّ حوارات عقيمة أو مهاترات رخيصة، وفي
الوقت نفسه لا نضيق بأي عمل إسلامي صادق أو جهد مشكور.
ولا شك أن العمل الإسلامي لكي يؤدي رسالته ويوثر التأثير الإيجابي
المطلوب في إصلاح الأفراد والمجتمعات يلزمه زيادة على المنطلقات آنفة الذكر أن
يواكب المستجدات في عالم الاتصال، وأن يأخذ بكل السبل المتاحة لأداء دوره
بشكل مقبول. ومن هذا المنطلق عملت (أسرة التحرير) في (البيان) باذلة كل ما في
مستطاعها للاستفادة من المختصين في المجال الإعلامي لإدخال التطوير الذي ترونه
على صفحات هذا العدد، والذي حرصنا فيه أن يكون متناسباً ونهج المجلة مع
الحرص على مسائل مهمة رأينا أهميتها لتواكب هذه الخطوة ومنها:
1- استكتاب الأقلام المشهود لها بالخيرية والسابقة في الدعوة؛ ومن نافلة
القول أن نذكِّر قراءنا الكرام بأن المجلة حينما تفسح صفحاتها لمقالة جيدة أو مفيدة
أو دراسة ما؛ فإن هذا لا يعني بالضرورة تزكية مطلقة لكاتبها في كل الأحوال؛
فإنه ليس من مهام هذه المجلة أن تتحسس عن جوانب شخصيات كُتّابها؛ ولكنها
تهتم في الأساس بسلامة ما ينشر على قرائها وعدم مخالفته للمنطلقات المعتبرة.
2- الالتزام بالوسطية والبعد عن الغلو لقوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً] [البقرة: 143] .
3- الأخذ بالدليل الشرعي فيما نقدمه بعيداً عن انتحال المبطلين وتأويل
الجاهلين.
إن صلتنا مع قرائنا ولا سيما العلماء منهم والدعاة والمفكرون والكتاب
المتعاونون هذه الصلة قائمة ومستمرة، وسبق أن وضعنا استبياناً بشأن ما يراه
القارئ الكريم من إيجابيات وسلبيات ومقترحات للنهوض بهذه المجلة وجاءت
الإجابات من كافة أنحاء العالم الذي تصله (البيان) ومما زاد في فرحتنا وأثلج
صدورنا أن رأينا توالي وجهات النظر من القراء والقارئات، وسرّنا موقف قطاع
كبير منهم يُؤْثِرُ البيان لتميزها في المنهج وتنوعها في الطرح ومتابعتها لأحوال
المسلمين؛ وكانت الاقتراحات كثيرة جداً، منها:
الاستمرار في التنوع الثقافي القائم، وأهمية الاستفادة من مشاركة العلماء
والدعاة والمفكرين المعروفين على الساحة الإسلامية بالكتابة من قبلهم وإجراء
الحوارات معهم.
أهمية تحسين الإخراج الفني للمجلة والاستفادة من الرؤى الفنية للمختصين
ليجتمع كمال الشكل مع المضمون معاً.
أهمية إعطاء الأسرة بعامة والمرأة بخاصة مجالاً ودوراً أكبر، واهتماماً أعمق
عن طريق استكتاب الأقلام المختصة من الجنسين.
الدعوة لإعادة (البيان الصغير) لدوره الإيجابي في تربية النشء.
أهمية وضع مسابقة بهدف التوعية أولاً، وربط القارئ بالمجلة في الوقت
نفسه ثانياً.
أهمية إطلاع القراء على ما ينشر خارج العالم الإسلامي من مقالات وأبحاث
مترجمة ليطلع القارئ على ما يتناوله الإعلام الأجنبي في مواقفه من الإسلام
والمسلمين وكشفها.
زيادة الاهتمام بقضايا العالم الإسلامي وبخاصة الساخنة منها، وتسليط
الأضواء عليها بما يوضح حقائقها وخفاياها.
وهناك اقتراحات قد لا تتناسب واهتمام المجلة مثل الدعوة لوضع (كاريكاتير)
و (صفحة للتعارف) و (الجديد في الطب والعلوم) .. ونحن مع احتفائنا بآراء الإخوة
القراء قد وضعنا مرئياتهم نصب أعيننا، وأخذنا بما تيسر منها، ونعمل على
الاستفادة منها مستقبلاً؛ ونعتقد أن التواصل مع القارئ الكريم هدف كبير لكل
مطبوعة وبهذا التفاعل يكون الرقي والتطور نحو الأحسن والأفضل بإذن الله.
هذا هو العدد التطويري بين أيديكم بعد أن بذلنا فيه جهدنا، وما زلنا نواصل
الإلحاح على كثير من الكتاب والعلماء والدعاة للمشاركة بالرأي والكتابة والتوجيه؛
وأملنا كبير بتواصلهم إن شاء الله وسيرى القارئ الكريم في الأعداد القادمة المزيد
من الاستطلاعات والحوارات والندوات والمتابعات بما نعتقد أنه نقلة نوعية لقارئ
المجلة نحو مزيد من التوعية والتوجيه؛ ونحن على أمل بتواصل الجميع لما فيه
الخير والفائدة.(125/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
وجوب التثبت في نقل السنة
بقلم: جلال راغون
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد: فمن البدهيات الشرعية أن السنة النبوية هي المصدر الثاني من
مصادر التشريع الإسلامي. ومن المقرر عند العلماء المحققين أنه لا يجوز
الاستدلال بالحديث في أي مجال من المجالات إلا إذا كان مقبولاً عند المحدثين.
والملاحظ في عصرنا هذا قلة العناية بهذا الجانب بحيث تجد الكثيرين ينقلون
الحديث، ويستدلون به دون معرفة بمرتبته. وبهذا فقد يساهمون في نشر الكذب
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان الحديث موضوعاً؛ وهم لا يدرون
ذلك.
ونظراً لخطورة هذا المسلك أحببت أن أذكِّر بضرورة التثبت في نقل السنة
انطلاقاً من قوله: (من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) . تخريج الحديث:
ورد هذا الحديث عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم حسب ما وقفت عليه: سمرة ابن جندب، والمغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب.
أما حديث سمرة بن جندب:
فقد رواه عنه التابعي الجليل عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عيسى الكوفي،
وهو ثقة وقد أخرج له الجماعة [1] .
ورواه عنه الحكم بن عتبة، أبو محمد الكوفي، وهو تابعي ثقة ثَبْتٌ؛ إلا أنه
ربما دلس. وقد أخرج له الجماعة [2] .
ورواه عنه أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج، أبو بسطام الواسطي
ثم البصري؛ وقد خرج له الجماعة أيضاً [3] .
وقد ورد عنه هذا الحديث من طرق، منها:
1- رواية وكيع بن الجراح، أبو سفيان الكوفي، وهو ثقة حافظ أخرج له
الجماعة [4] .
ورواية وكيع أخرجها أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف في كتاب الأدب: ما
ذكر من علامة النفاق [5] .
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أخرجه كل من مسلم في مقدمة صحيح [6] وابن ماجه في مقدمة السنن [7] .
وأبو بكر بن أبي شيبة إمام من أئمة الحديث أخرج له الجماعة ما عدا
الترمذي [8] فهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين، وعنعنة الحكم بن عتيبة لا
تضر؛ لأنه قليل التدليس [9] وروى عنه شعبة وهو أعلم الناس وأحفظهم لحديث
الحكم [10] .
2- رواية أبي داود الطيالسي صاحب المسند، فقد رواه عن شعبة في المسند [11] .
3- رواية محمد بن جعفر، أبو عبد الله البصري المعروف بِغُنْدَر [12] ثقة
مجمع عليه [13] وروايته أخرجها ابن ماجه [14] من طريق أبي بكر محمد بن بشار البصري المعروف ببُنْدار [15] وهو ثقة مجمع عليه [16] . ...
4- رواية الحسن بن موسى الأشيب: أبو علي البغدادي وهو ثقة مجمع عليه [17] . وروايته أخرجها ابن ماجه [18] من طريق أبي عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن نمير الكوفي، ثقة مجمع عليه [19] . ... ...
فحديث سمرة بن جندب حديث صحيح أخرجه أبو داود الطيالسي في المسند،
وأبو بكر بن أبي شيبة في المصنف، ومسلم في مقدمة صحيحه، وابن ماجه في
سننه. وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في المسند [20] وابن حبان في صحيحه [21]
وابن عبد البر في مقدمة التمهيد [22] والطحاوي في مشكل الآثار [23] .
وأما حديث المغيرة بن شعبة:
فقد رواه عنه أبو نصر ميمون بن أبي شبيب الكوفي. وهو صدوق كثير
الإرسال. وقد أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم في مقدمة صحيحه،
وأصحاب السنن الأربعة [24] . ورواه عنه أبو يحيى حبيب بن أبي ثابت الكوفي.
تابعي أيضاً وهو ثقة كثير الإرسال والتدليس. أخرج له الجماعة [25] .
ورواه عنه كل من شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري أبو عبد الله الكوفي
أمير المؤمنين في الحديث مجمع عليه [26] .
وقد أخرج الإمام مسلم في مقدمة صحيحه [27] روايتهما معاً من طريق أبي
بكر بن أبي شيبة عن وكيع بن الجراح عنهما.
وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال الشيخين ما عدا ميمون بن أبي شبيب
فإنه صدوق كما تقدم. ولم يصرح حبيب بن أبي ثابت بالسماع في رواية مسلم،
وورد التخريج بذلك في رواية أبي داود الطيالسي في المسند [28] .
وأخرج رواية سفيان فقط من طريق وكيع بن الجراح الإمام أبو بكر بن أبي
شيبة في مصنفه [29] .
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه في سننه [30] .
وأخرج رواية سفيان فقط الإمام الترمذي في جامعه [31] من طريق بندار [32] ... عن عبد الرحمن ابن مهدي الإمام الحافظ المجمع عليه [33] ، عن سفيان
الثوري به.
فحديث المغيرة بن شعبة حديث حسن أخرجه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه،
والترمذي وابن ماجه في سننهما، وأبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو بكر بن أبي
شيبة في المصنف، وكذا الإمام الطحاوي في مشكل الآثار [34] .
وأما حديث علي بن أبي طالب:
فقد رواه عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي رواه أيضاً عن سمرة كما تقدم.
ورواه عنه الحكم بن عتيبة الذي تقدم في حديث سمرة.
ورواه عنه كل من الأعمش ومحمد بن أبي ليلى.
أما الأعمش فهو الحافظ أبو محمد سليمان بن مهران الكوفي، وهو ثقة مدلس، وقد أخرج له الجماعة [35] . وروايته عن الحكم بن عتيبة ضعيفة كثيرة الأوهام
كما ذكر ذلك الإمام علي بن المديني [36] .
ورواية الأعمش أخرجها ابن ماجه في سننه [37] من طريق عثمان بن أبي
شيبة [38] أبو الحسن الكوفي وهو ثقة حافظ أخرج له الجماعة ما عدا الترمذي،
وهو صاحب المسند والتفسير وأخو الحافظ أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة [39] .
عن محمد بن فضيل [40] أبي عبد الرحمن الكوفي صاحب التصانيف وهو
مجمع عليه، عن الأعمش به.
ومن طريق عثمان بن أبي شيبة به، أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في
زوائد المسند.
وقد صحح هذا الإسناد كل من الشيخ أحمد شاكر [41] رحمه الله والشيخ
شعيب الأرناؤوط [42] حفظه الله وهذا تساهل منهما؛ فإن هذا الإسناد له ثلاث
علل:
الأولى: عنعنة الأعمش وهو مدلس.
الثانية: ضعف رواية الأعمش عن الحكم.
الثالثة: مخالفة الأعمش لشعبة. فالأعمش رواه عن الحكم عن عبد الرحمن
ابن أبي ليلى عن علي بن أبي طالب، فجعله من مسند علي. وخالفه شعبة فرواه
عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة بن جندب، فجعله من مسند
سمرة. وشعبة كما ذكر العلماء أثبت في الحكم من الأعمش [43] وبذلك تقدم رواية
شعبة عن الأعمش. وقد ذكر الإمام الترمذي في جامعه [44] أن رواية شعبة أصح
عند المحدثين من رواية الأعمش.
وأما محمد بن أبي ليلى فهو أبو عبد الرحمن الكوفي الفقيه قاضي الكوفة،
وهو صدوق سيئ الحفظ جداً، وقد أخرج له الأربعة [45] .
وروايته عن الحكم بن عتيبة أخرجها ابن ماجه في سننه [46] من طريق أبي
بكر بن أبي شيبة عن علي بن هاشم، أبي الحسن الكوفي وهو صدوق يتشيع، وقد
أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم، والأربعة [47] عنه، به.
وهذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن أبي ليلى. ومتابعة محمد بن أبي ليلى
للأعمش قد ترفع روايتهما إلى مرتبة الحسن لغيره ولكنها شاذة لمخالفتها لرواية
شعبة وهي أصح.
وخلاصة القول: أن هذا الحديث ثبت عن سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة
ولم يثبت عن علي بن أبي طالب. وقد كان الإمام مسلم رحمه الله دقيقاً؛ حيث
أخرج في مقدمة صحيحه حديث سمرة والمغيرة ولم يخرج حديث علي. والله تعالى
أعلم.
فقه الحديث:
لكي نبين المقصود من هذا الحديث النبوي وما يستفاد منه، فلا بد من الإشارة
إلى ما يتعلق بأهم ألفاظه من حيث الرواية واللغة.
ففي معظم طرق هذا الحديث ورد بلفظ: (من حدث عني بحديث) . وفي
رواية أحمد عن سمرة، ورواية أبي داود الطيالسي عن سمرة وعن المغيرة (من
روى عني حديثاً) والمعنى واحد، والمقصود: من نسب حديثاً إلى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ونقله عنه بأي وجه من الأوجه.
وقوله: (يرى) يحتمل أن يكون بضم الياء، ويحتمل أن يكون بفتحها. ولم
أقف على ضبط هذه الكلمة من حيث الرواية حسب ما وقفت عليه من طرق هذا
الحديث. وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم [48] أنه
ضبطها بضم الياء وهو المشهور كما قال.
فإذا كانت بضم الياء فمعناها يَظُن. وفعل رأى إذا أريد به الظن فمضارعه
يكون ملازماً للمجهول. فلم يأت مضارع رأى بمعنى الظن إلا مجهولاً [49] أقول
مثلاً: أُرَى زيداً عالماً أي أظنه عالماً.
وإذا كانت بفتح الياء فمعناها علم. فالرؤية القلبية معناها العلم حقيقة وقد
تطلق على الظن مجازاً. وقد جمع الله بين المعنيين في قوله تعالى: [إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً] [المعارج: 6-7] أي يظنونه ونعلمه [50] .
وساذكر فيما بعد ما يستفاد من الحديث في كلتا الحالتين.
وقوله: (فهو أحد الكاذبين) يحتمل أن يكون بكسر الباء وفتح النون على
الجمع، ويحتمل أن يكون بفتح الباء وكسر النون على التثنية. والطرق التي وقفت
عليها لم يرد فيها تحديد ذلك رواية. وقد ذكر الإمام النووي [51] أنه ضبطه بكسر
الباء وفتح النون على الجمع، وقال بأن هذا هو المشهور. ونقل عن القاضي
عياض قوله: (الرواية فيه عندنا: الكاذبين، على الجمع) [52] .
وذكر النووي أيضاً [53] أن الإمام أبا نعيم الأصبهاني رواه في مستخرجه
على صحيح مسلم عن حديث سمرة بصيغة التثنية واحتج به على أن الراوي له
يشارك البادئ بهذا الكذب. ورواه أبو نعيم أيضاً من رواية المغيرة بالتثنية أو
الجمع على الشك [54] .
والمعنى متقارب ففي حالة التثنية فالمقصود أن الراوي يشارك الكاذب في
كذبه. وفي حالة الجمع فالمقصود أن الراوي أحد الكاذبين.
وفي رواية أبي داود الطيالسي عن سمرة وكذا المغيرة بن شعبة ورد الحديث
بلفظ (الكذابين) بصيغة المبالغة وهي أبلغ في الزجر.
بعد هذا البيان أذكر ما يستفاد من الحديث في ضوء ما تقدم ذكره.
فالكلمة المحورية في هذا الحديث هي قوله: (يرى) :
فإذا كانت بفتح الياء بمعنى يعلم فإن من ينسب حديثاً إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وهو يعلم أنه كذب ولا يبين ذلك فهو أحد الكاذبين على رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-. وقد أجمع العلماء على أنه لا تحل رواية الحديث
الموضوع إلا مع بيان وضعه. قال الحافظ ابن حجر: (واتفقوا على تحريم رواية
الموضوع إلا مقروناً ببيانه لقوله: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد
الكاذبين) [55] والكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكبائر؛
للحديث المتواتر: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) [56] وبالغ أبو
محمد الجويني والد إمام الحرمين فكفر متعمد الكذب على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-[57] وتبعه على ذلك طائفة من العلماء منهم الإمام ناصر الدين بن
المنير من أئمة المالكية [58] .
أما إذا كانت بضم الراء بمعنى يظن، فأصل الظن الشك مع ميل إلى أحد
معتقديه [59] والظن شرعاً نوعان [60] : محمود: وهو الذي يستند إلى دليل.
وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن كالقياس وخبر الواحد.
ومذموم: وهو الذي لا يستند إلى دليل وإنما هو مجرد أوهام. وهذا المقصود
في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ]
[الحجرات: 12] واعتبره النبي -صلى الله عليه وسلم- أكذب الحديث؛ فقد أخرج
الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب
الحديث) [61] قال القاضي عياض معلقاً على هذا الحديث: (وهذا الحديث حمله
المحققون على ظن مجرد عن الدليل ليس مبنياً على أصل ولا تحقيق نظر) [62] .
إذا علمنا هذا فإن من ينقل حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وينسبه إليه وهو يظن أنه كذب فإن كان هذا الظن يستند إلى دليل فيجب عليه أن
يبين ذلك، وإلا كان مساهماً في نشر الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما إذا كان هذا الظن لا يستند إلى دليل؛ ففي هذه الحالة لا يحل له أن ينسب
حديثاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يعلم مرتبته؛ إذ قد يكون
موضوعاً وهو لا يعلم. وقد ترجم ابن حبان لهذا الحديث بقوله: فصل ذكر إيجاب
دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى وهو غير عالم بصحته [63] . فتبين
لنا أن هذا الحديث النبوي الشريف يحذرنا من نسبة الحديث إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- دون تثبت؛ إذ إن من يفعل ذلك فقد يكون من الكاذبين على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يشعر.
فالواجب على المؤمن أن يتثبت في نقل السنة النبوية. ولنا في الصحابة
رضي الله عنهم الأسوة الحسنة. فهم أول من تثبّت في نقل السنة وقبولها. والأمثلة
على ذلك كثيرة [64] أقتصر على مثال واحد وهو الآتي:
أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من
مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم
يؤذن لي، فرجعت. فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت،
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له
فليرجع) . فقال: والله لتقيمن عليه بينة. أمنكم أحد سمعه من النبي -صلى الله
عليه وسلم-؟ فقال أُبَيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر
القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك. هذا
لفظ البخاري [65] . وورد هذا الحديث من رواية أبي موسى الأشعري أخرجها
مسلم وغيره؛ ومما جاء فيها قول عمر: (سبحان الله! إنما سمعت شيئاً فأحببت أن
أتثبت) [66] .
ومما جاء في رواية مالك في الموطأ من حديث أبي موسى قول عمر له: (أما
إني لم أتهمك؛ ولكني خشيت أن يتقوّل الناس على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-) [67] فهذا مظهر من مظاهر تثبت الصحابة في قبول السنة. وعلى هذا
النهج سار التابعون وأتباعهم مما أسهم في ظهور علم يعتبر مفخرة للأمة الإسلامية
ألا وهو علم أصول الحديث الذي يهتم بالأساس بنقد متن وإسناد الحديث لمعرفة ما
ثبت منه مما لم يثبت. فهو بحق ميزان السنة النبوية.
ولكي نتثبت في نقل السنة يتعين علينا دراسة هذا العلم وإتقانه وتطبيقه. بل
ما أحوجنا إلى هذا العلم لنقد الأخبار بصفة عامة، وبذلك نجنب أنفسنا مزالق متعددة.
وخير ما أختتم به هذه الدراسة المتواضعة نص هام للحافظ ابن حجر له صلة
بموضوعنا؛ حيث قال رحمه الله [68] : (سبيل من أراد أن يحتج بحديث من
السنن أو بحديث من المسانيد واحد؛ إذ جميع ذلك لم يشترط من جمعه الصحة ولا
الحسن خاصة. فهذا المحتج إن كان متأهلاً لمعرفة الصحيح من غيره فليس له أن
يحتج بحديث من السنن من غير أن ينظر في اتصال إسناده وحال رواته. كما أنه
ليس له أن يحتج بحديث من المسانيد حتى يحيط علماً بذلك. وإن كان غير متأهل
لدرك ذلك فسبيله أن ينظر في الحديث إن كان خرج في الصحيحين، أو صرح أحد
من الأئمة بصحته، فله أن يقلد في ذلك. وإن لم يجد أحداً صححه ولا حسنه فما له
أن يقدم على الاحتجاج به فيكون كحاطب ليل؛ فلعله يحتج بالباطل وهو لا يشعر) . فالتزام هذا السبيل خطوة للتثبت في نقل السنة. وفقنا الله لتحقيق ذلك وللعمل
بسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. آمين والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج6، ص 233، ط دار الكتب العلمية ببيروت، ط1: 1415هـ بتحقيق مصطفى عطا والتقريب، ج1، ص588، دار الكتب العلمية ببيروت، ط1: 1413هـ بتحقيق مصطفى عطا.
(2) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج2، ص 388 والتقريب، ج1، ص 232.
(3) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج11، ص 308 والتقريب، ج1، ص 418.
(4) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج2، ص 109 والتقريب، ج1، ص 283.
(5) ج6، ص 125.
(6) ج1، ص 62 بشرح النووي.
(7) ح35، ج1، ص 15 نسخة محمد فؤاد عبد الباقي ط، دار الفكر ببيروت بدون تاريخ.
(8) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج6، ص 5 والتقريب، ج1، ص 528.
(9) ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الثانية من المدلسين، انظر طبقات المدلسين، ص 47، ط دار الصحوة القاهرة، ط1: 1407هـ.
(10) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج4، ص 312.
(11) ص، 121.
(12) لقبه بذلك ابن جريج؛ لأنه كان يكثر التشغيب عليه، وأهل الحجاز يسمون المشغب غندراً (شرح النووي على مسلم، ج1، ص 65) .
(13) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج9، ص 81، والتقريب، ج2، ص 63.
(14) ح 39، ج 1، ص 15.
(15) هذا لقب معناه من في يده القانون وهو أصل ديوان الخراج، لقب بذلك لأنه كان بنداراً في الحديث جمع حديث بلده انظر بذل الإحسان للحويني، ج 1، ص 251.
(16) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج 9، ص58، والتقريب، ج2، ص 58.
(17) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج2، ص 292 والتقريب، ج1، ص 210.
(18) ج1، ص 15.
(19) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج9، ص 244 والتقريب، ج2، ص 100.
(20) ج 5، ص 19 20.
(21) ج1، ص 212 بتحقيق شعيب الأرناؤوط.
(22) ج1، ص 41، ط المغرب.
(23) ج1، ص 175.
(24) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج10، ص 347، والتقريب، ج2، ص 233.
(25) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج2، ص 164، والتقريب، ج1، ص 183.
(26) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج4، ص 101، والتقريب، ج1، ص 371.
(27) ج1، ص 62 بشرح النووي.
(28) ص 94 95.
(29) ج6، ص 125.
(30) ح 41، ج1، ص 15.
(31) كتاب العلم باب ما جاء فيمن روى حديثاً وهو يرى أنه كذب ح 2662 نسخة شاكر، ط دار الفكر، تحقيق كمال يوسف الحوت.
(32) هو محمد بن بشار تقدم، انظر، ص 2.
(33) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج6، ص 247، والتقريب، ج1، ص 592.
(34) ج1، ص 175.
(35) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج4، ص 201 والتقريب، ج1، ص 392.
(36) ابن رجب: شرح علل الترمذي، ص 347.
(37) ح 40، ج1، ص 15.
(38) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج7، ص 132، والتقريب، ج1، ص 664.
(39) ولهما أخ ثالث وهو القاسم إلا أنه ضعيف، وهو أكبرهم انظر الضعفاء للنسائي، ص 201.
(40) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج9، ص 349 والتقريب، ج2، ص 124 125.
(41) ج2، ص 234 بتحقيق شعيب الأرناؤوط.
(42) في تعليقه على المسند، ج2، ص 174.
(43) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج4، ص 312.
(44) ج5، ص 36 نسخة شاكر، ط دار الفكر بدون تاريخ.
(45) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج9، ص 260 والتقريب، ج2، ص 105.
(46) ح 38، ج1، ص 14.
(47) الحافظ ابن حجر: التهذيب، ج7، ص 331 والتقريب، ج1، ص 704.
(48) ج 8، ص 64.
(49) د أميل بديع يعقوب: موسوعة النحو والصرف والإعراب، ص 39، ط دار العلم للملايين، ط3.
(50) حاشية الملوي على المكودي، ص 60.
(51) شرح النووي على مسلم، ج1، ص 64.
(52) المرجع السابق.
(53) المرجع السابق.
(54) شرح النووي على مسلم، ج1، ص 65.
(55) نزهة النظر، ص 88 بتحقيق نور الدين عتر.
(56) استوعب طرقه وألفاظه السيوطي في (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص) ، ص 75- 119 تحقيق محمد الصباغ.
(57) نزهة النظر، ص 88.
(58) السيوطي: تحذير الخواص من أكاذيب القصاص، ص 125.
(59) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص 376.
(60) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج16، ص 332.
(61) محمد فؤاد عبد الباقي: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ج 3، ص 146، ط دار الحديث، القاهرة، ط1، 1414هـ.
(62) الحافظ ابن حجر: فتح الباري، ج10، ص 481، ط دار الفكر بدون تاريخ.
(63) الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان، ج1، ص 212، بتحقيق شعيب الأرناؤوط.
(64) يراجع على سبيل المثال أصول الحديث لعجاج الخطيب، ص 88، ط دار الفكر ببيروت،
ط 1409هـ.
(65) كتاب الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثاً، فتح الباري، ج11، ص 26.
(66) صحيح مسلم، ج3، ص1697، محمد فؤاد عبد الباقي.
(67) ابن الأثير: جامع الأصول، ج6، ص 583 بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط، ط دار الفكر،
ط2، 1403هـ.
(68) النكت على كتاب ابن الصلاح، ج1، ص 449 تحقيق ربيع بن هادي.(125/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
صلة علم التفسير بالعلوم الأخرى
(2من2)
بقلم: ميمون بن عبد السلام باريش
بين الكاتب في مقالة في العدد الماضي أهمية ترتيب العلوم وصلة علم التفسير
بالعلوم الإنسانية، ووضح تعريف علم التفسير، ثم أخذ يبين منابع علم التفسير،
فذكر منها: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاشتقاق، وعلوم
البلاغة. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة توضيح صلة علم التفسير بعلوم أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
علم القراءات: وهو علم يعتمده المفسر لمعرفة كيفية النطق بألفاظ القرآن
الكريم، ويترتب على ذلك ترجيح بعض المعاني القرآنية المحتملة على بعض،
وهذا ما يساعد أيضاً على ترجيح بعض الأحكام الفقهية على بعض؛ إذ كلما تعددت
القراءات، كلما تنوعت المعاني واختلفت الأحكام؛ فمثلاً من قرأ قوله تعالى: [..أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ... ] [النساء: 43] . فسر الآية بأنه تعالى يريد باللمس
الجماع؛ ومن قرأ بقراءة: [أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاءَ] . فسرها بأنه تعالى أراد مجرد
الجس باليد؛ ولكل من المعنيين حكمه الخاص.
علم أسباب النزول: وهو علم لا بد منه للوقوف على المعنى الدقيق لآيات الذكر الحكيم؛ إذ الجهل بأسباب النزول يوقع في اللبس والإبهام، وقد روي أن عثمان بن مظعون وعمرو بن معد يكرب استحلا الخمر محتجين بظاهر قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] [المائدة: 93] .
حتى علما سبب نزول هذه الآية، وأنها نزلت جواباً على سؤال بعضهم لرسول
الله- صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لما نزلت آية تحريم الخمر، قالوا: كيف
بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم. وقد أخبرنا الله تعالى أنها رجس؟ فأنزل الله
تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا ... ] الآية [1] .
وللإشارة، فإن العلم بسبب النزول يورث العالم به الفهم السديد لمدلول الآية؛
وذلك باستحضاره للإطار العام الذي نزلت فيه، بما في ذلك الحالات النفسية
للمخاطبين إبان النزول سواء تعلق الأمر بالسلم أو الحرب، والأمن أو الخوف،
وسعة الرزق أو الجوع، والنصر أو الهزيمة، والبداوة أو التحضر، والقوة أو
الضعف ... وما إلى ذلك من الحالات التي ترفع اللبس عما أبهم من القرآن الكريم،
وكل ما من شأنه أن يؤهل المفسر لأن (يكشف من صور التلاؤم بين النص القرآني
والبيئة التي نزلت فيها: البشرية والزمانية والحالات النفسية والفكرية والفردية
والجماعية ما لا يمكن استيفاؤه بنظرات عامات وعناصر محددات) [2] . ويدخل
في ذلك أيضاً معرفة قصص الأنبياء، وأحوال الأمم السالفة وما سادها من جحود
وطغيان وتنكر ونكبات.. كل ذلك يعد مفتاحاً ضرورياً لفهم النص القرآني فهما
سديداً يتلاءم مع مقامه المقدس، ولا بد في ذلك كله من مراعاة قاعدة: (العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) [3] .
علم الحديث رواية ودراية: قال تعالى: [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: 44] [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [النحل: 64] .
فهذان النصان القرآنيان صريحان في اعتبار السنة النبوية الشريفة من
المصادر التي يستمد منها المفسر مادته في تفسير الذكر الحكيم. وهذا ما يستوجب
ضرورة استقراء الأحاديث المتعلقة بهذا الشأن، والنظر في متونها نظر تفقه وتدبر
لاستخلاص ما كان منها مناسباً لتفسير آية من الآيات. ولا يكفي للمفسر أن يكون
ملماً بمظان الحديث النبوي الشريف، مطلعاً على الأبواب الحديثية الخاصة بالتفسير، ... بل لا بد له أكثر من ذلك أن يكون ممارساً للصناعة الحديثية متقناً بها دراية أيضاً، حتى يتسنى له عرض الروايات المفسرة للقرآن على منهج النقد الحديثي، لا
سيما وأن أغلب ما يروى في التفسير لا يعدو أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً. ولقد
أشار الإمام أحمد إلى هذه الحقيقة حيث قال: (ثلاث كتب لا أصل لها: المغازي،
والملاحم، والتفسير) [4] ، بمعنى أن الغالب من هذه الكتب ليس لها أسانيد صحاح
متصلة. وقد ذكر جلال الدين السيوطي أن أغلب الروايات في التفسير ضعيفة وأن
(الذي صح من ذلك قليل جداً بل أصل المرفوع منه في غالب القلة) [5] . ...
ولهذا لا بد للمفسر من علم واسع في مصطلح الحديث لتمييز الروايات
الصحيحة من السقيمة عن طريق دراسة المتن والسند معاً دراسة نقدية علمية. وهذا
الزاد المصطلحي لا يخص الأحاديث المرفوعة فحسب، بل يحتاج إليه المفسر في
التعامل مع مرويات الصحابة للتمييز فيها بين ما كان موقوفاً على الصحابي مما
استنبطه بمحض اجتهاده، وما كان موقوفاً عليه لكنه في حكم المرفوع مما لا مجال
للرأي فيه ... وكل ذلك يجعل عملية تفسير القرآن الكريم بالسنة النبوية الشريفة أو
بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم عملية تجمع بين الصحة والصواب.
علم أصول الدين: وهو علم لا محيد للمفسر عنه، لا سيما وأن القرآن
الكريم في جانب واسع منه قد عالج مسائل عقدية عدة بعضها يتعلق بالألوهية
وبعضها بالنبوات وبعضها الآخر بالمعاد والوعد والوعيد وذكر الصراط المستقيم..
وغير ذلك من المسائل العقدية التي تدخل في اختصاص علم الكلام، وإلا فكيف
يتسنى للمفسر أن يستدل عقلياً في معرض تفسيره لآية مكية على ذات الحق تبارك
وتعالى وصفاته وأفعاله، وعلى ما يجوز وما يجب وما يستحيل في حقه عز وجل؟
وكيف يتسنى له أن يحارب عقائد الشرك والجحود ومجادلة أصحابها لرد ضلالاتهم
وبدعهم ودحض شبههم إذا لم يكن عالماً بطرق الحجاج والبرهان العقلي.
علم أصول الفقه: وهو أيضاً مما يحتاج إليه المفسر لتفسير كتاب الله عز
وجل، إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام واستنباطها، ومن قواعده ما يدرك
به حدود الأشياء، والصيغ القرآنية إنشائية كانت أو خبرية، وبه تعرف صيغ
الأمر والنهي والمجمل والمبين والعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمحكم
والمتشابه، وهو بهذا يساعد على (ضبط قوانين الاستدلال بالآيات والأخبار على
أحكام الشريعة) [6] .
علم الفقه: وهو علم لا بد منه لتفسير كتاب الله بحيث إن في القرآن الكريم آيات خاصة بالسياسة المالية وما يدخل فيها من بيوع ومداينات وربويات ومواريث، وغنائم وصدقات.. وآيات خاصة بالمناكحات وما يتعلق بها من نكاح وطلاق ورجعة وعدة وخلع وصداق وإيلاء وظهار ولعان والديات والقصاص.. وفيه غير ما ذكر من الآيات المتعلقة بالعبادات أو بالمعاملات، وسواء أكانت مجملة أم مفصلة، فهي تحتاج في تفسيرها إلى عدة فقهية كافية، أصولاً وفروعاً ... وعن أهمية هذا العلم، وعلاقته بكتاب الله عز وجل، يبين الغزالي أن إدراك الكثير من الآيات القرآنية لا يحصل إلا لمن جال وصال في كتب الأحكام الشرعية المندرجة تحت علم الفقه وعنه يقول: (علم الحدود الموضوعة للاختصاص بالأموال والنساء للاستعانة على البقاء في النفس والنسل، وهذا العلم يتولاه الفقهاء، ويشرح الاختصاصات المالية بمحل الحداثة أعني: النساء رُبْع النكاح، ويشرح الزجر عن مفسدات هذه الاختصاصات ربع الجنايات، وهذا العلم تعم إليه الحاجة لتعلقه بصلاح الدنيا أولاً ثم بصلاح الآخرة، ولهذا تميز صاحب هذا العلم بمزيد الاشتهار والتوقير وتقديمه على غيره من الوعاظ والقصاص والمتكلمين) [7] .
العلوم المستحدثة: ويقصد بها كل العلوم التي أفرزها التطور الحضاري،
سواء في العالم الإسلامي أو في العوالم الأخرى، ومنها الطب والرياضيات
والطبيعيات وعلم الفلك وعلم التشريح وعلم الأجنة والعلوم الكيميائية والفزيائية وعلم
النفس، وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والعلوم الاقتصادية ... وغيرها من العلوم
المستحدثة.
وللأستاذ سيد قطب رحمه الله كلام نفيس في نقد التفسير العلمي لآيات القرآن
الكريم، ومن ذلك قوله رحمه الله في تفسير قوله تعالى [يَسْأََلُونَكَ عَنِ الأََهِلَّةِ]
[البقرة: 189] ، (وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن
يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه
جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!
إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها.. إن كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات
متجددة متغيرة أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة تحتوي أولاً على خطأ منهجي
أساسي كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم:
الأولى: الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن
والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم،
على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه..
والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة
تعالج بناء الإنسان بناء يتفق مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي..
والثالثة: هي التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي
نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر ...
وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن ...
ولكن هذا لا يعني ألا ننفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون
والحياة والإنسان في فهم القرآن ... ) [8] .
وأما هذه، فقد اختلف علماء الإسلام في إمكانية الاستعانة بها لتفسير كتاب الله
عز وجل. فانطلاقاً من مبدأ (أمية الشريعة) ، ذهب الإمام الشاطبي إلى رفض
المذهب القائل بتوظيف العلوم المستحدثة في التفسير حيث قال: (ما تقرر من أمية
الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبني عليه قواعد: منها أن
كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر
للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع
ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرفناه على ما تقدم لم
يصح، وإلا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف
بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا
المدعي سوى ما تقدم ( ... ) ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا
على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك
دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا) [9] وهذا نفسه ما قال
به بعض العلماء من السلف والخلف [10] .
وإذا كان الإمام الشاطبي ومن نحا نحوه قد مثلوا الاتجاه الرافض لتفسير
القرآن الكريم اعتماداً على ما توصلت إليه العلوم من نتائج وحقائق، فإن ثلة من
العلماء قد مثلوا الاتجاه المعاكس، ويأتي في مقدمتهم الغزالي الذي دعا دعوته
الشهيرة إلى توظيف الحقائق العلمية لفهم خطاب الله عز وجل، وذلك من منطلق
موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول؛ ومن منطلق أن (القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط
أنهارها وجداولها) [11] . وهو بهذا يؤكد أن أسرار الكثير من الآيات القرآنية لا
يحيط بها إلا من أحاط بالعلوم الحقة؛ إذ بعد أن ذكر جملة من العلوم مما كان سائداً
في عصره، أو مما اندثر، أو مما هو محتمل الحدوث، قال: (ثم هذه العلوم ما
عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن؛ فإن جميعها مغترفة من بحر
واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى وهو
بحر الأفعال مثلاً الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه
السلام: [وَإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] [الشعراء: 80] . وهذا الفعل الواحد لا
يعرفه إلا من عرف الطب بكماله؛ إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله
وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه. ومن أفعاله تبارك وتعالى تقرير معرفة الشمس
والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ]
[الرحمن: 5] ، وقال: [وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ]
[يونس: 5] ؛ وقال: [وَخَسَفَ القَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ] [القيامة: 8،
9] ، وقال: [يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ] [فاطر: 13] ؛
وقال: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] [يس: 38] .
ولا يعرف حقيقة سر الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار،
وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا من عرف هيئات تركيب السماوات والأرض.
ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ (6)
الَذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ] [الانفطار: 6، 8] إلا
من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهراً وباطناً، وعدد أنواعها وحكمتها
ومنافعها ( ... ) ولو ذهبت أفصِّل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال
لطال) [12] .
وللإشارة فإن ما ذهب إليه الغزالي من الاستعانة بنتائج العلوم لفهم الآيات
القرآنية ذات الصبغة العلمية، قد وجد من يؤكده ويشهد بصحته؛ إذ قال به علماء
جهابذة كبار يشهد لهم بالرسوخ في العلم وعلو الكعب فيه، فهذا جلال الدين
السيوطي يقول: (وأنا أقول قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواع
العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلا في القرآن الكريم ما يدل عليها، وفيه
عجائب المخلوقات وملكوت السماوات والأرض وما في الأفق الأعلى وما تحت
الثرى إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات) [13] .
انطلاقاً مما سبق ننتهي إلى القول:
إن الدعوة إلى توظيف نتائج العلوم لتفسير القرآن الكريم هي دعوة نابعة من
القرآن نفسه، من حيث إنه قد تحدث في معرض الاستدلال على وجود الله وقدرته
وعلمه.. عن مختلف مظاهر الكون سواء المتعلقة بالآفاق أم المتعلقة بالأنفس،
والتي يجملها قوله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [فصلت: 53] ، ولو جمعت
أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: [فِي الآفَاقِ وَفِي
أَنفُسِهِمْ] [14] .
إن الدعوة إلى توظيف الحقائق العلمية لتدبر كتاب الله؛ لا تعني أبداً أن
القرآن الكريم قد حوى جميع جزئيات علم من العلوم، بل إنه تضمن أصول هذه
العلوم وكلياتها، وترك أمر الجزئيات للعقول. لهذا نجد الغزالي يختم حديثه بقوله:
(فتفكر في القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين،
وجملة أوائله، وإنما التفكر فيه للتوصل من جملته إلى تفصيله، وهو البحر الذي لا
شاطئ له) [15] .
إن الدعوة إلى توظيف العلوم في التفسير لا تعني أبداً أن القرآن الكريم كتاب
علم تجريبي، بل تعني منطقياً أنه كتاب دعوة العباد إلى عبادة رب العباد عن علم
وتبصر، (لأن الأصل في القرآن أنه كتاب هداية وتشريع لا كتاب علم وتشريح،
وهذا لا يمنع أنه قد جاء في القرآن الكريم طائفة من الآيات الكريمة التي تعرضت
لموضوعات علمية تحدثت عنها حديث التعميم والإجمال لا حديث التفصيل
والتحليل) [16] .
إن المطلوب توظيفه من نتائج العلوم في التفسير: الحقائق العلمية الثابتة
المؤكدة، لا الاحتمالات الظنية الراجحة أو المرجوحة، المصطلح عليها بالنظريات
أو الفرضيات [17] .
وختاماً أقول:
إن علم التفسير يحتاج ليتقوى وليؤدي وظيفته التبليغية لا سيما في العصر
الراهن، عصر العلم والتكنولوجيا المتطورة، وعصر المذاهب الهدامة إلى مختلف
العلوم سواء أكانت من العلوم التراثية أم من العلوم المستحدثة، فهو في حاجة إليها
بقدر حاجته إلى الوحي، وهذا لا ينفي القصور عن هذه العلوم؛ إذ هي بدورها في
حاجة إلى علم التفسير للاستئناس به إثر البتّ في القضايا الكونية والإنسانية، أو
في تقعيد بعض القواعد العقلية.
__________
(1) السيوطي: أسباب النزول، ص 5، مراجعة وضبط وتعليق الشيخ محيي الدين محمد بعيون، دار ابن زيدون، بيروت، ط1.
(2) الشيخ عبد الرحمن الميداني: قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، ص 57.
(3) المرجع السابق، ص 203.
(4) ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير، ص 22، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
(5) الإتقان في علوم القرآن، 4/181.
(6) الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص 27، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1409هـ 1988م.
(7) المصدر السابق، ص 26.
(8) في ظلال القرآن، 1/181، 182، باختصار، وانظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر للدكتور فهد الرومي، 2/545 702.
(9) الموافقات في أصول الشريعة، 2/60، 61، شرحه وخرج أحاديثه فضيلة الشيخ عبد الله دراز، وضع تراجمه الأستاذ محمد عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ 1991م.
(10) انظر أدلة القائلين بالنفي في كتاب (التفسير والمفسرون) ، 2/491 للدكتور محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة، ط2، 1396هـ 1976م.
(11) جواهر القرآن، ص 10.
(12) المصدر السابق، ص 32، 33.
(13) الإتقان في علوم القرآن، 2/129، 130.
(14) الدكتور أحمد الشرباصي: قصة التفسير، ص 86، دار الجيل، بيروت، ط2، 1978م.
(15) جواهر القرآن، ص 33.
(16) الدكتور أحمد الشرباصي: قصة التفسير، ص 87.
(17) انظر التفصيل في كتاب قواعد التدبر الأمثل، ص 225، وما بعدها للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، القاعدة الثالثة عشرة حول (أن القرآن لا اختلاف فيه ولا تناقض، وأنه لا تناقض بينه وبين الحقائق العلمية الثابتة بالوسائل الإنسانية) .(125/18)
فتاوى أعلام الموقعين
تعارض المصالح والمفاسد
شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية
تعارض المصالح والمفاسد من المسائل المشكلة في هذا العصر، والتي تحتاج
إلى تحرير وتحقيق، وقد عُني شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الباب في مواضع متعددة
من كتبه، وذكر رحمه الله أنه كلما ازداد النقص في اتباع الأدلة الشرعية كلما
ازدادت مسائل التعارض بين المصالح والمفاسد، مما يؤول إلى الفتن بين
المسلمين [1] .
وفي هذا العدد نورد جواباً لابن تيمية رحمه الله عن سؤال مهم في هذا الباب
وما تضمنه من تحرير متين، وتحقيق دقيق:
السؤال:
عن رجل متول ولايات، ومقطع إقطاعات، وعليها من الكُلَف السلطانية ما
جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر
عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره وولى غيره، فإن الظلم لا يترك
منه شيئاً؛ بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه
فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه. فإنه يطلب منه
لتلك المصارف عوضها. وهو عاجز عن ذلك. لايمكنه ردها. فهل يجوز لمثل
هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه؟ وقد عرفت نيته، واجتهاده، وما رفعه من الظلم
بحسب إمكانه، أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع، وهو إذا رفع يده لا
يزول الظلم، بل يبقى ويزداد، فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل؟ أم لا؟ وإذا لم يكن عليه إثم: فهل يطالب على
ذلك؟ أم لا؟ وأي الأمرين خير له: أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله،
أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة. وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك
من المنفعة به، ورفع ما رفعه من الظلم: فهل الأوْلى له أن يوافق الرعية؟ أم
يرفع يده، والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده؟
فأجاب: رحمه الله:
الحمد لله. نعم إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته
خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء
غيره، كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في
ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل مِنْ تَرْكِهِ إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه.
وقد يكون ذلك عليه واجباً إذا لم يقم به غيره قادراً عليه. فنشر العدل بحسب
الإمكان، ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية يقوم كل إنسان بما يقدر
عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه
من رفع الظلم.
وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه رفعها لا يطلب بها، وإذا كانوا
هم ونوابهم يطلبون أموالاً لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف، وإذا لم
يدفع إليهم أعطوا تلك الإقطاعات والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده ولا يخففه كان
أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم خيراً للمسلمين من إقرارها كلها، ومن صرف هذه
إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره، ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل
والإحسان من غيره، والمقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه
من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم، فما لا يمكنه رفعه هو
محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم، يثاب، ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره،
ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهداً في العدل
والإحسان بحسب الإمكان.
وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك، وغير
هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم
إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم: فإنه محسن في ذلك غير مسيء، وذلك
مثل ما يعطي هؤلاء المكّاسين وغيرهم في الطرقات، والأشوال، والأموال التي
ائتمنوا؛ كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار، والوظائف المرتبة على ما
يباع ويشترى؛ فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد
ونحوها فلا بد أن يؤدي هذه الوظائف، فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف
لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم.
والذي ينهى عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قَبِلَ الناس منه تضاعف الظلم
والفساد عليهم، فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع الطرق، فإن لم
يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم. فمن قال لتلك القافلة: لا يحل لكم
أن تعطوا لهؤلاء شيئاً من الأموال التي معكم للناس، فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك
القليل الذي ينهى عن دفعه، ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير،
وسلبوا مع ذلك، فهذا مما لا يشير به عاقل، فضلاً أن تأتي به الشرائع، فإن الله
تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب
الإمكان.
فهذا المتولي المُقطَع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف، ويصرف إلى من
نسبه مستقراً على ولايته وإقطاعه ظلماً وشراً كثيراً عن المسلمين أعظم من ذلك،
ولا يمكنه دفعه إلا بذلك، إذا رفع يده تولى من يقره ولا ينقص منه شيئاً، هو مثاب
على ذلك، ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة.
وهذا بمنزلة وصي اليتيم، وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا
بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية، إذا رفع يده تولى من يجور ويريد الظلم،
فولايته جائزة، ولا إثم علهي فيما يدفعه؛ بل قد تجب عليه هذه الولاية.
وكذلك الجندي المُقْطَع الذي يخفف الوظائف عن بلاده، ولا يمكنه دفعها كلها؛ لأنه يُطلب منه خيل وسلاح ونفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك
الوظائف، وهذا مع هذا ينفع المسلمين في الجهاد، فإذا قيل له: لا يحل لك أن
تأخذ شيئاً من هذا؛ بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع، فتركه وأخذه من يريد الظلم،
ولا ينفع المسلمين: كان هذا القائل مخطئاً جاهلاً بحقائق الدين؛ بل بقاء الجند من
الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم، وأنفع للمسلمين، وأقرب للعدل على
إقطاعهم، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان، خير للمسلمين من أن يأخذ تلك
الإقطاعات من هو أقل نفعاً وأكثر ظلماً.
والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان يجزيه
الله على ما فعل من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ
ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك: كان ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه. والله
أعلم) [2] .
__________
(1) انظر مثلاً: مجموع الفتاوى 20/48-62.
(2) مجموع الفتاوى 30/356-360.(125/26)
دراسات تربوية
معالم في المنهج التربوي النبوي
بقلم: محمد عبد الله الدويش
تكامل الشخصية النبوية لنبينا محمد جعلت منه الحاكم والقائد والزوج والمعلم
والداعية والمربي. وما تتبع قارئ للقرآن الكريم والسيرة النبوية إلا وجد فيهما
عناصر التفوق ووسائل النجاح من خلال الكثير من المواقف التربوية الراقية التي
هي قدوة حسنة لكل راغب في الوصول إلى الحق. وعن طريق هذا المنهج ينشأ
الإنسان الصالح ومن ثم المجتمع الإسلامي الكريم.
ولقد استقرأ الكاتب نماذج وصوراً من المنهج التربوي النبوي، وقربها للقارئ
الكريم تذكيراً وترغيباً في هذا المنهج المتكامل الذي أرسل الله به نبيه للناس كافة
[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 107] .
وكم نحن بحاجة للوقوف أمام هذه المعالم النبوية وتمثلها في حياتنا وسلوكنا؛
إذ هي السر في تميز الرعيل الأول رضي الله عنهم أجمعين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان- ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
1- الصبر وطول النفس:
يسهل على الإنسان أن يتعامل مع الآلة الصماء، ويستطيع الباحث أن يصبر
ويكافح في دراسة هذه الظاهرة المادية أو تلك، لكن التعامل مع الإنسان له شأن
آخر وبعد آخر، ذلك أن الناس بشر لا يحكم تصرفاتهم ومواقفهم قانون مطرد؛
فتراه تارة هنا وتارة هناك، تارة يرضى وتارة يسخط.
ولهذا أجمع المختصون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة، وأن البحث فيها
تكتنفه صعوبات عدة؛ فكيف بالتعامل المباشر مع الإنسان والسعي لتقويمه وتوجيه
سلوكه؟
ومن يتأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى كيف صبر وعانى حتى
ربى هذا الجيل المبارك، وكم فترة من الزمن قضاها؟ وكم هي المواقف التي
واجهها؟ ومع ذلك صبر واحتسب، وكان طويل النفس بعيد النظر.
إن البشر مهما علا شأنهم فلن يصلوا إلى درجة العصمة، وهل هناك من هو
أعلى شأناً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا الأنبياء، فها هم يتنزل
فيهم في بدر: [لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]
[الأنفال: 68] وفي أحد: [مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ]
[آل عمران: 152] وفي حنين: [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] [التوبة: 25] .
وحين قسم غنائم حنين وجد بعض أصحابه في نفوسهم ما وجدوا.
وكان يخطب فجاءت عير فتبعها الناس فنزل فيهم قرآن يتلى.
ومع ذلك يبقى هذا الجيل وهذا المجتمع هو القمة، وهو المثل الأعلى للناس
في هذه الدنيا، ولن تكون هذه المواقف سبباً للحط من شأنهم ومكانتهم رضوان الله
عليهم. فكيف بمن دونهم؟ ! بل لا يسوغ أن يقارن بهم. إن ذلك يفرض على
المربي أن يكون طويل النفس صابراً عالي الهمة متفائلاً.
2- الخطاب الخاص:
وكما كان يوجه الخطاب لعامة أصحابه، فقد كان يعتني بالخطاب الخاص
لفئات خاصة من أصحابه.
فقد كان من هديه حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن، كما
روى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم
عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن
وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القُلْب والخُرْص [1] .
بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة؛ فعن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه أن النساء قلن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: غلبنا عليك
الرجال؛ فاجعل لنا يوماً من نفسك. فواعدهن يوماً، فلقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان مما قال: (ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من
النار) . فقالت امرأة: واثنين فقال: (واثنين) [2] .
وقد يكون الخصوص لقوم أو فئة دون غيرهم، كما فعل في غزوة حنين حين
دعا الأنصار، وأكد ألا يأتي غيرهم.
وكما بايع بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً.
3- المشاركة العملية:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة
التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول، الذي كان يعيش مع أصحابه
ويشاركهم أعمالهم وهمومهم.
فشاركهم في بناء المسجد: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن
عوف، فأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم أربع عشرة ليلة ... وجعلوا ينقلون
الصخر وهم يرتجزون والنبي -صلى الله عليه وسلم- معهم وهو يقول: اللهم لا
خير إلا خير الآخرة؛ فاغفر للأنصار والمهاجرة) [3] .
وشاركهم في حفر الخندق: فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:
كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل
التراب ويمر بنا فقال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار
والمهاجرة) [4] .
وكان يشاركهم في الفزع للصوت: فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة
فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد استبرأ الخبر
وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: (لم تراعوا لم
تراعوا) ثم قال: (وجدناه بحراً، أو قال: إنه لبحر) [5] .
وأما مشاركته لهم في الجهاد: فقد خرج في (19) غزوة [6] ، بل قال عن
نفسه: (ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية) [7] .
وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع
للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة.
إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع، لكن الدخول مع الناس
في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم ويعلي شأنه ويشعرون أنه واحد منهم، وذلك أيضاً يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس عكس أولئك الذين يدعون
للعمل ويربيهم بعيدٌ عنهم، وقد عبر عن هذا المعنى ذاك الحداء الذي كان يردده
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-:
لئن قعدنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل لذاك منا العمل المضلل
ثم إنه يشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين
المربي ومن يربيهم.
4- التربية بالأحداث:
من السهل أن نحدث الناس كثيراً عن معاني عدة، وأن ننظر لجوانب متعددة، لكن ذلك وإن أتّر فإن أثره يبقى باهتاً محدوداً.
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن، إلا
أن تربيته كانت تتم من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان
ويأتي التوجيه حينها.
يشكو إليه الحالَ أبو بكر رضي الله عنه وهما في الغار، فيقول: (ما ظنك
باثنين الله ثالثهما) .
ويسأله رجل في الميدان والمعركة: أرأيت إن قتلت؟ فيجيبه إجابة تصل إلى
شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال
رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: (في
الجنة [فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل) ] 8 [.
ويوصي علياً رضي الله عنه بالدعوة ويذكِّره بفضلها وذلك؟ حين بعثه داعياً
إلى الله مجاهداً في سبيله. عن سهيل بن سعد رضي الله عنه قال: قال النبي -
صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح على يديه يحب
الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويحبه الله ورسوله) فبات الناس ليلتهم أيهم
يعطى، فغدوا كلهم يرجوه، فقال: (أين علي؟) فقيل يشتكي عينيه، فبصق في
عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا،
فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما
يجب عليهم؛ فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر
النعم) ] 9 [.
أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم
ستترك أثرها؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرّجت الجيل الجاد العملي، الذي لم
يتربّ على مجرد التوجيه الجاف البارد، إنما كان يعيش العلم والعمل معاً.
5- الاختيار والاصطفاء:
إن التربية كما أنها موجهة لكل أفراد الأمة أجمع مهما كان شأنهم، والدين
خطاب للجميع صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً.
إلا أن الدعوة تحتاج لمن يحملها ولمن يقوم بأعبائها، إنها تحتاج لفئة خاصة
تُختار بعناية وتُربى بعناية.
لذا كان هذا الأمر بارزاً في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتربيته
لأصحابه؛ فثمة مواقف عدة في السيرة يتكرر فيها ذكر كبار أصحاب النبي -صلى
الله عليه وسلم- وعلى رأسهم أبو بكر وعمر؛ مما يوحي أن هؤلاء كانوا يتلقون
إعداداً وتربية أخص من غيرهم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن
الخطاب وقد وضع على سريره؛ إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي
يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيراً ما كنت
أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت
وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر) فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما؛
فالتفتّ فإذا هو علي بن أبي طالب] 10 [.
ومنها قصة أبي هريرة حين كان بواب النبي -صلى الله عليه وسلم-،
فاستأذن أبو بكر، فقال: (ائذن له وبشره بالجنة) ، ثم استأذن عمر، ثم عثمان] 11 [.
وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- صعد أُحُداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: (اثبت أُحُد؛ فإنما
عليك نبي -صلى الله عليه وسلم-، وصدِّيق، وشهيدان) ] 12 [.
ومثله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير فتحركت
الصخرة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اهدأ؛ فما عليك إلا نبي، أو
صدِّيق، أو شهيد) ] 13 [.
ويحكي لنا أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن توجيه خاص بهم،
حين بايعهم على أمر لم يعتد أن يبايع عليه سائر الناس.
عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: (ألا تبايعون رسول الله؟)
وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
ثم قال: (ألا تبايعون رسول الله؟) فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: (ألا
تبايعون رسول الله؟) قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله؛ فعلامَ
نبايعك؟ قال: (على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس،
وتطيعوا، وأسرّ كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئاً) فلقد رأيت بعض أولئك النفر
يسقط سوط أحدهم؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه] 14 [.
وهذا الأمر لم يكن عاماً لأصحابه رضوان الله عليهم، بل خاصاً بهؤلاء، فقد
كان بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه ويعطيهم، ولم يكن
يمنعهم أو ينهاهم عن السؤال.
ومن ذلك أنه كان لا يأذن بالسؤال لخاصة أصحابه كما يأذن لغيرهم، كما
روى نواس بن سمعان رضي الله عنه قال أقمت مع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، قال: فسألته عن البر والإثم، فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك
وكرهت أن يطلع عليه الناس) ] 15 [.
6- التدرج:
إن الجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع
والتعدد والتنوع ما يجعل تحصيلها في وقت وجهد أمر عسير ومتعذر.
لذا فإن التدرج كان معلماً مهماً من معالم التربية النبوية، فخوطب الناس
ابتداء بالاعتقاد والتوحيد، ثم أمروا بالفرائض، ثم سائر الأوامر.
وفي الجهاد أمروا بكف اليد، ثم بقتال من قاتلهم، ثم بقتال من يلونهم من
الكفار، ثم بقتال الناس كافة. ومثل ذلك التدرج في تحريم الخمر، وإباحة نكاح
المتعة ثم تحريمها، وهكذا. لكن يبقى جانب مهم مع الإيمان بمبدأ التدرج، ألا
وهو أن ما نص الشرع على تحريمه لا يجوز أن نبيحه للناس، وما نص على
وجوبه لا يجوز أن نسقطه عن الناس.
7- تربية القادة لا العبيد:
ثمة سؤال يفرض نفسه ويقفز إلى أذهاننا: هل نحن نعنى بتعليم الناس
وتهيئتهم ليكونوا أهل علم يستنبطون، ويبدعون ويبتكرون؟ أم أننا نربيهم على
تلقي أقوال أساتذتهم بالتسليم دون مراجعة، وربما دون فهم لمضمون القول؟
هل نرى أن من أهدافنا في التعليم أن نربي ملكة التفكير والإبداع لدى طلابنا، وأن نعوِّدهم على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وعلى الجمع بين ما
يبدو متعارضاً؟
وهل من أهدافنا تربيتهم على تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع التي يرونها؟
إن المتأمل في واقع التعليم الذي نقدمه لأبنائنا ليلحظ أننا كثيراً ما نستطرد في
السرد العلمي المجرد، ونشعر بارتياح أكثر حين نقدم للطالب كماً هائلاً من
المعلومات، وهو الآخر لِمَا غرسنا لديه يقيس مدى النجاح والإنجاز بقدر ما يسطره
مما يسمعه من أستاذه، والتقويم والامتحان إنما هو على أساس ما حفظه الطالب من
معلومات، واستطاع استدعاء ذلك وتذكره.
وشيء من ذلك حق ولا شك؛ لكن توجيه الجهد لهذا النوع وهذا النمط من
التعليم لا يعدو أن يخرج جيلاً يحفظ المسائل والمعارف ثم ينساها بعد ذلك أو يكون
ظلاً لأستاذه وشيخه.
ولأن تُعَلِّمَ الجائع صيد السمك خيرٌ من أن تعطيه ألف سمكة.
وقد مثل ذلك في الأعمال الدعوية التي نقوم بها؛ فهل نحن نربي الناس على
أن يكونوا عاملين مبدعين مشاركين، أم نربيهم على مجرد الاتباع والتقليد لما عليه
كبراؤهم؟
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت تربيته لأصحابه لوناً آخر؛ ففي
تربيته العلمية لهم خرّج علماء وفقهاء، ولم يكن يقتصر على مجرد إعطاء معلومات
مجردة.
وكشف الواقع آثار هذه التربية النبوية، ففي ميدان العلم واجهت أصحابه
قضايا طارئة مستجدة؛ لكنهم لم يقفوا أمامها حيارى، فاستثمروا نتاج التربية
العلمية التي تلقوها، ولذا اجتهدوا في اتخاذ السجون، وجمع القرآن، وجلد الشارب، والخراج وغيرها.
وفي ميدان الجهاد وإدارة الدولة والدعوة قضوا في شهور على المرتدين بعد
أن حسموا الموقف الشرعي من قضية الردة، ثم اتسعت الدولة ووطئت أقدام
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بلاد المشرق حتى وصلوا أذربيجان وما
وراء النهر، وبلاد المغرد حتى وصلوا غرب أفريقيا، ودفن منهم من دفن تحت
أسوار القسطنطينية.
ولو تربى أولئك على غير هذه التربية لما صنعوا ما صنعوا.
فأين المربون اليوم الذين يترك أحدهم الفراغ حين يمضي؟ أين هم من هذه
التربية النبوية؟
8- التوجيه الفردي والجماعي:
لقد كان يجمع بين التربية والتوجيه الفردي من خلال الخطاب الشخصي
المباشر، وبين التربية والتوجيه الجماعي.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (علمني رسول الله التشهد كفي بين كفيه) ] 16 [.
ومن ذلك ما ورد عن غير واحد من أصحابه: أوصاني رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-.
ومن ذلك حديث معاذ رضي الله عنه كنت رديف النبي -صلى الله عليه
وسلم- على حمار فقال: (يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد
على الله؟) ] 17 [.
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما زوّجه أبوه امرأة فكان
يتعاهدها، فتقول له: نِعْمَ الرجل لم يكشف لنا كنفاً ولم يطأ لنا فراشاً تشير إلى
اعتزاله فاشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعاه فكان معه الحوار الطويل
حول الصيام وختم القرآن وقيام الليل.
وقد كان هذا الحوار والتوجيه له شخصياً، بينما نجد أنه في مواقف أخر
يوجه توجيهاً عاماً، كما في خطبه ولقاءاته وتوجيهاته لعامة أصحابه؛ وهي أشهر
من أن تورد وتحصر.
وها هنا مأخذ مهم في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه إذ
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاه وناقشه منفرداً به، بينما نجده في موقف آخر
شبيه بهذا الموقف يعالج الأمر أمام الناس؛ فحين سأل طائفةٌ عن عبادته وتقالّوها
وقالوا ما قالوا صعد المنبر وخطب في الأمر.
عن أنس رضي الله عنه أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-
سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا
أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش؛
فحمد الله وأثنى عليه فقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام،
وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني) ] 18 [.
ومثل ذلك في قصة الذي قال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فعن أبي حميد
الساعدي رضي الله عنه قال استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد
يقال له ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي- صلى الله عليه وسلم- على المنبر قال سفيان أيضاً فصعد المنبر فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك، وهذا لي؛ فهلاّ جلس في
بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده! لا يأتي بشيء إلا جاء به
يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة
تيعر) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: (ألا هل بلغت) ثلاثاً] 19 [.
إذن فهناك جوانب يمكن أن تطرح وتناقش بصورة فردية، ولا يسوغ أن
تطرح بصفة عامة، ولو مع عدم الإشارة إلى صاحبها؛ لأنها ربما كانت مشكلات
فردية لا تعني غير صاحبها، بل قد يكون ضرر إشاعتها أكثر من نفعه.
وهناك جوانب يجب أن تطرح بوضوح وبصورة عامة وتعالج وتناقش أمام
الجميع.
والمربي الناجح هو الذي يضع كل شيء موضعه.
9- التعويد على المشاركة والعمل:
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء، فهو في المنزل يقدم
له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه، فساهم ذلك في
توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسؤولية.
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم
مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة
فلا بد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات، وقل مثل ذلك في كثير من
المحاضن التربوية.
إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلابد من تعويده من البداية على المشاركة
وتحمل المسؤولية: في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل
جهداً في التعلم.
وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن
يسعوا إلى أن يتجاوزوا في برامجهم التي يقدمونها القوالب الجاهزة، وأن يدركوا
أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسؤولية، وألا يبقوا أكلاّء على غيرهم في
كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها.
وحين نعود لسيرة المربي الأول فإننا نرى نماذج من رعاية هذا الجانب؛ فهو
يعلم الناس أن يتحملوا المسؤولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسؤولية لفرد أو
فردين؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار
بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء
على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأساً، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه،
فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه
ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم) ] 20 [.
ومن ذلك أيضاً استشارته لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو
غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك، وفي الاستشارة تعويد وتربية لهم،
وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسؤولية، ولو عاش أصحاب النبي -صلى
الله عليه وسلم- على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في
حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟
وعلى المستوى الفردي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يولي أصحابه
المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم، فأرسل رسله للملوك،
وبعث معاذاً إلى اليمن، وأمّر أبا بكر على الحج، بل كان يؤمِّر الشباب مع وجود
غيرهم، فأمّر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة] 21 [، ثم أمّره على جيش
يغزو الروم] 22 [، وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه] 23 [ ... وهكذا
فالسيرة تزخر بهذه المواقف.
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا بإذن
الله جيل جاد يحمل المسؤولية ويعطيها قدرها.
__________
(1) رواه البخاري، ح/1431، ومسلم، ح/884 القلب: الإسورة الخُرص: القرط.
(2) رواه البخاري، ح/101، ومسلم، ح/2633.
(3) رواه البخاري، ح/428، ومسلم، ح/ 524.
(4) رواه البخاري، ح/6414، ومسلم، ح/ 1804.
(5) رواه البخاري، ح/2908، ومسلم، ح/2307.
(6) رواه البخاري، ح/3949، ومسلم، ح/1254.
(7) رواه البخاري، ح/36، ومسلم، ح/1876.
(8) رواه البخاري، ح/4046.
(9) رواه البخاري، ح/3009.
(10) رواه البخاري، ح/3677، ومسلم، ح/2389.
(11) رواه البخاري، ح/3674، ومسلم، ح/2403.
(12) رواه البخاري، ح/ 3675.
(13) رواه مسلم، ح/2417.
(14) رواه مسلم، ح/1403.
(15) رواه مسلم، ح/2553.
(16) رواه البخاري، ح/831، ومسلم، ح/402.
(17) سبق تخريجه.
(18) رواه مسلم، ح/1401.
(19) رواه البخاري، ح/7174، ومسلم، ح/1832.
(20) رواه البخاري، ح/2686.
(21) رواه البخاري، ح/4269، ومسلم، ح/96.
(22) رواه مسلم، ح/468.
(23) رواه مسلم، ح/468.(125/30)
مراجعات في السيرة والتاريخ
الثبات على المبدأ ورفض المساومة عليه
بقلم: د. محمد أمحزون
إن من أهم سمات التربية في المرحلة المكية الثبات على المبدأ، والصلابة
في الحق، وعدم التنازل، ورفض أي شكل من أشكال المفاوضات وأنصاف
الحلول في قضايا الدعوة.
لقد ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامداً أمام الإغراءات والعروض
ولم ينثن أو يتراجع أمام التحديات وأساليب التهديد والترهيب التي مارسها إزاءه
المشركون؛ فلم يساوم قط في دينه، وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة،
وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يُتَخَطّفُون ويُؤْذَوْنَ في الله أشد الإيذاء،
وهم صابرون محتسبون.
وقد اتخذت مساومة المشركين له في دعوته صوراً شتى، من المساومة على
الدعوة كلها بأساليب التهديد والترغيب كما جاء في كتب الحديث والسيرة إلى
المساومة على جانب منها للالتقاء معه في منتصف الطريق، كما قال تعالى:
[وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] [القلم: 9] .
أسلوب المشركين في المساومة على الدعوة بالترهيب:
لجأ المشركون في بادئ الأمر إلى أسلوب التهديد لثني صاحب الدعوة عن
المضي في طريقه المرسوم. ومن ذلك ما روي عن عقيل بن أبي طالب رضي الله
عنه قال: (جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا
ومسجدنا فانهه عنا، فقال: يا عقيل! انطلق فائتني بمحمد، فاستخرجته من كنس، أو قال خنس يقول: بيت صغير فجاء به في الظهيرة في شدة الحر.
فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم،
فانته عن أذاهم. فحلّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره إلى السماء فقال: (ترون هذه الشمس) ، قالوا: نعم، قال: (فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن
تشعلوا منه بشعلة) ، وفي رواية: (والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن
يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار) فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي
قط؛ فارجعوا راشدين) [1] .
وصورة أخرى كانت في إذاية قومه له بعد إذ أعياهم أمره، نقلها عبد الله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنهما وهو شاهد عيان، قال: (حضرتهم وقد اجتمع
أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ما
رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط؛ سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب
ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا. لقد صرنا على أمر عظيم؛ أو كما قالوا.
قال: فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل
يمشي حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مرّ بهم غمزوه ببعض
ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مرّ بهم الثالثة فغمزوه
بمثلها، فقال: (تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم
بالذبح) ، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ...
قال: فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان من الغد
اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم
منه، حتى إذا بدأكم بما تكرهوه تركتموه؛ فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي
تقول كذا وكذا كما كان يبلغهم عنه من عيب آلهته ودينهم قال: فيقول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: (نعم، أنا الذي أقول ذلك) ، قال: فلقد رأيت رجلاً منهم
بجمع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي:
أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت
قريشاً بلغت منه) [2] .
وقوله: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه، يعني ما رآه هو، وليس ما
رأى غيره؛ حيث أوذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من ذلك، كما
سبق ذكره.
أسلوب المشركين في المزاوجة بين الترهيب والترغيب:
وصورة أخرى للمساومة تجلت في التلميح بالتهديد والإغراء في آن واحد،
وذلك بتوعده، ثم إغرائه وعرض المناصب والمال والنساء عليه، فأبى عليهم.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (اجتمعت قريش للنبي -صلى
الله عليه وسلم- يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا
الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه، قالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، قالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة،
فقال: أما والله ما رأينا سخطة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتّتّ أمرنا، ... وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن
في قريش كاهناً، ما ينظر إلى مثل منيحة الحبلة بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف
حتى نتفانى.
أيها الرجل! إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى
قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشراً، (وفي
رواية ابن إسحاق: يا ابن أخي! إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً
جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفاً سوّدناك
علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا) .
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أفرغت) ؟ قال: نعم. قال فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [حم، تنزيل من الرحمن الرحيم] حتى بلغ
[فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود] فقال عتبة: حسبك،
ما عندك غير هذا قال: (لا) [3] .
استدراج صاحب الدعوة إلى أنصاف الحلول للتنازل عن بعض دعوته:
وحاول المشركون فتنة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن دينه ودعوته في
صور أخرى منها: استدراجه بإظهار الوفاق والاستجابة لما يدعوهم إليه إن هو
مس آلهتهم ولمّ بها [4] ، وفي رواية أخرى: طلبوا منه الإنظار لمدة سنة حتى
يهدي لآلهتهم ثم يسلموا بعد ذلك [5] .
فهمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقاربهم ويدانيهم في بعض ذلك،
لكن الله امتن عليه وعصمه من كيدهم، وثبته على ما أوحي إليه، ووقاه الركون
إليهم، ولو قليلاً، ووقاه عاقبة هذا الركون، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً،
وفقدان المعين والنصير، في قوله تعالى: [وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا
إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ
إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) 74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا
نَصِيراً] [الإسراء: 73 75] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله معصوماً، ولكن هذا
تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في أحكام الله تعالى وشرائعه [6] .
وصورة أخرى للمساومة فيما رواه الإمام الطبري بسنده إلى سعيد بن مينا
مولى البحتري قال: (لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب
وأمية بن خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا محمد! هلمّ فلنعبد ما
تعبد وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما
بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في
يديك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله عز وجل: [قُلْ
يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ] [الكافرون: 1] حتى انقضت السورة) [7] .
إن ما يستنتج من هذه الأساليب الماكرة المتنوعة أن محاولات الحكام أو الملأ
مع أصحاب الدعوات لا تكاد تهدأ أو تفتر؛ إذ يحاولون ترهيبهم وتهديدهم
لينصرفوا عن دعوتهم بالكلية، وإذا لم يفلحوا في هذا الجانب حاولوا إغراءهم
بشتى الوسائل لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها وليرضوا بالحلول
الوسط التي يغرونهم بها؛ فيطلبون منهم تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في
منتصف الطريق؛ لأن الحكام يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في جزء
فقدوا مقاومتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة سينتهي إلى
تسليم الصفقة كلها.
وجدير بالإشارة أن التسليم في جانب من جوانب الدعوة ولو ضئيلاً لكسب
الحكام إلى صفها هو هزيمة نفسية بالاعتماد على أصحاب السلطات في نصرة
الدعوة؛ والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في نصرة الحق [8] .
إن المفاصلة التي أمر بها الله جلّ ذكره رسوله ضرورية اليوم للدعاة. إنه
ليس هناك ترقيع مناهج، ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق مع
أعداء الدين من الكفار والمنافقين والمرتدين؛ إنما هي الدعوة إلى التوحيد الخالص، إلى تطبيق الإسلام وشريعته في كل نواحي الحياة، وإلا فهي البراءة الكاملة،
والمفاصلة التامة، والحسم الصريح: [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] [الكافرون: 6] .
__________
(1) قال ابن حجر في المطالب العالية: رواه أبو يعلى وإسناده صحيح، والطبراني في الأوسط والكبير، رقم 4278، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، ج6، ص 15.
(2) رواه أحمد في المسند، ج2، ص 218 وقال الهيثمي في المجمع، رواه أحمد، وقد صرح ابن إسحاق بالسماح وبقية رجاله رجال الصحيح، ج6، ص 16، وأخرجه البخاري مختصراً في كتاب فضائل الصحابة، باب لو كنت متخذاً خليلاً، ج4، ص 197، 198، وقال الحافظ،: وصله البخاري من وجه آخر عن محمد بن عمرو، الفتح، ج7، ص 169.
(3) رواه ابن هشام في السيرة، ج1، ص 313، وصححه الشيخ الألباني في حاشية فقه السيرة للغزالي، ص 168، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ج14، ص 295، 296 والحاكم في المستدرك، وصححه ووافقه الذهبي، ج2، ص 253، 254، وأبو نعيم في الدلائل رقم 282،
ج1، ص 299.
(4) رواه الطبراني بسند حسن إلى قتادة، جامع البيان، ج9، ص130.
(5) المصدر نفسه، ج9، ص 130.
(6) القرطبي: أحكام القرآن، ج10، ص 300.
(7) رواه الطبري في تفسيره بسند حسن، ج15، ص 331.
(8) سيد قطب: في ظلال القرآن، ج4، ص 2245.(125/42)
تأملات دعوية
الحزبية وصفات الحزبيين
بقلم: د. إبراهيم بن محمد عباس
لقد انتشر مؤخراً الحديث عن (الحزبية) وحظي هذا المصطلح بمساحة واسعة
من ساحة الحوار والمناظرة، ومجالس الدروس العلمية والمحاضرة، ولم يفقد
نصيبه كحديث مقروء لمن لم يدركوا السماع، سواء في بعض الصحف أو
المصنفات الحديثة وبالأخص مصنفات (الردود) ، حتى أصبحت (الحزبية) تهمة
جاهزة تسدد لكل من لا يُرغب فيه من الدعاة.
ومن الغريب أن يلقى هذا الموضوع رواجاً غير عادي في صفوف بعض
الدعاة وطلبة العلم حتى أشغلهم عن كثير من مهمات الأمور وواجبات الدعوة إلى الله، وزُيِّن لبعضهم أن الانشغال بمن يسمونهم بالحزبيين على خلل واضح في تعريف
الحزبيين عندهم أهمّ من تعليم الناس أمور دينهم والقيام بواجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وكشف مخططات أعداء الدين كاليهود والنصارى والمنافقين
وأصحاب البدع الشركية المنتشرين في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وطغى آخرون
فوسعوا دائرة الحزبيين حتى شملت كل مسلم يسعى لدعوة أو خير أو إصلاح بين
الناس حتى انتهى بهم الأمر إلى السؤال عن كل من تحدثه نفسه بالقيام بأي عمل من
أعمال البر التي يتعدى نفعها للمسلمين: هل هو حزبي أو غير حزبي؟ ليتحدد
الموقف منه ومن مساعدته في هذا العمل أو ذاك، أو للتشكيك فيه وفي نواياه؛
فلعله حزبي! أو لتصنيفه في القائمة الجائرة، بغضِّ النظر عن الأسس المعتمدة في
مثل هذا التصنيف وعن عدالة قائله، وهل كان بالظن أم باليقين، وبغض النظر
عن نوعية العمل التطوعي الذي يقوم به أو حتى يفكر في القيام به.
ومع هذا فلا شك أن الحزبية داء عضال وسُمّ زعاف يسري في جسم الأمة
فيضعفه أو يقتله، وهي من أهم أسباب الفرقة في المجتمعات المتماسكة، وهي
صفة ممقوتة لا يرضاها إلا ذوو النفوس الضعيفة يسدون من خلالها عجزهم وقلة
حيلتهم، ويشبعون نزعة الغرور والأنانية في نفوسهم، فيحقرون غيرهم ويسخرون
منهم وإن كانوا أجلّ منهم قدراً وأكثر نفعاً.
أما شيمة ذوي النفوس الكبيرة والقلوب المستنيرة والهمم العالية فهي البحث
عن الحق دون حزبية أو تعصب.
ومتى اخترق هذا الداء الحزبية أسوار الدعوة المباركة وسرى بين أركانها
وانتشر في أوساط أصحابها فإن النتيجة حينئذٍ ضعف وفرقة، وخواء وهزيمة،
وجبن وخور أمام الباطل ودعاته والشيطان وحزبه؛ لأن الحزبية التي ينشأ عنها
تقليد أعمى وتبعية سلبية وهوى متبع تخل بالإخلاص وتقيد الانطلاق الصحيح
وتقضي على كثير من روافد الخير والنماء التي تصب في نهر الدعوة المتدفق
الفياض. وتحصر الجهود في إطار ضيق وتقضي على مبادئ قيمة في غاية
الأهمية، فتنكمش دائرة البر والإحسان، وينزوي محيط التعاون على البر والتقوى
فينمو ويترعرع كل ما هو عكس ذلك في ظل هذه التصورات الخاطئة.
ومما هو مشاهد اليوم في صفوف بعض الجماعات الإسلامية، في مناهجها،
وفي سلوك بعض أفرادها أعراض كثيرة وعلامات مرضية خطيرة تدل كلها على
ذلك الوباء الذي أضعف العمل الدعوي والتربوي مما أدى إلى ضياع جهود كبيرة
دون استثمار صحيح، في وقت أشد ما تكون فيه الدعوة الإسلامية بحاجة إلى
الجهود المتضافرة والقلوب المجتمعة تحت ظلال الحق والمنهج المستقيم.
لقد كان هذا الداء بادياً للعيان، فهب المخلصون ينقدون وينصحون، ما بين
عالم مجتهد وطالب علم باحث، وكانوا بين مقل ومكثر، ومخطئ ومصيب، وكل
يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد كانت ردة الفعل عند بعض الناس كبيرة جداً، فأخذت حيزاً أكبر مما
تستحق، فزيد في حجم الأخطاء، وتكلف البعض في تتبعها واستقصائها بما يشبه
التجسس وتتبع عورات المسلمين، حتى خرج الأمر من حد التغيير إلى التعيير،
ومن حد النصيحة إلى حد الفضيحة والتشهير، ونتج عن ذلك عداء شديد، وكثر
اللغط والتشويش، وظهر تيار جديد مضاد للحزبية والحزبيين وكان له بريق ولمعان، يتكئ على هذا الجدار تارة وعلى الآخر تارة أخرى، فانضم تحت لوائه شتات
من الناس، منهم صادق غيور، وجاهل مقلد، ومنافق ماكر يريد أن يتخذ من ذلك
سلماً يصعد به على أكتاف الصادقين الناصحين ليتربع على كرسي الشهرة وليصد
به عن سبيل الله وعن الدعوة الطيبة والعلم النافع، كل ذلك تحت مظلة النصح
والنصيحة والخوف على مستقبل الدعوة، وبدعوى أن هذه الوسائل أو تلك تؤدي
إلى الحزبية والانقسام وتشتيت الأمة وتضليل الناس، حتى انقسمت صفوف الدعاة
بهذا الأسلوب الماكر إلى اتجاهين متضادين متنافرين [كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] [الروم: 32] إلا من عصمه الله من الفتنة فعرف أن الحق قد يكون مع هذا
بعضه ومع هذا بعضه، وأن كل الناس لا يسلمون من الخطأ، وأن الخطأ مردود
على صاحبه، وأن الشخص لا يُؤاخذ بجريرة غيره، وأن الاختلاف في بعض
المسائل، في فهمها أو في تطبيقها لا يوجب عداءً ولا كراهية، ولا يلزم منه قطع
المؤاخاة ولا ترك النصرة، وأنه ليس من مسؤولية الدعاة تصنيف الأعيان وسوء
الظن بهم والطعن في نياتهم، فهو بهذا لا يتعصب لطائفة على طائفة لوقوع هذه في
أخطاء قد سلّم الله منها الأخرى، فقد يكون للطائفة الأخرى أخطاء لم يفطن لها،
ولم يوفق لإدراكها، وحسبه أن يقف من هذا الأمر موقفاً مشابهاً لموقف شيخ الإسلام
ابن قيم الجوزية رحمه الله إذ يقول: (على أن عادتنا في مسائل الدين كلها دقها
وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على
طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف
الحق لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت
عليه ونلقى الله به ولا قوة إلا بالله) اهـ[1] .
ومن هذا المنطلق أحببت أن أسهم بهذه المقالة في بيان صفات الحزبية، حتى
لا يغتر بعض من يكيل الذم والعتب للحزبيين ليل نهار وقد غرق في صفاتهم إلى
شحمة أذنيه دون علم، ونعوذ بالله من الجهل المركب.
والحزبية التي نعنيها هنا ليست مجرد التسمية أو الانتساب لحزب معين أو
جماعة معينة، فإن الله سبحانه وتعالى قد سمّى أولياءه حزباً، فقال عز من قائل:
[أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] [المجادلة: 22] .
فأثبت الاسم والمسمى؛ إذ إن الانتساب إلى حزب يدعو إلى الخير بما يوافق
شرع الله وسنة نبيه، أو طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وفق الضوابط
الشرعية يعدّ مطلباً شرعياً وباباً عظيماً من أبواب التعاون على البر والتقوى يتألف
من خلاله كيان أمة وصفها الله جل ذكره بالفلاح: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى
الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]
[آل عمران: 104] .
أما الحزبية المذمومة الممقوتة فهي التعصب لرأس الحزب أو لنظام الحزب
ومنهجه دون اعتبار لموافقته للشرع من عدمه، وهذا إنما يعرف بصفات معينة
ينبغي التنبيه عليها حتى لا يقع المسلم فريسة للحزبية من حيث لا يدري، ومن أهم
هذه الصفات:
1- تعظيم الأشخاص فوق القدر اللازم لهم حتى يصل هذا التعظيم والتقدير
في بعض الأحيان إلى حد العصمة.
وهذا خطر عظيم قد أخرج بعض الطوائف من دائرة أهل السنة والجماعة
وأبعدهم عن منهجها المستقيم، وفي مقدمتهم غلاة الرافضة الذين ادعوا العصمة
لأئمتهم، وأهم الأسباب التي تؤدي إلى هذا الأمر المبالغة في حب بعض أهل الخير
وأصحاب الفضل إلى قدر يخرج عن الحد الواجب لهم، واتخاذ هذا الأمر أصلاً
مهماً من أسس التربية التي يتربى عليها الأفراد، حيث يتردد اسم داعية أو عالم أو
شيخ معين في كل حديث وفي كل غدوة وروحة، وتذكر مآثره بمناسبة وبغير
مناسبة، وتحفظ أقواله بالنص، إضافة إلى أن يبالغ في فضائله ومحاسنه ومواقفه
إلى القدر الذي يخرج بهذا التقدير والتكريم عن الحد المشروع؛ وبذلك تعتبر كل
أقواله صحيحة، وكل مواقفه صائبة وسديدة، ولهذا تسوّغ أخطاؤه وتؤوّل هفواته،
وتُلتمس له المعاذير حتى فيما لا عذر له فيه، سواء كان هذا التسويغ بالمقاييس
العقلية وهوالغالب، أو باستخدام التسويغ الشرعي المبني على ليّ أعناق النصوص
أحياناً؛ وهو أدهى وأمر.
ولهذا فقد يؤدي ذلكم المسلك المتعسف إلى آثار بالغة الخطورة، كتقديس آراء
أولئك الرجال وتقديم أقوالهم على النصوص الشرعية: إما جهلاً بهذه النصوص
لعدم العناية الكافية بالعلوم الشرعية، وإما عن هوى تفسر به النصوص تفسيراً
خاطئاً يوافق مرادهم، وبهذا نجد أن معيار الحق عند هؤلاء هو أقوال الأشخاص.
والحق أن يُنقد الرجال بالحق.
إن هذه الصفة تؤدي إلى عطب كبير وخلل جلي في أساس التربية ودعائمها؛
حيث يتربى الأشخاص على التسليم المطلق عند سماع القول الصادر من (فلان)
ممن تردد اسمه وفضائله مرات ومرات في صواني أذنيه دون مناقشة أو نقد أو
طلب للدليل على هذا القول أو ذاك، خوفاً من أن يعترض فلا يبقى له قبول أو
تُساء به الظنون.
وهذا التعصب والتحزب ليس شرطاً أن يكون لطائفة، فقد يكون لشيخ معين،
وقد يكون لطريقة معينة، ولكن الجامع في كل أن تصل الموالاة والمعاداة في هذا
الشأن إلى الحد الذي يصنف فيه الناس إلى قسمين: معنا أو ضدنا.
فهؤلاء إن لم تحضر دروسهم، وتستشر قادتهم، وتسمع لرموزهم وتقرأ في
مصنفاتهم، وتوالي من يوالون، وتعادي من يعادون فلست منهم، وأولئك كذلك.
ولا غرابة في مثل هذا التصور أن تحرم حتى من حقوق المسلم على المسلم،
ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
2- ضيق الأفق، وأحادية النظرة وعدم احترام الرأي الآخر ولو كان سائغاً.
وهذا ينتج غالباً عن التربية القاصرة التي يتربى عليها الفرد من خلال التلقي عن
شخص معين من الناس والحجر عليه من أن يستفيد من الآخرين ويحاورهم
ويتدارس معهم، أو يتبادل معهم الأفكار في أي شأن من شؤون الحياة، ومثله
الاقتصار على كتب معينة أو شرائط محدودة لأسماء محصورة، فينشأ المتربي
بعقلية جامدة محاصرة، ذات إطار ضيق ومجال محدود ينظر للآخرين ومناهجهم
وأطروحاتهم من خلاله ويفسر أقوالهم وآراءهم بما يتوفر لديه من مقدمات سابقة
عنهم، دون النظر في النص ذاته.
وهذا النمط من التفكير على ما فيه من إجحاف بحق الآخرين فإنه وإن صح
لهم في بعض الأحيان وفي بعض الأمور إلا أن ضيق النظرة يجعل الحكم على كثير
من المسائل والمواقف قاصراً أو مشلولاً، وخصوصاً تلك التي يحتاج الحكم فيها
إلى متابعات وشواهد وقرائن قوية يترجح من خلالها أحد الأمرين المحتملين، أو
تلك التي يتوقف على الحكم فيها تبني موقف معين عام قد يضر بالمصلحة العامة إذا
كان الحكم غير مدروس دراسة وافية فيها تجرد وإخلاص.. ولذلك تراهم يفكرون
في بعض الأمور بواسطة العدسة المصغرة، ومن خلال الواقع القريب المحيط بهم
أو بطائفتهم، ثم يقدمون هذا التفكير أو ذاك كنتائج مسلّم بها وبصحتها وفعاليتها،
وينسون أن ما يطرحون في الساحة قد يقع في مرأى أو مسمع القريب والبعيد والبر
والفاجر، فلا يحسبون لذلك حساباً.
والبصيرة تجعل الطرح المؤصل القوي قابلاً للتعامل معه هنا وهناك واليوم
وغداً طالماً كانت ظروف وملابسات الرأي المطروح واحدة أو متشابهة. ولذلك نجد
شواهد كثيرة في تاريخ السلف الصالح رضي الله عنهم لكثير من المشكلات التي
تعيشها الأمة اليوم، وحلولاً مناسبة حتى على هذا المدى الزمني البعيد، ومن هنا
نحن في حاجة إلى إعادة دراسة تاريخنا دراسة متأنية بتأمل واعتبار.
وأعود فأقول: إن اتساع الأفق لا يعطي رحابة في التفكير والتصور وحسب، بل يؤدي إلى مرونة منضبطة في النتائج تلتئم معها كثير من المفاهيم المتشابهة،
وتتقارب من خلالها الآراء المتنافرة وتجتمع الكلمة، شريطة أن يتم كل ذلك داخل
إطار المنهج المحدد بالكتاب العظيم والسنة المشرفة والإجماع المعتبر والقياس
الصحيح.
أما ذلك النوع من التربية الذي يؤدي إلى الحَجْر الفكري، فإنه يتمخض غالباً
عن إمّعيّة ممقوتة وذوبان للشخصية؛ وبذلك ينشأ البنيان ضعيفاً، إذا اعتمد كلية
على مثل هذه البنيات الهشة.
3- صعوبة الاعتراف بالخطأ وصعوبة الرجوع عنه؛ فترى ذلك عند من
يدافع عن خطئه أو أخطاء حزبه حتى ولو تبينت له الحقيقة؛ لأن الرجوع إلى
الحق يعتبر عنده سبباً يهز ثقة الناس فيه وفي حزبه، وينسى هذا وأمثاله أن أي
شخص مهما يكن مستواه العلمي أو الفكري ضئيلاً أو محدوداً فإنه يستطيع أن يدافع
عن خطئه، وليس ذلك بمنقبة، ولكن المحمدة التي ترفع قدر الإنسان في أعين
الآخرين وتحفظ له احترامه عندهم وتسمو بها نفسه وتتهذب بها أخلاقه هي اعترافه
بخطئه ورجوعه عنه، وبعض الناس للأسف الشديد قد يعترف بخطئه، ومع ذلك
فإنه يصر عليه ولا يتراجع عنه. وبعض آخر يهون عليه أن يعترف بخطئه،
ولكن إن أخطأ شيخه الذي يتحزب له فإنه ينافح عن هذا الخطأ بكل ما يستطيع حتى
وإن كان واضحاً لا ينكره الشيخ نفسه، وهذا من عجائب ما تبتلى به بعض النفوس.
4- العُجب والاعتزاز بالنفس، وفي المقابل الازدراء والتحقير للآخرين
ولآرائهم بحق وبغير حق؛ إذ المعيار هو موافقتهم فحسب، وهذه أعظم الآفات التي
تنشأ عن قلة الورع غالباً وعن الجهل وقلة المعرفة أحياناً، ومن هذا الباب تجد أن
كل فكرة أو عمل من أعمال البر تلقى رواجاً وقبولاً بين الناس ينسبها الحزبيون
إليهم، وأنها من نتائجهم وآثارهم ومن بنات أفكارهم؛ فهم أول من أنشأ هذا العمل
أو ذاك، وأول من نبّه إلى ذلك الخطر، وأول من سبق الناس إلى الفضل، وقد
يكون ذلك وقد لا يكون، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولم يقتصر هذا الأسلوب على مجال معين من مجالات العمل، بل حتى
الأشخاص والمصنفات ينسبونها إليهم متى وافقتهم، ويتبرؤون منها إن لم تتفق معهم.
وإذا ترك الحبل على الغارب خصوصاً في ميدان الفكر، ظن صاحب كل
فكرة بأن هذا هو ما توصل إليه بحثه واجتهاده، وأصبحت الأمور فوضى لا مثيل
لها، أما إلزام الآخرين بهذه الاجتهادات الشخصية والرؤى الفردية كما هو الحال
عند بعض الحزبيين فهو يؤدي إلى فساد عظيم وخلل يستعصي علاجه؛ إذ إن
الاجتهاد دون إخلاص ودون التقيد بالضوابط الشرعية مهلكة للمرء ومفسدة لسلوكه.
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
وينشأ غالباً عن شدة العجب والغرور الحطّ من قدر الآخرين واحتقار آرائهم
وكأن موافقة الصواب وقفٌ عليهم، فكل طريقة غير طريقتهم باطلة، وكل فكرة لا
تولد في منابعهم فعقيمة، وكل خطة لا تترعرع في أحضانهم لا تعرف النجاح،
وليت الأمر يقف بهؤلاء عند هذا الحد بل تراهم يتلمسون للأبرياء الأخطاء
والنقائص، ويطرحون عليهم رداء الجهل والسذاجة، ويرمونهم بشتى التهم، وليس
وراء ذلك إلا خلافات ربما تكون يسيرة جداً أحياناً. والخلاف عند أصحاب العقول
السليمة والقلوب المؤمنة لا ينبغي أن يثير مثل هذه الأحقاد فيفسد الود ويضعف
البناء، ويفتح الثغرات لكل من هب ودب أن يطعن في الدعاة.
5- ظلم الآخرين: والظلم ظلمات يوم القيامة، فمرتعه وخيم ونهايته مرة
وآثاره سيئة، أما حين يقع هذا الظلم على إخوة في الدرب ينشدون الحق،
ويتلمسون طرق البر فإنه يكون أشد تأثيراً وأمرّ كيداً:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهند
ويتفاوت الحزبيون درجاتٍ في هذا المسلك إلا أنه قد لا يسلم أصحاب الحزبية
من بعض مظاهر هذا البلاء وآثاره القبيحة ونتائجه المستقذرة مثل الكيل بمكيالين؛
فالذي هو معهم أو على أقل تقدير: يوافقهم في مواقفهم وآرائهم له اعتبار ومكانة
ووزن معين عندهم. والآخر له حساب آخر، وقد يصل الأمر إلى أبعد من هذا
حينما يشتغل الحزبيون بإظهار مثالب الآخرين وتتبع عوراتهم والفرح بأخطائهم
ونشرها بين الناس وإذاعتها بين الخاصة والعامة، وعدم السعي لسترها أو تبيين
الحق لأصحابها وأداء النصح لهم بالأساليب المشروعة.
6- تقديم المصلحة الذاتية وجعلها هي الأساس ولو خالفت المصلحة الشرعية. وهذه سمة من سمات الحزبية الممقوتة نابعة عن الهوى وعدم الانقياد الخالص
التسليم المطلق لأوامر الشرع المطهر. والذي ينبغي للمسلم هو تقديم ما يستوجبه
النص الشرعي حتى ولو لم تظهر له الحكمة أو المصلحة في ذلك، فقد يكون هذا
بسبب قصور منه في العلم والمعرفة وقد يكون قصوراً في الحكمة والبصيرة؛ إذ
إنه قد ينظر إلى المصلحة القريبة العاجلة ويغفل عن مصلحة أهم منها وأعظم [وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
[الأحزاب: 36] . وقد ينظر إلى المصلحة المؤقتة ويغفل عن مصلحة كبرى عامة
أومستديمة.. وقد لا يدركون تلك المصالح المهمة؛ لأنهم لا يعرفونها بسبب التقوقع
الحاصل لهم من الدوران في فلك واحد. وعدم احتكاكهم بمخالفيهم، أو فتح باب
الحوار الهادئ معهم؛ وبذلك يحرمون من سماع أقوال الآخرين ومعرفة ما عندهم
من الأدلة والفوائد.
__________
(1) طريق الهجرتين، ص 366.(125/48)
تأملات دعوية
أدومه وإن قل أيضاً
عبد الله المسلم
حين يتمثل الدعاة إلى الله تبارك وتعالى معنى المداومة في دعوتهم، فإنه
يؤمل من هذا أن يولد نتائج عدة، منها:
1- حصول التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وهذا عبادة بحد ذاته
يؤجر عليه المسلم، ويحصل به بركة متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
2- أن العمل قد أعد له إعداداً جيداً، وأخذ نصيبه من الدراسة والمراجعة،
ولم يكن نتاج فكرة طائشة أو خاطرة لم تأخذ حقها من التفكير.
3- المداومة تعني التخصص الذي ينشأ عنه سد للثغرات التي قد لا تجد لها
مكاناً بين الأفكار الطارئة، وينشأ عنه التوزيع المعتدل للطاقات دون أن تسهم
التفاعلات الفكرية والثقافية في تفتيتها أو تركزها في ميدان دون آخر؛ ذلك أن
الحديث عن نجاح ميدان أو تجربة دعوية، أو الحديث عن أهمية ميدان ومجال
مهمل، أو عن خطورة تحد يواجه الأمة والدعوة، ربما أسهم ذلك كله في توجه
غير معتدل للطاقات نحو هذا الميدان مما ينشأ عنه إخلاء ثغور ومواقع لم تجد من
يجيد الاستنفار لها.
4- المداومة تعني عمق القناعة بالعمل، وأنه لم يكن ناشئاً نتيجة ظرف معين
أو خاطر سريع، وهو يعني أن تكون ردة الفعل تجاه الأحداث متزنة؛ إذ طالما
أسهم الانسياق وراء حدث أو ظاهرة مفاجئة في ردة فعل تولد تطرفاً وغلوّاً في
الاتجاه المقابل.
5- المداومة على العمل تقضي على ظاهرة استعجال قطف الثمرة والإجهاض
الفكري للمشروعات والبرامج الدعوية والتغيرية، وتلك إنما تنشأ عند أولئك الذين
لم يستقر لهم قرار في ميدان دعوي، أو لم يحققوا مبدأ المداومة في الدعوة.
6- المداومة تعني انضباط أهداف العمل؛ إذ هي نتاج تفكير هادئ،
وممارسة وتجارب طويلة، وعمل متخصص، وليست مجرد حماسة أو ردة فعل
تجاه انحراف أو موقف معين.
7- المداومة تعني التدرج في العمل، والسير فيه بخطوات هادئة ثابتة متزنة، تنظر إلى المستقبل بعين واسعة، وأفق رحب. أما أولئك الذين تحركهم العواطف
فلا يجيدون العمل المتدرج الهادئ، بل حين يقتنعون بأهميته وضرورته فلن يطيقوا
الاستمرار فيه.
8- المداومة تعني صعوبة وصول الوصوليين، أو حُدثاء العهد بالاهتمامات
الدعوية إلى مراكز الريادة والقيادة في العمل الإسلامي الذي أصبح يملك قدراً من
الاستمرار وثبات الأهداف، ويفرض على الطارئين أن ينموا بصورة طبيعية في
ميدان العمل، وإلا فلن يجدوا لهم مكاناً رحباً.
ولقد أسهم هذا الجانب في تصدّر بعض من ليس أهلاً للتصدر في ساحة العمل
الإسلامي ولدى جماهير الصحوة، سواء أكان حسن النية والطوية لكنه لم تنضج
خبرته وتجربته الدعوية، أو كان سيئ النية.
والعناية بمبدأ المداومة في العمل الدعوي وأهميته لا يعني:
أ - احتقار البرامج الطارئة والابتكارات السريعة، التي ربما استفادت منها
الدعوة دفعة جديدة، وفُتِحت فيها آفاق لم تكن قبل كذلك.
وكما أن العابد لربه الذي له هدي راتب من العمل حين تتاح له فرصة للخير
وتتجه نفسه نحو باب من أبواب العبادة فإنه يستثمر ذلك، فكذلك الداعي إلى الله
تبارك وتعالى، ينبغي ألا تحول عنايته بالعمل الدائم دون اغتنام الفرص، لكنْ
هناك فرق بين أن يكون ذلك هو الأصل وهو المسير للعمل، وبين أن يكون ميداناً
يستثمر حين يتاح.
ب - الجمود في الأعمال الدعوية والبرامج والوسائل؛ إذ التجديد والتطوير لا
يعني إلغاء الأصل، كما أن الاستمرار والمداومة لا تعني المحافظة على الرسوم
وتحوّل الوسائل إلى غايات.
ج - عدم التكيف مع الظروف والتعامل معها؛ إذ هي تفرض نوعاً من
المراجعة لأهداف العمل وبرامجه، بما يضمن لها استمرار البقاء والتأثير.
د - ترك توظيف الطاقات الأقل جدية والتي لا تجيد العمل الدائم، والبرامج
بعيدة المدى، بل على الدعاة إلى الله أن يعنوا بتوظيف كل طاقة خيرة، وألا
يحتقروا جهداً أو فرداً يمكن أن يقدم عملاً مثمراً، لكن يبقى أولئك في موقعهم
الطبيعي، ولا يتحول هذا إلى قاعدة ينطلق منها الجميع.(125/56)
نص شعري
مَعْذرةً.. هِندُ
شعر: طاهر العتباني
ما زلتِ تنسربين في أبياتي ... وتحاولينَ اللغوَ في كلماتي
ما زلتِ تتهمين كل قصائدي ... أنْ لستُ في عينيكِ أُبصر ذاتي
أنا يا التي كانت تزلزلني هَوىً ... وأصبّ في خلجاتها خلجاتي
ما عدت أحفل بالعيون وسِحْرها ... وأواصل العبراتِ بالعبراتِ
أنا يا التي كانت على أهدابها ... رفّت طيور العشق في لوحاتي
ما عادَ يغريني هفيف جدائلٍ ... ما عُدْتُ أعشق أجمل الملكاتِ
أنا يا التي أحرقت فيها أَحْرفي ... وَرَجَعْتُ مشنوقاً إلى كلماتي
قد صِرْتُ أنظر في ربوع ديارنا ... وأعتود مَخْنوقاً من المأساةِ
يا هِنْدُ يا عَهْدَ التغزل والهوى ... ومراتع الآمالِ والشهواتِ
إني صَحَوْتُ من الجنون وقد غدا ... شعري يضيق بهذه الصبواتِ
يا هِنْد ... لو تدرينَ ما يعتادني ... إذ أُبصر الأعداءَ في ربواتي
يا هند ... لو تدرينَ ما يجتاحني ... والقدس يهتف في حطامِ مَواتي
يا هِنْدُ ... لو تدرينَ ما بجوانحي ... مِنْ عَسْفِ هذا اليأسِ والظلماتِ
لعلمتِ أني إذ نسيتُ مشاعري ... وتركتُ ما سطرتُ من نغماتِ
ما كُنْتُ أصطنع الجفاءَ وإنما ... قلبي أسيرٌ في الضياع الآتي
هذى (سراييفو) تصيحُ ولا يدٌ ... تمتدّ، أو صَوْتٌ يجيب شَكاتي
قد صارت النكباتُ إن هي طوّقَتْ ... يتسابق الشعراءُ في النكباتِ
وتضافُ للمأساة بَعْضُ قصائد ... وتسوّدُ الصفحاتُ بالصفحاتِ
حتى إذا سَكَتَ الكلامُ وأقفلتْ ... قصص البطولةِ أُهْدِرَتْ كلماتي
يا هِنْدُ ... أول طعنةٍ نالتْ دمي ... ورأيت هَتْكَ العرضِ في أخواتي
يا هند.. كَيْفَ أهيمُ في غزلية ... واليأسُ يَصْلبُ أمتي وثباتي
وأرى على الأفق الجريح حمامةً ... قد حُوصِرَتْ بالريحِ والطعناتِ
يا هِندُ ... لا أبغيكِ بعض قصيدة ... لا، إنني أبغيكِ أُمّ أباةِ
يا هِنْدُ ... لا أبغيك قصة لَيْلة ... حمراءَ ... لا أبغيكِ بعضَ فُتاتِ
يا هِنْد ... لا أبغيكِ إلا مَوْطناً ... حراً يرفرفُ في حروف لُغاتي
يا هِنْدُ ... إن أصبحتِ في كلماتهم ... عطراً يفوحُ بحمأةِ الطرقاتِ
أوْ أَصْبَحَتْ عيناكِ بين حروفهم ... جدلاً يُضيع العمرَ في الغفلاتِ
أوْ أَصْبَحَتْ شفتاكِ في أعراسهم ... مجنونةً شبقيّة الهمساتِ
فأنا أريدكِ في جبين طهارتي ... نُوراً أصون حياته بحياتي
مَهْلاً رِفاق الشِعْر إن جوادكم ... ما زال يضرب في السرابِ العاتي
ما زال رغم ضياع وَجهي في الدجى ... مترنّحاً في غمرة السكراتِ
من ألفِ عامٍ، والقصائد ترتوي ... من كأسها الشبقية الرشفاتِ
من ألفِ عامٍ، والكلام على فمي ... يصحو على الطعناتِ بالطعناتِ
مِنْ ألفِ عامٍ، والمآذن شجوها ... ينسابُ مَذْبوحاً بسيف عداتي
والمسْجِدُ الأقصى، وهِنْدُ وأمها ... عربيّةً ذُبِحَتْ على العتباتِ
مهلاً رفاق الشعر إن قضيّتي ... مسكونةٌ بالنارِ واللفحاتِ
والشعر ليس غوايةً في قِصّة ... تجتاحها الجمراتُ بالجمراتِ
الشعر هِنْدٌ حين يحمي وَجْهها ... حرفٌ أبيّ الخطو والوثباتِ
الشعر هِنْدٌ حين يحميها دمٌ ... ينسابُ في الأضلاع كالعزماتِ
الشعر هِنْدٌ حين يقفز من دمي ... لحنُ وسَيفٌ واثق الضرباتِ
ليعيد هِنْداً من إسار ضياعها ... ويعيدها عُذْريّةَ القسماتِ
ويردّ عنها صَوْلة الذئب الذي ... يلهو بها في أَسْوأ القتلاتِ
يا هِنْد مَعْذرةً لأني شاعِرٌ ... لا أشتري الصفقاتِ بالكلماتِ
يا هِنْد معذرةً لأني شاعِرٌ ... لا أعْرِفُ التزييفَ في لوْحاتي
هذا دمي فوق الموائدِ كيف بي ... أَنْسى دِمائي ... أزدري مأساتي
هذه بلادي كيف أَنْسى وَجْهها؟ ... وأَهيمُ في أسطورةِ اللذّاتِ؟
هذي جراحي كيف أَنْسى وَهْجَهها ... وأُضيعُ عُمْري في هوى الشهواتِ
فأراكِ كأساً أو ضلالة تائه ... وأظل أَحْيا في خداعِ الذاتِ
هذى حروفي ... كيف أخنق دَمْعها ... وأنا الذي قد أَيْنَعَتْ زهراتي
هذي طريقي ... كيف أترك رَهْجها ... وأبيعُ خيلَ الفتح والصَهَواتِ
يا هِنْدُ مْعِذرةً حياتي بِعْتُها ... لله أَبْغي الفَوْزَ بالجَنّاتِ(125/58)
ملفات
أمواج الردة وصخرة الإيمان
الردة مفهومها وأسبابها في العقيدة والشريعة
بقلم: د. عبد العزيز آل عبد اللطيف
هناك ظاهرة، تتكرر كل حين، في شكل موجات عاتية من الهجوم على
ثوابت هذه الأمة وعقائدها ومناهجها، وهي موجات وهجمات تتحد في غاياتها،
وإن كانت تختلف في أساليبها وفي أدواتها ورموزها ... وهذا الملف، يعالج أخطر
وأسوأ مظاهر هذا الهجوم على الدين، وهو ما يجري على ألسنة أدعياء الثقافة
والعلم والأدب،...... ما هي حقيقتهم ... ما هي أقوالهم ... ما هو حكم الشريعة
في أمثالهم ... ثم ... موقف القوانين الوضعية من الردة.. وهل كانت سبباً في
الترويح لدعاوى الردة في بلاد المسلمين؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله تعالى أتم هذا الدين وجعل
شريعة الإسلام أكمل الشرائع وأحسنها، وقد جاء هذا الدين شاملاً لجميع جوانب
الحياة البشرية، ولذا أوجب الله تعالى على عباده الالتزام بجميع أحكام الإسلام فقال
سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] [البقرة: 208] ، كما جاء
هذا الدين موافقاً للفطرة السوية الصحيحة، فقال تعالى: [فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا] [الروم: 30] .
فإذا كان الشخص مسلماً لله تعالى، والتزم بدين الله تعالى، فأبى إلا أن ينسلخ
من الهدى، ويتلبس بالضلال، فيمرق من الحق والنور إلى الباطل والظلمات،
فهذا مرتد عن دين الإسلام، ناقض لعقد الإيمان، مصادم لما عليه هذا الكون الفسيح
من سماء وأرض ونبات وحيوان من الاستسلام لله تعالى والخضوع له، كما قال
سبحانه: [وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] [آل عمران: 83] .
وإذا كانت قوانين البشر مع ما فيها من القصور والتناقض والاضطراب
توجب مخالفتها عند أصحابها الجزاءات والعقوبات؛ فكيف بمناقضة شرع الله تعالى، ... والانسلاخ من حكمه وهو أفضل الأحكام على الإطلاق؟
لقد شرع الله تعالى إقامة الحدود، ومنها: حد الردة تحقيقاً لأهم مقاصد
الشريعة وهو حفظ الدين، وهو سبحانه الحكيم في شرعه، الرحيم بعباده، العليم
بما يصلح أحوال خلقه في معاشهم ومعادهم.
وفي الآونة الأخيرة تطاول شرذمة من السفهاء على هذه الشريعة، فوصفوا
الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد بأنها استبداد وقسوة ومناقضة للحرية الفكرية ... فقام من يرد ذلك الإفك بضعف وتأوّل متكلف وانهزامية ظاهرة (فلا الإسلامَ نصروا ولا (السفهاء) كسروا) .
ولذا سنعرض في هذه المقالة لمعنى الردة وشيء من أحكامها وتطبيقاتها،
وأسباب الوقوع فيها.
إذا رجعنا إلى كتب الفقه، فإننا نجد أن الفقهاء في كل مذهب من المذاهب
الأربعة يعقدون باباً مستقلاً للمرتد وأحكامه، ونورد فيما يلي أمثلة لتعريفاتهم للردة،
أعاذنا الله منها.
ففي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (ت587هـ) : (أما ركن الردة فهو إجراء
كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان؛ إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان)
[7/134] .
ويقول (الصاوي) المالكي (ت 1241هـ) في الشرح الصغير: (الردة كفر مسلم ...
بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر) [6/144] .
وجاء في مغني المحتاج للشربيني الشافعي (ت: 977هـ) : (الردة هي قطع
الإسلام بينة، أو فعل سواءً قاله استهزاء، أو عناداً، أو اعتقاداً) [4/133] .
ويقول البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: (المرتد شرعاً الذي يكفر بعد
إسلامه نطقاً أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً) [6/136] .
وبنظرة في هذه التعريفات نجد أن الردة رجوع عن الإيمان، فهي رجوع
باعتبار المعنى اللغوي؛ فالمرتد هو الراجع، ومن قوله تعالى: [وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] [المائدة: 21] .
والردة رجوع عن الإيمان باعتبار المعنى الشرعي؛ فالشرع يخصص اللغة
ويقيّدها، كما أن الردة هي قطع الإسلام؛ لأن الإسلام عقد وميثاق، وحبل الله
المتين، فإذا ارتد الشخص فقد نقض العقد وقطع هذا الحبل.
والردة، كما ذكر البهوتي قد تكون نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً، لكن
يسوغ أن ندرج الشك ضمن الاعتقاد باعتبار أن الشك يكون في عمل القلب المتعلق
بالاعتقاد.
ويمكن أن نخلص إلى أن الردة هي الرجوع عن الإسلام إما باعتقاد أو قول أو
فعل، ولا يخفى أن هذا التعريف يقابل تعريف الإيمان بأنه: اعتقاد بالجنان وقول
باللسان وعمل بالجوارح، وإذا قلنا: إن الإيمان قول وعمل كما في عبارات متقدمي
أئمة السلف أي قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فإن الردة
أيضاً قول وعمل، فقد تكون الردة قولاً قلبياً كتكذيب الله تعالى في خبره، أو اعتقاد
أن خالقاً مع االله عز وجل، وقد تكون عملاً قلبياً كبغض الله تعالى أو رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، أو الاتباع والاستكبار عن اتباع الرسول، وقد تكون الردة
قولاً باللسان كسبِّ الله تعالى أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو الاستهزاء بدين
الله تعالى، وقد تقع الردة بعمل ظاهر من أعمال الجوارح كالسجود للصنم، أو
إهانة المصحف.
فإذا تقرر مفهوم الردة، فإن من تلبّس بشيء من تلك (النواقض) يكون مرتداً
عن دين الإسلام، فيقتل بسيف الشرع؛ فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان، وكما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المقام: (فإنه لو لم يقتل ذلك [المرتد]
لكان الداخل في الدين يخرج منه؛ فقتله حفظ لأهل الدين وللدين؛ فإن ذلك يمنع من
النقص ويمنعهم من الخروج عنه) [الفتاوى 20/102] .
كما يقتل المرتد، فإنه لا يغسّل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين،
ولا يرث ولا يورث، بل يكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين كما هو مبسوط في
موضعه [1] .
ومما يدل على مشروعية قتل المرتد ما أخرجه البخاري رحمه الله أن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه أُتى بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله
عنهما فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا
تعذِّبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من بدّل دينه
فاقتلوه) .
والمراد من قول: (بدّل، دينه) أي بدل الإسلام بدين غيره؛ لأن الدين في
الحقيقة هو الإسلام، قال الله تعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ]
[آل عمران: 85] [2] .
وقد التزم الصحابة رضي الله عنهم بهذا الحكم، فعندما زار معاذ بن جبل أخاه
أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، وكانا أميرين في اليمن، فإذا رجل موثق،
فقال معاذ: ما هذا؟ قال أبو موسى: كان يهودياً، فأسلم ثم تهوّد، ثم قال: اجلس، فقال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات) ، فأمر به فقتل [3] .
