تأملات دعوية
بين العمل المؤسسي والعمل الفردي
بقلم: عبد الله المسلم
لم يعد اليوم مجالاً للنزاع -في الساحة الفكرية على الأقل -أن العمل المؤسسي
خير وأولى من العمل الفردي الذي لا يزال مرضاً من أمراض التخلف الحضاري
عند مجتمعات المسلمين، وقد يرث الدعاة إلى الله شيئاً من هذه الأمراض من
مجتمعاتهم باعتبارهم نتاجاً لها، ومن ثم فأنت تجد عناصر منتجة في المستوى
الفردي أكثر مما تجدها ضمن أولئك الذين يجيدون العمل الجماعي، وكثير من
الأعمال التي تصنف أنها ناجحة في الميدان الإسلامي وراءها أفراد.
إن العمل المؤسسي يمتاز بمزايا عدة على العمل الفردي منها:
1- أنه يحقق صفة التعاون والجماعية التي حث عليها القرآن الكريم والسنة
النبوية [وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان]
[المائدة:2] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (يد الله مع الجماعة) [1] وقوله - صلى الله عليه وسلم-: (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) [2] .
والعبادات الإسلامية تؤكد على معنى الجماعية والتعاون، كل ذلك يبعث
رسالة للأمة مفادها أن الجماعة هي الأصل.
2- عدم الاصطباغ بصبغة الأفراد، ذلك أن العمل الفردي تظهر فيه بصمات
صاحبه واضحة، فضعفه في جانب من الجوانب، أو غلوه في آخر، أو إهماله في
ثالث لابد أن ينعكس على العمل، وقد يقبل بقدر من الضعف والقصور في فرد
باعتبار أن الكمال عزيز، والبشرية صفة ملازمة للعمل البشري، لكن لا يقبل
المستوى نفسه من القصور في العمل الجماعي المؤسسي، وإن كان لابد فيه أيضاً
من قصور، فقد يقبل من مصلح وداعية معين أن يكون لديه قصور وضعف في
الجانب السياسي أو الاقتصادي مثلاً باعتبار أن الفرد لا يمكنه الإحاطة بكل ذلك،
لكن ذلك لا يقبل من مؤسسة دعوية بأكملها؟ إذ هي قادرة على تحقيق هذا التكامل
من خلال مجموع أفرادها.
3- الاستقرار النسبي للعمل، أما العمل الفردي فيتغير بتغير اقتناعات الأفراد، ويتغير بذهاب قائد ومجيء آخر، يتغير ضعفاً وقوة، أو مضموناً واتجاهاً.
4 -يمتاز العمل المؤسسي بالقرب من الموضوعية في الأراء أكثر من الذاتية؛ ذلك أن جو المناقشة والحوار الذي يسود العمل المؤسسي يفرض على أصحابه أن
تكون لديهم معايير محددة وموضوعية للقرارات، وهذه الموضوعية تنمو مع نمو
النقاشات والحوارات، أما العمل الفردي فمرده قناعة القائم بالعمل.
5- العمل المؤسسي أكثر وسطية من العمل الفردي؛ إذ هو يجمع بين كافة
الطاقات والقدرات التي تتفاوت في اتجاهاتها وآرائها الفكرية مما يسهم في اتجاه
الرأي نحو التوسط غالباً، أما العمل الفردي فهو نتاج رأي فرد وتوجه فرد، وحين
يتوسط في أمر يتطرف في آخر.
6- الاستفادة من كافة الطاقات والقدرات البشرية المتاحة، فهي في العمل
الفردي مجرد أدوات للتنفيذ، تنتظر الإشارة والرأي المحدد من فلان، أما في العمل
المؤسسي فهي طاقات تعمل وتبتكر وتسهم في صنع القرار.
7- العمل المؤسسي هو العمل الذي يتناسب مع تحديات الواقع اليوم،
فالأعداء الذين يواجهون الدين يواجهونه من خلال عمل مؤسسي منظم، تدعمه
مراكز أبحاث وجهات اتخاذ قرار متقدمة، فهل يمكن أن يواجه هذا الكيد بجهود
فردية؟ !
بل إن العمل التجاري المؤسسي اليوم أكثر نجاحاً من العمل الفردي.
كل ما سبق يؤكد قيمة العمل المؤسسي، وضرورة ممارسته وتجاوز الفرديات، وهذا لا يعني بالضرورة أن العمل المؤسسي معصوم من الخطأ والخلل، لكن
فرص نجاحه أكثر من العمل الفردي، واحتمال الخلل في العمل الفردي أكثر منه
في العمل المؤسسي.
وفي العدد القادم بإذن الله حديث حول عوامل نجاح العمل المؤسسي.
__________
(1) رواه الترمذي (2166) وصححه الألبانى في صحيح الجامع.
(2) رواه البخاري (481) ومسلم (2585) .(117/38)
من فتاوى أهل الذكر
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون
حكم بيع الأراضي العربية لليهود:
رجل مسلم يملك قطعة أرض فضاء، طمع يهودي في شرائها..، فهل يجوزبيعها له شرعاً؟ وقد أجاب على الاستفتاء فضيلة الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق.
الجواب: -إن السياسة الصهيونة تقوم على انتزاع البلاد العربية من أهلها،
وإجلائهم عنها بطريق التملك الفردي؛ فيتقدم اليهودي إلى العربي لشراء عقاره
بثمن يغريه، فيقع في الشّرَك، ويتمم الصفقة، ثم يتقدم يهودي آخر إلى مالك آخر
عربي بمثل ذلك، حتى إذا أحاطوا بالقرية ورسخت أقدامهم فيها، وكثر عديدهم بها، أرغموا الباقين من العرب على الهجرة منها بشتى الوسائل الوحشية.
وهكذا ينتقلون من قرية إلى أخرى حتى تسلم البلاد لهم، فيمسي أهلها العرب
وقد جردوا من أملاكهم، وحرموا من أقواتهم، وأُجْلوا عن أوطانهم، وشُرّدوا في
الآفاق عشرات الآلاف شر مشرّد، يعانون الجوع والعري والفاقة، ويشربون كأس
الذل دهاقاً.
فعل اليهود ذلك في فلسطين، ويرومون تنفيذ هذه السياسة في مصر وغيرها
من البلاد العربية الإسلامية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، في ضعة ومذلة، وسكون
ومسكنة، حتى إذا تم لهم الأمر ولو بعد سنين، لبسوا جلود النمور، وكشروا عن
أنياب الشره والانتقام، وأحالوها فلسطين أخرى.
وقد أعدوا العدة لذلك ونحن أغفال نيام ننخدع بمسكنتهم، ونغتر بظواهر
أحوالهم، ونظن أنهم قلة لا يقدرون على كيد، والله يعلم، والتاريخ يشهد أن يهود
العالم عصبة واحدة يشد بعضهم أزر بعض، وينفذون كل ما ترسمه قيادتهم العامة
في الوطن الذي يعيشون فيه ويقتاتون منه، مهما أضر ذلك بأهل الوطن، تلك هي
نتيجة بيع الأراضي العربية لليهود.
والآن وقد وضحت هذه السياسة الخبيثة والخطط الماكرة بأجلى برهان، يجب
أن يكف المسلم عن بيع ملكه لليهودي مهما أغراه الثمن؛ وإلا كان بهذا البيع معيناً
لألد عدو على ضياع بلاد الإسلام، وتمكين أبغض عباد الله إلى الله من التحكم في
ديار المسلمين ورقابهم وأموالهم وأعراضهم بأبشع صور وأدنسها، وهذه معصية
ظاهرة.
إن كل ربح يناله اليهودي في بلادنا قوة له وعُدّة، وإذا كان على كل يهودي
في العالم قسط من المال يؤديه لـ (إسرائيل) لإعزازها وتمكينها من القضاء على
العروبة والإسلام، لا في فلسطين وحدها، بل فيها وفي سائر الأقطار الإسلامية،
وجب أن لا يمكن من ربح يربحه ببيع أو شراء، وإلا كان ذلك وبالاً ومضرة
بالمسلمين.
اليهودي يحرّم على نفسه ويحرم على أهل دينه وقادة شعبه أن يُخرِج من
جيبه مليماً واحداً لمنفعة مسلم إلا إذا جر له ذلك ربحاً مضاعفاً.
واليهودي يحرم على نفسه أن يسدي النصح لمسلم بما ينفعه في دنياه، وأن
يدع مسلماً ينعم بخير دون أن ينغص عيشه ويمتص دمه ويستنزف ماله؛ ومن أجل
ذلك أشاعوا الربا بين المسلمين، وقد حرصوا عليه، وقد نُهوا عنه، كما أخبر الله
تعالى بقوله: [وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ] ...
[النساء: 161] وقوله تعالى: [.. أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ..] [المائدة: 42] .
واليهودي يحرم على نفسه أن يبيع عربياً أو مسلماً شبراً من أرض فلسطين
مهما بذل من ثمن، فما بالنا قد عميت أبصارنا عن هذه الحقائق، وصمت آذاننا،
عن سماع الأنباء الصادقة عن هذه الخطط الشنيعة الماكرة في ديارنا، وأفسحنا لهم
مكان الصدارة في اقتصادياتنا وتركناهم يتحكمون في تجاراتنا وأسواقنا، وهم ألد
أعدائنا كما قال تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] [المائدة: 82] .
لا تبيعوا لهم أيها المسلمون شيئاً من أملاككم مهما بذلوا من ثمن، واحذروهم
في دياركم؛ فإنهم أول الناس حرباً عليكم وخيانة لكم، واعلموا أن البيع لهم معصية
لله، لما فيه من التقوية والتمكين لهم في الأرض، وذلك يسبب خطراً عظيماً
لجماعة المسلمين وقد حرم الشارع كل بيع أعان على معصية، ولذلك حرم بيع
عصير العنب ممن يعلم أنه يتخذه خمراً؛ فعن أبي هريرة عند أبي داود، وعن ابن
عباس عند ابن حبان، وعن ابن مسعود عند الحاكم، وعن بريدة عند الطبراني في
الأوسط من طريق محمد بن أحمد بن أبي خيثمة بلفظ: (من حبس العنب أيام
القطف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو من يتخذه خمراً فقد تقحم النار على
بصيرة) حسنه الحافظ في بلوغ المرام، واستدل به في المنتقى على تحريم كل بيع
أعان على معصية. اهـ. من نيل الأوطار للشوكاني.
ومن هذا يعلم السائل وغيره أنه لا يجوز بيع أرضه لليهودي؛ لأنه مظنة
الإضرار بجماعة المسلمين عامة، وقد علمت أن اليهود عصبة واحدة، وأنهم جميعاً
صهيونيون يدينون لإسرائيل، وبالكيد للعرب والمسلمين بشتى الوسائل، في أقل
الأشياء وأحقرها فضلاً عن أكثرها وأعظمها. والله أعلم.(117/40)
نص شعري
رسالة إلى مجاهد [*]
شعر: فيصل بن محمد الحجي
أشرعتَ في وجههم رمحاً فما قدروا ... أن يكسروه وهم في دارهم كُسِروا
أصبحتَ طوداً على أنفاسهم وغدا الس ... جان في إمرة المسجون يأتمرُ
رموك في حفرة فارتدّ باطلهُم ... واكتظت الحفرة الملأى بمن حفروا
بالرغم من فرحتى يبقى بذاكرتي ... ذاك السؤال الذي قد شابَهُ الكدَرُ:
إن عدتَ من أسرك الموقوت هل رجعتْ ... من أسرها أمتي العزلاء يا نمرُ؟
قد غيّبوها لتغدو الأرضُ غابتَهم ... تسعى الوحوش فلا تبقي ولا تذرُ
غابت فكشّرت الأصنام ساخرةً ... لمّا رأتْ أمة التوحيد تندحرُ
غابت وذنبك يا موسى محاولة ... لكي تعود إلى ميدانها مضرُ
مذ غاب عنها لواء (المصطفى) قَبَعَتْ ... خجلى على ضِفّةِ التاريخ تنتظرُ
قد كان (عنترة) المغوارُ فارسَنا ... قد كان لكنه كالوهم يندثرُ
تلقاه يستطلع (التلفاز) منبطحاً ... وقد سَبَتْ عقلَه الأشكالُ والصورُ
في غفلة يحلبُ (الريموتَ) منذهلاً ... عن حب (عبلة) لا عشقٌ ولا وطرُ
ولا زئيرٌ بظهر الخيل صاهلةً ... ولا سيوفٌ كشُهْبِ الليل تنحدرُ
وتلك (عبلة) والأطفال في سغَبٍ ... في موكب (الخبز) في الطابور تنعصرُ
لعلها بعد لأي في مذلتها ... يجني بنوها رغيفَ الخبز إن قدروا
قد كان (خالدُ) سيفُ الله قائدنا ... وكل غاز لنا بالرعب ينجحِرُ
لكن أحفاده هانوا فهان على ... أعدائنا البطش والطغيان والصعَرُ
يا ويحهم سَرَبُ الضحضاح يغرقُهم ... وفي خضمّ الردى أجدادهم مخروا
رُبّوا كتربية الجرذان حين دنا ... سقفُ المذلة كالأقزام قد قصروا
رُبّوا كما شاء (حاخام) اليهود لهم ... حتى يكون لإسرائيله الظفرُ
هُبّي (حماسُ) فما في القوم من أمل ... من بعد ما رضعوا الإذلال بل سكروا
من بعد ما عاد (فرعون) الجبان إلى ... طغيانه وعبيد الغيّ قد سدروا
يلغون يلغون لا يُصغي لهم أحد ... ومن يصيخ لأصفار وإن كثروا..؟
هذي الديار بها سارت مواكبنا ... بالعز والخير حتى جَلّت السّيَرُ
واخضر صخرُ بواديها التي ازدهرت ... من حين كبّر في أجوائها (عمرُ)
كم شَدّ في (الحرمين) الحقّ رايتنا ... في ظلها ننقذ (الأقصى) وننتصرُ
لا تعبئي برموز البخل إن حبسوا ... عنكِ المعونة ها قد أورق الحجرُ
لا تعبئي بحشود الكفر إن قتلت ... أسخى رجالكِِ فالأطفال قد كَبِروا
فالله أقوى وإن شدوا وإن حشدوا ... والله أدرى وإن كادوا وإن مكروا
***
موسى رجعتَ إلى الميدان منتصراً رغم الألى نكثوا بالعهد أو غدروا
فارفعْ عصا الحق واضربْ لا تجامل مَنْ قد أحبطوا ثورةَ الأشبال أو نخروا
وقأل لهم: بعصا (موسى) سنفضحكم كما أذلت عصا (موسى) الألى سحروا
ــــــــــــــــــ
(*) أعني المجاهد الفلسطيني العائد من الأسر تحرراً الأستاذ موسى أبو
مرزوق، وفقه الله.(117/42)
دراسات أدبية
معالم إسلامية في شعر محمود غنيم
بقلم: د.. صابر عبد الدايم
إن الشاعر (محمود غنيم) يُعَدّ في الطليعة من أولئك الشعراء الكبار.. الذين
أخلصوا لفن الشعر.. وهو فن العربية الأول.. وهو ديوان العرب.. وسجل
أمجادهم، ومناط فخارهم ... ولقد كان الشاعر (محمود غنيم) رحمه الله وسيظل
(في طليعة من أنجبتهم مصر من شعراء العربية وأدبائها، فحولة وأصالة، وصدقاً
والتزاماً، فقد تميز شعره بغزارة الفكر، والثقافة الواسعة، والصياغة المحبوكة؛
لمعرفته بأصول اللغة العربية، وأسرارها، وحلاوة الإيقاع لحسه المرهف
وشاعريته الأصيلة) .
وتمثل الرؤية الإسلامية في شعر (محمود غنيم) تياراً رئيساً في مرحلته
الشعرية الخصبة الممتدة.. وآيةُ ذلك: أن ديوانه الأخير الذي أعدّه وَبوّبه، ثم طُبع
بعد وفاته، جعل عُنْوانَه: (مع الإسلام والعروبة) ، وكأنه يعلن أن الرؤية الإسلامية
من خلال التصور الإسلامي هو المنهج الذي ارتضاه سلوكاً.. وتعبيراً فنيّاً يقدم من
خلاله خطابه الأدبي للناس..، وهو على يقين أن الرؤية الإسلامية في الشعر
المعاصر لا تقتصر على الشعر الديني المباشر المتمثل في شعر المناجاة والتضرّع،
وشعر الوعظ..، وكذلك تستوحي هذه الرؤية جَوّ الحضارة الإسلامية في مواقفه
وشخوصه، وأماكنه وأزمنته، ولا تَرْوي هذه الرؤية الشعريةُ الإسلاميةُ في
صياغتها الفنية التاريخَ في صورة سردية تقريرية، بل تمتزج بروح ذلك التاريخ،
وتشكل منه واقعاً له شخصيته ونفاذه وتأثيره.
وحين نرْصد المظاهر الإسلامية في شعر الشاعر (محمود غنيم) ندرك أنه
يخصص جانباً من دواوينه، ويجعله تحت هذا المسمّى: (إسْلاميات) .. وأرى أن
هذا التخصيص يفرض حصاراً على رؤية الشاعر الإسلامية.. ويُقيِّدها؛ لأن
الشاعر، مهما تعددت أغراض الشعر لديه في دواوينه، فهي تدور حول محور
الإسلام، منه تنطلق، وإليه تعود.
وقد نشأ الشاعر في بيئة دينية محافظة، وبدأ تعلّمه في الأزهر، وفي مدرسة
القضاء الشرعي، وفي دار العلوم..
هذه البيئات كان لها أثرها العميق في توجه الشاعر، وفي اتساع آفاق الرؤية
الإسلامية وتأثيرها في شاعريته، وهو يصور هذه المعالم الرئيسة في تكوين
وجدانه، وصقل مواهبه.. فيقول منوِّهاً بقريته (مليج) وبالمعاهد العلمية التي تلقى
فيها العلم:
سلام عليها في (مليج) مثابةً ... حفِظت بها السبع القصار المثانيا
سلام على (دار القضاء) وأهلها ... وربْع من العرفان أصبح خاويا
لقد وأَدُوها منذ خمسين حجة ... وما زال قلبي غائر الجرح داميا
سلام على (دار العلوم) وعهدها ... وهيهات هذا العهد يرجع ثانيا
رياض غَرفْتُ العلم من غرفاتها ... وأوْدَعْتُ فيها بضعة من شبابيا
أروح إليها كل يوم وأغْتديي ... إلى العلم عطشاناً من العلم راويا
ورؤية (محمود غنيم) الشعرية الدائرة في فلك التصور الإسلامي يمكن أن
نحدد بعض معالمها في الظواهر الآتية:
أولاً: الرؤية الحضارية للمدّ الإسلامي:
وهذه الرؤية الحضارية للوجود الإسلامي في بعض تجاربه الشعرية يبثها من
وحْي زيارته للأراضي المقدسة حين قام بأداء فريضة الحج.. فهو يبث المكان
أشْجانه، ويشتاق إلى المشاعر المقدّسة، وفي الوقت ذاته: لا ينسى واقع المسلمين، فيدعوهم أن يكونوا على قلب رجل واحد، وأن يكونوا أمة واحدة كما أراد لهم الله
(عزّ وجل) . يقول (محمود غنيم) :
دَارَ النبوة ذَنبْي عنكِ أبعدني ... وحسن ظنِّي بربِّي مِنك أدْناني
ما غبْتِ عني وإن لم يمتلئْ بصري ... من أهلك الصِّيد أو من رَبْعِكِ الغاني
قد كنتُ ألقاكِ في لَوْحي وفي كُتُبي ... وفي سطور أحاديثي وقرآني
ما زلتِ رسْماً جميلاً في مخيّلتي ... حتى كأنّا التقينا منذُ أزمانِ
ثم يشيد الشاعر بفضل رسالة الإسلام التي انطلقت من مكة المكرمة ومن
المدينة المنورة.. ويصور ذلك متأثراً بمهنته في رحاب التربية والتعليم:
هنا بنى المصْلحُ الأميّ جامعةً ... على أساسين من عِلْم وعرْفانِ
ربّى العتيق أبا بكرٍ بها.. وأبا ... حفْصٍ، وربّى عليّاً، وابن عَفّانِ
طُلاّبُها في ربوع العالم انتشروا ... مبشرين بإصلاح وعُمْران
ساسوا الشعوب بأحكام الكتاب فما ... أحسّ شعب بجورٍ أو بطغيان [1]
وتمتزج هذه الرؤية الحضارية لدور الإسلام الفاعل والمؤثر في حركة الحياة
بمشاعر التضرع والمناجاة.. والاعتراف بفضل الله (عز وجل) ، ففي نهاية قصيدة: (في أرض النبوة) يتأثر الشاعر بمعاني القرآن الكريم ... في أسلوب مشرق
واضح.. ويناجي ربّه في تضرع وخشوع:
يا ربِّ قد عشْتُ في دنْياي مغترباً ... ويْلاَهُ إن أغتربْ في العالم الثاني
أستغفر الله من كفران نعمته ... بل فوق ما أستحقّ.. الله أعطاني
ألم يجدْني أخا غيٍّ فأرشدني ... وهائماً غيْر ذي ماًوى فآواني؟
ألم يجدْني أخا جهْل فعلّمني ... وعائلاً غيْر ذي وُجْد فأغْناني
لبيك ملء فمي.. لبيك ملء فمي ... يا رب يا رب من قلبي ووجْداني
ثانياً: الأحداث والمواقف الإسلامية:
وحينما نتأمل هذا المعْلَم من معالم رؤية الشاعر الإسلامية نجد أنه لم يُعْنَ
بتسجيل الأحداث التاريخية الإسلامية عناية كبيرة، حيث لم يسجِّل المناسبات
الإسلامية التي أَلِفَ الشعراء أن ينظموا في ظرْفها الزمني قصائدهم كلما حان موعد
المناسبة، وكأن الشاعر (محمود غنيم) يعلن بهذا المسْلك الفني أنّ التاريخ الإسلامي
ليس أحداثاً تُرْوى، ولا أطلالاً ننوح عليها، بل يتجاوز التاريخ هذه الأحداث إلى
التغلغل في صميم الحياة الإسلامية الناطقة بالوجه الحضاري للإسلام.
ولنتأمل تصويره الرائع في قصيدته (الركب المقدّس) وهو يتابع الهجرة
المباركة من مكة إلى المدينة المنوّرة.. ويَرْصد آثار ذلك الحدث الإسلامي الكبير..
حيث يتساءل في عزة وإيمان:
أيّ دين ذلك الدين الذي ... ... حوّل الأفْكار عن كُلِّ اتجاهْ
صَهَر الأنْفس حتى لم تَعُدْ ... تدرك الأنفس شيئاً ما عداهْ
كم أبٍ خاصم في الله ابنَه ... وأخ حارب في الله أخاهْ
باسمه أمسى يسوس الأرض مَنْ ... يحلب النوق ومن يَرْعى الشياهْ
ويجوب البحر من لم يَرَهُ ... غير طيف من خيالٍ في كراهْ
ناشراً من فوقه أعْلامه ... تفزع العقْبان منْها والبزاهْ
ثالثاً: التأملية في ظلال الرؤية الإسلامية:
إن التأمل في شعر (محمود غنيم) لا يمثل تياراً رئيساً، فشعره ينزع إلى
تجسيد العاطفة، وإذكاء المشاعر، ولا يقحم تجربته في شعاب الفكر.. بحيث تخبو
العاطفة.. ويعلو صوت الذهن، وإيقاع الفكر.. وشاعريته لم تبتعد كثيراً عن آفاق
التجربة التأملية، ولكن التأمل في شعر (محمود غنيم) ممتزج بالعواطف الحارّة،
والمشاعر الإنسانية الدافئة، ولا يلقيه التأمل بعيداً عن ظلال الرؤية الإسلامية.
وأهم جوانب التأمل النابع من رؤية الشاعر الإسلامية.. ما يلي:
أ - التأمل الشعري ورحلات الفضاء:
وللشاعر مطولات في هذا الاتجاه..، وهو يتأمل هذه الظاهرة العلمية،
ويحلِّق في آفاق الفضاء، ولكنه يظل مرتبطاً بالأرض، حريصاً على رخاء
البشرية، متمسكاً بحبل الله المتين.. يقول الشاعر بعد تأمل حدث الصعود إلى
القمر:
تعالى الله إن العلم نور ... سناهُ من سناهُ مستعارُ
أفوق الأرض يُضمن ليت شعري ... بهذا الكشف للعلم انتشارُ؟
ويُرْسى للسلام به أساس ... ويكتب للحضارة الازدهارُ؟
أمانٍ تلك إنْ هي أخطأتنا ... فلا نصرٌ هناك بل اندحارُ
ثم ينتهي الشاعر من تأملاته إلى الاحتماء بمظلة الإيمان، ودائرة التوحيد،
ولم تنته به التأملات إلى القلق أو الشك.. وإنما لأنه شاعر مسلم تنطلق تجاربه من
نبع إيمانه الفياض بالتسليم المطلق لخالق الكون.. نجده يقول:
سلوا الأفلاك إذ طرتم إليها ... أكان لها من الضحك انفجارُ؟
وقبلكمُ بنى هامانُ صرحاً ... فكاد النجم يدركه انهيارُ
أضعتم في الهواء كنوز مالٍ ... وملء الأرض بؤس وافتقار
ب - تأمّلُ الطبيعة وتوظيفها في تشكيل التجربة الشعرية:
والطبيعة في تجربة (محمود غنيم) الشعرية التأملية تظل عاملاً خارجيّاً وتصل
في بعض تجاربه إلى مرتبة (الاشتراك) مثل تجارب الرومانسيين.. ولا تتجاوز
الطبيعة هاتين المرتبتين إلى مرتبة الفناء الوجداني في مشاهد الطبيعة ومرائيها..
واتخاذها معادلاً موضوعيّاً أو بديلاً عن الذات.. شأن الرمزيين الذين تتحد ذواتهم
بكائنات الطبيعة ومشاهدها وظواهرها المتعددة.
وفي قصيدة (نيسان) يتجوّل الشاعر في عوالم الطبيعة؛ ويبدع في وصف
مغانيها ومجانيها، ويتأمل مرائيها ومراميها.. وهو يبدع أيما إبداع في هذا الجانب
الوصفي المحلِّق.. وفي نهاية القصيدة يرسم لوحة إيمانية تأملية مستمدة إيقاعها
العذب من أجواء الرؤية الإسلامية. ولنتأمل هذه النفثات الشعرية الإيمانية الصادقة!
تعالَوْا نبتكر عهداً جديداً ... عُمّ الخيرُ فيه واليسارُ
شهدت بأن لله اقتداراً ... وغير الله ليس له اقتدارُ
وأن الجهل للإنسان مَهْما ... يزدْ علماً ومعرفة شعارُ
وأن وراء هذا الكون ربّاً ... له في الكون أسْرارٌ كبارُ
والشاعر يعلن بهذه التأملات الإيمانية أن الكون في المنظور الإيماني مسرح
التأملات؛ والشاعر يعود من رحلة التأملات بزاد روحيّ عميق وزاد أدبي مؤثر
ناضج بخصائص التجربة الإسلامية، وهذه التأملات لا تقود الأديب المسلم إلى
الهروب والارتماء في أحضان الطبيعة، ولا تجعل من الطبيعة إلهاً يعبده الأدباء،
ولا تتخذ من الغاب فردوس الشاعر المفقود، ومهاجره الآمن، ومستقر أحلامه،
هرباً من عالم الناس ودنيا الواقع، بل تصبح هذه الطبيعة مرآة مجلُوّة يرى فيها
الأديب نفسه وأمانيه وأحلامه: من جبالها يستمد مفردات الشموخ والإباء، ومن
بحارها يستلهم مشاعر الحب والنقاء والصفاء، ويتلقى دروس السموّ والعطاء،
ومن تقلبات فصولها يرسم للنفس طريق رؤاها، فهي صورة من وهج الصيف،
ودفء الربيع، وجدب الخريف، وخصب الشتاء [2] .
وللشاعر (محمود غنيم) مع الطبيعة تجارب تأملية عديدة، فهو ابن الريف
الأصيل، وهو عاشق الريف، وشاعر الجمال الموهوب، وعاشقه، وللبحر صداقة
وألفة ووجود في عالم الشاعر الأثير.. ومن خلاله يستجلي معالم القدرة الإلهية ...
ويتأمّل بديع صنْعة الخالق، وجلال آثاره.
ولنصغ إلى هذه التأملات الشعرية الممزوجة بسوانح الفكر وعبق العلم:
إنه يخاطب البحر.. في لغة شعرية شفيفة، وحوارٍ مقنع جذاب، وصور
شعرية مبتكرة:
سبحان من صوّر الدنيا فأبدعها ... فقل لربِّك ربِّ العرش: سبحانُ
آيات ربّك تترى في الوجود فهل ... للمرء عين؟ وهل للمرء وِجْدانُ؟
كل البقاع محاريب له صنعت ... وكل ما تَسْمع الآذان قرآنُ
ثم يواصل الشاعر هذه التأملات الإيمانية في رحاب الطبيعة الكونية.
ومن عيون قصائده وتجاربه الشعرية: قصيدة (راهب الحقل) وهي مزيج من
التأملات الفكرية والروحية.. مع عاطفة رومانسية دافئة ونزعة واقعية إيجابية
تنزع إلى جماليات الكون، وإضفاء ظلال الرؤية الإسلامية المشعة ببريق الصفاء
والنقاء.
إن الشاعر (محمود غنيم) يصوِّر في براعة واقتدار (الفلاح) تصويراً تأمليّاً
إيجابيّاً بلغ فيه ذروة الفن الشعري، يقول في لغة رقيقة هامسة:
قالوا عليك: أجاجُ الماء، قلتُ لهم ... بل ماؤك العذْب سيال بكل فمِ
ألمْ يحوِّلْ شعاع الشمس ماءك مِنْ ... ملح أجاجٍ إلى عذْب من الدِّيمِ؟
لولاه ما هطلت وطفاءُ أو هدلت ... ورقاءُ أوْ قبّلَتْ كأس شفاه ظمي
لم ينتسب شجر إلا إليك أباً ... ولا انتمى زهَرٌ إلا إليك نُمِي
سَرَيْتَ في طبقات الأرض مُنْسرباً ... فكيْف أصبَحْتَ تيجاناً من القممِ؟
وكيف طرْتَ بلا ريش وأجنحة ... في حالق الجوِّ كالعقبان والرخمِ؟
وبعد:
فالشاعر الكبير.. ما يزال صوته الشعري يدوِّي في عالم الشعر والشعراء
بآثاره الشعرية العظيمة، وشاعريته الخصبة العميقة المحلقة.
__________
(1) ديوان (مع الإسلام والعروبة) ، ص 15 16.
(2) انظر: الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق، لكاتب الدراسة.(117/44)
إصدارات أدبية
مجلة: الأدب الإسلامي
صدر مؤخراً في قالب جميل العدد الأخير من مجلة الأدب الإسلامي وهي
تقف على مشارف عامها الرابع متضمناً العديد من الدراسات والبحوث منها: تاريخ
الأدب العربي للرافعي للدكتور محمد رجب البيومي، ودراسة تطبيقية في رواية
الهجرة من أفغانستان لمرال معروف، والتي تصور مخازي الاحتلال الشيوعي في
أواخر السبعينيات لأفغانستان من إعداد الدكتور حلمي القاعود، والأسلوبية وإعجاز
القرآن لطارق شلبي، والصور الشعرية عند د. عدنان نحوي لمحمود السيد الدغيم، وحافظ الحكمي بين الشعر والنثر للدكتور محمد الشويعر، ويضم العدد إبداعات
شعرية منوعة من الشعر العمودي والتفعيلة ومن شعر الشعوب الإسلامية قصيدة
للشاعر التركي عاكف إيتان، وتعقيب على قصيدة للشاعر البنغالي روح الأمين
خان، ومن مكتبة الأدب الإسلامي تم عرض كتابين هما من قضايا الأدب الإسلامي
لصالح آدم بيلو، وكتاب في النقد الأدبي الإسلامي للدكتور إبراهيم عوضين،
وكذلك عرضت رسالة جامعية عن الرؤية الإسلامية في شعر محمود حسن إسماعيل، وهكذا يستمر عطاء الأدب الإسلامي في تنوعه وغزارته وتجديده وأصالته عبر
هذه المجلة المتخصصة. وهي لسان حال رابطة الأدب الإسلامي العالمية التي آلت
على نفسها أن تكون دائماً في خدمة قضايا الأمة الإسلامية عن طريق الكلمة الهادفة
الملتزمة بتعاليم الإسلام وهي أحوج ما تكون إلى تشجيع كل مسلم حريص على
إيصال الكلمة المؤمنة والرأي الهادف للجميع وذلك بالدعم والاشتراك، متمنين لها
المزيد من التقدم والنجاح.
عناوين المجلة في البلاد العربية:
* المملكة العربية السعودية/ الرياض ص. ب 55446/ الرمز البريدي11534 ...
*هاتف: 4934087 *فاكس: 4920693/4036082
* القاهرة ص. ب 96 رمسيس * المغرب وجدّه ص. ب 238
* الأردن عمان ص. ب 411141648(117/51)
نص شعري
غربة الإسلام
شعر: فتحي الجندي
بينما كنت أحضّر لكتاب: (غزوة فريدة ودروس عديدة) عن غزوة ذي قَرَد
وبطلها: (سلمة بن الأكوع رضي الله عنه) جرى القلم بهذه القصيدة: ...
في زمن الغُربة يا ولدي ... أحدو للحق فهل تَسمعْ؟
أبواقُ الفتنة يا ولدي ... تنبحنا في أرضٍ بلقع
ضوضاءُ الفتنة تنهشنا ... وبسوط الباغي تتلفّع
أبناءُ (سلول) يا ولدي ... منعوا (رايتنا) أن تُرفع
يخشون العبد إذا صلّى ... والفُحْشُ لديهم لا يُمنع
هذي يا ولدي قصّتنا ... والبغي علينا يتربّع
ونداء الحق غدا غرضاً ... في كل جوانبها الأربع
والحق الأبلج قد وضعوا ... في كلْتَا عيْنَيْهِ أُصْبَع
والعبدُ الصلحُ في سجن ... وبكفّ أبي جهلٍ يُصفع
عبّاد (الذات) لكم جدّوا ... واجتهدوا في رصْد الرّكّع
إن سمعوا (قرآناً) خافوا ... فالسلطة منهم قد تُنزع
كم عقروا خيلاً يا ولدي ... ضجرت من قيد لا يُرفع
وبكت إسلاماً مكبوتاً ... ورقاب فوارسها تقطع
ولأجل الحق لكم نُرمى ... بالبغي - صغيري - ونُبدّع
فاكْفُر بالطاغوت العاتي ... ولغير الباري لا تركع
***
يا خيلَ الله متى يأتي ... بطلٌ في ثوب (ابن الأكوع)
يا ماجدَ (غزوةِ ذي قَرَدٍ) ... قد صرنا وسْط المستنقع
وكلابُ الصيد تُلاحقنا ... بنيوبِ سكاكينٍ تقطع
فأعرنْي رجْلَيْكَ لأعْدو ... فأنا في قيدي أتوجّع
وأعرنْي صَوْتَك لأُنادي: ... (سيجيءُ الحقّ ولنْ يُقمع)
(سيجيءُ الحقّ ولنْ يُقمع)
(سيجيءُ الحقّ ولنْ يُقمع)
(سيجيءُ الحقّ ولنْ يُقمع)(117/52)
المسلمون والعالم
النظام الجزائري.. والبحث عن الشرعية!
بقلم: د.يوسف الصغير
لقد حاول الجيش الجزائري منذ بداية الانقلاب العسكري وإلغائه نتائج
الانتخابات التي فازت بها جبهة الإنقاذ أن يبحث عن الشرعية، فمن مجلس انتقالي، إلى استيراد أحد رموز حرب التحرير (بوضياف) الذي لم يشارك في الحكم
وبالتالي لا يتحمل أوزاره، وقد قتلوه بعدئذٍ لما أحسوا أنه يريد أن يمارس السلطة
حقيقة، وفي نهاية المطاف جاؤوا (بزروال) الذي يبدو أنه يتصرف كأنه يسير على
حبل مشدود؛ فهو تارة يدعو إلى المصالحة ويُخرج شيخي جبهة الإنقاذ من السجن
إلى الإقامة الجبرية؛ ومن ناحية أخرى تزداد وتيرة العمليات العسكرية والأمنية،
وهو في الوقت نفسه يؤيد الحوار والاستئصال! وقد تطورت الأوضاع بحيث
أصبحت مسرحية البحث عن الشرعية لا تكفي لها الأختام المحلية المزورة، بل إن
هناك رغبة عالمية في إعطاء النظام العسكري الشرعية؛ لأنه الوحيد القادر على
مواجهة الإسلاميين وتأخير وصولهم إلى الحكم، فلم يعد يكفي مندوبو الجامعة
العربية الذين بدوا مندهشين من المهمة الجديدة وهي مراقبة تطبيق الديمقراطية في
الوطن العربي! حتى رأينا ويا للعجب مشاركة الغرب في إخراج المسرحية بصورة
مباشرة؛ فقد شارك في ذلك مندوبون من بريطانيا وأمريكا على حين اعتذرت فرنسا
عن المشاركة (لأن شهادتها مجروحة) .
وبالنظر في الانتخابات الأخيرة وما سبقها فإن هناك جملة ملحوظات منها ما
يأتي:
أولاً: لقد صِيغ نظام الانتخابات الجديد بحيث لا يكون لـ (المجلس الشعبي
الوطني) سلطة مؤثّرة، ولا يكون هناك إمكانية سيطرة أي طرف على الأغلبية؛
حتى ولو حصل أحد الأحزاب على أكثر الأصوات متقدماً بذلك على غيره من
الأحزاب؛ فإن رئيس الدولة يمكنه تكليف رئيسٍ للحكومة ولو من خارج الأحزاب،
إضافة إلى أن هناك مجلساً ثانياً أعلى وهو مجلس الأمة ثلثه مُعَيّن من قِبَلِ رئيس
الدولة، وثلثاه منتخب من خلال المجلس الشعبي والمجالس الولائية!
ثانياً: لقد نص النظام الجديد على أن (أحد عشر حزباً) فقط يحق لها دخول
الانتخابات وهي التي تتفق والشروط الجديدة التي من بينها ألا يكون الحزب قائماً
على مبدأ ديني أو لغة أو جهة؛ بمعنى أن تكون الأحزاب بدون هوية مميزة؛ ومن
المعروف أن المقصود: هو ألا يكون هناك أي حزب إسلامي صريح؛ فقد أُجبرت
الأحزاب على حذف ما يشير إلى الإسلام في اسمها، فمثلاً: (حركة النهضة
الإسلامية) أصبحت: (حركة النهضة) وحركة: (المجتمع الإسلامي حماس)
أصبحت: (حركة مجتمع السلم) .
ثالثاً: لقد قام النظام بتشجيع أو تدبير انشقاقات عديدة في جبهة التحرير
الوطني وجبهة القوى الاشتراكية في محاولة لفك ارتباطهما مع جبهة الإنقاذ. وقد
اضطر (حسين آيت أحمد) للاشتراك في الانتخابات الأخيرة من أجل المحافظة على
تماسك حزبه.
أما جبهة التحرير الوطني فقد كانت قطاعات منها بدايةً تشجع الانقلاب على
الأمين العام السابق عبد الحميد مهري الذي كان مصراً على مشاركة جبهة الإنقاذ في
أي حلٍ؛ مع الإيحاء للانقلابيين أن جبهة التحرير ستكون هي حزب الرئاسة.
رابعاً: لقد حرص النظام في هذه الانتخابات على دخول حزب جديد يمثل
النظام الذي كان قبل ذلك يعتمد على بعض الأحزاب القائمة مثل: حزب التجمع من
أجل الثقافة (الفرانكفوني البربري) و (حزب حماس الإسلامي) وذلك من أجل
إعطاء إحساس باستمرار التعددية الحزبية. أما الآن فقد كوّن النظام حزبه الخاص
(الوطني الديمقراطي) حتى إن محفوظ نحناح زعيم حركة مجتمع السلم أطلق عليه
اسم: (الطفل المدلل) تمييزاً له عن الأطفال غير المدللين!
خامساً: وهي أهم قضية: أن النظام ومع أنه روّض معظم الأحزاب
الموجودة وكوّن حزبه الخاص، فإنه لم يجرؤ على تكرار تجربة انتخابية فيها
احتمال الإخفاق والتفريط في السلطة؛ ولهذا فإنه لم يسمح لأكبر قوة شعبية في
البلاد بالمشاركة.
ولنتخيل أن كلينتون أصدر قراراً بحل الحزب الجمهوري المنافس للديمقراطي، وسمح بتشكيل عشرات الأحزاب الصغيرة التي ليس لها شعبية، ثم دخل
انتخابات تشرف على نتائجها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومندوبون عن أعرق
الدول الديمقراطية (بريطانيا) ليعلن بعدئذٍ فوز الحزب الديمقراطي فوزاً كاسحاً؛
فهل هذا يدل على شعبية حزبه المطلقة؟ بالطبع لا؛ بل ولا يُتوقع أن تشارك
المنظمات الشعبية والدولية السابقة بهذه المهزلة؛ فكيف يُحَلّ أكبر حزب منافس
وتكون هناك ديمقراطية؟ وكم كان (جون ميجور) قبل هزيمته يتمنى لو أن النظام
البريطاني يخوّله أن يصدر قراراً بحل حزب العمال قبل الانتخابات، ليخوض بعد
ذلك انتخابات نزيهة مع حزب الخضر!
ونحن هنا لا نقول فقط: لماذا يتم حظر جبهة الإنقاذ، وهل تكون هناك
انتخابات نزيهة إثر ذلك؟ بل نسجل هنا سقوط ما يسمى بالديمقراطية الغربية التي
ختمت بشرعية النسخة المعدلة من الديمقراطية أو النسخة المعدة للتصدير للدول
الإسلامية ألا وهي حكم (حزب النظام) مع عدد من الأحزاب الاسمية الصورية؛ مع
الحظر الرسمي لأي حزب إسلامي؛ وهذه الديمقراطية مطبقة بنجاح في عدد من
الدول الإسلامية! ! وهناك محاولة لإرساء قواعدها في الجزائر وتركيا.
نعم لقد أرسلت بريطانيا وأمريكا مندوبيها ليقولوا: إن الانتخابات نزيهة! ولم
يقع فيها تزوير واسع للأصوات ولم يتحقق ذلك الأمل ليتم دعم النظام الديمقراطي
الجديد والتواصل معه بكل حرية من أجل الوقوف ضد الإرهاب الإسلامي! !
سادساً: حيث إن الدعاية الانتخابية العادية غير كافية لدفع الناس للمشاركة،
فقد طبق في الجزائر أسلوب جديد مخترع؛ فقبل كل انتخابات سواءً لتعديل
الدستور أو الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية تطغى على وسائل الإعلام المحلية
أنباء مجازر رهيبة تقتل فيها النساء والأطفال والشيوخ، ويبالغ الإعلام المرئي في
نقل مشاهد الصور المشوهة وبقع الدماء على الأرض والجدران، وكيف قتل
الأبرياء بالسكاكين والمناشير، وأن المهاجمين كتبوا شعارات إسلامية على الجدران
بدماء الضحايا. وكان الخطاب المحلي الموجه وصداه الخارجي يصران على أن
الإسلاميين هم الذين يرتكبون كل هذه المجازر مع تكرر نفي جبهه الإنقاذ
لمسؤوليتها وإدانتها بل واتهامها النظام وميليشياته بارتكاب تلك الفظاعات، وذلك
في الوقت الذي بدأت تتكشف فيه بعض الحقائق، وهي كما يلي:
1- كثير من الضحايا هم من عوائل المجاهدين في جبهه الإنقاذ، وإشاعة
النظام أن المجازر تحدث نتيجه الحرب بين الإسلاميين أنفسهم! !
2- القرى والمناطق التي وقعت فيها أبشع عمليات الذبح هي التي ظلت
رافضة تسلم السلاح من الحكومة والمشاركة في ما يسمى بالمقاومة الشعبية أو الدفاع
الذاتي.
3- تتركز المجازر في البلدات والقرى التي تشكلت حول المزارع الضخمة
التي خلفها المستعمرون الفرنسيون في سهل (متيجه) الخصب وقد شاع أن جماعات
القتل تخدم خطة لإخلاء هذه المناطق من أجل إعادة توزيعها على المتنفذين الجدد.
4- لوحظ أن المجرمين كانوا ينفذون جرائمهم وهم في منتهى الاطمئنان مع
أن تسليحهم يقتصر غالباً على السكاكين والبلطات، وبعد خروجهم من القرى تأتي
قوات الأمن مع الوفود الإعلامية.
5- لقد تتابعت الانفجارات العنيفة في بدايه شهر رمضان المبارك الماضي في
أسواق ومقاهي العاصمة الجزائرية عن طريق سيارات مفخخة؛ وذلك في أيام
متتالية؛ وقد وجهت أصابع الاتهام إلى أطراف في النظام نظراً لكمية المتفجرات
الكبيرة التي لا يمكن للإسلاميين تدبيرها ونقلها داخل العاصمة التي تكثر فيها
الحواجز الأمنية بالإضافة إلى استهداف أماكن تعتبر معاقل للإسلاميين.
6- تواتر اختراق المخابرات الجزائرية لبعض الجماعات المسلحة إلى
مستويات قيادية عليا، وبالتالي توريطها في أعمال منافية للشرع ونسبتها للعموم؛
مع ملاحظة ضعف العلم الشرعي عند بعض هذه الجماعات وسيادة روح الانتقام من
تجاوزات النظام في حق أهاليهم.
7- يلاحظ في الوقت نفسه تغير نبرة الإعلام الغربي تجاه الأحداث؛ فمن
عبارة: (قام المتطرفون بـ ... ) إلى (حدثت مجزرة ... يعتقد أن الإسلاميين
المتطرفين قاموا بها) إلى (حدثت ... وتنسب هذه الأعمال عادةً إلى ... ) .
8- يحرص النظام بشدة على تعتيم أخبار الصراع العسكري مع الإسلاميين؛
حيث يمنع وجود المراسلين الأجانب، ويحظر على وسائل الإعلام المحلية نشر أي
أخبار إلا التي ترد من قِبَلِ وزارة الداخلية. وبعملية بسيطة فإنه إذا كان يقدر عدد
القتلى بين ستين ومائة ألف في خمس سنوات فإنه يعني حوالي خمسين قتيلاً يومياً.
نعم من أجل شرذمة من العسكريين الذين يسيطرون على كل شيء في الجزائر يقتل
يومياً خمسون فرداً لا يسمع عنهم أحد، بل ويطرح النظام في هذه المرحلة أسلوباً
استئصالياً جديداً؛ فبدلاً من الاستئصال الخاص للإسلاميين يطرح الآن وبدون حياء
أو وجل أسلوب الاستئصال العام للمناطق التي ينبت ويتوالد فيها التطرف (كما
زعموا) .
هل الانتخابات حل للأزمة القائمة؟
وأخيراً: هل تمثل هذه الانتخابات حلاً لمشكلة الجزائر؟ بالطبع: لا؛ وهذا
ما أجمع عليه المراقبون، ولكن في تصوري أن ما يجري سيجعل الصراع أكثر
تميزاً؛ فإذا كانت جبهة الإنقاذ تباطأت في المبادرة بالعمل العسكري مما ترك
الفرصة لنشوء جماعات كثيرة غير منضبطة؛ فإن اشتراك الجبهة أيضاً في (عقد
روما) كان يعطي غير الإسلاميين دوراً في حال سقوط النظام مع عدم مشاركتهم في
الصراع المسلح. إن على الجبهة وهي تقف الآن وحيدة في الجانب السياسي أن
تستغل بقوةٍ ميزةَ أنها تمثل الآن المعارضة السياسية الجادة الوحيدة بعد تدجين بقية
فصائل المعارضة، والتركيز على كسر شوكة النظام، وهذا لا يكون إلا بالعمل
الجاد على جمع شتات الجماعات المسلحة المنضبطة بضوابط الشرع؛ مع تحييد
ومحاصرة المجموعات المخترَقة من قِبَلِ النظام أو التي لا تسير على المنهج
الشرعي الصحيح.
إن إطلاق سراح الشيخ (عبد القادر حشاني) بعد محاكمة صورية ثم ما تبعه
من إطلاق زعيم (الإنقاذ) الشيخ الدكتور (عباسي مدني) مع ما صدر له من أوامر
بعدم التعامل مع وسائل الإعلام يدل ذلك كله على أن الجزائر مقبلة على مرحلة
جديدة تواجه فيها جبهةُ الإنقاذ الاختبارَ الأخير الذي يوجب عليها أن تكون فيه على
مستوى الأحداث، وأن يكون لها موقف موحد مبني على نظر ودراسة، وأن
يحذركل مسؤول فيها على ألاّ يكون له رأي فردي خاص يتخذه في مكان عام أو في
مقابلة صحفية ثم يكون بعدئذٍ مثاراً للجدل؛ بل يجب أن يكون هناك موقف
استراتيجي ثابت مبني على دراسة شرعية تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات؛
فالنظام لم يتخل عن منهجه الاستئصالي، بل اتجه للجمع بين (الاستئصال الأمني)
و (الاستئصال السياسي) .
وسياسة النظام المستقبلية تعتمد على تقديره الخاص للوضع؛ فهو بين أمرين:
أحدهما: الإحساس بأنه وصل إلى نهاية النفق المسدود؛ فالقوة العسكرية لم
تنجح، والمناورة السياسية الجديدة ليست ذات قيمة واقعية؛ وبالتالي يجب الحوار
مع الجبهة والوصول معها إلى حل وسط يكون أحد أركان جبهة الإنقاذ جسر الحوار
فيه.
والثاني: الإحساس بالانتصار، وأن الجبهة لم تعد تشكل خطراً على النظام،
وأن النظام قادر على التعامل والتعايش مع مستوى المواجهة الحالية بحيث يضبط
الأمن في المدن الكبرى، ويحرص على حماية خطوط أنابيب النفط والغاز؛ أما
بقية البلد فيترك فيها الأمر للصراع بين ميليشيا النظام وجماعات الإسلاميين.
أخي القارئ الكريم: إن الصراع في الجزائر هو صراع شامل؛ وإذا كنا لا
نحس بنقص الإمكانات العسكرية للإسلاميين، فإننا نحس وبقوه بضعف الجانب
الإعلامي الواضح؛ فليس لهم صحف ناطقة باسمهم، بل وإذا كان ثمة متحدث
رسمي في الخارج فإنه ليس على اتصال سريع أو مستمر بالداخل؛ ولهذا فإن
البيان المنسوب لأي جماعة يوجب الانتظار فترة قبل القطع بنسبته إليها، وذلك من
خلال عدم صدور بيان نفي له؛ ولهذا تُدبّج المقالات أن فلاناً هو مفتي الجماعات
المسلحة، وأنه يفتي وأفتى، ثم تفاجأ بالصحيفة تنشر اعتذارها للشيخ وتعترف
بكذب المعلومات المنشورة، وأن السبب في هذا الخطأ أن المصدر لم يكن موثوقاً،
بل ويصبح أحد الأشخاص غير الجزائريين والبعيد عن الجزائر دليلاً على نسبة
المجازر للإسلاميين بتصريحات غوغائية لا ندري ما هو هدفه منها. يجب أن
يكون للإسلاميين قنوات فعالة لتبليغ مواقفها الرسمية، وأن لا يكون اسمها مباحاً
لكل غالٍ ومنافق؛ بل إن كثيراً من البيانات المنسوبة للإسلاميين تبين أنها مدسوسة
من قِبَلِ المخابرات الجزائرية!
نسأل الله أن يلطف بشعب الجزائر المسلم، وأن يرزقه الحكام الصالحين
الذين يعيدونه لمنهجه الإسلامي الأصيل؛ وما ذلك على الله بعزيز.(117/54)
المسلمون والعالم
عولمة أم أمركة؟
الخلق الأمريكي! !
(2)
بقلم: حسن قطامش
تحدث الكاتب في الحلقة الماضية عن استقرار أمريكا نموذجاً يقتدى به في
نفوس شرائح من مجتمعاتنا، ثم تحدث عن الشهادات من بعض رموز المجتمع
الأمريكي حول ضرورة ريادتهم للعالم، ثم بدأ في تصفح التاريخ الأمريكي محاولاً
الكشف عن أصل هذا المجتمع، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة إيضاح جوانب
أخرى من الموضوع. ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان - الاستقلال عن بريطانيا أعظم المفاخر الأمريكية:
يلخص الأمريكيون منجزاتهم الكبيرة وأمجادهم في ثلاثة أمور: الاستقلال،
الاتحاد، الدستور؛ وأهمها على الإطلاق: الاستقلال عن التاج البريطاني.
وأصبحت وثيقة الاستقلال وثيقة تاريخية يجب أن يعرفها الكبير والصغير على حد
سواء؛ ولخاصية هذه الوثيقة نعرض نصوصاً منها لأهميتها ومناسبتها في
موضوعنا.
عندما يصبح ضرورياً في سياق الأحداث البشرية أن يفصم شعب الروابط
السياسية التي كانت تربطه بشعب آخر، وأن يحتل بين دول الأرض المكانة
المنفصلة والمتساوية التي تؤهلها له قوانين الطبيعة، ورب الطبيعة، فإن الاحترام
اللائق لرأي الجنس البشري يطالبه أن يعلن الأسباب التي أجبرته على الانفصال.
ونحن نؤمن بأن هذه الحقائق بدهية (وأن جميع البشر خُلقوا متساويين، وأن
خالقهم حباهم بحقوق معينة غير قابلة للإسقاط أو التنازل عنها، من بينها: حق
الحياة، والحرية، وطلب السعادة) .
وتاريخ مُلك بريطانيا العظمى تاريخ إضرار متكرر، واغتصاب مستمر،
هدفه الثابت المباشر هو الطغيان المطلق على هذه الولايات.. فلقد أنشأ عدداً كبيراً
من المناصب الجديدة، وبعث هنا أسراباً حاشدة من الموظفين والضباط لإرهاق
شعبنا، واستنزاف أقواتنا وأبقى بين ظهرانينا في وقت السلم جيوشاً دائمة بدون
موافقة الهيئات التشريعية، وجعل العسكريين مستقلين، وفي مكانة أرفع من
السلطات المدنية، وعمل مع آخرين لجعلنا خاضعين لولاية قانونية غريبة على
دستورنا! ! ولا تعترف بها قوانيننا بأن وافق على قراراتها التشريعية المزعومة.
ولأنه أقام أي الحاكم البريطاني قوات مسلحة كبيرة بين ظهرانينا، وحماهم
بمحاكمات هزلية في العقاب على جرائم القتل التي يمكن أن يقترفوها ضد أهالي
هذه الولايات، ولأنه قطع صلاتنا التجارية مع كل أنحاء العالم، ولأنه حرمنا في
حالات كثيرة من مزايا المحاكمة أمام محلفين، ولأنه نقلنا وراء البحار لنحاكم على
جرائم مزعومة، ولأنه نزع منا مواثيقنا، وألغى أثمن قوانيننا، ولأنه فعل كل هذا، فقد أعلن أننا محرومون من حمايته، وشن الحرب علينا، لقد نهب بحارنا وسلب
سواحلنا، وأحرق مدننا، ودمر حياة شعبنا، وهو في الوقت ذاته ينقل جيوشاً
ضخمة من الأجانب المرتزقة ليُتم أعمال الموت والتخريب والطغيان التي بدأها فعلاً
بوسائل القسوة والخيانة التي لا يوجد لها مثيل في أشد عهود الهمجية.
لقد أجبر الحاكم البريطاني مواطنينا الذين أسرهم في أعالي البحار أن يحملوا
السلاح ضد وطنهم، ويصبحوا جلادين لأصدقائهم وإخوتهم، وأن يقتلوا أنفسهم
بأيديهم.. وقد أثار الشقاقات الداخلية في ما بيننا، وحاول أن يستقدم سكان حدودنا
الذين لا يعرفون الرحمة والذين لا قانون لهم إلا الحرب، والقضاء على جميع
الأعمار والأجناس والأحوال.
وفي جميع هذه المظالم، قدمنا الالتماسات للإنصاف بكل تواضع وخضوع،
ولكن كان الجواب الوحيد على التماساتنا المتكررة هو الإساءة المتكررة، ولم نكن
في أي وقت من الأوقات مقصرين في حق إخواننا البريطانيين، فقد أنذرناهم بين
وقت وآخر بمحاولات مجلسهم التشريعي أن يمد سلطة ولايته علينا، وذكرناهم
بظروف هجرتنا واستقرارنا هنا، وناشدنا عدالتهم ونخوتهم الفطرية، أن يستنكروا
هذه الاعتداءات التي لا بد أن تفصم روابطنا وصلاتنا؛ ولكنهم أيضاً صموا آذانهم
عن صوت العدالة، ورابطة الدم.
من أجل ذلك لا بد لنا أن نذعن لحكم الضرورة التي تملي علينا الانفصال،
ونجعلهم كما نجعل بقية العالم أعداء في الحرب، أصدقاء في السلم.
لذا فإننا نحن ممثلي الولايات المتحدة في مؤتمرنا العام، المجتمع هنا نُشهد
(الله جل ثناؤه) على صواب مقصدنا، ونعلن باسم شعب هذه المستعمرات (الطيب) ! وبسلطاته، أن هذه المستعمرات المتحدة، هي في حقيقتها وبموجب حقها ينبغي
أن تكون ولايات حرة مستقلة، وأنها تحررت من كل ولاء للتاج البريطاني، وأن
كل الروابط السياسية بينها وبين دولة بريطانيا العظمى قد انفصمت تماماً، وأنها من
حيث هي ولايات حرة مستقلة لها كل السلطات الكاملة في شن الحرب، وإقرار
السلم وعقد المحالفات، وإنشاء العلاقات التجارية، وإتيان كل الأعمال والأمور
التي يحق للدول المستقلة أن تمارسها.
وتدعيماً لهذا الإعلان، معتمدين بثبات وعزيمة على حماية العناية الإلهية
نتعاهد تعاهداً متبادلاً على صيانة أرواحنا، وشرفنا المقدس) .
بقراءة سريعة لهذه الوثيقة، ودون علم بأنها وثيقة استقلال الأمريكيين عن
التاج البريطاني نظن لأول وهلة أنها على سبيل المثال من الشعب العراقي، أو
الليبي، أو على أسوأ تقدير الشعب الكوبي، ولكن أن تكون ذات صلة بالأمريكيين
فهذا أمر مستبعد إلى أقصى درجة، قد يقول قائل: تغير الأحوال والصراعات
العالمية، جعلها تعدل من مبادئها، والسياسة لا مبدأ لها، قد نسلم بهذا الافتراض إن
كان هناك زمن كبير بين هذه الوثيقة، وبين التبدلات الجذرية التطبيقية لها. ولكن
أن تكون هذه الوثيقة كتبت في وقت مُورِسَ خلاله أبشع صنوف التصفية وأشدها
همجية ضد صاحب الأرض الحقيقي، فهذا يجعلنا نلقي بالوثيقة برمتها في مزبلة
التزييف والتضليل السياسي.
ونستعرض الآن للتدليل على ذلك نموذجين وقعا خلال كتابة الوثيقة، بل
وقبلها وبعدها، ثم نرى: هل هناك ما يدعو لأن تفاخر أمريكا بهذه الوثيقة؟ أم أن
ما جاء فيها هو خاص بشعب الله المختار فقط؟
ولعل ذكر هذه النماذج عقب الوثيقة التي يفاخر بها الأمريكيون يسقطها برمتها
إلى حضيض التزييف التاريخي للحقائق التي ما يزال الكثير منها ماثلاً ولم يُمْحَ من
الذاكرة.
الأول: النموذج الهندي.. الأحمر:
الشعب الأصلي الذي عاش في أمريكا قبل الاستعمار الأوروبي لها ليسوا
هنوداً، وليسوا حمراً، ولكن هكذا راق للمحتلين أن يسموهم، وهم الذين عُبر عنهم
في الوثيقة بـ (سكان حدودنا الذين لا يعرفون الرحمة، والذين لا قانون لهم إلا
الحرب والقضاء على جميع الأعمار والأجناس والأحوال) .
ونتساءل أولاً: مَنْ صاحبُ الأرض الحقيقي؟ ونتلوه بسؤال آخر: ألم
يكونوا (بشراً متساوين، وأن خالقهم حباهم بحقوق معينة غير قابلة للإسقاط أو
التنازل عنها والتي من بينها: حق الحياة والحرية وطلب السعادة؟) أم أن هذا
خاص بالشعوب الناطقة بالإنجليزية المستحقة لحماية الله؟ ! لقد استعمل الأمريكان
لتطهير الأرض التي احتلوها من شعبها أبشع الوسائل والطرق التي لا تقارن بها
(أشد العهود الهمجية) وعندما وطئت أقدام المستوطنين الأرض الجديدة كان بها نحو
مليون هندي، وكانت العلاقات في بادئ الأمر ودية، ولكن المهاجرين أخذوا
يستولون على الأراضي بشكل متزايد، فبدأ ينشب القتال بين الجانبين، كان هذا
قبل الاستقلال عن التاج البريطاني، وقد يعزوه الأمريكيون إلى بريطانيا العظمى! ! وبعد الاستقلال عقدت (الحكومة الأمريكية) عدة معاهدات مع الهنود، وتعهد
الهنود بالحفاظ على السلم مع المهاجرين، غير أن كثيراً من هذه المعاهدات كانت
تخرق؛ وذلك بسبب دخول المهاجرين إلى أراضي حددت للهنود، ونتج عن ذلك
حروب في منتهى الشراسة ومنها معركة (بيكووت) التي شنت لمقتل أحد
المستوطنين، وأحرق فيها 700 هندي، وقبض على معظم من تبقى من الهنود
وعرضوهم للبيع بسوق النخاسة في (برمودا) ، والجدير بالذكر أن الأمريكيين في
هذه الموقعة اتفقوا مع بعض القبائل الهندية ليتعاونوا معهم على قتل إخوانهم الهنود، وقد زعم الأمريكيون في وثيقتهم أن الحاكم البريطاني أجبر إخوانهم الأسرى على
حمل السلاح ضد وطنهم، وأصبحوا جلادين لأصدقائهم وإخوتهم! ! وكان هذا الذي
حدث للهنود عقب كتابة الوثيقة.
وأصدرت الحكومة الجديدة بعد ذلك قانوناً بإزاحة الهنود من أماكنهم إلى غربي
الولايات المتحدة؛ وذلك لإعطاء أراضيهم للمهاجرين، وكان ذلك عام 1830م،
وهُجّر إلى المناطق الجديدة أكثر من 70. 000 ألف هندي، فمات كثير منهم في
الطريق الشاق الطويل، وعرفت هذه الرحلة تاريخياً بـ (رحلة الدموع) .
لم يكتف الأمريكان بذلك، فلم يمض وقت طويل حتى أخذ المهاجرون في
الاندفاع نحو الغرب متوغلين في الأراضي التي خصصت للهنود، وكان مما زاد
الطين بلة أن اكتشف الذهب في هذه المناطق، فرحل كثير من عباد المال إلى هناك، وكانوا يقتلون الحيوانات البرية التي كان الهنود يعتمدون عليها في طعامهم،
وقاتل الهنود دفاعاً عما تبقى من الأرض، ولكنهم هزموا في نهاية الأمر؛ ولكن
للإنصاف والعدل فقد كانت الحكومة الأمريكية عادلة ومنصفة! ! إذ نقلتهم من هذه
الأرض إلى أماكن مخصصة (مستوطنات مغلقة) ! !
انخفض عدد الهنود بعد هذه المراحل من الحرب والتشريد والطرد إلى 350
ألفاً فقط، أي أُبيد على يد الأمريكيين 750 ألفاً، وكان هذا هو الرأي الأمريكي في
تقرير مصير الشعب الهندي الأحمر!
الثاني: النموذج الأفريقي.. الأسمر:
وتزامناً مع الحالة الهندية كان الزنوج يُنتزعون من الساحل الغربي لأفريقيا،
وكانت تجارة الرقيق تقوم بها مجموعات كبيرة من الشركات والأفراد الأمريكيين،
وكانت هذه التجارة تدر أرباحاً وثروات هائلة؛ إذ كان العبيد يباعون مقايضة مقابل
التبغ والأرز! ! وكانوا بطبيعة الحال يعملون أشق الأعمال وأخطرها، ويُحرَمون
من كل شيء، حتى الذي ورد في وثيقة الاستقلال. ومع بداية سنة 1850م بلغ
عدد العبيد 3. 200. 000 مليون من بين سكان أمريكا الذين كان عددهم 23
مليوناً، وكان الرق غالباً في الجنوب الأمريكي، وبدأت دعوات في الشمال تطالب
بإلغاء الرق، وكان ذلك في بداية عام 1861م، وكان سكان الجنوب الذين
يرفضون إلغاء الرق يقارب عددهم 9 ملايين شخص منهم 3. 5 مليون عبد، أي
أن لكل شخصين من البيض شخصاً من العبيد، وانفصلت الولايات الجنوبية عن
الاتحاد، وبدأت الحرب الأهلية الأمريكية (حرب الأشقاء 1861 1865م) ونذكر
نموذجاً واحداً من معارك هذه الحرب، وهي معركة (جتسبيرج) التي سقط فيها
خلال ثلاثة أيام فقط 45. 000 ألف أمريكي ما بين قتيل وجريح ومفقود وأسير! ! واغتيل بعدها (إبراهام لنكولن) قبل أن يحسم الخلاف على الرق.
أمريكا.. نموذج علماني شامل:
أمريكا قارة بكر عذراء، مواردها هائلة، أراضيها شاسعة، بعيدة عن العالم
القديم، فلم تستنزف ثرواتها في حروب كبيرة ولا احتلال، فالخير الذي أودعه
الباري (عز وجل) فيها ما زال بوفرته، وهو ما ساعد على قيام دولة كبيرة غنية،
تستغني عن غيرها، وهذه العوامل ساعدت أمريكا على الظهور كقوة كبيرة في
العالم.
هذه القارة الجديدة الهائلة كانت مطمع المهاجرين الأوروبيين، وكان الذين
سبقوا بالاستيطان يراسلون ذويهم وأصدقاءهم قائلين: هلموا إلى أمريكا.. لقد
وجدنا شوارعها مفروشة ذهباً، وكان كما ذكرت عدد كبير من أولئك من مجرمي
الحروب ونزلاء السجون وتجار الرقيق والباحثين عن الذهب والمال، وقد وجدوا
في الأرض الجديدة متنفساً كبيراً عن الذي عايشوه في أوروبا، من كبت واضطهاد، وفرصة كذلك للثراء، فرصة لأن يكونوا أمة شابة تقف أمام قارتهم الهرمة،
فأنشأت هذه العوامل هذه النفوس، وعملت هذه النفوس على إحياء مبدأ واحد فقط:
(المصلحة) ، فمن مصلحة المهاجرين إبادة الشعب الأصلي للأرض كي لا يكون
للأرض صاحب آخر يفجر الثورات، فنقلوا هذا الشعب إلى.. العالم الآخر! !
واقتضت المصلحة كذلك انتزاع شعب آخر من أرضه قهرياً، واستعباده في
الأرض الجديدة.. شعب يعزل عن أرضه أفريقيا ويزرع هناك، بلا هوية، بلا
دين، بلا صلات، فنقلوه كذلك من دنيا إلى ... دنيا أخرى لا يرتبط معها بأي
رابط.
واقتضت المصلحة كذلك أن تفتح الأرض الجديدة على مصراعيها لشذاذ
الآفاق من كل الدنيا للعمل على إحياء الأرض الجديدة؛ ولكن شريطة التخلي عن
الدين والعرق والأخلاق. الشرط الوحيد للبقاء لهذه الفئة من الناس: أن تذوب
ذوباناً كاملاً في ذلك المجتمع، تعمل فقط، تأكل فقط، تتلذذ بما شاءت.. فقط.
ولهذا وغيره كانت أمريكا نموذجاً مثالياً للعلمانية الشاملة، فهي أرض بدأت
من الصفر، بدأ الحياة فيها قوم لا خلاق لهم، كان أكبر همهم هو التخلص من
الثقافة الأوروبية والنمط الأوروبي الذي كان يمثل لهم نمطاً من احتلال الأرواح
والأجساد معاً؛ لذا كانت نشأة أمريكا متحررة من كل شيء، تبيح لشعبها كل شيء، فلم يكن (لنشأتها) وازع ديني يمنعها من التحرر، ولا أخلاق تحكم التصرفات،
حتى أولئك الذين هاجروا إليها من غير الأوروبيين كانوا على استعداد للذوبان فيها، كونهم هربوا من مجتمعاتهم، فكان شعورهم كشعور المستوطنين حين تركوا
أوروبا.
إن فهم تلك الأبعاد للنشأة الأمريكية هام جداً وضروري جداً لكي يكون
مستحضراً ونحن نتعامل مع هذا النموذج المسيطر، وحتى لا نعجب أو نغتر أو
يصيبنا الجزع ونحن نرى هذا الانتفاش الهش. إن الشيء الوحيد الذي يهتم به
الأمريكي هو مصلحته، وأن يعيش مستمتعاً: يأكل بشراهة، يشرب كأنه لم يذق
الشراب من قبل، المهم أن يستمتع، وهذا مما أشارت إليه (الواشنطن بوست) في
افتتاحيتها عقب الإعلان عن فوز (كلينتون) بالرئاسة الأمريكية مرة أخرى قائلة:
(الأمريكيون مهتمون فقط بأمور الزبدة والخبز، ويعتبرون النظام السياسي.. مجرد
جهاز إداري، إن هذه النزعة لتهميش الوظيفة السياسية المؤسساتية تفسر إعادة
انتخاب الأمريكيين لـ (كلينتون) رغم وعيهم لتجاوزاته الأخلاقية؛ لأن همهم أن
يكون رئيساً إدارياً جيداً، وليس نموذجاً للأخلاق والمثالية) .
كذلك هناك النزعة التوسعية المتأصلة في النفس الأمريكية، وعقلية
المستوطن المحتل الذي يقيم حياته على رفات غيره من البشر؛ هذه العقلية
التوسعية، صارت كذلك مدعاة للفخر والمباهاة، ففي الحوار الذي أجرته مجلة
(أتلانتك) ونشرت مجلة (المجلة) جزءاً منه مع د. (بنجامين سوارتز) الخبير في
الاستراتيجية الأمريكية في معهد السياسة العالمية في (نيويورك) أجاب عن السؤال
التالي: لماذا تريد أمريكا أن تحكم؟ فأجاب: ربما السؤال الصحيح، لماذا تظن
أمريكا أن من واجبها أن تحكم العالم؟ والإجابة هي أن التوسع جزء من التراث
الأمريكي، في الماضي كان التوسع جغرافياً بتأسيس ولايات أمريكية في مناطق
الهنود الحمر، حتى وصلنا إلى المحيط الهادي، ثم أسسنا ولاية في جزر (هاواي) ، ثم وقفنا أمام طموح الآسيويين أنفسهم، ولهذا تحول التوسع الأمريكي بعد الحرب
العالمية الثانية وخلال الخمسين سنة الماضية.. إلى توسع اقتصادي.
وللحديث بقية.(117/62)
المسلمون والعالم
خمسون عاماً من الفشل..!
أجواء الحرب.. في أحلام السلام
(3من3)
بقلم: عبد العزيز كامل
مرّ الكاتب في مقالين سابقين على محطات الفشل العلماني في إدارة الصراع
العربي الإسرائيلي، فكان من محطات الحرب: نكبة 1948م، والعدوان الثلاثي
1956م، ونكبة 1967م، وحرب التحريك 1973م، ومن محطات الفشل في
السلام: مؤتمر جنيف 1974م، وكامب ديفيد 1978م، ومؤتمر فاس 1982،
ومشروع إعلان الدولة الفلسطينية، ومؤتمر مدريد 1991م، ويواصل الكاتب
الوقوف على محطات أخرى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
المحطة السادسة: محادثات المسارات المتعددة في واشنطن:
بعد الانتهاء من مؤتمر مدريد، اختيرت واشنطن لتكون مقراً لاجتماعات
مسارات التفاوض الثنائية، ودارت المحادثات على مسارات منفصلة كما هو متفق
عليه أو كما أرادت (إسرائيل) فقد كانت تخطط لإضاعة الوقت في هذه المفاوضات
لتشتيت جهود العرب والاستفراد بكل طرف على حدة، لكي تستثمر هذا الوقت
لصالحها بتنفيذ برامج ومخططات تحتاج إلى تغطية، وقد ظهرت هذه النية بعد ذلك
على لسان (شامير) الذي قال: (كنت أريد للمفاوضات في واشنطن أن تمتد عشر
سنوات، حتى تستكمل خطط الاستيطان، وحتى لا تبقى أرض فلسطينية يتم
التفاوض عليها ... ) ! ! نعم أليسوا يهوداً؟ .
لقد حرص هؤلاء الأعداء على إضاعة الوقت فعلاً، حتى إن بعض (القضايا)
التي جرت مناقشتها بين الوفد الإسرائيلي والأردني مثلاً، كان منها: التعاون من
أجل مقاومة توالد البعوض في وادي الأردن! وكان منها ضرورة التنسيق للتوصل
إلى حل في مشكلة الحمام البري الطائر الذي يطير من الأراضي الأردنية ليتغذى
على الغلال في الصوامع الإسرائيلية! !
أما القضايا الجادة على كل المسارات فكانت تؤجل باستمرار، وكانت وفود
اليهود تردد دائماًَ قناعتها بأن من أصول التفاوض الصحيح حل المشكلات الصغيرة
أولاً ثم التفرغ للمشكلات الكبيرة. ومع كل هذا الهوان، فقد كان المفاوض العربي
والفلسطيني يشعر في نفسه بذلك الهوان، بغض النظر عن القضايا التي تناقش،
يعبر عن ذلك (د. حيدر عبد الشافي) بقوله: (نحن وفد منقسم على نفسه، وفي
الحقيقة فنحن أربعة عشر عضواً فلسطينياً وكل عضو فينا وفد مستقل، وكل واحد
منا يمثل نفسه، وله اتصالاته وله ميادينه) ! ! وكان من الطبيعي مع كل هذا أن
تكون نتائج مسارات واشنطن.. الفشل! !
المحطة السابعة: اتفاقيات أوسلو:
بعد فشل محادثات المسارات المتعددة في واشنطن، اتجهت الأنظار إلى (أوسلو) عاصمة النرويج، وكان ذلك عقب ظهورعدد من المستجدات على الساحة العربية والدولية منها:
1- انتقال رئاسة الوزراء في (إسرائيل) إلى حزب العمل برئاسة (إسحاق
رابين) بعد سقوط (إسحاق شامير) زعيم حزب الليكود.
2- أن منظمة التحرير من خلال محادثات واشنطن ظهر أنها مستعدة نفسياً
وعملياً لإعطاء كل شيء مقابل الاعتراف بها، وأنها سوف ترحب بأي تعاون من
شأنه ألا ينقل الوصاية على القضية الفلسطينية من يد المنظمة إلى أيدي (حماس) .
3- حرص كل أجهزة المخابرات ومراكز الدراسات في إسرائيل وغيرها
على إظهار وإبراز أن هناك قوة إسلامية عارمة يمكن أن تكتسح أكثر من ساحة
عربية ومن ضمنها فلسطين في ظل التشرذم والفشل العربي، وأن تلك الموجه
الإسلامية يمكن لها أن تقفز إلى واجهة الأحداث ليرى اليهود أنفسهم وجهاً لوجه أمام
مبارز جديد لم يتعودوا على منازلته، وقد عبر عن هذا التخوف أحد الوزراء في
حكومة رابين عندما قال: (إن الحركة الإسلامية ستتصاعد، وستؤدي إلى تقوية
التيار الديني في (إسرائيل) نفسها، وأستطيع أن أقول: إن المتشددين الإسلاميين
والمتشددين اليهود سيلتقون في ساحة المواجهة هنا على أرض فلسطين، وعندها
سيخرج الأمر من أيدينا تماماً) !
وكان (رابين) يرى لأجل ذلك أنه لا مانع من الاعتراف بالمنظمة بعد اعترافها
بـ (إسرائيل) وبحقها في حياة آمنه ضمن حدود معترف بها، وكان في ذلك مخالفاً
لسلفه (شامير) وقد سوّغ وجهة نظره بقوله: (إن المنظمة إذا وضعت بصمتها على
ورقة الاستسلام، فلن يستطيع أحد أن يزايد على (أصحاب الشأن (! ...
وبدأ الفلسطينيون عبر قنوات اتصال سرية في التفاوض مع الإسرائيليين
لإبرام اتفاق (منفرد) ، وأثمرت هذه الاتصالات في الوصول إلى اتفاق مبدئي أطلق
عليه: (غزة وأريحا أولاً) وكان المفاوضون قد اتفقوا في أوسلو على ألا يكرروا
الخطأ الذي حدث في واشنطن من الوفد الفلسطيني وهو المطالبة بالبدء
بالموضوعات الصعبة الرئيسية مثل: حق تقرير المصير، والمستوطنات،
ومستقبل القدس. واختاروا أن يكون البدء بأمور عملية تقبل التنفيذ، ووقع الاختيارعلى (غزة وأريحا أولاً) بمعنى تمكين الفلسطينيين من حكم هاتين المنطقتين حكماً ذاتياً، وكانت هذه مبادرة إسرائيلية صرفة، صادفت هوىً لدى القيادة الفلسطينية،وقد تم التوصل إليها بينهما دون شراكة من أي طرف ثالث.
وقد أراد الإسرائيليون بهذه الاتفاقية أن يضربوا عدداً من العصافير بحجر
واحد في هذه المرحلة وذلك بما يلي:
1- التخلص من قطاع غزة المزدحم والمزعج، والمليء بأسباب التوتر
الأمني والعلل الاقتصادية والكثافة السكانية العربية.
2- إرضاء غرور القيادة الفلسطينية المتطلعة إلى زعامة وهمية على دولة
غير واقعية لن تفيد الشعب الفلسطيني، ولن تضر الشعب الإسرائيلي.
3- إيهام العالم بعدالة الصفقة اليهودية في آخر فصول القضية الفلسطينية.
4- عزل القوى العربية غير الراغبة في السلام إن وجدت بإعطاء البرهان
على أن أصحاب القضية قد ألقوا البندقية.
5- احتواء التيار الإسلامي المتصاعد في غزة على يد الشرطة الفلسطينية بعد أن عجزت الشرطة الإسرائيلية عن القضاء عليها.
وبعد خمس جولات من المباحثات في أوسلو، تم التوصل في (8/5/1993م)
إلى ما يسمى وقتها بـ (اتفاق إعلان المبادئ) المتعلق بمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً
في غزة وأريحا، وكان بيريز متحمساً للإسراع في إبرام ذلك الاتفاق الذي تفتقت
عنه قريحته، فقد كان يراه فرصة تاريخية لا تعوض في مثل ذلك الظرف الذي
كان يقتضي الاعتراف بالعدو الذي لم يعد عدواً (منظمة التحرير) ؛ لأن البديل هو
كابوس لا يمكن تصوره، ولذلك قال: (إن البديل الوحيد لمنظمة التحرير إذا
تجاوزناها هو (حماس) وحماس لن تعترف أبداً بإمكانية السلام معنا..) !
وما كان لاتفاق أوسلو أن يخرج إلى الوجود، إلا بعد أن تم تأجيل كل القضايا
الأساسية وهي: (القدس) (الحدود) (المستوطنات) . وبالرغم من أن الاتفاق أسوأ
مما كان ينتظره المتشائمون، حيث إنه لا يحقق الحد الأدنى من الثوابت الفلسطينية، إلا أن ياسر عرفات كان يحب أن يطلق عليه: (سلام الشجعان) .
وفي مقابل قبول الاتفاق على مضض من بعض العرب بسبب إجحافه
بالفلسطينيين في أرضهم، فإن الإسرائيليين عمهم الفرح به، حتى إن أحد الوزراء
الإسرائيليين وهو (يوسي ساريد) علق عليه قائلاً: (إن إسرائيل اليوم خلقت من
جديد، فمنذ إنشائها لم تكن الدولة شرعية في المنطقة التي قامت فيها، واليوم (13
سبتمبر 1993م) اكتسبت إسرائيل شرعية الاعتراف بها) هذا على مستوى العارفين
بالأمور من الإسرائيليين، أما قطاعات الشعب التي ساءها أن ترى (عرفات) داخل
أرض الميعاد مرة أخرى، فقد هالهم هذا التغيير، ولكن رابين طمأنهم وهدأ من
روعهم، وخاطبهم ولما يجف مداد الاتفاق قائلاً: (إنه لن يكون هناك انسحاب
إسرائيلي، ولكن: إعادة انتشار، و (السلطة) للفلسطينيين سوف تكون تحت
سيطرة (الدولة الإسرائيلية) وحتى الأرض، فليس هناك اتفاق بشأنها، ولكن بشأن
البشر الذين يسكنون عليها.
أما الأموال التي ستأتي لتلك السلطة الفلسطينية، فلن تصل إلى أيديها مباشرة
بل ستمر عبر قنوات دولية تضمن سلامة مصارفها) !
ثم بدأ تنفيذ بعض بنود الاتفاق، واستقدمت أعداد من المقاتلين الفلسطينيين
السابقين الذين كانو قد تفرقوا في عدد من البلدان العربية، لتتشكل منهم كتائب
شرطة لمكافحة الشغب أو بالأحرى: مكافحة الشعب، إذا أراد أن ينتفض مرة
أخرى، ومع كل هذا التنازل.. فإن الطرف اليهودي كان يتعامل مع الطرف
الفلسطيني بالازدراء كله، والمكر والخداع كله، وكعادة اليهود في التملص من
العهود، فإنهم لم يصبروا على (اتفاق أوسلو) رغم حيفه وجوره، وعادوا إلى
التمثيلية المكرورة وهي (تعدد فهم النص) تلك التمثيلية التي درجوا على اللجوء
إليها كلما أرادوا التحريف أو التزييف، فيقولون: النص هكذا، ولكننا نفهم منه كذا.. وأنتم تفهمون منه كذا، وبهذا في كل مرة يتخلصون من أي التزام، ويتبرؤون
من كل مسؤولية، لقد قال رابين قبل مصرعه: (إنني اكتشفت أن هناك قراءتين
لاتفاق أوسلو: قراءة فلسطينية وقراءة إسرائيلية، ونحن أمام تفسيرات مختلفة
لقضية كنت أظنها واضحة في الاتفاق، وقال: (إن فجوة الاتفاق بيننا وبين عرفات
واسعة) .
بمثل هذه التصريحات، وفي ظل تلك المواقف التي توجهها الرغبة في
التلاعب، تجري فصول العملية السلمية، فما كان يفهم (شامير) من قواعد اللعبة،
يمكن أن يختلف غداً عما فهمه (بيريز) ، وما كان مسلّماً به عند رابين، يمكن أن
ينقلب على أعقابه في مفهوم (نيتنياهو) ! وما تعاهدت عليه حكومة (الليكود) اليوم،
ليس ملزماً لحكومة العمل غداً. وهكذا تتوالى الفصول في عملية السلام المهزول
نقضاً للوعود، ونكثاً للعهود.
وبهذا تم التوسع في بناء المستوطنات، وبهذا تقرر الانتهاء من أمر (مصير
القدس) قبل أن يأتي موعد التفاوض بشأنها، وبهذا يجري الآن العمل لنقل السفارة
الأمريكية إليها، ليمثل هذا أرضية دولية للاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية
لإسرائيل.
والظاهر أن أوان الفصل الأخير من فصول عملية السلام قد آذن بالأفول،
حيث نعاه عرفات إلى العالم في تصريح له في زيارته الأخيرة إلى فرنسا (1يوليو
1997م) قال فيه: (إن نتنياهو قد اتخذ قراراً وسوف ينفذه، وهو إعادة احتلال
غزة وأريحا) ! فهل سيبدأ بغزة وأريحا.. أولاً؟
نقول للقيادات العربية التي وضعت نفسها في واجهة القضية الإسلامية: ليتكم
قرأتم أو فهمتم من كتاب الله وصفين وخصلتين من اليهود لم ولن يتخلوا عنهما: -
الأولى: أنهم لا عهد لهم مع أحد. قال الله تعالى: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ
فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] [البقرة: 100] .
والثانية: أنهم لا أمان لهم. قال تعالى: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا
اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً] [المائدة: 64] .
إذن، فقطار (السلام) ، لا يركبه اليهود إلا للوصول عبر محطاته إلى ميدان
الحرب؛ وهذا أمر واضح لمن راقب أحوال القوم في القديم والحديث. [وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِياً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ
عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا] [النساء: 45، 46] اللهم كف عنا بأسهم
في الحرب، ومكرهم في السلام.
__________
(1) يلاحظ أن هذه المساعدات المالية والاقتصادية، استمرت طوال السنوات الماضية، لتعطي الدولة العربية الكبرى إمكانية التصدي لزعامة (عملية السلام) فلما انتهى هذا الدور أو أوشك على الانتهاء الآن، فقد أصدر (الكونجرس) الأمريكي قراراً في (يونيو97) بإيقاف المعونة الأمريكية لمصر (مليار دولار سنوياً) بدعوى أن مصر أصبح لها دور سيئ في تعويق عملية السلام! .(117/70)
في دائرة الضوء
الاستنساخ.. حقيقته وما وراءه
د.محمد بن عبد الله الشباني
مدخل:
حفل المجتمع العلمي مؤخراً بحدث علميٍ خطير هو الاستنساخ الجيني قال
عنه أحد علماء الفيزياء النووية: (جوزيف روتيلان) : إن إطلاق العنان له بدون
ضوابط قد يقود إلى عواقب ومخاطر تفوق أخطار الأسلحة النووية. وقد لقي هذا
الموضوع اهتماماً عظيماً من قِبَلِ كثير من العلماء والمفكرين. وقد كُتِبَ عنه العديد
من الدراسات المختلفة، وعُقِدت حوله كثير من الحلقات العلمية والندوات التي
تناولته بالبحث والدراسة والتحليل.
ولقد ورد للبيان دراستان علميتان مرتبطتان بالمنطلق الإسلامي العقدي
والفكري؛ آثرنا نشرهما معاً في (دائرة الضوء) آملين أن تسهما في التوعية
بالموضوع والتعريف بأبعاده بلا تهاون أو تهويل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
أولاً: البعد العقدي لعملية الاستنساخ
في الآونة الأخيرة أبرز الإعلام المقروء والمرئي قضية الاستنساخ الجيني وما
توصل إليه العلم البشري، بعد أن أذن الله بذلك، من اكتشاف بعض أسرار الخلق؛
وذلك بمعرفة كيفية استنساخ النعجة (دوللي) ومن قبلها استنساخ عجول في اسكتلندا
من جينات الأبقار.
لقد صاحب نجاح تجربة النعجة دوللي زخم إعلامي أخذ أبعاداً عقدية، وبدا
لكل من كان في نفسه مرض أن يستغل الخبر للترويج للإلحاد، وتضخيم الأمر،
وإظهار الحدث بأنه نوع من تحدي الله في خلقه تعالى الله عما يقول الظالمون علواً
كبيراً فمن ذلك مثلاً مقالة لنزار قباني بعنوان: هل يمكن استنساخ المتنبي؟ التي
نشرتها صحيفة الحياة في عددها الصادر بتاريخ 5 ذي القعدة عام 1417هـ حيث
جاء في تلك المقالة قوله: (ومعناه أن العلماء بدأوا بتحدي السماء..! ومعنى هذا
أيضاً أن الإنسان لم يَعُدْ له رب يؤمن به، ويركع في محرابه، ويصلي له،
ويطلب رضاه وغفرانه.. لأن المختبرات العلمية أخذت مكان الرب) وفي مكان
آخر من مقالته يقول: (كان أسهل على الله أن يستعمل قالباً واحداً لصناعة البشر
مثلما تفعل مصانع البلاط والقراميد والأحذية والملابس الجاهزة؛ ولكن الله فنان
عظيم لا يكرر نفسه! ولا يكرر عباده! ولا يعيد تصاميمه القديمة أبداً! ... ) . إن
هذا الكفر الذي ينشر بين الناس في بلاد المسلمين ليقرأه من قلّت بضاعته في الدين
ممن هو على جرف هارٍ سرعان ما يسقط في هوة الكفر وخاصة في زمن كثرت
فيه الفتن، وتكلم فيه الرويبضة، وأصبح للكفر جولة وصولة ودولة!
إن التصدي لهذا الأمر ينبغي ألا يتجه إلى الحكم الفقهي ومدى جواز وعدم
جواز الاستنساخ فقط، وإنما الأمر يتعدى ذلك إلى النظر إلى الموضوع من جانبه
العقدي، ومدى خطورة العبث الذي ينشر بقصد إضلال الناس وحرفهم بأسلوب
ماكر يتمثل باستخدام العلمية، وما توصل إليه العلم من كشف لأسرار كانت مجهولة؛ لحرف الناس عن الطريق المستقيم إلى الطرق المنحرفة تنفيذاً للمحاولات
المستمرة والدائمة من عدو بني آدم إبليس الذي أخبر الله عنه في آيات كثيرة من
القرآن الكريم، وعمله على إضلال الناس كما في قوله تعالى:
[قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ] [الأعراف: 16] وقوله: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ]
[سورة ص: 82، 83] .
لقد تعدى موضوع خبر استنساخ النعجة (دوللي) إلى التحدث عن إمكانية
استنساخ البشر، وإمكانية إعادة الأموات باستنساخهم، وأخذَ الإعلام الذي يهدف
إلى ترسيخ الإلحاد معالجة هذا الخبر ليس بأسلوب عقلي وعلمي وإنما بانتهاج
أسلوب الإيحاء إلى أن الإنسان قد أصبح قادراً على التحكم في حياته وبقائه؛ ولهذا
فإن من الواجب النظر إلى الموضوع من زاوية مدى التأثير على سلامة الاعتقاد
فيما يتعلق بتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.
إن الجوانب التي سوف أتطرق إليها في هذه المقالة عن موضوع الاستنساخ
ستنحصر في فهم حقيقة الاستنساخ وفق ما نشر عن ذلك من قِبَلِ المختصين، ثم
مناقشة مدى تصادم عملية الاستنساخ مع حقيقة الخلق التي يتفرد بها الرب المعبود،
وهل تعرض القرآن إلى موضوع ما يحدث الآن من عبث فيما يتعلق بالحيوانات،
وما هو موقف القرآن من إمكانية استنساخ البشر بالحصول على نسخة كاملة لإنسان
حي مرغوب في استنساخه، وهل أسس خلق الإنسان كما حكاها القرآن تماثل أسس
خلق بقية المخلوقات، وهل يتفرد الإنسان بخاصية في الخلق عن بقية المخلوقات؟
لمعرفة حقيقة هذا الأمر الذي صوّره الإعلام في صورة تجلت فيما للإعلام من
دور في قلب الحقائق والعمل على تغيير مفاهيم الناس؛ فالذي تم تصويره حول
إمكانية استنساخ البشر أنه أمر أصبح من شبه المؤكد وإن كان في حقيقته مجرد
خيال علمي وفرقعة إعلامية قصد من ورائها التضليل وزرع الشك في المرتكزات
العقدية للإنسان المؤمن بالله الخالق لكل شيء. لقد كانت ردة الفعل لدى بعض ممن
ينتسب إلى العلم الشرعي بالنظر إلى الموضوع من زاوية مدى تأثير ذلك على
البناء الأسري، وحماية الإسلام للحاجات الخمس، وضرورة حماية الناس من هذا
العبث باعتبار أن ما أشير إليه من إمكانية استنساخ البشر أصبح شبه مؤكد وحقيقة
ثابتة.
الاستنساخ فرقعة إعلامية: إن قضية الضجيج الإعلامي الذي صاحب
قضية استنساخ النعجة (دوللي) هو أسلوب قديم يتبدل ظاهره ولا يتبدل جوهره؛
فقد سبق أن استمر الضجيج ولا زال في بعض الدوائر وإن انكشفت حقيقته وهو ما
يتعلق بنظرية دارْوِن عن أصل الإنسان القردي؛ فكلما اكتشف الإنسان شيئاً من
قدرة الله ذات ارتباط بقضية وجوده وحياته وموته ونشوره وعلاقته بخالقه استُغل
هذا الاكتشاف لإضلال الناس بصدهم عن سبيل الله.
إن أسلوب التكاثر والتناسل الذي أوجده الله على هذه الأرض يأخذ ثلاثة أنواع
هي [1] :
1 - التكاثر اللاجنسي: ويتم التكاثر وفق هذا النوع بالانتشار أو التبرعم أو
التجدد، أي ليس هناك حيوانات منوية أو بويضات مثل حيوانات البرافسيون.
2 - التكاثر الجنسي: ويتم ذلك من خلال اتحاد الحيوان المنوي (المشيج
المذكر) مع البويضة (المشيج المؤنث) ومن اتحادهما تتكون النطفة الأمشاج
(البويضة المخصبة) التي من خلالها يتم الاستنساخ بطريقة الانقسام والتفليج حيث
يتكون الجنين.
3 - التكاثر العذري: حيث يتم التكاثر من خلال البويضة لوحدها دون تدخل
الحيوان المنوي حيث يتم تكوين جنين كامل، وهذا ما يحدث خلال تكاثر دودة القز
أو النحل وغير ذلك من الحشرات.
وقد تم استخدام هذه الطريقة في التكاثر العذري الاصطناعي، وقد تم تطبيقه
على العديد من الحيوانات وخاصة (الحيوانات اللافقارية) وبعض الحيوانات الفقارية
مثل الضفادع والفئران. أما ما تم من استنساخ النعجة (دوللي) فهو ما يعرف
بالاستنساخ الجيني بالزراعة في بويضة أخرى. ونظرية الاستزراع النووي تقوم
على أساس أن أي خلية في جسم أي كائن حي تحتوي على جميع الجينات
والصفات والشفرات الوراثية الكاملة، وهي توجد في حالتين: الأولى: في حالة
استقرار نهائي وراثي لا يتطلب المرور بمراحل تكوين أخرى؛ حيث يمكن فيما إذا
أتيحت لها الفرصة أن تنمو كخلية أولية وتنتج نسخة كاملة ومتطابقة للكائن الحي
نفسه من جديد، ولكن خلايا الحيوانات المنوية عند الذكر والخلايا المكونة لنويات
البويضات عند الأنثى كلاهما يختلف عن باقي خلايا الجسم في أمرين: الأول: أن
كلاً منهما يحمل صفات وراثية زائدة عما تحمله الخلايا الأخرى وهي الصفات
الخاصة بتحديد النوع (ذكر أنثى) والثاني: أن كلاً منهما في حالة نهائية غير
مستقرة من ناحية الشفرات الوراثية، وتحتاج للمرور بمراحل تكوين أخرى، ولكن
عندما تقوم الحيوانات المنوية باختراق البويضات لتخصيبها يتحدان معاً ويكونان
خلية أولية جديدة، ثم تستكمل باقي المراحل الأخرى.
إن ما حدث في تجربة النعجة دوللي هو ما تم أخذه من خلية في حالة استقرار
نهائي وراثي قام بوضعها في بويضة منزوعة النواة، وتم توحيدهما من خلال
شرارة كهربائية بحيث تم الإعادة إلى الأصل الأول وكأنه حيوان منوي حيث
انقسمت الخلية إلى مراحل هي 24816 وهكذا تم إدخالها في رحم أنثى حيث
استكملت دورتها.
إن دورة البويضة المنزوعة النواة هي إعادة الخلية إلى حالتها البدائية الخاصة
بها حيث تصبح الخلية المنزوعة من الكائن الحي المراد استنساخه بمثابة الحيوان
المنوي الملقح للبويضة. ولكن الاختلاف هو عزل الكروموزومات الخاصة بالخلية
المزروعة في هذه البويضة المنزوعة النواة، وبالتالي فإن ما حدث هو تغيير في
أسلوب التلقيح بأخذ المورثات الخاصة بالشيء المراد استنساخه ثم إكمال دورة
الخلق وفق سنة الله في الإيجاد، فالأمر لا يعدو استغلال ما وضعه الله من سر في
البويضة المخصبة التي تعد بداية تكون أي كائن حي [2] في حدث هو تنبيه الخلية
في الانقسام فقط. فما حدث من فتح الله لهذا الجانب من المعرفة إنما هو تحقيق
لوعد الله في كتابه في قوله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقّ] [فصلت: 53] .
درسان مهمان: إن استنساخ الحيوانات ومحاولة العبث بما فتح الله على
إنسان هذا العصر من المعارف والعلوم أمر لا بد من حدوثه لأمرين:
الأول: امتحان البشر من خلال فتنة الغرور بالعلم وتخيله مفتاحاً لسيطرة
البشر على الكون؛ فما يحدث الآن من مقولات حول إمكانية قدرة البشر على تغيير
خلق الله، وبالتالي الحلم بالوصول إلى التحكم في مصير الإنسانية وتحقيق مقولة
الإلحاد بالتطور الذاتي، بجانب ما في ذلك من إقامة الحجة على الناس بما أوتوا من
العلم الذي من خلاله تمكنوا من معرفة بعض أسرار الكون مما أصبح فتنة لهم تحقيقاً
لوعد الله في قوله تعالى:
[أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] [العنكبوت: 2-3] .
الثاني: تحقق ما أخبر الله عنه في كتابه بأن الشيطان الذي سلطه الله على
الناس ليكون أداة الاختبار والامتحان لمدى استجابة الإنسان لفطرة الله بالإيمان به؛
حيث أعطي القدرة على إضلال الإنسان، وأنه يعمد إلى ذلك حسب ما أخبر الله
عن ذلك عند محاورته لله في بدء خلق الإنسان في قوله تعالى: [وَلأُضِلَّنَّهُمْ
وَلأُمَنِِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ
الشَّيْطَانَ وَلِياً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً] [النساء: 119] ومن خلال هذا
الخبر عن الله فيما سيتخذ الشيطان من وسيلة للإضلال نعلم بأنه سيعمد إلى دفع
الناس لتغيير خلق الله في الأنعام فيما لا فائدة ولا منفعة من ورائه.
من صور العبث العلمي: من ذلك ما تناقلته وكالات الأنباء من قيام علماء
أمريكا بزرع مجموعة من خلايا دماغ جيني طائر الفرّي (السمان) في دماغ جيني
دجاجة؛ وكانت النتيجة قيام الدجاجة بالتغريد وتحريك رأسها مثل طائر الفري؛
فهذا نوع إن صح من العبث بما أفاضه الله من علم على الناس [3] .
إن خبر استنساخ النعجة (دوللي) وما أثير حولها من جدل عن إمكانية
استنساخ البشر؛ حيث وصل الأمر بوسائل الإعلام أنها أكدت الأمر وأنه لن تمر
سوى سنوات قليلة للحصول على نسخ بشرية [4] ولكون هذا الأمر له بعدٌ عقدي
حيث إن الإنسان كائن مغاير في جميع صفاته ومكوناته وغاية وجوده عن بقية
المخلوقات؛ فالسؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن استنساخ الإنسان على ضوء ما
ورد في القرآن الكريم، وما هي نظرة القرآن الكريم تجاه خلق الإنسان، وهل
يتعارض وجود نسخ أخرى مكررة لأي إنسان مع مفهوم الجزاء والعقاب للإنسان
يوم القيامة كما أخبر عن ذلك القرآن الكريم أي: من سيقع عليه العقاب: الأصل،
أو النسخ المكررة؟
إن المتمعن في آيات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف يجد أن أساس
خلق الإنسان يختلف عن بقية المخلوقات الحية الأخرى التي تعيش على الأرض،
وأن الإنسان يتميز بخاصية فريدة عن بقية المخلوقات حيث أخبر الله أنه عندما خلق
آدم فقد تفرد خلقه بأن نفخ فيه من روحه؛ ولهذا أمر الله ملائكته بما فيهم إبليس
بالسجود لآدم، وأنه نفخ فيه من روحه يقول تعالى: [وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي
خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حََمَأٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] [الحجر: 28، 29] وقوله تعالى: [إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي
خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ ... ] [سورة ص الآيات من 71 إلى 74] . إن ما يثيره
الإعلام المعاصر من إيحاء للناس بأن العلماء أوشكوا على إمكانية إيجاد نسخ بشرية، وأن استعادة الهالكين قد أصبحت قريبة الحدوث [5] إنما هي محاولة الشيطان
الأزلية لإضلال الناس بتزيينه رغبة الإنسان بالعمل على طلب الخلود؛ وذلك
بالبحث عن كيفية تحقيق ذلك بمعرفة سر خلق الإنسان. يقول تعالى: [وَإذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ
وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى
(118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ
أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى] [طه: 116-120] وكذلك الآية 20 من
سورة الأعراف هي في الموضوع نفسه، وبسبب هذه الحقيقة التي يسعى الشيطان
ليضل الناس وفقاً لهذه الرغبة الدفينة يقول الله عن ذلك في القرآن الكريم: [وَإذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَّا
أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً]
[الكهف: 50، 51] ففي هذه الآية تأكيد أن الشيطان سوف يسعى إلى دفع الناس
إلى هذا ولكن الله قد حكم أن ذلك لن يتحقق؛ لأن الغاية التي يسعى إليها الشيطان
وأتباعه من البشر هو العمل على نشر الضلال.
*لا يمكن إعادة نسخ الإنسان: -إن إمكانية إيجاد نسخ مكررة للإنسان على
ضوء القرآن الكريم غير ممكنة للأسباب التالية:
1 - إن الله أخبر في كتابه أن نسل الإنسان بعد آدم سيكون من سلالة من ماء
مهين أي من الحيوان المنوي، وبالتالي استحالة أخذ أي خلية أخرى لتحل محل
الخلية التي يحتوي عليها الحيوان المنوي، يقول تعالى في كتابه في سورة السجدة:
[الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن
سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ] [السجدة: 7، 8] ومعنى هذه الآية كما أشار ابن كثير في
تفسيره: أنهم يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهذا التفسير مأخوذ من قول الله تعالى في سورة الطارق: [فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ
خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) َخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ] [الطارق:75] وهذه الآيات الواردة عن خلق الإنسان وتكاثره قد حددت بآيات محكمة غير قابلة
للتأويل. وقد أشار الدكتور رأفت الشافعي استشاري أمراض النساء والتوليد إلى
حقيقة هامة في أن ما يقال وينشر عن موضوع أخذ خلية من جسم شخص مّا لتخلط
مع بويضة مزروعة النواة وبعد ذلك توضع في رحم سيدة؛ أي: خروج مخلوق
للحياة من سيدة واحدة دون الحاجة إلى رجل أمر يشبه ما يذاع في أفلام الرسوم
المتحركة، ويدل على صحة ذلك بقوله: إن عملية التلقيح الصناعي وطفل الأنابيب
الذي يقوم على أخذ بويضة من رحم المرأة ثم تلقح بالحيوان المنوي داخل الأنبوب
حيث يبدأ بعد ذلك تخليق جنين بأطواره الأولى ثم يزرع في رحم المرأة، فإن
حوالي 95% من حالات زرع الأجنة وعملية التلقيح الصناعي لا تنجح [6] فإذا
كان الاستنساخ أصعب من عملية التلقيح الصناعي ونسبة الإخفاق كبيرة وفق طريقة
أسهل ولا تخرج عما أشار إليه القرآن؛ فكيف بأمر مخالف؟ ويؤكد الدكتور
عزالدين فوزي أستاذ أمراض النساء بجامعة عين شمس [7] اختلاف خلق الإنسان عن
بقية المخلوقات بقوله: (إن التكاثر الطبيعي يتم من خلال اتحاد الحيوان المنوي
بالبويضة التي تنمو في الرحم بعد انقسامها. ومن المعروف أن كل خلية في
الإنسان تتكون من 46 كروموزوماً، وهذه الكروموزومات 23 منها في البويضة
و23 في الحيوان المنوي وبعد اتحادها يصبح عددها 46 كروموزوماً، وهذا
الأسلوب في الزواج هو الذي يميز الإنسان عن سائر المخلوقات؛ لذلك فإنه حتى
مع افتراض نجاح هذا الأسلوب في الحيوان فمن الصعب نجاحه مع الإنسان،
خاصة أنه ليست هناك خلية قادرة على الانقسام وتكوين مخلوق جديد سوى البويضة
الملقحة التي تنقسم إلى خليتين أو أربع أو ثمان وأحياناً أكثر) .
2 - لقد أشار القرآن الكريم إلى مراحل الخلق للإنسان التي تشبه بقية الخلق
للمخلوقات الأخرى من حيث مراحل نمو الخلايا وحركتها إلى أن يكتمل التكوين
الجسمي ثم يدخل عنصر مغاير في عملية خلق الإنسان التي يتميز بها عن بقية
الكائنات الحية، يقول الله تعالى في سورة المؤمنون: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن
سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَاًنَاهُ خَلْقاً آخَرَ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ] [المؤمنون: 12-14] يقول ابن كثير مفسراً لهذه الآية: (ثم جعلناه نطفة: هذا الضمير عائد على جنس الإنسان) كما قال في الآية الأخرى: [وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ] [السجدة: 7] يعني: الرحم معد لذلك مهيأ له إلى
قدر معلوم. فقدرنا فنعم القادرون: أي مدة معلومة وأجل معين استحكم، ونقل من
حال إلى حال وصفة إلى صفة، ولهذا قال هنا (ثم خلقنا النطفة علقة) أي ثم سيرنا
النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره، وترائب المرأة
وهي عظام صدرها ما بين الترقوه إلى السرة، فصارت علقة حمراء على شكل
العلقة مستطيلة ... ثم استشهد لهذه المرحلة بأحاديث تؤكد تفرد الإنسان عن بقية
المخلوقات بهذه الخاصية: منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن
مسعود عن رسول الله: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون
علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح
ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وهل هو شقي أو سعيد.. إلخ)
وحديث حذيفة بن أسيد الفقاري الذي رواه أحمد في مسنده برواية مقاربة
لسابقتها [8] .
إن هذه الأحاديث التي أوردها ابن كثير ورواها أئمة الحديث تؤكد حقيقة تفرد
الإنسان بحقيقة أن كل فرد من أفراده يُنفخ فيه روح مغايرة لروح الحياة التي يشترك
فيها الإنسان مع بقية المخلوقات وذلك بنفخة الملك حيث إن هذه النفخة أمر ضرورة
لتغيير خلق الإنسان من الحيوان ليصبح سميعاً بصيراً ذا عقل وفكر وعواطف وهي
صفات لا توجد إلا في الإنسان؛ ولقد أوضح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ضرورة امتزاج الحيوان المنوي بالبويضة.
3 - تفرد الإنسان عن بقية المخلوقات الأخرى بأن جسده المادي الحي يحتوي
على روح مغايرة في طبيعتها عن الحياة التي يشترك فيها الإنسان مع بقية
المخلوقات الأخرى الحية ولهذا نجد تأكيد هذه الخاصية في القرآن الكريم سواء
عندما تحدث عن خلق آدم عليه السلام أو عند خلق المسيح عليه السلام أو عند خلق
بقيه البشر. لقد حاول العلماء معرفة حقيقة النفس الإنسانية والروح، واختلف فيها
الفلاسفة كما اختلفت الأديان في النظر إلى الروح وحقيقتها، وجاء القرآن الكريم
والسنة النبوية لتقرر حقيقة نفس الإنسان وروحه التي هي جزء داخل في جسمه
وهي في الوقت نفسه مغايرة له. لقد دار النزاع حول حقيقة النفس: هل هي جزء
من أجزاء البدن، أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه، ذكر ذلك
ابن القيم في كتابه (الروح) ويعقب ابن القيم على الوجه الثالث وهو أن الروح جسم
مخالف بالماهية للجسم المحسوس من الأقوال التي أوردها الرازي بقوله: (وهذا
القول هو الصواب في المسألة وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة) ثم ساق عدداً
كبيراً من الأدلة منها قوله تعالى: [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى]
[الزمر: 42] . وبقوله تعالى: [وَهُوَ الَذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ] [الأنعام: 60] ثم ذكر عدداً من الأحاديث الكثيرة الصحيحة حول قبض الأرواح عند الموت وغيرها من الأحاديث التي تؤكد خاصية الروح في الإنسان عن بقية المخلوقات.
4 - لقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة ما يحدث يوم القيامة من المجادلة بين
المؤمنين في الجنة وقرنائهم في النار، يقول تعالى في سورة الصافات: [فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ
أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ
أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إن كِدتَّ لَتُرْدِينِ]
[الصافات: 5056] فهذه الآيات تشير إلى تأكيد حقيقة تعرّف الأفراد بعضهم على
بعض. يقول الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآيات: هو الرجل المشرك يكون له
الصاحب في الدنيا من أهل الدنيا، فيقول له المشرك: إنك لتصدق بأنك مبعوث من
بعد الموت أئذا كنا تراباً؟ فلما أن صاروا إلى الآخرة، وأدخل المؤمن الجنة،
وأدخل المشرك النار، فاطلع المؤمن فرأى صاحبه في سواء الجحيم) فهذه الآيات
من سورة الصافات تؤكد منافاة إمكانية الحصول على نسخ بشرية؛ فلو قلنا بإمكانية
ذلك فكيف يُعرف الأصل من النسخ؟ ومن سوف يعذب: الأصل أم النسخ إذا ماتت
هذه النسخ؟ فهل تجازى على أعمال من استنسخت منه؟ أم لا؟ وإذا بقيت حية
وارتكبت آثاماً إضافية: فهل يجازى الأصل بما اقترفته النسخ أم لا يجازى؟ ولهذا
فإن عملية الاستنساخ وفقاً لهذه الآيات أمر غير ممكن؛ لأن عملية التعرف كما
أشارت إليها هذه الآيات سيكون أمراً صعباً لعدم إمكانية التميز بين الأصل والنسخ،
ويؤيد هذا الأمر ما جاء في سورة الأعراف حيث وصفت حالة من حالات التخاطب
والمناقشة بين المؤمنين والكافرين ومعرفة الأشخاص من خلال أشكالهم يقول تعالى: [وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ
الجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ
أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ
رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ]
[الأعراف: 46-48] يوضح ابن كثير رحمه الله معنى الآية فيقول: (يقول الله
تعالى إخباراً عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم
يعرفونهم في النار بسيماهم: ما أغنى عنكم جمعكم أي كثرتكم وما كنتم تستكبرون،
أي: لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله بل صرتم إلى ما أنتم فيه من
العذاب والنكال. وقال حذيفة: إن أصحاب الأعراف قوم تكاتفت أعمالهم فقصّرت
بهم حسناتهم عن الجنة، وقصّرت بهم سيئاتهم عن النار فجعلوا على الأعراف
يعرفون الناس بسيماهم) [9] ومن هذه الآيات ندرك أن عملية الاستنساخ كما يروّج
لها الإعلام والذي يقوم على علمية الحصول على نسخة مطابقة للأصل أي تعدد
النسخ للفرد الواحد بأنه يتعارض مع نص هذه الآية التي تؤكد على تمايز الأفراد؛
فإيجاد نسخ من الفرد الواحد يعني وجود أفراد متعددين للفرد الواحد؛ فمن يكون
الأصل؟ ومن يكون النسخة؟
إن عملية استنساخ البشر أمر غير ممكن الحصول مهما حاول المضلون ممن
يريد صرف الناس عن الصراط المستقيم، وإن التجربة التاريخية لنظرية دارون
حول أصل الإنسان وكيف استطاع الملاحدة بما توفر لهم من سيطرة إعلامية أن
يجعلوا أعداداً كبيرة من الناس تؤمن بنظريته حتى كشف العلم مؤخراً زيفها، وإن
الدعاية لتأكيد إمكانية استنساخ البشر والترويج لها تخرج من المشكلة نفسها التي
خرجت منها نظرية دارون، وسيكون المصير واحداً، وصدق الله العظيم: -
[وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] [الإسراء: 81] .
__________
(1) د، صلاح عبد العزيز الكريم، استنساخ الأجنة، جريدة عكاظ العدد 71169 ذي القعدة 1417هـ.
(2) مقابلة في جريدة الأنباء مع الدكتور أحمد شوقي أستاذ الوراثة بجامعة الزقازيق وآخرين في العدد 7484 وتاريخ 20 مارس 1997م.
(3) جريدة الأنباء 16 مارس 97 م العدد 7480.
(4) جريدة الأنباء 16 مارس 97 م العدد 7480.
(5) لقد نشرت جريدة الوطن الكويتية خبراً في عددها 7572 بتاريخ 7/11/ 1417هـ نسبته إلى شبكة سي، إن، إن، أن العلماء قد دأبوا على أخذ عينات من الحامض النووي من الفراعنة، ويتساءلون: هل يمكن إعادة الفراعنة؟ ! .
(6) جريدة الأنباء العدد 7483 في 19 مارس 1997م.
(7) جريدة الأنباء العدد 7483 في 19 مارس 1997م.
(8) ابن كثير الجزء الثالث ص 240،241.
(9) ابن كثير الجزء الثاني ص 218.(117/76)
في دائرة الضوء
ثانياً: ماذا وراء الاستنساخ؟ !
(1من2)
خالد أبو الفتوح
أثارت أجهزة الإعلام (العالمية والمحلية) في الأيام الماضية ضجة كبيرة حول
كشف علمي كان المفترض أن يمر كغيره من التجارب العلمية ويمضي إلى سبيله..
ولكن حجم الإثارة الذي فاجأ أصحاب الاكتشاف أنفسهم أعطى لهذا الكشف أبعاداً
ودلالات تتجاوز اعتبار المسألة مجرد الإعلان عن كشف علمي مثير، كما أن ردود
الأفعال المختلفة التي أتبعت هذه الحملة أظهرت لنا أو أكدت مكنون بعض الفئات،
حيث صُوِّر الأمر على أنه إحدى حلقات الصراع بين العلم والدين، وتركت آخرين
في حيرة من أمرهم، لا يدرون أو لا يريدون أن يدروا بما يدور حولهم..
فما هو الاستنساخ (أو الاستنسال) الجيني (أو الخلوي) ؟ وماذا وراء الحملة
المصاحبة للإعلان عن مولد النعجة (دوللي) ؟ وما أثر ردود الأفعال التي تلت هذا
الإعلان؟ :
قبل أن نعرض لعملية الاستنساخ كما شرحها بعض العلماء وتناقلته أجهزة
الإعلام نود تقديم إلماحة عن عملية التكاثر الطبيعي لدى الإنسان؛ حتى يتبين لنا
الجديد في الاستنساخ والفرق بينه وبين التكاثر الطبيعي:
يحتوي ماء الرجل المقذوف في رحم المرأة على عدد من الحيوانات المنوية
يتراوح بين 200 600 مليون حيوان منوي، يحتوي كل منها على جميع الصفات
والشفرات الوراثية الكاملة للرجل في صورة نشطة (غير مستقرة وغير نهائية) من
خلال 23 صبغيّاً (كروموسوماً) ، وفي مسافة حوالي عشرة سنتيمترات تقطع هذه
الحيوانات المنوية رحلة شبهها علماء وراثة التكوين بأنها أشبه بسباق جري طويل
لمسافة أكثر من 2000 كيلو متراً بين 200 600 مليون رجل.. وفي النهاية يصل
أفضل الحيوانات المنوية وأقواها وأصحها ليخصب البييضة الصحيحة الناضجة..
تلك البييضة التي تحمل هي الأخرى جميع الصفات والشفرات الوراثية الكاملة
للمرأة في صورة نشطة (غير مستقرة وغير نهائية) من خلال 23 صبغيّاً أيضاً.
وبعد إخصاب البييضة بالحيوان المنوي واتحادهما تتكون خلية أوليّة جديدة
تأخذ نصف صفاتها من الرجل، والنصف الآخر من المرأة، وتختلطان معاً لتتكون
خلية الجنين الأوليّة التي تحتوي على خليط من 46 صبغيّاً (كروموسوماً) تمثل 23
زوجاً، تحمل 100 ألف مورّث (جين) ، تعتبر خليطاً من صفات الرجل والمرأة،
حدثت بينها انعزالات وتبادلات بين الاختلافات الوراثية للأب والأم لتنتج صفات
جديدة خاصة بهذا الجنين الجديد، ثم تتحول هذه الخلية الأولية الجديدة إلى حالة
اكتمال واستقرار نهائي (غير نشطة) ، وتبدأ في النمو والتكاثر بواسطة انقسام
الخلية إلى خليتين ثم أربع ثم ثمانٍ.. وهكذا، بحيث تحمل كل خلية ناتجة صفات
الخلية الأولى نفسها [1] ، وبعد عدة انقسامات أولية تتخصص كل خلية في وظيفة
من الوظائف تنشط فيها المورثات الخاصة بتلك الصفة، وتعمل على تكوينها
وإبرازها، فتخصص مجموعات من الخلايا لتكوّن بدايات أعضاء الجنين المختلفة،
فتخصص مجموعة للقلب، وأخرى للمخ، وغيرها للعين ... وهكذا، بينما تظل
المورّثات (الجينات) الأخرى في كل خلية متخصصة في حالة كُمون، إلى أن يتم
الخلق وينمو الجنين ويكبر، حتى يأذن الله بخروجه من الرحم وبداية مرحلة جديدة
من مراحل نموه وحياته.
هذا ما اكتشفه العلماء في التكاثر الطبيعي [2] ، فما الذي أحدثوه في التكاثر
بالاستنساخ [3] ؟ .
تناقلت وسائل الإعلام أن استنساخ النعجة (دوللي) تم عبر الخطوات التالية:
1- أُخذت خلية جسدية من ضرع النعجة المراد استنساخها (ولنسمها: س) ،
ثم وضعت في محلول مغذٍّ خفيف جدّاً، يسمح لها بالبقاء بكامل مورثاتها، ولكن لا
يعزز قدرتها على التكاثر أو الانقسام (تجويع الخلية) .
2- تم استخراج نواة هذه الخلية وعزلها، فأصبح لدينا نواة تحتوي على
كامل صفات النعجة المراد استنساخها (س) .
3- تم توفير بييضة من نعجة أخرى (ولنسمها: ص) .
4- استخرجت النواة (التي تحمل الصفات الوراثية لهذه النعجة ص) من
البييضة، فأصبحت هذه البييضة خالية من أي صفة وراثية للنعجة (ص) ، لكنها
تحتوي على بروتينات وجزيئات في هيولى الخلية (السيتوبلازم) ، وهذه لها دور
في تشغيل الجينات وتنشيطها، وستعمل هذه البييضة المفرغة في الخطوة التالية
كحاضن لنواة الخلية (س) توفر لها البيئة المناسبة لنموها.
5- وضعت نواة خلية النعجة (س) بجوار البييضة المفرغة من نواتها للنعجة
(ص) ، وباستخدام تقنية الحث الكهربائي تم دمجهما معاً، فنتج لدينا بييضة بداخلها
نواة تحمل جينات الصفات الوراثية للنعجة (س) .
6- وبصدمة كهربائية أخرى تحاكي انبثاق الطاقة الطبيعي عند التخصيب
الطبيعي تبدأ الخلية في الانقسام [4] .
7- بعد ستة أيام زُرِع الجنين في رحم نعجة ثالثة [5] لإكمال مراحل الحمل
طبيعيّاً.
8- بعد مرحلة الحمل وضعت النعجة الحامل وليداً هو النعجة (دوللي) نسخة
طبق الأصل من النعجة (س) .
هذا هو ما تم عمله حسبما أُعلن، وبه يتضح أن (كل ما فعله العلم هو قفزة
نوعية جديدة في تقليد فطرة الله في بعض مخلوقاته، فكما سارت سنة الخلق
بالتكاثر والانقسام، استطاع الذكاء الذي وهبه الله للإنسان فك الموجود ثم إعادة
تركيبه، وذلك بعد التعرف على قانون تكوين هذه المخلوقات ودفعه في مجرى
مختلف، فلم يتم التعامل مع القانون بإلغائه، بل بالتعامل مع صرامته بقانون آخر،
فكما ندفع النهر في غير مجراه، ونجري الكهرباء في سلك، أمكن للعلماء دفع
خيوط المادة الوراثية للالتحام ببييضة نزعت منها مادتها الوراثية، فالبييضة تتلمظ
فاغرة فاها لاستعادة توازنها الفطري، فتم إقناعها أن مادتها الوراثية التي سلبت
منها قد عادت إليها في هيئة نواة الخلية المراد استنساخها) [6] .
تطور العلم التجريبي قبل (دوللي) :
لم تكن تجربة النعجة (دوللي) منبتة عن التطور العلمي التجريبي في هذا
المجال؛ فاستعراض تاريخ محاولات اللعب بالخلايا منذ بدايته يؤكد أن استنساخ
النعجة (دوللي) لم يكن إلا محطة في طريق طويل لم تعرف بعدُ نهايته:
فأول تجربة تلقيح صناعي في العالم أجريت عام 1799م.
ويقال إن فكرة الاستنساخ نفسها طرحت في العقد الثالث من هذا القرن
الميلادي في (ألمانيا) بدافع التمييز العنصري، وبعد مجيء (هتلر) إلى السلطة
بدأت الأفكار تدخل حيز التنفيذ، لكن التقنية المتوفرة وقتها خذلته.
ثم كانت أول محاولة لعمل أجنة أنابيب في الحيوانات عام 1944م من قبل
كلٍّ من (روك) و (مينكين) (J. Rock & M. F. Menkin)
وفي سنة 1951م تمت أول تجربة ناجحة للتلقيح خارج الرحم.
وتمكن العلماء سنة 1952م من تجميد الحيوانات المنوية للأبقار وإعادة
التلقيح بها، ونجحت التجربة، وبذلك نشأت فكرة بنك الحيوانات المنوية.
وعلى إثر ذلك تم في عام 1953م تلقيح أول امرأة بحيوانات منوية مجلوبة
من بنك حيوانات منوية، وقد تم الحمل وأنتجت مولوداً.
وفي عامي 1954م و1955م بدأت تجارب استنساخ على الضفادع، وكان
القصد منها: فَهْمَ ما تكوِّنه نواة خلية عندما تزرع في بييضة، حيث تمكن
الأمريكيان (بريجر) و (كينج) من زرع خلايا جنينية من طور مبكر من أطوار
النمو الجنيني للضفادع في بييضة، ونجحت التجارب في بعض الحالات وأعطت
ضفدعة كاملة.
وفي بداية الستينيات طوّر البريطاني (جوردون) التقنية السابقة بأخذ خلايا
من جنين ضفدعة في طور متقدم من النمو وزرعها في بييضة، وحصل على نتائج
إيجابية إلا إنها لم تكن قاطعة، حيث كان عدد المحاولات الناجحة 11 محاولة من
أصل 707 محاولة أجراها، ولكن تعتبر هذه التجارب بداية تدشين الاستنساخ
الجسدي.
وفي بداية الستينيات أيضاً تمكن العلماء من استنساخ النباتات بتقنية متقدمة.
وفي عام 1970م أخرج الأمريكي (ألفين توفلر) كتاباً بعنوان: (صدمة
المستقبل) وعرض فيه فكرة أن الإنسان قد يستطيع أو ينبغي عليه التحكم بنوعية
السلالات البشرية، وأن من الممكن إنتاج الكائنات البشرية بلا محدودية كإنتاج
السلع في المعامل والمصانع! ! .
وفي عام 1972م تم تجميد أجنة الفئران (وليس الخلايا فقط) لإعادة زراعتها.
أما أول ولادة لطفل تم حمله خارج الرحم (أطفال أنابيب الاختبار) فكانت
للطفلة الإنجليزية (لويزا براون) عام 1978م.
وفي عام 1981م بدأت تجارب استنساخ الأجنة على الأبقار.
وبدأ عهد (البيوض والأرحام المستأجرة) في عام 1983م، حيث حملت
امرأة بتلقيح مني زوجها ببييضة امرأة غريبة، ثم زرعت الخلية الملقحة في رحمها.
ونجح استنساخ العجول والخرفان بطريقة الاستنساخ الجنسي (التوأمة
الصناعية) عام 1986م، حيث خرجت سبعة عجول توائم.
وفي عام 1992م تمت ولادة غير عادية، حيث حملت الإيطالية (روزانا
ديلاكورتي) البالغة من العمر (62) سنة، بوضع بيضة امرأة مجهولة ملقحة بمني
زوجها في رحمها.
وتجربة أخرى قام بها علماء أمريكيون في مركز أبحاث القرود في
(أوريجون) ، حيث استنسخوا توأماً من القردة من فصيلة الرس بواسطة خلية
جنينية واحدة (قبل الانقسام الرابع إلى أكثر من 8 خلايا) ، ولم يتم استنساخ القرد
من قرد حي بالغ كما في النعجة (دوللي) ، ولكن تكمن أهمية هذه التجربة عند
هؤلاء العلماء بأنها إشارة إلى أن هذا النجاح في القردة يعني نجاحه عند الإنسان؛
فالقردة أقرب الحيوانات الثديية للإنسان.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1993م وأثناء انعقاد مؤتمر جمعية الخصوبة
الأمريكية بـ (مونتريال) بكندا أعلن مدير معهد الإخصاب الصناعي بجامعة (ورج
واشنطن) بأمريكا الدكتور (يري هول) عن نجاحه هو والدكتور (روبرت ستيلمان)
في إنتاج توائم بشرية من خلية جنينية واحدة، حيث اختارا لتجاربهما أجنة مشوهة
محكوماً عليها بالموت المبكر، وقاما بشطر 17 جنيناً مجهريّاً، ليصبح عددهم 48
جنيناً، بتقنية أقرب إلى ما يحدث بصورة طبيعية داخل رحم الأم عندما يحدث
انقسام البييضة المخصبة وينفصل كل قسم حاملاً نسخة من نواة البييضة المخصبة
الأصل، فينشأ التوأم المتطابق، وفي إطار هذه التجربة تم فصل الخليتين الأوليين
كيميائيّاً واحتفظ العالمان بإحداهما مجمدة، وبعد عزل كل خلية منقسمة عن الأخرى
أعادا إغلاق الغشاء المحّي، مستخدمين غشاءً صناعيّاً مأخوذاً من مادة هلامية
(جيل) مكونةٍ من بعض الطحالب البحرية؛ ليحدث ما كان يحدثه الغشاء الطبيعي
من تطور ونمو في حالة التوأمة الطبيعية، وبعد نموها شطروها مرة أخرى،
وفعلوا بها ما فعلوا بالأولى ... وهكذا نجحت التجربة وحصلا على 48 نسخة
جنينية منشطرة، ولكن لم يعش أي من هذه الأجنة أكثر من ستة أيام؛ نظراً
للتشوهات القاتلة المصاحبة لها.
وفي عام 1995م تمكن العلماء اليابانيون من تلقيح بييضة بواسطة خلية
جسدية واحدة.
وفي مطلع عام 1996م اقتربت التجارب من مرحلة النعجة (دوللي) ، عندما
أعلن عن ولادة خروفين بطريقة الاستنساخ، حيث أخذوا خلايا من جنين يبلغ من
العمر 9 أيام، وتركوا الخلايا تتكاثر خارج منظومة الانقسام الرابع، ثم أخذوا خلية
من التركيبة الجديدة وزرعوها في بييضة غير ملقحة، ونجحت 5 تجارب من
244 تجربة، مات منها ثلاثة خرفان، وعاش الخروفان اللذان أعلن عنهما..
ونلاحظ هنا أن الخلايا جنينية أيضاً ولكنها تجاوزت مرحلة الانقسام الرابع، أي
دخلت مرحلة التخصص.
وأخيراً وبعد أبحاث تكلفت زهاء 92 مليون دولار أعلن في 23 فبراير
(شباط) 1997م عن ولادة النعجة (دوللي) التي تميزت بأنها:
1- ليست نتيجة تلقيح بحيوان منوي.
2- الخلية المزروعة في البييضة غير مأخوذة من خلايا جنينية، بل من جسد
بالغ (يبلغ عمر النعجة التي استنسخت 6 سنوات) .
3- أنها تحمل صفات نعجة واحدة هي النعجة المستنسخة.
ورغم تميزها إلا إنها تعتبر إحدى الحلقات المتصلة في سلسلة التجارب
المعنية بهذا المجال [7] ، ولكن فصل هذه الحلقة عن تلك السلسلة أعطاها عنصر
المفاجأة، ثم جاءت وسائل الإعلام بعد ذلك بآليتها الرهيبة لتصنع هالة كبيرة حول
الحدث، الذي تجاوزت مدلولاته وردود الأفعال حوله حدود الكشف العلمي، ولعلنا
نتناول بعض أبعاد هذا الحدث في النقاط التالية:
الاستنساخ.. مخاوف وآمال:
تحدث العلماء عن مخاوف كثيرة من الاستنساخ وصلت إلى حد الوهم، كما
تحدثوا عن آمال عريضة وصلت إلى حد الأحلام، وقد أسقطوا بين هذه الأوهام
وتلك الأحلام المنطق العلمي الذي خرج من رَحِمه كشف النعجة (دوللي) .
ومن أعجب هذه المخاوف: الخوف من أن تستطيع هذه التقنية استنساخ أمثال
(هتلر) و (ستالين) ، رغم أن أمثالهما ليسا في حاجة إلى استنساخ؛ فجهابذة
مخابرات العالم الأول تنتج لنا أجيالاً متطورة من هذه النماذج في مختبر العالم
الثالث بدون حاجة إلى تقنية الدكتور (ويلموت) .. وعلميّاً: فإنه لا يمكن حتى الآن
إجراء عملية الاستنساخ إلا من خلية حية، كما أن السلوكيات الشخصية لا تتحكم
فيها العوامل الوراثية فقط، بل تشارك معها وبقدر كبير ظروف البيئة المحيطة
والخبرة والثقافة المكتسبتين، الأمر الذي يجعل الشخص المستَنسَخ بفرض حدوث
ذلك يختلف عن نسخته؛ نظراً لاستحالة تكرار هذه الظروف نفسها.
كما تخوفوا في هذا الشأن من إنتاج الإنسان فائق القدرات (السوبر) ،
واستخدام ذلك الإنسان في أغراض إجرامية أو غير إنسانية.. ولكن الاستنساخ غير
معني بإنتاج هذا الإنسان؛ فهو تكرار لجسدٍ ما، أما الإنسان (السوبر) فمجال أبحاثه
هو علم الهندسة الوراثية ... وهل الإنسان في حاجة إلى هذه التقنية لإنتاج ذلك
الإنسان؟ !
ومن المخاوف المختلطة بالآمال: فتح المجال أمام إنتاج (قطع غيار إنسانية)
لتعويض المرضى الذين يعانون من تلف بعض أجهزتهم أو قصورها في القيام
بوظيفتها، حيث ستكون (قطعة الغيار) المستنسخة تحمل صفات المريض نفسها،
وعليه: فلا مجال لرفض الجسم لذلك العضو الجديد، والخوف هنا يكمن في
التعامل غير الإنساني مع النسخة البديلة التي ستؤخذ منها قطعة الغيار ثم يلقى بما
تبقى منه في سلة المهملات.. ولكن إلى الآن لم يقدم أصحاب هذا الأمل طريقة
علمية وعملية لتحقيقه خاصة مع الاختلاف المفترض بين عمر الأصل وعمر البديل. ... والاقتراح الأقرب إلى التطبيق: استنساخ العضو المراد استبداله بشكل منفصل،
(وهذا غير ممكن؛ لأن العضو لا ينمو ولا يتشكل إلا من خلال كيان متكامل يمد
هذا العضو بالإحساس والأوامر العصبية والدم والهرمونات.. لكي ينمو ويتشكل
ويستطيع القيام بوظائفه، وإلا فإنه سينتج نسيجاً فقط وليس عضواً متكاملاً) [8] .
وقالوا: إن الاستنساخ سيقضي على مشكلة العقم! ونسوا أن الاستنساخ ليس
إنجاباً من زوجين، فالطفل الناتج إذا فرض نجاح ذلك يحمل صفات أحد الزوجين
فقط، كما إنه توأم متطابق له وليس ابناً، إضافة إلى أن هذا المستنسَخ من الأصل
العقيم سيكون عقيماً أيضاً.
ولكن هناك بعض المخاوف الحقيقية والآمال الواقعية التي قد تنشأ عن تقنية
الاستنساخ..
وهذا ما سنطالعه في العدد القادم إن شاء الله (تعالى) .
__________
(1) يوجد في جسد الإنسان نحو 60 ألف مليار خلية، وفي داخل كل خلية تكمن كافة المعلومات الوراثية الخاصة به.
(2) تتفق آلية التكاثر في الثدييات، ولكن تختلف الصبغيات في كل نوع من حيث عددها وشفراتها الوراثية.
(3) اقتبست المعلومات العلمية الخاصة بالاستنساخ وتاريخه من دوريات عدة، من أهمها: مجلة (علوم وتكنولوجيا) الصادرة عن معهد الكويت للأبحاث العلمية، ع/41 3/1997م، (ملف العدد) جريدة (الرياض) السعودية، ع/10517 2/12/417هـ، مقال (فانظروا كيف بدأ الخلق) ،
د خالص جلبي جريدة (القبس) الكويتية، ع/8533 25/3/1997م، حوار مع د مختار الظواهري، ص29 جريدة (الأنباء) الكويتية، ع/7489 25/3/1997م، تحقيق بعنوان (استنساخ البشر قادم
ولو حاربناه بالسلاح) جريدة (الأهرام) المصرية، 7/3/1997م، تحقيق بعنوان (الاستنساخ قنبلة علمية) ، ص 3 جريدة (الشرق الأوسط) اللندنية، ع/6673 6/3/1997م، تحقيق بعنوان
(استنساخ (دوللي) أكبر نقطة تحول) ، ص15، وأيضاً: ع/6757 29/5/ 1997م، حوار مع
د هاري جريفن، ص1617 مجلة (العربي) الكويتية، ع/454 9/1996م، مقال (استنساخ الأجنة) د محمد علي بديوي، ص 168.
(4) تدور حول هذه الخطوة علامات استفهام وتشكيك من بعض العلماء حول كيفية تنشيط الجينات التي تحمل الصفات الكامنة لتظهر وتعمل بشكل منتظم كما في الإخصاب الطبيعي بين البويضة والحيوان المنوي، ومما ذُكر من هذه الشكوك: أ- احتمال أن تكون البويضة مخصبة في الأصل، وقد نفى هذا الاحتمال د (إيان ويلموت) معلن الاكتشاف ب - احتمال أن الخلية التي نجحت عليها التجربة (من بين 277 تجربة) كانت بالمصادفة خلية غير ناضجة وحديثة العهد ولم تتمايز بعد،
كما في الأمعاء أو الجلد أو خلايا جذعية تساعد في تجديد الأنسجة، وقد أبقى الدكتور (هاري جريفن) الذي وصفته جريدة (الشرق الأوسط) بأن له اليد الطولى في هذا الإنجاز الباب مفتوحاً
حول هذا الاحتمال ج - احتمال أن تكون الخلية التي تم الاستنساخ منها إحدى الخلايا السرطانية؛ حيث إن الجنين والأورام السرطانية علميّاً وجهان لعملة واحدة، حيث تنشط في كلّ منهما الجينات الخاصة بالتكاثر السريع وعلى كلٍّ: فهم يقولون: إن المنطق العلمي يحتم ألا نحكم على نجاح
تجربة من خلال نجاح إحدى المحاولات من مجموع 277 محاولة؛ فقد يكون هذا النجاح نتيجة إيجابية كاذبة.
(5) من الممكن نظريّاً أخذ البويضة من النعجة الأولى (س) ودمج الخلية المأخوذة منها أيضاً في البويضة، ثم زرعها في النعجة نفسها، ولكن لم يتم ذلك لأن الأنظمة والقوانين في بريطانيا لا
تسمح بإجراء تجربتين على حيوان واحد.
(6) بتصرف عن د خالص جلبي، جريدة الرياض، ع/10510، ص 15.
(7) وإن كانت هذه التجربة نتيجة بحوث غير مقصودة لم يكن هدفها إنتاج حيوانات متطابقة
تماماً، كما صرح بذلك الدكتور (هاري جريفن) لجريدة (الشرق الأوسط) ، ع/6757،
29/5/1997م وقد أُعلن فيما بعد عن استنساخ نعجة أسموها (لوللي) تحمل مورثات بشرية،
ولكن استنساخها لم يكن بتقنية استنساخ (دوللي) ، بل كان عن طريق زرع خلايا جنينية في
بييضة، فهي عودة إلى تقنية قديمة أقل تعقيداً نسبياً، والجديد فيها هو استخدام مورثات بشرية
عن طريق الهندسة الوراثية.
(8) د مختار الظواهري أستاذ الوراثة الطبية، حديث مع جريدة القبس الكويتية، ع/8533،
25/3/1997م.(117/86)
هموم ثقافية
إشكالية البلورة السياسية للديمقراطية
بقلم:سامي محمد الدلال
في مسيرته النقدية للديمقراطية استعرض الكاتب في حلقات سابقة عدداً من
الإشكاليات التي تواجه هذا المبدأ، فتعرض للمفهوم العام، وزاوية النظر، والبلورة
الثقافية، والبلورة الاقتصادية، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة عرض لإشكالية
أخرى. ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
في البدء نقرر وجود اتفاق على استعمال كثير من مفردات التعبيرات السياسية
من مثل:
-الحرية. -الوحدة. -المساواة. -الاشتراكية.
-الديمقراطية. -العلمانية. -القومية. -الوطنية.
-الحقوق السياسية.. وغيرها.
إن الاختلاف حول الشكل والمضمون لكل مفردة من تلك المفردات هو أحد
إشكاليات البلورة السياسية للديمقراطية.
لقد أخفقت الأنظمة الديمقراطية في بلورة مفهوم موحد لأي من المفردات
المذكورة. إن الإخفاق المشار إليه لم يكن مستغرباً، بل هو متوقع تماماً، بل
الاستغراب، كل الاستغراب، أن يحصل العكس، أي أن يحصل الاتفاق على
مفهوم موحد لتلك المفردات.
إن تفاوت:
مستويات الفهم السياسي.
قدرات التخطيط في الإطار السياسي.
الإمكانات المتوفرة، أو المتاحة، لكل شريحة لها دور في القرار السياسي،
أو التأثير عليه.
الطاقات في استثمار الإمكانات.
إمكانية توظيف ذلك الاستثمار في المنظومة الاستراتيجية العامة للعمل
السياسي.
في القدرة على حشد الجماهير خلف المطالب السياسية.
في استخدام وسائل التعبير عن المشروع السياسي.
الخبرات المكتنزة والمتولدة عن خوض غمار الصراع السياسي.
المرجعيات السياسية، بل والعقدية للمشاركين في البلورة السياسية.
درجة فهم مقصودات تلك المرجعيات في تأصيلاتها السياسية.
استيعاب المرحلة السياسية الخاصة بالدولة قياساً على الخريطة السياسية
الدولية.
وغيرها كثير من ألوان التفاوت.
إن كل ذلك التفاوت بين:
الأحزاب بكافة أطروحاتها السياسية والعقدية.
المثقفين (من اقتصاديين ومحامين وأدباء ومدرسين، محترفين سياسيين
وغيرهم) .
الإسلاميين (بمختلف مدارسهم وجماعاتهم) .
العسكريين (وكثير منهم متسيّسون)
عامة أفراد الشعب (من عمال وفلاحين وموظفين ومهنيين وغيرهم) .
هذا التفاوت يؤدي إلى اضطراب سياسي متعدد الأوجه؛ حيث إن لكل فئة من
الفئات المذكورة نظرة معينة وتفسيراً خاصاً بها إزاء كل عنصر من عناصر
التفاوت المنصوص عليها آنفاً، مما يقود حتماً إلى وقوع الاختلاف بينها بما يفضي
قطعاً إلى صراع سياسي متأجج ترمي كل فئة إلى تغليب فهمها الخاص لتلك
المفردات المذكورة، بما تراه أنه يحقق مصلحتها أو يحقق مصلحة الأغلبية الشعبية
التي ستسير خلف مشروعها السياسي الذي عبّر عن قضاياها، مما ينتج عنه توسيع
القاعدة الجماهيرية لتلك الفئة.
إن المتمعّن في أصل فكرة الديمقراطية، وكذلك المتمعن في الأنظمة التي
عبّرت عنها على أرض الواقع يتبين له بسهولة أن الديمقراطية لم تنجح في نزع
الفتيل من القنبلة السياسية المتعددة الأوجه، بل ساعدت في إشعال ذلك الفتيل مما
أدى إلى تفجر قنابل سياسية كثيرة في الأنظمة التي حكمت بالديمقراطية.
نحن نعتبر ذلك أمراً طبيعياً بسبب ما تضفيه الديمقراطية من سعة في تفسير
تلك المفردات؛ حيث تسعى كل فئة من الأحزاب والمثقفين والإسلاميين
والعسكريين وعامة أفراد الشعب إلى احتكار أكبر حصة ممكنة من القرار السياسي
أو من المشاركة في صنعه.
إن اتساع حصة أي فئة من تلك الفئات سيكون حتماً على حساب تضييق
حصص الفئات الأخرى مما يجعل دخولها في مواجهات على كافة المستويات أمراً
لا مندوحة عنه.
وعندما ترتفع درجة حرارة الصراع بين تلك الفئات تحت المظلة الديمقراطية، ثم تبدأ المواجهات الجماهيرية في مختلف المرافق يأتي دور العسكر شاهرين
سيف الحسم السياسي لصالح المؤسسة العسكرية (وهذا خاص بالعالم الثالث غالباً)
التي تقوم فوراً بحل المجلس النيابي وتعليق الديمقراطية إلى حين ترى أن إعادة
تقديم تلك المنحة (أي الديمقراطية) إلى كافة تلك الفئات سيكون مرضياً للجميع،
وتبدأ الدورة نفسها من جديد.
إن جعبة العسكريين ستكون ملأى بالحجج القوية التي تسوّغ فعلتهم التي
فعلوها. ومن أهم تلك الحجج وضع حد لتوظيف الديمقراطية في خدمة مصالح
فئات بعينها واستغلال المجلس النيابي لتمرير تلك المصالح، وكذلك وضع حد
لتفتيت الوحدة الوطنية التي تجزأت بفعل الصراع السياسي الذي أتاحته المظلة
الديمقراطية. وليس شرطاً أن يتم ذلك من خلال العسكريين، بل يمكن أن يتم ذلك
من خلال السلطة الحاكمة صاحبة القرار السياسي في المنحة الديمقراطية.
وفي كلتا الحالتين، فإن الحكام الجدد سينتهي بهم المطاف إلى الاستيلاء على
مقدرات البلاد لتصب في استثماراتهم الخاصة، حتى إذا ما تنامى الضغط الشعبي
نحو التغيير، وبلغ مرحلة الانفجار أدلوا له بدلو الديمقراطية من جديد، وتتكرر
اللعبة! !
ويبقون هم في الحكم! !
إن أولئك العسكريين ربما كانوا مستقلين، أو واجهات لفئات حزبية أو طائفية
أو عرقية، وفي كل الأحوال فإنهم سيصبغون الوضع السياسي في البلاد بالصبغة
العلمانية، من مثل:
* الاقتصاد السياسي من منظور علماني.
* الثقافة السياسية من منظور علماني
* الإعلام السياسي من منظور علماني.
* السلوك السياسي من منظور علماني.
* المناهج التربوية السياسية من منظور علماني.
* الدراسات السياسية (بحوث ومؤسسات) من منظور علماني ... وهكذا.
إن الوصول إلى إضفاء الصبغة العلمانية في الجانب السياسي للأمور المذكورة
يتطلب:
* تحديد الأهداف المرحلية، ثم النهائية لكل وجه من الأوجه السياسية
المذكورة: (الاقتصاد، الثقافة، الإعلام، السلوك، المناهج، الدراسات) .
* رصد الدعم المالي الذي يحقق الوصول إلى تلك الأهداف.
* إعداد الحشد البشري المؤهل علمياً لتحقيق تلك الغاية، والمكافئ
للاحتىاجات المطلوبة لكل وجه ولكل مرحلة.
* وضع الخطط اللازمة لتلبية الترجمة العملية لكل ذلك.
* المتابعة والتقويم، ليسير الركب العلماني ضمن الخطط المرسومة، ولسد
الثغرات، وتصحيح الأخطاء، واقتراح التعديلات بما يضبط خط سير الموكب
العلماني نحو غايته.
إن المهيمنين على السلطة (سواء كانوا عسكريين أو حزبيين أو طائفيين أو
غير ذلك) سيتخذون من الديمقراطية وسيلة يمكن ضبط إطارها لتحقيق الوصول إلى
تلك الصبغة السياسية العلمانية من خلال تشريعات نيابية تأخذ أوضاعها القانونية
دون أن تتأثر بحل المجلس النيابي بعد ذلك.
إن الإسلاميين عندما يتخذون قرار المشاركة في المجالس النيابية ينبغي لهم
أن يأخذوا كل ما ذكر بعين الاعتبار. وقد شارك الإسلاميون في المؤسسات
السياسية العلمانية على مستوى نواب وعلى مستوى وزراء، وبما أنهم لم يدركوا
المدى العلماني في المؤسسات التي سمحت لهم بولوج تلك القنوات النيابية
والوزارية فهذا يعني قصور فقههم للواقع، بل الأكثر من ذلك، أصبحوا هم جزءاً
من درجات السلم التي ترتقي عليها المؤسسة السياسية الحاكمة للوصول إلى أهدافها
السياسية العلمانية. وإنه من المعلوم أن لجاناً عدة تنبثق من المجلس النيابي لوضع
التصورات للقضايا التي تعرض على المجلس في كافة المجالات. وقد شارك
الإسلاميون في كثير من تلك اللجان. ورغم تلك المشاركة فإن محصلة ما يعرض
على المجلس من الدراسات التي تقدمها اللجان لا تخرج عن الإطار السياسي
العلماني بما لا يوحي بوجود أثر لمشاركة الإسلاميين في أعمال تلك اللجان؛ ذلك
أن الخطوط الموضوعة من قِبَلِ الملأ لعمل اللجان المذكورة مؤطرة مسبقاً بالإطار
العلماني، وفي حال نجاح الإسلاميين في أي لجنة من تلك اللجان في تمرير
دراسات معينة تخرج عن الخط العلماني المحدد لعمل تلك اللجنة فإن إجراءات
معينة تتخذ لإجهاض تلك التوصيات: منها إعداد العدة لإسقاطها بالتصويت في
المجلس، ومنها تأليب الرأي العام ضد نتائجها باستعمال الصحافة وأجهزة الإعلام
المختلفة بما يجعل تلك التوصيات وكأنها ليست في صالح الشعب، فيصبح رفضها
محصلة حاصل، فربما لا تصل حتى إلى مرحلة التصويت عليها، وفي حالة
حدوث ذلك وقد حدث عدداً من المرات فإن النتيجة الطبيعية التي يصل إليها الراصد
أن المؤسسة الحاكمة قد نجحت في الوصول إلى أهدافها المتعلقة بالبلورة السياسية
العلمانية للشعب ومؤسساته.
إن خلاصة ما وصلنا إليه هي أن إشكالية البلورة السياسية الديمقراطية يمكن
رصد أهم معالمها في النقاط التالية:
1- الاختلاف حول تفسير التعبيرات السياسية، وإخفاق الديمقراطية في
توحيد ذلك التفسير.
2- إن سبب الاختلاف تفاوتات منوعة بين المشاركين في الإطار السياسي.
3- إن استمرار تلك الاختلافات يؤدي إلى اضطراب سياسي متعدد الأوجه.
4- إن هذا الاضطراب يحسم لصالح الملأ الحاكم الذي يوجه جميع مضامين
الصراع السياسي وجهة علمانية.
5- الإسلاميون المحتوون في ذلك الإطار الديمقراطي السياسي العلماني
يصابون برذاذه على مستوى النيابة أو التوزير دون أي فاعلية حقيقية جوهرية
لصالح العمل الإسلامي، بل تستغل مشاركتهم السياسية لصالح توفير واجهة مقبولة
للنظام الحاكم.(117/94)
متابعات
تعقيب على تعقيب
حول الحوار مع الشيخ القرضاوى
بقلم: طاهر العتباني
وردنا رد مطول من الأخ الفاضل الأستاذ طاهر العتباني يعقب فيه على
الدكتور محمد بن عبد الله الشباني في محاورته مع الشيخ د. يوسف القرضاوي
الذي تم نشرها في العدد (112) ، وحيث إن المساحة المتاحة في هذه الزاوية لا
تستوعب ما ذكره الأخ الكريم لطوله، فقد اضطررنا إلى اختصار الموضوع بذكر
أهم وقفاته، وهي ما نحسب الكاتب يقصده في تعقيبه، مع العلم أننا عرضنا الرد
كاملاً على الدكتور الشباني فأورد وجهة نظره في آخر المقال والتي لم تسلم من
الاختصار، راجين أن يكون في هذا الحوار ما يوضح الحقيقة التي هي رائد
الجميع، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح. والله من وراء القصد،،
-البيان-
لقد قرأت مقال (وقفات متأنية مع آراء فضيلة د. القرضاوي حول العلاقة مع
أهل الكتاب) الذي نشرته (البيان) في العدد (112) وتصورت أن صاحب المقال
وفقه الله قد قرأ كل ما كتبه الدكتور القرضاوي في موضوع التعقيب الذي كتبه، مما
قد أفرد له الدكتور القرضاوي بعض كتبه، ومما ورد في بحوثه المختلفة أو كتبه
الأخرى التي لا يتسع المقام لذكرها.
لكني وجدت الكاتب أخذ أقوال الشيخ من (من مجلة المجتمع الكويتية) ثم بنى
عليها مقاله وآراءه وانتقاداته.
من هنا جاء هذا التعقيب على ذلك التعقيب الذي توخيت فيه أمرين أسأل الله
تعالى أن يبلغني إياهما وهما:
1- رجاء حسن المثوبة بإحسان القصد والوجهة فيه لله تعالى.
2- أن ينفع الله به قارئه، بأن يصيب الحق أو يقاربه.
أما التعقيب فإنه يتضمن عدة وقفات هي:
الوقفة الأولى: أني أشكر لصاحب المقال حرصه على نفع المسلمين بما لديه
من علم وغيرة، كما ظهر من مقدمته، كذلك أحمد له أدبه الشديد في حديثه عن
الشيخ وجهوده المعروفة من خلال كتبه ومحاضراته ودروسه وخطبه وأبحاثه
وفتاواه وما شارك فيه من الندوات واللقاءات في كثير من أقطار المعمورة، فضلاً
عما ابتلي به عافاه الله من إيذاء واضطهاد بسبب الحق الذي جاهد في سبيله، فجمع
بذلك بين العلم والعمل، والجهاد والتضحية، نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله
أحداً.
ثاني هذه الوقفات: التنبيه على عدد من الملحوظات على الأخ الكاتب في نقده، ومنها:
[1] أن تقويم الآراء والرد عليها يجب أن يراعى فيه جميع أقوال المردود
عليه في موضوع الرد، ولا يكون الرد على عبارات عارضة في حديث مجمل في
مقام معين وظرفٍ محدد؛ وذلك الأصل المنهجي مبناه على عدة أمور:
1- أن الفتوى وهي ألصق وأقرب للدقة والضبط والإحكام وتحرير المسائل
وتنقيحها تراعي ظروف الزمان والمكان ومقتضى الحال والعرف، وهي قاعدة
مشهودة معروفة. فكيف بحديث الناس فيما يعرض لهم من محاورات وأحاديث
للصحف مما هو ليس على سبيل الفتوى.
2- أن في الكلام ما هو إجمال وما هو تفصيل، وهذا وارد حتى في كتاب
الله تعالى وفي سنة رسوله.
وكما أنه لا يصح النظر إلى نصٍ دون غيره من أقواله -صلى الله عليه
وسلم- في الاستدلال على حقيقة رسالته، وإنما يجب أخذ مجموع النصوص حتى
في استخراج حكم المسألة الواحدة، كذلك فلا يصح أن تلصق تهمة بعالم من علماء
المسلمين لعبارة وردت في حديث له وَهَمَ منها السامع معنى لم يدُر بخلد قائلها،
وهو أنه يحصر الإسلام في الجانب الأخلاقي فقط دون العقيدة والعبادة، وغير ذلك
من جوانب الرسالة الإسلامية عند الوقوف مثلاً أمام الحديث النبوي: (إنما بعثت
لأتمم مكارم الأخلاق) .
3- أن للكلام اعتباراتٍ ووجوهاً، فعلى الناظر في كلام أي أحد أن ينظر في
وجوهه المختلفة؛ فالجملة من كلام بعض العلماء قد تكون صحيحة من وجه من
الوجوه، فاسدة من وجه أو وجوه كذلك. وموقف الإمام علي رضي الله عنه والإمام
ابن عباس مع الخوارج عند وقوفهم عند قوله تعالى: [إن الحكم إلا لله] معروف
للجميع.
(ب) أنه لو اتُبع هذا المنهج في الرد على أقوال مبتورة مجملة مقطوعة عن
سياقها وظرفها، واعتبر منهجاً في الرد لما سلم لأحدٍ من علماء الأمة شيء مما قال
أو كتب.
(ج) أن كلام المسلم في عمومه يجب أن يحمل على المحمل الحسن إلا أن
تقوم القرينة القاطعة على فساده، فإذا كان الكلام لعالم جليل له خبرته بالعربية
وأصولها وبلاغتها وقواعدها من نحو وصرف، وبالأصول والقواعد والأدلة من
نصوص القرآن ونصوص السنة وجب عندئذ أن يحمل كلامه على أفضل وجوهه
وأحسن تأويلاته.
(د) أن انتقاد عبارة أو جملة أو عدة جمل لعالم استفاضت أبحاثه وتنوعت
وكثرت في جميع جوانب علوم الإسلام، وتلقاها عنه كثير من العلماء وطلبة العلم
بالقبول في مجموعها الأعم على مدار ما يقارب أربعين عاماً، والوقوف أمام هذه
العبارة دون غيرها مما يتصل بموضوعها وتقويم آرائه من خلالها منهج غير
صحيح. ولقد ذكر أهل العلم كابن تيمية في (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) المنهج
الصحيح تجاه أقوال العلماء مما يجب أن يحتذى.
الوقفة الثالثة: أن عالماً مشهوداً له بالعلم والعدالة والبلاء الحسن يجب النظر
إلى مجموع حسناته وجهاده قبل أن يُشنّع على آرائه التي يجتهد فيها فيصيب أو
يخطئ.
لا سيما وأن فضيلة الدكتور القرضاوي حفظه الله وأمد في عمره قد فهم
الإسلام بمعناه الشامل الذي يبدأ من العلم والاعتقاد والعبادات والشعائر حتى جوانب
التشريع في نواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والثقاقية وغيرها،
وأسهم في التوعية بذلك للناس كافة.
وأنا لا أعني بكلامي هذا عدم الرد إذا ما لزم الأمر؛ لكن على أن يكون الرد
منهجياً مبنياً على القواعد والأصول التي تُتبع في الرد على العلماء ونقد أقوالهم مما
ألمحت إلى شيء منه.
الوقفة الرابعة: أن صاحب المقال جزاه الله خيراً أفاض في التعقيب على
ثلاث عبارات وردت في حديث الدكتور القرضاوي، ورتب عليها كلاماً كثيراً هو
صحيح من حيث معناه، ومن حيث الاستدلال عليه بآياتٍ وأحاديث؛ ولكنه في غير
موضعه مما اعتبره صاحب المقال رداً يوهم القارئ أن في كلام الدكتور ما يناقض
كلام صاحب المقال فيما ساق من حديث، والأمر غير ذلك!
وأحسب أن صاحب المقال لو تعامل مع هذه العبارات بموضوعية لاستخراج
وجوه الكلام الممكنة أولاً في كل عبارة، وحملها على المحمل الحسن ثانياً، ثم أيد
هذا الذي ذهب إليه بما عُرف من فهم الشيخ للإسلام فهماً صحيحاً مما يدل عليه ما
جاء في بقية كتبه وأبحاثه ودراساته وفتاواه، لو فعل ذلك لكان أصاب الحق
والصواب.
الوقفة الخامسة: أن آراء عالم كالدكتور القرضاوي في العلاقة مع أهل الكتاب
لا تؤخذ من مجرد تصريح أدلى به لمجلة أو جريدة هذا إذا صحت نسبته إليه فعلاً
وإلا فأحياناً تنسب الصحف للناس ما لم يقولوه، أو تنشره مشوهاً لتصرّفها فيه طلباً
للاختصار أو طلباً للتشويق والإثارة مما هو معروف في أعمال الصحف والمجلات؛ بل لعل بعضهم ينقل من كتابات العلماء وآرائهم من كتبهم ما يُنشر مشوهاً مبتوراً
عن سياقه.
ثم إن الدكتور القرضاوي لا يتساهل في مثل موضوع: (العلاقة بأهل الكتاب)
بل إنه ليحرص في هذا الباب على تحرير الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وينبه
حتى في الأمور المباحة بيننا وبينهم على ما يمكن أن يخرج بهذه الإباحة عن
مقصودها الذي شرعها لأجله الشارع الحكيم. كما وضح ذلك في كتابه: (غير
المسلمين في المجتمع الإسلامي) .
وفي ختام هذه الوقفات أود ألا أكون جانبت الصواب، وأسأل الله تعالى أن
يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
* * *
رد الكاتب الدكتور الشباني:
وبعد عرض أصل الموضوع على الكاتب د. محمد بن عبد الله الشباني كتب
وجهة نظره حول ما ورد في التعقيب على النحو التالي:
أود بادئ ذي بدء أن أشكر للأخ طاهر العتباني رده وتعقيبه على ما نشرته
حول ما نسب لفضيلة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله وأحسن الله له
قصده، وجعلنا وإياه ممن يسعى للحق ويهدي إليه.
لقد ترددت كثيراً في التعقيب على تعقيبه ولكن حيث أورد الأخ طاهر بعض
الأمور التي يجب التنبيه عليها لما لها من صلة بأصل المحاورة ولما ظنه من أن
محاورتي لفضيلة الدكتور القرضاوي، هو طعن في مكانة الشيخ القرضاوي، وما
أشار إليه من أن استفادتي من كتب القرضاوي مزعومة، ويعلم الله أنني لم أقصد
من ذلك إلا النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم في أمر له أهميته العقدية، ولم أقصد التقليل أو صرف الناس عن قراءة كتبه كما توهم الأخ العتباني عفا الله
عنا وعنه.
كما أن الأخ العتباني أشار في معرض تعقيبه إلى أنه كان ينبغي عليّ الاتصال
بفضيلته لمناقشته، ولقد قمت بالاتصال، ولكن من خلال الوسيلة التي تم نشر ما
نسب إليه فيها، فقد أرسلت نسخة من محاورتي التي قامت البيان بنشرها لمجلة
المجتمع لعل المجلة أن تقوم بدورها باستيضاح رأي الشيخ القرضاوي وتنشر وجهة
رأيه فيما نسب إليه، ولكن مع الأسف تجوهل الموضوع حتى كتابة هذا التعقيب؛
وللأسباب المشار إليها وحتى لا يلتبس الأمر على قارئ التعقيب فقد ارتأيت أن
أوضح وجهة نظري فيما أورده الأخ العتباني من وقفات على النحو التالي:
أولاً: ما أشير إليه من ضرورة مراعاة جمع أقوال المردود عليه في موضوع
الرد، فأود أن أهمس في أذن الأخ طاهر أنني لم أقصد دراسة كل ما كتبه فضيلة
الشيخ القرضاوي والرد على آرائه؛ فهذا لم يكن هدفي من محاورته؛ وإنما قصدت
من الرد على ما جاء في مجلة المجتمع في الموضوع من آراء تصب في الدعوة
الخطيرة التي يدعى لها في هذه الأيام وهي فكرة وحدة الأديان والتي تنبه لها سماحة
الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي المملكة السعودية أطال الله في عمره ونفع الله به فقد
أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة فضيلته فتوى في الموضوع
نشرت في أكثر من مجلة وصحيفة.
ثانياً: ما أشار إليه الأخ، وهو أمر خارج عن نطاق التعقيب، من ضرورة
عدم معارضة العلماء المشهورين الذين بلغوا مكانة عالية من العلم والمعرفة
والإحاطة بفروع العلم وأصوله، وضرورة البحث عن مخارج لأقوالهم في حالة
وقوع أخطاء، والبحث عن تبريرات لهم، وفي حال الرد عليهم ... إلخ. فلي على
ما ذكره ملاحظتان:
1- إن مما أصيبت به الأمة في هذا العصر تقديس من تحب والتغاضي عن
أخطائه، والبحث عن التبريرات لأقواله والتشنيع والتسفيه للمخالف حتى ولو كان
الحق معه؛ وهذا منهج نهى الله عنه حيث إنه يؤدي إلى الانحراف والضلال يقول
تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] [التوبة: 31] .
وقد وضح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معنى هذه الآية بحديث عدي بن
حاتم الطائي بأن المقصود بعبادتهم اتباعهم فيما يفتون به مما هو على غير هدى
مستقيم.
2- إنني لم أخالف المنهجية في الرد؛ حيث اعتمدت فيما أوردته من محاور
على كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنت حذراً أن أجزم بأن
ما ينشر في الموضوع هو قوله، وكنت كلما نقلت كلاماً عنه أشرت إلى ذلك بعبارة: إن ذلك منسوب إليه؛ تحفظاً من أن يكون هناك تحريف في كلامه؛ وعلى أمل
أن يطلع فضيلته على محاورتي فيرد أو يوضح ما ينسب إليه من ذلك؛ أما عدم
الرد على عالم جليل مثل الدكتور القرضاوي فهو أمر غير مقبول؛ ولنا في سلفنا
الصالح أسوة؛ حيث يقول الإمام مالك: كلّ يؤخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب هذه
الحجرة. ومع احترامي وتقديري لجهود الدكتور القرضاوي المعروفة التي أرجو الله
أن يثيبه عليها لكن ذلك لا يمنع من مناقشته وعدم قبول كل ما يقوله على علاته،
والبحث عن تبريرات لما يفتي به؛ فالحق أحق أن يتبع.
ثالثاً: ما أخذته على فضيلة الشيخ من قوله: ( ... إن رسالة الإسلام أخلاقية
بالدرجة الأولى) ورد الكاتب أن أمر مفهوم الأخلاق في الإسلام يختلف عن المفاهيم
الغربية، واستطراده يذكر ما كتب حول مفهوم الأخلاق في الإسلام؛ فأنا لا أختلف
معه حول ما أشار إليه وما أحال عليه؛ لكن أعارض جعل رسالة الإسلام أخلاقية
بالدرجة الأولى؛ فما هو مستند الشيخ من الكتاب والسنة؟ لأن رسالة الإسلام هي
بالدرجة الأولى عقدية بتعبيد الناس لله تعالى، وتحقيق كلمة التوحيد؛ ويا ليت
فضيلة الشيخ يوضح وجهة نظره فيما ذكرت.
رابعاً: لقد أشار الأخ العتباني عند محاولته تفسير ما ينسب إلى الدكتور
القرضاوي في مجلة المجتمع: (لا مانع في الإسلام من أن يقف أتباع الديانات
السماوية الذين يتبعون إبراهيم الخليل ... ) إلى أن الشيخ القرضاوي يقصد حسب
زعم الكاتب تحالف أهل الأديان السماوية الذين يؤمنون بوجود الله ربّاً وخالقاً،
وبالجزاء والحساب، وقد استرسل الأخ العتباني في بيان ذلك.
فإذا كان هذا هو قصد الدكتور القرضاوي كما فهمه الأخ العتباني، فالأمر في
غاية الخطورة؛ لأنه يخالف أصل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فمشركو
العرب لم ينكروا ربوبية الله والبعث والجزاء، لكن ذلك لم ينفعهم ف (التوحيد الذي
جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الألوهية له وحده بأن يُشهد أن لا إله إلا الله ولا
يُعبد إلا إياه، ولا يُتوكل إلا عليه، ولا يُوالى إلا له، ولا يُعادى إلا فيه، ولا يعمل
إلا لأجله ...
وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية ... فليس كل من أقر بأن الله
تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابداً له دونما سواه ... وعامة المشركين أقروا
بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أنداداً.) [1] ؛ فحاربهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم للإيمان، ولم يقبل توحيد
الربوبية منهم؛ فلا بد من تحقيق العبادة لله وحده بتوحيد الألوهية، وكذلك بتوحيد
الأسماء والصفات.
والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا إلى سواء السبيل.
__________
(1) لمزيد البيان انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، المكتبة التجارية ص 15- 17.(117/100)
منتدى القراء
حتى لا تموت الدعوة دماغياً؟ !
بقلم: عبد الله بن حسن الوادعي
الوفاة الدماغية مصطلح طبي يعني أن يموت دماغ المريض ويتوقف عن
العمل ولكن بقية الأعضاء تبقى عاملة كالقلب والرئة والكُلى ... وغيرها، وحيث
إن الدماغ هو مركز التفكير والإحساس والأوامر فإن هذه الوظائف تُفقد، فيصبح
المريض مجرد جثة هامدة لا يستطيع حَراكاً ولا يُعْمِل فكراً ولا يحسُ ألماً ولا يشعر
بمسؤولية.
وهذه الحالة أو قريب منها هي المرحلة التي تمر بها الدعوة في بعض البلدان؛ فمنذ عدة سنوات كانت الدعوة في قمة نشاطها؛ فعقول الدعاة إلى الله كانت تفكر
وتتأمل لتنتج كل يوم عملاً جديداً ما بين محاضرة أو ندوة أو أمسية أو شريط أو
كتاب إلى غير ذلك مما يصعب حصره.
وحيث كان عقل الدعوة المفكر سليماً فقد كان تأثيره إيجابياً على العاملين في
حقل الدعوة، فيقومون بتنفيذ هذا العمل الدعوي أو ذاك بكل جد وإخلاص فترى
أثره ملموساً وجلياً في أوساط المجتمع الذي هو مادة الدعوة. وما كان ذلك ليحدث
لو لم يكن عقل الدعوة المفكر والمسؤول عن الإحساس سليماً، فقد كان يحس
بالأخطار المحدقة بالدعوة، ويتلمس حاجة الناس إليها، ويعرف مداخلهم ومخارجهم، ويدرك واجبه المنوط به.
ثم دار الزمن، وتعاقبت السنون؛ فإذا بقطار الدعوة يقف أو يكاد فلم نعد نرى
أو نحس جهوداً من أجل الدعوة تبذل، أو صرحاً من أجل الدعوة يُقام، أو وقفاً في
سبيل الدعوة يُبذل، أو نفساً في سبيل الدعوة تتعب، أو فكراً من أجل الدعوة يعمل، أو خاطراً من أجل الدعوة يَهتم أو على الأقل حِسّاً من أجل الدعوة يُستثار!
فأين الخلل يا تُرى؟
* هل عدمت مادة الدعوة وهي المجتمع؟ ! ! * أم هل استنفد رصيد الدعوة
وهو الدين؟ ! !
* أم هل شلت أعضاء الدعاة العاملين في حقلها وهم شباب الصحوة؟ ! !
* أم هل توقف عقل الدعوة المفكر ودماغها الذي كان يحس بالمسؤولية،
وفكرها الذي كان ينتج الأعمال الدعوية؟ هل توقف كل هذا؟ * هل ماتت دماغياً؟ ! !
هذا ما لا يرضاه أي مسلم....... . فإلى الدعوة والعمل المسؤول الهادف
لخدمة الناس كافة بدعوتهم إلى صراط الله المستقيم وبكل السبل المشروعة.(117/108)
منتدى القراء
حديث النفس
شعر: مشبب أحمد القحطاني
يا أُمتي والحُزْنُ يَعصِرني علامَ الإنحناءْ! ...
ما بالُ رحلَتِكِ انتهت وخلعتِ ثوبَ الكبرياءْ! ...
لو كان يُسْعِفُني البكاءُ لمُتّ من فَرْط البكاءْ ...
يا أُمّتي هل يصبحُ الأعداءُ يوماً أصدقاءْ؟ ...
رَبّاهُ ماذا قد دهانَا كيفَ ذلّ الأنقِياءْ؟ ! ...
لكأَنّما الأمجادُ شِيدتْ دُونما بذلِ الدّماءْ! ...
قِفْ يا زماني ساعةً واذكر زمانَ الأقوياءْ ...
كم جَلْجَلَ الحقّ المبينُ وطافَ أنحاء الفضاءْ؟ ...
كم طهّرَ الإسلامُ أجساداً وجمّعها الإخاءْ؟ ...
السّقْمُ دَبّ بأُمةٍ تركتْ دروبَ الأنبياءْ ...
ِلو يعلمُ الوسنانُ مِنّا أن في التّقْوى شِفاءْ ...
لاستيقظَ اللّيْثُ الهصورُ وسارَ في جَيْشِ الفِداءْ ...
قُمْ يا رعيلَ اليومِ وارفَعْ ما تهدّم من بناءْ ...
هذي مُصيِبَةُ أُمّتي ولعلّنا نَجِدُ الدّواءْ ...
إنْ طالَ ليلُ الآملينَ فَسَوفَ يُسْفر عَن ضياءْ ...
هَلاّ رَفعنا بالدّعاء أكفّنا نحو السّماءْ ...
وَمَضَتْ رواحِلُنَا على دَرْبِ البطولةِ والفِداءْ ...
يكفي من التاريخِ عاراً أن يسودَ الأشقياءْ ...(117/109)
الورقة الأخيرة
ماذا دهى أمة الإسناد؟ !
بقلم: محمد نجيب لطفي
نحن أمة الإسناد، ما في ذلك من شك؛ وتراثنا العظيم في الحديث النبوي
الشريف وعلومه أعظم دليل على ذلك، حيث يتجلى ذلك بوضوح في دواوين السنة
من صحاح وسنن ومعاجم ومسانيد ومستدركات ومستخرجات وهي من الكثرة والدقة
بمكان، وكذلك في كتب الرجال والجرح والتعديل كل ذلك من مفاخر أمتنا العظيمة
أمة الإسناد الذي تفاخر به العالمين.
نفاخر أن أمم الأرض قاطبة لن تستطيع الوصول إلى عشر معشار ما وصلنا
إليه مهما تطاولت أعناقهم وتمنت نفوسهم.
ولكن! ! ماذا دهى الأمة العظيمة؟ ! أمة الإسناد؟ ! فالناظر في الكتابات
المعاصرة في سوادها الأعظم يؤلمه ويحزنه أن الاهتمام بالإسناد تضاءل إلى حد
كبير جداً، سواءٌ أكان ذلك في المؤلفات والمصنفات، أو في الصحف والمجلات،
أو في الندوات والمحاضرات، أو في الخطب والمناظرات؛ وقد ترتب على ذلك
الأمر المؤسف أمور منها:
1- تهجم بعض الجهلة والمغرضين على السنة والطعن في حفظ الصحابة
للسنة بدعاوى مكرورة نقلاً عن المستشرقين أو الفئات الضالة ممن لها مواقف
معروفة من السنة ونقلتها.
2- انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة انتشاراً كبيراً مما كان له أسوأ
الأثر على عموم المسلمين بسبب اعتقاد صحة هذه الأحاديث ومن ثَمّ العمل بها.
3- ضعف مكانة السنة في نفوس المسلمين.
4- عدم تقدير علوم الحديث كما يجب، والتهاون في حقها.
5- الرجوع إلى كتب الوعظ والتصوف القديمة والحديثة، والنقل منها بدون
تحقيق.
ولذا: أرى من الواجب الاهتمام بأمور عظيمة، منها:
1- الاهتمام في الجامعات الإسلامية بعامة بالحديث وعلومه اهتماماً بالغاً بدلاً
من الاهتمام بالتصوف وما يسمى بـ (الفلسفة الإسلامية) والمنطق وما يسمى بـ
(علم الكلام) ، وأن تنحو هذه الجامعات منحى المنهج العلمي لسلف الأمة.
2- علو الهمة في دراسة الحديث وعلومه، والنظر إلى ما فعله الأقدمون
العظماء، أمثال: ابن معين والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وأحمد والنسائي، وغيرهم..
3- الاهتمام البالغ بتخريج وتحقيق الآثار على سبيل الإلزام في المؤلفات
والمصنفات والجرائد والمجلات.
4- الاعتقاد بأن للاهتمام بالسنة ودراستها ثواباً جزيلاً؛ وإن الأمل ليحدو كل
غيور في أن تستجيب الأمة لهذا الأمر الخطير الجليل، وتعود كما كانت في
عصورها الذهبية أمة الإسناد.
5- التحذير من أولئك النفر المرددين لشبه غيرهم، وكشف منطلقاتهم
المشبوهة حيال السنة ورواتها.
[وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ] [الأحزاب: 4] .(117/111)
جمادى الآخرة - 1418هـ
أكتوبر - 1997م
(السنة: 12)(118/)
كلمة صغيرة
مفارقات
الشباب هم عماد المستقبل وعدة الأمم لمواجهة النوائب؛ لذا تضع كل أمة من
الأساليب التربوية والعلمية والعملية ما تصنع به شباباً يرفع رايتها ويواصل أمجادها.
والمنطلقات العقدية والإيديولوجية لكل أمة هي أول ما تحرص على ترسيخه
في أذهان بنيها، وهذا ملموس في كل دول العالم.
غير أن الإسلام يكاد يكون الدين الوحيد المحارَب حينما يطلب أن يكون منهج
حياة فاعلاً للشباب؛ وذلك في كثير من الدول الإسلامية لأسباب كثيرة معروفة لا
يتسع المجال لذكرها.
ولذلك رُفِضَ اسم تجمع شبابي إسلامي رياضي تقدمت به دولة خليجية منذ
سنوات حينما عقد فيها مؤتمر إسلامي، ورأت اللجنة الأولمبية العالمية منع ذلك
لعدم الموافقة على أن يكون أي تجمع رياضي دولي ذا انتماء ديني! فاضطرت تلك
الدولة لتسمية الدورة بـ (دورة الصداقة والسلام!) .
لكننا سمعنا مؤخراً عن الدورة الرياضية اليهودية التي لم يجرؤ أحد على
منعها، وأخيراً مؤتمر الشبيبة العالمي في باريس الذي دعي إليه بابا الكاثوليك ليلقي
ما يسمى بالقداس مع استقبال الرئيس الفرنسي شيراك له بكل حفاوة وليقول له إنه
قدوة للجميع. هذا فعلهم مع شبابهم؛ فماذا فعلت أكثر الدول العربية لشبابها سوى
مواصلة تغريبهم، وترسيخ صور الانحراف فيهم بدعاوى التطور والتقدمية؛ هذا
حالهم مع شبابهم، وتلك أحوالنا مع شبابنا!
والله المستعان،،،(118/1)
افتتاحية العدد
في ظل الأوضاع القائمة
أحداث.. ومعانٍ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى
يوم الدين، أما بعد:
فلقد شهدت الفترة الماضية مجموعة من الأحداث التي يضمها رباط واحد وإن
تباعدت أماكنها واختلفت أشكالها، كان من أبرزها الهجوم الدنيء والسافر في الوقت
نفسه على شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والقرآن الكريم، في صورة
ملصقات انتشرت على جدران مدينة الخليل، وأتبع ذلك نشر صورة مهينة للسيدة
مريم العذراء على صفحات مجلة يهودية، مما اضطر نتنياهو إلى إعلان (أسفه)
عن تلك الأعمال الساذجة مقارنة مع ما يقوم به (حكماؤهم) ! .. ثم ما كان من
تدنيس جنود يهود لنسخ من القرآن الكريم في إحدى المدارس الفلسطينية وتمزيقهم
لها، وأيضاً تحويل مسجد في مدينة (بئر السبع) إلى متحف، وإلقاء القمامة حوله
للحيلولة دون وصول المصلين إليه..
وفي الشمال من (إسرائيل الكبرى) في حلمهم أعلن (مسعود يلماظ) رئيس
الوزراء التركي العلماني الذي جاء إلى الحكم بانقلاب ديمقراطي نفذ على طريقة
(الهندسة الديمقراطية) ، أعلن أنه ماضٍ بلا رجعة في مشروعه لتمديد زمن التعليم
الإلزامي من خمس سنوات إلى ثمانٍ؛ بقصد الإقلال من أعداد المدارس الشرعية
وتقليص آثارها لدى التلاميذ؛ بدعوى حماية الاتجاه العلماني الأتاتوركي، مع
حفاظه على العلاقات الاستراتيجية بين تركيا و (إسرائيل) .. مما دعا الآلاف من
أنصار التيار الإسلامي إلى الخروج في مظاهرات جابت أكثر من مدينة كبرى،
منذرةً بأنها ستقطع اليد التي تمتد إلى القرآن..
وعلى الجانب الآخر من نهر الأردن جرت محاكمة الجندي (أحمد الدقامسة)
متهماً بقتل 7 يهوديات بعد استفزازهنّ له وهو يصلي في موقعه، وقد سبق ذلك أنه
سمع بعض اليهود ينادي على كلب لهم باسم: (محمد) ! ! .. ورغم أنه ثبت لدى
المحكمة إصابة الجندي باضطرابات نفسية مَرَضية، إلا أنها حكمت عليه بأقصى
عقوبة في القانون الأردني لجرائم القتل العمد، مما دعا مسؤولين صهاينة للإشادة
بالقضاء الأردني! ! ..
ثم جاء الهجوم التفجيري المزدوج في القدس، الذي أدار المرآة في وجه نجوم
التمثيلية السلمية المملة، ليُرى وجه نتنياهو فزعاً، رافضاً اعتذار (عرفات)
وتعازيه، مع توبيخه على عملية لم تحدث في نطاق سلطته بالوكالة، ولم تنطلق
منها.. وسرعان ما أصدر أوامره للقبض على المئات من المنتمين إلى التيار
الإسلامي أو المتعاطفين مع فصائله ممن لم تثبت بعدُ علاقتهم بالعملية، ولم يقوموا
بأي أعمال عنف (أصحاب رأي وتوجه) ، ليشملهم بضيافته الكريمة في المعتقلات
الفتية للسلطة الناشئة التي تحبو بين يدي المحتل الغاصب؛ وذلك حتى يثبت
لمخرج المسلسل ومنتجه أنه مندمج في دوره، متناغم مع جوقته..
فماذا تعني هذه الأحداث؟ !
لا شك أنها تعني أن التكالب والتداعي المفعم بالتعالي والصلف، والتنمر على
القصعة الإسلامية، من قِبَل أعداء الأمة وصل حدّاً من الجرأة قَلّ أن بلغه في تاريخ
مواجهاتهم التاريخية، وأن هذا التداعي والتعالي يستند إلى اطمئنان مبعثه مسلسل
من التجارب السابقة بأنّ أقصى ما يفعله من بيدهم أزمة الأمور هو إطلاق عيار
(الاستنكار والتنديد والاحتجاج) ! يسكتون به شعوبهم المغلوبة على أمرها! !
فـ (حرية) سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، ونصر أبو زيد الفكرية،
وتصديق (جنون) محرِق المسجد الأقصى، و (ناعوم فريدمان) الذي أطلق النار
على المتسوقين في الخليل، و (جولد شتاين) الذي قتل المصلين في (المسجد
الإبراهيمي) ، والتجاوز عن (الأخطاء غير المقصودة) في المذابح الجماعية التي لم
يكن أولها (دير ياسين) ولا آخرها (صبرا وشاتيلا) ولا (قانا) ..
والسكوت (بواقعية) عن فتح نفق المسجد الأقصى، وعن التصريح لمتطرف
يهودي بأداء طقوسه الدينية داخله، وبناء مستعمرة جبل (أبو غنيم) .. والتهديد
ببناء مستعمرة (باب العمود) و (احترام) الشرعية الدولية في حصار الشعوب في
الشرق والغرب.. ومن قبل ذلك ومعه: فرض القوانين الوضعية الكفرية وتنحية
شريعة الله، ومد الأيادي إلى الغرب النصراني والشرق الملحد؛ مع مد الأرجل
على الشعوب الإسلامية المستكينة ... كلها نماذج تدعم هذا التصور الراسخ لديهم
وتغري قياداتهم وأفرادهم بممارسة المزيد من الحوادث والأفعال التي لا تستحق
سوى المزيد من الأسف ذرّاً للرماد في العيون! ! ..
وتعني أيضاً أن النخبة العلمانية (التي ما زالت تصر على إلصاق نفسها
بالإسلام) تزداد تعانقاً مع الغرب و (إسرائيل) كلما ازدادت توغلاً في علمانيتها،
حتى وصل الأمر بقومي علماني يساري معروف هو الكاتب.. (لطفي الخولي) إلى
أن يصرح لجريدة صهيونية قائلاً: (إنه لا يوجد صراع بين مصر وإسرائيل، بل
إن الصراع هو بين البلدين من جهة وبين الأصولية الدينية الإسلامية واليهودية من
جهة أخرى! ! ، وقال: إن صلاح إسرائيل هو صلاح لنا يقصد العرب! ! وإن
إسرائيل ليست جزءاً في الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران، بل هي في قلب
المنطقة، وأمنها وسلامتها ومستقبلها واقتصادها مرتبط باستقرار المنطقة العربية!!) [1] .
ولا غرابة في هذا الموقف من منظّر (قومي) علماني، فزعيمهم الأوحد أيام
المد القومي من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر.. كان قد قبل (إسرائيل) رافداً من
روافد البِرْكة العربية الآسنة بقبوله قرار مجلس الأمن رقم 242، بل وإلحاحه عليه
وهو القرار الذي يعترف صراحة! بشرعية وجود (إسرائيل) في المنطقة، بل إنه
كان يمد يده بـ (السلام) إليها عبر مشروع ومبادرة (روجرز) ، وبالطبع لم يكن
يتباحث حينها لإلقاء إسرائيل في البحر ولا حتى في النهر.
وتعني هذه الأحداث أيضاً أن روح المقاومة والتململ من الواقع المرير لم
تخمد في الأمة، وأنه كلما ظن أعداؤها أنهم أوشكوا على القضاء عليها خرج لهم
شبيبة لفظوا الدجل العلماني، ولم يتشربوا الذل الاستسلامي، ليسطروا على جبين
الأمة: أن (لا) ، لن نرضى بالدنيّة، وسنقطع الأيدي التي تمتد إلى قرآننا ونبينا ...
فيا أيها الحاكمون بأمرهم ويا رعاة السلام الموهوم.. نؤكد لكم أن هؤلاء
الشبيبة لم يقصدوا أن يعكروا عليكم صفاء مسيرتكم التباحثية التي آلت إلى التداول
حول فتح شارع أو إغلاق نفق أو إيقاف بناء عمارات، كما نؤكد لكم أن هؤلاء
الشبيبة مجانين! ! ، وهل يمزق ستار الوهن العربي اليوم إلا المجانين، لا سيما
أن الدماء التي أريقت في القدس سببها المباشر اليهود أنفسهم حينما نشروا على
جدران الخليل تلك الإساءات لنبينا محمد.
غير أن ما يُؤسف له بل هو المتوقع والذي سبق أن أكدناه كثيراً أن التداعي
على عملية السلام لم تؤتِ ثمارها المتوهمة، ولم تزد اليهود سوى غطرسة
وعنجهية وإذلالاً مستمراً لعرب السلام، وما زالوا مستمرين على نهجهم هذا، ولا
نرى في نظرنا من أمل إلا الوقوف بصلابة أمام العدو، وإفهامه اللغة التي يعرفها،
وذلك بإطلاق الاتجاهات الإسلامية لتحقيق الموقف الصحيح، ليس رد فعل لما
يحصل، بل تقريراً لحقائق شرعية ومنطلقات أساسية تمس حياة الأمة؛ وهذا ما
فطن له اليهود أنفسهم بترشيحهم (الليكود) ليحكم، وها هو ذا يماطل فيما يسمى
بعمليات السلام الموهوم بشكل مستمر وكأن شيئاً من الاتفاقيات السلمية المعقودة
معهم لم يكن.
إننا نثق تماماً أن الملحمة بين المسلمين واليهود ستتم، وحينها سينطق الشجر
والحجر: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي ورائي، تعالَ فاقتله، [وَاللَّهُ غَالِبٌ
عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 21] .
__________
(1) مجلة الشراع اللبنانية في 10/3/1418هـ الموافق 14/7/1997م، ص 15.(118/4)
دراسات شرعية
سنن: الإعداد والتدافع
بقلم: د.محمد أمحزون
إعداد النفوس للجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام هذا الدين؛ إذ من اليقين
الجازم: أنه لا يرفع عن المسلمين ما هم فيه من ذلة ومهانة إلا أن تحيا معاني
الجهاد في نفوسهم لقول النبي: (إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم
بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى
ترجعوا إلى دينكم) [1] .
وهذا الإعداد هو ثمرة الفهم الصحيح والقصد السليم والصبر الطويل، وهو
مهمة ورثة الأنبياء.
وتتجلى سنة الإعداد في قوله (تعالى) : [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن
رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] [الأنفال: 60] .
ويجب أن يشمل هذا الإعداد الجوانب التالية:
* الإعداد العلمي والتفقه في الدين والبصيرة فيه: ليكون الجهاد على بصيرة
وروية ووضوح راية، فيفقه المرء لماذا يجاهد وما هي غايته؟ وكيف يجاهد؟
ومن يجاهد؟ ومتى يجاهد؟ كل ذلك يقوم على العلم والفقه في دين الله [2] .
