دراسات شرعية
مقدمة في التنوع المشروع..
صفة الصلاة أنموذجاً
(2 من2)
بقلم: سلمان بن عمر السنيدي
تحدث الكاتب في أولى الحلقتين عن تنوع العبادات التي وردت عن الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وكيف أن المطلوب: الإتيان بأنواعها جميعاً، ثم تحدث
عن شرطي التنوع، فمراتبه، ثم أوضح أقسام مواطن التنوع، من حيث اجتماع
الأنواع فيها وعدمه، ووقف الحديث عند اهتمام العلماء قديماً وحديثاً بالتنوع،
ويواصل الكاتب في هذه الحلقة عرض بقية الموضوع.
- البيان -
آثار العمل بالتنوع المشروع:
ومما ينبغي الإشارة إليه: أنه لا بد أن يسبق العمل بالتنوع المشروع:
استظهار الأدلة لكل نوع، وتحرير محل الخلاف، وبيان الاختيار بين اجتهادات
الفقهاء، وتوجيه تنوع الصفات المشروعة، ومعرفة الغالب على صلاة النبي -
صلى الله عليه وسلم-، وما هو سبب الاختلاف، هل هو لبيان صفة جديدة، أم
هو لبيان الجواز، أم هو لحاجة عارضة.. وإذا تبين ذلك وتوجه العمل بالتنوع
المشروع: فإن له آثاراً يمكن توضيحها كما يلي:
1- طريق إلى الاتفاق ورفع الخلاف:
يحصل بدراسة الصفات المتنوعة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
وبيان تنوع فعله لها: إزالة الخلاف الصوري المستند على اختلاف الاختيار بين
الصفات الثابتة المتنوعة.
وانظر إلى اختيارات الأئمة بين أنواع السنة الثابتة، فربما نقل المتأخرون
الاختيار ونسبوه لأحد المذاهب القائمة، فنظر مَن هو غير مؤهل إلى أنه اختلاف
قائم يحتاج إلى ترجيح، فيركن إلى أحدها تقليداً لإمامه، ويهجر سواه باعتباره
مرجوحاً أو خطأ أو بدعة وضلالة.
ولكن إذا حصل تعلم هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وما جاء عنه من
التنوع المشروع: زال السبب لهذا الاختلاف، واعتبرت الصفات المتنوعة
المشروعة من الهدي الذي يسوغ فعله كما كان يفعله.
ولقد اشتهر نقل صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن عباس،
وأبي حميد الساعدي، ووائل بن حجر.. وغيرهم (رضي الله عنهم أجمعين) ، وقد
اختلفوا في نقلهم بحسب ما رأوه من صلاته -صلى الله عليه وسلم-، يقول النووي
(رحمه الله) : (الجمع بين حديث ابن عباس وأحاديث أبي حميد ووائل هو: أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له في الصلاة أحوال، حال يفعل فيها هذا،
وحال يفعل فيها ذاك، كما كانت له أحوال في تطويل القراءة وتخفيفها وغير ذلك
من أنواعها، كما هو معلوم من أحواله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يفعل العبادة
على نوعين وأنواع؛ ليبين الرخصة والجواز بمرة أو مرات قليلة، ويواظب على
الأفضل بينهما على أنه المختار والأَوْلى، فالحاصل أن كليهما سنّة، لكن إحدى
السنّتين أكثر وأشهر) [1] .
والنووي (رحمه الله) يحكي الإنكار على من جعل التنوع المشروع خلافاً
يحتاج إلى ترجيح، ويرى أنه صفات مشروعة، فيقول: (وأنكروا على إمام
الحرمين والغزالي حيث حكياه أوجهاً، وهي أقوال مشهورة) [2] .
وابن رشد القرطبي ينبه على طريق الأخذ بالتخيير بين الأحاديث المختلفة
دون تصور التعارض بينها، فلا يحتاج إلى ترجيح، فيقول عن الفقهاء: (وسبب
اختلافهم: اختلاف ظنونهم في الأرجح منها، فمن غلب على ظنه حديثٌ ما من هذه
الأحاديث: مال إليه، وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن هذا كله للتخيير) [3] .
ويشرح ابن تيمية نشأة الخلاف، وكيف بدأ بتفضيل أمرٍ لم يفضل، وذلك
بالمداومة عليه وهجر ما سواه، فيقول: (والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي ويدعو
ويذكر على وجه مشروع، وأَخَذَ ذلك الوجه عنه أصحابه وأهل بقعته، وقد تكون
تلك الوجوه سواء، وقد يكون بعضها أفضل، فجاء في الخلف من يريد أن يجعل
اختياره لما اختاره لفضله، فجاء الآخر فعارضه في ذلك، ونشأ من ذلك أهواء
مردية مضلة، فقد يكون النوعان سواء عند الله ورسوله، فترى كل طائفة طريقها
أفضل، وتحب من يوافقها على ذلك، وتُعْرض عمن يفعل ذلك الآخر، فيفضلون
ما سوى الله بينه، ويسوون ما فضل الله بينه، وهذا باب من أبواب التفرق
والاختلاف الذي دخل على الأمة، وقد نهى عنه الكتاب والسنة، وقد نهى النبي -
صلى الله عليه وسلم- عن عين هذا الاختلاف) [4] .
وقال (رحمه الله) موضحاً أن هجر المشروع سبب إلى نسيانه، ومن ثم:
طريق إلى الاختلاف والعداوة: (وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة
والبغضاء بين الأمة، قال (تعالى) : [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ] [المائدة:
14] ، فأخبر (سبحانه) أن نسيانهم حظّاً مما ذكروا به سبب لإغراء العداوة
والبغضاء بينهم، فإذا اتبع الرجل جميع المشروع المسنون، واستعمل الأنواع
المشروعة، هذا تارة، وهذا تارة، كان قد حفظت السنة علماً وعملاً، وزالت
المفسدة المخوفة من ترك ذلك) [5] .
وقال (رحمه الله) في بيان آثار المداومة على ما لم يداوم عليه الرسول: (مبدأ
المداومة على ذلك يورث اعتقاداً ومحبة غير مشروعين، ثم يخرج إلى المدح والذم، والأمر والنهي بغير حق، ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة والمعاداة غير
المشروعين من جنس أخلاق الجاهلية كأخلاق الأوس والخزرج في الجاهلية.. ثم
يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع ... من غير استحقاق شرعي ... ثم يخرج من
ذلك إلى الحرب والقتال، كما وقع في بعض أرض المشرق، ومبدأ ذلك: تفضيل
ما لم تفضله الشريعة والمداومة عليه، وإن لم يعتقد فضله سبباً لاتخاذه فاضلاً
اعتقاداً وإرادة: فتكون المداومة على ذلك: إما منهيّاً عنها وإما مفضولة، والتنوع
في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أفضل ... وأكمل) [6] ، ويوضح ابن تيمية (رحمه الله) علاقة هجر ما ثبت في السنة بالتفرق والاختلاف، فيقول: (هجر ما وردت به السنة وملازمة غيره، قد يفضي إلى جعل السنة بدعةً، والمستحب واجباً، ويفضي ذلك إلى التفرق ... ، مع أن الجميع حسن قد أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن الضلالة حق الضلالة أن ينهى عما أمر به النبي) [7] .
ويقول (رحمه الله) : (فإذا كان التنازع في الاستحباب: عُلم الإجماع على
جواز ذلك وإجزائه في العبادات، ولم يكن التنازع في الاختيار ضارّاً، بل قد يكون
النوعان سواء، وإن رجّح بعض الناس بعضها، ولو كان أحدها أفضل لم يجز أن
يظلم من يختار المفضول) [8] .
ويقول (رحمه الله) في بيان أن العمل بالتنوع المشروع يورث الاتفاق والألفة: (إن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق والاختلاف
والأهواء بينها، وهذه مصلحة عظيمة، ودفع مفسدة عظيمة، ندب الكتاب والسنة
إليها) [9] .
وقال الشاطبي: (يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، كاختلاف القراء في
وجوه القراءات، فإنهم لم يقرؤوا بما قرؤوا به على إنكار غيره، بل على إجازته
والإقرار بصحته، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات، وليس في الحقيقة
باختلاف؛ فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها) [10] .
وهكذا يكون الأخذ بالسنن المتنوعة طريقاً إلى الاتفاق والائتلاف.
ويحسن أن نختم هذا الأثر بمسألة ذكرها ابن القيم (رحمه الله) ، فقد أفاد وأجاد
في تطبيق ما تقدم ذكره من أخذه بالتنوع المشروع فيما ثبت من هديه -صلى الله
عليه وسلم- في موطن من مواطن الخلاف، فقال (رحمه الله) : (أهل الحديث هم
أسعد الناس بالحديث، يقنتون حيث قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه
سنة، ومع هذا: فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ويرونه
بدعة ولا فاعله مخالفاً للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل، ولا
يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفاً للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد
أحسن، وإذا جهر به الإمام أحياناً ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك؛ فقد جهر عمر
بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة
ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضاً: جهر الإمام بالتأمين، وهذا من الاختلاف المباح
الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه،
وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الأذان والإقامة) [11] .
2- كمال الاقتداء:
لقد أمر الله عباده بالاقتداء بنبيه -صلى الله عليه وسلم- في قوله (تعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] ، وخصّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادات بمزيد اعتناء , فقال في حق الصلاة: (صلوا كما رأيتموني أصلي) [12] .
ومن كمال الاقتداء: فعل كل ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- وعدم
الاقتصار على نوع دون نوع، بل من اتباع السنة: عدم هجر شيء منه وتعطيله،
وإن من كمال الديانة ورسوخ العلم وسلامة المذهب: تتبع السنن ولزومها والحرص
على أدائها بآدابها.
قال أبو عثمان الجبري: من أمّر السنة على نفسه قولاً وعملاً نطق بالحكمة.
وقال شاه الكرماني: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن
الشبهات، وعمّر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعوّد نفسه أكل
الحلال: لم تخطئ له فراسة.
وقال أبو العباس بن عطاء: أعظم غفلة: غفلة العبد عن ربه (عز وجل) ،
وغفلته عن أوامره، وغفلته عن آداب معاملته.
وقال إبراهيم الخوّاص: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم: من اتبع العلم، واستعمله، واقتدى بالسنن، وإن كان قليل العلم.
وقال أبو حمزة البغدادي: من علم طريق الحق، سهل عليه سلوكه، ولا
دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في
أحواله وأفعاله وأقواله.
وقال عبد الله بن منازل: لم يُبْتَلَ أحد بتضييع السنن إلا يوشك أن يبتلى
بالبدع [13] .
وقال الخطيب البغدادي: (وينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره
عن طرائق العوام، باستعمال آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أمكنه،
وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله (تعالى) يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ) [14] .
وقال الغزالي: (اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء برسول الله -
صلى الله عليه وسلم- في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، حتى في
هيئة أكله وقيامه، ونومه وكلامه) .
عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: (لا يجعل أحدكم نصيباً
للشيطان من صلاته: أن لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد رأيت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- كثيراً ينصرف عن شماله) [15] .
فالشيطان حريص على نقل العبادة الحية التي يستشعر فيها الإنسان كمال
الاقتداء بنبيه -صلى الله عليه وسلم- إلى عبادة شبه ميتة، تفعل تباعاً لا روح فيها
ولا استشعار لحقيقة الاقتداء والتأسي، لذلك عدّ ابن مسعود فعل الإنسان حالة واحدة
على وجه الالتزام والتقيّد وجعله مثل الواجب الحتم الذي لا يفعل غيره.. عدّ ذلك
إعطاءً للشيطان نصيباً من الصلاة، والله أعلم، حتى قال ابن قدامة: (وفي اتباع
السنة: بركة موافقة الشرع، ورضا الرب (سبحانه وتعالى) ، ورفع الدرجات،
وراحة القلب، ودَعَة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم) [16] .
وقال شيخ الإسلام عن العمل بالتنوع المشروع: (والتنوع في المشروع
بحسب ما تنوع فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أفضل وأكمل.
هذا هو اتباع السنة والشريعة؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قد
فعل هذا تارة وهذا تارة، أو لم يداوم على أحدهما: كان موافقته في ذلك هو التأسي
والاتباع المشروع، وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذي فعله لأنه فعله) [17] .
وقال شيخ الإسلام: (وإن قيل: إن بعض تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء
بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يفعل هذا تارة وهذا تارة: أفضل من لزوم
أحد الأمرين وهجر الآخر) [18] .
3- إحياء السنة:
قال: (تقدموا فَاًتموا بي، وليأتم بكم مَن بعدكم) [19] .
قال ابن حجر: (وقيل: معناه تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم
التابعون بعدكم، وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا) [20] .
ولقد أخذ الصحابة بهذه الوصية حق الأخذ، فرمقوا صلاته -صلى الله عليه
وسلم- منفرداً، وإماماً، في بيته، وفي المسجد، في ليل، ونهار، فوصفوا
صلاته وما فيها من حركات وسكنات وسكتات وهيئات، حتى سألوا عما خفي عليهم، فقد روى البخاري ومسلم قول أبي هريرة: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين
التكبير والقراءة، ما تقول؟ ، فأخبره بدعاء الاستفتاح: (اللهم باعد بيني وبين
خطاياي ... ) ، الحديث متفق عليه، ويقول ابن حجر معلقا على ذلك: (وفيه: ما
كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- في
حركاته وسكناته، وإسراره وإعلانه، حتى حفظ الله بهم الدين) [21] .
فعلموا ذلك، وعملوا به، وعلّموه من بعدهم من التابعين، حتى صار ورثاً
تفيض به دواوين الإسلام وكتب الفقهاء (رحمهم الله تعالى) .
والعلم بالتنوع المشروع طريق للدعوة إلى جميع ما جاء به الشرع المطهر من
الصور المختلفة للعبادة الواحدة، ومعلوم ما في ذلك من إحياء للسنة ونشرها وجعلها
ظاهرة معروفة سائرة بين الناس، ومعلوم ما في تعليم صورة واحدة من السنة من
القصور في نشر السنة كاملة، وربما عُلِّل ذلك الاقتصار بالتدرج في تعليم الناس،
ولكن التدرج يدل على عقد العزم على تعليم ونشر عامة السنن المتنوعة الثابتة عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا تحقق ذلك زال المحذور.
وإنك لترى وجوهاً من السنن مهجورة، تكاد تندثر بسبب إهمالها؛ لأن (هجر
ما وردت به السنة وملازمة غيره، قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة) [22] .
والعبادات الواردة على وجوه متنوعة يتنوع العمل فيها لبقاء السنة حية؛ لأنه
لو أخذ الناس بوجه وتركوا الآخر لمات الوجه الآخر، فلا يمكن أن تبقى السنة حية
إلا إذا كنا نعمل بهذا مرة وبهذا مرة.
قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (إن المداومة على نوع دون غيره هجران
لبعض المشروع؛ وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه حتى يُعتقد أنه ليس من الدين، بحيث يصير في نفوس كثير من العامة أنه ليس من الدين، وفي نفوس خاصة
هذه العامة: عملهم مخالف علمهم؛ فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون
بيان ذلك، إما خشية من الخلق، وإما اشتراء بآيات الله ثمناً قليلاً من الرئاسة
والمال؛ كما كان عليه أهل الكتاب، كما قد رأينا من تعود أن لايسمع إقامة إلا
موتورة أو مشفوعة فإذا سمع الإقامة الأخرى نفر منها وأنكرها، ويصير كأنه سمع
أذاناً ليس أذان المسلمين، وكذلك من اعتاد القنوت قبل الركوع أو بعده، فإذا اتبع
الرجل جميع المشروع، واستعمل الأنواع المشروعة: حفظ السنة علماً وعملاً،
ونكتة هذا الوجه: أنه وإن جاز الاقتصار على فعل نوع، لكن حفظ النوع الآخر
من الدين، ليعلم أنه جائز مشروع، وفي العمل به تارة حفظ الشريعة، وترك ذلك
قد يكون سبباً لإضاعته ونسيانه) [23] .
4- حفظ السنة وتذكرها:
والعمل بالسنة على وجوه متنوعة سبب في حفظ السنة؛ لأنك لو أهملت
إحدى الصفتين نسيت ولم تحفظ.
وصح عن علي (رضي الله عنه) أنه قال: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه
وإلا ارتحل) [24] ، (وقال وكيع: إذا أردت حفظ الحديث فأعمل به) [25] .
وحين أراد ابن الهمام أن يذكر حديث علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في
الاستفتاح الطويل الذي رواه مسلم، قال: (نسوقه إعانة على حفظ ألفاظ السنة
ليتبرك بها في النوافل) [26] .
5- حضور القلب:
العمل بصور الصفات المتنوعة يساعد على استحضار النية وحضور القلب؛
(لأن كثيراً من الناس إذا أخذ بسنة واحدة صار يفعلها على سبيل العادة، ولكن إذا
كان يعود نفسه أن يقول أو يعمل هذا مرة وهذا مرة صار منتبهاً للسنة) [27] ،
وصار غير شارد في صلاته وعبادته، طارداً للسآمة والخمول عن عبادته،
مستحضراً الإخلاص لله والاقتداء بنبيه (عليه الصلاة والسلام) ، وهذا من أقوى
الأسباب التي تعين العبد على الخشوع في صلاته، ومن ثم: تحصيل الأثر المرجو
من ذلك الوعد في قوله (تعالى) : [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خَاشِعُونَ] [المؤمنون: 1، 2] ، وقوله-صلى الله عليه وسلم-: (خمس صلوات
افترضهن الله (عز وجل) ، من أحسن وضوءهن، وصلاتهن لوقتهن، وأتم
ركوعهن وسجودهن وخشوعهن: كان له على الله أن يغفر له) [28] .
6- طريق للمسابقة إلى الخيرات:
يحصل بنشر الصفات المتنوعة تقريب أبواب مشروعة للتسابق إلى فعل
الخيرات، وإن من المعلوم أن الاقتصار على ميادين محدودة في الدعوة إلى الله،
أو على أبواب أوّليّة، إنما يكون محموداً إذا كان لتحبيب فئة من الغافلين المقصرين
في جنب الله إلى فعل السنن والتزود من الطاعات، أما أن يكون هذا هو غاية ما
يدعو إليه الداعون على مدى سنوات عديدة فلا، وإنه لحقّ للنفوس التي قطعت
شوطاً في الاستقامة على أمر الله والتنافس في الخيرات أن تقرب أمامها جميع
الأبواب المشروعة لفعل الخيرات.
7- العمل بالأنواع المشروعة يخرج الجائز المسنون من أن يشبّه بالواجب:
فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب، ولهذا: أكثر هؤلاء
المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه وقلب
غيره، أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات؛ لأجل العادة التي جعلت الجائز
كالواجب [29] .
8- في العمل بالأنواع المشروعة تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع؛
(فإن كل نوع لا بد له من خاصة، وإن كان مرجوحاً، فكيف إذا كان مساوياً، وقد
يكون المرجوح راجحاً في مواضع) [30] .
9 - العمل بالأنواع المشروعة وضع لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله، ولا أثارة من علم؛ فإن مداومة الإنسان على
أمر جائز مرجحٌ له على غيره، ترجيحاً يحب من يوافقه عليه، ولا يحب من لا
يوافقه عليه، بل ربما أبغضه بحيث ينكر عليه تركه له، ويكون ذلك سبباً لترك
حقوق له وعليه يوجب أن ذلك يصير إصراً عليه لا يمكنه تركه، وغلاّ في عنقه
يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به، وقد يوقعه في بعض ما نُهِيَ عنه [31] .
وهذا مصداق قول عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) : (لا يجعل أحدكم
نصيباً للشيطان من صلاته أن لا ينصرف إلا عن يمنيه ... ) الحديث متفق عليه.
10- العمل بالأنواع المشروعة عدل بين شرائع الدين:
(فإن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل: التسوية بين المتماثلين، ومن
أعظم العدل: العدل بين الأمور الدينية، فإن العدل في أمر الدنيا من الدماء
والأموال كالقصاص والمواريث وإن كان واجباً، وتركه ظلم فالعدل في أمر الدين
أعظم منه، وهو العدل بين شرائع الدين وبين أهله، فإذا كان الشارع قد ساوى بين
عملين أو عاملين: كان تفضيل أحدهما من الظلم العظيم، وإذا فضّل بينهما: كانت
التسوية كذلك، والتفضيل أو التسوية بالظن وهوى النفوس من جنس دين الكفار،
فإن جميع أهل الملل والنحل يفضل أحدهم دينه، إما ظنّاً، أو هوًى، وإما اعتقاداً،
وإما اقتصاداً، وهو سبب التمسك به وذم غيره، فإذا كان رسول الله قد شرع تلك
الأنواع، إما بقوله، وإما بفعله، وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض: كانت
التسوية بينها من العدل، والتفضيل من الظلم) [32] .
نسأل الله (عز وجل) أن يفقهنا في الدين ويهدينا سبل الرشاد.
__________
(1) انظر: المجموع، 3/439.
(2) انظر: المجموع، 3/454.
(3) انظر: بداية المجتهد، 1/130.
(4) انظر: الفتاوى، 24/246.
(5) انظر: الفتاوى، 24/249 251.
(6) انظر: الفتاوى، 24/249 251.
(7) انظر: الفتاوى، 22/66 69.
(8) انظر: الرسالة الثامنة من مجموع الرسائل المنيرية، 3/146.
(9) انظر: الفتاوى، 24/248.
(10) انظر: الموافقات، 4/217.
(11) انظر: زاد المعاد، 1/274.
(12) رواه الإمام أحمد، 5/53، والبخاري، ك/10، ب 18، ح/631، وك/95، ب1، ح/7246.
(13) انظر: الاعتصام، 1/128.
(14) انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/215.
(15) أخرجه البخاري، ح/852، ومسلم، ح/707.
(16) انظر: ذم الموسوسين، ص 41.
(17) انظر: الفتاوى، 24/250، 248.
(18) انظر: الفتاوى، 22/337.
(19) رواه مسلم، 4/158، وأصحاب السنن.
(20) انظر: الفتح، 2/205.
(21) انظر: الفتح، 2/230.
(22) شيخ الإسلام ابن تيمية، الفتاوى، 22/66.
(23) انظر: الفتاوى، 24/250.
(24) مختصر اقتضاء العلم العمل، ص 14.
(25) انظر: الباعث الحثيث، ص 153.
(26) انظر: فتح القدير، 1/288.
(27) انظر: الشرح الممتع، 3/37.
(28) رواه مالك، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، عن عبادة بن الصامت، وصححه النووي في المجموع، 3/17، وكذا الألباني في صحيح سنن أبي داود، ح/451 و1276.
(29) انظر: الفتاوى، 24/248.
(30) انظر: الفتاوى، 24/248.
(31) انظر: الفتاوى، 24/249.
(32) انظر: الفتاوى، 24/251.(111/14)
دراسات شرعية
مسألة في رمي الجمرات
بقلم: الشيخ/ عبد الله بن حسن القعود
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، وبعد:
فإن شبه المجيزين لرمي جمرات اليوم الحادي عشر في الليلة التالية له،
وكذلك رمي جمرات اليوم الثاني عشر في الليلة التالية له، هي فيما يظهر لي ما
يلي:
1- قولهم: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رمى نهاراً، ولم يحدد نهاية
وقت الرمي.
2- عموم حديث البخاري: أن رجلاً قال يوم العيد لرسول الله: رميت بعدما
أمسيت، فقال: (لا حرج) .
3- قولهم: ليلة العاشر أُتبعت باليوم الذي قبلها باعتبارها وقت وقوف بعرفة، فكذلك تتبع الليلة التالية للحادي عشر به باعتبارها وقت رمي، وكذلك التالية
للثاني عشر.
4- حديث: أنه (عليه الصلاة والسلام) رخص للرعاء أن يرموا ليلاً.
5- عمومات نصوص التيسير ورفع الحرج.
والجواب عند من يرى أن الأصل في وقت رمي جمرات أيام التشريق:
انتهاؤه بغروب الشمس وهو الحق ما يلي:
1- الأصل في العبادات التوقف حتى يقوم الدليل، سواءً في إنشائها أو
كيفيتها أو وقتها، فقياس الليلة التالية للحادي عشر وكذلك الليلة التالية للثاني عشر
على ليلة العاشر لا يجوز؛ فلا قياس في العبادات، والكل مجمعون على أن الليلة
التالية للثالث عشر لا تتبعه.
2- الأصل في العبادات الأخذ بالحقائق والمسميات الشرعية، لا بمجرد
الألفاظ اللغوية فحسب، كمسمى الصلاة، ومسمى الزكاة، ومسمى الوضوء،
والتيمم.. ومسمى اليوم كما هو معروف في الصيام وغيره: من طلوع الفجر إلى
غروب الشمس.
3- أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيانٌ لواجب مجمل في الحج، وما
كان بياناً لواجب مجمل فهو واجب إلا ما خرج بدليل، وقد رمى (عليه الصلاة
والسلام) يوم العيد ضحًى، ورمى أيام التشريق بعد زوال الشمس، وإن ابن عمر
(رضي الله عنه) المعروف بتحريه، الذي جاء عنه: (كنا نتحين) ، روى عنه
البيهقي قوله: (من نسي أيام الجمار أو قال: رمي الجمار إلى الليل: فلا يرمِ حتى
تزول الشمس) ، وقوله: (من غربت له الشمس في أوسط أيام التشريق فلا ينفرن
حتى يرمي الجمار من الغد) .
4- حديث (رميت بعدما أمسيت) جاء في رمي جمرة العقبة يوم العيد لا في
جمرات أيام التشريق، على اختلاف في تفسير هذا المساء: أهو ما بعد الزوال، أم
ما بعد الغروب إلى غياب الشفق، أم هو إلى نصف الليل، والظاهر: إنه في هذا
الحديث ما بعد الزوال؛ لقرائن الحال، وسبق أن لا قياس في العبادات.
5- حديث (أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رخص للرعاء أن يرموا
بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار) سنده ضعيف، ولفظه فيه إطلاق يستوجب
النظر، وهو قوله: أية ساعة، وعلى فرض صحته فهو يدل على أن الرمي نهاراً
لا ليلاً؛ لأن الرخصة يقابلها عزيمة.
6- دعوى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يحدد آخر وقت الرمي محل
نظر، بل فيها تجاوز في القول والرأي بلا مستند؛ فالصحابة والمسلمون يعرفون
مسمى اليوم، وفي قوله: (.. ثم يرمون ليومين، ثم يرمون يوم النفر) ، وقول الله
(سبحانه) : [فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ] [البقرة: 203] ، ما يدل على مسمى اليوم
الشرعي في الحج، ثم أيهما أقرب إلى الحق وأحوط في هذا الأمر، أهو الذي يأخذ
بالحقائق الشرعية ومسمى اليوم لغة وشرعاً، أم الذي يمد وقت الرمي إلى نصف
الليل أو إلى الفجر أو إلى غير حدٍّ بدون دليل على التمديد، وذا يلزم من تفوه
بمقولته الجريئة: الرسول لم يحدد.
أما ما قيل من وجود زحام ومشقة تبيح الرمي ليلاً: فقد أُجيب عنه في النقل
الآتي، ولمزيد الفائدة أذكر للقارئ الكريم أن سماحة مفتي المملكة في وقته الشيخ
(محمد بن إبراهيم آل الشيخ) ، وسماحة والدنا الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن
باز) ، وعدداً من المشايخ (رحم الله الجميع أحياءً وأمواتاً) قرروا في مواجهتهم
للشيخ (عبد الله المحمود) في فتواه بجواز الرمي ليلاً: أن وقت رمي الجمرات أيام
التشريق: ما بين الزوال إلى غروب الشمس [1] ، وأن سماحة الشيخ (عبد الله بن
محمد بن حميد) رئيس المجلس الأعلى للقضاء في حياته (رحمه الله) كتب عندما
استفتوه بجواز الرمي ليلاً ما نصه: (لا يجوز رمي الجمرات ليلاً؛ للأمور الآتية:
أولاً: لم يُنقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه رمى ليلاً، أو أقره،
وهو القائل (صلوات الله وسلامه عليه) : (خذوا عني مناسككم) ، وما عرف الرمي
قربة إلا بفعله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شيء أحسن من التمسك بهديه،
والاقتداء بأفعاله، والأخذ بما عليه سلف هذه الأمة وأئمتها الذين هم القدوة، فقد
جرى عمل الصحابة (رضوان الله عليهم) في حجهم أنهم لا يرمون إلا نهاراً،
وكثير منهم يحج في كل عام، فما ثبت أن أحداً منهم رمى ليلاً.
ثانياً: ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) ، قال: رمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك: فإذا
زالت الشمس، ورميه -صلى الله عليه وسلم- جمرة العقبة يوم النحر ضحى وفي
أيام التشريق بعد الزوال: دليل على الوجوب؛ لأنه فعله -صلى الله عليه وسلم-
مشرعاً لأمته على وجه الامتثال والتفسير، فكان حكمه حكم الأمر.. وهو داخل في
عموم قوله: (خذوا عني مناسككم) ، قال شيخ الإسلام (ابن تيمية) (رحمه الله) في
شرح العمدة: (والفعل إذا خرج مخرج الامتثال والتفسير كان حكمه حكم الأمر) .
ثالثاً: ما رواه البيهقي في سننه عن ابن عمر (رضي الله عنه) : (من نسي
أيام الجمار أو قال: رمي الجمار إلى الليل فلا يرمِ حتى تزول الشمس من الغد،
فهذا صريح من ابن عمر (رضي الله عنه) بأن من نسي رمي الجمار إلى الليل أنه
لا يرمي حتى تزول الشمس من الغد، ولو لم يكن في معلوم ابن عمر منع الرمي
ليلاً لما قال: لا يرم حتى تزول الشمس.
رابعاً: مما يدل على منع الرمي ليلاً: ما رواه مالك في الموطأ، عن ... يحيى بن سعيد، عن عطاء ابن أبي رباح: أنه سمعه يذكر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل، يقول في الزمن الأول، والتعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل.
ومثله ما رواه البيهقي في السنن، والطحاوي في شرح معاني الآثار، عن
عطاء ابن أبي رباح، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله: (الراعي
يرمي بالليل، ويرعى بالنهار) .
خامساً: ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس (رضي الله عنهما) ،
قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل يوم النحر بمنى، فيقول: لا
حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، فقال:
رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج..) فهذا صريح في وقوع الرمي نهاراً؛
فالمساء يقصد به ما بعد الزوال، لأن لغة العرب يسمون ما بعده مساءً وعشاءً
ورواحاً، كما في الموطأ عن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم
يصلون الظهر بعشي، وإنما يريد تأخيرها عن الوقت الذي في شدة الحر إلى وقت
الإبراد، ولوقوع السؤال يوم النحر، إذ لا يكون اليوم إلا قبل مغيب الشمس، قال
الموفق: ولأن القائل: (رميت بعدما أمسيت) أشكل عليه رميه مساء بعد الزوال؛
لعلمه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى يوم النحر ضحًى، وأن رميه لم يوافق
زمن رمي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلهذا قال: رميت بعدما أمسيت، فاحتاج
إلى أن يسأله بقوله: (رميت بعدما أمسيت) ، أي: إن رميه وقع في آخر النهار،
ورمي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أوله، فقال له الرسول: ارمِ ولا حرج، ولأن رمي الجمار عبادة نهارية أشبه بالصوم لا يقع ليلاً، وقد استمر عمل الخلفاء
الراشدين وغيرهم من الصحابة (رضي الله عنهم) في اختصاص رميهم بالنهار،
والخير والبركة في اتباع سبيلهم والاقتداء بآثارهم وعدم الخروج عما كانوا عليه
(رضوان الله عليهم أجمعين) ، وهذا القول هو مذهب الإمام أحمد، ومذهب أهل
الحديث، وقول طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي.
ودعوى وقوع المشقة وكثرة الزحام في الرمي لكثرة الوافدين يبيح الرمي ليلاً، مردودة بأن المشقة وكثرة الزحام موجود في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-،
ومع هذا لم يرخص لهم في الرمي ليلاً ولا في أيام التشريق قبل الزوال كما في
حديث أم جندب (رضي الله عنها) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا أيها
الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، فإذا رميت الجمرة، فارموا بمثل حصى الخذف)
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه) [2] ، والله اعلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) فتاوى الشيخ (محمد بن إبراهيم) ، ج6، ص 69.
(2) حاشية منسك الشيخ عبد الله بن حميد.(111/24)
دراسات دعوية
لماذا ندرس حياة الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام؟
بقلم:عبد العزيز بن ناصر الجليِّل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد
وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن مهمة الرسل (عليهم الصلاة السلام) مهمة عظيمة شريفة، يجب أن
يعرفها الناس ويفقهوها، ويعرفوا حقوق هؤلاء الرسل الكرام ويتخذوها منهاجاً،
يهتدون بهديه، وبخاصة من نسب نفسه إلى الدعوة إلى الله (تعالى) ، حيث يتعين
عليه دراسة حياة رسل الله (عز وجل) ليترسم طريقهم إن أراد الفوز والفلاح في
الدنيا والآخرة.
ولما كانت حياتهم (عليهم الصلاة والسلام) هي حياة الكمّل من الناس، الذين
اختارهم الله (عز وجل) عن علم وحكمة، واصطفاهم على البشر: كان لا بد أن
نتعرف على هذه الحياة المباركة، التي صُنعت على عين الله (تبارك وتعالى) ، كما
كان لزاماً على من أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة فرداً كان أو جماعة أن
يدرس هذه الحياة المباركة، وبخاصة في عصور الغربة والغرباء كعصرنا الحاضر؛ علّها أن تكون نبراساً لحياتنا، ونجاة لأمتنا مما هي فيه في كثير من البلدان من
واقع أليم.
ويمكن إبراز أهمية دراسة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) من خلال
أمور كثيرة، أهمها ما يلي:
أولاً: لأننا مأمورون من الله (عز وجل) بالاقتداء بهم والتأسي بهديهم، وفي
ذلك طاعة لله (سبحانه) وعبادة له قبل كل شيء، ومن هذه الآيات: ما ذكره الله
(عز وجل) في سورة الأنعام من شأن بعض أنبيائه ورسله، ثم ختم هذه الآيات بأمر
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهديهم، والأمر له -صلى الله عليه
وسلم- أمر لأمته، قال الله (تعالى) : [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا
وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ
وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ... الصَّالِحِينَ (85) وَإسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ... ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُوْلَئِكَ الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] [الأنعام: 83 90] .
قال الطبري (رحمه الله تعالى) عند الآية الأخيرة: [أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] : (يقول الله (تعالى ذكره) : [أُوْلَئِكَ] هؤلاء القوم الذين وكلنا
بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدين الحق، وحفظ ما وكلوا بحفظه
من آيات كتابه والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم (جل ثناؤه) لذلك، [فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ، يقول
(تعالى ذكره) : فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم [اقْتَدِهْ] يا محمد، أي: فاعمل وخذ به واسلكه، فإنه
عمل لله فيه رضاً، ومنهاج من سلكه اهتدى) [1] .
والأمر له -صلى الله عليه وسلم- أمر لأمته، لقوله (تعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً]
[الأحزاب: 21] .
وقال صاحب المنار (رحمه الله تعالى) : (فمعنى الجملة على هذا: أولئك
الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات المتلوة آنفاً والموصوفون في
الآية الأخيرة بإيتاء الله إياهم الكتاب والحكم والنبوة، هم الذين هداهم الله (تعالى)
الهداية الكاملة، فبهداهم دون ما يغايره ويخالفه من أعمال غيرهم وهفوات بعضهم
اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك، مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة
الحجة، والصبر على التكذيب والجحود وإيذاء أهل العناد والجحود، ومقلدة الآباء
والجدود، وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، كالصبر
والشكر، والشجاعة والحلم، والإيثار والزهد، والسخاء والبذل، والحكم ... بالعدل) [2] .
ومن الآيات التي ورد فيها أيضاً الأمر بالاقتداء بهدي الأنبياء: قوله (تعالى) :
[قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ
وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ
رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ] [الممتحنة: 4] .
قال الشوكاني (رحمه الله تعالى) : (وقوله تعالى: [فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ] متعلق بأسوة أو بحسنة، أو هو نعت لأسوة، أو حال من الضمير المستتر في
حسنة، أو خبر كان، و [لَكُمْ] للبيان، [وَالَّذِينَ مَعَهُ] هم أصحابه المؤمنون،
وقال ابن زيد: هم الأنبياء) [3] .
ومن الآيات الواردة في الأمر بالاهتداء بهدي الأنبياء: ما شرعه الله (عز
وجل) في سورة الفاتحة في كل صلاة أن ندعوه (سبحانه) بأن يهدينا صراطهم
المستقيم، وذلك في قوله (تعالى) : [ ... اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ
أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... ] ، وأول من يدخل في وصف المنعَم عليهم هم أنبياء الله
(تعالى) وأتباعهم؛ وذلك لقوله (تعالى) بعد أن ذكر جملة من الأنبياء الكرام في
سورة مريم: [أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ
نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ
خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً] [مريم: 58] .
ثانياً: لأن حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) هي الحياة المعصومة،
خاصة فيما يتعلق بالعقيدة، وما أُمروا بتبليغه؛ ذلك لأن الله (تعالى) اجتباهم ...
واصطفاهم عن علم وحكمة؛ قال (تعالى) : [ ... وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا....] ،
وقال (سبحانه) عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم الصلاة والسلام) : ... [إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ] [سورة (ص) : 46، 47] ، وقال عن نبيه موسى (عليه الصلاة والسلام) : [ ... وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] [طه: 39] ، وقال عن علمه (سبحانه) بمن يختار من رسله: [ ... اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... ] [الأنعام: 124] ، وقال ... (سبحانه) : [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ... ] [الحج: 75] ، والآيات في ذلك كثيرة، والحاصل منها: أن من اصطفاه الله (عز وجل) واجتباه لرسالته هم أولى بالاتباع والاقتداء؛ وذلك لحفظ الله (عز وجل) لهم وعصمته لهم من الزلل والانحراف، ولو وقع منهم الخطأ لم يُقَرّوا على ذلك، فحري بمن هذه صفاتهم أن يُقتدى بهم، وتُدرس حياتهم، ويُتعرف على هديهم؛ وذلك لضمان الاهتداء وعدم الانحراف، لهداية الله (عز وجل) لهم وعصمته لهم، فيتم الاقتداء من المقتدين وهم في غاية الاطمئنان على صحة ما يأخذونه ويقتدون به وسلامته من الانحراف.
ثالثاً: في دراسة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) أكبر العظات والعبر
للدعاة إلى الله (عز وجل) في كل مكان وزمان؛ سواءً ما يتعلق بالإيمان العظيم
والتوحيد الصادق الذي عليه أنبياء الله (عز وجل) ، أو فيما يتعلق بأخلاقهم وسلوكهم، أو بهديهم ومنهجهم، وصبرهم في الدعوة، والصراع مع الباطل وأهله، وإبراز
هذه الجوانب من حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) هو من أهم أغراض ورود
قصص الأنبياء في القرآن الكريم؛ حيث لم تأت لمجرد التسلية والمعرفة التاريخية
فقط، وإنما جاءت للاقتداء والتأسي بتوحيدهم لله والدعوة إليه، والتعزي بحياتهم
وصبرهم وجهادهم؛ حتى لا تفتر عزائم الدعاة ويضعف صبرهم، فلهم في هذا
السلف المبارك أكبر عزاء وقدوة في الثبات وشحذ الهمم.
يقول شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى) : (وفي قصص هذه الأمور عبرة
للمؤمنين بهم؛ فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلموا أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن
المرتاب، ويتب المذنب، ويقو إيمان المؤمنين، فبها يصح الاتساء بالأنبياء) [4] .
رابعاً: وتأتي دراسة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) في عصرنا
الحاضر ونحن في أشد الحاجة إلى دراستها من أي وقت مضى؛ وذلك لما يشهده
عصرنا من غربة في أحوال كثير من المسلمين وفرقة بين دعاة الحق، وتسلط
الأعداء، وكيد المنافقين، وتخبط في بعض المناهج الدعوية ما بين يائس، ومداهن، ومستعجل، وهذا يبرز أهمية التعرف على حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)
في واقعنا المعاصر؛ لعلّ في الدراسة المتجردة الواعية لهذه الحياة المباركة أن يقي
الله (سبحانه) بها من التخبط والانحراف، وأن يهدينا بها إلى الصراط المستقيم الذي
يوحد صفوفنا، ويبطل كيد أعدائنا، ويوصلنا في النهاية إلى النصر والتمكين الذي
نصر الله (عز وجل) به أنبياءه والمتبعين لهم بإحسان.
خامساً: في دراسة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) تعرف على سنن الله
(عز وجل) في التغيير، وتعرف على سننه (سبحانه) في الدفع والمدافعة، كما أنها
تكشف للدعاة إلى الله (عز وجل) ذلك الصراع الطويل المرير بين الحق والباطل،
وفي هذا أكبر العزاء لأهل الحق؛ وذلك لإيمانهم بحتمية هذا الصراع، وأن الدولة
والعاقبة في نهاية الأمر للحق وأهله، وهذا كله لا يبرز بوضوح كما يبرز في حياة
الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) وصراعهم مع أقوامهم: بالحجة والبيان، والهجرة، والجهاد، حتى أتاهم الله (تعالى) بنصره وتمكينه؛ قال (تعالى) : [ ... وَقَتَلَ
دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة: 251] ، وقال
(تعالى) : [ ... وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ] [الحج: 40] ، وقال (تعالى) : [ ... وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] [آل عمران: 140] ،
وقال (سبحانه) عن السنن: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] [آل عمران: 137] ، وإن في التعرف على هذه السنن
الربانية لأعظم فائدة في تجنب الأخطاء وتوقي موارد الهلكة، ومعرفة أسباب
النصر والتمكين.
يقول الإمام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : (ومن هذا الباب صارت قصص
المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها؛ لأن
الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره؛ كالأمثال المضروبة في ... القرآن) [5] .
ومن السنن التي يمكن التعرف عليها من خلال دراسة حياة الأنبياء (عليهم
الصلاة والسلام) ما يلي:
1- سوء عاقبة المكذبين للرسل وإهلاكهم.
2- نصره (سبحانه) لعباده المؤمنين.
3- مداولة الأيام بين الناس من الشدة إلى الرخاء.
4- زوال الأمم بسبب الترف، والفساد، وفشو الظلم، والتجبر على الناس.
5- أن البشر يتحملون مسؤوليتهم في الخير والشر.
6- أن انهيار الأمم وهلاكها يكون بأجل.
7- أن الابتلاء للمؤمنين سنة جارية.
8- تقرير سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل (6) .
سادساً: ولعل في دراسة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) بصدق ورغبة
في اتباع هديهم سبيلاً إلى الانتظام في سلكهم والسير في قافلتهم المباركة، ولعل الله
(عز وجل) أن يلحق من هذه نيته بركبهم الميمون، وأن يحشره في زمرتهم،
فيصدق عليه قول الله (تعالى) : [وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكََ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69)
ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً] [النساء: 69، 70] ، نسأله (سبحانه) أن
يفيض علينا رضاه وجنته، وأن ينعم علينا باللحوق بهذه الصفوة المباركة باتباعنا
لهم، وحبنا إياهم، وإن قصرت أعمالنا وأحوالنا عنهم كثيراً كثيراً.
فعن أنس (رضي الله عنه) : (أن رجلاً سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم-
عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: (وما أعددت لها؟) قال: لا شيء إلا أني
أحب الله ورسوله، فقال: (أنت مع من أحببت) ، قال أنس: فأنا أحب النبي -
صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم
أعمل أعمالهم) [7] .
يعلق الشيخ السعدي (رحمه الله تعالى) على صفات عباد الرحمن الواردة في
آخر سورة الفرقان ورسل الله (عليهم الصلاة والسلام) أول من تصدق عليهم هذه
الصفات فيقول: (ما أعلى هذه الصفات، وأرفع هذه الهمم، وأجل هذه المطالب،
وأزكى تلك النفوس، وأطهر تلك القلوب، وأصفى هؤلاء الصفوة، وأتقى هؤلاء
السادة ... ولله منّة الله على عباده، أن بيّن لهم أوصافهم، ونعت لهم هيئاتهم،
وبين لهم هممهم، وأوضح لهم أجورهم؛ ليشتاقوا إلى الاتصاف بهم، ويبذلوا
جهدهم في ذلك، ويسألوا الذي منّ عليهم وأكرمهم الذي فضْلُه في كل مكان وزمان،
وفي كل وقت وأوان أن يهديهم كما هداهم، ويتولاهم بتربيته الخاصة كما تولاهم،
فاللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، ولا حول ولا
قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضرّاً، ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن
لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء عاجزون من كل وجه، نشهد أنك إن وكلتنا إلى
أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة، فلا نثق يا ربنا إلا برحمتك
التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة،
فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك، فلا خاب من سألك ورجاك) [8] .
__________
(1) تفسير الطبري، ت: شاكر، عند الآية (90) من سورة الأنعام.
(2) تفسير المنار، عند الآية (90) من سورة الأنعام.
(3) فتح القدير، 5/206.
(4) مجموع الفتاوى، 15/178.
(5) جامع الرسائل، ص 55 2) .
(6) انظر لمزيد من التفصيل: منهج التاريخ الإسلامي، للدكتور محمد بن صامل السلمي، ص 58 74.
(7) البخاري، ح/6167 في كتاب الأدب، ومسلم، ح/2639 في كتاب البر والصلة.
(8) تفسير السعدي، 3/455.(111/28)
دراسات اقتصادية
آراء وتأملات في فقه الزكاة
(2)
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقة السابقة تمت مناقشة أنواع الأموال التي أشار القرآن الكريم إلى
وجوب زكاتها، وإلى المفهوم اللغوي لكلمة المال، وفي هذه الحلقة سيتم مناقشة
القواعد والضوابط والشروط التي تحدد صفة المال الذي تجب فيه الزكاة:
ضوابط ما يجب زكاته من أموال:
يختلف المعنى الشرعي للمال لدى فقهاء المذاهب، فمنهم من يرى: أن المال
هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد، وقد اختُلف حول مفهوم
الحيازة لدى الشافعية والمالكية والحنابلة، إذ لا يقتصر مفهوم الحيازة على إمكان
إحرازه بنفسه، بل يكتفى بحيازة أصله ومصدره، وبحسب هذا المفهوم للحيازة
تكون المنافع أموالاً [1] .
على ضوء ما سبق من مفهوم للمال سواء وفق المفهوم اللغوي أو الشرعي،
فهل يمكن اعتبار كل ما يملكه الإنسان مما له قيمة مالاً، وبالتالي تجب فيه الزكاة
مهما يكن مقداره ومهما تكن الحاجة إليه؟ .
إن الإجابة على هذا التساؤل تتم من خلال دراسة ضوابط وشروط المال الذي
تجب فيه الزكاة.
وتتمثل هذه الضوابط والقواعد في الأمور التالية:
الضابط الأول: تمام الملك:
ويقصد به الحيازة وحق التصرف فيه، أما حقيقة الملك فهي لله وحده؛ فهو
منشئه وخالقه وواهبه ورازقه، يقول (تعالى) : [وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَذِي آتَاكُمْ] [النور: 33] ، ويقول: [وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ] [الحديد: 7] ، أما
ملك الإنسان للمال فهو ملك حيازة وتصرف وانتفاع، لا تملك إيجاد وإنشاء؛ لهذا
نرى أن القرآن الكريم حينما يضيف المال إلى الإنسان فهو يؤكد هذا المعنى، كما
في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ] [المنافقون: 9] ، وقوله
(تعالى) : [يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ] [الهمزة: 3] ، وقوله (تعالى) : [مَا أَغْنَى عَنْهُ
مَالُهُ وَمَا كَسَبَ] [المسد: 2] ، فتمام الملك في المفهوم الشرعي كما عرّفه القرافي
في (الفروق) هو: (حكم شرعي قُدِّر وجوده في عين أو في منفعة، يقتضي تمكين
من أضيف إليه من الأشخاص من انتفاعه بالعين أو بالمنفعة أو الاعتياض عنها ما
لم يوجد مانع من ذلك) (2) .
يرتب هذا الشرط على المال بعض الأحكام، من حيث أن يكون مرجوّاً غير
ميئوس منه، وهذا الأمر يقتضي إما وجوب الزكاة أو عدم وجوبها، فمثلاً عدم
وجوب الزكاة على أموال الدولة التي تجبيها مثل أموال الزكاة أو ما تمتلكه ملكية
عامة مثل المرافق المنتجة المملوكة بالكامل للدولة، حيث إن عائد هذه الملكية
وأصل المال يرجع إلى المسلمين بأجمعهم، وما تكسبه الدولة من هذا المال تصرفه
على مصالح المسلمين.
كما يترتب على مفهوم تمام الملك موضوع الديون ومدى وجوب الزكاة فيها،
وعلى من تجب؟ على الدائن أم المدين؟ ومتى يتحقق الوجوب؟
إن موضوع الديون من الموضوعات المهمة بالنسبة لتحديد وعاء الزكاة؛
ولهذا: نرى اختلاف الفقهاء (رحمهم الله) حول الديون ومدى وجوب الزكاة فيها،
ويقسم جمهور الفقهاء الدّين إلى نوعين:
1- دين مرجو الأداء، بأن يكون لدى موسر مقر بالدين، فهذا يزكى مع
المال في كل حول، وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام رأي علماء السلف في ذلك
بأن يزكى مع المال الحاضر؛ لما رواه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه
كان إذا أخرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد.
كما روى ذلك عن عثمان (رضي الله عنه) وأنه كان يقول: (إن الصدقة تجب
في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه، والذي هو على مليء تدعه حياء أو
مصانعة، ففيه الصدقة) ، كما روى عن ابن عمر (رضي الله عنه) أنه كان يقول:
(كل دين لك ترجو أخذه فإن عليك زكاته كلما حال الحول) ، كما روى ذلك عن
جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) ، وقد وافق عدد من التابعين هؤلاء الصحابة،
منهم: مجاهد، ومروان بن مهران [3] .
2- الدين غير المرجو تحصيله، ففيه مذاهب، هي:
الأول: تزكيته عند القبض لما مضى من السنين، وهو مذهب علي وتابعه
ابن عباس (رضي الله عنهم) ، فكان علي (رضي الله عنه) يقول في الدين المشكوك
فيه: (إن كان صادقاً فيزكه إذا قبضه لما مضى) ، ويقول ابن عباس (رضي الله
عنه) : (إذا لم ترج أخذه فلا تزكه حتى تأخذه، فإذا أخذته: فزكِّ عنه ما عليه) .
الثاني: تزكيته عند القبض لسنة واحدة، وهو مذهب الحسن، فقد روى أبو
عبيد عنه أنه كان يقول: (إذا كان للرجل دين حيث لا يرجوه فأخذه بعد: فليؤد
زكاته سنة واحدة) [4] .
وكان يقول بذلك عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) ، فقد روى عنه ... ميمون بن مهران قائلا: (كتب إليّ عمر بن عبد العزيز في مال رده عليّ رجل، فأمرني أن آخذ منه زكاة ما مضى من السنين، ثم أردفني كتاباً أنه كان مالاً ضماراً فخذ منه زكاة عامه) [5] .
الثالث: أنه لا زكاة عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، باعتباره مثل المال
المستفاد، يستأنف به صاحبه الحول، فلا زكاة فيه [6] .
وقد اختار أبو عبيد القاسم بن سلام الرأي الأول فيما يتعلق بالدين المرجو:
أنه لا زكاة فيه حتى يتم قبضه وتزكيته عما مضى، وعلل رأيه بقوله: ... (وإنما اختاروا من اختار منهم تزكية الدين مع عين المال؛ لأن من ترك ذلك حتى يصير إلى القبض لم يكن يقف من زكاة دينه على حد، ولم يقم بأدائها؛ وذلك أن الدين ربما اقتضاه ربه متقطعاً كالدراهم الخمسة والعشرة وأكثر من ذلك وأقل، فهو يحتاج في كل درهم يقتضيه مما فوق ذلك إلى معرفة ما غاب عنه من السنين، والشهور والأيام، ثم يخرج من زكاته لحساب ما يصيبه، وفي أقل من هذا ما تكون الملامة والتفريط، ولهذا: أخذوا بالاحتياط، فقالوا: تزكيته مع جملة ماله في رأس الحول، وهو عندي وجه الأمر، وهذا كله في الدين المرجو الذي يكون على الثقات) [7] .
ونحن نميل إلى هذا الرأي فيما يتعلق بالدين المرجو، أما بالنسبة للدين غير
المرجو والمشكوك في تحصيله: فنميل إلى الأخذ بالمذهب الثاني، وقد أخذ به من
الفقهاء المعاصرين: فضيلة الدكتور (القرضاوي) [8] ، وهو أن يتم تزكيته عند
قبضه لعام واحد، باعتباره ميئوساً منه، وأنه بمثابة المال المستفاد الذي يتم إخراج
زكاته عند تحصيله دون اشتراط الحول.
إن الأخذ بهذا الرأي سوف يحقق أمرين:
أولهما: عدم إضاعة حق الفقراء والمساكين عند تحصيله.
ثانيهما: أنه لو تم احتساب زكاته عما مضى لكل سنة فقد يكون فيه ضرر
على صاحب المال، فقد تستغرق الزكاة الدّين جميعه، كما قد يصعب تحديد فترات
الحول، وخاصة بالنسبة للتجار الذين يتعاملون مع أعداد كبيرة من المدينين.
الضابط الثاني: النماء:
يقصد بالنماء: أن المال الذي تؤخذ منه الزكاة يكون نامياً بذاته، بالتوالد،
والتناسل، والتجارات، أو قابلاً للنماء، والذي من شأنه أن يدر على مالكه ربحاً أو
غلة أو إيراداً، بحيث يكون هو نفسه نماءً أو فضلاً وزيادة، مثل مدخرات النقود.
إن الحكمة من اشتراط النماء كما ذكر ابن قدامة: أن (الزكاة إنما وجبت
مواساة، ولم نعتبر حقيقة النماء؛ لكثرة اختلافه وعدم ضبطه، ولأن ما اعتبرت
مظنته لم يلتفت إلى حقيقته، كالحكم مع الأسباب، ولأن الزكاة تتكرر في هذه
الأموال، فلا بد لها من ضابط؛ كي لا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد
مرات، فينفد مال المالك) [9] ، ويحدد الكاساني الحكمة من ذلك في (بدائع
الصنائع) من زاوية أخرى، فيقول: (ولا نعني به حقيقة النماء؛ لأن ذلك غير
معتبر، وإنما نعني به كون المال معدّاً للاستثمار بالتجارة أو الإسامة؛ لأن الإسامة
سبب لحصول الدر والنسل والسِّمَن، والتجارة سبب لحصول الربح، فيقام السبب
مقام المسبب ويعلق الحكم به، كالسفر مع المشقة.. ونحو ذلك) [10] .
إن تأثير هذا الضابط على الأموال التي تجب فيها الزكاة يتمثل في مدى
شمولية واتساع الأموال الخاضعة للزكاة، وهو مجال اختلف فيه الفقهاء، فمثلاً لا
يأخذ ابن حزم بشرط النماء، وإنما يطبق الزكاة على الأصناف التي أخذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم- الزكاة، وبالتالي: فهو لا يوجب الزكاة، على الأصناف
الأخرى، أما من جعل من ضوابط المال الخاضع للزكاة ضابط النماء: فقد أفسح
المجال لخضوع جميع الأموال مهما تنوعت وتغيرت أنماطها، وقد دلت آيات
القرآن الكريم والأحاديث التي أوجبت الحقوق في الأموال على ذلك، ولا يتم
استثناء بعض الأموال من الزكاة إلا بدليل شرعي يخرجها من هذا الضابط.
الضابط الثالث: بلوغ النصاب:
يضع هذا الضابط حدّاً للمال الذي تجب فيه الزكاة، والذي يتمثل في بلوغ
النصاب، فإذا بلغ المال هذا الحد وجبت فيه الزكاة، وما لم يبلغه المال فلا زكاة
فيه، وبالتالي: فإن مقدار الزكاة يتفاوت بتفاوت المال وفق تفاوت الأنصبة، وقد
حددت السنة الأنصبة لمختلف أنواع الأموال بحيث لا يستوجب المال الزكاة إلا إذا
بلغها، كما ربطت الأنصبة بجنس المال.
إن اعتبار النصاب أحد الضوابط في اشتراط وجوب الزكاة فيه إرشاد إلى
الغاية من فرض الزكاة، فالغاية منها: تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة،
وقيام أغنياء الأمة بكفالة فقرائها والمحتاجين من ذوي النوائب.
ومقدار الأنصبة وتحديدها قد يفهم منه الإرشاد إلى الحدود الدنيا لكفاية الإنسان
وضرورة الاسترشاد بذلك بدراسة حجم الأموال التي تخرج الإنسان من دائرة الفقر
إلى دائرة الغنى.
إن من الإشكاليات التي تطرح حول مقادير الأنصبة: ثباتها، فمثلاً: إن قيمة
مئتي درهم أو خمسة أوسق قد لا تكفي حاجة الإنسان إذا نظر إلى أن الأنصبة تمثل
حدود الفقر والغنى، وعليه: فهل يمكن رفع مقدار الأنصبة بما يعادل الزيادة في
تغير قيمتها بمرور الزمن؟ .
إن هذا التساؤل مهم إذا نُظر إلى الأنصبة باعتبارها حدود الإعفاء، واعتبار
الزكاة ضريبة، أي: نظر إلى الزكاة باعتبارها أداة من أدوات المالية العامة،
وبالتالي: فيعتبر النصاب هو حد الإعفاء، ومن هنا: ينبغي النظر في رفع
النصاب باعتباره حد الإعفاء وفق التغير في قيمة السلع والمنافع.
إن الرد على ذلك وفق ما أشرنا إليه في الحلقة الماضية: أن أصل الزكاة
عبادة، يجب على الفرد المسلم أداؤها إذا توفر لديه النصاب، وتحديد النصاب أمر
توقيفي، لذا: تظهر ضرورة قياس أنصبة الأموال المستجدة بالأموال التي ورد فيها
النص.
إن بعض الباحثين المعاصرين عند مناقشته لأنصبة الزكاة أو التعرض لأحكام
الزكاة ينظر للأمر من زاوية التشريعات المالية المعاصرة، وبموجب هذه النظرة:
فقد يحدث مخالفة الأحكام الواردة في الأحاديث النبوية المتعلقة بالزكاة، كما ينبني
على هذه النظرة أن الشريعة الإسلامية تحاكي في تشريعها المالي النظام المالي
المعاصر، والذي يضع حدوداً للإعفاء لمقابلة احتياجات الممولين، ولكن الشريعة
بكمالها لم تغفل هذا الجانب من تأثير التغير في قيمة النصاب، حيث تم استيعاب
ذلك من خلال الضابط الرابع، وهو: الفضل عن الحوائج الأصلية.
الضابط الرابع: الفضل عن الحوائج الأصلية:
إن وجوب الزكاة في المال وفق ما يذهب إليه الأحناف لا يجب إلا إذا كان
النصاب فاضلاً عن الحاجة الأصلية لمالكه، وقد استُدل بأحاديث، منها: ما رواه
الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(إنما الصدقة عن ظهر غنى) [11] ، وفي رواية: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) ،
وما ورد عن الصحابة في تفسيرهم لقوله (تعالى) : [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
العَفْوَ] [البقرة: 219] ، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) : العفو: ما يفضل
عن أهلك، وقد ذكر ابن كثير أن هذا القول قال به ابن عمر، ومن التابعين:
مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير.
وترد بقية المذاهب على ذلك بعدم اشتراط هذا الضابط بحمل الحديث وما جاء
في تفسير الآية على صدقة التطوع والإنفاق المندوب لا الواجب، وعلى هذا: لا
يمكن اعتبار أنه لا يزكى إلا ما فضل عن حاجة الشخص حيث إن الحاجة نطاقها
واسع حتى ولو حددت بالأمور الأساسية، كما أن الأحاديث الواردة في الزكاة
والسنة الفعلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تعمد إلى تحديد الحوائج الأصلية، وقد كانت الزكاة تؤخذ ممن توفر لديه النصاب بدون نظر إلى الحاجة، كما يُرَد
على ذلك: بأن شرطي النماء والنصاب كافيان عن اشتراط الفائض عن الحوائج؛
لأنه لا صدقة إلا عن ظهر غنى حقيقي، فلا يمكن حينئذ أن يصل المال إلى
النصاب والإنسان لا يكفي حاجته الأساسية، كما أن شرط الحول يقتضي أن
الإنسان سيقوم بالصرف على حاجته من ماله، فإذا حل الحول وهناك فائض وصل
حد النصاب: فإن ذلك مؤشر على سداد الإنسان لحاجته.
الضابط الخامس: السلامة من الدين:
يقصد بهذا الضابط: ألا يكون مالك النصاب مديناً لأحد دَيْناً يستغرق نصاب
الزكاة، أو ينقصه عن النصاب، ففي هذه الحالة لا زكاة عليه.
لقد اختلف الفقهاء حول هذا الضابط، وهل يتم استقطاع الديون الواجبة على
مالك المال من وعاء الزكاة؟ .
واختلف الفقهاء في استقطاع الديون الواجبة على مالك المال (المكلف) من
وعاء الزكاة، فبالنسبة للأموال الباطنة (النقود وعروض التجارة) فإن جمهور
الفقهاء ذهبوا إلى أن الدّين يمنع وجوب الزكاة أو ينقص بقَدْره قيمتها، وذهب
بعض الفقهاء (فيما يتعلق بالأموال الظاهرة) إلى أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة فيها، حيث إن تعلق الزكاة فيها أظهر، وبذلك: فالزكاة أوكد، وقد قال بهذا مالك
والأوزاعي والشافعي، وورد عن أحمد [12] .
وبالنسبة للدين في الزروع: فقد اختلف ابن عمر وابن عباس (رضي الله
عنهما) كما ذكره ابن قدامة، حيث قال: (روي عن أحمد أنه قال: قد اختلف ابن
عمر وابن عباس، فقال ابن عمر: يُخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله،
ويزكي ما بقي، وقال الآخر: يخرج ما استدان على ثمرته، ويزكي ما بقي،
وإليه أذهب: أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي) [13] .
وعلى ضوء ما سبق ووفقاً لهذا الضابط: فإنه يمكن تحقيق وعاء الزكاة
بالديون المستحقة على صاحب المال، ولكن يشترط أن يلاحظ ضرورة ثبات الدين
وصحته، وقيام صاحب المال بالسداد في وقت حلوله، وألا يماطل به وفق ما أشار
إليه عثمان بن عفان (رضي الله عنه) كما روى ذلك أبو عبيد عن السائب بن يزيد،
قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده،
حتى تخرجوا زكاة أموالكم) [14] .
الضابط السادس: الحول:
إن مفهوم الحول هو: أن يمر على المال اثنا عشر شهراً عربيّاً، وهذا
الشرط خاص بالنقود والثروة الحيوانية وعروض التجارة، أما ناتج الأرض
والمستخرج من المعادن والكنوز ونحوها من الأموال المستفادة فلا يشترط لها مرور
الحول.
إن علة عدم تطبيق ضابط الحول على جميع الأموال أشار إليها الإمام ابن
قدامة بقوله: (الفرق بين ما اعتبر له الحول وما لم يعتبر له: أن ما اعتبر له
الحول مرصد للنماء، فالماشية مرصدة للدر والنسل، وعروض التجارة مرصدة
للربح، وكذا: الأثمان، فاعتبر له الحول؛ لأنه مظنة النماء؛ ليكون إخراج الزكاة
من الربح، فإنه أسهل وأيسر، ولأن الزكاة إنما وجبت مواساة، ولم نعتبر حقيقة
النماء؛ لكثرة اختلافه وعدم ضبطه، ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته، كالحكم مع الأسباب، ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال، فلا بد لها من ضابط
كيلا يفضى إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات، فينفد مال المالك، أما
الزروع والثمار: فهي نماء في نفسها، تتكامل عند إخراج الزكاة منها، فتؤخذ
الزكاة منها حينئذ، ثم تعود في النقص لا في النماء، فلا تجب فيها زكاة ثانية؛
لعدم إرصادها للنماء، والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض بمنزلة الزرع
والثمر، إلا إنه إن كان من جنس الأثمان ففيه الزكاة عن كل حول؛ لأنه مظنة
للنماء، من حيث إن الأثمان قيم الأموال ورأس مال التجارات، وبهذا تحصل
المضاربة والشركة وهي مخلوقة لذلك، فكانت بأصلها وخلقتها كمال التجارة المعد
لها) [15] .
إن اشتراط الحول كضابط من ضوابط المال الذي تجب فيه الزكاة، قد قسم
على ضوئه الأموال إلى نوعين: ما أجمع عليه جمهور الفقهاء، ويشمل الذهب
والفضة والماشية، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره في الصحابة (رضي
الله عنهم) ، ولانتشار العمل به [16] ، أما بالنسبة لبقية الأصناف الأخرى من
الأموال مما لا يشترط فيه الحول: فقد اختلف الصحابة والتابعون فيه:
فقد جاء عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية (رضي الله عنهم) وجوب تزكية
المال عند استفادته دون اشتراط الحول، وجمهور الصحابة ومنهم: أبو بكر،
وعمر، وعثمان، وعلي (رضي الله عنهم) على خلافهم، وهذا يتعلق بالمال
المستفاد من غير جنس ما عنده.
ويقصد بالمال المستفاد: كل مال يدخل في ملكية الشخص بعد أن لم يكن له،
وتنقسم الأموال المستفادة إلى قسمين: أموال تجب فيها الزكاة عند الحصول عليها،
مثل: الزروع والثمار والمعادن إذا بلغت النصاب، وقسم يدخل ضمن الأموال
الحولية، مثل: النقود، وعروض التجارة، والماشية، وقد أشار ابن قدامة إلى
أحوال المال بالنسبة للأموال الحولية، وقسمها إلى قسمين [17] :
القسم الأول: المستفاد مما يعتبر له الحول ولا مال سواه وبلغ النصاب، أو كان له مال من جنسه لا يبلغ نصاباً فبلغ بالمستفاد نصاباً: فإن وجوب الزكاة تتم عند تمام الحول فيه.
النوع الثاني: إن كان عنده نصاب من جنس المال المستفاد، وقد قسمه إلى
ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون المستفاد من النماء كربح مال التجارة ونتاج السائمة
فيضم إلى ما عنده من أصله، ويعتبر حولُ المال المستفاد حولَ أصله، وهذا متفق
عليه بين العلماء، الثاني: أن يكون المستفاد من غير جنس ماله: فلا يُضَم هذا
المال إلى ما عنده في زمن الحول ولا في النصاب، فإن بلغ نصاب زكاة بعد مضي
حول على اكتسابه وإن لم يبلغ النصاب: فلا شيء فيه، وهذا قول جمهور العلماء، لكن روي عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية (رضي الله عنهم) أن الزكاة تجب
فيه حين استفادته.
الثالث: أن يكون المال المستفاد من جنس نصاب ما عنده، وقد انعقد عليه
حول الزكاة بسبب مستقل، مثل: أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها
بعض الحول، فيُعطى مئة، ففي هذه الحالة اختلف فيها: هل تجب على الماشية
الزكاة أم لا، قال الشافعي: إنه لا تجب فيها الزكاة حتى يمضي حول عليها، وأما
أبو حنيفة فيرى أن يضم إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعاً عند تمام حول
المال الذي كان عنده، إلا أن يكون عوضاً عن مال مزكى.
__________
(1) انظر: فقه الزكاة، د يوسف القرضاوي، ج1، ص 125.
(2) نقلاً عن المصدر السابق، ص 129.
(3) الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، ص 526 527.