وقد قام خلفاء وملوك الإسلام وفي عصور مختلفة بإقامة حكم الله تعالى في
المرتدين تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا يخفى موقف الصديق
رضي الله عنه تجاه المرتدين وقتاله لهم، وسار على ذلك بقية الخلفاء الراشدين
ومن تبعهم بإحسان.
واشتهر المهدي الخليفة العباسي بمتابعة الزنادقة المرتدين، حيث عيّن رجلاً
يتولى أمور الزنادقة.
يقول ابن كثير في حوادث سنة 167هـ: (وفيها تتبع المهدي جماعة من
الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه) [4] . ...
ويعدّ الحلاّج من أشهر الزنادقة الذين تمّ قتلهم بسيف الشرع دون استتابة،
يقول القاضي عياض: (وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية على قتل الحلاج
وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول، وقوله: (أنا الحق) مع تمسكه في الظاهر
بالشريعة، ولم يقبلوا توبته) [5] .
وقد بسط الحافظ ابن كثير الحديث عن أحوال الحلاج وصفة مقتله، فكان مما
قال: (قُدِّم (الحلاج) فضُرِبَ ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وحز رأسه،
وأحرقت جثته، وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف في تلك النواحي) [6] .
من أهم أخبار المرتدين وأكثرها عبرة ما سجله الحافط ابن كثير في حوادث
726هـ حيث (ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل الهيثي على كفره
واستهانته بآيات الله وصحبته الزنادقة.
قال البرازلي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر
والتلاعب بدين الإسلام والاستهانة بالنبوة والقرآن.
وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة، قال: (وكان هذا الرجل قد حفظ
التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، ثم إنه انسلخ من
ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام، وذلاً للزنادقة وأهل البدع، قال ابن كثير:
وقد شهدتُ قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضراً يومئذ، وقد أتاه وقرّعه
على ما كان يصدر عنه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك) [7] . ...
ومما يجدر ذكره في هذه المقالة أن الردة التي جاهر بها بعض زنادقة هذا
العصر ك (رشدي) ، و (نسرين) ، و (نصر أبو زيد) ، و (البغدادي) ، وأضرابهم
أشنع من ردة أسلافهم ك (الحلاج) ، و (الهيثي) ، والله المستعان.
وبالجملة فردة هؤلاء الزنادقة في القديم والحديث ليست مجرد ردة فحسب،
بل ضموا إلى هذه الردة المحاربة لله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-،
والإفراط في العداوة، والمبالغة في الطعن في دين الله تعالى، وصاحب هذه الردة
المغلظة لا يسقط عنه القتل وإن تاب بعد القدرة عليه.
كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: (إن الردة على قسمين: ردة مجردة، وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها، وكلتاهما قد قام الدليل
على وجوب قتل صاحبها؛ والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعمّ القسمين،
بل إنما تدل على القسم الأول (الردة المجردة) ، كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على
قبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني (الردة المغلظة) وقد قام الدليل على وجوب
قتل صاحبه، ولم يأت نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه، والقياس متعذر مع
وجود الفرق الجلي، فانقطع الإلحاق؛ والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في
كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه
القتل إذا تاب بعد القدرة عليه، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرّق بين أنواع
المرتدين ... ) [8] .
وأما أسباب الوقوع في الردة فثمة أسباب متعددة لذلك منها:
الجهل بدين الله تعالى، وضعف التمسك بالمعتقد الصحيح عند الكثير من
المسلمين، مما أوقفهم بسبب جهلهم وضعف تمسكهم في جملة من المكفرات، فعلى
الدعاة والعلماء أن يجتهدوا في إظهار العلم الشرعي وتبليغ دين الله تعالى، عبر
برامج مرتبة، فيرغب أهل الإسلام بالمعتقد الصحيح علماً وعملاً، ويحذرون من
الردة وأنواعها، عن طرق حِلَقِ التعليم، والخطب، والمؤلفات، والأشرطة،
ونحوها، فيعنى بالتوحيد تقريراً والتزاماً، كما يعنى بالتحذير من مظاهر الردة في
الزمن المعاصر، ومن ذلك أن تُدرّس رسالة (نواقض الإسلام) للشيخ (محمد بن عبد
الوهاب) رحمه الله فهي رسالة مع كونها في غاية الإيجاز إلا أنها بينت أهم
النواقض وأشملها، وأكثرها وقوعاً وانتشاراً [9] .
وأن يبيّن للناس الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد من: القتل، وعدم
الصلاة عليه، وحل ماله، وأن تذكر أخبار المرتدين وأحوالهم وما نالوه في الدنيا
من العقوبات والمثلات، وما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الدار الآخرة.
وأن يراعى أثناء التحذير من الردة وأنواعها عوارض الأهلية عند الحكم على
الأشخاص كالجهل والتأويل والخطأ والإكراه ونحوه، فربما وقع البعض في غلو
وإفراط بمجرد علمهم بجملة من أنواع الردة، فيحكمون بذلك على أشخاص بأعيانهم
دون التفات إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
ومن أسباب الوقوع في الردة: ظهور الإرجاء في هذه الأوقات.. فالإرجاء
في مسألة الإيمان يقرر عبر مؤسسات تعليمية شرعية منتشرة في بلاد المسلمين،
حيث تتبنى هذه المؤسسات المذهب الأشعري والماتريدي ذي النزعة الإرجائية
الغالية، كما ساعد على ظهور الإرجاء بعض المنهزمين إزاء واقعنا الحاضر المليء
بالانحرافات التي تناقض العقيدة السلفية، فقاموا (يبررون) ، و (يسوغون) ذلك
الانحراف بأنواع من التأويلات المتكلفة.
كما أن الغلو في التكفير والنزعة الخارجية في هذا العصر كان سبباً مساعداً
في ظهور الإرجاء كنتيجة عكسية، فجاء ذلك الإرجاء رد فعل لهذا الغلو.
فإذا كان الإيمان عند طوائف من المرجئة هو التصديق فحسب، ففي المقابل
سيكون الكفر أو الردة هو التكذيب فقط عند قوم آخرين، فلا يكون الشخص مرتداً
عن دين الله تعالى إلا إذا كان مكذباً جاحداً! فلا يكون الشخص عند هؤلاء المرجئة
مرتداً بمجرد استهزائه بالله تعالى أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو دينه، كما
لا يكون الشخص عندهم مرتداً بمجرد سجوده للصنم أو إهانة المصحف! ! .
فالردة عندهم مجرد اعتقاد، فلا تقع الردة بقول أو عمل!
وسبب ثالث وهو تنحية شرع الله عز وجل في كثير من بلاد المسلمين، فلا
يخفى أن وجود الولاية الشرعية سبب في حفظ الدين، فحيث تقام الحدود ومنها حد
الردة فلن يتطاول زنديق مارق على دين الله تعالى، لكن (من أمن العقوبة أساء
الأدب) ، والله حسبنا ونعم الوكيل، ورحم الله ابن العربي عندما وصف كفر غلاة
الشيعة بأنه (كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف) [10] .
وإليك أخي القارئ واقعة تاريخية توضح المراد كما دوّنها القاضي عياض في
كتابه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بقوله: (وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن
خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بـ (ابن أخي عَجَب) ، وكان خرج يوماً،
فأخذه المطر، فقال: بدأ الخرّاز يرش جلوده.
وكان بعض الفقهاء بها (أي بقرطبة) : (أبو زيد) ، و (عبد الأعلى بن وهب) ، و (ابن عيسى) ، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي
فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ (موسى بن زياد) ، فقال (ابن حبيب) : دمه
في عنقي، أيشتمُ رباً عبدناه، ولا ننصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له
بعابدين، وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها (عبد الرحمن بن الحكم) الأموي
(ت 282هـ) .
وكانت عجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه (أي من أحب الزوجات لعبد
الرحمن بن الحكم) ، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول
(ابن حبيب وصاحبه) ، وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين: (ابن حبيب
وأصبغ) ، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبّخ بقية الفقهاء
وسبّهم) [11] .
ولنا وقفة يسيرة مع هذه القصة فإن ابن أخي (عجب) تلفّظ بعبارة تقتضي
استخفافاً بالربّ جل جلاله، وقد لا تكون صريحة في ذلك، والرجل لم يجاهر بهذه
العبارة عبر إعلام مقروء أو منطوق أو نظم أو منثور، ومع ذلك فهذه العبارة في
غاية النشاز والاشمئزاز في المجتمع الإسلامي آنذاك، فلم يقبلها بالكلية، بل ونفر
منها تماماً، حتى بلغت أهل العلم في قرطبة فاجتمعوا لها فحكموا على صاحبها.
وأخيراً: تتجلى روعة الموقف عندما يمضي (عبد الرحمن بن الحكم الأموي)
حكم القتل على ابن أخي زوجته (عجب) وهي أحب زوجاته إليه، ولا يكتفي بذلك
بل ويعزل القاضي متهماً له بالمداهنة، ويعاتب بقية الفقهاء.
فانظر رعاك الله إلى أثر الولاية الشرعية في تحقيق حفظ الدين وإقامة حكم
الله تعالى على من تطاول على دين الله تعالى.
وأما السبب الرابع في ظهور الردة، فإن الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم
المعاصر، والاضطراب الهائل في المفاهيم، والتناقض المكشوف في المعتقدات
والمبادئ كان سبباً في الإخلال بالثوابت والتمرد على الدين والأخلاق.
لقد وجد الانسلاخ من الدين في العالم الغربي، والخروج عما استقر في الفطر
السليمة والعقول الصحيحة، وأجلب أعداء الله تعالى بخيلهم ورجلهم، وسعوا إلى
بث هذا الانحراف في بلاد المسلمين، وجاء أقوام من هذه الأمة يتتبعون مسلك
أولئك المنتكسين حذو القذة بالقذة.
فلا عجب أن تظهر الحداثة مثلاً في بلاد المسلمين، بعد أن ظهرت في العالم
الغربي، والتي تنادي برفض ما هو قديم وثابت، بما في ذلك المعتقدات والأخلاق
وتغيير المسلّمات والحقائق الثابتة، وضرورة التحول والتطور من الأفكار القديمة
إلى مواقف مستنيرة.
ثم (تؤصل) هذه الردة، وتقصّد، وتنشر في الآفاق عبر ملاحق أدبية،
ومجلات متخصصة، ومن خلال محاضرات وندوات ومهرجانات.
وأخيراً:
فإن تقصير بعض علماء أهل السنة ودعاتهم تجاه هذا الانحراف الخطير الردة
كان سبباً مساعداً في ظهوره واستفحاله، فلو أن علماء أهل السنة ودعاتهم قاموا
بواجب التبليغ لدين الله تعالى، وإظهار عقيدة التوحيد، والتحذير من الردة
وأنواعها ووسائلها لما كان لمظاهر الكفر أن تنتشر كما هي عليه الآن.
إن الناظر إلى إخواننا من أهل السنة يرى تواكلاً وكسلاً، وتحميلاً للتبعات
والمسؤوليات على الآخرين، وتلاوماً فيما بينهم، ألا فليجتهد الجميع في الحرص
على ما ينفع، وأن نسعى في تبليغ ديننا والتحذير مما يضاده ويناقضه (ورحم الله
من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من
الدعوة إلى هذا الدين) [12] .
__________
(1) تحدث الفقهاء رحمهم الله عن هذه المسائل تفصيلاً، وألفت رسائل علمية مطبوعة في أحكام المرتد، منها: أحكام الردة والمرتدين لجبر الفضيلات، وأحكام المرتد لنعمان السامرائي.
(2) انظر: فتح الباري، 13/272.
(3) أخرجه البخاري.
(4) البداية 10/149.
(5) الشفا، 2/1091.
(6) البداية والنهاية، 11/143.
(7) البداية،14/122.
(8) الصارم المسلول، 3/696.
(9) شرح هذه الرسالة غير واحد، ومن أفضل الشروح: (التبيان شرح نواقض الإسلام) للشيخ سليمان بن ناصر العلوان.
(10) العواصم من القواصم، ص 247.
(11) الشفا، 2/1093، 1094.
(12) هذه العبارة سطّرها العلامة عبد الرحمن السعدي، في القول السديد، ص 36.(125/60)
ملفات
أمواج الردة وصخرة الإيمان
أقلام الردة ... أما آن لها أن تنكسر؟
بقلم: عبد العزيز مصطفى
في العصور الحديثة، كان الغزو النابليوني لمصر، بداية لتغيرات عميقة في
المنطقة، هذا الغزو العسكري الذي كانت تؤزه دوافع الاستيلاء والاستعلاء معاً:
الاستيلاء على الخيرات والمقدرات، والاستعلاء بفرض الصبغة الأوروبية الفرنسية
خاصة نموذجاً بديلاً في الثقافة والحضارة، حيث لا يتم ذلك إلا بإحلال تقاليد
وقوانين، بل وعقائد أجنبية غربية محل الإسلامية منها.
وقد قطع الفرنسيون في سبيل الوصول لتلك الغاية أشواطاً طويلة، واستأنف
الإنجليز بعدهم المسيرة المشؤومة، بعد فرض سيطرتهم على مصر والعراق
وأطراف الجزيرة وبقاعاً أخرى في العالم الإسلامي.
وعبر صراعات طويلة استتب الأمر أخيراً للهيمنة الغربية.
وللحقيقة ... فإنه مما يسجل لأمة الإسلام أنها لم تستسلم لهذا الطغيان الغربي
بإطلاق، فقد قامت حركات إصلاحية مضادة، متأثرة بدعوات كلٍ من الشيخ محمد
بن عبد الوهاب في نجد، والصنعاني والشوكاني في اليمن، ثم الشيخ رشيد رضا
في مصر وقد تركت تلك الدعوات الإصلاحية أثراً عميقاً على الوعي الإسلامي،
ظل يتفاعل حتى بعد سيطرة النمط الغربي الذي فرّخ في بلاد المسلمين أجيالاً
مشوهة في الفكر والعقيدة، ما لبثت أن دُفعت إلى مكان الصدارة والتوجيه لجماهير
مشوشة. لقد نظر البعض إلى الغزو الأوروبي على أنه بداية للتحديث في المنطقة
العربية والإسلامية، وكان ممن ركزوا على هذا وحاولوا تسويغ هذا الغزو؛
نصارى العرب مثل (ألبرت حوراني) الذي أرخ للحداثة بالغزو النابليوني [1] .
لكن نصارى العرب، لم يكونوا مؤهلين بعد للقيام بدور أكبر، فكان لا بد من تجنيد
دعاة يتكلمون بلسان الغرب، ويلبسون مسوح الشرق!
ظهر تغريبيون كثيرون في ثوب إصلاحيين، من أمثال رفاعة الطهطاوي،
وعلي مبارك، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ورفيق العظم،
وغيرهم.. وكان هؤلاء بمثابة قنطرة عبر من فوقها حصان طروادة الكبير، الذي
امتلأ عن آخره بأصناف وأشكال من عصابة المثقفين الكبار ...
لم تكن الخطورة من هؤلاء كامنة فقط في تمييع شخصية الأمة والقضاء على
تميزها القيمي وطابعها السلوكي، وإنما تعدت ذلك إلى ما هو أخطر ... تعدته إلى
تفردها العقائدي القويم الذي حازت به ما حُرِمت منه قطعان الأمم ... فعقائد الإيمان
بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر، كانت الموضوع الرئيس
المستهدف، ومع هذا فإننا عندما نراجع قوائم المتهمين بالإجرام في حق الأمة
المسلمة؛ نجد أنهم تقاسموا فيما بينهم وظائف التخريب باسم الثقافة تارة والأدب
تارة والفن والإبداع والتحديث تارات أخرى، لكن تبقى الخطورة الأكبر في الفئة
التي ندبت نفسها لإفساد العقائد في أكبر شريحة مستطاعة من (الجماهير) ،
وخطورة هؤلاء تكمن في أنهم ركزوا على الأساس الذي إذا أصابه الخلل، فإن
البنيان كله يتداعى معه ويسقط. ولم تكن أدوات الهدم التي تزودوا بها مجرد مِعْول
ومسحاة وقدّوم، لكنها قلم وفرشاة وشاشات وقانون..! هذه تهدم، وذاك القانون
يحمي ولا يجرم!
والمجال هنا بطبيعة الحال لا يتسع لتعقب جهود المفسدين في مجالات الثقافة
والأدب والفن والتعليم، ولكننا نركز على ذلك الصنف الذي استهدف العقائد دون أن
يمتنع من المشاركة في ألوان الإفساد الأخرى ... ، وسنتخطى أيضاً من كانت آثاره
الفكرية مما يحتمل التأويلات والتفسيرات، لنشير إلى الذين أسفروا بوضوح
مفضوح عن كوامن قلوبهم ...
ونبدأ بمن أطلق عليهم لأهداف لا تخفى: (جيل الرواد) أولئك الآباء
الروحيون لأجيال تالية من (القواد) الذين مارسوا القوادة الفكرية لحساب أصحاب
المطامع الأجنبية.
من هؤلاء (الرواد) وفي مقدمتهم (طه حسين) ، ذلك الكاتب الذي أُطلق لقلمه
العنان، وأُعطيت له الوصاية للتحدث باسم الأدب العربي، فانطلق مدفوعاً بالغرور
والاستعلاء، يشوه وجه المنهج الإسلامي بإثارة الشبهات، وإذاعة أدب المجون،
وإشاعة النقائص، في الوقت الذي عمل فيه على إبراز (الكمالات) في الفكر الوثني
اليوناني القديم، والفكر الإلحادي الغربي الحديث، خاصة في جوانبه المادية
والإباحية.
وفي سبيل ذلك كان أول من نقل سموم (مرجليوت) في الشعر الجاهلي،
و (جولد سيهر) في العقيدة والشريعة، و (دور كايم) في التاريخ.. فأثبت في كل هذا
أنه جمع بين نقيضين في آن، وهما الأمانة والخيانة: فكان أميناً وفياً لأساتذته
المستشرقين من النصارى واليهود، خائناً لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-
وللمؤمنين ...
وهذه بعض آرائه ومعتقداته المبثوثة في كتبه ومقالاته:
الدين خرج من الأرض ولم ينزل من السماء.
الإسلام بقي على هامش حياة المسلمين الأولى.
القرآن قابل للنقد باعتباره كتاباً أدبياً.
السيرة النبوية فيها أساطير، وهي قابلة لإلصاق أساطير أخرى بها.
تعقب أخبار الزناة والفساق والفجرة ... أدب رفيع ...
القرن الثاني للهجرة (عصر التابعين وتابعيهم) كان عصر شك وفسوق.
الحضارة الغربية يجب أن تؤخذ بخيرها وشرها وحلوها ومرها.
وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أمر مشكوك فيه، ولو ذكروا في
التوراة والإنجيل والقرآن.. فلسنا ملزمين بتصديق أي منها!
الفتح الإسلامي لمصر، كان استعماراً كاستعمار الرومان والفرس والإنجلي [2] . ...
وهناك رأي شائع وانتشر يقول إن طه حسين قد تنصر بالفعل في فرنسا [3] .
ونأتي إلى رمز ثانٍ من (جيل الرواد) وهوالأديب المشهور عربياً وعالمياً ...
نجيب محفوظ، الحائز على جائز نوبل العالمية في (الأدب) ! إن انحرافات نجيب
محفوظ الاعتقادية أكثر من أن تحصر، وهو يتخفى وراء الرواية الأدبية، ليلقي
السهم تلو السهم مستهدفاً قلب العقيدة، وهو الإيمان بالله تعالى هذا الإله الذي رمز
له (نجيب) بأشخاص جعل منهم مثاراً للسخرية والتندر، ومبعثاً للهزء والكره ...
ففي روايته الشهيرة (أولاد حارتنا) التي اعتبرها أحب أعماله إليه، والتي من أجلها
كافأه اليهود بجائزة (نوبل) رمز إلى الإله سبحانه بشخص سماه (الجبلاوي) وأعطاه
في الرواية دور رجل متسلط على أهل حارة، وله أعوانه الذين يسيطر بهم على
سكان الحارة، وهؤلاء الأعوان هم الأنبياء الذين رمز لكل واحد منهم باسم وشخص!
وله رواية باسم (الطريق) رمز فيها إلى الله تعالى برجل اسمه (سيد الرحيمي)
متطاولاً على الذات الإلهية ولا شك أن عقائد الإيمان لا تساوي شيئاً عند نجيب
محفوظ، يدل على ذلك أن له رواية بعنوان (الثلاثية) صرّح فيها بأنه عبّر عن
آرائه الشخصية من خلال أحد أبطال القصة وهو (كمال عبد الجواد) ، حيث أورد
على لسانه كثيراً من قناعاته، ووصفه في القصة بقوله: (كان كأنما يود أن ينعي
إلى الناس عقيدته، لقد ثبتت عقيدته طوال عامين أمام عواصف الشك التي أرسلها
(المعري) و (الخيّام) حتى هوت عليها قبضة العلم الحديدية، فكانت القاضية) ثم قال
على لسانه: (على أنني لست كافراً ... لا زلت أؤمن بالله، أما الدين ... إن الدين
ذهب.. كما ذهب رأس الحسين) ! !
فهو هنا يفصح عن زندقة ظاهرة، عندما يزعم أن الإنسان يمكن أن يظل
مؤمناً بالله دون أن يؤمن بأي دين! !
فطريقته المفضلة في بث عقائده الباطلة، أن يوردها على ألسنة أبطال
رواياته وهذا ما حصل منه أيضاً في رواية له باسم (الحرافيش) ساق فيها على
لسان (عاشور الناجي) كل ما أراد من فلسفات وآراء منحرفة، وعندما يواجه نجيب
بجرائمه الفكرية الكفرية، يردد هذه العبارة (لا يوجد فهم نهائي للعمل الأدبي) ! إنها
إذن باطنية جديدة تتدثر بالأدب، وغواية تتستر بفن الرواية! ونترك صاحب
النجابة المزيفة (محفوظ) إلى صاحب الحكمة المدعاة (توفيق) صاحب القلم الساخر
واللسان اللاذع، إنه الرجل الذي أفنى عمره وهو ينحت بقلمه شروخاً عميقة في
أسس البنيان العقائدي للأمة، وانحرافات (توفيق الحكيم) خليط رديء من الزندقة
والخرافة، والمجون، والإلحاد الذي يصل إلى حد الجنون، والمثال الذي سأذكره
يدل على كل هذا.
للأديب المشهور قصة بعنوان (الشهيد) أتدري أيها القارئ من هو الشهيد؟! ... اسمع لقصته ... وسبح بحمد ربك الحليم على ظلم العباد، (أراد ( ... ) أن
يتوب، فذهب إلى شيخ الأزهر، وطلب منه أن يساعده على التوبة، فسخر منه
شيخ الأزهر وقال له: إن بقاءك على الكفر ضروري لبقاء الإسلام ... لكن (....) لم يستسلم لرفض شيخ الأزهر، فصعد إلى السماء وطلب من جبريل التوسط عند
ربه لقبول توبته، فرده جبريل بجواب آخر وحجج أخرى، فحواها أن بقاءك على
الكفر لابد منه؛ لأنه لا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة، ولا للأبيض بغير
الأسود، ولا للنور بغير الظلام بل ولا للخير بغير الشر ... فهنا ضجر (....)
وقال: هل تظل النقمة لاحقة بي، واللعنة لاصقة باسمي على الرغم مما يسكن
قلبي من حسن النية ونبل الطوية؟ فأجيب: نعم يجب أن تظل هكذا إلى آخر
الزمان) .
أرأيت أيها القارئ مَنْ هو حَسَن النية ونبيل الطوية و (الشهيد) في رأي
(الحكيم) ؟ ! ... إنه (إبليس) ، نعم إبليس، فهو يراه مظلوماً (فمن ظلمه؟) وقد
سُدت أبواب التوبة في وجهه مع رغبته فيها، ولهذا اعتبره شهيداً!
يختم توفيق لا وفقه الله روايته بعبارة قال فيها يصف حال إبليس بعد أن أغلق
باب التوبة في وجهه: (بكى إبليس.... وترك السماء مذعناً، وهبط إلى الأرض
مستسلماً، ولكن زفرة انطلقت من صدره وهو يخترق الفضاء، رددت صداها
النجوم والأجرام في عين الوقت ... كأنها اجتمعت كلها لتلفظ تلك الصرخة الدامية ... إني شهيد ... إني شهيد) !
إن هذا الكفر المنشور على الناس، لم يجد سطراً يجرمه في الشريعة الإنجلو
فرنسية التي تطبق قسراً في بلاد المسلمين، فإلى الله المشتكى! وعلى خطا توفيق
الضالة، سار كاتب آخر هو (صادق جلال العظم) ، حيث اعتبر في مقالة نشرت
بمجلة (حوار) اللبنانية [العدد الثاني السنة الرابعة] أن إبليس أول الموحدين! ! لماذا؟؟ لأنه كما قال أبى أن يسجد لغير الله! ! فعندما أمره الله أن يسجد لآدم رفض هذا الشرك (الذي وقعت فيه الملائكة طبعاً حسب زعمه) .
إن هؤلاء لا يؤمنون بأية قيمة أو مبدأ.. وحتى إبليس الذي يدافعون عنه،
هم لايؤمنون بوجوده! يقول صادق العظم هذا: (لا أريد أن أتكلم عن إبليس
باعتباره كائناً موجوداً حقيقياً، وإنما أريد دراسة شخصيته باعتبارها شخصية خيالية
أبدعتها مكة الإنسان الخرافية) !
لا شك أن هذا الفكر المتعفن، قد ترسب في مستنقع آسن يصلح لأن تتربى
فيه أشكال وأنواع من الكائنات أوالكوائن الصارخة في شذوذها وانحرافها، وبالفعل
فقد تخرجت أجيال تلو أجيال على تلك الشاكلة، لا تحسن إلا الإساءة، الإساءة إلى
الحق وإلى الحقيقة.. إلى العقيدة وإلى الشريعة ولئن كان أمثال طه ونجيب والحكيم
قد حاولوا التستر خلف معان باطنية ماكرة وإن كانت مفضوحة فإن الأجيال التي
تسلمت رايات الضلالة بعدهم، تبجحت بظاهرية كفرية وقحة، لا تستحيي من سب
الإله علانية وعلى الملأ المسموع والمقروء والمشاهد.
وسنضرب أمثلة من أقوالهم، تدل على أن أمواج الفتن التي يركبون متونها؛
لا تزال تضرب بعنف مجنون صخرة العقيدة والإيمان في أكثر بلاد المسلمين،
عرباً وعجماً، فلنستعرض نماذج منهم في البلاد المختلفة:
* من سوريا: ومثل السوء المضروب من هناك (أدونيس) .. أو (علي أحمد
سعيد) سابقاً، ذاك القزم المتعملق.. ماذا كان وأين أصبح؟ كان على النحلة
النصيرية المارقة، ثم تاب إلى إبليس منها، والتحق بالشيوعية، وتسمى بأحد
أصنام القنيقيين (أدونيس) وانضم في مقتبل عمره إلى الحزب القومي السوري وتأثر
برئيس الحزب النصراني (أنطوان سعادة) ثم مال إلى اليهودية بعد عمالة طويلة
للماسونية ... [ظلمات بعضها فوق بعض] ... ومع كل هذا تتسابق الصحافة
ودور النشر ووسائل الإعلام في عرض كفرياته التي يتفاخر بها على الشيطان. إن
دينه الآن: الإلحاد المطلق! نقول: هو حر في اختيار ما يشاء من أودية الهلاك،
ولكن الأمر المستغرب والسؤال المحير هو: لماذا الإصرار على رفع كل وضيع،
وتشريف كل رقيع في الصحافة والإعلام، في أكثر بلاد المسلمين؟ !
يقول (أدونيس) في ديوان له صدر عام 1961م: (لا الله أختار ... ولا
الشيطان.. كلاهما جدار، كلاهما يغلق لي عيني، هل أبدِّل الجدار بالجدار) !
تعالى الله عما يقول هذا الظالم علواً كبيراً.. ويقول في كتابه (زمن الشعر) ص
156: (من أعقد مشاكلنا مشكلة (الله) وما يتصل بها مباشرة في الطبيعة وما بعدها)
ويقول في ديوان: (أغاني مهيار) ص 49 (اعبر اعبر.. فوق الله والشيطان) ! أما
كتابه (مقدمة للشعر العربي) فيقول فيه في ص 131: (الله في التصور الإسلامي
التقليدي نقطة ثابتة متعالية، منفصلة عن الإنسان، لكن التصوف على مذهب
الحلاج طبعاً ذوّب ثبات الألوهية.. أزال الحاجز بينه وبين الإنسان، وبهذا المعنى
قتله أي الله وأعطى للإنسان طاقاته) ! ويقول ذلك الصنم في مجموعته الشعرية
(3/ 150) : (يا أرضننا يا زوجة الإله والطغاة) .. ويقول فيها (3/217- 218) : ... (الله يحل في كل شيء! خلق الضد ليدل على المضدود، حل في آدم وفي إبليس) ! !
ويقول فيها (1/121) : (أشعلنا الشمع وصلينا ... وتمنينا.. فرأينا الله بلا ميعاد) !
ويقول في تلك المجموعة أيضاً (1/304) : نمضي ولا نصغي لذاك الإله، تقنا إلى
رب جديد سواه) ! ! ! سبحان الحليم الصبور، على كل شيطان كفور.
* ومن العراق: الشاعر العراقي الشهير (عبد الوهاب البياتي) ... يقول في
ديوانه (كلمات لا تموت) ص 526: (الله في مدينتي يبيعه اليهود ... الله في
مدينتي مشرد طريد) ويقول: (في الأصقاع الوثنية، حيث الموسيقى والثورة
والحب وحيث الله.... فسيبقى صوتي قنديلاً في باب الله) .
ويقول هذا الجهول الكفور (2/562) لا تسافري.. لأن الله - منذ رحلت - دخل في نوبة بكاء عصيبة وأضرب عن الطعام!!
ويمعن في كفره وشططه فيقول: (3/637) (والله مات..وعادت الأنصاب)
ويعلن هذا الكفر بلا مداراة ولا حياء فيقول: يثير حزيران جنوني ونقمتي..فأغتال أوثاني وأبكي وأكفر ".
ويعبر بلسان فصيح عن قيمه وقيمة الكون عنده، فيقول مسارعاً في الكفر:
" يسقط: الشمس والنجوم والجبال والوديان والنهار والبحار والشيطان والله والإنسان....!!!
سبحان الله ... أهذا إنسان؟! أهذا حيوان ... أم شيطان ... ؟!
إن إبليس اللعين لم يسب الإله، وإنما أقسم بعزته..إن الشيطان الرجيم يقول:
[إني أخاف الله] [الأنفال: 48] !! [*] إننا نحار في تصنيف هذا النوع من المخلوقات التي على شاكلة نزار!
* ومن اليمن: يقول شاعرها، الشهير أيضاً (عبد العزيز المقالح) في قصيدة
له نشرتها مجلة العربي الكويتية: (صار الله رماداً، حتماً رعباً في كف الجلادين،
حقلاً ينبت سبحات وعمائم، بين الرب الأغنية والرب القادم من هوليود) .
* ومن فلسطين: نسمع من هذه البلاد المبتلاة عن رجال ونساء جعلوا من
سب الإله مادة أدبية تغذي روح (الكفاح) وتدفع إلى (المقاومة) .. مقاومة من؟
اليهود؟ ! ... أُشهد الله أنهم أكفر من اليهود يقول محمد درويش في قصيدته
(الموت في الغابة) :
نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير
ويقول: معين أو (لعين) بسيسو في قصيدته (إلى سائحة) :
(وآخر ديك قد صاح ذبحناه ... لم يبق سوى الله.. يعدو كغزال أخضر
تتبعه كل كلاب الصيد ... ويتبعه الكذب على فرس شهباء سنطارده.. سنصيد له
الله) ! ! ويقول في قصيدة (عيون مليكة المراكشية) : (والله كان يلعب الشطرنج كل
ليلة مع الملائكة) ! ! سبحان القدوس ... سبحان القدوس سبحانك لا تؤاخذنا بما فعل
السفهاء منا.
واستمع أيها القارئ للشاعرة الفلسطينية (فدوى طوقان) في قصيدتها (مرثاة
إلى نمر) تقول:
(وأنت يا من قيل عنه إنه هناك حانٍ لطيف بالعباد ...
أين أنت لا أراك ... دعني أراك.. كي أقول إنه هناك)
أما (سميح قاسم) فيقول: في قصيدته (أبطال الرواية) :
(والله نحن نشاؤه بغرورنا شيئاً له قسماتنا الشوهاء ترسمه أنانياتنا) ! ...
* أما في مصر، فحدث ولا حرج، فلقد ورّث (جيل الرواد) فيها أولاداً
وأحفاداً، ولا ندري عن أيهم نتحدث، هل نتحدث عن الهالك (فرج فودة) الذي
هاجم في كتاباته الإسلام صراحة وقال إنه يصلح عقيدة في القلب ولا يصلح نظاماً
للحياة؟ أم نتحدث عن المرتد بحكم القانون فضلاً عن الشريعة (نصر أبو زيد) الذي
اعتبر القرآن نصاً بشرياً لا قدسية له، والذي صرح بقناعته بأن العقيدة مؤسسة
على الأساطير الشائعة، وأن الشريعة صاغت نفسها مع حركة التاريخ، والذي
نادى بتحويل (الإلهيات) إلى إنسانيات، نصرٌ هذا الذي يتباكى عليه أمثاله من
الحاقدين على الإسلام قال في كتابه (نقد الخطاب الديني) : (ما زال الخطاب الديني
يتمسك بوجود القرآن في اللوح المحفوظ، اعتماداً على فهم حرفي للنص، وما زال
يتمسك بصورة الإله الملك بعرشه وكرسيه وصولجانه ومملكته وجنوده الملائكة،
وما زال يتمسك بالدرجة ذاتها من الحرفية عن الشياطين والجن والسجلات التي
تدون فيها الأعمال، والأخطر من ذلك تمسكه بصور العقاب والثواب وعذاب القبر
ونعيمه ومشاهد القيامة والسير على الصراط.. إلى آخر ذلك كله من تصورات
أسطورية) ! !
فماذا أبقى الأستاذ الجامعي للدين، وهو الذي أمضى سنوات عديدة يدرس
للأجيال ... حتى اكتشف أمره.. فجأة!
هل نتحدث بعد ذلك عن (حسن حنفي) الذي ينكر وجود الجنة والنار ووجود
إبليس، والذي يقول في كتابه (من العقيدة إلى الثورة) : إن الله هو الإنسان الكامل! !
أم نتحدث عن شيخ الضلالة (خليل عبد الكريم) صاحب كتاب (شدو الربابة
في أحوال الصحابة) الذي أطلق فيه لساناً سليطاً وفاجراً على شخص النبي -صلى
الله عليه وسلم- وآصحابه الكرام، واصفاً إياهم بكل معيبة ومنقصة، إنه أراد
حسب زعمه أن يكشف حقيقتهم أمام الناس، فألف ونشر ووزع ما تقيأه في كتبه
المطبوعة، لقد صور الصحابة على أنهم كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً
بالرذائل والهوس الجنسي! قال: وبئس ما قال: (ولم تكن التجاوزات مقصورة
على مشاهير الصحابة ممن ذكرنا بعضهم على سبيل المثال، بل تعدتهم إلى
صحابيات معروفات) ويتحدث هذا الأفاك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بكل
فظاظة وقلة أدب، فلا يذكره إلا باسمه المجرد (محمد) ! ، يقول في كتابه السيئ
(مجتمع يثرب) ص 54: (ونظراً لأن التقاء الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقس
يومي من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد دفعاً
للحرج أن يبيح لهم أن يسيروا في المسجد وهم جنب) ! ! والذي يظهر لنا أن
الباطنية الرافضية، تتحالف الآن مع أمثال خليل عبد الكريم لبناء برج جديد
للشيطان في مصر، يهدم الإسلام من خلال هدم رموزه وأعلامه، وعلى رأسهم
الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا كانت هذه أحوال من صحبوا رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وعاينوا المعجزات وعاصروا الوحي، فأي خير يبقى في هذه الأمة!! ويدل على ذلك أيضاً أن شخصاً آخر من خطباء الفتنة يدعى: (حسن شحاتة) احترف سب كبار الصحابة من فوق المنبر، ووصف في إحدى أشرطته المتداولة
في مصر: أخيراً ...
عثمان رضي الله عنه بأنه (بواب..) وقال عن عمر (قواد) واتهم عائشة في
عرضها كل هذا بألفاظ بذيئة سوقية لا بد لنا بعد استعراض ما ذكر من وقفات:
أولاً: هذا الكم المزعج والمقزز من النقولات الكفرية، إنما هو للرموز
البارزة جداً، وإلا فإن استقصاء ما يبث وما ينشر لـ (الأجيال الصاعدة) التي
تتلمذت على أيدي هؤلاء، لا يمكن حصرها.
ثانياً: هذه الألفاظ المنقولة لهؤلاء، لا تعني بالضرورة أن كل إنتاجهم الفكري
يحوي مثل هذه الجرأة والصراحة في الكفر.. ولكن يبقى أنها تشير بوضوح إلى
الخلفية العقدية والسلوكية التي يكتبون بوحي منها.
ثالثاً: قد يقول قائل: إن هذه الفئة من الأدباء والشعراء والروائيين والمفكرين، لا تخاطب إلا فئة محدودة من الناس، وتأثيرهم بالتالي سيكون محدوداً.. أقول:
إن هذه الشريحة التي يخاطبها هؤلاء، أكبر مما نتصور، فقصائد الشعر، قد
ترددها الملايين في شكل أغنية بعد تلحينها، ورواية الأدب، قد تشاهدها الجماهير
في مسرحية بعد تمثيلها ... وقصة الكاتب قد تتعايش معها الجموع الغفيرة أمام
الشاشات في شكل أفلام بعد إخراجها ... ثم إن كثيراً من هؤلاء المفسدين يتربعون
على قمم الأهرامات الإعلامية، ويتتبع الناس كلماتهم وأعمدتهم في الدوريات التي
تقذف المطابع بالملايين منها يومياً وأسبوعياً وشهرياً.
رابعاً: لا نظن أن الظواهر الشاذة جداً في المجتمعات الإسلامية مثل ظاهرة
الغلو في التكفير، أو ظاهرة الغلو في الكفر التي تفتك بالشباب، لا نظنها إلا نتيجة
مباشرة لاستمرار ذاك التيار الفاسد، فالذين يغالون في التكفير، قد أصابهم هؤلاء
بصدمة أفقدتهم الصواب، حتى لم يصدقوا أن مجتمعاً ينشر فيه مثل هذا الكفر.
يمكن أن يكون مسلماً
وكذلك فإن ظواهر الغلو في الكفر من الشباب، كظاهرة (عبدة الشيطان) التي
برزت في مصر ولبنان مؤخراً، ليست إلا تعبيراً عن التمرد العملي المطلق في
موازاة ومحاذاة التمرد الفكري المطلق.
خامساً: إذا كان هذا التيار الإلحادي لا يزال مستمراً حتى بعد سقوط
الشيوعية والماركسية فإن مسؤولية المواجهة لا بد أن تستمر وتتضاعف، ولكن
على عاتق من؟
إنها بطبيعة الحال موزعة ومتنوعة، ولكنها تتركز بشكل خاص على من
استرعاهم الله أمور المسلمين، فعليهم تقع بالأساس المسؤولية أمام الله تعالى وأمام
الناس.
وأخيراً:
همسة حارة وصادقة في أذن الذين نذروا أنفسهم لتعقب سقطات الدعاة وطلاب
العلم.. أقول لهم.. أما يستحق أعداء عقيدتنا وعقيدتكم هؤلاء، أن تفرغوا لهم
جزءاً من أوقاتكم الثمينة لكشفهم والتحذير منهم، أم لا زلتم مصرِّين على أن خطر
بعض الدعاة على الإسلام أشد من هؤلاء الأعداء، وأشد من خطر اليهود
والنصارى؟ !
نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً يعز فيه أهل الإيمان، وبذل فيه أهل
الكفر والعصيان.
__________
(1) العجب أن جمهوراً من المثقفين المشبوهين، ظلوا أوفياء لهذه الرؤية، حتى إنهم جعلوا من تاريخ دخول نابليون لمصر، مناسبة يحتفون فيها بالغزو الأوروبي، فالآن يجري الإعداد للاحتفال بمرور مئتي عام على غزو نابليون لمصر (! ! !) وسيستمر الاحتفال حتى عام 2000م، ولعل الله
أن ييسر الكتابة حول هذا الموضوع في مقال قادم.
(2) راجع تفاصيل هذه الانحرافات بالتوثيق في كتاب (محاكمة فكر طه حسين) للأستاذ أنور الجندي.
(3) ينقل هذا الأستاذ (جابر رزق) في كتابة (طه حسين الجريمة والإدانة) استناداً إلى مذكرات زوجة طه حسين النصرانية (سوزان) وشهادة سكرتير طه حسين لأربعين سنة (فريد شحاتة) وهو نصراني أيضاً! .
(*) راجع بتوسع نقولات لانحرافات نزار قباني في كتاب: (لماذا الجرأة على الله يا نزار؟) ل:
حفيظ بن عجيب آل حفيظ.(125/70)
ملفات
أمواج الردة وصخرة الإيمان
القوانين الوضعية هل لها دور في انتشار الردة؟
بقلم: د. علي مقبول
تمهيد:
يُعرّف القانون الجنائي الوضعي بأنه: (مجموعة القواعد التي تنظم سلطة
الدولة في توقيع العقاب على المجرمين، وهو يشمل قانون العقوبات وقانون أصول
المحاكمات الجزائية أو قانون الإجراءات الجنائية، ولكل من هذين تقنينٌ
مستقل) [1] .
والقانون الجنائي الإسلامي كان ولا يزال يتعرض لهجوم شديد من قِبَلِ أعداء
الإسلام؛ لأنه وللأسف الشديد لا يُدْرَس ولا يطبق منه في البلاد الإسلامية إلا الجزء
الخاص بالأحوال الشخصية، وما عدا ذلك فهو مهمل إهمالاً يكاد يكون تامّاً. وقد
أدى هذا الإهمال إلى نتيجة لا بد منها وهي أن المجتمعات الإسلامية أصبحت تجهل
أحكام هذا القسم جهلاً فاضحاً؛ بدليل أننا لم نسمع أنه قد أقيم حد الردة، أو الرجم،
أو نحو ذلك في هذه البلدان.
وكذلك رأينا كيف تعرض القانون الجنائي الإسلامي للتغيير، وكانت بدايةُ
ذلك على أيدي حكام الدولة التركية، فكان القانون الجنائي التركي أول قانون اقتُبس
من القوانين الفرنسية.
ثم بعد ذلك صدر قانون العقوبات المصري في مصر سنة 1875م، وطبق
في المحاكم المختلطة ثم المحاكم الأهلية سنة 1883م، وقد استمده واضعوه من
القانون الفرنسي.
وقد استحدث القانون الجنائي المصري عقوبات وإجراءات للتحقيق غريبة عن
البلاد، وأدى تطبيقه إلى شيء من الاضطراب، وازدادت الجرائم عقب تطبيقه
زيادة لفتت الأنظار.
وقد لاحق رجال القانونِ قانونَ العقوبات بالتعديل والتبديل، ولكن لم يُجْدِ ذلك
شيئاً فقد استمر تكاثر الجريمة وانتشارها؛ ففي سنة 1904م، صدر تقنين جديد
لقانون العقوبات، ولقانون تحقيق الجنايات، وقد أخذه واضعوه من القانون الفرنسي
والإيطالي والبلجيكي والإنجليزي والهندي والسوداني، وغُيِّرَ هذا القانون في سنة
1937م، ولم يفد كل هذا، ولو أنصف القوم لأقاموا شريعة الله تعالى وعند ذلك
سيرون كيف يعالج الجريمة ويقضي عليها [2] .
وبعد هذا التمهيد لنا أن نتساءل: ما هو حكم المرتد في القوانين الوضعية؟
جرت القوانين الوضعية مجتمعة على إغفال النص على عقوبة المرتد؛
والسبب في إغفال ذلك من وجهة نظري ما يلي:
أولاً: الأخذ بمبدأ حرية العقيدة.
ثانياً: الأخذ بمبدأ القاعدة القانونية المشهورة: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص
في القانون) .
ثالثاً: التوقيع على مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (مواثيق الأمم
المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان) .
رابعاً: موقف واضعي القوانين الوضعية من الدين.
وسوف أتناول دراسة هذه الأسباب بشيء من الإيجاز، ثم أبين موقف
الشريعة الإسلامية من ذلك.
أولاً: مبدأ حرية العقيدة والديانة:
يقصد بمبدأ حرية العقيدة والديانة: حرية الفرد في أن يعتنق الدين أو المبدأ
الذي يريده، وحريته في أن يمارس شعائر ذلك الدين سواء في الخفاء أو العلانية،
وحريته في أن لا يعتقد في أي دين، وحريته في أن لا يُفرض عليه دين معين، أو
أن يُجبر على مباشرة المظاهر الخارجية أو الاشتراك في الطقوس المختلفة للدين،
وحريته في تغيير دينه أو عقيدته، كل ذلك في حدود النظام والآداب [3] . ...
وقد تناول دستور مصر الصادر سنة 1923م هذه الحرية كغيره من الدساتير، فنصت المادة (12) على أن (حرية الاعتقاد مطلقة) كما نصت المادة (13) على
أن: (تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية في
الديار المصرية، على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب [4] .
ومما سبق يتضح لنا: أن مجلس الدولة المصري حرص على حماية حرية
العقيدة، إلا أنه قرن ذلك بضرورة خضوعها للعادات المرعية، وأن تجد حدها في
عدم الإخلال بالنظام العام أو منافاة حرمة الآداب؛ دون إشارة إلى عقائد الإسلام
بوجه خاص.
وقد أوضحت لنا محكمة القضاء الإداري (المصري) أن حرية العقيدة وإن
كفلها الدستور وفرض على الدولة توفير حمايتها لكل فرد، إلا أنها ليست مطلقة من
كل قيد، بل يجب أن تخضع للعادات المرعية، وأن تجد حدها عند عدم الإخلال
بالنظام العام أو منافاة حرمة الآداب، فلا يسرف فيها إلى حد المغالاة والتطرف،
ولا يتخذ منها وسيلة للطعن في عقيدة أخرى، بما يثير النفوس ويُحفظ الصدور،
ولا يُتذرع بها للخروج على المألوف من الأسس الدنيوية والأوضاع الشرعية القائمة، ولا تُستغل بها عواطف البسطاء من الناس باسم الدين لبلبلة أفكارهم وزعزعة
عقائدهم [5] . ولكن التطبيق العملي لذلك المبدأ القانوني فتح أبواباً من الفوضى
العقائدية ...
ثانياً: عدم وجود نص على عقوبة المرتد (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) .
استُمدت معظم الدساتير العربية من الدستور المصري، ولهذا أكدت جميع تلك
الدساتير على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات [6] ومبدأ قضائية العقوبة كضمان
للحريات الفردية من تعسف السلطة أو تجاوزاتها، ومن ذلك ما نصت عليه المادة
(66) من الدستور المصري على أن [7] : (العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا
عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على
الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون) [8] .
فالدساتير العربية قد نصت على هذا المبدأ، وقد أكد هذا المبدأ أيضاً
التشريعات العقابية العربية، ومن بينها على سبيل المثال: قانون العقوبات
الاتحادي رقم (3) لسنة 1978م لدولة الإمارات العربية المتحدة المادة (1، 4) ،
قانون الجزاء الكويتي المادة (1) ، قانون عقوبات قطر المادة (2) . وكلها تؤكد على
أن العقاب على الجنايات والجنح والمخالفات وفق القانون المعمول به وقت ارتكابها. ويعد مبدأ الشرعية الجنائية دستور قانون العقوبات، ويقصد به: التغيير عن
القاعدة الجنائية الشهيرة القائلة بأنه: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القانون) [9] .
والهدف من هذه القاعدة: هو حماية الفرد من خطر التجريم والعقاب بغير
الأداة التشريعية وهو القانون.
فاختصاص السلطة التشريعية وحدها بتحديد الأفعال التي تعد جرائم وبيان
أركانها، وتحديد العقوبات المقررة لها سواء من حيث نوعها أم مقدارها، يعد من
أهم الضمانات الأساسية لحماية الحرية الفردية [10] .
وخلاصة القول: أن مبدأ الشرعية يلزم المحاكم بأن لا تحاكم أي إنسان إلا
بموجب القواعد المفروضة على جميع المتقاضين هذا أولاً. وثانياً: يحظر قانون
العقوبات القياس خشية امتداد النص الجنائي إلى أفعال لم يحرمها المشرع ولم يقرر
لها عقاباً؛ فالقياس يفتح الباب على مصراعيه لتحكم القضاة في أحكامهم مما يؤدي
إلى إهدار وانتهاك مساواة المواطنين أمام القانون الجنائي [11] .
ثالثاً: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان [12] :
أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م على المساواة
القانونية بصفة عامة، فنص في مادته الأولى على أنه: (يولد جميع الناس أحراراً
ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا
بعضهم بعضاً بروح الإخاء) .
ويدين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التمييز بجميع أشكاله في التمتع بجميع
الحقوق والحريات، وذلك فيما سطره في المادة الثانية من أنه: (لكل إنسان حق
التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي
نوع. ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة، أو
المولد، أو أي وضع آخر ... ) .
وكذلك نصت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان [13] صراحة على حظر
جميع أنواع التمييز بين الأفراد، حيث ذكرت المادة (14) من هذه الاتفاقية على أنه: (يكفل التمتع بالحقوق والحريات المقررة في هذه المعاهدة دون تمييز أياً كان
أساسه: كالجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو العقيدة، أو الرأي السياسي، أو غيره أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الانتماء إلى أقلية قومية، أو الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر) .
وقد يقول قائل: وما دخل هذه الاتفاقيات وحكم المرتد؟ خاصة وأن هذه
الاتفاقات ليس لها قوة ملزمة بالنسبة للدول؟ فمن غير المقبول أن يكون لسلطة
الجمعية العامة للأمم المتحدة فرض قواعد ملزمة على دول الأعضاء؛ لذا فإن هذه
الإعلانات تأخذ في حقيقة الأمر شكل التوصيات؛ أي أنها إعلانات نوايا مجردة
تماماً من كل قيمة قانونية إلزامية [14] .
والجواب:
أولاً: أن هناك من رجال القانون العام العرب [15] من يرى أن للقواعد التي
تتضمنها إعلانات الحقوق قيمة قانونية تعادل القيمة القانونية للنصوص الدستورية؛
ومن ثم فإن قوتها تعلو القوانين العادية وتكون واجبة الاحترام من السلطة التشريعية.
ثانياً: أن الدول الإسلامية وللأسف الشديد مع ضعفها سياسياً تحسب لهذه
القضايا ألف حساب؛ حيث أنها تراعي الديمقراطية الغربية والنمط الغربي،
وتخاف من الضغوط الغربية عليها؛ ولذلك نسمع ونشاهد أنه عندما يحكم على أحد
المجرمين بالإعدام في البلدان الإسلامية فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، وقد يباد شعب من
المسلمين بأكمله ولا يتحرك هذا الضمير الغربي المدافع عن حقوق الإنسان؛
والواقع المعاصر أكبر شاهد على ما نقول!
ثالثاً: تختلف القوانين الوضعية عن الشريعة الإسلامية في أنها لا تعاقب على
تغيير الدين بالذات، ولكنها تأخذ بنظرية الشريعة وتطبقها على من يخرج على
النظام الذي تقوم عليه الجماعة؛ فالدولة الشيوعية تعاقب من رعاياها من يترك
المذهب الشيوعي وينادي بالديمقراطية أو الفاشية، والدولة الفاشية تعاقب من يخرج
على الفاشية وينادى بالشيوعية أو الديمقراطية، والدول الديمقراطية تحارب
الشيوعية والفاشية وتعتبرها جريمة؛ فالخروج على المذهب الذي يقوم عليه النظام
الاجتماعي في دائرة القانون يقابل الخروج على الدين الإسلامي الذي يقوم عليه
نظام الجماعة في الشريعة الإسلامية.
والخلاف بين الشريعة والقوانين في هذه المسألة خلاف في تطبيق المبدأ
وليس خلافاً على ذات المبدأ؛ فالشريعة الإسلامية تجعل الإسلام أساس النظام
الاجتماعي، فكان من الطبيعي أن تعاقب على الردة لتحمي النظام الاجتماعي.
والقوانين الوضعية لا تجعل الدين أساساً للنظام الاجتماعي، وإنما تجعل
أساسه أحد المذاهب الاجتماعية. فكان من الطبيعي أن لا تحرم تغيير الدين وأن
تهتم بتحريم كل مذهب اجتماعي مخالف للمذهب الذي أسس عليه نظام
الجماعة [16] .
ومما سبق يتبين لنا: أن القوانين الوضعية أغفلت النص على عقوبة المرتد،
ولم يكن هذا الموضوع ليشغل بال واضعي القانون؛ وذلك لأن رجال القانون
يعتبرون حد الردة وحشية وهمجية ولا يتناسب مع القرن العشرين الذي نعيش فيه!
وإن تعجب فعجبٌ أنّ رجال القانون قد وضعوا عقوبة شديدة جداً قد تصل إلى
حد الإعدام لما يسمونه بالخيانة العظمى على ما سيأتي تفصيله وهي تتمثل في إفشاء
أسرار الدولة الخارجية والداخلية، أو التعرض لشخص رئيس الدولة، ومن خلال
النصوص التي ذكروها يتضح جلياً أن خيانة الدين والردة عنه مسألة فيها نظر؛ أما
خيانة الوطن فهي مسألة ذات خطر؛ ولعلِّي عزيزي القارئ أبين لك بعض
النصوص القانونية التي توضح ذلك.
تعريف الخيانة العظمى: يطلق رجال القانون اصطلاح الخيانة على عدد من
الاعتداءات الخطيرة الواقعة على أمن الدولة الخارجي، وهي جميعها جنائية
الوصف، وتنم عن فصم روابط الولاء الذي يشعر به المواطن نحو وطنه وأمته
ودولته، وعن استهدافه في خدمة الدولة الأجنبية وتعهده مصالحها على حساب
مصلحة دولته التي ينتمي إليها [17] .
إذن فيعتبر خيانة عظمى: كل جريمة تمس سلامة الدولة أو أمنها الخارجي أو
الداخلي أو نظام الحكم الجمهوري.
عقوبة الخيانة العظمى: يكون معاقباً عليها في القوانين بعقوبات الإعدام،
أوالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو الاعتقال المؤبد أو المؤقت [18] .
مع العلم أن مخالفة الأحكام الأساسية التي يقوم عليها الدستور لا تنضوي تحت
مدلول (الخيانة العظمى) وإنما جعل المشرع الوضعي هذه المخالفة (مخالفة الخيانة
العظمى) جريمة مستقلة وعاقب عليها بعقوبة خاصة [19] .
وكما تلاحظ فإن المشرِّع الوضعي أورد نصاً خاصاً ومستقلاً لجريمة الخيانة
العظمى لخطورة هذه المسألة في نظره [20] مع أنه لم يورد نصاً خاصاً أو عاماً
عن أحكام الردة؛ لأن هذه مسألة تدخل في نطاق الحرية العقدية والدينية. فإلى الله
المشتكى من هوان الدين على أبنائه.
وأذكر من باب الفائدة أن بعض القوانين الوضعية تفرق بين الخيانة العظمى
وخيانة الوطن، أما الأولى: فتشمل أكثر الجرائم المخلة بأمن الدولة الداخلي
كالجنايات الواقعة على الدستور وغيرها، وأما الثانية: أي خيانة الوطن فتقع على
أمن الدولة الخارجي، وهي إما أن تكون خيانة عسكرية وتتناول جميع أنواع
الخدمات التي يقدمها الفاعل إلى العدو في خلال الحرب، كما تتناول شتى ألوان
الدسائس التي يستعملها لدن دولة أجنبية لدفعها إلى مباشرة الاعتداء على الوطن أو
لتوفير الوسائل اللازمة لذلك. وإما أن تكون خيانة سياسية أو دبلوماسية وتتناول
جميع الأفعال التي تؤول إلى إفشاء أسرار الدولة أو الإضرار بمركزها السياسي.
وقد تقع أفعال الخيانة السياسية زمن السلم وزمن الحرب على السواء. ويُجمع
شراح الأنظمة، في هذه الحال، على صعوبة التفريق بين أفعال هذه الخيانة وأفعال
التجسس [21] .
وفي نهاية المطاف وقبل أن أبين موقف الشريعة الإسلامية من هذا الموضوع
الخطير أرد على شبهتين أساسيتين هما:
أ - أن عقوبة المرتد تَدَخّل في حرية العقيدة ومُصَادَرَةٌ لها، وإكراه على
تبديل الدين، وإجبار الإنسان على اعتناق ما لا يريده ولا يرغب فيه.
وهذه الشبهة مردودة؛ لأنها تنطلق من الجهل بطبيعة هذه العقوبة، والجهل
بمعنى الردة، ومعنى الإكراه على اعتناق العقيدة.
وبيان ذلك: أن الردة كما هو معروف رجوع عن الإسلام، والمرتد هو
الراجع عن الإسلام. فنحن إذن إزاء مسلم ارتكب جريمة معينة هي الردة، ولسنا
أمام يهودي أو نصراني نريد أن نكرهه على تبديل دينه وحمله على اعتناق الإسلام. ومبدأ أن لا إكراه في الدين مبدأ مقرر في الشريعة الإسلامية بنص القرآن ولا
يجوز المساس به، بدليل واضح بسيط أن الإسلام شَرَعَ الجزية وعقد الذمة؛ وهذا
يعني إبقاء غير المسلم على دينه وتركه وما يدين به.
فلو كان الإكراه على تبديل الدين واعتناق الإسلام بالجبر والإكراه مشروعاً لما
شَرَعَ الإسلام عقد الذمة.
ولكن قد يقال: فلماذا، إذن، نعاقب المرتد؟ ألا يعني هذا إكراهه على
الاستمرار على دين الإسلام وقد أصبح لا يرضاه؟ !
والجواب: أن المسلم بإسلامه التزم أحكام الإسلام وعقيدته، والإخلال
بالالتزام لا يجوز، ويعاقب المخل بالتزامه بالعقوبة المناسبة، فعقوبة المرتد إذن
وجبت لإخلال المسلم بالتزامه. وبالإضافة إلى هذا الإخلال فإن المرتد بردته
يرتكب جملة جرائم أخرى، وهذه الجرائم نتيجة حتمية لردته، وبيان هذه المسألة:
أن المرتد لا بد أن يعلن ردته بشكل من أشكال الإعلان؛ لأنه لو كتمها ولم يعلنها
لما عرفنا به ولبقي من المنافقين، فإعلانه للردة جريمة أخرى؛ لأن فيها استخفافاً
بعقيدة الأمة ونظامها الذي ارتكز على الإسلام، كما أن في ردته تشجيعاً للمنافقين
لمتابعته في ردته وإظهار نفاقهم، وتشكيكاً لضعاف العقيدة بعقيدتهم، وهذا كله
يؤدي إلى اضطراب في المجتمع واهتزاز في نظامه القائم على الإسلام واستخفاف
به؛ وهذه أمور جسيمة يجب منعها عن المجتمع الإسلامي بمعاقبة المرتد. وجعلت
عقوبة المرتد القتل؛ لأن جريمته خطيرة؛ ولأن إخلاله بالتزامه إخلال خطير جداً، ويجب أن لا نستغرب ذلك؛ فرب إخلال بالالتزام يترتب عليه قتل المخل مثلما
تقدم في عقوبة الخيانة العظمى بهذا، كما لو تعاقد شخص مع الدولة لتز ويد الجيش
بالأرزاق، فإذا تعمد هذا المتعاقد عدم التزويد بالأرزاق، والجيش في حاجة إليها،
كما لو كان في حالة حرب، مع قدرة المتعاقد على الإيفاء بالتزامه؛ فإن عقوبته قد
تصل إلى الإعدام [22] .
وأخيراً: فإن الشريعة الإسلامية، مع خطورة جرم المرتد أوجبت إمهاله ثلاثة
أيام فإذا رجع عن ردته سقط عنه العقاب، فهل بعد هذا الذي قلناه تبقى لأحد حجة
للقول بأن في عقوبة المرتد تدخلاً في حرية العقيدة واكراهاً على تبديل واعتناق
الإسلام؟ ! !
ب - أن في عقوبة المرتد مخالفة للنص الدستوري الذي ينص على أن:
(حرية الاعتقاد مطلقة) [23] .
وهذه الشبهة أيضاً مردودة؛ لأن الدستور في جميع الدول الإسلامية ينص
على: (أن الإسلام دين الدولة) [24] . واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ
الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع. كما تنص قوانين العقوبات الحالية على
أن لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة
في الشريعة الغراء [25] .
وإذا كان الدستور يقضي باتخاذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً [*] ،
للتشريع فإنه يترتب على ذلك أنه لا يجوز لتشريع وضعي لاحق لصدور الدستور،
أو حتى كان سابقاً عليه أن يخالف حكماً قطعياً من أحكام الشريعة الإسلامية وإلا كان
التشريع مشوباً بعيب مخالفة الدستور.
والكلام السابق هو كلام رجال القانون، حيث بينوا أن أي حكم أو تشريع
وضعي لاحق لصدور الدستور يعتبر مخالفاً للنصوص الدستورية الأعلى منه قوة
وهو ما يطلق عليه عيب مخالفة الدستور [26] .
موقف الشريعة الإسلامية من الردة:
إن الردة تعتبر من الجرائم ذات الخطورة البالغة على المجتمع والدولة والأمة
الإسلامية؛ والحس الإسلامي يرفض أن يكون هناك تساهل فيها؛ وقد شرع الإسلام
القتل لجرائم أخف ضرراً؛ حيث أمر بقتل الزاني المحصن بأسلوب رادع زاجر؛
لما يترتب على فعله من نشر الفحشاء بين المسلمين، وأمر بالقصاص حفظاً لأمن
الجماعة، فلا يعقل أن تكون معالجة جريمة الردة، وعقاب مرتكبها، أخف ضرراً
مما سبق؛ لأنه يترتب على الردة انهيار أركان المجتمع بمجمله دون ذلك.
والحق أن المرتد إذا ثبتت ردته، وانطبقت عليه الشروط وانتفت الموانع فإنه
يجب على الدولة الإسلامية قتله إذا لم يتب لما ثبت في ذلك من السنة وإجماع أهل
العلم [27] .
وكذلك فإن من أهم مقاصد الشريعة: حفظ الدين من أعدائه أو من أدعيائه؛
وهو في هذه الحالة لا يكون مناقضاً لمبادئه؛ وإنما مؤكداً لها وحامياً في الوقت نفسه.
__________
(1) انظر د عمر الأشقر، الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية، دار النفائس، ط3، 1412هـ 1991م، ص 78.
(2) د عبد المنعم فرج الصدة، أصول القانون، دار النهضة العربية، مصر، طبعة 1978م،
ص 57.
(3) انظر د عمر الأشقر، المرجع السابق، ص 78، 79.
(4) انظر د فاروق عبد البر، دور مجلس الدولة المصري في حماية الحقوق والحريات العامة،
ط 1988، ص 261.
(5) المرجع السابق، ص 261.
(6) د فاروق عبد البر، المرجع السابق، ص 262.
(7) انظر على سبيل المثال: الدستور المصري المادة [66] ، ودستور دولة الإمارات العربية المتحدة لعام 1971م المادة (27) ، ودستور الكويت المادة [23] ، الدستور السوري المادة [10] ، الدستور اللبناني المادة [8] ، الدستور العراقي المادة [20] .
(8) نص على هذا المبدأ في المادة [6] من الدستور المصري لعام 1923، والمادة [23] من دستور سنة 1956م، والمادة الثامنة من دستور 1958م، والمادة [25] من دستور 1964م.
(9) د أحمد شوقي أبو خطوة، المساواة في القانون الجنائي، دراسة مقارنة، الناشر، دار النهضة العربية، 1991م، ص 54، وما بعدها.
(10) هذه القاعدة ترجمة للتعبير اللاتيني: (Nullum Crimea, nulla Poena Sinelege) (11) انظر: د مأمون سلامة، قانون العقوبات، القسم العام، دار الفكر العربي، 1990م، ص 24.
(12) د أحمد شوقي أبو خطوة، المرجع السابق، ص 57، 58.
(13) صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر، 1948م (انظر: حقوق الإنسان، مج1، الوثائق العالمية والإقليمية، إعداد: د محمود شريف بسيوني، د محمد السعيد الدقاق، د عبد العظيم وزير، دار العلم للملايين، ط1، ص 17) ، وراجع: د/ علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط11، ص 995، وراجع: المادة [2] من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
(14) راجع: حقوق الإنسان، مج1، الوثائق العالمية والإقليمية، المراجع السابقة، ص 327.
(15) راجع: د عبد العزيز محمد سرحان، الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، دار النهضة العربية، 1966م، ص 27.
(16) من أهل هذا الرأي في النظام المصري: د مصطفى أبو زيد، الدستور المصري ورقابة دستورية القوانين، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1985، ص 198، وغيره كثير.
(17) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، مقارناً بالقانون الوضعي، مؤسسة الرسالة، ط10، 1409 هـ 1989م، ج1/536 فقرة (377) .
(18) انظر: د محمد الفاضل، الجرائم الواقعة على أمن الدولة، ج1، الطبعة والناشر بدون، ج1/147.
(19) انظر على سبيل المثال: المادة [5] من قانون محاكمة الوزراء السوري الصادر في 22/6/1958م، والمواد (77، 85) من قانون العقوبات المصري المتعلق بالخيانة العظمى.
(20) د محمد الفاضل، المرجع السابق، ج1/148.
(21) راجع قانون العقوبات المصري حيث وردت نصوص بشأن الخيانة العظمى، وهي من المواد (77، 85) وراجع: جرائم أمن الدولة وعقوبتها في الفقه الإسلامي، د يوسف عبد الهادي الشال، المختار الإسلامي، ط1، 1396 هـ 1976م.
(22) 1 / د محمد الفاضل، المراجع السابقة، ج1/150.
(23) د عبد الكريم زيدان، مجموعة بحوث فقهية، مؤسسة الرسالة، طبعة، 1407هـ 1986م، ص 415 416.
(24) انظر على سبيل المثال: المادة [12] من النظام الدستوري المصري.
(25) انظر على سبيل المثال: المادة [2] من دستور جمهورية مصر العربية الصادر سنة 1971م.
(*) هكذا يقولون لكي لا يلتزمون بذلك، إضافة أن هذه العبارة (الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع) مردودة شرعاً، فإن المتعين أن تكون الشريعة المصدر الوحيد للتشريع فلا يجوز اتخاذ شركاء مع الله تعالى في تشريعه وحكمه
(26) راجع: قانون العقوبات المصري.
(27) النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية دراسة مقارنة للدكتور محمد مفتي، ود سامي صالح الوكيل، إصدار مجموعة الأمة، طبعة بدون.(125/80)
المسلمون والعالم
تقسيم العراق.. الضَرَرُ والضَرُورة!
بقلم: عبد العزيز كامل
لا أظنها مصادفة أن يكون اسم (كعكة العيد) ، من بين الأسماء التي أطلقت في
الغرب على عملية (رعد الصحراء) التي أرجئت، فهذا الوصف (كعكة العيد)
مملوء بالإيحاءات والمعاني الواضحة، فالعراق بما فيه من ثروات وثورات، وما
يعيشه من آمال وآلام.. أُدخل المطبخ الغربي المتطور جيداً، لتصنع منه كعكة
كبيرة، يتولى صدام إشعال النار لإنضاجها للأكلين..
(كعكة العيد) ! ! ولكن أي عيد؟ !
هل هو عيد خمسينية (إسرائيل) التي لا تزال تضع فوق منصة الكنيست
عبارة التوراة المحرفة (لنسلك أُعطى هذه الأرض، من النيل للفرات) ؟ !
أم هو عيد مئوية (بازل) والمؤتمر الأول لحكماء صهيون بزعامة (هرتزل)
الذي اعتبر نصف العراق ضمن أرض الدولة اليهودية المستقبلية (إسرائيل الكبرى) ؟ ! أم هو عيد الألفين الثانية عند النصارى الذين يؤمنون بحديث الإنجيل المحرف
عن معركة (الهرمجدون) التي تمهد لعودة المسيح، تلك الحرب التي ستكون ضد
قوى الشر من بلاد (آشور) ومن يتحالف معها؟ !
على أية حال، لا يبعد وصف الكعكة كثيراً عن وصف (القصعة) فكلاهما
تتداعى عليه الأكلة.. أكلة الحقوق.. أكلة السحت.. بل أكلة لحوم البشر..!
فالقصعة التي أخبر الرسول عنها في الخبر الصحيح [1] ، لا نشك أن العراق
وغير العراق تمثل تريدها ولحمها الذي تتناهشه الذئاب البشرية. فالعراق/ الكعكة.. أو العراق/ القصعة، يبدو أنه اليوم علي أعتاب عهد لم يعهده من قبل، ومرحلة
جديدة كنا نقرأ عنها ولا نتصور تسارع الأحداث للوصول إليها بهذه الدرجة، وهي
مرحلة التفتيت والتقسيم، التي تناثرت الأخبار عن المخططات الموضوعة لها، لا
فيما يتعلق بالعراق فحسب، بل فيما يختص ببلاد أخرى في المنطقة كمصر
والسودان ولبنان واليمن وغيرها بحيث تتحول إلى دويلات بدلاً من دول، على
أسس طائفية أو عرقية أو قبلية. لتبقى دولة اليهود سيدة المنطقة، وصاحبة الذراع
الطولي فيها، وسط كيانات ممزقة، متصارعة، متناقضة، مشغولها بنفسها
ومنكفئة على ذاتها.
وفيما يتعلق بالعراق أيضاً، هناك خطة، كان قد وضعها قبل أكثر من خمسة
وعشرين عاماً الصهيوني المخضرم (هنري كيسنجر) وزير الخارجية الأمريكي
الأسبق، وهي عبارة عن إطار استراتيجي عام، يتم بمقتضاه إبقاء الأوضاع ملتهبة
بالاختلافات والتناقضات في المناطق المحيطة بإسرائيل، لتطل في مأمن من وجود
كيان مستقر وقوي، أو قابل لأن يكون قوياً ومستقراً وفيما يخص العراق تقضي
الخطة بترتيب ظروف سياسية وعسكرية كفيلة بإضعاف وحدته، ثم إقامة دولة
جديدة في منطقة الخليج، تمتد على أكثر من 80 بالمئة من أراضي الجنوب
العراقي، إلى جانب منطقة الأحواز التي تقع غرب إيران، وتحاذي مناطق جنوب
العراق، ومن شأن دولة كهذه، أن تحظى بأكثر من 60 بالمئة من الثروة النفطية
الموجودة في كل من إيران والعراق، إلى جانب تمتعها بثروة كبيرة، وبقطعة
زراعية مناسبة، هذا عدا التجانس الحاصل بين سكانها الذين ينتمي معظمهم إلى
الطائفة الشيعية المنحدرة من أصول عربية وتهدف واشنطن من وراء تنفيذ هذا
المخطط، أن تجني فوائد استراتيجية كبيرة على النحو التالي:
1- اقتطاع جزء كبير من القدرات النفطية والبشرية والمائية والزراعية في
كل من العراق وإيران، مما يقلل من حضورهما الإقليمي، ومن المخاطر التي
يشكلها كل من البلدين على جيرانها في الحال أو المآل.
2- إكمال دائرة السيطرة الأمريكية على معظم منابع النفط في منطقة الخليج
بعد أن تكون هذه الدولة قد اقتطعت أكثر من 60 بالمئة من الإمكانات النفطية لكل
من العراق وإيران.
3- ستكون هذه الدولة حال قيامها بمثابة شريط حدودي يفصل إيران والعراق
عن جيرانهما من الدول الخليجية التي عانت لفترة طويلة من المخاطر المحتملة
لهذين الجارين.
4- يمكن لهذه الدولة أن تمثل عامل استقطاب لأبناء الطائفة الشيعية من
البلدين (العراق وإيران) يساعد على وضع هذه الطائفة ضمن سياق معيشي
اجتماعي ذي طبيعة ثرية مترفة، تلتهي بها عن ميولها (الثورية) لتتلائم بعد ذلك
للمساهمة في خدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الخليج.
قد يقال: إن هذه الخطة الموضوعة منذ ربع قرن، قد تكون التغيرات في
المنطقة الآن لا تساعدها على التنفيذ، أقول: قد يكون هذا، ولكن الخطة تدلل على
حال على أن تقسيم العراق وغيره هدف قديم للقوى الغربية التي قسمت بالفعل العالم
العربي والإسلامي، وفرقت بين شعوبه بحدود وسدود جغرافية وسياسية، الغريب
زن دولة (الأحواز) الرافضية هذه، لم يواريها النسيان كما يُظن، بل لا يزال
التهامس بها يتردد في أروقة الغرب، فقد نقلت جريدة السياسة الكويتية في عددها
الصادر في 23/5/1417 عن مصادر أردنية، أن هذه الدولة ربما ترى النور في
غضون سنوات قليلة على حسب ما يتردد في أوساط الإدارة الأمريكية التي تؤكد
المصادر أنها رصدت لتنفيذ المخطط مبلغ ثلاثين بليون دولار!
واللافت للنظر، أن الأزمة الأخيرة، بما فيها من أحداث متتابعة، شهدت
رواجاً لما يعرف بخيار (الحل الشيعي) ومؤداه: إقامة كيان شيعي في جنوب العراق، بتفاهم أو بدون تفاهم مع إيران، وبالرغم من أن مجرد الحديث عن هذا الخيار،
يسيل لعاب روافض العراق، إلا أنهم من باب التقية السياسية يظهرون معارضهم
لهذا الحل [2] ، ويعتبرون الحديث عن تقسيم العراق من اختراعات صدام حسين
ليثير مخاوف دول الجوار إذا ذهب هو.. كما صرح بذلك (محمد بحر العلوم)
الأمين العام لمركز أهل البيت بلندن، و (سامي العسكري) عضو المكتب السياسي
لحزب الدعوة الإسلامية الشيعي في العراق، و (أكرم حكيم) عضو الشورى
المركزية للمجلس الأعلى (للثورة) الإسلامية في العراق ... ولا ندري ... إذا كان
هذا التقسيم مجرد وهم كما يقولون، فلماذا (الثورة) ومجلسها الأعلى؟ ! [3]
الظاهر أنهم يعارضون التقسيم لو صدقوا من باب عدم الاكتفاء بالجزء عن الكل،
وهذا يزكرنا بموقف شيطان الجنوب في السودان (جون جارانج) الذي أطلق على
ثورته (حركة تحرير السودان) وليس جنوب السودان فقط! ويذكر أيضاً
بتصريحات (شنودة) بابا الأقباط في مصر الذي تعجب عندما سئل عن رغبة الأقباط
في الاستقلال (بجنوب مصر) فقال: (كيف نكتفي بالجزء عن الكل..؟ إن مصر ...
كلها وطن الأقباط، فكلنا أقباط، غير أن منا مسلمون ومنا مسيحيون) ! !
إن الخطر الشيعي إذا بسط يديه على العراق، فإنه سوف يكون ظهيراً لا قدر
الله لحركة مد شيعي رافضي في المنطقة، تمتد من طهران إلى المنامة!
ولا يقال هنا إن العداء بين أمريكا وإيران يحول دون حصول ذلك، فأمريكا
إن كانت تعادي إيران سياسياً الآن، فإنها لا تعادي كل الروافض فالضرورة تحتم
عليها أن تصادقهم [4] ثم متى كان الروافض على مر التاريخ أعداء للنصارى أو
غيرهم من أعداء الأمة؟
من شك في هذا فليسأل التاريخ عن تواطؤ الرافضة مع قادة الحملات
الصليبية وعن تواطئهم مع التتار لاجتياح بغداد عاصمة الخلافة العباسية يضاف إلى
هذا أن شيعة العراق يرون أنفسهم شيئاً آخر غير شيعة إيران، بل هم ينظرون إلى
أنفسهم على أنهم فوق شيعة إيران، فهم أصل الشجرة التي تفرعت جذورها باطنياً
حول العراق، فأنبتت وأثمرت في إيران وعلى ضفاف الخليج. يقول (ليث كبة)
مدير العلاقات العامة في مؤسسة الخوئي الخيرية بلندن (الزعامة الدينية في العراق
وفي النجف هي الأقدم والأعرق تاريخياً، فالعراق هو أرض الأئمة، وهو الثابت
في تاريخ التشيع منذ كانت الكوفة عاصمة الخلافة وإلى يومنا هذا، بينما قبلت
إيران التشيع قبل خمسة قرون، وعمر مدرسة (قم) المقدسة، هو قصير بالقياسي
إلى مدرسة (النجف) لهذا فإن شيعة العراق يعتبرون العراق كله وطنهم من الفاو إلى
زاخوا) ! [الشرق الأوسط، 14/2/1998م] .
وماذا عن الأكراد؟
الظاهر أن الضرورة الأمريكية تقضي بأن يعطى الأكراد قطعة من القصعة
العراقية، فالزعامة العلمانية الكريمة أطماعها القديمة في القسمة، وقد دأب الحزب
الديمقراطي المكردستاني بزعامة (مسعود البرزاني) بالمطالبة بحكم ذاتي للأكراد
وقاتل الحزب عبر سنوات طويلة للوصول لهذا الغرض، أما الحزب الآخر، وهو
الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، فقد جعل قضيته التي يناضل
من أجلها: حق تقرير المصير للشعب الكردي، ويقترح الحزب إدارة (كونفدرالية)
بين الحزبين الرئيسيين لأكراد العراق، ويعتبر هذا حلاً وقتياً آنياً، فما هو الحل
الدائم؟ إن الحزبيين العلمانيين ينتظران ما ستسفر عنه المواجهة بين أمريكا
والعراق، فإذا أسفرت عن سقوط النظام أو ضعفه جداً، فسيفرضان سيطرتهما
كقوتين أو كقوة واحدة فاعلة تمتلك أرضاً وشعباً وقيادة. وقد شهدت الأونة الأخيرة
انفراجاً في العلاقات بين الخصمين اللدودين في قيادة الحزبين.. فهل تسمح
الظروف واقعياً لإقامة كيان كردي مستقل في شمال العراق؟ أم أنها أوهام أيضاً ... ؟
نحن نجزم بأن القسمة الكردية (العلمانية) من الكعكة العراقية، حاصلة الآن
واقعياً، وإن لم تعلن رسمياً، ففي شمال العراق سلطة منفصلة عن السلطة
المركزية في بغداد، وإن لم ترفع علماً أو تختر نشيداً أو ترسِّم حدوداً.
وسُنّة العراق ... من لهم؟
الثلث المتبقي من العراق في الوسط، من نصيب أهل السنة ومن أضاحيك
الزمان؛ أن صداماً هو المسؤول (طائفياً) عن أهل السنة وهو المرشح فيما يبدو لأن
يظل جاثماً على صدورهم إذا اقتطع الشمال للأكراد والجنوب للشيعة، فصدام ليس
على قائمة الأهداف في (رعد الصحراء) فالوصول إليه شخصياً يكاد يكون مستحيلاً
على حسب مزاعم الأمريكيين والبريطانيين، ولهذا فمن المظنون فيه أو المقطوع به، أنهم يريدونه مسؤولاً عن القطاع السني في عراق ما بعد التقسيم، ليظل كنُصب
تذكاري، يذكر العرب بمفاخر القومية العربية البائدة ... تعلوه راية (أم المعارك)
الممزقة، وتعزف من حوله أنشودة الحماس الأجوف ... أمجاد يا عرب أمجاد!
إن التسارع المحموم نحو تقسيم العراق، يخدم مجموعة متباينة من الأكلة،
بالوكالة أو بالأصالة، وعلى رأس المستفيدين من القسمة الضيزى ... الدولة
اليهودية (إسرائيل) .. ثم الإمبراطورية الصليبية (أمريكا) .. ثم -وكالعادة.. تتقاسم
بقية الضباع بقايا ما تتركه السباع. ولا ينبغي أن ننسى أن العراق - الذي يبدو
الآن ضعيفاً وفقيراً - لا يزال غنياً بثرواته الجالبة للأطماع، فآبار النفط لم تنضب، ومجاري الأنهار لم تجف، والمساحات الزراعية لا تزال حية.
ومما يثير العجب أن الكل يقر في الظاهر بأن تقسيم العراق ضرر فادح ...
ولكن كل فريق بعد ذلك يتصرف فعلياً على أن التقسيم ضرورة لا مفر منها ... بدءاًً
من صدام الذي يفضل التنازل عن وحدة العراق على التنازل عن الكرسي [5] ،
ومروراً بفصائل المعارضة الانتهازية التي ترى في التقسيم فرصتها لإثبات الذات
وإحراز المكتسبات، وانتهاء بأمريكا التي تريد أن تدخل القرن الجدد بخارطة
تضمن مصالحها لأجيال قادمة [6] ، لكن هناك طرفاً واحداً يرى في التقسيم
ضرورة خالصة، لا ضرر فيها، وهم اليهود! والظاهر أنهم لا يرونه ضرورة
فقط، بل ضرورة عاجلة، فقد أدلى (بنيامين نتنياهو) بتصريح في أخر أيام عام
1997 قالى فيه: (كل المؤشرات المتوافرة تحت أيدينا تؤكد أن بغداد في حالة
استكانة وضعف عسكري تام) (الشرق الأوسط، 26/11/1997م) وبعد هذا الكلام
الواضح عن قدرات العراق في نظر تقارير المخابرات الإسرائيلية, لم تمض أسابيع
حتى ملأ اليهود (الإسرئيليون والأمريكان) الدنيا صراخاً عن قوة العراق المرعبة،
وتكاثرت التصريحات على ألسنة المسؤولين والأمريكيين الكبار - وأكثرهم يهود -
وفي افتتاحيات أكثر الصحف الأمريكية - وأكثرها يهودية -، تعبر عن تخوف
عظيم من الخطر العراقي الذي أصبح يتهدد كل الجيران، خاصة الجار السابع
(إسرائيل) وتحدث المحذرون عن خطر حقيقي يهدد اليابسة والماء والهواء معا إذا
استعمل العراق ما بحوزته من أسلحة!
ولم تكن هذه التحذيرات مجرد فرقعات إعلامية لصحافيين هواة أو محترفين،
بل جاءت على ألسنة مسؤولين يفترض أن يكونوا محترمين؛ فوزير الدفاع في
أكبر دولة في العالم (وليم كوهين) لوَّح وقتها أمام الملايين من المشاهدين الأمريكيين
بكيس من السكر وقال لهم: (إن عبوة بهذه الحجم من الجراثيم التي يملكها العراق
تكفي لإبادة كل سكان مدينة بحجم نيويورك) ! ثم خرج بعدها وزير الدفاع
البريطاني (جورج روبتسون) أمام الكاميرات وفي يده زجاجة مياه صحية، وقال
للمشاهدين البريطانيين المذهولين: (إن عبوة مثل هذه الزجاجة من غاز (في -
إكس) التي يملكها العراق، تكفي لإبادة كل سكان مدينة لندن) ! ! وأيضا تبرع
رئيس فريق الأمم المتحدة لنزع أسلحة العراق (ريتشارد بتلر) وذكر مدينة ثالثة هي
(تل أبيب) وقال: (إن بقدرة صدام أن يبيد بلحظات كل سكان تل أبيب) ثم ظلت
العجوز اليهودية (أولبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية تنفخ في جمر التحريض،
لتشتعل نار الحرب! ونجح هؤلاء بتلك التصريحات النارية في إلهاب مشاعر
السخط لدى قطاعات عريضة من شعوب الغرب - الساخط أصلاً - ودقت طبول
الحرب عالية ... واستمرت الحشود العسكرية متزايدة متوالية. وصدرت
التوجيهات للرعايا الغربيين بمغادرة مواقع الأحداث المتوقعة.. ووزعت كمامات
الوقاية من الغازات ...
إيقاف اللعبة:
بعد كل هذا النفير وشد الأعصاب ... فوجئت أمريكا ومعها بريطانيا ... بأن
حلفاءهما الدوليين - الفاهمين للعبة - غير موافقين على هذا الإجراء العسكري الذي
يستهدف في النهاية الاستحواذ على الغنيمة كلها، ففرنسا وجدت نفسها مرة أخرى
في موقف ضعف مع بريطانيا التي ظلت منافساً رئيساً لها طوال القرن الماضي
وشطرا من هذا القرن، كانت دائما تتصرف بمنطق الأنانية واستباق الوصول
للغنيمة، لقد أقصت فرنسا عن مصر والسودان، وعرقلت تغلغلها في منطقة الخليج، وأحبطت مساعيها في الاستقرار في بلاد المغرب العربي، واليوم تزاحم بريطانيا
على اكتساب موطن قدم في صنع سياسة الهيمنة الدولية في النظام الدولي الجديد
بقيادة أمريكا ... وقد بلغ التقارب البريطاني الأمريكي حداً أفزع فرنسا، عندما
أطلق (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني الوعيد للعراق من داخل غرفة عمليات
الحرب العالمية الثانية في البيت الأبيض، وكلينتون واقف بجواره ... كان لابد
لفرنسا أن تعمل لإحباط مساعي بريطانيا في تقاسم أمريكا مغانم هذه الحرب المبيتة
بليل، وهي لم تنس بَعْدُ أنها خرجت بخفي حنين من حرب الخليج التي شاركت
فيها، حيث لم تفز المؤسسات الصناعية الفرنسية إلا بفتات العقود والصفقات التي
حصدت الولايات المتحدة القسط الأكبر منها بالاشتراك مع بريطانيا، ولهذا رفعت
سلاح (الدبلوماسية) وأصرت على تفعيله وتدويله، وشاركتها روسيا في رفع هذا
السلاح، فالروس يشاركون الفرنسين في إحباطاتهم؛ لأن العراق كان صديقاً
للسوفييت في الماضي وتتمنى روسيا أن يكون العراق سوقاً للروس في المستقبل،
ولهذا تواصل روسيا دعمها للعراق سراً وعلناً، كما حدث عام 1995م عندما باعت
للعراق بشكل غير مشروع أجهزة يمكن استعمالها في تصنيع الأسلحة البيولوجية.
وروسيا التي لا تزال تلعق جراح السقوط المدوي للقطب الثاني، لا تريد
للقطبية الفردية لأمريكا أن تظل مهيمنة على العالم - خاصة - المناطق الغنية،
وهي تبحث عن شركاء في هذا المطلب، وترى أن لدى الصين وإيران تضامنا مع
رؤيتها المستقبلية. يقول (أرييل كوهين) المحلل الأمريكي: (إن الهدف النهائي
لروسيا في الآونة الأخيرة، إقامة تحالف روسي صيني إيراني جديد لتحدى
الولايات المتحدة بدءاً من الخليج حتى مضايق تايوان) .
موقف ألمانيا:
وفي حين تخرج فرنسا وروسيا عن الفلك السياسي الغربي فيما يتعلق بالعراق، نرى دولاً أخرى تدخل فيه مثل ألمانيا، التي اتخذت موقفاً مفاجئاً بوقوفها بقوة
أمام الحسم العسكري مخالفة بذلك موقفها التقليدي المتجانس مع فرنسا ... فلماذا
تتخذ ألمانيا هذا الموقف؟ إنها تريد أن ترد لها أمريكا الجميل بأن تقبل بعد ذلك
طلبها المُلِح بالحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن، ومن ناحية أخرى
فهى لا تزال تحمل (عقدة الذنب) تجاه اليهود بسبب مواقف هتلر منهم، وهي تريد
أن تثبت لهم أنها سوف تتوب توبة عملية بالمشاركة في تنفيذ واحدة من أكبر
مخططاتهم في المنطقة!
وتركيا أيضاً:
أما تركيا (العلمانية) ، فأطماعها في العراق لا تخفى، فهى بين آن وآخر
تنادي باستعادة ولاية (الموصل) العراقية التي تعتبرها أرضاً تركية اقتطعت لصالح
العراق، وقد غزت شمال العراق عدة مرات بذريعة ملاحقة حزب العمال
الكردستاني، وحاولت في كل مرة الاحتفاظ بوجود عسكري لها في العراق لإقامة
شريط حدودي بزعم ضمان أمنها، وقد نجحت تركيا في مطلبها بفضل الحصار
الأمريكي، فأصبح لها ما يشبه الوجود الدائم في شمال العراق، وهي عندما تحشد
هذه القوات هناك، منتهكة القانون الدولي؛ فإنها تستعد بذلك لملء الفراغ الذي
سيحدث في الشمال إذ ادخلت الخطة فصولها النهائية، فهي تعلن أنها لن تسمح
لإيران أو حزب العمال الكردستاني بملء هذا الفراغ.
إن تركيا المتحالفة الآن استراتيجياً مع دولة اليهود ... لن تتأخر في وضع
إمكاناتها تحت تصرف اليهود، عندما يحين أوان تقسيم الكعكة.
وهكذا يتضح أن المواقف المتعارضة والمتناقضة للقوى الدولية الفاعلة فيما
يتعلق بأحداث العراق، تعكس تصارعها في التسابق لتحصيل مصالحها بكل جشع
وأنانية.. وقد أفضت هذه الأحوال بأمريكا وبريطانيا ومن تحالف معهما، إلى أن
وجدوا أنفسهم يواجهون وضعاً دولياً مربكاً؛ فأمريكا التي ضربت العراق في حرب
الخليج الثانية وسط تصفيق دولي ومباركة من (الشرعية الدولية) ، ألجأها منافسوها
هذه المرة إلى وضع رأت فيه أنها تتحرك خارج ما يسمى بـ (الشرعية الدولية)
فكان لابد أن تبحث عن فرصة أخرى لضربة أخرى باسم تلك الشرعية الدولية ...
لهذا كان الاتفاق، وكان (أنان) ، وكانت العودة للتفتيش عن أسلحة العراق مرة
أخرى ... ريثما يجد المفتشون كيساً من السكر، أو زجاجة من الماء تحتوي على
المواد التي تهدد بفناء واشنطن ولندن وتل أبيب!
فالاتفاق - في رأيي - هو المفتاح السري الذي يمكن لأمريكا أن تعيد به فتح
باب الترحيب الدولي بإنهاء العراق.
فهذا الاتفاق قد رُبط مصيره بشيء واحد، هو احترام صدام لبنوده حرفاً حرفاً ... حتى لو استُفز ... حتى لو استُدرج ... حتى لو اثير! ! ومعنى هذا أن الحرب
- تحت مظلة الشرعية الدولية - متوقفة على مجرد استفزاز أو استدراج أو إثارة
من أمريكا لصدام! ! ! فهل هناك من يسبق أمريكا وعملاءها في الاستفزاز
والاستدراج والإثارة؟ أم أن هناك من هو أقل صبراً من صدام في الاستجابة
الحمقاء للاستفزازات والاستدراجات ... ؟ لقد بدأت أمريكا مبكراً في هذا الاستفزاز
عملياً بأن تم تنصيب (سكوت ريتر) رئيساً لفريق التفتيش بعد الاتفاق الجديد ...
و (سكوت) هذا، كان قد اتهم في العراق بأنه جاسوس.. فهل تراهن أمريكا على عدم
سكوت صدام على (سكوت) رئيس الفريق الدولي؟ !
إن الحشود المجتمعة في الخليج تتحرق شوقاً لجولة جديدة يقود إليها صدام..
فهي لم تأت لنزهة بحرية أو برية أو جوية ... ولكنها جاءت لتسوية نهائية للمسألة
العراقية على الطريقة اليهودية، فاللهم رحماك ... ولك الله يا شعب العراق.
__________
(1) في الحديث الذي رواه أبو داود في الملاحم (4297) (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) الحديث.
(2) المعارضة الشيعية العراقية بقيادة محمد باقر الحكيم الذي يقيم في طهران، لديها جيش يتألف من عشرة آلاف مقاتل مدرب فلماذا أُعد هذا الجيش؟ .
(3) قال باقر الحكيم زعيم المعارضة الشيعية العراقية لجريدة النيوزويك الأمريكية (فبراير 1998م) (إن الباب لايزال مفتوحاً لمزيد من التعاون مع الأمريكيين وتقوية هذا التعاون تتوقف على جدية أمريكا في إحداث تغيير في العراق) ! .
(4) أنفقت الولايات المتحدة على المعارضة العراقية حوالي مئة مليون دولار، ذهبت إلى الأمور الدعائية والإعلامية! .
(5) قالت مادلين أولبرايت في حديث لها أمام لجنة العلاقات الدولية في الكونجرس (13/2/1998م) : (إن الخيارات التي نعتمدها في منطقة الشرق الأوسط في الأشهر المتبقية من هذا القرن، ستحدد شكل القرن المقبل) ! .
(6) أنفق صدام ما يصل إلى ألفي مليون دولار على قصوره الفخمة له ولزمرته الحاكمة في ظل الحصار الذي يعاني منه الشعب وحده! .(125/90)
المسلمون والعالم
السؤال المهم:
ماذا بعد عرفات؟
بقلم: عبد الملك محمود
ذكرت بعض المصادر الإخبارية أن ياسر عرفات قد انهار أثناء اجتماع
لوزراء خارجية الدول العربية بالقاهرة في شهر سبتمبر الماضي، ثم أغمي عليه
أثناء اجتماع للمجلس التشريعي الفلسطيني في شهر أكتوبر ونقل إلى المستشفى.
ويقول بعض من قابلوا عرفات خلال الآونة الأخيرة إنه يعاني أحياناً من صعوبة في
الحديث، وأن هناك ارتعاشاً لا إرادياً في شفته السفلى ويده وقدمه اليسريين، كما
يقال إن ذاكرته بدأت تضعف. وأشارت تقارير صادرة عن الاستخبارات العسكرية
الإسرائيلية أن عرفات يعاني حالياً من مرض (باركنسون) ويتلقى علاجاً لأعراض
الرعشة وتصلب العضلات. وقد أكد طبيب عرفات الخاص د. أشرف الكرد
المتخصص في طب الأعصاب بعض هذه الأعراض، وإن كان قد أكد على عدم
خطورة الأمر.
كثر ذلك الكلام مؤخراً عن متاعب عرفات الصحية، مما فتح باباً للتكهنات
حول مستقبل السلطة وعملية السلام برمتها. أما عرفات فإنه يبدي انزعاجه وقلقه
بخصوص كثرة الحديث عن صحته، ولربما كان هذا أحد دوافعه للقيام بسفرات
ورحلات مكوكية قياسية لم يبلغها أي زعيم آخر، فخلال أسابيع متتالية يذهب إلى
عواصم كثيرة في آسيا وإفريقيا وأوروبا ليبرهن على سلامة صحته وقوته طبقاً
للجملة المشهورة التي يستشهد بها كثيراً: (يا جبل ما يهزك ريح) ولكن رغم هذا لا
يمكن إخفاء حقيقة أن صحته ليست على ما يرام.
ومع هذا فإننا نقول إن الأمر ليس غريباً، فالرجل يبلغ من العمر 68 عاماً
(ونظام حياته السابق المجهد يقوم على العمل لمدة لا تقل عن 16 ساعة يومياً،
ولكن السؤال الأهم هو: ماذا بعد عرفات؟ وهل ستنتهي عملية السلام؟ ومن هو
الشخص أو الكيان البديل؟
الشارع الفلسطيني لا يتحدث عن الرجل المريض بقدر ما يتحدث عن السلطة
المريضة، فكل شخص تقابله يحدثك عن المحسوبية والرشوة والسرقات وأكل المال
بدون حق، وما تقرير المجلس التشريعي التابع للسلطة نفسها الشامل عن هذا الأمر
عنا ببعيد؛ حيث كشفت التحقيقات عن أرقام مفزعة من السرقات وأكوام من
الاختلاسات الكبرى وفضائح عدد من الوزراء ممن كان وراء هذه السرقات، مما
ألجأ عدداً كبيراً من الوزراء والمسؤولين إلى تقديم استقالاتهم خوفاً من الفضيحة،
ولكن عرفات أجّل قبول هذه الاستقالة ووعد أكثر من مرة بإجراء تعديل وزاري
وكانت آخر هذه الوعود قبيل نهاية العام المنصرم. وكان المجلس التشريعي قد
طالب في بيانه قبل نحو 4 أشهر بحل مجلس الوزراء والانصياع لمتطلبات التطهير
الإداري، ولكن أنى هذا وحاميها هو حراميها؟ طالب الناس بالإصلاح والتغيير
والمحاسبة حتى نفد صبرهم، ولم يتم أي شيء في هذا الخصوص، ولم يطالب
بهذا الإسلاميون فقط أو المعارضون لعملية السلام بل حتى بعض الرموز من داخل
السلطة أو ممن عمل معها طالبوا بذلك، فحيدر عبد الشافي الذي أحرز أعلى نسبة
في أصوات الناخبين في المجلس التشريعي تحدث في كثير من المقابلات الصحفية
التي أجريت معه وفي مقالاته وفي كتاب استقالته من المجلس التشريعي وفي
محاضراته عن العفن داخل السلطة وعن الديكتاتورية العرفاتية. وفي محاضرة
للدكتور زياد أبو عمرو أمام مئات الحاضرين ذكر بعض صور السلطة الهزيلة وهي: لنا سلطة رئيسها بحاجة إلى تصريح إسرائيلي ليطير من مكان إلى آخر، لنا قوة
أمن مبعثرة وأشبه ما تكون بالمليليشيات، لنا عَلَم ولا نملك السيادة، لنا مجلس
تشريعي تذهب توصياته وقراراته أدراج الرياح [الوطن العربي، 5/12/1997م] .
هذا جانب من صورة السلطة في وضعها الحالي، ولم يذكر الرجل صوراً
قاتمة أخرى يراها المراقب الإسلامي مثل: المسلسل العدائي لكل ما هو إسلامي
بدءاً من محاربة الرموز الإسلامية والسجن والتعذيب، مروراً بشن حملة إفساد
للشعب وبث الفجور.
خليفة عرفات:
على صدى الكلام عن صحة عرفات ومن سيخلفه، فقد شحذ البعض هممهم
استعداداً لخلافة عرفات بمجرد سماع الأنباء عن مرض عرفات وتدهور صحته،
ولكن هل هناك شخصية معينة مؤهلة لنفس دور عرفات؟
من صفات عرفات الزئبقية التي يتميز بها قدرته الفائقة على إمساك العصا من
الوسط، ودفع كل الأطراف في الساحة إلى الصراع في جميع الساحات بل
والاشتباك إذا لزم الأمر باستثناء ساحة واحدة هي التزاحم على مركزية القيادة
باعتباره خطاً أحمر لا يمكن الاقتراب منه. لقد تناحر مسؤولو السلطة حول كعكة
المال وحصة كل منهم من أموال الدول المانحة كل بحسب استطاعته حتى جاءت
النتيجة وبسرعة مذهلة لتكشف عن حجم غريب من السرقات، كما أنهم توزعوا
الكراسي داخل المجلس الوطني والوزارات المختلفة ولكن كل هذا الاختلاف حتى
بين الفصائل المختلفة رافقه إجماع على زعامة عرفات وعدم المساس بها. ولذلك
يمكن القول بأن الصراع على التركة ستكون بعد ذهاب عرفات لا قبل ذلك،
فالمتربصون جميعاً يجمعون على قيادة عرفات وزعامته.
والحقيقة الظاهرة لنا أنه لا يوجد من قيادات السلطة كافة من يستطيع أن يملأ
هذا الفراغ ويقوم بالأدوار نفسها. وقد تداول المراقبون عدة أسماء مرشحة لخلافته
مثل محمود عباس، وفاروق قدومي، أو بعض العسكريين مثل جبريل الرجوب ... ولعل أبرز الشخصيات المرشحة والأوفر حظاً لخلافة عرفات هو محمود عباس (أبو مازن) أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح؛ فالرجل سياسي ممن أسهم بصورة كبيرة في السعي للحلول السلمية مع (إسرائيل) وهو مفصل أميركياً، وربما يقوم حلف بينه وبين بعض العسكريين على تقاسم السلطة بحيث لا يفقدون امتيازاتهم ويعملون في الوقت نفسه على الوقوف ضد التيار الإسلامي.
ولكن بدلاً من الخوض في هذه التخمينات، دعونا نلقي نظرة إلى وضع
السلطة الفلسطينية والحال التي وصلت إليها، وخططها التفاوضية مقارنة مع
التخطيط الإسرائيلي.
تدهور شعبية عرفات وسلطته:
المراقب للوضع الفلسطيني، يلاحظ افتقاد عرفات للشعبية؛ فمسيرة السلام
وأحلامها تعثرت، وسياسة الاستيطان الإسرائيلية على أشدها والوضع الاقتصادي
للناس في تدهور. أما عن السلطة فقد أقام عرفات سلطته على المحسوبيات وعلى
نظام متعفن انتقل بين العواصم العربية وكان يعاني من ألوان من السوء والفساد
أصلاً. وقد جمع عرفات إلى هذا ديكتاتوريته المعروفة، وعمل على بناء أجهزة
عسكرية مختلفة ليضمن بقاء السلطة بيده ووضع على رأس هذه الأجهزة أشخاصاً
من الموالين له ممن يأتمرون بأمره ومن أبرزهم شقيقه د. موسى عرفات رئيس
جهاز الاستخبارات العسكرية الفلسطينية. ويطلق الناس كثيراً من النكات عن
ميليشيات السلطة المنتشرة على طريقة: (حارة كل مين إيدو إلو) .
لقد كان من أوائل إنجازات عرفات بناء 30 مركزاً للتوقيف والاعتقال، و17
سجناً مع أكثر من 40 ألفاً من شرطته التي دخلت في حرب مع الشعب الفلسطيني.
وحوّل عرفات الأجزاء الصغيرة من فلسطين الواقعة تحت سيطرته إلى جحيم لا
يطاق، وكم كان مؤلماً ذلك التقرير الذي أعده الصحافي الإنجليزي المخضرم
(باتريك سيل) عن ممارسات سلطة عرفات القمعية ونشره في صحيفة الإندبندنت
قبل أشهر بعنوان: (عار في غزة) .
صور الفساد والطريق المسدود الذي وصلت إليه السلطة أدى إلى حالة من
الإحباط لدى الناس؛ فالأوضاع الاقتصادية على سبيل المثال بلغت غاية في السوء، ولعل الدول المانحة والمتصدقة تضخ بعض الأموال كمسكنات للوضع حتى لا
ينفجر، ولكن الناس يعانون ويشعرون بالإحباط للنتائج الحالية. ذكر رئيس البنك
الدولي كمال درويش في مؤتمر الدوحة المنعقد قبل أيام: (أن متوسط دخل الفرد
الفلسطيني في مناطق السلطة الوطنية انخفض بنسبة 30% عما كان عليه عام
1993م) (العالم اليوم، 29/11/1997م) ، -لا يعني هذا أن الوضع عام 1993م
كان ممتازاً-. ولا شك أن السلطة فقدت كثيراً من بريقها، فقد ذهبت السكرة
وجاءت الفكرة، وتبين للناس أن المستقبل الوردي وسنغافورة الشرق الأوسط ما
كان إلا عَقّاراً للتخدير.
السلطة والوضع الداخلي:
هناك مجموعة من المشكلات الكبيرة داخل السلطة، ومن أواخرها تلك
الحاصلة بين تنظيم حركة فتح وبين الأمن الوقائي بقيادة جبريل الرجوب، أحد
الشخصيات القوية التي رشحها بعض المراقبين لخلافة عرفات، فكلٌ من الطرفين
يحاول الإيقاع بالآخر وعزله وإضعافه. ويطالب بعض أعضاء اللجنة المركزية
لفتح مثل: صخر حبش، وزكي عباس، بإبعاد الرجوب، ويتهمونه بالتواطؤ مع
(إسرائيل) (خصوصاً بعد الكشف عن تسليمه لعضوين من خلية سرية لحماس في
قرية صوريف) .
من جهة أخرى فإن هناك عدة دلائل تبين انخفاض الشعبية التي كانت تتمتع
بها المنظمة؛ فالانتخابات في الجامعات والنقابات تبين ارتفاع الرصيد الشعبي
للإسلاميين على حساب المنظمة. وعلى سبيل المثال فإن احتفالات الذكرى التاسعة
لإعلان الاستقلال الفلسطيني خيم عليها جو من الكآبة الكامنة في الأعماق، ففي
أوسع ساحات التجمع لم يتجمع سوى بضع مئات معظهم من صغار السن الذين
جذبتهم الأضواء والزينات وصوت المرفقعات؛ بينما لزم الكبار البيوت يجترون
خيبة الأمل، رغم أن السلطة حرصت على إقامة الاحتفالات ووضعت لها برامجاً
لتغطي كافة المناطق. ومن الأمور المضحكة أن يذكر عرفات أنه سيعلن قيام الدولة
الفلسطينية بعد عامين مع العلم أنه تم الإعلان عن هذه الدولة قبل ذلك، فما هو
الجديد؟
الوضع على صعيد المفاوضات:
ها قد انقضت أربعة أعوام على اتفاق أوسلو فما هي نتيجة هذه الاتفاقيات؟
إنه وضع عجيب: أراضٍ محاصرة فلا الغزاوي يستطيع أن يذهب إلى الضفة،
ولا الضفاوي بقادر على الذهاب إلى غزة إلا بتصريح وربما لا يستطيع الحصول
عليه إن نسبة المساحة المتاحة للفلسطينيين الآن من مساحة الضفة الغربية لا
تتجاوز 3%، وغاية العروض الإسرائيلية المقدمة ستحصر الفلسطينيين في مساحة
من 6 إلى 8% من الأرض، وقد كانت (معركة السلام) (!) في الأيام الأخيرة
تدور حول النسبة الممنوحة لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية
وهل هي أقل من 9% كما يطرح اليهود، أو هي من رقمين كما تصر الولايات
المتحدة (!) والرقمين تعني نسبة لا تتجاوز 11%.
فما الجدوى من المفاوضات والعملية المسمّاة بالسلمية برمتها إن كانت النتيجة
سجناً هذه هي مساحته؟ لقد ضاعت الأرض وتوقفت الانتفاضة ولم يتحقق السلام،
وابتُلعت القدس وبقي اللاجئون مشردون في أصقاع الدنيا وزادت الأحوال سوءاً،
فهل هذه النتيجة التي يحلم بها الناس بعد سنوات؟ !
يجمع المراقبون على أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، على سبيل
المثال في ندوة مستقبل الوطن العربي التي عقدت في (أبو ظبي) على مدى ثلاثة
أيام في بداية شهر نوفمبر الماضي والتي شارك فيها نحو 150 من الشخصيات
السياسية البارزة من العالم العربي وغيره في هذه الندوة أجمع المشاركون على أن
المفاوضات المتوقفة فعلى جميع المسارات وصلت حداً خطيراً. ففيما يؤكد عصمت
عبد المجيد الأمين العام للجامعة العربية أن (إسرائيل) تريد سلاماً أعرج يحقق
مطالبها الأمنية دون أي اعتبارات أخرى، فإن فاروق قدومي رئيس الدائرة
السياسية في منظمة التحرير يؤكد أن السلام يُحتضَر وربما يكون قد مات بالفعل.
وفي حين كانت لهجة ريتشارد ميرفي أقل تشاؤماً فإنه مع هذا يؤكد أن الوضع
خطير جداً في الشرق الأوسط، بينما بلغ تشاؤم حيدر عبد الشافي حداً بعيداً.
ويشير محمد حسنين هيكل الكاتب المصري المعروف أيضاً إلى أن عرفات
يؤدي في مسيرته السلمية دوراً محدداً ثم ينتهي، فهو يقوم بما لا يستطيع غيره
القيام به، فيشق طريق التسوية ثم يخلي الساحة لسواه بعد أن تكون قد أرهقته، بل
أنهته سياسياً نتائج فعلته. ويكون دوره كما أسر عرفات لهيكل نفسه بقوله: إنني
أشعر بما يريدونه مني ... إنهم يريدون أن ألعب دور ذكر النحل: يقوم بتلقيح
الملكة ... ثم يموت. (الرأي العام، 20/12/1997م) .
إن نتنياهو يضع العراقيل يومياً في وجه المفاوضات التي لا تناسب اليهود،
ونتنياهو هذا اعتبر اتفاقات أوسلو خطراً على (إسرائيل) ، كما اعتبر عملية السلام
ككل (ضارة) بالدولة اليهودية. بينما عرفات لا يعرف عقلية مؤلف كتاب (مكان
تحت الشمس) أعني (نتنياهو) لهذا فهو لا يستطيع أن يزاحمه في مكان لائق تحت
الشمس.
الدور الأمريكي:
تحاول الولايات المتحدة بين آونة وأخرى أن تضخ الدماء في عروق
المفاوضات حرصاً على سلامة (إسرائيل) وأمنها، ولكن ما من سبيل؛ فإسرائيل
تريد الحلول التي تراها مناسبة ولا تُفرض عليها فرضاً. والحقائق التاريخية تؤكد
أن الدور الأمريكي في المنطقة دور ملطخ منذ بدايته، كله ظلم وصلف ودعم لدولة
اليهود، ومع هذا فلا زال البعض يعلق آمالاً عريضة على دور راعي السلام.
هل نحن بحاجة إلى بيان الدور الأمريكي معنا؟ الأدوار الأميركية المشينة
معنا لها تاريخ طويل، فما بالك الآن وقد أصبحت الإدارة الأمريكية غابة من اليهود، والبيت الأبيض يعج بالشخصيات الصهيونية في كل دائرة وبأيديهم أهم الوزارات
كالخارجية والدفاع وأهم المناصب كمجلس الأمن القومي.
لقد زارت (مادلين أولبرايت) المنطقة فماذا حققت زيارتها؟ لقد طلبت
أولبرايت من (إسرائيل) وقف عمليات الاستيطان (!) ، وجاء على لسان (ناطق
إسرائيلي) رسمي أن وقف الاستيطان يعني وقف الحياة، ولا نسمح لأحد أن يطلب
منا الموت. ومنذ وصولها إلى إسرائيل حيث جرت العادة في الرحلات المكوكية
الأمريكية أن تكون إسرائيل هي أول محطة وآخر محطة كذلك أعلنت أولبرايت
الانحياز الكامل لوجهة النظر الإسرائيلية، وشنت حرباً صارخة على الإرهابيين
(أي الإسلاميين) ودعت عرفات لمواجهة حماس والجهاد معاً.
لم يكن هناك فارق بين ما يطرحه نتنياهو وما تطرحه الإدارة الأمريكية، فقد
كان التركيز الأول والأخير على قضايا الأمن. كما عبرت الزيارة من جهة عن
رفض للمطالب الفلسطينية في قيام الدولة وتجميد الاستيطان، وكانت اللغة صريحة
في هذا الشأن. وتركت الزيارة (إسرائيل) قوةً تتحدى الجميع، وقادرة على إعلان
حرب على سورية، وإذا حدث ذلك فإن واشنطن لن تكون بعيدة عن تأييد هذه
الخطوة. ومجمل القول أن الولايات المتحدة و (إسرائيل) تريدان من عرفات أن
يقوم بدور (أنطوان لحد) في جنوب لبنان، وكل الاتفاقات القديمة والجديدة تصب
في هذه الزاوية وهي التشديد على التصدي للإسلاميين في فلسطين.
وفي هذا الإطار فإن المستجدات الأخيرة مثل استقالة وزير الخارجية
الإسرائيلي دافيد ليفي في 4/1/1998م التي ستزيد من صعوبات مسيرة السلام
المزعومة؛ لأنه من أبرز رموزها في حكومة نتياهو. من جهة أخرى فإن نتياهو
وجه إلى السلطة الفلسطينية ضربة مذهلة (على حد رأي حماس) من خلال
تصريحاته يوم 19/12/1997م أي بعد يومين من لقاء نتياهو بأولبرايت التي زعم
فيها أن الضفة الغربية تشكل جزءاً من إسرائيل. فماذا كانت ردة فعل عرفات؟
وفيما يصرح عرفات أثناء زيارته للوكسمبورغ: ب (أن هذه التصريحات تشكل
انتهاكاً خطيراً لاتفاقيات السلام المبرمة في واشنطن) يستمر نتياهو وكافة المسؤولين
اليهود في تعجرفهم وعدم مبالاتهم بكل الاتفاقات. إن هذه هي عقيدة حزب ليكود
والعمل وكل اليهود وهي استراتيجيات وقناعات يهودية، وليست رد فعل على
عمليات عسكرية، واليهود لم ولن يرضوا عن عملية السلام إلا بمقدار ما تقوم
السلطة بتحقيقه نيابة عنهم بقمع الشعب المسلم في فلسطين وفتح الأبواب لهم ليكونوا
معبراً إلى العواصم العربية والإسلامية، فهل يفهم هذا عرفات؟
وآخر تصريحات نتنياهو وعشية وصول دينيس روس منسق عملية السلام
الأمريكي قوله بأنه لن يقبل أي ضغط على حكومته.
[وكالات الأنباء،5/1/ 1998م] .
تخطيط يهودي.. وتخبط فلسطيني:
في مقابل التخبط الحاصل في السلطة الفسلطينية والضعف العام في الأنظمة
المجاورة، نلمح على الطرف الآخر التخطيط اليهودي، والحديث عنه حديث طويل
ذو شجون، ولكن هناك بعض الإشارات المهمة؛ فلقد مضى مئة عام على مؤتمر
بال بسويسرا وفي الخمسين الأولى منها يعتبر اليهود أن التركيز هو على إقامة
الدولة، أما الخمسون الثانية فهي مرحلة إقامة إسرائيل الكبرى. ويتحدث علماء
إسرائيل وأحبارها عن بناء الهيكل حتى عام 2000م وأنهم إن لم يتموا بناء الهيكل
مكان المسجد الأقصى فسيكونون مقصرين حسب زعمهم في تنفيذ أوامر الرب.
كما لا يغفل التخطيط اليهودي مسألة احتمال اندلاع حرب مع العرب حين
تسنح الفرصة، وهناك عدة دلائل على هذا الأمر. ولا شك أن هناك خططاً
إسرائيلية كثيرة نجحت، فقد تم نجاح إيقاف الانتفاضة، وتم إيقاع الفلسطينيين في
فخ الحكم الذاتي ولعبة المفاوضات وغير ذلك.
هل من عودة إلى الانتفاضة؟
كانت الانتفاضة التي بدأت عام 1987م ملحمة سطر فيها الفلسطينيون شباناً
وأطفالاً ورجالاً ونساءاً صوراً شامخة من البطولات علمت اليهود دروساً ودروساً،
وبلغ عدد من قتل فيها أكثر من 1200 من الفلسطينيين غير آلاف المصابين
والمعاقين. وكان النتيجة أن شجعت الانتفاضة على الجلوس على مائدة المفاوضات
مع عرفات ومنظمة التحرير، وساعد اليهود على زرع كيان جديد من أبناء جلدتنا
لسحق المجاهدين وقمعهم وتوفير جهد ودماء اليهود. قال يوسي بيلين عضو
البرلمان الإسرائيلي عن حزب العمل الذي كان من أوائل المفاوضين مع منظمة
التحرير: (الدرس المستفاد من الانتفاضة أنه في غياب عملية السلام، البديل
الوحيد هو العنف) . (رويتر، 4/12/1997م) .