* الإعداد التربوي والسلوكي: حيث يتخلق المجاهدون بأخلاق رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وصحبه؛ فغاية جهادهم لتكون كلمة الله هي العليا، ولا
يتطلعون من وراء جهادهم إلى زعامة أو جاه أو منصب أو مكسب من مكاسب الدنيا.
ويتضمن هذا الإعداد تقوية الصلة بالله (عزو جل) وإخلاص النية والتقرب له
بالطاعات، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي عليه أصحابه في مكة من
صلاة الليل، وذكر الله وتلاوة القرآن، والتربية على الزهد والتخفف من الدنيا،
والتطلع إلى ما عند الله (عز وجل) من الجنة والرضوان.
كما يشمل التربية الجادة للنفوس بإحياء السلوك الإسلامي وأخلاق السلف
الفاضلة، والقضاء على رواسب الأخلاق السيئة، مما يحتاج إلى جهد كبير،
وصبر متين، ونفس طويل، وذلك حتى يتم صقل النفوس وتمحيصها، وأن تربى
على الانطلاق من خلال الشريعة وقواعدها لا من ردود الأفعال العاجلة والعواطف
الملتهبة، كما هو الحال في العهد المكي الذي ظهرت فيه هذه المعاني بوضوح
وجلاء [3] .
الإعداد المالي: إن القوة المادية كما قيل عصب الحياة الدنيا وقوامها،
والضعيف فيها على مر العصور مقهور مسروق لا يحسب له حساب إلا في ظل
شرع الله حين يحكم، وليس معنى هذا جعل الدعوة شركة تجارية؛ لكنه ينبغي
الاعتماد على الذات في موارد ثابتة؛ وهذا من النفرة التي أمرنا الله (عز وجل)
بإعدادها لمواجهة الأعداء ونشر الدين، والاستغناء عن مد يد الاستجداء؛ مما يوفر
للدعوة حرية التحرك، واتخاذ القرار دون ضغوط كابحة للنشاط من أي جهة كانت، إضافة إلى ما توفره القوة المادية من ثقل إعلامي واجتماعي هي بأمس الحاجة
إليه.
وهذا يقوم ابتداءً على ترويض النفوس بالتربية على الإنفاق، وبذل الغالي
والنفيس في سبيل الله، وتخليص النفوس من الشح والحظوظ العاجلة أسوة بسلفنا
الصالح؛ فهذا أبو بكر (رضي الله عنه) كان يعتق المستضعفين من الرقيق المسلم
بماله؛ فنزلت الآيات الكريمة من سورة الليل: [وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي
يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ
الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى] [الليل: 17-21] [4] .
كما خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هجرته إلى المدينة حاملاً
ماله كله، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم لإنفاقه في سبيل الله [5] .
الإعداد الإعلامي: وذلك بالتعريف بأهداف الدعوة ومقاصدها، ليعلم الناس
أن قضية الإسلام قضية عادلة، لا كما يصورها الأعداء بنعوت وأسماء زائفة
تخالف الحقيقة، ففي العهد المكي كان الشعر والخطابة هما الوسيلة المتاحة لنشر
الدعوة والرد على خصومها [6] ، أما في عصرنا فيمكن توظيف وسائل الإعلام
المقروءة والمسموعة والمرئية للقيام بوظيفة البلاغ المبين، وإيصال رسالة الإسلام
إلى كافة الفئات الاجتماعية؛ حيث يستفيد الدعاة من التطور التقني الهائل في
مجالات الاتصال لتبليغ دعوتهم ونشر أفكارهم.
الإعداد البدني: بغاية تحمل الجهاد ومشاق الطريق؛ وذلك بممارسة الرياضة
البدنية، وركوب الخيل، والسباحة، وتعلم الرماية، لكن قد يقول قائل: ما الدليل
على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدرب أصحابه على الرماية والرياضة في مكة؟ والجواب: أنهم لم يكونوا في حاجة إلى ذلك؛ فطبيعة نشأتهم وبيئتهم وحياتهم
كانت في الأصل قتالية مدربة جاهزة لا يحتاجون معها إلا إلى مجيء الوقت
المناسب والأمر بالجهاد [7] .
ومن السنن التي أوضحها القرآن الكريم: سنة التدافع أو سنة الصراع بين
الحق والباطل، وهي سنة مترتبة على السنة التي قبلها (أي سنة الإعداد) ، كما أنها
ماضية عبر التاريخ الإنساني الطويل، وباقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها:
[وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلاَّ مَن رَّحِمَ
رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] [هود: 118، 119] .
ويحتدم الصراع نتيجة هذا الاختلاف لإقرار الحق أو إقرار الباطل [الَّذِينَ
آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ
الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] [النساء: 76] .
وهذا التدافع هو الذي عناه الله (سبحانه وتعالى) بقوله: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ]
[البقرة: 251] .
وهذا الذي عناه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (لا تزال طائفة من
أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) [8] .
وهذه الطائفة المنصورة تجتمع فيها أسباب النصر المعنوية والمادية التي خلقها
الله (عز وجل) ، من علم صحيح، وسلوك مستقيم، وأخذ بالمقدمات التي جعلها الله
وسيلة موصلة إلى نتائجها المرجوة؛ وإلا فإن مجرد الإيمان والالتزام بعقيدة أهل
السنة والجماعة دون الأخذ بأسباب التمكين ومقدماته المادية، ودون الالتزام بسنن
الله الكونية الصارمة لا يضمن النصر ولا يكفل الظهور والتمكين في الأرض الذي
وعد الله به عباده الصادقين [9] .
وقد أوضح الله (عز وجل) أن الجهد الإنساني للمؤمنين هو الذي يحسم
الصراع بقدر من الله لصالح المؤمنين: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] .
إن التدافع الذي يعنيه القرآن الكريم من خلال هذه السنة هو الذي يكون لخير
البشرية، وبه يتحقق السلام العالمي، بتحقيق العبودية لله وحده في الأرض،
وإزالة كل طاغوت يُعبد من دون الله، قال (تعالى) : [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] [الأنفال: 39] .
فالبشرية بدون العبودية لله (عز وجل) لا تستطيع أن تسلك قاعدة عليا من
الحق؛ لأن لكل معبود من الشركاء قاعدته الخاصة وسبيله المختلف، ولا سبيل أبداً
لتوحيد هذه القواعد إلا بالتخلص من الشركاء جميعاً، والاتجاه المنقاد المستسلم لله
(تعالى) وحده لا شريك له.
وبين فوضى الأرباب والآلهة والطواغيت والمعبودات ذات الأسماء
والشعارات المختلفة والصور المتباينة يرسم القرآن الكريم للمؤمن الموحد طريقاً
واضحاً أبلجَ لا زلل فيه ولا عثار، محذراً إياه بأن اختياره لغير هذا الطريق أو
تردده في الاستمساك به معناه الكارثة المحققة والخسارة الكبرى: [قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَاًمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ]
[الزمر: 64-66] .
كما بيّن القرآن الكريم أن عاقبة الصراع تكون دائماً للمؤمنين مهما طال
الطريق وعصف بهم طغيان المشركين: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] [القصص: 5] . وقال تعالى: [وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]
[الأنبياء: 105] .
والهدف من هذا البيان هو شد عزائم الجماعة المؤمنة في مكة لتعي وتفقه
طبيعة الصراع بين الإيمان والكفر، ولتعد نفسها إعداداً كاملاً، علماً وتربية
وتخطيطاً وتنظيماً لمواجهة أعداء وعوائق الطريق وكثرة الأعداء من الداخل
والخارج، من النفس والعشيرة والأموال والأزواج، ومن الشيطان وجنوده، ومن
المشركين.
وفي ضوء ما بذله المؤمنون من جهد بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
ومن خلال ما قدموه من تضحيات في الأموال والأنفس وهجرة الأوطان والأهل،
جاءتهم البشرى بحسم الصراع لفائدتهم واستخلافهم في الأرض: [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] [النور: 55] .
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب البيوع، رقم 3462، ج3، ص 214، وأحمد في المسند، ج2، ص84، وقال الألباني: حديث صحيح لمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة، ج3، ص 15.
(2) عبد العزيز الجليل: متى نصر الله، ص 152.
(3) المرجع نفسه، صص 98، 99، 103.
(4) رواه الحاكم في المستدرك، ج2، ص 525 536 وقال أكرم العمري في السيرة النبوية الصحيحة: إسناده حسن، ج1، ص 1256.
(5) رواه أحمد في المسند (بترتيب الشيخ الساعاتي) ، ج 20، ص 282 والحاكم في المستدرك،
ج3 ص 5، 6 وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، ج 6، ص 59.
(6) انظر البخاري: الجامع الصحيح، كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية، ج 4، ص 161 وكتاب التفسير، سورة الشعراء، باب وأنذر عشيرتك الأقربين، ج6، ص 16، والطبراني: المعجم الكبير، رقم 806، ج 20، ص 343 وابن هشام: سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ج1 ص ص 286 293، 301، 356.
(7) عبد العزيز الجليل: متى نصر الله؟ ص 107، 108.
(8) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) ، كتاب الإمارة، باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، ج13، ص 66.
(9) محمد عبد الهادي المصري: أهل السنة والجماعة، ص 52.(118/8)
دراسات دعوية
الانكفاء إلى الداخل
بقلم: عادل ماجد
إنها فترة زمنية تمر بالمجتمعات على اختلاف صورها، أمةً كانت أو دولة أو
جماعة، وهي من سنن الله في المجتمعات؛ إذ يأتي عليها زمن تعود إلى داخلها
وتترك أراضي كانت وطأتها، وينجزر مدها، وينعكس ذلك على قياداتها وقواعدها؛ فيشعر أولئك بالضعف والضيق، بل يصل إلى اليأس والإحباط.
يقول الله (تعالى) عن هذه الحقيقة: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاًتِكُم
مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: 214] .
قال صاحب الظلال: (.. يتوجه إليهم بأن هذه سنة الله القديمة في تمحيص
المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا أهلاً لها: أن يدافع أصحاب العقيدة عن
عقيدتهم، وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر، وأن يتراوحوا بين
النصر والهزيمة، حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة،
ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتن ... استحقوا نصر الله) (هكذا خاطب الله
(تعالى) الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة كلها، وإلى سنته (سبحانه وتعالى) في تربية عباده المختارين الذين يكل إليهم رايته،
وينوط بهم أمانته في الأرض: منهجه وشريعته وهو خطاب مطّرد لكل من يختار) [1] .
وجاء الانكفاء في حياة رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فنرى حذيفة
بن اليمان (رضي الله عنه) يحدثنا عن ذلك في الحديث المتفق عليه: (كنا مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (احصوا لي كم يلفظ بالإسلام؟ قال: قلنا: يا رسول الله! أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا
تدرون لعلكم أن تُبتلوا، قال: فابتُلينا؛ حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سراً) [2] .
وبنظرة شاملة للتاريخ، قديمه وحديثه، نرى في الأمم ضعفاً بعد قوة،
وضموراً بعد نشوة؛ ولعلنا نقف على صور من ذلك:
1- ما أصاب العلماء في زمن الحجاج من العنت والضعف والمطاردة.
2- ما أصاب الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) وطلابه وعلماء عصره من
الفتنة بالقول بخلق القرآن زمن المأمون، فطائفة لقيت حتفها، وأخرى أضحت
سجينة، وثالثة هاربة، ورابعة في بيوتها لا تجرؤ على الكلام، ولا تجد للتحديث
باباً.
3- وما لقيه شيخ الإسلام ابن تيمية حينما كان مع طلابه في غياهب السجون؛ وأنصاره وأحبابه لا يستطيعون قولاً ولا حراكاً، بل كان كثير من علمه ينشر
بغير اسمه؛ لأن اسمه صار جرماً للمادحين وسلّماً للقادحين.
وشهد هذا القرن الميلادي الذي نحن فيه عدداً من صور الانكفاء لأمم وأحزاب
من أشهرها ما حدث للحزب الشيوعي في القيصرية الروسية عام 1905م عندما
سجن وقتل عدد من قادته وزعمائه حتى أضحت عضوية هذا الحزب كفيلة بالإعدام
أو النفي؛ وهذا الحزب هو الذي حكم البلاد بعد عام 1917م.
وفي نهاية العشرينات من هذا القرن انكفأت أمريكا إلى داخلها؛ فتأثرت
النظرية الرأسمالية بذلك، وشهدت دول عدة انقلابات شيوعية، وصار من المألوف
تغيير الحكم إلى الاشتراكية، ولم تخرج أمريكا من عزلتها إلا عام 1939م خلال
الحرب العالمية الثانية عند ضرب اليابان لميناء بيرل هاربر.
لماذا الانكفاء؟
إن الانكفاء إلى الذات ليس حدثاً يسقط فجأة فيصيب من أصاب؛ بل هو:
* تراكم عبر سنوات، وتفاعل خلال أزمنة؛ فالمشكلات الداخلية في البناء
والإدارة والاستراتيجيات تظل تنخر في الجسد حتى يأتي زمن لا تستطيع الأمة
بعدها عطاءً أو صراعاً، فتجذبها مشكلاتها إلى داخلها، وينشغل أهلها بأهلها،
وقاعدتها بقادتها؛ فتضطر الأمة إلى ترك مواقع اكتسبتها، والتراجع عن خطوات
قطعتها.
* والسبب الآخر خارجي: إذ إن المتغيرات على هذه البسيطة ليست بيد أحد
دون غيره؛ فمتى تداعى الجميع، وتكالبت الأمم، وحدّ الآخرون شفراتهم فإنه لا
توصد جبهة إلا وتفتح جبهات، ويتكاثر الأعداء، ويكشف المزيف زيفه، ويلقي
المقنّع قناعه؛ فإذا حوصرت أمة هذه المحاصرة، وضُيّق عليها كل تضييق
اضطرت أن تعود إلى داخلها، وتتمحور حول ذاتها، ويظل الجزر يتكرر فيها
حتى ترجع من حيث بدأت.
أهمية استثمار الانكفاء:
والسؤال الآن: كيف لنا أن نستثمر الانكفاء؟ وكيف نتحوّل بهذه المرحلة إلى
نصر جديد، وأسلوب للكسب؟
نسوق هنا تسع اقتراحات لهذه الحالة عندما تحدث، وقد يزيدها القارئ
ويتوسع فيها:
أولاً: العودة إلى المعيار الشرعي وهو القرآن والسنة لتقويم مسارنا كما فهمه
أهل خير القرون، وأن نتبرأ من كل قول أو عمل أو فكر ليس له في ديننا حظ.
ثانياً: تقويم التاريخ الدعوي من حيث المصالح والمفاسد، وإبراز المصالح
الموهومة والمفاسد المزعومة من غيرها؛ ليكون البناء عليها مستقبلاً أكثر وضوحاً
وأكثر صواباً.
ثالثاً: توسيع دائرة (النقد الذاتي) وقبول الحق ممن جاء به كائناً من كان،
ومشاركة الآخرين في عقولهم باستحثاثهم على التقييم والتقويم.
رابعاً: السعي الحثيث إلى درء الخلاف ما أمكن، واستشعار أهمية الائتلاف
وضرورته بين أهل الحق وأصحاب الصراط القويم؛ ولا سيما في مثل هذه
المرحلة الحرجة.
خامساً: إعادة ترتيب الأولويات الشرعية؛ إذ إن زمن المد والتوسع يجعل
الملحّ قبل المهم؛ واستثمارُ الفرص قد يجعل بعض الزوايا تتضخم على حساب
زوايا مثلها أو أوْلى منها.
سادساً: الاتجاه إلى الفرد وبنائه بناءً صحيحاً، وصياغة تفكيره صياغة
واضحة بعدما طال إهماله في فترات المد. وهذا البناء الخاص عندما يكون همّاً
جمعياً؛ فإنه ينتج أمة قوية بمنهجها وبأفرادها.
سابعاً: تقييم الآخرين في الخنادق المقابلة تقييماً منطقياً بعيداً عن التضخيم
المغالى فيه، أو التحجيم المبالغ فيه؛ فعندما تعطي خصمك قدره الموضوعي فإن
هذا يجعلك قادراً أكثر على وضع الاستراتيجيات الفاعلة بعيداً عن الكر والفر اللذين
كانا منطلقين من ردود أفعال آنية.
ثامناً: كما يستفاد من زمن المد في إذكاء روح العمل والتعاون والمفاعلة
الاجتماعية؛ لذا يجب الإفادة من زمن الانكفاء في إذكاء روح الصبر والقناعة،
وليكون الزمن معيناً لكثير من معاني الصدق والإخلاص التي كان زمن المد مجرد
كلمات وعبارات، فأضحت في بعض البيئات واقعاً يبتلى فيه المؤمنون.
تاسعاً: وضع برنامج مرحلي لتجاوز زمن الانكفاء إلى زمن مد جديد واضح
المعالم، جلي الأهداف، موجه نحو الأمة، متخففٍ من أثقال الماضي وترسباته.
إننا بتفهم هذه المرحلة ودراستها دراسة منهجية شرعية وافية نصبح في
الخيرية التي أرادنا الله لها في قوله (تعالى) : [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس]
[آل عمران:110] والتي أرادها لنا رسوله الكريم في قوله: (عجباً لأمر المؤمن إن
أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً
له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له [3] .
أسلوب غير مقبول:
وأما الطريق الآخر لهذا الانكفاء فهو التلاوم المنبوذ، وتحميل الأخطاء
للآخرين، وتبادل الاتهام؛ فتمتلئ المرحلة بالمناوشات وتصفية الحسابات، ويكون
الحق فيه للأقوى؛ وعندها تتشرذم الكلمة، وتنفك الآصرة، وتتشتت الرؤية،
وتنتقل الجموع من سيئ إلى أسوأ، ومن مهلكة إلى أخرى، وتشتد دائرة الخناق
حتى يصبح الجميع أثراً بعد عين.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا
اجتنابه، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم.
__________
(1) في ظلال القرآن ج 1 ص 218 ط دار الشروق.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 315، وفتح الباري ج6 ص 177 واللفظ لمسلم.
(3) رواه مسلم 425 7 شرح النووي ح18 ص 325.(118/14)
تأملات دعوية
عوامل النجاح في العمل المؤسسي
بقلم: عبد الله المسلم
إن مجرد ممارسة العمل من خلال مجلس إدارة، أو من خلال جمعية
ومؤسسة خيرية لا ينقل العمل من كونه عملاً فردياً إلى عمل مؤسسي؛ فكثير من
المنظمات والجمعيات الخيرية الإسلامية التي لها لوائح وأنظمة، ومجالس إدارة
وجمعيات عمومية - إنما تمارس العمل الفردي؛ فالمنظمة أو الجمعية لا تعني إلا
فلاناً من الناس؛ فهو صاحب القرار.
وحتى يؤتي العمل المؤسسي ثماره المرجوة، وحتى يُجنب آثار العمل الفردي
كان لابد له من مقومات تسهم في إنجاحه، ومن أهم هذه المقومات:
1- أن يكون مصدر القرارات مجالس الإدارة، أو اللجان المخولة، لا أن
يكون القائد أو الفرد هو مصدر القرار، بل إن القائد يستمد صلاحياته من المجلس،
لا العكس، وأن تملك هذه اللجان مراجعة قرارات القادة ونقضها.
2- أن تكون لغة الحوار هي اللغة السائدة، وأن يكون التنازل عن الرأي
الشخصي حين يعارض رأي المجموعة أسلوب العاملين بما فيهم القادة، أما حين
يتمسك الفرد برأيه بحجة اقتناعه به؛ فسوف يفقد العمل المؤسسي قيمته.
ومن أعظم الشواهد على ذلك موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حين
استشار أصحابه في أُحُد، حين كان رأيه البقاء في المدينة، بل قد رأى -صلى الله
عليه وسلم- رؤيا تؤيد رأيه، لكنه تنازل عن رأيه لرأي جمهور أصحابه، وحين
انتهت الوقعة وتحققت رؤياه.. لم يَلُم أولئك الذين كان رأيهم الخروج.
3- التركيز في جداول الأعمال على المنطلقات والأسس، وعلى الخطوط
العامة، دون المسائل الإجرائية، أو تلك التي يكثر الجدل والخلاف حولها، أو
المسائل الإجرائية التي تحتاج لمجرد قرارات إدارية بحتة فهذه يجب أن تترك
للأفراد.
4- وجود أرضية ومنطلقات مشتركة لدى العاملين، ومن ثم فلابد للمؤسسات
والجمعيات الإسلامية من تحديد ثوابت ومنطلقات أساس في عملها تكون بمثابة إطار
مرجعي للعاملين في هذه القطاعات، وتشكل أصولُ أهل السنة والجماعة أهم هذه
القواعد والأسس.
ثم تكون هناك بعد ذلك منطلقات، ومعالم عامة توجه خط سير العمل تتناسب
مع المرحلة والظروف التي تعيشها المؤسسة، كل ذلك يجب أن يمثل الإطار الذي
ينطلق منه الجميع. أما حين لا تحسم هذه القضايا، أو حين تختلف المنطلقات فقد
لا ينجح العمل المؤسسي في أداء رسالته.
5- الاعتدال في النظرة للأشخاص؛ إذ تسيطر على كثير من مجتمعات
المسلمين نظرة للأفراد مبالغ فيها، وقد تصل الصورة إلى حد الغلو لدى بعض
الفئات المنحرفة، وحتى أهل السنة الذين سلموا من الغلو وتقديس الأشخاص قد لا
يسلم بعضهم من إعطاء هالة لبعض الأشخاص تترك أثرها في مدى استعداد هؤلاء
لمناقشة رأيهم، أو احتمال رفضه مع بقاء الاحترام والتقدير الشخصي؛ فحين يوجد
أمثال هؤلاء في ميادين العمل، فقد يشكلون ضغطاً وتوجيهاً غير مباشر للآراء.
ولعل عمر (رضي الله عنه) فطن لهذا المعنى حين عزل زياد بن ابي سفيان، فقال زياد في ذلك: لم عزلتني يا أمير المؤمنين: ألِعَجْزٍ، أم خيانة؟ فقال عمر:
(لم أعزلك لواحدة منهما، ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس) [1] . ...
__________
(1) مقدمة ابن خلدون (164) .(118/18)
مقال
النقد الهدَّام
مظاهره - أسبابه - علاجه
بقلم: مراد بن أحمد القدسي
دعاني للكتابة حول هذا الموضوع أهمية التعرف على هذا الخُلُق الذميم الذي
أصبح منتشراً بين بعض شباب الدعوة؛ حيث انبرى للنقد من لا يعرف آدابه ولا
يعرف ما هي الأمور المنتقدة والأسلوب الأمثل للنقد؛ وإسداءً للنصيحة لكل من يقع
في هذا الاتجاه الذميم، ولأهمية بيان آثاره الوخيمة على الدعوة والدعاة، ودفاعاً
عن إخواني الدعاة والعلماء والمصلحين: أضع بين يدي إخواني القراء هذا
الموضوع راجياً من الله التوفيق والسداد.
تعريف النقد:
يأتي النقد في اللغة بمعنيين:
الأول: نقد الشيء بمعنى نقره ليختبره أو ليميز جيده من رديئه.
الثاني: إظهار العيب والمثالب، وغمط الناس وبخسهم أشياءهم فيقال: فلان
ينقد الناس: أي يعيبهم ويغتابهم [1] .
وأهل العلم قسموا النقد إلى قسمين على نحو ما ورد في اللغة.
فسموا أحدهما: النقد البنّاء، وهو النقد الذي يقوّم به صاحبه الخطأ، ويحاول
إصلاحه.
وهو (واجب أو مستحب وهو الذي يحق الحق، ويبطل الباطل، ويهدف إلى
الرشد) [2] .
وسموا الآخر: النقد الهادم (أو الهدام) . وهو (محرم أو مكروه وهو ما يكون
لدفع الحق أو تحقيق العناد) [3] .
وهذا فيه إظهار عيب الآخرين للنيل منهم وتشويه سمعتهم والطعن في نياتهم
من غير حجة ولا برهان.
أهميه النقد البناء:
تكمن أهميته في عدة جوانب رئيسة ألخصها فيما يلي:
1- هو نوع من النصيحة تحقيقاً لقول رسول الله: (الدين النصيحة: لله
ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم) [4] .
2- هو كذلك نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ]
[آل عمران: 110] ولقوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره ... ) [5] .
3- وهو نوع من الجرح والتعديل؛ ذلك العلم الذي اختصت به أمتنا المسلمة
والذي حفظ الله به الدين من التحريف والغلو.
4- كذلك هو نوع من محاسبة النفس لقوله (تعالى) : [وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ] [الحشر: 18] ، ولما جاء في الأثر: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا،
وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا) .
مظاهر النقد الهدام:
فإذا عرفنا أهمية النقد البناء؛ فالمناقض له ذو سمات يلمسها المتابع وهي غير
خافية على اللبيب، ومن أهمها:
1- الجرح في شخصية من يوجه إليه النقد: كوصف بعض الدعاة بالميوعة
أو عدم القدرة على نطق بعض الحروف العربية؛ أو أن بضاعته في العلم مزجاة.
وهذا بعيد كل البعد عن التعرض للأخطاء من أجل تقويمها وتبيين الحق من
الباطل؛ مما يجعل الناقد مغرضاً وصاحب هوى. نسأل الله السلامة.
2- الجرح بلا دليل: فيتعرض بعضهم لجرح الآخرين من غير حجة ولا
برهان؛ وإنما للتشفي، وليصبح النقد مهنة لذلك المنتقد في نقد المخالفين.
فالجرح في أي داعية أو عالم، سواء أكان من أهل السنة أم من المبتدعة
دعوى تحتاج إلى مستند.
والدعاوى إن لم يُقِمْ أصحابُها بيناتٍ، فأصحابُها أدعياءُ
3- الاعتماد في النقد على حجة واهية:
إما لعدم التثبت، أو لعدم عدالة الناقل، أو لأنه يَهِمُ في خبره، أو تحميل
الكلام ما لا يحتمل؛ وهذا ملحوظ والله المستعان.
4- تتبع العثرات، وعدم الموازنة بين هفوة الداعية أو العالم وفضائله الكثيرة، بل وغَمْر تلك الفضائل العظيمة من أجل زلة وقع بها.
(ومن مستندات المشنعين) الجراحين: تتبع العثرات وتلمس الزلات؛ فمن ذا
الذي سلم من الخطأ غير أنبياء الله ورسله؟ وكم لبعض المشاهير من العلماء من
زلات لكنها مغتفرة بجانب ما هم عليه من الحق والهدى والخير؟
ولو أخذ كل إنسان بهذا لما بقي معنا أحد، ولصرنا مثل دودة القز تطوي على
نفسها بنفسها حتى تموت) [6] .
5- الطعن في النيات والمقاصد: بدعوى أن مقصد ذلك الداعية خبيث والحكم
عليه في نيته بالظن؛ وهذا مسلك خطير؛ فمعرفة ما في السرائر موكول إلى الله
(سبحانه وتعالى) ، مثل أن يقال: يظهر السلفية ويبطن الصوفية، أو أنه ذو نية
خبيثة، أو أنه صاحب فتنة ويريدها، أو أنه عدو للسنة.
6- التندر على الدعاة في المجالس، واستغلال أي فرصة للغمز والطعن
بحجة بيان الحق وتعرية الباطل وأهله؛ وهذا خُلق ذميم.
7- التهويل: في نقد بعض العلماء أو الدعاة، ورميهم بالكذب أو البدعة، أو
أنهم أخطر من اليهود والنصارى.
8- الطعن فيما يجيده ذلك الداعية أو العالم؛ فقد يكون بعض أهل العلم يشتغل
في دراسة الحديث فينتقد بأنه ليس لهم همّ إلا: حدثنا وأخبرنا، أو لاهتمامه بفقه
الواقع ومن يعمل فيه؛ فيتنقص بأن ذلك فقه (القواقع) مثلاً؛ بحيثُ يُزْهَدُ من هذا
الفن الذي هو من فروض الكفايات.
أسباب النقد:
سأحاول الإيجاز في عرضها حتى تظهر للعيان ومن أهمها:
1- الغيرة: الغَيْرةُ بالفتح محمودة من أجل دين الله وحرماته، لكنها قد تجر
صاحبها إن لم يتحرز شيئاً فشيئاً حتى يقع في لحوم العلماء والدعاة من حيث لا
يشعر.
وأما الغِيرَة بالكسر فهي مذمومة وهي قرينة الحسد والمقصود بها: هو كلام
العلماء بعضهم في بعض [7] .
2- الحسد: وهو يعمي ويصم؛ ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال أو
القرب من شيخه أو كسب رضاه فقد يبغي على إخوانه بسبب ذلك.
3- الهوى: هو كل ما خالف الحق وللنفس فيه حظ ورغبة من الأقوال
والأفعال والمقاصد [8] ورغبة النفس في الوقوع في أعراض الآخرين.
وكان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه) [9] .
4- التقليد والتعصب: (قد يوجد رجل ينقد آخر لا بناءً على علم أو فهم أو
دليل، بل مجرد تقليد أعمى: سمع فلاناً ينقده أو ينتقصه أو يذمه فسار على أثره
بغير هدى ولا برهان) [10] وهذا التقليد المذموم كان المشركون يفعلونه وكانوا
يقولون: [إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ] [الزخرف: 22] .
قال ابن مسعود (رضي الله عنه) : (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً: إن آمن..
آمن، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في الشر) [11] .
5- التعالم: لقد كثر المتعالمون في عصرنا، وأصبحت تجد شاباً حدثاً
يتصدر لنقد العلماء، وتفنيد آرائهم وتقويم قولهم، وهذا أمر خطير؛ فإن من أجهل
الناس من يجهل قدر نفسه ويتعدى حدوده) [12] [*] .
6- النفاق وكُرْهُ الحق: إن دسائس المنافقين والكارهين للحق من العلمانيين
بشتى اتجاهاتهم من أقوى أسباب النقد.
فالإخوة الذين يتبعون أعداء الدعوة من حيث يشعرون أو لا يشعرون
سيكونون فريسة سهلة فيما بعدُ لهم، فإنهم قد أعانوا الأعداء على إخوانهم؛ وهل
سيتركهم الأعداء؟ لن يتركوهم كما هو ملموس في الواقع.
7- سوء الظن: وهو حمل التصرفات، قولاً وفعلاً، على محامل السوء
والشكوك وسوء الظن [13] .
8- وقوع التفرق في الأمة: (وبهؤلاء المشنعين) آل أمر طلائع الأمة وشبابها
إلى أوزاع وأشتات وفرق وأحزاب، وركض وراء السراب، وضياع في المنهج
والقدوة، وما نجا من غمرتها إلا من صحبه التوفيق وعمر الإيمان قلبه. ولا حول
ولا قوة إلا بالله) [14] .
9- بُعد الأمة عن علمائها: إن تصنيف العالم الداعية وهو من أهل السنة
ورميه بالنقائص: ناقض من نواقض الدعوة وإسهام في تقويضها، ونكث الثقة،
وصرف الناس عن الخير، وبذلك ينفتح السبيل للزائغين) [15] .
فضلاً عما في ذلك من السعي في الأرض بالفساد؛ لأنه يوقع الشحناء
والبغضاء في صفوف الدعوة الإسلامية، ويعمل على تأخر النصر والتمكين للأمة.
10- ضياع الأوقات، وإهدار الجهود والطاقات والقدرات في غير فائدة تعود
على الإسلام والمسلمين.
علاج النقد الهدام:
يمكن علاج هذه النزعة التي يحاول بعضهم إثارتها وادعاء التعالم بواسطتها
بانتشار الأخلاق الإسلامية في نفوس أهل هذه الفئة ومن ذلك:
1- تذكر الخوف من الله وضرورة حفظ اللسان: عن البراء بن عازب
(رضي الله عنه) قال: قال رسول الله: (الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان
الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) [16] .
2- التجرد في النقد: وعدم الغيرة والحسد والهوى وعدم سوء الظن، فالغيرة
تهلك صاحبها وتجعله في همّ وغم؛ لأنه يحسد الآخرين ويغار منهم، عن أبي
هريرة (رضي الله عنه) قال: قال: رسول الله: ( ... لا تحاسدوا، ولا تناجشوا،
ولا تباغضوا، ولا تدابروا) [17] .
وأما الهوى فيضل الإنسان عن الحق وإن كان يعرف ذلك، فإذا صار الهوى
هو القائد والدافع صار أصحابه شيعاً يتعصب كل واحد لرأيه، ويعادي من خالفه
ولو كان الحق معه واضحاً؛ لأن الحق ليس مطلوبه) [18] .
والأصل في المسلم حسن الظن به: -قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا] [الحجرات: 12] (فأمر
الله عز وجل باجتناب كثير من الظن؛ لأن بعض هذا الكثير إثم) [19] .
وفي حادثة الإفك دروس ينبغي لكل مسلم أن يعيها فقوله (تعالى) : [لَوْلا إذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ]
[النور: 12] .
فكما أنه يحسن الظن بنفسه فعليه أن يحسن الظن بإخوانه.
ثم وعظنا الله (تعالى) بقوله: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ] [النور: 17] . وفي هذا تحذير أي تحذير لمن يفقه ذلك والله المستعان.
3- لا بد من الموازنه بين فضائل المنتقَد ومساوئه والحكم على الغالب:
هذا هو هدي النبي: ففي يوم بدر عندما رأى عتبة بن ربيعة بين المشركين
على جمل أحمر قال: (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر
إن يطيعوه يرشدوا) [20] .
وقال في أسارى بدر: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء
لتركتهم له) ، فيظهر من هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر محاسن
المشركين.
وهذا هدي السلف الصالح من بعده: قال سعيد بن المسيب: ليس من عالم
ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب؛ ولكن إن كان فضله أكثر من نقصه ذهب
نقصه لفضله؛ كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله) [21] .
وقال ابن القيم: (فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملةً، وأُهدرت محاسنه
لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها) [22] .
وقال الذهبي: (ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه
لاتباع الحق أهدرناه وبدّعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه
وكرمه) [23] .
(وهذا الكلام في الموازنة بين الحسنات والسيئات إنما هو في الحكم على
الأشخاص) [24] وكذلك الهيئات والجماعات.
أما في تصحيح الأخطاء أو ذكر الأمور الحسنة العظيمة والموافقة في الحق:
فإذا كنت في مقام رد خطأ عالم من العلماء فلا يلزم ذكر الحسنات، وعلى هذا فإذا
بينت خطأ إمام فقلت: أخطأ في الأمر الفلاني كفاك ذلك.
إذا كان بعض أهل البدع يجيدون فناً معيناً كعلم البلاغة أو النحو أو الصرف
أو المواريث فأثنيت عليه وذلك في مقام ذكر أي فن، كأن تثني على الزمخشري
بأنه بارع في علم البلاغة فلا بأس.
هذا إذا أمنت الفتنة على السامع، أما إذا كان السامع سيفهم الكلام على غير
وجهه ويظنه حكماً مطلقاً فلا بد من البيان [25] .
4- عدم رواية كلام الأقران: فقد قعّد السلف قاعدة عظيمة هي: (كلام
الأقران يطوى ولا يروى) . وقد ورد معناها عن السلف، فعن ابن عباس (رضي
الله عنهما) أنه قال: (خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على
بعض؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة) .
يقول الذهبي: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح
لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن
عصراً من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت
من ذلك كراريس) [26] .
5- الشعور بالولاء لمن تنتقده:
عندما نوجه أي انتقاد لأي داعيه أو عالم؛ لبيان الخطأ أو الزلة التي وقع
فيها فعلينا ألا نُفرِطَ في الأمر حتى يصبح الكلام فيه حديث المجالس، وكذلك لا
نبغضه بغضاً أشد من أعداء الإسلام المعادين له؛ لأن أصل الولاء ما زال بيننا
وبينه، قال ابن تيمية: (ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد
ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه؛ وهذا هو مذهب أهل
السنة والجماعة)
6- الاشتغال بأخطائنا نحن:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ... إن عبت منهم أموراً أنت تأتيها
وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه ... في كل نفس عماها عن مساويها
عرفتها بعيوب الناس تبصرها ... منهم ولا تبصر العيب الذي فيها [27]
7- عدم التهويل في الأمور الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد:
فقد تكون الأمور التي ينتقد عليها بعض الدعاة أو العلماء أمور اجتهادية يسوغ
فيها الخلاف، وقد يكون الخلاف فيها قد حصل عند السلف فيأتي بعضهم مُهوّلاً أن
فلاناً قد خالف في المسألة الفلانية، وأن هذا خلل في المنهج وانحراف عنه؛ وليس
الأمر كذلك؛ فلا ينبغي أن تجرنا الخصومة إلى هذا الحد؛ بل لا بد من الترفق
بإخواننا؛ فإن المخالفة تسوغ في الفروع وفي الأمور الظنية.
8- الأدب مع العلماء، والرجوع إليهم، ووضع الثقة فيهم:
فالكثير من العلماء يثنون على شخص أو هيئة أو جماعة لما علموا من حالهم
فترى هؤلاء الجراحين لا يقبلون منهم ذلك، ويقبلون ممن هم أقل منهم علماً ودراية؛ فلا بد أولاً إذاً من التأدب مع العلماء في كل الأحوال مع احترام آرائهم والثقة في
علمهم.
قال طاووس بن كيسان: (من السنة أن يوقر العالم) .
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول: (إن من إجلال الله (تعالى) :
إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام
ذي السلطان المقسط) [28] .
نصيحة عامة لمن ابتلي بالجراحين:
استمسكْ بما أنت عليه من الحق المبين من أنوار الوحيين الشريفين وسلوك
جادة السلف الصالحين، ولا يثيرنك تهييج المرجفين وتباين أقوالهم فيك فتزل عن
وقارك فتضل.
لا تبتئس بما يقولون، ولا تحزن لما يفعلون، وخذ بوصية الله سبحانه لعبده
ونبيه نوح (عليه السلام) [وَأُوحِيَ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلاَّ مَن قَدْ آمَنَ
فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] (هود: 36) .
ولا يثنينك هذا (الإرجاف) عن موقفك الحق وأنت داع إلى الله على بصيرة؛
فالثباتَ الثباتَ متوكلاً على مولاك؛ والله يتولى الصالحين.
ليكن في سيرتك وسريرتك من النقاء والصفاء والشفقة على الخلق ما يحملك
على استيعاب الآخرين، وكظم الغيظ والإعراض عن عرض من وقع فيك، ولا
تشغل نفسك بذكره، واحتسب ذلك عند الله.
وأنت بهذا كأنما تسفّ الظالم المَلّ؛ والأمور مرهونة بحقائها، [فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً] [الرعد: 17] والله أسأل للجميع التوفيق والسداد.
__________
(1) المعجم الوسيط: 2/944.
(2) الرد على المخالف للشيخ بكر أبو زيد ص 47.
(3) المرجع السابق ص49.
(4) أخرجه البخاري بهذا اللفظ، كتاب الإيمان.
(5) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، وقال هذا حديث حسن صحيح.
(6) تصنيف الناس بين الظن واليقين للشيخ بكر أبو زيد ص 31.
(7) لحوم العلماء مسمومة (د ناصر العمر) .
(8) الهوى وأثره في الخلاف للشيخ عبد الله الفتيمان ص 12.
(9) لحوم العلماء ص 21.
(10) النقد أدبه ص 99.
(11) النقد وأدبه ص 100.
(12) لحوم العلماء مسمومة ص 24.
(*) وللشيخ العلامة (بكر أبو زيد) حفظه الله كتاب عن (التعالم) أبدع فيه أيما إبداع وهو نسيج وحده كشف فيه هذه الظاهرة المرضية وننصح طلاب العلم بالاطلاع عليه مع قرينه كتاب: (حلية طالب العلم) للشيخ نفسه - البيان -.
(13) تصنيف الناس ص 32.
(14) تصنيف الناس ص 40.
(15) المصدر السابق ص 79.
(16) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة للألباني رقم الحديث 1871.
(17) أخرجه البخاري، كتاب الأدب.
(18) الهوى وأثره في الخلاف ص 23.
(19) منهج أهل السنة والجماعة في النقد ص 21.
(20) البداية والنهاية لابن كثير 3/268.
(21) حقيقة البدعة وأحكامها للشيخ سعيد الغامدي 2/359.
(22) مدارج السالكين لابن القيم 2/39.
(23) سير أعلام النبلاء للذهبي عند ترجمة ابن خزيمة 14/374.
(24) قواعد التعامل مع العلماء ص 138.
(25) قواعد في التعامل مع العلماء ص 138.
(26) منهج أهل السنة في النقد ص 61.
(27) لحوم العلماء مسمومة ص 44.
(28) رواه أبو داود (4843) .(118/20)
حوار
مع فضيلة: د. عمر الأشقر
حول مسائل علمية ودعوية وفكرية ملحّة
تحرص مجلة البيان على استضافة العلماء والدعاة والمفكرين المسلمين على
صفحاتها للتعريف بهم، والاستفادة من علمهم، وليُبدوا آراءهم في كثير من القضايا
الشرعية والفكرية والعملية التي عادة ما تكون محل اهتمام كثير من القراء الكرام.
ولقد سعدنا بموافقة فضيلة الدكتور عمر الأشقر (حفظه الله) ، على الحوار مع
البيان بالرغم من مشاغله العلمية التي تأخذ حيزاً كبيراً من وقته، وكذلك ظروفه
الصحية مؤخراً عافاه الله ومتعه بالصحة والعافية.
وهو (وفقه الله) معروف على الساحة الإسلامية عالماً فقيهاً وداعية موفقاً له
جهود علمية متميزة في التأصيل الدعوي الشرعي وبخاصة في العقيدة.
ويسرنا أن يشاركنا القراء الكرام الجلوس مع فضيلته والاستئناس بعلمه،
والاستفادة من توجيهاته.
ولما كان الحوار طويلاً لشموله كثيراً من المسائل المتنوعة فقد اضطررنا
لنشره على حلقتين، هذه أولاهما.
-البيان-
س1: يعاني العالم الإسلامي من ضمور في الوعي، وفي الوقت نفسه:
تُخرج المطابع سيلاً من المطبوعات التي لا يستطيع المسلم المعاصر ملاحقتها: فما
تفسيركم لهذه الظاهرة؟ وما الواجب على المسلم حيال هذا الكم من المطبوعات،
إذا أخذنا في الاعتبار ضغوط الحياة اليومية؟
ج1: ضمور الوعي الذي يوصَفُ به العالم الإسلامي الآن ظاهرة بارزة،
ولكنه ليس وصفاً كلياً عاماً؛ ودليل صدق ذلك: وجود قطاع كبير من أهل العلم
وأصحاب التوجه السوي يمتاز بالوعي المستنير، والرأي الحصيف، والعمق في
التعلم والتعليم، وليس ذلك قصراً على الذين درسوا في مدارس العلم الشرعي، بل
رأينا كثيراً من أصحاب التخصصات العلمية نبغوا في العلوم الشرعية، ووعوا
أحوال أمتهم، وعرفوا داءَها وأدواءَها، ولكن هذا الصنف قليل بالنسبة لعموم
المثقفين في العالم الإسلامي، فبعض المثقفين رضعوا ثقافة الغرب وفكره، ووقفوا
في الصف المعادي للإسلام، وآخرون وقفوا بعيداً عن مجال الصراع كأن الأمر لا
يعنيهم، وبعض الذين وقفوا في الصف الموالي للإسلام لم يستوعبوا الإسلام فقهاً
وأهدافاً، ولم يعوا مقاصده وقواعده؛ ولذا: فإن السفين تضطرب بهم، ولا يقرّ لهم
قرار على حال.
إن إغراق كثير من المثقفين من الذين يُحسبون على الإسلام وأهله في
تحصيل متع الدنيا، وانشغال آخرين بالتافه من الأمور، وقضاءهم أوقاتاً طويلة
أمام التلفاز يضيع كثيراً من الأوقات؛ وبذا لا تجد المؤلفات النافعة التي تدفع بها
المطابع كل يوم طريقاً إلى أبواب هؤلاء، وإن وجدت الطريق إلى بيوتهم، فيكون
مصير كثير منها الرفوف، لتكون زينة تحلى بها البيوت.
وبعض الذين لهم نَهَمٌ بالعلم قد لا يحسنون الاختيار لما ينبغي أن يقرأ ويفقه،
فتجدهم يقضون أوقاتاً طويلة في قراءة كتب أقل ما فيها أنها تضيع الوقت، لا أعني
بذلك الغثاء من القصص والمسرحيات الهابطة، ولا الكتب التي كتبها أعداء الإسلام، بل أعني تلك الكتب التي تحسب على الإسلام، ولكنها تمثل انحرافاً فكرياً أو
عقدياً، وقد يكون كاتبها صاحب مقاصد خبيثة يدس السم في العسل.
لقد أدرك المنحرفون عن سواء الصراط أن بضاعتهم التي أضلوا بها أمتنا
دهراً طويلاً قد بارت؛ ولذلك دفعوا ببعض منهم إلى لُبْس ملابس أهل العلم
ومزاحمتهم في الندوات والمحاضرات والتأليف من وجهة النظر الإسلامية؛ ولكنهم
على الحقيقة لم يدخلوا في الصف الإسلامي، لأنهم ما زالوا واقعياً في زمرة أهل
النفاق الذين يمكرون بالإسلام، ولبعض هؤلاء المنافقين ألسنة طويلة، وأقلام ندية
طرية طراوة جلود الأفاعي، وقد زاحم هؤلاء أصحابَ الفكر السوي والمنهج
الأصيل، وأخرجوا سيولاً من المؤلفات، عملت عملها في حرف المسار السوي،
وأخذت تدمر العقول والنفوس، وبدأ بعض البسطاء يُخْدعون بطرح هؤلاء.
وبعض المثقفين الذين تسأل عنهم لم يحسنوا الاختيار؛ فتراهم يقرؤون ما لا
يحتاجون إليه، ويتركون النافع من العلوم التي يحتاجونها، وتحتاج إليها أسرهم
وأمتهم؛ ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يلاحق اليوم ما تدفع به المطابع من
الصحف والمجلات والمؤلفات في تخصصه الدقيق، فضلاً عن أن يلاحق قطاعاً
واسعاً كالعلوم الإسلامية أو الأدبية؛ ولذا فإن على المسلم أن يحسن الاختيار، وأن
يحدد المسار الذي يحتاج إليه، وأهم ذلك ما يفقه به دينه، وبخاصة علوم الإيمان
التي تقر العقيدة في النفوس، وتهدي القلوب، وتبعث على العمل الصالح،
والسلوك القويم، وتقيم الموازين والقيم وفق تعاليم الإسلام العظيم، ويأتي بعد ذلك
العلوم التي تعرّف المسلم بأمته وأحوالها، وما جرى عليها من خطوب، وما تعانيه
من أدواء، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
وأحب أن أبيّن أن قمة العلوم التي تأتي في المرتبة الأولى هي علوم القرآن
والسنة النبوية؛ فإنها تمثل الوحي الإلهي الذي جاءنا بالهدى والنور والحياة، وبهذا
الوحي أحيا الله نفوسنا وأمتنا، وأنقذنا من الظلمات إلى النور، والعلوم الخيرة هي
التي تدور في فلك القرآن والحديث.
س2: المهتدي إلى طريق الله قد يصعب عليه أن يجد المؤسسة الدعوية التي
تتعهده بالتزكية والتعليم المطلوبين، وإن وجدها فهو يتحير في تعددها وتحزبها ...
فما الذي عليه حتى ينجو بدينه؟
ج2: هذه القضية ليست قضية المهتدي، بل هي قضية أصحاب الخط
الأصيل؛ فالمهتدي سيتلقف أول من يدعوه إلى الإسلام، وسيظن أن الذي يُعرَض
عليه هو الإسلام، فإن كان الذي تلقفه صاحب كتاب وسنة وُفّق هذا المهتدي أيما
توفيق، وإلا فإن هدايته ناقصة؛ وهذا يوجب على أصحاب المنهج من أتباع أهل
السنة والجماعة الذين فقهوا هذا الدين على نهج الصحابة ومن تبعهم بإحسان أن
يكثفوا جهودهم للدعوة إلى الله، وإقامة مراكز الهداية والتوجيه في شتى بقاع
الأرض، وأن يتلقفوا الذين بدت عليهم علائم الاهتداء إلى طريق الله، وأن يربوهم
على الإيمان، ويقودوهم بالإسلام، ويزكّوا نفوسهم بمنهج الله، ويخلصوهم من
شوائب الشرك والذنوب والمعاصي، ويقيموهم على نهج العبودية الحقة لله رب
العالمين، وعليهم أن يربطوهم بالرباط الوثيق الذي يجعل الدينونة لله رب العالمين، لا أن يُربطوا بالأشخاص والتجمعات، حتى إذا انهارت هذه التجمعات
والأشخاص انهار البناء كله في نفوس هؤلاء. إن الارتباط ينبغي أن يكون بالله
الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا يحول ولا يزول ولا يموت، قبل أن يكون
بالأفراد الذين يزولون ويحولون ويموتون ويتغيرون.
فإذا كان هذا المهتدي في حيرة من أمره، وجاء شاكياً مما هو فيه من الحيرة
وتشابك الطرق، فعند ذلك يُعرض عليه الإسلام الحق، وبخاصة عقيدة الإسلام،
والأهداف الكبرى للإسلام التي تحدد له الوجهة والطريق، قبل أن تُعرض عليه
المشكلات الصغيرة. إن الهدف الكبير الذي يقصده الإسلام هو تكوين الإنسان
الصالح بتحقيق منهج العبودية الحقة لله رب العالمين، وبذلك يحقق الإنسان الغاية
من وجوده فوق ظهر هذه الأرض، [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ]
[الذاريات: 56] .
إن الواجب على الدعاة في كل مكان ربط المهتدين بهذا الحق؛ فهو الذي
يحيي النفوس والقلوب، ويؤتي ثماره بغرس الطمأنينة بالحق الذي انتقل إليه
المهتدون، وحذار حذار من أن يكون الهمّ هو تكثير الأتباع، بدعوة المهتدين إلى
الانضواء تحت الرايات المرفوعة المختلفة؛ فيتمزق المهتدون ويتفرقون، وقد
يرتدّون على أعقابهم فيتحمل الدعاة المتنازعون وزر ردتهم، والله المستعان.
س3: التمسك بالكتاب والسنة والسير وفق ما يدلان عليه: دعوى عريضة
يدعيها كل فصيل من أبناء الحركة الإسلامية، ثم تختلف بعد ذلك المشارب والأفهام
والتطبيقات.. فهل هناك أسس مشتركة ينبغي أن تجتمع عليها فصائل العمل
الإسلامي بحيث لا تتنافر في عملها الدعوي؟
ج3: لا شك أنه يوجد تجمعات كثيرة تدعي الانضواء تحت راية الكتاب
والسنة، وعند التحقيق يتبين أن فئات كثيرة منها بعيدة عن هذه الدعوى، كما أن
أقواماً يدّعون أنهم مسلمون، والإسلام منهم براء.
إن القبول بالدين المنزل على عبد الله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-
والعمل به يفرق أهل الإسلام عن أهل الكفر والشرك، فالذي يؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، ويقبل بالشريعة
المنزلة على عبد الله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويتبرأ من الشرك
وأهله، هذا مسلم، فإن ادعى الإسلام والإيمانَ من لم يؤمن بأصول الإيمان، ولم
يتابع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويلتزم بشريعته فهو مدّعٍ للإيمان والإسلام؛
وإيمانُه مردود؛ كما يدعي ذلك بعض اليهود والنصارى وغيرهم ممن بقي على
عقيدته ودينه.
فمن قَبِلَ بالإيمان والإسلام، وعرف حدود الإسلام والإيمان، وتابع الصحابة
ومن اتبعهم بإحسان على طريقتهم، وكان الكتاب والسنة هو الحاكم عليه دون
غيرهما: فهذا هو السائر على الدرب القويم والصراط المستقيم.
وقد خالف أصحابَ هذا المنهج أقوامٌ أصّلوا أصولاً وقعّدوا قواعد مخالفة لما
كان عليه الصحابة، فهؤلاء وإن كان اسم الإسلام يجمعنا بهم، إلا أنهم انحرفوا في
مسارهم، وهذه هي الفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم. وقد
أصّلت كل فرقة من هذه الفرق أصولاً خالفت بها ما كان عليه الصحابة ومن سار
على دربهم من بعدهم، الذين هم أهل السنة والجماعة، وقد وضع أهل السنة
والجماعة أصولاً عاصمة من الزيغ إلى طرق أهل الضلالة من هذه الفرق المنحرفة، وقد اجتهد أهل السنة في تحديد هذه الأصول وتفقيه طلبة العلم بها، حتى لا
ينحرف بهم المسار، وهذه الأصول منها العلمي في مجال العقيدة، ومنها العملي،
ومنها قواعد ضابطة للعلم والعمل، وقد حاول دعاة الفرق الضالة اختراق الحواجز
التي أقامها العلماء بدعوتهم إلى توحيد الأمة الإسلامية بعيداً عن الأصول الضابطة
التي وضعها علماء أهل السنة والجماعة، فأرادونا أن نتفق على الاسم العام الذي
يجمعنا بهم من غير أن يغيّروا ضلالهم، وتمادى بعض هؤلاء بادعاء أنهم سائرون
وفق منهج الصحابة، وأنهم سائرون على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
وإذا حققتَ في دعوتهم رأيت أن همهم هو تحطيم الحواجز التي أقامها أهل السنة
كي يبث هؤلاء دعوتهم وفكرهم؛ فهم يمكرون بأهل السنة بدعوات التقارب بينهم
وبين أهل السنة.
وعندما يأتي دعاة أهل السنة إلى مجامع الحوار يُمنَعون من الدعوة الواضحة
الصريحة التي تُظهِر الحق، وتكشف ظلمة الباطل؛ بحجة أن الصراحة تفرق ولا
تجمع، إذن: لماذا الاجتماع؟ وعلامَ يكون التقارب إن مُنِعْنا من إظهار الباطل
الذي تلبّس به هؤلاء؟ إن هذه الدعوات مدخولة مزيفة، وليس مثلها إلا تلك
الدعوات التي تدعو إلى التقارب بين الأديان.
أما الذين ليس لهم إلا صفة واحدة تجمعهم وهي استقامتهم على منهج الكتاب
والسنة وفق الأصول التي جاء بها هذا الدين، وفَقِهَها الرعيلُ الأول، فهؤلاء هم
أهل السنة والجماعة، ولا يزال هؤلاء هم السواد الأعظم في الأمة الإسلامية،
وهؤلاء فيهم العلماء والعوام، وعلماؤهم وعوامهم فيهم المستقيم والمنحرف،
والمنحرف قد يكون انحرافه بدعياً جزئياً أو عملياً بالذنوب والمعاصي كما قال تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخََيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] [فاطر: 32] .
وقد يوجد في العلماء الذين ينضمون إلى هذا الصف من تلبّس بشيء من
باطل الفرق الأخرى؛ فالباطل قد يَرُوجُ شيء منه على كبار أهل العلم؛ ولكن
هؤلاء على الرغم من ذلك لا يرضون أن يكونوا على منهج مخالف لأهل السنة
والجماعة؛ فهؤلاء من أهل السنة، والباطل الذي تلبسوا به مردود عليهم، فلا
يخرجون من إطار أهل السنة بخطأ اجتهدوا فيه، ولا يُقَرّون على هذا الباطل الذي
راج عليهم.
والحركات التي تُنسب إلى الإسلام وتوصف بأنها حركات إسلامية منها ما هو
داخل في إطار أهل السنة والجماعة، ومنها ما هو في إطار الفرق المخالفة لأهل
السنة والجماعة؛ فالحركات التي في إطار أهل السنة والجماعة، هي التي نشأت
في ديارهم، وتدعو بدعوتهم، وليس لها إلا الكتاب والسنة، فلا تدعو إلى غيرهما، وتنادي بالعودة إلى الإسلام؛ فهذه من أهل السنة والجماعة، على تفاوت بينها في
فقه أصول أهل السنة والجماعة، وعلى تفاوت بينها في الفقه في كتاب الله (تعالى) ، وعلى تفاوت بينها في فقه الأصل الأصيل الذي قام عليه الدين وهو فقه الإيمان،
وتحقيق العبودية لله رب العالمين.
لقد أخطأ فريق عدّ هذه الجماعات فِرَقاً أراد من المسلمين أن يصارعوها
ويقاتلوها ويدمروها، وأحدثَ مثل هذا الموقف شرخاً كبيراً في حياة الأمة الإسلامية
في عصرنا الراهن، فزادنا هؤلاء غفر الله لهم خلافاً ونزاعاً وجدالاً، ولا يمنع هذا
الفهم للحركات الإسلامية المعاصرة في إطار أهل السنة من مناصحة القائمين عليها
وأتباعها، وبيان ما وجد عندها من قصور وخطأ؛ فالدين النصيحة.
وأمراض هذه الجماعات منها ما هو قديم وجد في عصور سابقة، ومنها ما
هو جديد؛ لأنه يتعلق بالدعوة إلى استئناف الحياة الإسلامية في ظل أوضاع بعيدة
عن الإسلام في كثير من ديار الإسلام، والحركة بالإسلام في ظل هذه الأوضاع
التي يعيشها العالم الإسلامي تحتاج إلى فقه للإسلام؛ فكثير من أوضاع المسلمين
اليوم تدخل في إطار النوازل المستجدة التي تحتاج إلى أن تُفْقَهَ في ظل نصوص
الشريعة وقواعدها ومقاصدها؛ والعلماءُ يختلفون في هذا المجال أيما اختلاف،
والاختلافُ في النوازل المستجدة يختلف فيه المجتهدون، ومثل هذا الاختلاف لا
يقطع ما بين العلماء من ود.
إن الذين جعلوا التجمعات الإسلامية فِرَقاً كالخوارج والمعتزلة لم يفقهوا المسألة
حق الفقه، ولم يتبين لهم الصواب في هذه المسألة، وإن كان كثير من أهل العلم
أصاب الحقيقة، وتبين له وجه الحق فيها، والله المستعان.
أما الحركات الإسلامية التي نشأت في رحم الفرق المخالفة لأهل السنة
والجماعة، فإنها تعد من تلك الفرق الضالة، كالجماعات التي نشأت في البلاد
الشيعية، ملتزمة بالأصول التي يقوم عليها مبدأ تلك الفرق من ضلال وانحراف.
وبناء على ما تقدم يظهر لك أن الاتفاق بين الجماعات التي تنسب إلى أهل
السنة والجماعة كبير والخلاف بينها قليل، بل إن الخلاف بينها سببه نشوء كل منها
في ديار بعينها، وعندما يلتقي قادة هذه الجماعات أو أتباعها فإنهم لا يجدون بينهم
اختلافاً كثيراً، بل إن كثيراً من اختلافهم اختلاف شكلي؛ ذلك أن كثيراً من هذه
التجمعات إنما قامت لتكون قوة تأخذ بيد الأمة الإسلامية وتنهض بها، ولم تتوجه
إلى بناء منهج عقدي أو فقهي، وأكثرها إنما يعرض منهجاً لإعادة مجد الإسلام
وتوحيد الأمة وإعادة الشريعة الإسلامية حاكمة للأمة الإسلامية.
وفي ظني أن أصحاب هذه التجمعات التي تدعى بالحركات الإسلامية قد
قصروا في حق أنفسهم؛ فالواجب عليهم أن يتوحدوا فيما بينهم، خاصة وأن
الأصول التي يقومون عليها أصول واحدة، فدعوتهم واحدة، وعقيدتهم واحدة،
ودينهم واحد، ورسولهم واحد، وكتابهم واحد، وكثير من الاختلاف الذي بينهم
شكلي، بل إن كثيراً منه قائم على سوء فهم، أو سوء ظن، أو أنه مفتعل.
وعلى فرض أن اجتماعهم في كيان واحد غير ممكن، فالواجب أن يكون
هناك منتديات ومنابر للحوار تجمع هؤلاء، يطرح فيها القضايا الأصول التي تثير
الخلاف، ومتى أدام القائمون على هذه الحركات الاجتماع والتباحث في ظلال
الأدب الإسلامي الذي يلتزم قول الحق بأدب الإسلام من غير تعصب ولا تحامل،
فإن عصراً جديداً سيفتح أمام دعاة الإسلام وأهل العلم، قد يثمر ثماراً طيبة،
ويحطم كثيراً من الظنون والأوهام الخاطئة التي يحملها بعض الدعاة تجاه الآخرين.
إن إحسان الظن بالآخرين وتلمس العذر لهم، ومحاجّتهم بالتي هي أحسن،
وتبصيرهم بالحق من منطلق الود والحب والإخاء والنصح والحكمة يقرّب بين دعاة
الإسلام والعاملين به والمتحركين به، وأنا أقول هذا من خلال تجربة شخصية، فأنا
حبي للإسلام، ودعوتي إلى الحق، وكل من بذل من نفسه وماله للإسلام ونصرته
فهو محل تقديري واحترامي، وله في نفسي إعزاز وإكرام، ولا يمنع ذلك كله من
النصح له من منطلق الحرص عليه، والإحسان له، من غير استعلاء ولا استكبار
ولا صلف، بل هي أخوة الإسلام ومودته، يجادل بالتي هي أحسن، ما دمنا نتفق
في المنهج والأصول، وتجمعنا دعوة أهل السنة والجماعة، وقد حمدت هذا
المسار، ورأيت ما فيه من خير، ولا يمنع ذلك من أن ينالك الأذى من الآخرين إن
كنت كما وصفت، ومع الأذى الصبر، وفق ما أرشد الله إليه في قوله: [وَالْعَصْرِ
(1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: 1-3] ومع الصبر والأذى يكون الغفران وعدم تتبع
سقطات الآخرين؛ فلقد كان الأسوة القدوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغفر
للذين أساؤوا إليه حتى من أهل النفاق والشقاق، وحسبك أنه (عليه الصلاة السلام)
صلى على رأس النفاق ابن أُبَيّ، وألبسه ثوبه، حتى نهاه الله عن الصلاة على مثله
والقيام على قبره.
س4: ولكن قد ينظر كل فصيل إلى الآخر على أنه معوق لعمله، وأنه كي
يحدث التآلف يجب على الآخر الانضواء تحت لوائه!
ج4: جواب هذا السؤال قد عُلِمَ أكثره من جواب السؤال السابق، فالجماعات
القائمة على أساس من منهج واحد: منهج أهل السنة والجماعة، التي ليس لها
أصول غير الكتاب والسنة، ينبغي أن تكون جماعة واحدة، فإن عسر عليها ذلك
فينبغي أن تتعاون فيما بينها، وأن تحكّم كل جماعة الإسلام في علاقاتها بالجماعات
الأخرى، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ولا يغتابه، ولا يدل على
عوراته، وينصح له، ويدعو له بظهر الغيب، تسره أفراحه وتحزنه أتراحه،
الأفراد في ذلك والجماعات سواء، فإذا نظرت كل جماعة إلى الأخرى على أنها
معوقة لعملها، مضادة لها، فإن ذلك يحدث النزاع والشقاق من الجماعات، فتسعى
كل جماعة للمكر بالأخرى، والبحث عن عيوبها وأخطائها، فتوجه الجهود إلى غير
الهدف الذي يفرضه عليها دينها، وعند ذلك يكون الفشل [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] .
س5: بعض المهتمين بشؤون الصحوة يعزو التفرق الحادث بين أفراد هذه
الصحوة إلى أنه ناتج عن أزمة أخلاق وليس عن أزمة فكر، فما مدى موافقتكم على
هذا الرأي؟
ليس هذا القول صحيحاً على إطلاقه؛ فأسباب التفرق والنزاع مختلفة متعددة، وواحد من هذه الأسباب مرده إلى عدم تمسك الفرقاء المتنازعين بأخلاق الإسلام،
وعدم أخذهم بما ألزمهم الله به تجاه إخوانهم في الإسلام؛ ومنهم الجماعات الإسلامية
الدائرة في فلك أهل السنة والجماعة كما سبق بيانه، وأزيد هنا: أن بعض قادة هذه
الجماعات قد يكون همه تأصيل الخلاف، حتى تمتاز جماعته عن غيرها بأصول
خاصة بها، ومحاولة إثارة الخلاف، كي يحافظ على أتباعه، ومن سار مساره،
وقد يدخل على بعضهم حب الرئاسة والهوى، بحيث يكيف النزاع على أنه نزاع
منهجي إسلامي، وهو في الواقع نزاع على المناصب والرئاسات، وبعضهم في
سبيل تكثيره الأتباع والأنصار يطيل في تزكية نفسه وجماعته وذم الآخرين من غير
بينة ولا استبصار، فيدعي في تزكية نفسه وجماعته ما ليس فيهم، ويرمي الآخرين
بما ليس فيهم؛ وكل ذلك داخل في الجانب الأخلاقي والأزمة الأخلاقية. ولكن
الخلاف والنزاع ليس قصراً على ما يقوله هؤلاء؛ فإن الجهل بشيء من الحق الذي
جاء به الإسلام قد يؤدي إلى ظلم الآخرين، وقد تناول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله تعالى في حديثه عن صفة العبادات الظاهرة التي حصل فيها نزاع بين الأمة في
الرواية والرأي تناول أنواع الفساد الذي حصل بسبب ذلك، وهذه الأنواع تصلح
لأن تكون أسباباً للنزاع والخلاف الثائر بين الجماعات في هذه الأيام.
وفي ذلك يعدد رحمه الله تلك الأسباب قائلاً:
الأول: جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه
الله ورسوله، والذي سنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، والذي أمرهم
باتباعه.
الثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، ونعيهم عليهم تارة
بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما
أوجب الله من حقوقهم وصلتهم لعدم موافقتهم لهم على الوجه الذي يؤثرونه حتى إنهم
يقدمون الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخراً عند الله
ورسوله، ويتركون من يكون مقدماً عند الله ورسوله لذلك.
الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم متديناً باتباع
الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من
الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة كالخوارج
والروافض والمعتزلة، ونحوهم.
الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم
يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي
الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي
والسلاح، وببعضهم إلى الهجران والمقاطعة، حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض!
وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله.
والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال (تعالى) : [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً] [آل عمران: 103] وقال: [إنَّ الَذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [الأنعام: 159] .
النوع الخامس: ... شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما أهل السنة
والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعضها ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه
سائر الملل متفقون، وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة، ومن جهة تنازعهم ورأيهم
أخرى.
هذا الذي ذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه بشيء من الاختصار يصلح لأن يكون
أسباباً لفرقة الجماعات فيما بينها على تفاوت بينها فيما تلبّست به.
وللحوار مع فضيلة الشيخ عمر بقية في العدد القادم إن شاء الله(118/30)
نص شعري
الدولة المسخ
شعر: مروان كجك
دَعُوهَا تعِشْ بَيْنَنَا سَيّدَهْ ... تُجِيدُ النّكَايَةَ وَالْعَرْبَدَهْ
وَتَجْعَلُ مِنّا رُسُومَ رِجَالٍ ... يَلُوذُونَ بِالصّمْتِ وَالْهَدْهَدَهْ
تُقَطّعُ أوْصَالَنَا كُلّ حِينٍ ... ونُشْوَى عَلَى نَارِهَا المُوقَدَهْ
وتَقْتَلِعُ الشّوْكَ مِنْ كُلّ صِقْعٍ ... وَتُلْقِيهِ فِي أَرْضِنَا الْمُجْهَدَهْ
وَتَبْقَى الطّلِيقَةَ مِنْ كُلّ قَيْدٍ ... وَأبْوَابُنَا دُونَنَا مُوصَدَه
لَهَا العُرْسُ وَالقُرْصُ وَالْهَيْلَمَانُ ... لَهَا المَاءُ وَالشّاءُ وَالأَرْصِدَهْ
***
دِمَانَا لِصُنْعِ فَطِيرِ الْيَهُودِ ... فَقُلْ لِلشّرايِينِ والأَوْرِدَهْ:
أَفِيضِي مِنَ الْخَيرِ إنّ اليَهُودَ ... جَدِيرُونَ بِالأَخْذِ وَالْبَغْدَدَهْ
وَلِمْ لا وَنَحْنُ ضَلَلْنَا الطّرِيقَ ... وَصِرْنَا فُرَادَى بِلا أَفْئِدهْ
وَلَمْ يَبْقَ مِنّا سِوَى حَشْرَجاتٍ ... وَرُوحٍ مِنَ الغَرْبِ مُسْتَوْرَدَهْ
نَرُومُ الْعَدَالَةَ مِنْ ظَالِمِينَ ... وَنُؤْمِنُ بِالمِلّةِ الْمُلْحِدَهْ
وَأُمّتُنَا أصَبَحَتْ كَالْهَشِيمِ ... عَنِ الأَمْرِ والنّهْيِ مُسْتَبْعَده
نَلُوذُ بأَعْدَائِنا إنْ فَزِعْنَا ... وَنَهْفُو إلَيْهِمْ بِلا مَحْمَدَهْ
وَأحْوالُنَا يَا سَوَادَ الوُجُوهِ ... إلَى غَيْرِنَا أصْبَحَتْ مُسْنَدَهْ
يعيّرُنَا الْخَلْقُ أَنّا هُزِمْنَا ... وَتَنْثُرُنَا الرّيحُ كَالأَسْمِدَهْ
وَيَرْفَعُنَا الشّوْقُ نَحْوَ المَعَالِي ... وَتُسْقِطُنَا حَالُنَا الْمُكْمَدَهْ
***
ولَكِنّ هَذَا الشّقَاءَ الْمُرِيعَ ... سَيْذْهَبُ يَوْماً وَلَنْ نَفْقِدَهْ
وَيَبْزُغُ فَجْرٌ سَخِيّ العَطَاءِ ... يُعِيدُ لَنا دِرْعَنَا الْمُسْرَدَهْ
فَلا تُيْأَسُوا يَا كِرامَ الوُجُوهِ ... فَإنّ غَداً يَحْمِلُ الْمَوْعِدَهْ
ضِياءاً وَرِيّاً وَفَجْراً جَدِيداً ... ومِيلادَ أُمّتِنَا السّيّدَهْ(118/40)
ندوات ومحاضرات
التطورات الأخيرة لعملية السلام
والتوقعات المستقبلية
(1من2)
إعداد/وائل عبد الغني
إيماناً من مجلة البيان بأهمية الدور الإعلامي في معالجة قضايا الأمة معالجة
إسلامية تستند إلى تأصيل شرعي ورؤية علمية، فقد رأينا أن نطرح إحدى قضايا
الأمة في حاضرها على عدد من المختصين ممن عُرِفوا بولائهم للحق ونصرتهم
للدين في ندوة؛ لنحيط بالتطورات الأخيرة لعملية السلام والتوقعات المستقبلية لها
من جميع جوانبها، ونخلص إلى رؤية متكاملة لتلك القضية التي هي قضية
الحاضر والمستقبل في أهم جوانبها.
ضيوف الندوة:
1- الدكتور: محمد عبد المنعم البري رئيس جبهة علماء الأزهر والأستاذ
بكلية الدعوة الإسلامية.
2- الدكتور: جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعتي القاهرة وأم
القرى سابقاً والباحث والمؤلف المعروف.
3- الدكتور: حامد عبد الماجد الأستاذ بقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد
والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
4- الأستاذ: كمال السعيد حبيب الكاتب والمحلل السياسي بعدة صحف عربية.
بداية نرحب بالضيوف الكرام في هذه الندوة التي نأمل أن تبلغ آفاقاً من
الرصد والتحليل تغني القارئ عن كثير من التحليلات التي يشوبها غبش في
التصورات وعدم صفاء في المنطلقات.
فهذا العام هو عام 1997م وهذا يعني مرور قرن كامل على مؤتمر بال،
وخمسين عاماً على قيام (إسرائيل) ، وثلاثين عاماً على احتلال القدس، وعشرين
عاماً على أول اتفاقية مع اليهود، والحصاد: تَسَارُعٌ عجيب في الأحداث،
وتضارب في المواقف؛ لذا نحب أن نضع أمامكم القضية بجوانبها لنغطيها جانباً
جانباً، ولتكن نقطة البداية انطلاقاً من عمليات السلام.
* فنريد من الدكتور حامد عبد الماجد رصداً تاريخياً لعملية السلام وتطورها
وأهم الدلالات التي نخرج بها.
* بداية أشكر مجلة البيان ...
إذا أردنا أن نفهم طبيعة عملية (التسوية السياسية) الجارية الآن، فعلينا أن
نعود إلى الاتصالات السرية بين الزعماء العرب والصهاينة في أعقاب نكبة 1967م
التي أدت إلى قبول النظام الناصري لمبادرة روجرز في ذلك الوقت، مروراً
بالمفاوضات التي جرت تحت رعاية كيسنجر بعد حرب 1973م، تلك المفاوضات
التي مهدت لاتفاقية (كامب ديفيد) ؛ لنجد أن القيادات العربية أبدت استعدادها لقبول
الحلول الوسط (مبدأ التوفيق) ، حيث اختفت شعارات (تحرير الأرض المحتلة)
وتواضعت الآمال لمجرد (إزالة آثار العدوان) بالانحساب إلى حدود ما قبل النكبة.
وتم القبول بمرجعية القرارات الدولية ومنها القراران: 242، 338؛ اللذان
يكرسان وجود الكيان الصهيوني وشرعيته، وهذه الخلفية تبرز لنا ثلاث حقائق
استمرت في إطارها عملية التسوية السياسية:
الأولى: تغير الرؤية الطبيعية المصيرية لهذا الصراع على الأقل من قِبَلِ
القيادات العربية واختفاء مرجعية (الحقوق العربية) والأراضي المحتلة والمغتصبة
لتحل محلها (التسويات السياسية) و (التنازلات المتبادلة) من خلال قرارات الأمم
المتحدة.
الثانية: اختيار القيادات العربية لمنهج جديد هو (منهج التفاوض السلمي)
الذي جاء بديلاً عن منطق استمر لقرون طويلة إزاء التعامل مع الصراعات
المصيرية، ألا وهو منطق الجهاد وقوة السلاح؛ وبالتالي اعتبرت حرب 1973
حرباً (تحريكية) .
الثالثة: أن القيادات والأنظمة الحاكمة بدأت التفاوض وهي في أسوأ أوضاعها
من ناحية فقدان الإرادة السياسية واتبعت أسلوب (التفاوض السري) الذي يجري
تحت رعاية المخابرات الدولية، إلى جانب الاجتماعات المعلنة التي تبدو فيها
الأنظمة أمام الرأي العام الداخلي (متماسكة) وأحياناً (متصلبة) .
وكانت اتفاقية أوسلو (التي تعتبر أسوأ اتفاقية (إذعان) عرفها تاريخ
الصراعات المصيرية) أوضح نموذج لذلك.
* البيان: الأستاذ كمال، هل لديك إضافة؟
أ. كمال: نعم أريد أن أجلّي بُعداً خطيراً في الصراع، وهو غياب الجانب
الإدراكي لطبيعة الصراع لدى القيادات العربية، وأعتقد أن من أخطر استراتيجيات
العدو التي طرقتها القيادة الصهيونية في التعامل مع القيادات والجيوش العربية
محاولة هي تغيير إدراكها عن طريق إقناعها باستحالة حسم الصراع مع اليهود إلا
من خلال السلام! وهذا ما تحقق فعلاً، وهذا يدل على أن الأنظمة العربية لم تكن
جادة في حرب إسرائيل، وهذا الشعور تسرب إلى كل الأجهزة التي كانت موجودة
آنذاك بما في ذلك الجيش؛ والسر في ذلك هو تبني القيادات العربية منهجاً في
الصراع قائماً على استبعاد الدين، واستبعاد الرؤية الصحيحة للصراع!
* إذن هذا يدفعنا للوقوف على بنود اتفاقية أوسلو: ما مدى واقعيتها، وما
حدود تطبيقها الآن؟
د. حامد: بداية جاءت اتفاقية (أوسلو (لتشكل تراجعاً عن صيغة (مدريد) .
اتفاقية أوسلو (1) تحدثت عن اعتراف متبادل بين (دولة إسرائيل) كدولة،
و (منظمة التحرير الفلسطينية) كمجرد ممثل للشعب الفلسطيني دون الإشارة إلى وطن
قومي لهم أو (دولة فلسطين) .
كما أن هذا الاتفاق لم يتطرق لمسائل مهمة، مثل: مسألة المستوطنات،
الحدود، اللاجئين، القدس ... إلخ
ثم تبلور ذلك في اتفاق عملي يكون بداية لحكم ذاتي فلسطيني في غزة وأريحا، أما أوسلو (2) فهي خاصة بإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي، وتسلم الفلسطينيين
مهام الحكم الذاتي في بقية مدن الضفة الغربية.
أما ما تم تطبيقه بالفعل من هذه الاتفاقية غير المتكافئة بين جانبين فإنه يكاد لا
يذكر؛ فرغم مرور عامين تقريباً إلا أنه لم يحدث تغير ملموس في الاتفاق الذي لا
يشمل سوى 20% من مساحة فلسطين التاريخية مع مواجهته للعديد من التحديات
في تطبيقه، حيث لم يتم إعادة الانتشار في مدن الضفة في التوقيتات المحددة، بل
زاد الحصار على مناطق السلطة الوطنية لملاحقة عناصر حماس. ومع وصول
الليكود إلى السلطة تكشفت النوايا، واتضحت المواقف التي كان يراوغ فيها بيريز، وأعلن نيتن ياهو عن برنامجه الآتي:
1- (الأمن) هو الاعتبار الأول في أي سلام توقعه إسرائيل.
2- رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة.
3- تمتع إسرائيل بحرية كاملة في الضفة والقطاع لا سيما في معركتها ضد
(الإرهاب) .
4- احتفاظ إسرائيل بسيادتها على المناطق ذات الأهمية الأمنية وأيضاً
المستوطنات اليهودية.
5 - الاحتفاظ بالموارد المائية في الضفة دون تقسيمها.
6 - القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وإنهاء كافة أنشطة السلطة
الوطنية في المدينة.
وبهذا يتضح أن حكومة الليكود تنصلت من كافة الاستحقاقات السياسية التي
نصت عليها كافة الاتفاقيات الموقعة، وجمدت عملية التفاوض من جانب واحد تحت
ذرائع أمنية.
* د. عبد المنعم البري: ما موقف الشرع الإسلامي إذن من هذه الهرولة
التي ملأت الآفاق نحو عملية السلام من قِبَلِ العرب؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فإني أشكر مجلة البيان على
هذا الجهد البناء، وأسأل الله أن يجعل هذا العمل مباركاً نافعاً، وألا يحرمنا أجره.
الهرولة ليست جديدة في تاريخ الصراع؛ ففي القرآن الكريم نرى نظائر لها
في الصدر الأول على يد الضعفاء: [فَتَرَى الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَاًتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا
عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِين] [المائدة: 52] . واليهود هم اليهود كما صوّرهم
القرآن.. يشهد بذلك تاريخهم وواقعهم، وقد كشفت لنا الأحداث طرفاً من
مخططاتهم لضرب الإسلام والسيطرة على العالم، من أجل ضمان استقرار أبدي
لأمن إسرائيل.
لذا: فالهرولة هي الهرولة في كل وقت، وحكمها محرم بنص الكتاب.
والجديد هو أن جِدهم في قضيتهم أفسح لهم جميع المحافل الدولية، ومكنهم من
التغيير في كل المجالات؛ ولذا طمع ضعاف النفوس في رضاهم!
* وما ثمن هذه الهرولة من جهة إسرائيل أولاً؟
أ. كمال: الصهاينة ثوابتهم لا تتزحزح، ولكن أطماعهم تزيد؛ فهُم جميعاً
بمن فيهم (اليسار والشيوعيون والعلمانيون) يستندون إلى المقولات التوراتية،
ويصيغون صراعاتهم مع العالم الإسلامي على أساس أنه صراع ديني عقدي
مصيري.
أما المهرولون فينظرون للصراع على أنه صراع حدود لا وجود، وأنها
مسألة سياسة لا صلة لها بالأديان؛ ومن هنا نشأ التساهل في الاستسلام لمطالب
اليهود، وبالتالي الهرولة.
أضف إلى ذلك أن استفادة اليهود من المنطلق التاريخي في الحرب كان
مستحضراً من قِبَلِ العقلية الصهيونية بحيث استفادوا منه استفادة عظيمة وهو ثابت
آخر فنرى سيناريوهات الصراع تتكرر بصورة تكاد تكون حرفية؛ فمراسلات
حسين مكماهون تكررت مع السادات بعد 1973م، ثم مع عرفات بعد ذلك، حيث
كان يتم التخاطب مع عقلية القائد الذي يدير الصراع من منطلق قائم على تحليل
نفسية هذا القائد؛ وبذلك يتضح أن اليهود يقبضون ولا يدفعون.
* لا شك أن فاتورة الهرولة مكلفة جداً للعرب؛ فما أهم بنود هذه التكاليف؟
أعني: ما أعظم الخسائر من جرّاء هذه الهرولة؟
أ. كمال: الهرولة نجم عنها خسائر عظيمة بدأت بعزل مصر عن أداء
دورها بوصفها دولة مركزية في النظام الإقليمي العربي وقت أن كان هناك نظام
إقليمي عربي؛ وهذا أدى إلى نوع من التحركات الخفية نحو التطبيع أو على الأقل
محاولة تهيئة الرأي العام المعارض لما تستبطنه باقي الأنظمة؛ والعقلية العربية لم
تكن محصنة؛ مما أدى إلى سهولة اختراقها.
وكانت النتيجة أن دخلت إسرائيل في عام 1982م عاصمة عربية واحتلتها
لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ولم يكن هناك أي رد فعل عربي
موحد، وجرى تشتيت منظمة التحرير بعد ذلك، ثم تدمير المفاعل النووي العراقي، ثم ضرب منظمة التحرير الفلسطينية في تونس.
أما بعد اتفاقات مدريد وغزة وأريحا.. وانتقال الصراع من الحرب إلى
التفاوض السلمي، وما تبع ذلك من مؤتمرات اقتصادية وأمنية وسكانية أدت إلى
خروج إسرائيل من عزلتها الإقليمية وزيادة نفوذها في إفريقيا وآسيا، بالإضافة إلى
إلغاء المقاطعة بدرجتيها (أ، ب) وبالتالي أدى ذلك إلى انتعاش العدو وتحركه في
كل المجالات؛ لأن المقاطعة كانت تكلفه مليارات الدولارات، ومن ثَمّ زادت قدرته
على التوغل في بنية النظام العربي في أسواقه ومجتمعاته حتى أصبح جزءاً من هذه
البنية أتاحت له عقد الاتفاقيات الاستراتيجية، وإقامة التحالفات بما يمكّن له من
إقامة خططه بصورة أدق وأسرع.
* هل يعني ما سبق تغيير التشكيلة السياسية للمنطقة؟
أ. كمال: إسرائيل كانت تخطط منذ أن قامت كيف تصبح جزءاً من بنية
النظام الإقليمي الذي تنتمي إليه من أجل ضمان بقائها. وهذا ما حدث.
فبعد الهرولة والتحلل العربي التابع لها بدأ طرح نظام بديل هو النظام (الشرق
أوسطي) بحيث تصبح إسرائيل مركزه، وتقوم هي بالسيطرة على ما يمكن أن
نسميه بـ (حركة الموارد الاستراتيجية) المتمثلة في المال والاتصالات والأسواق
والمواد الخام؛ بحيث يقدم العرب الأيدي العاملة والمواد الخام لهذا النظام.
* وهل يعني ذلك انتهاء النظام الإقليمي العربي؟
أ. كمال: لا يمكن الآن أن نقول إن هناك نظاماً إقليمياً عربياً؛ لأن إطلاقنا
لفظ (نظام) يفترض معها وجود منظومة تنظم عمله، وأن هناك حداً أدنى للاتفاق
بين أعضائه يكفل لهم اتخاذ موقف موحد إزاء المخاطر التي تتهددهم بل لا يوجد
تصور موحد عن مسألة إدارة الصراع مع اليهود خاصة بعد صعود نتنياهو إلى سدة
الحكم.
وهذا يبرز الضعف العربي الذي يعكس دلالة رمزية لكيفية تعامل الآخرين
معهم؛ وهو مبدأ سارٍ على علاقات الأفراد والدول على حد سواء؛ وهذا علة كافية
لكثير من القرارات الدولية والإسرائيلية الأخيرة؛ لأن قناعة صناع القرار في
إسرائيل أن العالم العربي ضعيف وعاجز ومفكك، وأنه غير قادر على اتخاذ قرار
موحد؛ يغريها على أن تتعامل مع كل دولة على حدة، ويطلق العنان لمخابراتها في
التعامل مع كثير من مخابرات الدول العربية سراً، ويفتح أمامها الطريق للاستمرار
في تنفيذ خططها، بصرف النظر عن الوجود العربي!
* د. حامد: في كتاب: (مكان بين الأمم إسرائيل والعالم) الذي ألفه نيتن
ياهو فرق بين سلامين:
(سلام الديمقراطيات) وينعدم فيه أي طموح للصراع المسلح، وتحميه الإرادة
الشعبية السائدة في النظم.
وسلام يتم مع الأطراف الديكتاتورية في البلاد اللاديمقراطية، وهو (سلام
الروع) الذي يقوم من خلال القوة؛ وهذا واضح في سياساته هو بالذات.
* د. عبد المنعم: القضية الآن ليست في عدونا بقدر ما هي فينا؛ فأضعف
الإيمان أن تُهيأ النفوس المؤمنة لتعي هذه الحقائق استعداداً للمواجهة الحتمية، وعلى
الحكومات تغيير بعض سياساتها التي تقلل المخاطر.
* نترك الهرولة العربية جانباً ونهرول نحن نحو فلسطين المحتلة لنجيب عن
تساؤلات عدة عن الداخل، ونبدأ بتساؤل عن الفرق بين الليكود والعمل؟
د. جمال عبد الهادي: العمل والليكود وجهان لعملة واحدة؛ فليس هناك
حمائم وصقور؛ فهم جميعاً صقور، الجميع لهم هدف مشترك هو قيام إسرائيل
كبرى من النيل إلى الفرات؛ لذلك لا تجد في دستورهم ما ينص على حدود لهم
حتى الآن! وعلينا أن نعي أن سياسة جميع زعماء الأحزاب الإسرائيلية تصب في
اتجاه واحد هو إنشاء دولة صهيونية عالمية تحكم من أورشليم القدس.
أ. كمال: لا يوجد اختلاف حقيقي بين الليكود والعمل أو المعراخ من جهة
الرؤى الأساس؛ وإذا كان هناك خلاف فهو خلاف في التكتيك وليس في القضايا
الاستراتيجية.
* إذن ما تشيعه وسائل الإعلام العربية عن حزب العمل والمعراخ خديعة!
أ. كمال: نعم؛ وأكبر دليل على ذلك أن معظم المستوطنات التي أقامتها
إسرائيل في الأراضي المحتلة تمت أثناء وجود العمل في الحكم، والفَرْق هو سرية
إقامة المستوطنات خلال فترة حكم حزب العمل، وإعلان سياسة: (لا مستوطنات
قبل وجود حل نهائي) مجرد إعلان.
كذلك فإن فتح أبواب الهجرة إلى إسرائيل كان معظمه في ظل حكم العمل،
وكذلك مسألة التربية القتالية والتطور المستمر للترسانة الحربية، وعقد الاتفاقيات
الاستراتيجية مع الدول الخارجية.
فالفرق: أن العمل أكثر دهاءاً وخبثاً، والليكود أكثر صراحة؛ لأنه يتمثل
القضية الدينية، وهو صريح في الإعلان عن مبادئه وأهدافه، إضافة إلى الخلاف
في التكتيك.
* إذن: لماذا صَعَدَ الليكود في هذا الوقت بالذات؟
أ. كمال: صعود الليكود له دلالة هي: أن الاتجاهات الدينية اليمينية
المتشددة التي تستجيب للأسطورة الصهيونية بدأت تتنامى وتؤثر على الرأي العام
بشدة، وتضغط على صانع القرار؛ لذلك فضلت الليكود على غيره، وهذه القوى
كانت هامشية، وانتقلت لتصبح هي القوى الفاعلة لتشكل المجرى الأساس للتيار
العام داخل إسرائيل.
* وهل لاختيار نيتن ياهو دلالة زائدة؟
نيتن ياهو يعبر عن جيل جديد.. فهو يملك جنسية مزدوجة: إسرائيلية
أمريكية، دارس إعلام، صغير في السن نسبياً، رجل مخابراتي وعسكري سابق
وله إنجازاته في ذلك المجال.
وهذا يعكس نوعية إفراز إرادة الرأي العام هناك؛ لإيجاد جيل جديد يغلّب
الحسم العسكري لإيمانه بمعركة هرمجدّون.
لكن نيتن ياهو لا يملك القرار وحده؛ لأن وراءه مؤسسة سياسية تشارك بقوة
في القرار، وتمثل عامل ضغط عليه مما يقلل من مساحة مناوراته السياسية في
التفاوض بالإضافة إلى منطلقاته هو في التعامل مع الواقع، وكذلك الرأي العام.
* نأتي لقضية الأمس واليوم: فالأمس كانت القضية هي القدس، واليوم
القضية هي المستوطنات، وغداً ... فكان لقرار الكونجرس الأمريكي بنقل السفارة
الأمريكية للقدس واعتماد مبلغ 100 مليون دولار لذلك كان له صداه العالمي
ودلالاته من جهة التوقيت ومن جهة متخذ القرار نفسه ومن جهة الوضع العربي.
فنسأل لماذا هذا التوقيت بالذات؟
د. جمال: هذا التوقيت؛ لأن العرب يمرون بحالة من الضعف والتفكك،
ولأن العدو حقق كل ما يريد: هيمنة اقتصادية إعلامية ثقافية.. تعليمية على العالم، وكذلك على أطراف رد الفعل العربية.
وتم تأمين حوض البحر الأبيض المتوسط القرن الإفريقي ومدخل البحر
الأحمر المساعدات الأمريكية المستمرة محطات الإنذار المبكر القوات الدولية
الموجودة في المنطقة؛ لذلك هو يستعجل الحسم العسكري؛ لأنه بطبيعته عدواني
خاصة بعد أن وقّع مع الولايات المتحدة اتفاقية الدفاع الاستراتيجي ليصبح أي تهديد
لإسرائيل معناه تهديد لأمريكا، وأي تهديد لهم بالتالي يعني قرار حرب.
* وما دلالاته على الجانب الأمريكي؟
أ. كمال: هذا القرار صدر قبل ذلك عام 1995م عن مجلس الشيوخ،
وثارت وقتها ضجة. وهذا القرار كان من مجلس الشيوخ فقط، وأعطى الإدارة
الأمريكية فرصة تأجيله 6 أشهر، واستخدمت الإدارة الأمريكية هذا الحق الذي
يتجدد كل 6 أشهر حتى عام 1999م.
هذا القرار الذي اتخذ أخيراً كان بأغلبية كبيرة؛ ولهذا الأمر، فإن له دلالات
عدة:
أن اليهود استطاعوا اختراق أمريكا بالكامل عن طريق دعايتهم ابتداءً من
البروتستانتية التي تعتبر قراءة توراتية للإنجيل.
وبالتالي وجود تيار ديني قوي داخل المجتمع الأمريكي يلعب دوراً في إنجاح
كلينتون؛ ويؤثر بدوره في السياسة الأمريكية التي تشكل عمود السياسة الغربية.
اختراق المؤسسة الحاكمة الأمريكية بالكامل من قِبَلِ اليهود بدءاً من بلاط
كلينتون وبالتحديد زوجته اليهودية هيلاري، ومروراً بكل مواقع صناعة القرار في
الولايات المتحدة بما في ذلك مدير المخابرات المركزية ووزيرة الخارجية وكل
المواقع الحساسة في مراكز القرار. إذن هناك منظومة واحدة تحرك العقل الغربي
إزاء إسرائيل وإزاء القدس بوصفها بزعمهم عاصمةً موحدة وأبدية لإسرائيل.
د. جمال: كلينتون له توجهاته الصهيونية التي تتعدى كل الحدود التي بلغها
الرؤساء الأمريكيون السابقون عليه؛ وهذا الحوار الذي دار في الكنيست الإسرائيلي
مساء 27/10/94 بمناسبة الاتفاق مع الأردن:
تكلم رابين رئيس الوزراء، ثم تكلم نيتن ياهو زعيم المعارضة، ثم تكلم
كلينتون. يقول رابين موجهاً كلامه إلى كلينتون:
تذكر وصية أستاذك في المرحلة الثانوية (القس واو) التي أوصاك بها، وهو
على فراش الموت؛ بأن تحافظ على إسرائيل وترعاها عندما تصبح رئيساً للولايات
المتحدة الأمريكية وهي قوله:
(الإرهاب الإسلامي هو عدو السلام وعدو العالم كله، وعدوكم وسيعبر
البحار والمحيطات ليصل إليكم.
أورشليم كانت وستظل إلى الأبد عاصمة لإسرائيل القلب النابض للشعب
اليهودي) .
ثم كان خطاب كلينتون على ما يلي:
أشعر كأني في بيتي.. لقد حققت إسرائيل أمس جزءاً من حلم الآباء بتوقيعها
للاتفاقات مع الأردن.. هذا السلام هو من أجل الشعب الأمريكي أيضاً.. إننا
نعرف أهمية إسرائيل منذ عهد الرئيس ترومان، وإن بقاءها هو بقاء لكل القيم
العزيزة علينا. أنا ملتزم بالعمل مع الكونغرس لصيانة المستوى الحالي للمعونة
االاقتصادية والعسكرية والتعاون العلمي وتصدير التكنولوجيا المتقدمة لإسرائيل،
كي تبقى في مقدمة التقدم العلمي والتكنولوجي العالمي للتغلب على مخاطر السلام!
لذا سنرسل لإسرائيل خمس عشرة طائرة (15 ف) لتكون قادرة على الدفاع عن
نفسها بنفسها.
لقد أصبحت سوريا جادة للدخول في السلام. إن الجندي الإسرائيلي الذي قتله
الإرهاب مؤخراً، كان أمريكياً أيضاً.. لذا فعلينا مجابهة الإرهاب بصورة حازمة؛
فالتطرف والإرهاب لا زالا يهددانا جميعاً.
نحن نحترم الإسلام وعندنا ملايين من الأمريكيين يستجيبون كل يوم لنداء
الصلاة في المساجد. والصراع هو مع من يثيرون العنف ويريدون تدمير السلام.
الإرهاب يهددنا من الداخل ونقول لتجار الإرهاب لن تحققوا النجاح.
جئت إلى القدس قبل ثلاثة عشر عاماً، وعشت الكتاب المقدس، كتابنا
وكتابكم ... وقلت للقس (واو) الذي أوصاني بشعب إسرائيل وقال لي: (عندما
تصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية فإن الله لن يسامحك أبداً إذا قصرت في
تأمين إسرائيل) ، قلت له: لن أنسى وصيتك بمشيئة الله؛ فإن القدس هي موطن
الكتاب المقدس وستظل إلى أبد الآبدين..
* هل يعني هذا أن القدس خرجت من خيارات التفاوض؟
أ. كمال: في الواقع أن القدس لم تدخل في خيارات التفاوض؛ وإنما الذي
جرى عبارة عن تكتيك لتمرير التهويد؛ فالمتابع لما يجري داخل القدس يومياً يكاد
يُفجع لما يجري لكل البنية الموجودة في القدس الشرقية من أجل تزييفها لتهويدها
بالكامل، وعلى سبيل المثال:
تغيير المناهج الدراسية العربية إلى مناهج إسرائيلية، وإلغاء الإشراف
الأردني عليها، وهو ما يعني تهويد التعليم رغم أن هذا المجال ظل مغلقاً تماماً في
وجههم.
سحب الهويات من المقدسيين بشكل يومي.
الاستيطان؛ وطبعاً مستوطنة أبي غنيم هي التي عرفنا بها وما خفي كثير،
وإلا فإن هناك أربع عشرة مستوطنة أخرى غيرها يجري إقامتها.
التضييق الدائم على التجار العرب عبر سلسلة من الإجراءات: ضرائب
تكسير محلات فرض حصار إجبار على الإغلاق..
الخروج عن حدود القدس القديمة؛ بحيث يجري توسيع حدود القدس الموحدة؛ وهذا طبعاً وأد لأي فكرة للتفاوض.
* إذن: تأخير المفاوضات بالنسبة للقدس كان مجرد لعبة سياسية لا أكثر!
د. حامد: الواقع أن إرجاء المفاوضات بشأن القدس للمرحلة النهائية حتى
تكون إسرائيل قد استكملت خطة تهويدها؛ وبذلك تضع العرب أمام الأمر الواقع!
ولنرجع إلى الوراء قليلاً فقد بادر بن جوريون عام 1948م فور إعلان القدس
الغربية عاصمة لإسرائيل إلى إعمال السيطرة على الجزء الشرقي وتهويده؛ وقد
تمكنت إسرائيل على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من تحويل ملكية أراضي القدس
الشرقية من 90% في أيدي الفلسطينيين إلى 13%فقط، وارتفعت نسبة اليهود في
المدينة إلى 72% مقابل 28% للفلسطينيين.
وقد أقامت الحكومة الإسرائيلية ثلاثة أطواق متتالية من المستوطنات لعزلها
عن بقية الضفة الغربية يضم الخارجي منها 3 مستوطنات كبرى، والأوسط
7مستوطنات موزعة على شمال المدينة وجنوبها وشرقها، ويشمل الطوق الداخلي
المجمعات الاستيطانية القابعة في قلب مناطق سكن الفلسطينيين.
وببناء مستوطنة جبل أبي غنيم تتم الحلقة الأخيرة لإتمام السيطرة على القدس
وهي تنفذ مشروع شارون القديم 26 بوابة حول القدس، وهذا يؤدي إلى الدمج التام
بين شطري القدس، وعزل الأحياء العربية، وإنجاز تطويق القدس بالحزام
الاستيطاني، واستكمال تهويدها.
* وما مستقبل المسجد الأقصى في ظل هذه الظروف؟
د: حامد: بالفعل يجري تنفيذ مخطط هدمه عبر أساليب مختلفة كان آخرها
إجراء حفريات بطول 400 متر بزعم البحث عن قواعد الهيكل، وإنشاء نفق
طولي تحته يصل إلى بيت لحم بحذاء السور الجنوبي بهدف تقويض دعائم المسجد
وأعمدته.
د: جمال: أحجار الهيكل جاهزة ومرقمة في أمريكا، وتنتظر النقل، والعدو
بين آونة وأخرى يقوم باختلاق بعض المصادمات مثل الإساءة التي وجهت للنبي -
صلى الله عليه وسلم- وغيرها بقصد قياس ردة الفعل العربية الإسلامية.
وكون ردود الأفعال العربية ضعيفة ولا تتناسب مع فداحة ما يحدث؛ لأنه
جرى ترويض الأمة وتكبيلها بالأغلال عبر حملات من الإجراءات في الفترة
الماضية، واقترن ذلك بعملية غسيل للمخ العربي في مناهج التعليم، وتزوير
أحداث التاريخ؛ لذلك كله لا أستبعد محاولة هدمه لا سمح الله.
فماذا لو وقف ألف مليون مسلم في الشوارع لمدة يوم كامل وفي وقت واحد
يحملون لافتات تفيد أن القدس إسلامية وقد دُوّن على هذه اللافتات التاريخ الحقيقي
للقدس وقرارات الأمم المتحدة؛ مما يثبت حق المسلمين، ويكذب ادعاءات اليهود؛
وذلك كخطاب أخير للنظام العالمي الجديد؟
* إذن هل حسمت مسألة القدس في حس الأنظمة العربية لصالح إسرائيل؟
د. جمال: نعم، أظن ذلك.. وأذكر أن بيجن عند توقيع اتفاقية السلام أرسل
خطاباً إلى كارتر ضمن ملحقات الاتفاقية بأن الكنيست قد اتخذ قراراً باعتبار القدس
عاصمة موحدة لدولة إسرائيل فحوّله كارتر بدوره إلى السادات للعلم، وضمنوه في
ملحقات الاتفاقية.
إذن منذ اللحظة الأولى لتوقيع اتفاقية (كامب ديفيد) ومسألة القدس خارجة عن
طاولة المفاوضات؛ إنما الذي حدث أنه لم يمكن إعلان هذا القرار في ذلك الحين؛
لعدم تهيئة الرأي العام العربي والعالمي لهذا الأمر؛ ومن جهة أخرى لم تكن
إسرائيل قد تحركت بقوة في سبيل تهويد القدس؛ وهي عملية خداع كبيرة؛ فربما
رضوا بالإعلان عن أن القدس موضع مفاوضات إلا أن بناء المستوطنات مستمر،
والهجرة مستمرة، والاستعداد العسكري مستمر، وبالتالي فإن قضية فلسطين
تقلصت؛ فأصبحت المشكلة تتعلق بمستوطنة أبي غنيم بل تعدتها.. فهل تنتهي
المشكلة لو أوقفوا إقامة هذه المستوطنة وحلوا الأزمة؟ ! وهل تُحرر الأرض ويعود
الحق إلى أصحابه، وتنتهي الهجمة الشرسة؟ ! لا، لا نظن ذلك! !
لكن الموضوع هو مزيد من الوقت لتهيئة الرأي العام لتقبّل كأس السم جرعة
جرعة.(118/42)
في دائرة الضوء
ماذا وراء الاستنساخ؟ !
(2من2)
خالد أبو الفتوح
استهل الكاتب الحلقة الأولى من المقال بإجابات عن عدة أسئلة طرحها في
بدايته: ما الاستنساخ؟ وماذا وراء الحملة المصاحبة له؟ وما أثر ردود الأفعال
التي تلت ذلك الإعلان؟ ثم صدر كلامه بشرح مفصل عن عملية التكاثر الجنسي
في الإنسان، ثم شرع في شرح ما حدث في عملية الاستنساخ، ثم استعرض تطور
المحاولات التجريبية القريبة من عملية استنساخ (دوللي) . ويواصل الكاتب بقية
الموضوع في هذه الحلقة.
- البيان -
ولكن هناك بعض المخاوف الحقيقية والآمال الواقعية التي قد تنشأ عن تقنية
الاستنساخ، فمن تلك المخاوف:
- القضاء على التوازن الفطري بين الكائنات، وقد أثبتت التجارب خطأ
العبث بهذا التوازن حتى في بعض حالات القضاء على كائنات ضارة لحساب
كائنات أخرى.
- إيقاف التطور الطبيعي في الكائنات الحية، هذا التطور الذي يحدث عن
طريق الطفرات الوراثية عبر الاختلافات التي تتوزع وتنعزل عن طريق الإنجاب
الطبيعي، ولكن الاستنساخ سيقف عند حدٍّ معين (يحدده القائمون عليه) ولا يتعداه.
- واستنساخ نسخ متطابقة ينطوي على خطر جعل الكائنات المتماثلة عرضة
لأمراض معدية واحدة أو لطفيلات قد تقضي مرة واحدة على جميع النسخ.
- ارتفاع النعرة العنصرية القومية والنبرة الجنسية النوعية: وذلك بمحاولة
أصحاب كل عنصر قومي استنساخ المزيد منهم (في حالة الوصول إلى استنساخ
البشر) والاستغناء عمن عداهم فضلاً عن محاولة القضاء عليهم، أما النبرة الجنسية
النوعية فقد عبرت عنها (عالمة) من العلماء بقولها: إنه لم تعد هناك حاجة لدور
ملح للرجل؛ فقد تبين علميّاً أن بإمكان أي امرأة أو حتى عذراء أن تنسخ طفلة منها
على نحو تكنولوجيا النعجة دوللي.. فإذا أضفنا إلى ذلك إمكانية نجاح تجارب
تجرى في بريطانيا لتحقيق فكرة الحمل خارج الرحم الذي قد يؤدي إلى استغناء
الشواذ عن دور المرأة.. لأدركنا أن الإنسان (المتحضر) يضع النوع البشري على
حافة التدمير.. فللعاقل أن يتخيل عالماً كله رجال أو عالماً كله نساء! ، ولنا أن
نتأمل: هل من حكمة الله أن جعل التكاثر والتناسل ناتجاً عن الشهوة البهيمية وليس
راجعاً إلى اختيار عقل الظلوم الجهول؟ .
- اختلال التنظيم الاجتماعي والأخلاقي: ففي عالم البشر المنسوخ لن يكون
هناك مجال للأمومة؛ لأنه ستحل محلها المؤسسات الحاضنة، كما سيصعد بقوة
الاتجاه الناشئ في الغرب حول الأسرة أحادية الأصل (أب فقط أو أم فقط) ، كما
ستنشأ مشاكل عديدة حول علاقة الطفل المستنسخ بمن حوله، فمثلاً إذا أرادت امرأة
متزوجة أن تستنسل نسخة منها، فهل ستكون هذه النسخة ابنة لها أم امتداداً لذاتها؟
فما علاقة زوج المرأة بهذه النسخة: هل سيعتبرها عندما تكبر امتداداً لزوجته
ويعاشرها كما يعاشر زوجته، أم سيكون في حكم المحَرْم لها؟ وما علاقة هذه
النسخة بأسرة المرأة؟ وإذا كبرت هذه الطفلة النسخة وأرادت حمل نسخة من توأمها
الذي فصل عنها وهي جنين، فهل ستعتبر أمّاً لأختها؟ ! بل ماذا لو أرادت هذه
النسخة أن تحمل نسخة أخرى من المرأة الأصل، فهل ستعتبر الطفلة المستنسخة
الجديدة أمّاً لها أم ابنة؟ ! ! .. أضف إلى ذلك: الصراع النفسي الرهيب لهذا
الطفل أو الطفلة المستنسخ عندما يجد نفسه في هذا المجتمع الممزق.. وهذا بالطبع
إذا تجنبنا الحديث عن المتاجرة بمثل هذا الطفل أو استعماله في استخدامات غير
أخلاقية أو غير إنسانية.
- ومن المخاوف أيضاً: إنتاج مسوخ وأجنة مشوهة أثناء تلك التجارب، فمن
يضمن ألا يؤدي هذا العبث بالخلية إلى مخلوقات غريبة ومشوهة؟ وهذا ما قد
يحدث بالفعل حالياً، ولكن يتم كتمانه، ولا يعلن عنه، ثم يكون مصير هذه المسوخ
سلة مهملات العلماء الذين لا يعبؤون بالأرواح.
ومن الآمال الواقعية:
- هذه التقنية تتيح للعلماء فرصة فهم طريقة عمل الجينات وكيفية تطورها
وتخصصها وتميزها ونشاطها في مرحلة التكوين الجنيني المختلفة.
- كما أن الاستنساخ يساعد على الوصول إلى فهم أدق للأمراض الوراثية
والتشوهات الجنينية، فعندما تجرى التجارب والاختبارات على حيوانات متميزة
وراثيّاً عن بعضها فالنتائج قد تأتي على أساس الاختلاف الوراثي للحيوانات وليس
على أساس ردود الفعل لما يتم اختباره، أما إذا حيّدنا هذا العامل وكانت الحيوانات
التي تجرى عليها التجارب نسخاً متطابقة فستصبح النتائج أكثر دقة، وينبني على
ذلك تحديد أفضل السبل لعلاج هذه الأمراض في الإنسان، إضافة إلى إنتاج عقاقير
دوائية باستخدام هذه التقنية.
- ومن الممكن استخدام هذه التقنية في الزراعة النسيجية أو في الإكثار
الحيواني من السلالات شديدة التميز، عن طريق إنتاج كميات كبيرة من هذه
السلالات المتميزة بلحومها وحليبها وصوفها بأسعار زهيدة، وهذا بالطبع إذا ثبت
أن هذه التطبيقات لا تؤثر بالسلب على الإنسان عند استهلاك منتجاتها، فلا بد من
دراسة الآثار بعيدة المدى لهذه التطبيقات.
كما يمكن بهذه التقنية الإكثار من الفصائل النادرة المهددة بالانقراض التي
تعاني صعوبة التكاثر الجنسي وقلة النسل.
- من الممكن أن يفتح الاستنساخ الباب أمام فهم حقائق الشيخوخة واكتشاف
الهفوات والأعطاب الوراثية البسيطة التي تتراكم مع تقدم الإنسان في السن فتظهر
عليه علامات الشيخوخة، وكذا فهم أدق لأمراض خطيرة، كالسرطان.
العلم في خدمة الشيطنة:
فكثيراً ما يظهر أنه ما تزال تقرع أذن ابن آدم العبارة التي ألقاها الشيطان إلى
أبي البشر: -[هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ] [طه: 120] ، وهنا تظهر رغبة
الإنسان في ذلك الخلد من خلال محاولته إيجاد امتداد لذاته عبر محاولة استنساخ
نفسه، ومن خلال محاولته القضاء على الشيخوخة التي يعتبرها مقدمات نهايته..
وبالطبع لا ضير من محاولة تحسين صحة الإنسان، ولكن لا يظهر أن الصحة فقط
هي التي تشغل ذهنه، بل أيضاً: الهرب من الموت أو البحث عن الخلود.
وأيضاً: من الممكن النظر إلى بعض تطبيقات هذه التقنيات على أنها تطوير
لمبدأ [وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ] [النساء: 119] ، فلم ترد صيغة [وَلآمُرَنُّهُمْ] في القرآن إلا في هذا الموضع وموضع آخر قبله مباشرة يتعلق أيضاً بتغيير
الخِلقة [وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ] [النساء: 119] ، وهي صيغة تحمل من
علامات التوكيد: لام التوكيد، ونون التوكيد المشددة، إضافة إلى الفعل المضارع
(آمر) الذي هو أوكد درجات الطلب.. وكل ذلك يدل على مدى الإصرار الشيطاني
في تغيير الخِلقة.. وإذا كانت الاستجابة لهذا الأمر من بعض بني آدم بدأت بصور
بسيطة كقطع الأذن والأنف والأطراف، وكالإخصاء والوشم وتفليج الأسنان
والنمص ... فإنها تتطور اليوم وتأخذ بعداً جديداً معقداً يتناسب مع تقدم العلم! الذي
يحاول أن ينتج الآن نعجة آدمية! ! وغيرها من تجارب العبث العلمي التي تحاول
(إنتاج حيوانات لها بعض الصفات التي تنتمي إلى حيوانات أخرى، أو حتى
صفات إنسانية، ولقد تمكنا بهذه الوسيلة من إنتاج فئران معدلة وراثيّاً، كذلك
الخراف، وحيوانات أخرى) بنص كلام الدكتور (هاري جريفن) [1] .
ومن أجلّ الخدمات التي تقدمها التقنية الجديدة للشيطنة: محاولة تعويض
النقص الحادث نتيجة تدمير الأسرة وتزيين قيام (أسرة) الشواذ، فالشيطان الذي
يعمل دوماً على هدم كيان اللبنة الأساس للمجتمع الإنساني قطع أشواطاً في تحقيق
هذا الهدف في الغرب، فترنحت الأسرة الطبيعية وتفككت، وظهرت الأسرة أحادية
الأصل وأسر الشواذ (رجل ورجل أو امرأة وامرأة) .. والآن يمكِّن العلم هؤلاء من
التمتع بشطر زينة الحياة الدنيا (البنون) مع الإبقاء على شذوذهم الجنسي
والاجتماعي.
إلى أين تأخذنا الحضارة الغربية؟ :
تجنح الحضارة الغربية إلى الفردية والذاتية بمنهج أعمى، فمن الملاجئ
والمحاضن التي يلقى فيها الأطفال، إلى دور المسنين التي يلقى فيها الشيوخ الذين
تقطعت بهم سبل الحياة، وعبر الاهتمام بتحقيق أقصى درجات اللذة والمتعة الحسية
مهما كان ثمنها، وبواسطة الاستغلال السيئ للتقنيات الحديثة (الكمبيوتر
الإنترنت..) التي تستغرق هذا الفرد وتعزله داخل ذاته بدون الحاجة إلى أسرة.. نجد هذا الإنسان الذي يصفونه بأنه حيوان اجتماعي يقترب من الحيوانية بقدر ابتعاده عن الاجتماعية، وفي هذا المناخ يكون الحديث عن فرد مستنسخ يعيش منقطعاً عن المجتمع أمراً مطروحاً عندهم.
والحضارة الغربية هي التي رفعت راية التشكيك في أصل الإنسان، رفعتها
عندما لوحت تحت ستار العلم أيضاً بنظرية داروين حول نشأة الإنسان الأولى،
ويريد المغرضون الآن من خلال النعجة (دوللي) التشكيك في نشأته الثانية.
والحضارة الغربية قامت على فكرة الصراع بين الإنسان والطبيعة (وليس
الانسجام بينهما) ، وعلى توهم أنهم في تخريبهم للتوازن الفطري في الأرض إنما
يعيدون ترتيب الطبيعة لإصلاحها والاستفادة منها، بينما الشواهد تشير إلى أن ما
يحدث هو أكبر إفساد في الأرض بيد الإنسان.
والحضارة الغربية عندما فصلت الدين عن كل شيء والعلم من ذلك جعلت
الأخلاق تابعة للعلم، فأصبحت التجارب تسير بغير هدى، وفُقدت الثقة في هدف
هذه التجارب ومآلها؛ فليست المتاجرة بالآمال وتحقيق النزوات والتكسب من
الممارسات غير الأخلاقية ببعيد عن الاستنساخ، ولا توجد ضمانة واحدة لعدم
استخدام مثل هذه التجارب لتحقيق تلك الأغراض، كما لا نستطيع الثقة بالوعود
الأخلاقية لمثل هؤلاء العلماء؛ فالدكتور (ويلموت) الذي صرح لجريدة (الجارديان)
البريطانية عند سؤاله عن الفترة الزمنية المتوقعة لاستنساخ الإنسان.. بأنه يأمل ألا
يحصل ذلك أبداً، ولا يوجد سبب مقنع لذلك.. هو نفسه الذي نفى قبل عام شروعه
في أبحاث الاستنساخ؛ فقد سأله مراسل مجلة (الشبيجل) الألمانية: ولكنكم يا سيدي
أعلنتم قبل سنة من الآن أنكم أقسمتم بالأيمان المغلظة أنكم لم ولن تمضوا في رحلة
الاستنساخ التي نراها قد ولدت أمام أعيننا! ! .. فأجابه الدكتور (ويلموت) : هذا
صحيح، ولكننا أردنا بذلك صرف نظر الآخرين، حتى لا ندخل معهم في ماراثون
بيولوجي، فأنجزناه بكثير من الهدوء والدقة والنضج والنجاح، ألا ترى أننا كنا
محقين بذلك؟ ! [2] فإلى أين تأخذنا حضارة المعامل الغربية؟ ! .
العلم الإنساني بين النسبية والتقديس:
هناك من يريدون منا التسليم لكل ما يخرج من المعامل والمختبرات والسير
خلفه على أنه (سائبة) لا ينبغي التعرض لها ولا توجيهها ولا لومها، وهذا ما يلحّ
عليه مراراً الدكتور (خالص جلبي) ، حيث يكرر على سبيل المثال النص التالي في
حلقتين متتابعتين (2 3) حول الاستنساخ [3] : (لا حدود للبحث العلمي، ولا يمكن
محاصرته؛ فطبيعته تقدمية، ولا خوف من التفكير! ، لأن أعظم ما في الإنسان
جهاز التفكير، فالتفكير قاعدة الإيمان وأداته المعرفية، لشق الطريق إلى فضاءات
معرفية لا نهائية، ولكن الخوف كل الخوف من إغلاق العقل، ومصادرة الفكر،
وممارسة الإرهاب عليه، ولا حاجة لإعلان الوصاية الأخلاقية على العلم، فهو
يمشي بقوته الأخلاقية الذاتية، فيحور ويحرر الإنسان والعالم..) .
وإرهاب الدكتور (خالص) للمخالفين له بعبارة (.. ومصادرة الفكر،
وممارسة الإرهاب عليه..) لن يمنعنا من مناقشة كلامه؛ فأي فكر يقصد الدكتور
(خالص) أن لا خوف منه، ويخاف من مصادرته؟ هل هو مطلق التفكير أم أن
لذلك حدوداً؟ أليست الوجودية والشيوعية والصهيونية فكراً؟ بل أليس للإرهاب
فكر؟ ! وما معنى (لا حدود للبحث العلمي) ؟ ! .. إن الغرب عندما فصل الدين عن
كل شيء كان مما فصله عنه: العلم، فأصبح (لا حاجة لإعلان الوصاية الأخلاقية
على العلم) ! ..
إننا بوصفنا مسلمين نؤمن أن دين الله يهمين على كل شيء في الحياة ويوجهه
[قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] [الأنعام: 162] ،
[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: 56] ، ونؤمن أن الشرع
الصحيح يوافق دوماً العقل الصريح.. ولكن ما هو الموقف إذا تناقض الشرع
(الصحيح) مع ما يُظن أنه عقل صريح؟ .. إن غير المسلم لا يعبأ بما ورد في
الشرع؛ لأنه غير مؤمن به أصلاً، أما المسلم فإنه يثق في كلام الله المنزل بعلمه
ولا يمضي خلف ما يظنه الظانون علماً ولو كان خارجاً من معامل التجارب، فعندما
نعلم مثلاً من كلام الله (جل وعلا) عن أصل الإنسان: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن
سُلالَةٍ مِّن طِينٍ] [المؤمنون: 12] ، [وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن
صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ] [الحجر: 28] .. إلى غير ذلك من الآيات الصريحة،
ثم تأتي نظرية داروين التي يعوزها البرهان العلمي الدقيق، والتي طالما نوّه
الدكتور (خالص) بمضمونها وبصاحبها لتقول لنا إن الإنسان ناسئ عن تطور
مخلوقات أخرى وارتقائها.. فإن موقف المسلم هو إهدار تلك النظرية وتكذيبها بلا
تردد ولا وجل من وصم دعاة تقديس العلم له بالتحجر والتخلف ومصادرة الفكر،
معلناً [قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ] [يونس: 18]
وهذا يدعونا إلى إلقاء نظرة حول حقيقة مسيرة الإنسان العلمية التي يسعى
فيها لتحقيق ما يراه مصلحته ورفاهته؛ فالإنسان في لهثه العلمي إنما هو في سباق
لاكتشاف جهله: جهله بعالم المجهول (مجهول الزمان والمكان والكم والكيف) الذي
يطرقه فتنكشف له حقائق كانت حاضرة ولا يشاهدها..، وجهله الذي يراه عندما
يكتشف مخاطر ومضاعفات وخطأ ما ظنه سابقاً إنجازات علمية هائلة، والتي كانت
غائبة عنه حينما [ظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا] [يونس: 24] ، يحاول الإنسان
اختراق هذا المجهول عن طريق التجربة الحسية، والحفريات والتوثيق، والتأمل
والتحليل، والاستقراء والإحصاء، وأحياناً عن طريق الحدس والتوهم.. والمسلم
يستفيد بما صلح من ذلك كله إضافة إلى وسيلة لا ينتفع بها غيره، ألا وهي العلم
بالغيب الذي يخبره به الرسول..
فإذا كان الأمر كذلك فإن المسلم لا يحجر على العلم الإنساني ولكنه لا ينساق
خلفه انسياقاً أعمى، بل يضعه في موضعه الصحيح: أن نسبته مهما بلغ إلى علم
الله: [وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً] [الإسراء: 85] ، [وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ
عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ] [البقرة: 255] ، [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [البقرة: 232] ، وأن مصدر هذا العلم في النهاية من الله: [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] [البقرة: 282] ، [وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] [البقرة: 151] ، [عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] [العلق: 5] .. ويبقى العلم الحقيقي الشامل الذي لا يُنقض ولا تشوبه آفة الجهل السابق أو الآني أو اللاحق.. هو علم الله: [ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أََنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأََرْضِ وَأََنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] [المائدة: 97] ،
[عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ... ] [المؤمنون: 92] ، [يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ] ...
[البقرة: 255] ، [وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ] [آل عمران: 7] ، ولكن الإنسان
عندما يغفل عن حقيقة علمه فإنه يمضي بطراً ببعض إنجازاته التي يظن أنها لا
يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ينظر إلى مسيرته الماضية فيراها
ظلمات وجهالات، يتعجب من جهل من سبقوه وينتشي بما وصل إليه من هذه
الإنجازات، ثم يأتي مَن بعده ويتقدم قليلاً في طريق محو الجهل، فيحقق إنجازات
أخرى تبطل الإنجازات السابقة التي ينظر إليها من جديد فيراها ضرباً من العبث!.. وهكذا دواليك تسير مسيرة التقدم الإنساني.. فإذا تناولنا أبسط الأمثلة ممثلاً في
الطعام الذي يطعمه الإنسان المعاصر نجد أن اكتشاف المبيدات الحشرية الكيماوية
في الزراعة والمواد الحافظة في صناعة الطعام المعلب كان إنجازاً مهمّاً.. والآن
يُنظر إليها على أنها سموم تسري في جسد الإنسان عبر الطعام.. ومؤخراً أعلن
علماء بريطانيون أنهم يخشون من أن العسل المصنع من تطوير لقاحات نباتية
جديدة عن طريق الهندسة الوراثية قد يشكل خطراً على صحة الإنسان [4] .. وفي
السابق كان اكتشاف معدن الألومنيوم وتطويعه في صناعات شتى ومنها أواني
الطعام يعد إنجازاً مهمّاً، وبعد ذلك اكتشفوا دلائل على خطورة طهو الطعام في
الأواني الألمونية؛ لدخول ذراتها الصغيرة في جسم الإنسان مختلطة بالطعام مما
ينتج عنه مشكلة التسمم الألموني.. وجنون البقر البريطاني ثبت أنه نتيجة تلاعب
العلماء بفطرة الحيوانات النباتية، حيث دأبوا منذ أكثر من 70 عاماً على إطعام
حيوانات التسمين النباتية أعلافاً تحتوي على بقايا فضلات حيوانات أخرى ميتة؛
رغبة في الربح السريع.. وثقب الأوزون المزعوم الذي يهدد الأرض ومن عليها،
هل كان إلا نتيجة مخلفات بعض المبتكرات الصناعية المتقدمة ... وليس ببعيد عن
موضوعنا الأدوية ذات الآثار الجانبية التي قد يؤدي بعضها إلى السرطان (عافانا
الله وإياكم) ، وتكنولوجيا صناعة السلاح والمخدرات.
وحتى ولادة (دوللي) ما هي إلا إحدى تغيرات المفاهيم في علم البيولوجيا الذي
شهد فيما لا يزيد عن القرن تغييرات متسارعة، يخطئ اللاحق فيها السابق أو يزيل
عنه جهالته.
ويمكننا تلخيص المقصود فيما سبق بما قاله (تاوته تشنج) : (إن إنجازات
الإنسان التكنولوجية والتنظيمية إنما هي شَرَك لاصطياده) ، ويعبر عن ذلك أيضاً
(مارك أوزيون) بقوله: (حالما ينطلق التقدم فلن يوقفه أحد، وهذا التقدم ذو الأوجه
المتعددة لا يكف بالوقت نفسه عن تعقيد الحياة) [5] .
وبالطبع فليس المقصد من عرض ما سبق إيقاف عجلة التقدم والبحث ولا
الرجوع بها إلى الوراء، ولكن المقصد: أن يوضع علم الإنسان في موقعه؛ حتى
لا نرى ذا العقل الرشيد منبهراً بالأحداث الجزئية التي قد تُنْقَض بعد حين.. وأن
يخرج الإنسان من حالة [فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ العِلْمِ] (غافر: 83) التي تقود إلى
حالة [وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا] [يونس: 24] التي تكون عاقبتها [أَتَاهَا
أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ] [يونس: 24] ..
عندما يأتي الدجال (أعاذنا الله من فتنته) يكون معه ماء ونار، وقد أمرنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نكذب حواسنا ونلقي بأنفسنا في النار؛ فإنها
ماء بارد.. أما الذي يقدم بين يدي العلم النبوي فإنه يتبع الدجال ويلقي نفسه في
النار يظنها الماء الزلال..!
موقف علماء الشريعة:
تباينت مواقف علماء الشريعة من الاستنساخ تبايناً قد يعبر عن واقع الأمة؛
فهناك طائفة تحدثت بتوازن وهدوء بعد أن استوعبت ما وصلها من معلومات حول
هذا الموضوع، وطائفة أخرى توقفت عن الحديث في الموضوع من أصله إلى أن
تتضح الأمور..
ولكن هناك طائفة أخرى ليست قليلة تسرعت في الحديث حول الموضوع
بغير رويّة ولا دراسة، وجاءت ردود أفعال بعضهم مشوبة بشيء من الانفعال،
معلنة أن الناس تكاثروا على وجه الأرض حتى كادت تضيق الأرض بأهلها، وأننا
لسنا في حاجة إلى مثل تلك التجارب! ! ، وأن من يقومون بهذه التجارب إنما
يفعلون ذلك للتسلية! ! .. إلى غير ذلك من الأقوال والاستدلالات التي لم يقف
فهمي القاصر على وجه دلالتها في الموضوع، مثل قوله (تعالى) : -[وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً] [الأعراف: 58] ،
وما روي عن عمر (رضي الله عنه) أنه قال: (المرأة الحمقاء لاتلد إلا أحمق) ! !.. متخيلين أنهم بذلك يدفعون عن حمى العقيدة من يحاول استلاب صفة الخلق من
الله! ! .
ولكن ما يعنينا هنا هو النظر إلى طريقة المعالجة:
فتسرع العلماء بالرفض أو القبول يذكرنا بموقف آخرين عندما ظهرت تجربة
طفل الأنابيب، ثم بعدما اتضحت الأمور واستقرت هدأت الاجتهادات أو كادت.
كما إن الانفعال في الرفض غير المبرر أو القبول غير المقنع يحمل في طياته
علامات الانهزام النفسي والحضاري:
يظهر هذا الانهزام في مجرد المقارنة بين الله (جلا وعلا) وأحد خلقه في أمرٍ
لم يدّعِ أحد من المشركين القيام به ولا إسناده إلى شركائهم، وحتى أصحاب (دوللي)
لم يدعوا خلقها، فهذه المقارنة تنزل من قدر الله (جلا وعلا) بقدر ما ترفع من قدر
المخلوق، حتى وإن انتصر في النهاية لله (عز وجل) ، وفي مثل هذه المقارنة يقول
الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وقال آخر:
إذا أنت فضلت ام رءاً ذا براعة ... على ناقص كان المديح من النقص
ويظهر أيضاً في الرفض المطلق ومحاولة إغلاق باب الحوار حول
الموضوع، فهذا المسلك يشي بأن الرافض يخشى مناقشة الموضوع نتيجة ضعفه،
وأنه يخفي عورة منهجه بدفن رأسه في الرمال.
كما يظهر أيضاً في القبول غير الحذر المصحوب بتعليق لافتة (الإسلام دين
العلم والتطور) .. وهو بالطبع كذلك، ولكن بعض المتحدثين يتحدث وكأنه تسيطر
عليه عقدة اضطهاد الكنيسة لجاليليو، وهذا هو المسلك نفسه الذي يتبعه بعضهم عند
الحديث عن سماحة الشريعة وعدالتها وإنصافها للمرأة، ثم محاولة إظهار توافقها مع
أصول القوانين الغربية، أو تلفيق الشورى مع الديمقراطية والعدالة الإسلامية مع
الاشتراكية ...
وأخيراً يظهر في محاولة الاختباء خلف بابا الكاثوليك وكلينتون والمؤسسات
الغربية، وإبراز أن المسلمين ليسوا وحدهم الذين يحذرون من الاستنساخ، كقول
أحدهم: (والعالم الغربي حرم هذا تحريماً قاطعاً، ونحن أولى بالتحريم) ، وقول
الآخر: (إنه من حسن الطالع! أن الذين لا يدينون بالإسلام لا يتفقون مع
الاستنساخ الجيني بشكل عام فضلاً عن الاستنساخ الجيني للبشر) .. فكأن ليس
لعلماء المسلمين الأهلية وحدهم أن يقولوا رأيهم ويعلنوه لو كان مخالفاً للآخرين.
__________
(1) حديث مع جريدة (الشرق الأوسط) ، ع/6757، 29/5/1997م.
(2) د خالص جلبي، جريدة الرياض، ع/10517.
(3) السابق، ع/10510، 10517، وقد ذكر المعنى نفسه في الحلقة الأولى (ع/10503) أيضاً.
(4) صحيفة (الشرق الأوسط) ع/6747 19/5/1997م، نقلاً عن (الصنداي تلجراف) الأسبوعية البريطانية.
(5) عن مقال (انحرافات الثقافة العلمية) ، د نزار العان، مجلة علوم وتكنولوجيا الكويتية،
ع/41 مارس 1997م.(118/54)
المسلمون والعالم
بعد مرور مئة عام على المؤتمر الأول لدهاة هيون؟
دولة اليهود بين العجز والإعجاز
بقلم: عبد العزيز كامل
(لو أردت أن اختصر مؤتمر بازل في كلمة واحدة، لقلت: في بازل أسست
الدولة الصهيونية، إن العالم سيرى بعد خمسين سنة على وجه التأكيد هذه الدولة) .
هذا ما سطره مؤسس الصهيونية الحديثة بقلمه في مذكراته قبل نحو قرن من
الزمان تعليقاً على المؤتمر الأول لقادة اليهود، الذي انعقد في مدينة بازل بسويسرا
سنة 1897م، وذلك في الجزء الثاني من مذكراته وبالتحديد في صفحة (581) .
فهل كان هرتزل من المتنبئين بالغيب، الذين كشفت لهم أسراره وأستاره
عندما بشر بقيام دولة اليهود بعد خمسين عاماً؟ .. لا.. لا! .
إنه في رأيي لم يكن أكثر من لص، أسس عصابة للسطو على بيت مأهول
وسط قرية كبيرة، عبر طريق وعر طويل، فظل هو وعصابته يتحسبون لأخطار
الطريق، وعقبات الوصول، واحتمالات التصدي، وتوقعات الثأر والانتصار؛
ففوجئوا جميعاً بسرعة الوصول وإنجاز المأمول، بسبب واحد، وهو: أن الطريق
خلت من الشرطة، والقرية افتقرت إلى الساهرين، وأهل البيت كانوا نائمين؛ فمن
يصدق أن مقولة هرتزل تحققت قولاً وعملاً في موعدها المحدد؟ !
إن مؤتمر بازل هذا انعقد في الفترة ما بين 29 31 أغسطس عام 1897م،
وبالفعل، لم تنقضِ الأعوام الخمسون بعدها حتى أُعلِنَت دولة اليهود في مايو
1948م.
وها نحن نعيش زمن انقضاء الخمسين الثانية بعد استيلاء العصابة على البيت، وبعد أن أعلنوا عن سكناه وملكيته إلى الأبد؛ رغم أنف كل أهل القرية!
وها هي الأجيال تلو الأجيال من العصابة تتوارث الإصرار على النجاح
والانتصار بالعمل، وها هي أيضاً الأجيال تلو الأجيال من أهل القرية تتوارث
التواصي بالأمل بالعودة.. الأمل بالتحرير.. الأمل بالنصر، مجرد أمل مع قليل
من العمل حتى صاح فيهم متكلموهم أخيراً: لا داعي للأمل! بل لا داعي للعمل!!
هل يقال بعد ذلك: إن هرتزل تنبأ (بمعجزة) إنشاء دولة (إسرائيل) ؟
إنني أقول: إن تلك لو كانت (معجزة) لما كان السبب فيها (إعجاز) العقل
اليهودي المستهدي بالتوراة وبرؤى الأنبياء كما يرددون ويكررون بقدر ما كان
السبب هو (عجز) العقل العربي بعد أن أريد عزله عن هدي النبوة ووحي السماء،
نعم! لقد صادف التفاف اليهود حول باطلهم التفات قومنا عن الحق الذي معهم،
وتوافق إقبالهم على دينهم، مع الإدبار عن ديننا!
كثيراً ما حاولنا تجاهل هذه الحقيقة، فرددنا مراراً: أن زعماء اليهود، بدءاً
من هرتزل، وحتى بن جوريون وبيجن ورابين (علمانيون) لا صلة لهم بعقائد
التوراة، ولا تأويلات التلمود!
أتدري أيها القارئ ما الحدث الذي أوجد فكرة (الدولة اليهودية) عند هرتزل
قبل مائة عام؟ اسمع ذلك منه، يقول متحدثاً في مذكراته عن رؤيا رآها: (ظهر
لي المسيح (الملك) على صورة رجل مسن في مظهر العظمة والوقار، فطوقني
بذراعيه، وحملني بعيداً على أجنحة الريح ... والتقينا على إحدى تلك الغيوم
القزحية بصورة موسى، فالتفت المسيح إلى موسى مخاطباً إياه: من أجل هذا
الصبي كنت أصلي) ، إلا أنه قال لي: اذهب وأعلن لليهود بأنني سوف آتي عما
قريب لأجترح المعجزات الكبيرة، وأسدي الأعمال العظيمة لشعبي وللعالم) .
ونحن نعرف أن عقيدة (المسيح المنتظر) محور يدور حوله المسلسل التاريخي
اليهودي القديم والمعاصر، وهي عقيدة لا يستطيع أحد أن يدعي أنها فكرة علمانية!
وفي الصفحة الأولى من يومياته، نجد هرتزل يتحدث عن (الأرض الموعودة)
التي اتخذها عنواناً لرواية عقد العزم على كتابتها، وهي التي قرر بعد ذلك أن
يترجمها إلى برنامج عملي. أما كيف دفعته تلك الأحلام والعقائد إلى السير في
طريق إكمال البرنامج فيقول: (شُغلت لمدة خلت بعمل لا حدّ لعظمته، ولا أعرف
الآن ما إذا كنت سأمضي به حتى النهاية، يتراءى لي كحلم جبار، لكنه استحوذ
عليّ أياماً وأسابيع إلى ما وراء حدود الوعي، يرافقني أنى توجهت، ويرفرف فوق
حديثي اليومي، ثم يتطلع من خلف ظهري إلى عملي الصحفي التافه لدرجة
السخرية، يزعجني ويسكرني، من السابق لأوانه الظن بما سيؤول إليه أمره، لكن
تجاربي قد علمتني أنه حتى ولو كان حلماً، فهو شيء عظيم) ! (يوميات هرتزل
ج 1 ص3) .
لقد تجاوز هرتزل مجاراة النفس مع الأحلام بوصفها أحلاماً، ولكنه أيقظ تلك
الأحلام من سبات ألفي عام، وشرع ينظم وينسق الأفكار المتعلقة بالآلام وآمال
اليهود لكي يصل إلى عرضها على شكل مشروع (حل) أمام كبار المتمولين اليهود،
أمثال البارون (دي هيرش) ومجلس إدارة أسرة (روتشيلد) ، ولم يكن اليهود يملكون
في ذلك الوقت إلا المال، الذي كانوا لا يدرون ماذا يفعلون به!
وعبر عامين كان يصيد فيها الأفكار من فضاء الخواطر، تبلورت الفكرة في
رأس هرتزل ودوّنها في كراسة، صارت بعد ذلك كتاباً باسم (الدولة اليهودية) وكان
ذلك عام 1896م، ووصف ما دوّنه بأنه (محاولة لإيجاد حل عصري للمسألة
اليهودية) وبعد ذلك بعام، جمع هرتزل أساطين اليهودية في العالم لمناقشة أفكاره،
وكان المؤتمر الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، الذي استمر في الانعقاد
بشكل دوري، حتى يومنا هذا.
لقد تمكن الأب الروحي لليهود المعاصرين (تيودور هرتزل) من استقطاب
مختلف الاتجاهات والتيارات الصهيونية السائدة بين يهود العالم في ذلك الوقت،
لكي يجمعهم على هدف واحد لا يختلفون عليه ولا ينفضّون من حوله وهو: إعادة
اليهودية إلى المجد من خلال دولة، ولكن أي دولة؟ ! قال هرتزل: (إن الشعار
الذي يجب أن نرفعه هو: دولة داود وسليمان) !
ولم تكن هناك دولة لداود وسليمان عليهما السلام إلا في فلسطين، ولكن
(فلسطين) كانت تطلق على مساحة تفوق بكثير حدود فلسطين المعروفة الآن
جغرافياً، لتشمل جميع الأراضي اللبنانية والسورية والأردنية وبعض الأراضي
العراقية والمصرية، وأراضي من شمال الجزيرة العربية، وهذه الأراضي في
جملتها هي ما اصطلحت برامج التوسع اليهودي على تسميته بـ (إسرائيل الكبرى) ، الذي حددته نصوص العهد القديم بأرض الميعاد، من النيل إلى الفرات.
والذي يعنينا هنا، أن المؤتمر الصهيوني الأول الذي دعا إليه هرتزل، حدد
هدف الصهيونية القديم في عبارة معاصرة وهو: (إيجاد وطن للشعب اليهودي
يضمنه القانون الدولي العام) .
أما الوسائل التي اعتبرها المؤتمر الصهيوني كفيلة بتحقيق ذلك الهدف فهي:
أولاً: تعمير كل ما يمكن من الأراضي الفلسطينية بسكانٍ يهود مستقرين، من
عمال وزراعيين وصناعيين، لإنشاء أجيال تتشبث بالأرض، ويستحيل اقتلاعها
أو إجلاؤها.
ثانياً: تشجيع وتنظيم هجرة اليهود في العالم إلى أرض فلسطين لتكثيف
الوجود اليهودي فيها، وربط هذه الهجرة بمنظمات محلية ودولية.
ثالثاً: بعث الشخصية اليهودية، بما ينبغي أن تحمله من مشاعر وعقائد
وشعائر وتقاليد على المستوى الفردي والجماعي، وذلك بإحياء ما اندرس من تراث
الديانة اليهودية نظرياً وعملياً.
رابعاً: العمل على ضمان موافقة القوى الدولية على إنشاء هذا الكيان عند
تهيؤ الفرصة لإعلانة.
ولم يضيّع اليهود الوقت في التشاغل بالخلافات رغم تشعبها بينهم في كل
العصور ولكنهم تخطوا الدعوة إلى ما تتحد عليه القلوب، إلى السير خلف ما تحتمه
العقول.
ولم يكد يمضي وقت طويل بعد انعقاد المؤتمر الأول، حتى كانت المساعي
اليهودية الجماعية نحو الهدف والشعار، تتحرك في خطوات وئيدة، لكن نتائجها
أكيدة، وإذا أرض (داود وسليمان) تبرز إلى الوجود تحت اسم نبي ثالث هو يعقوب
أو (إسرائيل) !
ولنلق الآن نظرة على السنوات التي أعقبت المؤتمر الأول، وكيف سارت
الأمور فيها، لنرى العلاقة بين (الأمل) و (العمل) عند اليهود في عصورهم الأخيرة، ولنقارن بعد ذلك بينها وبين العلاقة بين (الأمل) و (العمل) عندنا نحن المسلمين
في عصورنا المتأخرة.
* في عام 1898م أي في العام التالي للمؤتمر الأول وحّد هرتزل الجماعات
اليهودية ولمّ شعثها في كيان واحد، واستطاع كسب تأييدها لمشروعه، وتمكن من
رص صفوفها خلف برنامجه.
* في عام 1899م، تم تأسيس المصرف اليهودي، الذي كُلّف بمهمة تمويل
نشاطات الاستيطان في فلسطين، وتأمين الخدمات المالية التي تحتاجها الحركة
الصهيونية الموحدة.
* في عام 1901م، تأسس (الصندوق القومي اليهودي) ليكون مسؤولاً عن
شراء الأراضي في فلسطين من أصحابها العرب لتمليكها لليهود.
* في عام 1903م قرر المؤتمر الصهيوني تركيز جهود الحركة اليهودية
العالمية على أرض فلسطين وحدها، دون تشتيت الجهود في أماكن أخرى في العالم، اقتُرحت على اليهود لتأسيس دولة لهم فيها كأوغندا أو العريش.
* في عام 1907م قرر المؤتمر الصهيوني السادس أن يتولى بنفسه مهمة
مباشرة النشاط الاستيطاني الاستعماري في أرض فلسطين، وشكّل من أجل هذا
شركة تعمل كفرع من فروع (المصرف القومي اليهودي) .
* في عام 1908م، أطلق أحد الاقتصاديين اليهود شعار: (التغلغل
الاقتصادي) ووضع برنامجاً لتنفيذه باعتبار أن الاقتصاد هو المحرك الفعال للسياسة، إذا أُحسِن استغلاله.
* في عام 1913م قررت الحركة الصهيونية إنشاء (الجامعة العبرية) في
فلسطين، لتتولى مشروع البعث الديني اليهودي بشكل أكاديمي منظم يضمن تنشئة
الكوادر المخلصة للمبادئ الصهيونية.
* في عام 1914م، نشبت الحرب العالمية الأولى، فكانت نقطة انطلاق
جديد للحركة الصهيونية ومؤتمراتها، حاولت من خلالها السعي للحصول على
كسب التأييد الدولي للقضية اليهودية؛ نظراً لما حدث خلال هذه الحرب من تعرض
قطاعات من اليهود للإبادة في أفران الغاز على يد الزعيم الألماني الحانق على
اليهود (أدولف هتلر) .
* في عام 1917م، أثمرت جهود المؤتمرين اليهود في الوصول إلى
استصدار (وعد بلفور) الذي أعطت بريطانيا بمقتضاه الحق القانوني لليهود بإنشاء
وطن قومي لهم في فلسطين، وقد كانت هذه مرحلة فاصلة في تاريخ اليهود
المعاصر، حتى إن أحد الصهيونيين المعاصرين [1] ، حدد تاريخ الصهيونية في
مراحل محددة فقال: (إذا أمعنا النظر، نرى أن تاريخ الصهيونية ينقسم إلى أربعة
أزمنة مختلفة: الأول: زمن التوراة، والثاني: الزمن السابق لهرتزل، والثالث:
الزمن المعاصر لهرتزل، والرابع: الزمن التالي لتصريح بلفور) .
وتتسلسل القصة بعد ذلك بما هو معروف بعد وعد بلفور؛ حيث وجد اليهود
في هذا الوعد فرصة تاريخية حقيقية سنحت لهم للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي عام
لكي يحققوا ما بشرهم به نبيهم الكذاب (تيودور هرتزل) !
لقد حقق اليهود خلال المئة عام المنصرمة كثيراً من أحلامهم التي كانت كما
يقول الشاعر: حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحت حقيقة لا خيالاً، ولكن هل خلت
مخيلاتهم من الأحلام المستقبلية الآن؟ ! وهل توقفت أطماعهم عند هذا الحد من
العلو فقالوا: كفى؟ ! . أبداً، فما تزال جعبتهم ملأى بالأطماع، وما تزال الأهداف
أمامهم ينتظر كل منها سهمه في تراخٍينا وخمولنا؛ والذي أريد قوله: إن الصراع
الذي استمر قرناً ولا يزال مستمراً؛ مرشح للاستمرار عهوداً وعقوداً أخرى؛ فماذا
يا ترى دبر اليهود لمئة عام أخرى قادمة..؟ ! وماذا يا ترى أعددنا نحن المسلمين
لمواجهتهم ولو لعشر أعوام قادمة؟
بقي أن أشير إلى أن البرنامج المفصل لإفساد العالم على يد اليهود، والذي
اشتهر باسم: (بروتوكولات حكماء صهيون) كان قد بدأ في وضعه منذ المؤتمر
الأول لفيف من عتاة زعماء اليهود، يمثلون خمسين جمعية يهودية، ولم يكونوا
يخططون فقط للسيطرة على فلسطين، بل كانوا يخططون للسيطرة على العالم
منطلقين منها، ومن (أورشليم) لتثبيت عرش الحكومة العالمية برئاسة ملك من نسل
داود ومن هناك وعبر وسائل ووسائط سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية، يستغل
اليهود فيها جهود غير اليهود ويوظفونها لمصلحتهم هم، جاء في البروتوكول الثالث: (وحينما يأتي أوان تتويج حاكمنا العالمي سنتمسك بهذه الوسائل نفسها، أي نستغل
الغوغاء كيما نحطم كل شيء قد يثبت أنه عقبة في طريقنا) .
وجاء فيه: (إن المحفل الماسوني المنتشر في كل أنحاء العالم ليعمل في غفلة
كقناع لأغراضنا، ولكن الفائدة التي نحن دائبون على تحقيقها من هذه القوة في
خطة عملنا في مركز قيادتنا ما تزال على الدوام غير معروفة للعالم كثيراً) .
وجاء في البروتوكول الخامس: (إننا نقرأ في شريعة الأنبياء أننا مختارون
من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية كي نكون قادرين على القيام بهذا
العمل. إن كان في معسكر أعدائنا عبقري فقد يحاربنا، ولكن القادم الجديد لن يكون
كفؤاً إلا لأيد عريقة كأيدينا ... إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة لم
ير العالم مثيلاً لها من قبل، والوقت متأخر بالنسبة لعباقرتهم، وإن عجلات جهاز
الدولة كلها تحركها قوة، وهذه القوة في أيدينا، هي التي تسمى.. الذهب) ! .
إذن فالبروتوكولات تحدثنا عن صراع لم تنته أكثر فصوله..
أما نحن ... فإننا نكتفي بالشك والتشكيك في البروتوكولات ومن وضعوها
ومن نشروها.. ونغمض العين عمن نفذوها أو معظمها، ونظل نوغل في التغافل
والتهرب، حتى نفاجأ بأن دولة اليهود (الصغيرة) قد أعدت لكل عاصمة عربية ما
لا يقل عن عشر قنابل نووية.. وعندها علت الأصوات: نحن عاجزون، نحن
مضطرون. نحن مدفوعون إلى الاستسلام.. عفواً إلى السلام ... بل سلام
الشجعان!
__________
(1) هو إيلي ليفي أبو عسل، في كتاب (يقظة العالم اليهودي) الذي طبع بمصر عام 1934م.(118/66)
المسلمون والعالم
حلف الأطلسي هل يرفع الرايات
الصليبية بعدما لوَّح بها؟
بقلم:حسن قطامش [*]
في الثاني والعشرين من إبريل عام 1993م لم يكن مضى على استلام الرئيس
الأمريكي (بل كلينتون) للحكم أكثر من ثلاثة أشهر، حين أقام احتفالاً في العاصمة
الأمريكية بمناسبة افتتاح متحف المحرقة اليهودية، وبحضور عدد من رؤساء
أوروبا بشرقها وغربها، في ذلك اليوم وقف رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك
(رابين) خطيباً يقول:
(إننا لسنا متأكدين بعدُ من أن الرئيس كلينتون وفريقه يدركان تماماً خطر
الأصولية الإسلامية والدور الحاسم لإسرائيل في محاربتها، إن مقاومتنا ضد
الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها إيقاظ العالم الذي يرقد في سبات عميق على
حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد السلام العالمي) .
في ذلك الحفل هطلت الأمطار وسادت الفوضى، وذهب حرس الرئيس
كلينتون للبحث عن مظلات ليحتمي بها الضيوف، وفجأة ودون ترتيب بروتوكولي
وجد الرئيس التشيكي (فاتسلاف هافل) نفسه إلى جانب الرئيس الأمريكي يحتميان
ببعضهما. انتهز هافل الفرصة وقال: سيدي الرئيس! لماذا لا تفكر في تحريك
مجتمع حلف الأطلنطي بقيمه المشتركة، وأنظمة دفاعاته إلى الشرق ليضم الدول
الديمقراطية الجديدة في وسط أوروبا؟
هذا المشهد السينمائي الأخير يروّج له ساسة أمريكان على أنه الموحي والملهم
للرئيس بفكرة توسيع (الناتو) شرقاً؛ كي يبعدوا واقعية التخطيط المسبق لتوسيع
الحلف ولمحاولة إخفاء الأهداف الحقيقية وراء ذلك، ولتبدو الصورة استجابة رحيمة
من رئيس عطوف على أوروبا الشرقية التي خرجت من العباءة الشيوعية لترى
النور الغربي. ويبدو أن الأمريكان أخفقوا في هذا السيناريو الهوليودي غير
المحبوك عن قصة التوسعة للحلف، التي سنعود إليها من أولها.
أنشئ حلف شمال الأطلسي (الناتو) ، بعد الحرب العالمية الثانية، ليكون
وسيلة دفاعية ضد ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، وكانت دول أوروبا وحلفاؤها
تشعر بالقلق تجاه السياسة السوفييتية التوسعية بعد أن ووجهت بالحاجة إلى إعادة
بناء اقتصادها لفترة ما بعد الحرب. وبعد أن قامت الحكومات الغربية بتنفيذ
تعهداتها على نفسها خلال سني الحرب بتخفيض مؤسساتها الدفاعية الخاصة،
وتسريح القوات العسكرية، فوجئت هذه الحكومات بالتحركات السوفييتية للمحافظة
على قواتها العسكرية بكامل عددها وعتادها، وازدادت المخاوف عندما فرض
السوفييت أشكالاً من الحكومات الشيوعية على العديد من دول وسط أوروبا وشرقها؛ ونتيجة لذلك سعت الحكومات الغربية إلى تحالف جديد لفترة ما بعد الحرب
العالمية لتأمين الدفاعات الأوربية ضد احتمالات التهديد السوفييتي، وكانت النواة
الأولى للحلف وضعت في بروكسل، عام 1948م بتوقيع معاهدة تعاون أمني ودفاع
مشترك لمدة خمسين عاماً بين كل من فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورج وهولندا
وبريطانيا، ثم أعلن عن تأسيس الحلف رسمياً بوصفه منظمة دفاعية في 4 أبريل
1949م بإضافة البرتغال وإيطاليا والولايات المتحدة وكندا وأيسلاندا والنرويج
والدنمارك، ثم انضمت في عام 1951م كل من اليونان وتركيا ثم ألمانيا، والتحقت
أسبانيا في العام 1981م سياسياً فقط.
وتشمل وثيقة الحلف الرئيسة معاهدة للتعاون الاقتصادي والسياسي
والاجتماعي بين الدول الموقعة يستهدف بشكل رسمي ترسيخ القيم الغربية، أما
شعار الحلف فهو: (الاعتداء على دولة واحدة ... اعتداء على الجميع) .
ويبلغ حجم قوات الحلف مجتمعة، بدوله الست عشرة 1، 4 مليون جندي!! بينما تصل ميزانية الدفاع لهذه الدول مجتمعة 8، 437 بليون دولار.
ماذا يعني توسيع الحلف.. شرقاً؟
بعد هدوء الضجيج الشديد الذي أثارته قمم هلسنكي، ودنفر، ومدريد بين
روسيا ورئاسة الناتو الأمريكية استقر الأمر على الموافقة على إدخال كل من بولندا
والمجر والتشيك أعضاء جدداً في الحلف من كتلة أوربا الشرقية، على أن يظل
الباب مفتوحاً أمام دولٍ أخرى حين تستوفي الشروط الأطلسية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ألم يكن حلف الأطلسي (الناتو) أقيم
لمناهضة التطلعات التوسعية للاتحاد السوفييتي البائد؟ وأن الحلف معني أساساً بذلك؟ فلماذا إذن بقاء الحلف فضلاً عن توسعته؟
ونجيب أولاً عن ذلك من خلال مرئيات السياسة الأطلسية الرسمية، أما
الإجابة الأخرى فلها شأن آخر، والوجه الرسمي المعلن تجيب عنه سيدة الخارجية
الأمريكية في مقال نشر في (لوس أنجلوس تايمز) ونقلته جريدة القبس في
13 /7/ 1997م، تقول أولبرايت: إن توسعة حلف الناتو لها أسباب أربعة:
الأول: أن توسيع الناتو سيجعله أقوى وأكثر تماسكاً؛، فشركاؤنا الجدد
يشاركوننا قيمنا وتطلعاتنا الأساسية لأوروبا والعالم.
الثاني: أن توسيع الحلف يقلل من مخاطر مشاركة جنود أمريكيين في حرب
أخرى داخل أوروبا.
الثالث: أن توسيع الناتو سيساعدنا في الدفاع عن مكتسبات أوروبا
الديمقراطية والسلمية والاندماجية.
الرابع: تصحيح أخطاء الماضي، فقبل ثلاث سنوات قررنا أنه إذا كان
الحلف لم يعد من مؤسسات الحرب الباردة التي تستهدف روسيا، فإن من غير
المنطقي أن تقصر عضويته على الدول الأعضاء في حقبة الحرب الباردة.
الموقف الروسي:
كذلك سنبدأ بالصورة المعلنة من الموقف الروسي، فالاتحاد السوفييتي هو
السبب الرئيس لقيام حلف شمال الأطلسي لوقف تطلعاته التوسعية في أوروبا، ومع
الانهيار المدوي للاتحاد، اغتر الغرب، وبدأ بتنفيذ خططه التي منها توسيع حلف
الأطلسي ليقف بقواته وعتاده على الأبواب الروسية لمنع أي نوايا لإعادة بناء
الإمبراطورية الشيوعية، وكذلك تطويق المنافذ الروسية إلى أوروبا، ومنع امتداد
نفوذها، فليس هناك معنى لضم المجر وتشيكا، وبولندا التي كانت مقراً لحلف
وارسو وهي دول شيوعية سابقاً قريبة من الحدود الروسية، بل والوعد لدول أخرى
أشد قرباً (دول البلطيق) ليس هناك معنى لكل ذلك إلا إذلال الأمبراطورية الشيوعية
التي طالما أجهدت الغرب في سني الحرب الباردة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
ولكن كيف تقبل روسيا بهذا الوضع، ولماذا؟
كما هو معروف في العلاقات السياسية أنه ليس هناك عداوت دائمة، ولا
صداقات دائمة، بل هناك مصالح فقط، وعليه فإن الوضع الروسي الآن لا يسمح
بمواجهة الغرب والوقوف أمامه لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا عسكرياً.
فالجيش الأحمر فقد لونه واعتل دمه، وأنياب الدببة تساقطت، فالحكومة لا
تستطيع أن توفر له سوى وجبة طعام واحدة خلال اليوم الواحد! !
وهذا يعني أن الاقتصاد الروسي في حالة انهيار شديد؛ ومعنى أن تحاول
روسيا إعادة بناء جيشها فإن ذلك فيه القضاء على حلم الانتعاش الاقتصادي.
وإن الارتباط بالغرب الأمريكي الآن يمكن اعتباره متماشياً مع العصر
الأمريكي حتى إشعار آخر.
هناك أيضاً الخوف الروسي من العملاق الصيني، وهي الجارة الكبيرة التي
يتوقع أن يكون لها تأثير كبير في الساحة الدولية خلال سنوات قليلة، مع الخوف
الأكثر من الطمع الصيني في أراضي سيبيريا القليلة السكان؛ فالانضواء تحت
الجناح الغربي مصلحة روسية بلا شك.
أيضاً كان على يلتسن أن يرد الجميل للرئيس كلينتون الذي دعمه بفريق من
الخبراء الأمريكيين لإدارة حملته الانتخابية ومساعدته للفوز بالرئاسة مؤخراً.
والأهم من ذلك كله أن روسيا ليس لديها ما يحفزها على التخلي عن الغرب
من أجله، فها هي تترك العرب المشارقة والمغاربة إلى مصيرهم الجديد.
ومع ذلك فروسيا تمتلك ما يخشاه الغرب، وهو السلاح النووي، وهو ما
يدفعها للتفاوض بقوة للحصول على أكبر ثمن ممكن نظير قبول كل هذا الذل، وهذا
ما كان مثار مناقشات في الفترة الأخيرة تمخضت عن اتفاق روسي أطلسي يكون
لروسيا فيه حق الجلوس على الموائد الدبلوماسية للحلف للإصغاء والمراقبة
والاقتراح والمشاورة.. ولكن دون أن تقرر شيئاً، وتم التوقيع على ذلك، وعقب
التوقيع مباشرة أعلن صندوق النقد الدولي عن تحويل عشرة بلايين دولار قرضاً
لروسيا، وتم تحويل 700 مليون دولار منها فوراً.
حقيقة القصة.. والقصة الحقيقية:
كان هذا هو الوجه المعلن من التوسيع، ويظهر منه التعمد الرسمي أن هذه
الخريطة الجديدة للعالم بحكومتها الأطلسية وقيادتها الغربية النصرانية ليس للمسلمين
علاقة بها ولا ارتباط.
فعلى الصعيد القومي العربي لم يعد هناك للعرب المشارقة أو المغاربة أي
تحالفات يمكن الركون إليها؛ فالتوسع الأطلسي والتخاذل الروسي كانا المسمار
الأخير في نعش التحالفات العربية؛ بحيث لا يبقى معارض للإملاءات الأمريكية
والغربية، ولكن يبدو حتى الآن أن عرب الشرق غير مصدقين بانتهاء روسيا كدولة
عظمى يمكن الركون إليها عند غضب القبلة الغربية، أما عرب الغرب فإن الناتو
قد وضع قواته على أراضيهم قبل توسيعه إلى شرق أوروبا عبر تحالفات ثنائية
دفاعية وتدريبية، فليس هناك حاجة إلى ضمها إلى الناتو اسمياً، فالواقع أبلغ.
إذن فما قصة حلف شمال الأطلسي مع العالم الإسلامي، والظاهرة الإسلامية
خاصة؟
بدايةً: أي حلف لا بد أن يكون له عدو، وإلا ما كان لوجوده أي فائدة،
والإسلام للغرب النصراني عدو دائم وليس عدواً جديداً [وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] .
ففي التاسع والعاشر من يونيو 1994م عقد اجتماع ضخم في (اسطنبول)
لاحظ المكان شارك فيه أربعون وزيراً للخارجية والدفاع بالدول الغربية في
اجتماعين منفصلين، ضم الأول وزراء حلف شمال الأطلسي الذي يضم كافة الدول
الأوروبية سواء الشرقية منها أو الغربية وكذلك ضم الاجتماع روسيا! ! وكان
محور الاجتماعين يدور حول وضع خطة لمواجهة الخطر القادم بعد زوال الشيوعية، وبعد عشرات الاجتماعات التي عقدت بين الوزراء الأعضاء في الحلف كُلّف
الأمين العام للحلف (ويلي كلايس) رسمياً بإعداد ورقة عمل للحلف عن خطر
الأصولية الإسلامية، كونها تشكل التهديد الأخطر بعد زوال الشيوعية، وبعد إعداد
كلايس للتقرير صرح في فبراير 1995م خلال مؤتمر أمني عقد في ألمانيا أنه:
(منذ انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية، قبل خمس سنوات، برز الدعاة
المسلمون المتطرفون ربما كأخطر تهديد يواجه التحالف والأمن الغربي) الأنباء
12/ 2/1995م عن الواشنطن بوست.
وقبل ذلك بأيام صرح في حديث لصحيفة ألمانية قائلاً: (إن الأصولية هي
على الأقل خطيرة كما كانت الشيوعية، ونرجوكم ألا تقللوا من شأن هذا الخطر) .
كانت تصريحات كلايس ملخصاً لورقة العمل التي كلف بإعدادها وبدأ في
تنفيذها كاستراتيجية جديدة للحلف التي بها يتفرغ تماماً لمحاربة دين الله العزيز
الحكيم!
إرهاصات ما قبل التصريح والنتائج:
لم يكن الاجتماع ولا التصريح من قادة الأطلسي هو البداية الحقيقية لقيام
الحلف النصراني بإعلان الحرب على المسلمين، ففي العام 1992م، وفي بداية
حرب البوسنة صرح وزير الإعلام الصربي قائلاً: (نحن طلائع الحروب الصليبية
الجديدة) وعندما تجاوز الصرب الحدود التي رسمت تكفل حلف شمال الأطلسي
بحفظ السلام في البوسنة! ! وفي 7/9/1991م ومع استقلال الشيشان حذرت
صحيفة الأندبندنت في تقرير لها من أن الأصولية الإسلامية ستكون البديل للأنظمة
القائمة في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي سابقاً، وحذرت من تنامي
المد الإسلامي السريع في هذه المناطق.
وفي افتتاحية للصاندي تايمز: (إن الغرب والاتحاد السوفييتي ينبغي أن
يستعدا لمواجهة إسفين إسلامي أصولي هائل يمتد من شواطئ البحر المتوسط في
شمال إفريقيا إلى آسيا الوسطى إلى حدود الصين) .
وفي العام 1991م كذلك صرح الجنرال هيلموت فالمان قائد الفيلق الأوروبي
عقب الانهيار السوفييتي: (كل شيء واضح الآن! ! إن محور التهديد ضد أوروبا
انتقل نحو الجنوب! !) .
وفي 22/ 4/ 1993م كان حفل افتتاح متحف المحرقة اليهودية في واشنطن
وخطاب رابين الذي أشرت إليه سابقاً.
وفي العام نفسه ظهرت مقالة د. صموئيل هنتغتون (صدام الحضارات) التي
تحولت بعد ذلك إلى كتاب يقول فيها: إن الإسلام أصبح الخطر الجديد على الغرب
بعد زوال الشيوعية.
وفي 29/1/ 94م وعقب عودته من واشنطن والاجتماع مع كلينتون، صرح
المستشار الألماني هيلموت كول في اجتماع ضم 200 من كبار المسؤولين الغربيين
المهتمين بشؤون الدفاع قائلاً:
(لا يسعني إلا أن أنصح الغربيين بأن يستفيقوا من سباتهم! ! هناك خطر
حدوث مواجهة مع 800 مليون مسلم في العالم) .
ويأتي وزير الدفاع الفرنسي حينها (فرانسوا ليوتار) ليقول: (إن الأصولية
الإسلامية تغرز خنجرها عميقاً في صدر أوروبا وإفريقيا) .
ويبدو أن هذا التصريح لم يرق لوزير الاقتصاد الألماني، فزايد عليه قائلاً:
إن فرنسا لم تعد منذ فترة طويلة هي البلد الوحيد المهدد، وإن التطرف الإسلامي
يهدد ألمانيا أكثر فأكثر! ! ثم تساءل: لماذا علينا أن نسمح بدون حدود ببناء مساجد
وإدخال نمط الحياة الإسلامية إلى بلادنا؛ بينما لا ترفع هناك في الوقت نفسه القيود
المفروضة على المسيحيين والتمييز بحقهم؟
وفي 6/ 8/1994م نشرت مجلة (الإيكونومست) دراسة مهمة تحت عنوان:
(الإسلام والغرب، يقولون إنها الحرب المقبلة) وتدور الدراسة حول تحليل الصراع
القائم والقادم بين الإسلام والغرب.
وفي 6/2/1995م قدم نيوت جنجريتش للمجلس عقب فوزه بمنصب رئيس
مجلس النواب الأمريكي (الكونجرس) خطة مكونة من أربع نقاط لمواجهة (الإرهاب
الإسلامي) المزعوم وقال: إن تطوير خطة استراتيجية متماسكة لمقاومة الإرهاب
الإسلامي، يجب أن يكون لها الأولوية الأولى، إن علينا أن نتجاوز لغة العقوبات
الاقتصادية والإدانات السياسية، إن من واجبنا أن نساعد الجزائر أن تعيش! ! وأن
نساعد على استمرار السياسات العلمانية في مصر وتركيا، إن هذا من شأنه أن
يشل (القوى الاستبدادية) سواء تلك التي تقتل الإسرائيليين في الضفة الغربية، أو
تقتل الأمريكيين في نيويورك، إن الأصولية تعني إعلان الحرب على الحضارة
الحالية للعالم، وعلينا أن نتعامل مع هذا الموقف على أنه فعلاً (حرب معلنة) .
وفي 6/2/1995م اجتمع وليام بيري وزير الدفاع الأمريكي السابق مع عدد
من كبار المسؤولين في حلف شمال الأطلسي خلال ندوة رسمية عقدت في ميونخ،
وصرح قائلاً:
إن حالة عدم الاستقرار التي تنتشر على طول المتوسط لا تهدد الأنظمة
الصديقة في شمال إفريقيا فحسب، بل تهدد أوروبا أيضاً.
وأخيراً في 7/2/1995م كان تصريح ويلي كلايس الأمين العام السابق لحلف
شمال الأطلسي آنف الذكر.
لم يكن هذا الكم من التصريحات النصرانية الأطلسية العدائية إلا قطرة في
بحر من العداء النصراني لدين الله (تعالى) [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] [آل عمران: 118] .
وفي شهر يوليو الماضي 1997م كانت الصياغة النهائية للمشروع الأطلسي
الجديد بزعامة أمريكية كالتي كانت في قمة مدريد التي سبقتها بقليل قمتا هلسنكي
ودنفر، وقد اتضح الدور بصورة أكثر جلاء عبر الصحافة العالمية، فنشرت
الهيرالدتربيون مقالاً تحت عنوان: (حلف شمال الأطلسي معني بمواجهة مد
الانبعاث الإسلامي) ونشرته جريدة الأنباء في 21/3/1997م وجاء فيه: إن تحالف
الأطلسي الجديد لا يصوّب أسلحته النووية وقوات الانتشار السريع نحو الشرق! !
يقصد به روسيا ولكن حلف الأطلسي ينظر بقلق في اتجاه آخر، إلى جنوب وشرق
أوروبا، فهو يتساءل عن كيفية منع صدام حسين آخر من القيام بمحاولة للاستيلاء
على نفط الخليج، وكيفية السيطرة على اندفاعات الانبعاث الإسلامي في الجزائر
ومصر وإيران، وكيفية التعامل بيد ثابتة مع الإضرابات في آسيا الوسطى، وكيفية
حدوث تفكك دموي لمعظم إفريقيا؛ هذا هو برنامج حلف الأطلسي الجديد لمرحلة ما
بعد الحرب الباردة.
لقد أصبح لدينا مقومات تحالف دائم للديمقراطيات الغربية، وجيش قائم
وجاهز للتعامل مع أي أزمات يمكن أن نواجهها في غرب آسيا وشمال إفريقيا خلال
القرن المقبل اهـ.
إن المسلمين الآن لا يواجهون حلفاً من ست عشرة دولة سيضاف إليها ثلاثة
أخرى هذا العام وثلاثة أخرى عام 1999م وهي دول البلطيق ولكننا نواجه حلفاً
يتكون من أربع وأربعين دولة! ! وهو يعتبر أكبر تحالف في التاريخ، فإن ثمة
مجلساً ظهر في 30/5/1997م يسمى: (المجلس الأوروبي للتعاون الأطلسي) وقد
عقدت اجتماعاته عقب قمة مدريد في يوليو السابق بحضور الدول الست عشرة
المعلنة وثمان وعشرين دولة أخرى وقّعت مع الحلف ميثاقاً خاصاً، ومن بينها كل
دول الاتحاد السوفييتي السابق، وقد صرح وليام كوهين وزير الدفاع الأمريكي
اليهودي في 14يوليو 1997م بعد قمة مدريد وبعد زيارته لأوكرانيا بأن (انضمام
كل دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى الحلف أمر قادم لا محالة) .
وقد نظمت الولايات المتحدة على أراضيها في 30/ 8/ 1995م مناورات
عسكرية مشتركة لحلف الناتو جمعت دولاً شيوعية قديمة تحت عنوان: (الشراكة
من أجل السلام) ضمت أمريكا وكندا وبريطانيا من حلف الأطلسي، وألبانيا،
وبلغاريا، والتشيك، واستونيا، والمجر، وقيرغستان، ولاتفيا، وليتوانيا،
وبولندا، ورومانيا، وسلوفيكيا، وأوكرانيا، وأوزبكستان.
وعلى هذا فالمسلمون أمام أربع وأربعين دولة مجهزة بأحدث الأسلحة وتتحكم
في 70% من إنتاج العالم بزعامة حلف الأطلسي؛ فحسبنا الله ونعم الوكيل.
موقف الدول العربية:
خدعة كبرى صدقتها الدوائر الرسمية العربية تلك التي وجهها الغرب: أن
حرب حلف شمال الأطلسي هي مع الأصولية وليست مع الإسلام! ! وما ذلك إلا
ليجد السند القوي والتعاون من الدول والأنظمة الصديقة التي يهدد بنيانها ويقوضه
الإرهاب الإسلامي! ! وما دام في المسألة زعزعة استقرار أنظمة فلا بد إذن من
التنسيق والترتيب مع حلفائهم الأطلسيين، فكان من مبادرة الحلف إجراء مباحثات
كذلك تحت عنوان (الشراكة من أجل السلام) وهو ما عرف ويعرف حتى الآن بـ
(الحوار المتوسطي) وهذا المشروع استهدف تحسين الرؤية السياسية الشاملة مع
ست دول متوسطية لضمان الاستقرار في منطقة البحر المتوسط، وقد بدأ في
فبراير أيضاً 1995م مع كل من مصر وتونس والمغرب وموريتانيا وإسرائيل
والأردن سعياً إلى تبادل الرؤى الأمنية بين هذه الدول وحلف الأطلسي، وفتح
أبواب المعاهد الحربية للعسكريين من هذه الدول المتوسطية، ومشاركتهم في
الندوات الأمنية، مع الاشتراك في مناورات عسكرية مشتركة بين الحلف وهذه
الدول.
وسبق هذا الحوار المتوسطي اجتماع سري عقد في نهاية صيف عام 1994م
عقده ممثلو الدول الغربية مع بعض الخبراء العرب في رحاب جامعة إكسفورد
لمناقشة بعض الترتيبات الأمنية! ! أما اللاحق بعد السابق، وعقب مبادرة كلايس،
فكانت هناك زيارات لعدد من رؤساء الدول الإسلامية لواشنطن، وكان أول
الزائرين رئيسة وزراء باكستان السابقة بي ناظير بوتو، وكان ذلك في إبريل
1995م، وكان على رأس جدول الأعمال: تفكيك القواعد والمواقع التي يستخدمها
المجاهدون العرب داخل باكستان.
وإن المراقب لتلك الفترة الزمنية يجد أن المواجهات للحركات الإسلامية قد
ازدادت حدة، بداية من تكميم الأفواه الناطقة بالحق، وتحويل المحاكمات المدنية
إلى عسكرية، ومن السجن إلى الإعدام، وجاءت التبريكات الغربية والإشادة
النصرانية بالجهود المبذولة في ذلك!
ونختم هنا بتصريحين: أولهما نسأل الله أن يكون سبباً في إيقاظ النائمين
المحاربين لدين الله ممن ينتسبون إليه وهو لـ (يوجين روستو (رئيس قسم التخطيط
في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية ومستشار الرئيس الأمريكي
الأسبق جونسون لشؤون الشرق الأوسط.. يقول:
إن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول
وشعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة النصرانية (الغربية)
لقد كان الصراع محتدماً بين النصرانية والإسلام منذ القرون الوسطى، وإن
الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته وعقيدته
ونظامه، وذلك يجعلها معادية للشرق الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين
الإسلامي [الشرق/ 152/3/6/95م] .
أما الآخر فهو لصموئيل هنتغتون في حوار أجرته معه مجلة المجلة في عددها
896/13/4/1997م يقول: (ما دام الإسلام سيبقى إسلاماً، وليس هناك أي شك
في ذلك، وما دام الغرب سيبقى غرباً، ولا يتوقع أحد أن يصبح الغرب شرقاً،
فسيظل الصراع قائماً بينهما كما ظل قائماً لأربعة عشر قرناً) .
ولعلنا لا نذهب بعيداً إذا أشرنا إلى أن كل هذه التجهيزات النصرانية هي
للملحمة [**] التي أخبر عنها سيد البشر عليه الصلاة والسلام والتي كما هي عقيدة
لدينا فهي تعمل في عقولهم بشدة شديدة.
ــــــــــــــــــ
(*) تنبيه: يواصل الكاتب حلقات: عولمة أم أمركة.. في العدد القادم إن شاء الله.
(**) انظر/مسند الإمام أحمد/مسند الشاميين، ومسندالأنصار، وأباداود في الجهاد، والملاحم
وابن ماجه في الملاحم، والفتن.(118/74)
المسلمون والعالم
دروس من زائير..
فهل نستفيد؟
بقلم:إبراهيم بن عبد الرحمن التركي
بعد استقلال زائير قام موبوتو العائد من دراسة الاقتصاد السياسي في فرنسا
بانقلاب عسكري في زائير عام 1961م بدعم من المخابرات الأمريكية ضد الرئيس
لومومبا، فهرب (كابيلا) المؤيد للنظام السابق إلى الأدغال مع مجموعة من أنصار
الرئيس لومومبا، وتبنى النهج الماركسي، وبدأ الحرب على موبوتو، لكنه بقي
ضعيفاً، ثم فجأة وخلال سبعة أشهر استطاع إسقاط نظام موبوتو في واحدة من
أسرع الحملات العسكرية في تاريخ إفريقيا الحديث، وكانت شرارة البداية عندما
أبلغ حاكم مقاطعة جنوب كيفو الزائيرية 300 ألف من التوتسي الذين يعيشون في
تلك المنطقة بوجوب مغادرة البلاد؛ وذلك بعد سيطرة إخوانهم التوتسي على
(رواندا) و (بوروندي) وانتزاع حكمهما من الهوتو المدعومين من موبوتو.
وكابيلا ليس من التوتسي؛ لكن معركته يخوضها جنود روانديون وأوغنديون
وأنغوليون إلى جانب توتسي شرق زائير، ولعل وضعه قائداً من أجل طمأنة
الأعراق الأخرى في زائير.
لكن السؤال: من يقف خلف هذه الحركة، ومن المستفيد منها، ومن الخاسر
وما الآثار المتوقعة لها؟
أما من يقف خلف هذه الحركة ويستفيد منها: فهم عدة أطراف: أولها الدول
المجاورة خاصة رواندا المحرك الأساس للتمرد؛ لأنها تعتقد أن هوتو رواندا
اللاجئين في شرق زائير يخططون لغزوها، فكان هدف رواندا إقامة منطقة عازلة
شرق زائير، لكنها لم تتوقع اكتساح المتمردين لمدن زائير بتلك السهولة، وقد
اعترف نائب رئيس رواندا أن قواته أسهمت في إسقاط أربع مدن زائيرية.
كذلك تستفيد منها بوروندي التي يحكمها التوتسي، وكذلك أوغندا التي يتزعم
زعيمها موسيفيني الائتلاف القوي للزعماء الذين يقفون خلف كابيلا، فقد تسلم حكم
أوغندا عام 1986م بدعم من الجالية التوتسية الرواندية الكثيفة العدد في أوغندا،
وساعد منذ 1990م الحركات التوتسية المتمردة التي سيطرت على رواندا وبورندي
عام 1994م، وأخيراً كابيلا.
ولا يُخفي الرئيس الأوغندي حلمه في إقامة دولة التوتسي الكبرى التي تضم
أوغندا ورواندا وبوروندي وأجزاء من زائير، وتمتد شمالاً من منطقة البحيرات إلى
السودان وغرباً إلى الكونغو، وتشكيل منطقة مهمة بموقعها الاستراتيجي مع غناها
بمواردها الطبيعية.
وبالجملة: فسبع دول من الدول التسع المجاورة لزائير تقدم الدعم للمتمردين
بسبب عدائها لموبوتو لدعمه حركات التمرد فيها.
أما المستفيد الثاني والأكبر: فهو أمريكا حيث تستفيد نفوذاً سياسياً واقتصادياً، أما النفوذ السياسي: فبعد انتهاء الحرب الباردة انتقلت المواجهة في إفريقيا من
صراع بين الشرق الماركسي والغرب الرأسمالي إلى صراع بين الغرب الأمريكي
والغرب الفرنسي، والمفهوم الأمريكي يتجه إلى الإعداد لخريطة إفريقية جديدة عن
طريق ضم بعض الدول وإعادة تركيبها؛ بناءً على أسس قبلية؛ فتكون بذلك دولة
التوتسي الكبرى إذا ما قامت هي الحليف الاستراتيجي لأمريكا على غرار إسرائيل
في الشرق الأوسط أي إنها ستكون إسرائيل الإفريقية: أقلية عددية تتمتع بتفوق
نوعي وبدعم أمريكي؛ وذلك جرياً على عادة الاستعمار في دعم الأقليات، ويصبح
كابيلا رجل واشنطن والركن الركين لسياستها في المنطقة حيث تحيطه بزمرة من
الشباب المتعاونين معه المتخرجين من الجامعات الأمريكية.
أما سبب عدم تدخل أمريكا المباشر بجنودها في إفريقيا ولجوئها إلى أفارقة
يقومون بتنفيذ مخططاتها: فلا شك أنه درس من الهزيمة القاسية التي تلقتها في
الصومال حيث خرجت تجر أذيال الخيبة خاصة بعد مقتل 15 جندياً عام 1993م
في مواجهة مع الصوماليين، وكان لمنظر الجندي الأمريكي القتيل الذي يجره
أطفال الصومال بحبل وهو شبه عارٍ كان لهذه الصورة أثر عظيم على الرأي العام
الأمريكي، الذي كان سبباً في تعجيل الخروج من الصومال؛ وبعد ذلك رأت أمريكا
أن التدخل بواسطة العملاء الأفارقة هو الأوْلى.
ونتيجة للصراع الأمريكي الفرنسي في إفريقيا عملت أمريكا على إلحاق زائير
الفرنسية بالحظيرة الأمريكية التي وسعتها ببعض دول شرق إفريقيا: إرتريا إثيوبيا
أوغندا، إضافة إلى العميل قرنق.
إذن: فإفريقيا تعيش مرحلة تحوّل بعد انتهاء الحرب الباردة تسعى فيها أمريكا
إلى إيجاد موطئ لأقدامها على حساب القوى التقليدية الأوروبية مثل فرنسا.
وأما من الناحية الاقتصادية فتمثل إفريقيا في القرن 21، من المنظار
الأمريكي، السوق الاستهلاكية البديلة عن آسيا؛ حيث تراجعت الصادرات
الأمريكية أمام منتجات اليابان والصين والنمور الآسيوية الصاعدة.
وزائير أكبر دولة في المنطقة ثروةً ومساحةً وبشراً، وهي تختزن 60% من
الكوبالت في العالم، ومخزوناتٍ ضخمة من النحاس والفضة والذهب والحديد
والمنجنيز واليورانيوم والبترول الخام؛ إضافة إلى موارد طبيعية من مياه وغابات
وعاج ومطاط وموز وكاكاو وزيت نخيل وشاي وسكر..
ولذا: وصلت إلى مدينة لومومباشي أسراب من الطائرات الخاصة التابعة
لمديري الشركات الأمريكية؛ وذلك لعقد صفقات تجارية مع كابيلا حتى قبل أن
يزحف نحو العاصمة كنشاسا.
وقد وقّع وزير المناجم في حكومة كابيلا في المنفى وقع عملية استثمار مع
الشركة الأمريكية لحقول المناجم بمبلغ يزيد على بليون دولار، فأمنت الشركة
لكابيلا السيولة المالية لدعم حركته عن طريق شراء الألماس الذي اكتشفه أنصاره
في المناطق التي احتلوها، بل ووفرت له طائرة للانتقال داخلياً وخارجياً.
أما المستفيد الأخير: فهو إسرائيل حيث إنها تسعى للسيطرة على أسواق
السلاح الإفريقية، والاقتراب من منطقة البحيرات العظمى حيث ينبع النيل لإيجاد
موطئ قدم لها على البحر الأحمر؛ لكي لا يكون بحيرة عربية، وهي بالإضافة إلى
جنوب إفريقيا تعمل كرديف للسياسة الأمريكية في القارة الإفريقية.
أما بالنسبة للأطراف الخاسرة في هذه المعركة: فلا شك أن أولها موبوتو
الذي كان يخدم المصالح الأمريكية لأكثر من 30 سنة من خلال التعاون مع
الأمريكيين ضد الحكومات اليسارية والماركسية التي كانت في أنجولا وموزامبيق
وغيرها؛ لكن بعد هزيمة الماركسيين لم يعد موبوتو مهمّاً مثلما كان؛ والأمريكان
يريدون توسيع مصالحهم السياسية والاقتصادية، لذا كان لا بد من إيجاد البديل
الأقدر منه على تلبية المصالح الأمريكية الجديدة.
وقد أسهم موبوتو في إسقاط نفسه بنفسه؛ فخوفه من حدوث انقلاب جعله
يحكم بمبدأ فرّق تسدْ بين الهيئات الأمنية المختلفة. يقول محلل عسكري: إن
الجيش الزائيري لم يكن أبداً أداة للحرب، وإنما كان أداة أمنية مخصصة لحماية
الرئيس؛ إضافة إلى أن الجنود بلا مرتبات لعدة شهور؛ بل كان قادة الجيش وقت
اشتعال المعارك يبيعون الأسلحة التي تم شراؤها لشن هجوم مضاد نهائي على
المتمردين يبيعونها إلى حركة يونيتا المتمردة في أنجولا.
أما ثاني الأطراف الخاسرة: فهي فرنسا فقد خسرت كنزاً مادياً ومعنوياً وثقافياً
كانت تتمتع به طيلة قرون عديدة؛ ويتمثل في ثروات هذه البلاد، ولم تعد أمريكا
راغبة في أن تشاركها فرنسا في اقتسام الكعكة الزائيرية.
لم تجرؤ باريس على القيام بعملية منفردة إنقاذاً للنظام الموالي لها في زائير؛
وذلك بعد الانتقاد الحاد الذي تعرضت له لتدخلها في رواندا عام 1994م.
أما سبب استيلاء أمريكا على منطقة النفوذ الفرنسية هذه، فإنه يرجع إلى
الخلاف القديم المستمر بين أمريكا وفرنسا؛ فالأخيرة منذ عشرات السنين وهي تعتز
بذاتها وتريد أن تكون مستقلة لا تابعة لأمريكا؛ ويظهر ذلك من خلال اهتمامها
المعروف بلغتها وتمسكها بذلك في جامعاتها، بل وسعيها لنشرها بواسطة (تجمّع
الفرانكفونية) على الرغم من أن التفوق من حيث الانتشار في العالم هو للغة
الإنجليزية. ومظهر آخر لذلك هو الشكوى الدائمة التي يبديها مثقفو فرنسا من خطر
انتشار الثقافة الأمريكية في فرنسا، ودعوتهم لحماية ثقافتهم من خطر الأفلام
والمسلسلات الأمريكية وانتشارها في فرنسا، وأنه سبيل لنشر الثقافة الأنجلو
سكسونية؛ لحماية ثقافتهم الفرانكفونية؛ ومثال آخر على ذلك: هو مقاطعتها
لاجتماعات حلف شمال الأطلسي لمدة 30 عاماً حتى عام 1995م بسبب الخلاف
على قيادة حلف الأطلسي واحتجاجاً على الهيمنة الأمريكية على ذلك الحلف.
ومع قدم هذين المسوّغين للعداء الفرنسي الأمريكي إلا أن أمريكا امتنعت سابقاً
عن التدخل في مناطق نفوذ فرنسا؛ وذلك بسبب الحرب الباردة وحاجتها إلى توحيد
الصف الغربي ضد الاتحاد السوفييتي السابق، أما بعد سقوط الماركسية فلم يعد
لذلك التحفظ مسوّغ، إضافة لما صدر من مواقف فرنسية محرجة للأمريكيين كان
طابعها الاستعراض والمراءاة أمام العالم؛ فكان لا بد من تأديبها حتى تعود لبيت
الطاعة الأمريكي، ومن تلك المواقف زيارة الرئيس الفرنسي إلى سراييفو في بداية
حرب البوسنة ودعوة فرنسا الدائمة للمجتمع الدولي أن يوقف الحرب؛ فظهرت
بمظهر المدافع عن المظلومين أكثر من غيرها، إضافة إلى ما قام به الرئيس
الفرنسي شيراك من زيارة القدس والاستعراض أمام كاميرات التلفاز بتلمسه ذلك
وتهديدهم بقطع الزيارة، إلى غير ذلك من الاستعراضات؛ فكان لا بد من تأديبه
وإخضاعه وإيقافه عند حده، لتبقى السيادة لزعيم النظام العالمي الجديد كما تصورها
هو!
أما ثالث الأطراف الخاسرة فهو السودان؛ فقد كان يستخدم زائير للهجوم من
أراضيها على قرنق، وقد ذكرت جريدة الواشنطن بوست أن الحكومة الأمريكية
تنسق مع يوغندا ورواندا بشأن السودان.
ويفترض المخطط الأمريكي إنهاء النفوذ العربي والإسلامي عن طريق إقامة
نواة إفريقية صلبة تتعاون مع إسرائيل كقبيلة التوتسي، وإغلاق بوابة العبور
العربية الإسلامية باتجاه إفريقيا والمتمثلة بالسودان؛ وذلك بما يشاهد من حصار
اقتصادي عالمي يدبر ضد السودان، يتزامن مع دعم عسكري يقدم لرفيقهم قرنق
لإنجاح عملية انفصال الجنوب عن الشمال المسلم. ولا يقف المشروع التوتسي
عربياً عند حدود السودان؛ بل يتعداه للإمساك بمنطقة البحيرات ومنافذ البحر
الأحمر ومنابع النيل وكلها أوراق ضغط على مصر وهي الطرف الرابع الخاسر من
هذه الحرب إضافة لقيام (إسرائيل) ببناء 40 سداً ومشروعاً للري والزراعة
والكهرباء على نهر النيل الأزرق قبل أن يدخل السودان، واستصلاح 150 ألف
فدان من الأراضي الأثيوبية المجاورة للسودان، تعتمد في ريها على المياه
المخصصة لمصر من نهر النيل.
لكن مصر عن هذا الخطر غافلة وعلى عدائها للسودان مستمرة، وما يفعله
قرنق من محاولة فصل جنوب السودان في زعمها شأن داخلي لا علاقة لها به مع
أنها هي المستهدفة مما يحدث أكثر من السودان، فهل تصحو مصر من غفلتها قبل
أن يلتف الحبل على عنقها؟ أم تأخذها العزة بالإثم؟ !