(4) المرجع السابق، ص 528.
(5) المال الضمار: هو الذي لا يظن صاحبه الحصول عليه، انظر: المرجع السابق، ص 528.
(6) انظر: المصدر السابق.
(7) المرجع السابق، ص 530 531.
(8) انظر: فقه الزكاة، ج1، ص38.
(9) المغني، ج2، ص 625.
(10) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، ج2، ص 21.
(11) أخرجه أحمد بن حنبل، 2/501، والدارمي، وأخرجه البخاري (ك/ الزكاة، 18) ، وأحمد ابن حنبل (2/230) بلفظ: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) .
(12) انظر: فقه الزكاة، للقرضاوي، ج 1، ص 157.
(13) المغني، ج3، ص 42.
(14) الأموال، لأبي عبيد، ص 534.
(15) المغني، ج2، ص625.
(16) انظر: فقه الزكاة، ج1، ص 162.
(17) انظر: المغني، ج2، ص 626 627.(111/36)
البيان الأدبي
حوار
حوار مع د. حسن الأمراني
حول مرجعيات الاستشراق المعاصر
أجرى الحوار: محمد بن عمر
توطئة:
تعد ظاهرة الاستشراق من أبرز الظواهر الثقافية التي تبقى مفتوحة للسؤال
والقراءة؛ لأن أغلب الأسئلة التي تؤسس هذه الظاهرة الثقافية هي من نوع الأسئلة
التي يغلب عليها طابع الإثارة والإغراء بالمتابعة.
لكن أكثر أسئلة الاستشراق إثارة واستفزازاً هي تلك الأسئلة التي اختارت
التعايش مع لحظة السقوط الحضاري وتجربة الانهيار الغريب التي عاشتها الأمة
الإسلامية.
لقد كانت نية الاستشراق من هذا التوجه: العمل على تكريس هذه التجربة
واستمراريتها في نسيج الثقافة الإسلامية المعاصرة.
فالاستشراق توجّه خاصة إلى ثقافة السقوط، وبالمقابل أغفل ثقافة البناء، كل
ذلك تحت غطاء البحث العلمي والفضول الفكري والمعرفي.
إنه انطباع أولي استخلصناه من نص الحوار الذي أجريناه مع الدكتور (حسن
الأمراني) [1] الذي أنجز عملاً جامعيّاً اختار له عنوان: (المتنبي في كتابات
المستشرقين الفرنسيين) [2] ، وقد أثار في هذه الدراسة كثيراً من القضايا التي تمس
الاستشراق بشكل مباشر، ومن أهم هذه القضايا: الاستشراق: الموضوع، المنهج، المرجع، ...
ومن أهم المحاور والقضايا التي تستوقف الباحث والقارئ لهذا البحث: قضية
اشتغال الاستشراق الفرنسي بشعر وأدب المتنبي، من حيث هو لحظة تاريخية
وحضارية تعبر عن السقوط والانهيار، وتنشد البناء، وتبحث عن السبل الكفيلة
بالخروج من هذا السقوط والانهيار الحضاري.
وهذا الاعتناء بهذه اللحظة بالذات، أدى بالاستشراق إلى إغفال الجوانب
الأخرى المُشَكِّلة لأدب المتنبي، خاصة الفني ... وهذا الإغفال له ما يبرره إذا
أدركنا النوايا والخلفيات التي كانت توجه قراءة المستشرقين للتراث العربي
الإسلامي..
وهذا نص الحوار:
أ- من الأفكار التي راجت كثيراً في فضائنا الثقافي مؤخراً: فكرة نهاية
الاستشراق؛ لأن المعطيات الثقافية والحضارية التي كانت من وراء نشأة هذه
الظاهرة لم تعد مستمرة في هذا الفضاء، وهذا ما حَوّل الاستشراق من ظاهرة ثقافية
إلى ظاهرة تاريخية.. ما هو تعليقكم على هذا الفهم؟ .
- قد ينتهي الاستشراق مصطلحاً، ولكنه لا ينتهي فكرة، ولعله اليوم أشد ما
يكون ارتباطاً بالمؤسسات الغربية وخدمة لمصالحها، فمنذ نشأة الاستشراق كان همه
المعرفة المرتبطة بالغلبة والهيمنة، ولئن كان في فترة من الفترات مرتبطاً أشد
الارتباط بالكنيسة، ولا سيما منذ قرار مجمع (فيينا الكنسي، 1311م 1312م) ،
فإنه ما فتئ يغير جلده دون أن يغير أهدافه ومقاصده.
إن المستشرقين كانوا أول من دعا إلى تدمير آليات الاستشراق التقليدي؛
لشعورهم بأنه استنفذ أغراضه، ولا بد له إن أراد أن يستمر في الحياة من أن يغير
أدواته، وتلك كانت الأغراض من وراء صيحة (ماكسيم رودنسون) ، إن عزوف
المستشرقين منذ فترة عن هذا المصطلح، ورفضهم أن ينعتوا به، واكتشافهم بدائل
أخرى ك (الاستعراب) .. لم يكن الهدف من ورائه الدقة العلمية كما يريدون أن
يوهمونا بذلك بقدر ما كان تخلصاً ممّا يحمله المصطلح القديم من ظلال استعمارية
وتحكمية.
وإن وجود فئة من المستشرقين المعتدلين أو الموضوعيين أو حتى المتعاطفين
مع القضايا الإسلامية لا ينفي القاعدة بقدر ما يؤكدها، لأن أولئك يمثلون استثناء،
والشاذ لا حكم له كما يقال.
وهل يشك عاقل في أن الذين يخدمون (الإمبريالية الغربية) تحت اسم
(الخبراء) هم مستشرقون من نوع جديد؟ ، إن ما قدّمه (برنار لويس) وأضرابه
مثلاً لا يقارن بما قدمه أسلافهم.
ب -الدكتور حسن الأمراني: لقد أنجزتم أطروحة جامعية حول الاستشراق
الفرنسي وكلفكم هذا الإنجاز زيارة كثير من مكتبات فرنسا، نود أن تقدموا للقارئ
أهم المستويات المعرفية التي تؤسس الاستشراق الفرنسي وتميزه عن غيره من
أنواع الاستشراق.
- يجب ألا ننسى أن فرنسا وبريطانيا تمثلان حالة متفردة في علاقتهما بالعالم
الإسلامي، فهما (الإمبراطوريتان) الاستعماريتان اللتان بسطتا سلطانهما على معظم
العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر الميلادي والنصف الأول من هذا القرن،
كما أن ماضيهما مرتبط أكثر من غيرهما من دول الغرب بالحروب الصليبية،
ولذلك: كانت العلاقة بين هاتين الدولتين والعالم الإسلامي علاقة احتكاك حربي
وتدافع ومغالبة أكثر مما كانت علاقة تواصل حضاري.
ولقد انعكس هذا الإرث الثقيل على التراث الاستشراقي لهما، ولذلك: تجد أن
الذين يصنفون عادة ضمن المتعاطفين مع التراث الإسلامي من المستشرقين، من
أمثال (ماسينيون) كانوا من أشد الناس ولاءً للفكر الاستعماري، ولذلك: كان
(ماسينيون) نفسه مستشاراً لشؤون الاستعمار، كما إنه كان من أشد الدعاة إلى إحياء
اللهجات المحلية في البلدان الإسلامية وإحلالها محل العربية، أي إنه كان يدفع
ببحوثه وكشوفاته في اتجاهين اثنين لا يتعارضان في نهاية المطاف: الاتجاه الأول
هو: تمجيد الشخصيات الفلسفية في تاريخ الإسلام وبعثها نموذجاً ومثالاً ينبغي أن
يحتذى، والاتجاه الثاني: تشجيع النزاعات التفتيتية والتفكيكية داخل المجتمع
الإسلامي، فما بالك إذا تجاوزنا (ماسينيون) إلى سواه من المستشرقين المعروفين
بعدائهم السافر للمجال الحضاري الذي يتخذونه مرتكزاً لدراساتهم.
أما المعتدلون منهم، من أمثال (جيل كيبل) ، و (أندريه ميكال) ، فإنهم
يحسون بغربة قاتلة داخل مجتمعاتهم، ويشعرون بأن أصواتهم لا تكاد تسمع، لا في
الغرب ولا في العالم الإسلامي.
ج- هناك ظاهرة تبدو غريبة في استنتاجات المستشرقين، ذلك بأن أغلب
المستشرقين نعتوا الثقافة الإسلامية بأنها حضارة نص! ، بماذا تفسرون هذا
الاستنتاج؟ .
- بدلاً من أن نتساءل: هل الحضارة الإسلامية حضارة نص أم ليست ... كذلك؟ لا بد أن ندرك طبيعة المعرفة الاستشراقية، هذه المعرفة التي ظلت تفتقد إلى العمق والشمولية، وهذه السمة هي التي ما تزال عالقة بما يمكن تسميته: الاستشراق الدائري، الذي يعتبر (محمد أركون) علماً بارزاً من أعلامه.
لقد كانت المعرفة الاستشراقية في منطلقها معرفة خبرية، تقوم على ما يصل
إلى المؤسسة الاستشراقية من أخبار لا تخلو من أوهام، يسوقها بعض الرحالة، أو
نسجها الخيال الشعبي، ومما لا شك فيه أن المعرفة الخبرية من مقومات العلم في
الإسلام، ولكن شرطها: الصحة، وهو الشرط المفقود في المعرفة الاستشراقية،
ويكفي أن نقرأ (أنشودة رولان) لندرك طبيعة تلك المعرفة المشوهة التي تجعل
المسلمين بزعمه وثنيين مشركين، يؤمنون بثلاثة آلهة: (أبولون، وترافاكان،
ومحمد) .
وقد كان يغذي هذا الاتجاه ما ظهر عند طلائع المستشرقين، من أمثال (جيوم
بوستل) (1510 1581م) ، الذي قيل عنه إنه كان من دعاة الوحدة بين المسلمين
والمسيحيين! ، ومع ذلك لم يستطع أن يتخلص من النظرة التي ترى أن من فوائد
تعلم العربية أنها تعين على مجادلة أعداء المسيح من المسلمين! !
ثم تحولت هذه المعرفة إلى معرفة نصيّة عندما قام (ديربيلو) (1625 - 1695 م) بتأليف كتابه (المكتبة الشرقية) ، هذا الكتاب الذي يعد أول كتاب غربي يضم معارف عن الشرق الإسلامي في شكل موسوعة معجمية، وبذلك انتقلت المعرفة، مع (ديربيلو) من الخبر إلى النص، أي: إلى استنباط المعرفة المتعلقة بالشرق الإسلامي، من كتب المشارقة أنفسهم.
وستمر فترة من الوقت قبل أن يُضاف إلى هذا المصدر المعرفي مصدر آخر
هو المصدر العيني.
وكان الفرق بين هذه المرحلة وسابقتها: أن إحداهما كانت غارقة في الماضي، بينما جمعت الأخرى بين الماضي والحاضر.
وقد كان الاستشراق الحديث والمعاصر بحاجة إلى جهد كبير لتخليص المعرفة
الاستشراقية مما علق بها من قصور، نتيجة قصور مصادر المعرفة.
د- الأستاذ حسن الأمراني، تنزعون في الكتابة نحو مجالات مختلفة: الإبداع
النقد الكتابة الفكرية.. لكن الذي جمع هذه الكتابات هو أنها تعبير عن زمن السقوط
وتشخيص للحظة الانهيار الفكري والحضاري الذي تعيشه الأمة الإسلامية.. من
خلال هذا المُعطى نود منكم كلمة أخيرة لقراء مجلة (البيان) ؟
- لا أدري أي هاجس دفع بي وأنا أعد دراستي عن المتنبي في دراسات
المستشرقين إلى أن أُعْنَى عناية خاصة بلحظة من التاريخ فيه من واقعنا المعاصر
تشابه كبير، فقد تبين لي أن تلك اللحظة هي لحظة الانهيار الحضاري التي قام
المتنبي في وجهها صارخاً مستصرخاً باحثاً عن الفتى الذي يستطيع أن يحقق معه
رسالته، فكان (سيف الدولة) [على ما فيه] أقرب ما يكون إلى الصورة المثال التي
كان يحلم بها الشاعر، فلذلك ربط مصيره بمصيره، وقد عني المستشرقون بهذه
اللحظة بالذات أكثر مما عنوا بدراسة الجانب الفني من شعر أبي الطيب، وذهبوا
في تفسير تلك اللحظات مذاهب شتى لم تكن تخلو من الشطط.
ولا يشك أحد أننا نعيش لحظة من أشد لحظات الانهيار الحضاري الذي يواكبه
تغطرس الاستكبار التدميري، وأمام هذا الواقع لا مفر من صيحةٍ تنبه الغافلين،
وتستل من الظلمة فجراً، فلا عجب إذن أن يكون هنالك خيط جامع عندي بين
الإبداع والإنتاج الفكري، وهذا الخيط هو صرخة الألم التي قد تكون من جهة
المصدر كصرخة ابن أبي موسى الغساني في غرناطة، ولكنها من جهة الأثر بحكم
كونها صرخة جماعية لا فردية قد تكون كصرخة قطز في (عين جالوت) .. ولعلها
كما قال (الكواكبي) [*] : كلمة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح،
فقد تذهب غداً بالأوتاد.
__________
(1) الدكتور حسن الأمراني كاتب من القطر المغربي، يشتغل أستاذاً للنقد الأدبي القديم بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة (المغرب) ، وهو واحد من رواد الأدب الإسلامي المعاصر، ورئيس تحرير مجلة المشكاة.
(2) صدرت هذه الدراسة عن مؤسسة الرسالة، عام 1994م
(*) لمعرفة من هو (عبد الرحمن الكواكبي) وتقويم فكره: انظر كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) ، د/ محمد محمد حسين.
- البيان -(111/46)
قصة قصيرة
قبل الهاوية
بقلم: د. مجدي الطويل
[وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحَافِرَةِ]
آيات سمعها المُلحن الكبير في المذياع فإذا جَرْس نبراتها يأسر تفكيره، وإذا به
يدندن بها، وتتقاذف (الجمل الموسيقية) في رأسه.. ويتمتم: عظيم.. عظيم!
اجتمع في النادي مع (شلته) المفضلة.. صحفي كبير، نائب رئيس تحرير
جريدة (التنوير) ، وكاتب، وشاعر، وموسيقي.. أخذ يحدثهم عن المشروع الذي
ينويه: تلحين مقدمة سورة النازعات بجرسها الموسيقي الخطير.. فإذا بهم ينهالون
عليه بالثناء.. رائع، إنك لقادر على تلحين الكلام العادي فما بالك بكلام القرآن! !
.. سوف تضيف جديداً للقرآن! ! .. إنه التفسير الموسيقي للقرآن! ! ، ولسوف
يخلدك التاريخ! .. إنك لرائد من رواد التنوير بهذا العمل الضخم، ولسوف تنقل
الأمةَ من الجمود والتخلف إلى النورانية والعالمية.. وانهالت عليه كلماتهم بالمديح
.. انتفخت أوداج الرجل وَشرَع في تركيب الجمل الموسيقية.. والنّااازعاات ...
وشرد في جُملِه عنهم، فاستأذنوه، وقال له الصحفي: سوف أنشر الخبر، إن هذا
عمل حضاري كبير.
ومرت الأيام على الملحن وهو حابس نفسه بين جدران معمله الموسيقي في
منزله الهادئ.. وأخذ يلحن، ثم يعيد التلحين، وقد استجمع كل مهارات صنعته..
إنه القرآن العظيم، أعظم النصوص وأقدسها.. فيجب أن يكون العمل على هذا
المستوى.... يجب أن تكون الموسيقى معبّرة عن الجلال والمهابة والغموض ... والقدرة..
قطع الهاتف حبل أفكاره.. قرأت أنك ستلحن مطلع سورة النازعات، عمل
رائع، لو أخذته منك سيكون رصيداً طيباً لمجموعتي الدينية! .. واستمرت المغنية
المشهورة تخاطبه، واسترسلت: لن يستطيع أحد غيري أداء هذه المعاني.. سوف
أبهر بها الجمهور.. وقاطعها قائلاً: سوف أفكر.. ما زال الأمر في بدايته..
واتصل به آخر، كاتب تنويري كبير: إن عِمَم الأزهر سوف تُهاجمك.. لا
تبال فهم جامدون وكلنا نقف وراءك نؤازرك، إنهم لا يفهمون عظمة هذا الدين
وسماحته، إن ما تفعله الآن سوف يخرج منه طاقة هائلة بلغة العصر.. سوف
يخلدك التاريخ كما خلد كبار الموسيقيين الذين لحنوا للكنيسة، إنه عمل متأخر قليلاً، ولكنه يجب أن يبدأ.
ردّ عليه بالشكر وأنّ الأمر لا يأخذ عنده كل هذه الأبعاد، فكل ما يفكر فيه هو
استغلال الجرس الموسيقي الموجود في كلمات القرآن! ! وأنه سيحاول المحافظة
على ذلك بالجمل الموسيقية اليسيرة التراكيب والعميقة المعنى ذات التأثير في
الشعور والوجدان.
اتصل به آخر من الملحنين الذي حذره من غلبة التجريد على الموسيقى دون
التطبيق الواقعي من الموسيقى الشعبية.. وعده أنه سيبذل قصارى جهده وأنه يعتبر
نفسه في صلاة وعبادة! .. وطلب منه الدعاء.
ملّ الرجل بيته قبل الفجر بقليل فقرر أن يذهب إلى الناس حيث أَلِفَ ذلك
دائماً.. قرر الذهاب إلى منطقة الأزهر؛ حيث الزحام الشعبي الذي يستوحي منه
موسيقاه الشعبية في أعماله.. وبعد قليل وجد نفسه في أحضان المنطقة.. رائحة
البخور الندية تملأ الصدور وشواهد التاريخ القديم تضفي الغموض والراحة على
النفس.. اختفى بين الناس ومع الناس.. يستوحي هذه المنطقة القديمة بسحرها
الغامض وتراثها القديم.. وأخذ ينظر إلى الأزهر من بعيد بأحجاره ومآذنه وشموخه
المعماري الفريد.. وأُذّن لصلاة الفجر، وكان هذا هو ميعاد انصرافه.
همّ بالانصراف لولا أن قابله صديق قديم متجه إلى الأزهر، أخذه بالأحضان
.. أين أنت يا رجل؟ .. مَرّ عُمْر.. ولكن أخبارك عندنا.. اسمك يملأ وسائل
الإعلام.
أنت؟ .. وأين أنت الآن؟ ..
أنا مدرس للشريعة في جامعة الأزهر، تزوجت وعندي أولاد، وحالي طيبة
والحمد لله، هيا بنا قبل أن تضيع علينا الصلاة..
تردّد المُلحن وتلعثم.. ولكن الصديق القديم جذبه كما كان يجذبه في الماضي:
هيا يا رجل حتى لا تضيع منك الجوهرة.. وبحد الحياء ذهب معه.. توضأ،
ودخل المسجد..
كم مر عليّ من زمن لا أصلي؟ .. يا الله! .. زمن طويل.. الأزهر بديع
في الفجر.. وهذا الباب الحجري الضيق الذي يكاد ينكتم فيه نفسك ثم تعبره لتجد
رحابة في فناء المسجد الواسع المترامي الأطراف.. وكأنك قد تحررت من قيودك
وقيود المجتمع والناس..
شعر بارتياح كبير، وقال لنفسه: هذه هي الحالة المثالية لتلحين المشروع..
ليتني آخذ ركناً هنا.. وقطع صوت الإقامة عليه تفكيره، وجذبه صديقه ليقوم
للصلاة.. الله أكبر، واستمع إلى الإمام: [وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ ... نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً.... .] .
انتبه الملحن إلى الكلمات.. أي قَدَر هذا.. وترددت الكلمات في جنبات
المسجد الرحب وانعكست جميعها في آذانه الصاغية.. أي مهابة وأي غموض وأي
جلال.. واشتغل اللحن في رأسه وتداخل مع الألفاظ القرآنية تصارعه ... ويصارعها.. جذبه صاحبه للركوع ثم للسجود.. هكذا حتى انتهت الصلاة.
نظر إليه صاحبه بعد الصلاة في شفقة ومحبة.. وقال له: أين كنت؟ ، ما
هذا الذهول البادي على وجهك.. فرد عليه: لقد كنت أصلي! .. فتعجب صاحبه
من الرد الغامض.. ولاحقه الملحن: أتعرف تفسيراً لما قرأه الإمام؟ .. ابتسم
صاحبه وصمت هنيهة من الزمن، ثم قال: (النازعات غرقاً) : هي الملائكة تنزع
نفوس بني آدم بشدة، (والناشطات نشطاً) : هي الملائكة تنشّط نفس المؤمن
فتقبضها، (والسابحات) : هي الملائكة تَسْبح وتُسبّح في الفضاء الكوني كله،
(والسابقات) : هي الملائكة التي سبقت الإنسان لعبادة الله الواحد القهار،
(والمدبرات أمراً) : هي الملائكة المُدبرة لما أُمِرَت به من أوامر الله (سبحانه
وتعالى) ..
قال الملحن: إذن، فالحديث عن الملائكة؟ !
قال له صاحبه: نعم، فهم خلق الله الذين لا يعصون له أمراً.
إنه حديث نادر لا يأتي إلا من عند الله؛ فهو وحده القادر على وصف أعمالهم، ومن يستطيع أن يخبر بذلك غيره؟ ..
انتبه الملحن لهذا التفسير وازدادت نفسه تشوقاً لمعرفة المزيد من المعاني..
زاده صاحبه واصفاً مشاهد نهاية الدنيا، والبعث، والنشور..
تعجب الملحن وازداد ذهوله.. يا له من حديث.. أي صورة هذه؟ .. أي
غموض؟ .. ملائكة لا ندري عن خلقهم شيئاً، يروحون ويجيئون في هذا الكون
الفسيح، ثم هذا اليوم العظيم بهذه الصورة المخيفة المرعبة..
وتابع صاحبه: يا صديقي، إنه يوم عظيم، يجب أن يعمل له العاملون..
والله لو أننا عبدنا الله صلاةً وتسبيحاً، وجاهدنا صباحاً ومساءً ما ضمنّا ماذا ... يُعمل بنا في هذا اليوم؟ ... وسأل الملحن في شغف: أين أستطيع أن أجد هذا التفسير؟ .. ودلّه صاحبه على مكانه.. واستأذن الملحن وقد بدى عليه الإجهاد من يوم طويل حافل.. وانصرف إلى بيته.
عكف الملحن على كتاب التفسير وانشغل مع الصور والمعاني التي يحفل بها
النص الذي يريد تلحينه.. ووجد نفسه يعرج إلى القرآن من أوله.. علّه يعطيني
إلهاماً لمشروعي! .. وبدء فيه: [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ..] ، [الّم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ..] .
[اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَاًخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الأَرْضِ ... ] .
[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ... ] ، [وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ..] .
[أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ..] .
[لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... ]
[اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَاً وَرَبُّكَ
الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ ... لَيَطْغَى..] .
وقرأ: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] .
تملّكته التلاوة والمعاني والصور أياماً انقطع فيها عن العالم.. العالم الذي
ينتظر منه ولادة المشروع العظيم.. التفسير الموسيقي للقرآن.. وحاول العودة إلى
ما بدأه ولكنه استحقر ما دار بخلده.. استرجع أعمال الموسيقيين في الترانيم ... الكَنَسيّة.. فلم تلهمه معاني تتقارب إلى ما يشعر به من جلال ومهابة وخوف ووَجَل ورجاء وتمنّي وحسرة وندم وإشراق واستمتاع حسّي وذهني..
ما الذي سأضيفه للبشرية؟ .. وكيف أستطيع أن أعبر عن ذلك كلّه؟ .
شعر بالعجز.. بل شعر أنه يتجرأ على الله.. ودبّ الخوف في قلبه، فقطّع
كلّ ما كتبه وأحرق تسجيلاته.. ثم توضأ وانغمس في صلاة طويلة طوال الليل،
وقرأ فيها: [وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ... ] .(111/52)
سباعيات
هروب
شعر: د.محمد بن ظافر الشهري
رأى الناسُ فيما يرى النائمون ... وللنوم في الشرع حكم الجنون
كأنّ اليهود غداً يجنحون ... لسلْمٍ وبعد غدٍ يُسْلِمون
وأنهمُ يوقفون البناء ... وها همْ أولاءِ مضوا يبتنون
وأن (نتنياهُ) إن فازَ لانَ ... فلا هوَ لانَ (ولا يحزنون)
وأن اليهود إذا غادروا ... سيخلفهم بشرٌ يَرْحَمون
فلما صحوا علموا أنهمْ ... رأوا صُوراً أبداً لن تكون
فَفَرّوا إلى النوم أُنْساً به ... فقد وجدوا فيه ما يشتهون(111/57)
نص شعري
إسرائيل
شعر: مروان كجك
تَفَوّقِي تَفَوّقِي ... فَإنّنَا فِي مَاًزِقِ
تَلُفّنَا جِرَاحُنَا ... مِنْ أَخْمَصٍ لِمفْرِقِ
وَيَدّعِي جَهُولُنَا ... زَعَامَةً لَمْ تُسْبَقِ
لَمْ يَشْفِ مِنّا غِلّهُ ... أَوْ يَنْتَظِمْ فِي مَوْثِقِ
يَبِيعُنَا نِكَايَةً ... لِمُشْتَرٍ مُسْتَرْزِقِ
وَلا يَرَى غَضَاضَةً ... أَوْ رَعْشَةً فَيَتّقِي
وَقَدْ طَمَتْ هُمُومُنَا ... وَحِسّنَا لَمْ يَرْتَقِ
وَصَوْتُنَا فِي حَلْقِنَا ... يَنَامُ كَالْمُسْتَغرِقِ
وَقَلْبُنَا فِي هَجْعَةٍ ... كَأَنّهُ لَمُ يَخْفُقِ
وَقُدْسُنَا مَرْهُونَةٌ ... وَالْخُلْفُ فِي تَأَلّقِ
***
تَفَوّقِي تَفَوّقِي ... تَفَوّقِي تَفَوّقِي
تَفَوّقِي فَإنّنَا ... فِي قِمّةِ التّمَزّقِ
يَقُودُنا لِحَتْفِنَا ... مُكَابرٌ لا يَتّقِي
يَسُوسُنَا بِغِلْظَةٍ ... كَالْهَائِجِ الْمُمَخْرَقِ
وَيَدّعِي حَصَاَفَةً ... لِفَهْمِهِ الْمُسْتَغْلَقِ
لَمْ يَدْرِ أَنّ حَظّهُ ... عِنْدَ العَدُوِّ الأَزْرَقِ
حَقَارَةٌ وَخِسّةٌ ... وَخُلْفُ كُلِّ مَوْثِقِ
قَدْ حُطّ تَحْتَ ذُلِهَا ... كَالطّائِرِ الْمُطَوّقِ
إذَا تَأَبّى مَرّةً ... أوْ ضَاقَ بِالتّسَلّقِ
حَزّ الْحَديِدُ رَأسَهُ ... كَكُلِّ بَاغٍ أَحْمَق
تَفَوّقِي تَفَوّقِي ... تَفَوّقِي تَفَوّقِي(111/58)
نص شعري
فتاة الشرق وفتاة الغرب
شعر: د. عبد الغني أحمد مزهر
إلى العلم يا أختاه جوزي المعابرا ... وجذِّي بسيف الحزم فيه المعاذرا
إلى المجد والعلياء في موكب الهدى ... جناحاك: تقوى الله والعلمُ للذّرى
أيا نجمةً في الشأو سامت كواكباً ... ويا درةً في الصون فاقت جواهرا
أشاعوا بأن الشرق جهل وبِنْتَهُ ... جهولٌ وفي أبنائها أجهل الورى
حبيسة بيت الزوج لم تألف الفضا ... تؤدي له بالحبس ما كان أمهرا
وقالوا فتاة الغرب بنت حضارة ... يشير لها التاريخ بدءاً وآخرا
إذا ما تبدّت عطّرَ الجوّ ريحُها ... وألوى إليها كل شيء معطرا
وقالوا.. وقالوا والدعايات جمّة ... وتخفي صدور القوم أدهى وأكبرا
(ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً) لدوداً للنصحية مُظهرا
ذرونا من التخليط واستنطقوا الدنا ... فما تعرف الأيام مَيْناً ولا مِرا
وهل يستوي ماء السوابل آجناً ... وخيماً وماء القطر ينهلّ طاهرا
وماضرّ ضوءَ الشمس أن قيل محرق ... ولا ضرّ ضوءَ البدر أن يجلب الكرى
وما عاب زهرَ الروض نكران فوحه ... وما زال منكوس الطبائع منكرا
وإن قلت هذا الدرب وهو نقيضه ... فما ذنب ذي اليمنى إذا كنت أعسرا
ويحفظ حق البنت والأخت شرعة ... ويوفي حقوق الزوج والأم مؤثرا
وهذي فتاة الشرق أم كريمة ... تعد شباب الجيل سيفاً ومنبرا
وليس لها في الغرب حق وحرمة ... إذا لم تكن شيئاً يباع ويُشترى
فتلك الملاجي والمبرّات بيتها ... تبيت كأشقى من يبيت وأحقرا
فأَحْير من ضَبٍّ إذا ضل جحره ... وأجوع من ذئب إذا بات مقفرا
رأيت بعيني لا أقول تخرصاً ... ولا أدّعي زوراً عليهم ولا افترا
أموراً عظاماً تصدع الصخر حسرة ... ويدمى لها قلب العفيف تحسرا
ففي كل صوب للطهارة مذبحاً ... وفي كل شبر للرذيلة متجرا
تقول ذروني إنني اليوم حرّة ... أعيش كما أهوى وأهوى كما أرى
أقول لذات الخال لله ناصحاً ... نصيحة من يخشى عليها الدوائرا
أفيقي هداك الله يا أخت واحذري ... فذو الحزم يحيى ما أطاق محاذرا
ولا تخدعي بالشائعات فربما ... أذلّوا بسيف الشائعات الحرائرا
وإن وراء الشائعات صراحة ... ذئاباً جياعاً أو صقوراً كواسرا
متى كان فعل الموبقات ثقافة ... ووعياً، وإيثار العفاف تحجرا؟
أتدعى حياةُ العهر فيهم تقدماً وتدعى حياةُ الطهر فينا تأخرا؟(111/60)
مرتكزات للفهم والعمل
أهمية العلم الشرعي
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
الدعوة إلى الله وظيفة مصطفاة في الأساس لأشرف الخلق، وهم الأنبياء
(عليهم الصلاة والسلام) ، الذين تولى الله (سبحانه وتعالى) حفظهم وتنشئتهم..
وحريّ بمن يقتدي بهم في الوظيفة أن يسعى إلى اقتفاء آثارهم، وتحري طريقتهم
في التكوين والنشأة.
والركيزة الأولى في تكوين الداعية إلى الله (تعالى) هي العلم، فهو الذي أمر
الله به نبيه في أول آية أنزلت عليه، والأمر له ولسائر أمته معه، وعلى ضوء
العلم يتم العمل والدعوة.
وكما حرس الله بيضة الإسلام بالمجاهدين: حفظ شريعة الإيمان بالعلماء
والمتعلمين، والجهاد لا يتم على وجهه الحق إلا بالعلم المفصل بالقرآن الكريم،
والسنة النبوية المشرفة، إذن: فالعلم ضرورة شرعية [1] ؛ لأن ما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب، ولأن حاجتنا إليه لا تقل عن حاجتنا إلى المأكل والمشرب
والملبس والدواء؛ إذ به قوام الدين والدنيا.
ولقد كان من أعظم أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر: الجهل، وقلة
العلماء العاملين، وسوء الخطط في مراحل الدراسة المختلفة في البلاد الإسلامية،
وضعف الهمم والعزائم في الجد والتحصيل، والتخصصات الجزئية التي أضعفت
العلوم الشرعية، والانهزام النفسي أمام بعض العلوم المادية، والنظر إلى
التخصصات الشرعية نظرة دونية.
أقسام العلم الشرعي من حيث الحكم ثلاثة:
1- فرض عين: وهو تعلم ما يتأدى به الواجب العيني.
2- فرض كفاية: وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في أمور دينهم ودنياهم.
3- مستحب: وهو التبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القدر الذي
يحصل به فرض الكفاية.
فضائل العلم وأهله [2] :
إن تذكرها يبعث الهمم، ويجدد العزائم، ويطرد الكسل، ويعين على الجد،
وقد جاءت بها نصوص كثيرة جدّاً.
فمن فضائل العلم: أنه أول ما خاطب الله به نبيه، فقال: [اقرأ] ، وما
أمره بطلب الزيادة من شيء إلا منه [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] [طه: 114] ، ولا
غرو: فإنه يورث الإيمان، بل لا يكون الإيمان إلا به، وثمرته اليقين، وهو من
علامات الإيمان ودلائل إرادة الله الخير بصاحبه، وهو أجل النعم، فإنه حياة القلب
ونوره، والجهل من صفات أهل النار، والعلم ميراث الأنبياء، وهو خير من
النوافل، فإنه من أعظم الجهاد، وأجلّ العبادات؛ قال: (من جاء مسجدي هذا لم
يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ... ) [3] .
وهو الحماية من الغفلة، وسبيل النجاة، وطريق الجنة، وهو شرف لصاحبه، ورفعة في الدارين، وهو سبيل الكمال، وطريق البركة، ودوام الأجر، وسبيل
السعادة، وهو كشاف للحقائق، وإمام العمل، وطريق الهداية، ودواء الأمراض
القلبية، وبه ينال صاحبه بركة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويستثنى من
اللعنة، وتضع له الملائكة أجنحتها، ويُباهي به الله ملائكته.
ومن فضائل أهله: أن الله استشهدهم على توحيده، فزكاهم وعدّلهم، ونفى
التسوية بينهم وبين غيرهم، فإن الجاهل بمنزلة الأعمى، وأولو العلم هم أهل الذكر، الذين يظهر لهم الحق، وهو آيات بينات في صدورهم، فاستحقوا رفعة الدرجات
في الدارين [يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ] ... [المجادلة: 11] ؛ فهم أهل الخشية، والمنتفعون بضرب الله الأمثال، وعدول الأمة.
أما آثاره على الأمم فهي متمثلة في: الإيمان بالله (تعالى) ، ومعرفته حق
المعرفة، واجتناب المنكرات، والقيام بحقوق كل ذي حق، والسعادة النفسية،
وتحكيم شريعة الله.
مقارنة بين العلم والمال:
العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.
العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله.
العلم يزداد بالبذل والعطاء، والمال تذهبه النفقات عدا الصدقة.
العلم يرافق صاحبه حتى في قبره، والمال يفارقه بعد موته، إلا ما كان من
صدقة جارية.
المال يحصل للبر والفاجر، والمسلم والكافر، أما العلم النافع فلا يحصل إلا
للمؤمن.
العالِم يحتاج إليه الملوك ومن دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم
والفاقة والحاجة.
المال يعبِّد صاحبه للدنيا، والعلم يدعوه لعبادة ربه.
العالم قَدْرُه وقيمته في ذاته، أما الغني فقيمته في ماله.
الغني يدعو الناس بماله إلى الدنيا، والعالم يدعو الناس بعلمه إلى الآخرة.
آثار الجهل على الأمم:
إن الأمة التي ترضى بالجهل، وتتقاعس عن العلم تدفع الثمن غالياً،
والضريبة مضاعفة، ومن آثار الجهل التي شهدت بها السنن الكونية، وسطرها
التاريخ على مستوى الفرد، أو المجتمع: انتشار البدع والضلالات في العقائد
والعبادات والمعاملات، وضعف الإيمان، وقلة التقوى، وازدياد المعاصي،
وضعف الهيبة أمام الأعداء، وتقييد الأمة بأغلال التخلف في جميع المجالات،
وكثرة المشكلات الأسرية، والخمول والكسل، وضعف الهمم، والقصور عن
إدراك المعالي.. وهي نتائج حتمية للجهل.
وشتان بين هذه، وبين ما جعله الله جزاءً حسناً عاجلاً في الدنيا لمن يتعلمون
العلم ويعملون به، الذين يحصِّلون الإيمان بالله (تعالى) ، ومعرفته حق المعرفة،
فتقل فيهم المنكرات، ويحصل القيام بحقوق كل ذي حق، وتُحكّم شريعة الله،
وبذلك تُجتلب السعادة.
الأسباب المعينة على طلب العلم (وسائل التعلم) :
1- تقوى الله: قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ
فُرْقَاناً ... ] [الأنفال: 29] .
2- كثرة الاستغفار والتوبة والدعاء، والانطراح بين يدي الله (تعالى) ،
وسؤاله العلم النافع والعلم الصالح.
3- ذكر الموت والآخرة، ليعين على شغل الوقت بالنافع.
4- المحافظة على الأوقات، وحسن ترتيبها، والحرص على استغلالها،
بحيث يُعطى كل ذي حق حقه، بدون غلو ولا جفاء، وهذا شرط لا يحصل العلم
بدونه.
5- ترك الفضول من الكلام والسماع والنظر والخلطة والمنام، والاقتصار
على ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة من ذلك.
6- الإكثار من قراءة ما ورد في العلم وفضل أهله، وحال السلف في طلبهم
للعلم.
7- مخالطة من هم أكثر علماً وفهماً؛ لئلا يقنع الطالب بما حصّل من علم،
فيحرص على الاستزادة، وليتجنب العُجْب والغرور.
8- سلوك الوسائل المباشرة للتعلم، مثل:
ملازمة العلماء والمشايخ في المساجد والبيوت، والتلقي عنهم، والتعلم في
المدارس، والمعاهد، والجامعات، والقراءة مع الزملاء والأصدقاء وطلاب العلم،
وكثرة الاطلاع، والقراءات الخاصة المنتقاة المرتبة، وإعداد البحوث الدقيقة،
والاستماع إلى الأشرطة النافعة.
بعض صفات طالب العلم وآدابه:
الإخلاص لله (تعالى) ، قال رسول الله: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه
الله (عز وجل) لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عُرْف الجنة يوم
القيامة) [4] ، يعني ريحها.
الصبر وتحمل المشاق وسعة الصدر، فإن العلم جهاد لا شهوة.
التواضع والحذر من الكبر والغرور.
التفرغ للعلم والإقبال عليه، بشرط التوازن وعدم الإخلال بالواجبات الأخرى
توقير العلماء وإكرامهم والتأدب معهم، وحفظ مكانتهم، وتوقير مجالسهم،
وحسن السؤال والإصغاء.
البعد عن الجدال والمراء العقيم.
حسن المظهر وجمال الهيئة.
واجبات طالب العلم:
إن المسؤولية عظيمة، والواجب كبير، ومما يجب على طالب العلم: الورع، والتقوى، والعمل بالعلم، والحرص على نشر العلم وتبليغه مع الحذر من الفتوى
بغير علم، والدعوة إلى الله على بصيرة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
والقدوة الصالحة، والاستمرار في طلب العلم حتى الممات، والجرأة في الحق،
والوعي الكامل الشامل بواقع الأمة، ومعرفة سبيل المجرمين.
إن الانخراط في سلك العلم الشرعي يعني أن صاحبه وقف نفسه لله، ونذر
وقته لخالقه، يتعلم ليعمل ويعلِّم ويدعو ويصلح، وإذا لم يقم طالب العلم بواجبه فمن
سيقوم به؟ ! ، ويكفي أن نعلم أنه لو قام عدد كاف من طلاب العلم بواجبهم لما
كانت الأمة بهذا المستوى، فإلى الله المشتكى.
اقتضاء العلم العمل [5] :
وهو بيت القصيد، والذي يجب التركيز عليه والاهتمام به؛ وذلك لما نرى
من كثرة المتعلمين، وقلة العاملين، ولما نشاهد من إعجاب كثير من طلاب العلم
بألقابهم ونسيانهم لرسالتهم في أمتهم ومجتمعاتهم؛ حيث لم يدركوا خطورة إهمالهم
لأمر الله (تعالى) ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأيضاً: لما نلحظ من القصور
الواضح في مناهج التعليم، وبخاصة الفصل الواضح بين العلم والعمل، والأمة إنما
تحتاج في الحقيقة إلى العلماء المؤثرين العاملين، الآمرين بالمعروف والناهين عن
المنكر.
إن العلم لا قيمة له بدون العمل، ولذا: تكاثرت النصوص في الكتاب والسنة
وكذا أقوال السلف مؤكدة وجوب ربط العلم بالعمل، ومحذرة من الفصل بينهما: كم
نقرأ في كل يوم قول الله (تعالى) : [غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] ... [الفاتحة: 7] ، قال العلماء: المغضوب عليهم: هم الذين لم يعملوا بعلمهم، ويدخل فيهم اليهود بهذا الوصف، والضالون: هم الذين يعملون على جهل وضلال، ومنهم النصارى، فهل فهمنا المقصود؟ !
وقال (تعالى) : [أََتَاًمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أََنفُسَكُمْ وَأََنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ
أََفَلا تَعْقِلُونَ] [البقرة: 44] ، وقال: (لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه
حتى يسأل عن خمس) ... وذكر منها: (.. وماذا عمل فيما علم) [6] ، وكان -
صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من علم لا ينفع [7] .
وقال أبو هريرة: (مثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله) ، وقال عمر: (لا يغرركم من قرأ القرآن، ولكن انظروا من يعمل به) ، وقال
سهيل بن عبد الله: (الدنيا جهل وموات، إلا العلم، والعلم كله حجة، إلا العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى يختم به) .
من آفات طالب العلم:
وهي آفات مهلكة، أو مضيعة للعلم، أو مسببة لعدم الانتفاع به، ومنها:
1- المعاصي، وهي آفة الآفات؛ لأن العلم هو ما ورث الخشية، قال
(تعالى) : [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] [فاطر: 28] ، والمعاصي تناقض
الخشية.
2- الكبر والغرور، وهو من أسرع الآفات إلى طلبة العلم، والمتعلمين.
3- المراءاة والمخاصمة والجدل.
4- كتم العلم، وهو يؤدي إلى نسيانه وذهابه، وكذا: عدم التورع في إطلاق
الفتوى، والقول بلا علم.
5- الانشغال بالدنيا، وكثرة الفضول.
6- المداهنة في دين الله، والسكوت عن إظهار الحق، وعلى إنكار الباطل.
7- النسيان، ويكون علاجه: بالمذاكرة، وبذل العلم، وترك أسباب ذهابه،
كالمعاصي وغيرها.
ملحوظات وتنبيهات:
- ينبغي ألا يدفعنا الحديث عن العلم إلى الانقطاع له انقطاعاً يشل حركة بقية
جوانب العمل الأخرى، بل لا بد من الشمول والتوازن؛ لأن التخلي عن الدعوة
والعمل بحجة طلب العلم خطأ وانحراف، فالواجب: تزامن الأمرين؛ فإن الفصل
بين العلم والعمل تفريط وشطط.
فالأمة: كما أنها تحتاج العلماء، فإنها تحتاج الدعاة والمجاهدين، وتحتاج
كذلك أن يكون هناك متخصصون في العلوم التجريبية بشتى فروعها، ولكن ينبغي
ألا ينسى كل هؤلاء حظ أنفسهم من العلم الشرعي الواجب، والاستزادة قدر الإمكان
من القدر المستحب.
- أيضاً لا بد من الشمول والتوازن في طلب العلم، فيأخذ طالب العلم من كل
علم بقدر، ولا مانع بعد ذلك أن يتخصص في علم من العلوم الشرعية بهذا الشرط، وهو أن يكون على صلة وثيقة ببقية التخصصات الأخرى.
نسأل الله (عز وجل) أن يوفقنا إلى العلم النافع والعمل الصالح.
__________
(1) انظر رسالة بهذا العنوان، د ناصر العمر.
(2) انظر تفصيلها في مفتاح دار السعادة، لابن القيم، ج1، ص 48 157.
(3) رواه ابن ماجة، ح/227، وانظر صحيح سنن ابن ماجة، ح/186.
(4) أخرجه أبو داود، ح/3664، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح/ 3112.
(5) للخطيب البغدادي رسالة بهذا العنوان.
(6) أخرجه الترمذي، ح/2416، وانظر صحيح الجامع، ح/7299.
(7) أخرجه مسلم، ح/2722.(111/62)
المسلمون والعالم
حزب الرفاه..
ماذا حقق من خططه في الإصلاح؟
بقلم: مصطفى محمد الطحان
تمهيد:
نال حزب الرفاه الإسلامي أكثر الأصوات في الانتخابات الأخيرة وإن لم ينل
الأغلبية، ومر استلامه السلطة بمخاض طويل، اتضح فيه للجميع مدى الخيبة
والمصيبة التي حلت بالأحزاب العلمانية التركية، وتبين أيضاً مدى الحقد الذي يكنه
أولئك العلمانيون ضد الإسلام، وفي آخر الأمر: استلم (الرفاه) رئاسة الوزراء
لأول مرة في تاريخ تركيا المعاصر بعد انقلاب (أتاتورك) الماسوني، مؤكداً تطلع
قطاعات كبيرة من الشعب التركي إلى عودة الإسلام من جديد، مما يضع سابقة لن
يصبح بعدها الإسلاميون غرباء على الحياة السياسية بوصفهم اتجاهاً فاعلاً له
شعبيته.
وما زال العلمانيون يضعون الأحجار في طريق الرفاه، ومنها: ما كان منهم
بعد إقامة (أربكان) (احتفالاً رمضانيّاً) ، فقد أثار حزب الشعب اليساري دعوى ضد
(أربكان) لمحاكمته، بزعم خرقه الدستور العلماني، والمطالبة بسجنه، وفي هذه المقالة يقدم لنا الأستاذ مصطفى محمد الطحان بحكم متابعته للحدث هذه الدراسة الموثقة، ونحن قد لا نتفق بالضرورة معه في كل ما ذكره، إلا إنها متابعة تستحق القراءة والتأمل، وتستحق الشكر لكاتبها.
- البيان -
الحديث ما زال مبكراً عن إنجازات حزب الرفاه، حيث لم يكمل بعد سنته
الأولى.
كما أن الأمر لا يتعلق بحزب الرفاه وحده، فهو شريك حزب الطريق القويم،
الأكثر تمثيلاً للاتجاه العلماني الحديث، الذي يضم في صفوفه صقور الجيش والأمن
السابقين أمثال (دوغان غوريش) رئيس الأركان السابق، و (محمد أغار) ..
وغيرهم، وهو الضمانة الأقوى للدفاع عن العلمانية والحداثة والتعالي القومي.
بالإضافة إلى ذلك: فالساحة التركية شديدة التعقيد داخليّاً وخارجيّاً.. فقد
قطّعت أسبابها مع محيطها منذ سنين عدة.. وتعلقت بأوروبا التي لم تقدرها كما
ينبغي.. فغدت مثقلة بالمشكلات والتوترات، والتضخم الاقتصادي، والحرب
الكردية التي تستنزف ثلث ميزانية البلاد، بالإضافة إلى ضرب وحدتها الوطنية.
وفي هذه الظروف الصعبة يطالب المراقبون حزب الرفاه بكشف الإنجازات
خلال هذه الفترة الوجيزة من حكمه! !
مقابلة مع الرئيس:
في مقابلة مع رئيس الوزراء البروفيسور (نجم الدين أربكان) ، بعد أيام من
تسلمه منصبه الجديد.. قال: لقد كنّا نعارض الخطط الاقتصادية الحكومية التي
تعتمد على القروض والضرائب.. وكنّا نتصور أن دولة غنية مثل تركيا لا يمكن
أن تكون منهارة اقتصاديّاً ما لم تكن هناك أيادٍ عابثة تنهب ثروات البلاد.. وعندما
أصبحنا في الحكومة واطلعنا عن كثب على الأمور: وجدناها أسوأ بكثير مما كنا
نظن، وجدناها فئة محدودة العدد من أرباب الشركات الكبرى (الهولدنغ) تسلطت
على الدولة، كل ينهب بأقصى قدرته.. ورجالات الدولة مجرد شركاء لهؤلاء في
التسلط والنهب.
الديون الداخلية تقترضها الخزينة من هؤلاء.. فيتقاضون على ديونهم ... 140 % فائدة، أي: بمعدل 37 % على حساب الدولار.
البنك المركزي يقترض أموالاً لمدة يوم أو يومين بفائدة 80%، يقترضها
أيضاً من هؤلاء.
هذه الأمور زادت التضخم ورفعت الأسعار، وأفقرت الشعب، وأفلست
الدولة.. لحساب فئة محدودة متحكمة في السياسة والاقتصاد وفي الأمة كلها..
وضبط هذا التسيب يوفر على الدولة خمسة مليارات دولار في السنة على الأقل.
رصيدنا من العملات الصعبة يبلغ حالياً (21) مليار دولار، منها (18) مليار
دولار مودعة لدى الغرب بناء على تعليمات البنك الدولي، تتقاضى تركيا عليه 1.2 %، بينما تدفع أكثر من 10% فائدة عن كل قرض تأخذه من هؤلاء.. أليس هذا أمر عجاب..؟ !
عندما نظرنا في الخزينة وجدنا للدولة (100) ألف حساب بنكي متناثر،
يعبث به العابثون.. عندما جمعنا هذه الحسابات في حساب مركزي واحد وجدناه
يعادل (15) مليار دولار.
بالتدقيق السريع وجدنا أن كميات البنزين التي تُشتري لحساب سيارات الدولة
وعددها (300) ألف سيارة تزيد ثلاث مرات عن الحاجة الحقيقة.. وضبط ذلك
يوفر على الدولة 300 مليون دولار في السنة.
وكم من المصالح الحكومية تهدر بهذه الطريقة ... ! !
أولاً: الانجازات الاقتصادية:
لقد أثبتت التجربة المرّة أن النظام العلماني الذي قام في تركيا منذ أكثر من
سبعين سنة.. لم يعد صالحاً للاستمرار.. لقد اختفت الطبقة المتوسطة، وأصبحت
غالبية السكان الساحقة من الفقراء المحرومين من لقمة عيشهم ومسكنهم وطبابتهم
وملبسهم ومدارسهم وجامعاتهم.. والأحزاب على اختلاف ميولها، ورجال الأحزاب
على اختلاف أسمائهم، ما هم إلا شركاء في الجريمة، يتنافسون ويتشاكسون
للحصول على مغانم أكبر.. كان هذا هو السبب الرئيس الذي اندفع من أجله الناس
لتأييد حزب الرفاه.. وعليه: فقد بادر الحزب منذ الأيام الأولى إلى اتخاذ سلسلة من
الإجراءات الاقتصادية لانتشال هذا الشعب بالقدر المستطاع من وهدة الفقر الذي هو
قرين الجريمة والكفر، ومن هذه الإجراءات:
رفع أجور موظفي الدولة والمتقاعدين: فقد أصدرت الحكومة قراراً برفع
أجور موظفي الدولة والمتقاعدين بنسبة 50%، واستفاد من هذا القانون حوالي ... (7.5) مليون موظف ومتقاعد، كما تم رفع رواتب الجيش والبوليس بنسبة أعلى من
هذه النسبة، أي: إن نصف الشعب التركي قد تحسنت أحوالهم المعيشية على الفور.
وفي الوقت نفسه: تمّ رفع الحد الأدنى للأجور إلى (17) مليون ليرة تركية
شهريّاً، أي: ما يعادل أكثر من 200 دولار.. بعض العمال كانوا يتقاضون أقل
من خمسين دولاراً شهريّاً.. فهل بالإمكان أن نتصور كيف كان يعيش هؤلاء في
بلاد أصبح كل شيء فيها مكلفاً ... ؟
خطة الرفاه الاقتصادية:
أعلن حزب الرفاه خطته الاقتصادية، وتشمل النقاط التالية:
-تشجيع استقدام مدخرات العاملين في الخارج.
-تسريع عملية التخصيص.
-بيع الأراضي والمؤسسات والأبنية التابعة للدولة، التي يستغلها أصحاب
النفوذ.
-جمع حسابات الدولة في حساب واحد.
-تسريع جمع الضرائب.. وخفض قيمتها لمن يدفع أسرع.
-استقطاع نسبة 6% من قيمة الواردات لتشجيع الصادرات.
-تحصيل رسوم استخراج المعادن.
-الأبنية التي بنيت بدون رخصة رسمية.. ترخص وتباع.
وهذه الخطة توفر على الدولة عشرة مليارات دولار.
وعلى الرغم من أن الصحف نالت من هذه الخطة ووصفتها بـ (الخيالية) ..
إلا إنها الأولى منذ خمسين سنة التي لم تبنَ على مزيد من الضرائب، أو مزيد من
القروض، أو مزيد من طبع الأوراق المالية.
لقد أعلن (أربكان) في مؤتمر صحفي أن (صندوق الفقراء) الذي كان يُسرق
أو يحول إلى مصروفات أخرى.. قد أعيد تشكيله.. ولن يبقى في تركيا محتاج
واحد.. وأعطى أرقام تلفونات ليتصل عليها كل محتاج ليأخذ حاجته، وختم كلامه
فقال: إن هذه الطبقة التي يتبرأ منها الجميع، نحن أصحابها.
ثانياً: الإنجازات الأمنية:
إعادة الأكراد إلى قراهم، هذه القضية من أخطر القضايا التي تعاني منها
تركيا، وإذا كانت الأحزاب تعلن في شعاراتها حلولاً للقضية الكردية، إلا أنها ظلت
مجرد شعارات للاستهلاك، بينما أوكلت هذه الأحزاب القضية للجيش، والجيش لا
يعرف غير القتال، وهكذا قتل أكثر من (30) ألفاً من أبناء تركيا (أتراكاً وأكراداً)
واستنزف ثلث الميزانية، وهجرت (2400) قرية من (20) محافظة في شرق
تركيا وجنوب شرقها، ونزح أكثر من (275) ألف كردي من أراضيهم بعد تهديم
بيوتهم والقضاء على ثرواتهم الحيوانية، أما حزب الرفاه فإنه يؤمن بالقضية إيماناً
حقيقيّاً؛ فالأكراد يمنحونه أصواتهم منذ تأسيسه، والأخوة الإسلامية التي يطرحها
الحزب حلاّ لهذه القضية هي الحل الأوحد الذي لا حل سواه.
وهذه القضية لم تعد قضية محلية، فلحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل
الجيش التركي منذ عام 1984م، ويطالب بالانفصال عن تركيا.. لهذا الحزب
علاقات مع كل الدول المعادية لتركيا مثل بلغاريا واليونان وسوريا والعراق، وربما
إيران.. ولهذا: فحل القضية الكردية لا يكفي فيه الإعلان عن إعادة الأكراد إلى
قراهم وتعويضهم.. بل لا بد من الوصول إلى حل حقيقي عن طريق التفاوض..
يحفظ لتركيا وحدتها ويعطي للأكراد هويتهم وحقوقهم، وكذلك لا بد من التصالح مع
كل دول الجوار التي تغذي الأكراد وتدربهم وتسلحهم.. ولقد حاول حزب الرفاه
القيام بكل ذلك، فلقد صرّح الكاتب الإسلامي (إسماعيل ناجار) لجريدة (صباح)
التركية أن رئيس الوزراء كلفه بالاجتماع ببعض الشخصيات الكردية المؤيدة لحزب
العمال الكردستاني لاستطلاع أيسر السبل لإيقاف هذا النزيف المستمر.
كما إن النائب عن حزب الرفاه (فتح الله أرباش) صرّح بأنه يقوم بمحاولات
مشابهة، وأن الحكومة تؤيد وجود إذاعة ومحطة تلفزيونية باللغة الكردية، وصرح
نائب رئيس حزب الطريق القويم (محمد جولهان) أن الحزب يؤيد مثل هذا التوجه
بشرط أن يُلقي المحاربون أسلحتهم.
أما تهيئة الأجواء الخارجية لحل هذه القضية: فالحزب جاد في ذلك.. فلقد
بعث وزراءه إلى دمشق وبغداد، وزار (أربكان) إيران.. وجزء رئيس من أهداف
هذه الزيارات هو نزع فتيل القضية الكردية، وقد تعهد الرئيس (رفسنجاني) بتعزيز
الأمن على الحدود بين البلدين.. الأمر الذي سينعكس إيجاباً على القضية الكردية
وعلى علاقات الجيش التركي مع الحكومة الحالية.
التمديد لقوة المطرقة لمدة 5 سنوات: وحزب الرفاه يطالب بانسحاب القوات
الغربية التي ترابط في تركيا منذ حرب الخليج بحجة مراقبة شمال العراق وتأمين
الحماية لأكراد العراق.
ولقد أعلن (أربكان) في البرلمان، يوم التجديد لهذه القوات، وسط مزايدات
أحزاب المعارضة، فقال: لقد مددتم لهذه القوات مدة خمس سنوات.. فهل تريدون
أن نسحبها في اليوم الأول لوجودنا في السلطة؟ إن هذا بعيد عن الإنصاف! !
ومع ذلك: فلم يوافق الرفاه على التمديد هذه المرة إلا بعد الموافقة على
الشروط التالية: صيانة الحدود العراقية، عدم قيام دولة كردية في شمال العراق،
توحيد الجهود ضد الإرهاب، تيسير المحادثات بين قادة أكراد شمال العراق
وحكومة بغداد، إغلاق معسكر (أرتوش) ، الإسراع في تسليم الأسلحة الأمريكية
التي دفعت تركيا ثمنها ولم تتسلمها، زيادة عدد القوات التركية في مركز (زاخو) ،
تأمين حرية التجارة بين تركيا والعراق وفتح خط النفط المغلق، تعويض تركيا عن
الأضرار التي لحقت بسبب الحصار، تقليل طلعات الطيران المنطلق من (زاخو)
إلى النصف، والعمل على نقل مركز هذه القوات من (زاخو) إلى (سيلوب) في
تركيا.
لم يقبل حزب الرفاه التجديد لهذه القوات إلا بعد أن وقّعت الدول المتحالفة
على هذه الشروط، وشروط أخرى وافق عليها البرلمان، وهي: إنهاء حالة
الطوارئ في منطقة شرق تركيا بالتدريج، وإعادة الأكراد المهجرين إلى قراهم،
وربط الموافقة على وجود قوات المطرقة بمجلس الوزراء في المستقبل.
وحسب قول ديبلوماسي غربي: أثبت (أربكان) أنه مفاوض ماهر، وأنه
يعرف قيمة ما يقدمه للغرب، وهو وجود عسكري ونفوذ سياسي في المنطقة، وهذا
لا يمكن أن يكون بلا ثمن، فهل تعتبر هذه الموافقة الاضطرارية المكبلة بالشروط
نوعاً من الإنجاز؟ !
أزمة السجون: بعد تسلم حزب الرفاه السلطة مباشرة، انفجرت أزمة كبيرة
في سجون تركيا.. حيث أعلن السجناء اليساريون في مختلف السجون إضراباً عن
الطعام، يطالبون بإغلاق سجن إسكي شهير، الذي يسمونه (التابوت) ، ونقلهم إلى
سجون أخرى، وتحسين ظروف اعتقالهم، وكانت فرصة لانقضاض الصحافة على
حزب الرفاه وعلى وزير العدل (شوكت كازان) ، وتساءل معلق صحفي مشهور هو
(محمد ألتان) ، لماذا يحدث هذا؟ ! ، إننا نرى إرهاب الدولة كل ليلة عبر شاشات
التلفزيون، نرى الشرطة تركل وتضرب، وتجر شعور بنات شابات، وإذا كانوا
يفعلون هذا أمام أعيننا فماذا يفعلون سرّاً..؟ .
وتمكن (كازان) بالتعاون مع عدد من الوسطاء من حلّ القضية والاتفاق مع
السجناء على إنهاء الاضراب، ونقل المضربين إلى المستشفيات، وتحسين ظروف
المعتقلين، وتحسين أوضاع السجون، وكان بإمكان حزب الرفاه التنصل من هذه
القضية؛ فقد ورثها عن سابقيه، إلا إنها تكشف مدى الانهيار الأخلاقي في تعامل
السلطة مع السجين، وليس الأمر في تركيا وحدها.
ثالثاً: الإنجازات الخارجية:
لا نعرف بالضبط إذا كانت القوى الحليفة التي شكلت الحكومة مع (أربكان) قد
أدركت مغزى تصريحاته، فمنذ اللحظة الأولى أصر (أربكان) على صداقة الغرب
والتعاون معه، مع الاهتمام بعلاقات تركيا مع دول الجوار والدول الإسلامية،
فالاتحاد الإسلامي إحدى الركائز الخمس التي يقوم عليها برنامج حزب الرفاه،
وسواء أأدرك هؤلاء أم لم يدركوا، فقد كان لجولة رئيس الوزراء إلى إيران
وباكستان وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا أكثر من مغزى وأكثر من تفسير، وإن
كانت زيارته لإيران أثارت العديد من التفسيرات.
لقد وقّع (نجم الدين أربكان) مع إيران عقداً تزود بموجبه إيران تركيا
بالكهرباء والنفط والغاز لمدة عشرين سنة، قيمة العقد (23) مليار دولار.
ولقد استقبلت الإدارة الأمريكية هذا الخبر بكثير من الاستياء، وصدر عن
المسؤولين الأمريكان العديد من التعليقات التي تحمل التهديد في طياتها، ولقد ردّ
(أربكان) على ذلك بطريقة غير مباشرة، وقال: (إن حقبة جديدة بدأت بين البلدين
الجارين المسلمين، وإن هذا الأمر لا يعني السياسة الأمريكية ولا أهدافها) .
إن (أربكان) لا ينظر لهذه العلاقات بالمنظار الاقتصادي البحت، وإن كان
ذلك مهمّاً للغاية بالنسبة له، ولكنه يرى في ذلك قوة سياسية واستقراراً أمنيّاً يفيد
الجميع، فإذا كانت إيران تشجع حزب العمال الكردستاني نكاية بالسياسة التركية
السابقة تجاهها، فهي معنية اليوم بالاستقرار من أجل مصالحها.
وينظر (أربكان) لهذه المسألة من زاوية أخرى: فهو يرى أن (كلينتون) عندما
يعاقب الذين يتعاملون مع إيران، وليبيا، والعراق، وغيرها.. فهو إنما يفعل ذلك
استكباراً لا حق له فيه، واستهتاراً بمصالح الشعوب الأخرى، فهل على الشعوب
بالتالي أن تستسلم لهذه الهيمنة أم تدافع عن حقوقها؟ ، ثم: هل يحق لتركيا أن
تضحي بعشرين مليار دولار قيمة خسارتها عندما تقطع علاقاتها التجارية مع
جيرانها، من أجل مصالح الغرب في المنطقة واستيعابها حسب مصالحه..؟
وإذا كان الاتحاد الأوروبي الذي هو شريك أمريكا في (البلطجة السياسية)
استنكر قانون (كلينتون) ، أفلا يحق لنا أن ندافع عن مصالحنا مثلهم؟ .
إن تحسين العلاقات بين تركيا وإيران ضرورة أمنية واقتصادية واستراتيجية، والتنسيق بينهما في آسيا الوسطى يحقق للبلدين كثيراً من الفوائد.
زيارة أربكان لبعض الدول الإسلامية: قام (أربكان) بزيارات شملت إيران
وباكستان وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، وللزيارة أسبابها الخارجية، فقد أراد أن
يقول لهذه الدول وللعالم المقولة نفسها التي ذكرها للصحفيين بعد عودته: أردنا أن
يعرف العالم أن تركيا التي أعرضت عن الدول الإسلامية ردحاً من الزمن عادت
إليهم لتتعاون وتتكامل معهم سياسيّاً واقتصاديّاً.
وللزيارة كذلك جانب اقتصادي واستراتيجي، فمن أهم مشكلات تركيا: العجز
في ميزان تجارتها الخارجية، وهذه الزيارات ستزيد من حجم صادرات تركيا لهذه
الدول، خاصة وأن دول آسيا لها موقع مهم في الاقتصاد العالمي؛ فهي تنتج حالياً
20.8 % من الإنتاج العالمي، وسيزيد هذا الرقم في سنة 2019 م إلى 50.7 %، بينما سيتناقص إنتاج أوروبا وأمريكا واليابان إلى 39.1 %، مما يؤكد أهمية العلاقات مع هذه الدول الصاعدة.
وفي إيران: اتفق على ترتيب أمن الحدود المشتركة، وتطوير التعاون
التجاري والمواصلات، وإزالة العقبات التي تحول دون تطوير الصادرات، بحيث
يرتفع حجمها إلى (2.5) مليار دولار في السنة، بدلاً من (200) مليون دولار
حالياً.
وفي باكستان: اتفق على تنفيذ بعض المشاريع المشتركة في الصناعات
العسكرية، وأن تتعاون الدول الأربع على إنتاج طائرات للنقل الجوي وطائرات
مروحية، وبعض الصناعات الإلكترونية، وصناعة الغواصات، وتطوير محركات
توماسان، وتشجيع ذلك عن طريق خفض الجمارك، واستخدام البنك الإسلامي
الآسيوي للتنمية في تمويل هذه الصفقات.
وفي سنغافورة: اتفق على تدريب الطياريين السنغافوريين على طائرات إف
16، وتشجيع الاستثمار في تركيا، وخاصة في المنطقة الحرة الواقعة على البحر
الأبيض والبحر الأسود.
وفي ماليزيا: اتفق على مشاريع في ميدان الصناعات العسكرية، كالغواصات
والدبابات والطائرات، وزيادة استثمارات ماليزيا في صناعة السيارات والمنتجات
التكنولوجية والإلكترونية، وتطوير السياحة، ورفع مستوى الصادرات من (400)
مليون دولار إلى (1.5) مليار في السنة، واستقدام أعداد كبيرة من العمالة التركية.
وفي إندونيسيا: اتفق على زيادة التعاون في ميدان صناعة الطائرات
والغواصات والإلكترونيات والدبابات والسيارات.
وهكذا حققت هذه الزيارة التي استمرت عشرة أيام زيادة في حجم التجارة
الخارجية بمقدار تسعة مليارات دولار، الأمر الذي سيسد العجز في تجارة تركيا
الخارجية.
وأخيراً:
فالإعلام الداخلي فقد توازنه أمام حيوية رئيس الوزراء (نجم الدين أربكان) ،
وانسجام حزبي السلطة، والتناغم بين الحكومة والجيش، والتعلق الشعبي بالرفاه..
والإعلام الخارجي ينقل أكاذيب الإعلام الداخلي، لكن الحقيقة لن تغيب عن
المتابعين والموضوعيين.(111/70)
المسلمون والعالم
الاعتداء على السودان..
خلفية تاريخية
بقلم: د. جلال الدين محمد صالح
في تطور مفاجئ ومريب وجد السودان نفسه أمام هجوم عسكري مباغت يقوده
المتمرد الجنوبي (جون قرنق) وحلفاؤه الشماليون من الجبهة الشرقية، وتدعمه كل
من إثيوبيا وإريتريا التي أكّد رئيسها (إسياس أفورقي) في أكثر من تصريح له دعم
حكومته لكل عمل عسكري يسعى إلى إسقاط نظام الحكم في الخرطوم، بل وأتبع
ذلك خطوات عملية تمثلت في توحيد المعارضة السودانية تحت قيادة (جون قرنق)
في (أسمرا) ، وإتاحة مجال التدريب العسكري لمجنديها، وتزويدها بكافة التسهيلات
الإعلامية والتحركات السياسية اللازمة، هذا غير ما يقوم به هو شخصيّاً في
المحافل الرسمية من اتهام السودان بتصدير الإرهاب، وإيواء المتطرفين، فماذا
وراء هذه التحالفات المشبوهة التي يرعاها (إسياس أفورقي) ويتقدم مسيرتها؟ .
للإجابة على هذا: لا بد من العودة إلى الوراء واستقراء التاريخ؛ حتى
تتضح الرؤية، وتكتمل الحلقة، وإلا فمن الصعب تحليل أحداث اليوم بمعزل عن
وقائع الأمس، ذلك أن أحداثاً كهذه لا يمكن أن تكون وليدة الساعة وليس لها جذور
تاريخية، ولا ارتباطات خارجية.