لكن هل هناك أمل في أن تعود الانتفاضة من جديد؟ تدل المؤشرات وتقارير
كثير من المراقبين على استبعاد هذا الخيار حالياً، ولكن هل ستبقى الأوضاع على
ما هي عليه؟ لا يمكن أن يبقى الناس مكتوفي الأيدي وهم يعانون من شتى ألوان
الظلم، لا نريد أن تكون نظرتنا للأمر سوداوية، لكن الأوضاع الحالية في أكثر
بلاد المسلمين وليس فقط في فلسطين لا تدل على أن الوضع سيتغير سريعاً. ولكننا
متفائلون بالمستقبل إن شاء الله، وقد علمتنا أمة محمد على امتداد العصور أنها أمة
حية لا تموت.
الإسلام هو البديل:
في الآونة الأخيرة ارتفع رصيد حركة حماس وشعبيتها بصورة كبيرة لم
تخطط حماس لها، خصوصاً بعد محاولة اغتيال (خالد مشعل) رئيس المكتب
السياسي لحماس في عمان، وما أعقب ذلك من إطلاق الشيخ أحمد ياسين. من
ناحية أخرى فإن ممارسات السلطة وتكشّف فضائحها المالية وأنواع الفساد الأخرى،
والوضع العام المزري أدى ذلك كله إلى وجود فجوة بين السلطة وبين الناس،
وهناك حالة من الفراغ، تصب في خانة الإسلاميين.
ولا شك أن التيار الإسلامي هو الغالب على الساحة، ولكنه مع شعبيته وقوته
يصعب أن يكون البديل السياسي القوي في الأوضاع الحالية. فالوضع في داخل
فلسطين شديد الصعوبة ولا يمكن أن تسمح (إسرائيل) ولا الولايات المتحدة بل ولا
الدول الأخرى بقيام كيان إسلامي في فلسطين.
الإسلاميون والدور المطلوب؟
لسنا في مقام من يوجه ويصحح ويعلم بقدر ما يذكر وينصح، وإنما بضع
همسات لعلها تساهم في الوصول إلى أهدافنا التي نصبو إليها.
إن هذا التخطيط اليهودي والصليبي الحاقد يتطلب من المسلمين أموراً مهمة
وعلى رأسها:
1- الحرص على بقاء (إسلامية) المعركة:
لقد حرص اليهود منذ عشرات السنين على إقصاء البعد الإسلامي عن قضية
فلسطين، فقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية [1] مقالاً جاء فيه (إن
على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة مهمة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في
حربها مع العرب، وهي أننا قد نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا (!) في إبعاد
الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال الثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً
عن المعركة إلى الأبد، لذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع
استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب) . هذا الخوف والهلع كان يسيطر
من قبل على زعيم اليهود ورئيس وزرائهم الأول دافيد ابن غوريون الذي قال (إن
أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد) .
وانظروا إلى صورة من المخططات اليهودية في محاولات اقتلاع الإسلام من
النفوس. لقد اعتمدت إسرائيل سياسة تجفيف المنابع الإسلامية مقلدة في ذلك بعض
الأنظمة، وعلمت السلطة الفلسطينية بقوة في هذا الاتجاه، وقد أخذت هذه السياسة
صوراً كثيرة في وسائل التعليم وإمامة المساجد وإلغاء الجمعيات الخيرية. فقام
اليهود بتأميم المساجد الواقعة تحت السيطرة اليهودية في المناطق المحتلة عام
1948م، ويشرف على ذلك يهودي عراقي في وزارة الأديان يسمى (موسى بن
حاييم) حيث لا يتم تعيين أي إمام قبل أن يجري مقابلة مع (موسى حاييم) الذي يتقن
العربية، ويحذر أي إمام من تبني مواقف وأفكار لا توافق عليها إسرائيل. كما حُرِمَ
المسلمون من أي وسيلة إعلامية فاعلة في الأراضي التي يسيطر عليها اليهود.
2- سلامة الإعداد والتخطيط: لا ينبغي للجزئيات والتفاصيل أن تستغرقنا
فننسى هذه الأهداف البعيدة، وعلينا أن نخطط بصورة جيدة؛ فالعدو لا ينام وقد
غلب علينا في حياتنا ومواقفنا العشوائية ورفع الشعارات المدوية والعواطف
المتأججة وردود الأفعال، بينما الأعداء يخططون ويكفينا مثلاً مؤتمر بال بسويسرا.
3- إعطاء التربية اهتماماً أكبر: على الإسلاميين خصوصاً حماس أن يحملوا
على عاتقهم مسؤولية إذكاء جذوة الإسلام في النفوس والدفاع عن الإسلام وتربية
الشعب عليه، وفي المرحلة الحالية قد لا يكون الخيار العسكري هو ما نستطيعه،
إذن فلا بد أن نربي الناس على معاني الجهاد وسلامة المنهج وعندما يأذن الله
فسنحرر فلسطين وغيرها من رجس يهود والأذناب، وهذا الأمر يعتبر في أعلى
قائمة الأولويات.
4- عدم الخوف من أعداء الله، وقد أعطت حماس الأمة دروساً في هذا الباب
في قهر العدو وكسر حاجز الخوف النفسي، حتى أظهر الله ضعف اليهود في
مواطن كثيرة، وما محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة (حماس) الأخ
خالد عبد الرحيم مشعل التي نفذها رجال الموساد الإسرائيلي عنا ببعيد، فقد فضحت
هذه المحاولة أسطورة قوة الموساد التي توحي للناس بشكل أو بآخر بأنها قادرة على
كل شيء.
نعم نجح الأعداء في إسكات الانتفاضة، ثم لجأوا إلى محاولات إخماد جذوة
الحمية والحماس في النفوس ودعمتهم السلطة في هذا الأمر. وهذا يتطلب إبقاء
جذوة الحماس وروح الغيرة والجهاد في النفوس حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
5- إحياء رسالة المسجد لمقاومة التيارات المنحرفة الجارفة إعلامياً وثقافياً
وأخلاقياً.
6- توحيد الصفوف والبعد عن الشقاق، وإحياء أدب الخلاف كما كان بين
السلف. وكم نتمنى أن تتوحد الجهود الموجودة على منهج سليم مع العلم أن
الكثيرين يراهنون على انشقاق حماس ويتمنون أن يدب الشقاق بين أبنائها.
7- علينا أن نزرع الثقة والأمل في نفوس شعوبنا بأن المستقبل للإسلام بإذن
الله، ونبين ذلك بالأدلة الشرعية حتى لا تيأس الأمة. إننا نعاني الآن من الضعف
والفرقة والعدو يملك ميزان القوة العسكرية حالياً ولكنها فترة وجيزة ومحنة
سنتجاوزها ثم تتغير الأحوال بإذن الله.
ونود أن نشير إلى أنه قد صدر عن بعض الإسلاميين تصريحات غير
منضبطة إسلامياً، ونحن نقدر عاطفتهم الإسلامية وغيرتهم والجهود التي قاموا بها
ولكن لا بد من الانضباط، ومن هذه الأمور مواقف البعض من السلطة. أو قول
بعضهم نحن مستعدون للعيش مع اليهود أحسن عيشة في أخوة (!) وتعاون
وتعايش بشرط ألا يلتهموا حقوقنا.
يا إخوتاه.. لا شك أن الطريق طويل ولا بد فيه من الفتن والصبر عليها،
إنه طريق طويل وصعب نعم ولكنه هو الطريق الوحيد المستقيم. والله سبحانه لا
يسألنا عن النتائج وإنما علينا أن نعمل ونغرس حتى لو كان هذا للجيل القادم وجنده
القادمين بإذن الله. [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] [البقرة: 286] ، [وَقُلِ
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] [التوبة: 105] .
__________
(1) في 18 /3 /1978 م.(125/100)
مقالات مُعرَّبة
محور جديد..
بروز الوفاق التركي الإسرائيلي
بقلم: دانيال بايس
عن ذي ناشيونيال إنترست (الاهتمام القومي) ، خاص بمجلة البيان (بالاتفاق
مع المجموعة الإعلامية الدولية الولايات المتحدة) .
في (سنكان) وهي إحدى ضواحي العاصمة التركية أنقرة رعى مجلس البلدة
مهرجاناً من أجل تخليد ذكرى (يوم القدس) وحوت منصة المهرجان صورة كبيرة
لفتحي الشقاقي، واندفع السياسيون والنشطاء بالإضافة لضيف شرف المهرجان وهو
السفير الإيراني في تركيا في إلقاء كلماتهم المتوقعة والتي تُلاقي استقبالاً حسناً،
وهذا المهرجان عادة ما يجذب القليل من الاهتمام ضمن المسار العادي للأحداث،
إلا أن الأمور لم تمض في مسارها المعتاد في تركيا في فبراير المنصرم، ففي اليوم
التالي للمهرجان صرح أحد المسؤولين العسكريين رفيعي المستوى لأحد مراسلي
صحيفة (الحرية) قائلاً (لقد تابعت الاجتماع في سنكان، ولقد ذعرت مما شاهدته) ،
وفي اليوم التالي أرسل الجيش تشكيلة من العربات العسكرية في أرجاء البلدة، ولم
تتوقف الأمور عند هذا الحد، حيث اعتقل وزير الداخلية عمدة البلدة وطرده من
منصبه. وتم إخبار السفير الإيراني أن (إسرائيل صديقتنا، ولا يمكنك التحدث
عنها بهذا الشكل) . وتم طرده فعلياً من تركيا مما دفع طهران لطرد السفير التركي
رداً على ذلك.
إن هذا مذهل بحد ذاته، فهل يعقل احتلال بلدة لأنها احتفل بيوم القدس؟
وهل يعقل اعتقال عمدة وطرده من وظيفته لتصريحاته المعادية لإسرائيل؟ وكيف
يمكن أن يكون هناك شجار دبلوماسي حول عداء سفير للصهيونية؟ كل هذا لا
يمكنه أن يحدث في الشرق الأوسط في أي مكان عدا تركيا. وهي البلد المسلم
الوحيد الذي يحتوي على مؤسسة قوية ترفض وبشكل تام العداء لإسرائيل بل وتدعم
نواة صلبة من المشاعر المتعاطفة مع إسرائيل. إن الأحداث في سنكان تشير إلى
تطور استراتيجي شديد الأهمية وهو قوة الاصطفاف التركي الإسرائيلي وما يوحي
ذلك من إمكانية تغيير الخارطة الاستراتيجية للشرق الأوسط، وإعادة صياغة
التحالفات الأمريكية هناك وتضاؤل عزلة إسرائيل الإقليمية.
مراحل الصعود والهبوط:
تعود العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى مايو 1949م، بعد أقل من عام على
قيام إسرائيل؛ وذلك عندما اعترفت أنقرة بالدولة اليهودية. وفي الواقع فإن العلاقة
التركية الإسرائيلية في تلك الفترة كانت رمزية رغم مخاوف جعلتها ذات محتوى،
إلا أنه لم يكن لديها الكثير من ذلك. وتضاءلت العلاقات بعد حرب 1973م عندما
رضخت تركيا لسلام النفط العربي وأبعدت نفسها عن إسرائيل. ولقد حسنت تركيا
وإسرائيل من تعاونهما الاستخباري وبشكل هادئ بعد اجتياح إسرائيل للبنان عام
1982م إلا أن العلاقات الرسمية والعامة بقيت باردة. ولقد أسعد مسار أوسلو الذي
بدأ صيف 1993م أنقرة كثيراً؛ حيث كان رد فعل تركيا على (المصافحة) بأن
أرسلت أخيراً سفيراً إلى إسرائيل. وبعد ذلك مباشرة قام وزير الخارجية التركي
بزيارة غير مسبوقة لإسرائيل؛ حيث وقعت الدولتان خلال السنة التالية على ثلاث
اتفاقيات وتبع ذلك المزيد من الزيارات رفيعة المستوى. وفي فبراير عام 1996م
أقامت إسرائيل أول اتصال عسكري لها بدولة ذات أغلبية مسلمة عندما وقعت على
اتفاقية تدريب عسكري تسمح من خلالها لسلاح الطيران الإسرائيلي بالتحليق في
الأجواء التركية. وفي المحصلة فإن الطرفين وقعا على ثلاثة عشر اتفاقية. ثم
جاءت أحداث يوليو 1996م، وجلبت معها احتمالية ضربة قاتلة لهذه العلاقة
المزدهرة وذلك عندما أصبح نجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا وهو الأصولي
المسلم الذي ينظر إلى إسرائيل بنفس المنظور الذي ينظر به القادة الإيرانيون،
ويتكلم عن إسرائيل كونها (العدو الأبدي) وهو يحذر من (إسرائيل كبرى) تمتد من
النيل إلى الفرات ويلقي باللوم على (مؤامرة صهيونية) فيما يتعلق بمشاكل تركيا
الاقتصادية. وفي الوقت الذي تسلم أربكان منصبه، فإن التعليقات الإخبارية بدأت
تتنبأ بأنه سوف يقوم بإلغاء الاتفاقيات التركية الإسرائيلية الحديثة. ولو كانت تركيا
كبقية دول الشرق الأوسط فإنه كان بإمكانه أن يحقق وعوده بلا شك. فمن بإمكانه
بعد هذا كله، أن يساند الروابط مع الدولة اليهودية في مواجهة رئيس وزراء مصمم
على انهائها؟
رجال اتاتورك؟
إلا أن تركيا مختلفة، والميراث العلماني لكمال اتاتورك مؤسس الجمهورية
التركية هو إبرز عناصرها. ولقد تمكن اتاتورك في فترة بسيطة هي خمسة عشر
عاماً (1923 1938م) من تقوية نظام من الأفكار المتحدثة التي ليس لها نظير في
العالم المسلم حتى اليوم، ولقد تراجعت تركيا ككل عن الميراث الأتاتوركي بشكل
كبير خلال العقود الستة الماضية، إلا أن مؤسسة واحدة لم تتغير. فالهيئة العسكرية
المؤلفة من خمسة وثلاثين ألف ضابط عسكري لا تزال تحافظ على هذا الميراث
كوديعة مقدسة. لذلك لم يكن من الغريب عندما وصل أربكان وحزب الرفاه للحكم
في يوليو عام 1996م أن العساكر الأتراك اختاروا أن يجعلوا إسرائيل إحدى النقاط
المركزية في خلافهم الواسع مع الأصوليين. ولم يصروا فقط على المحافظة على
هذه العلاقات بل على تقويتها كذلك.
لقد حصل الجيش على هذا الحق؛ لأن الدستور منحه دوراً سياسياً، ويفسر
ذلك سيفيك بير المتحدث الدؤوب والذي يشغل منصب نائب رئيس هيئة الأركان:
(إننا نتصرف وفق الدستور التركي بشكل صارم. حيث يشير البند الثاني أننا دولة
علمانية، ويشير البند الرابع أن هذا النص لا يمكن تغييره، ولقد أعطانا البرلمان
مسؤولية حماية الأراضي التركية وحماية الجمهورية التركية. في الولايات المتحدة
وبريطانيا ليس من مهمة الجيش الدفاع عن النظام السياسي، أما في تركيا فإن هذه
المهمة معطاة لنا من قبل القانون. وتشير الأدلة إلى أن أربكان أرغم على الاستقالة
في 18 يونيو، وهو حدث يشار إليه داخل تركيا غالباً (لي أنه انقلاب) هادئ أو
(صامت) .
توسيع العلاقات:
ونظراً للدور الذي يلعبه الجيش التركي في السياسة، فإن العلاقات العسكرية
برزت في لب العلاقات التركية الإسرائيلية الجديدة. واتسعت هذه العلاقات بشكل
ملحوظ منذ أحداث سنكان. ولقد سافر رئيس هيئة الأركان في الجيش التركي
إسماعيل حقي كاراداي إلى إسرائيل في نهاية فبراير 1997م، في أول زيارة
لمسؤول عسكري تركي رفيع المستوى. ثم زار وزير الدفاع التركي ترهان تايان
إسرائيل بعد ذلك، وبحلول الجزء الأول من 1997م، فإن جميع الضباط الكبار
لكلا الطرفين قد التقوا ببعضهم البعض. وعلى مستوى أدنى، يجري هناك حوار
استراتيجي بشكل سنوي تقريباً، وفي يونيو الماضي بدأت السفن التركية بزيارة
الموانئ الإسرائيلية، والنتائج الكاملة لهذه التبادلات المكثفة ورفيعة المستوى ليست
علنية بالطبع. إلا أن الإعلانات الرسمية والمتحدثون المساعدون يشيرون إلى أن
هذه النتائج تشمل خمسة جوانب رئيسة.
أولاً: مجال تحديث الأسلحة. حيث تقوم شركات التصنيع الجوي الإسرائيلية
بتحديث أربعة وخمسين طائرة فانتوم تركية من طراز (4) ، وهي قاذفة من فترة
حرب فييتنام. وهذا أكبر جزء من العديد من الاتفاقات التي أبرمت بين شركات
الدفاع التركية والإسرائيلية وهو بقيمة 632. 5 مليون دولار. حيث أن طائرة
(فانتوم 2000) سوف تمتلك قوة ضاربة محسنة وكذلك مجالاً أكبر للمناورة
بالإضافة إلى أساليب رؤية والكترونيات أفضل. وتسعى إسرائيل كذلك لتحديث
الدبابات التركية البالية (م 60) الأمريكية الصنع.
ثانياً: شراء المعدات. بعض الأسلحة (مثل صواريخ بوبا 1) يتم الحصول
عليها من خلال تحديثات الفانتوم ويتم شراؤها بشكل منفصل. وبالإضافة لذلك فقد
عبرت تركيات عن اهتمامها بالصاروخ الدفاعي (السهم) وبأنظمة الإنذار المبكر
لطائرات الفانتوم، وبنظام رادار من أجل الكشف عن الألغام البلاستيكية والتقليدية.
بالإضافة إلى أسيجة رادارات من أجل إغلاق الحدود التركية مع سوريا والعراق
(لمنع تسلل حزب العمال) . وتأمل إسرائيل أن تزود تركيا بألف دبابة ميركافا مارك
(3) ، وهي الدبابات الرئيسة للجيش الإسرائيلي، بتكلفة 5 بليون دولار.
ثالثاً: الإنتاج المشترك؛ حيث اتفق الطرفان على استثمار 150 مليون دولار
من أجل إنتاج المئات من صواريخ بوبا (2) والحديث جار حول مشروع إنتاج
صواريخ (دالية) بعيدة المدى.
رابعاً: التدريب. حيث يتعلم الطيارون الأتراك والأطقم حول الحرب
الالكترونية في إسرائيل بينما يحصل الطيارون الإسرائيليون على منفذ للامتدادات
الشاسعة في الأناضول من أجل التدريب على الطيران بعيد المدى فوق الأراضي
الجبلية (وهو يختلف جداً عن الطيران فوق الماء ويخدم كاستعداد محتمل لمهمات
ضد إيران) . وفي خطوة مثيرة أعلنت كل من أنقرة والقدس عن خططها لتدريبات
بحرية ثلاثية مع الولايات المتحدة ولمدة خمسة أيام. أطلق عليها اسم (الحدود
المعتمدة) ، وكان من المفروض أن يتم إجراؤها في أواسط نوفمبر 1997م، ولقد
كان أمر إقامة هذه التدريبات مثيراً ومفاجئاً للعديد من الدول في المنطقة لدرجة أنه
تم تأجيل إقامتها مرتين، ومن غير الواضح من هو الطرف الذي طالب بالتأجيل
وما الأسباب وراء ذلك؟
خامساً: التشارك الاستخباري. حسب تقرير صحفي تركي (وتم إنكاره من
قبل وزير الدفاع التركي) فإنه عندما أفلست ألمانيا الشرقية فإن الأسلحة السوفيتية
الصنع تم تحويلها لجمهورية ألمانيا الفيدرالية، والتي بدورها زودت إسرائيل بثلاث
طائرات ميغ 29. حيث شاركت إسرائيل المعلومات التقنية حول الميغ 29 (وهي
أحدث طائرة حربية تمتلكها سوريا) مع الأتراك. ويسود الاعتقاد أن الإسرائيليين
يستغلون طيرانهم في الأناضول قريباً من سوريا والعراق وإيران؛ وذلك من أجل
جمع المعلومات حول هذه الدول المعادية. وبالإضافة للجانب العسكري المكثف،
فإن للعلاقات التركية الإسرائيلية أبعاداً أخرى، ولكن ليس بنفس الديناميكية
والتفصيل، وتشمل ما يلي:
التجارة: حيث يتم التوقيع على اتفاق لمنطقة تجارة حرة تركية إسرائيلية في
مارس 1996م. حيث يتوقع أن تساهم في ارتفاع التجارة إلى أربعة أضعاف ما
هي عليه خلال ثلاث سنوات من 450 مليون إلى2 بليون دولار.
النقل: يقال إن الطرفين قد وقعا على اتفاقية للنقل الأرضي والتي ستكون
موضع تنفيذ فقط بعد (تطبيع) العلاقات في المنطقة، أي بعد حدوث تغير في سوريا
وهي الجسر الأرضي بين البلدين يسمح بالتجارة عبر أراضيها. وحتى بدون النقل
الأرضي فإنه ليس هناك نقص في النقل بين البلدين؛ حيث زار تركيا في السنة
الماضية حوالي 400 ألف إسرائيلي (ما يعادل 8% من السكان) وأنفقوا ما يعادل
ثلاثة بلايين دولار. (وبشكل آخر مثير، فإن الخطوط الجوية التركية هي ثاني
أكبر ناقل من تل أبيب وإليها، بعد شركة الطيران الإسرائيلية العال) .
المياه: حيث تتركز الاقتراحات التركية حول (أنانبيب السلام) والأفكار
الإسرائيلية حول (قناة السلام) حول نقل المياه العذبة من تركيا إلى إسرائيل. ولم
تثمر أي من هذه الخطط وذلك لرفض السلطات السورية مرور هذه المياه من
أراضيها. ويجري الآن النقاش حول أساليب أخرى لنقل المياه بالرغم من ضخامة
تكاليفها.
الديانة: حيث أعلن مفتي أستنبول في أول زيارة لوفد ديني تركي لإسرائيل
في إبريل 1997م أنه (ليس هناك اعتراض إسلامي ديني على وجود دولة ...
إسرائيلية) وهو ليس بالتصريح التقليدي لرجال الدين. وتبدو الدولتان غير متأكدتين
حول الكيفية التي يجب بها تصوير هذا التعاون المتزايد. فأحياناً نجد التشديد على
المحتوى السلمي وفي أحيان أخرى نجد التلويح بالجانب الحاد لهذا التعاون.
ويناقض القادة الأتراك والإسرائيليون أنفسهم فيما يتعلق بسوريا؛ حيث يصرون
أحياناً أن تعاونهما ليس موجهاً ضد طرف ثالث.
لماذا التغيير؟
ليس هنالك أي تغيير جوهري فيما يتعلق بالحوافز الإسرائيلية الرئيسة حيث
سعت إسرائيل منذ أيام دافيد بن غوريون إلى علاقات أفضل مع تركيا كإسفين يتم
من خلاله كسر أطواق عداء الدول المجاورة الناطقة بالعربية، ويبقى السؤال
المطروح: لماذا يسعى الأتراك وهم يتعاملون مع مد ديني يجتاح العالم المسلم قاطبة
إلى علاقات وثيقة كهذه مع إسرائيل؟ وتنقسم الإجابة على هذا السؤال إلى قسمين
يدعم كل منهما الآخر وهو الميل العام والاحتياجات العملية. فبالنسبة للجزء الأول، فإن الأتراك يستذكرون العلاقات السابقة مع اليهود بشكل أفضل من العلاقات مع
العرب. حيث صرح وزير الدفاع التركي على سبيل المثال (أنه لم يكن لدينا أي
مشاكل مع إسرائيل والأمة اليهودية عبر التاريخ) وهو شيء لا يمكنه وهو غير قادر
على قوله بإمانة فيما يتعلق بالعرب. وتشترك تركيا وإسرائيل فيما يطلق عليه
المحلل الآن ماكومشكي (شعوراً مشتركاً بالاختلاف عن الأنظمة الديموقراطية
العربية التي تهيمن على المنطقة) . أضف إلى ذلك أن المؤسسة العسكرية التركية
ودولة إسرائيل تشتركان في مقدمة سياسية فريدة كونهما أقوى مؤسستين معاديتين
للأصولية في المنطقة.
ولدى تركيا كذلك مشاكل إقليمية لم تحل بعدُ مع دولتين عربيتين مجاورتين
وكلاهما عدو قديم لإسرائيل؛ ففي حالة العراق فإن تركيا لم تتخل عن مطالبها
القديمة لمنطقة الموصل. حيث أعاد الرئيس ديميريل هذه المطالب إلى الحياة مرة
أخرى في مايو 1995م عندما أعلن أن (الحدود خاطئة) وقال بأن (هذا الأمر يجب
تصحيحه) . وتبقى المشكلة الرئيسة هي سوريا، حيث ما زالت الحكومة السورية
تطالب وبإصرار بمقاطعة تركية كاملة وهي (حاتاي) كملك لها. وتظهر الخرائط
الرسمية السورية حاتاي كجزء من سوريا. إلا أن المشاكل مع سوريا تتعدى النزاع
حول الأراضي. حيث تطالب دمشق بحصص أكبر للمياه المتدفقة من الفرات
واعترضت بشدة على المشاريع المائية التركية التي تنقص مع حصة سوريا في هذه
المياه. ولتركيا كذلك مصالح مشتركة مع إسرائيل. حيث أن قبرص اليونانية لا
تزال تمثل مشكلة بالنسبة لأنقرة فهي أيضاً كذلك موضع قلق للقدس نظراً لتواجد
العديد من المجموعات الفلسطينية هناك. وبالنسبة لإيران فإنه منذ الثورة الإسلامية
عام 1979م فقد سعى النظام الإيراني لتدمير إسرائيل ولقيام جمهورية تركية
إسلامية في آن واحد، وتكتسب تركيا قوة من خلال عملها مع إسرائيل كونها
مجاورة لثلاث دول عدوانية. ولو أن حافظ الأسد ابتدأ العدوان ضد تركيا فإن عليه
أن يقلق من إسرائيل التي تلاحقه من ناحية الجنوب. ولتركيا كذلك مصالح من
وراء ذلك في مواجهة اليونان؛ حيث عبّر أحد المحللين الصحفيين عن ذلك بقوله
أن الروابط مع إسرائيل قد أبطلت مفعول بعض الأوراق الرابحة التي حاولت
الحكومة اليونانية لعبها ضد أنقرة) .
وتكسب إسرائيل كذلك في أوقات الحرب من غير اشتراك تركي مباشر كما
يوضح مايكل ايزنستادت: (بإمكان الجيش التركي أن يحشد قواته على الحدود مع
سوريا. وهذا سيؤدي إلى تقييد الاحتياط الاستراتيجي السوري وبإمكان تركيا أن
تسمح للطائرات الإسرائيلية المعطوبة بالهبوط في القواعد التركية وتقوم بتحرير
المعلومات الواردة من الطيران الاستطلاعي. وهذا سيدفع سوريا إلى إعادة صياغة
أنظمة الدفاع الجوية. وفي البحر، فإن بإمكان تركيا أن تسمح لإسرائيل بالعمل من
خلال القاعدة البحرية في الأسكندورنة أو في المناطق المحظورة في المياه التركية
قريباً من سوريا مما يدفع بسوريا لتوزيع أسطولها) .
وهذه الشراكة التركية الإسرائيلية الجديدة مناسبة على المستوى الدولي كذلك.
حيث تسعى تركيا إلى مصدر يمكن الاعتماد عليه فيما يتعلق بالمعدات العسكرية
ذات التقنية العالية. وبالنسبة للأتراك وهم غريبون نسبياً في واشنطون فإن لديهم
الآن حليفاً ذا اتصال ويتوقعون منه الكثير؛ حيث صرح أحد المحللين الأتراك قائلاً: (العديد من الأتراك يؤمنون أن عربون الصداقة مع إسرائيل يعني الحصول على
الدعم الأمريكي) .
الردود:
في الوقت الذي يؤكد فيه كبار الزوار على أن تركيا وإسرائيل هما (الدولتان
الديموقراطيتان الوحيدتان في المنطقة) فإن العلاقة بينهما لا يمكن اعتبارها خياراً
ديموقراطياً. ويشير بعض الإسرائيليين إلى أن القوات المسلحة التركية هي التي
أصرت على كثرة الاتفاقات مع إسرائيل وليس الحكومة. ويقدر المحللون الأتراك
والإسرائيليون الاحتمالات المهمة لهذه العلاقة الجديدة. حيث يكتب الصحافي
التركي اللامع سامي كوهين قائلاً: (إن هذا التحالف الغني قد غير من ميزان القوى
الاستراتيجي في الشرق الأوسط الغني بالنفط) . ويصف صبري سيلري وهو محلل
سياسي هذه العلاقة بأنها (أهم علاقة عسكرية) في الشرق الأوسط. أما وزير الدفاع
الإسرائيلي السابق موشيه أرينز فيراها بأنها (تغيير مهم في جيوبوليتكية الشرق
الأوسط) ويصفق معظم الغربيين بصراحة لهذه التطورات؛ حيث وصفتها
النيويورك تايمز بأنها (أقوى صداقة عسكرية في الشرق الأوسط) . أما نشرة
(defes news) فتصفها بأنها (حركة رائعة ترفع الأمن التركي والإسرائيلي
لدرجة لا يمكن عملياً التعرض لها) . ولقد دعمت إدارة كلينتون بصلابة حليفيها
الرئيسين في الشرق الأوسط وهما يشكلان هذه الشراكة وينبغي الإشارة بذلك.
حيث صرح مسؤول وزارة الخارجية في تصريح غير مألوف في رعونته (أن من
الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة أن تقوم تركيا وإسرائيل بتحسين تعاونهما
العسكري وعلاقاتهما السياسية. وإذا لم يعجب ذلك بعض الدول العربية فإن ذلك
أمر حلف. (إلا أن الإزدهار في العلاقات التركية الإسرائيلية قد أصاب العديد من
الخصوم الإقليميين بفجع شديد. حيث اتهم وزير الخارجية السوري فاروق الشرع
تركيا وإسرائيل بتشكيل (تحالف عسكري) . أما وكالة الأنباء الليبية فقد عبرت عن
قلقها إزاء (حلف عسكري مشبوه) يهدف لسرقة (النفط والمصادر المائية) . أما
الإيرانيون فحددوا مخاوفهم بقدرة الإسرائيليين الآن على استهداف منشآتهم النووية.
أما حزب العمال الكردستاني فقد صور باستهزاء رئيس هيئة الأركان التركية على
أنه (خادم مدني لإسرائيل) .
إن الرباط التركي الإسرائيلي في حال استمراره في مساره الحالي سوف يؤدي
إلى تغيير الخارطة الاستراتيجية للشرق الأوسط. والسؤال هو هل سيؤدي
لاستقرار أم بلبلة في المنطقة؟ مبدئياً، هذا التحالف قد يؤدي لمزيد من المشاكل،
وكمثال للعنف الذي قد يسفر عن ذلك قام فلسطينيون بإلقاء زجاجة مولوتوف في
الحديقة الأمامية للقنصلية التركية في القدس الشرقية في أوائل مايو، ثم قاموا بإلقاء
سائل سريع الاشتعال على سيارة القنصل التركي. وتشير تقارير الأنباء أن بشار
ابن حافظ الأسد قد اجتمع بزعيم حزب الله حسن نصر الله (واتفق الاثنان على
مهاجمة أهداف تركية) وتم فتح الحدود العراقية السورية وهي التي كانت مغلقة لمدة
سبعة عشر عاماً نتيجة اعتراف أسدي حزب البعث حافظ الأسد وصدام حسين أنهما
يواجهان تحالفاً مهدداً مشتركاً.
أما على المدى البعيد، فإن الروابط التركية الإسرائيلية القوية ستؤدي إلى
استقرار المنطقة من خلال قيامها لردع كردع عسكري مهول ضد أي عدو محتمل،
ومن المحتمل أن ثمار ذلك قد بدأت بالظهور حيث تشير تقارير الصحافة العربية
إلى أن سوريا قررت عدم الدخول في تحالف استراتيجي مع إيران خوفاً من أن
(يؤدي ذلك لزيادة التنسيق ما بين أنقرة وتل أبيب ضد دمشق) مما يؤدي إلى مزيد
من العزلة. وتوفر المشاركة التركية الإسرائيلية العديد من الميزات لشراكة إقليمية
مكونة من حلفاء ديموقراطيين وذات توجه أمريكي؛ وذلك خلافاً للحكام
الأوتوقراطيين الذين اعتمدت عليهم واشنطن لخمسة عقود كما هو الحال في أوروبا. وفي حال تم تنمية هذا التحالف بحذر، فقد، ينضم إليه الأردن كذلك بالإضافة
لبعض الدول لاحقاً. والنتيجة النهائية هي الهدف الذي استقصي تحقيقه من بين
الأهداف إلا وهو: شرق أوسط مسالم.(125/112)
مرصد الأحداث
لماذا المرصد..؟
في هذه الزاوية الجديدة، تنقل (البيان) للقارئ، أخبار ما أهملته الأخبار، من
الأقوال والأحداث والمواقف ... ننقلها كما هي من مصادرها دون تصرف إلا في
العنوان الذي يعبر عن دلالة الخبر ... والدعوة مفتوحة لقرائنا الكرام أن يرسلوا
إلينا بما يرون أنه جدير بلفت اهتمام المسلم، على أن يرسل لنا أصل الخبر
ومصدره مع التعليق والاسم والعنوان. ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
صدام قوة خارقة!
أستبعد احتمال إطاحة صدام حسين بسهولة، إن مثل هذه العملية تتطلب
وجوداً عسكرياً أمريكياً برياً على الأرض في العراق في حدود نصف مليون جندي!! ولكن.. هل الكونجرس مستعد لإرسال هذه القوات؟
... ... ... [مادلين أولبرايت، جريدة الحياة عدد 12763]
مازال اليسار يحلم
رغم الصورة القاتمة للكرة الأرضية في ظل سيادة الرأسمالية المتوحشة، فما
زلنا نمتلك القدرة على التفاؤل والأمل، ليس لأن اليسار هو التطلع إلى غد أفضل،
وهو القدرة على الحلم والإصرار على تحقيقه، ولكن لأننا نلمح في وسط هذا
الظلام بصيصاً من النور يأتي من هنا وهناك.
... ... ... ... ... ... ... ... [مجلة اليسار عدد 95]
كوسوفو.. إلى المحرقة
أ - مع بداية المواجهات الشديدة ومقتل العشرات من مسلمي كوسوفو على يد
القوات الصربية رفع الاتحاد الأوروبي حظر السفر عن خمسة من الزعماء الصرب
المتشددين إلى دول الاتحاد.
ب - أعربت دول الاتحاد الأوروبي عن قلقها إزاء التطورات، وأصدرت
الولايات المتحدة بياناً حول المواجهات خلا من انتقاد السلطات الصربية.
ج - إن زعيم صرب البوسنة السابق (رادوفان كاراجيتش) وقائده العسكري
(راتكو ملاديتش) كانا رمزاً لكفاح التحرير العادل للشعب الصربي، ولن نتدخل في
تسليمهما إلى محكمة لاهاي؛ لأنهما أحرار في تقرير مصيرهما بنفسيهما.
[بيليانا بلافيتيش رئيسة صرب البوسنة، جريدة الحياة عدد 12783) ]
وأنعم به من سلام!
في أكبر سابقة في العلاقات الدبلوماسية بين مختلف دول العالم سجلت
إحصاءات الاحتجاجات الرسمية الإسرائيلية ضد مصر منذ إقامة علاقات دبلوماسية
معها في عام 1978م حتى الآن الرقم القياسي في تاريخ الدبلوماسية العالمية، حيث
سجلت إدارة الوثائق بالخارجية الإسرائيلية حتى منتصف فبراير 1998م أكثر من
5 آلاف احتجاج إسرائيلي ضد السلطات المصرية، وتقدمت مصر بنحو 1940
احتجاجاً ضد الممارسات والأنشطة السياسية والأمنية ضد المصالح وكبار
الشخصيات المصرية منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية معها حتى الآن.
[جريدة الوطن الكويتية عدد 7915]
كوبنهاجن..
مُسعر حرب في ذكراه الأولى
أ - إذا كان لتحالف كوبنهاجن من إنجاز فإنه لا يتعدى إشعال الحرب الأهلية
بين المثقفين العرب، وأسوأ ما فيه، هو أن العناصر التي تزعمت الدعوة إليه،
كانت في السابق من أبرز عناصر الجبهة الداعية لاستخدام سلاح وقف التطبيع
كسلاح تفاوضي في ظل الصراع العربي الإسرائيلي، فجأة.. ومن دون سابق
إنذار انتقلت هذه المجموعة إلى الجبهة الأخرى.
... ... ... ... ... [صلاح عيسى، معارض لتحالف كوبنهاجن]
ب - إن الذي يتصور أن الخلاف في الرأي يمكن أن يصل إلى حد الحرب
الأهلية يكون متخلفاً وغير قادر على الاختلاف، ولا يستحق البقاء.
[لطفي الخولي أحد مؤسسي التحالف، جريدة الحياة عدد 12781]
الحصاد الاجتماعي للعلمانية
عدد المواطنين العرب الذين يعيشون تحت خط الفقر يراوح بين 65 مليوناً،
و73 مليون نسمة، و10 ملايين لا يجدون الغذاء الكافي، و60 مليون أمي.
[تقرير مؤتمر العمل العربي جريدة الحياة عدد 12782]
فواتير الرضى.. والسخط لمن؟
أ - إن على اليابانيين أن يفعلوا شيئاً لإنقاذ اقتصاد آسيا، وليس الولايات
المتحدة، إن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تستمر كقائد وحيد للتجارة العالمية يقدم
العون للدول الأخرى، ولا أحد لديه إناء لا ينفد من الذهب.
... ... ... ... ... [وزير التجارة الأمريكي وليام ديلي]
ب - إن الولايات المتحدة ستفرج عن مساعدات للكيان الصربي قيمتها 65
مليون دولار.
[مادلين أولبرايت،جريدة الخليج الإماراتية عدد 6853]
المرتدون.. لا بواكي لهم! !
إن تكفير الكتّاب، والدعوة إلى حرقهم، وحرق كتبهم وجرجرتهم إلى المحاكم، والتحريض على قتلهم، وتطليق زوجاتهم، أصبحت مهام (مقدسة) لمشايخ
(مباحث) الإيمان التي تحظى بجرأة في ذبح المطبوعات لا تحظى بها أجهزة الذبح
الرسمية، إنها تفرض القهر، فمن سوى الله يلهمنا الصبر! !
إن الصراع لن يتوقف بين الكاتب والرقابة، بين النور والعتمة، بين الإبداع
والفاشية، بين اللحم والسكين، ومهما كانت شراسة الصراع، فإن البقاء في النهاية
للأصل، للأمل، للحرية.
[عادل حمودة، مجلة روز اليوسف عدد 3634]
دولة عرفاتية.. ورقية
من كل قلبي أريد قيام الدولة الفلسطينية، لكني لا أضحك على نفسي وأقيم
دولة على الورق لا كيان لها، دولة محاصرة تحت الاحتلال بحددوها المغلقة
وجيش أجنبي يحتلها ولنفرض أن الدولة قامت واعترف بها العالم، فما هي تلك
الدولة التي تخضع في كل صغيرة وكبيرة لإمرة السلطات الإسرائيلية؟ الدولة
الفلسطينية يجب أن تقوم على أرض فلسطينية حرة لا سيطرة لغيرنا عليها، وهنا
فقط سأشارك بكل قواي في بناء هذه الدولة، لكن لن أشارك في بناء دولة ممسوخة
تخدم الاحتلال.. هذه ليست دولة.
... ... [الشيخ: أحمد ياسين، جريدة الحياة، عدد، 12786](125/122)
قضايا ثقافية
توسيع قاعدة الفهم
بقلم: د. عبد الكريم بكار
لم تكن الحاجة ماسّة إلى الفهم العميق في يوم من الأيام كما هي اليوم؛
فالمعلومات متوفرة إلى حد التخمة، وصار الفارق الواضح بين إنسان وآخر يتمثل
في مقدرته على الفهم، والاستفادة من تلك المعلومات على نحو حسن. وهذا لن يتم
إلا من خلال امتلاك مركّب عقلي جديد، ذي بنية متميزة. ومهمة التربية أن تساهم
في تكوين تلك البنية وصقلها. وسنذكر هنا بعض المسائل ذات العلاقة بذلك:
أ - إن أول عمل علينا أن نقوم به هو أن نقلع الأشواك من الأرض الطيبة
التي نريد أن نزرعها. كثيراً ما نعمد إلى محاولة تلقين الطلاب بعض المبادئ
المنطقية، أو نشرح لهم بعض أساليب التفكير؛ وعند النظر في مدى التأثير الذي
يتركه ذلك في تصحيح تصوراتهم نجد أنه محدود جداً. وقد رأينا كثيراً ممن يدرِّس
علم (المنطق) وكثيراً ممن درسه، ورأينا أن تفكيرهم يفتقر إلى بعض البدهيات
التي يحتاجها التفكير القويم! ولذا فإن من الصحيح أن يركز المربي في البداية على
إلقاء الأضواء الكاشفة على الأفكار والرواسب السابقة، والمفاهيم والعادات العقلية
والنفسية التي تحول دون الرؤية الصحيحة [1] ، مثل التعصب والمبالغة والرؤية
النصفية، والميل إلى التبسيط، والانغلاق، والخضوع للمقولات الشائعة،
والتعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة ... وأعتقد أن أثر الأسرة في هذا لن يكون
كبيراً؛ حيث إن هذه المسائل أعقد من أن ينتبه إليها الأشخاص العاديون؛ وإنما
المعوّل في ذلك على الوسائل الإعلامية والمناهج المدرسية والمجالس والندوات
الفكرية.
ب - إن تقدم العالم كان في الأغلب عن طريق (الأزمات) وإن القفزات
العلمية والإبداعية جاءت في الأغلب من خلال الاصطدام بمشكلات كبيرة ومحيرة.
الذين استطاعوا تجاوز العقبات، والإتيان بالمبهر العظيم، ليسوا أولئك الذين ...
استسلموا للمقولات والمفاهيم السائدة في الساحة العلمية، ولا أولئك الذين يتبرمون
بالنتائج التي خالفت توقعاتهم، وفروض بحوثهم؛ وإنما أولئك الذين يملكون العقل
المنظم الذي يهش ويبش في وجه المسائل المحيرة والمعضلات الغامضة، ويمنحها
الرعاية والملاطفة؛ حتى يجد مخرجاً أو برهاناً يثبتها على محك التجربة
والاختبار [2] . إن كثيراً من أفكارنا لن يبلغ حده الكافي من التبلور والنضج إلا إذا اغتبطنا بالحقائق التي لا تتطابق مع ملاحظاتنا وفروضنا الأولية؛ حيث من خلالها نستطيع إدخال تعديلات على أفكارنا، ونجعلها أكثر ملاءمة للتقدم، وأقرب إلى الدقة والصواب. نحن بشر وتحليلاتنا وملاحظاتنا، ستظل قابلة للتشذيب والتطوير، ويجب أن نعلِّم أطفالنا وطلابنا هذه الحقيقة، ونُريهم من خلال الوقائع والمواقف التطبيقاتِ التي تجعلها تتغلغل في (اللاشعور) منهم.
ج - قالوا قديماً: نصف عالم أضر على الأمة من جاهل. وهذا من الحكم
الرائعة؛ لأن الجاهل يملك بعض الأخلاقيات، مثل التواضع وحب المعرفة،
والقدرة على الاستماع دون مقاطعة. أما نصف العالم، فإن لديه قدرة على تكرار
الألفاظ، وطرح الفروض المبتذلة والدارجة، وعنده حظ من الغرور والتعالم؛ ولذا
فإنه يسدل حجباً سميكة على عقله، فلا يتقبل الأفكار الجديدة، ولا يملك من
الحماسة ما يكفي لتطوير مفهوماته وطروحاته.
إن توسيع قاعدة الفهم، يتطلب منا أن نؤكد دون ملل على ضرورة وضع
معارفنا وأفكارنا في موضعها الصحيح من جسم المعرفة البشرية المنظمة، والسائدة
اليوم، وأن ننظر بجدية إلى خطورة ما نجهله حول كل قضية من القضايا
المعاصرة. وأرى في هذا السياق أن قدر العالم وفضله لا ينبعان من كثرة ما يعرف، وإنما من حدسه بما لا يعرفه وتقديره له، وأخذه بعين الاعتبار عند إصداره
الأحكام.
إن صاحب الفهم الصحيح، يحاول دائماً أن يجعل أفكاره متساوقة مع حجم
البراهين المتوفرة لديه، فعلى مقدار صلابة المعلومات والبراهين تكون صلابة
الأفكار ودرجة الوثوق بها. وإذا نظرنا في واقع عالم الأفكار لدى كثيرين منا،
وجدنا أن درجة الوثوق واليقين كثيراً ما تكون متقدمة على ما هو متوفر لديهم من
أدلة وبراهين ومعلومات؛ مما يجعلهم في حالة دائمة من الاضطراب والتشوش،
ومما يجعل خيبة الأمل حليفة لهم!
د - حتى تتسع قاعدة الفهم لدى الناشئة، فلا بد من إكسابهم (المرونة) الفكرية، وسرعة استيعاب المتغيرات الهائلة التي تجتاح العالم. إن شاب الغد يحتاج إلى
أن يكون مستعداً للتنقل الجغرافي من أجل طلب الرزق، فمنطق العصر هو
(الترحال) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. ويجب أن يكون أيضاً مستعداً لتغيير
اختصاصه ومهنته بحسب ما يتوفر من فرص العمل. وبحاجة إلى تغيير مفاهيمه
عن أشياء كثيرة محيطة به [3] . وهذا كله يحتاج من الشاب أن يمتلك المرونة
الفكرية والنفسية. لعل مما يساعده على اكتساب هذه المرونة أن ينظر إلى أن
الاستجابة للتغيير ليست عبئاً خالصاً؛ فهي بما تتطلبه من التكيف، تخلص الإنسان
من الملل والسأم، وتخلصه من كثير من الواقع السيئ الذي يعيشه؛ فالتغيير حين
يقوده مسلم، يكون بإذن الله نحو الأحسن والأفضل.
مما يسهم في تكوين المرونة الذهنية لدى الأطفال، جعلهم يدركون جملة
الفروق والاختلاف بين بني البشر، وأنه لا يمكن جعلهم نسخاً مكررة بعضهم عن
بعض في كل أمر؛ بل إن الله جل وعلا خلقهم مختلفين ليكمل بعضهم بعضاً على
جميع المستويات: [وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً] [الزخرف: 32] . ففي الاختلاف ثراء وتنوع وإخصاب وتعاون، وهو عامل
أساسي في توازن الحياة العامة. إن فهم الناس العميق للحياة، بكل ما فيها من
تعقيدات وتشابكات بهدي من المنهج الرباني، وبتبصير من الخبرة، سوف يخفف
إلى حد بعيد من الشعور بالألم، ومن التلاوم، وسوف يجعل أحلامهم ممكنة،
وخيالهم معقولاً بعقال ما يمكن توقعه؛ أي سيكونون أقرب إلى الحكمة. وكما كان
يقول (نيتشة) : (إن النمو في الحكمة يقاس بدقة بانخفاض المرارة) [4] .
ولا ينبغي أن نهمل في هذا الصدد مساهمة معرفة حدود (الجائز والممنوع) في
مسألة المرونة؛ فحين يتضح للمرء بجلاء ما هو جائز، ويتميز عما هو محظور
وممنوع، فإنه يقبل بجرأة كل الأشياء التي تدخل في حيز المباح، مهما كانت
صورها وأشكالها، ومهما كانت غريبة وغير مألوفة. ومشكلة معظم الشعوب
المتخلفة خلو خبرتها ووعيها من الجذور الفاصلة بين الجائز والممنوع على
المستوى القانوني على الأقل؛ حيث إن لديها إلى جوار كل قانون مكتوب قانوناً
غير مكتوب؛ مما جعل لدى الناس أنواعاً من الخوف غير المسوّغ، وأحدث حالة
من الإحجام المبهم، كما أنه تسبب في تورط بعض الناس في أمور، كانوا يظنون
أنها من قبيل المباح: وهذا هو السر الأكبر القابع خلف سلبية الإنسان لدينا!
مما ينمي خبرة التفريق بين الجائزات والممنوعات، أن نستمع بأذن صاغية،
وبعقل مفتوح لكل ما يُطرح من أفكار، وأن نتقبله على أنه اجتهاد، ما لم يصادم
إجماعاً أو نصاً قطعياً؛ فالأفكار لا تنضج، ولا تتبلور ما لم تلكها ألسنة المناظرة.
من خلال الحوار والنقاش والمفاتحة، ومن خلال الوقوف على الأهواء والأخطاء،
بنصر طريقنا إلى المنظور الكلي الذي هو الحقيقة. ولا ريب بعد هذا وذاك في أن
سعة الفهم، لا تؤدي إلى الاتفاق في الآراء، لكنها تمنح الأساس للاختلاف، أي
تجعل الاختلاف مؤصلاً واضحاً، وتجعل ما يتم من اتفاق متيناً؛ لأنه يقوم على
قواعد فكرية ومنهجية صحيحة. ونستفيد من ذلك التسامح والتعاطف المتبادل في
حالة الاختلاف، والتعاون والمشاركة في حالة الاتفاق.
إن الإنسان كائن قابل للتعلم، بل إن الإنسانية كلها، تظل تتعلم باستمرار،
وإذا تملكتنا هذه الفكرة، فسوف نعرف كيف نكتسب المرونة، وكيف نستخدمها في
تحسين نوعية الحياة.
هـ إن الهدف الأساسي من كل ما نتلقاه من تعليم وتدريب، ليس أن نتمكن
من سرد المعلومات عن ظهر قلب، ولكن أن نحاول ترشيد أحكامنا العقلية، التي
نستند إليها في كل القرارات التي نتخذها في جميع مجالات الحياة. وهذا يعني أن
على التربية والتعليم استهداف تكوين (العقل المثقف) وهو ذلك الذي اجتاز عدداً
كبيراً من حالات التدرب على التفكير المستقيم، والذي يستطيع استخلاص نموذج
خاص وملامح محددة من خلال استعراض عدد كبير من وجهات النظر المختلفة في
المسألة الواحدة. وهذا يعني الاطلاع على مقولات كثيرة في الموضوع الواحد،
وتدريب الذهن على الاستفادة من تلك الموضوعات في بلورة رؤية خاصة
متماسكة [5] .
كان أفلاطون يرى أن من الضروري أن يكون للعقل نوع من الاستقلال
النسبي عن الوسط الذي يعيش فيه [6] . وهذه الوضعية في تصوري مما يجب أن
تشملها جهود توسعة قاعدة الفهم، وتربية العقل المثقف؛ إذ إن توحد عقول الناشئة
مع الأوساط والبيئات التي يعيشون فيها، سيؤدي بهم إلى أن يصبحوا (إمّعات) لا
يحسنون سوى التقليد، لكن حين يشجعون على إبداء وجهات نظر مغايرة لما هو
سائد، فإنه سيتكون لديهم عقل ناقد، وسيكون ذلك مصدراً لتجديد متوازن. إن
تثقيف العقل وتدريبه على إصدار الأحكام، يشبه تقوية العضلات، حيث يمكن بعد
تقويتها أن نستفيد منها في أي عمل يتطلب القيام به استعمالها. إنه يمكن تنمية
(العقل المثقف) بطرق عديدة، منها تهذيب قوى الملاحظة المميزة، وتقوية ملكة
المنطق ليتمكن الفرد من تتبع الحجة نقطة بعد أخرى، وبالعمل على إنضاج القدرة
على المقارنة.
إن بإمكان الدراسات اللغوية والعلوم الطبيعية أن تنمي عادات الملاحظة الدقيقة، وإن الرياضيات هي المدرب التقليدي لملكات التفكير. أما التاريخ والدراسات
الأدبية، فهي تسهم في تنمية القدرة على الحكم [7] .
__________
(1) حاولنا في كتاب (فصول في التفكير الموضوعي) تسليط الضوء على شيء من ذلك.
(2) قاموس جون ديوي للتربية: 130.
(3) العرب وعصر المعلومات: 394.
(4) قصة الفلسفة: 494.
(5) انظر الثقافة الفردية وثقافة الجمهور: 83.
(6) الدروس التي تتعلمها التربية من علم النفس: 138.
(7) المصدر السابق: 139.(125/126)
في دائرة الضوء
صراع الحضارات
أم هيمنة الحضارة الغربية؟
بقلم: د. محمد يحيى
اتسع نطاق الجدل في الآونة الأخيرة حول المقولة التي عرفت باسم: (صراع
الحضارات) والتي ولدت من خلال دراسة لأستاذ جامعي أمريكي هو (صمويل
هنتنجتون) سعى فيها من وجهة نظره إلى تحليل الوضع العالمي تحليلاً استراتيجياً
مستقبلياً على ضوء التغيرات في السنوات الماضية فيما كان يعرف بالاتحاد
السوفييتي والكتلة الشرقية أو الشيوعية، وهي نفس المتغيرات التي ألهمت زميل له
هو (فرانيس فوكرياما) بتكوين مقولة حول (نهاية التاريخ) كان لها هي الأخرى
نصيب في إثارة الجدل والنقاش. وقد انطلق (هنتنجتون) من واقع زوال القطب
الشيوعي في الحضارة الغربية إلى طرح افتراضات حول المسار الذي سوف تأخذه
السياسة الدولية مع الدخول في القرن الميلادي الواحد والعشرين، وانتهى إلى أن
الحضارة الغربية (التي رأى أنها تشمل الشعوب البيضاء أو ذات الأصل القوقازي،
والمسيحية الديانة، والأوروبية الفكر والثقافة) سوف تواجه بخصم عنيد محتمل في
المستقبل القريب يطرح تحديه على خلفية حضارية ثقافية تتحرك أمامها التطورات
السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والعسكرية وهذا الخصم هو بالمقام الأول
الحضارة الإسلامية ثم الحضارة الآسيوية الشرقية أو الكتلة البوذية.
وذهب (هنتنجتون) أو مفسروه إلى أن التنافس والصراع سوف يكون طابع
العلاقة بين الحضارات المذكورة ليس فقط حول النفوذ السياسي والاقتصادي بل
أيضاً حول وبسبب الثقافة والقيم الحضارية والاجتماعية والعقائد الدينية والمذاهب
الفكرية.
وقد أثارت هذه المقولة فور ذيوعها ردود فعل عديدة كان أغلبها على الجانب
الصحفي السطحي المتسم بالعصبية. وكان أول وأبرز ردود الفعل هذه، وهو ما
سبق لكاتب هذه السطور أن تعرض له، أن صدرت بيانات وتصريحات ودفاع من
جانب رموز إسلامية رسمية في بلدان معينة تنفي أن يكون الإسلام يسعى للمواجهة
والصراع، وتؤكد أنه يريد التعاون والمشاركة مع الغرب، وراحت هذه الأصوات
تعيد تكرار المقولات المألوفة التي نسمعها كلما اتهم الغرب الإسلام بالتعصب أو
التطرف أو الإرهاب من أن الإسلام دين تسامح ومحبة واحترام واعتراف بالآخرين. ورأى كاتب هذا المقال أن رد الفعل هذا كان المقصود بدايةً عن الترويج الإعلامي
الغربي لمقولة (هنتنجتون) . حيث بدا أن الدوائر السياسية والإعلامية في الولايات
المتحدة بالذات أرادت أن تخرج من الدول الإسلامية ولا سيما الواقعة تحت نفوذها
بتطمينات حول نوايا المؤسسات والتوجهات الإسلامية نحو الغرب بعد أن كثر
الحديث حول ما يوصف بخطر التوسع الأصولي الإسلامي. أي أن الهدف من
الترويج الدعائي للمقولة على نطاق شعبي كان حثّاً على رد فعل دفاعي اعتذاري من
الجانب الإسلامي ينكر فيه هذا الجانب أية نوايا عدوانية ضد الغرب، ثم يلتزم علناً
وأمام العالم بالموقف الفكري والعملي الذي يريده الغرب من المسلمين ألا وهو موقف
الانضمام إلى توجهات الغرب وعلمنة الفكر والعقيدة الإسلامية وتغريبها إلى الحد
الذي تصبح فيه مماثلة لما عند الغرب من عقائد، كما تصبح فيه مألوفة مأمونة
الجانب لدى الجمهور الغربي. إذن كان الترويج الواسع لمقولة صراع الحضارات
على المستوى الإعلامي مدبراً ليقوم الجانب الإسلامي برد فعل يخدم الغرب.
لكن هذا الرأي على وجاهته لم يمس المقولة نفسها قدر ما لمس أحد الجوانب
السياقية في ترويجها الإعلامي. ومقولة (هنتنجتون) تحفل بالجوانب التي تثير
الفكر، ولعل أول هذه الجوانب هو سبب اختراع أو تصور خصم مستقبلي
للحضارة الغربية بعد زوال الخصم السوفييتي ولكن مع الفارق؛ لأن الخصم
الشيوعي كان خصماً من داخل الحضارة ذاتها؛ بينما الخصوم المطروحون هم من
خارج تلك الحضارة؛ إلا إذا فسرنا الحضارة الصينية واليابانية على أنها متأثرة
فكرياً وثقافياً بالغرب سواء في شيوعية الصين، أو في انغماس اليابان في
التكنولوجيا المادية ذات الأصول الغربية. إن هذه الرغبة في خلق أو تصور
الخصوم قد تبدو غير مفهومة إلا إذا تصوّرنا وجود نية عدوانية دفينة لدى دوائر
أمريكية سياسية وفكرية تريد التعبير عنها من خلال اختلاق الأعداء لإعلان الحرب
عليهم والتنفيس عن هذه الرغبات العدائية.
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة فإذا أردنا أن نكسب طرح (هنتنجتون)
مصداقية فكرية أكبر لجاز لنا القول إن اختراع وتصور الأعداء والخصوم
المستقبليين بعد زوال خصوم الماضي يدل على رغبة عارمة لإثبات الذات والهوية، ولا يتأتى هذا إلا بمثول منافس وخصم عنيد أمام هذه الذات والهوية تثبت وجودها
وجدارتها في الوقوف أمامه والتسابق والتنافس ثم الصراع معه، ولعل (هنتنجتون)
هنا يعيد بوعي أو بدون وعي مقولات (هيجل) المشهورة في الفكر الغربي حول
الذات والآخر وإثبات الذات لوجودها فقط من خلال الصراع مع الآخر. وهناك
جانب ثقافي عملي آخر لعملية اختراع الخصوم أو الأعداء وهو محاولة بث الحيوية
والنشاط واستنهاض الهمة في الحضارة الغربية بالتحذير من وجود أعداء خطرين
على الأفق والتلويح بهم؛ ذلك أنه قد ساد الإحساس في العقود الأخيرة وبالذات في
دوائر السياسة والأكاديمية الأمريكية اليمينية المحافظة بأن الحضارة والثقافة الغربية
تتعرض للانهيار والتدهور والتآكل من الداخل لا سيما على المستويات الأخلاقية
والإنتاجية (بل لقد اتخذ انهيار الكتلة الشرقية نفسه على أنه من علامات هذا
الانهيار) ، وإزاء هذا التصور المقلق بوجود تدهور ذاتي داخلي في هذه الحضارة
كان رد الفعل الطبيعي بالنسبة للدوائر المدافعة عنها هو اختلاق عدد خطير وتحد
كبير يقف خارج هذه الحضارة والتلويح بهذا الخطر والعدو كوسيلة لحث واستشارة
طاقات الفعل والاستجابة والنهضة الثقافية عند أبناء الحضارة الغربية ليتجاوزوا
الضعف والتآكل.
يمكن القول من هذه الزاوية: إن مقولة صراع الحضارات لها جانب قد نسميه
بالسياقي، ونعني به: أن لها دوافعها وبواعثها في إطار السياسات والأوضاع
الثقافية في الغرب وبالتحديد لدى دوائر أمريكية ذات نفوذ تريد الحفاظ على الهوية
الحضارية الغربية وتجديد حيويتها وقدراتها النزالية التنافسية بطرح خصوم
المستقبل الألداء، وإفهام أبناء الحضارة أنه إذا كان العدو السوفييتي وكتلته قد زالا
فإن هناك على الأفق من الخصوم الأشد (وهم على المستوى الحضاري ذاته) الذين
ينبغي الحذر منهم، والاستعداد لدفع كيدهم، والتقوي والنهضة لاحتمالات المنافسة
والصراع معهم. ولكن إثبات الذات والهوية في وجه تحدي الآخر قد لا يكفي هو
الآخر لتفسير مقولات (هنتنجتون) واستقصاء جوانبها وأبعادها لا سيما أن الآخر
المطلوب التحذير منه ليس كله وهماً مختلقاً بل له صفات تستحق التأمل فيها. إن
قائمة أعداء وخصوم متنافس الغرب تستحق الدراسة.
وأول ما يلفت النظر في هذه القائمة أنها ليست على مستوى واحد من الطرح
فهي تجمع بين خصوم واقعيين فعليين قائمين (الحضارة الآسيوية الناهضة أو
البوذية أو الصينية اليابانية) وخصوم محتملين ليسوا سوى إمكانية قد تتحقق أو لا
تتحق (الخصم الإسلامي) كما تخلو منها أسماء حضارات وثقافات قائمة ذات قوة
نووية مؤكدة وقوة اقتصادية ذات إمكانات قوية (الهند، إسرائيل، البرازيل، جنوب
أفريقيا وكتلة الدول الموالية) ، فلماذا نجد في مقولة صراع الحضارات قوى قائمة
ومؤكدة قد وضعت بجانب قوى محتملة على قائمة الخصوم؟ ثم لماذا تخلو القائمة
من قوى أخرى مؤكدة؟ قد يقال في تفسير هذا الأمر الأخير أن تلك القوى المحذوفة
لا تمثل خطراً على الحضارة الغربية في المستقبل حتى لو تسلحت بالأسلحة الذرية
وملكت زمام القوى الاقتصادية الكبيرة، فالعلاقة مع إسرائيل اليهودية أوضح من
كل بيان؛ والبدهي أن أمريكا تعتبر هذا الكيان امتداداً لها وسط الساحة العربية
الإسلامية؛ فإسرائيل قوة مضافة لصالح الحضارة الغربية حتى ولو كانت يهودية
الدين سامية الأصل عبرانية اللغة شرق أوسطية الموقع، فهي بمثابة الطليعة
الزاحفة للجيش أو الحصن المتقدم. أما البرازيل فربما يقال إنها بنت الغرب بدينها
الكاثوليكي ولغتها البرتغالية وتلاحمها الاقتصادي العضوي مع قارتها التي تعتبر من
لواحق الغرب. ولا ننسى أن مقولة (هنتنجتون) تقيم أساسها على أطروحات العرق
والأصول الأوروبية، وينطبق الشيء نفسه على جنوب أفريقيا حتى على الرغم من
الكلام الكثير الذي قيل حول إنهاء نظام سيطرة الأقلية البيضاء؛ لكن البلاد تبقى
مرتبطة بالحضارة الغربية على مستويات أعمق من العرق هي اللغة والمسيحية
والاقتصاد.
لكن الهند الهندوكية الآسيوية تبقى هي اللغز في الاستبعاد من قائمة الخصوم.
فلماذا استبعدت الهند وهي دولة نووية التسلح فيما يقول الغرب نفسه، وهم كذلك
يقولون لنا إنها قوة اقتصادية ناهضة تشبه في عدد سكانها وطبيعة نشاطاتها
الاقتصادية (بل تفوق) ما تسمى باقتصاديات النمور الآسيوية؟ لماذا استبعدت الهند
ووضعت الصين واليابان وقوى آسيوية أخرى على قائمة خصوم الغرب المحتمل
أن يتصارعوا معه؟ هل ذلك لأن قوة الهند الذرية والاقتصادية هي قوة مكرسة علناً
ضد المسلمين حول الهند في بنجلاديش وباكستان وشمالها في وسط آسيا بل وإلى
إيران والخليج أو نزولاً إلى ماليزيا وإندونيسيا؟ وإذا كانت الهند مستبعدة من قائمة
خصوم الغرب في القرن القادم برغم أنها ليست قوة غربية وبرغم إمكاناتها
العسكرية والاقتصادية الهائلة فقط لأنها قوة ستنهض بدور المواجهة للإسلام حولها؛
فماذا يدلنا ذلك عن مقولة صراع الحضارات؟ إن الدلالة الواضحة هي أن تلك
المقولة لا تنبني فقط على مبدأ الدفاع عن الحضارة الغربية والانتصار لإثبات ذاتها
وهويتها بل إنها تقوم أيضاً على منطلق ديني معاد للإسلام يقبل بأن يتحد الغرب
الأبيض المسيحي الأوروبي الثقافة مع حضارة سمراء هندوكية شرقية آسيوية ولا
يتخذ منها خصماً محتملاً رغم إمكاناتها القوية الواضحة؛ لا لشيء إلا لأن هذه
الحضارة أو الثقافة قد حددت بالفعل استراتيجياتها للمواجهة؛ بحيث تتصادم لا مع
الغرب (أمريكا أو روسيا أو أوروبا) بل مع الكتلة الإسلامية المجاورة لها بل وقد
تتصادم كذلك مع الكتلة الصينية التي يخشاها الغرب وكان قد سبق لهم صدام من
قبل.
وإذا عدنا إلى قائمة الخصوم كما تحددها مقولة صراع الحضارات فسوف
يستوقفنا المزج كما قلنا بين القوى الموجودة بالفعل والقوى الموجودة فقط بالاحتمال
النظري غير المؤكد؛ مع إعطاء الأولوية في الخطورة ودرجة التحذير لهذه القوى
الأخيرة، ونعني بها الإسلام. فالتركيز يجري على الخطر المحتمل من جانب
الحضارة أو التيارات الإسلامية قبل أي شيء آخر؛ رغم أن هذه التيارات تعاني
من ضعف شديد أو على الأقل تعاني من هجمة شرسة ليس فقط من جانب الغرب
بل من جانب أنصار وعملاء الغرب داخل الدول الإسلامية نفسها سواء أكان هؤلاء
من التيارات العلمانية المتغربة أو من الدوائر الحاكمة. وهنا يثور التساؤل: لماذا
يوضع الإسلام الجريح كدول وتيارات موضع الخطر الأسمى وهو مجرد احتمال
قوة؟ بينما لا تذكر القوى الفعلية المؤكدة التي يعاني منها الغرب بالفعل الآن إلا في
المرتبة الأخيرة، وربما على سبيل العرض أو لإعطاء الانطباع بأن الإسلام لا
يستهدف وحده؟ إن وجود إجابة على هذا السؤال من الأهمية بمكان، إذا كان الأمر
قضية تحذير حقيقي من خصوم سوف يجري معهم الصراع في السنوات القادمة كما
يقال؛ فلماذا لا يتصدر القائمة الخصوم والمنافسون القائمون فعلاً ويتصدرها خصوم
محتملون بدرجة ضعيفة؟ إن الشكوى الآن في الغرب هي من المنافسة الاقتصادية
الطاحنة من جانب الصين واليابان وسائر الاقتصاديات الآسيوية الناهضة مما يهدد
حقيقة وفعلاً ربحية الصناعة والتجارة الغربية ويهدر قدرتها على المنافسة، بل إن
الشكوى كانت وما زالت قائمة من التنافس الاقتصادي الشديد داخل الكتلة الغربية
ذاتها (ألمانيا في مواجهة دول أوروبا الغربية وأوروبا الغربية، في مواجهة أمريكا ... إلخ) فلماذا والحالة هكذا ينحّى هؤلاء الخصوم القائمون الفعليون ويصدّر الإسلام للعداوة وهم لم ينافس ويصارع الغرب بعدُ بدرجة تمثل أي تهديد؟ وربما يقال إن هؤلاء الخصوم اقتصاديون أساساً في تهديدهم بينما تهديد الإسلام المحتمل أو منافسته هي على المستوى الثقافي الحضاري أو العقائدي الأوسع وهو ما يهم الغرب في الجوهر على الرغم من إعلاء شأن المادة والنقد والاقتصاد في الحضارة الغربية. وأياً كانت الحال فإن وضع الإسلام بالذات منفرداً على أول قائمة الحضارات التي سيجري الصراع معها من جانب الغرب في المستقبل القريب على الرغم من وجود خصوم يفترض أنهم أجدر منه بتلك المكانة لذو دلالة.
يدل هذا الوضع المنفرد على أن تصور الغرب للصراع القادم يراه عقائدياً في
جوهره وليس كما يذهب العلمانيون في الأقطار العربية الإسلامية اقتصادياً مادياً
وإن كان بالطبع ينطوي على هذا الجانب. كما يدل أيضاً على أن الإسلام كدين
وعقيدة مستهدف بذاته وليس أيضاً كما يذهب العلمانيون وكارهو الإسلام في بلادنا
إلى أنه قد استهدف بالعداوة من الغرب بسبب تصرفات من يسمون بالمتطرفين أو
الأصوليين أو الإرهابيين على الجانب الإسلامي. لقد أصبح من المقررات الثابتة
في هذه الأيام أن نسمع ونقرأ تصريحات لمسؤولين كبار ورموز دينية تبرئ الغرب
من تهمة العداء للإسلام واستهدافه وترمي باللوم على المسلمين الذين أتوا في زعم
هذه التصريحات من الأفعال المتطرفة والمشوِّهة لصورة الإسلام ما جعل الغرب
يخشى الإسلام ويعاديه، لكن هذه المزاعم تفضحها وتنقضها مقولة صراع
الحضارات، فمهما بلغت شراسة ما تسمى بأفعال التطرف (ونلاحظ أن معظمها
ينصبّ على داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها وليس على الغرب مباشرة) فإنها لا
تسوِّغ أن يطرح أستاذ جامعي بحثاً علمياً يفترض فيه الموضوعية يضع الإسلام
على رأس قائمة الأخطار المهددة للحضارة الغربية، ويسقط أو يقلل من الأخطار
القائمة بالفعل من ثقافات وأيديولوجيات ودول وأنظمة قوية وقائمة. لا يمكن لأعمال
التطرف وحتى الإرهاب أن تسوِّغ هذا الطرح كما يتبجح العلمانيون الذين يهتمون
بالدفاع عن الغرب وتسويغ توجهاته أكثر بكثير مما يهتمون بالإسلام كما يدعون وإلا، فقد بدر من الصين مثلاً من الأعمال العدائية للأمريكان مثلاً في الماضي القريب
ما كان يدعو إلى اتخاذها العدو الأول في الحاضر والآتي ومع ذلك تجد من
يسوِّغون الصداقة والتعاون معها.
إن مقولة (هنتنجتون) حول صراع الحضارات آتت بنتيجة ربما لم تكن
متوقعة منها وهي أنها أسقطت ودحضت أحد أهم طروحات اللادينيين في البلاد
العربية في الوقت الراهن وهو أن المسلمين مسؤولون بسلوكياتهم عن إساءة صورة
الإسلام في الغرب مما دفع الغربيين إلى اتجاه العداوة، ذلك أن طرح (هنتنجتون)
عن الجوانب العميقة والجوهرية في علاقات الحضارات ولا يتوقف عند أعمال
عنف أو تطرف هنا أو هناك على زعم صحتها، وهو إذ يتحرك على هذا المستوى
الأعمق يصدق مع النفس (أي مع الذات الحضارية الغربية) ويرى أن الإسلام سوف
يكون هو الخصم الأكبر للغرب وليس أي من الحضارات الأخرى. صحيح أن
(هنتنجتون) يتحدث كسائر الصحف الغربية عن الإرهاب والأصولية والتشدد
الإسلامي لكن كل هذه الدعاوى تبدو فجة وواهية بل وكاذبة إذا ما وضعت بجانب
الحقيقة التي يدركها الجميع وهي أن الإسلام كقوة دولية فاعلة ومؤثرة ليس موجوداً
الآن بالحجم الذي يسوِّغ كل هذا التهويل؛ لذلك تبقى الحقيقة أو الاستنتاج المنطقي
بأن استهداف الإسلام بتسميته الخصم الحضاري للغرب لا ينطلق إلا من دافع العداء
الصرف لهذا الدين والعقيدة. وهناك الدوافع التي ألمحت إليها من قبل باستنهاض
همم الغربيين وحشد قواهم وتوجيهها ناحية العدو الخارجي وليس الداخلي مع إيجاد
فرصة للذات الحضارية الغربية لكي تتحدد وتتجدد في مواجهة الآخر. وفوق هذه
الدوافع نجد أن أطروحة (هنتنجتون) ترمي إلى مساعدة الدوائر الحاكمة في الغرب
على تحديد استراتيجية للمستقبل بوضع العدو المحتمل أمام أنظارهم. وإذا تتبعنا
مسار السياسات الغربية ولا سيما الأمريكية في الأعوام الأخيرة لوجدنا أن هذه
الأطروحة قد أصبحت بالفعل تمثل النور الهادي والمرشد للتحركات الغربية عن
عداء وملاحقة للإسلام ومن تحريض للأنظمة والدوائر التابعة على مواصلة هذه
الملاحقة والاضطهاد للحركات الإسلامية. وهكذا تتحول الأطروحة النظرية إلي
واقع عملي منظور.
وما تزال مقولة صراع الحضارات تجلِّي لنا من الجوانب الكاشفة الشيء
الكثير الذي ينتظر البحث في مقال قادم بإذن الله.(125/132)
منتدى القراء
دعوة النساء
هند القحطاني
مما لا يخفى على المراقب لأوضاع الدعوة الإسلامية ونشاطاتها في المجال
النسوي أن هناك ثمة أخطاء وسلبيات لا بد من إلقاء الضوء عليها في محاولة
للنهوض لأداء دورها الفاعل في المجتمع. وتجنباً للإطالة فإنه يمكن أن ألخص ما
أريده فيما يلي:
1- غياب الترتيب والتنظيم في النشاطات الدعوية والاعتماد على:
*الارتجالية في العمل.
*عدم الاستفادة من الخبرات القديمة.
* قلة محاولة التطوير لما هو أحسن.
2- مركزية القرار عند من يتخذ القرار، وعدم استعمال مبدأ الشورى وغياب
مفهوم التفويض مما يؤدي إلى:
ضياع طاقة الممسكين بزمام الأمور في أعمال قد يستطيع أي فرد آخر أقل
منهم قدرة أن يقوم بها.
تربية الأفراد على التبعية وعدم تأهيلهم للإمساك بالزمام فيما بعد. وهذا يقودنا
إلى نقطة مهمة.. أن معاشر الفتيات لا يربين! وليس هناك خطة لتربيتهن تربية
جادة لاستغلال طاقاتهن في إطار إمكانياتهن وداخل حدودهن. وواقع الفتيات أن كل
من تلتزم منهن بالطريق الصحيح تصبح كنباتات البر كلاً ينمو على حدة، كلاً له
غذاؤه وكلاً له مساءه، وكلاً له طريقته.
3- غياب القدوات الحية التي تقوم بدور المغناطيس الذي يجذب كل من حوله؛ وذلك أن كل فكرة أو عقيدة لا بد لها من شخص يؤمن بها ويجعلها أسلوباً لحياته؛
فتتطلع أنظار الناس إليه وتتعلق به وبما يملك؛ لأنه يعيشها واقعاً حياً يراه الناس،
وليست كلمات مجردة في خطب قد تكون مؤثرة ولكن ينتهي دورها عند غياب
صوتها وهذا الغياب الذي طبع النشاطات بطابع الفوضى حيث لا توجد محاولة
للانتقاء.
4- ذوبان الأهداف العامة وعدم وجود إجابة محددة لسؤال مطروح:
ماذا نريد؟ وكيف سنحققه؟
5- الاختلاف حول تطبيقات مفهوم قوله تعالى [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ]
[الأحزاب: 33] مما يجعل نشاطاتنا تقع ما بين مؤيد ومعارض بلا نقاط التقاء..
حيث يلتزم الفريق الأول بمفهوم الآية النصي، ويلتزم الفريق الثاني بقاعدة
الموازنة بين المصالح والمفاسد.
ويقال إن المرأة نصف المجتمع بل كما تشير الإحصائيات الحديثة والدلائل
النبوية أنها أكثر من ذلك. فهل نحسن الاستفادة من هذا النصف؟ !(125/140)
منتدى القراء
أمة المشركين
سعد الزهراني
إن محاولات الكفار والعلمانيين للنيل من الإسلام وأهله ليس بغريب ولا بجديد
من عدو متربض سواء كان في قدم الزمان أو حاضره؛ فالأعداء هم الأعداء، ولن
ننتظر يوماً من عدو قوي مستكبر أن يدافع عن عقيدتنا ومقدساتنا وحقوقنا، هذا لن
يكون أبداً إلا إذا كنا أمة هابطة لا نعي ولا نفهم وليس لنا عبرة في تاريخ الأمم ومما
قصه الله علينا في كتابه الكريم، يقول تعالى: [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً
وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] [الممتحنة: 2] .
ولكن ماذا عن أحوالنا معاشر المسلمين؟ هل نحن أهلٌ لحمل هذه الرسالة
الخالدة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال؟ هل نحن جادون
بالتمسك بتعاليم ديننا الحنيف أفراداً وجماعات وحكومات؟ هل استجبنا لنداء الله
ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] [الأنفال: 24] . فهل آن الأوان لكل مسلم أن
يستجيب لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- اعتقاداً وتطبيقاً قولاً وعملاً ونسير كما
سار عليه سلفنا الصالح أخوة متناصحين يوالي بعضنا بعضاً متعاونين على البر
والتقوى، ومنتهين عما نهانا الله عنه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.(125/142)
منتدى القراء
توجيهات للداعية
عمر بجاد العصيمي
1- استثمار مسؤولية الدعوة وحمل همّ تبليغ الدعوة إلى الناس فتكون شغلك
الشاغل وعملك الدائم.
2- العمل في الدعوة على أكمل مناهجها وأشرف طرقها والاتصال بالعلماء
الربانيين والدعاة وسؤالهم فيما يعسر عليك.
3- العمل بما يقوله العلماء العاملون.
4- السير في الدعوة بمناهج صحيحة والاستنارة بكتاب الله الكريم وسنة نبيه
المصطفى الأمين.
5- على الداعية أن يكون قريباً من الناس يتألفهم ويتودد إليهم بالأخلاق
الحميدة والخصال الكريمة.
6- الصبر على تبليغ الدعوة والعمل بلا يأس ولا منّة.
7- إحسان الظن بالله، وأن تعظم أملك في الله؛ فقد تكون وحدك ولكن الله
يبارك بعملك وجهدك.
8- احتساب الأجر عند الله، وأن يكون همك الآخرة؛ فالعبرة مقام العبد عند
الله وليس عند الناس.
9- عليك بالأخلاق اللطيفة ولين الجانب والرفق.
وآخر داعونا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على صفوة عباده المرسلين.(125/140)
منتدى القراء
من أدبِ الصغار
أسامة عبد الرؤوف الجامع
بينما كنت ماشياً بين أزقة المدينة وشوارعها رغبت في شرب الماء؛ فبحثت
هنا وهناك علِّي أجد ماء سبيل أرتوي منه، فأقبلت على أحدها فوجدت أنه قد
سبقني غلام بشرب الماء، فانتظرت دوري فما كان منه لما رآني إلا أن ملأ الكوب
ماءً وقدمه لي وقال: تفضل. حاولت أن أرده إلا أنه ألح بكل أدب فلما فرغت،
شرب هو الماء بدوره وقد سمّى بالله، ثم حمده، ثم انصرف، تأملت في تصرف
هذا الغلام وعجبت من أدبه وسمته، وقلت في نفسي: إن سلوكاً مثل هذا لا يمكن
أن يأتي إلامن بيئته الطيبة وتأديب أبويه له، كيف لا، وهو في سن تكثر فيه
الاهتمامات التافهة والتصرفات الطائشة. وكنت سألت ذات مرة بعض الشباب
المراهق عن اهتماماتهم فقال أحدهم: إني أتمنى أن أركب سيارة بورش السباقية،
وقال آخر: إني أتمنى أن أجمع أكبر قدر من الطوابع القديمة من مختلفة أنحاء
العالم، وكذلك صور الفراشات الملونة. ثم توجهت بالسؤال إلى نمط من الشباب
الصغار من ذوي التربية الناضجة فقال أحدهم: إني أتمنى أن أكمل حفظ القرآن
الكريم كاملاً لأرضي ربي، وقال آخر: إن مشكلتي هي أني لا أقوم لصلاة الفجر
فأتمنى من الله أن يعينني عليها، وآخر اهتماماته في القراءة، وآخر اهتماماته في
علوم الفلك، عجباً والله! أليس السن واحداً؟ أليس مشربهم واحداً ومأكلهم واحداً؟
بلى! ولكن تأديبهم وتوجيههم ليس بواحد، فرق بين أب يحكي لأبنائه قصص
السيرة النبوية وقصص السلف الصالح في جلسة عائلية رائعة، وبين أب يحكي
لأبنائه آخر أخبار الفن والفنانين والرياضة والرياضيين، ما أجمل أن يسير الأب
مع ابنه جنباً إلى جنب إلى المسجد وقد حان وقت الصلاة، فالأب ينصح ابنه،
والابن يوقظ أباه لصلاة الفجر! إنها صورة مشرقة تشترى بماء الذهب، لكنها لا
تأتي من فراغ. قالوا قديماً:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ... على ما كان عوّده أبوه
فمتى يصحو بعض الآباء من غفلتهم، وإلى متى يتركون أبناءهم هملاً هكذا؟
بل لعلك تجد أباً يحرص على مستوى ابنه الدراسي حرصاً شديداً لكنه لا يعير أدنى
اهتمام لمستوى ابنه الإيماني والأخلاقي وكأن الدراسة أهم، أمّا الدين والخلق فهما
أمران جانبيان، وليصاحب الابن من شاء فالمهم ألا يتأثر دراسياً! منطق عجيب
يتحلى به بعض الآباء، ولن يصحو مثل هؤلاء إلا عندما يكبر أبناؤهم ويقطفون
ثمرة تربيتهم، وكيف لا يظهر العقوق؟ فمن ضعف دينه فليس للحياء والأدب مكان
في قلبه.(125/141)
منتدى القراء
فراسة محدث
طارق محمد العمودي
ذكر الحافظ المزِّي في تهذيبه [1] عن شيخ أهل الحديث في عصره الإمام
محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي أنه قال: (من أراد العلم والفقه بغير أدب، فقد
اقتحم على أنْ يكذِبَ على الله ورسوله) .
لقد استوقفتني كثيراً عبارة هذا الإمام الحافظ الثقة ذي الرحلة الواسعة في
طلب العلم.
فهو يفصح رحمه الله بأنّ طلب العلم إنْ كان غير مقرونٍ بالآداب السامية،
والأخلاق الفاضلة، فهو وبال على صاحبه.
فكيف يؤخذ العلم ويكون له تأثيره على طالبه ممن ليس هو في مصاف أهل
القدوة؛ فكم من امرئ أصبح له قدْرٌ لدى عامة الناس من خلال سمته وأسلوب
معاملته الحسنة مع الناس.
وهل العلم أصلاً إلا قناة من قنوات غرس الأخلاق الحسنة لدى من يطلبه
وينمّيه له؟
ويدخل في عبارة هذا الإمام أدب طالب العلم مع شيخه وأقرانه في الطلب.
وأذكر في هذا الصدد ما حكاه الإمام ابن الجوزي [2] يصف بعض شيوخه
ممن طلبوا العلم بالأدب فتأثر بهم فقال: (ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على
قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث،
وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكنت وأنا صغير السن
حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد [3] . وكان على سمت المشايخ الذين
سمعنا أوصافهم في النقل ... ) .
وانظر إلى طلبة اليوم، فقسم منهم يأتي لا للاستفادة والعلم وطلب المزيد،
وإنما للمناقشة العقيمة مع شيخ المادة، أو لتصيد عيوب الشيخ العلمية، وقسم آخر
ما أن ينتهي وقت المحاضرة، إلا وقد هرول مسرعاً خارج القاعة كأنه يهرب من
قفص أسد، سابقاً شيخه في الخروج، رافعاً صوته باللغو.
فأيّ أدب هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأين نحن من قول الحسن البصري (كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى
ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده) [4] .
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا أدباً مقروناً بالعلم النافع إنه مجيب الدعاء.
__________
(1) 24/313.
(2) صيد الخاطر، ص 140.
(3) يقصد قواعد الأدب في نفسه.
(4) الزهد لابن المبارك، ص26، والزهد لأحمد، ص 261، وسنن الدارمي، 1/89، والمدخل للبيهقي، ص 321، وأخلاق العلماء للآجري، ص 71، وجامع بيان العلم لابن عبد البر، 1/60، 127، ورجاله إسناده ثقات.(125/142)
الورقة الأخيرة
من لهؤلاء..! ؟
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
كان يأتي إلى المسجد الوحيد في المدينة من مكان بعيد جداً لأداء صلاة الفجر، وعلى الرغم من الخطورة الأمنية التي تمنع كثيراً من الناس من الحركة في هذه
الساعة المبكرة من اليوم، إلا أنه كان حريصاً أشد الحرص على ذلك، وسمعته
يقول: منذ أن قرأت قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بشّر المشائين في الظلم
إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) ، وأنا حريص على أن أكون من أهل هذا
الحديث إن شاء الله.
سألته: ما الذي دعاك إلى الإسلام..! ؟
فقال: ولدت في جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي لأب مسلم وأم نصرانية،
كنت أرى أبي يؤذن في البيت ويصلي، ولكني ما كنت أعرف ماذا يفعل، فقد
توفي وعمري سبع سنين، كل الذي أدريه أنه أسرّ إليّ في مرض وفاته قائلاً:
(أنت مسلم، يا ولدي.. إياك أن تذهب إلى الكنيسة مع أمك.. أنت مسلم، أليس
كذلك؟ !) ثم فارق الحياة..
نسيت وصية أبي.. أو قل: لم أكن أفهمها. وذهبت إلى الكنيسة، فقد كانت
أمي كاثوليكية متدينة، وما كنت أقتنع بكثير مما أسمعه أو أراه.. فلما كبرت كنت
أتفلت من قيود الكنيسة، واشتغلت بالتجارة، فانفتحت عليّ الدنيا، فازدادت غفلتي
وبعدي عن التفكير بجميع الأديان.
حتى جاء اليوم الذي سافرت فيه إلى جزيرة (جاميكا) لغرض التجارة، كنت
أسير في أحد شوارع العاصمة، وفجأة.. سمعت صوتاً رخيماً متخشعاً ينادي
بالأذان، ما كنت أعرف ماذا يقول، ولكني تذكرت أذان والدي، تذكرته وهو
يشدني على صدره، والدموع تملأ عينيه، ويقول لي: (أنت مسلم.. أليس كذلك؟!) وكأنه يستعطفني أو يستجديني، أحسست برعدة شديدة تسري في جسدي، لا
أدري لماذا اقترن عندي الإسلام بالأذان، فما كنت أعرف عنهما شيئاً. وأخذت
أرتجف، حتى انفجرت بالبكاء.. مشاعر كثيرة اختلطت في ذهني، وكأني وجدت
شيئاً عزيزاً على نفسي طالما افتقدته. بكيت، وما كنت أبالي بنظرات المارة..
ذهبت أبحث عن مصدر الصوت، حتى دلوني على المسجد، فوجدت المؤذن
رجلاً كبيراً أميّاً لا يعرف شيئاً كثيراً عن الإسلام، فعاجلته بالسؤال بعد السؤال،
لكنه لم يشف غليلي، وإنما دلني على مكتبة المسجد، فما وجدت شيئاً أقرؤه إلا
ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية. فأخذت أقرأ بنهم شديد، حتى وقفت
على قول الله تعالى: [لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَإن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
[المائدة: 73] ، فأحسست بهزة عنيفة أيقظتني من سبات عميق، وما بتّ تلك الليلة إلا وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
تأملت هذه القصة، ثم رجعت إلى نفسي، وقلت: كم هم أولئك الحيارى
الذين يتخبطون في ظلمات الجاهلية شرقاً وغرباً، بل وفي ديار الإسلام، ومنهم من
كانت أمهاتهم غير مسلمات ومع ذلك لم نحسن عرض الإسلام لهم بصفائه ونقائه
ومحاسنه العظيمة. على الرغم من التقنيات الهائلة التي تميز بها هذا العصر، حتى
إن (القرآن العظيم) لم يتيسر لنا ترجمة معانيه ترجمة سليمة خالية من الأخطاء
المنهجية واللغوية إلى اللغات الحية فضلاً عن اللغات الأخرى.
إنّ البشرية.. كل البشرية متعطشة إلى هذا القرآن العظيم لينقذها من حيرتها
وتخبطها، وإنّه أمانة عظيمة، فهل نعي هذا..؟ !(125/143)
صفر - 1419هـ
يونيو - 1998م
(السنة: 13)(126/)
كلمة صغيرة
احذروا..!
عجيب أمر أدعياء العلمانية ومدعي التنوير فهم يستخدمون كل مواهبهم في
الإساءة لكل منتم للإسلام، ويعملون ليل نهار للتشكيك حتى في نواياهم وأنهم وراء
كل فتنة في العالم؛ فتارة يلمزون بالأصولية، وتارة بـ (الإسلاموية) ، وتارة
بجماعات الإسلام السياسي. وهذه النعرات ذات منشأ أجنبي يطلقها أعداء الإسلام
ويتبناها هؤلاء الأذناب. صحيح أن هناك من ينتمي للإسلام ويحمل تصورات
منحرفة ومنطلقات مشبوهة وقد يقوده اجتهاده وهو لا يملك حق الاجتهاد لأعمال
متهورة وأفكار غير سديدة. لكن هذا الضعف ولله الحمد قليل إذا ما قيس بالغالب
مما يقدمه الدعاة إلى الله على بصيرة من توعية وتوجيه وأعمال خيرية تنعكس
إيجابياً على كثير من المجتمعات الإسلامية وأفرادها.
إن المسلمين أفراداً وجماعات يعلمون حق العلم أن هؤلاء العلمانيين في
ادعاءاتهم تلك كاذبون ومفترون، وهم يشعرون أنهم بما لديهم من إمكانات كبيرة
أضعف أثراً وأقل تأثيراً لا سيما وقد عرفناهم بالحدب على أعداء الإسلام والمطالبة
بالحرية الكاملة حتى في الاعتداء على الذات الإلهية والمعلوم من الدين بالضرورة،
بينما يخنسون حيال القوانين الوضعية التي تجرّمهم بالاعتداء أمام أفراد أو هيئات
مهما كان قدرها.
فعلى الدعاة إلى الله التعاون على البر والتقوى والتسامي على الاتجاهات
الحزبية العصبية، والترفع عن كل ما لا يليق؛ جمعاً للصف ودرءاً لسهام
المغرضين والتزاماً بالإسلام قلباً وقالباً أمام أولئك الحاقدين علينا جميعاً فهم بإذن الله
خائبون؛ لأن الله يدافع عن الذين آمنوا. وحسبنا الله ونعم الوكيل.(126/1)
الافتتاحية
الصحوة الإسلامية والحاجة إلى طور جديد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فهناك أمور تجعل المرء على يقين بأن الصحوة الإسلامية المعاصرة قدر إلهي
ماضٍ إلى منتهىً مرسوم: أولها: من الناحية الزمانية: حيث تفاعل وجود هذه
الصحوة وانتشر في بدايات قرن هجري جديد هو القرن الخامس عشر، فكان ذلك
إرهاصاً بحصول السَنَن المحتوم بتجديد الدين على رأس كل مئة عام، وثانيها: من
الناحية المكانية؛ حيث غطت الصحوة معظم أراضي المسلمين بنسب متفاوتة مما
أبعد احتمال الادعاء بأنها ظاهرة محدودة في رقعة محدودة. وثالثها: من الناحية
الإنسانية، حيث كان الجمهور الأكبر من أبناء الصحوة من الطبقة التي تمثل نخبة
المجتمعات وأواسطها من حيث الثقافات والأعمار والمستويات، حتى لا يقال إنها
تمثل طبقة المعدمين الكادحين الناقمين، أو الأثرياء المتطلعين الطامحين. ورابعها: وهو أهمها أن هذه الصحوة جاءت على غير تدبير مسبق من البشر، فهي ليست
من صنع شخصٍ بعينه، ولا هيئة ولا دولة ولا جماعة بعينها، إنما جاءت تعبيراً
عن تحرك في الأمة بمجموعها لنصرة الدين، تحرك على مستوى الشعوب وليس
على مستوى الدول أو الأنظمة.
لقد انطلق أبناء هذه الصحوة للعمل لنصرة الدين، ولكن وسط ظروف غير
طبيعية ولا سوية؛ ذلك لأن الأنظمة التي يفترض فيها أن تحتضن حركات
الإصلاح النابعة من رعاياها خاصة في ظروف الأزمات تعامل معظمها مع الصحوة
بطريقة فجة مريبة، فليتهم إذ غلّوا أيديهم عن مساعدتها تركوها وشأنها وكفوا أذاهم
عنها، ولكن الحاصل مما يعلمه الجميع أن العراقيل وضعت، والمشاكل حشدت،
والاتهامات جُهزت، والدسائس حيكت، بما لا يسمح أبداً لهذه الصحوة أن تستأنف
سيرها الطبيعي في طريق الإصلاح.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبني ثم غيرك يهدم
ولهذا فكثيراً ما اعتور هذه المسيرة الإصلاحية كبوات ونكبات كادت أن
تقضي عليها، بل قضت عليها بالفعل في بعض البلدان ... لكن سرعان ما كان
نورها الذي يخبو في مكان يعود ليتوهج في مكان آخر، وذلك عبر ما يقرب من
ربع قرن من الزمان.
وإذا حاولنا اليوم، ونحن على مشارف انتهاء العقد الثاني من القرن الخامس
عشر، أن نسترجع ما في الذاكرة لاستعراض مسيرة الصحوة فسوف نجد أنها مرت
بمراحل عدة وأطوار بارزة.
الطور الأول: بدأت فيه الصحوة بدوافع عاطفية روحية، حيث تحركت في
بداياتها المبكرة بتلك الدوافع مستجيبة للحنين الفطري للدين؛ فقد أحست جماهير
المسلمين بالحاجة للانتماء إلى شيء عظيم، بعد أن ملت من الانتماءات التافهة
الممسوخة من قوميات ووطنيات وعنصريات، وبعد أن صدمتها أحداث جسام
ترادفت في وقعها ووقوعها، لتوقظ الغفلات وتحرك الساكنات.
لقد كانت ظاهرة الاندفاع العاطفي والحماسي هي المحرك الأساس لمسيرة
الصحوة في تلك المرحلة دون اعتماد كبير على الأصول العلمية والتربوية التي
توجه العاطفة، وتضبط الحماس.
الطور الثاني: الصحوة العملية: وكانت استجابة بالأفعال والأعمال لنداء
العواطف الجياشة لنصرة الدين، ولو عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً لوجدنا أنه قد
نشأت أنماط من العمل الإسلامي، اتجهت مباشرة إلى التجارب الميدانية، قبل أن
تستكمل قسطاً وافياً من الدراسات التأصيلية المتعمقة والمتعلقة بالأطر الشرعية لهذا
العمل أو ذاك، وبمعنى آخر: كانت (التجربة) هي المحك والمقياس لصواب العمل
أو خطئه، ولذلك رأينا أن فصائل العمل الإسلامي المتنوعة في وجهاتها، نزلت
إلى ساحات الممارسة العملية بشكل غير مرتب ولا محسوب، فهو لا يعتمد إلا على
الاستحسان الذاتي في الغالب من كل إنسان لما يرى أنه يحقق ذاتيته ويلائم
شخصيته ويشبع ميوله، فاتجه هذا إلى العمل السياسي، وذاك إلى العمل
الاجتماعي، وآخر انحاز إلى العمل الجهادي، واختار آخر العمل الدعوي والعلمي.
ولا نشك أن هذا الاندفاع (العملي) ، قد أثمر زخماً متنوعاً قوّى من عود
الصحوة، واستلفت الأنظار إليها بشدة، ولكننا أيضاً لا نشك في أنه ولافتقاره إلى
التأصيل (العلمي) قد خلّف نوعاً من الفوضى غير المحمودة التي أنشأت تناقضات
واختلافات في الاجتهادات لم تلبث أن تحولت إلى نزاعات وفي بعض الأحيان إلى
صراعات! إذ اجتمع كل فريق في الغالب حول عمل لا يرى نصرة الدين إلا فيه،
ولا يرى في الناس خيراً إلا إذا اجتمعوا عليه ... !
الطور الثالث: الصحوة الدعوية: وهي مرحلة انطلقت فيها اتجاهات العمل
إلى الدعوة لكسب الأنصار، وحشد أكبر شريحة من المتعاطفين مع الدين إليها؛
وفي تلك المرحلة كثرت المؤلفات والأطروحات المقروءة والمسموعة حتى صارت
كثرة التآليف والتصانيف والمساجلات والتسجيلات (ظاهرة) لافتة، ودار تنافس
محموم للانتقال بـ (العملي) إلى (العلمي) ولكن بعض هذا التنافس للأسف لم يكن
بأسلوب علمي!
لقد تميزت هذه المرحلة بمحاولة كل اتجاه للتأصيل لما يراه من عمل، وكان
من الطبيعي أن تكثر الاجتهادات غير المبنية على أصول صحيحة في ظل ندرة
القدرات العلمية المتخصصة، أو على الأقل في ظل ندرة تفرغها، فتكلم باسم العلم
من يحسن ومن لا يحسن، وتكلم عن الدليل من لا يحسن فهم الدليل، بل بدرت
بادرة جديدة لم تكن من قَبْلُ معهودة وهي (التأصيل للبدع) ، وكذلك تصويب الخطأ
أو تسويغ الزلل بإضفاء صبغة علمية عليه، وظلت المطابع تلقي بالغث والسمين
والصالح والطالح إلى جمهور المتعاطفين مع الصحوة، الذين تختلط على كثير منهم
الأمور، حتى ليُظن أن كل بيضاء شحمة وكل سوداء فحمة.
ولاحت لأعداء الإسلام فرصة تاريخية، ما كانوا ليضيعوا اغتنامها أو يفوِّتوا
اهتبالها وهي: ضرب قلوب المسلمين بعضهم ببعض، ليكفوا بعد ذلك عن الحديث
عن (الصحوة) ولينكفئوا بعدها في مزالق الكبوة.
ولهذا نقول: إن الصحوة الإسلامية التي مرت بأطوارها: (العاطفية)
و (العملية) و (الدعوية) تحتاج الآن وبإلحاح للانتقال إلى طور جديد:
طور (الصحوة العلمية) :
لقد كان الترتيب الأنسب، بل الأصوب للصحوة أن تبدأ بالعلم قبل العمل ...
ولكن ظروف النشأة وظروف الإمكانات وظروف التحدي أيضاً، حالت دون ذلك،
إضافة إلى أن هذه الصحوة كما سبق ذكره لم تكن من صنع شخص بعينه أو جهة أو
هيئة أو جماعة بعينها حتى تُحكِم قيادها أو تضبط وجهتها، ولكنها سارت حسب
أقدار العليم الحكيم الذي يقول: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ] [آل عمران: 179] .
إننا لا نرى اليوم عذراً لرموز الصحوة وموجهيها في المشارق والمغارب أن
يتخطوا العلم إلى العمل مرة أخرى، فكل عمل لا ينضبط على أساس متين من
دلائل الدين، فهو في الحقيقة ضرب من اتباع الهوى، ونربأ بأنفسنا وإخواننا عن
اتباع الهوى وهم يسعون إلى التمكين للدين والاستخلاف في الأرض. وقد كان عمر
بن الخطاب رضي الله عنه يأمر الناس بالتعلم قبل التصدي للعمل فيقول: (تعلموا
قبل أن تسودوا) وذلك حتى لا يقودوا الناس بالأهواء.
وعندما نقول بضرورة انتقال الصحوة إلى الطور العلمي، فليس معنى هذا أن
نقلل من شأن ما بذل وما يبذل في خدمة العلم ... ولكن نقول: إنه لم يستثمر على
المستوى العام، ولذلك؛ فهو لم يرقَ بعدُ إلى المستوى الذي يوصف معه بأنه
صحوة علمية عامة.
لسنا نطالب الناس جميعاً بأن يكونوا علماء أو طلاب علم، ولكن المطلوب
على الأقل أن يعرف الناس قدر العلم وبركة الأثر، وتأثير الدليل عندما ننقاد له
أثناء المسير.
ولقد رأينا كيف شردت الأهواء بأصناف من أصحاب (العمل) ، عندما أطلقوه
دون أن يربطوه بلجام الحكمة ووثاق العلم.
إن أمامنا حقائق ماثلة تدعم الرأي القائل بأن الوقت قد حان لحركة إصلاح
علمي تضبط السلوك وتقوّم المناهج وتوجه الأعمال، ومن تلك الحقائق:
أولاً: أن الصحوة الإسلامية الآن أصبح لها من القدرات العلمية (علماء
وطلاب علم) في كثير من البلدان؛ ما يكفي لأن تنطلق بهم إلى تلك النقلة المباركة، وهذا لم يكن متوافراً في بدايتها.
ثانياً: أن كثيراً من أنماط العمل الإسلامي، قد استنفدت ما يكفي من
(التجارب) التي ثبت أنها تحتاج إلى مراجعة سواء في الميدان السياسي أو الجهادي
أو الدعوي.
ثالثاً: أن هناك ظاهرة قد برزت بالفعل في الآونة الأخيرة في الساحة
الإسلامية، وهي ظاهرة (وقفات المراجعة) .. ولا أقل من أن تكون (المراجعة
العلمية) للمناهج، هي إحدى أهم هذه الوقفات.
وأخيراً: ثبت أن الصحوة الإسلامية معرضة لعوامل القوة والضعف،
والانتشار والانحسار والمد والجزر، ولهذا فلا بد من بذل أسباب الاستمرار لها
وإبعاد العراقيل من طريقها، وذلك بأن يراعى أولاً بأول تصحيح مسارها في
مسارها للتصحيح.
فهل نطمع ولو من باب تحديث النفس بالغزو أن نرى للصحوة الإسلامية في
العالم انطلاقة علمية تكسر قيود الجمود، وتحرر الآراء من الأهواء.. هل نطمع
أن نرى للصحوة على مستوى العالم قيادتها العلمية الموثوقة، ومرجعياتها العلمية
المخلصة.. التي تقودها إلى وحدة منهجية تجمع القلوب والصفوف ... ذلك أمل ...
نرجو أن يتبعه عمل..
والله من وراء القصد،(126/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
العبودية لله
قواعد ومسائل
د. عبد العزيز آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين. وبعد:
فهذه جملة قواعد ومسائل مستفادة من كلام أهل العلم في موضوع العبودية لله- تعالى - فإن جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من أولهم إلى آخرهم دعوا
إلى عبادة الله - تعالى - وحده لا شريك له: [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ]
[الأعراف: 59] كما أن الله - عز وجل - قد جعل العبودية وصفاً لأكمل خلقه
وأقربهم إليه وهم الأنبياء والملائكة فقال - سبحانه: [لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ
عَبْداً لِّلَّهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ
جَمِيعاً] [النساء: 172] .
ووصف الله - تعالى - أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة - بالعبودية في
أشرف مقاماته، فقال - تعالى: [تَبَارَكَ الَذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] [الفرقان: 1] ، وقال - سبحانه: [سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً
مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ] [الإسراء: 1] .
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إحسان العبودية أعلى مراتب الدين،
وهو الإحسان، فقال في حديث جبريل - وقد سأله عن الإحسان: (أن تعبد الله
كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أخرجه مسلم [1] .
يمكن أن نخلص - من خلال هذه المقدمة - إلى قاعدة، وهي: أن كمال
المخلوق في تحقيق عبوديته لله - تعالى -، فأكرم ما يكون العبد عند الله - تعالى- عندما يكون أعظم عبادة وخضوعاً لله - عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: (كمال المخلوق في تحقيق
عبوديته لله - تعالى -، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت
درجته) [2] .
ويقول في موضع آخر: (والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه ...
وخضوعاً له، كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم
عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل: احتجْ إلى من شئت تكن أسيره، واستغن
عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره. فأعظم ما يكون العبد
قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع
الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة
ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون
الدين كله لله ولا يُشرَك به شيء) [3] .
وها هنا قاعدة أخرى، وهي أن حاجة الإنسان وضرورته إلى عبادة الله -
تعالى - فوق كل حاجة وضرورة.
يقول ابن تيمية - في هذا الصدد: (اعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا
يشرك به شيئاً، ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد
إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها، الله الذي لا إله
إلا هو فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها
من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذّات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع
إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ به
غير منعم له ولا ملتذ به، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنه، ويضره ذلك.
وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه ... ) [4] .
ويقول ابن القيم - مقرراً تلك الحاجة: (اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله
وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل
عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم، والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه،
والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به؛ فإن حقيقة القلب روحه
وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره.. ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها) [5] .
وأما عن تعريف العبادة، فالعبادة لغةً: من الذلّ، يقال: بعير معبّد، أي
مذلل.
وقد تنوّعت أقوال العلماء في تعريف العبادة:
فقال ابن جرير: (معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة [6] ، وفسّر ابن عباس - رضي الله عنهما - العبادة بالتوحيد [7] .
وقال القاضي أبو يعلى: (حقيقة العبادة هي الأفعال الواقعة لله - عز وجل -
على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد) [8] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه
من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) [9] .
وفصّل ابن القيم التعريف السابق بقوله: (وبنى (إياك نعبد) على أربع قواعد: ... التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب، وعمل القلب
والجوارح. فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب (إياك نعبد) حقاً
هم أصحابها، فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله - سبحانه - به عن نفسه،
وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه والذبّ عنه وتبين بطلان
البدع المخالفة له، والقيام بذكر وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه،
والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، وعلى
أقداره، وغير ذلك من أعمال القلوب.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق،
ونحو ذلك) [10] .
وقال بعضهم: (العبادة ما أمر به شرعاً من غير اطِّراد عرفي ولا اقتضاء
عقلي) [11] .
وبالنظر إلى هذه التعريفات المتعددة نرى أن الخلاف بينها يكاد أن يكون من
خلاف التنوع؛ وذلك أن العبادة قائمة على أصلين كبيرين، وهما: غاية الخضوع
وكماله، وغاية الحبّ وكماله. فعرّف ابن جرير وأبو يعلى العبادة بالخضوع -
والسلف قد يعرِّفون الشيء ببعض أفراده - ومرادهم بالخضوع - ها هنا - ما كان
مقترناً بالمحبة والتعظيم كما هو ظاهر عبارة أبي يعلى في قوله: (نهاية ما يمكن
من التذلل والخضوع) فنهاية الخضوع وكماله لا تتحقق إلا بالمحبة والتعظيم.
وأما ابن تيمية وابن القيم فقد عرّفا العبادة بما يحبه الله ويرضاه باعتبار أن
العبادة هي أعلى مراتب الحبّ.. ولذا يقول ابن تيمية: (فأصل المحبة المحمودة
التي أمر الله بها، وخَلقَ لأجلها، هي ما في عبادته وحده لا شريك له؛ إذ العبادة
متضمنة لغاية الحب بغاية الذل) [12] .
وأما تعريف ابن عباس - رضي الله عنهما - للعبادة بالتوحيد، فهو اعتبار
العبادة المقبولة، فلا تقبل العبادة عند الله - تعالى - إلا بتحقيق التوحيد، وأما
العبادة من حيث هي فهي أعم من كونها توحيداً عاماً مطلقاً، فكل موحد عابد لله -
تعالى -، وليس كل من عبد الله - تعالى - يكون موحداً [13] .
وأما من عرّف العبادة بما أمر به شرعاً من غير اطِّراد عرفي ولا اقتضاء
عقلي، فهو باعتبار أن الشرع هو مورد العبادة وضابطها، فلا تخضع العبادة
لاطراد العرف، بل قد تكون مضادة لعوائد وأعراف، كما أن العبادة لا تخضع
لاقتضاء العقل واستحسانه؛ فمن العبادات الشرعية ما تكون محيّرة للعقول [*] .
والله أعلم.
ومن قواعد هذا الموضوع: أن الحبّ الخلي عن ذل، والذل الخلي عن حبّ
لا يكون عبادة؛ فالعبادة ما يجمع كمال الأمرين: كمال الحبّ وغايته، وكمال الذلّ
وغايته.
يقول ابن تيمية: (من خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو
أحبّ شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحبّ الرجل ولده وصديقه،
ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله - تعالى -، بل يجب أن يكون الله أحبّ إلى
العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة
والخضوع التام إلا الله) [14] .
ويقول ابن القيّم: (والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع؛
فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له، لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة، لم
تكن عابداً له، حتى تكون محباً خاضعاً) [15] .
ومن القواعد أيضاً: كل من استكبر عن عبادة الله - تعالى -، فلا بد أن يعبد
غيره.
يقرر ابن تيمية ذلك بقوله: (الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم
استكباراً عن عبادة الله، كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله -
تعالى -، ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود) .
فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله
معبوده ومنتهى حبه من إرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد
محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله) [16] .
ويقول -صلى الله عليه وسلم- في موضع آخر: (وهكذا أهل البدع لا تجد
أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد
صاحب بدعة إلا ترك شيئاً من السنة، كما جاء في الحديث: (ما ابتدع قوم بدعة
إلا تركوا من السنة مثلها) [17] رواه الإمام أحمد.
وقد قال - تعالى: [فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ] [المائدة: 14] ، فلما تركوا حظاً مما ذكروا به اعتاضوا بغيره، فوقعت بينهم
العداوة والبغضاء، وقال تعالى: [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ] [الأعراف: 3] فأمر باتباع ما أنزل، ونهى عما
يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه، فمن لم يتبع أحدهما اتبع الآخر.
وكذلك من لم يفعل المأمور، فعل بعض المحظور، ومن فعل المحظور، لم
يفعل جميع المأمور، فلا يمكن لإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما
حظر، ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر) [18] .
ويقول ابن القيم - رحمه الله: (كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده،
وقع في باطل مقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده ولا بد، حتى في الأعمال،
فمن رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فرغب عن
العمل لمن ضرّه ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده، فابتلي بالعمل لمن لا يملك له
شيئاً من ذلك، وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله
وهو راغم، وكذلك من رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمة الخلق ولا بدّ،
وكذلك من رغب عن الهدى بالوحي، ابتلي بكناسة الآراء وزبالة الأذهان ووسخ
الأفكار) [19] .
ويؤكد العلاّمة عبد الرحمن السعدي هذه القاعدة قائلاً: (لما كان من العوائد
القدسية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكن الانتفاع به ولم ينتفع، ابتلي
بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك
محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله
في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذلّ لربه، ابتلي بالذل للعبيد،
ومن ترك الحق ابتلي بالباطل) [20] .
ومن أجل مسائل هذا الموضوع: العبودية الباطنة والقيام بعبودية القلب؛ فإن
أعمال القلب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وعبودية القلب أعظم من
عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت [21] .
وقد غفل الكثير من المسلمين عن فقه هذه العبادات وتحقيقها، وكان لاشتغالهم
بالرسوم والمظاهر، وتأثرهم بالنزعة الإرجائية الكلامية أبلغ الأثر في إهمال أعمال
القلوب وعبوديتها، فما أكثر من استُعبد قلبه لغير الله - تعالى - من الشهوات
والملذات، فطائفة أشربت حبّ المال، وطائفة صار همها وشغلها المنصب
والوظيفة والرياسة، وطائفة ثالثة تعلقت قلوبها بالنساء، وطائفة أخرى صار
مقصودها سفاسف الأمور من مطعوم أو ملبوس أو مركوب، أو (كرة) أو عبث
ولهو، أو (فن) ....
فعبد المال قد صار الدرهم والدينار هجيّراه؛ فهمّه ومقصوده المال، فلا
يصبح ولا يمسي إلا وهمه المال، فمن أجله يوالي ويعادي، فإن أعطي رضي،
وإن منع سخط.
لقد تحدث علماء السلف - رحمهم الله - عن عبودية القلب، فكان حديثاً عن
علم وبصيرة وذوق وتحقيق.
ومن ذلك ما سطّره يراع شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: (إذا كان القلب -
الذي هو ملك الجسم - رقيقاً مستعبداً، متيماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسْر
المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب.. فمن استُعبد
قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس،
قال النبي: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس) أخرجه
الشيخان.
وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه
صورة محرمة: امرأة، أو صبي؛ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب) [22] .
ويقرر ابن القيم هذه العبودية بقوله: (الإنابة هي عكوف القلب على الله -
عز وجل -، كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على
محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له
والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة،
كما قال إمام الحنفاء لقومه: [مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ]
[الأنبياء: 52] فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل، وكان حظه العكوف على الربّ الجليل. والتماثيل جمع تمثال، وهي الصورالممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهمهم وإراداتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبداً لها، ودعا عليه بالتعس والنكس، فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش [23] ) [24] .
وبسط ابن القيم الحديث عن أرباب عبودية القلب وأحوالهم فكان مما قال:
(وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته
وإجلاله ومراقبته، فسرَت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد
دخله الحبّ، قد أنساهم حبّه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، فدنفوا
بحبه عن حبّ من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه
والرهبة منه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والسكون إليه والتذلل والانكسار بين
يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت
أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همّه عليه متذكراً صفاته العلى وأسمائه الحسنى،
مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته
ومحبته، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه
وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته.
فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، وقيل لبعض
العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ قال: إي والله، بسجدة لا يرفع رأسه منها
إلى يوم القيامة) [25] .
ويشير ابن رجب إلى عبودية القلب قائلاً: (إن تحقق القلب بمعنى لا إله إلا
الله وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تألّه الله وحده، إجلالاً،
وهيبة، ومخافة، ومحبة، ورجاء، وتعظيماً، وتوكلاً، ويمتلئ بذلك، وينتفي
عنه تأله ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبق فيه محبة، ولا إرادة،
ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء
النفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحبّ شيئاً وأطاعة، وأحبّ عليه
وأبغض عليه فهو إلهه، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي
إلا له، فالله إلهه حقاً، ومن أحبّ لهواه، وأبغض لهواه، ووالى عليه، وعادى
عليه، فإلهه هواه) [26] .