ومن الأطراف الخاسرة في هذه الحرب نيجيريا التي جعل تقرير البيت
الأبيض عن استراتيجية أمريكا خلال القرن المقبل، جعل من أهدافه تخفيض
تصدير المخدرات الإفريقية خاصة من نيجيريا إلى أمريكا.
ويظهر مدى العداء بين أمريكا ونيجيريا وأنها تُرى خاسرة من هذه الحرب:
تكرر إعلانها التضامن ضد التدخل الأمبريالي.
ولعل آخر الأطراف الخاسرة زعيم كينيا؛ لأنه كان حليفاً قديماً لموبوتو.
ثم بعد الحديث عن الرابح والخاسر في هذه الحرب لعلنا نختم الحديث
بالتساؤل عما بعد هذه الحرب، وعن آثارها: فهل يا ترى سيعبر كابيلا نهر
الكونغو إلى برازافيل لإعادة توحيد الكونغو الكبير الذي يضم زائير وبرازافيل
والغابون وإفريقيا الوسطى؟ وهل سيكون الدور على نيجيريا بإثارة اضطرابات
العمال فيها؟ أم على كينيا، أم إفريقيا الوسطى؟ وهل سيكون لهذه التغيرات أثر
حاسم في معركة جنوب السودان؟ وهل ستعي مصر الخطر الذي يحاك ضدها،
فتدع إعانة أعداء السودان عليه؟ أم تثبت للجميع قصر نظرها حيال ما يدبر ضدها؟ وهل في محاولات احتواء منابع النيل ما يشير إلى بداية حرب المياه في الشرق
الأوسط؟
هذه التساؤلات وغيرها ستجيب عنها الأيام والأحداث؛ والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(118/86)
هموم ثقافية
إشكالية نتائج وإفرازات الديمقراطية
بقلم: سامي محمد الدلال
يحق لنا أن نقف موقف الانبهار عند شروعنا في الحديث عن إشكالية النتائج
بشأن التعبير العملي عن الديمقراطية، حيث إن كل نتيجة منها هي إشكالية بحد
ذاتها.
ونظراً لتزاحم إشكاليات النتائج فإني سأسوقها ضمن نقاط، ليس شرطاً أن
تأخذ نمطاً منطقياً في تتابع ذكرها، كما أني أستميح القارئ عذراً في اضطراري أن
أقتطع جزءاً نفيساً من وقته وهو يتابع هذه النتائج المهمة بتركيز شديد؛ فلنبدأ معاً:
1- اعتقد كثير من الإسلاميين ولا يزالون يعتقدون أن الديمقراطية ليست شيئاً
يذكر في مجال التهيب والوجل، فهي ليست إلا مجرد مجلس نيابي يمكن لهم أن
يحققوا من خلاله بعض المكاسب.
وقد تبين لنا خطأ هذا التصور وسطحيته؛ ذلك أن الديمقراطية، كما تبين لنا، تعني علمنة الدولة والمجتمع على كافة المستويات.
وبسبب التجذر العميق للمفاهيم الإسلامية في أمة المسلمين، فإن الانتقال بها
إلى هاوية العلمنة يقتضي اجتثاث تلك الجذور من أصولها، ولما كان ذلك ليس
سهلاً ولا هيناً، بل صعباً وشاقاً، بل هو في مرتبة الارتقاء نحو الاستحالة؛
خاضت العلمنة من خلال الطرح الديمقراطي صراعاً مريراً لتصل إلى تلك النتيجة، ولقد أظهرت تجليات الوقائع أن الديمقراطيين قد حققوا بعض النجاحات في هذا
الاتجاه، لكنهم أيضاً أصيبوا ببعض الإخفاقات، إلا أن من أهم نجاحاتهم البارزة
جداً هو تمكنهم من سحب كثير من قيادات الإسلاميين من مواقعهم المتحصنة بعقيدة
الإسلام إلى ساحات الانكشاف الديمقراطي، فأصبحوا كمن لا ظهراً أبقى ولا أرضاً
قطع. وبعد أن نجح العلمانيون في ضم الإسلاميين النيابيين إلى صفوفهم
الديمقراطية شرعوا في تعميق مؤثراتهم على المستوى الجماهيري التي تنأى
بالمسلمين عن الحياة الإسلامية، لقد طرح العلمانيون الديمقراطية منهجاً للحياة
يستوعب جميع مناحيها الفكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفنية وغيرها؛
ولذلك فإنهم خاضوا الصراع، ولا يزالون في تلك المناحي جميعاً بقصد علمنتها
فكرة وحركة. لقد نجح العلمانيون في استخدام وتوظيف كافة الوسائل والأساليب
[من مثل: الإعلام، المناهج التربوية، الصيغ الاجتماعية، المؤسسات الاقتصادية
(البنوك وغيرها) ، الاستباحات الترفيهية] لتعميق المفهوم الديمقراطي في المناهج
الحياتية للمسلمين.
ولقد كانت نتائج الصراع في هذا الاتجاه لصالحهم حتى الآن، إلا أن
الإخفاقات التي واجهتهم هي فشلهم في استيعاب جميع المسلمين في تلك الأطر التي
خاضوا الصراع ضمنها. إن تمسك كثير من المسلمين بالكتاب والسنة بمفهوم
السلف الصالح جعل استيعابهم في المخطط العلماني الديمقراطي مستعصياً، وإن
كان العلمانيون قد نجحوا في استمالة بعض الشخصيات السلفية نحو أفكارهم
الديمقراطية إلا أن العبرة بجمهور المتمسكين بالكتاب والسنة وليس بآحادهم.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن سيطرة العلمانيين على الوسائل السالفة
واستخدامهم الأساليب المختلفة لا يعني أنهم تمكنوا من الاختراق الشامل للمضامين
الإسلامية المتراكمة في نفوس المسلمين عبر القرون الطويلة.
وهذا يعني أن صراع العلمانيين نحو علمنة المجتمعات الإسلامية عبر الجسر
الديمقراطي سيستمر، وأن توظيف نتائج ذلك ليصب في مكتسباتهم سيتواصل.
2- لقد فطن العلمانيون إلى مربط الفرس في معمعة ذلك الصراع، واستقر
في أذهانهم أن نجاحهم في تنفيذ مخططاتهم لا يمكن أن يتوالى ويستمر إلا إذا حصل
على الدعم القانوني، إضافة إلى الإمكانات المادية والجموع البشرية؛ ولذلك فإن
إيجاد مؤسسة تقوم عليها أركان الدولة وتحقق تلك الغاية بات أمراً ملحاً ومطلباً
علمانياً مستعجلاً، إن من أهم مواصفات تلك المؤسسة أن يكون لتقنينها طابع قدسي
وبرغبة جماهيرية. ولقد جاءت فكرة المجالس النيابية في الأنظمة الديمقراطية ملبية
لتلك الأغراض مجتمعة، ثم إنها أخذت قدسيتها من التعاقب على تبنّيها في عالم
غير المسلمين عبر القرون. وعندما أفلح العلمانيون في إقحام الديمقراطية على
الدول الإسلامية التقطوا تلك البلورة وصاغوها في أطر مجالس نيابية هي طبق
الأصل في فكرتها لتلك التي في الدول الغربية.
ورغم أن كثيراً من الدول الإسلامية خضعت إلى أنظمة حكم ديكتاتورية فإن
تلك الأنظمة كانت ولا تزال ترى أن لها مصلحة عظمى في علمنة المجتمعات
الإسلامية؛ ولذلك فإن بعضها فطن أو لقن أن تبنيه للديمقراطية يحقق له تلك
المصلحة العظمى، وهي بقاؤه ممسكاً بالسلطة، فسارع إلى الأخذ بها. ولأجل أن
تكتسب القوانين المشرعة من قبل المجالس النيابية قوة تنفيذية أوسعَ، وتأثيراً نفسياً
أعمق كان لا بد من أن تستوعب تلك المجالس النيابية أكبر عدد ممكن من الشرائح
الجماهيرية ذات التوجهات العلمانية، دون إغفال توريط بعض الإسلاميين في
إقحامهم في ذلك المجهول لاتخاذهم دريئة تتترس بها، وعلى الجماهير ألا تحتج
على أي قانون وإن خالف دينها؛ إذ إن ذلك القانون قد صدر من المجلس النيابي
الذي يحضره ممثلوها!
إن خلاصة ما ذكرناه في هذه النتيجة هو أن الفئات العلمانية نجحت في
استخدام الديمقراطية في علمنة المجتمعات الإسلامية بالقانون وبدعم إسلامي! !
3- إن الديمقراطية تعني الانفتاح الفكري بغير حدود ولا قيود، وتعني أيضاً
ممارسة الحرية المعبرة عن ذلك. إن الديمقراطية لدى معتنقيها هي فوق الأديان
جميعاً، وإن للمجلس النيابي الكلمة الفصل في التحليل والتحريم وذلك بحسب ما
يراه أعضاؤه من توجهات خاصة بهم أو بأحزابهم أو قبائلهم، إن الحرية
الديمقراطية أطلقت العنان لكل صاحب عقيدة أن يدعو إلى عقيدته وإن كانت إلحادية
بحتة، وإن كانت تحارب الله ورسوله جهاراً نهاراً، بدون قيد ولا شرط.
ولقد استغل العلمانيون مظلة الديمقراطية أيما استغلال، وراحوا يدعون من
على منابرها المجلسية النيابية وأجهزتها الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية
إلى وأد الفضيلة ونشر الرذيلة بحماية قانونية ودعم من المواد الدستورية.
4- رغم أن الفئات العلمانية نجحت في استخدام الديمقراطية لعلمنة المجتمع
الإسلامي، ورغم توقعنا استمرار جهود تلك الفئات، بل وتصعيدها، ورغم تحقيقها
مكاسب شيطانية تتعلق بممارسة التحليل والتحريم وفق أهواء البشر؛ رغم كل ذلك
فإن الديمقراطية لن تتمكن من مواصلة طريقها عبر المجتمع الإسلامي إلى نهايته؛
وذلك لأسباب، من أهمها:
أن الإسلام بوصفه عقيدة، قد تجذرت آثاره العملية من خلال الممارسة في
أعماق المجتمع الإسلامي عبر قرون طويلة.
وأن الله (تعالى) قد تكفل بحفظ دينه؛ فلا يكاد يمر قرن من الزمان إلا وفي
طيات سنيه جهابذة من العلماء المصلحين يقومون بدورهم في تجديد الدين.
ولأن الجسد الإسلامي كالجسد الآدمي، فيه من المناعة الذاتية ما يقاوم به
الفيروسات الوافدة، سواء كانت في أشكال عقدية أو فكرية أو حركية، ثم لا يلبث
أن يلفظها أو يقضي عليها.
ولأن كنوز التراث الإسلامي لم تندثر، بل لا تزال محفوظة في المكتبات
العربية والإسلامية والأجنبية.
إن توفر تلك المقومات جميعاً، وغيرها التي لم أذكرها هنا، لهي كفيلة إذا
رجع المسلمون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام بأن تواصل حبل
الحاضر بماضيه وتمده إلى مستقبله.
وبالتالي فإن الديمقراطية ستخفق في فك الارتباط بين المجتمع الإسلامي
المعاصر وبين تاريخه، على كافة المستويات العقدية والثقافية والسلوكية، إذا
توفرت المقومات التي نوّهت عنها، ومن أهمها بعد الاستمساك بالكتاب والسنة:
بعث التراث الإسلامي من جديد.
5- إن النتيجة التي ذكرتها في (4) ، تصطدم بمعوقات كثيرة؛ ذلك أن
الجهود الحالية: المحلية والدولية، منصبّة على إقناع الجماهير الشعبية بأهمية
الديمقراطية وأنها هي المخلص لتلك الجماهير من حالة التسلط الديكتاتوري، ومن
حالة الجهل والفقر والمرض ... إلخ. وإننا سنكون قد خدعنا أنفسنا إذا ادعينا أن
العلمانية قد أخفقت في مشروعها الديمقراطي بهذا الخصوص.
ولقد وجدنا أن كثيراً من المنتسبين للإسلام يهاجمون الإسلام من منطلق
الديمقراطية.
وبالتالي فإن الإسلام لا يتعرض حالياً لمحاولة إجهاض انبعاثه من قبل
السلطات الحاكمة فحسب، بل من شرائح متعددة من الطبقات الشعبية، تزداد
اتساعاً يوماً بعد يوم.
وهكذا فإن الديمقراطية ساعدت على نقل الصراع ضد الإسلام من انفراد
التصدي السلطوي إلى مزاوجة السند الشعبي لذلك التصدي، أي إن الإسلام في ظل
الديمقراطية يفقد سواد معتنقيه.
6- وبناء على ذلك فإن الشعوب الإسلامية في ظل الديمقراطية ستبدأ في فقد
هويتها المميزة. تلك الهوية المتمثلة في كونها شعوباً تدين لله (تعالى) بعقيدة التوحيد، وأن تلك العقيدة قد أضفت عليها لبوساً حضارياً منفرداً، تغلغلت آثاره في كافة
مناحي حياتها، شاملة جميع مكوناتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
إن الديمقراطية، بطبيعتها العلمانية، لا تستطيع أن تقدم نموذجاً يضفي هوية
مميزة على أي مجتمع يعتنقها عقيدة وتطبيقاً.
ولذلك فإن دورها في حياة المسلمين هو دور تهشيمي، يهشم مقوماتها
الإسلامية ويحتّ أصالتها الانتمائية، وينتهي بها إلى فراغ اللاشيء! !
7- إضافة إلى ذلك، فقد تبين لنا أن الديمقراطية بما وفرته من الحرية غير
المنضبطة بالإسلام قد أدت إلى التفتيت الأسري، ثم إلى التفكيك الاجتماعي.
ولقد لاحظنا أن الديمقراطية تتوحد مع الديكتاتورية في هذا الاتجاه.
وقد ترتب على ذلك أن فقد المجتمع الإسلامي مقوماً مهماً من مقوماته هو مقوم
الوحدة والاندماج. إن بديل الوحدة الاجتماعية هو التضعضع والتخلخل، مما يؤدي
إلى الضعف والوهن، ولذلك فإن حكومات الدول الديمقراطية والديكتاتورية، بعد
أن شعرت أنها قد وصلت إلى هذه النتيجة، وهي توهين الشعوب وإضعاف إرادتها، لم تتردد في عقد معاهدات الصلح مع اليهود، في أجواء احتفالية وزخارف
ابتهاجية ترفرف عليها أعلام الديمقراطية، إن إشكالية هذه النتيجة ذات طابع خطير؛ لأنها ستحمّل الأجيال المقبلة تبعات وتركات حالة الانهزام التي تمر بها الأجيال
المعاصرة.
8- لقد تعلقت آمال كثير من المسلمين بأحلام الرفاهية والطمأنينة والسلام
والأمن إذا تمكنوا من حكم أنفسهم بأنفسهم في ظل نظام ديمقراطي؛ إلا أن تلك
الآمال ذهبت أدراج الرياح بعد أن حكمتهم الديمقراطية بأنياب لا تقل حدة عن أنياب
الطغاة الديكتاتوريين.
لقد سيق كثير من الإسلاميين إلى غياهب السجون، بل وعلقوا على أعواد
المشانق، في ظل الحكام الديمقراطيين، فلم يشفع لهم مجلس الشعب.
إن كثيراً من الطغاة المتجبرين استغلوا مدة تربعهم على عرش السلطة ليفتكوا
بالإسلاميين، ثم هم أنفسهم بعد ذلك يدعون إلى الانتخابات النيابية، وإقامة
الحكومات الديمقراطية.
فليعلم الجميع بأن الإرهاب الديمقراطي لا يقل عن الإرهاب الديكتاتوري في
بعض الحالات.
وقد أعجبني بهذا الصدد ما قاله الدكتور توفيق الواعي في مجلة (المجتمع)
الكويتية عدد 1103، المؤرخ: 4 محرم 1415هـ الموافق 14 يونيو 1994م
تحت عنوان (هل عاد زوار الفجر) إذ قال: (نعم عادوا، ولكنهم ليبراليون
ديمقراطيون، ومصطلح زوار الفجر أطلق في العصر الحديث على عصابات
الأنظمة البوليسية في العالم الثالث، وعلى الفرق المخابراتية في الأمم المتخلفة،
التي كانت تطارد الأحرار والعناصر الفاعلة والنابهة في الأمة، تباغتهم ليلاً
وتنزعهم من أحضان أسرهم ومن بين أطفالهم وذويهم، إلى حيث يغيبون في
سجون، أو قل في قبور، بحيث لا يعرف عنهم طير ولا إنس ولا جان أي أثر،
يلاقون من العذاب ما يشيب له الولدان وتضع له كل ذات حمل حملها، ثم تلفق لهم
القضايا وتنتزع منهم الاعترافات..) ، ثم ساق أبياتاً من قصيدة للدكتور يوسف
القرضاوي يذكر فيها سوقه إلى السجن في ظل الحاكم الديكتاتوري الديمقراطي! !
(عبد الناصر) ، يقول فيها:
يا سائلي عن قصتي اسمع لها ... قصص من الأهوال ذات شجون
أمسك بقلبك أن يطير مفزعا ... وتول عن دنياك حتى حينِ
فالهول عات والحقائق مرة ... تسمو على التصوير والتبيين
والخطب ليس بخطب أرض وحدها ... بل خطب هذا المشرق المسكين
في ليلة ليلاء من نوفمبر ... ِ فزعت من نومي لصوت رنينِ
فإذا كلاب الصيد تهجم بغتة ... وتحوطني عن شمأل ويمينِ
فتخطفوني من ذويّ وأقبلوا ... فرحاً بصيد للطغاة سمينِ
وعُزلت عن بصر الحياة وسمعها ... وقُذفت في قفص العذاب الهونِ
ما كدت أدخل بابه حتى رأت ... عيناي ما لم تحتسبه ظنوني
في كل شبر للعذاب مناظر ... يندى لها -والله- كل جبين
ثم قال الدكتور الواعي: (لهذا يلجأ بعض الفارين من مطاردة الشعوب إلى
الاختباء وراء ديمقراطيات مزورة وحريات مغشوشة، علهم يفلتون، وما أظن ذلك
يغني عنهم من عذاب الله من شيء، أو من المصير المحتوم، أو من هجمة
الشعوب وانطلاقة الأمم، وقد يكون ذلك إلى حين..) .
إن كثيراً من الديمقراطيات التي تحكم العالم الإسلامي إنْ هي إلا واجهات
لحكم الطغاة. فالرأي هو رأي الحاكم، وعلى المجلس النيابي أن يبصم، بطريقة
أو بأخرى! !
9- لقد وجد التجار وأصحاب رؤوس الأموال في الديمقراطية ضالتهم
ليحكموا سيطرة رأس المال على رقاب الشعوب باسم الديمقراطية.
وقد جاءت النتائج الواقعية مدعمة لهذه الحقيقة، وهكذا تحولت المجالس
النيابية إلى مواقع انطلاق دستورية لامتصاص عرق الكادحين وابتزاز جهود
العاملين، وراحت المجالس النيابية تصدر القرارات تلو القرارات بزيادة الضرائب
وفرض الرسوم ورفع أسعار الخدمات، كل ذلك لأجل مصلحة الشعب! !
كذبوا؛ ليس ذلك إلا لمصلحة جيوبهم التي أتخمها المال الحرام!
إن إشكالية هذه النتيجة تتجسد في رضوخ هذه الشعوب المنكسرة إلى هذا
اللون من الجور الديمقراطي. أليست هي رضيت بالديمقراطية منهجاً وطريقاً؟
ولكن إلى متى؟
نعم، سيستمر هذا الواقع المهين إلى أن تدرك الشعوب المسلمة أن الحكم
بالديمقراطية لا يزيد في إفلاسه عن الحكم باسم القومية العربية أو الاشتراكية العلمية
كما يسمونها زوراً وبهتاناً أو البعثية أو ... وعندها لا بد أن تتملل هذه الشعوب
المسلمة، ثم تتحرك، ثم تندفع كالرياح العاتية لتقتلع الأصنام الحديثة المتدثّرة
بالديمقراطية.
إن الديمقراطية في العالم الثالث هي أحد منابع الانفجار الاجتماعي المرتقب؛
ولكن هل ستعي هذه الشعوب المسلمة أن لا بديل عن الإسلام؟
نعم، إنها ستعي ذلك، ولكن بعد أن تدفع الثمن غالياً نتيجة سيرها ولهاثها
خلف الشعارات الديمقراطية الزائفة.
10- إن الناخبين يعلقون آمالاً كباراً على مرشحيهم لاعتقادهم بامتلاك أولئك
المرشحين لعصا سحرية سرعان ما يلمع بريقها في ردهات البرلمان؛ فتحل بذلك
جميع مشاكل الذين انتخبوهم وأوصلوهم إلى سدة المجلس العتيد؛ وبسبب استحواذ
تلك الآمال الوضاءة على أفئدة الناخبين؛ فإنهم لا يبالون بما يبذلون من جهد ووقت
ومال لدفع مرشحيهم إلى تلك المواقع المتقدمة، يفعلون ذلك وهم سادرون في أوهام
الشعارات التي يرفعها المرشحون، ولكن ما إن يستتب الأمر، ويصل المرشح إلى
كرسي المجلس حتى تبدأ آمال الناخبين بالتلاشي شيئاً فشيئاً بما يرون من عدم مبالاة
المرشحين بقضاياهم الحقيقية وانشغالهم بالقضايا الذاتية. إن هذه السمة ليست من
اختصاصات ديمقراطية العالم الثالث فحسب، بل هي من السمات الملصقة
بالديمقراطية حيثما وجدت.
إن نائباً مثل (برنار تابي) وهو رئيس نادي ميلانو الإيطالي لا يبالي بقضايا
فقراء إيطاليا؛ ذلك أنه منهمك في تثمير أمواله وتوجيه دفات قنواته التلفزيونية،
ومثل ذلك يقال عن (سلفيو برلسكوني) الفرنسي الذي كوّن، بسبب قدرته المالية
الفائقة، حزباً سياسياً خلال شهرين ليفوز بواسطته بالأغلبية الانتخابية ثم يتولى
منصب وزير أول [1] ، نعم لقد استفاد جداً من كونه رئيساً لنادي أوليمبيك مرسيليا، ولكن ماذا استفادت الجماهير التي انتخبته؟ .
إنها تقوم بالمظاهرات احتجاجاً على الأداء السيئ لنواب الشعب المنهمكين في
سباقهم مع الزمن لتحصيل مصالحهم قبل انقضاء مدة المجلس! !
إن إشكالية النتائج هنا تتعلق بخيبة الأمل التي تصيب الجماهير بالإحباط لأن
الثقة التي أعطوها للنواب كانت كسراب بقيعة، مما أفقد الجماهير ثقتها بنفسها
أيضاً، بسبب وضوح عدم وصولها مرحلة الرشد التي تؤهلها لاختيار من يمثلها
تمثيلاً صحيحاً! !
__________
(1) صحيفة شؤون عربية 19/6/94، مقابلة مع محمد مواعدة.(118/92)
متابعات
دعوة لإعادة النظر
في أسلوب الإسلاميين لإدارة معركتهم مع العلمانيين
بقلم: أسامة محمد إبراهيم
قرأت مقالاً للأستاذ جمال سلطان في مجلة (البيان) الغراء بعددها الرقم 115
الصادر في ربيع الأول 1418هـ، حيث اختار الكاتب عنواناً لمقاله هو: (في
الصراع الفكري ملاحظات على معركة حسن حنفي وجبهة علماء الأزهر) .
وبادئ ذي بدء فإنني أسجل تقديري واحترامي الشديدين للأستاذ جمال سلطان
بوصفه أحد الكتاب الإسلاميين في مصر، وله باع طويل في الدفاع عن الصحوة
الإسلامية التي شهدتها البلاد منذ عقود مضت، فضلاً عن إسهاماته المهمة في مجال
الدعوة الإسلامية سواء من خلال الكتب أو المقالات أو غيرها من السبل التي
تيسرت له.
غير أن كل ذلك لا يمنع من التعليق على بعض ما جاء في مقال الأستاذ جمال
السالف الذكر؛ فقد لفت نظري في مقاله عدم وضوح الرؤى لدى بعض إخواننا
الذين يتصدون للدعوة الإسلامية؛ وذلك فيما يتعلق بالأسلوب الأنسب الذي يجب
اتباعه في هذه الدعوة، خاصة في مواجهة الأبواق والمنابر العلمانية التي ازداد
عددها وانتشرت كالسرطان في جسد الأمة في السنوات الأخيرة، سواء تلك التي
تستخدمها بعض الأنظمة السياسية في بلادنا كأحد الأسلحة الوقائية ضد التيار
الإسلامي، أو تلك التي تهيمن عليها العناصر الماركسية والإلحادية والعلمانية التي
نجحت في التغلغل داخل العديد من الصحف والمؤسسات الإعلامية واسعة الانتشار
بمؤازرة من هذه الأنظمة التي جعلت شغلها الشاغل مهاجمة كل ما هو إسلامي
والسخرية منه والتنديد به وتمجيد ما عداه!
ولقد تعرض الأستاذ جمال في مقاله إلى تلك الحادثة المتعلقة بالدكتور حسن
حنفي التي بدأت ببيان د. يحيى إسماعيل أستاذ علم الحديث بجامعة الأزهر وأمين
عام جبهة علماء الأزهر، الذي هاجم فيه د. حسن حنفي ووصف أفكاره بأنها
تدميرية، وقامت على أثر ذلك كالعادة حملة إعلامية شعواء من قِبَلِ الكتاب
العلمانيين الذين يسيطرون على عشرات المجلات والصحف، فشن هؤلاء هجوماً
على الأزهر وجبهة علماء الأزهر وعلى الإسلاميين من دون استثناء.
وبما أن مثل هذه الحملات الإعلامية المنظمة التي تهدف في الأساس إلى وأد
الصحوة الإسلامية واستعداء السلطات على رموزها، أصبحت من الأمور اليومية
المعتادة في الصحف ووسائل الإعلام بسبب وبدون سبب، فإن ما يجب أن يعنينا
هنا: هو البحث عن (صيغة موحدة) يلتزم بها الدعاة والإسلاميون في مواجهة مثل
هذه الحملات، وليسمح لي الأستاذ جمال أن اختلف معه في بعض الطرح الذي
وضعه في كيفية إدارة الصراع، أو ما أطلق عليه (المعركة التاريخية والفاصلة بين
الإسلام والمناهج الوافدة) .
يقول الأستاذ جمال في مقاله: (إن إثارة معركة مع حسن حنفي في هذا الوقت
لم يكن له ما يسوغه أبداً، ومن أي وجه من الوجوه، فالأخطاء العقدية والفكرية
عند الرجل، قديمة، وليست جديدة، والكتب المشار إليها صدرت قبل سنوات،
ومرت دون أن يشعر بها أحد، كذلك فإن أسلوب د. حسن حنفي المسهب والمطنب
في التأليف يجعل القارئ غير المتخصص زاهداً في قراءته، ولذلك لم يشعر أحد
بأي خطر فكري لحسن حنفي يستحق هذه الضجة الكبرى إلا بعد البيان الذي نشره
الدكتور (يحيى إسماعيل (.
ومن حيث المبدأ، فإنني أتفق مع الأستاذ جمال فيما ذهب إليه من أن الصراع
الفكري، مثل الصراع العسكري أو السياسي، يحتاج إلى فنون خاصة في إدارة
معاركه، ويحتاج إلى حكمة وتخطيط وذكاء ووعي بالواقع واقع الناس وواقع
الصراع فيه إلا أنني أختلف معه في مسألة (التوقيت) الذي يراه غير مناسب في
إثارة معركة مع المذكور؛ وذلك على الرغم مما يعلمه كاتب المقال ويعلمه الجميع
أيضاً من أن د. حسن حنفي هو أحد غلاة العلمانيين في مصر، ونحن نسأل
الكاتب هنا عن الوقت الذي يراه مناسباً لمواجهة مثل هذه الكتابات التي تثير الحيرة
والبلبلة في نفوس العامة من الناس وعقولهم فضلاً عن التدمير الفكري الذي تحدثه
لدى الشباب والناشئة خاصة في الجامعات التي ابتليت بمثل هؤلاء الناس، وهل أن
قِدَم الكتب التي قام د. يحيى إسماعيل بمهاجمتها وفضحها مسوّغ لعدم التعرض لها، كما أن قول الكاتب بعدم وجود خطر فكري من كتابات حسن حنفي كلام في
نظري تنقصه الدقة؛ لأن مثل هذه الكتب مقررة على مئات الطلاب في كلية الآداب
ومطلوب منهم قراءتها مرات ومرات واستيعابها حتى ينجحوا في اجتياز امتحانات
آخر العام!
يخطئ من يظن أن هناك خلافات وتناقضات داخل المعسكر العلماني فيما
يتعلق باستراتيجيتهم في مهاجمة الإسلام والداعين له، وبالتالي فإننا نختلف مع
القائلين بضرورة وضع (أولويات) في مواجهة رموز العلمانية، فكما أن حربهم
على الإسلام ودعاته شاملة؛ فيجب أن تكون مواقفنا منهم أيضاً شاملة، ويكفينا هنا
طمأنة الباري (جل وعلا) لنا بقوله في كتابه العزيز: [إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَذِينَ
آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] [الحج: 38] .
أما الدكتور حسن حنفي فمعروف أن نهجه الفكري، وأستشهد هنا بكلام
الأستاذ جمال سلطان نفسه في وصفه إياه بأن قناعاته الفكرية والاعتقادية في قضايا
الدين بوجه عام مادية، والإيمان بالغيب عنده مسألة فيها نظر، وهو متأثر كثيراً
بالفيلسوف اليهودي الشهير (باروخ اسبينوزا) ... ولذلك نجد الدكتور يحيى إسماعيل
لم يجاوز الحقيقة عندما وصف د. حنفي بأن مشروعه ذو خطر تدميري، فهو
يحقر الأنبياء والرسل ويدعي عليهم بما ليس فيهم، وأن الله عز وجل عنده مثل
مجنون الحارة الذي يطارده الغلمان في الأزقة! ! ، وأنه ينكر النبوة ولا يعتبر
القرآن الكريم كتاب تحليل وتحريم، بل كتاب فكر يجوز إنكار سورة منه مثل
سورة يوسف؛ لأن الجنس عيب وتحليله رذيلة، وأنه يمجد إبليس وينكر الجنة
والنار، ويقول: إن سؤال الملكين خيال شعبي حول الخوف من عواقب الأمور،
ويضيف د. إسماعيل ونحن معه في ذلك: أن يدرس الطلاب مثل هذا، ماذا
ننتظر من جيل يتخرج على ذلك بعدما أهان الله رب العالمين والرسول والقرآن
الكريم ومجّد إبليس، [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاَّ كَذِباً]
[الكهف: 5] .
ذلكم هو حسن حنفي الذي يعتبره كاتب المقال يمثل شرخاً نفسياً عميقاً في
معسكر العلمانية، وأن حرصه على أن يقدم نفسه بوصفه مفكراً إسلامياً متحرراً
ومستنيراً ونصيراً للمستضعفين جعله يهاجم بقوة وجرأة الأقلام والرموز العلمانية
المتحالفة مع الفساد، في الوقت نفسه الذي يتعاطف فيه بوضوح مع الحركات
الإسلامية (سياسياً ونفسياً وإن كان يختلف معهم بطبيعة الحال فكرياً.
وليس من شك أن مبعث كلام الأستاذ جمال سلطان هنا هو حرصه على كسب
أي صوت يؤازر الإسلاميين ويدافع عنهم في الحرب الشعواء التي تُشن عليهم منذ
أمد طويل بتحريض صريح من الداخل والخارج، غير أننا نذكّر الكاتب هنا بقوله
تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ
عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [التوبة: 23] وأظن بعد ذلك
أن الأمر لا يستأهل المزيد من التوضيح أو الإسهاب.
كما أن ما أريد أن أخلص إليه أيضاً من هذا كله وما يجب أن نسخر له جل
تفكيرنا وجهدنا له هو: البحث عن أنسب السبل والوسائل التي يلتزمها جميع
الداعين إلى الإسلام والساعين لإعلاء كلمته، وأن يوحدوا جهدهم في التصدي لمثل
هذه الهجمات الشرسة التي ما فتئ العلمانيون يشنونها على الإسلام ودعاته، وألا
تكون مثل هذه الوسائل قائمة على جهد فردي محض كما فعل الدكتور يحيى
إسماعيل؛ فإن مجرد الاتفاق على مثل هذه الصيغة كفيل بالذود عن الإسلام وفضح
المهاجمين له والذين معهم على الأقل أمام الرأي العام في العالم الإسلامي: [وَمَا
النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [الأنفال: 10] .
تحية وتوضيح من الأستاذ جمال سلطان
سعدت بقراءة التعليق الذي كتبه الأستاذ أسامة محمد إبراهيم، تعليقاً على
مقالي: (في الصراع الفكري) المنشور بالبيان الغراء (العدد 115) ، والحقيقة أننا
في حاجة ماسة إلى سعة الصدر في تقبل الآراء المختلفة المهمومة بقضايا الدعوة،
بل وتنشيط طاقات الاجتهاد والبحث فيها، ولا نفزع من وجود بعض الخلاف فيها؛
إذ إن هذا مما يخصب الفكرة ويوسع الآفاق فيها، وأنا أحيي الأخ الكريم على
مبادرته وعلى غيرته التي استشعرتها من التعليق، وأما بخصوص المعركة مع
(حسن حنفي) وما رأيته من استعجال لها وكان هناك ما هو أهم وأخطر، فإنني
أؤكد أن هناك في مجتمعاتنا كثيرين من أمثال حسن حنفي في الفكر والتصور
والمعتقد، ولكنهم أخطر منه بكثير، كما أنهم جمعوا إلى فساد العقيدة فساد الخلق
والضمير والذمة، وسفاهة الكلام والقسوة في التبجح والإعلان في خصومتهم
للإسلام وشريعته وحضارته والانتماء إليه، فكانوا حرباً على الإسلام ضارية،
بينما رجل مثل حسن حنفي كان، رغم فساد عقيدته، يمتاز بشرف الموقف
السياسي والإنساني مع الإسلاميين، ودفاعه عن المضطهدين ودعواته الواضحة إلى
منحهم الحرية في الدعوة، ويهاجم المرتزقة من العلمانيين الذين يهيجون أجهزة
الدولة ضد الإسلاميين، ويحرضون السلطات على البطش بهم وحرمانهم من أن
يكون لهم صوت أو منبر.
وكان سؤالي هو: لماذا نترك كل هؤلاء الفجرة ونبدأ بمن يدافع عنا ويجيرنا
في أوقات المحنة؟
لماذا نترك أبا لهب ونحوّل حرابنا إلى المطعم بن عدي! كما أن حسن حنفي
يمثل شرخاً حقيقياً في صفوف العلمانيين المصريين والعرب أيضاً، ويدرك ذلك
بوضوح من يخالط الحياة الثقافية عن قرب، وقد عاينت ذلك بنفسي، وهجومه
على النخب الثقافية العلمانية واتهاماته القاسية لهم بممالأة الفساد والظلم ونحو ذلك:
هي أمور علنية وليست مستترة، وينبغي، ونحن نخوض صراعاتنا الفكرية أن
نلاحظ مثل هذه الحقائق وأن نستثمرها جيداً ولا نغمض أعيننا عنها بعاطفية ليست
في أوانها ولا في محلها.
وأما مخاطر تدريسه على الطلبة في الجامعة فهو كما أشرت مهموم بمشروع
سياسي أكثر منه عقدي أو فكري؛ ولذلك فخطره محدود من هذه الناحية، بل إن ما
لا يعرفه كثيرون أن ابن حسن حنفي نفسه هو من المتمردين على منهجه الفكري
وهو شاب من شباب الإسلام الملتزم والغيور، فلا أظن المبالغة في التوجس من
هذه الناحية لها ما يسوّغها.
وحاصل الكلام هنا أن الصراع الفكري يتطلب منا البصيرة بالواقع،
وموازناته ودقائقه، لكي نضع خطط المواجهة على بصيرة ونور، وبحيث تؤدي
دورها وتؤتي أكلها، بدقة وفاعلية.(118/100)
منتدى القراء
فن الإقناع
بقلم: محمد المرشد
س: لماذا نحاول إقناع الآخرين برأي أو بفكرة ما؟
ج: قد يكون ذلك لتحقيق التوافق، أو لتغيير السلوك، أو للتعلم، أو للحث
على الخير، أو للدعوة إلى الله، أو لتقوية العلاقات مع الآخرين لنيل بعض
المصالح، أو لتقارب الأفكار ووجهات النظر وخاصة لمن يعملون في مجال واحد..
فلا بد لمن يريد إقناع الآخرين بفكرة مّا، أن يعلم:
- أن الإقناع موهبة؛ ومن لا يجيدها فعليه تعلمها.
- أن مدارك الناس تختلف، وأفهامهم تتفاوت مما له الأثر في سرعة الاقتناع؛ فلا تعجل على أحد.
- قد تكون فكرتك صحيحة ولكنك لا تجيد الإقناع.
- قد تكون فكرتك غامضة فحاول توضيحها أكثر.
- أنت بشر.. وقد تكون فكرتك خاطئة؛ فلا تحاول إرغام الآخرين عليها أو
قيادتهم إلى رأيك؛ فالرأي ليس حكراً على أحد.
- قد يكون مَنْ أمامك معانداً أو مكابراً؛ فلا تتعب نفسك!
- إن عدم اقتناع صاحبك برأيك لا يدل إطلاقاً على إخفاق الحوار..
- وأخيراً.. وكما قيل: (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) .(118/106)
منتدى القراء
الموفقون
بقلم: عبد الله بن فهد آل محمد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
قال الله (تعالى) عن شعيب (عليه الصلاة والسلام) : [وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ] (هود: 88) ، فالتوفيق منزلة عظيمة يهبها الله لمن أحب
من عباده، فإذا علم الله من عبده الصدق والإنابة إليه وفّقه الله وهداه، قال (تعالى) : [قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ أَنَابَ] [الرعد: 27] ، وإذا وفق الله
العبد اجتباه ويسر له أسباب العمل فيما يرضيه، وشرح صدره للطاعة، وحببه
إليها، فيقبل العبد على أبواب الخير يضرب بسهم في كل باب تواقاً منهوماً
مستسهلاً للصعاب مطارحاً للعقبات.
عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله: (لن يشبع
مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة) [1] ، وقال (عز وجل) : [أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ] [الزمر: 22] .
فالموفق هو ذاك المخلص الذي أخلصه الله إليه فصدق مع ربه يريد مرضاته
مكتفياً باطلاع الله عليه، فلا يلتفت إلى المخلوقين ليُعرِّض بنفسه أو بكلامه أو
لحظات طرفه أمامهم ليمدحوه أو ينال إعجابهم، فهو يحذر من الرياء والسمعة
والعجب والإدلال بالعمل وغيرها من مفسدات الأعمال وموهنات القلوب.
والمخلص هو الذي حفظه ربه (تعالى) فسلّمه من شر الالتفات إلى الناس والشكاية
إليهم، والطمع فيما عندهم، والخوف منهم ومداهنتهم، والتملق لهم، وطلب
رضاهم على حساب الحق؛ فالإخلاص هو سر التوفيق وهو بوابة حيازة الخيرات
والقربات وقبولها من الله الذي يحب المخلصين الذين باعوا أنفسهم وأوقاتهم وكل ما
يملكون لربهم قال (تعالى) : [قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ]
[الزمر: 11] ، وإذا أردت أن تعرف ميزانك عند الله فانظر في همك وشغلك هل هو لله أم لا؟ وقد قيل: (إذا أردت أن تعرف قدرك عند السلطان فانظر في أي الأعمال يوليك) .
وأهل الإخلاص هم الذين يقيهم الله من الفتن والشبهات والشهوات، ويكون
معهم يحفظهم وينصرهم، وينزل السكينة على قلوبهم، ويثبت أقدامهم حين اشتداد
الكربات ونزول الضوائق والأزمات.
والموفق هو الذي تحزنه آلام الأمة ويدمي قلبه ضياعُها وكثرة أعدائها
المتربصين، وهو المحزون حينما يرى أهل الفسق يسقطون في الرذيلة وهم
صادّون عن ربهم معرضون عن سنة نبيهم؛ لأنه يسوؤه أن يُعصى الله وتنتهك
حرماته.
والموفق هو من صرف الله قلبه عن التعلق بالدنيا والطمع في جمعها والظفر
بزينتها وشهواتها، وأنزل الله بقلبه همّ الآخرة، يعد أيامه وأنفاسه يريد ألا ينفقها إلا
فيما يرضي الله والهاتف دائماً في قلبه: الرحيل.. الرحيل، قال الله (تعالى) :
[بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى] [الأعلى: 16، 17] ، وهذا
بخلاف المغبون الذي صرفته دنياه عن آخرته.
والموفق هو من قام على نفسه يحاسبها على الدوام؛ لأن النفس جموحة
طموحة منوعة تريد الرفعة والعلو والمديح والتقدم والتعالي على الآخرين، فهو
معها في جهاد يكبح جماحها؛ فإن عمل طاعة فهو متلهف مشغوف يحسن الظن بربه
أن يقبل تلك الطاعة، وإن أذنب ثم تاب فهو خائف قلق يخشى أن لا يقبل الله توبته.
والموفق هو الذي نجاه ربه وسلمه من شر كبائر القلوب الخفية كالغل والحسد
وسوء الظن بالآخرين واتهام نياتهم والوقوع في أعراضهم والوشاية بهم والسقوط
في الغيبة والنميمة والكذب المُبطّن؛ فما أسوأ حال من كانت هذه صنعته وما أبعده
عن التوفيق؛ لأنه من شرار الناس، فعن (عبد الرحمن بن غنم) يبلغ به النبي:
(خيار عباد الله: الذين إذا رُؤُوا ذُكِرَ الله، وشرار عباد الله المشّاؤون بالنميمة،
المفرقون بين الأحبة، الباغون للبُرآء العنت) [2] .
والموفق هو ذلكم المحسن للآخرين العطوف عليهم الذي يقلقه شجون
المصابين وأنات المساكين والمشردين والمحرومين والمظلومين، فهو يسعى بكل
سبيل ليكفكف عبراتهم، ويضمد جراحهم، ويمسح على رؤوسهم ليرد إليهم
اعتبارهم وينفي كربهم ويدخل السرور عليهم يوم نسيهم المسلمون وانشغلوا بأنفسهم
وشهواتهم وكماليات حياتهم.
والموفق من ألهمه الله ذكره فأصبح ذاكراً لربه بقلبه ولسانه فقضى العمر بهذه
العبادة العظيمة التي رتب الله عليها أعظم الأجور؛ فإنها المنّة الكافية والمنحة
الشافية أن يستديم العبد ذكر ربه ويتلذذ بمناجاته ذلك الذكر الذي هو أسهل العبادات
وأيسرها، قال (تعالى) : [فَاذْكُرُونِي أََذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ]
[البقرة: 152] .
والموفق من فتح الله على قلبه في الدعوة إليه والجهاد في سبيله فتحرك قلب
الداعية وهزه الشوق والحنين ليسوق العباد إلى ما يرضي رب العباد، فهو أحسن
الناس وأعظمهم أجراً وأشرفهم مهنة وكفى بها فخراً أنها مهنة المرسلين. فهنيئاً لك
أيها الداعية الصادق فقد قال رسول الله: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) [3] .
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(2) رواه أحمد (4/227) .
(3) [رواه أحمد ومسلم] .(118/107)
منتدى القراء
بداية ونهاية
بقلم: محمد حسين فقهاء
كان يحمل في قلبه همّ الإسلام.. يقف في مصلاه ليلاً وقد تعلق قلبه بالله ...
يدعو ربه بإصرار. وخشوع.. يذكر ربه خالياً فتفيض عيناه ... يصلي ولجوفه
أزيز.. لا تكاد تراه بعد صلاة فجر إلا منكباً على كتاب الله يتلوه وفي عينيه دموع
تفيض من خشية الله ... كيف لا ... وهو يخشى ضمة القبر.. وهو لا يأمن مكر
الله (عز وجل) بالمنصرفين عن سبيله.. وهو يرى ذنوبه في أصل جبل يخاف أن
يقع عليه.. [1] ينظر إلى حال المسلمين اليوم فيتقطع قلبه عليهم حسرات. كان
نجماً شامخاً محلقاً في الآفاق.. بل كان طيراً يحلق فوق الرؤوس لينظر إلى الدنيا
فيراها صغيرة حقيرة تتناهشها الذئاب.. يحب أن يبقى محلقاً بفؤاد ذاق حلاوة
الحياة الطيبة.. يرجو أن ينتقل إلى طائر آخر أحلى وأعلى من طائره الأول.. ذاك
طائر في الفردوس الأعلى يحمل أرواح الشهداء، ثم يأوي إلى قناديل تحت العرش.. لقد كان غريباً حتى بين أهل الإسلام.. كان قمة ينظر إليها الناس فيتمنون لو
يصلون إليها..
أما اليوم فكأنه ما كان ... هو اليوم لا يتعدى أن يكون ربوة بين قمم. لم
يتغير فجأة.. بل كأنه حقن بسم الدنيا البطيء ليموت ببطء.. مال وبنون.. همّ
طغى على كل همّ.. لا تراه في صلاة الفجر يرفع يديه كما كان يفعل متضرعاً إلى
الله، لا تراه كما كنت تراه.. حتى سَمْتُه الإسلامي تغير.. فهو يزعم أن الرزق
هكذا يتطلب.. لا يتورع عن بعض النظر والسماع المحرم ... ينظر فيرى ذنوبه
كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار.. هو الآن له قلب يذوب كما يذوب الملح
في الماء [2] ... كان الناس ينظرون إليه كقمة واليوم ينظرون إليه بحسرة ... هو
باختصار كان.. رحمه الله.. وردّ الله غربته.
__________
(1) ذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار) .
(2) ذكر ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) يرفعه قال: (يأتي زمان يذوب فيه قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء، قيل: مم ذاك يا رسول الله؟ قال مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره) .(118/109)
الورقة الأخيرة
المؤتمر المشبوه!
بقلم: عبد الرحيم البلوشي [*]
عقد مؤخراً برعاية النظام الإيراني ما سمي بـ (مؤتمر الوحدة الإسلامية)
الذي دعي إليه ضمن من دعي نفر من أهل السنة من خارج إيران يشاركون في هذا
التجمع المشبوه! ولا نقول ذلك من فراغ؛ إذ تبين لنا أنه أحد مؤتمرات الضّرار
التي يعقدها القوم لتبييض صورتهم الملطخة بالإساءة المستمرة لأهل السنة داخل
إيران؛ حيث وزعت في مؤتمر الوحدة هذا! ! الكتب والأشرطة التي تسيء للسنة
وأهلها، وتهاجم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بأساليبهم المعروفة من التكفير
والتفسيق والذم. ومن المواضيع التي نوقشت خلال المؤتمر موضوع (التّقِيّة)
لمحاولة إضفاء الصفة الشرعية عليه، وتطرّق البحث إلى موضوع المذاهب
الكلامية في الإسلام فأثبتوا كالعادة أصالة (رفضهم) وأن التشيع كان موجوداً منذ
عهد النبي. أما الاتجاه السني فهو في زعمهم حادث وطارئ؛ إذ جاء بعد القرنين
الثاني والثالث؛ وهذه دعوى تافهة يعرفها أصغر طلبة العلم.
ولتأكيد الوحدة الإسلامية المزعومة عرضوا على المؤتمِرِين فيلماً لعددٍ من
طلاب السُنّة بعد أن تم انتزاع الاعترافات منهم تحت التهديد والتعذيب فيما يبدو
وبكل وقاحة لُقّنوا بأنهم كانوا وهّابيين، وأنهم كانوا يدرسون العقيدة الواسطية لابن
تيمية، وكتاب التوحيد لابن عبد الوهاب؛ لكنهم الآن تائبون نادمون، ويقدمون
اعتذارهم إلى الجمهورية الإسلامية طالبين العفو والرحمة! !
وعرضوا فيلماً آخر لمجموعة أخرى يعترفون بأنهم من جماعة (الفرقان)
وأنهم تدربوا خارج إيران للقيام باغتيال إمام الجمعة الحكومي في بلدتهم؛ وهذه
أيضاً أساليب مستهلكة لم يعد يخفى على أحد تزييفها؛ وقد ألقى خطيب الجمعة
المعني خطبته مهدداً أهل السنة في إيران بأن الحكومة ستصب الرصاص المذاب
في أفواه هؤلاء وأمثالهم.
ومما يؤسف له أن توصيات هذا المؤتمر قد تلاها أحد علماء السنة الإيرانيين
المعروفين بعمالتهم للرافضة (فحسبنا الله، ونعم الوكيل) ، ونحن نستنكر ما جاء في
ذلك المؤتمر المشبوه وأمثاله مما يعد له سلفاً للإساءة إلينا وإظهارنا أمام الرأي العام
بأننا إرهابيون زوراً وبهتاناً، ونؤكد أن تلك الاعترافات التي أدلى بها أولئك
الطلاب إنما تمت تحت التعذيب، مما يجعلها عارية عن أي صفة شرعية أو قانونية، أو أن هؤلاء الذين ادّعيَ أنهم طلبة تائبون نادمون ليسوا إلا ممثّلين مأجورين أو
متطوعين للقيام بهذا الدور الذي لم يَعُدْ خافياً على أهل النظر والتدبّر.
ونتساءل بكل مرارة: إلى متى تنطلي أكاذيب القوم على أهل السنة؟ وإلى
متى يتدافع بعض أهل السنة لحضور تلك المؤتمرات وهي معروفة الأهداف
والنوايا؟
ولا نملك إلا أن نقول لهم: [وَسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]
[الشعراء: 227] .
ـــــــــــــــــ
(*) مدير مكتب رابطة أهل السنة في إيران بلندن.(118/111)
رجب - 1418هـ
نوفمبر - 1997م
(السنة: 12)(119/)
كلمة صغيرة
العقد الموروثة
الطريقة الاستفزازية التي تتعامل بها أمريكا مع قضية فلسطين تنبئ عن
العقلية المتعصبة المتوترة التي تفكر بها؛ فراعية السلام المحايدة! عجزت عن
مجرد اتقان تمثيل هذا الدور حتى النهاية، على الرغم من الإمكانات المسرحية
الهائلة التي تمتلكها. وشعاراتها التمثيلية (سلام الشجعان!) لم تستقر عليها، بل
أصرت على أن ترفع شعاراً آخر تلزم به طرفاً واحداً فقط، وهو: (سلام العبيد! !) تُمارس من خلاله كل ألوان الإذلال والاستهانة والعبث بعقول أمة.
وقديماً بيّن (جوستاف لوبون) الخلفية الفكرية والنفسية التي يتعامل بها الغرب
مع القضايا الإسلامية بقوله: (لقد تجمعت العقد الموروثة: عقد التعصب التي ندين
بها ضد الإسلام ورجاله، وتراكمت خلال قرون سحيقة، حتى أصبحت ضمن
تركيبنا العفوي) .
وليس العتب الحقيقي على الغرب فما تخفي صدورهم أكبر، ولكن العتب كل
العتب علينا أبناء هذه الأمة الذين نرضى بالدنية في ديننا، ونقبل تلك المسرحية
التي اتضحت ألاعيبها وتكشفت مهازلها! !(119/1)
افتتاحية العدد
لا عزاء للطغاة
كانت فترة الخمسينات والستينات الميلادية مليئة بنماذج مشوهة من الطواغيت
الذين ملؤوا الدنيا ضجيجاً ممجوجاً، عقوداً مديدة ... مريرة.
فكان منهم: الرفيق، والقائد الأوحد، والجنرال والماريشال، والكولونيل،
إلى آخر ذلك من ألقاب اكتسبوها في غفلة من البطولة الصادقة، واستغفال الشعوب
المنقادة بالظلم وبمباركة أولي الأمر من شرق وغرب.
أطبق طغيانهم على شعوبهم ظلمات بعضها فوق بعض، وتبدلت المفاهيم
الصادقة إلى ضدها؛ فكان الظلم عدلاً، والباطل حقاً، وأضحى الناس بين خفض
ورفع، فمن أتقن الانتهازية وأدرك اللعبة وكان من التابعين؛ فروح وريحان، ومن
أبت نفسه ذلك وتمسك بمبادئ الأولين، فله شقاء الكادحين، وشظف المعدمين، إن
لم يكن من المسجونين.
إذا جاعت الشعوب.. أكلت جوعها لتزداد جوعاً، أما الطغاة، فإذا شبعوا ...
جاعوا ليأكلوا حتى يموتوا.
لبست الشعوب على عظامها جلوداً كجلود الأحذية، وهم لبسوا شحوماً على
لحومهم.
استثمروا أموال تلك الشعوب بطريقة خاصة، في مصارف خاصة، فلم يعد
منها لهم شيء البتة.
ولكن سنة الله في الطغاة وإخوانهم لا تتبدل، فلهم خزي الدنيا، ولَعَذاب
الآخرة أشد.
في الأيام القليلة الماضية هلك الماريشال (موبوتو سيسي سيكو) النمر المرقط، إمبراطور زائير السابق، وهو الذي قام في (أيلول زائير الأسود) بانقلاب
عسكري عام 1960م مقابل خمسة ملايين دولار من بلجيكا، لكن المحاولة أخفقت
لقلة الأموال، وربما لأن الإخفاق كان هو المستهدف، ثم انقلب مرة أخرى بأموال
أخرى وذلك عام 1965م ونصب نفسه رئيساً مطاعاً، وكان يراد له أن يلعب دوراً
فجثم على صدور الزائيريين أكثر من ثلاثين عاماً، حلب فيها الوصيلة والحامي،
وتردى شعبه بعدما نطحه، بينما هو قد أكل لحوم السباع ولبس جلودها.
بلغت ثروته التي جمعها من راتبه الشهري! ! ما يقارب السبعة مليارات من
الدولارات، وتوزعت ثروته العقارية ما بين قصور.. وقصور، في فرنسا
وبلجيكا، ولوكسمبورج وإيطاليا، وأسبانيا.
مرض الرجل بمرض الطغاة المعتاد.. (سرطان البروستاتة) وخرج للعلاج،
فانقلب البلد ولكن هذه المرة بأموال أمريكية قدمتها أياد غير بلجيكية.. هام الرجل
على وجهه يطلب ولو كوخاً يؤويه؛ فقد حيل بينه وبين قصوره، وتنكر له رفاقه
الطغاة حين طلب أن يكون لاجئاً لا إمبراطوراً، فحنطوه في ذله، وأذلوا كبرياءه.
ظن موبوتو وهو على سرير المرض أن الشعب سيفديه بالأرواح والمهج،
وأنهم سيحملونه على جناحي طائرة ويعودون به مرة أخرى، ولكنه عندما أيقن
بالنهاية، قطع حبال الأحلام، وأحضر القساوسة الكاثوليك، وتوسل إليهم أن يدعوا
له بالمغفرة والرحمة! !
خرج القساوسة بعدما ترحموا عليه، ودخلت مجموعة من المحامين
والمحاسبين لوضع الشكل النهائي لمصير ثروته وأملاكه! !
مات موبوتو ولم يبكه أحد، حتى أبناؤه كانوا منشغلين بالتركة التي تركها،
وحاولوا أن يختموا حياة أبيهم بكرامة، ولو صغيرة، فطلبوا حضور مندوبين عن
الدول الكبار التي وضعته في الحكم، فاعتذر الجميع، ودُفِنَ (مؤقتاً) في جوار
الأطلسي.
وإذا كان الرجل قد هان على أوليائه في نهاية حياته؛ فلم يروا أن يدفعوا عنه
آثار ظلمه وعاقبة بغيه على الرغم من أنه كان أداة لظلمهم ومجدافاً في أيديهم، بل
لم يفاوضوه حتى يحفظ ماء وجهه، وأقصى ما قدموه له أن سمحوا له أن يفر بجلده
كي لا يموت ذليلاً مغموراً مرتين.
فهل يتذكر العقلاء أن تلك النهاية هي ثمرة ولاية الشيطان التي قصها القرآن:
[وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا
كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [ابراهيم: 22] وهل يتذكر قوم يشترون ما عند أولئك الأولياء بعز
أوطانهم ودماء شعوبهم؟ .
لقد عاد موبوتو إلى قساوسته فهل يعود قومنا إلى الله قبل أن يلقوه حكماً عدلاً
فيسألهم عما أضمروه [وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) ] [فَلا تَحْسَبنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
ذُو انتِقَامٍ] [إبراهيم: 42، 47] .
إن حديثنا الذي هو صدى للحدث منطلق من ثوابت، ولنا منه نحن أيضاً
نصيب: فالليل خطوة والنهار خطوة، ثم ما يلبث العمر حتى ينقضي والأيام تطوى، ويمثل المرء أمام الحكم العدل لينظر عن يمينه فلا يرى إلا عمله، وعن يساره
فلا يرى إلا عمله، لقد أمرنا الله سبحانه في قرآنه الكريم أن نسير في فجاج التاريخ، ونضرب في أصقاع الدهور، ونستنطق الأحداث، ونفتش عن مواضع العبرة
ومواطن العظة: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ]
[النمل: 69] فكيف إذا جاءتنا الأحداث وقرعت أبوابنا الوقائع ورأيناها رأى العين
[إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] [ق: 37] ؟
يقول سيد قطب (رحمه الله) : إن تلك النهايات كلها تفيض الطمأنينة على
القلب المؤمن، وهو يواجه الطغيان في أي زمان ومكان، تفيض طمأنينة خاصة؛
فربك هناك راصد لا يفوته شيء، مراقب لا يَندّ عنه شيء، فليطمئن بال المؤمن،
ولينم ملء جفونه، فإن ربك بالمرصاد للطغيان والشر والفساد..
[هَذَا وَإنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المِهَادُ] [ص:55، 56]
إن أولئك الطغاة وأمثالهم يصدق فيهم قول الحق (تبارك وتعالى) : [فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ] [الدخان: 29] وقوله: [وَمَن يُهِنِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ] [الحج: 18] وليكون ذلك تحذيراً لكل مستبد، فإن ربك
بالمرصاد؛ [وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] [هود: 83] .
ومن الخسران المبين: ألا يعتبر اللاحق منهم بالسابق، وأن يسلك الطريق
نفسه إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة!(119/4)
دراسات شرعية
هل يمكن التعاون بين المسلمين
مع وجود الاختلاف؟
بقلم: هيثم بن جواد الحداد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه من والاه،
وبعد:
فقبل الخوض في غمار هذه القضية الشائكة لا مناص من البدء بالتأكيد على
أصلين عظيمين لا بد أن يستصحبهما من يتناول هذا الموضوع قراءة أو بحثاً:
أما الأصل الأول: فهو وجوب الاجتماع، ونبذ التفرق.
وهذا أصل عظيم من أصول الإسلام تضافرت في الدلالة عليه بطرق شتى
آيات وأحاديث كثيرة جداً، وفاضت به كتب علماء الإسلام قديماً وحديثاً، ولا أظن
أحداً يخالف فيه، فلا داعي لإطالة الكتابة بذكر أدلته وأقوال العلماء فيه ويكفي أن
نذكّر بقول الله (عز وجل) : [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا]
[آل عمران: 103] ، قال القرطبي (رحمه الله تعالى) : (.. فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة؛ فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة، ورحم الله ابن المبارك إذ يقول:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا) [1] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : (وهذا الأصل العظيم، وهو
الاعتصام بحبل الله جميعاً، وألا يتفرق: هو من أعظم أصول الإسلام، ومما
عظمت وصية الله (تعالى) به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب
وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن عامة
أو خاصه، مثل قوله: (عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة) .. وباب الفساد
الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غيرها: هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين
أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم وإن كان
بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحيه، أو
توبته، أو غير ذلك لكن ليعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام) [2] .
وأما الأصل الثاني: أن من صَدَقَ عليه وصف الإسلام لا بد أن ينال من
الحب والولاء:
ولوازمهما بقدر ما معه من الإسلام والإيمان، وفي المقابل يجب أن ينال من
البغض والتبري بقدر ما معه من عصيان، وأن الولاء والحب لا يزولان بالكلية،
إلا بخروج الإنسان بالكلية من الإسلام، فعندئذ فقط يستوجب كمال البغض والتبرؤ، يقول ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : (وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر،
وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من
الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص
الواحد موجبات الإكرام والإهانة كاللص تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما
يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم
الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم..) [3] .
بعد ذلك لا بد من بيان بعض الأمور:
أولاً: لا بد من بيان حكم التعاون بين المسلمين؛ والأصل فيه قوله (تعالى) :
[وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2] وما
في معناها من آيات وأحاديث، وهي ظاهرة في وجوب التعاون بين المسلمين فهم
المخاطبون بتلك الآية على البر، وظاهرة في تحريم التعاون على الإثم والعدوان.
وهنا نقول: إن كل من صدق عليه وصف الإسلام، وجب التعاون معه على
كل ما يصدق عليه أنه بر وتقوى؛ عملاً بعموم الآية الكريمة، ولا شيء يخصص
هذا العموم.
والأخذ بهذا الأصل، بشروطه المذكورة في الآية بهذه البساطة والوضوح
يريح المسلم من كثير من التعقيدات والإشكاليات حول موقف المسلم من المخالفين له.
ولنضرب لذلك مثالاً يعتبر من أكبر الإشكاليات في هذا الوقت وهو التعاون
مع أهل البدع، فنقول: إذا لم يكن أهل البدع ممن يكفرون ببدعتهم، كبعض
الصوفية، والأشاعرة وغيرهم، ممن لا يزال وصف الإسلام صحيحاً عليهم، وكان
التعاون معهم في أمر يصدق عليه أنه من البر والتقوى، مثل أمر بمعروف أو نهي
عن منكر، أو دعوة إلى الله، أو بناء مسجد، أو غيرها، فما هو المحذور
الشرعي من ذلك التعاون؟
فالجواب: عندئذ لا يعد التعاون مع هؤلاء على مثل تلك الأمور تعاوناً على
البر والتقوى، بل أصبح تعاوناً على الإثم والعدوان، ونحن منهيون عنه.
فإذا اشتمل التعاون على بر وإثم في آن واحد، رجعنا إلى الأصل الشرعي
المتفق عليه وهو إذا تعارضت مصلحتان أخذ بالأعلى منهما، كما أنه إذا تعارضت
مفسدتان قدم الأخف منهما، فيصدق على ما يقدم في كلتا الحالتين أنه من البر
والتقوى.
قال ابن تيمية (رحمه الله تعالى) ( ... فإذا تعذر إقامة الواجبات، من العلم
والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان
تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس، ولهذا كان
الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل..) [4] .
بعد هذا البيان المقتضب الخالي من التعقيد لا شك أن كثيراً من المسلمين لن
يروق له ذلك في بادئ الأمر، وسيعترض عليه، بل ربما رفضه، ولكنه لو تأمل
لوجد أن هذا الإشكال الكبير الذي دوّخ كثيراً من المسلمين، وأدخلهم في دوامات لا
نهاية لها، وزجّ بهم في صراعات متنامية، هذا الإشكال ينتهي ويُحل إذا فهمنا هذه
الآية فهماً دقيقاً حسبما تقدم ذكره؛ إذ لا معارض لها من آيات أو أحاديث أو أصول
عامة.
وبهذه المناسبة أقول: إن وجود هذا الإشكال بهذا الحجم، حدث بسبب
التقصير في الاعتماد على نصوص الوحي في الاستدلال، والتقصير كذلك في
الاعتماد على أصول الاستنباط المتفق عليها، التي من أهمها فهم النصوص
الشرعية في ضوء قواعد الشريعة العامة المتفق عليها، واستبدال ذلك بالموازنة
بأقوال العلماء، حتى أصبح كلامهم كالنص، يجب العمل به، ويُحمل على عمومه.
بل ربما أصبح كلام بعض العلماء وبعض مواقفهم، هو الأصل وأن الآيات
والأحاديث تُحمل عليه، ولم تعد الوقائع، أو أفعال الصحابة أو مواقفهم، وكذلك
أقوال العلماء تُرجع إلى الأصول العامة المتفق عليها وتقارن بها، وإنما تُجتزأ
اجتزاء، وكل فريق يجتزئ من النصوص والأقوال ما يدعم مذهبه، ويرد كل على
الآخر، ويتكلف كل فريق في الاستدلال وإيراد الأقوال الدالة على مذهبه، ويكثر
اللغط؛ فتظهر تلك القضية كأنها من القضايا الكبرى المصيرية، التي تنبني عليها
الموالاة والمعاداة، وتحدث الفرقة، ويغيب الحق، ويزج بالدعاة في دهاليز مظلمة، يصعب عليهم الخروج منها وينصرفون عن واجبهم الأول وهو الدعوة إلى الله،
إلى صراعات حزبية لا تزيد الأمة إلا وهناً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ونعود الآن إلى ما نحن بصدده.
ثانياً: لا بد من التفريق بين التعاون الذي أُمرنا به وبين الحب والبغض،
والولاء والبراء الذي أمرنا به كذلك؛ فحينما نقول: يجب أن نتعاون مع المسلمين
على البر والتقوى، فإن هذا لا يعني أن الحب الكامل والولاء الكامل يجب أن
يتوجه إلى كل المسلمين؛ فالتعاون شيء، والحب والبغض شيء آخر، فنحن
نتعاون مع الفاسق في بناء مسجد مثلاً مع أننا نكره ونبغض في الله ما يأتيه من
فسق، وربما يُمَثّل لذلك بأننا أُمرنا بالجهاد مع البر والفاجر من الأمراء، مع أننا
نبغض الفاجر لفجوره، ومن لازم بينهما أعني التعاون والمحبة، فعليه الدليل
والتعليل.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن الأصل المتقدم من جواز اجتماع الخير
والشر في الرجل الواحد، وأنه ينال من الحب بقدر ما معه من خير، وينال من
البغض كذلك بقدر ما معه من الشر، هذا الأصل دال على هذا وشاهد عليه.
وكما ذكر ابن تيمية في الفقير السارق: (تقطع يده لسرقته، ويعطى من
الزكاة أو الصدقة لفقره) .
وبهذا يزول قدر أكبر من الإشكال، فلا مانع من التعاون مع المخالف على
البر والتقوى، ونحن في القلب نكره ما فيه من مخالفة، ونتبرأ منه بقدر ما معه من
مخالفة.
وهنا قد يقول قائل: ولكن التعاون مع المخالف مثل أهل البدع؛ قد يتضمن
الرضا ببدعتهم، أو قد يصور للناس أن المتعاون معهم هو منهم، وموافق لهم على
بدعتهم؟ !
والجواب: ينظر حينئذ في المصالح والمفاسد المترتبة على هذا التعاون؛
فأيهما غلبت كان لها الحكم؛ فإن كان ظهور الإنسان بمظهر الموافق لهم على
بدعتهم ينطوي على مفسدة أكبر من المصلحة المترتبة على ذلك التعاون، مُنِعَ
التعاون، وإلا فلا، وكذلك الأمر إذا كان نشر البدعة وإظهارها وحض الناس عليها، له مفسدة وهو في الغالب كذلك أكبر من المصلحة المترتبة على ذلك التعاون
أصبح هذا التعاون من التعاون على الإثم والعدوان؛ فهو داخل في النهي، فيزول
بذلك الإشكال.
أما مسألة الرضا ببدعتهم: فلن يرضى عنها إلا من هو موافق لهم وعلى
مذهبهم، أو يرى أنها ليست بدعة، أو من كان متساهلاً في أمر البدع؛ وهذا كله
راجع إلى أمر قلبي في ذات الشخص، فكأنه أصبح منهم، فليس هو عندئذ ممن
يسأل هذا السؤال.
وقد يثار هنا إشكال آخر وهو: ألا يعتبر التعاون مضاداً لهجر المخالفين الذي
أُمرنا به؟
والجواب: أولاً: لا بد أن نعلم أن الهجرَ خلافُ الأصل واستثناءٌ منه؛ إذ
الأصل وجوب الألفة والمحبة بين المسلمين والآيات والأحاديث ونصوص العلماء
سلفاً وخلفاً على ذلك متضافرة، قال الله (تعالى) : [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ]
[الحجرات: 10] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تباغضوا، ولا
تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق
ثلاث) [5] قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث من الفقه: أنه لا يحل التباغض؛
لأن التباغض مفسدة للدين، حالقة له، ولهذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بالتواد، والتحاب ... ثم قال: فمعنى: تدابروا، وتقاطعوا، وتباغضوا، معنى متداخل
متقارب، كالمعنى الواحد في الندب إلى التآخي، والتحاب، فبذلك أمر رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في معنى هذا الحديث وغيره، وأَمْرُ رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - على الوجوب حتى يأتي دليل يخرجه إلى معنى الندب) [6] .
كما أن الهجر إن عملنا به لا يكون إلا مدة يسيرة عابرة، قال النووي: (قال
العلماء: وفي هذا الحديث لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ... تحريم الهجر بين
المسلمين أكثر من ثلاث، وإباحتها في الثلاث، الأول بنص الحديث، والثاني
بمفهومه) [7] .
ثم إن الأصل في الهجر المصلحة، كما نص على ذلك جمع من العلماء [8] ؛
فحيث وجدت المصلحة جاز الهجر، أما إذا انتفت المصلحة، أو كانت المفسدة
المترتبة على الهجر أكبر من المصلحة المترتبة عليه حرم.
قال ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في
قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور عنه وتأديبه،
ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي
هجره إلى ضعف الشر وخِفْيَتِه كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع
بذلك، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع
من التأليف؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قوماً، ويهجر
آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان
أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم،
وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين،
وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.
وجواب الأئمة كأحمد وغيره، في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا
كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم
بخرسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين
وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق [9] .
وقال في موطن آخر: (فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد، ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأموراً بها، كما ذكره
أحمد عن أهل خرسان إذ ذاك، أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن
إظهار العداوة لهم، سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر
عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي، وكذلك لما كثر
القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار
المحفوظة فيهم ... ) [10] .
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الهجر لا ينافي مبدأ التعاون، فإذا
قبل المخالف التعاون على أمر فيه مصلحة للمسلمين مع إصراره على التمسك بما
هو عليه من مخالفة لو تصورنا ذلك فما المانع من التعاون معه، إذا كانت المصلحة
في الأمر المتعاون عليه هي الغالبة.
وبهذا يظهر أن أمر التعاون مع المخالف، قد يكون في كثير من صوره أمراً
خاضعاً للاجتهاد؛ وذلك حسب كل حالة والظروف المحيطة بها، وأنه منوط
بالمصلحة، وعندئذ فلا يجوز لأحد أن ينكر على من خالفه في الأخذ بمبدأ التعاون
في بعض الصور إذا كان يظهر أن المصلحة ربما تكون فيها راجحة ولو من وجهة
نظر المخالف.
وفي ظل هذا نستطيع فهم كثير من مواقف السلف الصالح، والعلماء، حول
هذه القضية، ففي بدر مثلاً حكى الله (عز وجل) عن الصحابة: [مِنكُم مَّن يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ] [آل عمران: 152] ولا شك أن الرسول - صلى
الله عليه وسلم - كان عالماً بمن هو من أصحابه ممن يريد الدنيا، أو لإعلام الله له
بذلك إن كان فيه ضرر عليهم، ومع ذلك فقد جاهد الجميع في خندق واحد.
ولذا أمرنا بالجهاد مع البر والفاجر من أمراء المسلمين [11] ، وعلى مر
التاريخ جاهد علماء المسلمين مع أمرائهم وأئمتهم ولو خالفوهم في بعض مسائل
الاعتقاد؛ لأنهم رفعوا راية إعلاء كلمة دين الله بصدق.
ولا بد من أن نؤكد هنا بناء على ما تقدم على أن مواقف الأئمة وأقوالهم في
المخالفين، يجب أن تُفهم في ضوء هذا الأصل، وهو أن الموقف من المخالف
منوط بالمصلحة؛ فكل زمن له وضعه وأحواله؛ فليس زمن قوة الإسلام كزمن
ضعفه؛ فلا يجوز أبداً اجتزاء بعض أقوال العلماء بعيداً عن هذا الأصل، ومن ثم
الاحتجاج بها، فضلاً عن أن تجعل أدلة قائمة بذاتها، لتسويغ الفرقة الحاصلة بين
المسلمين، وما أجمل كلام شيخ الإسلام إذ يقول: ( ... وكثير من أجوبة الإمام
أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل، قد علم المسؤول وحاله، أو خرج
خطاباً لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول -
صلى الله عليه وسلم - إنما يثبت حكمها في نظيرها، فإن أقواما جعلوا ذلك عاماً،
فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما
تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك
بالكلية فلم يهجروا ما أمر بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض،
لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها ... ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي
عنه. والله أعلم) .
وأخيراً فقد يقال: لكن يبقى أن المخالف مخالفة سائغة يكون المسلم أقرب إلى
التعاون معه، وكذلك النصرة له من المخالف مخالفة غير سائغة، ولا مقبولة، أو
قد تحتم بعض الظروف معرفة درجه المخالف والمخالفة.
وهذا ولا شك صحيح يضاف إليه ما ذكرنا مما يجب أن يقوم في القلب من
حب وبغض وولاء وبراء بحسب المخالف، وهذا ما نتناوله في المسألة التالية:
ثالثاً: بقي النظر في المخالف، ودرجة مخالفته، وموقف الإنسان منه: محبة
وبغضاً، وولاء وبراء؛ وهذه المسألة ذات شقين:
الشق الأول: وهو الحديث عن الخلاف، والمختلفين.
وأما الشق الثاني: فهو الحديث عن الموقف من الخلاف، والمختلفين.
فبالنسبة للشق الأول، فإنه لا بد أن نحرر أقسام الخلاف وأنواعه تحريراً
دقيقاً.
والذي يظهر لي أننا يمكن أن نقسم الخلاف بين المسلمين، بحسب الموقف
منه إلى خلاف سائغ، وخلاف غير سائغ.
والأساس الذي بني عليه هذا التقسيم، بل وأكثر مسائل الخلاف وما ينبني
عليها: متى يكون المخالف لنا، مخالفاً لأمر الشارع جل وعلا عاصياً بفعله وهذا
بالطبع فيما يظهر لنا فعندئذ يستوجب ما يستوجبه العاصي من نكير، وبغض وتبرؤ
من عصيانه، ومتى لا يكون كذلك؟
والأصل في هذا كله قوله (تعالى) : [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] [النساء: 59] وما في معناها من
آيات وأحاديث. وحاصل ذلك بعبارة موجزة: أن من انتظم في سلك هذه الآية،
بمعنى أنه يصدق عليه أنه راد الأمر إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه
فاعل ما أمر به، فهو معذور، وأما من لم يرد إلى الله ورسوله -صلى الله عليه
وسلم-، فإنه ولا شك مخالف أمر الله، وهو عاص مستحق للعقوبة، مستحق
للبغض والهجران بقدر ما حصل منه من مخالفة.
وتقسيم الخلاف إلى سائغ، وغير سائغ، مبني على ذلك؛ فمن انتظم في
سلك الآية، فخلافه سائغ، ومن لا فلا.
وعليه؛ فإذا فهم هذا الدليل، ووجه الاستدلال به، اتضح ما يأتي من تفصيل، وظهر وجهه؛ كما سنبينه في الحلقة القادمة إن شاء الله.
__________
(1) تفسير القرطبي 4/159.
(2) رسالة خلاف الأمة في العبادات ص 32 34.
(3) الفتاوى 28/208 209، وللاستزادة حول هذا الموضوع: يراجع الولاء والبراء للدكتور
محمد بن سعيد القحطاني، والموالاة والمعاداة لمحماس بن صعب الجلعود.
(4) مجموع الفتاوى 28/212.
(5) متفق عليه من حديث أنس، أما البخاري فرواه في الأدب باب الهجرة، وأما مسلم فرواه في كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر.
(6) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/116 117) ، وانظر الهجر في الكتاب والسنة لمشهور سلمان.
(7) شرح النووي على مسلم 16/117، وأحاديث الهجر المشهورة في الصحاح والسنن كلها تقيد الهجر بمدة معينة.
(8) انظر جملة من هذه النصوص منثورة في كتاب الهجر في الكتاب والسنة، لمشهور سلمان، ولم أر في حدود ما اطلعت عليه، من نص من أهل العلم أن الهجر يعمل به بصرف النظر عن المصلحة المترتبة عليه.
(9) مجموع الفتاوى 28/206.
(10) مجموع الفتاوى 28/212.
(11) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر، رواه أبو داود كتاب الجهاد، وقال البخاري: باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) ، صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير.(119/8)
دراسات تربوية
موقف النظرية التربوية الإسلامية..
من النظرية التربوية الغربية
بقلم: عبد المجيد بن مسعود
مقدمة:
لعل من الثوابت التي أصبحت راسخة في وجداننا الحضاري وسلوكنا الفكري
نحن المسلمين في العصر الحديث، وباتت تتحكم بقدر غير يسير في منهج دراستنا
للظواهر، وتحليلنا لمختلف القضايا الفكرية والتربوية، لعل من تلك الثوابت: أن
نعرض الأنساق والنظم الإسلامية المرتبطة بشتى مجالات النشاط النظري والفكري، في سياق المقارنة بينها وبين مثيلاتها في عالم الغرب، ولا شك أن هذا الثابت
النسبي ستستمر مسوغاته وفعالية تأثيره على تحليلاتنا ودراستنا الفكرية والنظرية،
ما دام هناك في واقعنا المعاصر فئات عريضة من الناس تنظر إلى الغرب على أنه
مركز الحضارة والإشعاع الفكري المستنير الذي لا نملك إزاءه إلا أن نطأطئ
رؤوسنا في خشوع! من هنا رأيتني أُقبل على دراسة موقف النظرية التربوية
الغربية ومناقشتها في ضوء معالم التربية الإسلامية؛ بغرض إبراز التصور
التربوي الإسلامي للتربية. والواقع: أن منهجية المقابلة هذه لا يمكن للتصور
الإسلامي إلا أن يخرج منها منتصراً مرفوع الرأس؛ لأنه ينطلق من موقع قوة
يستمدها من ربانية مصدره التي تمنحه التنزه عن التجاوز والضعف، والاهتزاز
والقصور، ولأن منهجية المقابلة تقتضي عرض الصورة كاملة أمام الناس بكلا
طرفيها فيتضح الطرف الهزيل من الطرف القوي، من خلال إبراز العناصر
والمكونات التي تدخل في نسيج كل بناء نظري على حدة.
النظرية التربوية عرض وتقديم:
هناك قواسم مشتركة بين النظريات التربوية الغربية تتمثل فيما يلي:
أولاً: الاعتماد المطلق على العقل:
منذ البداية يمكننا أن نلفت النظر إلى حقيقة أساس مفادها: أن النظريات
الغربية على تعددها وتباينها في بعض الخصائص والصفات، تكاد يجمعها قاسم
مشترك هو: كونها صادرة عن مصدر وحيد في المعرفة هو: العقل البشري في
حركته ومعاناته وقلقه المأساوي في البحث عن الحقيقة، وكونها صادرة عن تصور
واحد للكون والإنسان والحياة.
والجدير بالاعتبار أنه ما من نظرية في التربية إلا وهي انعكاس لمذهب
فلسفي ما، وهذه قاعدة عامة لا يمكن أن يند عنها أي مذهب تربوي.
ولا تعدو الاختلافات التي تظهر بين نظرية وأخرى أن تكون تعبيراً عن
الاختلاف والتنوع في الملابسات والتطورات التاريخية التي مرت بها المجتمعات
الغربية، بكل ما تحمله تلك التطورات من أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية
وعلمية وغيرها.
ثانياً: النظريات التربوية الغربية ضيقة الأفق أحادية النظرة:
فالنظرية التربوية المثالية هي صدى للفلسفة الأفلاطونية حيث يقول أفلاطون
بعالمين: (العالم المحسوس) ويتألف من الأجسام أو الماديات، و (العالم المعقول)
وهو يتكون من الموجودات المجردة [1] .
فتلك النظرية تنطلق أساساً من (الصدارة المطلقة للروح على المادة) وهي
تفضي إلى تصرف تأملي يهمل المشكلات الزمنية، وطبيعة الإنسان الأرضية،
وتعنى أساساً بكمال الروح ونجاتها.
وانطلاقاً من هذه المعطيات يتجلى لنا الطابع النظري الذي يكتسيه التعليم في
إطار النظرية المثالية؛ حيث إن الهدف من التربية يرمي بالدرجة الأولى إلى
(تمرس العقل بالتراث الفكري والعقلي الذي خلفته الأجيال السابقة، بل اكتسب هذا
التراث صبغة القداسة وأصبح ينقل بحرفيته، وارتبطت موضوعات الدراسة
بضرورات التراث بدلاً من ضرورات الواقع، وصارت صلتها الوثيقة بالماضي
في تحوّل دون ارتباطها بالحاضر والمستقبل) [2] .
أما المذهب الطبيعي، فإنه على العكس من المذهب المثالي؛ إذ يركز على
الجسد وما به من عواطف وغرائز وميول، فيعطيها الأهمية القصوى على حساب
العقل.
وإن كان من المعلوم أن هذا المذهب قد تجاوز من طرف التيار النفسي في
التربية الذي يستمد أسسه من رائد المذهب نفسه (روسو (، حيث يرى (بأن اللجوء
إلى علم النفس هو الإمكانية الوحيدة لتوفير المعيار الحقيقي لموضوعية البيداغوجيا) [3] .
ومما يؤخذ أيضاً على هذه النظرية تضييق نطاق التربية بحيث ينحصر في
الطفل، الأمر الذي أدركت التربية المعاصرة خطأه وقصوره فوسّعت نطاق التربية
ليشمل المراهق والراشد والشيخ، وهذا ما أكدت عليه الرابطة الدولية (الجديدة)
للتربية الجديدة.
أما المذهب البرجماتي، وهو ذلك المذهب الذي يحوّل (النظر بعيداً عن
الأشياء الأولية والمبادئ والقوانين والحتميات المسلّم بها، (ويوجه) النظر نحو
الأشياء الأخيرة: الثمرات، النتائج، الآثار [4] .
فإن مركز الثقل في اهتمامه لا ينصبّ على الحقائق الثابتة، وإنما على ما
يحصله الإنسان من منافع يستثمرها في حياته العلمية حتى إنه ينظر إلى الحقيقة
على أنها هي المنفعة وفي هذا (خلط واضح بين الحقيقة نفسها، والهدف الأساس
من محاولة الظفر بها، فقد ينبغي أن يكون الغرض من اكتساب الحقائق هو
استثمارها في المجال العملي والاستنارة بها في تجارب الحياة، ولكن ليس هذا هو
معنى الحقيقة بالذات، فإعطاء المعنى العلمي (البحت) للحقيقة، وتجريدها من
خاصية الكشف عما هو موجود وسابق! استسلام مطلق للشك الفلسفي الذي تحارب
التصورية والسفسطة لأجله، وليس مجرد الاحتفاظ بلفظة الحقيقة في مفهوم آخر
كافياً للرد عليه، أو التخلص منه) [5] ، وما دام تيار الحياة متنامياً في سيره، فإن
حقائق جديدة تلغي وتتجاوز الحقائق القديمة، فلا شيء يبقى ثابتاً! ، وفي ضوء
هذه القناعة فإن أصحاب هذا المذهب يرون أن (التربية والنمو صنوان وليس للنمو
غاية تتجاوزه أو تعلو عليه، فغاية النمو هو النمو ذاته) [6] .
إن من عيوب هذا المذهب جعله الحياة الحاضرة محوراً وحيداً للتربية دون
الالتفات للحياة المستقبلية، الأمر الذي جعله يفتقد قاعدة صلبة من المبادئ والأهداف
الثابتة التي تضبط حركة الحياة، وتحمي الإنسان من التيه والقلق والتأرجح بين
أحداث الحياة وتطوراتها المتلاحقة؛ وتلك نتيجة حتمية لإغفاله للجانب الروحي في
الإنسان ورفضه للإيمان بما وراء المادة [7] ، وهذا ما حكم على نظريته التربوية
بالدوران في حلقة مفرغة، فهي تدور مع حركة الحياة المادية حيث دارت من غير
الاستناد إلى مبدأ عميق ومقياس دقيق تفصل بواسطته بين الغث والسمين،
والصالح والطالح ضمن تراث الإنسانية المترامي الأطراف، وتنفذ بواسطته وراء
أسوار الحياة المادية الضيقة.
سمات عامة في التربية الغربية:
وهكذا فإننا إذا تأملنا المذاهب التربوية الثلاثة تبين لنا بوضوح انطباعُها
بطابع النظرة الأحادية الجانب، التي تركز على بُعد واحد من أبعاد الكيان الإنساني
على حساب الأبعاد الأخرى؛ فقد لمسنا كيف يضخم المذهب المثالي جانب الروح
على جانب الجسد بكل ثقله، مستهيناً بما يستشعر ذلك الجسد من حاجات، عازلاً
الإنسان عما تموج به الحياة، مغرقاً إياه في صور وخيالات غريبة لا قِبَلَ له بها،
مخرجاً إياه من فطرته التي فطره الله (تعالى) عليها، وهذا في مقابل المذهب
الطبيعي الذي يفعل العكس تماماً؛ فليس هناك في ظل ذلك المذهب مُثُلٌ عليا يتجه
إليها، غير الانسياق وراء ما تمليه عليه الطبيعة، ولا مكانٌ مرموق لقوى العقل
وضوابط الأخلاق، والثغراتُ نفسها تشكو منها النظرية التربوية البراجماتية؛ إذ
إن إعداد الإنسان عندها هو الإعداد لحياة هادرة يتقلب الإنسان بعنف وراء أمواجها
المتلاطمة دون تحديد لقواعد ثابتة يتم الرجوع إليها وللكمال الذي يأوي إليه.
إن نتيجة مهمة يمكن استخلاصها مما سبق، وهي أن تضارب الأفكار
والمواقف الذي تعبر عنه النظريات الغربية، هو برهان ساطع على أن المنطلقات
التي تصدر عنها تلك النظريات خالية تماماً من اليقين العلمي، وإلا لانتهت إلى
قناعات مشتركة حول قضايا الإنسان والمجتمع، فهذا التخبط الذي تعاني منه هذه
النظريات وغيرها نابع من الجهل بحقيقة الوجود وحقيقة الإنسان محور الحياة فيه،
وهذا ما يؤكد عليه الدكتور (ألكسيس كاريل) في قوله: (إننا لا نفهم الإنسان ككل..
إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا،
فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح، تسير في وسطها حقيقة مجهولة) [8] .
من سمات النظرية التربوية الإسلامية: إن التصور الإسلامي في التربية
تجاوز ذلك التخبط الرهيب، الذي ظل يلاحق النظريات الغربية؛ لأنه ينطلق من
أسس وأصول محكمة وفهم شامل حول الكون والإنسان والمجتمع بني على وحي
ممن خلق الإنسان ويعلم حقيقته وجوهره: [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك: 14] ، وهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة، بمكوناته كلها، دون
إغفال إحداها لصالح الأخرى؛ لأن مطبقيه يعلمون أن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل
في الكيان البشري وانعدام التوازن فيه، وبالتالي إفلات الزمام تماماً من قبضة
المربين الذين يتولون تنشئة الإنسان، وتعرّض هذا الأخير للدمار والانتكاس.
فالتربية الإسلامية التي تنبثق من الإسلام ونظرته الشاملة في الكون والإنسان
والمجتمع، تميز في المعرفة بين مجال يرتاض فيه الإنسان بطاقاته العقلية، ويصل
فيه إلى اكتشاف حقائق وأسرار، وهو مجال الطبيعة الفسيح الذي لا قِبَلَ للإنسان
بمعرفته إلا عن طريق الوحي الإلهي: أي عن طريق الدين الصحيح، وهو مجال
(ما وراء الطبيعة) ، والكيان البشري بتعقيده الهائل وتفاعل عناصره جزء من ذلك
المجال، وبتعبير واضح: مجال تنظيم حياة الإنسان وعلاقاته بالآخرين في دوائرها
المختلفة وكيفية معاملته لذاته.
فإصرار الفكر الغربي على أن بوسعه معرفة كل شيء عن الإنسان هو الذي
قاده إلى الطريق المسدود، والأزمة الخانقة التي تضرب الغرب بعنف شديد.
العلوم الكونية بين ذانك المنهجين:
وتقودنا المسألة الآنفة الذكر إلى البحث عن الدافع الذي كرس لدى الإنسان
الغربي هذا الاعتداد بالعقل. ومن الميسور لنا أن نقول بأن التقدم العلمي الذي
أحرزه الإنسان الغربي أدى إلى إصابته بالغرور والانبهار؛ فاعتقد خطأً أن العلم هو
الآلة السحرية التي لا يند عنها شيء؛ ولا يعزب عنها مثقال ذرة، وخيل إليه من
فرط إعجابه باكتشافات العلم أن هذا الأخير أصبح بديلاً عن الدين في تحقيق السعادة
للإنسان.
أما التربية الإسلامية، فإنها تنظر إلى العلوم الكونية على أنها مجال لتعميق
الإيمان بالخالق (عز وجل) ؛ إذ إن المعرفة ليست معزولة عن الحكمة، بل هي
على العكس من ذلك المحراب الذي يقود إليها، قال (تعالى) : [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] [فاطر: 28] ، وقال (تعالى) : [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ (190) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] [آل عمران: 190، 191] .
وإننا بنظرة عميقة إلى كلمة الشهادة التي هي إعلان لدخول الإنسان في
الإسلام نتبين حقيقتين عظيمتين في الوقت ذاته: الحقيقة الأولى: هي مسؤولية
الإنسان الفردية في فعل الشهادة، والحقيقة الثانية: تعني أن تعبيري عن الشهادة
بقولي: (أشهد أن لا إله إلا الله) (لا يحدث في فراغ أو في انعزال عن عالم الطبيعة، وإنما يحدث في عالم الطبيعة وبه، فالمعرفة المطلوبة في الشهادة لا تحدث في
الإنسان وحده كعارف، وإنما تحدث فيه بوجود موضوع المعرفة أو وجود عالم
المخلوقات بما فيها هو نفسه كأحدها) [9] .
أهداف التربية بين المنهجين: إن الخصائص المذكورة التي ميزت النظريات
الغربية في التربية، ومن بينها وقوع الفصام النكد بينها وبين الدين، وبالتالي
التعويل على العقل وتأليه العلم، كل ذلك أوقع التربية الغربية في الذاتية والهوى
ومحدودية الأفق في تحديد الأهداف الكبرى التي تتوخاها، ورغم الشوط الذي
قطعته العلوم الإنسانية في الغرب، فإنها لم ترتق بتلك الأهداف (فعلى الصعيد
الفردي دعت هذه العلوم الإنسان إلى الاعتماد على الذات وتقويتها؛ لأنها منبع القيم
المستقل والمرجع الأخير لوجود الإنسان ووعيه بوجوده، وأصبحت الحرية في
نظر الغرب متساوية مع الممارسة التي لا تخضع لمبدأ أو قانون، بل تصدر عن
الإرادة الشخصية مجردة) ، وقد تأثرت نظرية التربية بهذه النزعة إلى التمركز
حول الذات؛ فأصبحت ترى غايتها في إحداث التجانس في الرغبات بين أفراد
المجتمع الواحد، أما إذا تجانست فلا سؤال ولا استفهام بعد ذلك في خيرها أو شرها [10] .
لقد استقرت التربية الغربية على أن الهدف الأسمى (للتربية) الذي ينبغي العمل على تحقيقه هو إعداد المواطن الصالح، وشتان بين هذا الهدف الضيق والهدف الرفيع الذي ترمي إليه التربية الإسلامية، وهو إعداد الإنسان الصالح (الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو مواطن في هذه البقعة من الأرض أو في ذلك المكان؛ وذلك معنى أشمل ولا شك من كل مفهوم للتربية عند غير المسلمين) [11] .
من إيجابيات النظريات التربوية الغربية: وإذا كانت النظريات الغربية
موضوع النقاش تشكو من تلك العيوب والثغرات التي رأيناها، وهي عيوب
وثغرات مترتبة حتماً عن طبيعة الأسس الفلسفية التي يشيد عليها أعلام الفكر
والتربية في الغرب أبنيتهم ونظرياتهم التربوية، فإن الإطار العام لتلك النظريات قد
اشتمل على بعض الاجتهادات في مجال التنظير والتطبيق التربويين، التي مكنت
الفكر التربوي الحديث من تجاوز بعض العناصر المثبطة؛ فاهتداء التربية الحديثة
في شخص أحد أقطابها المرموقين (روسو (إلى أهمية وضرورة تحرير الطفل من
عوائق الآباء والمجتمع، وتحذير (البراجماتية) مستفيدة في ذلك من تراث:
(روسو) من سلب الطفل فاعليته وقصر نشاطه على تقبل آراء المعلم ومتابعة أفكاره، بدل إشراكه بطريقة ديمقراطية في التفكير والبحث والتمحيص ليصل إلى الحقائق
بنفسه [12] ، كل ذلك شكّلَ مكاسب في إطار الفكر التربوي الغربي أزاحت
مجموعة من العوائق التي كبلت الفعل التربوي مما تسبب عنه ارتقاء في المردود
التربوي وتحسن في وتيرته.
ملحوظة مهمة: ومن خلال بحث هذا الموضوع أرى من الأمانة العلمية
والإخلاص للحق أن نورد ما انتهى إليه أحد الباحثين من أن هذا الذي أصبحت
تنادي به التربية الحديثة من ضرورة تخفيف (آثار البيئة وآثار الآباء على نمو
الأطفال من ناحية، وتنظيم البيئة التي تتطابق أكثر من غيرها مع خير نمو لنموهم
العقلي والخلقي من ناحية أخرى) [13] ، إن هو إلا تعبير عما جاء به الإسلام ممثلاً
في مفهوم الفطرة الواردة في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (كل مولود
يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ... ) [14]
إن التأمل في واقع الإنسان يدلنا على قابليته للتطبع بعقائد البيئة التي تكتنفه
في مراحله الأولى؛ مما يترتب عنه تشكّل عقليته ونظرته للحياة في قوالبها، كما
يدلنا على حرص الآباء على أن يكون أبناؤهم على غرار النماذج المرضية عندهم
المألوفة لديهم. في خضم هذا الوضع يعلن الإسلام عن مبدأ الفطرة التي تعني أن
مصير الولد في عقيدته وأخلاقه كامن فيه وليس في المجتمع الذي يولد فيه و (هذا
التركيز على ما أوجد في خلق الإنسان من قدرات ترشحه لحب الحق وللتوجه نحوه
وبه، نَقَلَ مهمة التربية نقلاً جذرياً وغيّر غاياتها تغييراً أساساً، فبعد أن كانت
مهمتها نَقْلَ ما توارثه الآباء والمجتمع صارت مهمتها توفير ما يلائم فطرة الإنسان
من نمو عقلي وخلقي ووجداني، وصارت غايتها كمال هذه الفطرة، وبهذا الانتقال
ارتقت التربية من ضيق وتعدد نسبية المجتمعات المختلفة إلى تربية عالمية ترتبط
بحقيقة الإنسان أينما كان وفي أي عصر كان) [15] .
خلاصة واستنتاجات: يَتَبَينُ من المعطيات السابقة أن في الإسلام تصوراً
يمتلك مقياساً دقيقاً يُعْرَض عليه ما توصل إليه التراث الإنساني في المجال التربوي، يقبل منه ما يقبل مما هو داخل في نسيج الحقائق المعبرة عن واقع الإنسان،
ويرفض منه ما يرفض مما لا تتوفر فيه شروط الصدق وموافقة قوانين الفطرة التي
فطر الله الناس عليها؛ ومن هذا المنطلق: فإن التصور الإسلامي يتبنى بكل ثقة ما
تتوصل إليه الإنسانية من كشوف متميزة ومناسبة في عالم التربية بما لا يناقض
أسسها ومنطلقاتها معتبراً إياها جزءاً من نسيجها الشامل على اعتبار أن في ذلك
النسيج ما يدل دلالة واضحة عليها، ويهدي إليها.
__________
(1) سعد بن عبد الله، أصول التربية الإسلامية، ص 40.
(2) أحمد علي الفنيش، أصول التربية، ص 29، 30، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس.
(3) محاضرات الأستاذ الدباجي في علوم التربية، المركز الوطني لتكوين المفتشين لسنة 1987م، 1988م.
(4) خليل أبو العينين، مرجع سابق.
(5) محمد باقر الصدر، فلسفتنا، ص 180، ط2/9/19، والكاتب رافضي ينسى الموضوعية عند الحديث عن عقيدته.
(6) خليل أبو العينين، مرجع سابق، ص 272.
(7) آمال حمزة المرزوقي، النظرية التربوية الإسلامية، ص 55، ط1 1402هـ، 1982م، جدة.
(8) ألكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص 16، ط 3، مكتبة المعارف، بيروت.
(9) عيسى عثمان، الإسلام اكتشف الإنسان، مجلة العلوم الاجتماعية، ص 45.
(10) إسماعيل راجي الفاروقي، مجلة المسلم المعاصر، ع/39.
(11) محمد قطب، منهج التربية الإسلامية، ج 1، ص 9، ط دار الشروق، بيروت.
(12) خليل أبو العينين، مرجع سابق، ص 278.
(13) عيسى عثمان، مرجع سابق، ص 39.
(14) أخرجه البخاري بتمامه: كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المسلمين.
(15) المرجع السابق، ص 38، 39.(119/16)
دراسات دعوية
فتن..
يجب الفرار منها
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
وبعد:
فإن منشأ الفتن كلها من فتنة الشيطان الذي حذرنا الله عز وجل منه بقوله:
[يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ] [الأعراف: 27] ولذا في معرض الحديث في هذا
المقال لن أفرد فتنة الشيطان بحديث مستقل؛ لأن الحديث عن أنواع الفتن المختلفة
إنما هو في الحقيقة حديث عن فتنة الشيطان أعاذنا الله منه ومن شرور الفتن ما
ظهر منها وما بطن.
وسأحاول إن شاء الله (تعالى) أن أربط الموضوع بواقعنا المعاصر؛ وذلك
بذكر بعض الصور والمظاهر لكل نوع من أنواع الفتن في زماننا اليوم.
ومن الفتن التي ستكون محوراً للحديث:
1 - فتنة الغربة. 2- الفتنة في العقيدة. 3- فتنة المعاصي وترك إنكارها.
4 - فتنة الدنيا وزخرفها. 5- فتنة الاختلاف والفرقة بين المسلمين.
6 - الفتنة بالعلم. 7- فتنة المصائب والمكاره.
أولاً: فتنة الغربة: إن البدء بالحديث عن هذه الفتنة يأتي من كونها نتيجة
تراكم مجموعة من الفتن تنشأ الغربة بسببها، ويحسن بنا في بداية الكلام عن هذه
الفتنة أن نتطرق لحديث الغربة والغرباء الذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - من عدة طرق، ثم نعرج على كلام السلف في شرحهم لهذا الحديث، ونختم
الموضوع بذكر بعض مظاهر الفتنة في عصور الغربة وخاصة في زماننا اليوم.
روايات حديث الغربة:
1- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله: (بدأ
الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) قال: قيل: ومن الغرباء؟ قال: (النّزّاع من القبائل) [1] .
2- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً؛ فطوبى
للغرباء) قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: (الذين يُصْلِحون إذا فسد الناس) [2] .
3- عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرِزُ بين
المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) [3] .
4- عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن عنده: (طوبى للغرباء) فقيل: من
الغرباء يا رسول الله؟ قال: (أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم
أكثر ممن يطيعهم) [4] .
من خلال هذا السرد للروايات الصحيحة لحديث الغربة يتضح لنا وصف حال
أهل الغربة، وأنهم نُزّاع من القبائل، وهذا يشير إلى قلتهم، وأنهم يُصلِحُون إذا
فسد الناس، وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن
يطيعهم.
وتدلنا هذه الأوصاف المذكورة للغرباء أنهم أهل غيرة ودعوة وإصلاح ولم
يكونوا صالحين يائسين مستسلمين لواقعهم الفاسد، كما تدلنا هذه الروايات على بقاء
المصلحين مهما اشتدت الغربة ولو كانوا قلة ونزاعاً من القبائل. ولن تخلو الأرض
من قائم لله بالحق حتى يأتي أمر الله (عز وجل) .
ولذلك والله أعلم صدّر الإمام الهروي، (رحمه الله تعالى) منزلة الغربة بقوله
(تعالى) : [فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ
إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ] [هود: 116] .
وقال ابن القيم (رحمه الله تعالى) في شرحه لمنازل السائرين عند هذه الآية:
(استشهاده، أي: مؤلف كتاب منازل السائرين بهذه الآية في هذا الباب يدل على
رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن؛ فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة
المذكورة في الآية) [5] .
من أقوال السلف في الغربة وأهلها:
- قال الأوزاعي (رحمه الله) في قوله: (بدأ الإسلام غريباً ... ) الحديث:
أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل
واحد) [6] .
- وقال يونس بن عبيد (رحمه الله تعالى) : (ليس شيء أغرب من السنة،
وأغرب منها من يعرفها) [6] .
- وعن سفيان الثوري (رحمه الله تعالى) قال: (استوصوا بأهل السنة فإنهم
غرباء) [6] .
- وقال ابن رجب (رحمه الله تعالى) : (وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما:
من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى
القسمين وهو أفضلهما) [7] .
وقد شرح حديث الغربة هذا أئمة أجلاء منهم شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى)
في [مجموع الفتاوى: 18/251] ، والإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في [منزلة
الغربة: 3/194] والإمام الشاطبي (رحمه الله تعالى) في كتابه النفيس (الاعتصام) : 1/97 والإمام ابن رجب (رحمه الله تعالى) في كشف الكربة فليرجع إلى هذه
الشروحات ففيها فوائد جمة.
وخلاصة ما قاله الأئمة حول الغربة وأهلها:
1- أن الغربة المطلقة في كل الأرض لا تكون إلا قبيل قيام الساعة، أما قبل
ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قلة، ولكن قد توجد غربة تامة
في مكان دون مكان وفي جانب من الشريعة دون جانب. والله أعلم.
2- أن أهل الغربة الممدوحين في كل مكان وزمان هم الفرقة الناجية،
الطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة المتمسكة بالكتاب والسنة وفَهْمِ الصحابة
(رضي الله عنهم) والتابعين لهم بإحسان.
3- أهل الغربة في كل مكان قليلون ولكن أثرهم على الناس عظيم؛ لأن من
أهم أوصافهم أنهم يدعون إلى الله (عز وجل) ويصلحون ما أفسد الناس ويجددون
لهم دينهم.
4- المخالف لأهل الغربة كثير، والأذى الذي يتعرضون له عظيم؛ لكنهم
بالحق الذي يحملونه، والمهمة الشريفة التي يؤدونها، والصبر الجميل الذي يتحلون
به ثابتون مطمئنون.
5- في حديث الغربة معنى لطيف أشار إليه شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى)
بقوله: (وهو لما بدأ غريباً لا يُعرف ثم ظهر وعرف؛ فكذلك يعود حتى لا يُعرف،
ثم يظهر ويُعرف) [8] .
وفي هذا رد على من يفهم من أحاديث الغربة انحسار الإسلام وعدم الأمل
بعودته، وهذا ما يفهمه كثير من اليائسين من هذا الحديث، وفي كلام شيخ الإسلام
السابق رد على هذا الفهم الخاطئ، وذلك أن الإسلام إذا عاد غريباً كما بدأ، فإنه
سيعود قوياً ظاهراً كما حصل ذلك بعد غربة الإسلام الأولى.
وهذا الفهم الصحيح هو الذي تشهد له أحاديث صحيحة كثيرة منها قوله: (إن
الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي
منها) [9] ، وقوله: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر
ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل: عزاً يعز الله به الإسلام،
وذلاً يذل به الكفر) [10] .
6- الغربة في شدتها وعظم أجر أهلها ليست على رتبة واحدة وإنما هي
متفاوتة، فهناك غربة أهل الإسلام بين أهل الأديان الكافرة، وأشد منها غربة أهل
السنة والإيمان بين أهل الإسلام والفرق الضالة من أهل القبلة. وأشد منها غربة
أهل العلم بين عامة أهل السنة. وأشد منها غربة العلماء المجاهدين الصابرين بين
أهل العلم القاعدين. وهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن القيم رحمه الله (تعالى) : (هم
أهل الله حقاً فلا غربة عليهم) وهم الذين قال عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(إن من ورائكم أياماً: الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم،
قالوا: يا نبي الله أوَ منهم؟ قال: بل منكم) [11] .
7- أهل الغربة وإن كانوا قلة فهم السعداء حقاً ولا وحشة عليهم، وإن خالفهم
أكثر الناس؛ فحسبهم راحةً وطمأنينةً أنهم في قافلة الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
مظاهر الغربة في زماننا اليوم:
يمكن إجمال أهم مظاهر الغربة في الأزمنة الحاضرة اليوم فيما يلي:
1- غربة في العقيدة، فلا يوجد مَنْ هو متمسك بعقيدة السلف من جميع
جوانبها إلا القليل من الناس؛ حيث تنتشر الخرافة والشركيات والبدع في أكثر
بلدان المسلمين.
2- غربة في تطبيق الشريعة والتحاكم إليها، فلا يُحكم اليوم في أكثر بلدان
المسلمين إلا بأحكام الإفرنج الكافرة.
3- غربة في الالتزام بأحكام الإسلام، سواء ما كان منها بين العبد وربه، أو
بين العبد وبين الخلق؛ فلا يوجد الملتزم بها إلا القليل.
4- غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة، وتزامن ذلك مع انفتاح الدنيا وكثرة
الشهوات.
5- غربة أهل الحق ودعاة الإسلام، وتسلط الأعداء عليهم، وإيذاؤهم لهم
بأشد أنواع الأذى والنكال.
6- غربة في عقيدة الولاء والبراء؛ حيث مُيّعَتْ هذه العقيدة عند كثير من
الناس، وأصبح ولاء أكثرهم وحبهم وبغضهم للدنيا فحسب.
7- غربة في أهل العلم؛ حيث قلّ أهل العلم الشرعي الصحيح، وانتشر
الجهل وكثرت الشبهات وقلّ العاملون بالعلم والداعون إليه.
مظاهر الفتنة في أزمنة الغربة: إن من أشد ما يخشى على أهل الإسلام في
أزمنة الغربة أربعة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي: (والتفصيل يأتي في
الحديث عن بقية أنواع الفتن كلاّ في بابه) إن شاء الله (تعالى) .
1- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات والتأثر بأهلها الذين هم الأكثرية
في عصور الغربة، مما يحصل معه السقوط في فتن الشبهات سواء ما يتعلق منها
بالعقائد أو الأعمال أو المخالفات الشرعية الأخرى، وتسويغ ذلك بشبهة شرعية
تبرز عادة في غيبة الحق وفشو الجهل.
2- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات التي تطمّ وتنتشر عادة في
عصور الغربة وقلة أهل الحق وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس؛ فلا يكاد يثبت
ويستقيم على أمر الله (عز وجل) مع كل هذه الضغوط إلا القليل الذين يعتصمون
بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله، أما الكثرة الكاثرة الذين ضعف صبرهم، فتراهم يتنازلون عن دينهم شيئاً فشيئاً أمام مظاهر الغربة الفاتنة؛ سواء كان ذلك
التنازل في العقيدة أو السلوك أو التزام الأحكام.
3- فتنة اليأس والقنوط من ظهور الحق وانتصاره أمام تكالب الأعداء
وتمكنهم وتسلطهم على أهل الخير بالأذى والابتلاء مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة
إلى اليأس وترك الدعوة حين يرى (إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم
ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم
العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهو مهمل منكر لا يحس به
أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله
الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً ... فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت
الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله) [12] .
وإن فتنة اليأس والإحباط وترك الدعوة إلى (عز وجل) في عصور الغربة لا
يقف عند حد؛ بل قد تؤدي بصاحبها والعياذ بالله إلى الضعف والنقص في دينه شيئاً
فشيئاً أمام فتن الشبهات والشهوات؛ ذلك لأن أيامَ الغربةِ أيامُ فتنٍ وإغراءات وفشو
منكرات وظهور وتمكين لأهل الباطل والفساد. فإن لم يكن للمسلم فئة صالحة ولو
كانت قليلة يأوي إليها ويدعو معها إلى الله (عز وجل) حسب الوسع والطاقة فإنه لا
بد أن يتأثر بالفساد وأهله إلا من رحم الله (عز وجل) ومن غير المقبول عقلاً
وشرعاً وحساً أن يبقى المسلم محافظاً على دينه أمام الغربة وهو تارك للدعوة بعيد
عن أهلها، فإما أن يؤثّر أو يتأثّر.
نعم! يمكن أن يترك المسلم الدعوة ويبقى محافظاً على دينه في حالة الاعتزال
التام عن الناس في شعف من الجبال، ولا إخال هذا متيسراً في هذا الزمان، ثم لو
كان ذلك ممكناً: فمن ذا الذي يدعو إلى الله (عز وجل) ويواجه الفساد. وعلى أي
حال فالعزلة الشرعية لها أحكامها وضوابطها التي سنعالجها (إن شاء الله تعالى) في
حلقة قادمة.
إذن: فلن ينجو من فتنة الغربة في أي زمان أو مكان إلا أحد رجلين:
إما مجاهد في سبيل الله (عز وجل) داع إلى الخير آمر بالمعروف وناهٍ عن
المنكر.
أو رجلٌ معتزلٌ عن الناس في مكان من الأرض يعبد ربه، ولا يخالط الناس.
وما سواهما فهو على شفا هلكة، ولعل هذا ما يفهم من الحديث الذي رواه أبو
هريرة (رضي الله عنه) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (مِنْ خَيْرِ
معاش الناس لهم: رجل ممسك عنان فرسه يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو
فزعة طار على متنه يلتمس الموت، والقتل مكانه. أو رجل في رأس شعفة من
الشعاب، أو بطن واد من هذه الأودية: يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى
يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير) [13] .
4- فتنة العجلة وقلة الصبر على الأذى في الغربة؛ مما يؤدي ببعض من
يقاسي ضغوطها إلى التسرع والاصطدام مع أهل الفساد دون مراعاة للمصالح
والمفاسد؛ فينشأ من جرّاء ذلك فتنة أشد وفساد أكبر على أهل الغربة.
__________
(1) الترمذي 5/18، أحمد 1/398، والبغوي في شرح السنة 1/18 وصححه.
(2) أخرجه أبو عمر الداني في (السنن الواردة في الفتن) (3/ 633) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة 3/ 267.
(3) مسلم شرح النووي 2/76.
(4) أخرجه أحمد (2/ 177، 222) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6650) .
(5) مدارج السالكين: 3/194.
(6) كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28، 29.
(7) كشف الكربة ص32.
(8) انظر مجموع الفتاوى: 18/305.
(9) رواه مسلم في الفتن (2889) .
(10) رواه ابن حبان بنحوه (6699 إحسان) ، وصححه الألباني في السلسلة 1/7.
(11) أبو داود في الملاحم (4341) ، والترمذي في التفسير (3508) وصححه الألباني في
السلسلة (494) .
(12) في ظلال القرآن 5/2719، 2720 (باختصار) .
(13) مسلم في الإمارة: (3/1503، 1504) (1889) .(119/24)
دعوية تأملات
رفقاً بالشباب
بقلم: عبد الله المسلم
لقد كان من نتاج الصحوة المباركة أن توافد فئام من الشباب الغض إلى ركاب
الصالحين، بل إن عامة أتباع الصحوة اليوم وحاملي لوائها هم من الشباب؛ وليس
ذلك بغريب، إذ إن ذلك سنة الله في الأمم السابقة واللاحقة.
وحين يتأمل المصلحون اليوم واقع الشباب يرون أن ثمة ثغرات ومواطن
ضعف وخلل لديهم لا بد من علاجها وتسديدها، فينبرون للإصلاح والنصح
والتوجيه. ويأخذ معظم الحديث في هذه الدائرة صفة النقد، ومع الحماس وتوقد
العاطفة يتحول إلى نقد لاذع؛ كأن يقال: الشباب مهمِلون في جانب العبادة،
ومقصرون في الدعوة، ومفرطون في حقوق الأخوة، وضعاف في العلم الشرعي،
والتزامهم غير جاد بل مصطنع..
وينصت الشباب الأخيار الأفاضل إلى هذا الحديث الناصح، ينصتون إليه
بآذانهم وقلوبهم، وتغرورق عيونهم بالدموع التي يجتهدون في حبسها، وينصرفون
داعين لمحدثهم بالسداد والثبات والتوفيق.
إن النقد العلمي الموضوعي المعتدل مطلب لا بد منه، لكن الإفراط في
استخدام هذا الأسلوب ينطوي على محاذير عدة، منها:
1- نسيان محاسن هؤلاء الشباب وإيجابياتهم؛ فهم وإن قصروا في قيام الليل
إلا أنهم سرعان ما يهبّون من فراشهم لصلاة الفجر رغم الجهد والتعب، وربما في
بيوت لا يستيقظ فيها سواهم، وهم الذين تعففوا عن الحرام في ظل واقع مليء
بوسائل الإثارة والإغراء، وهم الذين يتورعون عن الصغائر، ويبادرون بالتوبة
من اللمم في حين يفاخر غيرهم بارتكاب الكبائر ويسعون إليها بما أوتوا من سبيل،
ومع ذلك كله فشباب الصحوة متفوقون في أعمالهم ودراستهم مع ما يحملونه من
هموم الدعوة والإصلاح.
2- كثير من الأهداف التي يرتجى تحقيقها من خلال النقد يمكن الوصول إليها
بطرق أخرى غير طريق النقد؛ فالحديث عن النماذج في مجال ما من المجالات
يشحذ الهمم على التأسي والاقتداء، والحديث عن أهمية أمر من الأمور يأخذ بيد
المقصرين فيه.
والإيحاء غير المباشر يفعل فعله في النفوس، ولنا في النبي - صلى الله عليه
وسلم - أسوة حسنة؛ فحين رأى ابن عمر (رضي الله عنهما) رؤيا وقصها على
حفصة؛ فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (نِعْمَ
الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) [1] .
وعن سليمان بن صرد (رضي الله عنه) قال: استب رجلان عند النبي -
صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمرّ
وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه
ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) [2] .
3- أن هذا الأسلوب يخرج جيلاً فاقداً للثقة في نفسه، محطم الآمال، يشعر
أنه مجموعة متراكمة من الأخطاء، بل إنه يشكك ربما في صدق انتمائه وصلاحه؛
إذ هو لا يسمع إلا النقد والتقريع، وجيلٌ يعيش هذه النفسية سيكون بعيداً عن
المزاحمة في ميادين العمل والنشاط الخير.
4- أن كثيراً ممن يمارس هذا الأسلوب قد يوجب ما لا يجب، ويمنع ما لا
يلزم منعه، فالنوافل نوافل لا يمكن أن تتحول إلى واجبات لا يعذر بتركها، ودقائق
الورع إنما هي مراتب فاضلة للخاصة لا العامة، فعلامَ نؤثّم من لم يؤثّمه الشرع؟
ونوجب ما لم يوجبه؟
وهذا لا يعني التخلي عن النقد، ولا عن بيان الأخطاء والحديث عنها، فقد
كان يفعل ذلك، وليكن ذلك بتوازن واعتدال؛ فقد كان يثني على أفراد من أصحابه
في مواقف لا تحصى، وأثنى على قبائل كأسلم وغفار، وأثنى على المهاجرين
والأنصار، وعلى أهل اليمن ... وغير ذلك كثير.
__________
(1) رواه البخاري (1122) ومسلم (2479) .
(2) رواه البخاري (6115) ومسلم (2610) .(119/30)
من قضايا المنهج
العمل الإسلامي
ومنهجية التغيير
بقلم: د.جلال الدين صالح
لقد بات تجديد الإسلام في نفوس المؤمنين به أكبر هَمٍّ يؤرق شانئيه، وصار
تتبع توسعه، واقتفاء نموه بين جيل الشباب بخاصة يشغل حيزاً واسعاً واهتماماً
كبيراً في عقول أعدائه من الذين أوتوا الكتاب من قبلنا والمارقين من من صفوفنا،
حتى تمخض عن ذلك هذه الأساليب المشؤومة لكبح المد الإسلامي وإعاقته مما سُمّيَ
بـ (مكافحة الإرهاب) ، وليس في هذا ما يدعو إلى القلق والانزعاج ما دام خط
العمل الإسلامي في حد ذاته منضبطاً بضوابط الشرع، ومحكوماً بقواعد التصور
الصحيح في تأسيس مفاهيمه، فما كان الدين أبداً على ودٍ مع خصومه، ولن
يضيره ذلك إلا حين تدب في المؤمنين به مفاهيم التدين المنحرف، وتجتالهم عن
مصادر التدين الصحيح إلى مساقط الزيغ والهلاك؛ ذلك أن إمامة المسلمين في
الأرض مرهونة بوعي الإسلام على النحو الذي كان عليه جيل الصحابة (رضوان
الله عليهم) فالرب (عز وجل) كما يقول المفسر ابن سعدي (رحمه الله) : (عندما
سأله نبيه إبراهيم أن يوقف الإمامة على ذريته من بعده قال: [لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ] [البقرة: 124] [1] والظلم من أبلج صوره الانحراف المنهجي، وتتعدد
صور هذا الانحراف تبعاً لتعدد مصادر التلقي والتفقه، وأكبرها مقتاً عند الله وأشدها
أذى على العمل الإسلامي تلك التي تكدّر صفاء الرؤية العقدية وتشذ عن مألوف
الدين ومعروفه، وتحاول أن تجعل منه مادة جامحة، أو جافة مخلوطة بما هو
غريب عنه. وقد عرف مجتمع الإسلام هذا النوع من الانحراف في وقت مبكر من
تاريخه، وكان من جراء ذلك تنامي توجهات تحمل خللاً منهجياً في تدينها؛ فمنها
من آثر خلخلة قواعد المجتمع وقتال أهله على مواجهة الكفر ومجاهدته ظناً منه أن
ذلك أفضل ما يتقرب به المرء إلى الله كالخوارج الذين يقرؤون القرآن ولا يجاوز
حناجرهم، وإن منها من كسب انحياز السلطان نحوه؛ فسخر ذلك لإعلاء كلمته،
واستغله في فرض انحرافاته المنهجية على غيره؛ كما فعل المعتزلة في عهد
المعتصم (رحمه الله وغفر له) مع الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) .
الانحراف المنهجي في واقع العمل الإسلامي:
والعمل الإسلامي اليوم ليس على براءة من ذلك الإرث المنحرف؛ فكثير من
شبابه وبعض من قياداته من يؤصل لهذا الفهم السقيم ويزيّنه في قلوب المتحلقين
حوله حتى إن قيادياً بارزاً رأيت له مؤلفاً يعدّد فيه منجزات حركته التي منها إعادة
الاعتبار إلى الفكر الاعتزالي في نطاق الحركة وتفاعلاتها الفكرية. وهذا من شأنه
أن يحيي تلك المواقف التاريخية التي انبهرت بأطروحات الفلسفة اليونانية
ومعاييرها في إصابة الحق، ويبعث فيها من جديد روحَ تخطي النصوص
وإخضاعها لتلك المعايير؛ الأمر الذي يحول دون تعميق التمايز الفكري بين الجانب
الإسلامي والآخر المزاحم، في حين أن نقاء مصدر التغيير الإسلامي وتفرده في
تكوين الذات وتشكيل مفاهيمها ومنهجها ضرورة لا بد منها تحتمها طبيعة هذا الدين. ولقد أدرك سيد قطب رحمه الله هذه الحقيقة حين أكدها بقوله: (ولكني أقرر وأنا
على يقين جازم بأن التصور الإسلامي لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ
إلا حين نلقي عنه جملةً كلّ ما أطلق عليه اسم الفلسفة الإسلامية، وكل مباحث علم
الكلام، وكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً، ثم نعود إلى القرآن الكريم) [2] .
ولا شك أن هذه العودة بجانب ما تعمقه فينا من أصالة التفكير والتحرر من
التبعية تضفي على مشروعنا التجديدي خاصيتي: العلم بالحق، والرحمة بالخلق؛
على نقيض الاتجاهات المنحرفة، فلا يصدر لنا قول أو فعل إلا عن معرفة بالحق
ورحمة بالعباد، كما قال ابن القيم رحمه الله في وصف أهل السنة والجماعة:
(يعرفون الحق ويرحمون الخلق؛ فلهم نصيب وافر من العلم والرحمة، وربهم
تعالى وسع كل شيءٍ رحمة وعلماً، وأهل البدع يكذبون الحق، ويكفرون الخلق؛
فلا علم عندهم ولا رحمة) [3] .
وأرى أن من أهم مقتضيات هاتين الخاصيتين: قراءة نصوص الاستدلال
قراءة بعيدة عن (تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) والالتزام
بمرادفها في تحقيق مفاهيم الدين وإلا كان فسادٌ في الأفهام، واعتراضٌ على شرع
الله ودفعٌ نحو الشتات والهوان.
يقول ابن قتيبة رحمه الله: (وقد تدبرت مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون
على الله ما لا يعلمون ... لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحدٍ في الدين:
ف (أبو الهذيل العلاّف) يخالف (النظّام) ، و (النجّار) يخالفهما.. وفلان وفلان ليس
منهم واحدٌ إلا وله مذهب في الدين) [4] .
وهذه المنهجية المعوجة لا تصلح أبداً لتصحيح المسار وإحداث التغيير في
واقعنا الحالي، وغالباً ما تكون مجالاً للاختراق الفكري، وتقويض دعائم المجتمع
الإسلامي وتخريبه.
اتقاؤها ومقاومتها:
وحيث إن وجودها لا يكون إلا على حين غفلة عن العلم الشرعي وغياب عنه
تأصيلاً وتربية، فإن اتقاءها ومقاومتها بداهة لا يكون إلا بتحصيل العلم الشرعي
والتزود منه، وإلا انقلب الأمر من غاية النهوض بالدين إلى الاستخفاف به، وهذا
ما نقله ابن عبد البر عن أهل البدع في كتابه جامع بيان العلم وفضله: (وما ينعى
على أهل البدع إلا أنهم اتخذوا الدين رأياً، وليس الرأي ثقة ولا حتماً.. فلا أجد
أحداً أشد استخفافاً بدينه ممن اتخذ رأيه ورأي الرجال ديناً مفروضاً) [5] .
ولكن لا معنى للعلم ما لم يكن مقروناً بالعمل سوى أن يوظف لمكاسب دنيوية
عابرة تعكس تناقضاً بين المقول والمعمول، وتجعل المتصف بهذا في مصاف
علماء السوء الذين يقول فيهم ابن القيم رحمه الله: (علماء السوء جلسوا على باب
الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم) [6] .
وفي هذا الصنف من العلماء يجد دعاة الضلالة وسيلة لإغواء الأمة وتخديرها
عن إدراك رسالتها في الحياة. والسقوط في هذا الخلق حتماً يتنافى مع غاية العمل
الإسلامي، ويحبس الذات في نطاق شهواني ضيق لا يتجاوز حد الهموم المادية،
ويسلب الشخصية الإسلامية تأثيرها بخلاف تلك التي تربط بين العلم والعمل؛ فإنها
لا محالة تكون مثالاً للاحتذاء والاقتداء، ومن ثَمّ طريقاً إلى التغيير المنشود.
التغيير الإسلامي بين خيارين:
والتغيير الإسلامي اليوم في مفاهيم كثير من الشباب يفتقر إلى تأصيل شرعي
تتوازن فيه المصالح والمفاسد ساعة الإقدام أو الإحجام، وأرى في هذا قصوراً في
فهم الواقع المعاش، وخللاً في فهم مقاصد الإسلام من عملية التغيير ذاتها، وأحسب
أن قصة عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أفضل ما يمكن إيراده عند مناقشة هذه
الظاهرة لدى هؤلاء الشباب فإنه رضي الله عنه بكى من غير جزع حين قرر الملك
الروماني إلقاءه في قدر يغلي بزيت متمنياً أن لو كانت له أكثر من نفس تعذب في
سبيل الله، ولكنه في الوقت ذاته رضي بتقبيل رأس الملك بعد أن اشترط عليه
إطلاق أسرى المسلمين، ولقد مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنهما صنيعه هذا
وكافأه بتقبيل رأسه حيث قال: (حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه) [7] .
هذا الموقف من عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بكل ما فيه من إخلاص،
وصدق وتضحية يبرز لنا من جانب آخر قدراً عالياً من فقهه في حمل الرسالة
الإسلامية فلم تكن الدعوة في ذهنه تعني فقط إجادة الموت في سبيل الله، ولكن
أيضاً تعني إجادة الحياة في سبيل الله؛ والافتقار إلى هذا النوع من الفقه يعني خللاً
في العمل الإسلامي، واعتماده يعني اقتفاءً لجيل الصحابة؛ وواقعنا الإسلامي أشد
ما يكون حاجة إلى هذا الفقه، ومن ثَمّ تصريف العمل الإسلامي وفق قدرات الذات
في مغالبة تحديات هذا الواقع ومجاهدته.
يقول ابن سعدي (رحمه الله) : (لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار
وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها أفراد الشعب من حقوقهم الدينية
والدنيوية لكان أوْلى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية) [8] .
إن هذا التأصيل من ابن سعدي يحملني على لَوْم وتخطئة أولئك الشباب الذين
يحجّرون واسعاً، ويحشروننا بين خيارين لا ثالث لهما: القتال حتى الموت، أو
إقامة الدولة الإسلامية، دون النظر إلى واقع الذات من ضعف وقوة، وواقع
التغيرات السياسية دولياً وإقليمياً، وواقع الوعي الإسلامي في المجتمعات التي
ينشطون فيها، ويدفعني أيضاً إلى القول: بأن في الأمر سعة.
والله المستعان،،،
__________
(1) تفسير السعدي (1/135 136) .
(2) خصائص التصور الإسلامي ص 10 11.
(3) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 2/ 430 432.
(4) تأويل مختلف الحديث ص 12 13.
(5) انظر ص 325.
(6) الفوائد ص 61.
(7) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/588.
(8) تفسير السعدي 3/457.(119/32)
حوار
مع فضيلة: د. عمر الأشقر
حول مسائل علمية ودعوية وفكرية ملحة
(2/2)
في الحلقة الأولى من الحوار مضينا مع د. الأشقر في محطات بدأت حول
سيل المطبوعات التي تدفع بها المطابع وضمور الوعي الذي يعاني منه العالم
الإسلامي، وكذلك عالج الضيف دور المؤسسات الدعوية، وقضية المعايشة بين
الجماعات وتعاون الجماعات التي يضمها إطار أهل السنة والجماعة، ونواصل
الحوار مع الضيف في حلقته الأخيرة.
- البيان -
س6: هناك ارتباط كبير بين الائتلاف والاختلاف، والتحلي بأدب الحوار أو
عدمه؛ فهل من سبيل كي يكون أدب الحوار من خلاله واقعاً ملموساً في حياة أبناء
الصحوة؟ وما هو دور قيادات العمل الإسلامي في ذلك؟
ج6: الواجب على الدعاة وقيادات العمل الإسلامي، بل وطلبة العلم وأتباع
الجماعات الإسلامية أن تكون وجهتهم جميعاً طلب الحق، وأن يكون رائدهم الالتزام
بالحق إذا عرفوه، فالحق أحق أن يتبع، فإن اختلفوا فعليهم بتحكيم كتاب الله وسنة
رسوله: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] [النساء: 59] إن
الدعوة إلى الاتفاق والاجتماع على مبدأ عام ونظرة عامة غير صواب، والصواب
أن نلتقي على ما اجتمعنا عليه، ونتباحث فيما اختلفنا فيه، جاعلين من الكتاب
والسنة حكماً على خلافنا ونزاعنا.
ولا يلزم من الاختلاف أن نتعادى ونتباغض؛ فقد اختلف الصحابة قديماً في
الفروع، ولم يؤد بهم هذا الاختلاف إلى التنازع والتباغض، وعصم الله صحابة
رسوله من التنازع في مسائل الاعتقاد أو مسائل الإيمان الكبار.
ويجب أن يكون خلاف المسلمين خلافاً رفيعاً في آفاقه ومستواه، وهذا يقوم
على ركنين:
الأول: بيان الحق الذي يعتقده المسلم مدعماً بالحجة والبرهان من الكتاب
والسنة.
والثاني: التزام أدب الحوار القائم على احترام الطرف الآخر، وعدم تحقيره
أو الاستهانة به، والتشكيك في نيته وإخلاصه، إذ ينبغي اتباع الحق إذا ظهر للمرء
أثناء الحوار.
ومن أعظم ما يصد الناس عن اتباع الحق عندما يظهر للمحاور: الهوى
والعصبية، وأخص منها هنا العصبية للجماعة التي ينتمي إليها المرء؛ فإن داء
العصبية داء فتاك قتال خبيث يفسد النفوس والقلوب، ويدمر العلاقات بين الأفراد
والحركات؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وخلاصة القول: أن الواجب على قيادات العمل الإسلامي الدعوة إلى الألفة
والتحاب لا الفرقة والتباغض، وأن يدعوا إلى التحاور حول ما اختلف فيه بأدب
الإسلام بعيداً عن المهاترات والتهريج والغيبة والنميمة وإساءة الظن.
س 7: قد يكون لكل بلد خصوصية في العمل الإسلامي حسب طبيعة كل
مجتمع وظروفه، فما هي الركائز والصفات الأساس التي ينبغي ألا تغيب عن أي
عمل إسلامي، وبخاصة الدعوي. وما الطريقة التي نعرف بها ملامح وأصول
التعامل مع تلك الخصوصيات التي يقابلها العمل الإسلامي في كل مجتمع؟
ج -7: قد يكون ما تذكره صواباً، ولكن في نظري أن هذه الخصوصية لا
تستدعي هذا الاختلاف بين الحركات العاملة لإعادة مجد الإسلام، إن هذه الفرقة
بين الجماعات أخّرت المسيرة الهادفة للنهوض بالأمة الإسلامية، ورد العاديات التي
أحاطت بها، ومغالبة الخصوم الرابضين في معاقلها وحصونها.
إن الهدف الكبير الذي يجب أن يسعى إليه العاملون بالإسلام هو توحيد هذه
الأمة على أساس من كتاب الله وسنة رسوله، وإقامة حكم الله في الأرض، وجعل
الدينونة لله رب العالمين، ومجاهدة أعداء الله الذين يحيطون بالأمة الإسلامية إحاطة
السوار بالمعصم، فتراهم يذلونها، ويحتقرونها، ويسلبونها ثرواتها، ويدمرون
معاقلها، ويحاربونها في دينها وعقيدتها إن تحقيق ذلك كله لا يتم من غير أن يتولاه
طائفة كبيرة في العالم الإسلامي كله؛ ولذا فإنني أدعو إلى قيام مجلس إسلامي أعلى
للحركات الإسلامية ذات الأصول الواحدة أعني الحركات التي تدور في فلك أهل
السنة والجماعة، ومهمة هذا المجلس: هو العناية بالقضايا الكبرى في العالم
الإسلامي، وعلى أن يترك معالجة القضايا التي لها خصوصية في كل بلد لأهلها.
س 8: ذكر أحد الدعاة أن العلمانية دخلت العالم الإسلامي لابسة عمامة! فما
هو السبيل لفصل الالتباس الحادث بين العلمانية والإسلام؟
ج 8: إن خلط الإسلام بغيره يؤدي إلى أن يُلَبّس على الناس دينهم، وقد
حرص أعداء الإسلام من قديم على تحريف القرآن فباؤوا بالخيبة والخسران،
فدخلوا إلى إفساد الدين بتأويل نصوص القرآن تأويلاً يفسد معانيه ويحرفها، ثم
حرصوا على تحريف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأدخلوا فيه ما
ليس منه، وقد اقتضى حفظ الحديث مما تلبس به من المكذوب أو المحرف جهوداً
خيالية قام بها علماء الإسلام، ولا تزال تبذل حتى اليوم لتنقية أحاديث الرسول مما
تلبس بها.
وقد قام اليوم أولئك الذين حاربوا الإسلام علانية فأخفقوا في هدمه إخفاقاً ذريعاً
قاموا بإدخال أوليائهم ليتحدثوا باسم الإسلام، وينظّروا لأتباعه، وهم بذلك يحاولون
هدمه من داخله كما فعل أهل النفاق من قبل، وقد تحدثت عن هؤلاء في إجابة
سؤال سابق، ولذا فإنك تجد في ما يكتبه هؤلاء ظلمات ومكائد وفلسفات تقصد إفساد
هذا الدين، وحرف مساره، وإضعاف تياره؛ وقد تصدى لهؤلاء جمع من الذين
عرفوا حقيقتهم وكشفوا مخططاتهم وأهدافهم، وإن كان بعض الناس يحسن الظن بهم، وفعل هؤلاء كفعل المنافقين من قبل الذين ائتمروا بالإسلام ورسول الإسلام
وصحابته الكرام، وبنوا مسجد الضرار، ومكروا بالرسول لقتله واغتياله، ولكن
الله رد كيدهم، وأبطل مكرهم، وكشف مخططاتهم، وجاء نصر الله وهم كارهون.
إن الرد على هؤلاء واجب إسلامي، وكشف ما تلبسوا به من باطل، وإظهار
حقيقتهم أمر مطلوب شرعاً.
س 9: يزعم بعض المناوئين للصحوة أن صعود المد الإسلامي آخذ في
الانحسار بعد بلوغه قمة المنحنى في العقدين الماضيين، فهل المظاهر التي تشوه
وجه الصحوة تدل على شيخوختها، أم على عدم بلوغها مرحلة النضج، أم أن
هناك تفسيراً آخر؟
ج 9: إن الصحوة الإسلامية فيما أعتقد قدر إلهي، يريد الله به إحياء هذا
الدين، وإحياء الأمة الإسلامية بدينها الذي به عزتها ونصرتها وكرامتها، وقد تكفل
الله في كتابه أن يبقى كتاب هذه الأمة محفوظاً، وأن يستمر وجود هذه الأمة إلى
قيام الساعة، ووعدها بالعزة إن هي استقامت على أمره، واتحدت على منهجه،
وقد ذاقت الأمة الإسلامية في القرن الأخير من البلاء أشكالاً وألواناً نتيجة بعدها عن
دينها، وتوجهها إلى مناهج الكفر، وإعجابها بما عليه أعداؤها، ثم جاءت الصحوة
الإسلامية لتؤصل الإسلام في النفوس، وتعيد المسلمين إلى الأصالة، وتبني
الشخصية الإسلامية السوية، وامتلأت الجامعات والمساجد بشباب الإسلام، وعادت
الفتاة المسلمة مرة أخرى إلى حظيرة الإسلام، وعادت الجموع مرة أخرى إلى ربها
ومعبودها ودينها، وحملت الراية من جديد، واتجهت إلى قبلة المسلمين مكة بعد أن
كان وجهتها موسكو ولندن وباريس وواشنطن، ورمى أعداء الإسلام وأولياؤهم
شباب الصحوة بكل قبيح ونقيصة، وزعموا أن هذه الصحوة توشك أن تهمد
وتتلاشى، وكذبوا في زعمهم؛ فالإسلام في كل يوم يتأصل في النفوس، وينغرس
في أعماق القلوب، ونحن موقنون بأن الإسلام آت آت، نوقن بذلك من خلال فقهنا
لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن خلال سنن الله التي يجريها
في الإسلام وأهله والكفر وأهله، ودعاوى أولياء الكفر دعاوى باطلة متهاوية، لا
تستند إلى الحقيقة، بل تزيف الحقيقة وتزوّرها.
أنا لا أنكر أن هناك مشكلات تحيط بالصحوة الإسلامية، وهذه المشكلات
تؤخر مسيرتها، وتشغلها بقضايا ما كانت لتنشغل بها، وأخطر هذه القضايا غياب
الهدف المرحلي الذي يجب أن يعمل دعاة الإسلام لتحقيقه، والفرقة والنزاع، وعدم
إدراك المنهج الكبير الذي ينبغي القيام به، وهو إقامة منهج العبودية الحقة لله رب
العالمين.
نعم هناك مشكلات تواجه الصحوة الإسلامية، وتؤخر مسيرتها، ونسأل الله
أن يهيئ للأمة الإسلامية من يرفع عنها العوائق المغروسة في طريقها والبلاء الذي
يحيط بها، وسيأتي يوم ينعم فيه المسلمون في ظلال الإسلام، يملكون فيه قرارهم
بأنفسهم، ويعرفون كيف يقفون في وجه أعدائهم، وكيف يأخذون على أيدي
سفهائهم، وكيف يغسلون الحوبة بالتوبة، وكيف يستنزلون النصر بالاستقامة
والإخلاص والعمل الدائب للإسلام؛ وعند ذلك يعلم الذين يفتلون للصحوة في الذروة
والغارب [1] أنهم أنفقوا أموالهم وأوقاتهم صادِّين عن سبيل الله، فكانت عليهم
حسرة ولا مناص من أن يُغلبوا ويُهزموا، سنة الله؛ ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
س 10: يواجه العالم الإسلامي اليوم هجمة شرسة من الخارج ووهناً شديداً
من الداخل، فهل مر العالم الإسلامي بمثل هذه الحالة من قبل؟ وكيف تواجه الأمة
مثل تلك الحالات؟
ج -10: أمّا إن الإسلام يواجه هجمة شرسة من الخارج فنعم، وأمّا الوهن
الذي في الداخل فعلى الرغم من وجوده على مستوى القمة في الشعوب الإسلامية
أعني على مستوى الحكام فنعم؛ فالفرقة المفروضة على الشعوب الإسلامية،
وارتهان قرار الحكام واستلابه من قبل أعداء الإسلام، بل تحوّلَ القرارُ ليكون
بإرادة بعض الحكام في مصلحة أعداء الإسلام. أما الشعوب الإسلامية المغلوبة
المقهورة فإنه سرى فيها روح الإيمان، ودخل قلوبها وعقولها أنوار الوحي من جديد، كما بينت في إجابة السؤال السابق، ويوشك أن يكون الغلب لهذا الإيمان وذلك
النور.
وقد مرّ على الإسلام وأهله فترات صعبة مشابهة لما نعيشه اليوم، بل أشد في
بعض الأحيان، ولولا أن دين الله محفوظ لزال هذا الدين بسبب ما أحاط به على
مر العصور، لقد أجلبت علينا أوروبا بخيلها ورجلها في الحروب الصليبية،
ووصل المدّ التتري إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، ودمر ديار الإسلام ومدنه
ومعاقله، وترك ديارنا خرباً ينعق فيها البوم، وفي كل مرة تقوم الأمة من كبوتها
وتنهض من عثارها، وسيتحقق هذا بإذن الله في هذه المرة.
وتدفع الأمة عن نفسها الوهن، وتزيح عن ظهرها البلاء باجتماعها على كلمة
سواء، ورفع راية الإسلام، والعودة لهذا الدين، ورفع راية الجهاد من جديد،
والاعتزاز بالإسلام، وهذا يحتاج إلى تفصيل وبيان لا يحتمله المقام.
س 11: تعيش المنطقة العربية منذ فترة محاولات حشد للرأي العام نحو
قبول الوجود الصهيوني ضمن نسيج المنطقة، هذا في الوقت الذي لا يخفي فيه
اليهود صلفهم ونياتهم التوسعية، فإذا أخذنا في الاعتبار بعض التصريحات
والمواقف العنترية التي تطلق في عالمنا العربي لحفظ ماء الوجه.. فما مستقبل ما
يسمى بعملية السلام في الشارع العربي؟ وما هو دور الحركة الإسلامية الذي ينبغي
أن تقوم به؟ ولماذا يراد تقليص هذا الدور أو الاكتفاء باستغلاله (كورقة ضغط) ؟
ج -11: غُرِسَ الكيان اليهودي في فلسطين في جسد الأمة الإسلامية كما
يغرس عضو غريب في جسد الإنسان، والأعداء يحاولون جهدهم على أن يقبل
جسد الأمة الإسلامية هذا الكيان الغريب، وفي كل يوم يظهر للعيان أن هذا غير
ممكن.
إن اليهود وأولياءهم يجاهدون كي يستمر الكيان اليهودي في أرض الإسراء،
وقد صنعوا مؤامرة كبرى اشتركت فيها الغالبية العظمى من دول العالم، وسميت
هذه المؤامرة بـ (عملية السلام) وما عملية السلام هذه إلا مؤامرة دولية لتمكين
اليهود من الاستقرار إلى الأبد في فلسطين، وأحد خطوط هذه المؤامرة رضا
الفلسطينيين والعرب والمسلمين باليهود، ولكن نسي العالم كله أن لله قدراً ماضياً في
اليهود، وقدره فيهم أن تضرب عليهم الذلة والمسكنة وأن يتغشاهم غضب الله، وإذا
رفعت عنهم الذلة فترة من الدهر، فهو استثناء لحكمة يعلمها الله (تبارك وتعالى)
فهذه الأمة ابتعدت عن منهج الله، فضربها الله بسوط عذاب من عنده جزاءاً وفاقاً،
ومن ذلك أن يسلط عليها أبغض خلق الله إليه وإليهم، وهم اليهود ليذيقوها البلاء
أشكالاً وألواناً جزاء بُعدنا عن إسلامنا وإيماننا، كما فعل الله باليهود أنفسهم عندما
سلط عليهم عُبّاد النيران أيام أن كان فيهم أنبياء وصالحون، بسبب بعدهم عن الله،
ونحن نعلم أن التغيير مرهون بالعودة إلى الإسلام، وجمع الأمة عليه، وإدراك
المسلمين طبيعة المعركة وحقيقة المعركة بينهم وبين اليهود؛ عند ذلك سيزول
الاستثناء الذي قرره الإله الغالب القادر الذي لا راد لأمره، ولا مبطل لقدره، وقد
قرر الله هذا القدر وأخبر به في كتابه، كما أخبرنا عن حالة الاستثناء هذه التي
يعيشها اليهود اليوم فقال (تعالى) : [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ
اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]
[آل عمران: 112] .
فقد ضرب الله عليهم قدراً إلهياً ماضياً الذلة والمسكنة هذا مع إحاطة غضب
الله بهم، واستثنى الحق (تبارك وتعالى) من الذلة المضروبة عليهم فقال: [إلاَّ
بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ] فترفع عنهم الذلة بحبل الله من الله وحبل من
الناس، وهذا هو الذي نشاهده اليوم، فقد جعل الله لهم دولة ورفعت الذلة عنهم،
وكان ذلك بحبل من الله؛ لأن المسلمين أغضبوا الله فأذلهم بأذل خلقه إليه، جزاء
بُعدهم عن ربهم، وها هو حبل غليظ شاركت في صنعه دول العالم كي يمكنوا
لليهود في أرض الإسراء، بل إن كثيراً من الدول العربية والإسلامية شاركت في
فتله وصنعه، ولكن على الرغم من رفع الذلة عنهم استثناءً كما يقرر النص القرآني؛ فإن الغضب الإلهي لا يرفع عنهم، كما لا ترفع المسكنة عنهم، فالاستثناء فقط
للذلة فحسب، أما الغضب والمسكنة فهما باقيان ماضيان، ويوشك الاستثناء أن
يزول بعودة المسلمين إلى الله (عز وجل) فيعود اليهود إلى الذلة مرة أخرى،
ويعودون إلى القدر الماضي فيهم إلى يوم القيامة، ومن قرأ تاريخ يهود يعلم صدق
هذا الذي أخبرنا الله عنه عبر التاريخ، وأن هذا الذي يقوله كتابنا هو القانون
الساري في قتلة الأنبياء الكافرين بآيات الله العصاة المعتدين.
إن عملية السلام جاءت في فترة الاستثناء، وتوشك أن تزول، وسيُقنع اليهود
العالم كله بأنهم لا يستحقون هذا الحبل الذي مُدّ لهم، وعند ذلك تقطع الأمم هذا
الحبل، فيهوي اليهود في الهاوية، إن الشخصية اليهودية والعقلية اليهودية لا
تستطيع أن تحافظ على علاقة جيدة مع الأمم والشعوب، فهي عقلية محرفة منحرفة
كالخلق اليهودي، وانظر ما يفعلونه اليوم من إذلال لأهل فلسطين، وانظر
ملصقاتهم التي تهين رسول الإسلام، وتهين مريم العذراء البتول، وتدنيسهم
للمساجد، وتمزيق المصاحف ودوسها بالنعال، وها هم ماضون في هدم الأقصى،
والاعتداء على كل الحرمات، وستكتشف الدول التي أيدت اليهود أنها أخطأت خطأً
كبيراً، فجعلت التكريم والإعزاز لإخوان القردة والخنازير، أي جعلتهما عند من لا
يستحق، وقد قيل قديماً:
إن أنت أكرمت الكريم ملكته ... أو أنت أكرمت اللئيم تمردا
إن اليهود ليسوا بأهل للتكريم؛ فتكريمهم خطأ كبير؛ ولذا فإنهم يعضون اليد
التي تمتد إليهم بالإحسان، وسيعلم العالم أن رسولنا هو الذي أفلح في معالجة اليهود
عندما عاثوا في الأرض فساداً في قريظة والنضير وخيبر.
إن عملية السلام وَهْمٌ كبير، على الرغم من أن بعض من في أيديهم زمام
الأمور يظنون أن إقامة السلام بيننا وبين اليهود ممكن، ولكن الواقع الذي يمارسه
اليهود يثبت كل يوم للذين يرون هذا الرأي أنهم مخطئون، وسيأتي يوم يدمر عملية
السلام من بناها؛ لأنهم سيعلمون أنهم لم يفقهوا حقيقة اليهود وأهدافهم وأخلاقهم.
على أن الواجب على الأمة الإسلامية والحركات الإسلامية ألا تنتظر انهيار
بناء عملية السلام من تلقاء نفسها؛ فاليهود أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء الأمة
الإسلامية، وهم دنسوا أرض الأنبياء وأرض الإسراء، واحتلوا قبلة المسلمين
الأولى، وأهانوا دين الإسلام؛ ودنسوا مقدسات الإسلام؛ ولذا فإن واجب كل مسلم
أن يسعى لطرد أعداء الله من بلاد المسلمين، وتخليص المسلمين من هذا السرطان
الخبيث الذي غُرس في أحشاء الأمة الإسلامية، والله غالب على أمره؛ ولكن
المنافقين لا يعلمون.
س12: استُغل الفهم الخاطئ للقدر في ترسيخ سلوك التواكل والاستسلام
للواقع المفروض على الأمة من قِبَلِ أعدائها؛ فكيف يلائم المسلم بين المطلوب منه
شرعاً والواقع عليه قدراً؟ وهل يمكن استشراف المستقبل من خلال تأمل النصوص
الشرعية المخبرة عن قدر سوف يقع؟
ج -12: القدر كما فسره الإمام أحمد (رحمه الله) : قدرة الله، ومن قدرته
(تبارك وتعالى) وتمام علمه: أنه علم كل ما سيكون كما يعلم كل ما كان، وقد سجل
الله الكائنات في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويأتي التنفيذ بعد
ذلك بالخلق والإيجاد والتدبير والتصريف وفق ما قدره الله.
ولا حظّ في الإسلام لمن كفر بالقدر وكذب به، ولكن القدر لا يعني التواكل
وترك العمل والقعود والكسل، إن الأخذ بالأسباب والعمل هو القدر؛ فالله قدر أن
يُرزَقَ فلانٌ أولاداً، ولكنه قدر أيضاً أن لا يرزقه الأولاد بإنباتهم من الأرض، ولا
إهباطهم من السماء، بل قدر أن يتزوج هذا الرجل ويعاشر زوجته فيرزق الأولاد،
فالذي يريد أولاداً من غير زواج ويسأل الله أن يهبه الأولاد من غير زواج لم يفهم
القدر، والله قدّر أن يُنْصَرَ المسلمون على عدوهم في بدر والقادسية واليرموك
وغيرها من معارك الإسلام، وقدر أيضاً أن يملك المسلمون أسباب القوة التي
يحققون النصر بها، فمن رام أن يُنصر من غير إعداد وتخطيط ومغالبة لم يفقه
القدر.
إن المستقبل غيب، والقدر المستقبلي الغائب مكتوم عنا، ونحن مطالبون بأن
نبذل أقصى ما يمكننا فعله وتحقيقه وفق منهج الله ودينه، وبذلك نؤمن بالقدر،
ونحقق الشرع. إن الانحراف في فقه القدر أوجد ثَلْماً في حياة المسلمين؛ فمنهم
الذي ترك العمل اتكالاً على القدر، ومنهم الذي كذّب بالقدر، ومنهم الذي لم يفقهه
حق الفقه؛ فهو يخبط خبط عشواء، ولكن الغالبية العظمى من الأمة تفقه الأمر على
وجهه؛ فهي تؤمن به، وتسعى إلى تحقيق أمر الله، وهي تعلم أن لا تناقض ولا
تعارض بين الأمرين، ومن عَسُرَ عليه فِقْهُ الأمر فلينظر إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وأصحابه وهم أكمل المؤمنين إيماناً كيف كانوا يسعون في الأرض
متوكلين على الله عاملين مجاهدين، ولم يجدوا تناقضاً بين الإيمان بالقدر والتوجه
إلى العمل باذلين أقصى ما يستطيعون في ذلك.
أما القدر بعد وقوعه فهو معلوم معروف، والموقف من القدر الواقع إن كان
من فعل الإنسان فإن العبد يحمد الله على أن وفقه وهداه، إن كان فعله خيراً، فإن
كان شراً فالواجب عليه أن يتوب ويستغفر، وإن كان الذي وقع به بلاءً ومصيبة
صبر، وإن كان نعمة شكر.
والقدر المكتوب لا يمنع الإنسان من استشراف المستقبل ليخطط لما هو آت،
فهذا النظر هو فعل الإنسان قد يصيب فيه وقد يخطئ، ولكن عليه أن لا يفرق في
هذا المجال، ولا يقيم على استشرافه جبالاً من الآمال كما يفعل بعض الناس،
زاعماً أن ما يراه هو الذي سيكون، فيضيِّع كثيراً من عمره في تخيلات وبُعد عن
الصواب.
س13: الدكتور عمر: شهد الحرف العربي المطبوع كثيراً من إصداراتك
الهادفة ... نسأل الله أن يأجرك عليها.. فهل لك أن تحدثنا عن آخر مشروعاتك
العلمية وإصداراتك الجديدة؟
لقد وفقني الله في مسيرتي الماضية إلى نشر أكثر من ستين كتاباً مطبوعاً ما
بين صغير وكبير، وآخر هذه الإصدارت صحيح القصص النبوي، وشرح قانون
الأحوال الشخصية الأردني، وأحكام الزواج في ضوء الكتاب والسنة، وسيصدر
قريباً إن شاء الله: (محاضرات إسلامية نافعة) وهو يضم المحاضرات التي نشرت
مفردة فيما سبق وعددها إحدى عشرة محاضرة وأضفت إليها ثلاث محاضرات لم
تنشر من قبل.
ولا شك أن الذي يسير في طريق العلم دائم البحث والتنقيب ما بقي في الجسد
روح تَرَدّد، وهناك مشروعات علمية بعضها كبير وبعضها صغير، ولكني أخشى
الحديث عن المستقبل، فالمستقبل غيب، ولا يدري المرء هل يقدر له أن يقوم بما
عزم عليه؛ ولذا أحب أن يُعلم بأعمالي بعد خروجها، وأسأل الله أن يعين على
تحقيق ما تهفو النفس لتحقيقه في مقبل الأيام، والله المستعان، والحمد لله رب
العالمين.
__________
(1) يفتلون للصحوة في الذّروة والغارب: أي يخادعونها ويتلطفون بها لتستجيب لهم.(119/36)
نص شعري
رسالة إلى الأقصى
شعر:عبد الله عطيه الزهراني
يَكْفي الْقَوَافِي، وَيَكْفي حِينَ أُلْقِيهَا ... أَنّي إلى ثَالِثِ البَيْتَيْنِ أُهْدِيهَا
أُهْدِي قريضِي إِلى الأقْصَى وَقُبّتِهِ ... لَحْناً يُجلْجِلُ من حُبّ يُعَانِيهَا
قَصِيدَتِي مِنْ بِلاَدِ (الْوَحْيِ) أُرْسلُهَا ... عَبْرَ (الْبَيَانِ) ، وَنُورُ الحَقّ كاسِيهَا
فِيهَا الْوَفَاءُ، وَفِيها صِدْقُ مَنْهَجِهَا ... وَفَوقَ ذَلكَ تاًصيلٌ يُزَكّيهَا
جُذُورُهَا مِنْ نَمِيرِ الْوَحْي قَدْ شَرِبَتْ ... فَأَنْبَتَ الْغُصْنُ، وَازْدَانَتْ حَوَاشِيهَا
قَصِيدَتي وَاحَةٌ خَضْرَاءُ يَانِعَةٌ ... تَشْدُو الْبَلابِلُ فِيهَا من أَغانِيهَا
قَصِيدَتي لِدُعَاةِ الْخَيرِ مُنْتَجَعٌ ... لِكنّ فِيَها لأَهْلِ الْبَغْيِ تَسْفِيهَا
قَلْبِي يَتُوقُ إلى تِلْكَ الْبِقَاعِ، بِهَا ... صَلّى الرّسُولُ، وَأَسْرَى من نَوَاحِيها
وَالمُرْسَلُونَ لهُمْ ذِكْرٌ وَسَابِقَةٌ ... صَلّى بِهِمْ مُنْقِذُ الدّنْيَا وَهَادِيهَا
كَانَتْ فِلَسْطِينُ بِالأَخْيَارِ حَافِلةً ... وَاليَومَ أنْذَالُ صُهْيونٍ تُرَدّيهَا
كَانَتْ تُعَانِقُ أَمْجَاداً إذا ذُكِرَتْ ... حَنّ الفُؤَادُ، وَفَاضَتْ عَينُ بَاكِيهَا
وَالله لَوْ كَانَ فِينَا مِثْلُ مُعْتَصِمٍ ... لَمَا تَرَبّع (بِنْيَامِينُ) عَالِيهَا
وَلَو رَأَى عُمَرُ الْفَارُوقُ ذِلّتَنَا ... لَعَبّأَ الجَيْشَ يَرْعَاهَا وَيَحْمِيهَا
وَلَوْ رَآنَا صَلاحُ الدّينِ فِي خَوَرٍ ... لَجَرّدَ السّيفَ يَفْرِي مَنْ يُعَادِيهَا
مِنْ أَيْنَ يَهْنَؤُنَا عَيْشٌ وَعَافِيَةٌ ... وَفِي فِلِسْطِينَ آلامٌ تُعَنّيهَا؟
مَعَاوِلُ الْهَدْمِ فِي أَرْجَائِهَا عَمِلَتْ ... هَدْماً، وَنَسْفاً، وَتَخْرِيباً، وتشْوِيهَا
والله إِنّ دُمُوعَ الْحُزْنِ تَغْلِبُنِي ... فيضاً غَزيراً فَتَجْرِي فِي مَآقِيهَا
إنّ الْقُلُوبَ بِهَا حِقْدٌ وَمَوْجِدَةٌ ... تَخْفَى عَلينَا، وَرَبّ العرْشِ يُبْدِيهَا
ضَغائنٌ في صدورِ القَومِ شاهدُهَا ... في مُحْكَمِ الذّكْرِ آيَاتٌ تُجَلّيهَا
حوادِثٌ يَسْتَدِرّ الدّمْعَ مَنْظرُهَا ... وَيَصْرِفُ النّفْسَ عَنْ أَحْلى أَمانِيهَا
هَلْ مِنْ غَيُورٍ على الإسلامِ يُعْلنُهَا ... حَرْباً ضَرُوساً، وَقُودُ الدّين يُذْكيهَا؟
هَلْ من مُحبّ لأَرضِ القُدسِ يَنْثُرُ في ... رُبُوعِهَا مِنْ صُنُوفِ الْوَرْدِ زَاهِيهَا؟
قَدْ حَصْحَصَ الْحَقّ، لا سِلمٌ ولا كَلِمٌ ... مَعَ اليهودِ وقدْ أبدَتْ عَوَادِيهَا
قَدْ حَصْحَصَ الْحَقّ، لا قولٌ وَلا عَمَلٌ ... وَلا مَوَاثِيقُ صِدْقٍ عِنْدَ دَاعِيهَا
أَيْنَ السّلامُ الّذِي نَادَتْ مَحافِلُكُمْ؟ ... أَيْنَ الشّعَارَاتُ يَا مَنْ بَاتَ يُطْرِيهَا؟
أَيْنَ المْوَاثيقُ، بَلْ أَيْنَ الْوُعُودُ وَمَا ... قَالَتْهُ (مَدْرِيدُ) في أيّامِ مَاضِيهَا؟
تآمُرٌ لَيْسَ تَخْفَانَا غَوَائِلُهُ ... وَفِتْنَةٌ نَتَوَارَى من أَفَاعِيهَا
بُشْرَاكَ يَا أَيّهَا الأقصَى بَموْعِدَةٍ ... قَدْ قَالَهَا المُصْطَفَى، والله مُجْرِيهَا
بُشْرَاكَ، صَحْوَتُنا شَعّتْ طَلائِعُهَا ... وَلاحَ في الأُفْقِ يَحْدُونَا مُنَادِيهَا
شَبَابُنَا لأصُولِ الدّين قَدْ رَجَعُوا ... بِعَزْمَةِ الحَقّ مَا كَفّتْ غَوَادِيهَا
أَبْصارُهُمْ نَحْوَ بََيْتِ الله شاخِصَةٌ ... وَقُوّةُ الدّينِ مَا اهْتَزّتْ رَوَاسِيهَا
بَشّرْ زَبَانِيَةَ (اللّيكُودِ) أَنّ لَهُمْ ... يَوْماً عَبُوساً سَيَنْعي فِيهِ نَاعِيهَا
بَشّرْ شَرَاذِمَةَ الآفَاقِ أَنّ لَهُمْ ... مَقامِعاً من حَدِيّدٍ سَوْفَ تُلْفِيهَا
لا وَعْدُ بِلْفُورَ يَبْقَى ذِكْرُهُ أَبَداً ... وَلا لَقِيطُ يَهُودٍ في مَبَانِيهَا
لَنْ تَسْتَمِرّ يَهُودٌ في غِوَايَتِهَا ... وَسَوفَ يُجْتَثّ قَاصِيهَا وَدَانِيهَا(119/46)
ندوات ومحاضرات
التطورات الأخيرة لعملية السلام
والتوقعات المستقبلية
(2من2)
إعداد: وائل عبد الغني
صُدّر الجزء الأول من الندوة برصد تاريخي لعملية السلام وتطورها وأهم
الدلالات التي يُخْرَجُ بها، ثم عرج إلى الحديث عن الموقف الشرعي من الهرولة
نحو عملية السلام، ومن ثم عولجت آثار عملية السلام على النظام الإقليمي العربي، وبهذه الحلقة تختتم وقائع الندوة.
-البيان-
على ضوء ما يجري داخل إسرائيل، ما هي توقعاتكم لردود الأفعال العربية:
الداخلية والخارجية؟
د. جمال: بالنسبة للداخل: ردود الأفعال أصبحت محسومة من خلال
شرطي إسرائيل المتثمل في السلطة التنفيذية الذي يقوم بدوره؛ وخارجياً فكل
السياسات تصبّ في خط إسرائيل؛ لذا: فإسرائيل أمنت ردود الأفعال؛ هذا طبعاً
في حسابات البشر وفقاً لاستقراء الواقع؛ أما ما يحدث مستقبلاً فهو في علم الله..
[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] لأن ردود أفعال
الشعوب لا يمكن حسابها بدقة؛ رغم وجود مراكز استراتيجية لجمع المعلومات عن
ذلك لدى الأعداء؛ إلا أن هناك تخوفاً وعدم وضوح، رغم أن العدو يتحرك حركة
منظمة ومدروسة.
* الواضح أن عملية التسوية السياسية في المنطقة تمر بمرحلة من التحول؛
فعلى ضوء توازنات القوى في المنطقة، وطبيعة الاتفاقيات بين الأطراف؛ ما هي
سيناريوهات المستقبل المتوقعة؟
د. حامد: يمكننا أن نتصور ثلاثة سيناريوهات مستقبلية لعملية التسوية
السياسية، وكلها خيارات مطروحة على النحو التالي:
السيناريو الأول: استمرار حالة الجمود الحالية (حالة اللاسلم واللاحرب) :
في ظل حكومة الليكود الحالية، وفي ظل توازنات القوى في المنطقة العربية؛ فإنه
من المتصور أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه فالكيان الصهيوني ينشئ واقعاً
جديداً كل يوم، ويعمل على إبقائه وحمايته، والأطراف العربية تعيش على آمال
(استئناف التفاوض) مع الكيان الصهيوني.
هذا السيناريو لا يُتَصوّر تغييره إلا بتوافر شرطين على الأقل:
الأول: إعادة إشعال الانتفاضة الشعبية داخل الأرض المحتلة مع إحداث
نقلات نوعية في أساليب هذه الانتفاضة والقيام بعمليات استشهادية جديدة.. وهذا
يستلزم بدايةً كف أيدي أجهزة الأمن العرفاتية عن ملاحقة أعضاء حركتي حماس
والجهاد، وكافة الفاعليات القائدة للانتفاضة الفلسطينية، وكسر طوق تنسيقها مع
أجهزة الأمن الإسرائيلية في هذا الصدد، وتوفير كافة وسائل الدعم الشعبي
للانتفاضة باعتبارها نوعاً من المقاومة المشروعة للاحتلال الأجنبي.
الثاني: ضرورة وجود حد أدنى من المواقف العربية المشتركة إزاء عملية
(التطبيع) مع إسرائيل؛ وإنهاء حالة التشرذم العربي الحالية بصدد الموقف من
الكيان الصهيوني.. وليس إصرار (قطر) على عقد ما يسمى بـ (المؤتمر
الاقتصادي) رغم كل ما يجري على أرض الواقع إلا مؤشراً واضحاً على حقيقة
أوضاع التضامن العربي. ولن نتحدث عن تخاذل بعض أطراف التفاوض العربي
في دعم الموقف السوري في العملية ذاتها.. وهو ما جعل الكيان الصهيوني يتلاعب
بالأطراف العربية ويفرض ما يريد من سياسات على أرض الواقع..
السيناريو الثاني: استئناف عملية التفاوض السياسي، والتوصل إلى تسويات
سياسية جزئية في المنطقة.
وفي ظل معادلات الواقع الاستراتيجي والسياسي؛ فإن معظم الأطراف
العربية ليس لديها ما يمنع من التوصل إلى تسويات سياسية جزئية، واتفاقيات غير
متكافئة أخرى جديدة يتم من خلال آلية الدعاية السياسية توفير صناعة القبول بها..
إن التوصل إلى تسوية شاملة في المنطقة يعني على الأقل قيام الكيان
الصهيوني من وجهة نظر الأطراف العربية المفاوضة بتنفيذ تعهداته، والاتفاقيات
التي أبرمها منذ أوائل التسعينات؛ وهذا يعني:
1- التوصل إلى تسوية نهائية على المسار الفلسطيني؛ ويعني ذلك استكمال
تنفيذ المرحلة الثالثة من الاتفاق الذي يتعلق بمفاوضات الوضع النهائي التي تنتهي
بقيام (الدولة الفلسطينية) .
2- الانسحاب الكامل من جنوب لبنان.
3- الانسحاب الكامل من الجولان والعودة إلى حدود ما قبل 1967م.
بالطبع فكل المؤشرات الواقعية حتى هذه اللحظة تقول: إن هذا الأمر ضرب
من الخيال السياسي.
وإن المطروح هو تسوية جزئية بالغة التواضع تقوم على مفهوم (السلام
الإسرائيلي) بكل ما يعنيه ذلك من إهدار وإضاعة للحقوق العربية؛ فالسلام
الإسرائيلي المطروح بقوة ووضوح وسبق أن أشرنا إليه يتضمن:
عدم التنازل عن الجولان، وعدم السماح بقيام دولة فلسطينية؛ وتهويد القدس
تماماً، وجعل القدس الكبرى العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني؛ مع الاستمرار في
سياسات هدم الأقصى لإقامة هيكل سليمان.
بالإضافة إلى ذلك إدخال المنطقة بكاملها في حقبة السلام الإسرائيلي عبر
سياسات فرض التطبيع الاقتصادي والثقافي وفرض الأمر الواقع.
السيناريو الثالث: اندلاع حرب جديدة في المنطقة وهذا السيناريو ليس
مستبعداً؛ بل ربما يكون أكثر احتمالاً في الوقت الراهن، في ظل جمود الأوضاع
على صعيد مفاوضات التسوية السياسية.
وقد لوّح القادة الإسرائيليون بهذا الخيار أكثر من مرة في الوقت الذي تعلن فيه
أطراف عربية مهمة في توازنات القوى في المنطقة أن السلام خيارها الاستراتيجي
الوحيد! ! والطرف الأكثر ترشيحاً لاحتمال المواجهة معه هو (سوريا) ولذلك: فإنه
يمكننا أن نتصور (حرباً خاطفة) تقوم فيها القوات الجوية الإسرائيلية بضرب
القوات السورية في الجنوب اللبناني ويمكن أن نتصور الهجوم المباشر على
الأراضي السورية، ويمكن توريط تركيا في مثل هذه المهمة..
وغير مستبعد توسيع دائرة الحرب لتشمل العديد من دول المنطقة.
* هذا يجعلنا نطرح بعداً آخر من أبعاد الصراع أصبح يشكل دوراً خطيراً في
صياغة شكل الصراع ويحدد معالمه وآلياته.
هذا الجانب هو التحالفات الإسرائيلية مع العديد من القوى، والاستفادة من
ذلك في دعم استراتيجيتها، الأمنية والتوسعية، بالإضافة إلى التحركات السريعة
والمؤثرة في المنطقة: نريد بداية بلورة هذه الجوانب!
د. جمال: عقد العدو عدة اتفاقيات استراتيجية للدفاع المشترك:
إسرائيل اليونان.
إسرائيل تركيا.
إسرائيل الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى مناورات مشتركة مع حلف شمال الأطلسي، وإنزال على
الساحل الجنوبي للبحر المتوسط للتعرف على طبيعة أرض المعارك المستقبلية.
تجهيز البنية الأساس في كثير من الدول العربية.
عملية مسح جغرافي وطبوغرافي لخدمة المرحلة القادمة.
إلى جانب تدمير السلوكيات والأخلاق وإفساد الذمم ونشر المخدرات والإيدز.
إنساء الناس قضية المقدسات.
ومن جانب آخر: تخريب الوطن الإسلامي من الداخل عن طريق إثارة الفتن:
المسلمون × النصارى
الأنظمة × الصحوة
الأغلبية × الأقليات
النزاعات العرقية لإنهاك الداخل.
لذلك أتساءل: لماذا يجري كل ذلك إن لم يكن لقرار مصيري هو الحرب؟
لذلك أقول للحكام: هاتوا علماء التاريخ وعلماء الإسلام والمختصين والباحثين
وادرسوا استراتيجية العدو بدقة؛ لتدركوا أننا منذ ضَرْبِ الخلافة ووصول
الاستعمار الأجنبي إلى بلادنا لم نضع أقدامنا على الطريق الصحيح.. كل الذي
يحدث أن الأمة تكبل ... تخدر.. تنوّم بحجة إرادة السلام! !
* التحالف الإسرائيلي مع عسكر تركيا رغم أنف الشعب التركي له أهداف
وحسابات ومصالح مشتركة فهل لنا أن نحيط بالأهداف الظاهرة على الأقل؟
أ. كمال: كان لتركيا في النظام القديم دور بارز باعتبارها دولة جوار للاتحاد
السوفييتي فكانت جزءاً من الصيغة الأمنية في المنطقة مثلها مثل إسرائيل؛ وبعد
قيام النظام الجديد بدأ كل منهما يبحث له عن دور في اللعبة الدولية، فحاول كلاهما
أن يفجر فكرة حرب الأصولية من أجل حماية العالم الغربي، فتوافقت على إثر ذلك
مصالح العسكر في تركيا مع إسرائيل في الارتباط بالنظام الغربي ... وظهر
التحالف العسكري تحت دعوى إتاحة فضاء للطيارين الإسرائيليين للتدريب في
أراضي تركيا لتكون قريبة من دول الجوار: العراق سوريا إيران للتدريب على
طبيعة أرض المعارك المستقبلية هناك ولرصد الأهداف الاستراتيجية.
وهدف ثان: هو ضرب الصحوة الإسلامية والعالم الإسلامي، والحيلولة دون
تمكن الإسلاميين من السلطة في تركيا، والمساهمة في الضغط على الرفاه لصالح
العسكر وحماية العلمانية هناك.
وهدف ثالث: هو إيجاد مجالات مجاورة للضغط بها على دول الجوار وهو
ما يعرف بسياسة شد الأطراف لتهديد القلب.
وهدف رابع: هو محاولة تطويق الصحوة الإسلامية في دول آسيا الوسطى
التي تمثل قوة جبارة مضافة إلى العالم الإسلامي عن طريق تحييدها إن لم يستطيعوا
إسقاطها كلية؛ لذلك دخلت تركيا هذه المناطق لتطرح نموذجها العلماني بديلاً هناك؛ لأن المنطقة هناك تشهد مخاضاً إسلامياً سواء في جورجيا أو طاجيكستان أو
أذربيجان أو في الشيشان وتحاول تركيا بإيعاز من إسرائيل والغرب السيطرة عليه
وإجهاضه.
* هل اكتفت إسرائيل بدور تركيا في دول آسيا الوسطى؟
أ. كمال: لا؛ فالولايات المتحدة وإسرائيل لها توجه قوي نحو هذه الدول؛
إذ يكفي أن كل هذه الدول التي استقلت في آسيا الوسطى ويا للأسف أقامت إسرائيل
معها علاقات دبلوماسية وكانت أسبق من الوجود العربي. وهذا دأب إسرائيل
لتعويض النقص الاستراتيجي؛ فتحاول السبق إلى أي مكان فيه فراغ أو تحول
سياسي.
* ما الهدف الاستراتيجي الأكبر للتحالفات مع القوى؟
د. جمال: المراد بداية تحزيم العالم الإسلامي من منطقة الشمال، وتأمين
حوض البحر الأبيض المتوسط؛ لأن تركيا من الدول الضاغطة على النظام العربي؛ بالإضافة إلى أن تركيا واليونان عضوان في حلف شمال الأطلسي، ووفقاً للوائح
الحلف لا يجوز لدول الحلف عقد تحالفات عسكرية مع دول من خارج الحلف إلا
بموافقة الحلف؛ ومعنى هذا: أن الحلف وافق ضمنياً على هذا التحالف الجديد وهذا
لا يعني سوى أن الحلف بدأ يتوسع جنوباً بشكل غير معلن، وبذلك خرج من
أوروبا، ودخل في منطقة الخطر (العالم الإسلامي) .
هذا بمحاذاة الاتفاق الإسرائيلي الأردني؛ ومعناه أن هذه الأرض لها منطق
أمني واحد، وهذه المنطقة كذلك منطقة عمليات لحلف شمال الأطلنطي عند حدوث
أي تغيرات في المنطقة؛ هذا بالإضافة إلى القوات الأمريكية وقواعدها المنتشرة في
المنطقة؛ ولعل كل ما يجري هو من قبيل الإعداد لصدام محتمل من أجل القدس.
* ننتقل إلى جانب آخر على الصعيد الآسيوي: إلى روسيا التي بدا نفوذ
اليهود فيها واضحاً: فإلى أي حد بلغ هذا النفوذ؟
أ. كمال: كل التحولات التي جرت في روسيا كان وراءها اليهود: فريق
جورباتشوف كلهم كانوا من اليهود، وجميعهم زار إسرائيل؛ بل الثورات الحمراء
في روسيا كان وراءها يهود.
والآن معظم الأسماء التي تصنع السياسة هناك من اليهود، فلم يعد بلاط
كلينتون وحده بل يلتسن أيضاً.
النائب الأول لرئيس الحكومة أناتولي تشوبايس كوزيريف وزير الخارجية
جرينوفسكي بانونومسكي تشيرنومردين.
كل رؤساء الأحزاب في روسيا بلا استثناء من اليهود.
كل أجهزة الإعلام المجلات كلها ما عدا البرافدا رؤساء تحريرها يهود وكان
لهم جميعاً دور في مساندة إسرائيل.
إذن فأغلب من يشغلون المناصب العليا والحساسة ويملكون صناعة القرار في
روسيا كانوا من اليهود.
اليهود السوفييت فتح لهم باب الهجرة إلى إسرائيل وهم أكثر من مليون،
و50% منهم من ذوي التخصصات العالية، ولهم حزب متحالف مع الليكود.
الظاهرة التي تحدث الآن أن اليهود الأمريكيين في ظل التحول الحادث في
روسيا هم الذين يذهبون إلى هناك يحاولون السيطرة على الاقتصاد الروسي لصالح
إسرائيل.
* ننطلق بعد ذلك جنوباً إلى الهند والانفتاح الإسرائيلي الهندي! ما أهدافه؟..
وما أرباحه بالنسبة لإسرائيل؟
* أ. كمال: الهند دولة جوار لباكستان (الإسلامية) التي تمثل جزءاً من قوس
الأزمات ومصدراً من مصادر الخطر على أمن إسرائيل رغم بعد المسافة لامتلاكها
قوة نووية، ومن هنا فمن مصلحة إسرائيل عمل محور مع الهند؛ رغم أن الهند
كانت قوة من قوى عدم الانحياز وكانت مع العرب وكانت تمثل مجالاً محرماً على
إسرائيل؛ لذلك حاولت إسرائيل اختراقه ونجحت، وكان أكبر مظاهر ذلك هو
زيارة فايتسمان للهند أوائل هذا العام، التي هدفت بشكل أساس إلى تحديث أسطول
طائرات (الميج) الهندية الروسية الصنع، وهي تمثل صفقة العصر (700 طائرة) .
كذلك طرحت إسرائيل عقد تدريب قوات الأمن الهندية على مكافحة الشغب
(أي: المسلمين) .
هناك تشابه بين الهند وإسرائيل، وهو أن كلتيهما لم توقعا على معاهدة حظر
انتشار الأسلحة النووية؛ ويوجد نوع من الدعم الدولي المشترك في هذه المسألة،
وكذلك قدمت إسرائيل عرضاً للهند بشراء طائرات (كافير) الإسرائيلية لكنها رفضت.
الوفد الإسرائيلي ضم عدداً كبيراً من رجال الصناعة؛ وأبرم اتفاقيات في
مجالات الزراعة والتجارة والتكنولوجيا، وقدموا 100 مشروع للعمل مع الهند.
الشاهد في الموضوع: أن إسرائيل رغم كونها دولة صغيرة وضعيفة وفيها
عيوب هائلة، إلا أنها تسعى لتقوية نفوذها من خلال الانتشار في العالم، وفي
المقابل نجد تحركات الدول العربية ضعيفة إن لم تكن منعدمة!
* ننتقل إلى حلف شمال الأطلسي واجتماعاته هذه الأيام: ماذا وراءها؟
أ. كمال: هذه الاجتماعات طبعاً لإعادة الترتيبات الأمنية للحلف الذي بدأ
يمتد شرقاً في أوروبا الشرقية لمحاولة دمج روسيا في النظام الغربي؛ إضافة إلى
التمكين للنظام العالمي ذي القطب الواحد لتضييق الخناق على الإسلام.
* ماذا عن دور أوروبا في اللعبة؟
أ. كمال: أوروبا كلها موافقة على سياسات إسرائيل، وأغلب دولها يؤيد ذلك
جهاراً.
وفي الفترة الماضية اتفقت أربع دول أوروبية هي بريطانيا فرنسا إيطاليا
أسبانيا على إقامة قوة أوروبية سريعة الانتشار الـ (. 4) منفصلة عن حلف
الأطلنطي.
د. جمال: هذه القوة قامت بعمل مناورات مشتركة مع مصر، وعملت إنزالاً
على الساحل الشمالي في مصر تمهيداً لأي تدخل مستقبلي عند الحاجة في الشمال
الإفريقي، أو بمعنى آخر: التحرش بإسرائيل أو وصول الإسلاميين إلى الحكم في
أي بلد عربي. والعجيب أن لأعدائنا استراتيجية ثابتة؛ أما نحن فمتأخرون حتى
في قراءة فكر العدو؛ وهذا الذي وصلوا إليه هو: الخطوات قبل الأخيرة لنهاية
الصراع. لكن هذا تفكير البشر وجهد البشر، حتى لا يصيبنا الإحباط واليأس
[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] .
* ومن فم التنين الجائع (الأطلنطي) ننتقل إلى اللقمة التي يسيل لها لعاب
الجميع! (القارة السوداء إفريقيا) لنرصد التحركات الاستخباراتية الإسرائيلية:
صورها وأهدافها.
أ. كمال: كانت خطة إسرائيل ككيان ضعيف ومليء بالنقائض هي توسيع
وجودها في العالم من خلال نشاط الاستخبارات؛ وهذا النشاط كان واسعاً جداً بحيث
يشمل العالم كله: لمحاصرة منابع النيل، ولتحزيم الوطن الإسلامي والعربي من
الجنوب، ومنع انتشار الإسلام باعتبار هذا التحزيم حوائط صد لقطع الصلة بين
شمال القارة المسلمة وجنوبها الذي يقل فيه الإسلام، كذلك لفتح أسواق جديدة
لصادراتها وبالذات السلاح، وللاستفادة من الثروات الطبيعية المتوافرة بكثرة مثل:
الماس والذهب واليورانيوم والكوبالت ... في عام 1972م كان عدد الإسرائيليين
المتواجدين في إفريقيا 20 ألفاً، وفي عام 95 تقول الإحصائيات إنه تم عقد 1300
صفقة حققت إسرائيل منها في عام 96 أرباحاً قدرت بـ 1. 4 مليار دولار،
وتحصل في مقابلها على مواد خام. وعلى سبيل المثال فإن من الدول التي عقدت
معها إسرائيل صفقات سلاح سرية: رواندا، وبورندي، وأوغندا، وإرتيريا؛
ولهذا دلالة واضحة في الأحداث التي جرت وتجري الآن.
كذلك من عوامل التواجد القوي: مسألة حماية الرؤساء وهو مجال خصب؛
فللاستخبارات الإسرائيلية هناك حوالي 1500 خبير لحماية رؤساء إفريقيا (حماية
شخصية) .
هناك مشروعات اقتصادية دخلتها إسرائيل مع 42 شركة إفريقية بعقود بدأتها
بـ 200 مليون دولار، ثم صارت شريكة في 500 مليار دولار؛ وبهذا تصبح
مسألة السوق الشرق الأوسطية ليست هي المخرج الوحيد للرواج الإسرائيلي؛ لأنها
اليوم خطت خطوة أوسع لتحزيم العالم العربي عن طريق السيطرة على جزر حنيش
بمضيق باب المندب في البحر الأحمر ثم بوجود قواعد عسكرية في إرتيريا وإثيوبيا.
* هل للأصابع الاستخباراتية الإسرائيلية دور فيما يجري الآن من تغيرات
على الخريطة الإفريقية؟
أ. كمال: أصابع اليهود في أغلب الأحداث الإفريقية واضحة، ففي
سيراليون (85% مسلمون) مثلاً والصهاينة لهم يد في دفع الانقلابيين الجدد للإطاحة
بأحمد تيجان أول رئيس مسلم لسيراليون.
كذلك أحداث رواندا وبورندي، ثم زائير: كانت المخابرات الإسرائيلية تلعب
دوراً كبيراً فيها للقضاء على الهوتو، ذوي الأغلبية المسلمة واللسان العربي لصالح
التوتسي ذوي الولاءات الغربية رغم أنهم أقلية.
وتقوم كل من أوغندا وإثيوبيا وجنوب إفريقيا بخدمة مصالح اليهود والغرب
هناك على حساب النفوذ الإسلامي والعربي باعتباره نفوذاً تقليدياً في إفريقيا.
وباستقراء الأحداث نجد أن الرؤساء الجدد يكونون من الزنوج المحررين القادمين
من أوروبا أو من الاشتراكيين القدامى، وبمجرد تولي رئيس جديد من هؤلاء
السلطة؛ فإنه يقيم علاقة مع إسرائيل، ويفتح الباب أمام التغيير!
وهذا له صلة بمنابع النيل ومحاصرة مصر عن طريق تكبيل السودان عن
طريق ما يسمى بـ (تداعيات السلوك بين الحركات) فبدأت الاضطرابات برواندا..
ثم بورندي ... ثم زائير.. ثم سيراليون.. ثم برازفيل.. ثم إفريقيا الوسطى.. كل
هذا التتابع في وقت قصير! .. والعدوى العرقية تتنشر بين الدول!
وكان لهذا الأمر أهميته في قمة دينفر الأخيرة؛ إذ كانت إفريقيا في مقدمة
موضوعات ورقة العمل الأطلنطية.
كل ذلك إضافة إلى سعي الولايات المتحدة لتقديم مساعدات اقتصادية لدول
إفريقيا بهدف دمج إفريقيا في النظام العالمي الجديد.
* موضوع زعماء الانقلابات في إفريقيا رغم اختلاف مناهجهم إلا أنه يدفع
بهم إلى السلطة؛ وهذا يلقي ظلالاً أخرى على كيفية الوصول إلى الاشتراكيين
بالذات، وتجنيدهم لمصلحة إسرائيل والغرب!
هناك بالفعل أمر عجيب يثير الدهشة، وهو أن إسرائيل حاولت التغلغل بقوة
في إفريقيا، وتبنت في ذلك منظوراً إيديولوجياً يختلف من وقت لآخر، ومن
ظروف لظروف مغايرة.
فأيام انتشار الاشتراكية حاولت التغلغل من خلال المفهوم الاشتراكي لدرجة أنه
يوجد حوالي 17 معهداً أو أكثر في إسرائيل متخصصة في تدريب القيادات
الإفريقية على أفكار الموساد والكيبوتس ربما بأساليب مختلفة ونقل هذه الأفكار
داخل المجتمع.
مثلاً: إقامة مشروعات اقتصادية للمياه والري بالتنقيط، كما يجري استقدام
طلاب من إفريقيا في إطار تعاون علمي من أجل إعدادهم ليكونوا في المستقبل أداة
من أدوات إسرائيل في السيطرة على القارة الإفريقية.
* إذن هذا يكشف لنا عن تحركات أوسع من التحركات الاستخباراتية.. ربما.. أليس كذلك؟ !
هناك تحركات عسكرية إسرائيلية قوية في أغلب القارة السوداء؛ وإليك بعض
الأمثلة:
- ساعدت إسرائيل إريتريا في احتلال جزر حنيش، وتطهير جزر دهلك من
الألغام ... هناك حوالي 40 جندياً إرتيرياً في بعثة بالقوات البحرية الإسرائيلية وتم
إيفاد عسكريين إسرائيليين للعمل كمستشارين هناك.. وتجري الآن هناك مناورات
عسكرية من قوات قوامها 15000 مجند نصفهم إسرائيليون تمهيداً لغزو جنوب
السودان.
- في إثيوبيا: تم تبادل قطع غيار طائرات 5 وتدريب 38 طياراً. كذلك
موضوع النيل الأزرق وإقامة 20 سداً بمساعدة أمريكية وخبرة إسرائيلية لخنق
مصر والسودان وتقوية نفوذ أثيوبيا. ولا ننسى أن أثيوبيا مع إرتيريا تمثلان محوراً
من محاور التهديد للنظام الإقليمي العربي.
- في كينيا: هناك صفقات صواريخ (جيريل) الإسرائيلية.. وهناك قوات
كوماندوز ترابط في مطار نيروبي.
ويوجد 100 خبير إسرائيلي لمكافحة الإرهاب (الوجود الإسلامي) هناك.
- في أوغندا: يتم تدريب سلاح الطيران، تطوير طائرات ميج 21 في
المصانع الإسرائيلية.
- في تنزانيا: تدريب ضباط وهناك خبراء يهود لترويج الأسلحة الصغيرة
وأجهزة الاتصال المنقولة لأفراد الشرطة.
في تشاد ذات الأغلبية المسلمة: حصلت الحكومة هناك على سلاح إسرائيل
عن طريق زائير عام 1983م وتوجد عناصر زائيرية في تشاد تقوم بتدريب الجيش
التشادي على نفقة إسرائيل!
- نيجيريا: رغم أنها تعتبر أكبر دولة إسلامية في إفريقيا إلا أن إسرائيل
تقوم بإنشاء 3 قواعد جوية بمساعدة 3 خبراء يهود.
وتقوم بتدريب 35 ضابطاً وجندياً من قوات الكوماندوز لتأمين القيادة
النيجيرية.
* ننتقل إلى النقطة قبل الأخيرة في ندوتنا؛ والتي تنقلنا إلى كوبنهاجن
والتطبيع الثقافي! لنتساءل: ماذا وراء الأكمة؟ وما الذي يهدف العدو من وراء
توريط بعض المثقفين العرب في التطبيع الثقافي؟
د. جمال: العدو يهدف إلى عملية غسيل لمخ الأمة! ونجح في اختراق
الطبقة المثقفة عن طريق من كانوا يحملون لواء الشيوعية من قبل؛ الذين أصبحوا
يحملون لواء الديمقراطية.. نجح العدو في استقطاب عدد كبير منهم! لتصبح هناك
فئة تنادي بما ينادي به العدو؛ من نسيان القدس والمقدسات، وفتح أبواب التطبيع
أما كونهم وجدوا لهم صدى داخل المجتمع الإسرائيلي فهذا طابع تكتيكي ذراً للرماد
في العيون والنهاية ... أن الذين كانوا يزعمون أنهم يقاتلون في 48، 56، 67،
73 هم الذين وقّعوا عقد كوبنهاجن مع الفئة المستدرجة ليفتحوا باباً آخر من
الصراع هو الغزو الثقافي، وهو بلا شك أشد خطراً؛ لأنه يُخترَقُ من خلاله عقل
الأمة.