أمور لا بد من إدراكها: وما يحدث حالياً في القرن الإفريقي بعامة، وفي
السودان بخاصة لن يتم تحليله بشكل صحيح في نظري على الأقل إلا في إطار هذه
الرؤية الشمولية، ومن هنا: فإذا أردنا أن نعرف حقيقة الأحداث الماثلة أمامنا في
هذه المنطقة الحيوية من العالم لزمنا إدراك ما يلي:
أولاً: أهمية موقعها الاستراتيجي.
ثانياً: دورها الإقليمي والدولي في الصراعات العقدية، والاقتصادية.
ثالثاً: الصبغة الحضارية المتفاعلة فيها.
ولبيان ذلك: أرى ضرورة عرض شيء مما شهدته المنطقة قديماً ولو بشكل
مقتضب من صراعات ضد النفوذ، وفرض الهيمنة، فإن ذلك يعيننا على ربط
الأحداث بعضها ببعض، وفهمها على نحو متكامل.
تعود أهمية هذه المنطقة إلى أهمية وجود البحر الأحمر، حيث ميناء
(مصوع) و (عصب) في إريتريا، و (بربرة) في الصومال، و (بورتسودان) ، ... و (سواكن) في السودان، ثم ميناء (جيبوتي) ، وكلها موانئ إسلامية مربوطة ومتصلة
بميناء (جدّة) ، والسواحل اليمنية، الأمر الذي يَسّر ولوج الحضارة الإسلامية إليها
منذ وقت مبكر، وربط أهلها بمنابع الثقافة الإسلامية عبر التواصل مع منائرها
العلمية: (الحرمين الشريفين) في بلاد الحجاز، و (زبيد) في اليمن، و (الأزهر)
في مصر، حتى كان من ثمار ذلك: بروز علماء أفاضل يحملون قسطاً من هَمِّ
الرسالة الإسلامية، ك (جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي) ، صاحب كتاب
(نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية) ، و (عبد الرحمن الجبرتي) صاحب
التاريخ المشهور بـ (تاريخ الجبرتي) ، والإمام المجاهد (أحمد قران 1506 - 1543 م) الذي أرخ لفتوحاته (شهاب الدين أحمد الجيزاني) في كتاب له سماه (فتوح الحبشة) .
ولقد مات الإمام المذكور مقتولاً برصاص البرتغاليين الذين استنصر بهم الملك
الحبشي آنذاك في صراعه مع المسلمين، ومنذ ذلك الحين ارتبطت سياسات الحبشة
بسياسات الأوروبيين وأطماعهم، ففي عام 1510م كتبت (هيلينا) التي تولت حكم
الحبشة (من عام 1508 1540م) إلى (عمانويل) ملك البرتغال تقول: (السلام على
عمانويل سيد البحار، وقاهر المسلمين القساة الكفرة، تحياتي إليكم، ودعوتي لكم،
وصلتنا رسالة من قائد أسطولكم في بحر الهند؛ ليدافع عن عقيدة المسيح، ونحن
على استعداد لمنازلة أولئك الكفار بإرسال أكبر عدد من جنودنا في البحر الأحمر،
أو إلى مكة وجدّة، لنقضي قضاءً تامّاً على جرثومة الكفار) (1) .
وفي عام 1520م أبرم حكام الحبشة وثيقة عهد وتحالف مع الدول الأوروبية،
ترجمت إلى جميع اللغات الأوروبية، ونصت على توزيع مناطق النفوذ على النحو
التالي:
(يحتفظ ملك فرنسا بقوة عسكرية في (سواكن) ، ويمتلك ملك أسبانيا (زيلع) ،
ويتخذ ملك البرتغال من (مصوع) قاعدة لقواته، وأن تعمل هذه الجيوش ومعها
قوات حبشية على غزو جزيرة العرب مهد الإسلام، وطرد الأتراك المسلمين من
مصر وغيرها، وأن تمد الحبشة قوات حلفائها بما تحتاجه من رجال، وطعام،
وأموال؛ حتى يتم تحقيق هذه الأهداف) (2) .
وكشف جاسوس فارسي يدعي (نور الدين علي تبريزي) قبض عليه المماليك
في مصر أن: (نجاشي الحبشة أرسله إلى ملك الفرنجة يدعوه إلى الانضمام إليه
لسحق الإسلام، ورفع لواء المسيحية بأن يغزو مصر من ناحية البحر، في الوقت
الذي تغزوها فيه جيوش الحبشة من ناحية البر) (3) .
وكان من أهداف القادة البرتغاليين: (تحويل مياه النيل إلى البحر الأحمر
لحرمان مصر من ري أراضيها، وتخريب شبكة الري التي كانت قائمة فيها) (4) .
ولما جاء (منليك الحبشي 1865 1913م) ساند بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا
في جهودهم الرامية إلى الاستيلاء على السواحل الصومالية (5) .
وفي عهد الإمبرطور (هيلا سيلاسي) ازداد هذا التواصل صلابة حتى إن
عضو الكونجرس الأمريكي (هنري س. ريوس) قال: (كان الجيران المسلمون هم
الأعداء التقليديون للملكة الإثيوبية، ومنذ القرن الخامس والأباطرة الإثيوبيون
يتمسكون بالمذهب النصراني القبطي، وكانوا في حروبهم الواحدة تلو الأخرى
يدافعون عن الإمبراطورية ضد الغزاة المسلمين المحتلين، وقد كان معظم القتال
يدور بالقرب من الساحل الشمالي فيما يسمى اليوم إريتريا) (6) .
حقائق على ضوء التاريخ:
من خلال هذا العرض التاريخي يمكن أن نصل إلى تقرير ما يلي:
أولاً: أن هذه المنطقة هدف مقصود من الغرب لتقويض الوجود الإسلامي
ومحاصرة نفوذه، وأن صراعهم مع المسلمين فيها قديم، قدم اكتشاف أهميتها
عندهم.
ثانياً: أن الهيمنة عليها من الطرف المعادي يشكل تهديداً أمنيّاً، واقتصاديّاً
لمن حولها من الدول الإسلامية، ويعدّ أيسر الطرق إلى إخضاعها لسياسات معينة.
ثالثاً: أن تحقيق ذلك لا يتم إلا من خلال ربط الحكام المتعاقبين على الحبشة
بمشاريع الحضارة الغربية، ومن هنا: كان عزل الكنيسة الحبشية بإيعاز من
بريطانيا الملك (ليج إياسو 1913 1917م) الذي أعلن إسلامه (7) ، وتنصيب
(زوديتو (ابنة (منليك) مكانه، وهي التي ورث عنها العرش الإمبراطور (هيلا
سيلاسي) الذي استمر حتى عام 1974م، وهو العام الذي تحولت فيه إثيوبيا إلى
نظام ماركسي متحالف مع الكتلة الاشتراكية تحت زعامة ما كان يعرف بـ (الاتحاد
السوفياتي) سابقاً، ثم لم تلبث أن عادت إلى سيرتها الأولى بعد انتصار ثورة
(التجراي) بقيادة (ميلس زيناوي) ، و (إسياس أفورقي) على نظام (منجستو هيلا
ماريام) بتأييد من الغرب الرأسمالي.
فمن هو (ميلس زيناوي) ، ومن هو (إسياس أفورقي) ، وما العلاقة بينهما؟ .
(ميلس زيناوي) : هو زعيم الجبهة الشعبية لتحرير (التجراي) ، ينحدر من
قبيلة (التجراي) المجاورة لإريتريا شمالاً، التي منها الملك (يوحنا الرابع) (8)
1872 1889م، قتيل الحركة المهدية [*] في معركة (المتى) على الحدود
السودانية الإثيوبية، ترأّس (ميلس زيناوي) التحالف الذي أسقط (منجستو هيلا
ماريام) وخلفه في حكم الحبشة.
إمّا (إسياس أفورقي) : فهو حاكم إريتريا الحالي، التحق بالثورة الإريترية في
الستينيات بعد أن قطع دراسته الجامعية في (أديس أبابا) ، وابتعثته الثورة الإريترية
إلى (بكّين) ليعود بعد ذلك ويساهم في تأسيس حزب ماركسي (9) يمتطيه إلى
غاياته، كتب وثيقته (نحن وأهدافنا) منذ فجر التحاقه بالثورة، أبرز فيها نزعته
الشعوبية المعادية (للعرب) و (الإسلام) ، وقد تمكّن من أن ينفرد بقيادة (الجبهة
الشعبية لتحرير إريتريا) ويوجهها نحو أهدافه.
والعلاقة بينه وبين حليفه (ميلس زيناوي) تتمثل فيما يلي:
أولاً: أنهما يشتركان في اللغة، والعادات، والدين، والانتماء القومي،
ويتجاوران في الموقع الجغرافي.
ثانياً: يجمع بينهما حلف سياسي مدعوم من الغرب وإسرائيل، وضعا نواته
الأولى وهما في الأدغال، ويقوم على توطيد حكم الأقلية (التجرانية) في إثيوبيا،
وإريتريا.
ثالثاً: يرتبطان بإسرائيل تمام الارتباط، وينسقان معها في رسم سياساتهما،
التي محورها معاداة الوجود (العربي) و (الإسلامي) في المنطقة.
كان من آثار تحالفهما: الانقضاض المبكر على جبهة تحرير إريتريا (10)
عام 1981م وإجلاؤها إلى السودان؛ باعتبارها تمثل الوجه العربي، وتنتمي إلى
جذور إسلامية، والآن يعملان بعد وصولهما إلى السلطة بدعم من القوى الصليبية
والصهيونية للحيلولة دون نهضة المشروع الإسلامي في المنطقة، سواء أكان في
السودان أو غيره، ويحاولان إعادة تشكيل السودان على النحو الذي يتفق مع
أهدافهما ومخططات حلفائهما، إدراكاً منهما لدور السودان، المتميز في نشر الثقافة
الإسلامية ولغتها العربية في إفريقيا الشرقية، وحيث إن (جون قرنق) هو العدو
التقليدي للوجود العربي والإسلامي في السودان؛ فإنه أنسب من يحمل هذا المشروع
بحماس وإخلاص؛ ومن هنا: جرى تنصيبه قائداً عسكريّاً يقود الهجوم حالياً على
السودان، وانتصاره يعني بالنسبة لهما تأمين خلفيتهما بالقضاء على مشروع
حضاري منافس ومغاير لمشروعهما، ويحكم من قبضتهما على من تحتهما من
الشعوب الإسلامية، ويجعل من الثلاثة غصة في حلقوم الدول الإسلامية المجاورة،
ويكون لهم أيضاً وزنهم في ترتيب الوضع الأمني، والاقتصادي للمنطقة.
أما الزعيمان الشماليان: (الصادق المهدي، ومحمد عثمان الميرغني) ، فإنهما
على الرغم مما يعرفانه عن (جون قرنق) وحقده عليهما، وخروجه على نظامهما:
فقد رضيا الانضواء تحت لوائه، ومعلوم أن تحالف (جون قرنق) معهما ينتهي
بانتهاء غاياته، فهو تحالف مرحلي، والعجيب أن (إسياس أفورقي) حامي هذا
التحالف وراعيه، الذي لجأ إليه الصادق المهدي وصف حكومة الأخير بعدم الأهلية
للمساهمة في حل المسألة الإريترية عندما سئل عما يمكن أن يقوم به السودان في
ظل حكومة (الصادق) إزاء حل القضية الإريترية، بل وبكل تحدٍّ ودون إشعار
حكومة الصادق تجرأ (إسياس أفورقي) على عقد اجتماع مع الرئيس الأمريكي
الأسبق (جيمي كارتر) لمدة ساعة على متن طائرته في مطار الخرطوم حول
تطورات القضية الإريترية عام 1989م، وكان هذا اللقاء أول خطوة في الطريق
إلى (أتلانتا) التي شهدت تحت رعاية (جيمي كارتر) اجتماع وفد القيادة الإثيوبية
والإريترية، هذا اللقاء الذي تمخض عنه إدانة (منجستو) وتحميله فشل كل المساعي
السلمية، وإضفاء وسام (الوطنية) (11) على جبهة (إسياس أفورقي) الذي توج
أخيراً حاكماً على إريتريا بعد لقاء لندن الذي ضمه مع (ميلس زيناوي) و (هيرمان
كوهين) رئيس دائرة القرن الإفريقي وقتها في وزارة الخارجية الأمريكية، وتعاقد
فيه الثلاثة على المضي قدماً ضمن استراتيجية التحالف التي كان منها استيلاء
القوات الإريترية على جزيرة (حنيش الكبرى) ، وتهديد أمن اليمن بأسلوب، قد
يكون من بين أهدافه وضع فخ قصد به اصطياد اليمن بإقحامه في حرب منهكة
ومهلكة، فضلاً عن الهيمنة على الجزيرة.
الخطر يهدد مصر أيضاً: وليست (مصر) أيضاً بمنجاة عن أهداف هذا
التحالف، بل هي في أولويات أهدافه، ولكن من خلال بعثرة أمن السودان
وإسقاطه في وحل الصراعات العسكرية، حتى يؤول على الأقل إلى ما آل إليه
الصومال، وهذا في حد ذاته مكسب للأهداف الصهيونية، وإضعاف لمصر من
خلال تطويقها باضطرابات أمنية، أو أنظمة حكم مناقضة لهمومها الثقافية
والسياسية، والاقتصادية، ووقتها ستجد (مصر) نفسها مهددة في ثروتها المائية
النابعة من النيل، والتي بدأت إسرائيل من الآن بالتعاون مع إثيوبيا في بناء سدود
حولها من أجل تصريفها إلى منافع مشتركة بينهما، وقد أبدت مصر فعلاً قلقها
وقدمت احتجاجها، واستفسارها عن هذا النشاط.
بل إن تحييد (الصومال) بإغراقه في مشكلاته لا يبعد عن أهداف هذا التحالف، إذ نرى النظام الإثيوبي يستبيح بيضته، وينتهك حرمته لضرب ما أسماه
بالعناصر الإرهابية المتطرفة، ونرى (إسياس أفورقي) يؤيد هذا الانتهاك ويباركه،
وفوق ذلك: يرتب لقاءً بين السفير الإسرائيلي بأسمرا (أريل كريم) ونائب رئيس
ووزير خارجية ما عرف (بجمهورية أرض الصومال) ، وقد نصح السفير الوفد
بتحرير خطاب إلى (إسحاق رابين) رئيس الوزراء في حينه، وقد حرر الخطاب
فعلاً إلى (رابين) في 3 يوليو 1995م، موقعاً من (محمد إبراهيم عجال) الرئيس
المنصّب لهذه الدولة المزعومة، وتَضَمّن تخويف (إسرائيل) من خطر (التأثير
الإسلامي الذي يهدد المنطقة بأكملها) على حد تعبيره، وتعهد بأن يجعل من
جمهورية أرض الصومال (حصناً ضد انتشار الأصولية الإسلامية) .. كل ذلك بعد
أن بين أن هذا الخطاب حرر بناءً على نصيحة السفير (أريل كريم) سفير إسرائيل
لدى إريتريا (12) .
هذه هي خلفيات الهجمة العسكرية على السودان، فهل سنبكيه كما بكينا الأندلس من قبل؟ ، وهل نحن أيقاظ أم نيام؟
__________
(1) د رجب محمد عبد الحليم: العلاقات السياسية بين مسلمي الزيلع ونصارى الحبشة في العصور الوسطى، ص113.
(2) المصدر السابق، ص 116.
(3) غسان محمد رحال: صراع المسلمين مع البرتغال في البحر الأحمر، ص 79.
(4) المصدر السابق، ص 99.
(5) غسان محمد رحال: صراع المسلمين مع البرتغال في البحر الأحمر، ص150.
(6) وثيقة الكونجرس عن محضر جلسة الكونجرس الأمريكي في 19 يوليو 1986م، ص 29 نقلاً عن رسالة الأخ بيان صالح: (الدعوة الإسلامية في إريتريا ما بين 1370 1410هـ، 1950 1990م) ، ص 66 67.
(7) (ليج إياسو) هو في الأصل ابن السلطان (محمد علي) أحد سلاطين مسلمي الحبشة الذين تغلب عليهم (منليك) ، وأُجْبِر على التنصر، وزوج بابنة الملك (منليك) ، وأنجب منها (ليج إياسو) ، وحيث إن (منليك) لم يخلف ذكراً يرثه، رأى أن يكون حفيده وريثه، ولكن بعد أن أسلم خُلع وأودع السجن، ومات فيه مقتولاً على يد الإمبراطور (هيلا سيلاسي) وقت خروجه من إثيوبيا إلى السودان بعد انتصار الإيطاليين ودخولهم الحبشة، وقد عزل (رحمه الله) في 27/9/1917م، دون تاريخ حياته بأسلوب قصصي رائع الأديب الإسلامي (نجيب الكيلاني) (رحمه الله) في رواية (الظل الأسود) .
(8) قال الجنرال الإنجليزي (جوردن) الذي قُتل في الخرطوم: (إن يوحنا ويا للعجب يشبهني تعصباً للدين، وإن له رسالة سينجزها، ألا وهي تنصير المسلمين جميعاً) عباس العقاد، الإسلام في القرن العشرين حاضره ومستقبله، ص72.
(9) صرح (إسياس) أن حزبه الماركسي تأسس عام 1966م، الحياة/7/10/ 1414هـ، 19/3/1994م.
(*) انطر الفرق بين سلفهم وخلفهم.
(10) تعتبر جبهة تحرير إريتريا امتداداً لنشاط حزب الرابطة الإسلامية الذي تأسس في الخمسينيات، التي بدأت عام1961م بقيادة (حامد إروس عواتي) ، إلا إنها وقعت تحت حزب العمل الشيوعي حتى دخولها السودان، وسبب تصفيتها يعود إلى الخشية من عودتها إلى أصالتها.
(11) كان ذلك في ندوة عقدها الأمريكان عقب سقوط (مصوع) ، ونشرت وقائعها جريدة الحياة، 9/3/1990م.
(12) تسعي إسرائيل وفق استراتيجية مرسومة إلى السيطرة الكاملة على البحر الأحمر، يقول (منصور خالد) وزير خارجية السودان الأسبق، والمستشار الخاص لـ (قرنق) حالياً: (إن إسرائيل كعدو لا تستطيع استخدام البحر الأحمر سلميّاً، وتلك حقيقة لا بد أن يضعها العرب في الاعتبار) (د عبد الله عبد المحسن: البحر الأحمر والصراع العربي الإسرائيلي، ص138) ، ورغم ذلك ينساق المستشار إياه وراء ذلك المخطط الآن.(111/80)
المسلمون والعالم
جماعة الأحباش..
حقيقتهم واتجاهاتهم
(2 من 2)
بقلم: عبد الرحمن بن عبد الله الحجاج
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن نشأة جماعة الأحباش مفصلاً القول عن
مؤسسها، الذي وفد من الحبشة إلى دمشق ثم بيروت، وأردف بالحديث عن الانحرافات العقدية عند تلك الجماعة المباينة لأهل السنة، وذلك في مسائل ثلاث مهمة: عقيدتهم في صفات الله، وتوحيده، وعقيدتهم في رسول الله وسنته، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة عرض بقية الموضوع.
- البيان -
4- أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح والأئمة والعلماء:
عقيدة الأحباش في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها شبه كبير
من عقيدة الرافضة، فهم يقولون بلا خجل ما يقتضي الطعن في أم المؤمنين عائشة
(رضي الله عنها) [1] ، ويفسقون صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وكاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) [2] ، بل إنهم يقولون عن ... كل من اشترك من الصحابة ضد علي (رضي الله عنه) : إنه من الدعاة إلى ... النار [3] [*] ، بل قد بلغت جرأة شيخهم وكأنه دخل في قلب معاوية (رضي الله عنه) فعرف ما لا يمكن أن يعرفه إلا الله (جل وعلا) أن يقول: (ثم ليُعلم أن معاوية كان قصده من هذا القتال: الدنيا، فلقد كان به الطمع في الملك وفرط الغرام في الرئاسة) [4] .
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تسبوا أصحابي،
فلو أن أحدكم أنفق مثل أحُد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) [5] ، وقال الله
(تعالى) : [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا
بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] ... [الحشر: 10] .
وقد شابه الأحباش الخوارج في مسائل التكفير، فقد كفّروا كثيراً من علماء
المسلمين وأئمتهم ودعاتهم، فهم يطعنون في الإمام الذهبي، ويكفرون ابن خزيمة،
ويسمون كتابه (التوحيد) كتاب الشرك، كما يُكفرون ابن القيم وابن كثير (رحمهما
الله) ، أما شيخ الإسلام ابن تيمية وإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب فتكفيرهما على
لسان كل حبشي صباح مساء، ولم يسلم أعلام الأمة المعاصرون من تكفير الأحباش، وفي مقدمتهم: المشايخ: الألباني وابن باز وابن عثيمين وسيد سابق.. وغيرهم
من العلماء والدعاة والمفكرين.
والأحباش يفترون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والسلف
الصالح، وهم يستغلون جهل أتباعهم لتمرير تلك المفتريات، ومن أمثلة ذلك: قول
شيخهم: (إن مذهب الأشاعرة والماتريدية هو مذهب رسول الله والصحابة والسلف
الصالح) [6] ، أما افتراؤهم على الأئمة والعلماء فحدث ولا حرج، وخاصة على
شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) الذي افترى عليه شيخهم، حيث ادعى أنه قال:
(إن من خالف في مسألة الطلاق فهو كافر) [7] ، ولكن ابن تيمية يقول: (إن من
خالف في مسألة الطلاق فهو مجتهد معذور مأجور عند الله) [8] .. وأمثال هذه
الأكاذيب كثيرة جدّاً في كتب شيخهم، سواء على شيخ الإسلام أو غيره من علماء
أهل السنة والجماعة.
رابعاً: فتاواهم العجيبة:
لم يكتف الأحباش بالفساد في العقيدة، بل تعدوا ذلك إلى الفساد في السلوك.
وللأحباش فقه عجيب يدعو إلى التبرج والفجور والمجون.
فهم يقللون من شأن المعاصي، مثل لمس المرأة الأجنبية، بل ومفاخذتها!
فيجيزونه بحجة أن ذلك من الصغائر [9] ، وذلك لترويج مذهبهم بين الشباب
المراهق المنحل وأصحاب النفوس المريضة، ويفتي الأحباش بجواز الاختلاط بين
الرجال والنساء [10] ، بل يجيزون للمرأة أن تخرج من بيتها متعطرة متزينة، إذا
لم تُرِدْ فتنة الرجال [11] ! ! ويستدل شيخهم على ذلك بحديث: (أيما امرأة
استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) [12] ، حيث قال
شيخهم: (فقوله: (ليجدوا ريحها) بيان منه أنه لا يحرم على المرأة خروجها متطيبة
إلا إذا كان قصدها ذلك) [13] ، ولو كان عند هذا الرجل مثقال ذرة من فقه لَعَلِم أن
اللام في الحديث ليست للتعليل، بل للصيرورة والعاقبة، كما في قوله (تعالى) : ... [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُواً وَحَزَناً] [القصص: 8] ، أي: ليكون عاقبة
أمره أو ليصير لهم عدوّاً وحزناً، فهم لم يلتقطوه من أجل أن يكون لهم عدوّاً وحزناً، فهذا لا يقول به عاقل، بل التقطوه ليكون قرة عين لامرأة فرعون، فمعنى
الحديث: أن أي امرأة استعطرت ثم خرجت ستكون نتيجة ذلك أن يجد الناس
ريحها، وهذا التأويل الذي قاله الحبشي إذا لم يدل على الجهل المطبق، فإنه يدل
على تعمد إفساد نساء المسلمين؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في الترهيب من
خروج المرأة كثيرة معلومة، كقوله: (أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد لم
تقبل لها صلاة حتى تغتسل) [14] ، وقوله: (أيما امرأة أصابت بخوراً، فلا تشهد
معنا العشاء الآخرة) [15] .
ونساء الأحباش في ظل هذا الفقه الأعوج يلبسن الثياب الشفافة الضيقة التي
يرى باطن الجسم من ظاهرها، بزعم أن الواجب هو ستر البشرة، كما أفتى لهم
مشايخهم [16] ، وعندما سئل أحد شيوخهم: إن كثيراً من نساء الأحباش يمشين
بين الرجال الأجانب بالبنطلون الضيق جدّاً (الّجينز) ! ، قال: (إننا نجمع بين
الموضة والسترة) [17] .
هذا ما يقوله الأحباش، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (صنفان
من أهل النار لم أرهما) ، وذكر: (نساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات،
رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها
ليوجد من مسيرة كذا وكذا) [18] . ولعلنا نختم هذه الإلماحة بفتوى إباحية عجيبة
لشيخهم، حيث يقول: (إن مجامعة الخنثى في نهار رمضان لا تفطر، إذا جومع
في آلته الزائدة) [19] ! ! ! و (إنا لله وإنا إليه راجعون) .
خامساً: الفقه الشاذ عند الأحباش:
للأحباش فقه شاذ لم يسبقهم إليه أحد، ونذكر هنا أمثلة على هذا الشذوذ الفقهي:
1-إسقاط الزكاة في العملة الورقية، وإيجابها في الذهب والفضة فقط، حيث
يقول شيخهم: (لا زكاة في الأثمان غير الذهب والفضة، لأن النبي -صلى الله
عليه وسلم- لم يذكر زكاة غيرهما) [20] .
2- فتوى: أن الأم إذا لمست بول طفلها أثناء تنظيفه، فإن ذلك يعتبر كبيرة
اقترفتها! ! [21] .
3- اتباع الحيل لترك الواجبات، مثل أكل الثوم والبصل لترك صلاة
الجماعة.. وغيرها من الحيل [22] .
4- التناقض العجيب في الفتوى، حيث تجوز عند الحبشي الصلاة متلبساً
بالنجاسة، حتى لو كانت من بول الكلب أو غيرها من النجاسات [23] ، ... وفي المقابل، وفي الكتاب نفسه يقول: (أما قشرة البرغوث أو القملة أو البقة ... أو نحوها فنجسة غير معفوٍّ عنها، فلو صلى بشيء من ذلك فصلاته باطلة، علم به ... أو لا! ! !) [24] .
5- تتبعهم لشذوذات المذاهب وسقطاتها، ومنها:
إجازة الزنا بنساء أهل الكتاب (نكاية) في دينهم [25] .
إباحة أخذ الربا من الكفار؛ حيث يزعمون أنه يجوز أخذ مال الكفار في دار
الحرب عن طريق الربا [26] .
سادساً: المؤسسات والأنشطة:
للأحباش عدد كبير من المؤسسات والأنشطة، وذلك لبث أفكارهم وانحرافاتهم
الخطيرة.
1- الجمعية:
للأحباش جمعية خاصة بهم تسمى (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية) ،
تأسست عام 1983م [27] ، ومركزها: بيروت، ولها فروع في كافة المحافظات
اللبنانية، وكذلك لها فروع في عدد من دول العالم، كالأردن، وأستراليا، والسويد
، وفرنسا، وأمريكا، وبريطانيا، وبلجيكا، وألمانيا، وروسيا، وتايوان..
وغيرها، ويبلغ عدد هذه الفروع ثلاثة وثلاثين فرعاً، وهي جمعية مشبوهة،
هدفها المعلن: التعليم الديني، وبناء المساجد والمدارس، ومساعدة الفقراء والأيتام
.. وغير ذلك من أعمال البر، بينما هي تروج للمبادئ المنحرفة لهذه الجماعة.
2- المدارس:
قام الأحباش ببناء مدارس خاصة بهم لجميع المراحل الدراسية، وهم يقيمون
في هذه المدارس دورات صيفية دينية، بالإضافة إلى التعليم الشتوي، وذلك لكي
ينشروا عقيدتهم بين أبناء المسلمين، ويوجد في هذه المدارس مئات الطلاب
والطالبات في شتى المراحل، ومن أمثلة هذه المدارس: (مدارس الثقافة) في كلٍّ
من بيروت، وطرابلس، وبعلبك.
3- الإعلام:
كان للأحباش إذاعة محلية خاصة بهم، تبث من بيروت، وينشر من خلالها
غثاؤهم وإباحيتهم، ولهم أيضاً مجلة شهرية باسم (منار الهدى) تقوم بنشر مذهبهم،
والطعن في أئمة المسلمين وعلمائهم، كما تقوم بعض المجلات والجرائد المحلية
والدولية بلقاءات ومقابلات وتحقيقات مطولة مع أقطابهم، الهدف منها: الدعاية لهم، والترويج لهم، والثناء عليهم، كما فعلت جرائد السفير، والنهار، والأنوار،
والمسيرة اللبنانية، وكذلك مجلة الوطن العربي، ومجلة الأسبوع العربي.. وغيرها
من المجلات والجرائد.
أيضاً للأحباش نشاط كبير في التلفزيون اللبناني وغيره من القنوات الخاصة
بلبنان، حيث تعرض اللقاءات والدروس، ويعمل الأحباش الآن على تشغيل محطة
تلفزيونية خاصة بهم.
وللكتب والأشرطة والنشرات دور بارز في ترويج مبادئ هذه الجماعة،
ونشر معتقداتهم، وذلك من خلال مؤسستهم المسماة: (مركز الأبحاث والخدمات
الثقافية) في بيروت، كما تصدر جمعيتهم تقويماً خاصّاً بهم، يحوي كثيراً من
السموم المختلفة في العقيدة والسلوك والفقه وغيرها.
4- الغناء والطرب والأندية:
لدى الأحباش في لبنان عشرون فرقة للغناء والأناشيد الدينية كما يزعمون،
وتقوم أناشيدهم الدينية على ترسيخ عقائدهم المنحرفة، مثل نفي العلو لله (تعالى) ،
حيث ينشدون: (الله ليس في السماء، وليس له مكان) ! ، وكذلك تبث هذه الأناشيد
الشرك بالله، حيث يحرصون على نشر أشعار المتصوفة، كالبوصيري، وابن
الفارض.. وغيرهما.
ويهتم الأحباش كثيراً بالألعاب الرياضية المختلفة من كرة قدم وسلة وكاراتيه.. وغير ذلك؛ لجذب الشباب والشابات والتودد إليهم وتعليمهم عقيدتهم الفاسدة، بل
وتحذيرهم من أهل التوحيد، وأشهر أنديتهم: (نادي الفوز الرياضي) بطرابلس،
وكذلك: (مجمع ناجي الرياضي) بطرابلس أيضاً، وهي أندية مختلطة للرجال
والنساء، ويركز الأحباش على النساء خاصة، وهذا دأب أعداء الإسلام دائماً!
لأن تأثير المرأة عظيم جدّاً في المجتمع، فإذا فسدت: ربت الأجيال على الفساد،
وإذا صلحت: تخرج على يديها الأخيار والصالحون والأبطال.
وأخيراً:
لقد تبين من خلال هذا العرض المختصر لبعض ضلالات الأحباش، ما هم
عليه من انحراف في العقيدة والسلوك، واتباع للأهواء، وتلاعب بكتاب الله وسنة
نبيه.
والأحباش على سذاجة دعوتهم وقلة علمهم ينتشرون بسرعة عجيبة، وقد
يكون سبب ذلك: ما لديهم من إمكانات مادية، واختيارات واسعة، يأخذ منها كل
صاحب هوى ما يوافق هواه، وأيضاً ما تعلنه هذه الطائفة من الولاء المطلق
للحكومات الحاكمة بغير ما أنزل الله.
ولعل التحذير من هذه الطائفة يأخذ حجمه الحقيقي بين العلماء وخطباء
المساجد وأجهزة الإعلام، لما يمثله هذا المذهب من خطر على العقيدة والأخلاق،
وما يثيره من خصومات وجدل في المساجد، وتكفير للمسلمين، وإثارة للفرقة،
وبث للفتنة.
وهم يعدون العدة الآن لنشر مذهبهم في بلاد الإسلام بين أهل السنة والجماعة، بل في الجزيرة العربية، نسأل الله (تعالى) أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه
أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن
المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) عبد الله الهرري الحبشي، صريح البيان، ص 198.
(2) المصدر السابق، ص 211.
(3) المصدر السابق، ص 211.
(*) الموقف الصحيح من الخلاف بين الصحابة (رضي الله عنهم) هو الإمساك عما شجر بينهم؛ لقوله: (إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا) ، والحديث أخرجه الطبراني في الكبير، 2/78، ولمزيد البيان، انظر: (العواصم من القواصم) لابن العربي، وكذلك: (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة) ، د/محمد أمحزون، و (اعتقاد أهل السنة في الصحابة) ، د/ محمد الوهيبي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
(4) المصدر نفسه، ص 220.
(5) رواه البخاري في كتاب المناقب، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، وأبو داود في كتاب السنة، والترمذي في المناقب، وابن ماجة في المقدمة، والإمام أحمد في باقي مسند المكثيرين.
(6) لقاء مع عبد الله الهرري الحبشي في مسجد الصديق بطرابلس في لبنان، ربيع الأول 1413هـ.
(7) عبد الله الهرري الحبشي، المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية، ص 191.
(8) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 33/149.
(9) عبد الله الهرري الحبشي، صريح البيان، ص 269 272.
(10) المصدر السابق، ص 330.
(11) عبد الله الهرري الحبشي، بغية الطالب، ص 447.
(12) حديث صحيح، رواه أبو داود في كتاب الترجل، وأحمد في مسند الكوفيين، والنسائي في كتاب الزينة، والدارمي في كتاب الاستئذان، كما رواه الترمذي في كتاب الأدب بدون لفظة (ليجدوا ريحها) .
(13) عبد الله الهرري الحبشي، بغية الطالب، ص 269، وصريح البيان، ص 342.
(14) رواه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، وابن ماجة في كتاب الفتن، واللفظ له.
(15) رواه مسلم في كتاب الصلاة، وأبو داود في كتاب الترجل، والنسائي في الزينة، والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين.
(16) عبد الله الهرري الحبشي، بغية الطالب، ص 137.
(17) لقاء مع نزار الحلبي في جريدة (المسلمون) ، العدد 407.
(18) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة، والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين.
(19) عبد الله الهرري الحبشي، بغية الطالب، ص 243.
(20) عبد الله الهرري الحبشي، بغية الطالب، ص 266.
(21) عبد الرحمن دمشقية، شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة، ص 374.
(22) المصدر السابق، ص 388 389.
(23) عبد الله الهرري الحبشي، بغية الطالب، ص 132.
(24) المصدر السابق، ص 119.
(25) عبد الرحمن دمشقية، شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة، ص 412.
(26) عبد الله الهرري الحبشي، صريح البيان، ص 266.
(27) مجلة (المجلة) ، العدد 679 10 16/2/1993م.(111/88)
متابعات
عفواً ... يا فضيلة المفتي
الحق خلاف ما ذكرت
بقلم: محمد شاكر الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم..
أما بعد.
فقد اطلعت في عدد جريدة الحياة رقم (12325) المنشور بتاريخ 12/7/
1417هـ، على حديث لمفتي مصر الجديد فضيلة الشيخ (نصر واصل) أجرته
معه الجريدة، ورغم ما لي من تحفظات على بعض ما جاء في حديثه السالف، فإن
من كلامه الذي استوقفني أكثر من غيره موضوعين:
الأول: حديثه عن المرتد المدعو (نصر أبو زيد) .
الثاني: حديثه عن إلزام فتوى المفتي للجميع.
لكن الذي أود مناقشته في هذه المقالة هو ما جاء من كلامه في الموضوع
الثاني، إذ إنني أرى أن الموضوع الأول يظهر فيه وجه الحق لكل من تابع بفهم
قضية المذكور، واطلع على بعضٍ من أقواله، وحيثيات الحكم الصادر بحقه، لذا: فإنه لا حاجة لي هنا في الحديث عنه، بل أعود إلى الموضوع الثاني الذي قد
يلتبس أو تخفى حقيقته على كثير من الناس.
ولنبدأ بذكر أقوال فضيلته في الموضوع المشار إليه حسبما جاء في الجريدة،
ثم نتبع ذلك بالمناقشة:
يقول عفا الله عنا وعنه ردّاً على سؤال الجريدة: (كيف ترى إصلاح الخلاف
القديم بين الأزهر ودار الإفتاء؟) ، يقول: (كانت هناك مشكلة في شأن من له حق
الولاية الشرعية على الفتوى في مصر، وأقول: إن هذه الولاية هي للمفتي وحده
دون منازع، وفتواه ملزمة، وإن أخطأ فهو مسؤول أمام الله (سبحانه وتعالى) ،
والعلاقة بين المفتي وشيخ الأزهر متصلة ومتشابكة إلا إن هناك اختصاصاً لكل
منهما، وشيخ الأزهر على قمة المؤسسة العلمية الأزهرية، ومن وظائفها: البحث
والاجتهاد، لكنها لا تصدر فتاوى، فهذه يصدرها المفتي؛ لأنه صاحب الحكم
الشرعي والولاية الرسمية على الفتوى) .
ويقول المفتي ردّاً على سؤال الجريدة: (لكن.. ألا ترون أن مثل هذا
الخلاف الذي يمس أموراً حياتية مثل: فوائد المصارف يثير بلبلة لدى الناس؟) .
يقول: (الفتوى الرسمية قالت: إن الفوائد حلال؛ لأنها مقبولة من الطرفين،
أما الرأي الآخر، فكان اجتهاداً، وتحويله إلى فتوى رغم وجود فتوى رسمية هو
الذي خلق تلك البلبلة، والرأي الملزم هو ما قال المفتي، ونحن متمسكون بهذه
الفتوى، وأؤكد أن كل فتوى صدرت عن دار الإفتاء ملزمة للجميع) انتهى المقصود
منه.
وأبادر إلى القول بأنه ليس من مقصودنا ولا يجوز لأحد أن يظن أننا في هذه
المناقشة نريد الانتصار لشخص من الأشخاص، إذ المقصود إن شاء الله هو
الانتصار للدين، وقد حان الآن وقت الشروع في مناقشة تلك الأقوال:
أولاً: إن فتوى المفتي هي إخبار عن أو بيان لحكم الشرع في القضية
المعروضة [1] ، والمفتي في حديثنا هنا هو: من تأهل لهذا المنصب واستحقه
بضوابطه المعروفة، ولسنا نتحدث عن الأدعياء، فهؤلاء خارجون عن حديثنا،
فنقول: لم يَقُمْ الدليل الشرعي على عصمة المفتي فيما يبلغه للناس أو يبينه من
أحكام الشرع، كما لم يقم الدليل الشرعي على وجوب التزام جميع المسلمين لما
يفتي به، إذ طبيعة عمل المفتي لا تقتضي ذلك الإلزام ولا توجبه.
يقول القرافي: (المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها، ويخبر الخلائق
بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص، إن كان المفتي مجتهداً) [2] ، ثم يبين
أن فتواه ليست ملزمة للجميع، ويجوز الفتوى بخلافها حتى وإن كان المفتي هو
الإمام الأعظم، فيقول: (النوع السادس: من تصرفات الحكام: الفتاوى في الأحكام
في العبادات وغيرها من تحريم الأبضاع، وإباحة الانتفاعة! ، وطهارة المياه،
ونجاسة الأعيان، ووجوب الجهاد، وغيره من الواجبات، وليس ذلك بحكم، بل
لمن لا يعتقد ذلك أن يفتي بخلاف ما أفتى به الحاكم أو الإمام الأعظم) [3] .
وفي هذا المعنى أيضاً يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية) : (وما يجوز أن يحكم
به الحاكم، يجوز أن يفتي به المفتي بالإجماع، بل الفتيا أيسر، فإن الحاكم يُلزِم،
والمفتي لا يُلزم) [4] .
ويقول الشاطبي: (المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا إنه لا
يُلزمه المفتي ما أفتاه به) [5] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في بيان ذلك: (قد ثبت بالكتاب
والسنة والإجماع أن الله (سبحانه وتعالى) فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم-، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما
يأمر به وينهى عنه إلا رسول -صلى الله عليه وسلم-، حتى كان صدِّيق الأمة
وأفضلها بعد نبيه يقول: (أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي
عليكم) [6] [7] .
من كل ما تقدم وغيره يتبين أن قول القائل: إن كل فتوى صدرت عن دار
الإفتاء، أو عن المفتي، أو عن فلان، هى فتوى ملزمة للجميع.. هو قول بيِّن
الخطأ.
ثانياً: أن المسلم لا يلزمه أن يقتصر في طلب الفتوى على مفتٍ واحد، بل له
أن يستفتي فيما ينزل به أكثر من مفتٍ ممن يثق في علمهم ودينهم و (اعتقد أنه يفتيه
بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان) [8] وإذا اختلفت فتوى المفتين عليه، أخذ
من تلك الفتاوى ما ترجح لديه منها بحسب قدرته.
يقول ابن تيمية في بيان ذلك: (وأما تقليد المستفتي للمفتي، فالذي عليه الأئمة
الأربعة، وسائر أئمة العلم: أنه ليس على أحد ولا شُرع له التزام قول شخص
معين في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن
منهم من يقول: على المستفتي أن يقلد الأعلم الأورع ممن يمكن استفتاؤه، ومنهم
من يقول: بل يخير بين المفتين، [و] إذا كان له نوع تمييز فقد قيل: يتبع أي
القولين أرجح عنده بحسب تمييزه، فإن هذا أولى من التخيير المطلق، وقيل: لا
يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد، والأول أشبه؛ فإذا ترجح عند المستفتي أحد
القولين: إما لرجحان دليله بحسب تمييزه، وإما لكون قائله أعلم وأورع: فله ذلك
وإن خالف قوله المذهب) [9] .
ويقول ابن القيم: (فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر، فهل يأخذ بأغلظ الأقوال،
أو بأخفها، أو يتخير، أو يأخذ بقول الأعلم، أو الأورع، أو يعدل إلى مفتٍ آخر،
فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها، أو يجب عليه أن
يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ ، فيه سبعة مذاهب، أرجحها السابع) [10] .
ولم يكن من هدي السلف الصالح استفتاء عالم بعينه دون نظرائه من العلماء،
والتزام أقواله كلها بحيث لا يخرج عنها، فإن ذلك من البدع الحوادث، ... ... كما ذكره ابن القيم [11] ، وابن عبد البر [12] ، وابن حزم [13] ، والشاطبي [14] ، ...
وولي الله الدهلوي [15] ، والفُلاني [16] ، وسند بن عنان المالكي [17] ، ومحمد
حياة السندي [18] ، والشوكاني [19] .
ومن هنا يتضح أن قول القائل: إن الولاية على الفتوى هي للمفتي وحده دون
منازع، وأن فتواه ملزمة هو تجنٍّ على الحق وتجاوز للحد، وادعاء ما أنزل الله به
من سلطان.
ثالثاً: أن الفتوى ليست حكراً على طائفة معينة أو فرد ما، بل كل من
استجمع شرائط الفتوى المعتد بها، حُقّ له أن يخبر عن أحكام الشرع؛ إذ الإخبار
عن أحكام الشرع وبيانها للناس هو من فروض الكفايات، وليس لأحد أن يحصر
الفتوى في فرد أو طائفة بحيث لا تصدر الفتوى إلا منه أو منهم، ويمنع من الفتوى
من هو مثلهم ممن تتحقق فيه شروط الفتوى، أخرج الدارمي في سننه من حديث
أبي كثير مالك بن مرثد أنه قال: (أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى،
وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تُنْهَ عن ... الفتيا؟ ، فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت عليّ، لو وضعتم الصّمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) [20] .
قال ابن حجر (رحمه الله) : (إن الذي خاطبه رجل من قريش، وإن الذي نهاه
عن الفتيا عثمان (رضي الله عنه) ، وكان سبب ذلك: أنه كان بالشام، فاختلف مع
معاوية في تأويل قوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ] [التوبة: 34] ، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصة، وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا،
فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال
أبي ذر عن المدينة فسكن الرّبَذَة (بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة) إلى أن مات، رواه النسائي، وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن
الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه؛ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-
بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علماً يعلمه) [21] .
ويبين شيخ الإسلام (رحمه الله) الحالة التي يمنع فيها العالم من الفتوى بقوله:
(وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين، بل يبين له أنه أخطأ، فإن بين
له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع،
بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك، وجب أن يُمنع من
ذلك، ويعاقب إن لم يمتنع، وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته
باتفاق المسلمين، ولا مَنْعه من ذلك القول، ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان
يقول: إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء
المسلمين) [22] .
رابعاً: أن المفتي قد خلط في حديثه ذاك بين الفتوى والقضاء، إذ كثيراً ما
يختلط هذا بذاك على العوام أو غير المتخصصين، فكان خلطه في ذلك من ثلاثة
وجوه:
الأول: عده الفتوى ولاية من الولايات الشرعية، وهذه في القضاء وليست
في الفتوى.
الثاني: قوله بلزوم كل ما صدر عن دار الإفتاء للجميع، وهذا فيما صدر عن
القاضي أو الحاكم في قضايا الأعيان.
الثالث: جعله المفتي مفتقراً لكونه مفتياً إلى إسناد هذا الأمر إليه من ولي
الأمر، وهذا في القضاء.
ولتفصيل هذا الاختلاط الواقع في الحديث عن الفتوى نقول:
1- إن الفتوى ليست ولاية من الولايات الشرعية، وإنما الذي يقال في حقه
إنه ولاية مما يمكن أن يشتبه أمره على العوام أو غير المتخصصين إنما هو القضاء، وقد عدد الماوردي في (الأحكام السلطانية) وكذلك أبو يعلى الفراء في كتابه
(الأحكام السلطانية) الولايات، فذكر كل واحد منهما القضاء فيما ذكرا من الولايات، ولم يذكر واحد منهم الفتوى، وكذلك عَدّ القرافي في كتابه (الإحكام في تمييز
الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) الولايات، وقسمها إلى خمسة عشر
قسماً، وذكر فيها القضاء، ولم يذكر فيها الإفتاء، وقد ذكر أيضاً شيخ الإسلام (ابن
تيمية) في كتابه (السياسة الشرعية) كثيراً من الولايات، وتحدث عن أحكامها،
فذكر منها القضاء ولم يذكر الإفتاء، وبالجملة: فلست أعلم أحداً ممن يُعتد به ذكر
(الإفتاء) ضمن الولايات.
2- إن القول الملزم إنما هو للقاضي أو الحاكم (والقاضي والحاكم لفظان
مترادفان في اصطلاح الفقهاء) والمفتي إنما له الإخبار، ف (المفتي مخبر محض،
والحاكم منفذ وممضٍ) [23] .
وقال علاء الدين الطرابلسي (فحقيقة القضاء: الإخبار عن حكم شرعي على
سبيل الإلزام، ومعنى قولهم: (قضى القاضي) ، أي: ألزم الحق أهله) [24] وقال
ابن الشحنة الحنفي: (القضاء في اللغة عبارة عن اللزوم، ولهذا سمي القاضي
قاضياً؛ لأنه يلزم الناس، وفي الشرع يراد بالقضاء: فصل الخصومات وقطع
المنازعات) [25] .
وقال ابن القيم فيما نقله عن أبي عثمان الحداد: (القاضي أيسر مأثماً وأقرب
إلى السلامة من الفقيه [يريد المفتي] ؛ لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من
ساعته بما حضره من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت، ومن تأنى وتثبت تهيأ
له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة) انتهى.
يقول ابن القيم معقباً: (وقال غيره: المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي؛
لأنه لا يلزم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قبل قوله، وإن شاء تركه، وأما القاضي فإنه يلزم بقوله، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم،
ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء، فهو من هذا الوجه خطره أشد) [26] .
والشاهد فيه: قوله عن المفتي: إنه (لا يُلزم بفتواه) ، وقوله عن القاضي:
إنه (يلزم بقوله) ، والفتوى أوسع مجالاً من القضاء، إذ كل ما يقضي فيه القاضي
أو الحاكم يمكن للمفتي أن يفتي فيه، والعكس ليس بصحيح، فليس كل ما يفتي فيه
المفتي يمكن أن يقضي فيه القاضي، يقول ابن القيم تعليقاً على ما نقلناه سابقا:
(فكلّ خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به،
ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى، فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي
وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله،
فالمفتي يفتي حكماً عامّاً كليّاً: أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه
كذا، والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخص معين، فقضاؤه خاص مُلزم،
وفتوى العالم عامة غير ملزمة، فكلاهما أجره عظيم وخطره كبير) [27] .
ويقول القرافي في (الفرق بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم) : (اعلم أن
العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم البتة، بل الفتيا فقط فكل ما وجد فيها
من الإخبارات فهي فتيا فقط، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو
باطلة، ولا أن هذا الماء دون القلتين فيكون نجساً فيحرم على المالكي بعد ذلك
استعماله، بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا، إن كانت مذهب السامع عمل بها، وإلا
فله تركها والعمل بمذهبه) [28] .
3- المفتي لا يفتقر في كونه مفتياً إلى جهة تسند إليه أمر الإفتاء غير تحقق
شروط المفتين فيه، في حين أن القاضي لا يصير قاضياً بتحقق شروط القضاء فيه
حتى يُسنِد إليه أمر القضاء من له الحق في ذلك الإسناد، وهو الخليفة أو من يقوم
مقامه، يقول الماوردي: (ولو اتفق أهل بلدٍ قد خلا من قاضٍ على أن قلدوا عليهم
قاضياً، فإن كان إمام الوقت موجوداً بطل التقليد، وإن كان مفقوداً صح التقليد
ونفذت أحكامه عليهم، فإن تجدد بعد نظره إمام لم يستدم النظر إلا بإذنه، ولم
ينقض ما تقدم من حكمه) [29] .
ويقول الشيرازي وبنحوه ابن قدامة الحنبلي وابن الهمام الحنفي: (لا تجوز
ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو تولية من فوض إليه الإمام؛ لأنها من المصالح
العامة) [30] .
والمفتي المتحقق فيه شروط الإفتاء له أن يفتي ولا يفتقر ذلك إلى تعيين من
جهة ما؛ لأن ذلك من قبيل تبليغ الدين، وبالتالي: فليست هناك فتوى يقال عنها:
إنها فتوى رسمية، وأخرى يقال عنها: إنها غير رسمية، طالما أن الفتوى خرجت
ممن يحق له أن يفتي، ومعيار الصواب في الفتوى قائم على الالتزام بنصوص
الشرع والإفتاء بها أو بموجبها، وليس لفتوى امتياز على فتوى أخرى إلا
بانضباطها بذلك المعيار.
خامساً: أن الربا حرام بالنص والإجماع المتيقن، لا تُحله فتوى يقال عنها:
إنها رسمية أو غير رسمية، وكل فتوى خالفت ذلك التحريم فهي فتوى باطلة يحرُم
الإفتاء بها أو العمل بمقتضاها، وليس ما يقال عنه من فوائد البنوك إلا صورة من
صور الربا المحرم بالنص والإجماع، وذلك أن حقيقة هذه الفائدة إنما هي (زيادة
اشترطت في رأس المال في مقابل الأجل) [31] (التأخير) ، سواء أكانت الزيادة
مما يعطيها البنك للمودع (المُقرض) أو يأخذها البنك من المقترِض، فكل ذلك من
الربا الجلي بيقين.
وهذه الصورة المحرمة من صور الربا لا يُحلّها وجود فتوى يقال عنها إنها
رسمية قالت بحلها، كما لا يُحِلّها القول بأنها معاملة: (مقبولة من الطرفين) ؛ إذ
ليس قبول الطرفين في المعاملات هو الموجب الوحيد للحِل في المعاملات، فالقمار
حرام ولو كان برضا الطرفين، والزنا حرام ولو كان برضا الطرفين.. فالرضا
وإن كان معتبراً في المعاملات لكنه لا يحل ما حرم الله، وهذا واضح لا إشكال فيه.
ومن كل ما تقدم:
يتبين لنا أن كلام المفتي على قصره قد احتوى على كثير من الأمور المخالفة
للشريعة، من ذلك:
1- قوله إن الإفتاء ولاية.
2- قوله إن المفتي الذي عينه ولي الأمر هو الذي له حق الفتوى دون غيره
من أهل العلم.
3- قوله إن فتوى المفتي ملزمة لكل الناس.
4- خلطه وعدم تفريقه بين الإفتاء والقضاء.
5- قوله بحل فوائد البنوك، ومخالفته في ذلك للإجماع القطعي لعلماء الأمة
قديماً وحديثاً.
وأخيراً:
فإن هذه الأخطاء الكثيرة الكبيرة المتتابعة ليس من السهل غض الطرف عنها، لاسيما وأنها جاءت ممن يتصدر الفتوى.
ولعل هذا الحديث الذي أدلى به فضيلة المفتي كان فرصة للتذكير وتبيين هذه
الأمور، التي أصبحت تخفى على بعض المفتين في هذا العصر.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح،
وأن يثقل به موازيننا يوم العرض عليه، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه ويرينا
الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
... ... ... ... ... ... ... ... والله من وراء القصد،
__________
(1) انظر في تعريف الفتوى: لسان العرب، 15/147 148، والتعريفات، للجرجاني، ص49، والموافقات، للشاطبي، 4/79، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، للقرافي، ص 53.
(2) الإحكام، ص 25.
(3) الإحكام، ص 91 92.
(4) مجموع الفتاوى، 27/303.
(5) الموافقات، 4/79، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى، 35/367، 385.
(6) أخرجه ابن إسحاق في السيرة، وقال فيه ابن كثير: (وهذا إسناد صحيح) ، السيرة النبوية لابن كثير، 4/493.
(7) انظر: الدرة البهية، ص 26 27، أعده وعلق عليه: محمد شاكر الشريف.
(8) انظر: مجموع الفتاوى، 20 /208 209.
(9) مجموع الفتاوى، 33/168.
(10) إعلام الموقعين، 4/264، والسابع هو: التحري والبحث عن الراجح.
(11) انظر: إعلام الموقعين، 2/228.
(12) جامع بيان العلم وفضله، 2/144.
(13) الإحكام في أصول الأحكام، 2/858.
(14) الاعتصام، 2/347 355.
(15) الإنصاف في بيان أسباب الخلاف، 68.
(16) إيقاظ همم أولي الأبصار، ص 74 - 77.
(17) إيقاظ همم أولي الأبصار، ص 74 - 77.
(18) إيقاظ همم أولي الأبصار، ص 74 - 77.
(19) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد.
(20) سنن الدارمي، 1/146، وقد أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به من أول قوله: (لو وضعتم إلخ) ، فتح الباري، 1/192، والصمصامة: هو السيف الصارم الذي لا ينثني.
(21) فتح الباري، 1/194، وانظر: مجموع الفتاوى، 33/133 134.
(22) انظر: مجموع الفتاوى، 35/382 - 383.
(23) القواعد السنية، بهامش الفروق، 4/89.
(24) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، ص 7.
(25) لسان الحكام في معرفة الأحكام، لابن الشحنة، ص 218.
(26) انظر: إعلام الموقعين، 1/29 - 30.
(27) إعلام الموقعين، 1/30 31.
(28) الفروق، للقرافي، 4/48، وانظر: مجموع الفتاوى، 35/357 - 360.
(29) الأحكام السلطانية، للماوردي، ص79، وانظر أيضا: الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، ص73.
(30) انظر: نظام القضاء في الإسلام، المستشار جمال صادق المرصفاوي، ص 39.
(31) انظر: (البديل الإسلامي للفوائد المصرفية الربوية) ، د/ عاشور عبد الجواد، ص 6.(111/96)
متابعات
تعقيب وتوضيح..
حول قبائل البورانا
بقلم: د. عبد الرحمن حمود السميط [*]
نشرتم بحثاً طيباً عن قبائل البورانا في العدد (103) ، أهنئ كاتب ذلك البحث، وأرجو أن نرى المزيد من أمثاله، ولكن لي بعض الملحوظات الإضافية:
إن معظم البورانا في إثيوبيا كما ذكر الكاتب من الوثنيين أو النصارى، أما
البورانا في (كينيا) فأغلبهم مسلمون مع جيوب نصرانية نشأت في غفلة من
المسلمين، وخاصة في (مرتي) و (غربة الله) .
والرأي الذي أميل إليه: أن البورانا دخلوا الإسلام حديثاً، ولم يأخذوه بجدية
وعزم؛ ربما لأن من بلّغهم الإسلام لم يكن على قدر من العلم الشامل؛ لذا: نجدهم
نقطة ضعف في مسلمي (كينيا) رغم وجود صحوة إسلامية حديثة في هذه الجيوب.
وقد انتبهت المؤسسات الإسلامية إلى وضع تلك القبيلة منذ أوائل الثمانينيات
الميلادية، وقامت بجهود مختلفة، ونذكر بالخير (المؤسسة الإسلامية) في (أسيولو)
و (المنتدى الإسلامي) في (مرتي) ، وقد بدأت (لجنة مسلمي إفريقيا) في عام 1983 م الاهتمام بالعمل وسطهم، وفي عام 1988م بدأ تطبيق برنامج (قبائل البورانا)
وهو برنامج دعوي تم وضعه خصيصاً لهذه القبائل.
وأذكر نتفاً من هذا البرنامج لفائدة القارئ:
منطقة مدوغاشي:
يسكنها البورانيون والصوماليون، وقد بدأت المنظمات التنصيرية العمل،
ففشلوا فشلاً ذريعاً مع الصوماليين، فبدأ تركيزهم ينْصَب على البورانيين، وبنوا
مركزاً كبيراً جوارهم، وركزوا كل جهودهم على البورانيين، وأشاعوا بينهم أن
الإسلام دين الصوماليين فقط، وحاولوا بذر الفرقة بينهم وبين إخوانهم من
الصوماليين.
كانت خطتنا هناك أن يقوم ممثلنا في (مدوغاشي) (وهو صومالي) بكفالة عدد
من أيتام البورانيين ودفع رسوم الدراسة عن أبنائهم من الطلبة الفقراء (وكلهم فقراء) ، وذبح خروفين من العقائق والنذر التي يتبرع بها المحسنون كل يوم جمعة في
الجانب البوراني، ثم توزيعه بالتعاون مع مشايخ قبائلهم على الفقراء والمعوزين،
كما أقمنا مركزاً إسلاميّاً كبيراً يشمل مدرسة ومسجداً وداراً للأيتام ومزرعة وداراً
لتدريب النساء.. وغيرها، كما تم إعطاء الجانب البوراني اهتماماً أكثر في برامج
إفطار الصائم والأضاحي؛ بقصد تقوية إيمانهم وارتباطهم بالإسلام، وهناك بوادر
خير طيبة نتجت عن تلك الجهود.
منطقة غربة الله:
وهي منطقة قريبة من (أسيولو) كان أهلها كلهم من المسلمين، إلا إنهم ضعفوا
مع الأسف، وتنصر عدد من أهلها بسبب وجود مركزين للنصارى في المنطقة
والإمكانات المالية والبشرية الهائلة التي جندتها الكنيسة لأداء عملها التنصيري.
قامت لجنة مسلمي إفريقيا ببناء مدرسة (عصرية/إسلامية) ، تطورت إلى
مركز إسلامي متكامل يشمل داراً للأيتام ودار تدريب للنساء ومسجداً وقاعة
محاضرات.. إلخ، وعقدت في المنطقة عدة دورات إسلامية للشباب وأئمة المساجد
والطلبة من المنطقة كلها، كما تم دفع رسوم الدراسة عن بعض الفقراء، وكُفِلَ أيتام، ونتج عن هذا: أن أصبحت المدرسة الإسلامية من أفضل (خمس مدارس) في
الإقليم كله، وأنجبت عدداً من النابهين والنابهات (ولله الحمد) ، كما ارتفع مستوى
الإدراك والالتزام بالإسلام في المنطقة؛ مما حدا بعدد من النصارى إلى العودة إلى
فطرتهم، وكان آخرهم القسيس (هارون روبا) ، وهو من كبار قسيسي البورانا،
وكان مسؤولاً عن كثير من كنائس (الميثودست) ، وأسلم مؤخراً نتيجة الصحوة
الإسلامية في المنطقة.
منطقة مويالي ومرسابيت:
أقامت اللجنة معهدين شرعيين، رغم أنهما كانا جزءاً من برنامج (قبائل
الغبرا) إلا إنه تم قبول عدد من أبناء البورانا، وتخرجت الدفعة الأولى من معهد
(مرسابيت الشرعي) بعد أربع سنوات دراسة، مع التطبيق الميداني للدعوة خلال
الدراسة، وختمت بفترة عملية مدتها ستة شهور في التنقل بين القرى للدعوة فيها.
وهناك برامج كثيرة قامت بها لجنة مسلمي إفريقيا كجزء من برنامج (قبائل
البورانا) في كينيا، وكنا نتمنى لو استطعنا تقديم المزيد، إلا إن الظروف المالية
تمنعنا من تنفيذ معظم بنود البرنامج.
ولا يفوتني هنا أن أشيد بما يقوم به عديد من المؤسسات الإسلامية الكبرى،
أو ما يقوم به أبناء القبيلة ممن سرت فيهم روح الدعوة.
ولكن تبقى منطقة قبائل البورانا في إثيوبيا كالأيتام على موائد اللئام، تنتظر
من يسهم في انتشالهم إلى بر الأمان والإيمان بجهود دعوية متميزة لإنقاذهم من
الهجمات التنصيرية.
__________
(*) أمين عام (لجنة مسلمي إفريقيا) بالكويت، وهو متفرغ للدعوة، وله جهود متميزة في مجال الدعوة والتعليم والإغاثة وكفالة الأيتام ونحوها، وقد فرحنا بهذا التعقيب، لما يتميز به الدكتور عبد الرحمن من الخبرة الواسعة في إفريقيا، نسأل الله له التوفيق والسداد.
- البيان -(111/106)
منتدى القراء
النذير العريان
بقلم: طارق عبد الفتاح السيد
(النذير العريان) هو ذلك الرجل الذي كان يحتل أعلى الجبل أو الهضبة، حتى
إذا رأى الأعداء قد اقتربوا لمهاجمة قومه خلع ملابسه ولوّح بها لهم، ينذرهم
ويحذرهم من اقتراب العدو، وكونه عرياناً أبلغ في الإنذار؛ ليعلموا أن الأمر جد لا
هزل فيه ويعدّوا للأمر عُدته.
وفي الواقع: إن الأمة الإسلامية اليوم لتمر بحالة هي أحوج ما تكون فيها إلى
هذا (النذير العريان) ، ولن تجد الأمة الإسلامية أنصح ولا أخلص في النصح من
دعاة الإسلام والعاملين له، فإن المؤمنين نَصَحة والمنافقين غَشَشَة.
إن هؤلاء الدعاة من وجهة نظري مثل كريات الدم البيضاء التي تصد الغزاة
(الجراثيم) ، وتعطل تقدمهم وتكاثرهم، فإذا دخلوا الجسد قاومتهم بشدة واستماتة
حتى الاستشهاد إذا وجب الأمر.
ولا مناص إلا أن يرشح الدعاة أنفسهم ومعهم كل عامل للإسلام لهذا المنصب
الخطير، منصب (النذير العريان) ؛ فقدوتهم -صلى الله عليه وسلم- قال فيما
أخرجه الشيخان عن أبي موسى (رضي الله عنه) : (إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به
كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم! ، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا (النذير
العريان) ، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا،
وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك
مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من
الحق) .
نعم.. إنه -صلى الله عليه وسلم- (النذير العريان) ، ونحن بإذن الله (تعالى)
ورثته -صلى الله عليه وسلم- الشرعيون، فلا خيار إلا أن نرفع الراية ونقبل هذا
المنصب العظيم.
وهذا المنصب يقتضي أن يكون الدعاة في كامل قواهم العقلية والذهنية، وأن
يتحلوا بما يُطلق عليه (حاسة الاستشعار عن بعد) ، وقبل ذلك وبعده: إخلاص لله
(عز وجل) ، وعلم شرعي تنجلي أمامه الشبهات.. وبهذه العُدَد نحذر قومنا وننبههم.. وسيؤكد الواقع إن شاء الله صدق حدسنا وظننا، فتثق بنا الجماهير، وقبل ذلك
بالحق الذي نحمله.(111/109)
الورقة الأخيرة
أزمة العقل المبدع
بقلم: سالم فرج سعد
إن التفرق الذي تشهده الساحة الإسلامية في صفوفها مردّه إلى أسباب، منها:
ما يعتور العقل الإسلامي أحياناً من عقم، وغياب التربية الإسلامية المتكاملة
لدى الكثيرين.. وهي آفات تعوق حركة المنهج الإسلامي، وتشتت صفه وكلمته؛
لأن من سمات هذا المنهج الرباني الشمول والتوازن [دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً] [الأنعام: 161] ، ومن المتفق عليه بين العاملين في الساحة: أن ضعف
التحصيل العلمي، والخلل العقلي في الفهم الشمولي للإسلام، هما سببان رئيسان
أيضاً فيما يشهده العمل الإسلامي من تفرق.. لكن تظل أزمة الإبداع في العقل
المسلم عائقاً كبيراً دون العلم والعمل؛ لأن هذه الأزمة المشكلة اعتراها قصور
وتقصير وغلو وتفريط، وذلك عندما واكبت الحضارة المعاصرة دونما ضوابط
شرعية وقواعد علمية، وعندما جمدت على النص وعطلت الفهم الصحيح له،
فصارت بين طرفي نقيض.
إن الفقه الإسلامي تراث زاخر بالجدية والحيوية، لكن عندما تعتريه آفات
المقلدين، وتشنِّج المتعصبين: يذهب بهاؤه، وتُشل حركته.. إذ إن عظمة الهدف
وضخامته تفرض جدية الوسيلة، وتفوق المنهج.
فإذا سُخّرت أبحاث الفقه مثلاً لإحياء روح العمل والجهاد لنتج عن ذلك الهدف
المرجو، ولتلاشت بذلك أزمات كثيرة في حاضرنا الإسلامي.
والفقه هو مثال واحد من أمثلة كثيرة في تراثنا الإسلامي الزاهر بالإبداع
والهدى والنور، وإبداع العقل المسلم يأتي وفق تلك الإيحاءات الفقهية، والضوابط
الشرعية بإخلاص واتباع؛ لأن الدعوة إلى الله عبادة مبناها على التوقيف والنص،
وباعتبار استخدام الوسائل المشروعة التي تؤدي الغرض تكون عُرضة للاجتهاد
والإبداع، لأن طبيعة الوسائل: التجديد والتطوير.
وعندها يأتي معنى القاعدة الفقهية (الوسائل لها أحكام المقاصد) .
يقول الشيخ (السعدي) (رحمه الله) : (وهذه القاعدة من أنفع القواعد وأعظمها
وأكثرها فوائد، ولعلها يدخل فيها ربع الدين) [1] .
ولكن يكون الاجتهاد فيها بشروطه ومؤهلاته، والشأنُ كل الشأن في ألا يكون
ثمة أمر محظور يُبطل الوسيلة أو يمنع الانتفاع بها.
__________
(1) شرح منظومة القواعد الفقهية، ص 31.(111/111)
ذو الحجة - 1417هـ
أبريل - 1997م
(السنة: 11)(112/)
كلمة صغيرة
التناقض الإيراني
إيران بلد إسلامي قامت فيه ثورة تقول إنها إسلامية، هكذا يزعم إعلامها،
وتدعي نصرة المستضعفين، ودستورها يضمن للأقليات غير المسلمة حقوقها
الإنسانية، إلا إنها تقف موقفاً عجيباً غريباً من أهل السنة فيها، فهي تناصبهم
العداء، وتعمل بكل وحشية لاستئصال علمائهم ورموزهم، وتعمل على تهميشهم
وعزلهم عن الحياة، فلا مدارس خاصة بهم سوى المدارس القرآنية المحدودة غير
المعترف بشهاداتها، من أجل أن يضطر أبناؤهم إلى الانخراط في مدارسهم،
ليتحولوا إلى التشيع أو أن يعيشوا كمّاً مهملاً غير معترف به، وهذا ما يريدونه،
لقد وقف علماء السنة مع ثورتهم في بدايتها رغبة في الخروج من ظلم الشاه،
فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، وتعرض علماء السنة للسجن والتعذيب، ثم
الاغتيال الذي حصد علماء ومفكرين ودعاة، بدعوى أنهم جواسيس ووهابيون
وأعداء للثورة! ! مثل (أحمد مفتي زادة) و (محمد صالح ضيائي) ، و (بهمن
شكوري) .. وغيرهم، ممن قتلوا ظلماً وعدواناً وحقداً، ولا يُستغرب ذلك إذا علمنا
أنه لا يوجد للسنة مسجد واحد في العاصمة (طهران) ، بينما يوجد في جل المدن
الإيرانية دور عبادة لليهود والنصارى وحتى المجوس.