ونختم هذه المسألة الجليلة بمثال عملي سطّره الصحابي الجليل أبو عبد
الرحمن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - حيث باع حماراً له، فقيل له: لو
أمسكته! فقال: لقد كان لنا موافقاً، ولكنه أذهب بشعبة من قلبي، فكرهت أن
أشغل قلبي بشيء [27] .
فما أتم عبادة ابن عمر لله - تعالى -، وما أكمل توحيده وعكوف قلبه على
الله - عز وجل - فهو لما رأى التفاتاً تجاه هذا الحمار، بادر إلى بيعه والتخلص
منه مع كونه موافقاً له.. فشتان بين هذا المقام الرفيع وبين من تفرّق قلبه في أودية
الدنيا وملذاتها، فصارت جل شعب قلبه متعلقة بمال، أو امرأة، أو منصب
ووظيفة، والله المستعان.
ومن أجلِّ قواعد هذا الموضوع: أن عبودية الله - تعالى - ملائمة لحقيقة
الإنسان وجِبِلّته، ومستوعبة لمقاصده وأعماله.
وقد ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (أصدق
الأسماء حارث وهمّام) [28] فكل إنسان همام أي مريد ومفكر، وكل همام حارث
أي صاحب عمل وكسب وسعي، وعبودية الله - تعالى - مناسبة للفطرة فتتسق
وتتفق مع طبيعة الإنسان وحقيقته، وتستوعب كل نشاطه وحركته هماً وحرثاً [29] .
وقد أكّد ابن تيمية هذا المعنى في غير موضع؛ فكان مما قاله: (العبد مجبول
على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده؛ وهذا
أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان) .
فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين
الأمرين: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها، ولا
بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها، سواءاً كان ذلك
هو الله أو غيره، وإذا كان فقد يكون عاماً وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقاً،
وسأل غير الله مطلقاً.. وقد يكون خاصاً في المسلمين مثل من غلب عليه حبّ
المال، أو حبّ شخص، أو حب الرياسة حتى صار عبد ذلك [30] .
ونختم هذه المقالة بمسألة جليلة: وهي أن فقه أسماء الله - تعالى - وصفاته،
والتعبّد لله - عز وجل - بها من أعظم أسباب تحقيق عبودية الله - تعالى.
يقول العز بن عبد السلام: (فهم معاني أسماء الله - تعالى - وسيلة إلى
معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك من
ثمرات معرفة الصفات) [31] .
وعُنِيَ ابن القيم - رحمه الله - بتقرير هذه المسألة في أكثر من كتاب، ومن
ذلك قوله: (لكل صفة عبودية خاصةٌ هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني: من
موجبات العلم بها والتحقيق بمعرفتها؛ وهذا مُطّرِدٌ في جميع أنواع العبودية التي
على القلب والجوارح؛ فعلم العبد بتفرد الربّ بالضر والنفع والعطاء والمنع،
والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم
التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه - تعالى - وبصره وعلمه أنه لا يخفى عليه
مثقال ذرة، وأنه يعلم السرّ ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ
لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله.. ومعرفته بجلال الله
وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة ... فرجعت العبودية كلها إلى
مقتضى الأسماء والصفات) [32] .
ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - هذه المسألة بقوله: (وأما
توحيد الصفات، فلا يستقيم توحيد الربوبية، ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار
بالصفات) [33] .
بل ويثبت الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن أصول العبادة الثلاثة: (الحب،
والرجاء، والخوف) من ثمرات ولوازم التعبد بأسماء الله - تعالى - وصفاته،
فيقول: (أركان الدين: الحب، والرجاء، والخوف؛ فالحب في الأولى: وهي
(الحمد لله رب العالمين) ، والرجاء في الثانية: وهي (الرحمن الرحيم) ، والخوف
في الثالثة: وهي (مالك يوم الدين) [34] .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا وسائر إخواننا على ذكره وشكره
وحسن عبادته.
__________
(1) انظر: العبودية لابن تيمية، ص 40 43، ومدارج السالكين 1/101 103.
(2) العبودية، ص 80.
(3) مجموع الفتاوى، 1/39.
(4) مجموع الفتاوى، 1/24، 25، وانظر مجموع الفتاوى، 28/32.
(5) طريق الهجرتين، ص 57.
(6) تفسير ابن جرير، 1/160.
(7) انظر تفسير ابن جرير، 1/160.
(8) المعتمد في أصول الدين، ص 103.
(9) العبودية، ص 38.
(10) مدارج السالكين، 1/100، 101 باختصار يسير.
(11) مجموعة التوحيد (رسالة في تعريف العبادة لأبي بطين) ، ص 400.
(12) قاعدة في المحبة (ضمن جامع الرسائل) ، 2/196، وانظر مدارج السالكين، 3/28.
(13) انظر مجموعة التوحيد، ص 401.
(*) أي غير مُدْرَكة حكمتها للعقول.
(14) العبودية، ص 44، وانظر مجموع الفتاوى، 10/19، 56.
(15) مدارج السالكين، 1/74.
(16) العبودية، ص 112 1114؛ بتصرف وتقديم.
(17) أخرجه أحمد، 4/105، ولفظه (ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة) .
(18) مجموع الفتاوى (الإيمان) 7/173، 174؛ باختصار وانظر اقتضاء الصراط المستقيم،
2/617، ومجموع الفتاوى، 29/329.
(19) مدارج السالكين، 1/165، وانظر الفوائد، ص 27.
(20) تفسير السعدي، 1/18.
(21) انظر بدائع الفوائد لابن القيم، 3/230.
(22) العبودية، ص 96، 97، باختصار يسير وانظر، ص 108.
(23) أخرجه البخاري في الجهاد والسير حديث 2887 والترمذي في الزهد 2375، وابن ماجه في الزهد 4136.
(24) الفوائد، ص 186.
(25) طريق الهجرتين، ص 206، 207، وانظر، ص 305.
(26) جامع العلوم والحكم، 1/524.
(27) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص 195.
(28) أخرجه أحمد، 4/345، وأبو داود والنسائي.
(29) انظر ظاهرة الإرجاء، 1/124.
(30) مجموع الفتاوى، 1/34، 35، باختصار وانظر 1/21، وجامع الرسائل (قاعدة في المحبة) ، 2/231.
(31) شجرة المعارف والأحوال، ص17، وانظر الفوائد، ص 63 64.
(32) مفتاح دار السعادة، 2/90، باختصار.
(33) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، (الفتاوى) ، 3/42.
(34) تاريخ ابن غنام، 2/360.(126/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
التفسير بالرأي
مفهومه.. حكمه.. أنواعه
(1من2)
مساعد الطيار
مفهوم الرأي:
الرأي: مصدر رأى رأياً. مهموز، ويُجمع على آراء وأرءاءٍ.
والرأي: التفكّرُ في مبادئ الأمور، ونظر عواقبها، وعلم ما تؤول إليه من
الخطأ والصواب [1] .
والتفسير بالرأي: أن يُعْمِلَ المفسر عقله في فَهْمِ القرآن، والاستنباط منه،
مستخدماً آلات الاجتهاد. ويَرِدُ للرأي مصطلحاتٌ مرادفةٌ في التفسير، وهي:
التفسير العقلي، والتفسير الاجتهادي. ومصدر الرأيِ: العقلُ، ولذا جُعِلَ التفسيرُ
العقليُ مرادفاً للتفسير بالرأي.
والقول بالرأي: اجتهادٌ من القائل به، ولذا جُعِلَ التفسيرُ بالاجتهادِ مرادفاً
للتفسير بالرأي.
ونتيجة الرأي: استنباط حكم أو فائدةٍ، ولذا فإن استنباطات المفسرين من
قَبِيلِ القول بالرأي.
أَنْوَاعُ الرّأي، وموقف السلف منها: يحمل مصطلح (الرأي) حساسية خاصة، تجعل بعضهم يقف منه موقف المتردِّد؛ ذلك أنه ورد عن السلف، آثارٌ في ذمِّه.
بَيْدَ أنّ المستقرئ ما ورد عنهم في هذا الباب (أي: الرأي) يجد إعمالاً منهم
للرأي، فما موقف السلف في ذلك؟
لنعرض بعض أقوالهم في ذلك، ثمّ نتبيّن موقفهم منه.
أقوالٌ في ذمِّ الرأي:
1- ورد عن فاروق الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: (اتقوا
الرأي في دينكم) [2] .
وقال: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن. أعيتهم الأحاديث أن
يحفظوها، فقالوا برأيهم، فضلّوا وأضلوا) [3] .
2- وورد عن الحسن البصري (ت: 110) قوله: (اتهموا أهواءكم ورأيكم
على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم) [4] .
أقوالٌ في إعمالِ الرأي:
ورد عن عمر بن الخطاب والحسن البصري - اللذين نقلت قولاً لهما بذمِّ
الرأي ما يدلّ على إجازتهما إعمال الرأي، وهذه الأقوال:
1- أما ما ورد عن عمر فقوله لشريح - لما بعثه على قضاء الكوفة: (انظر
ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله،
فاتبع فيه سنة رسول الله لله، وما لم يتبيّن لك فيه سنة، فاجتهد رأيك) [5] .
2- أمّا ما ورد عن الحسن، فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أريت ما
يفتى به الناس، أشيءٌ سمعته أم برأيك؟
فقال الحسن: ما كل ما يفتى به الناس سمعناه، ولكنّ رَاًيَنا لهم خيرٌ من رأيهم
لأنفسهم) [6] .
هذان عَلَمان من أعلام السلف ورد عنهما قولان مختلفان في الظاهر، غير
أنك إذا تدبّرت قولهم، تبيّن لك أن الرأي عندهم نوعان:
* رأي مذموم، وهو الذي وقع عليه نهيهم.
* ورأي محمود، وهو الذي عليه عملهم.
وإذا لم تَقُلْ بهذا أوقعت التناقض في أقوالهم، كما قال ابن عبد البَرِّ (ت:
463هـ) - لما ذكر من حُفِظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً: (ومن أهل البصرة:
الحسن وابن سيرين، وقد جاء - عنهما وعن الشعبي - ذمّ القياس، ومعناه عندنا
قياسٌ على غيرِ أصلٍ؛ لئلا يتناقض ما جاء عنهم) [7] . والقياس: نوع من الرأي؛ كما سيأتي.
العلوم التي يدخلها الرأي:
يدخل الرأي في كثير من العلوم الدينية، غير أنه يبرز في ثلاثة علوم، وهي: علم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم التفسير.
أما علم التوحيد، فيدخله الرأي المذموم، ويسمى الرأي فيه: (هوىً وبدعة) . ولذا تجد في كثير من كتب السلف مصطلح: (أهل الأهواء والبدع) ، وهم الذين
قالوا برأيهم في ذات الله - سبحانه.
وأما علم الفقه، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى الرأي فيه:
(قياساً) ، كما يسمى رأياً، ولذا تجد بعض عباراتٍ للسلف تنهى عن القياس أو
الرأي في فروع الأحكام، والمراد به القياس والرأي المذموم.
وأما علم التفسير، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى فيه: (رأياً) ،
ولم يرد له مرادفٌ عند السلف، وإنما ورد مؤخراً مصطلح: (التفسير العقلي) .
وبهذا يظهر أن ما ورد من نهي السلف عن الرأي فإنه يلحق أهل الأهواء
والبدع، وأهل القياس الفاسد، والرأي المذموم؛ إذ ليس كلّ قياسٍ أو رأيٍ فاسداً أو
مذموماً.
حُكْمُ القَوْلِ بالرّأي:
سيكون الحديث في حكم الرأي المتعلق بالعلوم الشرعية عموماً - وإن كان
يغلب عليه الرأي والقياس في الأحكام - وقد سبق أن الرأي نوعان: رأي مذموم،
ورأي محمود.
أولاً: الرّاًيُ المَذْمُومُ:
ورد النهي عن هذا النوع في كتاب الله - تعالى - وسنة نبيِّه لله، كما ورد
نهي السلف عنه.
وحَدّ الرأي المذموم: أن يكون قولاً بغير علمٍ وهو نوعان: علم فاسد ينشأ
عنه الهوى، أو علم غير تام وينشأ عنه الجهل، ويكون منشؤه الجهل أو الهوى.
وهذا الحدّ مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله لله.
أمّا من كتاب الله فما يلي:
1- قوله - تعالى: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف: 33] .
2- وقوله - تعالى: [وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
(168) إنَّمَا يَاًمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأََن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ]
[البقرة: 168، 169] .
3- وقوله - تعالى: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] [الإسراء: 36] .
في هذه الآيات نهي وتشنيع على القول على الله بغير علم؛ ففي الآية الأولى
جعله من المحرّمات، وفي الآية الثانية جعله من اتباع خطوات الشيطان، وفي
الآية الثالثة جعله منهياً عنه. وفي هذا كلِّه دليلٌ على عدم جواز القول على الله
بغير علم.
وأما في سنة الرسول:
فإن من أصرح ما ورد فيها قوله: (إن الله - عز وجل - لا يقبض العلم
انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، فيقبض العلم، حتى إذا لم يترك
عالماً، اتخذ الناس رؤساء جُهّالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) رواه البخاري
في كتاب الاعتصام، وترجم له بقوله: (بابُ ما يذكر من ذمِّ الرأي وتكلف
القياس) [8] .
وأمّا ما ورد عن السلف، فمنها:
1- ما سبق ذكره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والحسن
البصري - رحمه الله - من نهيهما عن الرأي.
2- عن مسروق (ت: 63هـ) قال: (من يرغب برأيه عن أمر الله
يضلّ) [9] .
3- وقال الزهري (ت: 124هـ) : (إياكم وأصحاب الرأي، أعيتهم الأحاديث أن يعوها) [10] .
وممن نُقِل عنه ذم الرأي أو القياس ابن مسعود (ت: 33هـ) من الصحابة،
وابن سيرين (ت: 110هـ) من تابعي الكوفة، وعامر الشعبي (ت: 104هـ) من تابعي الكوفة، وغيرهم [11] .
صور الرأي المذموم:
ذكر العلماء صوراً للرأي المذموم، ويطغى على هذه الصّوَر الجانب الفقهي؛
لكثرة حاجة الناس له، حيث يتعلّق بحياتهم ومعاملاتهم. ومن هذه الصور ما يلي:
1- القياس على غير أصل [12] .
2- قياس الفروع على الفروع [13] .
3- الاشتغال بالمعضلات [14] .
4- الحكم على ما لم يقع من النّوازل [15] .
5- ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي، والإكثار منه [16] .
6- من عارض النصّ بالرأي، وتكلف لردِّ النص بالتأويل [17] .
7- ضُروب البدع العقدية المخالفة للسنن [18] .
هذه بعض الصور التي ذكرها العلماء في الرأي المذموم، وسيأتي صور
أخرى تخصّ التفسير.
ثانياً: الرأي المحمود:
هذا النوع من الرأي هو الذي عَمِلَ به الصحابة والتابعون ومن بعدهم من
علماء الأمّة، وحدّه أن يكون مستنداً إلى علمٍ [19] ، وما كان كذلك فإنه خارج عن
معنى الذمِّ الذي ذكره السلف في الرأي.
ومن أدلة جواز إعمال الرأي المحمود ما يلي:
1- مفهوم الآيات السابقة والحديث المذكور في أدلة النهي عن الرأي المذموم؛ لأنها كلها تدل على أن القول بغير علم لا يجوز، ويفهم من ذلك أن القول بعلم
يجوز.
2- فعل السلف وأقوالهم، ومنها:
أ - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثرَ الناس على عبد الله (يعني: ابن
مسعود) يسألونه، فقال: أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان نقضي ولسنا هناك،
فمن ابتلي بقضاءٍ بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن أتاه ما ليس في كتاب الله- ولم يَقُلْهُ نبيّه - فليقض بما قضى به الصالحون، فإن أتاه أمر لم يقض به
الصالحون - وليس في كتاب الله، ولم يقل فيه نبيّه - فليجتهد رأيه، ولا يقول:
أخاف وأرى، فإن الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبَيْنَ ذلك أمورٌ مشتبهات، فدعوا
ما يريبكم إلى ما لا يريبكم) [20] .
قال ابن عبد البر (ت: 463هـ) معلقاً على هذا القول: (هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصولٍ يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف، ولم يَجُز له أن يُحيلَ على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصلٍ ولا هو في معنى أصلٍ. وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً؛ فتدبّره) [21] .
ب - وعن الشعبي (ت: 104هـ) قال: لما بعث عمرُ شريحاً على قضاء الكوفة قال له: انظر ما تبيّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله فاتّبع فيه سنة رسول الله -، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك) [22] .
ج - وعن مسروق (ت: 63هـ) قال: سألت أُبَيّ بن كعب عن شيءٍ؛ فقال:
أكان هذا؟
قلت: لا.
قال: فأجمّنا (أي: اتركنا أو أرحنا) حتى يكون؛ فإذا كان اجتهدنا لك ...
رأينا) [23] .
الرّأيُ فِي التّفْسِير:
اعلم أن ما سبق كان مقدمة للدخول في الموضوع الأساس، وهو التفسير
بالرأي، وكان لا بدّ لهذا البحث من هذا المدخل، وإن كان الموضوع متشابكاً
يصعب تفكيك بعضه عن بعض، ولذا سأحرص على عدم تكرار ما سبق،
وسأكتفي بالإحالة عليه، إن احتاج الأمر إلى ذلك.
وسأطرح في هذا ثلاثة موضوعات:
الأول: موقف السلف من القول في التفسير.
الثاني: أنواع الرأي في التفسير.
الثالث: التفسير بين المأثور والرأي.
وسيتخلّل هذه الموضوعات مسائل عِدّة؛ كشروط القول بالرأي، وأدلة جواز
الرأي في التفسير، وصور الرأي المذموم.... إلخ، وإليك الآن تفصيل هذه
الموضوعات:
أولاً: موقف السلف من القول في التفسير:
التفسير: بيان لمراد الله - سبحانه - بكلامه، ولما كان كذلك، فإن المتصدي
للتفسير عرضة لأن يقول: معنى قول الله كذا.
ثم قد يكون الأمر بخلاف ما قال. ولذا قال مسروق بن الأجدع (ت: 63هـ) :
(اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله - عز وجل) .
وقد اتخذ هذا العلم طابعاً خاصاً من حيث توقِّي بعض السلف وتحرجهم من
القول في التفسير، حتى كان بعضهم إذا سئل عن الحلال والحرام أفتى، فإذا سئل
عن آية من كتاب الله سكت كأن لم يسمع.
ومن هنا يمكن القول: إن السلف - من حيث التصدي للتفسير - فريقان:
فريق تكلّم في التفسير واجتهد فيه رأيه، وفريق تورّع فقلّ أو نَدُرَ عنه القول في
التفسير.
وممن تكلم في التفسير ونُقِلَ رأيه فيه عمر بن الخطاب (ت: 23هـ) وعلي بن أبي طالب (ت: 40هـ) وابن مسعود (ت: 33هـ) وابن عباس (ت: 67هـ) وغيرهم من الصحابة.
ومن التابعين وأتباعهم: مجاهد بن جبر (ت: 103هـ) وسعيد بن جبير
(ت: 95هـ) وعكرمة مولى ابن عباس (ت: 107هـ) والحسن البصري
(ت:110هـ) وقتادة (ت: 117هـ) وأبو العالية (ت: 93هـ) وزيد بن أسلم (ت: 136هـ) وإبراهيم النخعي (ت: 96هـ) ومحمد ابن كعب القرظي
(ت: 117هـ) وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ) وعبد الملك بن جريج (ت: 150هـ) ومقاتل بن سليمان (ت: 150هـ) ومقاتل بن حيان
(ت: 150هـ) وإسماعيل السدي (ت: 127هـ) والضحاك بن مزاحم
(ت: 105هـ) ويحيى بن سلام (ت: 200هـ) ، وغيرهم.
وأما من تورّع في التفسير فجمعٌ من التابعين [24] من أهل المدينة والكوفة.
أما أهل المدينة، فقال عنهم عبيد الله بن عمر: لقد أدركت فقهاء المدينة،
وإنهم ليغلظون القول في التفسير؛ منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد،
وسعيد بن المسيب، ونافع [25] .
وقال يزيد بن أبي يزيد: (كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام -
وكان أعلم الناس - فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع) [26] .
وقال هشام بن عروة بن الزبير: (ما سمعت أبي يتأوّل آية من كتاب الله
قطّ) [27] .
وأمّا أهل الكوفة فقد أسند إبراهيم النخعي إليهم قَولَه: (كان أصحابنا - يعني:
علماء الكوفة - يتّقون التفسير ويهابونه) [28] .
هذا.. ولقد سلك مسلك الحذر وبالغ فيه إمام اللغة الأصمعي (ت: 215هـ) ،
حيث نقل عنه أنه كان يتوقّى تبيين معنى لفظة وردت في القرآن [29] .
فما ورد عن هؤلاء الكرام من التوقي في التفسير إنما كان تورّعاً منهم،
وخشية ألاّ يصيبوا في القول.
ثانياً: أنواع الرأي في التفسير:
الرأي في التفسير نوعان: محمود، ومذموم.
النوع الأول: الرأي المحمود.
إنما يحمد الرأي إذا كان مستنداً إلى علم يقي صاحبه الوقوع في الخطأ.
ويمكن استنباط أدلةٍ تدلّ على جواز القول بالرأي المحمود.
ومن هذه الأدلّة ما يلي:
1- الآيات الآمرة بالتدبّر:
وردت عدّة آيات تحثّ على التدبّر؛ كقوله - تعالى: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: 24] ، وقوله: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا
آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [ص: 29] . وغيرها من الآيات.
وفي حثِّ الله على التدبر ما يدلّ على أن علينا معرفة تأويل ما لم يُحجب عنا
تأويله؛ لأنه محالٌ أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له: اعتبر بما لا فهم لك به [30] .
والتدبّر: التفكّر والتأمّل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني،
وإنما يكون ذلك في كلامٍ قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه، بحيث كلما
ازداد المتدبِّر تدبّراً انكشف له معانٍ لم تكن له بادئ النظر [31] .
والتدبّر: عملية عقلية يجريها المتدبر من أجل فهم معاني الخطاب القرآني
ومراداته، ولا شك أن ما يظهر له من الفهم إنما هو اجتهاده الذي بلغه، ورأيه الذي
وصل إليه.
2- إقرارُ الرسول - اجتهادَ الصحابة في التفسير: لا يبعد أن يقال: إن
تفسير القرآن بالرأي نشأ في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك وقائع
يمكن استنباط هذه المسألة منها، ومن هذه الوقائع ما يلي:
أ - قال عمرو بن العاص: - بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام
ذات السّلاسِلِ، فاحتلمت في ليلة باردةٍ شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثمّ صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت
جُنُبٌ؟
قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن
اغتسلت أن أَهْلَكَ، وذكرتُ قول الله: [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] [النساء: 29] فتيمّمْتُ، ثم صليت، فضحك - ولم يقل شيئاً) [32] .
في هذا الأثر ترى أن عَمْراً اجتهد رأيه في فهم هذه الآية، وطبّقها على نفسه، فصلى بالقوم بعد التيمم، وهو جنب، ولم ينكر عليه الرسول -صلى الله عليه
وسلم- هذا الاجتهاد والرأي.
ب - وفي حديث ابن مسعود، لما نزلت آية: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إيمَانَهُم بِظُلْمٍ] [الأنعام: 82] قلنا يا رسول الله: وأينا لم يظلم نفسه، فقال: إنه
ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح [يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13] ) [33] ، ترى أن الصحابة فهموا الآية على
العموم، وما كان ذلك إلا رأياً واجتهاداً منهم في الفهم، فلما استشكلوا ذلك سألوا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرشدهم إلى المعنى المراد، ولم ينههم عن
تفهّم القرآن والقول فيه بما فهموه. كما يدل على أنهم إذا لم يستشكلوا شيئاً لم
يحتاجوا إلى سؤال الرسول. والله أعلم.
3- دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: دعا الرسول -صلى
الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل) وفي
إحدى روايات البخاري: (اللهم علمه الكتاب) [34] .
والتأويل: التفسير، ولو كان المراد المسموع من التفسير عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- لما كان لابن عباس مَزِيّةٌ بهذا الدعاء؛ لأنه يشاركه فيه غيره [35] ، وهذا يدلّ على أن التأويل المراد: الفهم في القرآن [36] ، وهذا الفهم إنما هو
رأيٌ لصاحبه.
4- عمل الصحابة: مما يدل على أن الصحابة قالوا بالرأي وعملوا به ما
ورد عنهم من اختلافٍ في تفسير القرآن؛ إذ لو كان التفسير مسموعاً عن النبي -
صلى الله عليه وسلم- لما وقع بينهم هذا الاختلاف.
ومما ورد عنهم نصاً في ذلك قولُ صدِّيق الأمة أبي بكر - رضي الله عنه -
لما سئل عن الكلالة، قال: (أقول فيها برأيي؛ فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان
خطأً فمني ومن الشيطان) [37] .
وكذا ما ورد عن علي - رضي الله عنه - لما سئل: هل عندكم عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- شيءٌ سوى القرآن؟ قال: (لا، والذي فلق الحبّة،
وبرأ النسمة، إلا أن يُعطِي الله عبداً فهماً في كتابه) [38] .
والفهم إما هو رأي يتولّد للمرء عند تفهّم القرآن؛ ولذا يختلف في معنى الآية
فهم فلان عن غيره.
__________
(1) الغيث المسجم في شرح لامية العجم للصفدي، 1/63.
(2) المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، 190، وانظر، ص 192، الأثر رقم 217.
(3) المدخل إلى السنن الكبرى، 191، وانظر قولاً لمسروق في جامع بيان العلم، 2/168، وقولاً للزهري، 2/169.
(4) المدخل إلى السنن الكبرى، 196.
(5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/71، وانظر، ص 74.
(6) جامع بيان العلم، 2/75.
(7) جامع بيان العلم، 2/77، وانظر كلام ابن بطال في هذا الموضوع في فتح الباري، 13/301.
(8) انظر الحديث في فتح الباري، (13/295) .
(9) جامع بيان العلم، 2/168.
(10) جامع بيان العلم 2/169.
(11) انظر: جامع بيان العلم، 2/77، وفتح الباري، 13/310.
(12) جامع بيان العلم، 2/70، 71، 77.
(13) جامع بيان العلم، 2/170.
(14) جامع بيان العلم، 2/170.
(15) جامع بيان العلم، 2/170.
(16) الاعتصام للشاطبي، 1/104.
(17) فتح الباري، 13/303.
(18) جامع بيان العلم، 2/169.
(19) العلم يقابل الجهل المذكور في حدِّ الرأي المذموم، أما الهوى، فيقابله الورع؛ لأنّ الوَرَعَ يقي صاحبه من مخالفة الحقِّ.
(20) جامع بيان العلم، 2/70 71.
(21) جامع بيان العلم، 2/71.
(22) جامع بيان العلم، 2/71.
(23) جامع بيان العلم، 2/72، وانظر غيرها من الآثار، ص 69 79.
(24) لم أجد نقلاً عن أحد من الصحابة يدل على أن مذهبه كهذا المذهب الذي برز عند التابعين.
(25) تفسير الطبري (ط شاكر) ، 1/85.
(26) تفسير الطبري (ط شاكر) ، 1/86.
(27) فضائل القرآن لأبي عبيد، 229.
(28) فضائل القرآن لأبي عبيد، 229.
(29) انطر في ذك: الكامل للمبرد (تحقيق: الدالي) 2/928، 4135، تهذيب اللغة 1/14، إعجاز القرآن للخطابي (تحقيق: عبد الله الصديق) 42.
(30) انظر: تفسير الطبري (ط شاكر) ، 1/82- 83.
(31) التحرير والتنوير، 23/252.
(32) مسند الإمام أحمد، 4/203، 204، وأبو داود برقم 335، وانظر تفسير ابن كثير،
2/480، والدر المنثور، 2/497.
(33) أخرجه البخاري في أكثر من موضع، كتاب الإيمان ح/32، أحاديث الأنبياء/3360، 3428.
(34) انظر: فتح الباري، 1/204، وانظر شرح ابن حجر، 1/204 205.
(35) انظر: تفسير القرطبي، 1/33، وجامع الأصول، 2/4.
(36) انظر: فتح الباري، 1/205.
(37) انظر قوله في تفسير الطبري، (ط شاكر) ، 8/53، 54.
(38) رواه البخاري، (فتح الباري، 1/246) وغيرها من المواضع التي ذكرها لهذا الحديث.(126/18)
تأصيلات دعوية
سلوك الحكمة.. طريق الانتصار
(1من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
لو أردنا أسلوباً دعوياً يشمل الأساليب الدعوية كلها، لم نجد إلا الحكمة.
وتبدو أهمية هذا الموضوع في الأمور التالية:
1- أن الله تعالى حكيم، متصف بالحكمة، وهي منه بمعنى: علمه بالأشياء
وإيجادها على غاية الإحكام.
2- أن الله نسبها إلى نفسه، وجعل إيتاءها من عنده فقال: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ
مَن يَشَاءُ] ... [البقرة: 269] .
3- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُلئ قلبه بالحكمة كما في حادثة شق
الصدر [1] ، وكانت مهمته تعليم الحكمة، فجاءت أعماله ملازمة للحكمة في أكمل
صورها.
4- أن الحكمة هي الفقه في الدين - كما فسرها كثير من السلف - والرسول- صلى الله عليه وسلم - يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدِّين) [2] . ...
5- أنها كلمة جامعة بين العلم والعمل.
6- أن الله مدحها لاشتمالها على الخير الكثير، فقال: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن
يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: 269] .
وقد أمر بها مطلقاً من غير تقييدها بالحسن؛ لأنها حسنة بذاتها، فقال:
[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... ]
[النحل: 125] .
7- أنها طريق من طرق الدعوة، وأسلوب يندرج تحته بقية الأساليب.
8- أنها ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها.
9- أنها موضع تحاسد وغبطة، لاستحقاقها ذلك لشرفها ومكانتها، قال: (لا
حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله
حكمة فهو يقضي بها ويعلمها) [3] .
10- الفهم الخاطئ لمعنى الحكمة؛ حيث يفهمه البعض على أنه اللين والرفق
دوماً، ويرى آخرون أن المداهنة والسكوت عن الحق حكمة، ويحسب آخرون
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قادحاً في الحكمة.
11- كونها مدار نجاح الدعوات. والصحوة اليوم بأمس الحاجة إلى سلوك
سبيل الحكمة، خاصة أن بعض المواقف والأعمال التي قامت بها بعض الجماعات
الإسلامية، وبعض الدعاة الغيورين كانت تفتقر إلى الحكمة، كالدخول في معارك
عسكرية مع الأنظمة، حتى وإن كانت كافرة، ومثل أسلوب الاغتيالات، أو إحراق
أماكن الفساد في بلد لا يملك فيه المسلمون السلطة ... وكل ذلك ناشئ عن الجهل في
فهم النصوص ودلالاتها، والخلط فيما تقتضي النصوص التفريق بينه.
12- وتظهر أهمية الحكمة أيضاً بمعرفة آثارها، التي منها: الوصول إلى
الأهداف من أقرب طريق، وبأكثر النتائج، وأقل الخسائر. ومنها: تقريب القلوب
من الدعوة والدعاة، وإزالة الشحناء والبغضاء.
مفهوم الحكمة:
تدور معاني الحكمة في اللغة حول المنع؛ (لأنها تمنع صاحبها من الوقوع
فيما يذم فيه، أو ما قد يندم عليه، وتمنعه من اختيار المفضول دون الفاضل، أو
المهم قبل الأهم) [4] .
وقد وردت في القرآن مقترنة بالكتاب ففسرت بالسنة، كما وردت مفردة
ففسرها المفسرون بتفسيرين:
الأول: النبوة، والثاني: العلم والإتقان، والتوفيق، والبصيرة، والعمل
الصائب، ومنع الظلم، ووضع الشيء في موضعه، وكلها معان متقاربة. وقد
وردت في السنة النبوية بنحو هذا المعنى [5] .
ويمكن تعريفها بتعريف جامع مانع، فيقال هي: (الإصابة في القول والعمل
والاعتقاد، ووضع كل شيء في موضعه، بإحكام وإتقان) [6] ، أو بتعبير آخر:
(فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي) [7] ، فهذا يشمل القول أيضاً؛ لأنه يعدّ
فعلاً. والوجه الذي ينبغي: الطريقة التي يؤدى بها القول أو الفعل أياً كان، مع
مراعاة اختلاف الزمان والمكان.
فتبين أن الحكمة في الدعوة لا تقتصر على الكلام اللين أو الترغيب أو الحلم
أو الرفق أو العفو ... بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فتشمل جميع الأساليب الدعوية فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في موضعه، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها،
ومجادلة الظالم المعاند في موضعها، والزجر والقوة والغلظة والشدة والسيف في
مواضعها، وهذا هو عين الحكمة، لموافقته لقوله - تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] ، وقوله:
[وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ]
[العنكبوت: 46] ، وقوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ... [التوبة: 73] .
كل ذلك مع الاستقامة على دين الله وحسن النية وسلامة القصد وصدق الرغبة
فيما عند الله - تعالى -، وإلا كان كل ذلك نوعاً من النفاق.
وهناك علاقة بين الحكمة والذكاء من حيث إنه مادة ووسيلة للتعرف على
الحكمة، ولكن لا يلزم منه وجودها. وإذا عُرّف الذكاء بحسن التكيف والتلاؤم مع
البيئة والأحوال والأحداث الطارئة، فإن هذا لا يصلح تفسيراً للحكمة كما ترى -
وإن حاوله البعض؛ إذ يدخل فيه المنافق والمجرم [8] .
وما ظُلِمَتْ كلمة مثل الحكمة باسم الحكمة؛ فكم أساء فهمها الكثير، حتى من
المنتسبين للعلم والدعوة، حتى صارت مركباً سهلاً لكل من صعب عليه التزام
المنهج، أو لاحت أمامه المكاسب الدنيوية والمصالح الشخصية فصار شعاره الحكمة، ولكن بمفهوم آخر تماماً يدل عليه منهجه الذي جعله متمثلاً في اتباع اللين في كل
أمر، ومجاراة الأمر الواقع، وربما التنازل عن المبادئ، والخجل من التزام
الشرائع، والتشنيع على كل من يلتزمها ... والخطورة تكمن في محاولة هؤلاء
المتخاذلين المنهزمين طمس معالم المنهج الصحيح، وإحلال منهجهم ذي الحكمة
المترهلة العجينة المزيفة.
خوارم الحكمة وموانعها:
قد يصرف الداعية - أو تنحرف الدعوة - عن الحكمة بسبب أمور يغفل عنها
الكثير، ومنها [9] :
1- الهوى وعدم التجرد لله - عز وجل - بالإخلاص، ولنبيه -صلى الله
عليه وسلم- بالمتابعة: وهو سبب للضلال عن الحق والحكمة، قال - تعالى:
[وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [ص: 26] ؛ لأنه يعمي عن الحق،
ويصم.
2- الجهل: لأن الحكمة تحتاج إلى العلم. وقد بين - تعالى - أن سبب عدم
توفيق الكفار للحق والحكمة هو الجهل فقال: [قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَاًمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا
الجَاهِلُونَ] [الزمر: 64] .
3- الأخذ بظواهر النصوص: كمنهج الظاهرية، فلم يوفقوا للحق في كثير
من المسائل، وعدم الجمع بين الأدلة؛ فإن من لا يجمع بين الأدلة يقع في
التناقضات التي تنافي الحكمة، فلا يوفق للحق في كثير من المسائل.
4- الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها: كمن يستدل بقوله - تعالى:
[عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ] [المائدة: 105] على ترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنها تدل على عكس هذا كما يفهم من قوله:
[إذَا اهْتَدَيْتُمْ] فإن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكمن
يستدل بقوله - عز وجل: [وَلا تُلْقُوا بِأََيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ] [البقرة: 195] على
ترك الجهاد، مع أن تركه هو التهلكة، كما هو واضح من سبب نزول الآية.
5- عدم فهم الدليل: فيخالف الحكمة في تطبيقه له وتصرفه على أساس الفهم
الخاطئ.
6- قلة التجربة: وهو سبب مخالفة كثير من الشباب للحكمة.
7- الفردية: ولذا قال: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) [10] ، والحكمة
تقتضي الجماعة والتعاون.
8- عدم تحديد الأهداف: المؤدي إلى آنية التفكير وموسمية العمل والارتجال، وهو ناشئ عادة من النظرة السطحية للأمور، والوقوف عند ظواهر الأحداث،
دون النظر في أسبابها، وآثارها، ونتائجها.
9- تقديم الجزئيات على الكليات: وهو ناشئ من قصور العلم، وقصر
النظر. وحاله كحال من رأى شوكة في يد جريح ينزف جرحه، فانشغل بإخراج
الشوكة عن عَصْبِ الجرح ومعالجته. وقد استغل الأعداء هذه الثغرة، فأقاموا
بعض شعائر الإسلام الجزئية وأشغلوا الناس بها، وهدموا أصوله وأركانه الكلية في
غفلة من الناس.
10- العجلة، وعدم ضبط النفس.
11- الخلط في المفاهيم: فإن الحكيم ينطلق من مفاهيم صحيحة، وقواعد
ثابتة، مستمدة من الوحي، ومن صور الخلط في المفاهيم:
أ - الخلط في مفهوم خوف الفتنة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
خشية الفتنة! !
ب - الخلط بين الحزبية والانتماء: فحوربت الجماعة والوحدة والائتلاف
باسم النهي عن الحزبية المقيتة والانتماء، مع أن من الانتماء ما هو محمود ومنه ما
هو مذموم؛ فالانتماء لأهل السنة والجماعة مطلوب محمود، بخلاف تحزّب
المسلمين بعضهم ضد بعض، فإنه مذموم.
ج - الخلط بين الوسائل والغايات.
د - الخلط بين الثوابت والمتغيرات.
هـ - الظن بأن حب السلف والدفاع عن منهجهم يكفي عن فهمه وتطبيقه
والتزامه.
ومن الأمثلة أيضاً: الخلط بين الكرم وبين الإسراف، والخلط بين الرفق
واللين وبين الضعف، والخلط بين المداراة وبين المداهنة، والخلط بين المصلحة
وبين المفسدة، والخلط بين النصيحة وبين التشهير، والخلط بين الإسرار وبين
السكوت عن الحق، والخلط بين الغيرة وبين الاندفاع غير المنضبط، والخلط بين
العزة وبين التكبر، والخلط بين التواضع وبين الذل والخلط بين التأني وبين البرود
والخمول والكسل، والخلط بين الشجاعة وبين التهور، والخلط بين خوف الفتنة
وبين الجبن والخوف.
وأول هذه الأمور كلها محمود ممدوح، وثانيها مذموم.
14- عدم إتقان قاعدة المصالح والمفاسد: وهذا يؤدي إلى تقديم جلب
المصالح على دفع المفاسد، وإلى ارتكاب المفسدة الكبرى لدفع الصغرى، وجلب
المصلحة الصغرى وترك الكبرى ... مع أن الواجب هو العكس تماماً. والحكيم من
يعرف خير الخيرين، وشر الشرين.
15- الغفلة عن مكائد الأعداء: بسبب الجهل بفقه الواقع؛ إذ كيف يمكن
للمرء أن يفعل ما ينبغي كما ينبغي، إذا كان لا يدرك ماذا ينبغي؟ لأن الحكم على
الشيء فرع عن تصوره.
16- الغلظة والعنف والطيش: لأن سرعة الغضب والانفعال من خوارم
الحكمة، وإنما يترك الناس من جَانَبَ الحكمة. قال - تعالى: [وَلَوْ كُنتَ فَظاً
غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] [آل عمران: 159] .
أركان الحكمة وأسباب اكتَسابها:
الحكمة رتبة رفيعة، وليست متاحة لكل أحد، بل هي مع بذل الأسباب،
وتوافر الأركان فضل من الله ونعمة، ولذا قال - تعالى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ
وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: 269] ، مما يوجب على طالبها
أن يسألها من مالكها - سبحانه وتعالى، وعلى من حصلت له أن يستشعر محض
فضل الله ومنته، مع سعيه في توفير أركانها، وبذل أسبابها التي تحصل بها،
والتي منها:
1- التجرد والإخلاص والتقوى: قال - تعالى: [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ]
[البقرة: 282] . وإذا كان الهوى من موانع الحكمة، فإن التقوى والإخلاص
أساسها، وما أوضح هذا المعنى في قوله - تعالى: [وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً]
[الفرقان: 74] ، فإنه لن يكون إماماً ذا اعتبار إلا إذا كان إماماً للمتقين، فهو متقٍ؛
لأن التقوى صفة للإمام قبل المأمومين. وتحصل التقوى بالعمل الصالح الناتج عن
العلم النافع، وتثمر بالاستقامة والثبات عليها.
2- العلم الشرعي: وقد قرن الله بين الحكم - وهي الحكمة - والعلم في عدة
آيات، منها قوله: [وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً] [الأنبياء: 74] . والمراد بالعلم:
العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بأخباره، وأوامره المتعلقة بالقلوب والجوارح.
3- الحِلم: وهو رجاحة العقل. والعقل: مكان الحكمة وبيتها. وبينهما
اشتراك لفظي ومعنوي، ومما يدل على علاقته بها أن الله - تعالى - ذكر الحكمة،
فقال: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً]
[البقرة: 269] ، ثم ختم الآية بقوله: [وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ليبين أنه- تعالى وتقدس - لا يؤتي الحكمة إلا أهل العقول الوافية؛ فهم الذين يعرفون النافع فيعلمونه، والضار فيتركونه.
ويراد بالحلم أيضاً: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وهو حالة
متوسطة بين الغضب والبلادة، وهذه الحالة يقتضيها العقل السليم.
4- الأناة: وهي لغةً: التثبت وعدم العجلة. وتعرف بأنها: التصرف الحكيم
بين العجلة والتباطؤ. وهي: مظهر من مظاهر الصبر، وهي معينة على إحكام
الأمور ووضعها في مواضعها. وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة، ولكنها تختلف
باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج
المطلوبة.
وقد أمر الله بالتثبت فقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا]
[الحجرات: 6] وفي قراءة [فتثبتوا] ، وذم العجلة والاستخفاف فقال: [وَإذَا
جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] [النساء: 83] ويستثنى ما كان الخير فيه
واضحاً، قال - تعالى - ممتدحاً: [إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ]
[الأنبياء: 90] .
5- التجربة والخبرة: والتجربة في الحياة رصيد ضخم تعادل أعلى الشهادات، فإذا أضيفت إلى العلم أصبحت أهم من الشهادات؛ لأن التجربة في الشهادة قاصرة. قال معاوية - رضي الله عنه - (لا حكيم إلا ذو تجربة) [11] .
والتجارب تنمي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً،
وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجع الجبان، وتليِّن القاسي، وتسخِّي البخيل، وتقوِّي
الضعيف ... والداعية إذا خالط الناس عرف حاجتهم، وركّز على ما ينفعهم،
ووضع كل شيء في موضعه، وإذا أخطأ استفاد من خطئه، قال: (لا يُلْدَغُ المؤمن
من جحر واحد مرتين) [12] .
ولذا كان أكمل الناس تجربة وحكمة الأنبياء: رعوا الغنم، ثم جربوا الناس
فازدادوا بهم خبرة، وعرفوا سنن قيادتهم، قال موسى - عليه الصلاة والسلام -
لنبينا محمد لله لله: (إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة في كل يوم، وإني والله قد
جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف لأمتك) [13] .
6- الاستشارة: وهي من عوامل تجنب الفردية القادحة في الحكمة، وقد
وصف الله بها المؤمنين، فقال مثنياً عليهم: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]
[الشورى: 38] ، ولو استغنى عنها صاحب عقل لكان أغنى الناس عنها من كان يأتيه الوحي من السماء -، ومع ذلك يأمره ربه - عز وجل - بمشاورة أصحابه؛ فيقول مبيناً أن الشورى هي مقتضى الحكمة: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] [آل عمران: 159] .
وقد أوجب الله المشورة بين الوالدين، في قضية فطام الولد، وهي قضية
تتطلب الحكمة لئلا يتضرر الولد بالفطام: [فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا] . [البقرة: 233] .
7- بُعْدُ النظر وعلو الهمة وسمو الأهداف، وهو سبب عظيم للسداد في الرأي، والتوفيق للصواب؛ حيث إن الذي يعيش لقضية مصيرية يختلف عن إنسان
يعيش على هامش الحياة؛ فإن الأول يربط كل حدث بالأهداف التي يسعى إليها،
ويعالجه من خلال منظور معين، بخلاف الثاني.
8- فقه السنن: وقد حث الله على النظر في السنن الكونية الشرعية، والتفكر
في أحوال الماضين فقال: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا]
[الحج: 46] ، فقرن السير في الأرض - وهو إما حسي أو معنوي - بالعقل،
وهو موطن الحكمة، ويحصل مثل هذا السير بالاطلاع على أحوال الماضين،
وقراءة التاريخ لمعرفة تجارب الآخرين وإضافتها إلى التجربة الشخصية.
9- المجاهدة: وهي الجهاد بعد الجهاد، وحمل النفس على تحقيق مراد الله -
تعالى - مرة بعد أخرى، قال - تعالى: [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ
اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] ، أي: لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة،
وهي عين الحكمة، وهذا وعد الله.
10- الدعاء والاستخارة: قال - تعالى: [وَإذَا سَأََلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي
قََرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذََا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ]
[البقرة: 186] . والرشد: إصابة الحق وفعله، وهذا من معاني الحكمة.
والاستخارة نوع من الدعاء، عندما يتحير المرء في أي الطرق يسلك، فإنه
بالاستخارة يوفق للحكمة والصواب.
11- السلوك الحكيم: وهو المظهر الدال على الخلق الباطن، ويمكن للداعية
أن يحقق ذلك السلوك من خلال:
أ - الاقتداء بالصادق الأمين، ذي الخلق العظيم، والذي بعث متمماً لمكارم
الأخلاق.
ب - اتباع أصول السلوك الحكيم، ومن أهم هذه الأصول تأثيراً في اكتساب
الحكمة ما ورد مثلاً في قوله - تعالى: [إنَّ اللَّهَ يَاًمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتاءِ ذِي
القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] [النحل: 90] [وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] [النساء: 58] ، وما في معناها من النصوص.
ومن الأصول المؤثرة جداً:
الصبر: وهو ركن ركين للإمامة التي لا ينالها إلا ذو حكمة، قال - تعالى:
[وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: 24] . ومما يبين أثر الصبر في التوفيق للحكمة قوله - تعالى: [وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ
وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] [فصلت: 34، 35] فإن
الإنسان إذا سلك منهجاً يجعل من عدوه حميماً وصديقاً، فإن ذلك دليل على الحكمة
وحسن التصرف.
الرفق ولين الجانب: قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع
من شيء إلا شانه) [14] ، وكان -صلى الله عليه وسلم- يوصي صحابته بذلك وقد
مدحه الله - تعالى - فقال: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ] [آل عمران: 159] ،
والله - عز وجل - رفيق يحب الرفق.
والرفق واللين لا يضاد القوة، ولا يستلزم الضعف، وإنما يضاد العنف
والفظاظة والغلظة، والجهاد مظهر من مظاهر القوة، ولا يضاد اللين والرفق، فلا
منافاة بين اللين والرفق، وبين القوة.
12 - العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص: وليس من الإخلاص أن
يكون قصده بالعمل التحلي بالحكمة فحسب.
13 - الاستقامة: وهي كلمة جامعة تجمع الدين كله، قال الله - تعالى:
[فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] (هود: 112) ، وهي السداد، فإن لم يستطع فعليه بالمقاربة لها، وفي كلتا الحالتين عليه أن يستحضر فضل الله ورحمته.
فالعمل وحده لا ينجي، قال: (قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد
منكم بعمله) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله
برحمة منه وفضل) [15] .
ومَنْ أخلص دعوته لله، وأحسن العمل، واعتز بدينه فهو مستقيم ولا أحد
أحسن منه، قال - تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ
إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: 33] ، وإذا عرض له في دعوته شياطين الإنس
دفعهم بالتي هي أحسن، واستعاذ بالله من شياطين الجن، قال - تعالى: [خُذِ
العَفْوَ وَاًمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ (199) وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] [الأعراف: 199، 200] .
فمن سلك هذه المسالك المستقيمة نال الحكمة والسداد - بإذن الله تعالى.
14- السياسة الدعوية الحكيمة: وطرقها كثيرة، ومنها:
(أ) تحري أوقات الفراغ، والنشاط والحاجة عند المدعوين؛ حتى لا يملوا،
ولئلا يفوتهم شيء من الخير.
(ب) ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم؛ اتقاء الفتنة.
(ج) تأليف القلوب بالمال والجاه أحياناً، حسب الحاجة، فإن الداعية
كالطبيب.
(د) التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان مكان الإساءة ... وكل خطأ
بالخُلق المضاد له.
(هـ) عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره، ما دام يجد في الموعظة العامة كفاية.
(و) إعطاء الوسائل صورة الغايات، بتبيين ثمرات أفعال الخير العظيمة،
مثل: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) [16] وبتوضيح آثار أعمال الشر،
وذلك بسد الذرائع الموصلة إليها، كتحريم مسبة آلهة المشركين إذا خشي سبهم لله -
تعالى.
(ز) أن يجيب على السؤال الخاص بجواب عام؛ بحيث يتناول السائل
وغيره، ليكون الجواب قاعدة عامة بنفع كل من سمعه. كنحو ما فعله النبي -صلى
الله عليه وسلم- مع عمرو بن العاص، لما أراد أن يشترط أن يُغْفَرَ له قبل أن يُسلِمَ، فقال له: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ... ) [17] .
15- فقه أركان الدعوة إلى الله: وهي من البصيرة اللازمة، وأركانها هي:
أ - موضوع الدعوة: (ما يدعو إليه الداعية) ، وهو دين الإسلام بخصائصه
العظيمة المميزة له عن سائر الأديان، من شموله وعمومه، ووسطيته، وجلبه
للمصالح.
ب - الداعي من حيث:
* وظيفته، وهي الدعوة، والبلاغ، بصورة فردية وجماعية.
* عدته وسلاحه من الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والتعلق بالله في كل
حال.
* أخلاقه وصفاته التي لا تخفى.
ج - المدعو، فالإسلام عام لكل البشرية، وبين الناس تفاوت عظيم في
الأديان والأفكار والعقول والطباع والأحوال ... ، فلا بد من مراعاة كل ذلك، ويبدأ
الطريق بإصلاح النفس، ثم الأهل، ثم المجتمع المسلم، ثم غير المسلمين.
د- أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:
وأساليبها هي:
1- تشخيص الداء في المدعوين، وتحديد الدواء.
2- إزالة الشبهات التي تمنع من الإحساس بالخطأ، ومعرفة الصواب.
3- الترغيب، ثم الترهيب.
4- تعهد المستجيبين بالتربية والتعليم.
5- تقويم جميع هذه الأساليب على أسلوب الحكمة، والموعظة الحسنة،
والمجادلة بالتي هي أحسن، واستخدام القوة مع المعاندين.
وأما وسائل الدعوة فعلى نوعين:
1- خارجية: كالحذر مع التوكل، والاستعانة بالله على كل خير، والالتزام
بكل نظام مشروع فيه ترتيب لحياة الداعية.
2- مباشرة: وهي بالقول بشتى صوره، والعمل، والسيرة الحسنة.
__________
(1) رواه البخاري، ح/349، ومسلم، ح/136 وفيه أن الملك ملأ صدره بالحكمة بعد أن فرّغه
من غيرها.
(2) رواه البخاري، ح/71، ومسلم، ح/1037.
(3) رواه مسلم، ح/816، ومعنى (فسلطه على هلكته) أي: على إنفاقه في الطاعات.
(4) الحكمة، العمر، ص 13.
(5) انظر: المصدر السابق، ص 19 وما بعدها.
(6) الحكمة، سعيد القحطاني، ص 30.
(7) انظر: الحكمة، العمر، ص 25.
(8) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني، 1/17 - 19.
(9) انظر: الحكمة، العمر، ص 47 - 64.
(10) رواه أبو داود، ح/547، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ح/511.
(11) رواه البخاري موقوفاً مجزوماً به، الفتح، 10/546.
(12) رواه البخاري، ح/6133.
(13) رواه البخاري، ح/3887.
(14) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، حديث رقم (2594) .
(15) روا هـ مسلم، ح/2816.
(16) رواه مسلم، ح/1893.
(17) رواه مسلم، ح/121.(126/28)
تأملات دعوية
لنحترم أوقات الآخرين
عبد الله المسلم
ندرك جميعاً أن من واجبات المرء أن يحافظ على وقته ويرعاه، وأن يحاسب
نفسه على الأوقات التي أضاعها لا الأوقات التي اغتنمها.
لكننا أحياناً في تعاملنا مع غيرنا خاصة من أهل العلم والدعوة الذين
يقصدهم الناس ويزدحمون عند أبوابهم ربما أسأنا لأوقاتهم من حيث لا نشعر،
وأحياناً يغيب عن أذهاننا أن من مسؤوليتنا المحافظة على أوقات الآخرين أو على
الأقل احترامها.
ومن صور تلك المحافظة: افتراض الخلاف حول تحديد الأولويات، فما نراه
مهماً لدينا قد لا يكون كذلك لديهم، وحتى حين يبقى الخلاف قائماً فالقضية تتعلق
بصاحب الوقت؛ فرأيه أوْلى أن يعتبر.
وقد نرى أننا بحاجة إلى مساعدة شخصية من أمثال هؤلاء، كقراءة مسودة
كتاب، أو مشروع عمل، أو تقديم استشارة في أمر ما، وهذا مطلب مشروع؛
لكنه حين يتجاوز دائرة الطلب إلى الإلحاح والإصرار فهو ينم عن صورة من صور
الوصاية على أوقات الآخرين.
وحين يعتذر لنا بالانشغال فتقديرنا لانشغاله وقبولنا لعذره يمثل صورة من
صور احترام وقته، وكيف نلوم من اعتذر عن استقبالنا وهو حق شرعي له؛ وقد
أدّبنا القرآن بهذا الأدب [وَإن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ]
[النور: 28] والرجوع الأزكى ينبغي أن يصحب بالتقدير للاعتذار لا الانصراف بالسخط واللوم.
روى ابن جرير بإسناده إلى قتادة قال: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت
عمري كله هذه الآية، فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي:
ارجع، فأرجع وأنا مغتبط [وَإن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] [النور: 28] .
وقد جاء تحديد ذلك بالثلاث في السّنّة النبوية، فعن أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له
فليرجع) [1] .
وتقدير الانشغال بأعمال خاصة بهم أنفسهم كالذكر والقراءة ونحو ذلك مظهر
من مظاهر رعاية أوقاتهم، خلافاً لما يسلكه بعض الناس حين يقدم على من هو
منشغل بذكر أو تلاوة فيقطع عليه ذلك لأمر لا يستحق.
وقد نبه ابن القيم رحمه الله إلى أن إيثار المرء الناس بوقته أمر يفسد عليه
حاله فقال: (مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك، وتوجهك وجمعيتك على الله،
فتكون قد آثرته بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار، فيكون مثلك كمثل مسافر
سائر في الطريق لقيه رجل فاستوقفه، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا
حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى؛ فإيثارهم عليه عين الغبن، وما
أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره. وكذلك
الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضاً، مثل أن يؤثر بوقته، ويفرق قلبه في
طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله؛ فيفرق قلبه عليه بعد
جمعيته، ويشتت خاطره، فهذا أيضاً إيثار غير محمود. وكذلك الإيثار باشتغال
القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك، على الفكر النافع،
واشتغال القلب بالله، ونظائر ذلك لا تخفى، بل ذلك حال الخلق، والغالب عليهم.
وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثر به أحداً؛ فإن
آثرت فإنما تؤثر الشيطان وأنت لا تعلم) [2] .
ومن مظاهر احترام أوقات الآخرين احترام مواعيدهم من حيث الانضباط فيها، والاعتذار عند حصول مانع مفاجئ.
ومن الأدب مع أوقاتهم، أن يبادر المرء بالاستئذان متى ما انتهى من شغله
وحاجته، أو شعر أنه قد أطال بما فيه الكفاية؛ إذ قد يجد الرجل حرجاً من أن
يطلب من زائره الانصراف وهو ربما كان ينتظر انصرافه على أحر من الجمر.
وقد يظن بعض الناس أن الإلحاح في الدعوة والمشاركة في المناسبات
الخاصة أمر يعكس عظم قدر الشخص عنده، وقد لا يكون الأمر كذلك، بل يمثل
إهداراً لوقت كان يمكن أن يستفيد منه فيما هو أوْلى.
ويبقى الأمر بعد ذلك محتاجاً إلى الاتزان؛ فعلى الدعاة وأهل العلم أن يسعوا
للإعطاء من أوقاتهم والاحتساب في ذلك، وعلى من يعاملهم أن يوازن بين استفادته
من أوقاتهم، وبين إسهامه في المحافظة عليها.
__________
(1) رواه البخاري، ح/6245، ومسلم، ح/2154.
(2) مدارج السالكين، 2/310.(126/40)
تأصيلات دعوية
كيف نعالج الاختلاف؟
مبارك عامر بقنه
الاختلاف بين البشر ظاهرة طبيعية، وأمر فطري؛ وذلك لاختلاف عقولهم
وأفهامهم وتعدد رغباتهم وأهوائهم مما يؤثر في تصورهم للأشياء، ومن ثَمّ حكمهم
على الأمور. وبعض الاختلاف قد يكون سائغاً ومقبولاً؛ وذلك إذا كان الاختلاف
في الأمور الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الدلالة والثبوت؛ فهذا لا ضير فيه
إذا بذل الإنسان فيه وسعه وكان قصده الحق من غير تعصب ولا هوى متبع؛ فإنه
يكون مأجوراً وإن أخطأ، وهذا الذي وقع بين الصحابة - رضي الله عنهم - وهو
الذي يكثر وروده في كتب الفقه. وهذا النوع هو اختلاف تنوع لا يوجب شقاقاً أو
نفرة. قال يحيى بن سعيد: (ما برح المستفتون يُستفتون، فيحل هذا، ويحرم هذا، فلا يرى المحرِّم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرِّم هلك
لتحريمه) [1] .
وأما الاختلاف في أصول الدين كالاختلاف في الألوهية أو الربوبية أو
الأسماء والصفات أو في الرسل أو في القرآن، أو نحو ذلك من أصول الاعتقاد،
فإنه لا يسيغ الاتفاق والاجتماع على ذلك؛ لأن في ذلك فساد الدين، ونصر الباطل، وتأييد أهل البدع على بدعتهم، بل يجب أن يكون موقفنا ممن خالف أمراً معلوماً
من الدين بالضرورة الافتراق؛ لأن التعاون والتكاتف لا يكون على حساب الدين
والقيم ومبدأ الإسلام. فإن الجماعة والوحدة المطلوبة هي ما وافقت الحق ولو كانت
فئة قليلة. قال عمرو بن ميمون الأودي: (صحبت معاذاً باليمن، فما فارقته حتى
واريته التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود - رضي الله
عنه - فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوماً
من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا
الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة. قال: قلت: يا
أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة
وتحضني عليها، ثم تقول: صلِّ الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع
الجماعة وهي نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه
القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا. قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا
الجماعة؛ الجماعةُ ما وافق الحق، وإن كنت وحدك) [2] .
وتشتد حاجة الأمة في هذا العصر إلى الوحدة والترابط بالمفهوم الشامل،
فالعالم اليوم يسعى إلى التضامن والتوحد من أجل السيطرة والبقاء، فنحن نعيش في
عصر التكتل والجماعات؛ فلا بقاء للوحدة والانفراد. فلا بد أن يكون في حس
الداعي إلى الله الدعوة إلى ائتلاف القلوب، ووحدة الصف، وجمع الكلمة على
الحق، ونبذ الفرقة والشقاق: [وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ]
[المؤمنون: 52] . فهذا هارون - عليه السلام - عندما عبد بنو إسرائيل العجل
نهاهم عن ذلك وحذرهم وقال لهم: [يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ
فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي] [طه: 90] ، فلما رجع موسى - عليه السلام - عاتب
هارون - عليه السلام - بسبب تأخره عنه؛ حيث لم يلحقه فيخبره بما حدث، فكان
جواب هارون - عليه السلام: [إنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ
تَرْقُبْ قَوْلِي] [طه: 94] ، فاعتذر بعدم اللحاق به بأنه خشي فرقة بني إسرائيل،
فحرص على وحدة قومه واجتماعهم على ما فيهم من منكر عظيم إلى أن يرجع إليهم
موسى - عليه السلام - فيحكم بينهم.
فالاختلاف والتفرق من أشد العوامل التي تنخر في جسد الأمة حتى تجعلها
كالخشبة المسندة، تسقطها أدنى ريح، وتقلعها أهون عاصفة. فالاختلاف يسبب
العداوة والبغضاء والتحزب والتقاتل؛ ولذلك جاء النهي عنه والتحذير منه في آيات
وأحاديث كثيرة، كقوله - تعالى: [وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشرِكِينَ (31) مِنَ الَذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] [الروم: 31-32] وقوله -
تعالى: [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] [الشورى: 13] ، وقول النبي: (أيها
الناس عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة. ثلاث مرات) [3] . وقوله: (لا تختلفوا،
فإن من كان قبلكم اختلفوا، فهلكوا) [4] .
ومع هذا التحذير إلا أننا نجد أن الشارع الحكيم قد أخبر أن الاختلاف واقع في
هذه الأمة قَدَراً وأنه لا مفر منه قال - تعالى: [وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ]
[هود: 118- 119] ففي رواية عن الحسن البصري أنه قال: (وللاختلاف خلقهم) [5] . وفي الحديث: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) [6] والجمع بين الأخبار التي وردت بأن الاختلاف واقع في هذه الأمة وبين النهي عن الاختلاف والتفرق، هو أن الاختلاف لا بد أن يقع على هذه الأمة ولكن ليس على جميعها، فالله عصم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الضلال؛ فلا تزال طائفة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك؛ ففي الأوامر الشرعية حث على الاعتصام بهذه الطائفة المنصورة التي تسترشد بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإن خالف من خالف؛ ففي النهي عن الاختلاف تكثير لهذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها [7] .
وكذلك فيه أمر بالمعروف وإنكار على هذا الاختلاف والتفرق؛ فهو لا يعني
الاستسلام للخلاف وعدم المحاولة في إزالة أسبابه، وقلع جذوره؛ لا، ليس هو
كذلك؛ فنحن مطالبون شرعاً بالاعتصام والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف.
فيجب أن نفرق بين الأمر الشرعي والأمر القدري. فعلينا أن نسلك الأسباب
والآداب التي تمنع الاختلاف والتشتت؛ ومن هذه الأسباب:
1- الاعتصام بالكتاب والسنة: فأحكام الله ورسوله جاءت لتؤلف القلوب،
وتوحد الصف [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأنعام: 153] . فالرجوع عند التنازع إلى
كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أنجع السبل في الوقاية من داء
الاختلاف، كما قال الله - تعالى: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاًوِيلاً] [النساء: 59]
ونستضيء بفهم السلف الصالح لفهم نصوص الوحي حتى لا نضل وتموج بنا
الأهواء، فلا تقدم الآراء والعقول على الوحي المطهر فتلوى أعناق النصوص
وتُؤول لتوافق شهوة في النفس، فترد الأخبار الصحيحة ويصبح الدين لا مرجعية
له إلا الآراء والعقول الفاسدة.
وفي هؤلاء يقول عمر - رضي الله عنه: (أصبح أهل الرأي أعداء السنة؛
أعيتهم أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا
نعلم) [8] .
2- العلم والفهم بالمسألة المختلف فيها: فكثير ما تحدث الخلافات في القضايا
بسبب عدم الإلمام بالمسألة من جميع جوانبها، فلو أحاط الشخص بالمسألة لوجد أن
هناك متسعاً في الأمر. (فكثيراً ما يؤدي الاهتمام بناحية - أي ناحية - على حساب
الفهم الكلي إلى الانحراف عن الطريق السوي، ولعل هذا من أكبر أسباب نشوء
الفرق الإسلامية) [9] . قال ابن تيمية: (أكثر ما يكون المنازعة في الشيء القليل
قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه) [10] . قال الشاطبي: (الاختلاف في بعض
القواعد الكلية لا يقع في العادة الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة، الخائضين
في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها) [11] ، فقد يعتقد الإنسان في
نفسه - بعد قراءته لبعض الكتب - أنه من أهل العلم والاجتهاد، فإذا به يتصدر،
ويخالف العلماء ويقول برأيه، فيهدم من حيث لا يدري، ويضل الناس من حيث لا
يشعر، فعن ابن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي لله قال: (إن الله لا يقبض
العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق
عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) [12] . قال بعض العلماء: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قِبَلِ
علمائهم، وإنما يؤتون من قِبَلِ أنه إذا مات علماؤهم؛ أفتى من ليس بعالم، فيؤتى
الناس من قِبَلِهِ [13] .
3- التثبت والتبين: فكثير من الناس يحكمون على الآخرين من خلال ما
يسمعونه عنهم من غير أن يكلفوا أنفسهم السؤال والتحري عن حقيقة ما سمعوا؛ قد
يكون ما سمعوه هو من اختلاق بعض المغرضين القاصدين للفرقة والنزاع في
الصف الإسلامي. والتثبت مما نسمع هو من منهج الأنبياء - عليهم صلوات الله
وسلامه -، فهذا سليمان - عليه السلام - يقول للهدهد بعد أن أخبره الخبر:
[سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ] [النمل: 27] وقد عاتب الله داود في ... حكمه للخصمين قبل أن يسمع ويتثبت من الآخر، قال النحاس: (ويقال إن خطيئة داود هي قوله: [لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ] [ص: 24] لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت) [14] والله - سبحانه - يقول: [إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا]
[الحجرات: 6] . ومن أصول التثبت في الأخبار هو النظر في عدالة المخبر، وضبطه لما ينقل، والتبين ممن أخذ المخبر؛ فقد يكون أخذه من كاذب، ثم النظر في هذا الخبر قبل الحكم على الأمر؛ فقد يحتمل أوجهاً متعددة فيحمل على أحسنها.
4- الحوار في المختلف فيه: فطرح القضية للنقاش بأسلوب هادئ بعيد عن
التجريح وتسفيه رأي الآخر، مع إتاحة الفرصة لتبادل الرأي، وسماع الطرف
الآخر، خليق بأن يجعل هناك نوعاً من التقارب في وجهات النظر. ومما يؤسف
له حقيقة أن كثيراً من المختلفين لا يجتمعون ولا يتحاورون فيما بينهم، وإن
اجتمعوا للنقاش والتحاور فلا يحسنون آداب الحوار وعرض القضايا، مما يجعل
كل طرف يتعصب لرأيه وإن ظهر له الحق خلاف ذلك. ولكي تتقبل الآراء يجب
أن يكون الحوار بالحسنى، فإذا كان الله أمرنا أن نجادل أهل الكتاب بالحسنى،
فإخواننا في العقيدة أوْلى بذلك منهم.
5- حسن الظن بالطرف الآخر: فالشكوك والقدح في نيات الآخرين كفيلة
بإيجاد جفوة وشقة بعيدة لا يمكن التلاقي فيها، فكل قول أو فعل يحمل على خلاف
الظاهر المتبادر منه للذهن من دون قرينة تصرفه عن ظاهره فيه ظلم وتجنٍّ على
الآخرين، ورحم الله الشافعي حيث قال: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي
غيري خطأ يحتمل الصواب) . فهكذا يجب أن نحمل آراء الآخرين على المحمل
الحسن ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، عندها سنجد أن كثيراً من الاختلافات قد زالت.
6- الإخلاص في تحري الحق: فالانتصار للذات، والتعصب للرأي، يؤدي
إلى رفض الحق، ومخالفة وجهة النظر؛ فمن قصد الانتصار لنفسه وهواه فلا
يوافق الآخرين في رأيهم وإن بدا له أنه صواب، ولا شك أن هذا خلاف منهج
الصالحين؛ فهذا الشافعي يقول: (والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على
لسان خصمي) ؛ فالتجرد للحق، والإخلاص لله، يزيل عقبات الاختلاف؛ ولكن
الأمر يحتاج إلى مجاهدة النفس في ذلك، وإلزامها الحق بقوة. والله الموفق.
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/903) .
(2) إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/69) .
(3) أحمد (5/370) ومجمع الزوائد للهيثمي رقم (9096) .
(4) صحيح الجامع رقم (7255) .
(5) تفسير ابن كثير (2/482) .
(6) السلسلة الصحيحة، ح/203.
(7) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/152) .
(8) جامع بيان العلم وفضله (2/1042) .
(9) الفتور في حياة الدعاة (21) .
(10) اقتضاء الصراط (1/149) .
(11) الاعتصام (2/679) .
(12) صحيح الجامع الصغير رقم (1854) .
(13) الاعتصام (2/680) .
(14) فتح القدير (4/598) .(126/42)
البيان الأدبي
حوارية ضياع دار
حفيظ بن عجب آل حفيظ
(1)
في الليل وكلٌّ قد نامَا ... والظلمُ تمطّى جذلانا
دخل المسكينُ لغُرفَته ... يبكي بالدمعةِ أحزانا
يبكي بالحسرة آلاماً ... ويبثّ اللوعةَ أشْجَانا
العبرةُ كادت تقتله ...
والآهة ليست ترسله ...
والشعر أبى أن يُسْعِفَه ...
والظلم تمطّى جَذْلانا ...
الصوتُ شديدٌ مُرتفعٌ ... قَدْ طَالَ وهزّ الجُدْرَانَا
قد طالَ وأيقظ نائمةً ... بالنوم أزالتْ أحْزَانا
(2)
ولدي يا ولدي يا ولدي ... ماذا يُشجِيكْ؟
قل لي يا ولدي حدثني ... ماذا يُبْكِيْكْ؟
لا تكْتُمْ عني يا ولدي ... إني أرضيكْ
إني أرضيكَ أيا ولدي ... إني أرضيكْ
(3)
يا أمي لا لا ترتاعي ... فالجرحُ عَمِيق
وأنا بهمومي يا أمي ... قد صِرْتُ غَرِيقْ
... يا أمي نامي ودعيني ... وغداً سأفيقْ
... وسأرجعُ لصوابي يوماً ... يوماً سأفيقْ
... روحي ودعيني يا أمي ... إني سأفيقْ
(4)
... يا ولدي لنْ يهدأ بالي ... والهَمّ يُقَطِّع أوصَالي
... لا أهدأُ أبداً يا ولدي ... حتى أرْضِيكْ
... حتى أسْلِيكَ أيا ولدي ... حتى أُسْلِيكْ
... حدثني قلْ لي يا ولدي ... عَلِّي أُسْلِيكْ
(5)
يا أمي قد ضاع بياني ... وتجمّد بالعيِّ لساني
يا أمي لا أدري ماذا ... أحكي يا أمي من شاني
يا أمي قد كانت داري ... فوق الجوزاءِ ولا أحسنْ
قد كانت جنةَ آمالي ... قد كانت شمساً بل أحسنْ
قد كان فِنَاها يا أمي ... يحوي الأمصار
قد كان فسيحاً يا أمي ... قد كان ديَارْ
... قد كان يُحيطُ أيا أمي ... كل الآبارْ
يا أمي قد كان مُرادي ... أنْ ينشأ فيها إخواني
أن تنمو فيها أحلامي ... أن أُنْشِدَ فيها ألحاني
يا أمي قد كان مُرَادي ... أنْ تبقى لي طولَ زماَني
لكن يا أمي أحلامي ... قد ضاعت في ليلِ منامي
... أصبحت بيومٍ يا أمي ... فرأيت الدارْ
قد صارت ناراً يا أمي ... قد صارت نارْ
ورأيتُ عدوي في داري ... يتبخترُ في ثوبٍ ناري
يا أمي قَتّل إخواني ... ورمى بالرّمْحِ فأرداني
وتهكّم بي حين رآني ... وتهكّم بي حين رآني
وعلاني يا أمي فَرِحاً ... وتباهى حين تَحدّاني
... وأتى بوثاقٍ يوثقني ... وأتى بوثاقْ
... صلبوني يا أمي حتى ... أصبحتُ مُعَاقْ
... وأروني يا أمي ... آهٍ ... ما ليس يُطاقْ
... جاؤوا بعروسي يا أمي ... من غير دِثَارْ
... من غير حجابٍ يا أمي ... من غير ستارْ
... تستصرخُ يا أمي باسمي ... وتقول العارْ
... العارُ أتانا أنقذنا ... هل تخشى العارْ؟!
يا زوجي قد طار دِثَاري ... وتكشّف عنّي يا عاري
يا عاري آهٍ يا عاري ... يا عاري آهٍ يا عاري
فعلوا بعروسي.. وانفسي ... وبأختي ما أفنى حِسِّي
واحتلوا يا أمي داري ... ورموني منها بإزاري
يا أمي قد ضاعت داري ... وبكيتُ أنا ذكرى عاري
يا عاري آهٍ يا عاري ... يا عاري آهٍ يا عاري
(6)
... ولدي فلْتصبْر ولْتبحثْ ... عن درب الدارْ
... وأعدّ سلاحك يسترجع ... هاتيك الدارْ
... وتقدّمْ يا ولدي هيّا ... لتَرُدّ الدارْ
... وتُزيلَ العار أيا ولدي ... وتُزيل العارْ(126/48)
نص شعري
شمو خ
محمد سعد دياب
دَعْنا نُسَامرْ عطرها المَيّادا ... تلكَ الصحائفُ.. كمْ زَهَتْ أَمجادا
تاريخُنا.. وتَتِيهُ ألفُ نُجَيْمَةٍ ... تَثِبُ الأَهِلّةُ.. تُمْطِرُ الإنشادا
كانت سيوفُ الفَتْحِ يلمعُ حَدّها ... بَرَقتْ تُدَمْدِمُ ريحُها إرعادا
تلك الجحافلُ ضاءتِ الدنيا بها ... حَفَرَتْ عزائمَها.. انبرتْ ميعادا
ضربوا فِجَاجَ المستحيل جسارةً ... وَتَبَوّؤوا هَامَ الشموس مُرَادا
وَشَمُوا على جفنِ السُهَا أَيامَهم ... إنّا نرى سَعْداً.. نرى المِقْدَادا
كانت مَآقِي الدهرِ تَرْقُب خطوَهم ... سُحِرَتْ.. وبات كرَى العيونِ سُهَادا
أرسوا هُدَى الرحمنِ فانجابَ الدّجَى ... واخْضَرّ صبحٌ.. دافِقاً إسعادا
حملوا الرسالةَ وافتدوها مُقْلَةً ... وَنُهًى تَوَسّدَ نبضُها الأكبادا
سَرَتِ المعارفُ.. أَتْرَعَتْ بِرُوَائها ... دنيا.. أنارَ عبيرُها الأَبعادا
الذارياتُ حَمَلْنَ شُعْلَتها سَنًى ... ليفيتضَ في لُجَج الدّنا إرشادا
تلكَ البيارقُ حينَ آخاها المُنَى ... صِدْقاً.. أفاءتْ كي تطيبَ حَصَادا
قِمَمٌ تَجَذّرَ غرْسُها فتحدّرَتْ ... بَحْراً من النّعْمَى.. هَمَى جَوّادا
سِفْرٌ من السِيَرِ الوريقةِ قد نَضَا ... كالدّرِّ في مَسْرَى الزمانِ.. وزادا
ذَيّاكَ ميراثٌ نُبَاهي دَهْرَنا ... بشموخِهِ.. نعلو به أَنجادا
الوارثون المجدَ نحنُ.. نقولُها ... تَدْوِي.. تَرُجّ السمعَ والآمادا
سَنُعيدُ ما عَبَقَ القَصِيدُ بِذِكْرِهِ ... لن نرتَخِي هِمَماً.. نلوذَ رُقَادا
نحنُ الذين سَنُسْرِجُ القنديلَ.. نَقْ ... دَحُ جَذْوَةً تَسْقِي رُباً وَوِهَادا
هذا كتابُ الله نرفعُهُ هُدًى ... وَعْداً يَشِعّ بقلبِنا.. ورشادا
تالله لا.. لا.. لن تَضِلّ دروبُنا ... تالله لا.. لا.. لنْ نَشِتّ فُرَادَى
الله أكبرُ.. فلتكنْ راياتِنا ... وَحُدَاءَنا.. وسِرَاجَنا الوقّادا(126/50)
نص شعري
زحام الأجسام
محمد بن عبد الله المقرن
هناك من يعيش وقد أفاد بحياته آلافاً من البشر.. وكم تزدحم الحياة بمن يعيش ليعيش.. وربما ليميت.
سئمَ القَصيدُ وَجَفّت الأقلامُ ... ما عاد.. يجدي بالفصيح كلامُ
ما عاد يُجْدي أن نريقَ دموعَنا ... أو أن تذيبَ قلوبَنا الآلامُ
ما عاد يُجْدي أن نجمّعَ حسرةً ... وتبثها بجمودنا الأوهامُ
نبني من الأقوال قصراً شامخاً ... والفعل دون الشامخات ركامُ!!
نحكي الهوانَ على شواطئ لهونا ... وأمامنا يُتَقَاذفُ الإسلامُ
إن لم نخضْ بَحْرَ الصراع فعيشنا ... في شاطئ الذلِّ السحيق حرامُ
ما بالنا يا قومُ نرتع بالهوى ... وتصوغ قمةَ مجدنا الأحلامُ
أرواحنا تهوي تخرّ صريعةً ... وعلى الحياة تطاول الأجسامُ!!
إني لأصرخ بالحقيقة مُرْغماً ... ولكم أطالَ بِصَمْتي الإرغامُ!!
الحرب في زمن العجائب أصبحت ... حرباً تقامُ وسَاحها الأفهامُ!!
كم موفدٍ للغرب جاء لأمتي ... بحضارةٍ يصحو بها وينامُ
قد جاء والإعجاب يملأ قلبه ... بل جاءَ يَملأ قلبَه الإجرامُ
كمْ فكرة فاحت بها صحف الهوى ... ولكم بغت بسمومها أقلامُ
زعموا الحضارة فصل دين إلهِنا ... عن منهج منه الحياة تقامُ
تباً لهم.. تَباً لوحل عقولهم ... ضلوا الطريقَ فتاهتِ الأفهامُ
سلْ في ديار العرْب باراتِ الهوى! ! ... سل ساهرات الرقص فيم تقامُ
سلْ كيف تدعى للسفور نساؤنا ... وبأيِّ أثمان الهوان تسامُ
سلْ غيرة (العملاء) أين حياؤهم؟ ! ... بشرٌ ولكنْ بالهتوى أغنامُ
سلْ من يربي بالمعازف جيلَنا ... سلْ أيّ سمٍّ ينفثُ الإعلامُ
كنا نرى سفكَ الدماءِ وعزّنا ... فإذا بذلٍّ تُسفك الأفهامُ
قد كانت الأشلاءُ سُلّم أمةٍ ... يسمو على أعتابها الإسلامُ
فإذا بحرب الفكر تطحن أمةً ... تحكي مصارعَ ذلِها الأيامُ
يا معشر العملاء مثلي واقفٌ ... يحمي الحمى وبقبضتيه سهامُ
كابوس صحوتنا يقضّ منامَكم ... ويَرُوع من طافت به الأحلامُ
الدين أسمى من مبادئ لؤمكم ... كالشمس تنفذ والسماء غمامُ
فليسمع الكون الفسيح بأسره ... كلماتنا.. ولتكتب الأيّامُ! !
إنْ ماتت الأرواح بالهمم استَوتْ ... في موتها وحياتها الأجسامُُ(126/51)
خاطرة سريعة
نحو أدب هادف
طاهر عبد الله الثقفي
ها نحن الآن في العصر الحديث، عصر المدنية المغلقة على أبنائها، عصر
الجمال الصناعي بشتى أصنافه، عصر الشعر المبتذل غالباً، والمتكلف أحياناً.
وهذا هو واقعنا للأسف.... فماذا نفعل؟
إذا أردنا أن نزيح هذا الكابوس عن أفكارنا وأحاسيسنا فيجب علينا أن نبدأ
بأنفسنا.. ثم بالجيل الصاعد من أبنائنا. إنّ تذوّق الأدب الراقي يصقل الموهبة،
ويربي الذوق، وتشفّ له النفس وترقّ، ويتفتح الذهن على عالمٍ واسعٍ من الخيال.
إنّ التذوق الأدبي من الدعائم الراسية لبناء الشخصية التي نبحث عنها ونسعى
لإيجادها في مجتمعاتنا؛ فهو مصدر متميزٌ لإرساء القيم النبيلة في أعماق الشخصية
بحكم طبيعته وارتباطه بها.
وقد نعجز عن الإحاطة بما للأدب الراقي من مردودات للفرد والمجتمع. فلنا
أسوة بعلمائنا ومفكرينا وعظماء تاريخنا الإسلامي؛ حيث كان الأدب من أساسات
تعليمهم عبر حياتهم العلمية؛ ففسروا القرآن الكريم خير تفسير، وفهموا الأحاديث
الشريفة أحسن فهم، وقدموا لنا العلم في أساليب رصينةٍ عميقةٍ جميلة.
فلماذا نزهد اليوم في بناء الذوق الأدبي لدى هذه الأجيال المتطلعة للمستقبل
ونحن بحاجةٍ إلى تلك الشخصية الإسلامية القوية؟ لماذا؛ ونحن نعلم ما بهذا الجيل
من عوزٍ إلى القيم الإيجابية الصادقة؛ والفكر الواسع المتأمل، والعين الفاحصة
المدققة؟
يجب ألا يُسمح للمتلاعبين بالأدب والمرتزقة والفوضويين أن يفسدوا ذوق هذا
الجيل الذي نتطلع إليه بكل أمانينا ليحمل الهموم الإسلامية، ويعمل دائماً للخير
والصلاح.
إنّ الأدب الذي ندرّسه لأبنائنا ليس صافياً خالصاً، وإنما هو خليطٌ من تاريخ
الأدب والتراجم والنقد والأدب، سواءً في التعليم العام أو الجامعات.. فإذا أردنا أن
نصل إلى تذوقٍ أدبي يغوص في أعماق النص الأدبي ويكتشف جمالياته ويقدر ما
فيه من درر وجواهر، فعلينا أن ندرّس الأدب على أنه علمٌ وفنٌ مستقلان عن
التاريخ والتراجم والنقد الأدبي؛ فبعد اختيار ما رقى وطهر من النصوص الأدبية
ندرس لغتها وبلاغتها، وفلسفة النص واختصاصاته كنصّ يحمل رسالةً يجب أن
تُقرأ.
فإن فعلنا فسوف نخرج بقرّاء وكتاب للأدب الجميل الهادف لنشر الوعي
الإسلامي الصحيح. وإلا فإن الأدب سيبقى حبراً على ورق ... وسيفقد طاقاتٍ
بشرية نحن بحاجة ماسةٍ إليها.(126/52)
البيان الأدبي
لست أهذي ولكن
شادي السيد أحمد
استيقظت - كالعادة - قبل أذان الفجر بساعة، على الأذان الأول، الذي
يُوقظ الناس لإدراك صلاة الليل، وكذلك للسحور لمن أراد الصوم.
اكتظ المسجد الجامع في الحيّ الذي أسكن فيه بالمصلين قبل الأذان بدقائق،
وبعد نصف ساعة أقيمت الصلاة، وصلّى الإمام صلاة طويلة؛ كما كان يفعل النبيّ- صلى الله عليه وسلم-، فاستغرقت حوالي خمس وعشرين دقيقة.
مرّت ساعة كاملة بعد انقضاء الصلاة، وما زال المسجد ممتلئاً بالمصلين؛
الذين انهمك كل واحد منهم في قراءة أذكار الصباح.
في تمام السادسة عمّ النشاط المدينة بأكملها؛ الجميع يتجهون إلى أعمالهم
ومدارسهم وجامعاتهم..، وبدأت المحال التجارية في فتح أبوابها.
وصلتُ في تمام السادسة والربع إلى (مركز تلفاز العالم الإسلامي)
(I. W. T. C) حيث مقرّ عملي، وفي السادسة والنصف كنت خلف مكتبي في قسم (الإعداد والإشراف) في الطابق الثامن والثلاثين.
انهمكتُ في إعداد تقرير دوري؛ لإرساله إلى مراكز تلفاز العالم الإسلامي في
ثلاثين دولة في العالم، ومراجعة بعض الأوراق، حتى إنني لم أشعر بأحد
الموظفين في قسم (المتابعة والتطوير) حينما دخل عليّ لأعتمد برامج (مركز تلفاز
العالم الإسلامي) ليوم غد - بإذن الله تعالى - وجاءت البرامج المقترحة على النحو
الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
مركز تلفاز العالم الإسلامي
(المركز الرئيس بواشنطن)
قسم الإعداد والإشراف
* الموضوع: مواد وبرامج يوم الخميس: 15/3/1428هـ (حسب تقويم أم
القرى) .
الفترة الأولى:
3.45صباحاً: تلاوة قرآنية بصوت الشيخ/ محمود خليل الحصري ...
(الحزب السادس) .
4.15: نقل أذان وصلاة الفجر على الهواء مباشرة من بيت الله الحرام
بمكة المكرمة.
4.55: أذكار الصباح.
5.10: تلاوة قرآنية بصوت الشيخ/ علي بن عبد الرحمن الحذيفي
(الحزب الثلاثون) .
6.00: برامج المرأة (الأخت المسلمة هذا الصباح) .
7.00: برامج المرأة: فتاوى نسائية.
8.00: نشرة أخبار العالم الإسلامي.
8.30: برامج الأطفال (براعم الإيمان) .
9.30: برامج الأطفال (ناشئ في رحاب القرآن) .
10.00: برنامج (تلاوة وتفسير) .
11.00: برنامج (العلم والإيمان) .
11.30: من نوادر العرب.
12.00: موجز الأنباء.
12.10: أناشيد إسلامية للأطفال.
1.00: نقل أذان وصلاة الظهر على الهواء مباشرة من المسجد الأقصى
بفلسطين.
1.00: حتى 4.00 راحة.
الفترة الثانية:
4.00: تلاوة قرآنية بصوت القارئ / عبد الباسط عبد الصمد (الحزب
التاسع) .
4.35: نقل أذان وصلاة العصر على الهواء مباشرة من جامع الأزهر
بالقاهرة.
5.00: نور على الدرب.
6.00: البرامج التعليمية (مقرر التوحيد للثانوية العامة في الوطن
الإسلامي) .
7.00: الصحة العامة (الهدي النبويّ في الطعام والشراب) .
7.15: نقل أذان وصلاة المغرب على الهواء مباشرة من المسجد النبوي
الشريف بالمدينة النبوية.
7.45: تلاوة قرآنية بصوت الشيخ / سعود بن إبراهيم الشريم (الحزب55) .
8.00: أخبار العالم الإسلامي.
8.45: نقل أذان وصلاة العشاء على الهواء مباشرة من بيت الله الحرام
بمكة المكرمة.
9.20: برنامج: صحابي جليل.
9.30: ألعاب ترفيهية.
9.40: تلاوة قرآنية بصوت الشيخ / محمد صديق المنشاوي (الحزب 22) .
10.00: الختام.
*صورة لمركز المعلومات.
*صورة لقسم التنفيذ.
*صورة لفروع المركز الرئيس في: مكة المكرمة - القاهرة - دبي - دمشق- الرباط - الكويت - بغداد - نواكشوط - كابول - مانيلا - لندن - فيينا - إسلام
أباد - طوكيو - أروى - ستوكهولم - روسيا - ميلانو - باريس - بازل.
*صورة لصُحف العالم الإسلامي.
*صورة لمركز القمر الفضائي الإسلامي.
يعتمد
مدير قسم الإعداد والإشراف
بعد اعتماد مواد وبرامج الغد، توجهتُ لقسم (التصوير الخارجي) لمتابعة
تغطية مؤتمر علماء الإسلام المنعقد في القدس بدولة فلسطين المحرّرة.
عدتُ إلى بيتي منهكاً بعد يوم حافل بالأحداث في العمل، وأويتُ إلى فراشي
في العاشرة والنصف، بعد أن تأكدت من نوم الأولاد في غرفهم.
استسلمتُ للنوم دون أدنى مقاومة، وبعد فترة من الوقت - لا أعرف مقدارها- قمتُ فزعاً على استغاثة امرأة، وأصوات رجال يضحكون بشدة، على أنغام
موسيقى صاخبة! !
قفزتُ من فراشي محاولاً معرفة مصدر هذه الأصوات، وأنا أُكبِّر وأُهلِّل،
وقد تحفّزتْ عضلاتُ جسمي، وتصببتُ عرقاً! !
وقفتُ حينما سمعتُ صوتَ زوجتي تخبرني أن هذه الأصوات التي سمعتها
صادرة من تلفاز الجيران! !
نظرتُ إلى الساعة في ذهول، وقد تجاوزت عقاربها الثالثة صباحاً! صِحتُ
وقلتُ: كيف يحدث هذا؟ ! وقد اعتمدتُ اليوم برامج مركز تلفاز العالم الإسلامي! ! لا بد أن أعداء الإسلام قد احتلوا مركـ.. .. ..!! وجدتُني أقف فجأة عن الكلام، ... وأنا أحكّ رأسي كمن ينفض عن نفسه النعاس! هَرَعَتْ إليّ زوجتي، وهي
تتحسس رأسي، وتهتف في جزع: هل أصابتك الحمى يا زوجي؟ ! ! لقد كنتَ
تهذي بكلام عجيب! ! هدّأتُ من روعها، وقلت: لها: لا عليك..؛ لست أهذي.. لقد كان مجرد حُلم! !
حُلم جميل ... مشهد العمر الذي طوّح به ما يعرضه التلفاز في هذه الساعة المتأخرة! ! !(126/53)
المسلمون والعالم
الإعلام الغربي وتشويه حقائق الصراع
د.باسم خفاجي
مقدمة:
لا جدال في أن من يملك الإعلام في هذا الزمان يملك زمام الشعوب؛ ففي
عالم تحوّل إلى قرية صغيرة تطورت فيه وسائل الإعلام والاتصالات، وغزت فيه
عالمنا الإسلامي الأفكار والقيم الواردة من كل أنحاء العالم ... وأصبح من المهم بل
من الضروري البحث في أثر هذا الإعلام على حسم الصراعات والخلافات الفكرية
وغير ذلك، في هذه القرية العالمية. وقد أدى تطور وسائل الإعلام وتضخم الآلة
الإعلامية الغربية إلى ظهور خطرها على الهويات الدينية والعرقية لكثير من شعوب
العالم؛ ففي عالم تزيد عدد اللغات فيه عن 6000 لغة، وتتنوع وتتباين فيه القيم
الحضارية والدينية، يمثل الإعلام الغربي أكثر من 90% من حركة الإعلام المتدفق
بين أرجاء العالم [1] . ولا شك أن لهذا آثاراً سلبية على محاولات الحفاظ على
الهوية الدينية، والوقاية من الأمراض الأخلاقية الغربية التي تتسرب إلى الشعوب
من خلال تدفق المعلومات.
والإعلام الغربي يؤثر أيضاً بصورة فعالة على كثير من القيادات السياسية في
العالم، مما دعا الأمين العام السابق للأمم المتحدة للقول بأن (وكالة الأنباء
التلفزيونية - هي العضو رقم (6) في مجلس الأمن) . ولكن المعلوم أن هذا الإعلام
لا يعبِّر عن المعاناة الحقيقية للبشر. إن المتتبع للإعلام الغربي وطرق صياغته
وأساليب إيصاله إلى المواطن يرى الكثير من التجاوزات في المصداقية والحيدة.
وكثرت في الآونة الأخيرة الدلائل على المحاولات المتعمدة لإعادة صياغة المواقف
السياسية وتفسيرها وتشويهها بما يخدم أهداف الغرب ومن يدور في فلكه.
ومن هنا تأتي أهمية تتبع الآثار التي تنتج عن تشويه الإعلام الغربي لحقائق
الصراع في كثير من بقاع العالم. والحديث في هذا المجال لا بد أن يتطرق إلى
المنطلقات الشرعية في فهم حقائق الصراع العالمي، والحديث عمن يملك الإعلام
الغربي، والآثار المنظورة والمحسوسة للإعلام على الرأي العام للشعوب. كما أنه
من الضروري التطرق إلى بعض أمثلة تشويه الحقائق وتغييرها من قبل الإعلام
الغربي، والبحث عن المستفيد من وراء ذلك، وأخيراً ما هو دور الإعلام الإسلامي
في مقاومة هذا التشويه لحقائق الصراعات القائمة في العالم؟
تحذير قر آني:
لقد فضح القرآن الكريم لنا أساليب وسائل الإعلام الكافرة عبر التاريخ في
حرب الإسلام وأهله، التي تنوعت صورها ووسائلها وجمع بينها جميعاً رابط الكيد
والعداء للإسلام، والكذب والخداع وتشويه الحقائق. ولنتأمل قول الله - تعالى:
[وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] [فصلت: 26]
وكذلك قوله: [وَمِنَ الَذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاًتُوكَ
يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ] [المائدة: 41] ، وكذلك قوله - جل شأنه:
[يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ]
[آل عمران: 71] .
كما أن الاستهزاء بالإسلام والمسلمين، والسخرية منهم، وإشاعة الأخبار
السيئة عنهم ليس بالأمر المستغرب أو الجديد في ساحة الصراع بين حزب الرحمن
وحزب الشيطان منذ بدايات هذا الصراع. وقد أصبحت وسائل الإعلام الغربية من
أهم وسائل إدارة هذا الصراع وتأجيج ناره في العقود الأخيرة. وقد حذر الله -
تبارك وتعالى - الأمة المجاهدة من هذه الوسائل الشيطانية في أكثر من موضع في
الكتاب العزيز. ومن ذلك: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا
يَاًلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ]
[آل عمران: 118] ، [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَذِينَ آمَنُوا]
[البقرة: 212] ، [وَإذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ]
[النساء: 83] .
هل تثق الشعوب الغربية في إعلامها؟
في دراسة أعدها كل من (أندرو كوت) و (روبرت توث) حول ثقة المواطن
الأمريكي في مصداقية الإعلام الغربي، ونُشرت في دورية (الصحافة والسياسة)
الصادرة عن جامعة هارفارد، وجد أن المجتمع الأمريكي قد انخفضت ثقته بالإعلام
الغربي بصورة واضحة في السنوات الأخيرة، ودلت الدراسة على أن الغالبية من
الشعب الأمريكي التي كانت تثق في مصداقية وسائل الإعلام الغربية قد تحولت إلى
أقلية خلال عشر السنوات الماضية. فبينما اعتقد 33% من الشعب الأمريكي في
عام 1985م أن الإعلام بصورة عامة يفتقد المصداقية، فقد ارتفعت هذه النسبة إلى
44% في عام 1992م، وبلغت في نهاية عام 1997م حوالي 53%، كما أظهرت
الدراسة نفسها أن أكثر من 60% من الشعب الأمريكي يعتقد أن الإعلام يركز على
الجوانب السلبية أكثر من اللازم [2] . كما بينت الدراسة أن أهم أسباب عدم
المصداقية يرجع إلى (عدم الحيدة) من جانب الإعلام الغربي عند طرح القضايا
وتحليلها. وعدم الحيدة يرجع إلى عدد من الأسباب التي من أهمها وأبرزها: ملكية
اليهود لوسائل الإعلام وتأثيرهم المباشر على هذا الإعلام بشكل لافت للنظر.
من يملك الإعلام الغربي؟
تجمع معظم الإحصاءات أن المواطن الأمريكي يتابع ما يحدث في بلده وفي
باقي أنحاء العالم من خلال نشرات الأخبار التلفزيونية التي تشكل أهم مصدر
إخباري لنسبة 85% من الشعب الأمريكي. وهناك أربع شبكات تلفزيونية تشكل
في مجموعها أكثر من 95% من الأخبار المحلية والعالمية التي تجمع وتصور
وتبث للمواطن الأمريكي. وهذه الشبكات هي: سي. إن. إن (CNN) وتملكها
شركة تايم - وارنر التي يرأسها جيرالد ليفين (يهودي) ، وشبكة إي. بي. سي
(ABC) وتملكها شركة والت ديزني التي يرأسها مايكل إيزنار (يهودي) ، وشبكة
سي. بي. إس. (CBS) وتملكها شركة وستنجهاوس ويرأس الشبكة إيريك وابر
(يهودي) ، وشبكة إن. بي. سي. (NBC) وتملكها جنرال إليكتريك ويرأس قطاع
الأخبار فيها أندرو لاك (يهودي) . ومن المفاجئ بلا شك أن نجد أن كل هذه
الشبكات تدار حالياً من قبل اليهود. وهذا يعني أن 100% من القرار الخاص
بالأخبار تبث من أكبر أربع شبكات تلفزيونية أمريكية تتحكم في 95% من الأخبار
في أمريكا، ولها تأثير بالغ؛ لأنها تشكل مصدراً رئيساً للأخبار التي يتلقاها 85%
من الشعب الأمريكي هي لليهود. فهل يعقل أن تكون هذه مصادفة!
أما الصحافة اليومية فقد نجح اليهود في السيطرة عليها بل وامتلاك أكبر ثلاث
مؤسسات صحفية أمريكية مؤثرة. وهذه الصحف هي: (نيويورك تايمز) التي
تعتبر الصحيفة الموجهة لنبض المجتمع الأمريكي والمعبرة عن ثقافته، ويتولى
رئاستها ويشغل منصب الناشر لها في الوقت الحالي أرثر أوكس سالزبرج (يهودي) . وإضافة إلى الصحيفة اليومية الهامة، فإن مؤسسة نيويورك تايمز تمتلك أيضاً 36
صحيفة يومية أخرى و12 مجلة هامة، و3 شركات لطباعة الكتب، وتتولى
نيويورك تايمز تزويد ما يزيد عن 500 صحيفة يومية بالأخبار. والصحيفة الثانية
هي (واشنطن بوست) وهي الجريدة السياسية الأولى في أمريكا، ويقرؤها معظم
صانعي القرار ابتداءً من البيت الأبيض، وحتى ممثلي الولايات في الكونجرس
الأمريكي. وقد اشترى إيجين ماير (يهودي) هذه الصحيفة عام 1933 ولا تزال
مملوكة لعائلته، وتملك الحصة الكبرى فيها إحدى حفيدات إيجين وهي كاثرين ماير
(يهودية) . أما صحيفة (وول ستريت جورنال) وهي صحيفة المال والتجارة، والتي
يقرؤها السياسيون ورؤساء الشركات والمستثمرون وأصحاب الأموال في أمريكا
وكثير من بقاع العالم، وتعتبر أكثر الصحف الأمريكية انتشاراً؛ حيث يطبع منها
ما يزيد على 2. 1 مليون نسخة يومياً فهي مملوكة لشركة داو جونز التي يرأسها
بيتر كان (يهودي) . وتصدر المؤسسة 24 صحيفة يومية وأسبوعية أخرى. أما
المجلات الأسبوعية فنجد أن أهمها على الساحة السياسية مملوك تماماً لليهود. وهذه
المجلات هي: مجلة التايم (4.1 مليون نسخة أسبوعياً) وتملكها تايم وارنر التي
يرأسها جيرالد ليفين (يهودي) ، ومجلة نيوزويك (2.3 مليون نسخة) وهي مملوكة
للواشنطن بوست التي ترأسها كاثرين ماير (يهودية) وأخيراً مجلة يو إس نيوز (2.3 مليون نسخة) ويملك أغلب أسهمها ويرأسها مارتينمر زوكرمان (يهودي) . ...
أما من ناحية دور النشر فيوجد في أمريكا مئات دور النشر في المجالات
الثقافية والعلمية المختلفة؛ ولكننا نجد عند البحث عن أكبر هذه الدور أنها مملوكة
وتدار أيضاً من قِبَلِ اليهود؛ فمؤسسة تايم بوكس مملوكة لشركة تايم - وارنر التي
ذكرنا سابقاً أن رئيسها هو جيرالد ليفين (يهودي) ، ومؤسسة راندم هاوس يملكها
نيوهاوس صامويل (يهودي) . ومؤسسة سايمون أند شوستر مملوكة لشركة
بارامونت التي يرأسها مارتين دايفز (يهودي) . وأخيراً شركة وسترن التي يرأسها
ريشارد برنستاين (يهودي) . ولذلك فليس من المستغرب أن نشاهد هذا التواطؤ
الإعلامي على تشويه حقائق الصراع في كل مناطق العالم الإسلامي، وطرحها
بصورة تخدم التوجهات الغربية واليهودية.
تشويه الواقع: لماذا؟
في كتاب بعنوان: (الإعلام الأمريكي والشرق الأوسط: الصورة والانطباع)
يذكر مؤلف الكتاب سببين للتشويه المتكرر في الإعلام الغربي لصورة الإسلام
والمسلمين: السبب الأول في نظر الكاتب: هو أن طبيعة الشرق الأوسط والإسلام
غير مفهومة بشكل صحيح لمن ينقلونها إلى الإعلام الغربي من مراسلين ومحررين
غربيين. والسبب الثاني: هو أن هذه الوسائل الإعلامية تنقل رسالتها من خلال
منطلقات علمانية غربية؛ وهذه ليست بالضرورة أفضل وسيلة لنقل المعلومات عن
العالم الإسلامي. ورغم أن الكاتب قد يكون مصيباً في ذكر هاتين النقطتين كسببين
لتفسير هذا التشويه، إلا أن هذه الأسباب ليست هي الأسباب الأكثر أهمية. كما أن
هذه الأسباب تنطبق أيضاً على إسرائيل مثلاً؛ ومع ذلك فلا نجد أي تشويه متعمد
أو غير ذلك فيما يتعلق بمواقفها. ومن خلال دراسة سابقة حول الهيمنة الصهيونية
على الإعلام الغربي [3] لوحظ أن السيطرة الصهيونية على معظم وسائل الإعلام
الغربي هي السبب الرئيس في هذا التشويه المتعمد والمتكرر لكثير من حقائق
الصراعات في العالم بالشكل الذي يخدم مصالح هذه الفئة - ويغلب على كافة
المصالح الأخرى - ومن بينها المصالح الأمريكية ذاتها.
كما أن هناك أسباباً أخرى ساهمت بصورة أساسية في تكوين الانطباع السلبي
العام عن الإسلام والمسلمين في القارة الأمريكية مما سهل بلا شك تقبّل ما يقدمه
الإعلام من صور سيئة عن المسلمين؛ ومن ذلك أن كثيراً من المستعمرين الأوائل
للقارة الأمريكية القادمين من أوروبا كانوا يعقدون الكثير من الشبه بين واقعهم من
ناحية فرارهم من الاضطهاد الكنسي في أوروبا، وبين تاريخ بني إسرائيل وفرارهم
بدينهم. وفي بداية هذا القرن، رأى الأمريكيون أن اليهود في فلسطين يقومون
بنفس العمل الذي قام به أجدادهم عندما قدموا إلى أمريكا. ولذلك فكما رأى الأجداد
الأوائل أن هذه البلاد غير مأهولة إلا بالرعاع من الهنود الحمر الذين كان لهم أحد
خيارين: إما التنصر وخدمة الرجل الأبيض، أو القتل، فإن الحكومة الأمريكية قد
تعاملت مع بداية إسرائيل وعلاقتها بالفلسطينيين بنفس المنطق والتصور. وأخيراً
فإن المبشرين من القارة الأمريكية قد انطلقوا في القرن الماضي في حملات متوالية
لتنصير المسلمين في الشرق الأوسط وفي فلسطين خاصة، وفوجئ هؤلاء
المنصرون بصعوبة تنصير المسلمين بل حتى بصعوبة تحويل نصارى العرب إلى
البروتستانتية. وأدى ذلك إلى كتابة عدد من الكتب عن تجاربهم السلبية.
وامتلأت تلك الكتب بالأوصاف السيئة عن جمود العرب وتخلفهم، وعدم
قبولهم للهداية التي جاؤوا بها [4] . وكان لهذه الأسباب مجتمعة أثر كبير في
قناعات كثير من القائمين على أوجه التأثير الإعلامي في القارة الأمريكية، ولذلك لا
يستغرب انصياعهم واستجابتهم للتشويه المتعمد من قبل اليهود الذين سعوا منذ نشأة
الإعلام الغربي لتوجيهه ضد الإسلام والمسلمين.
وسائل التشويه
إخفاء الحقائق:
المتتبع للإعلام الغربي يلحظ عدم الحيدة بشكل واضح عندما يتعرض الأمر
لاهتمامات إسرائيل؛ فلا يتم الإعلان عن الجرائم التي ترتكب يومياً في فلسطين
على يد المتطرفين اليهود، بينما تبرز العمليات الاستشهادية وتستغل أبشع استغلال. وهناك تصوير الغزو لجنوب لبنان على أنه عمل تحريري ودفاعي، بينما يمثل
الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال الروسي بأنه تطرف وأصولية. وعلى صعيد آخر
نلاحظ في الفترة الأخيرة الحملة التي يتبناها الإعلام الفرنسي ويتبعه في ذلك
العلمانيون والتنويريون في مصر للاحتفال بمرور 200 عام على الحملة الفرنسية
على مصر، وإبراز الحملة كنقلة حضارية للشعب المصري، وتعمد إخفاء أنها
كانت استعماراً واحتلالاً انتُهكت فيه حرمة المقدسات الدينية، وعُبِثَ فيه بالأزهر
الشريف، وقُتِلَ آلاف المسلمين من أبناء مصر دفاعاً عن دينهم ووطنهم.
ويذكر الكاتب الأمريكي (بالتز) أن الإعلام الأمريكي قد ضلل الشعب
الأمريكي وقيادته بشكل واضح خلال الفترة التي سبقت انهيار إمبراطورية الشاه في
إيران [5] . ومن ذلك أن معارضة حكم الشاه كانت تصور دائماً على أنها مقاومة
من أقلية دينية متطرفة. ولم تجرؤ وسائل الإعلام الغربية على وصفه بالدكتاتورية
حتى نهاية حكمه، وكان معارضوه يوصفون دائماً بعدم التنظيم، وكان المراسلون
يكررون دائماً صعوبة الانقلاب على الشاه، وأنه أمر غير محتمل.
كما يبدو واضحاً للمتابع حرص الإعلام على إخفاء بعض الوقائع التاريخية
التي لا تخدم اهتمامات الإعلام الغربي الحالية. فرغم كثرة استشهاد وسائل الإعلام
الغربية في المناسبات القومية وغيرها بأقوال مؤسسي الولايات المتحدة، وتقديمها
للشعب الأمريكي على أنها من الحِكَمِ والمآثر للأجداد الذين قامت على أكتافهم
الحضارة والتفوق الأمريكي، إلا أننا نجد تعتيماً تاماً لمواقف هؤلاء الزعماء من
الوجود اليهودي في القارة. وقد قرأت مؤخراً أحد خطابات الرئيس الأمريكي
السابق (بنجامين فرانكلين) في عام 1779م محذراً أول مجلس تأسيسي للولايات
المتحدة من خطر اليهود قائلاً: (لا تظنوا أن أمريكا قد نجت من الأخطار لمجرد
أنها نالت استقلالها، فهي ما زالت مهددة بخطر جسيم وهو تكاثر اليهود في بلادنا.. إن هؤلاء اليهود هم أبالسة وخفافيش ليل.. اطردوا هذه الفئة الفاجرة من بلادنا
قبل فوات الأوان.. أيها السادة: ثقوا أنكم إذا لم تتخذوا هذا القرار فوراً، فإن
الأجيال القادمة ستلاحقكم بلعناتها وهي تئن تحت أقدام اليهود) .
الكذب المتعمد:
يروي دافيد بن جوريون - وهو الرئيس الإسرائيلي الأسبق - في مذكراته أنه
اتفق مع جمال عبد الناصر خلال الحملة على الإخوان المسلمين أن تقوم الإذاعة
الإسرائيلية بالدفاع عن الإخوان والهجوم على عبد الناصر للإيحاء بوجود صلة بين
الإخوان واليهود، ولإعطاء الفرصة لعبد الناصر باتهام الإخوان بالعمالة لليهود
والتعاون معهم. وقد ذكر هذه الواقعة أيضاً رئيس الوزراء الأردني السابق سعد
جمعة في كتابه: (أبناء الأفاعي) نقلاً عن مايلز كوبلاند صاحب كتاب: (لعبة
الأمم) . كما تعمد هذا الإعلام اليهودي نقل قصص الفساد الإداري في الدولة
العثمانية في بداية القرن للتعجيل بسقوطها، وإبراز حوادث الانحلال والاستبداد من
خلال الحملة الشعواء التي شنها الإعلام الغربي على الخليفة العثماني السلطان عبد
الحميد، ووصفه بلقب (السلطان الأحمر) عقب رفضه بيع فلسطين للوفد الصهيوني
الذي أراد انتزاع ذلك الاعتراف منه. وتلا ذلك إبراز الخلافة العثمانية بصورة
(الرجل المريض) وإثارة التيارات القومية التركية للانقضاض على الخلافة
وتقويض أركانها.
ولعل أحد شواهد أثر هذا الكذب الإعلامي هو ما نقلته صحيفة الصنداي تايمز
في أحد أعداد عام 1981م عن الصحفية الأمريكية اليهودية: (سارة ايهرمان) أن
مؤسسة الضغط اليهودية إيباك قد تمكنت باستخدام الوسائل الإعلامية من تغيير
الرأي العام الأمريكي خلال 48 ساعة فقط عقب قصف إسرائيل للمفاعل النووي
العراقي. وتدعي الصحيفة بكل فخر نجاح الضغط الإعلامي في تحويل الرأي العام
الأمريكي من الموقف الغاضب جداً ضد إسرائيل إلى تقبل وجهة النظر اليهودية،
بل والقناعة بأن ضرب المفاعل كان عملاً شجاعاً من أجل سلام العالم [6] .
وقد استخدمت وسائل إعلامية أخرى مؤثرة لنقل الكذب والحقد على الإسلام
والعرب في العالم الغربي؛ ومن ذلك استخدام الأفلام السينمائية التي تؤثر على
قناعات عامة الشعوب الغربية. فمثلاً تظهر جولدا مائير في صورة المرأة الرحيمة
في أحد الأفلام الغربية التي تصور قصة حياتها، فعندما تسألها طفلة أمريكية:
(متى يتحقق السلام بينكم وبين العرب؟) ترد الممثلة التي تؤدي دورها في إنسانية
ورحمة: (عندما يفوق حب العرب لأولادهم على بغضهم لليهود سيتحقق السلام
بيننا) [7] . وفي المقابل يظهر العربي المسلم في معظم الأفلام الأمريكية الحديثة
بصورة الغوغائي الدموي الحاقد على الغرب، والذي لا يعرف للإنسانية أو الرحمة
معنى. وقد تنبه الكثير من المؤسسات الصحفية المحايدة منذ زمن طويل إلى
السيطرة الرهيبة لليهود على صناعة الأفلام الغربية، فذكرت مجلة نصرانية تسمى: (الأخبار المسيحية الحرة) في عام 1938م تحذيراً لهذه الظاهرة قائلة: (إن
صناعة السينما في أمريكا يهودية بأكملها، ويتحكم اليهود فيها دون منازعة،
ويطردون كل من لا ينتمي إليها، وجميع العاملين فيها هم إما من اليهود، أو من
صنائعهم، ولقد أصبحت هوليوود بسببهم (سدوم) العصر الحديث، حيث تنحر
الفضيلة، وتنشر الرذيلة، وتسترخص الأعراض ... أوقفوا هذه الصناعة المجرمة؛ لأنها أضحت أعظم سلاح يمتلكه اليهود لنشر دعايتهم المضللة المفسدة) . وكتب
كثير من الكتاب المعاصرين عن سيطرة اليهود على صناعة السينما والتلفزيون
وأثر ذلك على صورة العرب في أذهان الشعب الأمريكي؛ ومن ذلك كتاب صدر
في العام الماضي لكاتب اسمه جولدبرج بعنوان (قوة اليهود) ، أفرد فيه فصلاً كاملاً
للحديث عن تغلغل اليهود في صناعة السينما الأمريكية. كما كتب (روبرت شارج)
في بحث له عن تأثير الإعلام الغربي على صورة الشخصية العربية في نفوس
الأطفال الأمريكيين. وركز في دراسته على بعض البرامج الأمريكية المشهورة
التي تنتجها مؤسسة (والت ديزني) التي يمتلكها اليهود. ومن ذلك قصة علاء الدين
الذي يظهر فيها كشخصية عربية تتحول تدريجياً إلى النمط الغربي، وتحظى بحب
كل من يتعامل معها في مقابل شخصية عربية أخرى هي (جعفر) تمثل جانب الشر
وتبقى محتفظة بالمظهر العربي، وكذلك بكراهية كل من يتعامل معها. ويركز
الباحث على الأثر النفسي لمثل هذا الفيلم على قناعات الأطفال في المجتمع
الأمريكي تجاه الشرق الأوسط؛ خاصة أن الفيلم تجاوزت مبيعاته 10 ملايين نسخة.
السخرية والتهكم:
نشرت إحدى الصحف البريطانية الشعبية مؤخراً رسماً كاريكاتوريا على
الصفحة الأولى يبرز صورة الشيخ عمر عبد الرحمن بجوار صورة الطفلة
البريطانية التي قتلت في حادث الأقصر مؤخراً، وقد كتب تحت الكاريكاتور تعليق
حاد وهو: (من أجل هذا الشيطان قتلت هذه البريئة) ويروي الأستاذ زياد أبو غنيمة
في كتابه: (السيطرة الصهيونية) على وسائل الإعلام العالمية) أنه رأى إعلاناً في
إحدى القنوات التلفزيونية الأمريكية عام 1975م عن أحد أنواع المنظفات الذي يبدأ
بصوت المعلن قائلاً: (إن هذا الصابون ينظف أي شيء.. حتى العربي) ثم يظهر
شخص في زي عربي متسخ وتحاول إحدى الفتيات تنظيفه بالمنظف الجديد وينتهي
الإعلان بقول الفتاة: (لقد بذلنا كل ما في وسعنا) ويظهر المعلن مرة أخرى ليقول:
إن تقارير المختبرات أثبتت أن عدم نظافة العربي لا يرجع إلى عدم وجود
المنظفات، ولكن (لأن العربي لا يمكن أن يصبح نظيفاً أبداً) [8] . وفي إعلان آخر
عن وسيلة لحماية النساء من المعتدين تسير فتاة باطمئنان ثم يفاجئها رجل يرتدي
الزي العربي ليهجم عليها بخنجر في يديه، فتستخدم الفتاة مادة مخدرة ترشها في
وجهه ليسقط مغشياً عليه، ولا تنسى الفتاة قبل أن تمضي أن تبصق على العربي.