أ. كمال: أزمة المثقفين في العالم الإسلامي والعربي هي جزء من أزمة
الأنظمة التي روّج لها هؤلاء من قبل، وكلاهما يفتقد البعد العقدي في الصراع
بالإضافة إلى أن أكثرهم كانوا من المتسغربين الذين تربوا على موائد غير إسلامية، ولذلك فالمسألة في قناعاتهم سياسية؛ والسياسة بطبيعتها متغيرة، والموقف الذي
تتشدد فيه اليوم يمكن أن تتراجع عنه كلية إذا تغيرت الظروف في المستقبل.
فالمسألة لا تتعدى صفقة تجارية تخضع للربح المادي.
وللبحث في حس هؤلاء فإن هناك ملاحظة أخرى هي أن رموز هذا الفريق
من العرب هم من الأقليةِ، والأقليةُ أكثر قبولاً للاختراق وأكثر استجابة للتطبيع،
وأبرز هؤلاء لطفي الخولي وهو شيوعي نصراني!
* إذن هم لا يمثلون الأمة!
أ. كمال: نعم! هؤلاء المتحالفون بالإضافة إلى أنهم لا يمثلون الأمة في
هويتها لم يفوضهم أحد من الشعب المصري للتحدث باسمه، وإذا ادعي أنهم
يساعدون المفاوض المصري، فهذه ليست مسؤولية المثقف! ودور المثقف هنا هو
وضع علامات على الطريق للسياسي إذا اضطرته الظروف أن يتخذ موقفاً لا يمثل
ثوابته بحيث يرده إلى تلك الثوابت.
* وهل يعني سكوت الأنظمة عنهم موافقتها على هذا التطبيع؟ !
بالطبع لم يكن ممكناً لهؤلاء أن يتحركوا في هذا الاتجاه إلا بضوء أخضر من
وزارة الخارجية في مصر! وكذلك الحال في إسرائيل.
* المطبعون يقدمون مسوّغاً لتحالفهم بأنه يمكنهم عبر هذا التحالف اختراق
المجتمع الصهيوني؛ باعتبار أن هناك حركات سلام داخله يمكن أن يقام معها نوع
من الحلف لإجبار إسرائيل على إعطاء العرب حقوقهم؛ ورغم أن الأمر واضح في
الحس العام إلا أننا نود تجليته أكثر.
أ. كمال: هذه فرية كاذبة؛ لأن المجتمع الصهيوني برمته كله شيء واحد
بالنسبة لثوابتهم وهذا الادعاء من قبيل الوهم؛ لأن المثقف إذا ما أراد أن يخدم
قضيته فليخدمها أولاً داخل وطنه وأمته عن طريق توعية الناس.
ولكن الواضح أن هؤلاء المثقفين بالمعنى الدارج (قبضوا) ! !
د. جمال: العدو استفاد من تجربة ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية في
اعتمادها على العاهرات في جمع المعلومات؛ لأنهن ليس لديهن انتماء، وبالصورة
نفسها وظف العدو فئة من المثقفين ممن يبيعون أنفسهم من أجل المال من أجل جمع
المعلومات من خلالهم.
* هناك شخصيات ومنظمات تخدم التطبيع تحت أقنعة متعددة؛، فهل لنا أن
نقف على بعضها؟
د. البري: تشير بعض التقديرات إلى أن هناك 300 مليون دولار سنوياً
تأتي من مصادر مشبوهة لتمويل مراكز الأبحاث في مصر فقط، مثل جمعيات
حقوق الإنسان ومركز ابن خلدون للدراسات الذي يشرف عليه د. سعد الدين
إبراهيم وهو أول من أقام مؤتمراً لحماية الأقليات في العالم، واعتبر الأقباط في
مصر حينها أقلية مضطهدة، وهو الشعار الذي تروِّج له اليوم الولايات المتحدة
للضغط على الدول.
كذلك عبد المنعم سعيد، ولطفي الخولي، واللواء أحمد فخر صاحب مركز
الشرق الأوسط الذي يصدر مجلة (أوراق الشرق الأوسط) وهذا المركز غاية في
الخطورة؛ لأنه يلتقط صغار الباحثين ويربيهم تربية تطبيعية!
* هل نتوقع أن ينفذ المطبعون ما أعلنوا عنه في تحالف كوبنهاجن؟
أ. كمال: أعتقد أن بيعة المثقفين خاسرة؛ لأنهم خسروا وانكشفوا أمام الأمة
ولا أظن أنهم يستطيعون تحقيق شيء مما أعلنوه.
* ربما تكون المسألة مسألة وقت!
بالعكس. وأقرب شاهد على ذلك أن الميزان التجاري بين مصر وهي أكبر
المطبعين وإسرائيل انخفض بنسبة 5، 12 % لأسباب تتصل بمقاومة التطبيع من
القوى الإسلامية وقوى المعارضة.
ومما أثر في ذلك فتوى أصدرها مفتي مصر يعتبر فيها أن من يتعاملون مع
الكيان الصهيوني من رجال الأعمال في ظل هذه الأوضاع خونة! وكثير من رجال
الأعمال انزعج من هذه الفتوى وتأثر بها.
* هذا يجعلنا نتكلم عن المعارضة: فهل تتوقعون محاولات الالتفاف عليها
وإسكاتها أو إخمادها لا سمح الله؟
أ. كمال: لا يمكن بإذن الله احتواء المعارضة؛ لأن هذه الأمة ستظل تسري
في عروقها الحياة إلى أن يتحقق وعد الله.
وهناك حركات معارضة شعبية قوية، ولا تزال الجماهير متجاوبة معها رغم
كل الظروف، وهذا دور العلماء الربانيين في توجيه الأمة.
* لكن العلماء والصحوة عموماً يعانون تضييقاً وتعتيماً عليهم، فكيف يقومون
بالدور في ظل هذه الأوضاع رغم عظم الخطر وقلة الإمكانات؟
ينبغي أن تكون الثوابت الشرعية جلية واضحة في حس العلماء لا تتغير
بتغير الظروف، وعليهم أن ينطلقوا من هذه الثوابت وأن يستندوا إليها دائماً.
وعليهم كذلك أن يعوا قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وأن يعلموا من
خلال تاريخ الأمة أن طريق التحرير لا بد أن يمر بهم وينطلق منهم؛ كما فعل
صلاح الدين حينما تولى الحكم إذ أخرج العلماء من السجون وأعطاهم صلاحيات
واسعة لغسل قلب الأمة؛ فأعادوها إلى دينها؛ وهذا هو الدور المطلوب من العلماء؛ وهو الدور نفسه الذي قام به العلماء في التاريخ. وأذكر مثلاً من تاريخنا الحديث
يوم أن كان في الأمة بقية خير يعتبر معجزة، وتطبيقاً لقول الله (تعالى) : [وَأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] [الأنفال: 60] وهو حملة (فريزر) الفاشلة على رشيد عام
1807م باعتبارها مدخلاً لاحتلال مصر من قِبَلِ الإنجليز عن طريق الأسطول
البحري البريطاني وقد استيقظ أهل رشيد ذات صباح على أصوات قذائف البوارج
والمدافع البحرية؛ وهنا برز دور العلماء إذ اجتمعوا في أحد مساجدها بقيادة الشيخ
حسن فريج، وتدارسوا الأمر، وقدموا خطة عملية بسيطة تتمثل في صعود الفتيات
على أسطح البيوت والتلويح بالرايات البيضاء علامة الاستسلام وهنا نزل الجنود
إلى الشوارع وكان أول ما يحتاجونه النوم، فناموا في الطرقات وبعد أن جهز الماء
المغلي داخل البيوت أمر الشيخ بالتكبير من على المآذن؛ وفي الحال خرج الجميع
ليصبوا الماء المغلي على الجنود ليصابوا جميعاً بالعمى، ويهرع بعدها الأعداء
فزعين مندحرين. بهذا التخطيط تأخر غزو مصر 75 عاماً؛ ويظهر فيه أثر
العلماء في تحريك الأمة وقيادتها في الأزمات.
د. جمال: هناك أدوار كثيرة فيها خلل كبير وتقصير وتحتاج لجهود واسعة:
أولها: دور البلاغ والتعليم؛ لأن تجاوب الأمة مع الأحداث يرجع إلى جهلها
بالمطلوب منها؛ وهذا ترتب عليه قعود.
لذلك ينبغي تعريف الأمة بالثوابت بالفرائض بالواجبات بالعدو والصديق معنى
الولاء والبراء قيادة مسيرة الأمة على طريق النبوة إنشاء المجتمع المنضبط سلوكياً
وأخلاقياً وعقدياً وتعليمياً وإعلامياً مع الضوابط الشرعية؛ وبهذا تستعيد الأمة
هويتها التي ضاعت.
وهذا ليس كلاماً نظرياً؛ لكن موقف العلماء بالذات ينبغي أن يكون أقوى من
واقعهم؛ لأنهم يمثلون الحصن الأخير من حصون هذه الأمة؛ ولهذا فإن تحرير
القدس يبدأ بـ (اقرأ) .
ثانياً: لا بد أن يكون للصحوة دور في الإعلام لخدمة قضايا الأمة المصيرية.
ثالثاً: حشد طاقات الأمة وجَعْلها في مواجهة هذه الهجمة العسكرية الفكرية
العقدية الاقتصادية التعليمية الإعلامية الشرسة!
رابعاً: مطالبة الأنظمة بمصالحة مع الله أولاً. وكذلك المصالحة بين أبناء
الأمة، والسعي إلى وقف التطبيع بجميع أشكاله؛ لأن هذا من مقتضيات الولاء
والبراء.
خامساً: السعي نحو وحدة الأمة؛ لأن تداعي الأمم علينا لا يدفعه مثل توحد
الأمة على أصولها: [إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ]
[الأنفال: 73] .
سادساً: إحياء الإيجابية في نفوس الناس؛ بحيث يدرك كل فرد منا أن
مواجهة هذه الحملة الشرسة واجب فردي كما أنه واجب جماعي: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ] [النساء: 84] .
سابعاً: تعرية عدونا، وبيان نقاط ضعفه؛ فهو كيان ضعيف يعيش على
صدقات وإحسان، وهو عبارة عن شيء غريب في جسد الأمة يقوم بضخ الدم إليه
قوى خارجية! ويوم أن يتوقف هذا الدعم فإن هذا الكيان سيموت.
وقد يحدث هذا إذا نجحنا حتى مع غيرنا في إيقاظ الرأي العام الغربي لخطورة
الصهيونية على اقتصاده ونظامه وبالذات أمريكا حتى لو بقيت حالة (اللاحرب)
فإنها سترهق العدو أما في حالة الحرب فهو لا يستطيع الاستمرار؛ لأنه في كيان
محدود المساحة والموارد.
ثامناً: علينا أن نذكر المبشرات التي تحفز النفوس على العطاء، مثال ذلك
قول جارودي: (أوروبا الآن في مرحلة مخاض تحمل جنيناً في بطنها، وليس هذا
الجنين سوى الإسلام) لأنها تتطلع لحل مشاكلها بعد أن عجزت جميع النظريات عن
حل مشاكل الإنسان، وهذا يعطينا ثقة في ديننا وفي أمتنا؛ فنحن أمة ممتدة جغرافياً.. ممتدة عبر التاريخ ... لها عمق استراتيجي ولديها إمكانات محلية ثروات..
موارد مائية.. لدينا قبل ذلك كله عقيدة؛ لهذا فلدينا كل مقومات الحضارة وإمكانات
الاستمرارية والبقاء، وتنمية الحياة الإنسانية، وإقامة الأمن.
أما هم: فليس عندهم شيء من ذلك! كل شيء في مصلحتنا بإذن الله لو
أعدنا حساباتنا.
أما بدون ذلك.. فنرى العدو يستعجل المواجهة بعد أن خدر الوعي، ويخشى
من عودة الوعي مرة أخرى؛ فماذا نرى؟
نريد أن نضع أقدامنا على الطريق. واجبنا، إذ لا نملك غيرها، وليتهم
يتركونها لنا؛ لأن الكلمة التي تُسمع (كشجرة طيبة) .
لذلك نقول: أطلقوا حرية الدعوة إلى الله تربية الأمة وتعليمها؛ لتعرف هي:
مَنْ عدوّها مِنْ صديقها.
ناور أنت ما شئت عبر المفاوضات، لكن أطلق حرية العمل للأمة لتجهز
نفسها لتخطط من الآن لاستقلالها اقتصادياً وعسكرياً دون الاعتماد على أعدائها.
وأعود لأقول: القضية تحتاج لتحرير إرادة الأمة وقرارها.
وكلامنا لا معنى له إن لم تكن ثَمّ إرادةٌ، والإرادة لا تتحرر إلا بالعقيدة؛
وأعتقد أنه إن لم يحدث هذا وتخطو الأمة على الطريق فربما يكون الأمر مزيداً من
الضربات، وربما تطبق تجارب مثل البوسنة والهرسك والشيشان في كثير من بلاد
العرب، والعدو ما زال يحلم بخيبر والمدينة ولبنان والشمال الإفريقي.
د. البري: أحب أن أضيف أنه ربما تأتي الانفراجة من صواريخ نيتن ياهو
التي توقظ الجميع ليزيلوا جميع المعوقات التي تحول دون أداء الصحوة لدورها.
وعلينا أن نقرأ الحقائق القرآنية عن التركيب النفسي لليهود ليبين لنا قدر
عدونا ونعلم كثيراً من أسراره الحربية والنفسية مثل قوله: [لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إلاَّ
فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَاًسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]
[الحشر: 14] .
لذلك نجد تصديقاً للآية عُرُقاً متعددة تتناطح داخل إسرائيل.
كما ينبغي ألا ينطلي علينا العداء المصطنع بين إيران والغرب؛ وهذا يعكس
دوراً مهماً للعلماء والصحوة هو: فضح الباطل وتعرية أهله وكشف مؤامراتهم.
وفي الختام نرجو أن نكون قدمنا تحليلاً ذا عمق لقضية الأمة الكبرى الصراع
العربي الإسرائيلي بعيداً عن السطحية وعن المنطلقات غير الشرعية.(119/48)
المسلمون والعالم
مؤتمر الشبيبة في باريس:
أحلام يوحنا بولس.. هل تتحقق؟
بقلم: أبو إسلام أحمد عبد الله
ينتشر بين الباحثين المسلمين، معرفتهم بعدد من المؤتمرات الكنسية العالمية
مثل مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897م على الرغم من اشتهاره بأنه مؤتمر يهودي
بحت، ثم مؤتمر القدس عام 1906م، ثم مؤتمر الصعيد بالقاهرة عام 1911م،
وهكذا حتى نصل إلى مؤتمر لوزان عام 1974م، ثم مؤتمر كلورادو عام 1978م، ثم مؤتمر إيطاليا الحاشد عام 1984م، ثم مؤتمر مسيحيي الشرق في باريس عام
1985م، ثم مؤتمر قبرص عام 1994م.
والمغالطة في هذا الحصر، أنه أولاً: يعطي انطباعاً بأن هذه المؤتمرات شبه
دورية، تعقد كل عدة سنوات، وهي فقط التي عقدت، ثم إنه ثانياً: يخلط الأوراق
التي لا يصح خلطها بشأن المذهبيات والملل الكنسية التي تعقد هذه المؤتمرات،
وثالثاً: لا يميز بين الأنماط العقدية والفكرية والسياسية لكل سلسلة من سلاسل هذه
المؤتمرات.
ذلك أن الكنيسة الكاثوليكية التي يتزعمها بابا روما، لها أعيادها ومنظماتها
وإرسالياتها وسفاراتها التي تنتشر في كل بلاد الدنيا، ومنها البلاد الإسلامية، ولهذه
الكنيسة مؤتمراتها الخاصة والمتنوعة على مدار أيام السنة الشمسية على خمسة
مستويات تشترك فيها كل الكنائس في العالم، الأول: هو المستوى الداخلي لكل
كنيسة مفردة، ثم المستوى المحلي بين كنائس المدينة، ثم المستوى الوطني، ثم
المستوى الإقليمي، أما الخامس فعلى مستوى العالم.
وللكنيسة الإنجيلية التي تعرف بالإصلاحية أو البروتستانتية، ما لا يمكن
حصره من الأعياد والمناسبات والمنظمات والإرساليات والمؤتمرات التي تفوق
عشرات المرات ما تعقده الكنيسة الكاثوليكية في روما، التي تبدو كأنها المهيمنة
على مقاليد الأمور الكنسية في العالم.
ويرجع هذا التوسع الإنجيلي إلى المرض العضال في جسد هذه الملة، وهو
ما يهددها من الداخل كسرطان لا شفاء منه، وتؤكد أدبيات كثيرة أنها بسببه أقرب
الملل النصرانية إلى الانهيار، برغم التوسع الظاهري الذي فاق حدود إمكانات
التوسع الكاثوليكي.
ذلك المرض هو: التفتت غير المحدود داخل هذه الملة، والانشطار اليومي
إلى مذهبيات وكنائس وفرق وجماعات ومنظمات، عجزت مراكز أبحاث الكنيسة
الإنجيلية في ألمانيا وأمريكا عن حصرها أو إيقاف المد الانشطاري الأفقي لها، أما
الكنيسة الأرثوذكسية (القبطية) التي تمارس نشاطها من مركزها الرئيس في
الكاتدرائية المرقصية الذي أنشأه لهم عبد الناصر بقلب القاهرة على مساحة 6000
متر مربع، والذي يعتبر الآن مقراً مؤقتاً بعد أن وضع الأنبا شنودة رئيس الكنيسة
حجر الأساس للمبنى الجديد للكاتدرائية المرقصية في العام الماضي (1996م)
بالإسكندرية على مساحة 40 فداناً، لاستعادة الوضع التاريخي لكنيسة الإسكندرية
التي تمردت على الكنيسة الرومانية، واستقلت عنها منذ خمسة عشر قرناً.
هذه الكنيسة، التي استطاعت خلال ربع قرن من الزمان يبدأ مع اتفاقية
السلام بين السادات واليهود تحت مظلة الهيمنة الأمريكية أن تنشئ أكثر من مئة
وخمسين كنيسة أرثوذكسية على مستوى العالم بالتنسيق مع من يُعرفون بأقباط
المهجر الذين يتبعون في طقوسهم ونظمهم وانتمائهم الروحي للكنيسة المصرية،
وتعقد المؤتمرات العالمية والإقليمية والمحلية، وتنشئ في أنحاء مصر الكليات
والمعاهد والمدارس اللاهوتية المتخصصة، وتقيم المستشفيات الضخمة والمكتبات،
وتجدد أديرتها وتعيد بناء أسوار كنائسها، وتوسع منشآتها في صمت وأدب كحمل
وديع، استطاع بذكاء ومهارة أن يحصد ما وسعه حصاده، ولا تكف عيونه عن
ذرف الدموع حارة تؤجج مشاعر الجهلاء بتكرارها الدائم قصة القهر والظلم الذي
يعيشونه في هذه السنوات العجاف.
وبالعودة إلى النشاط الكاثوليكي، يمكننا أن نرصد عدداً من أهم المنظمات
وأخطرها، التي تعقد كل واحدة منها مؤتمراً سنوياً على مستوى العالم، على ضوء
التوصيات والقرارات والخطط والمقترحات التي انتهت إليها الجمعيات والمنظمات
والمؤتمرات والإرساليات الإقليمية والمحلية.
من هذه المنظمات: إيمانويل أسد يهوذا، آي. تي. دي ربع العالم
الكاريزماتية الكاثوليكية (تمييزاً لها عن مثيلتها البروتستانتية) وتملك واحدة من
أضخم مؤسسات الطباعة والنشر في روما: القربان والتحرر البؤر الصغيرة الشبيبة
التي هي موضوع زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة إلى فرنسا، العمل الكاثوليكي جماعة
أمبير التي تملك ثلاثة عشر داراً للنشر المتخصص في مجال الرسوم المتحركة
للأطفال، عمل الرب التي منحها بابا الفاتيكان ميزة لم تمنح لمنظمة سواها وهي
الاستقلال التام والسيادة الذاتية المطلقة بعيداً عن أي سلطة كنسية غير سلطته
المباشرة، وكرمت في مايو عام 1992م فمنح مؤسسها المدعو الأب بالاجير صفة
القداسة، وتضم أكثر من مائة ألف عضو، ويلقبها الإعلام الإيطالي بلقب
(الماسونية الكاثوليكية) لشدة خطورتها وتوغلها الخفي بالشؤون الدولية ثم أخيراً
وبمناسبة الاحتفال المرتقب لبابا الفاتيكان باستقبال الألفية الثالثة، وعزمه على أن
يقوم بجولة رعوية دعوية يتمثل فيها خطى إبراهيم وموسى وعيسى المسيح عليهم
الصلاة والسلام بدءاً من العراق ثم دمشق التي شهدت على حد قول يوحنا معمودية
بولس ثم الناصرة ثم صور وصيدا وجبل سيناء.
وقد أنشأ الفاتيكان أحدث وأخطر منظمة كنسية دولية، تمارس دعوتها من
خلاله قمر صناعي، إذ أطلق تحت رعاية الفاتيكان وبأمواله ولخدمته الخاصة باسم
(لومن 2000) أي: (نور سنة 2000) الذي تتلخص مهمته في أن يمطر الإنجيل
حسب تعبير المتحدث الرسمي للفاتيكان على الكون بأسره، عبر الأثير، وعبر
الطائرات والسفن والباصات والمجامع الثقافية والمراكز والمؤسسات والهيئات
والكنائس والوزارات، وبكافة اللغات في كل قارات العالم، وفي توقيت واحد،
بالتنسيق مع عمدة وأجهزة مدينة دالاس الأمريكية التي رشحها الرئيس الأمريكي
لهذه المهمة.
وهكذا في إيقاع محموم، يلهث التعصب الكنسي بكل الوسائل والتقنيات
الحديثة وفي كل المجالات العلمية والعملية، على خط متوازٍ يعضده ويمهد أمامه
الصعاب متمثلاً في زيارات بابا الفاتيكان، لتحقيق الحلم الجهنمي الذي يسعى نحوه
وهو (العالم كنيسة واحدة) وهو ما صاغه كتاب (C. colonna Cesari: La
Ge opolique Vaticane, La De couverte Paris 1992) بقوله
(ص: 49) : (توحيد العقيدة الكونية تحت لواء الكاثوليكية المقدسة) وهو ما
ذهب إليه أيضاً كتاب (Catechisme De L' Eglise Catholique Mame Plon, Paris, 1992)
حيث جاء في (ص: 185) (إن هدف الخلاص يتضمن، أيضاً من يعترفون
بالخالق، وأولهم المسلمون الذين يؤمنون بإبراهيم ويعبدون معنا الله الواحد، الرحيم، حاكم الناس في اليوم الآخر) .
وقد أشار الكتاب الأخير بوضوح شديد: (لقد أعيدت صياغة النص المسلمون
الذين يؤمنون بإبراهيم حتى لا يتخذ تمهيداً لإقرار النسب التاريخي للعرب أنهم من
نسل إبراهيم (ص 200) وحتى لا يفهم منها أن الله قد تحدث أيضاً إلى محمد
(ص 218) ، فالنص النهائي لا يكشف عن أن إبراهيم جد نَسَبِي للعرب المسلمين، ولكن كنمط للإيمان الإسلامي، بخضوعه لإرادة الله (ص 211) .
تلك المقدمة، أحسب أنها كانت من الأهمية بمكان قبل أن نلقي الضوء حول
زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة إلى باريس، بعد زيارته إلى بيروت التي استمرت في
إطار ما سمي بيوم الشبيبة العالمي الثاني عشر.
فقبل وصول بابا الفاتيكان إلى فرنسا في زيارته السادسة إليها، صباح يوم
الخميس 21 أغسطس 1997م، في طائرته الخاصة قادماً من روما إلى مطار
باريس، كان هناك 300 ألف شاب وفتاة من كل أجناس العالم يأكلون ويشربون
وينامون ويلهون سوياً، في انتظار وصول يوحنا، بعد ثلاثة أيام من بدء الافتتاح
للمؤتمر العالمي الثاني عشر ليوم الشبيبة؛ حيث أقاموا أقواس النصر، ورفعوا
رايات الصليب ترفرف على جانبي الطريق، وامتلأت الشوارع بلافتات الترحيب، وازدانت الفنادق والمسارح ودور اللهو، ودقت أجراس الكنائس لمدة عشر دقائق
متوالية، ورفعت السلطات الفرنسية في أنحاء العاصمة باريس درجة الطوارئ،
وتزاحمت مئات الكاميرات التليفزيونية، تلاحق الحدث لحظة بلحظة، والقمر
الصناعي (لومن 2000) ينقل خطواته مباشرة إلى 17 دولة على مستوى العالم،
وخصصت شبكات التليفزيون الفرنسية أكثر من 20 ساعة إرسال مباشر لمتابعة
زيارته.
وفي مطار أورلي كان في استقباله الرئيس جاك شيراك، وزوجته برناديت
التي اقتضى البروتوكول الفاتيكاني أن تغطي رأسها بمنديل أسود، ضاربة عرض
الحائط بالدستور العلماني لفرنسا، كما وقف عشرات الممثلين للأجهزة الرسمية
والشعبية والتنفيذية والكنسية في استقبال يوحنا الثاني، لكن كاميرات التليفزيون
الفرنسي سلطت الضوء كثيراً على جوزيف فريزنسكي رئيس منظمة التضامن
الكاثوليكية التي تعرف بـ (أي: تي دي ربع العالم) .
ومن مطار أورلي استقل يوحنا بولس ومرافقوه من كبار البطاركة وممثلي
المؤتمرات والبرامج الكاثوليكية العالمية طائرة هليوكبتر إلى استراحة خاصة في
قلب العاصمة باريس، قرب ساحة حقوق الإنسان أمام برج إيفل.
وبرغم الإجهاد الشديد الذي كان واضحاً على وجهه وفي خطواته، استقل
سيارته ذات المنصة الزجاجية المصفحة التي تم شحنها من روما إلى باريس،
لينتقل بها إلى قصر الإليزيه، حيث كان في استقباله ثانية، الرئيس جاك شيراك
وزوجته برناديت ولكن بدون منديل أسود هذه المرة، حيث تخضع في هذه إلى
البروتوكول الفرنسي العلماني.
وفي كلمة شيراك أمام الضيوف، أشار إلى زيارة يوحنا بولس إلى لبنان،
ووصفها بأنها أسهمت في هدم الحائط، دون أن يفصح عن المقصود بالحائط،
وكان يوحنا قد استخدم المصطلح نفسه في خطابه الرسمي بلبنان حيث خاطب
الشبيبة هناك قائلاً: (يعود إليكم أن تهدموا الحواجز التي أمكنها أن ترتفع في أثناء
حقبات تاريخ وطنكم الأليمة) ، ثم أردف شيراك قائلاً بأن زيارة يوحنا بولس الثاني
لفرنسا تحمل في العديد من محطاتها رسائل مهمة!
أما الحائط الذي هدمه يوحنا، وأشار إليه شيراك؛ فهو ذلك الاتفاق الذي عقده
يوحنا الثاني مع قيادات الكنيسة المارونية لتوحيد صفوفهم وتعديل موقفهم تجاه
الوجود الصهيوني في الجنوب اللبناني، وترك القوى الإسلامية وحدها أمام مدافع
وقنابل الاحتلال الصهيوني.
وبهدم يوحنا الثاني لهذا الحائط، فقد عقد صفقتين في مقامرة واحدة: الأولى:
هي التأكيد للسلطة اللبنانية بالحماية الكاملة من أي هجوم عسكري صهيوني ضد
الحكومة القائمة، مقابل وعد من الحكومة اللبنانية بأداء المهام التي سوف تلقى على
عاتقها عند زيارته التي سوف يتمثل فيها خطى المسيح في العام 2000 بمدينتي
صور وصيدا، والثانية: هي الاستجابة لقائمة الطلبات التي تقدم بها نتن ياهو
رئيس وزراء الكيان الصهيوني لبابا الفاتيكان أثناء زيارة الأول للثاني في مقر
البابوية بروما قبل شهرين، بتهدئة النشاط الكنسي الكاثوليكي والماروني ضد
القوات الصهيونية في جنوب لبنان، وذلك مقابل وعد من حكومة الكيان الصهيوني
بأداء المهام وتأمين الزيارة التي يعزم القيام بها في العام 2000 لعدد من القرى
والمدن الفلسطينية التي أقام فيها المسيح عليه السلام أو مر عليها.
وبالمناسبة وحول هذه الرحلة المزعومة عام 2000 التي سوف تقتضي
زيارته إلى صعيد مصر عبر جبل سيناء، فقد اكتفى يوحنا الثاني برسالة تقدمت بها
سفارته في القاهرة إلى وزارة الخارجية المصرية منذ عدة شهور ولم يتلق إجابة
عليها حتى الآن.
أما المحطات التي حملت رسائل مهمة في زيارة يوحنا لباريس حسب تعبير
شيراك فكانت أولها قيام يوحنا بزيارة كاتدرائية إيفري بجنوب فرنسا التي تعد
الكاتدرائية الوحيدة، التي بنيت في فرنسا في القرن العشرين حيث قبر صديقه
الراحل الدكتور جيروم لوجون الذي كان من أنشط الداعين إلى مكافحة الإجهاض
ورفض قانون 1975 الذي يسمح بالإجهاض، وهو ما يمكن اعتباره تحدياً للدستور
العلماني للحكومة الفرنسية وتدخلاً في الشؤون الداخلية لفرنسا.
أما المحطة الثانية: فكانت زيارته إلى كنيسة نوتردام فردريك أوزانام المفكر
العلماني الذي رفع لواء المواجهة في القرن الماضي، ضد النظم الرأسمالية التي
برزت حينذاك، وقد حاول يوحنا الثاني بهذه الزيارة، أن يؤكد مساندته ودعمه لحل
مشكلات الشباب التي سببتها أدوات الفكر الرأسمالي للشباب، حتى أغرقته البطالة
والجريمة والمخدرات والجنس المدمر.
وفي ساحة برج إيفل، وقف يوحنا بولس الثاني: أسفل البرج ليخطب في
شبيبة الكنيسة الكاثوليكية، بحضور عدد من الوفود الرسمية التي تمثل مئات
المذاهب الكنسية الأرثوذكسية والإنجيلية في العالم مطالباً شباب العالم الكاثوليكي
بحمل مشاعل الريادة، وأن يتعاونوا حتى تعم رسالة المسيح أنحاء المعمورة.
وفي يوم السبت، التقى يوحنا الثاني بممثلي الوفود العالمية من الشباب،
حيث قام بتعميد عشرة منهم، وكما خطب في شبيبة لبنان باللغة الفرنسية، فعل ذلك
في فرنسا، خاطباً ود قادة السياسة والفكر في الحزب الجمهوري الحاكم الذي يؤكد
على القومية الفرنسية كأحد العناصر الأساس لعلمانية الدولة.
ولا شك أن يوحنا كان يضع في اعتباره جيداً، التأكيد الرسمي لفرنسا على
غياب الوجود الديني الكاثوليكي، وهو ما يصيب العقل الفاتيكاني بصداع مزمن؛
لأنه يقف حجر عثرة أمام محاولات يوحنا لبيان كونية وعالمية الدعوة الكاثوليكية
واستقلاليتها، ولا تحسب أنه يمكن أن ينسى للحكومة السابقة الاحتفالية الفرنسية
بالمائة الثانية لسقوط السلطان الكنسي من فوق أرض فرنسا إلى غير رجعة، وهو
ما أشار إليه بدقة الكاتب الفرنسي الشهير جاك فريمو، في ص 286 من كتابه:
(فرنسا والإسلام من نابليون إلى ميتران) الذي أصدرته مترجماً دار قرطبة بقبرص
عام 1991م.
وفي يوم الأحد، كان القداس الختامي لأيام الشبيبة العالمية؛ حيث وقف في
ميدان لسباق الخيل، تحوّل بهذه المناسبة إلى كنيسة في الهواء الطلق، أعلن من
فوق منصتها دعوته إلى أن يكون العام 2000 هو عام التوحد الكوني في المسيح،
وأن يكون آخر يوم في القرن العشرين، هو يوم الرجاء ويوم الخلاص الذي يحلم
به كل نصارى العالم حسب تعبير يوحنا لكن على الطريقة الفاتيكانية، حيث يكون
قد بلغ هو من العمر ثمانين إذا قدر الله له البقاء ولم يمت خلال الشهور القليلة
القادمة، حيث يعاني من مرض السرطان وأجريت له عملية لاستئصاله في العام
الماضي لم تحقق النجاح الذي كان مرجواً لها.(119/62)
المسلمون والعالم
تقرير الحالة الدينية في مصر
(عرض وتحليل)
(1من3)
بقلم: أيمن محمد سلامة
(مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية) الذي أنشئ في العهد الناصري
ملحقاً بمؤسسة الأهرام الصحفية بالقاهرة من أقدم المراكز التي تعنى بهذه الدراسات
المتخصصة في منطقتنا العربية، كما تزداد أهميته من كونه يعرّف نفسه دائماً على
اعتبار أنه يقدم خدماته (للباحث المتخصص والقارئ المهتم والمؤسسات البحثية
والصحفية والسفارات العربية والأجنبية) (بهدف تنوير الرأي العام المصري
والعربي بتلك القضايا، وأيضاً بهدف ترشيد الخطاب السياسي وعملية صنع القرار
في مصر) ، وكثير من دراساته وتقاريره المتنوعة تتوجه أساساً (إلى صانعي القرار
والدوائر المتخصصة والنخبة ذات الاهتمام) .
وقد خرج علينا هذا المركز منذ عدة أشهر بتقرير مثير للجدل، كرّس له أكثر
من ثلاثين باحثاً، بين مستشار، وباحث رئيس، وباحث، وباحث مساعد، فأعدوا
فيما يقارب الأربعمئة صفحة من القطع الكبير بحثاً شاملاً عن (الحالة الدينية في
مصر) ، وهذا الجهد الضخم يعبر عن مدى المكانة والأهمية التي تحتلها الحالة
الدينية في عقل أصحاب قرار الدراسة والمخاطبين بهذا العمل.
يقع التقرير في 389 صفحة، وبعد افتتاحية كتبها مدير المركز جاء التقديم
الذي كتبه رئيس تحرير التقرير الأستاذ نبيل عبد الفتاح، بعنوان: (تقرير عن
الحالة الدينية المصرية.. لماذا؟) في اثنتي عشرة صفحة، ثم تتابعت أقسام
التقرير، فكان القسم الأول عن المؤسسات الدينية الرسمية، وتناولت الدراسة فيه:
الأزهر (32صفحة) ، ووزارة الأوقاف (14ص) ، ودار الإفتاء (8ص) ، ثم
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية (24ص) ، والكنيسة الكاثوليكية في مصر (16ص)
والكنيسة الإنجيلية في مصر (12ص) ، وأخيراً: دراسة خاصة عن نظام الرهبنة
والتكريس والتفرغ في الكنائس (26ص) .
أما القسم الثاني فكان عن الحركات الدينية غير الرسمية، فكان مما درس فيه: الإخوان المسلمون (18ص) ، والجماعات الإسلامية الراديكالية (المتشددة)
(28 ص) ، وإسلاميو الخارج (6ص) ، وأقباط المهجر (12ص) . وتحدث القسم الثالث عن العمل الأهلي والطوعي، فتناول الجمعيات الأهلية الإسلامية (14ص) ، ثم الجمعيات الأهلية المسيحية (26ص) ، ثم الحركة الصوفية (14ص) .
وتحت عنوان (العلاقات والتفاعلات) جاء القسم الرابع ليتناول موضوعات:
التيار الإسلامي في انتخابات 1995م (16ص) ، والأقباط وانتخابات 1995
(26 ص) ، ثم: الخطاب الديني المؤسسي في مصر.. الآليات والتوجهات
(26 ص) ، وأخيراً: الصحافة الدينية في عام 1995م: المجلات الإسلامية
(4ص) ، المجلات المسيحية (6ص) ..
ثم اختتم التقرير بـ (قاموس الحالة الدينية) : القاموس الإسلامي (5ص) ،
والقاموس المسيحي (9ص) .
وقد أحدث التقرير ردود فعل واسعة في الأوساط الثقافية المهتمة بهذا المجال،
وعلق عليه أكثر من كاتب، وكان من أبرز التعليقات في حدود ما اطلعت عليه: ما
كتبه الأستاذ فهمي هويدي، والدكتور حسن حنفي.
وقبل أن نخوض في عرض بعض النقاط التي ينبغي التوقف عندها نود
الإشارة إلى أن هذا المقال وما فيه من نقد لا يعني نقض التقرير ولا إهدار الجهود
التي قام بها فريق البحث؛ فما قاموا به خطوة رائدة من حيث نوعيتها، كنا نتمنى
لو قامت بها جهة إسلامية يوثق في مصداقيتها وقدرتها، وما نعرضه إنما يهدف إلى
التنبيه على النقص والخلل الذي نرى أنه شاب التقرير؛ عسى أن يُتدارك ذلك في
الأعداد القادمة، حيث يعتزم القائمون عليه إصداره سنويّاً.
كما نشير أيضاً إلى أننا لن نناقش بعض الآراء والأفكار التي وردت في
التقرير حكاية عن بعض الشخصيات أو المذاهب، والتي نعتقد بخطئها؛ وذلك لأن
هذه المناقشة غير مقصودة في هذا المقال الذي ينصبّ على مناقشة التقرير ذاته
ومنهجه في البحث من خلال تناول القائمين به، إضافة إلى بعض الملحوظات على
الحالة الدينية كما تظهر من خلال التقرير.
مصداقية وعلامات استفهام! !
يحرص المركز صاحب التقرير على التأكيد في كل إصدار من إصداراته
على أنه مركز (علمي مستقل) ، بمعنى أنه لا يخضع لتأثير أي جهة؛ أو ضغوطها، أي إن حياده فوق مستوى الشبهات! ولا يشهد إلا بما علم (مركز علمي!) ..
وإذا كنا نستطيع مغالبة أنفسنا وتمرير أن المركز مستقل مالياً وإدارياً عن
الحكومة، فلا نستطيع تصديق أنه مستقل عنها فكريّاً، فلا نظن أن القائمين على
المركز ينفون عنه توجهه العلماني أو محاولته توجيه سياساتها من خلال دراسته،
فهو من هذه الناحية يعتبر طرفاً غير محايد تجاه التيار الإسلامي الذي نظن أن
التقرير يهدف إلى الإحاطة به، فبدهي أن هذا التيار إذا عارض تلك الحكومة فإنه
لا يعارضها لكونها مجرد تنظيم حكومي؛ بل لكونها تحمل فكرة ومنهجاً يعتقد أنها
تخالف الإسلام (أي: العلمانية) ، وهو ما يحمله أيضاً المركز صاحب التقرير..
أضف إلى ذلك: فإن المركز عرفاناً بهامش حرية التعبير الذي وفره له العهد الحالي
أضفى على الموضوعية رداء الخجل عندما تناول موضوعات لها صلة بهذا العهد،
حيث تبنى وجهة النظر الحكومية تجاه التيار الإسلامي في جل أجزاء التقرير، عدا
الجزء الخاص بالعلاقات والتفاعلات عند الحديث عن التيار الإسلامي في انتخابات
1995م، الذي نظن أنه جاء موضوعيّاً.
وفي هذا الإطار: فالمركز لم يحاول عرض وجهة نظر هذا التيار حسب
المنتمين إليه رغم عرضه لوجهة النظر بل والمطالب الكنسية كاملة كما سيتضح
لاحقاً، حيث كان ضمن فريق البحث أقباط مخلصون لكنيستهم، بل منهم قساوسة
وأعضاء على قائمة البطريرك الأرثوذكسي، ولا نستبعد أن تكون بعض أجزاء
التقرير خرجت من الكنيسة نفسها، وبقول آخر: فإن الذين أعدوا الأجزاء الخاصة
بالحالة الإسلامية كانوا علمانيين متعصبين لعلمانيتهم، رأوا أنه من الحياد والشجاعة
الأدبية عدم الميل إلى مشخصات هذه الحالة فجاروا عليها، أما الذين أعدوا الأجزاء
الخاصة بالأقباط فهم من أبناء الكنيسة المخلصين الذين أحسنوا عرض وجهة نظرهم
ومطالبهم من خلال التقرير!
وباختصار: فإن المركز حاول أن يمارس الحياد، ولكنه جاء كحياد الخصم
في حدود المتاح من حرية التعبير، فإذا أضفنا إلى ذلك ضلوع مؤسسة أجنبية في
تمويل التقرير هي مؤسسة (كونراد أديناور) الألمانية التي يثني مدير مركز
الدراسات عليها وعلى مدير مكتبها بالقاهرة، ويصف تمويلها للتقرير بأنه (دون
تدخل في أي مرحلة من مراحله!) [1] فإن التساؤلات تثور حول حقيقة الأهداف
التي يصب في خدمتها التقرير وحول الطريقة التي قدمت بها المعلومات الواردة في
التقرير.. ولعلنا نلتمس في التقرير ذاته إجابات لتلك التساؤلات:
يقول مدير المركز الدكتور عبد المنعم سعيد في الافتتاحية: (ومن هنا يأتي
التقرير كجزء لا يتجزأ من جهد عالمي تقوم به الجماعة العالمية للعلوم السياسية لفهم
ودراسة الظاهرة الدينية في أبعادها المختلفة، ومن ناحية أخرى: فإنه يأتي استجابة
لظروف إقليمية ومحلية تراكمت خلال السنوات الماضية، لم تأخذ فقط شكل تنامي
الأصوليات الإسلامية والمسيحية واليهودية في منطقة الشرق الأوسط، وإنما وربما
كان ذلك لا يقل أهمية لتزايد دور المؤسسات الدينية التقليدية والمجتمع المدني
المستند إلى الدين [الجمعيات الأهلية الدينية] في تقرير أمور كثيرة في الحياة العامة)
(ص 9) .
ويقول رئيس تحرير التقرير الأستاذ نبيل عبد الفتاح في المقدمة: (إذن لم تعد
الحالة الإسلامية الرسمية واللارسمية محض حالة أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية أو
ثقافية، وإنما هي حالة عامة ونفسية، ومن ثم: لم تدرس هذه الحالة إلا من
المنظور السياسي الذي يتعامل مع أبعادها السياسية والأمنية وظواهر العنف
المصاحب لها ... أي إن الحالة الدينية المصرية لا تزال مجهولاً على مستوى
المعرفة، وعلى مستوى الوعي العام بها..) (ص 12، 13) ، ويقول أيضاً: (إن
عملنا يستهدف بناء اندماج قومي مصري رصين، نتجاوز به ومعه مشكلات
وظواهر نراها عارضة) (؟ !) (ص22) .
ويسوّغ التقرير أسباب الاهتمام بدراسة الجماعات الإسلامية ورصدها على النحو التالي:
1- إننا إزاء نمط متميز من الجماعات السياسية التي ترتكز على قاعدة
اجتماعية، وتتسم هذه الركيزة الاجتماعية بالسيولة، ومع غياب دراسات
سوسيولوجية معمقة لهذا الأساس الاجتماعي، وخصائصه، وسماته، ومناطق
تركزه جغرافياً، ومحلياً داخل البلاد، ومن ناحية أخرى: تتسم القاعدة الاجتماعية
لهذه الجماعات بالتغير، وعدم الثبات، سواء في موجاتها المختلفة، أو في أجيالها
العديدة.
2- إن الخصائص العمرية والاجتماعية والمهنية لهذه الجماعات على اختلافها
لا زالت أمراً مسكوتاً عنه في الدرس الأكاديمي المصري المعاصر.
3- الفوارق بين الأنظمة الفكرية، والمعيارية والتنظيمية وأنماط التنشئة
والتجنيد السياسي لها، لا زالت أمراً مجهولاً، نظراً لغياب بنية معلوماتية عن
البناء التنظيمي والحركي لهذه الجماعات) (ص161) .
ويقول التقرير أيضاً: (وربما يكون التركيز على أهمية المرجعية الدينية في
التفسير والتحليل مقصوداً منه لفت الانتباه إلى أهميتها [اي: المرجعية] ، وعدم
قصر الرؤية على بعد واحد دون غيره، وإيلاء أهمية خاصة لهذه المرجعية في أي
تناول أو حوار مع تلك الجماعات) (ص 188) .
فهل جاء التقرير ليسد الفراغ في هذه الدراسات الذي نشأ نتيجة الانشغال
بالمنظور السياسي والأمني؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإلى من يقدم هذا التقرير؟ ! · شاهد أم طرف؟ !
فإذا انتقلنا إلى استطلاع موقف التقرير من التيار الإسلامي نجد أنه اختار أن
يكون طرفاً مقابل هذا التيار، وليس مجرد واصف أمين أو محلل دقيق له، فهو في
مواجهة هذا التيار يتبنى مواقف فكرية، ويشيد بإجراءات وأساليب حكومية:
* فهو يبتر تاريخ هذا التيار عندما يقرر تحديد انتقال (الحالة الدينية من
محض استلهامات خلقية ومعيارية وسلوكية للمجال الخاص إلى المجال العام
السياسي والثقافي) بعام 1974م (ص11) ، يريد بذلك ربط هذا التحول كما يراه
بأول محاولة انقلاب منسوبة لهذا التيار فيما يسمى بحادثة الفنية العسكرية عام
1974م (ص 183) ، وهو بذلك يهدر كفاح هذا التيار بل منهج هذه الأمة قبل هذا
التاريخ، وفي الوقت نفسه: يربطه باستدعاء خلفيات العنف الذي سيصبح هذا
التيار مسؤولاً عنه فيما بعد، فهي محاولة لتشويه المرجعية التاريخية لهذا التيار.
* وهو يكرر ذكر الأسباب نفسها التي طالما لاكها خصوم هذا التيار حول
نشأته، فيراها في (تفسير هزيمة 1967م ببعد المجتمع عن الدين، وتشجيع سلطة
السبعينيات الفكر والحركة الإسلامية في مواجهة تيارات سياسية أخرى [يسارية
وناصرية وماركسية] ، والأزمات الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع المصري منذ
هزيمة سنة 1967م، وفشل الاتجاهات الاشتراكية والليبرالية في معالجة المشاكل
الاقتصادية) (ص 187) .. إلى آخر تلك الأسباب التي تهدف إلى سحب الشرعية
الإيمانية من هذا التيار؛ ليقف على الأرضية نفسها التي ينطلق منها خصومه،
أرضية الدوافع والمصالح المادية والذاتية.. وهي الأسباب التي سبق أن ناقشها
كاتب آخر على صفحات (البيان) [2] عند تناول طرح مماثل عن أسباب نشوء
ظاهرة التوجه الإسلامي في مصر للأستاذ/ السيد ياسين أحد مستشاري هذا التقرير، ولكن أُضِيفَ هنا سبب أكثر يسارية، وهو ما يزعم من (تشجيع سلطة السبعينيات
الفكر والحركة الإسلامية في مواجهة تيارات سياسية أخرى) ، وتكرر الزعم نفسه
في مواضع أخرى، (كما في ص 216، 219، 236) (يمكن القول إن سياسة
الرئيس السادات في مواجهة اليسار والناصريين في السبعينيات كانت أحد الأسباب
الرئيسية في ارتفاع نسبة الجمعيات الإسلامية [الأهلية الخيرية] ) [3] .
وهذا الزعم يعوزه البرهان والدليل؛ فأصحاب هذه الدعوى لا يقدمون لنا
إيضاحاً تاريخياً لوقائع ذلك الدعم وكيفية حدوثه، فهل زوّر النظام حينها الانتخابات
لصالحهم كما يحدث دائماً مع غيرهم وآخرها انتخابات 1995م التي يذكر التقرير
أن الحكومة ذاتها اعترفت بحدوث تجاوزات فيها؟ (ص 281) ، أم أصدر القوانين
التي تحول دون سيطرة غيرهم على النقابات كما فعلوا مع أنصار التيار الإسلامي؟
(ص 299) ، أم شطب 60% من المرشحين لانتخابات الاتحادات الطلابية ليحول
دون انتخاب اليساريين كما حدث مع التيار الإسلامي؟ (ص302) ..
إن (الدعم) الذي قدمه النظام وقتها هو أنه أعطى للجميع فرصاً متساوية،
وهنا انكشف اليساريون والعلمانيون، فأطلقوا هذه الدعوى ... وكأن قمع الإسلاميين
وخنقهم وحرمانهم بات أهم الطقوس السياسية العلمانية، وغير ذلك يعتبر كرماً
ودعماً وتضامناً معهم!
والواقع يكذب هذه الدعوى، فالأستاذ فهمي هويدي يصفها بأنها: (توفر
تفسيراً مريحاً للظاهرة الإسلامية، يعطي الانطباع بأنها من صنع السلطة وليست
خارجة من عمق المجتمع وضميره وأشواقه، غير أن الدكتور كمال أبو المجد الذي
عاصر تلك الفترة بحكم موقعه كوزير للشباب يعتبر الواقعة (افتراء وشائعة مختلقة
ومكذوبة من أساسها) ، وسمعته يتحدث عن شهود أحياء يمكن الرجوع إليهم للتثبت
من حقيقة الأمر، وقد كانوا أعضاء في الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي آنذاك، وقد
عرضت عليهم قضية الشباب وحركته، ومنهم الأساتذة: محمد عثمان إسماعيل،
وأحمد عبد الآخر، وإبراهيم شكري) [4] .
بل إن من عايشوا وقائع تلك الفترة يروون أن الاتحادات الطلابية التي يتوجه
الكلام أساساً نحوها بهذه الدعوى (ص 219) كانت تسيطر عليها التيارات اليسارية
والناصرية تماماً حتى عام 1975م، وفي الفترة التالية (1975 1977م) التي
شهدت بداية نمو التيار الإسلامي في هذه الاتحادات شهدت الحركة الطلابية
الإسلامية معوقات وضعتها السلطة وصلت إلى حد الصدام، كاعتقال محيي الدين
أحمد عيسى أحد رموز هذه الحركة، والمشادة التي حدثت بين عبد المنعم
أبوالفتوح والسادات عام 1977م، ثم في عام 1978م رفضت الحكومة عقد مؤتمر اتحاد طلاب الجمهورية لانتخاب مكتب تنفيذي للاتحاد؛ لأنه كان واضحاً أن الطلاب الإسلاميين سيسيطرون على المكتب، وبعد بذلك تم إغلاق مقر الاتحاد في القاهرة بالشمع الأحمر، وتعطل فترة طويلة، ثم صدر قرار جمهوري بإلغاء لائحة اتحاد طلاب مصر الصادرة عام 1976م لتحل محلها لائحة 1979م الشهيرة التي ألغت نهائياً كيان اتحاد طلاب مصر [5] .
وقد حاول التقرير في موضع آخر (ص188) وضع مثل هذه الأسباب في
حجمها، حيث يقول في معرض إبدائه وجهة نظره في طبيعة (هذه الجماعات)
وتقييمه لها: (ويمتد تأثير الأساس الفكري الديني إلى مختلف جوانب وجود الحركة
الإسلامية، بدءاً من مصطلحاتها ورموزها وحتى تكتيكات واستراتيجيات حركتها،
الأمر الذي يميزها في نهاية الأمر من نواح عديدة عن غيرها من الحركات السياسية
والاجتماعية.
والحقيقة أن التركيز على أهمية العامل الفكري، أو المرجعية الدينية، في
تفسير ظهور ونمو وانقسام الجماعات الإسلامية المتشددة لا يعني الاستبعاد التام لأي
تفسيرات اجتماعية أو سياسية.. إلا إن ذلك لا يصل إلى حد اعتبارها مجرد ظاهرة
اجتماعية أو سياسية لا علاقة للعامل الديني بها) .
* والتقرير يحمّل الإسلاميين بمشاركة الحكومة المصرية مسؤولية إحباط
الأقباط وسلبيتهم السياسية والاجتماعية: (ويترتب على ذلك تكريس الانقسام الديني
بين المواطنين والاستبعاد السياسي للأقباط، وساعد على هذه الأنماط التفكيكية
والانقسامية: نزوع الحركة الإسلامية الأصولية الراديكالية والمعتدلة ومؤسسات
الإسلام الرسمي إلى فرض الخطاب الديني وتأويلاته الفقهية ومعاييره على الفضاء
السياسي والاجتماعي والقيمي في المجتمع..) (ص 310) ..) إذن شكّل التغير
في التركيبة الاجتماعية والثقافية والقيمية اتجاهاً عاماً نحو مزيد من المحافظة
السلوكية، وفي أنماط الزي والرموز والطقوس الاجتماعية؛ مما أدى إلى خلق
مظاهر من التميز القيمي والسلوكي بين المواطنين المصريين على اختلاف
انتماءاتهم الدينية فضلاً عن تنامي عمليات العنف ذي الوجوه الدينية والطائفية أيّاً
كانت أهدافه! ، والسطو على محلات بيع الحلي الذهبية في مناطق متعددة بالوجه
القبلي والقاهرة والجيزة، أدى ذلك إلى خلق حالة نفسية انسحابية لدى المواطنين
المصريين الأقباط من المجال العام والسياسي تحديداً تحت وطأة إحساس جمعي بأنه
لا يمثلهم، ولا يجدون فيه تعبيراً سياسياً، أو ثقافياً، أو رمزياً عنهم، وأنهم غير
مرغوب فيهم) (ص 308) .. ليس ذلك فقط، بل (شكّل تزايد مظاهر المد الإسلامي
في المجتمع المصري وتنامي نشاط ونفوذ جماعات الإسلام السياسي بمختلف تياراته
قيداً عملياً وأمنياً على حرية إنشاء جمعيات أهلية مسيحية جديدة، خاصة في
المناطق الساخنة أمنياً) (ص 253) .
فأين المفر أمام الأقباط المضطهدين أمام زحف التتار الإسلاميين؟ ! . لقد
وجدوه في (اعتصامهم بالحقل الديني القبطي، ومؤسسته وأكليروسة كل منهم في
إطار مذهبه الديني) (ص 308، 14) .
فهل عرفنا الآن سبب تعصب الأقباط والتفافهم حول كنيستهم كما يرى التقرير؟ .. إنهم الإسلاميون! ! ، بل أكثر من ذلك: فهؤلاء الإسلاميون هم سبب ترك
بعض الأقباط لمصر (فإذا كانت الدولة قد أسقطت كافة القيود التي كانت مفروضة
على الهجرة بشقيها الدائم والمؤقت.. فإن ذلك ترافق مع تزايد نفوذ الجماعات التي
رفعت شعارات دينية [اسلامية] ) (ص 216) ، وهم سبب إصابة هؤلاء المهاجرين
بالحساسية الشديدة والتأثر تجاه أقباط الداخل (وقد تزايدت معدلات الهجرة بفعل
سياسات التأميم والتعبئة السياسية قبل نكسة 1967م، ثم تصاعد المد الإسلامي بعد
النكسة.... من هنا أدت ظروف الخروج من مصر إلى جعل هذه التجمعات شديدة
الحساسية والتأثر تجاه كل ما يجري على أرض الوطن) (ص 218) .
بالطبع فإنه لا يُذكر في هذا المقام أن العهد الناصري كان عهد (التوافق
الاستراتيجي) بين الدولة والكنيسة (ص 93) ، ولا يذكر (التوافق الشخصي الحميم)
بين عبد الناصر وبابا الكنيسة (ص 93) ، ولا يذكر أيضاً أن ظواهر الإسلام
السياسي لم تبدأ في الظهور إلا عام 1974 (ص11) ، ولا تذكر الأسباب
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أدت إلى ظهور هذا التيار (ص 187) ، ولا
يذكر أن هذه الأسباب أثرت في المحيط القبطي! ، ولا يذكر أن قرارات التحفظ
التي أصدرها السادات (سبتمبر 1981م) التي اتخذت مبرراً لردود فعل الأقباط في
الداخل والخارج إلى حد مطالبة بعضهم المجتمع الدولي بفرض عقوبات على مصر.. أنها إذا كانت طالت 49 شخصاً من رجال الكنيسة ومجموعة من الأقباط
(ص 219) فإنها طالت الآلاف من العلماء ورموز الحركة الإسلامية وشبابها.. لا يذكر كل ذلك وتُذكر فقط الصحوة الإسلامية، أصل كل شر على العلمانيين
وحلفائهم! ! .
* والتقرير لا يدع فرصة ولو مفتعلة لإظهار نصرته لأهل قرابته في التوجه
إلا ويقتنصها:
فهو يمتدح الدولة الفاطمية بأنها لم تلجأ إلى نشر مذهبها الباطني قسراً رغم
ذكره أن تعصبها وصل إلى حد الحجر على حريات الأفراد، في حين ينعى على
الدولة الأيوبية التي (كانت سنية المذهب وأوغلت إيغالاً بعيداً في لدد الخصومة
للمذهب الشيعي، وكان في مقدمة برنامجها الداخلي القضاء على هذا المذهب
واستئصال شعائره ومعالمه ومحاربة معاقله) (ص 27) .
فهل يريد إفهامنا أن أمثال هؤلاء (السنية) إذا وصلوا إلى السلطة فلن يبقوا
على أي مخالف لهم؟ !
ويمتدح اختيار شيخ الأزهر منذ عهد محمد علي باشا وخصوصاً بعد (ثورة
يوليو) ، معتبراً أنه (أصبح من يتولى المشيخة يوزن بميزان علمي دقيق وتتوافر
فيه مواصفات وخبرة وتخصص ومستوى رفيع) ، وسبب هذا المدح أوضحه سابقاً
في الصفحة نفسها (ولما جاءت الحملة الفرنسية حركت الركود في الأزهر،
وتمخض الاحتكاك العلمي أثناء الحملة على إدخال علوم مدنية! ، ودعم هذا الأمر
سفر علماء الأزهر بعد ذلك إلى الخارج) (ص 44) ، فهو امتداح لتأثير الحملة
الفرنسية والبعثات الأوروبية، وهو ما أشار إليه في مواضع أخرى من الإشادة
بالشيوخ (المطربشين) والإشارة إلى الصراع بينهم وبين (المعممين)
(ص 43، 44، 54) .
ونظرته إلى المشايخ السابقين على تلك الفترة نظرة أحادية؛ فما أخذه عليهم
من أن الاختيار كان أحياناً تؤثر فيه عوامل القرابة.. يهمل ظاهرة العائلات العلمية
التي كانت وما تزال موجودة، وأما تأثير كون العالم من طبقة أرستقراطية فهو
يهمل أن ذلك قد يكون عامل استقلال وكرامة، وقد يُنظر إلى معيار الزهد أو الثراء
على أنه أدعى إلى العفة ونظافة اليد (انظر ص 44) ، وبالطبع فإن المعيار العلمي
لم يكن غائباً أو باهتاً بجوار مثل هذه المؤثرات، أما الدور السياسي الذي نوه
التقرير بقدرة مشايخ الأزهر على القيام به بعد ثورة يوليو: فواضح أنه دور تبعي
يخدم سياسة الدولة أكثر مما يخدم قضايا المسلمين كما سيأتي من أقوال التقرير نفسه.
ويُعرّض بدور الأزهر الرقابي في موقفه تجاه بعض أصحاب الانحرافات
الفكرية والثقافية، فيقول (ص52) : (وتحاول الدولة أن توازن بين دور الأزهر في
حماية المعتقدات الدينية وإعطاء الضوء الأخضر له.. وفي الوقت نفسه المحافظة
على حرية الفكر والإبداع، ويبدو أن كفة الأزهر هي الغالبة كما أثبتت ممارساته
عام 1995م، خاصة في رأيه بشأن قضية نصر حامد أبو زيد، القائم على اعتبار
أن هناك فرقاً بين (حرية الفكر وحرية الكفر (. ولم يفت التقرير أن يشير إلى أن
مجلة (منبر الإسلام) التي تصدر عن (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية) التابع
لوزارة الأوقاف أولت قضية التفريق بين الدكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته
اهتماماً كبيراً (حيث تناول رئيس تحرير المجلة عبد اللطيف فايد في مقالته ...
الافتتاحية في عدد يوليو 1995م تلك القضية بهجوم ضارٍ على د. أبو زيد)
(ص 67) .
ولعل ذلك أحد الأسباب التي دعت التقرير إلى وصف تلك الأجهزة الرسمية
بأنها مؤسسة أصولية رسمية (ص12، 310) .
* والتقرير يتبنى مواقف وآراء فكرية يفترض أنها قائمة على اجتهادات
شرعية: (فما اصطلح على تسميته بالشروط العمرية) التي تحدد طريقة معاملة أهل
الذمة (الثابت تاريخياً أن عمر بن الخطاب بريء من الشروط العمرية) (ص 87) ،
بينما (حفاوة) عمرو بن العاص بالبابا بنيامين بطرك الأقباط وسماحه لهم (ببناء ما
هدم من الكنائس والأديرة) لا تحتاج إلى تمحيص وتدقيق، وتعامل باعتبارها حقيقة
تاريخية ثابتة (ص 87) .
والحديث عن (أهل الذمة) يغضب محرري التقرير ف (لقد ساعد على هذه
الأنماط التفكيكية والانقسامية: نزوع الحركة الأصولية الراديكالية والمعتدلة،
ومؤسسات الإسلام الرسمي، إلى فرض الخطاب الديني وتأويلاته الفقهية ومعاييره
على الفضاء السياسي والاجتماعي والقيمي في المجتمع. وثمة لغة فقهية محافظة
توظف في المطارحات السياسية والفقهية حول موقع غير المسلمين في المجتمع
الإسلامي والدولة الإسلامية، وعودة النسق التاريخي لأهل الذمة في خطابات
الجماعات الإسلامية ووعاظ الغضب والمؤسسة الأصولية الإسلامية. ولا شك أن
انتقاء هذا النسق والفقه المعبر عنه من بين رؤى أخرى أكثر تسامحاً وإنسانية
وأصالة أثار هموماً وشجوناً وصوراً تاريخية في المخيال التاريخي للأقباط
المصريين) (ص 310) .
ويقدم التقرير لنا رؤيته في علاقة الدين بالدولة من خلال تصريحات شيخ
الأزهر والمفتي: (فإن كان الدين هو مصدر المنطلقات السياسية وتوجهاتها من
حيث وجوب أن تتسم بقيم الأخلاق والفضيلة والحث على التنمية والبناء والتفاعل
الإيجابي مع الآخر ورد العدوان والوقوف إلى جانب الحق.. إلى آخره، فإن
السياسة هي الجانب الآخر المكمل لمثل هذه المنطلقات، وهي الجانب الذي يركز
على الكيفية الدقيقة أو السؤال الخاص بـ (كيف؟) ... ) (ص 354) .
ولا يكتفي التقرير بتقديم رؤاه الفكرية في مسائل شرعية، بل يقدم أيضاً
(اجتهادات) الجانب القبطي النصراني: فبابا الأرثوذكس يوضح أن من أسباب
التطرف والإرهاب: الفهم الخاطئ للدين (وهذا الفهم الخاطئ تولدت عنه مفاهيم
مثل (التكفير) الخاطئ، مثل: تكفير الشيخ الذهبي مثلاً، وكذلك تكفير من لا يؤمن
بالإسلام!) (ص345) ، ويشير التقرير إلى اجتهادات البابا الشرعية واستشهاداته
القرآنية! حينما يورد طلبه بإنجاز قانون الأحوال الشخصية مع مراعاة أحوال
الأقباط تنفيذاً للشرع الإسلامي الذي يقول: (احكم بينهم حسبما يدينون) [6] ...
(ص 347) .
ويورد رأي مجلة (رسالة الكنيسة) الكاثوليكية في وثيقة الزواج المقترحة
والتي رفضها شيخ الأزهر وتحفّظ عليها المفتي، ولكن المجلة رأت في الوثيقة ... (أنها راعت وضع المرأة المسلمة، وأنها وسيلة فعالة لحماية المرأة وضمان استقرارالأسرة) (ص 365) .
ويبرز أن بعض أساتذة جامعة الأزهر لا يجد (مبرراً لتقسيم الكليات إلى بنين
وبنات، خاصة الكليات العملية، ويطالبون بالاختلاط على مستوى الكليات العملية؛ حتى يستطيع الخريجون التكيف أكثر مع الواقع العملي!) (ص 54، 55) .
* والتقرير يتدخل في نيات الناس ويفتش في قلوبهم: فإسلام بعض النصارى
ليس ناتجاً عن رغبة في الإسلام وسماحته وهروباً من النصرانية المحرفة وآصارها
ومصادمتها لفطرة البشر ومصالحهم (وقد شهد عام 1995م حوالي 67 حالة إشهار
للإسلام، معظهم من الأجانب، ولا يدل هذا العدد على حقيقة إشهار المسيحيين
المصريين لإسلامهم؛ فهناك أسباب غير دينية لإشهار إسلام بعضها يتعلق بالأحوال
الشخصية وقضايا الزواج والطلاق) (ص 53، 54) .
ومن يبني مسجداً أسفل منزله لا يقصد بذلك التقرب إلى الله، (الزوايا
الصغيرة في أسفل المساكن والتي يبنيها أصحابها للوجاهة الاجتماعية أحياناً،
وللتهرب من الضرائب العقارية أحياناً أخرى) (ص 64) .
__________
(1) الغريب أن التقرير أنحى باللائمة على جامعة الأزهر لقبولها دعماً ماديّاً لمعهد تابع لها، حيث يقول (ص56) : (ويأخذ البعض على مركز صالح كامل تلقيه غير المحدود للهبات والتبرعات تحت لافتة تدعيم المركز تارة، ولإقامة المؤتمرات والندوات تارة أخرى، مما قد يؤدي إلى تدخلات غير محمودة من قبل الجهات والدول المانحة لهذه الهبات والتبرعات، وهو الأمر الذي قد يهز من
صورة الأزهر الشريف وهيبته!) .
(2) انظر مجلة البيان، ع / 106، ص 68.
(3) وذلك رغم أن التقرير يدعو في الصفحة نفسها إلى (الإقرار بأهمية المكون الديني وحق هذا
النوع من الجمعيات في الوجود بدون حساسيات) .
(4) جريدة الوطن الكويتية ع /746926/11/1996م.
(5) انظر: أبو العلا ماضي، مقال (السادات والإخوان والحركة الطلابية في السبعينات) جريدة
الحياة اللندنية، 3/11/1996م ص18.
(6) لعله يريد الإشارة إلى قوله تعالى [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ]
[المائدة: 49] ! .(119/70)
المسلمون والعالم
عولمة أم أمركة؟ !
(3)
المصلحة.. وديبلوماسية الإجبار! !
بقلم: حسن قطامش
تعرض الكاتب في الحلقتين السابقتين إلى الحديث عن التاريخ الأمريكي
الحقيقي، وفند التلميع الزائف لهذا التاريخ المزور وتناقضاته، ويبدأ في هذه الحلقة
الحديث عن محددات السياسة الأمريكية وطرق عولمة النموذج الأمريكي.
- البيان -
المصلحة استراتيجية أمريكية:
مصلحة أمريكا أولاً وآخراً، هذه باختصار إحدى البدهيات الأولى
لاستراتيجية السياسة الأمريكية تجاه العالم.
في سؤال طرحته مجلة (تايم) الأمريكية الأسبوعية، مع إيرادها الإجابة عليه
في الوقت نفسه: لماذا طالب الجمهور الأمريكي بسحب القوات الأمريكية من
الصومال، على الرغم من أنه لم يقل شيئاً عن طلعات الطيران الأمريكي فوق
العراق وسقوط طائرتي هليوكوبتر، ومقتل 15 جندياً أمريكياً؟ والجواب: الفرق
واضح، فالجمهور الأمريكي يفهم أن البترول يمثل (مصلحة حيوية) وأن صدّام
طاغية يأمل في صنع أسلحة نووية ويمثل خطراً على الأمن الأمريكي.
سؤال آخر طرحته المجلة ذاتها مع التدخل الأمريكي في البوسنة: ما الذي
يجعل البوسنة تستحق الموت من أجله؟ ما المصلحة القومية في ذلك؟ أما الجواب
فكان من رئيس أمريكا وتبعه وزير الدفاع السابق، أما كلينتون فأجاب: (إذا لم نقم
بالجزء الذي يخصنا من مهمة حلف الناتو فسنضعف التحالف، ونعرض الزعامة
الأمريكية في أوروبا للخطر) .
أما وليام بيري وزير الدفاع السابق فكان موافقاً رئيسه في (أن مهمة حفظ
السلام في البوسنة تؤثر على مصالح الأمن القومي الأمريكي من خلال الحفاظ على
مصداقية حلف الناتو) .
أقسام المصلحة الأمريكية:
تنقسم المصالح الأمريكية إلى أقسام ثلاثة:
1- مصالح استراتيجية: وهي التي تمس الأمن القومي الأمريكي مباشرة،
وتؤثر على مصالحها الذاتية بصورة بالغة، أو ترى أنها تهدد الزعامة الأمريكية
للعالم، وأوضح الأمثلة على ذلك: بقاء كيان يهود بين الدول الإسلامية، ثم
البترول العربي، ولعله لا يوجد ما نستدل به على ذلك أفضل من إخبار هنري
كسينجر اليهودي، وزير الخارجية الأسبق لأحد المسؤولين العرب عند حظر
البترول: أن أمريكا أعدت خطة لاحتلال أحد منابع النفط في الخليج وبالتحديد
(أبو ظبي) وليمنع العرب ما شاؤوا!
2- مصالح ملحة: وهي مصالح تؤدي إلى خدمة المصالح الحيوية بصورة
كبيرة، كالحفاظ على الأنظمة الصديقة في العالم، ونجاح عملية السلام، ومحاربة
الإرهاب كمهدد للأنظمة الصديقة ومقوض لعملية السلام.
3- مصالح تكتيكية: وهي غالباً ما تكون للمناورة وإثبات الذات والظهور
الدائم على الساحة العالمية والإعلامية كالضغط على إيران والعراق، والسودان
وسوريا وليبيا كدول إرهابية ومساندة للإرهاب! !
ولن نجهد كثيراً للبرهنة على أن المصلحة عقيدة سياسية، بل هي المحرك
الأساس للسياسة الخارجية الأمريكية، فالنبرة المصلحية واضحة جداً في الخطاب
الرسمي الأمريكي بداية من الرئيس، ومروراً بوزرائه، وانتهاءً بالفرد العادي.
في كتاب: (بين الأمل والتاريخ) يحدثنا كلينتون عن المصلحة الأمريكية
بشيء من التفصيل فيقول: (إن على أمريكا أن تكون قوة فاعلة في تحقيق السلام
العادل في عالم مليء بالصراعات، ليس ثمة طريقة أخرى (لتدعيم أمننا) على
المدى الطويل، إن علينا أن نتحمل مسؤوليتنا تجاه ذلك العالم، لا أن نقف منه
موقف غير المبالي؛ فعندما تصبح التحالفات ضرورية، فإن علينا أن نقيمها،
وعندما تصبح المفاوضات ضرورية، فإن علينا إجراءها، وعندما تصبح
الاستثمارات مطلوبة، فإن علينا تقديمها، وعندما تصبح القوة مطلوبة (لضمان
أمننا) فإن علينا استعمالها، ومعنى ذلك كله: أن علينا الترحيب بآمال العالم وثقته
لا أن نُعرض عنه، ليس لأجل العالم فقط.. بل لأجلنا نحن أيضاً) ، أما روبرت
دول زعيم الأغلبية في الكونجرس، فكتب دراسة في مجلة (فورين بولسي) في
العام 1995م، بعنوان: تشكيل مستقبل الولايات المتحدة، وكان أكثر وضوحاً من
كلينتون في شرح استراتيجية المصلحة، يقول: (صحيح أن التلوث البيئي والتفجر
السكاني في إفريقيا أو جنوب آسيا مشكلتان، لكن تأثيرهما على (مصالح أمريكا)
هامشي في أحسن الأحوال، ولا شك أن المجاعة في الصومال ورواندا مأساوية
يتعين على أمريكا مد يد المساعدة الإنسانية في الكوارث وفقاً لمواردنا وبطريقة لا
تفضي إلى نسف جاهزيتنا العسكرية، غير أن الأحداث في رواندا والصومال لا
تنطوي في أسوأ الأحوال إلا على تأثيرات هامشية بالنسبة لأمريكا. إننا لا نستطيع
أن نستمر في نسف سمعة قواتنا المسلحة من أجل عمليات إنسانية (لا تفعل شيئاً في
مجال تعزير مكانة أمريكا! ! فلا تجوز المخاطرة بحياة الأمريكيين إلا دفاعاً عن
المصالح الأمريكية) إن من شأن مثل هذه التحركات أن تزيد صعوبة إقناع الأمهات
والآباء الأمريكيين بضرورة إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المعركة (التي تكون مصالحنا
الحيوية معرضة فيها للخطر) لن يطيق الشعب الأمريكي إصابات أمريكية في سبيل ... أممية غير مسؤولة) .
أما مادلين أولبرايت فإنها تُجْمِلُ سياسة وزارتها في أن الأهداف الحيوية:
(تأمين مصالح الولايات المتحدة) ، والتوسع بها لتشمل الكرة الأرضية.
وكثيراً ما ترى المحللين والكتاب عن السياسة الأمريكية يجهدون أنفسهم في
تفسير المواقف المتناقضة والمزدوجة للولايات المتحدة، ويذهبون في ذلك مذاهب
شديدة الغرابة لا تخلو من الطرافة أحياناً، ومن اللامعقولية أحياناً أخرى في فهم
السياسة الأمريكية، ونحن نوقن أن السياسة الأمريكية ليس لها محرك حقيقي إلا
المصلحة الأمريكية فقط.
الأمركة بالقوة و ... ديبلوماسية الإجبار:
تتحرك الولايات المتحدة لأمركة العالم من أجل مصلحتها في البقاء والسيطرة، واستنزاف الدول، وهي في هذا السعي تستعمل من وجهة نظري طريقتين لفرض
هذه الأمركة، وكل واحدة منهما تكشف عمّا أوردتُه في البداية من النزعة
الاستيطانية، وحب السيطرة، والحياة على أنقاض غيرها من الشعوب، وكما
استعرضنا سريعاً النشأة الأمريكية كدولة جديدة في العالم، فإننا نستعرض كذلك
سريعاً أيضاً نشأة الولايات المتحدة كقطب وحيد في العالم الحديث، وهي الفترة التي
لم تتجاوز نصف قرن من عمر البشرية، وقد كان بروز أمريكا أثناء الحرب
العالمية الثانية وعقبها بعد انتصار الحلفاء على دول المحور، وكانت القوانين قد
حالت دون المشاركة في الحرب من بدايتها، وذلك لتشريع الحياد الذي اتبعته
الولايات المتحدة، ولكن استراتيجية (المصلحة) كانت بارزة في الحرب، فتحتم
تغيير القوانين، فألغى مجلس النواب بسرعة قانون الحياد بحجة مساعدة فرنسا
و (بريطانيا) ! ! وأصدر قانوناً يقضي ببيع الأسلحة للدول المتقاتلة.. (نقداً) ، ولكن
بريطانيا لم تعد تتحمل الدعم المالي النقدي لجيشها، فما كان من روزفلت الرئيس
الأمريكي وقتها إلا أن اقترح قانوناً سمي بقانون الإعارة والتأجير، فلا يمكن تفويت
مثل هذه الفرصة دون استغلال، ووافق الكونجرس في مارس 1941م، على
القانون الذي يقضي بإعارة مواد خام ومعدات لأي دولة تقاتل المحور، وبالفعل
تسلمت 38 دولة ما مجموعه 50 بليون دولار! !
وتطورت الأحداث وضربت اليابان التي كانت أمريكا تعترض على توسعها
آسيوياً ضربت الأسطول الأمريكي في جزر هاواي مما كان سبباً إلى جر الولايات
المتحدة إلى الحرب، وفي 9 إبريل 1942م استسلم 75 ألف جندي أمريكي من
القوات الأمريكية في الفلبين للقوات اليابانية، واضطر معظم الأسرى أن يسيروا ما
يفوق المئة كيلو متراً سيراً على الأقدام إلى معسكرات الاعتقال ومات كثير من
الأسرى بسبب المرض وسوء المعاملة أثناء ما عرف وقتها بـ (مسيرة الموت)
ونذكّر بما حدث للهنود على يد الأمريكان وهي الأحداث التي سميت: (رحلة
الدموع) ، وقتل في الفلبين على يد اليابانيين 14 ألف أمريكي وجرح 48 ألفاً، أما
اليابان فكان عليها أن تفهم العقلية الانتقامية الأمريكية التي ترى في الانتقام لذة
تساوي لذة الحياة التي يعشقونها، فكان عدد القتلى اليابانيين في معركة الفلبين350
ألف جندي.
أحد المناضلين ضد قضايا العنف السائد في أمريكا (ديك هايماكر) يقول:
المشكلة الحقيقية تكمن في كون الأمريكيين لم يتخلصوا رغم السنين من نفسية
المستوطنين الأوائل لهذه الأرض، وعلينا أن نفهم أننا في هذا المضمار لا نعتبر
دولة متحضرة.
كان فهم هذه العقلية غائباً عن اليابانيين الذين لم يكتف الأمريكان بما قتل في
الفلبين منهم، بل كان على طوكيو نفسها أن تتلقى درساً غاية في القسوة من خلال
فن الانتقام، فلم يكن القائد الأمريكي للقوات الجوية (هانزل) بالرجل المطلوب لتنفيذ
فلسفة القتل الأمريكية، ولذا: فقد جرى استبداله في 20/1/1945م بالجنرال
(ليماي) ، الذي كان من أصحاب نظرية: اقتل أكثر تربح بشكل أفضل، فكان
هجوم قواته الجوية على العاصمة طوكيو في 10/3/1945م، وألقى 150 طناً من
القنابل، أسقطتها 72 طائرة قاذفة، وعلى أثرها تهدم 28 ألف منزل، وقُتِلَ مئة
ألف ياباني في يوم واحد! !
لم يكن هذا كافياً، فجاءت القنبلة النووية الأولى التي حملت اسم: (الفتى
الصغير) وألقيت على هيروشيما اليابانية، لتخلف وراءها ما يقارب المئة ألف قتيل، وثلاثة عشر كيلو متراً مربعاً من الأرض مدمرة تدميراً شاملاً، وكان ذلك في
6/8/1945م، وبعد ثلاثة أيام فقط جاء دور قنبلة: (الرجل السمين) النووية لتسقط على مدينة نجازاكي لتقتل 40 ألفاً من السكان، ومات فيما بعد عدة آلاف من آثار الإشعاع الناتج عن القنبلتين، وهنا أعلن اليابانيون الاعتراف بالهزيمة، واكتفى الأمريكان بهذا العدد من القتلى!
كان من الضروري ذلك الاستعراض السريع لأكبر حرب خاضتها الولايات
المتحدة خارج أراضيها؛ لعدة أسباب نفهم من خلالها النموذج الأمريكي المتربع
على عرش العالم:
1- فهم النفسية الانتقامية لدى الشعب الأمريكي.
2- الاستغلال السيئ للشعوب، ما دامت المصلحة الخاصة قائمة.
3- أن هذه المرحلة شهدت نشوء أمريكا كقوة عظمى.
4- شهدت هذه المرحلة كذلك ازدياد القناعة الأمريكية بضرورة تطوير الكفاءة
العسكرية؛ إذ هي عماد القوة والسيطرة.
5- الانضواء الأوروبي تحت اللواء الأمريكي؛ إذ خرجت أوروبا منهكة
مدمرة في أمسِّ الحاجة للمساعدة الأمريكية.
6- تبلور سياسة أمريكية جديدة وخاصة بعد الاختلاف مع الاتحاد السوفييتي
الذي كان أهم أسبابه، الاتهام بتشجيع نشر الشيوعية في أوروبا في فترة ما سمي
بالحرب الباردة والانقسام الهائل الذي حدث في العالم واختلاف موازين القوى.
والذي يهمنا هنا أكثر، هو القناعة الأمريكية بضرورة التفوق العسكري
وحتمية الانتشار والتدخل؛ إذ هي الطريقة الأكثر جدوى، ونقف الآن على
تفصيلات الحقائق حول هذه القناعة من خلال مرئيات الساسة وصناع القرار.
بيل كلينتون رئيس العالم يتحدث عن دور القوات الأمريكية في صناعة
الزعامة الأمريكية: (تمتلك أمريكا اليوم أفضل قوة قتالية في العالم من حيث
التدريب والتسليح والاستعداد؛ وهذا هو أكثر من أي حقيقة أخرى! ! وإننا لنفضل
الدبلوماسية على القوة؛ غير أننا مستعدون لاستعمال القوة العسكرية عندما يكون
ذلك ضرورياً للدفاع عن مصالحنا القومية، وكما كنا طيلة هذا القرن، فإننا سنقود
بقوة المثال الذي نقدمه للعالم، غير أننا مستعدون أن نجعل قوتنا.. هي ذلك المثال؛ ولهذا فإن مجرد التهديد بقوتنا أصبح اليوم كفيلاً بردع المعتدين كما شاهدنا أخيراً
عندما استنفرنا قواتنا في الخليج رداً على محاولة صدام حسين المجهضة لحشد قواته
مجدداً على حدود الكويت) ، ويضيف في مكان آخر من كتابه: (عندما تسلمت
منصب الرئاسة كانت هناك استراتيجية جديدة ونحن ندخل القرن الحادي والعشرين
وهي استراتيجية تتألف من ثلاث مراحل، ويخصنا هنا صدر الحديث وهو: ( ...
تقضي بجعل الشعب الأمريكي أكثر أمناً، وذلك عن طريق المحافظة على قواتنا
العسكرية وتحالفاتنا بحيث نتمكن من درء الأخطار الرئيسية التي تهدد أمننا كانتشار
أسلحة الدمار الشامل والإرهاب) .
لقد سببت القوة الأمريكية للرؤساء والساسة الأمريكان وخاصة بعد حرب
الخليج ما سمي مرض (نشوة النصر) فهم يعيشون تحت وهم الاعتقاد بأن التفوق
الأمريكي أمر مفروغ منه وأنه تفوق هائل وغير مسبوق، وهذا ما يفسر الصلف
في التصريحات والعنجهية المقيتة في الخطاب الاستصغاري للعالم، وقد اعتمدت
الولايات المتحدة القوات المسلحة عنصراً رئيساً لأمركة العالم وذلك بما يمكن أن
نقسمه إلى ثلاث طرق:
الأولى: إنشاء قوة عسكرية متفوقة والتحكم في سوق السلاح الدولي.
الثانية: العمل على الحد من انتشار الأسلحة التي لا رغبة لها في انتشارها.
الثالثة: تعميم النموذج العسكري الأمريكي في العالم؛ وذلك بتدريب وأمركة
العسكر في الدول الصديقة.
وبهذه الحلقات يكتمل الدور المطلوب من القوة العسكرية لتحقيق الأمركة.
ونأتي إلى تفصيل هذه الطرق حتى يتبين لنا حجم التخطيط والكيد الشيطاني
لفرض نمط غير صالح للتعميم.
الطريقة الأولى للأمركة بالقوة: صدر في أكتوبر 1996م تقرير المعهد
الدولي للدراسات الاستراتيجية حول ميزان القوى العسكرية في العالم عام
96/1997م، وأكد التقرير أن أمريكا هي أكبر بائع للأسلحة في العالم، فقد بلغت قيمة مبيعاتها خلال عام 1992م 15 بليون دولار، ثم ارتفعت إلى 17. 5 بليون دولارعام 1993م، وهبطت إلى 2، 15 بليون دولار عام 1994م و3، 13بليوناً عام 1995م، أما المركز الثاني فكان من نصيب بريطانيا التي كان إجمالي مبيعاتها عام 1995م 4 بلايين و 800 مليون دولار.
وذكرت صحيفة واشنطن بوست أن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قام في
ديسمبر 1995م بالاتصال بمسؤول كبير في دولة الإمارات ثم حثه على شراء ما
يصل إلى 80 طائرة من طراز إف 16 من مؤسسة لوكهيد مارتن الأمريكية
العملاقة المتخصصة في الصناعات العسكرية والدفاعية وقد تمت الصفقة مؤخراً
فهل نصدق إذن ما يتشدق به الساسة الأمريكان دائماً ومطالبتهم أن يعيش العالم في
سلام وأمن، وأن تُحل المشاكل دون اللجوء إلى العنف حتى يكونوا شركاء طيبين
لأمريكا! !
إذن: لماذا هذا الكم الهائل من مبيعات الأسلحة لمختلف دول العالم، وخاصة
بؤر الصراع والنزاعات المشتعلة منه، والتي لأمريكا فيها (جهود سلمية) لحل
النزاعات؟ ! المسألة تبدو معقدة في بدايتها ولكن بالنظر إلى الاستراتيجية الأمريكية
يتبين حرص الولايات المتحدة على انتشار أسلحتها في العالم لأسباب عدة:
1- الأموال الطائلة التي تجنيها من وراء صفقات بيع الأسلحة وتشغيل
المصانع والعمال، وهو ما يساعد على الانتعاش الاقتصادي للدولة.
2- ارتباط الدول المستوردة بأمريكا؛ وذلك لضرورة الحاجة إلى التدريب
على هذه الأسلحة، وقطع غيارها، وأنواع الذخيرة المحددة لها، وبهذا تضمن
أمريكا أكثر من ميزة لبيع السلاح الواحد.
3- الحضور المستمر في بؤر الصراع لاستخدامه سلباً وإيجاباً للمصلحة
الأمريكية ولإثبات القدرة على التحكم بالتدخل السريع وحسم النزاع وتغيير موازين
القوى في مناطق الصراع، وليس أدل على ذلك من النموذج الإفريقي، الذي
خسرت فيه فرنسا خسارة كبيرة لصالح الولايات المتحدة، ولهذا كان من الضروري
لأمريكا الاحتفاظ بقوة عسكرية تخدم أهدافها.
لمن كل هذه القوة؟ !
والآن تعد أمريكا خطة لتطوير معمل (لوس ألاموس القومي) بولاية
(نيومكسكو (وهو المصنع الذي أنتج قنبلتي (الفتى الصغير) و (الرجل السمين)
اللتين ألقيتا على هيروشيما ونجازاكي، على أن يستأنف (الإنتاج) عام 2003م أي
بعد ست سنوات من الآن فقط.
أما وزارة الدفاع الأمريكية فتقدمت بخطة إلى الكونجرس الأمريكي تبين
مطالبها العسكرية للفترة القادمة ومتطلبات القوات الأمريكية؛ فالقوة الجوية
الأمريكية تريد الحصول على 438 طائرة من طراز (إف 22) المقاتلة الخفية التي
يبلغ ثمن الواحدة منها 160 مليون دولار، وطلبت البحرية الأمريكية 1000 طائرة
متقدمة، أما الجيش فيريد الحصول على 1292 طائرة هيلوكبتر من طراز
(كوماتشي) وتريد قطاعات القوات المسلحة كلها معاً الحصول على 978 طائرة
مقاتلة ضاربة، وهذه القائمة تبلغ قيمتها 415 بليون دولار.
ونتساءل: لمن كل هذه القوة؟ نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال
جوزيف رالستون قدم لأعضاء الكونجرس وثائق وخرائط تظهر أماكن انتشار
الطائرات في مختلف أنحاء العالم والتهديد المحتمل الذي تثيره هذه الطائرات للأمن
الأمريكي التي، وقال إنها تزيد عن 600 طائرة، إشارة منه إلى مواضع الخطر
على أمريكا، ولكن مجلة تايم تعلق على هذا بأن هذه الطائرات ملك لدول صديقة أو
حليفة كبريطانيا وفرنسا وكندا وغيرها من الدول.
ونضيف: أن أعداء أمريكا (إيران، العراق، كوريا الشمالية) لديهم حوالي
100 طائرة هجومية وسيزيد العدد إلى 120 طائرة بحلول عام 5.. 2م! .
ويتساءل معنا السناتور الأمريكي والمرشح السابق للرئاسة الأمريكية عن
الحزب الجمهوري، (جورج ماكغفرن) السؤال نفسه في مقاله بجريدة الحياة في 27
/3/1997م يقول: لكن السؤال: لماذا علينا تهيئة قوات أمريكية كبيرة محتملة
للدفاع عن كوريا الجنوبية ضد أي هجوم من كوريا الشمالية؟ فيما نعرف أن
بمقدور كوريا الجنوبية الدفاع عن نفسها ودحر الشمال، لماذا نضطر إلى تهيئة
قوات إضافية لحرب محتملة ضد العراق بعدما برهنا في عاصفة الصحراء أن في
إمكاننا دحر الجيش العراقي بـ 17% فقط من قواتنا، وفي الوقت الذي كان العراق
فيه أقوى بكثير مما هو عليه اليوم؟ عندما ننظر بعناية إلى سياستنا الدفاعية الحالية، نجد أن الكثير منها (يصعب تبريره) .
جزء مهم من سؤالنا يجيب عليه كذلك وزير الدفاع السابق وليام بيري، وذلك
فيما نشره في فصلية: (فورين أفيرز) الشؤون الخارجية في نهاية عام 1996م
تحت عنوان: (الدفاع في عصر الأمل) ، ولكن قبل الإجابة لا بد من المرور سريعاً
للتعريف بكتاب: (الحرب المقبلة) لكاسبر واينبرجر، وزير الدفاع الأمريكي في
عهد ريجان ولمدة سبع سنوات، وكأي وزير دفاع فقد كان مطلعاً على كل الخطط
المستقبلية للدولة وعلى دراية بأهدافها الاستراتيجية.
والكتاب يتحدث عن إسقاطات مستقبلية افتراضية عن احتمالات لنشوب أكثر
من حرب في وقت واحد، وهي حسب الافتراض تبدأ عام 1998م، وهذه الحروب
هي: غزو كوري شمالي لكوريا الجنوبية وفي الوقت نفسه غزو صيني لتايوان،
ثم رد انتقامي من الولايات المتحدة على إرهاب نووي إيراني عند احتلالها لدولة
الإمارات، وتفصيلات كثيرة عن حرب موسعة في منطقة الخليج تكون في عام
1998م، وعدوان من جانب ديكتاتور روسي، وقيام حالة فوضى عارمة وعدم
استقرار في المكسيك مما يهدد حدود أمريكا الجنوبية، وأخيراً هجوم ياباني على
دول أخرى في منطقة الباسيفك.
وهذا الكتاب رغم كونه افتراضياً إلا أنه لا يخلو من حقائق مهمة، ونذكر أن
حرب الخليج (عاصفة الصحراء) كانت افتراضية في العام 1981م! وجدير بالذكر
أن مؤلف الكتاب حصل على نمط (الصليب الأكبر) بدرجة فارس من الملكة
إليزابيث.. كان هذا التعريف مجرد تذكير.
نعود إلى وليام بيري وإجابته على جزء من السؤال المطروح، يقول: (لا
نزاع أن خطر اندلاع صدام عالمي قد انخفض كثيراً عنه أيام الحرب الباردة، ولكن
طالما أن هناك أسلحة نووية فإن الخطر لا يزال قائماً، ولذلك فإن الولايات المتحدة
(تحتفظ بقوة نووية مخفضة، ولكنها شديدة المفعول كعامل ردع) ومن أجل ردع أي
صدام إقليمي يتعين على الولايات المتحدة أن تحتفظ بقوات مسلحة تقليدية قوية
وجاهزة وجيدة الانتشار في جبهات متقدمة، وأن يكون حضورها علنياً ومحسوساً
حتى يكون بوسعها إظهار قدرتها العسكرية الحاسمة (أينما ظهر ما يهدد المصالح
الأمريكية) وللدلالة على عزمها على استعمالها، فالولايات المتحدة هي الدولة
الوحيدة على الأرض (التي لها مصالح أمنية على نطاق العالم كله) وبؤر التوتر
الساخنة في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا يمكن أن تنفجر دون سابق إنذار (فتهدد
بذلك المصالح الحيوية الأمريكية) ، ولذلك فإن حجم القوات المسلحة وتكوينها يقوم
على أساس حاجتنا إلى الردع، وإذا لزم إلى القتال والانتصار في تنسيق كامل مع
حلفائنا الإقليميين في (صدامين إقليميين قد يقعان في وقت واحد) ما نظن أن هذا
افتراضي أيضاً والمبدأ الأساس هنا: أن الولايات المتحدة إنما تقاتل لكي تنتصر! !
وليكون انتصارها حاسماً وسريعاً وبأقل ما يمكن من الخسائر) .
بقي لنا أن نتعرف على بقية الإجابة، وبقية طرق الأمركة بالقوة من خلال
انفراد القوة، وأمركة عسكر العالم، ومن أعداء أمريكا وما قوتهم؟ ثم ماذا عن
الأمركة بـ (الدولرة) : هذا ما سوف نتعرض له في الحلقة الأخيرة إن شاء الله.(119/82)
في دائرة الضوء
عقد النقص والدونية
د. محمد يحيى
هناك اتجاه خبيث يُرَوّجُ له الآن من بعض الدوائر العلمانية؛ وبعضها للأسف
الشديد رسمي الصفة، يرمي إلى خلق وترسيخ عقد النقص والدونية عند جماهير
المسلمين التي نمت فيها في العقود الماضية روح الاعتزاز بالدين والافتخار به،
وتربت فيها نزعة العزة بعد سنين طوال من الانتكاسات والتراجعات التي عكست
نفسها فيما أصبح يعرف بالنزعة الدفاعية والاعتذارية والتبريرية في الفكر
والخطاب الإسلامي. وفي ظل هذه النزعة الدفاعية تحوّل الخطاب الإسلامي في
مجمله تقريباً إلى مجرد ترديد كلمة (أنا بريء) كما يفعل المتهمون بالحق أو بالباطل
في أقفاص الاتهام. وبعد أن تخلص الفكر الإسلامي من هذه النزعة وانطلقت
أطروحاته الإيجابية تقتحم مجالات الحياة المختلفة من سياسية إلى اقتصادية، ومن
فلسفية إلى أدبية وغيرها ظهر مؤخراً ذلك الاتجاه الخبيث واستمد علة وجوده من
الحملات الضارية التي دأبت أجهزة الإعلام والبحث والسياسة في الغرب على
توجيهها ضد المسلمين. وهكذا سمعنا فجأة من بعض الرؤساء والزعماء ذوي
المشارب اللادينية والذين ارْتَدَوْا فجأة مسوح الورع وادعاء الخوف والغيرة على
الإسلام مقولة: إن أفعال المسلمين المزعومة من تطرف وإرهاب ورجعية وتشدد
هي المسؤولة عن إثارة تلك الحملات الغربية، وإنه لو أراد المسلمون إنهاء
الحملات الإعلامية وتحسين صورتهم في الغرب (وهو الأمر الذي تحوّل في الآونة
الأخيرة إلى الأولوية القصوى والوحيدة للخطاب الإسلامي عند بعضهم) فعليهم أن
ينبذوا تلك التصرفات المتطرفة، لا.. بل عليهم أن يظهروا للغرب في الصورة
الوحيدة التي تعجبه وهي صورة الإسلام المعتدل (السمح) أي المتغرب المتعلمن
المتبني كل ما تطرحه الثقافة الغربية (المسيحية في جوهرها) من تصورات.
وقد تغلغل هذا الاتجاه المشبوه إلى حد أننا قرأنا في الآونة الأخيرة تصريحات
لمفتي الحكومة المصرية ووزير الأوقاف بها وكلاهما من دارسي الإسلام وعلمائه
فيما يقال يعلن فيها الأول أن المسلمين وحدهم هم سبب الصورة المشوهة عن
الإسلام في الغرب، ويقول الثاني: إن المسلمين يعيبهم أنهم لا يقرؤون ما يكتبه
المستشرقون؛ ولذلك يسارعون بالطعن فيهم، بينما المطلوب أن يلتقي المسلمون
المعتدلون والمستشرقون على كلمة واحدة، ويتعرف كل على ما عند الآخر. وقد
أثار استغرابي أن يسارع مفتٍ حكومي بهذه السهولة الغريبة إلى رمي المسلمين
بأنهم سبب الحملات الغربية عليهم؛ وتساءلت مثلاً عما فعله مسلمو البوسنة (الذين
اشتهروا بالاعتدال على مذهب الدفاعيين الجدد) أو مسلمو كشمير وغيرهم حتى
يصب عليهم العذاب والقتل من جانب الصرب والهندوس، ثم.. أي مسلمين هؤلاء
المسؤولون عن تشويه الصورة؟ هل هم المسلمون البسطاء الذين يعيشون في
حجاب عن الظهور، ويستظلون بكنف الستر لا يعرف أحد عنهم شيئاً، أم هي
النخب المسيطرة والحاكمة في بلدان إسلامية عديدة طابعها العلمانية والتغرب
والانخلاع من نظام وأحكام الإسلام إن لم يكن من عقيدته؟ إن هذه النخب المسيطرة
من سياسيةٍ وعسكرية وثقافية واقتصادية شاع فيها الفساد والنهب لموارد البلاد، كما
مارست الدكتاتورية المتسلطة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان (حسب مفاهيم الغرب
وحسب مفاهيم الإسلام) كما تلاعبت بالقوانين، واحتكرت ساحات العمل الاجتماعي
لها وحدها، ضاربة الخصوم بعرض الحائط حتى لو كانوا ينتمون إلى التوجه
العلماني نفسه. وكانت هذه النخب بحكم مواقعها وبحكم قربها إن لم تكن عمالتها
للغربيين في بؤرة الاهتمام والتغطية الإعلامية الغربية؛ ونتيجة لذلك فقد ظهرت
فضائحها التي ألصقت بتعمد وبزيف مسف بالإسلام والمسلمين: إذن النخبة
العلمانية هي المسؤولة عن الصورة المشوهة للإسلام.
لكن الأمر لا يقف عند ذلك الحد؛ فالغرب ليس بحاجة إلى تصرفات شائنة
من المسلمين حتى يشوه صورتهم، وهو ليس بحاجة إلى أحداث إرهابية مزعومة
أو حقيقية ترتكب هنا وهناك (ويرتكب أضعافها شدة وعدداً في الغرب نفسه) ،
وليس بحاجة إلى تصرفات مسفة من أفراد مسلمين (يرتكب أفظع منها وأكثر من
قِبَلِ الغربيين) حتى يطلق حملاته على الإسلام والمسلمين. إنهم يفعلون ذلك بداراً
ومبادأة دونما استفزاز أو مثير في إطار حملة مخططة تسير حثيثاً للنيل من الإسلام. وقد قال أحد فلاسفة الغرب في القرن الثامن عشر الميلادي: (لو لم يكن الإله
موجوداً لوجب اختراعه) وهذه المقولة تطبق بالنص وإن بمعنى آخر: (لو لم يكن
ما يسيء للإسلام موجوداً لوجب اختراعه) وبمعنى آخر: إنهم يفتعلون أشياء وهمية
ويضخمونها ويكررونها حتى يصدق الناس أنها موجودة، ثم يبنون عليها حملاتهم
ضد الإسلام والمسلمين، تلك الحملات التي يتلقفها البعض ومنهم أرباب المناصب
الرسمية ليخرجوا منها وبسهولة مريبة إلى القول بأن المسلمين كل المسلمين مدانون؛ وعليهم الاعتذار والتوبة لسادة الغرب الإعلاميين والسياسيين. فإذا لم يكن هذا
التكريس لعقد النقص والدونية بلا مسوِّغ (ونحن لا نذكر ناحية سوء النية) فماذا
يكون؟
والمسلمون لا يطلب منهم فقط الشعور بالدونية والاعتذار عن الجرائم
المزعومة التي تسببت في غضب الغرب عليهم عند المفتي الحكومي، بل يُطْلَبُ
منهم فوق ذلك عند قرينه الوزير أن يقرؤوا كتب المستشرقين ويفهموها (لا للرد
عليها، بل لكي يستوعبوها) وكأن قراءة هذه المصنفات المكتوبة بلغات أجنبية حية
وميتة قد أصبح فرضاً على كل مسلم ومسلمة، وليس هذا فحسب بل يجب أن يحشد
المسلمون (المعتدلون) (ولا يعرف أحد من المسؤول عن فرزهم وتحديدهم) لكي
يلتقوا بالمستشرقين ويتعلموا منهم دينهم أو على الأقل ليكيفوا دينهم حسب ما يريد
هؤلاء.
وهكذا وبسهولة أيضاً يُنَصّبُ المستشرقون على يد وزير في حكومة دولة
إسلامية وكأنهم سلطة روحية وفكرية تخضع لها الجباه وتعلو على النقد والمساءلة
(ونذكر بأن الكاتب المسيحي المشهور إدوارد سعيد قد انتقد هؤلاء حتى النخاع في
كتابه المعروف (الاستشراق) ويطلب من المسلمين (المعتدلين) أن يتكيفوا مع
أفكارهم حتى وهم في بلادهم الغربية وكما يعرف القاصي والداني فإن هؤلاء
يصبحون كمّاً مهملاً لا وزن لهم في دوائر الفكر والفلسفة والعلم وإن كان لهم وزن
في دوائر التنصير والتخطيط السياسي لضرب الإسلام في بلدانه بعد دراسته على يد
هؤلاء المستشرقين.
ومرة أخرى: بِمَ يمكن أن نسمي هذا! ... إلا بأنه تكريس لعقد النقص
والدونية حينما يُجعل المسلمون تابعين أذلاء لفكر وتصورات طائفة لا أهمية فكرية
لها في الغرب لكنها طائفة انتحلت لنفسها دراسة الإسلام زعماً وادعاءً، وهي
المطعون في دراستها من جانب الغربيين أنفسهم ثم يأتي وزير مسؤول ليطلب من
المسلمين كل المسلمين قراءة ما يكتبه هؤلاء عن دين المسلمين والتعلم منه، وكأنه
نسي أن هناك علماء للإسلام على طول وعرض العالم الإسلامي (ويفترض أنه
واحد منهم) يتلقى المسلمون دينهم منهم بثقة، بل وكأنه نسي أنه كان يتحدث في
حضن أقدم الجامعات الإسلامية في دراسة الإسلام والتفقه فيه. فأي دونية ونقص
يفوق ذلك؟ وما هو بُعد ذلك الاتجاه الخبيث الذي يريد للمسلمين أن يعيشوا
كمجرمين متهمين لا همّ لهم سوى ترديد كلمات البراءة أو تعلم دينهم ودراسته من
غير المؤمنين به من فرقة لا وزن لها علمياً في بلادها ذاتها؟(119/92)
هموم ثقافية
إشكالية نتائج وإفرازات الديمقراطية
بقلم: د. سامي محمد الدلال
بيّن الكاتب في الحلقة السابقة خطأ التصور الذي مؤداه: (أن الديمقراطية
ليست إلا مجرد مجلس نيابي يمكن تحقيق بعض المكاسب من خلاله، وأوضح أن
الديمقراطية التي تعني علمنة الدولة والمجتمع هي الأسلوب المزيّن لولوج العلمانية
إلى نخاع المجتمع وسريانها في جميع أوصاله، وفي هذه الحلقة بقية الموضوع.
- البيان -
11- الإشكالية المدهشة هي: أن النظام الديمقراطي الحاكم يسمي مظاهرات
الاحتجاج الجماهيرية مؤامرة! ! فعندما سأل الصحفيّ زعيمَ حزب التجمع في مصر
خالد محيي الدين: لماذا اتهمك السادات بأنك من المسؤولين عن مظاهرات 18،
19 يناير 1977م؟ وهل كانت حقاً انتفاضة حرامية كما أسماها السادات؟
أجاب: السادات اتهم حزب التجمع؛ لأننا في المعركة الانتخابية سنة 1976م
رفعنا شعارات رددها المتظاهرون في 18و 19 يناير.... وجد السادات أن
الشعارات التي كنا نرددها في الانتخابات رددها المتظاهرون من الجنوب إلى
الشمال، فقال السادات: هذه مؤامرة من حزب التجمع، وهذا غير صحيح..
وكانت الجماهير في المظاهرات تقول: (يا أنور بيه.. كيلو اللحمة بـ 2 جنيه)
وسبب هذه المظاهرات أن الحكومة في ذلك الوقت منحت الجماهير الأمل في
تخفيف العبء عليها، ولو عدنا إلى عناوين الجرائد السابقة للمظاهرات من 15
يوماً.... سنجد أن جرعة الأمل مرتفعة، وأن كل شيء سيتم إصلاحه، وفجأة
صدرت قرارات صدمت الجماهير.
الصحفي: يعني لم تكن انتفاضة حرامية؟
خالد: لا، المحكمة حكمت بعكس ذلك، وقالت إن هذه المظاهرات ليست
انتفاضة حرامية، وإنما هي شعبية، وأن الجماهير كانت معذورة، وأنهم خرجوا
ليعبروا عن رأيهم ... والخطأ خطأ الحكومة) اهـ[1] .
نعم الخطأ خطأ الحكومة!
فأين كان المجلس؟ ! ! إن النواب من عادتهم في حالة إخفاقهم في تحقيق
رغبات الشعب أن يرموا القفاز في وجه الحكومة.
وفي كل الأحوال: أليست الحكومة جزءاً من مجلس الشعب؟
إن الجماهير الشعبية هي دائماً التي تدفع الثمن غالياً. إن سكتت على ضيم،
وإن احتجت قال النظام: إنها مؤامرة وإن الشعب حرامية! !
حقاً إنها مفارقة تدعو إلى التأمل.
12- في ساحة إشكاليات النتائج، لنا وقفة مع بعض آراء محمد مواعدة
رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التونسية، ووقفتنا معه ستكون في أربع
محطات:
* قال مواعدة: (أعتبر أن الفكر الديمقراطي الغربي يجتاز أزمة لا تقل
خطورتها عن الأزمة التي شهدها الفكر الماركسي وأدت إلى انهياره. وأعتبر أن
الفكر الاشتراكي والديمقراطي يخضعان لمنهج سلفي حيث يجري تمثّل مقولات
اشتراكية أو ديمقراطية أنتجت في بداية القرن على واقع مختلف في نهاية القرن.
وهي إشكالية يقرها اليوم الفلاسفة والمفكرون الغربيون الذين أتابع يومياً مؤلفاتهم
الجديدة) أ. هـ[2] .
نعم لا أشك أن الفكر الديمقراطي الغربي يمر في أزمة، شأنه شأن الفكر
الماركسي والفكر الوجودي؛ ذلك أن جميع هذه الأفكار هي من صنع البشر
ووضعهم.
إن تطور وتنوع الطروحات البشرية للمناهج الحياتية، سواء ما كان منها
عقدياً أو سلوكياً، يدل على استمرار حالة القصور؛ إذ إن كل طرح جديد يدل على
قصور ما قبله، وهكذا.
إن جميع المناهج البشرية ستبقى عاجزة عن طرح فهم عقدي له طابع
الديمومة والثبات. وبما أن الديمقراطية واحدة من تلك المناهج البشرية فهي تخضع
حكماً للمعادلة المذكورة نفسها، وخلاصتها: أن إسقاط معنى الديمقراطية يتغير من
زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، إنها مثل لإشكالية العجز البشري.
* قال مواعدة: (وإضافة للمعطيات المميزة للمرحلة، تعتبر خصوصيات
مجتمعنا العربي الإسلامي وشخصيته المتميزة بإيجابياتها وسلبياتها ككل المجتمعات
منطلقاً يتوجب أخذه بعين الاعتبار؛ وهو معطى أكدته التجارب والتطورات
التاريخية التي شهدها العالم؛ حيث لم تعد هنالك نمطية عالمية للنموذج الاشتراكي
ولا للنموذج الديمقراطي. وتأكد أن لكل مجموعة حضارية خصوصياتها وتاريخها
وتراكماتها، إذن لها تجربتها الديمقراطية الذاتية) اهـ[3] .
لقد اعتبر مواعدة النموذج الاشتراكي وكذلك الديمقراطي كأنه حتم لازم
للمجتمعات لا انفكاك لها منه. وعلى هذا الأساس فلكل مجموعة حضارية تجربتها
الديمقراطية الذاتية.
إن تجاهل مواعدة للإسلام ودوره القيادي الريادي على مدى أربعة عشر قرناً
خلت مثير للاستغراب حقاً!
فمعلوم أن الأمة الإسلامية خلال تلك القرون لم تعش التجربة الديمقراطية التي
يتحدث عنها مواعدة، بل عاشت في ظل الإسلام الوارف، تعبّ من معينه بحسب
حال قوتها وضعفها. أما التجارب الديمقراطية فإنها لم تتسلل إلى الأمة الإسلامية إلا
خلال هذا القرن، فأحدثت فيه فجوة لا تزال تتسع.
إن هذه الفجوة الديمقراطية لا تزال تحدث تآكلاتها في المجموعة الحضارية
الإسلامية على حساب خصوصياتها وتاريخها وتراكماتها وتوسعاتها.
إن الأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى النمطية الاشتراكية أو النمطية
الديمقراطية؛ وذلك لانتمائها إلى الصبغة الربانية، فهي الوحيدة التي تمتلك نمطية
الصياغة العالمية لمجموع البشرية على اختلاف خصائصهم الذاتية أو المكتسبة،
ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
* قال مواعدة: (يعتبر مثال رواندا نموذجياً في الاتجاه السلبي بالنسبة
للتجارب الديمقراطية في إفريقيا، فقد كانت تحكم رواندا قبيلة أقلية، هي قبيلة
التوتسي، وعندما طبق النظام الديمقراطي التعددي بشكل طبيعي فازت الأغلبية في
الانتخابات، وهي قبيلة الهوتو التي انبثق منها الرئيس الجديد. وانطلاقاً من
الشرعية الانتخابية التي حصل عليها حاول إجراء عدة تغيرات في أجهزة الدولة،
لكنه سرعان ما اصطدم بنفوذ القبيلة الحاكمة في الأجهزة العسكرية والأمنية
والحرس الجمهوري ومصالح القبيلة المتداخلة مع مؤسسات الدولة؛ وأدى ذلك إلى
تعقيدات ومواجهات، فوقعت الكوارث والحرب الأهلية، واغتيل الرئيس نفسه،
ودخلت البلاد في متاهات) اهـ[4]
إن الذي ذكره (مواعدة) هنا يؤكد ما ذكرته عند الحديث عن إشكالية القبيلة في
الحكم الديمقراطي؛ وهي مجرد واحدة من إشكاليات عديدة، وليس شرطاً أن تتكرر
الإشكالية نفسها في جميع أنماط الحكومات الديمقراطية؛ فربما كانت لكل ديمقراطية
واحدة أو أكثر من الإشكاليات التي سبق أن ذكرتها. ولكن ما يهمنا الإشارة إليه هنا، بل التأكيد عليه:
أن إشكالية النتائج في حالة رواندا تجسدت بأبشع أنواع الاقتتال الأهلي
بسبب إشكالية واحدة من إشكاليات الديمقراطية.
* قال مواعدة: (ومن سوء الحظ أن الوضع في الجزائر وصل إلى مأساة
عنف دموي يومي بين مجموعات مسلحة تعتمد العنف للاستيلاء على السلطة،
وبين سلطة مركزية تسعى وتحاول تجنيب البلاد العنف القائم، ولا شك أن الرئيس
زروال، وهو شخصية محترمة ونظيفة ومناضل معروف، سيسعى إلى حل الأزمة
بالأسلوب السياسي والحوار. وأعتقد أن موضوع التعامل مع التطرف لا ينبغي أن
يكون بالحلول الأمنية فقط؛ لأن ظاهرة التطرف ذات طبيعة مجتمعية شمولية،
ولهذا تطرح المعالجة الشمولية كحل، مع ضرورة الاعتراف بأن استتباب الأمن
مسألة جوهرية..) اهـ[5]
لا أدري لماذا تجاهل مواعدة الأسباب التي أدت إلى الاصطدام الدموي في
الجزائر!
لا شك أن ذلك الاصطدام المروّع الذي يحدث في ذلك البلد المسلم ما هو إلا
إفراز من إفرازات الاحتكام إلى الديمقراطية.
ذلك أن إشكالية الديمقراطية لا تتعلق بحقيقة التعبير عن رأي الأغلبية، بل
تتعلق بحقيقة إحكام الطوق بواسطة النخبة، أو الملأ إن شئت، حول رقاب الذين
ينادون بالعودة إلى الاستظلال بحكم الإسلام.
وعندما تجاهلت جبهة الإنقاذ المَعْلَمَ الإسلامي المميز، ورضيت بالتنزل عنه
لصالح الديمقراطية، لم يرض الديمقراطيون العلمانيون ذلك منها؛ لأن صهوة
الديمقراطية مخصصة لراكب واحد؛ وهو الراكب العلماني فقط! فعندما اجتاحت
جبهة الإنقاذ المراكز الانتخابية، وشكلت فوزاً ساحقاً في الانتخابات الأولى، كان
واضحاً أن صهوة الجواد الديمقراطي ستكون مخصصة لها. وهذا خلاف الهدف
المطروح أصلاً، وهو استغلال الديمقراطية لاحتواء الإسلاميين؛ فوقعت الكارثة!!.
ليست الإشكالية هي تسمية تلك الكارثة بالتطرف، ولكن الإشكالية هي أن
المنادين بالديمقراطية يستخدمونها في اتجاه واحد، وهو تحقيق أهدافهم فقط، فإذا
فاز الإسلاميون بأغلبية مقاعد المجلس النيابي من خلال انتخابات حرة، تنكّب
المنادون بالديمقراطية لمبدئهم الديمقراطي وأطاحوا بصرحه وإن أدى ذلك إلى سفك
الدماء وتعليق المشانق.
إن الإشكالية الأدهى من ذلك أن الإسلاميين النيابيين لم يفهموا اللعبة بعدُ!
13- إن جميع الشعارات الأرضية تُرفع عالياً باسم الشعوب، تحت دعوى
توفير أسباب السعادة الإنسانية، سواء كانت تلك السعادة متعلقة بآفاق الانفتاح العقلي
أو آفاق الانبساط المادي. ولا شك أن الشعار الديمقراطي يأتي في مقدمة تلك
الشعارات المرفوعة، وخاصة بعد انهيار الشيوعية وتداعي بنيانها.
إن الديمقراطية تُطرح الآن في المزاد الدولي باعتبارها المفتاح السحري
لكنوز الرفاهية البشرية.
إلا أن الواقع خلاف ذلك؛ حيث إن الجريمة والفقر لا يزالان يعششان في
أعرق الدول الديمقراطية كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
إن السعادة بمفهمومها المادي لم يستمتع بها في الإطار الديمقراطي سوى الملأ
وحاشيته.
وعند الاستقراء المحايد والنزيه نجد أن واحدة من إشكاليات الديمقراطية،
باعتبارها نتيجة واقعية وقائمة، هي إخفاقها في توفير أسباب السعادة للإنسانية على
المستويين الروحي والمادي.
14- في الوقت الذي تدعي فيه الدول الرائدة للديمقراطية أنها حاملة لواء
العدالة وممتشقة حسام الحرية وداعية حقوق الإنسان، فإنها هي نفسها، وليس
غيرها، التي تمارس أبشع أنواع القهر والقتل والبطش بالمسلمين في مواقع كثيرة
من العالم، بل تمارس ذلك على شعوبها أيضاً. إن الدول الديمقراطية الغربية لا
تزال تقود حملات الإبادة ضد الشعوب المسلمة، إما بإذكاء المؤامرات الداخلية التي
تؤدي إلى الفتن والاقتتال، كأفغانستان، أو بإثارة الحروب فيما بينها، كالكويت
والعراق وإيران، أو بتأييد ومساعدة من يباشر التصفية الجسدية للمسلمين، سواء
من خلال دعم الأنظمة الحاكمة بالعلمانية، أو من خلال دعم الدول والفئات التي
تمارس ذلك على مستوى الشعوب، كدعم الصرب في تصفية المسلمين في البوسنة
والهرسك، وكدعم روسيا في سحق المسلمين الشيشان.
إن الإشكالية المطروحة هنا هي: أن الديمقراطية ما هي إلا غلاف لوعاء
مملوء بالزيف والظلم والاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان.
15- إن واحدة من أهم النتائج التي توصلنا إليها هي أن النظام الحاكم الملأ
هو الذي يقرر مصلحته من مشاركة الإسلاميين في لعبته الديمقراطية كالأردن
والكويت ومصر أو عدم مشاركتهم كسوريا وتونس أو تصفية الوضع الديمقراطي
كلية إذا حاز الإسلاميون على الأغلبية كالجزائر.
وهذا يعني أن الديمقراطية هي ورقة في يد النظام الحاكم يلوّح بها كالطعام
الذي يدلى به إلى السمك، ما إن يراه حتى ينقضّ عليه يحسبه غذاء وما هو إلا
مقتله.
إن الإشكالية هنا أن الإسلاميين في ظل الأنظمة الديمقراطية لا يملكون زمام
المبادرة في أي شيء، بما في ذلك استمرار الديمقراطية التي اختاروا لأنفسهم أن
يكونوا جزءاً منها.
16- لقد حظيت الديمقراطية بدعم واسع النطاق من قِبَلِ دول الغرب،
وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أصبح شعار الديمقراطية من أبرز
الشعارات المرفوعة على المستوى العالمي، وأصبح مطلب تطبيق الديمقراطية في
العالم الثالث بالذات مطلباً ملحاً على المستوى الأممي، وراحت أبواق الأمم المتحدة
تردد هتافات الديمقراطية وتنادي بتبنيها كنظام حاكم في جميع دول العالم.
فما هو السر في كل ذلك؟ ! وهل دول النصارى ومن ورائهم اليهود
حريصون على الإطاحة بالحكام الديكتاتوريين الذين صنعوهم على أيديهم؟
إن المتمعن في سير تصاعد الصحوة الإسلامية في مختلف دول العالم
الإسلامي يمكنه أن يرى بوضوح أن الجماهير الإسلامية ستصل إلى مرحلة
المواجهة الشاملة مع تلك الأنظمة الطاغوتية التي تحكمها بغير ما أنزل الله. ولقد
أوضحت صفحات التاريخ أن إرادة الشعوب لا تستطيع الأنظمة الحاكمة قهرها إلى
الأبد؛ وهذا يعني من خلال المنظور المستقبلي أن جماهير الصحوة الإسلامية تغذّ
السير نحو استلام دفات السلطة في بلادها لترفع راية الإسلام خفاقة فوق روابيها.
وهذا ما لا يرضي النصارى ولا اليهود؛ إذ إن الخطوة التي تليها وهي تحرير
فلسطين وطرد اليهود منها وإرجاعها إلى جنة التوحيد ستكون خطوة حتمية.
ومن هناك برز السؤال المهم، وهو: كيف يمكن أن تلتف قوى اليهود
والنصارى على توجهات الصحوة الإسلامية لتحيد بها عن السير نحو تلك الغاية؟
إن الديمقراطية هي الحل! !
حيث إنها ستتيح الفرصة لمشاركة كافة الفئات في الحكم، سواء كانت
إسلامية أو قومية (سواء كانوا من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو غيرهم من
كافة الأديان والأعراق والأجناس) .
إن ذلك سيحقق نتيجتين هامتين:
الأولى: ألا ينفرد الإسلاميون بالسلطة.
الثانية: أن تتاح الفرصة تحت علم الديمقراطية لنشر الفساد والإلحاد [6] .
إن إشكالية النتيجة في هذه الحالة تتعلق بعدم إدراك الإسلاميين لطبيعة هذا
المخطط والنتائج الخطيرة المترتبة عليه.
17- لقد نجح اليهود والنصارى في جعل الإسلاميين يتبنون الدعوة إلى
الديمقراطية بحرارة واندفاع لافِتَيْن للنظر.
ولقد شهدت الساحة الإسلامية مدّاً لبساط المناداة بالديمقراطية، يقابله انحسار
في الدعوة إلى تبني الإسلام؛ وراح الخطاب الدعوي الإسلامي لدى كثير من
الحركات الإسلامية يلهث وراء هذا السراب اللامع الخادع.
ولقد زيّن الشيطان لكثير من المسلمين زخرف الديمقراطية، وأوهمهم أن
دعوتهم للديمقراطية لا تتعارض مع دعوتهم إلى الإسلام، ومن هنا، انبرى كثير
من الإسلاميين للمشاركة في اللعبة الديمقراطية مدعين أنها الطريق الأمثل والأفضل
والأحسن، وعند بعضهم الطريق الوحيد، للوصول إلى الحكم بالإسلام، وأن
الإسلام لا يمكن تطبيقه إلا من خلال المجالس النيابية المنتخبة بإدارة شعبية،
بزعمهم! !
وهكذا راح الإسلاميون ينفقون أموالهم بسخاء عجيب لدعم حملاتهم الانتخابية، موظِّفين شعارات الإسلام وتطبيقه في خدمة مأرب وصولهم إلى كراسي المجلس
العتيد، وقد تكشفت النتائج عن أمور مخزية! !
إن الإشكالية هنا تتلخص في أن كثيراً من الإسلاميين استنفروا جهودهم
وأموالهم تحت شعار: (لا وصول للإسلام إلا عن طريق الديمقراطية) ! !
18- إن الإشكالية السابقة أفقدت كثيراً من الإسلاميين تحسس المفهوم
الشرعي للولاء والبراء، بما أثر على موقفهم من الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله.
وقد حاول كثير من الإسلاميين المجلسيين بعد أن أصبحوا نواباً أن يحافظوا
على سمت مميز خاص بهم، محاولين بكل جهودهم أن يتمنّعوا، ويستعصوا على
المناورات الحكومية التي تريد توظيفهم في تنفيذ مخططاتها. ولكن للأسف لم يصمد
كثير منهم في قلعة ذلك التمنّع، فاستطاعت الحكومات بأساليبها الشيطانية أن
تطوّعهم، عبر وسائل الإغراء والتحذير، لصالح مآربها. وشيئاً فشيئاً فَقَدَ عدد من
النواب الإسلاميين تميزهم وصاروا جزءاً لا يتجزأ من توجهات الحكومة التي لا
تحكم بما أنزل الله. وقد سعى عددٌ من الحكومات إلى اختيار بعض وزرائها من
الإسلاميين المنتخبين نيابياً؛ وما إن دخلوا الحكومة حتى أصبحوا بوقاً من أبواقها،
خلافاً لحالهم قبل دخولها، والأشد إيلاماً من ذلك أنهم أعطوا أصواتهم النيابية ضد
بعض المشاريع الإسلامية التي عرضت على تلك المجالس، محادّين في موقفهم
ذلك لله ورسوله وللمؤمنين، وموافقين للطاغوت والشيطان والهوى؛ فلا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن إشكالية النتيجة في هذه الحالة هي فَقْدُ الإسلاميين النيابيين لمعالم الولاء
والبراء، وهم مستبشرون! !
19- لا شك أن الإشكالية السابقة لم تحظ بمباركة وتأييد كثير من الإسلاميين، وقد أدى ذلك إلى انشقاق بين الإسلاميين أنفسهم، بين الموافقين وبين الرافضين.
وكذلك لم يسلم معسكر الموافقين من الانشقاق؛ ذلك أن الإسلاميين الموافقين
على المشاركة في المصيبة الديمقراطية ينتمون إلى أحزاب إسلامية مختلفة ترفع
شعارات شتى. وهكذا راح الإسلاميون يشهّرون ببعضهم على الملأ خدمة
لمصالحهم الذاتية أو مصالح الأحزاب والجماعات التي ينتمون إليها، غير عابئين
بما يعود من ذلك من خسائر فادحة على سير العمل الإسلامي وانبثاق دعوته
المباركة.
وانشقاق آخر دوماً يأخذ مجراه بين الإسلاميين الذين تنجح الحكومة في ضمهم
إلى صفوفها كوزراء؛ وبين الإسلاميين الذين وقف حظهم العاثر (حسب زعمهم)
عند حدود وصولهم كراسي المجلس ولم يتجاوزوه إلى كراسي الوزراة! !
وانشقاق آخر يخط طريقه بعنف وشدة يحدث بين القبائل والعشائر والعوائل
التي ينتمي إليها أولئك الإسلاميون النيابيون المختلفون، تعصباً لنوابهم، لا يغذيه
إلا الانتماء مجرد الانتماء لتلك القبائل والعشائر والعوائل.
وهكذا تتعدد الانشقاقات وتتنوع الاختلافات، التي لا تعود على العمل
الإسلامي إلا بالضعف والتشتت والانكسار.
تلك هي إشكالية هذه النتيجة الخطيرة.
20- ومن الغرائب حقاً، أن أولئك الإسلاميين النيابيين المختلفين فيما بينهم،
لم يقفوا من خصومهم العلمانيين كموقفهم من بعضهم البعض.
ففي الوقت الذي راح أولئك الإسلاميون النيابيون يقطعون جسور الوصال فيما
بينهم، فإنهم راحوا في ذات الوقت يبنون تلك الجسور مع العلمانيين بشتى راياتهم
ومختلف شعاراتهم.
إنها مفارقة عجيبة حقاً.
ولقد شهدت الساحات الانتخابية قيام تحالفات مثيرة للاستغراب بين جماعات
إسلامية تنادي بالإسلام وأحزاب أرضية تحارب الإسلام جهاراً نهاراً؛ بل أكثر من
ذلك قد حصل؛ حيث وافقت بعض الأحزاب الإسلامية أن تنزل إلى الساحات
الانتخابية مستظلة بمظلات الأحزاب العلمانية، كمظلة حزب الوفد المصري
العلماني. ولتسويغ ذلك فإن بعض الشخصيات الإسلامية راحت تنفي بكل ما أوتيت
من قوة البيان صبغة العلمانية عن تلك الأحزاب [7] .
إن إشكالية النتيجة هنا تتقرر في أن الإسلاميين النيابيين أقاموا جسور الود
والوصال مع العلمانيين خدمة للديمقراطية، ونحروا علاقات بعضهم ببعض على
مذبحها.
21- ومن ذلك يتبين لنا ما يمكن أن تجنيه التوجهات الديمقراطية من التمكين
والتوطد، مشيدة ذلك على قاعدة متينة، من تأييد الإسلاميين النيابيين؛ ذلك أن
توطيد دعائم الديمقراطية له روافد شتى، منها ما ذكرته في الإشكالية السابقة،
ومنها ما هو نتاج التزاوج الفكري بين الطرح الإسلامي والطرح العلماني. إن هذا
التزاوج وهو ما تدعمه جميع المؤسسات النصرانية واليهودية سيقود التيار الإسلامي
النيابي في نهاية المطاف إلى التبني الكامل لحماية ما يطرحه العلمانيون؛ لأن جميع
ذلك لا حرج فيه ولا تثريب عليه، طالماً تم تحت راية الديمقراطية التي وافق
الجميع من الإسلاميين وعلمانيين أن يستظلوا بها.
بل إن العلمانيين قد أصبح لهم من المسوّغات والحجج القوية ما يردون بها
على الإسلاميين النيابيين إذا اعترضوا أو تأففوا من بعض نتائج التصويت التي تتم
تحت مظلة المجلس النيابي في غير صالح الإسلام، أو إذا استاؤوا من بعض ما
يكتبه العلمانيون في الصحف والمجلات ساخرين من الإسلام ودعاته..
إنهم سيقولون لهم ببساطة: هذه هي الديمقراطية ... إنها تعني حرية الرأي
وهذا رأينا، ولا حق لكم في الاحتجاج عليه طالما أنتم رضيتم بالديمقراطية،
وطالما أننا لم نخرج عن حدودها.
وهكذا فإن علمنة المجتمع أصبحت مسوغة؛ لأنها لم تتم بواسطة انفراد
العلمانيين بالسلطة، بل تمت بمشاركة الإسلاميين فيها، سواء على مستوى المجلس
النيابي أو على مستوى الحكومة.
إنها إشكالية مزدوجة، إشكالية حرية نشر الفكر العلماني، وإشكالية علمنة
المجتمع بمشاركة الإسلاميين!
22- لقد طمع كثير من الإسلاميين في تطويع الديمقراطية لصالح العمل
الإسلامي، ولقد أخفقوا في ذلك أيما إخفاق. ونحن نعتبر أن هذا الإخفاق كان
طبيعياً ومتسايراً مع السنن الربانية، فقد قضى الله في سنته أن نصره للمؤمنين
مرتبط بنصرهم لدينه على الوجه الذي أنزله في كتابه وبينه رسوله -صلى الله عليه
وسلم-. قال تعالى: [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [محمد: 7] ولما
كانت الديمقراطية مضادة للإسلام ومخالفة لعقيدته وشريعته، فإنه من الجهل البيّن
أن تتخذ وسيلة وطريقة لنشره ونصره.
إن إشكالية النتيجة هنا تتوضح في عدم تبين الإسلاميين النيابيين لهذه الحقيقة
الناصعة التي دُونَها ضياء الشمس.
إن عدم التبين هذا، هو الذي جعل بعض الكتاب الدعاة من الإسلاميين
المعروفين والمشهورين يعمدون إلى كتابة مقالات وكتيبات يسوّغون فيها مشاركة
الإسلاميين في المجالس النيابية والحصول على حقائب وزارية!
وإنني أدعو هؤلاء الدعاة إلى قراءة هذه الكلمات بإمعان وتفحّص متجردين في
ذلك من أحكامهم المسبقة غير المؤسسة على أدلة يعتد بها ويعتبر.
إن إشكالية النتائج، كما ذكرتها جديرة بالدراسة والاعتبار من قِبَلِ جميع
الإسلاميين المنساقين في دهاليز الديمقراطية المظلمة.
23- إن سقوط كثير من الإسلاميين في هوة الديمقراطية السحيقة قد أطاح
بالمشروع الحضاري الإسلامي الذي ينبغي بناؤه على أنقاض المشروع الحضاري
الغربي الذي نجح أيما نجاح في التغلغل داخل حصوننا في كافة المجالات الحياتية
بأنماطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها؛ هذا فضلاً عن
حالات التصدع والتشويه التي أحدثها في الجدر العقدية للأمة الإسلامية.
إن انجراف الإسلاميين وراء سراب الديمقراطية قد بدد الآمال في بلورة
أوضاع إسلامية صحيحة حاكمة وغالبة، وإن تجدد تلك الآمال مرتبط ارتباطاً وثيقاً
بالعودة الصادقة لهذه الأمة إلى الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح، ذلك الفهم
الذي جمع بين العلم والعمل.
إن أمتنا الإسلامية بحاجة ماسة إلى تأطير توجهاتها الدعوية بأطر مؤسسية
تأخذ بأسباب العصر المتفقة مع عقيدتها والتي تختط طريقها وفق مسالك متميزة
مصطبغة بصبغة الله تعالى، لا بصبغة المناهج والآراء والأساليب المستوردة
كالديمقراطية وأشباهها. إن إشكالية النتيجة هنا مجسدة في المعاول الديمقراطية التي
تهدم المشروع الحضاري الإسلامي خطاباً وحركة.
وأخيراً: فإن إشكالية النتائج كما ذكرتها، وهي ثلاث وعشرون إشكالية
جديرة بالدراسة والاعتبار من قِبَلِ جميع الإسلاميين المنساقين في أنفاق الديمقراطية
المظلمة.
__________
(1) صحيفة (الوطن) الكويتية 28/2/94.
(2) صحيفة (شؤون عربية) 16/9/94.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.
(6) لقد فصلت هذه النقطة في كتابي (الانهيار) الجزء الأول فليرجع إليه.
(7) راجع كتاب (الإسلاميون وسراب الديمقراطية) للأستاذ عبد الغني الرحال.(119/96)
منتدى القراء
حددت الهدف! !
بقلم: عصام الناصر
بالرغم من هول النكبات، ومرارة الواقع، وقسوة الحقيقة التي ترفل بها حياة
رامي فما زال يتخبط في سيره..
تهتز مبادئه أمام كل ناعق.. شبكة من الضياع والتشتت معششة في عقله، لم
يحدد هدفه وحقيقة سيره! ! ولم يحبك فصول حياته، ولم يرسم خريطة دربه؛
فغرق في مستنقعات ضحلة.. تاهت به الأيام، وغررت به الأقلام..
الكل يشير إليه بأصابع الاتهام، ويرمقه بنظرات الشك! !
بصعوبة يصل إلى مكتبه، ويجلس ... ضربات قلبه متسارعة كعقرب
الثواني في الساعة الحائطية التي أمامه.
يُقلم أظافره بعصبية، ونظراته هائمة، وعقله منشغل في التهمة الأخيرة التي
علقته، يخلص يده من فمه، ويتركها تداعب وريقات على المكتب بعد أن تكونت
حلقة من علامات الاستفهام في فلك عقله المنشغل.
وفي لحظة.. يتبدد كل ذلك عندما أنار الزر الأخضر الذي أمامه علامة على
طلب المدير له.. ينهض بهدوء.. ويمسح جبينه بمنديله من حبيبات عرق اجتمعت
حوله.. ثم خرج.
.. وبين النظرات الفضولية في المؤسسة، وبكل ثقة.. اتجه نحو غرفة
المدير.
لم يستطع أن يخفي عن نفسه ذاك الشعور الذي داهمه. لكن تفهّم المدير
وموضوعيته المعتادة عززت من فرص الشجاعة والأمن لديه.
طرق الباب وولج.. أقبل نحو المدير، ورأسه متدل إلى الأرض.. ثم توقف، وقال وقد حشد ما يملك من نبرات الأدب: نعم يا سيد سامي..
.. وبكلمات حانية صادقة قال المدير: كيف حالك يا رامي؟
رفع رأسه ناحية المدير وعلق بصره ببصره، لينسج حواراً بلغة العيون لا
يفهمها إلا مالكها، يرسل الأستاذ سامي نظرات العتاب الممزوجة بالخيبة، ويرد
رامي بنظرات الاعتراف، وطلب العفو.. ثم ينقطع حوار النظرات بقول المدير:
إلى متى تعيش في الكهوف والجميع في نور الشمس، إلى متى تتخبط في
دياجير الظلمة؟ أتعتقد أن الصمت علامة للجبن أو الجهل؟
.. اعتبرتك مثل أخي، ورحبت بعملك في المؤسسة.. شدني ذكاؤك،
وحسن أدبك، ونشاطك في عملك، ولم أتوقع يوماً أن تستغل مكانك لمصلحتك.
وبكلمات فقدت بعض هدوئها قاطع المدير قائلاً: معذرة يا أستاذ.
أعترف بتقصيري. لكن.. أقسم بالله أنني بريء مما نسب إليّ، وبما لطخ
بي.
.. ترتكز عينا المدير على وجه رامي.. الذي أحس أنها سياط تلسع وجنتيه، ثم قال المدير:
(من يعبث بالطين تتسخ يداه، فرصة أخيرة. ولك أن تختار، انصرف) .
ذيول من الخيبة يجرها رامي خلفه وهو خارج يغلق الباب.. لم يستطع أن
يخنق تلك الدموع التي أبت إلا أن تطفو في حدقتيه.. تنفس بعمق، وصراع على
أوجه قائم في رأسه، ترجم له تنهد ساخن، وحركة غير منضبطة في أصابعه..
.. وبخطوات مزيفة بوقار يقطع الممر إلى مكتبه الذي اكتظ بالموظفين الذين
يرقبونه.. نظرات حارة ومحرقة أحس بها..
.. تجرأ أحدهم: واقترب إلى رامي من الخلف ووضع يده على كتفه وقال
بصوت يشبه فحيح الأفعى: (هل طردت؟ !)
.. ازداد ذاك الصداع، وتلاحقت أنفاسه.. فالتفت إلى الخلف وقال صارخاً: (بل حددت الهدف) .(119/105)
منتدى القراء
الإيمان بالغيب في حياة المسلم
عبد السلام سعيد كريم
إن للمؤمن سمات بارزة من أهمها الإيمان بالغيب، وهو في الحقيقة: الوحدة
الشعورية الإيجابية الفعالة الآخذة الأثيرة. والإيمان بالغيب يوحي إلى النفوس القيام
بالواجبات الدينية الحيوية، وهذه هي ميزة العقيدة الإسلامية الغيبية، التي تمتاز بها
النفوس المؤمنة. والإيمان بالغيب كما قال سيد قطب: (هو العقبة التي تُجتاز
فيجتاز الإنسان بها مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدرك حواسه، إلى مرتبة
الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي
تدركه الحواس.
وقد رأيناها في حياة الصحابة (رضي الله عنهم) ، الذين هم كالنجوم في
الاقتداء والاهتداء في ظلمات الطرق والسبل، إن الإيمان بالغيب أثّر في حياتهم
تأثيراً كبيراً، وأحدث في قلوبهم حركة عظيمة مثالية نموذجية الاتباع، وانقلبت به
حياتهم الفردية والأسرية والجماعية، من جهة مظلمة إلى جهة منيرة واضحة،
أُضيئت بها نواحي الحياة كلها، في تسامح القلوب ورحابة الصدور: قد تخلقوا
بخلق (الغفّار) ، وفي شدتهم في الدين وغضبهم للحق: قد تخلقوا بخلق (القهّار) ،
وهم في نزاهتهم وعفتهم وطهارة ضمائرهم تخلقوا بخلق (القدّوس) فليس في قلوبهم
أمراض التلاحي، والغيبة، والنميمة، والبهتان، والكذب، والخداع، والغدر،
والمكر.
فما هو العمل الذي يرجع إليه الفضل في تكوين عبقرياتهم وشخصياتهم النادرة
التاريخية الحية؟
لا شك أن ذالك العمل: هو عمق إيمانهم بالغيب، والتمسك به، ورسوخ
عقيدتهم بما فوق المحسوسات، وإن قوة الإيمان بالغيب في هذا الكوكب الأرضي
المحدود المجال، صانهم عن الظلم والاضطهاد والفوضى والإرهاب والقسوة،
والذين اقتدوا بهديهم من المسلمين على مدار الأيام والليالي لا يفكرون في الإقدام
على عمل تخريبي ضد الإنسان والإنسانية أبداً؛ فهم ينظرون في كل عمل يريدون
الإقدام عليه: هل هذا العمل ينفعهم أو يضرهم في دينهم ودنياهم؟ هل هذه الخطوة
ضد المنهج السماوي أم لا؟ هذه المقدمات تصونهم عن الشرور والظلم الهمجي،
كما أنهم يعتقدون بأن الله تعالى وإن لم يروه فإنه يراهم ويراقبهم من فوق عرشه،
فإليه يصعد الكلم الطيب، مع علمه سبحانه بكل ما يصدر عن الإنسان من عمل.
إن الإيمان بالغيب هو مصدر التورّع والتقوى، وهو عامل مهم من عوامل
التربية الشخصية؛ إذ يجعل الناس ربانيي التصور، ربانيي الشعور، ربانيي
السلوك.(119/106)
منتدى القراء
محاسبة النفس طريق لإصلاحها
نايف محمد خيران
هل لنا أن نتساءل:ماذا سيكون مصيرنا؟
النقطة التي أرغب أن أوصي بها نفسي المقصرة أولاً، ثم أوصي بها إخواني: أننا بشر كرّمنا الله على غيرنا من سائر الخلق بنعمة العقل وفضلنا تفضيلاً.
فلا ينبغي أن تمر أيامنا هباء: نأكل ونشرب وننام دون تحمّل أي مسؤولية
ودون أن يكون لنا هدف سام لوجودنا نسعى إلى تحقيقه.
ولو أخذنا مثالاً حياً من واقع حياتنا لوجدنا كثيراً من المؤسسات الاقتصادية
والمنشآت التجارية تنشئ قسماً مختصاً يدعى: (قسم المحاسبة والتدقيق) تعرف من
خلاله الوضع المالي لها من حيث الأرباح والمصروفات وما إلى ذلك، أي تعرف
ما لها وما عليها عبر عمليات حسابية منظمة حتى تسير في دربها وتذلل كافة
العقبات والصعوبات التي تعترض مسيرتها وتهدد بقاءها.
أوَليس من الأجدر بنا أن نضع لأنفسنا برنامجاً خاصاً لمحاسبة أنفسنا وتقويمها
إن هي أخطأت؟
ولا يسلم أي شخص منا من الخطأ: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين
التوابون) وليست المشكلة في اقتراف الخطأ إنما المشكلة الكبرى في الاستمرار في
الخطأ، ويأسف المرء منا أننا نجد بعضنا لا يبالي، ويمضي على ما هو عليه من
غير اكتراث، وكان الأجدر بمن كان كذلك أن يسأل نفسه هذه الأسئلة ويجعلها
قاعدة يسير عليها:
ما الهدف من وجودي في هذا الكون الواسع؟ وهل بإمكاني أن أكون عضواً
نافعاً؟ وكيف أحقق ذلك؟ ما العيوب والأخطاء التي قد تصدر عني؟ وكيف
أكتشفها وأزيلها؟
ما الأمور التي كان ينبغي أن أتصف بها؟ وكيف أتصف بها؟ وكيف
أستطيع المداومة والاستمرار عليها؟
كيف أواجه اليأس والإحباط (الشعور بالإخفاق) وكيف أحاربه بهمة عالية؟
فحينما يسأل كل فرد منا نفسه تلك الأسئلة ويجيب عنها بصدق، ويحاسبها
على التقصير والإهمال، ويعاهد الله على الالتزام والامتثال بتلك القاعدة فسوف نجد
إن شاء الله في مجتمعنا شباباً كفؤاً يُعتمد عليهم بل ويُفتخر بهم؛ لأنهم بعيدون عن
صفات الطيش والغرور والهوى.(119/108)
منتدى القراء
الأمة والحاجة إلى الصبر
عبد الله بن محمد السرحاني
تمر أمتنا الإسلامية اليوم بمحن عظيمة وجراح أليمة؛ ترى جراحها تنزف
مرة في القدس الشريف، ومرة في لبنان، وأخرى في صراعات متوالية في
أفغانستان والبوسنة والشيشان وألبانيا، كل ذلك وغيره شكل جرحاً جديداً للمسلمين.
والمشكلة: أن كثيراً مِمّنْ يُحسبون على هذه الأمة لا يعلمون أن ألبانيا مسلمة، كما
كانوا يجهلون هوية البوسنة وعقيدتها قبل المجازر الصربية؛ والله المستعان.
نَعم! ومع هذا يزيد الأمر سوءاً حينما ترى شباباً أغراراً يُحسبون على هذه
الصحوة المباركة يخوضون خوضاً في هذه الجراحات دون علم أو بصيرة؛ فمرة
ترى الواحد منهم يخبر الناس أن هؤلاء يستحقون ما أصابهم، وأن ما جاءهم إنما
هو ثمرة لأعمالهم وسيئاتهم، ومرة تراه يحكم بالحق لهذه الفئة أو تلك، ومرة تراه
يائساً قانطاً.. يقول: لا فائدة ... لقد عملنا ودعونا وفعلنا ولكن ... !
لقد نسي كثيرون أن الأمة لا زالت بخير والحمد لله ونسي كثيرون أن هذا
الدين يستعصي على الفناء، وأن سنة الله في الصراع بين الحق والباطل باقية إلى
يوم القيامة، أن هذا الدين كلما قُدّمت له الدماء والأشلاء زادته تمكيناً وثباتاً ورسوخاً.
ولكي نكون على بصيرة فيجب التنبيه إلى أمر على الأمة أن لا تنساه؛ لكي
تسود وتقوى شوكتها وعزتها ويزيد عزمها: هذا الأمر هو: (الصبر) : [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]
[آل عمران: 200] [وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: 1 3] .
إن الأمة حينما تنسى أو تتناسى هذا الخلق العظيم فإنها سرعان ما تتكاسل
وتتقاعس. فلننظر كيف ساد الرعيل الأول في فجر الإسلام الذي كان في مقدمة
ركبه الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وهو صابر
محتسب. عانى رسولنا عليه الصلاة والسلام كلا النوعين، من الصراع: واضحه
وخفيه، عليّه ودنيّه، فكان ثابتاً لم يتزحزح؛ وضعوا سلى الجزور على كتفه
وسبوه وشتموه، ومع ذلك كله فقد حاولوا إغراءه بالمال والجاه فظل ثابتاً صابراً
محتسباً. إنه الصبر والثبات في أعظم الصفحات. إنه الصبر والثبات في أسمى
المعاني وأوسع الآفاق.
أما الصحابة رضي الله عنهم والذين اتبعوهم بإحسان فما كان لهم أن يغفلوا
عن هذا الأمر العظيم بعقيدة وصبر ويقين، فالصبر قرين اليقين: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: 24] .
ولذلك قال سفيان: (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين!) إن الأمة لن
تنال ما تصبو إليه إلا بالصبر على الشدائد والمحن؛ والناس معادن، وعند الابتلاء
يبين المعدن الصافي مما تشوبه الشوائب.(119/109)
منتدى القراء
عجلة الحياة وسير الإنسان فيها
لمياء بنت عبد الله السعودية
ها نحن نعيش حياتنا وقد مضت من أعمارنا السنون والشهور.. وما زلنا
سائرين في عجلة الحياة.. نسير معها دون أن نعلم لذلك نهاية.. حتى ربما أصبح
يوم أحدنا عبارة عن ضحك وحزن وكلام.. بل ... قل وحتى عبادة.. وما زالت
العجلة في الدوران.. وما زال الإنسان يجهل الكثير عنها.. ومع ذلك يسير لأنه لا
يستطيع أن يوقف نفسه.. فالأمر ليس بيده.. ربما يفكر هل سيظل على حاله:
ليله كنهاره.. وأمسه كغده؟ ربما يظل على هذا الحال إن استبعد المشوار..
فتحول الأمر إلى عادات تجعل الإنسان ضعيف الهمة.. متبلد الأحاسيس ... يصبح
الخطأ والصواب في قلبه واحداً..
ولكن لا بد أن يقف يوماً فإما أن يحاسب نفسه ويقومها ويقوي قلبه بالتقرب
إلى خالقه، أو أن تكون نهايته نهاية سوء، فيموت ميتة يكون معها الشجر والدواب
أفضل منه..
أو يتفطن في المسيرة منذ بداية مشواره.. ولا يتعجل.. ولا يستبعد الطريق
فيكون العكس تماماً واضعاً أمامه أنه إن فتر لحظة فإن محبة الله عز وجل ستحركه.. [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] . والله المستعان.(119/110)
منتدى القراء
حديث صريح مع العلمانيين
صالح علي الكناني
لأنكم تزعمون أن التشريعات الأرضية والنظم الوضعية والقوانين الجاهلية
أحسن من حكم الله (تعالى) : فقد [كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ] [الممتحنة: 4] . ولأنكم تسعون جاهدين لتعطيل حكم الله
وتحويل الإسلام من قوة مهيمنة على كل مناحي الحياة إلى طقوس محصورة في
جوانب شخصية لا تمس واقع البشر من قريبٍ ولا من بعيد، ولأنكم تجاهرون
بحرب الإسلام صراحة كما هو حال عساكر أتاتورك اليوم وغيرهم من الذين
استغلوا ما تحت أيديهم من سلطات وعتاد لقمع خيار الشعوب، ولأنكم ترفعون
شعار الديمقراطية الزائفة وهدفكم منها فقط: القمع والقهر لشعوبكم، ولأنكم خذلتم
أمتكم وجلبتم لها العار ولم يسجل لكم التاريخ موقفاً أعليتم فيه من شأنها أو انتصرتم
لكرامتها، وكل متمسكٍ بدينه لديكم متطرف إرهابي أصولي ظلامي: من أجل ذلك
كله ومن أجل غيره: اعلموا وأعلموا سدنة المعبد الديمقراطي أننا بإذن الله ثابتون
على مبادئنا وقيمنا مهما بطشتم ونكلتم وملكتم من قوة وعتاد [وَسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا
أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] [الشعراء: 227](119/111)
الورقة الأخيرة
بين الحق والرجل؟ !
بقلم: محمد محمد بدري
كلنا نؤمن أن الحق معصوم وثابت، وأمّا الرجال فأعراض زائلون، يقاسون
بالحق ولا يقاس الحق بهم! !
وكثير منا يعلم ويردد قول مالك رحمه الله: (يؤخذ من قول كل أحد ويرد إلا
صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم -) .
فأين واقعنا مما نؤمن به؟ وأين ممارساتنا مما نعلم؟
لنتأمل في أنفسنا: ما هو محور الولاء فيها: (أهو الرجل أم الحق؟
وماذا نفعل حين تقدم لنا فكرة (الرجل) الذي نحبه تحت اسم (الرجل) الذي
نكرهه؟ .. ألا يدفعنا ذلك إلى رفضها، ربما دون النظر فيها؟ ! ! وهل يسهل
علينا أن نرى الرجل الذي نحبه يخطئ.. أو نصف رأيه بأنه (خطأ) ؟
ولنتأمل في واقعنا: ما الروح التي تسيطر على عملنا الإسلامي؟ أليست
روح القائد الملهم الوحيد الذي يصنع المعجزات، ولا نتصور بقاء العمل مع غيابه؟ !.. هل نتصور إمكانية تنحيته عن العمل، أم أننا نربط بينه وبين العمل
ربطاً مصيرياً مهما كانت أعماله وتصرفاته؟ !
إن واقعنا يؤكد أننا نسلك عملياً ما نرفضه نظرياً من شعارات المبتدعة..)
المريد أمام شيخه كالميت بين يدي مغسله) . (من قال لشيخه: لِمَ؛ فلن يفلح أبداً) .
بل إن بعضنا قد ينحدر إلى درك سحيق فيكون شعاره في العمل: (وافق أو
نافق أو فارق) .
ونحن لا نتهم أحداً، وإنما ننصح لأنفسنا..
إن من سنن الله في خلقه أنه حين تغرب الفكرة يبزغ الصنم أو الشخص،
ونحن قد ضيقنا مساحة الفكرة في عملنا الإسلامي حتى ساوت الصفر، فصار
الرجل عندنا مكان الحق، وأصبح الإنسان بديلاً للبرهان! !
ولا شك أن هذا خطأ تجب التوبة منه (فالرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم
صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو
فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر
مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين) [1] .. بل نجله ونحترمه وندعو له
وننتفع بعلمه، ولا يتعدى به حد الرجل؛ فنعتقد فيه العصمة الخطأ، فإذا أخطأ لم
نُقِلّ من قيمته وقدره.
هذه هي ميزة أهل السنة والجماعة دون غيرهم: إن انتسابهم وانتماءهم
للكتاب والسنة، ومتبوعهم هو محمد، وأما الرجال عندهم فأدلاء على الحق [2] ،
فما وافق من كلامهم الحق أخذوا به وما لا فلا.
وهذا هو صمام الأمان في العمل الإسلامي.. أن يرى القادة السبيل القاصد
لتحقيق الأهداف، وتمتلك القاعدة الفرقان بين الحق والباطل، فلا تضع القائد مكان
الحق أو الرجل مكان البرهان.. بل تختار قائدها وفق برنامج عمله، وليس لكونه
ملهماً أو تاريخياً! ! وكما تنصر الحق في مواجهة الباطل، فإنها تنصر الحق في
مواجهة طغيان الرجال بالطاعة المبصرة التي تقول: (نعم) للصواب.. و (لا)
للخطأ.
إن هدفنا من هذه الكلمات.. ليس تجريح العلماء والدعاة أو تقديسهم، وإنما
الهدف أن نعرف جميعاً أن الحق حق دائماً، أما الرجل فيمكن أن يكون محقاً أو
مبطلاً.. وهذا هو الموقف السليم بين الحق والرجل..
__________
(1) ابن القيم أعلام الموقعين ج3 ص 283.
(2) كما قال الشاطبي في الاعتصام ج2 ص 355 362.(119/112)
شعبان - 1418هـ
ديسمبر - 1997م
(السنة: 12)(120/)
كلمة صغيرة
لماذا الإسلاميون فقط
من المضحكات المبكيات في واقع كثير من دول عالمنا العربي الإسلامي
الموقف المتشنج لحكومات تلك الدول من الرفض المطلق لأي تجمع إسلامي أن
يعمل في الهواء الطلق أسوة بالفعاليات المسموح لها؛ لتعمل وتدعو وتشارك في
صنع الواقع المعاش للأمة. حتى وصل الأمر إلى تقنين ما يمنع ذلك ويجعله في
حكم الممنوع وغير المقبول مثله مثل أي مواد محظورة.
وهذا الموقف لم يأت من فراغ؛ وإنما هو نتيجة حتمية للعلمنة والتغريب
اللذين زرعهما المستعمر قبل أن يرحل وتركهما في أيد أمينة رباها على عينه حتى
صارت وفية لها تناصب أي تجمع إسلامي العداء، وتعمل على منعه بكل الطرق
المتاحة؛ وكأن هؤلاء الإسلاميين لا نصيب لهم من الواقع، ولا رصيد لهم في تلك
المجتمعات.. مع أن ذلك يناقض ديمقراطياتهم الفجة ودساتيرهم المزيفة.
وأخيراً سمحت إحدى الدول العربية لحزب يساري بالعمل أسوة بغيره من
الأحزاب الهزيلة في ذلك البلد؛ بينما يعاني الإسلاميون فيها الأمرّين؛ مع أنهم ذوو
اتجاهات ورؤى معتدلة.
إن الحجْر على حرية الرأي لفئات دون أخرى، ومطاردة فئات بدعاوى
متهافتة مكرورة يولد التساؤلات الحائرة، وتنشأ على ضوئه المنطلقات المتطرفة؛
فإلى متى ستبقى العصا مرفوعة ضد الإسلام ودعاته؟ ويتساءلون.. لماذا تخرج
تلك الاتجاهات المنحرفة؟!
أعيدوا النظر في الموقف الظالم من دعاة الفكرة الإسلامية، وليعملوا في
وضح النهار حتى لا يلجأوا إلى العمل السري بدون علم صحيح ولا موجه مخلص؛
وهكذا تحصل المآسي التي هي نتيجة طبيعية للكبت والظلم!
فهل يعي ذلك من يهمهم الأمر؟ أم على قلوب أقفالها؟
والله المستعان،(120/1)
افتتاحية العدد
رسالة مهمة: فهل نعيها؟ !
الدولة التي ترعى الإرهاب ... وصف يكون مقدمة، بل حجه لممارسة أنواع
من الضغوط السياسية والاقتصادية ضد الأنظمة والحكومات التي يشم منها مواقف
استقلالية ضد هيمنة القطب الأوحد في النظام العالمي الجديد ومصالحه؛ حيث تقف
دولة القطب الأوحد دائماً موقف الخصم والحكم، وغالباً ما يكون توصيف الحيثيات
واستعراضها على نسق ما ورد في قصة الذئب والحمل.
وتستخدم (راعية السلام) منظمات الأمم المتحدة ولا سيما مجلس الأمن أداة
لتقرير الحكم ولتمريره وتنفيذه؛ وذلك من منظور مصالحها، ومن منطلق هيمنتها،
بل إنها لتستعدي الدول الغربية، ويصل الأمر أحياناً إلى الضغوط عليها للمشاركة
في الممارسات التي تكون غالباً قاسية، وأحياناً متشنجة؛ وتلك قاعدة مضطردة تنفذ
بحرص وتُتابع بحزم.
إلا أنها قاعدة ذات استثناء واحد؛ حيث تتحول راعية حقوق الإنسان إلى
راعية لإرهاب دولة ضد شعب، وغطرسة جيش ضد مدنيين عزل.
فكم من قرارات رفضت إسرائيل أن تلتزم بها؛ ورفضت الولايات المتحدة أن
يوجه إليها اللوم، وكم من مجازر ارتكبتها عصابات اليهود ورفضت الولايات
المتحدة أن تدان.
لقد ظل الإرهاب الصهيوني يصول ويجول مختالاً وقحاً في ظل عناية وحدب
العم سام، حيث يشكل حبل المدد ومظلة الحماية التي تتسع باتساع سماء العالم،
وتتخلل شتى محافله.
ولقد استتر الخطاب الأمريكي خلف تأويلات اعتذارية، وتفسيرات تميل كل
الميل إلى الجانب الصهيوني، وما يزال.
ولكن الأمر تجاوز كل حد؛ حيث جاءت مؤخراً (أولبرايت) ، إلى الشرق
الأوسط تتحدث بلسان (نتنياهو) وتلوِّح بقبضة أمريكا. لقد بكت أولبرايت مع
اليهود، ولكنها كانت حازمة وصارمة مع أطراف السلام الآخرين على الرغم من
أن الاستقراء لحوادث سابقة يثبت أن القوة القاهرة لا تفرض على الشعوب حتى
ولو كانت مستضعفة إلا إذا استكانت هذه الشعوب.
وستظل تجارب أفغانستان وفييتنام والشيشان ولبنان، والصومال، وغيرها
شاهدة على ذلك.
ونجد أن أمريكا لا تنجح في فرض ما تريد إلا عبر عملائها الذين يروِّجون
لها، فقد أخفقت في لبنان وفي الصومال، رغم تواضع إمكانات المليشيات في كلا
الحالتين إلا أن القاسم المشترك بينهما عدم وجود عملاء نافذين تتوكأ عليهم في
تحقيق مآربها، ولذلك خرجت من هذه البلاد تجر أذيال الخيبة، فهل ذلك هو
السبب في إلحاح أولبرايت على ياسر عرفات في القضاء على ناشطي حركتي
(حماس، والجهاد الإسلامي) ؟ وهل ذلك المطلب هو مظهر جديد لترسيخ الإرادة
الأمريكية ضد الأمم والشعوب؟
إن ذلك الظن يؤكده ضلوع أمريكا في التغيرات التي حدثت في إفريقيا
وخاصة في زائير الديمقراطية؛ وضلوعُها في الأحداث الأخيرة هو التفسير القريب
لانتصار (كابيلا) في فترة زمنية قصيرة جداً.
فهل وعت تلك الأيادي حقيقة ما تشتهيه وتبتغيه أمريكا منهم؟ وهل وعوا
على الأقل أنهم بقطعهم العرق الإسلامي النابض في الأمة يكونون بذلك قد جاروا
على أنفسهم وأمتهم، وفقدوا شرفاً لا بد آت ببشارة النبي -صلى الله عليه وسلم-
بنصر أمة الحق على يهود.
ومن بين ذلك الركام يستطيع المرء أن يلتقط جذوة الأمل، ويعلن بيقين أن:
وعد الله آت، وأن الجمع سيهزم ما دام قد عثر على مثل الصخرة التي وقف عليها
من ازدادوا إيماناً ويقيناً عند رؤية الأحزاب فقالوا: [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ]
[آل عمران: 173] .
إن الحقيقة المرة التي باتت واضحة للعيان تشير إلى أن الغطرسة الصهيونية
والمواقف الأمريكية ما هي إلا صدى للتمزق العربي والخنوع والاستسلام والهرولة
البلهاء وراء وهم السلام.
وإننا لنلتقط من تاريخ عزة ديننا الخالد موقفاً لمعاوية رضي الله عنه حينما
علم أن هرقل عظيم الروم أعد جيشاً لغزو الشام مستغلاً ما بين معاوية وعلي رضي
الله عنهما من أحداث، فأرسل معاوية رسالة إلى هرقل فحواها: (إن شئت اتفقتُ
مع ابن عمي (يعني: علي بن أبي طالب) وبايعته، ثم تفرغت لحربك) فما أن
وصلت رسالة معاوية حتى أقلع هرقل عن الحرب.
لقد أكد ذلك الموقف معاني عدة، ليس أقلها أهمية ما بات معلوماً ومقرراً أن
أعداء المسلمين ليس لهم قوة إلا في تفرق المسلمين وتناحرهم.
فهل وعى كل ذي سلطان وأمر تلك الحقيقة؟ وهل تابوا وأنابوا فربحوا عز
الدنيا ونعيم الآخرة!
فإن لم يكن ذلك.
فليَثبُتْ كل مجاهد نذر أن يقف في وجه الصلف الصهيوني ... ليثبُتْ رغم أن
الثوب بالٍ والبطن خالٍ، والسلاح حجارة، ليثبتوا ... فقد يكون لهم نصيب من
التجارة الرابحة وحظ من الكرامة، ليثبتوا ... فقد يكون لهم شرف القلة الصابرة،
في زمن الغربة ...
لقد استخف كسرى بالرسالة والرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما أرسل
بضع رجال يأتونه بالرسول في الأصفاد لما علم برسالته، ولكنْ، في الوقت ذاته
كانت البشارة بنصرة الإسلام تملأ جنبات نفسه، وتسري في عروق أصحابه حتى
خرجت مواكب النور، ليراها كسرى عين اليقين ويتعلم الدرس المبين من ربعي
بن عامر: (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان
إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) .
ولكن يبدو أن الأعداء قد وعوا جيداً رسالة معاوية، فأخذوا يعملون على كل
ما من شأنه تفريق المسلمين، وأن يشيعوا بينهم الفتن على اختلاف ألوانها وأنواعها.
وكثيراً ما يقف المرء لا سيما وهو يطالع تخرصات بعض من أبناء جلدتنا
الذين يتكلمون بألسنتنا وهم يخوضون في مثل معاوية ويقول: يا ليت لنا مثل
معاوية.
وختاماً: هل وعينا رسالة معاوية؟ !(120/4)
دراسات شرعية
شهر رمضان.. وقفات وأحكام
بقلم: عبد الله الإسماعيل
يتضمن شهر رمضان مسائل مهمة يحتاج كل مسلم إلى مذاكرتها، أُوجزها في
هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: حكم الصيام:
إن أول ما فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة كان على التخيير: فمن شاء صامه وهو أفضل، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم أُلزم
الناس بصيامه حين نزل قوله تعالى: [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]
[البقرة: 185] ، وكان الحكم في أول الأمر: أن من نام بعد غروب الشمس وجب عليه الإمساك عن المفطرات، ولو استيقظ ليلاً، حتى تغرب الشمس من الغد؛ فعن البراء رضي الله عنه قال: (كان أصحاب محمد إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن حرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته، قالت: خيبةً لك. فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذُكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فنزلت هذه الآية: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ] [البقرة: 187] ، ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت: [ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حََتَّى يَتََبَيَّنَ لََكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ] ) [1] ...
[البقرة: 187] .
الوقفة الثانية: حكمة الصيام:
قال تعالى: [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [البقرة: 183] ، في هذه الآية إشارة إلى حكمة من حكم الصيام، وهي تحقيق تقوى الله؛ فإن النفس إذا تركت ما هو مباح في الأصل وهو الأكل
والشرب امتثالاً لأمر الله في نهار رمضان كان ذلك داعياً لترك المحرمات الأخرى، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [2] ، وقد هيأ الله لنا هذا الشهر
بإضعاف كيد الشيطان وشره كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا جاء
رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسُلْسِلت الشياطين) [3] .
ولا بد من توطين النفس وتهيئتها في أيام الصيام لتحقيق هذه الحكمة كما أمر
النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: (والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم
أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) [4] .
الوقفة الثالثة: فضل الصيام:
ورد في فضل الصيام نصوص كثيرة، وأعظم ما ورد فيه حديث أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يقول الله عز وجل كل
عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من
أجلي والصوم جنة [5] ، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى
ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) [6] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً
غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من
ذنبه) [7] .
الوقفة الرابعة: أحكام الصيام:
أولاً: يثبت دخول شهر رمضان برؤية الهلال؛ فإن لم يُرَ أو حال دون
رؤيته غيم أو قتر أُتِم شهر شعبان ثلاثين يوماً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال أبو القاسم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا
عدة شعبان ثلاثين) [8] .
والراجح أنه يكفي في ثبوت الرؤية خبرُ واحدٍ من المسلمين.
وهو مذهب الشافعي [9] ، والحنابلة [10] ، وقول ابن حزم [11] واختيار ...
ابن تيمية [12] وابن القيم [13] .
والدليل عليه قول ابن عمر رضي الله عنهما: (تراءى الناس الهلال،
فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه) [14] .
ثانياً: يحرم صيام آخر يومين من شعبان أو آخر يوم منه إلا أن يوافق ذلك
يوماً كان من عادته صيامه ك (الإثنين، والخميس) فيجوز عندئذٍ لحديث أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: (لا يتقدمن أحدكم
رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصمْ ذلك
اليوم) [15] .
ثالثاً: يحرم على القول الراجح وهو مذهب الشافعي [16] صيام يوم الشك
وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر؛ لحديث
أبي هريرة السابق، ولقول عمار رضي الله عنه: (من صام يوم الشك فقد عصى
أبا القاسم) [17] .
رابعاً: شروط وجوب الصيام ثلاثة:
1- العقل.
2- البلوغ.
3- القدرة عليه.
شروط صحة الصيام أربعة:
1- الإسلام.
2- العقل.
3- انقطاع دم الحيض والنفاس.
4- النية من الليل لكل يوم واجب.
لحديث حفصة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له) [18] .
وهذا نص صريح لاشتراط النية لكل ليلة؛ فمن كان مسافراً وقد نوى الفطر
من الليل، ثم عزم على الصوم بعد طلوع الفجر لم يصح صومه.
وينبغي على العبد أن يبتعد عن وسواس الشيطان في النية؛ فإن النية لا
تحتاج إلى تكلف؛ فمتى خطر بقلبه أنه صائم غداً فقد نوى.
خامساً: فرض الصيام:
الإمساكُ عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، لقوله
تعالى: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حََتَّى يَتََبَيَّنَ لََكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ
ثُمَّ أََتِمُّوا الصِّيَامََ إلَى اللَّيْلِ] [البقرة: 187] .
سادساً: مفطرات الصوم:
1- الأكل والشرب.
2- ما كان في معنى الأكل والشرب، وهو ثلاثة أشياء:
أ- القطرة في الأنف التي تصل إلى الحلق، وهو مأخوذ من قوله: (وبالغ في
الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أخرجه مسلم، فإنه يفهم أنه لو دخل الماء من الأنف
إلى الجوف أفطر.
ب- الإبر المغذية؛ فإنها تقوم مقام الأكل والشرب فتأخذ حكمها، وكذا المغذي
الذي يصل إلى المعدة عن طريق الأنف.
ج- حقن الدم في المريض؛ لأن الدم هو غاية الأكل والشرب فكان بمعناه [19] .
3- الجماع: وهو من المفطرات بالإجماع [20] .
4- إنزال المني باختياره بمباشرة أو استمناء، أو غير ذلك؛ لأنه في معنى
الجماع، ولأنه من الشهوة التي يدعها الصائم كما سبق في حديث أبي هريرة
مرفوعاً وفيه: (يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي) [21] ومعلوم أن من أنزل
المني عامداً مختاراً باستمناء أو غيره، فقد أنفذ شهوته ولم يدعها، أما الاحتلام
فليس مفطراً بالإجماع [22] .
5- التقيؤ عمداً، وهذا مفطر أيضاً بالإجماع [23] ، أما من غلبه القيء فلا
يفطر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض) [24] .
6- خروج دم الحيض والنفاس، بالإجماع [25] ؛ فمتى وُجد دم الحيض أو
النفاس في آخر جزء من النهار، أو كانت حائضاً فطهرت بعد طلوع الفجر فسد
صومها؛ ومن الأدلة عليه حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (أليس إذا حاضت لم
تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟) [26] .
7- اختلف أهل العلم في الحجامة: هل تفطر أو لا؟
وسبب الخلاف في هذه المسألة: التعارض الظاهر بين حديث ثوبان مرفوعاً: (أفطر الحاجم والمحجوم) [27] ، وحديث ابن عباس: (أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- احتجم وهو صائم) [28] ، واختلف أهل العلم في طريق الترجيح بينهما
لتعذر الجمع بينهما فاختار ابن تيمية [29] وابن القيم [30] وهو مذهب الحنابلة [31] ... ... ...
تقديم حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) لأنه ناقل عن الأصل، أما حديث
ابن عباس فمبقٍ على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي، كما هو مقرر
في قواعد الترجيح بين الأدلة المتعارضة.
والراجح تقديم حديث ابن عباس وأن الحجامة ليست من المفطرات وهو
مذهب الجمهور؛ وذلك أنه لا يُصار إلى إعمال قواعد الترجيح بين الأدلة إلا إذا
جهل التاريخ، أما إذا علم فيجب العمل بالمتأخر ويكون ناسخاً للمتقدم [32] ، وقد
علم هنا بخبر الصحابي من حديثين:
الأول: حديث أنس بن مالك قال: (أول ما كُرِهَت الحجامة للصائم، أن
جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:
أفطر هذان، ثم رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدُ في الحجامة للصائم،
وكان أنس يحتجم وهو صائم) [33] .
الثاني: حديث أبي سعيد الخدري قال: (رخص رسول الله في القبلة للصائم
والحجامة) [34] ، والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فيكون الحديثان نصاً في النسخ
فوجب العمل بهما [35] .
8- الراجح في القطرة في العين أو الأذن والكحل، ومداواة الجروح الغائرة،
وشم الطيب، والإبر غير المغذية، وإدخال علاج لمريض من الفرج: أنها لا تفطر؛ لأنه ليس أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما، فتبقى على الأصل وهو الجواز، وما
أحسن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا حيث قال: ( ... فإن الصيام
من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما
حرمها الله ورسوله على الصائم، وأفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على
الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوها سائر شرعه،
فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك لا حديثاً
صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك) [36] .
سابعاً: من أفطر ناسياً أو مخطئاً فصومه صحيح ولا قضاء عليه كمن ظن أن
الفجر لم يطلع فأكل وهو طالع، أو ظن أن الشمس غربت فأكل وهي لم تغرب.
ومن الأدلة على ذلك:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (من أكل ناسياً وهو صائم
فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) [37] .
2- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم غيم ثم طلعت الشمس) [38] .
ولم يُنقل أنهم قضوا ذلك اليوم؛ ولو أُمِرُوا بقضائه لنُقل إلينا كما نُقِلَ فطرهم [39] .
تنويه:
سقط سهواً في العدد (119) (ص9) في مقال (هل يمكن التعاون بين المسلمين
مع وجود الاختلاف) فقرة هامة أحببنا التنبيه إليها.
والسقط بعد قوله: فما المحذور الشرعي من ذلك التعاون: (سيبادر أحد
بالقول، ولكن قد يكون الأمر بالمعروف على مذهبهم، أي فيه نشر لمذهبهم، وقد
يكون بناء المسجد لتقاوم فيه حلقات الذكر، أو لتدريس عقائد الأشاعرة ونحو ذلك)
ثم يأتي بعد ذلك: فالجواب عندئذ ... إلخ.
__________
(1) أخرجه البخاري، ح/1915.
(2) أخرجه البخاري، ح/1903.
(3) أخرجه البخاري، ح/1899، ومسلم، ح/1079.
(4) أخرجه البخاري، ح/1904.
(5) أي شر ووقاية من الآثام والنار (فتح الباري 4/125) .
(6) أخرجه البخاري، ح/1894، 1904، 7492، ومسلم ح/1151.
(7) أخرجه البخاري، ح/1901.
(8) أخرجه البخاري، ح/1909.
(9) انظر: روضة الطالبين (2/207) .
(10) انطر: الفروع (3/14) .
(11) انطر: المحلى (4/373) .
(12) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (25/105) .
(13) انظر: زاد المعاد (2/38) .
(14) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وقال ابن حزم: (هذا خبر صحيح) ؛ وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/16) .
(15) أخرجه البخاري، ح/1914، ومسلم، ح/1082.
(16) المهذب والمجموع (6/275) .
(17) حديث صحيح أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم (انظر فتح الباري 4/144) ومختصر صحيح البخاري للألباني (1/444) .
(18) صحيح أبي داود، ح/2454.
(19) انظر مجالس شهر رمضان لابن عثيمين، ص 66.
(20) حكاه النووي في المجموع (4/348) .
(21) انظر المغني 4/361 363، والمجموع 6/349، وحقيقة الصيام لابن تيمية، ص 23.
(22) انطر المجموع 6/349.
(23) حكاه ابن المنذر في كتاب الإجماع، ص 15.
(24) صحيح أبي داود، ح/380.
(25) حكاه ابن قدامة وغيره، انطر المغني 4/397.
(26) أخرجه البخاري، ح/304.
(27) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وصححه الإمام أحمد والبخاري والدارمي وغيرهم، انظر فتح الباري، 4/409.
(28) أخرجه البخاري، ح/5694.
(29) حقيقة الصيام، ص 23.
(30) زاد المعاد، 2/60.
(31) الفروع، 3/47.
(32) انظر البحر المحيط للزركشي (6/140) .
(33) أخرجه الدارقطني وصححه وأقره البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني (انظر الإرواء
4/73) .
(34) أخرجه الطبراني والدارقطني قال ابن حزم: إسناده صحيح وصححه الألباني (انظر الإرواء
4/74) .
(35) انظر الإرواء 4/75.
(36) حقيقة الصيام، ص 37.
(37) أخرجه البخاري، ح/6669.
(38) أخرجه البخاري، ح/1960.
(39) انظر حقيقة الصيام، ص 34.(120/8)
دراسات شرعية
هل يمكن التعاون بين المسلمين
مع وجود الاختلاف؟
(2من2)
بقلم:هيثم بن جواد الحداد
خلص الكاتب في الحلقة الأولى إلى أن التعاون واجب بين المسلمين، فيما
يصح أن يكون براً من الأعمال مع من يصح إطلاق وصف الإسلام عليه وأقام على
ذلك الأدلة، وفي هذه الحلقة مزيد من التفصيل.
-البيان -
الخلاف السائغ: الذي يظهر لي بعد طول بحث ونظر أن الخلاف يكون سائغاً
إذا تحقق فيه شرط واحد فقط، وهو: صدوره ممن يُعذر شرعاً؛ كأن يكون جاهلاً
فيما يجوز له جهله، أو مُكْرَهاً فيما يسوغ له أن يُكره عليه، أو متأولاً فيما يصح
التأوّل فيه، أو مخطئاً، والجامع لهذه الأعذار كلها: أن يكون الباعث للفعل مقصداً
شرعياً معتبراً، سواء كانت المسألة التي خالف فيها من المسائل الاجتهادية، أو من
غيرها.
فهنا لدينا أربع حالات وذلك بالنظر إلى طبيعة المسألة، وطبيعة الفاعل:
إما أن يكون الفاعل ممن يعذر، سواء في مسألة اجتهادية، أو غير اجتهادية.
أو يكون الفاعل ممن لا يعذر سواء في مسألة اجتهادية أو غير اجتهادية.
فإن كان الفاعل ممن يعذر، فقد دخل في عموم الآية: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] [النساء: 59] ، فهو راد إلى الله ورسوله، ولا
دخل لطبيعة المسألة عندئذ، حتى ولو كانت المسألة من مسائل الاعتقاد. وقد انعقد
الإجماع على أنه ليس كل من فعل الكفر يكون كافراً؛ إذ قد يقوم بالفاعل موانع
تمنع من مؤاخذته بما فعل، وهذه المسألة من هذا القبيل.
ومن هذا؛ عُذْرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل، حين سجد له [1] ، ومنه كذلك إعذار الله عز وجل للرجل الذي أوصى أبناءه بحرقه، وقال:
(لئن قدر الله عليّ ليعذبني، فلما بعثه الله قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال:
خشيتك) [2] ، فهذا ظاهر في أنه متأول، ومن ذلك أيضاً قصة عمر بن مظعون [3] ، حينما شرب الخمر متأولاً استحلالها من قول الله عز وجل: [لَيْسَ عَلَى
الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] [المائدة: 93] ، مع أن المستحل
لمثل هذه الكبيرة في عصر مثل عصر الصحابة، ومن رجل مثل الصحابة، لا
شك أن فعله هذا يعد كفراً مخرجاً من الملة، ولكن استحلاله لم يكن تكذيباً وردّاً أو
عناداً واستكباراً، بل كان اجتهاداً، وخطأً صادراً عن حسن نية.
أما إذا كان الفاعل ممن لا يعذر، فإنه غير منتظم في سلك الآية، بل هو
متبع لأحد الأقوال؛ لا لأن الله عز وجل أمر باتباعه، بل لأمر آخر، وهذا منشأ
المخالفة، حتى ولو كان ذلك في مسألة اجتهادية؛ ولهذا فإن من أنكر ولو سنة من
السنن الثابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتفق عليها، حتى ولو كانت
من فروع السنن إذا وافقنا على هذه التسمية من غير تأوّل فإنه يعد مبتدعاً، وقد عدّ
العلماء من بِدَع الشيعة إنكارَهم للمسح على الخفين.
ولهذا فإن الإمام أحمد لما سئل عن الصلاة في جلود الثعالب قال: إن كان
متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً ينهى، ويقال له: إن النبي -
صلى الله عليه وسلم- نهى عنها [4] .
وكذلك فإن من صدر منه فعل في مسألة اجتهادية، وهو يعتقد أن الحق خلاف
ما فعل فإنه يعتبر عاصياً، فإن كان الفعل مما يحتمل الصحة والفساد حكم بفساده؛
فلو صلى إنسان ممن يعتقد نقض الوضوء من النوم، أو من أكل لحم الإبل، بعد
نومه أو أكله لحم إبل، لحكمنا ببطلان صلاته، ولوجبت عليه الإعادة، ولما جاز
الائتمام به في تلك الصلاة، ولو ممن يرى عدم نقض الوضوء في ذلك.
هذا، وشروط كل صنف من هؤلاء الأصناف المعذورين شرعاً: الجاهل،
أو المكره، أو المخطئ، وما يمكن أن يعذروا فيه، مفصلة في كتب الفقه وأصوله، ومواطن اللبس فيها ضيقة، فلا حاجة للتعرض لها هنا.
أما المتأول فقد يكون فيه نوع إشكال يحتاج إلى بحث مستقل لا يمكن الإتيان
به في هذه العُجالة. والذي يظهر أن المتأول: هو من اعتمد على ما يصلح
الاعتماد عليه من أدلة شرعية، أو نحوها؛ حيث يكون بذلك داخلاً في قوله تعالى:
[فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] [النساء: 59] ، وما في معناها من آيات وأحاديث.
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين
اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها، كما استحل بعضهم بعض
أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل
والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء غايتهم أنهم
مخطئون، وقد قال الله تعالى: [رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَاًنَا]
[البقرة: 286] وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء) [5] .
وضد التأول صور كثيرة: منها الهوى، كمن يأخذ ببعض الأقوال اتباعاً
لهواه وشهوته، حتى لو كانت هذه الأقوال من الأقوال المعتبرة كما سيأتي في
الشرط الثاني ومن أشهر أمثلة ذلك الذين يتتبعون رخص المذاهب، من إباحة بعض
صور الربا، والغناء، وغيرها [6] .
ومنها التقليد لمن لا يحق له التقليد، كمجتهد قادر على الاستنباط ومع ذلك قلد، أو قادر على موازنة الآراء، واتباع الأدلة، ومع ذلك ركن إلى الدنيا وترك الأدلة
خلفه ورضي بالتقليد، قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (اعلم أن المقلدين اغتروا
بقضيتين ظنوهما صادقتين، وهما بعيدتان من الصدق ... وذكر الأولى، ثم قال:
وأما الثانية: فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ، وإيضاحه: أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ، يكون لهم
من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه؛ لأنهم متبعون له،
فيجري عليهم ما جرى عليه ... وهذا ظن كاذب باطل بلا شك؛ لأن الإمام الذي
قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاويهم، فقد شمر، وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به، وطاعة الله على ضوء الوحي
المنزل، ومن كان هذا شأنه؛ فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده؛ وأما
مقلدوه: فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله، وأعرضوا عن تعلمها
إعراضاً كلياً، مع يسره وسهولته، ونزّلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون
منزلة الوحي المنزل من الله، فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم؟) [7] .
ومنها التعصب، للآباء والمشايخ، أو المذاهب، ومنها الحقد والحسد
والبغض [8] .
فأي خلاف خرج عما يعذر المكلف فيه يكون خلافاً مذموماً غير سائغ.
لكن يبقى هنا سؤال يحتاج إلى جواب محرر، وهو:
كيف نعرف الباعث، أو المقصد الحامل لهذا الخلاف، أليس ذلك من الأمور
الخفية؟
الجواب: يُعلم ذلك بالقرائن؛ فمثلاً: إذا بُيِّن لهذا المخالف الحق، على وجه
صحيح، ثم ظهر عناده واستكباره، وكذلك إذا ظهر منه المعاداة والهجران قبل أن
يقيم الحجة على من عاداه أو هجره، فكان مقصده العداوة لا الوصول إلى الحق،
ومن القرائن أيضاً تجنبه الاستماع للنصيحة ورأي المخالف، فكأنه لا يريد إلا رأيه.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (لا يخلو المنسوب إلى بدعة أن يكون
مجتهداً فيها، أو مقلداً ... فالقسم الأول على ضربين: أحدهما: أن يصح كونه
مجتهداً؛ فالابتداع لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة؛
لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب، أي لم يتبع
هواه ولا جعله عمدة؛ والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقر به. ومثاله
ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع
عنه، وقال: (وأول ما أفارق غير شاك أفارق ما يقول المرجئون..) وقد ذكر
الشاطبي رحمه الله عدة أمثلة لرجوع من كان يقول بأمور عظام اجتهاداً وتأولاً [9] .
لكن مع ذلك يصعب في كثير من الأحيان معرفة المتأول من غيره، فعندئذ
ينظر للفعل نفسه، أي للمسألة نفسها بصرف النظر عن فاعلها، وهو الشق الثاني
في مسألة الخلاف والمختلفين.
فالخلاف يعتبر سائغاً إذا كان في المسائل الاجتهادية، وهذه القضية أعني
تحديد المسائل الاجتهادية تحتاج إلى تحرير، ومع الأسف فإن كثيراً من الكتاب
والباحثين حول هذا الموضوع، من يذكرها مروراً دون أن يقف عندها لتحريرها،
مع أنها من أكبر مواطن النزاع؛ لأن الناس وخصوصاً في هذا العصر انقسموا
تجاهها إلى طرفي نقيض: فطائفة ضيقتها، حتى قصرت المسائل الاجتهادية على
مسائل محصورة، هي التي لم يتبين لهم أنفسُهم وجه الحق فيها، وما عدا ذلك من
مسائل، ظهر لهم رجحان أحد الدليلين، أخرجوها من حيز الاجتهاد، بل ربما
ألزموا الغير بالأخذ بما يعتقدون، ومن ثَمّ اتخذوا موقفاً معادياً للمخالف، وربما
حملهم على التبري منه، ثم نشأ الخلل في الموضوع الذي نحن بصدده، وهو عدم
التعاون مع هذا المخالف.
وفي المقابل ظهر فريق آخر توسّع في هذه القضية حتى ربما جعل الخلاف
في كثير من مسائل الأصول، أو أمهات مسائل العقيدة من المسائل الاجتهادية،
ومن ثم أيضاً تسامح مع مثل هؤلاء المخالفين، وعليه: فلا بد أن نحرر ماهية
المسائل الاجتهادية.
ولتحرير المسائل الاجتهادية، لا بد أن ندرس موضوع الاجتهاد ومتى يكون،
حيث إن المسائل الاجتهادية نتيجة مباشرة للاجتهاد، وبعد دراسة موضوع الاجتهاد
في ضوء النصوص من الكتاب والسنة، نقارن ما خلصنا إليه من هذه الدراسة،
بما ورد عن الصحابة من مسائل اختلفوا فيها، وكيف كان موقفهم من هذا الخلاف،
وما أسبابه [10] .
وإذا نظرنا إلى موضوع الاجتهاد الذي يقودنا إلى تحرير المسائل الاجتهادية،
فإننا نجد أن الاجتهاد ينحصر في الأسباب التالية:
1- إذا لم تظهر صحة الدليل؛ وهذا يكون في الأحاديث التي اختلف العلماء
المعتبرون في تصحيحها، وتضعيفها، أو في الإجماع الذي لم يتواتر.
فالمسائل التي اختلف العلماء فيها، وكان سبب اختلافهم فيها مبنياً على
اختلافهم في صحة الحديث، أو ضعفه، أو ثبوت الإجماع أو عدمه هي مسائل
اجتهادية ولا شك.
2- إذا لم تظهر دلالة الدليل وهذا يكون في الأدلة التي دلالتها على المراد من
قبيل المجمل، أما إذا كانت أدلتها من قبيل النص، الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، أو من قبيل الظاهر، الذي يحتمل معنيين، لكن أحدهما أظهر من الآخر فليس
للاجتهاد من هذه الناحية فيها مساغ.
فالمسائل التي كان الخلاف فيها بسبب الخلاف في دلالتها، هي مسائل
اجتهادية ولا شك. ومن أكثر هذه المسائل شيوعاً: المسائل التي لا تخصها
نصوص مباشرة، وإنما بنيت على القياس؛ حيث القياس لا بد فيه من جمع بين
الفرع والأصل في علة الحكم، لكن كيف نستنبط علة الحكم؟ هناك طرق تعتمد
على دلالة الدليل وهذا مسرح للاجتهاد، فإذا عرفنا علة الحكم، فلا بد من تحقيق
وجود هذه العلة في الحكم، وهذا مسرح لاجتهاد كذلك راجع إلى السبب الرابع
الآتي ذكره.