فهل من إنصاف ومناصرة لأهل السنة في (إيران) ، وهل يساوون على الأقل
بتلك الأقليات تحت ظل حكم (الثورة الإسلامية! !) في إيران؟ !
لنا وطيد الأمل بدعم المسلمين لإخوانهم السنة في إيران بكل ما من شأنه رفع
معاناتهم أسوة بغيرهم.
ولعله يتيسر لنا في عدد قادم إن شاء الله كشف الحقائق المتعلقة بمأساة أهل
السنة ومعاناتهم المزمنة تحت مظلة نظام طهران.(112/1)
افتتاحية العدد
الحج بين الواجب والواقع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين،
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فما زالت قوافل الموحدين ولله الحمد تواصل المسير إلى الديار المقدسة لأداء
فريضة الحج، اقتداءً بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم (عليه السلام) منذ أن
صدح بالنداء الخالد مطيعاً لأمر الله الذي سجله القرآن الكريم: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ... ] [الحج: 27-28] ، واتباعاً لسنة
المصطفى (عليه الصلاة والسلام) القائل في حجة الوداع: (خذوا عني ... مناسككم) [1] .
فما أن تأتي أشهر الحج إلا وحادي الحب لله (تعالى) ، واتباع سنة المصطفى، يحدو كل مسلم للرحيل إلى الرحاب المقدسة استجابة لله (تعالى) .
لكن هل استطاع المسلمون الذين يتجاوزون اليوم مليار نفس أن يعيشوا هذه
الفريضة، ويشهدوا المنافع المشار إليها في الآية الكريمة [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ] في
العاجلة والآجلة.
إن زاد العبادات في مجتمع المسلمين يفترض أن يصبغ حركة المجتمع كله
بدينونتهم لله (تعالى) في علاقاتهم، ليظهر في سلوكيات الأفراد فهل بدا واقع
المسلمين بارزاً فيه صدى زاد الحج، تلك العبادة التي تمزج بين قلوب المسلمين
وترسخ فيها وحدة الشعور ثمرة لوحدة الشعيرة، هل بدا كذلك؟ ، وهل تزود
المسلمون من زاد الحج وعاشوا حكمه وهم يطبقون أحكامه على وجه مشروع
ومسنون؟
هل تحرك ذلك الموكب من ذوي الرداء الأبيض الناصع بين المشاعر شامة
تزين الأرض، يباهي بها الرحمن ملائكته، حجيجاً مترابطي القلوب، مسلمين
على منهج الله؟ ، هل بدت حِكمُ الحج العظيمة وآثاره الجليلة متحركة مع ذلك
الموكب، تنطق بها جوارح الحجيج وتبدو شاخصة في مناسكهم؟ هل ذابت
الفوارق النفسية بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، وذهبت مع ثياب الحِل،
وبدت النفوس صافية حانية متآلفة لا يقل صفاؤها عن صفاء ثياب الإحرام؟
الحقيقة: إن اجتماع ذلك الكم الهائل من المسلمين على ذلك الصعيد الطاهر،
وإن بدت زيادة عدده ملمحاً إيجابيّاً من ملامح الصحوة وزادت فيه مساحات الالتزام
الصحيح أثراً من آثارها، إلا إن مساحات كبيرة منه تجيب سلباً عما سلف من
تساؤلات، وذلك لأسباب، منها:
-أن كثيراً من المسلمين بعيدون عن الأسس العقدية الصحيحة، وهذا
انحراف جلي عن صراط الله المستقيم ومخالفة للهدي النبوي القويم الذي حذر من
الشرك الخفي والأصغر، فضلاً عن الأكبر، مما يلزم معه أهمية التوعية بالتوحيد
لله وإخلاص العبودية له (جل وعلا) .
ومما يؤسف له، التقصير الملموس لدى بعض العلماء وسكوتهم المريب عن
تلك المظاهر الشركية، وهم المؤتمنون على رسالة البلاغ المبين، فإلى الله
المشتكى! .
-أن تلك العبادة أصبحت لدى كثير من المسلمين مجرد رحلات سياحية،
تكاد تكون خالية من روحها الإيمانية، بل صارت مجالاً للتفاخر والمباهاة، وكأن
الهدف أن يحلي أحدهم اسمه بالحاج فلان، وإذا لم يذكر اعتبر ذلك إهانة له.
-وبسبب الجهل السائد لدى كثير من الحجاج بآداب وأخلاقيات تلك الشعيرة
ولا سيما في التطبيق العملي للحج من الطواف والسعي، وعند التنقل بين المشاعر
انتشر ما يحصل بين الحجاج من سلوكيات غير حميدة، وإيذاء لا مبرر له، مع أن
ذلك منهي عنه؛ لقوله (تعالى) : [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِ] [البقرة: 197] .
ومن باب التناصح: فإننا نذكِّر ببعض المسائل المهمة في الموضوع، ومن
الله نستمد العون والتوفيق:
إن فريضة الحج يجب أن تؤدى وفقاً لما صح من السنة وكما روي عنه،
مستحضرين ما فيها من تذكر لمواقف الأنبياء والمرسلين ولا سيما مواقف نبي الله
إبراهيم (عليه السلام) من توديع طفله وزوجه هذا البيت في تلك الصحراء اللاهبة
بقلب مفعم بالإيمان وهو يقول: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] [ابراهيم: 37] ، وكذلك موقف نبينا وقدوتنا محمد (عليه
الصلاة والسلام) وهو يحج حجته الأخيرة ومعه الألوف من المسلمين ويلقي عليهم
خطبة حجة الوداع، التي وضح فيها معالم الإسلام ومبادئه البارزة، وحسبنا مما
قاله (عليه الصلاة والسلام) في تلك الخطبة: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام،
كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية
تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة.. وربا الجاهلية موضوع.. ... اتقوا الله في النساء.. وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله..) [2] .
وتزامن مع هذه الحجة الأخيرة للرسول نزول قوله (تعالى) : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] ، مما يؤكد
على اكتمال الإسلام ديناً مهيمناً على حياة المسلم كلها، وأن أي محاولات لتحجيم
هذا الدين بدعاوى المبطلين مردودة عليهم، فالتلاعب بدين الله مرفوض تماماً.
إن تلك المشاهد والذكريات والمواقف الحبيبة إلى النفوس التي يتذكرها الحاج
وهو يؤدي المناسك تعلمنا الإيمان الحق بالله وحسن التوكل عليه، ومن توكل على
الله حق التوكل إيماناً ويقيناً بما عند الله آتاه مقاصده [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً] [الطلاق: 3] .
ولمن وفق لأداء هذه الشعيرة فرصة سانحة لتجديد العهد مع الله (تعالى) ، لما
في ذلك من الجزاء الأوفر، يقول الرسول: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما،
والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [رواه مسلم] .
ثم إن الحج مظهر من مظاهر وحدة المسلمين، وفيه تذكير بالحشر يوم المعاد، مع ما فيه من التمرين على الصبر والمصابرة وجهاد النفس والجهاد لمواجهة
الأعداء، بل هو من أفضل الأعمال، يقول الرسول عندما سئل عن أي العمل
أفضل؟ : (إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ ، قال: ثم الجهاد في سبيل الله..
قيل: ثم ماذا؟ ، قال: حج مبرور) [أخرجه السبعة عدا أبي داود] ، وحينما سألته
عائشة (رضي الله عنها) قالت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نرى الجهاد
أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ ، قال: (لا، ولكن أفضل الجهاد: حج مبرور)
[رواه البخاري] .
وأخيراً: ننبه إلى نقطة مهمة في الموضوع: فقد جرت على ألسنة كثير من
الكتاب والمفكرين دعوى أن الحج مؤتمر إسلامي، وهم بلا شك يقصدون المعاني
الطيبة التي تنبثق من اجتماع المسلمين وتدارس أحوالهم، والعمل على حل ما
يعتورهم من مشكلات، لكن ذلك مع أهميته ليس هو الهدف الحقيقي من الحج،
فالحج لايقصر على النخبة من الناس كما في المؤتمرات، التي لا تقتصر على
مكان أو أمكنة بعينها، لكن الحج عبادة وشد وارتحال للبيت العتيق، وهو عامّ لكل
من تحقق فيه شروطه من المسلمين.
وبالتالي: فالحج شعيرة لها أركانها وواجباتها وشروطها، ما أحوجنا إلى تفهم
حكمتها ومعرفة حدودها والاستفادة القصوى منها، وحسبنا الوعد الإلهي لمن أحسنها
وأتقنها بأن جزاءه الجنة.
والله نسأل أن يتقبل حج المسلمين وأن يجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً.
__________
(1) رواه مسلم بلفظ (لتأخذوا مناسككم) ، انظر: إرواء الغليل، ج4، ص 271.
(2) أخرجه الخمسة عدا النسائي، واللفظ لأبي داود، وصححه الألباني، انظر صحيح سنن أبي داود، ح/1676.(112/4)
في إشراقة آية
[فاستقم كما أمرت]
بقلم: د. عبد الكريم بكار
يقول الله (عز وجل) : [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ
اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ] [*] .
قضية الاستمرار في الامتثال لأمر الله (تعالى) في المنشط والمكره من القضايا
الجوهرية في التصور الإسلامي، ومن القضايا الجوهرية كذلك في بنية التشريع
وأدبياته، وليس أدل على ذلك من وصية الله (تعالى) لنبيه -صلى الله عليه وسلم-
في هذه الآية وفي غيرها بـ (الاستقامة) ، التي هي: (المداومة على فعل ما ينبغي
فعله وترك ما ينبغي تركه) .
وقد قام (عليه الصلاة والسلام) بإسداء النصح بلزومها لمن سأله عن قول
فصل يصلح به جماع أمره، حيث جاء في الصحيح: أن سفيان بن عبد الله (رضي
الله عنه) قال: قلت: (يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً
غيرك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) [1] .
ولنا مع هذه الآيات المباركة الوقفات التالية:
1- إن في قوله (جل وعلا) [وَلا تَطْغَوْا] ، وقوله: [وَلا تَرْكَنُوا إلَى
الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] إشارة واضحة إلى ما يعترض سبيل الاستقامة من
ملابسات السرّاء والضرّاء، وقد أخبرنا ربنا (جل وعلا) أن من طبيعة البسط
والتمكن استدعاءَ البغي والطغيان، حيث قال (سبحانه) : [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ
لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ] [الشورى: 27] .
والبغي هو مجاوزة الحد، وهو يتجسد في صور متعددة: فبغي القوة:
البطش بالضعفاء، وبغي الجاه والنفوذ: الظلم وأكل الحقوق، وبغي العلم: اعتماد
العالم على ما لديه من شهرة ومكانة؛ مما يدفعه إلى القول بغير دليل، ورد أقوال
المخالفين من غير حجة ولا برهان، وطغيان المال: التبذير والإسراف والتوسع
الزائد في المتع والمرفهات.
والعارض الثاني للاستقامة على خلاف الأول، حيث تدفع الطموحات
والتطلعات المصلحية والضعف والظروف الصعبة إلى مصانعة الظالمين ومداهنتهم
وإشعارهم بالرضا عما هم فيه، والاستفادة من قوتهم وما لديهم من متاع في تحسين
الأحوال وتحقيق المكاسب ... مع أن طبيعة الاستقامة والالتزام في هذه الحال
تقتضي المناصحة، والهجر، والضغط الأدبي، والتحذير من التمادي في ذلك،
وهذا كله منافٍ للركون؛ لكن الشيطان يبرهن دائماً على أنه يملك خبرات مميزة في
تزيين الباطل والتلبيس على الخلق، فهو ينسيهم أحكاماً ومواعظ وأدبيات ومواقف
وتجارب، ويدفع بهم بعيداً عن كل ذلك!
2- إن الاستقامة في التحليل النهائي ليست سوى تمحور المسلم حول مبادئه
ومعتقداته، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة، ومهما ضيع من فرص ومكاسب.
وينبغي أن يكون واضحاً: أن المرء إذا أراد أن يعيش وفق مبادئه، ورغب
إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى، فإنه بذلك يحاول الجمع بين
نقيضين، وسيجد أنه لا بد في بعض المواطن من التضحية بأحدهما حتى يستقيم
أمر الآخر.
إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ يُعدّ انتصاراً لشهوة أو مصلحة آنيّة،
أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة فإنه بمثابة (التربع) على قمة من الشعور
بالسعادة والرضا والنصر والحكمة والانسجام والثقة بالنفس، وقد أثبتت المبادئ أنها
قادرة على أن تكرر الانتصار المرة تلو المرة، كما أثبت الجري خلف الشهوات
دون قيد ولا رادع أنه يحقق نوعاً من المتع والمكاسب الآنيّة، لكنه لا يفتأ أن يرتد
على صاحبه بالتدمير الذاتي، حيث ينمو الظاهر على حساب فساد الباطن، ويتألّف
الشكل على حساب ضمور المضمون!
إن المبدأ أشبه شيء بـ (النظارة) إذا وضعناها على أعيننا، فإن كل شيء
يتلّون بلونها، فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤية والإدراك والتقويم، إنه
حين يرى الناس يتسابقون على الاستحواذ على منصب يستغرب من ذلك، ويترفّع؛ لأن مبدأه يقول له شيئاً آخر غير ما تقوله الغرائز للآخرين، وإذا رأى الناس
يخبطون في المال الحرام تقززت نفسه؛ لأنه يعلم ضخامة العقوبة التي تنتظر
أولئك، وإذا أصيب بمصيبة فإنه يتجلد ويصبر؛ لأنه يرجو المثوبة عليها من الله
(تعالى) .
إذا قلّبنا النظر في اهتمامات الناس ومناشطهم اليومية فإن من السهل الوقوف
على المحور الذي يعلقون عليه توازنهم العام، ويدورون بالتالي في فلكه، وهناك
تشاهد من همّه الأكبر النجاح في عمله والمحافظة على سمعته فيه، كما تشاهد من
يتمحور حول المتعة، فهو يبحث عنها في كل نادٍ وواد، ومن يتمحور حول المال،
فهو يجوب العالم بحثاً عنه، ومن يبحث عن السيطرة والنفوذ، فهو مستعد لأن
يفعل أي شيء في سبيل التمكن والتحكم.. وتجد ثلة قليلة بين هذا الطوفان من
البشر استهدفت أن تحيا لله، وأن تبحث عن رضوانه، ومن ثم: فإنه يمكن تفسير
كل أنشطتها ومقاصدها في ضوء هذا المحور، وهذه الثلة هي التي أُمِر النبيّ -
صلى الله عليه وسلم- أن يفصح عن محورها باعتباره رائدها وهاديها: [قُلْ إنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] .
إن الذين يعلنون الولاء للمبادئ كثيرون، بل هم أكثر أهل الأرض، ولكن لا
برهان على ذلك لدى أكثرهم، ويمكن أن يقال: إن لأكثر الناس دينين: ديناً معلَناً
وديناً حقيقيّاً، ودينُ المرء الحقيقي هو الذي يكرِّس حياته من أجله.
إن من طبيعة المبدأ أنه يمد من يتمحور حوله بقوى وإمكانات خارقة وخارجة
عن رصيده الفعلي، ولذا: فإن التضحيات الجليلة لا تصدر إلا عن أصحاب
المبادئ والالتزام، وهم أنفع الناس للناس؛ لأنهم يثرون الحياة دون أن يسحبوا من
رصيدها الحيوي، إذ إنهم ينتظرون المكافأة في الآخرة.
التمحور حول المبدأ هو الذي يمنح الحياة معنى، ويجعلها تختلف عن حياة
السوائم الذليلة التي تحيا من أجل التكاثر ومجرد البقاء! !
المبدأ هو الذي يُضفي على تصرفاتنا الانسجام والمنطقية، ويجعلها واضحة
مفهومة.
نحن لا ننكر أن الظروف الصعبة تُوهِن من سيطرة المبدأ على السلوك، لكن
تلك الظروف هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس تشبّعوا بمبادئهم؛ حتى
اختلطت بدمائهم ولحومهم، وأناس لا تمثل المبادئ بالنسبة لهم أكثر من تكميل
شكلي لبشريتهم [2] .
3- لا يماري أحد في أن الإنسان اكتشف في العصر الحديث من الآيات
والسنن ما لم يكتشف عشر معشاره في تاريخ البشرية الطويل، لكن مع هذا فعنصر
المخاطرة والإمكانات المفتوحة ما زال قائماً؛ حيث تتحكم في الظاهرة الواحدة
عشرات الألوف من العلاقات التي يصعب معها التنبؤ بنتائج الاجتهادات والأنشطة
المختلفة، ولا سيما في القضايا الكبرى، كمصائر الأمم والحضارات، وقضايا
التقدم والتخلف، وما تنطوي عليه من تفاعلات وتغيرات، وإن الله (جل وعلا) ... قد ضمن لنا نتائج الاستقامة في الدنيا والآخرة، فهي بوجه من الوجوه وعلى نحو من الأنحاء لا تكون إلا خيراً، وإلا في صالح الإنسان، وقد قال الله (جل وعلا) : [إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [الأعراف: 128] ،
وقوله: [لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] [طه: 132] ، وقوله: ... [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن
كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: 96] .
أما من يسلك دروب المعاصي والفجور، ويتبع مغريات الأهواء والشهوات
فإنه يظل يتوجس خيفة من سوء العاقبة، لكنه لا يعرف شكل العقوبة، ولا طريقة
نزولها ولا توقيتها؛ ليكون الشك والغموض والخوف عاجل جزائه، ومقدمةً للبلاء
الذي ينتظره، ثم تكون الخيبة الكبرى والخسارة العظمى! !
إن هناك فترة سماحات تطول أو تقصر بين الانحراف وعواقبه وهذا هو الذي
جعل الابتلاء تامّاً، كما أنه هو الذي جرّأ أهل المعاصي على التماري في غيهم،
لكن العاقل الحصيف ينظر دائماً إلى الأمام ويتحسس ما هو آتٍ، ويضغط على
واقعة من أجل السلامة في مستقبله.
4- علينا أن نجمع بين النصوص التي تدل على ضرورة الاستقامة والالتزام
بالمنهج الرباني، والنصوص التي تفيد رفع الحرج والعنت عن هذه الأمة، من
مثل قوله (جل وعلا) : [هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] [الحج:
78] ، وقوله: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] [البقرة: 286] ، وقوله: [يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] ، وإذا فعلنا ذلك، فإننا سنفهم
من مجموعها أمرين:
الأول: هو ضرورة تزويد المسلمين بثقافة شرعية تتضح فيها حدود الواجبات
والمباحات والمحظورات، بما يشكل خارطة فكرية واضحة لما ينبغي أن يكون
عليه سلوك المسلم وعلاقاته.
الثاني: توفير الظروف والشروط الموضوعية التي تجعل التزام المسلم بدينه
ميسوراً، وبعيداً عن الحرج والمشقة التي لا تُحتمل؛ إذ إنه لا يكفي أن تكون
التعاليم الإسلامية ضمن الطوق، بل لا بد إلى جانب ذلك من أن تكون الظروف
المعيشية العامة التي يحيا فيها المسلم مناسبة ومشجِعة على الالتزام.
إنه كلما تعقدت الظروف المطلوبة للعيش الكريم قلّ عدد أولئك الذين
يتصرفون ضمن مبادئهم ويلتزمون حدود الشرع، فحين يكون المرتّب الشهري
للموظف لا يكفي لسداد أجرة البيت الذي يسكنه فإن شريحة كبيرة من الموظفين
سوف تلجأ إلى طرق غير مشروعة في تأمين احتياجاتها اليومية، وآنذاك
سيشعرون أن الالتزام التام لا يخلو من العنت، وحينئذ سيكون عدد الملتزمين
بالطرق الشرعية في الكسب محدوداً.
إن الحضارة الحديثة أضعفت الإرادة بما أوجدته من صنوف اللهو والمتع،
وجعلت الشروط المطلوبة للحد الأدنى من العيش الكريم فوق طاقة كثير من الناس،
كما أنها أوجدت من الطموحات إلى الكماليات وأشكال المرفِهات ما يتجاوز بكثير
الإمكانات المتاحة، وهذا كله جعل الاستقامة على الشرع الحنيف بحاجة إلى نمط
من الرجال أرقى، كما جعل من الواجب على الأمة أن تفكر مليّاً في توفير ظروف
تساعد على الاستقامة، وتحفز عليها.
إن المنهجية الإسلامية تقوم دائماً على ما يمكن أن نسميه بـ (الحلول المركبة) ؛ إذ إن هناك من النصوص والأحكام ما يرفع الوتيرة الروحية للمسلم، كما إن
هناك ما يزيد في بصيرته، وهناك ما يدعوه إلى الصبر والجلد، وهناك ما يحفزه
على تحسين ظروف عيشه وأدائه، ولا بد أن نمح الفاعلية لكل ذلك حتى يمكن
تجسيد المنهج الرباني في حياة الناس.
إن الفكر مهما كان قويّاً، وإن الوعي النقدي مهما كان عظيماً، فإن سلوك
الناس لن يتغير كثيراً ما لم تنشأ ظروف وأوضاع جديدة تحملهم حملاً على التحول
إلى سلوك الطريق الأقوم والأرشد.
ويؤسفني القول: إننا لم نستطع إلى الآن أن نبلور نظرية إصلاحية إسلامية
معاصرة ومتعمقة في تلمس شروط الاستجابة والظروف الصحيحة والمثلى لها، إلى
جانب تلمس مجمل الحساسيات والترابطات والتداعيات التي تشكل المناخ المطلوب
لقيام حياة إسلامية راشدة! .
إن جل اهتمامنا ينصب على بيان ما يجب عمله، أما البرامج والكيفيات
والإجراءات والأطر والسياسات التي يجب اتباعها وتأسيسها من أجل تحويل المبدأ
إلى واقع معيش.. فإنها لا تلقى ما تستحقه من اهتمام ومتابعة، والخبرات لدينا في
ذلك ما زالت ضئيلة، بل إن هناك مَن يستوحش من الخوض في غمار مثل هذا
النوع من البحث، ويعد التعمق في ذلك ضرباً من (الاستغراب) أو الجنوح نحو
المادية! ، ومن الدعاة من يدعي أنه عارف بكل ذلك، لكن لو نظرت في إنتاجه
المعرفي لم تقف له في هذه السبيل على كتاب أو رسالة، بل على خاطرة أو فكرة.
(وما أطيب العرسَ لولا النفقة) ! !
... ... ... ... ... ولله الأمر من قبل ومن بعد.
__________
(*) الآيتين: 112، 113 من سورة هود.
(1) أخرجه مسلم.
(2) انظر في ميزان التمحور حول المبدأ: العادات السبع للقادة الإداريين، ص 120.(112/8)
دراسات شرعية
من أخطائنا في عشر ذي الحجة
بقلم: محمد بن راشد الغفيلي
تمهيد:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وبعد:
فنحن في موسم فاضل من مواسم الله (تعالى) ، ألا وهو (عشر ذي الحجة) ،
فيه من الأعمال والنوافل ما يتقرب بها العبد إلى الله (تعالى) لعله أن تصيبه نفحة
من نفحاته (تعالى) ، فيسعد به في الدارين، سعادة يأمن بها من الموت وشدته،
والقبر وظلمته، والصراط وزلته.
و (عشر ذي الحجة) موسم فيه كثير من العبادات المتنوعة التي يمتاز بها عن
غيره، قال الحافظ في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة
لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج،
ولايتأتى ذلك في غيره) [1] .
لهذا رأيت تنبيه إخواني القراء إلى الأخطاء التي قد تقع من بعضهم في هذا
الموسم؛ رغبة في معرفتها وتجنبها.. والله الموفق.
أولاً: أخطاء عامة:
1- مرور عشر ذي الحجة عند بعض العامة دون أن يعيرها أي اهتمام،
وهذا خطأ بيِّن؛ لما لها من الفضل العظيم عند الله (سبحانه وتعالى) عن غيرها من
الأيام، فقد صح عنه أنه قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في
هذه الأيام العشر) .
2- عدم الاكتراث بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد فيها:
وهذا الخطأ يقع فيه العامة والخاصة إلا من رحم الله (تعالى) ، فالواجب على
المسلم أن يبدأ بالتكبير حال دخول عشر ذي الحجة، وينتهي بنهاية أيام التشريق،
لقوله (تعالى) : [وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ....] [الحج: 28] .
والأيام المعلومات: العشر، والمعدودات: أيام التشريق، قاله ابن عباس
(رضي الله عنهما) [2] .
قال الإمام البخاري: (وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام
العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما) [3] ، وذلك بشرط ألا يكون التكبير
جماعيّاً، ولا تمايل فيه ولا رقص، ولا مصحوباً بموسيقى أو بزيادة أذكار لم ترد
في السنة أو بها شركيات، أو يكون به صفات لم ترد عن الرسول.
3- جهر النساء بالتكبير والتهليل، لأنه لم يرد عن أمهات المؤمنين أنهن
كبّرن بأصوات ظاهرة ومسموعة للجميع، فالواجب الحذر من مثل هذا الخطأ
وغيره.
4- أنه أحدث في هذا الزمن زيادات في صيغ التكبير، وهذا خطأ؛ وأصح
ما ورد فيه: ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان: قال: كبروا الله:
الله أكبر، الله أكبر كبيراً، ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما [اخرجه
جعفر الفريابي في كتاب العيدين] وهو قول الشافعي وزاد: (ولله الحمد) ، وقيل:
يكبر ثلاثاً ويزيد: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ، وقيل: يكبر ثنتين، بعدهما: لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) ، جاء ذلك عن عمر،
وعن ابن مسعود بنحوه، وبه قال أحمد وإسحاق [4] .
وبهذا نخلص إلى أن هناك صيغتين صحيحتين للتكبير، هما:
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً.
وما ورد في بعض كتب المذاهب مثل المجموع على جلالة قدر مصنفه من
زيادات على تلك الصيغة فهي غير صحيحة، أو لعلها وردت في غير العشر
الأواخر.
5- صيام أيام التشريق، وهذا منهي عنه، كما ورد عن الرسول؛ لأنها أيام
عيد، وهي أيام أكل وشرب، لقوله [5] : (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام
التشريق: عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) [6] .
6- صيام يوم أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك في عشر ذي الحجة وعليه
قضاء رمضان، وهذا خطأ يجب التنبه إليه؛ لأن القضاء فرض والصيام في العشر
سنّة، ولا يجوز أن تقدم السنة على الفرض.
فمن بقي عليه من أيام رمضان وجب صيام ما عليه، ثم يَشْرع بصيام ما أراد
من التطوع.
وأما الذين يجمعون القضاء في العشر مع يومي الاثنين والخميس لينالوا
الأجور كما يقولون فإن هذا قول لا دليل عليه يركن إليه، ولم يقل به أحد من
الصحابة فيما نعلم، ولو صح فيه نص من الآثار لنقل إلينا، والخلط بين العبادات
أمره ليس بالهين الذي استهان به أكثر العامة [*] .
ثانياً: أخطاء في يوم عرفة:
1- من الأخطاء: عدم صيامه، علماً بأنه من أفضل الأيام في هذه العشر،
وهذا خطأ يقع فيه كثير ممن لم يوفق لعمل الخير، فقد ورد عن أبي قتادة
الأنصاري (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم
يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والسنة القابلة) [7] ، وهذا لمن لم يحج؛
لنهيه عن صوم يوم عرفة بعرفات.
2- قلة الدعاء في يوم عرفة عند أغلب الناس والغفلة عنه عند بعضهم، وهذا
خطأ عظيم؛ حيث يُفوِّتُ الشخص على نفسه مزية الدعاء يوم عرفة، فإن الرسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (خَيْرُ الدّعَاء دعاء يَوْم عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلتُ أنا
والنّبِيّونَ مِنْ قَبْلي: لا إلَه إلا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الملْكُ، وَلَهُ الحَمدُ، وَهُوَ
عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَديرٌ) [8] .
قال ابن عبد البر: (وفيه من الفقه: أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره،
وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره، وفي فضل يوم عرفة دليل على
أن للأيام بعضها فضلاً على بعض؛ إلا أن ذلك لا يُدْرَكُ إلا بالتوفيق، والذي
أدركنا من ذلك التوفيق الصحيح: فضل يوم الجمعة، ويوم عاشوراء، ويوم عرفة؛ وجاء في يوم الاثنين ويوم الخميس ما جاء؛ وليس شيء من هذا يدرك بقياس،
ولا فيه للنظر مدخل، وفي الحديث أيضاً: دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله
في الأغلب، وفيه أيضاً أن أفضل الذكر: لا إله إلا الله ... ) [9] .
ثالثاً: أخطاء في يوم النحر:
1- عدم الخروج إلى مصلى العيد، بل تجد بعض الناس لا يخرج إلى
المصلى، خاصة منهم الشباب، وهذا خطأ؛ لأن هذا اليوم هو من أعظم الأيام،
لحديث عبد الله بن قرط (رضي الله عنه) عن النبير قال: (إن أعظم الأيام عند الله
(تعالى) يوم النحر، ثم يوم القر) [10] ، يعني: اليوم الذي بعده.
2- وإذا ما خرج بعضهم خرج بثياب رثة، بحجة أنه سيحلق ويقص أظافره
ويتطيب ويستحم بعد ذبح أضحيته، وهذا خطأ، فينبغي للمسلم أن يتأسى بالرسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بهيئة حسنة وبألبسة جديدة ذات رائحة زكية، لما ورد
عن ابن عمر أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين، وقد صح الاغتسال قبل العيد
عند بعض السلف من الصحابة والتابعين [11] .
3- الأكل قبل صلاة العيد، وهذا مخالف للمشروع، حيث يسن في عيد
الأضحى ألا يأكل إلا من أضحيته، لما ورد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال:
كان الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم
يوم الأضحى حتى يصلي.
قال ابن قيم الجوزية: (وأما في عيد الأضحى، فكان لا يَطْعَمُ حتى يَرجِعَ من
المصلى فيأكل من أضحيته) [12] .
4- عدم تأدية صلاة العيد في المصلى، بحجة أنها سنة، وهذا حق، لكن لا
ينبغي لمسلم تركها وهو قادر عليها، بل هي من شعائر الإسلام فلزم إظهارها من
الجميع كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، ومن تركها بدون عذر فقد أخطأ خطأً عظيماً.
5- التساهل في عدم سماع الخطبة، فينبغي للمسلم أن يستمع للخطبة لما في
هذا من الفضل العظيم.
6- التساهل في الذهاب والإياب، وهذا خطأ؛ فكان من سنته أن يذهب من
طريق ويرجع من طريق آخر.
7- التساهل بترك تهنئة الناس في العيد، وهذا خطأ؛ فالزيارات وتجمع
العوائل مع بعضها، والتهنئة فيما بينهم.. من الأمور المستحبة شرعاً، كأن يقول
بعضهم لبعض: تقبل الله منّا ومنكم، ونحو ذلك من العبارات التي لا محذور فيها.
8 - اعتقاد بعض الناس زيارة المقبرة للسلام على والد أو قريب متوفى، وهذا خطأ عظيم، فزيارة المقابر في هذا اليوم الفاضل بزعمهم أنهم يعايدون الموتى من البدع المحدثة في الإسلام؛ فإن هذا الصنيع لم يكن يفعله أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهم أسبق الناس إلى كل خير، وقد قال الرسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [13] ، أي: مردود عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : قوله: (لا تتخذوا قبري ... ... عيداً) [14] قال: (العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائداً، إما لعود السنة أو لعودة الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك) ، وعلى هذا: إذا اعتاد الإنسان أن يزور المقبرة في يوم العيد من كل سنة بعد صلاة العيد وقع في الأمر المنهي ... عنه [15] حيث جعل المقبرة عيداً يعود إليه كل سنة، فيكون فعله هذا مبتدعاً محدثاً؛ لأن الرسول لم يشرعه لنا ولا أمرنا بفعله، فاتخاذه قربة مخالفة له) .
... ... ... ... ... والله نسأل للجميع التوفيق والسداد،
__________
(1) فتح الباري، م4، ج5، ص 137.
(2) صحيح البخاري؛ في كتاب العيدين؛ باب فضل العمل في أيام التشريق، وانظر: فتح الباري، ج5، ص133 وما بعدها.
(3) صحيح البخاري، ج 1، ص 329.
(4) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، م4، ج5، ص 139.
(5) انظر: صحيح سنن أبي داود، ح/2113.
(6) المرجع السابق، ح/2114.
(*) ذكر الكاتب في أصل المقال تنبيهات على أخطاء تقع من المضحي لم نذكرها؛ لأنه سبق للمجلة أن نشرت مقالاً عن أحكام الأضحية في العدد 100؛ وذلك رغبة في الاختصار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-.
(7) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، ح/1162.
(8) أخرجه مالك في الموطأ، ج1، ص 422، ح/246، والترمذي: انظر: صحيح سنن الترمذي، ح/2837.
(9) التمهيد، ج6، ص 41 42.
(10) أخرجه أبو داود بإسناد جيد، قاله الألباني في المشكاة، ح/2643.
(11) انظر: فتح الباري، م4، ج5، ص 112، والمغني لابن قدامة، ج 2، ص 370.
(12) زاد المعاد، ج1، ص 441 فصل: في هديه في العيدين.
(13) أخرجه مسلم، ح/1718 في كتاب الأقضية.
(14) رواه أبو داود بلفظ: (لا تجعلوا) ، انظر سنن أبي داود، ح/1796.
(15) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 3/289، والمدخل لابن الحاج، 1/286، وانظر: أحكام الجنائز وبدعها، للألباني، ص 258.(112/14)
مقال
رؤية: في الاستفادة من الحج
بقلم: زيد بن محمد الرماني
تمهيد:
العبادات في الإسلام بجانب أنها شعائر يؤديها المسلم لكونها مفروضة عليه من
ربّه فليس عليه إلا الإذعان والخضوع والامتثال لأوامر الله وإظهار العبودية له فهي
أيضاً تحمل في حقيقتها معاني كثيرة، وترسخ أخلاقيات حسنة، وتثمر فوائد
اجتماعية كريمة ومتعددة، تعود على المسلم والمجتمع بالخير الكثير.
والحج بالتعبير الاقتصادي موسم تجارة، كما هو بالمفهوم الشرعي موسم
عبادة، وهو الفريضة التي تلتقي فيها شؤون الدنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات
العقيدة القريبة والبعيدة.. أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً
رائجة؛ حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء من أطراف الأرض، ويَقْدم
الحجيج من كل فجّ ومن كل قطر، معهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء
الأرض، يتجمع كله في البلد الحرام في وقت واحد، فهو موسم تجارة ومعرض
نتاج، وسوق عالمية تقام في كل عام، وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي
تستشعر قربها من الله في بيته الحرام.
ويكون ذلك مثمراً ونافعاً يوم أن تصل البلاد الإسلامية إلى مستوى التميز
والإنتاج، بحيث يحدث تبادل السلع والمصنوعات الإسلامية صناعةً وتحويلاً،
وتنعكس تلك المنافع قوة للاقتصاد الإسلامي على مدى المعمورة، لا أن يكون
الحجيج وسطاء أو (تجار حقيبة) لسلع الشرق والغرب.
وعندئذ يكون الحج وسيلة للتعارف والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد
القوى، وتبادل السلع والمنافع والمعارف والتجارب الإسلامية الواقعية.
ولا ينقص ذلك فهم بعضهم من أن الحج ليس مجرد رحلة عفوية يبدّد فيها
المسلم وقته وجهده وماله، ولكنه رحلة يبدو فيها جلال التآخي والفوائد والمنافع
الخلقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وهنا تبرز وتظهر أهداف الحج عظيمة، إذ هو امتثال لأمر الشرع، وهو
زاد إيماني وتربوي، وهو أيضاً فرصة لتبادل المنافع.
من حكمة مشروعية الحجّ:
لا شك في أن الله (سبحانه) بحكمته وعظمته اختار منذ خلق الإنسان هذا
المكان الطيب الطاهر في مكة المكرمة؛ ليشرفه بخصوصية لم يفز بشرفها أي
مكان في العالم، حين اختصه بأن يكون مقرّاً لبيته الحرام، ومحلاً لالتقاء وتجمّع
المسلمين جميعاً من كل بقاع الدنيا، من الذين منّ الله عليهم فوهبهم الاستطاعة التي
تؤهلهم لشرف تلبية نداء الله، فيقصدون هذا البيت العتيق.
قال (تعالى) : [إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ
(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ] [آل عمران: 96،
97] .
وحين نقرأ هذا القول الحكيم في قوله (تعالى) : [إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ] نطمئن معه إلى قول من قال بأن أول من بنى هذا البيت هم ملائكة الرحمن؛
ذلك لأن لفظة (الناس) يطلق على آدم وذريته، ومعنى ذلك أن هذا البيت العتيق
وُضِع قبل أو مع أول الناس في الأرض، وهو آدم (عليه السلام) .
وقيل: إن هذه الآية جاءت ردّاً من الله على اليهود، حين قالوا إن بيت
المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لكونه في الأرض المقدسة ومهبط الأنبياء.
فبيّن الله (سبحانه) بهذه الآية مكانة البيت الحرام بمكة المكرمة (البيت العتيق) ؛ منبهاً لهم وللناس جميعاً بأن هذا أول بيت وضع للناس، وأشرف بيت جعل
للعبادة [َهُدًى لِّلْعَالَمِينَ] .
في ظلال قوله (تعالى) : [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ... ] [الحج: 28] :
حين نتأمل هذه الآية وما فيها من توجيهات ربانية نجد فيها المسائل التالية:
أولاً: إن الله (تعالى) لما أمر بالحج في قوله [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ] اختُلف
فيها، فبعضهم حملها على منافع الدنيا، وهي أن يتجر في أيام الحج، وبعضهم
حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة، وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً، وهو الأَوْلى.
ثانياً: إنما نكّر المنافع؛ لأن المراد والله أعلم منافع مختصة بهذه العبادة،
دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادات.
يقول ابن الجوزي (رحمه الله) في كتابه (زاد المسير) : (والأصح: مَنْ حملها
على منافع الدارين جميعاً؛ لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإنما الأصل قصد
الحج، والتجارة تبع) .
ويقول عبد الكريم الخطيب في كتابه (التفسير القرآني) : (والمنافع التي
يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام كثيرة متنوعة، تختلف حظوظ الناس منها،
فهناك منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، وذلك بما يغشى
الروح من هذا الحشر العظيم، الذي حُشر فيه الناس على هيئة واحدة في ملابس
الإحرام مجرّدين من متاع الدنيا، وما لبسوا فيها من جاه وسلطان.
ولقد أحسن النسفي (رحمه الله) في تصوير هذه الفريضة، وفى عقد الشبه
بينها وبين الحياة الآخرة، حيث يقول: فالحاج إذا دخل البادية، لا يتكل فيها إلا
على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة، وركب
بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما
كان يأنس به من أوراده.
الهدي.. المشكلة والحل:
الهدي: يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج؛ هدية لأهل الحرم من غير
سبب موجب، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب معين كترك
واجب أو فعل شيء محظور، أو كالإحصار والتمتع، وهذا هو المراد في قوله
(تعالى) : [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ... ] [الحج: 36] ،
يقول القرطبي (رحمه الله) : وسميت هدياً؛ لأن منها ما يُهدى إلى بيت الله
والقاطنين فيه من الفقراء والمساكين.
إن شراء الهدي والتقرب به إلى الله (سبحانه) ، يعتبر من أوضح أدلة
التضحية بالمال، ويعتبر مثالاً صادقاً على اقتران القيم التعبدية الروحية بالقيم
الاقتصادية المادية في شعيرة الحج.
ولقد كان تكدس لحوم الهدي في منى مثلاً أيام النحر الثلاثة مشكلة تحتاج إلى
حلّ، حيث هي عرضة للتعفن والتلف، ومن ثم: إلقائها إلى الحيوانات، أو
التصرف غير الاقتصادي الذي لا يفيد المسلمين، بل يضّر بهم وبفقرائهم
ومساكينهم، وبالمستحقين.
ولذلك، طُرحت بعض الحلول للخروج من هذه المشكلة بحل سليم يساعد في
الإفادة من لحوم الهدي.. وفي هذا الصدد يمكن أن نقدّم بعض التوصيات
والاقتراحات للإسهام في حل هذه المشكلة، ومن ذلك:
1- تأسيس مؤسسة اقتصادية إسلامية تتولى العناية بهذه اللحوم وتصنيعها
وحفظها في معلبات، وإرسالها إلى مستحقيها من المسلمين في بلاد العالم الإسلامي.
مع العلم أن البنك الإسلامي للتنمية يتولى حالياً إنشاء ثلاجات كبيرة لحفظ هذه
اللحوم بعد تنظيفها، ثم تصديرها إلى الفقراء والمساكين والمجاهدين والمستحقين.
2- تعليم الحجاج أحكام الهدي، والتي منها أن الحاج المفرِد لا ذبح عليه،
بل القارن والمتمتع فقط.
3- تكوين جمعية خيرية إسلامية تتولى مهمة الإشراف على جمع وتوزيع
وتصدير لحوم الهدي للمحتاجين والفقراء والمساكين.
المدلول الاقتصادي للحجّ:
للحج مدلول اقتصادي كبير؛ ذلكم أنه فرصة للكسب الشرعي، والكسب
الأخروي؛ فهو عبادة مالية وبدنية معاً، وثوابهما معلوم للجميع.
إن الحج موسم يلتقي فيه العلماء وذوو الخبرات العالمية الإسلامية، من
صناعيين، وتجار، ومهنيين، ومن جميع التخصصات المختلفة، وبهذا تُنتهز
فرصة الحج؛ لا لهذا الغرض فحسب، بل تكون تابعة غير مقصودة، ولكنها في
الواقع فرصة للمؤسسات الإسلامية، وللمسلمين جميعاً، حيث تنمو العلاقات
الاقتصادية بين المسلمين؛ إذ يناقشون مشكلات الأمن الغذائي ومشكلات الاقتصاد
بصفة عامة، مما يعود عليهم أفراداً وجماعات بالخير العميم.
فلنستفد من هؤلاء:
يعيش العالم الإسلامي اليوم مرحلة مهمة من مراحل أيامه الفاضلة، ألا وهي
موسم الحج، والذي يعود كل عام على المسلمين، حيث يحج كل عام أناس جدد
ومسلمون لم يسبق لهم الحج، وفي حجهم تعليم لهم وتربية، فقد جاؤوا من بلاد
بعيدة ومن كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، جاؤوا ليكتسبوا رضا الله (جل وعلا)
وهم في أمن وطمأنينة، هذه الفئة المؤمنة الصادقة، والتي منها شباب ذوو خبرة
وثقافة علمية وتقنية، ولهم اطلاع واسع على بلادهم وما جاورها.
فلم لا يستفاد من وجود هؤلاء في مجال الإعلام الإسلامي؟ .
إن على الصحافة وهي بحمد الله تشارك في الحج بكل ما تملك من إمكانات
مادية وبشرية أن تجعل من الحج فرصة طيبة لمعرفة العالم الإسلامي، والتعريف
به في الصحافة على صعيد واسع، وينبغي أن تكثف الجهود في الالتقاء
بالشخصيات من ذوي الثقافات المتعددة والمتخصصة؛ لأن في الحجاج أساتذة
جامعات، وأعضاء هيئات تدريس، ومديري معاهد متخصصة، ومسؤولين عن
روافد الفكر في بلادهم، كل هؤلاء حقيقٌ بنا أن نرى ما عندهم فننقله إلى العالم
الإسلامي عبر وسائل الإعلام، مما يضيف رصيداً جديداً للصحافة، ورافداً متميزاً
بالإعلام والتعليم لمعشر المسلمين.
إن العالم الإسلامي وهو يشعر بالوحدة والعزلة، ليسره أن يسهم في كل مكان
بالتعريف بأرضه، بجباله، وبسهوله، بكل بقعة منه لقاطني هذه المعمورة.
ولعل هذه الفكرة أن تكون سهلة التنفيذ، أما مصادر المعرفة للصحفيين فإنها
متوفرة، فمن الحجاج أنفسهم، ومن الأماكن التي تحتفظ بأسماء الحجاج، وخاصة
المطوفين، وجهات أخرى، أعتقد أنها كلها على استعداد لأن تجعل من موسم الحج
مائدة فكرية للقارئ المسلم في كل البلاد.
... ... ... ... ... ... ... ... والله ولي التوفيق،(112/20)
دراسات دعوية
ظواهر الغربة في الصحوة المعاصرة
بقلم: جمال شقدار
(يحاول كاتب المقال من خلال نظرة متأنية الإشارة إلى بعض ظواهر الغربة
في الصحوة الإسلامية المعاصرة، الماثلة على نطاق الجماعات المنتشرة في العالم
الإسلامي، ويعتبر هذا المقال مقدمة تعريفية للاتجاه الذي سيسلكه في النقد الذاتي
لمناهج وسلوكيات الجماعات والفرق عامة، دون التركيز على جماعة أو فرقة
بعينها ... ) .
عندما دخل حكيم الأمة [1] أبو الدرداء على زوجه (رضي الله عنهما) كان
مغضباً مما رآه تغيراً في الناس عن سنة المصطفى، فقال عبارته المشهورة: (ما
أعرف من أمة محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً) [2] ، هذا مع كونه (رضي الله
عنه) لم يعش هذه الغربة طويلاً، فقد لحق بحبيبه، وما رأى الفتن العظام.. مات
قبل مقتل عثمان (رضي الله عنهم جميعاً) .
وقد أحسّ بهذه الغربة الإمام راوية الإسلام [3] خادم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ورفيقه في سفره وإقامته: أنس بن مالك (رضي الله عنه) الذي عاش
بعد أبي الدرداء ما يزيد عن ستين عاماً، فصارح تلميذه الزُهرُي باكياً: (لا أعرف
شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت) [4] .
وهذا الإمام ابن الجوزي صاحب البصيرة النافذة والنظر العميق في أحوال
خواص الأمة قبل عوامها بعد خمسمئة عام من عصر أبي الدرداء يعلق على موقف
حكيم الأمة فيقول: (واعجباً.. كيف لو رآنا اليوم، وما معنا من الشريعة إلا الرسم
..؟ !) [5] .
وقبل أن يظن بعض أهل الصحوة أني أشير بهذه الآثار الثابتة إلى حال عوام
الناس اليوم وغربة الإسلام التي تضج بها سلوكياتهم.. أقول: إن غربة الإسلام في
العوام متوقعة بعد مرور ما يقرب من ألف وأربعمئة عام على العصر الذهبي لصدر
الإسلام، لكن الغريب كل الغرابة أن نعيش الغربة داخل الصحوة ونحن ندّعي أنها
جاءت لتنقذ الأمة وتجدد لها دينها الذي ارتضاه ربنا لها..! ! وأجد أنه من العدل
والموضوعية قبل أن نتطرق للنقد الذاتي لظاهرة الصحوة أن نذكِّر بأن لها من
الإيجابيات الواضحة ما لا ينكرها إلا مكابر، وقد تركت هذه الإيجابيات بصماتها
الواضحة على المسلمين اليوم أفراداً ومجتمعات، ولعله يتيسر لنا يوماً إن شاء الله
رصد هذه الإيجابيات والكتابة عنها بتوسع [6] .
والحقيقة: إن الناظر بعين البصيرة لظاهرة الصحوة في هذا العصر على
اختلاف مناهج فرقها وتعدد اتجاهاتها، يجد كثيراً من الظواهر المَرَضِيّة المتفشية
في مجموع الفرق والجماعات، وعلى جميع المستويات العاملة بها، والقارئ لسيرة
السلف (رضي الله عنهم) بتمعن سيجد نفسه مضطرّاً إلى أن يعقد المقارنة تلو
المقارنة بين حال الصحوة اليوم وما كان عليه السلف في عصر صدر الإسلام [7] ... وسيرى بسهولة مقدار الغربة عن الإسلام في صحوة اليوم، وله أن يتساءل
حينها: أين وحدة المسلمين تحت مظلة الاسم الواحد الذي سماهم به الله في كتابه
العزيز [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ ... ] [الحج: 78] مما هو حاصل اليوم من افتراق
(خواص المسلمين) تحت رايات عديدة وأحزاب شتى [كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] [الروم: 32] ، يكيدون ويحاربون بعضهم بعضاً، ويكيلون التهم جزافاً، بدءاً
من التبديع ومروراً بالعمالة والتفسيق، وانتهاءً بالتكفير..! ! مدفوعين بقوة الجهل
والهوى، جاعلين أنفسهم بما يفعلون في مصاف المفارقين لأهل السنة ... والجماعة [8] .
وله أن يتساءل أيضاً: أين بساطة المعتقد عند السلف ووضوحه عما هو
حاصل اليوم من تتبع عقائد الفرق الضالة حذو القذة بالقذة، وتبني أساليب أهل
الكلام ومتاهاتهم اللفظية والعقدية؟
بل وأين القلوب الهينة اللينة.. ذات النفوس الخاشعة والعيون الدامعة مما
يعاينه أفراد الصحوة على شتى اتجاهاتها من قسوة في القلوب وتفريط في العبادات
كمّاً.. وكيفاً..؟ [9] .
ولا شك أن سبب الغربة عامة وغربة الصحوة بشكل خاص هو: البعد عن
سنة المصطفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، التي تعرف بأفعاله وأقواله
الثابتة وبما سار عليه خلفاؤه وأتباعه في القرون المفضلة.. أما سبب الانحراف عن
هذه الطريقة فهو كما يلخصه لنا الإمام ابن الجوزي (رحمه الله تعالى) : (إما الجهل
بها أو الخروج عليها.. فيجري الإنسان مع الطبع والعادات، وربما اتخذ ما يضاد
الشريعة طريقاً) [10] .
وقلما يجد من عاين أحوال الدعوة وأطوارها شابّاً من أفراد الصحوة لا تنبئ
فعاله قبل مقاله عن بعده عن منهج السلف الصالح.. فتجده يشكو قسوة القلب
وغلظة الطبع وغياب الخشوع في الصلاة وانشغال اللسان عن ذكر الله [11] .
بل وقد يسقط بعضهم في مهاوي الرذيلة سرّاً، فلا يجد ما ينتشله من هذا
التردي سوى التخفي خلف صلاح الظاهر بحجة (إذا بليتم فاستتروا) ، فتكثر البلوى
في الخلوة، ولا تكاد تبين في الخلوة، وبدلاً من الشروع في علاجها وتداركها تراه
يتستر عليها من الناس دون الله (عز وجل) المطلع على السرائر والأحوال.
وقلما يجد الناظر ببصيرة فرقة أو جماعة إلا وَهمّها (الدعوي) الأكبر زيادة
الأتباع، والمسابقة على (اقتناص) الأفراد والمواقع في المجتمعات، وبدلاً من
التركيز على الكيف، كان الكم هو الشاغل الأكبر، ولا شك أن من كثر جمعه
تشتت جهده، فيتربى الأتباع تحت هذه العباءات وداخل هذه الأطر في أجواء
التسابق (الدعوي) المحموم والتعصب المكشوف، فتنمو علومه ومهاراته (الحركية)
على حساب إصلاح النفوس والتخلص من آفات القلوب، وعلى حساب الأنس بالله
(عز وجل) الذي هو غاية المقصود من كل علم وتعليم، ولا شك أن من كانت هذه
أفعالهم فإن لهم (قلوب غافلة عن الله (عز وجل) ، إذ لو كانت لها به معرفة
لاشتغلت به، وكان أنسها بمناجاته، وإيثارها لطاعاته، وإقبالها على الخلوة به،
لكنها لما خلت من هذا تشاغلت بالدنيا، وذلك دنيا مثلها، فإذا خلت بخدمة الله
(تعالى) لم تجد لها طعماً، وكان جمع الناس أحب إليها وزيارة الخلق لها أثر عندها، وهذه علامة الخذلان.
والنفس لا بد لها مما تُشغل به، فمن اشتغل لخدمة الخلق أعرض عن الحق
فإنما يربي رياسته، وذلك مما يوجب الإعراض عن الحق [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... ] [الأحزاب: 4] ) [12] .
وترى همة الفرد في هذه الجماعات قد اقتصرت في سني حياته (الدعوية)
على زيادة أتباع فرقته والذود عن حمى رموز الجماعة، فيضيق مفهوم الولاء
والبراء حتى يصل إلى قناعة (من لم يكن معي فهو ضدي) وتكون قاصمة الظهر..
ضيقاً في الأفق، وفرزاً للناس، وتصنيفاً للعاملين في مسار الدعوة للتعامل معهم
بمقتضى هذا التصنيف سلباً وإيجاباً، وكم جرّ هذا التصنيف من (قارعة في الديار،
بتشويه وجه الحق، والوقوف في سبيله، وضرب للدعوة من حدثاء الأسنان في
عظماء الرجال باحتقارهم وازدرائهم، والاستخفاف بهم وبعلومهم، وإطفاء مواهبهم، وإثارة الشحناء والبغضاء بينهم، وهضم لحقوق المسلمين في دينهم وعرضهم،
وتحجيم لانتشار الدعوة بينهم، بل صناعة توابيت تقبر فيها أنفاس الدعاة ونفائس
دعوتهم) [13] .
وتطفيف المكيال.. وما أدراك ما تطفيف المكيال؟ ترانا نَزِنُ ما لأنفسنا بدقة، ونحاسب ونلوم من نتعامل معه من الخلق.. كيف أنقصنا؟ ! ولِمَ تَجرّأ على ... ذلك؟ ، ونحن أهل الدعوة الحق، الموقعون باسمه (تعالى) ! ! واغتررنا بما زعمناه لأنفسنا وكررناه في تعاملنا مع الله، فإذا أتينا ما يكرهه (سبحانه) ساغ لنا أن ننتظر منه (تعالى) ما نحبه [14] ، وغفلنا أن لا نَسَبَ لأحد مع الله، ونسينا قوله (تعالى) لليهود مؤكداً ميزان العدل عنده (تعالى) : [أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ] [القمر: 43] .
ونتيجة حتمية أخرى من نتائج البعد عن منهج السلف: أن تخطئ بعض
الفرق والجماعات الموزعة في العالم الإسلامي مرة تلو الأخرى في سعيها للتغيير
وإعادة البناء، ويؤدي ذلك إلى ضرب الدعوة وإغلاق مجالات الخير أمام الصالحين، ثم تجيء جماعة أخرى، وفي بلد آخر لتبدأ من الصفر وتقع في التجربة الفاشلة
نفسها [15] ، ولنرى بأعيننا كيف أننا نفتن في كل عقد مرة أو مرتين ثم لا يكون
فينا التائبون ولا يكون فينا المتذكرون!
فإذا كان هذا هو حال جماعات الصحوة على الأغلب، وهو كذلك بلا مجاملة
ولا خداع، فلا بد من مراجعة للمسار وتقويم للصحوة ذاتها ومنهجها، ولا بد أن
يتجرد الناصحون من ذوي البصيرة النافذة والأفق الواسع والمرجعية الشرعية
المستقلة لمدارسة ما للصحوة وما عليها، وإن مما ابتليت به الصحوة أن يكتب مثلي
على ضعف علمه وقلة خبرته ناقداً وسابراً لأغوارها، فلا حول ولا قوة إلا بالله،
غير أن عزائي فيما قلته وسأقوله في هذا المجال: أني مسلمٌ شاء له قدره أن يتطفل
على أهل العلم والاختصاص متجرءاً عليهم؛ لعل وعسى أن يتجرد ناصحوهم
فيتدارسوا أمر هذه الصحوة ويضعوا لها النقاط على الحروف بميثاق شرف يجمع
الأمة مرة أخرى، عوامها وخواصها على ما كان عليه النبي وأصحابه، وليكن
حلف فضول جديد، نُدعى له فنجيب.
... ... ... ... ... ... ... ... والله من وراء القصد،
__________
(1) وصفه بذلك الإمام الذهبي في ترجمته (رضي الله عنه) ، انظر: سير أعلام النبلاء، ج2، ص 335.
(2) الأثر ثابت عنه (رضي الله عنه) ، انظر: صحيح الإمام البخاري، ك/الأذان، ح/613.
(3) وصفه بذلك الإمام الذهبي في ترجمته (رضي الله عنه) ، انظر: سير أعلام النبلاء، ج3، ص 395.
(4) الأثر ثابت عنه (رضي الله عنه) ، انظر: صحيح الإمام البخاري، ح/ 499، وبألفاظ أخرى في ح/498.
(5) انظر: (صيد الخاطر) ، ص255، وله في الكتاب كثير من التعليقات حول بعض الأمراض السلوكية التي تصيب خواص المسلمين والحلول المناسبة لها، مع ملاحظة المآخذ على الكتاب التي ذكرها الأستاذ محمد الحداد في تهذيبه له.
(6) يوجد في المكتبات كثير من الكتب التي تحدثت عن الصحوة سلباً أو إيجاباً، والذي أعتقده: أنه ينقصنا الأسلوب الموضوعي الذي لا يعطي الصحوة حجماً أكبر من حجمها الحقيقي فنعول على خيال، ولا ينكر كل ما لها من إيجابيات فنهضمها حقها.
(7) انظر: تحليل صاحب (المعالم) (رحمه الله) في فصل (جيل قرآني فريد) ، ص 11، وهو يوضح الفروقات التي يعتقد أنها تفصل بين جيل الصحابة (رضوان الله عليهم) وجيل الصحوة اليوم! ! .
(8) انظر: الصفات العامة للمفارقين للسنة والجماعة في الفصل السادس من كتاب (أهل السنة والجماعة) المقتبسة نصوصها من (مجموع الفتاوى) لشيخ الإسلام ابن تيمية، راجع أيضاً الفتاوى، ج3، ص 378.
(9) تأمل سيرة الصحابة (رضوان الله عليهم) وما يدل على لين قلوبهم، وانظر وصف علي (رضي الله عنه) لهم فيما يُروى عنه: (والله لقد رأيت أصحاب محمد، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله (تعالى) ، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله (عز وجل) وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين) ، (تهذيب موعظة المؤمنين، ج2، ص 423) .
(10) صيد الخاطر، ص 255.
(11) قارن حالنا هذا بما روي في سيرة أبي بكر (رضي الله عنه) : (أنه كان بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن) ، حلية الأولياء، ج1، ص 30، هذا في رقة قلوبهم، وانظر: ما روي عن خشوع التابعي القدوة مسلم بن يسار في صلاته كيف (أنه وقع حريق في داره وأطفئ، فلما ذكر له ذلك قال ما شعرت) ، سير أعلام النبلاء، ج4، ص 512، وانظر: ما روي عن أبي الدرداء أنه كان لا يفتر عن الذكر، فقيل له: (كم تسبِّح في كل يوم؟ قال: مئة ألف إلا أن تخطئ الأصابع) ، سير أعلام النبلاء، ج2، ص 348.
(12) الإمام ابن الجوزي في كتابه (صيد الخاطر) ، ص 335.
(13) الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه القيم (تصنيف الناس بين الظن واليقين) ، ص 25.
(14) يقول الإمام ابن الجوزي في فصل (ميزان العدل) في كتابه (صيد الخاطر) ، ص 17: (وأعظم الخلق اغتراراً: مَن أتى ما يكرهه الله، وطلب منه ما يحبه هو، كما روي في الحديث: والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) .
(15) تأمل بعض المعاني المهمة حول هذا الموضوع في مقدمة كتاب (حركة النفس الزكية) للأستاذ محمد العبدة.(112/26)
نص شعري
فارس المنبر
شعر: عبد الله الزهراني
في هذا العام 1417هـ انتقل إلى رحمة الله عالمٌ جليل من علماء الإسلام ...
قضى حياته في الدعوة إلى الله، وفي الصّدْع بكلمة الحق، وفي الذّبِّ عن حياض
الإسلام، تخيّر طريق الدعوة إلى الله بأسلوبه الخاص المؤثر، وعانى في سبيل الله
من حَسَدِ الحُسّاد، وعداوة العلمانيين، حتى أُوقف عن الخطابة، فصَبَرَ واحْتَسَبَ؛
وعمل جاهداً على تفسير القرآن حتى أنجزه، ثم لقي ربّه بما قدّم، نسألُ الله له
الرحمة والمغفرة، ذاكم هو فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك (رحمه الله) ، وفي رثائه
قلتُ هذه الأبيات:
بَكَى الْحِجَازُ، وَضَجّتْ مِصْرُ مِنْ أَلَمِ وأَجْرَتِ الدّمْعَ كالْهَطّالِ فِي الدِّيَمِ
لِفَقْدِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الشّهْمِ حِينَ ثَوَى فَمَوتُهُ ثُلْمَةٌ لِلْخَيرِ وَاًلقِيمِ
لَمّا سَمِعْتُ بموت الشيخ أَفْزَعَنِي كأنّ قَلْبي بسَهْمِ الْحَاسِدينَ رُمِى
كَتّمْتُ حُزْنِي، وَنَارُ الصّبِّ تَحْرِقُني جُرْحُ الْحَبيبِ بِقَلْبِي لَيسَ ذَا أَلَمِ
الله يَعْلَمُ مَا طافَتْ بِذَاكِرَتِي ذِكْرَاكَ إِلاّ سَكَبْتُ الدّمْعَ مِنْ سَقَمِ
مَا زِلْتَ حَيّاً، فَكَمْ مِنْ مَيِّتٍ ذكرت آثاره بينَ أهْلِ الْعِلْمِ والأُمَمِ
لِكنّ فِي أُمّةِ الإسْلامِ طَائفَةً مِنْ نَهْرِ طه تَغَذّتْ أَفْضَلَ الْحِكَمِ
قُلَوبُهُمْ كَقُلُوبِ الطّيرِ لَيِنَةٍ فِي جَانبِ الْخَيرِ، وَالأَحْلاَمُ كَالْعَلَمِ
عَبْدَ الْحَمِيدِ: جَزَاكَ الله مَكْرُمَةً فِي جَنّةِ الْخُلْدِ مَعْصُوماً مِنَ التّهَمِ
أَخْلَصْتَ سَعْيَكَ لِلإِسْلامِ مُجْتَهداً حَتّى رَفَعْتَ شِعَارَ الدِّينِ لِلْقِمَمِ
شَيّدْتَ لِلدِّينَ أَسْوَاراً وَأَبْنِيَةً ولِلْفَضِيلَةِ رُكْناً غَيرَ مُنْهَدِمِ
فِي كُلِّ بَيتٍ يُدَوِّى صُوُتُكُمْ لَهَجاً بِالْحَقِّ يَسْرِى مَسِيرَ النّورِ فِي الظّلَمِ
لَمْ تُؤْثِرِ الصّمْتَ حَتّى اهْتَزّ مِنْبَرُكُمْ كالسّيفِ فِي وَجْهِ أَهْلِ البّغْيِ وَالْجُرُمِ
كَلامُكُمْ فِي رُبُوعِ الأَرْضِ طَارَ بِهِ إِخْلاَصُكُمْ حِينَ صُغْتُمْ حَرْفَهُ بِدَمِ
تَرَكْتَ ذِكْراً لكُمْ في الأَرضِ ينْشُرُهُ فِي الْخَافِقَينِ إِلَهُ البيتِ وَالْحَرَمِ
وَالذِّكْرُ عُمْرٌ جَدِيدٌ لَيسَ يُغْفِلُهُ مَنْ كانَ ذَا هِمّةٍ كَالسّيلِ مُحْتَدِمِ
عُمِرْتَ دَهْراً فَمَا شَابَتْ عَزَائِمُكُمْ والشّيبُ فِي الرّاًسِ غَيرُ الشّيبِ فِي الْهِمَمِ
أَمْسَكْتَ بِالْعُرْوَةِ الْوْثقَى فَمَا سَمِعَتْ أُذْنَاكَ عَنْ لَومِ مَاًفُونٍ وَلا قَزَمِ
غَرَفْتَ مِنْ نَهْرِ فَارُوقٍ وَحِكْمَتِهِ وَمِنْ خِصَالِ عَليٍّ أَفْضَلَ الشِيَمِ
تَرَكْتَ فَارُوقَ مِصْرٍ أَو خُدِيوِيَهَا وكُلّ أَرْعَنَ جَبّارٍ وُمُنْتَقِمِ
لا شَمْسُ بَدْران أَو بَسْيُونِي أَرْهَبَكُمْ فَأَنْتَ ليثٌ، وهُمْ أَدْنى مِنَ الرّخَمِ
مَا رَاعَكُمْ سَوطُ جَلادٍ وَشِدّتُهُ وَلاَ عَزَائِمُكُمْ خَارَتْ مِنَ الأَلَمِ
فِي سِجْنِ يُوسُفَ عِشتَ الْعُمْرَ مُحْتَسِباً وَالسِجْنُ مَدْرَسَةُ الأَبْطالِ والْبُهَمِ
سَوَادُ عَينَيكَ زَادَ الْقَلْبَ فَاجْتَمَعَا عَلَى الْعُلُومِ بِعَزْمٍ غَيرِ مُنْصَرِمِ
عَبْدَ الْحَمِيدِ سَأَلْتُ الله مَسْأَلةً أَنْ يَجْعَلَ المُلْتَقى فِي جنّةِ النّعَمِ
مَعَ النّبِيِّينَ وَالأَخْيارِ قُدْوَتِنَا مَعَ الرّسُولِ أبي الأيتَامِ وَالْكَرَمِ
مَعَ الصّحَابَةِ لا حُزْنٌ وَلا سَقَمٌ وَلا هُمُومٌ، وَلا نَشْكُو مِنَ الْهَرَمِ
بَينِي وبَينَكَ دِينُ الله يَجْمَعُنَا مَا جَمّعَتْنَا عُرَى الأَنسَابِ وَاللّحَمِ(112/32)
مرتكزات للفهم والعمل
الخشوع
منزلته، موجباته، آثاره
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
الخشوع: ضراعة القلب، وطمأنينته وسكونه لله (تعالى) ، وانكساره بين
يديه، ذلاّ، وافتقاراً، وإيماناً به وبلقائه.
ومحل الخشوع: القلب، وثمرته: تظهر على الجوارح، ولذا قيل: إذا
ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلك لأن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء،
تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، فيمثل الخشوع إذن: الانقياد التام لأوامر الله
ونواهيه، والعكوف على العمل من غير توانٍ ولا فتور.
منزلة الخشوع من الإيمان:
الخشوع من الإيمان؛ الذي هو في القلب، وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب،
وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، كما أنه ينقص بمرض القلب،
ويذهب بموته، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات، فعلى المسلم أن يتعاهد
قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع.
والله (عز وجل) يريد من عباده الترقي في سلم الإيمان، ودرجات اليقين،
ولذا: عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع؛ حيث تدل حركتهم البطيئة على
ضعف لا يرضاه الله للعصبة المؤمنة حاملة المنهج الرباني، لتبليغه للناس كافة؛
عاتبهم فقال: [أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ
وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ
فَاسِقُونَ] [الحديد: 16] ، وفي الآية تلويح بما كان عليه أهل الكتاب من قسوة
أورثتهم الفسق في الأعمال، ومن هنا كان التحذير الشديد من مآلهم، حيث طال
عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وذهب إيقانهم.