تعميق الإحساس بالكراهية:
لقد أجاد الإعلام الغربي في تعميق إحساس الكراهية لدى الشعوب الغربية تجاه
الإسلام والمسلمين على مدى العشرين سنة الماضية، وكان لأحداثٍ مثل
المظاهرات التي أعقبت صدور كتاب: (آيات شيطانية) وعمت أنحاء أوروبا أثر
كبير في استغلال صور انفعال المسلمين لما في هذا الكتاب من إهانة للنبي -صلى
الله عليه وسلم- وزوجاته والصحابة لتصوير المسلمين أنهم جهلاء ولا يتمتعون
بروح السماحة والنقاش الحر، وهي أمور يعتبرها الغربي من المسلّمات والبدهيات
خاصة في المجتمعات الغربية التي غُيِّبَ فيها الدين بصورة تامة عن الحياة اليومية
للشعوب، وشاهد المتفرجون على شاشات التلفزيون الفرنسي صورة المظاهرة التي
قام بها 500 شاب مسلم في باريس مطالبين بالاقتصاص من كاتب ذلك الكتاب،
وأعيدت المشاهد الانفعالية لهذه المظاهرة مرات عديدة خلال الأيام التالية، وعبرت
عن ذلك جريدة النيويورك تايمز في عدد 5 مارس 1989م قائلة: (لقد ظهر هؤلاء
المتظاهرون فجأة في المجتمع كطابور خامس للتطرف الإسلامي في فرنسا التي
كانت تحتفل بمرور القرن الثاني على ثورتها ضد الدين) وخرجت إحدى اليمينيات
في ذلك الوقت لتقول: (إن الإسلام دين قائم على عدم التسامح) .
وذكر (روبرت فيسك) في مقال له صدر في جريدة الإندبندنت البريطانية في
يوم 3/12/1997م حول الإعلام الغربي وتعامله مع قضايا المسلمين أن هناك تعمداً
مستمراً للإساءة للدين الإسلامي بكل الطرق الإعلامية الممكنة من قِبَلِ الصحافة
والإعلام الغربي. وذكر في مقاله مثالين على ذلك وهما: وصف مجلة (باري
ماتش) الفرنسية لحادثة الأقصر بأنها من فعل (مجانين الله) ، وكذلك غلاف مجلة
التايم الأمريكية عقب تفجير برج التجارة العالمي في نيويورك، والذي خرج بعنوان
(الإرهاب الإسلامي) . وفي المقابل فعندما قام الصرب بكل أنواع التنكيل والتعذيب
للمسلمين في البوسنة والهرسك، كان ذلك ينقل في الإعلام الفرنسي على أنه صراع
عرقي وليس ديني. ولم يحدث أن أشير إلى جرائم الصرب على أنها جرائم
(لنصارى أوروبا) ، ولكنها صورت في معظم وسائل الإعلام الغربية على أنها
صراعات من أجل الهيمنة على الأرض أو الحدود الجغرافية. وتلقفت كثير من
وسائل الإعلام العربية هذا الموقف نفسه وبدأت في إعادة بثه في وسائل الإعلام
العربية.
التعتيم والمحاصرة:
رغم أن الدراسات الإحصائية قد أثبتت أن أكثر من 50% من حملة شهادات
الدكتوراه في المجالات الهندسية في القارة الأمريكية هم من أبناء العالم الإسلامي،
وكثير من العلماء البارزين في شتى فروع العلوم الطبيعية والتقنية في الجامعات
الأمريكية هم من المسلمين، إلا أن الإعلام الغربي يصر على تصوير هذه
النجاحات على أنها نجاحات فردية، بينما تبرز نجاحات اليهود المماثلة على أنها
تفوّق عرقي وأنها تؤكد تميّز وذكاء الشعب اليهودي بأكمله. وقد صدر مؤخراً في
أمريكا كتاب بعنوان: (بين اليهود والسود) يعقد سلسلة من المقارنات بين السود
واليهود في أمريكا، ويؤكد صاحب الكتاب في أكثر من موضع أنه رغم أن كل من
اليهود والسود في أمريكا يمثلان أقلية عرقية، إلا أن هناك فرقاً شاسعاً بين تأثير
كل منهما على الحضارة الغربية. ويتفنن الكاتب في ذكر مناقب الأقلية اليهودية
والذكاء الفطري لها، والإنجازات العلمية والحضارية لأبنائها، بينما يهوِّن من
الناحية الأخرى من شأن السود ويلتمس لهم الأعذار، ويقدم بطريقة ماهرة وماكرة
صورة سلبية وقاتمة لهذه الأقلية. وحيث إن الإسلام هو الدين الأسرع انتشاراً بين
طوائف السود في القارة الأمريكية، فلا يخفى على القارئ الربط الذي سيعقده
الأمريكي العادي عند قراءة مثل هذا الكتاب.
نماذج تاريخية: الصراع العربي الإسرائيلي في مجلة التايم:
في دراسة متخحصة عن القضية الفلسطينية والإعلام الأمريكي، قام (ر. س. زهارنة) بدراسة إعلامية تعقّب فيها كيف تعاملت أشهر المجلات الأمريكية
والعالمية - مجلة التايم - مع القضية الفلسطينية منذ بداية الكيان اليهودي في
فلسطين (1948م) . ولاحظ الباحث أن التايم قد بدأت منذ عام 1946 1949م في
تغيير كلمة (الفسلطينيون) إلى كلمات أخرى من مثل (سكان فلسطين) و (عرب
فلسطين) وذلك لإخفاء الهوية الحقيقية للسكان الأصليين في المنطقة. ثم تغيرت هذه
المصطلحات خلال الفترة من 1950م إلى نهاية الستينيات إلى: (العرب غير
الأردنيين) و (العرب الإسرائيليين) و (الأردنيين) ، وصاحَبَ ذلك تطور آخر وهو
التركيز على خصوصية العلاقة بين أمريكا وإسرائيل لدرجة أن مجلة التايم قامت
بنقل الموضوعات الخاصة بقضية إسرائيل من صفحات القضايا الدولية في المجلة
إلى الصفحات المحلية. واستمر هذا التغيير منذ ذلك الحين. أما من ناحية اللقاءات
الصحفية فقد كان أغلبها يتم مع مسؤولين أمريكيين أو إسرائيليين مما جعل الطرح
الصحفي دائماً متحيزاً للجانب الإسرائيلي من النزاع، وكان لتصوير الفلسطينيين
أنهم من العرب أثر إعلامي قوي في أمريكا بين مختلف فئات الشعب الأمريكي
لاستغلال الكراهية المترسخة نحو العرب من جراء سنوات من الإعلام السلبي،
إضافة إلى تصوير إسرائيل كياناً صغيراً في مقابل عدو ضخم هم العرب، بدلاً من
التركيز على المجازر الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
كما قامت التايم بعدد من التحقيقات الإنسانية مع العائلات اليهودية المهاجرة
إلى أرض الميعاد، وركزت هذه التحقيقات على جوانب التضحية والمعاناة والمشقة. ومثال ذلك تحقيق أجري في عدد 7/2/1949م مع عائلة يهودية مهاجرة. كما
استخدمت المقارنات الإعلامية لإضفاء البريق على اليهودي والضعف والمهانة على
العربي. ففي عدد 26/4/1948م كان عنوان أحد المقالات: (اليهود يحتفلون
بأسبوع من النصر، والعرب قد أصابهم الضعف والضياع) ، وفي عدد 17/5/
1948م: (اليهود ينتظرون انتهاء الانتداب البريطاني في ثقة تامة، والعرب
الفلسطينيون في انهيار نفسي تام) . عقب ذلك وخلال الفترة من 1950م - 1967م
انتقل تركيز مجلة التايم إلى الحديث عن شؤون إسرائيل، وإبرازها قوة دولية
مؤثرة، بينما كثر الحديث عن ضعف أبناء فلسطين وتشردهم في البلاد العربية
والغربية وعدم وجود قيادة لهم، وكانت صور الملاجئ تؤكد هذا الانطباع في نفس
القارئ، كما استمرت المجلة في امتهان الشخصية العربية وتصويرها بشكل مخز
ومقزز، فمثلاً كان الملك عبد الله ملك الأردن يوصف بأنه (الرجل الصغير) ذو
(الابتسامة البلهاء) و (الغارق في مغامرات الصراعات العربية) [9] .
أما في الفترة من 1967م - 1987م فقد اختلفت الصورة تدريجاً، فمع إنشاء
منظمة التحرير عند بداية العمليات الفدائية، بدأ التركيز على صورة الفلسطيني
الإرهابي، وانتقلت الصورة الماثلة في أعين الغربيين عن الفلسطيني الذي كان
ينظر إليه على أنه مشرد لا حول له ولا قوة، إلى الإرهابي خاطف الطائرات
وقاتل الأطفال والنساء بلا رحمة ولا شفقة. وانتقلت مجلة التايم مرة أخرى إلى
نوع جديد من التصوير السلبي للفلسطينيين لتصفهم بأنهم (متوحشون) ، (إرهابيون
بلا رحمة) و (غير منطقيين) [10] . ولذلك كان هناك نوع من التأييد عند احتلال
إسرائيل لجنوب لبنان فيما صُوِّر أنه محاولة للقضاء على الإرهاب الفلسطيني الذي
يهدد العالم بأسره، ولكن تبع ذلك مذابح صبرا وشاتيلا فعادت مرة أخرى صورة
الفلسطيني المشرد المغلوب على أمره تحتل عناوين التايم وكأنما كان ذلك
لامتصاص غضبة العرب والمسلمين تجاه تلك المذابح الرهيبة.
أما في الفترة التي بدأت منذ عام 1988م فقد ظهر تغير في النظرة تجاه
القضية الفلسطينية وذلك عقب الانتفاضة التي قدمت الشعب الفلسطيني للعالم كشعب
أعزل يقاتل بالحجر وحشية الجندي اليهودي المدجج بالسلاح. وهنا بدأ الإعلام
الغربي في إعادة رسم وتقديم منظمة التحرير كشريك مقبول للسلام، وبدأت عمليات
تجميل صورة قيادات المنظمة التي كانت حتى عهد قريب توصف بأنها منظمة
إرهابية، ويرجع كثير من الباحثين هذا التغيير في السياسة الإعلامية التي تحركها
اهتمامات اللوبي اليهودي في أمريكا إلى الحاجة التي ظهرت لاستبدال قيادة الشعب
الفلسطيني واللحاق بها قبل أن تقع في أيدي الإسلاميين الذين ظهرت مصداقيتهم
للشعب خلال أحداث الانتفاضة، وفجأة تتحول مجلة التايم إلى دور المدافع عن
ياسر عرفات عندما رفض جورج شولتز وزير الخارجية آنذاك منحه تأشيرة دخول
أمريكا لإلقاء خطاب في الأمم المتحدة.
وتعقِّب التايم على ذلك في عدد 5/12/1988م قائلة: (جهد فردي لمنع رئيس
المنظمة من التحدث أمام الأمم المتحدة) . وصُوِّر عرفات عقب ذلك أنه (النجم
الصاعد الذي يتحدى صلف الحكومة الأمريكية) [11] والملاحظ هنا أن المنظمة لم
يتم الاعتراف بها من قبل الإعلام الأمريكي كممثل للشعب الفلسطيني عندما نالت
المنظمة الاعتراف الدولي في عام 1974م، ولكن تم ذلك بعد أكثر من 19 عاماً؛
إذ تطابقت سياسة المنظمة مع سياسة قادة إسرائيل عام 1993م. ولأول مرة تبدأ
مجلة التايم في إظهار الجانب الإنساني في شخصية عرفات بوصفه (محباً للأطفال)
و (الرجل المسن) في عدد 13/9/1993م، كما اختفى الحديث عن العداء، وبدأ
ذكر عبارات الحوار والنقاش و (الخروج من دوامة الصدامات التاريخية) و (البناء
المشترك لأرض الميعاد) و (الحياة جنباً إلى جنب) .
دور الإعلام الإسلامي:
لا شك أن الإعلام الغربي قد نجح طوال القرون الماضية في صياغة عقول
وتصورات الكثير من الغربيين بل والشرقيين أيضاً حول قضايا وصراعات العالم.
ونحن في حاجة ماسة إلى الأخذ بزمام المبادرة في توعية الأمة بمثل هذه المكائد.
ولا بد من إدراك حقيقة أن الوقاية خير من العلاج، وأن وجود الجهاز الإعلامي
الإسلامي القادر على التعامل مع هذه المكائد وصدها يجب أن يكون في دائرة اهتمام
المخلصين من الأمة، ولا بد للإعلام الإسلامي أن يتمتع بالجرأة والمصداقية والعزم
الصادق في التصدي لمحاولات تغييب وتحريف هذا الدين، ولا بد من مشاركة
المهتمين من غير المسلمين في هذه القضية ودفع عجلتها إلى الإمام. لقد عقد في
العام الماضي المؤتمر الدولي الأول حول الجوانب الأخلاقية والقانونية والمجتمعية
للمعلومات الرقمية في مونت كارلو. وركز عدد من المندوبين في هذا المؤتمر على
أهمية الحفاظ على حيدة المعلومات والمصداقية في نقلها وتوزيعها. وعبر المدير
العام لمنظمة اليونسكو عن قضية هامة وهي ضرورة تحقيق ديمقراطية المعلومات.
وأكد على أهمية تأمين المعلومات والاتصالات للجميع؛ لأن مجتمع المعلومات ليس
جمعية سرية أو نادياً خاصاً وإنما هو أمر يهم كافة المجتمعات والثقافات. وأنهى
حديثه بالتأكيد على أن أخلاقية المعلومات تتحقق بديمقراطية المعلومات [12] ،
ولذلك ينبغي لنا أن نبذل قصارى الجهد في إيقاف محاولات التشويه المتعمدة لديننا
وواقعنا وقيمنا الحضارية المستمدة من الدين الإسلامي، والله غالب على أمره ولكن
أكثر الناس لا يعلمون.
__________
(1) (أثر عولمة وسائل الإعلام على السياسة الدولية) د علي الرحال - دورية أوروبا والعرب -
8/ 9/ 1997م.
(2) (كيف يحب الناس من لا يثقون به) دراسة إعلامية لـ (أندرو كوت، وروبرت توث) ، دورية (الصحافة والسياسة) (Harvrd International Journal of press/politics) مجلد (3) عدد (1) شتاء 1998م، ص 110 - 117.
(3) (الهيمنة الصهيونية على الإعلام الغربي) د باسم خفاجي، المجموعة الإعلامية الدولية، أمريكا 1998م.
(4) (الإعلام الأمريكي والشرق الأوسط: الصورة والانطباع) يحيى كمالبور - ص 19 - برجير للنشر، 1995م.
(5) (القوة السياسية للإعلام) بالتر وانتمان - فري برس - نيويورك 1981 م.
(6) (السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية) زياد أبو غنيمة، ص 134 - دار عمار - الأردن، 1989م.
(7) (السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية) زياد أبو غنيمة، ص 74 - دار عمار - الأردن، 1989م.
(8) المصدر السابق، ص 123.
(9) مجلة التايم - عدد 24 مايو 1948، ص 33.
(10) مجلة التايم - عدد 27 مايو 1974، ص 24.
(11) مجلة التايم - عدد 26/12/1988، ص 24.
(12) (أثر عولمة وسائل الإعلام على السياسة الدولية) د علي الرحال - دورية أوروبا والعرب - أغسطس وسبتمبر 1997م.(126/56)
المسلمون والعالم
افتراس النمور الآسيوية
عامر عبد المنعم
ما زالت الأسواق النقدية والبورصات في دول جنوب شرق آسيا، التي أطلق
عليها (النمور الآسيوية) غارقة في أمواج متلاحقة من الصدمات والانهيارات؛ إذ
تراجعت معدلات النمو التي أذهلت العالم خلال السنوات الأخيرة، بمعدل غير
مسبوق، لتفقد هذه الدول نسبة كبيرة من إجمالي ثرواتها تتراوح بين 40% إلى
60% في غضون الأشهر القليلة الماضية.
تسببت الأزمة في شيوع موجة من القلق والهلع في كل أنحاء العالم خشية
انتقال عدوى الانهيارات الاقتصادية إلى الولايات المتحدة وأوروبا وباقي الدول.
فقد انخفضت أسعار العملات في تايلاند وكوريا الجنوبية وأندونيسيا وماليزيا
وسنغافورة والفلبين في مقابل الدولار الأمريكي بنسب كبيرة، وتأثرت اليابان
والصين بشكل نسبي.
كانت قمة التدهور في تايلاند التي بدأت منها شرارة التقلبات حيث قررت مع
تفاقم الأزمة تصفية 56 بنكاً من بين 58 مؤسسة مالية نتيجة تراكم الديون عليها
وعجزها عن تسديد المستحقات للمقرضين من البنوك والشركات الأمريكية.
لا أحد يدري إلى أي مدى ستصل الأزمة؛ فمن الواضح حتى الآن أنها بلا
قاع.. فلا توجد دراسات ومعلومات مؤكدة عن زمن احتواء هذه الأزمة ومتى
يتوقف هذا التردي؟ !
والحكومات نفسها - خاصة في الغرب - لا تعرف حدود انتشار هذه
الانهيارات واحتمالات وصولها إلى كبريات الأسواق الصاعدة في الصين وروسيا؛
فصناع السياسة في كل أنحاء العالم يتخوفون من هذه الأزمة لسرعة انتشارها وكأنها
مرض معدٍ يسقط بسببه المزيد من الضحايا يومياً.
السؤال الذي يتردد في كل مكان هو: لماذا حدثت هذه الانهيارات؟ وما
الحقيقة وراء هذه الأزمة الخطيرة التي أكلت حصاد السنين في أيام؟
لا يمكن الحديث عن سبب واحد، وإنما العديد من الأسباب، كما أن الأسباب
قد تختلف من دولة إلى أخرى، ومع هذا فإن هناك بعض الأسباب الظاهرة التي
كانت وراء نسبة كبيرة من الانهيارات.
1- قروض الربا:
في مقدمة هذه الأسباب: القروض الربوية التي قدمتها المؤسسات المالية
الأمريكية للبنوك والشركات في هذه البلدان بدون ضمانات، وإغراقها في هذا
المستنقع لربط اقتصاديات هذه البلدان بعجلة الاقتصاد الأمريكي، وفتح أسواقها
للمنتجات الأمريكية.. وقد نجحت الولايات المتحدة فعلاً في تحقيق أهدافها خلال
السنوات الماضية؛ إذ استطاعت أن تفتح أسواق هذه البلدان أمام السلع والمنتجات
والخدمات الأمريكية من خلال شبكة المستوردين ورجال الأعمال الذين ارتبطوا
بالمصالح الأمريكية.
وتشير الإحصاءات إلى أن 40% من إجمالي الصادرات الأمريكية توجهت
إلى بلدان جنوب شرق آسيا.
بدأ التأثير المدمر للقروض الأمريكية في تايلاند في البداية مشعلاً الأزمة في
دول الجوار، فقد أغرقت تايلاند نفسها وسقطت في هذا المستنقع منذ عام 1994م
عندما فتحت حكومتها الباب على مصراعيه للمقرضين بالدولار، الذين ضخوا 50
مليار دولار في هذا البلد على مدى السنوات الثلاث التالية، فكانت النتيجة تخمة
من الاقتراض؛ حيث كانت الشركات المالية - البنوك - الـ 91 فيها تأخذ الدولار
وتعطي مقابله العملة التايلاندية (البات) مشعلة بذلك حمى من الإنفاق والبناء حتى
أصبح أفق بانكوك الآن مسدوداً بناطحات سحاب لم تكتمل ومباني مكاتب شبه خاوية، مما ترتب عليه إفلاس هذه البنوك لتتقلص من 91 إلى 58 بنكاً ثم إلى بنكين
اثنين بعد صدمة الانهيارات التي ضربت عصب الاقتصاد.
وصاحبَ ذلك سَحْبُ الشركات الأمريكية والمستثمرين الأمريكيين كلّ
أرصدتهم من تايلاند، هرباً من الخسائر؛ فساهموا في الانهيار الكامل للاقتصاد
وزادوا الأمر سوءاً.
ونظراً للارتباط الوثيق بين دول جنوب شرق آسيا فإن سقوط تايلاند كان سبباً
في تتابع بقية الدول في الهبوط بسرعة الصاروخ في هذه الدوامة؛ حيث دب الذعر
بين المستثمرين ووسط الأسواق الاقتصادية المجاورة فانهارت هي الأخرى.
2- الإنفاق الاستهلاكي:
هناك بُعْدٌ آخر في أزمة تايلاند أسهم في سرعة الانهيار وهو الإنفاق
الاستهلاكي السفيه والبذخ؛ فمن الغريب أن هذا البلد الصغير كان قبل يونيو 1997 م ثاني أكبر سوق لسيارات المرسيدس في العالم.
والواقع أن تايلاند مثل سائر دول جنوب شرق آسيا كانت تعيش رغد الحياة
في ظل الاقتراض الذي جعل الملايين من أبناء الطبقة المتوسطة يشعرون زوراً
بأنهم أثرياء، وعاشوا نمط حياة الأثرياء الحقيقيين؛ لكن بعد أن بدأ السوق ينهار
فقدَ أبناء الطبقة المتوسطة وظائفهم، وصودرت مرهوناتهم وسياراتهم الفارهة،
واضطروا إلى إلغاء رحلاتهم إلى أوروبا وأمريكا، وإلى إخراج أبنائهم من
المدارس الخاصة.
وكما يقول رئيس البنك الزراعي التايلاندي لـ (نيوزويك) : إن أبناء أقوى
العائلات نفوذاً وأكثرها ثروة شاهدوا ثرواتهم تنكمش بنسبة 60%، ومن اقترض
قروضاً كبيرة بضمان ممتلكاته شهد هذه الممتلكات تتبدد تماماً، ولم يعد العالم الذي
تعوّدوا عليه موجوداً، ولا يعرف الكثيرون منهم كيف سيخرجون من هذه الوهدة.
والذين صعدوا مع موجة الازدهار لم يكادوا يستمتعون بالثراء الذي حط عليهم؛ فسياراتهم لم تزل تبدو جديدة في مرائبها، ومنازلهم ما زالت تفوح منها رائحة
الطلاء وهم الآن يفقدون كل شيء.
3- ماليزيا واليهود:
وإذا كانت القروض الربوية والإنفاق السفيه هما القاسم المشترك في
الانهيارات الاقتصادية في دول جنوب شرق آسيا فإن هناك سبباً آخر لا يقل
خطورة، ظهر بوضوح في اهتزاز الاقتصاد الماليزي، وهو الدور اليهودي
بالمضاربة في البورصة والأسواق المالية.
فقد استطاع رجل الأعمال اليهودي (جورج سوروس) توجيه ضربة موجعة
للاقتصاد الماليزي من خلال سحب الدولار من الأسواق مما تسبب في انهيار العملة
الماليزية، وإثارة الذعر داخل البورصة، وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج.
يعد (جورج سوروس) من أشهر رجال المال اليهود المتخصصين في
المضاربات فهو أمريكي من أصل مجري، وله تاريخ طويل في المضاربات؛ إذ
راهن في عام 1992م على تراجع الجنيه الإسترليني فاقترض الكثير منه لأجلٍ
قصير وحوّله إلى ماركات ألمانية وتحقق ما راهن عليه، وفقد الجنيه الإسترليني ما
يزيد على 12% من قيمته، وكان الفرق ربحاً صافياً لـ (سوروس) يعادل المليار
دولار.
وقد اتهم رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد صراحة (جورج سوروس)
بدوره في الانهيار الذي أصاب البورصة الماليزية، وأشار إلى مؤامرة يهودية
لتدمير اقتصاد ذلك البلد المسلم.
وقد أدت تصريحات مهاتير إلى تصاعد هجوم المنظمات اليهودية الأمريكية
ضد الحكم الماليزي مما ساهم في قيام شركات أمريكية عديدة بتحويل رؤوس أموالها
إلى خارج ماليزيا لتزيد من قوة الصدمة.
ما سبق لا يعني تراجع أهمية الأسباب الأخرى للانهيار في ماليزيا مثل
الاستغراق في الإنفاق الاستهلاكي والبذخ؛ فقد صاحب تزايد معدلات النمو وارتفاع
الدخول شيوع القيم الاستهلاكية؛ وهو ما دعا الحكومة الماليزية إلى توجيه النصائح
للمواطنين من خلال التلفزيون مراراً بعدم شراء سلع الرفاهية المستوردة، وبعدم
السفر إلى الخارج للحفاظ على العملة الأجنبية، وامتلأت الصحف بنصائح عن
أماكن السياحة الداخلية التي يمكن الاستعاضة بها عن الرحلات المكلفة إلى أوروبا
وأمريكا.
محاولات احتواء الأزمة:
نتيجة للارتباط الوثيق بين أسواق المال في آسيا وأسواق أمريكا اللاتينية
والارتباط بين الاقتصاد الأمريكي بالاقتصاد الياباني فقد سعت دول العالم لاحتواء
الأزمة. وسعى صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى لتقديم مساعداتها
وخبراتها لحكومات الدول الآسيوية لوقف الانهيارات ثم إصلاح ما تم من خسائر.
في هذا الإطار وقّع صندوق النقد الدولي العديد من الاتفاقيات مع دول الأزمة
تم بمقتضاها تقديم 47 مليار دولار إلى تايلاند، و40 مليار دولار إلى أندونيسيا،
و57 مليار إلى كوريا.
وقادت اليابان الحملة الدولية لإنقاذ الاقتصاد التايلاندي وباقي الدول على
اعتبار أن تايلاند وجاراتها شريك اقتصادي كبير الأهمية. فعلى سبيل المثال فإن
تايلاند هي سادس أهم سوق مستوردة للسلع اليابانية، كما أنها من أهم الأسواق
الآسيوية المستقبلة للاستثمارات اليابانية. كذلك فإن اليابان تعد بالمقابل أهم شريك
تجاري واستثماري واقتصادي عموماً لتايلاند، وتعتبر النموذج الاقتصادي الذي
تسترشد به تايلاند في تجربتها التنموية القائمة على الاقتصاد الحر، وعلى الاندماج
في الاقتصاد الدولي، وعلى التصنيع من أجل التصدير كمحفز للنمو.
وقد بذلت اليابان إلى جانب تايلاند مساعي حثيثة لتأمين المساعدات لتايلاند
من صندوق النقد الدولي ومن دول تكتل مجموعة (الأسيان) .
وحرص اليابان على إنقاذ أزمة (الأسيان) لا يقل عن حرص الولايات المتحدة
على حماية الاقتصاد الياباني من أي انهيارات؛ وذلك لأن أي اهتزاز في اليابان
يصاحبه بنفس القدر اهتزاز في أسواق المال الأمريكية.
فالبنوك اليابانية تعد أكبر مشترٍ لسندات الخزانة الأمريكية، فهي تمتلك حوالي
370 مليار دولار من هذه السندات، وفي حال أي انهيار فإن البنوك اليابانية
ستضطر إلى بيع هذه السندات والتخلص منها؛ وهذا معناه دمار مؤكد للاقتصاد
الأمريكي.
ومن جهتها - وخوفاً من حدوث أي خطر مستقبلي - أرسلت الولايات المتحدة
مبعوثين من وزارة الخزانة الأمريكية إلى اليابان للتأكد من عدم تفكير اليابان في
تسييل هذه السندات في حالة حصول أي هزة، وتقديم الوعود بوقوف الحكومة
الأمريكية إلى جانب اليابان.
وهذا القلق هو الذي دفع الولايات المتحدة إلى السماح لصندوق النقد الذي
يخضع للنفوذ الأمريكي بتقديم أكبر كم من القروض لدول الأزمة لم يحدث أن قُدِّم
مثلها من قبل لأي دولة في العالم وبهذه السرعة.
تأثر دول الغرب بالأزمة:
هناك توقعان رئيسان حول احتمال تسرب هذه الأزمة من آسيا إلى باقي أنحاء
العالم: الأول: عن طريق التجارة، والثاني: عن طريق القطاع المالي الذي يشمل
البورصات، وفي كلا المجالين كان الاتجاه خلال العشرين عاماً الماضية يميل إلى
مزيد من التحرر الاقتصادي ورفع الحواجز وحرية تدفق المنتجات والخدمات من
دولة إلى أخرى وهو ما يطلق عليه مجازاً: (العولمة) مما جعل الاقتصاد العالمي
أشبه بحلقات شديدة الالتصاق بعضها ببعض أكثر من أي وقت مضى.
وبينما كان فيما مضى من الممكن أن تفرض كل دولة سلسلة من الإجراءات
والاحتياطات لحماية سوقها المحلية إلا أن منظمة التجارة العالمية - ومقرها في
جنيف - أصبح من حقها الإصرار على أن تفرض على كل الدول إعطاء الشركات
الأجنبية حرية التنافس في أسواقها. وفي القطاع المالي نجد أن شركات الصرافة
الأجنبية تتبادل يومياً مبالغ وهمية داخل الأسواق المحلية. فمثلاً يبلغ حجم ما
تتداوله هذه الشركات في بريطانيا تريليون دولار.
وإذا أخذنا بريطانيا كمثال على مدى تأثر دولة أوروبية بما يحدث في آسيا
فسنرى أنها تأثرت بشكل كبير بما جرى هناك رغم آلاف الأميال والبحار التي
تفصل بينها وبين أرض الأزمة.
فعندما انهارت مؤخراً مؤسسة (ياماتشي) في اليابان فقد 320 شخصاً وظائفهم
في لندن، ممن كانوا يعملون لدى فرع الشركة هناك، ومن الممكن أن يكون هذا
الفقدان المحدود للوظائف بداية لفقدان عدد أكبر من الأشخاص لوظائفهم.
من جهة أخرى فإن بريطانيا تُعَدّ من أكبر الدول التجارية في العالم، ودخل
صادراتها يعادل ثلث الدخل الكلي لباقي مجالات الاقتصاد والخدمات، و 9% من
صادراتها يذهب إلى اليابان وباقي دول آسيا، والآن تعاني هذه الدول من كساد
اقتصادي بسبب إجراءات التقشف المجبرة على اتباعها والمفروضة عليها من قِبَلِ
صندوق النقد الدولي كوسيلة للخروج من الأزمة مما قلل بالفعل من الطلبات
الآسيوية على المنتجات البريطانية ... وهكذا.
ويمكن القول إن الدرس المستفاد من أزمة البلدان الآسيوية هو إخفاق وصفة
النظام الاقتصادي العالمي في تحقيق الرخاء للشعوب؛ فقد دمرت القروض الربوية
اقتصاديات النمور، وابتلع الإنفاق الاستهلاكي السفيه في أيام الثروة جهود أعوام
طويلة.
لقد ثبت أن سياسة فتح الأبواب وتطبيق سياسات العولمة وإزالة الضوابط
وتحرير السوق جعل للمضاربين والمتآمرين القدرة على توجيه ضربات عميقة
للاقتصاديات الوطنية في لحظات.(126/68)
المسلمون والعالم
الحرب بوسائل السلام
شذرات من ملف السلام بين مصر والعدو الصهيوني
كمال السعيد حبيب
هناك حقيقة يجب أن نعيَها تماماً هي أن الحرب لا تقتصر فقط على صِدَامِ
الجيوش في ساحات المعارك؛ ولكنها تمتد إلى مجالات السياسة والاقتصاد
والاجتماع والثقافة، وإذا كان (كلاو زفتر) العسكري الألماني الشهير قال: (الحرب
هي السياسة بوسائل أخرى) فإنه يمكننا القول أيضاً: (إن السياسة هي الحرب أيضاً
بوسائل السلم) لذا فإن العلاقات بين الدول حتى تلك التي تنتمي إلى معسكر واحد لا
تعرف انتفاء الصراع بينها ويطلق عليه في هذه الحالة: (الصراع التعاوني) .
وفي العالم المعاصر تبدو وسائل السلم في الصراع أشد فتكاً وخطراً؛ وتكفي
الإشارة فقط إلى ما حدث من انهيار في بورصات آسيا وأسواقها؛ حيث يبدو هذا
الانهيار من ناحية نتائجه أشد خطراً من الحرب.
وفي العلاقة بين مصر و (إسرائيل) عقب توقيع اتفاقية السلام بين البلدين لم
تنته حالة الحرب والصراع؛ لكنها اتخذت أشكالاً أخرى في مجالات الاقتصاد
والثقافة والأخلاق والاجتماع.
وفي الواقع فإن أوهام السلام في بداياته قد أحاطت بعقول صُنّاع القرار في
مصر، فجعلتهم يراهنون على أن تكون لدى الساسة اليهود مثل ما لديهم من رغبة
في السلام متناسين (الطبيعة الخاصة لليهود) التي أبانها القرآن الكريم في غير
موضعٍ، لكن الواقع الحي والخبرة اليومية العملية المستمرة على مدى ثمانية عشر
عاماً في التعامل مع اليهود ردّت هؤلاء الساسة إلى جادة الحق فاستيقظوا من
غفوتهم ويمّموا وجوههم شطر إخوانهم في العالم العربي والإسلامي لبناء علاقات
اقتصادية وسياسية حقيقية معهم.
زيف السلام مع اليهود:
ذكرت إحصائية رسمية أنه بعد مرور ما يقرب من عشرين عاماً على توقيع
معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية بلغت الاحتجاجات الرسمية لـ (إسرائيل) ضد
مصر ما يقرب من (3750) احتجاجاً مقابل (1940) احتجاجاً مصرياً وهو رقم
غير مسبوق في تاريخ الديبلوماسية العالمية. وتؤكد أرقام الاحتجاجات المتبادلة بين
البلدين أن السلام بينهما هو (سلام للحرب والصراع) فإذا عدنا إلى تفاصيل ملف
هذه العلاقة تأكد لدينا زيف السلام مع الصهاينة؛ ففي المجال الاقتصادي تشير
التقديرات إلى أن حجم الاستثمار اليهودي في مصر بلغ 713 مليون دولار تنحصر
بشكل أساس في مجال الزراعة والبترول والنسيج.
ففي مجال الزراعة يدفع الكيان الصهيوني (عشرة ملايين دولار) لتمويل
نفقات عمل خبرائه الزراعيين بمنطقة النوبارية ووادي النطرون وسيناء
والإسكندرية؛ وذلك تحت مسمى: (استغلال الأراضي المصرية حقولَ تجارب
لأصناف البذور (الإسرائيلية) الجديدة) ويدفع هذا الكيان أيضاً (عشرين مليون
دولار) بداية من عام 1985 بدعوى تدريب الخبراء المصريين في (إسرائيل) .
وتشير التقديرات أن عدد الخريجين المصريين الذين درسوا في (إسرائيل) بدءاً من
عام 1994م بلغوا (1700 متدرباً) ، ويستثمر الكيان الصهيوني في مجال توريد
الفاكهة لمصر ما يقدّر (بعشرين مليون دولار) ضمن الـ 75 مليون دولار وهي
حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 1996م.
أخطار جلبها الصهاينة:
وبالعودة إلى الممارسة العملية في هذا المجال تبين أن (إسرائيل) تقوم بإغراق
الأسواق المصرية بسلع منتهية الصلاحية وملوثة بالإشعاعات؛ ولذا فإن وزير
التجارة والتموين المصري أصدر قراراً بضرورة الفحص الدقيق والشامل لكل السلع
(الإسرائيلية) الموجودة بالأسواق، وأثبت الفحص المبدئي أن 50% من السلع
(الإسرائيلية) بالسوق المصرية مهرّبة وأغلبها موجودة بالمناطق الشعبية، وحدثت
حالات تسمم نتيجة لتناول هذه السلع، وتمزج (إسرائيل) مواد مشعة بالأدوية التي
تصدِّرها إلى مصر بحيث تقضي على الذين يستخدمونها بعد سنوات قليلة؛ لأنها
ليست سريعة المفعول؛ وتؤكد آراء الخبراء أن التعاون مع اليهود في مجال الإنتاج
الزراعي والفني والهندسة الوراثية له آثار سلبية واضحة فيما يتعلق بنوعية
المنتجات وقيمتها الغذائية وكذلك على النواحي الصحية؛ بالإضافة إلى انخفاض
إنتاجية الفدان ونقل الفيروسات والطفيليات إلى النباتات الأخرى. وتعد السلع
اليهودية سلعاً منافسة للمنتجات الوطنية وهو ما يؤثر على قدرتها التنافسية لصالح
المنتجات الصهيونية، وما ذكر عن وجود 50 مليون دولار فائض في الميزان
التجاري بين البلدين لصالح مصر لا يعود إلى أن مصر تصدِّر لإسرائيل أكثر من
استيرادها منها؛ وإنما يرجع ذلك إلى أن البترول المصري يمثل 90% من قيمة
الصادرات المصرية إلى الكيان الصهيوني.
وفي مجال البترول رصدت شركة (مرحاف) 500 مليون دولار للاستثمار في
مصر، وتبني إسرائيل آمالاً كباراً على مشروع الغاز المصري وتوصيله إليها؛
لأنه سيوفر لها 200 مليون دولار سنوياً، وفي مجال الكمبيوتر تستثمر (10 مليون
دولار) حيث توجد عمالة مصرية رخيصة (يصل أجر العامل الإسرائيلي عشرة
أضعاف أجر العامل المصري) .
وفي تصريح لوزير الطاقة المصري (حمدي البنبي) قال بأن الغاز الطبيعي
لن يمد إلى (إسرائيل) وأنه سمع عن المشروع من الصحف؛ لأن التصدير إلى
(إسرائيل) لا يمثل سوى نسبة ضئيلة غير اقتصادية.
وفي مجال برامج الأطفال نجد برنامج (الباور رينجرز) الذي كان يعرض في
التلفزيون المصري في شهر رمضان عقب الإفطار العام الماضي، وهو برنامج
تملكه شركة (حاييم صابان) اليهودي المصري الأصل وهو يستثمر في هذا المجال
(70 مليون دولار) .
وقد توقف هذا العام ولم نعد نرى الانتشار الوبائي لإعلانات (الباور رينجرز)
التي طالت كل شيء بدءاً من الأحذية والحقائب حتى الملابس.
وفي مجال النسيج ترصد (إسرائيل) مئات الملايين من الدولارات لضرب
الصناعة المصرية العتيقة في أسواق الداخل والخارج، وشركة (كفرون) هي أشهر
الشركات التي كانت تعمل من الباطن في مجال صناعة المنسوجات وكان يعمل بها
الجاسوس الدرزي الإسرائيلي (عزام متعب عزام) والجاسوس المصري (عماد الدين
إسماعيل) . وفي مجال المعلومات تستثمر شركة (ماج) الصهيونية في مصر مبلغ
مليون دولار حيث كانت تعمل في جمع المعلومات الاقتصادية عن الشركات
المصرية، وتقوم ببيعها؛ وهذا النشاط يمثل الدرجة الأولى من درجات سلم
التجسس الصناعي المعلن.
وفي مجال الأدوية تم اكتشاف شركة يهودية تعمل تحت غطاء هولندي تمتلك
شركة للخامات الدوائية بمنطقة (إنشاص) الحسّاسة بمبلغ 10 مليون دولار، أما
التجارة اليهودية المهرّبة وغير الشرعية إلى مصر فتبلغ 40 مليون دولار.
خطر تهافت الشباب المصري عليهم:
وفي ظل عملية السلام سافر كثير من الشباب المصري إلى (إسرائيل) ،
وتشير التقديرات إلى أنهم بلغوا (15 ألفاً) في العام، وكان يتم تجنيد كثير من
هؤلاء من قِبَلِ الموساد وهو ما أدى إلى مطالبة لجنة القوى العاملة في البرلمان
المصري بوضع ضوابط على سفر المصريين للعمل في (إسرائيل) وهي التوصية
الأولى من نوعها في هذا المجال، وأعيد شرط الإذن الأمني لمن يريد السفر إلى
هناك. وتشير التقديرات إلى أن الذين سافروا إلى (إسرائيل) من المصريين عام
1997م لم يزيدوا على (13) ثلاثة عشر شخصاً.
وبعد الحكم على (الجاسوس الإسرائيلي) (عزام عزام) بالسجن (15 عاماً)
بدأت الشرطة الصهيونية في القبض العشوائي على المصريين هناك لكي تبادل بهم
الجاسوس؛ وكانت هذه فكرة (إرييل شارون) وزير البنية التحتية الصهيوني.
وبلغت وقاحة السفير الصهيوني في مصر (زيفي ميزائيل) إلى نقد الصحافة
المصرية ومهاجمتها في لقائه بجمعية المراسلين الأجانب؛ لأنها على حد زعمه
تسيء للعلاقة بين البلدين، رغم أنه لا يجوز لأحد أن يتدخل في عمل الصحافة
باعتبارها سلطة حرة، كما اعترض على هيئة المساحة المصرية؛ لأنها رفعت
عنوان السفارة الصهيونية والمركز الأكاديمي الصهيوني من خريطة السياحة
المصرية.
ماذا فعلوا بالأسرى المصريين؟ !
ويمثل ملف (الأسرى المصريين) أحد الملفات التي تكشف عن الوجه
الصهيوني القبيح، وقد كشف عن هذا الملف الصهيوني (أرييه بيرو) نائب (رافائيل
إيتان) رئيس الأركان الصهيوني السابق الذي كان يقود الكتيبة 90؛ حيث اعترف
بقتل (49) مصرياً من العسكريين و (300) من عمال إحدى الشركات البترولية،
وتشير المعلومات إلى أن المقابر الجماعية للأسرى المصريين تبلغ (11) مقبرة،
منها مقبرة (وادي ميدان الجماعية) و (وادي العريش الجوية) ، وكان اليهود يبيعون
أعضاء الأسرى المصريين قطع غيار، كما كان الطلبة في كليات الطب الإسرائيلية
يستخدمون أجسادهم في مختبرات التجارب!
وأخيراً وليس آخراً:
وآخر النقاط المتوترة في العلاقات بين البلدين هي محاولة ابتزاز السفير
المصري (محمد بسيوني) عن طريق فضيحة أخلاقية، وقد عاد فعلاً إلى مصر ولم
يرجع بعدُ إلى هناك، وقبل ذلك تعرضت سيارته للتفتيش خلافاً للتقاليد الديبلوماسية، كما هاجم السفارة المصرية في (تل أبيب) متطرفون يهود حيث فتشوا طروداً بها، وبلغت وقاحة (نتنياهو) اعتبار ما حدث مجرد (مداعبات) للسفير؛ وهنا رد عليه
الرئيس المصري وقال: إن ذلك استفزاز لكبرياء مصر، وقد يؤدي إلى عواقب
وخيمة!
هذه بعض الشذرات من ملف السلام مع العدو الصهيوني، وهو ملف متخم
بالعداء والكراهية والتخريب إنه سلام الحرب والردع كما يشير (نتنياهو) وكان لا
بد لمصر أن تستيقظ على أن (اليهود) لا عهد لهم ولا ذمة، وتراجع سياستها داخلياً
وخارجياً.
يقظة مصر:
رفضت مصر عدم الذهاب إلى (مؤتمر الدوحة الاقتصادي) رغم التهديدات
الأمريكية، وكانت حجتها أنه لا يمكن التقدم في مجال (التعاون الاقتصادي الإقليمي)
بينما عملية السلام تنتكس ويتلاعب بها اليهود؛ ومعنى ذلك هو مكافأة المجرمين
المعتدين. ويعد عدم ذهاب مصر إلى مؤتمر (الدوحة) إعلاناً لنهاية أطروحة
(الشرق أوسطية) التي طرحها (شيمون بيريز) كإطار اقتصادي تكون (إسرائيل) فيه
مركز التفاعلات الاقتصادية في العالم العربي.
وعلى المستوى العربي سياسياً بدأت مصر تراجع سياستها تجاه (السودان)
واستقبل الرئيس المصري (الزبير صالح) نائب الرئيس السوداني قبل مقتله في
حادثة سقوط طائرة مروحية، وبدأ تنشيط العلاقات ثانية بين البلدين في مجالات
الملاحة النهرية وإعادة ممتلكات المصريين في السودان، واستقبلت مصر المتمرد
(جون جارانج) لتفهمه أن مصر لا يمكنها أن تقبل تهديد وحدة السودان، ورفضت
مصر قرار العقوبات الأمريكي على السودان، كما أعلنت رفضها (لجولة أولبرايت)
الأخيرة في إفريقيا، هذه الجولة التي استقبلت فيها المعارضة السودانية وأعلنت
العزم على إسقاط نظام الخرطوم، وقالت مصر: (إن السودان ليست قاعدة
للإرهاب، وإنه لا يشكل خطراً على جيرانه) وهناك إعداد لزيارة البشير لمصر،
وتسعى مصر لتحقيق مصالحة داخلية بين المعارضة السودانية والنظام. وأصبح
للسودان الآن في مصر سفير، وسيذهب سفير مصري إلى السودان بعد قطيعة
دامت عامين.
ورفضت مصر توجيه ضربة عسكرية للعراق، كما تسعى لرفع المعاناة عن
شعبه، وهي حريصة على وحدته باعتباره في التحليل النهائي جزءاً من تحقيق
التوازن شرق العالم العربي.
وعلى مستوى التعاون الاقتصادي العربي تدعو مصر إلى اعتبار السوق
العربية المشتركة خياراً استراتيجياً لا يمكن التفريط فيه، وسيبدأ العمل في مناطق
التجارة الحرة هذا العام، وهو ما يعني رفض مصر للمشاريع البديلة للنظام العربي. كما تتجه مصر شرقاً (مجموعة الـ 15) لمحاولة تخفيف قيود علاقاتها بأمريكا.
مبادرة مطلوبة:
المشاريع الصهيونية تجاه المنطقة لا تستبعد الحرب حتى مع العرب الذين
دخلوا معها في اتفاقية شراكة استراتيجية مثل (الأردن) ، ولا تزال إسرائيل ترى
مصر عدوها الرئيس، كما لا يزال الجيش المصري يرى (إسرائيل) عدواً له.
وفي الواقع فإن (اليهود) هم (الابتلاء) الذي تختبر به الأمة الإسلامية؛ لذا فإن
التدافع معها لا محيص عنه وفقاً لما نطلق عليه: (الأمم المتدافعة) في مقابل (الأمم
المتحدة) .
وصراعنا - نحن المسلمين - مع اليهود هو صراع وجود لا صراع حدود،
وهو صراع عَقَدي ديني؛ وفي السّنّة: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر
والشجر: يا مسلم، يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من
شجر اليهود) ، والصهاينة كلما بنوا مستوطنة أحاطوها بالغرقد التين الشوكي.
وحيث إن المعركة مع اليهود هي معركة عقدية دينية فعلى مصر أن تستكمل
حلقة الاستعداد للمواجهة القادمة وتصلح ما بينها وبين الحركة الإسلامية فتخفف
القيود عن حركتهم، ولا تسمع لوساوس اليهود.
فاليهود يرون أن عدوهم الأساسي هو الحركة الإسلامية؛ لذا فإنهم يغرون
النظام ضدهم حتى يستفيدوا هم؛ وبعد كشف خفاء الوجه الصهيوني القبيح فإن
الخطوة القادمة تفرض المصالحة مع الحركة الإسلامية حتى يمكن الاستعداد
للمواجهة الحتمية مع اليهود التي لا نملك لها دفعاً.(126/74)
المسلمون والعالم
دلالات جولة كلينتون في أفريقيا
د. جلال الدين محمد صالح
مئات الآلاف من مواطني القارة الأفريقية في الدول التي زارها الرئيس
الأمريكي (كلينتون) اصطفوا في حشود ضخمة لاستقباله، وتسابقوا إلى مصافحته،
والاستماع إلى خطابه ناسين أن هذه الزيارة لم تشد رحالها لتعبر عن الحزن
الأمريكي بمعاناة أبناء القارة السوداء، وما يعتصرهم من آلام الفقر المدقع، ومآسي
الاقتتال بكل ما ينجم عنه من تشرد أسري، وحرمان اقتصادي، ودمار عمراني؛
بالرغم مما رافق هذه الزيارة من ضجة إعلامية صوّرتها وكأنها رحلة رخاء وسخاء
اقتصادي سترفع عن أفريقيا إصرها والأغلال التي عليها من النزاعات العرقية
والقبلية، كما أنها لم تكن رسالة وفاء صادق مهداة من البيت الأبيض للنهوض
بالقارة نحو الرقي الاجتماعي والاستقرار السياسي، فضلاً على أنها جاءت في وقت
أشد ما تكون فيه أفريقيا حاجة إلى حل معضلاتها الأمنية، وتعقيداتها الاقتصادية
التي أورثتها الفقر وأثقلت كاهلها لعهود طويلة، وإنما كل ما توحي به من دلالات
سياسية لا يتجاوز حدود تأكيد الهيمنة الأمريكية عالمياً، والبرهنة على تفردها
بالفريسة وقدرتها على صياغتها صياغة جديدة تمليها مصالحها وتتماشى مع
متطلباتها السياسية دونما إعطاء أي اعتبار لآلام هذه القارة الحزينة وآمالها،
تبرز أمارات هذه الرؤية بشكل جلي في الخطاب الذي ألقاه كلينتون على
الغانيّين قائلاً فيه: (آن الأوان لوضع أفريقيا جديدة على خريطتنا) [1] وهذه
الخريطة الجديدة لأفريقيا لا يتورع الأمريكان من تشكيلها ولو بإثارة القلاقل بين
الأفارقة وتجويعهم مهما كانت نتائج ذلك، وهذا ما يمكن أن نلمسه في التصريحات
التي توجهت بها (ألبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية إلى دول من شرق القارة
محرضة إياها على الإطاحة بالنظام الحاكم في السودان باعتبار أنه شب عن الطوق
ورفض الانصياع. ويتجلى ذلك أيضاً في المساعدات العسكرية التي تقدمها أمريكا
إلى هذه الدول بذريعة أنها تواجه الخطر الأصولي، إضافة إلى الحصار الاقتصادي
المضروب على السودان تجويعاً حتى يلين ويستكين، وتحفيزاً لجون قرنق على
مواصلة العصيان والتمرد، وإبطالاً لمحادثات السلام التي تجريها الحكومة. ومن
الخطأ الفاضح أن ننظر إلى هذه الزيارة بمنظار يفصلها عن مقاصدها البعيدة
والمشبوهة؛ ليس فقط فيما يخص العلاقة بالسودان؛ وإنما أيضاً مع كل من يحاول
من الأفارقة الإفلات من سياسات الاحتواء والتوظيف التي تنتهجها أمريكا في
علاقاتها السياسية الراهنة. ولقد اصطفى (كلينتون) للقائه عدداً من رؤساء شرق
أفريقيا مستثنياً السودان وجيبوتي بالرغم من أنهما من دول (الإيقاد) ومن الأطراف
التي يهمها أمن المنطقة واستقرارها، وليس من مغزى سياسي لهذا الانتقاء
والتجاهل إلا لأن السودان وجيبوتي يمثلان امتداداً عربياً وإسلامياً في القارة
الأفريقية بينما البقية المختارة تحمل موقفاً رافضاً وكارهاً في معظمها للوجود العربي
والإسلامي، ولا تبدي في غالبها أيضاً أي تحفظ عما تريده وتخطط له أمريكا، وقد
شملت أجندة النقاش معها حرب الجنوب. وغير متوقع بداهة من أمريكا وهي التي
وضعت السودان على قائمة الإرهاب أن تطرح من الحلول ما يؤدي إلى إخماد
شرارة هذه الحرب بالوسائل السلمية من خلال دعم مبادرة حكومة السودان التي
تجاوبت معها بعض فصائل الجنوب التي رأت فيها حلاً عادلاً يرقى إلى درجة
تقرير المصير، وإنما ستؤجج روح العناد والتصلب في مواجهة كل الحلول الحادبة
على مصلحة المجتمع السوداني ما دامت لا تجد فيها ما يمكنها من تنفيذ سياساتها
المعروفة مما يفقد المنطقة استقرارها، ويجعل من أبنائها وقوداً يحترق بين أثافي
القدر الأمريكي الذي لا يتوقف عن الغليان أبداً إلا بعد إحراق مصالح الآخرين
لحساب مصلحته، وهي مصالح لا تأخذ بعين الاعتبار والاهتمام إلا استراتيجيات
ومصالح الكيان الصهيوني في فلسطين، وعلى عتباتها جرت مجازر رواندا بين
الهوتو. والتوتسي، وارتضت أن تتفرج صامتة، وكان بإمكانها أن تحُول دون
حدوثها أو التخفيف منها؛ لأن تلك المجازر ذات مردود إيجابي لا يجني ثمارها
الاقتصادية والسياسية إلا هي؛ ولا بأس بعد ذلك من أن يقوم بل كلينتون بجولة
يعزي فيها الضحايا ويوهمهم بحسن نوايا حكومته تجاههم. وهذه النزعة الاستعلائية
نفسها هي التي تعتمدها أمريكا اليوم في تعاملها مع الملف السوداني والصومالي
الذي أوكلت مهمة البحث في شؤونه إلى هذه الدول ذاتها التي تؤلبها بين الحين
والآخر على الزحف نحو الخرطوم بعد أن جربت هي الخوض فيه عسكرياً،
وآثرت الانسحاب بعدما أصابها من جرح وقرح مهين. وآثرت تنفيذ سياساتها فيه
عبر حلفائها. وعلى ضوء تلك السياسات تجري الترتيبات في الصومال، وتصر
على احتكار الملف الصومالي، وحصره قدر الإمكان في أيد أمينة ووفية من دول
القرن الأفريقي تجد في إضعاف الصومال وتفتيته إلى دويلات قبلية متنازعة إنجازاً
ضرورياً لغرض هيمنتها الإقليمية التي تنسجم وتتناغم تماماً مع سياستها المعروفة،
ولعل التحرك المصري الأخير سواء في الإطار السوداني، أو الصومالي جاء نابعاً
من وعي وإدراك أهداف هذه السياسة وأبعادها الخطيرة، ولم تكن تصريحات القيادة
المصرية التي تناقلتها وكالات الأنباء مؤخراً، واتهمت فيها دولاً بمحاولة عزلها عن
شؤون الصومال إلا تأكيداً لرفض كل سياسات التقسيم التي تحاك لحل الأزمة
الصومالية.
والإدارة الأمريكية بسياساتها هذه لا تعمل أبداً لاستقرار الأحوال الأمنية في
أفريقيا، ولا تحمل أجندتها توسيع نطاق الديمقراطية فيها كما تدعي، ومن السذاجة
أن نتصور ذلك؛ ونحن نراها تتحالف مع أنظمة بطشية غير ديمقراطية؛ وماذا
يمكن أن يعني هذا سوى أن الديمقراطية التي تلوِّح بها إنما هي للتسلط على من لا
ينضوي تحت لوائها، وهذا هو سر التحالف مع نظام ديكتاتوري غير ديمقراطي
في إريتريا يسوغ تدخلاته العسكرية والسياسية في السودان بإعادة الديمقراطية فيه!
ولا غرابة في هذا؛ فإن (جين كير كبارتريك) سفيرة الولايات المتحدة في الأمم
المتحدة في عهد (ريجان) تقول: (إن إجبار حلفاء أمريكا على تبني الديمقراطية بين
عشية وضحاها، أدى إلى جعل دولتين حليفتين في ذلك الوقت هما: إيران
ونيكاراجوا دولتين معاديتين تحكمهما أنظمة دكتاتورية متطرفة.. وأكدت أنه ينبغي
علينا عدم تشجيع الديمقراطية في وقت تكون فيه الحكومة المؤيدة من قِبَلِنا تصارع
أعداءها من أجل البقاء) [2] .
والنظام في إريتريا حسب التحليل الأمريكي يواجه مداً أصولياً وافداً من
السودان؛ ومن مصلحة السياسة الأمريكية خنق الديمقراطية ودفنها في إريتريا
بحجة أن تشجيعها وفرضها على النظام الحاكم في أسمرا سيعزز من موقف ما
يسمونه بالأصولية في المنطقة، هذا في حين أن إدارة (كلينتون) استخدمت القوة
لإعادة الرئيس الهاييتي بذريعة أنه منتخب ديمقراطياً، وحالت دون انقلاب عسكري
في غواتيمالا، فما لهذه الازدواجية من تفسير سوى أن الديمقراطية يمكن مقايضتها
بمنافع أخرى، ويؤكد هذا التفسير ما أورده (روبرت كاغان) صاحب كتاب (القوة
الأمريكية ونيكاراجوا) عن (توماس كارويترس) من أن (الإدارة الأمريكية خجلت
وتجنبت الضغط بشدة من أجل الإصلاح الديمقراطي في نيجيريا التي يوجد بها
بترول، والتزمت الصمت حيال التوجه نحو الحكم الأوتوقراطي الاستبدادي في
كازاخستان مصدر البترول ... ورغم أن الإدارة كانت ترغب في تطبيق عقوبات
ضد بلد صغير وقليل الأهمية كبورما وذلك لقمعها الحركة الديمقراطية.. إلا أن
اهتمامها بالتصرفات الاستبدادية للأنظمة الحاكمة في كل من الصين وإندونيسيا قد
تراجع أمام طمع الشركات الأمريكية في الأسواق البكر) .
ويضيف (روبرت) قائلاً: والجميع يتفق على أنه من الخطر دعم الديمقراطية
بجميع صورها في العالم الإسلامي إلا بشكل جزئي في تركيا! ! .. أما بالنسبة
للشعوب الإفريقية فإذا قررت الدول هناك إجراء انتخابات فهذا من دواعي السرور،
أما إذا تم إلغاؤها، أو بدؤوا في ذبح بعضهم البعض فيمكننا أن نرقد هانئين؛ لأننا
نعرف أن هؤلاء لم يكونوا جاهزين للانتخابات ابتداءً) [3] .
فأي انفراج وتطور تُحمل عليه إذن زيارة (كلينتون) لأفريقيا؟ والسياسةُ
الأمريكية تنطلق في نظرتها للشعوب من هذه الزاوية المجحفة، وتتعامل لمجرد
تكريس نفوذها مع أنظمة قمعية تسلطية تهين شعوبها، وتنتهك حقوق الإنسان
والمواطنة، وتتلقى من العون الأمريكي ما يقوِّي وجودها، ويطيل أمدها في
مواجهة إرادة شعوبها المتطلعة إلى التنمية وسيادة نظام سياسي تصان في ظله كرامة
المواطن، ولا يؤمم حقه في التعبير السياسي.
ليس من مصلحة أفريقيا أن تنقاد لأمريكا وتستسلم لهيمنتها؛ وقد فطنت بعض
القيادات الأفريقية إلى خطورة هذه الهيمنة على مستقبل القارة، وحذرت من
الانسياق خلفها وطالبت الأمريكان بترك أفريقيا وشؤونها حيث انتقد (نلسون مانديلا)
أطروحات (كلينتون) التي رأى فيها تجاوزات تربط مصالح القارة الأفريقية بمؤخرة
قطار المصالح الأمريكية، كما أنه ليس من القراءة الواعية أن ننظر إلى جولة
كلينتون هذه أكثر من كونها تعزيزاً للمصالح الأمريكية مقابل المصالح الفرنسية،
ولا يمكن أن تمثل هذه الجولة في تحليل الفرنسيين إلا عاملاً من عوامل النشاط
الأمريكي الذي بات يشكل مصدر قلق مؤرق بالنسبة لهم؛ لما يرون فيه بوضوح
من محاولات إقصائهم عن مواطن نفوذهم، أو مزاحمتهم فيها على الأقل، ولكن إذا
كان من حق كل الأمم والشعوب الحفاظ على مصالحهم الحيوية والبحث عما يقوي
نفوذهم فأين الأنظمة العربية من كل ما يجري حولها؟ ولماذا تتعامل مع هذه
الأحداث بمنتهى البرود، وكأنها لا تمس مصالحها؟ حقاً لو كان العرب يدركون
أهمية العمق الأفريقي لاستراتيجياتهم الأمنية في صراعهم مع اليهود لما تركوا
الوضع الصومالي يتردى إلى هذه المأساة المؤلمة. ومن السخرية أن ينأى العرب
عن حل قضايا الصومال والسودان ويتركوها تتفاقم ليجد فيها الآخرون مجال عبث
ولعب، ومن السخرية أن ينظر العرب إلى حلفائهم وامتداد حضارتهم في القارة
الأفريقية نظرة اللامبالاة؛ صحيح أنهم يعيشون وضعاً استثنائياً يعكس ضعفهم
وتشرذمهم؛ ولكن ومهما كان هذا الوضع فلا يعفيهم من تحمل مسؤولياتهم،
والتحرك لقطع الطريق على الطفيليات الصهيونية التي تنشط ضد المصالح العربية
والإسلامية في القارة الأفريقية؛ وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم وقد تجردوا من كل
مواقع التأثير والتغيير على الشعوب الأفريقية؛ وليس هذا فقط؛ وإنما أيضاً مهددة
في قلب دارها وعمق عواصمها في أعز ما تملك من زرع وضرع، ونبع نفطي،
ومائي؛ فهل من يقظة بعد غفلة، وعودة بعد غيبة، وحركة بعد جمود؟ ! ذلك ما
نأمله ونرجوه.
والله فوق كيد الكائدين.
__________
(1) القدس 24/3/1998م.
(2) مجلة قراءات عدد نوفمبر، ديسمبر، 1997م.
(3) قراءات عدد نوفمبر، ديسمبر، 1997م.(126/82)
مرصد الأحداث
لماذا المرصد..؟
في هذه الزاوية، تنقل (البيان) للقارئ، أخبار ما أهملته الأخبار، من
الأقوال والأحداث والمواقف.. ننقلها كما هي من مصادرها دون تصرف إلا في
وضع العنوان الذي يعبر عن دلالة الخبر ... والدعوة مفتوحة لقرائنا الكرام أن
يرسلوا إليناما يرون أنه جدير بلفت اهتمام المسلم لما خلف الخبر، على أن يرسل
لنا أصل الخبر ومصدره مع التعليق والاسم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
أدونيس.. واعظاً!
هل يُدرك (الناطقون باسم الأمة) أنهم، يقطعون الجذع الذي يتمكسون به،
والذي يحول بينهم وبين الهاوية؟
ذلك أن الموقف هذا يؤدي إذا استمر وساد إلى قتل الطاقة الإبداعية، لا في
الأمة وحدها، بل في لغتها أيضا، ولماذا ينسى هؤلاء أن يهجموا على الكتب
العربية القديمة ويطالبوا بمنعها أو حرقها؟ وهل يقرؤون حقاً هذه الآية القرآنية
الكريمة: [وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا] [التحريم: 12] أو هذه
الآية: [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا] [التحريم: 12] ؟ أو هذه الآية: [وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] ؟ ولماذا لا يقتدون بالكتاب العزيز
نفسه، فقد أثبت بين دفتيه كلام إبليس ذاته، ولعلهم يعرفون ما كلام إبليس! مجرد
تساؤلات.
[أدونيس معقباً على استجواب الإسلاميين لوزير الإعلام الكويتي حول الكتب التي تسيء للعقيدة جريدة الحياة عدد: (12799) ]
وواعظ آخر! !
إنني أضم صوتي إلى الشيخ خليل عبد الكريم، وأطلب من مكفرينا الرسميين، أن يتفضلوا فيقبلوا مناظرتنا فيما يحاكموننا بشأنه، وإذا استمر الوضع على ما
هو عليه، فلن نسمح من جانبنا باستمراره قبل أن يضيع الوطن كله، ونلحق بالأمم
الغوابر، أو قبل أن نتحول إلى حديقة حيوان مفتوحة لكائنات عجزت عن التكيف
مع المتغيرات، قبل أن تتحول الجماهير إلى فئران تجارب للأطعمة والأدوية بعد
أن فقد العالم الأمل في صلاح أمرها ولحاقها بركب الإنسانية الحرة، ولكن والله لن
نهاجر وسنظل هنا في حلقوم المكفرين نكنس الجهل والتخلف من حياتنا، ومن
موقعنا هنا يمكن إن شئنا مخاطبة العالم، وأن نقيم الدنيا ولا نقعدها إلا على
رؤوسهم الخاوية إلا من جهل مركب وتعصب مقيت وعنصرية مفضوحة وسادية
علنية ودموية تليق بمراحل ما قبل الإنسانية.
[د. سيد القمني معقباً على منع الأزهر لكتب خليل عبد الكريم بعدما مُنعت كتبه هو أيضاً جريدة الدستور القاهرية عدد: (116) ]
وهل ترضى اليهود عن النصارى؟ !
أ- قد عانى الشعب اليهودي الكثير على مراحل مختلفة، وفي مناطق متنوعة، إلا أن المحرقة كانت أبشع معاناته، إن الطريقة غير الإنسانية التي استخدمت
لاضطهاد اليهود وتعذيبهم خلال هذا القرن تعجز الكلمات عن وصف بشاعتها، كل
ذلك حصل لكونهم فقط يهوداً. إننا نأسف بشدة للأخطاء والهفوات التي قام بها أبناء
وبنات الكنيسة. ...
[من وثيقة الفاتيكان في شأن المحرقة اليهودية]
ب- كنت أود لو أن الفاتيكان اعترفت بأن اللاسامية المسيحية أدت إلى المحرقة، وكنت أرغب أيضاً في أن تدلي بموقفها من الشبكات الملحقة بالكنيسة التي أتاحت للمجرمين النازيين الهرب بعد الحرب العالمية الثانية.
[افراييم زوروف، مدير مركز فيزنتال للأبحاث حول النازية جريدة الحياة عدد: (12797) ]
ولن ترضى عنا النصارى
الأوربيون يقبلون اليهود الآن مساوين لهم، مع كل الحقوق السياسية والدينية
للأوروبيين، في حين لم يحقق المسلمون هذا التقدم، وإذا كان بإمكان الأوروبيين
أن يتعلموا قبول اليهود واليهودية، أوَ ليس من الممكن بالنسبة لهم أن يتسامحوا
تجاه الإسلام والمسلمين؟ ! وهل نحن بحاجة إلى هولوكوست حتى يحدث هذا
التغيير؟ يجب أن يتجاوز الأوروبيون نظرتهم للمسلمين (كعدو معاد للمسيحية) من
أجل تفادي اصطدام الحضارات.
... ... ... [مهاتير محمد جريدة الخليج عدد: (6884) ]
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً! !
أحسست أن ما تبقى من قلبي المعطوب سقط اليوم، وأشعر بشيء من (عبثية
الحياة) فما جدوى الشعر، ما دام الشاعر فانياً (أكرر شعوري بعبثية ما حدث) ،
وأحتاج إلى وقت كبير لأتوازن. قلت لأحد الأصدقاء: أرجو أن لا يموت نزار؛
لأنني غير جاهز لاستقبال الخبر.
[محمود درويش معلقاً على وفاة نزار قباني، جريدة الحياة عدد: (12841) ]
خرافة روزاليوسف! !
لا شيء موجود اسمه الغزو الثقافي، وإن مسألة الغزو الثقافي هذه، ما هي
إلا وهم كبير لا يزال يعيش في أذهان البعض من مخلفات الحرب الباردة، وليس
صحيحاً أن غزواً ثقافياً أعده الأعداء ليصدِّروه لنا ويدمروا مجتمعنا وقيمنا الراسخة، إن هذا المنطق (منطق خرافات) لا يتعامل مع عقول ناضجة بالقدر الكافي.
... ... ... ... ... [مجلة روز اليوسف عدد: (3636) ]
معبد أبرهة جديد.. في اليمن
وافقت الحكومة اليمنية على بناء مركز كاثوليكي في صنعاء، وكان الناطق
باسم الفاتيكان قد زار اليمن لبحث هذا المشروع، ويوجد في اليمن ثلاثة آلاف
كاثوليكي (جميعهم من الأجانب) يرعاهم أربعة كهنة و26 راهبة.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة عدد: (12808) ]
أحرام على بلابلنا (الثأر) !
إن الهجمات التي يشنها الإسلاميون هي رد مشروع على ما يقوم به الجيش
الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وإن المسألة لم تعد مجرد مشروعية تلك الهجمات أم
عدم مشروعيتها؛ فالجيش الإسرائيلي يقتل نساء، وأطفالاً أبرياء، والمهاجمون
يقتلون مدنيين أبرياء أيضاً، فلماذا يُعطى الجيش الإسرائيلي الحق في ذلك ويُحرم
الفلسطينيون منه؟
[صبري عكرمة، مفتي القدس جريدة الأنباء، عدد: (7845) ]
أفلح إن صدق
إن أي مستوطن يدخل المناطق الفلسطينية ويعتدي على الفلسطينيين لن
يغادرها حياً، واجبنا أن نحمي شعبنا ونصون أمن وكرامة كل فلسطيني في مناطق
السيادة!
[جبريل الرجوب، رئيس الأمن الوقائي في الضفة الغربية بعد مصرع ثلاثة فلسطينيين في ترقويما على يد يهود الشرق الأوسط عدد: (7049) ]
صدق أو لا تصدق!
أبدت جامعات أسترالية استعدادها لقبول الطالبات التركيات اللواتي منعن من
حق التعليم في بلادهن بسبب ارتداء الحجاب، وقالت إنها سترحب بكل طالبة
تركية تعرضت لمثل هذه المعاملة دون النظر إلى ما ترتديه.
... ... ... ... ... ... [جريدة الخليج عدد: (6879) ]
أشد الناس عداوة:
أكد استطلاع للرأي أن ثلاثة من كل أربعة إسرائيليين يؤيدون اغتيال قادة
حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وقال 76% ممن شملهم الاستطلاع إنه يجب قتل
مسؤولي حماس الذين تلطخت أيديهم بدم يهودي، وجرى هذا الاستفتاء بعد مقتل
محيي الدين الشريف. ...
[جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7067) ]
يا حسرة على الرفاق
تصاعدت الخلافات في الحزب الشيوعي الأردني إثر اتهام أمينه العام السابق
الدكتور يعقوب زيادين قيادات في الحزب بتلقي (المنح المالية الضخمة) من
الاستخبارات الأمريكية! ! وأكد زيادين أن تلقي قيادات شيوعية معونات أمريكية
رسمية حقيقة موضوعية وأن لديه معلومات ووثائق تؤكد تلقي بعض القيادات
معونات كانت إحدى دفعاتها أكثر من 60 ألف دولار.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة: عدد: (12817) ]
صراحة.. وحقد! !
إن المرء عندما ينظر إلى حالات العنف الحديثة بين العالم الإسلامي والعالم
غير المسلم، فإن العالم غير المسلم هو الذي اتخذ الجانب العدواني ضد المسلمين
وليس العكس، وهذا لا يعني أن العالم الإسلامي أفضل، إنه ببساطة أضعف
وسيبقى كذلك.
[ميدل إيست جورنال، عن دورية قراءات عدد: (محرم/صفر 419هـ) ]
مملكة السلام الدافئ
ذكرت ليا رابين أرملة رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين أن ملك
الأردن حسين وزوجته نور تبرعا بمبلغ قيمته خمسون ألف دولار لمركز إسحاق
رابين للسلام في العيد السبعين لميلاد ليا.
[جريدة الأنباء: عدد: (7862) ]
ضد من هذه القوة؟
أكدت صحيفة (ميلليت) التركية أنه توجد في قاعدة أنجرليك الجوية 15 قنبلة
نووية أمريكية، ونسبت الصحيفة إلى مصادر دفاعية أمريكية أن القنابل الموجودة
في أنجرليك من طراز (بي 61) يمكن قذفها من الطائرات، وأن قدرة الواحدة منها
تعادل تسعة أضعاف قدرة القنبلة التي أسقطت على هيروشيما.
... ... ... ... [جريدة الأنباء: عدد: (7866) ]
أنصار.. من؟ !
في هجوم متشنج من أحد أعضاء (حزب الأمة السوداني) المسمون بالأنصار
قال: إن النظام الحالي قد مُكِّن له في الأرض، ولن يعترف بأي رأي آخر وإنه لن
يسلم السلطة إلا لعيسى ابن مريم، النظام يدعي أنه يدافع عن الإسلام، وأن حزبه
هو حزب الله، وكل الذين يعارضونه إنما يعارضون شرع الله، وهذا زعم باطل،
إننا نعتقد أن الخطر على الإسلام هو وجود هذا النظام.
[عبد المحمود أبو أمين أمين عام هيئة شؤون الأنصار لحزب الأمة السوداني جريدة الخليج عدد: (6873) ](126/88)
في دائرة الضوء
صراع الحضارات مرة أخرى
د. محمد يحيى
على الرغم من تعرض العديد من الكتاب لمقولة الأستاذ الجامعي: (صمويل
هنتنجتون) التي عرفت باسم صراع أو صِدام الحضارات (نسبة إلى مقالته عام
1992م ثم كتابه الموسع حول الموضوع وتحت الاسم نفسه عام 1996م) إلا أن
هذه المقولة - وإن بدت سطحية الطابع - تحتوي على أعماق وأبعاد وجوانب كثيرة
تتجلى كلما تعرض لها المرء بالبحث أو التأمل، وقد حاولت في مقال بل مقالات
سابقة أن أجلي بعض هذه الجوانب وتركت أخرى لعلِّي أعالجها فيما بعد.
ومن الجوانب التي ما زالت بحاجة إلى المزيد من الإيضاح في هذه المقولة
هو دورها ووضعها داخل سياق الفكر الغربي والأوضاع المعاصرة هناك، وهو ما
ألقيت عليه بعض الضوء في المقال السابق، وأرجو أن أسلط المزيد الآن.
تبدو مقولة صِدام الحضارات للنظر - من زاوية - وكأنها محاولة واسعة
النطاق لجمع شتات الصف الغربي ورسم هويته بحدة ووضوح شديد؛ ذلك لأن
الصف الغربي الذي كان موحداً في القرون الوسطى بل وقبلها تحت راية
الإمبراطورية الرومانية ثم المسيحية (ولا أقصد بالوحدة هنا السياسية أو السياسية
وحدها) هذا الصف قد تناثر شظايا وشُعباً حتى العصر الحديث عصر الاستقطابات
السياسية والانقسامات الأيديولوجية والتناثر الاجتماعي. وصحيح أن محاولات
الوحدة على كل المستويات كثرت وتعددت حتى جاء عهد التكنولوجيا الحديثة وثورة
الاتصالات مع سقوط المعسكر الشيوعي والتي بدت كلها عوامل تشجع على الوحدة؛ إلا أن الوحدة بالمفهوم الحضاري الوجودي الأوسع كوحدة عقيدة وهوية ومصلحة
مشتركة كبرى ظلت مع ذلك مفتقدة. ومن هنا تأتي أهمية المقولة.
إن دعوة (هنتنجتون) تحاول أن ترسم صورة قد لا تكون مكتملة في الوقت
الراهن لحضارة اسمها: (الحضارة الغربية) ، وهي وإن سكتت عن مكونات وأسس
هذه الحضارة، وانشغلت برسم ملامح صورة العدو (الآخر الحضاري) التفصيلية
إلا أنها مع ذلك تفصح عند استنطاقها عن هذه المكونات والأسس وتقدم لنا العجب؛
فالحضارة الغربية المتطورة تجمع أقطاباً وأطرافاً كانت حتى الماضي القريب جداً
من الأضداد المتصارعة. فهذه روسيا (الاتحاد السوفييتي السابق) ومعها بلدان
أوروبا الشرقية (المعسكر الاشتراكي أو الكتلة الشرقية سابقاً) تصبح من مكونات
ولبنات الحضارة الغربية حتى وإن كانت حتى القريب العدو الأول للغرب الذي
يعني الكتلة الرأسمالية الليبرالية المنضوية تحت لواء حلف الأطلسي. وهنا نجد أن
مفهوم الغرب قد اتسع ليشمل (الشرق) لكنه شرق مسيحي أبيض (وإن كان
أرثوذكسي المذهب) .
ومفهوم الحضارة الغربية المطروح في مقولة (هنتنجتون) يجمع بين أوروبا
وأمريكا ويبقي ما كان من توتر وما هو كائن من تضارب في المصالح الاقتصادية.
بل إنه داخل الكتلة الغربية الأوروبية ذاتها يجمع ما بين الكتل المصلحية الثقافية
المتضاربة من بريطانية وفرنسية وألمانية وشمال أوروبية وجنوب أوروبية. ولا
يكتفي مفهوم الغرب الجديد في التوسع شرقاً حتى حدود الصين واليابان ووسط آسيا
(حيث امتداد روسيا) بل إنه يضرب إلى الجنوب الأمريكي حتى القارة الجنوبية
المتجمدة حيث يتضمن الأمريكتين: الوسطى، والجنوبية. وهناك أيضاً تسود
المسيحية الكاثوليكية التي مقرها في روما، ويسود العنصر الأبيض حتى وإن
وجدت الأعراق والعناصر الأخرى بكثافة عددية أكبر: من زنوج ومخلطين في
البرازيل، أو هنود في البلدان الأخرى. لكن ارتباط هذه القارة بالتاريخ الأوروبي، والمنحى العام للحضارة الغربية قد ترسخ منذ (اكتشافها) (حسب الزعم الغربي)
في القرن الخامس عشر الميلادي، ويعاد اكتشاف هذا الإقليم الآن بثرواته وإمكاناته
الهائلة ليُدرج في صف الحضارة الغربية بعد أن كانت بعض تصنيفات الفكر
اليساري الغربي تضعه في خانة (العالم الثالث) ثم (الجنوب) في مواجهة (العالم
الأول) أو (الشمال) وهو (الغرب) . وبالطبع فإن أستراليا ونيوزيلندا في أقصى
الشرق، وإلى الشرق حتى من الخصم الجديد للحضارة الغربية (الإسلام والصين
الناهضة أو الكتلة البوذية ... إلخ) تقع هي الأخرى ضمن صف الحضارة الغربية
الذي تنشئه مقولة صِدام الحضارات.
إذن: نجد أن طرح التصور للحضارة الغربية عند (هنتنجتون) يتضمن ما
يمكن تسميته بإعادة تأسيس وإنشاء صف الحضارة الغربية بشكل يختلف جذرياً عما
اعتاد عليه الفكر السياسي والثقافي والفكري حتى عهود بالغة القرب. فالغرب كما
قلنا كان يقتصر على مجموعة بلدان غرب أوروبا (جغرافياً) بالإضافة طبعاً إلى
كتلة القارة الأمريكية الشمالية، لكن المفهوم الجديد يوسع المدى الجغرافي للغرب
كثيراً إلى حد ينعدم معه معنى (الغرب) ذاته مع الامتداد العميق إلى أقصى الشرق
من ناحية وأقصى الجنوب من الناحية الأخرى، ثم محاولة التوغل في الوسط من
خلال الطرح المكمل لمفهوم الغرب وهو طرح الحضارة المتوسطية التي يفترض
أن تضم بلدان حوض شرق البحر المتوسط ومعظمها إسلامية. وهذا الطرح جاء
من بلدان أوروبا الغربية والجنوبية وهو إن حاول التظاهر بخلق أو إحياء كيان
حضاري متميز (البحر متوسطي) إلا أنه في الحقيقة لا يكاد يخفي أنه أداة لاستيعاب
وضم الدول الإسلامية الكبرى المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط وإلحاقها بالحضارة
الغربية (المسيحية - الوثنية) وإدراجها كعناصر داخل هذه الحضارة بعد تجريدها
من خصوصياتها الحضارية وتمييع هويتها العقدية. وهكذا يتسع مفهوم الحضارة
الغربية الجديد ليشمل نطاقاً جغرافياً هائلاً بل - وهو الأهم - ليشمل ويبتلع نطاقات
ثقافية كانت بشكل ما خارجة عن نطاق الثقافة الغربية كروسيا وأمريكا الجنوبية.
وينقلب هذا التوسع الجغرافي عدوانياً عندما يتحرك ليهاجم قلب العالم
الإسلامي من خلال طرح مفهوم الحضارة المتوسطية وهو في جوهره مجرد مفهوم
وسيط يمهد لإلحاق الحضارة الإسلامية أو بلدانها المركزية بالحضارة الغربية ومجال
النفوذ الغربي بعد فصلها أولاً عن الوسط الإسلامي وضمها إلى ذلك الكائن
المصطنع (البحر متوسطي) الذي لن يلبث أن يكشف عن وجهه الحقيقي فإذا هو
غربي بحت بعد أن يكون فات أوان العودة إلى الهوية الإسلامية بالنسبة للبلاد
الإسلامية التي تكون انضوت تحت لوائه.
ويتجلى هذا التوسع الجغرافي الشرس والشاسع لمفهوم الغرب في التصور
الجديد من بعض التصورات التي ينقصها الوضوح في مقولة (هنتنجتون) أو التي
يسكت عنها؛ فما هو وضع الهند أو إفريقيا في خارطة الصراع الحضاري الذي
يتنبأ به الكاتب الأمريكي للقرن الحادي والعشرين الميلادي؟
لقد تعرضت في مقالتي السابقة لوضع الهند وخلصت إلى أن (هنتنجتون) لا
يصنفها في خانة أعداء الغرب رغم أنها كالصين (وأكثر من العالم الإسلامي) تمتلك
القوة النووية حسب أرجح التصورات، وفوقها إمكانات عسكرية واقتصادية كبيرة
حالية ومتوقعة، كما خلصتُ إلى أن عدم وضع الهند في خانة العدو الحضاري
المحتمل يعني أنها واقعة في خانة الأصدقاء أو الحلفاء المحتملين للحضارة الغربية
حتى وإن لم توضع صراحة في الصف الغربي. ولا يُنسى أن الجذور الأولى
للحضارة واللغات الأوروبية تستمد نفسها من الماضي الآري السنسكريتي في الهند؛
فضلاً عن أن المنطق الاستراتيجي السليم يحتم وضع الهند في الصف الغربي في
مواجهة الحضارتين الإسلامية غرباً وجنوباً، والصينية شرقاً. تتبقى إذن قارة
إفريقيا؛ ووضعها - من هذه الناحية - غامض؛ فهي غير مذكورة في الصف
الغربي إضافة إلى أن ضعفها الحالي والمتواتر يجعل من غير المحتمل وضعها
كالهند في خانة الحلفاء المستقبليين. لكن الواقع يقول إن عملية (هندسة سياسية)
ضخمة تجري الآن لإلحاق سائر إفريقيا في إقليم ما يعرف بـ (جنوب الصحراء)
إلى الصف الغربي. وإلا فلماذا عودة جنوب إفريقيا كالابن الضال إلى صف
السياسات الدولية من منظور غربي؟ ولماذا عملية التغييرات حتى في قلب ووسط
إفريقيا ثم في الاتجاهات الأربعة من ذلك القلب لرسم خريطة سياسية جديدة من
إمبراطوريات لا تتميز بشيء قدر تميزها بالعداء للإسلام، والولاء السياسي
والاقتصادي لأمريكا، والانتماء الديني إلى المذاهب المسيحية الغربية وبعدها الثقافة
المتأوربة؟ إن المسرح السياسي العام يعد الآن في وسط وأطراف إفريقيا لتأكيد
الضم والإلحاق بالغرب على أصعدة تمتد من الاقتصادي إلى الثقافي والديني في
مواجهة الشمال والشرق الإفريقي المسلم.
ومن ثم نرى أن الحضارة الغربية التي سوف تواجه العدو الإسلامي في
المستقبل القريب حسب مقولة (هنتنجتون) هي صف أوسع وأكبر وأخطر بكثير من
ذلك التصور الذي ساد حتى عهد قريب حول (الغرب) وليست القضية مجرد توسع
جغرافي مهما كان مداه وخطورته، بل إن هذا التوسع عدواني في المقام الأول أي
إنه مستمر وزاحف ينتهج سياسات الضم والإلحاق والإدراج، وترتيب الحلفاء
والأصدقاء، وتحييد القوى التي قد تنضم إلى العدو؛ فهو صف يتبع أساليب
عسكرية واضحة في التفكير والنهج. والأخطر من ذلك كله أن هذا الصف الغربي
في شكله الجديد الذي تؤسسه وتنشئه مقولة صراع الحضارات يقوم على أساس ظن
البعض أنه قد مات في الغرب إلى الأبد؛ وأعني به الأساس العقدي وبالتحديد:
الديني المسيحي؛ فبعد قرون من سيادة نهج التفكير العلماني، وبعد أن بشّر الفكر
الغربي في طرحه البراجماتي والليبرالي بنهاية الأيديولوجيا أو نهاية سيطرة المفاهيم
العقائدية على توجيه الأمور في عصر العلم وثورة التكنولوجيا، كان من المظنون
أن أي طرح يقيم الحضارة والثقافة والهوية على أسس دينية عقائدية قد مضى وقته
إلى غير عودة في الغرب؛ لكن ها هو البروفيسور الأمريكي يبشر بحضارة غربية
تقيم هويتها على أساس مواجهة خصم ديني (الإسلام) وهذا لا يكون إلا إذا كانت
تلك الحضارة نفسها تقوم على أساس ديني أو هي شديدة الوعي والحساسية بدور
الدين ووضعه كمقوِّم للحضارة والهوية والكيان. وعند هذه النقطة بالذات ينهار
منطق الردود التي جاءت من العالم الإسلامي على مقولة صِدام الحضارات.
لقد تناولت من قبل بعض سمات الردود القادمة من بلدان إسلامية على هذه
المقولة، لكن السمة الكبرى فيها هي أنها صدرت عن أصوات ودوائر ذات توجه
علماني متغرب؛ فضلاً عن أنه واقع تحت سيطرة التوجيه المباشر للدوائر السياسية
الحاكمة وهذا طبيعي؛ لأن الواقع في بلداننا الإسلامية يبين أن هذا التيار العلماني
المتغرب قد أعطيت له في الآونة الأخيرة السيطرة على منابر الفكر والثقافة
والإعلام والتعليم والعمل الاجتماعي في إطار الحملة الجارفة على الحركات
الإسلامية بل والإسلام ذاته؛ ولذلك جاء تعامل هذا الصوت العلماني مع مقولة
صدام الحضارات غريباً ولافتاً للنظر رغم صدوره عن أشخاص وأجهزة في بلدان
إسلامية حسب التاريخ وحسب الأغلبية، وينبغي التركيز على هذه الحقيقة لغرابتها؛ فالرد الظاهر في العالم الإسلامي على مقولة (هنتنجتون) لم يجئ من أصوات
إسلامية فكرية صادقة (وهو قد جاء ولكن تعرض للتعتيم) لكنه جاء من ذلك التيار
العلماني المتغرب المسيطر بقوة الغير. لذلك تراوح الرد بين اتهامات سخيفة لـ
(صمويل هنتنجتون) بأنه (أصولي) (ولولا بقية من حياء لقالوا أصولي إسلامي!)
وبين مقولات مضادة تروّج لفكرة أن العلاقة الأساسية التي يدعو لها الإسلام (تذكّر
أن هذا الطرح صادر عن علمانيين!) هي علاقة التفاعل والتعاون والتبادل بين
الحضارات.
والمشكلة أو الأزمة التي وقع فيها الصوت العلماني المتغرب في البلدان
الإسلامية في تعامله مع مقولة صراع الحضارات أنه لم يعد يتوقع أو يفهم أن
يؤسس أحد فكرة أو طرحاً على قواعد الدين والعقيدة! إن هذا الصوت كان تلميذاً
نجيباً ومطيعاً استوعب دروس علمانية الغرب التاريخية حتى النخاع، ونبذ الإسلام
وراء ظهره نهائياً. وهذا الصوت لم يعد يستطيع أن يفهم أو يتعامل مع أي طرح
يصدر عن الدين والعقيدة إلا بالرفض أو عدم التصور. ولذلك فعندما فوجئ هذا
الصوت أو التيار بالعلمانية تسقط في الغرب، والمسيحية تنهض عند كثير من
الفلاسفة وأصحاب المذاهب هناك (وهنتنجتون بالمناسبة هو مجرد صوت صغير
غير ذي أهمية في سياق هذه العودة للمسيحية في تصور الأمور) أُسقِط في يديه ولم
يعد يعرف كيف يتصرف أو يرد. لم يستطع هذا التيار أن ينادي بنهضة أو إحياء
إسلامي، ولم يستطع أن ينادي بتأسيس وحدة حضارية إسلامية شاملة لتواجه
الطرح الحضاري الغربي المؤسس على المسيحية الناهضة أو الأصولية!
وباختصار: لم يستطع الصوت العلماني - في تعامله مع مقولة صراع
الحضارات - أن يدعو إلى رد إسلامي أو مواجهة إسلامية؛ لأنه نبذ الإسلام
وتخلى عنه؛ فكان الرد الوحيد هو هيستيريا اتهام (هنتنجتون) بالأصولية تماماً
كهيستيريا اتهام المسلمين بالأصولية والتطرف!
ولم تتوقف المشكلة والمأزق عند هذا الحد؛ فالصوت العلماني المسيطر في
التعامل القادم من البلدان الإسلامية مع مقولة صراع الحضارات قد أُشرِبَ الحضارة
الغربية وثقافتها وفكرها؛ بحيث لم يعد يتصور أو يفهم أنه توجد حضارات أخرى
وثقافات وعقائد غيرها. ومرة أخرى كان هذا هو الدرس الذي تلقاه ذلك الصوت
من معلميه الغربيين واتبعه بنجابة التلميذ المطيع. ولهذا فعندما جاءت مقولة
(هنتنجتون) تتحدث مذعورة عن خطر الثقافات والعقائد الأخرى على الغرب وقع
الصوت العلماني في البلاد الإسلامية في حيرة مضاعفة: كيف يكون هناك خطر
وقد تعلمنا أن كل الثقافات الأخرى غابرة، وأن حضارة الغرب وحدها هي القادمة
وهي المنتصرة وهي الوحيدة؟ لقد رأى (هنتنجتون) أن هناك صحوة إسلامية
تتحول إلى نهضة حضارية تنافس وتجبّ حضارة أمته الغربية.
أما العلمانيون الذين يحملون أسماء إسلامية فلم يروا في هذه الصحوة إلا
(ردة) (حسب تعبيرهم) إلى عهود الظلام والرجعية.. إلخ، وردة عن النور الذي
جاء من الغرب؛ ولهذا السبب لم يستطع الصوت العلماني أن يرد على مقولة
صراع الحضارات بالدعوة إلى دعم الحضارة الإسلامية بكل الأساليب وعلى كل
الأصعدة لتتصدى لهجمة الحضارة الغربية الشرسة المتوسعة، والتي تناصب
الآخرين العداء، وتتخذ منهم أعداء حسب طرح (هنتنجتون) .
على ضوء تغرب الصوت العلماني حتى النخاع لم يكن الرد المتوقع إلا أن
يكون الدعوة إلى الحوار والتعاون والتفاعل والمشاركة مع الغرب مع إلصاق هذا
المدخل بالإسلام. أوَليس الإسلام دين المحبة والسلام؟ لكن هؤلاء العلمانيين لم
يكونوا يهتمون بالإسلام بأدنى قدر في هذا الطرح يوازي اهتمامهم بنفي أي احتمال
للصراع مع الغرب سواء أكان ذلك سياسياً أو اقتصادياً أو حضارياً؛ إذ كيف يقبلون
بوجود أي صراع مع الغرب مهما كان مسوّغاً بدوافع الدفاع عن الذات والهوية
الإسلامية؛ بينما كل انتمائهم هم، وهويتهم هم، وذاتيتهم هم: غربية الطابع؟
لقد عمي الصوت العلماني عن الصورة الجديدة والتشكيل الجديد لمفهوم الغرب
كما تجلى في مقولة صراع الحضارات. لم ير الصوت العلماني أية غرابة في أن
تتوسع الحضارة الغربية وتتقوى أو أن تعادي الإسلام؛ فهم من أبناء هذه الحضارة
الغربية بالروح وإن لم يكن بالجسد. لكنهم وجدوا الغرابة كل الغرابة في أن تخاف
الحضارة الغربية من الإسلام، وتخشى النزال معه، وتحشد لذلك عدتها؛ فطفقوا
وباسم الإسلام (!) ينادون بني جلدتهم المسلمين بأنه يجب أن لا يكون صراع مع
الغرب بل إخاء وسلم ومحبة وتذلل وأخذ؛ حتى ولو أشهر الغرب سيوف التنصير
والاستغلال الاقتصادي، وأعلن الحرب على الإسلام والمسلمين!
إن الرد القادم من بلدان إسلامية عديدة، والذي جرى إبرازه بحيث يتصور
المرء أنه هو الرد (الإسلامي) على مقولة صراع الحضارات جاء في الحقيقة وفي
معظمه من الأصوات العلمانية المسيطرة والموجودة حتى داخل المؤسسات الدينية
الشهيرة بل وعلى رأسها في أحيان؛ ولذلك تخبط هذا الرد بين اتهامات مضحكة
لهنتنجتون بالأصولية الفكرية أو الردة عن العلمانية! (وكأنها دين منزل عند هؤلاء
الذين لا يقبلون الأديان) وبين اتهامات أخرى بأنه يذكي نيران العداوة والإحن؛
وكأنه ليس مجرد ممثل ومعبر عن حضارته المتوسعة الشرسة في طرحها المعاصر
الذي هيمنت عليه المسيحية كعقيدة ودين تؤسس عليه الدول والسياسات والمواقف
ويكون قاعدتها المتينة.
الرد (الإسلامي) على (هنتنجتون) كان في الحقيقة رداً علمانياً متغرباً يهاجم
الباحث الأمريكي؛ لأنه بطرحه الواضح المباشر لمفهوم الصراع الحضاري
والثقافي والديني أعطى الإسلاميين وفكرهم دفعة ومسوِّغاً وحجة كان العلمانيون في
البلدان الإسلامية يجتهدون لدفعها وإخفائها. إن العلمانيين في البلدان الإسلامية
يبشرون بانتهاء عهد العقائد والديانات وحلول عهد العالمية والكوكبية (وهي ليست
سوى هيمنة الحضارة الغربية بعد أن وُصِفت (بالعالمية) المطلقة) لكن ظهور مقولة
صراع الحضارات وانتشارها بالشكل الإعلامي الواسع وذيوعها بين الجماهير
العريضة أربك هذا الطرح العلماني بين ظهرانينا، وأظهر على العلن ما كان
العلمانيون يبذلون ما في وسعهم لإخفائه بفضل سيطرتهم على منابر الإعلام والثقافة
ألا وهو أن عهد الفكر العلماني قد ولى في الغرب نفسه، وحل محله عهد من بروز
الأديان والعقائد كأسس للحضارة والثقافة عند الغرب، كما أن الحضارة الغربية التي
طُرحت على الناس كحضارة عالمية وحيدة تجبّ كل الحضارات والعقائد بحكم أنها
ذروة خط التقدم الإنساني قد ظهرت الآن ومن خلال مقولة صِدَام الحضارات على
أنها ليست هي المطلقة بحكم أنها قمة التقدم البشري؛ بل إنها مجرد حضارة وعقيدة
من بين حضارات وعقائد أخرى، وأنها ليست المطلقة بل تسعى إلى فرض نفسها
بالقوة وتخاف من حضارة الإسلام وتسعى للكيد لها. كل هذه الحقائق فضحتها
أطروحات (هنتنجتون) ولذلك جاء الرد العلماني عليه ليس من الغرب - حيث
انهارت العلمانية - وإنما - وللغرابة - من العالم الإسلامي حيث تحتكر العلمانية
دون حق منابر الفعل والفكر والتأثير؛ وجاء هذا الرد غريباً من حيث أنه يتمسح
بالإسلام (حقاً أو باطلاً) ويدعو المسلمين إلى عدم النهوض للتحدي الذي تطرحه
مقولة (هنتنجتون) بل على العكس إلى الخضوع لهذا التحدي والاستسلام له تحت
زعم أن الإسلام باعتباره ديناً للمحبة والسلام لا ينبغي له أن ينهض للصراع
والتنافس والجهاد حتى في وجه من يرفعون شعار النزال!(126/92)
بأقلامهن
كتاب الله يا أختاه
نجوى الدمياطي
إلى أختي المسلمة أهدي هذه الكلمات:
اعلمي أن دوام الصلة بكتاب الله تلاوة وتدبراً وعملاً، يعمق الإيمان ويوقظ
التقوى.
فالقرآن هو البيئة الصالحة لإنبات أنضر النبات.. نبات الإيمان، وإخراج
أطيب الثمار.. ثمار العمل والوعي والجهاد.
وتيقني أن مدرسة القرآن هي السبيل الأوحد إلى تربية الجيل المسلم، وإحياء
الأمة الفاضلة.
أختاه.. تعلمين أنه في مكة، وحين كانت الدعوة الإسلامية تعيش فترة
الاتصال بين السماء والأرض عبر وحي الله عز وجل الذي فتح به آذاناً صماً
وعيوناً عمياً وقلوباً غلفاً.. كان القرآن ينقل خطى الإنسان الجاهلي في جزيرة
العرب من (حضيض) واقعه، إلى (قمة) مستقبله السامق.. ويتخطى به (ظلمات
الجاهلية) إلى (نور الإسلام) .. ليُخرج منه ومن غيره [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]
[آل عمران: 110] .
أختاه.. إن هذا القرآن الذي أخرج بهديه [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] لم
يجئ لفترة من الزمان أو لجيل من الناس، وإنما جاء ليعمل في كل جيل وفي كل
بيئة.. ولذلك فالقرآن هو القادر اليوم على نقل خطى البشرية من واقعها الأليم إلى
أملها المنشود.
أختاه.. إنه (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) كما قال مالك بن
أنس رضي الله عنه ولقد صلح أولها بالقرآن..
ولذلك فلن يصلح آخرها إلا به.. فالقرآن غنى كامل في كل شيء.. في كل
زمان ومكان، وفي كل جيل وقوم كما أخبر سبحانه قائلاً: [إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] [الإسراء: 9] ، فالقرآن [يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] في عالم الضمير
والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض.. و [يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة.. و [يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ] في علاقات الناس بعضهم ببعض أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً،
ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر
بالرأي أو بالهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا يصرفها المصالح
والأغراض [1] .
أختاه.. لقد أقسم الله عز وجل فقال: -[وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ
(2) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]
[العصر: 1 - 3] فتأكدي أن كل أحد خاسر إلا من آمن وعمل صالحاً، وكمّل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه.. ولذلك فإنه حقيق بكل عاقل أن ينفق ساعات عمره فيما يخلصه من الخسران المبين، (وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وآثار دفائنه، وصرف العناية إليه، والعكوف بالهمة عليه؛ فإنه الكفيل بمصالح العباد، في المعاش والمعاد، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد) [2] .
ولا شك يا أختاه أن كتاب الله الذي هذا شأنه، وتلك هي آثاره في النفس
والمجتمع جدير بأن يتلوه الإنسان آناء الليل وآناء النهار؛ فذلك السبيل إلى الفوز
في الدنيا والآخرة كما أخبر سبحانه: [إنَّ الَذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ] [فاطر: 29، 30] .
وكما أخبر رسول الله: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها
طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها
وطعمها حلو [3] .
وقال: (الماهر بالقرآن مع السَفَرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع
فيه وهو عليه شاق له أجران) [4] .
أختاه.. إن القرآن هو مأدبة الله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق لله، فأقبلي
على مأدبة الله، واحرصي أن تكون لك في هذه المأدبة صواحب.. صحبة طاهرة
ملتزمة بالدين، مخلصة لله، بعيدة عن البدع والمعاصي، حريصة على أمر
الآخرة..
فهذه الصحبة الطاهرة تزيد من حرصك وتُقَوّي من أزرك، وتحقق فيك قول
رسول الله لله: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه) ، وقوله لله: (ما اجتمع قوم في
بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة
وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) [5] .
... فما الذي هو أجمل من أن تنزل عليك السكينة أختاه وتحفك الملائكة،
وتغشاك الرحمة.. وما أعظم من أن يذكرك الله فيمن عنده؟ !
عن أسيد بن حضير أنه بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه
مربوطة عنده، إذ جالت الفرس فسكت، فسكنت، فقرأ، فجالت الفرس فسكت،
فسكنت، ثم قرأ.. فجالت الفرس، فانصرف وكان ابنه يحيى قريباً منها، وأشفق
أن تصيبه، فلما اجترّه (أي جر أسيد ابنه يحيى من ذلك المكان) رفع رأسه إلى
السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى يراها..
فلما أصبح حدّث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اقرأ يا ابن حضير.. اقرأ
يا ابن حضير.. وتدري ما ذلك؟) قال: لا، قال لله: (تلك الملائكة دنت لصوتك، لو قرأتَ لأصبحتْ ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) [6] .
أختاه.. إن الحياة في ظلال القرآن نعمة.. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها،
نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.. ومن عاش مع القرآن شعر بالتكريم الإلهي
العلوي الجليل، فعاش هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير العين [7] تغشاه
السكينة التي ما تنزل في قلب عبد إلا أكسبته الوقار والطمأنينة (وأنطقت لسانه
بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الفحش واللغو والهجر، وكل باطل..
قال ابن عباس (رضي الله عنه) : (كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر
وقلبه) .. بل (كثيراً ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن على فكرة منه، ولا
روية ولا هبة ويستغربه هو من نفسه، كما يستغرب السامع له، وربما لا يعلم بعد
انقضائه بما صدر منه) [8] .
وهكذا هو القرآن يا أختاه به تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فكيف تكون
قراءتك له؟
أختاه.. إن قراءتك للقرآن لا بد أن تكون وفق أمر رسول الله: (زينوا
القرآن بأصواتكم) [9] .
فتحسين الصوت بالقرآن والتخشع فيه أمر يحبه رسول الله؛ فقد قال لأبي
موسى: (يا أبا موسى لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة) فرد أبو موسى قائلاً:
والله لو علمتُ أنك تسمع قراءتي لحبّرتها لك تحبيراً) .
ولا شك أن رد أبي موسى يدل على جواز تحسين الصوت بالقرآن، وقد كان
أبو موسى قد أُعطيَ صوتاً حسناً، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بقوله: (لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داود) .
وإذن يا أختاه فتحسين الصوت بالقرآن مطلوب شرعاً، ولكن هذا لا يعني أن
يشغلك ذلك عن تدبر معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، بل لا بد من الصبر على تدبر القرآن آية آية، وترك النص القرآني يحدثنا عن الموضوع الذي يتناوله والحقائق التي يقررها.. والنظر في كلام الله سبحانه نظرة قلب يشعر معانيه، وعقل جمع الفكر لفهم آياته.. وتَدَبّر خطاب الملك الذي (لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، وهو عالم بما في نفوس عباده، مطلع على أسرارهم وعلانيتهم، منفرد بتدبير مملكته، يسمع ويرى ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق ويحيي ويميت، لا تتحرك من ذرة إلا بإذنه ولا تسقط من ورقة إلا يعلمها ... فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جواداً هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه) [10] .
وفي ظل هذه اللذة الروحية في الأنس بالله وبالقرآن، أود أن أذكرك يا أختاه
بمسؤوليتك عن أولادك وعن بيتك.. فلا بد أن تعلّمي أطفالك قراءة القرآن، وتُقَوّي
صلتهم به، ذلك أن الطفل يقبل من أمه ويفهم منها ما لا يقبله ولا يفهمه من غيرها.
فإذا كان طفلك في سن يعقل فيها ويميز فعلميه قليلاً قليلاً بحسب همته ونهمته
وحفظه وجودة ذهنه.. وأمّا إذا كان لا يعقل ما يقال له فقد (استحب بعض السلف
أن يترك الصبيّ في ابتداء عمره قليلاً للعب، ثم توفر همته على القراءة لئلا يُلْزَم
أولاً بالقراءة فيملها ويعدل عنها إلى اللعب) [11] .
وأمّا بيتك أختاه فاجعليه بيتاً يعمره القرآن؛ وقد كان أبو هريرة رضي الله
عنه يقول: (إن البيت ليتسع على أهله وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويكثر
خيره أن يقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله وتهجره الملائكة وتحضره
الشياطين، ويقل خيره أن لا يُقرأ فيه القرآن) [12] .. واحذري أختاه الذين
يهجرون القرآن، فلا (يفتحون له أسماعهم، ولا يتدبرونه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره.. ويهجرونه فلا يجعلونه دستور حياتهم، وهو الذي
جاء ليكون منهاج حياة يقود البشرية إلى أقوم طريق) [13] .
احذري يا أختاه كل هؤلاء الذين هجروا القرآن.. واجعلي في سمعك دائماً
شكوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لربه: [يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا
القُرْآنَ مَهْجُوراً] [الفرقان: 30] واعلمي أختاه أنه وإن كانت الآية نزلت في شأن
المشركين الذين إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا
يسمعونه (فهذا من هجرانه) ، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به
وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو
قول أو غناء أو لهو من هجرانه) [14] .. وكذلك من هجرانه (هجر تحكيمه
والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه) [15] .
فدعكِ أختاه من كل هجر للقرآن.. واجعلي لنفسك وِرداً خاصاً تحافظين عليه
مهما كانت مشاغلك.. تقرئينه، وتنزلين نفسك على أمر الله في القرآن، ولا تنزلي
القرآن على هوى نفسك، واعلمي أختاه أن هذه هي السبيل للانتفاع بالقرآن.
أختاه.. اقرئي.. ورتلي.. وليكن منك على ذكر قول النبي: (يقال لصاحب
القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ وارقَ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ
آخر شيء معه) [16] ، وقوله: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة
بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم
حرف) [17] .
هذه وصيتي إليك، وهذه فوائدها؛ فاغتنميها. وفقني الله وإياك إلى خيرَيِ الدارين.
__________
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، م4، ص 2215.
(2) ابن القيم، مدارج السالكين، ج1، ص11.
(3) رواه البخاري، ومسلم.
(4) رواه البخاري، ومسلم.
(5) رواه البخاري معلقاً.
(6) رواه البخاري معلقاً.
(7) مستفاد من في ظلال القرآن،، ج1، ص 11.
(8) ابن القيم، مدارج السالكين، ج2، ص 527.
(9) رواه أبو داود.
(10) ابن القيم، الفوائد، ص43، 44.
(11) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص44.
(12) سنن الدارمي: فضائل القرآن، حديث (3309) .
(13) مستفاد من ظلال القرآن، سيد قطب، م5، ص 2561.
(14) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص 317.
(15) ابن القيم، الفوائد، ص 112.
(16) رواه أحمد.
(17) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.(126/100)
المنتدى
مساحة للشيطان
حمد بن إبراهيم
إن للشيطان نصيباً في كل إنسان بدءاً بالعالم ومروراً بالعابد وعوامّ المسلمين
وفساقهم، وانتهاءاً برؤوس الكفر والإلحاد؛ فترى الشيطان في جانب العالم العامل
يناور من بعيد يهش ويبش، ويعسّ ويدس، فمن الوسوسة والخواطر واستغلال
السوانح والسوامح حينما يكون الحديد حامياً، إلى التحريك والتوجيه والتزيين
والتلوين؛ فإذا تمكن من إلقاء الوساوس قام بتزيين الباطل وتحريك الدوافع الكامنة
في التركيبة النفسية للإنسان شيئاً فشيئاً وخطوة فخطوة حتى ينكِّسه على رأسه،
ويرده على عقبيه، ويركسه في الفتنة، وكلّما قلّ وضحل نصيب المسلم من العلم
والعمل صار للشيطان منه نصيب الأسد، وهكذا حتى يستحوذ عليه كلياً، وهكذا
خطوات الشيطان: من الوسوسة إلى اللعب والتلاعب، ومن عبادة الله إلى عبادة
الشيطان، ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار [لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ
نَصِيباً مَّفْرُوضاً] [النساء: 118] ، [وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاًً بَعِيداً] [النساء: 60] ، [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإنَّهُ يَاًمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا
زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ] . [النور: 21] .
أعاذنا الله وحمانا ورحمنا ووقانا من شر الشيطان وشركه، ومن شرور أنفسنا
(اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين) .(126/109)
منتدى القراء
كنز من وهم
علي محمد الغامدي
منذ كنا صبية
وبذور الصمت في أفواهنا
وكبرنا ... فإذا أفواهنا مهجورة
لم يعد يسكنها إلا الوجوم
يوم كنا صبية..
كنت طفلا
هامتي شامخة
وحروفي غابة يقطنها ورد وشوك
كل أشواك حروفي
حينما أرمي بها ... لم تكن تدمي فمي
لم تكن مأسورة في قيد خوفي
وإذا راودني حلمٌ شهيٌ
صاغه ورد حروفي لوحة فاتنة
وبدت زاهية فيها حروفي
* * *
كنت طفلا
ذات يوم خطفوني ... ومضوا بي.
في طريقي واديان:
في فم الأول نخلهْ ... لم أجد فيه لسانْ
فسألت الحارس الواقف في حلق الطريق:
أنتَ ... ما هذا المكان؟
لم يجبني ... ومضوا بي
أسدل الكون جفونهْ
سجد الليل ... وغطاني جبينه
أنزلوني
دهست رجلي لسانا
لامست كفي لسانا
أيها الوادي العجيب!
أي أسرار هنا مخبوءة؟
لم يجبني ... ومضوا بي.
في فم الآخر نخلهْ
ولسانْ
وعلى أطرافه شبه ضياء
وسألت الحارس الواقف في حلق الطريق:
أنت ... ما هذا المكان؟
أخرج الحارس من فيه لساناً
وعلى رأس اللسان
عُلّقت بعض حروف
وبدت واضحة تلك الحروف
إن تكن تملك حرفاً من لجين
فلزوم الصمت كنز من ذهب
ومضوا بي
وبدا الوادي مضيئاً
وبه يصطف أشباه الرجال
كلهم يفتح فاه
وعلى كل لسان ... عُلّقت تلك الحروف
أنْزَلوني ... تركوني حائراً
سألتني جدتي ضاحكة ... أفهمت؟
ثم لمّا لم أجب ... خبّرتني
أن صمتي كلما كان طويلاً
كان هذا من علامات الأدب
منذ كنا صبية ... علموني كلهم عشق الذهب
إن يكن صوتي لجيناً ... فسكوتي من ذهب
حَذّرُوني أن صوتي إن بدت أطرافه
إن يكن حظي سعيداً ... فجزائي بين خنق وعتاب
خدعوني ...
حيث فتّشت عن الكنز.. حروفي
لم أجد إلا ركاماً من تراب(126/106)
منتدى القراء
القناعة
محمد عبد السلام الباشا
إنّ السعادةَ حاضٌ مَنْ عاشَ في ... أيامِها وبدا بها فَلَها وَصَلْ
أما الشقيّ فَمَنْ يُمنِي نفسَه ... سَعْداً بأيامٍ تلي ولها اشتغلْ
نحيا حياةً الخائفين مِنَ الذي ... يأتي، وهلْ ندري متى يأتى الأجلْ؟!
عشْ في الحياة كزائرٍ ما همّهُ ... في عيشِه إلاّ صَلاحٌ في العملْ
كُنْ في الحياةِ كريمَ قومٍ واغتنمْ ... ما خابَ مَنْ بحياتِهِ تَرَكَ الجَدَلْ
كُنْ صابراً بلْ كُنْ جريئاً لا تبا ... لي ظُلمَ قوم والسعيدُ مَنِ اعتدلْ
قد قَسّمَ الأرزاقَ ربّ عادلٌ ... كُنْ في الهُدى عَلَماً وحاذرْ مِنْ فَشَلْ
مَنْ زادَ في شغلٍ لَهُ وَبِهِ اعتنى ... يا ليتَهُ مِنْ قَبْلِ شُغْلٍ قدْ سَألْ
اللهُ باركَ سعيَنا يا قومَنا ... لا بُدّ مِنْ بَذْل الجهودِ على مَهلْ
والسعيُ في الإنسانِ محضُ عبادةٍ ... حاذرْ بهذا مِنْ وُقوعٍ في الزّللْ
إنّ القناعةَ في الحياةِ سعادةٌ ... شكواكَ لنْ تُجدي ولن يجدي المللْ
واعلمْ بأنّ حياتَنا تمضي ولن ... نبقى بها؛ ولكل إنسان أجلْ(126/107)
منتدى القراء
المسلمون المنسيون.. الأقليات المسلمة
عبد الله السبيعي
قال الله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] . [آل عمران: 110] .
إن لنا إخوة في العقيدة في بلاد إسلامية شتى نسيناهم أو تناسيناهم في أوقات
هم بأمسِّ الحاجة إلينا، فكما قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) فإن
علينا دوراً كبيراً في الوقوف بجانبهم ومؤازرتهم بكل ما نملك: بالمال، والدعاء،
والنفس؛ وهذا لا شك من الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الحق؛ إذ هم يعانون
من الاضطهاد والتشرد والجوع والحاجة والعوز؛ وهم بلا شك في محنة وابتلاء؛
فهل نحن معشرَ من يعيش في رغد من العيش نعرف عن أحوال إخواننا المسلمين
هؤلاء وعما يعانونه من آلام وآمال فنحس بهم إحساساً إيجابياً؟ ففي إفريقيا منهم
من يواجه التنصير بأعتى أسلحته وأقواها حتى يصدهم عن دينهم الحق دين الفطرة
السليمة، وفي بلاد أخرى قد لا يجدون نسخاً من القرآن الكريم، وفي غيرها
يواجهون المذابح والمشانق والمطاردة والسجون.
لماذا؟ لأنهم قالوا: ربنا الله. وفي فلسطين يحتل الأعداء عليهم من الله ما
يستحقون يحتلون الأرض المقدسة ويقتلون الأبرياء والعزل من السلاح. وهؤلاء
الأعداء هوايتهم لعق الدماء. وهل تعرفون (أوجادين) التي هي جزء من الصومال؟ ومأساة المسلمين فيها؟ وماذا عن المسلمين في آسيا الهند و (كشمير) الجريحة منذ
زمان طويل أخت فلسطين. و (جبهة مورو) التي تمثل المسلمين في الفلبين
وتركستان، والصين الشعبية، وماذا عن إقليم فطاني المسلم، والمسلمون في بورما
وغيرها وما يعانيه إخواننا المستضعفون أولئك من ضعف الإمكانات؟ فلم يُلتفت
إليهم في تلك البلدان، بل هم على الهامش؛ فلا تقام لهم الدور الخاصة بالرعاية،
أو المستشفيات والمدارس، ولا يسمح لهم بممارسة عباداتهم وأعمالهم؛ وحالة
المسلمين بحاجة كبيرة إلى إعادة النظر فيها، وفي مساعدة البلاد الإسلامية لها وما
تبعثه من دعاة ناصحين ومعلمين يسدّون الحاجة فيُعلّمون الأقليات المسلمة العقيدة
الصحيحة السليمة؛ بالإضافة إلى توجيههم وإرشادهم وحثهم على توحيد صفوفهم
في مواجهة الأعداء في تلك البلاد التي تحاربهم وتفتنهم عن دينهم والعياذ بالله.