3- إذا لم يختلف العلماء في ضعف الدليل، ولم يختلفوا في دلالته على المراد، ولكن وُجد له معارض صالح للمعارضة، واختلفوا في كيفية الجمع بين الدليلين،
أو في ترجيح أحدهما على الآخر، حسب القواعد التي قررها العلماء في هذا الباب؛ فإن السبيل ما قاله ابن القيم رحمه الله: (والصواب ما عليه الأئمة: أن مسائل
الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا
معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم الدليل الذي يجب العمل به الاجتهاد
لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها) [11] .
4- فإن اتفقوا في جميع ما مضى، لكن اختلفوا في النازلة، بأي الصور
تلحق؟ أو بمعنى آخر كاختلافهم في تحقيق المناط أي تحقيق وجود العلة في الفرع
المتنازع على حكمه كانت تلك المسألة المختلف فيها من المسائل الاجتهادية، وهذا
السبب من أهم أسباب الخلاف بين المسلمين في العصر الحاضر؛ فكثير من مسائل
السياسة الشرعية من طرق تغيير المنكر، وطرائق الدعوة، وإقامة الخلافة
الإسلامية، بل ومسائل الاقتصاد والاجتماع هي من هذا القبيل.
والغالب أن الإشكال في هذه المسائل وأمثالها ليس في أدلتها صحةً ودلالةً،
فالغالب أن أدلتها عرفت، وسهل الاطلاع على أقوال العلماء وآرائهم حولها، لكن
الإشكال الأكبر في تكييف الوقائع وإلحاق المسائل بنظائرها، وعلى الرغم من
أهمية ذلك فإنه لم يأخذ حجمه المطلوب من الدراسة والتأصيل، ولذا فلا بأس من
إطالة الكلام عليه أكثر من سابقيه.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (وقد تقدم أن من الخلاف السائغ: الخلاف
في المسائل الاجتهادية، ولما كان تحقيق المناط في كثير من المسائل لا يمكن القطع
به؛ إذ تختلف فيه الأنظار، تعيّن علينا القول بأنه من المسائل الاجتهادية التي
يسوغ فيها الخلاف) ، وقال في موطن آخر: (الاجتهاد على ضربين: أحدهما: لا
يمكن أن ينقطع حتى أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة. والثاني: يمكن أن
ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول: فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهو الذي
لا خلاف بين الأمة في قبوله) [12] .
وهنا لا بد من شرط وهو: أهلية الناظر لتحقيق المناط فيما هو بصدده.
فمثلاً: إذا عرفنا علة الربا، ثم ظهرت لنا صورة من صور المعاملات التجارية؛
فإن تحقيق وجود هذه العلة في تلك المعاملة لا يُقبل إلا من متخصص يفهم تلك
المعاملة على وجهها الصحيح، حتى يستطيع إثبات وجود علة التحريم في تلك
الصورة، بطريقة صحيحة. قال الشاطبي رحمه الله تعالى: (قد يتعلق الاجتهاد
بتحقيق المناط، فلا يفتقر ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع، كما أنه لا يفتقر إلى
معرفة علم العربية؛ لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما
هو عليه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث
قصدت المعرفة به، فلا بد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي
ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى؛ كالمحدِّث العارف
بأحوال الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها، فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف
به؛ كان عارفاً بالعربية أم لا، عارفاً بمقاصد الشارع أم لا، وكذلك القارئ في
تأدية وجوه القراءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات، والطبيب في العلم
بالأدواء والعيوب ... ونحوها، وهذا كله مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير
مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالاً في
المجتهد [13] وقال الشنقيطي: (لأن تحقيق المناط يرجع فيه لمن هو أعرف به
وإن كان لا حظّ له من علوم الوحي) [14] .
فإذا كان الخلاف في مسألة ما مبنياً على ما سبق من الأسباب الأربعة، فلا
شك أنه خلاف قوي معتبر، وتكون تلك المسألة من المسائل الاجتهادية، التي
يسوغ فيها الخلاف.
لكن هنا لا بد من قيود مهمة جداً، وهي:
1- أنّ كون المسألة من المسائل الاجتهادية لا يعني أن كل الأقوال التي قيلت
فيها من الأقوال المعتبرة التي يجوز القول بها، بل لا بد أن يكون القول معتمِداً
على دليل صالح للاعتماد حسبما تقدم، وقد قال الشاعر:
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر
2- يجب أن لا تخرج الأقوال في المسألة الاجتهادية، عن أقوال الصحابة
رضي الله عنهم وذلك في المسألة التي بحثوها بخلاف المسائل النازلة والحادثة كما
هو ظاهر، وذلك لورود عدة نصوص عن جمع من الأئمة في عدم جواز الخروج
عن أقوال الصحابة [15] .
3- وهذا الشرط قد تقدم ذكره؛ لكن أهميته وحدوث اللبس فيه أوجبت إعادة
التأكيد عليه، فكثير من الناس يظن أن كون المسألة من المسائل الاجتهادية مسوغ
لاختيار ما يشاؤون من الأقوال التي قيلت فيها هوىً وشهوة، وربما دفع ذلك كثيراً
من الناس إلى البحث عن أي خلاف في المسائل التي تعرض له، حتى يبرهن أنها
مسألة اجتهادية فيجوز له الأخذ بما يشاء فيها من أقوال، ولا يحق لأحد الإنكار
عليه، وهذا خطأ محض فهو مصادمة صريحة لوجوب الرد إلى الله ورسوله.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس
بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول أو إلى القول والفتوى أو العمل:
أما القول الأول: فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره
اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله.
وأما العمل: فإن كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات
الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها؟ ! والفقهاء من
سائر الطوائف صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة، وإن وافق فيه
بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وكان للاجتهاد فيها مساغ
لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الاختلاف هي مسائل
الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم،
والصواب ما عليه الأئمة ... ) [16] .
وبناء على ما تقدم: فإن العمل بالأقوال المعتبرة في المسألة الاجتهادية سائغ
إذا كان الدافع له مقصداً شرعياً، حسبما تقدم، ولا يجوز أبداً العمل بتلك الأقوال
حتى ولو كانت معتبرة تشهياً وهوى، وعليه فالمعذور هو من عمل بأحد الأقوال
المعتبرة لمقصد شرعي فقط.
والخلاصة:
أن الخلاف السائغ، ما كان الباعث عليه غرضاً شرعياً، سواء كان في
مسألة اجتهادية، أو حتى غير اجتهادية؛ إذ يفرق بين الفعل، والفاعل، فإذا أشكل
علينا الباعث وكثيراً ما يشكل نظرنا إلى المسألة ذاتها، فإن كانت من المسائل
الاجتهادية، فإن الإنكار لا يتوجه إلى صاحبها، وربما يتوجه إليه المناصحة أو
الحوار، وإذا كانت المسألة غير اجتهادية، فإن صاحبها مستوجب للإنكار.
وعليه فإن الإنكار يتوجه إلى الخلاف غير السائغ دون غيره.
وعليه أيضاً، فإن موقف الإنسان من المخالفين خلافاً سائغاً مقبولاً، سيختلف
عن المخالفين خلافاً غير سائغ؛ فموقف المسلم من المخالفين ببعض القضايا الفقهية
الفرعية ليس كالمخالفين له في الأصول؛ وذلك مع الأخذ بالاعتبار من يُعذر من
هؤلاء ممن لا يعذر.
الخاتمة: وأعود هنا للأصلين العظيمين اللذين ذكّرتُ بهما ابتداءً، واللذين
يجب أن يستصحبهما الإنسان دائماً وأبداً لا سيما في هذه الأزمنة، وهما:
وجوب الاجتماع والجماعة بين المسلمين.
ووجوب المحبة والموالاة فيما بينهم في الجملة.
آخذين بعين الاعتبار ما يحيق بالمسلمين من ضعف ومذلة وبُعد عن الدين،
راجين أن نعيد الإسلام لهيمنته على الأرض، حتى نحقق الخلافة المنشودة.
ولا تزال هذه القضية بحاجة إلى مزيد تأصيل وتفصيل، يليق بأهميتها،
وتستحق أن تولى عناية خاصة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) القصة رواها أبو داود، كتاب النكاح (2140) ، والترمذي في الرضاع (1159) ، وابن ماجة في النكاح (1853) ، والإمام أحمد (4/381) ، والحاكم في المستدرك (2/187) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في إرواء الغليل، حيث استوفى جمع طرقها والكلام عليها 7/55 58.
(2) القصة مشهورة، وهي في البخاري ومسلم.
(3) القصة مروية في مصنف عبد الرزاق 9/240، والبيهقي في السنن الكبرى (8/16) وذكرها الحافظ في الإصابة (3/220) وابن الأثير في أسد الغابة بتمامها (4/395) .
(4) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/167.
(5) الفتاوى، 35، ص 75.
(6) للاستزادة حول موضوع تتبع الرخص وحرمته وما قيل فيه، تراجع رسالة قيمة لجاسم الفهيد الدوسري بعنوان: (زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء) .
(7) أضواء البيان، 7/533، 537 538.
(8) وفساد هاتين الصورتين ظاهر ظهوراً بيناً فلا داعي للاستدلال عليه في مثل هذا البحث.
(9) انظر الاعتصام 1/146 162، مطبعة المنار بمصر.
(10) لا يتسع المقام هنا لبسط هذه المسألة، وبيان ما قيل فيها، وما ذكر هنا مجرد خلاصة ما توصل إليه الباحث، وإلا فالمسألة بحاجة إلى دراسة مستقلة.
(11) إعلام الموقعين 3/300، وقد نسب ابن مفلح في الآداب الشرعية 1/ 186 مثل هذا الكلام
لابن تيمية.
(12) الموافقات في أصول الشريعة، 4/47.
(13) الموافقات، 4/92.
(14) أضواء البيان، 3/92.
(15) وهذه المسألة تحتاج إلى مزيد بحث، ليس هذا موضعه.
(16) إعلام الموقعين 3/300، وقد نسب ابن مفلح مثل هذا الكلام لابن تيمية.(120/16)
تأملات دعوية
بين المنهج والرموز
بقلم: عبد الله المسلم
الدعوة السلفية بين سائر الدعوات بأنها دعوة لا تتمحور حول شخص من
الأشخاص، بل تتمحور حول المنهج المستقى من الكتاب والسنة الصحيحة وآثار
السلف الصالح؛ ولهذا عرّف الإمام مالك أهل السنة بأنهم الذين ليس لهم لقب إلا
أهل السنة.
بخلاف سائر الطوائف؛ فكثير منها تعلو درجة ارتباطها بالشخص لدرجة أن
يرتبط اسمها باسمه فتنسب إليه، ويعتقد بعضهم العصمة في شيوخهم وأئمتهم، وأن
الراد على الشيخ كالراد على الله، وأن التلميذ يجب أن يكون بين يدي الشيخ
كالميت بين يدي من يغسله. أما أهل السنة فإنهم يعتقدون أنه ما من بشر إلا ويؤخذ
من قوله ويرد إلا محمد، ومع ذلك فلهم أئمة منزلتهم ومكانتهم ليست كغيرهم،
ولأقوالهم وتقريراتهم قيمة وقدر، ومنهم من هو كما أخبر عنه أنه: (على رأس كل
مئة سنة يبعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها) .
وثمة هفوات تصيب بعض الأخيار من أهل السنة تجاه هذا؛ فالقضية قد
تخدش صفاء المنهج، وقد تطول فتؤذن بنوع من التعصب المقيت المشين.
1- فمن ذلك أن يُربط الناس بالرجال، وأن يكون الحديث دائماً حول منهجهم
أكثر من الحديث حول نصوص الوحيين، وأن تكون المخالفة لرأي أحدهم أشد
وأشنع من المخالفة لنصوص الوحي الصريحة، ومن ذلك: أن أحد الأفاضل كان
يتحدث عن ضرورة ارتباط الدعاة إلى الله بمنهج فلان من المجددين وأساليبه،
فعقب أحد الحضور بأن الأوْلى ربط الناس بمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم-،
فاستدرك آخر على المعقِّب بعد أن وصمه بألقاب لا تليق بأنه ما من وسيلة
استخدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا واستخدمها هذا المصلح المجدد! وَهَبْ
أن ذلك حق! أفليس الأصل الاقتداء بالمعصوم؟
2- قد سلك دعاة الضلالة في سبيل الحرب على أهل السنة أسلوب وَصْمِ
دعاتهم بالسوء والانحراف، ولبّسوا في ذلك على العامة، فما أن يسمعوا اسم فلان
إلا عنى لديهم الانحراف. وإزاء هذه الظاهرة كان لا بد من منهج أسلم في التعامل
معها بالأساليب التالية:
أ- لا داعي لإقامة معارك مع العامة ولا أمامهم حول شخص فلان خاصة حين
نعلم أن ذلك سيصطدم باقتناعات راسخة لديهم قد يصعب تغييرها، فَلِمَ لا نجعل
قضيتنا الكبرى معهم هي قضية المنهج، وقضية نصوص الوحيين؟ وهب أنهم
تركوا الضلال والبدعة وماتوا وهم يسيئون الظن بفلان من علماء المسلمين لأنه
لُبِّسَ عليهم شأنه وأمره؛ فالخطب حينها أيسر من الموت على الضلالة والبدعة.
ب- ولماذا الإصرار على ربط الدعوة بهؤلاء من خلال التركيز على توزيع
كتبهم وترديد أسمائهم، أو تسمية المشاريع والمدارس بها؟ فتقيم الدعوة ابتداءاً
حاجزاً بينها وبين الناس! ألا يمكن لدعاة السلفية أن يكتبوا كتابة جديدة للناس
تخاطبهم بنصوص الوحيين التي لا يجرؤ أحد على رفضها؛ وذلك كله ليس رغبة
في تجاوزهم وإنكار فضلهم، إنما لسلوك أفضل سبيل لإنقاذ الناس من الضلال.
3- الإمامة لا تستلزم العصمة عند أهل السنة، فقد يستدل هذا الإمام الجليل
بحديث ضعيف أو يستشهد برواية باطلة، أو يتبنى رأياً مرجوحاً في مسألة ما،
فهل من حرج في الاستدراك عليه وبيان خطأ اجتهاده؟ وهب أن أحداً اجتهد فبان
خطؤه في مسألة من المسائل ورأينا أن في ذلك فتح باب للطعن وإساءة الظن:
أيعالج هذا الخطأ بخطأ آخر؛ فنكابر في السعي لتصحيح حديث أو ترجيح قول
ضعيف لمجرد أن فلاناً قال به؟
مرة أخرى: الأئمة والمجددون لهم قيمتهم ومكانتهم، ولا ينبغي الحط من
شأنهم وتجرئة صغار الطلبة على انتقادهم، لكن هذا كله لا ينبغي أن ينسينا أنهم
بشر ليسوا معصومين، وأن الإمامة الأساس هي للوحيين، وأن أهل السنة هم:
من كانوا على مثل ما كان عليه محمد وأصحابه، لا من كانوا أتباعاً لفلان من
الناس.(120/24)
من فتاوى أهل الذكر
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
حقيقة الدعوة إلى وحدة الأديان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من
تساؤلات، وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى (وحدة
الأديان) : دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرع عن ذلك من
دعوة إلى بناء: مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات
والمطارات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل
في غلاف واحد، إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يعقد لها من مؤتمرات
وندوات وجمعيات في الشرق والغرب. وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما
يلي:
أولاً: أن من أصول الاعتقاد في الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة،
التي أجمع عليها المسلمون: أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين
الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع،
فلم يبقَ على وجه الأرض دين يُتعبد الله به سوى الإسلام، قال الله تعالى: [وَمَن
يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ]
[آل عمران: 85] . والإسلام بعد بعثة محمد هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان.
ثانياً: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى: (القرآن الكريم)
هو آخر كتب الله نزولاً وعهداً برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل
من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبق كتاب منزل يُتعبد
الله به سوى: (القرآن الكريم) قال الله تعالى: [وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً
لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ
عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِ] [المائدة: 48] .
ثالثاً: يجب الإيمان بأن (التوراة والإنجيل) قد نُسِخا بالقرآن الكريم، وأنه قد
لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب
الله الكريم منها قول الله تعالى: [فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ
مِّنْهُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ] [المائدة: 13] وقوله جل وعلا: [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ] [البقرة: 79] . وقوله سبحانه: [وَإنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ
وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] [آل عمران: 78] .
ولهذا فما كان منها صحيحاً فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف
أو مبدل. وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه غضب حين رأى مع
عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال عليه الصلاة
والسلام: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ! ألم آتِ بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي
موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) [1] .
رابعاً: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام: أن نبينا ورسولنا محمداً هو خاتم
الأنبياء والمرسلين، كما قال الله تعالى: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن
رسول الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] [الأحزاب: 40] . فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى
محمد، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حياً لما وسعه إلا اتباعه وأنه لا يسع
أتباعهم إلا ذلك كما قال الله تعالى: [وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ
عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ] [آل عمران:
81] . ونبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد
وحاكماً بشريعته. وقال الله تعالى: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ] [الأعراف: 157] . كما إن من أصول
الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى: [وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [سبأ: 28] وقال
سبحانه: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رسول الله إلَيْكُمْ جَمِيعاً] [الأعراف: 158]
وغيرها من الآيات.
خامساً: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام
من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافراً، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين،
وأنه من أهل النار كما قال تعالى: [لَمْ يَكُنِ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حََتَّى تَاًتِيَهُمُ البَيِّنَةُ] [البينة: 1] وقال جل وعلا: [إنَّ الَذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ]
[البينة: 6] وغيرها من الآيات.
وثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (والذي نفسي
بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن
بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار) .
ولهذا: فمن لم يكفّر اليهود والنصارى فهو كافر، طرداً لقاعدة الشريعة: (من
لم يكفّر الكافر فهو كافر) .
سادساً: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية؛ فإن الدعوة إلى:
(وحدة الأديان) والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة،
والغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه، وجرّ أهله إلى
ردة شاملة، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه: [وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] وقوله جل وعلا: [وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً] [النساء: 89] .
سابعاً: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر،
والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جل
وتقدس يقول: [قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] ويقول جل وعلا: [وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ] [التوبة: 36]
ثامناً: إن الدعوة إلى (وحدة الأديان) إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة
صريحة عن دين الإسلام؛ لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد فترضى بالكفر بالله
عز وجل، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ
الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان؛ وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة
شرعاً محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
تاسعاً: وتأسيساً على ما تقدم:
1- فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلاً
عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها، والانتماء إلى محافلها.
2- لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردَين، فكيف مع القرآن
الكريم في غلاف واحد! ! فمن فعل ذلك أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في
ذلك من الجمع بين الحق (القرآن الكريم) والمحرف أو الحق المنسوخ (التوراة
والإنجيل) .
3- كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة: (بناء مسجد وكنيسة ومعبد) في
مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام، وإنكار
ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة ولأهل الأرض التدين
بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان،
ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة
للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود
والنصارى من عند الله، تعالى الله عن ذلك.
كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس (بيوت الله) وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة
صحيحة مقبولة عند الله؛ لأنها عبادة على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول:
[وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ]
[آل عمران: 85] بل هي: بيوت يُكفر فيها بالله. نعوذ بالله من الكفر وأهله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (22/162) : (ليست أي: البيع والكنائس بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يُكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها؛ فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار) .
عاشراً: ومما يجب أن يُعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى
الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة؛ ولكن ذلك لا
يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من
شرائع الإسلام؛ وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة
عليهم ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة قال الله تعالى: [قُلْ يَا
أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]
[آل عمران: 64] . أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عُرَى الإسلام ومعاقد الإيمان فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون؛ والله المستعان على ما يصفون. قال تعالى: [وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ] [المائدة: 49] .
* وإن اللجنة إذ تقرر ذلك وتبينه للناس فإنها توصي المسلمين بعامة وأهل
العلم بخاصة بتقوى الله تعالى ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين
من الضلال ودعاته، والكفر وأهله، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة:
(وحدة الأديان) ، ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سبباً في
جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين وترويجها بينهم.
نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا جميعاً من مضلات
الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، حماة للإسلام على هدى ونور من ربنا حتى نلقاه
وهو راضٍ عنا، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين [*] .
__________
(1) رواه أحمد والدارمي وغيرهما.
(*) هذه الفتوى الشرعية الموثقة صدرت برقم 19402 في 25/1/1418 هـ عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء (الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء) السعودية واللجنة التي أصدرت هذه الفتوى مكونة من سماحة الرئيس العام ومفتي عام المملكة العربية السعودية (الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز) رئيساً و (الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله آل الشيخ نائباً) وعضوية كل من الشيخ د بكر أبو زيد، والشيخ د صالح بن فوزان الفوزان.(120/26)
بأقلامهن
حديث إلى الدعاة
بقلم: بسماء الجاهل
من بين الأضواء الساطعة التي تغمر المكان يظهر ضوء خافت قاتم..، ومع
ذلك فقتامة لونه تشوِّه الصورة حائلة دون اكتمال جمال المنظر.
ذلك الضوء هو قتام من الجاهلية التي قضى عليها الإسلام في فجره الأول؛
ولكنها عادت من جديد رغم الصحوة الإسلامية التي انتشرت في كثير من البلاد
الإسلامية.
لكن الضوء الخافت يبقى خافتاً.. مختبئاً وراء أنوار الإسلام الساطعة..
يحتاج إلى عين ثاقبة تميزه عن بعد.. تذهب إليه.. تحدق فيه وتنتشله من هوة
الماضي التي سقط فيها وابتعد أكثر من ألف سنة.
هذه الجاهلية ليست جاهلية من اعتقد بأن الحضارة تكمن في تقليد الغرب حتى
تشربت نفسه مساوئها قبل محاسنها جاعلاً من إسلامه اسماً خالياً من المضمون.. لا، فهؤلاء الفئة هم أبرز من أن يتواروا عن الأنظار حيث إن جهلهم يبدو في سلوكهم
ولحن أقوالهم! !
لكنها جاهلية تغلغلت في تصرفاتنا (إلا من رحم ربي) ، وأصبحت متعارفاً
عليها وغير مستنكرة البتة، وهنا يأتي دور الدعاة في التحذير من هذه التصرفات
وبيان مجانبتها لواقع العقيدة الإسلامية، وبيان خطر الاستمرار فيها، وهو ما
نحسبهم يقومون به خير قيام، لكن هؤلاء الدعاة ويا للأسف الشديد قد تمركزوا في
المدن الكبرى التي تعج بأساليب الدعوة المختلفة متناسين ما آل إليه حال القرى
والهجر الصغيرة من ابتعاد عن روح الإسلام حيث باتت تحكمهم العادات والتقاليد
التي قد تعجب أشد العجب عندما تعرف بأنها أقرب ما تكون شبهاً بما كان عليه
العرب في الجاهلية في بعضٍ منها.
وقد يقول قائل بأن وسائل الإعلام أصبح لها دور واضح في الدعوة عن
طريق البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تصل إلى معظم القرى تقريباً، كما أن
الشريط الإسلامي المحتوي على المحاضرات في شتى أمور الدين والدنيا التي تهم
المسلم انتشر في كل مكان وبات يؤدي دوره المرجو.. نعم هذا صحيح! ولكن هذه
العوامل تعتبر في رأيي عوامل مساعدة للدعوة وليست هي الركيزة الأساس التي
يعتمد عليها الداعية في إيضاح ما أُشكل من أمور الدين والدنيا؛ حيث يُطلب من
الداعية ألا يكون مجرد مرسل يقدم نصائح وتوجيهات بأسلوب خطابي (مباشر) ثم
يمضي في سبيله غير آبه بما كان من أثر هذه الكلمات في النفوس؛ لأن الأسلوب
الخطابي في التوجيه بشكل عام لا تميل إليه النفوس ولا يجذب انتباه السامع.
إن الدور المطلوب من الداعية في مثل هذه القرى يجب أن يكون أكبر بكثير
من هذا؛ حيث إن عليه من منطلق استشعاره بهذا الواجب أن يجعل من نفسه أحد
سكان هذه القرى لفترة معينة ضارباً لهم القدوة الحسنة في تصرفاته ومعاملاته أولاً،
ثم قائماً بالدعوة الفردية التي تكون أوقع في النفوس متى أتيحت له الفرصة لذلك؛
حيث إن الدعوة الفردية قد تفعل ما لا تفعله الدعوة الجماعية التي توجه بشكل عام
إلى مجموعة كبيرة من الناس؛ فعن طريق الدعوة الفردية يستطيع الداعية الوصول
إلى النفوس المُعْرِضة عن سماع صوت الحق وذلك باستخدام أساليب الدعوة
المختلفة، ولعل أوضح مثل لأهمية الدعوة الفردية هو دعوة الرسول -صلى الله
عليه وسلم- حيث كانت تتم بشكل فردي خلال السنوات الأولى من دعوته، كما أن
إقامة الداعية بين الفئة المراد دعوتهم تجعله ملماً بما ينتشر في تلك المنطقة من
خرافات وبدع وما يُشْكِلُ عليهم فهمه من أمور الدين؛ فينهض من خلال ذلك
بدعوته على أسس سليمة وقوية، وعند قيامه بإلقاء المحاضرات يستطيع مناقشة
الحاضرين بعد الانتهاء من المحاضرة أو خلالها محققاً بذلك نجاح دعوته التي لا
تكون من جانب واحد يكون فيها هو المرسل، بل تؤدي الرسالة دورها من خلال
مناقشات المتلقي واستفساراته، ومن ثَمّ يأتي دور العوامل المساعدة التي على
الداعية أن يحث المدعوين على متابعتها والاستفادة منها. كما يستطيع الداعية تقديم
الكتيبات والأشرطة الدينية هدية للمدعوين ويحقق من خلال ذلك هدفين هما: زرع
المحبة له في نفوس المدعوين؛ حيث قال: (تهادوا تحابوا) ، والهدف الثاني: هو
أن تحتوي هذه الكتيبات والأشرطة على ما يريد الداعية إيصاله إلى المدعوين من
أمور مختلفة.
وتستطيع هذه العوامل المساعدة تحقيق النجاح من خلال الأسس التي وضعها
الداعية في نفوس مدعويه؛ وهذا الترتيب في الدعوة يحقق هدفاً مهماً يجب على كل
داعية ألاّ يغفله ألا وهو التدرج في الدعوة إلى الله حيث: (ينبغي على الداعية أن
يتدرج في دعوته فيبدأ بكبار المسائل قبل صغارها؛ فلا يقحم المسائل إقحاماً، فتجد
بعض الدعاة يذهبون إلى أماكن في البادية في بعض القرى فيريد أن يصب لهم
الإسلام في خطبة جمعة واحدة! وما هكذا تعرض المسائل! !) [1] .
نعم، ما هكذا تعرض المسائل.
فالداعية ليس محاضراً أو باحثاً يلقي الضوء على ما استجدّ من العلوم في أحد
المؤتمرات أمام مختصين ويدعم ذلك بالشواهد ثم يمضي في سبيله.. بل الداعية
شخص استشعر واجبه نحو دينه الإسلامي؛ ومن هذا المنطلق تحمّل الصعوبات
وآلى على نفسه الاستمرار في مقاومة ما هو مخالف لشرع الله مما ينتشر في
تصرفات الناس، فهو حين يحث الناس على أمر معين أو يحذرهم من آخر يستمر
في دعوته تلك ويصبر حتى يرى أثر هذه الدعوة مستخدماً لذلك ما أمكنه من أساليب
مناسبة، لكن قلة الصبر هي التي تجعل الداعية يقصر في دعوته.
ونحن إذا نظرنا إلى حكم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وجدناه فرض كفاية؛
وبما أن كبرى المدن تذخر بالدعاة والحمد لله فالدعوة إلى الله فيها يعتبر سنة في حق
الجميع.
ولكن لننظر إلى القرى البعيدة محورِ حديثنا، فالدعوة فيها تعتبر واجباً لعدم
قيام أحد من سكانها بهذا العمل، ولكننا نسأل: كيف عليهم تأدية هذا الواجب وهم
يجهلون أنهم بحاجة إلى دعوة وتصحيح عقيدة؟ إن الواجب هنا يقع على عاتق من
يعرف شيئاً عن هذه القرى وحاجتها إلى الدعوة، ولا داعي أن نذكِّر بفضل الدعوة
إلى الله؛ لأن الحديث هنا موجه إلى الدعاة الذين هم أعلم من غيرهم بهذا الفضل
بدليل قيامهم به.
إذَنْ: فأين هم من هذه القرى؟ وقد قال: (لئن يهدي الله بك رجلاً خير لك
من حمر النعم) ، فكيف بقرية بأكملها؟
وكم من داعية ذهب إلى تلك القرى وما عرف أن الاستجابة له ستكون بهذا
القدر؛ حيث نلمس، ومن خلال ما يصلنا من أولئك الدعاة، حبّ سكان القرى
للاستزادة من الخير ومحاولة تصحيح عقيدتهم واحترامهم وتقديرهم للدعاة.
وهذا لا يمنع أن يواجه بعض الدعاة بعض العقبات التي تحتاج إلى كثير من
الصبر لتخطيها، ولكن ما يتم من دعوة سكان أهل القرى أو الهجر أو البادية هو
جهد فردي من قِبَلِ أحد الدعاة غير مدعوم، ومع ذلك فإنه يستمر في دعوته موجهاً
كل إمكانياته في سبيلها، باذلاً من نفسه ومن ماله، ولكنه ما أن يبدأ بوضع بذور
الدعوة في النفوس ثم ينتقل إلى المرحلة التالية وهي تدعيم دعوته تلك حتى يواجَه
بمشكلة أساس تواجه جميع هذا النوع من الدعاة وهي مشكلة من شأنها أن تثبط همة
الداعية وتقعده عن إكمال دعوته (ولعلها كانت الأساس في كتابتي لهذا المقال) ،
وهي أنه عندما يطلب هذا الداعية من كبار المشائخ والدعاة الذهاب إلى تلك القرى
لإلقاء محاضرات ودروس دينية فإنه يواجه برفض من قِبَلِهم سواء كان هذا الرفض
مباشراً أو غير مباشر متذرعين بمشاغلهم ورافضين أن يبذلوا هذا الجهد ويتحملوا
هذه المشقة في سبيل الله، ومن هنا يتسلل الإحباط إلى نفس الداعية المبتدئ،
وتهتز القدوة التي كان يستمد منها دواعي الصبر والقوة في مواجهة المصاعب،
كيف لا وهو الذي كرس وقته وجهده وماله لهذه الدعوة زمناً ليس قصيراً في حين
أن أساتذته وقدواته يرفضون تخصيص بضع ساعات لمساعدته على مواصلة
الطريق!
إن المأمول من هؤلاء الدعاة والمشائخ تشجيع الدعاة وتنظيم دعوتهم ودعمها؛
وذلك بجعلها تابعة لهيئة مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تأخذ
الصفة الرسمية وتستمر؛ لأن الجهد الفردي معرض للانقطاع، أما إذا كانت هناك
جهة رسمية مسؤولة عنها فهي تضمن لها الاستمرارية بإذن الله تعالى ونحن نربأ
بالدعاة والمشائخ من أن يكون عامل المشقة وبُعد المسافة سبباً في إبعادهم عن
المضي في طريق الدعوة إلى الله وهو الطريق الذي اختاروا السير فيه ولا يزالون.
__________
(1) ثلاثون وقفة في فن الدعوة، ص 43.(120/32)
مرتكزات للفهم والعمل
العُجْبُ وخطرهُ على الداعية
(1من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
في غمرة انشغال الداعية في أعماله الدعوية، يحصل لديه أحياناً قصور في
تزكية نفسه، ومحاسبتها، وربما تسلل إلى قلبه آفات قادحة في عمله وإخلاصه،
مفسدة لقلبه، قد يشعر بها وينشغل عن علاجها، وقد لا يشعر بها أصلاً.
ومن الأمراض السريعة الفتّاكة بالنية: العُجْبُ، وما ينتج عنه من الغرور
والكبر.
مفهوم العُجب: العُجب هو: الإحساس بالتميّز، والافتخار بالنفس، والفرح
بأحوالها، وبما يصدر عنها من أقوال وأفعال، محمودة أو مذمومة [1] وعرفه ابن
المبارك بعبارة موجزة فقال: (أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك) [2] .
وإذا تنقص المعجب أعمال الآخرين، أو أعجب بما ليس فيه، واهماً امتلاكه، فهو الغرور؛ فإذا طال أشخاص الآخرين فهو الكبر.
ويدخل العجب في كل شيء يزهو به الإنسان، وأخطره العجب بالعمل. وهو
المقصود هنا.
مداخل العُجب على الدعاة: ومما يُدخل العُجب على الداعية نظره لما منحه
الله إياه من بلاغة أو فصاحة وبيان أو سعة في العلم وقوة في الرأي، فإذا انضاف
إلى ذلك حديث الناس عن أعماله، وتعظيمهم له، وإقبالهم عليه ... لم يسلم حينئذٍ
إلا القليل [3] .
التحذير من العجب: أمر الله عز وجل نبيه بالإنذار والدعوة، وتعظيم ربه
عز وجل وفعل الخير، واجتناب الشر، وهجر الأوثان، ثم قال له بعد ذلك:
[وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ] [المدثر: 6] ، قال الحسن البصري: (لا تمنن بعملك على ربك
تستكثره) ، فإنه مهما كُثرَ العمل ففضل الله أعظم، وحقه أكبر.
وقد نهى الله عن تزكية النفس، بمعنى اعتقاد خيريتها، والتمدّح بها فقال:
[فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ] [النجم: 32] ، كما نهى عن المن بالصدقة فقال: [لا تُبْطِلُوا
صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى] [البقرة: 264] ، والمن يحصل نتيجة استعظام الصدقة،
واستعظام العمل هو العُجب. والإعجاب بالنفس شر، وأي شر، قال ابن المبارك:
(لا أعلم في المصلين شيئاً شراً من العجب) [4] .
ولعل المرء يدافع الرياء ويحس به، بيد أنه لا يشعر بما في داخله من العجب
المحبط، ومن أجل ذلك كان مهلكاً بوصف النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (ثلاث مهلكات) ثم ذكرهن: (شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) [5] .
وإذا كانت الذنوب مهلكة، فإنها قد تكون رحمة بصاحبها حين تخلصه من
العجب الذي هو الهلاك حقاً. قال: (لو لم تكونوا تذنبون، خشيت عليكم أكثر من
ذلك: العجب) [6] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (الهلاك في شيئين: العجب والقنوط) ..
(وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالطلب والتشمير، والقانط لا يطلب،
والمعجب يظن أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى) [7] .
ومما ورد في جزاء المعجبين قوله: (بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه،
قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) وفي
رواية: (قد أعجبته جمته وبرداه) [8] ، فكيف بمن أُعجِبَ بعلمه أو عمله؟ !
مظاهر العجب: الله عز وجل أعلم بالإنسان من نفسه، والإنسان أعلم الناس
بنفسه فهو أقدرهم على اكتشاف مظاهر العجب في نفسه، كما أن بعضها لا يخفى
على الناس، ومنها:
1- المنّ على الله، ومطالبته بما آتى الأولياء، وانتظار الكرامة وإجابة
الدعوة [9] .
2- الإكثار من الثناء على النفس ومدحها، لحاجة ولغير حاجة، تصريحاً أو
تلميحاً، وقد يكون على هيئة ذم للنفس أو للآخرين، يراد به مدح النفس.
3- الحرص على تصيّد العيوب وإشاعتها، وذم الآخرين أشخاصاً أو هيئات
والفرح بذمهم وعيبهم.
4- النفور من النصيحة، وكراهيتها، وبعض الناصحين.
5- الاعتداد بالرأي، وازدراء رأي الغير.
6- صعوبة المطاوعة، والحرص على التخلص من التبعات والمسئوليات،
وتحقيق القناعات الشخصية.
7- الترفع عن الحضور والمشاركة في بعض الأنشطة العلمية والدعوية،
وخصوصاً العامة.
مخاطر العجب وآثاره: للعجب أثره على الدعوة والدعاة [10] ، ولا شك أن
آثاره على الدعاة تنعكس على الدعوة أيضاً بالسلب، فمن آثاره على الدعاة:
1- أنه طريق إلى الغرور والكبر، وآثار الكبر المهلكة لا تخفى.
2- الحرمان من التوفيق والهداية؛ لأن الهداية إنما ينالها من أصلح قلبه
وجاهد نفسه، قال الله تعالى: [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]
[العنكبوت: 69] ، ومن صور هذا الحرمان: نسيان الذنوب واستصغارها، والعمى عن التقصير في الطاعات، والاستبداد بالرأي، والتعصب للباطل، وجحود الحق، وهذه الآثار في الجملة منها ما يقع سبباً للعجب، ثم يزداد ويستمر، ليبقى أثراً ثابتاً له.
3- بطلان العمل، قال عز وجل: [لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى] .
4- العجز والكسل عن العمل؛ لأن المعجب يظن أنه بلغ المنتهى.
5- الانهيار في أوقات المحن والشدائد؛ لأن المعجب يهمل نفسه من التزكية، فتخونه حينما يكون أحوج إليها، ويفقد عون الله ومعيته؛ لأنه ما عرف الله حال
الرخاء.
وتأمل ما أصاب الصحابة رضوان الله عليهم مع إيمانهم وصلاحهم، حين
أعجب نفر منهم بكثرة العدد: [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] [التوبة: 25] واليهود عليهم
لعائن الله: [ظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ] [الحشر: 2] .
6- نفور الناس وكراهيتهم؛ لأن الله يبغض المعجب.
7- العقوبة العاجلة أو الآجلة، كما خسف الله بالمتبختر المعجب الأرض.
ومن آثاره على الدعوة: توقفها أو ضعفها وبطؤها بسبب قلة الأنصار؛ نظراً
لنفور الناس، وكراهيتهم للمعجبين، وسهولة اختراق صفوف الدعاة وضربها؛
نظراً لانهيار الدعاة المعجبين حال الشدائد.
أسباب العُجب: ذكر العلماء للعجب سببين رئيسين:
أولهما: جهل المعجب بحق ربه وقدره، وقلة علمه بأسمائه وصفاته،
وضعف تعبده له تعالى بها.
ثانيهما: الغفلة عن حقيقة النفس، والجهل بطبيعتها وعيوبها، وإهمال
محاسبتها.
ويدخل تحتهما: تجاهل النعم، ونسيان الذنوب، واستكثار الطاعات.
ومن الأسباب المهمة أيضاً:
أ - الجهل بما عند الآخرين من علم أو عمل قد يفوق ما عنده كثيراً.
ب - النظر إلى من هو دونه في أمور الدين، دون النظر إلى من فاقه وزاد
عليه.
ج - النشأة في كنف مربٍ به عُجْب، كثير الثناء على نفسه.
د - صحبة بعض أهل العجب، لا سيما إذا كانوا من المبرزين النابهين.
هـ- الاعتداد بالنسب، أو المكانة الاجتماعية، أو كثرة المال
و الإطراء والمدح في الوجه، والإفراط في الاحترام.
ز - المبالغة في الانقياد والطاعة، ولو في المعصية.
ح - التصدر للناس قبل النضج العلمي والتربوي، تساهلاً، أو تطلعاً لسماع الجماهير، أو مراعاة لظروف الدعوة، لخلو الساحة من المؤهلين تأهيلاً كافياً.
ط- تحقيق بعض الدعوات أو الأشخاص نجاحات في الدعوة؛ كالتفاف
الجماهير، وسماعهم، وتأثرهم.
علاج العجب: أول ما ينبغي أن يتوجه إليه العلاج: معالجة أسباب العجب،
ومجاهدة النفس على اجتنابها ويمكن تفصيل خطوات العلاج فيما يلي:
أولاً: الحرص على العلم الشرعي، الذي يهذب النفوس، ويصلح القلوب،
ويزيد الإيمان؛ فإن الإيمان الكامل والعجب لا يجتمعان. وتحصيل العلم النافع دليل
على أن الله أراد بعبده خيراً. ومن الجوانب التي ينبغي العلم بها، والعمل
بمقتضاها:
1- أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحقه في التعظيم المورِث للخوف، الذي
يطرد العجب قال تعالى: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] [الزمر: 67] .
2- تذكّر فضل الله عز وجل على عبده، ونعمه المتوالية، والنظر في حال
من سُلبها؛ فإن الله خلقه من العدم، وجعله إنساناً سوياً، وأمده بالنعم والأرزاق،
وجعله من أبوين مسلمين، ووفقه للطاعات، وهيأ له أسباب العلم والدعوة، وهو
الذي يثيبه عليها، ويدخله الجنة برحمته. وهو تعالى لو شاء لجعله عدماً أو جماداً، أو بهيمة، ولو شاء لخلقه أصم أبكم أعمى، ولو أراد لجعله من أبوين يهوديين أو
نصرانيين، وهو سبحانه في كل نعمه تلك غني عن عبده وعن عبادته وعن طاعته.
3- افتقار هذه النعم إلى الشكر، وأن العبد مهما شكر فشكره لا يكافئ النعم،
مع ما قد يشوبه من خلل.
4- حقيقة الدنيا والآخرة، وأن الدنيا مزرعة هدف العبد فيها مرضاة الله
تعالى وهو عز وجل لا يرضيه العجب، وكذا تذكّر الموت وما يكون بعده من
الأهوال التي لا ينفع فيها إلا صالح العمل، والعجب يجعله هباء منثوراً.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا خفت على عملك العجب، فاذكر رِضا من
تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب. فمن فكّر في ذلك صغر
عنده عمله) [11] .
5- حقيقة النفس. قال الأحنف بن قيس: (عجبت لمن خرج من مجرى
البول مرتين، كيف يتكبر) .
6- إدراك عواقب العجب، وأنه طريق إلى الكبر المهلك.
7- وجوب الإخلاص، قال الذهبي: (فمن طلب العلم للعمل كسره العلم،
وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء: تحامق
واختال، وازدرى بالناس، وأهلكه العجب) [11] .
ثانياً: الحرص على ما يعين على تحصيل ذلك من الإقبال على كتاب الله،
واستلهام الفهم منه، ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيرة السلف
الصالحين، ومجالسة العلماء والدعاة الصادقين، والأخذ من علومهم.
ثالثاً: دور الدعاة والمربين، والذي يتمثل فيما يلي:
1- محاسبة النفس أولاً، وتنقيتها من داء العجب والفخر.
2- متابعة البارزين ومن يخشى عليهم العجب، من خلال:
أ- البرامج الإيمانية.
ب- اللقاءات الفردية التي يذكرون فيها بمعاني الإيمان والتواضع.
ج- وأحياناً مصارحة الواحد منهم بما يصدر منه، بأسلوب مناسب.
3- تمكينه من معاشرة ومخالطة الصالحين، ورؤية بعض المتواضعين من
إخوانه، الذين هم أكثر بروزاً في المجتمع، وإبعاده وتجنيبه صحبة المعجبين.
4- التوقف عن إبرازه في المناشط العامة وتأخيره عن المواقع الأمامية،
كنوع من العلاج، مع مراعاة ألا ينتج عن ذلك سلبية الإحباط، فإن حدثت فإنه
يجب علاجها أيضاً؛ لأن التأخير اجتهاد في العلاج، وقد يكون التشخيص أيضاً
مجتهداً فيه.
رابعاً: اتباع الآداب الشرعية في المدح والثناء، والتوقير والاحترام،
والطاعة والانقياد.
فالمدح: إذا كان بالحق، وباعتدال، مع من لا تُخشى عليه الفتنة فقط؛ كان
جائزاً، أو مستحباً، بحسب المصلحة؛ وإلا فحرام.
والتوقير والاحترام، ينبغي ألا يصل إلى التعظيم؛ ولذا كره من أصحابه أن
يقوموا له، وأن يعظموه كما يعظم الأعاجم ملوكهم.
وأما الطاعة والانقياد فقد حددها الشارع في المعروف.
خامساً: النظر إلى العاملين النشيطين، والتأمل في سيرهم وحياتهم.
سادساً: التأكيد على المسؤولية الفردية في محاسبة النفس ومتابعتها، حسب
خطوات العلاج السابقة كلها، وتفقّد القلب في نيته عند كل عمل، قال عبيد الله ابن
أبي جعفر: (إذا كان المرء يحدِّث في مجلس، فأعجبه الحديث فليمسك، وإذا كان
ساكتاً فأعجبه السكوت فليتحدث) [12] ، ولكن يجب التنبه إلى أن هذا يكون في
حدود التأديب والعلاج، لا يتعداه إلى ترك العمل خشية العجب أو الرياء.
كما أن المحاسبة قد تتطلب أحياناً تعريض النفس بين الحين والحين لبعض
المواقف التي تكبح جماح كبريائها، وتعرفها بمكانتها اللائقة، كخدمة من هو أصغر
منه، أو حمل متاعه بنفسه، على نحو ما أُثِرَ عن كثير من السلف. ولا غنى للعبد
في كل هذه الوسائل عن الاستعانة بالله تبارك وتعالى، واللجوء إليه، لجوء العبد
الضعيف المفتقر إلى عون مولاه ومدده وهداه وتوفيقه.
__________
(1) انظر آفات على الطريق، د السيد محمد نوح، ج1، ص 117، وانظر بعدها، فقد استفدت منه في مواضع من هذا الموضوع.
(2) سير أعلام النبلاء، ج8، ص 407.
(3) انظر: عقبات في طريق الدعاة، عبد الله علوان، 1/64، 65.
(4) سير أعلام النبلاء، ج1، ص 407.
(5) حسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/3045.
(6) أخرجه ابن عدي 1/146، وغيره، وحسنه الألباني في الصحيحين، ح/658.
(7) مختصر منهاج القاصدين، ص 234.
(8) رواه مسلم، ح/2088، معنى (بتجلجل) : يغوص، ومعنى (جمته) : ما سقط على المنكبين
من شعر الرأس.
(9) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1، ص 158.
(10) انظر: تهذيب موعظة المؤمنين، ص 345، 346.
(11) سير أعلام النبلاء، ج 10، ص 42.
(12) سير، ج6، ص 10.(120/36)
البيان الأدبي
موقف الإسلام من الشِّعْر
بقلم: إبراهيم بن محمد الحقيل
كان للعرب قبل الإسلام عاداتٌ يتفاخرون بها، فأقرّ الإسلامُ منها ما هو حسنٌ
كالوفاء والأمانة والصدق وغيرها، ونهى عمّا هو سيئٌ كشرب الخمر والسّلب
والنهب وغيرها. وكان مما أقره مما يتفاخرون به: الشِّعْرُ. ولكن الإسلام عندما
أقرّهُ وضع لذلك ضوابط تحكمهُ أنْ ينزلق بصاحبه إلى ما هو محرمٌ منه قال تعالى:
[وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ] [الشعراء: 224-226] .
قال ابن كثير في تفسيره: عن ابن عباس: يعني الكفار قصده الشعراء منهم
ويتبعهم ضُلاّلُ الناس والجن؛ وكذا قال مجاهد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
وغيرهما، ثم نقل عنه أيضاً: كان رجلان على عهد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أحدهما من الأنصار والآخر من قومٍ آخرين وأنّهما تهاجيا، فكان مع كل
واحدٍ منهما غواة قومه، وهم السّفهاء. فقال تعالى ... ، وذكر الآيات السابقة.
وفي تفسير الخازن [1] : قال أهل التفسير: أراد شعراء الكفار الذين كانوا
يهجون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... واجتمع إليهم غواةُ قومهم يسمعون
أشعارهم، ويروون عنهم قولهم؛ فذلك قوله: [يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ] فهم الرواة. اهـ
ونقل النسفي [2] في تفسيره عن الزّجّاج: أنّ الغواةَ هم من يروون هذا
الشعر وينقلونه. اهـ وقال ابن حجر: قال المُفسّرون في هذه الآية: المرادُ
بالشعراءِ شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس، ومردة الشياطين، وعصاةُ الجن،
ويروون شعرهم؛ لأنّ الغاوي لا يتبعه إلاّ غاو مثله. اهـ
ويُذكر في هذا الباب قوله فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (لئِنْ
يمتلئ جوفُ رجُلٍ قَيْحاً حتى يَرِيَهُ خيرٌ من أنْ يمتلئ شعراً) [3] .
ولكن العلماء بينوا أنّ هذا الحديث خاص لمن غلب عليه الشعر؛ ولذلك قال
عليه السلام: (يمتلئ) وهي كنايةٌ عن الغلبة، وأنه لا مجال لغيره في قلب الإنسان.
وصدّر البخاري ترجمته بقوله: باب ما يكره أن يكون الغالبُ على الإنسان
الشعر حتى يصُدّهُ عن ذكر الله والقرآن. اهـ
وقال أبو عُبيد [4] : ولكنّ وجهَهُ عندي أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب
عليه فيشغَلَهُ عن القرآن وعن ذكر الله، فيكون الغالب عليه، فأمّا إن كان القرآنُ
والعلمُ الغالبين عليه فليس ممتلئاً من الشعر. اهـ وكذا قال القرطبي [5] . ...
وهما يرُدّان ما يروى عن عائشة [6] وما يقوله بعض العلماء أن المقصود
بذلك هو الشعر الذي هجي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قوله: (أصدق كلمة تكلّمتْ بها العرب كلمة
لبيد: ألا كُلّ شيء ما خلا الله باطلُ) [7] .
وأنشد كعب بن زهير قصيدته المشهورة أمامه [8] . ورُوي أن الأسود بن
سريع قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إني حمدتُ ربي بمحامد مدحٍ
وإيّاك. فقال: أما إن ربك يُحب المدح؛ فهات ما امتدحت به ربك عز وجل
فأنشده) [9] .
وقد أمر حسان بن ثابت أن يجيب عنه لما هجاه المشركون فقال له [10] :
(يا حسان أجبْ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ اللهم أيّدهُ بروح القدس) اهـ ... وقال عليه السلام له: اهْجُهم أو قال هَاجِهِم وجبريل معك) اهـ
وكما سمع الرسول الشعر في مدحه فقد أثاب عليه؛ ومن ذلك ما أثاب به
كعب بن زهير، فقال الأحوص يخاطب عمر بن عبد العزيز [11] :
وقَبْلكَ ما أعطى هُنيدةَ جِلةً ... على الشعر كعباً من سَدِيسٍ وبازلِ
رسولُ الإله المُسْتضاءُ بنورِهِ ... عليه السلامُ بالضّحى والأصائلِ
وعلى هديه سار الصحابة والتابعون والسلف الصالح، فقد قال ابن عبد البر:
(ولا ينكِرُ الحَسَنَ من الشعر أحدٌ من أهل العلم ولا من أُولي النهى، وليس
أحدٌ من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا قد قال الشعر، أو تمثل به،
أو سمعه، فرضيه ما كان حكمه مباحاً ولم يكن فيه فحشٌ ولا خنا ولا لمسلمٍ
أذى) [12] . اهـ
وقد عرف عن عمر وعائشة وابن عباس ومعاوية رضوان الله عليهم وغيرهم
من الصحابة برواية الشعر وإنشاد الحسن منه، بل لعمر آراءٌ نقديةٌ تدور في كتب
النقد وعلى ألسنة النقاد.
واشتهر من سلفنا كثيرٌ ممن قالوا الشعر المباح الحسن في جميع أغراضه منهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وشريح القاضي، والشافعي، وعبد الله
بن المبارك، وابن حزم، وابن القيم، وغيرهم كثير.
كما صنف بعض السلف من الثقات في أخبار الشعراء وأشعارهم كالزبير بن
بكار، وابن قتيبة، وأبي عمرو الشيباني، كما كان منهم رواة للشعر: كأبي عمرو
بن العلاء، والأصمعي، والمفضل الضبّي، وغيرهم.
وقد يقول قائل: لو كان في الشعر خيرٌ لكان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- شاعراً. اهـ وقد أجاب ابن رشيق على ذلك فقال [13] : لو أَنّ كون
النبي -صلى الله عليه وسلم- غير شاعر غضّ من الشعر لكانت أُمِّيّتُهُ غضّاً من
الكتابة؛ وهذا أظهر مِنْ أنْ يخفى على أحدٍ.
ونقل عن سعيد بن المسيب أنه قيل له [14] : إن قوماً بالعراق يكرهون
الشعر. فقال: لقد نسكوا نُسُكاً أعجمياً.
فالشعر الحلال مجاله واسع ورحيب، وكذلك المحرم، وسنعرض الآن لهذين
النوعين.
أولاً: الشعر الحلال: فمنه المندوب: وقد نقول إنه الواجب لقوله لحسان بن
ثابت: (أجب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) وهو الرد على من هجا
المسلمين وأعلامهم؛ لذلك دأب شعراء المسلمين المخلصون على الرد على هؤلاء
الكفرة والزنادقة؛ فقد ناضل حسان، وعبد الله، وكعب عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، كما رد عبد الله بن المبارك [15] على عمران بن حطان في مدحه
ابن ملجم قاتل علي، ومثله فعل بكر بن حماد [16] ، كما رد ابن حزم [17] على
قصيدة أرسلها ملك الروم في ثلب الإسلام ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
وهذه أمثلة؛ والاستقصاء عن ذلك طويل.
ومن الشعر المندوب: مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبيان
فضائله وخصائصه التي اختُصّ بها وأخلاقه الحميدة، وذكر صبره وجهاده في
سبيل الدعوة. وقد صنف ابن سيد الناس كتاباً سماه: (منح المدح) أو: شعراء
الصحابة ممن مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو رثاه. والكتاب مطبوع
متداول، ولا يكون مدحه عليه السلام كما مدحه البوصيري وأضرابه حينما جعلوا
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفات هي لله سبحانه وتعالى فما كان الرسول
ليرضى بهذا المدح.
ومن الشعر المندوب: شعر الزهد الذي يحض على التقوى وطاعة الله وحسن
الإسلام، ويزهِّد في متاع الدنيا الفاني، ويذكِّر الإنسان بالتوبة والإنابة إلى الله،
ويعظهُ بمآله إليه تعالى ويذكره بالحساب والجزاء. وقد قال أكثر الشعراء في هذا
الباب؛ فمنهم من كان جُلّ شعره في ذلك الباب مثل سابق البَرْبَريّ، وأبي العتاهية، وعبد الأعلى الشامي، وغيرهم، ومنهم من تجد الزهد في شعره عرضاً في لحظة
توبة وندم ولكنها لا تدوم؛ فنحن نجده في أشعار أبي نواس، ومسلم بن الوليد،
والفرزدق، وغيرهم كثير.
ومن الشعر المندوب: شعر الحكمة الذي يحث على الخلق الحسن والفعل
الجميل. فهي في الشعر أقرب فهماً وأكثر تأثيراً؛ وقد قال عليه السلام: (إنّ من
الشعر حكمة) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [18] : فإنّ الأمثال المنظومة إذا كانت
حقاً مطابقاً فهي من الشعر الذي هو حكمة، وإن كان فيها تشبيهات وتخييلات
عظيمة أفادت تأليفاً وتنفيراً. اهـ
ومن الشعر الحلال المقبول: الغزل العفيف البريء الذي لا يحرك الشهوات،
ولا يدعو إلى الفواحش، ولا يخاطب الغرائز؛ فقد كان لحسان رضي الله عنه
غزلٌ أنشده في الإسلام. كما مدح كعب بن زهير رضي الله عنه رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- بقصيدته البردة وفيها غزلٌ. قال أبو بكر ابن العربي [19] : وقد
أنشد كعب بن زهير النبي -صلى الله عليه وسلم- ... فجاء في هذه القصيدة بكل
بديع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع، ولا ينكر في تشبيههِ ريقها بالراح. اهـ
كما نُقلتْ أشعارٌ لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة تغزل فيها بزوجة طلقها، فندم
على طلاقها وهي (عَثْمة) وكذلك شريح القاضي، كما أورد ابن حزم في كتابه:
(طوق الحمامة) نماذج من غزله، وكذلك فعل ابن القيم في روضة المحبين.
ومن الشعر المباح المقبول: المدح والرثاء؛ ما لم يجاوز الغاية؛ فقد عرف
عن الشعراء التهافت على المدح طلباً للنوال مما جعلهم يغرقون في لجة الكذب
والاختلاق والغلو الذي حدا ببعضهم أن يصل إلى الكفر كقول ابن هانئ [20] :
لا شئْتَ لا ما شاءَتِ الأقدارُ ... فاحكمْ فأنت الواحدُ القهّارُ
ولا عجب أن ذلك الممدوح راقه هذا المدح فهو المعز العُبيدي الباطنيّ. وقد
غضب هارون الرشيد على أبي نواس حين قال يمدح الخصيب والي مصر:
فإنْ يكُ باقي سحرِ فرعونَ فيكُمُ ... فإنّ عصا موسى بكفّ خصِيبِ
فقال: أنت المستخفّ بعصا موسى نبي الله! وطرده، ومات الرشيد؛
وأبو نواس ما يزال في السجن عند إبراهيم بن نُهَيْك [21] .
أما الرثاء: فما ينطبق على المدح ينطبق عليه، ولكنا نلاحظ أن الشاعر
يكون أقوى شعراً عندما يرثي قريباً له كالأبناء والزوجات والوالديْن والأصدقاء؛
لصدق العاطفة، وكذلك عندما يرثي من أصابه الخيرُ على يديه كمرثية الحسن بن
مطير، ومرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة أحد القواد الكرماء. ونجده
ضعيفاً عندما يكون كذباً كرثاء الفرزدق [22] لمحمد بن الحجاج بن يوسف وأخي
الحجاج محمد. وغير ذلك كثير.
ومن الشعر المباح المقبول: (الوصف) ما لم يصف ما حرم الله، بل إن
بعضه قد يدخل في قوله تعالى: [أَفَلا يَنظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ] ...
[الغاشية: 17] ، عندما يحض الناس وينبههم على حسن صنع الله وإتقانه، وما سخر لبني آدم في الطبيعة؛ وخَسِئ الملحد عندما يقول: (صنعتْ الطبيعة، وكونتْ الطبيعة، أو يد الطبيعة) .
ثانياً: الشعر المُحَرّم: ومن هذا النوع: الغزل الفاحش الذي يخاطب الغرائز، ويثير الشهوات. قال شيخ الإسلام [23] : ومن أقوى ما يُهيّج الفاحشة إنشاد
أشعار الذين في قلوبهم مرضٌ من العشق ومحبّة الفواحش. اهـ وقال أيضاً [24] : ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيرهُ أشكال الشعر الغزلي الرقيق؛ لئلا تتحرك
النفوس إلى الفواحش. اهـ فوصف الأجساد وما خفي منها له فعل السحر في
النفوس: يحرك الشهوات، ويهوِّن اقتراف المحرمات؛ لذلك ضجّ أهل البصرة يوم
كان الخير كثيراً وأهله كُثُراً إلى المهدي في بشار، وقال بعض علمائهم [25] : ما
شيءٌ أَدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى. اهـ
فاستجاب المهدي، وقُتِلَ بشار تحت السِياط؛ فلما علم أهل البصرة بذلك هنأ
بعضهم بعضاً [26] .
ومن الشعر المحرم: (الهجاءُ) فهو قائم على السبِّ والشتم، ويجب أن نفرق
بينه وبين هجاء المشركين والمارقين وكذلك الفساق الظاهر فسقهم، والظالمين
المسرفين. وعرف الهجاء منذ نشأة الشعر، واستعمله المشركون سلاحاً، فراحوا
يهجون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأهدر دماء بعضهم وكالجاريتين اللتين
كانتا تغنيان بما يُهجا [27] به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأهدر دم كعب
بن زهير [28] لما هجاه.
وقد تعامل الخلفاء الراشدون مع الهجّائين بحزم؛ فقد سجن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه الحطيئةَ [29] ولم يطلقه حتى تعهد بترك الهجاء؛ كذلك سجن
عثمان بن عفان رضي الله عنه الحارثَ بن ضابئ [30] حينما هجا قوماً ورمى
أمهم بكلبٍ، فاستُشهِدَ عثمان رضي الله عنه والحارث ما يزال في السجن. كذلك
سجن معاوية بن أبي سفيان يزيد بن مفرغ الحميريّ [31] حين أسرف في هجاء
عبيد الله بن زياد وإخوانه.
ومن الشعر المحرم: التفاخر بالمعاصي وفعلها: كمدح الخمر وفعلها في
العقول مما يدعو إلى احتسائها ظنّاً بصدق قول الشاعر، وغفلةً عن قول الله تعالى
وقول رسوله. وكان ذلك قليلاً في عصر صدر الإسلام وعصر بني أُمية؛ والأبرز
في ذلك الأخطل؛ ولكنه كان نصرانياً. وشاع ذلك وعرف في عصر بني عباس،
فظهر بشار، وابن هَرْمة، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس، وغيرهم. وسار كثير
على منوالهم؛ وإن كان بعضهم لم يشربها، ولكنه قال ذلك مجاراةً لمن قبله؛ فبئس
المجاراة وكذلك التفاخر بالعُهْر والزِّنى، وكان القائدَ في ذلك امرؤ القيس في
الجاهلية، وبعده الأعشى، ثم تبعهم الفرزدق حتى كاد أن يَحدّهُ سليمان بن عبد
الملك لولا أن قوله تعالى: [وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ] درأ عنه الحد [32] ثم
كثر ذلك في عصر بني العباس. وهو شعر ساقط يصور الزنا بطولةً وشجاعة
وهيهات ذلك! وهو كثير في عصرنا هذا، وما قصيدة انتشرت في قطر عربي
كبير سمتها شاعرتها: (ليلة الدخلة) بغائبة عن أذهان كثيرٍ من الشبان والشابات
وكذلك أشعار نزار قباني وغيره ممن كان ذلك نهجه.
ومن الشعر المحرم: (المدح) إذا تجاوز الحد؛ فالشعراء أسرفوا في ذلك حتى
جعلوا الجبان شجاعاً، والبخيل سخيّاً، والعاهر شريفاً، إلى غير ذلك من الكذب
والاختلاق الذي هو شهادة زور.
ومن الشعر المحرم: بعض (الاقتباس) عندما يعمد بعض الجهال من الشعراء
إلى آية كريمة أو حديث شريف، فيضعونها في موضع الغزل أو الهجو، أو العبث
والهزل. قال ابن حجة الحموي [33] : والاقتباس على ثلاثة أقسام: مقبول،
ومباح، ومردود. فالأول: ما كان في الخطب، والمواعظ، والعهود، ومدح النبي- صلى الله عليه وسلم- ونحو ذلك. والثاني: ما كان في الغزل، والرسائل،
والقصص. والثالث: على ضربين: أحدهما: ما نسبَهُ الله تعالى إلى نفسه،
ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه. والآخر: آية كريمة في معنى هزل نعوذ بالله.
ومن ذلك قول القائل:
أَوْحى إلى عشاقِ طرفهِ ... هَيْهات هيهات لما توعدونْ
وردفه ينطق من خلفه ... لمثل ذا فليعمل العاملونْ
وفي رأيي أن القسم الثاني عند الحموي لا يليق أن يكون من القرآن ولو
اقتباساً ممتزجاً بالغزل وينبغي إسقاطه. أما الرسائل والقصص الجادة فلعلها كما قال. ونقرأ لهذا الشاعر الظالم لنفسه وهو محمد بن علي البغدادي [34] :
في جيوش أَمامهُنّ أبو ... أحمد نعم المولى ونعم النصيرْ
وقد جمع أرطأة بن سُهَيّة أبواب الشعر الحرام فقال وقد سأله عبد الملك بن
مروان: هل تقول الشعر؟ فقال: ما أشرب، ولا أطرب، ولا أغضب [35] .اهـ لا يشرب ليفاخر ويهجو، ولا يطرب ليتغزل، ولا يغضب ليهجو.
أما الشعر الذي أطلّ علينا برأسه وسموه بأسماء مختلفة [36] فما ينطبقُ على
الشعر القديم ينطبق عليه، حاشا الشعر الرمزي الذي أَصْبحَ طلاسم تحمل إيهاماً
يحتمل كثيراً من التفاسير والتأويلات، وقد أصبح مطية لأهل المذاهب الهدامة
والأفكار المنحرفة؛ لسهولة الهرب من إقراراته التي ينشرها الشاعر في ثناياه؛
لأنه يحتمل كثيراً من التفسير والتأويل. ولعل أحد المختصين بهذا النوع من الشعر
يتحفنا ويفيدنا.
__________
(1) م ط، 1317هـ.
(2) على هامش تفسير الخازن.
(3) صحيح البخاري ك الأدب باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر، وصحيح مسلم ك الشعر.
(4) فتح الباري، ج 10، 549.
(5) الجامع لأحكام القرآن، ج3، 151.
(6) فتح الباري، ج 10- 549 وفي رواية للحديث عن عائشة آخرها: هجيت به، قال السبكي عنها: ولكنه لا يكاد يثبت اهـ طبقات الشافعية الكبرى، ج 1، 226.
(7) المصدران السابقان.
(8) السيرة، ج 4، 146، الجامع لأحكام القرآن، ج 13، 153.
(9) الآداب الشرعية لابن مفلح، ج 2، 94 وقال: رواه أحمد وفيه علي بن زيد مختلف فيه
وأكثرهم لينه.
(10) صحيح البخاري ك الأدب، باب: هجاء المشركين.
(11) ديوانه صنعة عادل سليمان، 230.
(12) جامع أحكام القرآن، ج13، 151.
(13) العمدة لابن رشيق، ج 1، 76.
(14) السابق، ج1، 89.
(15) طبقات الشافعية الكبرى، ج 1، 287.
(16) السابق، ج1، 287.
(17) البداية والنهاية، أحداث 352 هـ.
(18) مجموع الفتاوى، ج 28، 65.
(19) الجامع لأحكام القرآن، ج 13، 153.
(20) ديوانه، ص 185.
(21) الشعر والشعراء لابن قتيبة، ج 2، 807.
(22) ديوانه ط دار صادر، ج 1، 397.
(23) مجموع الفتاوى، ج 15، 313.
(24) السابق، ج 15، 332.
(25) والقائلان القاضي سوار ومالك بن دينار، الأغاني، ج 3، 40.
(26) السابق، ج 3، 40.
(27) السيرة، ج 4، 144.
(28) السابق، ج 4، 144.
(29) الشعر والشعراء، ج 1، 328، وطبقات فحول الشعراء، ج 1، 116.
(30) الشعر والشعراء، ج 1، 350، وتاريخ الطبري، أحداث 35 هـ.
(31) الأغاني، ج 17، 56.
(32) الشعر والشعراء، ج 1، 478 / 479.
(33) خزانة الأدب، ص 443.
(34) الاقتباس من القرآن الكريم، ج 1، 58.
(35) عيون الأخبار لابن قتيبة، ج 2، 200.
(36) يسميه البعض قصيدة النثر ويسمونه أيضاً الشعر الحر؛ وكأن الشعر رقيقاً فأعتق؛ وأول من استورده شعراء تمذهبوا بمذاهب هدامة، وما زال يمتطيه كثير منهم، وقد زاول بعض الشعراء الإسلاميين والمتزينين كتابة هذا النوع الطارئ مما يسمونه شعراً! .(120/42)
سباعيات
السلاح المباح
شعر د.محمد بن ظافر الشهري
صُدِّي اليهودَ بجَيِّد الأشعارِ ... يا أمتي والنّايِ والقيثارِ
تقدمي بنجومِ فَنٍّ أُعْتِدَتْ ... لجحافلِ الرهبانِ والأحبارِ
فالنصرُ مكتوبٌ ولو طال المدى ... للمسلمين على قوى الكفارِ
سنحرر الأقصى بغير إراقةٍ ... لدمٍ ولا إطلاقِ طلقةِ نارِ
وقعُ الكلامِ على اليهود أشد مِنْ ... وقعِ الحسامِ الصارمِ البتارِ
فَلْتَبْنِ إسرائيل ألفَ مفاعلٍ ... ولتملأِ الأجواءَ بالأقمارِ
فالمعجم العربيّ بات مُدجّجاً ... بالشجبِ والتنديدِ والإنكارِ(120/49)
خاطرة أدبية
بين الشكل والمضمون
بقلم:حفيظ بن عجب آل حفيظ
بينما كنت أقلب النظرات وأجيلها في إحدى المكتبات باحثاً عن كتاب أجد فيه
ما يشفي (غليلي) ويروي عطشي، ونهمي، لمحت عيناي كتاباً يشع غلافه لمعاناً
وبهاءً، والألوان التي تحلِّيه لا أروع منها، ولا أحسن من تناسقها وتناسبها،
وتوزيعها.
وبينما كنت في هذه الحالة من الإعجاب والذهول الممزوجين بالفرح ...
امتدت يمناي إليه ... حملته بين ذراعي كطفل جميل أردت مداعبته أو تقبيله،
وحرصت وتحرزت أشد الحرص، أن لا يقع من يدي فيصيبه مكروه أو أذى فأندم، وفي هذه اللحظات التي كنت أتأمل فيها الغلاف أخذت الأماني، والخواطر،
والأفكار ... طريقها إلى عقلي ... كانت كثيرة ومتتالية: أولها: ماذا بعد الغلاف؟
وثانيها: إذا كان الغلاف هكذا، فما بالك بالداخل؟ وثالثها: لا بد أنه يحوي روائع
لا مثيل لها ودرراً لا يشابهها درر.
اقتحمتُ هذه الخواطر قاطعاً لها، وطويت الغلاف لأرى ما بعده؛ لكي أقرأه
وأعب من معينه، وأستفيد من معانيه ومضامينه؛ ولكنني فوجئت بقصيدة (نبطية)
أو (شعبية) على الأصح! ! هزيلة المعنى والمبنى، متهالكة الجوانب ليس فيها من
الشعر إلا الشكل.. فقلت في نفسي عند ذلك: لعلها الأولى، وقد يكون ما بعدها
أجمل وأروع، وإنما هذه مداعبة من صاحب (الديوان) ! ! ؟ وأخذت يدي تسابق
نظري في طي الصفحات واحدة بعد أخرى ... وفي كل صفحة كان وقع المصيبة
عليّ أشد وأنكى، وانتهت صفحات الديوان ولا ديوان! ! دون أن أجد ما يشفع في
طبع هذه الخزعبلات الرديئة المتردية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فأعدته
إلى مكانه (المرموق) في أحد رفوف المكتبة وأنا حزين لما رأيت.
وحينما هممت بالخروج دون أن أجد بغيتي لمحت خلف الأدراج كتاباً صغير
الحجم مُلقًى على الأرض كأن أهل المكتبة لا يرونه أو أنهم لا يعدونه كتاباً أصلاً
فرفعته على عجل؛ فإذا البون شاسع بينه وبين الكتاب الذي صفعني قبله؟ ! لقد
كان ورقه رقيقاً سيئاً يكاد أن يتمزق كلما أردت أن أطوي إحدى صفحاته لأنظر ما
بعدها. لقد أصبحت في هذه المرة أطوي الأوراق بتمهل مخافة إيذائها حتى وقفت
على منتصف الديوان، وأنا في كل قصيدة أقرؤها أقول: هذه أروع، وأجمل ما
في الديوان بلا شك، ولكنني أفاجأ بأن التي بعدها أجمل، وأروع، وأحلى.
فأخذت الخواطر، والأفكار والأوهام طريقها مرة أخرى إلى عقلي، ولكنها
في هذه المرة غير التي قبلها، ومختلفة عنها: لماذا يكون مثل هذا الديوان الرائع
على هذه الحالة السيئة، وذاك على ما رأيت من فرط الاحتفاء به؟ لماذا لا يُلتفت
إلى هذا الديوان الجيد وكأنه من سقط المتاع، وذاك في أعز مكان؟ ! لماذا لماذا
لماذا؟
وبينما أنا في فرحي بالديوان (الحزين) ودهشتي، وعجبي، واستغرابي من
حال أهل المكتبة معه، إذا بصاحب المكتبة يقول: لقد حان وقت إغلاق المكتبة،
فخرجت من المكتبة بعد أن دفعت السعر الزهيد لهذا الديوان الثمين وأنا أحس أن
في يدي كنزاً لا يعرف قدره إلا من قدّم المضمونَ على الشكل، ورأى أن المظهر لا
يفصح عن المخبر في هذا الزمان! !
(لقد كان الأول من دواوين الشعر الشعبي الهذيل، أما الثاني فمن روائع
الشعر العربي الفصيح) .(120/50)
البيان الأدبي
نص شعري
وصار الذل خلاً
شعر: عبد العزيز بن عبد الله العزاز
قوافل العزّ تاهت عن روابينا ... وأنجمُ المجد غارت عن ليالينا
وصافحتنا يد الإذلال معلنةً ... بأنها اليوم قد حلّت بوادينا
يا ويح يَعْرُبَ إن الذلّ عانقنا ... قد صار خِلاً نُرَضِّيه ويُرضينا
يا ليت شعري وباب العزِّ نغلقه ... من أي بابٍ بروقُ النصر تأتينا؟
تموت أمجادنا والذل يقتلنا ... فإننا اليوم نرثيها وترثينا
أتهدم المجدَ أيدينا محطِمةً ... وما بنته لنا إلا أيادينا؟ !
أقول للقوم إشْفاقاً وتعزيةً: ... موتوا فليس حياة اليوم تحيينا
أنرتضي العيش والإسلام في قفص ... تنمى له تهم الإرهاب توهينا؟
وكيف نُمضي نهارَ العمرِ في لعبٍ ... والدين تغتاله سبعون سكينا؟
وكم لنا من بلاد تشتكي وهناً ... نصد عنها كأن ليست تنادينا؟
أما ينادي بنو البلقان في وهجٍ ... من اللظى حين ذاقوا العسف والهونا؟
عدوهم دونهم يفني ألوفَهُمُ ... ونحن في صمتنا نفني الملايينا
أما اشتكت دارة الشيشان غائلها ... ونحن من بعدها بتنا مغنينا؟
العزف يطربنا والقصف يرهبهم ... لا الجرح يدمي ولا الآهات تبكينا
أما شكا إخوة الصومال بأسهمُ؟ ... فالفقر يهلكهم والمال يطغينا
البرد يجلدهم، والحر يسلخهم ... ولم تزل عنهم الأوهام تثنينا
أما سمعنا منادي الشرق منتحباً ... يقول: يا قومُ من ينجي الفلبينا؟
أليست القدس قد أنّت مدويةً ... أَثَمّ ذو هِمَمٍ يفدي فلسطينا؟
يهود عاثوا فساداً في مرابعها ... ودنّسوا أرضها الغراءَ توطينا
تلكم مآسٍ وآلامٌ مبرِّحةٌ ... فمن لنا في مآسينا يواسينا؟
ما بالنا نغمض الأجفانَ في دعةٍ ... ونحن كنا ذوي عزم أبيينا؟
كنا إذا ما دعا داعي الجهاد بنا ... رأيت أفواجَنا جمعاً ملبينا
بالبيض لامعةً، بالخيل صاهلةً ... ليلاً وهاجرةً لله ساعينا
كانت تدين لنا الغبراءُ قاطبةً ... الروم والفرس بالأموال تجزينا
كنا الأساطينَ نَسقي العينَ صافيةً ... واليومَ نُسقى بأكوابِ الأسى طينا
ليس العجيبُ بأن نشري مذلتنا ... وإنما العُجْبُ أن الذلّ يشرينا!
فما لنا ننثني للغرب نطلبه ... معزةً، وهدى الإسلام يغنينا؟
أنطلب العز من علجٍ وطاغيةٍ؟ ... ما العزّ حقاً سوى أن نحفظ الدينا
تمسكوا بكتاب الله واعتصموا ... فهو المُعِزّ وللأمجادِ يُعْلينا
يا أمتي ربما تخبو منائرنا ... لكنّ نورَ الهدى لا ينطفي فينا(120/52)
رسائل جامعية
الأحكام الشرعية
لمسلمي البلاد غير الإسلامية
عرض: أحمد سعيد البتاكوشي
هذه رسالة غير مطبوعة حتى الآن تقدم بها الباحث خالد محمد عبد القادر
بكلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية ببيروت سنة 1415هـ، ومنح على
أثرها درجة الماجستير بتقدير ممتاز.
ولا يخفى على القارئ أهمية هذا الموضوع وعظم الحاجة إلى بحثه؛ فإن
الجاليات الإسلامية في ديار الكفار في أمسّ الحاجة إلى التفقه في دين الله تعالى،
والعلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بهم في تلك الديار، سواءً كانت في العبادات أو
المعاملات؛ خاصة أن تلك الجاليات تعايش كماً ضخماً من النوازل والمستجدات
التي تنتظر تحقيقاً من علماء الشريعة، وجواباً كافياً شافياً يجمع بين توصيف دقيق
لهذه النوازل وتطبيق الحكم الشرعي الملائم لها.
وقد بذل الباحث جهداً ضخماً، واجتهد في جمع هذه المسائل وتحقيقها،
واستغرق في إعداد هذا البحث أربع سنوات، وبلغت صفحات الرسالة ستمئة وسبع
عشرة صفحة تتكون من: مقدمة، وتمهيد، وثلاثة فصول، وخاتمة، وفهارس.
ففي المقدمة: تحدث الباحث عن أهمية هذا الموضوع، وتضمن التمهيد جملة
من القواعد الفقهية التي يكثر إيرادها في البحث، وأما فصول الرسالة، فإن كل
فصل يتضمن مباحث ثم مطالب ثم فروعاً، وسنعرض لأهم المسائل التي أعدها
الكاتب.
في الفصل الأول تحدث عن العلاقات الدولية؛ ومن أهم مسائل هذا الفصل:
هل تعتبر علمانية الحكومات اليهودية والنصرانية اليوم مخرجة لها عن كونها كتابية؟ ...
تعريف دار الكفر ودار الإسلام.
حكم الإسلام في التزام الدول المسلمة بميثاق هيئة الأمم.
وفي الفصل الثاني: تحدث الكاتب عن العلاقة بين العبد وربه، ومن أهم
مسائل هذا الفصل:
هل يمكّن الكافر من مس المصحف والقراءة فيه؟
ضبط الصلاة في البلاد غير المعتدلة التي لا شهور فيها ولا أيام معتدلة
كالقطبين وما في حكمها.
الجمع بين الصلاتين للحاجة ورفع المشقة.
خطبة الجمعة بغير العربية.
هل يصح الدفن في التابوت؟
بعض أحكام الميت الكافر.
حكم دفع الزكاة للمؤلفة قلوبهم من الكفار.
وحكم إعطاء الزكاة للجمعيات والمراكز الإسلامية.
مسألة الاعتماد على الحساب الفلكي في الصيام، واختلاف المطالع.
مسألة صيام أهل القطبين ومن يطول نهارهم جداً.
حكم بيع المسجد.
هل يصح دخول الكافر المسجد؟
وأما عنوان الفصل الثالث والأخير فهو: العلاقات الاجتماعية بين المسلم
ومخالفيه. وساق الباحث فيه مسائل كثيرة ومهمة، ومن أبرزها ما يلي:
حكم الزواج في دار الكفر.
هل الأنكحة الفاسدة والباطلة وما فيها شبهة تثبت حرمة المصاهرة؟
حكم نكاح الزانية وإنكاح الزاني وحكم العقد.
حكم نكاح الكتابية في دار الكفر.
مسألة النكاح بلا ولي، وكون ولي المسلمة كافراً.
حكم النكاح المؤقت نيةً دون إظهاره.
إسلام الزوجين أو أحدهما وأثره في النكاح.
هل تثبت الحضانة للأم الكافرة؟
ذبائح أهل الكتاب.
حكم بيع ما يكثر التعامل به في دار الكفر مما فيه شبهة كالكلب والقط والقرد.
حكم استئجار الكافر للمسلم.
حكم استئجار الكافر لتعليم أولاد المسلمين.
حكم استئجار الكافر لبناء المساجد.
حكم الاستقراض والاستعارة من الكفار.
حكم السلام على الكفار ومصافحتهم.
حكم شهود أعيادهم.
حكم الإهداء إليهم وقبول هديتهم.
حكم إقامة المسلم مع أسرة كافرة.
مسألة مباهلة الكافرين.
مسألة التجنس بجنسية دولة كافرة.
حكم تولي الوظائف في حكومات دار الكفر.
مسألة: هل يصح أن ينتخب المسلمون رجلاً غير مسلم ليطالب لهم بحقوقهم
في مجلس النواب؟
حكم الالتحاق في المؤسسة العسكرية لدار الكفر.
وأما عن تقويم هذه الرسالة، فمن خلال قراءتها فهي رسالة جيدة في بابها،
ومتميزة في قضاياها التي عالجتها وكانت محور موضوعها بما عمت به البلوى لدى
كثير من المسلمين، ويتميّز كاتبها بالوعي والواقعية تجاه نوازل ومستجدات العالم
الإسلامي ودول الكفر، كما في تحريره لمسألة الهجرة من دار الكفر، وحكم الإسلام
بالتزام الدول المسلمة بميثاق هيئة الأمم المتحدة. كما يظهر في ثنايا البحث غيرة
الباحث على دينه واهتمامه بأحوال المسلمين. كما كان المؤلف حريصاً على ترجيح
المسائل بأدلتها مع الوقوف على ثبوتها وصحتها.
ومن مزايا الرسالة: إعطاء خلاصة لمباحث ومطالب كل فصل من فصول
الرسالة، وكذلك: جودة تحريره لبعض المسائل واستيفاء أدلتها كما في مسألة
طهارة الكلب، ومسألة ضبط الصلاة في البلاد غير المعتدلة التي لا شهور فيها ولا
أيام معتدلة كالقطبين وما في حكمها.
ومن إيجابيات الرسالة: أن الباحث التقى بعض الفقهاء المعاصرين وسطّر
جملة من آرائهم وفتاويهم.
ونظراً لكثرة مباحث الرسالة، وطولها، وتشعبها؛ فإن الباحث قد وقع في
جملة من المآخذ والسلبيات، ولو أن الباحث وفقه الله، اقتصر على أحد الفصول
الثلاثة واجتهد في تحرير مسألة وتحقيقها لكان أوْلى وأسلم؛ فإن طول وتعدد مسائل
البحث جعلت الكاتب يقصّر في تحرير وتأصيل كثير من مسائل النوازل، كما
جعلت البحث ضعيفاً في عرض بعض المسائل وتحقيقها.
ومن سلبيات الرسالة تعويله في بعض الأحايين على مراجع غير أصيلة ولا
موثقة مثل كتب الثقافة الإسلامية، والكتب الدراسية، والصحف والمجلات غير
العلمية.
ومن المآخذ أن ثمة ضعفاً في تخريج الأحاديث فهو يعزوها في غالب الأحيان
إلى سبل السلام للصنعاني أو نيل الأوطار للشوكاني، إضافة إلى ضعف ظاهر في
توثيق الآثار؛ فقد يعزو بعض أقوال السلف إلى بعض كتب المتأخرين أوالمعاصرين.
ومن المآخذ المهمة أن الباحث لم يذكر مسلكاً منضبطاً ومنهجاً محدداً في تعامله
مع كتب الفقه والشروح الحديثية ونحوها؛ ولذا فإنك تجد إحالات كثيرة من هذه
الرسالة لكتب متباينة: من فقه، وحديث، وتفسير، وفكر إسلامي! ! ولكتّاب
متباينين في الاهتمامات والفنون والزمان والمكان.
ومن سلبيات البحث: تعويله في أكثر لقاءاته على فقهاء معاصرين ذوي
مسلك متقارب تجاه النوازل كالدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور وهبة الزحيلي.
ومن أهم المآخذ العلمية الواردة في ثنايا الرسالة: أن الباحث هدانا الله وإياه
يميل إلى القول بأن الجهاد دفاعي، مع أن الباحث قد قال في مقدمة الرسالة: (لم
أتأثر بالفقهاء التبريريين المعاصرين) وهذا ما وقع فيه كثير من المعاصرين.
وكذا كلامه في مسألة تحكيم الشريعة وما يناقضها في الفصل الأول والثالث
يحتاج إلى مزيد تحرير وتفصيل؛ فكلامه غير منضبط.
اضطراب الكاتب عندما جعل ديار المسلمين دار فسق، وهذا ينافي ما رجحه
في تعريف دار الكفر.
في مسألة التجنس بجنسية دولة كافرة.. ادّعى الباحث التسوية بين التجنس
بجنسيتهم وبين الإقامة في بلادهم، وتساهل في هذه المسألة، وليت الباحث اطلع
على ما كتبه د. الشاذلي النيفر في هذا الموضوع، وفتاوى محمد رشيد رضا،
والأزهر زمن الشيخ علي محفوظ والدجوي واللجنة الدائمة للفتيا بالسعودية.
عرّف الموالاة للكفار بتعريف غير دقيق وفيه قصور، ولو التزم الباحث
بالعبارات الشرعية لكان أوْلى.
زعم المؤلف أن الموالاة المنهي عنها للكفار لا تخرج من ضمن حلقة
التحالف والتآزر والتناصر، وأن الموالاة المنهي عنها إنما هي للكفار المحاربين،
فلا حرج في موالاة ما عداهم مما لا يضر بالمسلمين، وهذا فيه نظر ويحتاج إلى
مزيد من البحث والتأصيل، ولعل في الرجوع إلى بعض دراسات علماء السلف في
هذا الباب ما يزيل بعض الشبه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهناك رسالتان
علميتان منشورتان عن الموضوع عالجتاه بموضوعية ووعي هما:
الولاء والبراء في الإسلام د/ محمد سعيد القحطاني.
الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية للأستاذ/ محماس الجلعود.
وقبلهما كتب الشيخ سعد بن عتيق كتابه (النجاة والفكاك عن موالاة أهل
الإشراك) .
ولعل من أهم أسباب اللبس عند الكاتب في هذه المسألة عدم تفريقه بين
الموالاة المحرمة للكفار، وبين البر والإقساط إليهم إن لم يكونوا محاربين؛ وهذه
مسألة مهمة في هذا الباب يلزم تأصيل الحكم الشرعي حيالها.
وفي ختام هذه السطور نشكر للمؤلف جهده وجلده في بحث هذا الموضوع،
ونأمل منه المبادرة إلى طبع هذه الرسالة ونشرها بعد مراجعتها وتنقيحها مما أشرنا
إليه من بعض الملحوظات عليها والتي لا تغض من قيمتها العلمية ومن الجهد الكبير
الذي بذل فيها.(120/54)
المسلمون والعالم
الجزائر بين المد والجزر
التفسير لما يحدث من مآسٍ هناك
بقلم: عبد العزيز كامل
سيذكر التاريخ أن السنوات العشر الأولى من القرن الخامس عشر الهجري
(التي توافق عقد الثمانينات الميلادي) قد شهدت صحوة إسلامية عارمة في شتى
بقاع العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، عرباً وعجماً.
وسيذكر التاريخ أن عقداً جاء بعدُ هو (التسعينات) ، شهد وما يزال يشهد
محاولات محمومة، ومؤامرات مشؤومة لخنق هذه الصحوة قبل أن تتحول إلى
نهضة.
وسيشهد التاريخ على عشرات الأمثلة الدالة على صدق توجه الأمة نحو
الإسلام خلال هذه السنوات، وسيشهد على خبث وحقد من تصدوا لها وأرادوا
تحويل تلك الصحوة إلى غفوة أو إلى كبوة.. وربما صعقة لا إفاقة بعدها.. ولا
زلت أرى في الجزائر تلخيصاً واضحاً لهذه القصة كما ذكرت في مقال سابق ولا
زلت أرى الأحداث تحكي من هناك في وضوح وسفور ... ما قد تغطيه في أماكن
أخرى الحجب والستور.
وقد بدا واضحاً أن هناك اصطراعاً في الجزائر وغيرها بين القوى المناوئة
للدين، في كيفية التصدي له عملياً، بعد أن اتفق أكثرهم على رفض طروحاته
الإصلاحية نظرياً. وهذه بعض معالم ذلك الاصطراع:
1- لا تجادل القوى المناوئة للدين في أن الأمة لا تزال تحمل حنيناً له وشوقاً
للعودة إليه.
2- يسلِّم هؤلاء بأن الإسلام لا يزال يملك إمكانية هائلة للانتشار في قطاعات
الأمة.
3- اكتشف هؤلاء على عكس ما كان شائعاً بينهم أن الإسلام تكمن فيه
عناصر القوة التي تمكِن أتباعه ودعاته من التواؤم والتلاؤم مع روح العصر بما
يكشف عجز البدائل المطروحة، كما فوجئوا بقدرة هؤلاء على تجييش الجماهير
تحت راية هذا الدين.
4- توصل هؤلاء إلى أن الاكتفاء بموقف المراقب والمشاهد الصامت لما
يجري سوف يسحب البساط من تحت أرجلهم بمرور الأيام والأعوام.
5- ظهر لديهم أن الحل العملي يكمن في شل قدرات حَمَلَة هذا الدين عن
التحرك به، وكف أيديهم عن البناء له والعمل من أجله. كما يكمن في تحويل
أنظارهم عن الاهتمام بقضاياه إلى الانشغال بأنفسهم، إضافة إلى التشويه الدائم
لأقوالهم وأعمالهم.
ويمكنني أن أقول: إن الفقرة الأخيرة بالذات، تمثل (استراتيجية) شبه
مشتركة في إدارتهم للصراع، أما (التكتيك) ، فتختلف فيه (الاجتهادات) إلى
اتجاهين أو مدرستين:
الأولى: وأستأذن القارئ في أن أطلق عليها: (مدرسة أبي جهل) وهي
تستصحب روح جهالته وعناده وكبره وغلظته في محاربة دعوة الحق في مهدها،
ومحاولة اقتلاعها من الجذور.
وقد رأينا هذه الروح تفوح روائحها من عناوين دعوات طرحت هنا وهناك
من قبيل: (الاستئصال) (تجفيف المنابع) (المواجهة الشاملة) (معركة الحسم) ...
إلخ.
الثانية: وأُطلِقُ عليها: (مدرسة ابن سلول) ، وهي تستلهم روح مكره،
وخبثه ودهائه وانتهازيته، وباطنيته في العداء، وظاهريته في الإخاء.. وأدبيات
هذه المدرسة تحوم حول: المقايضة.. المفاوضة.. الالتواء.. الاحتواء.. شق
الصفوف.. كسب الخصوم أو تذويبهم أو تمييعهم أو ... حرقهم.
وإذا عدنا إلى الجزائر.. وجدنا هاتين المدرستين تعملان جنباً إلى جنب،
تختلفان أحياناً ... تتنافسان أحياناً ... تتصارعان أحياناً، ولكنهما لا تتخليان أبداً
عن الاتفاق عندما يكون العدو المشترك هو: (الإسلاميون) !
ولم يعد وجود هاتين المدرستين أو هذين التيارين داخل السلطة سراً، فهما
يعلنان عن نفسيهما، وتتحدث عنهما ممارساتهما، ولا غنى لمن يريد أن يفهم ما
يدور في الجزائر من استيعاب حقيقة التيارين ودورهما في صنع الأحداث هناك.
فأحدهما يهدف إلى (تفتيت) العمل الإسلامي بقوة السلاح، والآخر يعمل على
(تفكيك) هذا العمل سلمياً.
التيار الأول: التيار الاستئصالي:
وهدفه المعلن هو: استئصال شجرة العمل الإسلامي في الجزائر من جذورها، وما أقبح هذا الدور! وما أسوأ هذا الوصف الذي ارتضوه لأنفسهم: الاستئصال!
وكأن الإسلام في الجزائر أصبح ورماً خبيثاً يريدون استئصاله من جسد الشعب
الجزائري. وأبرز رموز هذا التيار: رئيس هيئة الأركان (الجنرال محمد العماري) ، ورئيس جهاز الأمن العسكري (اللواء محمد مديان) ، ورئيس جهاز الأمن الداخلي
مكافحة الإرهاب (الجنرال إسماعيل العماري) .
ويعتبر الكثير من المراقبين هذا التيار مسؤولاً عن الجانب الأكبر لما حل
بالجزائر من نكبات، بدءاً من إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ
على يد وزير الدفاع الأسبق (خالد نزار) بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق (الشاذلي بن
جديد) ، ومروراً باعتقال قادة جبهة الإنقاذ، وما تلا ذلك من تفجر الصراع على
الساحة الجزائرية، وانتهاءً بـ (لغز) المذابح الجماعية للمدنيين العزل، هذا اللغز
الذي لن تفك رموزه إلا إذا فُهم جيداً دور الاستئصاليين فيه.
إن هذا التيار الذي يمثل الغلو والتطرف بل (التشرد) العلماني، مصمم على
أن يستغل كل شيء في محاربة الإسلام في الجزائر، ولو كان هذا الشيء هو
الإسلام نفسه! ! فكيف يكون ذلك؟
وجد هذا التيار ضالته في جماعات الغلو الإسلامية المسلحة التي حملت
السلاح قبل أن تحمل المنهج، فعمدت إلى اختراقها، وإدخال عناصر من
المخابرات داخل صفوفها، واتخذت من بعض رموزها قفازات تقتل بها وتسفك
الدماء وتنشر الفساد. وأخيراً اتضح أنها أعني عناصر المخابرات دخلت إلى
الساحة مباشرة لتنشر الدمار والخراب تحت صيحات: الله أكبر! ! وأنا لا أرى أية
صعوبة في تصور أناس من المنافقين أو المرتدين أعداء هذا الدين، يُقْدِمون على
إطلاق اللحى وارتداء الجلابيب، وربما العمائم أيضاً، للكيد لهذا الدين باسمه، ولا
أستبعد بعد ذلك أن يُخدع الكثير من البسطاء أو المرضى أو الحمقى بنفاقهم
وينضوون تحت لوائهم.. وقد حدث هذا كثيراً في التاريخ الإسلامي.. ولهذا كثر
تحذير الإسلام من النفاق، واعتبر عداء المنافقين هو العداء الأول للإسلام وأهله
كما قال تعالى: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] [المنافقون: 4] ،
فمصيبتنا فيهم، أن فينا من يُخدعون بهم، ومنا من يقفون معهم، والأمر كما قال
الله: [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] [التوبة: 47] .
أما الإسلام الصحيح، فلسنا في حاجة أن ندفع تهمة قتل الأبرياء عن دين جاء
في كتابه: [وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً] [النساء: 93] ، ويقول رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) [1] إنه الدين
الذي يربي في أتباعه روح المسؤولية بل الحساسية تجاه الظلم خشية أن يقع على
أي مخلوق بغير جريرة، ولو كان هذا المخلوق.. نملة!
[قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ] [النمل: 18] ، فإنهم لو شعروا بالنمل لامتنعوا عن وطئه وتحطيمه.
أيقال بعد هذا أن إنساناً يُنسب لهذا المنهج أو يمثله، يمكن أن يُقدِم على هذه
الجرائم البشعة التي سمعنا عنها بحق الأطفال والنساء والرجال؟ !
أقول: لا ينبغي للمسلمين أن يشعروا بالحرج والضيق كلما رأوا الإعلام
الخبيث ينسب إليهم ويلصق بهم جرائم أجهزة المخابرات وصنائعها؛ فديننا من تلك
الجرائم بريء، وإخواننا الصادقون في الجزائر منها برآء، أما الواقعون فيها
والخائضون في فتنتها، فليسوا منا، ولا كرامة!
ولكن؛ مع كل هذا نقول: يجب ألا تلفتنا الأحداث بتفاصيلها وتعقيداتها عن
(أم الجرائم) التي ولّدت كل تلك المآسي وهي جريمة الإقصاء المتعمد عن سابق
إصرار وترصّد للإسلام وشرائعه؛ فأصحابها هم المسؤولون الأصليون مهما قيل أو
يقال، وحتى تلك العصابات المنحرفة أو المتستِرة بالدين.. هي إحدى سيئاتهم.
لا شك في أن العصابات المسلحة التي تقتل الأطفال والنساء هي صنيعة
المخابرات، وقد صممت للقضاء على العمل الإسلامي في الجزائر في الحاضر
والمستقبل؛ فهي مشروع ضخم، أنفق عليه الاستئصاليون بسخاء، ودفعوا إليها
من كوادرهم من شاؤوا من العملاء بعد أن تم (طلاؤهم) بالصبغة الإسلامية المزيفة.
وهذا الافتراض وحده هو الذي يفسر لنا الغموض القاتل والتعتيم الإعلامي
الكامل الذي يلف الأحداث هناك ويغطي على حقيقة ملاحم الشر في الجزائر،
ويفسر لنا عدم تحرك قوات الأمن للحيلولة دون وقوع هذه المذابح رغم قبضتها
الحديدية أو مواجهة من يقومون بها في أماكن قريبة من ثكنات الجيش ووحدات
الشرطة، ويفسر لنا السبب في تفرغ الجيش النظامي فقط لضرب قوات جبهة
الإنقاذ في وسط البلاد، بينما وقف متعاجزاً أمام العصابات المسلحة! ويفسر لنا
أيضاً إصرار تلك العصابات على الاستمرار في ارتكاب كل ما من شأنه تشويه وجه
الإسلام وتلطيخه بالدماء أمام العالم ... ويفسر لنا أن القرى التي استُهدفت بالمذابح
هي تلك القرى التي كانت تستضيف سابقاً وحدات من جيش الإنقاذ، ويفسر لنا
كثرة تعاقب الزعامات على هذه العصابات في وقت وجيز (عشرة قادة) ويفسر لنا
أخيراً أن هذه الأعمال لم تخدم الإسلام في شيء واحد، وإنما خدمت وتخدم أعداءه
في أشياء وأشياء.
ثانياً: تيار (الاحتواء) :
وهذا التيار يحاول أن يتقمص دور (الاعتدال) العلماني، ويتشح بمسوح
(الديمقراطية) ويرتدي ثوب (الشرعية) .
ولا أخفي خوفي على الإسلاميين في الجزائر وغيرها من هؤلاء، أكثر من
خوفي من أولئك الاستئصاليين؛ فإرادة الاستئصال إذا أُظْهِرَتْ فإنها تحفز على
الحذر واليقظة، أما إظهار الرغبة في التقارب وحلول الوسط مع إضمار الشر،
فإنها تخدر ولا تحذر، وتخدع الإرادة، وقد تُخضِع الرؤوس.. وأحسب أن هذا ما
يراد بجبهة الإنقاذ في هذه المرحلة ... والمعروف أن جبهة الإنقاذ بعد أن أُلغيت
الانتخابات التي كادت أن تفوز فيها بالسلطة، اعتبرت نفسها حكومة شرعية أطيح
بها، وأن الانقلابيين الذين أطاحوا بها يسرعون الخُطا نحو القضاء النهائي عليها،
فاعتبرت الجبهة نفسها في وضع دفاع شرعي عن النفس، فشكلت وحداتها
العسكرية الخاصة بها لمواجهة كل الاحتمالات (ولسنا بصدد مناقشة صحة هذا
الإجراء من عدمه) ولكن المهم أن الصراع المسلح بدأ بين الجبهة والسلطة.
وقبل عامين أطلق الرئيس الجزائري الحالي (اليمين زروال) ما سُمي
بـ (نداء الرحمة) وهو يقضي بأن يُلقي من يحملون السلاح سلاحهم في مقابل أن تصفح عنهم الدولة وتقبل (التوبة) منهم.
وتحول (نداء الرحمة) إلى (قانون الرحمة) بغرض تشجيع كل من ينشقّ عن
جبهة الإنقاذ واحتوائه. وبالنظر إلى أن هذ النداء، أو ذلك القانون لم يكن جاداً في
وضع حل مُرْضٍ للأزمة؛ فقد تغافلت عناصر الإنقاذ عنه، واعتبرته دعوة
للاستسلام بلا مقابل.
ولكن جهود تيار (الاحتواء) استمرت في شكل محاولات أخرى، كان آخرها
إجراء اتصالات سرية ببعض الرموز داخل جبهة الإنقاذ.. وبالفعل تمت اتصالات
مع أمير جيش الإنقاذ نفسه (مدني مرزاق) أثمرت فيما يبدو صفقة، أُطلِقَ على
إثرها الشيخ (عباسي مدني) زعيم جبهة الإنقاذ وكذلك العضو البارز فيها (عبد القادر
حشاني) .
وأثمرت هذه الاتصالات في خطوة لاحقة مبادرة من جبهة الإنقاذ، من جانب
واحد، تقضي بإنهاء الأعمال العسكرية وإيقاف إطلاق النار، وقد جاءت هذه
المبادرة بعد أن تفاقمت الأحوال الأمنية سوءاً، وفي ذورة سلسلة المذابح الجماعية
التي تعرض لها المواطنون الجزائريون العزل في القرى، وقد رأت الجبهة على
ألسنة من صاغوا بيان المبادرة أن هذا الإجراء أصبح لازماً وضرورياً لفضح
المتسترين وراء المذابح الجماعية، ولتبرئة الجبهة من دماء الضحايا، ومن جبهة
ثالثة، لتفتح باباً أوسع للحوار، تدل به على جديتها في البحث عن حل عادل
للأزمة التي استمرت ست سنوات دون حل.
ولكن ينبغي أن لا ننسى أن الجبهة وهي تصارع التيارين: الاستئصالي،
والاحتوائي، لا تملك كل أوراق التحرك، ولا تتمتع بكامل حريتها في اتخاذ
قراراتها، خاصة في الفترة التي كان زعماؤها موزعين بين السجون والمنافي
والإقامات الجبرية؛ ولهذا فإن ما أذيع عن بعض تفاصيل الاتصالات وما يطرحه
من علامات استفهام، لا ينبغي أن يفهم إلا في سياق ما يعرف من تعرض الجبهة
لضغوط رهيبة، ومكر كُبّارٍ من تيار الاحتواء. فالواضح أن هذا التيار، كان
يهدف من وراء هذه الاتصالات إلى (تنظيم) (استسلام) جبهة الإنقاذ بصورة تحفظ
ماء الوجه، بعد أن يجري تفكيك هياكلها، وتفريغ كيانها من محتواه الذي تماسك
حتى الآن.
وأخوف ما نخاف أن تكون الساحة مهيأة الآن لتيار (الاحتواء) لأن يقوم
بالفصول الأخيرة من دوره، بعد أن أوشك تيار (الاستئصال) على إنهاء دوره.
وأسباب هذا التخوف ترجع إلى ما يلي:
1- أن الدول الغربية تؤيد سياسة الترويض، وتشجع كل حوار بشرط ألا
يفضي إلى وصول الإسلاميين للسلطة، ولا ننسى أن الولايات المتحدة نفسها هي
صاحبة المشورة بفتح باب الاتصالات مع جبهة الإنقاذ، والدول الغربية تتجه إلى
نفض اليد من المسألة الجزائرية، وتنظر إلى أي حوار بين السلطة والجبهة على
أنه سيكون حواراً بين منتصر مع مهزوم، ولا خوف منه، وقد عبرت عن هذا
الموقف (شيرين هنتر) المحللة المختصة بشؤون الجزائر في مركز بروكسل
للدراسات الاستراتيجية، عندما قالت: (لا أظن أن أحداً سيرغب في الخوض في
مستنقع الجزائر ... فالحكومة قد انتصرت بشكل أساسي، ولن تستسلم لأي ضغوط.. كما أن تدفقات النفط والغاز والاستثمارات في مجال الصناعة ماضية في طريقها، والعائدات تتدفق على خزائن النظام..) !
2- الرئيس الجزائري يقف بثقله الآن خلف تيار (الاحتواء) بالرغم من أنه
تخرّج في مدرسة (الاستئصال) حيث كان وزيراً للدفاع؛ والظاهر أنه أصبح واثقاً
من أن النظام العلماني قد أعاد تثبيت أقدامه في الجزائر حتى إشعار آخر، ويعبر
عن هذا (أحمد أويحيى) رئيس الحكومة الجزائرية، عندما أعلن أن مؤسسة الرئاسة، قد انتهت من مسألة جبهة الإنقاذ، وأن السلطة غير مستعدة لفتح ملف الإنقاذ في
إطار تسوية سياسية يمكن من خلالها إعادة الحزب الذي حُل في ربيع 1992م بعد
إلغاء الانتخابات [2] .
3- هناك ترحيب لافت للنظر من الحكومة والأحزاب بقرار الجبهة إيقاف
القتال من جانب واحد، ولكنهم لا ينظرون إليه على أنه مبادرة للبدء في الحل،
ولكن على أنه (توبة) واعتراف بالخطأ!
4- الإفراج عن عباسي مدني لم يكن ليتم لولا اطمئنان السلطة على أنه لم
يعد يملك القرار الأخير في الجبهة، أو أنه لم تعد أمامه فرصة للتحرك بعد أن
فرض تغييرُ الدستور والانتخاباتُ البرلمانية، وأخيراً الانتخاباتُ البلدية، واقعاً
جديداً يكرس الهيمنة العلمانية على السلطة، ويحرم الوجود الفعلي للعمل الإسلامي
حتى من اسمه، مثلما حدث مع حزب (المجتمع الإسلامي) الذي أجبر على تغيير
اسمه إلى حزب (مجتمع السلم) ، وحزب (النهضة الإسلامي) الذي تحول إلى
(حزب النهضة) فمجرد اسم الإسلام لم يعد مقبولاً في الحياة السياسية الجزائرية!
5- كان من الواضح جداً أن الإفراج عن عباسي مدني، كان مشروطاً بأن لا
يعود إلى أي نشاط سياسي إلا ... إذا كان في صالح النظام، أو يكون في إطار
الاستجابة العملية لمطالب السلطة من الإسلاميين.
6- وأخطر المطالب التي عرضت على جبهة الإنقاذ بعد أن تلقي سلاحها أن
تبدأ في إدخال عناصرها المسلحة تدريجياً في الحياة العامة بعد أن تبلِّغ السلطة بكل
التفاصيل عنهم، وأن تتعهد بالقتال في صف الحكومة ضد أي نشاط إسلامي آخر
يمكن أن يشكل تهديداً للنظام العلماني! !
فهل نحن أمام محاولة لصنع نسخة باهتة أخرى من (السلطة الوطنية
الفلسطينية) ! ولكن في الجزائر؟ !
وهل يا ترى استفادت مدرسة (ابن سلول) من مدرسة (ابن سبأ) اليهودي؟ !
ظننا في الجبهة ورجالها أنهم أكبر من هذه الألاعيب، ويقيننا أن الله لن
يضيع جهودهم لنصرة الإسلام، وصبرهم على تحمل الأذى من أجله ...
وأملنا أن يعود مجد الإسلام في الجزائر وغيرها ولو كره المجرمون..
فالجبهة يمكن أن تكون قد خسرت جولة ... ولكنها لم تخسر المعركة مع التحالف
غير المقدس بين (الاستئصاليين) و (الاحتوائيين) .
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 21] .
__________
(1) أخرجه البخاري، ديات 1، وأحمد، 2/94.
(2) بعدما انتهيت من كتابه هذه المقالة، استمعت في إذاعة لندن إلى إعلان بصوت الرئيس زروال في خطبته إلى الشعب في (30 جمادى الآخرة/31 أكتوبر) يقول: (أحب أن أطمئن الشعب الجزائري أن ملف هذه الجبهة قد طوي طوي بصورة نهائية) ! .(120/58)
المسلمون والعالم
تقرير الحالة الدينية في مصر
(عرض وتحليل)
(2-3)
بقلم: أيمن محمد سلامة
بعد عرض الكاتب في الحلقة السابقة للتقرير وتطرقه لمصداقية المركز واضع
التقرير وحياده تجاه الاتجاه الإسلامي، حيث ذكر صوراً لتبني واضعي التقرير
موقفاً معادياً لهذا الاتجاه.. يواصل الكاتب في هذه الحلقة عرض هذه الصور ونقاط
التحليل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
* والتقرير يتحدث أحياناً بلغة أقرب إلى التحريض منها إلى التحليل:
فالقيادات المحلية للحزب الوطني الحاكم لم تقدم أقباطاً للترشيح في
الانتخابات؛ لأنها قد لا تحوز على عدد كافٍ من أصوات الناخبين، وهو ما (تم
إقناع قيادات الحزب والأجهزة التنفيذية به، وهو ما قد يكشف عن طبيعة التكوين
السياسي للقيادات المحلية للحزب الوطني ولا سيما في الريف واتجاهاتهم)
(ص 312) .
ووزير الأوقاف السابق أفلتت من هجومه إحدى الجماعات الإسلامية فلم
يتعرض لها (ولم يهاجمها مثل سائر الجماعات، ولكنه اكتفى بقوله: (إن الدولة مع
الوسطية وإنها تشجع الفكر المعتدل [! ! (ص 69) .
والدولة الحديثة وسلطاتها ومؤسساتها المختلفة تواجه تحديات (من قبل
الحركة الإسلامية السياسية بكل طيوفها، المعتدلة، والراديكالية، حيث تنطلق
الأطروحات والرؤى الأصولية المغايرة لمشروع الحداثة السياسية والقانونية
والاجتماعية من منطلقات تجحد مشروع الدولة الحديثة في مرجعياته وفلسفته ...
السياسية وأنساقه القيمية والثقافية المدنية، لا سيما وأن القوى الراديكالية يتأسس
مشروعها على تغيير جذري لبنيات الدولة وقيمها وقوانينها ومنظوراتها السياسية
والفلسفية) (ص 307) .
وحتى لا ينخدع المراقبون: يلفت التقرير النظر إلى مغايرة المفاهيم التي
تطلقها بعض الفصائل المنتمية إلى التيار الإسلامي عن المفاهيم المستقرة في الغرب
وإن تشابهت المصطلحات؛ (فإن المنطلق الفكري الذي يقوم عليه إدراكها لمعنى
الحرية مختلف إلى حد كبير عما هو معروف في الفكر الليبرالي عموماً؛ فبينما قال
هذا الفكر بأن الأصل في الحرية هو الإباحة.. تؤكد أدبيات] هذا الفصيل [أن الأصل في الحرية هو التقييد، وأن الفرد مطبوع على الخطأ والشر، وأنه يميل بطبعه إلى العبودية سواء كانت لإله أو لمخلوق أو لنظام بشري، وبينما يعتبر الفكر ... الليبرالي الحرية مبدأ أساسياً من مبادئ النظام السياسي فإن (هؤلاء) يعتبرون الحرية مجرد وسيلة لخدمة مبدأ أكبر وأشمل، هو إقامة شرع الله وتحقيق
الإسلام) .. (ص 172) .
ويحيي التقرير الدولة المركزية وقدرتها على التصدي للحركات الإسلامية
عن طريق أجهزة الأمن.. ومن ناحية أخرى: فإن أجهزة القوة والعنف المشروعة
في الدولة المصرية تتصف بالتماسك البنائي والفاعلية، وقادرة على التكيف
والتوازن الدينامي مع هذا النمط من الجماعات (ص 162) ، كما يحيي سياسة
الضربات الأمنية الشديدة والمكثفة، واتباع قاعدة التوسع في الاشتباه على المناطق
التي تتركز فيها عمليات العنف التي أدت إلى التحجيم النسبي لهذه العمليات
(ص 192) ] 1 [.
وقد يرى بعض المتربصين ومن يريدون الاصطياد في الماء العكر أن
التقرير بتفصيلاته الدقيقة ومحاولة حصره الشامل لجهات التعليم والتربية والتمويل
الرسمية وغير الرسمية يضع خارطة لمخطط تجفيف المنابع، ويشار في هذا
الصدد إلى: حصر مساجد وزارة الأوقاف وتشجيعها بناء مساجد وإنفاقها (الهائل)
على مسابقات القرآن الكريم (دون بث روح الاجتهاد والاندماج في الواقع المعاصر
وتوظيف الفكر الديني في خدمة القضايا المعاشة) ومساعدتها الطلبة والمحتاجين،
وزواج الفتيات، ومساعدة فقراء المسلمين في مواسم الحج، ورعاية الأيتام، وطبع
الكتب الدينية باللغات العربية والأجنبية، وإنشاء مراكز إسلامية، وتدعيم معسكر
أبي بكر الصديق الذي يقيمه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.. (ص 65،66) .. وكذلك: منح الوزارة (20) رحلة عمرة لأبناء العالم الإسلامي من الدارسين في
مصر، ومن المعروف أن (المجلس الأعلى للدعوة والإغاثة الذي يرأسه شيخ
الأزهر يقوم بمساعدة الأقليات في العالم الإسلامي! !) (ص 68، وكذلك ص46،51) .
ويشار أيضاً إلى: البحث في محاولة حصر أعضاء الجمعية الشرعية
ومصادر تمويلها.. (وهو ما يحقق لها قدراً أكبر من الاستقلال المالي، الذي يتيح
لها هامشاً أكبر من الحرية وتعدد النشاط واتساعه) (ص 239) ، (فالجمعية الشرعية
مثلها مثل عدد ليس بالقليل من الجمعيات الأهلية في مصر تمارس الدور السياسي
من خلال تربية النشء وإعداد الكوادر) ، (كما حرصت الجمعية على ربط الطلاب
بالجامع من خلال فصول التقوية التي ألحقتها بمساجد الجمعية!) (ص240) ..
وغير ذلك من النماذج التي يقدمها التقرير.
وهنا أيضاً: الكيل بمكيالين! :
وهذه المعاملة تتضح بجلاء عند مقارنة ما كتب بأقلام علمانية عن الحالة
الإسلامية بما كتب عن الحالة المسيحية:
* ففي حين يتهجم التقرير على رموز الحالة الإسلامية من وراء ستار وصف
الواقع نجد عبارات الإعجاب تكال للرموز الكنسية؛ فالمقدمة تستهل هذه المعاملة
بإعلان وجود] نزاع داخل السلطة الدينية في مصر، وأصبحنا إزاء ظاهرة نزاعات
حول السلطة الدينية وسلطات التفسير، وتمثل أطراف هذا النزاع في المؤسسات
الدينية الرسمية (الأزهر كمؤسسة أصولية رسمية، ودار الإفتاء، ووزارة الأوقاف
ومجموع وعاظها ودعاتها، ولم يعد النزاع قاصراً على مواجهة المراكز الجديدة
للسلطة الدينية، وإنما داخلها..) [ (ص 12) وحتى لا يظن ظان أن ذلك مظهر
من مظاهر الحرية والاختلاف الحضاري، فإن التقرير يستدعي من الخلفية
التاريخية ما يبدد هذا الوهم، فيذكر أكثر من مرة أن أحد مشايخ الأزهر (الشيخ عبد
الباقي القليني) (حسم الصراع مع منافسه على مشيخة الأزهر الشيخ أحمد النفراوي
لصالحه بعد صدام مسلح) بعد معركة مذهبية شهيرة (ص30، 43) ، ولا يظن ذلك
الظان أن ذلك النزاع كان في مرحلة تاريخية مضت وولت (فقد تقدم ثلاثة من علماء الأزهر من أعضاء] مجمع البحوث الإسلامية [، وهم الشيخ عبد الله المشد رئيس لجنة الفتوى بالأزهر وقتئذ، والدكتور زكريا البري وزير الأوقاف الأسبق،
والدكتور الطيب النجار رئيس جامعة الأزهر الأسبق بمذكرة احتجاج إلى رئيس
الجمهورية يتهمون من خلالها شيخ الأزهر جاد الحق بتعطيل مجمع البحوث عن
الانعقاد والقيام بدوره.. فضلاً عن مطالبتهم له] أي شيخ الأزهر [بتعديل مناهج
الدعوة في الداخل والخارج وتحويل بعض المبالغ التي ترد للأزهر لإنشاء عدد من
المعاهد الإسلامية في البلاد غير الإسلامية لخدمة الأقليات الإسلامية هناك.. فلم
يستجب) (ص51) ، ناهيك عما ذكر من صراع بين المعممين والمطربشين، وهذه
الصورة لا تختلف كثيراً عن الحركة الإسلامية، فالصراع قائم بين الأجيال، جيل
الشباب المتطلعين إلى دور، وجيل الشيوخ المحافظين، والتنافس قائم بين فصائل
هذه الحركة (انظر ص 174 176، ص183 186) .
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعداه إلى التطاول، فشيخ الأزهر
عبد الحليم محمود (كان مراوغاً) عندما أصدر بياناً إزاء قضية التكفير والهجرة، والشيخ جاد الحق كان ذا (موقف مزدوج) إزاء الجماعات الدينية والسلطة السياسية (ص 46) .
وهذه السمة (الازدواجية والمراوغة) لا تختص فقط بمشايخ الأزهر، بل تمتد
بحبل سري إلى فصائل الحركة الإسلامية، فهي تعمد (إلى الحديث بلغتين مختلفتين، أو ترديد الخطاب المزدوج الذي لا يفيد إلا في إضافة المزيد من الغموض
والمراوغة الفكرية) (ص172) ، وعباراتها واضح فيها (التلاعب بشقي الخطاب ... ذلك العام والمتشدد الذي يثير جاذبية المسلمين، وهو تطبيق الشريعة، والثاني
هو الخاص، أي الاستفادة من فرص المناخ الديمقراطي) (ص171) .
وقد يكون ذلك كله وصفاً لواقع، ولكن لننظر إلى (طريقة النظر) إلى الواقع
الآخر وكيفية تجميله والدفاع عنه، فعلى الجانب الشخصي نرى أنه في حين يذكر
شيخ الأزهر باسمه مجرداً من أي لقب (خطاب جاد الحق) يذكر الجانب الآخر في
الفقرة نفسها: (أما خطاب قداسة البابا) ! ! (ص 357) .
وماذا يقول التقرير الذي يفترض أنه يتوخى الموضوعية بحياد في رجال
الكنيسة كما توخاها في شيوخ الأزهر؟ ! . يقول عن البابا كيرلس الرابع: (كان
مصلحاً عظيماً رغم قصر المدة التي قضاها على كرسي البابوية) (ص90) ، أما
البابا كيرلس السادس فقد (استجاب بحنكة ورصانة لمطالب الجيل الجديد من
الرهبان) (ص91) ، و (ساهمت ديناميات (التوافق الشخصي الحميم) بين عبد الناصر ... بكاريزميته السياسية والبابا كيرلس السادس بكاريزميته] 2 [الروحية في ...
بناء ملامح هذه الحقبة الخاصة في تاريخ العلاقة بين الكنيسة والدولة في مصر)
(ص93) .
والقمص مينا البراموسي (البابا كيرلس السادس) التف حوله الشباب الجامعي
(نظراً لأبوته وروحانيته وبصيرته الثاقبة) ! (ص 136) .
والخادم فرحات (القمص سمعان) (وجد في ملامح شخصية القديس سمعان
الخراز نبعاً روحياً يعينه في إكمال وبلورة شخصيته الروحية / الكاريزمية) ومن ثم: (يأتي انبهار الزائر بالمكان وسحره مقترناً بتأثير مماثل بشخص وأداء القمص
سمعان، فهو برغم تعليمه المتوسط وخلفيته الاجتماعية المتواضعة يبدو سيد هذا
المكان وآمره الوحيد) ، وعندما يتعامل القمص سمعان مع الجن والمس والصرع فلا
يسميه التقرير شعوذة وخرافات، بل (يقوم بتقديم بعض أشكال ما يسمى في الفلكلور
الشعبي المصري بالعلاج الروحي) (ص 267) .
والبابا شنودة: ذو (ذكاء معهود) (ص329) ، وهو (شخصية دينية مثقفة تملك أدوات فكرية وسياسية حديثة، تضعه في موقع مختلف كيفياً عمن سبقه من باباوات الكنيسة) (ص93) .
(وفي ظل قيادة البابا شنودة الثالث، تم دخول أجيال جديدة إلى سلك الكهنوت، واستطاع بحكم تكوينه وخبراته وقدراته القيادية استيعابهم تحت قيادته الكارزمية)
(ص 91) .
وقد كان له (مشروعه الفكري والاجتماعي والتأويلي المتميز في المسار
التاريخي لبابوات الأقباط الأرثوذكس، ودعم هذا المشروع السمات الكاريزمية للبابا ...
شنودة وشخصيته الحاسمة، وذكائه المميز) (من المقدمة ص 14) ، (ولكن الدور
البارز الذي يقوم به بطريرك الأقباط الأرثوذكس، يرجع لبعض السمات الشخصية
الكاريزمية للبابا شنودة الثالث وقدراته الإلهامية! ! المؤثرة على حياة الأكليروس
وأتباع المذهب القبطي الأرثوذكسي عموماً، وترجع عوامل هذا الدور المركزي
للبابا إلى طبيعة علاقته المباشرة بأتباع المذهب وتأثيره الساحر عليهم) (ص 95) ..
وواضح أن تأثيره (الساحر) لم يكن عليهم فقط! ...
فماذا عن المعارضة الكنسية والانشقاقات وصراع الأجيال؟ ! .. لا يفرد
التقرير لذلك أي مساحة أو عنوان، ولكن لأن ذلك مما لا يخفى ولا ينكر فقد أورده
التقرير بأسلوبين: الأول: عرضه في صورة (إنجازات) للبابا شنودة الذي استطاع
احتواء المعارضة (أو قمعها) ، والثاني: تبرير عناصر الصورة السابقة بأنها نتيجة
تصرفات الحكومة وضغوط نمو التيار الإسلامي وممارساته! !
وتلخص فقرتان من فقرات المقدمة حقيقة (خلافات الرؤى) داخل المجتمع
القبطي على النحو التالي:
(ثمة تغير بدأ يحدث في الكنيسة الأرثوذكسية وهي الكنيسة الأم وبدأت
بعض التفاعلات الداخلية تظهر علانية في السجالات الصحفية، بما قد يشير إلى
بعض المشاكل أو خلافات في الرؤى حول أدوار الأكليروس خارج طقوس
وتأويلات النصوص الدينية المقدسة، أي حول الأدوار الاجتماعية لأعضاء الجسم
الأكليروسي المنتشرين في الكنائس الأرثوذكسية في مصر وخارجها.
لا يزال الفقه الغالب أو بتعبير أدق: التعاليم ذات السيطرة والنفوذ والتداول
هي تعاليم البابا وعظاته المختلفة، دونما درس لها ولاتجاهاتها، ومن ناحية أخرى: هناك دور لبعض كبار الأكليروس، بعضه محجوب عن الدرس والوعظ
والعظات، وبعضه يتداول فقط، وثمة آخر مهمش ومعزول.. وكلها ظواهر تحتاج
إلى الرصد والتحليل) ! (ص 15) .
فلماذا لم يقم التقرير بالرصد والتحليل؟ ! .. لنرى كيف تناول التقرير هذه
الظواهر:
يقول التقرير (ص 91) : (وفي ظل قيادة البابا شنودة الثالث تم دخول أجيال
جديدة إلى سلك الكهنوت واستطاع بحكم تكوينه وخبراته وقدراته القيادية استيعابهم
تحت قيادته الكارزمية، وتوسيع نطاق الهياكل المؤسسية الداخلية في الكنيسة سواء
في الداخل أو الخارج ومن ناحية أخرى: استطاع البابا شنودة الثالث أن يفرض
رؤاه اللاهوتية والمجتمعية وغيرها على الفضاء القبطي الأرثوذكسي سواء في
المجال الديني، وامتد إلى المجال المدني للأقباط وربما لآماد أخرى في المجال العام
المصري) .
ولندخل في تفاصيل هذه الصورة المجملة: (أوضاع المؤسسة الدينية
الأرثوذكسية العريقة لم تعد شأناً داخليّاً في السنوات الأخيرة، وتحولت الخلافات في
الرؤى بين الأكليروس بقيادة البابا شنودة الثالث وبين بعض العلمانيين الأقباط إلى
الحقل الإعلامي اتفاقاً واختلافاً حول رؤية بطريرك الأقباط الأرثوذكس حول إدارة
العمل الكنسي والإداري والمالي بكل دلالات ذلك ... تحولت إلى جزء من الحوار
خارج المؤسسة الدينية) (ص 309) .
ولنكبر هذا الجزء من الصورة قليلاً: (ازداد الموقف القبطي سلبية إزاء
حزب العمل بعد الكتابات النقدية لبعض رجال الأكليروس القبطي وهم قلة وبعض
علمانيي الكنيسة، إزاء سياسات ورؤى بطريرك الأقباط الأرثوذكس..) (ص 314)
وقد يقول علماني (محايد) : إن ذلك تم بدفع الإسلاميين المتسللين إلى حزب
العمل، ولكن لننظر في شأن قبطي محض، وهو انتخابات المجلس الملي للأقباط
الأرثوذكس: (جرت المنافسات الانتخابية في أعقاب خلافات بين البابا شنودة الثالث
وبين بعض الرؤى المخالفة لرؤيته وسياساته، واتسمت بالحدة؛ لأن التعبير العلني
عن هذه الاتجاهات تم في الصحف والمجلات القومية والحزبية، وهو ما أعطى
انطباعاً عامّاً بأن مساحة الخلاف واسعة داخل النخبة القبطية بين المدنيين وبين
البابا ورجال الأكليروس..) (ص 327) ، ولهذه المساحة عمق تاريخي، فقد أورد
التقرير أنه في مرحلة نشأة الجمعيات الأهلية المسيحية وتبلورها (من القرن 19إلى
عام 1923) : (تبنت الجمعيات الأهلية القبطية قضيتي الإصلاح والنهضة؛ حيث
وقفت الجمعيات الأهلية القبطية بجانب المجلس الملي في صراعه ضد الأكليروس،
بهدف الإصلاح الكنسي) (ص 250) ، ومن القرن التاسع عشر إلى انتخابات
المجلس الملي عام 1995م تتواصل مساحة الخلاف، (وفي هذا السياق قامت
الأطراف بطرح مجموعة من الرؤى تتناول المجلس الملي ودوره واختصاصاته
كوسيلة غير مباشرة لتحديد نمط العلاقة بين العلمانيين وبين الأكليروس.. وهي
تجسدت في قوائم مخالفة لقائمة البابا) (ص 329) ، وقد تعدت (اختلافات الرؤى)
مرحلة التعبيرات العلنية الحادة ووصلت إلى ساحات المحاكم.. يقول التقرير:
(وتمثل الطعون] بوقف انتخابات المجلس الملي [أحد أشكال التعبير عن بعض القوى
الهامشية داخل الوسط القبطي، فضلاً عن أنها تعكس رغبة في تغيير شروط اللعبة
ومعارضة لبعض سياسات الأكليروس) (ص 328، 329) ، وبعد الانتخابات:
(رفع أحد المحامين المرشحين ولم يحالفه النجاح دعوى جديدة بوقف إعلان نتيجة
الانتخابات، وإلغائها وإعادة إجرائها من جديد..) (ص 331) ، ناهيك عما يقال
عن قائمة البابا الانتخابية (ص 329، 330) .
على أن أعنف أشكال التعبير المعارض للكنيسة جاء من أقباط المهجر،
وخصوصاً (الهيئة القبطية) ، (فقد كثفت الهيئة هجومها على الكنيسة المصرية،
وإذا كانت الكنيسة المصرية تملك توجيه كنائس المهجر التابعة لها، فإن لهذه القدرة
حدوداً معينة ... فإن نفوذ الكنيسة في مواجهة بعض كنائس المهجر يصطدم بدرجة
الحرية العالية التي يشعر بها بعض أقباط المهجر إلى الدرجة التي تجعلهم يصلون
أحياناً إلى قرار بقطع الروابط مع الكنيسة الأم!) ، (وقد أوضح البابا شنودة حدود
نفوذ الكنيسة الأم على أقباط المهجر عندما قال: (ثمة فئات منهم غير منضبطة ولا
تلتزم بتعليمات الكنيسة، فأقباط المهجر فريقان ... وفريق آخر لا علاقة له بالكنيسة
ولا يدين بالطاعة لرجال الكهنوت ... ولا مانع لديه من محاربة الكنيسة، وهو
متطرف في آرائه] (ص 221) ، بما يعني أن رجال الكنيسة لا يستطيعون
السيطرة على قطاع من المنتمين إليهم، وفي الطرف المقابل: فإن الهيئة تتهم
الكنيسة المصرية (بافتقاد الشجاعة لمواجهة النظام المصري، بل والتواطؤ في
التغطية على ما تسميه (عنصرية النظام المصري ضد الأقباط [ (ص 220) .
فكيف تعاملت المؤسسة الكنسية مع هذه الرؤى؟ .. لم تفسح لها مجالاً، بل
تعاملت معها كسياسي محترف من العالم الثالث:
فبالنسبة لكنائس المهجر المتمردة: صدرت قرارات الحرمان (ص221) ،
ولعل لهذا السبب وُضعت بعض كنائس الخارج (تحت رعاية البابا شنودة مباشرة)
(ص 89، 90) (رعاية تحت السلطة المركزية) .
وبالنسبة للجمعيات الأهلية فقد عملت الكنيسة على سحب البساط من تحت
أقدامها، (فقد دخلت المؤسسة الكنسية بثقلها في ساحة النشاط الأهلي التي كانت
متروكة قبل ذلك كلية لنشاط ومبادرات الجمعيات الأهلية المسيحية، ويمثل إنشاء
الأسقفية العامة للخدمات الاجتماعية بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية في 1962م علامة
بارزة في هذا الاتجاه) (ص 253، 100) .
أما المجلس الملي فتم التعامل معه بأسلوب العصا والجزرة، حيث تم تقليم
أظافرة بتقليص صلاحياته، و (احتواء) أعضائه العلمانيين بترسيمهم شمامسة،
يقول التقرير: (.. ومن ثم يعد المجلس الملي محض دور شرفي وهامشي في
شؤون الكنيسة التي تعده ضمن النطاق المحجوز للأكليروس بقيادة البطريرك، وفي
هذا السياق قام البابا بسيامة أعضاء المجلس كشمامسة، حتى يكون المجلس خاضعاً
من ناحية أخرى للرئاسة الدينية للبابا) (ص 331) ، (ومن ثم: تتحقق عملية
التجانس التنظيمي بين الرئاسة الدينية والعلمانيين) (ص 100) .
وقد يستجيز بعض المحللين أن يعبر عن الإجراءات السابقة بأنها: (قمع)
للمعارضة و (بلعها) من خلال (استقطاب) الآخرين ومحاولة (تأميم) المؤسسات
الفاعلة، وهذا ما عبر عنه بعض أقباط المهجر الذين يتكلمون بحرية! حيث تؤكد
الهيئة القبطية (أن الأكليروس القبطي الأرثوذكسي يشجعون سلبية الأقباط،
ويؤكدون على مرجعيتهم في كل الشؤون الاجتماعية والسياسية؛ وذلك لحبهم
للسيطرة على الأفراد، وأن ذلك هو نتيجة للدكتاتورية السائدة في بعض كنائسنا)
(ص220) .
هذا هو رأي قطاع من (المعارضة) ، فماذا عن رأي التقرير (المحايد) ؟
يشيد التقرير بهذه التصرفات ويرجع بعضها إلى نمو التيار الإسلامي، فيقول
في معرض تعداده لأسباب تقلص دور المجلس الملي بعد أن كان كبيراً في السابق:
(ومن ناحية خامسة: رسم البابا لأعضاء المجالس الملية المتعاقبة كشمامسة، ومن
ثم: أصبح المجلس وأعضاؤه يخضعون للرئاسة الدينية الأعلى ممثلة في البابا، ولا شك أن ذلك يشكل سياسة بابوية لمنع احتمالات الصراع القديم بين المجالس الملية وبعض باباوات الكنيسة، كالبابا كيرلس الخامس ... إلخ، وقد أدت هذه السياسة إلى استقرار الكنيسة داخلياً، وإلى التوازن في هياكلها، وتوحيد قاعدة القوة
والتمثيل والتعبير المدني الديني في الوسط القبطي المصري، تحت لواء البابا
شنودة الثالث) (ص 98) ، ويقول التقرير أيضاً: (استطاع البابا شنودة الثالث أن
يفرض رؤاه اللاهوتية والمجتمعية وغيرها.. وترتيباً على ذلك: توارت إلى الظل
الرؤى الأخرى، ... وهكذا في ظل نفوذ رؤية وتفسيرات البابا، انحصرت الرؤى
الأخرى في حدود ضيقة لتغدو على هامش الفكر البابوي المسيطر في هذه اللحظة
التاريخية من تطور الإكليروس والمؤسسة الدينية والسياق المجتمعي والسياسي
والديني في مصر، ولا سيما في ظل تنامي النزعة المحافظة والمتشددة في التيار
الإسلامي الراديكالي الذي يمارس العنف، ومن ثم أدى ذلك إلى حالة من التوحد بين
المؤسسة الدينية الأرثوذكسية وعلى رأسها البابا ومريديها وأتباعها من المصريين
الأقباط) (ص 91،92) .
فليس هناك معارضة وصراع أجيال وتناحر تيارات وازدواجية ومراوغة كما
في الحالة الإسلامية، ولكنه توحد للكنيسة لمواجهة الزحف الإسلامي الداهم!
وأخيراً: فهناك تساؤل لا يستطيع المرء تجاهله تجاه الحالة القبطية، وهو:
لماذا لم يأت التقرير بأي ذكر للمحاولات الإصلاحية للدكتور رفيق حبيب ابن رئيس
الطائفة الإنجيلية والتي جوبهت بالمحاربة من الكنائس الثلاث، كما دوّن ذلك في
كتاب أسماه: (اغتيال جيل) ؟ ! .
إن التقرير يحاول من حيث لا يقصد أن يجعل قوله (تعالى) :] تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [واقعاً ملموساً! .
* ومن الكيل بمكيالين: الحديث بطريقتين عند تناول الأمور المالية:
فبينما يعرّض بقبول الأزهر بعض الهبات والتبرعات لدعم بعض مؤسساته
العلمية، ويشكك في مصارف هذه التبرعات (هناك عدد آخر من المراكز العلمية
والاجتماعية التابعة لجامعة الأزهر، بعضها يتلقى هبات ومنحاً من جهات خارجية
بحجة خدمة الدعوة الإسلامية) وبينما يحاول أن يحصي هذه المراكز واحداً واحداً
(ص56، 68) .. نجده يشيد بهبات الأقباط الواردة من الخارج ويجعلها ضرباً من
الوطنية وليست (بحجة) المساعدات الإغاثية: (فمساعداتهم الطبية والدوائية إبان
حرب أكتوبر خير شاهد على وطنيتهم، كما أن ما يرسلونه من مساعدات لجمعيات
وهيئات خيرية] مسيحية بالطبع، ولم يذكر هذه الجمعيات ولا طبيعة هذه
المساعدات، ولا كيفية التصرف فيها [ما زال مستمرّاً) (ص 221) ، ويضرب
الصفح عن تمويل بعض المشروعات الخاصة بجمعيات قبطية من قبل هيئات
أجنبية كهيئة أوكسفام، وهيئة الإغاثة الكاثوليكية، وصندوق الأخت إيمانويل
(ص 269) ، بل عن وجود هيئات صليبية دولية كاملة تعمل داخل مصر، كهيئة كاريتاس/ مصر التي أسسها المونسنيور لينوزانيني سفير الفاتيكان في مصر (ص 58) .
كما أن التقرير الذي يحاول أن يحصي المصادر المالية الداخلية والخارجية
للمؤسسات الإسلامية إلى درجة محاولته إحصاء اشتراكات الأعضاء في الجمعية
الشرعية (ص 239) يهمل التطرق إلى أمر يبدو بدهيّاً لأي متابع، وهو: كيفية
إعالة رجال الكنيسة بالآلاف رغم أنهم موظفون غير حكوميين! ، وبالطبع فإن
مناقشة هذا الأمر سيفتح ملفّاً ساخناً حول الجهاز الاقتصادي الضخم للكنيسة، وهو
ما أشار إليه التقرير بعبارة (أنشطة التدريب المهني والقروض الصغيرة
ومشروعات التنمية الريفية والحضرية) (ص 253) ، وأوضحه قليلاً عند بيان
برامج (البرنامج الشامل للتنمية) الذي بدأته أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية عام 1985م، فإضافة إلى مشروعات التنمية المحلية
هناك (برنامج القروض الصغيرة) (الذي يهدف إلى تشجيع الشباب] النصراني [
كأفراد ومجموعات على البدء في مشروعات صغيرة تساهم في تنمية دخلهم، مع
مساعدتهم بالمال والخبرة الفنية ودراسات الجدوى) (ص 58) ، وهذه السياسة
(جهاز كبير يمول مشروعات صغيرة كثيرة مستقلة عنه) كانت أحد العوامل المهمة
التي ساعدت على إفلات هذا الجهاز الضخم من مذبحة شركات توظيف الأموال
التي طالت جميع النشاطات ذات الصورة الإسلامية.
ومن الأرقام ما خدع! :
يشار دائماً إلى الأرقام على أنها لغة لا تعرف المجاملة ولا التحيز، ولكن
المدقق يرى أن واضع الأرقام يستطيع أن يستخدم أسلوباً ما من الإخفاء والإبراز
والتوجيه ليخدم هدفاً ما، وهذا ما حدث في بعض أجزاء التقرير بقصد أو غير
قصد.
وبداية: فإننا لا نشاطر الدكتور حسن حنفي] 3 [القول إن تخصيص مساحات
أكبر من صفحات التقرير عن وضع الأقباط لا تتناسب مع نسبتهم العددية يعد أحد
مظاهر الميل إلى إبراز وضع الأقباط في مصر، فالتقرير يتحدث عن واقع،
وليس من المناسب إهمال واقعٍ ما لأن أصحابه لا يحوزون إلا نسبة عددية قليلة،
ولكننا نستطيع القول: إن في ذلك دلالة على تمدد واقع العمل القبطي وتغلغله، في
مقابل انكماش واقع العمل الإسلامي وركوده، قياساً على نسبة أصحابه العددية،
رغم تكثيف الأضواء عليه.
وأول خداع الأرقام وتضاربها يظهر في إخفاء عدد الكنائس في مصر حسب
سجلات الكنيسة التي لا بد أنها تحصرها] 4 [، وذلك لخدمة مطلب طالما ألحت
عليه الكنيسة وهولت من أجله، ألا وهو إطلاق السماح ببناء الكنائس وترميمها مما
يعتبرونه قيود الخط الهمايوني والشروط العشرة التي تنظم هذا الأمر ...
(ص 87 88، 92، 123) ، فظهور العدد الحقيقي للكنائس مقارناً بنسبة الأقباط العددية يفضح هذا المطلب، ولكن ذكر سهواً على ما يبدو (ص 122) حصر للكنائس الإنجيلية بلغ (1377) كنيسة، وإذا عرفنا أن الطائفة الإنجيلية تعتبر أقلية داخل الأقلية كما يصفها التقرير نفسه، حيث تمثل هي والكنيسة الكاثوليكية نسبة 15% من مجموع أقباط مصر] 5 [، الذين تدور نسبتهم حول6 % حسب آخر إحصاء رسمي] 6 [، فيكون الأقباط الإنجيليون يمثلون 0. 36% من
الشعب المصري ويملكون (1377) كنيسة، وإذا (بحبحناها) في تعدادهم آخذين في الاعتبار ادعاء نصارى مصر أن نسبتهم تدور حول 10%، واعتبرنا أن الإنجيليين يمثلون نصف بالمئة (0. 5%) من سكان مصر، فإنه ينبغي أن يكون عدد المساجد في مصر لا يقل عن (247860) مسجداً على اعتبار أن نسبة المسلمين 90% فقط، ولكن الإحصاء الأخير الذي نشكك في صحته يقول إن عدد المساجد (66801) مسجد، والتقرير الذي بين أيدينا ذكر أن عدد المساجد بما فيها الزوايا أسفل المنازل والمساجد الأهلية يبلغ (120000) مسجد فقط
(ص 64) ] 7 [، وهو يقل عن نصف العدد المفترض المشار إليه (247860) ، ... فإذا أضفنا إلى ذلك اتساع مساحة الكنائس وكبرها، لعرفنا أن المطلوب ليس توفير أماكن عبادة لنصارى مصر، بل زراعة الكنائس في هذا البلد، ليعود كما كان قبل الفتح الإسلامي كما يصرح متطرفوهم.
ومن مشاريع الزراعة هذه ما أورده التقرير عن نسبة الجمعيات الأهلية
المسيحية، حيث ذكر أن النسبة الإجمالية للجمعيات الأهلية المسيحية في مصر تبلغ
18، 5% من إجمالي الجمعيات الأهلية (جدول رقم 1ص 52) ، وهو الأمر الذي
قد ينظر إليه بادي الرأي فيعتبر أن النسبة الباقية (82، 94%) جمعيات غير
مسيحية، فيعتبرها جمعيات أهلية إسلامية، كما قد يقارنه بنسبة الأقباط العددية
(6 % 10%) فيرى أنها في حدود الاعتدال أو أن هناك نقصاً قليلاً في نسبة الجمعيات الخاصة بهم..
ولكن الحقيقة خلاف ذلك، حيث تزيد هذه الجمعيات بكثير عن الجمعيات
الإسلامية إذا قارناها بنسبة المسلمين، فهذه الأرقام ينبغي أن يُنظر إليها في ضوء:
نسبة الجمعيات الأهلية الإسلامية، ونسبة عدد السكان في كل فئة، وقد أشارت
دراسة الدكتورة أماني قنديل (ص 237) إلى أن (الجمعيات الإسلامية قد شكلت 34 % من إجمالي عدد الجمعيات (وهو 2832 جمعية عام 1991م) كما تبين أن
الجمعيات القبطية تمثل 9% من الإجمالي أيضاً) كما أن الجدول رقم (3)
(ص 245) الذي يوضح النسبة المئوية للجمعيات الدينية في بعض المحافظات (12 محافظة من 27 محافظة) يبين أن إجمالي نسبة الجمعيات الإسلامية 30%، وإجمالي نسبة الجمعيات القبطية 6% في هذه المحافظات، أي إن الجمعيات المتبقية
(57% حسب دراسة د. إماني) جمعيات غير دينية، وبمعنى آخر: يشترك فيها
المسلمون والنصارى، وتبقى 34% من الجمعيات لخدمة المسلمين ورعايتهم (94 % من إجمالي تعداد مصر) ، و9% من الجمعيات لخدمة الأقباط ورعايتهم (6%
من إجمالي تعداد مصر) ، أي إن كل 1% من الشعب المصري إذا كانوا أقباطاً
يخدمهم 1. 5% من الجمعيات الأهلية، أما إذا كانوا مسلمين فإن نسبة الجمعيات
التي تخدمهم تساوي 36، 0% من إجمالي الجمعيات، وبمعنى أكثر وضوحاً: فإن
نسبة الجمعيات الأهلية القبطية تساوي أربعة أمثال نسبة الجمعيات الأهلية الإسلامية
إذا أخذنا في الاعتبار نسبة عدد السكان لكلّ منهم.
ومن خداع الأرقام أيضاً: ما أورده التقرير من أن (الوزن النسبي للجمعيات
الأهلية المسيحية الجديدة داخل كتلة الجمعيات الأهلية الجديدة في حي شبرا بالقاهرة
قد انخفض إلى 54، 4% بعد أن كان يمثل 5، 27% بحسب الجدول رقم (3)
وانخفض هذا الوزن النسبي في حي روض الفرج إلى 2، 8% بعد أن كان يمثل
25، 18%، كما انخفض الوزن النسبي الكلي للجمعيات الأهلية المسيحية الجديدة
داخل كتلة الجمعيات الأهلية الجديدة بمدينة القاهرة إلى 81، 2% بعد إن كان يمثل
57، 7% بحسب نفس الجدول) (ص255 256) ، بما يفيد انحسار انتشار
الجمعيات الأهلية المسيحية، الأمر الذي يرجعه التقرير في موضع آخر
(ص 253) إلى تزايد مظاهر المد الإسلامي، ودخول الكنيسة أحياناً كثيرة بديلاً لهذه الجمعيات، بالإضافة إلى قيود قانون الجمعيات رقم 32 لسنة 1964م.
وحتى لو اعتبرنا صحة هذه الأسباب؛ فواضح أن التقرير يهمل سبباً آخر
مهمّاً، وهو أن القاهرة وخصوصاً الأحياء المذكورة وصلت إلى حالة التشبع
السكاني والتشبع من هذه الجمعيات، الأمر الذي جعل اتجاه إنشاء جمعيات جديدة
ينتقل إلى تجمعات عمرانية جديدة أو تجمعات لا توجد فيها هذه الجمعيات بكثافة،
وهو ما أدى إلى انتقال مؤشر الوزن النسبي إلى بؤر سكانية أخرى، أو خفضه في
بعض الحالات.
__________
(1) د، حسن حنفي، جريدة (البيان) الإماراتية، ع/ 6060، 20/1/ 1997م.
(2) تكرر هذا الوصف لأسماء كنسية عديدة، فوُصِف به البابا شنودة وشخصيته وقيادته ما لا يقل عن 7 مرات (ص 14، 83، 91، 93، 95، 95، 329) ، وتكرر ثلاث مرات للقمص سمعان (ص 267) ، ومرة للبابا كيرلس السادس (ص 93) ، وهذا الوصف مأخوذ من Charismatic بمعنى صاحب جاذبية وساحر للجماهير، أو قيادة آسرة.
(3) جريدة (البيان) الإماراتية، ع / 6053، 13/1/1997م.
(4) ذكر التقرير عدد كنائس المهجر (ص 223، جدول رقم 1) ، وقد بلغ مجموعها 187 كنيسة.
(5) انظر: فهمي هويدي، جريدة (الأهرام) القاهرية، 26/11/1996م، وقد ذكر التقرير (ص 110) أن تعداد الكاثوليك حسب إحصاء كنيستهم عام 1994م يبلغ (210) آلاف.
(6) المصدر السابق وقد صدر قريباً إحصاء عام 1997م (يصدر الإحصاء كل 10 سنوات) ، ولم يتضمن نسبة المسلمين والنصارى، ولكنه تضمن عدد المساجد (66801) والكنائس (2456) ، وهو رقم غير منطقي ولا يمكن تصديقه، إذ من غير المتصور أن تحوز الطائفة الإنجيلية التي تدور نسبة تعدادها من جميع الأقباط حول 6% على 56% من كنائس مصر! ! ، وإذا أردنا أن نخطئ أحد الرقمين فإننا نخطئ رقم الإحصاء الأخير؛ لأن عملية العد (في الشوارع) يقوم بها أفراد يجوز عليهم الخطأ والسهو (والنية السيئة) بخلاف الرقم الذي أوردناه عن التقرير، وهو غالباً خارج من سجلات الكنيسة الإنجيلية وأوراقها، وبالطبع فإن هذا الرقم الخطأ الوارد في إحصاء 1997م والتكتم على عدد الكنائس الذي تم في التقرير من قبل الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية اللتين تملكان بالتأكيد حصر كنائسهما مقصود به إثارة الأمر على أنه اضطهاد للأقباط في مصر وهضم لحقوقهم، وهو ما تكرر في التقرير أكثر من مرة، ورددته قيادات قبطية عقب صدور الإحصاء مباشرة (انظر جريدة الحياة، 24/2/1418هـ، ومقال منى مكرم عبيد، الحياة، 11/7/1997م.
(7) ذكر التقرير في موضع آخر (ص 237) أن ثلاثة آلاف مسجد تمثل أقل من 10% من إجمالي مساجد مصر، بمعنى أن عدد هذه المساجد يدور حول 30 ألف مسجد فقط.(120/66)
المسلمون والعالم
عولمة أم أمركة
نهاية التاريخ.. أم نهاية أمريكا؟ !
(الأخيرة)
بقلم: حسن قطامش
بعد استعراض التاريخ الأمريكي، والنشأة الأمريكية كقوة عظمى، وبعض
طرق الأمركة، أورد الكاتب سؤالاً: (لمن كل هذه القوة؟) ، بدأ الإجابة عليه في
الحلقات السابقة، وفي هذه الحلقة بقية الإجابة، وبقية طرق أمركة العالم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
القوة الأمريكية.. ونهاية التاريخ: لعل هذه الوقفة تجيب على جزء مهم من
السؤال المطروح أولاً؛ فبعد الانهيار السوفييتي، واستفراد الولايات المتحدة بالعالم
نشرت أمريكا روح الإحباط لدى شعوب كثيرة، بأنّ التاريخ شارف على نهايته بهذا
الاستفراد، وأن الديمقراطية الغربية هي الوحيدة القابلة للحياة بعد انهيار الشيوعية،
وأن التاريخ قد توقف عند انتصار النظام الأمريكي الحالي؛ ولذلك كان ما يُسمى ... بـ (نظرية نهاية التاريخ) .
وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية وضع (جورج كينان) الديبلوماسي
والأستاذ الجامعي نظرية: (احتواء الشيوعية) وأكد أن القضاء على النازية وقتها
ليس نهاية المشكلة العالمية، وأن الشيوعية ستصبح الخطر الجديد، وأنها ستهدد
الغرب؛ ولا بد من احتوائها بتأسيس أحلاف عسكرية تحيط بالاتحاد السوفييتي،
ووضع خطط لمنع انتشار الشيوعية في الدول الغربية والعالم الثالث.
ويجيء الآن (د. صمويل هنتنجتون) أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد،
ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية فيها، وكان قبل خمسة عشر عاماً في عهد إدارة
القس الأمريكي (جيمي كارتر) مسؤولاً عن (التخطيط في مجلس الأمن القومي) ،
يجيء ليضع نظرية: (صدام الحضارات) ويقول: (إن القضاء على الشيوعية ليس
نهاية المشاكل العالمية، وإن الإسلام هوالعدو رقم واحد الذي يمثل الخطر الحقيقي
على الحضارة الغربية) .
ولن نساير من ناقش هذه النظرية، وفنّد حقائقها، وأنها مجرد (نظرية) وأنها
مفتقرة إلى أبسط قواعد المنهج العلمي؛ فاحتواء الشيوعية كان مجرد نظرية.
ثم بماذا نفسر هذا الإلحاح المقيت على خطر الإرهاب والأصولية الإسلامية؟
ومما يؤيد ما نذهب إليه سؤال مجلة: (أتلانتك) للدكتور (بنجامين سوارتز) الخبير
في الاستراتيجية الأمريكية في معهد السياسة العالمية بنيويورك:
س: بعد حرب الخليج -لاحظ التحديد- أكثرت أمريكا من استعمال كلمة:
(الإرهاب) ، وقال البعض: إن الإرهاب حل محل الشيوعية؟
ج: هذا صحيح.. لكن شعار مكافحة الشيوعية خلال الخمسين سنة الماضية
كان (مجرد ستار) لسيطرة الشركات الأمريكية على العالم، وكان ذلك باستعمال
القوة العسكرية، وبمشاركة ومعرفة جنرالات البنتاجون؛ ولهذا أقول بأن (مكافحة
الإرهاب) ليس إلا شعاراً جديداً، ولا بد أن جنرالات الجيش الأمريكي سعداء جداً؛
لأنهم (وجدوا هدفاً جديداً) ولا بد أنهم يعرفون دورهم التاريخي.
ولعل هذا الموضوع يحتاج لأهميته إلى دراسة خاصة تبين الموقف الإسلامي
الحقيقي منه؛ إذ إن أغلب من تكلم حول هذه النظرية للأسف من القوميين
والعلمانيين!
الطريق الثاني للأمركة بالقوة: (انفراد القوة) : كان الطريق الثاني الذي
اتبعته أمريكا لفرض سيطرتها عن طريق القوة العسكرية هو الحد من انتشار
الأسلحة النووية والكيماوية وغيرها مما لا رغبة لأمريكا في امتلاكه لغير من ترغب
هي، وهذا الطريق مكمل للأول وهو ما نسميه: (انفراد القوة) فبعد السيطرة على
سوق السلاح العالمي، وبناء قوة عسكرية كبيرة، كان لا بد من إلجام الدول عن أن
تفكر في الوصول إلى هذا المستوى من القوة لئلا تهدد الأمن القومي الأمريكي.
وهذا الطريق يجعل من الملزم لأمريكا أن يكون لها عدو دائم تسوِّغ به
سياستها التوسعية ونفوذها العالمي؛ فتحالفات أمريكا مع الدول الصديقة لها، ليس
هناك ما يجعلها متماسكة أكثر إلا الإيهام الأمريكي بعدو مشترك يهدد مصالح الجميع؛ ولذا نجد الدول الغربية وغيرها من حلفاء أمريكا تسير في الركب وهي مقتنعة
بوجود هذا التهديد!
أما أمريكا فمطالبة بإيجاد ذلك العدو واصطناعه بما يضمن لها الانتفاع من تلك
التحالفات؛ وأكبر الانتفاع هو تمويل البرامج الوقائية والدفاعية لأمريكا؛ والعجيب
أن الدول الحليفة هي التي تطالب بدفع النفقات تطوعاً! !
تقول (مارجريت تاتشر) رئيسة وزراء بريطانيا السابقة في تقديمها لكتاب
واينبرجر: (الحرب المقبلة) : إن الولايات المتحدة سوف تتعرض لتهديدات
بالصواريخ طويلة المدى في بداية القرن القادم لاحظ أيضاً التوقيت وإن الرد
المناسب لذلك هو بناء نظام دفاعي عالمي للصواريخ عابرة المحيطات تكون له
الأولوية المطلقة في الإنتاج، (وأن يقوم حلفاء أمريكا بدفع فاتورة بناء هذا النظام) ! !
ويفسر تلك الظاهرة السياسية وهي الانسياق في الركب الأمريكي مع الاقتناع
بعدو مشترك د. (أرون فرايد بيرغ) ، الأستاذ المساعد لمادة السياسة والشؤون
الدولية في جامعة برينستون في دراسة بعنوان: (مستقبل قوة أمريكا) فيقول: (إن
السبب وراء حرص الآخرين على الاهتمام بهواجس أمريكا والقبول بقيادتها: أن
هؤلاء في اللحظة الراهنة على الأقل لا يريدون الاضطلاع بهذه الأعباء، ولكن من
غير المحتمل أن يدوم هذا الوضع، فمن جهة فسوف يؤدي ذلك الوضع إلى دفع
أمريكا حلفاءها السابقين باتجاه الاضطلاع بقدر أكبر من المسؤوليات، ومن جهة
ثانية فمن شأن ما تبذله الولايات المتحدة بالإبقاء على هيمنتها عبر اجتراح صفقات
جديدة، وتحويل نسبة أكبر من ترتيب التكاليف الموجودة إلى الآخرين أن يتمخض
عن النتيجة ذاتها، وفي أوروبا وآسيا ستسير الولايات المتحدة وحلفاؤها القدامى في
طرق منفصلة! ! ففي غياب أي تهديد يبعد أي اتجاه نحو التوحيد يبدو بروز
سياسات أكثر استقلالاً على الصعيدين الديبلوماسي والعسكري أمراً محتوماً، كما
يبدو أن تطور سياسات اقتصادية أكثر احتمالاً. إن تفكك التحالفات بسرعة سيذهب
معه كثير من النفوذ الذي كانت الولايات المتحدة تستمده يوماً من واقع كونها زعيمة
التحالف) .
فللحفاظ على النفوذ، لا بد من تحالف، ولبقاء التحالف، لا بد من وجود عدو
يحاربه هذا التحالف، وأمريكا مطالبة باستمرار بإيجاد ذلك العدو!
من أعداء أمريكا.. وما قوتهم؟ هناك أعداء يستطيعون إحداث تدمير
بالولايات المتحدة من خلال استخدام أسلحة جديدة، كالصواريخ العابرة للمحيطات،
ورؤوس حرب بيولوجية وكيماوية ونووية، وهناك 25 دولة لديها مثل هذه
الصواريخ، وهذا العدد سيزداد خلال العقد القادم، وفي تقرير وزارة الدفاع
الأمريكية فإنه بحلول عام 2000م سيكون هناك تسع دول نامية يمكنها تملك أسلحة
نووية، و30 دولة يمكن أن يكون لديها أسلحة كيماوية، وثماني دول أخرى يمكن
أن تمتلك أسلحة بيولوجية، أما تقديرات وكالة المخابرات المركزية (سي. آي.
إيه) فتقول: إنه من المتوقع بنهاية هذا العقد (التسعينات) أن تدخل خمس دول
أخرى النادي النووي، ومرّ بنا أن كلاً من إيران والعراق وكوريا الشمالية أعداء
أمريكا الحاليين سيكون لديهم بحلول عام 2005م (120) طائرة هجومية طبقاً
لتقديرات البحرية الأمريكية.
تلك هي التقديرات الرسمية الأمريكية، أما التقديرات التحريضة فتأتي من
جانب صاحب الكتاب (الافتراضي) واينبرجر، وهي تختلف تماماً وتكذب التقارير
الرسمية، فيعتقد واينبرجر أن وكالة المخابرات الأمريكية تسيء التقدير، وهي
تقديرات يغلب عليها التفاؤل! ويضرب مثلاً بحالة العراق.. فقبل حرب الخليج
الثانية كانت تقديرات الـ (سي. آي. إيه) تفيد أن صدام حسين لا زال أمامه سبع
سنوات على الأقل ليتمكن من الوصول إلى تحقيق قدرات إنتاج أسلحة نووية، إلا
أنه اتضح لخبراء وكالة الطاقة النووية بعد الحرب، وعندما قاموا بفحص إمكانات
بغداد، أن العراق على وشك التوصل لإنتاج أسلحة نووية في خلال ثلاث سنوات
فقط، كما أن الأقمار الصناعية أخفقت في تحديد قدرات العراق على إنتاج أسلحة
نووية أو كيماوية؛ فعندما بدأت الحرب كان لدى المخططين الأمريكيين العسكريين
هدفان نوويان في القائمة لضربهما، ولكنّ مفتشي وكالة الطاقة النووية استطاعوا
بعد الحرب تحديد ستة عشر مصنعاً رئيساً كان يجب تدميرها! وعليه فليس هناك
معلومات كافية بما يجري في بقية أرجاء العالم!
ولم ينسَ الكاتب (وزير الدفاع السابق) أن يحرض على روسيا..) إنه في
الوقت الحاضر بالتحديد وليس بعد ثلاث إلى خمس سنوات، أو حتى عقد من
الزمن هناك روسيا التي تمتلك 25 ألف رأس نووي تستطيع تدمير الولايات المتحدة
خلال فترة لا تتجاوز ظهر أي يوم) .
ولأجل التقارير الرسمية، والتحريضية، كان على أمريكا الحد من هذه
الأسلحة التي تؤرقها، فكان ما يسمى بـ (برنامج التعاون من أجل تخفيض الخطر)
في عام 1991م؛ حيث استطاعت الولايات المتحدة إزالة أكثر من ألفي رأس نووي، وثمانمئة قاذفة قنابل، ومنصة صواريخ في كل من روسيا وأوكرانيا وكازاخستان، وكان ذلك مقابل مساعدات مالية، وهو ما اعتبرته أمريكا إنجازاً ضخماً تفتخر به، فقد صرح وليام بيري قائلاً: إن منع الانتشار يعني شيئاً أكثر من مجرد تفكيك
ترسانة الحرب الباردة النووية، إنه يعني.. (قيادة المعركة) .
كما اتخذت الولايات المتحدة تدابير أخرى للحد من انتشار عدد من الأسلحة،
كاتفاقية خطر الانتشار النووي، والعمل على وضع معاهدة الحظر الشامل للتجارب
النووية موضع التنفيذ، والسعي إلى التصديق على الميثاق الدولي للأسلحة الكيماوية، والعمل على تعزيز ميثاق الأسلحة البيولوجية ونظم السيطرة على تكنولوجيا
الصواريخ، وأخذ المبادرة في سلسلة من التدابير الدولية للحد من تدفق السلع
والتقنيات التي يمكن استخدامها في إنتاج أسلحة الدمار الشامل، وفرض العقوبات
ضد الدول التي تنزع إلى اقتناء هذه الأسلحة.
كما أن هناك ما يسمى بـ (ديبلوماسية الإجبار) وهي مزيج من التدابير
الديبلوماسية والعسكرية، وهو ما استخدمته الولايات المتحدة في عام 1994م من
أجل وقف البرنامج النووي لكوريا الشمالية. وتضمنت التهديدات من جانب أمريكا
ودول أخرى فرض عقوبات اقتصادية ما لم تتوقف كوريا الشمالية عن ذلك البرنامج، وتضمن كذلك الديبلوماسية من الوعود بتقديم مساعدات لإنتاج الطاقة (الكهربائية)
في حال وقف البرنامج النووي كما تستدعي هذه السياسة مضاعفة الوجود العسكري
الأمريكي بالمنطقة؛ إذ يوجد الآن (45) ألف جندي أمريكي في كوريا الجنوبية.
كما اتبعت الولايات المتحدة السياسة نفسها مع جنوب إفريقيا حينما أرادت بيع
صفقة من الأسلحة لسوريا، فهددت بقطع المساعدات التي تبلغ قيمتها 120 مليون
دولار حال تنفيذ الصفقة؛ وذلك لأنها (تعرقل جهود السلام التي تبذلها الولايات
المتحدة في المنطقة) وتعمل على الإخلال بميزان القوى في المنطقة! !
ونختم هنا برأي وليام بيري حول هذه السياسة التي تسمى بـ (الدفاع الوقائي)
إذ يقول: ما من شك في أن الريادة الأمريكية هي التي تجعل الدفاع الوقائي ناجحاً
ومفيداً، سواء كان ذلك في روسيا أو أوروبا أو البلقان أو الأمريكتين أو آسيا
الشرقية والمحيط الهادي؛ إذ ليس هناك بلد آخر له ما لدى الولايات المتحدة من
موارد واردة، ومكانة تتيح لها الوصول إلى سائر أركان المعمورة.. وفي الوقت
نفسه (لا ينبغي لأحد أن يتوهم أن الدفاع الوقائي عمل من أعمال البر والإحسان..
إنما المسألة ببساطة أن الولايات المتحدة تبذل هذا الجهد الخارق والعمل الجاد اليوم، لكي تتقي غداً إراقة دماء أبنائها وإهدار ثرواتها) .
الطريق الثالث للأمركة بالقوة.. (أمركة عسكر العالم) : لم يبق لأمريكا
لأمركة العالم بالقوة غير هذا الطريق الأخير لإحكام حلقة السيطرة والزعامة؛ فكثير
من دول العالم خرجت حديثاً من تحت وطأة الاستعمار الأوروبي، سواء في إفريقيا
أو آسيا أو حتى دول أوروبا التي خرجت حديثاً من تحت الحكم الشيوعي، وهذه
الدول يمثل العسكر فيها نسبة كبيرة وهذه النسبة المرتفعة أدعى إلى نزوع هذه
الدول إلى سياسات إن لم تكن معادية فهي استقلالية، لكن الولايات المتحدة يصعب
عليها وجود دولة لا تدور في فلكها؛ فالدولة إن كانت تحكمها مجموعة مدنية، فلا
بد من المباركة الأمريكية حتى تحظى بالقبول والعضوية في المحافل الدولية، وهذه
الحكومات المدنية كذلك قد تجنح إلى سياسات تخالف التوجه الأمريكي، وأقرب
الطرق للفت الانتباه بأن هذه التوجهات غير مقبولة أمريكياً أن يأتي من الداخل عن
طريق المجموعات العسكرية المؤمركة، سريعة الاستجابة للأوامر الخاصة.
كما أن وجود العسكر المؤمرك أدعى لتمرير صفقات عسكرية أمريكية؛ إذ إن
السلاح الأمريكي وقتئذ هو الأكفأ والأقدر في القتال، كما أن وجود هذا الصنف من
العسكر أداة للتلويح للدول المجاورة المخالفة للسياسات الأمريكية، وخاصة إن كانت
هذه المجموعات في دولة كبيرة لها وزنها السياسي أو السكاني أو الاقتصادي
وتتوسط منطقة تعج بالمصالح الأمريكية.
ولقد دأبت الولايات المتحدة على استخدام نفوذها على المؤسسات المدنية
والعسكرية في الدول الحديثة الاستقلال، من خلال علاقات عمل منظمة مع
الشخصيات المهمة في تلك المؤسسات؛ ومما سهل هذه المهمة، تلك القناعة بأن
القوات المسلحة الأمريكية هي أفضل نموذج يحتذى به!
فلدى الولايات المتحدة البرنامج الدولي للتدريب والتعليم العسكري، وهو
برنامج مشترك لوزارتي الدفاع والخارجية يكفل لضباط من الاتحاد السوفييتي
وحلف وارسو سابقاً ومن دول أخرى، الالتحاق بالمؤسسات والمعاهد الأمريكية
لدراسة أسس العلاقات المدنية العسكرية، وهناك مراكز أخرى للتدريس في كل من
ألمانيا وآسيا.
كذلك من الوسائل في هذا المجال.. تكوين فرق مكونة من ضباط ومجندين
أمريكيين وموظفين مدنيين من وزارة الدفاع يوفدون إلى تلك البلدان لمساعدة
حكوماتها على بناء مؤسسات عسكرية محترفة عصرية، تحت قيادة مدنية، وقد
أقامت تلك الفرق آلاف الصِلات مع أكثر من عشرة بلدان مستقلة حديثاً.
ويحصل الأمريكان من خلال ذلك على الاطلاع المباشر على الخطط
والسياسات العسكرية لهذه الدول مما يجعل الصورة أكثر وضوحاً، ولا تبقى هناك
حاجة إلى أقمار صناعية أو أجهزة استخباراتية.
الأمركة بالدولرة: لم يكن في الإمكان أن تصبح الولايات المتحدة أقوى دولة
في العالم لو لم يكن لها اقتصاد قوي يلبي الاحتياجات الداخلية للدولة، وتستطيع من
خلاله السيطرة على الأسواق العالمية بإغراقها بالمنتج الأمريكي. وإن أي دولة لا
يمكن أن تتحكم في سيادتها وقراراتها ما لم تكن في غنى عن المساعدات والمنح
والقروض. وكما أوردت من قبل، فإن الحرب العالمية كانت من أعظم الفرص
التي استغلتها أمريكا، فكان انقسام العالم إلى معسكرين: رأسمالي، واشتراكي
حافزاً قوياً في جعل الدول الغربية ذات النظام الاقتصادي الحر تقبل الانضواء تحت
المظلة الأمريكية؛ وترتضي ذلك مع إدراكها لخطورة ما تحمله من الهيمنة
الأمريكية، فلقد خرجت الولايات المتحدة أقوى دولة اقتصادية، وأكبر دولة دائنة،
وأوربا بكاملها كانت مدمرة من آثار الحرب، وكانت المصانع الأمريكية والتي
كانت بمعزل تام عن الحرب ورشة كبيرة تقذف ببطونها إلى أوروبا، وحتى بعد
انتشار الحرب كانت أوروبا في حاجة إلى إعادة إعمار شامل، ولم يكن هناك من
يستطيع تلبية كل الاحتياجات هذه وقتها غير أمريكا، التي لم تتأخر عن تلبية
الدعوات، فهي فرصة لن تعوض لتحقيق مخططات الأمركة.
وفي عام 1947م عقب الحرب أعلن هاريس ترومان: إذا لم تتحرك
الولايات المتحدة للزعامة ... تعرض السلام العالمي للخطر..، أما كريستوفر
فيشرح تلك الحقبة وما تداعى فيها من اختلاف وجهات النظر الأمريكية حول
السيطرة أو التنحي: (عند نهاية الحربين العالميتين كنا أمام طريقين: أن نعلن
الانتصار وننسحب، أو نسعى بقيادة الولايات المتحدة إلى بناء عالم أكثر أمناً
وسلاماً وحرية وازدهاراً لأمريكا وللناس في كل مكان، فبعد الحرب العالمية الأولى
وقع اختيار قادتنا على الطريق الأول، فدفعنا ثمناً مرعباً، وإن كلاً من هاري
ترومان وجورج مارشال وآرثر فاندبرنج مع الشعب الأمريكي تصرفوا بحكمة حين
اختاروا الطريق الثاني) كان هذا التوقيت فرصة لتغيير المفاهيم الاقتصادية العالمية، فبعد أن كان الذهب هو الأساس لقياس قيمة العملات بما هو حجم المودع منه في
البنوك مقابل ما يطرح في الأسواق من نقود، فقد حل الدولار العملة الرسمية
الأمريكية محل الذهب في ذلك، وأصبح عملة عالمية يجب التعامل بها دولياً، بل
إن سعر الذهب ذاته أصبح يحدد بالدولار، وأصبح الاحتياطي المالي للدول يقاس
بكمية الدولارت المخزنة في بنوكها المركزية!
وعلى الطريقة العسكرية كان لا بد من السيطرة على الأسواق العالمية
والاقتصاد العالمي كاستراتيجية مهمة، لبناء أمريكا وقوتها، وأمركة العالم، وهو ما
يمكن أن نجمله أيضاً في أساليب ثلاثة.
الأساليب الأمريكية لدولرة العالم:
1- السيطرة على الأسواق العالمية: نحن نريد العالم سوقاً ضخمة أو (سوبر
ماركت) فيه كل شيء، ونحن الذين نسيطر عليه! ! كان هذا من تصريحات أستاذ
السياسة الدولية بنجامين سوارتز، مختصراً به السياسة الأمريكية، ومبسطاً منهجاً، ومُجَلِّيه للناس دون مواربة ولا خجل، ويضيف: الاستراتيجية الاقتصادية
الأمريكية (منذ خمسين سنة) هي أننا نريد العالم كله سوقاً تحت سيطرتنا، ولا بأس
أن نأخذ من هذا، ونعطي هذا. وهذه السياسة تزيل العجب الذي قد يبدو من إنفاق
الولايات المتحدة المليارات لحماية اقتصاد ألمانيا واليابان! رغم طاقتهما الاقتصادية
والمالية، ولكن عدم رغبة واشنطن في أن تتولى الدولتان الدفاع الذاتي عن
مصالحهما الاقتصادية، كي لا تزداد قوتهما على الصعيد الدولي، ويصبحا منافسين
قويين لأمريكا.
2- المساعدات الاقتصادية والقروض (المربوطة) : لماذا تقدم أمريكا
المساعدات الاقتصادية؟ ولماذا قدمت مساعدات لدول غرب أوروبا عقب الحرب
العالمية الثانية من خلال (مشروع مارشال) ؟ ولماذا أعلنت (مشروع دودج) بتقديم
مساعدات اقتصادية لليابان؟ تأتي الإجابة أيضاً من سوارتز: كنا نريد مساعدتهم
ليصبحوا جزءاً من سوق مفتوحة؛ لأننا كنا نخاف أن ينغلقوا على أنفسهم، أو
يصبحوا كتلة اقتصادية، بعد أن أخفقوا ككتلة عسكرية، ولتزدهر المصانع اليابانية
ولتنقل السفن البضائع اليابانية إلى العالم كله، ولكن يجب ألا ننسى أن اليابان
جزيرة صغيرة، وسنظل نملك اليد العليا ما دام أسطولنا البحري، هو الذي يحمي
سفن البضائع والسفن الأخرى التي تستورد البترول.
المصلحة.. سياسة واحدة، وفكر واحد يحكم الولايات المتحدة، وبمقارنة
بسيطة بين المساعدات المالية للكيان اليهودي البالغة 3. 2 مليار دولار سنوياً،
وبين 47 بلداً إفريقياً يمثل سكانها 15% من سكان العالم، و20% من كتلته
الأرضية، تقدم لها مساعدات سنوية قيمتها 630 مليون دولاراً فقط.. فبقاء الكيان
اليهودي مصلحة استراتيجية لأمريكا، أما إفريقيا، فلا تمثل في الغالب إلا تأثيرات
هامشية على المصالح الأمريكية، على حد تعبير روبرت دول.
كذلك فإن المساعدات الأمريكية دائماً ما تكون (مربوطة) أي إن هذه
المساعدات المالية ليس للدول الممنوحة لها حتى التصرف فيها حسب احتياجاتها،
بل هي تأتي محددة؛ فالدولة الآخذة في حاجة إلى إقامة مشاريع صناعية أو تنموية، أو زراعية لكي تطعم شعبها، فتأتي المساعدة مشفوعة بقولهم: إنكم في حاجة إلى
تحديد النسل؛ لأن مشاكلكم كلها منبعها الزيادة السكانية الرهيبة التي تعيق برامج
التنمية، وتأكل الأخضر واليابس، ولا تبقي ولا تذر ولا تسمح بأي تحسن في
الحالة الاقتصادية، وهكذا فالمساعدات تمنح للدول التي تحتاج إليها حسب المصلحة، ... سواء كانت جلية بينة، أو خفية يمكن تأويلها على أنها ... صدقة جارية! !
أما الدول التي لا تحتاج إلى مساعدات أمريكا المالية، فلها أن تستغني كيف
شاءت، لكن دون تهديد مصالح أمريكا.
أما الدول التي بين هؤلاء وأولئك، وما زالت في طريق النهوض؛ فلها
الطريق الثالث وهو العقوبات الاقتصادية.
3- العقوبات الاقتصادية: نجح الأمريكيون في أن ينشئوا منظمات عالمية
اقتصادية تحقق أهدافهم، وأن تكون الإدارة فيها أمريكية، أو ذات أغلبية أمريكية
(مؤمركة) يحق لها حسم الخلافات لصالح أمريكا، ووضعت هذه المنظمات العالمية
كصندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي الأسس والضوابط للقروض والمعونات
والبرامج الاقتصادية الإصلاحية، وتم إعطاؤها الصفة الدولية حتى تخرج أمريكا
من دائرة اللوم، وأصبحت تقارير هذه المنظمات هي المعيار الرسمي الدولي
الحقيقي الملزم للجميع، والشذوذ عنه، شذوذ عن الشرعية الدولية يترتب عليه
عقوبات اقتصادية إضافة إلى عقوبات سياسية من منظمات مؤمركة أيضاً كمجلس
الأمن، والأمم المتحدة؛ وما معنى وجود كل هذه الدول في الأمم المتحدة أوغيرها
من المنظمات، وما الفائدة من تصويتها، إن كانت أمريكا تمتلك حق النقض (الفيتو) لأي قرار لا تراه مناسباً! ؟
ولم تكتف الولايات المتحدة بتلك العقوبات الدولية، بل تعدت ذلك إلى إصدار
عقوبات من جانب واحد؛ فهي تعتبر أنه لا فرق بين التدويل والأمركة، فالأمر
سواء.
وقد عبر (جيري جاسنيوكي) رئيس جمعية الصناعيين الوطنية بأمريكا عن
هذه العقوبات الفردية بقوله: ثمة فكرة تشبه ما يصدر عن شخص تنتابه نوبة
غضب وانفعال، مفادها أن على الأمريكيين أن يفعلوا أي شيء ولو أضر بهم، إن
ما نود أن نقوله اليوم: أن هذه العقوبات لا تفيد ولا تخدم غرضاً، فهي تُغيّر سلوك
الدول المستهدفة.
وقد أصدرت منظمة أمريكية رئيسية تقريراً أدرجت فيه 61 قانوناً ومرسوماً
أمريكياً صدرت بين عامي 93 96م منحت فيه الحكومة الأمريكية سلطة فرض
عقوبات من جانب واحد خدمة (لأغراض سياسية) ، هذه الإجراءات تستهدف خمساً
وثلاثين دولة.. تضم 2. 3 مليار نسمة من مستهلكي السلع والخدمات الأمريكية،
أي ما يعادل 42% من سكان العالم. وتتخذ أمريكا هذه الإجراءات وهي على قناعة
تامة بالقدرة على تنفيذها، وانصياع تلك الدول لها.
حجج العقوبات الاقتصادية: لا زالت أمريكا تتظاهر باحترام عقل الإنسان
وعواطفه، فليس من المعقول فرض عقوبات دون مسوغات أو أسباب تؤدي إليها!
! وقد تم تقسيم حجج العقوبات الاقتصادية إلى أربعة أقسام:
1- إعلاء شأن حقوق الإنسان والديمقراطية: وقد تم اتخاذ 22 تدبيراً في ذلك
مع ثلاث وعشرين دولة، منها: البوسنة، بورما، أنجولا، بورندي، الصين،
كرواتيا، كوبا، نيجيريا، هايتي.
2- مكافحة الإرهاب: وتم حتى الآن استصدار 14 قانوناً ومرسوماً تنفيذياً
بغية مكافحة الإرهاب، واستهدفت هذه القوانين عدة دول منها: كوبا، إيران،
العراق، ليبيا، نيكاراجوا، السودان، سوريا.
3- الحيلولة دون انتشار التسلح النووي: واستهدفت الإجراءات الخاصة بهذا
البند كل من الصين وإيران وكوريا الشمالية، وباكستان.
4- حقوق العمال ومحاربة المخدرات، وحماية البيئة والحيلولة دون العمل
بنظام الأشغال الشاقة في السجون: وقد تم فرض عقوبات في أغسطس 95م على
عدة دول، منها الإمارات، وقطر، وهي سوق بلغت قيمة الصادرات الأمريكية
إليها عشرة بلايين دولار عام 96م وتضمنت هذه العقوبات تعليق العمل بتقديم (هيئة
الاستثمارات الخاصة خارج الولايات المتحدة) ضمانات مقابل المخاطر الجديدة
للمستثمرين الأمريكيين في الدول العربية.
نماذج سريعة للعقوبات الاقتصادية: لن نتعرض للنموذج العراقي؛ فالحالة
العراقية لا تخفى على أحد، ويكفي أن أمريكا حتى الآن هي المعرقلة لإكمال
مشروع (النفط مقابل الغذاء) وذلك لأن العراق ليس على استعداد الآن لاستقبال
شركات أمريكية مرة أخرى، وما دامت أمريكا غير منتفعة، فلماذا يتم الاتفاق
بسهولة؟ !
وأيضاً لن نعرج على ليبيا، التي أثبتت الوثائق البريطانية أنها ليس لها دخل
في حادث تفجير الطائرة الأمريكية فوق لوكيربي؛ فأمريكا أصدق من بريطانيا ولا
شك، ولن نشفق على السودان فهي كما ترى أمريكا دولة إرهابية تستحق كل ما
يحدث لشعبها من حرب وجوع! !
نيجيريا والعقوبات الاختيارية: ذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز أن وارن
كريستوفر وزير الخارجية السابق منزعج جداً من جراء عدم تقدم العملية
الديمقراطية في نيجيريا [سكان نيجيريا 120 مليون، 75% مسلمون] ولأجل هذا
الانزعاج فقد تم فرض عقوبات عدة على نيجيريا وهي ما يلي:
1- تجميد أصول نيجيريا في الولايات المتحدة.
2- منع أي استثمارات جديدة هناك.
3- قطع الروابط الرياضية بين البلدين.
4- منع إصدار التأشيرات للنيجيريين.
5- منع تصدير الأسلحة والخدمات العسكرية.
6- معارضة أية قروض أو اعتمادات من قبل صندوق النقد الدولي.
7- عدم الموافقة على المشروعات النيجيرية المقدمة للمؤسسات المالية الدولية.
لكن أمريكا لم تفرض أية عقوبات نفطية على نيجيريا؛ لأنها تشتري 40%
من صادراتها النفطية وهو ما يمثل 8% من واردات النفط الأمريكية.
روسيا البيضاء وعقوبات اختيارية أخرى: خفضت الولايات المتحدة علاقاتها
مع روسيا البيضاء بسبب ما وصفته بـ (تحول خطير في حقوق الإنسان) والذي
تمثل في القيود الشديدة على حرية التعبير وتفتيش مكاتب الأحزاب السياسية
المختلفة، وأوضح مسؤولون أمريكيون أن هذا يعني أن أمريكا لن تكون مستعدة
لمناقشة أي قضايا مع روسيا البيضاء (سوى تلك التي تهم الولايات المتحدة بشكل
مباشر) .
ونسائل أمريكا عن حقوق الإنسان: ماذا عن حقوق البشر (الإرهابيين
الأصوليين) ، بحسب معاجمكم، المرتهنين في سجون الدول الصديقة بلا تهمة ولا
جريمة؟
ونختم بهذا الخبر التي أوردته وكالة رويتر الذي مفاده: أن منظمة العفو
الدولية حذرت الشرطة ومسؤولي السجون في شتى أنحاء العالم يوم 4/3/1997م
من خطر استخدام أجهزة التعذيب والصدمات الكهربائية في العالم، وذكرت أن
الولايات المتحدة هي (أكبر منتج لأجهزة التعذيب الكهربائية في العالم) وأن فرنسا
تساهم في تطويرها.
[جريدة البيان الإماراتية، ع/6104/5/3/1997م] .
وبالمصلحة، والعسكرة، والدولرة.. تمت حلقات سياسة الأمركة، وإلى هنا
تبدو الصورة وردية جداً، متفائلة جداً، مناسبة جداً لاستمرار الحلم الأمريكي!
لكن السنن قد تقول خلاف ذلك، والعالم لن يقف متفرجاً كثيراً؛ فهناك
سياسات معادية لأمريكا، وهناك منافسة قوية لأمريكا في كل شيء، وهناك الأهم:
الدمار الأمريكي في كل شيء، والفشل الأمريكي في كل شيء، فإن كانت أمريكا
تدور حول مصلحتها؛ فهناك القوة العسكرية التي بدأت في التراجع، وهناك
الاقتصاد المشرف على الانهيار، وهناك التخلف التقني والتكنولوجي، وهناك
الدمار الاجتماعي بكافة مجالاته.
وبالجملة: فهناك نهاية لأمريكا.. وليس نهاية للتاريخ كما يزعمون-(120/78)
المسلمون والعالم
تقرير دعوي
عن مسلمي ديفوسي في جنوب الفلبين
بقلم:سعود بن محمد آل عوشن
مدخل:
يبلغ عدد سكان الفلبين حوالي خمسة ملايين نسمة، وقد دخلها الإسلام في
القرن الثامن الهجري وواجه السكانَ المسلمين من قبل المحتلين استئصال واسع،
وقاموا بتنصيرهم حتى لم يعد عدد المسلمين بها يمثل سوى 11% وبخاصة في
الجنوب حيث يكون تجمّع المسلمين هناك. وديفوسي ضمن محافظة دابار الجنوبية، وهي أكبر مدينة في هذه المحافظة بعد مدينة راباو.
وهذه المدينة كثيرة السكان، ومعظم توابعها من النصارى إلا أن المسلمين
وإن كانوا في الأصل أهل البلاد فقد اضمحلوا وانطمسوا بالجهل والضعف
والتنصير؛ فأصبحت حالهم لا تسر؛ إذ يظن الزائر لهم أنهم نصارى لعدم وجود
مميز؛ فالرجال مثل النصارى، والنساء كذلك، وأماكن العبادة نادرة؛ بحيث لا
يظهر إلا عدد من الجوامع.
دور العلم:
يوجد فيها معهدان: أحدهما معهد ديفوس الإسلامي، والثاني معهد منداناو
الإسلامي، ويبلغ عدد الطلبة في كل منها ما بين 200 -300 طالب وطالبة،
ويدرس فيها من مرحلة الروضة إلى نهاية الثانوية العامة، كما يوجد عدد من
المدارس الإسلامية منتشرة في أحياء المسلمين وقد تبلغ عشرين مدرسة ولكنها لا
تغطي سوى 10% من الأحياء الإسلامية.
المقررات الدراسية:
تسير معظم المدارس في مقرراتها الدراسية على مناهج الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة في مراحلها الأولى.
الدعوة:
هناك عدد من الجمعيات الخاصة بالدعوة والتعليم، ولها مدارسها، وأكبر هذه
الجمعيات جمعية العلماء التي شكلها الدعاة المتخرجون من ليبيا، إلا أن نشاطها
الدعوي أقل مع اهتمامهم بالمواسم البدعية مثل الاحتفال بالمولد النبوي، وليلة
النصف من شعبان، وليلة الإسراء والمعراج، وغيرها.
حاجة البلاد:
لا شك أن البلاد في حاجة إلى الدعوة، والتعليم الإسلامي بصورة خاصة،
وهي ذات مناخ مناسب للدعوة الإسلامية، والمسلمون سئموا من المبتدعة، وهم
يبحثون عن العودة إلى الإسلام من جديد؛ إذ يعيشون خواء نفسياً وفراغاً روحياً؛
ولذا نجدهم يبحثون عن أصالتهم وإثبات شخصيتهم ووجودهم الإسلامي؛ فهم في
دوامة فكرية، وقد يتبعون أي ناعق، ولكن ولله الحمد فإن أهل الضلال في هذه
المنطقة بعيدون عنهم.
وقد يستشرف القارئ المهتم بالدعوة في هذا المكان إلى معرفة الطريق الذي
يسلكه للإسهام بالمسؤولية والعمل على أداء الواجب المفروض على كل فرد.
فنعرض فيما يلي بعض من الوسائل والطرق التي يمكن أن يسلكها من يؤدي
دوره الدعوي كما يلي:
1- ضرورة دعم الدعاة هناك بالكتب والمراجع الإسلامية باللغة العربية؛
ويحسن أن تكون على شكل مكتبة صغيرة توضع في أحد المعاهد الإسلامية القائمة
حتى يرجع الجميع إليها.
2- بدعم الدعاة والطلبة بالكتيبات الصغيرة باللغة العربية واللغات المحلية
التي تبحث في مواضيع العصر؛ لزيادة معلوماتهم وثقافتهم حول أوضاع المسلمين
وتعاليم دينهم.
3- أهمية نشر الكتيبات الإسلامية والمطويات مثل كتاب التعريف بالإسلام
لفهد المبارك، وكتاب التوحيد وتعليم الصلاة وغيرها بلغة التجالو.
4- يحسن ابتعاث أعداد من الطلبة إلى البلاد العربية وتعليمهم العلم الشرعي
بها؛ على أن يُتابَعوا أثناء التعليم، ويُوجّهوا إلى التزود بالمعلومات والتطبيق
بصورة أعلى؛ حتى يكونوا قدوة لمجتمعاتهم.
5- اختيار بعض من الطلاب المتخرجين من الثانوية العامة وإعطائهم منحاً
دراسية في الكليات الإسلامية بمدينة مراوي فذلك من أسهل الطرق وأوفرها.
6- اختيار مجموعة من الطلبة من المراحل الابتدائية أو المتوسطة ونقلهم إلى
إحدى المعاهد الإسلامية التي تقع في وسط إسلامي وتحظى بتربية أعلى ضمن
الطلبة البارزين في تلك المعاهد، مع تحمل نفقاتهم المعيشية والدراسية وهي قليلة
نسبياً.