ثم قطع الله دابر اليأس، وبَعَث الأمل؛ فإن القلب القاسي يمكن عودته إلى الله
وإقباله عليه؛ كالأرض يحييها الله بعد موتها، قال (تعالى) : [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [الحديد: 17] ، خاطبهم
بكل ذلك؛ ليزدادوا قرباً منه (تعالى) ، فتوجل قلوبهم لذكره، وتسكن قلوبهم لأمره؛
ليكونوا من المخبتين، فيتأهلوا لدار كرامته، ويصيروا من أهل النفوس المطمئنة
لتُنادى بالنداء الكريم العظيم: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي] [الفجر: 27 -30] .
هذا هو خشوع الإيمان الذي يريده الله من عباده، ليس منه الزعيق والصياح، ولا الرقص والتصفيق، ولا ضرب الخدود وشق الجيوب. وشتان بين خشوع
الإيمان وخشوع النفاق الذي يبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً ومراءاة، مع كون
القلب غير خاشع، والنفس منطوية على إرادة الشهوات [1] .
وقد رأينا ثمرة هذا الخشوع الإيماني في حياة سيد الخاشعين، الذي كان له في
الانكسار لله (تعالى) والذل بين يديه أكمل الأحوال، فقد رؤي يصلي، وفي صدره
أزيز كأزيز الرحى أي الطاحون من البكاء [2] ، وربما بكى فبلّ حِجْرَه، ولحيته،
والأرض تحته [3] ، وكان كثير الذكر والاستغفار والتوبة، وكذا صاحبه الصديق
(رضي الله عنه) كان وجلاً رقيقاً، إذا صلى أو قرأ القرآن بكى [4] ، وأما الفاروق
فيكفيك أنه مرض مرة لسماع القرآن وعاده الناس في مرضه لا يدرون ما به!
وقد أصاب سهمٌ أحدَ الصحابة وهو في صلاته فأزاله ورماه وأتمّ صلاته.
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من
شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في
واقع حياتنا [5] .
مكانة الخشوع وفضائله:
والخشوع علم نافع؛ لأن العلم النافع ما أوجب خشية القلوب، لذا: كان
يستعيذ من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا تُسمع، فإن
القلب الذي لا يخشع: علمه لا ينفع، ودعاؤه لا يسمع.
وهذا العلم النافع هو أول ما يرفع من الأمة، كما في الحديث: (أول ما يرفع
من الناس الخشوع) [6] ، وبذهاب الخشوع تكون العبادة بغير روح، وهذا أمر
يورث الخوف على القلب، وتفقده دائماً.
وفضائل الخشوع كثيرة: فهو يقرب القلب من الله، فيمتلئ نوراً، فينتفع
صاحبه بآيات الله الشرعية، والكونية، ويكون له في كل نظرة عِبرة، وعَبْرة.
ويقي صاحبه من غوائل العجب والغرور والإدلال والرياء. وبه تُستنزل رحمة الله
(تعالى) ، وأعظمها: حصول البشرى [وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ] [الحج: 34] ، وبه ... ينال الأجر العظيم، فالخشوع طريق الفلاح الموصل إلى الجنة: [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ] [المؤمنون: 1، 2] ، ثم قال: [أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ (10) الَذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] [المؤمنون: 10، 11] .
مواطن الخشوع [7] :
وهي كثيرة، ولكنه ارتبط بالصلاة أكثر من غيرها، فلا يُذكر إلا وينصرف
الذهن إليها؛ لأن أعمالها تتضمن الذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، والركوع،
والسجود، وهي مواطن الخضوع والبكاء والخشية والتخشع.
وقد أمر الله (تعالى) بإقامة الصلاة، وإقامتها تعني: أداءها كما أمر الله
ورسوله، بتوجه القلب والجسد كلية إلى الله (تعالى) ، وبالخشوع فيها يجمع
المصلي بين طهارة الظاهر والباطن، ثم إن المغفرة وتكفير السيئات ورفعة
الدرجات مرتبة على قدر الإحسان في أداء الصلاة، وقد بلغ من منزلة الخشوع فيها
أن الله (سبحانه) جعل الصلاة الخاشعة أول صفات المؤمنين المفلحين الوارثين
للفردوس، حتى اختلف الفقهاء في الاعتداد بالصلاة التي لا خشوع فيها! ! ، وإن
كان يسقط أداؤها، لكن الأجر بعيد.
والصلاة مرآة لإيمان المصلي، فخشوعها الباطن مرآة القلب، وخشوعها
الظاهر مرآة الجوارح، وفي بيان صلة الخشوع بالإيمان قال (تعالى) : [قَدْ أَفْلَحَ
المُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ] [المؤمنون: 1، 2] ، وكما أن كل
زيادة في الإيمان تزيد في الخشوع، فإن الصلاة من أعظم أعمال الإيمان،
وخشوعها يزيد الإيمان.
إن تفاعل المسلم مع صلاته لا ينبغي أن ينفصل عن تفاعله مع بقية إسلامه:
علماً، وعبادة، ودعوة، فالذي يعيش الإسلام، ويعيش للإسلام، ويحاول أن
يستأنف حياة إسلامية في شخصه ومجتمعه، تنفتح له آفاق من الخشوع عند الصلاة
والذكر والتلاوة والتفكر، لا تنفتح لغيره، فيجد لعبادته هذه حلاوة.
موجبات الخشوع (الطرق الموصلة إليه) :
إن مما يحصّل به المسلم الخشوع:
1- تلقي أوامر الله (تعالى) بالقبول والامتثال، وعدم معارضتها بشهوة أو
رأي.
2- الحرص على الإخلاص، وإخفاء الأعمال عن الخلق قدر المستطاع،
ومطالعة عيوب النفس ونقائص الأعمال ومفسداتها من الكبر والعجب والرياء
وضعف الصدق، والتقصير في إكمال العمل وإتمامه.
3- الإشفاق من رد الأعمال وعدم قبولها.
4- مشاهدة فضل الله وإحسانه، والحياء منه؛ لاطلاعه على تفاصيل ما في
القلوب، وتذكر الموقف والمقام بين يديه، والخوف منه، وإظهار الضعف
والافتقار إليه والتعلق به دون غيره.
5- طلب هدايته وتوفيقه وتسديده.
6- ومن أعظم الطرق: معرفة الله (جل جلاله) بأسمائه الحسنى وصفاته
العلا.. والعلم النافع، وهو: العلم بآيات الله الكونية والشرعية، الذي يربط القلب
بالله.
وكذلك الإكثار من ذكر الموت، والجنة والنار، والإكثار من ذكر الله تضرعاً
وخِيفة، ودعائه تضرعاً وخُفية، فإن ذلك أعظم إيماناً وأبلغ في الأدب، والتعظيم،
والتضرع، والخشوع، والإخلاص، وجمعية القلب على الله (تعالى) .
ويمكن تحصيل ذلك كله بالإقبال على كتاب الله الكريم، مع تعاهد التلاوة،
وإدامة النظر، وطول التأمل وكثرة التدبر، الذي يورث الصلة بالله (تعالى) ،
والمسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات، وهو الأمر الذي لأجله أنزل الله
القرآن الكريم.
وأما الصلاة: فإن تفصيل الطرق الموصلة إلى الخشوع فيها يطول، ولكن
هذه بعض مفاتيحها:
1- العلم بمنزلة الصلاة، والإلمام ببعض أسرارها، وهو الأمر الذي لا يهتم
به إلا قليل من الناس.
2- المحافظة على آدابها الظاهرة حال التطهر والاستعداد لها والخروج إليها،
والاعتدال والاطمئنان في كل أركان الصلاة وأجزائها، مما يحقق خشوع الظاهر،
فيساعد على خشوع الباطن.
3- التحقق بخشوع القلب، وتجريده من الرياء، فإنه لا خشوع بلا إخلاص، ولا بد منهما جميعاً، فإن ذهاب أحدهما يتعلق به ذهاب الآخر، قال (تعالى) : ... [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ] [الماعون: 4 - 6] .
أما الوساوس والخطرات فأفضل شيء لها: التخلص من الشواغل قبل
الدخول في الصلاة، والتحصن ضدها بعد الدخول في الصلاة، وذلك أمر يحتاج
إلى طول المجاهدة وإدامة الصبر حتى يبدأ القلب في الخشوع مرة تليها ثانية، حتى
يصير الخشوع صفة من صفات القلب اللازمة له، والله المستعان.
4- تدبر معاني الأقوال، وأسرار الأفعال في الصلاة، وهي مجال خصب
وبحر لا ساحل له.
5- النظر في سير الخاشعين أحياءً وأمواتاً.
6- قيام الليل، وهو مدرسة تعلم الخشوع والإخلاص.
علامات الخشوع:
وهي أمارات يتعرف بها الإنسان على حال قلبه، ومنها:
حب الصلاة والاشتياق إليها، والمسارعة إليها، وكونها سهلة خفيفة تشرح
الصدر ويطمئن لها القلب.
حضور القلب عند تلاوة القرآن، والذكر والدعاء، وسماع المواعظ
والخطب، وتدبر كل ذلك بيسر وسهولة.
دوام الشكر عند حصول النعم واندفاع النقم، وبقاء القلب على وجل من كون
ذلك استدراجاً.
دوام الصبر عند وقوع البلاء وتلقيه بالرضى والاستسلام والطمأنينة.
كثرة التدبر والتأمل والتفكر في مخلوقات الله، وفي حال النفس، وأحوال
العصاة، والشفقة عليهم، وسؤال الله العافية.
ومما ذكر الله من صفات الخاشعين: الخوف من الله بمجرد ذكر اسمه،
والبكاء من خشيته، وعند سماع كلامه، والصبر، وإقامة الصلاة، والإنفاق،
وتعظيم شعائر الله، واليقين بملاقاة الله (تعالى) ، والمسارعة في الخيرات، ودعاء
الله رغَباً ورهَباً.
آثار الخشوع:
يضفي الخشوع على الأفراد والأمم آثاراً كثيرة، منها:
1- أنه يبعث الحياة في العمل، فيؤتي ثمرته المرجوة وغايته المقصودة.
2- أنه يجعل العبادة محببة للنفس، خفيفة غير ثقيلة.
3- المسارعة إلى الإذعان للحق والدعوة إليه، وبذل غاية الوسع في التعليم
والدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- توحيد المشاعر والاتجاهات والمقاصد نحو الله (تعالى) لاشريك له،
فيتوجه العمل والنشاط والعبادة نحو غاية واحدة، فيحصل من ذلك:
إحياء الأمة وقوتها وانتصارها، بصلاة الخاشعين ودعائهم وإخلاصهم، ولا
يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وقد لمسنا آثار الخشوع في حياة سلف هذه الأمة الذين قاموا بأمر الله خير قيام، وحملوا لواء العلم والعبادة والدعوة، وما كان ليحصل ذلك لولا ما تحمله قلوبهم
من تعظيم الله ومحبته وخشيته.
وإذا لم يكن الخشوع صفة الدعاة وحالهم، فإن الخطْب جلل، والمصيبة
عظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نسألك يا مقلب القلوب أن تُلزم قلوبنا خشيتك، وأن تعمرها بتعظيمك،
وتملأها بالذل لك [*] .
__________
(1) انظر: الروح، لابن القيم، ص 520، 521.
(2) سنن أبي داود، ح/904، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح/799.
(3) أخرجه ابن حبان، ح/620، وصحح محققه إسناده.
(4) صحيح مسلم، ح/418.
(5) انظر رسالة قيمة لعبد الملك القاسم بعنوان (والثمن الجنة) ، فقد ملأها من مثل تلك المواقف.
(6) أخرجه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، ح/ 2576.
(7) كُتب كثيراً عن الخشوع في الصلاة، ومما استفدت منه استفادة كبيرة: رسالة د محمد عز الدين توفيق (الخشوع في الصلاة) ، فما رأيت أنفع منها.
(*) من مراجع هذا الموضوع المهمة أيضاً: مدارج السالكين، لابن القيم، الجزء الأول مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة الخشوع وأثره في بناء الأمة، سليم الهلالي.(112/34)
بأقلامهن
كيف نتحرر من أفكارنا الخاطئة؟
بقلم:فاطمة محمد الخراز
كلّ فرد منا له منظارٌ خاص ينظر من خلاله إلى الأشياء المحيطة به، وكلّ
منا له وجهة نظره تجاه الأحداث والمجريات، فهناك من يتعامل مع الأحداث بشيء
من الحكمة، وهناك من يرى أن من الحكمة أن يُفل الحديد بالحديد، وهناك من
ينظر من عدسة مظلمة فلا يرى سوى لونين: الأسود، والأبيض الممتزج بشيء
من الكدرة والظلام، وفي الطرف الآخر: نجد الإنسان الذي أحسن تنظيف عدسته
فأصبح يرى الأشياء على حقيقتها الأسود أسود والأبيض أبيض، وكذا: الأخضر،
والأحمر، وسائر الألوان، فأصبح يتعامل معها ويمزج بعضها ببعض فيخرج لنا
بلوحات رائعة من الرؤية الصحيحة والفهم السليم.
وقد تشاهد امرأة تجني على أطفالها بالضرب حيناً وبالتقريع الكلامي حيناً
آخر، وقد تسمع وربما تشاهد المعلم الذي يلطم طفلاً على وجهه لأنه لم يحسن فهم
مسألة ما، ولو فتشنا في خبايا العقل الباطن لكلٍّ من هذين النموذجين فربما نجد أن
الأم ربما تسلك هذا السلوك للتنفيس عن المشاعر المكبوتة لديها تجاه الأب! ، فقد
يكون الأب على خلاف معها، فهي تنتقم من الأب من خلال الأطفال دون أن تشعر.. أما بالنسبة للمعلم: فإنّه ربما يكون قد تعرض في صغره لصفعة مماثلة، فهو
يريد الانتقام، أو أنه يحمل في طيات نفسه شعوراً بالعظمة جعله يحتقر كل من لم
يفهم وكل من يتعثر.. وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح.
كثيراً ما تتكدر الأسماع عند الإنصات لفئة من الناس جعلت أكل اللحوم
البشرية مهنتها السائغة، فهي لا تفتأ في كل مناسبة عن إثارة الزوابع الكلامية،
وتطعن في فلان وفلانة وتتفنن بالشماتة من هذا وذاك، إن سمعت خيراً تسترت
عليه، وربما ينطبق على هذه الفئة المثل العامي: (كلّ يرى الناس بعين طبعه) ..
معنى ذلك: أن المسألة مرتبطةٌ بالطبع، والطبع ناتج عن العادات، والعادات ناتجة
عن النوايا، والنوايا تعني الأفكار، إذن: الفكرة هي مصدر الهم والقول والعمل،
فإذا كانت الفكرة حسنة اتخذ صاحبها وسيلة حسنة وتوصل إلى قولٍ حسن أو فعل
حسن، وإن كانت الفكرة بخلاف ذلك امتطى صاحبها حصاناً جامحاً لم يسرج، فما
يلبث أن يجد نفسه واقعاً تحت حوافره، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
حين قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) [1] .
إن كثيراً من التخبطات التي يعيشها الأفراد والجماعات ناتجة عن سوء
التفكير، وإذا تأملنا حياة إنسانٍ وُفرت له جميع وسائل الرفاهية والراحة والسعادة
ثم لم نجده قد حظي بشيء من ذلك أو شعر به، فما علينا إلا أن ننقب في فكره،
فالترسبات الفكرية التي مرّ بها الإنسان لها دور كبير في دفع حياته للأمام أو الخلف
وإن كانت جيدة، فلا يصح أن نطلق عليها ترسبات، وإنما هي شحنات إيجابية،
أما ترسبات الماضي التائهة في محيط النفس والمدفونة في القاع فقد تأتي عليها
لحظة فتقفز إلى السطح.. فنرى الإنسان يتصرف تصرفات غير واعية ... وحينما
يلام تكون إجابته: لا أدري ما الذي جعلني أتخذ هذا الموقف أو أتفوّه بتلك الكلمة أو
أتصرف ذلك التصرف! .. ولم يدرِ أنها مخلفات الماضي التي لم يسعَ إلى طردها
من فكره.
الإنسان الذي ينظر لنفسه دائماً ويتصرف من منطلق النصرة والثأر لكرامتها
ليس إلا إنسان طغت لديه (الأنا) ، فهو أناني محبّ لذاته (لذاته فقط) وليس أحد
سواه، ولسان حاله: (أنا ومن بعدي الطوفان) ، فالمهم (هو) ، والمحور (هو) ،
وبؤرة العدسة والشعور (هو) .. والإنسان الذي ينظر إلى الناس: كيف يرونني؟ ،
وكيف أجعل الوجوه تنصرفُ إليّ؟ ، وكيف يهب الآخرون إجلالاً واحتراماً لي؟ فهذا إنسان جعل نفسه عبداً من عبيد الناس، يلهث ويلهث دون جدوى، كلما
رأى الناس تهوى أمراً فعله! ، ولم يعلم أن رضا الناس غاية لا تدرك، ولم يعلم
حقيقة معنى قوله (تعالى) : [وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ... اللَّهِ ... ] [الأنعام: 116] .
إن الأفكار أيّاً كانت حسنة أوسيئة ما هي إلا بذرة تخرج ثمارها في سلوكنا
وتصرفاتنا، وكل فكرة تحدث في وعينا الداخلي قوة تبعثه نحو سلوك معين، وإلى
هذا يشير المثل الصيني: (كما تفكرون تكونون) ، فكل إنسان يحمل في نفسه بذور
حقد دفينة، سيأتي لها لحظة تظهر فيها شجرة الزقوم.. وكل إنسان يحمل الغرور
أو الكبر أو الحسد أو الأنانية ... ولا يُظهر تلك المشاعر، فحتماً سيأتي موقف
يخرج غيظ صدره، وسيأتي موقف تُسقى به تلك البذور بماءٍ غساق، لتخرج
شجرة طلعها كأنه رؤوس الشياطين، فوراء كل فكرة هدف يسعى الإنسان للوصول
إليه، شعر بذلك أم لم يشعر، ووجود الهدف يولد الفكرة التي تشكل النوايا تجاه هذا
الهدف، والفكرة تزرع الأقوال والأفعال، ومن تراكم الأقوال والأفعال تنبثق
العادات، ومن العادات ترسخ شجرة الطبائع فيصبح الإنسان متطبعاً بأمرٍ قد يرفضه، ثم يقول: ماذا أفعل؟ ، وهنا يأتي دور الإنسان للبحث عن مخرج ولمحاولة
التحرر وتحطيم تلك الترسبات المتمثلة في الأفكار الخاطئة المنبعثة من قلب رازح
تحت وطأتها، وبالتالي: يحرز الإنسان النصر على أقواله وأفعاله ويقوِّم ما أعوج
منها.. كل شيء في الطبيعة الإنسانية قابل للتحول والتبدل، وأكبر مثال على ذلك: صحابة رسول الله (رضي الله عنهم أجمعين) ، فقد أمضوا سنين طوالاً تحت
وطأة المعصية قبل بعثته، وحين استجابوا لنداء ربهم تمردوا على تلك الطبائع
وتحرروا من قيود المعاصي، فملكوا العالم وفتحو مشارق الأرض ومغاربها.
فإذا كنت تمتلك طبائع أقضت مضجعك لسوئها فما عليك إلا أن تبني في نفسك
عزيمة صادقة على رفض تلك النوايا وتلك الطبائع، ورفضك لها يعتبر نقطة
البداية في التغيير وفي التحرر من الأفكار الخاطئة والأقوال المبتذلة والأفعال
المتسمة بالفوضى، ليسعك أن تهنأ براحة ضميرك وطمأنينة نفسك.
ولكي يتحرر الإنسان من تلك الأفكار فعليه أن يعلن الحرب عليها متسلحاً
بسلاحين لا غنى له عنهما:
1- إرادة قوية وعزيمة صادقة على تغيير تلك الأفكار لخطورتها.
2- إخضاع تلك الأفكار وفق ما يرضي الله.
إن العاقل من الناس يفكر دوماً باتجاه صحيح وفي مسار صحيح، متجرداً عن
كل ما من شأنه أن يعرقل مسيرة تفكيره من رواسب الماضي ومخاوف المستقبل؛
فرواسب الماضي ومخاوف المستقبل هما العنصران المحركان لكل تفكير خاطئ،
ولكل تصرف عشوائي، ولكل نظرة سوداوية، والمسلم في منجاة من ذلك كله؛
لأنه يعلم أن ما حدث له في الماضي هو بقضاء الله وقدره، وحسبه منه أن يأخذ
منه عظة وعبرة.. وحسبهُ منه أن لله حكمة فيما يحدث إن لم تبدُ له الآن فستبدو له
بعد حين، أما بالنسبة للمستقبل: فهو على يقين من قوله (تعالى) : [قُل لَّن يُصِيبَنَا
إلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ... ] [التوبة: 51] .
حين نزرع في أنفسنا أفكاراً سامية فلا بد أن تكون مغارس بذورها طيبة،
فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، فكثير من الناس يتشدقون بالأفكار النبيلة والكلمات
اللطيفة ويبنون مدينة الفضيلة، ثم إذا نظرت في أيديهم وجدتها صفراً من تلك القيم
والأفكار والمبادئ.. أجل، لقد تعبوا في جمع شرانق دودة القز وواصلوا السهر
لنسيج الحرير، ولكن لحظة امتحان إثر موقف مثير يجعلهم يحدثون ثورة عارمة
فيتمزق الحرير الذي نسجوه وتتطاير الشرانق.. لقد كانت أفكارهم سامية، ولكن
كان ينقصها أهم عامل يبعث فيها الحياة: كان ينقصها الصدق، ولم تكن تلك
الأفكار إلا أهدافاً شخصية لواضعيها وللمتغنين بها.. فلنحذر الأفكار الزائفة؛ لأنها
ستجعل منا فريسة لمواقف تكشف سوء النوايا، قال الشاعر زهير بن أبي سلمى:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
إذن: لتكن لنا أفكارٌ فاعلة، ولكن ليكن منبتها على أسس شرعية؛ فحين
نعلن الحرب على العادات والطبائع علينا أن نجتثها من جذورها حتى لا تخرج لنا
على لون أو شكل آخر، ولننظر في خبايا النفس لنكشف النقاب عن سرِّ تلك
العادات، ومن ثم: نتخلص منها، فالطبيب يبحث عن سبب المرض ثم يمنح
الدواء، والشفاء يكون من عند الله.
إن مواقف الاختبار التي يمرّ بها الإنسان كثيرة.. كثيرة جدّاً، وهي جديرة
أن تجعله يقف مع نفسه وقفات عدة.
حاول ألا يصدر منك ما لا ترضاه.. بل ما لا يرضاه الله من قول أو فعل أو
هم أو فكر.. احرص أن تكون الأفكار التي ترتضيها لنفسك من المعدن النفيس،
من الكتاب والسنة.. وحينما يمر بك موقف أو تصرف أو يطوف بك طائفٌ ما،
فلا تتسرع بإصدار الحكم أو التفوه بكلمة أو اتخاذ قرار معين، بل امنح نفسك
فرصة للتروي ومراجعة الحسابات: [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ] [الأعراف: 201] ، فإذا الفجائية تأتي مباشرة بعد
التذكر [تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ] ، فالإبصار يأتي مباشرة بعد التذكر فيخنس
الشيطان ويندحر.. معنى ذلك: أن التذكر منحهم فرصة للتروي والأناة، فقد ورد
عن السلف الصالح (رضوان الله عليهم) : (إذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه
تسبيحاً) .. إن هذا التسبيح يمنحك فرصة كبرى للتروي، وبالتالي: يدفعك للنجاح
في الموقف الذي أنت بصدده.
هذا يعني أن المسلم أكثر الناس قدرة على التفكير السليم المجرد عن الأهواء
الذاتية؛ فالمسلم حينما يرى نفسه في موقف يفقده احترامه بين الناس، أو يهزّ من
شخصيته، أو يغيظه، أو يمنح غيره تفوقاً هو أجدر الناس به.. فما عليه إلا أن
يرى الأشياء من منظار نقي لا يخطئ.. منظار: ما التصرف الذي يرضي الله
والجدير بخلق المسلم في هذا الموقف؟ .. وحينما يُخضِع المسلم آراءه وفق ما
يرضي الله فسيكون على البينة؛ لأن الإنسان، مهما بلغ من رجاحة العقل ومتانة
الفكر، فهو في طور الإنسانية المعرضة للخطأ المتكرر.. أما إذا أخضع أفكاره
وردود فعله وتصرفاته لله (سبحانه وتعالى) : فإنه سيكون بمنأى عن البوار، وهو
الرابح بإذن الله وإن كثرت في طريقه العقبات [أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ] [محمد: 14] .
مما لا شك فيه أن هناك فرقاً واضحاً بين حكمة الأنبياء ومن سار على دربهم
من العلماء والحكماء والعقلاء، بين تلك الحكمة وآراء الناس سواهم، وفرق شاسع
بين من يكون على بينة من ربه ومن يتبع هواه.
إن المسلم حين يعثر يُقيل عثرته القرآن، وصدق أحد السلف حين قال: (من
قرأ القرآن مُتِع بعقله وإن بلغ مئتي سنة) .
فكِّر وفق ما يرضي الله، وافعل ما يرضي الله، ستجد أنك على الجادة التي
يرضاها الله.
__________
(1) متفق عليه.(112/42)
مقال
قصة موسى (عليه السلام) والخضر
دراسة تعاقدية
بقلم: عدلي علي حماد
سورة الكهف من السور المكية، وقد عرضت هذه السورة ثلاث قصص
من قصص القرآن العظيم، وهي: قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى (عليه
السلام) مع الخضر، وقصة ذي القرنين.
فقد حكت لنا سورة الكهف بيان أحداث قصة نبي الله موسى (عليه السلام) مع العبد الصالح الخضر، التي سوف أستعرضها بإذن الله في ... دراسة لهذه القصة من ناحية العلاقة التعاقدية التي نشأت بين موسى والخضر، وما هي طبيعتها، والأحكام المستفادة منها، وبالأخص النقاط التالية:
1- طبيعة العلاقة.
2- الشروط المتبادلة.
3- الإنذار عند الإخلال بالتعاقد.
4- فسخ العقد.
5- آثار فسخ العقد.
أولاً: طبيعة العلاقة:
تبدأ القصة بذكر عزم موسى (عليه السلام) على الرحلة إلى مَجْمع البحرين
في طلب العلم، كما قال (تعالى) : [وَإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ
البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً] [الكهف: 60] .
وقد ذكر المفسرون أن سبب قول موسى (عليه السلام) لفتاه وهو (يوشع بن
نون) هذا الكلام: أنه ذكر له أن هناك عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من
العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه: [لا أَبْرَحُ] ، أي:
لا أزال سائراً حتى أبلغ مجمع البحرين، قال قتادة: هما بحر فارس مما يلي
المشرق وبحر الروم مما يلي المغرب، وقال محمد بن كعب القرظي: مجمع
البحرين عند طنجة، والله أعلم [1] .
[فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] [الكهف: 65، 66] ،
لقي موسى (عليه السلام) الخضر، وهو عبد صالح وهبه الله نعمة عظيمة من العلم، وفضلاً كبيراً، وهي: الكرامات التي أظهرها الله على يديه، [مِن لَّدُنَّا عِلْماً] ،
أي: علماً خالصاً بنا، لا يُعلم إلا بأمرنا، وهو علم الغيوب، وهو العلم الرباني
ثمرة الإخلاص، ويسمى (العلم اللدُنِّي) ، يورثه الله لمن يشاء من عباده، قال ابن
عطية: (كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطي ظواهر
لأحكام أفعاله بحسبها) [2] .
[قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلََى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] ، أي: هل
تأذن لي في مرافقتك؛ لأقتبس من علمك ما يرشدني في حياتي؟ ، وهنا يظهر لنا
من واقع قصة موسى (عليه السلام) مع الخضر: أن هناك علاقة تعاقدية قد نشأت
بينهما، ينطبق عليها تعريف العقد، وهو لغة: (الجمع بين أطراف الشيء وربطه) ، واصطلاحاً: (ارتباط الإيجاب بالقبول الصادر من أحد المتعاقدين بقبول الآخر
على وجه يثبت أثره في المعقود عليه) ، وأركان العقد هي:
أ - العاقدان، أو طرفا العقد (موسى والخضر) .
ب - محل العقد، أو المعقود عليه (مرافقة موسى للخضر) .
ج - موضوع العقد (تعليم الخضر لموسى) .
د - عناصر العقد (الرحلة في طلب العلم) .
1- صدور طلب المرافقة من موسى (الإيجاب) ، وهي مخاطبة فيها ملاطفة
وتواضع من نبي الله الكريم، وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم
منه، وتعريف الإيجاب: (أنه ما صدر أولاً من أحد المتعاقدين دالاّ على رضاه
بالعقد) ، وقال الجمهور: (هو الصادر ممن يكون منه التمليك سواء صدر أولاً أو
ثانياً) [3] : أي: إن القبول كان من موسى والإيجاب من الخضر.
2- رد الخضر: يظهر منه عدم المخالفة في قبول اتباع موسى (عليه السلام)
له، ولكنه تحفظ في القبول التام؛ لعلمه بعدم قدرة موسى (عليه السلام) على الصبر
[قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً]
[الكهف: 67، 68] ، فبين له طبيعة الرحلة، وهذا أمر مهم، فعلى الطرف
المتعاقد أن يوضح للطرف الآخر قبل التعاقد ماهية:
أ- المؤهلات المطلوبة من المتعاقد.
ب- بيان طبيعة المهمة المطلوبة منه؛ حتى لا يفاجأ بها وتكون سبباً للخلاف، وهي الجهالة المنهي عنها شرعاً.
3- ويُعَد صدور (القبول) من الخضر مشروطاً [قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْراً] أي: إنك لا تستطيع الصبر على ما ترى، قال ابن عباس: لن تصبر
على صنعي؛ لأني عُلمت من غيب علم ربي [4] ، ويعتبر هذا قبولاً من الخضر
بمرافقة موسى له، حتى وإن لم يصدر بصيغة القبول الصريح، لأنه لما أجابه
موسى (عليه السلام) باستعداده للالتزام بالشرط لم يحتج الأمر لصدور قبول ثانٍ من
الخضر، وتعريف القبول: (هو ما صدر ممن يصير إليه الملك دالاً على رضاه بما
أوجبه الطرف الآخر) ، شرح الخضر سبب اشتراطه ذلك [وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا
لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً] ، أي: كيف تصبر على أمر ظاهره منكر وأنت لاتعلم باطنه.
4- تأكيد موسى لاستعداده تحمل مشاق الرحلة والالتزام بأوامر الخضر، ... [قَالَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً] [الكهف: 69] ، أي:
ألزمت نفسي طاعتك، فزاد موسى (عليه السلام) على ذلك أن اشترط على نفسه
بجانب الصبر على ما يراه من الخضر عدم العصيان لأوامره، مع استثنائه وربط
ذلك بمشيئة الله (عز وجل) ، كما قال (تعالى) : [وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ
غَداً (23) إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ... ] [الكهف: 23، 24] ، لذا: قال ابن عباس في
الرجل يحلف، قال: له أن يستثني ولو إلى سنة [5] ، كما يستحب الاستثناء في
الحلف لحديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من حلف
على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى) [6] ، وكما جاء في الصحيحين عن أبي
هريرة (رضي الله عنه) في قصة سليمان بن داود (عليهما السلام) أنه قال:
(لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله،
فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف
إنسان، فقال الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء
الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته) [7] .
5- على هذا الأساس تم إبرام العقد بناء على طلب موسى (عليه السلام)
بقوله: [هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] ، سؤال تلطيف على وجه
الطلب لا الإلزام والإجبار، فهو إيجاب من موسى يبدي استعداده لاتباع الخضر في
مسيرته ورحلته مقابل شيء واحد: أن يعلمه مما عُلم رشداً، وهذا هو محل العقد
أو العوض الذي طلبه موسى (عليه السلام) مقابل الاتباع، فيجوز أن يكون العوض
ماديّاً، أو عينيّاً، أو خدمة مثل خدمة موسى لشعيب مقابل إنكاحه له إحدى بناته ... [قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَاًجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ] [القصص: 27] .
فتكون قد تكاملت بذلك أركان العقد من تبادل الإيجاب والقبول، والاتفاق على
موضوع العقد، والتزام موسى والخضر بذلك، ولم يكتبا ذلك، ولم يُشهِدا أحداً،
مما يدل على أن الكتابة والشهود ليسا من شروط صحة العقد.
ثانياً: الشروط المتبادلة:
1- يتضح من الآيات التي مرت بنا أن كل طرف قد أملى شروطه قبل
التعاقد، فاشترط موسى (عليه السلام) على نفسه الطاعة وعدم عصيان أوامر
الخضر: [وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً] ؛ مما يوضح أن المتعاقد يحق له إملاء الشروط
على نفسه بشرط أن يلتزم بها، واشترط الخضر على موسى (عليه السلام) عدم
السؤال عن شيء حتى يقدم له البيان (الذكر) ، أي: لا يحق لموسى (عليه السلام)
السبق في السؤال أو الاستفسار عن شيء حتى يكون الخضر هو الذي يحدثه عنه:
[قَالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً] [الكهف: 70] ، والمعنى: لا تسألني عن شيء حتى أبينه لك بنفسي، فيكون الخضر قد شرط
عليه قبل بدء الرحلة ألا يسأله وألا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له
هو سرها.
2- ويستفاد أيضاً من القصة: قبول موسى (عليه السلام) المسبق لشرط
الخضر رعاية لأدب المتعلم مع العالم؛ لأنه قال [وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً] ، وقد
ألزمه الخضر بعدم السؤال، مما يعد قبولاً ضمنيّاً من موسى (عليه السلام) بجميع
شروط الخضر، والقبول الضمني يحتج به على المتعاقد إذا استمر في العقد بعد
علمه بالشرط، وموسى (عليه السلام) استمر في مصاحبة الخضر بعد علمه بالشرط
وإن لم يصدر منه قبول صريح بذلك الشرط.
3- ويعتبر العقد ناجزاً إذا لم يكن معلقاً على شرط، وإذا كان العقد مشروطاً
فينبغي أن يكون الشرط صحيحاً شرعاً، لحديث الرسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مئة شرط) [8] ، كما يجب ألا يكون الشرط منافياً لمقتضى العقد، مثل: أن يقول البائع بعتك
السيارة على ألا تركبها خارج البلدة، والشرط ملزم إذا صدر صحيحاً، كما قال
شريح القاضي: (من شرط على نفسه شرطاً غير مكره فهو عليه) [9] .
وهناك العديد من أنواع الشروط العقدية التي يمكن أن تقترن بصيغة الإيجاب
والقبول الصادر من أحد المتعاقدين، وهي كالتالي:
1- التعليق. ... ... ... ... 2- التقييد. ... 3- الإضافة.
1- التعليق: تعليق وجود العقد بوجود شيء آخر، بحيث لا يوجد ما لم
يوجد الشيء الآخر، مثل: أن يقول أحد المتعاقدين للآخر: بعتك داري إن رضي
شريكي.
2- المقيدة: صدور الصيغة المنشئة للعقد مقيدة حكمه وآثاره، مثل: أن
يقول البائع: بعتك السيارة بشرط أن أركبها إلى بلدة كذا.
3- المضافة: بأن يتم تأخير أثر العقد لشرط معين كأن يتفق على بدء سريان
عقد الإيجار بعد موعد محدد فيكون العقد مضافاً إلى زمن مستقبل [10] .
إذن: كان هذا أول أمر من الخضر لموسى (عليه السلام) ، والشرط القائم
الذي تعاقدا عليه: ألا يبادر موسى (عليه السلام) الخضر بأي سؤال عن أي
تصرف يراه حتى يفصح له عن سبب ذلك التصرف، والقاعدة الشرعية المستمدة
من حديث الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (المسلمون على شروطهم) [11] ،
وفي رواية أخرى زاد (إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) [12] تفيد: أنه إذا ما
اشترط المتعاقد لنفسه شرطاً وكان هذا الشرط لا يستوجب حدوث أي مخالفة شرعية، فإن على الطرف الآخر الالتزام بتنفيذ ذلك الشرط، وفي حالة إخلاله بالشرط فمن
حق المتعاقد أن يتخذ ما يراه مناسباً لحفظ حقوقه.
ثالثاً: الإنذار عند الإخلال بالتعاقد:
وتوضح القصة أن موسى (عليه السلام) والخضر شرعا في تنفيذ العقد مباشرة
ولكن ظهر أن موسى لم يتمكن من الالتزام بالشرط، وهو عدم السؤال عن أي
شيء حتى يحدثه الخضر عن أمر ذلك الشيء.
1- فكانت المخالفة الأولى بسبب سؤاله عن خرق السفينة: [فَانطَلَقَا حَتَّى
إذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً] ... ... [الكهف: 71] .
قال الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: (كانت الأولى من
موسى نسياناً) [13] لذلك كان الخضر معه لطيفاً، ولفت نظره بلطف ونسب
الضمير إلى الغائب [قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ] حتى يؤكد على ضرورة التمسك بشرطه
الأساس وهو المقدرة على التحكم في نفسه، والصبر على ما يراه من تصرفات
لأصحاب السفينة الذين أكرموهم وأركبوهم معهم مجاناً، فكيف يصح أن يخرق
الخضر سفينتهم مقابل إحسانهم إليه.
والظاهر أن موسى (عليه السلام) نسي فاعتذر [قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ
وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً] [الكهف: 73] ، قال القرطبي: (ففيه ما يدل على
أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف ولا يتعلق به ... حكم) [14] .
ولكن يثبت حق المتعاقد في إنذار الطرف المخل بشرط العقد ولفت انتباهه
للمخالفة؛ حتى يعود عنها ويقوم بتصحيح وضعه، ولكن بشكل لطيف لا يرهق
الطرف الآخر عسراً، ولكن يجعله ينتبه للمخالفة ويتدارك الخطأ فوراً.
2- أما الواقعة الثانية فكانت أشد استنكاراً، حيث رأى موسى (عليه السلام)
منكراً فأنكره فوراً: [فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ
نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
قَالَ إن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً] [الكهف:
74 - 76] ، لم يكن موسى (عليه السلام) ناسياً هذه المرة، ولو نسي لاعتذر، ولكنه قصد إنكار المنكر؛ لذلك استلزم مواجهته بالخطأ من الخضر [قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً] ، خاطبه على وجه التحديد، فقد وقره في الأولى، ثم واجهه في الثانية لعدم العذر له، هنا تظهر عودة موسى وإقراره بالخطأ؛ لأنه خالف وعده مرتين فلم يعد له عذر، فاشترط على نفسه شرطاً جديداً [قَال َ إن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً] أي: قد أعذرت لك في ترك مصاحبتي لمخالفتي لك مرتين، قال ابن العربي: (يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقاً، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع) [15] ، قال القرطبي: (شرط هو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق شرط أن يوفّى به ما التزمه الأنبياء) [16] ، وهذا الشرط الجديد من موسى (عليه السلام) على نفسه هو شرط فاسخ للعقد، أو ما يسمى اليوم بالشرط الجزائي، لم يكن متفقاً عليه بينهما في أول العقد؛ لذلك جاء في الحديث الشريف عن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كانت الأولى من موسى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً) [17] .
3- المخالفة الثالثة التي أدت إلى فسخ العقد بدون إنذار: [فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا
أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ
فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ] [الكهف:
77، 78] ، فهذا وقت الفراق حسب قوله؛ لأن مجرد السؤال لثالث مرة موجب
لعدم المصاحبة وفسخ العقد فوراً؛ لتحقق الشرط الفاسخ بدون إعذار أو إنذار
للطرف الآخر، ويتجلى مدى الأدب النبوي من موسى (عليه السلام) في عدم
الإلحاح أو طلب العذر مرة أخرى، بل رضي بتطبيق الشرط عليه وفسخ العقد؛
لأنه قبل بشرطه الذي اشترطه على نفسه كما قال ابن حجر: (دلالة العمل بمقتضى
ما دل عليه الشرط، فإن الخضر قال لموسى (عليه السلام) لما أخلف الشرط: ... [هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ] ولم ينكر موسى (عليه السلام) ذلك) [18] .
رابعاً: فسخ العقد:
والمقصود من انحلال العقد هو: زوال الرابطة التعاقدية التي تربط المتعاقدين
بموضوع العقد، وهناك عقود لازمة بحق الطرفين كالبيع والإيجار، فسخها
كإنشائها، لا يكون إلا باتفاق الطرفين، وكل العقود قابلة للفسخ إلا النكاح والطلاق
والعتاق، وأما العقود غير اللازمة بحق الطرفين كالشركة والوكالة فإنها تنفسخ
برغبة كل واحد من طرفي التصرف، مثل العقد الذي كان بين موسى (عليه
السلام) والخضر فهو عقد غير لازم، لذلك جاز للخضر فسخه بسبب تحقق الشرط
الفاسخ من موسى (عليه السلام) ، ويعتبر هذا الفسخ الاتفاقي للعقد مقبولاً شرعاً،
بحيث يجعل الطرفان بينهما مدة محددة أو سبباً محدداً ينفسخ العقد بعده، مثل: أن
يقول: إن أتممت لك العمل الفلاني خلال ثلاثة أيام فأستحق أجرتي، وإلا فلا
أستحق شيئاً، فإن لم يتم العمل في المدة المحددة كما اشترط على نفسه اُعتبر العقد
مفسوخاً من تلقاء نفسه بسبب وقوع الشرط الفاسخ، ولذلك: لم يحتج الأمر إلى
إعذار أو مواجهة لموسى (عليه السلام) بالخطأ الثالث عندما وقع منه، وهناك حالة
أخرى تسمى الانفساخ، وتكون في حالة استحالة تنفيذ العقد، مثل: هلاك عين
المبيع قبل تسليمه، أو موت أحد الشريكين في عقد الشركة أو المضاربة [19] .
خامساً: آثار فسخ العقد:
المبدأ العام في نتائج انحلال العقد سواء بالفسخ أو الانفساخ: أنه يوجب إعادة
العاقدين إلى سابق وضعهما قبل التعاقد، ولكن يجب أن يرد كل طرف ما عليه
للطرف الآخر، فإذا كان الفسخ في عقد البيع وجب التراد، فعلى البائع إعادة الثمن
وعلى المشتري رد المبيع، وفي قصتنا: نرى مقابلة الأدب النبوي من موسى
(عليه السلام) بالوفاء من الخضر له بالشرط الأساس بالتعليم حتى بعد فسخه للعقد ... [قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَاًوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً] [الكهف: 78] وقص عليه أسباب الحوادث الثلاث، وأنها كلها تمت بأمر الله (عز وجل) ، لذلك
قال (عليه الصلاة والسلام) : (رحم الله أخي موسى وددت أنه صبر حتى يقص الله
علينا من أمرهما، ولو لبث مع صاحبه لأبعد العجب) [20] .
ويعتبر تنفيذ الخضر لشرط التعليم بالرغم من فسخ العقد المبرم مع موسى
(عليه السلام) ، يعتبر هذا أثراً من آثار العقد التي لا تنتهي أو لا تنقضي بانقضاء
العقد؛ لأن الخضر أوجب على نفسه تعليم موسى (عليه السلام) وإن كان اشترط أن
يتم ذلك في التوقيت الذي يحدده هو نفسه [حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً] ، مثل عقد
الزواج الذي قد ينتهي بالطلاق أثناء حمل الزوجة ومع ذلك فإن ولادتها بعد الطلاق
لا تعني عدم صحة نسب المولود للزوج السابق، بل يعتبر منسوباً له، لأنه أثر من
آثار عقد الزواج الذي انقضى بالطلاق، ولا يحق للزوج إنكار النسب طالما جاء
الولد على فراش الزوجية؛ لحديث المصطفى: (الولد للفراش، وللعاهر ... الحجر) [21] .
أسأل الله (عز وجل) أن أكون قد وفقت في هذا البحث المتواضع بتوضيح
بعض الجوانب التعاقدية من واقع هذه القصة العظيمة المليئة بالدروس والعبر، والله
هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص 92.
(2) الإمام القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مج 6، ص 16.
(3) عدنان خالد التركماني، ضوابط العقد في الفقه الإسلامي، ص 32.
(4) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، مج2، ص 199.
(5) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص 79.
(6) صحيح سنن أبي داود، ح/2794، مج2، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني.
(7) صحيح، مختصر مسلم، ح/1014، صحيح الجامع الصغير وزيادته، مج2، الألباني.
(8) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ح/2735، مج5.
(9) منار السبيل، إبراهيم بن ضويان، ج1، ص 313.
(10) ضوابط العقد في الفقه الإسلامي، عدنان خالد التركماني، ص242.
(11) رواه أبو داود، ح/3594، إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل، ح/1303، الألباني.
(12) حديث حسن صحيح، رواه الترمذي، 1/253.
(13) رواه البخاري، فتح الباري شرح صحيح البخاري، مج1، ص74، ح/2728.
(14) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، مج 6، ص 15.
(15) القرطبي، م/6، ص 16.
(16) القرطبي، م/6، ص 16.
(17) رواه البخاري، ح/2728.
(18) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مج5، ص 236.
(19) ضوابط العقد في الفقه الإسلامي، عدنان خالد التركماني، ص 255.
(20) رواه مسلم، ح/2380.
(21) متفق عليه، إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل، ح/2110، الألباني.(112/48)
رسائل جامعية
الحداثة في العالم العربي
دراسة عقدية
عرض: أحمد سعيد البتاكوشي
قام الباحث الأستاذ (محمد بن عبد العزيز العلي) بإعداد رسالة علمية لنيل
درجة (الدكتوراه) من قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين، جامعة
الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكان عنوان أطروحته: (الحداثة في
العالم العربي، دراسة عقدية) ، وقد أجيزت هذه الرسالة سنة 1415هـ، ومنح
الباحث درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى.
وقد أشار الباحث في مطلع رسالته إلى أهم أسباب اختياره هذا الموضوع،
فذكر منها:
1- كثرة المؤسسات التي تعنى بنشر الحداثة، وحرص الحداثيين على الدعوة
إلى مبادئهم.. مما يستدعي كشف مخطاطاتهم وفضح مكائدهم.
2- ادعاء بعض الحداثيين في الدول العربية أن الحداثة خاصة بالأشكال
الأدبية، فلا علاقة لها بالعقائد والأفكار.. فوجب بيان ماهية الحداثة وكذب ذلك
الادعاء وبيان ما ينطوي عليه من أخطاء.
3- جهل كثير من الناس بالحداثة واستغلال هذا الجهل من قبل الحداثيين،
لبَثّ أفكارهم عبر ما يسمونه إبداعاتهم، فلزم فضح أفكارهم وإظهارها للناس.
4- اختفاء كثير من أصحاب الاتجاهات الماركسية والبعثية والعلمانية خلف
شعار الحداثة، وبخاصة بعد كشف زيف تلك الاتجاهات ...
ومن الصعوبة بمكان اختصار مادة الرسالة في سطور؛ لكثافة المادة وطولها
من ناحية، وكثرة تشعبها وتفصيلاتها من ناحية أخرى، ولذا: سأضطر إلى
الإشارة إلى بيان خطوطها العريضة باختصار:
مخطط البحث:
قسّم الباحث رسالته إلى مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، ثم خاتمة.
تطرق في المقدمة إلى أهمية الموضوع والتعريف به، ومنهجه في الدراسة،
وتحدث في التمهيد عن تعريف بالمصطلحات المتعلقة بالموضوع، كالتراث
والتجديد والعصرانية والتنوير والبنيوية، ثم تحدّث عن التجديد الصحيح وضوابطه وتسليط الضوء على التجديد المنحرف وخطورته.
أما الباب الأول: فتناول مفهوم الحداثة ونشأتها ومصادرها، ويشمل ثلاثة
فصول:
ففي الفصل الأول: بيّن مفهوم الحداثة، وحرص على ذكر مفهومها عند
أربابها الغربيين، ثم أتبعه ببيان مفهومها عند أصحابها في العالم العربي، مما يتبين
معه صدورهما من منبع واحد.
وفي الفصل الثاني: تحدث عن جذور الحداثة ومصادرها الفكرية والفلسفية،
وبيّن أن مصادر الحداثة في العالم العربي هي الحداثة الغربية وما صدرت عنها من
فلسفات، وكذا الماركسية والوجودية، ثم ذكر المصادر الباطنية والصوفية، وبيّن
أن كثيراً من الأفكار الحداثية نابعة من ذلك المسلك.
وفي الفصل الثالث: استقرأ الباحث نشأة الحداثة وتاريخها، فتحدث عن
تاريخها ومكان نشأتها في الغرب، ثم فصّل الحديث عن نشأتها وتاريخها في العالم
العربي.
وأما الباب الثاني: فهو حديث عن اتجاهات الحداثة، ودعاتها، ووسائل
نشرها، وفيه ثلاثة فصول:
عَرَض الباحث في الفصل الأول لاتجاهات الحداثة، فعرّف بالاتجاه وأتباعه
في الغرب إجمالاً، ثم تحدث عن أتباعه في العالم العربي.
وذكر في الفصل الثاني دعاة الحداثة ومواقفهم، وقسّمه إلى قسمين: ففي
القسم الأول: تحدّث عن دعاة الحداثة ومنظريها، وفي القسم الثاني: تحدّث عن
بعض الأتباع والغوغاء الذين كثرت مقالاتهم دعايةً للحداثة، وليسوا في مكانتهم
الحداثية كالقسم الأول.
وفي الفصل الثالث: كشف الباحث عن أهم وسائل نشر الحداثة في العالم
العربي، كالصحف والمجلات والكتب والأندية والمؤتمرات والمهرجانات.
وفي الباب الثالث: تحدّث عن أسس الحداثة وآثارها، ويشتمل على أربعة
فصول، بيّن الباحث في الفصل الأول قول الحداثيين بالصراع بين القديم والجديد،
ووضح في الفصل الثاني قولهم بضرورة التحول والتطور، مبيناً الأمور التي يرون
ضرورة تغييرها وتحويلها، وكشف الباحث في الفصل الثالث عن قولهم برفض ما
هو قديم وثابت، فبيّن ما ينطوي عليه هذا الاتجاه من رفضهم لمصادر الدين
والعقيدة، ورفضهم علوم الشريعة الإسلامية، ورفضهم اللغة العربية.
ودَرَس الباحث في الفصل الرابع آثار انتشار المفاهيم الحداثية في العالم
الإسلامي ووسائل مقاومتها.
ثم ختم بحثه بخاتمة تحدث فيها عن أهم النتائج التي توصل إليها خلال بحث
هذا الموضوع.
قراءة في الرسالة:
وقد أحسن الباحث في دراسة هذا الموضوع الشائك والطويل، وبذل جهوداً
ظاهرة في الكشف عن حقيقة الحداثة وجذورها ونشأتها، كما أبدع في استقراء
وتتبع مناشط الحداثيين ومنابرهم، ووسائل نشرهم الحداثة في العالم العربي.
وتميّزت الرسالة بتوثيق النقول، والدقة في عزوها، حيث رجع الباحث إلى
كتب وكتابات الحداثيين أنفسهم، وتتبع مقالاتهم في مختلف الدول العربية، كما
أورد جملة طيبة من أقوال الناقدين للحداثة من النقاد المختصين الذين درسوها عن
كثب ووضحوا حقيقتها بجلاء.
وقد رجع الباحث إلى ستمئة وأربعين كتاباً، كما تتبع كمّاً هائلاً من أنواع
الدوريات، حيث رجع الباحث إلى ما يزيد عن سبعين عنواناً من صحيفة أو مجلة.
وتتكون الرسالة من أربعة مجلدات، وبلغت صفحاتها ألفاً وستمئة وخمسين
صفحة.
ولا تزال الرسالة بحاجة إلى مزيد بحث وتحرير في بيان الحكم الشرعي تجاه
مقالات الحداثيين وأفكارهم.
ومما يحسن إيراده من هذه الرسالة القيّمة: ما سطّره الباحث في شأن آثار
الحداثة في العالم الإسلامي، فذكر منها:
1-إشاعة الفوضى العقدية والثقافية في العالم الإسلامي.
يقول الباحث: (ولقد تتبعت كثيراً من الصحف والمجلات والأندية
والمهرجانات واللقاءات الأدبية، فتبيّن لي أن أثر الحداثيين جدّ خطير على عقيدة
المسلمين، وذلك: أني رأيت أنهم خدعوا كثيراً من الناس، وبخاصة الشباب، فكم
قرأت وسمعت لشباب صغار جهّال يتجرؤون على نقد أحكام شرعية ولمز العقائد
(الموروثة) والقدح في العلماء، يلمزونهم بوصف (أصحاب الكتب الصفراء)
بزعمهم.
2- إيجاد طبقة معزولة عن المجتمع سياسيّاً وعقديّاً، فالحداثة تتطلع إلى
سلطة فوضوية لا تحرم محرماً، ولا تمنع قولاً أو عملاً مهما كان، بدعوى حرية
المبدع فيما يقول، وفي العقيدة تدعو الحداثة إلى فلسفة وضعية حديثة، غربية، لا
تؤمن بدين ولا تصدر عن أحكام إسلامية (تراثية قديمة) .
3- انخداع بعض المنتسبين للدعوة الإسلامية من العقلانيين وأمثالهم، ببعض
دعاوى الحداثة المتمردة على النصوص الشرعية والالتزام بها، ومن ذلك ما كتبه
(هويدي) في الدفاع عن (أدونيس) .
4- تجرؤ بعض النساء على الأحكام الشرعية بنقدها والخروج عليها،
وحجتهن في ذلك: أقوال الحداثيين وشبههم.. ومن ذلك: رفض الحجاب،
والمطالبة بالاختلاط، والتمرد على الثوابت الإسلامية المحترمة.
5- ومن آثار الحداثة: إعلاء شأن الفرق الباطنية والفلسفية والصوفية
بدعوى الحرية للجميع.
6- تغلغل كثير من الحداثيين في وسائل التربية والتعليم والإعلام في العالم
الإسلامي.. حتى قال (أدونيس) : (كن معي ... وأستطيع أن أجعل مقالاتك تنشر
في أي صحيفة أو مجلة تريدها، ولا تضطرني أن أغلق في وجهك حتى زوايا بريد
القراء في أي صحيفة) .
يقول الباحث: (وقد تتبعت بعض المناهج الدراسية في بعض الأقسام الجامعية وبخاصة في الجزيرة العربية، وتبيّن لي أن كتب الحداثيين تقرر على الطلاب
والطالبات، ووجدت بأيدي الطلاب مذكرات صورت من بعض الكتب الحداثية،
وذكروا أن أساتذتهم قرروها عليهم) .
وأشار الباحث إلى عزمه القيام بدراسة مفصلة وافية عن تلك الآثار.
ثم ذكر وسائل مقاومة الحداثة إجمالاً، ومن ذلك:
تربية الأمة على المنهج العقدي القويم، وغرس منهج أهل السنة والجماعة
في قلوبهم.
تذكير علماء المسلمين بحقيقة مبادئ الحداثة وأهدافها، وفضح أسسها الثائرة
على مصادر الدين.
فضح الحداثة وكشفها على حقيقتها الفكرية ونزع ما تتستر به من ادعاء
للتجديد في الأدب والشعر.
المطالبة بدراسة هذا المذهب في المجامع الفقهية على مستوى كبير، من قِبَل
علماء المسلمين لبيان حكم الإسلام في دعاته ورموزه المعروفين بمواقفهم السيئة.
العمل بشرع الله على كل حداثي يقدح في دين الله (تعالى) وشرعه.
نتائج ما توصل إليه البحث:
انتهى الباحث في دراسته المطولة هذه إلى العديد من النتائج المهمة، التي
منها:
1- الحداثة مذهب عقدي باطني فلسفي يسعى إلى تحديث مصادر التلقي
وصرف النظر عن المصادر الشرعية المعتبرة.
2- الحداثة غريبة على العالم العربي، فهي مستوردة من الحداثة الغربية،
وما صدرت عنه من فلسفات، وبخاصة الماركسية والوجودية.
3- أن الحداثة نشأت في العالم العربي في حدود منتصف القرن العشرين
الميلادي، حيث استوردتها الأقليات النصرانية والباطنية إلى لبنان، ومن ثم: نقلها
أتباع لهم إلى بقية دول العالم العربي.
4- أن للحداثة اتجاهات عرفت بها في أول نشأتها، ثم خف تمسك الحداثيين
بتلك الاتجاهات، لذا: تجد الحداثي يخلط بين أكثر من اتجاه، والمهم عنده هو
الأسس الحداثية التي يتفقون عليها.
5- أن الحداثة تقوم على عقيدة صراع الأضداد، ومبدأ النقيض، فالحداثة
عندهم هي نتيجة صراع الفكر الحديث مع العقائد القديمة.
6- الحداثيون لا يرفضون كل قديم، وإنما يرفضون منه الثوابت والمسلّمات، أما الظواهر الثورية والتمردية كالخوارج، والقرامطة وأمثالهم.. فإنها محترمة
عندهم.
وأخيراً:
فإن كان لنا ثمة ملحوظة على الرسالة: فهي: أنه كان ينبغي العناية بالمادة
الأدبية والنقدية وتقويمها وبيان مدى تناسبها مع مادة البحث، وذلك يعطي للرسالة
قيمة علمية إضافية فوق قيمتها الحالية، ولعل ذلك يتدارك قبل طبعها.
فالرسالة في وضعها الحالي في نظري أقرب ما تكون للموسوعة التي تجمع
كمّاً كبيراً من المعلومات في بابها، إذ ينقصها الدراسة التحليلية والتقويم الأدبي
والنقدي التخصصي، وهو محور مهم في أطروحة علمية تخصصية في هذا
الموضوع.
ولعل القارئ يشاركنا الرأي بأهميته وضرورة تلافي ما عليها من ملحوظات،
وأهمية طبعها ليطلع القراء على حقيقة الحداثيين في تراجمهم، وأبحاثهم،
وأطروحاتهم، وما يحويه ذلك الكم الهائل من انحرافات عقدية وفكرية في ضوء ما
يسمونه إبداعاتهم، وهو في الحقيقة انحرافاتهم الفكرية تحت رداء الأدب والإبداع
الأدبي.(112/58)
المسلمون والعالم
العدواني الثلاثي … على السودان
بقلم: عبد العزيز كامل
في مطلع الثمانينيات، تسربت من إسرائيل أنباء عما يسمى بـ (مشروع
إنشاء دويلات طائفية) في منطقة الشرق الأوسط، ذلك المشروع الذي أذيعت بعض
تفاصيله حينها، بما يكشف عن عزم دولة اليهود بالتواطؤ مع الدول الغربية العمل
على إيجاد واقع جديد من التشرذم في المنطقة، يقوم على أساس تقسيم بعض الدول
القابلة للتقسيم الطائفي (المذهبي أو الديني أو القبلي) إلى دول طائفية، وهذا بالطبع
سيفتح أبواباً من الصراعات والنزاعات التي لا تنتهي، والتي ستعمل على
الإضعاف الدائم لتلك الدول، بما يسمح لأصحاب المشروع باستثمار هذه الأوضاع
لصالحهم في المنطقة.
ومما ذكر وقتها من ملامح ذلك المشروع: سعي تلك الدول الغربية إلى تقسيم
العراق إلى كيانات طائفية متعددة (سنة شيعة أكراد) ، والسعي إلى تكريس الطائفية
في لبنان وتحويلها إلى كيانات منفصلة، وكذلك الشأن في كل من اليمن التي يمكن
أن يستغل التنازع القبلي فيها، ومصر التي يتطلع الأقباط فيها للاستقلال بجنوب
مصر وغربها.
وكان السودان من ضمن الدول التي أشار المخطط إليها على أنها قابلة للتقسيم
الطائفي على أساس الدين، وأن المساعي ستجري لتقسيمه إلى قسمين أو ثلاثة بين
الطوائف الإسلامية في الشمال والنصرانية والوثنية في الجنوب.
ثم ما لبثنا أن سمعنا عن نشوء ما يسمى بـ (الحركة الشعبية لتحرير
السودان) عام 1982م بزعامة الصليبي (جون جارانج) ، ثم ازدادت الحرب الأهلية
في لبنان اشتعالاً، وظهرت بوادر سعي حقيقي لإنشاء دولة قبطية في مصر،
وكُشف عن نشوء حركات قبطية مسلحة في جنوب مصر تكدس الأسلحة في
الكنائس والأديرة، وتفاعلت قضية الانفصال بين شطري اليمن حتى وصلت إلى
حرب حقيقية في أواسط الثمانينيات، ثم عادت في التسعينيات.
ماذا يعني هذا؟ ، إنه يعني أن هناك من يخططون، ويدبرون، ويتصيدون
في الماء العكر، وما أكثر العكارة وأقل الصفاء في ماء العرب! .
إننا لا نقول بأن الأعداء من اليهود والنصارى قادرون على كل ما يريدون،
ولا نزعم أنهم يقولون للشيء كن فيكون، ولكن الشيء المؤكد: أنهم يتحركون في
الفراغ الذي نتركه لهم، ويملؤون الثغرات التي نفتحها في حصوننا أمامهم.
وماذا ننتظر من أعدى أعدائنا غير ذلك؟ [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً
وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] [الممتحنة: 2] ، لقد
امتدوا في الفراغ الذي تركه المسلمون يوم تنازعت دويلات الطوائف المتصارعة
حول بيت المقدس فاجتاحها الصليبيون بحملاتهم، وامتدوا في الفراغ الذي أحدثته
دويلات الطوائف المتنازعة في الأندلس، فاستلبها منهم عباد الصليب إلى اليوم،
وشتتوا شمل دولة الخلافة في تركيا بعد أن صار الولاء للطين قبل الدين عند العرب
والعجم، فتنازعوا تحت رايات القوميات والوطنيات.
وعندما جاء الدور على فلسطين، ما كان أحد يتصور أن خلافات العرب
والمسلمين ستجمع شتات اليهود بهذه القوة وفي هذا الزمن الوجيز! .
ونعود إلى السودان، فنلقي نظرة حول الجولة الجديدة من صراع الأعداء
المجتمعين ضد الإخوة المشتتين! .
وطن إسلامي يتعرض لخطر ماحق وبلاء داهم من أعداء متربصين من
الداخل والخارج، يستهدفون فيه الدين والأرض والعرض، ومع هذا: فأحوال
ذوي القربى حوله لا تختلف كثيراً عن أحوال إخوان وجيران أهل الأندلس وقت أن
آلت للسقوط أو أحوال المحيطين بأهل بيت المقدس قبيل يوم الاجتياح.. الأحوال
هي نفسها، أو صور منها: تردد ... جبن.. تملص.. تجاهل ... شماتة..
تشكيك.. وفي أحسن الأحوال: انشغال!
ما حدث في السودان، وما يمكن أن يحدث في المستقبل المنظور، يمثل
خارطة جديدة تحدد المواقع والمواقف لكل طرف من الأطراف المشاركة في صنع
أحداث عالمنا الإسلامي، ويعيد رسم الولاءات والهويات التي قد يُختلف في فهمها
وتعريفها.
ومن معطيات هذه الخارطة الجديدة ينبغي للمسلم في السودان وغير السودان
أن يعيد النظر في المواقف من حوله؛ ليعرف من يوالي ومن يعادي، فإن الظروف
الحرجة فرصٌ لا تُعوض لوضوح الرؤى، وتمايز الصفوف، واستبانة الحق،
ففيها تنكشف بعض الغيوب بأمر الله فتكون شهادة، يعظ الله بها عباده [مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ
عَلَى الغَيْبِ] [آل عمران: 179] ، وحقّاً لقد ميزت هذه الأزمة كثيراً من الخبيث
المختلف في خبثه، رغم أنها لا تزال في مبدء فصولها، وزادت كثيراً من الخبيث
وضوحاً رغم الاتفاق على خبثه.
ولنستعرض هنا شيئاً من مواقف الخبثاء أطراف التآمر، ولكن قبل ذلك لا بد
لنا من مراجعة ثلاث وقائع بالتحديد، أرى أنه يمكننا أن نفسر بها إلى حد كبير
أبعاد الفصل الأخير من السلسلة التآمرية على ذلك البلد الصابر.
الواقعة الأولى: وتعود إلى شهر نوفمبر 1992م، عندما طرحت أمريكا
مشروعاً على مجلس الأمن بشأن السودان، وكان يدور حول ما يمكن فعله تجاه ما
تعتبره واشنطن وحلفاؤها انتهاكات لحقوق الإنسان في السودان، وتمثل هذا في
إعدام رجل سوداني يدعى (تومي) بعد محاكمة علنية أدين خلالها بالتجسس لصالح
التمرد في الجنوب، وثبتت مسؤوليته عن إمداد المتمردين بمعلومات تسببت في قتل
مئات السودانيين، وصدر بالفعل قرار من الأمم المتحدة بإدانة حكومة البشير
لانتهاكها حقوق الإنسان في الجنوب، وقد رفض السودان القرار في حينه،
واعتبرته الخرطوم بداية مخطط ضد السودان، وقال عمر البشير وقتها: (إن
منظمة الأمم المتحدة أصبحت إدارة من إدارات وزارة الخارجية الأمريكية، وإنها لم
تبن قرارها بالإدانة حتى على قوانينها ونظمها ولوائحها) [وكالات الأنباء 10/12/
1992م] .
وتلقف راعي البقر الأسبق (رونالد ريجان) القرار الدولي، ودعا الأمم المتحدة
إلى التدخل العسكري في السودان لوقف ما زعمه: (إبادة القبائل السودانية في
الجنوب) !
وفي الشهر نفسه من العام المذكور: بدأت الولايات المتحدة بالتنسيق مع الأمم
المتحدة تنفيذ عملية غزو الصومال بحوالي 20 إلى 30 ألف جندي مدججين بأحدث
الأسلحة بحجة إطعام الجوعى! ، وكان واضحاً وقتها لكل المراقبين أن السودان هو
الخطوة التالية، أو المقصودة أصلاً من غزو الصومال، ولكن الغزو فشل،
وانسحب الأمريكان أذلة، وقيل وقتها: إن السودان كان له دور في إفشال الغزو،
لقيامه بمساندة المجموعات التي خاضت حرب عصابات ضد الغزاة.
الواقعة الثانية: وتعود إلى شهر فبراير من عام 1993م، عندما زار (بابا)
الكاثوليك السودان، حيث هوى من الطائرة ليقبل أرضها! ! ، إنه لم يقبلها بداهة
لأنها أرض يقام فيها التوحيد، ولكن لأنها أرض تهتز بغزو الصليبيين! ، ولقد
أثبت بتصريحاته المقصود بحركته، إذ خطب في حشد من النصارى هناك وقال:
(إن أسماء مسيحيي السودان منقوشة على كف المسيح تخرقها المسامير) [الشرق
الأوسط 12/2/1993م] ، وأمام حشد آخر من رعيته الكاثوليكية (200 ألف خرجوا
لاستقباله) قال: (.. إنكم تمارسون حياتكم وأنشطتكم وسط صعوبات جمة، وربما
ظننتم أحياناً أن بقية شعوب العالم قد نسيتكم، لكنكم لستم بعيدين أبداً عن (فكر الله
وقلبه) ! ! ، ولا تنساكم الكنيسة، وخليفة القديس (بطرس) والمسيحيون في كل
مكان يصلّون على الدوام من أجلكم! !) [الحياة 11/2/1993م] .
إن هذه الزيارة التي تجشمها (باباهم) لم تكن لمجرد الوعظ أو إسداء النصح،
بل كانت لها أبعاد أخرى أخطر، وقد عبر عنها بنفسه قائلاً: (إنني أعتبر زيارتي
للسودان أهم ثاني زيارة خارجية أقوم بها منذ زيارتي إلى بولندا أيام الحكم
الشيوعي) [الشرق الأوسط 13/2/1993م] ، وهذا التصريح فسرته العديد من
الدوائر الدبلوماسية على أنه يعني أن للزيارة أبعاداً خفية قد تتكشف مستقبلاً، حتى
إن جريدة (اللوموند) الفرنسية قالت في مقالها الافتتاحي في اليوم التالي للزيارة:
(على الصعيد الملموس: فإن انعكاسات زيارة البابا لا يمكن أن تقاس إلا على المدى
البعيد) !