إضافة إلى وجوب دعم هذه الأقليات المسلمة إسلامياً ودولياً وإقليمياً ومحلياً
واجتماعياً؛ وكل ذلك مطلوب منا جميعاً، فنحن إخوانهم في العقيدة والدين.(126/108)
منتدى القراء
ماذا عساي أن أفعل؟
فاتن الصويلح
نسمع الكثير من القصص المفجعة ولا نملك حلاً.. نبكي نتألم ندعو على
الظالمين؛ وسرعان ما تنسينا زخارف الدنيا وشهواتها ويظل السؤال المحير.. نعم
أنا أحمل هماً في قلبي؛ عرفت هذا الهم يوم أن علمتُ أنهم مسلمون، يوم أن
تصورت أن تلك الأم التي فقدت وليدها هي أنا أو تلك المرأة التي انتهك عرضها
وسلب حياؤها كأنها أنا أو أمي أو أختي أو ابنتي، أو تلك المرأة التي دمرت
أرضها وشرد أبناؤها وقتل أهلها وعذبوا هل لي وأنا مسلمة مثلها أن أحتمل، وهل
البسمة ستعود طريقها لترتسم على شفتيّ بعد ضياع دامٍ، وأين المسلمون وهم
يسمعون صيحات المستغيثين؟ وكم من أخ سمع أو رأى إخوانه وإذا به يبث نداءهم
ويبحث بين الزحام عن مغيث ومساعد فإذا الكل نائم.. ويتردد السؤال لديّ: ماذا
عساي أن أفعل؟ ؟(126/109)
منتدى القراء
معاذ الله
شعر: غازي المهر
معاذ الله من تيهٍ ... عن الرحمن يلهينا
ومن لهو وشيطانٍ ... فقد تغري مآقينا
ومن دنيا وما فيها ... فقد تغري مآقينا
فتغوي القلب والعقلا ... بسحر بات يشقينا
معاذ الله من صاحٍ ... لدنيا الفسق يطغينا(126/110)
الورقة الأخيرة
الفصام النكد
حسن قطامش
ظاهرة جديدة بدأت تسترعي انتباه الكثيرين، وهي في مجملها ظاهرة غير
صحية، وفي إغفالها وعدم الالتفات إليها وإلى تداعياتها المستقبلية خطر حقيقي
على الصحوة وتحدٍّ جديد يواجهها من داخلها! !
وهذه الظاهرة تتضح بجلاء في أولئك النخبة من الشباب المثقف، أصحاب
العقول الواعية حقيقة لا انتحالاً، وهم أصحاب اطلاع كبير على مجريات الأمور
السياسية والثقافية والأدبية والاقتصادية، وكل هذه مؤهلات في ذاتها تحتاج إليها
الصحوة، وتحتاج إلى عطاءاتها في تلك المجالات.
فأين تكمن المشكلة إذن؟ إن المشكلة التي تواجه هذه النخب وتوجهها هي
(الأنفة الفكرية) التي تأخذ بزمام عقولهم، فالكمّ المعرفي للثقافات العصرية التي
حصلوا عليها ومعايشتهم لها فترات مختلفة، جعلت بينهم وبين إخوانهم من أصحاب
العلوم الشرعية نوعاً من النفرة النفسية؛ إذ قد اختلفت الاهتمامات والتصورات،
وضُرب سياج نوعي على الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة، إما حميمة، وإما
عادية.
إن من الأسباب الرئيسة في نشوء تلك الطائفة هو ذلك (التمرد الفكري) ،
والذي يَعْتَوِرُ كثيراً من الشباب في بداية الطلب مع اختلاطهم بمذاهب فكرية
وتربوية مختلفة، مما يجعل المقارنة عندهم تجري بصورة منتظمة كلما التقوا بفكر
ما فتتشكل بعد ذلك قناعة غير مستقرة لا علمياً ولا عملياً، وهذه القناعة من حيث
كونها ارتكزت على تصور علمي واضح، فهذا غير موجود، ومن حيث تداعياتها
العملية، فغير ممكن أن تترجم إلى عمل صريح يطرحون به القوم والمنهج وراءهم
وإن كان ذلك يحدث أحياناً فيظلون كالمعلقة؛ فهم من حيث الظاهر، مرتبطون
بفكر ومنهج، ومن حيث الانتساب الحقيقي ليس عليه دليل واضح بيّن إلا في
المناسبات العامة أو المشاركات التي لا تكلفهم التنازل عن قناعتهم السابقة.
ولكن هذه الفئة لا تتحمل مسؤولية نشوئها وظهورها بمفردها؛ فإن طبيعة
النفس أن تميل إلى من يشاركها اهتماماتها وأفكارها.
إن من الغبن ترك أولئك النفر من الشباب الفذ من أصحاب العقول الناضجة
دون متابعة حقيقية وارتباط وثيق حتى يستوي العود على سوقه ويشتد، ويجب عدم
الاغترار بكون ذلك الشاب قد أصبح (أستاذاً) أو (دكتوراً) .
وكذلك فإن السكوت عن الشطحات الفكرية والعملية التي تصدر من بعضهم
يعتبر إقراراً بصحتها مع خطورة نتائجها.
ونحن لا نطالب هؤلاء (الأساتذة) بأن يصبحوا (مشايخ) ومع أننا نكبر دورهم
وما يقدمونه، ولكن.. لا بد من وجود خط يقف عليه أولئك يعصمهم من الزلل،
ولا بد من قدرٍ من الرجوع (للشيوخ) للاستشارة فيما يريدون أن يقدموه لدين الله،
حتى يستقيم عملهم باكتمال صورته والأهم من ذلك مراجعة القناعات السابقة،
والتنازل ولو قليلاً عن هذه الكبرياء في التصورات التي تبلورت في وقت ما، وفي
ظروف ما، حتى لا نكون ممن زُيِّنَ له سوء عمله ويحسب أنه على خير، ولا
نحسبهم إن شاء الله إلا راجعين إلى الحق حين يظهر لهم.
وما سبق ما هو إلا ملحوظات لظاهرة اجتمع على إثبات وجودها نفر غير
قليل، ولذلك كان لا بد من النصح والبيان.(126/111)
ربيع الأول - 1419هـ
يوليو - 1998م
(السنة: 13)(127/)
كلمة صغيرة
يا حماس
لا ينكر أحد أن لمنظمة حماس الإسلامية مواقف صلبة في التعامل مع
الصهاينة أذاقتهم فيها الويل والثبور وعظائم الأمور بما شفى معه صدور المؤمنين
مما جعل هذه المنظمة غير مرغوب فيها حتى من قِبَل (سلطة الحكم الذاتي) وهذا
واضح في المواقف الأخيرة التي اتخذتها هذه السلطة. ولما كان الشيخ أحمد ياسين
من أهم رموز حماس فقد كان لزياراته الأخيرة أكبر الصدى لدى جميع المتعاطفين
في تأكيد أن الجهاد هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وأن مهازل السلام محكوم
عليها بالإخفاق؛ والمستفيد الأول منها هو العدو، ولكننا كنا ننتظر من الشيخ أن
يكون لزياراته دلالات أعمق في الاهتمام بالشأن الإسلامي كله.
وما كنا نود من فضيلته أن يجري اتصالات مع إيران، أما وقد تمت هذه
الزيارة فإنا كنا نتمنى أن الشيخ قد تحدث عن واقع إخواننا أهل السنة هناك
ومعاناتهم الشديدة من النظام والمتمثلة في مصادرة أبسط حقوقهم حتى إنهم لا
يتساوون بالأديان والملل الكافرة في هذه البلاد؛ ولكن شيئاً من ذلك لم نسمع أن
الشيخ قد أثاره.
إننا في النهاية نشد على (أيدي الحماسيين) ولكننا أيضاً ندعوهم إلى الاهتمام
ببناء الإنسان الفلسطيني عقدياً وفكرياً على منهج أهل السنة من سلفنا الصالح بعد
معاناة طويلة قضاها مع الأحزاب العلمانية التي لم يجد منها سوى حصاد الهشيم
وقبض الريح؛ فالعدو لا يخيفه شيء أكثر من بناء المجاهد المسلم؛ ولذا يعمل
اليهود على إفساده وتدميره حتى لا يتحقق الوعد النبوي الذي يعرفونه ويزرعون
لأجله (شجر الغرقد) ولكن (الله غالب على أمره) .(127/1)
الافتتاحية
في ساحة الصراع العالمي..
نكون أو لا نكون
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ...
وبعد:
فما الذي يدفع دولة غارقة في بحر الأزمات الداخلية والتحديات الدولية أن
تنتزع لقمة الخبز من فم ملايين الجائعين المشردين في شوارعها كي تنفقها على
سلسلة من التفجيرات النووية؟ ؟ خصوصاً أن هذه التفجيرات تهدد بتطبيق عقوبات
اقتصادية يلوّح بها (نادي الأقوياء) لكل من تُسوّل له نفسه من الدول (القاصرة) التي
لا بد من تطبيق (الحجر) النووي عليها؛ لأنها لا تمتلك (الرقي) الحضاري الكافي
الذي يسمح لها بامتلاك قنابل الدمار الهائلة، التي يطبق قانون امتلاكها كما تطبق
القوانين العشائرية والقبلية البائدة ... ! !
ما الذي يدفع الهند إلى (إعلان) انضمامها إلى نادي الذرة وهي التي أجرت
تفجيرات سابقة قبل أكثر من عقدين ... ! ؟
وما الذي يدفع باكستان إلى الرد النووي على جارتها المتحرشة بها منذ أن
وجدت وبرزت للوجود ...
الدوافع إلى ذلك متعددة، كما أفتى بذلك جهابذة التحليل الاستراتيجي شرقاً
وغرباً ... ، هذه هي الأعلى صوتاً وجلبة وضجيجاً ... وعجرفة! !
قيل إن الهند تريد أن تعيد إلى شعوبها شيئاً من الفخر، وهي أمة مكونة من
آلاف المجموعات الصغيرة، ودولة تضرب جذورها في التاريخ، وتشعر بأنها قد
أهينت وهُمّشت من قِبَلِ القوى الكبرى التي لا تزال تنظر إلى الهند من خلال
صورة هندي جائع بائس فقير يثير العطف والشفقة أكثر مما يثير الإعجاب
بحضارته وبلاده الشاسعة ذات الموقع الاستراتيجي! !
وقيل إن الهند تعيش في حي آسيوي مكتظ بالتحديات ومليء بالجيران
المثيرين للشغب.. فالصين جارتها الشمالية لا تخفي تطلعاتها إلى السيطرة والتهديد
للجار الهندي، وروسيا بجمهورياتها المضطربة تطل بوجهها الشاحب المفزع وقد
تناثرت على قسماته آثار الأنياب والصواريخ الذرية، وباكستان الجار المقلق لا
زال ينظر إلى الهند نظرة الند للند ولا زال يحاول أن يصارع للحصول على وضع
أفضل في كشمير المثيرة للجدل! !
وقيل إن الحزب الهندوسي الحاكم في نيودلهي قد رأى العالم ينظر لوصول
حكومة العقائد الضيقة في فلسطين وهي لا تبالي بكل قرارات الأمم المتحدة ومندوبي
واشنطن المتعجرفين في العادة وتحولهم إلى عرائس هزيلة في مسرح عبثي مثير
للدهشة دونما عقاب، لا سيما أن هذه الدولة تمارس لغة القوة وتفرض شروطها في
ظل الحملة الظالمة على المسلمين في كل صقع وموقع؛ فتكرس لأول مرة في
التاريخ المعاصر مفهوم الاختطاف السياسي للقرار في معاقل صنع القرار الأمريكي
والأوروبي! .. هذا التطرف الهندوسي يمكن أن يكون مقبولاً دولياً لأنه يجابه عدواً
مسلماً بالدرجة الأولى هو شعب باكستان إذ سمح هذا التطرف لعصابات هدم
المساجد وهتك الأعراض في المدن الهندية أن تصل إلى السلطة، وأن تنتهز
الفرصة لإجراء هذه التجارب.. وقد أكّد الرد الهزيل من المجتمع الدولي على
تجارب الهند الثقة في النفس لدى الهنود..
وقيل إن الهند أرادت بهذا التحرك إغلاق الملف الكشميري إلى الأبد؛ وذلك
بتحريك قواتها شمالاً مع بداية الصيف وزوال الثلوج لاحتلال الإقليم بالكامل
خصوصاً أن التحركات الهندية العسكرية أصبحت مكشوفة للعالم ومرصودة من
خلال الأقمار الصناعية لحظة بلحظة!
وقيل الكثير غير هذا ... ، وإذا كانت كل هذه التحليلات صحيحة ومؤثرة
وواضحة فلا بد من القول إن القيادة الهندوسية المتطرفة أدركت أن العصر الآن هو
عصر القوة، وأن الأمم كالأفراد والجماعات، تضع نفسها حيث تريد، فإن أرادت
أن يُنظر لها باحترام فعليها بأخذ أسباب ذلك، وإن أرادت أن تكون ظلاً تافهاً
للمنتصر فما عليها سوى أن تعيش في المستنقع العالمي الآسن، المليء بالطحالب!!
أخفقت الأمم المتحدة، وأخفق النظام العالمي القديم والجديد في أن يجرد العالم
من التهديد النووي وقيادة البشرية نحو عالم أكثر أمناً.. وسيُخفق طالما أن الغرب
بقيادة أمريكا اليوم ينظر إلى العالم نظرة (هندوسية) طبقية: طبقة البراهما التي
تمتلك المال والسلطة والنفوذ والإثراء وأسلحة الموت.. ويمثلها دول أوربا وأمريكا
ممثلين للصليبية المتغطرسة.. وعالم المنبوذين الذين هم مادة بقاء البراهمة؛ حيث
يُسخّرون لخدمة السادة، وثراء السادة، ونفوذ السادة، دون أن يكون لهم حق
استخدام (سكاكين) المطبخ) للدفاع عن أنفسهم بحجة حفظ النظام والأمن وعدم تعكير
صفو مباريات نهاية الأسبوع! ! إنها لغة الغاب هي التي تجعل الكيان الصهيوني
يمارس كل ألوان الطيش والكبر والاستهتار بكل العالم دون عقاب أو لفت نظر،
ولغة القوة هي التي جعلت الغرب يحترم الصين ويدخلها في (نادي الفيتو (وهي
الدولة التي يصاب الغرب بالصمم عند الحديث عن الديمقراطية فيها. أو حين
تسحق ثوار الحرية أمام عدسات المصورين الغربيين، ثم لا يجد الرئيس الأمريكي
حرجاً من زيارتها وإتمام مزيد من الصفقات والعقود والاتفاقيات مع هذا العملاق
المخيف، الذي تحميه قوة عسكرية ونووية يحسب لها الغرب ألف حساب، ويذبح
الديموقراطية ويقدمها قرباناً في حفلة الغابة التي تتكرر بأسماء وطقوس مختلفة!
باكستان في الجانب الآخر تستحق أن يقال عنها ككيان ما قيل عن جارتها
البادئة بالمبارزة النووية..، باكستان لا تحكمها (عصابة) هدمت معبداً هندوسياً أو
أحرقت ممتلكات السيخ في البنجاب كما فعل الحزب الحاكم في نيودلهي بمسلمي
بومباي قبل سنوات، ولم تقدم حكومتها على تغيير اسم شارع واحد لأنه يذكّرها
بالاستعمار الهندوسي لأرض المسلمين في باكستان، وهي الحجة نفسها التي دافع
من خلالها مفكرون غربيون عن الحزب الهندوسي الحاكم عندما قامت كوادره
ورموزه بتغيير اسم أكبر مدينة هندية (بومباي) وأسموها (مومباي) بحجة أن الاسم
الأصلي يذكّر بالعرب والمسلمين وفترة حكمهم لهذا الجزء من العالم ... !
ما قد يقال عن باكستان وحكوماتها منذ الاستقلال هو أنها كانت تراهن على
أمريكا ودعمها لها، وكانت النتائج: ثلاث هزائم مع الهند، وإحجاماً عن تطبيق
قرارات الأمم المتحدة العتيقة المطالبة باستفتاء شعبي في كشمير يحدد مستقبلها، هذا
إذا تناسينا الإهانات المزرية المتمثلة بقانون الكونجرس الأمريكي الذي يحرم
باكستان من امتلاك أسلحة تقليدية متطورة دفعت باكستان قيمتها، ما لم تستسلم
وتعلن توبتها من الإثم النووي الذي يتهددها من كل جانب ...
الحكومة الباكستانية الحالية تعرضت لكل أنواع الضغوط الدولية والإقليمية ...
ضغط هائل ومخزون من التهديد والابتزاز إذا أقدمت على تطوير مقدراتها النووية..، فبينما كان كل الفرح والغبطة الممزوجة بالفخر والتحدي في نيودلهي، كان كل التهديد والضغط على الجانب الأضعف في إسلام أباد، وهي صورة أخرى لازدواج المعايير و (الحَوَل) المزمن الذي أصيبت به الولايات المتحدة وحليفاتها!
إذا كان للهند من دافع كي تجد لنفسها فخراً وطنياً وموطئاً للقدم في نادي
الكبار، فباكستان قد أصيبت في سويداء كبريائها وأهينت أكبر إهانة حين هدد
المتعصبون الهندوس بتدمير منشآتها النووية، ولا يكون هذا هاجس الفخر، بل
هاجس الوجود وإثباته بالنسبة لباكستان!
وإذا كان للهند ميول للزعامة والسيطرة وتقسيم المنطقة وفق تصورات
هندوسية ضيقة، فباكستان تعيش هاجس التحديات على حدودها في كشمير وإيران
وأفغانستان فضلاً عن الجار الهندي الذي لا يعرف للجيرة أي حق، والذي يحمل
ملفاً أسود في التآمر على باكستان منذ الاستقلال وحتى الحروب المتتالية معها
ودوره الفاضح في تقسيم الوجود الإسلامي في القارة الهندية إلى دولتين هما باكستان
وبنغلاديش.
باكستان في نظر الحكم الهندوسي المضطرب في تصوراته لا تتعدى كونها
ولاية هندية لا بد من إعادتها إلى بيت الطاعة الهندوسي، وهي لو لم تقم بتفجيرها
النووي؛ لما اعترف العالم لها بحقها في الوجود ولأصبحت كشمير أخرى، لا تثير
لدى النظام العالمي القائم وسدنته سوى الازدراء ... ، إذن كانت القضية بالنسبة
لباكستان تتمحور في هامش ضيق: وجود أو عدم!
لقد جاء التفجير النووي الباكستاني ليعطي الإجابة المنطقية لشعب يعيش
هاجس الوجود أو العدم، وقال الشارع الباكستاني كلمته: نعم للوجود الحر
ولامتلاك القرار الحر ...
لكن التحدي الذي يقف أمام باكستان هو: كيف يكون هذا الوجود قوياً
ومتناغماً مع الفكرة الأساسية التي قامت عليها البلاد، أي تكريس الوجود الإسلامي
في جنوب آسيا..
لقد وصفت قنبلة باكستان وحدها بأنها قنبلة عقدية، وقيل عنها إنها قنبلة
إسلامية! ! أما قنابل أمريكا الصليبية وأوروبا النصرانية و (إسرائيل) اليهودية
والهند الهندوسية، فقد جردت من الديانة وأصبحت قومية، وهذا بحد ذاته يكشف
بوضوح حجم التحدي الذي يواجه باكستان خصوصاً مع تأكيد مصادر متعددة لدور
إسرائيلي في الاستفزاز الهندي، بل إن الهند قامت بتفجيرات نووية لحساب تل
أبيب كما نشر فيما بعد.
إن العالم الإسلامي الذي أُجبرت دوله على التوقيع على اتفاقية الحد من
الأسلحة النووية مطالب بأن يعيد حساباته خصوصاً مع تكشير الصهاينة عن أنيابهم
والكشف عن امتلاكهم لمئات من القنابل النووية.
ولا بد أن تختار هذه الأمم والشعوب على ضوء معطيات الحاضر بين أن
تكون أو لا تكون..
أن تكون أمماً تحترم نفسها وتمتلك القدرة على ردع العدوان المتزايد؛ أو أن
تكتفي بأن تكون عرضة للابتزاز والعدوان، كما حصل ويحصل، وهو خيار لا
مجال فيه للتفكير أو التردد.. حين تكون هناك إرادة واعية! ! وحين يتم رفض
أسلوب (الحَجْر) على الدول (القاصرة) .. وهو بالضبط أحد أبرز عناوين نظامهم
العالمي المزود بالأنياب والأظافر النووية.(127/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
قواعد العلاقات الدولية
بين المسلمين وغير المسلمين
عثمان جمعة ضميرية
بعث الله تعالى رسوله محمداً لله برسالة خاتمة تهدف إلى ردِّ البشرية كلها إلى
الله تعالى والخضوع لدينه؛ ليكون ذلك سبيلاً إلى تحريرها حرية حقيقية كاملة،
عندما تتحرر من كل عبودية لغير الله تعالى. فانقسم الناس عندئذ قسمين: منهم من
فتح قلبه وعقله للهداية والنور، فآمن بالرسول لله وصدّق بما جاء به من عند الله
تعالى، ومنهم من أغلق قلبه وعقله وجعل على بصره غشاوة، فكفر وكذّب؛ فكانوا
بذلك فريقين اثنين: [فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ] [الأعراف: 30] .
[ذَلِكَ بِأَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا البَاطِلَ وَأَنَّ الَذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ]
[محمد: 3] .
وعندما كتب الله تعالى النصر لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأظهر دينه
على الدين كلِّه [1] ، وضرب الإسلام بِجِرانه [2] ، أصبح للمسلمين دولة تضم
جميع المؤمنين بالله تعالى الموحِّدين له، ترفرف عليها راية التوحيد، وتقيم الحقّ
والعدل بين الناس، وتدعو إلى الإنصاف والقسط. لم يكن من أهدافها العلوّ في
الأرض ولا مجرد بسط السيطرة والنفوذ، ولا إكراه الناس على الدين، فتركتهم
وما يختارون، عندما يخضعون لسلطان الإسلام وسيادة أحكامه، بعد أن أزاحت
العقبات من طريق الدعوة الإسلامية، وخلّت بينها وبين الناس ليختاروا عندما يكون
لهم الاختيار عن طواعية وإرادة.
وأقام الإسلام قواعد العلاقات الدولية بين الناس على افتراض أنهم إمّا مؤمنون، وإما معاهَدون، وإما لا عهد لهم [3] . وفي هذا يقول عبد الله بن عباس رضي
الله عنهما: (كان المشركون على منزلتين من النبي -صلى الله عليه وسلم-
والمؤمنين، كانوا: مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا
يقاتلهم ولا يقاتلونه) [4] ، وفي هذا يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: (فاستقرّ أمر
الكفار معه -صلى الله عليه وسلم- بعد نزول سورة (براءة) على ثلاثة أقسام:
محاربين له، وأهلِ عهد، وأهل ذمة. ثمّ آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين له، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه،
فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمنٌ به، ومُسالمٌ له آمن، وخائف
محارب) [5] .
أ - أما المسلمون المؤمنون: فهم المعترفون بما جاء به النبي -صلى الله
عليه وسلم-، والمصدقون بكل ما أخبر به؛ وصفهم الله تعالى في كتابه الكريم،
وحدد سماتهم فقال: [الّم) (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ
إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ] [البقرة: 1-5] .
وقال سبحانه وتعالى: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ] [البقرة: 285] .
وقال تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ] [الأنفال: 2-4] .
وهذا الإيمان يترتب عليه كما سبق عصمة الدم والمال والعرض، ويجعل
المؤمنين سواسية في الحقوق والواجبات، فقد قال رسول الله: (من صلّى صلاتنا،
واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا) [6] .
وينبغي أن يُلاحظ هنا أن الإسلام يُعتبر في آنٍ واحد عقيدةً وجنسية،
فالمسلمون أينما كانوا إخوة في العقيدة والجنسية، غير أن أحكام الإسلام الدنيوية لا
نفاذ لها في غير دار الإسلام، ولهذا اختلفت أحكام الدارين: دار الإسلام، ودار
الحرب، من هذه الناحية كما هو موضّح في أبواب متعددة من كتب الفقه كالنكاح
والطلاق والوصية والإرث والسّيَر [7] ، وأما الأحكام الدينية من حيث أجزيتها
الأخروية فالمسلم خاضع لها حيثما حل، ومسؤول عنها أمام من لا تخفى عليه
خافية [8] .
وبما أن الإسلام لا يعترف بفكرة الجنسيات أو غيرها من أسباب التمييز بين
الناس [9] ، فإن جميع المسلمين يُعْتبرون متساوين في نظر الشريعة؛ إذ تجري
عليهم أحكامها، مهما كان جنسهم أو لونهم أو عنصرهم، وأينما كانت إقامتهم؛
فالعصبية الدينية هي التابعية الأصلية التي تعطي صفة المواطنة الكاملة في دار
الإسلام.
الانتماء الديني:
فإذا أقام المسلم في دار الإسلام وجب عليه اتباع أحكام الشرع الإسلامي في
جميع الأمور، فيلتزم بما توجبه من التزامات، ويتمتع بما تعطيه من حقوق،
حسب شروطها الشرعية من دون تقييد ولا تخصيص. وفي هذه الحالة يرادف
قانونُ المسلم الشخصي القانونَ الإقليمي أو المحلي لدار الإسلام. فعليه: إذا عقد
المسلم في دار الإسلام عقداً مع مسلم آخر أو ذميّ أو مستأمن، فتطبق عليه الأحكام
الشرعية وحدها.
هذا مع الإشارة إلى أنه توجد أحكام خاصة تتعلق بإسقاط المسلم من حق
المنعة الشرعية أو العصمة بسبب الردة عن الإسلام، أو بسبب البغي والعصيان،
أو بسبب ارتكاب جريمة تحل دم صاحبها [10] .
فالمسلمون في دار الإسلام أمة واحدة، تربط بينهم العقيدة والإيمان مهما
اختلفت أقطارهم وتناءت بلادهم وتنوعت لغاتهم وأجناسهم، فهم إخوة في الإيمان لا
تفرقهم الأوطان ولا العصبيات ولا المذاهب؛ لأن القاعدة التي ينطلق منها الإسلام
في بناء المجتمع وإقامة الدولة الإسلامية، وفي تمتع المسلم بالجنسية أو التابعية
الإسلامية هي علاقة العقيدة مع علاقة القيادة الإسلامية، أي: الإيمان وسكنى دار
الإسلام أو الانتقال إليها [11] ، وليست علاقة الأرض، ولا علاقة الدم، ولا علاقة
الجنس، ولا علاقة التاريخ أو اللغة أو الاقتصاد، وليست هي مجرد القرابة أو
الوطنية أو القومية، وليست هي المصالح الاقتصادية.. ولذلك يقول الإمام
السرخسي: (إن المسلم من أهل دار الإسلام حيثما يكون) [12] .
ولهذا فإن المسلم من أيّ بلدٍ إسلامي ليس أجنبياً في أي بلدٍ آخر؛ لأن مدلول
الأجنبي في الدولة الإسلامية أمسى مرادفاً لغير المسلم، أما المسلم فهو مواطن له
جميع حقوق المواطنين، وتصان هذه الحقوق كلها بغاية الصيانة في نفسه وأهله
وماله وعرضه، وعليه كذلك جميع الواجبات المفروضة على المواطن أينما وجد،
من التعاون والتعاضد والتكافل والنصرة، لقوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ
على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم) [13] .
ولذلك قال الإمام محمد بن الحسن: (وإذا دخل المشركون دار الإسلام فأخذوا
الذراري والنساء والأموال، ثمّ علم بهم جماعة المسلمين، ولهم عليهم قدرة،
فالواجب عليهم أن يتبعوهم ما داموا في دار الإسلام، لا يسعهم إلا ذلك؛ لأنهم إنما
يتمكنون من المقام في دار الإسلام بالتناصر. وفي ترك التناصر ظهورُ العدو عليهم، فلا يحلّ لهم ذلك. فإن دخلوا بهم دار الحرب نُظِرَ: فإن كان الذي في أيديهم
ذراري المسلمين، فالواجب عليهم أن يتبعوهم إذا كان غالب رأيهم أنهم يقوَوْن على
استنقاذ الذراري من أيديهم إذا أدركوهم ما لم يدخلوا حصونهم، فأما إذا دخلوا
حصونهم، فإن أتاهم المسلمون حتى يقاتلوهم لاستنقاذ الذراري فذلك فضلٌ أخذوا به، وإن تركوهم رَجَوْتُ أن يكونوا في سعة من ذلك) [14] .
وقد تواردت النصوص الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية تدعو إلى
وحدة الأمة المسلمة أو دار الإسلام، وتنهى عن التفرق والتنازع، فقال الله تعالى:
[وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] [المؤمنون: 52] .
وقال سبحانه وتعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا]
[آل عمران: 103] .
وقال: [وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [آل عمران: 105] .
وقال رسول الله: (مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كَمَثَل الجسد
الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمّى والسّهر) [15] .
وقال: (من أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشقّ عصاكم
ويفرِّق جماعتكم فاقتلوه) [16] .
وقرّر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الأصل العظيم في أول ميثاق لدولة
الإسلام في المدينة بعد الهجرة، وجعله واقعاً عمليّاً (بين المؤمنين ومَنْ تبعهم فلحق
بهم وجاهد معهم ... أنهم أمة واحدة دون الناس، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على
كلِّ من بغى منهم، وأن ذمة المؤمنين واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين
بعضهم موالي بعض دون الناس) [17] .
ولا أحد يجادل، بعد الوقوف على هذه النصوص الصريحة وأمثالها، في أن
المسلمين يجب أن يكونوا دائماً أمة واحدة تتمثل كذلك في دولة واحدة ما استطاعوا
إلى ذلك سبيلاً بل إن كيانهم وبقاءهم متوقف على هذه الوحدة.
ويترتب أيضاً على هذه الوحدة لدار الإسلام: أنه لا يجوز أن يكون بين
بعض المسلمين تحالف يقصي الآخرين ويجعلهم في مرتبة أقلّ، وكفى بعقد الإسلام
حلفاً، فقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وأقرّ ما تمّ من أحلاف في الجاهلية
مما كان راجعاً إلى التعاون على البر والتقوى وأصبح في خدمة مبادئ الدعوة
الإسلامية ودعم كيانها، ونهى عن كل حلف يكون مفرِّقاً لوحدة المسلمين ومبنياً على
عصبيات بغيضة، فقال: (لا حلف في الإسلام، وأيّما حلف كان في الجاهلية لم
يزده الإسلام إلا شِدّة) [18] .
وبذلك يحدد الإسلام أصول العلاقات بين المسلمين جماعاتٍ وأفراداً، فتقوم
هذه العلاقات على عقد الإسلام الذي يجعل المسلم ملتزماً بأحكام الله تعالى وأوامره
ونواهيه في كافة معاملاته، وينبثق عن هذا عصمة الدم والنفس والمال والعرض،
والمساواة بين المسلمين والتضامن فيما بينهم، والنيابة المتبادلة التي تنشئ الترابط
بينهم [19] .
والمسلمون هم المواطنون الأصليون في هذه الدولة الإسلامية، وهم الذين
يستمتعون بكافة الحقوق السياسية أو العامة والخاصة فيها [20] .
ب - أما المسالمون الآمنون، فهم الأجانب غير المسلمين الذين يقيمون في
دار الإسلام أو الدولة الإسلامية إقامة دائمة أو مؤقتة، على أساس عقد الذمة أو عقد
الأمان ويدخل فيهم أهل الموادعة وهم من أهل الحرب والكفر؛ وقد ذكر هذا الإمام
محمد في شرح السّير [21] . وأفردت لهم الشريعة الإسلامية معاملة خاصة لا يمكن
إدراك مستواها الأخلاقي السّامي إلا عند موازنتها بمعاملة الأجانب في مختلف النظم
التي سبقت دعوة الإسلام التي بعث الله تعالى بها نبيه محمداً -صلى الله عليه
وسلم-، أو النظم التي عاصرتها، أو تلك التي جاءت تالية لها [22] .
وغير المسلمين هؤلاء أصناف متنوعة من حيث علاقتهم بالمسلمين، ولذلك
يقول ابن قيم الجوزية: (الكفار: إما أهل حرب، وإما أهل عهد. وأهل العهد
ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان. وقد عقد الفقهاء لكل صنف
باباً، فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة.
ولفظ (الذمة والعهد) يتناول هؤلاء كلهم في الأصل. وكذلك لفظ (الصلح) ؛
فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد ... وهكذا لفظ (الصلح) عامّ في كل صلح،
وهو يتناول صلح المسلمين بعضهم مع بعض، وصلحهم مع الكفار. ولكن صار
(أهل الذمة) في اصطلاح كثير من الفقهاء عبارة عمن يؤدي الجزية. وهؤلاء لهم
ذمة مؤبدة، قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله؛ إذ هم
مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف (أهل الهدنة) فإنهم
صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما
تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكفّ عن محاربة المسلمين. وهؤلاء يسمّوْن
(أهل العقد) و (أهل الصلح) و (أهل الذمة) .
وأما المستأمَن: فهو الذي يقدُم بلاد المسلمين من غير استيطان لها؛ وهؤلاء
أربعة أقسام: رُسُلٌ، وتجار، ومستجيرون حتى يُعرض عليهم الإسلام والقرآن،
فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالِبو حاجة من زيارة أو
غيرها. وحكم هؤلاء ألا يهجّروا ولا يُقَتّلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يعرض
على المستجير منهم: الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك، وإن أحب اللحاق
بمأمنه أُلحق به، ولم يعرض له قبل وصوله إليه. فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما
كان) [23] .
ج - أما الحربيون أو المحاربون، فهم القسم الثاني من الكفار والمشركين
الذين سبقت الإشارة إليهم بأنهم الخائفون المحاربون للنبي [24] ، وهم أهل إحدى
المنزلتين من النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث ابن عباس رضي الله
عنهما: (كان المشركون على منزلتين من النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين؛ كانوا: مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا
يقاتلونه) [25] .
وقد ألمحنا آنفاً إلى هذا الصنف الأخير من أهل العهد في الفقرة السابقة.
أما الحربيون فهم الأعداء من سكان دار الحرب أو بلاد الكفر الذين لا يدينون
بالإسلام، ويحاربون المسلمين، أو ينتسبون إلى قوم محاربين لهم حقيقة وواقعاً أو
حكماً وتوقعاً. وبعبارة أخرى: هم غير المسلمين الذين لم يدخلوا في عقد الذمة،
ولا يتمتعون بأمان المسلمين ولا عهدهم. وهم أصناف: الكفار الذين يقاتلون
المسلمين بالفعل ويكيدون لهم، والكفتار الذين أعلنوا الحرب على الإسلام وأهله،
بأن ضيّقوا على المسلمين وحاصروهم اقتصادياً أو فتنوهم عن دينهم أو ظاهروا
أعداء الإسلام على المسلمين، والكفار الذين ليس لهم عهد مع المسلمين ولم يحاربوا
المسلمين ولم يظاهروا عليهم، فهؤلاء كلهم يسمون في الاصطلاح الفقهي: أهل
الحرب أو الحربيين. ولا يشترط أن تكون الحرب قائمة فعلاً، وإن كانوا من
الناحية التاريخية الواقعية قد ناصبوا الدولة المسلمة العداء والخصام والحرب [26] .
والحربيون غير معصومين؛ فدماؤهم وأموالهم مباحة للمسلمين، ما لم يكن
بينهم وبين دار الإسلام عهد أو هدنة؛ لأن العصمة في الشريعة الإسلامية لا تكون
إلا بأحد شيئين: بالإيمان، أو الأمان. وليس للحربيين إذا لم يكن لهم عهد أو أمان
أن يدخلوا دار الإسلام ولا أن يقيموا فيها، فإذا دخلها أحدهم فهو مباح الدم والمال،
ويجوز قتله ومصادرة ماله، كما يجوز أسره والعفو عنه [27] . ولذلك قال ابن
المرتضى: (ودار الحرب دار إباحة، يملك كلّ فيها ما ثبتت يده عليه، ولا
قصاص فيها ولا أرش؛ إذ دماؤهم هدر، ويملك بعضهم بعضاً ومالَه بالقهر؛ إذ
رقابهم معرضة للاسترقاق وأموالهم للأخذ) [28] .
ومما سبق نخلص إلى أنه أصبح يقيم على أرض الدولة الإسلامية مسلمون
وغير مسلمين من الذميين والمستأمنين؛ والذمي يختلف عن المستأمَن، فالأول من
أهل دار الإسلام ويلتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات [29] . وأما
المستأمن فهو ليس من أهل دار الإسلام، ولم يلتزم شيئاً من أحكام الإسلام، وإنما
دخل دار الإسلام ليقضي حاجة له ثم يرجع إلى داره أو دولته. ولكل منهم أحكام
فقهية تخصه.
__________
(1) انظر جملة أحاديث في إظهار الدين والبشارة بالمستقبل للإسلام في (سنن البيهقي) :
9/177-182.
(2) الجِرَان: باطن العنق من البعير وغيره، يقال: ألقى فلان على هذا الأمر جِرانَه: وطّن نفسه عليه ومنه قول عائشة رضي الله عنها: (حتى ضرب الحق بجرانه) أي: ثبت واستقرّ انظر: (القاموس المحيط) : 1/482، (النهاية) لابن الأثير: 1/263، (المعجم الوسيط) : 1/119.
(3) انظر: (الرسالة الخالدة) للأستاذ عبد الرحمن عزام، ص (156) ، وراجع: (مبادئ القانون الدولي) د محمد حافظ غانم، ص (52) ، (نظام الحكم الإسلامي) ، د محمود حلمي، ص (11 12) ، (نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور) للمودودي، ص (300) ونجد أصلاً لهذا التقسيم وإشارة له في (شرح السير الكبير) : 1/306، و (المبسوط) للسرخسي: 10/84- 86.
(4) أخرجه البخاري في الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات: 9/ 417.
(5) انظر: (زاد المعاد في خير هدي العباد) لابن قيم الجوزية: 3/160 بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.
(6) أخرجه البخاري في الصلاة، باب فضل استقبال القبلة: 1/496.
(7) انظر هذه الأحكام في: (شرح السّير الكبير) : 4/1458-1466،.
(البدائع) : 9/4376-4382، (فتح القدير) : 4/154-155، (تأسيس النظر) لأبي زيد الدبوسي، ص (79 80) وراجع رأي الشافعية في عدم اختلاف الأحكام باختلاف الدارين في (تخريج الفروع على الأصول) للزنجاني، ص (277-278) .
(8) مقال الشيخ أحمد إبراهيم في (مجلة القانون والاقتصاد) السنة الأولى، عدد شعبان 1349هـ، ص 11.
(9) أوصت الدول النصرانية والمستشارون النصارى واليهود وأعوانهم بانتهاج سبيل أوروبا باعتباره الطريق الوحيد للتخلص من مشاكل الحكم والإدارة والقضاء وغيرها في الدولة العثمانية، فصدرت عدة قوانين مستمدة من التقنين الفرنسي وغيره، ومن ذلك (قانون الجنسية) الذي صدر في سنة (1869م) فقد أعطى القانون المذكور المشاعر القومية والعواطف العنصرية دفعة هيأت (لرابطة القومية) لتحل محل (الرابطة الإسلامية) وبذلك خطت الدولة العثمانية خطواتها الواسعة نحو التمزق انظر: (النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار) للشيخ مصطفى بن محمد الورداني، تحقيق د طه جابر العلواني، ص 41-43 من مقدمة المحقق.
(10) انظر: (القانون والعلاقات الدولية في الإسلام) د صبحي محمصاني، ص (85-86) ، وراجع (التشريع الجنائي الإسلامي) عبد القادر عودة: 1/274 وما بعدها.
(11) وهذا ما يفهم من قول الإمام محمد بن الحسن - رحمه الله - حيث يقول: (إذا أسلم رجل من أهل الحرب، فقتله رجل من المسلمين، قبل أن يخرج إلى دار الإسلام، خطأ؛ فعليه الكفارة ولا دية عليه) ويعلل السرخسي ذلك بأن تَقَوّمَ الدم والمال إنما يكون بالإحراز في دار الإسلام؛ فإن الدين دافع في حق من يعتقد انظر: (السّير الكبير) : 1/126، 5/1136 مع شرح السرخسي، (الجامع الصغير) ، ص 257 مع شرحه (النافع الكبير) لأبي الحسنات اللكنوي (طبعة كراتشي بالباكستان) ومذهب محمد هو أيضاً رأي الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو المشهور من مذهب مالك وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة والأوزاعي وقتادة والثوري وأبو ثور وقال الشافعي ومالك وأحمد في رواية أخرى عنه: تجب عليه الدية والكفارة انظر بالتفصيل: (البدائع) 9/4316، 10/4660، (فتح القدير) و (العناية) : 4/355-356، (أحكام القرآن) للجصاص: 2/240-244، (مختصر اختلاف العلماء للطحاوي) ، اختصار الجصاص: 3/476-478، (تفسير القرطبي) : 5/ 324، (الأم) : 6/30، (المغني) : 9/341-342، (الشرح الكبير) : 9/334.
(12) انظر: (شرح السّير الكبير) : 5/2047، 2273 وجاءت هذه العبارة في مواضع أخرى كثيرة.
(13) حديث صحيح أخرجه أبو داود في الجهاد، باب السرية: 6/508 وفي الديات، باب أيُقاد المسلم بالكافر؟ : 6/328-329، 230، والنسائي في القسامة: 8/24، وابن ماجه في الديات: 2/895، وصححه الحاكم في.
(المستدرك) : 2/141، وابن حبان، ص 415، والإمام أحمد: 1/119، وفي مواضع أخرى، وأبو يعلى: 1/197، والبيهقي: 8/29، والبغوي في (شرح السنة) : 10/172 وأخرجه الإمام محمد بن الحسن في (السّير) ، ص 100، وأبو عبيد في (الأموال) ، ص 215، والطحاوي في (مشكل الآثار) : 15/123، وفي (شرح معاني الآثار) : 3/192 وأصل الحديث في الصحيحين عن علي بلفظ: (وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) .
(14) (شرح السّير الكبير) : 1/207 ونقل ابن نجم في (البحر الرائق) : 5/78-79 هذا النصّ عن (الذخيرة) لابن مازة الشهيد البخاري المتوفى سنة (616 هـ) وفي (الفتاوى البزّازية) : 3/308-309 المطبوع بهامش (الفتاوى الهندية) قال البزازي: (امرأة مسلمة سُبِيَتْ بالمشرق، وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر؛ لأن دار الإسلام كمكان واحد) وانظر أيضاً: (البحر الرائق) لابن نجيم: 5/79، (كشف الرمز عن خبايا الكنز) للحموي، الجزء الأول، ورقة (91) مخطوط لديّ.
(15) أخرجه البخاري في الأدب، باب رحمة الناس والبهائم: 10/438، ومسلم في البر والصلة، باب تراحم المسلمين وتعاطفهم وتعاضدهم: 4/1999- 2000.
(16) أخرجه مسلم في الإمارة، باب حكم من فرّق أمر المسلمين: 3/ 1479.
(17) مقتطفات من كتابه -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار واليهود في المدينة، انظر نصّ هذا الكتاب بالتفصيل وتخريج فقراته في (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) د محمد حميد الله، ص 57-64 وانظر بالتفصيل الأدلة على وجوب الجماعة والنهي عن التفرق في (وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق) ، ص 15-86 تأليف جمال أحمد بادي، طبعة دار الوطن بالرياض، 1412هـ.
(18) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة: 4/1961 وانظر: (شرح النووي على صحيح مسلم) :
16/81-88، (فتح الباري شرح صحيح البخاري) لابن حجر: 6/473-474، (المحاضرات المغربيات) للشيخ محمد الفاضل عاشور، ص 181-199.
(19) أصول هذه النبذة عن طبيعة العلاقة بين المسلمين مأخوذة من.
(المبسوط) : 10/25، (شرح السّير الكبير) للسرخسي: 1/21، 24، (السّير) للشيباني، ص 100، (بدائع الصنائع) : 9/4315-4318 ومن المؤلفات الحديثة التي عالجت هذا الجانب انظر بالتفصيل: (النظريات السياسية الإسلامية) د محمد ضياء الدين الريس، ص 203-205، (الرسالة الخالدة) عبد الرحمن عزام، ص 156-160) ، (الشرع الدولي في الإسلام) د نجيب أرمنازي، ص 67، 164، (السياسة الشرعية) لخلاّف، ص 301،.
(مصنفة النظم الإسلامية) د مصطفى وصفي، ص 330-333، واقرأ مناقشة حيال هذا في (العلاقات الدولية في القرآن والسنة) د محمد علي الحسن، ص 400-406، (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية) د محمد خير هيكل: 1/ 345-352، (الهدنة في الحروب وموقف الشريعة الإسلامية منها) د علي محمد الموسى، ص 84-85 رسالة دكتوراه في كلية الشريعة بالأزهر، 1978م.
(20) انظر: (أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية) د حامد سلطان، ص 217.
(21) انظر: (السّير الكبير) مع شرح السرخسي: 5/1699 وما بعدها.
(22) المرجع السابق، وانظر له أيضاً: (القانون الدولي العام وقت السلم) ، ص484-490،
و (مبادئ القانون الدولي العام) د عبد العزيز سرحان، ص 334-345.
(23) (أحكام أهل الذمة) لابن القيم: 2/475-476.
(24) انظر فيما سبق، ص 3، (زاد المعاد) لابن القيم: 3/160.
(25) أخرجه البخاري في الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات: 9/ 417.
(26) انظر: (بدائع الصنائع) : 9/4375، (المصباح المنير) : 1/127،.
(الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي) لابن عبد الهادي: 3/744، (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: 7/397 نقلاً عن (الاستعانة بغير المسلمين) د عبد الله الطريقي، ص 132.
(27) انظر: (شرح السّير الكبير) : 5/1700، (المبسوط) : 10/92،.
(البدائع) : 9/4311، (الأم) : 3/201، (شرح السنة) للبغوي: 11/77،.
(المغني) : 10/612، (كشاف القناع) : 3/100، (اختلاف الفقهاء) للطبري، ص 33، (التشريع الجنائي الإسلامي) : 1/277، (السيل الجرار) للشوكاني: 4/ 576، (النظم الإسلامية) د إبراهيم العدوي، ص 306، (مبادئ القانون الدولي العام) د محمد حافظ غانم، ص 55.
(28) (البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار) لأحمد بن يحيى بن المرتضى: 6/407.
(29) التزام أحكام الإسلام هو قبول ما يحكم به عليهم من أداء الحقوق وترك المحرمات وضمان المتلفات ونحو ذلك انظر: (بدائع الصنائع) للكاساني: 9/ 4330، (كشاف القناع) : 3/108، (مطالب أولي النهى) : 2/591.(127/8)
دراسات في العقيدة والشريعة
منهجية في تقرير التوحيد
عثمان على حسن
الإقرار بوجود الخالق أمر فطري، تشهد له الفطرة السليمة والعقل الصحيح
الصريح، ولا يستطيع أحد إنكاره على سبيل الجزم واليقين، وإنما قد يغالط فيه
على سبيل العناد والمكابرة، كما قال تعالى في فرعون وقومه: [وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواً] [النمل: 14] .
وذلك أن الكون بأشيائه وأحيائه يشهد بهذه الحقيقة وينطق بها، بل وجود هذا
المُنكِر شاهد بوجود الخالق سبحانه كما قال تعالى: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الخَالِقُونَ] [الطور: 35] ، فالمنكِر إما أن يستدل على دعواه بأنه خُلِقَ من غير
خالق، أو أنه قد أوجد نفسه وخلقها، وكلاهما أمر في غاية البطلان عقلاً وحسّاً؛
لأن وجوده يدل على أنه وُجِدَ بعد أن لم يكن، وخروجه من العدم إلى الوجود
يتوقف على خالق مُوجِد يكون وراء هذه الحقيقة؛ هذا أمر لا يقوى إنسان على
إنكاره إلا على سبيل العناد، والاحتمال الثاني: أن يكون هو الذي أوجد نفسه،
وهذا ظاهر البطلان؛ لأنه يستلزم أن يكون الشيء خالقاً ومخلوقاً في الوقت نفسه؛
فهو حتى يوجد نفسه ويخلقها ينبغي له أن يكون موجوداً، وحتى يكون كذلك فلا بد
له من موجد، وهذا يستلزم الدور [1] وهو باطل.
فتبين عقلاً وحسّاً أن الكون لا بد له من خالق، وهذا من الأمور الضرورية
الفطرية التي توجد في نفس كل إنسان وعقله؛ بل حتى الطفل الصغير قبل سن
تمييزه: إذا ضُرِبَ من خلفه التفت باحثاً عن ضاربه؛ لعلمه أن هذه الضربة لا بد
لها من ضارب فاعل.
فإذا تبين ذلك وظهر بأدلته الفطرية والعقلية والحسية، بقي أن نعرف أن
الخالق لا بد أن يكون واحداً في ذاته؛ إذ إن دقة الصنع، وانتظام أمر الخلق
والكون في أموره الكلية والجزئية الدقيقة ينطق بهذه الحقيقة الكبرى؛ لأن تعدد
الخالقين باعث على التناقض والاضطراب والتنازع كما قال تعالى: [مَا اتَّخَذَ اللَّهُ
مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ]
[المؤمنون: 91] .
فبعد أن عرفنا وجود الخالق ووحدانيته في ذاته، بقي أن نعرف أن الخالق لا
بد أن يتصف بصفات يُعرف بها، وتميّزه عن خلقه، وهي في حقه على جهة
الكمال، بحيث لا يشترك مع خلقه في شيء من هذه الصفات.
وهذه الصفات الإلهية تجعل الإنسان صاحب تصوّر صحيح ودقيق عن
الخالق، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة، وأن أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه، ولهذا ينبغي التقيد بما وصف الرب به نفسه من الصفات، وسمى نفسه من الأسماء، فإذا تم ذلك كان الإنسان صاحب معرفة صحيحة ودقيقة بالخالق؛ وعليه كانت معاملته للخالق على الوجه الصحيح المطلوب.
وصفات الخالق تؤكد على معاني العظمة والكبرياء؛ فهو الخالق لا خالق سواه، وهو رب العالم كله: علوه وسفله، وهو الحي الدائم الباقي، على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو المحيي المميت، المعز
المذل، الرافع الخافض، القابض الباسط.
ومن صفاته أنه يحب ويبغض، ويرضى ويغضب: يحب الخير والعدل،
ويرضى عن أهلهما، ويبغض الشر والظلم، ويغضب على أهلهما.
فإذا تبين ذلك وعرفنا ربنا الذي أوجدنا من العدم، ودبّر أمرنا كله، وقدّره
على أحسن التقدير: وجب شكره على هذه النعم؛ وشكرُ المحسن أمر مستقر في
بداهة العقول، ومحبّبٌ إلى الفطر السليمة، وشكرُ الخالق إنما يكون باتباع أوامره،
وطاعة أحكامه، التي فيها انتظام الحياة الاجتماعية، وتصحيح الحياة الأخلاقية،
بعد أن ضمن الرب انتظام الحياة الكونية، فيكون الكون كله بأحيائه وأشيائه مطيعاً
للرب الخالق.
ولما لم يكن في وسع الناس مخاطبة الرب في الحياة الدنيا أرسل لهم من
أنفسهم رسلاً في كل زمان ومكان، يعرِّفون الناس بربهم، وبما يحبه ويرضاه من
الأعمال والأقوال والأخلاق، وهو دين الله وشرعه، ولهذا كانت الرسل هي مصدر
المعرفة بالرب وشرعه ودينه.
__________
(1) الدور: هو توالي عروض العلّية والمعلولية لا إلى نهاية، أو هو توقف الشيء على ما توقف عليه.(127/18)
دراسات في الشريعة والعقيدة
التفسير بالرأي
مفهومه.. حكمه.. أنواعه
(2من2)
مساعد الطيار
تناول الكاتب في الحلقة الماضية إيضاح مفهوم الرأي، وأنواعه، وموقف
السلف منه، حيث تراوح هذا الموقف بين ذمه وإعماله، ثم أوضح العلوم التي
يدخلها الرأي، وحكم القول بالرأي، الذي شمل: الرأي المذموم والرأي المحمود..
وأخيراً عرض الكاتب: الرأي في التفسير، فتناول فيه: موقف السلف منه،
وأنواع الرأي في التفسير، ويستكمل بيان هذه النقطة ونقاط أخرى في هذه الحلقة. ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
شروط الرأي المحمود في التفسير:
متى يكون الرأي محموداً؟
سبق في بيان حدِّ الرأي المحمود أنه ما كان قولاً مستنداً إلى علمٍ؛ فإن كان
كذلك فهو رأيٌ جائز، وما خرج عن ذلك فهو مذموم.
ولكن.. هل لهذا العلم حدّ يُعْرَفُ به، بحيث يمكن تمييزه والتعويل عليه في
الحكم على أيِّ رأيٍ في التفسير؟
لقد اجتهد بعض المتأخرين في بيان جملة العلوم التي يحتاجها من يفسر برأيه
حتى يخرج عن كونه رأياً مذموماً.
فالراغب الأصفهاني (ت: القرن الخامس) جعلها عشرة علوم، وهي: علم
اللغة، والاشتقاق، والنحو، والقراءات، والسّيَر، والحديث، وأصول الفقه،
وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة [1] .
وجعلها شمس الدين الأصفهاني (ت: 749) خمسة عشر علماً، وهي: علم
اللغة، والاشتقاق، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع،
والقراءات، وأسباب النزول، والآثار والأخبار، والسنن، وأصول الفقه، والفقه
والأخلاق، والنظر والكلام، والموهبة [2] .
وقد ذكر الأصفهانيان أن من تكاملت فيه هذه العلوم خرج عن كونه مفسراً
للقرآن برأيه (أي: المذموم) .
وقد نبّه الراغب على أن (من نقص عن بعض ما ليس بواجبٍ معرفته في
تفسير القرآن، وأحسّ من نفسه في ذلك بنقصه، واستعان بأربابه، واقتبس منهم،
واستضاء بأقوالهم، لم يكن - إن شاء الله - من المفسرين برأيهم) [3] .
(أي: المذموم) .
وفيما يظهر - والله أعلم - أن في ذكر هذه العلوم تكثّّراً لا دليل عليه، مع ما
على بعضها من ملاحظة؛ كعلم الكلام.
إن تكامل هذه العلوم أشبه بأن يكون شرطاً في المجتهد المطلق لا في المفسر؛
إذ متى يبلغ مفسر تكامل هذه العلوم فيه؟
ولو طُبق هذا الرأي في العلوم المذكورة لخرج كثير من المفسرين من زمرة
العالمين بالتفسير، ولذا تحرّز الراغب بذكر حال من نقص علمه ببعض هذه العلوم، وبهذا يكون ما ذكره بياناً لكمال الأدوات التي يحسن بالمفسر أن يتقنها، وإن لم
يحصل له ذلك فإنه يعمد إلى النقل فيما لا يتفق له.
ويظهر أن أغلب المفسرين على هذا السبيل، ولذا ترى الواحد منهم يُبرِز في
تفسيره العلم الذي له به عناية؛ فإن كان فقيهاً - كالقرطبي، برز عنده تفسير آيات
الأحكام.
وإن كان نحوياً - كأبي حيان - برز عنده علم النحو في تفسيره للقرآن.
وإن كان بلاغياً أديباً - كالزمخشري - برز عنده علم البلاغة في تفسيره
للقرآن، ... وهكذا.
هذا.. ويمكن القول بأن النظر في هذا الموضوع يلزم منه معرفة ما يمكن
إعمال الرأي فيه، مما لا يمكن، ثم تحديد مفهوم التفسير لمعرفة العلوم التي
يحتاجها المفسر برأيه.
أما التفسير فنوعان: ما جهته النقل، وما جهته الاستدلال.
والأول: لا مجال للرأي فيه، والثاني: هو مجال الرأي.
ومن التفسير الذي جهته النقل: أسباب النزول، وقصص الآي، والمغيبات،
ويدخل فيه كلّ ما لا يتطرّق إليه الاحتمال؛ كأن يكون للفظ معنى واحدٌ في لغة
العرب.
وأما التفسير من جهة الاستدلال فكل ما تطرّق إليه الاحتمال؛ لأن توجيه
الخطاب إلى أحد المحتملات دون غيره إنما هو برأيٍ من المفسر، وبهذا برز
الاختلاف في التفسير.
وأما مفهوم التفسير؛ فهو بيان المراد من كلام الله سبحانه وما يمكن أن
يحصل به البيان فهو تفسيرٌ.
وبهذا يظهر أن كثيراً من العلوم التي ذكرها الأصفهانيان لا يلزمان في التفسير
إلا بقدر ما يحصل به البيان، وما عدا ذلك فهو توسّع في التفسير، بل قد يكون في
بعض الأحيان به خروجٌ عن معنى التفسير، كما حصل للرازي (ت: 604) في
تفسيره، ولابن عرفه (ت: 803) في إملاءاته في التفسير.
ثم اعلم أن هذه التوسعات إنما حصلت بعد جيل الصحابة والتابعين - في
الغالب - وإنما كان ذلك بظهور أقسام العلوم - من نحوٍ وفقه وتوحيد وغيرها -
وتَشَكّلها؛ مما كان له أكبر الأثر في توسيع دائرة التفسير، حتى صار كل عالمٍ بفنٍّ- إذا شارك في كتابة علم التفسير - يصبغ تفسيره بفنِّه الذي برّز فيه.
ويمكن تقسيم العلوم التي يحتاجها من فسر برأيه إلى نظرين:
الأول: نظرٌ في علوم الآية:
ويكون ذلك بالنظر إلى ما في الآية من علوم؛ كالناسخ والمنسوخ، والمطلق
والمقيد، والخاص والعام، ومفردات اللغة، وأساليبها، وهكذا.
وإنما يقال ذلك؛ لأنه ليس في كل آية ما يلزم منها بحث هذه العلوم؛ إذ قد
توجد في آية، وتتخلّف عن آيات.
* وإذا أمعنت النظر وجدت أن علم اللغة هو من أهم العلوم التي يجب على
المفسر معرفتها، ذلك أنه لا تخلو آية من مبحثٍ لغوي.
ومن الآثار التي وردت عن السلف في بيان أهمية اللغة، ما يلي:
1- عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه
تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء،
وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره) [4] .
2- وروي عن مجاهد (ت: 104) أنه قال: (لا يحل لأحدٍ يؤمن بالله واليوم
الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب) [5] .
3- وعن يحيى بن سليمان قال: سمعت مالك بن أنس (ت: 179) يقول:
(لا أوتى برجلٍ يفسر كتاب الله غير عالم بلغات العرب إلا جعلته نكالاً) [6] .
ولو قرأت في تفسير السلف لوجدت أثر اللغة في التفسير عندهم، ومن
أوضح ذلك استشهادهم بأشعار العرب:
ومن أمثلة أهمية معرفة اللغة لمن فسر برأيه ما يلي:
أ - في تفسير قوله - تعالى: [وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ] [التوبة: 47] قال
الأزهري (ت: 37) : (قول الليث: الوضع: سيرٌ دونٌ. ليس بصحيح.
والوضع: هو العَدْوُ. واعتبر الليث اللفظ ولم يعرف كلام العرب فيه) [7] .
ب - قال الأزهري (ت: 370) : ( ... عن أبي حاتم (ت: 255) في قوله: [فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ] [الأنبياء: 87] أي: لن نضيِّق عليه.
قال - أي: أبو حاتم: ولم يدر الأخفش ما معنى [نَقْدِرَ] ، وذهب إلى
موضع القُدرة، إلى معنى: فظنّ أن يفوتنا، ولم يعلم كلام العرب حتى قال: إن
بعض المفسرين قال: أراد الاستفهام: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟ ولو علم أن معنى
نقدر: نضيِّق، لم يَخْبِط هذا الخبط، ولم يكن عالماً بكلام العرب، وكان عالماً
بقياس النحو) [8] .
* ومن العلوم التي يلزم معرفتها الناسخ والمنسوخ وما شابهه من المباحث؛
كالمطلق والمقيد، والخاص والعام، ومعرفتها لازمة للمفسر بلا شك، ومن الآثار
التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: (انتهى
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رجل يقصّ [9] ، فقال: أعلمتَ
الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكتَ وأهلكتَ) [10] .
وقد استدل مَنْ كتب في علم الناسخ والمنسوخ في القرآن بهذا الأثر لبيان
أهمية هذا العلم. وإذا كان علي رضي الله عنه قد اعترض على القاصِّ؛ فالمفسر
من باب أوْلى ينبغي أن ينبّه إلى ذلك، لما في جهل هذا العلم من أثر في عدم فهم
التفسير.
* ومن العلوم سبب النزول وقصص الآي؛ ذلك أن معرفة سبب النزول
وقصص الآي يفيد في معرفة تفسير الآية.
ومن الأمثلة التي تدل على أهمية معرفة هذا الجانب، وأن عدم معرفته يوقع
في الخطأ، ما وقع لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت: 210) في تفسير قوله تعالى: [وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] [الأنفال: 11] حيث قال: (مجازه:
يفرغ عليهم الصبر، وينزِّلُه عليهم، فيثبتون لعدوهم) [11] .
وسبب النزول يدلّ على خطأ أبي عبيدة في تفسيره هذا، فلما لم يعرف
السبب نحى في تفسيره هذا المنحى اللغوي الذي لا تدلّ عليه الآية بسببها.
والتثبيت المذكور في الآية حقيقي، وهو أن أقدام المسلمين لا تسوخ في
الرمل لما نزل عليه المطر، وبهذا جاء التفسير عن الصحابة الذين شاهدوا النزول، وعن التابعين الذين نقلوا عنهم [12] .
* ومنها معرفة السنة النبوية، ويكون ذلك بالرجوع إلى صريح التفسير عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما يكون بالرجوع إلى أقواله وأفعاله التي لها أكبر
الأثر في فهم القرآن.
ومما يمكن التمثيل به من استعانة المفسر بالسنة النبوية، ما رواه الطبري عن
ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة
عن النبي: إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنى، أدركه ذلك لا محالة، فزنى
العينين النظر ... ) [13] .
ثم إن عدم معرفة السنة التي تفسر القرآن قد تجعل المفسر يجنح إلى مصدر
آخر؛ فيفسر به لعدم ورود هذا التفسير النبوي إليه.
ومما يمكن أن يُمثّل به هنا ما روي عن السلف في تفسير قوله - تعالى: [يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ] [القلم: 42] فقد فسّر جمع من السلف الساق بالمعنى اللغوي، أي: عن أمر شديد [14] ، ومنهم: ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة
وعكرمة [15] .
وقد ورد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (سمعت النبي -صلى
الله عليه وسلم- يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى
من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسُمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً
واحداً) [16] .
وهذا الحديث يفسِّرُ الساق الذي جاء في الآية نكرةً لم يُضَفْ، ويبيِّن أن
المراد بالساق ساق ربنا عزّ وجلّ.
ولو لم يَرِدْ هذا الحديثُ لاعتُمِدَ قول ابن عباس وتلاميذه في تفسير الساق،
والله أعلم.
وبعد.. فهذه بعض العلوم التي إن جهل المفسر بها فإنه يقع في التأويل الخطأ، ولا يحالفه الصواب في معنى الآية [17] .
الثاني: نَظَرٌ في طبقة المفسر:
المفسرون الذين يجب الرجوع إلى أقوالهم، والأخذ بها، وعدم الخروج عنها
هم الصحابة والتابعون وأتباعهم. فما جاء عنهم فإنه لازم لمن بعدهم من حيث
الجملة ولا يجوز مخالفتهم.
وكان عدم الاعتماد على تفسيرهم من أهم أسباب بروز الرأي المذموم، كما
يشير إليه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) بقوله: (وأما النوع الثاني من سببي
الخلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حَدَثَتا
بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يُذكر فيها كلام
هؤلاء صرفاً لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من هاتين الجهتين) [18] .
ولما كان لهؤلاء السلف من تقدّمٍ في العلم شهد لهم به كل من جاء بعدهم من
العلماء؛ فإن الاعتماد على أقوالهم مدعاة للخروج عن الرأي المذموم، ولذا جعل
ابن جرير من شروط المفسر أن لا يكون تأويله وتفسيره خارجاً عن أقوال السلف
من الصحابة والأئمة والخلف من التابعين وعلماء الأمة [19] . ويجب التنبه إلى أن
كل من رجع إلى أقوالهم وتخيّر منها، فإنه قائل بالرأي؛ لأن تخيره معتمد على
عقله كما فصل ابن جرير الطبري في تفسيره.
النوع الثاني: الرأي المذموم وصوره في التفسير:
الرأي المذموم في التفسير هو القول في القرآن بغير علم، سواءً أكان عن
جهلٍ أو قصورٍ في العلم أم كان عن هوى يدفع صاحبه إلى مخالفة الحق، وقد سبق
بيان ذلك مع أدلة النهي عنه.
ومن صور الرأي المذموم ما يلي:
1- تفسير ما لا يعلمه إلا الله:
وهو أحد أوجه التفسير التي أوردها ابن عباس، ويشتمل على أمرين:
أحدهما: تكييف المغيبات التي استأثر الله بعلمها؛ كتكييف صفاته سبحانه،
أو غيرها من المغيبات.
ثانيها: تحديد زمن المغيبات التي ورد ذِكْرُ خروجها؛ كزمن خروج الدابة،
أو نزول عيسى، أو غير ذلك.
فهذه الأشياء لا سبيل للبشر إلى معرفتها؛ فمن زعم أنه قادرٌ على ذلك فقد
أعظم الفرية على الله.
2- من ناقض التفسير المنقول أو أعرض عنه:
يشمل التفسير المنقول: كل ما نُقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو
أصحابه أو التابعين وأتباعهم، فمن أقدم على التفسير دون الرجوع إلى التفسير
المنقول فإنه سيقع في الرأي المذموم؛ لأن جُزءاً من التفسير لا يمكن معرفته إلا
عن طريق النقل عنهم؛ كأسباب النزول، وقصص الآي، وناسخها ... وغيرها.
3- من فسر بمجرد اللغة دون النظر في المصادر الأخرى:
إن التسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع
والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وغيرها؛ مُوقِعٌ في الخطأ، فمن لم يُحكّم ظاهر
التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة
من قال برأيه المذموم [20] .
واعتماد اللغة فقط دون غيرها من المصادر، هو أحد أسباب الخطأ الذي يقع
في التفسير، كما حكى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [21] .
4- أن يكون له رأي فيتأول القرآن على وفق رأيه [22] :
ويكثر هذا عند أهل الأهواء والبدع، حيث أنهم يعتقدون الرأي، ثم يبحثون
عن دليله، وقد يحرّفون الكلم عن مواضعه ليوافق آراءهم، ولو لم يكن لهؤلاء هذا
الاعتقاد والرأي لما فسر القرآن بهذه التفسيرات المنحرفة.
ويقع خطأ أولئك على أقسام:
الأول: الخطأ في الدليل والمدلول: وذلك أن المفسر يستدل لرأيه بدليل،
ويكون رأيه الذي استدل له باطلٌ فيستلزم بطلان دلالة الدليل على المستدل له.
ومثال ذلك أن المعتزلة اعتقدوا أن الله سبحانه لا يُرى في الآخرة، وهذا
باطل، ثم استدلوا لهذا بقوله تعالى: [لَن تَرَانِي] [الأعراف: 143] فجعلوا [لَن] لتأبيد النفي، وهذا غير صحيح في هذا الموضع.
ومثاله كذلك استدلال بعض المتصوفة على جواز الرقص وهو حرام بقوله
تعالى: [ارْكُضْ بِرِجْلِكَ] [ص: 42] [23] .
فالرّقص حرام، والآية لا تدل عليه لا من قريب ولا من بعيد.
الثاني: الخطأ في الاستدلال لا في المدلول: وفي هذا يكون المدلول بذاته
صحيحاً، ولكن حَمْل الآية عليه لا يصح.
ومثاله ما فسر به بعضهم قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ] [البقرة: 249] .
حيث قال: (هذه الآية مَثَلٌ ضربه الله للدنيا، فشبهها الله بالنهر، والشارب
منه بالمائل إليها المستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها،
والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله
مختلفة) [24] .
فهذا الكلام من حيث هو في ذاته مجرداً عن الآية كلام صحيح، ولكنّ جَعْلَهُ
تفسيراً للآية خطأٌ ظاهرٌ، ولذا قال القرطبي (ت: 671) معلقاً على هذا القول:
(ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل، والخروج عن الظاهر، ولكن
معناه صحيح من غير هذا) [25] .
وبعد.. فهذه بعض صور التفسير بالرأي المذموم. والله أعلم.
التفسير بين الأثر والرأي:
لقد ظهر من خلال الأمثلة الدالة على جواز الرأي أن الرأي قد برز في عصر
الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان قليلاً، ثم اتسع وانتشر أكثر في عهد
الصحابة ومَنْ بعدهم.
كما ظهر أن مِن الصحابة والتابعين وأتباعهم مَنْ فسروا القرآن برأيهم، فهل
نُسمِّي ما ورد عنهم تفسيراً بالمأثور، وما ورد عن غيرهم تفسيراً بالرأي؟
إن تقسيم التفسير على هذا النحو فيه قصورٌ ظاهرٌ [26] ، وذلك لأمرين:
الأول: أن أغلب من قسّم هذا التقسيم جعل حكم المأثور وجوب الأخذ به على
إطلاقه، مع أن بعضهم يحكي خلاف العلماء في قبول أقوال التابعين، كما ينسى
حكم ما اختلفوا فيه: كيف يجب الأخذ به مع وجود الاختلاف بينهم؟
الثاني: أن في ذلك تناسياً للجهد التفسيري الذي قام به السلف، وتجاهلاً
لرأيهم في التفسير الذي يُعَدّون أول من بذره وأنتجه.
إن هؤلاء السلف قالوا في القرآن بآرائهم، كما قال المتأخرون بآرائهم، ولكن
شتان بين الرأيين؛ فرأي السلف هو المقدّم بلا إشكال.
إن المقابلة بين التفسير بالمأثور (على أنه تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة،
ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين) والتفسير بالرأي (على أنه ما عدا ذلك)
خطأ محضٌ لا دليل عليه من قول السلف أو من العقل.
إن تسمية تفسير السلف تفسيراً بالمأثور باعتبار أن طريق الوصول إليه هو
الأثر تسميةٌ لا غبار عليها، وهو بهذا لا يقابل التفسير بالرأي، بل التفسير بالرأي
ممتزج فيه؛ لأن من تفسيرهم ما هو نقلٌ لا يصح تركه أو إنكاره؛ كأسباب النزول، ومنه ما هو استدلال وقولٌ بالرأي، وكلا هذين عنهما؛ إنما طريقنا إليه هو الأثر.
كتب التفسير بين الرأي والأثر:
بناءً على ما وقع من مقابلة التفسير المأثور بالتفسير بالرأي، وقع تقسيم
التفاسير إلى تفاسير بالمأثور وتفاسير بالرأي، وقد نشأ بسبب ذلك قصورٌ آخر،
وذلك في أمرين:
الأول: أنه قَلّ أن تترك التفاسير المعتبرة أقوال السلف، بل تحرص على
حكايتها، ومع ذلك تجد أن بعض هذه التفاسير حُكِمَ عليه بأنه من التفسير بالمأثور
والآخر من التفسير بالرأي [27] .
والصواب أن يقال: إن المفسر الفلاني مكثر من الرواية عن السلف مكثر من
الاعتماد على أقوالهم، والآخر مقلّ من الرواية عنهم أو الاعتماد عليهم.
الثاني: أن من حُكِمَ على تفسيره بأنه من التفسير بالمأثور قد حِيفَ عليه
وتُنُوسي جهده الخاص في الموازنة والترجيح بين الأقوال التي يذكرها عن السلف،
وأشهر مثالٍ لذلك إمام المفسرين ابن جرير الطبري، حيث يعدّه من يقابل بين
التفاسير بالمأثور والتفسير بالرأي من المفسرين بالأثر، وهذا فيه حكم قاصرٌ على
تفسير الإمام ابن جرير، وتعامٍ أو تجاهلٌ لأقواله الترجيحية المنثورة في كتابه.
هل التفسير منسوب إليه أم إلى من يذكرهم من المفسرين؟ !
فإذا كان تفسيره هو؛ فأين أقواله وترجيحاته في التفسير؟ !
أليست رأياً له؟
أليست تملأ ثنايا كتابه الكبير؟ !
بل أليست من أعظم ما يميّز تفسيره بعد نقولاته عن السلف؟ !
إن تفسير ابن جرير من أكبر كتب التفسير بالرأي، غير أنه رأي محمود؛
لاعتماده على تفسير السلف وعدم خروجه عن أقوالهم، مع اعتماده على المصادر
الأخرى في التفسير.
كما أن تفسيره من أكبر مصادر التفسير المأثور عن السلف، وفَرْقٌ بين أن
نقول: فيه تفسير مأثور، أو أن نقول: هو تفسير بالمأثور؛ لأن هذه العبارة تدل
على أنه لا يذكر غير المأثور عن السلف، وتفسير ابن جرير بخلاف ذلك؛ إذ هو
مع ذكر أقوالهم يرجِّح ويعلِّل لترجيحه، ويعتمد على مصادر التفسير في الترجيح.
ولكي يَبِين لك الفرق في هذه المسألة: وازن بين تفسيره وتفسير عَصْرِيّهِ ابنِ
أبي حاتم (ت: 327) الذي لا يزيد على ذكر أقوال السلف، وإن اختلفت أقوالهم
فلا يرجح ولا يعلق عليها، أليس بين العالمين فرق؟
وأخيراً.. هذه بعض قضايا في التفسير بالرأي، والموضوع يحتاج إلى بحث
أعمق وأطول، والله الموفق.
__________
(1) انظر: مقدمة جامع التفاسير، 93-97.
(2) انظر: حاشية 7، ص 148، من كتاب التيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي، وقد استفاد شمس الدين من الراغب؛ كما يظهر بالموازنة بين قوليهما، وقد نقل عن شمس الدين كلّ من: الكافيجي في التيسير 145-148، والسيوطي في الإتقان، 4/185.
(3) انظر: مقدمة جامع التفاسير للراغب (تحقيق: أحمد فرحات) 96، وعنه نقل الكافيجي في التيسير، 148.
(4) تفسير الطبري (ط: شاكر) ، 1/75.
(5) انظر: البرهان للزركشي، 1/92.
(6) ذم الكلام للهروي (تحقيق: سميح دغيم) ، وشعب الإيمان للبيهقي، 5/232.
(7) تهذيب اللغة، 3/73.
(8) تهذيب اللغة للأزهري، 9/20.
(9) القُصّاص: قوم جلسوا للوعظ والتذكير، وهم يذكرون آياتٍ وأحاديث يستشهدون بها في أحاديثهم مع الناس.
(10) الناسخ والمنسوخ للنحاس (تحقيق: اللاحم) 1/410، ومما ينبغي التنبّه له أن النسخ عند السلف أوسع من اصطلاح الأصوليين؛ حيث يشمل كل إزالة تكون في الآية.
(11) مجاز القرآن 1/242.
(12) انظر: تفسير الطبري، (ط: الحلبي) ، 9/195 197.
(13) تفسير الطبري (ط: الحلبي) 27/65 66 عند تفسير قوله تعالى: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ] [النجم: 32] .
(14) انظر: الطبري (ط: الحلبي) 29/38، حيث ترجم عن من قال بهذا القول بهذه الترجمة.
(15) انظر: تفسير الطبري (ط: الحلبي) 29/38 وما بعدها.
(16) رواه البخاري تحت تفسير قوله تعالى: [يوم يكشف عن ساق] .
(فتح الباري 8/531) .
(17) هذا الموضوع يحتاج إلى بسطٍ أكبر، وما ذكرته فهو إشارة لا تُغني عن البحث فيه.
(18) مقدمة في أصول التفسير (تحقيق: عدنان زرزور) 79.
(19) انظر: تفسير الطبري (ط: شاكر) 1/93.
(20) انظر: تفسير القرطبي 1/34 (بتصرف) .
(21) انظر: مقدمة في أصول التفسير، (تحقيق: عدنان زرزور) ، ص 81.
(22) انظر: تفسير القرطبي 1/33، ومقدمة في أصول التفسير، ص 81 وما بعدها.
(23) انظر: تفسير القرطبي، 15/215.
(24) تفسير القرطبي، 3/251.
(25) تفسير القرطبي، 3/251.
(26) قد فصلت القول في مصطلح التفسير بالمأثور، انظر مجلة البيان عدد 76.
(27) انظر على سبيل المثال محمد حسين الذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون) وتقسيمه التفاسير بين المأثور والرأي من غير أن يورد ضابطاً يمكن التعويل عليه في هذا التقسيم، وقد قلّده آخرون في هذا من غير استدراك ولا تعقيب.(127/20)
دراسات تربوية
الشباب المراهق في الإسلام
(1من2)
محمد حامد الناصر
المراهقة هي مرحلة الشباب المتدفق، مرحلة عنفوان شباب المستقبل، وهي
مرحلة التطورات السريعة، تطرأ على كيان المراهق كله جسمياً ونفسياً وجنسياً..
وما المراهقة إلا مرحلة من مراحل العمر المختلفة، لها خصائصها ومميزاتها
ومشكلاتها، شأن كل مرحلة كالطفولة أو الكهولة؛ ولذلك لا بد من التعامل مع هذه
المرحلة على أسس علمية مدروسة، بعيداً عن التخبط والارتجال؛ ذلك أن الشباب
أمل الأمة، ومعقد آمالها، هم وقود الحرب والجهاد، وعماد السلم والبناء إذا أحسنّا
إعدادهم منذ وقت مبكر من العمر. ولكن أيّ شباب نريد؟ !
نريد شباباً تقياً ورعاً مجاهداً، يعتز بهويته وانتمائه إلى دينه، وتراث أمته،
وأن يكون معتزاً بأبطال الإسلام، وأعلامه العظام على مر العصور.
نريد شباباً قدوته فتيان الرعيل الأول الذين نشروا هذا الدين، وكانوا نجوماً
مضيئة في دياجير الظلام.
نريدهم كما وصفهم الشاعر بقوله:
شبابٌ ذللوا سبل المعالي ... وما عرفوا سوى الإسلام دينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة ... يدكون المعاقل والحصونا
وإن جن الظلام فلا تراهم ... من الإشفاق إلا ساجدينا
نريد لشبابنا أن يتجهوا صوب المعالي، وأن يسلكوا سبل الرشاد وأن يديروا
ظهورهم لهذا السيل الغازي من أفكار الحضارة الوافدة..
معنى المراهقة: فما المقصود بالمراهقة؟ وما أبرز خصائصها؟ وكيف
نتعامل مع الشباب المراهق؟
الحقيقة أن هنالك رأيين مختلفين، ونظريتين متباعدتين:
1- معنى شائع عند علماء الغرب تأثر به بعض كتاب العرب.
2- ومعنى علمي يقول به المشتغلون بعلم النفس من المسلمين ومن المعتدلين
الغربيين.
الرأي الأول: يقول به علماء غربيون يرى أن المراهقة فترة من القلق
والاضطراب، والصراع، يمتد من قُبَيْلِ البلوغ وحتى العشرين من العمر، ويرون
أنها فترة حتمية يمر بها كل إنسان، وأنها عاصفة تهز كيان المراهق كله.
وأول من قال بذلك: (ستانللي هول) إذ يرى أن المراهقة هي مرحلة
عواصف وتوتر وشدة، تكتنفها أزمات نفسية، وتسودها المعاناة والإحباط، والقلق
والمشكلات.
ويشبه بعضهم حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم، تتخلله أضواء ساطعة
تخطف البصر أكثر مما تضيء الطريق، فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه
عند النضج [1] .
إن هذا المفهوم للمراهقة، مأخوذ من دراسات غربية أجريت على مجتمعات
أوروبا وأمريكا، ثم عممت نتائجها على الآخرين، وكأن المجتمع الغربي عيّنة
صحيحة تمثل الإنسان السوي.
ويرى هؤلاء المربون، أنه لا بد من التغاضي عن هفوات المراهقين؛ ريثما
يجتازون هذه المرحلة؛ لأن المراهق عندهم مريض، ولا حرج على المريض.
وعلى ذلك فإن الشاب هنالك لا يحاسب قانونياً خلال هذه المرحلة، أي حتى
يبلغ سن العشرين، أو الثامنة عشرة على أبعد تقدير.
ويدحض هذا الرأي ما أثبته علم النفس لدى العلماء المسلمين، وحتى
المعتدلين من الغربيين أنفسهم.
بل يدحضه سن التكليف الشرعي عند المسلمين وهو سن البلوغ.
ويسفّه ذلك الرأيَ أيضاً ما قام به فتيان الدعوة الإسلامية من جهاد وبطولات
وتضحيات، فلم يحسوا بمعاناة وتوتر كما يزعم علماء الغرب.
وقد جاء في الحديث الشريف: (رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب
على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم) [2] .
وإن الفتى إذا استكمل خمس عشرة سنة يصبح مكلفاً، وإن لم يحتلم، فتجري
عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيرها.
روى نافع عن ابن عمر قوله: (عرضني رسول الله لله يوم أحد في القتال
وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة
سنة فأجازني) [3] .
فهذا هو السن الذي يجعل صاحبه من المقاتلين، ويجري عليه حكم الرجال
في أحكام القتال وغيرها.
الرأي الثاني: وهو المعنى العلمي عند المشتغلين بعلم النفس من علماء
المسلمين، فيعني أن المراهقة، هي فترة تغيرات شاملة وسريعة، في نواحي
النفس والجسد، والعقل والروح لدى الشاب المراهق، وهي فترة نمو سريع في
هذه الجوانب كلها، حتى قيل: (إن المراهقة فترة انقلاب كامل) [4] .
إنها مجموعة من التغيرات التي تحدث في نمو الفرد الجسمي والعقلي والنفسي
والاجتماعي.. وفيها يحدث كثير من التغيرات التي تطرأ على وظائف الغدد
الجنسية، والعقلية، والجسمية.
إنها ولادة جديدة لشخصية المراهق، حيث تظهر وظائف جديدة، بطريقة
فجائية فتسيطر على سلوك الشاب.
فالمراهقة تعتبر مرحلة انتقال من الطفولة إلى الرشد، وذلك يعني أن القلق
والاضطراب ليسا حتميين.
(والنمو الجنسي في المراهقة، قد لا يؤدي بالضرورة إلى أزمات، ولكن
النظم الاجتماعية الحديثة، هي المسؤولة عن أزمة المراهقة) كطول فترة التعليم،
وتأخير الزواج ... إلخ) [5] .
ولذلك فإن الأحكام الشرعية لا تعترف بفترة انتقالية بين الطفولة والرشد، كما
يسن في القوانين الوضعية التي لا تعتبر الإنسان رجلاً يطبق عليه القانون قبل
الثامنة عشرة من عمره.
ولا يجوز أبداً تسويغ الانحراف، والتغاضي عن إهمال التكاليف، وإنما تعني
أن فترة المراهقة مرحلة من العمر لها خصائصها التي تميزها جسمياً وجنسياً
وانفعالياً، شأنها شأن كل مرحلة من مراحل العمر [6] .
كيف نتعامل مع الشباب المراهق:
للمراهقة سماتها ومطالبها، وإذا لم تُلَبّ هذه المطالب، فقد يقع المراهق في
اضطرابات مؤلمة، أو يلجأ إلى وسائل غير سوية.
ولذلك فواجب المربي الحكيم أباً كان أو أماً أو مدرساً أن يتفهم حاجات
المراهق، ويوجهه نحو أفضل الوسائل لتلبية هذه الحاجات.
علينا أن نزوده بخبرات ملائمة، ليتخلص من التردد، ويبتعد عن المكابرة
والعناد، ويتعود على احترام رأي الآخرين.
ولعل أبرز مهمات المربي تتلخص فيما يأتي:
1- تربية انفعالات المراهق وترويضها.
2- مراعاة حاجاته الأساسية.
3- معالجة أبرز مشكلاته.
إن مهمة المربي تتمثل في تهذيب انفعالات المراهق، فلا تتركه في حيرة من
أمره، بل نشيع في نفسه الطمأنينة، وحب الآخرين وتجاوز مصلحة الذات،
نوجهه نحو حقيقة أن الناس في الإسلام يلتقون على العقيدة في الله، فلا تكون
ذواتهم بارزة، ولا متحفزة لاقتناص المصلحة من الآخرين، وإنما يكون الجانب
البارز هو الحب في الله، والمؤمن يتعامل تعاملاً سوياً مع الآخرين ويستطيع
التلاحم معهم في يسر [7] .
إن حب الذات من أقوى انفعالات هذه المرحلة، ولذلك تأتي أهمية التوجيه
المنظم من الأسرة والمدرسة، حتى يتمكن الشاب من حسن التكيف مع بيئته، وإذا
تهيأ المربي الصالح الذي يساعده على الفهم الصحيح لذاته بأسلوب تربوي لا يشعر
معه بالتدخل المباشر في شؤونه الخاصة، فإن ذلك سيساعده على تخطي هذه
المرحلة في أمان كما يجتنب مخاطرها النفسية كالقلق واليأس أو الحب المفرط
للذات، والغرور والكبر [8] .
كما أن على المربي أن يراعي حاجات المراهق الأساسية:
ومن أبرز هذه الحاجات.. الحاجة إلى الاستقلال، فهو يبحث عن فطامه عن
الإشراف الأسري، وأن يصبج موجهاً لذاته.
ومن ذلك حاجته إلى احترام الآخرين، وإشعاره بمكانته؛ فهو يريد أن يكون
هامّاً، وله موقعه وسط الجماعة. وقد ربى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أصحابه على ذلك وتعامل مع صغار أصحابه بهذه الروح، كان يجتمع مع أصحابه
سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة، وجمع
الأسرى من بني قريظة في دار أسامة بن زيد، وكان أسامة آنذاك فتى صغيراً [9] .
ومن حاجات المراهق الأساسية أنه يهتم بالبحث عن الحق والدين، والمثل
العليا، فلا بد أن يراعي المربي في توجيهاته هذه الناحية، كما أن من حاجاته
الأساسية حاجته الجنسية، التي تظهر بقوة خلال هذه الفترة، وتحصين الشباب
بالدين ووازع التقوى من غض البصر والبعد عن المثيرات هو خير علاج؛ إذ
يسمو المراهق بغرائزه وانفعالاته ويضبطها بضوابط الشرع.
ينبغي على المدرسين والآباء، ألا يفرطوا في بسط حمايتهم على المراهقين
وألا يلجأوا إلى التعنيف على التافه من المخالفات، بل ينبغي أن يمدح التلميذ أمام
زملائه، وقد أظهرت الدراسات الميدانية أن المدح أفضل من الذم في دفع الطلاب
إلى التعلم [10] .
ومن أبرز الطرق النافعة لإشباع الحاجة النفسية لدى المراهق:
تشجيعه على أن يعبر عن حاجاته وألا يعمد إلى تخبئتها.
صرف الطاقة النفسية في وجهات اجتماعية مرغوبة: كأن يشجعه لجلسات
حفظ القرآن في المساجد، وخروجه مع مجموعات المراكز الصيفية المأمونة في
المدارس والجامعات، على أن يكون الموجهون فيها من ذوي الخلق والدين.
تدريب المراهق على قمع بعض الرغبات، دون تخويفه ولا العطف الزائد
عليه حتى لا يتحول العطف إلى تدليل.. وإشغاله بهوايات فنية يتقنها، على أن
تكون مباحة [11] .
نعلّمه أن الحياة ليست كلها مباهج ومسرات، وعليه أن يتعود الصبر
واحتمال المكاره، فيحس بقيمته ويرتقي بمركزه الاجتماعي.. ونربيه على تحمل
شظف العيش فلا نترفه في تلبية طلباته جميعاً، حسنها وسيئها، فينشأ وقد عرف
الجهد والعمل [12] .
__________
(1) ينظر علم نفس النمو: د حامد زهران، ص 291، والمراهقون: سمير جميل الراضي،
ص 2، وتربية الشباب المسلم للآباء والدعاة: خالد الشنوت، ص 3 12.
(2) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وهو صحيح/ صحيح الجامع الصغير ج1/659.
(3) رواه الإمام مسلم: في كتاب الجهاد والسير.
(4) انظر: منهج التربية الإسلامية: الأستاذ، محمد قطب، 2/196، وسيكيولوجية المراهق المسلم المعاصر، د عبد الرحمن العيسوي، ص 11.
(5) المصدر السابق.
(6) ينظر: السيرة النبوية لابن هشام، ج1/318، 1/485، والإصابة، ج3/648.
(7) منهج التربية الإسلامية: الأستاذ محمد قطب، ج2، ص 40.
(8) تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس، د محمد السيد الزعبلاوي، ص 129.
(9) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، وطبقات ابن سعد، 3/ 244.
(10) سيكيولوجية المراهقة للمربين: بيلزوجونز بإيجاز، ص 21 26.
(11) رعاية المراهقين: يوسف أسعد، ص 125.
(12) للتوسع في موضوع المراهقة: ينظر كتابنا: تربية المراهق في رحاب الإسلام.(127/30)
تأصيلات دعوية
سلوك الحكمة طريق الانتصار
(2من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
بعد ذكر أهمية الحكمة وضح الكاتب في الحلقة الماضية مفهومها، ثم أبان
موانعها وأركانها وأسباب اكتسابها.. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بيان جوانب
أخرى للموضوع. ... ... ...
... ... ... ... - البيان-
مواقف الحكمة:
أ - الحكمة في القرآن:
قصّ الله عز وجل علينا في كتابه قصصاً تمثلت فيها جوانب عظيمة من
الحكمة، يظهر بعضها لكل قارئ، ويظهر البعض الآخر بالتأمل العميق، ومن تلك
القصص:
-قصة أصحاب الكهف: وقد تمثلت الحكمة في اهتدائهم إلى دين الله، وترك
تقليد قومهم في الكفر، وفي اعتزالهم لقومهم حين أيقنوا بعدم انتفاعهم بالنصح،
وفي صمودهم على الحق في مواجهة الباطل، وفي عزلتهم الثانية في الكهف وهي
عزلة سرية للتعبد، وفي حنكتهم في قضاء حوائجهم من المدينة.
-قصة سليمان وملكة سبأ: وتظهر الحكمة في عناية سليمان عليه السلام
برعيته، وتفقده لأحوالهم، وعدم تعجّله بالحكم بغياب الهدهد، ولما تيقن غيابه
تهدده بالعقوبة الشديدة إلا إذا أتاه بحجةٍ تبرئه، وتبين سبب غيابه؛ كما تظهر
الحكمة في تثبته من كلام الهدهد، والتأكد من صدقه، ثم في أسلوب رسالته [إنَّهُ
مِن سُلَيْمَانَ وَإنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَاًتُونِي مُسْلِمِينَ]
[النمل: 30، 31] ، ثم تبدو حكمة المرأة في تعاملها مع الرسالة، فتستشير قومها، ولا تغتر بكلامهم وقوّتها، بل ترسل بهدية تكشف لها حقيقة عدوها، ولكن حكمة
سليمان أيضاً تمنعه من الاستدراج، فيستخف بتلك الهدية، وتبدو حكمته في إظهار
القوة في وقتها للحاجة إليها، فيرسل إليها الرسالة الثانية المختلفة تماماً عن الأولى:
[أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ
إلَيْهِمْ فَلَنَاًتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ]
[النمل: 36، 37] وتظهر حكمتها ثانية في استجابتها المباشرة لدعوة سليمان، وهو قرار يعجز عنه الرجال بسبب الهوى والتعصب والتقليد.
أما غاية الحكمة: فاعتراف سليمان بفضل ربه عليه، ومجانبته للعُجب
والغرور، فإنه لما تحقق له نعمة إسلامها قال: [هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ
أَمْ أَكْفُرُ ... ] [النمل: 40] ، فما أحوج الدعاة إلى تأمل هذه القصة طويلاً.
- قصة لقمان وابنه: ومن مظاهر حكمته مما حكاه الله في سورة لقمان:
حسن أسلوبه في مخاطبته لابنه: [يا بني] ليبين أن مبعث الموعظة الشفقة، كما
تظهر في جمعه في وعظه بين الأصول والفروع، والأقوال والأفعال والاعتقاد،
والأمر والنهي، كل ذلك في عبارة قصيرة جميلة، بعيدة عن التكلف؛ فيخرج
الداعية من قصته العظيمة بدروس أهمها: حسن الأسلوب واختيار أحسن الكلمات
للوصول إلى قلب المدعوين، والإيجاز والشمول، والتركيز على الأصول من
التوحيد وغيره، مع عدم الإخلال بالفروع، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مهمة عظيمة، يُخشى على صاحبها من المزالق، ولا خلاص منها إلا
بالصبر، والتواضع، والتزام الوسطية في الأمور كلها.
ب - الحكمة النبوية:
أما رسول الله؛ فقد كانت الحكمة تجري على لسانه كالماء الزلال، وأفعاله -
صلى الله عليه وسلم- كلها هي عين الحكمة، ويكفي ذكر إشارات لبعضها، لتنبئ
عن البعض الآخر، ومن ذلك:
1- حكمته في تعامله مع أصحابه، ومراعاته لأحوالهم، وهذا أشهر من أن
يذكر له أمثلة.
2- إجابته للسائلين بإجابات يظهر أنها مختلفة متعارضة أحياناً بينما هي من
اختلاف التنوع، لمراعاة حال السائلين؛ لاختلاف قدراتهم وإمكاناتهم، ولو أن
الدعاة استطاعوا أن يكلفوا كل إنسان بما يحسنه من فروض الكفايات، ويبتعد عما
لا يستطيع لحققت الأمة اكتفاء ذاتياً في أغلب مجالاتها.
3- موقفه من الشاب الذي جاء يستأذنه بالزنا، فلم يعنفه، بل ناقشه، ثم دعا
له، فانصرف بحال غير التي أتى بها.
4- موقفه يوم الحديبية حين رفض سهيل بن عمرو أن يكتب: (بسم الله
الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) ، وقال للكاتب: اكتب:
(باسمك اللهم، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله) ، فلم يقف النبي -صلى الله
عليه وسلم- عند هذه المسألة ما دام في الصلح خير لمصلحة المسلمين، رغم رفض
المسلمين لذلك.
ولا يعني هذا أن يكون التنازل في كل موقف، كما يتوهمه بعض من غلب
على مواقفهم الانهزاميةُ، ويحتجون بصلح الحديبية، بل هناك أمور وقضايا لا
يُقبل التنازل فيها أبداً؛ فقد رفض -صلى الله عليه وسلم- طلب وفد ثقيف أن يترك
لهم اللات شهراً واحداً، وأبو بكر رفض إقرار المرتدين على ترك الزكاة، وقاتلهم
عليها.
5- علاج مشكلة المنافقين: وقد اتسم علاجها بعدة سمات من أبرزها:
- طول صبره عليهم، من الهجرة حتى قبيل وفاته.
- التفصيل في التحذير منهم وتكثيف الحديث في تلك القضية وفق نهج
القرآن، حيث لا يقاربها قضية أخرى إلا قضية الشرك والمشركين وأهل الكتاب.
- الحرص على وحدة الصف، مع عدم السكوت على الباطل، وقد تحقق
الأمران.
- سيره على هدي القرآن في التركيز على الصفات، وعدم ذكر الأفراد،
مما أدى إلى قتل المنافقين معنوياً، دون قتل أحد منهم حسياً.
والدعوة اليوم بأمسّ الحاجة إلى دراسة منهج مواجهة حركة النفاق في الصدر
الأول، حيث يمكن من خلال ذلك معرفة وسائل كشفهم، ورسم منهج شرعي في
مواجهتهم، وشل فاعليتهم، ثم القضاء عليهم دون إحداث فتنة داخل الصف المسلم، ولا يتحقق ذلك إلا بالحكمة.
6- كما تتجلى حكمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مواقف لا حصر لها، من بداية دعوته في المرحلة السرية والجهرية، وفي تعامله ومواقفه مع صناديد
قريش، وفي خروجه للطائف، وعودته منها، وفي مواقفه بعد هجرته مما اتسم
بالإصلاح والتأسيس: من بناء المسجد، والمؤاخاة، والمعاهدة مع اليهود، وفي
مواقفه في غزواته كلها، وفي المواقف الفردية مع سائر الناس ... ويظهر كل ذلك
لمن تأمل سيرته.
ج - الحكمة في حياة سلف الأمة وخير القرون:
للصحابة رضي الله عنهم حكمة عظيمة، ظهرت في اتباعهم للرسول صلى
الله عليه وسلم، وخلافتهم له، وكذا لتابعيهم وتابعي تابعيهم ومن ذلك:
- موقف أبي بكر رضي الله عنه عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لما
أنكر عمر هذه الوفاة وكذلك بعض الصحابة، واشتد الأمر عليهم، فكان لحكمة أبي
بكر رضي الله عنه أعظم الأثر في تثبيت الناس على الإسلام، وتوضيح الحق لهم
في ذلك.
كما ظهرت حكمته في إنفاذ جيش أسامة الذي عقد لواءه النبي صلى الله عليه
وسلم قبل موته، ورغم مخالفة الصحابة للصديق، لشدة الأحوال، امتثالاً لأمر
النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالرغم من صغر سن أسامة فقد رفض استبداله
بقائد آخر، وسيّر الجيش كاملاً، فلم يترك منه أحداً، إلا أنه استأذن أسامة في إبقاء
عمر؛ فأذن له.
- حكمة عمر في إظهار إسلامه، مما كف شيئاً من الأذى عن المسلمين،
ومكنهم من الصلاة في المسجد الحرام. كما كان من أعظم مواقفه الحكيمة: تثبيت
الناس على بيعة أبي بكر رضي الله عنه، حتى اجتمعت كلمة المسلمين عليه.
- ولعثمان رضي الله عنه مواقف حكيمة في إنفاق الأموال الكثيرة، ولا يُنسى
موقفه الحكيم في جمع الأمة على مصحف واحد، حسماً للخلاف.
- ولا تخفى مواقف علي رضي الله عنه في الشجاعة الحكيمة في بدر
والخندق وخيبر وغيرها.
- ولمصعب بن عمير رضي الله عنه حكمة عظيمة في دعوته في المدينة،
كما ظهرت في دعوته لسيدَي الأوس: أسيد بن الحضير، وسعد بن معاذ رضي الله
عنهما.
- وما أعظم وأحكم موقف الحسن رضي الله عنه لما تنازل عن الخلافة
لمعاوية رضي الله عنه حقناً لدماء المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، وما به علة ولا ذلة
ولا قلة، فتحقق فيه قوله: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين
من المسلمين) [1] .
ولعامة الصحابة مواقف حكيمة أكثر من أن تذكر في مثل هذا المقام.
- وقد نصح سعيدُ بن المسيب الحجاجَ أن يحسن صلاته، وأغلظ له بالقول،
وشدد عليه، فما زال يحسن صلاته، فكانت الحكمة في هذا الموقف استخدام الشدة
مع هذا الشديد.
- وقد تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة فأصلح نفسه أولاً، ثم أهله ثانياً، ثم
أصلح أوضاع بني أمية ورد المظالم ثالثاً، ثم أصلح أوضاع الولاة، ووضع الجزية
عمن أسلم، وأحيا في نفوس الناس خوف الله ومراقبته، وفقّه الناس في دين الله،
وأرسل الدعاة إلى الله لنشر الإسلام ... وكلها مواقف تنطق بالحكمة.
- ومن الحكمة أسلوب رد الإمام مالك على الرجل الذي سأله عن كيفية
الاستواء، فأجابه بجواب كان قاعدة من قواعد أهل السنة، ثم أخرجه من مجلسه
حسماً للبدعة.
- وموقف الإمام أحمد في محنة خلق القرآن، وثباته على كلمة الحق،
وتحمله الأذى في سبيلها خشية انطماس معالم الحق، مما يُسجّل في المواقف
الحكيمة.
مظاهر أسلوب الحكمة:
تتعدد مظاهر الحكمة؛ نظراً لكونها السداد في القول والفعل، ويمكن ذكر
شيء من مظاهرها فيما يتصل بالدعوة في الجوانب التالية [2] ؛ لتكون مرجعاً
للداعية يقيس بها حكمته في دعوته، ويسدد طريقته:
أولاً: في جانب المناهج الدعوية: ومن ذلك:
أ - ترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، كتقديم العقائد على غيرها
من العبادات والأخلاق، وتقديم الفروض على النوافل، والمصالح العامة على
الخاصة عند التعارض، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح، والتضحية
بالمصلحة الصغرى لكسب مصلحةٍ أكبر منها ... ويدل على هذا: الواقع العملي
للدعوة الإسلامية في عهدها الأول، وأيضاً حديث معاذ عندما أرسله الرسول -
صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وكيف علمه أن يبدأ بالإيمان، ثم الصلاة، ثم
الزكاة [3] .
ب - التدرج في تطبيق الأولويات، ولا سيما في معالجة الأشخاص
والأوضاع العامة، كما كان شأن تنزل القرآن، وكما فعل عمر بن عبد العزيز في
خلافته.
ج - مناسبة المنهج الدعوي للأحوال والأعمار والمستويات، فليس من
الحكمة المساواة بين حالة القوة والضعف، وبين حالة السلام والحرب، ولا بين
حالة عموم البلوى بالشيء وغيرها، ولا بين الرجل والمرأة، والصغير والكبير ...
ولنتأمل كيف ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هدم الكعبة، وجعل لها بابين
خشية الفتنة؛ لقرب عهد الناس بالإسلام [4] .
ثانياً: في جانب الأساليب: ومن الحكمة فيه:
أ - اختيار المنهج المناسب لتطبيقه في الموقف المناسب والحالة المناسبة،
فما يصلح لمعالجة موقف لا يصلح لكل موقف؛ فالأسلوب العاطفي للموقف العاطفي، والحسي للتجريبي، والعقلي للموقف الجدلي ... وهكذا تعامل النبي -صلى الله
عليه وسلم- مع الشاب الذي جاء يستأذن في الزنى، حيث لمس منه ضعفاً، وخيراً، ولولا ذلك لزنى دون استئذان.
ب - اختيار الشكل المناسب من أشكال وأساليب المنهج المختار، فما يقال
في الفرح غير ما يقال في الترح، ومن غلب عليه الخوف استُخدم معه الترغيب،
ومن غلب عليه طول الأمل والاتكال على الرجاء استُخدم معه الترهيب ... ولذا
اختلف أسلوبه - مع الأعرابي الذي جاء سائلاً عن الفرائض فأجابه بها، فلما قال:
هل عليّ غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تَطّوّع) [5] ، اختلف أسلوبه في ذلك عن
أسلوبه مع الصحابة الفقراء الذين أحزنهم سبْق الأغنياء لهم بفعل الخير، فزادهم
من سبل الخير، حيث جاؤوا مستزيدين [6] .
ج - اعتماد التدرج في الاحتساب، وهو: التعريف بالخير والشر، ثم
الوعظ، ثم التعنيف، ثم استخدام اليد، ثم التهديد ثم الضرب.
د - البحث عن الدوافع والأسباب لملاحظتها في أسلوب المعالجة، فمعالجة
الجاهل تختلف عن معالجة العدو، وأسلوب معالجة الضعيف المقصّر غير أسلوب
معالجة المعاند المتعصب. وهذا يقتضي مراعاة أمور منها:
1- حسن الظن بالمسلم، والحذر من العدو.
2- إخفاء التشخيص في نفس الداعية، والتخطيط للمعالجة، دون المواجهة
به.
3- اختيار الأسلوب المناسب للمعالجة.
هـ - مراعاة اختلاف الظروف والأحوال الدعوية الفردية والجماعية.
ثالثاً: في جانب الوسائل الدعوية:
أ - في الوسائل المعنوية، وهي الأخلاق الكريمة. وذلك من خلال:
1- اهتمام الداعية بها، ومجاهدة النفس عليها.
2- اختيار الخُلُق المناسب للموقف المناسب، قال تعالى: [أَشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] [الفتح: 29] .
ب - في الوسائل المادية. وذلك من خلال:
1- استعمال الداعية كل وسيلة مباحة متيسرة متوفرة في عصره، أياً كان
مصدرها وصانعها.
2- اجتناب كل وسيلة محرمة أو مكروهة؛ لأن الغاية الحميدة لا تسوّغ كل
وسيلة، فيقتصر على المباح.
3- تصفية الوسائل التي اختلط فيها الحلال بالحرام؛ بتجريدها من الحرام،
كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في وسيلة (النذير العريان) حيث قال: (أنا
النذير العريان) [7] معبراً عن خطر الأمر الذي جاء به، ولكنه لم يتجرد من ثيابه
كما يفعل النذير من المشركين.
4- الترخص باستعمال الوسيلة المختلف في حكمها في حالة الضرورة أو
الحاجة الملحة، والتورّع عن استخدامها حال الرخاء.
5- الترقي بالوسيلة الدعوية، لتكون مكافئة للدعوة، ومتفوقة على وسائل
العدو.
أمور يتعاظم فيها مراعاة الحكمة:
هي أمور يتساهل فيها الكثير مع أنها أوْلى من غيرها في التزام الحكمة؛
لأهميتها، ولما يترتب على ترك الحكمة فيها من آثار سلبية، ومن تلك الأمور:
1- معاملة الوالدين والأولاد والزوجة والأهل والأرحام.
2- التعامل مع المجتمع، المشتمل على التناقضات.
3- الموقف من أهل البدع؛ فالناس فيهم بين غالٍ فيهم، يبالغ في إحسان
الظن بهم، وبين جافٍ ينكر حسناتهم.
4- إنكار المنكرات.
5- إشاعة بعض الأخبار والمفاهيم. ولقلة الموفقين للحكمة أمر الله برد هذه
الأخبار المشكلة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياته ثم العاملين بسنته،
ليعرفوا حقيقتها، وأهدافها، وكيفية التعامل معها.
6- النقد وبيان الأخطاء: فطائفة همهم تصيّد الأخطاء، وآخرون اعتبروا
النصيحة فضيحة.
وختاماً:
فلا شك في أن حاجة الأمة للحكمة والرأي السديد أشد من حاجتها إلى القوة
الاقتصادية أو العسكرية؛ لأن فَقْدَ الحكمة يضيّع القوة الموجودة، فكيف يجلب قوةً
مفقودة؟ !
وإذا صعب وجود الحكمة في شخص فإن وجودها في أفراد يكمل بعضهم
بعضاً أسهل وأيسر، وهو أمر يحتم التعاون على البر والتقوى والاعتصام بحبل الله، والاحتكام إلى كتابه وسنة رسوله.
__________
(1) رواه البخاري، ح/2704.
(2) انظر: المدخل إلى علم الدعوة، محمد أبو الفتح البيانوني، ص 247- 256.
(3) متفق عليه، البخاري، ح/1458.
(4) متفق عليه، البخاري، ح/126.
(5) البخاري، ح/2678.
(6) الحديث الدال على ذلك في مسلم، ح/1006.
(7) رواه البخاري، ح/6482، 7283.(127/36)
تأملات دعوية
حول المنهجية في الطلب
عبد الله المسلم
من أمارات النضج ودلائل الرسوخ لدى الصحوة اليوم الحديث عن المنهجية،
وضرورة المراجعة المستمرة للواقع ونقد الذات.
ومن الميادين التي طرح الحديث كثيراً فيها حول ذلك: المنهجية في طلب
العلم.
والحديث عن ذلك عَكَسه الواقع المتخبط في السلوك العلمي الذي أدى إلى
استنزاف طاقات وقدرات فيما لا طائل من ورائه، وأدت ردود الفعل غير المتوازنة
حول قضايا التمذهب والاتباع، أو القراءة المركّزة المنهجية والقراءة الموسوعية،
أو كتب المتقدمين والمتأخرين، أدى الإفراط في ردود الفعل إلى مواقف لا تؤدي
بالضرورة إلى البناء العلمي الصحيح.
ومع التأييد لضرورة العناية بالمنهجية في طلب العلم، والنقد للأساليب
المتخبطة التي تضيع الأوقات والأعمار دون بناء علمي، إلا أن ثمة قضايا تطرح
باسم المنهجية بحاجة إلى مزيد مناقشة ومراجعة وتأمل، خاصة أن الحديث المفصّل
عن تلك القضايا ليس منطلِقاً من نصوص شرعية صريحة، إنما هو نتاج تجربة
بشرية متميزة لكنها لا ترقى لدرجة العصمة.
ومن ذلك تحويل الوسائل إلى غايات: فالعلم مطلب شرعي وضرورة ملحة،
لكن الطرق التي تؤدي إلى تحصيله ما لم تكن منصوصاً عليها بنص شرعي ليست
بالضرورة قضايا مُسَلّمة في كل عصر وزمان ومكان، فضلاً عن أن تكون سُوراً
يعني تَجَاوُزُه الخلل والانحراف. ومن يتأمل المسيرة العلمية على مدى تاريخ الأمة
يرى أنها لم تتوقف عند وسيلة محددة؛ فكان العلم يُتلقى شفاهاً ويُحفظ في الصدور.
والكتابةُ لم تكن أصلاً إنما هي استثناء، ثم انتشرت الكتابة، والتأليف،
والتخصص فيه، والمتون، والشروح ... إلخ.
وكان العلم إنما يتلقى في المساجد، ثم بدأت المدارس بالظهور وازداد
انتشارها حتى صار لها مستويات وشروط وأنظمة محددة.
وهكذا عرفت الأمة ألواناً من التطور والتغير في أساليب الطلب والتعلم، ولم
تكن الأساليب يوماً ما حكراً على أسلوب أو طريقة محددة.
فلتكن الوسيلة وسيلة والغاية غاية:
وحين تبقى الوسيلة دون منزلة الغاية، فإن عُرْفَ أهل بلد أو قطر وطريقتهم
في التعلم ولو سادت وورثتها الأجيال ليست هي المقياس والمعيار للتعلم، وليست
هي المنطلق الوحيد للمنهجية؛ فالعلم أكبر من أن تحصره تجربة محدودة بحدود
الزمان والمكان.
واليوم ونحن نعيش متغيرات عدة في هذا العصر تتمثل في انتشار مستوى
التعليم وتدني الأمية، وهذا التعليم اختصر خطوات عدة على المتعلمين: فهل نحن
بحاجة إلى أن نبدأ بهؤلاء من الصفر، أو نلقنهم ما حفظوه في مراحل التعليم
الأساسي، أم نبدأ من مرحلة لاحقة؟
والعصر الذي نعيشه اليوم عصر انفجار معرفي هائل، جعل من أسس
التفكير الصحيح في قضايا العصر والتعامل معها إدراك قدر من العلوم والمعارف لم
تكن ضرورية في وقت مضى، وأتاحت الوسائل الحديثة المعاصرة أساليب في
البحث وحفظ المعلومات واسترجاعها، وطرقاً للطباعة، والاتصال السمعي
والبصري الذي يتجاوز حدود المكان القريب، ويحوّل العالم إلى قرية واحدة، وهو
عصر يفرض على الأمة تحديات حضارية جساماً إن هي أرادت أن يكون لها
موطئ قدم في التاريخ المعاصر فضلاً عن أن تكون رائدة وسباقة وقائدة.
إن ذلك كله لا يعني رفض المطالبة بالمنهجية، لكنه يطرح مطلباً ملحاً
بضرورة التفكير من جديد في أساليب تلقّي العلم والتعلّم؛ ومراجعةُ الأساليب لا
تعني الخلل في المنهج والانحراف عنه.(127/44)
حوار
حوار مع:
فضيلة د. علي السالوس
أجراه: د. جلال الدين صالح
ضيف مجلة البيان في هذا العدد هو فضيلة الشيخ (علي بن أحمد السالوس)
وهو أستاذ جامعي بقسم الفقه وأصوله في كلية الشريعة بجامعة قطر، وهو خبير
في الفقه والاقتصاد تميز وفقه الله بالإنتاج الغزير بما يزيد على خمسين كتاباً وبحثاً. ويمكن تقسيم أبحاثه إلى محاور ثلاثة:
1- ما يتعلق بالدراسات المقارنة بين الشيعة والسنة في الأصول والفروع،
وهي دراسات علمية متميزة.
2- الدراسات الفقهية والاقتصادية المعاصرة مثل: التضخم، والكساد، وبيع
التقسيط، وتمويل البنوك، والاستثمار، وغيرها. مع دراسة في السنة وفقهها.
3- المناقشة والردود العلمية مثل ردوده على مبيحي الفوائد البنكية، ومسألة
زواج الأقارب، والتحذير من الفتوى بلا علم.
وكتابات فضيلته تتسم بالدراسة العلمية والتوثيق، ويلمس فيها القارئ
الإخلاص والصدق؛ هذا ما نحسبه، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً.
ويسعدنا في هذا العدد الحوار مع فضيلته في مسائل شرعية واقتصادية مختلفة
راجين أن يجد فيها القارئ بغيته، وأن يثيب الله الشيخ على جهوده العلمية
والدعوية خير الجزاء. وإلى الحوار ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
س: فضيلة الدكتور: لا شك في أن ثمة ضرورة دعت إلى إقامة البنك غير
الربوي مقابل البنك الربوي؛ فهلاّ تكرمتم بإلقاء الضوء على الموجبات التي دعت
إلى إنشاء البنوك الإسلامية؟
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ...
أولاً: علينا أن نعرِّف الفرق بين البنوك الربوية والبنوك الإسلامية لنعرف
هل هناك ضرورة أم لا توجد ضرورة؟ وتعريف البنك الربوي في الاقتصاد: أنه
المنشأة التي تتاجر في الديون (التعامل في الائتمان عن طريق الاقتراض
والإقراض) فهي لا تتاجر في سلع، أو عقارات، أو منقولات، إنما في الديْن. ثم
أصبح لها وظيفة ثانية، وهي إيجاد النقود أي أنها تقرض نقوداً لا تملكها ولا وجود
لها.
أما البنك الإسلامي، فإن مجمع البحوث الإسلامية انتهى في مؤتمره الثاني
سنة 1385هـ سنة 1965م بإجماع كبار العلماء من 35 دولة إسلامية، إلى أن
فوائد البنوك هي من الربا المقطوع بتحريمه بنص الكتاب والسنة، ودُعي في هذا
المؤتمر إلى إنشاء بديل إسلامي، وكيف يكون البديل إسلامياً؟
نظروا أولاً إلى العلاقة بين المودع في البنك وبين البنك، ثم العلاقة بين
البنك ومن يأخذ من البنك؛ فالعلاقة بين المودع والبنك علاقة مقرض ومقترض:
البنك يقترض، والمودع مقرض سواء أكان القرض (الحساب الجاري) بفوائد أو
بدون فوائد، أو كان القرض وديعة لأجل، بفوائد، ثم العلاقة بين من يأخذ النقود
من البنك وبين البنك علاقة مقرض بمقترض، فالبنك الذي كان مقترضاً أصبح
مقرضاً. وقد رأى المجمع أن هذه العلاقة لا بد أن تتغير، فكيف تتغير؟
إن من الممكن للبنك أن يكون مضارباً بدلاً من أن يكون مقترضاً؛ فمن يودع
المال في البنك الإسلامي يعتبر شريكاً للبنك في شركة مضاربة أو قِراض، والبنك
يمثل عامل المضاربة والربح بالنسبة المتفق عليها. وإن إنشاء بنك إسلامي هنا
معناه إخراج اقتصاد الإسلام من الواقع النظري الذي كان عملياً من قبل في مجالات
كثيرة إلى الواقع العملي في حياتنا؛ هذا باختصار هو التطبيق العملي للشريعة
الإسلامية في مجال معاملات البنوك.