7- يحسن وضع حوافز للطلبة الموجودين بالمعاهد والمدارس القائمة في حالة
التزود بالمعلومات بصورة أعلى؛ كمن يحفظ من القرآن أكثر وكذلك من الحديث،
ومن يتقن العربية أو يجيد الخطابة أو غير ذلك؛ مما يساعد على زيادة الحصيلة
العلمية.
8- منح حوافز لمن يزداد علماً من المدرسين والدعاة إذا قدّم ما يثبت ذلك من
ملخصات أو بحوث أو نقاش أو غير ذلك.
9- يركز في التوعية على الجوانب التربوية والتطبيق العملي للإسلام وإيجاد
المسلم الحق.
10- يشكل الجهاز المشرف على هذه الأعمال من خيرة أعضاء الجمعيات
القائمة وذلك عن طريق الترشيح لأول مرة، ولمدة لا تتجاوز سنة، وبعدها
بالانتخاب إن ثبت جدوى ذلك، وإلا فبالترشيح لكن لمدد قصيرة دائماً حتى يكون
التجديد دائماً والجهد مشتركاً وليسلم من الاستبداد في السلطة السائدة في الجمعيات
القائمة.
11- يمكن دعم المعاهد القائمة بمدرسين أكفاء؛ وذلك بكفالتهم وتحديد
مجالات أعمالهم.
12- إقامة ندوات توعية لإيضاح الإسلام وتبيانه بالأسلوب الملائم لهذا
المجتمع.
13- وضع برنامج وعظ محدد ومنظم للكبار المتعلمين بالمنطقة في أحيائها
الإسلامية ومدارسها ومساجدها، ويركز على التطبيق العملي للإسلام في الآداب
والأخلاق والمعاملات.
هذا ونسأل الله التوفيق والسداد للعاملين في أي مكان وزمان، وأن يبصر
الجميع إلى ما يُظهر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون؛ إنه سميع مجيب
وبالإجابة جدير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(120/90)
في دائرة الضوء
نقد الكتابات الإسلامية
بقلم:. أحمد إبراهيم خضر
قبل منتصف الثمانينات كتب أحد الباحثين وهو الدكتور (محيي الدين عطية)
ما نصه: (في الساحة الإسلامية عدد محدود يملك التأثير بكتبه وصحفه في الملايين
من أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف مواطنهم وألسنتهم، ومن هؤلاء علماء وفقهاء
وناشرون وصحفيون وزعماء ومفكرون، كما إن منهم من ليس من هؤلاء ولا من
هؤلاء ولكن الظروف دفعت بأسمائهم بين هؤلاء فاعتلوا الموجة معهم.
وأصحاب الريادة الفكرية هؤلاء عن جدارة أو عن غير جدارة، بأيديهم أن
يتقوا الله في هذا الجيل، وأن يتخلوا عن السطحية والارتجال، وأن يكفوا عن
دغدغة العواطف وعن الاستهانة بعقول القراء.. وألا يكتفوا بالنظر تحت أقدامهم،
وإنما عليهم أن يحسبوا ألف حساب لما يمكن أن يترتب على إطلاق ما لديهم من
إرشاد أو توجيه؛ فالكلمة ملك لصاحبها قبل أن يخرجها للناس، فإن خرجت فهي
التي تملكه ولا سلطان له عليها في تفسير أو تأويل) [1] .
ويفسر الدكتور (عطية) ما يدعوه بالسطحية في الكتابات الإسلامية فيقول:
(والأسباب وراء هذه الظاهرة كثيرة لعل أهمها هو سهولة الكتابة فيما يجب أن يكون، وصعوبتها في كيفية وضعه على الطريق العملي الواقعي، فالأولى تكفيها العودة
إلى المراجع، والثانية تتطلب المعايشة الواقعية للواقع والإلمام الكافي بالبدائل
والخبرة المتخصصة بالداء والدواء) [2] .
إن الأمر يحتاج ونحن الآن في أواخر التسعينات إلى إعادة النظر في هذه
الانتقادات التي يمكن حصر أهمها على النحو التالي:
1- أن الكتاب الإسلاميين يحرصون سواء في كتبهم أو مقالاتهم الصحفية أو
البحوث التي يطرحونها في المؤتمرات على الاختلاف عن الآخرين والتحصن خلف
جدار فكري ولغوي منيع، والعمد إلى الإيحاء بأنهم يقولون شيئاً جديداً، وإلى أن
ثمة فروقاً كبيرة بين مقولاتهم ومقولات الآخرين.
وتفسير ذلك يعود إلى:
أ - الإحساس بالتعالي على الكتابات العلمانية.
ب - العزوف عن التعمق الواعي بقضايا الإنسان المعاصر، لما يتطلب ذلك
من جهد وممارسة ومعاناة.
ولهذا لا يوجد في الكتابات الإسلامية إلا ما ندر تصدٍ للمشكلات الواقعية كما
يجب أن يكون التصدي، وما يغلب على هذه الكتابات هو هروب مقنع خلف
عموميات يسلم بها الجميع، وتهويم في خيالات ومثاليات تدغدع العواطف ولا تقدم
الحلول.
2- أن الانتشار السريع لكلمة (إسلامي) التي ظهرت على أغلفة الكتب مشيرة
إلى المنظور الإسلامي للاجتماع والاقتصاد والتربية وعلم النفس والفنون والآداب
بل والطب والمحاسبة والإحصاء قد لا يعني إلا استغلالاً لصفة المنظور الإسلامي
أو الدراسة المقارنة؛ فكثير من هذه الكتب ليست في حقيقتها إلا انتقاء لبعض
النصوص التي تحث على أخلاقيات عامة يحسن أن تتخذ لها مكاناً في كتب التوجيه
والإرشاد، كما أنها ليست إلا مجرد حشد قلّ أو كثر لممارسات تاريخية تندرج
تحت التاريخ الاجتماعي ولا تقترب من التحليل والمقارنة، ولا تمثل اجتهاداً، ولا
تضيف علماً ينتقل به القارئ خطوة جديدة إلى الأمام.
ويفسر ذلك بأن إنشاء الأقسام العلمية في الجامعات التي تضيف صفة إسلامي
إلى جانب مجالها الأصلي كالأدب وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والتربية دفع
عدداً من المتخصصين إلى الإسراع في تغطية المناهج المطلوبة أو إنشائها من العدم
إما تلبية لحاجة الطلاب إلى المعرفة، وإما تأهيلاً لأنفسهم لاتخاذ مواقع مبكرة في
هذه الأقسام في بعض الجامعات العربية؛ وقد أدى ذلك إلى سيل من الكتب الجامعية
تفتقر إلى الحد الأدنى من المستوى العلمي المفترض تقديمه إلى الطلاب فضلاً عن
أنها وقفت عاجزة عن مواكبة حركة التأليف الجامعي ذات التاريخ العتيد أو
المترجمة عن الفكر العالمي المتطور.
3- أن معظم الإنتاج الإسلامي الموجه إلى عامة القراء أكثر افتقاراً إلى
المنهج وأشد تواضعاً في مضمونه الفكري.
4- أن في بعض الكتابات الإسلامية طعناً في شخصيات الآخرين أو في
فكرهم بالاستدلال على أعمالهم السابقة وإسقاط ماضيهم على حاضرهم؛ فتكون
الكتابة هنا مركزة على الشخص ذاته مما يعني استخدام سلاح يشهره من ضعفت
حجته، وعزت عليه الأدلة والشواهد؛ بالإضافة إلى افتراض أن الناس لا
يتحركون ولا تتطور أفكارهم، وأن ما قاله كاتب في مرحلة سابقة لا يجوز له أن
يعدل عنه في مرحلة لاحقة.
5- أن الكتابات الإسلامية تسيطر عليها فكرة الحقيقة الواحدة التي لا ثاني لها، وأن الكاتب تتملكه هذه الفكرة بحيث يستحيل أن يتصور معه صواب الرأي
والرأي الآخر معاً في إحدى القضايا وجواز خطئهما في قضية أخرى وإن اتفقا.
ويتقدم صاحبنا خطوة كبيرة هنا في انتقاداته للكتابات الإسلامية فيتهم أصحابها
بالانغلاق الفكري الناتج عن فقدان الإرادة القادرة على التفاعل مع الثقافات الأخرى، وفقدان التمييز بين ما يؤخذ منها وما يترك، يقول الكاتب ( ... فيكون المهرب
والملاذ هو إغلاق النوافذ جميعاً وتضييق دائرة الحوار حتى نرى بين أيدينا كتباً
تقذف بها المطابع كل يوم وصحفاً ومجلات يصدرها الإسلاميون بغية نشر دعواتهم
بين الناس، ولكنها لا تعدو أن تكون حواراً مع النفس أو حديثاً داخلياً يحدِّث بعضهم
بعضاً به، لا يهم غيرهم، ولا ينفعل به أحد، وما إلى ذلك لانفصالهم عن الفكر
المعاصر وقضاياه، ورفضهم للتفاعل معه إلا في النادر الذي لا حكم له) .
ويستشهد برأي الدكتور (رضا محرم) الذي يفسر موقف الإسلاميين هذا بأنه
ناتج عن الإحساس بالدونية أمام فاعلية أفكار الآخرين؛ مما يدفع إلى الرفض
العصبي لهذه الأفكار وما يسميه بالإحساس الكاذب بالاستعلاء على أفكار الآخرين
وثقافتهم [3] .
6- الكتاب الإسلاميون كما يرى الدكتور (جمال عطية) :
أ - يكتبون عن الجهاد، ولا يهتمون بقضايا تحرير الأمم والشعوب المستعمرة
أو المستغلة لحكامها المسلمين، ولا تستثيرهم قضايا حقوق الإنسان المهدرة في كل
مكان.
ب - يكتبون عن الزكاة ولا يدرسون نظم العدالة الضريبية والتأمينات
الاجتماعية والخدمات العامة التي تتسابق الدول في تطويرها وبسط ظلالها.
ج - يكتبون عن الربا ولا يبحثون في أزمة النقد العالمية ومشكلة الديون
الدولية وحيرة الفوائض النفطية.
د - يكتبون عن المرأة والطلاق وتعدد الزوجات، ولا ترى لهم إسهاماً في
حل القضايا المعاصرة للمرأة والطفولة والشباب أو متابعة للحركات التي تعمل
للإصلاح أو الإفساد في هذه المجالات.
هـ- يبحثون في فكر المعتزلة والأشاعرة والصوفية والباطنية ولا تثير فيهم
الإلحادية والوجودية والماركسية التي تغزو العقول اليوم أي اهتمام ببحثها ومناقشتها
ومتابعة حركتها وانتشارها.
ويكتبون في المضاربة والمرابحة، وفي الحدود والتعازير، وفي الحسبة
وفي المظالم ... إلخ ولا يعتبرون ما استحدث من عقود المعاملات والجرائم
والعقوبات ونظم الرقابة الإدارية والمحاكم الدستورية والقضاء المستعجل وشرطة
الآداب والسياحة ... إلخ؛ ولو من باب المصالح المرسلة وتغير الأحكام بتغير
الأزمان.
ز يكتبون في الدعوة والداعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما فنون
الدعاية والإعلام الحديثة ووسائل الاتصال الجماعية، وإمكانات شراء أو تأجير
محطات تليفزيونية وإذاعية حرة؛ ناهيك عن الصحافة والنشر بأساليبها المتطورة؛
فليس لهم في هذا الميدان سوى دور (الإسهام السلبي) بالقراءة والمشاهدة
والاستماع [4] .
لا شك أن قَدْراً من هذه الانتقادات صحيح، وخاصة فيما يتعلق بإضافة
المنظور الإسلامي إلى كتابات قد لا تكون إسلامية أصلاً [5] ويشارك هنا جمال
ومحيي الدين عطية الكُتّابَ الماركسيين في هجومهم على هذا النوع من الكتابات
فيطلقون على كُتّابها صفة: (الإسلاميين الانتقائيين) الذين يضعون المشروع القديم
نفسه في أكواب جديدة دون تغيير المفهوم؛ فالمفاهيم الغربية نفسها توضع عليها
ملصقات إسلامية، كما اتهموهم بعدم الأصالة وبعدم الاتساق الفكري وتحولهم في
فترة زمنية قصيرة من اتجاه ومدارس متناقضة تماماً مع هذا الاتجاه الجديد، وأنهم
شديدو العمومية يجمعون ما لا يأتلف بحيث يصلح لأي فكر أو عقيدة غير
الإسلام (5) .
ونحن متفقون على أن هذه الكتابات ليست إلا هزلاً فارغاً لا يليق بجدية هذا
الدين، وجهلاً فاضحاً بطبيعته، وأن المسألة بالنسبة لأصحابها مجرد حرفة
وصناعة، والكلمة كما يقول العلماء (لتنبعث ميتة وتظل هامدة مهما تكن طنانة
رنانة إذ هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها) .
أما القدر الآخر من هذه الانتقادات فإنه لا يصح إلا في حدود ما اطلع عليه
الكاتبان ولا ينسحب على ما لم يطلعا عليه، كما أنه مقيد بالفترة الزمنية التي كتبا
فيها هذه الانتقادات، وباختلاف النظرة بينهما وبين غيرهما في مدى الأهمية
والحاجة والأولوية للموضوعات التي تصورا أن الإسلاميين قد أغفلوها.
إن الأمر ليس مجرد الكتابة في قضايا فرضت نفسها على الساحة (كنزع
السلاح وغزو الفضاء وتلوث البيئة والانفجار السكاني ... إلخ) ، إن لم يكتب فيها
الإسلاميون فهم غائبون كما يرى الدكتور (جمال عطية) .
وليس الأمر مجرد الأخذ بالحلول التي وجدها الغربيون صالحة لهم ويجب
علينا أن نأخذ بها من باب المصالح المرسلة وتغير الأحكام بتغير الزمان كما رأى
أيضاً!
المفروض علينا أن ندرس مشاكل مجتمعنا الحقيقية، ونستنبط لها حلولاً،
ونبحث لها عن أحكام في الكتاب والسنة؛ لا أن نأخذ حلول الغرب لمشاكله (التي لا
تقع إلا فيه ولا تتسق إلا مع طبيعته) ثم ننظر إليها على أنها حلول إسلامية وأن
الإسلام لا يمنعها؛ فهذا هو الانحراف بعينه عن شريعة الإسلام.
يأخذ الدكتور (جمال عطية) على الإسلاميين أنهم لا يكتبون في قضايا مثل
(حقوق الإنسان) مثلاً، ولا يضع في اعتباره أن حقوق الإنسان باعتراف واحد من
أشد المفكرين تخريباً في عقيدة الإسلام ورغم ذلك يُدعى بالمفكر الإسلامي جُهد
تاريخي قامت به الذات الأوروبية على ذاتها ومن صراع توتري هائل بين العقل
المسيحي والعقل العلمي؛ إضافة إلى أن لـ (حقوق الإنسان) معنى بالنسبة إلى
الإنسان الأوروبي؛ لكنها في عالمنا الإسلامي ليست أكثر من مجرد ترف وزينة
يتحلى بها المثقفون العرب، والجماعات المسيّسة تستخدمها لأغراض لا علاقة لها
بالإنسان وحقوقه تنقلها جاهزة من الغرب وتلصقها لصقاً بما يسمى بالخطاب
السياسي العربي والمعطيات الراهنة للمجتمعات الإسلامية [6] .
ولكن: هل أخرج الكاتبان نفسيهما من دائرة الكتاب الإسلاميين باتهامهما
لهؤلاء الكتاب بالانغلاق الفكري وإغلاق النوافذ وتضييق دائرة الحوار والانفصال
عن الفكر المعاصر؟ وعلى أي فكر يطالبان بفتح النوافذ وتوسيع دائرة الحوار؟ لا
تحتاج الإجابة على هذين السؤالين إلى مزيد عناء، إنها واضحة في استشهاد
الدكتور (محيي الدين عطية) برأي الدكتور (رضا محرم) .
والمعروف عن الدكتور محرم ترجيحه لرأي الدكتور (محمد فتحي عثمان)
بجواز أن يكون المسلم يسارياً. يقول الدكتور (محرم) في مقالته (بل المسلمون
يسار ويمين) : (إذا اتفقنا إذن على أن الدين الإسلامي يترك لاجتهاد الإنسان المسلم
حيزاً ضخماً من حياته قد يتسع ليضم أغلب أنشطته الحياتية، وإذا اتفقنا أن
الإيديولوجيات المعاصرة تقدم الخبرة المحدثة لترشيد وضبط الممارسات الإنسانية
في الحياة اليومية، فإن ذلك يؤدي إلى القبول بإمكانية المزاوجة بين العقيدة الدينية
والانتماء السياسي) [7] .
إن الكتاب الإسلاميين (الصادقين) في الدفاع عن عقيدة الإسلام ومنهج الله
وكتابه وسنة نبيه يؤمنون إيماناً لا يتزعزع بأن أمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع
وأن هذه العقيدة لا تطيق لها في القلب شريكاً ولا تقبل شعاراً غير شعارها المفرد
الصريح وقد عبر عن ذلك الباحثون الغربيون بقولهم: (إن الإسلاميين يرون أن
المجتمع انعكاس للتوحيد الإلهي الذي هو صلب الإسلام، وأنه إذا كان التوحيد
معطى أساساً في الذات الإلهية فإنه يحتاج في المجتمع البشري إلى بناء وتحقيق،
وأنه إذا كان الإسلام نظاماً جامعاً شاملاً وليس جملة معتقدات يتناول كافة وجوه
الحياة فإنه يستبعد حتماً كل حيز للعلمانية ولو عرضاً [8] .
لقد كان الكتاب الغربيون رغم حنقهم وعدائهم الشديد للفكر الإسلامي الذي لم
تختف بصماته من كتاباتهم أكثر موضوعية من الكاتبين في انتقادهما لهذا الفكر. إن
الغربيين لم يستخدموا عبارات الانغلاق الفكري والرفض العصبي والإحساس
بالدونية بل قالوا:
1- إن هاجس الإسلاميين يتمثل بتأثير الحضارة الغربية المفسد، وأنه ما عاد
لديهم افتتان بالحداثة أو بالنماذج الغربية في السياسة والاقتصاد.
2- إن الاختراق الإسلامي في أوساط المثقفين يعود إلى أزمة وتراجع مهابة
الإيديولوجيات التقدمية، وإن الفكر الإسلامي لا يستهدف العودة إلى الماضي بل إلى
الاستيلاء على الحداثة وتملكها داخل الهوية المستعادة.
3- إن الإسلاميين حيثما وجدوا يدعون إلى التنمية الصناعية والعمران
المديني ومحو الأمية على مستوى جماهيري وتحصيل العلوم.
4- إن الإسلاميين يعتبرون أن دور المرأة أساس في تربية المجتمع، وهم
يعتبرونها كائناً وليس مجرد أداة متعة وإنجاب ... وإن الحجاب يسجل انخراط
المرأة الجديد في الدورة الاجتماعية.
5- إن مطالبة الإسلاميين بالعودة إلى مثال المجتمع الإسلامي الأول لا يكفي
في ذاته للحكم على فكرهم بالجمود والتحجر؛ فثمة فكر أصولي آخر في الغرب هو
الإصلاح البروتستانتي الذي كان أحدث الوسائل للارتقاء إلى الحداثة الاقتصادية
والسياسية [9] .
وتبقى هناك حقيقتان بارزتان مهما كانت مثالب كتابات الإسلاميين:
الأولى: أن منهج الله ثابت وقيمه وموازينه ثابتة، وأن الإسلاميين الصادقين
في كتاباتهم الداعية إلى هذا المنهج قد يبعدون أو يقربون منه، وقد يخطئون
ويصيبون ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على هذا المنهج، في حين أن
غيرهم يحاولون التلاعب بهذا المنهج في الوقت الذي يرفعون فيه راية الإسلام
ويتزيون بزيه، ويتمسحون بعقيدته؛ فلا تستبين الطريق أمام المسلمين الصالحين،
وينتشر الغبش والغموض واللبس، وتختلط الشارات والعناوين، ويأتي التيه الذي
لا تتحدد فيه مفارق الطريق كما أوضح ذلك العلماء.
الثاني: أنه لو صح أن الموضوعات الإسلامية قد تشوّشت وصُودرت من
أصحابها، وجرى تلوينها بتلاوين مختلفة؛ فإنها انتشرت رغم ذلك كله؛ بل إن
هذا الضعف أسهم مؤقتاً على الأقل في شيوع وتعميم العودة إلى الإسلام وإضفاء
الشرعية عليها، كما أقر بذلك الباحثون الغربيون.
__________
(1) أمراض الصحوة، محيي الدين عطية، المسلم المعاصر، ع/42، 1984م، ص 10 26.
(2) ماذا يكتب الإسلاميون، محيي الدين عطية، المسلم المعاصر، ع/45، 1985، ص 5 10.
(3) أمراض الصحوة، محيي الدين عطية، مرجع سابق، ص 10 26 آ.
(4) افتتاحية العدد 35، المسلم المعاصر، جمال عطية، 1983م.
(5) علم الاجتماع والصراع الإيديولوجي في المجتمع العربي، حيدر إبراهيم علي، نحو علم اجتماع عربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986، بيروت، ص 127، 128.
(6) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، محمد أركون، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1995م، ص 26.
(7) بل المسلمون يسار ويمين، محمد رضا محرم، المسلم المعاصر، ع/ 15، 1978،
ص 203- 204 انظر كذلك المسلمون وحق الانتماء السياسي، مصطفى كمال وصفي، المسلم المعاصر، ع/14، 1978، ص 111 وما بعدها.
(8) تجربة الإسلام السياسي، أوليفيه روا، دار الساقي، 1996، بيروت، ص 46.
(9) المرجع السابق، ص 28، 45، 46، 56، 62.(120/94)
متابعات
وهم حرية الرأى لدي اليساريين
قصة د. رفعت السعيد مع الأستاذ. جمال سلطان
بقلم: صفوت وصفي
أصيب اليسار في العالم بعامة، وفي العالم الثالث بخاصة، وفي العالم العربي
بوجه أخص بكارثة فكرية من جراء انهزام النظرية الماركسية يوم سقط ما كان
يعرف بالاتحاد السوفييتي، وتلاشت بعده منظومة (حلف وارسو) مما اضطربت
معه الفعاليات الفكرية التي كانت تتلقى الدعم والتوجيه من هناك.
وفي خضم هذا الواقع المأساوي للقوم غيروا توجهاتهم بزاوية 5180
ورأيناهم بالرغم من تمسكهم الظاهري بالنهج اليساري في مطبوعاتهم إلا أنهم
أصبحوا (ليبراليين) [*] وأصبحت الفلسفات الرأسمالية منهجهم في نهجها النفعي
والنسبي والميكيافيلي، مع القاسم المشترك للفكرين الشرقي والغربي وهو العداء
للإسلام والمسلمين.
وما زال أزلام اليسار الموتور في مصر في خضم عدائهم للإسلام ودعاته
بواسطة نشراتهم الصفراء في (روز اليوسف واليسار والأهالي) على سبيل المثال لا
الحصر يصبون جام حقدهم على دعاة الإسلام، ويعملون ليل نهار للإساءة لهم
بالحديث المتواصل ضد ما يسمونه بالإرهاب والتطرف والأصولية بأساليب ديدنها
الكذب والتزوير والاستعداء. وفي الآونة الأخيرة رفع المدعو (د. رفعت السعيد)
وهو أمين عام لحزب التجمع (وهو حزب يجمع بين أركانه أحلاس اليسار
الماركسي المنهار) رفع دعوى ضد الكاتب الإسلامي (جمال سلطان) تنظرها الآن
محكمة جنايات شمال القاهرة متهماً إياه بالسب والقذف في مقالات صحفية نقدية
وهي التي نشرها في صحيفة الشعب المصرية تحت عنوان: (محنة الماركسية في
مصر د. رفعت السعيد نموذجاً) كشف من خلالها تناقضات خطيرة في مواقف
وكتابات المذكور والعلاقات التي كانت تربطه والتيارات الماركسية في مصر مع
دوائر الاستخبارات السوفييتية، كما فضح منهج (رفعت السعيد) في البحث
التاريخي لتاريخ مصر الحديث، مما كان لها صداها لدى المتابعين، لكن الرجل
على غير عادته لم يرد على هذه الدراسة المثيرة وحاول تجاهلها.
وبعد أن أجرى الأستاذ (محمد عبد القدوس) حواراً معه نشرته (الشعب) دافع
فيه عن موقفه المثير من الأقباط وإلحاحه على أنهم مضطهدون مما اعتبره بعض
المراقبين ومنهم كتاب نصارى أنه تحريض منه على الفتنة الطائفية، ثم علق
الأستاذ جمال سلطان على الحوار بمقال ساخن تحت عنوان: (المتأقبطون واللعب
بالنار) اتهم فيه رفعت السعيد بأن خطابه التهييجي للأقباط تحريض سافر على الفتنة
وتعريض لأمن البلاد للخطر.
ورفض المذكور أن يعلق على المقال لكنه هدد برفع دعوى قضائية.. والتي
فوجئ الوسط الثقافي به ينفذ تهديده ضد الكاتب المعروف جمال سلطان، مما أثار
موجة سخط واسعة من الاستغراب والاستنكار لا سيما أن رفعت السعيد من أدعياء
حرية الرأي الذين يطالبون بفتح حرية الرأي للآخر مهما كان؛ لكنه حينما كُشفت
أوراقه، ووضحت خلفياته أثار الدنيا ولم يقعدها ببلاغه للقضاء ومطالبته فيه بحبس
الأستاذ (جمال سلطان) وإلزامه بدفع تعويض مدني قدره (مئة ألف جنيه مصري)
أي (ثلاثون ألف دولار أمريكي) !
ومن المنتظر أن تشهد أحداث المحاكمة مفاجآت مثيرة؛ حيث بات من المؤكد
أن عدداً من القيادات الشيوعية التاريخية وافقت على الإدلاء بشهاداتها في القضية
ضد (د. رفعت السعيد) فيما يبدو معها أنها تصفية حسابات حيث ينظر إليه في
الحركة الشيوعية المصرية أنه أحد أسباب التراجع الذي أصابها سياسياً، وستفتح
المحاكمة ملفات خطيرة منها قضية اليهودي الغامض (هنري كورييل) الذي لعب
دوراً خطيراً في الحركة الشيوعية المصرية ويعتبر الأب الروحي لـ (رفعت
السعيد) وشلته اليسارية، وكذلك من المنتظر دخول عدد من المفكرين الأقباط في
هذه المسألة؛ حيث سبق أن أعلنوا استياءهم من المذكور وعلاقاته مع أقباط المهجر
وتبنيه قضاياهم بطريقة مثيرة، وقد أبدى بعضهم بالفعل استعداده للإدلاء بشهادته
في القضية.
وما يجدر ذكره أن عدداً من المحامين الإسلاميين المعروفين قد أبدى استعداده
وتضامنه مع الأستاذ (جمال سلطان) أمثال (د. محمد سليم العوا، وعادل عيد، ... ود. عبد الحليم مندور) .
بدايات المواجهة:
يعرف المتابعون أن المواجهة الفعلية بين الأستاذ جمال سلطان ورفعت السعيد
لم تبدأ بالمقال آنف الذكر الذي كشف فيه الأستاذ جمال حقيقة (رفعت السعيد) ،
والذي حصل بعد المواجهة بين الرجلين في ندوة (التيارات الإسلامية والتعددية
السياسية) التي كانت إحدى فعاليات معرض الكتاب الدولي بالقاهرة الأخير والتي
كان (السعيد) يرأسها حين حصلت مناقشة بين الرجلين وتعرض معها (رفعت
السعيد) لحرج شديد عندما لفت الأستاذ جمال سلطان نظر المشاركين والحضور إلى
أن قضية الندوة ذاتها لا تعرف التعددية حينما استُبعد التيار الإسلامي وهو محور
الندوة من أن يكون له ممثلون فيها مما جعله في موقف لا يحسد عليه.
وإنما هناك دور مشرف للأستاذ جمال في العديد من دراساته الفكرية الإسلامية
التي كشف فيها حقيقة العلمانية ورموزها من قوميين ويساريين وحداثيين، وفضحهم
على رؤوس الأشهاد في أكثر مؤلفاته وفي دفاعه المستمر عن الصحوة الإسلامية،
وكشف ما يخطط ضدها من مكر الليل والنهار، وهذا بالطبع يؤرق العلمانيين
ويحبط مكرهم، ويوضح دعاياتهم المسمومة ضد الإسلام ودعاته ومفكريه.
وأخيراً:
فإننا نثق كل الثقة بأن اليسار ورموزه مهما فتحت لهم المجالات ليعرضوا
مناهجهم العقيمة وأفكارهم البالية، ومهما دغدغوا مشاعر الناس بالحدب على
أحوالهم وتبني آرائهم؛ فهم أبعد ما يكونون عن الهم العام للأمة؛ لأنهم لا يؤمنون
بنهجها الإيماني ولا بقيمها الإسلامية الأصيلة؛ وليست المسألة لديهم أكثر من
دعايات وخداع وتزوير، وضحك على الذقون. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى
فإن ما خطه (رفعت السعيد) في كتاباته عن الإسلام والإسلاميين ينطوي على كثير
من التزوير والشتم والإساءة للإسلام من خلال مناهجهم الماركسية التي يفترون فيها
الكذب على الله وعلى عباده المؤمنين، ويهاجم الإسلام بدعوى جديدة هي:
(مهاجمة الإسلام السياسي) وادعاء أنه وراء ذلك الإرهاب والتطرف؛ وهي شنشنة
نعرفها من أخزم.
ماذا يقول جمال سلطان؟
أصدر الأستاذ جمال سلطان بعد هذه الواقعة بياناً للرأي العام (أشار فيه) إلى
أنه كان ينتظر من المذكور حواراً فكرياً رفيعاً؛ إذ كان كثيراً ما يدعو لمواجهة
الرأي بالرأي، مع أنه يملك صحيفة ينشر فيها أسبوعياً ما يشاء؛ بخلاف
المطبوعات الأخرى التي يشرف عليها بصفته أميناً عاماً لحزب التجمع اليساري.
وأضاف الأستاذ جمال سلطان: لو كان لغيره العذر في أنه لا يجد المساحة
التي ينشر فيها تعقيبه ورأيه؛ فما عذره بالذات وانسحابه من ساحة الحوار الفكري
والسياسي، وتستره خلف الدعاوي القضائية لإرهاب الآخرين؟ وأنه بتصرفه هذا
أتاح له الفرصة لكي يبوح أمام القضاء بما كان يمسك عن البوح به عبر الصحف،
وأنه سيجدها فرصة مناسبة لكي يدين أمام القضاء أيضاً مسلسل العبث بوحدة
الأرض، واللعب على أوتار الفتنة الطائفية، وإشاعة منطق (السطحية الفكرية) في
الحوار السياسي والثقافي.
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
والله المستعان.
__________
(*) أطلق الأستاذ (محمد مورو) على هذه الشلة (اليسار الأمريكي) مع كونهم يدّعون العداء لأمريكا وذلك مع تفصيل أمرهم على ضوء مصادرهم في كتابه (يسقط اليسار المصري) .(120/102)
منتدى القراء
حول الأزمة الجزائرية
بقلم: خالد رئبال
لسنا ندري إلى أي مدى يمكن الوثوق بتلك التحليلات المتفاوتة حول الأزمة
الجزائرية، وإلى متى سيظل يكتنفها التضارب والغموض.
وما كتبه (د. يوسف الصغير) حول (النظام الجزائري والبحث عن الشرعية)
في العدد 117 من البيان قد أفاد فيه وأجاد، خاصة في ذكر الحقائق عن الانتخابات
الأخيرة التي صاغ النظام أدوارها لتقليص المد الإسلامي وتجفيف منابعه، ليتم بذلك
إخراج المسرحية بصورة جديدة.
والذي أود التنبيه عليه من خلال اطلاعي البسيط على الملف الجزائري أنه لا
يمكن الجزم القاطع بأن الإسلاميين هم وراء كل تلك الأحداث حول ضحايا القتل
العشوائي الذي تعدّى واستفحل أمره والله المستعان، كما أنه لا يمكن تملصاً من
التبعات إلصاق تلك الجرائم بالنظام الذي لا شك أنه السبب الأول والرئيس في
حدوثها والتجاوز في مواجهتها والتصدي لها. وأقول للإنصاف: إن استبداد النظام
ليس وحده الذي يبدي عجزاً في مواجهة تلك القطاعات، ولا الأحزاب العلمانية أو
السياسية المدنية التي يزداد تهميشها لهذه القضية كلما ازداد العنف واشتد الأمر؛
ولكن (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) وهي تعود لاكتساح الساحة من جديد برموزها
ومنهجها وسياستها يقع عليها عبء المواجهة العلنية لوقف موجات العنف، وجرائم
القتل والغلو، والنداء الأخير من زعيمها (مدني) كان له أثره البالغ لولا أن استبداد
النظام بادر كعادته باستثمار الموقف لإعادة الشيخ إلى إقامته الجبرية حتى ولو أدى
ذلك إلى اشتعال البلاد بالعنف والتدمير، فلك الله يا أرض المليون شهيد.(120/105)
منتدى القراء
القبر قد ورث العظام
شعر:إبراهيم نهار
أزف الترحل يا صديقي للجدث ... ومضى زمانٌ كنت أقضيه عبثْ
أشكو إلى الله القوي مخاوفي ... سيكون جسمي بعد حين من جثثْ
سيكون جسمي في الظلام موسداً ... والناس في فرح يجد وفي رفثْ
رحماك يا من خَلْقُهُ كل الورى ... يا من يعيد الميتين إذا بَعَثْ
إن الخسارة في القبور للاهثٍ ... ترك النجاة وسار مع من قد لهثْ
إن الفناء على البرية واقعٌ ... سيموت من يمشي ويفنى من مكثْ(120/106)
منتدى القراء
هل تفهم؟
شعر: وائل محمد
كفاك عيباً وتجريحاً وتخطئة ... كفاك جرحاً لقلب ما تواسيه
تستهجن الناس ما تدري مكانتهم ... هلا نصحت بتلميح وتَنْبيه
هلا نصحت بسر في شفافية ... إن كنت حقاً بقول الحق تُنْبيه
إن كان ساءك ما في الساح من همم ... وصحوة الخير في شتى نواحيه
فاركن لبيت وأزواج وتكرمة ... فالأمر جد لمن تبكي مآقيه
فإن أبيت ولم تسمع لموعظتي ... فقد أعنت على ظلم وتشويه(120/107)
منتدى القراء
يا أمتي
شعر:عبد الله عيسى محمد
ما بَالُ عَينكِ مِنْها الدّمُ يَنسكبُ ... ثَكْلى تَسِحّ وَذِي الأَحْشَاءُ تَلْتهبُ
ما بَالَ جسمكِ أضحى الهمّ مُضْجِعَهُ ... كأنّمَا هو في أنْحائه شُهُبُ
ما بَالُ عيشكِ لا تَنْفكّ تَرْشُقُه ... دُهمُ الْخُطوبِ بِزندٍ وَرْيُه عَجَبُ
ماذا دَهاكِ وأين المْجدُ قدْ سُحِبَتْ ... مِنْهِ الذّيولُ على الأفلاكِ تَضْطربُ
شَكْوى الزّمانِ أم الأرزاءُ ما فَتئَتْ ... ظمْأَى تَحِدّ شِفَارَ البُؤْس تَحْترِبُ
أمْ أنّ أمّتَنا سَكْرى، ورَايتُنا ... قدْ أَصْبحت كفناً في طَيِّه نُوَبُ
أم ضِغْن شِرذمةٍ يضري بِمُسلِمةٍ ... في أَرضِ بُوسنة والأعراض تُستلبُ
أم قدْسُنا لَفظتْ أَنْفَاسَهَا وَرأتْ ... كَيدَ العِدَا عَرِماً في سَاحِها يثِبُ
يا أُختَ أَندلس كم ذا يُجرِّعنا ... كأسُ العِدا غُصَصاً والمجد يلتهبُ
ما يُرتَجى أبداً مِنْ مِرْجَل حَقِدٍ ... إلا عَصَائبُ رُعبٍ بَعْدها عُصَبُ
أَمْجادُكِ طُنُبٌ، راياتُك شُهُبٌ ... أَسيافكِ ذُرُبٌ، فتيانُكِ نُجُبُ
في كفِكِ النُورُ آياتٌ مبينة ... فَاسْتَعْصِمي وَذَرِي أَهُواءَ من غَرَبوا
ركْبُ الرِّسالة نوّارٌ تَحفّ به ... زُهْرُ النجومِ وفي آلائه أَرَبُ
فَاسْتبسِلي وَرِدي ساح الوغى ودعي ... سَمْعَ الدّنا طَرِباً فالنّصرُ يَقْتربُ(120/107)
منتدى القراء
يا سارية.. الجبل
شعر: محمد بن أحمد الأحمري
أساريةَ الحق لذْ بالجبلْ ... ولا يَخدَعنّك جند هُبَلْ
فمن طَيبَةٍ جاءكم منذر ... ينبه للخطر المحتمل
وينذركم أنكم أمة ... تذكر بالجد من قد هزل
وتنشر نور السما ساطعاً ... ليرشد للحق من لم يصل
أسارية المجد لذ بالجبل ... ولا تكثرن المرى والجدل
وخذ بنصيحة فاروقنا ... ففيها النجاة لخطب أطل
فبالنصح نهزم أعداءنا ... ونشعرهم أننا لم نزل
نطيع الذين اهتدوا بالكتاب ... وننصح للدين عند المِحَل
أسارية القوم خذ عدة ... فأنت على أبْلَجٍ لم تزل
فذا الصبحُ يرسل إشعاعه ... ليعلنه عملاً متصل
وذا الليل يرمقنا خلسة ... فنجم يضيء ونجم أفل
سلاح الجنود هنا آية ... وتكبيرة ثم سهم يصل
أسارية فلتقف برهة ... وناج الذي دائماً لا يَمَل
بذكر الصباح وذكر المساء ... وذكر الهجوع وذكر العمل
وعند الضحى فلتكن ذاكراً ... وأسبغ وضوءك حتى الحجل
حديث حفظناه عن غابرٍ ... ولكنّ (يا ليتَ) لمّا تزل
أسارية الدين لذ بالجبل ... فما زال عندك كلّ الأمل
فمن منبر المصطفى أُرسِلَتْ ... نذيراً سريعاً لأمر جلل
فيا طائعاً عمراً في الجهاد ... أطعت الذي أمره قد عقل
تربى على منهج المصطفى ... فنعم المربي ونعم البطل(120/108)
منتدى القراء
كيدوا كما شئتم
شعر: نجاح عبد القادر سرور
قل لليهود. وصَحْبهم.. ... ولمن يدافع عنهمو
كيدوا كما شئتم.. ... فإن الدين حقٌ قائم
وتجمّعوا حول الوليمة.. ... واجرعوا وتسمّموا!
كيدوا.. فإن رجال قومي.. ... ويْح قومي.. نُوّمُ!
ناموا عن الأقصى الجريح ... المستكين وسلّموا!
في عصرنا.. متخلّفٌ.. ... من قال: ربي يحكم!
في عصرنا.. متطرّف.. ... من قال: إني مسلم!
يا قومنا.. ما بالكم.. ... في ابن اليهود وثقتموا؟ !
يا قومنا.. كم أُضرِمت في ... الأرض نارٌ منهمو!
أنسيتموا صبرا وشاتيلا ... ومذبحة الخليل نسيتموا؟ !
يا للخليل.. وقد جرى.. ... في مسجد الخِلّ الدم
كم قتّلوا فينا الورود ... وأرضَنا قد قسّموا
يا عصبة الأمم التي ... ظلماً ... وزوراً تحكم
لاّ رأيتم طفلةً.. ... النار فيها تُضْرَم
هلاّ سمعتم صرخة الأم ... التي لم يرحموا؟
يا عصبةً.. هل عندكم ... ابن اليهود الأكرم؟
ودماؤنا ماءٌ جَرى.. ... ودم اليهود هو الدم؟
قل لليهود.. وصحبهم.. ... ولمن يدافع عنهمو
كيدوا كما شئتم.. ... فإن النصر حتماً قادم
وغداً تروْن مَنِ القويّ.. ... وأيّ جمْعٍ يُهزَمُ(120/109)
منتدى القراء
غطرسة
غازي المهر
مَنْ يمنع اليهودَ ...
من إخراجنا
من أرضنا المقدسةْ ...
هم يدركون أننا ...
مثل الطبول ...
ليس لها ...
من أصواتها ...
إلا الصدى ...
هم يدركون أننا ...
كم نحسن الصراخ ...
والشجب والتنديد ...
هم يدركون أن خيلنا ...
بلذة السبات ...
لا تُفيقْ ...
سيوفنا مثلومةٌ ...
رماحنا مكسورةٌ ...
هم يدركون ...
أننا عربٌ ...
ولسنا مسلمينْ ...
فهل تُراهم يُردعونْ؟ ...
ويُمنعون الغطرسةْ؟ ...(120/108)
منتدى القراء
شباب
تركي عبد الله المحيا
شبابٌ همهم نيل المعالي ... بلا تَعَبٍ ولا ثوبٍ معفّرْ
شبابٌ دائماً أمسى وأضحى ... يريد الراح والثوب المعطرْ
شبابٌ ليس فيهم من ينادي ... إلى التوحيد والدين المظفرْ
شبابٌ ضيعوا صفو المعاني ... وكلٌ بالرذيلة صار يفخرْ
شبابٌ قد نسوا تاريخ أمس ... من الأمجاد أو من فتح خيبر
فيا رب الورى عجل بأمر ... يرد شبابنا عن كل منكر
ولا تجعل لشيطان علينا ... من السلطان بل إياه فاقهر(120/109)
مقال
رحم الله الشيخ حماد الأنصارى
بقلم: أحمد العامر
الحمد لله القائل: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] [المجادلة: 11] ، وصلى الله على البشير النذير وعلى آله
وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فما تزال الأمة بخير ما وُجِدَ فيها العلماء العاملون؛ ومتى ما كان للعلماء
العدول فيها التقدير والإجلال بين العامة والخاصة؛ وهذا هو نهج الأمة في صدرها
الأول وفي قرونها المفضلة مع العلماء؛ فهم ورثة الأنبياء، وحسبهم وصف
الرسول لهم بأنهم مثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست
النجوم فيوشك أن يضل الهداة.
ولا شك أن فقد العلماء مصيبة وأي مصيبة على الأمة؛ لا سيما في عصورنا
المتأخرة؛ حيث كثرت الفتن وادلهمت الخطوب مما يتحتم معه وجود العلماء الثقات
الأثبات الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، ويوجهون الأمة في التعليم والإفتاء
والتحذير من المنزلقات.
ووفاة العالم الجليل (الشيخ حماد بن محمد الأنصاري) رحمه الله من هذا القبيل؛ فقد كان عالماً محققاً أدى واجبه في التعليم والإفتاء، ونفع الله به طلبة العلم في
مختلف أنحاء العالم الإسلامي؛ حيث تلقوا العلم على يديه وبخاصة في الجامعة
الإسلامية بالمدينة النبوية.
ولمكانة الشيخ رأيت التعريف به وذكر شيء من مناقبه.
نبذة عن حياته:
ولد الشيخ رحمه الله في بلاد (تادمكة) في دولة مالي عام 1344هـ، ونشأ
في بيت علم ودين؛ وعلى يد خاله الشيخ محمد الأنصاري حفظ القرآن في الخامسة
عشرة من عمره، وأخذ العلم من علماء بلدته، ثم رحل إلى السعودية، وواصل
أخذ العلم على علماء الحرمين الشريفين أمثال الشيخ عبد الرزاق حمزة، والشيخ
حسن المشاط، والشيخ (عمر بري) ، والشيخ محمد بن تركي، والشيخ محمد
المدني، والشيخ (محمد الخيال) ، والشيخ (محمد بن إبراهيم آل الشيخ) ، وغيرهم.
وأخذ الإجازة في كثير من العلوم والفنون على كثير من العلماء في الهند واليمن
وإفريقيا والشام والسعودية.
قام بالتدريس في المدرسة (الصولتية) بمكة المكرمة، ثم انتقل إلى (المعهد
العلمي) بالرياض عام 1374هـ، ثم إلى معهد إمام الدعوة بالرياض عام 1375 هـ، ثم انتقل عام 1385هـ، إلى المدينة النبوية؛ حيث درس بكلياتها. وفي
عام 1396هـ استقر بالدراسات العليا بالجامعة نفسها، ورأس قسم العقيدة، ثم قسم
السنة، وأشرف على العديد من رسائل (الدكتوراه) و (الماجستير) في العلوم
الشرعية، ووصل إلى درجة (أستاذ) حتى إحالته للتقاعد عام 1407هـ، وبقي
معها يلقي الدروس العلمية على طلبته وتلاميذه.
وكان منزله دوحة لطلاب العلم يستشيرون الشيخ ويستفيدون من علمه ومن
مكتبته الحافلة بأمهات المراجع والمخطوطات حتى توفي رحمه الله بعد مرض ألم به
استمر لمدة سنة تقريباً، وكانت وفاته بتاريخ 21/6/1418هـ وصلي عليه في
المسجد النبوي. والله نسأل أن يتقبله، وأن يعلي درجته، وأن يخلف له الخير في
عقبه، وأن يسكنه فسيح جناته.
أهم مؤلفاته:
ألف الشيخ حماد الأنصاري العديد من الكتب والرسائل العلمية التي تتراوح
بين المجلدات والكتب والرسائل العلمية، ومن أهمها:
1- أبو الحسن الأشعري وعقيدته: وهو من أوائل ما ألف عن هذا الإمام
حديثاً؛ إذ تتبع فيه رحلته في العقيدة حتى استقر على منهج السلف أهل الحديث كما
توضحه رسالته (الإبانة) ، وفيه الرد على ما يزعمه المتمشعرون المتأخرون.
2- ومن أهم كتبه في علم الحديث: (بلغة القاصي والداني في تراجم شيوخ
الطبراني) وهو عدة مجلدات صدر الجزء الأول منه عام 1415هـ، وهو من
أحب مؤلفاته إلى نفسه.
3- ألف في تاريخ بلاده كتاب: (تاريخ ملّي مالي في القديم والحديث) وهو
مجلدان.
4- له عشرات الرسائل العلمية في العقيدة، والفقه، والرد على المبتدعة
صدر بعضها ضمن (السلسلة الأنصارية) وفي الجزء الأول منها احتوى على
الرسائل التالية:
أ- (كشف الستر عما ورد في السفر إلى القبر) : بيّن فيه مرتبة الأحاديث
التي يستند عليها المبتدعة في شد الرحال للقبور؛ إذ هي: ما بين ضعيفة
وموضوعة لا يصح الاحتجاج بها.
ب- (إسعاف الخلان بما ورد في ليلة النصف من شعبان) جمع ما ورد في
هذا الموضوع من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء، وبيّن ضعف ما ورد فيها،
وأنه لم يثبت في قيام وصيام هذه الليلة شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ج- (تحفة القاري في الرد على الغماري) ناقش فيها العالم القبوري المغربي
(عبد الله الغماري) ورد على رسالته: (إتحاف الأذكياء في التوسل بالأنبياء
والصالحين والأولياء) على ضوء أقوال العلماء المحققين قبله، وبين تدليسات
الغماري في استدلالاته، ثم بيّن التوسل المشروع: وهو ما كان بأسماء الله الحسنى
وصفاته العلى، وبما شرع من الأعمال الصالحة من الدعاء والطاعات واتباع
الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وبيّن التوسل غير المشروع: وهو توسل شركي: كالحلف بغير الله، أو
الدعاء لغير الله، وتوسل بدعي: كالتوسل بجاه فلان أو بحرمته وبفضله وعلمه.
منهج الشيخ في العلم:
عُرِفَ الشيخ حماد الأنصاري بالقوة في المناقشة، وبغزارة العلم وبخاصة في
أداء الدروس والمحاضرات، وبالتحقيق فيما يؤلف ويكتب. ويمكن إجمال منهج
الشيخ رحمه الله في النقاط التالية:
1- عرف بالعقيدة السلفية والمعارضة للمبتدعة من الصوفية والفرق الضالة.
2- اهتمام الشيخ بالدليل، وأخذه به؛ فما صح دليله فهو منهجه؛ فهو ليس
مذهبياً.
3- عنايته بالتوثيق للأحاديث والآثار فيما يؤلف ويكتب ويلقي من دروس.
4- أخذ عن كثير من العلماء الفحول في مختلف التخصصات مما أوجد لديه
ملكة علمية وغزارة في الفهم؛ فهو كالبحر يتحف سامعيه بمختلف المعلومات
واللطائف والحكم.
5- الاستقصاء في بحثه ودراساته سواء أكانت دراسات مطولة كبلغة القاصي
والداني، أم في الرسائل العلمية الموجزة.
6- تواضعه رحمه الله فكثيراً ما كان يقول بأنه ليس أهلاً لما يبحث ويؤلف.
أهم ما كتب عن الشيخ في التعريف به:
ما كتبه عنه الشيخ الأديب (محمد المجذوب) في موسوعته: (علماء مفكرون
عرفتهم) المجلد الأول.
ما نشرته صفحة (مشكاة الرأي) من صحيفة (الوطن الكويتية) العدد (2240)
الصادر في 26/6/1418هـ بإشراف الدكتور عبد الرزاق الشايجي؛ حيث كتب
عنه عدد من طلابه وهم المشائخ: (رياض الخليفي) ، و (جاسم الفهيد) ، و (عواد
الخلف) ، و (محمد بن ناصر العجمي) ، مقالات غنية بالمعلومات عن الشيخ رحمه
الله.
وأرى أن على طلابه دَيْناً بأن يُقَدّم عن حياته وعلمه وفضله رسالة علمية
أسوة بغيره من العلماء أمثاله؛ فحياته مصدر ثر للباحث سيجد فيه محاور عديدة،
ولعل الجامعة الإسلامية التي درّس فيها منذ نشأتها وحتى إحالته للتقاعد تشجع أحد
طلابها على القيام بهذا الدور المطلوب.
والله نسأل أن يغفر للفقيد، وأن يجمعنا وإياه في مستقر رحمته، والله الهادي إلى سواء السبيل.(120/110)
من ثمرات المنتدى
التقرير السنوي لأنشطة المنتدى الإسلامي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام ...
على سيد ولد آدم أجمعين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحابته الصالحين المصلحين، ... وعلى من سلك سبيلهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنا نحمد الله عز وجل، ونثني عليه بما هو أهله أن وفقنا لسلوك سبيل الدعاة، وشرفنا مع سائر دعاة الإسلام بالمشاركة في حمل راية الدعوة إلى دينه الحق.
وبتوفيق منه عز وجل سعى المنتدى الإسلامي منذ إنشائه عام 1406هـ مستعيناً
بالله إلى النزول إلى الساحة، ومباشرة العمل في ميادين عدة مما تتطلع إليه الأمة.
وقد حرص منذ البداية على أن يولي جانب الدعوة إلى الله والتربية على منهج
نبيه وسنته المرتبة الأولى. وما زال ولله الحمد ينتقل من خطوة إلى خطوة، ويُتبِع
خطة بأخرى تنبثق عن مراجعة الماضي، ودراسة جدوى ما قدمه من أعمال،
وأنجزه من مشاريع.. حتى صار بفضل الله ومنته صرحاً من صروح العلم والهدى، يحمل منهج أهل السنة والجماعة مع من يحمله في الدعوة إلى الله سبحانه.
وقد يسّر الله في هذا العام، كما في كل عام مضى، مراجعة شاملة دقيقة
لجهود سنوات على يد لجنة التخطيط والتقدم، التي أعدت على ضوء تلك المراجعة
خطة خمسية تضمن للعمل بإذن الله تعالى مزيداً من النجاح؛ إذ ركزت على تحديد
الأهداف العامة والخاصة، ووسائل تحقيق الأهداف وسياساتها وإجراءاتها، ثم
ضوابط عامة لتحقيق تلك الأهداف، انطلاقاً من الهدف العام للمنتدى في: (دعوة
الناس إلى دين الإسلام: عقيدة، وشريعة، ومنهاج حياة، معتصماً بالكتاب والسنة، ومهتدياً بهدي السلف الصالح) .
كما تمثلت الأهداف الخاصة بما يلي:
1- إعداد الدعاة إعداداً متكاملاً، ورفع كفاءتهم العلمية والدعوية.
2- تأهيل الطاقات الدعوية القيادية.
3- الاهتمام بالدعوة في أوساط الطلاب والمثقفين.
4- الاهتمام بالتعليم الإسلامي.
5- الدعوة العامة في مختلف طبقات المجتمع، وتعليمهم أمور دينهم.
6- إحياء رسالة المسجد، وتفعيل دور الأئمة والخطباء.
7- إيجاد منابر إعلامية للدعوة.
8- التعاون مع الهيئات والشخصيات الإسلامية المحلية والعالمية وفق
الضوابط الشرعية.
وسبق أن أشرنا في تقارير سابقة إلى أنه نتيجة لتوسع العمل فقد قام المنتدى
بافتتاح (14) مكتباً فرعياً ميدانياً في عدد من الدول الإفريقية وغيرها.
ومن أهم ما يتوجب علينا تجاه من يشاركنا العمل بالصورة التي يراها أن نقدم
تقريراً شاملاً عن أنشطة المنتدى الإسلامي التي تمت بعون الله وتوفيقه، ثم
بتعاونكم وتشجيعكم، سائلين الله عز وجل ألا يحرمكم الأجر والمثوبة. ويسعدنا
كثيراً الاستفادة من آرائكم واقتراحاتكم، كما أننا لا نستغني عن مؤازرتكم وتعاونكم
معنا.
أولاً: برامج تعيين الدعاة والأئمة والمدرسين:
يأتي هذا البرنامج على رأس البرامج التعليمية والدعوية؛ وذلك لأن هؤلاء
هم أداة إقامة الدين وتعليم الناس. وقد بلغ العدد هذا العام (553) فرداً ما بين داعية
وإمام ومدرس، منتشرين في بلاد عديدة مثل: كينيا، وغانا، وبنجلاديش،
والصومال، وجيبوتي، ومالي، ونيجيريا، وتوجو، وبنين.... . وغيرها.
وفي الوقت الذي يقوم فيه هؤلاء بالدعوة والتعليم فإنهم يتابعون أيضاً برامج
دعوية وعلمية يُقدمها المنتدى لهم؛ لرفع مستوياتهم، وذلك حسب مناطقهم وقدراتهم.
ولإعانتهم في رسالتهم وتنفيذ برامجهم، ورفع كفاءاتهم فإن اللجنة العلمية
بالمنتدى تتابع تقديم دراسات عدة منها:
1- سلسلة الدراسات الشرعية المتخصصة؛ لمعالجة الأخطاء الدعوية
والمنهجية في مواقع العمل. وقد صدرت منها مجموعتان.
2- سلسلة الدروس الرمضانية بنوعيها: الفقهية، والعقدية التربوية.
3- الرسائل الدعوية: وهي رسائل شهرية تصل لمواقع الدعاة كأوراق عمل
للمناقشة في الأوضاع الدعوية وما يعترضها من مشكلات، وتخاطب الدعاة تذكيراً
بمسؤوليتهم وعظيم أثرهم.
ثانياً: الأنشطة الدعوية والتربوية:
وهي أنواع عديدة، منها:
1- الدورات الشرعية:
وهي دروس علمية متخصصة في: العقيدة، والقرآن وعلومه، والتفسير،
والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، وفقه الدعوة وأصولها، والسيرة النبوية،
والآداب الإسلامية؛ تقدم في مدة زمنية محددة بأفراد متقاربين في المستوى العلمي
والدعوي.
وتهدف هذه الدورات في جملتها إلى: تصحيح المسار، وترشيد العمل،
ورفع المستوى العلمي والدعوي، لدى الدعاة، مع الحرص على التأصيل الشرعي
المبني على كتاب الله وسنة نبيه ومنهج السلف الصالح.
وقد بلغ عدد الدورات بتوفيق من الله لهذا العام ما لم تبلغه من قبل؛ حيث
وصل عدد الدورات إلى (89) دورة موزعة على: الدعاة، والأئمة والخطباء،
ومعلمي الحلقات، والمسلمين الجدد، والنساء.. ونحو ذلك. وبلغ عدد المستفيدين
منها (6821) فرداً.
وهي موزعة على عدة دول، كما يلي:
-----------------------------------------------------------
الدولة عدد الدورات الدولة عدد الدورات
-----------------------------------------------------------
بريطانيا (لندن) 1 الصومال 1
كينيا 23 أوغندا 5
غانا 3 التوجو 5
بنجلاديش 5 نيجيريا 16
مالي 8 بنين 19
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... إثيوبيا 3
-----------------------------------------------------------
ومن الدورات التي أقيمت:
-الدورة الشرعية، في لندن. وقد كانت باللغة العربية في المدة
11- 22/8/ 1997م، شارك فيها (44) فرداً. وباللغة الإنجليزية في المدة
11- 23/8/1997م، وحضرها (50) مستفيداً.
-الدورة الشرعية للمدرسين، لمدة 8 أيام، في كينيا ممباسا.
-الدورة الشرعية لتحفيظ القرآن، 30 يوماً، نيجيريا جوس.
-الدورة الشرعية الأولى للدعاة، 6 أيام، أوغندا، كمبالا.
-الدورة الشرعية الثانية للأئمة، 4 أيام، توجو بافيلو.
-الدورة الشرعية للطالبات المسلمات، يوم واحد، توجو دبانغو.
-الدورة الشرعية، 14 يوماً، الحبشة.
-دورة الأئمة، 7 أيام، نيجيريا كانو.
-الدورة الشرعية، 7 أيام، نيجيريا أبوجا.
-دورة الأئمة، 7 أيام، بنين باراكو.
-دورة في العلوم الشرعية لطالبات المعاهد الثانوية، 40 يوماً، بنين.
وجدير بالذكر أن المرأة بحمد الله قد نالت نصيباً من تلك الدورات وغيرها من
البرامج التعليمية:
-ففي بنين جوغو أقيمت دورة تربوية لطالبات المعاهد الثانوية الحكومية،
شارك فيها (402) طالبة، و (17) مدرسة، وقد امتدت (40) يوماً.
-كما أقيمت في جوغو أيضاً دورة في العلوم الشرعية، لمدة ثلاثة أيام،
شارك فيها (85) طالبة وامرأة.
-وفي توجو دابانغو أقيمت دورة تدريبية للطالبات المسلمات لمدة يوم واحد،
وكان عدد المشاركات فيها (60) طالبة.
-وفي الملتقيات أيضاً: فمثلاً في ملتقى لندن حضر مجموعة من النساء في
قسم خاص بهن.
-كما يُعقد للنساء درس أسبوعي خاص، في مقر المنتدى بلندن، في الفقه،
من كتاب (سبل السلام) .
2-الملتقيات الدعوية:
وهي لقاءات خاصة بالدعاة، تهدف إلى معالجة مشكلات الدعوة والدعاة،
وتنمية القدرات العلمية والدعوية لدى المشاركين، وبفضل الله فقد عُقد (35) ملتقى
موزعة على دول عدة.
وفي هذا العام وحده تم عقد (7) ملتقيات حضرها (353) مستفيداً وهي:
-الملتقى الثقافي الثاني والعشرون، في المقر الرئيس، بلندن، خلال المدة
9،10/8/1997م، تحت شعار: (الشباب الإسلامي: تحديات الواقع.. وواجب
العلماء) ، وقد حاضر فيه عدد من أصحاب الفضيلة الدعاة في المحاضرات التالية:
(العلماء والدعاة: عوامل التواصل والقطيعة) ، (دور العلماء في نهضة الأمة) ،
(الحوار مع العلمانيين شرعيته ومنطلقاته) ، (الضوابط العامة في الخلاف الفكري) ،
إضافة إلى فقرة خصصت للإجابة عن أسئلة الحضور الاقتصادية.
وقد حضر الملتقى عدد من الرجال والنساء بلغ (200) فرد، ونقلت
المحاضرات للنساء بالصوت والصورة.
-الملتقى الدعوي، في: مالي باماكو، لمدة 3 أيام.
-الملتقى الدعوي، في: نيجيريا سكوتو، يوم واحد.
-الملتقى الدعوي، في: نيجيريا كانو، 5 أيام.
-ملتقى طلاب الجامعات، في: أوغندا كمبالا، 3 أيام.
-ملتقى طلاب الثانويات، في: أوغندا كمبالا، 3 أيام.
-الملتقى العام لتطوير المدارس، في الحبشة، يوم واحد.
وقد سجلت الدورات والملتقيات نمواً ملحوظاً في سنوات قليلة ويتضح ذلك من
خلال الرسم البياني التالي:
3- المخيمات الشبابية التربوية والمراكز الصيفية:
يوليها المنتدى الإسلامي عناية مناسبة؛ لدورها الكبير في نشر الوعي بين
الشباب، وتصحيح المفاهيم، وتربيتهم تربية إسلامية.
وقد بلغت المخيمات التربوية المقامة في السنوات الماضية: (35) مخيماً،
على حين أن المخيمات المقامة هذا العام وحده قد بلغ ما يقارب نصف هذا العدد
وهي (16) مخيماً بلغ عدد المستفيدين منها (1499) فرداً. وبذلك يصبح العدد
الإجمالي للمخيمات (51) مخيماً، للجامعيين وطلاب الثانوي موزعة على الدول
التالية:
------------------------------------------------------------
الدولة ... ... ... ... عدد المخيمات الدولة عدد المخيمات
------------------------------------------------------------
بريطانيا (لندن) ... ... ... 8 نيجيريا 4
كينيا ... ... ... ... 12 بنين 2
غانا ... ... ... ... 4 إثيوبيا 1
مالي ... ... ... ... 6 السودان 2
أوغندا ... ... ... ... 2 السنغال 1
التوجو ... ... ... ... ... ... 5 تشاد 3
------------------------------------------------------------
كما أقيم للمرة الثانية بحمد الله مركز صيفي، في مالي باماكو، لمدة (30)
يوماً، شارك فيه (50) مستفيداً، وقد ألقي فيه (232) درساً، و (7) محاضرات
تربوية وتثقيفية.
4- الدورات الإدارية:
هدف هذه الدورات: تنظيم العمل وضبطه، وتطوير الأداء، والارتقاء
بمستواه، تحاشياً للفوضوية والارتجال. وقد أقيمت ست دورات في كل من كينيا
وتوجو وغانا شملت جوانب إدارية متعددة.
كما أقيمت هذا العام الدورة الإدارية الأولى للمدراء والمسؤولين في أقسام
مكاتب المنتدى الإسلامي، لمدة عشرة أيام، من 20 29/4/1418هـ، في غانا
نياكروم؛ وتهدف إلى رفع مستوى الأداء الإداري للاستفادة من جميع الطاقات،
وتوفير الوقت والجهد قدر الإمكان. ومن ضمن المحاضرات التي ألقيت في هذه
الدورة: (الإدارة الإسلامية) و (مبادئ التنظيم) و (التخطيط: أهميته، وأنواعه) .
5- المحاضرات والدروس العلمية:
يعقد في مركز المنتدى الرئيس خمسة دروس أسبوعية مستمرة بفضل الله في
العقيدة (فتح المجيد) ، وفي الحديث (فتح الباري) ، وفي الفقه (سبل السلام) للنساء،
وفي التفسير؛ إلى جانب دروس مختارة للناطقين بالإنجليزية.
كما تقام محاضرة أسبوعية في موضوعات علمية وتربوية متنوعة؛ إضافة
إلى أن كل داعية تابع للمنتدى له برنامج لإلقاء الدروس والمحاضرات والخطب في
المدارس والمعاهد والمساجد والتجمعات العامة.
ويلقى في البلدان التي ينتشر فيها الدعاة ما يقرب من (6480) درساً،
و (3343) محاضرة شهرياً.
ففي غانا مثلاً تبث دروس عبر وسائل الإعلام، كالتلفزة والإذاعة؛ بالإضافة
إلى مقالات دورية في الصحافة.
---------------------------------------------------
الدولة عدد الدروس شهريا عدد المحاضرات شهريا
---------------------------------------------------
بريطانيا (لندن) 20 4
كينيا 1256 316
غانا 276 2
بنجلاديش 1304 1024
مالي 650 65
الصومال 1996 400
جيبوتي 56 24
أوغندا 380 32
التوجو ... 164 45
نيجيريا ... ... ... 216 28
بنين 124 24
الحبشة ... 00 4
---------------------------------------------------------------------------------
ثالثاً: المراكز الإسلامية:
نظراً لأهمية المراكز في تقوية العمل الدعوي وانطلاقته وانتشاره وتركيزه فقد
أقر المنتدى إقامة عدد من المراكز، وهي:
1- المركز الرئيس للمنتدى الإسلامي في بريطانيا لندن، حيث افتتح في عام
1406هـ، ويحتوي على مسجد جامع، ومصلى نساء، ومدرسة ابتدائية وروضة، وقاعة محاضرات، ومكتبة للاطلاع، ومكتبة لبيع الكتب.
2- مركز الإمام البخاري في بنجلاديش (غازيبو تونفي دكا) ، وقد أسس
لخمسة أدوار، تم بناء دورين منها سيتم تشغيلها حالياً للاستفادة منها ريثما يتيسر
بناء الأدوار الثلاثة الباقية؛ إن شاء الله.
3- مركز الإمام مسلم في بنجلاديش فريدبور، ويهدف إلى نشر الدعوة في
فريدبور، ومتابعة البرامج الدعوية المتنوعة، والإشراف على الدعاة، وحِلَق
التحفيظ ... ونحو ذلك.
4- المركز الإسلامي في نيجيريا كانو، وقد افتتح المسجد ومصلى النساء،
في جمادى الثانية 1418هـ، وقد بدأ بمباشرة أعماله.
5- المركز الإسلامي في غانا أكرا وقد تم افتتاحه في بداية رمضان 1417هـ
6- المركز الإسلامي في بنين. وقد شارف على الانتهاء.
7- المركز الإسلامي في كينيا نيروبي وسوف يُشرع في بنائه في الأيام
القريبة القادمة، بمشيئة الله.
8- المركز الإسلامي في أوغندا، وقد تم شراء الأرض، وسوف يبدأ العمل
فيه قريباً، إن شاء الله.
ويحتوي كل مركز على المرافق التالية:
أ - مسجد جامع كبير.
ب مصلى للنساء.
ج - مكتبة باللغة العربية والإنجليزية واللغات المحلية.
د - مكتبة سمعية ومرئية.
هـ فصول دراسية، ومدرسة لتحفيظ القرآن.
ومبانٍ إدارية. ز مقر للضيافة. ح مستودع.
رابعاً: تحفيظ القرآن الكريم:
يولي المنتدى الإسلامي كتاب الله الكريم اهتماماً خاصاً يتمثل في تدريسه
وتحفيظه والسعي إلى التربية على آدابه وأوامره؛ ولذا أقام خلوات وحلقات بلغت
(330) حلقة منتشرة في دول كثيرة. وبلغ عدد الطلاب فيها ما يقرب من
(12622) طالباً.
هذا ويسعى المنتدى الإسلامي إلى الارتقاء بمستوى الحلقات عبر وسائل عدة، منها:
1- مواصلة عقد الدورات العلمية والتدريبية للمدرسين والمحفظين. وقد
عُقدت دورتان شرعيتان في: توجو، وغانا، وثلاث دورات تدريبية في: مالي،
وأوغندا، كما عُقدت دورة لتحفيظ القرآن، في: نيجيريا جوس، استمرت (30)
يوماً واستفاد منها (40) مدرساً؛ هذا غير الدورات المحلية الكثيرة التي يعقدها
المشرفون الميدانيون مع مدرسيهم بين فترة وأخرى؛ فمثلاً: في العام الماضي
عقدت في غانا ثلاث دورات، وفي توجو ثلاث دورات أيضاً، وفي بنجلاديش
دورة واحدة.
2- أصدر المنتدى في نهاية عام 1417هـ خطة عامة شملت تقويم المدرس، وطرق التدريس في الحلقات، والإدارة والإشراف التربوي، وأنشطة الحلقات،
ونُشرت في كتاب بعنوان: (المدارس والكتاتيب القرآنية.. وقفات تربوية وإدارية)
وقد لاقى الكتاب بحمد الله قبولاً واسعاً، وإقبالاً كبيراً، نسأل الله أن ينفع به.
3- وزع المنتدى عبر مكاتبه الفرعية في إفريقيا وغيرها (20514) مصحفاً، و (3831) ترجمة لمعاني القرآن، بلغات مختلفة.
خامساً: الأنشطة التعليمية:
1- المدارس النظامية: تقدم للطالب نوعين من المواد:
أ - العلوم المقررة في بلده.
ب - العلوم الشرعية المعدة من قبل المنتدى. وبذلك تؤهل الطالب تأهيلاً
شرعياً وتأهيلاً عصرياً يمكنه من مواصلة الدراسة في الجامعات الحكومية في شتى
التخصصات، وبذلك يتوفر بإذن الله مسلمون أكفاء في مختلف القطاعات الوظيفية
الحكومية.
وقد بلغ إجمالي المدارس (38) مدرسة ما بين روضة وابتدائية وإعدادية
وثانوية؛ وبذلك يكون عددها قد تضاعف عن العام الماضي، حيث كانت (20)
مدرسة. والمدارس موزعة كما يلي:
-----------------------------------------------------------
الدولة عدد المدارس تفصيل مراحلها
------------------------------------------------------------
بريطانيا (لندن) 2 روضة، وابتدائية
كينيا ... ... 6 (3) روضة، (2) ابتدائية، (1) ثانوية
غانا 10 (2) روضة، (3) ابتدائية، (4) إعدادية، (1) ثانوية
بنجلاديش ... ... 21 (13) روضة، (8) ابتدائية
-----------------------------------------------------------
2- المدارس الشرعية: وهدفها نشر العلم الشرعي، ورفع الجهل عن أبناء
المسلمين، ولهذا أنشأ المنتدى الإسلامي ثانوية شرعية في مدينة جوس بشمال
نيجيريا.
3- كفالة مدرسين في مدارس غير تابعة للمنتدى: وهي طريقة لتقديم مقرر
شرعي في هذه المدارس، أو إيجاد مدرس يهتم بالدعوة في مدرسة حكومية أو
إسلامية تحتاج للدعم، ولا يتمكن المنتدى من القيام بكامل أعبائها، فيكفل مدرساً أو
أكثر فيها.
4- معاهد إعداد الدعاة: يتوقف نجاح العمل الدعوي بعد توفيق الله على
كفاءة الدعاة الذين هم قلب الدعوة النابض، وأهم ما في الأمر تنمية الطاقات العاملة، وتأهيل دعاة آخرين؛ ووسيلة ذلك إعداد الدعاة وتأهيلهم، وهو ما سعى إليه
المنتدى في إنشائه معاهد إعداد الدعاة.
ومن أبرز المعاهد التي جهزت مبانيها وأعدت مناهجها: معهد نيجيريا،
ومعهد آخر في مالي، وقد تعثر افتتاحهما حتى الآن بسبب بعض العراقيل الرسمية.
5- توزيع المناهج الدراسية: تعجز إمكانات بعض المدارس المادية عن
توفير المناهج والكتب الدراسية، فقام المنتدى بتوزيع الكتب الدراسية على بعض
المدارس، ومنها في هذا العام فقط (32062) فبلغ عدد الكتب الموزعة حتى الآن
(284862) ، وهي على الشكل الآتي: غانا (127244) ، كينيا (63912) مالي
(19500) ، السنغال (2500) ، الصومال (3000) ، أوغندا (1000) ، بنين
(18000) ، توجو (48206) ، جيبوتي (1500) .
سادساً: القوافل الدعوية:
انتشر الإسلام في مختلف الأدغال والقرى النائية، مع غلبة الجهل على
هؤلاء المسلمين، وانتشار الشركيات والسحر والبدع بينهم.
غير أنه من الصعب توفير دعاة في كل المناطق المترامية الأطراف؛
ولصعوبة تنقل أفراد الدعاة.. فقد قام المنتدى بتنظيم القوافل الدعوية التي يقوم بها
مجموعات من الدعاة بشكل مدروس مرتب، ويصحب القافلة طبيب، وتُزوّد
ببعض المواد الإغاثية، والكتب باللغات المحلية.
وبحمد الله تم تنفيذ (158) قافلة دعوية، منها في هذا العام وحده (68) قافلة،
منها ما هو للمسلمين، ومنها ما هو لغير المسلمين ومن تلك القوافل:
أ- قافلة الرحمة الدعوية، في (بنين) من كوتونو باراكو، لمدة سبعة أيام،
أقيم خلالها (38) درساً.
ب- القوافل الدعوية الثابتة في خمس محافظات في (بنين) وتنطلق هذه
القوافل (4) مرات أسبوعياً لمدة شهر لتزور (16) قرية خلال هذه المدة، وشارك
في هذه القوافل (30) داعية منهم ستة من دعاة المنتدى.
ويتضح نمو القوافل خلال الأعوام الخمسة الأخيرة من الرسم البياني التالي:
يتوزع مجموع القوافل على دول كثيرة، نفذ منها هذا العام: في توجو (30)
قافلة، وفي بنين (16) ، وفي كينيا (19) ، وفي غانا (14) ، وفي الصومال
وجيبوتي (13) ، وفي السودان (3) ، وفي تشاد (2) ، وفي أوغندا (3) ، وفي
الحبشة (5) ، وفي بنجلاديش (25) ، وفي نيجيريا (32) .
وقد كان لتلك القوافل أثر طيب ونتائج جيدة بفضل الله تعالى فمثلاً: في قافلة
واحدة في الحبشة أسلم (90) شخصاً، كما أسلم (1500) في نيجيريا خلال (7)
قوافل، وهؤلاء يترتب على إسلامهم واجب متابعتهم، وقد قام المنتدى بمتابعة
المسلمين الجدد على النحو الآتي:
1- إعداد دورات، على مستويات ثلاثة، ينتقل فيها المسلم ليصل إلى
مستوى علمي وتربوي مناسب.
2- إنشاء مركز لمحو الأمية في (كسومو) في كينيا.
3- تعيين داعية في كل قرية يكثر فيها المهتدون.
4- تنظيم الجولات الدعوية للدعاة في مختلف المناطق والقرى.
سابعاً: بناء المساجد:
تم إنشاء وتنفيذ (319) مسجداً وجامعاً في دول كثيرة، منها (26) تحت
التنفيذ؛ وفي العام الماضي بمفرده تم الانتهاء من بناء (43) مسجداً، وإكمال
مسجدين آخرين، منها (14) مسجداً وجامعاً في بنجلاديش وحدها.
ويوضح الرسم التالي تصاعد عدد المساجد خلال الأعوام الستة المنصرمة:
ويحرص المنتدى على اختيار الأفضل لموقع المسجد، وتسجيل ملكيته رسمياً
، كما يسعى لإحياء رسالة المسجد، وتنشيطه دعوياً؛ بتعيين داعية مؤهل في كل
مسجد يقوم المنتدى ببنائه، ليتولى إمامة المسلمين، وإقامة الدروس الشرعية،
وإلقاء المواعظ، والقيام على حلقات تحفيظ القرآن الكريم.
أما توزيع المساجد على الدول فيوضحه الجدول الآتي:
------------- ---------------------------------------------- ... ... ... ...
الدولة ... عدد المساجد التي عدد المساجد التي المجموع
تم تنفيذها تحت التنفيذ
----------------------------------------------------------
الحبشة ... 26 00 26
إريتريا ... 2 2 4
أوغندا 8 1 9
باكستان 41 00 41
أفغانستان 1 00 1
بنجلاديش 95 00 86
تشاد 12 00 12
توجو 5 00 3
بنين 3 00 1
الجمهوريات الإسلامية 4 00 4
السنغال 1 1 2
السودان 8 4 12
الصومال 17 00 16
غانا 19 6 25
الفلبين ... 5 ... 1 6
كينيا 21 00 19
مالي 11 1 12
نيجيريا ... 9 ... 8 11
الهند 3 2 5
جيبوتي 2 00 1
تنزانيا 2 00 2
المجموع 293 26 319
---------------------------------------------------
ثامناً: المكتبات العامة ومكتبة طالب العلم:
تعاني كثير من البلاد الإسلامية من ندرة الكتب الإسلامية وندرة المراجع
العلمية، مع ما لهذه الكتب والمراجع من أثر بالغ في التوعية الإسلامية ونشر العلم
وتصحيح العقيدة؛ ولذا سعى المنتدى إلى سدّ تلك الحاجة حسب إمكانياته بوسائل
منها:
1- المكتبات العامة، وهي نوعان:
أ - مكتبة كبيرة: تقام في المدن الرئيسة، وفي أماكن التجمعات الكبيرة للدعاة
ب - مكتبة صغيرة: توضع في المساجد والمدارس ونحوها.
وتم انتقاء الكتب وفقاً لاحتياجات الدعاة في تلك الأماكن، أما عدد المكتبات
المجهزة فبلغ (96) مكتبة، منها (33) مكتبة جهزت هذا العام وهي موزعة كما يلي:
-------------------------------------------------
الدولة عدد المكتبات الكبيرة عدد المكتبات الصغيرة
-------------------------------------------------
بريطانيا (لندن) 1 1
كينيا 6 19
مالي 4 4
غانا 2 00
الصومال 7 7
السنغال 1 1
بنجلاديش 4 14
السودان 1 00
تشاد 1 1
توجو 00 2
أوغندا 1 00
الحبشة ... ... 00 16و5 سمعية
نيجيريا ... ... 00 2
جيبوتي 1 00
المجموع 29 67
------------------------------------------------
ويبدو نمو المكتبات تصاعدياً خلال سنوات ثلاث كما يلي:
2- مكتبة طالب العلم: وهي مكتبة صغيرة تحتوي على الأصول العلمية
المهمة، تُمنَح للداعية ويمتلكها شخصياً، ليستعين بها على تنمية قدراته، ورفع
مستواه. ولأجل أن تلائم المستوى والقدرات فقد أعد المنتدى قائمتين: الأولى
للدعاة الجامعيين، والثانية للدعاة غير الجامعيين.
وقد بلغ عدد المكتبات الموزعة خلال العام الحالي 1417هـ 1418هـ
(374) مكتبة وتشتمل على الكتب التالية:
أ - في اللغة العربية:
1- المستوى الجامعي:
زبدة التفسير. تيسير العلام. شرح العقيدة الواسطية.
اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان.
التحفة السنية في شرح المقدمة الأجرومية.
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث. مختصر سيرة النبي -صلى
الله عليه وسلم.
2- المستوى غير الجامعي:
فتح المجيد. تفسير ابن كثير.
رياض الصالحين. بلوغ المرام. الرحيق المختوم.
ب - وأما باللغة الإنجليزية فهي ترجمات للكتب التالية:
كتاب التوحيد. معاني القرآن. الرحيق المختوم. بلوغ المرام.
مختصر صحيح البخاري. تقوية الإيمان. شرح أركان الإسلام.
3- توزيع المصاحف والكتب والأشرطة:
- عدد المصاحف الموزعة: (48514) مصحفاً، منها (20514) هذا العام.
- وزع في العام الماضي (3831) ترجمة لمعاني القرآن بلغات مختلفة.
- تم توزيع (305097) كتاباً بالعربية، منها (65688) في العام الماضي.
- كما وزع (25520) كتاباً بلغات غير العربية، وأيضاً (2052425) نسخة
من الكتب التي قام المنتدى بترجمتها، وذلك في العام الماضي وحده.
- عدد الأشرطة الموزعة (144786) شريطاً، منها (39786) شريطاً في
العام الماضي.
تاسعاً: مطبوعات المنتدى الإسلامي:
1- مجلة البيان: وهي مجلة إسلامية شهرية جامعة، تُعنى بالدراسات
الشرعية والدعوية والتربوية، وتسعى لرفع مستوى الوعي الفكري، عبر كتابات
متميزة رصينة، يعدّها عدد من العلماء والدعاة والأساتذة والشباب الفضلاء، وقد
بدأ المنتدى الإسلامي بإصدارها في عام 1406هـ، لتوزع في مختلف أنحاء العالم
. وقد لاقت بحمد الله رواجاً وإقبالاً كبيراً يُزكي الأمل، ويشجع على العمل،
ونرجو الله لها المزيد، وقد اعتمد المنتدى (4500) اشتراكاً شهريّاً مجانيّاً في عدد
من الدول، إسهاماً منه في إيصال كلمة الحق والهدى إلى الدعاة وطلاب العلم الذين
لا يستطيعون شراء المجلة، بالإضافة إلى العديد من الجمعيات الإسلامية والمعاهد
والمراكز.
2- نشرة المنار: وهي نشرة صغيرة تصدر باللغة الإنجليزية وتوزع في
بريطانيا، ومكاتب المنتدى في إفريقيا في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية، وتتناول
هذه النشرة بعض البحوث الميسرة في العلوم الإسلامية.
3- نشرة أسبوعية: في بنين، صدر منها (36) عدداً، توزع في كثير من
المحافظات.
4- كتاب المنتدى: يقوم المنتدى الإسلامي بطباعة الكتب والرسائل المفيدة
مع الحرص على حسن الاختيار والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة، ومن هذه
الإصدارات:
* المدارس والكتاتيب القرآنية.. وقفات تربوية وإدارية.
* خواطر في الدعوة، (100خاطرة دعوية) .
* التجديد في الإسلام. * رؤية إسلامية للاستشراق.
* اعتقاد أهل السنة في الصحابة. * علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام.
* الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي. * البداوة والحضارة.
* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أصوله وضوابطه.
* تجربة المنتدى الإسلامي في العمل الدعوي ... ونحوها.
ونظراً للطلب المتزايد على كتب المنتدى بفضل الله فقد أُعيدت طباعة غالب
الإصدارات خلال العام الحالي 1417هـ 1418هـ.
6- طباعة الكتب المترجمة: قام المنتدى الإسلامي بطباعة عدد من الكتب
الإسلامية المترجمة إلى عدد من اللغات، ووزعت في عدد من دول العالم، ومنها:
* الأصول الثلاثة، (باللغة الفرنسية) . * الأصول الثلاثة، (بلغة الهوسا) .
* الخطوط العريضة، (بلغة الهوسا) .
* وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة، للشيخ ابن باز، (بالإنجليزية) .
* وجوب أداء الصلاة جماعة، لابن باز، (بالفرنسية) .
* صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، للشيخ ابن باز (بالفرنسية) .
* رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية، (بالبنغالية) .
* عقيدة أهل السنة والجماعة، لجميل زينو، (بالبنغالية) .
* صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجوب صلاة الجماعة، لابن
باز، (بالسواحلية) .
* الطهارة والصلاة، لابن عثيمين، (بالسواحلية) .
* الدروس المهمة لعامة الأمة، لابن باز، (بالسواحلية) .
* توجيهات إسلامية، لجميل زينو، (بالبنغالية) .
* كشف الشبهات للإمام محمد بن عبد الوهاب، (بالسواحلية) .
* حصن المسلم، (بالسواحلية) . * المرأة في الإسلام، (بالسواحلية) .
* مختصر العقيدة الإسلامية، لمحمد جميل زينو، (بالسواحلية) .
بالإضافة إلى أن المنتدى الإسلامي يسعى لتوفير الكتاب الإسلامي باللغات
المختلفة من الأسواق، ويوزعها في دول العالم.
عاشراً: النشاط الإغاثي والاجتماعي:
المنتدى الإسلامي مؤسسة دعوية في الأصل، ولكنه يقدم أنشطة اجتماعية
وصحية متعددة، كما يسهم في إغاثة المنكوبين وإعانة الملهوفين من المسلمين.
ومن البرامج التي تم تنفيذها:
1- المراكز الإغاثية: قام المنتدى الإسلامي بإنشاء (28) مركزاً إغاثياً، في
كل من كينيا والصومال وبنجلاديش، استفاد منها (15000) شخص يومياً، وقد
توقفت هذه المراكز لانقضاء حاجتها، وذكرت تفاصيلها في تقرير العام الماضي.
2-الأعمال الإغاثية العامة: وتشمل توزيع المواد الغذائية واللباس والكساء
والدواء؛ حيث قام المنتدى الإسلامي بأعمال إغاثية متعددة في الصومال،
وبنجلاديش للمتضررين من الفيضانات والأعاصير، والبورماويين بسبب الحروب
، وجيبوتي، ومالي.. وغيرها.
ويصاحب هذه الأنشطة برامج دعوية مكثفة من دعاة المنتدى الإسلامي.
3- برنامج إفطار صائم: اعتاد المنتدى الإسلامي تنفيذ البرنامج سنويّاً في
عدد من دول العالم، وقد بلغ عدد الوجبات التي تم توزيعها في رمضان 1413هـ
(168، 849) وجبة، شملت (18) دولة، وأما في رمضان 1414هـ فقد بلغ ...
عدد الوجبات (677، 326) وجبة، شملت (16) دولة، وفي رمضان 1415هـ ...
بلغ عدد الوجبات (700، 784) وجبة، شملت (16) دولة، وفي رمضان 1416هـ بلغ عدد الوجبات (350. 871) وجبة، شملت (11) دولة وفي رمضان
1417هـ عدد الوجبات (500، 337) وجبة، شملت (12) دولة.
وفي الغالب: يصاحب الإفطار دروس وعظية وعلمية وتربوية يعدها دعاة
المنتدى الإسلامي؛ مما يكون له أثر مبارك (ولله الحمد والشكر) .
وقد بلغ عدد البرامج الدعوية في إفطار عام 1417هـ (11776) ما بين
كلمة توجيهية ودرس ومحاضرة.
4- برنامج الأضاحي: يقوم المنتدى الإسلامي سنويّاً بتنفيذ برنامج الأضاحي
في عدد من دول العالم؛ وذلك لتوزيعها على فقراء المسلمين، وقد بلغ عدد
الأضاحي حتى نهاية عام 1417هـ (25770) أضحية، بالإضافة إلى ذبح العقائق
والكفارات والنذور؛ لتوزيعها على المحتاجين.
5- حفر الآبار: بسبب تتابع الجفاف ومواسم القحط التي سادت أجزاءً من
القارة الإفريقية، وازدياد حاجة المسلمين إلى مصادر نقية للمياه، عمل المنتدى ولا
زال يعمل على سد حاجة المسلمين في بعض المناطق من المياه الصالحة للشرب،
وقد حفر المنتدى الإسلامي حتى الآن (264) بئراً في عدد من الدول، موزعة كما
يلي:
----------------------------------------------------
الدولة عدد الآبار ... ... ملاحظات
----------------------------------------------------
السودان 51 مشروع عيون الحياة
غانا 31 ... 00
مالي 9 ... 00
إثيوبيا 9 ... 00
كينيا 18 منها بئر ارتوازي واحد، بالإضافة إلى خمسة خزانات للمياه
الصومال 14 ... 00
توجو 13 ... 00
بنجلاديش 70 ... منها (15) بئراً ارتوازياً.
تشاد 9 ... منها بئر بالطاقة الشمسية.
بنين 11 ... 00
باكستان 12 ... 00
أوغندا 2 ... 00
جنوب شرق آسيا 5 ... 00
السنغال 1 ... 00
نيجيريا ... 9 ... 00
----------------------------------------------------
وقد بدأ المنتدى قبل ثلاث سنوات بمشروع لحفر الآبار الارتوازية في
السودان باسم: (عيون الحياة) ، وجهز المشروع بمختلف التجهيزات الفنية والآلية
اللازمة، وبناء على الخطة المرسومة يقوم المشروع بحفر (30) بئراً سنويّاً على
الأقل، وقد تم تنفيذ (51) بئراً حتى الآن، ولله الحمد.
6- كفالة الأيتام: يكفل المنتدى الإسلامي (202) يتيماً موزعين في عدد من
الدول كفالة تامة، تشمل الغذاء والكساء والتعليم.
ختاماً: لا يسعنا بعد هذا التقرير الشامل الموجز لثمرات عمل المنتدى
الإسلامي، إلا أن نسأل الله عز وجل أن يبارك في هذه الأعمال المتواضعة؛ حتى
تؤتي ثمارها عاجلاً في الدنيا، وآجلاً في الآخرة، وأن يتقبل من الجميع جهودهم
وإسهامهم وسعيهم، وأن يعين على المضي قدُماً في كل مشروع نافع، وأن يجعلنا
من المتعاونين على البر والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد
وآله وصحبه.(120/114)
الورقة الأخيرة
لا تحقرن من المعروف شيئاً
بقلم:أيمن بن سعيد
دخلت عليه، فهش في وجهي وهششت، عانقني بحرارة، وقال لي: الحمد
لله ... مَنّ الله عليّ بالهداية، وصرت برحمته سبحانه مسلماً بعد أن كنت نصرانياً، وأصبحت أعمل في حقل الدعوة إلى الله في أوساط أقاربي وزملائي بعد أن
تعلمت شيئاً من أمر ديني، وما زلت أسعى إلى المزيد.
قلت له: لله الفضل والمنة، ولكن حدثني كيف أسلمت؟
قال: قصتي عجيبة: كنت طالباً في المدرسة الثانوية الكاثولكية، فوجدت في
مكتبتها كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة السواحلية؛ ولست أدري من
وضعه دون أن يعلم القس عن ذلك شيئاً؛ فتعجبت من وجوده، ودعاني فضولي
إلى تصفحه مبتدئاً بقراءة المقدمة ومعاني سورة الفاتحة، ومطلع سورة البقرة،
فأدهشني وضوح الفكرة وعمقها، فأغلقت الكتاب، والتفت يميناً ويساراً، وعلى
حينَ غفلة من الحضور أخذت الكتاب وخرجت إلى غرفتي في سكن الثانوية
الداخلي.
حدثت زملائي الستة بما قرأت، وأريتهم الكتاب، فعجبوا، ومكثنا مدة
شهرين نقرأ فيه، ونتناقش إلى أن أتممنا قراءة معاني سورة البقرة.
عند ذلك قررنا جميعاً الدخول في الإسلام، فدخلنا وواجهتنا محن وإحن؛ إذ
طُرِدْتُ من المدرسة والمنزل، وأصبحت أواجه العقبات والشدائد الواحدة تلو
الأخرى، ولكنني كنت مقتنعاً بالإسلام ديناً؛ فعاهدت ربي على اشتراء الآخرة
بالدنيا، وأسأله سبحانه أن يثبتني على ذلك.
انتهى حديث صاحبي فتذكرت عندها قوله في الحديث: عن أبي ذر رضي
الله عنه: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) [1]
وجلست أتأمل واقع فئتين من الدعاة:
فئة تبذر الخير، وفئة تحجم عن ولوج طرق كثيرة من أبواب الخير وهي
قادرة على ذلك؛ بحجة أنه لا فائدة تشاهدها من طَرْق تلك الأبواب وولوجها، أو
أن فائدتها يسيرة وأثرها محدود لا يستحق البذل والعطاء.
وأدركت عندها من قصة هذا الأخ خطأ الفئة الأخيرة في حق نفسها وأمتها؛
لأنها تستوعب أن مهمة الرسل عليهم السلام والدعاة تبع لهم استفراغ الوسع في
البلاغ، والبلاغ وحده، كما قال عز وجل: [مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ]
[المائدة: 99] ، أما النتائج وتحقيق المكاسب فأمره إلى الله عز وجل كما قال مخاطباً نبيه: [إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ] [القصص: 56] .
ولا يعني ذلك دعوة إلى ترك التخطيط للدعوة وعدم أهمية ترتيب الأولويات؛
فذاك أمر متحتم على الدعاة والمصلحين.
كما لا يعني ذلك دعوة إلى عدم التخصص في بعض الأعمال الدعوية التي
تشعبت واتسعت وصار واجباً على الدعاة فعلُ ذلك لإسقاط الواجب الكفائي على
الأمة في القيام بها.
لكن المراد هنا هو التنبيه على أنه لا يسوغ أن نتخذ هذه الوسائل ذرائع لعدم
المسابقة في الخيرات؛ فما أكثر ما يجد الداعية المنظم لوقته وجهده، المرتب
لأولوياته، المحدد لمسؤولياته الوقت والجهد لبذر خيرٍ هنا أو هناك، والسعي في
حاجة هذا أو ذاك، دون أن يؤثر ذلك على ما هو عليه من أبواب الخير. ... ...
فيا ترى: كم خسرت الدعوة والأمة وما زالت تخسر بسبب هذا الإحجام من
المكاسب والمواقع التي يمكن أن تتحقق لو أن كل داعية مخلص غيور امتثل قوله:
(لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) ؟
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/2026، ح2626) .(120/135)
رمضان - 1418هـ
يناير - 1998م
(السنة: 12)(121/)
كلمة صغيرة
مخالب الديمقراطية
كثيراً ما يدعو علمانيو عصرنا في عالمنا العربي والإسلامي إلى المنهج
الديمقراطي بدعوى أنه وسيلة مثلى لتمثيل الشعوب في المجالس النيابية، ولمواجهة
الحكومات بأساليب حضارية، ومن ثَمّ فرض آرائهم بالأسلوب نفسه، وقد ثبت أن
ذلك (قبض الريح) .
غير أن أدعياء الديمقراطية في عالمنا الثالث عموماً ممن تمسكوا بالسلطة لا
يمكن بحال من الأحوال أن يسمحوا للرأي الآخر الذي يناقضهم في المبادئ ويخالفهم
في المنطلقات.
ولذا نجدهم كثيراً ما يحرصون على تقزيم ذوي الرأي المغاير والتهوين من
شأنهم، بل يعملون جاهدين على حرق أوراقهم تماماً: سواء بتشريع منعهم من
المشاركة الديمقراطية بدعاوى سخيفة، أو بالتلاعب بصناديق الاقتراع من قِبَلِ
السلطات المشرفة على العملية الانتخابية التي لا تستحيي عادة من إعطاء الحزب
الحاكم نسبة الأصوات المطلقة والكافية مما يجعل البقية الباقية أقليات هزيلة تسهم
في رسم الصورة الديمقراطية ليس إلا.
والموقف العلماني في تركيا حيال (حزب الرفاه) شاهد عيان على زيف
ديمقراطية العلمانيين؛ ففي الوقت الذي نال فيه الحزب الأغلبية؛ أصرت الأيادي
الخفية على تنحية الحزب من الوزارة، وها هم المتسلطون بأمرهم يحاكمونه بشتى
الدعاوي لإسقاط الاتجاه الإسلامي وإلغائه كما تشير كثير من المعطيات.
والعجيب أن يستمر هذا النهج بمباركة الغرب الذي كثيراً ما يتدخل في شؤون
الدول الأخرى ويعاقبها بدعوى الخروج على النهج الديمقراطي.
هؤلاء هم ديمقراطيونا الذين يدوسون الديمقراطية باسم الديمقراطية في سبيل
بقاء سلطاتهم.(121/1)
افتتاحية العدد
من يهن يسهل الهوان عليه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن من يتابع مواقف القوى الغربية من الصحوة الإسلامية في كثير من البلدان، يلمس ما يقلق تلك القوى، ويذهل لحساسيتها المفرطة حيال أي توجه إسلامي
مهما كان! وهذه المواقف غير المستغربة لم تأت من فراغ؛ وإنما هي نتيجة
تراكمات تاريخية، ووليدة اتجاهات مقررة سلفاً قام بها نفر من الدارسين
والمستشرقين الذين جعلوا من الإسلام عدواً بديلاً من العالم الماركسي البائد؛ ولا
سيما إذا عرفنا مكانة منطقتنا في سياسة القوم؛ فهناك لدى صناع القرار في
الولايات المتحدة الأمريكية عقدة من التيار الإسلامي؛ ولذلك فهم يعملون جاهدين
للتنفير منه والإساءة إليه ومواجهته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ومن النظريات
السائدة ما يسمى بنظرية (الدومنو) التي يعنون بها أن قيام أي نظام إسلامي في أي
دولة سوف يتبعه سقوط دولة أخرى، وأن المسألة مسألة وقت، ومن هنا نجد
أمريكا تعمل جاهدة للحيلولة دون قيام أي نظام إسلامي في أي دولة؛ لأن ذلك حقيقةً
سيسهم في كشف مكر الغرب، وكيف يستغل الغربيون خيرات الشعوب، وكيف
يستهينون بكرامتهم؛ مع عملهم المتواصل لتثبيت دولة العدو الصهيوني والحرص
على تفوقها في مجال السلاح لتبقى خنجراً في قلب العالم الإسلامي ولحمايتها من أي
ضربة متوقعة؛ مما يفسر إضعاف أي كيان قوي في المنطقة ومحاولة تقزيمه؛ وما
ذلك إلا لصالح ربيبتهم (إسرائيل) .
ومن تلك المواقف المستهترة بكرامة أمتنا محاولاتهم الدائمة لفرض الحصار
على شعوب إسلامية بعينها، وأحدثها: القرار الأمريكي الأخير ضد دولة السودان
بمحاصرتها اقتصادياً بدعاوى تبنيها الإرهاب وعدم احترامها حقوق الإنسان،
والهدف الحقيقي هو تدمير اقتصاد هذا البلد وزعزعة أمنه، وإيجاد الاضطراب
الاجتماعي فيه، ولا سيما بعد استقرار نسبي في اقتصاده مما أفقد البنك الدولي
الحجج المعادية للسودان.
ومثل هذه الدعاوى لم تعد تنطلي على أحد؛ لا سيما وأن السودان استنكرت
تلك الادعاءات ورفضتها؛ والحقيقة خلاف ذلك تماماً؛ لأن علاقة أمريكا بالسودان
طويلة ومعروفة للدارسين؛ فقد ذكر أحد المسؤولين الأمريكيين هذه العلاقة في
تقرير قدمه للكونجرس منذ سنوات؛ فقد أوضح (لافون ووكر) أهمية السودان
ومنطقة القرن الأفريقي بالنسبة لأمريكا؛ حيث ذكر أنها أقطار ذات قيمة إستراتيجية
بالنسبة لأمريكا في سعيها للحفاظ على مصالحها.
ويشكل السودان أهمية لأمريكا؛ ولذا بدأت في أواخر السبعينيات في مساعدته
في التغلب على مشكلاته الاقتصادية، وسمحت لشركات البترول الأمريكية بالقيام
بأعمال التنقيب عن البترول، ولكن الاتجاهات الأخيرة في السودان وتخوّف أمريكا
من امتداد إسلامي يهدد الدول النصرانية المحيطة به جعلتها تحوِّل موقفها نحو
مساعدة حركات التمرد في البلاد مع الامتناع عن إمداد السودان بالأسلحة والمعدات، وإيقاف شركة (شيفرون) عن أعمال التنقيب حتى تحدد مخصصات الجنوب من
عوائد البترول؛ بالإضافة إلى قيام أمريكا بالضغط على مؤسسات التمويل الدولية
لمنعها من تقديم القروض للسودان [1] .
إذن: فالموقف من السودان وحصاره ليس كما قيل بدعاوى تبني الإرهاب
وعدم احترام حقوق الإنسان!
فالإرهاب فكراً وتبنياً وسلوكاً نجده لدى العدو الصهيوني الذي تقوم أمريكا
نفسها بدعمه ليل نهار في اغتصابه للأراضي العربية المحتلة، واستهتاره بحقوق
الإنسان بطرد الفلسطينيين وتهجيرهم وقتلهم بالقنابل المحرمة دولياً، وبضرب لبنان
ليل نهار، ونجد هذا الإرهاب أيضاً لدى صرب البوسنة الذين قتلوا آلاف المسلمين، وشردوا عشرات الآلاف منهم، ولا تكاد توجد أقلية إسلامية في معظم البلدان إلا
وتعاني من الاضطهاد والتمييز العنصري أمام سمع الغرب وبصره!
أما حقوق الإنسان المهدرة في السودان كما يزعمون فقد شهد شاهد من أهلها
يكذب هذه الدعوى؛ فها هو: (ماكنير) عضو مجلس اللوردات البريطاني بعد زيارة
تقصّى فيها الحقائق عن هذا الزعم كشف في تقريره كَذِبَ تلك الدعاوى، ووجه
انتقادات حادة إلى (منظمة التضامن المسيحي) ورئيستها البريطانية: (كوكس) وقال: إن تدخل هذه المنظمة وإثارتها تلك المزاعم ضد السودان هدفها الإثارة، ويأتي
ذلك ضمن حملة عالمية لعزل السودان بهذه الحجة
... ... ... ... ... [الحياة، ع/12683في 20/7/ 1418هـ]
فأين الحقوق الإنسانية المهدرة؟ وهل هي ما يُزعم كذباً وزوراً ضد السودان؟ أم هي ما تقوم به الصهيونية من اعتداءات في الأراضي المحتلة وفي جنوب
لبنان وما يقوم به الصرب في البوسنة ... من قتل الشيوخ والأطفال، وبحصار
شعوب إسلامية أخرى؛ حيث يتعرضون للأمراض؛ وسوء التغذية؟ ! فضلاً عما
يحصل من القتل الجماعي بدون أي رحمة!
أما السودان البلد المسلم الذي أعلن على الأقل ظاهراً إسلاميته واعتزازه بدينه، ورفضه لتسلط الغرب والشرق، ورفضه لكل من يتدخل في شؤونه؛ فلم يقبل
الغرب منه ذلك الموقف؛ لأنه يريد من أمتنا أن تكون تابعة ذليلة له.
وليت أمتنا تعلم حقيقة ما يراد بالسودان، والأهداف الإجرامية الدافعة
لحصاره والتي يراد منها محاولة إسقاطه!
إن في هذا البلد جزءاً كبيراً من منابع النيل وهو العمق الاستراتيجي لمصر
واللحاء الطبيعي لها، ومن يمتلك السودان فإنه يتحكم بمصر وهذا ما يريده (جون
قرنق) الصليبي العميل الذي يريد تنفيذ أهداف أسياده لا سيما إذا عرفنا منطلقاته
الصليبية التي ينادي بها عبر استراتيجيته في الانفصال عن الدولة الأم وإن تظاهر
بخلافها.
ومما يؤسف له أن تتوالى مآسي الشعوب الإسلامية تحت مطرقة النظام
العالمي الجديد، وعالَمُنا الإسلامي ذاهلٌ عما يجري في الواقع!
وكأننا لسنا خير أمة أخرجت للناس!
وكأننا لم نعد في توادِّنا كالجسد الواحد!
وهكذا تهون علينا كرامتنا بعدما هانت علينا مبادئنا!
فمتى نعود إلى رشدنا؟
وإلى متى يستمر هذا الهوان؟
وما أصدق قول الشاعر الحكيم:
مَنْ يَهُنْ يسهل الهوانُ عليهِ ... مَا لِجَرْحٍ بميتٍ إيلامُ
__________
(1) انظر الباحث العربي، العدد (17) ، ص 51 بتصرف.(121/4)
في إشراقة آية
قل هذه سبيلي
محمد بن عبد الله الزغيبي
تستوقفك بعض الآيات في كتاب الله، وتتفكر فيها ملياً، فتتحدر منها الأحكام
والتوجيهات التي تشخِّص الواقع كأنه رأي العين، وكلما قلبت فيها فكرك كما قال
تعالى: [لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ] [ص: 29] ، ازددت منها حكماً ومعاني لا تتوقف.
وترجع إلى كتب التفسير، فتزيدك وتغنيك، وتبتهج نفسك بهذه المعاني الصافية،
ومن هذه الآيات قوله تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
وتجول بناظريك في كل ما كتب عن الدعوة، وفقه الواقع، وضرورة العلم
الشرعي، والبراءة من المشركين، وما رُقم من أصول ودساتير وضوابط في هذا
المضمار، فتجده لا يخرج عن هذه الآية الكريمة.
ولعلنا نقف معها بعض الوقفات:
1- يقول تعالى لنبيه محمد: [قُلْ] للناس، عموم الناس، واجهر بذلك
واصدع به من غير حياء أو تخاذل، بأنها قد لا تروق لجمهور السامعين أو لا
تعجبهم، أو لخشية أن توصم بعد إعلانها بصفة كريهة من أصولية أو تشدد، كلاّ
فاجهر بها وأعلنها كما قال تعالى: [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ]
[الحجر: 94]
2- وتتضمن هذه الآية التأكيد على وضوح سبيل الأنبياء وظهوره، وينبثق
ذلك من الجهر بها بين الملأ، فليست في أنفاق أو سراديب، ويؤكد ذلك باسم
الإشارة، كأن هذا السبيل شيء قريب محسوس، يشار إليه بالبنان، واضح محدد،
لا يلتبس بغيره، وغير قابل للاختلاط والتقارب مع الباطل، بل يدفعه فإذا هو
زاهق.
فسبيل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن قبله الأنبياء، واضح لا لبس فيه، قال ابن كثير عند قوله تعالى: [وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى] [طه: 59] أي
ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء كل
أمرهم بيّن واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج [1] .
ولا بد من هذا الوضوح والظهور في السبيل الذي يسلكه الأنبياء، فلو كان
غامضاً، لكان عسير المنال، صعب الاتباع، والرحمن لا يكلف عباده بمثل هذا.
وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: والله ما مات رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، وأحل الحلال، وحرم
الحرام، ونكح وطلّق، وحارب وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال
يخبط عليها العضاة بمخبطه، ويمدر حوضها بيده بأنصبَ ولا أدأب من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فيكم [2] .
3- وهو سبيل واحد هو الحق ولا سبيل غيره، بل تحيط به سبل كثيرة،
قاطعة عنه، مضطربة مشوّشة، وهو من بينها مستقيم لا اعوجاج فيه؛ فعن عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطّاً، ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال: (هذه سبل
على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. وقرأ: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ) [3]
[الأنعام: 153] .
قال ابن القيم حول هذا الحديث والآية الواردة فيه: (فوحّد سبيله؛ لأنه واحد
لا تعدد فيه، وجمع السبل المخالفة؛ لأنها كثيرة ومتعددة إلى أن قال: والمقصود
أن الطريق إلى الله واحد؛ فإنه الحق المبين. والحق واحد مرجعه إلى واحد، وأما
الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى باطل فهو
باطل) [4] .
وقِفْ قليلاً عند الياء في قوله: [سَبِيلِي] فتلحظ منها قوة ارتباط المتكلم بها
ونسبتها إلى نفسه، وتمسّكه بها، وأنه يعيش ويموت من أجلها، إنه معنىً سامٍ
تتشوق النفوس للتحلي به والموت من أجله، ونسأل الله أن نعيش ونبعث عليه.
وتلمح أيضاً من قوله [سَبِيلِي] أنها سبيلي قبل أن تكون سبيل غيري، فمن شاهد
هذا المعنى أدرك أنه لا بد من سلوكه هو لهذا السبيل والتزامه به قبل دعوة غيره
إليه.
4- والدعوة إلى الله هي تعبيد الناس له وحده، وهي الغاية العظمى في هذا
السبيل، وتدبّر أنها إلى الله لا إلى النفس، ولا إلى الحزب، ولا إلى الشيخ الفلاني
أو الطريقة الفلانية؛ فهي خالية من حظوظ النفس، ومن حظوظ الخلق؛ فهي دعوة
إلى الله، لا إلى نفوس بشرية، أو مناهج أرضية.
ورحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذ يقول في هذا المقام: (التنبيه على
الإخلاص؛ لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه) [*] .
5- وتبرز في هذه الآية حقيقة الاتباع للسبيل النبوي، فها هي أمامنا: أصلها
الدعوة إلى الله وهي على بصيرة؛ وهذا يكفي في التأكيد على الاتباع والتأسي؛
لأننا مأمورون بالاقتداء بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعطف عليه الاتباع
فهم يدعون إلى الله على بصيرة [5] كما يفعل النبي. نعم هذه حقيقة الاتباع، فلا
يكون الرجل من أتباعه حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه، ويكفيك فخراً وشرفاً وثباتاً
على المنهج أنك من أتباع النبي.
ويقول ابن القيم عمن التزم هذا المنهج النبوي: (فهؤلاء خلفاء الرسل حقاً
وورثتهم دون الناس، وهم أولو العلم الذين قاموا بما جاء به علماً وهداية وإرشاداً
وصبراً وجهاداً، وهؤلاء هم الصدِّيقون وهم أفضل أتباع الأنبياء) [6] .
وقال أيضاً: (فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعين إلى الله
على بصيرة؛ فمن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من
أتباعه على الانتساب والدعوى) [7] .
وقال في موضع آخر: (فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وهو على بصيرة وهو من أتباعه. ومن دعا إلى غير ذلك
فليس على سبيله ولا هو من أتباعه [8] .
6- وهي على بصيرة وعلم، وهذه البصيرة هي كل ما تحتاجه في الدعوة
إلى الله سواء كان علماً شرعياً محضاً، أو ما يأمر به الشرع كالعلم بالواقع
والوسائل والأساليب، وهذه البصيرة فريضة من الفرائض فما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، فعلى الداعية أن يكون متبصراً فيما يدعو إليه.
ويتأكد الحرص على التبصّر في الدعوة، بل اتخاذه منهجاً شاملاً لكل مناحي
الحياة، لا سيما في أزمان الفتن والمحن التي صدق فيها قول الشاعر:
يُقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ
قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ معللاً أهمية البصيرة: (لأن العامل
بغير علم وبصيرة ليس من عمله على طائل، بل ربما جاءه الهلاك من جهة عمله،
كالحاطب في ظلماء، والسالك في عمياء، ولا سبيل إلى العمل إلا بالعلم، ومعرفة
صلاح العمل وفساده لا بد منه ولا يدرك إلا بنور العلم وبصيرته) [9] .
وقال أيضاً مفصلاً لهذا المعنى بالمثال في وصية لأهل الأرطاوية: (وأوصيكم
أيضاً بالبصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا أمر الإنسان بأمر من
أمور الخير نظر: فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل وسلامة
في الدين، وكان الأصلح الأمر به، مضى فيه. وإن كان يترتب على ذلك شر
وفتنة وتفريق كلمة، في العاجل والآجل، ومضرة في الدين والدنيا، وكان الصلاح
في تركه، وجب تركه ولم يؤمر به؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح إلى
أن قال: واعلموا أنه لا ينجي عند اختلاف الناس وكثرة الفتن إلا البصيرة، وليس
كل من انتسب إلى العلم وتزيّا بزيّه، يُسأل ويُستفتى، وتأمنونه على دينكم، فلا
تأخذوا عمن هب ودب وحُرِم الفقه والبصيرة) [10] .
7- وتتضمن هذه الآية الإشارة إلى فضيلة من اتبع النبي -صلى الله عليه
وسلم- من الصحابة والتابعين، وأنهم هم القدوة بعده، وأن أقوالهم تأتي في الأهمية
بعد كتاب الله وسنة نبيه.
فإن مَنْ سلفَ: من الصحابة أجمعين، ومن الأتباع المشتهرين بالديانة
والحرص على السنة، يجب الحرص على اتباعهم والنهل من معينهم الصافي؛ فقد
كانوا إلى الحق أقرب، وله أحب، وعليه أحرص. قال عبد العزيز بن أبي سلمة
الماجشون في وصيته لأحد إخوانه بلزوم السنة: (وإن سنة من قَدِم قد عُلِم ما في
خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر قد كفّوا،
وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف، فلئن كان الهدى
ما أنتم عليه، لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع
غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم،
وتلقاه عنهم من اتبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا فيه بما يشفي،
فمَنْ دونَهم مقصّر، ومَنْ فوقَهم مفَرِّط، ولقد قصّر أناس دونهم فجفوا، وطمح
آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم) [11] .
8- ويتأكد في هذه الآية تحميل هذا السبيل وهذه الدعوة إلى الله من يقوم
بأعبائها وينصرها ويرفع رايتها، ويتم توارثها جيلاً بعد جيل حتى تقوم الساعة،
ولنعمل على تهيئة هؤلاء الأتباع، ولنعلم أن الله قد تكفل لنا بذلك، فقد ورد في
الحديث عن أبي عنبة الخولاني قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته) [12] .
وفي الحديث الآخر عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (لا يزال طائفة من أمتي على الحق منصورين لا يضرهم من خالفهم
حتى يأتي أمر الله عز وجل) [13] . وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه
قال: (يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عُدُولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال
المبطلين، وتأويل الجاهلين) [14] .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه موضحاً توارث هذه الأمانة بين من
يحملونها، فقال واصفاً لهم: (أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم
يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب
أشباههم) [15] .
وينبغي التنبيه أنه مع الحرص على إيجاد فئة يحملون هذه الدعوة فإنه لا
عبرة بالقلة والكثرة، أو استجابة الناس وإعراضهم؛ فالقلة ليست دليلاً على
الضعف والإخفاق. قال ابن القيم في شرحه للأثر السابق عن علي رضي الله عنه:
(هذا الصنف أقل الخلق عدداً؛ فإنهم قليلون في الناس، والناس على خلاف طريقهم؛ فلهم نبأ وللناس نبأ، وإياك أن تغتر بما يغتر به الجاهلون؛ فإنهم يقولون: لو
كان هؤلاء على حق لم يكونوا أقل الناس عدداً، والناس على خلافهم ... وقال
بعض العارفين: انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب) [16] .
وكما سبق: فإن الحق لا يعرف بالكثرة؛ وكيف يكون ذلك وقد قال المصطفى
-صلى الله عليه وسلم- في صفة الغرباء: (أناس صالحون قليل في أناس سوء
كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) [17] .
9- وحال من يحمل هذه الدعوة هو كمال التقديس والتعظيم والتنزيه لله
سبحانه وتعالى، فلا خوف إلا منه، ولا محبة إلا له. بل إن غاية الدعوة هي
تنزيه الله وتعظيمه بعبادته وحده لا شريك له.
وفي هذه اللفظة [َسُبْحَانَ اللَّهِ] إيماء إلى التعلق بالله سبحانه وتعالى فمع هذه
الأعباء وهذه التكاليف قد يغفل الداعية عن الاتصال بالله، ويخطئ بأن يبذل وقته
للناس وينسى نفسه، فلا يزودها بما يكفل لها الاستمرار والثبات والصبر، وفي
الغفلة عن الجانب الروحاني تصاب الروح بالجفاف، وتتسم بالرسمية، ويصبح
العمل الدعوي كالعمل الوظيفي الرسمي الرتيب.
10- وفي هذه الدعوة تأكيد على الإخلاص والبراءة من الشرك صغيراً كان
أو كبيراً، والبراءة من المشركين، فلا أنا من المشركين في جميع أنواع التوحيد:
ألوهية وربوبية، وأسماء وصفات، وطاعة، وحاكمية، ولا أنا ممن يطيع
المشركين أو يواليهم أو يقدمهم على طاعة الله، ولا تقارب مع كل كافر سواءً كان
يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو علمانياً أو مادياً أو غير ذلك؛ كما قال الشيخ محمد
بن عبد الوهاب عند هذه الآية: (من أهم مسائل الآية: إبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم ولو لم يشرك) [18] . قال الله تعالى: [وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ]
[الكافرون: 4] . قال ابن كثير: (أي ولا أعبد عبادتكم، ولا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، فتبرأ منهم في جميع ما هم
فيه) [19] .
ومتى حصل انحراف ولو يسير عن هذه الدعوة مع غير المؤمنين بشتى
أصنافهم، فهي ليست دعوة إلى الله، وليست على بصيرة، وفي النهاية: ليست
على سبيل المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، بل سبيله هو دعوة أهل الضلال؛
فإن لم يستجيبوا، فعداوتهم ومحاربتهم والنهي عن الشرك هو الطريق.
وختاماً: فإن تجدد المعاني في هذه الآية يبرز في العمل الميداني من خلالها؛
فكلما تمرس بها الداعية تجددت له بها المعاني؛ فإن الأمر ليس قواعد نظرية
فحسب. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم، 3/146، دار المعرفة.
(2) قال محقق جامع العلوم والحكم، 1/196: مرسل رجاله ثقات، وعزاه لطبقات ابن سعد.
(3) رواه أحمد وغيره، وحسنه الألباني في المشكاة، 10/166.
(4) طريق الهجرتين، 168 169، طبعة دار الحديث.
(*) كتاب التوحيد، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله (5) اختلف المفسرون في عطف [ومن اتبعني] والراجح كما قال ابن القيم: (والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين، فأتباعه هم أهل البصيرة، الذين يدعون إلى الله) الصواعق1/155 نقلاً عن بدائع التفسير 2/477.
(6) مفتاح دار السعادة، ص 85 نقلاً عن بدائع التفسير 2/477.
(7) المدارج 2/482 نقلاً عن بدائع التفسير 2/478.
(8) جلاء الأفهام، ص 249 نقلاً عن بدائع التفسير، 2/478.
(9) الدرر السنية 4/342، الطبعة الأخيرة.
(10) الدرر السنية، 8/82.
(11) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى، 2/48، ت: عثمان الأثيوبي.
(12) رواه أحمد وابن ماجة وقال البوصيري: إسناده صحيح.
(13) رواه مسلم وغيره، وروي من وجوه أخر في الصحاح، وعده بعض العلماء من المتواتر.
(14) يروى مرسلاً وانظر الكلام عليه في مفتاح دار السعادة، 1/197، طبعة دار زمزم.
(15) مفتاح دار السعادة، 1/197.
(16) مفتاح دار السعادة، 1/231 بتصرف.
(17) رواه أحمد والطبراني وغيرهما، وحسنه بعض أهل العلم.
(18) كتاب التوحيد، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
(19) تفسير القرآن العظيم، 4/599.(121/8)
دراسات شرعية
شهر رمضان.. وقفات وأحكام
(2من2)
عبد الله الإسماعيل
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن مسائل مهمة عن الصيام، فأشار إلى حكم
الصيام وحكمته وفضله، وتطرق إلى أحكام الصيام من ثبوت دخوله وشروط
وجوبه وصحة صيامه وفرضه ومفطراته، وفي هذه الحلقة يتابع مساءل أخرى تهم
الصائمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
ثامناً: مسائل القضاء:
1- الحائض والنفساء يجب عليهما القضاء بالإجماع [1] ؛ فعن معاذة رحمها
الله قالت: سألتُ عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا
تقضي الصلاة؟ قالت: أحروريةٌ [2] أنتِ؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. فقالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) [3] .
2- المسافر يجوز له الفطر ولو لم يكن عليه مشقة بالصيام لقوله تعالى
[وَمَن كَانَ مَرِيضاً أََوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أََيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
العُسْرَ] [البقرة: 185] .
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أجد بي
قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟
فقال رسول الله: (هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن
يصوم فلا جناح عليه) [4] .
3- من أفطر متعمداً في رمضان بغير عذر فهو آثم إثماً عظيماً؛ وعليه
التوبة إلى الله، ويجب عليه قضاء ما أفطر على القول الراجح وهو قول الجمهور [5] .
والدليل على وجوب القضاء:
أ - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (من ذرعه
القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقضِ) [6] .
ب - قوله -صلى الله عليه وسلم- للمُجامع في نهار رمضان بعد أن ذكر له
الكفارة: (وصم يوماً، واستغفر الله) [7] .
أما إذا كان الإفطار بالجماع فيجب مع القضاء الكفارة وهي عتق رقبة، فإن
لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لحديث أبي
هريرة رضي الله عنه في الصحيحين.
4- المريض الذي شق عليه الصوم: يجوز له الفطر؛ بل قد يجب إذا ترتب
على صيامه إلحاق ضرر به، ويقضي ما أفطر، ومثله في الحكم الحامل والمرضع
إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما [8] .
5- العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً كالشيخ الكبير والمريض مرضاً لا
يرجى برؤه، فهذا لا يجب عليه الصوم، ويجب عليه أن يطعم مكان كل يوم
مسكيناً، فعن عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنه يقرأ: [وَعَلَى الَذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] [البقرة: 184] ، قال ابن عباس: (ليست بمنسوخة، هو
الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كلّ يوم
مسكيناً) [9] .
6- الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إذا بلغا الهذيان وعدم التمييز، لا يجب
عليهما الصيام ولا الإطعام؛ لسقوط التكليف.
الوقفة الخامسة: سنن الصيام:
1- تأخير السحور؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله
عنه قال: (تسحرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قام إلى الصلاة. قلت:
كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) [10] .
2- تعجيل الفطر لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) [11] .
3- أن يفطر على رطب؛ فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن فعلى ماء.
لحديث أنس رضي الله عنه قال: كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم
يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء) [12] .
4- لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاءٌ عند الإفطار إلا ما جاء
في حديث ابن عمر رضي الله عنه: كان رسول الله إذا أفطر قال: (ذهب الظمأ،
وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله) حديث حسن [13] .
5- أهم السنن وآكدها أكل السحور لقوله: (تسحروا فإن في السحور
بركة) [14] ، وقال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحَر) [15] . ...
6- أن يكون في سحوره تمر لقوله: (نعم سحور المؤمن التمر) [16] .
7- أن يقول لمن سابه أوشاتمه: إني امرؤ صائم.
8- والسنّة في عدد ركعات التراويح أن لا تزيد عن إحدى عشرة ركعة؛
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) [17] ، والزيادة جائزة
لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رجلاً قال: يا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كيف صلاة الليل؟ قال: مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر
بواحدة) [18] .
الوقفة السادسة: زاد الصائم:
ينبغي أن يكون شعار المؤمن في رمضان قوله تعالى: [وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى] [البقرة: 197] ، وأن يقتدي بحال النبي -صلى الله عليه وسلم- في
رمضان كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل،
وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة) [19] .
وإليك أخي المسلم بعض ميادين المسابقة في الخيرات في رمضان:
1- قيام الليل: فلا تخلو ليلة من قيام ليحصل على الأجر الوارد في قوله:
(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) [20] ، وأن يصلي
التراويح مع الإمام حتى ينتهي لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: صُمنا مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي
سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا.
فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل.
فقلت: يا رسول الله: لو نفلتنا قيام هذه الليلة.
قال: فقال: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسبَ له قيام ليلة) .
قال: فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس
فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قال: قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور.
ثم لم يقم بنا بقية الشهر [21] .
وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه ثلاث ليال ولم يخرج الرابعة
خشية أن يفرض عليهم.
وليس معنى ذلك أن يقتصر على صلاة التراويح فقط؛ فإن أمكنه أن يصلي
من آخر الليل وحده فهو من تمام القيام.
2- قراءة القرآن: قال: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً
لأصحابه) [22] .
وقال عليه الصلاة والسلام: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنه
والحسنة بعشر أمثالها) [23] .
3- تفطير الصائمين: قال: (من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا
ينقص من أجر الصائم شيئاً) [24] .
4- العمرة: قال: ( ... فعمرة في رمضان تعدل حجة) وفي رواية: (حجة
معي) [25] .
5- الصدقة: والنصوص في فضلها مستفيضة من الكتاب والسنة، وقد
اختصها الله تعالى؛ فكأن المتصدق يقرض الله؛ ومَنْ أعظمُ وأجزل وفاءً من الله؟
قال تعالى: [مَن ذَا الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ]
[الحديد: 11]
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
(من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه
ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوّه، حتى تكون مثل الجبل) ، وهي من أسباب
دخول الجنة كما قال: (يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) [26] ، واعلم أخي المسلم أن الصدقة لا تنقص المال، كما ثبت من حديث أبي هريرة
مرفوعاً: (ما نقصت صدقة من مال) [27] .
وتأمل معي الحديث التالي: الذي يبين سبب تراجع الكثيرين وترددهم في
الصدقة؛ فعن بريدة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما
يُخرج رجلٌ شيئاً من الصدقة حتى يَفك بها لحيي سبعين شيطاناً) [28] ، وبعد هذا
العرض المؤثر من نصوص الصدقة أدعوك يا أخي ألا تترك أيّ فرصة للصدقة:
على فقير، أو بناء مسجد، أو طبع كتاب، أو غير ذلك، في البيت، أو المسجد،
أو في اللجان الخيرية، حتى تلك الصناديق التي تشاهدها في بعض المحلات
التجارية، ولو أن تضع شيئاً يسيراً لتدحر بها شياطين الجن والإنس، وتكفر
سيئاتك، وتثقل موازينك يوم القيامة، فتراها كالجبال العظيمة، وتفوز كل يوم
بدعاء الملائكة؛ كما ثبت في حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً
خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) [29] .
وما أجمل أن يكون المسلم واسطة خير في الصدقة والزكاة بين الناس ومن
يستحقها. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (الخازن المسلم الأمين
الذي يُنفِّذ ما أُمر به كاملاً موفوراً طيباً بها نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحدُ
المتصدقين) [30] .
محاذير وتنبيهات:
1- يمسك بعض الناس قبل الفجر بوقت (عشر دقائق مثلاً) احتياطاً، وهذا لم
يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه؛ فهو غير مشروع.
2- بعض المؤذنين يحتاط للناس فيؤذن قبل الوقت وهذا خطأ، والصواب أن
يؤذن عند دخول الوقت؛ فهذا هو المشروع، وحتى لا يغتر بأذانه بعض النساء في
البيوت فيصلين قبل الوقت.
3- بعض الناس في رمضان يصلون بعد الأذان بوقت يسير؛ والأوْلى أن
يتأخروا بوقت تطمئن نفوسهم بدخول الوقت؛ فقد ثبت أن عدداً من التقاويم غير
دقيقة وأنها تسبق دخول الوقت بنحو ربع إلى ثلث ساعة.
4- هذا شهر الصيام وبعض الناس يجعله شهر الطعام، فتضيع الأوقات
الطويلة وخصوصاً على المرأة في صنع ألوان الطعام.
5- الحذر من الوقوع في المحرمات وخصوصاً ما يتفنن به شياطين الإنس
من أفلام ومسلسلات.
6- ينبغي على المرأة المسلمة أن تحذر الخروج إلى الأسواق متطيبة، أو
متبرجة، أو بدون حاجة، أو بدون محرم، وكم يتألم المؤمن من امتلاء الأسواق
بالنساء ليالي رمضان وخصوصاً في العشر الأواخر منه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، ص 47.
(2) يقال لمن اعتقد مذهب الخوارج: حروري؛ نسبة إلى حروراء، وهي بلدة قرب الكوفة، وكان أول اجتماع للخوارج بها للخروج على عليّ فاشتهروا بالنسبة إليها، انظر: فتح الباري، 1/502.
(3) أخرجه البخاري، ح/321، ومسلم واللفظ له، ح/335.
(4) أخرجه مسلم، ح/1121.
(5) أخرجه أبو داود، ح/2363، وابن ماجة، ح/1676، وأحمد 2/ 498، والدارقطني وقال: رواته ثقات كلهم، (2/184) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص (1/427) وصححه ابن تيمية في حقيقة الصيام ص 14، وقال أحمد شاكر: (إسناده صحيح) ، (شرح المسند 10/111) وصححه الألباني في الإرواء (4/51) .
(6) أخرجه أبو داود، ح/2376، وابن ماجة بلفظ: (وصم يوماً مكانه) ، ح/1671، ومالك، ح/29 وغيرهم، قال النووي: (رواه البيهقي بإسناد جيد) (المجموع 3/76) وصححه أحمد شاكر في شرح المسند (6/147) والألباني في الإرواء (4/90) .
(7) انظر بداية المجتهد (1/302) .
(8) انظر: مجالس شهر رمضان، ص 33، 36.
(9) أخرجه البخاري، ح/4505.
(10) أخرجه البخاري، ح/922.
(11) أخرجه البخاري، ح/1957، ومسلم، ح/1098.
(12) صحيح أبي داود، ح/2356.
(13) صحيح أبي داود، ح/2357.
(14) أخرجه البخاري، ح/1923، ومسلم، ح/1095.
(15) أخرجه مسلم، ح/1096.
(16) صحيح أبي داود، ح/ 2345.
(17) أخرجه مسلم، ح/738.
(18) أخرجه البخاري، ح/1137.
(19) متفق عليه.
(20) متفق عليه.
(21) صحيح أبي داود، ح/1375.
(22) أخرجه مسلم، ح/804.
(23) صحيح الترمذي، ح/3087.
(24) صحيح النسائي، ح/811.
(25) متفق عليه.
(26) متفق عليه.
(27) أخرجه مسلم، ح/2588.
(28) السلسلة الصحيحة، ح/1268.
(29) أخرجه البخاري، ح/1442.
(30) أخرجه البخاري، ح/1438.(121/14)
دراسات تربوية
الخصومة وفن المصالحة
عبد القادر أحمد عبد القادر
إن الخصومة معركة معنوية، وقد تتحول إلى قتال ... وبداية أقول: إن
الخصومة أمر وارد، ويتكرر كلما دعت الأسباب: كمنافسة، أو حسد، أو صراع
على غنيمة، أو منصب ... إلخ، فكيف تُدار الخصومة؟ وكيف تدار عملية
الإصلاح؟ ألتمس من (فقه الدعوة) هذه المتابعة، والله الهادي.
للخصومة مواضع ومواضيع، بعضها تجب معالجته تواً، أو في وقت لا
يزيد عن ثلاث ليال أو ثلاثة أيام، وبعضها قد يطول، ولكن خير الخصمين هو
الذي يبدأ بالسلام.
وإن لم ينته سبب الخصام، فإنه يجب ألا تتدهور الخصومة إلى خصومة أشد؛ فإن أنواعاً من الاقتتال الدائر الآن على بعض الساحات كانت بدايته خصومة
فردية، ثم اتسعت فصارت جماعية؛ لأنها لم تعالَجْ موضعاً وموضوعاً.
اتصل بي أخ فاضل وقال لي: أرجوك أن تتحرك أنت والأخ ( ... ) لتصلحا
بيني وبين الأخ (....) ! ! فاستحسنت هذا الموقف النادر، في زمن يتعامل فيه
الخصوم بمبدأ (يضرب رأسه في الحائط) ! وقد تحركت حركة خفيفة (بالهاتف)
وتحرك المرشح الثاني لإجراء الصلح ... وتم الصلح بفضل الله.
الخصومات أنواع:
تتراوح الخصومات بين شؤون فردية، أو شؤون جماعية ... فمن
الخصومات الفردية مثلاً:
خصومة بين اثنين (صديقين أو زوجين أو أخوين أو أختين) أو نحو ذلك.
ومن الخصومات الجماعية مثلاً:
خصومة بين قبيلتين أو حزبين أو جماعتين، وقد تكون بين شعبين أو دولتين.
وتندرج تحت كل قسم من الأقسام السابقة أنواع، وسوف نذكر أهم الأنواع
في موضعها بتوفيق الله.
خصومة شخصين، أو خصومات الأفراد:
وهي كثيرة كثرة الأفراد، وندر مَنْ لا يُخاصِم أو يُخاصَم، وسببها تعارض
المصالح، أو تصادم الأهواء؛ فإذا تعارضت المصالح أمكن التوفيق بينها بطريقة
أو بأخرى، أما خصومات تصادم الأهواء، أو تصادم الهوى مع الحق، فتقلّ فيها
احتمالات العلاج، إلا بالرجوع إلى الحق، والتخلص من الهوى.
إن أهواء الأفراد متعددة متنوعة، وهي مطامع الدنيا في الأموال، والمناصب
والشهوات كالمذكورة في قوله تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ] [آل عمران: 14] .
درس من القرآن:
[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ
مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ] [المائدة: 27] .
إنه عرض لدرس في الخصومة الفردية التي تصاعدت حتى وصلت إلى أن
يقتل الأخ أخاه في بيت البشرية الأول، في بيت النبوة! !
دبّت الخصومة بين قابيل وهابيل بشأن مسألة زواج، أيّهما يتزوج الجميلة؟
وأيهما يتزوج الدميمة؟ فاتفقا على أن يقدم كل منهما قرباناً، فأكلت النار قربان
هابيل، وتلك علامة القبول، فتمادى الطرف الشرير الخبيث في خصومته، ونقلها
من الإطار المعنوي إلى الإطار الحسي المادي [قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ] ... وعيد مؤكد
بمؤكديْن هما: (اللام) ، ونون التوكيد الثقيلة ... يقول صاحب الظلال رحمه الله:
(وهكذا يبدو هذا القول بهذا التأكيد المنبئ عن الإصرار نابياً مثيراً للاستنكار؛ لأنه
ينبعث من غير موجب، اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر، شعور الحسد
الأعمى الذي لا يعمر نفساً طيبةً) .
فماذا كان حال الطرف الثاني؟
الوداعة والطيبة، طيبة الظاهر، وطيبة السريرة، يقول سيد قطب رحمه الله: (هكذا في براءة يُرد الأمر إلى وضعه وأصله، وفي إيمان يدرك أسباب القبول،
وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله، وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى
القبول، وتعريض لطيف به، لا يُصرّح بما يخدشه أو يثيره! ثم يمضي الأخ
المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شرّة الشر الهائج في نفس أخيه الشرير،
فيقول له: [لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ] [المائدة: 28] ، وهكذا يرتسم نموذج الوداعة والسلام والتقوى، أمام موقف الشراسة والعدوان والفجور.
لقد كان في هذا القول الليِّن قول الابن الصالح ما يهدئ الحسد، ويسكّن الشر، ويمسح على الأعصاب المهتاجة ... لقد كان في ذلك كفاية، ولكن الأخ الصالح
يضيف إلى ما سبق النذير والتحذير: [إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإثْمِي وَإثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ] [المائدة: 29] .
إذا أنت مددت يدك لتقتلني، فليس من شأني، ولا من طبعي أن أفعل هذه
الفعلة بالنسبة لك، فهذا الخاطر خاطر القتل لا يدور بنفسي أصلاً، ولا يتجه إليه
فكري إطلاقاً، خوفاً من الله رب العالمين لا عجزاً عن إتيانه وأنا تاركك تحمل إثم
قتلي، وتضيفه إلى إثمك ... فيكون إثمك مضاعفاً، وعذابك مضاعفاً [وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ] .
بعد عرض هذا المشهد لخصومة فردين أخَويْن يمكننا استخلاص هذه الفوائد،
تحت عنواننا المختار: (الخصومة وفن المصالحة) .
1- المسلم رباني حتى في أثناء خصومته، وهكذا هو قبل الخصومة وبعدها، يحرص على مرضاة الله، ورضوانُ الله لا يتحقق بمخالفة أمره، أو بالتمادي في
الخصومة أو بتطويرها إلى حالة فجور.
2- عند إظهار الخصومة، يوطّن المؤمن التقي نفسه على أن يبتعد عن الشر
قولاً وعملاً [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [فصلت: 34] .
3- إن كثرة الخصومات تعني وجود خلل عند طرف، أو عند الطرفين، أو
الأطراف في فهم الأمور.
4- في المجتمعات البعيدة عن تعاليم الإسلام محترفو خصومات وصراعات،
وهؤلاء لا تصلحهم المواعظ؛ لأنهم قد عزموا على الطمع، والقطيعة، والعدوان،
ويجب ألا يتغاضى عنهم الدعاة والقضاة وأولو الأمر، ويجب أن يُزجَروا بوسائل
مكافئة.
وإذا كانت خصومة ابني آدم قد انتهت بمقتل الطرف الطيب التقي، إلا أن
اكتمال التشريع ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أوجد فقهاً وطريقة أو أسلوباً
للتصدي لفجّار الخصومات، من ذلك قوله تعالى: [وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ]
[الحجرات: 9]
إن الحركة الإسلامية سواء في إطارها الشعبي أو إطارها التنظيمي مطالبة
بإيجاد آليّة التصدي لفجّار الخصومات على جميع المستويات، وإلا فإن حقبة
التمزق الداخلي في المجتمع الإسلامي سيطول مداها، وستكون إفرازاتها دماً غزيراً
وعزيزاً.
5- لن تزول الخصومات، ولن تنتهي من الوجود البشري، ولكنها ستقل،
وستخف آثارها في ظل المنهج الرباني احتكاماً إليه، وتربية عليه.
6- إذا كان الباعث على الخصومة الطمع في المال، وأمكن لولي الأمر أن
يمنح الطامع، فربما تُعالج الخصومة، وقد سلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك
الطريق. أما إذا كانت الخصومة من أجل منصب، فإن الأمور توزن بمقدار
المصلحة والمفسدة، ثم تُحسم الخصومة دون تغليب الهوى الشخصي، والفقه
الإسلامي في هذا الباب حكيم عظيم.
7- إذا اشتدت الخصومة فلا يصح شرعاً أن تتدهور إلى أكثر من الهجر
ثلاثاً، ويكون الفضل لمن يبدأ بالسلام. فإن بقي سبب الخصومة، وجب على
الخصمين أن ينتقلا إلى التحكيم، ويوطّن كل طرف نفسه على الرضا والتسليم
بالحكم الصادر، وإن خالف الرغبة الشخصية [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً]
[النساء: 65] .
8- إذا لم يكن لدى الطرفين، أو أحدهما على الأقل استعداد للصلح، ضاعت
الأوقات وضاعت الجهود، وعلى المصلحين التثبت من وجود هذه الرغبة بدايةً،
فضلاً عن وجودها في نفوس المصلحين [إن يُرِيدَا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا]
[النساء: 35] .
9- تشتد وطأة الخصومة إذا كان مصدرها الحسد، فإنه نار تحرق الحاسد،
وقد تحرق مَنْ حوله، إنه الحسد الذي دفع ابن آدم إلى قتل أخيه.
إن خصومات كثيرة تخفى أسبابها الحقيقية؛ لأنها آفة القلب الخفيّة، وإن لم
يدركها المصلح فإنه كمن يحرث في الماء، أو من يريد أن يطير بغير جناحين في
الهواء! !
وإذا عُرف السبب بطل العجب، فحينئذ يبدأ المصلح بإطفاء النار، ثم يُتبع
ذلك بتمديد خطوط المحبة، وذلك يحتاج لوقت وجهد قد يطولان، ويكون الصلح
هو البلسم بفضل الله وتوفيقه.(121/20)
من قضايا المنهج
من أجل إنتاجية أفضل
أهمية رسم الأهداف
بقلم: د. عبد الكريم بكار
يعيش العالم المتقدم أزمة حضارة بسبب افتقاده الوجهة أو الهدف الأكبر الذي
يجذب إليه جميع مناشط الحياة، ويمنحها المنطقية والانسجام. أما المسلمون
فأزمتهم الأساسية، هي أزمة حركة في العالم، وأزمة شهود على العصر؛ فهم في
أكثر الأحيان يتأثرون، ولا يؤثرون، ويأخذون من الحياة أكثر مما يعطونها؛ وذلك
بسبب انخفاض إنتاجيتهم، وضعف إدارتهم لإمكاناتهم الشخصية والعامة. نقرأ
آيات الاستخلاف وشروط التمكين في الأرض، وأدبيات النجاح والفلاح، لكنّ
قليلين منا الذين يسألون أنفسهم عن وظيفتهم الشخصية في تحقيق كل ذلك!
إن الأماني الوردية حول قيادة أمتنا للعالم تداعب أخيلة الكثيرين منا، وتدغدغ
مشاعرهم، لكن لا أحد يسأل عن آليات تحقيق ذلك، ولا عن الإمكانات المطلوبة
للسير في طريقه!
إني أعتقد أن هناك حقيقة أساسية غائبة عن أذهان الكثيرين منا، هي أننا لا
نستطيع أن نوجد مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده؛ ولذا فإن النهوض بالأمة يقتضي
على نحوٍ ما أن ينهض كل واحد منا على صعيده الشخصي، وما لم نفعل ذلك،
فإن الغد لن يكون أفضل من اليوم.
إن رسم الأهداف نوع من مدِّ النظر في جوف المستقبل، وإن الله جل وعلا
يحثنا على أن نتفكر في الآتي، ونعمل له: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ
نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [الحشر: 18]
إن المسلم الحق لا يكون إلا مستقبلياً، ولكننا بحاجة إلى أن نعمم روح الالتزام
نحو الآخرة على مسلكنا العام تجاه كل ما يعنينا من شؤون وأحوال.
أهمية وجود هدف:
من الأدوات الأساسية في تحسين وضعية الفرد أن يكون له هدف يسعى إلى
تحقيقه. ونرى أن حيوية وجود هدف واضح في حياتنا تنبع من اعتبارات عديدة،
أهمها:
1- إن كل ما حولنا في تغير دائم، والمعطيات التي تشكل المحيط الحيوي
لوجودنا لا تكاد تستقر على حال، وهذا يجعل كل نجاح نحققه معرضاً للزوال؛
ووجود هدف أو أهداف في حياتنا، هو الذي يجعلنا نعرف على وجه التقريب ما
العمل الذي سنعمله غداً، كما أنه يساعد على أن نتحسس باستمرار الظروف
والأوضاع المحيطة؛ مما يجعلنا في حالة دائمة من اليقظة، وفي حالة من الاقتدار
على التكيف المطلوب.
وقد جرت عادة الكثيرين منا أن يسترخوا حين ينجزون عملاً متميزاً؛ مما
يضعهم على بداية الطريق إلى أزمة تنتظرهم. ولذا فإن الرجل الناجح، هو الذي
يسأل نفسه في فورة نجاحه عن الأعمال التي ينبغي أن يخطط لها، ويقوم بإنجازها؛ فالتخطيط هو الذي يجعل أهمية المرء تأتي قبل الحَدَث. أما معظم الناس فإنهم لا
يفكرون إلا عند وجود أزمة، ولا يتحركون إلا حين تحيط بهم المشكلات من كل
جانب، أي يستيقظون بعد وقوع الحدث، وبعد فوات الأوان!
2- إن وعي كثيرين منا بـ (الزمن) ضعيف، ولذا فإن استخدامنا له في حل
مشكلاتنا محدود. وحين يجتمع الناس برجل متفوق فإنهم يضعون بين يديه كل
مشكلاتهم، ويطلبون لها حلولاً عاجلة متجاهلين عنصر (الزمن) في تكوينها
وتراكمها، وطريقة الخلاص منها. ووجود هدف في حياة الواحد منا يجعل وعيه
بالزمن أعظم، ويجعله يستخدمه في تغيير أوضاعه. إذا سأل كل واحد منا نفسه:
ماذا بإمكانه أن يفعل تجاه جهله بعلم من العلوم مثلاً أو قضية من القضايا؟ فإنه يجد
أنه في الوقت الحاضر لا يستطيع أن يفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك. أما إذا سأل
نفسه: ماذا يمكن أن يفعل تجاهه خلال خمس سنين؟ فإنه سيجد أنه يستطيع أن
يفعل الكثير؛ وذلك بسبب وجود خطة، واستهداف للمعالجة، وهما دائماً يقومان
على عنصر الزمن. إني أعتقد أن كثيراً من الخلل المنهجي في تصور أحوالنا،
وحل أزماتنا، يعود إلى ضيق مساحة الرؤية، ومساحة الفعل معاً، وذلك كله
بسبب فقد النظر البعيد المدى.
3- إن كثيراً من الناس يظهرون ارتباكاً عظيماً في التعامل مع (اللحظة
الحاضرة) وذلك بسبب أنهم لم يفكروا فيها قبل حضورها، فتتحول فرص الإنجاز
والعطاء إلى فراغ قاتل ومفسد؛ وهذا يجعلنا نقول: إننا لا نستطيع أن نسيطر على
الحاضر، ونضبط إيقاعه، ونستغل إمكاناته، إلا من خلال مجموعة من الآمال
والأهداف والطموحات، وبهذا تكون وظيفة الهدف في حياتنا هي استثمار اللحظة
الماثلة على أفضل وجه ممكن.
إني أتجرأ وأقول: إن ملامح خلاص جيلنا، والجيل القادم على الأقل من
وهن التخلف والانكسار قد تبلورت في أمرين: المزيد من الالتزام بالمنهج الرباني، والمزيد من التفوق، ولا نستطيع أن نجعل هذين الأمرين حقيقة واقعة في حياتنا
من غير تحديد أهداف واضحة.
سمات مطلوبة في الهدف:
1- المشروعية:
إن مجمل أهداف المرء في الحياة، يعادل على نحو تام (استراتيجية) العمل
لديه، ولذا فإن الذين لا يأبهون لشرعية الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها يحيون
حياة مضطربة ممزقة، تختلط فيها عوامل البناء مع عوامل الهدم، وينسخ بعضُها
بعضَها الآخر. إن الهدف غير المشروع، قد يساعد على تحقيق بعض النمو في
جانب من جوانب الحياة، لكنه يحطّ من التوازن العام للشخصية، ويفجّر في داخلها
صراعات مبهمة وعنيفة. وليس المقصود بشرعية الهدف أن يكون معدوداً في
(المباحات) فحسب، وإنما المقصود أن يكون مندمجاً على نحو ما في الهدف
الأسمى والأكبر الذي يحيا المسلم من أجله على هذه الأرض، ألا وهو الفوز
برضوان الله تبارك وتعالى وهذا يعني أن الأهداف المرحلية والجزئية للواحد منا
يجب ألا تتنافر معه في وضعيتها أو مفرزاتها أو نتائج تفاعلها. ولعل من علامات
الانسجام بينها وبين الهدف الأكبر شعور المرء أنه يحيا (حياة طيبة) وهي لا تولد
من رحم الرخاء المادي، ولا من رحم التمتع بالجاه أو الاستحواذ على أكبر كمية
من الأشياء، وإنما تولد من ماهية التوازن والانسجام بين المطالب الروحية والمادية
للفرد، ومن التأنق الذي يشعر به من يؤدي واجباته.
الهدف المشروع عامل كبير في إيجاد التطابق بين رموزنا وخبراتنا، وهو
إلى ذلك مولِّد لما نحتاجه من حماسة للمضي في الطريق إلى نهايته.
2- الملاءمة:
لكل منا طاقاته وموارده المحدودة، وله ظروفه الخاصة، وله إلى جانب ذلك
تطلعات وتشوّفات؛ ومن الواضح اليوم أن الحضارة الحديثة أوجدت لدى الناس
طموحات فوق ما هو متوفر من إمكانات لتلبيتها، وهذا يؤدي بكثير من الناس إلى
أن يسلكوا طرقاً غير مشروعة لتلبيتها، أو يؤدي بهم إلى الشعور بالعجز والانحسار.
والهدف الملائم، هو ذلك الهدف الذي يتحدى ولا يعجز. ومعنى التحدي دائماً: طلب تفجير طاقات كامنة أو استخدام موارد مهملة، لكنها جميعاً ممكنة. حين
يكون الهدف سهلاً فإنه لا يؤدي إلى حشد إمكاناتنا الذاتية، ولا إلى تشغيل أجهزتنا
النفسية والعقلية، كما لو أننا طلبنا من شخص أن يقرأ في كل يوم ربع ساعة، أو
يستغفر عشر مرات.
في المقابل فإن الهدف الكبير جداً يصد صاحبه عن العمل له، وفي هذا
السياق نرى كثيراً من أهل الخير، يشعرون بالإحباط، ويشكون دائماً من سوء
الأحوال، وتدهور الأوضاع، وهذا نابع من وجود هدف كبير لديهم هو (الصلاح
العام) لكن ليس لديهم أهداف صغيرة، أو مرحلية تصب فيه. إن كل هدف صغير
يقتطع جزءاً من الهدف الكبير، ويؤدي إلى قطع خطوة في الطريق الطويل؛ وعدم
وجود أهداف صغيرة، يجعل الهدف النهائي يبدو دائماً كبيراً وبعيداً، وهذا يسبب
آلاماً نفسية مبرحة، ويجعل المرء يظهر دائماً بمظهر الحائر العاجز. إنه لا يأتي
بالأمل إلا العمل، وقليل دائم خير من كثير منقطع.
3- المرونة:
إن أنشطة جميع البشر، تخضع لعدد من النظم المفتوحة، ومن ثم فإن النتائج
التي نتطلع إلى الحصول عليها، تظل في دائرة التوقع والتخمين. حين يرسم
الإنسان هدفاً، فإنه يرسمه على أساس من التقييم للعوامل الموجودة خارج طبيعة
عمله، وخارج إرادته، وهذه العوامل كثيراً ما يتم تقييمها على نحو خاطئ، كما
أنها عرضة للتغير، بالإضافة إلى أن إمكاناتنا التي سوف نستخدمها في ذلك هي
الأخرى متغيرة؛ ولهذا كله فإن الهدف يجب أن يكون (مرناً) ، أي: له حدود دنيا،
وله حدود عليا؛ وذلك كأن يخطط أحدنا لأن يقرأ في اليوم ما بين ساعتين إلى أربع
ساعات، أو يزور ثلاثة من الإخوة إلى خمسة وهكذا.. هذه المرونة تخفف من
ضغط الأهداف علينا؛ فالناس يشعرون حيال كثير من أهدافهم أنها التزامات أكثر
منها واجبات، والالتزام بحاجة دائماً إلى درجة من الحرية، وسيكون من الضار بنا
تحوّل الأهداف إلى قيود صارمة، وحواجز منيعة في وجه تلبية رغبات شخصية
كثيرة.
4- الوضوح:
هذه السمة من السمات المهمة للهدف الجيد، حيث لا تكاد تخلو حياة أي إنسان
من الرغبة في تحقيق بعض الأمور، لكن الملاحظ أن قلة قليلة من الناس، تملك
أهدافاً واضحة ومحددة، ولذا فمن السهل أن يتهم الإنسان نفسه أو غيره بأنه لم يتقدم
باتجاه أهدافه خطوة واحدة خلال عشرين سنة، مع أنك لا تراه خلال تلك المدة إلا
منهمكاً ومتابعاً بما يعتقد أنه هدف يستحق العناء!
إنه يمكن القول بسهولة: إن كل هدف ليس معه معيار لقياسه وللكشف عما
أنجز منه، وما بقي؛ ليس بهدف. ولذا فإن من يملك أهدافاً واضحة يحدثك دائماً
عن إنجازاته، وعن العقبات التي تواجهه. أما من لا يملك أهدافاً واضحة، فتجده
مضطرباً، فتارة يحدثك أنه حقق الكثير الكثير، وتارة يحدثك عن خيبته وإخفاقه؛
إنه كمن يضرب في بيداء، تعتسفه السبل، وتشتته مفارق الطرق! نجد هذا
بصورة أوضح لدى الجماعات؛ فالجماعة التي لا تملك أهدافاً واضحة محددة، تظل
مشتتة الرأي في حجم ما أنجزته، ولا يكاد خمسة من أبنائها يتفقون في تقويمهم
لذلك! لا يكفي أن يكون الهدف واضحاً، بل لا بد من تحديد توقيت لإنجازه،
فالزمان ليس ملكاً لنا إلى ما لا نهاية، وطاقاتنا قابلة للنفاد. ثم إن القيمة الحقيقية
للأهداف، لا تتبلور إلا من خلال الوقت الذي يستغرقه الوصول إليها، والجهد
والتكاليف التي نحتاجها. ولهذا كله فالبديل عن وضوح الهدف، ووضوح تكاليفه
المتنوعة، ليس سوى العبث والهدر والاستسلام للأماني الخادعة!
إن من أسباب ضبابية أهدافنا أننا لا نبذل جهداً كافياً في رسمها وتحديدها،
وهذا لا يؤدي إلى انعدام إمكانية قياسها فحسب، وإنما يؤدي أيضاً إلى إدراكها
بطريقة مبتذلة أو رتيبة، مما يُفقدها القدرة على توليد الطاقة المطلوبة لإنجازها.
سنعمل الكثير من أجل أهدافنا إذا أدركنا أنه عن طريقها تتم الصياغة النهائية
لوجودنا.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.(121/24)
تأملات دعوية
فرصة سانحة للدعاة
بقلم: عبد الله المسلم
يعتني أهل التجارة بمواسم تدر عليهم ما لا تدره غيرها؛ ولذا تشكل هذه
المواسم مصدراً مهماً من مصادر التجارة، بل إن كثيراً من تجار المسلمين
يحصلون في موسم الحج ورمضان أضعاف ما يحصلونه في غيرهما، وبوّب
البخاري رحمه الله في صحيحه (باب: التجارة أيام الموسم والبيع في أسواق
الجاهلية) .
وإذا كان التاجر قد يضحي بفرص كثيرة حاشا فرص المواسم؛ فالدعاة إلى
الله تبارك وتعالى أوْلى وأحرى بأن يحرصوا على استثمار المواسم واغتنامها في
نشر دعوتهم، وألا يفرطوا فيها؛ وها هو الداعية الأول -صلى الله عليه وسلم-
يستثمر فرصة اجتماع الناس في الحج ليعرض عليهم دعوته، فعن جابر بن عبد
الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على
الناس في الموسم فيقول: (ألا رجل يحملني إلى قومه؛ فإن قريشاً قد منعوني أن
أبلغ كلام ربي) [1] .
وعن ربيعة بن عباد الديلي قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يطوف على الناس بمنى في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: (يا أيها
الناس! إن الله عز وجل يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً) قال: ووراءه رجل
يقول: هذا يأمركم أن تَدَعوا دين آبائكم، فسألت: مَنْ هذا الرجل؟ فقيل: هذا
أبو لهب [2] .
وثمة جوانب ومجالات عدة تفتح أمام الدعاة في رمضان لا تفتح أمامهم في
غيره؛ فالقلوب تصبح أقل قساوة وأكثر قرباً إلى الله تبارك وتعالى منها في غير
رمضان، ولذا نرى الرجل الفاسق المعرض، المسارع في الكبائر تتغير أحواله في
رمضان.
وفي رمضان يكثر مرتادو المساجد أكثر مما في غيره.
وفي رمضان يصبح الناس أكثر إصغاءاً وإقبالاً على الموعظة منهم في غيره.
وفي رمضان يكثر توافد الناس على بيت الله الحرام لأداء مناسك العمرة، مما
يتيح فرصة للخير لأهل البلد الحرام والوافدين عليه، بل يتيح فرصة لكافة الدعاة
في استثمار هذا الجانب ومرافقة من يريدون دعوته لأداء العمرة؛ فيتيح السفر لهم
ما لا يتيحه غيره.
وفي رمضان يقبل الناس على إخراج الزكوات والصدقات فيكون ذلك فرصة
الدعاة في حث الناس وتوجيه الأموال للمصارف المجدية المفيدة، وتعد مشاريع
تفطير الصوّام ميداناً للإحسان إلى الناس ورعايتهم، ويمكن أن يضم لذلك برامج
دعوية وتوجيهية.
ويتيح قدوم المرأة للمسجد في رمضان فرصة لخطاب شريحة واسعة لم يكن
يتيسر خطابها قبل ذلك؛ فثمة فئة واسعة من النساء لا تأتي إلى المسجد إلا في
صلاة التراويح في رمضان.
إن كثيراً من المسلمين يعتنون بالصيام أكثر من غيره ولا يفرطون فيه، بل
إنك ترى فئة كبيرة منهم يصوم وإن كان لا يشهد الصلاة مع المسلمين. والصيام
يكشف عن جوانب مهمة في النفوس من القدرة على الامتثال، والقدرة على ضبط
النفس والسيطرة على شهواتها. وكثرة أسئلة المسلمين عن أحكام الصيام وعنايتهم
بها يكشف جانباً من الخير.
ألا يمكن أن يستثمر ذلك كله في خطاب المسلمين وإقناعهم بأن ثمة جوانب
كامنة في نفوسهم ينبغي أن ينطلقوا منها إلى تصحيح واقعهم؟
إن مثل هذه الفرص ينبغي أن تدعونا إلى توسيع دائرة الخطاب وموضوعه؛
فلا يقتصر على مجرد حث الناس على استثمار رمضان، وتلاوة القرآن، وصلاة
التراويح فقط، فمع أهمية هذه الأمور وضرورة الحديث عنها، إلا أن هناك ما لا
يقل عنها أهمية ووجوباً في حياة المسلمين كالتوبة، وإصلاح القلوب، واجتناب
الموبقات، وأداء ما أوجب الله تبارك وتعالى وغير ذلك.
__________
(1) رواه الترمذي، ح/2925، وابن ماجه، ح/201، وأبو داود (4734) .
(2) رواه أحمد، ح/15594.(121/30)
دراسات شرعية
المدح: أنواعه وضوابطه
بقلم: حمود بن جابر الحارثي
المدحُ: نقيضُ الهجاءِ، وهو: حسن الثناء، وقيل: هو الوصف الجميل.
وعدّ المآثر [1] ، وقيل: هو وصف المحاسن بكلامٍ جميل [2] .
والمدّاحون: هم الذين اتخذوا مدح الناس عادةً وجعلوه بضاعةً يستأكلون به
الممدوح ويفتنونه [3] .
ثبت في السنّة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُدِح في الشعر والخطابة
والمخاطبة ولم يمنع المادح كمدح عبد الله بن رواحة رضي الله عنه [4] قائلاً:
إني تفرست في الخير أعرفه ... والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبي ومن يُحرَم شفاعته ... يوم الحساب فقد أزرى به القدر
فثبّتَ الله ما آتاك من حَسَنٍ ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فقال له النبي: وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة [5] .
ومدحه كعب بن زهير رضي الله عنه [6] في قصيدته المشهورة عندما جاء
تائباً مسلماً:
إن الرسول لنور يُستضاء به ... مهندٌ من سيف الله مسلول
في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم ... ببطنِ مكةَ لما أسلموا: زولوا [7]
وبما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهلٌ للمدح، وكل ممدوح من البشر
سواه ناقص. إلا أننا نجده أرشد إلى ما يجوز من المدح، وسد وسائل الإطراء
والغلو التي تؤدي إلى الشرك في مدحه أو مدح غيره، أو تؤدي إلى فتنة الممدوح.
ضابط المدح المباح:
ومن خلال استقراء بعض نصوص السنة في المدح والثناء تتجلى ضوابط
المدح المباح وهي:
1- الصدق: وهو أن يكون الممدوح أهلاً لما يُقال فيه، ولا يتجاوز المادح
الصفات الحقيقية الصادقة في الممدوح.
أما الثناء بما يُعلم حقيقة فهو جائز ومستثنى من التمادح المكروه [8] .
2- التوسط في المدح وعدم المبالغة ومجاوزة الحد:
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- اصطفاه ربه بالرسالة، وهو أفضل خلقه،
وهو أهل لكل مدح إذا لم يتجاوز التأدب مع الله؛ ومدح الرسول -صلى الله عليه
وسلم- لا يتعدى كونه بشراً رسولاً، تشرّف بالعبودية لله، وبَلّغ ما كُلّفَ به بلاغاً
كافياً، فمنع المبالغة في إطرائه ورفعه أعلى من بشريته.
روى الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال: (سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تطروني كما أطرت
النصارى ابن مريم. فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) [9] .
وروى أبو داود رحمه الله بسنده عن مُطرِّف [10] قال: (قال أبي: انطلقت
في وفد بني عامر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: أنت سيدنا، فقال:
السيد: الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طَوْلاً [11] ، فقال:
قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) [12] .
هؤلاء أعراب كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكره لهم المبالغة في مدحه، فقال
لهم: تكلموا بما يحضركم من القول ولا تتكلفوه، فيستعملكم الشيطان فيما يريد من
التعظيم للمخلوق بمقدار لا يجوز [13] .
3- الأمن من فتنة الممدوح وحدوث الكبر والاستعلاء والفتور عن العمل
الصالح.
روى الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن أبي بكر رضي الله عنه [14] (أن
رجلاً ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأثنى عليه رجل خيراً، فقال النبي:
ويحك قطعت عنق [15] صاحبك يقوله مراراً إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل:
أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله، ولا يزكي على الله
أحداً) [16] .
فالنهي في الحديث محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الوصف أو
من يُخاف عليه فتنة من إعجاب أو كبر، أما من لا يُخاف عليه ذلك لكمال إيمانه
وعقله فلا نهي في مدحه إذا لم يكن فيه مجازفة [17] .
4- تقييد المدح بقول: (أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً) .
تأدباً مع الله في رد علم السرائر إليه؛ فهو أعلم بمن اتقى. وإنما الأحكام
تجري بالظاهر، والله يتولى السرائر.
المدح المباح:
إذا تحققت ضوابط المدح الآنفة الذكر، فإن الممدوح لا يزداد بها إلا كمالاً،
بأن ينشط في فعل الخير والازدياد منه، أو الدوام عليه. خاصة إذا كان المادح من
ذوي المكانة والحكمة الذين يقدرون الأمور بقدرها ويحرصون على درء المفاسد
وجلب المصالح.
روى الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن سالم [18] عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما قال: (كنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار،
فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت
أقول: أعوذ بالله من النار. قال: فلقيَنا مَلَك آخر، فقال لي: لم ترع. فقصصتها
على حفصة فقصتها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: نعم الرجل
عبد الله لو كان يصلي من الليل. فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً) [19] .
هذا مدح من معلّم الناس الخير -صلى الله عليه وسلم- كانت ثمرته عظيمة
للممدوح؛ حيث أخذ على نفسه عهداً بقيامِ الليل حتى إنه كان لا ينام منه إلا قليلاً.
وليأمن الممدوح من مداخل الشيطان والفتنة والرياء فإنه يدعو بهذا الدعاء:
(اللهم اغفر لي ما لا يعلمون. ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما
يظنون) [20] .
وعليه أن يتحرز من آفة العجب أو الفتور. ويظهر كراهة المدح ويراقب
نفسه.
المدح المذموم:
وهو ما انعدمت فيه ضوابط المدح المباح. فانعدم فيه الصدق، أو صاحبه
النفاق، أو اتّخِذَ مهمةً للتكسب، وزادَ الممدوحَ بطراً وتكبراً وظلماً ورئاءً.
وهذا النوع هو الذي عناه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام
مسلم رحمه الله بسنده عن أبي معمر [21] قال: (قام رجل يثني على أمير من
الأمراء، فجعل المقداد [22] رضي الله عنه يحثي عليه التراب. وقال: أمرنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحثي في وجوه المداحين التراب) [23] .
قال النووي رحمه الله: (حمل المقداد رضي الله عنه هذا الحديث على ظاهره
ووافقه طائفة. وقال آخرون: معناه: حيوهم فلا تعطوهم شيئاً لمدحهم كأنهم من
الذين يتكسبون به وقال آخرون: قولوا له: بفيك التراب) [24] .
وقال الطيبي رحمه الله: (يحتمل أن يراد به: دفعه وقطع لسانه عن عرضه
بما يرضيه من تراب الدنيا استهانة به) [25] .
وقال العلماء في الجمع بين أحاديث الإباحة والنهي: إن كان الممدوح عنده
كمال إيمان ويقين، ومعرفة تامة بحيث لا يُفتن ولا يغتر من ذلك فليس بحرام.
وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور كُرِه مدحه في وجهه كراهة شديدة [26] .
هذا في حق الممدوح.
أما المادح فيتحمل وزر قوله إن كان كاذباً، أو متكسباً، ويؤجر إن كان من
أهل الحكمة والعلم وإرادة الخير بالناس.
آفاتُ المدحِ المذمومِ:
قال الغزالي رحمه الله: في المدح المذموم ست آفات [27] :
أربع على المادح وهي:
1- قد يفرط فيه فيذكره بما ليس فيه فيكون كاذباً.
2- وقد يُظهر له من الحب ما لا يعتقده فيكون منافقاً.
3- وقد يقول له ما لا يتحققه ولا سبيل إلى الاطلاع عليه، فيكون مجازفاً.
4- وقد يُفرِحُ الممدوح وهو ظالم أو فاسق فيكون مناصراً لظالم.
وآفتان على الممدوح:
1- قد يُحدث فيه كبراً وإعجاباً؛ وهما مهلكان.
2- قد يفرح؛ فيفسد عمله، أو يغتر.
أسأل المولى عز وجل أن أكون قد وفقت في بيان بعض جوانب هذا
الموضوع، واستغفره من الزلل والنقصان.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
__________
(1) انظر: لسان العرب ابن منظور، 2/589، 590، تاج العروس، الزبيدي، 7/111.
(2) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، 3085.
(3) عون المعبود شرح سنن أبي داود، شمس حق العظيم آبادي، 13/ 159.
(4) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، شاعر من شعراء الرسول كان أحد النقباء، وشهد بدراً وما بعدها، نذر شعره في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم- والحث على الجهاد، وهو ثالث أمراء جيش مؤتة الذين استشهدوا فيها، وشعره شديد التأثير على النفوس؛ وذلك دليل صدق قائله (انظر: الإصابة ابن حجر، 2/298، أسد الغابة، ابن الأثير، 3/235) .
(5) عبد الله بن رواحة حياته ودراسة شعره، د محمد بن سعد الشويعر، ص 23، دار الرفاعي، الرياض، ط1، 1406هـ.
(6) كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، شاعر مشهور، أهدر دمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسبب قصيدة نال فيها منه ومن أبي بكر رضي الله عنه فكتب له أخوه خبراً يدعوه للمسارعة بالتوبة والإسلام، فجاء متنكراً وأسلم على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن طلب الأمان فأمنه، وقال قصيدته المشهورة في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأهداه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بُردة له (انظر: الإصابة، ابن حجر، 3/279، أسد الغابة، ابن الأثير، 4/475) .
(7) زولوا: هاجروا إلى المدينة من مكة (انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 4/371، شرح قصيدة كعب بن زهير في مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ابن هشام الأنصاري، تحقيق د محمود أبو ناجي، ص 290) .
(8) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، 10 /478.
(9) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها، 4/142.
(10) مُطرِّف بن عبد الله بن الشخير العامري، عابد فاضل ثقة، يكنى بأبي عبد الله حدّث عن أبيه الصحابي وعن جمع من الصحابة مات سنة 95 هـ (وانظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 4/187، تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، ص 534) .
(11) طَوْلاً: فضلاً وعلواً على الأعداء، (انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، 3/145) .
(12) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب كراهة التمادح، 4/255، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/912.
(13) انظر: عون المعبود، شرح سنن أبي داود، شمس الحق العظيم آبادي، 13/161 162.
(14) نفيع بن الحرث الثقفي، لقب بأبي بكرة، لأنه تدلى في بكرة من سور الطائف في حصارها وأتى مسلماً كان من فضلاء الصحابة، سكن البصرة وأنجب أولاداً لهم شهرة، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مات بالبصرة سنة 51 أو 52هـ (انظر: الإصابة، ابن حجر، 3/542) .
(15) قطعت عنق صاحبك: استُعير قطع العنق لهلاك الممدوح في دينه.
(انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 18/127) .
(16) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من التمادح، 7/87.
(17) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 18/126.
(18) سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، إمام زاهد حافظ، يروي عن أبيه وعن أم المؤمنين عائشة وبعض الصحابة أحد الفقهاء السبعة مات سنة 106هـ (انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 4/457، تقريب التهذيب، ابن حجر، ص 226) .
(19) صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل، 2/42.
(20) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، 10/ 478، نقلاً عن البيهقي في الشعب منسوبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(21) عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي، أبو معمر، حدث عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والمقداد، وغيرهم ثقة مات في إمارة عبد الله بن زياد في خلافة يزيد (انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 4/133، تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، ص 305) .
(22) المقداد بن عمرو الكندي، من السابقين للإسلام، وممن أظهر إسلامه، فارس مغوار، تزوج بنت الزبير بن عبد المطلب، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً وما بعدها، مات سنة 33 هـ (انظر: الإصابة، ابن حجر العسقلاني، 3/ 434) .
(23) صحيح مسلم كتاب الزهد باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، 8 /228.
(24) شرح النووي على صحيح مسلم، 18/128.
(25) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، 10/478.
(26) انظر: رياض الصالحين، النووي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ص 565.
(27) انظر: إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، 3/159 160.(121/32)
دراسات دعوية
من فقه الدعاء في قصص الأنبياء عليهم السلام
نموذج موسى عليه السلام من خلال سورة القصص
بقلم: د. مصطفى فوضيل
تمتلئ قصص الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام بالحكم والفوائد والعبر،
كما قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ] [يوسف: 111] .
ولعل أوْلى الناس بالاعتبار هم تلك الصفوة من عباد الله عز وجل التي ذاقت
طعم الإيمان وحلاوته، واستشعروا ثقل الأمانة، فانطلقوا في الناس يرشدون
وينصحون على الرغم مما قد يعترضهم من مضايقة أو بلاء. تلك الصفوة التي
ورثت أمانة الدعوة ووظيفة التبليغ من أولئك الأنبياء الكرام عليهم السلام وهم القدوة
الذين نجد في قصصهم كثيراً من الزاد على هذا الطريق.
وسأقتصر في هذه الخواطر على عنصر من أهم عناصر ذلك الزاد، ألا وهو
الدعاء.
وقد روى ابن ماجه في كتاب الدعاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(إن الدعاء هو العبادة) . ثم قرأ: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]
[غافر: 60] كما أن الحديث سيتركز في هذه المقالة على قصة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام من خلال سورة القصص.
وتتميز قصة هذا النبي الكريم بكونها غنية بالأحداث وتنوعها؛ ولذلك فقد
أخذت حيزاً كبيراً في كتاب الله عز وجل، وذكرت في عدة سور وبعدة أساليب؛
تبعاً لأغراض القرآن في سوره وآياته ومقاطعه.
فقد واجه أطغى الخلق فرعونَ وملأه، ثم تولى قيادة اليهود أمة تعد من أشد
الأمم تفلتاً، وأقساها قلوباً، وإزاء هاتين المهمتين عاش موسى عليه السلام منذ
ولادته حياة حافلة بالبلاء والابتلاء.
أ - ألقي في اليم وهو رضيع! !
ب - وقع في يد فرعون مباشرة وهو في أوج حملته على بني إسرائيل. قال
الراغب في مفرداته: [] يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ [] القصص: 4 [على التكثير، أي: يذبح
بعضهم إثر بعض] .
ج - ولما بلغ أشده وقع له ذلك الحدث المفاجئ حيث قتل أحدَ جنود فرعون،
فخرج من المدينة بعيداً عن فرعون وملئه في هجرة شاقة مضنية.
د - ثم كُلِّفَ بعد فترة من الزمن بالرجوع إلى عدوه فرعون ومواجهة السحرة
في جمع لم يسبق له مثيل، وقد حكى الله عز وجل على لسانهم: [فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ
ثُمَّ ائْتُوا صَفاً] [طه: 64] .
هـ- وبعد الانتصار عليهم ونجاته مع بني إسرائيل من فرعون يدخل موسى
عليه السلام في مرحلة تميزت بالمتاعب التي لا تنتهي في توجيه بني إسرائيل
وسياستهم وتربيتهم وتقويمهم.
موقع الدعاء في منهج موسى عليه السلام: يلحظ المتدبر لهذه القصة في
القرآن الكريم أن الدعاء يمثل عنصراً بارزاً في حياة موسى عليه السلام، وذا أثر
واضح في سيرورة رسالته وتوالي أحداثها وبناء بعضها على بعض.
وكون الدعاء أحد المعاني الكبرى في القصة فإن ذلك يدل على أنه مكون
أساسي من مكونات منهج الرسالة والدعوة والتبليغ عنده عليه السلام، ويكشف في
الوقت نفسه عن جانب مهم في شخصيته الموصولة بالله عز وجل، وعلى العناية
الربانية التي رافقته وقادته إلى النصر والنجاة.
كما أن المتدبر لمجموع نصوص الدعوات التي دعا بها موسى عليه السلام
يجد نفسه أمام فقه عظيم وعلم نفيس. وسأحاول أن نعيش في ظلالهما بما يسر الله
عز وجل بمنه وكرمه.
وسيكون تناولي لمجموع هذه الدعوات مراعياً للترتيب الزمني حسب الأحداث
وتواليها.
ويمكن تقسيم القصة إلى ثلاث مراحل كبرى حافلة بالأحداث والقضايا
والأحوال:
المرحلة الأولى: وتشمل ما بين لحظة الميلاد وزمان التكليم والتكليف.
المرحلة الثانية: وتشمل ما بين التوجه إلى مصر لمواجهة فرعون ولحظة
إهلاكه، ونجاة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل.
المرحلة الثالثة: وتشمل ما بعد النجاة، حيث قيادة بني إسرائيل وتوجيههم
وسياستهم.
أما المرحلة الأولى: فقد شخّصها ابن عباس رضي الله عنهما بقوله حين سأله
سعيد بن جبير عن قوله تعالى مخاطباً موسى عليه السلام: [ ... وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ... ] [طه: 40] ، قال: خلصناك محنة بعد محنة: ولد في عام كان يقتل فيه الولدان
فهذه فتنة يا ابن جبير، وألقته أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطياً،
وأجر نفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفوقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان
يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير) [1] ، وهذه المرحلة وما يتعلق بها من
دعاء ذكرت في سورة القصص بشكل مفصل وواضح.
سياق الأدعية التي دعا بها موسى عليه السلام في سورة القصص: يلاحظ أن
موسى عليه السلام دعا بثلاثة أدعية قبيل خروجه من المدينة إلى حين وصوله إلى
أهل مدين، وقد جاءت إثر ثلاثة أحوال:
الدعاء الأول: قوله: [رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لي] [القصص: 16] ، وقد جاء هذا الدعاء إثر قتله للقبطي: [وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا
فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَذِي مِن شِيعَتِهِ
عَلَى الَذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ
مُّضِلٌّ مُّبِينٌ] [القصص: 15] .
الدعاء الثاني: [رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] [القصص: 21] ، وقد كان
إثر بلوغه خبر المؤامرة على قتله: [وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ
يَا مُوسَى إنَّ المَلأَ يَاًتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ]
[القصص: 20] .
الدعاء الثالث: قوله: [رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]
[القصص: 24] ، وقد جاء إثر الحالة التي آل إليها من التعب والجوع. قال ابن عطية:
(تعرض لسؤال ما يطعمه بقوله: [رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] ، ولم
يصرح بسؤال. هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله. قال
ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع واخضرّ لونه من أكل البقل، وضعُف حتى
لصق بطنه بظهره ورئيت خضرة البقل في بطنه، وإنه لأكرم الخلق يومئذ على الله. وروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدمه. وفي هذا معتبر وحاكم
بهوان الدنيا على الله تعالى) [2] .
من فقه الألفاظ في دعاء موسى عليه السلام: يلاحظ أن موسى عليه السلام قد
قدم بين يدي موضوع طلبه وحاجته بقوله: (ربِّ) : [رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ
لي] ، [رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] ، [رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ] . وهذا التقديم يشير إلى الإيمان الكامل والتوحيد الصافي والتوجه الصادق
والتجرد المطلق من القوة والحوْل؛ فالله عز وجل هو الرب الواحد الذي له الأسماء
الحسنى، ومنها الغفور والغفار الذي منه المغفرة، والمنجي الذي به النجاة،
والرازق والرّزّاق الذي بيده الرزق، وهي أسماء دالة على صفات لا يتصف بها
على التمام والكمال إلا الله عز وجل. ولا نتصور موسى عليه السلام ينطلق بهذه
الكلمة ويصدر بها دعاءه إلا وهو مستشعر لفضل الله عليه فيما مضى من أمره،
متطلع راغب في كرم الله وجوده فيما يستقبل منه.
إجابة الله عز وجل لدعوات موسى عليه السلام: يقول الله عز وجل:
[وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر: 60) ويقول أيضاً: [وَإذَا سَأََلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذََا دَعَانِ] [البقرة: 186] .
والإجابة تكون من الله عز وجل بمقتضى حكمته وعلمه جل جلاله؛ فهو
سبحانه الذي يعلم حقائق الأمور ومآلاتها ويجيب العبد بما يَصلح له في دنياه وأخراه.
والسياق يدل على أن الله استجاب لموسى عليه السلام بما يبين حكمته جل
جلاله، فيلاحظ أنه جاء في الدعاء الأول بعد قوله: [رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ
لي] قوله عز وجل: [فَغَفَرَ لَهُ] .
وجاء في الدعاء الثاني بعد قوله: [رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] قوله:
[فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ]
[القصص: 25] .
وجاء في الدعاء الثالث بعد قوله: [رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]
قوله: [فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا
سَقَيْتَ لَنَا] [القصص: 25] .
بعض التفصيل في هذه الإجابات: الدعاء الأول: [قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لي] . الإجابة: قال سيد قطب رحمه الله: (استجاب الله لضراعته
وحساسيته واستغفاره: [فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] . وكأنما أحس موسى
بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه، أن ربه قد غفر له.
والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء فور الدعاء، حين يصل إرهافه
وحساسيته إلى ذلك المستوى، وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد. وارتعش
موسى عليه السلام وهو يستشعر الاستجابة من ربه، فإذا هو يقطع على نفسه عهداً، يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه: [قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ] [القصص: 17] . فهو عهد مطلق ألا يقف في صف
المجرمين ظهيراً ومعيناً، وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من
صورها، حتى ولو كانت اندفاعاً تحت تأثير الغيظ ومرارة الظلم والبغي. ذلك
بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه، ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله
من قبل) .
ويؤيد ما ذهب إليه سيد قطب أن الله تعالى قال في سورة طه: 40، في
سياق تعداد نعمه عز وجل على موسى عليه السلام: [وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ
الغَمِ] [طه: 40] . قال القاسمي: (أي غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه) [3] .
وأصل النجاة والنجاء: الانفصال من الشيء، والغم الذي هو الكرب أصله
ستر الشيء ومنه الغمام لكونه ساتراً لضوء الشمس. (المفردات للراغب: (نجو
(وغم [. وعلى هذا فكان ما وقع لموسى عليه السلام بسبب قتل القبطي قد ستر
عليه نفسه بما نزل عليها من الكرب والحزن الشديد، فنجاه الله عز وجل من هذا
الغم أي فصله عنه فانكشف ولم يعد له عليه سلطان. ولا شك أن موسى عليه
السلام بقلب المرهف النقي قد أحس بهذا الكرم الرباني العظيم.
الدعاء الثاني:] قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [. الإجابة: يلاحظ أن
الإجابة لم تأت عقب السؤال مباشرة، بل انتقل السياق إلى بيان الوجهة التي اتجه
إليها باحثاً عن الأمان، إلى أن وصل إلى أهل مدين، ووقع له ما وقع من إعانة
المرأتين بالسقي لهما واستدعاء أبيهما له:] فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لا
تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [فجاء الجواب على لسان أبيهما ويقال إنه شعيب
عليه السلام، وقد حكى كثير من المفسرين أن مدين كانت خارج سلطان فرعون،
مما يدل على أنه دخل في أرض الأمان.
وها هنا فوائد:
1- أنه عندما سأل النجاة لم يلزم مكانه ينتظر الإجابة بل توكل على الله عز
وجل، وانطلق يلتمس سبيل النجاة، وهذا ما يومئ إليه قوله تعالى:] وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [] القصص: 22 [قال ابن
عطية: (كان موسى لا يعرف تلك الطريق ولم يصحب معه أحداً فركب مجهلتها
واثقاً بالله تعالى ومتوكلاً عليه) ثم قال: (ولما خرج موسى عليه السلام فاراً بنفسه
منفرداً حافياً لا شيء معه رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوه من الزاد وغيره؛
فأسند أمره إلى الله تعالى وقال:] عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [، وهذه
الأقوال منه تقتضي أنه كان عارفاً بالله تعالى عالماً بالحكمة والعلم الذي آتاه الله
تعالى) .
2- أن قول موسى عليه السلام:] قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [
وقول شعيب عليه السلام:] لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [، يدل على أنهما
يتواصلان عبر لغة واحدة، متفقين على أصول المفاهيم الدالة عليها، وعلى هذا
المنوال قول شعيب بعد ذلك:] سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [
] القصص: 27 [، وقول موسى أيضاً:] وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [
] القصص: 28 [، كل هذا يدل على أنهما يستقيان تلك المفاهيم من مشكاة واحدة!!
3- أن النجاة المذكورة هنا هي في الحقيقة نجاة خاصة بهذه المرحلة بالذات؛
إذ كان موسى عليه السلام في حاجة إلى فترة من الوقت تهدأ فيها نفسه وتستجمع
فيها قوته، استعداداً للمرحلة القادمة، وهي أشد وأهول. والقرآن لم يقف طويلاً
عند الفترة التي قضاها في أهل مدين، ولم يذكر شيئاً من أحداثها، والظاهر أنها
تميزت بالهدوء والخلوة والتفكر مما يكون غالباً مصاحباً لرعي الغنم.
أما النجاة العامة الكبرى فهي التي ستتحقق في المرحلة القادمة الحاسمة،
بالفصل النهائي بين موسى ومن آمن به وبين فرعون وملئه، وذلك بعد تخليص
بني إسرائيل من ظلم فرعون وإهلاك هذا الطاغية الخبيث أمام أعينهم وهم
ينظرون!!] فَلَمَّا تَرَاءى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ [] الشعراء: 61 68 [،] وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ فَأََنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأََنتُمْ تَنظُرُونَ [] البقرة: 50 [.
الدعاء الثالث:] رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [. الإجابة: قال
ابن عطية: (في هذا الموضع اختصار يدل عليه الظاهر، قدّره ابن إسحاق:
(فذهبتا إلى أبيهما سريعتين وكانت عادتهما الإبطاء في السقي فحدثتاه بما كان من
أمر الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه، وقيل الصغرى أن تدعوه له
فجاءت على ما في الآية) .
إن تجاوز السياق لهذا التفصيل يومئ إلى سرعة الإجابة؛ وقد حدد القرآن
الكريم غرض المرأة من المجيء:] قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ
لَنَا [] القصص: 25 [. وهذه الدعوة إنما هي في الحقيقة بداية لتكريم رباني عظيم: رزق طيب مبارك، وأمان في ضيافة رجل صالح، وزوجة بارة عاقلة طاهرة
عفيفة، وعمل شريف يناسب روحه السنية التي تشوقت إلى الخلوة والسير في
الأرض سير تفكر وتأمل، تحنثاً وتعبداً وإعداداً من الله تبارك وتعالى له للمواجهة
الحاسمة مع فرعون وملئه! !
__________
(1) الكشاف، 2/537.
(2) المحرر الوجيز، 12/158.
(3) محاسن التأويل، ج11/164.(121/38)
مقال
الله أكبر إنها السنن!
نظرات في الاحتفالات برأس السنة
أبو محمد الأثري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين،
وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين. أما بعد:
فاعلم أخي المسلم رحمنا الله جميعاً أنّ من المصائب العظيمة التي حلّت
بالمسلمين في هذا الزمان: متابعتهم غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم
من أهل الملل الكافرة وتشبههم بهم، حتى تحقّق في غالبنا قول النبي: (لتتبعن سنن
من كان قبلكم حذو القُذة بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضب لدخلتموه) قيل: يا رسول
الله اليهود والنصارى؟ ! قال: (فمن؟) [1] ، أي: فمن أعني غيرهم! . وفي
رواية: (حتى لو أن أحدهم جامع أمه بالطريق لفعلتموه) [2] . الله أكبر إنها السنن.. حتى أصبحنا لا نميز اليوم غالبية المنتسبين للإسلام عن غيرهم، وانقسمت هذه
الغالبية إلى أقسام عديدة:
- قسم: أعرض عن الدين إعراضاً تاماً، واتبع هواه وكان أمره فرطاً؛ فما
عاد يعرف من الدين إلا الاسم، ولا من معالمه إلا الرسم، إما تكبراً واحتقاراً لأهله
وموالاة لأعداء الدين، وإما إعراضاً عنه وانشغالاً بالدنيا وتكالباً على حطامها
الفاني.. وهؤلاء كثرٌ، وهم محسوبون على الإسلام بأسمائهم وأنسابهم، والله
المستعان.
- وقسم ثان: وجد أن نفسه لا تطيق الثبات والتمسك بهذا الدين الذي كان
عليه القرن الأول من صحابة النبي؛ لأن في ذلك الالتزام بالوحيين والعض على
السنة النبوية بالنواجذ، وفيه مرارة قول الحق والصبر عليه؛ ولما لم يقدروا أن
يفعلوا ذلك حاولوا أن يجمعوا بين الإسلام وغيره ليخرجوا لنا إسلاماً عصرياً،
ليوافق بذلك أهواء الذين لا يعلمون ويرضيهم.. فذهبوا يلوون أعناق الآيات
والأحاديث ويحملونها على غير محملها.. ويتشبهون بأصحاب الجحيم من اليهود
والنصارى والمجوس في غالب ما يفعلونه من عاداتهم وهيئاتهم ومعايشهم..
وهؤلاء أيضاً كثر، ولا نشك أنهم من ذلك الغثاء الذي ذكره النبي: (بل أنتم يومئذ
كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل) [3] ، حتى ولو كان كثير منهم يظهر بقالب
الإسلام الظاهري، وربما بمظهر الدعوة والحرص على مصلحتها ومصلحة الدين،
إلا أنهم يستنّون بغير سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهديهم مغاير لهديه..
وأحسب أنهم ليسوا ممن ينتصر الدين بهم، وإن كثروا وامتلأت أقطار الدنيا
بأمثالهم.
- وقسم ثالث: وهم الذين هداهم الله إلى الحق وثبت أقدامهم، فلزموا كتاب
الله عز وجل وما تركهم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الهدى ودين
الحق، لا يفارقونه ولا يبدلونه حتى يلقوه -صلى الله عليه وسلم- على حوضه،
وهؤلاء هم أهل الحق والطائفة المنصورة التي قال فيها النبي: (لا تزال طائفة من
أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [4]
جعلنا الله منهم فهم أهل الفوز والفلاح، وهم أبعد الناس من التشبه بالكفار؛ فهم
المعتزون بدينهم العظيم؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
والقسم الأول: أعاذنا الله منهم هم أهل الخسار والندامة، وأهل الذلة والمهانة، يعيشون بضنك، ويحشرون عمياً، ومآلهم إلى سقر إن لم يبادروا بالتوبة والإنابة
والرجوع إلى الله وتجديد الإيمان.