الواقعة الثالثة: وتعود إلى أواخر يناير 1997م، حيث أُعلن عن تحقيق
كشف نفطي كبير في حقل الوحدة بجنوب السودان، وتأكد أن الاحتياطات المحتملة
للنفط (341) مليون برميل، وبلغ إنتاج أول بئر حوالي 10 آلاف برميل في اليوم، وهذا الكشف أعلنت عنه شركة (أراكيس إنيرجي) الكندية مع مشاركة صينية
وماليزية وسودانية، وزفت هذه الشركة إلى العالم بشرى أنها بدأت ضخ النفط مما
ترى أنه أكبر مشروع للطاقة في العالم [جريدة الحياة 29/1/1997م] ، ووصفت
أوساط أمريكية إمكانات النفط في السودان بأنها ضخمة! .
المقصود هنا: أن تلك الشركة الكندية فازت في مناقصة للتنقيب على النفط
أمام شركة أمريكية هي شركة (أوكسيدنتال) ، تلك الشركة التي خرجت من
المناقصة بقرار من عمر البشير ردّاً على قرار أمريكا بإمداد الدول الثلاث المعادية
للسودان (إثيوبيا، وإريتريا، وأوغندا) بما قيمته 25 - 50 مليون دولار من ... الأسلحة! ...
أخطر قرار ينفذه البشير:
وهذه الواقعة إن صحت بتفاصيلها تلك تجعل هذا القرار أخطر من قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس عام 1956م الذي تسبب في العدوان الثلاثي على مصر، ولكن أين المنصفون؟ .
إن هذه الوقائع الثلاث من شأنها أن تفسر إلى حد كبير أبعاد ما حدث وما
يمكن أن يحدث في السودان بعد بدء الغزو الخارجي، وإذا أضفنا إلى تلك الوقائع
بدون تاريخ اتفاق كل من إثيوبيا وإسرائيل على إقامة سدود في الأراضي الإثيوبية
تتحكم في المياه المتدفقة إلى مصر والسودان.. فإن خيوط المؤامرة تتكامل ومعالمها
تتضح.
فالسودان مستهدف دينيّاً وحضاريّاً، ومستهدف عسكريّاً وأمنيّاً، ومستهدف
اقتصاديّاً.. بتروليّاً ومائيّاً.
مستهدف من حلفٍ ثلاثي: نصراني يهودي علماني.
أما أطراف هذا الحلف وأعضاؤه وأدواته، فهذه أخبارهم:
أولاً: الولايات المتحدة:
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية منطقة القرن الإفريقي خط الدفاع الثاني عن
منطقة الخليج الاستراتيجية، وقد أضيف إلى هذه الأهمية بُعد آخر، وهو ترشيح
بعض بلدان تلك المنطقة وعلى رأسها السودان والصومال لأن تكون مصادر ثروة
طائلة (النفط في السودان، واليورانيوم في الصومال) .
وأمريكا تعلن دائماً أنه يهمها الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي؛ لأهميتها
الاستراتيجية البالغة، ولكن يبدو أن الاستقرار بمفهوم الأمريكان هو ألا يقر لأهل
الأرض قرار، فلا بد من تسليح شعوب ضد شعوب، وطوائف ضد طوائف، لقد
كان لوزير الخارجية الأمريكي السابق (كريستوفر) رحلة إفريقية، الهدف منها
حسب ما أعلن: تكثيف الوجود الأمريكي في القارة الإفريقية، وبخاصة في القرن
الإفريقي، وترجمت هذه الرغبة عمليّاً كما ذكرنا سابقاً بتقديم أمريكا دعماً عسكريّاً
لثلاث من الدول المحيطة بالسودان، يتراوح ما بين 25 إلى 50 مليون دولار،
وهذه الدول هي: (إريتريا إثيوبيا أوغندا) .
وكان ذلك قبل العدوان على السودان بأقل من شهر، وقد أعلنته جريدة الـ
(واشنطن بوست) ولم تنفه الإدارة الأمريكية، في إشارة إلى تبنيها العلني لخطة
الهجوم على السودان، وعبّر مستشار الأمن القومي الأمريكي (أنطوني ليك) (يشغل
الآن منصب مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية) ، عبر عن نوايا أمريكا المعلنة
ضد السودان بقوله: إن واشنطن ستعمل على احتواء السودان من خلال جيرانه:
إثيوبيا، إريتريا، أوغندا، مصر!
ثانياً: الأمم المتحدة:
بات من الحقائق الملموسة أن أمريكا تحارب بخنجر مسموم ذي نصلين،
أحدهما: القوة العسكرية، والثاني السلطة التشريعية الدولية من خلال مجلس الأمن
(الأمريكي) .. أقصد (الدولي) ، ولهذا فقد أوعزت إليه أن يُحكم طوق الحصار
والعقوبات على حكومة السودان؛ لإضعافها، تمهيداً لإسقاطها.
ومنذ أيام الأمين (بطرس) الإفريقي ومسلسل الخذلان لأهل السودان لا ينقطع، فعندما احتلت إثيوبيا مواقع ونقاطاً حدودية داخل الأراضي السودانية في ديسمبر
1995م، وجهت السودان شكوى إلى مجلس الأمن حول هذا الاعتداء في حينه،
إلا إن المجلس لم يقبل هذه الشكوى، وأحالها (بطرس) إلى منظمة الوحدة الإفريقية، باعتبارها في نظره تتعلق بمسألة داخلية إفريقية!
ولكن مسألة أخرى داخلية إفريقية حولتها الأمم المتحدة بعد ذلك إلى قضية
دولية، وهي حادثة محاولة اغتيال الرئيس المصري على أرض إثيوبيا، إذ اتهمت
إثيوبيا المسؤولة عن أمن ضيوفها السودان بالتقصير أمنيّاً، مما تسبب في الحادث،
واتهمته بعد ذلك بالضلوع في الحادث دون دليل مثبت، وعلى الرغم مما هو
متعارف عليه من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فقد فتح مجلس الأمن بتلك
الحادثة باب العقوبات الدولية على السودان في القرارات (1044، 1054) ، وتم
تصعيد هذه العقوبات إلى حد فرض حظر جوي على السودان!
ثالثاً: دول الجوار:
كان لا بد من تسريع الخطى نحو الإيقاع بحكومة السودان، بدلاً من الاعتماد
على الإيقاع البطيء لمفعول العقوبات الدولية السياسية والاقتصادية، وتقرر إشعال
الأرض تحت أقدام السودانيين بنيران مجاورة صليبية، تنفث فيها رياح علمانية،
وبدأت حرب قذرة خطط لها بدهاء، بدأت منذ شهر 9/1417هـ (12/1/1997م)
إذ هجم الأحباش على منطقة النيل الأزرق في جنوب السودان، واقتحم ما لا يقل
عن ستة آلاف جندي نصراني إثيوبي، وألف نصراني جنوبي، وما يقدر بعشرة
إلى سبعة عشر ألف علماني من منافقي أو مغفلي المعارضة الشمالية، فاحتلوا مدن
(الكرمك) ، و (قيسان) ، و (جوفا) ، وقرى حدودية أخرى، واستهدفوا بعد ذلك
مدينة (الدمازين) ذات الأهمية الاستراتيجية؛ لكونها مركزاً لتوليد الطاقة الكهربائية
التي تغذي العاصمة الخرطوم، ومرة أخرى تثبت الشرعية الدولية أنها ليست أكثر
من شريعة غاب؛ فعندما طلب السودان من مجلس الأمن أن يبعث بمفتشيه للتحقق
من وجود دور لدول أجنبية في الهجوم، حالت أمريكا دون إنفاذ ذلك! .
وبعد أن احتلت إثيوبيا مدينتي (الكرمك) و (قيسان) وسلمتهما لقوات (جون
جارانج) ، سلمته كذلك نقطة (الديم) الحدودية التي يقاس منها منسوب مياه النيل
أوقات الفيضان!
أما إريتريا: فقد انبعث أشقاها (أفورقي) الصليبي، وسارع إلى الاستجابة
المبكرة للدعوة الظالمة بمناصبة السودان العداء، فبادرت حكومته إلى قطع العلاقات
مع السودان متهمة إياه بمساعدة تنظيم الجهاد الإسلامي الإريتري.
وأقبل حاكم إريتريا على خطوة دبلو (ماشية) هي الأغرب من نوعها في
تاريخ العلاقات بين الدول، إذ سلم السفارة السودانية في أسمرا إلى المعارضة،
لتجعلها مركزاً للتخطيط والتآمر على الحكومة السودانية! .
وأما أوغندا فرئيسها (يوري موسيفيني) صليبي حاقد، حكم أوغندا حكماً
صليبيّاً بعد أن كانت إحدى الدول الإسلامية في عهد (عيدي أمين) ، و (يوسيفيني)
هذا صديق شخصي وزميل دراسة للأسقف (جارانج) !
أما موقف جارة السودان الشقيقة الكبرى مصر، فهو موقف عجيب غريب من
بلد عربي مسلم ضد جار شقيق له، مهما كان الخلاف بينهما.
فالسودان عمق استراتيجي لمصر، ولا يؤمَن جانب (جارانج) وعصابته فيما
لو آلت الأمور إليهم لا قدر الله، وحينها لا ينفع الندم.
رابعاً: إسرائيل:
السيطرة على النيل حلم قديم، بل عقيدة عتيدة عند اليهود، فعبارة التوراة
المحرفة لا تزال تعلو الكنيست الإسرائيلي: (لنسلِك أعطي هذه الأرض، من النهر
الكبير نهر النيل إلى نهر الفرات) ، ونهر النيل (الكبير (لا يمكن السيطرة عليه من
رأسه، بل لا بد من جذوره، وإسرائيل اليوم تمد يديها حثيثاً إلى جذوره وأصوله.
إن خبراء الحروب وخبراء الاقتصاد في العالم يتحدثون منذ سنوات عن أن
الحروب القادمة في الشرق الأوسط ستكون حروب مياه، وها قد بدت معالم أول
حرب للمياه، وبأموال السحت اليهودي أو أموال صندوق النقد الدولي يشرع لليهود
في بناء السدود هناك، عند الجذور، بالاتفاق مع الأحباش الإثيوبيين، والنصارى
الإريتريين، حيث يجري العمل للسيطرة على منطقة البحيرات التي تغذي نهر
النيل بموارده المائية من بحيرتي (فيكتوريا) التي ينبع منها النيل الأبيض، و (تانا)
التي ينبع منها النيل الأزرق، وهما يلتقيان في الخرطوم.
الحكومة الإريترية الآن صناعة إسرائيلية، وإسرائيل هي المصدر الأساس
لتسليح هذه الدويلة الصغيرة المستكبرة، الضعيفة المستقوية، وقد أقامت إسرائيل
قاعدة عسكرية كبيرة في الأراضي الإريترية عام 1994م، تحتوي على أجهزة
متطورة ونقاط مراقبة وتجسس يمكن أن تقع تحت طائلتها أراضي السودان وأعالي
البحر الأحمر بشواطئه وموانيه، وبسلاح إسرائيل احتل نصارى إريتريا جزيرة
(حنيش) ، ليتحقق حلم آخر لليهود، وهو تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة إسرائيلية، بدءاً من ميناء (إيلة) المسمى (إيلات) ، وانتهاءً بمضيق باب المندب الذي تتهدده
(حنيش) !
خامساً: الجيش الجنوبي:
(جارانج) أو (قرنق) أو (غارانغ) على اختلاف بين الصحف الناطقة بالضاد
رجل واضح، ليس في أهدافه غموض أوالتواء، شكل حركة أسماها: (الجيش
الشعبي لتحرير السودان) ، نعم.. السودان، كل السودان، فهو يعتبر العرب
والمسلمين أقلية وافدة، ويقول: (العرب في الشمال كالبيض في جنوب إفريقيا،
وإنهم سيخرجون من السودان كما خرج العرب من الأندلس التي مكثوا فيها قروناً
طويلة) !
وبما أن العرب والمسلمين أقلية تحكم السودان كما يزعم فهو لهذا يريد أن
(يحرر) كل السودان، ووسيلته في ذلك (حركة تحرير السودان) ، لا جنوب
السودان فقط! .
إن هذا الحلم الأسطوري لا يزال يساور صنيعة مجلس الكنائس العالمي، ففي
حديث أجرته جريدة الشرق الأوسط في 11/9/1417هـ، قال بالحرف الواحد:
(هدفنا ليس احتلال أجزاء في الجنوب أو في الشرق، بل تحرير البلد ككل) ! !
فمن أي شيء يريد تحرير البلد ككل، هل من أشخاص الحكومة الحالية؟ ، لا..
فهو يحارب قبل مجيئها، ولكنه يقصد بالطبع توجهها، وهو الإسلام، فهو ما صعد
حربه وما سعرها إلا بعد أن بدأت تجربة تطبيق الشريعة الإسلامية في عهد الرئيس
الأسبق (جعفر نميري) رغم ما قيل عن أهدافها وقتذاك.
والمصيبة: أن الوجه القبيح لـ (جارانج) وجد من يطليه بالأصباغ ويجمله
بـ (المكياج) ، ليتحول من انفصالي خائن إلى مصلح وحدوي ناصح، فبعد أن
وضع أهل الشمال يمينهم في يمينه أغروه بالمزيد من الطغيان والعصيان، وأمدوه
بشرعية ما كان يحلم بها، ووضعوه في المقدمة: مقاتلاً تحت راية الصليب يقود
رعاعاً يزعمون التوحيد! ، وما دام الصادق (المهدي) قد وضع يده في يد (جارانج)
(الضال) فمن حقه أن يهاجم من يرفعون راية الجهاد ضد جيشه الصليبي، لقد قال:
(تتحدث الجبهة عن الحرب باعتبارها جهاداً، لكن جهاد ضد من؟ ، ضد
السودانيين؟ ، نحن في التجمع الوطني نمثل السودان كله) ! ، نعم، (جارانج)
وطني من التجمع الوطني، والدليل على وطنيته أن رسالته للدكتوراه أعدها عن
مشروع قناة (جونقلي) في جنوب السودان، تلك القناة التي كانت من المفترض أن
تجمع مياه المستنقعات لتصب في النيل الأبيض، وتوفر ما يزيد على ستة عشر
مليار متر مكعب من المياه التي تضيع في بحر الغزال.
ماذا فعل (جون) بعد أن أنهى رسالته وبدأ ثورته، لقد أوقف العمل في هذا
المشروع، ثم عمد إلى نسف منشآت تلك القناة وطرد مهندسيها المصريين
والسودانيين! .
إن قوات (جارانج) الآن تتجه الآن بعد الاستيلاء على (الكرمك) و (قيسان)
إلى التحكم في ولاية النيل الأزرق، وبالتالي: في 85% من المياه المتدفقة إلى
الشمال في مصر والسودان! .
فهل بدأت المعارضة تجني ثمار ثورتها الديمقراطية (المسلحة) ؟ ! .
سادساً: حقيقة المعارضة:
تضم فصائل التجمع الوطني للمعارضة التجمعات التالية:
1- الحزب الاتحادي الديمقراطي، بزعامة (الميرغني) .
2- مؤتمر البجا القيادة الشرعية.
3- الحزب الشيوعي السوداني.
4- حزب الأمة، بزعامة (الصادق المهدي) .
5- الحركة الشعبية لتحرير السودان، بزعامة (جون جارانج) .
وقد حسمت فصائل المعارضة الأربعة الأولى أمرها بتبني الخيار المسلح
(الخروج) لمنازلة السلطة القائمة تحت قيادة الفصيل الخامس صاحب الراية
الصليبية! ، فهل يمكن أن يدعي رئيس حزب الأمة بعد ذلك أنه (صادق) أو
(مهدي) ؟ !
وأكثر من هذا: لقد سئل المهدي سؤالاً صريحاً.. هل تقبل بأن يحكم
(جارانج) السودان، وأن تعيش في ظل حكومة سودانية يحكمها هذا الرجل؟ ،
فأجاب بلا تلعثم كعادته في الفصاحة: (نعم أقبل.. إذا كان ذلك هو اختيار الشعب
في ظل حكم ديمقراطي) [المجتمع العدد 1238] ، أقول: أيها الصادق في
ديمقراطيتك.. نحن نكفر بهذه الديمقراطية التي تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
وأخيراً: هناك حقيقة لا بد من تسجيلها، وكلمة لا مناص من قولها، وهي
أن التوجه الحالي في السودان لم يصنعه الترابي ولا البشير، بل هو توجه أصيل
وعميق في ضمير الشعب السوداني الذي التف حول كل من دعا إلى الإسلام.. لقد
التف السودانيون منذ قرن من الزمان حول الحركة المهدية رغم ما شابها من
انحراف، وما كان التفافهم حولها إلا لأنها رفعت الراية الإسلامية وقاتلت تحت
لوائها الإنجليز النصارى.. والتف السودانيون حول (جعفر نميري) بقوة عندما
ادعى الحكم بالشريعة الإسلامية، وحتى المهدي زعيم الأنصار لم يلتف السودانيون
قبل ذلك حوله إلا لتدثره بالثوب الإسلامي وادعائه نصرة الدين، فشعب السودان
مسلم متدين قبل الترابي وبعده، وقبل البشير وبعده، والذين يحاربون التوجه
الإسلامي في السودان، لا يحاربون الترابي ولا البشير، إنما يقفون أمام إرادة أمة
اختارت الإسلام منهجاً وسبيلاً.
أما الترابي، فلسنا مع طروحاته العقلية أو شطحاته الفلسفية التي نجزم بأن
عوام المسلمين والمؤمنين من أهل السودان لا يفهمونها، ولو فهموها ما تبنوها، أما
خواصهم وعلماؤهم فالأمل معقود على ريادتهم لصحوة علمية وتربوية تقود هذا
الشعب جياش العاطفة إلى الإسلام ... الإسلام وحده، لا إلى الثورات ولا إلى
الجبهات.(112/64)
المسلمون والعالم
لماذا يهمش المسلمون في الهند؟ !
بقلم: د. محمد منظور عالم
الهند دولة علمانية ديمقراطية وهي فيدرالية في طبيعتها، وهي متعددة الأديان، متعددة اللغات، متعددة الثقافات.
مر المسلمون في الهند بعد الاستقلال والتقسيم بمراحل مختلفة.
ففي العقدين الأولين أي الخمسينيات والستينيات كانوا يعانون من:
1- أزمة الزعامة نتيجة للهجرة إلى باكستان.
2- الحالة النفسية المتصفة بالخوف الشديد نتيجة للمذابح التي تعرض لها
المسلمون.
أما السبعينيات فيمكن أن نسميها حقبة إدراك الضعف.
كما يمكن أن نسمي الثمانينيات حقبة تأكيد الذات.
وتمثل التسعينيات فترة توسع في تأكيد الذات من خلال حركة الوحدة بين
الأمة الإسلامية.
وكان الأثر الكبير للعقدين الأولين متمثلاً في روح البطء والتكاسل السارية في
جسد الأمة الإسلامية، وكان المبرر الذي يتم اللجوء إليه هو (القَدَر) ! ومن ثم:
الابتعاد عن المشاركة في التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية.
لقد كان المسلمون في حالة قلق وضيق بشأن هويتهم، وهو الأمر الذي
أجبرهم على أن تكون لديهم مدارس دينية عديدة دون أن يكون لديهم تعليم عصري.
خلال الفترة نفسها كان عامل الخوف الذي عانى منه المسلمون في تزايد، مما
جعل منهم (بنكاً للأصوات) تحت تصرف زعماء حزب المؤتمر الهندي، فقد قدم
هؤلاء وعوداً لم تنفذ قط، وسمي ذلك فيما بعد: النفاق، وذلك من قبل الحزب
الهندوسي المتطرف، لذلك: فإن المسلمين وقعوا في فخ الوعود الزائفة.
في الفترة نفسها استُخدمت منظمة هندوسية متطرفة، هي (R. S.S) ، لنشر دعاية مسمومة ضد المسلمين واصفة إياهم بالخونة، بدعوى أن ولاءهم ليس للهند ولكن لباكستان، ونتيجة لذلك: فإن المسلمين تم إبعادهم من المجالات العسكرية وعن المناصب الاستراتيجية، ولم يكن حصولهم على الوظائف يتناسب مع عددهم إلى مجموع السكان في الهند.
وقد أدى تأكيد المسلمين لوجودهم في السبعينيات في حقل التعليم والاقتصاد
إلى إثارة حالة استنفار بين المتطرفين والسياسيين الهندوس، فبدؤوا بالتحريض
على إثارة الاضطرابات الطائفية في مناطق مختارة تزدهر فيها أحوال المسلمين،
وقد تم استخدام سياسة الترهيب والترغيب من قبل المنظمات الهندوسية المتطرفة
والسياسيين الهندوس، لكن مثيري الطائفية من الهندوس لم يوفقوا والحمد لله في
جعل المسلمين يتخلون عن تأكيدهم بوجودهم، وقد أدى ذلك إلى تصعيد الحركة
الطائفية الهندوسية إلى ذروتها، الأمر الذي أدى إلى هدم بعض المساجد، ومن
أشهرها المسجد البابري.
لقد كان هدم ذلك المسجد أكثر النقاط السوداء قتامة في وجه الهند العلماني
الديمقراطي! ! لكن الطائفية كانت من تفريخ وتنفيذ الحكومات المركزية
وحكومات الولايات، وكان ذلك يمثل تأكيداً بأن ديمقراطيتهم زائفة، وقد بادر
المثقفون المسلمون والعلماء والباحثون والنشيطون في المجال الاجتماعي إلى وضع
خطط مختلفة وبرامج متنوعة لتحقيق الارتقاء الاجتماعي والتعليمي والسياسي
والاقتصادي للمسلمين.
وعن طريق التخطيط المحسوب بشكل جيد فإن المسلمين نجحوا الآن في
القيام بدور محدود في السياسة والتعليم والاقتصاد وإن كان لا يتناسب مع عددهم.
إن الحكومات الحالية حكومة فيدرالية بدعم من 13 -14 حزب سياسي، وتريد
الحكومة أن تجعل الهند بمثابة (الولايات المتحدة الهندية) ، وذلك من خلال نقل
السلطات إلى الحكومات الإقليمية هي ونصيبها في الإيرادات، وذلك من خلال تنفيذ
تقارير لجنة (ساركاريا) ، هذه العملية سوف تؤمن القدر الأفضل من السلطة
لحكومات الولايات.
تغير تاريخي ودلالته:
يعتبر تولي (ديفي جودا) (أحد أبناء الطوائف المتخلفة المطحونة) الزعامة
حدثاً تاريخيّاً، فقد أصبح رئيساً لوزراء الهند مؤخراً، وهذا المنصب كان محجوزاً
على الدوام للبراهمة، وحتى في مجموع الوزارات لم يحصل البراهمة إلا على ... 10 % من المناصب، في حين كان نصيبهم في كافة الحكومات السابقة لا يقل عن 60 %.
هذا التغير سوف يكون له حسب رؤيتي الأثر العميق في سير الأمور مستقبلاً، وذلك للآتي:
أولاً: وقبل كل شيء سوف يؤدي ذلك إلى زيادة نطاق الصراع بين الطوائف
الدنيا والطوائف العليا الهندوسية؛ من أجل السيطرة على الحكم وأخذ نصيبها في
كل أنواع الموارد.
ثانياً: أنه قد يتم تطوير علاقة وتفاهم أفضل بين الطوائف الدنيا والمسلمين،
نتيجة للتنسيق السياسي والخروج من نطاق مؤامرة البراهمة.
ثالثاً: أن الطوائف الدنيا التي كانت تعاني من اضطهاد البراهمة عبر قرون
عن طريق الاستغلال الديني وإبعادهم عن التعليم سوف تخرج على حظيرة
الهندوسية، وسوف تعاني هذه الطائفة من مشكلات الهوية أو من أزمات أخرى في
السنوات العشرين القادمة، مما سوف يعزز في الحقيقة نطاق الدعوة؛ فهذه
الطوائف المتدنية تمثل غالبية السكان في الحقيقة، فنسبتها تبلغ 57% من إجمالي
عدد السكان.
هذه الأزمات التي ستجابههم والتي تتعلق بالهوية سوف يكون لها تأثير عميق
على التكوين السكاني الذي سوف يغير من كيميائية السياسة في الهند.
وحينها فالعدالة الاجتماعية سوف تجد مكانها المناسب، كما إن تقاسم السلطة
القائم على التمثيل النسبي سوف يكون بمثابة النظام السياسي.
إن النقاط التي ورد ذكرها سابقاً تجعل من الواضح تماماً أن السياسة الهندية
سوف يكون لها آليات فيدرالية تتصف بالاختلاف والصراع والنضال، وهي أمور
يتعين أن يلعب كل عنصر من عناصر تكوينها دوره فيها، فأي طائفة تخفق في أخذ
نصيبها الذي تستحقه بما يناسب طلبها سوف تخسر خسارة عظيمة.
تكمن القوة لأخذ النصيب المستحق في السلطة في:
1- التعليم. ... ... ... ... ... 2- الاقتصاد.
3- الوعي الاجتماعي. ... ... 4- الوعي السياسي.
هذه العناصر الأربعة تعتمد إلى حد كبير على نوعية المناخ السياسي
والاقتصادي السائد في البلاد وماهية المنافذ المتاحة داخل وخارج البلاد.
ويعاني المسلمون للأسف من الضعف والتخلف والتعرض للمخاطر، فالتحيز
والتمييز يوجدان مناخاً غير مواتٍ للاستفادة من التعبئة العامة المنفذة في مجال
التوظيف، والاستثمار، والاقتصاد، والأعمال، والتجارة، وذلك يجعلهم في وضع
هامشي.
المسلمون في الواقع في حاجة إلى دفعة شد وجذب كبيرة، تتطلب الحكمة في
تأمين فرصة نشر التعليم، مع الإيمان من الأساس، ومن أولى المراحل بالتعليم
الفني والتعليم في مجال الإدارة، وذلك لاغتنام المستقبل في ضوء ما يسمى بالنظام
العالمي الجديد.(112/76)
المسلمون والعالم
إريتريا.. الوعد الكاذب بالحرية
مظاهر العلمنة والتنصير في توجهات الجبهة الحاكمة
(1 من 2)
بقلم: جمال سعيد حسن
اتخذ الصراع في القرن الإفريقي أشكالاً متعددة وشعارات كثيرة، فهناك
صراعات قبلية وقومية وإقليمية ودولية، ولكن الأبرز والأهم كان الصراع العقدي،
صراع بين الحق والباطل، صراع بين الإسلام والنصرانية على وجه الخصوص.
فإذا خصصنا الحديث عن الصراع في إريتريا منذ ظهور قضيتها في مناقشات
الأمم المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية نجد أن القرار الذي اتخذ في شأنها
كان يراعي مصالح إثيوبيا النصرانية التي غدت جزيرة نصرانية في بحر مسلم،
وقد كان يحكم إثيوبيا الإمبراطور الهالك (هيلاسلاسي) ، وبعد الانقلاب العسكري
الشيوعي عام 1974م بقيت إريتريا تحت الاحتلال الإثيوبي، حتى إذا ما يئس
النظام العالمي الجديد من استمرار إريتريا تحت الحكم الإثيوبي النصراني عمد إلى
تسليم السلطة فيها للجبهة الشعبية بقيادة (إسياس أفورقي) ، وتسليم السلطة في
إثيوبيا إلى جبهة التجراي بقيادة (ميلس زيناوي) ، وذلك بعد مؤامرات حيكت في
كل من (أتلاتنا) بقيادة الرئيس الأسبق للولايات المتحدة (جيمي كارتر) عام 1990م، وفي (لندن) بقيادة (هيرمان كوهين) مسؤول القرن الإفريقي في الخارجية
الأمريكية عام 1991م، وبهذا تمكنت الجبهة الشعبية ذات التوجهات الصليبية من
تملك زمام الأمر في إريتريا.
مظاهر ظلم المسلمين:
وقد ظن كثير من الإريتريين أن فجر الحرية قد انبلج في بلادهم بخروج
الجيش الإثيوبي منها بعد صراع مرير وانتظار طويل استمر ثلاثين عاماً، ولكن
هذا الفجر لم يكن إلا فجراً كاذباً للحرية، فها هي الجبهة الشعبية للديمقراطية
والعدالة! ! كما زعمت منذ أن كونت حكومتها في إريتريا عام 1991م، تعيث فيها
ألواناً شتى من الاضطهاد ضد المسلمين هناك، وتُظهر بين فترة وأخرى ممارسات
تنم عن الحقد الدفين الذي تكنه للإسلام والمسلمين.
وسوف أتناول في هذه المقالة مجمل الأحوال السائدة في إريتريا منذ تولت تلك
الجبهة الصليبية مقاليد الحكم، مع التركيز على الآثار المترتبة لهذا الحكم على
المسلمين وانتشار الدعوة الإسلامية فيها، وذلك من خلال النقاط التالية:
أولاً: الاعتقالات والاغتيالات:
تملك الجبهة الشعبية جهازاً خاصّاً مرتبطاً بالرئيس مباشرة، مهمته الحفاظ
على أمن (حزب الجبهة الشعبية) الحاكم، ويرمز إلى هذا الجهاز بـ (07) ولهذا
الجهاز صلاحيات تفوق صلاحيات وزير الداخلية، ويحق له القيام بإجراءات تصل
إلى حد التصفية الجسدية دون مساءلة من أحد، وغالب أفراده غير معروفين، وكذا
جميع أعماله سرية إلى أبعد الحدود، وقد قام في فترة ما بعد التحرير باعتقالات
منظمة طالت المؤسسة العسكرية في تنظيم الجبهة الشعبية، وخاصة بعد عملية
الاحتجاج التي قادها الجيش قبيل عملية الاستفتاء، كما قام هذا الجهاز بالتصفية
الجسدية لبعض العناصر غير المرغوب فيها داخل التنظيم، على الرغم من أنها
قيادات مشهورة.
كما قام هذا الجهاز بانتهاك صارخ لأدنى حقوق الإنسان، باعتقال عدد من
الدعاة ومعلمي العلوم الإسلامية والعربية وبعض النشيطين في العمل الدعوي من
الشباب، فبعد أشهر قليلة من دخول الجبهة الشعبية (أسمرا) تم اعتقال بعض معلمي
المعاهد العلمية الذين كان لهم نشاط بارز في توعية الشباب وإقامة الدروس العامة
في المساجد في مدينة (كرن) و (أسمرا) ، ثم استمرت عمليات الاعتقال على فترات
متفاوتة شملت مرة أخرى معلمي المعاهد والمدارس الإسلامية والنشيطين من شباب
الصحوة في كل من العاصمة (أسمرا) ومدينة (كرن) و (حقات) ، وغيرها من المدن
الإريترية، وقد كانت بعض هذه الاعتقالات تجري في وقت متأخر من الليل، بينما
بعضها الآخر يتم في وضح النهار، كما تم بعضها في أوقات متتالية، وقد وقعت
آخر هذه الحملات المسعورة في العام المنصرم 1996م في مدينة (قندع) ، حيث
طالت بعض خريجي الجامعات الإسلامية الذين كان لهم نشاط ملحوظ في تعليم
الناس الإسلام، والأدهى والأمرّ: أن حكومة الجبهة الشعبية تنفي نفياً قاطعاً أن
تكون هي التي تعتقل هؤلاء المواطنين، وتنكر على ذوي المعتقلين أن يكون أحد
منهم في سجونها.
ولو أردنا أن نخرج بتحليل قريب لهذه الممارسة العجيبة نجد أن الجبهة
الشعبية تسعى لاستئصال أي فكر يخالف الأفكار المشبوهة التي تسعى لصب الشعب
الإريتري في قوالبها.
إن الذين شملتهم الحكومة الشعبية بالاعتقال الجائر لم يكن لهم أي نشاط
سياسي مريب يهدد من وحدة الشعب الإريتري أو يعرض المصالح الوطنية للخطر
ولكن الجبهة الشعبية تنظر إلى الإسلام نظرة ريب وعداء، انطلاقاً من أهدافها
الصليبية المعروفة، فهي لا تريد إلا مصدراً واحداً لتربية النشء وتوعية الجماهير
ومعلمي العلوم الإسلامية يمثلون في نظرها حَمَلة أفكار منافسة يمكن أن تنتج جيلاً
متطرفاً بزعمهم يهدد الأمن العام للدولة والشعب، بل يبدو من الممارسات التي
تصدر عن نظام الجبهة الشعبية الحاكمة أنها لا تريد أن تسمع للإسلام صوتاً، ولا
أن ترى للمسلمين في إريتريا شخصية وعزّاً والتزاماً بالدين.. وإلا فماذا تقول في
إقدامها بسجن عناصر ممن يمارسون الدعوة بالحكمة والحسنى في منطقة (سرايي)
في عام 1993م.
ثانياً: محاربة العلوم الإسلامية واللغة العربية بشكل خاص:
كان من الطبيعي أن تتحول برامج المدارس الحكومية التي كانت تشرف عليها
الحكومة الإثيوبية إلى البرنامج الجديد للحكومة الإريترية بعد نهاية الاحتلال
الإثيوبي، ولكن الشيء غير الطبيعي والمؤسف حقّاً: أن تتحرك أعين الساسة في
الحكومة الشعبية المشبوهة إلى المدارس الإسلامية والمعاهد الدينية التي بذل الأهالي
في سبيل إقامتها الغالي والنفيس سعياً لاستمرار نبع العلوم الإسلامية والعربية في
إريتريا عبر هذه المؤسسات.
وقد بعثت وزارة التعليم إلى هذه المدارس والمعاهد بتعليمات تطالبها بأن تسير
وفق خطة التعليم الخاصة ببرامج الجبهة الشعبية، وهو برنامج علماني بحت لا
يسمح بتدريس العلوم الدينية إلا ساعة واحدة في الأسبوع تكون على شكل موعظة
عامة للطلاب، فهو برنامج لا يخدم إلا الأهداف الصليبية الساعية إلى تفريغ العقول
المسلمة من دينها، وتكوين جيل مذبذب، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وعندما
حاول المدرسون والمثقفون الوقوف أمام هذا التسلط؛ زج بهم في السجون، ولا
يعرف مكانهم حتى هذا اليوم، وسارت خطط (الشعبية) في خطى حثيثة نحو إجبار
القائمين على المعاهد والمدارس الإسلامية بالسير كما تريد.
ثالثاً: استفزاز المسلمين بسياسة تجفيف المنابع:
وتمكنت الجبهة على ضوء ما ذكرنا من الوصول إلى النتائج التالية:
1- إغلاق بعض المعاهد الدينية تماماً، وعدم إصدار تراخيص لإنشاء مثل
هذه المعاهد مستقبلاً.
2- وما استمر في عمله فقد فُرِّغ من رسالته التي أنشئ من أجلها، وهي نشر
العلوم الإسلامية الشرعية والعربية في إريتريا.
3- حصر الجهود الأهلية التعليمية للمسلمين في الكتاتيب (الخلاوي القرآنية)
في المساجد أو غيرها، مع المراقبة التامة لها حتى لا تعلِّم غير القرآن شيئاً من
العلوم الدينية، بل وحتى الأناشيد الإسلامية [1] .
وتدعي حكومة الشعبية أن إقدامها على إجبار المدارس الإسلامية انتهاج خطة
التعليم الحكومية يأتي حماية لمستقبل الطلاب الذين لن يجدوا فرصة للتعليم العالي
أو العمل في الوظائف الحكومية إن هم استمروا في المدارس الإسلامية، وهذا
تفكير يرمي إلى إقصاء الاعتبارات العقدية للمسلمين، فالعلم الشرعي في نظر الفرد
المسلم منه ما هو فرض عين يجب على كل مسلم أن يتعلمه، ومنه ما هو فرض
كفائي، ومنه ما هو دون ذلك، فتحصيل العلم الشرعي في حد ذاته يكون عبادة،
فهل تريد الشعبية إغلاق باب من أبواب العبادة التي يؤمن بها المسلمون في إريتريا
بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان؟ ، إننا نفهم أن المقصود من ذلك هو تجفيف
المنابع، وذلك ما يلجأ إليه أعداء الإسلام في السنين الأخيرة.
الأهداف البعيدة من سياستها تلك:
وعلى كلٍّ فإن الهدف الحقيقي لمساعي الشعبية في حربها المعلنة ضد المعاهد
الدينية والمدارس الإسلامية ينحصر فيما يلي:
1- تربية الأجيال القادمة وفق برنامج الجبهة الشعبية الهادف إلى تكوين
شعب يؤمن بنهجها الفكري والسياسي والثقافي الصليبي المغلف بطبقة من العلمانية
الهشة.
2- تجفيف منابع التدين والتي تسميها الجبهة الشعبية بمنابع التطرف الديني! ...
3- إذلال المسلمين واستضعافهم والسيطرة على مقدراتهم.
4- تحجيم اللغة العربية والحد من انتشارها وتوسعها حتى تتلاشى من الوجود
تماماً في إريتريا، وقد دأبت الجبهة الشعبية منذ نشأتها في تحجيم اللغة العربية
وإقصائها من الحياة الثقافية والعلمية والسياسية على الرغم من المطالبات الكثيرة
جدّاً من الشعب بإعطاء اللغة العربية مكانتها الطبيعية في إريتريا، وليس أدل على
ذلك من استفسارات الجماهير الكثيرة عن وضع اللغة العربية في إريتريا التي توجه
إلى قيادة الشعبية بدءاً بالرئيس إلى آخر قيادي لديها في جميع اجتماعاتها المهمة
وغير المهمة، وعلى الرغم من ذلك فإن حكومة الشعبية ما زالت تأبى أن تعطي
آذاناً صاغية لهذه المطالب، ضاربة بعرض الحائط دعوى الديمقراطية والعدالة
اللتين تدعيهما، وقد أصمت بهذه الدعوى القاصي والداني من الشعب الإريتري.
والحقيقة: أن الحكومة لم تتجرأ باتخاذ قرار يعلن إلغاء اللغة العربية رسميّاً
من دوائرها الحكومية أو التعليمية أو الحياة العامة، مع أنه لا يستبعد أن يحدث هذا
بل هناك إرهاصات تدل على ذلك من خلال أحاديث الرئيس الإريتري، إذ الأمر
الواقع هناك تحجيم لدورها وتضييق على منابعها، مع أنه ما زالت تصدر صحيفة
أسبوعية باللغة العربية، وهناك بعض المدارس الابتدائية التي تدرس باللغة العربية.
ويبدو من برنامج الجبهة الشعبية أنها تسير الآن إلى جعل اللغة الإنجليزية لغة
العلم والثقافة، بينما تكون اللغة التجرينية التي تعد اللغة الرئيسة للنصارى في
إريتريا اللغة العامة للشعب، بينما تبقى اللغة العربية لتزيين اللوحات الحائطية أمام
بعض مقرات الحكومة، والأماكن التجارية، وبعض الأوراق الرسمية.
والصراع مع اللغة العربية في إريتريا لا يرتكز على منطلقات قومية، سواء
أكان الموقف الرافض للغة العربية المتمثل في حكومة (إسياس أفورقي) أو الموقف
المطالب بنشرها وترسيمها في إريتريا، إنما المنطلق الأساس لهذا الصراع منطلق
عقدي، فـ (إسياس) يعرف كما تعرف الجماهير المسلمة في إريتريا أن اللغة
العربية وسيلة رئيسة في فهم الدين الإسلامي، وعلى رأسه فهم القرآن الكريم
والسنة المطهرة، وبها يرتبط المسلمون في إريتريا بتاريخهم المجيد وبحاضرهم
الأليم مع العالم الإسلامي، وهذا هو محط النظر من الطرفين، مما يجعل الصراع
عقديّاً أكثر منه قوميّاً أو ثقافيّاً بحتاً.
التقسيم الإداري للدولة ودوافعه:
لعل المرء يقول إن لكل دولة الحق في إجراء تقسيم إداري على أرضها بما
تراه مناسبًاً ويخدم المصلحة العامة للوطن والمواطنين، بحيث يخدم خطط التنمية
للبلاد بأسرها، وهذا هو السبب المعلن الذي اعتمدت عليه حكومة الشعبية في إعادة
تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم إدارية في مايو 1995م، حسبما جاء في الجريدة
الرسمية للبلاد (إريتريا الحديثة) ، ع/57/20/5/1995م.
والعاقل يدرك أن الهدف من هذا التقسيم لم يكن كما أُعلن عنه تنمويّاً أو غير
ذلك من الاعتبارات الوطنية، بل كان تقسيماً ماكراً يخدم النظام القائم في البلاد
ويكرس من سيطرته المحكمة على المسلمين سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً، حيث يظهر
من التقسيم أن جميع أقاليم البلاد ما عدا إقليم (عصب) أُدخل فيه جزء من إقليم
(حماسين) مسقط رأس (إسياس) ، ومركز السكان النصارى في إريتريا مما يعني أن
زمرة (إسياس) ستسيطر على المجالس الأهلية للأقاليم الإدارية التي قرر إعلان
التقسيم الإداري تكوينها في جميع الأقاليم، وستفرض عليها لغتها وثقافتها واتجاهها
السياسي، كما أن هذه الزمرة ستجد الفرصة سانحة في رفع مستواها الاقتصادي،
من خلال استثمارها للأراضي الزراعية التي كانت تابعة في الأصل للمناطق
الإسلامية.
المهاجرون الإريتريون:
يقدر عدد المهاجرين الموجودين في السودان وحدها ما يقارب نصف مليون
نسمة، وأغلبهم من المسلمين، ويرفض هؤلاء العودة إلى ديارهم ووطنهم في ظل
الظروف الراهنة؛ وذلك اعتقاداً منهم أن سياسة دولة (إسياس أفورقي) إرهابية لا
يمكن أن يأمن الإنسان فيها على دينه وعرضه وكرامته.
وعلى الرغم من أن الوضع المادي لهؤلاء المهاجرين صعب للغاية إلا أنهم
يفضلون العيش بحرية في ظل الوضع الاقتصادي المتردي بعيداً عن الأهل، بل
الموت جوعاً، بدلاً من الموت فزعاً وقهراً في ظل الحرية المصطنعة والإرهاب
الفكري الطائفي والسياسي الذي تمارسه الجبهة الشعبية الحاكمة في إريتريا.
وتدعي الحكومة في إريتريا بأنها ساعية إلى إعادة اللاجئين إلى وطنهم
تدريجيّاً، وأنها حريصة على ذلك كل الحرص، إلا إن الواقع ينفي ذلك، فهي لم
تبذل من الناحية الإدارية والمالية أي جهد يستحق الذكر، ويبدو أن لها حسابات
مادية، وأكثر منه سياسية لهذه القضية، فهي تعلم أن الصحوة الإسلامية
والمعارضة السياسية والعسكرية تنشط بشكل واضح في وسط هؤلاء المهاجرين
واللاجئين، وإعادتهم إلى الوطن في ظل الظروف الراهنة تسبب متاعب لها لا
يحمد عقباها، والحكومة في غنى عنها، ففضلت الانتظار والتريث، وبل
والمماطلة.
نسأل الله (العلي العظيم) أن يعجل بفجر الحرية الصادق لإريتريا والإريتريين.
__________
(1) نشرت نشرة (النفير) التي تصدرها حركة الجهاد الإسلامي الإريتري، ع/ 47 / 10/1415هـ 3/1995م، وثيقة استولت عليها الحركة في أحد معاركها ضد الشعبية، فيها أوامر صادرة من إدارة التعليم في إريتريا بمراقبة المساجد والخلاوي، ومنع إصدار التراخيص للمعاهد الدينية في منطقة شمال بركة أغوردار.(112/80)
نص شعري
المسجد الأقصى
شعر: جعفر محمود عكاشة
قَدْ كُنتُ أَشْربُ حَسْرتي ... مِنْ بَعد أَخْبارِ المَساءْ
وأسُوقُ أَحْلامي إلى ... رَتْلِ النّفايةِ والفَناءْ
هِيَ عادَتي في كُلِّ يَومٍ ... أَمْتَطي خَيْلَ الفَضاءْ
هَلْ يكْنُسُ الشّرفاءُ بعدَ ... اليَومِ أَذْيال الرّياءْ؟
وَهَلِ القَضيّةُ أَنْ نكونَ ... وبعدَها تَقَعُ السّماءْ؟
وَهَلِ الدّيانَةُ أَصْبَحتْ ... سِرّاً يُمارَسُ في الخَفاءْ
وَهَوَيْتُ مِنْ بُرْجٍ لِهامانٍ ... على صَوْتِ النّداءْ
أَبَتاهُ ما اسْمُ القِبْلةِ ... الأُولى ومَنْ سَكَنَ الفَضاءْ
فَنَظرْتُ صَوْبَ صَغيرتي ... والدّمْعُ حَرّق في الرِّداءْ
ماذا لَعلّي أنْ أُجيبَ ... وقَدْ تَلَجّمني الحَياءْ؟
سَرْجُ الجَبانِ سَلامَةٌ ... وسلاحُهُ فيها الرّخاءْ
لكنْ سَأوجِزُ قصّةَ ... الوَطنِ الذّبيحِ بِلا افْتراءْ
فَلَرُبّ مُنْتَصِبٍ يُعالجُ ... ما بِجَنْبيّ اكْتِواءْ
فالقِبْلَةُ الأُولى مَحَطّةُ ... ... مَهْبِطٍ للأَنْبياءْ
أمّا الفَضاءُ مُبارَكٌ ... والله يَفْعلُ ما يَشاءْ
والمْسجدُ الأَقْصى عَروسٌ ... غالَها مَهْرُ الإباءْ
والله أوْرثَهُ النَبيّ ... مُحمّداً حامي اللِواءْ
مُذْ عَهْدِ فاروقِ الصّحابَةِ ... كانَ يَمْنَعُهُ الفِداءْ
واليومَ يَرْزَحُ تحْتَ نَيْرِ ... الهَدْمِ طُوبى للبِناءْ
والعُهْدَةُ العُمريّةُ المُثْلى ... ... تُطالِبُ بالجَلاءْ
كُلّ الذين تهوّدُوا ... وبِنابِهمْ حُفِرَ البَلاءْ
جَعَلُوا مِنَ النّفَق ... المُريبِ شَرارَةً للإنْتهاءْ
ولَسَوْفَ يَعْلَمُ جَمْعُهم ... أَنّا صَناديدُ اللِقاءْ
لله دَرّ حجارَةٍ قَلَعتْ ... معَ القَيْدِ الغُثاءْ
تُلْقي بِأَيْدٍ بَرّةٍ تَهَبُ ... المنيّةَ دُونَ داءْ
والله أكْبرُ عنْدَما أَنْ ... يُخْلِصَ العَربُ الوَلاءْ
بِيَدٍ مُوحّدَةٍ وأَذِّنْ ... أَنّ نَصْرَ الله جَاءْ
ماذا دَهاكِ بُنَيّتي؟ ... هَتَفَتْ تَرانيمُ الحِداءْ
إنّ القّضيّةَ أَنْ نكونَ ... وبَعدَها تَقَعُ السّماءْ(112/88)
في دائرة الضوء
السقوط في الانهزامية
بقلم: د. محمد يحيى
أدى بروز الصوت العلماني في الساحة الفكرية في البلاد العربية خلال
السنوات الماضية إلى إحداث ضغوط قوية على بعض الناطقين باسم الإسلام من
أرباب المناصب الرسمية، ولّدت بدورها تناقضات صارخة فيما يصرح به هؤلاء
الذين يفترض أنهم مهتمون بالإسلام بحكم مناصبهم على الأقل إن لم يكن بحكم دينهم، ومن النماذج التي التقطتها عفويّاً من بين عشرات الأمثلة: ما صرح به وزير
للأوقاف في بلد عربي كبير لإحدى المجلات الأسبوعية عندما سئل عن رأيه في
حالة حدوث تناقض بين القانون الوضعي وما ينص عليه الإسلام، وكانت إجابة
الوزير بما يلي: (إذا تعارض القانون الوضعي مع ما نص عليه الإسلام: نبحث
عندئذ عما فيه المصلحة بالنسبة للمسلمين.. فمصلحة المجتمع لها القول الفصل في
هذه القضية) .
والمشكلة في هذه الإجابة التي أوردت نصها أنها ملتفّة وتثير من المشاكل
الكثير، كما لو أن صاحبها لا يريد أن يجيب إجابة مباشرة؛ خوفاً من نفوذ
العلمانيين أو ربما تأثراً بفكرهم وميلاً إليه.
الإجابة المباشرة فيما نفترض تقول: إنه إذا حدث تعارض بين القانون
الوضعي وما نص عليه الإسلام، فإننا في هذه الحالة نمضي ونحكِّم ما نص عليه
الإسلام، لأننا مؤمنون به، أو نمضي ونحكِّم القانون الوضعي إذا كنا علمانيين،
لكن الإجابة التي أوردها الوزير وهو فيما يقال أستاذ متخصص في الدراسات
الإسلامية تقول: إنه في حالة حدوث هذا التعارض نبحث عما فيه المصلحة بالنسبة
للمسلمين، أي نبحث في القانون الوضعي وفي الإسلام عن أيهما يحقق مصلحة
المسلمين!
كان يمكن للأستاذ الجامعي المتخصص أن يقول: إن الإسلام لا بد أنه يحقق
مصلحة المسلمين، وهذا بدهي؛ لأنه من غير المتصور أن يأتي دين ليهدم مصلحة
من يؤمنون به، وكان يمكن للأستاذ الجامعي أن يقول: إن القانون الوضعي الذي
يتعارض مع ما نص عليه الإسلام لا يمكن أن يحقق مصلحة المسلمين، وإن
الشريعة الإسلامية بها من السعة والرحابة ما يحقق كل المصالح المشروعة، لكن
الأستاذ الوزير يترك المسألة معلقة بين القانون الوضعي والإسلام، ويجعل من
مصلحة المسلمين (وهو يحولها فيما بعد إلى ما يسميه بمصلحة المجتمع وهو تعبير
أكثر عمومية وإيهاماً) القول الفيصل في هذا الأمر، وكأن الإسلام يستوي مع
القانون الوضعي من ناحية أن كلاهما يمكن أن يحقق مصلحة.
وأيضاً من ناحية عدم التيقن من طبيعة المصلحة التي يحققها أي منهما،
وربما نقول من باب درء الشك: إن الأستاذ الوزير يتصور إمكانية أن يصدر قانون
وضعيّ ما، يحقق مصلحة المسلمين في مجال غير موجود في الشريعة الإسلامية،
لكن هذه الشريعة تحتوي على مبدأ الاجتهاد الذي يُمكِّن من بسط أحكامها ومبادئها
الكلية العامة على شتى مجالات الحياة الجزئية والفرعية والمتغيرة، بحيث يمكن في
هذه الحالة القول بأن حكم الشريعة قد أُعمل في هذه الحالات الجزئية ليحقق مصلحة
المسلمين أو المجتمع، لكن السؤال الموجه إلى الأستاذ لم يكن يدور حول قضية
المصلحة (وهي قضية للشريعة الإسلامية فيها ضوابط وأصول) وإنما دار حول
قضية التصرف في حالة وقوع التناقض بين القانون الوضعي وما نص عليه الإسلام، إن السؤال الموجه مُحْكَم إلى درجة كبيرة، لأنه يتحدث عن التصرف في حالة
حدوث التعارض بين قانون وضعي (أي علماني) وبين صريح الإسلام حيث ذكرت
عبارة (ما نص عليه الإسلام) ، وإزاء هذا الوضوح والتحديد في السؤال كان يجب
على المجيب أن يكون واضحاً محدداً، وإلا وقع في اللف والدوران، وهذا الالتفاف
الذي لاحظناه في الإجابة المذكورة هو ما نعنيه عندما نتحدث عن ضغوط ونفوذ
وتأثير العلمانية الذي يشوه فكر بعض المتصدرين للحديث باسم الإسلام، ويجعلهم
يتراجعون حتى عن إظهار بدهيات معروفة؛ خوفاً من إغضاب هذا النفوذ، أو كما
قلنا: ميلاً قلبيّاً إليه.
فكيف يمكن أن يشك مسلم فضلاً عن أستاذ جامعي دارس في أن الإسلام يمكن
أن يحقق مصلحة المسلمين؟ بل كيف يتوقف هذا المسلم فضلاً عن الأستاذ الجامعي
الدارس ولا يُرجِّح كفة شرع الإسلام في حالة حدوث تعارض وتناقض مع القانون
الوضعي، وكيف لا يذكر المسلم فضلاً عن الأستاذ الجامعي الدارس لمن طرح عليه
السؤال أن للإسلام طرقه ووسائله واجتهادات علمائه ورخصه يحقق بها كلها
مجتمعة مصلحة المسلمين، بل كيف يمكن للمسلم فضلاً عن الأستاذ الجامعي
المتخصص أن يعلن أن الإسلام قد لا يحقق مصلحة المسلمين، وهذا هو المستفاد
من إجابة الوزير، فهو يجعل الأولوية والكلمة العليا لمصلحة المجتمع كما يقول
التي هي عنده المعيار والفيصل الذي يقاس به الإسلام وما نص عليه، كما يقاس به
القانون الوضعي، ويختار من كليهما ما يحقق مصلحة المجتمع، ويطرح منهما
ويرفض ما لا يحقق مصلحة المجتمع، ثم: ما هي مصلحة المجتمع؟ ، وهل
المقصود المجتمع المسلم أم غيره؟ ، ومن الذي يحدد هذه المصلحة؟ ، وهذه نقطة
مهمة؛ فمن الواضح من كلام الوزير أن الإسلام لا يمكن أن يكون هو المنوط به
تحديد مصلحة المجتمع، لأنه هو نفسه تحت المحك والاختبار ليتبين ما إذا كان
يحقق تلك المصلحة أم لا، لا بد إذن أن الذي سيحدد مصلحة المجتمع طرف ... آخر..، يحددها، ثم ينظر بعد ذلك في أحكام الإسلام وأحكام القانون الوضعي: أيهما يفي بهذه المصلحة، فيأخذ ما يتراءى له ولو كان القانون الوضعي، ويطرح الآخر ولو كان الإسلام وأحكامه!
نحن إذن نصل إلى وضع غريب يصدر عن أستاذ جامعي مسلم ومتخصص
في الدراسات الإسلامية، بل ويجلس في منصب يتحكم منه في سائر الشؤون
الإسلامية والدروس والمواعظ الدينية ومجمل مضمون الفكر الإسلامي، يسأل هذا
الأستاذ سؤالاً واضحاً محدداً حول ما يحدث في حال التناقض بين القانون الوضعي
وصريح الإسلام، فلا يجيب الإجابة المباشرة، بل يذهب إلى التسوية بين القانون
الوضعي وشريعة الإسلام في القبول والرفض، ويجعل من مصلحة المجتمع (وهي
تعبير مبهم) القول الفصل ومعيار الحكم في القضية، ويسلب من الإسلام حق تحديد
ماهية مصلحة المجتمع، كما يسلب منه دعوى تحقيق مصلحة المسلمين، ويجعلها
محل نظر وفحص وتدقيق ومراجعة من جهات من الواضح أنها غير إسلامية؛
لأنها حالياً تعلو على الإسلام وتنفرد بتحديد ما إذا كان هذا الإسلام يصلح لتحقيق
مصلحة المسلمين أم لا!
لماذا كل هذا اللف والدوران إزاء سؤال واضح ومحدد لايسمح إلا بإجابة
واضحة محددة؟ ، الإجابة هي: أن ضغوط الفكر العلماني ونفوذه قد وصل في
عالمنا العربي المسلم إلى أبعاد واسعة ومستويات عالية، بحيث أصبح الجالس في
منصب يفترض أنه إسلامي يتحرج أو يخاف أن يدلي برأي واضح وقاطع يناصر
الإسلام الذي يفترض منه على الأقل بحكم المنصب والتخصص أن يناصره.(112/90)
متابعات
وقفات متأنية مع آراء د. القرضاوي
حول العلاقة مع أهل الكتاب
بقلم: د. محمد بن عبد الله الشباني
نشرت مجلة المجتمع في عددها رقم (1233) خبرا نسبت فيه أقوالاً
لفضيلة الدكتور الشيخ (يوسف القرضاوي) حول مقابلته مع المفكر الفرنسي المسلم
(رجاء جارودي) ، الذي أُثيرت حول بعض آرائه عن الإسلام شبهات وصلت إلى
الحكم بردته، لقد نفى الشيخ (القرضاوي) ما زُعم من ردة (جارودي) ، وقد أوردت
المجلة في سياق خبرها أقوالاً نسبتها لفضيلة الشيخ (القرضاوي) لا يمكن تجاهلها،
حيث إنها تتعارض مع المفاهيم الأساس للعقيدة الإسلامية حول علاقة الإسلام
باليهودية والنصرانية، ولكون هذه الأقوال منسوبة لعالم من العلماء المشهورين،
الذين لهم مواقف مشكورة محمودة تجاه الإسلام والذب عنه، فإن مناقشة ما نسب
إلى فضيلته يعود إلى أمرين:
الأول: وجوب اتباع المنهج الذي أمر به رسول الله من واجب أداء النصح
وفق ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن تميم بن أوس الداري (رضي الله عنه)
أن النبي قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ ، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة
المسلمين وعامتهم) .
الثاني: أن ما ورد من أقوال نسبت إلى عالم جليل ونشرت في مجلة يقرؤها
جمع غفير من المسلمين وفيها مخالفة لمفاهيم إسلامية ترتبط بالعقيدة من ناحية،
وبالولاء والبراء من ناحية أخرى.. مما لا يصح تجاهله مهما كان قدر قائله، فإن
الله قد أوجب على كل من يعرف الحق أن يظهره ولو كان في منزلة أقل ممن
صدرت عنه هذه المخالفة، يقول (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ]
[البقرة: 159] ، وقبل الدخول في مناقشة ما ورد في تلك الأقوال أود أن أسجل
عدة أمور أساس لحواري هذا؛ حتى لا يساء الفهم، وهي:
أولاً: أنني أكن احتراماً شديداً لفضيلة الشيخ (القرضاوي) ، ولقد استفدت من
علمه من خلال كتبه، وما نشره، وإن لم أحظ بمقابلته، وإن ما سوف يتم من
معارضة لبعض ما نسب إليه لا يقلل من شأنه، ولا من علمه، ولا من حاجة الأمة
إلى آرائه، ولا من فضله، ولنا فيما فعله وقاله شيخ الإسلام (ابن تيمية) عند رده
بعض آراء الفقيه الإمام (محمد بن حزم) أسوة، فقد جاء في الفتاوى قوله: (وأبو
محمد مع كثرة علمه وتبحره، وما يأتي به من الفوائد العظيمة له من الأقوال
المنكرة الشاذة ما يعجب منه، كما يعجب مما يأتي به من الأقوال الحسنة ... الفائقة) [1] .
ثانياً: أن واجب النصح لكتاب الله، وسنة رسوله، ولعلماء الأمة، وعامتهم
يقتضي عدم السكوت على أي شيء يمس الثوابت الدينية، وأن هذا الواجب لا
يقتصر على فئة معينة، وإنما يتعدى ذلك إلى عموم الأمة، حيث يجب إظهار الحق
ممن يعرفه، والالتزام به، والاستماع إليه وقبوله من قائله، ولو كان الاعتراض
على قول صادر ممن له منزلة علمية أعلى من المعترض، فلنا في صحابة رسول
الله أسوة، فقد ورد في الأثر أن الخليفة (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) عزم
على تحديد المهور وأعلن ذلك على المنبر، ولكن امرأة من سائر أفراد الأمة
اعترضت عليه وأدلت بالدليل، فما كان من عمر (رضي الله عنه) إلا أن عدل عن
رأيه وأعلن خطأه.
إن الاعتراضات التي سأتناولها والتي وردت فيما نُسب إلى فضيلته تتمثل في
الأمور التالية:
أولاً: ما ذكر من أن رسالة الإسلام في جوهرها أخلاقية بالدرجة الأولى، فقد
ورد هذا القول عندما أشار فضيلته عند رده لتهمة الردة التي وجهت إلى (جارودي) ، حيث قال وفق ما نسبته المجلة: (إن الرجل ما زال على خطه الأول الذي يعبر
عن الإسلام الصحيح الذي يُدين الحضارة الغربية ويؤيد الشعوب المستضعفة،
ويقف في صف الفقراء ضد الطواغيت المستكبرين في الأرض، فالرجل ضد الظلم
والطغيان، ومع العدل والإحسان والرحمة، وهي أخلاقيات من جوهر الإسلام الذي
هو رسالة أخلاقية بالدرجة الأولى) .
إن القول بأن رسالة الإسلام في الدرجة الأولى هي رسالة أخلاقية غير
صحيح، ويتناقض مع ما جاء في القرآن الكريم، حيث إن الرسالة الأساس
والأولى للإسلام هي: إخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده لا شريك
له، أما الأخلاق فهي تبع ولازم من لوازم الإيمان بالله، فالقول بأن رسالة الإسلام
أخلاقية في الدرجة الأولى يتناقض مع حقيقة دعوة الإسلام، فموضوع الأخلاق وما
يندرج تحته أمر فلسفي تحكمه الأعراف الإنسانية والمجمعة على كثير من الفضائل، حيث يشترك في الإقرار بها والدعوة إلى الأخذ بها: المسلم الموحِّد، والملحد
الكافر الذي لا يؤمن بأي إله، والوثني الذي يعبد مع الله آلهة أخرى، وأهل الكتاب
الذين بدلوا تعاليم أنبيائهم من اليهود والنصارى فعبدوا غير الله وشرعوا شرائع لم
يأمر الله بها، فمنع الظلم، والإحسان إلى الفقراء، والرحمة بالضعفاء.. وغير
ذلك من الصفات الأخلاقية الحسنة مقبولة، وجميع البشر يدعون إليها؛ فميثاق
الأمم المتحدة، ومبادئ حقوق الإنسان المقرّة من قِبَل هيئة الأمم المتحدة، وما
يعرف بالشرعية الدولية.. فيها أمور أخلاقية لا يعترض عليها أي فرد مسلم أو
غير مسلم، فهي أمور مشتركة؛ ولهذا: لا يمكن أن يقال إن رسالة الإسلام أخلاقية
في الدرجة الأولى، والنصوص من القرآن الكريم قد أوضحت أن رسالة الإسلام
الأولى هي توحيد الله (تعالى) وإفراده بالعبادة، يقول الله (تعالى) : [قُلْ أََغَيْرَ اللَّهِ
أََتَّخِذُ وَلِياً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأََرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أََنْ أََكُونَ أََوَّلَ
مَنْ أََسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ] [الأنعام: 14] ، لقد فسر ابن كثير هذه الآية
بقوله: (لا أتخذ وليّاً إلا الله وحده لا شريك له؛ فإنه فاطر السماوات والأرض، أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق [هُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ] أي: وهو الرزاق
لخلقه من غير احتياج إليهم) [2] ، ولتأكيد أن رسالة الإسلام هي تحقيق عبادة الله
وحده وأن على أهل الكتاب تصحيح عقيدتهم، جاءت آية سورة النساء تؤكد هذا
المعنى في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا
مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ
السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْماً عَظِيماً] [النساء: 47، 48] ، وقد
عقب ابن كثير على هذه الآية بعد أن أشار إلى أن الله (تعالى) أمر أهل الكتاب
بالإيمان بما نزل على رسوله محمد من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي
بأيديهم، عقّب بقوله: (.. ثم أخبر (تعالى) أنه لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به،
ويغفر ما دون ذلك أي: من الذنوب لمن يشاء أي: من عباده) [3] ، ثم أورد
أحاديث حول أهمية الإيمان بالله وأنه أساس الأمر في الإسلام، ومن تلك الأحاديث: ما رواه النسائي عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً
متعمداً) ، وحديث ابن مسعود الذي ورد في الصحيحين أنه قال: قلت: يا رسول
الله، أي الذنب أعظم؟ ، قال: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك) ، وهذه النصوص
وغيرها تؤكد أن رسالة الإسلام في الدرجة الأولى ليست أخلاقية فقط، وإنما هي
إخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده، وأن الأخلاق تبع لذلك،
ولهذا: فقد فهم الصحابة (رضوان الله عليهم) هذه الحقيقة، يقول ربعي بن عامر
(رضي الله عنه) حيث أجاب رستم على سؤاله (عمّ جاء بالمسلمين لمحاربة ... الفرس؟) بقوله: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) .
ثانياً: ما ذكره من أن الحرب مع اليهود في فلسطين ليست حرباً دينية،
بمعنى أنها ليست من أجل العقيدة، وقد نسبت المجلة إليه قوله: (إنه يفهم قصد
جارودي ويؤيده في أن حربنا مع اليهود ليست حرباً دينية، بمعنى أنها ليست من
أجل العقيدة، فنحن نحارب اليهود لأنهم استعمروا أرض فلسطين لا لكونهم يهوداً،
فاليهودية دين سماوي يعترف به الإسلام، وقد عاش اليهود في ظل الدولة الإسلامية
من عهد النبي وحتى اليوم في حرية لم يجدوها في ظل أي دين آخر) ، فإن كان
فضيلته يقصد أن اليهود لا يقاتلون ولا يضطهدون لكونهم يهوداً، وأن قتالهم في
فلسطين ليس دينيّاً، بمعنى: أن كونهم يهوداً ليس سبباً وحيداً في قتالهم، فهذا لا
غبار عليه وإن كان قتالهم ودفعهم باعتبارهم معتدين على أرض إسلامية جهاداً
إسلاميّاً مشروعاً وواجباً يقوم به المسلم ثمرة لإيمانه، وليس الأمر عند المسلم مجرد
منازلة عسكرية أو سياسية ضد مستعمر احتل وطنه فحسب، ولقد حاربهم الرسول
وجاهدهم، ولكن لم يشن المسلمون ضدهم حرب إبادة عنصرية بسبب الدين، بل
بقي في ظل الإسلام وتحت سلطان شريعته يهود ونصارى بوصفهم أهل ذمة
يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، أما إجلاء الرسول لهم، فلكون ذلك
خصوصية لجزيرة العرب التي أمر الرسول ألا يجتمع فيها دينان.
وفيما يتعلق بهذا الأمر فهناك جانبان:
الجانب الأول: أن واقع الصراع الحالي مع اليهود هو صراع قائم على فكر
لا يلتزم بالإسلام، وبالتالي: فهي حرب غير دينية ولم تقم على أساس إزالة الحكم
اليهودي وإحلال الحكم الإسلامي محله، وإنما الصراع معهم قائم على أساس
الأرض، ونحن نتفق معه في هذا الجانب إذا كان يقصد مجرد وصف حالة الصراع
القائم، ولهذا كانت حصيلة الفكر الذي يصارع اليهود على أرض فلسطين الانهزام
والاستسلام لهم في الأخير.
الجانب الثاني: أن الحرب مع اليهود من الناحية العقائدية أمر يوجبه الإسلام
ويأمر به، وينبغي أن يقوم صراعنا مع اليهود في هذا العصر على أساسه، حيث
إن لهم صولة وجولة، والإسلام لا يعترف ولا يسلم بقيام دولة يهودية تمارس
السلطة والحكم على ديار المسلمين، وما حرب الرسول لليهود وإجلاؤهم عن
المدينة وقتاله لقريظة عام الأحزاب، وما جاء من أمر بقتالهم في سورة الأحزاب،
ومحاربة بني النضير وما نزل فيهم في سورة الحشر، ومحاربة يهود خيبر بعد
صلح الحديبية، وما جاء في ذلك من ذكر في سورة الفتح.. إلا دلالات عملية
بوجوب إزالة شوكة اليهود، تنفيذاً لأمر الله بقتال أهل الكتاب في قوله (تعالى) : ... ... [قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ... وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] ، يقول ابن كثير مفسراً لهذه الآية [4] : (وهذه الآية الكريمة أول أمر بقتال أهل الكتاب بعدما تهدمت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستقامت جزيرة العرب.. أَمَرَ الله رسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى) .