س: فضيلةَ الدكتور: يُتّهَمُ الاقتصاد الإسلامي بالجمود والعجز عن مواكبة
التطور الاقتصادي العالمي فضلاً عن منافسته: فكيف يمكن تفنيد هذا الادعاء بشكل
موجز؟
ج: هذا يدل على جهل من يزعم ذلك؛ لأنه لا يعرف الاقتصاد الإسلامي؛
وهذا ما أشرت إليه من قبل في المحاضرة التي ألقيتها بكندا؛ إذ بينت ماذا خسر
العالم نتيجةً لعدم تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي؛ ومن غير المسلمين من بدأ
يشعر بهذه الخسارة؛ وأذكر على سبيل المثال أن مديراً لبنك ربوي في
(فرانكفورت) هو مستر (بتمن) كتب بحثاً رُشّح بسببه لنيل جائزة (نوبل) والبحث
عنوانه: (كارثة الفوائد) بيّن فيه أن العالم مقبل على كارثة، فما الحل عند (بتمن)
مدير هذا البنك؟
قال: الحل هو الآتي: عندنا رأس المال، والإنتاج، لا نحدد فائدة مقدماً،
وما دام لا يجوز لنا أن نحدد فائدة أولاً، فماذا نفعل إذن؟
قال: المال هنا يشارك في الإنتاج؛ وعليه فإن الفائدة تحدد تبعاً للمشاركة في
الإنتاج وزيادته، فإن زاد الإنتاج بمقدار 20% فإن رأس المال يأخذ نصيبه من
الزيادة، وبذلك يرجع ربح رأس المال للإنتاج؛ بحيث أن الفوائد لا تحدد سلفاً وإنما
يكون مقدارها تبعاً للإنتاج الفعلي، فإذا زاد الإنتاج زاد نصيب رأس المال بسبب
زيادة الإنتاج؛ هذا هو الحل عند (بتمن) الذي التقى به أحد الإخوة الدارسين
للاقتصاد الإسلامي يرحمه الله وقال له: هذه النظرية ليست جديدة عندنا! قال:
عندكم! أين؟ قال: عندنا نظام يسمى: المضاربة أو القِراض. وشرح له النظام
الإسلامي فقال: أمّا الإسلام فلا نريد الإسلام! !
في كتاب (الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة) عندما ذكرت
ملخصاً لهذا الكتاب، وبينت كارثة الفائدة الربوبية عقّبت عليه بعنوان آخر هو:
(كارثة أكبر) الكارثة الأكبر أن شيخاً يقول: تحديد الفائدة واجب، واجب، واجب، قلت سبحان الله! من الذي فهم الإسلام: الخواجة (بتمن) أم الشيخ فلان؟
س: فضيلة الدكتور: ظهرت كتابات في بعض الصحف والمجلات، ومن
بعض الكتّاب تتهم الرقابة الشرعية على البنوك الإسلامية بالانهزام أمام الإغراءات
المالية، ومن ثَمّ الوقوع في تسويغ المخالفات الشرعية وتمريرها: فهل لكم أن
تفيدونا عن الكيفية التي تقوم بها الرقابة الشرعية في سير المعاملات المصرفية؟
ج: الرقابة الشرعية في البنوك ليست سواء، فهناك هيئات رقابية شرعية
تعمل بلا مقابل، وهي تشترط هذا، وهناك رقابة آراؤها ملزِمة للبنك كي لا يمكن
للبنك أن يخالفها، وهناك رقابة شرعية تستشار فيما يعرض عليها. إذن الذي لم
يُعرَض لم تستشر فيه، ثم حتى الذي عرض كان لمجرد الحصول على رأي
استشاري؛ لكن البنوك جميعها تذكر هيئة الرقابة الشرعية! ! وهناك حالات
لاستغلال أسماء هيئة الرقابة الشرعية (من بعض البنوك الربوية) . وتساهل بعض
هيئات الرقابة الشرعية، وعدم علم بعضها، كل هذا أساء بلا شك؛ ولكن يبقى أن
هناك هيئات للرقابة الشرعية تقوم بواجبها، وآراؤها ملزمة للبنوك الإسلامية،
فعندما تقرر أنها راجعت أعمال البنك، وأنها متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية عند
ذلك تكون قراراتها وشهاداتها صحيحة.
س: بالتأكيد أنّ بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية حالات من التعامل
الاقتصادي تمليها حركة التجارة على المستوى الدولي والوطني: فكيف يمكن تحقيق
الضوابط الشرعية بين مؤسستين كل منهما تنطلق من أسس متباينة؟
ج: البنوك الإسلامية تتعامل مع البنوك الربوية وهذا صحيح، وهذا مؤكد؛
وأي بنك إسلامي لا يتعامل مع البنوك الربوية لا بد أن يغلق أبوابه! ! لماذا؟ لأنه
إذا أراد أن يفتح اعتماداً مستندياً لاستيراد سلعة من إنجلترا مثلاً فلا بد أن يكون له
بنك مراسل في إنجلترا؛ وهذا البنك المراسل هو الذي يأخذ هذا الاعتماد فيتصل
بالشركة المصدرة ويطلب منها التصدير ويتعهد لها بدفع الفوائد. والشركة لا تقبل
أن يتعامل معها بنك إسلامي في دولة غير إنجلترا؛ إذن التعامل مع البنوك الربوية
أمر لا بد منه إلى أن يأذن الله تعالى بتطبيق الإسلام في كل بلاد العالم، ولا بد أن
يطبق إن شاء الله، وإلى أن يتم هذا فلا بد من التعامل مع البنوك الربوية. نعم إن
المنهج مختلف، ولكن البنك الربوي يتعامل مع البنك الإسلامي على أنه وكيل بأجر، أو يتعامل مع البنك الإسلامي بأداء عمل معين بطريقة إسلامية ويأخذ أيضاً مقابلاً
لهذا العمل. أما البنك الإسلامي فهو لا يتعامل مع البنك الربوي على أساس ودائع
لأجل، بفوائد ربوية؛ لأن المنهج المتبع في البنك الإسلامي مختلف؛ إذ إنّ العمل
متفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
س: هناك من يقول إن البنوك الإسلامية أكثر تعرضاً لمخاطر الاستثمار من
غيرها: فإلى أي حد تظن هذا القول مقبولاً؟
ج: البنوك الإسلامية ليست أكثر تعرضاً للمخاطر من غيرها؛ لأن البنوك
الربوية أصلاً لا تستثمر، البنوك الإسلامية تتعرض لمخاطر الاستثمار، والبنوك
الأخرى تتعرض لمخاطر الديون، فإن مئات البنوك الربوية أفلست؛ وبفضل الله
تعالى لم يفلس أي بنك إسلامي، نعم هناك بنوك إسلامية تعرضت للإفلاس، لكنها
بفضل الله تعالى قامت، إلا أن التعرض للمخاطر أمر قائم ولكنه لا يقارن بما
تتعرض له البنوك الربوية، وهذا من طبيعة الاستثمار الإسلامي.
س: يعاني العالم الإسلامي من التبعية الاقتصادية والديون المرهقة: فما هو
الدور الذي يمكن أن تقوم به البنوك الإسلامية لإزالة هذه التبعية وتحرير العالم
الإسلامي من ديونه؟
ج: التبعية الاقتصادية، والتبعية السياسية، والتبعية الإعلامية، هذه
التبعيات لا يمكن لدولة إسلامية أو جهة إسلامية أن تزيلها، وإنما سيكون هذا إن
شاء الله تعالى يوماً ما، وقد بُشّرنا بهذا بطرق شتى، أما الآن فالتبعية قائمة، ودور
البنوك الإسلامية يمكن أن يكون مخففاً من هذه التبعية، والأمر يتعلق برغبة الدول
الإسلامية في عدم التبعية، وتطبيق الشرعية الإسلامية، ومتى رغبت يمكن ذلك.
س: فوائد البنوك الربوية نراها تعود من جديد للإثارة بعد أن حسمها الشرع
بالتحريم وأجمعت على ذلك المجامع الفقهية: فما هي الدوافع السياسية والاقتصادية
الكامنة في نظركم وراء هذه الإثارة؟
ج: الإثارة كانت نتيجة للآتي: بعد نشأة البنوك الإسلامية ووجود شركات
استثمار إسلامية بدأ الجهاز المصرفي في بعض البلاد يهتم بهذه الظاهرة، وكذلك
من الناحية السياسية؛ فبعض الدول التي تدعي أنها إسلامية مصارفها ربوية فكيف
يكون ذلك؟ إن هناك دوافع اقتصادية لحماية الجهاز المصرفي للدولة، ودوافع
سياسية لإظهار الدولة بأنها مسلمة، أما من الناحية الاقتصادية العملية فإن البنوك
الإسلامية بدت قادرة على أن تقوم بالأعمال المصرفية والخدمات التي تقوم بها
البنوك الربوية بدون ربا، وأثبتت في هذا أنها تستطيع أن تشارك في تنمية
المجتمع ونهضته اقتصادياً؛ لأنها تقوم بالمشاركة الفعلية في الإنتاج.
والأمر محسومٌ قبل أن تنشأ البنوك الإسلامية، ففي المؤتمر الثاني لمجمع
البحوث الإسلامية الذي شارك فيه كبار العلماء من 35 دولة إسلامية في القاهرة
صدر قرار بالإجماع أن الفوائد المصرفية هي من الربا المقطوع بتحريمه بنص
الكتاب والسنة، أي إنه ليس مسألة اجتهادية، ثم إنّ مجمع الفقه ورابطة العالم
الإسلامي بمكة المكرمة، حذرا من تفشي المصارف الربوية ودعَوَا إلى تأييد البنوك
الإسلامية، فكان لا بد من مخرج لحماية النظام المصرفي الربوي، ولدعم الدول
التي تدعي أنها تطبق النظام الاقتصادي الإسلامي، وكان المخرج هو الفتوى بأن
البنوك في جميع بقاع الأرض تستثمر بالطرق التي أحلها الله! !
س: من شُبَهِ الذين يقولون بإباحة الفوائد الربوية أن المودع ليس مقرضاً ولا
يخطر ذلك بباله، وأن البنك ليس مقترضاً، ومن ثم فإن ما يعود عليه من البنك
ليس من ربا النسيئة، فكيف يمكن الرد على هذه الشبهة مع بيان شيء من أوجه
الشبه بين ربا هذه البنوك وربا الجاهلية؟
ج: التعامل مع البنوك يحكمه القانون الوضعي، ولذلك فإن القانون ينص
على أن ودائع البنوك تعتبر قرضاً، وأن البنك ملتزم بأداء هذا القرض والفائدة،
فإن القانون الوضعي ينص على هذا، أما كونه يخطر بباله أو لم يخطر بباله فإن
هذا لا يؤثر في العقد. أما أوجه الشبه بين هذه وربا الجاهلية، فالواقع أن ربا
الجاهلية مظلوم بالمقارنة مع ربا المصارف في أيامنا هذه؛ ولذلك بينت في أكثر
من كتاب من كتبي أن فوائد البنوك أسوأ من ربا الجاهلية من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: ربا الجاهلية كان من الدنانير الذهبية، أو من الدراهم الفضية،
فهي فعلياً سلعة، أماربا البنوك فمنه ما هو نقود حقيقة، ومنه ما هو نقود اختلاقاً،
وهي بهذا نقود مصرفية لا وجود لها.
الوجه الثاني: ربا الجاهلية كان لتجار دوليين يقترضون لتوسيع تجارتهم إلى
الشام، واليمن، ولذلك كان المقترض تاجراً دولياً كبيراً، والمقرض قد يكون غنياً، وقد يكون فقيراً لا يملك إلا مئة درهم أقرضها بفائدة.
الوجه الثالث: في الجاهلية كانت الفائدة تُدفع بعد الاستثمار، أما في ربا
الجاهلية المعاصرة فالفائدة تحسب وتحسم أولاً، ولذلك فالفائدة التي تؤخذ في الودائع
هي أكثر مما يذكر.
س: تُطرح قضية (الموركج) كضرورة حيث يضطر الفرد المسلم في بلاد
الغرب إلى اللجوء إليها لحل مشكلات السكن: فكيف ترون شرعية هذا الاضطرار؟
ج: هذا الموضوع عرض على مجمع علوم الفقه والبحوث الإسلامية،
والسؤال جاءه من معهد الفكر الإسلامي بواشنطن. الضرورة تبيح المحظورات،
ولكن الضرورة تقدر بقدرها، المسلم في حاجة إلى السكن، ولكن ليس من
الضرورة أن يمتلك، فإذا وجد مسكناً بالإيجار فلا يجوز له أن يقترض بالربا لشراء
مسكن؛ ومن هنا انتهى المجمع إلى عدم جواز الاقتراض من البنوك الربوية لشراء
المسكن ما دام المسلم يجد مسكناً ولو بالإيجار.
س: يلاحظ أن بعض البنوك لجأت في الآونة الأخيرة إلى تخصيص جناح
للاستثمار الإسلامي فيها، جذباً لمال المستثمر المسلم: فما هو الموقف الشرعي
المطلوب سلوكه معها؟
ج: نعم هذا ملاحظ، إنما أكثر من هذا، أن (سيتي بنك) وهو بنك في
البحرين قد خصص فرعاً كاملاً وليس جزءاً منه للاستثمار الإسلامي، وهذه البنوك
بالطبع، لم تفعل هذا حباً في الإسلام، أو رغبة في خدمة المسلم؛ وإنما لأنها
أحست بأن الأموال تذهب إلى بنوك إسلامية، فلا بد أن تشارك في الاستفادة قبل
أن تذهب الأموال منها؛ فقد أحست بهذا الخطر في أول نشأة اللواء الإسلامي، ثم
بنك التنمية الإسلامي؛ إذ لاحظوا الإقبال الشديد؛ ومعنى هذا أن الأموال بدأت
تُسحب من البنوك الربوية لتودع في بنوك إسلامية؛ فلا بد من التفكير في حل؛
فالهدف هنا ليس إسلامياً؛ لكن التطبيق هل هو إسلامي أم غير إسلامي؟ قد يكون
إسلامياً، وقد يكون شعاراً مزيفاً، فعلى من يتعامل مع هذه البنوك أن يتأكد من
سلامة التطبيق وأنه متفقٌ مع أحكام الشريعة الإسلامية.
س: العالم الإسلامي غني بموارده الطبيعية: فكيف تنظرون إلى الصورة
التي يتم بها استغلال هذه الموارد؟ وكيف ترون التعامل الاقتصادي بين دوله؟ وما
هو الدور الذي يمكن أن تقوم به البنوك الإسلامية لإيجاد حالة من التعاون
الاقتصادي بين دول العالم الإسلامي؟
ج: هذا سؤال مثير للألم، فالدول الإسلامية عندها من الموارد ما يتيح لها
الاكتفاء الذاتي وزيادة، بل إن أرض (العراق) كانت تغذي الدولة الإسلامية، وفي
أيام سيدنا (يوسف) عليه السلام كانت (مصر) تطعم من حولها، وأرض (السودان)
يمكن أن تفي بحاجة كل البلاد العربية، ومع ذلك فإن كل البلاد تقريباً تستورد
الطعام، ولا تملك طعامها ولا سلاحها، فهل هذه الدول عاجزة عن أن تستغل كل
مواردها؟
هناك أشياء سياسية قد لا نستطيع الخوض فيها، ومن ذلك أنّ دولاً تُلزَم بألا
تستغل أراضيها في الزراعة لتبقى مستوردة! لماذا؟ وهناك دول أخرى أرضها
تكفي ليس لها فقط بل ولغيرها، ولكنها تستورد؛ كيلا يتوقف إنتاج القمح الأمريكي! إذن هناك مسائل سياسية، أو ضغوط على هذه الدولة وخضوع لغيرها.
س: أنشئت بنوك إسلامية في بعض الدول الغربية ثم أغلق بعضها: فما
السبب في نظركم؟
ج: السبب هو أن دولاً لا تريد الإسلام، أو أي شيء يتصل بالإسلام، وهذا
واضح هنا في إنجلترا؛ فإن بنك البركة عندما أراد أن يفتح فرعاً له وضعوا أمامه
شروطاً شديدة التعقيد، ونفذت كل شروطهم، وفي النهاية أغلق؛ لأن كل هذه
الشروط تعجيزية، وما داموا يعجزون إذن يغلق، ولكنهم كانوا يريدون للإغلاق أن
يكون بسبب العجز لا بقرار منهم، على أن هناك دولاً غير إسلامية بها بنوك
إسلامية تزاول نشاطها ولا تتعرض لأي مضايقات مثل بنك التقوى في سويسرا؛
فإنه من أحسن البنوك الإسلامية إن لم يكن أحسنها على الإطلاق، وهو مقيد في
جزر البهاما من أجل الضرائب ولكن نشاطه في سويسرا.
س: تثار بعض الشبهات من بعض الناس حول المرابحة، فهل بالإمكان
توضيح صورة المرابحة كما تجريها البنوك الإسلامية؟
ج: المرابحة كما تجريها البنوك الإسلامية لها جانب نظري، وجانب عملي.
الجانب النظري أقره مجمع الفقه الإسلامي، وسبق من قبل أربعة عشر سنة أن
قُرر هذا في المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية، أن بيع المرابحة يكون كما يلي:
المصرف الإسلامي يبيع بعد أن يشتري السلعة ويتملكها ويمولها، ويقع عليه
تبعات الإهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعد التسليم؛ هذه هي
الشروط التي وضعها المؤتمر للمصارف الإسلامية، ثم بحثها مجمع الفقه الإسلامي
وانتهى أيضاً إلى هذا القرار، وبُحث أيضاً في مؤتمرات عدة وانتهت إلى هذا
القرار أيضاً، وبهذه الطريقة يكون بيع المرابحة بيعاً إسلامياً 100%.
التطبيق العملي هذا يدعونا إلى أن ننظر إلى تطبيق كل بنك على حدة، أو
كل شركة على حدة؛ فإن باع قبل أن يملك فالبيع باطل، وإن باع بفائدة قبل أن
يملك فهو ربا.
س: ختاماً: نسأل فضيلتكم هذا السؤال: إنشاء السوق الإسلامية المشتركة
أمنية يحلم بها كل مسلم! فما هي الشروط اللازمة التي ترونها ضرورة لإنشاء مثل
هذه السوق؟
ج: عندما تنشأ إن شاء الله سوف نتحدث عنها، فالمسألة ليست مسألة السوق
الإسلامية المشتركة؛ بل الأمر يتعلق بالإسلام: فهل هناك اتجاه لتطبيق الإسلام،
وهل هناك اتجاه لتعاون الدول الإسلامية، وهل نحن فعلاً جادون في إنشاء السوق
الإسلامية المشتركة؟ من الناحية النظرية هذا ممكن، أما من الناحية العملية فلا
ندري! ! وللأسف الشديد فإن السوق الأوروبية المشتركة، لا يجمع بين دولها
شيء إلا المصلحة الاقتصادية، لا يجمعها دين، ولا لغة، ولا تاريخ، ولا أي
شيء، ومع ذلك تنشئ سوقاً أوروبية مشتركة، أما الدول الإسلامية بتاريخها
المشترك، ودينها العظيم، وعاداتها وتقاليدها ولغاتها في أكثر الدول مع ذلك كله لا
تنشئ سوقاً إسلامية. إن الأمر يتعلق بتطبيق الإسلام أساساً، وبعدم تبعية الدول
الإسلامية، فهل يُسمح للدول الإسلامية بعدم التبعية حتى لو أرادت؟(127/46)
نص شعري
رسالة إلى مجلس الأمن! !
جمال الحوشبي
دَعْ عنك إن رُمتَ الشّرفْ ... دوراً لعبت بلا نَصَفْ [1]
دع عنكَ إصدارَ الموا ... ثيقِ الكريهةِ كالجيفْ
يا مجلساً قد خانَ حملَ ... عهودِ ميثتاق الشّرفْ
كم تجمعُ الأطنانَ كي ... تُهدي البُغاةَ بلا كلفْ
وتضِنّ بالنّزرِ القليلِ ... لمن يعاركه الأسفْ
كم ذاقَ غدرَك مسلمٌ ... يلقى المذَلّةَ والشظفْ [2]
في البُسْنة الثكلى هنا ... كَ دماءُ شعبِ لم تَجِفْ
وعلى ثرى الشيشانِ من ... كَ مواقفُ الغدرِ الدّنِفْ
كشميرُ أنت عدوّها ... والدمعُ فيها لم يكِفْ
في دولةِ الغصبِ التي ... تلقى المعَزّة والكَلَفْ [3]
آثارُ غدرِك كلّما ... هَدَرَ المُعربدُ أو عَصَفْ
تنسى الدماءَ بأرضنا ... وبغيرها تبكي النّطَفْ
كم من سياطِ الغدرِ في ... قاعاتِ خوفِك والحَسَفْ [4]
وبَدوْتَ مِنْ إثر المهانةِ ... تحتَ أقدامِ السّخَفْ
يا مجلسَ الخوفِ الذي ... من جُرحِ أمّتِنا ارتَشَفْ
دعْ عنكَ نظْم القولِ يا ... مَن حِبرُ مكرك لم يجفْ
يا من يرومُ عداءَنا ... إنّا وربِك لم نَخَفْ
لسنا الأذلاءَ الذي ... ن لهمْ عنِ العليا جَنَفْ [5]
لسنا كمن تُلْقي لهمْ ... في الجَهْرِ أطنانَ (العَلَفْ)
فلنا على دربِ الكرامةِ ... من أرُومَتها [6] سَلَفْ
كم في جهود الأمن مِنْ ... خوفٍ على أهلِ الشَرَفْ
فاسند حِياضَ الظلم في ... عصرِ التخاذلِ والتلف
وامكُرْ فمكرُ الله كم ... أودى بمِثلِكَ في سَلَفْ
__________
(1) النَصَفَ: العدل في الحكم.
(2) الشظف: الضيق وشدة العيش.
(3) الكلف: الحب الشديد.
(4) الحسف: ما تناثر من التمر الفاسد.
(5) الجنف: الميل والبعد.
(6) الأرمة: الأصل يقال: فلان ذو أرومة أي ذو أصل وشرف.(127/56)
الآمال القادمة
عبد الله بن صالح الوشمي
مثْلما يعشقُ المُجِدّ أَمَامَهْ ... ويناغي في رِقةٍ أَحْلامَهْ
أعشق النفسَ حُرّةً تَتَلظّى ... وتبادي الظّلامَ بالابتسامهْ
أعشق الخطّ بالدِّماءِ حُروفاً، ... كُلّ حبرٍ عدا الدِّماءِ جَهَامهْ [1]
مثلما يسكب المحبّ دموعاً ... حامياتٍ، ونفسُه مستهامهْ
أسكب الحزن، والدموع يتامى ... وبساح الردى نصبتُ خيامهْ
من دمائي أخذتُ كلّ حروفي ... سوف تغدو للنصر أيّ عَلامهْ
لا تلوموا (العرين) قد صار قفراً ... من سلاح، وكبّلوا ضرغامهْ
غادر البيت، والعظام بقايا ... من صمود: إلى اللقا يا (أُمَامَهْ)
يا لَحزني؛ والشيخ ضلّت خطاه ... قد مضى! هل ترون إلاّ عظامهْ
شَيبَةٌ تُستباح من غير جُرْمٍ ... فعلامَ يذل؟ قولوا! علامهْ
وتراهم يبغون منّا سلاماً ... وخنوعاً، كما تكون الحَمَامهْ
ليت شعري تساؤلٌ مستميتٌ: ... أين سعدٌ؟ وأين منّا أسامهْ؟
يا لقبح الحياة إنْ جرّدتنا ... من جهادٍ ويا لها منْ سآمهْ
أمتي إنّ في جهادك صوتاً ... عبقريّاً، وهاكِ وسَامهْ
ودماء الشهيد فينا تروِّي ... شجرَ الحزن، والثمارُ شهامهْ
نرقب البرق في السماء فنخفي ... فرحة؛ إنّ هذه لعلامهْ
سوف تهمي الغيوث في كل صقعٍ ... سوف يجلو الضياء كل قتامهْ
ونرى نجمنا وقد عاد بدراً ... ونرى الكون ناشراً أنغامهْ
مُسْلمٌ يلبسُ الطموحَ رداءً ... أو تدق الحياةَ كفّ قيامهْ
__________
(1) جهامة: السحاب لا ماء فيه.(127/57)
المسلمون والعالم
حِلم العرب ... وأحلام اليهود
(1من2)
إسر ائيل الكبرى.. هل انتهى الحُلم..؟
عبد العزيز كامل
من الأمور التي تصدم النفوس ... وتستفز المشاعر ... بل وتثير الغيظ
والغضب والسخرية معاً ...
إننا عندما نستعرض بالذاكرة خريطة أحداث ما يسمى بـ (الصراع العربي
الإسرائيلي) .. نجد أن كل ما حققه اليهود من علو في الأرض وغلو في الإفساد..
كان مجرد أحلام تداعب خيالات أجيالهم السابقة، ومجرد رؤى دينية أو تاريخية
تنسجها مصادرهم العتيقة، ثم طفقت هذه الأحلام تتحقق.. وراحت تلك الرؤى
تتحول إلى واقع معاش، يذوقون حلاوته ونكابد مرارته!
* قرن واحد من الزمان ... حشدت فيه أحلام مئات القرون على بوابة
التحقيق والتطبيق..!
* لقد كان بروز قيادة منهم قادرة على التنظير والتخطيط للمستقبل، في
أواخر القرن التاسع عشر للميلاد.. حلماً فتحقق!
* وكان اتحاد جماعاتهم الخمسين المتفرقة على يد ذلك القائد حلماً ... فتحقق!
* ثم كان قدومهم من أطراف الدنيا إلى الأرض المقدسة لضمان موطئ قدم
فيها بعد أن كانت شبه خالية منهم عبر ألفي عام.. كان هذا حلماً.. فتحقق!
* وكان قيام قوة عظمى بإعطائهم وعداً بوطن قومي في تلك الأرض، مع
تهيئتها لهم وحمايتهم فيها حلماً.. فتحقق!
* وكان إسقاط دولة الخلافة العثمانية المتصدية لمشروعهم حلماً فتحقق!
* وتحويل مشروعهم بعد ذلك إلى دولة بشكل رسمي وبعد خمسين عاماً فقط
من التخطيط لإنشائها.. كان حلماً فتحقق!
* الانتقال إلى أحضان قوة أعظم والتفرد بموالاتها ورعايتها كان حلماً فتحقق!
* تثبيت هذه الدولة المسخ لوجودها بانتصارها على مجموع جيوش أعدائها
تحقق!
* استيلاؤها على أراض أخرى وعلى رأسها القدس ... أمر قد تحقق!
* عودتهم إلى أرض التيه والتوراة في سيناء، ثم تركهم لها منزوعة السلاح، لتظل مهددة بالاحتلال مرة أخرى.. كان حلماً فتحقق!
* امتلاكهم ثم احتكارهم للقوة النووية في المنطقة ... كان حلماً.. فتحقق!
* وكان إخراج أكبر دولة عربية من ساحة الصراع، وإلجاؤها إلى التخلي
عن المواجهة في أوجها.. كان هذا حلماً فتحقق!
* استكمال استدراج أكثر الدول الأخرى إلى ذلك المستنقع وإقناعها بأن العدو
صار صديقاً ... كان حلماً فتحقق!
* تحويل حروبها إلى جيرانها، وصراعاتها بين شعوبها.. أحلام بدأت
تتحقق!
* إسقاط آخر حصن في المواجهة (الرسمية) بتدجين منظمة التحرير
الفلسطينية كان حلماً.. فتحقق!
* إقناع تلك المنظمة بالانتقال من دور المقاومة لإسرائيل إلى المقاومة لأعداء
إسرائيل.. كان حلماً فتحقق! وهكذا....
لماذا تؤول أحلام اليهود إلى الحقيقة، في حين أن أحلام العرب في الصراع
لا تجاوز المجاز، ولا تخرج من فلك الألغاز؟ !
أحلام اليهود تتحقق؛ لأنهم عقدوا مع عقيدتهم الباطلة صلحاً، واستمدوا من
شريعتهم المحرفة مشروعاً عملياً وبرنامجاً تنفيذياً ... وصادف هذا من بني جلدتنا
اصطناعاً للعُقد مع العقيدة والإيمان، وشروعاً في إقصاء وإلغاء شريعة الإسلام..!
فهل يقال بعد ذلك إن قوماً يحاربون بلا عقيدة يمكن أن يصمدوا أمام قوم يحاربون
بعقيدة.. ولو كانت باطلة؟ ! !
إن هذه جريمة من أرادوا عن قصد وعمد تجريد الصراع مع اليهود من
العقيدة.
أحلام أخرى:
هل انتهت أحلام اليهود عند الحد الذي ذكرناه؟ أم أن في جعبتهم مزيداً؟ ..
إننا لا زلنا نسمع منهم ونرى فيهم ونقرأ عنهم روايات وطروحات وتنبؤات عن
أحلام أخرى تسير على درب التنفيذ، ويمكن للمتابع أن يرصدها بسهولة، وعلى
رأس تلك الأحلام التي لم يحققوها بعدُ: استكمال خريطة (إسرائيل الكبرى) فتلك
إحدى أحلامهم الكبار التي حدثتهم بها كتبهم، ومنّاهم بها حاخاماتهم ... وخططت
من أجلها زعاماتهم.. وتهيئ الأوضاع لتنفيذها حاميتهم ومدللتهم دولة الكبر
والغرور.. الولايات المتحدة الأمريكية.
هناك لا شك أحلام أخرى لها تعلق بذلك الحلم الكبير، مثل سعيهم لهدم
المسجد الأقصى، واستعداداتهم لبناء هيكل سليمان مكانه، وذبح البقرة العاشرة على
أعتابه، والتهيؤ بعد ذلك لاستقبال المخلّص المنتظر.. كلها أحلام بدأت تنتعش بقوة
في السنوات والآونة الأخيرة [1] !
ولكن نتناول اليوم في هذا المقال حلمهم الخطير، الذي نغفل كثيراً أو نتغافل
عنه، ونغلط كثيراً، أو نغالط فيه، وهو (حلم: إسرائيل الكبرى) .
ولكي نعي أبعاد وخلفيات الحديث عن (إسرائيل الكبرى) لا بد لنا من
استحضار حقائق دينية وتاريخية عن تلك البقعة وما حولها من الأراضي التي أرادوا
التعمية على ما يراد لها عندما أطلقوا عليها تسمية: (الشرق الأوسط) !
فصارت في العالمين معضلة ومشكلة تستعصي على الحلول؛ فلماذا كان ذلك؟
لأنهم أرادوا لها حلاً واحداً ... هو المستمد من توراتهم المحرّفة.. ولهذا
استمرت وستستمر (أزمة) الشرق الأوسط! حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
إن مما اختاره الله تعالى من الأرض بقعتين جعلهما مقدستين، وهما
متجاورتان، وجعل لكل منهما خصوصية، ولكل منهما فضائل؛ فاختار أرض
الشام، واختار أرض الجزيرة العربية [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ]
[القصص: 68] وفي قدسية أجزاء كل من الأرضين مراتب ودرجات، فإذا تخيلناهما دائرتين كبيرتين، فإن داخل كل دائرة منهما دوائر أصغر ولكنها أقدس، فالجزيرة العربية دائرة كبيرة من الأرض اختارها الله تعالى وخصها بفضائل فهي وطن الإسلام كما وصفها الشيخ رشيد رضا ويدل على خصوصيتها في ديننا أن الله تعالى اختارها مهداً لدعوة أفضل الأنبياء، ومهبطاً لأفضل الملائكة، وداراً لخير أجيال البشر بعد الأنبياء وهم الصحابة رضوان الله عليهم ويدل على خصوصيتها أيضاً أن الله تعالى أرادها خالصة بعد بعثة الرسول لله للتوحيد كما صح بذلك الحديث: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) [2] ولهذا كان جهاد الرسول لله كله تقريباً لتخليصها من الوثنية الجاهلية، وقد أمر بتطهيرها من الشركيات والكفريات اليهودية والنصرانية، فقال لله: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً) [3] .
فجزيرة العرب دائرة كبرى، وداخلها دائرة أصغر، وهي أخص في الفضل
وهي أرض الحجاز المشتملة على أرضَيِ الحرمين الشريفين، ومن فضلهما أنهما
مأوى أهل الإيمان كلما اشتدت الفتن وتقارب الزمان قال لله: (إن الإسلام بدأ غريباً
وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) [4] . وداخل أرض الحجاز دائرتان إحداهما المدينة، وهي حرم بحدودها فيما بين
الحرتين، وداخل المدينة دائرة أصغر وأقدس، وهي أرض الحرم النبوي الشريف
الذي تُضاعَف فيه الصلاة ويُؤم بالزيارة، وفيه يرقد خير من واراه الثرى لله.
وداخل الحرم النبوي بقعة أصغر وأقدس وهي الروضة النبوية الشريفة التي قال
عنها لله: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) [5] .
أما الدائرة الأخرى داخل أرض الحجاز فهي مكة المكرمة بحدودها المعروفة،
وهي أحب البلاد إلى الله، وداخلها دائرة أصغر وهي (بكة) أي الأرض المحيطة
بالكعبة، أرض الحرم التي قال الله تعالى فيها: [إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ] [آل عمران: 96] وداخل (بكة) دائرة أصغر وأقدس
وهي الساحة المحيطة بالكعبة والمشتملة على مقام إبراهيم وحِجْر إسماعيل وبئر
زمزم.. وفضائلها معروفة، وداخل تلك الدائرة دائرة أصغر ولكنها أقدس وهي
الكعبة نفسها التي نقصدها في صلاتنا ودعائنا ومناسكنا، وأقدس ما فيها الحجر
الأسود الذي نتقرب إلى الله بتقبيله واستلامه.
ونأتي إلى الدائرة الكبرى الأخرى، وهي أرض الشام؛ إذ إننا نجد أن لها
خصوصية وفضلاً بكمالها، فهي الأرض الموصوفة بالقدسية والبركة في كثير من
آيات القرآن؛ قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: [وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إلَى الأَرْضِ
الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 71] وقال عن موسى عليه السلام: [يَا قَوْمِ
ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] [المائدة: 21] [وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَذِينَ
كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا] [الأعراف: 137]
وقال عن سليمان: [وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الأَرْضِ الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا] [الأنبياء: 81] وداخل تلك الدائرة الكبيرة دائرتان: إحداهما سيناء،
التي نزل فيها الوحي على موسى لله فأنزل عليه الشريعة، وأجرى على يديه
المعجزات الكثيرة، تلك الأرض التي أقسم الله تعالى بها في قوله: [وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ] [التين: 1-3] وداخلها دائرة
أصغر وأقدس، وهي منطقة الطور، التي كلم الله تعالى موسى عند جبلها: [وَلَمَّا
جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ] [الأعراف: 143]
والدائرة الأخرى هي بيت المقدس التي اتخذها سليمان لله عاصمة لمملكته، وداخلها
دائرة أصغر وهي المنطقة الواقعة داخل أسوار الأقصى، وهي التي أُسري
بالرسول لله إليها ورَبَط البراق في سورها، وداخلها دائرة أصغر، وهي المنطقة
التي عُرج بالنبي لله منها إلى السماء، وهي تستمد خصوصيتها من كونها الأرض
التي يُعرج منها إلى السماء، وهي الصخرة المشرفة، ولها فضل بلا شك في تاريخ
الأنبياء ولكن ليس في شريعتنا عبادة متعلقة بها.
قد يقول قائل: ما علاقة هذا الكلام الأشبه بأبواب الفضائل، في موضوع
سياسي يتناول السياسات اليهودية والعربية وربما العالمية المستقبلية؟ !
والجواب: أن هذا الكلام يتعلق بصلب الصراع ولبابه، ويمثل الخلفية
الأصلية لفصوله وأبوابه؛ ذلك أن ما نقدسه نحن المسلمين في جزيرة العرب
وحجازها ومسجديها ... يقدس اليهود مثله بتدرج قريب في بلاد الشام، فهم
يشاركوننا في النظر إلى تلك الأرض وما فيها بعين التقديس والتكريم، غير أن
منطلقاتهم غير منطلقاتنا، وتصوراتهم غير تصوراتنا، ومصادرهم غير مصادرنا؛
لأن عقائدهم غير عقائدنا.
ولكن.. لا ينبغي أن ننسى أن اليهود أمة لها دين، وأن لها استمراراً في
التاريخ بهذا الدين حتى آخر الزمان، فارتباط اليهود بديانتهم اليهودية مع تحريفها،
وكذلك ارتباط النصارى بالديانة النصرانية، سيظل مقترناً ومتوازياً من الناحية
الزمانية، مع ارتباط الأمة المسلمة بدين الإسلام القويم، لهذا كان الصراع فيما
مضى دينياً عقائدياً، وسيستمر دينياً وعقائدياً؛ لأنهم سيظلون على دينهم وسنظل
على ديننا، ولهذا أمرنا الله تعالى باستشعار هذا المعنى في كل صلاة فريضة أو
نافلة، لنجدد البراءة منهم ومن أديانهم الباطلة، ونجدد المفاصلة العقائدية بيننا
وبينهم، فنتلو في كل صلاة قول الله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] 6 [صِرَاطَ
الَّذِينَ أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] [الفاتحة: 6-7]
فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى؛ كما صح بذلك الحديث،
وعلى هذا نجزم أن العلمانية عند اليهود وعند النصارى ظاهرة طارئة وجزئية
وعارضة، وهي في طريقها إلى الأفول ليحل الدين مكانها ... تماماً كما يظهر الآن
أن العلمانية في بلاد المسلمين ليست إلا ظاهرة طارئة وجزئية وعارضة، وهي
أيضاً في طريقها إلى الاختفاء والأفول.. وعندها سيتجرد الصراع بشكله العقائدي،
بين حق واضح يمثله المسلمون، وباطل صُراح يمثله اليهود والنصارى.
لهذا أقول: لا ينبغي أن ننظر إلى الأمر نظرة جزئية؛ فالأرض بأكملها
مقدسة عند اليهود، وهم يتحركون وفق تصور مسبق، وعقيدة واضحة في اعتبار
تلك الأرض بكمالها ملكاً خاصاً بهم، كانوا قد أخرجوا منها، ثم عادوا إلى أجزاء
منها، ولا يمكن أن يضيّعوا فرصة تمكّنهم من استكمال استرجاع بقية أجزائها، إنها
أرض (إسرائيل الكبرى) التي تمثل الدائرة الكبرى التي أشرنا إليها.
ولكن ما هي أبعاد تلك الدائرة الكبرى ... أهي بيت المقدس فقط ... أم هي
أرض فلسطين فحسب؟ ... الجواب: لا هذه ولا تلك ... إنها شيء آخر أكبر
عندهم بكثير مما نظن؛ فبهذا تحدثهم توراتهم وتلمودهم، ويحدد حاخاماتهم،
ويخطط ساستهم، وينفذ جنودهم ... وبمثل هذا تتحول الأحلام عندهم إلى حقائق!
إنهم ينسبون إلى التوراة المنزلة على موسى عليه السلام هذا النص الموجه
إلى إبراهيم عليه السلام عندما قرر اعتزال أبيه وقومه: [اذهب من أرضك ومن
عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك..] [6] أما حدود هذه الأرض
وفق توراتهم وكذلك وفق عقيدتهم فتدل عليها تلك النصوص: [وظهر الرب
لأبرام] 7 [، وقال: لنسلِكَ أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحاً للرب..] [8]
[.. في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلِكَ أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات] [9] .
وأما عن قيمه تلك الأرض وواجب اليهود تجاهها فذلك يحدده التلمود، الذي
يفسرون به التوراة: [واجب كل يهودي أن يعيش في أرض إسرائيل، وهذا
الواجب يعلو على أي التزام آخر] .. [أرض إسرائيل طاهرة، لا بد من دفن
المتقين من بني إسرائيل فيها، وإن لم يتيسر ذلك يوضع مع الكفن شيء من التراب
المجلوب منها] [.. الذي يتمشى أربعة أذرع في أرض إسرائيل على يقين أنه من
أبناء الآخرة] [10] .
وتفصل المصادر التفسيرية الحديثة أيضاً الكلام عن هذه النصوص التوراتية، يقول الدكتور بوست في قاموس (الكتاب المقدس) : (الأرض الموعود بها إبراهيم
الموصوفة في كتابات موسى تمتد من جبل هور إلى مدخل حماة، ومن نهر مصر
العريش إلى النهر الكبير نهر الفرات، وأكثر هذه الأراضي كانت تحت سلطة
سليمان، فكان التخم الشمالي حينئذ سورية، والشرقي الفرات وبرية سورية،
والجنوبي برية التيه وأدوم في سيناء، والغربي البحر المتوسط) [11] .
هذا من ناحية التنظير الاعتقادي والفكري، أما من حيث التنظيم العملي
والحركي، فقد تلقّف رواد الحركة الصهيوينية الحديثة هذه المفاهيم، وكان على
رأسهم الصحفي النمسوي، (تيودور هرتزل) الذي نذر نفسه لتحويلها من أحلام
وآمال، إلى حقائق وأعمال.
لقد كانت (إسرائيل الكبرى) هي أولى الآمال التي داعبت خيال هرتزل،
واختمرت في ذهنه منذ الصبا، فقد حكى أنه رأى في حلمه أن مسيح اليهود
المنتظر يحتضنه ويطوقه بذراعيه ويقول: (من أجل هذا الصبي كنت أصلي) ثم
خاطبه قائلاً: (اذهب وأعلن لليهود بأني سوف آتي عما قريب) [12] .
وقد كان تصوره للأرض التي ينبغي تهيئتها لمقدم هذا المسيح واضحاً منذ
اليوم الأول لسعيه في تأسيسها، فهو يفترض أن الانطلاق سوف يكون من أي
أرض يمكن الحصول عليها في فلسطين لتكون قاعدة يبدأ التوسع منها على مراحل
في الزمن المتتابع، حتى يكتمل المشروع، قال في مذكراته: (إن القاعدة يجب أن
تكون في فلسطين أو بالقرب منها.. إن علينا تشييد البنيان على أساس قوميتنا
اليهودية، ولذلك لا بد من حصولنا على وسائل للجذب السياسي ... إنني لا أستطيع
الإفصاح أكثر من هذا) [13] .
فالقاعدة والمنطلق إذن (أرض فلسطين) أو (إسرائيل الصغرى) ولكن هل هذا
منتهى الأحلام قبل مئة عام؟ ! لا؛ فإن المساحة التي لن يرضى اليهود بأقل منها
هي المساحة المعروفة عندهم بـ (مملكة داود وسليمان) ! قال هرتزل: (إن الشعار
الذي يجب أن نرفعه هو فلسطين داود وسليمان) .
إنها ليست فلسطين التي نعرفها بحدوها المعاصرة، إنها أرض الشام كلها وما
حولها أرض الميعاد.. أو (إسرائيل الكبرى) ! يقول هرتزل في مذكراته:
(المساحة ... من نهر مصر إلى نهر الفرات، نريد فترة انتقالية في ظل مؤسساتنا
الخاصة، وحاكماً يهودياً خلال هذه الفترة، بعد ذلك تنشأ علاقة كالتي تقوم الآن بين
مصر والسلطان، وما أن يصبح السكان اليهود في منطقة ما، ثلثي مجموع سكانها
حتى تصبح الإدارة اليهودية سارية المفعول على الصعيد السياسي، بينما تعتمد
الحكومة المحلية دائماً (سلطات البلدياتى) على عدد الناخبين في المنطقة أو
المحلة) [14]
أقول: لا بد لنا من استرجاع المعاني العملية لتلك الكلمات التي قيلت قبل قرن
كامل في ضوء ما طرأ وما يطرأ من أوضاع وترتيبات في المنطقة.. ماذا حدث
في منطقتنا بعد قرن من هذه الكلمات التي سُطّرت في وقت لم يكن لليهود أي سطوة
أو سلطة على أية رقعة من فلسطين وما حولها!
ما هي يا ترى المرحلة الانتقالية؟
ما المقصود بحكم اليهود فيها؟ وما هي العلاقة التي أراد هرتزل أن تنشأ بعد
ذلك بين الأقطار في المنطقة، والتي أعطى لها تشبيهاً بالعلاقة بين مصر وبين
تركيا تحت حكم الباب العالي، إنها علاقة التابع بالمتبوع! أليس كذلك؟ ! .
وما هي (سلطات) البلديات التي سيعتمد عليها؟ !
هذه الأحلام التي كان يحلم بها شاب في آخر الثلاثينيات من عمره منذ مئة
عام ... من المسؤول عن تحقيقها أو تحقيق الكثير منها؟ .. لا بد أن نعترف أنه
خلّف وراءه أجهزة فعالة، تحوّل الأحلام إلى حقائق.
فأين العرب طيلة هذه المدة؟ بل أين كان المسلمون؟ ألم يكونوا يحلمون
أيضاً؟ أم أن نومهم كان بلا أحلام؟ ! أم أنهم استبدلوا الحُلم بحِلم طويل طويل لكنه
حِلم الضعفاء؟
لقد قامت الدولة بعد خمسين عاماً من تخطيط هرتزل في الموعد الذي حدده
وذكره في مذكراته (ص581) .
وبعد أن قامت بالفعل، بدا لليهود أن هناك من يريد مساومتهم على حدود تلك
الدولة في المستقبل، حيث تشكلت في الأمم المتحدة عام 1947م لجنة تحقيق دولية
بشأن تلك القضية، فتقدم عضو الوكالة اليهودية: الحاخام (فيشمان) بخريطة توضح
حدود الدولة اليهودية التي يرى اليهود أن لهم الحق الكامل في استردادها تنفيذاً
لوعود التوراة ومشاريع هرتزل، ووقف فيشمان ليعرض حدود تلك الدولة التي تبدأ
( ... من مدينة الإسكندرية، محيطة بمنطقة الدلتا غرباً في مصر، ثم تمتد جنوباً
مع مجرى نهر النيل، لتتجه شرقاً في خط مستقيم، قاطعة الجزيرة العربية، حتى
محاذاة مصب نهر الفرات، ثم تصعد الحدود مع مجرى الفرات، حتى حدود تركيا
لتصل إلى سورية، لتقفل الدائرة بعد ذلك بالحدود الشرقية للبحر الأبيض المتوسط) !!
والآن ... وبعد خمسين عاماً أخرى من عرض (فيشمان) هل انتهى الحُلم؟
هل هذه مجرد أوهام وأحلام تسبح في الخيال كما يحلو لبعضنا أن يردد؟ ...
أقول: لا، أبداً، لم ينته حلم اليهود في (إسرائيل الكبرى) ومَنْ شكّ في هذا، فليسأل العَلَمَ الإسرائيلي ذي الخطين الأزرقين اللذين يرمزان إلى نهري النيل
والفرات! وليسأل النجمة السداسية المدّعاة بـ (نجمة داود) التي ترمز إلى حدود
مملكة داود، والتي يتطابق مثلثاها للدلالة على تعاضد السلطة الدينية مع السلطة
التنفيذية كما كان شأن الدولة في عهد داود وسليمان، وليسأل اللافتة المنصوبة على
الكنيست الإسرائيلي متضمنة الوعد المذكور في التوراة، وليسأل بعد ذلك تلك
العملة المعدنية الإسرائيلية التي يتعامل بها اليهود منذ أواخر العقد الماضي صغارآً
وكباراً نساءً ورجالاً وأطفالآً، لتذكرهم كل يوم.. بل كل لحظة وهم يتعاملون بها
بالحلم الباقي.. والذي لم يكتمل وهو: (إسرائيل الكبرى) حيث رسمت على العملة
خريطة لتلك الأرض بحدودها من النيل إلى الفرات.
فهل انتهى الحلم..؟ !
وللحديث بقية،،،
__________
(1) لعلنا نتناول بعضاً منها في مقالات قادمة إن شاء الله.
(2) أخرجه البخاري في الشروط (2730) ومسلم في المساقاة (1551) وأبو داود في الخراج (3007) .
(3) أخرجه الترمذي في السير، وأبو داود في الإمارة (3030) وأحمد في المسند (201) (215) .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه (146) .
(5) أخرجه البخاري (1195) .
(6) سفر التكوين الإصحاح 12 (13) .
(7) (إبرام) هو إبراهيم، وهذه تسميته في التوراة قبل أن يهاجر.
(8) سفر التكوين، الإصحاح 12 (57) .
(9) سفر التكوين الإصحاح 15 (1821) .
(10) انظر: (التلمود) تاريخه وتعاليمه (ظفر الدين خان) ص 66، 72، 84) .
(11) انظر قاموس الكتاب المقدس تأليف د بوست.
(12) التلمود والصهيونية مركز الأبحاث الفلسطينية 1970م.
(13) يوميات هرتزل 1473.
(14) يوميات هرتزل (2/ 711) .(127/58)
المسلمون والعالم
كوسوفا.. المأزق
د. يوسف الصغير
كثير من السياسيين لديهم القدرة على تغيير جلودهم؛ فهم قادرون على لبس
جلود الحملان واستبدالها بسرعة بجلود الثعالب أو الذئاب، فمثلاً السياسي الأمريكي
حمل وديع في ما يسمّى؛ (إسرائيل) وثعلب في سوريا، وذئب في العراق، وقل
مثل هذا في مواطن كثيرة؛ فإن الدول الغربية التي تدعي الحرية وحماية حقوق
الإنسان ترفع شعار تحرير المرأة ومحاربة الرق بينما شعوب كثيرة في العالم
وخاصة الإسلامية استُعبدت نتيجة مؤتمر لم تحضره، أو رسالة شخصية لم تطلع
عليها؛ فالحمل الوديع (بلفور) ينظر هو وصاحبة جلالته بعين العطف لإقامة وطن
قومي لليهود في ويلز! لا آسف بل في بلاد بعيدة اسمها: (فلسطين) ولتنفيذ هذه
الجريمة كان الإنجليز يضطرون إلى لبس الجلود الثلاثة كلها لمدة ثلاثين سنة
متصلة؛ فالذين يساعدون في بناء مجتمع يهودي في فلسطين من العدم هم الذين
ينكّلون بالفلسطينيين وهم ايضاً الذين يقنعون العرب بحرصهم على حل القضية
بصورة عادلة!
هذه المسرحية تتكرر كلما كان هناك طرف مسلم، ومأساة الألبان المتجددة
مثال جديد شاهد على ذلك.
الألبان في التاريخ:
كانت القبائل الإيليرية هم أول من سكن مناطق البلقان، وقبل حوالي ألفي
سنة احتل الرومان هذه المنطقة، وفي القرن الثاني الميلادي أخذت النصرانية
تنتشر في أرض الإيليريه، وفي غضون القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)
أخذت قبائل صقلبية (السلوفان والصرب والكروات والبشناق) تغزو مناطق إيليريه
حتى قضت على الإيليريين إلا في المناطق الجنوبية الغربية؛ حيث ينحدر منهم
اليوم الألبان.
إن كلمة (ألبان) مشتقة من كلمة (ألبانو) وهو اسم لقبيلة من قبائل الإيليريه
القديمة غلب اسمها على جميع القبائل الإيليرية، وأول من أطلق على الإيلير اسم
الألبان هم البيزنطيون قرابة عام 1018م. واللغة الألبانية قديمة وتختلف عن لغة
الشعوب الأوربية المجاورة، ونتيجة لوقوع الألبان بين الكنيستين الشرقية
(الأرثوذكسية) والغربية (الكاثوليكية) فقد انقسم الألبان المعتنقون للمسيحية إلى:
كاثوليك، وأرثوذكس وهم الأغلب.
كانت بلاد الألبان قبل وصول العثمانيين واقعة في منطقة الصراع بين
البيزنطيين والصرب والبلغار؛ مما أدى إلى احتلال الصرب للمناطق الشمالية،
وانقسمت البلاد إلى إمارات كثيرة. لقد بدأ العثمانيون في دخول الجانب الأوربي
من مضيق الدردنيل حوالي عام 1350م واستمرت الفتوح العثمانية حتى تحالف
الأوربيون بقيادة الصرب للوقوف في وجههم، ووقعت معركة كوسوفا المشهورة
عام 1389م التي قتل فيها السلطان مراد الأول رحمه الله وملك الصرب وبعد هذه
المعركة تم على مراحل فتح مناطق البلقان؛ وبانتصار العثمانيين في كوسوفا بدأ
الإسلام ينتشر بسرعة بين الألبان حتى أصبح دين غالبيتهم.
لقد دخل الألبان في نسيج الدولة العثماني ووصلو إلى أعلى المراتب في
السياسة والجيش؛ فمثلاً كان هناك أكثر من 40 من الصدور العظام (رئيس
الوزراء) من أصل ألباني، أما وجودهم في الجيش العثماني فقد كان بارزاً وكان
يطلق عليهم الأرناؤوط.
لقد انقسمت مناطق الفتح العثماني إلى قسمين أساسين: مناطق انتشر فيها
الإسلام ولكن لم يغلب على السكان مثل صربيا واليونان وبلغاريا، وأخرى غلب
الإسلام على أهلها مثل بلاد البشناق (البوسنة) وألبانيا. وطوال قرون عديدة كان
الصراع في هذه المناطق على أشده فقد كانت الممالك الأوربية تقوم بغزو هذه
المناطق وإثارة أهلها النصارى، بينما المناطق التي أسلمت كان لها دور كبير في
صد هذه الهجمات وإخماد الثورات. لكن مع ضعف الدولة العثمانية استقلت صربيا
عام 1830م، واحتلت النمسا البوسنة والهرسك عام 1878م، وبقيت المناطق
الألبانية تابعة للدولة العثمانية حتى عام 1912م؛ حيث انسحبت منها بعد حرب
البلقان.
وحتى نتصور مدى التأثير الإسلامي في المنطقة فإن من المهم أن نعرف أن
الحكم العثماني تراوح بين 40 سنة في كرواتيا وفديفودينا، وحوالي 380 سنة في
صربيا (كانت عاصمتها بلغراد يقطنها مئة الف نسمة عام 1600م ثلاثة أرباعهم
مسلمون، وبها 270 مسجداً لم يبق منها اليوم إلا مسجد واحد) و450 سنة في بلاد
البوسنة في كوسوفا و 547 سنة في مقدونيا. وكان لتسامح العثمانيين مع النصارى
دور كبير في استمرار وجودهم في هذه المناطق؛ بينما كانت سياسة التصفية هي
المعتمدة من قِبَلِ النصارى عند سيطرتهم على أي منطقة مما أدى إلى تضاؤل عدد
المسلمين في بعض المناطق وانعدامهم في البعض الآخر، ولم يبق لهم وجود قوي
إلا في المناطق التي اعتنقت الإسلام بشكل جماعي ومنها مناطق الألبان.
السلخ والتقسيم:
لقد كانت الثورات النصرانية التي تنجح ضد الدولة العثمانية تنتهي بالتسليم
الأوربي لهذه الشعوب المكافحة بالحق في تقرير مصيرها وإنشاء كياناتها المستقلة
بل والإشادة بصبرها وصمودها ضد الطغيان، وأما الشعوب العربية والإسلامية فإذا
قامت بثورة فإنها يُلبس لها ابتداءً جلد الثعلب: تشجع على التمرد بقصد إضعاف
الدولة وتفتيتها، ولكن في النهاية تسرق منها حقوقها بل ويصبح وجودها مجتمعة
مشكلة يجب حلها؛ ففي الثورة المسماة: (العربية الكبرى) تم إغراء الشريف حسين
بالثورة من أجل إقامة دولة العرب المستقلة، وفي النهاية مات الشريف حسين
حسيراً في المنفى بعد تقاسم ما كان يحلم أنه سيكون دولته؛ بل وإقامة دولة اليهود
على جزء منها.
أما الألبان فكذلك أسهموا في التخلص من الحكم الذاتي تحت سلطة الدولة
العثمانية ثم فوجئوا بتقسيم بلادهم بين الدول النصرانية، وما بقي لهم هو جزء
صغير يدين بوجوده لاختلاف الأسياد ليس إلا.
لقد بدأ الألبان التمرد على الدولة منذ 1910م وكانت صربيا تتحين الفرصة
لالتهام كوسوفا لأهميتها المعنوية والاقتصادية؛ فعلى الرغم من أن وجودهم السابق
فيها كان بوصفهم محتلين حيث إن الغالبية العظمى من السكان هم من الألبان؛ فإن
حصول معركة كوسوفا فيها عام 1389م كانت بداية النهاية للمملكة الصربية حيث
سقطت بلغراد عام 1452م، ولهذا فإنها تعني الكثير في محاولة تحقيق أحلام تكوين
صربيا الكبرى، وكان التمرد الألباني فرصة سرعان ما استغلتها؛ حيث تحالفت
دول البلقان الأرثوذكسية (صربيا والجبل الأسود وبلغاريا واليونان) من أجل تصفية
الوجود العثماني، وكان الألبان ضحية هذه الحرب حيث دغدغت فيهم أحلام
الاستقلال، وأثيرت فيهم القومية الألبانية فشاركوا في الحرب على أمل الاستقلال،
وقد حصل خروج القوات العثمانية وكما هي العادة عقد المنتصرون مؤتمر تقاسُم
الأسلاب والغنائم (لندن 1912/1913) وكان موضوع تقاسم الأراضي الألبانية
وتوزيعها هو الأصل، ولكن النمسا التي كانت تحتل كرواتيا والبوسنة ولم يكن لها
حظ في القسمة اعترضت على التقسيم حسداً لعدوتها صربيا وتم الوصول إلى حل
وسط برعاية الإنجليز؛ ألا وهو تقاسم الجزء الأكبر من الأراضي الألبانية (41
ألف كيلومتر مربع) وكانت كوسوفا هي جائزة صربيا مع ترضية النمسا والألبان
بإقامة كيان ألباني على جزء صغير من ألبانيا (28748 كيلومتر مربع) مع فرض
حاكم أجنبي هو (ويلهلم ويد) الذي بقي سبعة اشهر ثم اضطر للمغادرة.
كوسوفا تحت الحكم الصربي:
لقد بدأ الصرب منذ اليوم الأول لاحتلالهم كوسوفا بعمليات الإبادة والإبعاد،
وقد زادت بوقوع الحرب العالمية الأولى وتحوّل المنطقة إلى ساحة معركة بين
الصرب من جهة والنمسا وبلغاريا من جهة أخرى. وبعد الحرب وهزيمة النمسا
تمت مكافأة صربيا بإقامة المملكة اليوغسلافية (السلاف الجنوبيين) التي تضم صربيا
وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك وكوسوفا، واستمرت هذه الدولة حتى احتلال
يوغسلافيا من قِبَلِ الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية وقيام الجمهورية اليوغسلافية
الاتحادية، وقد تعرض الألبان إلى كثير من الممارسات في مختلف العهود، وفيما
يلي بعض الأمثلة:
مقتل حوالي 150 ألف ألباني، وتهجير عدد غير معروف (أثناء حرب
البلقان)
محاولة تغيير عقائد الألبان إلى الأرثوذكسية، وتحويل أسماء بعض القرى
والمدن إلى اللغة السلافية.
مصادرة أراضي الألبان ومنحها للمستعمرين الصرب وكانت كل عائلة
صربية وافدة تُمنح من 8-72 هكتاراً.
في 11 يونيو 1938م وقّعت مملكة يوغسلافيا مع تركيا الكمالية اتفاقية تنص
على تهجير 400 ألف أسرة ألبانية إلى تركيا خلال الثمانية أعوام التالية. وبالطبع
لم تنفذ هذه الاتفاقية لقيام الحرب ولكن توقيعها يدل على سياسة التصفية المنتهجة
مع ملاحظة أن 400 ألف أسرة يعني تقريباً 5، 1 مليون نسمة على أقل تقدير.
أثناء الحرب العالمية الثانية ووقوع يوغوسلافيا تحت الاحتلال الألماني،
أنشئت القيادة العليا لجيش التحرير الوطني لكوسوفا، وقد منحت امتيازات القيادات
المماثلة نفسها في صربيا وكرواتيا وسلوفينيا. وقد عقد مؤتمر لمجلس التحرير
الوطني لكوسوفا في بوبان في 31 ديسمبر 1943م حيث تبنى بالإجماع القرار
التالي: (إن للشعب الألباني الحق في الحكم الذاتي ولو أدى ذلك إلى الانفصال) .
ولم يعجب ذلك الحزب الشيوعي اليوغسلافي، واضطربت الأوضاع، وتم تصفية
كثير من الألبان؛ حيث قتل في المعارك مع قوات الشيوعيين أكثر من 47 ألف
ألباني، وفي يونيو 1945م تم إلغاء مقررات مؤتمر بوبان، واحتلت صربيا
كوسوفا من جديد حيث نص دستور يوغسلافيا الجديد (1946م) على تبعية كوسوفا
لصربيا باعتبارها إقليماً يتمتع بالحكم الذاتي، وقد ألغي الحكم الذاتي عام 1963م.
بعد الحرب بدأت مرحلة جديدة حيث وقعت الحكومة اليوغسلافية الشيوعية
عام 1953م اتفاقية جديدة مع تركيا من أجل تهجير الألبان على غرار اتفاقية
1938م. وقد قامت السلطات الشيوعية بحملة تصفية ذهب ضحيتها الآلاف من
الألبان، وقد هاجر حوالي 500 ألف الباني في الفترة من 19451960م إلى تركيا
ومختلف بلدان العالم.
وقد تنامى الضغط الشعبي للتحرر من السيطرة الصربية، ووافقت هوىً من
تيتو عندما أراد تقليص النفوذ الصربي؛ فتم إصدار قانون مستقل لمنطقة كوسوفا،
وفي دستور 1974م أصبحت كوسوفا إقليماً من الأقاليم الأساس المكوّنة للاتحاد
اليوغسلافي بإمكانها تنظيم القوات المسلحة للدفاع عن الإقليم والاستقلال المالي
والقضائي.
وبعد هلاك تيتو عام 1981م قامت مظاهرات للمطالبة بإعلان كوسوفا
جمهورية اتحادية خوفاً من ضياع الحكم الذاتي وقد قامت الحكومة الاتحادية بقمع
المظاهرات بضغط من الصرب الذين استغلوا هذه التطورات لإثارة المشاعر القومية
والدينية لدى الصرب؛ حيث برزت من جديد قداسة كوسوفا، ولعب على هذا الوتر
النجم الصاعد في ذلك الوقت سلوبودان ميلوسيفتش حتى وصل بفضلها إلى السلطة
في صربيا عام 1987م ليعد الصرب باستعادة كوسوفا وتكوين صربيا الكبرى.
بدأت عملية تأليب الرأي العام وتصوير أن صربيا تدافع عن أوربا ضد الإسلام
الذي يمثله الأتراك الجدد (الألبان) وأصدرت رابطة الكتاب في صربيا عام 1989م
مجلداً بعنوان كوسوفا (1389 1989م) ثم قام ميلوسيفتش بإلغاء الحكم الذاتي، وقام
بزيارة كوسوفا للاحتفال بمرور ستة قرون على معركة كوسوفا حيث قال: (معركة
كوسوفا بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم، ونحن مستعدون أن نضحي بثلاثمائة
ألف مقاتل صربي لاستئصال الإسلام من سراييفوا إلى مكة) !
كانت حادثة ضم كوسوفا هي القشة التي قصمت ظهر البعير حيث بعدها بدأت
الجمهوريات بالانفصال عن يوغسلافيا خوفاً من مصير كوسوفا.
أثناء حرب البوسنة وما بعدها قام الصرب وكأنهم في سباق مع الزمن
بتصرفات غير متزنة تدل على استعجالهم عملية هضم كوسوفا بالرغم من أن نسبة
الألبان حوالي 90% بينما تبلغ نسبة الصرب حوالي 5% أما البقية فهم أتراك
وبشناق وقوميات أخرى، وعلى سبيل المثال:
1- قام الصرب بتصفية المصانع والمؤسسات الألبانية وضمها لمثيلاتها
الصربية بدعوى عدم اقتصاديتها، كما تم الاستيلاء على بعض المؤسسات بدعوى
الخصخصة، وقد أدى ذلك إلى طرد أكثر من 150 ألف عامل من مؤسساتهم كما
تم طرد الأطباء والممرضين الألبان مما رفع كثيراً من البطالة وحرم الألبان من
الخدمات الصحية؛ نظراً لعدم الثقة بالصرب، مع ثبوت قيام الصرب بتسميم
حوالي 7000 طالب في كوسوفا في مارس 1990م كما تم الإعلان عن قانون جديد
يقضي بأن جميع المديرين الألبان سيتم الاستغناء عنهم وإحلال الصرب محلهم.
2- إلغاء حق التعليم باللغة الألبانية، وفرض المناهج الصربية: كما أوقف
البث الإذاعي والتلفزيوني باللغة الألبانية، واستولت السلطات على كافة المؤسسات
الثقافية في الإقليم.
3- تشجيع الاستيطان الصربي عن طريق تأمين الوظائف والرواتب العليا
مع الوحدات السكنية مع خطة إعلامية لطمأنة الصرب إلى الوضع الأمني في الإقليم. وقد تم توطين المهجرين الصرب من كرايينا والذين طردهم الكروات إلى
كوسوفا.
4- مضايقة المسلمين حيث تم الإكثار من نقاط التفتيش في تقاطعات الطرق؛
حيث يتعرض الألبان للتفتيش الدقيق والمضايقة، مع الإكثار من عمليات الدهم
والتفتيش؛ حيث يتعرض الأهالي للإهانة وتخريب الأثاث ونهب الأشياء الثمينة.
5- قيام القوات الصربية في الآونة الأخيرة ببناء الاستحكامات العسكرية
حول المدن؛ وهذه خطوة خطرة سبق أن أقدمت عليها هذه القوات في البوسنة حيث
تمت مهاجمة المدن وحصارها ودكها بالمدفعية؛ وسراييفو خير شاهد؛ فنسأل الله
أن يلطف بالمسلمين، وأن ينصرهم على عدوهم.
6- توزيع كميات كبيرة من السلاح على السكان الصرب في الإقليم مما زاد
من التوتر، حيث بدأوا يتحركون في الشوارع وهم يحملون السلاح في مظاهر
تشبه ما يحدث من المستوطنين اليهود في الضفة الغربية.
ردود الفعل الألبانية:
لقد كان رد الفعل الأولي على خطوة إلغاء الحكم الذاتي، هو اجتماع البرلمان
وإعلانه التمسك بالحكم الذاتي وقد تم إجراء انتخابات جرى فيها ترشيح إبراهيم
روجوفا (رئيس حزب الرابطة الديمقراطية الكوسوفي) رئيساً لكوسوفا، وتم تشكيل
حكومة في المنفى عام 1992م ولم يعترف بها سوى ألبانيا، وفي 22 مارس من
هذا العام أجريت انتخابات عامة لم تعترف بها بلغراد، وفاز بها روجوفا الذي يتبنى
النهج السلمي الرافض للعنف من أجل حل الأزمة. وكانت الحكومة الصربية
ترفض التفاوض حول إمكانية إعادة الحكم الذاتي مما أدى إلى رفع مستوى المطالبة
إلى الاستقلال بل وحق تقرير المصير لللألبان الموجودين في مقدونيا وصربيا
والجبل الأسود، بالإضافة إلى ظهور عامل جديد وهو جيش التحرير الكوسوفي فما
هو هذا الجيش؟
جيش التحرير الكوسوفي:
لقد أعلن هذا الجيش عن نفسه في إبريل 1993م لأول مرة ثم توالت
العمليات حتى أضطر الجيش والشرطة الصربية إلى شن حملات عسكرية كبيرة يتم
فيها محاصرة القرى وقصفها ثم اقتحامها، والقيام بعمليات إعدام عشوائية مما زاد
من النقمة وبدأ التلويح بالتدخلات الدولية من وزير خارجية بريطانيا إلى المبعوث
الأمريكي الخاص حيث إن تطور الأحداث يؤذن بتفاقم الوضع بشدة.
وقد قامت أمريكا بالضغط على الحكومة الاشتراكية في ألبانيا حتى أعلنت أنها
غير معنية بالاتحاد مع كوسوفا؛ ومع هذا فإن التعاطف الألباني واضح حيث إن
انتشار السلاح في ألبانيا سهل نقله إلى كوسوفا، وقد قام الجيش الصربي بمحاولة
سد الحدود مع ألبانيا، والعمليات في تصاعد حتى وصلت إلى حد قيام الألبان
بإسقاط طائرة ميغ صربية مما يعني تطوراً نوعياً في وسائل الحرب.
المأزق الصربي:
إن تعامل الصرب مع الألبان فيه كثير من عدم الاتزان فإذا علمنا أن عدد
سكان صربيا هو 9 ملايين وكوسوفا 5، 2 مليون فإن محاولة إلغاء وجود هذا العدد
من الألبان وشطب حقوقهم مع المحافظة على الاستقرار مهمة مستحيلة؛ ومن
الواضح أن أسلوب تعامل الشرطة والجيش الصربي سيؤدي إلى انفجار شامل فإليكم
هذا المثال البسيط:
على أثر ذلك قتل اثنان من رجال الشرطة الصرب فقامت الشرطة الخاصة
(ساج) فوراً باعتقال أول عشرة ألبان صادفوهم وتم إعدامهم (الوطن1/5/98) .
إن تصرفات الصرب السياسية والأمنية جعلت شعبية جيش التحرير
الكوسوفي ترتفع بسرعة كبيرة وبعد أن كانت العمليات محدودة وكان هناك تشكيك
بأن المخابرات الصربية وراء إقامة هذا الجيش لعرقلة العملية السياسية؛ فإن
تطورات الأحداث واتساع العمليات بصورة كبيرة جعل شعبيته كبيرة جداً بين
الألبان وخاصة الشباب. ومهما يكن فإن المشكلة الآن أن التنسيق بل والود مفقود
بين السياسيين الألبان وجيش التحرير؛ حتى إن جيش التحرير هدد بإعدام روجوفا
إذا فرط في الحقوق الألبانية، وحزب روجوفا يطلب تدخل أمريكا أو الحلف
الأطلسي من أجل خلط الأوراق، وهذه أوضاع لا تسر ولا تعين على حل الأزمة
وتحقيق الأهداف بأقل الأخطار الممكنة؛ فمن الواضح أن وجود جيش التحرير
ضروري لدفع الصرب للتنازل. ولكن في المقابل فإن سياسة كل شيء أو لا شيء
لا يحقق مصالح الشعوب دائماً؛ فأحياناً يكون الوضع غير ملائم للحصول على كل
الحقوق.
إنه ليس في مصلحة الألبان ظهور الشقاق على طريقة الحل في أول الطريق؛ حيث إنه من الواضح أنهم يحتاجون إلى كل هذه الطرق؛ فوجود شخصيات
سياسية تنادي بالحصول على الحقوق بالتفاوض لا يعني عدم الحاجة إلى جناح
عسكري قوي يضغط على الجهة الأخرى من أجل التنازل؛ وبالعكس فإن القوى
المسلحة لا تستغني عن واجهة سياسية من أجل الوصول إلى أقصى ما يمكن تحقيقه؛ فالواجهة السياسية المجردة عديمة الجدوى في واقع يقدس القوة؛ والقوة المجردة
معرضة للنجاح التام أو الإخفاق الشامل، ولهذا فإن التكامل ضروري بينهما؛ وفي
هذا العصر برزت منظمات أخذت بهذا النهج المبتكر؛ فالجيش الجمهوري
الأيرلندي يتكون من جناحين هما الجناح السياسي والجناح العسكري، وبالمثل
قامت حماس على هذا الخيار؛ حيث إن هناك جناحاً سياسياً واجتماعياً في مقابل
جناح عسكري فعال؛ فالذي نأمله ألا يترك الألبان الفرصة للمتربصين بهم لحرف
المعركة وخلط الأوراق؛ فإنه يجب ألا ينسوا أن ضم كوسوفا لصربيا تم بمباركة
الدول الكبرى وحتى أمريكا التي ترى في صربيا الحليف الوحيد الباقي للروس في
أوروبا فإنها تفضل حل الحكم الذاتي على بروز دولة جديدة تؤثر على التوازنات
الموجودة.(127/68)
مقالات معربة
حقيقة التفاوت
لماذا يجب على (إسرائيل) أن تمتلك أسلحة نووية؟
لويس رينيه بيريز
أستاذ العلوم السياسية جامعة بوردو أمريكا
الناشر: دورية براون جورنال تعريب المجموعة الإعلامية الدولي
(الولايات المتحدة)
- خاص بمجلة البيان -
(يلحظ القارئ الكريم أن هيئة الترجمة والإعداد قد أبقت على كثير من
الاصطلاحات والتعبيرات التي استخدمها كاتب المقال، كاستخدام كلمة (العدو)
للدلالة على البلدان الإسلامية، واستخدام كلمة (القدس) للتعبير عن (عاصمة الدولة
اليهودية) حيث يعتبر الكاتب كما ذكر في مقاله أن جعل (القدس) موضع تفاوض
على الطاولة الدبلوماسية هي (فكرة سخيفة) إلى غير ذلك من الاستخدامات
والصياغات التي تتلاعب بالحقائق لقلبها تمهيداً لتثبيتها حسب سياسة (الأمر الواقع)
تلك التي يتقن اليهود استخدامها) . ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... - المجموعة الإعلامية -
رغم أن من الصعب تخيل الأسلحة النووية عدا كونها أدوات تدمير سيئة، إلا
أن هناك حالات يكون فيها امتلاك دولة ما لهذه الأسلحة حامياً لها من حرب فاجعة
أو حتى من خطر الإبادة، ويتبع ذلك أنه ليس ضرورياً أن تكون جميع الدول التي
تنتمي إلى النادي النووي مصدر تهديد؛ وإسرائيل هي حالة خاصة دفاعية متميزة
لا يمكن الاستغناء عنها للسلام والأمن العالميين.
وإسرائيل هي حالة خاصة في هذا المجال؛ إذ إن نزع قدراتها النووية التي لم
يُكشف عنها حتى الآن نتيجة ضغوط خارجية سوف يجعل الدولة اليهودية عرضة
للهجمات الساحقة والتي تعجز العبارات عن وصفها من قبل دول معادية معينة.
لقد قدّم الدكتور عبد المنعم سعيد علي مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية في القاهرة وجهة نظر عربية مصرية فيما يتعلق بـ (القنابل النووية
الإسرائيلية) غير المعلن عنها في مقال له في عدد صيف خريف 1996م من مجلة
براون للشؤون الدولية تحت عنوان: (في ظل القنابل النووية الإسرائيلية: إدراك
التهديد المصري) ، ويعترف المقال بإصرار دولته على الضغط على إسرائيل من
أجل التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية؛ إلا أنه يبدو أنه نسي أن
إسرائيل تصيغ سياساتها الاستراتيجية ضمن مجرى الأحداث ولا يتم خلق هذه
السياسات في فراغ جيوسياسي، إنه من السخف القول إن قيام دولة إسرائيل عام
1948م (شكّل تهديداً أمنياً رئيساً لمصر) حتى اليوم وفي وجود سلام رسمي بين
مصر وإسرائيل، فإن الطرف المصري ضَمِنَ إبقاء هذا السلام عن طريق تسلح
مصري مستعد! .
ويخشى د. عبد المنعم سعيد من أن مصر مهددة من قِبَلِ إسرائيل؛ وذلك لأن
الدولة اليهودية تستمر في المحافظة على جناح يميني أصولي متعصب؛ إلا أن
الواقع يشهد أن حكومة نتنياهو رفضت إلغاء التنازلات المذلة لإسرائيل بشكل كبير
والمنصوص عليها في اتفاقيات أوسلو. وعلى الصعيد الآخر فإن القوى الأصولية
الإسلامية المتعصبة الحقيقية بإمكانها قلب حكومة مبارك في أي لحظة وإنهاء معاهدة
السلام المصرية الإسرائيلية وشن حرب عدوانية!
ويمكن للقارئ غير المطّلع أن يصل من خلال مقال عبد المنعم سعيد إلى
استنتاج مفاده أن تاريخ النزاع في الشرق الأوسط بعد 1948م يعود للعدوانية
الإسرائيلية المستمرة، في حين أن الرئيس عبد الناصر في ذلك الوقت طلب
انسحاب الأمم المتحدة من سيناء تمهيداً للهجوم على إسرائيل، فضلاً عن احتشاد
الجنود والدبابات المصرية على الحدود، وصيحات راديو صوت العرب،
وتصريحات حافظ الأسد بأن القوات العربية جاهزة لاقتلاع إسرائيل، ومع ذلك فإن
الدكتور عبد المنعم سعيد يصر على أن لجوء إسرائيل لضربة وقائية دفاعاً عن
النفس عام 1967م كان عملاً عدوانياً، ولا شك أنه لا توجد دولة في الشرق
الأوسط معرضة لحرب فاجعة كإسرائيل، ولذلك فحرمان إسرائيل من أسلحتها
النووية، يجعلها غير قادرة على تجاوز حرب أخرى.
إن إسرائيل تمتلك بالفعل تفوقاً نووياً في المنطقة، إلا أن هذا الوضع لا
يضمن على الإطلاق قوة متفوقة، وشاهد ذلك هو عجز إحدى القوى النووية
الرئيسة وهي الولايات المتحدة عن تحقيق التفوق ضد خصم من العالم الثالث وهو
فييتنام الشمالية: إن معضلة وجود إسرائيل عندما يتم النظر إلى صفاتها الرئيسة
هي ما يلي:
إن إسرائيل دولة صغيرة محاطة بدول معادية أكبر حجماً تزداد في التسلح
وهي تسعى للأمن من خلال إيجاد وسائل ردع معقولة، إن على القدس أن تخطط
مرة أخرى لأشكال مختلفة من التفوق العسكري الوقائي. إن الخيارات الأمنية
الإسرائيلية يمكن لها أن تتحسن في حال وجود آمال حقيقية لما يسمى: (عملية
السلام) لكن أيّاً من هذه الآمال ليس معقولاً في الوقت الراهن، واتفاقيات أوسلو مع
منظمة التحرير تبقى مضرة بالاحتياجات الأمنية لإسرائيل.
وإذا تساءلنا عن أنظمة الدفاع النشط كنظام آرو (السهم) المضاد للصواريخ
الباليستية الذي يشير إليه عبد المنعم سعيد: ألا يمكن لإسرائيل أن تتخلى عن
متطلباتها العسكرية الوقائية إذا تمكنت من نشر أنظمة دفاعية فعالة؟ إن العديد من
المشكلات تبرز في هذا المجال، أولها: أن نشر نظام السهم الدفاعي الإسرائيلي
يحتاج لأربع أو خمس سنوات. ثانيها أن رأساً واحداً نووياً أو آخر غير تقليدي لا
يتم اعتراضه بإمكانه إحداث دمار لا يمكن احتماله. إن الأنظمة الدفاعية النشطة
تتطلب قدرات قريبة من الكمال ولا يمكن تحقيق ذلك على أرض الواقع.
كيف يقترح عبد المنعم سعيد أن إسرائيل بإمكانها التعويض عن خسارتها
للعمق الاستراتيجي إذا أدت هذه الخسارة لقيام دولة فلسطينية؟ وهو ما يظهر أكيداً
الآن؛ فإن انتصار أعداء إسرائيل سيتم تقويته من قبل التصور العربي والإيراني،
وعند أخذ هذا التصور في الاعتبار فقد يصبح من الضروري على إسرائيل أن
تخرج قنابلها من (المخازن) لتحسين قدرة الردع، أو قد تظهر رغبة متزايدة في
البدء بضربات أولى ضد أهداف ثقيلة للعدو (!)
ولا شك أن بعض الدول العربية أو إيران ستقوم بالرد مما سيدفع للتوجه نحو
الخيار النووي بشكل علني، والقيام بالهجمات الأولى الوقائية، وعليه فإن نتائج
مسار أوسلو وهو ما يسمى: (عملية السلام) سوف يؤدي بالتأكيد إلى زيادة اعتماد
إسرائيل على الأسلحة النووية.
إن المشكلة لا تتمثل في أسلحة إسرائيل النووية، ولكن المشكلة الحقيقية هي
ذلك الجوار السيئ المسمى بالشرق الأوسط (!) وهي الالتزام العربي / الإيراني
باستئصال (السرطان اليهودي) . إن على الحكومة في القدس أن تدرك أن مسيرة
السلام هي مجرد طريقة مؤقتة للعدو، وحيلة مدبرة بشكل جيد من أجل التخلص من
إسرائيل.
إن الأسلحة النووية الإسرائيلية ضرورية لنجاة إسرائيل وكذلك لضمان
الاستقرار في المنطقة؛ فبدون وجود الأسلحة النووية فإنه حين تقوم القدس بشن
ضربات أولى وقائية غير نووية ضد أهداف عسكرية قد تهدد بالقضاء على إسرائيل
ستتسبب هذه الضربات الوقائية في بداية حرب واسعة، ولهذا السبب فإن أسلحة
إسرائيل النووية ستكون عائقاً أمام الاستخدام الفعلي لهذه الأسلحة وإشعال حرب
نووية إقليمية.
ولا يتفق عبد المنعم سعيد بالطبع مع ذلك، فهو يجادل أنه نتيجة للقدرة
النووية الإسرائيلية فإن على مصر البقاء معتمدة كلياً على النوايا الحسنة لإسرائيل،
ولكن لماذا؟ هل تسمح الأسلحة الإسرائيلية للقدس أن تطلب تنازلات سياسية أو
عسكرية من القاهرة؟ إن الإجابة بالطبع: لا، وهل يتوقع أن تقوم إسرائيل بهجوم
نووي من دون أي سبب أو أن تقوم إسرائيل بالتهديد بالبدء بحرب نووية؟
إن عبد المنعم سعيد يتجاهل الأسلحة الكيماوية والبيولوجية المصرية والعربية
التي بإمكانها أن تشكل عاملاً محبطاً فعالاً لأي رد إسرائيلي نووي، ولذلك فرغم أن
هناك احتكاراً نووياً إسرائيلياً (وهو احتكار مؤقت بشكل عارض) إلا أن هذا الردع
النووي يزداد عرضة لعدم الفعالية.
إن عبد المنعم سعيد يضع اللوم في الانتشار المتوقع للأسلحة النووية على
ضحاياها المحتملين، إن إسرائيل دولة لم تصدر أبداً تهديدات بالإبادة، ولم تطلق
هجمات صاروخية ضد تجمعات مدنية مثلما فعلت بعض الدول المجاورة!
ويدعي عبد المنعم سعيد أن إسرائيل قامت فعلياً بنشر بعض أسلحتها النووية
في أوقات الطوارئ القومية الخطرة، ورغم أنه ليس بإمكاني معرفة مدى صحة هذا
الادعاء وليس بإمكان البروفيسور عبد المنعم سعيد كذلك؛ فإن كل ما على العرب
القيام به من أجل تجنب استخدام إسرائيل للأسلحة النووية هو تجنب الاعتداء
بالأسلحة الكيماوية أو الهجمات التقليدية الشديدة ضد الدولة اليهودية.
وأخيراً نجد أن عبد المنعم سعيد يخطّئ إسرائيل (لرفضها المستمر منح
الفلسطينيين كيان دولتهم) وللإصرار العنيد على (احتلال الأراضي العربية بما فيها
القدس) إنه من السخرية أن يُظن أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قد منحت
الشرعية لفكرة اعتبار يهودا والسامرة [1] (أراضي عربية محتلة) أو سمحت
بالفكرة السخيفة: أن القدس موضع تفاوض على الطاولة الدبلوماسية، وبدلاً من
الإصرار على عدم وضع القدس وهو إصرار ضروري للخلاص الوطني موضع
تفاوض فإن الحكومات الإسرائيلية قد استسلمت بشكل متواصل للمطالب العربية
التي ستؤدي إلى فناء إسرائيل.
إن لدى إسرائيل الكثير مما تخشاه، وعلى القدس أن تدرك أن تحويل يهودا
والسامرة إلى فلسطين لن يجلب الاستقرار للمنطقة بل سيوفر الوسائل والحوافز
لتدمير الدولة اليهودية نهائياً. إن حرمان إسرائيل من هوامش إقليمية أمنية يجعلها
عرضة وبشكل جدي لهزيمة كاملة. إن مسألة الدولة الفلسطينية قد يكون لها توابع
وجودية لدولة إسرائيل؛ إذ إنه في اللحظة التي يتم فيها قبول فلسطين؛ فإن هذا
الكيان الذي يشبه لبنان قد ينتهي بهرمجدّون [2] ؛ وهو تحوّل ليس في صالح
الإسرائيليين والعرب على السواء في منطقة قابلة للانفجار بشكل دائم.
محاولة فهم الجدال:
لماذا تحتاج إسرائيل من وجهة نظر متعقلة للأسلحة النووية؟ نقدم فيما يلي
الإجابة: تحتاج إسرائيل للأسلحة النووية لأجل الأمور الآتية:
1- ردع هجمات تقليدية واسعة من قبل الدول المعادية.
2- ردع جميع درجات الهجمات غير التقليدية (بيولوجية، كيماوية، ونووية) .
3- استباق الهجمات النووية المعادية.
4- دعم ضربات أولى وقائية تقليدية ضد الأسلحة النووية لدى العدو؛ إذ
يمكن التهديد باستخدام الأسلحة النووية رداً على انتقام محتمل.
5- دعم ضربات أولى وقائية تقليدية ضد الأسلحة غير النووية لدى العدو؛
إذ يمكن التهديد باستخدام الأسلحة النووية ضد أي رد محتمل.
6- خوض حرب نووية، ورغم أن هذا السيناريو غير ضروري، إلا أنه
يجب أخذه بكل جدية من المخططين وصانعي القرار الإسرائيليين.
7- ممارسة (خيار شمشون) [3] .
وبالرغم من النتائج الفاجعة إلا أن إسرائيل تدرك أنه من الأفضل (الموت مع
الفلسطينيين) بدلاً من الموت وحدها؛ غير أن إسرائيل وهي تلجأ للأسلحة النووية
على أنها حل أخير لن تختار (الانتحار) أو تقوم بالانتحار بالضرورة.
خيارات الردع:
إن فعالية الأسلحة النووية في تلبية هذه الاحتياجات الأمنية لإسرائيل محدودة
وذات إشكالية عظيمة. إنه ليس بإمكان إسرائيل الاعتماد بشكل معقول على الردع
النووي من أجل الخلاص.
إن على إسرائيل أن تقنع المهاجمين المحتملين بأنها محافظة على الرغبة
والقدرة في الانتقام باستخدام الأسلحة النووية. وعندما لا تكون الدول المعادية
مقتنعة بأحد أو كلا هذين العنصرين الضروريين للردع النووي، فإن تلك الدولة قد
تختار القيام بالضربة الأولى.
إن أي دراسة للردع النووي الإسرائيلي ستبقي ناقصة من دون التطرق إلى
موضوع (الكشف) عن هذه الأسلحة. فعلينا أن ندرك أن الكشف عن هذه الأسلحة
يهدف إلى رفع مستوى إدراك العدو بالقدرات النووية الإسرائيلية أو الرغبة
الإسرائيلية في استخدام هذه الأسلحة.
إن الفوائد العملية للكشف عن الأسلحة النووية تنبع من التدفق المتعمد
للمعلومات حول الانتشار والتضاعف، وتقوية وسرعة وسرية أنظمة هذه الأسلحة
وبعض خواصها التقنية؛ مما سيخدم هدف إزالة الشكوك لدى أعداء إسرائيل،
والتي إذا لم يتم تحديها، فإنها قد تضعضع الردع النووي الإسرائيلي. إن تحريك
القنبلة من مخازن إسرائيل سيزيل شكوك العدو حول رغبة القدس في تنفيذ تهديداتها
الانتقامية.
إن الكشف عن طبيعة الرد الإسرائيلي بشكل عام وغير مفصل قد يساهم في
الردع النووي الإسرائيلي إلى المدى الذي يوضح فيه الرد الإسرائيلي الاستراتيجي
أشكالاً مختلفة ومتدرجة من الثأر. إنه بغير هذا الكشف فإن الأعداء سيبقون
يخمنون ماهية الردود الإسرائيلية المحتملة، وهي حالة من الشك التي قد تخدم
الأمن الإسرائيلي لمدة أطول إلا أنها قد تخفق بشكل كامل في وقت آخر.
وفي كل الأحوال: فإن الأسلحة النووية هي عمل سيئ جوهرياً. إلا أن
إسرائيل لا تعيش في عالم مثالي؛ وذلك لأسباب ليست من صنعها؛ ولذلك فإن
عليها الاستمرار في الاعتماد على هذه الأسلحة من أجل تحقيق خيارات ردع
ضرورية، ومن أجل تحقيق خيارات وقائية، ومن أجل تحقيق خيارات الحرب
النووية وحتى من أجل تحقيق خيار شمشون؛ وهذا يعني أنه ليس بإمكان إسرائيل
أن تتفاوض حول أسلحتها النووية على شكل اتفاقات دولية خصوصاً في خضم ما
يسمى (عملية السلام) وما يرافقها من قيام دولة فلسطينية. وطالما أن إسرائيل
مجبرة على التحمل في ظل مخاطر تهدد وجودها، فإن على الأعداء الإقليميين
للدولة اليهودية أن يتحملوا وجود القنابل النووية الإسرائيلية.
__________
(1) هذه هي التسمية اليهودية للضفة وقطاع غزة ... ... ... ... ... ... - البيان-.
(2) هذا اسم الحرب النهائية بين اليهود وأعدائهم، كما جاء في كتبهم (المقدسة) ... - البيان -.
(3) (خيار شمشون) اصطلاح عسكري إسرائيلي، يعني لجوء إسرائيل إلى التضحية بنفسها وبأعدائها عند تعرضها لخطر الزوال ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.(127/76)
قضايا ثقافية
أسطورة شادي عبد السلام [*]
اتجاهه الفني ونزعته الفرعونية
د. أحمد إبراهيم خضر
شادي عبد السلام، أحد فناني السينما، يطلقون عليه (المفكر وشهيد
الفن) [1] ، وهو مخرج سينمائي مغمور ذو شهرة محدودة لا يعرفه عامة الناس، لكن رجال السينما والفن ينظرون إليه على أنه عبقري وأسطورة، قالوا عنه ما نصه: (أي عظمة وأي شموخ، وأي تراجيديا لعبقري مصري أفلتناه من أيدينا، نحن أنفسنا الذين نحمل وزر دمه المسفوح على كواهلنا جميعاً) [2] .
تركزت الأضواء على شادي عبد السلام بعد أن كتبت عنه الصحف الفرنسية
ومنحه الغرب عدة جوائز أهمها جائزة (جورة سادول) عام 1970م عن فيلمه
(المومياء) ومنحته بريطانيا، وإيطاليا، وأسبانيا عدة جوائز أيضاً، كما منحه
المركز (الكاثوليكي المصري) جائزة شرف عن مجمل أفلامه عام 1975م [3] .
لماذا شادي بعد هلاكه؟
ورغم أنه مات منذ عشر سنوات إلا أن الأضواء عادت تتركز عليه الآن
وتضعه جنباً إلى جنب مع الرموز التي أخذت على عاتقها مهمة تهميش الإسلام
وتخريبه من داخله. كان الهدف العام لبعض المثقفين العرب وعلى الأصح
(العلمانيون منهم) ترك مهمة مكافحة الإسلام على حد قول المستشرق الألماني
(ألكسندر فورس) لما يسمونهم بممثلي الإسلام المستنير وعلى أرض الإسلام ذاته من
جانب إسلاميين عقلانيين، على أساس أن الهجوم على الإسلام من مواقع غير
إسلامية سيقوّي جانب ما يسمونهم بالإسلاميين الراديكاليين ويكسبهم أرضاً
جديدة [4] .
لكنّ تبني العلمانيين العرب لشادي عبد السلام في هذا الوقت بالذات أضاف
بعداً ليس بالجديد في مواجهة الإسلام، ولكنه محاولة لبعث الحياة في قلب ميت،
إنه في نظرهم فنان مبدع يدرك أن قيمة الوجود إنما تكمن في الصراع ضد
المألوف [5] قضى حياته متبتلاً في محراب الفراعنة؛ فاستغلوه ليطعنوا الإسلام عبر دعوته إلى إحياء الفرعونية، واتسقت محاولتهم هذه مع الخط الجديد الذي يواجهون به المد الإسلامي المتنامي المتمثل في إعادة طبع ونشر كل فكر وكل قضية وكل رواية وكل كتاب له موقف ضد الإسلام، فطبعوا ذلك كله بالملايين وباعوها بسعر زهيد جعلوه في متناول رجل الشارع، وقد أصدروا حتى الآن ثمانية عشر مليون نسخة في تسع سلاسل بالإضافة إلى الكتب والمجلات الأخرى.
مثقف لا يعرف الثقافة! !
كان شادي عبد السلام يكتب أفلامه باللغة الإنجليزية؛ وكانت قراءته باللغة
العربية محدودة للغاية ولهذا قيل عنه: (إنه من المثقفين العرب الذين لا يعرفون
الثقافة العربية! !) [6] .
وصفه أحد محبيه بقوله: (إنه ارستقراطي التفكير، إنساني النزعة، يضيق
بالإيديولوجيات الجاهزة وفكرة النظم الشمولية، ثقافته وتكوينه أوروبي رغم جذوره
المصرية ... علماني، راديكالي النزعة) [7] .
تبناه المخرجون الأجانب وعلى رأسهم الإيطالي المعروف (روبرتو
روسلليني) ، وأعجب به سينمائيون أجانب مثل (جون راسل تيلور ودافيدروبنسون) . كان يلتقي بالمخرجين العالميين في القاهرة متيحاً لنفسه ولتلامذته فرصة النقاش
الشخصي والاحتكاك المباشر بل والتسكع معهم في أزقة الحسين، وأحياناً في
الملاهي الليلية الرخيصة بنص عبارة (محمد كامل القليوبي) [8] ، قال شادي عبد
السلام يوماً لأحد الصحفيين: (هل أقول لك سراً.. هل تعلم أنني صممت أول بدلة
رقص لتحية كاريوكا، هذه السمراء الجميلة، أحس فيها بأصالة تمتد إلى قرون
الماضي وزهوه) [9] ، هذا هو شادي عبد السلام: الفن والحرية عنده قرينان لا
ينفصلان وينادي دائماً بأنه لا مساومة في الفن) [10] .
صِلاته بالغربيين!
وصفه أحد تلاميذه بأنه (ودود عطوف رقيق المشاعر وحنون) حتى إنه بلغ
به الأمر أن تبنى أخاً أصغر لأحد أصدقائه المقربين آنذاك وألحقه بإحدى المدارس
الخاصة الأجنبية (الجزويت) على ما أعتقد أو ربما (الفرير) ! ! [11] .
كان هذا الفنان العبقري كما وصفوه يضع على رفوف مكتبه لوحة أصلية
للمستشرق الإنجليزي (دافيد بروتس) في إطار رقيق مذهّب، وفي رف آخر كان
يضع (أيقونة خشبية عن صلب المسيح!) . وصف أحد أصدقائه ختام ليلة احتفالهم
بعيد ميلاده قائلاً: (وتنتهي بما يفضله: بالسماع إلى موسيقى فاجنر (ترسيتان أند
إيزولدا) ، فيسبح على المكان أنغام تنساب إلى الوجدان والجميع صامت، ويحول
(شادي) هذه الأسطوانة الكربونية إلى مسرح حي بشرحه وتعليقاته) [12] .
لم يشغل الإسلام حيزاً واضحاً في عقل (شادي عبد السلام) ووجدانه بقدر ما
كان يشغله الأوروبيون والفراعنة، وقديماً قال العلماء: (قبول المحل لما يوضع فيه
مشروط بتفريغه من ضده.. فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه
لاعتقاد الحق ومحبته موضع) [13] .
لهذا احتُفيَ به!
أهّلت كل هذه المواصفات (شادي عبد السلام) ليحتل موقع الصدارة مع (طه
حسين) ، و (نصر حامد أبو زيد) في عدد خاص من ستمائة وأربع وخمسين صفحة
خصص له وحده أكثر من نصفها أخرجته شلة من المثقفين العرب: جنود الخط
الأول في المواجهة للدفاع عن (العقلانية) ،المتسلحين بما يطلقون عليه: (الفكر
الحر والمتقدم) من أجل صياغة مشروع ثقافي وفكري مستنير! [14] ضد الذين
يتخرّصون بتسميتهم بدعاة الجمود الذين يريدون الإبقاء على موروثاتهم دون تغيير، والذين يقدمون القرابين للسلف الصالح [15] ، المتعلقين على الذات [16]
المنادين بالعودة إلى ماض وهمي [17] ، على حد قولهم.
لم يكن الأمر بالنسبة لـ (شادي عبد السلام) مجرد فن؛ فقد كان يحمل عبر
أعماله الفنية موقفاً اجتماعياً وفكرياً محدداً [18] ، وهو الدعوة إلى إحياء الفرعونية، قال عنه أحد تلاميذه: (علّمنا شادي أول ما علّمنا هو أن نحيا الحضارة المصرية
القديمة، وأننا امتداد لها نحملها في داخلنا ... عاش فعلاً بيننا كأحد الفراعنة العظام
ولم يتخل لحظة في حياته عن هذا الاعتقاد) [19] .
الفرعونية بين القبول والرفض:
أعادت هذه الحفنة من المثقفين العرب فكرة إحياء الفرعونية لمواجهة الإسلام
من على نعش (شادي عبد السلام) واستماتوا في بيان عدم التعارض بينهما [20]
رغم أنهم يعلمون تماماً أن المسؤولين عن السينما المصرية رفضوا الموافقة على
سيناريو فيلمه الشهير (المومياء) لأنه مضاد آنذاك لدعوة الدولة للقومية
العربية [21] فما بال الأمر بالنسبة للإسلام؟
اعتقد (عاشق الفرعونية) أن قيام نهضة حقيقية لمصر الحديثة في كل دروب
الحياة تتعذر ما لم يُعِدِ المصريون اكتشاف وتقييم واستلهام تراثهم القديم [22] هذا
التراث ليس هو الإسلام بالطبع وإنما هو تراث الفراعنة، لهذا فإنه يرفض نعوت
الجاهلية والوثنية المنسوبة إلى هذا التراث، بل يرى في هذا التراث بأبعاده الدينية
والأخلاقية والفلسفية فكراً راقياً ومصدراً روحياً لرقي مدني شامل، مؤمناً تماماً
بمقولة عالم المصريات الأمريكي (بريستيد) بأن هذا التراث يمثّل فجر ضمير
البشرية [23] .
لهذا نرفض الفرعونية:
ولا يغيب عن ذهن (شادي عبد السلام) ودعاة الفرعونية أن تأصيل النهضة
والرقي يمكن أن يكون إسلامياً؛ فهم يتابعون ما يسمونه (بمنطق السلفيين في
النهضة) فيرفضون ما يسمونه (بتقليد المظاهر والقشور كما في اللغة والزي
والشكليات والطقوس) وينادون بمنطق تعمق فهم الفرعونية الذي يفجّر في نظرهم
طاقات خلاّقة تسهم في خلق مجتمع أكثر استنارة وذوقاً واعتداداً بالنفس [24] .
ويعرف دعاة الفرعونية موقف الإسلام من (بعض) أفرع الفن وتحريمه لها،
ويرون أن هذا التحريم قد عرقل تطور الفنون في مصر، وأدى إلى وجود مجتمع
فقير حضارياً وإنسانياً لا يقدّر العمل المبدع بسبب افتقاره إلى الروح الفنية، وعلاج
ذلك عندهم لا يكون إلا بإحياء الوعي الفني لمصر الفرعونية والإحساس بالجمال
عند المصريين القدماء وفوق ذلك كله (محو هذا التحريم) حتى تتحرر العقول
وتبحث بحرية في التراث الفلسفي والأدبي والأسطوري الفرعوني [25] .
الفنان إذن لا يعود إلى الماضي في عمل فني مجرد باعتراف نقاد السينما
لمجرد العودة إلى الماضي وإنما ليعبر عن وجهة نظره في الحاضر والمستقبل [26] .
نشأة شادي ومدرسته الفكرية:
تربى (شادي عبد السلام) في كلية فيكتوريا بالإسكندرية [27] ودرس في
إنجلترا وكانت ثقافته أوروبية وتكوينه أوروبياً؛ فكيف ربط ذلك بماضيه الذي يعتز
به ويريد أن يعود إليه ممثلاً الفرعونية؟
فلسف (مريدي النحاس) حل هذا التناقض بقوله: (إن شادي يعتقد أن إعادة
الاتصال بمصر القديمة يمكّننا في الوقت نفسه من مدّ جسر يربطنا بالحضارة
المعاصرة التي بدأت أوروبية وأضحت عالمية، وإن جذور الحضارة الأوروبية
الحديثة لا تعود إلى اليونان وروما القديمة إنما إلى حوض البحر المتوسط الذي
لعبت مصر دوراً كبيراً في صياغة ملامحه الفكرية والعلمية والدينية ...
إن إحياء الوعي بالتراث القديم يزيد من حجم الأرضية المشتركة بيننا وبين
الغرب ... إن من ساهم في إرساء حجر الأساس له أولوية المشاركة في الحوار
العالمي كشريك كامل الحقوق وليس مجرد المراقبة والاستحسان أحياناً والنفور
أغلب الأحيان) [28] .
وانطلاقاً من هذه النقطة بالذات استغل (مريدي النحاس) شادي عبد السلام إلى
أبعد الحدود ليقودنا به إلى منعطفات خطرة من شأنها أن تُقصي الإسلام تماماً عن
حياة الناس، وتدمّر عقيدة الإسلام شكلاً وموضوعاً.
ركز (النحاس) على أن أوروبا لم تنهض إلا بعد أن عادت إلى التراث
اليوناني والروماني واستلهمته في تطوير أنماط جديدة من الفكر والفلسفة والعلوم
والفنون والسياسة، وأراد منا أن نستلهم من الفرعونية ما يزوّدنا بما يسميه بالقوالب
والإيحاءات أو معالم الطريق!
القصد الحقيقي للنحاس أن يقول لنا: إن أوروبا قد اختصرت الطريق علينا
باستيعابها تراث اليونان والرومان الذي يمثل الأرضية المشتركة بيننا وبين الغرب؛ لأن مصر قد شاركت فيه تحت بوتقة حضارة البحر المتوسط، وإن علينا أن نأخذ
هذه الإنجازات كفراعنة وليس كمسلمين.
وهذه الإنجازات المدمرة لعقيدة المسلمين يمكن تحديدها على النحو التالي:
1- الأخذ بالنزعة الإنسانية على النسق الروماني: بمعنى أن يصبح الإنسان
هو مقياس الأشياء جميعاً مع التركيز على حياته في هذه الدنيا وعدم إعطاء القيم
الدينية المكانة العليا، وأن يسعى الإنسان إلى سعادة نفسه دون ضمان أو دعامة من
الله جلّ وعلا أو الاعتقاد في جنات مقيمة، مع تغيير مفهوم (الألوهية) الذي يعرفه
الناس إلى مفهوم اجتماعي كالقول بأن (الله) هو المُثُل العليا، أو أنه الذات الشاملة
في كل منا، أو أنه إرادتنا الخيّرة، ثم تغيير مفهوم (الدين) بحيث يصبح مسألة
اتجاه أو موقف لا مضمون؛ فيكون الدين على سبيل المثال أي دعوة منظمة تنظيماً
اجتماعياً تنجح في كسب ولاء الناس وعواطفهم ... إلخ [29] .
2- عدم الانشغال بالأمور الدينية والانشغال أساساً بالأمور الدنيوية التي تدور
في فلكها حياة الإنسان.
3- إطلاق الحرية لازدهار الفنون دون اعتداد بقيود أو محرمات.
4- تقوية المنهج العقلاني الذي يرون فيه الإصلاح الجذري للدين.
5- العمل على إيجاد دين (متنوّر) يرتكز على اعتبار الأديان غير المنزَلة
أدياناً إلهية، ونفي احتكار الدين المنزّل للحقيقة والفضيلة، وترك الباب مفتوحاً
للاجتهاد البشري في المسائل الدينية.
6- إخضاع الكتب المقدسة للتمحيص المنطقي لاكتشاف التناقضات الظاهرة
فيها والابتعاد عن التفسير الحرفي للكتب المنزلة، والاتجاه إلى التفسير الرمزي
لمتضمناتها.
7- تحويل الدين إلى دين يرتبط بالضمير الفردي والعلاقة المباشرة بين الفرد
وربه من غير ارتباط له بشؤون الحياة والمجتمع [30] .
دعوات مشبوهة لترسيخ ذلك المنهج!
ثم يدعو (النحاس) إلى ثلاث خطوات عملية من شأنها تكملة ما يسميه:
(مشوار شادي عبد السلام) بحثاً عن الأصول وهي:
1- تخصيص كلية أو أكاديمية لدراسة الفكر الفرعوني ترتبط بالمجتمع
المصري ارتباطاً وثيقاً، وتكون على اتصال بأقسام ومعاهد المصريات بالخارج.
2- إدخال الفنون والمعتقدات والأساطير والعادات والحكم الفرعونية والأدب
المصري القديم في مناهج التعليم.
3- إدخال الفكر الفرعوني بشكل أو بآخر في برامج أجهزة الإعلام ليس على
أساس أنه مجرد تاريخ وإنما كفكر يرتبط بالأوضاع الحاضرة.
وعلى أكتاف (شادي عبد السلام) يحمل (النحاس) نزعة طائفية تزيل
الاختلافات بين الإسلام والمسيحية فيدعو إلى ما يسميه باكتشاف الأصول المشتركة
بين الأديان السماوية والطقوس والمعتقدات المصرية القديمة؛ حيث يرى في
الأخيرة منبعاً للفكر الديني كله للشرق والغرب معاً وهو ما يطلق عليه: عملية
(توسيع أفق الفكر الديني) [31] والخاسر الوحيد في هذه العملية هو الإسلام.
أي توحيد جاء به أخناتون؟ !
استوحى (النحاس) هذه الفكرة من حلم (شادي عبد السلام) الذي لم يتحقق وهو
إنتاج فيلم عن (أخناتون) أحد ملوك الفراعنة القدماء والمعروف بدعوته إلى التوحيد!!
اعتقد (شادي عبد السلام) أن دعوة أخناتون إلى التوحيد تعني أن هناك قاسما
مشتركاً بين المعتقدات المصرية القديمة والديانات السماوية؛ فاستنتج أن الوحي
الإلهي لم يقاطع القدماء؛ وأنه كان ينزل عليهم كما كان ينزل على رسل الله؛ ومن
ثم فإنه ليس من حق أصحاب الديانات السماوية أن يعتقدوا أنهم أصحاب الحقيقة
المقدسة دون غيرهم [32] .
يفهم نقاد السينما تماماً أنه لا ارتباط بين توحيد أخناتون والتوحيد في الإسلام؛
إذ إن أخناتون منع تعدد الآلهة وتجسيد الإله، ولكنه حصره في عبادة قرص الشمس
المجرد واعتبر نفسه ابن الإله وتجسيد الإله الواحد [33] ، وإذا صدق هؤلاء النقاد
في قولهم: إن (شادي عبد السلام) (المسلم ديناً) كان يدرك الفرق بين توحيد
أخناتون والتوحيد في الإسلام [34] فَلِمَ كان يصرّ على إنتاج فيلم عن أخناتون؟ ولِمَ
امتلأت معظم سيناريوهات أفلامه بعبارات الشرك والوثنية على لسان أبطاله من
الفراعنة، وهذه نماذج لها على سبيل التمثيل لا الحصر: (أيتها الآلهة أقبلي
واحميه داخل أحشائي إيزيس تخاطب آلهة الشمس في السماء الطفل المبجل بين
الآلهة إنك في حماية الابن الأول الذي في السماء الذي آل إليه نظام الأرض قبل أن
تكون هناك أرض أنا حور الإله العظيم رب السماء.. إله هذه البلاد، واستحوذ
على ملك الأرضين هكذا يأمر الفرعون الرب العظيم ابن الشمس إله الوجهين حاكم
التيجان الخالد المخلد) [35] .
هذا هو (شادي عبد السلام) العبقري الأسطورة! ! الفرعوني النزعة
الأوروبي التفكير، ذو الفكر الديني المشوّش، باسمه تحرك الطائفيون لإرساء
القواعد التي من شأنها أن تزاحم الإسلام على مستوى التعليم والإعلام والفكر،
وباسمه أيضاً ألقى نفر من المثقفين العرب حجراً قديماً يرمون به الإسلام،
وليضيفوا إلى قائمة أسمائهم المعروفة اسماً مغموراً صقلوه وأظهروه على السطح
حتى يكون سنداً لهم في محاربتهم لما يسمونه (بالأنا الغازي) بحثاً عن حلم اسمه
(النهضة المفقودة) [36] .
__________
(*) شادي عبد السلام مخرج سينمائي وفنان تشكيلي ومهندس معماري ولد في الإسكندرية في 15 مارس 1930م، درس فيها بكلية فيكتوريا، وتخرج من كلية الفنون الجميلة في عام 1954م، ثم درس الدراما في بريطانيا عام 1956م، قام بتصميم مناظر بعض الأفلام المصرية والأجنبية، وحصل على عدة جوائز محلية وعالمية، علا صِيته بعد أن حصل فيلمه (المومياء) على جائزة فرنسية، وهو يساري ليبرالي راديكالي سُمِّي بالعاشق المتبتل في محراب الفراعنة، أضاع معظم سني حياته وأفلامه في عرض وإبراز زمن الفراعنة وآلهتهم وعباداتهم؛ مؤمناً بأن الفرعونية هي مصدر روحي لرقي مدني وشامل يمكن أن ينقذ مصر من أزمتها، ويرفض كل اتهامات الجاهلية والوثنية المنسوبة إلى الفرعونية مات بالسرطان في أكتوبر، 1986م اعتمدنا بصفة أساسية في عرض هذه المقالة عن شادي عبد السلام على العدد (الخاص) 159 الذي أصدرته مجلة القاهرة في فبراير، 1996م كُتب في هذا العدد عن شادي عبد السلام اثنان وأربعون موضوعاً ما بين دراسة وتحليل وعرض شهادات ونصوص وحوارات لشعراء وصحفيين وفنانين ونقاد سينما ومحللين نفسيين وكتاب ومترجمين ومذيعين ومستشارين، ولهذا سنكتفي في تخريج هذه المقالة بذكر أرقام الصفحات، ويمكن للقارئ المهتم الرجوع إلى الموضوع ومؤلفه.
(1) مجلة القاهرة، العدد الخاص 159/2/1996، ص 355.
(2) السابق، ص 125.
(3) السابق، ص 14.
(4) ألكسندر فورس، المثقفون المصريون، الإسلام السياسي والدولة، مجلة الاجتهاد، ع/14/1992م، بيروت، ص 199.
(5) مجلة القاهرة، العدد الخاص، تابع، ص 134.
(6) السابق، ص 149.
(7) السابق، ص 356.
(8) السابق، ص 49.
(9) السابق، ص 36.
(10) السابق، ص 56.
(11) السابق، ص 62.
(12) السابق، ص 26.
(13) ابن قيم الجوزية، الفوائد،، منشورات دار الكتب العلمية، 1403 هـ، 1983م، بيروت، ص 38.
(14) مجلة القاهرة، ع/156/11/1995م، ص 3.
(15) غالي شكري، مجلة القاهرة ع/157/12/1995م ص3.
(16) مجلة القاهرة، ع/134/1/1994م، ص3.
(17) مجلة القاهرة، ع/156/11/1995م، ص3.
(18) مجلة القاهرة، (العدد الخاص) ، تابع، ص 42.
(19) السابق ص 47.
(20) السابق، ص 147.
(21) السابق، ص 47.
(22) السابق، ص 7.
(23) السابق، ص 8.
(24) السابق، ص 8.
(25) السابق، ص 9.
(26) السابق، ص 147.
(27) أنشأ (اللورد كرومر) كلية فيكتوريا بالإسكندرية عام 1936م، لتربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي ليكونوا أداة المستقبل في نقل ونشر الحضارة الغربية قال اللورد (لويد) المندوب السامي البريطاني في مصر حينما افتتح هذه الكلية: (كل هؤلاء لن يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية بفضل العِشرة الوثيقة بين المقيمين والتلاميذ) انظر التغريب، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص 146.
(28) مجلة القاهرة (العدد الخاص) ، ص 10، 11.
(29) هنترميد، الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، ترجمة فؤاد زكريا، القاهرة، 1975م، ص 395 وما بعدها.
(30) مجلة القاهرة (العدد الخاص) ، تابع، ص 9 12.
(31) السابق، ص 9.
(32) السابق ص 9.
(33) السابق، ص 150.
(34) السابق، ص 156.
(35) السابق، ص 78، 173، 81، 78، 83، 352.
(36) مجلة القاهرة، (العدد الخاص) ، ص 61.(127/82)
قضايا ثقافية
نزار الذي شغل الناس حياً وميتاً
أضواء على حياته وأقواله وأشعاره
إبراهيم بن محمد الحقيل
نبذة عن حياته
ولد نزار قباني في دمشق عام 1923م في بيت موفور الرزق؛ حيث كان
والده تاجراً كبيراً، وكان له عم شاعر ومؤلف وممثل ومسرحي هو أبو خليل
القباني، وكان لحياة الترف التي عاشها واتصاله بعمه تأثيراً في حياته الشعرية.
نشأ نشأة عادية؛ إلا أنه كان مشغوفاً بالرسم منذ صغره، وبعد إنهائه دراسته
الثانوية، اشتغل بدراسة الحقوق التي أنهاها عام 1945م، ثم التحق بوزارة
الخارجية السورية واشتغل في السلك الدبلوماسي، ثم ترك ذلك أو أُبعد عنه، فهاجر
إلى لبنان وأسس فيها داراً للنشر، وأقام فيها، ثم كان هلاكه في لندن عن خمس
وسبعين سنة [1] .
حياته الشعرية:
ألف كتاباً ذكر فيه سيرته الذاتية وكثيراً من آرائه وأفكاره أسماه: (قصتي مع
الشعر) وكان ظاهراً فيه غروره وإعجابه بنفسه وكثرة إطرائها إلى حدٍ مخجل عند
العقلاء، وسيأتي من ذلك مقتطفات للدلالة على بعض النقاط المذكورة في بعض
مباحث هذه الدراسة المختصرة.
ويرى كثير من النقاد أنه تميز في بداية حياته الشعرية بهجر المدرسة
الكلاسيكية في الشهر العربي، ونحا نحواً جديداً في التعبير عن عواطفه الهائجة،
وكرس شعره في المرأة والجنس في الوقت الذي كان العرب يعيشون حالة استنفار
ضد الاحتلال الإسرائيلي، ثم بدأ يصحو من سكرة اللهو والجنس الشعري في حرب
السويس (1956م) واكتملت صحوته عقب نكسة (1967م) [2] .
بيد أن صحوته لم تكن صحوة إسلامية، وإنما كانت ثورية قومية جاهلية على
طريق معظم الساسة والقادة العرب ذاتها آنذاك.