أما القسم الثاني: فهم الذين أردنا أن نذكرهم بهذه الرسالة، وندعوهم إلى
العودة إلى الله تعالى واتباع صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ونحذرهم من اتباع
الأهواء والتشبه بغير المسلمين؛ ذلك أن أكثر هؤلاء إنما يتبعونهم عن جهل وقلة
بصيرة وضعف في الإيمان، ولا يجدون من يدلهم على الحق أو يهديهم إلى سبيل
الرشاد.
ومن التشبه بالكفار الذي نحن في صدده: الاحتفال برأس السنة أو ما يسمونه
بـ (الكريسماس) : ففي هذا اليوم يحتفل النصارى الذين قال الله تعالى عنهم: [لَقَدْ
كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] [المائدة: 72] . وقال: [لَقَدْ كَفَرَ
الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ] [المائدة: 73] . يحتفلون بهذه المناسبة، ويفترون
فيه زوراً وبهتاناً على المسيح عليه الصلاة والسلام وهو منهم براء؛ حيث يُحدِثون
في هذا العيد من الفواحش والمنكرات ما لا يمت بأي صلة إلى شريعة عيسى أو
غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وتقام السهرات والحفلات المختلطة
التي يتخللها الرقص والغناء وشرب الخمر في كثير من الأحيان.. إلى غير ذلك
مما يحدث فيها من المنكرات التي لا يتسع المقام لعدها. وكل ذلك بزعمهم احتفال
بالمسيح وذكرى ميلاده، والمسيح بريء من كل ذلك به لا يقرّه ولا يرضاه..
وناهيك إشهارهم لعقائدهم الباطلة من ادعاء الألوهية لعيسى عليه السلام الذي سوف
يتبرأ منهم أمام الخلائق كلها يوم القيامة حين يسأله تعالى عن ذلك قائلاً: [يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا
أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [المائدة: 116-117] .
وهذه الافتراءات الباطلة والعقائد الزائفة التي ما أنزل الله بها من سلطان تنفر
منها النفوس الصحيحة والفطر السليمة وحتى الجمادات كالأرض والسماوات
والجبال الصم الصلاب، قال تعالى واصفاً ذلك الموقف: [وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ
وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إداً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ
هَداً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إن كُلُّ مَن فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً] [مريم: 88-95]
فالعجب العجاب من جهال زماننا المنتسبين للإسلام، الذين ذهبوا يتابعون
اليهود والنصارى في كل صغيرة وكبيرة، حتى في هذه المناسبات الفاسدة..
ويزعمون بجهلهم أن التقدم والحضارة يُلتَمسان في متابعة اليهود والنصارى في كل
شيء.. وما ذلك إلا لجهلهم بدينهم، مصدر عزتهم.. حتى سيطر عليهم مركّب
النقص والذلّة، فغدوا إمّعات.. يلهثون وراءهم ويتابعونهم كالعميان في كل شيء،
مع العلم أن من أصول ديننا العظيم؛ مخالفة كل من انحرف عن شريعة الله عز
وجل في كل ما يقدر عليه المسلم من شرائعهم وعاداتهم وأعيادهم.. بل وملابسهم
وطرق أكلهم وكلامهم وهيئاتهم.
وإليكم قليلاً من الأدلة الكثيرة على ذلك.. لنكون على بينة وبصيرة من ديننا
العظيم في زمان يعز فيه الناصحون:
1- قال الله تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] [الجاثية: 18] ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(ثم جعل محمداً -صلى الله عليه وسلم- على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها،
ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف
شريعته) [5] .
2- قال الله تعالى: [وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنَّكَ إذاً
لَّمِنَ الظَّالِمِينَ] [البقرة: 145] . ويقول تعالى عن اليهود والنصارى: [وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ]
[الرعد: 37] . يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية: (وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد ما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ففيه دلالة على أن مخالفتهم مشروعة في
الجملة.
3- قال النبي: (من تشبه بقوم فهو منهم) [6] . والحديث فيه وعيد شديد
على التشبه بغير المسلمين؛ فمن تشبه بالأتقياء والصالحين فهو منهم، ومن تشبه
باليهود والنصارى وغيرهم من الكفار فهو منهم والعياذ بالله. يقول ابن كثير رحمه
الله في شرح هذا الحديث: (ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على
التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعبادتهم وغير ذلك من أمورهم
التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها) [7] .
4- وقال النبي: (إن لكل قوم عيداً، وإن عيدنا هذا اليوم) [8] ، وعندما:
(قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: (ما
هذان اليومان؟) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله: (إن الله قد
أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر) [9] .
5- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (إن الأعياد من جملة الشرع
والمناهج والمناسك، التي قال الله سبحانه: [لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ]
[الحج: 67] ، كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين
مشاركتهم في سائر المناهج؛ فإن الموافقة في جميع العيد، موافقه في الكفر،
والموافقة في بعض فروعه: موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من
أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر؛ فالموافقة فيها موافقة
في أخص شرائع الكفر، وأظهر شعائره. ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي
إلى الكفر في الجملة بشروطه) [10] .
وبعد.. فإن الأدلة في هذه المسألة كثيرة جداً لا يتسع لها هذا المقال، والذي
يريد التفصيل فليراجع الكتاب القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية: (اقتضاء الصراط
المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) وهو كتاب عظيم جدير بالقراءة.
وما ذكرناه من الأدلة، كفاية لطالب الحق ليعلم الضلال والانحراف الذي عليه
كثير من الناس في تشبههم بالكفار وتركهم سنة خير البرية محمد.
وختاماً: فإن الله قد أمرنا بمخالفة الكفار لحكمة جليلة وعظيمة، منها: كي لا
تدخل محبة هؤلاء إلى قلوب المسلمين؛ فهم أعداء الله وأعداء المسلمين، والتوافق
والتشابه في الأمور يولد التآلف والتقارب، ومن ثم الود والحب.
وقد نفى الله عز وجل الإيمان عمن أحب أعداءه المنحرفين عن شرعه فقال
تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ
كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ..] [المجادلة: 22] .
وهذا لا ينافي العدل معهم وحسن معاملتهم ما لم يكونوا محاربين. قال تعالى:
[لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] . [الممتحنة: 8]
ونسأل الله أن يجعلنا ممن يحب من يحبه، ويعادي من يعاديه، ويوالي من
يواليه.. إنه نعم المولى ونعم النصير..
__________
(1) صحيح رواه الإمام أحمد.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) صحيح رواه الحاكم.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق د ناصر بن عبد الكريم العقل،
ص 84/1.
(6) صحيح سنن أبي داود، للألباني.
(7) تفسير ابن كثير في تفسير الآية: 104 البقرة.
(8) رواه البخاري ومسلم.
(9) صحيح سنن أبي داود؛ للألباني.
(10) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق د ناصر بن عبد الكريم العقل،
ص 471/1.(121/44)
دراسات في السيرة النبوية
وقفات مع اليهود
من خلال السيرة النبوية
عبد الله بن محمد الجفير
ما أحوجنا إلى دراسة السيرة النبوية دراسة جادة، وتحقيق مروياتها، وتنقيتها، والتمعن فيها، وربطها بالواقع، واستلهام الدروس والعبر منها؛ فليست سيرة
نبينا وسنته مجرد أحداث وقصص وقعت وانتهت، تقرأ للتسلية، أو التبرك أو
للمعرفة! بل الأمر أكبر من ذلك؛ فقد حفظها الله لنا لتكون لنا نوراً نستضيء به،
ودرباً نسير عليه ونطبقه في واقعنا؛ فالقرآن والسنة هما منهج حياة كاملة مثالية
حتى قيام الساعة. وهذه دعوة أوجهها لعلمائنا وطلبة العلم والدعاة: للعمل على
تبين فقه القرآن والسنة كما أراد الله عز وجل فحياة نبينا محمد من بعثته حتى وفاته
في جميع شؤونه تعتبر الحياة المثالية والقدوة الحسنة للمسلمين جميعاً من رجال
ونساء، وحكام ومحكومين وعامة، وقد أمرنا ربنا عز وجل أن نقتدي به فقال
تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] ، وسنته وطريقه هي الصراط المستقيم والسبيل
الوحيد الذي يجب أن يتبع لتحقيق العبودية لله وللفوز بجنته والنجاة من عذابه، وأن
ما عداه من طرق وسبل هي ضلال وافتراق عن الحق كما قال جلّ وعلا: [وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأنعام: 153] ، وهذا الموضوع لإلقاء الضوء باختصار على كيد
اليهود لهذا الدين منذ أول أمره، ولبيان نقضهم للعهود التي أبرموها مع نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، وكيف عاملهم عليه الصلاة والسلام. ولا أريد أن أتطرق
لتاريخهم الأسود وخستهم وكفرهم وفجورهم؛ فهذا موضوع طويل؛ ولكن أردت أن
أؤكد كذب ما يصرح به اليهود وأذنابهم، وما تبثه وسائل الإعلام هذه الأيام حول
دعاوى السلام معهم، كما أؤكد أن اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، وأن يهود الأمس هم
يهود اليوم، وهم يهود الغد، وكما غدروا بنبينا؛ فإن ما يحدث اليوم هو لعبة من
ألاعيبهم؛ كيف لا وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، ولن يرضوا عنا إلا إذا اتبعنا
ملتهم، كما أؤكد أن الحل معهم إنما هو إعداد العدة لهم وقتالهم وجهادهم وتطهير
الأرض منهم؛ وهذا ما أخبر به بقوله: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول: يا مسلم
يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله؛ إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) [1] ، ونحن موقنون بذلك وهذا ما نؤمن به ونعتقده.
معاهدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود: بعد أن هاجر الرسول -
صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وبعد أن أقام قواعد المجتمع الإسلامي الجديد،
ووضع أسس الوحدة العقائدية والسياسة والنظامية بين المسلمين، رأى -صلى الله
عليه وسلم- أن يقوم بتنظيم العلاقة بمن يسكنون المدينة ومن حولها من غير
المسلمين، وكان همه -صلى الله عليه وسلم- هو توفير الأمن والسلام لهذه الجماعة
المسلمة الناشئة والدولة الفتية. وأقرب من يسكن المدينة ويجاورها هم اليهود،
فاتصل -صلى الله عليه وسلم- بواسطة عبد الله بن سلام رضي الله عنه وهو أحد
أحبار اليهود السابقين والذي أسلم وحسن إسلامه، فدعا اليهود إلى الدخول بهذا
الدين والإقرار أنه النبي المنتظر الذي يجدونه مكتوباً في كتبهم؛ ولكنهم أبوا
ورفضوا وعاندوا حسداً من عند أنفسهم؛ فعند ذلك عقد الرسول -صلى الله عليه
وسلم- معهم معاهدة وكان أهم بنودها:
1- أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
2- أن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
3- أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4- أن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
5- أن النصر للمظلوم.
6- أن اليهود لا يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وهنا وقفة مع هذه المعاهدة وهي إظهار العزة للمسلمين، وأن المرجع عند
الاشتجار إلى الله ورسوله؛ وأن ليس في بنودها أي ضرر يترتب على اليهود
بعكس معاهدة الاستسلام المسماة بمعاهدة السلام التي وقِّعت بين اليهود ومنظمة
التحرير الفلسطينية والتي جُلّ بنودها ضرر وظلم وذلة للمسلمين، وعز ونصر
لليهود؛ فالمرجع في تفسيرها إليهم، وهم الذين يقررون ما يريدون؛ فلا حول ولا
قوة إلا بالله.
اليهود يهددون والرسول -صلى الله عليه وسلم- يحذرهم: بعد هذه المعاهدة
التي عقدها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود حرص كل الحرص على
تنفيذها، ولكن اليهود الذين يحفل تاريخهم بالغدر والخيانة والمؤامرة والتحريش
وإثارة الفتن، وما أن انقضت السنة الأولى من الهجرة النبوية ولاح في الأفق
ظهور الإسلام وعزة أهله حتى نجم النفاق وأخذ المنافقون مع اليهود والمشركين
بالتحزب والتكتل ضد الإسلام والمسلمين. وظهر ذلك جلياً بعد معركة بدر التي
أعز الله بها دينه ونصر نبيه؛ وعند ذلك تفاقم حقد اليهود، واشتد غيظهم وبغيهم،
فجمعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحذرهم مغبة البغي والعدوان. فعن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال لهم:
يامعشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. فقالوا: يا محمد! لا
يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا غماراً لا يعرفون القتال، إنك لو
قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا) .
فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: [قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونََ وَتُحْشَرُونَ إلَى
جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى
كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَاًيَ العَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ] [آل عمران: 12-13] [2]
فكان معنى إجابة اليهود هو الإعلان السافر للحرب، ولكن النبي -صلى الله
عليه وسلم- كظم غيظه وصبر، وصبر معه المؤمنون، وأخذون ينتظرون ما
تتمخض عنه الليالي.
اليهود ينقضون العهد: وما لبث اليهود أن نقضوا ما عاهدوا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبدأت قبائلهم بالغدر قبيلةً قبيلة حتى أجلاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وطهر مدينته منهم. وأول من نقض العهد يهود بني قينقاع وذلك في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر، ثم بني النضير في السنة الرابعة للهجرة بعد غزوة أحد، ثم بني قريظة في السنة الخامسة للهجرة في غزوة الخندق (الأحزاب) .
وتفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: يهود بني قينقاع: كانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم داخل المدينة،
وهم أشجع يهود المدينة وكانوا يعملون بصياغة الذهب وصنع الأواني والحدادة،
وتمثل نقضهم للعهد بأن امرأة مسلمة جاءت بجلب لها، فباعته بالسوق، ومالت إلى
صائغ يهودي لتشتري منه مصاغاً، فجلست وحوله يهود، فعابوا عليها ستر وجهها، وطالبوها بكشفه فأبت ذلك حفاظاً على عفتها وصيانة لعرضها وشرفها إلا أن
أحدهم غافلها وربط طرف درعها من أسفله بطرف خمارها؛ فلما قامت انكشفت
عورتها: فصاحت واكشفتاه! فسمعها رجل مسلم فهب لنجدتها، فرأى ما بها،
فوثب على اليهودي فقتله، فقام يهود فاشتدوا على المسلم فقتلوه، وهبّ رجال من
المسلمين للحادث فاقتتلوا مع اليهود، فعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك
وأنهم غدروا، فسار إليهم بجنود الله، ولما رآهم اليهود تحصنوا بحصونهم، وكان
عدد المقاتلين من اليهود سبعمائة رجل، فحاصرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أشد الحصار وكان ذلك في شوال من السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر، ودام
الحصار خمسة عشر يوماً، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول
الله؛ وكان عليه الصلاة والسلام يريد أن يقتلهم، ولكن المنافق عبد الله بن أبي بن
سلول حليفهم شفع فيهم وتوسط في خلاصهم، وألح في ذلك، فوهبهم له -صلى الله
عليه وسلم-، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة، فخرجوا إلى نواحي الشام؛ فما
لبثوا حتى هلك أكثرهم، فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أموالهم بين
الصحابة، وأخذ الخمس لينفقه فيما أمر الله به، وانتهى بذلك أمر يهود بني قينقاع
نتيجة خيانتهم.
وهنا وقفتان:
1- موقف اليهود من المرأة المسلمة من الدلائل على خستهم وسوء أخلاقهم،
وهذا طبعهم؛ فهم اليوم متغلغلون في وسائل الإعلام المختلفة من سينما ومسرح،
وتلفاز وإذاعة وصحافة؛ وغالب ما تحويه هذه الوسائل هي الدعوة إلى الفحشاء
والإثارة الجنسية، والانحلال، ونبذ الفضيلة، ونشر الدعارة [3] .
2- وحبهم للمادة بل وعبادتهم لها وتسخيرها لمصالحهم وأغراضهم وشهواتهم؛ ففي وقتنا الحاضر أصبحوا قوة كبيرة مسيطرة على اقتصاديات كثير من الدول
وبنوكها وشركاتها (فقد عبر الحاخام اليهودي (راشورون) عن ذلك بقوله: (إذا كان
الذهب هو قوتنا الأولى للسيطرة على العالم فإن الصحافة ينبغي أن تكون قوتنا
الثانية [] 4 [.
ثانياً: يهود بني النضير: وهم حلفاء الخزرج قبل الإسلام، وكانت ديارهم
بضواحي المدينة وكان نقضهم العهد بأنهم تآمروا على قتل النبي؛ وذلك عندما ذهب
إليهم -صلى الله عليه وسلم- في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية
الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأً، وطلب منهم النبي -صلى الله
عليه وسلم- ذلك بناءاً على المعاهدة التي بينه وبينهم، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم!
اجلس هنا حتى نقضي حاجتك. فجلس -صلى الله عليه وسلم- إلى جنب جدار من
بيوتهم ... وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان سوءاً، فتآمروا
على قتله -صلى الله عليه وسلم-، بأن يصعد أحدهم الجدار فيلقي عليه صخرة
كبيرة فتقتله، فنزل جبريل عليه السلام من عند رب العالمين على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يخبره الخبر، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعاً
وتوجه إلى المدينة، ثم لحقه أصحابه فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتهيؤ
لحربهم وكان ذلك في السنة الرابعة بعد غزوة أحد، وأمر اليهود بالخروج،
وتحصنوا بحصونهم، فحاصرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- قرابة خمسة
عشر يوماً، فنزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمرهم عليه
الصلاة والسلام بالخروج من المدينة وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، فبدؤوا
بحمل أمتعتهم، وبدؤوا يخربون بيوتهم بأيديهم، فخرجوا من المدينة إلى خيبر
ذليلين صاغرين نتيجة غدرهم وخيانتهم وفيهم نزلت سورة الحشر فقال تعالى:
] هُوَ الَذِي أَخْرَجَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن
يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ
* وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [
] الحشر: 2، 3 [.
وهنا وقفتان:
1- محاولتهم قتل النبي؛ فهم لا يتورعون عن فعل ذلك؛ لأنهم قتلة الأنبياء
من قبل، والقتل والتصفية الجسدية عندهم شيء طبيعي لمن عارضهم؛ وهذا حالهم
في هذا العصر (فقد نشر الكاتب اليهودي (إيرل برغر) عام 1965م كتاباً بعنوان:
(العهد والسيف) قال فيه: (إن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن
العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معنا؛ ولكن هذا التعاون لن يتحقق إلا
بعد القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم
العربي، وفي مقدمة هذه العناصر رجال الدين المتعصبين!) ] 5 [وما المجازر
التي يرتكبها اليهود في فلسطين إلا شاهد على ذلك.
2- وقوف المنافقين مع اليهود ومناصرتهم: وهذا ديدن المنافقين في كل
زمان، والذين يمثلهم اليوم العلمانيون والمندسون وغيرهم، الذين يعملون لهدم
الإسلام من الداخل وإقصاء أحكام الشريعة عن الواقع، وهم الذين يتولون كثيراً من
أمور المسلمين مع الأسف، ويديرون جل وسائل الإعلام على ما يريدون.
ثالثاً: يهود بني قريظة: وكانوا حلفاء الأوس، وكانت ديارهم بضواحي
المدينة وهم من أشد الناس عداوة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأغلظهم كفراً
به، وكان نقضهم عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق (الأحزاب)
في شهر ذي القعدة في السنة الخامسة للهجرة، وكان الأحزاب من المشركين
يحاصرون المدينة، والمسلمون يشعرون بالخوف؛ فاستغل يهود بني قريظة هذا
الوضع ليهزوا المسلمين من الداخل، فسبّوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
ونقضوا عهده؛ حيث إنهم أعانوا المشركين المحاصرين للمدينة بالطعام والرجال،
وكادت أن تتم لهم خطة وضع المسلمين بين فكي كماشة لولا لطف الله تعالى فبلغ
ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (الله أكبر! أبشروا يا معشر
المسلمين بفتح الله ونصره) ثم التجأ إلى الله بالدعاء، فسلط الله على الأحزاب
المحاصرين للمدينة ريحاً شديدة قلعت خيامهم، وأطفأت نارهم، وكفأت قدورهم،
فارتحلوا صاغرين؛ وصدق الله إذ يقول:] وَرَدَّ اللَّهُ الَذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا
خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِياً عَزِيزاً [] الأحزاب: 25 [.
ثم وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون سلاحهم وعادوا إلى
المدينة، وفي الطريق نزل جبريل عليه السلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: (أوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال ... جبريل عليه السلام: فإن الملائكة لم تضع أسلحتها، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة؛ فإني عامد إليهم
فمزلزل بهم) ] 6 [.
فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤذِّناً فأذّن في الناس: (من كان
سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة) ] 7 [.
ثم تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً؛ وكان عدد المسلمين ثلاثة
آلاف فحاصروا بني قريظة مدة خمس وعشرين ليلة، وطلب منهم النبي -صلى الله
عليه وسلم- النزول فأبوا حتى جهدهم الحصار، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ
رضي الله عنه وأمر -صلى الله عليه وسلم- باعتقال الرجال وأرسل في طلب سعد
ابن معاذ رضي الله عنه ليحكم بهم وكان حليفاً لهم، وكان مصاباً، فأتي به محمولاً، ورضي بنو قريظة بحكمه لاعتقادهم أنه سيخفف عنهم الحكم، وأثناء الطريق أخذ
الأوس يستعطفون سعداً ويلحون عليه بأن يخفف الحكم على بني قريظة فقال رضي
الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فلما وصل رضي الله عنه
إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قوموا إلى سيدكم) فقاموا إليه، فأمره- صلى الله عليه وسلم- أن يحكم فيهم فقال رضي الله عنه: أحكمُ فيهم: أن تُقتل
الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري. فقال رسول الله: (لقد حكمت فيهم
بحكم الله من فوق سبعة أرقعة) ] 8 [.
وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة ناقضي العهود والمواثيق، وقسم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس.
أما سعد بن معاذ رضي الله عنه فقد نزف جرحه ومات رضي الله عنه فقال: (اهتز
عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) ] 9 [.
وفيهم نزل قوله تعالى:] وَأَنزَلَ الَذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن
صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَاًسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ
وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [
] الأحزاب: 26، 27 [.
وهنا وقفة: عندما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنقض يهود بني
قريظة العهدَ قال: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره) ثم التجأ
إلى الله بالدعاء؛ فيا سبحان الله: الأحزاب يحاصرون المدينة وهؤلاء اليهود
والمنافقون يهددون من الداخل، وهذا يؤذن بخطر عظيم على المسلمين؛ ومع ذلك
وفي ظل هذه الظروف الحرجة يستبشر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويعد
الصحابة بقرب الفرج والنصر وقد عمل ما يستطيع، وليس أمامه -صلى الله عليه
وسلم- إلا الدعاء والالتجاء إلى الله؛ ذلك السلاح الذي لا يخطئ كما قيل: (سهام
الليل لا تخطئ ولكن لها أجل، وللأجل انقضاء) فنصره الله عز وجل بجند من
جنده، فسلط على الأحزاب الريح الشديدة التي طردتهم، وانقلبوا صاغرين
مهزومين، وتفرغ المسلمون لهؤلاء الخونة من بني قريظة يتقدمهم جبريل عليه
السلام ليزلزلهم وهذا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوة يقين وإيمان عظيم
بالله وبنصره. ومثال آخر كما في قصة الهجرة والنبي -صلى الله عليه وسلم-
مطارد لا يملك شيئاً؛ ومع ذلك يَعِدُ سراقة بن مالك رضي الله عنه سواري كسرى!
ونحن اليوم نجد أعداء الله قد تكالبوا علينا، واجتمعت كلمتهم على المسلمين،
ونجد من الدعاة والمصلحين من هم مكبلة أيديهم ومحاصرة أفكارهم، والمآسي
والفتن تزداد على المسلمين يوماً بعد يوم حتى جاء اليوم الذي أُعلن فيه صراحة
انتهاء العداوة مع اليهود وقمع كل من يعارض ذلك؛ ولذا فإن أعظم ما يملكه الدعاة
والمصلحون هو الدعاء والتضرع إلى الله والالتجاء إليه، بأن يصلح أحوال
المسلمين، ويبطل كيد أعدائهم مع فعل الأسباب المتيسرة التي نسأل الله أن يبارك
فيها.
وأقول رغم كل ذلك: أبشروا أيها المسلمون؛ فإني والله متفائل؛ فاشتداد
ظلمة الليل تؤذِنُ بطلوع الفجر وقرب الفرج وكما قال تعالى:] حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ
الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ
المُجْرِمِينَ [] يوسف: 110 [، وليكن ذلك دافعاً لنا لمضاعفة الجهود والأعمال في
الدعوة إلى الله على بصيرة، وأن لا نجعل اليأس والقنوط يدب إلى قلوبنا ويقعدنا
نتيجة هذه الأوضاع المؤلمة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب قتال اليهود ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.
(2) أخرج القصة ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل.
(3) انظر لبيان ذلك بالتفصيل في كتاب: النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية، للأستاذ فؤاد الرفاعي.
(4) انظر لبيان ذلك بالتفصيل في كتاب: النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية، للأستاذ فؤاد الرفاعي.
(5) عداء اليهود للحركات الإسلامية، د زياد أبو غنيمة.
(6) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد.
(7) رواه البخاري، ك المغازي، باب غزوة الخندق، ومسلم ك الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو.
(8) رواه البخاري، ك المغازي، باب مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، ومسلم ك الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد والأرقعة: السموات.
(9) رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه، ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه.(121/50)
مرتكزات للفهم والعمل
العُجْبُ وخطرهُ على الداعية
(2 من 2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن مفهوم العجب ومداخله على الدعاة،
وعرّج على التحذير منه مبيناً مظاهره ومخاطره وآثاره وأسبابه وعلاجه؛ من
خلال الحرص على العلم الشرعي، والإقبال على كتاب الله، وتأمّل سير العاملين
النشيطين، والتأكيد على المسؤولية الفردية، وما للدعاة والمربين من دور في ذلك.
-البيان-
حال السلف في الافتقار إلى الله واجتناب العجب: لقد كان حال النبي -صلى
الله عليه وسلم- دوام الافتقار إلى الله، والذل بين يديه، واستمداد العون منه؛
لعلمه بأن (قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد،
يصرفه كيف يشاء) . وقد تمثل افتقاره -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: (اللهم
مصرف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك) [1] يقول ذلك وهو سيّد ولد آدم، الذي
غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بل يصلي حتى تتورم قدماه، ويقول: (أفلا
أكون عبداً شكوراً) [2] ولا يجتمع الافتقار والعجب في قلبٍ أبداً.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يغرس في نفوس أصحابه هذه المعاني،
ويرشدهم إلى دوام التواضع لله والاعتراف بين يدي الله بالتقصير، مهما بلغوا من
منزلة في الإيمان، فهو حينما يطلب منه أبو بكر رضي الله عنه دعاءً يدعو به في
صلاته، يعلمه أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا
أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) [3] .
ويرشدهم أيضاً إلى إظهار الحاجة إلى الله، وطلب العون منه دوماً، فيقول لمعاذ
رضي الله عنه: (يا معاذ! والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، يا معاذ! لا تدعنّ
في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن
عبادتك) [4] .
نعم إنه يعلِّم ذلك صفوة الأمة، وخيرة أصحابه، ولكنه تعليم للأمة كلها على
الصحيح. ثم تأتي ثمرة هذه التربية متجسدة في مواقف خيرة سلف الأمة:
- فأبو بكر رضي الله عنه يقول: (وددت أني شجرة تعضد) .
- وعمر يسأل حذيفة رضي الله عنهما: هل سمّاني لك رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من المنافقين؟
وحينما طُعِنَ وهو خليفة، وجعل يألم، قال له ابن عباس مواسياً: (يا أمير
المؤمنين! ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنت
صحبته، ثم فارقته، وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم
فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صَحبتهم فأحسنت صُحبتهم، ولئن فارقتهم،
لتفارقنهم وهم عنك راضون) . فلم يأخذ عمر بكل هذا الثناء ولا أحس بالعجب
والخيلاء، بل أسند ذلك إلى فضل الله ومنته، فقال: (أما ما ذكرت من صحبة
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورضاه: فإنما ذاك منّ مِنَ الله تعالى منّ به عليّ،
وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه: فإنما ذاك منّ مِنَ الله جلّ ذكره منّ به
عليّ، وأما ما ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي
طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه) [5] . ...
- وعائشة رضي الله عنها لَمّا نزلت براءتها في حادثة الإفك قالت: (والله ما
كنت أظن أن يُنزَل في شأني وحيٌ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم فيّ
بأمر، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم رؤيا
يبرئني الله بها) [6] .
- وهذا مطرِّف بن عبد الله رحمه الله يقول: (لأن أبيت نائماً، وأصبح نادماً، أحب إليّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً) [7] .
ولم يكن هذا حال هؤلاء فحسب، لكنها صفة راسخة من صفات المؤمنين
الصادقين، الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] [المؤمنون: 60] . وقد سألت عائشةُ رضي الله
عنها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية، فقالت: هم الذين يشربون
الخمر ويسرقون؟ فقال: (لا، يا بنت الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون
ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات) [8] .
الفرق بين العجب بالعمل والفرح بالخير والطاعة: كما أن العجب بالعمل
يورث التواكل والتكاسل، فإن احتقار العمل إذا لم ينضبط فإنه يورث أثراً مشابهاً
وهو: الإحباط والملل والسآمة؛ لذا كان للعبد أن يفرح بالحسنة، ويغتبط بالطاعة،
بل إن هذا دليل الإيمان، قال: (من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو
مؤمن) [9] .
ولكن الواجب عليه في هذا الفرح: أن يكون مستشعراً فضل الله عز وجل
ومنته ورحمته وتوفيقه، مثنياً عليه بذلك، لا يرى لنفسه في الانبعاث لذلك العمل
أثراً يعوّل عليه؛ إذ إن الذي منح القدرة والهداية هو الله عز وجل قال عز وجل:
[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] [يونس: 58] .
وأعظم ذلك الفضل نعمة الإسلام والتوفيق للطاعة، (وإنما أمر تعالى بالفرح بفضله
ورحمته؛ لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى وقوتها،
وشدة الرغبة في العلم والإيمان، الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود) [10]
بخلاف الفرح المذموم المقترن باستحضار جهد النفس في العمل، الداعي إلى
العجب والغرور؛ وهذا كالفرق بين الفخر بالنعم والتحدث بها [11] .
من العجب إلى الغرور: يتعلق المعجب بالنعم التي يعيشها، والأعمال
الصالحة التي يؤديها، ثم يمتد إعجابه ليشمل صوراً من شدة الإعجاب (الغرور) ،
ومنها:
أ - تنقّص أعمال الآخرين، وازدراؤها، ورؤيتها دون أعماله [12] .
ب - ادعاء أمور وهمية، وتضخيم بعض القضايا يظنها كبيرة، وليست
كذلك، كمن يعتبر نفسه داعية كبيراً؛ لكونه يحسن التحدث والكلام. أو يرى نفسه
عالماً فقيهاً ويتجرأ غروراً بما عنده من نتفِ علم، أو يعد نفسه مؤهلاً للقيادة، لم
تُعرَف مكانته، ونحو ذلك. وكثير من هذه الصور وما شاكلها داخل في دائرة
التزوير، الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: (المتشبع بما لم يُعطَ
كلابس ثوبَيْ زورٍ) [13] .
ج - العجب بأمور باطلة يظنها حقاً، كغرور العلماء والعباد والمتصوفة
والأغنياء بأجزاء من الدين، يحسبونها الدين كله، ويبنون عليها الرجاء، فمن
العلماء من أحكم العلم وترك العمل، ومنهم من أحكم العلم والعمل وترك الاهتمام
بالقلوب، ومنهم من اشتغل بوعظ الناس وتعليمهم وأهمل حاله، ومنهم من اشتغل
بعلوم الآلة وأعرض من معاني الشريعة، ومنهم من كان حظه من العلم الحفظ بلا
فهم ولا عمل ... ومن العبّاد من غلا وتنطع، ومنهم من وسوس، ومنهم من أفرط
في مراعاة أعمال الظاهر وأهمل أعمال القلوب، ومنهم من حرص على النوافل
على حساب الفرائض ... ومن المتصوفة من اغتر بالزي وترك المجاهدة ومراقبة
القلوب، ومنهم من ادعى علم المعرفة والقلوب، وازدرى علماء الشريعة، ومنهم
من ادّعى حسن الخلق وتصدر لخدمة الزهّاد طلباً للرئاسة ... ومن الأغنياء من
حرص على ما يخلد ذكره من أعمال الخير الظاهرة، كبناء المساجد ونحوها،
ورفضوا ما سواها من أعمال البر الأخرى، ومنهم من ينفق على الفقير الذي ينفعه، ويشكر له معروفه، دون غيره، فهو يرجو الجزاء الدنيوي على نفقته، ومنهم
من يضيق صدره بالزكاة ويخرجها من سيئ ماله ...
وفي كل هذه الأحوال تجد أن نفوس أصحابها تسكن إلى ما يوافق الهوى،
ويميل إليه الطبع، عن شبهة أو خدعة من الشيطان، وترجو بذلك الخير، وتظن
غرورها رجاءً محموداً، غير أن الرجاء المحمود هو ما كان على وجهين:
1- رجاء العاصي التائب؛ الذي يمنعه من القنوط.
2- رجاء الفاتر عن النوافل؛ الذي يبعث فيه النشاط، ويمنعه من الفتور.
فكل رجاء حث على توبة أو تشمير فهو محمود، وكل رجاء أوجب فتوراً
وركوناً إلى البطالة فهو غرور [14] .
والغرور في أسبابه وعلاجه كالعجب، وله من المظاهر والآثار ما للعجب
غالباً.
ويل للمعجب من الكبر: الكبر كما عرفه النبي: (بطر الحق، وغمط الناس)
أي رد الحق، أو رفض قبوله، واحتقار الناس وازدراؤهم، وتنقّصهم. وحريّ
بمن انتفش في نفسه، وأُعجب بعلمه أو عمله أن لا يحتقر علوم الآخرين وأعمالهم
وجهودهم، ويقوده ذلك إلى احتقار ذواتهم وأشخاصهم، ورؤية نفسه فوقهم، فيقع
في الكبر. وهذا يعني أنه سيرد ما لديهم من الحق؛ لأنه تنقّصهم واحتقر ما لديهم؛
سواء عرف أنه الحق، أم لم يعرف؛ إذ لا اهتمام له أصلاً بالنظر فيما لديهم لتمييز
ما فيه من حق وباطل.
فالكبر مرض قلبي من أكثر الأمراض فتكاً بصاحبه، ومن علاماته
الظاهرة [15] : إظهار الترفع على الناس، وحب التصدر في المجالس، والتبختر والاختيال في المشي، والتقعر في الحديث، والاشمئزاز عن أن يرد عليه كلامه، وإن كان باطلاً، والاستخفاف بضعفة المسلمين، والافتخار بالآباء والنسب، والحرص على المدح والتعظيم ومحبة أن يسعى إليه الناس، ولا يسعى إليهم، وأن يقوموا له، ومحبة التقدم على الغير في المشية والجلسة، وإسبال الثياب خيلاء.
وينبغي أن يكون الدعاة أكثر حذراً من الكبر؛ نظراً لكثرة مداخله عليهم من
جهة العلم والعبادة والدعوة والتصدر للإصلاح؛ فهم أحوج الناس إلى التذكير [16] .
ولا عجب؛ إذ قص الله علينا قصة زعيم المتكبرين إبليس الذي أوصله كبره
إلى الطرد من رحمة الله، كما حكى قصة قارون الذي كانت نهاية تكبره خسف
الأرض به. وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على الذي أكل بشماله تكبراً،
فشُلّت يده أو يبست فما رفعها إلى فمه بعدها [17] .
وأبلغُ ما يعظ كتابُ الله عز وجل، فقد بين الله أنه لم يجعل للمتكبرين نصيباً
في الآخرة فقال: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا
فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83] . وأكد النبي -صلى الله عليه وسلم-
هذا المعنى في حق المتكبر فقال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) [18] . كما بين أنه لا يحب المختالين المتكبرين، فقال: [وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] [لقمان: 18] ، وأن المتكبر يطمس الله قلبه فلا يبصر الحق فقال: [كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] (غافر: 35) ، وإنما استحق هذا الجزاء؛ لأنه نازع الله عز وجل في صفة من صفات الكمال، كما في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما ألقيته في النار) [19] .
وتتوالى أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- تحذيراً من الكبر والخيلاء،
ومنها: (من تعظّم في نفسه واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان) [20] .
وللتحرز من الكبر ومدافعته: يجب استشعار نعم الله، وإمكانية زوالها إذا لم
تشكر، وأن ما لم يحصل عليه الإنسان مما عند الناس أضعاف ما عنده، فلِمَ التكبر؟! كما يجب أولاً وأخيراً: السعي في تقوية الإيمان؛ فإن ضعفه سبب المهالك.
فالواجب: تلمس عيوب النفس وأمراض القلوب، وآفات الأعمال، والسعي
الحثيث في علاجها، على نحو الوسائل المتقدمة وغيرها. والله المستعان، وعليه
التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) رواه مسلم، ح/2654.
(2) رواه البخاري، ح/1130.
(3) رواه البخاري، ح/834.
(4) رواه أبو داود، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح/1347.
(5) رواه البخاري، ح/3692.
(6) رواه البخاري، ح/2661، ومسلم، ح/2770، واللفظ له.
(7) السير، ج 4، ص 190.
(8) رواه الترمذي، ح/3175، وانظر السلسلة الصحيحة، ج 1، ص 255.
(9) رواه أحمد، ج 1، ص 18، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 6294.
(10) تفسير السعدي، ص 234.
(11) انظر: الروح، لابن القيم، ص 551.
(12) انظر: آفات على الطريق، ج 1، ص 141، وما بعدها.
(13) رواه مسلم، ح/2129 وانظر عقبات في طريق الدعاة، عبد الله علوان، ج 1، 69.
(14) انظر: موعظة المؤمنين، للقاسمي، ص 299 311.
(15) انظر: تهذيب موعظة المؤمنين، ص 354، وما بعدها.
(16) انظر: عقبات، علوان، ج 1، ص 79.
(17) رواه مسلم، ح/2021.
(18) رواه مسلم، ح/91.
(19) رواه مسلم، ح/2620، وابن ماجه، ح/4175، واللفظ له.
(20) رواه أحمد، ج 2، ص 118، وانظر: صحيح الجامع،.(121/58)
المسلمون والعالم
مأساة هيئة الأمم المتحدة
في ظل النظام العالمي الجديد
بقلم: أحمد بو سجادة
منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة في 24 أكتوبر 1945م، والهيئة خاضعة
لمواقف الدول العظمى عموماً وأمريكا والاتحاد السوفياتي خصوصاً، فإذا ما أراد
الإنسان معرفة موقف الأمم المتحدة من قضية ما، فما عليه إلا أن يعود إلى موقف
أمريكا وروسيا منها، ولكن بعد سقوط المعسكر الشرقي أضحت الهيئة تجسيداً
للسياسة الأمريكية. إن السيطرة اليهودية الأمريكية على هذه الهيئة قديمة ولا تحتاج
إلى برهان، وأما بعد منتصف الثمانينات فالقضية أجلى من الشمس في ضحاها،
فماذا ينتظر العالم من هيئة أكثر من 60% من أعضائها البارزين يهود [1] حتى
التمويل لهذه الهيئة كان بنسبة 75% من الدول الكبرى، وأمريكا وحدها كانت
تساهم بثلث الميزانية الإجمالية منذ إنشائها وحتى عام 1968م. إننا حينما نعرف
هذا لا نستغرب الحقائق الآتية: حتى عام 1992م أصدر مجلس الأمن 69 قراراً
ضد إسرائيل لم ينفذ منها قرار واحد، وخلال أزمة البوسنة والهرسك صدر 63
قراراً، ولم ينفذ منها قرار واحد، ومنذ أزمة كشمير 1947م وحتى الآن صدر
لصالح كشمير 13 قراراً ولم ير قرار واحد منها النور [2] ، وللموضوعية فإننا
نقول: إن دول العالم الثالث في السبعينات خاصة كَوّنَت شبه لوبي داخل الجمعية
العامة للأمم المتحدة، وأصدرت الجمعية بعض القرارات الهامة مثل:
1- إدانة كل أشكال الاستعمار.
2- إدانة التمييز العنصري.
3- اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال التمييز العنصري، وأصدرت في ذلك
قراراً سنة 1975 [3] .
وهذا ما تسبب في غضب أمريكا، فانسحبت من منظمة العدل الدولية 1977م
(مؤقتاً) ومن منظمة اليونيسكو 1974م، وهددت بالانسحاب من منظمة الأغذية
والزراعة (الفاو) ! !
لقد انسحبت أمريكا وبريطانيا من منظمة اليونيسكو؛ لأنهما لا تقبلان المساواة
بالدول الصغيرة، وقد قال المندوب الأمريكي آنذاك: (نحن لم نؤسس الأمم المتحدة
واليونيسكو من أجل هذه المساواة؛ وإذا كنتم مصرِّين عليها فسنحطمها) [4] ، هكذا
وبكل عنجهية.
لقد تكونت لدى أمريكا قناعة بأن نظام هذه الهيئة يجب أن يتغير، وهو الذي
حدث بالفعل مع بداية التسعينات، حتى غدت هيئة أمريكية، تجسد سياستها
الخارجية، وتسوِّغ هيمنتها، وذلك في ظل النظام العالمي الجديد الذي ينبغي أن
يطال كل المؤسسات والهيئات العالمية والإقليمية، فبعد إعلان (بوش) عن النظام
العالمي الجديد، بدأ أثر ذلك يظهر على هيئة الأمم المتحدة؛ إذ استطاعت أمريكا
أن تجمع 111 صوتاً لإلغاء القرار الذي أصدرته الجمعية العامة سنة 1975م الذي
اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وذلك في الجلسة العامة للجمعية
بتاريخ 16/12/1991م.
والأغرب في هذه السابقة هو تصويت معظم الدول الإسلامية لصالح إلغاء
القرار! ! ! لقد خيل لي وأنا أتابع دور الأمم المتحدة في أزمة الخليج الثانية؛ أن
الأمم المتحدة مجرد خلية تابعة للبنتاجون الأمريكي؛ إذ في مدة 4 أشهر أصدر
مجلس الأمن اثني عشر قراراً ضد العراق؛ والغريب في الأمر أن قوات الحلفاء
تجاوزت هذه القرارات القاضية بانسحاب العراق؛ إلى القرارات التي أعدتها
المخابرات الأمريكية (تدمير القوة العسكرية العراقية، تدمير لأسلحة التدمير الشامل، إخضاع العراق للتفتيش والمراقبة) وهذا ما عبر عنه المعلق الإسرائيلي الشهير
(زئيف سيف) في 21/1/1991م: (إن قيام الولايات المتحدة بالقضاء على
التسهيلات النووية التي يملكها العراق يعد تحركاً له مغزى كبير، فهو يعني أن
الرئيس (بوش) لم يعد ملزماً بالأهداف التي أعلن عنها في البداية وهي إخراج
العراق من الكويت، وإعادة النظام الشرعي لهذا البلد، بل أصبح له هدف إضافي
هو تدمير (البنية التحتية التي تنتج أسلحة مدمرة من كيمياوية ونووية
وبيولوجية) [5] ، وهذا ما أكده قائد قوات الحلفاء الأمريكي (شوارزكوف) الذي قال عقب الحرب: لقد خضنا هذه الحرب من أجل إسرائيل! !
إذا كانت الأمم المتحدة لم تدرج هذه الأهداف ضمن قراراتها، فلماذا لم تشجب
وتستنكر على الأقل ما فعله الحلفاء عموماً وأمريكا خصوصاً؟ !
وحسب ميثاق الأمم المتحدة فقد قضى القرار 83 بحصر القيادة العسكرية في
مجلس الأمن دون سواه، إلا أن ما حدث في حرب الخليج هو التخلي عن القيادة
لأمريكا؛ إذ تولى القيادة (شوارزكوف) الذي لم يبلِّغ مجلس الأمن بشيء عن
مجريات الأحداث ولم يرسل إليه تقريراً واحداً [6] ، وكررت الأمم المتحدة بذلك
خطأ عام 1950م [7] نفسه.
وفي مؤتمر مدريد بتاريخ 30/10/1991م لتسوية القضية الفلسطينية، أُسقط
دور الأمم المتحدة، حيث دعي إلى المؤتمر ممثل عن الأمين العام كمراقب صامت
فقط، رغم أن المؤتمر من اقتراح الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 1983م؛
مع العلم أن قضية القدس والدولة الفلسطينية كانا مُغَيّبين عن المفاوضات! !
إن العجيب حقاً أنه بدل أن تعمل أمريكا على تنفيذ القرارات 242، 338
425 القاضية بالانسحاب من جميع الأراضي المحتلة سنة 1967م فقد أرسلت
عشية المؤتمر رسالة إلى إسرائيل جاء فيها: (إن التحديات التي تواجه إسرائيل
تتعلق بأمريكا ذاتها، إننا نعدكم بأن التزامنا بأمن إسرائيل وضرورة التعاون الوثيق
بين بلدينا من أجل تحقيق هذه الحاجات من الأمور المستمرة، وكل من يحاول دق
إسفين بيننا في محاولة المس بهذا الالتزام لا يستطيع أن يفهم العلاقات المتينة
القائمة بين بلدينا وطبيعة أمن إسرائيل) [8] .
ورغم أن الحلفاء في حرب الخليج انتقلوا إلى هناك تحت مظلة الأمم المتحدة، إلا أنهم تخلوا عن تطبيق نص هام من القانون الدولي، والقاضي بعقوبة المعتدي
حتى ولو كان رئيس دولة، وهذا ما لم يحدث وأبقوا (صدام حسين) على رأس حكم
العراق لتحقيق غايات سياسية إيديولوجية، كما سنعرف فيما بعد.
لقد اتضحت الهيمنة الأمريكية على هيئة الأمم المتحدة من خلال مواقفها التي
أيدت فيها أمريكا: في حرب الخليج، وفي العدوان على ليبيا منذ 1986م،
والتدخل في الصومال، وفي هايتي، وعدم الاعتراف باستقلال الشيشان عن
الاتحاد السوفياتي، وفي البوسنة والهرسك، والمضايقات المضروبة على إيران
والسودان واعتبارهما دولتين إرهابيتين، ومن خلال تدعيم الحكومات الديكتاتورية،
كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع الأمم المتحدة، بل تشارك في كثير من الأحيان
لإضفاء الشرعية الدولية على السلوكات الأمريكية، ولهذا قال (شفيق مصري) :
(إن النظام العالمي الجديد لا يتلاءم في معظم مفاصله مع الشرعية الدولية؛ إذ لم
ينطلق أصلاً من قواعدها ولم يلتزم بحدودها، وإنما يحاول أن يكيف بعض آلياتها
لكي تتلاءم مع قواعده وحدوده) [9] وقال أيضاً: (إذا ما علمنا أن هيئة الأمم
المتحدة قد دعيت كمراقب صامت لمؤتمر مدريد، وأنها لم تحضر مطلقاً (مؤتمر
موسكو (أدركنا أن الحديث عن الشرعية الدولية وآلياتها إنما هو خطاب إنشائي لا
أكثر) [10] .
إن منظمة الأمم المتحدة تحت تأثير الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت منبراً
لتسويغ السياسة الأمريكية بل راحت توسع مجالها لتكون في خدمة المصالح
الأمريكية [11] ، ويتجلى ذلك من خلال بعض السلوكات وأبرزها [12] :
أ - إعادة هيكلة دور الأمم المتحدة بالشكل الذي أدى إلى تعظيم مجلس الأمن
على حساب الجمعية العامة وبقية الأجهزة الأخرى؛ ويبدو المكر الأمريكي واضحاً
هنا؛ إذ بعد غياب الفيتو السوفياتي أعطي لمجلس الأمن هذه الأهمية على حساب
الأجهزة الأخرى.
ب - إصدار حكم غريب: في عام 1992م أصدرت المحكمة العليا الأمريكية
حكماً، يقضي بالسماح لأمريكا باختطاف الأشخاص المشتبه فيهم من جميع
الجنسيات، لمحاكمتهم في أمريكا، ورغم خطورة هذا القرار إلا أن الأمم المتحدة
تقف متفرجة وكأن الأمر لا يعنيها، وهذا ما قد يتسبب في أن تحذو بلدان أخرى
حذو أمريكا ليتحول النظام العالمي الجديد الذي تكسبه الأمم المتحدة الشرعية فوضى
عالمية تطال كل الدول، وليس باناما، وليبيا. ولعل بريطانيا وفرنسا بدأتا بتبني
هذا القرار، وهما يطالبان بتسليم المواطنين الليبيين المتهمين في حادث تفجير
طائرة بانام الأمريكية في اسكتلندا! !
ج - تطبيق الشرعية بصورة انتقائية: ففي الوقت الذي نشطت فيه قرارات
الأمم المتحدة في حرب الخليج ضد العراق وليبيا والسودان فترت في قضية البوسنة
والهرسك والشيشان وفلسطين وقبرص، كما سنوضح بعد قليل.
إن حال الولايات المتحدة اليوم هو في قمة الغطرسة التي صوّرها الفرنسي
(جان لاكتور) إذ قال: (إن الأمريكيين يرون أن لديهم الحق المطلق في الهجوم على
أي مكان وفي أي زمان يختارونه وكأن العالم بأجمعه قد أصبح بالنسبة إليهم مجرد
غنيمة للولايات المتحدة تحتم على هذه الأخيرة أن تحكمها وتنظمها طبقاً للمحكمة
العليا الأمريكية، وأن تشرف عليها القوى الأمريكية) [13] .
الحقيقة أن أمريكا تستخدم قوتها وليس وزنها السياسي والحضاري في
المشكلات العالمية؛ وهذا هو المعهود عن السياسة الأمريكية منذ القدم، إلا أن
الجديد في السياسة الأمريكية هو تقنين العنف وصبغه بالشرعية الدولية عن طريق
الأمم المتحدة [14] .
فبعد الانسحاب السوفياتي استطاعت أمريكا السيطرة على أصوات فرنسا
وبريطانيا داخل الأمم المتحدة. أما الصين التي بقيت وحيدة بين الأربعة الكبار فهي
تتعرض للترغيب الأورو أمريكي عن طريق المساعدات الاقتصادية وتزويدها
بالتكنولوجيا المتقدمة؛ وذلك في الوقت الذي تتعرض فيه للترهيب عن طريق
إدانتها بالنسبة للديمقراطية وحقوق الإنسان؛ ولذلك رأينا الأثر الفاتر في موقف
الصين من أزمة الخليج، كما سيطرت أمريكا على أجهزة الأمم المتحدة ولجانها،
وهذا ما يفسر لنا استطاعة أمريكا حمل هيئة الأمم المتحدة على إلغاء القرار رقم
3379 (30) الصادر سنة 1975م والقاضي باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال
العنصرية وذلك في ديسمبر 1991م.
إن ما يكاد يُعتقَلُ له اللسان، في ظل الهيمنة الأمريكية، هو ما تقدم به الأمين
العام بطرس غالي يوم 9 فبراير 1992م في إطار إدخال تعديلات في نظام الأمم
المتحدة، ويتمثل في الشروع فيما نادى به لتكوين (قوة انتشار سريع تابعة للأمم
المتحدة تضم جنوداً مسلحين بأسلحة ثقيلة تحت غطاء (الدبلوماسية الوقائية) لوقف
الأزمات قبل وقوعها) وهذا دعوة للتجسس على الدول المغلوبة من العالم الثالث،
ودعوة صريحة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول؛ لأن قمع الأزمات قبل وقوعها
يتطلب حضوراً مستمراً داخل كل دولة معينة، لتتم مراقبة حركة الأحزاب
والجمعيات والمنظمات؛ وهذا ما يحوِّل دولاً ذات سيادة إلى محميات (أممية) بل
أمريكية في ظل النظام العالمي الجديد، ومثل هذا الإجراء موجه ضد دول العالم
الثالث ليزداد قهرها وفقرها.
ولقد بدأت المعالم؛ فرغم المؤتمرات والندوات والملتقيات في إطار تشكيل
النظام العالمي الجديد فقد كان الجنوب مغيّباً دوماً ولم يخصص له حتى 1% من
الإشغال.
وفي وقت الحرب الباردة كانت معظم الدول، وخاصة دول العالم الثالث،
تناور بين الانحياز مرة لأمريكا ومرة للاتحاد السوفياتي، وحتى دول عدم الانحياز
فقد كانت منحازة في الواقع لإحدى القوتين، وكان الاتحاد السوفياتي يستعمل (حق
النقض) (Veto) .
أما اليوم فقد أضحى الوضع بالغ الخطورة في إطار الهيمنة الأحادية على
الأمم المتحدة التي غدت مؤسسة لتسويغ شرعية نهم التنين الأمريكي الذي لا يشبع؛
وهذا من أخطر سمات النظام العالمي الجديد!
__________
(1) عبد الله التل (خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية) قصر الكتاب، البليدة الجزائر 1989م، ص 216 220، وانظر فؤاد بن سيد عبد الرحمن الرفاعي (النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية) دار الشهاب للطبع والنشر باتنة الجزائر، بدون تاريخ من
ص100- 115.
(2) البيان العدد: 71 ديسمبر 1993م، ص 73.
(3) شفيق المصري (النظام العالمي الجديد) ملامح ومخاطر، ص 15.
(4) محمد خليفة (النظام الدولي بين المقصود والمنشود) ، ص 17.
(5) السياسة الدولية، ع/ 104، نيسان 91، ص 89.
(6) انظر: د شفيق المصري (النظام العالمي الجديد ملامح ومخاطر) ، ص 112.
(7) في تلك السنة قرر مجلس الأمن حماية كوريا الجنوبية وفقاً للمادة 42 بتولي الأمم المتحدة القيادة إلا أنها تخلت عن القيادة للأمريكي (ماك آرثر) فلم يتصل بالمجلس ولم يرسل تقريراً واحداً، ولم يشرك الأمم المتحدة في ظروف الحرب ولو بطرق غير مباشرة.
(8) الدراسات الفسلطينية، ع/8، خريف 1991م، ص288.
(9) شفيق المصري (النظام العالمي الجديد: ملامح ومخاطر) ، ص 125.
(10) المرجع نفسه، ص 126.
(11) لمزيد من التفصيل انظر: د أحمد منصور (قضايا العالم الإسلامي في ظل النظام العالمي الجديد) ، ابن حزم، ط1، 1994م، ص 19- 66 وانظر: د شفيق المصري (النظام العالمي الجديد: ملامح ومخاطر) ، ص 112، 115 وانظر: البيان، ع/71، ديسمبر، 1993م، ص 73 وانظر: محمد خليفة (النظام الدولي بين المقصود والمنشود) ، ص 17 وانظر: أحمد العالم: قراءة أولية لمجلس الأمن رقم 730 الوحدة عدد 90 مارس 1991، ص97 وانظر: أماني عبد الرحمن صالح (الأزمة الكلية الغربية بين القوة الأمريكية ومعضلة البناء العربي) الفكر الاستراتيجي العربي، ع/42 أكتوبر 1992، ص 13- 48 وانظر ميلود المهذبي (الشرعية الدولية من قوة القانون إلى قوة القوة) ، مستقبل العالم الإسلامي، ع/4 خريف 1991م، ص 7، 14 وانظر: د فوزي محمد طايل (مذابح البوسنة والهرسك) أندلس جديدة مرجع سابق، ص 96 97.
(12) انظر: تفصيل ذلك في د حسين توفيق إبراهيم (النظام الدولي الجديد في الفكر العربي) ، عالم الفكر، مرجع سابق، ص 72، 73.
(13) مجلة مستقبل العالم الإسلامي، ع6، بتاريخ ربيع 1992م، ص 134.
(14) مجلة المنطلق، ع 106، شتاء 1994م، ص 112.(121/64)
المسلمون والعالم
أرض سائبة.. وقيادة خائبة
لك الله يا شعب العراق
بقلم: حسن قطامش
نقلت مؤخراً صحيفة (نيويورك تايمز) عن أحد المسؤولين الأمريكيين قوله:
(لقد فعل صدام حسين لترويج سياستنا أكثر مما فعلنا ... بارك الله في صدام) ! !
العائلة التكريتية بصدامها، والبرزاني والطالباني، وأوجلان بأكرادهم،
والخليج، وأمريكا والموساد ولجان التفتيش، ودمشق وأنقرة وطهران بحدودها،
وروسيا والصين وفرنسا باعتراضهم، وأشياء أخرى كثيرة، ترسم صورة الحكاية
الطويلة المريرة والحسابات المتشابكة والمصالح المتداخلة، ويجري هذا كله على
أرض واحدة.. العراق المنكوب بقيادته.
قصة بدأت تفاعلاتها الدرامية المأساوية مع بداية حرب الخليج في العام
1991م، وخسرها صدام في أم المعارك، وصدرت قرارات مجلس الأمن
(المؤمرك) تتوالى على العراق، وفُرض الحصار الجامع المانع، الذي لن يرفع إلا
بشرط واحد: وهو أن تقوم اللجنة الدولية المكلفة بتفتيش العراق (أونسكوم) بتقديم
تقرير نظيف يفيد أن العراق أصبح خالياً من أي أسلحة للدمار الشامل، وما لم تقدم
اللجنة هذا التقرير فإن الحال سيبقى على ما هو عليه حتى إشعار آخر.
وقد مر حتى الآن ست سنوات عجاف على شعب العراق، وما زال صدام في
السلطة، وما زال الحصار مستمراً، وما زالت اللجنة الدولية غير مقتنعة، ويبدو
أنها لن تقتنع، وما زالت شعوب المنطقة تخشى (صدام) وتعيش في حالة من القلق
الدائم من غدر صدام، وما زالت لعبة القط والفأر التي يحسنها صدام وأمريكا
تجري على الأرض المسلمة، فصدام يهدد ويرغي ويزبد ويستأسد، ويرسل
الخطب الرنانة عبر إذاعاته، وترسل أمريكا تعزيزات إلى المنطقة، وتبدأ الجولات
المكوكية للشرح والتفسير وطلب التأييد من قبل الدول المعنية، ثم ... تنقشع الغمة
وتعود المنطقة للمراوحة مكانها.
فإلى متى سيستمر هذا المسلسل الدرامي المأساوي للمسلمين! ؟ متى يرفع
الحصار؟ ومتى يرحل صدام؟ ومتى يطمئن أهل المنطقة على أمنهم وسلامتهم؟
ومتى ترحل الجيوش الأجنبية بلا رجعة؟
هذه الأسئلة وكثير غيرها يدور في الأذهان كلما ثارت ثائرة الثور الهائج، أو
أثاروه لتضطرب المنطقة بأكملها، ولعلنا نقف على بعض المواضيع لسبر غور تلك
الأحاجي.
التطورات الأخيرة: بدأت القصة الجديدة في 11/6/1997م الماضي حين
أعلن مجلس الأمن الدولي بأنه سيتخذ إجراءات عقابية شديدة ضد (النظام) العراقي
إذا لم يبرهن على التعاون مع اللجنة الخاصة، وأعلن المجلس أنه لن يجري أية
مراجعة دورية للعقوبات الدولية على العراق قبل الاستماع إلى التقرير الجديد
لرئيس اللجنة الدولية (ريتشارد بتلر) وقدم التقرير الذي أفاد: أن العراق ما زال
يستخدم كل الأساليب من أجل منع المفتشين من الكشف عن أماكن الأسلحة الممنوعة
وعددها، ومواقع إنتاجها، وتقدمت الولايات المتحدة وبريطانيا وسبع دول أخرى
بصيغة قرار تفرض فيه حظراً على سفر الموظفين العراقيين المسؤولين عن عرقلة
لجنة التفتيش، ومع تواضع هذه العقوبة إلا أنه تبلور حولها اعتراض روسي
صيني فرنسي، ليس لأجل سواد عيون العراق، ولكن للمتأخرات المالية الكبيرة
على العراق لهذه الدول ولحاجتها لبتروله ولسوقه، ومحاولة لاستعادة بعضٍ من
الهيبة التي أفقدتهم إياها أمريكا.
ولهذا الاعتراض أجّلت أمريكا العقوبة ستة أشهر، ثم قام العراق بمنع
المفتشين الأمريكيين العاملين ضمن اللجنة، وقام بطردهم، وجاء على أثرها التهديد
الأمريكي الأخير وقرار مجلس أمنها الدولي رقم 1134، وبدأت الزيارات
الديبلوماسية لمنع الضربة العسكرية التي هددت بها أمريكا.
قصة العقوبات: بعد أن دمرت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة
القوات العراقية، بما ألقته من آلاف الأطنان من القنابل، ورفضت أن ترمي صدام
برصاصة واحدة! ! فرضت حظراً شاملاً على شعب العراق، وقلصت مساحة
الأراضي العراقية، وقسمته إلى أجزاء ثلاثة: الشيعة في الجنوب، والسنة مع
صدام في الوسط، والأكراد في الشمال، وكأن مصطلح (الأكراد) أصبح مذهباً دينياً!! ثم حددت الهدف من العقوبات بأنه: ضمان أمن دول الجوار، وتدمير أسلحة
الدمار الشامل التي يحتفظ بها صدام، وعودة الأسرى الكويتيين، أما صدام فلم يرد
اسمه في قوائم العقوبات البتة على الرغم من أنها شملت الأجنة في بطون أمهاتها،
مروراً برجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ إلى أن تنتهي القائمة عند الموتى الذين منع الحظر
استيراد أكفانهم. وقد مرت ست سنوات على هذه القصة، ولم ينفذ صدام قرارات
مجلس الأمن، ولم يقدم للجنة الخاصة المكلفة بتدمير أسلحة الدمار الشامل القصة
الحقيقية حول برامج تسلحه، وما زالت قضية المفقودين الكويتيين بغير حل، وما
تزال العقوبات سارية المفعول، فلا يسمح للبلد إلا ببيع ما قيمته مليارا دولار كل
ستة أشهر، تذهب منها 600 مليون دولار للجنة التعويضات عن أضرار حرب
الخليج، وعدة ملايين تذهب للجنة التفتيش، و130 مليون لمناطق الحكم الكردي
في الشمال، ويبقى للعراقي الواحد: 300 فلس كل ستة أشهر للغذاء والدواء! !
وهذا هو برنامج النفط مقابل الغذاء. ويالله لشعب العراق من جور النظام العالمي
الجديد ومن ألاعيب صدام وحزبه.
إن المشكلة الحقيقية في حالة العراق أن العقوبات لا تشكل جزءاً من
استراتيجية محددة لإنهاء النظام، بل إن النظام لم يُذكر قط صراحة على أنه هدف
لها، بل لقد جاءت التطمينات الأمريكية أن هذه الفكرة غير موجودة أصلاً في
(الأجندة) الأمريكية.
ففي المقابلة التي أجرتها معه شبكة (أي. بي. سي) يوم 8/5/1417هـ
صرح الرئيس الأمريكي أن (الولايات المتحدة ليس لديها مشروع حل واضح يخلو
من التناقضات.. وهنا المشكلة. إن ما تسعى إليه واشنطن هو التأكد من أن
الرئيس العراقي سيتقيد بقرارات مجلس الأمن ومن أنه لا يهدد جيرانه، إننا لا
نحاول التخلص من صدام، فإن مما تعلمناه من التعاطي مع صدام هو أن يذهب إلى
أقصى الحدود، ولهذا وسّعنا منطقة الحظر الجوي في الجنوب، وهو الآن مقيد
الحريات، وبات صعباً عليه تهديد جيرانه) . [الحياة ع/12262/9/5/1417هـ] .
وكانت (مادلين أولبرايت) قد كررت القول بأن واشنطن سوف تدعم استمرار
العقوبات ضد النظام العراقي الراهن مهما استغرق ذلك من وقت، وهددت أيضاً
بعدم تجديد اتفاق بيع النفط مقابل المواد الغذائية والطبية إذا لم تنفذ بغداد كل شرط
من شروطه الصارمة، وأوضحت أن السياسة الأمريكية المتشددة هذه سوف تتغير
فوراً.. إذا تغيرت القيادة في بغداد، وقالت: إذا حدث ذلك ومتى يحدث! ؟ فسوف
نكون على استعداد للتنسيق مع حلفائنا وأصدقائنا كي ندخل بسرعة في حوار مع
النظام الجديد.
وهذا (كولن باول) رئيس هيئة الأركان في حرب الخليج يطلقها صريحة وبلا
موارية: (إن من غير الحكمة أن نلطخ اسم صدام وسمعته! ! ، وننعش آمال
الجماهير ونحرضهم ضده، ثم نتركه وشأنه بعد ذلك) .
فإن كانت أمريكا لا تريد إسقاط صدام، فالمنطق العقلي يفرض عليها اتخاذ
إجراءين حيال الوضع الحالي:
الأول: رفع الحصار عن الشعب العراقي مع وجود صدام في السلطة، حتى
يشعر الشعب العراقي بنوع من الراحة والاستقرار ويفكر على روية في التخلص
من صدام، وهذا لم ولن تفعله أمريكا.
الثاني: دعم المعارضة العراقية بقوة لتنظيم صفوفها للتخلص من صدام،
ومن ثمّ يرفع الحظر، لتعيش شعوب المنطقة في سلام ووئام، وهذا أيضاً لم ولن
يحدث.
بل لقد انتقد زعيم المعارضة العراقية (محمد باقر الحكيم) الذي يقود المجلس
الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وهو هيئة شيعية مؤيدة لإيران انتقد الولايات
المتحدة واتهمها بخيانة المعارضة العراقية، وقال: لقد خانت أمريكا الشعب العراقي
مرتين حينما كنا على وشك التخلص من صدام، وكان يشير بذلك إلى انتفاضة
سكان جنوب وشمال العراق عام 1991م، وإلى تمرد الجيش العراقي في عام
1995م ضد نظام صدام.
إذن: ماذا تريد أمريكا بالضبط من المنطقة ومن العراق؟ ولعلنا مع الوقفات
القادمة نتبين إجابة تريح العقول المتعبة.
العداء الصليبي: هناك سياسة عدائية صليبية ضد المسلمين تتزعمها الولايات
المتحدة، تمر الآن بفترة حرب باردة من الجانب الأمريكي وتقابل بأعصاب باردة
من جانبنا، ولعل المقام لا يتيح التفصيل.
المصلحة الأمريكية: في 15/6/1997م زار وزير الدفاع الأمريكي اليهودي
(وليم كوهين) إحدى القواعد الأمريكية في المنطقة، وقال مخاطباً الجنود الأمريكيين: إنني متأكد من أن كثيراً منكم يتساءلون من وقت لآخر عن سبب وجودهم هنا،
وعما إذا كان ذلك ضرورياً؟ إن الجواب هو: نعم؛ لأن الشرق الأوسط منطقة
ذات أهمية كبيرة (لاقتصادنا) وبالنسبة لبقية العالم. إن بلادنا ينبغي أن تحمي منابع
النفط في الخليج؛ ولهذا فإن الأمن في هذه المنطقة سيبقى ذا أولوية لوقت طويل.
[الأنباء ع/7570/16/6/1997م] .
ولكيان اليهود نصيب: إن ضمان أمن إسرائيل هو مما آلت أمريكا على
نفسها التعهد بالمحافظة عليه، وهي التي رسخت ولا زالت ترسخ أقدام اليهود في
المنطقة، بأساليبها المعروفة، والعراق كغيره من الدول العربية التي تسعى
العصابات اليهودية لعقد اتفاق سلام معها، وقد جرت اتصالات كثيرة بين الجانبين
لعقد اتفاق سلام وتبادل تجاري عن طريق الأردن مع اعتراف عراقي بكيان اليهود، وقد قدم صدام حسين مبادرة علنية للمصالحة مع اليهود حينما قال أكثر من مرة:
إن العراق سيبارك أي اتفاق مع إسرائيل يقبله الفلسطينيون والعرب، ولم يحاول
الاعتراض على يهود السلام بما في ذلك (مؤتمر مدريد) واتفاقيتي (أوسلو 1، 2) .
وقد قام ياسر عرفات أكثر من مرة بمحاولة فتح قنوات اتصال بين صدام
وإسرائيل، وآخر هذه المحاولات تم الكشف عنها في مارس 1995م عندما بث
راديو الجيش الإسرائيلي خبراً يقول: إن صدام حسين طلب من عرفات ترتيب
اجتماع مع (موسى شاحال) وجاء في نص الرسالة الشفوية التي حملها عرفات:
(إن العراق لم يتخذ موقفاً عدائياً من إسرائيل منذ التوقيع على اتفاق الحكم الذاتي،
وهو يرغب في تحسين علاقاته بالدولة العبرية) والمعروف أن (شاحال) من
الوزراء الذين يميلون إلى إقامة قنوات اتصال مع العراق، ويرجع ذلك إلى أصوله
المنحدرة من العراق، إضافة إلى حاجة اليهود الاقتصادية للبترول العراقي، وقد
ذكرت صحيفة (جيروزاليم بوست) اليهودية نقلاً عن مصادر ديبلوماسية أن
الشركات الإسرائيلية تبيع حالياً أغذية وأدوية تقدر بحوالي مليوني دولار عن طريق
الأردن في مقابل أن يمد العراق إسرائيل بالبترول الذي يتم عن طريق ميناء العقبة
الأردني، وتُوُقِّعَ حينها أن تزدهر التجارة بين البلدين بهذه الطريقة لتصل إلى 100
مليون دولار خلال عام [الأنباء ع/7190/5/1/1417هـ] . والحاجة الأشد هي أن
يوقع العراق اتفاق سلام يسبق الاتفاق السوري حتى يتم الحصار الشامل للأخيرة،
وتسقط بين دول مسالمة ومستسلمة لليهود (الأردن تركيا العراق) كذلك فإن الوجود
اليهودي في المناطق الشمالية العراقية كان ولا زال بارزاً منذ عقود؛ من خلال
عناصر الموساد التي استغلت لعبة الأكراد جيداً لخدمة مصالح إسرائيل.
إيران وسوريا: إن أخوف ما تخشاه الولايات المتحدة هو توسيع الدور
الإيراني في المنطقة، خاصة وهو مرشح لذلك، مع وجود مثلث الود الباطني بين
إيران وسوريا ولبنان، وحيث إن إيران هي البديل في المنطقة، في حال سقوط
الحكم في أيدي المعارضة العراقية التي يتزعمها موالون لإيران، ومع تخوف
أمريكا من القوة العسكرية الإيرانية برغم الحصار الاقتصادي المفروض عليها
واحتوائها المزدوج مع العراق، ومع وضعها على قائمة الإرهاب العالمية، ومع
الأطماع الفارسية التي تعلمها أمريكا جيداً من إيران في المنطقة مع ذلك كله فإن
أمريكا تدرك جيداً أن بقاء صدام حسين معادياً لحكومة طهران أوْلى من رحيله
وتولي حكومة موالية لطهران.
ومع تشابك وتداخل المصالح الإيرانية الأمريكية حول الإرث الشيوعي في
آسيا الوسطى يزداد التوتر بين البلدين، ولا مجال هنا للنوايا الحسنة؛ حيث إن كلاً
منهما ترتب مصالحها على ضعف الأخرى أو احتوائها أو الخلاص منها.
أما سوريا، فهي الدولة (العنيدة) ! ! التي استعصت على أمريكا أن تسلمها
لإسرائيل لقمة سائغة، ولعل النظام السوري المخضرم يفهم اللعبة السياسية في
المنطقة جيداً فلا يريد التوقيع على اتفاق سلام يخسر فيه كما خسر غيره ما ظنه في
بادئ الأمر مكسباً كبيراً. ومع الانفتاح السوري العراقي الأخير، ومع التهديدات
التركية لكلا الدولتين نيابة عن أمريكا وإسرائيل، وهي قوة لا يستهان بها أو مع
التلويح بتفعيل مشكلة المياه، أو الضغط بورقة الأكراد وحزب العمال الكردستاني،
تبقى سوريا رقماً صعباً في الأزمة العراقية المتشابكة.
الدول العربية: كانت حسابات الدول العربية مختلفة كلياً عن الحسابات
الأمريكية، فأقصى أمنيات العرب كانت رد صدام عن غيّه وتحرير الكويت من
الاعتداء الآثم، وعودة الأمان للنفوس المروعة الفزعة؛ وحسبوا أن الوقت لن
يطول بمقام قوات التحالف في المنطقة أكثر من عام على أعلى تقدير، أما
الحسابات الأمريكية فكانت مختلفة؛ فها هي أعوام ستة تمضي على التعنت
الأمريكي، وهذا ما أضر دولاً عربية كثيرة، وتفكك التحالف العربي المجمع على
إدانة صدام، وأصبح الجميع يطالبون العراق بتنفيذ قرارات مجلس الأمن؛ إلا أن
الجميع أيضاً يعبرون عن تعاطفهم مع شعب العراق.
المصلحة غير غائبة أيضاً عن الحالة العربية، فقد صرح (نبيل العربي)
السفير المصري في الأمم المتحدة قائلاً: (إن أحداً لا يفهم لماذا العراق دائماً تحت
الحظر؟ يجب أن يكون بمقدرونا رؤية نهاية النفق) ، بل لقد صرحت مصادر
مصرية أنها مقتنعة تماماً بأن العراق ليس لديه أي أسلحة يخفيها! ! فقد تضررت
مصر بسبب ضياع ما يفوق مليون فرصة عمل كانت متوفرة داخل العراق،
فإلحاحها على ورقة مأساة الشعب العراقي يرجع في الأساس إلى عوامل اقتصادية،
خاصة بعد التنصل من الوعود بعقود كبيرة في إعمار الكويت.
وهناك من الدول العربية من ارتضى الاحتماء بصدام على وضعه الراهن؛
لأن البديل سيكون سيطرة إيرانية، وهو ما حدا بكل من الإمارات والبحرين، برفع
أصواتهما بالتنديد بما يجري داخل العراق.. الآن فقط! ! وخاصة أن كلاً منهما
لهما مشاكل سياسية كبيرة مع إيران. ومع تزايد الضغط الشعبي المطالب برفع
الظلم الواقع على الشعب العراقي، تحركت الحكومات العربية على استحياء، فقد
توفي بحسب الأرقام المعلنة منذ بدء الحصار وحتى الآن مليون ومئتا ألف عراقي
بسبب فقدان الدواء والعلاج، وحتى لو كان نصف هذا الرقم صحيحاً! ! فأي دولة
تقبله؟ وأي أمة ترتضيه! ؟ وفي أي دولة في العالم يموت مليون إنسان وهم
يطلبون الدواء! ؟ مع أن حاكمه المستبد يؤتى إليه بأشهر النطاسين وأنجع الأدوية
حتى ولو شاكته شوكة؟
الأكراد: الأكراد بأحزابهم الثلاثة الكبار: الحزب الديمقراطي الكردستاني
بزعامة مسعود البرزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني،
وحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان، هذه الأحزاب تعتمد (سياسة
اللامبالاة) المتعمدة، وتستمر في هذيانها غير واعية لإفرازات خدماتها للأنظمة
المحنكة، بل إن بعضها يتصور حقاً أنه يفرز استراتيجية تاريخية دائمة في شمال
العراق، ولكن الحقيقة التي يجب أن يعيها الأكراد هي أن أقصى ما تفعله هذه
القيادات عملياً: هو عرض نفسها سلعة للاستقطاب بمعزل تام عن الطموحات
الكردية؛ فالعراق وسوريا وإيران وتركيا يلتقون في تطابق معارضتهم لقيام دولة
كردية مستقلة في أي جزء من دولهم، كما حرصت هذه الدول كذلك على أن لا
تقوى الورقة الكردية في يد أي لاعب كان، ومن هذا يبدو أن الحفاظ على موازين
القوى بين الفصائل الكردية مرغوب فيه من هذه الأطراف، إضافة إلى الولايات
المتحدة التي تركت الأكراد فريسة لصدام حين دخل أربيل في عام 1996م،
والعجيب أن صدام هاجم الأكراد المتعاونين مع الولايات المتحدة في الشمال، فقامت
أمريكا بضرب القوات العراقية في الجنوب! ! بحجة انتهاك صدام لحقوق الإنسان
الكردي!
النفاق الأمريكي الدولي: لا تتوقف الولايات المتحدة عن ممارسة النفاق
السياسي المفضوح كلما تعلق الأمر بحقوق الأكراد، فقد صمتت عن محنتهم حين
تعرض (حزب العمال الكردستاني) للتصفية الكاملة من قبل القوات التركية، وحين
تعرضت الحركة الوطنية الكردية للقمع من إيران، ثم صمتت عن انتهاكات تركيا
وإيران (للمناطق الآمنة) الكردية في منطقة (الحظر الجوي الشمالية) ، وفي
مناسبات كثيرة اجتاحت القوات التركية أرض كردستان العراق، بل إن أمريكا لم
يرف لها جفن حين تعرض أكراد العراق للإبادة في الحرب الأهلية التي نشبت بين
أحزابهم، وقد أصبح في حكم المؤكد أن ما يسمى بحقوق الأكراد ليس سوى الاسم
الحركي للتدخل الأمريكي في العراق، ولو كانت واشنطن ترغب في تمتع الأكراد
بحقوقهم الطبيعية لكان أجدر بها أن تمارس الضغط على تركيا وإيران للاعتراف
الدستوري بهذه الحقوق؛ أليس هذا أوْلى من الدوران بهذا (الشعب المحتار) في
حلقة مفرغة؟ !
وما أشد نفاق المجتمع الدولي حين يصمت عن هذا كله وقد أُصدر باسمه
القرار 688/1991م عبر مجلس الأمن معتبراً أن نتائج القمع المسلط على الشعب
داخل العراق تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين في المنطقة! ! ولذلك أدان القمع
مطالباً بوقفه فوراً، كما أعرب عن الأمل في فتح حوار لكفالة احترام حقوق الإنسان
والحقوق السياسية لجميع مواطني العراق، وذلك عقب أحداث انتفاضة العام 1991م
ثم ها هي (أولبرايت) ، وقت أن كانت مندوبة دائمة لأمريكا في الأمم المتحدة
تقول: لدينا أدلة كثيرة وغير مشكوك فيها بأن صدام حسين ونظامه يُخِلّون بالوعود، ويتنصلون من التواقيع ويكذبون، ويقتلون، ويضعون مصالح أقلية مختارة فوق
مصالح الملايين من المواطنين المقموعين! ! [الوطن ع/7490/8/8/1417هـ] .
ولو جئنا بمحلل عراقي لوصف الوضع الداخلي للعراق وشعبه فلن يأتي بمثل
هذا التصريح المدرك لحقائق الأمور بجلاء ووضوح.
ثم يأتي خليفتها (ريتشارد سون) في 24/6/1418هـ ومع الأحداث الأخيرة
ليقول: إننا لا نقترح عقوبات واسعة قد تؤدي إلى معاناة الشعب العراقي، وهدفنا
لا يزال مساعدة الشعب العراقي.
وباختصار شديد، فقد وجدت أمريكا في صدام الشخص المناسب لتمرير
مخططاتها في المنطقة، ووجد صدام في أمريكا الدولة التي تبقيه في السلطة دون
خسائر شخصية؛ فكل من الطرفين منتفع بالآخر في منطقة يراد لها ألا تستقر على
حال.
إن أمريكا بأسلحتها الفتاكة، وتقنيتها العسكرية من الأقمار الصناعية،
وطائرات التجسس التي تكشف ما وراء العظام لا تستطيع التفريط بصدام! ! فهل
المعارضة العراقية ستسقطه؟
وإن كانت هذه المأساة في المنطقة بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل في
العراق، فماذا عن الترسانة النووية اليهودية؟ وإن كان أمن المنطقة هو المطلب
الرئيس، فلماذا لا تعجل أمريكا به لراحة الشعوب الفزعة منها ومن صدامها؟ !
خاصة وقد ربطت أمريكا رفع العقوبات برحيل صدام؛ فقد صرح كلينتون في
14/ 7/1418هـ: أن العقوبات ستبقى قائمة إلى ما لا نهاية ... وبأي حال ستبقى ما دام صدام في السلطة! !
لقد كان جديراً بالمسؤول الأمريكي أن يبارك خُطا صدام، ولا عجب إن بُني
له مقام في أمريكا لتلمس البركات منه، أو استنساخه لوضعه في مناطق أخرى تريد
أمريكا البقاء فيها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(121/72)
المسلمون والعالم
تقرير الحالة الدينية في مصر
(عرض وتحليل)
(3من3)
أيمن محمد سلامة
في الحلقتين السابقتين عرض الكاتب (تقرير الحالة الدينية في مصر) وبدأ في
تحليله، فكانت من عناوين نقط هذا التحليل: (مصداقية وعلامات استفهام) ،
و (شاهد أم طرف؟) ، و (وهنا أيضاً: الكيل بمكيالين) ، و (ومن الأرقام ما خدع) ،
ويواصل الكاتب تحليله لهذا التقرير.
- البيان -
وماذا عن الحالة الدينية؟ : هناك بعض الملحوظات على الحالة الدينية نفسها، تلح في البروز ويصعب تجاهلها، من أهمها:
* يظهر جلياً من خلال استقراء ما أورده التقرير عن المؤسسات الإسلامية
الرسمية أن هذه المؤسسات بوصفها مؤسسات، وقد يخرج عن ذلك بعض أفرادها
تُستخدم أداة سياسية لتسويغ توجهات المتنفذين في السلطة والدعاية لهم.. فتاريخياً:
(الدولة الفاطمية استخدمت الأزهر من أجل نشر مذهبها الشيعي، وقام علماء
الأزهر بدور تعبوي هام من أجل نشر هذا المذهب، وتكرر الشيء نفسه في عهد
الدولة الأيوبية من أجل إعادة نشر المذهب السني على أنقاض المذهب الشيعي،
وكان تقرب المماليك لعلماء الأزهر ومحاباتهم لهم يعود إلى احتياجهم إلى سند في
حكمهم يطمئنون إليه ويستعينون به) (ص 28) ، وحتى الصوفية (أخذ الحكام
(المماليك) يستغلون الصوفية ليشغلوا الناس عن التفكير في سوء أحوال البلاد) (ص
274) ، ثم مروراً بعهد محمد علي وأسرته ... إلى أن كانت الحقبة الناصرية فكان
تقنين هذا السلوك تجاه تلك المؤسسات؛ حيث (أقدم جمال عبد الناصر في الداخل
على إعادة صياغة الفكر الديني بأسلوب يتلاءم مع طبيعة العصر ومتطلبات التنمية
كما حددتها الدولة وفق قناعاتها الفكرية والأيديولوجية، فاستخدم الدين مع أدوات
أخرى في عمليات التعبئة السياسية وإيجاد شرعية لنظامه) (ص 28) ، وقد عمل
على (القضاء على أي دور محتمل يمكن أن يؤديه الأزهر في شؤون المجتمع
باستقلال عن الدولة، وذلك بإصدار قانون إعادة تنظيم الأزهر. بجانب هذا سعى
النظام الناصري إلى إيجاد أداة إسلامية لسياساته، وهو ما تمثل في المجلس الأعلى
للشؤون الإسلامية، ولم تختلف رؤية الدولة للدور السياسي للأزهر في عهد الرئيس
السادات عن رؤية سلفه) (ص 29) ، (.. ولم تشهد الثورة صداماً مع الشيوخ، بل
استطاع النظام الناصري أن يستثمر الأزهر وشيوخه جيداً لتدعيم وتبرير سياسته،
فوصف الشيخ الخضر ثورة يوليو بأنها أعظم انقلاب اجتماعي، ووصف الشيخ
تاج الإخوان المسلمين بأنهم يشوهون الإسلام، وأفتى بتجريد (الرئيس السابق)
محمد نجيب من حق المواطنة، كما كان الأزهر مكاناً للتعبئة السياسية في حرب
1956، كما أفتى الشيخ شلتوت بأن القوانين الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام!.. ولم يكن العهد الناصري فقط الذي استخدم الأزهر كمؤيد ومعبئ ومبرر لسياساته، بل في عهد السادات أصدر الشيخ الفحام بياناً أيد فيه الخطوات التي قام بها
السادات في 15 مايو 1971م فيما يعرف بثورة التصحيح) (ص45) ، و (علاقة
الدولة بالأزهر في مرحلة الرئيس مبارك لم تختلف جوهرياً عما كانت عليه في
مرحلتي الرئيسين الراحلين عبد الناصر والسادات) (ص 29) .
وأيضاً الصوفية وطرقها لها من هذا الاستخدام نصيب، حيث يتساءل التقرير
في معرض حديثه عن (تحديث الصوفية) : (ما مدى استعداد الأنظمة الحاكمة
للتنازل عن الصوفية التقليدية باعتبارها وعاء للشرعية؟ !) (ص 276) .
والتقرير يعتبر أن المؤسسات الدينية عموماً تشكل (أداة ضبط واستقرار إزاء
بعض الاتجاهات المغالية في مناهج تفسيرها للنص الديني وشروحه) (ص 26) .
وفي ضوء هذا ينبغي أن نفهم أن هذا الضبط والاستقرار قد يقتضي إعطاء
بعض المؤسسات قدراً من الحرية حتى تمارس الدور المنوط بها في تثبيت الشرعية
المتنفذة (وتحاول الدولة أن توازن بين دور الأزهر في حماية المعتقدات الدينية
وإعطاء الضوء الأخضر له، ذلك من أجل تثبيت شرعيتها وإضفاء الأسلمة على
مواقفها، وفي الوقت نفسه المحافظة على حرية الفكر والإبداع) (ص 52) ...
وعموماً: فإن بعض المواقف المعارضة للسلطة من هذه المؤسسات لم تخرجها عن
إطارها المرسوم لها (وأدى ذلك إلى تعاظم دور الأزهر في الرقابة في وقت زاد فيه
هامش الحريات، وكانت له فتاوى وآراء معارضة في قضايا حساسة كالعلاقات مع
إسرائيل وفوائد البنوك ... وبصورة عامة كانت الدولة تستجيب لغالبية فتاوى وآراء
الأزهر خاصة فيما يتعلق ببعض القضايا الاجتماعية والفكرية، أما ما يخص منها
القضايا الاقتصادية أو تلك التي تمس الأمن القومي فلم تكن الدولة تستجيب لها،
وفي خلال تلك المرحلة لم يضغط الأزهر من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، أو
إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، أو تحريم فوائد البنوك، وفي المقابل أعطت له
الدولة قدراً ملحوظاً من الحرية والاحترام) (ص 29) ، (ورغم تعاظم دور الأزهر
إلا أنه لم يخرج [اي: الشيخ جاد الحق] من إطاره القانوني، ولم يصل دوره
المعارض إلى حد الصدام مع السلطة، ولم يضغط من أجل طرح قضية تطبيق
الشريعة الإسلامية ... ) (ص 46) .
والفقرتان الأخيرتان توضحان لنا أنه حتى في مراحل الاستقلال النسبي لهذه
المؤسسات عن الدولة فإن المواقف المشهودة لها لم تكن تعبر عن تصور منهجي
ورؤية واضحة تطالب بها هذه المؤسسات وتعمل على إنفاذها، بل جاءت معظم
هذه المواقف نتيجة جهود شخصية في نقد قضايا جزئية أو بطريقة مشوشة، ومن
ذلك: (.. بعد مجيء الحملة الفرنسية فتصدى شيوخ الأزهر طليعة الوطنيين
المناوئين للحملة وأصبح الأزهر مقراً للحركة الوطنية، ويمثل الشيخ الشرقاوي
(1793م) الرمز الأزهري الوطني الذي قاوم الحملة، وكان أحد أعضاء مجلس
الشورى الذي تقرب به نابليون إلى المصريين، وكان أيضاً ضمن وفد العلماء الذي
ألبس خلعة الولاية لمحمد علي واشترطوا عليه أن يحكم بالعدل..) (ص 44 45) ، (وقد أفسح وقوع مصر تحت سطوة الاستعمار الفرنسي ثم الإنجليزي المجال لأن
يلعب شيوخ الأزهر وعلماؤه دوراً وطنياً قوياً في تعبئة الجماهير ضد الاستعمار
لطرده والحصول على الاستقلال) (ص 28) و (في سبيل تحقيق بعض الإصلاحات
العلمية والهيكلية في الأزهر تحالف الظواهري مع الملك فؤاد ضد الأحزاب، وفتح
بذلك الباب لسيطرة القصر الملكي على الأزهر، ولم يقض ذلك على الدور السياسي
للأزهر، وإن لم يكن هذا الدور في الفترة من 1917م حتى قبل ثورة يوليو1952م
موجهاً ضد الحكام باعتبارهم وطنيين، ولكن كان موجهاً ضد المستعمر.. (إلا إن
الأزهر لم يسكت رغم ذلك على فساد القصر، فقد عزل الشيخ عبد المجيد سليم من
المشيخة بعد أن هاجم الملك فاروق بسبب رحلاته الماجنة إلى إيطاليا..) (ص45)
وقال قولته الشهيرة: (تقتير هنا وإسراف هناك) (ص38) ، ولم نسمع في مقابل
ذلك انتقاداً لولائه للنصارى، أو دعوة قوية إلى تحكيم الكتاب والسنة ونبذ القوانين
الوضعية، أو محاربة للشركيات والخرافات التي تقع حول القبور والأضرحة تحت
سمع وبصر كثير من المشايخ إن لم يكن بمشاركة بعضهم! ، هذا فضلاً عن أن
نجد المطالبة برؤية حضارية شاملة بديلة للرؤى المسيطرة في ذلك العهد وما تزال.
ولعلنا هنا نورد بعض النماذج التي أوردها التقرير والتي توضح مدى
استغلال الدولة للمؤسسات الإسلامية أداة عاملة في آليتها السياسية، وليتضح مدى
صدق ادعاء العلمانيين بأن (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) ، حيث
يستغلون الدين لتسويغ سياستهم ولا يرتضون أن يكون حاكماً وموجهاً لهذه السياسة:
ففضلاً عما أوردناه من مواقف المشايخ محمد الأحمدي الظواهري، ومحمد
الخضر حسين، وعبد الرحمن تاج، ومحمد الفحام، فقد أيد الشيخ عبد الرحمن
بيصار (معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وخطوات التطبيع، وطالب المعارضين
للتطبيع في الأزهر بعدم الصدام مع السلطة، والمعارضة فقط في الأمور التي
تستحق المعارضة!) (ص46) و (كان للشيخين [جاد الحق، وسيد طنطاوي]
مواقف دينية غلب عليها الطابع السياسي الرسمي المعضد للدولة، والمتمثلة في
تطويع الفتوى لتتواكب مع الظروف السياسية السائدة، والتراجع في بعض الأحيان
عن فتاوى سابقة بحجة الاستجابة للمستجدات بما فيه مصلحة المسلمين ... ولعل
أبرز الفتاوى السياسية الرسمية التي تبرز ذلك هي الخاصة بالموقف من إسرائيل..) (ص75) ... و (شهد عام 1995م [الحقل الزمني للتقرير] نشاطاً واسعاً لوزير
الأوقاف حينئذ الدكتور محمد علي محجوب سواءً على المستويين الداخلي أو
الخارجي، وبصورة عامة عبر نشاط وزير الأوقاف عن السياسة الرسمية للدولة..
فعلى الصعيد الخارجي واصل الوزير نشاطاته خلال عام 1995م، وفي المقدمة
منها: السعي لتدعيم الروابط بين المسلمين والمسيحيين أو ما يعرف بالحوار بين
الأديان استكمالاً لدور الأزهر ودار الإفتاء في هذا المضمار، وتجلى ذلك في تنظيم
وزارة الأوقاف لمؤتمر (عطاء الأديان في خدمة الإنسان) .. مشيراً إلى أن ما تشهده
مصر يعد نموذجاً مشرفاً وقدوة للعالم كله، حيث شهدت الفترة الأخيرة تجسيداً لذلك
من خلال إنشاء المجلس الأعلى للديانات بمصر والذي يضم الإمام الأكبر والبابا
شنودة والشيخين محمد الغزالي ومحمد متولي الشعراوي..) (ص68) .
كما أن (أبرز الأدوار السياسية التي لعبها المفتي مع المؤسسات الإسلامية
الرسمية الأخرى هو إقامة المزيد من جسور الحوار مع المسيحيين والتحمس للحوار
بين الأديان بصفة عامة، وبذلك الدور فإن المفتي والمؤسسات الإسلامية الرسمية
الأخرى تقوم بتدعيم السياسة الخارجية للدولة، والتي تهدف في جانب منها إلى
الانفتاح على الغرب دينيّاً ومحاولة إيجاد أرضية تفاهم مشتركة معه..) (ص78) .
وتأييد وزير الأوقاف لفتوى المفتي في فوائد البنوك كان ذا طابع سياسي:
(ويكتسب تأييد وزير الأوقاف لفتوى المفتي رغم تحريم شيخ الأزهر لها والعلاقة
الطيبة معه طابعاً سياسيّاً؛ لأنه يتمشى مع مصلحة الدولة، وبالطبع فإن وزير
الأوقاف هو المنفذ الأمين لسياسة الدولة في هذا المضمار، وقد اتخذ الوزير نفس
الموقف وبنفس الدوافع تجاه وثيقة الزواج) (ص 69) .
وهدف ضم المساجد الأهلية إلى وزارة الأوقاف لم يكن رعايتها، وإنما كان
الهدف (هدفاً سياسياً وليس دينياً، وبالتالي فقدت المساجد تأثيرها الروحي ولم تقم
بتنفيذ سياسة الدولة في تطويق أفكار الجماعات المتشددة دينياً) .. (ص 65) .
وهدف قوافل الدعوة لم يكن دعوة الناس إلى دين الله وسبيله، بل دعوتهم إلى
نبذ ما أسموه (الفكر المتطرف) الذي يناقض توجهات الدولة (وفي إطار قوافل
التوعية والتي تسمى في بعض الأحيان (قوافل التنوير) التي ترى وزارة الأوقاف
أنها الوسيلة المثلى لمحاربة الفكر المتطرف وسحب البساط من تحت أقدام
الجماعات المتشددة حرص وزير الأوقاف على المشاركة فيها ومعه شيخ الأزهر
والمفتي في بعض الأحيان) (ص 69) ، و (بصفة عامة فإن تلك القوافل قد
استحدثت لسد العجز في الدعاة خاصة في الأماكن النائية كما أسلفنا ولمجابهة الفكر
المتشدد، ولكن تجربة القوافل أثبتت أنها لم تؤد الغرض الذي خصصت من أجله
بصورة إيجابية نظراً لقصر المدة التي يقضيها (دعاة القوافل) في المساجد المختلفة،
وعزوف المصلين عن الاستماع لهؤلاء الدعاة نظراً للطابع الرسمي الذي يغلب
عليهم) (ص 64) .
* ودوران هذه المؤسسات في الفلك السياسي العام كان هدفاً سعى إليه بدأب
من يملكون أزمّة الأمور على مدار التاريخ بوسائل شتى، ومن هذه الوسائل:
ما بدأه محمد علي، (فقد قام علماء الأزهر بتولية محمد علي الذي فطن إلى
قوتهم فعمل على تهميش دور الأزهر وأحدث شرخاً في استقلاليته، فتراجع نفوذ
علمائه الاجتماعي في مقابل تقديم صفوة شبه علمانية في تفكيرها) (ص 28) ،
(ولكن سرعان ما رجحت كفة الحاكم على العالم في عهد محمد علي الذي بطش
بالعلماء وأراد لمصر نموذجاً غربياً هو وأحفاده على حساب الأزهر) (ص 45) ،
وكان من أخطر ما قام به (لما تولى محمد علي استولى على الأوقاف [التي كانت
محبوسة على الأزهر جامعاً وجامعة، العامة والخاصة] وتعهد بالإنفاق على المساجد
وجهات البر ووضع نظام جديد لملكية الأراضي) (ص 60) ، ثم كانت الحلقة
الأخيرة في هذا المسلسل عندما (أضعف النظام الناصري من استقلال العلماء من
خلال سياسته تجاه المؤسسات الإسلامية التي انطلقت في عدة محاور تمثلت في
القضاء على الاستقلال المالي بإصدار قانون إلغاء الوقف الأهلي وتحويل جانب
كبير من أراضي الأوقاف لوزارة الإصلاح الزراعي، فضلاً عن إلغاء المحاكم
الشرعية، والقضاء على أي دور محتمل يمكن أن يؤديه الأزهر في شؤون المجتمع
باستقلال عن الدولة، وذلك بإصدار قانون إعادة تنظيم الأزهر) (ص 28 29) ،
وهكذا (جعلت قوانين تنظيم الأوقاف في عهد الرئيس عبد الناصر الدعوة الإسلامية
بلا سند مادي ترتكز عليه، الأمر الذي أثر بصورة مباشرة على استقلال علماء
الدين مادياً وفكرياً، وهو الأمر الذي كان له دوره البالغ في اتخاذ هؤلاء العلماء
لمواقف الرفض والمعارضة من الدولة؛ لاطمئنان كل منهم أن هذه المعارضة وهذا
النقد لن يؤثر على حياتهم المعيشية ولن تفقدهم بالتالي وظيفتهم) (ص 61) ، (ولم
يبق من الأوقاف الخيرية بعد ذلك إلا وقف المساجد، وقد وافق الأزهر على هذا
الإعفاء بحجة سوء صرف ريع الأوقاف على السبل والكلاب، وأن الدولة أصبحت
متكفلة بشؤون الدعوة والدعاة! !) (ص 60) .
وهكذا تم الإجهاز على العامل الرئيس لاستقلال الأزهر، ذلك العامل الذي
كان تاريخياً العمود الفقري لهذا الاستقلال، (ففي عهدي المماليك والعثمانيين ونتيجة
لعدد من العوامل الداخلية أهمها الاستقلال المالي والعلمي ومكانة علماء الأزهر في
المجتمع.. أضحى الأزهر مستقلاً في ممارسة دوره.. مما جعل الدين يحتل مكان
الصدارة في المجتمع ويصبح معه علماء الأزهر صفوة المجتمع) ، (وعملت الدولة
العثمانية أيضاً على التقرب إلى العلماء للحصول على تأييدهم، وأبقت على أوقافهم
وأحباسهم التي كرست استقلالية الأزهر) . (ص 28) .
كما كان من وسائل ضرب الاستقلالية لهذه المؤسسات أن اختيار رؤوسها
أصبح بيد الدولة بعد أن كان بيد العلماء أنفسهم (فالأزهر لم تكن له قيادة معينة في
بدء نشأته، فقد كان يتولى إدارته في البداية سلاطين مصر وأمراؤها كباقي المساجد، أما شؤونه الداخلية فيقوم بها مشايخ المذاهب الأربعة وشيوخ الأروقة، يعاونهم
خطيب المسجد ومشرفون وخدم، حتى عين ناظر للأزهر للشؤون الإدارية، ثم
شيخ للشؤون العلمية والإدارية معاً) ، (فقد رأى السلطان العثماني سليمان القانوني
ضرورة أن يكون للجامع الأزهر شيخ يتفرغ للإشراف على شؤونه الدينية والإدارية
معاً ويكون حلقة الوصل بينه وبين العلماء) ، ولكن الدولة العثمانية لم تعين (أي
عالم عثماني في منصب شيخ الجامع الأزهر طوال حكمها، وتركت منصب شيخ
الأزهر للعلماء المصريين.. بل تركت اختيار شيخ الأزهر مطلقاً من كل قيد
مذهبي ومنوطاً بالمشايخ أنفسهم.. فقد كان مشايخ الأزهر يقومون باختيار شيخهم
ويبلغون الوالي العثماني باسمه) (ص 28) .. ثم تغير الحال بعد انقلاب محمد علي
على العلماء، إلى أن صدر القانون رقم 15 لسنة 1927م حيث (أصبح تعيين شيخ
الأزهر مشتركاً بين الحكومة والملك!) (ص 45) ، ثم صدر القانون الناصري
الشهير رقم 103 لسنة1961م وأعطى (لرئيس الجمهورية حق تعيين شيخ الأزهر.. كذلك أعطى القانون لرئيس الجمهورية الحق في اختيار وكيل للأزهر) (ص49) . وبعد إلغاء (جماعة كبار العلماء) أصبح تعيين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية
(بقرار من رئيس الجمهورية باقتراح من شيخ الأزهر) (ص51) ، وكذلك (تتابع
تعيين المفتين باسم مفتي الديار المصرية بقرار من الحاكم، إلى أن قامت ثورة
يوليو 1952م فصار المفتي الرسمي للدولة يعين بقرار من رئيس الجمهورية وتحت
مسمى (مفتي جمهورية مصر العربية) ، ويكون بدرجة وزير) (ص 73) ، وبدهي
أن وزير الأوقاف يعين بصفته وزيراً في مجلس الوزراء.
وحتى الطرق الصوفية صدر في حقهم القانون رقم 118 لعام 1976م الذي
(ينص على أن يضم المجلس الأعلى للطرق الصوفية ستة عشر عضواً، أولهم
شيخ مشايخ الطرق الصوفية رئيساً، وهو يعين بقرار من رئيس الجمهورية من بين
مشايخ الطرق..) (ص 274) .
وصدر مؤخراً قانون يعاقب من يرتقي منابر المساجد بدون تصريح رسمي
حتى ولو كان شيخاً أزهريّاً بما يعني تكميم أفواه من لا ترتضيهم الدولة، وهو ما لا
يطبق على وعاظ الكنيسة.
وهكذا أطبقت مؤسسات الدولة السياسية على مؤسساتها الدينية وأمسكت
بخيوطها، حتى صارت الأخيرة أداة طيعة في يد الأولى توجهها كيف تشاء أو هكذا
أرادت!
* وإذا كان هذا ما حدث في جانب المؤسسات الإسلامية فإن المؤسسة الكنسية
القبطية استثنيت من عوامل التطويع السياسي القصري.
فعلى حين عوملت أوقاف المسلمين هذه المعاملة استثنيت أوقاف غير
المسلمين من أحكام هذين القانونين، حيث وضع لهما قانونان خاصان، هما القانون
رقم 1 لسنة 1960 م في شأن استبدال الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر
العام للأقباط الأرثوذكس، والقانون رقم 35 لسنة 1971م بشأن الأحكام الخاصة
بتملك الأراضي الزراعية واستبدالها بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية وطوائف غير
المسلمين.. حيث ترك لكل كنيسة أوقافها في حدود مئتي فدان، وما زاد عن هذا
كانت الدولة تأخذه وتدفع ثمنه بسعر (السوق السوداء) وهو ما أدى في السبعينيات
لمناداة عدد من الأصوات بمساواة أوقاف المسلمين بأوقاف المسيحيين! !)
(ص 61) .
أما بالنسبة لاختيار رأس المؤسسة الكنسية التي أصبحت تمثل لدى الأقباط
سلطة دينية وشعبية فقد أكدت الكنيسة على أنه (لا يستطيع أحد أن يتقدم للكهنوت
إلا باختيار شعبي، ومن هنا يبرز مبدأ حق الشعب في اختيار راعيه) (ص 88) .
كما أن اختيار البطريرك يتم من خلال نظام انتخابي دقيق منصوص عليه،
ويكون دور رئيس الجمهورية هو تعيين البطريرك الجديد، أو بمعنى آخر:
الموافقة على البطريرك المنتخب من قبل الأقباط وهيئتهم الكنسية
(انظر ص 82، 83) .
كما أن الكنيسة تتحرك قاعدياً من خلال مدارس الأحد (التربية الكنسية) إضافة
إلى (مدارس المهجر القبطية) التي تُوَجّه من خلالها ثقافة شعب الكنيسة وتوجهاته
بدون تدخل من الدولة، ويكمل (المجلس الملي العام للأقباط الأرثوذكس) الجوانب
الخدمية التي لا تتمتع فيها الكنيسة بالمرونة والحرية المطلوبتين وإن كان حدث
مؤخراً تقليص لدور هذا المجلس وتنافس بينه وبين الكنيسة كما وضح سابقاً.
* ويتعلق بالنقطتين السابقتين (تبعية المؤسسات الإسلامية الرسمية للأنظمة
المتعاقبة واستقلال المؤسسة الكنسية) نتيجة على قدر من الأهمية، حيث أصبحت
الكنيسة ممثلة لجمهورها وصاحبة تحرك شعبي مدعوم بالتفاف جماهيري قبطي لا
يستهان به؛ مما أعطى الاثنين (الكنيسة، والجماهير) قوة تبادلية في مواجهة القوى
الأخرى.
بينما جاء التحرك القاعدي الشعبي في الحالة الإسلامية محروماً من الريادة
الطبيعية للعلماء له، حيث نفّرت تبعية كثير من العلماء للنظام بعض شباب الصحوة
الإسلامية من التعاون مع العلماء وألجأهم إلى الارتكاز على مصادرهم العلمية
الخاصة، وتفاعلت هذه الحالة مع استخدام الدولة لبعض العلماء في ضرب الصحوة
وإجهادها فكرياً، على أمل اتساع الفجوة بين العلماء والصحوة، وفصل الصحوة
عن الجماهير ليسهل عزلها ثم استئصالها والقضاء عليها.. وقد أثر ذلك الأمر
بالسلب على الجهتين: على العلماء الذين فقدوا حيوية الاتصال بالجماهير والتحرك
القاعدي، فباتوا محصورين بين جدران قاعات الدرس ونشاطهم لا يتعدى دفات
الكتب، والصحوة التي فقدت سنداً مهماً لها يتمثل في جيش من الدعاة المجهزين
ومرجعية علمية موثوق بها، وغطاء قوي لمشروعيتهم التاريخية، هذا الغطاء الذي
تحاول الدولة تمزيقه، من خلال اللعب بالموازنة بين إعطاء بعض المصداقية
لعلماء المؤسسات الإسلامية الرسمية بالسماح ببعض المواقف الاستقلالية ليكون لهم
قبول شعبي، وفي الوقت نفسه: استخدام هؤلاء العلماء لمحاربة الصحوة عبر
تضخيم أخطاء المنتسبين إليها، ومن ثم تشكيل صورة مركبة لخطرهم على
المجتمع كله، وأيضاً عبر استحضار إشكالية علاقة الصحوة بالعلماء؛ أمام بؤرة
وعي العلماء ولذا: فإن من أكثر ما يزعج المناوئين للصحوة الإسلامية أن يكون
ضمن المنضوين تحت لوائها: علماء خارجون من المؤسسة الرسمية.
* وخامس هذه الملحوظات تدور حول أعمال التنصير التي وردت بعض
ملامحها في ثنايا التقرير:
فنلاحظ أن الإرساليات الكاثوليكية حظيت بمساحة كبيرة من إفساح المجال لها
وتشجيعها خلال فترة حكم أسرة محمد علي (انظر ص 106 107، ص 149،
155) ربما بسبب العلاقة الخاصة مع إيطاليا آنذاك، ثم كان بعد ذلك تحالف الحكم
الناصري مع الكنيسة الأرثوذكسية فيما أطلق عليه التقرير (التوافق الاستراتيجي)
(ص 93) ربما باعتبارها الكنيسة المصرية الوطنية، وفي كل مرحلة عملت كل
كنيسة على الاستفادة القصوى من علاقتها بالدولة لتنفيذ أعمالها.
كما نلاحظ أيضاً اختفاء بعض الأنشطة وبخاصة الكاثوليكية خلف أسماء غير
ملفتة للنظر وذلك في النشاطات الفكرية والتربوية مثل: (اللجنة المصرية للعدالة
والسلام) ، و (جمعية الصعيد للتربية والتنمية) التي كانت سابقاً (جمعية الصعيد
للمدارس الكاثوليكية) ، و (جمعية السنابل) ، و (كشافة وادي النيل) ،
و (كشافة أبو الهول) .. (انظر ص 113، 118) .
ويهتم الكاثوليك (210 ألف نسمة) بإنشاء المستوصفات العلاجية والملاجئ
بأنواعها والمدارس ذات المستوى الرفيع وإدارتها (ليقوموا بتثقيف وتربية النشء
المصري) (ص 149) ، و (تربية وتنشئة الفتاة المصرية) (ص 153) وهم يفتحون
هذه المدارس لجميع الديانات والمذاهب، ويهتمون بصفة خاصة بأبناء الطبقة
الراقية، وذلك من خلال حوالي 137 مدرسة، كثير منها يشمل مراحل التعليم
الثلاث، وبعضها ذات إقامة داخلية، إضافة إلى ثلاثة معاهد، كما يقدمون خدمات
رعاية المرضى والمسنين في المستشفيات والبيوت والملاجئ، ويركزون كثيراً من
نشاطاتهم (للتبشير في القرى والأحياء الشعبية) (ص 149) ، يقومون بذلك من
خلال (1107) راهب وراهبة يخدمون في (51) رهبانية (انظر 149 155) ،
إضافة إلى عدد من الجمعيات الأهلية ذات الفروع المتعددة.
وفي الوقت الذي حظرت فيه الدولة نشاط (هيئة الإغاثة الإنسانية) المنبثقة
عن نقابة الأطباء ومنعتها من ممارسة أي نشاط إغاثي بعد زلزال عام 1992م،
نظراً لما لاقته هذه الهيئة (ذات الشبهة الإسلامية) من نجاح وقبول شعبي، نجد أنه
لا توجد قيود على الهيئات الأخرى (وبخاصة الكاثوليكية) في ممارسة هذا النشاط
(انظر ص 119) ، فهي مطلقة اليد في القيام بأعمالها (الخيرية) ! ، ولعل ذلك هو
ما دعا مجلة (الكرازة) الأرثوذكسية إلى الدعوة إلى (حق كل فرد مسيحي في اختيار
الكنيسة التي يريدها بشرط عدم استخدام بعض الكنائس لوسائل ترغيب أو ضغط
على الأفراد لضمهم إليها، مثل المال أو المساعدات المادية) (ص 369) .. (ولا
ينبئك مثل خبير) ! .
أما بالنسبة للأرثوذكس فيلاحظ على غير ما يتخيله كثير من المسلمين تحول
أديرة رهبانهم إلى مجتمعات داخل المجتمعات (حيث حياة الشركة والتعاون والعمل
بين الرهبان والنساك من جهة أو بين الأديرة كمؤسسات اجتماعية منتجة والشعب
القبطي من جهة أخرى) ، وفي هذه الأديرة (أمكن استخدام أساليب الهندسة الوراثية
في تطوير الإنتاج الزراعي مثلما فعل دير الأنبا مقاريوس بوادي النطرون، وأيضاً
في مجال الإنتاج الحيواني من زراعة الأجنة وتحسين سلالات الأبقار.. وفي هذا
الإطار أنشئت مراكز الصيانة والورش للسيارات والجرارات والآلات.. فضلاً عن
أعمال البناء والتشييد والترميم وتعبيد الطرق مع الإنارة والكهرباء.. ومن ناحية
أخرى نجد الأديرة تفتح أبوابها لاستقبال الشعب على مستوى الزيارات اليومية
والرحلات أو إقامة الشباب بعض الأيام داخل أسوار الدير في خلوات روحية،
وهذا الأمر يتطلب بناء أماكن للضيافة والمكتبات لشراء الكتب والهدايا، وأيضاً
أماكن لبيع وتسويق المنتجات الغذائية والزراعية وغيرها) (ص 134، 135) .
وقد قام دير البراموس (باستصلاح 500 فدان من الأراضي الصحراوية حوله،
وتسويرها بسور ضخم بطول 6 كم فضلاً عن عدد من البوابات الكبيرة.. وتم
استصلاح 500 فدان أخرى خارج سور الدير، وفي هذا الإطار استخدم الدير
تكنولوجيا زراعية متقدمة، وكذلك نظامي الري بالرش والتنقيط.. وقام الدير
بإنشاء مزرعة كبيرة ... لتربية الماشية والدواجن والأرانب على أحدث النظم
والآلات والمعدات الخاصة بالإنتاج الحيواني مثل فرز اللبن وصناعة الجبن
والمسلي.. ناهيك عن شبكة الاتصالات الداخلية (التليفونات) ، وذلك للاتصال
السريع! بين كل مكونات الدير من البوابة الرئيسية إلى سكن الرهبان إلى أماكن
العمل) (ص 140) والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا توجد هذه التجمعات
المتصلة دوماً بالشعب في أماكن مختارة من الصحراء ولا توجد داخل التجمعات
العمرانية؟ !
* وآخر هذا الملحوظات تتعلق بالشأن القبطي أيضاً: حيث لوحظ من خلال
ما أورده التقرير تنامي الشعور الطائفي في مقابل ضمور الشعور الوطني.
يظهر ذلك في محاولة الأقباط التأثير السياسي بشتى الطرق، حتى ولو
بفرض القوانين التي يعتبرها بعض الديمقراطيين تخلفاً عن الديمقراطية والوطنية
(وقد ترتب على الجدل العام في الحياة السياسية والحزبية والإعلامية عودة اتجاه
داخل النخبة القبطية للمطالبة بتعديل الدستور، لضمان تمثيل الأقباط في المجالس
النيابية والتمثيلية، أو الرجوع لنظام الدوائر المغلقة على المرشحين الأقباط فقط،
كما حدث في بدايات نظام يوليو 1952م لمعالجة مشكلة تمثيل الأقباط، وطرح
البعض اقتراحاً مفاده ضرورة إصدار تشريع للحقوق المدنية على النمط الأمريكي
الذي استهدف دعم الزنوج في إطار الوظائف العامة.. إلخ..
ومن أبرز الظواهر التي كشفت عنها نتائج الانتخابات البرلمانية هو تبني
بعض القيادات الدينية القبطية لاتجاه الحل الدستوري للتمثيل النسبي للأقباط، وفي
هذا الإطار رأى البابا شنودة بطريرك الأقباط الأرثوذكس (أن الدولة قادرة على
وضع النظم الديمقراطية التي ينجح بها الأقباط، كما وضعت من قبل نظاماً ينجح
من خلاله العمال والفلاحون!) ، ويشكّل اتجاه تمثيل الأقباط على أساس ديني
ومذهبي عودة لفكرة رفضتها الحركة الوطنية والدستورية المصرية عند وضع
دستور 1923م، وكان على رأس الرافضين لها زعامات الأقباط في الحركة
الوطنية المصرية) (ص 326) ، ولم يقتصر الأمر على البابا فقط، بل شاركه في
هذه المطالبة تيار (الرؤى المعارضة) أيضاً، حيث طالب موريس صادق أحد
رافعي الطعون القضائية (بغلق 40 دائرة انتخابية من400 دائرة على مستوى
الجمهورية يكون الترشيح فيها قاصراً على الأقباط) (ص 329) ، و (إصدار قانون
للحقوق المدنية يسمح بشغل الأقباط للمراكز والوظائف العامة أشبه بقانون الحقوق
المدنية الأمريكية وأشبه بتمثيل العمال والفلاحين في المجالس المحلية) (ص 330) ، كما طالب بعضهم بضرورة أن يكون المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس (مجلساً
شعبياً للأقباط تحت مسمى المجلس الشعبي القبطي) (ص 329) .
كما يظهر تنامي ذلك الشعور من خلال محاولة المجادلة عن مواقف أقباط
المهجر المسيئة إلى مصر وتلمس الأعذار لهم بشتى الطرق، حتى أن التقرير يقول
وكأنه لسان حالهم: (لا بد من توجيه الاهتمام إلى أقباط المهجر وتشكيل لجان
(وطنية) تلتقي معهم، وتبحث أولاً شكاواهم من أجهزة الدولة المختلفة، وتغيير
الأداء الروتيني للسفارات المصرية، بحيث تجعل من قضية التعامل مع المهاجرين
المصريين هناك أولوية على أجندة اهتماماتها، وتغذيهم أولاً بأول بالمعلومات
الحقيقية عن الأحداث والتطورات التي يشهدها الوطن، ثم بعد ذلك تأتي قضية
أقباط المهجر كرصيد لمصر ولسياستها الخارجية) (ص 222) . فالتقرير بعد أن
قدم ما أمكنه من أعذار لهؤلاء (انظر ص 218 221) يقايض فيما يشبه الصفقة
المحسومة أولويات الانتماء بالمصالح، هذا الانتماء الذي أوصل بعضهم إلى الدعوة
للانسلاخ من العروبة، وتحريض أمريكا على إرسال قوات المارينز إلى مصر [1] .
وإذا كانت هذه المطالبة جاءت بالانفصال عن التحدث باسم جميع المصريين
في الخارج، فإننا نرى ذلك أيضاً في التحرك الفعلي من خلال إنشاء مدارس
ومراكز ثقافية في الخارج خاصة بأقباط المهجر وحدهم، وليس لكل مصريي
المهجر.
__________
(1) انظر مقال فهمي هويدي، جريدة الأهرام، 15/7/1997م، ع/ 40398.(121/82)
في دائرة الضوء
الفكر بين الحظر والإباحة
بقلم: محمد يحيى
كلما ترتفع أصوات دعاة أو مفكري الإسلام في أقطارنا تطالب بمنع تداول
كتاب أو آخر يطعن في الدين والعقيدة أو الشريعة الإسلامية ومنها بل وجُلّها ما
يتطاول على الذات الإلهية أو شخص الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته
رضي الله عنهم، ويزوِّر حقائق التاريخ والفقه الثابتة علت أصوات العلمانيين
تتباكى على مجزرة الحرية ومذبحة الفكر التي يقيمها المسلمون، ونسمع المواعظ
التي تذكر هؤلاء المسلمين المعتدين على حرية الفكر بأن عليهم اللجوء للحق
والمنطق لا للمنع والمصادرة.
كذلك نسمع دعوات بعض المثقفين من أبناء الدعوة تناشد إخوانهم عدم
المطالبة بمنع تداول الكتب المسيئة؛ لأن ذلك يثير ثائرة العلمانيين ويسوِّغ
لأصحاب الأغراض المتربصين المزيد من الطعن في الإسلام بل واتخاذ القوانين
الصارمة ضد العاملين له.
أصبح هذا الموقف متكرراً على امتداد الساحة العربية، بل وفي بلدان بعينها
كمصر في السنوات الأخيرة حتى أضحى كالطقس الأبدي لا يفتر. والواقع أن
(اللادينيين) الذين يرفعون العقيرة بالهجوم على الإسلاميين في مسألة المطالبة بمنع
الكتب المسيئة للعقيدة هم أول من يلجأ لسلاح المنع والحظر والمصادرة، ومعها
اللجوء للمحاكم وأعمال الاعتقالات بل والإعدام في مطاردتهم للكتب والفكر الذي
يخالفهم مجرد مخالفة، أو الذي يرون أنه يسيء إلى أشخاصهم ورموزهم وليس إلى
عقائدهم؛ لأنهم لا توجد لهم عقيدة واضحة.
ولسنا بحاجة إلى العودة إلى الستينيات مثلاً لنرى كيف دفع الكاتب الإسلامي
المعروف حياته ثمناً لكتاب لم يَرُق للحكام العلمانيين في ذلك الوقت. فقد يكفي أن
نشير إلى أن وزير التعليم العلماني في البلد نفسه، والذي يرفع شعارات حرية الفكر
والعقل والتنوير ... إلخ يعلن في الوقت نفسه بل ويفاخر بأنه أصدر الأوامر بتطهير
مكتبات المدارس من الملايين من نسخ الكتب الإسلامية بعد وصفها بأنها تشجع على
التطرف رغم أنها كتابات في معظمها لعلماء أجلاء أو لكتاب لا يخرجون عن إطار
الدين؛ وتزامن ذلك مع قيام سلطات الشرطة بمصادرة الآلاف من نسخ كتب
إسلامية أخرى، كما تزامن مع إحراق هذه النسخ للتخلص منها ومحاسبة من يقتني
كتباً دينية بالسجن أو الاعتقال بحجة منع التطرف حتى وإن أشار أصحابها أنها
كتب مطروحة بالأسواق لعلماء وكتاب معروفين.
وسلاح المنع والمصادرة والحظر والتعتيم الذي يلجأ إليه العلمانيون وهم في
مواقع السيطرة ليس فقط موجهاً ضد الإسلاميين وكتبهم؛ فقد استخدم هذا الإجراء،
وما زال، كلما صدر كتاب ينتقد أي رمز من رموز العلمانيين ومذاهبهم؛ وكأنهم قد
أصبحوا من المقدسات التي لا تمس!
ولا تسلم من الأذى الكتب التي تنتقد أي مذهب علماني يكون أصحابه من
ذوي النفوذ وبالذات من المذاهب السياسية المعروفة كالقومية والاشتراكية أو
النعرات العنصرية أوالتوجهات الاقتصادية، وآخرها آليات السوق والرأسمالية
الجديدة ... إلخ.
والحجة المشار إليها على الدوام لتسويغ المنع والمصادرة للفكر المخالف
لتوجه العلمانيين أو لتقديس رموزهم هي حجة المساس بهيبة الدولة والحكام، أو
إشاعة البلبلة والاضطراب في الرأي العام، أو هدم المبادئ المقررة في الدساتير؛
وكأن الطعن في الذات الإلهية وشخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وسائر
منظومات العقيدة والشريعة والتاريخ الإسلامي لا تناهض الدساتير العربية (وكلها
تقريباً ينص على أن الإسلام الدين الرسمي للبلاد) ، ولا تبلبل الرأي العام، ولا
تمس هيبة الدول والشعوب التي يفترض أنها مسلمة بحكم التاريخ والواقع!
خلاصة القول: أن الحجر على الفكر ومطاردته منعاً للكتب ومصادرةً للتعبير
وملاحقةً للكتابات حلال للعلمانيين في الوقت الذي يحرِّمونها على المسلمين مع
الفارق الجوهري: فدعاة الإسلام قد يطالبون بمنع كتاب أو مقال يطعن في الذات
الإلهية (ولا تستجيب بعض السلطات عادة لهم) أما العلمانيون فيقيناً أنهم حين
يطالبون يجابون بسرعة إلى منع الفكر الذي قد يطعن أو ينتقد مجرد انتقاد شخصاً
وفكراً بشرياً وضعياً زائلاً أضفوا هم عليه القداسة، حتى إن شعارهم الخالد هذه
الأيام هو: (رفع القداسة) ؛ ولكن عن الدين أي الإسلام وحده دون سائر الملل
والنحل، ودعاة الإسلام قد يُطالِبون (ولا يُجابُون عادة) بمنع تداول كتاب يتخذ من
التزوير الفاضح للحقائق سبيلاً إلى بث البلبلة بين الرأي العام حول الإسلام وثوابته؛ لكن العلمانيين يُطالِبون ويُجابُون إلى منع الفكر حتى وهو يتناول بالنقد والتفنيد
في إطار أكاديمي محدود بعض جوانب مذاهبهم التي يقولون إنها نسبية بشرية
متغيرة (وإن لم يعترفوا بذلك علناً أمام الجماهير) .
ثم هناك الفارق الجوهري الأكبر: أن بعض دعاة الإسلام قد يلجأون إلى
المطالبة بمنع تداول الكتب السيئة لا عجزاً عن مقارعة الرأي بالرأي والحجة
بالحجة (هذا ولو كان لدى الجانب الآخر رأي وحجة فعلاً) بل لأنهم يواجَهون بواقع
مشهود للجميع تتمتع فيه هذه الكتابات الطاعنة في الدين بترويج واسع في أوساط
الجماهير والعامة (ممن لا يقدرون على تبصر التزوير واللف الدقيق وغير الدقيق
للحقائق) من جانب الدوائر الفكرية والسياسية العلمانية التي يجب أن نعترف أنها
مُنِحَت السيطرة شبه التامة على منابر الإعلام والفكر والترويج الدعائي (بالإضافة
إلى الثقافة والتعليم) في معظم البلدان الإسلامية.
وإذا كانت هذه الكتابات المسيئة على تهافتها وزيفها تفرض فرضاً على
الجماهير بقوة هذه المنابر، وتوصف بأنها الحق الصراح فإن الردود الإسلامية يُعَتّم
عليها ولا تُنشر، بل تُهمل وتُحارب حتى ولو جاءت من جانب علماء أفذاذ يشغلون
مناصب في المؤسسات الدينية الرسمية، وليس ببعيد عنا ذلك اليوم الذي اشتكى فيه
شيخ الأزهر السابق من أنه يرسل إلى الصحف والإعلام ببيانات توضح آراء هذه
الجامعة الإسلامية الكبرى في القضايا المطروحة وتنافح عن الإسلام، لكن هذه
الآراء والبيانات لم تكن تنشر. ففي ظل واقع يروّج فيه للباطل على أوسع نطاق،
ويُفرض زيفاً على الجماهير بينما يُحجب صوت الحق بالرد الموضوعي في هذا
الواقع يصبح الطلب بالمنع والحظر أقل خط دفاع ممكن. كما أن هذا الطلب له
مسوغاته وسنده حتى قانونياً في الذب عن هيبة وحقيقة العقيدة وهي مبثوثة في
الدساتير كدين البلاد أو مصدر التشريع الرئيسي. فإذا كان العلمانيون يتخذون من
حجة هيبة الدولة والدستور تكأة لتبرير منع ومصادرة الفكر؛ أفلا يكون لدعاة
الإسلام نصيب من الحجة نفسها؟
وفي المقابل فإن العلمانيين يلجأون إلى المنع والمصادرة للفكر المخالف حتى
ولو كان ضعيفاً ومحدود الانتشار؛ وحتى وهم يملكون من وسائل التأثير والفعالية
في الترويج ما يسمح لهم بكبت هذا الفكر وتشويه صورته لدى الجمهور وإفقاده أي
فاعلية، أو مما يسمح لهم على الأقل بأوسع فرص الرد والتفنيد لو كان لديهم ما
يقولونه وهو مشكوك فيه. وهم يلجأون إلى المنع والمصادرة حتى وهم في موقع
القوة وليس في موقع الدفاع اليائس؛ فوق أنهم لا يجدون في القانون والدستور
مسوغاً لإضفاء الحصانة والقداسة على أشخاص زائلين ومذاهب فكرية نسبية زائلة. ... ...
إذن: فقضية منع ومصادرة الكتابات ليست بالبساطة التي يصورها بها
البعض، وليست أحادية الطرف كما يدعي العلمانيون؛ بل هي موضوع متشابك
نجد أن المتهم الحقيقي فيه هو التوجه اللاديني نفسه الذي ألقى بالتهمة باطلاً على
التيار الفكري الإسلامي الذي هو في الحقيقة ضحية بريئة.(121/94)
متابعات
حرية الفكر أم حرية الكفر
عبد العزيز بن عبد الله الزهراني
إلى علماء المسلمين وحكامهم في كل مكان. إلى كل الفعاليات الثقافية
الإسلامية. إلى كل مسلم غيور: أوجه هذا النداء، بعد أن قام كُتّابٌ من بعض
البلدان العربية والإسلامية بسب دين الإسلام ورسول الإسلام وصحابة الرسول
الكرام؛ حيث فاقوا دعاة التنصير والمنظمات الصهيونية المعادية للإسلام: إلى كل
أولئك أوجه هذا النداء عبر (مجلة البيان) .
بدأت أكتب في خاطرة بعنوان: (أصنام تعبد في داخل الإنسان) وقرأت عن
(كتاباتهم التي تهاجم الإسلام والرسول والصحابة) [1] . ومنهم المدعو (سيد القمني)
في كتابه: (رب الزمان) الذي يتحدث فيه عن وجود آلهة سماوية وآلهة أرضية.
ومنهم (خليل عبد الكريم) عضو أمانة حزب التجمع اليساري في كتابيه: (مجتمع
يثرب) و (شدو الربابة في أحوال الصحابة) قالوا في كتبهم: نحن علماء مجتهدون
ولا يحق لأحد أياً كان مراجعة فكرنا، وليس للدين ولا للمتدينين علينا وصاية.
ويقول أحدهم: إن القرآن يعطي الحق المطلق في حرية العقيدة والفكر، ويتهمون
الرسول أنه ما كان يهدف من النبوة والرسالة إلا ليقيم دولة عربية قرشية هاشمية
تحقيقاً لأمنية جده عبد المطلب إلى غير ذلك من الهراء.
مات فرعون وفكره ما زال يحيا:
وقال القمني: إننا اليوم قادرون على أن نفهم ديننا أفضل مما كان يفهمه
الصحابة. وقال: إنه لا يسمح بأن يسأله أحد عن عقيدته الدينية؛ لأن من يتصدى
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى توكيل من الله؛ والإسلام لا يعرف
التوكيلات، وأنا مواطن في دولة مدنية ولست فرداً في دولة الخلافة الإسلامية!
والمشائخ لا يدعون إلى مصادرة كتبي بل إلى قتلي واغتيالي، ولكن أفكاري ستبقى
مخلدة..! ! اهـ
أقول: إن التاريخ لا يرحم ولا يحابي ولا يجامل أحداً على حساب أحد. فما
يكتبه أصحاب الأفكار السليمة وحتى المنحرفة ستبقى مخلدة كما أبقى الله جل شأنه
فكر الأنبياء والصالحين وأبقى دعاوي الفراعنة والملحدين. فذلك فرعون وكفره،
وهامان وكبره، وأعداء الرسل وجبابرة الدنيا أخبرنا الله عنهم، فقال عن فرعون
ووزرائه حين جاءهم بالبينات: [فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ] (غافر: 24) . وفي مقام
الشورى من فرعون لملئه قال: [وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي
أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] (غافر: 26) وفي آية أخرى
تقرر كفر فرعون: [قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] (غافر: 29) ، ففي الآية الأولى يطلب من ملئه الموافقة على قتل موسى عليه
السلام لخوفه أن يغير موسى عبادة فرعون بعبادة الله الواحد الديان، ويفسد ملك
فرعون وألوهيته المزيفة؛ وهذا في عرف فرعون فساد، وفي شطر الآية الثانية
يبدو فرعون واعظاً ومذكراً ومحدثاً وداعياً ومرشداً لقوله: [وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ
الرَّشَادِ] ويقول في مقام آخر: [يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي]
[القصص: 38] ، فذلك كفر فرعون ذُكِرَ في القرآن الكريم مع قبيح فعله وتخليده
في نار جهنم، وكذلك ما قاله وزيره قارون حينما زعم أن ما لديه من جاه ومال
جاءه من تلقاء نفسه ومن علمه: [إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] [القصص: 78] ،
وأورد القرآن الكريم عن قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين،
فخلد ذكرهم بأسوأ صورة. هكذا يريدون تخليد ذكرهم بإعلان الكفر وسب الإسلام
وشعائر الدين الحنيف، وكأنهم لم يجدوا طريقاً أسهل عندهم من الجهر بالإلحاد
والتشنيع على محمد ورسالته وأصحابه الغر الميامين.
ثم قال القمني: فضّ الله فاه محذراً من مغبة تقديس الصحابة! ! : (لا ينبغي
أن نفرط أو نسرف في تقديس الصحابة؛ فهم رجال ونحن رجال، وهم يخطئون
كما نخطئ، والإسراف في تقديسهم أحد أسباب الكارثة التي نعيش فيها حتى صرنا
نضع أمامنا محرمات من صنع أنفسنا تمنعنا من حرية التفكير وقدّسنا أشخاصاً غير
مقدسين) .
كما اتهم الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان غير صالح
للخلافة وغير سوي ليكون خليفة، وأنه مجتهد كما اجتهد عثمان.
والحقيقة أن المسلمين الصادقين يقدرون أصحاب رسول الله كما أثنى الله
عليهم، وكما قدرهم رسوله؛ وحسبُهم أنهم خير القرون.
كفر صريح وردة مكشوفة:
ثم اتهموا الصحابة الكرام بأنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من عاداتهم الجاهلية! سبحان الله وأن الإسلام ومحمداً -صلى الله عليه وسلم- أخفقا في التسامي بهم إلى
مكارم الأخلاق؛ مما جعل محمداً يتبرأ منهم. وينكر (خليل عبد الكريم) أعمى
البصر والبصيرة أن الإسلام دين إلهي قائلاً: الإسلام تجربة فجرها محمد، وأسهم
الصحابة معه في تجسيدها لإقامة الدولة القرشية. ويقول: (سيد القمني) : إن جد
الرسول (عبد المطلب) كان يسعى للزعامة؛ وهذا ما دفع أولاده إلى مساندة الإسلام
ليحققوا من خلاله حلم الدولة، وفسر ذلك قائلاً: هذا واضح طبيعي لكي تبدو
الرسالة النبوية طبيعية ومتوافقة مع ظروف الأوضاع العامة لمن نزلت فيهم.
الطعن في الصحابة:
ولا يتورع هؤلاء السفلة المارقون عن رمي سيف الله خالد بن الوليد رضي
الله عنه بالزنا بامرأة خالد بن نويرة، وأن الخليفة الأول أبا بكر لم يُقِمْ عليه الحد
الشرعي، إلى غير ذلك.
واتهموا الصحابة الأخيار بالتشوّف إلى النساء في موسم الحج وغيره، وأن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما نهى الصحابة عن دخولهم المدينة ليلاً بعذر حتى
تمتشط الشعثاء، وتستعد المغيبة إلا خوفاً من أن يلقى الرجل زوجته في وضع
يكرهه من الناحية الأخلاقية، وهذه الصيحات الجوفاء وتلك الأقلام المأجورة تحاول
أن تلصق قذارتها ضد أطهر مجتمع عرفه التاريخ منذ فجر الخليقة إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها، ثم قال: وقيل إن بعض الصحابة خالف هذه الأوامر وطرق
أهله ليلاً، ففوجئ بزوجته في أحضان رجل، وكان من المحتم اللازم أن يتوقع
ذلك أليس هو ابن مجتمع يثرب وربيبه؟ ! !
ثم يبالغ في إساءته لرسول الله المعصوم -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: ومن
الواضح أن محمداً ما نهى صحبه عن دخول بيوتهم ليلاً إلا ليجنبهم المرور بتجربة
قاسية تحطم معنوياتهم وتمنعهم من الانخراط مرة أخرى في غزواته وبعوثه! !
ويضيف المؤلف قائلاً: إن محمداً الحصيف كان يعرف أن الليل هو الوقت المفضل
لتلاقي الأخدان، خاصة في ذلك الزمان؛ إذ لم تكن إنارة الشوارع والطرقات قد
عرفت؛ الأمر الذي يمكن الدخول والخروج بأمان، لهذا نهى محمد أتباعه عن
الدخول على الزوجات في ظلمة الليل حتى لا يفاجأوا بما لا يسر ويفزعهم ويدفعهم
إلى الإحجام عن الخروج للجهاد. اهـ. باختصار.
أقول: فلتقر عيون المنظمات الماسونية ومنظمات التنصير والروافض بهذا
الهراء الذي قدمه ويقدمه أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتنا ويندسون في صفوفنا
ويدمرون عقيدتنا! إنهم معاول هدم وأدوات تخريب استحوذ عليهم الشيطان وكشفوا
عن وجوههم الكالحة في صفاقة ووقاحة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، وقد أُعلِنَتْ تلك
المفتريات في بلد عربي إسلامي كان ولا زال ينتج العلماء والمصلحين، وقد أمنوا
العقاب بدعواهم أنهم ليسوا في دولة الخلافة الإسلامية لاسيما في ظل القوانين
المستوردة التي تحمي هؤلاء الزنادقة بدعوى أنهم أصحاب رأي وهم أدعياء وأذناب؛ فيا لله للإسلام، ويا لله للمسلمين.
أي حرية رأي يزعمون؟
ثم إن هذا الكذب الصريح على الإسلام ورسول الإسلام وصحابته الكرام
بحجة حرية الرأي يدعونا إلى أن نسألهم: كيف لا تنحصر هذه الحرية إلا ضد
القرآن وخاتم الأنبياء والمعتقدات الإسلامية؟ ولماذا تختفي حرية الرأي وتجبن عن
ذكر مساوئ المخلوق غير المعصوم بذكره بما فيه من جور وظلم وتعسف؟ ولا
يتورع أدعياء حرية الرأي عن الإساءة إلى أطهر خلق الله: الهادي البشير،
بأكاذيب وافتراءات ملفقة باعثها النفاق والحقد والعمالة لأعداء الإسلام بعد أن قبض
أصحابها الأجر من سادتهم؛ ولكونهم من العرب فقد صار تأثيرهم أشد من تأثير
سادتهم وأساتذتهم ممن زعموا أن عزيراً ابن الله والمسيح ابن الله تعالى الله وتقدس
عما يقولون علواً كبيراً.
ثم: على من يُوجّه هذا الهجوم السافر؟ وعلى من تقذف هذه المفتريات
المخرجة من الملة إلى الكفر الصريح؟ إنها مفتريات وقحة على من عصمه الله
وحفظه واصطفاه وجعله نبراس هداية، ووصفه الله مع صحابته الأخيار بقوله وهو
أصدق القائلين: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ] [الفتح: 29] . وتستمر الحملة المسعورة تحركها عواصف الحقد الغربي
لسب الدين ورسول رب العالمين في صلف مكشوف جبان؛ وقد أنزل الله في
أمثالهم: [إنَّ الَذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ] [محمد: 25] . ثم قال بعد ذلك: [أَمْ حَسِبَ الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ] [محمد: 29-30] .
ثم يوجه بعد ذلك الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولصحابته الكرام أنه
سيمتحنهم بالمنافقين والمرتدين، بقوله: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ
وَالصَّابِرِينَ وَنََبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] [محمد: 31] . نعم وكأن القرآن الكريم قد وقف لهم
بالمرصاد ليفضح نواياهم ويكشف مخططاتهم ويحذر حزبه المتقين وأولياءه
الصالحين من غدرهم وعمالتهم المستمرة لأعداء الملة الإسلامية في طول الزمان
وعرضه.
توصيف عجيب لهؤلاء الأدعياء:
إنهم ليسوا: (عرباً، ولا عجماً ولا روساً ولا أمريكان) ! ! ! إنهم مسخ
غريب الأطوار، منحرف الفكر، بليت به هذه البلاد إثر ما صنعه الاستعمار بها
وترك بذره في مشاعرها وأفكارها.. فهم كما جاء في الحديث: (من جلدتنا
ويتكلمون بألستنا) بيد أنهم عدو لنا ولتاريخنا وحضارتنا، وعبء على كفاحنا
ونهضتنا، وعون للحاقدين على ديننا والضانين بحق الحياة له ولمن اعتنقه.
إن هؤلاء الناس الذين برزوا فجأة، وملأت ضجتهم الأودية كما تملأ الضفادع
بنقيقها أكناف الليل، يجب أن يُمزّق النقاب عن سريرتهم، وأن تعرفهم هذه الأمة
على حقيقتهم حتى لا يروج لهم خداع ولا ينطلي لهم زور.
إن هؤلاء الناس ينبغي أن يماط اللثام عن وجوههم الكالحة، وأن تلقى
الأضواء على وظيفتهم التي يسّرها الاستعمار لهم ووقف بعيداً يترقب نتائجها المرة.
وما نتائجها إلا الدمار المنشود لرسالة القرآن وصاحبها العظيم محمد بن
عبد الله.
لقد قرأنا ما يكتبون وسمعنا ما يقولون ... ولم يعوزنا الذكاء لاستبانة غايتهم
فهم ملحدون مجاهرون بالكفر. يقولون في صراحة: إن الإسلام ليس إلا نهضة
عربية فار بها هذا الجنس العظيم في القرون الوسطى، واستطاع في فورته العارمة
أن يجتاح العالم بقيادة رجل عبقري هو الزعيم الكبير محمد صلى الله عليه وسلم..!!
أي أن هذا الدين الجليل نبت من الأرض ولم ينزل من السماء! ! وأنه
انطلاقة شعب طامح فاتح، وليس هداية مثالية فدائية جاءت من عند الله لتنقذ
العرب من جاهلية مظلمة كانوا بها في مؤخرة البشر، إلى حنيفية سمحة رفعت
خسيستهم ثم انتشر شعاعها بعد في أنحاء الأرض كما تنتشر الأضواء في عرض
الأفق لدى الشروق [*] .
الله أكبر ما أشبه الليلة بالبارحة! إن نهج الملاحدة واحد وإن تباعدت أوطانهم
وتعاقبت أزمانهم قال تعالى: [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] [الذاريات: 52-53] . ومما
يؤسف له أن هذا الإلحاد يُنشر على نطاق واسع في بلد يحوي مَعْلَماً حضارياً
إسلامياً وتاريخياً لا زال إلى يومنا هذا يناضل ويكافح افتراءات الملاحدة.
وهكذا يثير هذان الدعيان شبهاتهما بعد أن تشبعا بأباطيل الغزو الثقافي الغربي، ... وتشبعا بأفكاره إبان الاحتلال وبما تغذت به أفكارهم من مدرسة التغريب
والشعوبية من خلال سماسرة المستشرقين الذين لا زالوا يرددون الشعارات نفسها
في أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ما أراد بدعوته إلى الإسلام إلا من أجل
تحقيق أمنية جده عبد المطلب حيث كان يطمع في إقامة دولة هاشمية قرشية، وإنما
اتخذ دعوى الرسالة والنبوة وسيلة ليحقق بها حلم جده، وليست وحياً من عند الله
العلي العظيم.
وبعد: فإن هذه نفثات قلم يحترق غيرةً على ما يذيعه أولئك المجرمون،
ولعلها تجد مزيداً من النقد وكشف خفايا أولئك الزنادقة ومنطلقاتهم ليعرفهم الخاصة
والعامة. وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(1) مجلة المجتمع، العدد 267، 4/5/1418هـ.
(*) انظر كتاب مع الله (فصل لا مكان للإلحاد بيننا) ، للشيخ محمد الغزالي رحمه الله.(121/98)
نص شعري
درب الهوان
شعر: مروان كُجُك
لَمْ يَبْقَ إلاّ أَنْ نَقُو ... لَ بِأَنّهُمْ أَهْلُ الصّوَابِ
وَبِأَنّ يَعْرُبَ مُعْتَدٍ ... وَالْمُسْلِمُونَ بِلا كِتَابِ
وَبِأَنّهُمْ أَهْلُ التّقَى ... وَالْعَدْلِ وَاللّطْفِ الْمُذَابِ
وَبِأَنّهُمْ خُلِقُوا لِنَدْ ... فَعَهُمْ إلَى عُلْيَا السّحَابِ
نَمْضِي نُبَارِكُ خَطْوَهُمْ ... فِي كُلّ زَاوِيَةٍ وَبَابِ
وَنَلُوذُ بالْبَغْيِ الّذِي ... زَرَعُوهُ فِي شَتّى الْهِضَابِ
وَنَشِيدُنَا: عَاشَ الْيَهُو ... د عَلَى الأَبَاطِحِ والرّوَابِي
فَالأَرْضُ أَرْضُهُمُ وَنَحْـ ... نُ زَوَائِدٌ تَحْتَ الْحِسَابِ
لَمْ يَبْقَ إلاّ أَنْ يَصِيـ ... ـرَ الأَمْرُ للشّعْبِ الْمُرَابِي
يُلْقِي بِنَا فِي التّيهِ لا ... يَخْشَى مُوَاقَعَةَ الْعَذَابِ
يَلْهُو بِأَكْيَاسِ الرّجَا ... لِ يُبِيدُهُمْ بَيْدَ الذّبَابِ
وَيَسُوسُ أَقْيَالَ التّخَا ... ذُلِ بِالأَمَانِيّ الْكِذَابِ
يَمْشِي بِنَا دَرْبَ الْهَوَا ... نِ، يَقُودُنَا نَحْوَ الْخَرَابِ
لا شَيْءَ يَرْدَعُهُ سِوَى ... سَيْفٍ يَمَانِيّ الإهَابِ
يَفرِي فِرَى الْمَاضِينَ يَمْـ ... حَقُ كُلّ مُجْتَرِئٍ وَصَابِي
وَيَقُودُ أُمّتَنَا لِنَصْـ ... ـرِ الله مِنْ بَابٍ لِبَابِ(121/103)
منتدى القراء
والناس في أوهامهم سجناء
بقلم: طارق عبد الفتاح السيد
لا شك أن العقيدة التي يحملها الإنسان في صدره ذات أثر كبير في سلوكه،
بل نستطيع أن نقول: إن سلوك الإنسان العملي في حياته ومواقفه تجاه الأحداث
التي تواجهه في رحلة الحياة ما هي إلا ترجمة حية لما يحمل بين حنايا قلبه من
عقيدة، وما ينطوي عليه فؤاده من مبادئ وقيم، وقديماً قالوا: إن الإناء ينضح بما
فيه.
وهذه بدهية مسلّمة لا يشذ عنها أحد؛ إلا المنافقون الذين يعانون من (انفصام)
بين ما يحملون ويعتقدون من عقائد وما يسلكون في الحياة من مواقف، ولذلك فهم
أتعس الناس في الدنيا وأشقى الناس في الآخرة.
والوهم ضرب من العقيدة بهذا الاعتبار؛ فإن الإنسان إذا توهم أمراً في أي
شأن من شؤون حياته دفعه ذلك (الوهم) لاتخاذ مواقف معينة وسلوك محدد يتفق
نصّاً وروحاً مع ما يمليه عليه هذا الوهم؛ فقد صار الوهم بالنسبة له عقيدة يعتقدها
ولو لفترة مؤقتة، وأظنك توافقني إذا قلت: إن خطر الوهم لا يكمن في أنه عقيدة،
بل لأنه اعتقاد فاسد قد يجر صاحبه وحامله إلى المهالك في الدنيا قبل الآخرة؛ فكم
ضيّع الوهم من فرص سانحة! وكم بددت الأوهام من طاقات وشتتت من جهود،
فأنت قد تخسر صديقاً وفياً يندر في هذا الزمن لأنك توهمت فيه الخسة والخيانة ولم
تحسن تفسير سلوكه. والآن أسمح لنفسي بالقول: (إن الوهم اعتقاد فاسد بسبب
تصور خاطئ أو تقدير غير دقيق) .
وإذا كان خطر الأوهام على عامة الناس كبيراً فإن خطرها وضررها على
أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات ورافعي لواء الحق والهدى والإصلاح،
أقول: إن خطرها على هؤلاء أشد وأعظم؛ وما ذلك إلا لأن هؤلاء القوم هم الرواد
الحقيقيون لأمتهم وبلادهم نحو الفلاح والرشاد، إنهم الشموع التي تحترق لتضيء
للناس الطريق، وإلا فقل لي بربك: من الذي سيوقظ الأمة من غفلتها؟ ومن الذي
سيساعدها على النهوض من كبوتها؟ ومن الذي سيحذرها من سهام مسمومة
تُصَوّب إليها من كل حدب وصوب وفي كل وقت وحين؟ ومن..؟ ومن ... ؟
أسئلة كثيرة لن يجد أي منصف نفسه إلا قائلاً: إنهم هم بإذن الله ومشيئته وتوفيقه،
وعند هذه النقطة أراني وإياك نستشعر حجم الخطر الذي سيقع لو تسلل الوهم إلى
نفوس هؤلاء، إنه (خطر متعد) لن يقتصر ضرره عليهم بل سيتعداهم إلى الأمة
كلها من ورائهم التي ستحرم من الخير والهدى الذي يحملونه وإليه يدعون، نعم
ستحرم الأمة من الحياة الكريمة التي يدعو هؤلاء الأفاضل إليها تحت مظلة منهج
الله وشرعه.
إن أثر هؤلاء في أقوامهم وشعوبهم لا يقل إطلاقاً عن أثر المطر الذي ينزل
على الأرض الموات التي يأذن الله لها بالإنبات.
وفي ميزان النهوض بالأمم قد لا يؤثر كثيراً أن يصاب ألف من الكسالى
والنائمين بالشلل فيعتزلوا الحياة؛ في الوقت الذي يُعدّ فيه من النكبات أن يتعطل
فقط عامل جاد نشيط مفكر، ومن أخطر الأمور أن يكون هذا العطل والتعويق
بسبب وَهْم مقيت قد يكون بمثابة القشة التي تقصم ظهر البعير.
لذا: فمن مقتضيات الحزم وشارات الفلاح أن نبادر لمعالجة أي خلل يعتري
نفسية هذه الكوكبة من حُدَاة الطريق ودعاة الإيمان، وإلا فسنجد أنفسنا مضطرين
إلى أن نردد مع شوقي: (والناس في أوهامهم سجناء) بل نزيد: (وفي مبادئهم
أيضاً) .(121/104)
منتدى القراء
كيف يكون صومك نموذجياً
بقلم: محمد نجيب لطفي
مما لاشك فيه أنك أخي المسلم تحب أن يكون صومك مقبولاً ونموذجياً.
وهناك نصائح نقولها للتذكرة [وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ] [الذاريات: 55] .
ومن هذه النصائح ما يلي:
1- يجب أن يكون صومك لله إيماناً واحتساباً، وفي ذلك الغفران لذنوبك
والتكفير لسيئاتك (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه) .
2- يجب أن تصون جوارحك كلها عن المعاصي والآثام حتى يكون صومك
كاملاً ولا يضيع ثوابه وجزاؤه.
3- يجب المحافظة على الصلوات الخمس في المسجد جماعة، وكذلك الإكثار
من النوافل لما للنوافل من قيمة عظيمة في هذا الشهر المبارك.
4- يجب الإكثار من قراءة القرآن ومدارسته وحفظه وتدبره في هذا الشهر
المبارك؛ لأن شهر القرآن هو [شَهْرُ رَمَضَانَ الَذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًًى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ] [البقرة: 185] .
5- يجب الإكثار من التصدق والعطاء والبذل في هذا الشهر المبارك؛ لأن
الرسول الأعظم كان أجود من الريح المرسلة في هذا الشهر المبارك.
6- يجب المحافظة على صلاة القيام؛ لأنها من شعائر هذا الشهر المبارك،
ولما فيها من محافظة على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن اجتماع
المسلمين، ومن مدارسة القرآن الكريم.
7- يجب البعد عن اللهو ووسائله من أفلام هابطة، وأغان ساقطة،
ومسلسلات تافهة، وكل صوارف وضيعة تافهة عن هذا الشهر الكريم وما فيه من
صلاة وصيام وقراءة وقيام وكل جوانب الخير المباركة.
8- يجب الإسراع بالإفطار وعدم تأخيره التزاماً بسنة النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وإشفاقاً على النفس من تواصل الجوع والعطش، وأن يكون إفطارك على
الرطب أو التمر أو الماء، ثم الصلاة، ثم استكمال الإفطار؛ وكل ذلك من سنة
النبي.
9- يجب الالتزام بالسحور قدر الإمكان (تسحروا فإن في السحور بركة) ولأن
السحور خاص بهذه الأمة المباركة، ويجب تأخيره وعدم تقديمه؛ لأن ذلك هو
الموافق لسنة النبي. ووجبة السحور وجبة مباركة تعين الصائم على صومه.
10- يجب المحافظة على سنة الاعتكاف إنْ كان ذلك ميسراً؛ لأن الاعتكاف
من سنن الصيام وسنن هذا الشهر المبارك؛ وهو من السنن المهجورة المتروكة.
فحافظ عليها أخي المسلم إن كان ذلك في مقدورك للمحافظة على هذه الشعيرة الغالية
العظيمة.
11- يجب البعد عن الشراهة في الإفطار والسحور؛ لأن ذلك بعيد عن
مقاصد الإسلام، ولما يترتب على ذلك من أضرار شرعية وبدنية. ولما في ذلك
من بعد عن مقاصد الصيام والإسلام.
13- يجب التأسي في كل فعل وقول واعتقاد بالنبي -صلى الله عليه وسلم-
وصحابته الميامين الكرام رضي الله عنهم حتى يكون ذلك أدعى للقبول.(121/105)
منتدى القراء
دعوة للعناية بالمرأة
بقلم: فاتن الصويلح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: أبعثُ برسالتي هذه إلى مجلة البيان الإسلامية، وذلك من باب [وَتَعَاوَنُوا
عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى] [المائدة: 2] ، وقوله: (الدين النصيحة) . أحببت أن أسطر
أحرفي ولأول مرة، لا ككاتبة لموضوعات أو حتى ناقدة، وإنما رغبة مني في
طرح موضوعات أعتقد أنها مهمة جداً، ولكنها لا تحظى باهتمام مناسب، ولعل
البيان توليها المزيد من العناية، ومنها:
أولاً: تناول الجوانب المهمة في حياة الفتاة المسلمة من منظور شرعي
وتربوي؛ فهناك مواضيع جادة وهادفة تخاطب الفتاة المسلمة تتناول جوانب حساسة
من حياتها وظروفها الاجتماعية وهي تلك المواضيع التي تتحدث عن إشباع الفطرة
بالحلال بالتحدث عن مشاعرها وعواطفها الجياشة: إلى أين؟ وإلى من تكون؟
وما ضابطها؟ مع الحديث عن العفة؛ لتكون لأهل العفة نوراً على نور ولأهل
الشهوة نوراً يبدد الظلمات، لاسيما والفتاة هي أول من يقع فيها إلا من حفظ الله.
نحن بحاجة إلى هذا التذكير الذي ينبثق من منظور تربوي شرعي لا يكتفي
بطرح كلمات جامدة يعرفها الجميع، بل يعمل على أن يتغلغل إلى حنايا النفس
المؤمنة فيطرح عليها القضية، ويترك مجالاً لذلك الحوار النفسي الهادف حتى
يتوصل إلى الحقيقة وتعرف النتيجة المؤدية إلى العلاج، ولنا في رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- خير مثال؛ وهو خير قدوة يعالج ويحاور ويثير؛ ألا تراه كيف
يخاطب الوجدان قبل أن يخاطب العقل؟ فحينما دخل على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فتى، وقال للرسول: (ائذن لي بالزنا يا رسول الله! وإذا به يسمع
صليل سيوف الصحابة التي تحركت ليؤدبوه بها، ولكن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- نهاهم عن ذلك، وقال للفتى: اقترب مني، ادنُ مني. ولما اقترب من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هش في وجهه وبش وابتسم، وبعد أن هدأ روع
الفتى قال له رسول الله: أترضاه لأمك؟ فقال الفتى: لا. قال الرسول: كذلك
الناس لا يرضونه لأمهاتهم. أترضاه لأختك؟ فقال: لا، فقال الرسول -صلى الله
عليه وسلم- كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم. أترضاه لعمتك؟ فقال الفتى: لا،
قال الرسول: كذلك الناس لا يرضونه لعماتهم. وبعد هذه المحاورة مسح رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- على صدر الفتى، ودعا له. فيقول الفتى: ذهبتُ وما من
شيء أبغض عندي من الزنا) ، فهذا يا إخوتي مثال من أمثلة لا تعد عالج فيها
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضاً من تلك الأمور التي لا يستطيع الإنسان
كبتها أو كتمانها وهو يسعى إلى إيجاد الحل في ذلك.
ومن الجوانب المهمة في حياة الفتاة المسلمة: (الأخوة في الله) ، التي أصبحت، وللأسف الشديد تأخذ مساراً غير طبيعي، أو تفرعت إلى اتجاه آخر وخاصة
داخل بعض المدارس والجامعات؛ هذا الاتجاه الذي خالف ما عرفناه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن سلفنا الصالح. وقد أخذ هذا الاتجاه جوانب سلبية
عديدة نتيجة المفهوم الخاطئ للأخوة في الله أو الحب والبغض في الله. وأنا معكم
في أن الطابع العام لمجلة البيان هو الجدية، ولكن: هل تدعونا هذه الجدية إلى
رفض مثل هذه الأمور التي يكاد يكون إغفالها أو حتى إهمالها أن ينشأ عنه أمور تعتبر عواقبها وخيمة وتكاد تكون نتائجها السلبية ضارة على الفرد والمجتمع؟
ثانياً: تناول الموضوعات التي تتحدث عن الطفل وتربيته التربية الإسلامية
الجادة، وكذلك المواضيع التي تجيب عن كثير من تساؤلات يحار فيها الكثير
وخاصة أسئلة الطفل؛ فكثيراً ما تسأل الأم أو الأخت أو أي أحد من أفراد الأسرة
المسلمة: كيف أجيب عن تساؤلات الطفل عن الله (جل جلاله) ؟ فمثلاً نقول له:
إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؛ كما في الحديث
الذي رواه البخاري ومسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث
الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني
فأغفر له؟) وغيره من الأحاديث؛ فكثيراً ما يكون سؤال الطفل: كيف يكون
نزوله؟ أو كيف هي صفته؟ وأين هو؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تمس العقيدة
ونقف أمامها حائرين، إلى غير ذلك من الأمور التي تهتم بتربية الطفل تربية جادة.
هذا وأتمنى أن تعتنوا بذلك ضمن اهتماماتكم وجهودكم المشكورة. هذا ونسأل
الله لنا ولكم السداد والتوفيق.(121/106)
منتدى القراء
مهلاً تذكر
شعر: غازي عبد العزيز حاجي
ونَعُدّهَا وَتُعَدّ مِنْ أعْمَارِنَا ... وَنَوَدّ لَوْ تَتَعَجّل الأَحْكَامُ
متجاهلين بأنّها محدودةٌ ... في جُعْبَةٍ منْ دهرنا الأيامُ
نسعى إلى غَدِنا وهل يأتي غدٌ؟ ... حُلُمٌ زَهَتْ بطيُوفهِ الأوهامُ
وَلِمَ التّلَهّفُ للغداةِ وَلَمْ تكنْ ... للإمتحانِ مُعَدّةً أقلامُ؟(121/107)
منتدى القراء
شكوى
شعر: زياد العبيدي
لله أشكو غربتي وجوني ... ألوذ لوذ الخائف المسكينِ
وأقول: ربي قد أتيتكَ ضارعاً ... فامننْ عليّ بتوبة سكونِ
هذي ذنوبي أثقلت ليَ كاهلاً ... وجرائمي هدّتْ عليّ عريني
كيف الخلاصُ وليس عندي مأملٌ ... إلا الرجاءُ وذاك ما يكفيني
وإذا البلايا صارعتني في الوغى ... وأتتْ خطوبُ الدهر بالمحزونِ
ويئستُ من أيدي العباد فإنهمْ ... لا يجلبون إليّ ما ينجيني
وذرفتُ دمعاً قد أقضّ مضاجعي ... ودماً يحرّقُ مقلتْي وجفوني
وهتفتُ: يا ربّ العوالم رحمةً ... تمحو ذنوبَ جوارحي وشجوني
يا غافر الذنب العظيم بفضله ... ومفرجاً كرباتِ كل حزينِ
ارحم وسامح من أتاك بذلّهِ ... لا أبتغي ما عشتُ إلا ذَيْنِ
وامننْ عليّ بتوبة أنجو بها ... وأفوز فوزاً قد أتى ذا النونِ(121/108)
منتدى القراء
في ظلال قصة حاطب
بقلم: نزيه أحمد
إن إحدى الأزمات التي تعاني منها الصحوة الشابة هي بعدها عن الدراسة
التربوية العميقة لأحداث السيرة؛ وأعني بتلك الدراسة: أن تدرس أحداث السيرة،
وتفهم فهما صحيحاً من غير تأويل لأحداثها لهوى أو لمصلحة مصطنعة؛ ومن ثم
محاولة تطبيقها وتربية النشء على منوالها. إن دراسة السيرة النبوية دراسة علمية
مجردة سوف تجعلها حبيسة الكتب ولن تخرجها إلى واقع الحياة.
ومن القصص التي ينبغي لقادة الصحوة أن يتأملوها قصة حاطب بن أبي
بلتعة رضي الله عنه حينما بعث كتاباً لقريش يخبرهم فيه بعزم النبي -صلى الله
عليه وسلم- مع هذا الموقف والقصة موجودة في (صحيح البخاري) [1] .
بعض الظلال:
1- الموازنة بين المصالح والمفاسد: (لتخرجن الكتاب أو لنجردك) هذا
الموقف يدل على أنه ينبغي مراعاة الموازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على
أمر ما؛ فهنا نجد أن مفسدة تجريد المرأة أخف من أن ينتشر خبر عزم النبي -
صلى الله عليه وسلم- على فتح مكة.
ومثل هذا المفهوم جدير أن يربى عليه أبناء الحركة الإسلامية حتى لا يقف
الجمود حجر عثرة أمام كثير من الأعمال بحجة حرفية النص وعدم القدرة على
استيعاب مفهوم الموازنة؛ ولا بد من إدراك أن هناك فرقاً بين الحكم وبين إنزاله
على أرض الواقع؛ وهناك الكثير من الأحداث من سيرة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- وسلف الأمة الدالة على مراعاة هذا المفهوم.
2- عدم التسرع في إصدار الأحكام: قال عمر للرسول: (إن حاطباً خان الله
ورسوله والمؤمنين) ؛ لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يسمع منه رغم مكانة
عمر - رضي الله عنه - وسأل حاطباً ليتثبت منه ويعرف عذره.
3- المصارحة والوضوح: (ما حملك على ما صنعت؟) أخطأ حاطب
رضي الله عنه بإرساله كتاباً إلى قريش، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لما علم
بهذا صارحه وأراد أن يعرف ما هي دوافعه لذلك. ويستفاد منه أيضاً حسن الظن
بالمسلم، والمصارحة بين القائد وأتباعه في جو من الصدق والوضوح.
4- الحكمة وعدم التعنيف: (لا تقولوا له إلا خيراً) هكذا يتعامل المربي مع
من يربيهم بالرأفة والرحمة والألفة وقبول أعذارهم، ومعرفة ما دفعهم لارتكاب
الخطأ ... وهذا يساعد على إشاعة جو الثقة والصراحة بين القائد وأتباعه.
5- الاستماع إلى الرأي المخالف: لم يقتنع عمر رضي الله عنه وراجع
الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراراً: (إنه خان الله ورسوله والمؤمنين)
والرسول كان يكرر: (صدق؛ لا تقولوا له إلا خيراً) ولم يعنف عمر؛ لأنه خالفه
مع أنه رسول مؤيد بالوحي.
ومن المؤسف أنه في بعض التجمعات إذا أراد مصلح أن يزيل القذى لتُرى
الحقيقة اتهم بأنه عضو فاسد مريض يجب اقتلاعه، وأصبحنا نتوارث الأخطاء
وننشئ أجيالاً تربت على الخنوع، تفكر بعقل غيرها [2] .
6- محاولة إقناع الطرف الآخر بأساليب عدة: حاول الرسول -صلى الله
عليه وسلم- إقناع عمر رضي الله عنه منوعاً في الأسلوب فمرة قال له: (صدق؛
لا تقولوا له إلا خيراً) ومرة أخرى: (لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما
شئتم؛ فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم) .
7- شفافية نفوس الصحابة ورجوعهم إلى الحق: (فدمعت عينا عمر وقال:
الله ورسوله أعلم) .
__________
(1) انظر فتح الباري، شرح صحيح البخاري، لابن حجر، كتاب المغازي، باب فضل من شهد
بدراً، ج7.
(2) الحوار: أصوله المنهجية وآدابه السلوكية لأحمد الصويان، ص 29، طبعة دار الوطن
بتصرف.(121/109)
منتدى القراء
غابة
عمار البذيخي
وأنا هنا وحدي يرافقني الألمْ ... في غابةٍ لا تل فيها لا قممْ
أرجاؤها وحل وأما أهلها ... إما ثعالب أو ذئاب أو غنمْ
أبصرت من حولي صرخت لعلني ... ألقى جواباً من وجودٍ أو عدمْ
وأنا هنا وحدي أنين جاءني ... فهرعت لكن غاص في الوحل القدمْ
فوجدت مشلولاً صرخت بقوةٍ ... تباً لمن خانوا الأمانة والذمم
حاولت تطبيباً عجزت سألته ... هل هذه الغابات من عهد القدم؟
فأجابني والحزن في نبراته ... كم من رياض ها هنا كانت وكمْ
فسألته ما الاسم؟ قال مجاوباً ... اسمي أنا الأخلاق واللقب القيمْ(121/110)
الورقة الأخيرة
ليلة (رقص) السنة
بقلم: سلوان حسن
في ليلة (رقص السنة) الميلادية، ووسط جنون الموسيقى هادئةً وصاخبةً،
وعلى دقات الكعب العالي والحافي المحلي منه.. والمستورد، تمتلئ الصالات
والبارات والخمارات والمواخير بأولئك النفر من الناس، من متخمي الجيوب
والبطون.. خواة العقول والقلوب.
نقول ذلك لا حقداً ولا حسداً، بل غيرةً وشفقة على دين الله أولاً.. ثم على
أولئك الصنف من الناس، عسى أن يهديهم الله سواء السبيل.
أخبار وأرقام فلكية عن أموال تهدر على أقدام الراقصات؛ ولا نعجب حين
يكون أجر الفنان الأول 70.000 دولار! ! في هذه الليلة، أما الفنان (الأدنى)
فنصيبه فتات الموائد، التي لا تقل عن: 35.000 دولار في ليلته تلك! ! .
أما الأبدان العارية، فحسابها لا شك مختلف، إذ إنه في الغالب.. حسابان:
علني: في سوق النخاسة، وسري: في سوق الدناسة.
أيها الكرام: هناك دولة حدثها الفريد الذي يجب أن تلغي جميع مواعيدك
لأجله: زيارة مغنٍّ داعر لأراضيها! ! ، وثانية: حرام الخمر فيها على أهلها،
حلال على (سائحيها) لأجل الشهر (الفضيل) .
ومن المهازل أن وزيراً عربياً سابقاً وهو عضو هيئة تدريس أسبق دائماً ما
يهاجم في كتاباته (المتدينين) لإنكارهم ومقتهم لحفلات الرقص، وهز البطون ونشر
المجون.
ونتساءل بلسان عربي فصيح: ماذا عن جياع المسلمين.. أعراض المسلمين.. آلام وهموم المسلمين..؟ ، أليست حريّة أن توجه لهم تلك الأموال؟ قد يفخر
أحدهم أو (يفجر) بأنه أنفق الآلاف في (ليلة حمراء) ! ! أمّا إذا ما طُولِبَ بزكاة أو
صدقة [ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَداً وَهُوَ كَظِيمٌ] [النحل: 58] .
كفالة يتيم.. إفطار صائم.. حفر بئر.. صدقة جارية: شعارات تطلقها
الجمعيات الخيرية الإسلامية، وقد أَجزِم بأن ما يجمع لهذه الغايات النبيلة في بعض
البلدان في سنة لا يساوي ما جمعه ذاك المغني الداعر في ليلة (رقص السنة) .
فلا تعجب حين يتمنى أحد فقراء المسلمين الجهلة على الله ويدعو: [يَا لَيْتَنِي
كُنتُ مَعَهُمْ] .
وحسبنا الله ونعم الوكيل.(121/111)
شوال - 1418هـ
فبراير - 1998م
(السنة: 12)(122/)
كلمة صغيرة
مفتاح البيان
تعتبر فهرسة الكتب والدوريات فن قائم بذاته في علم المكتبات والتوثيق.
وفي خضم الكم الهائل الذي تخرجه المطابع من كافة المطبوعات تبقى الحاجة إلى
الفهارس ملحة وضرورية.
وبما أن تقريب تلك العلوم والموسوعات مطلب مهم فقد قامت كثير من دور
النشر والمؤسسات العلمية باهتمام خاص بتقريب تلك الكنوز للقارئ بفهرستها
بأساليب شتى وبمداخل مختلفة؛ مما أسهم في تقريب تلك الكتب والدوريات للقارئ
العادي والباحث المتخصص؛ ومن هذا المنطلق وحرصاً منا على تقريب ما نشرته
(البيان) من مختلف العلوم والآداب والفنون جاءت فكرة فهرسة المجلة. فهي بعد
عمر نيّف على سنوات عشر أضحت زاخرة بمقالات كثير من العلماء والدعاة
والمفكرين؛ حيث كوّنت رصيداً علميّاً وثقافيّاً كبيراً، ولكن يصعب على القارئ
والباحث الاستفادة منه دون فهرسة تسهل النفاذ إلى فوائده.. فما كان من المجلة إلا
أن فكّرت في صناعة (المفتاح) ! ..
وبعد جهود استمرت شهوراً عديدة خرج فهرس البيان بعنوان (الفهرس
الموضوعي لمجلة البيان 1 120) وقد جاء فهرساً موضوعيّاً شاملاً بلغت عدد
صفحاته أكثر من 400 صفحة، احتوت أكثر من 140 زاوية تصنيف اشتملت
على أكثر من3800 إدخال لأكثر من 2400 مادة، كتبها أكثر من 600 كاتب،
على صفحات 120 عدداً، خلال أكثر من 11 عاماً.
فإلى منهومي العلم والمعرفة ومتذوقي الشعر والأدب.. إلى المتطلعين للتنقيب
في محتويات هذه المجلة نقدم هذا العمل.. وها هي البيان وفّت بوعدها وأخرجت
لكم (مفتاحها) .(122/1)
افتتاحية العدد
عود على بدء
العلم قبل القول والعمل
الحمد لله بصفاته وأسمائه، والشكر له على نعمائه، والصلاة والسلام على
رسله وأنبيائه، وبعد:
فلقد اصطفى الله تبارك وتعالى رسله عليهم الصلاة والسلام، وتولاهم بحسن
النشأة، وتعهدهم بتمام الرعاية، ونبأهم بما يحتاج إليه العباد من العلم؛ فكان للعلم
في دين الله شأن ينبئك عنه أول القرآن نزولاً على نبينا-صلى الله عليه وسلم- حين
خاطبه تبارك وتعالى بقوله: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ] [العلق: 1] ، وبقي
شعاره التمثل لهذا الأمر مع طلب الزيادة منه: [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] ...
[طه: 114] ، فأعلن منهجه أبلجَ يضاهي وضوحه ضياء الشمس: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... ] [يوسف: 108] . ...
من هنا كانت سنة الدعاة المقتدين بالرسل في الوظيفة تري طريقتهم في
التكوين والنشأة.. فصارت الركيزة الأولى في تكوين الداعية: العلم، فهو الذي
يهتدي به العمل، ويُحفظ به الدين.
قوام الدين: علم يهدي، وسيف ينصر [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً]
[الفرقان: 31] .
وكما حرس الله بيضة الإسلام بالمجاهدين في سبيله، فقد حفظ شريعة الإيمان
بالعلماء والمتعلمين. والجهاد لا يتم على وجهه الحق إلا بالعلم المؤهل المؤصل
المفصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية، فالعلم ضرورة فوق ضرورة المأكل
والمشرب والملبس والدواء؛ إذ به قوام الدين والدنيا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب.
ولا غرو فإن الدعوة إلى الله إذا كانت (أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها
فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، ولا بد في كمال الدعوة من البلوغ في
العلم إلى حد يصل إليه السعي) [1] .
ولقد كان من أعظم أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر: الجهل، وقلة
العلماء العاملين، وسوء الخطط في مراحل الدراسة المختلفة في البلاد الإسلامية،
وضعف الهمم والعزائم في الجد والبحث والتحصيل، والتخصصات الجزئية التي
أضعفت العلوم الشرعية، والانهزام النفسي أمام بعض العلوم المادية، والنظر إلى
التخصصات الشرعية نظرة دونية.
هذه الأسباب وغيرها جزء من واقع الأمة في الجانب العلمي قبيل إرهاصات
الصحوة المباركة حين أدرك ثلة من أبنائها حاجتها إلى بعث وتجديد، فشمروا حتى
أثمر جهدهم وبارك الله في ثماره على العموم.
ولا شك أن بُعْد الهوّة بين الأمة وماضيها أذهل دعاتها الغيورين عن كثير من
مصالحهم، وأفقد بعضهم شيئاً من التوازن سواء في تربيتهم لأنفسهم، أو في
برامجهم التربوية المطروحة التي يسعون لتحقيقها؛ فلربما كانت الحركة الدؤوب
على حساب بعض العلم.
فإذا وضع هذا في الحسبان عرفنا ما يجب على الصحوة تجاه العلم، وأنه لا
بد من منح الهدف العلمي أولوية تليق به، بل يجب أن تصاغ الأهداف الأخرى
على ضوئه؛ لأن التعليم والتربية صنوان لا ينفكان: [هُوَ الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ
لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [الجمعة: 2] .
إن الصحوة اليوم يجب أن تصيغ خططها ومناهجها في كل الجوانب الدعوية
والتربوية والفكرية صياغة كاملة شاملة على أساس علمي متين؛ لأن التغيير الذي
ترمي إليه عبء ثقيل وأمانة عظمى لا تتأتى إلا ببناء العقول وإصلاح الفكر؛ وهو
أمر غاية في الخطورة والصعوبة، لا يحصل بالأحلام والأمنيات، ولا بالعواطف
والانفعالات، ولا بالارتجال والاحتمالات.
إن قاعدة هذا التغيير والبناء والإصلاح متينة، ترسم أهدافاً عنوانها:
الشرعية والوضوح والمرونة والملاءمة، وتنهج طريقاً واضحة علائمه، بيّنة
منائره.. إنه منهج تعظيم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة، وفهمها
بفهم سلف الأمة الذين اختارهم الله لإقامة دينه وحمل رسالته، ثم التسليم والانقياد
لها خِلْواً من المعارضات المرفوضة التي تتكئ إلى القياسات العقلية الفاسدة،
والأذواق الرديئة، والمنامات الفارغة.. التي ما ناب الأمة منها إلا التفرق والشقاق
والتيه والتأخر.
بهذا المنهج السلفي يجب أن تدرس وتفهم أصول الدين ومهماته من مسائل
الاعتقاد والسلوك، ثم فروعه وأحكام الحلال والحرام، وبه تُدرك سبيل المجرمين،
ويُفهم الواقع، وتُصنع الحياة.
ويوم أن نهجت الأمة ذلك النهج سطع نجمها، وعلا ذكرها، وامتد سلطانها،
وبقي ذكرها، ونالت المجد والسؤدد ... يومها وأدت نوابت السوء في مهدها،
وكان السيف ينصر يوم أن كان العلم يهدي.
واليوم: لن تستطيع الصحوة أن تحقق عبوديتها لله تعالى واتباعها للنبي-
صلى الله عليه وسلم-، وأن تبرهن على شرعيتها وصحة انتمائها لحزب الله
المفلحين، وأن تضبط مواقفها بين الغلو والجفاء، وتتجنب كثيراً من مواقع الزلل،
وأن تثبت في عواصف الفتن العمياء. وأن تكشف عوار الدعوات المنحرفة،
والمناهج المضللة، والمذاهب الهدامة، والسبل الملتوية، وأن تحفظ الشباب من
الانحراف، وأن توفر له المرجعية العلمية فإنما يقبض العلم بقبض العلماء وأن
تهيئ قدراً من الحماية الذاتية للأمة، وأن تفتيها في النوازل المتوالية ... وأن تنال
ثقتها ... ولن تستطيع ذلك كله ولن تبلغه إلا بذلك السبيل: منهج تعظيم النصوص
الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة، وفهمها بفهم سلف الأمة ثم العمل بمقتضاها.
إن الأمر يستدعي من دعاة الأمة استنفار جهودهم، واستنفاد وسعهم في:
إعطاء الأنشطة العلمية أولوية مناسبة تليق بمكانة العلم في الشرع.
بيان القدر الواجب من العلم على كل فرد بحسبه ومعرفته.
تحريك الطاقات العلمية الكامنة كما حركت كثيراً من الطاقات الدعوية فأفادت
وأثمرت لتخفف العبء عن النابهين.
العناية بالنابهين، وتفريغ من يصلح منهم لينفع بحصاد قلمه.
رعاية جوانب التخصص لدى شباب الصحوة، رعاية تخرج من التشتت،
ولا تعني الانغلاق.
العناية بأفراد من أبناء الصحوة برزوا في العلم ولم تستوعبهم الصحوة فيما
مضى.
السعي إلى إنشاء مراكز أبحاث علمية ودعوية تنظر في نوازل الأمة الفقهية
والدعوية وتؤصل الحلول الشرعية لها.
يجب أن ندرك أن العناية بالتأصيل غدت ضرورة فوق كل ضرورة، وإلا
فإنه لا مكان اليوم للضعفاء.
ومن الله العون، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/154.(122/4)
دراسات شرعية
أضواء شرعية على العلاج بالرقى والقرآن
(1من2)
فتحي الجندي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه، وبعد: ...
فإن موضوع التداوي بالرقى والقرآن وما يتبع ذلك من حديث عن مس الجن
والعين والسحر جدّ خطير؛ لتعلق ذلك بالعقيدة والأخلاق، وببعض المشكلات
والظواهر الاجتماعية المعقدة التي طفت على السطح في الفترة الأخيرة نتيجةً لتراكم
بعض الممارسات منذ عدة سنوات.
ومنشأ الخطورة في هذه القضية هو ما حصل في هذه الأزمنة من توسّع
وإفراط في مسألة الرقى؛ حيث أُدخل فيها ما ليس منها: من البدع المحدثة،
والممارسات المخترعة التي لا أصل لها في كتاب الله، ولا سنة رسوله-صلى الله
عليه وسلم-، ولا هدي الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولكنها إلى الشعوذة أقرب
وبها ألصق، مما أسهم في انتشار الأوهام والوساوس والخوف والهلع، وتغلل ذلك
في قلوب الكثيرين من المتعاطين لهذه الأمور. فقد كثر الكلام بلا علم، وكثر
التطبب من غير معرفة وفهم لأصول الطب والعلاج، وأصبحنا نرى من يعالج
بالرقية والرقيةُ شرعيةٌ والمعالج المزعوم من أبعد الناس عن العلم الشرعي وأهله،
وقد شاع الأمر وانتشر، وسيطر الوهم على كثير من النفوس، وضعف التوكل
على الله تعالى وتعلّق الناس بالمخلوق الضعيف، بدلاً من تَعلّقهم بالخالق القوي
اللطيف!
يضاف إلى ما سبق توسّع بعضهم وانتهازهم الفرصة لجلب الأموال من هذا
الطريق، وقد تحول الأمر من كونه جُعْلاً تُسدّ به الحاجة؛ إلى مصدر واسع
ومفتوح للترف والسرف والجشع والابتزاز، ثم تأتي ثالثة الأثافي في هذا الأمر
والفتنة تجرّ أخواتها ألا وهي فتنة النساء! وما أدراك ما فتنة النساء؟ ! تلك الفتنة
التي حذرنا منها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولم يَخَفْ علينا فتنة أشدّ منها،
فقد ظهر في هذه الأيام من بعض القراء ولا نقول كل القراء من يتساهل ويترخص
في معالجة النساء، من نظر إلى المرأة إلى الكشف عن أجزاء من جسدها، بل
وربما مسّها.. إلخ، وقد سمعنا عن الكثير من المنكرات في هذا الباب.
من أجل ذلك كله جاءت هذه الدراسة قياماً بواجب النصيحة والتحذير من مغبّة
هذا الأمر وما يجرّه من فتن ومفاسد وانحرافات تتعلق بالعقيدة والأخلاق والاجتماع.
ولا شك في أن أمر العلاج هذا أضحى يحتاج إلى علاج؛ وهذا ما نرجو أن تساهم
هذه الدراسة في جزء من المهمة، بإذن الله تعالى.
أولاً: التحذير من الوقوع في الوساس والأوهام وضعف التوكل:
بادئ ذي بدء نقول: إن الوساوس والأوهام أعراض لمرض خطير من ورائه
أمراض: من اختلال التوحيد، وضعف التوكل، وافتقاد العلم النافع، فتختل لذلك
الموازين، وبذلك يصبح القلب مرتعاً خصباً للوساوس والأوهام والترهات، وإلا
فالقلب الممتلئ أياً كان نوع امتلائه لا يسمح لشيء جديد بالدخول؛ إلا أن يُخرج
شيئاً مما فيه، يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: (قبول المحل لما يوضع فيه
مشروط بتفريغه من ضدِّه؛ وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في
الاعتقادات والإرادات) [1] .
إذا تقرر هذا فالموحِّد يعرف خالقه، ويعرف لماذا خُلِقَ، ويعرف المصير
والمستقر، ويعرف أن الله وحده هو الذي يملك النفع والضر، ويعلم أن الله حي لا
يموت والإنس والجن يموتون. وأنه لا أحد من إنسيّ أو جني يملك ضراً ولا نفعاً
ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إلا أن يشاء الله؛ لذا فالموحّد يعيش مطمئن النفس؛
وهو يعلم أنه ليس لأحد عليه من سبيل ولا سلطان، إلا أن يشاء الله؛ لقوله سبحانه: [إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ... ] [الحجر: 42] .
ولقوله: [وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ] [الأنعام: 17] .
ولقول رسوله الكريم: (يا غلام ... احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على
أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن
يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت
الصحف) [2] .
يقول ابن القيم رحمه الله: (وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله، تكونُ
من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر، والتعاويذ،
والتحصّنات النبوية والإيمانية، فَتَلْقَى الروحُ الرجلَ أعزلَ لا سِلاح معه، وربما
كان عُرياناً فيُؤثر فيه هذا) [3] .
ويقول في ذلك أيضاً: (وعِند السحرة: أن سِحرهم إنما يَتم تأثيره في القلوب
الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسّفليات، لهذا فإن غالب ما
يؤثر في النساء، والصبيان، والجُهال، وأهل البوادي، ومن ضعُف حظه من
الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيبَ له من الأوراد الإلهية، والدعوات
والتعوّذات النبوية.
وبالجملة: فسلطانُ تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلُها إلى
السّفليات، قالوا: والمسحورُ هو الذي يُعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقاً بشيء، كثيرَ الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح
الخبيثة إنما تتسلطُ على أرواح تلقاها مستعِدّة لتسلّطها عليها، بميلها إلى ما يناسب
تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعدة التي تُحاربها
بها، فتجدها فارغة لا عدة معها، وفيها ميل إلى ما يُناسبها، فتتسلط عليها،
ويتمكّن تأثيرُها فيها بالسحر وغيره، والله أعلم) [4] .
ثانياً: مشروعية التداوى:
مما لا شك فيه أن الإسلام جاء بالعلاج الشافي لأمراض القلوب والأبدان، إما
نصاً وإما إجمالاً على سبيل الدلالة، وقد تداوى النبي-صلى الله عليه وسلم-،
وأمر بالتداوي؛ ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن
النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ
بإذن الله عز وجل) [5] .
يقول ابن القيم رحمه الله معقباً: (علق النبي-صلى الله عليه وسلم- الشِّفاء
على مصادفة الدواء للداء، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد، وكلّ داء له
ضد من الدواء يعالج بضده، فعلق النبي-صلى الله عليه وسلم- البُرء بموافقة الداء
للدواء، وهذا قدرٌ زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في
الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نَقَلَه إلى داء آخر، ومتى قصّر عنها لم
يَفِ بمقاومته، ولكان العلاج قاصراً. ومتى لم يقع المُداوي على الدواء، أو لم يقع
الدواء على الداء لم يحصُل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء، لم
ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له، أو القوة عاجزة عن حمله، أو ثَمّ مانع يمنع
من تأثيره لم يحصل البُرء لعدم المصادفةِ، ومتى تمت المصادفة حصلَ البرء بإذن
الله ولا بد) [6] .
هل التداوى ينافي التوكل؟ نستطيع أن نقول من خلال الأحاديث الصحيحة
التي مرت وغيرها: إن التداوي لا ينافي التوكل؛ لأن التوكل لا يعني ترك
الأسباب، كما لا يُنافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها.
هذا وقد يرى البعض أن التداوي ليس كالأكل والشرب؛ ولهذا وقع الخلاف
في حكم التداوي. والذي يعنينا في هذا المقام أن الجميع متفقون على أن التداوي لا
ينافي التوكل.
ثالثاً: وجوب الاجتهاد في معرفة الداء قبل الدواء:
قد يقول قائل: كيف تقول بالوجوب مع أن التداوي مباح فقط وليس بواجب؟
والجواب: أن ترك التداوي مباح، ولكن من أراد أن يعالج فيجب عليه أن
يحاول تحديد الداء أولاً، كي لا يضر من حيث يريد أن ينفع، كمن يتجاهل
التقنيات الحديثة في تشخيص كثير من الأمراض، ثم ينسب كل مرض إلى الجن أو
العين أو السحر، وربما قُتل المريض لإخراج الجني المزعوم؛ لذا قلنا بوجوب
معرفة ذلك، ثم تحديد الدواء المناسب له؛ لأنه إذا وقع الخلط في تحديد نوع الداء
فأنّى السبيل إلى وصف الدواء المناسب؟
رابعاً: هدى النبي-صلى الله عليه وسلم- في التحصين والعلاج:
لا شك أن هدي محمد-صلى الله عليه وسلم- خير الهدي، وهذا عام في كل
أمر، وقد كان-صلى الله عليه وسلم- كما قال الله تعالى: [حَرِيصٌ عَلَيْكُم
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: 128] .
فما من خير إلا ودلّنا عليه، وما علم من شرٍ إلا وحذرنا منه. وفي هديه-
صلى الله عليه وسلم- الوقاية والتحصن ابتداء من كافة الأدواء لدفعها قبل وقوعها.
وإذا ما وقع الداء فعلاً دل على العلاج الناجع بإذن الله: إما نصاً، أو على سبيل
الدلالة؛ ولذا سنتكلم عن كلا الأمرين:
أولاً: التحصينات.
ثانياً: العلاج فيما يخص موضوعنا: (مسّ الجن العين السحر) .
التحصينات:
تكون التحصينات الهامة بتوحيد الله عز وجل ومعرفته بأسمائه وصفاته
وإخلاص العبادة له، وتجريد المتابعة لأمره والتوكل عليه ومحبته والإكثار من ذكره. وهذه تحصينات على العموم والإجمال. ثم تأتي نصوص في بعض التحصينات
على سبيل التفصيل من مثل: قراءة سورة البقرة في البيت، قراءة آية الكرسي،
قراءة المعوذات، الذكر عند الجماع لتحصين الذرية.