وقد أوضح (ابن تيمية) قضية مقاتلة أهل الكتاب تعليقاً على هذه الآية بقوله:
(وقد خرج الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقتالهم بنفسه عام تبوك، واستنفر
لقتالهم جميع المؤمنين، ولم يأذن لأحد من القادرين على الغزو في التخلف، ومن
تخلف لأنه لم ير قتالهم واجباً كان كافراً، وإن أظهر الإسلام كان منافقاً ملعوناً، بيّن
الله أنه لا يغفر لهم ونهى نبيه عن الصلاة عليهم، وأنزل في ذلك جمهور سورة
براءة بالنقل المتواتر، حتى بيّن كفر الذين استأذنوه في ترك الخروج معه لقتال
النصارى) [5] ، وقد سبق غزوة تبوك أن بعث الرسول إلى زعماء النصارى في
الشام ومصر رسله بكتبه (عليه الصلاة والسلام) ، والتي دعاهم إلى دخول الإسلام،
ثم أعقب هذه الكتب بعث مؤتة، فكانت أول مناوشة حربية مع النصارى، وبعد
انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى واصل خليفتاه من بعده ... أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) محاربة النصارى في الشام حتى تمكنت دولة الخلافة من نشر الإسلام وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، أما حرية ممارسة الدين فهي مكفولة لمن يعيش في ظل الحكم الإسلامي، لكن مقاتلة أهل الكتاب الذين يناهضون المسلمين ويحيكون المؤامرات لهم ويستذلونهم ويمنعون نور الإسلام من أن يستضي به من يريد هداية الله.. أمر مجمع عليه من قِبَل سلف هذه الأمة.
ثالثاً: لقد نُسب إلى الشيخ (القرضاوي) أنه قال: (لا مانع في الإسلام من أن
يقف أتباع الديانات السماوية الذين يتبعون إبراهيم الخليل (عليه السلام) في خندق
واحد، وقد يختلفون في بعض الأمور، لكن بينهم من الأصول المشتركة ما يجمعهم
ضد الذين ينادون بوحدانية الدولار، ووحدة السوق، ويعتبرون أنه لا إله إلا المادة) .
إن هذا القول يناقض أصول الإسلام وحقائق التوحيد التي جاء بها الإسلام،
ومن هنا فلا بد من محاورة فضيلته، وما نسب إليه من هذا القول لا يُقَر عليه،
وهو قول لم يكن من الممكن تصور صدوره من عالم فقيه من علماء المسلمين،
وقبل مناقشة هذا القول لابد من إيضاح حقيقة أساس، وهي: أن أصل الدين
الصحيح واحد منذ آدم (عليه السلام) وحتى رسولنا محمد، وهو دين الإسلام، فقد
أكد القرآن هذه الحقيقة في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله (تعالى) : [وَمَن
يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ (131) وَوَصَّى
بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ] [البقرة: 130 132] ، وقد أوضح القرآن الكريم تحريف اليهود للتوراة
وتحريف النصارى للإنجيل، بحيث ابتعد اليهود والنصارى عن أصل الدين،
فابتدع كل منهم ديناً جديداً يختلف في أصوله وقواعده عن دين الإسلام، وبالتالي:
فليست هناك أي أصول مشتركة بين الإسلام واليهودية والنصرانية فيما يتعلق
بأصول الاعتقاد.
إن محاورة فضيلته فيما نسب إليه من هذا القول يتمثل في الآتي:
ذكره أن الديانات السماوية والمقصود بها اليهودية والنصرانية والإسلام كلها
تتبع إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ، وبالتالي: فأتباعها يشتركون في ذلك، قول
يخالف صريح القرآن الكريم، يقول (تعالى) في سورة البقرة: [أََمْ تَقُولُونَ إنَّ
إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأََسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أََوْ نَصَارَى قُلْ أََأََنتُمْ أََعْلَمُ
أََمِ اللَّهُ وَمَنْ أََظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] [البقرة:
140] ، لقد علق ابن كثير على هذه الآية بقوله: (ثم أنكر (تعالى) عليهم في
دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما
اليهودية وإما النصرانية، فقال: [قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ] ، يعني: بل الله أعلم،
وقد أخبر أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى) [6] ، وقد ذكر ابن كثير عن ابن عباس
(رضي الله عنهما) أنه قال: (اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله
فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديّاً، وقالت النصارى: ما
كان إبراهيم إلا نصرانيّاً، فأنزل الله (تعالى) : [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي
إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [آل عمران: ... 65] ) [7] ، وفي سياق تفسيره لقوله (تعالى) : [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ... ]
[الحج: 78] نسب ابن كثير لمجاهد قوله: (الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب
المتقدمة وفي الذكر؛ [وَفِي هَذَا] : يعني: القرآن، وكذا قال غيره) ، وقد علق
ابن كثير على ذلك بقوله: (قلت: وهذا هو الصواب؛ لأنه (تعالى) قال: [هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به
الرسول (صلوات الله وسلامه عليه) بأنه ملة أبيهم الخليل، ثم ذكر منته (تعالى)
على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في
كتب الأنبياء، يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن ... قَبْلُ] ، أي: من قبل هذا القرآن) ، ثم أورد بعد ذلك حديث حارث الأشعري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم، قال رجل: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ ، قال: نعم، وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله) [8] ، وعلى ضوء هذا الحديث النبوي: فلا ينبغي أن يطالب باجتماع اليهود والنصارى في خندق واحد؛ حيث إنهم ليسوا من أتباع إبراهيم (عليه السلام) كما رد الله عليهم في كتابه، وإن الاجتماع معهم إنما يتم وفق قوله (تعالى) : [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ... [آل عمران: 64] .
ليس هناك أصول مشتركة مع اليهود والنصارى، فهم مشركون كفرة، قد
حكم الله عليهم بالكفر، وإن من يدرس التوراة والتلمود والأناجيل ليعرف معرفة
تامة أن اليهودية والنصرانية قد انحرفتا عن دعوة موسى وعيسى (عليهما السلام) ،
وقد أوضح القرآن الكريم شرك كلا الديانتين بعد التحريف، وأن أتباعهما قد ... ضلوا، يقول (تعالى) : [وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً وَاحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] [التوبة: 30، 31] ، فما هي الأصول المشتركة بين الإسلام واليهودية والنصرانية المحرفتين بعد توضيح أن اليهود والنصارى مشركون وأن أقوالهم تتفق مع أقوال المشركين.
إن الاختلاف بين الإسلام والنصرانية واليهودية اختلاف جذري وليس اختلافاً
في بعض الأمور كما نُسب ذلك إلى فضيلة الشيخ (القرضاوي) ، بل إن الاختلاف
حاصل في حقيقة أصل الإيمان ومفهومه، حيث يفترق الإسلام عن المسيحية
واليهودية.
الاختلاف بين الإسلام واليهودية اختلاف لا يشمل فقط أصل الاعتقاد، بل
يشمل الشرائع والحلال والحرام والأخلاق.. وغير ذلك، فاليهود كما ذكر (ابن
تيمية) : (يُشَبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق، التي
يجب تنزيه الرب (سبحانه) عنها، كقول من قال منهم: إنه فقير، وإنه بخيل،
وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض.
والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي
ليس له فيها مثل، كقولهم: إن المسيح هو الله، وابن الله، وكل من القولين يستلزم
الآخر، والنصارى أيضاً يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب
عنها، ويسبون الله سبّاً ما سبه أياه أحد من البشر ... واليهود تزعم أن الله يمتنع
منه أن ينسخ مما شرعه، كما يمتنع ما لا يدخل في القدرة، أو ما ينافي العلم
والحكمة، والنصارى يجوِّزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله الذي بعث به رسله،
فيحللوا ما حرم، كما حللوا الخنزير وغيره من الخبائث، بل لم يحرموا شيئاً،
ويحرمون ما حلل، كما يحرمون في رهبانيتهم التي ابتدعوها وحرموا فيها من
الطيبات ما أحله الله، ويسقطون ما أوجب، كما أسقطوا الختان وغيره، وأنواع
الطهارة من الغسل وإزالة النجاسة وغير ذلك، ويوجبون ما أسقط كما أوجبوا من
القوانين ما لم يوجبه الله وأنبياؤه ... واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات وتحريم
الطيبات، والنصارى استحلوا الخبائث وملابسة النجاسات) [9] .
تنبيه مهم:
قد يُستدل ببعض الآيات الواردة في القرآن عن علاقة أهل الكتاب بالمسلمين
وأن الإسلام مدحهم في بعض آيات القرآن، فمن ذلك قوله (تعالى) : [مِّنْ أَهْلِ
الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ
وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ] [آل عمران: 113، 114] ، وقد علق (ابن تيمية) على
هذه الآية بقوله: (فهذه الآية لا اختصاص فيها للنصارى، بل هي مذكورة بعد قوله
(تعالى) : [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ... الفَاسِقُونَ ... ] [آل عمران: 110] ) ، إلى أن قال: (والآية إذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود، والله (تعالى) إنما أثنى على مَن آمن مِن أهل الكتاب، كما قال (تعالى) : [وَإنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ ... إلَيْكُمْ ... ] [آل عمران: 199] ، وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الآخرى (في آل عمران) نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنه لم تمكنه الهجرة إلى الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا العمل بشرائع الإسلام؛ لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام، وقد قيل: إن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما صلى عليه لما مات ... لأجل هذا..) [10] .
ومن الآيات التي تثير الأشكال في أذهان بعض الناس: قوله (تعالى) : [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ
آمَنُوا الَذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ]
[المائدة: 82] ، فقد يستدل بهذه الآية بأن أفعال النصارى حسنة، وأن الله نفى
عنهم الشرك بقوله [الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والذين
قالوا إنا نصارى أقربهم مودة، لقد رد (ابن تيمية) (رحمه الله) على من احتج بهذه
الشبه بقوله: (والجواب أن يقال: تمام الكلام: [وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ
تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ ... ] [المائدة: 83] فهو (سبحانه) لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء
الذين آمنوا بمحمد الذين قال فيهم: [وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] ،
والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله، وهم الشهداء الذين قال فيهم: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدََاءََ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] ) [11] ، (فإن كان دينهم حقّاً
لزم كفر اليهود، وإن كان باطلاً لزم بطلان دينهم، فلا بد من بطلان أحد الدينين،
فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما وقد سوت بينهما، فعلم أنها لم تمدح واحداً منهما بعد
النسخ والتبديل، وإنما معنى الآية: أن المؤمنين بمحمد، والذين هادوا: الذين
اتبعوا موسى (عليه السلام) وهم الذين كانوا على شرعه قبل النسخ والتبديل،
والنصارى: الذين اتبعوا المسيح (عليه السلام) وهم الذين كانوا على شريعته قبل
النسخ والتبديل، والصابئين وهم الصابئون الحنفاء كالذين كانوا من العرب وغيرهم
على دين إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق قبل التبديل والنسخ، فإن العرب من ولد
إسماعيل وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا
حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة ... وكذلك بنو إسحاق
الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين..
فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ونحوهم هم الذين مدحهم الله
(تعالى) [12] .
__________
(1) انظر: الفتاوى، ج4، ص 396.
(2) تفسير ابن كثير، ج2، ص 125.
(3) السابق، ج1، ص 508.
(4) انظر: تفسير ابن كثير، ج2، ص 347.
(5) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج1، ص 346.
(6) تفسير ابن كثير، ج1، ص 188.
(7) تفسير ابن كثير، ج1، ص 372.
(8) تفسير ابن كثير، ج3، ص 236.
(9) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج2، ص 52، 53.
(10) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج1، ص 264، 265.
(11) المرجع السابق، ج2، ص 55 56.
(12) المصدر نفسه، ص 62 63.(112/94)
منتدى القراء
الرد على شاتم الرسول
صلى الله عليه وسلم
بقلم:مبارك عامر بقنه
عن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (يكون دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا
رسول الله صفهم لنا، قال: هم قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا) [1] .
الحديث يخبر عن أمر غيبي، وهو من معجزات الرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- الدالة على صدق ما يقوله ويخبر به من أمر الغيب؛ فها نحن نرى اليوم
أُناساً يتكلمون بألسنتنا، ويلبسون زيّنا، ويعيشون بيننا، يدْعون بكل أسلوب وبكل
طريقة إلى القدح في هذا الدين؛ بل والشتم في صاحب هذه الدعوة الخالدة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-.
بالأمس القريب كان الشتم بلسان أعجمي [2] ، واليوم بلسان عربي [3] ، قد
طرح لباس التقوى، وجلباب الحياء، وجنّد نفسه لمحاربة هذه الدعوة الخالدة، فلا
إيمان يردعه، ولا احترام أو أدب أو حبّاً للرسول يمنعه، ولا خوفاً من عقوبة
يوقفه.
وإنني والله لأعجب أشد العجب؛ كيف يجرؤ مسلم على وجه الأرض أن
يقول: إن محمداً (قد فشل في دعوته) [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ
إلاَّ كَذِباً] [الكهف: 5] .
هذا الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي اصطفاه الله، ورفع من قدره،
وجعله خير خلقه.. فاشل؟ ، إن هذا لشيءٌ عُجاب، فوالله ما سمعنا بهذا من قبل،
إن هذا إلا اختلاق، إن كان محمد قد فشل في دعوته، فمن ذا الذي قد نجح في
دعوته إذن؟ ، وتوضيحاً لخطأ وخطر هذه الدعاوى غير المسؤولة، أقول وبالله
التوفيق: إن هذا الكلام الباطل يلزم منه إلزامات كثيرة، أذكر بعضاً منها:
أولاً: القدح في الله (عز وجل) ؛ لأن الله يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ] [الأحزاب: 21] ، فكيف يكون
لنا أسوة في رجل فاشل في دعوته؟ ؛ ثم يكتم الله ذلك ولا يبينه لنا، ولا يعاتب
نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يبين الأسلوب الأمثل في الدعوة، فهذا يخالف
الحق ويخالف قول الله (تعالى) : [يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ] [النساء: 26] .
ثانياً: القدح في الرسول الكريم قدح في عقله وعلمه؛ لأن الغالب أن الفشل
يأتي نتيجة نقص في العقل والعلم، حيث لا يتصرف بحكمة وعلم، ولا يعرف
أفضل الطرق في الدعوة، وعليه: فابتلاؤه (عليه الصلاة والسلام) وتلقيه الأذى من
قومه كان نتيجة عن أخطاء ارتكبها الرسول في دعوته لقومه، وهذا باطل في حقه
لأنه مسدد بالوحيين.
ثالثاً: الطعن في الرسول طعن في الدين، فمن فشل في دعوته يكون فاشلاً
في نقل الرسالة وتبليغ الناس ما أمر الله (عز وجل) ، وهذا خلاف الواقع.
رابعاً: القدح في نجاح دعوته قدح في أصحابه؛ لأن إذا كان صاحب الرسالة
وهو القدوة المتبع قد فشل، فمن باب أولى أن يلحق الفشل بالصحابة والتابعين وكل
من اتبعه.
خامساً: عذر المشركين والكفار بعدم استجابتهم للرسول، حيث إن الرسول
قد فشل بزعمه في إظهار محاسن الإسلام كاملة، ولم يحسن الدعوة، فكان لهم الحق
في عدم اتباعه وهذا لا يقول به مسلم.
سادساً: جهل أمة محمد من عهد الصحابة إلى عهد هذا الرجل، حيث لم
يلحظوا هذه الدعوى حيال الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يُذكر أن أحداً
من أمة محمد ادعى فشل الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، وإن كان
ما يقول المذكور حق فإنه يلزم من ذلك جهل أمة محمد، أو أنهم قد علموا ذلك ولكن
تواطؤوا على كتمانه.
هذه بعض الإلزامات، والحقائق، التي بعضها يخرِج من الدين، فكيف بها كلها؟ !
وإنني أريد أن أسأل الدكتور: هل ترضى أن يقول لك أحد إنك رجل ... (فاشل) ؟ الجواب: معروف، لأنه ليس هناك أحد يريد أن ينسب إلى الفشل حتى ولو كان فاشلاً، فكيف ترضى بأن ينسب الرسول إلى الفشل؟
ألم تعلم أن الله قد عاتب قوماً رفعوا أصواتهم عند رسول الله وحذّرهم من أن
تحبط أعمالهم، فقال (عز وجل) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا
تَشْعُرُونَ] [الحجرات: 2] ، والله للذي قلت لهو أشد من رفع الصوت عند رسول
الله، أفلا تخشى أن يحبط الله عملك؟ !
وقولك: إنه قد فشل في دعوته، كلام باطل يرده الواقع؛ فلو كان قد فشل في
دعوته لما بَقِيَت إلى هذا الزمان، ولما انتشرت في جميع أنحاء المعمورة، بل إنه
قد تجاوز أتباعه المليار من المسلمين، فهل هذا يسمى فشل! !
ولا يقتضي الأمر من عدم دخول قريش في الإسلام في بداية الدعوة فشل
الرسول في تبليغ الرسالة ودعوتهم إلى الله، كلا والله؛ لأن أساس الدعوة إلى الله
هي البلاغ وليست إلزام الناس وإرغامهم على الدخول في دين الله، وكونهم لم
يستجيبوا للرسول فهذه حكمة الله وإرادته وليس فشلاً من الرسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، ولو كنت تمارس الدعوة إلى الله لعلمت ماذا تعني الدعوة ولما تجرأت
وتفوهت بما تقول، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي الختام: لا أريد أن أطيل، فالأمر بيّن ولا يحتاج إلى إطالة، فالعدو
يشهد قبل الصديق ببراعة ونجاح الرسول في دعوته، ولا ينكر هذا إلا معاند، ألم
يأن لهؤلاء أن يحترموا عقيدتنا، وإن يلجموا ألسنتهم عن نبينا، وأن يتركوا الطعن
والقدح في ديننا من خلاله، وليسلكوا باباً آخر للشهرة؟ علّهم يجدون بغيتهم.
__________
(1) رواه البخاري، ح/7084، ومسلم، ح/1847، واللفظ له.
(2) كسلمان رشدي.
(3) وهذا المقال رد على د سليمان البدر في مقالته (الرسول فشل تاريخيّاً، ونجاحه دينيّاً) والذي نشره في جريدة (الأنباء) الكويتية، بتاريخ 9/12/1996م.(112/106)
منتدى القراء
نبذة عن العلامة عبد الله بن زيد آل محمود
(رحمه الله)
بقلم: علي بن عبد العزيز الشبل
إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض
العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) ، قاله في حديث عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) في ...
الصحيحين، ولذا قال أبو عبد الله الشافعي (رحمه الله) :
إذا ما مات ذو علم وتقوى ... فقد ثُلمت من الإسلام ثُلمة
فإنه بموت العلماء يستحكم الجهل، ويتقاصر الزمان ليبلغ آخره، إيذاناً بقيام
الساعة؛ لأن موت العلماء زوال للعلم، ورفع العلم عَلَم من أعلام النبوة على قرب
الساعة، لما في الصحيحين من حديث أنس (رضي الله عنه) مرفوعاً: (من أشراط
الساعة) .
ولقد رزئ المسلمون بعامة، وأهل الخليج بخاصة بموت ركن من علمائهم،
وأحد أعمدة القضاء الشرعي، لبث قائماً به أكثر من خمسين حولاً.
إنه الشيخ القاضي الفقيه (عبد الله بن زيد آل محمود) رئيس المحاكم الشرعية
بقطر والذي توفاه مولاه في أواخر شهر رمضان الماضي.
ولد الشيخ عبد الله سنة 1329هـ بحوطة بني تميم جنوب الرياض، من أسرة
من كرائم أسر بلده، ثم توجه إلى طلب العلم، فبدأ بالقرآن، فحفظه وهو صغير،
ثم شغف بالعلم مع ما وهبه الله من استعداد ذهني، حيث فاق زملاءه في الطلب،
وتقدم إماماً على جماعته في الصلاة والتراويح، ولم يتجاوز السادسة عشرة!
وقد وفق بالدراسة على أئمة الدعوة السلفية في زمنه، فأخذ عنهم العلم
الشرعي، ومنهم:
1- مفتي الديار السعودية العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت:
1389هـ) .
2- العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع (ت: 1385هـ)
3- الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري (ت: 1387هـ) ، وهو الشهير بأبي حبيب.
4- الشيخ عبد الملك بن الشيخ إبراهيم بن عبد الملك بن حسين آل الشيخ.
نبوغه في العلم: ومن شواهد نبوغ الشيخ ابن محمود: استظهاره للمتون
الشرعية في مناهج الدعوة السلفية، ومنها:
في العقيدة: الأصول الثلاثة، وكشف الشبهات، وكتاب التوحيد، للشيخ
(محمد بن عبد الوهاب) ، والواسطية، لشيخ الإسلام (ابن تيمية) .
وفي الحديث: بلوغ المرام، للحافظ (ابن حجر) ، وعمدة الحديث، للحافظ
(عبد الغني المقدسي) .
وفي أصول الحديث: ألفية الحديث، (للسيوطي) .
وفي الفقه: آداب المشي إلى الصلاة، واختصار المقنع الشهير (بزاد
المستقنع) ، ونظم المقنع لابن عبد القوي أو مختصره.
وفي العربية: الأجرومية، وقطر الندى، ونظم المفردات.
وتلكم هي ركيزة العلم التي عليها تدور معالم فياض العلم في ابتداء الطلب.
ولما رحل الشيخ (محمد بن مانع) من قطر، شغر مكانه فيها، فرشح له
تلميذه النجيب الشيخ (عبد الله بن محمود) ، بمباركة من الملك (عبد العزيز آل
سعود) والشيخ (عبد الله آل ثاني) ، فتوجه الشيخ إليها بعد حج سنة 1359 هـ
قاضياً ومفتياً وعالماً، ولم يزل فيها إلى أن توفي، مع تردده إلى مسقط رأسه
ومرتع صباه (الحوطة) جنوب مدينة الرياض.
فسدّ مكانه في قطر بقيامه بالقضاء الشرعي وتأسيس نظامه، وبث العلم،
والمنافحة عن العقيدة، وله أكثر من ثلاثين رسالة في فنون من العلوم الشرعية
والرد على بعض المنحرفين، جمعت في ثلاثة مجلدات، وكانت له آراء محل
حوار مع بعض إخوانه من علماء السعودية، أمثال الشيخ (عبد الله بن حميد) ،
والشيخ (عبد العزيز رشيد) .
وقد تم أجله وانتقل إلى مثواه الأخير في 28/9/ 1417هـ عن نحو (90)
عاماً.
فما أجدرنا أن نقف عند تجارب العلماء وأساليب اجتهاداتهم؛ لنستلهم منهم
الأسوة في العلم والعمل، ونسلك طريقهم؛ حتى نسعد بسلامة المنهج وحسن المقصد. فاللهم اغفر له وارفع درجته ووالديه وعلماء المسلمين، وزكِّ عقبه وتلاميذه
ومحبيه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(112/108)
منتدى القراء
نَعَم.. جاء العيد
شعر: فيصل المشرقي
في هذا الجوّ المشحون بالأحداث والأعاصير كما وصفه الأخ علي بن جبريل
في قصيدته وحينما جاء العيد، صاح فتى من الشيشان وهتف إلى الأمة الإسلامية
بأن النصر قريب، وقد تلوح ملامحه تبدو من خلال انتصار الشعب الشيشاني.
وهذه الأبيات جذوة أمل في هذا الليل المظلم، واستثناء من قصيدة الأخ
الكريم.
(عيد بأية حال عدت يا عيد) ... شيشان بالنصر عمّتها الزغاريدُ
وعمت الفرحة الكبرى مرابعها ... أصيلة الوجه تزجيها التغاريدُ
الحزُن ولّى فلا عادت ملامحه ... (يا ليت دونك بيداً دونها بيدُ)
يا عالم الأمس اليومَ قد رجعت ... أيامنا الغرّ، لا ليلاتك السّودُ
في فتية قال يوم الرّوع فارسهم ... غداً تعود.. فوافته المواعيد
هَبّوا إلى الحرب لا ميل ولا كُشُف ... وجنّحوا لسلام حينما نودوا
شيشان حيّتكِ من هذى الورى مُهَجٌ ... تفديك بالروح لو عاداك عربيد
فيك السلام وفيك الحبّ، جَمّلهُ ... سماحةُ الوجه والإيمانُ والجود
ترابك التبر لولا أنه ذهب ... وأهلك الناس لولا أنهم صيدُ
الآن يا ريم لا ذئبٌ ولا أسدٌ ... فامرح بأرضك إن الوصل ممدود
ويا نسائم لا عادتك عاصفة ... ولا أتاك كئيب الوجه رِعديد
أطياب (منشم) [1] قد ضاعت روائحها ... وزال من فوق وجه الأرض صِنديد
فلتهنؤوا شهداء الدين إن لكم ... جنات عدن وفيها الطلح منضود
(عيد سيعدٌ نَعَم لو أمتى انتصرت) ... وشاع في الأرض إيمانٌ وتوحيد
عذراً (لجبريل) [2] لم أقصد مخالفةً ... (أما وأمّتُنا ثكلى فلا عيد)
__________
(1) امرأة عطّارة تبيع الحنوط بمكة، وكان العرب يتشاءمون منها، والمقصود بأطيابها هنا آثار الموت والخراب.
(2) الأخ بن جبريل صاحب قصيدة (وجاء العيد) في عدد البيان (110) .(112/110)
الورقة الأخيرة
شاعر الخليفة.. والصحافة العربية!
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
تهتم وسائل الإعلام العالمية بالتجديد والتنويع لجذب القراء وتشويقهم، أما الأبواق العربية فقد أخذت بطرف من هذه الفكرة سبيلاً للتغير والتلون، فما يكون صحيحاً وفتحاً كبيراً في هذا اليوم، يكون باطلاً وعملاً لا قيمة له في الغد، فلا توجد ثوابت منطقية أو إعلامية، فكل شيء متحول ومتجدد إلا (الرغبات السياسية) ..!
الكاتب يُعدّ قوميّاً في هذه السنة، وطنيّاً في السنة الأخرى، ثوريّاً في الثالثة.. وصل بعض هؤلاء الكتاب إلى قمة الإبداع في التزوير وقلب الحقائق، فالكاتب
المتمكن هو الأقدر على الكذب والتلفيق، وتسمية الأمور بغير مسمياتها..! !
حرب 1967م ليست هزيمة، بل هي نكسة.. بل انتصار عظيم؛ لأن
الزعيم العربي الملهم! لا زال على عرشه، عاضّاً عليه بالنواجذ..!
(بيريز) الأمس مجرم سفاك إرهابي.. أما (بيريز) اليوم فهو حمل وديع
وطفل بريء محب للحرية والسلام..! .
(إسرائيل) الدولة الصهيونية المحتلة المغتصبة ... أصبحت بين عشية
وضحاها دولة عضو في هيئة الأمم المتحدة، لها كما لغيرها! الحق في أن تعيش
بسلام مع جاراتها الصديقات..!
الثابت الوحيد الذي لا يتغير بتغير الأقنعة والشعارات، ولا يتبدل ... بتبدل المصالح والتقلبات النفعية، هو الهجوم على الإسلاميين.. المتطرفين.. الإرهابيين.. (! !)
ولعلّ بعض الكتبة في صحافتنا العربية من أحفاد ذلك الشاعر الفاطمي الذي
رأى الزلزال يهز مصر، فتتساقط الضحايا، وتهدم الممتلكات، ويعم الخوف
والهلع ... فتجود قريحته الإعلامية بأبيات خاطب فيها الخليفة.. قال فيها:
ما زلزلت مصر من خطب ألمّ بها لكنها رقصت من عدلكم طربا....
فلعل زلزال 1992م في مصر كان ناتجاً من كثرة المتفجرات والقنابل اليدوية
التي يحتفظ بها الأصوليون في إمبابة وأسيوط..! !
وصدق الصادق المصدوق: (إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا
لم تستحِ فاصنع ما شئت) [1] .
__________
(1) أخرجه البخاري، ك/ الأدب، ب /78، وكذا: أبو داود، وابن ماجة، وأحمد بن حنبل.(112/111)
المحرم - 1418هـ
مايو - 1997م
(السنة: 12)(113/)
كلمة صغيرة
حين ينطق الحجر
التحرير
منذ قيام حكومة الليكود (التجمع الصهيوني المتطرف) ، وهي تستفز مشاعر
الأمة الإسلامية جمعاء، وتستهتر بالرأي العام العالمي كافة، وعلى الرغم من توقيع
اتفاق (أوسلو) وما تبعه من لقاءات أعطت الفلسطينيين ما يسمى بالحكم الذاتي
(الهزيل) ، الذي سبق وأن قلنا إنه مجرد لعبة يهودية كلعبة (الكامب) ولعبة (وادي
عربة) فيما بعد للاستفراد بالدول العربية واحدة واحدة من ناحية، وإدخال العدو في
جسم الأمة من ناحية أخرى، ولإعطائه شرعية يستغل فيها قوى الأمة بعد تعطيل
المقاطعة معه وليقوي اقتصاده على حسابها.
إن بناء مستعمرة (أبو غنيم) ليس سوى استمرار للسياسة الاستيطانية الثابتة
مع مخالفتها لكل الاتفاقات التي وقعها (الليكود) ليقرر في النهاية بهذه المستعمرة
استكمال الحصار وتطويق القدس بسلسلة من المستوطنات بلغت العشر، عزل بها
المدينة المقدسة وأهلها عن باقي أبناء الشعب الفلسطيني، لتصبح القدس العاصمة
الموحدة لهم، ويتعذر معها أي حل سياسي لتقسيمها أو طرحها على طاولة
المفاوضات.
إن الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره عاد بعد بناء تلك المستعمرة إلى
الحجارة؛ ليؤدب يهود ويزرع فيهم الخوف والقلق الذي ينعكس سلباً على واقعهم
الحياتي، وها هي حكومة (نتن ياهو) تترنح، وها هو يطالب بحكومة ائتلافية،
وربما تسقط حكومته بالفعل.
لقد نطق الحجر من جديد في يد شباب فلسطين المسلم الذي وقف ضد إرهاب
الليكود ومن يدعمه، فهل نعين إخواننا في فلسطين بالدعم الحقيقي أم نكون عوناً
لليهود ضد إخواننا بالضرب على أيديهم تحقيقاً لرغبة الصهاينة في إبعاد شباب
الإسلام من المواجهة.(113/1)
الافتتاحية
على أعتاب العام الثاني عشر
واقع البيان وبيان الواقع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان والأكملان على خاتم الأنبياء
والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فنحمد الله المستحق للحمد، ونشكره (تعالى) على ما هدانا إليه من نعمة
الإسلام والتوفيق لقول كلمة الحق، ونشر منهج الصدق، والتحذير من سبل الباطل: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأنعام: 153] .
فبهذا العدد (113) تدخل مجلة البيان سنتها (الثانية عشرة) وهي عاقدة العزم
على الاستمرار فيما انطلقت منه، بالعض بالنواجذ على ما دعت إليه منذ عددها
الأول الصادر في غرة ذي الحجة 1406هـ، والذي أكدت فيه إشعار إخواننا في
الدين وأشقائنا في الهدف إلى أن هذه المجلة قد قامت على أسس راسخة ومنطلقات
ثابتة، ونؤكد على الخطوط العريضة لها المتمثلة فيما يلي:
-أننا دعاة إلى الله، نحرص على اتباع الوحيين، ونعمل جاهدين على السير
وفق نهج سلفنا الصالح في القرون المفضلة ومن تبعهم بإحسان.
-نتبنى عقيدة أهل السنة والجماعة ونسير على منهجهم في التلقي، بعيداً عن
غلو الغالين وانحراف المبطلين.
- نتلمس هموم الأمة ومشكلاتها في المشرق والمغرب، ونسعى لتعريف
الناس بها ومعالجتها قدر الطاقة بعمق واتزان.
- نحرص على معالجة انحرافات الأمة من منظور شرعي راسخ، ونتجنب
التهويل والتهوين.
- ندعو إلى الشمول في طرح الإسلام المتكامل عقيدة وعبادة ومنهج حياة.
- نضع أيدينا في أيدي كل المخلصين العاملين في سلك الدعوة إلى الله على
بصيرة، فلسنا لسان حزب أو دعاة طائفية أو إقليمية.
- نمقت العمل الارتجالي والنهج الفوضوي، ونرى في السيرة النبوية ومنهج
الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) أسلوباً أمثل لتوصيل رسالة الإسلام للناس كافة.
وربما نقصر أو نخطئ.. ولكننا نفتح قلوبنا لتقبل النصح والتوجيه
والتصحيح، وقد وضعنا استبانة في عدد سابق للمساعدة في تحقيق هذا الهدف.
وقفة مهمة:
حقيقة ثابتة يجب أن نعيها ونعلمها علم اليقين: أن الإعلام الإسلامي اليوم لم
يواكب النهضة الحضارية التي نعاصرها وينبغي أن تمر بها جل ديار الإسلام، ولا
نكون مغالين لو قلنا إن تخلفنا الإعلامي هو نتيجة طبيعية لتخلف واقعنا الحضاري.. بل هو ثمرة للتناقض المرير الذي نعيشه في كثير من ديار الإسلام بين ما تدعيه
دساتيرها من اعتبارها دولاً مسلمة وأن الإسلام فيها (مصدر من مصادر التشريع!!) ، بين ذلك والواقع البائس لها نتيجة تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم، حتى
لم يبق منها سوى (أطلال الأحوال الشخصية) التي تتعرض بين وقت وآخر
لموجات التطوير والمسخ والتحريف، لمواكبة الغرب والشرق في اتجاهاتهم المادية
والليبرالية، حتى إنه على سبيل المثال لا الحصر شُرِّع منع تعدد الزوجات في
دستور إحدى الدول العربية، ويجرّم من يفعل ذلك، في الوقت الذي يعتبر الزنا
الصريح برضا الطرفين حرية شخصية، فأي تناقض أكبر من هذا؟ ، (إنا لله وإنا
إليه راجعون) .
ومن صور التناقض العجيب الذي نلمسه ونشاهده: تقنين منع الاتجاه
الإسلامي بوصفه أحد المنطلقات الفاعلة في المجتمعات المسلمة بدعاوى غريبة
وعجيبة، مثل: الادعاء بأن الاتجاه الإسلامي للجميع وليس لفئة دون غيرها،
فضلاً عما ينسب للاتجاهات الإسلامية من ضلوع في التطرف والإرهاب، نعم..
قد تحصل من بعض المنتسبين للتيار الإسلامي مخالفات ومآخذ، لكن ليس من
العدل تعميم ذلك على كل منتمٍ لهذا التيار، فهذا ظلم ولا يصح لمن يتحرى العدل أن
يقع فيه، فلماذا يباح الرأي لفئات معينة من المجتمع دون غيرها؟ .
لكن الهدف معروف سلفاً، وهو الضرب على وتر خاص، والتأكيد على نهج
بعينه، ثم تكرار القول حياله حتى ولو بالباطل إلى أن يصبح حقيقة مقررة في
النفوس، وهذا ما علمهم إياه كبيرهم الذي علمهم الإفك، حينما قال: (اكذب..
اكذب حتى يصدقك الناس) .
ويُرَد على هذه الادعاءات الباطلة والدعاوى الكاذبة بأن الاتجاهات المقبولة
لديهم بكافة منطلقاتها ليست حكراً على أهلها وذويها دون غيرهم، لكن الهدف
المقصود لم يعد خافياً على أي متابع، وهو مصادرة الإسلام ذاته، وتجريم دعاته،
وتحجيم تأثيره في المجتمع؛ ليبقى الحاكمون بأمرهم هم السادة والممسكون بأزِمّة
الأمور، فعلى أمتنا بكافة فعالياتها معرفة تلك المؤامرة وكشفها للجميع.
ومما يؤسف له: أن دعاة الإسلام في جل ديارهم لم يستطيعوا استغلال
الإعلام استغلالاً صحيحاً، ولم يستفيدوا من معطياته الاستفادة المرجوة؛ لأسباب،
منها:
* ضعف الإمكانات البشرية والتقنية، مما ينعكس سلباً على الأداء الإعلامي
لديهم؛ الذي لم يعد له مجال سوى ما هو مقروء فقط، وتبعاً لحدود معينة؛ مما أفقد
الدعاة إلى الله أساليب فاعلة في إيصال دعوتهم ومنهجهم إلى الناس كافة.
* النزعات الحزبية الضيقة التي ترى في نفسها أنها نسيج وحدها وما عداها
لا قيمة له، لمجرد مخالفتها في الاتجاه.
* ويتبع ذلك: الانغلاق على الذات والعمل في المحيط الإقليمي، والترفع
عن المحاسبة والنقد الهادف، مما جعلها لا تستفيد من تصويبات الآخرين، وبالتالي: السقوط في عقدة التعالي والترفع عن مراجعة الخطأ، وهذا هو الخطأ بعينه.
* محاولة هدم جهود الآخرين والوصول إلى الطعن في النيات بدعاوى ما
أنزل الله بها من سلطان، ومنها: تصنيف الناس والادعاء عليهم بالزور والبهتان
لمجرد الخلاف معهم في الرأي، إلى أن يصل الأمر إلى البحث عن الزلات وتتبع
العثرات، بينما الكفار والمبتدعة بمنجاة عن تتبعهم وكشف أخطائهم، فهذا والله أمر
عجيب، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها الأحبة: كم نحن بحاجة ماسة إلى وقفة محاسبة لنا معشر العاملين في
حقل الإعلام الإسلامي، والتعاون على وضع ما يمكن تسميته (ميثاق شرف) ؛
لتأصيل منهجنا الإعلامي في الحياة، وبيان السبل الصحيحة لإيصال الدعوة
الإسلامية للناس كافة، طبقاً للآداب الإسلامية والأخلاق الربانية، بعيداً عن
النزعات الفئوية والمناهج الحزبية والتوجهات الطائفية، بل انطلاقاً من مثل قوله
(تعالى) : [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ] [النحل: 125] .
نعم.. طرحت رؤى وأفكار في هذا الباب، سواء في أطاريح رسمية أو
دراسات علمية، لكنها لا تخلو من مآخذ وسلبيات.. والميثاق الذي ندعو إليه
بالإضافة إلى الأسس المنهجية الشرعية التي أومأنا إلى شيء منها يلزم أن تتجلى
فيه السمات التالية:
أن يكون منهاج دعوة إلى الأخوة الإسلامية التي تربط المسلمين بعقيدتهم
الصحيحة، لقوله (تعالى) : [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] ، والتحذير
من كل الاتجاهات المنحرفة من التغريب الاجتماعي والعلمنة الفكرية والانحرافات
العقدية والغلو الديني.
لا خلاف فيما ورد فيه نص شرعي محكم، والخلاف وارد في المسائل
الفرعية، ولذا: ندعو إلى جمع الكلمة ووحدة الصف ونبذ الاختلاف وما ينطوي
عليه من حقد وكراهية وبغضاء.
لا يمكن بحال من الأحوال الشماتة بإخواننا في العقيدة ومناصرة أعدائهم
لمجرد الخلاف في الرأي..
إننا بهذه المناسبة الطيبة ندعو أصحاب الفضيلة مشايخنا العلماء وإخواننا
الدعاة والمفكرين.. إلى مشاركة (البيان) في إيصال دعوة الحق للناس ونشر
الفضائل ونبذ الرذائل، والعمل على المزيد من التواصل لكشف مخططات أعداء
الإسلام وتعريف الناس بالإسلام كله.
والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه،
ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.(113/4)
دراسات شرعية
آثار التعبد بأسماء الله وصفاته
بقلم: محمد بن عبد الله الزغيبي
تمهيد:
إن البحث في أسماء الله وصفاته وفق ما جاء في الكتاب والسنة هو من أجلِّ
المعارف وأشرفها.
ولن نتعرض في هذا البحث المتواضع لكل ما يتعلق بالأسماء الحسنى [1] ،
ولكننا سنعرض لجزئية صغيرة، ولكنها مهمة وعظيمة، ألا وهي التعبد [2]
بأسماء الله وصفاته الحسنى، فإنه باب عظيم يضم بين جوانبه مسائل من التعبد،
فمنها: إحصاء ألفاظها وعددها، وكذلك: الدعاء بها، وثالثها: ما نحن بصدده،
وهو فهم معانيها ومدلولها [3] .
وفهم معانيها ومدلوها له مترادفات أخرى ذكرها ابن القيم في ثنايا كتبه، وهي: إدراك موجبها، وآثارها، ومقتضياتها، ومتعلقها، ولوازمها، وأحكامها.. فكل
هذه المترادفات المتقاربة تعني التعبد لله بأسمائه وصفاته، إذ كل اسم له تعبد
مختص به علماً ومعرفة وحالاً، وله صفة خاصة، وكل صفة لها مقتضى وفعل،
إما لازم، وإما متعدٍّ، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه،
وأمره، وثوابه، وعقابه، وكل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها.
ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها، وتعطيل الأوصاف عما
تقتضيه وتستدعيه من الأفعال.
فمثلاً اسم (السميع) من أسماء الله الحسنى، ولا بد من إثبات حكمه ومقتضاه،
وهو أنه يسمع السر والنجوى، ويسمع ضجيج الأصوات، على اختلاف اللغات..
وإدراك هذا الأثر من اسمه (تعالى) يورث العبد حالاً من التعبد والمراقبة والإنابة
إلى ربه (سبحانه وتعالى) .
واعلم أن التعبد بالأسماء والصفات الحسنى درجات ومراتب وأنواع كما سبق، وكلما زاد علم العبد بالله (جل وعلا) ارتفع في درجة التعبد، وأكمل الناس عبودية
هو المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية
اسم عن آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه (الحليم) (الرحيم) ، أو يحجبه عبودية اسم (المعطي) عن عبودية اسم (المانع) ، أو عبودية اسم
(الرحيم) و (العفو) و (الغفور) عن اسمه (المنتقم) ، أو التعبد بأسماء التودد والبر
واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء.. ونحو ذلك.
وهو (سبحانه) يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو عليم ويحب كل عليم،
جواد يحب كل جواد، عفو يحب العفو وأهله، حيي يحب الحياء وأهله، شكور
يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم يحب أهل الحلم [4] ، وإذا كان
(سبحانه) يحب المتصفين بأثر صفاته فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف،
وهو ما يسمى بالمعية الخاصة.
إن معرفة معاني الأسماء والصفات يحقق آثاراً ظاهرة لمن تعبّد لله بها، ومن هذه الآثار:
1- الأنس بالله ولمّ شعث القلب:
(وذلك إنما هو أثر تجلي الأسماء والصفات الحسنى على قلب العبد، فترتفع
حجب الغفلة والشك والإعراض، ويتم استيلاء سلطان المعرفة على القلب وقد
استولى على العبد نور الإيمان بالأسماء والصفات ومعرفتها، ودوام ذكرها،
والنظر إلى الواحد الفرد، الأول فليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء،
الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء، سبق كل شيء
بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا فوق كل شيء بظهوره، وأحاط بكل
شيء ببطونه) [5] .
(وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حدٍّ كأنه يكاد يطالع ما اتصف به الرب
(سبحانه) من صفات الكمال ونعوت الإجلال، وأحست روحه بالقرب الخاص،
حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه، فإن حجابه هو نفسه، وقد
رفع الله عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته، فأفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب،
فصار يعبده كأنه يراه) [6] .
2- تعظيم الله (سبحانه وتعالى) :
فمن شاهد الصفة فلا بد أن يشاهد متعلقاتها، فإن النظر في متعلقاتها يكسب
التعظيم للمتصف بها.
فمن شاهد صفة الكلام مثلاً زادته تعظيماً لله (تعالى) ولا بد، إذ لو أن البحر
يمده من بعده سبعة أبحر، وأشجار العالم كلها أقلام يُكتب بها كلام الرب (جل
جلاله) لفنيت البحار ونفدت الأقلام، وكلام الله (عز وجل) لا يفنى ولا ينفد، فمن
شاهد الصفات الأخرى بمثل هذه المشاهدة من العلم والقدرة ونحوها، وجال قلبه في
عظمتها: ازداد معرفة وتعظيماً لله (سبحانه) [7] .
3- إدراك مقتضيات الصفات طريق لإثباتها:
فوجود هذا الكون المدبر المحكم الواسع يتطلب ربّاً مالكاً حكيماً عليماً، وكذلك
وجود المخلوقات بأنواعها وأشكالها يوجب وجود خالق، ووجود الجناية والتقصير
من العبد يوجب إثبات اسم (الغفار) .. وغيره من الأسماء والصفات.
4- إدراك أسرار الشريعة وحقيقة الأحكام الشرعية:
فمن كانت له معرفة بأسماء الله وصفاته، واستقرار آثارها في الخلق والأمر، رأى الخلق والأمر ينتظمان بها أتم انتظام، ورأى سريان آثارها فيها، وعلم بحسب معرفته ما يليق بكماله وجلاله أن يفعله، وما لا يليق، فاستدل بأسمائه على ما يفعله وما لا يفعله، فإنه لا يفعل خلاف موجب حمده وحكمته، وكذلك يعلم ما يليق به أن يأمر به ويشرعه مما لا يليق به، فإذا رأى في بعض الأحكام جوراً أو سفهاً وعبثا ومفسدة، فليعلم أنه ليس من أحكامه ودينه، وأنه بريء منه ورسوله؛ فإنه إنما أمر بالعدل لا بالظلم، وبالمصلحة لا بالمفسدة، وبالحكمة لا بالسفة) [8] .
5- الطمأنينة:
والطمأنينة إلى أسماء الرب وصفاته نوعان: أحدهما: طمأنينة إلى الإيمان
بها وإثباتها واعتقادها، وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من آثار العبودية، فمثلاً:
التعبد باسم (القدير) يوجب الطمأنينة إلى القَدَر وإثباته، ويقتضي الطمأنينة إلى
مواضع الأقدار التي لا قدرة له على دفعها، فيسلِّم لها، ويرضى بها، ولا يسخط،
ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه الله؛
لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يُخلق.
فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالم، وهي قدر زائد
على الطمأنينة بمجرد العلم بها واعتقادها [9] .
أمثلة توضح كيفية التعبد بمعاني الأسماء والصفات:
سنتطرق لبعض الأسماء والصفات، وإلا فإن توضيح ما مضى لجميع
الصفات أمر يطول، ولكن يمكن فهم الأسماء والصفات على ما سنذكره:
1- السميع:
إذا استشعر العبد بقلبه سمعه (سبحانه) لأصوات عباده على اختلافها وجهرها
وخفائها، وأن سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، ولايشغله من جهر عن
سمعه لصوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه الأصوات على
كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كصوت واحد، فعلم أن الله يسمعه: فلا
يقول إلا خيراً، بل يستحي أن يسمع الله من كلامه ما يخزيه ويفضحه عنده، وإنما
يشتد في ألا يسمع منه إلا الكلام الحسن، بل ويكثر منه؛ حتى يحظى عند ربه
(سبحانه) [10] .
ويستشعر أن الله يسمع كلام أعدائه، وأن الله ليس بغافل عنهم ولا يرضى ما
يقولون، فعند ذلك يعلم أن الله معه وأنه ناصره لا محالة، وقد قال ابن القيم في
النونية معبراً عن هذا المعنى:
وهو السميع يرى ويسمع كل ما ... في الكون من سر ومن إعلان
ولكل صوت منه سمع حاضر ... فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا ... يخفى عليه بعيدها والداني
2- العزيز:
وسنتعرض لطرف من معنى هذا الاسم العظيم، وهو مشاهدة عزة الله
(سبحانه) في تقديره (تعالى) على عبده بالمعاصي والذنوب.
فيشاهد عزة الله بأن قلّب قلبه وصرّف إرادته على ما يشاء (سبحانه) ، وحال
بين العبد وقلبه وأن يعرف أنه مدبّر مقهور، ناصيته بيد غيره، لا عصمة له إلا
بعصمته، ولا توفيق له إلا بمعونته فهو ذليل حقير، في قبضة عزيز حميد [11] .
3- الودود:
فهو يحب عباده الصالحين ويحبونه؛ فإن العبد إذا شاهد بقلبه غنيّاً كريماً
جواداً، عزيزاً قادراً، كل أحد محتاج إليه بالذات، وهو غني بالذات عن كل ما
سواه، وهو مع ذلك يود عباده ويحبهم، ويتودد إليهم بإحسانه وتفضله عليهم: كان
له من هذا الشهود حالة صافية خالصة من الشوائب [12] .
4- السلام:
وحقيقة هذه اللفظة (السلام) هي: البراءة والخلاص والنجاة من الشر
والعيوب، فإذا علمت أن الله هو (السلام) فتعلم أن تجاوزه عنك في معصيتك وذنبك
سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة، كما أن عذابه سلام عن أن
يكون ظلماً أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله.
وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة
العباد ورحمتهم.
وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من
كونها محبة حاجة إليه أو تعلق أو انتفاع بقربه.
فتأمل كيف تضمن اسمه (السلام) كل ما نُزِّه عنه (تبارك وتعالى) ، واستشعر
هذا بقلبك؛ فإنه يبعث على تعظيم ربك (سبحانه) [13] .
5- الجبار:
ولاسمه (الجبار) ثلاثة معان:
1- أنه الذي يجبر ضعف الضعفاء من عباده ويجبر كسر القلوب المنكسرة، فكم جَبَر من كسير، وأغنى من فقير، وأعز من ذليل، فإذا عرف العبد هذا
المعنى تعبد لله بمقتضاه، وسأله بأن يجبر كسره، ويعينه على عبادته.
2- أنه القهار، فهو يجبر عباده على ما أراد مما اقتضته حكمته، فيستشعر
العبد أن أفعاله بقدرة الله، ويعلم أن أعداء الدين لن يصيبوه إلا بما قضى الله وأراد.
3- أنه العلي بذاته فوق جميع مخلوقاته، فلا يستطيع أحد منهم أن يدنو منه،
فيبعثه ذلك على تعظيم ربه وإدراك عزته واستعلائه [13] .
والله أعلم، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم ...
__________
(1) هناك كتب أفردت لذلك من بعض المعاصرين، فمنها: القواعد المثلى، للشيخ محمد العثيمين (حفظه الله) ، وأسماء الله الحسنى، لصالح الغصن، وصفات الله (تعالى) ، لعلوي السقاف، وهو غير ذلك السقاف القبوري المتمشعر المدعو (حسن السقاف) .
(2) للتحقيق في هذه اللفظة راجع: بدائع الفوائد، 1/180 181، دار المؤيد.
(3) بدائع الفوائد، 1/164.
(4) تهذيب مدارج السالكين، ص222، وللاستزادة انظر: مجموع فتاوى الشيخ ابن باز
(حفظه الله) ، 1/138.
(5) تهذيب مدارج السالكين، ص 544 585.
(6) انظر: تهذيب مدارج السالكين، ص 585.
(7) طريق الهجرتين، ص 76.
(8) الروح، ص 296.
(9) انظر: طريق الهجرتين، ص 76.
(10) انظر: تهذيب مدارج السالكين، ص 132.
(11) انظر: تهذيب مدارج السالكين، ص 559.
(12) بدائع الفوائد، 2/135، بتصرف.
(13) صفات الله (عز وجل) للسقاف، ص 78، بتصرف وزيادات، وانظر: توضيح الكافية للسعدي، ص 40، فقد ذكر معنى رابعاً.(113/8)
من فتاوى أهل الذكر
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين،
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
فتاوى أهل العلم الأثبات هي عصارة علم المفتين وخلاصة فقههم، ومنارات
يسترشد بها، هي جواب عن نوازل ومستجدات، وباب لتبليغ دين الله (تعالى) ..
ونظراً لأهمية (الفتاوى) ، وتحقيقاً لرغبة القراء، فستقوم (البيان) إن شاء الله
(تعالى) بنشر جملة من الفتاوى المهمة، حيث روعي في اختيارها تنوّع
موضوعاتها، وعظم الحاجة إليها في هذا العصر، إضافة إلى تنوّع أصحابها زماناً
ومكاناً.
وفي هذا العدد ننشر فتوى للشيخ (العز بن عبد السلام) [1] (رحمه الله تعالى) ، في مسألة الوساوس والخطرات وسبيل علاجها.
سئل الشيخ (العز بن عبد السلام) (رحمه الله) هذا السؤال:
رجل مؤدٍّ لفرائض الله (عز وجل) ، حافظ لحدوده، سالك طريق الآخرة، قد
ابتلي بخواطر تخطر له، فمنها ما يشككه في (الخالق) (سبحانه وتعالى) ، ولا سيما
إذا جلس في خلوة للذكر، فتكثر هذه الخواطر عنده، ويفقد حلاوة الذكر، وهو
يكابد هذا الأمر نحو عشرين سنة، وكان في ابتداء هذا الأمر يشق عليه وجوده، ثم
صار إذا خطر له ذلك الخاطر لا يجد من نفسه تلك الكراهة، فما حكم هذه الخواطر
في الجملة؟ ، وما حكمها في وقت غفلته عن الكراهة، وبأي دواء يدفع هذا
الوسواس عنه؟ .
فأجاب (رحمه الله) :
ليست هذه الوساوس من نفس الإنسان، وإنما هي صادرة من فعل الشيطان،
ولا إثم على الإنسان فيها؛ لأنها ليست من كسبه وصنعته، ويتوهم الإنسان أنها من
نفسه، ولما كان الشيطان يحدث بها القلب، ولا يلقيها إلى السمع يتوهم الإنسان أنها
صادرة منه، فيحرج لذلك ويكرهه، من غير أن ينشرح له صدره، ولو كان منه
لانشرح له صدره، وقد قام بالوظيفة في كراهة ذلك، كما لو صدر ذلك من إنسان
فسمعه بأذنه فكرهه مع العجز عن إزالته، فكذلك كراهة ما يلقيه الشيطان في قلبه
هي الوظيفة في ذلك، إذ لا يقدر على دفع الشيطان عن الوسواس، كما لا يقدر
على دفع من يعجز عن دفعه من المضلين، وإنما خفّت الكراهة في ذلك في آخر
الأمر من جهة أن المعاصي إذا اعتيدت خفت كراهتها، ألا ترى أن أكثر الناس
يتركون الصلوات المكتوبات فلا تشتد كما تشتد كراهة الإفطار في شهر رمضان
بغير عذر؛ لأن ذلك غير معتاد، فخفة كراهة الوسواس كخفة كراهة ما اعتيد من
العصيان، كشرب الخمر وإتيان الذكور وغير ذلك من العصيان، وقد تقع معصية
صغيرة غير معتادة فتشتد كراهتها أكثر مما تشتد كراهة الكبائر المعتادة.. ولا
طريق لمثل هذا إلا الالتجاء إلى الله (تعالى) في دفع وسواس الشيطان، فإن غرضه
بذلك أن يوهم الإنسان أنه قد كفر وأن عبادته لا تقبل مع كفره، ليترك العبادة
والطاعة، فإذا عرف العبد أن ذلك صادر من الشيطان لهذا الغرض انقطع الشيطان
عن تلك الوساوس؛ إذ لا فائدة له فيها، فإذا عرف أنه لا يُلْتَفَتُ إليه سكن، إذ لا
فائدة لسعيه، وقد رأيت كثيراً من العبّاد الذين صح انقطاعهم إلى العبادة ابتلوا بمثل
هذا أو بأشد منه، فلما عرّفتهم بما ذكرته لم يلبثوا إلا قليلاً حتى أزال الله (تعالى)
عنهم كيد الشيطان؛ لانقطاع طمعه من فائدة سعيه، والله المستعان على دفع
الشيطان وعلى دفع مكائد نفس الإنسان [*] .
__________
(1) هو أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الشافعي، سلطان العلماء، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، كان فقيهاً مفسراً، ولي الخطابة بدمشق، له عدة مؤلفات، ويؤخذ
عليه أشعريته في العقيدة، توفي بالقاهرة سنة 660 هـ، انظر: طبقات الشافعية، 8/209، البداية والنهاية، 13/235.
(*) عن: فتاوى العز بن عبد السلام، تحقيق محمد جمعة كردي، ص 338 -340.(113/14)
دراسات دعوية
من جوانب الاقتداء بهدي الأنبياء
(عليهم الصلاة والسلام)
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
في مقال سابق بيّنت أهمية معرفة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)
وهديهم؛ وذلك لأخذ العبر العظيمة، والاقتداء بهم، والتعزي بما أصابهم،
والحصول على الفوز في الدنيا والآخرة باتباعهم.
وسيكون التركيز في هذا المقال إن شاء الله (تعالى) بالوقوف على ثلاثة
جوانب عظيمة من حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، هي في نظري من أهم
جوانب الاقتداء بهم (عليهم الصلاة والسلام) ، وهي كما يلي:
أولاً: من هديهم (عليهم الصلاة والسلام) في قوة العلم بالله (تعالى) ، وأثر
ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد وقوة العبادة.
ثانياً: من هديهم (عليهم الصلاة والسلام) في الأخلاق والسلوك.
ثالثاً: من هديهم (عليهم الصلاة والسلام) في الدعوة والتبليغ.
وسيكون تحت كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة تقسيمات أخرى تفصّل فيها
بعض الصور والأمثلة الداخلة تحت كل جانب، مع محاولة الربط ما أمكن بواقعنا
نحن المسلمين اليوم، وبخاصة ما يتعلق بالدعوة والدعاة في هذا العصر، موضحاً
من خلال هذا الربط مدى قربنا أو بعدنا من هذا الهدي الكريم في كل جانب من
الجوانب الآنفة الذكر من حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وهذا هو جهد المقل؛ فما وجدته أخي الكريم من صواب وحق فهو من الله (عز وجل) ، وما وجدت فيه
من خطأ وخلل فمني ومن الشيطان، فإلى تفصيل ما أشير إليه آنفاً.
الجانب الأول: من هديهم في قوة العلم بالله (عز وجل) ، وأثر ذلك في صدق
الإيمان وكمال التوحيد:
إن أعلم الناس بالله (عز وجل) هم أنبياؤه ورسله (عليهم الصلاة والسلام) ،
وهذا العلم به (سبحانه) وبأسمائه وصفاته العلا هو الذي أوجد هذه الخشية العظيمة
والإيمان الصادق والتوحيد الكامل لله (عز وجل) ؛ لأنه كلما كان العبد أعلم وأعرف
بربه (سبحانه) كلما كان أشد خوفاً وتعظيماً وعبادة ومحبة وإخلاصاً له، والعكس
بالعكس.
وإن مما اختص الله (سبحانه) به رسله، ومما منّ به عليهم: تكميل هذا العلم
العظيم في نفوسهم، والذي هو أشرف العلوم وأزكاها.
وإن المسلم مأمور بطلب هذا العلم الشريف قدر استطاعته اقتداءً بالأنبياء
(عليهم الصلاة والسلام) ؛ ولو أنه لن يصل إلى علمهم ولا إيمانهم، لكنه بذلك
يقترب منهم ويسعد بثمار هذا العلم العظيم في قلبه وسلوكه وحياته كلها.
ومن الأدلة على شرف هذا العلم ما يلي:
قول الله (تعالى) : عن إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) في دعوته لأبيه:
[يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَاًتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياً]
[مريم: 43] ، وقوله (تعالى) عن يعقوب (عليه الصلاة والسلام) : [ ... وَإنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 68] .
وقوله (تعالى) عن يعقوب (عليه الصلاة والسلام) : [ ... قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ
إنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [يوسف: 96] .
وقوله (تعالى) عن نوح (عليه الصلاة والسلام) أنه قال لقومه: [أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف: 62] .
وهذا موسى (عليه الصلاة والسلام) ، مع ما آتاه الله (عز وجل) من العلم
العظيم، فإنه لم يكتف به، وإنما طلب المزيد.. وقصة سفره (عليه الصلاة
والسلام) إلى الخضر (عليه السلام) ليتعلم منه معروفة، وقد قصها الله (عز وجل)
علينا في كتابه الكريم، والشاهد منها قوله (تعالى) : [قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] [الكهف: 66] ، وللشيخ السعدي رحمه الله
(تعالى) عند هذه القصة كلام نفيس، فليرجع إليه.
وقوله (تعالى) لنبيه محمد: [قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي
مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ] [الأنعام: 57] .
وقوله عن نفسه عندما تنزه بعض الصحابة عن شيء رخص فيه الرسول،
فُبلِّغ ذلك إليه، فخطب، فحمد الله، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء
أصنعه؟ ! ، فو الله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) [1] .
الآثار على نفوس الأنبياء: وبعد سرد هذه الأدلة والتي هي على سبيل المثال
لا الحصر نأتي الآن إلى أثر هذه البينات العظيمة في نفوس الأنبياء (عليهم الصلاة
والسلام) ، الناشئة عن هذا العلم الشريف بالله (عز وجل) وبأسمائه الحسنى وصفاته
العلا، لعلنا نهتدي بهذه الآثار الإيمانية المباركة ونسعى للتأسي بهم.
ومن هذه الآثار ما يلي:
أولا: شدة تعظيمهم لله (عز وجل) وخوفهم منه:
فعلى الرغم من اصطفاء الله (سبحانه) لهم وحبه لهم وقربهم منه.. فإن هذه
المزايا لم تزدهم لربهم إلا تعظيماً، ومحبة، وخوفاً منه (سبحانه) ، وخشية. وهذه
سنة الله (سبحانه) ؛ فكلما ازداد العبد معرفة بربه كلما عظّمه في نفسه، وخاف منه
(سبحانه) خوف المحب لحبيبه؛ خوفاً يقرب إلى الله (عز وجل) ، وخوفاً يهضم
العبد عنده نفسه ويحقرها ولا يرى لها فضلاً ولا طوعاً، وإنما يراها أهلاً للظلم
والخطيئة والضعف، إن لم يوفق الله (تعالى) صاحبها ويعينه عليها.
وهكذا كان شأن الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، والأمثلة في ذلك كثيرة، منها:
مناجاة نوح (عليه الصلاة والسلام) لربه بشأن ابنه:
وقد جاء ذلك في قصة نوح مع قومه في سورة هود، حيث يقول الله (تعالى) : [وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ
الحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ
أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ]
[هود: 45-47] ، ويظهر من هذه الآيات علم نوح (عليه الصلاة والسلام) بربه (عز وجل) ، والذي أثمر عنده هذا الأدب العظيم مع ربه والخوف منه (سبحانه) ؛ فتراه وهو يدعو ربه بشأن ابنه الهالك مع الكافرين يختم دعاءه بقوله: [وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ] ، ولم يقل: وأنت أرحم الراحمين، وهذا من كمال علمه (عليه الصلاة والسلام) بأسماء الله البالغة التي اقتضت أن يكون ابن نوح مع الهالكين ولم يكن مع الناجين، ولذلك: ختم نوح (عليه السلام) دعاءه بقوله: [وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ] ، كما يظهر في هذه المناجاة خوف نوح (عليه السلام) من ربه، واتهامه لنفسه بالظلم، وطلبه المغفرة من ربه (سبحانه) ؛ وذلك في قوله: ...
[وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ] .. الله أكبر! ، هذا نوح (عليه السلام) الذي أمضى مئات السنين في دعوة قومه، وصبر وصابر، وناله من الأذى والاستهزاء الشيء العظيم، ومع ذلك يختم دعوته بطلب المغفرة والرحمة من ربه (سبحانه) : [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَاراً] [نوح: 28] .
فماذا نقول نحن المفرطين الظالمين الجاهلين؟ ! .. سبحانك قد ظلمنا أنفسنا
ظلماً كثيراً، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
هذا إمام الحنفاء وخليل الرحمن يخاف من ذنوبه ويسأل ربه المغفرة والستر،
ويطلب من ربه (سبحانه) أن يلحقه بالصالحين، وكأنه ليس منهم! ! .
يقول الله (تعالى) : [وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ
هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84)
وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا
تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ] [الشعراء: 82 89] .
إذن: فما حالنا نحن المقصرين؟ ، ماذا عسانا أن نقول؟ ! ، إنه ليس أمامنا
إلا أن نحذو حذو هذا الركب المبارك المطهر ونقول ما أوصى به الرسول أبا بكر
الصديق (رضي الله عنه) عندما سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته، فقال:
(قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي
مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) [2] .
تعظيم نبينا محمد لربه (سبحانه) وخوفه منه:
ونختم هذه الأمثلة من تعظيم الأنبياء لربهم (سبحانه) وخوفهم منه ببعض
الشواهد من تعظيم نبينا محمد لربه وخوفه منه، مع أنه سيد المرسلين، وقد غفر له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ولا غرابة في ذلك؛ فهو كما قال عن نفسه: (فوالله
إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) [3] ، ومما ورد عنه في هذا الشأن:
عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو
تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً) [4] ؛ ولذلك: ما رؤي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- مستجمعاً ضاحكاً قط؛ إنما كان يتبسم.
عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به،
وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) ، قالت: وإذ تخيّلت السماء
تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرّي عنه، فعرفت ذلك
عائشة؛ فسألته، فقال: (لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً
مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ] ) [5] .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يختصمون في القَدَر، فكأنما يفقأ في
وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: (بهذا أمرتم؟ ، أو لهذا خلقتم؟ ، تضربون
القرآن بعضه ببعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم) [6] .
ثانياً: كثرة ذكرهم لله (عز وجل) وشدة تضرعهم ودعائهم له (سبحانه) مع
قوة عبادتهم:
وهذا الجانب من هديهم (عليهم الصلاة والسلام) ثمرة من ثمار الإيمان الصادق
والتوحيد الكامل النابعين من كمال حبهم لله (عز وجل) وتعظيمهم له، والمتأمل في
هذا الجانب من هديهم ليأخذه العجب والإجلال والحب الخالص لهذه الصفوة
المختارة من عباد الله، وهو يرى إخباتهم لربهم (سبحانه) وكثرة ذكرهم له،
وتضرعهم ودعاءهم المتواصل لربهم، مع كثرة عبادتهم وطولها وتنوعها.. كل
ذلك وهم أولياء الله وأنبياؤه وصفوته من خلقه، وإن في هذا الهدي لعبرة لمن هو
دونهم ممن يحسب نفسه من الدعاة المتبعين لهم. نعم.. إن في ذلك لعبرة لمن جاء
بعدهم من المحبين لهم في أن يولوا هذا الجانب حقه، وأن يقتدوا بهؤلاء المصطفين
الأخيار في كثرة ذكرهم لله (عز وجل) ، وكثرة دعائهم وتضرعهم وعبادتهم له
(سبحانه) مع ما هم فيه من هم الدعوة والجهاد والانشغال في أمر هذا الدين في الليل
والنهار، ولكن كل ذلك لم يشغلهم عن الخلوة بربهم (سبحانه) والتفرغ لذكره ودعائه
وعبادته.
وفي هذا رد على ما قد يتذرع به بعضنا إذا نبه إلى هذا الجانب المهم في حياة
الداعية من التذرع بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتعب الجسد وإجهاده في طلب
العلم والدعوة إلى الله (عز وجل) ، فيدخل الشيطان إلى النفس من هذا الباب (باب
التفريط) فيجد الداعية نفسه وقد أهملها في أعظم رافد له في دعوته وأكبر زاد له في
طريقه إلى الله.. وأورد الآن نماذج من هذا الهدي المبارك، لعلها أن تشحذ الهمم
وتقوي العزائم، ولعلها في الوقت نفسه أن تطامن منا بعض النفوس التي أصابها
داء العجب؛ فتشعر وهي تقرأ هذه النماذج بأنها لا زالت مقصرة ومفرطة في جنب
الله، فيحصل مقت النفس في ذات الله (عز وجل) واحتقارها؛ الاحتقار الذي يؤدي
مع الاستعانة بالله (عز وجل) إلى علاجها ويقظتها.