ويرى بعض النقاد أنه ما نحا هذا النحو القومي في شعره إلا لأن جماهيره
عزفت عن شعره الماجن اللاهي العابث؛ في الوقت الذي كانت الأمة العربية
تتكالب عليها القوى المعادية، فاتخذ خطاً قومياً حتى يواكب ما فرضته القومية
آنذاك، وحتى ترضى جماهيره وتعود إلى شعره.
ويؤيد هذه الرؤية ما يلاحظه المتتبع لأحاديث نزار ومقالاته ومقابلاته من
غروره واستعلائه وإعجابه بنفسه، وبحثه عن الشهرة والأضواء أينما كانت وبأي
أسلوب كان؛ بدليل عودته إلى شعر المرأة والجنس بعد أفول نجم الحديث عن
النكسة، والتغني بالقومية. وغروره وإعجابه بنفسه لا يخفيه بل يظهره، ويجعل
ولادته ربيعاً على الأرض العربية التي ظلت بعيدة عن الإبداع حتى رُزقت نزاراً
كما هو ظاهر في قوله: (يوم ولدت.. كانت الأرض في حالة ولادة، وكان الربيع
يستعد ليفتح حقائبه الخضراء، الأرض وأمي حملتا في وقت واحد، ووضعتا في
وقت واحد) . ومن أقواله التي تبين غروره وإعجابه بنفسه: (نصف مجدي محفور
على منبر (الوست هول والشابل) الجامعة الأمريكية في بيروت، والنصف الآخر
معلق على أشجار النخيل في بغداد، ومنقوش على مياه النيلين الأبيض والأزرق
في الخرطوم) .
بل يعترف صراحة أنه ما سلك هذه الطريق القذرة في الشعر إلا من أجل
الشهرة وإرضاء الناس على حساب الدين والقيم؛ حينما يقول: (شعر الحب الذي
أصبح جواز سفري إلى الناس لم يكن في الحقيقة إلا واحداً من مجموعة جوازات
استعملتها) .
فالغزل الجنسي قبل النكسة كان جوازاً، ثم الشعر القومي في أثناء النكسة
جاء جوازاٌ آخر؛ حيث لم يعد الجواز الأول يحقق الشهرة والأضواء يومها، ثم
العودة إلى الجواز الأول بعد أن فقد الثاني بريقه بذهاب زمن القومية وحلول زمن
السلام البارد ثم الدافئ ثم التطبيع.
ويزيد من تأكيد هذه الحقيقة مقولته المشهورة: (دعوني أعترف لكم أنني
بالرغم من شهرتي شاعر حب فإنني نادراً ما وقعت في الحب) [3] .
نزار في الميزان:
لا يشك كل مطلع على شعره ونثره في زندقته وإلحاده، حيث تعدى على
الذات الإلهية، واستهتر بالشرائع السماوية، وجعل رضى حبيبته موصلاً له إلى
مقام الربوبية أو الرسالة، وتقريره أن الحياة مجرد لهو وعبث ومجون، هدف
الإنسان فيها تحصيل الشهوات والملذات، مع ثورة عنيفة ومستمرة في شعره ونثره
على الدين والأخلاق والمبادئ والقيم. وفي الحقيقة فإنه كان يمثل مرحلة متقدمة في
إطار الشعوبية الذي بناه الغزو الفكري في أدبنا العربي بالنرجسية والكشف
والإباحية، والخروج عن أصالة مفهوم الشعر في الأدب العربي.
يقول أحد الباحثين: لا سبيل إلى فهم شعر نزار قباني دون الاستعانة
بنظريات علم النفس الحديث، وبالذات نظرية (فرويد) عن الغريزة الجنسية
ومراحل نموها وانحرافاتها المختلفة، وليس هذا بالأمر الغريب فقد اتفقوا على
تلقيبه بشاعر المرأة؛ وأغلب شعره يدور حول المرأة، يتحدث بلسانها: يقدسها
ويهجوها ... وأغلب شعره يدور حول دائرة مغلقة قلما يخرج منها وهي دائرة
الغزل الجنسي المسرف في الواقعية والشوق إلى مفاتن الجسد ووصف العاهرات
والماجنات والمتهالكات [4] .
وكان نزار مغرماً بل مصراً على أن شعره كله وطني إلا أن بعض
الباحثين [5] فند هذا الزعم؛ حيث أحصى قصائده في دواوينه الستة الأولى التي تبلغ مائة وتسعين قصيدة منها مائة وخمس وخمسون قصيدة في المرأة، وليس منها وطنية إلا إحدى وعشرين قصيدة.
ولست أود الإطالة في هذه المقدمة؛ حيث سأترك القارئ يطلع على شيء من
شعره ونثره من مقولاته حتى تتبين له حقيقة هذا الرجل التي زوّرها الإعلام العربي
حينما دلّس على الناس في رفع شأنه وتعظيمه، ويمكن تقسيم انحرافاته إلى ما يلي:
أولاً: اعتداؤه على مقام الربوبية:
1- قال في مقالة له بعنوان: هل يمكن استنساخ المتنبي: ( ... ومعناه أن
العلماء بدأوا بتحدي السماء ... ومعنى هذا أيضاً أن الإنسان لم يعد له رب يؤمن به، يركع في محرابه ويصلي له ويطلب رضاه وغفرانه.. لأن المختبرات أخذت
مكان الرب..) [6] .
2- ومما قاله في قصيدة له:
(متمردان على السماء.. على قميص المنعم
صنمان إني أعبد الأصنام رغم تأثمي) [7] .
3- وفي رسالة حب كتبها قال:
(يحدث شيء غير عادي..
في تقاليد السماء ...
يصبح الملائكة أحراراً في ممارسة الحب ...
ويتزوج الله حبيبته) [8] .
تعالى الله عن قوله علواً كبيراً.
4 - وقال أيضاً في إحدى قصائده:
(ملك أنا ... لو تصبحين حبيبتي
لا تخجلي مني ... فهذي فرصتي
أغزو الشموس مراكباً وخيولا
لأكون رباً، أو أكون رسولا) [9]
ولقد قال فرعون قبله: [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] [النازعات: 24] وقال:
[مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي] [القصص: 38] وفرعون أخزاه الله قالها وهو في
غمرة الملك والسلطان؛ وأما نزار فقالها وهو في مستنقع الانحلال والرذيلة؛ فهو
من فراعنة هذا الزمان في التعدي على مقام الربوبية، تعالى الله عن أقواله وأقوال
الظالمين علواً كبيراً.
ثانياً: ثورته على كل ما هو شرعي:
فنزار لا يفتأ يثور على الدين والشريعة، والقيم والمبادئ، والسلوك
والأخلاق، ولا يأنف من التصريح بذلك حينما يقول: (أنا ضد الشرعية بكل
صورها) ، ويقول أيضاً: (أنا بطبيعة تركيبي ضد الشرعية) وأشعاره تدل على ذلك؛ حيث لم يترك خلقاً قويماً إلا ثار عليه في سكرة شعره الجنسي [10] وينقم على
المجتمعات العربية عدم قبولها ثورته وهزله واستخفافه بالدين والقيم حينما يقول:
(شعراء الغزل الحسي في أوروبا وكتاب الروايات المسرحية لا يخوضون حرباً
صليبية مع مجتمعهم كما يخوضها الكتاب العرب) [11] .
ثالثاً: موقفه من اللغة العربية:
يعتبر نزار من الشعوبيين الذين يكرهون اللغة العربية وفنونها؛ حيث يسميها: اللغة المتعجرفة، وهو يرى أنه أسدى معروفاً للعرب بخلطه اللفظ العربي بغيره
من الأعجمي والعامي؛ زاعماً أنه اخترع لغة جديدة للأمة العربية [12] .
وتشتد نقمته على المجامع اللغوية التي لا تجيز التخبط في المصطلحات
المحدثة وإدخالها في اللغة العربية حيث يقول: (كانت اللغة أملاكاً خصوصية،
اللغويون جمعية منتفعين، وكانت الفتوى بشرعية كلمة أو تعريب مصطلح علمي أو
تقني تستغرق المجامع اللغوية سنوات من التنجيم والاستخارات، والألوف من
كؤوس الشاي ومحلول البابونج) [13] .
رابعاً: انهزاميته أمام الغربيين وانحلالهم:
كثيرون أولئك العرب الذين انهزموا أمام حضارة الغرب منذ عهد رفاعة
الطهطاوي وإلى يومنا، ولكن كثيراً منهم كان انهزامهم أمام مظاهر الحضارة من
حيث التفوق الصناعي والتقني والنظام الإداري وثورة المعلومات وسرعة
الاتصالات، ومن المنهزمين من كان انهزامهم أمام الانحلال الأخلاقي والتفسخ
والعري، وما نزار إلا من هذا الصنف، ولا أدل على ذلك من تحسره على شعبه
العربي المنغلق حسب زعمه حينما يقول: (لو كنت أستطيع أن أستورد شعباً عربياً
آخر تكون له ثقافة برجسون وبروست وأندريه مالرو لفعلت، لكن الشعب العربي
هو قدري لأنني ورثته كما هو) [14] .
وهذا الانبهار والتأثر واضح في شعره ونثره حتى أداه إلى استخدام رموز
شعائرهم وأساطيرهم؛ كاستخدامه ألفاظاً كالصليب والكنيسة في تعابيره وتشبيهاته
ومن ذلك:
1- (صليب المتاعب نحمله على أكتافنا) [15] .
2- هذا الحب بيني وبين الجمهور صار صليباً ثقيلاً على كتفي) [15] .
3- (حين أفكر في جراح أبي خليل، وفي الصليب الذي حمله على
كتفيه) [15] .
4- (تهرأ كل ما فيه كباب كنيسة نخر) [16] .
5- (لم أسرق نار السماء كبرومثيوس) مستوحياً تلك الأسطورة
الإغريقية [15] .
خامساً: إسهامه الكبير في هدم الأسرة وإشاعة الفاحشة:
فلقد كرس حياته وشعره لهذا الغرض، وأكثر دواوينه إنما هي في وصف
جسد المرأة والدوران حول الجنس بل والغوص في تفصيلاته، فهو في شعره
شهواني موغل، والشهوة يكاد يعبدها.
والجنس ملازم له يدور في خياله حتى في حديثه عن الأمور العادية من السفر
والكتابة لا تفارقه الصورة الجنسية أبداً، ومن ذلك قوله:
كل فنادق العالم التي دخلتها حملت معي دمشق، ونمتُ معها على سرير
واحد) ويقول: (أحياناً أشعر أن الورقة مستعدة فأمارس الحب معها بنجاح، وأحياناً
كثيرة أشعر أن الورقة لا تريد فألبس ثيابي وأنصرف) [17] .
وقد مضى سابقاً مقولته أنه نادراً ما وقع في الحب!
ويكفي في ذلك مقولته الكفرية: (لو كنت حاكماً لألغيت مؤسسة الزواج
وختمت أبوابها بالشمع الأحمر) وقوله: (العري أكثر حشمة من التستر) [18] .
فتأمل إلى أي حد يبلغ استخفافه بشرع الله؛ فهو يريد إلغاءه لتكون الفوضى
الجنسية بديلاً لذلك.
ويقدم كتابه: (يوميات امرأة لا مبالية) إلى طالبات الجامعة الأمريكية ويقول
فيه: إنه كتابكن كتاب كل امرأة حكم عليها هذا الشرق الغبي الجاهل بالإعدام، ونفذ
حكمه فيها قبل أن تفتح فمها، ولأن هذا الشرق غبي وجاهل ومعقد يضطر رجل
مثلي أن يلبس ثياب امرأة ويستعير كحلها وأساورها ليكتب عنها، أليس من
مفارقات القدر أن أصرخ أنا بلسان النساء ولا تستطيع النساء أن يصرخن
بأصواتهن الطبيعية [19] .
وهذا النص يكشف لك حقده على الدين وعلى المجتمعات الشرقية؛ لأنها تدين
بالإسلام، ويصفها بالغباء والجهل والتعقيد!
وكذب في زعمه أنه يدافع عن المرأة؛ لأن حقيقته أنه يدافع عن الفوضى
الجنسية؛ إذ ينفي عن عالمه الشعري كل امرأة تجاوزت الأربعين، أو كانت لا
تتمتع بذلك الجمال المثالي والمطلق!
وهو من أكثر الشعراء الذين أساؤوا إلى المرأة وامتهنوها بتعرية
جسدهاوتشريحها على قارعة الطريق: وفي رثائه لزوجه بلقيس وأم أولاده صوّرها
لنا أنها امرأة تافهة مع أنه قبل ذلك وصفها بأنها معبودة ورسولة، ولم يكتب شيئاً
عن أدبها أو فكرها أو خلقها أو ثقافتها؛ لأنه يختزل المرأة في وصف الجسد فقط،
على نحو عنيف من الإيغال في مفاهيم الاشتهاء والافتتان؛ إذ لا يرى في المرأة إلا
الجنس، ويعتبر الجنس هو الحياة كلها [20] .
ولذلك فهو يلعن المرأة المحتشمة ويثور عليها، ويرفض الالتزام بمجتمعه
وقيمه، ولم يكتب عن المرأة كأم أو أخت أو زوجة، بل جل كتاباته تدور حول
العشيقات والخليلات.
ولا يتحدث عن المرأة بقدر ما يتحدث عن جسدها؛ إنه لا ينظر إليها إلا
بوصفها دمية ومتعة، ولا يعرض العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة إلا من زاوية
الجنس.
ورغم إساءته للمرأة ومصادرة عقلها وفكرها وثقافتها وأخلاقها وعطائها
للمجتمع وإلغاء كل ذلك في شعره فإن له جمهوراً من النساء يعتبرنه الشاعر المعبر
الراقي، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضحالة فكر هؤلاء النسوة
وانحلالهن إلى درجة يجعلن الحياة كلها جنساً وشهوة على الطريقة النزارية [21] .
سادساً: جمهوره المراهقون، ويدعمه المنافقون:
لا يمتري عاقل أن اللاهثين وراء شعره شهوانيون، يعانون فترات المراهقة
المبكرة والمتأخرة، وما دام شعره متردداً بين الكأس والجنس؛ فمن البدهي أن
يكون جمهوره من المراهقين والشهوانيين؛ لأن شعره غذاؤهم.
وأرجو ألا يستعجل في الغضب بعض جمهوره والمعجبين به من هذه المقدمة
المعقولة؛ لأن شاعرهم ينص على ذلك بقلمه حينما يقول: (قصيدة (نهداك) كانت
الشرارة الأولى التي أطلقتني، والمفتاح إلى شهرتي، الطلبة العراقيون كانوا
يسكرون عليها على ضفاف دجلة، واللبنانيون كانوا يمزمزونها على موائد العرق
في زحلة، لقد كان الطلاب خلال تاريخي الشعري كله جنودي وكتائبي وراياتي،
فبهم شددت أزري؛ وبهم أسرجت خيولي، وبهم أكملت فتوحاتي) [22] .
والواقع أن نزار قباني ما هو إلا نبت أجنبي مسموم يحاول أن يطرح من
خلال شعره عن المرأة مجموعة من المفاهيم الفاسدة والمنحلة التي يطمع النفوذ
الغربي أن تصبح من المسلّمات عند الشباب المسلم.
ويساور الشك كل متأمل في هذه الحملة الدعائية التي صاحبت هلاكه رثاءً
ومدحاً وشعراً ونثراً، هل كانت لأسلوبه فقط؟ أم لمضامين شعره ومعانيها الثورية
التي هي في غاية الاستخفاف بمقام الربوبية والنيل من الشريعة، والانحراف في
الشهوانية، والتعلق بالغرب إلى حد الهيام، وهل هناك نفاق يراد له أن يظهر
ويشيع حينما يخفي حقيقة هذا الزنديق عن الناس، ويشاع بينهم المدح والرثاء مكان
الذم والتحذير؛ فأين هي الموضوعية؟ ! وأين أمانة الكلمة؟ !
__________
(1) انظر المفيد في تراجم الشعراء والأدباء والمفكرين تأليف جماعة من الأساتذة (148 149) وانظر: ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء، تأليف رجاء النقاش (155) .
(2) بتصرف من الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد للدكتور أحمد بسام ساعي (112) ودراسات في الأدب العربي الحديث (134) وانظر: موسوعة مقدمات العلوم والمناهج (4/564) .
(3) انظر أقواله السابقة في كتابه (قصتي مع الشعر) الصفحات (26، 28، 115) ودراسات في الأدب العربي الحديث للدكتور محمد مصطفى هدارة (132- 133) وموسوعة مقدمات العلوم والمناهج للأستاذ أنور الجندي (4/567) .
(4) الصحافة والأقلام المسمومة، للأستاذ أنور الجندي (167) وقد نقله عن محمد سالم غيث في كتابه: الحب والجنس في شعر نزار قباني.
(5) هو جليل كمال الدين، في الشعر الحديث وروح العصر (307) وانظر: الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد (113) .
(6) انظر: جريدة الحياة (5/11/1417هـ) .
(7) انظر كتاب: حول الأديب والواقع للدكتور عبد المحسن طه بدر (66) .
(8) انظر: جريدة الجزيرة 30/3/1391هـ.
(9) انظر مقالة بعنوان: نزار قباني في زمن التقاعد الأدبي، للدكتور محمد ياسر شرف، مجلة الموقف الأدبي العددان (138- 139) ص (217) .
(10) انظر قوليه في دراسات في الأدب العربي الحديث (135) وعزاه إلى كتاب نزار: قصتي مع الشعر (123) وانظر: موسوعة مقدمات العلوم والمناهج (4/566) .
(11) انظر كتابه: قصتي مع الشعر (134) ودراسات في الأدب العربي الحديث (141) .
(12) انظر موسوعة مقدمات العلوم والمناهج (4/566) .
(13) انظر كتابه: قصتي مع الشعر (118) ودراسات في الأدب العربي الحديث (139) .
(14) انظر كتاب: ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء (160) وقد نقله عن مجلة (مواقف) اللبنانية عدد [16] .
(15) أقواله تلك في كتابه: قصتي مع الشعر (14، 39، 77، 89) وقد أحصاها الدكتور محمد مصطفى هدّارة (145) .
(16) من قصيدته: يوميات امرأة لا مبالية انظر: حول الأديب والواقع (80) .
(17) انظر قوليه السابقين في كتابه: قصتي مع الشعر (36 191) ودراسات في الأدب العربي الحديث (142) .
(18) انظر قوليه السابقين في الصحافة والأقلام المسمومة (168) .
(19) الصحافة والأقلام المسمومة (167) .
(20) بتصرف من: عمق الروح وصلب الفكر، لسهيلة زين العابدين حماد (58) وموسوعة مقدمات العلوم والمناهج (4/564) .
(21) بتصرف، من: عمق الروح وصلب الفكر (58) ودراسات في الأدب العربي الحديث (143) .
(22) انظر مقولته في كتابه: قصتي مع الشعر (95) ودراسات في الأدب العربي الحديث (147) .(127/92)
منتدى القراء
انغلاقية بعض المتدينين نحو مجتمعهم
أسامة عبد الرؤوف الجامع
من المعروف أن لشخصية الشاب المتدين المستقيم خصائص تختلف عن بقية
شخصيات شباب المجتمع؛ فهو يضبط نفسه بسمت وسلوك ينتج عنهما نوع من
مظاهر التحفظ تجاه زملائه وأقرانه، سواء أكان ذلك في الشارع أو العمل أو مقاعد
الدراسة؛ ومن ثمّ فلا بد أن تكون هناك بعض الموازنة في هذا الأمر؛ فهناك فرق
بين أن تكون شخصية المسلم مستقلة تؤثر ولا تتأثر إلا بمن يوافقها دون ذوبان أو
مداهنة مع المجتمع المحيط، وبين أن تكون هذه الشخصية متحفظة لدرجة التقوقع
وعدم الاختلاط بالمجتمع إلا مع مثيلاتها، ولعل السبب يعود برأيي إلى الراحة التي
يجدها الشاب الملتزم مع أمثاله ونفوره التام أو تحفظه على الأقل تجاه بقية شباب
مجتمعه؛ مما يسبب نظرة مستغربة من قِبَلِ المجتمع قد تفسر بل فسرت بطريقة
خاطئة. ونجد هذه الفكرة منطبعة في عقول بعض شرائح المجتمع وخاصة الشباب
منهم، وهي أن الشاب المتدين منغلق على نفسه لا تراه إلا مع من هم مثله ولا
يحتك بالآخرين، ورغم أن الشاب الملتزم قد يعذر في مثل هذا التصرف إلا أن هذا
ليس هو الأصل؛ إذ إن عليه أن يراعي عدة أمور، منها: أن الخير الذي هو فيه
ليس لذاته فقط بل عليه أن يبلّغه غيره أياً كان؛ وقول النبي لله: (لا تصاحب إلا
مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) قول حق؛ لكن يجب ألاّ يُفهم خطأً؛ وهذا الفرق
في أن الشاب الملتزم عليه أن يكون داعية حَذِقاً يشق طريقه نحو كسب قلوب من
حوله دون تقديم أي تنازلات؛ فالمعاملة فن، والكلمة ليست سهماً لكنها تخرق القلب؛ فالعلاقات الاجتماعية مهمة ليست لذاتها؛ ولكن لتحقيق أهداف سامية؛ فالمسألة
تحتاج إلى صبر وتحمّل؛ وقد قال نبينا لله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر
على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) رواه ابن ماجه،
وهكذا يكون الداعية الحقيقي.(127/100)
منتدى القراء
نحن والسفينة
شعر: عمار عبد الحق البُذَيجي
أُمرنا بالنذارة بعد نوحٍ ... فأنشأنا بصحوتنا سفينهْ
دعونا الناس للتوحيد دهراً ... وحذّرنا من الصفة المُشينهْ [1]
ولكن أغلقوا الأسماع عنّا ... وأبدوا ضدنا عُقَداً دفينهْ
وأنذرناهُمُ الطوفان لكنْ ... أَبَوْا إلا الهلاكَ مع المدينهْ
وقلّدَهم لنا أهلٌ وظنّوا ... بأنْ تُنْجِيهموا القممُ الحصينهْ
فلما أقبل الطوفان قُلنا ... دنا الإهلاك للزُمر المَدِينهْ
فلما أن قطعنا بعض شوط ... إذا بالبعض يَخْرقُ في السفينهْ
نهرناهم عن التخريب لَكنْ ... أجابوا أن فِعْلَتهُمْ حَسِينَهْ
فماذا يَنْظِمُ الإنسان فيهمْ ... إذا كانت نصائِحُنَا مُهِينهْ [2]
فللهِ الشكاية في حبيبٍ ... يرى طُرقَ السلامة ضِدّ دينهْ
حذرك يا شبابَ الجيلِ سعياً ... إلى تمزيق وحدتنا الرّصِنَهْ
فإن خالفتموا أمري ونصحي ... فلا يؤسفكموا غرقُ السفينَهْ
__________
(1) الصفة المشينة: هي الكفر والعياذ بالله.
(2) أي في نظرهم.(127/101)
منتدى القراء
أفي غير العقيدة ... يا نخبة!
علي حسن آل محمد
تمر الأمه بأزمة ثقافية لا ينكرها إلا مكابر؛ ولعل هذه الأزمة ليست وليدة هذا
العصر وإنما هي نتاج قرون اجتمعت فيه الأزمات وتتالت على الأمة حتى آل
أمرها إلى ما آل إليه من تخلف؛ حتى صارت كل فئات المجتمع الإسلامي
المعاصر تدرك هذا الحال تقريباً، وصار مآلهم التخبط في غالبهم للبحث عن مخرج، وفي هذا المجال حدّث عما ظهر من صور الانحراف من تبعية وغيرها ولا حرج.
وهذه الحالة هي التي وقع فيها من يدّعون أنهم (مثقفو النخبة) فبدل أن ترتقي
أمتهم بهم انحطوا بها؛ فقد أدرك هؤلاء ورأوا بأم أعينهم مدى التقدم الذي حققه
الغرب، وعلموا أنهم بحاجة لأن يرتقوا بأمتهم وكيف يتسنى لمن لم يرتقِ بنفسه أن
يستدل على طريق الرقي الحضاري لأمته؟ !
(إن مجالات الثقافة تسعى دائماً من خلال أطر الثبات والتغير والتقليد
والتجديد والانفتاح والانغلاق لتحقيق التوازن الذاتي كي تتمكن من القيام بوظائفها
والمحافظة على زخمها) [1] (لذلك فإن انحباس أي مجال أو نسق من مجالات
الثقافة أو تعرضه للعطب يجعله يجدد ذاته من داخل الثقافة أو خارجها بأي شكل
يتناسب أو لا يتناسب مع المزاج العام للثقافة.
وإليك مثالاً يوضح ما سبق ويبينه: (الأمريكان لا يجدون أنفسهم محتاجين
إلى الثقافة الخارجية لأي شعب سواهم في مجالات الفنون وأفكار الإنتاج؛ لأن
بلادهم لا تعاني من أزمة في هذه القضايا؛ لكنهم في مجالات العقائد حيث العدمية
والحاجة الماسة إلى صلابة اليقين نجد انتشاراً واسعاً للمذاهب والعقائد الدينية التي
لا تعدو أن تكون ضروباً من الخرافة والشعوذة في كثير منها، وهذا على العكس
تماماً من حالنا؛ فالمسلم لا يجد نفسه بحاجة إلى البحث عما يشفي ويشبع حاجاته
الروحية أو يحقق صلابة اليقين لديه) [2] .
والملاحظ أن هذا النفر من بني قومنا قد فهموا المسألة خطأً؛ فبدل أن يقدموا
للأمة صور التقدم الحضاري ويبقوا على معتقدهم نجدهم يحاولون زحزحة الأمة عن
عنصر ثبات لها لا تحتاج لتجديده وتغييره وهو الدين، وتركوا ما نحن في حاجة
إليه، ألا وهو التطور التقني والمعلوماتي المذهل الذي وصل إليه الغرب.
فدعوتنا إلى تلك العقول التي لم تحسن الاستفادة من غيرها أن تجعل لعبثها
حداً، وأن ينبذوا ما هم عليه من إصرار على رفع الحراب في وجه الكتاب، وأن
يحترموا للأمة عقيدتها؛ فإن أرادوا التجديد والتغيير ففي غير عقيدة الأمة، وعندها
يجدون مستمعاً مطيعاً؛ وليعلموا أن الله ناصرٌ دينه، والعاقبه للمتقين ولو كره
المجرمون.
__________
(1) انظر كتاب: مقدمات في النهوض بالعمل الدعوي، للدكتور عبد الكريم بكار، ص 71،
بتصرف يسير.
(2) المصدر السابق، ص 75، 76، بتصرف.(127/102)
منتدى القراء
ديننا باقٍ
عبد الله بن سعد الغانم
سفينة الإيمان تسير بنا في بحر الحياة المتلاطمة الأمواج، برعاية الله،
يقودها العلماء العاملون، والدعاة الباذلون، والرجال المخلصون؛ إنهم قباطنتها
الذين يسيرون بها إلى بر الأمان ورضا الرحمن وجنة الرضوان.. فنِعم أولئك
الأفذاذ، ونعم من ساندهم، وسار على دربهم واقتفى أثرهم، ولله درهم! ما أطيب
نفوسهم، وما أزكاها! وما أنقى سرائرهم، لقد باعوا أنفسهم لله بمقابل نفيس وثمن
غالٍ ألا وهو الجنة التي إذا ذكرت طارت القلوب شوقاً إليها، ورنت النفوس
للحصول عليها.
غير أن هذه السفينة يعتورها كثير من العقبات وجملة من الأزمات التي تقف
في طريقها ... فتن وشهوات يصدرها لنا أعداؤنا من يهود ونصارى وأذنابهم؛
ليصدونا عن ديننا، ويقضوا على عقيدتنا.. والذين ما برحوا يخططون ليل نهار
للقضاء ذلك؟ وهو دين الله الذي تكفل سبحانه بحفظه ما دامت السموات والأرض؛
كما قال سبحانه: [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَاًبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ
وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] [التوبة: 32] ونقول لهؤلاء الأعداء: موتوا بغيظكم؛ فدين
الله باقٍ رغماً عن أنوفكم. وليهنأ المؤمنون بذلك وليفاخروا به، ولله الحمد من قبل
ومن بعد.(127/103)
منتدى القراء
كل من عليها فان
مازن بن محفوظ قاضي
عجبت لمن يزعم بأن الدنيا باقية، وعجبت لمن يزعم بأن الأشياء لا تفنى،
وعجبت لمن يزعم بأنه مخلد! ألم ينظروا إلى مَنْ حولهم: هل بقي شيء على حاله؟ أم أن الأيام طمست ما قبلها بأمر ربها.
ألم يفقدوا يوماً شخصاً عزيزاً عليهم قد فارق الدنيا للقاء الآخرة؟ ألم يسمعوا
بموت الجبابرة والعظماء؟ ألم يسمعوا بموت الأغنياء وذوي الجاه؟ ألم يسمعوا
بموت ذوي السلطة والنفوذ؟ ألم يسألوا أنفسهم: لِمَ لم يمنع هؤلاء الموت عنهم أو
يؤخروه؟ ؟ قال تعالى: [فَإذَا جََاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاًخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ]
[الأعراف: 34] ليعلموا إذاً أن كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه قال تعالى: [كُلُّ
مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإكْرَامِ] [الرحمن: 26، 27] .
فالموت حق وهو كأس سنشربه جميعنا لا محالة؛ فلقد مات القريب والصديق، والجار والرفيق؛ ليكون ذلك برهاناً قاطعاً على أن الدور سيمر علينا. قال تعالى: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ] [آل عمران: 185] .(127/101)
المسابقة
يعتبر إنشاء زاوية للمسابقات في مجلة البيان أحد مطالب القراء البارزة في
نتائج الاستبانة التي كانت المجلة قد طرحتها على جمهورها منذ فترة، فكانت
استجابة (البيان) لهذا المطلب بإنشاء هذه الزاوية.
ولكن لأن المسابقات (بيانية) فقد خرجت تحمل روح (البيان) .. جادة وهادفة، جادة لأنها جاءت في صورة تنافس في كتابة مقالات وبحوث متنوعة تطرح
المجلة موضوعاتها، وهادفة لأنها تعمل على إكساب المتسابقين معلومات مهمة من
خلال بحثهم، كما تعمل على تنمية ملكات البحث ومحاولة الارتقاء بأسلوب التعبير
من خلال الدربة على الكتابة.
وفي (مسابقة البيان) يطرح موضوع أو موضوعات المسابقة في أحد
الموضوعات التي تحددها المجلة، وقد تكون بحوثاً أو دراسات، أو قراءة في كتاب
أو رسالة جامعية، أو ترجمة لمقال أو دراسة عن لغة أجنبية.
وإضافة إلى فرصة نشر المشاركات الفائزة المتميزة على صفحات (البيان) أو
في (كتاب المنتدى) تمنح جوائز مالية للفائزين الثلاثة في كل مسابقة.
شروط المسابقة
1- لا تقل المشاركة عن 35 صفحة ولا تزيد عن 50 صفحة (حجم 4) في
أحد الموضوعات المبينة فيما بعد.
2- يمكن للمتسابق أن يشترك في أكثر من موضوع.
3- تكتب المشاركات بخط واضح، وعلى وجه واحد من الورقة.
4- يوثق البحث علمياً، وذلك بذكر مصادر المعلومات وعزو النقول إلى
مراجعها، وذكر أسماء السور والآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث.
5- المجلة غير ملزمة برد البحوث الواردة إليها سواء أفازت في المسابقة أو
لم تفز.
6- ترسل المشاركات خلال ثلاثة أشهر من الإعلان عنها كحد أقصى.
الجوائز
تقدم جائزة لكل من الفائزين الثلاثة الأُول في كل موضوع، وذلك على الوجه
الآتي:
(1) الفائز الأول: 1500 دولار.
(ب) الفائز الثاني: 1000دولار.
(ج) الفائز الثالث: 500 دولار.
وهناك جوائز تشجيعة أخرى. والبيان إذ أنشأت هذه الزاوية بناءً على طلب
قرائها يسرها أن تطّلع على آرائهم ومقترحاتهم في هذا الخصوص، وتتمنى لجميع
قرائها جهداً نافعاً وحظاً موفوراً.
موضوعات المسابقة
* الموضوع الأول:
وسائل الدعوة إلى الله تعالى كثيرة ومتنوعة، وهي بلا شك تحتاج للعمل بها
إلى ضوابط شرعية تضيء مسيرتها..
ويوجد في الساحة الإسلامية من يرى أن هذه الوسائل توقيفية يجب النص
على كل منها، وما لم يرد فيه نص شرعي على استعماله في الدعوة فهو مرفوض، بينما يرى فريق آخر أن هذه الوسائل اجتهادية قابلة للتجديد والإضافة؛ حسب
اختلاف الأزمان والأحوال.
المطلوب: تحرير هذه المسألة وتحقيقها، مع ذكر الضوابط المطلوبة في
وسائل الدعوة، وإيراد نماذج مناسبة من هذه الوسائل وأثرها في الدعوة إلى الله
تعالى.
* الموضوع الثاني:
يعتبر الاهتمام بتنشئة الأطفال من أهم ركائز نهضة أي أمة، وقد قدمت
الحضارة الإسلامية في هذا المضمار ملامح متميزة، غير أن التأثر بعوامل الضعف
في العصور المتأخرة انعكس على المفاهيم والأساليب التي يربى على أساسها الأبناء.
المطلوب: رصد هدي الإسلام في تنشئة الأطفال، وبحث ظواهر التأثر في
هذا المجال بالغرب (سلباً أو إيجاباً) ، مع بيان الدور المكمل للأسرة من الفئات
والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، ثم شرح كيفية بناء علاقة متزنة ومثمرة بين
الأجيال المختلفة.
* الموضوع الثالث:
نشأت البنوك الإسلامية بديلاً عن المصارف التي تقوم بمعاملات تخالف
الشريعة الإسلامية، إلا أنه قد أثير اللغط مؤخراً حول دور هذه البنوك، ومدى
الاختلاف بينها وبين المصارف الأخرى.
المطلوب: تناول نشأة البنوك الإسلامية وأسبابها، وتطور هذه البنوك
وتعددها، والفروق بينها وبين غيرها، وموضحاً موقعها في المنظومة المالية
العالمية وأشكال الاستثمار الجديدة التي قدمتها، والمشكلات العملية والعلمية التي
تواجهها، مع وضع تصور لحلول هذه المشكلات.(127/107)
مرصد الأحداث
لماذا المرصد..؟
في هذه الزاوية، تنقل (البيان) للقارئ، أخبار ما أهملته الأخبار، من
الأقوال والأحداث والمواقف.. ننقلها كما هي من مصادرها دون تصرف إلا في
وضع العنوان الذي يعبر عن دلالة الخبر ... والدعوة مفتوحة لقرائنا الكرام أن
يرسلوا إليناما يرون أنه جدير بلفت اهتمام المسلم لما خلف الخبر، على أن يرسل
لنا أصل الخبر ومصدره مع التعليق والاسم. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
الاحتفال.. والعمى الغربي
بمناسبة احتفال الكيان الصهيوني بمرور خمسين عاماً على احتلال أرض
فلسطين، شارك بعض الزعماء بالتهنئة وإعلان مواصلة الدعم الأعمى.
1- طالما أن هناك شمساً تشرق في العالم فإن أمريكا ملتزمة بأمن (إسرائيل) . ...
[الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، جريدة الخليج، عدد: (6934) ]
2- إن الولايات المتحدة معجبة بـ (إسرائيل) لما واجهته من صعوبات، ولما ...
أنجزته. إننا فخورون بالروابط القوية التي أقمناها مع (إسرائيل) على أساس قيمنا ...
ومثلنا المشتركة، هذه العلاقة الفريدة سوف تصمد كما صمدت (إسرائيل) . ...
... ... ... [بيل كلينتون، جريدة الأنباء، عدد: (7885) ]
3- نحن نقف معكم ونؤيد حلمكم، ومن رماد المحرقة النازية نهضت عنقاء
دولة (إسرائيل) ، وبينما تواجه (إسرائيل) أعوامها الخمسين التالية تتمخض هذه
الأوقات العصيبة عن حقائق معينة، أهمها حقيقة أنه بينما تسعى (إسرائيل) لتحقيق
قدرها، فإن الولايات المتحدة لن تدعها أبداً تقف وحيدة، في (إسرائيل) يرى
الأمريكيون انعكاساً لتراثنا نحن ولنضالنا من أجل الحرية والحق في العيش في
سلام مع الأمن.
... ... [نائب الرئيس الأمريكي، آل جور المصدر السابق]
4- إن تأسيس دولة (إسرائيل) هو واحد من أبرز الأحداث وأكثرها إعجازاً
في عصرنا، ومنعطفاً في تاريخ يمتد أربعة آلاف سنة أو أكثر لشعب استثنائي،
إنني صديق حميم لإسرائيل والشعب اليهودي.
[رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، جريدة الحياة، عدد: (2842) ]
5- إن كرواتيا الحديثة التي تستند إلى حبها للحرية ومعاداتها للفاشية تدين
بأشد التعابير، الحقد العنصري، وكره الأجانب ومعاداة السامية، وأعرب عن
أسفي العميق وإدانتي المطلقة لعمليات الاضطهاد وللعذابات وللمأساة التي فرضها
نظام الأوستاشي على يهود كرواتيا.
[وزير الخارجية الكرواتي، جريدة الخليج، عدد: (6932) ]
أريحا المستريحة!
تستعد مدينة أريحا لاستضافة مشروع سياحي كبير تشارك فيه السلطة
الفلسطينية، ويضم المشروع ملاعب جولف وكازينو ومرافق سياحية تتكلف 50
مليون دولار، وتتطلع إدارة المشروع إلى اجتذاب الأعداد الكبيرة من المولعين
بألعاب القمار! ! خصوصاً بعد أن حظرت تركيا ألعاب القمار، وكذا تحظر
(إسرائيل) ألعاب القمار! ! وأعتبر أن هذا المشروع لن يثير مشكلة في صفوف
المجتمع الفلسطيني المحافظ، مع العلم بأن الفلسطينيين ينفقون سنوياً 100 مليون
دولار على ألعاب اليانصيب (الإسرائيلية) المنتشرة في الضفة وقطاع غزة. [المستشارالاقتصادي لياسرعرفات، خالد إسلام، جريدة الأنباء، عدد: (7883) ]
صراع حتى الموت
تستعد وزارة التربية والتعليم التركية لتعيين 43 ألف مدير جديد للمدارس بعد
التخلص من المديرين الذين أثبتت تحقيقات المفتشين انتماءاتهم وميولهم الأصولية. ... ...
... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7120) ]
وضوح غامض!
سأقولها بوضوح ... لكي تبقى دولة إسرائيل، نحن بحاجة إلى دولة فلسطينية، علينا بالاستقامة والجهر بالحقيقة.
... ... [شمعون بيريز، جريدة الحياة، عدد: (12854) ]
القسطنطينية الثانية ... والله لتفتحن
إن تركيا ستكون دولة مواجهة لكل الحركات المتطرفة التي تستهدف الأمن
والاستقرار في الشرق الأوسط الممتد بالمفهوم الأمريكي من المغرب العربي غرباً،
حتى تركمنستان شرقاً؛ لأن تركيا ترغب في أن تكون دولة السلام، والقيّمة على
السلام في المنطقة وجزءاً من الغرب الديمقراطي.
[زبيجنيو بريجنيسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، جريدة الشرق الأوسط عدد (7098) ]
القدس الفلسطينية ... بعد التعديل! ؟
أعلن التليفزيون (الإسرائيلي) أن الفلسطينيين يبنون مقر برلمانهم في محلة
أبو ديس بالقرب من القدس الشرقية، ونفى مسؤول فلسطيني (رفض الكشف عن
هويته! !) هذا، وقال: إنه ضرب من السخافة، وكانت صحيفة (هآرتس)
اليهودية قد أعلنت أن ياسر عرفات وافق على أن تكون أبو ديس عاصمة للدولة
الفلسطينية المستقبلية، وهذا هو ما تم الاتفاق عليه في العام 1996م بين
(أبو مازن) و (يوسي بايلين) .
... ... ... ... ... ... [جريدة الأنباء، عدد: (7906) ]
هذه الكنائس غير كافية:
(كنيسة لكل بروتوستانتي)
طالب المجتمعون في مؤتمر الخرطوم عاصمة السودان، إخوانهم النصارى
للدعاء والمساعدة لزرع 25 ألف كنيسة جديدة في السودان للبروتستانت، وقد نظم
المؤتمر منظمة إرساليات الفجر، كما طالب المؤتمر القادة النصارى للتعاون فيما
بينهم ونبذ الخلافات، وذكر المؤتمرون أنه لا يعقل أن يوجد في العاصمة الخرطوم
ذات العشرة ملايين نسمة سوى 171 كنسية فقط! !
... ... ... [مجلة الكوثر: لجنة مسلمي إفريقيا، عدد: (18) ]
ترويكا إسلام! ! ضد الإسلام
إن أوزبكستان وروسيا وطاجيكستان اتفقت على تشكيل حلف ثلاثي يهدف إلى
مواجهة خطر الأصولية والسلفية المحدق بنا من الجنوب، إن أمثال هؤلاء يجب أن
يتلقوا الرصاص في رؤوسهم، إذا اقتضت الضرورة فأنا مستعد لإطلاق النار عليهم
بنفسي.
[الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف، جريدة الحياة، عدد: (12844، 12850) ]
أدوات النفي.. لم تعد نافية!
1- إن الزيارة التي قام بها مسؤولون عسكريون أمريكيون لا تعني بأي وجه
من الوجوه منح قواعد عسكرية للولايات المتحدة، إن فكرة إقامة القواعد العسكرية
في أراض أجنبية أمور تجاوزتها الأحداث، وعصر القواعد انتهى بلا رجعة.
[عبد الكريم الإرياني، رئيس الوزراء اليمني، جريدة الخليج، عدد: (6922) ]
2- قال مسؤول يمني إن الولايات المتحدة أعفت اليمن من ديون قيمتها 17
مليون دولار، وقال: إن الإدارة الأمريكية وعدت بإعفاء اليمن من كل ديونه
المستحقة لها، إذا نجحت في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي بحلول عام 2000.
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7113) ]
أبي العزيز! !
قام رئيس حزب الفضيلة التركي الإسلامي، رجائي قوطان بوضع إكليلٍ من
الزهور على قبر كمال أتاتورك وكتب في دفتر الزيارات الخاصة بالقبر عبارة: إن
حزب الفضيلة هو حزب سياسي جديد يا أبي، أيها العزيز أتاتورك.
[جريدة الشرق الأوسط، عدد: (71170) ]
للمسلمين فقط
أجاز مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة تشريعاً يقضي بفرض عقوبات
على الدول التي تمارس ما أسماه التشريع بالاضطهاد الديني أو تغض الطرف عنه.
... ... ... ... ... ... [جريدة الخليج، عدد: (6936) ]
علاقة تجارية فقط!
أعرب رئيس غرفة التجارة في إسرائيل عن الأمل ألا تؤثر التغيرات
السياسية في إندونسيا على المبادلات التجارية بين البلدين، وكانت المبادلات
التجارية بين البلدين قد تضاعفت أربع مرات خلال عام واحد، وكانت في حدود
4، 7 مليون دولار عام 1996م، ارتفعت عام 1997م 3، 29 مليون دولار،
وكانت قد بدأت الاتصالات غير الرسمية بين البلدين بعد توقيع اتفاق أوسلوا عام
1993م.
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7116) ]
نعِمّا هي المؤهلات! !
إن الجنرال ويرانتو قائد الجيش الإندونيسي هو الرجل الوحيد المناسب لقيادة
البلاد، فهو مسلم من منطقة جاوا الوسطى؛ سجله العسكري حافل بالمنجزات،
مقتنع بضرورة التغيير ولو في حذر، مثقف، يرسم، يعزف الموسيقى، ويرأس
المنتخب الوطني للعبة بريدج (القمار) .
... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (12841) ]
تعاون هند وصهيون
أكدت مصادر مسؤولة باكستانية أن ست طائرات حربية إسرائيلية تربض
على أهبة الاستعداد في إحدى القواعد الجوية الهندية، وهذه الطائرات محملة
بالصواريخ بهدف توجيهها صوب المنشآت النووية الباكستانية.
... ... ... ... ... [جريدة الرياض، عدد: (10932) ]
الخارج.. مفقود
بلغ حجم الاستثمارات العربية في خارج البلاد العربية 800 مليار دولار
أمريكي، بينما لا تتجاوز ديون البلاد العربية مجتمعة غير 170 مليار دولار
أمريكي
[جريدة العربي القاهرية نقلا عن مجلة الشراع عدد: (828) ]
كنائس عسكرية
ذكر التقرير الذي أعدته حركة (الحملة ضد تجارة الأسلحة) أن 15 كاتدرائية
أنجليكانية وواحدة كاثوليكية تمتلك أسهماً وحصصاً تقدر بملايين الجنيهات
الإسترلينية في شركات لصنع الأسلحة، وذكر التقرير أن أموال التبرعات والهبات
التي تمنح لمجالس الكنائس والكاتدرائيات يتم استثمارها في شركات بريطانية تعمل
في مجال صناعة الدبابات والصواريخ والطائرات الحربية، وبلغت قيمة
الاستثمارات حوالي ثلاثين مليون جنيه إسترليني.
... ... ... ... ... ... [مجلة المجلة، عدد: (947) ]
قساوسة قتلة! !
قدمت جماعة: (إفريقيا رايتس، التي تعنى بحقوق الإنسان) معلومات مفصلة
في خطاب لبابا الفاتيكان عن أن أساقفة وقساوسة وراهبات شاركوا في المذابح
الجماعية التي وقعت في رواندا منذ أربعة أعوام، وكانت محكمة رواندية قد حكمت
بالإعدام على اثنين من القساوسة لدعوتهم ألفين من المواطنين التوتسي إلى دخول
إحدى الكنائس ومن ثم سحقتهم الجرافات حتى الموت.
[جريدة الخليج: عدد: (6935) ]
ما غرّك بربك الكريم
اليوم أصيح بالموت فأقول: الموت نائم، لعن الله من أيقظه! ! ها نحن نرى
أننا لم نكد نودع عبد الغني أبو العينين حتى جاءنا نعي نزار قباني، ثم لم تكد تمر
أيام على رحيل نزار حتى تبعه غالي شكري، أريد أن أقول: إنه قد آن لنا أن
نخرج من هذا الموت الذي يفتك بنا لأننا ساكتون عنه، مستسلمون له، إنه وهم
وخديعة، حلم أسود ارتمينا في أحضانه بعد أن سقطت أحلامنا الوردية، فانتقلنا من
وهم إلى وهم ومن نقيض إلى نقيض.
[الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، جريدة الأهرام عدد:
(40700) ، وجريدة الخليج، عدد: (6935) ]
ولكن ... من المستفيد منها؟ !
ذكرت صحيفة (نيويورك تايمز) أن الولايات المتحدة وبريطانيا بدأتا عملية
سرية لإزالة مواد نووية من جورجيا بمنطقة القوقاز، ويورانيوم مخصب، (وقود
نووي) وكانت هذه المواد مثار قلق عميق لمسؤولين أمريكيين يخشون سقوطها في
أيدي عصابات شيشانية أو إيران، أو أي دولة نووية أخرى.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (12832) ]
قوات.. هتك الأعراض!
كشفت أجهزة المخابرات الأسبانية تورط قوات حفظ السلام التابعة لحلف
شمال الأطلسي في إجبار قاصرات من البوسنة على ممارسة البغاء مع الجنود
الدوليين في سراييفو، وهذه الشبكة يديرها جنود إيطاليون، وبدأت هذه الشبكة
العمل عام 1996م بعد شهور من مساهمة الجيش الإيطالي في المحافظة على اتفاق
دايتون للسلام.
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط: عدد (7117) ]
لا لدولة أصولية
صرح الرئيس الإندونيسي الجديد، بحر الدين حبيبي أن بلاده لا تعتزم إقامة
دولة إسلامية أصولية في إطار إصلاحاتها السياسية المقترحة، وكان ذلك إجابة
على تساؤل من النائب الأمريكي كريس سميث، أثناء اجتماعه مع الرئيس
الإندونيسي، وقال سميث: أكد لنا الرئيس أن أيديولوجية إندونيسيا تستبعد إقامة
دولة أصولية، وأن شعار إندونيسيا سيكون التسامح، وسيكون للناس حرية ممارسة
عقائدهم واحترام الأديان الأخرى، آمل والحكومة الأمريكية ألا تصبح إندونيسيا
أصولية.
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط: عدد (7121) ](127/108)
الورقة الأخيرة
هموم إندونيسية
أحمد العامر
تعاني أكثر بلاد العالم الإسلامي من الحكومات الفاشلة التي أذاقت شعوبها سوء
العذاب بسياساتها الخرقاء وسقوطها في فلك الاتجاهات الحزبية المشبوهة،
وإندونيسيا بلد مسلم كبير.. واحد من تلك البلدان.. إذ لم تجد طعم الحكم الصالح
الرشيد منذ خرجت من أتون الاستعمار الهولندي الذي صنع كعادة المستعمرين أذناباً
له يمثلونه ويعملون وفق نهجه.. فقد عاشت إندونيسيا محنتها منذ (أحمد سوكارنو)
الذي ابتدع فلسفة (البانجاسيلا) [*] التي جمعت نتفاً من الأديان السماوية والمذاهب
الوضعية وألزم الجميع بالولاء لها وهمش الإسلاميين وناصب الإسلام العداء وفتح
المجال للنصارى ليعملوا على قدم وساق حتى خططوا في برامجهم لتنصير
(إندونيسيا) بكاملها عام 2000، وسقط سوكارنو نتيجية سياساته وغطرسته وذهب
لمزبلة التاريخ.
وحكم الجنرال سوهارتو البلد من بعده لمدة 32 عاماً بالحديد والنار بعد انقلاب
عسكري؛ ومع ما اتسم به حكمه من هدوء، ثم انتعاش اقتصادي نسبي حتى عُدّت
إندونيسيا من النمور الآسيوية؛ إلا أنه أُسقط أيضاً؛ فلماذا أسقط الرئيس بعد تلك
الفترة الطويلة لا سيما بعد فبركة ترشيحه بالأكثرية؟ والمتابعون للأحداث يرجعون
ذلك لعدة أسباب، منها:
1- الدكتاتورية التي حكم بها سوهارتو البلاد وهمّش بها المعارضة حتى لم
يعد لها أي تأثير ضد انحرافات حكوماته.
2- الخلل الاقتصادي الذي عاشته البلاد، ثم الانهيار فيما بعد مما انعكس
سلباً على معيشة المواطنين بينما المقربون يعيشون في بحبوحة من العيش.
3- الانتفاضة الشعبية بل الفوضى التي ضربت أطنابها في البلاد مما أدى
إلى مهاجمة المتاجر والمعارض، وانتشار التخريب الذي انفلت معه زمام الأمن
بشكل فوضوي تم على أثره احتلال البرلمان من قِبَلِ الطلاب والمعارضين.
4- مطالبة حلفائه المقربين ولا سيما أمريكا باستقالته حفاظاً على وحدة البلاد
وإبقاءً على تاريخه بل حفظاً على ماء وجهه.
5- إصراره على البقاء بدعوى أن استقالته لن تحل الأوضاع، ومع تأييد
الجيش له إلا أنه لم يبق طويلاً بعدما ساءت الأحوال واضطر الأجانب لإجلاء
رعاياهم، مما جعل الاستقالة أمراً لا مفر منه، ومع ذلك وبعد تنازله الذي لم يسمّه
استقالة وإنما سماه (تنحياً) ولعله كان يفكر بالعودة بعدما تهدأ الأوضاع لكن إجراءات
نقل السلطة تمت لنائبه يوسف حبيبي، وجرت محاولة فاشلة للانقلاب ولكنها
أجهضت في حينه، ولم يحصل التفاؤل بخلفه؛ لكونه أحد تلاميذ مدرسة سوهارتو؛ وبالفعل ما زالت المظاهرات تطالب بتنحية البديل.
والسؤال هنا: إلى متى ستظل شعوب العالم الإسلامي رهينة قيادات مفروضة؟ فيوسف حبيبي كان شريكاً لسوهارتو ومسؤولاً عن قسط كبير من سياساته ولكنه
الآن اكتشف تلك الأخطاء فجأة فراح يحاول الظهور بدعوى الإصلاح بالدعوة
للتقشف وإبعاد الأقارب؛ والأمر ما زال غير واضح والأيام حبلى بكل عجبيب،
لكن مثل ذلك الدكتاتور (سوهارتو) الذي أخضع شعبه لحياة المذلة عاش فيها جل
شعبه عيشة الكفاف، بل عاش كثير منهم تحت حزام الفقر؛ هل يُترك ليتمتع
بالأموال التي نهبها والخراب الذي خلفه؟ أم يحاكم ويطالب بما نهبه قضائياً ليكون
ذلك عبرة له وردعاً لأمثاله والعجيب أن ثروة سوهارتو تبلغ أربعين مليار دولار
وهي قيمة ديون إندونيسيا نفسها ولعل الأيام القادمة ستفصح عن نوايا الرئيس
الجديد تجاه شعبه.
نسأل الله أن يلطف بهذا البلد المسلم، وأن يعينه على اجتياز محنته، وأن
يلهم مسؤوليه طريق السداد وسلوك النهج الأمثل بما يليق بأكبر بلاد المسلمين عدداً
وحتى لا تكون حقل تجارب بائرة لزعماء بائرين.
__________
(*) البانجاسيلا: تعني المبادئ الخمسة وهي: (الإيمان) و (القومية الإندونيسية) و (العدالة الاجتماعية) و (الديمقراطية) و (الإنسانية) وقد نقدها المفكر الإندونيسي المسلم د محمد ناصر في كتابه (اختاروا أحد السبيلين: الدين أو اللادينية) وهو من مطبوعات: الدار السعودية للنشر
والتوزيع جدة.(127/111)
ربيع الآخر - 1419هـ
أغسطس - 1998م
(السنة: 13)(128/)
كلمة صغيرة
الإسلام أكبر
نبهت مشكورة صحيفة (الخليج الإماراتية) [1] لحملة مشبوهة غامضة تتبناها
جهة مجهولة ضد الإسلام والمسلمين من خلال شبكة (أمريكا أون لاين) بترويج
عملية التحريف في سور للقرآن الكريم والحديث. بإضافة ترجمات وتفاسير مزورة
ومغرضة لأربع سور مخترعة بعناوين: (الإيمان) و (التجسد) و (الوصاية)
و (المسلمون) زعموا أن مرجعها صحيح البخاري وكتب التفسير، ووضعوا لها رواة
مزيفين على نسق رواة الحديث؛ للتغرير بالمسلمين غير الناطقين بالعربية مدّعين
أنهم يرجعون لموقع إسلامي معروف؛ وثبت كذبهم في دعواهم. ودعت الصحيفة
إلى حملة احتجاج ضد ذلك الموقع المشبوه.
ونعتقد أن الهجوم على الإسلام قديماً وحديثاً مستمر من قِبَلِ أعدائه بالكذب
والزور والافتراء وما ضره شيئاً؛ لأنه من عند الله تعالى الذي تكفل بحفظه.. وإن
كانت مصادر هذه الدعاوى واضحة من لفظي: (الوصاية والتجسد) فهما مفهومان
لهما مرجعيتهما المعروفة لكل متابع؛ وجهود أعدائنا في التحريف والتزييف لا
تخفى ولن تنطلي على المسلمين إن شاء الله؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل
استُغِلّ (الإنترنت) استغلالاً دعوياً للتعريف بالإسلام من قِبَلِ الجهات الدعوية
الإسلامية بالمنطلق الشرعي القائم على الكتاب والسنة وفهم الصحابة والتابعين لهم
بإحسان؟ لأن الملاحظ أن التوجهات التنصيرية والملل والنحل المنحرفة قائمة على
قدم وساق بالتبشير بمناهجها من خلال هذه الأداة الإعلامية الجديدة الخطيرة؛ بينما
بعضنا مشغولون بنهش أعراض إخوانهم، والإساءة إليهم، على حين أن أعداء
الإسلام بمنجاة منهم. مع العلم أن الشركة المذكورة ألغت الموقع المشار له كما نشر
مؤخراً.
فمتى نعي واجباتنا، ونتقي الله في آرائنا؟ والله المستعان.
__________
(1) الخليج العدد 6971 في 25/2/1419هـ.(128/1)
الافتتاحية
ماذا يفعل أعدائي بي؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى
بهداه وبعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل من سنن الله في الكون، وإذا كان المتبادر إلى
الذهن أن مفهوم الصراع مقتصر على مواجهة مسلحة بين فئتين يحسم فيها الأمر
سريعاً ويتبين المنتصر من المهزوم؛ فإن الحقيقة أن المواجهة الأشد هي التي يحتار
فيها القوي في كيفية التعامل مع الضعيف الذي لا يحمل إلا سلاحاً واحداً هو سلاح
العقيدة والثبات على المبدأ مع الاستعداد للتضحية.
لقد مر العالم الإسلامي بنماذج كثيرة انتصر فيها الضعيف الأعزل؛ فبعد
استقرار الدولة الإسلامية وغلبتها، واتصال المسلمين بالثقافات الأخرى قامت
محاولات لوضع الإسلام في أطر غريبة عليه؛ فمنهم من حاول أن يعبر عن
الإسلام بعقلية حكماء الهند وكُهّانها، ومنهم من حاول تبني اتجاهات النصرانية
ورهبانها؛ فظهرت طوائف الصوفية المختلفة، والباطنية، ومنهم من اتجه إلى
الفلسفة اليونانية، فظهر المعتزلة الذين حاولوا أن يؤطّروا الإسلام بالنهج العقلاني
البحت والأطر الغريبة، وأصبح فيها العقل والمنطق هو المرجع الأساسي في الفهم، والأخطر من ذلك أنهم نجحوا في إقناع الدولة بتبني هذا المذهب الفاسد كما حصل
بتبني الخليفة المأمون النهج المعتزلي بل وإجبار الناس عليه.
ولفسادهم العقدي والسياسي فإننا نجد أنهم اختزلوا الإسلام في مسألة عقلية
واحدة ابتدعوها هم لم يسبقهم إليها أحد من المسلمين، وجعلوا هذه المسألة ألا وهي
خلق القرآن مقياساً لحسن إسلام المرء من عدمه؛ فمن لم يتابعهم عليها فليس جديراً
بقضاء ولا تدريس ولا إمامة ولا ... ولما خضع مجمل أهل العلم خوفاً أو طمعاً
أخذوا البقية الباقية بالشدة والعنت، وممن ثبت وجاهد ذلك التوجه الإمام أحمد بن
حنبل رحمه الله الذي رفض باطلهم ولم يدخل معهم في مساجلات عقيمة، بل وضع
يده على الداء وواجههم بقول واحد جامع مانع ألا وهو: (هاتوا آية أو حديثاً) لأنه
يعلم أنهم أُتوا من خلل في مصدر التلقي عندهم، وهنا مصدر الانحراف، وصبر
سنين على الضرب والسجن، ومنعه من التدريس. وفي النهاية ذهبوا إلى مزبلة
التاريخ وبقي ذكر الإمام أنموذجاً للصبر والثبات على البلاء الحق.
لقد فهم رحمه الله أن الدولة العباسية مجرد حاضن لهذا المذهب المنحرف،
ولذا لم يتعرض لها؛ فلم يتكلم عن المأمون ولا عن المعتصم على الرغم من أذاهم
الشخصي له، بل ركّز على المعتزلة وهدم مذهبهم؛ ونجح في ذلك حتى إنه ابتُلي
في آخر حياته بإقبال الدولة عليه لما عادت واحتضنت مذهب أهل السنة من جديد.
لقد مثّل الإمام أحمد معضلة كبيرة للمعتزلة؛ فلم ينفع معه الوعد ولا الوعيد؛
وتعذيبهم له سبّب لهم مشكلة، كما أنشأ سجنه لهم معضلة فأطلقوه خوفاً من موته في
السجن، فعاش سنين يحمل معه يداً معيبة شاهداً على ظلمهم ورمزاً لطغيانهم منعوه
من التدريس بعد أن أصبح رمزاً، وأخيراً قام بالتدريس والفتيا بعد أن أصبح إماماً
ولم يُتوف رحمه الله إلا وقد فقد المعتزلة السلطة والاحترام، وبدأ عصر جديد في
حاضرة الخلافة ألا وهو عصر الحنابلة أو على الأصح عصر أهل الحديث،
وتحقق ما كان يكرره وهو قوله: (بيننا وبينهم الجنائز) .
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد عاش حياته كلها جهاداً بالكلمة لأمته
التي أصابها بعض الانحراف، وبالسيف لأعدائها، وابتُلي حتى قال كلمته
المشهورة: (ما يفعل أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري؛ مهما رحلت فهي
معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة) . نعم
لقد مات في سجن دمشق، وبقي ذكره يعطر الآفاق عالماً وإماماً يشار له بالبنان
ويترضى عنه كل من قرأ آثاره العلمية الجليلة؛ فأين الذين كانوا أقوى منه وسجنوه! لقد اندرسوا، وبقي ذكره وعلمه ومنهجه على مر العصور، نعم لقد كان معضلة
لأعدائه.
سيد قطب رحمه الله وإن اختلفنا معه في بعض المآخذ [1] إلا أنه كان معضلة
لأعدائه؛ ففي حريته كان يعمل بلا كلل في سبيل ما يرى أنه الحق، ولمّا غُيّبَ في
السجن أكبّ على التدبر في حال الأمة، وأخرج لها كتابه القيم: (في ظلال القرآن) ، لقد رفض المناصب العالية، وسيق إلى الإعدام وهو يبتسم ... لقد كان يرجو ما
عند الله من جهة، ومن جهة أخرى يرجو أن يكون موته بهذه الصورة معضلة
لأعدائه؛ لأن كلماته ستبقى هامدة لا روح فيها حتى يرويها بدمه؛ وهذا ما حصل،
ومن كان يعرف سيداً لو لم يبتلَ؛ لكن إذا أراد الله نشر فضيلة أتاح لها لسان حسود.
وإذا انتقلنا إلى عصرنا الحاضر فإننا نجد أن هناك أمثلة يحق أن نسميها:
(معضلة لأعداء الله) .
فمثلاً الشيخ أحمد ياسين حفظه الله رجل فريد في هذا الزمان؛ فإنه مشلول لا
يتحرك منه سوى رأسه حتى إن كأس الماء يوضع في فيه؛ لأنه لا يستطيع أن
يشرب بنفسه؛ ومع ذلك فقد استعمل ما أبقى الله له، فعمل ودرّس، وأدار حركة
ناشئة في ظروف عصيبة، وكوّن أول الخلايا الجهادية، فقام اليهود بسجنه وهو
المشلول المعاق، وبقي في السجن عشر سنوات، وهو يمثل إحراجاً وإزعاجاً لهم،
وكان مطلب إخراجه مع كل عملية لكتائب عز الدين القسام، وقد رفض عروضاً
عديدة للخروج من السجن مع الإبعاد، وأصر على العودة إلى وطنه، وتم له ذلك
أخيراً، وعاد إلى غزة بعد أن أصبحت حماس رقماً صعباً. ولما خرج الشيخ
للعلاج قام بالرغم من حالته الصحية بجولة واسعة لقي فيها كل ترحيب في كل
البلاد التي زارها، وكان التعاطف الشعبي ملفتاً لأنظار الجميع، ولكن الأغرب هو
ذلك الترحيب الرسمي في مختلف البلاد؛ حيث إن الحكومات وجدت في الزيارة
فرصة للتعبير عن عدم رضاها عما يسمى بالعملية السلمية، وفرض إسرائيل من
قِبَلِ أمريكا زعيمة لدول المنطقة، واتجهت للتعامل مع حماس؛ لأنها تمثل الجهة
الوحيدة الفاعلة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
والذي نراه أن أهم ما في هذه المرحلة هو أن قضية فلسطين عادت قضية
إسلامية، حيث حرص الأعداء على إضعاف ذلك البعد العقدي الخطير؛ فبعد
التركيز على البعد العربي اختزل إلى بعد فلسطيني، ثم أخيراً إلى عرفاتي؛ حيث
انتهى الأمر إلى الاعتراف بحق اليهود في فلسطين!
من الواضح أن الشيخ نجح في أن يكون معضلة لليهود وأتباعهم؛ فتركُهُ حراً
أو سجنه أو خروجه كلها معضلات، بل هناك تردد في السماح لعودته بعد جولته
لكن الله يدافع عن الذين آمنوا. وبالفعل سمح له بالدخول إلى غزة فيما بعد؛ مع
إيذاء واستفزازات صهيونية كالعادة.
أما حماس فهي معضلة للأعداء وستبقى معضلة بشرط الثبات على التركيز
على الهدف الأساسي وهو: اليهود؛ واليهود داخل فلسطين فقط، وعدم الانجرار
إلى استفزازات السلطة من أجل الدخول في صراعات معها مما يحولها عن الهدف،
وللحيلولة دون إعطاء السلطة مسوغات التصفية الشاملة، مما يدمر الطرفين معاً؛
وهذا غاية ما يتمنى اليهود الذين نرجو أن يصدق فيهم حَدْس الشيخ بأنهم لن يحتفلوا
بمرور مئة سنة على إنشاء دولتهم؛ ونرجو أن يكون ذلك أقل؛ وما ذلك على الله
بعزيز، والله غالب على أمره.
__________
(1) كتاب في ظلال القرآن ليس تفسيراً بمعنى الكلمة؛ إنما هو كما قال مؤلفه رحمه الله وقفات في ظلال الآيات؛ وباعتباره جهداً بشرياً فإنه لا يخلو من المآخذ والأخطاء، وقد كُتبت فيه رسائل علمية من أهمها دراسة الدكتور صلاح الخالدي التي نال بها دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وهناك دراسات أخرى تطرقت لبعض المآخذ كبحث الدكتور محمد المغراوي من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن (المفسرون بين الإثبات والتأويل لآيات الصفات) .(128/4)
إشراقات قرآنية
وخلق كل شيء فقدره تقديراً
عبد العزيز مصطفى
لا شك أن المعرفة بالله تورث المحبة والخشية واليقين؛ فكلما كان العبد بالله
أعرف، كلما كان له أخوف، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: [إنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) وقد كان رسول الله لله أعلم الناس
وأعرفهم، ولهذا فإنه كان أخشى الناس لله تعالى قال لله: (أنا أعرفكم بالله وأشدكم
له خشية) [1] .
ونحن مدعوون إلى أن نزيد معرفتنا بالله، لتزداد خشيتنا له فتخشع قلوبنا له
[أَلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ]
[الحديد: 16] .
ولهذه االمعرفة بالله سبل لا يُتوصل إليها بدونها، يقول ابن القيم رحمه الله:
(الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته عن طريقين: أحدهما: النظر في
مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها. فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته
المسموعة المعقولة..) [2] .
ومن القرآن العظيم نلتمس الطريقين، فهو يفتح القلوب للنظر إلى مفعولات
الله، ويفتق الأذهان والعقول إذا تفكرنا وتدبرنا في آياته.
إن النظر في مفعولات الله تفكّر، وقد دُعينا إلى التفكر [أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي
أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمَّى]
[الروم: 8] .
وإن من أعظم ما يعيننا على النظر في مفعولات الله: التأمل في تقديره
سبحانه وتعالى في خلقه، فهو القائل سبحانه: [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً]
[الفرقان: 2] .
فلله تعالى في كل شيء من خلقه قدْر وتقدير، وهذا التقدير معناه إعطاء كل
شيء مقداراً وكمّاً محدداً على سبيل الحكمة، والتقدير أيضاً: إعطاء الشيء القدرة؛ فتقدير الله الأشياء على وجهين: أحدهما: بإعطاء القدرة، والثاني: بجعلها على
مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة [3] .
ونحن إذا تأملنا حديث القرآن عن التقدير، لوجدنا هذا التقدير بادياً في معالم
الخلق كلها؛ فالتقدير بادٍ في خلق السماوات، وباد في خلق الأرض وفي خلق
الإنسان على الأرض وفي رزقه وفي حياته وفي مماته.
وسنرى الآن أن القرآن قد حوى في إيجاز وإعجاز الحديث على هذه المعالم
فأشار إليها كلها، ولفت نظر الإنسان للتفكر في تقدير الله تعالى فيها بكلياتها
وجزئياتها.
التقدير في السموات:
إن أعظم ما يظهر لنا من المخلوقات السماوية في عالم الشهادة، وأكبر ما له
تعلق بحياتنا منها، هذان النيّران العظيمان: الشمس والقمر، ولا شك أن السماوات
مملوءة بملايين المخلوقات غيرها من النجوم والكواكب، وأيضاً الملائكة التي خلقت
لسكنى السماء، ولكن يبقى النيّران الشمس والقمر من أهم مخلوقات السماء التي
تتعلق بهما حياة الإنسان على الأرض، فلننظر إلى حديث القرآن عن تقدير هذين
المخلوقين العظيمين، يقول الله تعالى: [هُوَ الَذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] [يونس: 5] .
فالآية تشير هنا إلى تقدير له تأثير مباشر على حياة الإنسان، [وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ] أي قدر سيره في منازل [لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] يعني حساب الأوقات
من الأشهر والأيام والليالي، وقد خُص القمر في هذا السياق بالتقدير؛ لسرعته
ولأن دوراته وتحركاته لها تعلق أكثر بأحكام الشرع، والمخاطبون هنا خطاباً أولياً
هم أهل الإيمان بهذا الشرع [لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] قال الألوسي رحمه
الله: (وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة للشمس، ولأن منازله معلومة
محسوسة، ولكونه عمدة في تواريخ العرب، ولأن أحكام الشرع منوطة به في
الأكثر) [4] وقد أشار القرآن إلى لون آخر من التقدير المتعلق بالقمر في قوله تعالى: [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ] [يس: 39] فالعباد يرون
القمر في منازله المقدرة تلك: يولد هلالاً، ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدراً،
ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالاً مقوساً.. كالعرجون القديم.
ولكم نتحير عندما نرفع أعيننا إلى السماء، ونشاهد الأجرام والكواكب
والنجوم التي لا حصر لها. إن هذه الكرات السماوية التي لا تزال معلقة في الفضاء
منذ قرون لا نعرف عدتها؛ تدور في الفضاء الفسيح السحيق على نظام معين معلوم، والقمر واحد من تلك الأجرام السماوية، وحركته تلك المشاهدة، ترشدنا إلى أن
نتذكر أن كل أجرام السماء لها أفلاكها التي تَسبْح وتُسبّح فيها باسم الخالق العظيم [وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] [الإسراء: 44] .
أما الشمس فلها تقديرها الذي أشار إليه القرآن بقوله: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] [يس: 38] .
فهي تشرق وتغرب منذ أن خلق الله الدنيا شاهدة على انتظام ناموس الكون
وفق قدرة الله؛ فإذا قدر الله لهذا الناموس أن يختل اختل ناموس الشمس بأمر الله،
وكان اختلاله أعظم آية على بدء الخلل العام في نظام الكون إيذاناً بانتهاء الدنيا..
إن هذا يحدث عندما تشرق الشمس من مغربها، فعندها تترادف الأشراط الكبرى
المؤذنة بنهاية العالم.
أما قبل هذا.. فالشمس تجري والقمر يدور في منازله، وهكذا كل أجرام
السماء وفق نظام دقيق وتقدير محكم [لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللَّيْلُ
سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] [يس: 40] فلكل نجم أو كوكب فلك أو مدار
لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة
لكنها مقدرة وأكبر دليل على أنها مقدرة بدقة بالغة أنها لا تتصادم ولا تضطرب ولا
تتناثر قبل الموعد المقرر لها. إن المسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس كما يقول
علماء الفلك تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال، والقمر يبعد عن الأرض
بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال، وهذه المسافات على بعدها ليست شيئاً يذكر
حين تقاس إلى ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا.
وتلك المسافات المقدرة في أبعادها السحيقة لبعضها تأثير على مظاهر هامة
في حياتنا على الأرض؛ فالقمر مثلاً هو أقرب جيراننا في الفضاء، وهذا القرب
يؤثر على البحار يومياً في حركة الأمواج والمد والجزر.
والمسافة الفاصلة بين الأرض والقمر مناسبة تماماً ومقدرة لصالح أهل
الأرض، ولو نقص هذا الفاصل إلى خمسين ألفاً من الأميال لحدث طوفان شديد في البحار تغطي أمواجه أكثر مناطق الأرض المأهولة فيغرق كل شيء، كما أن
المسافة بيننا وبين الشمس لو اقتربت أكثر هي عليه الآن لاحترقت الأرض وما عليها [5] .
التقدير في الأرض:
قال تعالى: [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ] (فصلت: 9-10) إن التقدير في الأرض لا
يمكن أن يستوعبه بجوانبه تفكير البشر، فكل شيء فيها مقدر، لقد قدرت في
جرمها، وفي وزنها وفي شكلها، وفي قربها أو بعدها عن غيرها، وقدر رسوها
بالجبال، وقدرت الحواجز فيها بالبحار والأنهار، وقدرت البركة فيها على قدر
أرزاق ساكنيها [وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا] فالبركة في كل عناصرها،
فعناصر من الهواء كونت الماء، وبالماء مع الهواء مع الرياح والشمس تكونت
التربة الصالحة للزراعة، ووضعت البركات بقدر في الماء والشمس والرياح،
فتكونت الأمطار التي هي أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة
تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار.
وكل هذا من البركة التي تأسست عليها بركة أعظم وألصق بحياة الإنسان،
وهي البركة في الأقوات.
كيف قدرت الأقوات؟
لقد تضافرت في ذلك عوامل عدة. لننظر مثلاً في دور الهواء في توفير
الغذاء ...
الهواء كما نعلم ركب من عدد من العناصر، وهي (أكسجين ... ثاني أكسيد
الكربون ... نتروجين) إننا نستمد أنفاسنا من الهواء من أكسجينه ويستمد النبات
نموه من الهواء من كربونه ونحن نأكل النبات، ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات،
ومن كليهما تبنى أجسامنا. بقي من غازات الهواء: النيتروجين أو الأزوت فهذا
لتخفيف أثر الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا، أما بخار الماء فهذا لترطيب الهواء، وتبقى طائفة من غازات أخرى قليلة في نسبها، ولكن لها تأثيرها) [6] إن
الأقوات المقدرة في الأرض والتي أشارت إليها الآية أوسع مفهوماً مما يؤكل في
بطون البشر فهي أقوات في الأرض [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا] فهي للإنسان والحيوان،
وللطير وللهوام وللنبات وللكائنات الأولية، بل وللكائنات الغيبية كالجن ودوابها،
وكل الأقوات مركبة من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو جوها
سواء، فيمتد الأمر إلى ما هو فوق الغذاء، فيشمل أيضاً الدواء والكساء، فكل هذا
من بين عناصر الأرض المودعة فيها والمقدرة، وكل هذا يشير إلى شيء من
البركة والتقدير لعلنا نتفكر.
والأرض في ضخامتها لا تساوي ذرة من هذا الكون العظيم، ولو أن حجمها
كان أقل أو أكثر مما هي عليه الآن لاستحالت الحياة فوقها؛ لأن هذا التغيير في
حجمها سيؤثر في مقدار الجاذبية الحالية لها، مما يؤثر في تماسك الماء والهواء من
حولها، أما إذا زاد حجمها كثيراً عما هو عليه الآن لتضاعفت الجاذبية، ومن ثم
سينكمش الغلاف الجوي ويزداد الضغط الجوي وسيؤدي ذلك إلى استحالة نشأة
الأجسام الحية أو استمرارها.
إن الأرض تتم دورة واحدة حول محورها كل أربع وعشرين ساعة ومعنى
ذلك أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، فإذا افترضنا أن هذه
السرعة انخفضت إلى مائتي ميل في الساعة لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشر مرات
بالنسبة إلى ما هي عليه الآن، ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس لاستمرار
حرارتها كل شيء فوق الأرض [7] ، وما بقي بعد ذلك ستقضي عليه البرودة
الشديدة في الليل؛ فسبحان من خلقها، فسواها فقدر ها تقديراً.
التقدير في خلق الإنسان:
الإنسان هو أكرم مخلوق على الأرض كما قال الله: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ] [الإسراء: 70] وكرامة الإنسان تبدو في خلقته وفي
تقدير الله له، فالتقدير ملازم لحياة هذا المخلوق حتى قبل أن يكون شيئاً مذكوراً،
ألم يكن هذا الإنسان في مبدأ خلقه نطفة؟ ! نعم نطفة ومع هذا خلقه منها فقدره،
ولكن هذا الإنسان للأسف ينسى خلقه وينسى تقديره فيكفر بربه [قُتِلَ الإنسَانُ مَا
أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ] (عبس: 17-19) .
قال صاحب الظلال: (من هذا الشيء الذي لا قيمة له، ومن هذا الأصل
الذي لا قوام له! ولكن خالقه هو الذي قدره: من تقدير الصنع وإحكامه، وقدّره:
من منحه قدراً وقيمة فجعله خلقاً سوياً، وجعله خلقاً كريماً، وارتفع به من ذلك
الأصل المتواضع.. إلى المقام الرفيع الذي تسخر فيه الأرض وما عليها) [8] .
ورحلة الإنسان إلى هذا المقام تمر عبر مراحل من التقدير الإلهي اللطيف
الذي به يرعاه بقدرته. قال تعالى: [أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي
قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ] [المرسلات:
20 - 23] .
فمع نشأته الجنينية ورحلته العجائبية، يتنقل هذا المخلوق المكرم من طور
إلى طور: ماء مهين تكتنفه رعاية في قرار مكين إلى قدر معلوم.. ثم يخرج إلى
الدنيا فيعطى قدراً وقدرة بهما، فتمضي الحياة إلى أجل مرسوم. كل هذا وفق تقدير
ذي القدرة المطلقة [فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ] .
ولنقف لحظات مع بعض جوانب القدرة في خلق الإنسان لنرى كيف خلقه الله
فقدره، ثم السبيل يسره، ونختار على ذلك مثالاً واحداً هو الجهاز العصبي في
الإنسان. يقول وحيد الدين خان: (إننا نتحير إذا رأينا النظام المعقد لأسلاك
التليفون، ونتحير إذا وجدنا أن مكالمة من لندن إلى ملبورن بأستراليا تتم في بضع
ثوان، فإذا كان تعقيد نظام أسلاك التليفون يوقعنا في هذه الحيرة، فما بالنا بنظامنا
العصبي، وهو أوسع من هذا النظام وأشد تعقيداً؟ !
إن ملايين الأخبار تجري على أسلاك نظامنا العصبي، الذي خلقه الله، من
جانب إلى آخر ليل ونهار، وهذه الأخبار هي التي توجه القلب في تدفقها وفي
وحركتها، وتتحكم في حركات الأعضاء المختلفة، ولو لم يكن هذا النظام موجوداً
في أجسامنا لصارت الأجسام تلفيقاً لأشياء مبعثرة تسلك كل منها مسلكها الخاص.
ومركز هذا النظام للاتصالات مخ الإنسان، وفي هذا المخ يوجد ألف مليون
خلية عصبية، ومن كل هذه الخلايا تخرج أسلاك تنتشر في سائر الجسم، وتسمى
هذه الأسلاك (الأنسجة العصبية) وفي هذه الأنسجة يجري نظام استقبال وإرسال
للأخبار، بسرعة سبعين ميلاً في الساعة، وبوساطة هذه الأنسجة نتذوق، ونسمع،
ونرى ونباشر سائر أعمالنا، بل إن هناك ثلاثة آلاف من الشعيرات المتذوقة،
ولكل منها سلك عصبي خاص متصل بالمخ، وبوساطة هذه الشعيرات نحس
بالمذاقات المختلفة. وتوجد في الأذن عشرة آلاف خلية سمعية، ومن خلال نظام
معقد يسري من هذه الخلايا يسمع مخنا، وفي كل عين مائة وثلاثون مليون من
الخلايا الملتقطة للضوء، وتقوم بمهمة إرسال المجموعات التصويرية إلى المخ،
فإذا قربنا إلى الجلد شيئا حاراً، فإن ثلاثين ألفاً من الخلايا الملتقطة للحرارة تحس
بهذه العملية وترسلها فوراً إلى المخ.. وإذا قربنا إلى الجلد شيئاً بارداً فإن ربع
مليون من الخلايا التي تلتقط الأشياء الباردة تحس به وعندئذ يمتلئ المخ بأثرها
ويرتعد الجسم، وتتسع الشرايين الجلدية فيسرع مزيد من الدم إليها ويزودها
بالحرارة، وإذا أحست هذه الخلايا بحرارة شديدة، فإن مخابرات الحرارة توصلها
إلى الدماغ، وحينئذ تفرز ثلاثة ملايين من الغدد العرقية تلقائياً عرقاً بارداً إلى
خارج الجسم لتخفيف الحرارة) [9] .
التقدير في رزق الإنسان:
يشير القرآن إلى التقدير العجيب في الأرزاق التي يبسطها الله أو يقبضها
بحكمة ولطف؛ فأرزاق البشر مقدرة في كمها وكيفها ونوعها وحجمها كما قال
سبحانه: [وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ]
[الحجر: 21] والله تعالى أنزل للبشر بمجموعهم رزقاً معلوماً في هذه الدنيا، وأنزل لكل طائفة أو جيل أو شعب منهم رزقه المقدور، ولكل فرد من هؤلاء رزقه المكتوب مع أجله، وهو لن يموت حتى يستوفيه كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها) [10] .
وتقدير أرزاق البشر يسير وفق مشيئة الله القدرية لكل مخلوق، وما من واحد
منهم يقدر على شيء أو يملك شيئاً على الحقيقة؛ فخزائن الرزق عند الله مصادرها
ومواردها وإنما يجريها على أهلها بحسب ما قدر من أسباب مقترنة بها [وَمَا نُنَزِّلُهُ
إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ] فهذا إنسان تصلح له سعة الرزق في أول العمر، وهذا إنسان
يؤجل اتساع رزقه إلى نهاية العمر، وثالث يوسع عليه في العمر كله، وآخر
يضيق عليه في العمر كله؛ وكل هذا على حسب ما هو مكتوب عند الله من
المصائر والنهايات.
إن الله تعالى قادر على أن يجعل كل من على الأرض أغنياء، ومع قدرته
على ذلك فإنه لم يقدره لأسباب كثيرة، لعل منها: أنه سبحانه لا يريد لهذه الدنيا
الدنية أن تتحول إلى جنة غنية ثرية؛ فالجنة لها وقتها ولها أهلها. ثم إن معادن
البشر في الغالب يطغيها الغنى، وهذا الطغيان يمكن أن يعطل انتظام الحياة على
هذه الأرض، ولهذا قال تعالى: [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ
وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ] [الشورى: 27] فما ينزل من الرزق، إنما ينزل بتقدير
محسوب لتستمر الحياة، وليتم أيضاً الابتلاء فيها.
وحتى الماء الذي هو عصب هذه الحياة، ينزل بتقدير محسوب كما قال
سبحانه: [وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ
لَقَادِرُونَ] [المؤمنون: 18] ينزل الماء من السماء بتقدير وحكمة، فلا هو كثير
كثرة تفسد على أهل الأرض معيشتهم، ولا هو قليل قلة تسبب الجدب والمحل،
ولا يأتي في غير أوانه فيذهب بلا فائدة، إنه يخزن في طبقات الأرض بتقدير الله،
وإذا شاء أذهبه فيغور في طبقاتها البعيدة، بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي
استقر عليها فحفظته، أو بغير هذه الأسباب؛ فالذي أمسكه بقدر قادر على إذهابه،
وبقدر أيضاً [وَإنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ] .
التقدير في حياة الإنسان:
يقول الله تعالى: [اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ
وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ] [الرعد: 8] .
قال الألوسي: بمقدار: أي بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه، فإن كل حادث
من الأعراض والجواهر له في كل مرتبة من مراتب التكوين وميادينها وقت معين
وحال مخصوص لا يكاد يجاوزه) [11] . إن كل شيء في هذه الدنيا خُلق وسُخّر
من أجل الإنسان، قال سبحانه: [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً] [الجاثية: 13] فجميع الأشياء مخلوقة من أجله، وكلها مقدرة فكل ما يظهر
لنا من مخلوقات في السماء، يقترن بقاؤه ونظامه ببقاء الإنسان، والأرض وما فيها
وما عليها يقترن بقاؤها ببقاء الإنسان، ولهذا فعندما يأتي أوان انتهاء الحياة
الإنسانية، تنتهي كل هذه المخلوقات في الأرض وأيضاً في السماوات. قال تعالى:
[إذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإذَا
القُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ] [الانفطار: 1، 5] وهذه النهاية
أيضاً لا بد أن تلفت نظر الإنسان إلى أن الله تعالى ما كان ليخلقه ويسويه، فيعدله
ويهديه ويخلق كل هذا من أجله لكي يمضي سويعات العمر في العصيان والغرور،
ولهذا قال سبحانه بعد تلك الآيات: -[يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ (6)
الَذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) ] [الانفطار:
6 - 8] .
وغرور الإنسان لا تقل حدته إلا بالتفكر.. التفكر في خلق الله في تقديره وفي
تسويته لخلقه وفي هدايته لهم؛ فهذا التفكير يدعونا إلى أن نقدره سبحانه حق قدره،
وأن نسبح بحمده كما أمرنا [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى] [الأعلى: 1 - 3] .
وأخيراً: التقدير في موت الإنسان:
فإذا كانت حياة الإنسان كلها تسير وفق سنن التقدير، فكذلك الموت. يقول
تعالى: [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ] [الواقعة: 60] أي جعلناه
مقدراً بآجال معلومة وأعمار منها طويل، ومنها قصير ومتوسط؛ فالله تعالى يعلم
المدة التي تصلح لحياة كل مخلوق حي على حسب علمه السابق بمصيره في الآخرة، فيطيل عمر هذا في الطاعة، وينقص من عمر هذا حتى لا يزيد في المعصية،
ويملي لهذا حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويمهل ذاك حتى يتوب أو ينوب، هذا
على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمم والأجيال أيضاً؛ فإن لها آجالها كذلك
[وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جََاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاًخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ]
[الأعراف: 34] .
فسبحان خالق الإنسان، وسبحان خالق الأكوان، سبحان خالق الحياة،
وسبحان خالق الموت الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً.
__________
(1) البخاري في الأدب، حديث (6101) ومسلم في الفضائل (2356) بنحوه.
(2) الفوائد لابن القيم ص 20.
(3) المفردات للراغب الأصفهاني ص 395.
(4) روح المعاني (6/96) .
(5) انظر (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان ص 202.
(6) انظر (الظلال) (5/3113) .
(7) انظر (الإسلام يتحدى) ص 87.
(8) الظلال (6/3831) .
(9) الإسلام يتحدى ص 81.
(10) أخرجه ابن ماجه في سننه، التجارات، حديث (2144) .
(11) روح المعاني (ج/7/109) .(128/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
من القواعد الفقهية الكبرى
(الضرر يزال)
فواز أبو راحيك
الضرر يزال:
هذه القاعدة تعتبر من القواعد الكبرى التي يعتمد عليها الفقهاء في تقرير
الأحكام الشرعية للحوادث والمسائل المستجدة، وأغلب كتب القواعد الفقهية عبرت
عنها بقول: (الضرر يزال) ، وعبر عنها الشيخ عبد الرحمن السعدي، والدكتور
البورنو، والأستاذ الزرقاء [1] بـ (لا ضرر ولا ضرار) وهو ما جعله الآخرون
أصلاً لها.
أصل القاعدة:
أصلها قوله لله: (لا ضرر ولا ضرار) وهو حديث أخرجه مالك في الموطأ
عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلاً.
وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي، والدارقطني من حديث أبي سعيد
الخدري، وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت رضي الله
عنهم [2] .
معنى الحديث:
الضرر: إلحاق مفسدة بالغير مطلقاً.
الضرار: مقابلة الضرر بالضرر.
والحديث يفيد تحريم الضرر بشتى أنواعه؛ لأنه نوع من أنواع الظلم؛
ويشمل ذلك دفعه قبل وقوعه بالطرق الممكنة، ورفعه قبل وقوعه بالتدابير
والإجراءات اللازمة.
ولا يجوز أيضاً مقابلة الضرر بالضرر؛ لأنه توسيع لدائرة الضرر؛
فالإضرار لا يُلجأ إليه إلا لضرورة، ويستثنى من ذلك ما خُصّ بدليل وكان عقوبة
شرعية مثل الحدود والعقوبات الأخرى كالقصاص.
شرح القاعدة:
هذه القاعدة من أركان الشريعة، وتشهد لها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة
وهي أساس لمنع الفعل الضار وترتيب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة، وهي
أيضاً سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المصالح ودرء المفاسد؛ وهي عدة الفقهاء
وعمدتهم وميزانهم في تقرير الأحكام الشرعية للحوادث [3] .
ونص هذه القاعدة ينفي الضرر فيوجب منعه مطلقاً، ويشمل ذلك الضرر
العام والضرر الخاص، ويشمل أيضاً دفع الضرر قبل وقوعه، بطرق الوقاية
الممكنة، كما يشمل أيضاً دفعه قبل وقوعه بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره
وتمنع تكراره؛ ومن ثَمّ فإن إنزال العقوبات المشروعة بالمجرمين لا ينافي هذه
القاعدة وإن ترتب عليها ضرر بهم؛ لأن فيها عدلاً ودفعاً لضرر أعم وأعظم.
ما يبنى عليها من أبواب الفقه:
يبني الفقهاء على هذه القاعدة كثيراً من أبواب الفقه، منها:
الرد بالعيب، وجميع أنواع الخيارات من اختلاف الوصف المشروط
والتعزير وإفلاس المشتري والحجر بأنواعه، والشفعة؛ لأنها شرعت لدفع ضرر
القسمة، والقصاص والحدود والكفارات، وضمان المتلف والقسمة، ونصب الأئمة
والقضاة، ودفع الصائل وقتال المشركين والبغاة، وفسخ النكاح بالعيوب أو الإفساد
أو غير ذلك [4] .
المقصود بالضرار:
نفي فكرة الثأر المحض لمجرد الانتقام الذي يزيد الضرر ويوسع دائرته؛
فالإضرار ولو كان على سبيل المقابلة لا يجوز أن يكون هدفاً مقصوداً؛ وإنما يُلجأ
إليه اضطراراً عندما لا يكون غيره من طرق التلافي؛ والقمع أنفع وأفضل منه.
فمن أتلف مال غيره مثلاً لا يجوز أن يُقابل بإتلاف ماله؛ لأن ذلك توسيع
للضرر بلا منفعة، وأفضل منه تضمين المتلِف قيمة ما أتلف، فإن فيه نفعاً
بتعويض الضرر، وتحويل الضرر نفسه إلى حساب المعتدي، وذلك بخلاف
الجناية على النفس أو البدن مما شرع فيه القصاص؛ فمن قتل يقتل، ومن قطع
يقطع؛ لأن هذه الجنايات لا يقطعها إلا عقوبة من جنسها [5] .
من أحكام هذه القاعدة:
1- لو انتهت مدة إجارة الأرض الزراعية قبل أن يُستَحصَد الزرع فإن
الأرض تبقى في يد المستأجر بأجر المثل حتى يستحصد منعاً لضرر المستأجر بقلع
الزرع قبل أوانه.
2- لو باع شيئاً مما يسرع إليه الفساد كالفواكه مثلاً، وغاب المشتري قبل نقد
الثمن وقبض المبيع وخيف فساده، فللبائع أن يفسخ البيع ويبيع غيره دفعاً للضرر.
3- يجوز حبس المشهورين بالدعارة والفساد حتى تظهر توبتهم، ولو لم
يثبت عليهم جرم معين بطريق قضائي دفعاً لشرهم؛ لأنهم قد يحتاطون ويتحفظون، فقد يملأون الدنيا فساداً وإضراراً ولا يمكن إثبات شيء عليهم بطريق قضائي [6] .
قواعد تتعلق بهذه القاعدة:
يتفرع عن هذه القاعدة ويندرج تحتها ويتعلق بها قواعد، منها:
1-الضرورات تبيح المحظورات:
هذه القاعدة مستفادة من استثناء القرآن الكريم في حالات الاضطرار الطارئة
في ظروف استثنائية بقوله تعالى: [إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ] [الأنعام: 119] بعد
ذكر طائفة من المحرمات، لذا جاز للطبيب الكشف على عورات الأشخاص إذا
توقفت عليها مداواتهم، وجاز أكل الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر عند
الغصة، والتلفّظ بكلمة الكفر للإكراه، وكذا إتلاف المال وأخذ مال الممتنع من أداء
الدين بغير إذنه، ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله بشرط عدم نقصان الضرورة في
نظر الشرع عن المحظور الذي اقتضت إباحته كما اشترط الشافعية وغيرهم [7]
فلو كان الميت نبياً فلا يحل أكله للمضطر؛ لأن حرمته أعظم في نظر الشرع من
مهجة المضطر؛ وكذا لو دفن الميت بلا تكفين فلا ينبش منه؛ لأن مفسدة هتك
حرمته أشد من عدم تكفينه الذي قام التراب بالستر مقامه.
2- الضرورات تقدر بقدرها:
هذه القاعدة تعتبر قيداً لسابقتها؛ فالاضطرار إنما يبيح من المحظورات مقدار
ما يدفع الخطر؛ فلا يجوز الاسترسال؛ ومتى زال الخطر عاد الحظر؛ فالطبيب
يكشف من العورة لمداواتها بالقدر الذي يحتاج إليه كشفه فقط، والمرأة لا يجوز أن
يطلع على عورتها للتطبيب أو التوليد رجل إذا وجدت امرأة تحسن ذلك؛ لأن
اطلاع الجنس على جنسه أخف محظوراً، وتقبل شهادة النساء في المجالات التي لا
يمكن اطلاع الرجال عليها؛ وذلك بسبب الضرورة، ولكن لا تقبل شهادة النساء
فقط دون أن يكون معهن أحد من الرجال في المحال التي يمكن اطلاع الرجال عليها؛ لأن ما جاز للضرورة يُقدّر بقدرها [8] .
3- الضرر لا يزال بمثله (أو بالضرر) :
هذه القاعدة تعتبر قيداً لقاعدة: (الضرر يزال) التي أوجبت إزالة الضرر قبل
وقوعه ودفعه بعد وقوعه؛ فإزالة الضرر لا يجوز أن تكون بإحداث ضرر مثله؛
لأن هذا ليس إزالة؛ ومن باب أوْلى أن لا يزال الضرر بضرر أعظم منه؛
فالشرط أن يزال الضرر بلا إضرار بالغير، فإن أمكن وإلا فبأخف منه.
وعلى ذلك لا يجوز لإنسان محتاج إلى دفع الهلاك عن نفسه جوعاً أن يأخذ
مال محتاج مثله، كما لا يجوز لمن أُكره على القتل أن يقتل إذا كان المراد قتله
مسلماً بغير وجه حق.
* وإذا ظهر في المبيع عيب قديم وحدث عند المشتري عيب جديد امتنع رد
المبيع بالعيب القديم لتضرر البائع بالعيب القديم إلا أن يرضى [9] .
4- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
5- اختيار أهون الشرين أو أخف الضررين.
6- إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما [10] .
هذه القواعد الثلاث ممتدة المعنى؛ أي أن الأمر إذا دار بين ضررين أحدهما
أشد من الآخر فيتحمل الأخف ولا يرتكب الأشد.
والأصل في هذه القواعد قولهم: (إن من ابتلي ببليتين وهما متساويتان يأخذ
بأيتهما شاء، وإن اختلفتا يختر أهونهما؛ لأن مباشرة الحرام لا تجوز إلا للضرورة، ولا ضرورة في حق الزيادة) [11] .
فلو كان برجل جرح لو سجد سال دمه فإنه يومئ ويصلي قاعداً؛ لأن ترك
السجود مع المحدث أهون من ترك الصلاة مع المحدث، وترك السجود هنا أيضاً
يدفع عن الجريح ضرر خروج الدم ونزفه، وكذا لو أن مصلياً لو صلى قائماً فإنه
ينكشف من عورته ما يمنع جواز الصلاة، ولو صلى قاعداً فلا ينكشف منه شيء
فإنه يصلي قاعداً؛ لأن ترك القيام أهون.
ولو ابتلعت دجاجة شخصٍ لؤلؤة ثمينة لغيره؛ فلصاحب اللؤلؤة أن يمتلك
الدجاجة بقيمتها ليذبحها، وكذا جاز شق بطن المرأة الميتة لإخراج الجنين إذا كانت
ترجى حياته.
7- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام:
هذه القاعدة مبنية على المقاصد الشرعية في مصالح العباد؛ واستخرجها
المجتهدون من الإجماع ومعقول النصوص؛ فالشرع جاء ليحفظ على الناس دينهم
وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم؛ فكل ما يؤدي إلى الإخلال بواحد منها فهو
مضرة يجب إزالتها ما أمكن؛ تأييداً للمقاصد الشرعية بدفع الضرر الأعم بارتكاب
الأخص؛ ولهذه الحكمة شرعت الحدود وشرع القصاص.
ومن فروع هذه القاعدة: جواز رمي كفار تترسوا بالأسرى من المسلمين أو
صبيانهم أو نسائهم لدفع ضرر زحفهم عن العموم [12] .
وجاز حجر المغنّي الماجن صيانة لدين الناس، والحجر على الطبيب الجاهل
حرصاً على أرواحهم، وعلى المكاري [13] المفلس حرصاً على أموالهم وأوقاتهم،
وكذا جاز التسعير على الباعة دفعاً لضررهم عن العامة أو بيع أموال المحتكرين
المحتكَرة وإن أضرهم ذلك دفعاً لضرر الاحتكار عن العامة.
8- درء المفاسد أوْلى من جلب المنافع [14] :
فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة قُدّمَ رفع المفسدة؛ لأن اعتناء الشرع بالمنهيات
أشد من اعتنائه بالمأمورات، والمراد بدرء المفاسد ورفعها وإزالتها لما يترتب على
المفاسد من ضرر جسيم ينافي حكمة الشارع في النهي.
ودليل هذه القاعدة قوله لله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا
منه ما استطعتم) [15] .
ومن أمثلة هذه القاعدة:
منع التجارة في المحرمات من خمر ومخدرات وخنزير، ولو أن فيها أرباحاً
ومنافع اقتصادية.
منع مالك الدار من فتح نافذة تطل على مقر نساء جاره؛ ولو كان فيها منفعته.
منع الجار من التصرف في ملكه تصرفاً يضر بجيرانه؛ كاتخاذ معصرة أو
فرن يؤذي الجيران بالرائحة أو الدخان.
ومثل هذه القاعدة قولهم: (إذا تعارض المانع والمقتضي يُقدّم المانع، إلا إذا
كان المقتضي أعظم) والمراد بالمقتضي هنا: الأمر الطالب للفعل؛ فوجود المانع
يمنع من الفعل غالباً.
وقولهم أيضاً: (إذا اجتمع الحلال والحرام أو المبيح والمحرم غلب الحرام) .
9- الحاجة تنزل منزلة الضرورة (عامة أو خاصة) [16] :
ومن هذا القبيل جوزت الإمارة على خلاف القياس؛ لأن المعقود عليه وهو
المنفعة معدوم؛ والقياس البطلان؛ ومنه تجويز السّلَم على خلاف القياس؛ لكونه
بيع معدوم دفعاً لحاجة المفاليس، ومنه جواز الاستصناع، والدخول إلى الحمام
بأجرة مع جهالة مكثه فيه وجهالة ما يستعمل من الماء.
ومنه أيضاً تجويز بيع الوفاء لمّا كثرت الديون على أهالي بخارى ومست
الحاجة إلى ذلك مع أن بيع الوفاء [17] غير جائز أصلاً.
شرح القاعدة:
الضرورة أشد درجة ودافعاً من الحاجة.
الضرورة: ما يترتب على عصيانها خطر كما في الإكراه الملجئ، وخشية
الهلاك جوعاً.
الحاجة: ما يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر ومشقة وصعوبة.
والمراد بكونها عامة: أن يكون الاحتياح شاملاً جميع الأمة.
والمراد بكونها خاصة: أن يكون الاحتياج لطائفة منهم كأهل بلد أو حرفة،
وليس المراد بخصوصها كونها فردية. وعلى هذا يكون معنى القاعدة: أن
التسهيلات التشريعية الاستثنائية لا تقتصر على حالات الضرورات الملجئة، بل
حاجات الجماعة مما دون الضرورة توجب التسهيلات الاستثنائية أيضاً [18] .
الخاتمة:
لقد حرص الإسلام على رفع الضرر عن العبد بعد وقوعه، كما حرص على
دفعه قبل وقوعه بشتى الوسائل والأساليب الناجعة والإجراءات والتدابير الرادعة؛
مما يحقق للعبد المصلحة، ويدفع عنه المفسدة وفقاً لنظرية المصالح والمفاسد التي
تقتضيها المقاصد الشرعية لحفظ نفس العبد ودينه وعرضه وعقله وماله.
ومن هنا نجد أن قاعدة: (الضرر يزال) هي قاعدة هامة جداً لتحقيق المقاصد
الشرعية؛ حيث تقتضي تحقيق المصلحة ودفع المفسدة وهي ما تقتضيها قواعدها
الفرعية التي تبين معنى الضرر وكيف تكون إزالته؟ وتبين حالات الضرورة ومتى
يفعل العبد المحظور من أجلها؟ كما أن قاعدة درء المفاسد أوْلى من جلب المنافع
التي بينت لنا أن الإنسان لا يجوز له أن يلحق الضرر بغيره مقابل انتفاعه هو بحقه؛ وهذا ما اصطلح عليه شراح القانون الحديث اليوم بنظرية (التعسف في استخدام
الحق) والتي بينت المسموح والممنوع في استخدام الحق.
ومن هنا نلحظ أن هذه القواعد توفر للعبد الراحة، وتبين له ما يجب عليه
فعله وما لا يجب متى كان هذا الفعل يلحق الضرر بالآخرين، وإن كان حقاً خالصاً
له؛ فهذه القواعد تنظم شؤون العباد وتضع الأسس المثلى والضوابط الجيدة لتعامل
بعضهم مع بعض.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية د محمد صدقي بن أحمد البورنو ص77، وانظر المدخل الفقهي العام، الأستاذ أحمد الزرقاء ج2 ص977.
(2) الأشباه والنظائر زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم ص85.
(3) المدخل الفقهي: الزرقاء ص978 الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية: البورنو ص78.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص84.
(5) المدخل الفقهي: الزرقاء ص979 بتصرف.
(6) المرجع السابق نفسه بتصرف.
(7) غمز عيون البصائر: أحمد بن محمد الحنفي الحموي ص 276: المدخل الفقهي العام: الزرقاء ص 995، الأشباه والنظائر: جلال الدين السيوطي.
(8) شرح المجلة: سليم رستم المدخل الفقهي العام: الزرقاء ص 996.
(9) الوجيز ص 82 شرح المجلة 31.
(10) أشباه ابن نجيم ص 89.
(11) أشباه ابن نجيم ص 89.
(12) الوجيز ص 85 أشباه ابن نجيم ص 87، المدخل الفقهي العام: الزرقاء ص 984.
(13) المكاري (بضم الميم) هو الذي يتعاقد مع راغبي السفر لنقلهم أو نقل أمتعتهم على دوابه وهو يشبه في وقتنا الحاضر مركز السفريات والنقل.
(14) شرح المجلة: سليم رستم ص 31 أشباه السيوطي ص 87.
(15) أخرجه البخاري (7288) ، ومسلم (1337) .
(16) شرح المجلة: سليم رستم ص 33، أشباه ابن نجيم ص 91، أشباه السيوطي ص 88.
(17) انظر المدخل الفقهي العام: الزرقاء ص 544 في تعريف بيع الوفاء وهو عقد توثيقي صورة بيع على أساس احتفاظ الطرفين بحق التراد في العوضين، فهو عقد مزيج من بيع ورهن ولكن أحكام الرهن فيه غالبة.
(18) المدخل الفقهي العام: الزرقاء.(128/16)
دراسات تربوية
الشباب المراهق في الإسلام
(2من2)
محمد حامد الناصر
حدد الكاتب في الحلقة الماضية معنى المراهقة ومرحلتها السنية، ثم تحدث
عن أهمية هذه المرحلة، وكيفية التعامل الصحيح مع الشباب في هذا السن، ومنها: تربية انفعالات المراهق وترويضها، ومراعاة حاجاته الأساسية. ويواصل الكاتب
إيضاح جوانب أخرى في هذه الحلقة. ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
شباب السلف الصالح قدوة مثلى:
إن هذا السن هو سن الطاقات المتفجرة، سن الإبداع البناء، ولقد ضرب
سلفنا الصالح أروع الأمثلة في مختلف ميادين الدعوة والتضحية والعلم والجهاد،
ولمّا يبلغوا سن العشرين، بل كان بعضهم لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره.
كانوا فتياناً بعمر الورود عندما تحملوا العذاب والاضطهاد في سبيل عقيدتهم
في جنبات مكة المكرمة.
منهم مصعب بن عمير، والزبير بن العوام، وطلحة الخير، وسعد بن أبي
وقاص، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً، فقد تحملوا الجوع والعطش،
وهم محاصرون في شِعب أبي طالب، حتى جهدوا، فكانوا يأكلون ورق الشجر ولم
يتجاوزوا سن الخامسة عشرة من أعمارهم.
أما آل ياسر، وبلال بن رباح، وخباب بن الأرت، فقد لاقوا من العذاب
ألواناً، وهم صابرون لا يغير ذلك من دينهم شيئاً.
فهذه تطبيقات واقعية، تدحض أقوال الزاعمين: (أن فترة المراهقة فترة
أزمات، وصراعات) وتؤكد أن التربية المتوازنة تحت مظلة العقيدة قد حوّلت
صغار الشباب أولئك إلى مجاهدين بررة، بل إلى قادة للجيوش الإسلامية، تنشر
التوحيد في ربوع الأرض [1] .
كان صغار الشباب في فجر الدعوة يتسابقون إلى ساحات الجهاد كما يتسابق
شباب اليوم إلى ساحات الملاعب، وأماكن اللهو والترفيه.
وهل سمعت أخي الكريم! بشباب يبكون لأنهم رُدّوا عن ساحات المعارك،
ولمّا يبلغوا الحلم بعدُ؟ !
وهل تُغلب أمة هذا شأن صغارها، فما بالك بكبارها؟ !
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
كان معاذ بن الحارث ومعوذ أخوه، وهما ابنا عفراء، شابين من شباب
الأنصار، شهدا معركة بدر الكبرى.
قال الشابان لابن عوف رضي الله عنه قبل بدء المعركة: يا عم أتعرف
أبا جهل؟ قد بلغنا أنه يؤذي رسول الله؛ فدلهما عليه، وعندما حمي الوطيس، شد الشابان على عدو الله، فوقع صريعاً، وأجهز عليه بعد ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
شابان في سن المراهقة، لا يقبل طموحهما أقل من قائد معسكر الشرك
وصنديدهم آنذاك.
أما الذين ردهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصغر سنهم في معركة أحد
فكثير، منهم: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رُدّ في أحد، وفي غزوة الخندق
أجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد بلغ الخامسة عشرة [2] .
وقد رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: أسامة بن زيد، وزيد بن
ثابت، والبراء بن عازب، وأجازهم كلهم يوم الخندق.
وممن رُدّ يومئذ: سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة، فقيل: يا رسول الله إن رافعاً رامٍ؛ فأجازه، وقيل: يا رسول الله إن سمرة
يصرع رافعاً؛ فأجازه [3] .
قصص البطولة عند أبناء هذه المرحلة لا تنتهي.. فعمير بن أبي وقاص أخي
سعد، ومن تلك الروائع المأثورة عنه ما يروي سعد أن أخاه عميراً كان يتوارى قبل
أن يعرضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخروج إلى بدر: فقلتُ: ما لك
يا أخي؟ فقال: أخاف أن يراني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيستصغرني
فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة.
وبالفعل رده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكى عمير، فأجازه رسول
الله. قال سعد: كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر وهو ابن ست
عشرة سنة، قتله عمرو بن ود، وكان هذا من صناديد قريش [4] .
ماذا يقول شباب اليوم أمام هؤلاء الصبيان وقد كانوا في سن المرحلة ...
المتوسطة في هذه الأيام؟ !
ماذا يقولون؟ وها هو حنظلة رضي الله عنه، يخرج ليلة زفافه تاركاً
عروسه ليلبي منادي الجهاد، وعندما استشهد في معركة أحد، أخبر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إن صاحبكم يعني حنظلة لتغسله الملائكة، فاسألوا
أهله ما شأنه؟ (فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة.
قال ابن إسحق: فقال رسول الله: (لذلك غسلته الملائكة) [5] .
هذه هي تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وهذا ما ينبغي
أن نسعى إلى تحقيقه تربيةً واقتداءً.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ظهرت
كفاءات قيادية نادرة، سيّروا الجيوش المجاهدة، ومن هؤلاء علي بن أبي طالب،
وأسامة بن زيد، ومن سار على نهجهم كمحمد بن القاسم الثقفي.
فكان علي رضي الله عنه بطلاً مغواراً، وكان اللواء بيده في كثير من
المشاهد والغزوات، ودفع الرسول لله إليه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة
وكان حامل الراية يوم خيبر.
أما أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فقد كان أحد القادة الفتيان، توفي رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ولأسامة عشرون سنة، وقيل ثمانية عشر عاماً، وكان
قد أمّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جيش عظيم فتوفي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه، لمحاربة الروم في الشام،
وكان عمر بن الخطاب يجله ويكرمه، وكان لم يلق أسامة قط إلا قال: السلام عليك
أيها الأمير ورحمة الله، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأنت عليّ أمير.
قال عروة بن الزبير: فلما بلغ الجيش الشام أصابتهم ضبابة شديدة فسترتهم حتى
أغاروا وأصابوا حامية العدو [6] .
ومن القادة الشباب محمد بن القاسم الثقفي، ولاّه الحجاج فتح السند (باكستان
الآن) فهدم صنم الهنود، وقتل ملكهم، ورجع بجيشه بغنائم عظيمة. قال أحد
معاصريه فيه:
ساس الرجال لسبع عشرة حجة ... ولداته عن ذاك في أشغال
أخي الشاب: إن أمتك في انتظارك، حتى تقيل عثرتها وتعيد أمجادها..
قد أعدّوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل [7]
وقد نبغ شباب الرعيل الأول في العلوم المختلفة: فنبغوا وكانوا قمماً عالية في
كل شيء، ويأتي على رأس هؤلاء الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما.
قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: (نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس) كان
أصحابه يسمونه الحَبْر، كان يطلب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وعمره حين وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً، يقول رضي
الله عنه: (إن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي
على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: (يا ابن عم
رسول الله ما جاء بك؟ هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟ (فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك.
فأسأله الحديث..) فكان عَلَماً في التفسير والقرآن وعلومه، والحديث وعلوم الشعر
واللغة [8] .
وزيد بن ثابت الأنصاري، كان عمره حين قدم الرسول - صلى الله عليه ...
وسلم - المدينة إحدى عشرة سنة، جمع القرآن زمن أبي بكر كما ثبت في الصحيح.
ومن فتيان الصحابة وعلمائهم: عمرو بن حزم الخزرجي، استعمله رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن سبع عشرة سنة، على أهل نجران ليفقههم في
الدين، ويعلمهم القرآن.
وربيعة الرأي صار محدّث المدينة وفقيهها وإمامها رغم حداثة سنه؛ كان
مجلسه يضم مالك بن أنس (صاحب المذهب المعروف) وأبا حنيفة النعمان وسفيان
الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد [9] .
والإمام أحمد رحمه الله كان قد برع في طلب الحديث وعمره ست عشرة سنة، نشأ يتيماً وعنيت به أمه. واشتهر علمه في الآفاق، وقيل: إنه طلب العلم وهو
ابن خمس عشرة سنة، وأنه حج وعمره عشرون سنة ماشياً، ليس معه إلا جراب
فيه كتبه، كان يضعه فوق لَبِنَةٍ، ويضع رأسه عليه [10] .
ومن علماء هذه الأمة الإمام البخاري، ربته أمه ثم قرأ الكتب المشهورة وهو
ابن ست عشرة سنة، وصنف في قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وهو ابن
ثماني عشرة، وصنف كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله لله في الليالي
المقمرة (هدي الساري مقدمة فتح الباري) .
أدبهم مع شيوخهم: تلقى الإمام أحمد بعض العلم والسنن عن الإمام الشافعي
خلال إقامته بالعراق، وانتقل إلى مصر وتوفي فيها. كان الإمام أحمد يقول: (ما
بتّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له) ولما سأله ابنه عبد الله: أي
رجل كان الشافعي؟ قال: (يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن،
هل لهذين من خَلَفٍ؟ أو عنهما من عِوض؟) [11] .
وعندما علم سفيان الثوري بقدوم الإمام الأوزاعي إلى مكة للحج خرج منها
سفيان يستقبل ضيفها، حتى لقيه بذي طوى، وأخذ بخطام بعيره يقوده قائلاً:
الطريقَ للشيخ ...
هكذا كان طلب العلم عند شباب هذه الأمة، علماً وأدباً وخشوعاً لله.
بقدر الجد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحر من طلب اللآلي
هؤلاء هم قدوتك أخي الشاب، أبناء الرعيل الأول؛ وليسوا شباب الفن
والطرب وأجيال الهزائم!
هذه نماذج نضعها بين يديك ولك فيها قدوة حسنة تنسج على منوالها بإذن الله،
عسى أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وفقنا الله وإياك إلى ما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) ينظر كتب السيرة، السيرة لابن هشام، ج1 /485، والإصابة: ج3/ 648 مطبعة السعادة بمصر.
(2) سير أعلام النبلاء، ج2/359.
(3) البداية والنهاية، ج4/15، والإصابة، ج1/146.
(4) صفة الصفوة، ج1/394.
(5) سيرة ابن هشام، ج2/75.
(6) الإصابة، ج1/46، سير أعلام النبلاء، 2/397 وحتى ص 503.
(7) البداية والنهاية، ج9/87، مع الرعيل الأول لمحب الدين الخطيب، ص200 207.
(8) الإصابة، ج2/326، وصفة الصفوة، ج1/754، والطبقات لابن سعد، صغار الصحابة،
ج1/196، ص 137، تحقيق د محمد بن صامل السلمي.
(9) ينظر: سير أعلام النبلاء، ج2/426، وما بعدها، والإصابة: ج1/ 545، الاستيعاب،
ج2/510، صور من حياة التابعين، د عبد الرحمن الباشا، ص 77 - 110.
(10) البداية والنهاية، ج10/326، سير أعلام النبلاء، ج11/186.
(11) ينظر: مع الرعيل الأول، ص69 - 70.(128/22)