ولكن نلفت الانتباه إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين الذكر: الذي يخرج من القلب، والكلمات المجردة: التي تقال باللسان. فالمطلوب هو حقيقة الذكر لا مجرد
الكلمات.
تحصينات ووقاية من العين خاصة: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن
النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (العين حق. ولو كان شيء سابق القدر لسبقته
العين) [7] .
وللوقاية من العين ابتداءً يجب على من رأى شيئاً فأعجبه وخاف عليه العين
أن يقول: ما شاء الله، وأن يبرِّك (أي يدعو لصاحبه بالبركة) .
العلاج:
أولاً: علاج الصرع الذي من الجن: يقول ابن القيم رحمه الله: (علاجُ هذا
النوع يكون بأمرين: أمرٍ من جهة المصروع، وأمرٍ من جهة المعالج، فالذي من
جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها،
والتعوّذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلبُ واللسان، فإن هذا نوعُ محاربة،
والمحَارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين:
الأول: أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً، وأن يكون الساعد قوياً،
فمتى تخلّف أحدُهما لم يُغن السلاح كثيرَ طائل. فكيف إذا عُدِمَ الأمران جميعاً؟ عند
ذلك يكون القلب خراباً من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاح له.
والثاني: من جهة المعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً حتى إن من
المعالجين من يكتفي بقوله: (اخرُج منه) . أو بقول: (بسم الله) ، أو بقوله: (لا
حول ولا قوة إلا بالله) ، والنبي-صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (اخرج عدوّ الله
أنا رسول الله) [8] .... إلخ [9] .
ثانياً: علاج العين: إذا وقعت الإصابة بالعين فإن طريقة العلاج تختلف بين
حالين: الأولى: إذا عُرِف العائن. والثانية: إذا لم يُعرفْ.
إذا عرف العائن: العمدة في هذا حديث إصابة سهل بن حنيف بالعين:
فعن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي
سهل بن حنيف بالخرار، فنزع جبة كانت عليه وعامرُ بن ربيعة ينظر قال: وكان
سهل رجلاً أبيض حسن الجلد قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا
جلد عذراء. قال: فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، فأُتي رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- فأُخبر: أن سهلاً وعك، فقال رسول الله: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟ ألا
برّكت. إن العين حق. توضأ له. فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله-
صلى الله عليه وسلم- ليس به بأس [10] .
إذا لم يُعرف العائن: إذا لم يعرف العائن فإن العلاج يكون بالرقى المشروعة، والأذكار المأثورة وإخلاص التوجه إلى الله، والدعاءُ من المضطر كفيل بالإجابة
[أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ... ] [النمل: 62] .
يقول ابن القيم رحمه الله: (.. فمن التعوذات والرقى: الإكثار من قراءة
المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي، ومنها التعوذات النبوية نحو: أعوذ بكلمات
الله التامات من شر ما خلق. ونحو: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة
ومن كل عين لامة. ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا
فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ... وحسبي الله ونعم الوكيل عليه توكلت وهو رب
العرش العظيم. ومن جرب هذه الدعوات والعوذ عرف مقدار منفعتها، وشدة
الحاجة إليها؛ وهي تمنع وصول أثر العائن وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان
قائلها وقوة نفسه واستعداده، وقوة توكله وثبات قلبه؛ فإنها سلاح. والسلاحُ
بضاربه) [11] .
ثالثاً: علاج السحر: كما قلنا مراراً: إن الوقاية خير من العلاج فيجب
الوقاية ابتداء من السحر قبل وقوعه كما ذكرنا ذلك غير مرة وذلك بتجريد التوحيد
لله والثقة بقضائه وقدره، والتحصن بكثرة ذكره وقراءة المعوذات وغيرها.
ويضاف إلى ذلك العمل بما في الحديث الذي ورد في السحر خاصة؛ فعن سعد
رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (من اصطبح كل يوم تمرات عجوة لم يضره
سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل) .
وفي رواية: (من تصبّح سبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا
سحر) [12] .
قلت: هذا الحديث الشريف لا يوجد ما يخرجه عن عمومه بيقين.
ولكنه لن ينتفع به إلا من يصدِّق بالنبي-صلى الله عليه وسلم-، ويثق أن
ما يقوله حق لا مرية فيه علم الناس حقيقته أو لم يعلموا أما أهل المراء والجدال فهم محجوبون ومحرومون ولا ينبغي الاشتغال بهم ولا بوساوسهم.
أما علاج السحر بعد أن يقع فيكون بالتسليم والرضا بالقضاء والصبر على
ذلك ومحاسبة النفس على تقصيرها. وتحرّي الوسيلة المشروعة للعلاج. والتوبة
من المعاصي والابتعاد عن التفكير في الذهاب إلى السحرة والدجالين، وتحرّي
الذهاب إلى من لا يُتهم في دينه من أهل العلم والصلاح، أو طلبة العلم المعروفين
بالطلب والاستقامة.
يقول ابن القيم رحمه الله عن مرض السحر: (ذكر هديه-صلى الله عليه
وسلم- في علاج هذا المرض. وقد روي عنه فيه نوعان:
أحدهما وهو أبلغهما: استخراجه وإبطاله كما صح عنه-صلى الله عليه وسلم-
أنه سأل ربه سبحانه في ذلك، فدُلّ عليه فاستخرجه من بئر. فكان في مشط
ومشاطة وجُفِّ طلعةِ ذَكَر. فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال،
فهذا من أبلغ ما يُعالَج به المطبوب أي المسحور وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة
وقلعها من الجسد بالاستفراغ.
والنوع الثاني: الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر) ا. هـ[13] .
خامساً: تحديد الوسائل المبتدعة في العلاج [14] :
هذه نُشرات أم بدع ومحدثات؟ !
النشرة العربية والحل: يقول الحافظ في الفتح: (النّشرة بالضم وهي ضرب
من العلاج يعالج به من يُظن أن به سحراً أو مساً من الجن؛ قيل لها ذلك لأنه
يكشف بها عنه ما خالطه من الداء، ويوافق قول سعيد بن المسيب ما تقدم في (باب
الرقية) في حديث جابر عند مسلم مرفوعاً: (من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل) .
ويؤيد مشروعية النشرة ما تقدم في حديث (العين حق) في قصة اغتسال العائن،
وقد أخرج عبد الرزاق من طريق الشعبي قال: لا بأس بالنشرة العربية التي إذا
وطئت لا تضره، وهي أن يخرج الإنسان في موضع عضاه فيأخذ عن يمينه وعن
شماله من كلٍ ثم يدقّه ويقرأ فيه ثم يغتسل به.
وذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر
أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي
والقواقل [15] ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
وممن صرح بجواز النشر المزني صاحب الشافعي وأبو جعفر الطبري
وغيرهما، ثم وقفت على صفة النشرة في (كتاب الطب النبوي) لجعفر المستغفري
قال: وجدت في خط نصوح بن واصل على ظهر جزء من (تفسير قتيبة بن أحمد
البخاري) قال: قال قتادة لسعيد بن المسيب: رجل به طب أخذ عن امرأته أيحل له
أن ينشر؟ قال لا بأس، إنما يريد به الإصلاح؛ فأما ما ينفع فلم ينه عنه. قال
نصوح: فسألني حماد بن شاكر: ما الحل وما النشرة؟ فلم أعرفهما، فقال: هو
الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وطاق ما سواها فإن المبتلى بذلك يأخذ حزمة
قضبان، وفأساً ذا قطاريْن ويضعه في وسط تلك الحزمة، ثم يؤجج ناراً في تلك
الحزمة، حتى إذا ما حمي الفأس استخرجه من النار وبال على حره، فإنه يبرأ
بإذن الله تعالى، وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفازة
وورد البساتين ثم يلقيها في إناء نظيف ويجعل فيهما ماء عذباً ثم يغلي ذلك الورد في
الماء غلياً يسيراً ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.
قال حاشد: تعلمت هاتين الفائدتين بالشام. قلت: وحاشد هذا من رواة الصحيح عن
البخاري وقد أغفل المستغفري أن أثر قتادة هذا علقه البخاري في صحيحه وأنه
وصله الطبري في تفسيره، ولو اطلع على ذلك ما اكتفى بعزوه إلى تفسير قتيبة بن
أحمد بغير إسناد، وأغفل أيضاً أثر الشعبي في صفته وهو أعلى ما اتصل بنا من
ذلك) [16] .
قلت: لنا هنا وقفات مع الحافظ رحمه الله: قوله: ويؤيد مشروعية النشرة ما
تقدم في حديث (العين حق) في قصة اغتسال العائن. قلنا: لا خلاف في مشروعية
النشرة؛ ولكن أي نشرة؟ لقد اتسع الخرق على الراقع وتسربت البدع والخزعبلات
إلى كتب أهل العلم، فضلاً عن عقول العامة والغوغاء سلمنا في نُشرة العين
باغتسال العائن لورود النص الصحيح عن المعصوم في ذلك، وما كان لنا أن
نعترض ولو لم نفهم السر في ذلك وإن كان بحمد الله تعالى قد ظهر لبعض أهل
العلم ما يُرجى أن يكون تعليلاً مناسباً لوجه المناسبة بين الداء والدواء [17] .
أما أن يُفتح الباب لكل سائبة ومتردية ونطيحة وأكيلة سبع لتدخل وتمر تحت
ستار: (مشروعية النشرة) فهذا تفريط خطير لا يمكن أن يُقبل بحال، وإن قال به
فلان وفلان من أهل العلم؛ لأن أقوالهم قد صارت قنطرة تعبر عليها الخزعبلات
باسم النشرة الشرعية، وإلا فقل لي بربك: أية شرعية في جمع قضبان وفأس ذي
قطارين ونار وبول! ولماذا حزمة قضبان؟ ألا يغني عنها الزفت والقطران؟ !
ومن أين اشترطوا أن يكون الفأس ذا قطارين؟ أما كان يكفي أن يكون الفأس ذا
قطار؟
فوالله لقد سمعت أخيراً أحدهم في أحد الأشرطة يقول: يمكن أن يكون الفأس
ذا قطار واحد؟ !
فالحمد لله؛ لقد جلبت المشقة التيسير، وصرنا من قطارين إلى قطار، وغداً
ربما تكفي حدوة حمار، أو حلقة أو مسمار! ثم سمعت لأحدهم تجديداً في القول،
فأعطى مشكوراً بديلاً عن (البول) وهذا التجديد مسطور في بعض الكتب، قال
المؤلف بعد أن ساق نُشرة (البول والفأس والقضبان) التي نعتها بالحلّ قال: قلت:
ولو لم يبل عليه بل وضعه في ماء وقرأ عليه قوله تعالى: [وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ
بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] [الحديد: 25] ثلاثاً أو سبعاً ثم اغتسل به وشرب منه
برئ بإذن الله تعالى فإنه مُجرّب) [18] .
قلت: وهكذا في وسط زحام النّشرات الشرعية المزعومة تدخل الترهات
بجواز مرور يحمل تأشيرة: (مجرب) وتنبعث سحب الدخان الأسود لتدخل علينا
وصفة الذئب الأغبر، والديك الأبيض، والورد الأحمر! ؟ !
قلت: ويعود بنا الحديث إلى كلام الحافظ رحمه الله.
قوله: وقد أخرج عبد الرزاق من طريق الشعبي ... إلخ.
قلت: ظاهر الكلام يوحي بأنه قد ساقه بإسناده والواقع غير ذلك ففي المصنف
11/13 [19763] قال عبد الرزاق: وقال الشعبي. فأين الإسناد؟ وللعلم فقد توفي
الشعبي سنة أربع وقيل خمس وقيل ست وقيل سبع ومائة. أما عبد الرزاق فقد ولد
سنة ست وعشرين ومائة وتوفي سنة إحدى عشرة ومائتين فما يرسله عن الشعبي
من السوائب التي لا يُعبأ بها، والعجيب أن الحافظ يتعقب على المستغفري فيقول:
وأغفل أيضاً أثر الشعبي في صفته، وهو أعلى ما اتصل بنا من ذلك. قلت: رحم
الله الحافظ وإلا فأين العلو؟ وأين الاتصال؟ ! أما ما حدّث به حماد بن شاكر
مغتبطاً وكأنما قد حاز كنزاً ولم يخبرنا كيف وقع عليه، فقد تقدم الكلام عليه
وتزييفه [19] . أما قول حاشد: تعلمت هاتين الفائدتين بالشام، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فأي علم وأي فوائد في مثل هذا الكلام؟ !
__________
(1) الفوائد لابن القيم، ص 60 باختصار.
(2) رواه الإمام أحمد (2669) ، وبنحوه (2763) ، (2804) ، والترمذي (2518) .
(3) الطب النبوي، ص 69.
(4) الطب النبوي، ص 127.
(5) مسلم في السلام (2204) .
(6) الطب النبوي، ص 14، 15.
(7) مسلم في السلام، (2188) .
(8) أحمد (4/170، 171، 172) من حديث يعلى بن مرة، والدارمي (1 /15) عن جابر ورجاله ثقات.
(9) الطب النبوي، ص 68 -71.
(10) موطأ مالك (2/938، 939) وابن ماجة (2509) ، وأحمد (3/ 486) .
(11) الطب النبوي، ص 168 -170.
(12) البخاري (5768) ، 5769) ، ومسلم (2047) .
(13) الطب النبوي، ص 126 -127.
(14) هناك روايات كثيرة فندناها في كتابنا (النذير العريان) ، ص 71 -122.
(15) القواقل: سورة الكافرون والمعوذات وقيل غير ذلك.
(16) فتح الباري، (1/244 -245) .
(17) انظر الطب النبوي، ص 171 -172.
(18) السحر حقيقته وحكمه والعلاج منه، ص 65، 66.
(19) انظر النذير العريان للكاتب.(122/8)
دراسات تربوية
أطفالنا ومدارس اللغات الأجنبية
د. مصطفى حسين
شهدت بعض البلدان العربية في الآونة الأخيرة انتشاراً واسعاً لما يسمّى:
(مدارس اللغات) ، وهي نمطٌ من المدارس يُعنى بتدريس اللغات الأجنبية بشكل
مكثّف منذ مرحلة (رياض الأطفال) إلى نهاية المرحلة الثانوية، ولا تكتفي هذه
المدارس بلغةٍ أوروبيةٍ واحدة، بل تدرّس لغتين اثنتين، إحداهما هي اللغة
الأوروبية الأولى، وتبدأ من مرحلة (رياض الأطفال) ، والثانية هي اللغة الأوروبية
الثانية، وتبدأ في مرحلة متأخرة نسبياً. ويتم في هذه المدارس تدريس موادّ العلوم
والرياضيات باللغة الأوروبية الأولى إلى جانب مقرّر مكثّف لهذه اللغة، ومقرّر أقل
كثافة للغة الأوروبية الثانية، يظل مرافقاً للتلميذ إلى نهاية المرحلة الثانوية.
وبطبيعة الحال يتم تدريس مقرري اللغة العربية والدين، والموادّ الاجتماعية (وهذه
تدرس باللغة العربية) ، بالمستوى السائد في المدارس العربية.
وهذا النهج الدراسي يعتبر نمطاً خطيراً من (ازدواجية التعليم) يذكرنا بما
صنعه (دنلوب) الوزير البريطاني خلال العشرينيات الميلادية من هذا القرن في
مصر خلال حقبة الاحتلال البريطاني.
ومن الملاحظ أن هذا النمط من المدارس ينتشر ويتزايد إلى حدّ التفاقم،
ويتزايد الإقبال عليه، حتى وصل الأمر إلى تحويل بعض المدارس الحكومية إلى
مدارس للغات. وعلى حين كانت مدارس اللغات مقصورة إلى عهدٍ قريب على
أبناء الأثرياء القادرين، فقد بدأت تشهد إقبالاً متزايداً من جانب محدودي الدخل،
أولئك الذين يعانون إرهاقاً شديداً، ومع هذا يصرّون على احتمال هذا الإرهاق،
بسبب تصورهم الواهم عن هذه المدارس، وما تصنعه لأبنائهم من مستقبل زاهرٍ
مضيء.
وأمام المنافسة الشديدة لهذه المدارس، وأمام رواجها المتزايد، اضطر بعض
أصحاب المدارس الأهلية، التي أخذت على عاتقها تكثيف الجانب الإسلامي في
الإعداد والتدريس، نقول: اضطرّت هذه المدارس الأهلية إلى أن تصدِّر إعلاناتها
ولافتاتها بعبارات مثل: (تعلّم الإنجليزية) أو (مدارس ... الأهلية الإسلامية للغات) .
والأعجب من ذلك والأخطر أن المسؤولين عن التعليم في هذه البلدان يقفون
صامتين أمام تلك الظاهرة، ويشاركهم صمتهم الجمهرة الغالبة من خبراء التربية.
وقصارى ما يفعله الخبراء أن يكتبوا بحثاً عن (الثنائية اللغوية في المرحلة
الابتدائية) ، بين مرحِّب ورافض، وحتى إن بعض أولئك الرافضين يتحدثون عن
هذه الثنائية من ناحية القدرات دون أدنى تعرّض للخطر الداهم الذي تتعرض له
الأمة نتيجة هذا الغزو الداهم لكيانها وهويتها، ممثلاً في الناشئة.
وهكذا، فإن هذا النمط من المدارس الذي يتكاثر ويتفاقم، ويستجيب لاندفاع
جماهير الناس في موجاتٍ محمومة يوشك أن يكون الأصل والأساس، وأن تصبح
(المدارس العربية) عنصراً طفيلياً دخيلاً، يفقد بالتدريج مقومات وجوده بل
ومسوغات استمراره في ساحة التعليم.
ومع الاندفاع المحموم نحو (مدارس اللغات) ، وأمام تكاثرها المتزايد، بدأ
فريق من رجال الأعمال والمستثمرين يشاركون في تأسيس هذه المدارس، ولا همّ
لهم إلا تحقيق الكسب المادي؛ والغريب المثير أن هذه الفئة لا صلة لها أصلاً بحقل
التربية والتعليم، فبعضهم من التجار، والآخر من أصحاب المشاريع الصناعية.
ذريعة مدارس اللغات:
ولكن ما هي الذريعة التي يتشبث بها المؤيدون لهذا النمط من المدارس،
سواء في ذلك الآباء أو التربويون؟
وجوابهم هو: أن المستقبل والحاضر يقفان إلى جانب اللغات؛ فها هو العالم
قد تحول إلى قرية صغيرة مفتحة النوافذ؛ مما يفرض تعلم لغة أجنبية واحدة على
الأقل يستطيع الإنسان من خلالها أن يتصل ويتواصل، وأن ينفتح على المستجدات
المتسارعة في المجالات المعرفية والتقنية، وأن الاقتصار على اللغة الأم يعني
العزلة والانغلاق، وحتى يستطيع إنسان العصر المتجدّد أن يحافظ على بقائه، فإنه
ينبغي عليه أن يتواصل مع الآخرين.
ونودّ قبل أن نردّ على أصحاب هذه الذريعة، أن نقرر حقيقة هامة: وهي
أننا لا نعارض قط مبدأ تعلم اللغات الأجنبية، ولا نؤيد قط مبدأ الاقتصار على
العربية لغتنا الأم، سواء في عصرنا أو في عصرٍ سبق أو عصر لاحق؛ ولكننا
نقرر جملةً من الحقائق نفند بها ذرائع المؤيدين لمدارس اللغات، ونوجزها فيما يلي:
أولاً: نحن نؤيد تجربة اللغات ومدارس اللغات، شريطة أن تكون هذه
التجربة في إطار هدف سامٍ نابع من هويتنا وجذورنا، وشريطة أن نُخضع هذه
التجربة لنظام دقيق؛ بحيث لا يسمح لها بالانفلات والتكاثر المحموم، وشريطة أن
يتوافر لها العناصر القادرة المدرّبة: تدريساً وتوجيهاً وإدارةً، وأن تقتصر على
أبناء المبتعثين العائدين من دول أجنبية، أو من في حكمهم من أبناء الأجانب:
أعضاء البعثات الدبلوماسية، ورجال الأعمال [1] .
ثانياً: لِنكنْ واقعيين مع أنفسنا، ومع الواقع ذاته ولْنتساءلْ: هل استطاعت
الأسر التي ألحقت أبناءها بهذه المدارس أن تتابع أبناءها؟ وهل لدى غالبية تلك
الأسر القدرات اللغوية التي تمكنهم من تلك المتابعة؟
ثالثاً: هل استطعنا أن نحسم قضية تعريب كليات الطب والعلوم والهندسة،
حتى نضيف إلى القضية قضايا أخرى؟
وللأسف الشديد فإننا نصرّ على المغالطة وإغماض أبصارنا وبصائرنا عن
الحقيقةِ والواقعِ، والحقيقةُ والواقعُ أن طلابنا في كليات الطب مثلاً وكذلك أطباؤنا
يجدون صعوبات جمّة تحول دون الاستيعاب الحقيقي للمادة الطبية، لا فرق في ذلك
بين من حصل على (الثانوية العامة) من مدارس عربية أو مدارس اللغات.
رابعاً: وضع اللغة العربية: للغتنا الأم، وضعٌ مقلق مزعج إلى أبعد الحدود؛ والدليل واضح ماثل لكل ذي بصرٍ وبصيرة؛ فطلابنا يعانون ضعفاً مزرياً في
لغتهم الأم، وقد بدت الشكوى متزايدة من هذا الضعف، فخريجو الجامعات ضعاف
في اللغة العربية، لا فرق في ذلك بين خريجي أقسام اللغة العربية ومعاهدها، وبين
غيرهم، والأغلاط اللغوية في الكتب والصحف متفشية. وهذا الضعف ليس في
أساسيات اللغة العربية ومهاراتها فقط بل يمتد إلى معارفها وثقافاتها المتصلة بها.
فكيف نضيف إلى ضعفنا في لغتنا الأم ضعفاً في سائر اللغات؟
خامساً: نشير هنا إلى رأي فريق من علماء التربية لا يستهان به؛ فالبعض
يؤكد أن ثمة ظاهرةً تسمى ظاهرة: (الاعتماد أو التوافق المتبادل
Interdependence) بين اللغة الأم واللغة الأجنبية، مما يؤثر في إتقانهما معاً؛ فالطفل الذي يتلقى دروساً في لغة ثانية (أجنبية) ، قبل أن يتقن لغته الأولى لن
يتقدم في هذه أو تلك [2] .
سادساً: يقسّم بعض علماء التربية الثنائية اللغوية إلى نوعين: (الثنائية
اللغوية الطارحة، والثنائية اللغوية الجامعة) فالأولى هي تلك التي تسود بين أطفال
يتهدد لغتهم الأم خطر الاندثار، وأما الثانية فهي تلك التي تسود بين أطفال تتمتع
لغتهم الأم بقدرٍ كبيرٍ من الرسوخ والتفوق.
والسؤال: إلى أي النوعين تنتمي الثنائية اللغوية في ظل ما يسمّى بمدارس
اللغات؟
نضيف إلى ما تقدّم حقيقة تربوية لا يختلف عليها التربويون برغم اختلافهم
حول قضية (الثنائية اللغوية) ، وهي: (أنه كلما ازداد أساس اللغة الأم رسوخاً،
واستمرت في تطورها ازدادت القدرة على اللغة الثانية) [3] .
سابعاً: يتشبث المتحمسون لمدارس اللغات بمنطق مغلوط معكوس؛ فالمعلوم
من واقع التاريخ الإنساني أن المجتمع لا يحافظ على بقائه في عالم مفتّح متواصل،
بالحفاظ على هوية الآخرين والذوبان المطلق فيهم، ولكن بحفاظه على هويته أولاً،
وتحصين ذاته ضدّ عوامل الفناء والاندثار؛ فإن صنع الإنسان العكس، فقد غالط
طبيعة الأشياء، ورضي لنفسه أن يكون التابع الذليل.
وإذا راجت بيننا اليوم مقولة أن (لا مكان في عالم اليوم لمن لا يتسلح باللغات) ، فإن الأصحّ من هذه المقولة أنه (لا مكان لمن يدخل بيوت الآخرين، بعد أن نسف
بيته، وأتى على بنيانه من القواعد) .
ثامناً: نؤكد ونحن مضطرون للتكرار أننا لا نرفض مبدأ تعلم اللغات، ولكن
شريطة أن يكون هذا المبدأ مؤسساً على أهداف وثيقة الصلة بوجودنا وكياننا
وأصالتنا، ومرتبطاً بخطة مدروسة لا تتجاهل واقع مدارس اللغات، وحصاد هذه
التجربة بعد اتساعها واستفحالها، على أن نخضع ذلك كله لدراسة علمية فاحصة،
تسبر الواقع ونتائجه دون تجاهل أو تعصب.
تاسعاً: ليس من اللازم اللازب لكي نحقق مبدأ التواصل مع عالمنا وعصرنا
أن نترك الحبل عل غاربه لمدارس اللغات، وأن يُرهق أبناؤنا وبيوتنا مادياً ونفسياً؛ إذ يكفي أن ندعِّم مقررات اللغات الأجنبية (اللغة الثانية) في المرحلة المتوسطة
(الإعدادية) ، وأن نعمل على تطويرها، مع الملاحقة والمتابعة لمقررات اللغة
العربية، بالتطوير والدعم المستمر وتدريب المختصين بها: معلمين وموجهين،
وإخضاع الكتب المقررة للدراسة الدائمة في ضوء مرئيات التلاميذ والمعلمين
وأولياء الأمور وسائر من ينبغي الاستئناس بآرائهم من الخبراء وأساتذة التربية.
عاشراً: إن قضية (ثنائية التعليم) منذ المراحل الأولى للتعليم (رياض الأطفال
والمرحلة الابتدائية) قضية ما تزال مثارة، والخلاف حولها ما يزال قائماً، فلماذا
نتصرف على أنها قضية محسومة؟ ولماذا هذا التدافع المحموم نحو اللغات
ومدارس اللغات.
حادي عشر: إن نجاح الأمم يقاس بمبدأ: (التوازن الثقافي) الذي تحققه
لنفسها، وبقدر هذا التوازن بين كيانها وأصالتها من جانب وثقافات الآخرين من
جانب آخر تكون قوتها وقدرتها على العطاء الإنساني الذي يكسبها الاحترام والوجود
المتميز.
بقيت حقيقة أخرى نختم بها مقالنا وهي تتعلق بما يسمى دولة (إسرائيل)
واللغة العبرية؛ فقد استطاع اليهود أن يجعلوا لغتهم الأم، (وهي العبرية) اللغةَ
الدارجة السيّارة: في المدرسة والجامعة، والحقل والمزرعة، والمتجر والمصنع،
والشارع العام؛ وهي لغة العلم والتعليم والإعلام والسياسة. وقد عاش اليهود على
آمادٍ طويلة من الأحقاب يعملون بكل سبيل على أن تظل لغتهم حية تحتكّ بكل لغات
العالم، لكي تبقى وتعيش لا لتفنى وتندثر.
وفي كل بلد عاش فيه اليهود، كانوا يتحدثون بلغتهم، ويشاركون بأقلامهم في
الإبداع الأدبي والعلمي بلغة هذا البلد، ولكنهم داخل (الجيتو (الذي حرصوا على أن
يصنعوه لأنفسهم، كانوا يتحدثون العبرية ويلقنونها أبناءهم.
فهل نتنكر نحن للعربية، ونذوب عشقاً وهياماً في الآخرين؟
إن العربية أعرق وآصل من العبرية ومن غير العبرية، وأيادي العربية على
العبرية وغيرها من اللغات يؤكدها التاريخ. والناشئةُ من أبنائنا أحوج في هذا
العصر، وأكثر من أي عصر مضى، إلى أن يرتبطوا بلغتهم حباً وولاءً.
والعربيةُ بعدُ ارتبطت بكتاب سماوي خالد، وارتبط بها ذلك الكتاب
السماوي [*] .
فهل تصحو ضمائرنا؟ ! !
__________
(1) أشار الكاتب في أول هذه الفقرة إلى تأييد مدارس اللغات ما دامت في إطار هدف سامٍ نابع من جذورنا وهويتنا؛ وانطلاقاً من هذا المبدأ فإنه ينبغي ألا نقصر هذا النوع من الدراسة على الفئات التي أشار إليها الكاتب الكريم ما دامت هذه المدارس تسير وفق خطة واضحة المعالم تخدم الأمة وتسهم في تحقيق تطلعاتها، وتحول بينها وبين إضعاف اللغة الأم - البيان -.
(2) وانظر: الطفل العربي واللغات الأجنبية (سلسلة عالم العربية، الرياض 1993م) ، تأليف د نادية أحمد طوبا، ص 39، 83، دار النشر الدولي بالرياض.
(3) وانظر: الطفل العربي واللغات الأجنبية (سلسلة عالم العربية، الرياض 1993م) ، تأليف د نادية أحمد طوبا، ص 39، 83، دار النشر الدولي بالرياض.
(*) أرجو أن أتفرغ لدراسة منهجية أصيلة حول هذه الفكرة؛ والله أسأل التوفيق والسداد.(122/18)
دراسات شرعية
الصلاة قبل الجمعة وبعدها
د. محمد طاهر حكيم
نرى عامة المسلمين في المساجد يوم الجمعة يقومون ويصلون ركعتين بعد
الأذان وصعود الخطيب على المنبر؛ فهل للجمعة سنة قبلية؟ وكم هي؟ ثم كم
يُصلى بعد صلاة الجمعة؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في هذا المقال إن شاء الله.
أما قبل الجمعة فإن لأهل العلم قولين في ذلك:
القول الأول: ليس للجمعة سنة قبلية، بل إذا أتى الرجل الجامع صلى ما
كتب له حتى يحضر الخطيب، قال ابن المنذر كما في زاد المعاد [1] : (روينا عن
ابن عمر أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة، وعن ابن عباس: أنه كان
يصلي ثماني ركعات) . وروى ابن أبي شيبة [2] عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: (صلّ قبل الجمعة عشر ركعات) .
قالوا: إن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق؛ ولذلك اختُلف في العدد
المروي عنهم في ذلك، وهو مذهب الإمام مالك وبه قال الإمام أحمد في المشهور
عنه [3] .
قالوا: والسنة تدل عليه؛ فإن النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يخرج من
بيته فإذا رقى المنبر أخذ بلال في أذان الجمعة، فإذا أكمله أخذ النبي-صلى الله
عليه وسلم- في الجمعة من غير فصل، وهذا كان رأي عين فمتى كانوا يصلون
السنة؟ [4] .
قال الحافظ العراقي: كما في نيل الأوطار [5] (لم ينقل عن النبي-صلى الله
عليه وسلم- أنه كان يصلي قبل الجمعة؛ لأنه كان يخرج إليها فيؤذّن بين يديه ثم
يخطب) .
القول الثاني: وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن للجمعة سنة قبلية أربع
ركعات، وممن روى عنه ذلك ابن عمر وابن مسعود وسفيان الثوري والنخعي وابن
المبارك وبه قال الحنفية والشافعية، وعندهم أقلها ركعتان والأكمل أربع، وهو
رواية عن أحمد [6] .
واحتجوا بما يأتي:
1- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي-صلى الله عليه
وسلم- يركع قبل الجمعة أربعاً لا يفصل بينها في شيء) [7] .
2- وبحديث أبي هريرة وجابر قالا: (جاء سليك الغطفاني ورسول الله-صلى
الله عليه وسلم- يخطب، فقال له: أصليت ركعتين قبل أن تجيء؟ قال: لا، قال: فصلِّ ركعتين، وتجوّز فيهما) [8] .
قال أبو البركات ابن تيمية كما في زاد المعاد [9] (وقوله: (قبل أن تجيء)
يدل على أن هاتين الركعتين سنة الجمعة وليست تحية المسجد) .
3- ومنهم من أثبت السنة للجمعة قياساً على الظهر، ومنهم من قال: إن
الجمعة ظهر مقصورة، فيثبت لها أحكام الظهر) [10] .
وقد اعتُرِضَ على هذه الأدلة بما يأتي:
1- أن حديث ابن عباس، إسناده مسلسل بالضعفاء، فعطية متفق على ضعفه، وحجاج مدلس، ومبشر بن عبيد كذاب، وبقية مدلس.
وقد تكلم عليهم الدارقطني والبيهقي وابن القيم وغيرهم [11] .
2- وأما حديث سليك الغطفاني، وقول أبي البركات فيه بأن قوله: (قبل أن
تجيء) يدل على أن هاتين الركعتين سنة الجمعة وليست تحية المسجد.
فالجواب: قال ابن القيم [12] قال شيخنا أبو العباس: (وهذا غلط، والحديث
المعروف في الصحيحين عن جابر قال: (دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله-صلى
الله عليه وسلم- يخطب فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين) وقال:
(إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما) [13] فهذا
هو المحفوظ في هذا الحديث، ثم ذكر عن الحافظ المزي قوله: هذا تصحيف من
الرواة، وإنما هو (أصليت قبل أن تجلس) فغلط فيه الناسخ. ا. هـ. ثم قال ابن
القيم بعد أسطر: (ويدل عليه أيضاً: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يأمر
بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحية المسجد، ولو كانت سنة الجمعة لأمر بها
القاعدين أيضاً، ولم يخص بها الداخل وحده) .
3- وأما قياسها على الظهر ففاسد؛ فإن السنة ما كان ثابتاً عن النبي-صلى
الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو سنة خلفائه الراشدين وليس في مسألتنا شيء من
ذلك، ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس؛ لأن هذا مما انعقد سبب فعله
في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-، فإذا لم يفعله ولم يشرعه كان تركه هو السنة.
وأما قولكم بأنها ظهر مقصورة فيثبت لها أحكام الظهر فهذه حجة ضعيفة جداً؛
فإن الجمعة صلاة مستقلة بنفسها تخالف الظهر في الجهر والعدد والخطبة والشروط
المعتبرة لها ... [14] .
هذا وقد أجاب القائلون بثبوت (السنة) قبل الجمعة عن هذه الاعتراضات:
1- قالوا: نسلم أن حديث ابن عباس ضعيف ولكنه صح عن ابن مسعود (أنه
كان يصلي قبل الجمعة أربعاً) رواه عبد الرزاق في المصنف [15] .
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (كان عبد الله يصلي قبل الجمعة أربعاً
وبعدها أربعاً) [16] ، ومعلوم أن هذا له حكم الرفع؛ إذ من المستحيل أنه كان
يشرِّع من عند نفسه.
ثم إنه قد ورد الترغيب في هذه السنة القبلية في حديث سلمان وغيره، وورد
فيها أحاديث أخرى ضعيفة، منها حديث أبي هريرة عند البزار، وحديث علي رواه
الأثرم والطبراني في الأوسط، ومنها حديث ابن عباس وقد تقدم وحديث ابن مسعود
رواه الطبراني [17] فمجموع هذه الأحاديث تدل على أن لها أصلاً، والضعيف إذا
رُوِيَ بطرق متعددة ارتفع إلى الحسن لغيره.
2- وأما قولكم: إن إثبات السنة لها بالقياس على الظهر قياس فاسد؛
فالجواب عنه ما قاله ابن المنير -كما في الفتح-[18] ( ... الأصل استواء الظهر
والجمعة حتى يدل دليل على خلافه؛ لأن الجمعة بدل الظهر) .
3- وأما قولكم: إن السنة ما كان ثابتاً عن النبي-صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو سنة خلفائه الراشدين، وليس في مسألتنا شيء من ذلك.
فالجواب عنه: كيف تقولون هذا وقد ورد عن النبي-صلى الله عليه وسلم-
أنه كان يصلي قبلها أربعاً كما تقدم ووردت عنه ركعتين في حديث أبي هريرة،
رواه الطبراني في الأوسط [19] وصح ذلك عن ابن مسعود قولاً وفعلاً كما تقدم.
وروى ابن سعد في الطبقات [20] بإسناد صحيح عن صافية قالت: (رأيت
صفية بنت حُيي رضي الله عنها صلتْ أربع ركعات قبل خروج الإمام للجمعة، ثم
صلت الجمعة مع الإمام ركعتين) فكيف يصح بعد هذا أن يقال: وليس في مسألتنا
شيء من ذلك؟
قلت: وقد حمل أهل القول الأول وبعض أهل العلم منهم ابن تيمية، وابن
القيم ما ورد من الصلاة أو من السنة قبل الجمعة على التطوع المطلق وجرى على
ذلك العلاّمة أبو شامة فقال [21] : (وجرت عادة الناس أنهم يصلون بين الأذانين
يوم الجمعة ... ويُضمرون في نيتهم بأنها سنة الجمعة إلى أن قال: وكل ذلك
بمعزل عن التحقيق، والجمعة لا سنة لها قبلها كالعشاء والمغرب) .
وإن كان يَرِدُ عليه ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعاً: (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان) [22] إلا أنه يضعف الاستدلال به
من جهة أنه عامّ يقبل التخصيص، فقد تقدم عليه ما هو الظاهر من حال النبي-
صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك.
والأوْلى أن يقال: إن الصلاة قبل الجمعة جائزة حسنة ومرغوب فيها، ولكنها
ليست سنة راتبة؛ وإنما هي كالصلاة قبل صلاة المغرب؛ وحينئذ فمن صلى لم
يُنكر عليه، ومن ترك لم ينكر عليه؛ وهذا أعدل الأقوال، والله أعلم.
2- وأما الصلاة بعد الجمعة فاتفقوا على سنيتها لثبوتها عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم.
ولكن اختلفوا في مقدارها.
فذهب جماعة من أهل العلم منهم ابن مسعود وعلقمة والأسود والنخعي وسفيان
الثوري وابن المبارك والحنفية غير أبي يوسف إلى أن السنة بعد الجمعة أربع
ركعات، وقال إسحاق: (إن صلى في المسجد صلى أربعاً، وإن صلى في بيته
صلى ركعتين، وقد صرح أكثر هؤلاء أنه إذا صلى أربعاً لا يفصل بينهن
بسلام [23] .
واحتجوا على الأربع بقوله-صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة
رضي الله عنه: (من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً) [24] .
واحتج إسحاق على الأربع بهذا الحديث، وعلى الاثنتين في البيت بحديث
ابن عمر عن النبي (أنه كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين
في بيته) [25] فحمل حديث الركعتين على ما إذا صلى في البيت وحديث الأربع
إذا صلى في المسجد.
وذهب جماعة أخرى من أهل العلم منهم علي وابن عمر وأبي موسى وعطاء
والثوري في قول وأبو يوسف إلى أن السنة بعد الجمعة ست ركعات: يصلي
ركعتين ثم أربعاً إلا أن أبا يوسف استحب أن تقدم الأربع قبل الركعتين [26] .
واحتجوا بالآتي:
1- حديث ابن عمر أنه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين،
ثم تقدم فصلى أربعاً، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى
ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له، فقال: (كان رسول الله-صلى الله عليه
وسلم- يفعل ذلك) [27] .
2- عن عطاء قال: صليت مع ابن عمر رضي الله عنه غير مرة، يوم
الجمعة؛ فلما سلم قام فصلى ركعتين، ثم قام فصلى أربع ركعات، ثم انصرف،
ورُوِيَ مثل ذلك عن علي [28] رضي الله عنه.
وأما وجه ما استحسنه أبو يوسف فهو كراهة أن يصلي بعد الجمعة مثلها على
ما قد نُهِيَ عنه في حديث خرشة بن الحر أن عمر رضي الله عنه كان يكره أن
يصلي بعد صلاة الجمعة مثلها [29] .
وذهبت جماعة ثالثة من أهل العلم منهم: عمر، وعمران بن حصين،
والنخعي، والشافعي إلى أنه يصلي بعد الجمعة ركعتين [30] ، وعن الشافعي
يستحب بعدها أربع. قال العراقي في شرح التثريب [31] : (هما نصان
للشافعي ... ) ثم قال: (والظاهر أن النصين محمولان على الأكمل والأقل) واحتجوا بحديث ابن عمر أنه-صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بعد الجمعة
ركعتين [32] .
قلت: هذا الاختلاف في المقدار ليس اختلاف تعارض وتضاد وإنما هو من
باب التنوع المشروع، أو ما يعبر عنه أحياناً بالاختلاف في المباح [33] والأصل
في هذا: أن ما فعله النبي-صلى الله عليه وسلم- من العبادات على أنواع وصفات؛ فإذا صحت كلها عنه-صلى الله عليه وسلم- شُرِعَ فعلها على جميع تلك الأنواع:
هذا تارة، وهذا تارة.
قال ابن تيمية: ( ... فالاقتداء بالنبي-صلى الله عليه وسلم- في أن يفعل هذا
تارة وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين وهجر الآخر كالاستفتاح.. فجميع ما
شرعه الرسول-صلى الله عليه وسلم- له حكمة مقصودة، فلا يهمل ما شرعه من
المستحبات) [34] .
وقال: (إن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثراً
يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك بل يشرع ذلك كله) [35] .
وقال ابن خزيمة في صحيحه في باب ترجيع الأذان: (وهذا من جنس
اختلاف المباح، فمباح أن يؤذن فيرجع في الأذان ويثني الإقامة، ومباح أن يثني
الأذان ويفرد الإقامة؛ إذ قد صح كلا الأمرين من النبي-صلى الله عليه
وسلم-[36] .
ولهذا قال الإمام أحمد هنا في السنة بعد الجمعة: إن شاء صلى بعد الجمعة
ركعتين، وإن شاء صلى أربعاً، وإن شاء ستاً. وقال ابن قدامة [37] (ولنا: أن
النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك كله بدليل ما روي من الأخبار ... ) .
وقد ذهب الإمام النووي في شرح مسلم [38] إلى تفضيل الأربع فقال: ( ...
ونبه بقوله: (من كان منكم مصلياً) على أنها سنة ليست واجبة، وذكر الأربع
لفضليتها، وفعل الركعتين في أوقات بياناً؛ لأن أقلها ركعتان) .
قلت: إن كل ذلك حسن؛ إذ كله ثبت قولاً وعملاً، وإن زاد على ركعتين
فهو أفضل وأكمل.
(فالصلاة خير موضوع؛ فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر) [39] .
والله تعالى أعلم.
__________
(1) 1/149 وانظر: طرح التثريب، 3/43.
(2) 2/131.
(3) انظر: حاشية العدوي 1/337 والخرشي 1/87 والإنصاف 2/406، وكشاف القناع 1/497.
(4) انظر زاد المعاد، 1/147.
(5) 3/313، وراجع فتح الباري، 2/426.
(6) انظر سنن الترمذي 3/60 وشرح السنة 3/450 ومصنف عبد الرزاق 3/247، وابن أبي شيبة 2/131، والبحر الرائق 2/168، واللباب 1/328، والمجموع 3/463، وروضة الطالبين
1/333، والإنصاف 2/406، وكشاف القناع 1/497.
(7) رواه ابن ماجه، 1/358.
(8) رواه ابن ماجه 1/353 354، وسنده واه كما في فتح الباري 2/426.
(9) 1/148.
(10) انظر زاد المعاد 1/147، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 24/189 190.
(11) انظر زاد المعاد 1/149 ونصب الراية 2/206، وطرح التثريب 3/ 41 42.
(12) زاد المعاد، 1/148، وراجع فتح الباري، 2/401، 426.
(13) أخرج الجزء الأول البخاري، 2/412، ومسلم 6/163، وأبو داود 1/667، والترمذي
3/30، وأما الجزء الثاني: (إذا جاء أحدكم الجمعة) فأخرجه مسلم 6/164، وأبو داود 1/667، والنسائي 1/101، 103.
(14) انظر زاد المعاد، 1/147.
(15) 3/247، وقال الحافظ في التلخيص 2/74: (وصح عن ابن مسعود من فعله) .
(16) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/335، وسنده صحيح كما في نصب الراية 2/207.
(17) انظر فتح الباري، 2/426.
(18) 2/426.
(19) كما في مجمع الزوائد 2/195، وقال: رجاله موثقون.
(20) 8/360، وذكره الزيلعي في نصب الراية 2/207، والحافظ في الفتح 2/426، وسكت عنه فهو صحيح أو حسن على قاعدته.
(21) في كتابه: (الباعث على إنكار البدع والحوادث) ، ص 96.
(22) انظر موارد الظمآن في زوائد ابن حبان، ص 162، ومراجع فتح الباري، 2/426، وطرح التثريب، 3/43.
(23) انظر سنن الترمذي 3/60، وشرح السنة 3/450، ومصنف ابن أبي شيبة 2/133، ومصنف عبد الرزاق 3/247، وشرح معاني الآثار، 1/336، والاختيار 1/66.
(24) أخرجه مسلم 6/168، والترمذي 3/57، وأبو داود 1/673، والنسائي 3/113، وابن ماجه1/358، وابن أبي شيبة في مصنفه 2/132، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/336.
(25) أخرجه مسلم 6/169.
(26) انظر سنن الترمذي 3/59، وعمدة القاري 6/250، 7/234، وطرح التثريب 3/39.
(27) رواه أبو داود 1/673، وسكت عنه، وقال العراقي: إسناده صحيح كما في تحفة الأحوذي
3/58.
(28) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي 1/337.
(29) المرجع السابق.
(30) انظر ابن أبي شيبة 2/132، وشرح السنة 3/450، وعمدة القاري 6/250، والمجموع
3/463.
(31) 3/38 وانظر روضة الطالبين 1/333، ومغني المحتاج 1/220.
(32) أخرجه الترمذي 3/56، وقال: حسن صحيح.
(33) كما قال البغوي في شرح السنة، 3/450.
(34) مجموع الفتاوى 22/335.
(35) المرجع السابق، 24/242.
(36) صحيح ابن خزيمة، 1/194.
(37) المغني 2/219.
(38) 6/169 - 170.
(39) أخرجه أحمد، 5/178، والبزار من حديث أبي ذر، وأعله ابن حبان في الضعفاء بيحيى بن سعيد، وله شاهد من حديث أبي أمامة، أخرجه أحمد بسند ضعيف، انظر التلخيص الحبير 2/21.(122/24)
تأملات دعوية
حدثني من لا أتهم
بقلم: عبد الله المسلم
حدثني من لا أتهم، أو حدثني أحد الثقات: عبارة يصدِّر بها بعض الدعاة
والأخيار حديثهم حول ظاهرة من الظواهر، وتكون مستندهم في إصدار الأحكام
عليها.
ويكثر ذلك في القضايا التي تعني واقع المسلمين ومجتمعاتهم؛ ولعل القضية
الأفغانية خير شاهد على ذلك؛ فكثيراً ما يذكر المتحدث أن مصدره شخص ثقة قدم
من هناك.
ويكثر ذلك أيضاً في إصدار الأحكام على الإسلاميين والجماعات الإسلامية؛
فالناقل شخص خالطهم، وربما كان منهم، وقابل فلاناً وفلاناً؛ وهو ثقة.
وتعظم الرزية حين ترى رجلاً له مكانته في العلم والخير لدى الناس يُصدر
أحكاماً بناءً على آراء هؤلاء الثقات! وقد تكون هذه الأحكام جائرة بعيدة عن
الصواب، رغم أن الناقل والمصدر ثقة كما يقال.
وثمة مداخل على رواية هذا الرجل الثقة أدت إلى ضرورة إعادة النظر في
خبره، فقد يكون ثقة في دينه، بعيداً عن الكذب لكنه لا يسلم من غفلة وتخليط
وضعف ضبط، وكم ردّ أهل الحديث رواية بعض الرجال مع بلوغهم الغاية في
الزهد والصلاح.
وقد يكون هذا الثقة نقل عن مصدر وشخص آخر لا يسلم من الطعن في
ضبطه وحفظه، أو في صدقه وديانته، وكثيراً ما يحدِّث هؤلاء الثقات عن فئات
من السذج والبسطاء، فيتلقون منهم الأخبار وتقويم الواقع، فيغيب عمن يروي عن
الثقة حقيقة مصدره.
وقد يكون له هوى في المسألة والهوى من المداخل الخفية فيؤثر الهوى في
تلقيه وتلقفه أي خبر، ويكون لديه الاستعداد لسماعه ورؤيته كما يريد، ويغفل عما
سوى ذلك؛ فمن يعجب بشخص أو فئة تشده المحاسن، ويوغل في النظر إليها
وتضخيمها والحديث عنها، ومن يكون غير ذلك تشده المساوئ، ويبحث عنها
ويفرح بها، بل يضخمها ويتمحل في إثباتها.
وحين يجتمع هذا الهوى والاتجاه لدى كل من الناقل والمنقول له، أو لدى
الثقة! والذي حُدث بذلك: تتهيأ الأرضية المناسبة لتحويل الأوهام إلى حقائق،
والظنون إلى قطعيات لا تقبل الجدل.
وقد يكون الراوي ثقة في نفسه، لكنه يخلط تقويمه وموقفه الشخصي من
القضية بخبره، فيختلط الأمر على السامع، وهذا مأخذ دقيق؛ فتقويم الشخص مهما
بلغ من الثقة والعمق والديانة يبقى رأياً شخصياً يجب أن يُفرّق بينه وبين الرواية،
وقليل من الناس من يجيد التفريق بين الرأي والتقويم الشخصي وبين الرواية التي
مبناها على الثقة والأمانة.
وقد يؤتى الثقة من جهة التعميم فيرى واقعاً وصورة محدودة فيعممها؛ كما هي
الحال لدى أولئك الذين يسافرون إلى بلاد أخرى، فيرون زاوية ضيقة محدودة من
الواقع، فيتحدثون بها على أنها تمثل المجتمع وتنطبق عليه، ويصدرون أحكامهم
بناء على أنهم يعون هذا الواقع وعياً تاماً.
وقد يكون الشخص الثقة بطبيعته ميالاً للمبالغة، وما أكثر ما يتلقى الناس
أخباراً لو حكموها بعقولهم لشعروا أنها غير معقولة، ولذا كان الذهبي رحمه الله يرد
بعض الأخبار التي تُروى من هذا القبيل، كما قال عما روي أنه حرز من يحضر
مجلس ابن الجوزي بمائة ألف: (وريب أن هذا ما وقع، ولو وقع لما قدر أن
يسمعهم، ولا المكان يسعهم!) [1] .
وكما قال عما روي عن أبي منصور الخياط أنه أقرأَ سبعين ألفاً من العميان:
(قلت: هذا مستحيل، والظاهر أنه أراد نفساً، فسبقه القلم فخط ألفاً) [2] ..
__________
(1) سير أعلام النبلاء (21/ 37) .
(2) سير أعلام النبلاء (19/223) .(122/32)
دراسات تربوية
نظرات في التربية بالأهداف
بقلم: عبد الله عبد الرحمن البريدي
إن في الإسلام منهجاً تربوياً فريداً، يقوم على دعائم وأسس من شأنها إن هي
لُمست وجُلِّيت وأُبرزت أن تكوِّن نظرية تربوية إسلامية متكاملة الأهداف، واضحة
الخطوات، متناسقة المراحل، مضمونة الثمرات بإذن الله.
إن النظرات الجزئية للمنهج الإسلامي التربوي مفيدة ولا شك؛ بيد أنها تعجز
عن تكوين وصياغة تلك النظرية؛ لأن ذلك فقط هو من شأن النظرات الشاملة
العميقة المتكئة على دعائم قرآنية، وأسس نبويّة، وتطبيقات صحيحة يجب أن
تنداح دائرتها لتشمل النظريات والتطبيقات المعاصرة المفيدة في علوم التربية
والنفس والاجتماع ونحوها.
إن عملية تحديد دعائم وأسس النظرية التربوية الإسلامية ضرورة حتمية
لصياغة النظرية وتكوينها، وهي في الوقت ذاته صعبة وشاقة؛ لذا فهي تستحق
من أرباب العلم والفكر والإبداع: إجالة نظر في النصوص، وتأملاً وتفكراً في
التطبيقات، كيما يتضح السبيل لصياغة النظرية التربوية المنشودة، وبلورة
تفصيلاتها وإجراءاتها، وتجلية أهدافها وغاياتها.
إن منظومة الدعائم والأسس التربوية تنتظم عدداً كبيراً، لعل من أبرزها
وأوضحها ما يلي:
1- تحقيق التوحيد في النفس الإنسانية.
2- الأهداف التربوية: تحديداً وربطاً وتذكيراً.
3- الترغيب والترهيب.
4- مراعاة مقتضيات الفطرة الإنسانية.
5- الشمول والتكامل.
وفي هذا الموضوع سيكون التركيز على أساس ودعامة الأهداف مبيناً كيفية
استخدام المنهج الإسلامي وتفعيله لهذا الأساس، ليكون توطئة وتمهيداً للحديث عن
التربية بالأهداف.
معنى الهدف:
يدور المعنى اللغوي والاصطلاحي للهدف على معنى واحد مفاده: الغاية التي
يُسعى إلى الوصول إليها وإلى تحقيقها، والغرض الذي يُراد إدراكه ونيله [1] .
كل له غرض يسعى ليدركه ... والحر يجعل إدراك العلا غرضاً
المنهج الإسلامي والأهداف:
إن المتأمل للمنهج الإسلامي ليدرك بجلاء دون أن تلحقه صعوبة أو تعتريه
مشقة قدر العناية التي أولاها ذلك المنهج لقضية الأهداف، وكيف أن الإسلام يتكئ
بكامل ثقله على أهداف محددة؛ تبني بمجموعها الهدف الأسمى والغرض الأوحد
الذي جاء الإسلام لتحقيقه: وهو تحقيق العبودية الحقة لله تعالى، ويُتوصل بذلك
إلى تحقيقه ونيله، قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ لاَّ يَعْبُدُونِ]
[الذاريات: 56] .
بعد تأمل للكيفية التي انتهجها المنهج الإسلامي فيما يتعلق بالأهداف، تمكنت
من لمس الخطوات التي نفذها هذا المنهج لتفعيل دور الأهداف والإفادة منها، وهي
متمثلة بحسب اجتهادي فيما يلي:
أولاً: تحديد الأهداف بدءاً؛ وذلك بكل دقة ووضوح:
نقرأ في القرآن الكريم أنه خاطب رسولنا الأمين-صلى الله عليه وسلم- في
أول آياته نزولاً [2] بأن يقوم عازماً، وينهض راشداً، ويسير ثابتاً واثقاً صابراً،
مزيلاً اللحاف والدثار ليحقق أهدافاً شاملة عظيمة: [يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ
(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ]
[المدثر: 1-6] ، ثم توالت بعد ذلك آي القرآن العظيم لتبين هذه الأهداف وتفسرها
وتكملها وتفضلها، فهدف العلم محدد بقوله تعالى: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ]
[العلق: 1] ، وهدف التحلي بجميل الخلق وعاطر المعاملة وحسن السلوك بقوله
تعالى: [وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم: 4] ، وقوله تعالى: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ
اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ]
[آل عمران: 159] ، وهدف التماس الحكمة في الدعوة بقوله تعالى [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]
[النحل: 125] .
وهدف الثبات بقوله تعالى: [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاًتِيَكَ اليَقِينُ] [الحجر: 99]
وهدف الانتماء للدين وأهله بقوله تعالى: [اللَّهُ وَلِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى
الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] [البقرة: 257] ، وقوله تعالى:
[لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأنعام: 127] ، وغير
ذلك من الأهداف التي ناسب تقريرها في المجتمع المكي الذي كان يمر بظروف
بداياته، ويتطلب التركيز على قضايا محددة.
ولقد أكد القرآن الكريم على أكثر الأهداف حتى بعد انتقال الجماعة المؤمنة من
طور التأسيس العقدي والإيماني (مكة) إلى عهد البناء الشامل المتكامل (المدينة) ؛
لأنها أهداف متناسقة متكاملة، بيد أنه قرر أهدافاً أخرى، تستطيع الجماعة المؤمنة
من خلالها أن تقيم البناء الإسلامي الحضاري الشامل، فمن ذلك ما قرره القرآن
بقوله تعالى: [وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] [التوبة: 122]
لقد دفع القرآن الكريم الأفواج المؤمنة لاقتحام مجالات الجهاد المتعددة وطرق أبوابه
المتنوعة.
ثانياً: ربط الحياة بهذه الأهداف:
رَبَطَ الإسلامُ حياة المسلمين بأهدافه السامية التي حددها في البداية بكل جلاء
ووضوح عبر قوالب متعددة ووسائل متنوعة، لعل من أكثرها وضوحاً القالب
المشكّل بـ[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ، [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لله162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] ، فهل ثمة جزء من حياة الإنسان بقي دون أن
يربط بالعبودية لله تعالى؟ ! لا وحاشا.
ثالثاً: التذكير بالأهداف:
إن المنهج الإسلامي رباني يتعامل مع الإنسان، مدركاً طبعه وجبلّته،
ومراعياً نقصه وضعفه؛ لذا فمن غير المستغرب أن تكثر النصوص التي تذكِّر
الإنسان الذي يغفل ويذهل وينسى بحكم طبيعته بالأهداف التي يجب أن يحققها، بل
إنه يمكن تقرير أن نصوص الشرع جميعها تذكر بالأهداف ولكنها مختلفة في طبيعة
التدكير وقوته وقالبه، إن قول الله تعالى: [إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
[الفاتحة: 5] من أقوى النصوص تذكيراً وأكثرها ترداداً.
ولعل مما يجدر ذكره وتقريره أن الخطوات الثلاث سالفة الذكر لا تخص
المنهج الإسلامي التربوي فحسب، بل هي صبغة اصطبغ الإسلام بها بأكمله؛ لذا
فإنه يمكن الإفادة منها عند دراسة وتأصيل المناهج السياسية والاقتصادية والإدارية
والنفسية والاجتماعية ونحوها.
وبعد هذا الاستعراض المجمل للكيفية التي انتهجها الإسلام وذلك حسب فهمي
تجاه الأهداف، يمكنني أن أتناول موضوع التربية بالأهداف: مصطلحها ومنطلقاتها
ومراحلها [3] وذلك عبر النقاط التالية:
تعريف التربية بالأهداف:
يمكن تعريف التربية بالأهداف بأنها (عملية إكساب المتربين سلوكاً جديداً، أو
ترسيخ سلوك معين من خلال تحديد الأهداف عبر المربين والمتربين معاً والتي
يجب تحقيقها مع تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيقها) .
منطلقات التربية بالأهداف:
تقوم هذه التربية على أسس، منها ما يلي:
1- ضرورة تحديد الأهداف الواجب تحقيقها في البداية بشكل واضح ودقيق.
2- ضرورة مشاركة المتربين في عملية تحديد الأهداف أو بعضها، وذلك
بحسب استطاعتهم، وقدراتهم العلمية والفكرية والنفسية والعمرية؛ طلباً لتحقيق
الأهداف التالية:
أ - شعور المتربين بتحقق ذواتهم، وذلك لاستشارتهم وأخذ آرائهم.
ب - شعورهم بالارتياح النفسي التام؛ لأنهم يعملون على تحقيق أهداف
ساهموا هم في تحديدها.
ج - التوفيق بين أهداف المربين والمتربين (في حالة وجود تعارض) .
3- تحديد الوسائل التي تحقق الأهداف المنشودة من خلالها.
خطوات التربية بالأهداف:
ثمة خطوات في ضوء التربية بالأهداف، يجب على المؤسسات التربوية
(كوزارات المعارف والتربية والتعليم) أن تقوم بها:
أولاً: تحديد الأهداف الواجب تحقيقها في البداية بكل دقة ووضوح: وتحت
هذه الخطوة يجب مراعاة الأمور التالية:
أ - وصفت الأهداف المحددة المنشودة بالواجبة التحقيق، وهذا يعني عدم
ترك المربي ليحقق من الأهداف ما تميل إليها نفسه، أو تتفق معها طبيعته وجبلته،
أو أن تحقيق تلك الأهداف سهل المنال، أو أنها مما يتقنه ويقدر عليه! ! إن الأمانة
التربوية تقتضي تحديد الأهداف التربوية الواجبة التحقيق ليتم تحقيقها في الواقع
التربوي، ولهذا ندرك أن ممارسات بعض المربين السلبية مخالفة للأمانة التربوية.. إنهم أولئك الذين لا يحققون إلا الأهداف التي تتفق مع قدراتهم وطبيعتهم وميولهم
ورغباتهم.. إن بعضهم مغرم بالكمال، متشدق به، متكلف لأحواله، متلبس بزيه،
إنه ليس ثمة نقص يعتريه، ولا عيب يكتنفه! ! لذلك فقد استحالت ممارساتهم
التربوية إلى (استنساخ تربوي) ! ! وبعضهم لا يريد ذلك، ولكنهم يتجهون إلى
الأهداف التي يتمنون تحقيقها بمقتضى الجبلّة والفطرة، وبهذا نعرف قدر وصية
أحد السلف لابنه وأهميتها؛ إذ هو يقول له: (يا بني تعلم العلم كله؛ فإن الإنسان
عدو ما جهل، ولا أريدك أن تكون عدواً لشيء من العلم) ، إن الإحاطة والإلمام
بفنون العلم والثقافة في الوقت الحاضر من الصعوبة بحيث لا مفر من أن يستفيد
بعضنا من بعض، فكلنا يكمل الآخر.
ب - ثمة اعتبارات علمية يجب مراعاتها عند تحديد الأهداف التربوية:
1- تحديد الأهداف بدقة ووضوح بحيث تفهم من الجميع فهماً واحداً،
ولتوضيح المقصود نفترض أن من ضمن الأهداف المحددة: حفظ ما تيسر من
القرآن.
إن هذا الهدف عام وفضفاض، وقابل لتفسيرات متعددة.
2- تناسق الأهداف وتكاملها وعدم تعارضها.
3- واقعية الأهداف، وذلك بإمكانية تحقيقها، وهي باعتبارين:
أ - باعتبار كل هدف على حدة؛ وذلك بكونه ممكن التحقق.
ب - باعتبار الأهداف مجتمعة؛ وذلك بكونها ممكنة التحقق في وقت واحد.
4- صياغة الأهداف بشكل قابل للقياس طلباً لتحديد نسبة النجاح في تحقيقها
وذلك بربطها بأمر أو أكثر من الأمور التالية:
أ - الزمن: مثل: حفظ كتاب الله تعالى في فترة لا تتجاوز السنتين.
ب - الكمية: مثل: حفظ وجه واحد من القرآن يومياً.
5- ترتيب الأهداف بحسب أهميتها.
6- أن تكون الأهداف من نوع واحد، فإما أن تكون رئيسة (استراتيجية) أو
مرحلية (تكتيكية أو فرعية) ، ولا يصح الجمع بينها؛ لأن الرئيسة تشمل المرحلية
(مثل هدف: تعبيد الأفراد لله تعالى (رئيس) وهدف: تربية الأفراد على أعمال
القلوب (فرعي) أليست التربية من التعبيد لله؟) ومن البدهي وجوب كون الأهداف
التربوية مشروعة وشاملة.
ج - لتسهيل عملية تحديد الأهداف وعملية تحقيقها، يمكن أن تقسم إلى أقسام:
فمن حيث النوع: يمكن تقسيمها إلى: أهداف رئيسة، وأهداف مرحلية.
ومن حيث الزمن: يمكن تقسيمها إلى: أهداف طويلة أو متوسطة أو قصيرة
الأجل.
ثانياً: تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة بأعلى كفاءة ممكنة؛
وعند تحديد مثل تلك الوسائل يجب مراعاة الأمور التالية:
1- أن تحقق الوسائل (البرامج العملية) الأهداف المحددة بأعلى كفاءة ممكنة.
2- أن تكون الوسائل مرنة، بحيث يمكن تعديلها عند الحاجة.
3- أن تتضمن البرامج العملية كيفية مواجهة العقبات المستقبلية (إن وجدت) .
4- الاستفادة من العلوم الحديثة النافعة، كعلوم التربية والنفس والاجتماع
والفسيولوجيا والإدارة والاقتصاد وغيرها.
بالإضافة إلى الاعتبارات العلمية الثلاثة الأولى المذكورة آنفاً (الخاصة
بالأهداف) .
ثالثاً: يجب تحديد نسبة النجاح في تحقيق كل هدف عقب فترة محددة طلباً
لتشجيع وزيادة الإيجابيات والنجاحات، والتماساً لعلاج الأخطاء والسلبيات وتلافيها، وهذه الخطوة تظهر بجلاء أهمية كون الأهداف قابلة للقياس (الاعتبار العلمي
الخاص بالأهداف رقم 4) .
رابعاً: التذكير بالأهداف الواجب تحقيقها على فترات دورية، لئلا يُنسى
بعضها! !
إن شركة (ماتسوشيتا) وهي شركة يابانية استطاعت أن تحقق نجاحات كبيرة
لتصبح من كبريات الشركات العالمية، تؤكد على هذه الخطوة، وتعرف أهميتها
وثمرتها، وذلك بأنها تطلب من مديريها وعمّالها أن يرددوا أهداف الشركة صباح
كل يوم [4] .
خامساً: مراجعة الأهداف المنشودة والوسائل المحددة عقب فترة زمنية معينة؛ وذلك لإجراء التعديلات اللازمة لمقتضيات شرعية أو واقعية، وتجدر الإشارة هنا
إلى أهمية التجديد في البرامج العملية طرداً لسآمة المربين ودفعاً لملل المتربين! ! .
الخلل التربوي:
يجمع المربون على وجود خلل واضح في المنتجات التربوية ناتجٍ من وجود
تصدع بيِّن في البنية التحتية للتربية، بيد أنهم يختلفون كثيراً في أسباب الظاهرة
وعلاجها، وفي رأيي المتواضع أن للظاهرة أسباباً متعددة يمكن إرجاعها إلى سبب
واحد هو غياب الأهداف التربوية الواضحة التي يجب على المربي تحقيقها.
فكيف والحالة كهذه يحقق المربي نجاحاً مثمراً وهو لا يدري في حالات كثيرة
ما هي المواصفات التي يجب التقيد بها؟ ! !
إن بعض المربين قد يغفل عن بعض الأهداف لمدة قد تصل إلى سنوات؟ !
فماذا عن المُنتَج..؟ قطعاً إنه معيب! ! وهنا يأتي دور المؤسسة التربوية في
صياغة وتحديد الأهداف التربوية، ومطالبة المربين بتحقيقها، وذلك لئلا يُلجأ
المربي لأن يجتهد.. فيخطئ ويغفل وينسى! [5] .
المعادلة التربوية الفعالة:
إن خلاصة القول يمكن قراءتها في أحرف هذه المعادلة:
قصد ونية خالصة نقية <---
أهداف ووسائل شرعية علمية <---
صنع أجيال فتية للمجد بانية.
__________
(1) المنجد في اللغة والأعلام، مادة هدف، ص 858.
(2) ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول: (أول شيء نزل من القرآن [يا أيها المدثر] والجمهور بأنها [اقرأ باسم ربك الذي خلق] ، والمهم أنها من أول الآي نزولاً.
(3) استندت كثيراً من فلسفة المدرسة الإدارية الحديثة0 (الإدارة بالأهداف) ، ولمزيد من المعلومات عن هذه المدرسة يمكنك مراجعة كتاب: (الإدارة بالأهداف النظرية والتطبيقية) د علي عبد الوهاب.
(4) لم أقصد أن السبب الوحيد في نجاح الشركة هو ترديد الأهداف، وإنما قصدت أنه من ضمن الأسباب الرئيسية في ذلك ولمزيد من المعلومات عن هذه الشركة وفلسفتها، انظر كتاب: (فن الإدارة اليابانية) باسكال وآخر، ترجمة حسن ياسين.
(5) إن عملية تحديد الأهداف صعبة وهي مناطة بالمؤسسة التربوية، ولا مناص من الاجتهاد في حالة تقصيرها، ويمكن الاستفادة من بعض الكتب في هذا الموضوع مثل: أهداف التربية الإسلامية، محمد الحريري، وأهداف التربية الإسلامية وغايتها، د مقداد يالجن.(122/34)
مقال
المنهج السديد في عرض مادة التوحيد
تجربة ذاتية لتدريس مادة العقيدة
بقلم: د. أحمد بن أحمد شرشال
لماذا مادة التوحيد؟ !
من خلال تجاربي الشخصية الطويلة مع شرح ابن أبي العز لمتن الطحاوي رحمه الله لمست عزوفاً ونفوراً من قِبَلِ بعض الطلاب في القسم الجامعي [*] عن فهم واستيعابه هذا الشرح.
ولا غرو في ذلك؛ فقد كنت أعاني شيئاً من ذلك وأقاسيه عندما كنت طالباً؛
لأن أستاذ هذه المادة كان يتلو علينا هذا الشرح، ويردد كل ما فيه؛ ولا ندري كيف
دخل في الموضوع، ولا كيف خرج منه؟
ولما صرت إلى ما صار إليه، وأُسند إليّ تدريس هذه المادة وقعت فيما وقع
فيه أستاذي، وانتابتني حيرة وارتباك في عرض الموضوع، وأدركت عدم انسجام
الطلاب مع هذه المادة الأساسية؛ بل إنني سمعت كلاماً منهم فيه بعض التهوين من
شأن مادة العقيدة.
فتوقفت ملياً في النظر في إعراض بعض الطلاب ونفورهم من هذه المادة،
وقلّبت الأمر على جميع وجوهه في محاولة لاستكناه الحقيقة وتشخيص الداء.
وبينما كنت أفكر إذ لاح لي أن المنهج والطريقة في عرض موضوعات
العقيدة بأسلوب السرد، وكثرة حكاية ضلال المتكلمين، ورصد شبهاتهم؛ هو الذي
سبّب هذا النفور، وعكس هذه الحال؛ فضاع القصد في خضم هذا الركام لا في
العقيدة نفسها معاذ الله وإنما هو في العرض والتقديم.
ومن ثم قمت بهذه المحاولة عساها تكون مرغوبة، وسطرت هذه الفكرة علها
تكون مفيدة، وجعلت ذلك بعنوان: (المنهج السديد في عرض مادة التوحيد) .
وطبقت هذا المنهج وهذه الطريقة في تدريسي لهذه المادة الأساسية، فوجدت
أثره في الطلاب نافعاً والإصغاء إليه كاملاً والتطلع إليه سريعاً، وتحول النفور إلى
رغبة، والخروج من المحاضرة إلى حضور واستقرار، وظهر البِشْر على محياهم؛ وكلما دخلت عليهم قابلوني بوجوه مستبشرة، وساد في القسم الوئام والاحترام
والتقدير.
ومن باب: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ... ) ، رأيت
أن لا أستأثر بذلك، فأسطِّر تجربتي، وأنقلها لإخواني.
أصل المنهج المقترح:
أقول ومن الله أستمد العون والتوفيق: إن هذه الطريقة لم تخرج عن المنهج
السلفي، وقصارى ما فيها الجمع والحصر للآيات القرآنية والأحاديث النبوية في
الموضوع، ثم شرح هذه الآيات؛ وعن طريق المقارنة والموازنة نصنف المعاني
المشتركة بطريق الشرح اللغوي لمفردات الموضوع وعناصره الأساسية؛ وهذا لا
يكون إلا بعد الاستقراء والاستنتاج، وإن كان هذا العمل مرهقاً للأستاذ إلا أن
نتائجه النافعة تنسيه مشقة البحث.
وبعد ذلك نعقب، ونورد كلام العلماء ونصوص الأئمة: قبولاً، ورداً،
ومناقشة واقتباساً واستشهاداً وهنا يكون محل رد الشبهات ودحضها إن كانت لا تزال
قائمة، وقد تتهاوى تلقائياً.
نماذج تطبيقية:
مفهوم العرش في اللغة والقرآن: وأضرب لذلك مثلاً حياً تطبيقياً إذا كنا
بصدد شرح قول الإمام الطحاوي رحمه الله: (..والعرش والكرسي حق..) [1] .
معنى هذه الجملة: أن العرش والكرسي حق ثابت بالكتاب والسنة، و (حق)
خبر المبتدأ وهو (العرش) قال ابن مالك:
والخبر الجزء المتم الفائدة ... كالله بر والأيادي شاهدة
واقتداء بقوله تعالى: [وَاًتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا] [البقرة: 189] على أحد
وجوه التفسير؛ فإن بابنا الوحيد الذي نلج منه إلى هذا الموضوع هو القرآن والسنة.
ونبدأ بالجزء الأول؛ لأن كلام الطحاوي تضمن موضوعين: العرش،
والكرسي؛ وكلاهما ثابت بدلالة الكتاب والسنة كما سيأتي مفصلاً.
ونقول: إن مادة: (عرش) في جميع صيغها وردت في ثلاث وثلاثين موضعاً
في كتاب الله مختلفة الصيغ والأبنية، وتتفق في معنى مشترك وهو العلو والارتفاع.
قال القرطبي: (وأصل التعريش: الرفع. يقال: عرش يعرش، إذا بنى
وسقف) [2] .
وقوله: [وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا] الواردة في البقرة والكهف والحج
معناها: خلت من السكان، وتهدمت، وسقطت سقوفها.
العرش: سقف البيت. والعروش: الأبنية المسقفة بالخشب. يقال: عرش
الرجل يعرش: إذا بنى وسقف بخشب. والعريش سقف البيت.
قال القرطبي: (وكل ما يتهيأ ليظل أو يكنّ فهو عريش، ومنه عريش
الدالية) [3] يقصد عريش الكرم وهو شجر العنب؛ فيكون المعنى: سقط
السقف، ثم سقطت الحيطان عليه؛ واختاره ابن جرير الطبري. وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به.
وقريب من هذا المعنى في قوله تعالى: [وَهُوَ الَذِي أَنشَأََ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ
وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ] [الأنعام: 141] معروشات: ما يحتاج أن يتخذ له عريش يحمل
عليه فيمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه.
وجاء في القرآن معنى آخر للعرش يؤول إلى الأول وهو عبارة عن السرير
الذي يجلس عليه الملك للحكم: أي سرير المملكة ومنه قوله تعالى: [وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ] [النمل: 23] .
حقيقة العرش: وإذا عرفنا معنى العرش في الاستعمال اللغوي واللسان
العربي: فما حقيقته هنا في هذه الآيات السبع، وفي غيرها مما كان مضافاً إلى الله
عز وجل؟
الجواب: لا نعلم ذلك ولا يجوز لنا أن نقيسه على الأول؛ لأن الأول من عالم
الشهادة وهو محسوس وملموس ومضاف إلى البشر، والثاني من عالم الغيب
ومضاف إلى الله عز وجل والله عز وجل امتدح [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ]
[البقرة: 3] .
وطريقنا الوحيد في ذلك: أن نتلمس بعض الأوصاف عند الذين اصطفاهم الله
وأعلمهم بذلك؛ كما بين ذلك القرآن فقال عز وجل: [عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَداً (26) إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ] [الجن: 26-27] .
ولذلك فإننا نتلمس أوصاف العرش من القرآن ومن السنة فنقول:
ثبت في القرآن أن العرش على الماء: [وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ] (هود:7) وثبت أن للعرش قوائم تحمله الملائكة حافين حوله يسبحون بحمد ربهم؛ فقد قال
تعالى: [وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ] [الحاقة: 17] وقال في وصفه
أيضاً: [وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ]
[الزمر: 75] ، وقال أيضاً: [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ] (غافر: 7) ، ثم نتدرج إلى وصف من هو أعلم الخلق بربه؛ إذ قال: (إن عرشه على سماواته لهكذا) وقال بأصابعه: (مثل القبة.. الحديث) [4] .
وثبت في وصفه أنه فوق الفردوس كما في صحيح البخاري عن النبي: (إذا
سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش
الرحمن) [5] .
ونحن إذ نستعرض هذه النصوص نستنتج أن العرش: سرير ذو قوائم،
تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات على الصفة التي
تليق بعرش الله. وقد فهم هذا المعنى بعض الشعراء، وذكره مشهور عندهم في
الجاهلية والإسلام.
وقال الشوكاني في بيان صفة العرش: (وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة
صفة عرش الرحمن وإحاطته بالسماوات والأرض وما بينهما وما عليهما) [6] .
وحينئذ لا يجوز لنا أن نتجاوز الوصف الذي حدده الله في القرآن وبينه
النبي-صلى الله عليه وسلم- في السنة.
الاستواء في اللغة، وفي القرآن: ونعود مرة أخرى إلى كتاب الله ناظرين في
معنى قوله: [اسْتَوَى] وبيان وجوه استعمالها في القرآن.
حقيقة الاستواء في اللغة: التساوي واستقامة الشيء واعتداله. وورد في كلام
العرب على معان اشترك لفظه فيها؛ فيكون بمعنى الاستقرار، ويكون بمعنى
القصد، ويأتي بمعنى العلو والركوب؛ ويأتي بمعنى المماثلة والمساواة كقوله تعالى: [هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ] [الرعد: 16] ،
وجاء بهذا المعنى في سبع عشرة موضعاً [7] . ومنها ما يكون بمعنى بلوغ القوة
العقلية والبدنية وكمالهما؛ ومنه قوله تعالى: [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى]
[القصص: 14] أي بلغ مبلغاً يؤهله لقبول العلم والحكمة.
ومنها: ما يجيء بمعنى الاستقرار والرسو نحو قوله تعالى: [وَاسْتَوَتْ عَلَى
الجُودِيِ] (هود: 44) ، وجاءت بمعنى الركوب على الدابة وعلى الفلك كقوله
تعالى: [فَإذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفُلْكِ] [المؤمنون: 28] ومنه قوله
تعالى: [وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ] [الزخرف: 12-13]
وجاء هذا الفعل هنا متعدياً بحرف الجر [عَلَى] الذي فيه معنى الاستعلاء
والركوب.
قال ابن كثير: (لتستووا متمكنين مرتفعين) [8] ، فتكون هنا بمعنى: علا
على الدابة والفلك واستعلى على ظهرها متمكناً منها. وجاء هذا الفعل متعدياً بـ
[إلَى] في موضعين في قوله: [ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ] [البقرة: 29] وفي الآية
11 من سورة فصلت. قال أبو العالية: استوى ارتفع. وقال مجاهد: استوى علا. وقد فسرها الطبري بالعلو بعد أن ذكر أقوالاً كثيرة حيث قال: (وأوْلى المعاني في
قوله عز وجل [ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ] علا تبارك وتعالى عليهن، ودبرهن
بقدرته، وخلقهن سبع سماوات) [9] . وذكر ابن حجر في تفسير: [اسْتَوَى]
أقوالاً عديدة ثم قال: (وأما تفسير [اسْتَوَى] علا فهو صحيح وهو المذهب الحق
وقول أهل السنة؛ لأن الله تبارك وتعالى وصف نفسه بالعلو [10] . أما الحافظ
ابن كثير: فقد جعل الفعل [اسْتَوَى] متضمناً لمعنى القصد والإقبال؛ لأنه عُدِّيَ
بـ: (إلى) أي قصد إلى السماء [11] وهنا يجب علينا أن نتوقف ونقارن بين هذه
الآيات التي كان الاستواء فيها على الدابة وعلى الفلك بالآيات السبع السابقة التي
كان الاستواء فيها على العرش وإلى السماء؛ وكلها تعدت بحرفي الجر: [عَلَى]
و [إلَى] فهل يتفق هذا الاستواء بذاك؟ اللهم! لا؛ لأن استواء البشر العاجز
الفاني لا يشابه استواء الكامل المتفرد بألوهيته وربوبيته؛ فيكون استواء الله على
عرشه يليق بجلاله وسلطانه، واستواء البشر على مركوبه يليق بفقره وعجزه.
وقد يتماثل اللفظان ولكن يجب أن يعبر كل واحد بمعنى لائق بالمقام الذي قيل
فيه؛ فالقرآن حكى وصف الهدهد لعرش بلقيس فقال: [وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ]
[النمل: 23] وبيّن القرآن وصف عرش الرحمن فقال: [رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ]
[النمل: 26] كلاهما وصف بالعظمة وبينهما من البون ما لا يعلمه إلا الله؛ فعرش
بلقيس عظيم بين عروش الملوك مثلها، وعرش الرحمن أعظم؛ فلا بد من اعتبار
المقام في فهم الكلام.
وهنا يجب أن يتوقف دور العقل والتوهم والتخيل وإفساح المجال للسمع
والنقل وحده؛ وهو الكفيل بضمان عدم الوقوع في الردى وهو التشبيه والتأويل.
فاستواء البشر على الفلك والأنعام معقول المعنى محسوس مشاهد، واستواء الله
على عرشه لا تدركه العقول؛ لأن الأول مضاف إلى البشر، والثاني مضاف إلى
الواحد الأحد: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] [الشورى: 11] .
منهج السلف في مثل ذلك:
وهذا هو منهج السلف في إثبات الاستواء لله على وجه يليق بجلاله وكماله من
غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل [12] .
ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول،
والسؤال عنه بدعة) [13] .
قال الحافظ الذهبي في كتاب العلو بعد ذكره لقول مالك: وهو قول أهل السنة
قاطبة: أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في
كتابه، وأنه كما يليق به: لا نتعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً
ولا إثباتاً؛ بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى
بيانه الصحابة والتابعون؛ ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه؛ ونعلم يقيناً
مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته ولا في استوائه ولا في نزوله
سبحانه وتعالى [14] .
الكرسي في القرآن واللغة: ثم نواصل الشرح إلى الجملة الثانية: (والكرسي
حق) أقول: إن الكرسي حق ثابت في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه-صلى الله
عليه وسلم-، نؤمن به على ما جاء في كتاب الله، ولا نشتغل في البحث عن
صفته. وقد ورد في القرآن في موضعين:
أولهما: في قوله تعالى: [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا
وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ] [البقرة: 255] .
ثانيهما: في قوله تعالى: [وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً] [ص: 34] .
ويجب علينا بادئ ذي بدء أن نفرق بين الاستعمالين للفظ (كرسي) في الآيتين: الأول مضاف إلى الله عز وجل والثاني مضاف إلى نبي الله سليمان. فالأول
مضاف إلى الخالق، والثاني مضاف إلى المخلوق. فإذا علمنا هذا فإننا لا نقع في
مزالق المتكلمين؛ فتماثل اللفظين يجب أن يُفهم من كل منهما معنى يليق بالمقام،
وإذا تأملنا الكرسي المضاف إلى المخلوق في اللغة نجد أن ابن منظور ذكره في مادة: (كرس) وقال: كرس: تكرس الشيء وتكارس: تراكم وتلازب. وتكرس أسّ
البناء: صلب واشتد.
والكرس: أبوال الإبل والغنم وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار ثم
قال: والكرسي في اللغة الشيء الذي يعتمد عليه ويجلس عليه كما يقال: اجعل لهذا
الحائط كرسياً: أي ما يعتمد عليه [15] .
أقول: ولعل هذا هو المراد في قوله تعالى: [وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً]
وهو الكرسي الذي كان يجلس عليه نبي الله سليمان عليه السلام للحكم؛ فهذا معقول
المعنى؛ فهو بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه؛ فإن زاد على مجلس واحد
وكان مرتفعاً فهو العرش كما تقدم في قوله تعالى: [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ]
[يوسف: 100] فهذا هو الكرسي المضاف إلى البشر معقول المعنى، مشاهد
محسوس؛ فهو من عالم الشهادة.
أما قوله تعالى: [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
العَلِيُّ العَظِيمُ] [البقرة: 255] فهو من عالم الغيب كما قدمنا؛ فيكون طريقنا إلى
فهمه النقل والنص؛ لأن الكرسي هنا مضاف إلى الله عز وجل. ومعنى هذه الجملة
يقال: وسع فلان الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به. ولا يسعك
هذا: أي لا تطيقه ولا تحتمله؛ ومنه قوله: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا
اتباعي) أي لا يحتمل غير ذلك. والمعنى أنها صارت فيه، وأنه وسعها ولن يضيق
عنها لكونه بسيطاً واسعاً. وقوله: [وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا] آده يؤوده: إذا أثقله
وأجهده أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما [16] .
والضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى ويجوز أن يكون للكرسي؛ لأنه من
أمر الله؛ فالآية تدل على أنه شيء عظيم دون التعرض لذات الكرسي. وروي عن
عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (إن كرسيه وسع السماوات والأرض،
وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من الثقل) [17] .
الأقوال في معنى الكرسي:
وهنا يتأخر العقل وينتهي الدور المنوط به، ويتقدم النقل؛ فمن التزم النص
والنقل فاز وظفر بالمطلوب، ومن خالف فقد وقع بالزلل، ومن هؤلاء:
1- جماعة من المعتزلة نفوا وجود الكرسي وأخطأوا في ذلك خطأ بيِّناً.
واختار هذا الباطل: القفال، والزمخشري، وقالوا: ما هو إلا تصوير لعظمته
وملكه؛ ولا حقيقة له، وقيل هو ملكه [18] .
2- وذهب جماعة إلى أن كرسيه هو قدرته التي يمسك بها السموات والأرض
كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسياً أي ما يعتمد عليه.
3- وقيل إن الكرسي هو العرش رواه ابن جرير الطبري عن الحسن
البصري وذكره ابن كثير واختار هذا جلال الدين السيوطي. قال القرطبي: (وهذا
ليس بمرضٍ) [19] . وقال ابن كثير: والصحيح أن الكرسي غير العرش،
والعرش أكبر منه؛ كما دلت على ذلك الآثار والأخبار [20] .
4- وقال جماعة: كرسيه: علمه وهو عبارة عن العلم، رواه الطبري عن
ابن عباس من طريقين؛ ومنه قيل للعلماء: كراسي؛ لأن العالم يجلس على كرسي
ليعلِّم الناس، ومنه الكراسة التي يُجمع فيها العلم، ورجح هذا ابن جرير
الطبري [21] ، وهي رواية شاذة عن ابن عباس كما قال الشيخ أحمد شاكر.
5- والمحفوظ عن ابن عباس كما رواه ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في المستدرك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: [وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] أنه قال: الكرسي: موضع القدمين، والعرش لا يقدِّر
قدره إلا الله [22] ، وصحح هذه الرواية الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فقال: (هي
رواية علم الله شاذة لا يقوم عليها دليل من كلام العرب؛ ولذلك رجح أبو منصور
الأزهري الرواية الصحيحة عن ابن عباس التي تقول: إن الكرسي موضع القدمين، وقال: هذه الرواية اتفق أهل العلم على صحتها؛ ومن روى عنه في الكرسي أنه
العلم فقد أبطل) [23] ، ورجحه الشوكاني في تفسيره فقال: (والحق القول الأول
موضع القدمين ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن
جهالات وضلالات [24] والله أعلم. وهنا نطوي الكلام خشية الإطالة.
من محاسن هذا المنهج في تعليم العقيدة:
وفي الختام أقول: لعل هذه الطريقة فيها بعض الجدة والابتكار والمرغبة
فتأخذ بمجامع قلب الطالب، وتؤثر في سلوكه والفضل لله وحده. ومن محاسنها أنه
يتعلم اللغة العربية من خلال الشرح اللغوي لمفردات الموضوع الواردة في القرآن
وتتبع موادها وصيغها المتنوعة؛ فيكون بذلك حصل له تعلم تفسير القرآن الكريم؛
وهو مطلوب لذاته.
فهذه الطريقة جمعت بين شرفين عظيمين: شرف الوسيلة، ونبل المقصد؛
فالمنهج الذي قصدناه لشرح الموضوع هو في حد ذاته مراد لنفسه إرادة الغايات
والمقاصد، مطلوب لذاته؛ بل إنه من أهم المقاصد لفهم معاني الكتاب العزيز،
ولأن العقيدة لا تنفك عن القرآن، ومن أهم محاسنها ربط الطالب بالقرآن. ومن
فوائد هذه الطريقة أن يتعلم الطالب الشمولية والاستيعاب لمكونات الموضوع
وأساسياته؛ فقد اشتملت على ما ذكره ابن أبي العز وزيادات كثيرة؛ وإن هذا
المنهج خلا من السرد وحكايات ضلال المتكلمين وشبهاتهم إلا لماماً.
ومن محاسنها أيضاً أن يتعلم الطالب العقيدة بطريق غير مباشر؛ فينبغي أن
تكون نتيجة يبرهن عليها الأستاذ من خلال الكتاب والسنة بالتحليل والمقارنة،
ويجب على أستاذ المادة أن يجعلها ضالة ينشدها في عرضه ونتيجة يصل إليها فهم
الطالب ذاتياً فتؤثر فيه وتثمر بإذن الله فينقاد، ويذعن عن طريق الاقتناع الذاتي.
وهذا المنهج موافق للمنطق العقلي؛ حيث تدرج العرض بالطالب من المعاني
المحسوسة إلى المعاني المعقولة إلى حيث يعجز الإدراك وينقطع الطمع؛ وحينئذ
نمتطي به سبيل السمع، ونركب له طريق النص، فنكل الأمر إلى مولاه، ونثبت
اللفظ على ما جاء على مراد الله بدون تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل؛ بل نؤمن به،
ولا نبحث عن حقيقته ولا نتكلم فيه بالرأي. والله أعلم.
__________
(1) قارن شرحنا بشرح ابن أبي العز، ص 254.
(2) الجامع للقرطبي، 7/272.
(3) الجامع للقرطبي، 3/290.
(4) جزء من حديث رواه أبو داود، 4/369.
(5) فتح الباري، 13/349.
(6) فتح القدير، 2/211.
(7) انظر محاسن التأويل للقاسمي، 7/2704.
(8) تفسير ابن كثير، 4/ 130.
(9) تفسير الطبري، 1/175.
(10) فتح الباري، 13/406.
(11) تفسير ابن كثير، 1/72.
(12) انظر معارج القبول، 1/109.
(13) وقد استوعب الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله نصوص الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين في كتابه القيم: معارج القبول 1/109.
(14) محاسن التأويل، 7/2704.
(15) لسان العرب لابن منظور مادة: (كرس) .
(16) تفسير ابن كثير، 1/332.
(17) ذكره ابن كثير في تفسيره 1/332.
(18) تفسير الرازي 14/14.
(19) الجامع للقرطبي، 2/300، زاد المسير، 1/304.
(20) تفسير ابن كثير، 1/333.
(21) تفسير الطبري، 3/32، فتح القدير، 1/272.
(22) تفسير ابن كثير، 1/332، زاد المسير، 1/304.
(23) حاشية زاد المسير، 1/304.
(24) فتح القدير، 1/272.
(*) الكاتب أستاذ في (معهد العلوم الإسلامية والعربية) القسم الجامعي في موريتانيا، التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -(122/42)
دراسات دعوية
ظاهرة ضعف الإيمان
أعراضها أسبابها علاجها
محمد عبد العزيز اللحيدان
إن ظاهرة ضعف الإيمان مما عم وانتشر في المسلمين؛ وهناك من الناس من
يشتكي من قسوة قلبه، وتتردد عباراتهم: (أحس بقسوة في قلبي) ، (أقع في
المعصية بسهولة) وكثيرون آثار المرض عليهم بادية. وهذا المرض أساس كل
مصيبة وسبب كل نقص وبلية. وموضوع القلوب موضوع حساس ومهم، وقد
سمي القلب قلباً لسرعة تقلبه، قال عليه الصلاة والسلام: (إنما سمي القلب من
تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً
لبطن) [1] . وهو شديد التقلب كما وصفه النبي-صلى الله عليه وسلم- بقوله: (لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً) [2] .
وحيث (أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه لن ينجو يوم القيامة إلا من أتى
الله بقلب سليم) وأن الويل [لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ] [الزمر: 22] وأن الوعد
بالجنة لـ[مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ] [ق: 33] كان لا بد
للمؤمن أن يتحسس قلبه، ويعرف مكمن الداء وسبب المرض، ويشرع في العلاج
قبل أن يطغى عليه الران فيهلك؛ والأمر عظيم والشأن خطير؛ فإن الله قد حذرنا
من القلب القاسي والمقفل والمريض والأعمى والأغلف والمنكوس والمطبوع
والمختوم عليه.
وفيما يلي محاولة للتعرف على مظاهر مرض ضعف الإيمان وأسبابه
وعلاجه:
أولاً: مظاهر ضعف الإيمان:
إن لمرض ضعف الإيمان أعراضاً ومظاهر متعددة، منها:
1- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات: من العصاة من يرتكب
معصية معينة يصر عليها، ومنهم من يرتكب أنواعاً شتى من المعاصي، وكثرة
الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها إلى عادة مألوفة، ثم يزول قبحها في القلب
تدريجياً حتى يقع العاصي في المجاهرة بها ويدخل في حديث: (كل أمتي معافى إلا
المجاهرين ... إلخ) [3] .
2- ومنها: الشعور بقسوة القلب وخشونته: حتى يحس الإنسان أن قلبه قد
انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء، ولا يتأثر بشيء، والله جل وعلا يقول:
[ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً] [البقرة: 74] .
وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا رؤية الأموات، وربما حمل
الجنازة بنفسه، وواراها بالتراب، لكن سيره بين القبور كسيره بين الأحجار.
3- ومنها: عدم إتقان العبادات: ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة،
وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار.
4- ومن مظاهر ضعف الإيمان: التكاسل عن الطاعات والعبادات،
وإضاعتها، وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها، وقد وصف الله عز
وجل المنافقين بقوله: [وَإذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى] [النساء: 142]
ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة؛ وهذا يدل على
عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر.
5- ومن المظاهر: ضيق الصدر، وتغير المزاج، وانحباس الطبع حتى
كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء.
6- ومن المظاهر أيضاً: عدم التأثر بآيات القرآن لا بوعده ولا بوعيده، ولا
بأمره ولا نهيه، ولا في وصفه للقيامة، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن،
ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته فكلما فتح المصحف كاد أن يغلقه.
7- ومنها: الغفلة عن الله عز وجل عن ذكره ودعائه سبحانه وتعالى فيثقل
الذكر على الذاكر، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي؛ وقد وصف
الله المنافقين بقوله: [إنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإذَا قَامُوا إلَى
الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً] [النساء: 142] .
8- ومن مظاهره: الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة؛
فتراه مرتعد الفرائص، مختل التوازن، شارد الذهن، شاخص البصر، يحار في
أمره عندما يصاب بملمة أو بلية، فتنغلق في عينيه المخارج، وتركبه الهموم؛ فلا
يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت وقلب قوي، وهذا كله بسبب ضعف إيمانه.
9- ومنها: الشح والبخل: فلا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح؛ قال: (لا
يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) [4] .
10- ومن مظاهر ضعف الإيمان: التعلق بالدنيا، والشغف بها، والاسترواح
إليها، فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة أن يحس بالألم إذا فاته شيء من حظوظها
كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه سيئ الحظ، ويحس بألم أكثر إذا
رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا.
11- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين، ولا التفاعل معها لا بدعاء ولا صدقة
ولا إعانة؛ فهو بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه في بقاع العالم من تسلط العدو
والقهر والاضطهاد والكوارث، فيكتفي بسلامة نفسه؛ وهذا نتيجة ضعف الإيمان.
ثانياً: أسباب ضعف الإيمان:
1- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة: وهذا مدعاة لضعف الإيمان
في النفس، يقول الله عز وجل: [أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] [الحديد: 16] .
2- ومن الأسباب: الابتعاد عن طلب العلم الشرعي والاتصال بكتب السلف
والكتب الإيمانية، التي تحيي القلب؛ فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها
تستثير في قلبه الإيمان، وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه؛ وعلى رأس
هذه الكتب: كتاب الله تعالى وكتب الحديث، ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق
والوعظ الذين يحسنون عرض العقيدة بطريقة تحيي القلب، مثل: كتب العلامة ابن
القيم، وابن رجب، وغيرهما.
3- ومنها: وجود الإنسان في وسط يعج بالمعاصي؛ فهذا يتباهى بمعصية
ارتكبها، وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها، وثالث يدخن، ورابع يبسط مجلة
ماجنة، وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم ... وهكذا، أما القيل والقال
والغيبة والنميمة وأخبار المباريات فمما لا يحصى كثرة.
4- طول الأمل: قال الله تعالى: [ذَرْهُمْ يَاًكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] [الحجر: 3] وقال علي رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخاف
عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. فأما اتباع الهوى: فيصد عن الحق، وأما طول
الأمل: فينسي الآخرة) [5] وجاء في الأثر: (أربعة من الشقاء: جمود العين،
وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا) . وقيل: (من قصر أمله قصر
همه وتنوّر قلبه؛ لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة) [6] .
5- ومن أسباب ضعف الإيمان وقسوة القلب: الإفراط في الأكل والنوم
والسهر والكلام والخلطة، وكثرة الضحك؛ فإن الوقت الذي لا يُملأ بطاعة الله
تعالى ينتج قلباً صلداً لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان.
ثالثاً: علاج ضعف الإيمان:
روى الحاكم في مستدركه والطبراني في مجمعه عن النبي-صلى الله عليه
وسلم- أنه قال: (إن الإيمان ليَخلق في جوف أحدكم كما يَخْلَقُ الثوب؛ فاسألوا الله
أن يجدد الإيمان في قلوبكم) [7] والرسول-صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما من
القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذا علته سحابة فأظلم؛ إذ تجلت عنه فأضاء) [8] .
وقبل الشروع في الكلام عن العلاج يحسن أن نذكر ملاحظة وهي: أن كثيراً
من الذين يحسون بقسوة في قلوبهم يبحثون عن علاجات خارجية يريدون الاعتماد
فيها على الآخرين مع أن بمقدورهم علاج أنفسهم بأنفسهم وهذا هو الأصل؛ لأن
الإيمان علاقة بين العبد وربه.
وفيما يلي ذكر عدد من الوسائل الشرعية التي يمكن للمرء المسلم أن يعالج بها
ضعف إيمانه ويزيل قسوة قلبه بعد الاعتماد على الله عز وجل وتوطين النفس على
المجاهدة:
1- تدبر القرآن الكريم الذي أنزله الله عز وجل تبياناً لكل شيء ونوراً يهدي
به سبحانه من شاء من عباده، ولا شك أن فيه علاجاً عظيماً ودواءاً فعالاً؛ قال الله
عز وجل: [وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] [الإسراء: 82] أما
طريقة العلاج فهي: التفكر، والتدبر.
2- استشعار عظمة الله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها،
وعقل معانيها، واستقرار هذا الشعور في القلب وسريانه إلى الجوارح لتنطق عن
طريق العمل بما وعاه القلب؛ فهو ملكها وسيدها وهي بمثابة جنوده وأتباعه؛ فإذا
صلح صلحت، وإذا فسد فسدت.
3- لزوم حلق الذكر وهو يؤدي إلى زيادة الإيمان لعدة أسباب: منها ما
يحصل فيها من ذكر الله، وغشيان الرحمة، ونزول السكينة، وحف الملائكة
للذاكرين، قال: (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة،
ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) [9] .
4- ومن الأسباب التي تقوي الإيمان الاستكثار من الأعمال الصالحة، وملء
الوقت بها؛ وهذا من أعظم أسباب العلاج؛ وهو أمر عظيم وأثره في تقوية الإيمان
ظاهر كبير.
5- تنويع العبادات: من رحمة الله وحكمته أن نوّعَ لنا العبادات؛ فمنها ما
يكون بالبدن كالصلاة، ومنها ما يكون بالمال كالزكاة، ومنها ما يكون بهما معاً
كالحج، ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء. وهكذا فإن من يتتبع العبادات يجد
تنويعاً عظيماً في الأعداد، والأوقات، والهيئات، والصفات، والأحكام؛ ولعل من
الحكمة في ذلك أن لا تمل النفس ويستمر التجدد.
6- ومن علاج ضعف الإيمان: الخوف من سوء الخاتمة؛ لأنه يدفع المسلم
إلى الطاعة، ويجدد الإيمان في القلب. وأما سوء الخاتمة فأسبابها كثيرة: منها
ضعف الإيمان، والانهماك في المعاصي.
7- ومن الأمور بالغة الأهمية في علاج ضعف الإيمان: ذكر الله تعالى وهو
جلاء القلوب وشفاؤها، ودواؤها عند اعتلالها، وهو من روح الأعمال الصالحة
وقد أمر الله تعالى به فقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً]
[الأحزاب: 41] .
8- ومن الأمور التي تجدد الإيمان في القلب: الولاء والبراء أي موالاة
المؤمنين ومعاداة الكافرين؛ وذلك أن القلب إذا تعلق بأعداء الله يضعف جداً وتذوي
معاني العقيدة فيه.
9- وللتواضع دور فعال في تجديد الإيمان وجلاء القلب من صدأ الكبر؛ لأن
التواضع في الكلام والأفعال والمظهر دال على تواضع القلب لله، وقد قال: (البذاذة
من الإيمان) [10] وقال أيضاً: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه، دعاه
الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء
يلبسها) [11] .
10- ومحاسبة النفس مهمة في تجديد الإيمان يقول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ] [الحشر: 18] .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا) ،
وقال ابن القيم رحمه الله: (هلاك النفس من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع
هواها) ، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان
واجعلنا من الراشدين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن نهج
نهجهم وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) رواه أحمد، 4/408 وهو في صحيح الجامع، 2365.
(2) أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة رقم 226 وإسناده صحيح: ظلال الجنة، 1/102.
(3) رواه البخاري، فتح، 10/486، ط دار الفكر.
(4) رواه النسائي: المجتبى 6/13، وهو في صحيح الجامع، 2678.
(5) فتح الباري، 11/236، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/52 رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن.
(6) فتح الباري، 11/237.
(7) رواه الحاكم في المستدرك 1/4، وهو في السلسلة الصحيحة، 1585.
(8) رواه أبو نعيم في الحلية، 2/196، وهو في السلسلة الصحيحة، 2268.
(9) صحيح مسلم، 2700.
(10) رواه ابن ماجة، 4118، وهو في السلسلة الصحيحة، 314 [اراد التواضع في الهيئة واللباس انظر النهاية لابن الأثير، 1/110] .
(11) رواه الترمذي رقم 2481، وهو في السلسلة الصحيحة، 718.(122/52)
حوار
مع رئيس بلدية أم الفحم
الشيخ رائد صلاح
(أوسلو بالنسبة لنا لفظت أنفاسها الأخيرة)
نحرص في مجلة البيان على اللقاء مع الشخصيات الإسلامية في مختلف
الاهتمامات وشتى التخصصات لنستروح معهم في ظلال اللقاء الهموم الدعوية
والشؤون الإسلامية وشجونها. ويسرنا في هذا العدد اللقاء مع فضيلة الشيخ رائد
صلاح وهو أحد الفعاليات الإسلامية الفلسطينية. ولد الشيخ عام 1378هـ الموافق
1958م في بلدة أم الفحم، ونال شهادة كلية الشريعة من الخليل عام 1400هـ
الموافق 1980م، شغل دور رئيس الحركة الإسلامية في الداخل، ويشغل الآن
منصب رئيس بلدية أم الفحم وذلك منذ عام 1410هـ، وكان اللقاء معه على النحو
الآتي:
س1: (أوسلو) ارتبطت باتفاقية السلام الموقعة بين اليهود ومنظمة التحرير
الفسلطينية: فما الذي تعنيه اتفاقية السلام هذه في نظر الشعب الفلسطيني بشكل عام، وفي نظركم بشكل خاص؟
ج: بالنسبة للشعب الفلسطيني بشكل عام: لم تحقق أوسلو طموحه الشرعي
والعادل، وإلى الآن ما زالت حقوقه الأساسية مستبعدة جانباً ويلفها الغموض والإبهام؛ فماذا عن مصير أكثر من أربعة ملايين فلسطيني في الشتات؟ وماذا عن حق
العودة؟ وماذا عن مستقبل القدس الشريف والأقصى المبارك؟ وماذا عن السيادة
الفلسطينية؟ وماذا عن مصير آلاف السجناء الفلسطينيين الذين ما زالوا قابعين في
السجون الإسرائيلية؟ وماذا عن مصير مئات المستوطنات اليهودية التي ما زالت
جاثمة على صدر الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع؟ إن من الواضح أن هذه
الأسئلة لا تملك إلا جواباً واحداً مُرّاً ينذر الشعب الفلسطيني أنه بات يسير في
طريق مسدود! ! لذلك لا أتردد أن أقول: إن أوسلو بالنسبة لي قد لفظت أنفاسها
الأخيرة.
س2: تعمدت اتفاقية (أوسلو) تعليق مسألة القدس: فإلى أي شيء تعزون هذا
التعليق؟
ج: لقد تم تعليق قضية القدس بهدف تهويد كل القدس خلال السنوات الواقعة
ما بين أوسلو والتاريخ النهائي للمفاوضات مستقبلاً حتى يدخل المفاوض الفلسطيني
إلى غرفة المفاوضات ولم يبق أي شيء يتفاوض عليه من القدس الشريف! ! وهذا
ما يثبته الواقع اليومي للسياسة الإسرائيلية! ! ولعل هناك هدفاً آخر، وهو طمع
الطرف (الإسرائيلي) أن يقنع الطرف الفلسطيني المفاوض بحل بديل عن القدس! !
نسمع اليوم بما يعرف باتفاق (بيلين أبو مازن) الذي ينص على ضم (أبو
ديس) المتاخمة للقدس إلى القدس، ثم التنازل عنها خلال المفاوضات للطرف
الفلسطيني وكأنه تنازل عن جزء من القدس الشريف! ! ولعل هذا أبعد ما يمكن أن
يرضى به الجانب الإسرائيلي؛ لأن وحدة القدس واعتبارها عاصمة أبدية لـ
(إسرائيل) هو عبارة عن أصل مجمع عليه عند كل الأحزاب الإسرائيلية بشقيها:
المتدين أو العلماني، واليميني أو اليساري.
س3: اليهود كلما أبرموا عهداً نقضوه، واتفاقية (أوسلو) بالرغم مما تحققه
لهم من مكاسب يحاولون التنصل منها بطريق وآخر: فما هي الدوافع السياسية في
نظركم من وراء هذا التنصل؟
ج: في تصوري أن (اتفاقية أوسلو) جاءت بمثابة (حصان طروادة) الذي
تطمع الحكومات الإسرائيلية من خلاله إدخال سفاراتها وشركاتها التجارية إلى العالم
العربي والإسلامي، واتفاقية أوسلو هي الأداة التي نجحت من خلالها (الحكومة
الإسرائيلية) في تفتيت أي أمل بأي موقف موحد للعالم العربي والإسلامي في مقابل
(إسرائيل) ؛ إذ إن اتفاقية أوسلو قامت على قاعدة استفراد (إسرائيل) بالشعب
الفلسطيني، وهو الأمر الذي فتح الأبواب على مصراعيها للاستفراد بعد ذلك مع
عدة دول عربية من خلال مصالحات أو اتفاقيات، كما وأن اتفاقية أوسلو في
مرماها البعيد جاءت لتحُول دون تحوّل (إسرائيل) إلى دولة ثنائية القومية؛ وهذا ما
لا يريده أي حزب على الإطلاق، فعلى فرض أنه تم ضم مليون فلسطيني في
القطاع ومليون فلسطيني في الضفة إلى مليون فلسطيني داخل الخط الأخضر
لتحولت (إسرائيل) مباشرة إلى دولة ثنائية القومية، وهذا ما لا يرضاه أي يهودي
إطلاقاً، كما وأن اتفاقية (أوسلو) جاءت لتحطيم الطموح الفلسطيني وتحويله إلى
(كانتونات) سكانية معزولة الصلاحيات الخارجية، ويفصل بينها أطواق استيطانية
يهودية تفصل بين كل (كانتون) فلسطيني وآخر، ومع ذلك فإن (الحكومة
الإسرائيلية) تتبنى سياسة (التنصل) مع الطرف الفلسطيني لممارسة سياسة الابتزاز
من الطرف الفلسطيني بهدف تحويله إلى أداة قمع لطموح الشعب الفلسطيني، وهذا
ما نسمعه هذه الأيام من الموقف (الإسرائيلي) ، فهو لا يتردد أن يقول: إن (الأمن
الإسرائيلي) يقود إلى السلام مع الفلسطينيين!
ومعنى (الأمن الإسرائيلي) قمع أي معارضة فلسطينية، وهذا يعني: تحويل
السلطة الفلسطينية إلى أداة قمع للشعب الفلسطيني، وحتى لو نجح (الطرف
الإسرائيلي) بذلك فسيبقى على طمع أن يبتز أكثر إلى ما لا نهاية.
س4: أعلنت أمريكا دون أي اعتبار لمشاعر المسلمين نقل سفارتها إلى
القدس معتبرة إياها عاصمة (إسرائيل) الشرعية: فما هو رد الفعل المتوقع في
تحليلكم من الفلسطينيين بخاصة والعرب بعامة إزاء هذا القرار الأمريكي؟
ج: معنى الإعلان الأمريكي هو مباركة أمريكية لمشروع تهويد القدس، وهو
مباركة بناء الهيكل على حساب الأقصى المبارك، وفي تصوري أن أمريكا من
حيث تقصد أو لا تقصد تقود المنطقة إلى انفجار إسلامي وعربي وفلسطيني لا
يعرف نتائجه إلا الله تعالى.
س5: العمليات الاستشهادية التي تقوم بها الحركة الإسلامية في فلسطين:
هل ترونها الرد الأمثل في التحاور مع الكيان الصهيوني، وما رأيكم فيمن يرى أنها
مجرد إعاقة للعملية السلمية وتضييع ما يمكن الوصول إليه من الحق الفلسطيني؟
ج: في تصوري أنه لا يوجد إنسان في العالم يهوى تفجير نفسه بحزام من
المفرقعات، ولكن الواقع الفلسطيني المر الذي بات يعانيه الفرد الفلسطيني دفع إلى
مثل هذه العمليات، ولو كان هناك عقلاء في أي طرف كان لسألوا أنفسهم: ما الذي
يدفع هذا الشاب لمثل هذا العمل؟ ولو سألوا أنفسهم لأيقنوا أن واقع (الاحتلال
الإسرائيلي) ووحشية معاملته هي المسؤول الأول والأخير.
س6: السلطة الفلسطينية أدانت الإرهاب مؤخراً، وهو تهمة موجهة إلى ما
تقوم به الحركة الإسلامية من نشاط عسكري ضد اليهود: فإلى أي حد ترون هذه
الإدانة خطراً على وجود العمل الإسلامي في فلسطين بشكل عام، وعلى الوحدة
الوطنية الفلسطينية بشكل خاص؟
ج: (الإرهاب) أصبح مصطلحاً هلامياً في قاموس السياسة اليوم؛ إذ إن
مقاومة الاحتلال أصبحت إرهاباً عند بعضهم، والرضوخ لإملاءات الاحتلال
أصبحت تفاوضاً عند آخرين؛ لذا في نظري: أن الإرهاب الحقيقي هو تلك
الممارسة الاحتلالية التي باتت تفرض على أكثر من مليوني فلسطيني طوق التجويع
لدرجة أن أطفالهم باتوا يعتاشون من المزابل! ! وهو تلك الممارسة الاحتلالية التي
باتت تمنع حتى المرضى الفلسطينيين من الوصول إلى المستشفيات؛ مما أدى إلى
وفيات كثيرة عند الحواجز (العسكرية الإسرائيلية) ، وإلى أن تلد الحوامل أولادهن
عند الحواجز العسكرية كذلك! ! والإرهاب هو تلك الممارسة الاحتلالية التي باتت
تخطف الشباب الفلسطيني من عقر السلطة الفلسطينية كما يحدث اليوم! ! وفي
تصوري أن الجماهير الفلسطينية عامة باتت مدركة لكل ذلك ولن تسمح لأي جهة
كانت أن تضرب وحدتها الفلسطينية؛ لأنها على قناعة تامة أن العمل الإسلامي هو
صمام أمان للمسيرة الفلسطينية.
س 7: ثمة من يقول: ليس كل يهودي في نظرته إلى فلسطين صهيونياً:
فكيف تنظرون إلى هذا القول؟ وهل ترون تبايناً بين حزبي الليكود، والعمل في
التعامل مع المسألة الفلسطينية، وبين اليهود المتدينين وغير المتدينين فيما يتعلق
بأمر القدس؟
ج: أنا أؤمن أن هناك إجماعاً قومياً ودينياً عند كل الأحزاب اليهودية على
أصول المشروع الصهيوني والسياسة الإسرائيلية، وقد يكون هناك اختلاف في
الاجتهادات الفرعية؛ ولكن هناك إجماع على القدس واعتبارها العاصمة الموحدة
والأبدية (لإسرائيل) ، وهناك إجماع على اعتبار (إسرائيل) دولة للشعب اليهودي
فقط، وهناك إجماع على منع قيام السيادة الفلسطينية، ومنع حق العودة للفلسطينيين
في يوم من الأيام، وهناك إجماع على تجميع شتات اليهود من كل العالم؛ لذلك
هناك وزارة خاصة لهذا الهدف تسمى: (وزارة الاستيعاب) ، وهناك إجماع على
ضرورة التفوق (النووي الإسرائيلي) على كل العالم العربي والإسلامي. وأعود
وأقول: هذا عند كل الأحزاب التي تمثل كل القوس السياسي الإسرائيلي.
س 8: ذكر أن اليهود مصممون على هدم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل
المزعوم مكانه: فهل بالإمكان إعطاء القارئ فكرة عما يقوم به اليهود حالياً لتحقيق
هذا الهدف، وعن الدور الذي تقومون به محلياً ودولياً وعربياً لإبطال هذه الغاية
الصهيونية؟
ج: بعد أن حوّل اليهود (حائط البراق) إلى ما يسمونه اليوم: (حائط المبكى) ، وبعد أن أنهوا مشروع حفر النفق الأول الذي سموه باسم تعسفي: (نفق
الحشمونانيم) ، ها هم اليوم يسعون إلى ما يلي:
1- أداء صلواتهم على امتداد الحائط الجنوبي للأقصى كخطوة أولى لتحويله
إلى مبكى جديد.
2- أعلنت وزارة الأديان (الإسرائيلية) عن نيتها تحويل (رباط الكرد) إلى ما
أسموه بالمبكى الصغير؛ علماً أن رباط الكرد هو جزء لا يتجزأ من الأقصى
المبارك.
3- استصدروا أمراً من المحكمة العليا للسماح لهم بأداء الصلاة في داخل حرم
الأقصى المبارك.
4- يقومون اليوم بحفر نفق جديد في الزاوية الجنوبية الغربية من حرم
الأقصى المبارك.
5- أعلنوا عن الانتهاء من بناء مذبح الهيكل، وأعلنوا أنه موجود الآن في
منطقة البحر الميت.
6- أعلنوا أنهم قد أحضروا كل ما يلزم من خشب الأرز لبناء الهيكل، وهو
موجود في مخزن في القدس الشريف.
7- أعلنوا أنهم قد وجدوا ضالتهم (البقرة الحمراء) في قرية يهودية تسمى
(كفار حسيديم) ومعنى ذلك أن بإمكانهم ذبحها بعد أن يصل عمرها إلى ثلاث سنوات، وعندها يشرعون ببناء الهيكل.
8- قبل أسابيع كانت هناك محاولة منهم لإدخال حجر بزنة عدة أطنان إلى
ساحة الأقصى وسموه: (الحجر الأساس لبناء الهيكل) .
9- أعلنوا عن تشغيل مصنع لاستخراج الرخام الطبيعي في النقب كي
يستعمل بالإضافة لخشب الأرز في بناء الهيكل.
10- من الضروري أن أؤكد أن الذي يتبنى هذه المشاريع شخصيات رسمية
من نواب ووزراء أو أعضاء كنيست يهود أو شخصيات متنفذة في السياسة
(الإسرائيلية) . ومقابل كل ذلك نحن نعمل على:
أ - تقوية رباط أهلنا بالأقصى المبارك، واستمرار شد الرحال إليه يومياً.
ب - استمرار القيام بمشاريع عمرانية في الأقصى المبارك؛ حيث كان
أبرزها تبليط المصلى المرواني وإنقاذه من خطر تحويله إلى كنيس.
ج - الكشف عن أي مؤامرة تسعى للمسّ بالأقصى المبارك: مثل كشفنا عن
مشروع النفق الجديد في مؤتمر إعلامي عالمي عقدناه في القدس الشريف.
د - دعوة العالم العربي والإسلامي لتوحيد موقفه حول القدس الشريف
والأقصى المبارك.
هـ - انتهينا من إعداد كتاب باسم: (القدس وسبل إنقاذها) سنقوم بتوزيعه
إلى كل من يهمه الأمر.
و نحن على وشك الانتهاء من إعداد كتاب آخر باسم: (دليل الأقصى
المبارك) مزود بالصور الملونة.
ز - بين فترة وأخرى نشارك في مؤتمرات إسلامية وعربية حول القدس
الشريف والأقصى المبارك في عدة دول عربية أو أجنبية.
س 9: يلاحظ أن حكومة (نتنياهو) تقوم بأعمال استفزازية، وتصرفات
عنجهية: فماذا تقرأون من وراء هذه السياسات؟ وهل بالإمكان أن تحمل العرب
على إعادة النظر في سياسات التطبيع مع إسرائيل؟
ج: من الواضح أن سياسة نتنياهو تسعى إلى اعتبار ما أخذه الفسلطينيون هو
أقصى ما يمكن أن يأخذوه دون أي قابلية لأي زيادة، ويسعى كذلك إلى سياسة
الاستفراد مع كل دولة عربية على حدة، ويسعى كذلك إلى استغلال تركيبة الحكم
الحالي في أمريكا؛ ليكون أداة ضاغطة على السلطة الفلسطينية ودول الجوار
العربية لصالح (إسرائيل) أكثر مما كان في يوم من الأيام، ولا شك في أنه يسعى
إلى فرض مشروع استيطاني جديد في الضفة والقطاع، وكذلك إلى فرض مشروع
القدس الكبرى على حساب الحق الإسلامي والعربي والفلسطيني؛ وفي المقابل فإن
هناك بوادر موقف عربي جاد للوقوف في وجه سياسة نتنياهو.
س10: بصفتكم رئيس بلدية: أحسب أنكم على علم بالأضرار والنهب الذي
لحق بالوقف الإسلامي: فهل بالإمكان إعطاؤنا صورة موجزة عما هو موجود من
الوقف الإسلامي، وما هو المتبع في حمايته من جهات الاختصاص؟
ج: بداية أقول: إن مساحة الوقف الإسلامي تساوي 16/1 من المساحة
العامة عندنا؛ ولكن الذي حدث للوقف ما يلي:
1- بعد نكبة 1948م تم إزالة أكثر من 1200 مسجداً عن الوجود.
2- بعد نكبة 1948م تم تحويل قرابة سبعين مسجداً إلى مطاعم وخمارات
ومتاحف وحظائر لتربية الأبقار.
3- بعد نكبة 1948م تم جرف آلاف المقابر الإسلامية وبناء الفنادق أو
الأحياء السكنية، أو إقامة الشوارع والحدائق العامة على حساب أموالنا.
4- بعد نكبة 1948م تم تحويل كل الوقف الإسلامي إلى ما أسموه: (ملك
الغائب) ووضعت السلطة اليهودية يدها عليه معتبرة نفسها صاحبة الملك الكامل لكل
الوقف الإسلامي.
في المقابل قمنا بإنشاء جمعية إسلامية تسمى: (جمعية الأقصى لرعاية
المقدسات الإسلامية) وهدفها السعي إلى تحرير كل الوقف الإسلامي عامة، والعمل
على تحرير المساجد المنتهكة ثم ترميمها، وكذلك العمل على صيانة المقابر
الإسلامية والحيلولة دون جرفها.
س11: هناك اتهام للفسلطينيين بالتفريط في أراضيهم من خلال بيعها إلى
اليهود: فما مدى صحة هذا الاتهام أولاً، وما هو الإجراء المتبع عندكم إذا كان فعلاً
واقعاً؟
ج: لا يخلو أي مجتمع من العناصر المنهزمة والطفيلية، وهم قلة في
مجتمعنا بحمد الله رب العالمين، وقد باعوا أرضهم لبعض المؤسسات اليهودية أو
لأشخاص يهود، أما نحن فنعمل على توعية الناس حتى نبني عندهم الرادع الذاتي
الذي يمنعهم من بيع أرضهم، وفي نفس الوقت لدينا طموح لم نصل إليه حتى الآن
وهو إحياء الأرض كل الأرض بهدف تحويلها إلى مصدر رزق رئيسي بمشيئة الله
تعالى في حياة جماهيرنا.
س12: احتفلت الصهيونية بمرور مائة عام على تأسيسها: فكيف تنظرون
إلى مستقبل الدولة الصهيونية في فلسطين من خلال معطيات اليوم وتحليل تركيبة
المجتمع اليهودي؟
ج: إن تراكم فروق خمسين عاماً بين الطوائف اليهودية المتدينة وغير
المتدينة، أو الشرقية والغربية، أو الشرقية المغربية والشرقية اليمنية والعراقية،
أو القادمين الجدد والقدماء، أو الفلاشا، وغيرهم لا شك أن هذا التراكم بدأ يتجسد
اليوم بمظاهر تفكك في بنية هذا المجتمع العامة، قادت إلى مظاهر استقطاب ناتجة
عن التفاف كل فئة حول نفسها؛ ولا شك أن هذا الوضع آخذ بفرز مظاهر عداء
كلامي وجسدي كما يحدث اليوم؛ لذلك فإن المراقب لمسيرة هذا المجتمع يلاحظ أنها
تسير إلى التمزق والتناحر الداخلي لا محالة بشكل سريع.(122/58)
دراسات في السيرة النبوية
خصائص المرحلة المكية
في مجال المعرفة
بقلم: د. محمد أمحزون
لقد كان أول ما نزل من آي القرآن الكريم خمس آيات كانت استهلالاً للرسالة
الخاتمة الخالدة، وهي الآيات التي افتُتِحت بها سورة العلق: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي
خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَاً وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ] [العلق: 1-5] .
وبهذه الآيات وضع الله تعالى معالم الرسالة الإسلامية الخالدة في عمومها
المطلق وشمولها الأعم مبيناً أنها رسالة العلم والمعرفة والعقل، وهي أعظم نعم الله
تعالى على الإنسان [1] .
وبهذه الآيات البينات، وما تضمنته من الإشادة بالقراءة والكتابة والعلم، أبان
الله عز وجل لنبيه-صلى الله عليه وسلم- ولأمة الإسلام أن المعرفة بوسائلها: من
قراءة وكتابة وتعلّم هي الأسلوب الأمثل لتبليغ الرسالة.
وبهذه الآيات أعطيت الأمة مفاتيح الإصلاح والتقدم والرقي؛ لتعلم أنه لا
إصلاح ولا مدنية ولا حضارة بغير علم ومعرفة؛ فالجهل وهو نقيض العلم لا يأتي
إلا بالشر والفساد والتخلف، كما أن الهداية إلى معرفة الحق واعتناقه والحرص
على إقامة معالمه والدعوة إليه لا يكون إلا مع العلم، ولا يكتب للعلم النمو
والانتشار إلا إذا سجله القلم ونشره وأعلن عنه [2] .
على أن العلم لا يسلك إلى القلوب سليقةً وطبعاً، أو يتلقاه الناس غريزةً
وفطرةً، وإنما يخضع للقوانين التي أودعها الله عز وجل في الوجود، ولسنن الله
في نظام الحياة.
والكشف عن هذه السنن يقوم على التعلم والبحث والتدبر وإعمال الفكر
واستقراء الظواهر؛ مما يقود إلى إماطة اللثام عن قوانين المادة وسنن الاجتماع
للإفادة من ذلك في بناء صرح الحضارة الإنسانية ضمن التوجيهات والضوابط
والحدود الإلهية.
ومن اللافت للنظر أن استفتاح الوحي بهذه الآيات البينات فيه دلالة واضحة
على أن العلم في دائرة سنن الله في الحياة يعد من أهداف الأمة الإسلامية في
تبليغها رسالة الإسلام؛ (لأن العلم هو العنوان الأعظم على خلود هذه الرسالة، وهو
العنصر الحيوي في تكوين حقيقتها الهادية الراشدة، وهو الآية الكبرى على صدقها
وصدق رسولها) [3] .
ولا شك أن هذه المنزلة الرفيعة التي منحها الإسلام للعلم، حفزت المسلمين
بأمر وتشجيع من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على طلب العلم طلباً موصولاً
دائماً.
ولهذا الغرض كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يجتمع بأصحابه في دار
الأرقم بن أبي الأرقم يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين [4] . كما كان يقوم بعضهم
بإقراء بعض مثلما كان يفعل (خباب بن الأرت) حيث كان يختلف إلى (فاطمة بنت
الخطاب) وزوجها (سعيد بن زيد) رضي الله عنهما يقرئهما القرآن من الرقاع [5] .
بل كان أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حريصين أشد الحرص
على معرفة كتاب الله مثلما كان يفعل (ابن أم مكتوم) الأعمى رضي الله عنه، حيث
كان يأتي إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستقرئه القرآن ويلح عليه في ذلك،
وهو الذي نزلت بسببه: [عَبَسَ وَتَولَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى] [عبس: 1، 2] [6] .
العلم بالعقيدة:
في الفترة الأولى التي قضاها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في مكة منذ
بعثته إلى أن هاجر إلى المدينة، عُني القرآن المكي أولاً بإصلاح العقيدة وتخليصها
من شوائب الوثنية، وتهذيب النفوس بتجريدها من رذائل الصفات، حتى تجتمع
القلوب على توحيد الله عز وجل، وتمحو من النفوس آثار الجاهلية.
كما عُني القرآن المكي في هذه الفترة بتعميق الإيمان في النفوس وبيان أبعاده
القلبية والقولية والعملية، والتركيز على مقتضيات (لا إله إلا الله) التي تُعنى بنقل
الإنسان من تقاليد وأعراف الجاهلية إلى أصول الإسلام وأحكامه في نواحي الحياة
المختلفة.
وكان من حكمة الله تعالى أن جعل لترسيخ هذه العقيدة على أهميتها وخطورتها
المدة الكافية، وهي الفترة المكية؛ حيث ظل الوحي ينزل ثلاثة عشر عاماً ليوضح
معاني هذه العقيدة ومقاصدها ضمن التطبيق العملي في واقع الحياة.
ولم يعرض التشريع القرآني ولا النبوي في هذه الفترة لشيء من التشريعات
العملية إلا ما له ارتباط بالعقيدة؛ كتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح:
[وَلا تَاًكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَفِسْقٌ] [الأنعام: 121] ، أو كان عبادة
تربطهم بالله عز وجل وتوجههم إلى الخير: [وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَذِي
إلَيْهِ تُحْشَرُونَ] [الأنعام: 72] .
توحيد الله عز وجل في ألوهيته:
ولأن المعركة من نوح إلى محمد صلوات الله عليهما واحدة، وقضيتها واحدة، فقد جاء التعبير عن الرسالات جميعاً في القرآن الكريم بأنها كتاب واحد:
[وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ] [البقرة: 213] .
فطبيعة دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً أنها دعوة واحدة إلى منهج
التوحيد بكل فروعه وأنواعه، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صوره وألوانه: [يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ] [الأعراف: 59] . وجاء في حديث
علي رضي الله عنه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أفضل ما قلت أنا
والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) [7] .
وبناءً على ذلك؛ فإن قضية الصراع بين الأنبياء الذين يحملون لواء (لا إله
إلا الله) وبين الجاهليين أو (الملأ) كما يسميهم القرآن الكريم لا يرجع إلى البعثة
النبوية فحسب، وإنما تمتد جذوره إلى فجر البشرية. وقد أكّد القرآن الكريم هذه
الحقيقة وهو يتنزل بقصص الأنبياء وقصص المكذبين من قبل في الفترة المكية:
[وَإن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ
المُنِيرِ] [فاطر: 25] .
أصلان يقوم عليهما الدين:
ولقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين:
الأول: ألاّ يُعبد إلاّ الله، بالمعنى الشرعي للعبادة، (وهي اسم جامع لكل ما
يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) [8] .
الثاني: ألاّ يُعبد إلاّ بما شرع على لسان رسوله؛ (فلا إله إلا الله) لا تعني
مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء كما كان المشركون
عبّاد الأصنام مقرين بذلك: [وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] [لقمان: 25] لكنهم اتخذوا في واقع الأمر شركاء مع الله عز وجل يتقربون إليهم
بالطاعات، فلم ينفعهم هذا الإقرار. ذلك أن التوحيد الحق يتضمن محبة الله عز
وجل وتعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتسليم لأمره، والانقياد لطاعته في
جميع شؤون الحياة بدءاً بالعقيدة ثم العبادات وسائر المعاملات التي يتعرض لها
الإنسان في حياته؛ لأن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله (تنفي عن قلبه إلهية ما سوى
الحق، وتثبت في قلبه إلهية الحق.. بحيث يكون محباً لله، معظماً له، عابداً له،
راجياً له، خائفاً منه، محباً فيه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً
عليه ... وأمثال ذلك مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى ... ) [9] .
وعلى ذلك فإن هذا يعني: الإذعان للإسلام، والخضوع له في التصور
والفكر والسلوك، في جميع نواحي الحياة، كما في قوله تعالى: [قُلْ إنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] .
ولا شك أن العرب وهم أدرى وأعلم بلغتهم يدركون بداهة أنّ (لا إله إلا الله)
تعني طاعة الله وعبادته وحده لا شريك له. ومعنى ذلك: نزع السلطان الذي
يزاوله الأمراء والحكام وزعماء القبائل بمقتضى أهوائهم ومصالحهم، ورده كلّه إلى
الله عز وجل: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40]
يقول صاحب الظلال رحمه الله في تفسير هذه الآية: (ولا نفهم هذا التعليل
كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى العبادة التي يخص بها الله وحده.
إن معنى: عَبَدَ في اللغة: دان وخضع. ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في
أول الأمر أداء الشعائر، إنما كان هو معناه اللغوي نفسه. فعندما نزل هذا النص
أول مرة (في المرحلة المكية) لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ
إليه. إنما المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي. كان
المقصود به هو الدينونة لله وحده والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده، سواءً
تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية.
فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه ولم
يجعلها لأحد من خلقه.
وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو، نفهم لماذا جعل يوسف عليه السلام
اختصاص الله بالعبادة تعليلاً لاختصاصه بالحكم؛ فالعبادة أي الدينونة لا تقوم إذا
كان الحكم لغيره، وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام
الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة) [10] .
وبهذا المعنى كان العرب يدركون أن (لا إله إلاالله) رفض للسلطان الوضعي
الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية وهي العبادة والطاعة، وخروج على كل من
يحكم بشريعة أو قوانين لم يأذن بها الله: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ] [الشورى: 21] .
ولذلك لم يكن يغيب عن المشركين وهم يعرفون المدلول الحقيقي لدعوة لا إله
إلا الله ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ومصالحهم وسلطانهم.
وإلى ذلك نبّه (ورقة بن نوفل) بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة فقال:
(ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك؛ فيسأله النبي-صلى الله عليه وسلم- في
استغراب: (أوَ مخرجيّ هم) ؟ ! فيقول ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به
إلا عودي) [11] .
وأخرج الحاكم والبيهقي وأبو نعيم من حديث علي رضي الله عنه أن رسول
الله-صلى الله عليه وسلم- لما خرج في موسم الحج يدعو قبائل العرب إلى الإسلام، عرض نفسه على بني شيبان بن ثعلبة، فدعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأنه عبده ورسوله، وأن يؤووه وينصروه ليبلغ رسالة ربه، فقال له
المثنى بن حارثة الشيباني: وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما
تكره الملوك، فرد عليه النبي-صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وإن دين الله عز
وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه) [12] .
الإيمان قول وعمل:
إن شهادة أن (لا إله إلا الله) لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن
تكون كذلك في مرحلة من مراحل الدعوة، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي
أشق المراحل وأهمها؛ وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية التي لقيها المسلمون من
المشركين وما موجبها؟ ! وإنما كانت هذه الشهادة نقلةً بعيدةً ومعلماً فاصلاً بين
حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض
وتعبدات ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها:
من ذلك فريضة التلقي الكامل في التشريع والحكم وكل ميادين الحياة عن الله
ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.
ومن ذلك الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً
وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.
ومن ذلك فريضة الصبر على الأذى في الله الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت
إلى القمة، تحمل الفرائض والواجبات حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما
يكره أن يلقى في النار [13] .
وهذا ما كان يعانيه بلال رضي الله عنه وهو يُلبس أدرع الحديد ويُسحب في
رمضاء مكة وقت الظهيرة، وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأشد بلاء
شهدته أسرة مضطهدة [14] ، وغير ذلك كثير مما سجلته كتب السيرة والحديث.
إنّ في إمكان أي إنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون
أن يناله كبير مشقة، ولكن: أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادات
وأعراف اجتماعية درج عليها المجتمع أجيالاً ويتحداه بمخالفتها؟ فما بالك إذا كان
الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو عرف، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل
عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي.
ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها ومراقبة شديدة لها.
ولهذا كانت النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد ألاّ إله إلا الله، فيعود من
فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها، وليقطع العلائق التي طالما
وثقها [15] .
وهكذا فهم المسلمون دلالة هذه الكلمة المتميزة، كما فهمها الكافرون على حدّ
سواء: [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: 42] ؛
فهمها المسلمون فالتزموا بما فرضه عليهم من تبعات وتكاليف، وقاومها الكافرون؛
لأنهم فهموا مقتضاها وما يترتب عليها من ذهاب سلطانهم وتحطم كيانهم، وتهافت
أساطيرهم وأوهامهم.
إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح للمرء أن يتصور شهادة بلا أثر في
واقع الحياة، وإلا: أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبناءهم وإخوانهم
ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟ ! [16] .
إن حقيقة العبادة لو كانت مجرد كلمة تقال باللسان أو هي الشعائر التعبدية فقط
لما استحقت كل ذلك الموكب من الرسل والرسالات، ولما استحقت كل تلك الجهود
المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله عليهم وعلى رأسهم محمد؛ إنما الذي استحق
كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الخضوع للعباد ولأهوائهم إلى
الإذعان لرب العباد، في كل أمر وفي كل شأن.
ولأجل ذلك: فإن كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) إعلان إلهي عام لتحرير
الإنسان في الأرض من العبودية لغيره ولهواه، وذلك بإعلان العبودية لله وحده
المتمثلة في إفراده بالطاعة.
على أنّ سيادة الشريعة الإلهية وحدها، وإلغاء القوانين البشرية التي تخدم فئة
من الناس وهم (الملأ) ، كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان؛ لأن المتسلطين على
رقاب العباد المغتصبين لسلطان الله في الأرض لا يسلمون في سلطانهم بمجرد
التبليغ والبيان [17] ، بل حتى الأفراد أنفسهم، وهم الذين عبّدوا أنفسهم لغير الله
من الطواغيت والأنداد المختلفة والأصنام الفكرية، ليس لدى أكثرهم استعداد لترك
ما ألفته النفس، وسار عليه الآباء والأجداد، ويعيش عليه المجتمع كله، لمجرد
التبليغ والبيان، بل إن ما في نفوسهم من حواجز الكبر والعناد والتمرد لا يقل عن
الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة [18] .
وإزاء هذه الاعتبارات، فإن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض
من كل سلطان غير سلطان الله بإعلان ألوهيته للعالمين: [وَهُوَ الَذِي فِي السَّمَاءِ
إلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ] [الزخرف: 84] لم يكن إعلاناً نظرياً
فلسفياً سلبياً، وإنما كان إعلاناً حركياً واقعياً وإيجابياً، إعلاناً يراد به التحقيق
العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية
للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك. ومن ثَمّ لم يكن بدّ أن يتخذ هذا الإعلان
شكل الحركة أي الجهاد [19] إلى جانب شكل البيان أي التبليغ [20] . وهو ما
جمعته آية سورة الحديد في قوله تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ
الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحديد: 25]
هذا وقد رسخ القرآن الكريم في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة
الصحيحة بهذا المفهوم، وأتت تربية الرسول-صلى الله عليه وسلم- لأصحابه
ثمارها المباركة في هذا الجانب، فلم يحتكموا إلا لله، ولم يطيعوا ويتبعوا أحداً على
غير مرضاة الله، ولم يوالوا ويعادوا إلا في الله، ولم يستغيثوا ويستعينوا إلا بالله،
إلى غير ذلك من حقائق ومعاني هذا الأصل العظيم التي قررها القرآن الكريم
والسنة النبوية في المرحلة المكية.
__________
(1) محمد الصادق عرجون: محمد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ج 1، ص 542.
(2) المرجع السابق، ج1، 543.
(3) المرجع السابق، ج1، ص 545.
(4) ابن هشام: سيرة النبي-صلى الله عليه وسلم-، ج1، ص 367، وابن سعد: الطبقات
الكبرى، ج3، ص 347.
(5) ابن هشام: سيرة النبي-صلى الله عليه وسلم-، ج1، ص 366، 367.
(6) الترمذي: السنن، ج5، ص 103، 104، وقال حديث حسن.
(7) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم 4072، 32، ص 462 وقال الألباني: إسناده مرسل صحيح، والحديث ثابت بمجموع شواهده السلسلة الصحيحة، ج4، ص 7، 8.
(8) ابن تيمية: العبودية، ص 4.
(9) ابن تيمية: العبودية، ص 47.
(10) سيد قطب: في ظلال القرآن، ج4، ص 1390.
(11) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، ج1، ص 3، 4.
(12) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة، رقم 214، ج1، ص 371 380 وقال ابن كثير في
تاريخه: رواه الحاكم والبيهقي، ج3، ص 144 وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، ج7،
ص 220.
(13) سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى بمكة المكرمة ص 25.
(14) أحمد: المسند، ج1، ص 62 قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ج9، ص 293، والحاكم: المستدرك على الصحيحين، ج3، ص 388 -389، وج3، ص 284، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(15) سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء، ص 26.
(16) سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر.
(17) سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ص 1433 -1434.
(18) سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، ص 31 -32.
(19) أي الجهاد الشرعي الذي لا يستهدف الأبرياء العزّل، وإنما يواجه الطغم الحاكمة بعد الإعداد على المدى الطويل وامتلاك القدرة على المواجهة.
(20) سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ص 1434.(122/66)
مرتكزات للفهم والعمل
الرغبة في الصدارة
رؤية دعوية حول حقيقتها ومظاهرها وآثارها
(1من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
لا غرابة في حرص أهل الدنيا على الإمارة والولايات؛ فذلك أمر تعوّده
الناس منهم، حتى أفضى الأمر إلى نزاعات وخلافات ومفاسد وفتن كثيرة، وأدى
كثير منها إلى سقوط بعض الدول، كسقوط الأندلس وغيرها.
لكن الغريب أن يتسلل هذا الداء إلى داخل التجمعات الدعوية، ويسيطر على
بعض النفوس المريضة، شعرت أم لم تشعر، حتى يصير همّ الواحد منهم أن يسود
على بضعة أفراد، دون التفكير بتوابع ذلك وخطورته، وأنها أمانة، ويوم القيامة
خزي وندامة [1] .
التطلع للإمارة في ضوء النصوص الشرعية:
إن الحرص على الإمارة يفسد دين المرء الحريص عليها، ويضيع نصيبه في
الآخرة، ويجعله شخصاً غير صالح لهذا المنصب، وتوضيح ذلك كما يلي:
أولاً: تحذير النبي-صلى الله عليه وسلم- من عواقب التطلع إلى الإمارة:
قال: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف
والمال لدينه) [2] .
فبين أن الفساد الحاصل للعبد من جراء حرصه على المال والشرف: أشد من
الفساد الحاصل للغنم التي غاب عنها رعاتها ليلاً، وأُرسل فيها ذئبان جائعان
يفترسان ويأكلان، وإذا كان لا ينجو من الغنم إلا القليل منها؛ فإن الحريص على
المال والشرف لا يكاد يسلم له دينه.
ثانياً: بيان طرق الناس في طلب الجاه: للناس في طلب الجاه طريقان، هما:
الطريق الأول: طلبه بالولاية والسلطان وبذل المال، وهو خطير جداً، وفي
الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها؛ فإن الله جعل الآخرة لعباده المتواضعين، فقال:
[تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83] فنفى عنهم مجرد الإرادة، فضلاً عن العمل والسعي
والحرص لأجلها، فإن إرادتهم مصروفة إلى الله عز وجل، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم التواضع مع الله تعالى والانقياد للحق والعمل الصالح، وهم الذين لهم
الفلاح والفوز. ودلت الآية على أن الذين يريدون العلو في الأرض والفساد ليس
لهم في الآخرة حظ ولا نصيب [3] .
الطريق الثاني: طلب الجاه بالأمور الدينية، وهذا أفحش وأخطر؛ لأنه طلب
للدنيا بالدين، وتوصل إلى أغراض دنيوية بوسائل جعلها الله تعالى طرقاً للقرب
منه ورفعة الدرجات، وهذا هو المقصود بحديثنا هنا.
ثالثاً: النهي عن سؤال الإمارة: وقد وردت نصوص تنهى عن سؤال الإمارة
وتمنيها، وتحذِّر من ذلك، وتبين عاقبته، وتنهى عن تولية من سألها أو حرص
عليها. وهي وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها واردة في الإمارة الدنيوية إمارة
السلطان والوالي إلا أن دلالتها أشمل من ذلك وأوسع، فهي تتناول ما نحن بصدد
الحديث عنه. ومن تلك الأحاديث:
أ - قول النبي: (يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها) [4]
وفي رواية: (لا يتمنّينّ) ، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب [5] .
ب - وقوله: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة،
فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة) [6] فهي محبوبة للنفس في الدنيا، ولكنها (بئست
الفاطمة) بعد الموت؛ حين يصير صاحبها للحساب والعقاب. وفي رواية أخرى:
(أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل) [7] .
ج - وقال-صلى الله عليه وسلم- للرجلين اللذين سألاه الإمارة: (إنا لا نولّي
هذا مَنْ سأله، ولا من حرص عليه) [8] .
والسبب في عدم توليته الإمارة لمن سألها أنه غير صالح ولا مؤهل لهذا الأمر؛ لأن سؤاله له وحرصه عليه ينبئ عن محذورين عظيمين:
الأول: الحرص على الدنيا وإرادة العلو، وقد تبيّن ما فيه.
الثاني: أن في سؤاله نوع اتكال على نفسه، وعُجباً بقدراتها وغروراً
بإمكاناتها، وانقطاعاً عن الاستعانة بالله عز وجل التي لا غنى لعبد عنها طرفة عين، ولا توفيق له إلا بمعونته سبحانه وتعالى [9] .
فما أشبه حرص الداعية على رئاسة مركز إسلامي، أو إدارة مكتب دعوي،
أو ترؤس لجنة، أو هيئة، أو مجموعة ... ما أشبه كل ذلك بما نهى عنه-صلى الله
عليه وسلم-، نسأل الله السلامة من الفتنة.
وما أحسن وصف شدّاد بن أوس رضي الله عنه لها بالشهوة الخفية حين قال
محذراً: (يا بقايا العرب ... يا بقايا العرب ... إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء،
والشهوة الخفية) ، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال (حب
الرئاسة) [10] . وصدق والله؛ فإنها مهلكة كالرياء. وعلى كثرة ما ورد من
التحذير من حب المال؛ فإنها أشد إهلاكاً منه، والزهد فيها أصعب؛ لأن المال
يبذل في حب الرئاسة والشرف.
مظاهر الحرص على الإمارة والظهور [11] :
1- العجب بالنفس، وكثرة مدحها، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة
كالشيخ، والأستاذ، والداعية، وطالب العلم، ونحوها، وإظهار محاسنها من علم
وخُلُق وغيره.
2- بيان عيوب الآخرين وخاصة الأقران والغيرة منهم عند مدحهم ومحاولة
التقليل من شأنهم.
3- الشكوى من عدم نيله لمنصب ما، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير
لتقلّد بعض المناصب.
4- الحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز؛ كالإمامة والخطابة
والتدريس والتأليف والقضاء. وهي من فروض الكفاية، لا بد لها ممن يقوم بها،
مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس؛ كما هو حال السلف.
5- عدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوساً، والتهرب من التكاليف التي لا
بروز له فيها.
6- كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات
والمشاريع الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها.
7- الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه.
8- القرب من السلاطين والولاة ومن بيده القرار في تقليد المناصب، وكثرة
الدخول عليهم.
وهذا باب واسع يدخل منه علماء الدنيا لنيل الشرف والجاه، وهو مظنة قوية
للفتنة في الدين، كما في الحديث: (من أتى أبواب السلطان افتتن) [12] .
9- الجرأة على الفتوى، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.
وقد كان السلف يتدافعونها كثيراً؛ ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى: (أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فما كان
منهم محدّث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا) [13] .
آثار ومفاسد التطلع للإمارة:
أولاً: مفاسد التطلع إليها والرغبة فيها:
1- فساد النية، وضياع الإخلاص، أو ضعفه، ودنو الهمة، والغفلة عن الله
تعالى، وعن الاستعانة به. [14] .
2- انصراف الهمّ عن المهمة الأساس، والغاية الكبرى من حياة العبد، وهو
تحقيق العبودية لله عز وجل. والاشتغال عن النافع الذي أمر النبي-صلى الله عليه
وسلم- بالحرص عليه فقال: (احرص على ما ينفعك) [15] وصرف الوقت والجهد
والفكر فيما هو غني عن الاشتغال به، من مراعاة الخلق، ومراءاتهم، والحرص
على مدحهم، والفرار من مذمتهم، وهذه بذور النفاق، وأصل الفساد.
3- المداهنة في دين الله تبارك وتعالى، بالسكوت عما يجب قوله والقيام به
من الحق، وربما بقول الباطل من تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو قول على الله
بلا علم.
4- اتباع الهوى، وارتكاب المحارم من الحسد والظلم والبغي والعدوان ونحوه
مما يوقع فيه هذا الحرص ويستلزمه أحياناً قال الفضيل بن عياض: (ما من أحد
أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد
بخير) [16] .
ثانياً: مفاسد الحصول عليها للراغب فيها المتشوِّف لها [17] :
1- الحرمان من توفيق الله وعونه وتسديده؛ (فإنك إن أُعطيتها عن مسألة
وكلت إليها) .
2- تعريض النفس للفتنة في الدين، والتي يترتب عليها غضب الله تعالى إذ
ربما يَنْسى مراقبة الله، وتبعات الأمر، ويغفل عن الحساب، فقد يظلم ويبغي؛
ويُشعِرُ بذلك كله وصف النبي: بأنها أمانة وملامة وندامة.
3- تضاعف الأوزار وكثرة الأثقال؛ حيث قد يفتن؛ فيكون سبباً للصد عن
سبيل الله تعالى وأشد ما يكون ذلك حين يكون منتسباً لأهل العلم والصلاح، قال عز
وجل: [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ
أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] [النحل: 25] .
4- توقع سوء العاقبة في الدنيا، وحصول بلاء لا يؤجر عليه، قال الذهبي:
(فكم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية) [18] .
5- التبعة والمسؤولية الشديدة يوم القيامة، قال: (ما من أمير إلا يؤتى به
يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور) [19] .
ثالثاً: آثاره على صعيد الجماعة والمجتمع:
الفرد والجماعة كلٌ منهما مؤثر في الآخر متأثر به، فإذا ما وقع الأفراد في
مزلق كهذا، فإن الداء عن الجماعة ليس ببعيد؛ إذ سرعان ما تفسد الأخوة، وتَحل
الخلافات، ويسهل اختراق الصف الإسلامي، وتحصل الشماتة به وبأهله.
وما أبعد هؤلاء عن تنزّل النصر، وحصول التمكين، مع هذا الاعوجاج
والانحراف. بئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً، ينتفع فيها المرء ويتبختر،
وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخارف الدنيا ومتاعها الفاني؛ فإن حب
الظهور والبروز بداية الانحراف والسقوط والإخفاق.
وإذا كان الله عز وجل يعطي الكافر والمؤمن من الدنيا لهوانها عنده، ولكنه
سبحانه أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في الأرض على يد أناس عندهم
شوب في الإخلاص، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في الأرض؛ فكيف إذا كانوا
يتخذون الدين مطية للدنيا، يبيعون دينهم بعرض قليل؟ ! [20] .
__________
(1) انظر: مجلة البيان، ع 90، ص 111.
(2) رواه أحمد، ج3، ص 456، 460، وانظر: صحيح الجامع، ح/ 5620، وانظر: رسالة بعنوان: (شرح حديث: (ما ذئبان جائعان [لابن رجب رحمه الله تعالى، فقد أخذت منه كثيراً في هذا الموضوع، وقد لا أشير إليه في بعض المواضع تحاشياً لإثقال الهوامش.
(3) انظر: تفسير السعدي، ص 575.
(4) رواه البخاري، ح/7146.
(5) انظر: الفتح، ج13، ص 133.
(6) رواه البخاري، ح/7148.
(7) وسندها صحيح انظر: الفتح، ج13، ص 134.
(8) رواه البخاري، ح/7149.
(9) انظر: شرح جوامع الأخبار، للسعدي، ص 105 ضمن المجموعة الكاملة.
(10) شرح حديث أبي ذر، ص 25، وجامع الرسائل، ج1، ص 233، كلاهما لابن تيمية.
(11) انظر: شرح حديث (ما ذئبان جائعان) لابن رجب، وانظر مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية للبلالي، ص 85، 143.
(12) رواه أحمد، ج2، ص 371، 440، وانظر: صحيح الجامع، ح/ 6124.
(13) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ج2، ص 1120.
(14) خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ج2، ص 23.
(15) رواه مسلم، ح/2664.
(16) جامع بيان العلم وفضله، ج1، ص 571.
(17) انظر: آفات على الطريق، السيد محمد نوح، ج2، ص 67، وأخذت منه في مواضع أخرى من هذا الموضوع.
(18) السير، ج 18، ص 191، 192.
(19) رواه أحمد، ج2، ص 231، وانظر: صحيح الجامع، ح/5695.
(20) انظر: خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ج2، ص 23.(122/76)
قراءة في كتاب
قوانين ومبادئ.. المقاطعة العربية لـ (إسرائيل)
تأليف: د. محمد عبد الحميد أبو زيد
الناشر: عمادة شؤون المكتبات جامعة الملك سعود، الرياض، ط1، 1993م.
عرض: مجدي محمد عيسى
تتعرض المقاطعة العربية للعدو الصهيوني لحملة غربية وصهيونية شرسة منذ
بداية العقد الحالي؛ بهدف تقويضها ومد جسور التعامل التجاري والاقتصادي بين
الدول العربية والعدو؛ كمؤشر لإثبات حسن النية من جانب الأطراف العربية التي
قبلت الدخول في محادثات سلام معه ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا
الشأن أصدر مؤتمر قمة الدول الصناعية السبع الذي عقد في طوكيو في يوليه
1993م، قراراً يؤيد إلغاء المقاطعة العربية لـ (إسرائيل) كما تحاول إسرائيل من
خلال المفاوضات المتعددة الأطراف وضع حد للمقاطعة العربية والدخول في
مشروعات مشتركة مع البلاد العربية. وقد بدأت عرى المقاطعة تنحل عروة عروة، حيث وافقت بعض الدول العربية على إلغاء المقاطعة من الدرجة الثانية (أي التي
تتعلق بالتعامل مع الشركات التي تتعامل مع إسرائيل) بينما دخلت دول عربية في
تطبيع علاقات مع العدو بعد إقامة علاقات دبلوماسية معه. وفي خضم هذه
التحولات احتدم الجدال حول جدوى المقاطعة ومدى فاعليتها في تعزيز مركز
العرب التفاوضي. والكتاب الذي أعرض له يفيد في تتبع تطور المقاطعة العربية
للوجود الصهيوني في فلسطين، والجوانب القانونية للموضوع والأساليب المعادية
للمقاطعة.
يقع الكتاب في 241 صفحة، ويتألف من مقدمة وستة أبواب.
في المقدمة: تناول المؤلف فكرة المقاطعة العربية للعدو الصهيوني باعتبارها
وسيلة مشروعة، سواء في الشرع الإسلامي أو في القانون الدولي العام؛ وذلك
لممارسة الضغط عليه لحمله على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة.
وفي الباب الأول: (المقاطعة في الإسلام) : تناول المؤلف التصور الإسلامي
للمقاطعة في سياق تحليله لمفهومي الحرب والسلام في الإسلام، ولقد أشار في هذا
الشأن إلى أن القاعدة في الإسلام هي السلام، وأن الحرب إنما شرعت لتأمين نشر
الدعوة الإسلامية والدفاع عن الأنفس والأعراض والأموال والأوطان عند الاعتداء
عليها. وأما المقاطعة فهي من أهم أسلحة الحرب التي تشنها الدولة لتحقيق أهدافها
في حربها العادلة ضد الطغاة، ويقرر المؤلف أن الإسلام يحظر على أتباعه موالاة
أعداء الله أو التعامل معهم أو مناصرتهم، وأن الله تعالى أمر بمقاطعة الكفار وإن
كانوا آباء أو أبناء أو إخواناً. ووفقاً لما ذكره المؤلف، فإنه يجوز للمسلمين في
حالة الضعف وعدم التمكن أن يوالوا الكفار والمشركين ظاهراً ريثما يعدّون أنفسهم
لمواجهة الخطر الذي يتهددهم.
الباب الثاني: (الصراع العربي (الإسرائيلي) والمقاطعة العربية) : استعرض
فيه المؤلف ظروف نشأة المقاطعة العربية لـ (إسرائيل) وأشار إلى ظهور المقاطعة
كوجه من وجوه المقاومة العربية لقيام دولة العدو على أرض عربية في سنة 1948م؛ حيث شعر العرب بالخطر يتهددهم من جراء استزراع هذا الكيان في أرضهم.
وهو خطر متعدد الجوانب؛ فهو خطر عسكري واقتصادي واجتماعي. فمن الناحية
العسكرية: فإن دولة العدو كيان ذو قوة عسكرية مقتدرة ومسلح بعتاد حربي عالي
التقنية، وميزانيتها العسكرية ضخمة، وتعتني بتدريب قواتها بصورة مستمرة
ومنظمة. ولذا فإنها هزمت العرب في حروب 1948م، 1956م، 1967م. ومن
الناحية الاجتماعية: فإن العدو كيان عنصري يفرق في المعاملة بين اليهود والعرب
المقيمين في الأراضي المحتلة؛ فالشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال لا يتمتع
بحقوق الإنسان الأساسية: كحق العمل وحق التعليم والتأمين الاجتماعي، والحريات
الشخصية، وحرمة المسكن، وحرية العقيدة. كما أن وجود دولة للعدو يشكل تهديداً
للأماكن المقدسة في فلسطين؛ حيث المخطط اليهودي لهدم المسجد الأقصى وبناء
هيكل سليمان مكانه.
ومن الناحية الاقتصادية: يشكل العدو الصهيوني خطراً اقتصادياً على الأمة
العربية، يتمثل في تدفق الأعداد الكبيرة من المهاجرين اليهود إلى فلسطين،
ومحاولة تركيز الصناعات اليهودية في فلسطين واحتلال الأراضي وإقامة
المستعمرات الزراعية اليهودية فيها. وأشار المؤلف إلى أن مشروع تحويل نهر
الأردن يعتبر من الأمثلة البارزة على تغلغل الخطر الاقتصادي الصهيوني في
الوطن العربي؛ حيث يهدف هذا المشروع إلى تحويل مجرى نهر الأردن إلى
فلسطين المحتلة ليروي صحراء النقب.
وننتقل إلى الباب الثالث: (نشأة المقاطعة العربية) : وقد أوضح المؤلف في
هذا الباب أن العرب تبنّوا المقاطعة كأداة قانونية سياسية واجتماعية للكفاح ضد
الصهاينة لترويعهم ودفعهم للتخلي عن الأراضي المحتلة، وذكر أن المقاطعة مرت
بتطورات مهمة؛ حيث كانت بدايتها أيام الحكم العثماني، ثم تطورت في حقبة
الاستعمار البريطاني. وكانت هذه التطورات مواكبة للتطور الاجتماعي، فانتقلت
المقاطعة من مرحلة المقالات والنداءات على صفحات الجرائد والمجلات إلى مرحلة
العمل القانوني السياسي والممارسة النضالية؛ وفي النهاية تبنت جامعة الدول
العربية المقاطعة؛ باعتبارها سلاحاً فعالاً لعرقلة نمو الدولة العبرية. وأشار المؤلف
إلى قرار مجلس الجامعة الصادر في 16 ديسمبر 1954م الذي ينص على مقاطعة
السلع التي تنتجها المصانع اليهودية في فلسطين. ومنذ بداية الخمسينيات، أصبح
الإشراف على المقاطعة العربية منوطاً بالجامعة العربية التي حاولت عزل دولة
العدو سياسياً، فاستخدمت المقاطعة كسلاح قانوني دولي في بعض الأحيان.
ويرى المؤلف أن أبرز حدث في تاريخ المقاطعة العربية هو القرار الذي
اتخذته الدول العربية إثر نشوب حرب أكتوبر 1973م بتخفيض إنتاج البترول
العربي وحرمان الدول التي تساعد إسرائيل منه، وقد كان لهذا القرار تأثيره في
عزل العدو سياسياً بعد إجماع معظم دول العالم على وجوب انسحابها من الأراضي
التي احتلتها سنة 1967م.
كما قامت كافة الدول الأفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة العدو،
وتحركت الولايات المتحدة باتجاه إيجاد تسوية للنزاع العربي (الإسرائيلي) .
ثم استعرض المؤلف أجهزة المقاطعة العربية المركزية والإقليمية، ومهام
المكتب الرئيس الذي مقره دمشق، ومهام المكاتب الإقليمية والمكتب الرئيس.
وأشار المؤلف إلى أن جهة الرقابة والإشراف على المكاتب الإقليمية تختلف من بلد
عربي إلى آخر؛ وذلك لاختلاف نظم الإدارة والتشريع في كل منها من جهة،
ولاختلاف تقدير كل دولة في إلحاق مكتبها بأحد أجهزتها من جهة أخرى، فضلاً
عن أن المنظمة المتعلق بها أمور المقاطعة ونظام تأسيس المكاتب الفرعية ومشروع
القانون الموحد لتلك المقاطعة وردت كلها دون تبيان الجهة التي تلتحق بها تلك
المكاتب.
في الباب الرابع: (مبادئ المقاطعة العربية) : أشار المؤلف إلى أن المقاطعة
العربية تعرضت لحملة شرسة من قبل الأوساط اليهودية؛ حيث حاولوا التشكيك في
جدواها، ومارسوا ضغوطاً على الشركات والمؤسسات الأجنبية لكي لا تتجاوب مع
المقاطعة العربية. كما حاولوا إقناع العالم بأن المقاطعة العربية قائمة على أساس
ديني وعنصري. ويردّ المؤلف على هذه المزاعم بأن الدول العربية في حالة دفاع
شرعي وفقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ومن حقها أن تتخذ كافة الإجراءات
السياسية والقانونية والاقتصادية والعسكرية ضد دولة العدو والدول التي تساعدها في
اغتصابها للحقوق العربية، ومن بين هذه الإجراءات المقاطعة. ثم ذكر المؤلف أهم
مبادئ المقاطعة في مجالات: التصدير والاستيراد، المناطق الجمركية الحرة
العربية والأجنبية، مراقبة البيوت المالية والمصارف، الطرود البريدية،
الإجراءات التي تتخذ ضد عملاء العدو ومكافحة التهريب من البلاد العربية، ومنع
تسرب البترول إلى دولة العدو والشركات والمؤسسات الأجنبية التي تعاون إسرائيل
، كشركات الملاحة والطيران الأجنبية، وغيرها. وتدور هذه المبادئ في مجملها
حول حظر التبادل التجاري بين العرب والعدو، وحظر التعامل مع الشركات
والمؤسسات التي تتعامل معه.
وفي الباب الخامس: (تطور المقاطعة والأساليب المعادية لها) : استعرض
المؤلف مراحل تطور المقاطعة العربية، وقسمها إلى ثلاث:
المرحلة الأولى من 1951 1956م، وتعتبر فترة إرساء أسس المقاطعة
ووضع مبادئها العامة.
المرحلة الثانية من 1956 1967م، وقد ضعفت فيها فاعلية المقاطعة نتيجة
للعدوان الثلاثي على مصر، وتصدع وحدة الصف العربي على نحو ما ظهر من
انفصال سوريا عن مصر عام 1961م، والجهود المكثفة التي بذلتها دولة العدو
لإحباط مفعول المقاطعة؛ وذلك باستخدام أساليب غير قانونية بدءاً من محاربة
الشركات التي اختارت التعامل مع الأقطار العربية دونها، وتأليب الرأي العام
ضدها، وحثّ بعض الدول على إصدار التشريعات التي تندد بها وتظهرها بعدم
الجدوى والفاعلية.
المرحلة الثالثة من 1967: 1973م، شهدت هذه المرحلة العدوان الصهيوني
في 5 يونيو 1967م الذي نجم عنه احتلال العدو لبعض الأراضي العربية.
ووفقاً لما ذكره المؤلف، استمر ضعف المقاطعة العربية في هذه المرحلة
نتيجة للهزيمة وضعف الرقابة الأردنية، حيث برزت ظاهرة الجسور المفتوحة التي
تعني إقامة علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية بين الدولة العبرية والضفة
الشرقية عن طريق الضفة الغربية وقطاع غزة (المناطق المحتلة) . ولقد وجد العدو
في فتح هذه الجسور فرصة تسمح باختراق جدار المقاطعة. وبالفعل عملت على
تحقيق منافع اقتصادية كبيرة عن طريق هذه الجسور؛ حيث تم تصدير المنتجات
الصهيونية عبرها واستقدام الزوار العرب والسياح.
ويشير المؤلف إلى سبب آخر لضعف المقاطعة في هذه الفترة وهو تهاون
أجهزة المقاطعة في أداء واجبها وخصوصاً فيما يتعلق بمراقبة السفن التي تبحر إلى
الكيان الصهيوني.
المرحلة الرابعة: حرب 1973م وما بعدها. وفي هذا الشأن يذكر المؤلف أن
هذه الحرب أدت إلى تحريك مشكلة الشرق الأوسط بعد أن كانت في حالة جمود،
كما أدت إلى إضفاء طابع الشرعية على المقاطعة العربية.
وبقدر من التفصيل، تعرض المؤلف للحظر النفطي الذي تبنته الدول العربية
ضد العالم الغربي وخصوصاً الولايات المتحدة وهولندا.
ثم تطرق المؤلف إلى التدابير التي اتخدتها دولة العدو لتقويض المقاطعة التي
شملت: شن حملات الدعاية والتضليل من قبل مكتب خاص لمكافحة المقاطعة أنشئ
بوزارة خارجيتهم عام 1963م، وقيام صحافتهم بالتنبيه إلى خطر المقاطعة العربية
وضرورة مقاومتها والسعي لإصدار تشريعات في مختلف الأقطار لمنع التمييز ضد
المصانع اليهودية، واستغلال النفوذ الصهيوني حيث أعلنت المؤسسات الصهيونية
وقف تعاملها مع الشركات ووسائل النقل الأجنبية التي تقرر دولة العدو مقاطعتها
لتعاملها مع البلاد العربية، وتحريض النقابات والعمال على مقاطعة السفن
والطائرات التابعة للبلاد العربية ومنع تقديم الخدمات لها احتجاجاً على ما تتخذه تلك
البلاد من إجراءات إزاء السفن والطائرات التي تتعامل مع العدو وإدراجها في
القوائم السوداء، والضغط على الشركات العالمية للتعامل مع العدو، والضغط على
الحكومات لإصدار تشريعات مضادة للمقاطعة العربية.
موقف الولايات المتحدة الأمريكية من المقاطعة:
أوضح المؤلف أن اليهود مارسوا ضغوطاً مكثفة على الإدارة الأمريكية منذ
الستينيات لإصدار تشريعات تهدف إلى مجازاة الشركات الأمريكية التي تتعاون مع
المقاطعة العربية، وأشار في هذا الصدد إلى صدور قانون الإصلاح الضريبي في
عام 1986م الذي تضمن في بنوده إلزام الشركات الأمريكية تقديم تقرير لوزارة
المالية بالمعلومات التي قدمتها لأجهزة المقاطعة أو البلاد العربية بشأن المقاطعة
العربية من الامتيازات والفوائد الضريبية التي اعتادت الحكومة الأمريكية أن تمنحها
لتشجيع الصادرات، وفرض عقوبات مالية وأخرى مقيدة للحرية على المؤسسات
والشركات التجارية الأمريكية التي تتعاون مع المقاطعة العربية.
ونصل مع المؤلف إلى الباب السادس: (النصوص المنظمة للمقاطعة العربية) : الذي تناول فيه التكييف القانوني للمقاطعة العربية؛ حيث أوضح أن ميثاق الأمم
المتحدة يجيز اللجوء إلى القوة في حالة الدفاع الشرعي. فوفقاً لنص المادة 51 منه، فإنه يحق للعرب اتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن أنفسهم حيال دولة العدو بصفتها
الطرف المعتدي والغاصب لأرض العرب، والمنتهك بذلك أحكام القانون الدولي
وميثاق الأمم المتحدة، ومن هذه التدابير: مقاطعة العدو والامتناع عن إقامة علاقات
من أي نوع معه.
ويرى المؤلف أن المقاطعة العربية تعتبر من قبيل الحرب الاقتصادية التي
يقصد بها توجيه مختلف الأسلحة الاقتصادية الممكنة ضد أهداف العدو الاقتصادية
لإرباك اقتصادياته وإضعاف معنوياته؛ وأبرز هذه الأسلحة: الحصار؛ حيث
فرضت المقاطعة الاقتصادية العربية حصاراً لتطويق دولة العدو وحرمانها من
الاتصال بالعالم الخارجي عن طريق البلاد العربية، وعدم استخدامها لمواصلاتها
البرية والبحرية والجوية.
وبالنسبة لموقف القانون الدولي العام من المقاطعة، فإن المؤلف يرى أنه
يجيزها؛ لأن قواعد هذا القانون أباحت للدول المتحاربة قطع علاقاتها التجارية مع
العدو، واتخاذ شتى تدابير الحرب الاقتصادية. وأشار إلى أن القضاء في مختلف
الدول قد أقر اعتبار الحالة القائمة بين الدول العربية والعدو الصهيوني حالة حرب
بالمفهوم القانوني.
كما أن المؤلف استند أيضاً في تسويغه لشرعية المقاطعة العربية إلى القرارات
المهمة التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التي تؤيد كفاح
الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
تقويم الكتاب:
لقد وُفِّق المؤلف في إثبات مشروعية المقاطعة العربية لـ (إسرائيل) مستنداً
في ذلك إلى أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام وميثاق الأمم المتحدة؛
وذلك رداً على من يدمغون المقاطعة بالعنصرية أو بمخالفة ميثاق الأمم المتحدة الذي
يدعو إلى تنمية العلاقات الودية بين الدول. كما وُفِّق في تتبع التطور التاريخي
للمقاطعة العربية منذ بدء تدفق اليهود إلى فلسطين في فترة الحكم العثماني وحتى ما
بعد حرب أكتوبر 1973م.
ومع ذلك، يمكنني أن أسجل الملحوظات النقدية الآتية على الكتاب:
اقتصر المؤلف في الكتاب كله على المقاطعة العربية الاقتصادية للعدو
الصهيوني، ورغم ذلك فإن العنوان ذكر المقاطعة بشكل عام دون تحديدها بالمقاطعة
الاقتصادية. وقد أشار المؤلف في المقدمة (ص7) إلى أشكال أخرى للمقاطعة مثل
المقاطعة الاجتماعية التي تهدف إلى حماية معتقدات وقيم وتقاليد مجتمع ما تجاه
مجتمع آخر، ولذلك كان يجب إزالة الإبهام الوارد في العنوان؛ بحيث يكون:
(قوانين ومبادئ المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل) .
في تناوله لبعض صور انتهاك المقاطعة العربية، أشار المؤلف في (ص
130- 133) إلى ظاهرة (الجسور المفتوحة) التي تم خلالها انتقال السلع والخدمات
والأفراد بين الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن، ولكن المؤلف أغفل ثغرة
أخرى من الثغرات التي أحدثها العدو في جدار المقاطعة العربية التي تمت عبر
الحدود اللبنانية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية فيما عرف بـ (الجدار الطيب) الذي
تم عبره انتقال منتجات العدو إلى لبنان، ونشطت حركة السياحة بين الطرفين.
في حديثه عن إشراف الجامعة العربية على المقاطعة (ص80 81) ، ذكر
المؤلف أنه لم تشذ دولة عربية واحدة في عقد الخمسينيات عن المقاطعة مستنداً في
ذلك إلى أن مؤتمرات المقاطعة ظلت تنعقد بشكل منتظم حتى في ظروف التوتر في
العلاقات العربية. والحقيقة أن هذا التعميم ينطوي على إغفال ما حدث للمقاطعة من
خروق من لدن بعض الدول العربية. فرغم أن كافة الأقطار العربية أعلنت التزامها
رسمياً بالمقاطعة إلا أن بعضها لم يلتزم في الواقع العملي بتنفيذ مقررات مكتب
المقاطعة الرئيس تحت تسويغات وحجج متعددة، منها أن هذه القرارات اختيارية
وليست ملزمة؛ ولهذا فقد مارست بعض الحكومات العربية الضغوط على المكاتب
الإقليمية وتدخلت في شؤونها، إلى حدّ حملها على رفع الحظر عن بعض الشركات
والمؤسسات المقاطعة.
يعزو المؤلف ظاهرة (الجسور المفتوحة) التي تم من خلالها الالتفاف على
المقاطعة العربية، إلى ضعف الرقابة الأردنية (ص 132 133) ، وأشار إلى أن
هذه الرقابة بدأت منذ مطلع عام 1970م تشتد فاعليتها وأصبحت تشكل سياجاً منيعاً
في وجه تسرب الأيدي العاملة وتبادل الخدمات والمنافع من وإلى دولة العدو.
والحقيقة أن هذا الكلام يفتقر إلى الدقة؛ لأن الجسور المفتوحة لم تكن نتيجة ضعف
الرقابة الأردنية، بل إنها تمت آنذاك برغبة السلطات الأردنية؛ حتى إن هذه
السلطات رفضت في ذلك الوقت التوصيات التي طالبتها باحترام أحكام المقاطعة
وسوّغت مسلكها بأنه (لمصلحة القضية العربية) ، وأن إبقاء العلاقات مع الضفة
والقطاع يدعم صمود السكان، ولا يلحق أي ضرر بالمقاطعة العربية.(122/82)
نص شعري
عندما يحزن العيد
شعر: أحمد حسبو
ولدي رآني طرقاً في العيدِ ... مستغرقاً في الصمت والتنهيدِ
فرنا إليّ بمقلتيه محدِّقاً ... وجرى إليّ بفطرة المولود
وقف الصغير مسائلاً ببراءة ... (ما لي أراك مُكدراً في العيد) ؟!
قل لي بربك يا أبي ما تشتكي ... صعب عليّ أراك غير سعيد
فالعيد يوم للسرور وللرضا ... والأنس والإسعاد والتجديد
والعيد وصل والتقاء أحبة ... والعيد مأدبةٌ ولبس جديد
والعيد طرحٌ للكآبة جانباً ... لتعيش منطلقاً بلا تقييد
والعيد يومٌ في ظلال خميلة ... أو روضة محفوفة بورود
والعيد في سمع الورى ترنيمةٌ ... هو فرحة كبرى بلا تنكيد
الناس حولي للحياة تبسموا ... واستقبلوا الدنيا بخير نشيد
فعلامَ تبدو يا أبي متجهِماً ... ومخالفاً للعرف والتقليد؟ !
أم يا ترى هي حكمةٌ أُلهِمتَها ... وسواك ذو سفه وغير رشيد؟!
صوّبت لابني نظرة أودعتها ... ردّي وفيض مشاعري لوليدي
لا زالتَ غضاً يا صغيري ناشئاً ... فاسعد بيومك والغد المنشود
فأجابني: ما عدتُ غراً يا أبي ... فَارْوِ الغليل وقل بلا تمهيد
قلت استمع فلقد أثرتَ مشاعري ... ونكأتَ جرحاً نازفاً بوريدي
كيف السرور ومسجدي الأقصى اشتكى ... من حال أمتنا وكيد يهود؟!
كيف السرور وصفوةٌ من أمتي ... في الأرض بين مشرد وطريد؟
هم إخوة في الله يجمعنا بهم ... دين يسوِّي سيداً بمسود
كيف السرور ولم تزل أخواتنا ... يصرخْنَ من وَغْدٍ ومن عربيد
يحملن في أحشائهن معرّة ... من صلب كلب كافر رعديد
بُحّتْ حناجرهن علّ مروءة ... تأتي بمعتصم أو ابن وليد
لو أنّ قتلَ النفس مشروعٌ لنا ... لقتلن أنفسهن بالتأكيد
كيف السرور وقد رأينا مسلماً ... مَدّ اليمينَ مُصافحاً ليهودي [*]
فإذا بهذا الوغد يصفعُ خده ... صفعاً أُحسّ لهيبه بخدودي
فرأيت يا ولدي الهوان مجسداً ... هل بعد صفع الخد من تجسيد؟ ؟
العيد يوم نعود قلباً واحداً ... والحبّ يغمره مع التوحيد
حبّ لغير مصالح ترجى به ... حب لوجه إلهنا المعبود
العيد يوم تحرر الأفهام من ... رِقِّ التصوّر، من عمى التقليد
العيد إن عاد الجهاد وكلّنا ... مستبشرون بعَوْدِهِ المحمود
سيعود حتماً لا محالة يا فتى ... بمشيئة المولى ورغم حسود
وسنُطلق الأقصى الأسير وعندها ... سيكون حقاً ذاك يوم العيد
__________
(*) مشهد عُرض متلفزاً وذكرته مجلة المجتمع.(122/90)
المسلمون والعالم
الحروب الصليبية لم تنته بعد! !
أسبانيا تحتفل بمرور 500 عام
على احتلال مدينتي سبتة ومليلة
بقلم: كمال السعيد حبيب
لا نريد القول إن حرباً صليبية جديدة قد شنتها أسبانيا ضد مدينتي (سبتة)
و (مليلة) المغربيتين؛ لأن الحروب الصليبية لا تزال مستمرة ولم تنته بعدُ، ورغم
أن حكم الجنرال (فرانكو) الديكتاتوري انتهى منذ 22 عاماً وجاءت الديموقراطية
إلى أسبانيا؛ إلا أن الثقافة والعقلية الأسبانية تتغلغل داخلها الروح الصليبية؛ إنها
ليست مسألة تغير أنظمة حكم؛ لكنها استمرار لثقافة عنصرية يحكمها بعمق الطابع
الصليبي الذي كان متحكماً بالروح الأسبانية في صراعها مع الوجود الإسلامي الذي
استمر 800 عام في أسبانيا في العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث.
لا تخلو الروح الصليبية من نزوع عنصري يفرض التحيز وقلب الحقائق؛
فتحت شعار: (تلاقي الحضارات) تمّ لأول مرة الاحتفال الأسباني في مدينتي
(سبتة) و (مليلة) العربيتين بذكرى احتلالهما، ورصدت السلطات الأسبانية
للاحتفالات أربعة مليارات (بزيتا) العملة الأسبانية وبدأ الإعداد للاحتفال بالاحتلال
الأسباني للمدينتين مع مطلع هذا العام؛ حيث جرت ثلاثون تظاهرة تضمنت
مؤتمرات وحفلات غنائية ومعارض بلغت قمتها بالاحتفال الكبير الذي تم يوم 17
سبتمبر الماضي؛ ففي يوم 17 سبتمبر (1497م) أي منذ خمسة قرون نزل
الأسطول الحربي الأسباني بقيادة القبطان (بيدرو اتسيوا بينيان) ليحتل الشاطئ
المغربي الإسلامي؛ حيث تقبع المدينتان.
والحضارات التي تريد أسبانيا لها أن تتلاقى على الأرض المغربية المحتلة
ليس بينها الحضارة العربية الإسلامية؛ فالاحتفال تحت عنوان: (تلاقي
الحضارات) استبعد اللغة العربية أن تكون إحدى لغات الحفل، وأحل محلها
(الأمازيغية) لغة البربر التي جرى بها الاحتفال هي والأسبانية والعبرية أي أن
تلاقي الحضارات الذي يعزز روح التسامح هو نفي لأهل البلد الأصليين العرب
وتكريس للاغتصاب والاحتلال الذي مضت عليه خمسة قرون كاملة فالتلاقي
الحضاري من المنظور الغربي الصليبي يعني الاستبعاد للآخر وسحق هويته
ووجوده. والمثير أن (أسبانيا) ذاتها التي تكرس احتلالها الأثيم لمدينتين إسلاميتين
تطالب (بريطانيا) أن تمنحها صخرة جبل طارق باعتبارها أرضاً أسبانية، والأكثر
إثارة أن استطلاعاً للرأي جرى بين الأسبان منذ سنوات جاءت نتائجه لتؤكد أن 42 % من الأسبان يؤيدون استعمال القوة للحفاظ على المدينتين المغربيتين بينما 37%
يرون ذلك بالنسبة (لجبل طارق) أي أنهم وطنيون بالنسبة لأرض يغتصبونها من
الغير أكثر منهم بالنسبة لأرض لهم يحتلها الغير!
سبتة ومليلة:
تقع مدينة (مليلة) شرق المملكة المغربية على ساحل البحر المتوسط الجنوبي
على بعد 10كم من مدينة (الناضور) أكبر مدن الريف المغربي، ومساحتها 12 كيلو
متراً مربعاً وساحلها طوله 10كم، ولها سور محيط بها له سبعة أبواب، وبنى
الأسبان سوراً ثانياً حول المدينة لمواجهة حملات الجهاد المغربي لاستعادتها؛
وأشهر هذه الحملات تلك التي قادها: (محمد عبد الكريم الخطابي) الذي أنزل
بالأسبان هزيمة ساحقة في معركة (أنوال) سنة 1927م وكادت (مليلة) أن تعود إلى
المغرب لولا خشية الأمير (محمد عبد الكريم الخطابي) على أرواح الناس بها. وفي
سنة 1909م قمعت السلطات الأسبانية ثورة قام بها السكان ضد شركة مناجم الريف
الأسبانية لمحاولتها اغتصاب أراضيهم لإقامة منشآت عليها. و (مليلة) هي المنفذ
الشرقي الوحيد للمغرب على البحر؛ ولذا فهي مرفأ لهم من الناحيتين الاقتصادية
والعسكرية، ويبلغ عدد سكان المدينة 90 ألفاً من الأسبان والمسلمين والغربيين
واليهود، ولا يمثل المسلمون الأغلبية في (مليلة) إذ إن نسبتهم لا تزيد عن 45%،
وانقلبت الموازين الديموّرافية في المدينة لصالح الكاثوليك عن طريق هجرة
العاطلين والمجرمين من أسبانيا إليها.
أما مدينة (سبتة) فمساحتها أكبر من (مليلة) وتبلغ 19 كيلو متراً مربعاً،
وتمثل أهمية استراتيجية؛ لأنها أقرب ميناء أفريقي لأوروبا، والمسلمون فيها
أغلبية؛ إذ يمثلون 70% من مجمل عدد السكان الذي يصل لحوالي 70 ألف نسمة، وتمثل أهم موقع للقواعد العسكرية الأسبانية على البحر المتوسط، ويعسكر فيها
حوالي 15 ألف جندي أسباني.
إن المدينتين المغربيتين المحتلتين من أسبانيا جرى احتلالها كعقاب لهما
باعتبارهما من المنظور الصليبي الأسباني كانتا رديفين لحركة الجهاد الإسلامي في
العصور الوسطى لحماية الوجود الإسلامي بالأندلس وأسبانيا، وبينما يحتفل العالم
كله بتصفية الجيوب الاستعمارية مثل (هونج كونج) و (مكاو) فإن القوى
الاستعمارية الغربية تتمسك بقوة بالأراضي المغتصبة في العالم الإسلامي؛
و (فلسطينُ) و (سبتة) و (مليلة) خيرُ شاهد على ذلك، ولا يمكن فهم ذلك بعيداً عن المنظور الثقافي الحضاري حيث يرى الغرب نفسه محكوماً في علاقته بالعالم الإسلامي بعقدة الثأر والانتقام وسيادة عقلية العصور الوسطى العميقة التي تستهدف إبادة الآخر ونفيه.
أسبنة سبتة ومليلة:
تهدف أسبانيا إلى نزع الصفة العربية والإسلامية عن المدينتين، وفرض
(الأسبنة) عليهما عبر مجموعة من الإجراءات:
1- اعتبار كل من لم يتجنس بالجنسية الأسبانية من سكان المدينتين أجنبياً؛
ولذا فإن (المغاربة) الذين يتمسكون بهويتهم يصبحون أجانب في بلدهم؛ ويسمى هذا
القانون: (قانون الأجانب) وصدر عام 1985م.
2- تمت الموافقة مؤخراً على منح المدينتين الحكم الذاتي؛ بحيث يتم اختيار
ممثلين من العرب والأسبان في المجالس المحلية، ومن ثم فقد اعتبر الساسة
الأسبان المدينتين جزءاً من أسبانيا؛ وحين يصفهما ساسة المغرب بأنهما محتلتين
فإن ثائرة الساسة الأسبان تفور ويعلنون أن هذا كلام غير صحيح.
3- تمارس أسبانيا بشكل دائم سياسات (التطهير العرقي والعنصري) فهي
دائماً تطرد العائلات المغربية من المدينتين بحجة عدم الإقامة الشرعية؛ وفي عام
1975م طردت 200 عائلة مغربية من مدينة (مليلة) ، وتفرض السلطات المحتلة
في (سبتة) و (مليلة) على المغاربة قيوداً في التجارة والعمل والملكية والتعليم
والعبادة، فلا يوجد بـ (سبتة) إلا ثلاثة مساجد في وضع سيئ للغاية، وتلتزم
المدارس في التعليم باللغة الأسبانية، وترفض أسبانيا دمج التعليم الإسلامي بالمناهج
الدراسية للطلبة المغاربة المسلمين. ورغم أن نحو 50% من أطفال المدارس في
المدينتين من المسلمين إلا أنه لا يصل منهم إلى الجامعة إلا 20 طالباً فقط، ولا
يكمل دراسته منهم إلا قلة لا تزيد على أصابع اليد الواحدة.
4- تريد أسبانيا أن تجعل من المدينتين الحدود الجنوبية لحلف الأطلنطي؛
وذلك حتى تجعل من الحلف أداة لها في صراعها مع المغرب حول المدينتين وفي
نفس الوقت منح الحلف المدينتين كقواعد عسكرية على الشاطئ الجنوبي للمتوسط؛
حيث تسهل عليه مهامه في منطقة المغرب العربي التي تمثل خطراً على أوروبا من
منظور الحلف.
5- تشجيع السلطات الأسبانية لأن تكون المدينتان مركزاً لتهريب البضائع؛
حيث يؤثر ذلك بقوة على الاقتصاد المغربي الذي لا يمكنه المنافسة إزاء البضائع
المهربة، ويعمل في التهريب حوالي 16 ألف عامل مغربي، وهو ما يكشف عن
حجم الأموال المتداولة في هذه السوق التي يمكن أن نقول إنها سوق موازية للسوق
المغربية وخطرٌ عليها، وتريد أسبانيا من المغرب أن تكون حامية فقط لبوابتها
الجنوبية دون مطالبة بالمدينتين.
موقف المغرب:
يتسم الموقف المغربي الرسمي بانتهاج الدبلوماسية الهادئة لاستعادة المدينتين،
ويربط بين عودة (جبل طارق) لأسبانيا وعودة المدينتين للمغرب، ودعا إلى إنشاء
(خلية للتفكير) حول مستقبل المدينتين؛ لكن أسبانيا لم تتجاوب مع دعوة المغرب،
وفي الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة ألقى (عبد اللطيف الفيلالي) وزير
خارجية المغرب خطاباً قال فيه: (لعل أهم إنجاز حققته الأسرة الدولية خلال القرن
الذي نودعه هو (نهاية الاستعمار) فقد شهد العالم في الأشهر الأخيرة عودة (هونج
كونج) إلى الصين، والإعداد لعودة (ماكاو) إليها عام 1999م، والمنطق يفرض
ضرورة تصفية ما تبقى من بؤر الاستعمار في العالم وخاصة مدينتي: (سبتة)
و (مليلة) المغربيتين الخاضعتين للسيطرة الأسبانية والجزر المجاورة لهما) .
وعلى المستوى الشعبي فإن زعماء الأحزاب المغربية عقدوا مهرجاناً حاشداً
للاحتجاج على الموقف الأسباني الذي يحتفل بذكرى احتلال المدينتين، وأصدرت
هذه الأحزاب بياناً أدانت فيه قرار السلطات الأسبانية، وقالت إنها ترى فيه تناقضاً
مع معاهدة الصداقة وحسن الجوار المبرمة مع المغرب في سبتمبر عام 1993م.
إن قضية المدينتين لا تزال حية ولن تموت في الوجدان المغربي، غير أن
الملاحظ هو تطور الموقف الأسباني إلى الاتجاه الأسوأ بشأن المدينتين، وهو ما
يعني ضرورة مراجعة الموقف المغربي مع أسبانيا، وإظهار الجدية والحزم في
التعامل بشأنهما.
إن الموقف الأسباني يؤكد أن ما يحدث ليس حرباً صليبية جديدة ولكنه يعني
أن الحروب الصليبية لم تنته بعد.(122/92)