ومن هذه النماذج ما يلي:
* تضرعهم (عليهم الصلاة والسلام) إلى ربهم (سبحانه) وسؤاله قضاء حوائجهم:
ذكر الله (عز وجل) في آخر سورة الأنبياء مجموعة من أنبيائه ورسله (عليهم
الصلاة والسلام) ، وهم يسألون ربهم ويتضرعون إليه في قضاء حوائجهم،
ويتوسلون إلى الله (عز وجل) بأسمائه وصفاته، كما يتوسلون بفاقتهم وافتقارهم إلى
الله (عز وجل) . ومن ذلك قول الله (تعالى) : [وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] [الأنبياء: 83، 84] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله (تعالى) معلقاً على هذا الدعاء الخاشع من
أيوب (عليه الصلاة والسلام) : (جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار
الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له، والإقرار له بصفة الرحمة
وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته (سبحانه) ، وشدة حاجته هو وفقره،
ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه) [7] .
وفي قوله (تعالى) : [وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] أي: إن في صبر أيوب (عليه
الصلاة والسلام) ودعائه عبرة للعابدين من بعده؛ ليقتدوا بصبره وعبادته ودعائه
ويقينه.
* خشوعهم وبكاؤهم عند ذكر الله (عز وجل) :
فبعد أن ذكر الله (عز وجل) مجموعة من الأنبياء في سورة مريم أثنى عليهم
بقوله (تعالى) : [أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ
الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً] [مريم: 58] .
يقول الشيخ السعدي (رحمه الله تعالى) عند هذه الآية: (فهذه خير بيوت العالم
اصطفاهم الله، واختارهم واجتباهم، وكان لهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم،
المتضمنة للإخبار بالغيوب، وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر،
والوعد والوعيد.
[خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً] أي: خضعوا لآيات الله، وخضعوا لها، وأثرت في
قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود
لربهم) [8] .
وقوله (تعالى) عن يوسف (عليه الصلاة والسلام) أنه قال: [رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي
مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَاًوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] [يوسف: 101] .
يقول السعدي (رحمه الله تعالى) عند هذه الآية: (ينبغي للعبد أن يتضرع إلى
الله دائماً في تثبيت إيمانه) .
ويقول ابن القيم (رحمه الله تعالى) عند هذه الآية أيضاً: (جمعت هذه الدعوة:
الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة
غير الله (سبحانه) ، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد، وأن ذلك بيد الله
لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء) [9] .
وأختم هذه الأدعية النبوية بذلك الدعاء الذي كثيراً ما كان يلهج به الرسول
ويردده؛ فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، فقلت: يا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قد آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ ، قال:
(نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) [10] .
فإذا كان هذا هو حال أنبياء الله (عز وجل) وصفوته من خلقه فحري بمن
دونهم أن يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، فمن ذا الذي يأمن الفتنة بعد أنبياء الله
(عز وجل) ؟ .
* القوة في طاعة الله (تعالى) وعبادته:
هذه الصفة العظيمة من أبرز ما في حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ،
حيث إنهم أكثر الناس عبادة وصلاة وإخباتاً لله (عز وجل) ، يقول شيخ الإسلام ابن
تيمية (رحمه الله تعالى) عند قوله (تعالى) : [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ] [ص: 45] : وعن عطاء الخراساني: [أُوْلِي
الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ] ، قال: أولو القوة في العبادة والعلم بأمر الله، وعن مجاهد
وروي عن قتادة قال: أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين) [11] .
والشواهد في ذكر عبادة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) كثيرة، منها:
قوله (تعالى) على لسان إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) : [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ
الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ] [ابراهيم: 40] .
وقوله (تعالى) في مدح إسماعيل (عليه الصلاة والسلام) : [وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ
بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً] [مريم: 55] .
وقوله (تعالى) في مدح إسحاق ويعقوب: [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ]
[الأنبياء: 73] .
أما عن نبينا محمد وكثرة عبادته وقوته فيها فهي كثيرة جدّاً، مع أنه قد غفر
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ولا غرابة في ذلك؛ فهو الذي امتلأ قلبه معرفة
بربه (سبحانه) وحبّاً وتعظيماً له، وهو الذي قال له ربه (سبحانه) : [يَا أَيُّهَا
المُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
القُرْآنَ تَرْتِيلاً] [المزمل: 1- 4] ، وهو الذي قال له ربه (عز وجل) : [وَمِنَ
اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً] [الإنسان: 26] ، وقال له: [.... فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً] [مريم: 65] ، وأكتفي بشاهد من أحواله
الكثيرة في عبادته وقوته فيها:
فعن المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) قال: قام النبي حتى تورمت قدماه،
فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً
؟ !) [12] .
وأخيراً: فهذه أحوال المصطفين الأخيار من أنبياء الله (عز وجل) ، وما سبق
ذكره إن هو إلا جانب يسير وغيض من فيض من صلتهم بالله (عز وجل) ، ذكراً
وتسبيحاً ودعاءً وصلاة، فهل من مشمر للأخذ بهديهم كما أمر الله (عز وجل)
[فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ؟ ، وهل بقي مجال لأحد أن يعتذر بكثرة المشاغل الدعويةوطلب
العلم في التفريط في هذا الزاد العظيم؟ .
وتبقى مسألة مهمة تبرز للمتأمل في تلك الكلمات والجُمل العطرة الجامعة،
والتي تتألف منها أذكارهم وأدعيتهم (عليهم الصلاة والسلام) ، ألا وهي: تجريد
التوحيد لله (عز وجل) وإخلاص العبادة له وحده.
فهل بقي عذر لمن يتوجه إلى الأنبياء أو غيرهم في جلب نفع أو دفع ضر،
وهذا هو شأنهم مع ربهم في دعائهم له؟ .
__________
(1) البخاري، ح/6101، ك/ الأدب، ومسلم، ح/2356، ك/ الفضائل.
(2) البخاري، ح/834، ك/ الأذان، ومسلم، ح/2705، ك/ الذكر والدعاء.
(3) البخاري، ح/6101، ك/ الأدب، ومسلم، ح/2356، ك/ الفضائل.
(4) البخاري، ح/6486، ك/ الرقاق، ومسلم، ح/2359، ك/ الفضائل.
(5) رواه مسلم، ك/ الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، ح/ 899.
(6) صحيح سنن ابن ماجة، ح/ 69، 1/21.
(7) بدائع التفسير، 3/189.
(8) تفسير السعدي، 3/209.
(9) بدائع التفسير، 2/476.
(10) الترمذي، ح/2141، في القدر، وقال: حسن صحيح.
(11) مجموع الفتاوى، 19/170.
(12) مسلم، ح/ 772، ك/ صلاة المسافرين.(113/16)
دراسات اقتصادية
آراء وتأملات في فقه الزكاة
(3)
د. محمد بن عبد الله الشباني
تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مفهوم الزكاة، ثم عرض أنواع الأموال
التي تجب زكاتها، بعد تناوله للمعنى اللغوي لكلمة (المال) ، ثم عرض ستة ضوابط
تحدد صفة المال الذي تجب فيه الزكاة، وفي هذه الحلقة يتناول بعض التفصيلات.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
زكاة الأنشطة الزراعية:
يمثل القطاع الزراعي أحد المرتكزات الأساسية للنشاط الاقتصادي، فالثروة
الزراعية من أهم مصادر الدخل الذي يعتمد عليه مخططو التنمية الاقتصادية في
وضع الأسس والبرامج الخاصة بتحقيق النمو الاقتصادي.
لقد توسعت الأنشطة الزراعية، فظهرت منتجات زراعية تحقق دخلاً أكبر،
مثل: الخضروات، والفواكه والزهور، ويعود ذلك التنوع والتوسع إلى
استحداث وسائل وأنظمة فعالة في الإنتاج والتخزين والتسويق.
ويتكون الإنتاج الزراعي من قطاعات رئيسة، هي:
1- إنتاج الخضروات.
2- إنتاج المحاصيل الحقلية.
3- إنتاج الفاكهة.
إن ذلك التوسع والتنوع في الإنتاج الزراعي وتغير أساليب وأشكال التنظيم
الإداري للمزارع من حيث الملكية والتخصص الزراعي يستدعي دراسة أحكام
الزكاة فيما يتعلق بما استجد من منتجات، وبخاصة أن فقهاء المسلمين قد اختلفوا في
وجوب الزكاة لأنواع من المنتجات الزراعية، فمنهم من أوجب الزكاة في كل ما
تنتجه الأرض، ومنهم من قصره على أنواع معينة واستثنى بقية الأنواع، وكل
فريق يستند في رأيه إلى نصوص وقواعد شرعية، وهناك منتجات زراعية تحتاج
إلى دراسة حكم الزكاة فيها على ضوء الواقع المعاصر، مثل الخضروات والزهور، لا سيما وهي تحقق الآن عائداً اقتصاديّاً عالياً.
سبب الخلاف: إن سبب اختلاف العلماء حول زكاة المنتجات الزراعية يعود
إلى الاختلاف على مناط زكاة المنتجات الزراعية، فهل مناط الزكاة هو الأرض،
أو الزرع، أو مجموعهما؟ .
فجمهور الفقهاء يقول: إنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة، أي: الزروع، أما
الإمام (أبو حنيفة) فذهب إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب، وهو الأرض،
أما (محمد بن رشد القرطبي) فيرى أنه حق لمجموعهما، أي: للأرض
والزرع [1] .
تترتب على هذا الاختلاف في النظر في مناط الزكاة أحكام شرعية، مثل:
حكم ضياع الزكاة وهلاك بعض المال قبل الإخراج، أو موت المكلف الذي لم
يخرج الزكاة، أو عند بيع المنتج الزراعي وقد وجبت فيه الزكاة، فعلى من تقع
الزكاة، على البائع أم على المشتري والوارث؟ ، وكذلك في حالة الهبة، هل هي
على الواهب أو الموهوب له، أما ما تجب فيه الزكاة من الإنتاج النباتي فقد اتفق
العلماء على وجوب الزكاة في أربعة أصناف، من الحبوب: الحنطة، والشعير،
ومن الثمر: التمر والزبيب [2] .
إن السبب في الاختلاف حول زكاة المنتجات النباتية يعود أولاً إلى جنس
النبات، ووفقاً لذلك: فقد قصر بعضهم الزكاة على الأصناف الأربعة السابقة، وقال
بهذا (ابن أبي ليلى) ، و (سفيان الثوري) ، و (ابن المبارك) [3] ، ومنهم من أوجب
الزكاة في جميع المنتجات النباتية المدخرة المقتاتة، وهذا هو قول (مالك) ،
و (الشافعي) ، ومنهم من أوجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض، ما عدا الحشيش والحطب والقصب، وأخذ بهذا الرأي (أبو حنيفة) [4] .
علة الاختلاف: وعلة هذا الاختلاف يرجع إلى متعلق الزكاة: هل هو فقط
للأصناف الأربعة بعينها، أو إنه يتعدى إلى غيرها إذا وُجدت العلة فيها؟ .
ولهذا: فمن قصر العلة على الأعيان فقد قصر الزكاة على الأصناف الأربعة، ومن قال بأن العلة هي الاقتيات، فقد أوجب الزكاة في جميع الأشياء المقتاتة،
ولكن من اعتبر أن العلة ليست الاقتيات وإنما متعلق الزكاة هو بالأرض، فقد
أوجب الزكاة في جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع، مثل:
الحشيش، والحطب، والقصب، وقد خالف بهذا المنهج القياسي، وأخذ بعموم
اللفظ مستشهداً بقول الرسول: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريّاً العشر،
وفيما سقي بالنضح نصف العشر) [5] ، واعتبر حرف (ما) الوارد في الحديث
بمعنى الذي، و (الذي) من ألفاظ العموم.
وقوله (تعالى) : [وَهُوَ الَذِي أََنشَأََ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ
وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] [الأنعام: 141] .
أما من أخذ بالقياس وجعل العلة الاقتيات: فقد فهم من هذا العموم ومن
(الزكاة) أنما قصد منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالباً إلا فيما هو قوت، أما من
غلّب العموم فإنه يوجبها قياساً على جميع ما تخرجه الأرض إلا ما أخرجه ...
الإجماع [6] .
وقد أدى ذلك إلى عدم إيجاب الزكاة في الخضروات؛ بحكم أنها غير مقتاتة
ممن يرى أن علة الزكاة هو الاقتيات، وبالتالي: فإن ما تجري به الفتوى في
الغالب: عدم وجوب الزكاة في الخضروات والفاكهة، علماً أن زراعة الخضروات
والفاكهة والزهور في هذا العصر أصبحت من الأنشطة الزراعية ذات العائد
الاقتصادي الجيد، بل إنها تفوق تلك المنتجات النباتية مما يقتات به مثل الحبوب..
كما أن المسقطين لزكاة الخضروات يحتجون زيادة على الأخذ بعلة الاقتيات بعدة
أحاديث.
وجوب زكاة كل ما يخرج من الأرض: إن واقع الأنشطة الزراعية والمتعلقة
بإنتاج الخضروات والفاكهة والزهور حيث أصبحت من الأنشطة الزراعية النباتية
المهمة يستوجب دراسة حجج المسقطين للزكاة عن هذه الأنشطة الزراعية، وتبني
وجهة نظر الإمام أبي حنيفة، الذي يوجب الزكاة في جميع ما يخرج من الأرض؛
حيث إن هذا الرأي هو الرأي المناسب الذي يتفق مع روح الشريعة ومقاصدها،
ولهذا: أرى الأخذ برأي الإمام أبي حنيفة بوجوب الزكاة على جميع ما يخرج من
الأرض، لعدة أسباب:
1- أن أدلة المسقطين للخضروات يعتورها الضعف، فلا يجوز العدول عن
أصل وجوب زكاة الزروع والأخذ بأحاديث ضعيفة [7] .
2- أن التغير الحاصل في أساليب وطرق الزراعة فيما يتعلق بزراعة
الخضروات والفاكهة والزهور، والتقدم في أساليب التخزين.. أتاح للمنتجات
الخضرية فرصة إطالة عمر الاستفادة منها، مع التطور في وسائل النقل بعيداً عن
مراكز الإنتاج؛ مما جعل هذا النوع من النشاط أكبر فائدة للمزارعين من زراعة
الحبوب، ولهذا: نجد أن الدول الغنية تعمد إلى تشجيع زراعة الحبوب من خلال
شرائها منهم بأسعار أعلى من أسعار منتجات الخضر؛ بقصد توفير احتياجات
الناس من الحبوب، وعلى ضوء هذه الحقيقة: فإن قواعد الشريعة وأصولها
تقتضي عدم استثنائها حتى تتحقق عدالة توزيع المال وفق مقتضى القاعدة التي
حددها الله في قوله (تعالى) : [كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ] [الحشر: 7] .
3- أن إنتاج الخضراوات في الماضي لم يكن يُهدف منه إلى تحقيق الثروة
والغنى، وإنما كان زراعتها بقصد الاستهلاك العائلي، بعكس ما هو حاصل في هذا
العصر، حيث أصبحت من المحاصيل الزراعية ذات المردود الاقتصادي الجيد.
تساؤل في محله: إن السؤال الذي قد يطرأ على ذهن القارئ هو: لماذا
نوسع مجال أخذ الزكاة، ولا نكتفي بما ورد فيه النص وعدم الخروج على ما ذهب
إليه جمهور السلف؟ .
إن الإجابة على هذا التساؤل تندرج ضمن فهم أهداف الإسلام بوصفه ديانة
وتنظيماً لأحوال الناس، فمن المعروف أن من مقاصد الإسلام: صيانة النفس
والعرض، وأن من مستلزمات ذلك: إشباع حاجات الفرد من خلال تحقيق التكافل
الاجتماعي، ولتحقيق ذلك فقد شرعت الزكاة، ولم يترك الله (سبحانه) للناس تحديد
مَن تٍدفع إليه الزكاة، بل حدد مصارفها؛ بقصد تحقيق الغاية التي من أجلها جعل
الله الزكاة ركناً من أركان الإسلام، وإن من مقتضيات تحقيق ذلك: وجوب شمولية
الزكاة لجميع مصادر الدخول الاقتصادية، وناتج الأرض يعتبر من أهم مصادر
تحقيق الثروة، فاستثناء نوع من الإنتاج بعدم تحقق وجوب الزكاة فيه يظهر عدم
عدالة الإسلام (حاشا لله أن يكون الإسلام كذلك) ، بل إن الإسلام قد شمل في أحكامه
جميع نواحي الحياة، وقد حاد الناس عن أحكامه، إما جهلاً بها، أو انحرافاً عنها،
بقصدٍ أو بغير قصد، وبخاصة في هذا العصر الذي أصبحت مقاليد الأمور فيه
بأيدي أعداء الإسلام ظاهراً أو باطناً، فأبعدت الشريعة الإسلامية في كثير من
البلدان من أن تحكم الحياة، وتولى زمام الأمر من يدعو إلى فصل الدين عن الحياة، وجعل تنظيم حياة الناس منوطاً بأهواء المضلين عن سبيل الله ومن يرغبون أن
تكون الحياة عوجاً.
إن أدلة إيجاب الزكاة على الخضراوات والفاكهة والزهور هي تلك الأدلة التي
قام عليها حكم وجوب الزكاة في الخارج من الأرض، وهي قوله (تعالى) :
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ] [البقرة: 267] ، وقوله (تعالى) : [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] [الأنعام: 141] ، وحديث ابن عمر (رضي الله عنه) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي جاء فيه: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريّاً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) [8] ، وحديث جابر (رضي الله عنه) : أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سُقي بالسانية نصف
العشر) [9] .
على ضوء ذلك: فما هو النصاب والمقدار الذي تجب فيه الزكاة بالنسبة
للخضروات وغيرها من الإنتاج النباتي الذي يرى جمهور الفقهاء عدم وجوب الزكاة
فيه؟ .
قبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من بيان مقدار النصاب والمقدار الذي
تجب فيه الزكاة بالنسبة لما أوجب فيه جمهور الفقهاء الزكاة من الناتج النباتي.
إن مقدار النصاب الذي تجب فيه الزكاة هو: بلوغ الإنتاج خمسة أوسق،
وهذا هو قول جمهور العلماء والصحابة إلا مجاهداً وأبا حنيفة ومن تابعه، فقد
أوجبوا الزكاة في قليل ذلك وكثيره، مستدلين بعموم قول الرسول: (فيما سقت
السماء والعيون العشر) باعتبار أنه ليس له حول فلا يعتبر له نصاب [10] .
لكن قول الجمهور أرجح، كما دلت عليه أحاديث الرسول الصحيحة، مثل ما
رواه البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس فيما دون خمسة
أوسق صدقة) ، وهذا خاص ويجب تقديمه على العموم وعدم اعتبار الحول؛ لأن
اكتمال نمائه يتم باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحول في غيره؛ لأنه مظنة الكمال
والنماء في سائر الأموال، والنصاب إنما اعتبر ليبلغ حدّاً يتحمل المواساة منه؛
فلهذا اعتبر النصاب؛ حيث إن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى
بدون تحقق النصاب كسائر الأموال الزكائية [11] .
إن السؤال الذي يمكن طرحه بعد أن أخذنا برأي الأحناف في وجوب الزكاة
في كل ما تخرجه الأرض هو: كيف يتم تحديد النصاب بالنسبة لمنتجات
الخضروات والفاكهة والزهور.. وغير ذلك من المنتجات النباتية غير المكيلة
واليابسة والجافة والرطبة؟ .
إن أساليب تسويق هذه المنتجات في الوقت المعاصر، وطرق التخزين والنقل
لهذه المنتجات.. يؤدي إلى تكاليف إضافية على الإنتاج، وإذا أخرجنا الزكاة عيناً
من هذه الأصناف من الإنتاج النباتي ففيه ضرر على بيت مال المسلمين، أما إذا
أخذت الزكاة بعد البيع من إجمالي البيع وبدون احتساب تكاليف الشحن والتسويق
والتخزين ففيه ضرر على المزكي.
إن الرأي الذي يمكن الأخذ به وفيه تحقيق لمصلحة بيت المال ومصلحة
المزكي: أن يتم تحديد الزكاة من خلال تحديد تكلفة الإنتاج للحصة العينية للزكاة
منسوبة إلى إجمالي التكاليف مأخوذة من صافي الربح.
ففي هذا الأسلوب تجنب للمحاذير التي أشرت إليها، فمثلاً: إذا كان هناك
مزارع ينتج طماطم، وكمية الإنتاج بلغت مئة كيلو جرام، وتكلفة الكيلو جرام
الواحد: ريال سعودي واحد، فإن الزكاة العينية على أساس أن الإنتاج فيه مؤنة
وسقي 5%، فيتم تحديد الزكاة على النحو التالي:
مقدار حصة الزكاة العينية هو: 100 × 5% = 5 كيلو جرام.
ومقدار تكلفة حصة الزكاة هو: 5 × 1 = 5 ريالات.
وإذا قدر أن صافي الربح هو 50 ريالاً، فيتم احتساب الزكاة بقسمة تكلفة
إنتاج الحصة العينية وهو خمسة ريالات على إجمالي التكاليف وهو مئة ريال
مضروباً في صافي الربح، أي: = 2. 5 ريال.
إن افتراضنا للأخذ بهذا الرأي في تحديد وعاء الزكاة للمنتجات النباتية غير
المكيلة مقاس على ما قاله الفقهاء في تحديد مقدار النصاب في الحبوب غير المصفاة، وفي الثمار بعد الجفاف، يقول ابن قدامة في هذا الخصوص (وتعتبر خمسة
الأوسق بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار، فلو كان له عشرة أوسق عنباً
لا يجيء منه خمسة أوسق زبيباً لم يجب عليه شيء؛ لأنه حال وجوب الإخراج
منه، فاعتبر النصاب بحاله، وروى الأثرم عنه: أنه يعتبر نصاب النخل والكرم
عنباً ورطباً، ويؤخذ منه مثل عشر الرطب تمراً، اختاره أبو بكر، وهذا محمول
على أنه أراد: يؤخذ عشر ما يجيء به منه من التمر إذا بلغ رطبتها خمسة أوسق؛
لأن إيجاب قدر عشر الرطب من الثمر إيجاب لأكثر من العشر، وذلك يخالف
النص والإجماع فلا يجوز أن يحمل عليه كلام أحمد ولا قول إمام) [12] .
ووجهة القياس: نقصان العنب بعد الجفاف، والثمر بعد تحوله من الرطب
إلى التمر، وفي الخضروات: فإن قيمتها والاستفادة من الإنتاج لا يتحقق إلا من
خلال اتباع أساليب التسويق الحديثة من تخزين وتبريد وتغليف ونقل..، وهذه
تحتاج إلى تكاليف معينة؛ مما يؤيد ما طرحناه من اقتراح حول ذلك.
إن تحديد نصاب المنتجات النباتية الذي إذا بلغ الإنتاج هذا المقدار وجبت فيه
الزكاة قد حددته أحاديث الرسول، من ذلك مثلاً قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق
صدقة) ، وهو حديث متفق عليه، ووفقاً له كما يراه جمهور العلماء فإن الزكاة لا
تجب في الخارج من الأرض إلا إذا بلغ خمسة أوسق، وقد خالف أبو حنيفة جمهور
العلماء بحيث أوجب الزكاة في قليل ناتج الأرض وكثيره، مستدلاً بعموم حديث
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فيما سقت السماء والعيون العشر) ، باعتبار
أن الناتج من الأرض ليس له حول، فلا يعتبر له نصاب، ولكن هناك أحاديث
حددت الأنصبة فيما ليس فيه حول، وإن حديث تحديد النصاب قد خصص عموم
الحديث الذي استشهد به الإمام أبو حنيفة، مثل: التخصيص لسائمة الإبل،
والفضة، فهذه أموال تجب فيها الزكاة ولم تجب في قليلها، وإن عدم اعتبار الحول
بالنسبة لناتج الأرض بسبب اكتمال نمائه يتم باستحصاده لا ببقائه، أما في غير
ناتج الأرض فقد اعتبر الحول لأنه مظنة لكمال النماء، والنصاب اعتبر ليبلغ حدّاً
يحتمل المواساة فيه [13] .
لقد حددت الأحاديث الصحيحة مقدار النصاب في الحبوب والثمار على أساس
خمسة أوسق، وأجمع العلماء على أن الوسق ستون صاعاً، وخمسة أوسق هي
ثلاثمئة صاع، وهو يعادل 653 كجم [14] .
أما تحديد مقدار النصاب للمنتجات التي لا يمكن أن تقدر بالكيل مثل: القطن
والزعفران والزهور فقد اختلف في تقديرها على أقوال:
1- على أساس المنتجات غير المكيلة إذا بلغ قيمة الخارج منها قيمة المكيلة.
2- تقدير قيمة غير المكيل بمئتي درهم بنصاب النقود.
3- تقدير قيمته بما يعادل وزنها المكيل، وهو 653 كجم.
4- وجوب الزكاة فيما ينتج بدون تحديد نصاب، سواء أكان قليلاً أو كثيراً..
ونحن نأخذ بالرأي الأول [15] .
وتواجه محصلي الزكاة أو المكلفين فيما يتعلق بإخراج زكاة المنتجات
الزراعية مشكلة تحديد وعاء الزكاة، وقد أوجبت السنة النبوية بالنسبة للمنتجات
المكيلة والقابلة للتخزين مثل: الحبوب والتمر أسلوب تحديد الوعاء، وذلك بما
عرف بـ (الخَرْص) ، حيث يتم بالظن تقدير التمر والزبيب والحبوب الجافة
المستخرجة وهي على أشجارها قبل أن تجف، فقد روى أبو داود، وابن ماجة،
والترمذي، عن عثمان بن أسيد (رضي الله عنه) : أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- (كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم) [16] ،
ولتجنب الخطأ والإضرار بالمزارعين، فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بمراعاة ذلك، فقد روى ابن حبان والحاكم وأبو عبيد والبيهقي في السنن، عن سهل
ابن أبي خيثمة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وإذا خَرَصتم
فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) [17] .
وهناك ظاهرة تتعلق بالمنتجات المكيلة مثل التمور والزبيب، حيث يتم بيعها
قبل جفافها، مثل: بيع التمر رطباً والزبيب عنباً، وهذا يحقق دخلاً نقديّاً أكثر مما
لو خرص تمراً أو زبيباً، وإذا جعل نصيب بيت المال بعد اكتمال نضجه وتحوله
إلى تمر أو زبيب قد يفوت مصلحة مستحقي الزكاة بهذا، فإنه يمكن أن يتم الخرص
في بداية النضج قبل أن يصبح تمراً أو زبيباً، ويحدد مقدار نصيب بيت المال عند
الجِذاذ النهائي، ويُرى: كم بيع من الرطب والعنب؟ ، فما نقص عن مقدار
الخرص يحسب نصيب بيت المال بعد خصم تكاليف التسويق، فمثلاً: لو قدر أنه
تم خرص التمر بثلاثين ألف كيلو جرام، وعند جذاذه أصبح مقداره عشرين ألف
كيلو، بنقص قدره عشرة آلاف كيلو التي تمثل مقدار ما نقص من التمر بعد جفافه
دون ما تم بيعه، وإذا قدر أن ما تم بيعه رطباً قدره خمسة آلاف كيلو، فإن مقدار
الزكاة المقدرة بعد الجذاذ هو عشرون ألفاً مضروباً في 5%، أي: إن نصيب
الزكاة هو ألف كيلو، وما تم بيعه من نصيب بيت المال رطباً يساوي خمسة آلاف
مضروباً في 5%، يساوي مئتين وخمسين كيلو، فإذا كان سعر بيع الكيلو أربعة
ريالات، فإن إجمالي بيع حصة الزكاة من الرطب هو:
250 × 4 = 1000 ريال، يخصم منها حصة بيت المال في التسويق،
فإذا كانت تكلفة التسويق 20% من قيمة البيع: فإن إجمالي تكاليف التسويق الخاص
بنصيب بيت المال هو: 1000 × 20 % = 200 ريال، ويكون نصيب بيت
المال من قيمة البيع هو: 1000 - 200 = 800 ريال.
أما بالنسبة لمقدار غير المكيل: فقد يصعب الخرص، خاصة الخضروات
والزهور وبقية الفواكه؛ لتفاوت النضج؛ حيث لا يتم النضج في وقت واحد، وإنما
يتتابع النضج والقطف، فكلما نضجت كمية قطفت وبيعت، حتى يتكامل الإنتاج
وتنتهي قدرة الشجرة على الإفراخ.
ويرى جمهور العلماء عدم خرص المنتجات النباتية ما عدا النخل
والعنب [18] ، ولهذا: فإن تحديد مقدار الزكاة يتم لهذه الأنواع من المنتجات من خلال حصر الإنتاج الفعلي الذي تم بيعه والاستفادة منه بعد خصم جميع تكاليف التسويق والنقل والتخزين.
من الأمور التي يثور التساؤل حولها: ما يتعلق باستهلاك المُزَارِع مما ينتجه، وهل يتم استثناؤه أو يدخل ضمن الإنتاج وتقع عليه الزكاة؟ .
الإجابة على هذا التساؤل تجده في حديث سهل بن أبي خيثمة أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا
الربع) [19] ، ولتحقيق هذا التوجيه النبوي: يكون خرص الإنتاج الكلي، ثم
خصم مقدار الربع أو الثلث مما خرص، لتكون الكمية المتبقية هي التي يقدر عليها
مقدار الزكاة، فلو أن الخرص بلغ ثلاثين ألف كيلو، فمقدار ما يتم عليه تحديد
الزكاة على أساس الثلث هو عشرون ألف كيلو، وعلى أساس الربع: اثنان
وعشرون ألف وستمئة كيلو، هذا بالنسبة للأصناف التي يتم خرصها، أما
الأصناف غير الخاضعة للخرص: فإن ما يتم تحديده هو: مقدار ما يتم بيعه، وما
يأكله المزارع فلا يضم إلى ما بيع، قياساً على التخفيف فيما يخرص.
ومن الأمور التي تثار أيضاً ويدور حولها النقاش فيما يتعلق بخصمها من
وعاء الزكاة وكيف يتم معالجتها أمران:
الأمر الأول: الديون التي تحملها المُزَارع من أجل الإنفاق على نفسه أو من
أجل الزراعة، فالإمام أحمد (رحمه الله) يرى أن الدّيْن الذي عليه من أجل الزراعة
يخصم من الناتج، أما الاستدانة من أجل الإنفاق على نفسه وأهله فلا يخصم؛ لأن
ما أنفقه على الإنتاج من مؤونته، وقد روي بهذا القول عن ابن عباس (رضي الله
عنهما) ، وأما عبد الله ابن عمر (رضي الله عنهما) فهو يرى خصم الديون من
إجمالي الناتج [20] ، ونحن نميل إلى الأخذ برأي ابن عمر (رضي الله عنهما)
بخصم الديون، سواء ما كان من أجل الزراعة أو من أجل الإنفاق على نفسه وأهله، بشرط أن تكون الديون حَالّة في وقت وجوب الزكاة، وألا تكون وسيلة من وسائل
التمويل الرأسمالي، أي: ألا تكون ديون ناشئة بسبب شراء أصول رأسمالية، مثل: المكائن، والحراثات والحصادات، ففي هذه الحالة لا تخصم.
الأمر الثاني: أجرة الأرض، فقد اختلف في مدى خصمها من الناتج، فمالك، والثوري، وشريك، وابن المبارك وابن المنذر يرون أن الزكاة على الناتج دون مالك الأرض، أما أبو حنيفة (رضي الله عنه) فيقول: إن الزكاة على مالك الأرض؛ لأنه من مؤنتها أشبه بالخراج [21] .
وقد رد ابن قدامة على من يرى أنها على مالك الأرض بقوله: (ولنا: أنه
واجب في الزرع فكان على مالكه، كزكاة القيمة فيما إذا أعده للتجارة وكعشر زرعه
في ملكه، ولا يصح قولهم: إنه من مؤنة الأرض؛ لأنه لو كان من مؤنتها لوجب
فيها وإن لم تزرع كالخراج، ولوجب على الذمي كالخراج، ولتقدر بقدر الأرض لا
بقدر الزرع، ولوجب صرفه إلى مصارف الفيء دون مصرف الزكاة) [22] ،
وعلى ضوء ذلك، فهناك رأيان:
الأول: هو مذهب أبي حنيفة، الذى يرى أن الزكاة على مالك الأرض؛ لأن
الأجرة من مؤنتها أشبه بالخراج، حيث إن العشر حق الأرض الثابت لا حق الزرع، والأرض هي أرض المالك، وكما إن الأرض تستنمى بالزراعة فهي تستنمى
بالإجارة، فكانت الأجرة مقصودة.
الثاني: مذهب الجمهور الذين يرون أن العشر على المستأجر؛ لأن العشر
حق الزرع لا حق الأرض والمالك لم يخرج له حب ولا ثمر.
إن سبب الاختلاف يعود إلى فكرة (على أي شيء تقع الزكاة؟) ، على
الأرض، أم على الزرع، أم على مجموعهما كما سبق مناقشته؟ .
من الفقهاء المعاصرين (فضيلة د/يوسف القرضاوي) من يرى ضرورة أن
يشترك الطرفان في الزكاة، بحيث لا يعفى المستأجر إعفاءً كليّاً من وجوب الزكاة
كما ذهب أبو حنيفة، ولا يعفى المالك إعفاءً كليّاً، حيث تجب الزكاة كلها على
المستأجر [23] ، ولتطبيق هذا الرأي فقد أخذ بمفهوم صافي الربح من عائد الزروع
بعد خصم الديون والنفقات من البذور، بحيث يرفع ما يوازيها من المحصول، ثم
يزكى ما بقي إن بلغ نصاباً، ولقد اعتبر أن أجرة الأرض من نفقات الزرع
كالخراج، فيجب أن تعد ديناً على المستأجر فيقطع من الخارج ما يقابل الأجرة،
على أن يتولى مالك الأرض زكاة ما دفع إليه، بدلاً من المزارع، ممثلاً في الأجرة
التي يقبضها [24] ، وبالتالي: فإن فضيلته خصم مقدار الأجرة وترك للمالك حق
التصرف بإخراج زكاة الأرض.
نحن نتفق مع فضيلته بضرورة مشاركة مالك الأرض في إخراج الزكاة،
لكننا نختلف معه في الأسلوب الذي اتبعه.
إن الأسلوب الذي أراه يتمثل في أن هناك طريقتين للاتفاق مع المالك: إما أن
تكون أجرة الأرض جزءاً من الإنتاج، وبالتالي: الزكاة واجبة على الناتج جميعه
باعتبارهما شريكين، فلو فرض أن للمالك 20% من الناتج، وقدر الناتج بثلاثة
آلاف كيلو من القمح، فتخضع الزكاة للناتج الإجمالي، أي: ثلاثة آلاف، فمقدار
الزكاة باعتبار أنها مسقية بالآلات: 5%، أي: مئة وخمسون كيلو، والصافي بعد
الزكاة هو: ألفان وثمانمئة وخمسون كيلو، فيكون نصيب مالك الأرض هو خمسمئة
وسبعون كيلو، بدلا من ستمئة كيلو من إجمالي الناتج، ففي هذه الحالة تم دفع
الزكاة مباشرة من المستأجر، لكنها أصبحت من الأجرة لصالح بيت المال حيث
اشترك المالك والمستأجر في دفع الزكاة باعتبار أن الزكاة بالزرع نفسه وفق مذهب
الجمهور.
الطريقة الثانية: إذا كان الإيجار مبلغاً نقديّاً مثلاً، وكانت الأجرة ستمئة ريال، وبلغ الإنتاج ثلاثة آلاف كيلو، وتكلفة الكيلو مثلاً: ريال واحد، أي: إن تكلفة
الإنتاج هي ثلاثة آلاف ريال، فيخصم من الإيجار المستحق له مقدار نصيبه من
الزكاة، فكمية الزكاة المستحقة على الناتج هي: مئة وخمسون كيلو، ونصيب
المالك من الزكاة يحسب باعتبار أن نصيبه من الإنتاج هو ستمئة كيلو فمقدار الزكاة: ثلاثون كيلو، وتكلفة الكيلو: ريال واحد، فمقدار الزكاة: ثلاثون ريالاً، فتخصم
مقدار الأجرة خمسمئة وسبعون ريالاًِ، أما الثلاثون ريالاً المخصومة فتعطى لبيت
المال، إما نقداً، أو عيناً حسب رغبة ولي الأمر، أخذاً بمفهوم أن الزكاة تؤخذ من
عين مال المزكي، وأن المستأجر هو وكيل لبيت المال في تحصيل الزكاة.
__________
(1) بداية المجتهد ونهاية والمقتصد، ج1، ص 247/ 248.
(2) المرجع السابق، ج1، ص 251.
(3) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج1، ص 253.
(4) المرجع السابق، ج1، ص 253.
(5) أخرجه الستة، والعثري: ما يسقى بالسيل الجاري في الحفر.
(6) بداية المجتهد، ج1، ص 253.
(7) لمعرفة الأحاديث المستدل بها وتخريجها يراجع كتابنا وهو تحت النشر من قبل دار عالم الكتب بالرياض بعنوان: (زكاة الأموال دراسة فقهية محاسبية لمختلف مصادر الثروة) ، وكتاب (فقه الزكاة) ، للشيخ الدكتور/ يوسف القرضاوي.
(8) سبق تخريجه.
(9) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، ح/7، والسانية: البعير الذي يستقى به الماء من البئر، ويقال له: الناضح.
(10) انظر: المغني، ج2، ص 695.
(11) انظر: المغني، ج2، ص 695.
(12) انظر: المغني، ج2، ص 696.
(13) انظر: المغني،ج2،ص696،695.
(14) انظر: فقه الزكاة، للدكتور/ يوسف القرضاوي، ج1، ص 364 -372.
(15) لمزيد من الدراسة والنقاش: راجع كتابنا (زكاة الأموال دراسة فقهية محاسبية لمختلف مصادر الثروة) ، دار عالم الكتب بالرياض.
(16) أخرجه ابن ماجة والترمذي، وضعفه الألباني، انظر: ضعيف سنن ابن ماجة، ح/401، وضعيف سنن الترمذي، ح/98 البيان.
(17) أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل، وضعفه الألباني، انظر: الضعيفة، ح/2556 البيان. (18) انظر: المغني، ج2، ص 710.
(19) سبق تخريجه.
(20) انظر: المغني، ج2، ص 727.
(21) انظر: المغني، ج2، ص 728.
(22) انظر: المغني، ج2، ص 728.
(23) انظر: فقه الزكاة، ج1، ص 401.
(24) انظر: فقه الزكاة، ج1، ص 402.(113/26)
تأملات دعوية
بطاقة الانتماء
بقلم: محمد محمد بدري
إذا كنا نتطلع نحو ترشيد للعمل الإسلامي؛ فلا بد لنا من نظرة عميقة في
إمكاناته.. وفعالياته.. ونقائصه؛ حتى ندرك دون لبس، أو غموض، أو إيهام
أين ينبغي علينا إحداث التغيير في أنفسنا ليغير الله ما بنا: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، فالتغيير إنما يحدث وفق سنن ربانية
ثابتة لا تحابي أحداً من الخلق مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباة! ! .
ومن سنن الله الثابتة التي لا يفيد معها (تعجّل) الأذكياء، ولا (أوهام)
الأصفياء، أنه حين يتوقف أفراد مجتمعٍ ما عن العطاء، ويكتفون بالأخذ: فإن هذا
المجتمع يسير من الشلل إلى الفناء.. الفناء البطيء الذي لا يراه إلا العارفون بسنن
الله في النفس والمجتمع! ! .
فأين نجد أنفسنا من هذه السنة الثابتة؟ .
إن منا من يؤكد انتماءه للعمل الإسلامي، بينما هو يقف في مواقع الأخذ
والاستهلاك دون أدنى عطاء أو عمل! ! .. فإذا ساءلنا أحد عن دورنا في إحياء
الأمة وعودتها إلى قيادة القافلة البشرية من جديد: أخرج كلّ منا بطاقة انتماء لهذا
الفصيل أو ذاك من فصائل العمل الإسلامي! ! .
.. هكذا، وكأن بطاقة الانتماء تغني عن العمل الجاد والتحرك الواعي! ! .
أو كأن فصائل العمل الإسلامي قاعات للنوم والخمول والكسل! ! .
فهل هذا هو الانتماء للعمل الإسلامي؟ ! .
.. إن الانتماء الحقيقي (وسيلة) إرضاء الرب وإنقاذ الذات.. فهو (بداية)
السير، وليس (دليل) اجتياز المراحل..
إن الانتماء الحقيقي ارتباط مصيري بالعمل الإسلامي.. ارتباط يغيرّ منهاج
حياة الفرد، بل وآماله وأحلامه [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 23] ، هذا
هو المفهوم الحقيقي للانتماء..
فإذا انطلقنا بهذا المفهوم من مجرد (التنظير) إلى آفاق (المعالجة) الواقعية
للعمل الإسلامي، فلا بد لنا من وسائل، منها:
1- توفير المناخ التربوي الذي يفسح المجال لنمو شخصية أفراد العمل
الإسلامي، ويتحول بهم من روح (القطيع) والعمل عبر (التقليد الأعمى) .. إلى
روح (الفريق) والعمل على (بصيرة) [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
2- اختيار أساليب العمل القائمة على توجيه العلماء والدعاة الموثوقين ...
والمعروفين بصدق معتقدهم وحسن الإمساك بدفة القيادة، مع الأخذ بأكبر قدر من
المبادرات الفردية، فيصبح عملنا الإسلامي في إطار وصف النبي -صلى الله عليه
وسلم- للمسلمين: (يسعى بذمتهم أدناهم) .. وقبوله مبادرة امرأة من المسلمين: (قد
أجرنا من أجرت يا أم هانئ) .
.. وهكذا عبر هذه الوسائل وغيرها، يمكن إخراج المسلم الذي يتفاعل مع ما
حوله تفاعلاً حيّاً، ويعمل للإسلام وسط كل الظروف.. لأنه يدرك أن عمله إنما هو
ضمن إطار (عمل) وليس إطار (انتماء) ! .
إطار عمل محمود شرعاً [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] .
إطار عمل منصور قَدَراً (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم
من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله) [رواه مسلم] .
إطار عمل يجعل كل فرد في العمل الإسلامي (رِفداً) للعمل، وليس (عبئاً)
عليه.. هذا ما أردنا التأكيد عليه في هذه العجالة:
وليدرك كل فرد من أفراد العمل الإسلامي أن الانتماء للعمل الإسلامي بعد
تجديد الإخلاص لله وتجريد المتابعة لرسوله إنما يعني: العمل الجاد.. الصبر..
المصابرة.. المرابطة.. ذلك أن (العطاء) هو (بطاقة الانتماء) .(113/38)
دراسات تاريخية
العلم بمقاصد الهجرة وأهدافها
بقلم: د. محمد أمحزون
تعد الهجرة من أهم متطلبات الدعوة إلى الله (تعالى) ، وهي سنة الله في رسله
وأنبيائه وعباده المؤمنين، الذين هاجروا فراراً بدينهم وخوفاً من بطش الظالمين،
وهو الأمر الذي عرفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أول يوم جاءه الوحي، إذ لما ذهبت خديجة (رضي الله عنها) إلى ورقة بن نوفل، فأخبره رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- بما قد رآه، قال له ورقة: (ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك
قومك) [1] .
ولهذا أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ أول يوم أوحي إليه فيه أنه
سيُخرج من بلده، وهو أشرف الخلق وأكرمهم عند الله (عز وجل) ، فنصْرُ الله في
الدنيا وثوابه في الآخرة إنما ينالهما المرء بالعمل، والنصيحة، والمصابرة على
الشدائد، واللجوء إلى الله (عز وجل) بالدعاء والاستعانة.
ويُستَنبط من هذا الحديث العظيم: أن الهجرة لا تختص بفئة معينة من
المؤمنين في زمن معلوم يأتي عليه زمن آخر فتنسخ، بل إنها دائمة ما دام الحق
والباطل وما دام الكفر والإسلام، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا
تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من
مغربها) [2] ، وفي رواية: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار) [3] .
ولم يكن وعد الله (سبحانه) بتعظيم أمر الهجرة وثواب المهاجر في سبيله إلا
بسبب ما يحتمل المهاجر من عناء ومشقة وشدائد ومكابدة الأخطار، لذلك قال
(تعالى) : [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً
وَإنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ]
[الحج: 58، 59] .
وقد أوجب الله (عز وجل) الهجرة على كل مؤمن؛ لتكثير سواد المسلمين،
ولنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومواساته بالنفس والنفيس، إذ كانت الدولة
الإسلامية الناشئة في المدينة بحاجة إلى المهاجرين من المؤمنين؛ ليتوطد سلطان
الإسلام فيها، حيث يتربص به اليهود والمنافقون، وتحيط به قوى الأعراب
المشركين من حول المدينة، ويترصده كفار قريش الذين أقضت الهجرة مضاجعهم، فمضوا يخططون ويعملون للإجهاز على كيان الإسلام الفتي؛ لذلك تتابعت الآيات
في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظيم أجرها، حتى وعد الله (جل ذكره)
المهاجرين في سبيله بتمكينهم من مراغمة أعدائهم، والتوسعة عليهم في أرزاقهم،
بقوله (سبحانه) : [وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً
وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً] [النساء: 100] .
ثم جاء الوعيد شديداً فيمن تباطأ وتثاقل عن الهجرة والجهاد في سبيل الله،
وآثر متاع الدنيا على التضحية في سبيل الله، في قوله (تعالى) : [قُلْ إن كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا
حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] [التوبة: 24] .
قال الشيخ ابن عتيق (رحمه الله) : (وما من أحد يترك الهجرة، إلا وهو
يتعذر بشيء من هذه الثمانية، وقد سدّ الله على الناس باب الاعتذار بها، وجعل مَن
ترك الهجرة لأجلها أو لأجل واحد منها فاسقاً، وإذا كانت مكة هي أشرف بقاع
الأرض، وقد أوجب الله الهجرة منها ولم يجعل محبتها عذراً، فكيف بغيرها من
البلدان؟ !) [4] .
وحسماً لأمر الهجرة وجعله فرض عين: قطع الله (عز وجل) الموالاة بين من
هاجر ومن لم يهاجر، وذلك في قوله (تعالى) : [فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى
يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] [النساء: 89] .
فالذين دخلوا في هذا الدين عقيدة، لكن لم ينضموا إلى المجتمع الذي يقوم
على هذه العقيدة، ولم يلتحقوا به فعلاً، لا يعدّون أعضاءً في المجتمع المسلم، ولذا: لم يجعل الله (عز وجل) بينهم وبينه ولاية وتناصراً بمعناه الأعم: [إنَّ الَذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى
يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] [الأنفال: 72] .
ولما كانت الهجرة بهذه المنزلة، وجب على كل من أسلم أن ينتقل إلى مهاجر
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، إلا من استثني من أهل الأعذار من
الأطفال والنساء والشيوخ.
قال القاضي عياض: (واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة
عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجباً؛ لنصرة النبي ومواساته بالنفس) [5] .
بل إن الإقامة بعد ذلك في مكة كانت حراماً على من هاجر منها قبل الفتح؛
ولهذا: رثى النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن خولة أن مات بمكة [6] .
الحكمة من الهجرة:
إن العلم بمقاصد الهجرة وأهدافها أمر ضروري لكل مسلم يهمه أمر إقامة
صرح هذا الدين؛ فالنصوص القرآنية التي وردت بصدد الهجرة ما كانت تعالج أمر
الهجرة في تلك المرحلة من الزمن فحسب، ولكنها تعالج حالة قائمة في أمر الدعوة، ولذلك: وردت بعض نصوص السنة توضح هذا الأمر.
فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه) ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: (إنما ستكون هجرة بعد هجرة) [7] ، وفي حديث آخر: (لا
تنقطع الهجرة ما كان الجهاد) [8] .
والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، كما جاء في حديث أبي داود: (والجهاد ماضٍ
منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال) [9] .
وهذا الحكم استنبطه البخاري (رحمه الله) من حديث النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم) بقوله: باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر [10] .
ولذلك: فالهجرة ليست مرحلة تاريخية انتهت بمضي وقتها وأهلها،
وأصبحت مَعْلَماً وصفحة من صفحات التاريخ فحسب، وإنما هي صفحة من
صفحات السيرة المضيئة التي خلّدها القرآن والسنة، وستظل جزءاً من حركة
الدعوة إلى الله (تعالى) [11] .
يقول صاحب الظلال: (ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة، حين
دانت أرض العرب للإسلام وقيادته، وانتظم للناس في مجتمعه، فلا هجرة بعد
الفتح، ولكن جهاد وعمل، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... ) [12] .
على أن الحكمة الأساس من الهجرة هي أن رسالة الإسلام جاءت لتنظم شؤون
الناس في شتى مجالات الحياة، فهي دستور ومنهج شامل لا بد لتطبيقه من أمة
وأرض تقام فيها أحكام الله (تعالى) ، والمسلمون لا يمكن أن يكون لهم وجود فِعلي
إلا إذا صبغ الإسلام جميع مرافق حياتهم، وساد نظامه أرضهم، وقامت فيها
أحكامه وآدابه، كما تقوم فيها شعائره، وتسود فيها عقائده.
لكن إذا تعذر على المسلمين تطبيق أحكام دينهم، وإقامة نظامه السياسي
والاجتماعي والاقتصادي وآدابه الخلقية في بلدهم، وجب عليهم الانتقال إلى البلد
الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه، تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده بالنفس والنفيس، وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه
هذه الشروط، وجب عليهم أن يجتمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام
تامّاً كاملاً، ويتعاونون على حماية دعوته، واتخاذ الأسباب والوسائل لتحقيق رسالة
الإسلام كما جاء بها صاحبها (صلوات الله عليه) وكما فهمها منه أصحابه والتابعون
لهم بإحسان [13] .
وقد غفل عن هذه الظاهرة من أمر الإسلام بعض الذين دخلوا فيه على عهد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلبثوا في وطنهم (مكة) مستضعفين فيها، لا
يستطيعون إعلاء كلمة الله لغلبة الباطل يومئذ على الحق، ولا يهاجرون منها إلى
المدينة فيقوى بهم الإسلام، فنزل فيهم قول الله (عز وجل) : [إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ
المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً]
[النساء:97] .
وعن شأن هؤلاء روى البخاري (في جامعه الصحيح) عن ابن عباس (رضي
الله عنه) في قصة أصحاب بدر: (أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين
يكثرون سواد المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يأتي السهم
فيُرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله (عز وجل) :
[إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ) [14] .
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح إلى ابن عباس (رضي الله عنهما) قال:
(كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستَخْفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم
بدر معهم فأصيب بعضهم، قال المسلمون: كان أصحابنا مسلمين وأُكرهوا،
فاستغفروا لهم، فنزلت: [إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] (الآية) ، قال: فكُتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية: لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم
المشركون فأعطوهم التقية، فنزلت هذه الآية: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ] [العنكبوت: 10] ) [15] .
وعند الطبري بسند صحيح إلى ابن عباس (رضي الله عنه) : (فكتب إليهم
المسلمون بذلك (أي بآية: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ] (فحزنوا، فنزلت: [ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا
فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] [النحل: 110] ، فكتبوا
إليهم بذلك، فخرجوا، فلحقوهم (أي: المشركون) ، فنجا من نجا، وقُتل من
قتل) [16] .
وقال الضحاك: (فنزلت هذه الآية الكريمة [إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنفُسِهِمْ] عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة،
وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع) [17] .
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان، متجاوزاً تلك الحالة الخاصة التي كان
يواجهها النص في تاريخ معين وفي بيئة معينة، يمضي حكماً عامّاً يلحق كل مسلم
تناله الفتنة في دينه في أي أرض، وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته، أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها.. متى كان هناك في الأرض في أي مكان دار
للإسلام يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها شعائر دينه) [18] .
ولما كان الإسلام دين يسر، ومن مبادئه وأحكامه أن تقدر الضرورات بقدرها، وأن يعذر أهلها، كان تمام الآيات السالفة قول الله (عز وجل) : [إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواً غَفُوراً] [النساء: 98، 99] . ...
وفي تفسير قوله (تعالى) : [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا
كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا
لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِياً وَلا نَصِيراً]
[النساء: 88، 89] ، قال العوفي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) : نزلت في
قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة
يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وإن
المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى
الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى: سبحان الله! أو
كما قالوا أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم
يتركوا ديارهم، نستحل دماءهم وأموالهم؟ ! ، فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم
لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء، فنزلت: [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ]
(الآية) [19] .
وهكذا.. إذا كان القرآن الكريم قد أنحى باللائمة على جماعة من المسلمين
كانوا في مكة يصلون ويصومون، ولكنهم ارتضوا البقاء تحت أنظمة تخالف
الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام في المدينة
ليكونوا من جنودها المتحفزين لتغيير تلك الأنظمة، فليعلم أن الإسلام لا يكتفي من
أهله بالصلاة والصوم فحسب، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا أنظمته وآدابه في
بيوتهم وأسواقهم وأنديتهم ومجامعهم ودواوين حكمهم، وأن يتوسلوا بجميع الوسائل
الممكنة لتحقيق هذا الغرض الواجب [20] .
كما ينبغي أن يعلم أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وأنه تكاليف وتبعات،
وأنه إقرار وامتثال وطاعة، وإذ هو كذلك: كان لزاماً أن ينعكس أثره على اللسان
والقلب والجوارح، علماً، وعملاً، وسلوكاً.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، ج 1، ص3.
(2) أخرجه أحمدفي المسند، ج1، ص 192، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير) ،
ح/7469، م2، ص 1244.
(3) الهيثمي: كشف الأستار عن زوائد البزار،، ح/1748، ج2، ص 304، وابن حجر: التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ح/ 2169، ج 4، ص 167.
(4) ابن عتيق: سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك، ص 28.
(5) نقلاً عن فتح الباري، ج7، ص 267.
(6) أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم) ، ج 4، ص 267.
(7) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، ح/2482، ج3، ص 4، وأحمد في المسند،
ج2، ص 199.
(8) أخرجه أحمد في المسند، ج4، ص 62، وقال الألباني: إسناده صحيح، السلسلة الصحيحة، ج4، ص 239 240.
(9) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، ح/2532، ج3، ص 18.
(10) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، ج3، ص 215.
(11) صالح أحمد الشامي: السيرة النبوية تربية أمة، وبناء دولة، ص 127 128.
(12) سيد قطب: في ظلال القرآن، م3، ص 1560.
(13) محب الدين الخطيب: من إلهامات الهجرة.
(14) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ، ج5، ص 183.
(15) تفسير ابن كثير، ج1، ص 272.
(16) الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج4، ص243، وابن حجر: الفتح، ج 8، ص 263.
(17) تفسير ابن كثير، ج1، ص 542.
(18) سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ص 745.
(19) قال ابن كثير في تفسيره: (رواه ابن أبي حاتم، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا) ، ج1، ص 532.
(20) محب الدين الخطيب: من إلهامات الهجرة، ص 52، 53.(113/40)
دراسات إعلامية
التقنية في خدمة الدعوة إلى الله
كيف نستفيد من الحاسوب؟
(1من2)
بقلم: حسين السلمان
تطورت وسائل الإعلام والاتصال في هذا العصر تطوراً مذهلاً، مما ساهم
مساهمة فاعلة في تداخل الشعوب والثقافات، واستطاع الغرب تسخير تلك الوسائل
في صناعة الرأي، ونشر هيمنته الفكرية في أكثر الآفاق.
ولقد آن الأوان لكي ينهض الدعاة لأداء رسالتهم، ويخاطبوا الناس بلغة
العصر، وعلى قدر ثقافتهم، ويسخِّروا وسائل التقنية الحديثة لنشر الدعوة، وبيان
الحجة.
وفي هذه المقالة لأحد المتخصصين في علم الحاسوب إلمامة مركزة في كيفية
الاستفادة من الحاسوب في نشر الدعوة الإسلامية بين المسلمين وغير المسلمين.
الحاسوب وسيلة للدعوة:
يمكن تقسيم استخدام الحاسوب في الدعوة إلى مجالين، هما:
1 الدعوة بين المسلمين (دعوة الإصلاح) .
2 دعوة غير المسلمين (دعوة الهداية) .
الدعوة بين المسلمين: ويشمل هذا المجال كل الجهود التي قدمت للاستفادة من
مزايا الحاسوب، التي تركز بشكل أساس في القدرة على تخزين كم هائل من
المعلومات مع سرعة التعامل معها، وأبرز المجالات التي خدمها الحاسوب هي
المجالات المتعلقة بالقرآن الكريم والسنة النبوية [1] .
دعوة غير المسلمين: دعوة غير المسلمين تتطلب من الداعية إلى الإسلام أن
يتعامل مع فئات مختلفة وقدر كبير من المعلومات، واستحضار سريع للأدلة
والبراهين في مجالات شتى، ومن الناحية النظرية: فإن البرامج الحاسوبية ستكون
ذات أثر فعال في مجال دعوة غير المسلمين؛ نظراً لما يلي:
1- قدرة الحاسوب الرائعة للتعامل مع كم هائل من المعلومات المقروءة
والمسموعة والمرئية، واسترجاعها والوصول إليها بسهولة وإتقان.
2- السبب الآخر الذي يدعو إلى الاعتقاد بنجاح الحاسوب وسيلةً للدعوة هو
نجاح البرامج التطبيقية المستخدمة في مجال التعليم؛ ففي مجال التعليم تستخدم
برامج الحاسوب في أنماط تعليمية مختلفة، مثل: الشرح، والإلقاء، وطرح
التمارين وتصحيحها ونمذجتها، ومحاكاة الظواهر الطبيعية.
نظام الدعوة بمساعدة الحاسوب [*] :
المقصود من استخدام الحاسوب باعتباره أداة لدعوة غير المسلمين هو تطوير
برمجيات لشرح الإسلام وتوضيح أركانه، وتتم عملية التعليم تحت التحكم الكلي من
قِبَل المستخدم، من حيث: المواضيع التي يرغب في دراستها، وتحكم سرعة
عرض المعلومات، وفي وقت الدرس ومدته.
المزايا: من أهم ما يتميز به الحاسوب باعتباره وسيلة للدعوة عن غيره من
الوسائل الأخرى ما يلي [2] :
1- أن إثبات العقائد يتطلب استحضار عدد كبير من الأدلة والبراهين بحيث
تتناسب مع نوعيات وأصناف البشر باختلاف ميولهم وأهوائهم ومعلوماتهم السابقة،
فالأدلة على وجود الخالق (سبحانه) على سبيل المثال كثيرة وعديدة، يمكن
استخلاصها من مختلف العلوم، مثل: الفلك، والفيزياء، والطب، والأحياء،
وعلم الأجنة، والجيولوجيا.. وغير ذلك من العلوم، هذا بالإضافة إلى الفلسفة،
وعلم المنطق، ويصعب على الداعية البشري أن يستحضر جميع هذه الأدلة من كل
هذه العلوم، أما باستخدام الحاسوب وتقنيات المعلومات فإنه يمكن حفظ جميع هذه
الأدلة وتصنيفها وفق الموضوعات أو وفق درجة صعوبة الدليل وعمقه، ويستطيع
المستخدم أن يختار الأدلة من المواضيع التي تتفق مع ميوله أو مستواه العقلي
والمعرفي.
2- أن برمجيات الحاسوب يمكنها الوصول إلى أماكن بعيدة وإلى المستخدِمين
في شتى بقاع المعمورة بتكلفة زهيدة، لذا: فإن نشر الإسلام عن طريق هذه
البرمجيات سيكون أقل تكلفة بكثير من الأسلوب التقليدي في إرسال الدعاة إلى هذه
المناطق، أيضاً: فإن مستخدِم هذه البرمجيات يملك هذه النسخة منها، وهو بذلك
يستطيع استخدامها ساعة يشاء وفي الأوقات التي تناسبه، وهذا لا يتوفر في
الأساليب التقليدية للدعوة، حيث لا يتوفر الداعية في كل وقت لكي يخاطب من
يحتاج إليه.
3- أن الغرور والكبرياء وعدم الرغبة في الظهور بمظهر الجاهل أمام
الآخرين.. هي بعض أسباب العناد والتمادي في رفض آراء الآخرين وإن كانوا
محقين وصائبين، وتعلم الإسلام عن طريق برمجيات الحاسوب يزيل عن النفس
هذا الحَرَج، وبذلك فإن المستخدِم يكون من الناحية النفسية أكثر تقبلاً لهذه الأفكار
والمفاهيم، وهنا يجب توخي الحرص عند تصميم هذه البرمجيات بحيث لا تثير
مشاعر الرفض لدى المستخدم.
4- يعتبر القرن العشرون الميلادي عصر العلم والمعرفة والتقنية، فقد
استطاعت البشرية في الستين سنة الأخيرة من هذا القرن أن تضيف قدراً من العلوم
والمعارف التجريبية يفوق بكثير ما أنتجته البشرية منذ بدء خلقها، كذلك فإن هذا
العصر شهد تطوراً في التقنية مكن الإنسان من النزول على سطح القمر والخوض
في أعماق البحر والوصول بأجهزته إلى مجاهل الفضاء السحيق، وإذا كان الإنسان
القديم في غياب العقيدة الصحيحة قد عبد الشمس والقمر وقوى الطبيعة المختلفة،
فإن الإنسان في هذا العصر قد اتخذ من عقله ونتاج عقله من علوم وتقنيات آلهة
يعبدها من دون الله، والحواسيب هي إحدى أهم الإنجازات البشرية في هذا العصر، وهي تحظى بكثير من الثقة والاحترام لدى عدد غير قليل من الناس، لذلك: فإن
الحواسيب باعتبارها وسيلة للدعوة إلى الإسلام قد تكون الأقدر على إقناع تلك الفئة؛ نظراً لتقبلهم لها وارتياحهم النفسي في التعامل معها.
5- أن معظم مستخدمي الحاسوب هم من الفئات المتعلمة في أي مجتمع من
أساتذة جامعات، وطلاب، ومهنيين، وكبار مسؤولين، وتربويين، وهذه الفئات
هم في العادة أصحاب التأثير الفعّال في المجتمع، لذا: فإن الوصول إليهم
واستمالتهم إلى دين الإسلام يعني التأثير بطريق غير مباشر على أعداد كبيرة أخرى
من البشر تتأثر بهذه الفئات.
ولكن الذي يجب التأكيد عليه: أن استخدام الحاسوب وسيلة لنشر الإسلام لا
يعني الاستغناء عن الوسائل الأخرى، فهذه الوسيلة ليست بديلاً عنها، وإنما هي
وسيلة تكمل الجهود الأخرى المبذولة في سبيل نشر الإسلام بين الناس.
المجالات المؤثرة: ولكي ننجح في تطوير برمجيات دعوية فعّالة، لا بد من
إجراء دراسات وبحوث عميقة في مجالات علم النفس العام، وعلم النفس الديني،
والشخصية وتكوينها، والميول والأهواء وتأثيرها، وفن الإقناع والتأثير،
ونظريات التعليم والتعلم، وعلوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، وفن التخاطب
بين الآلة والإنسان [3] .
ويبين الشكل المرفق: رسماً يوضح مجالات العلوم والمعرفة التي تؤثر
بصورة مباشرة على نظم الدعوة بمساعدة الحاسوب: الدعوة بمساعدة الحاسوب.
النظم الأساسية: ونظام الدعوة إلى الإسلام بمساعدة الحاسوب هو في جوهره
نظام لتشكيل العقيدة وتطويرها، حيث تهدف هذه النظم إلى تغيير ميول المستخدم
تجاه دين الإسلام، وإلى تعليمه مفاهيم الإسلام الصحيحة، وإزالة ما يمكن أن يكون
لديه من مفاهيم مغلوطة وصورة خاطئة عن الإسلام.
وبالنظر إلى أسس العقيدة الإسلامية والتمحص فيها نجد أنها في مجملها تتكون
مما يلي [4] :
- مفاهيم متعلقة بالتوحيد. ... ... ... - مفاهيم متعلقة بالنبوة والرسالة
- مفاهيم متعلقة بالكتب السماوية ... - تعاليم الشريعة الإسلامية
لذا: فإنه يمكن النظر إلى نظام الدعوة بمساعدة الحاسوب على أنه يتكون من
مجموعة مترابطة ومتكاملة من الأنظمة التعليمية الحاسوبية، كما يوضحها الشكل
(2) ، وهي كما يلي:
شكل (2) : عناصر نظام الدعوة بمساعدة الحاسوب
- نظام تعليم لتوحيد: ويقدم هذا النظام الأدلة والبراهين على وجود الخالق،
ويناقش كذلك القضايا المتعلقة بوحدانية المعبود والصفات الإلهية الأخرى.
- نظام تعليم النبوة: ويقدم هذا النظام الأدلة والبراهين على نبوة محمد، وأنه
آخر المرسلين وخاتم النبيين، كذلك يعرض النظام جوانب من السيرة النبوية.
- نظام تعليم القرآن الكريم: ويقدم هذا النظام الأدلة والبراهين على أن
القرآن كتاب منزل من الله (سبحانه وتعالى) ، ويشرح النظام أسس العقيدة التي
يحويها القرآن الكريم، ويعرض جوانب الإعجاز فيه.
- نظام تعليم تعاليم الإسلام: تهدف الأنظمة الثلاثة الأولى إلى إثبات العقائد
الأساس للإسلام المتعلقة بالألوهية والنبوة والكتاب، وتقبل هذه المعتقدات والإيمان
بها يعني اعتناق المرء للإسلام، والمرحلة التالية هي: معرفة تعاليم الدين
الإسلامي وممارستها، ويهدف هذا النظام الأخير إلى شرح تعاليم الإسلام وتبيان
أوامر الله (تعالى) ونواهيه.
المكونات الأساسية:
يتركز تصميم النظام الذكي لتعليم الإسلام على خلاصة التطور في العديد من
المجالات، وبصورة خاصة يستفيد النظام من نتائج الأبحاث في مجال الذكاء
الاصطناعي والنظم الخبيرة، ومجال التعليم الذكي بمساعدة الحاسوب، والتطورات
في بناء قواعد المعرفة باستخدام النصوص الفوقية، ويبين الشكل (3) المكونات
الأساس لأي نظام تعليمي ذكي، وفيما يلي عرض لهذه المكونات:
شكل (3) : عناصر نظام الدعوة بمساعدة الحاسوب
أ- وحدة نمذجة المستخدِم:
والهدف من هذه الوحدة هو تطوير نموذج (Model) للمستخدم، وأحد ملامح
هذا النموذج أنه يصنف المستخدم وفق محاور متعددة مثل: الجنس، العمر،
مستوى الإدراك الذهني، العقائد السابقة، التأهيل العلمي والتخصص، الوضع
الاجتماعي، الوضع النفسي، الميول والاتجاهات حيال الأديان بصفة عامة وتجاه
الإسلام بصفة خاصة.. إلخ، وسينتج عن هذا النموذج معلومات تحدد الأسلوب
الأمثل في دعوة هذا المستخدم: المواضيع المناسبة له، أسلوب الحوار والنقاش،
مكامن الخلل العقائدي، تساؤلاته الأساس عن الكون والحياة ... إلخ.
ب - وحدة حفظ وعرض المعرفة:
ويحتوي هذا الجزء على كل ما يتعلق بالمعرفة في النظام، ويشمل ذلك جميع
الموضوعات ذات العلاقة بموضوع النظام، المادة العلمية التي تشكل محتوى
الموضوعات، معايير اختيار المادة المعرفية المناسبة للمستخدم، وأساليب عرض
النصوص.
ج - وحدة التخاطب مع المستخدم:
ومهمة هذه الوحدة تيسير التخاطب التفاعلي بين المستخدم والنظام، ويشمل
ذلك: تنفيذ المحاورات المتعلقة بنمذجة المستخدم، واستقبال مدخلات المستخدم،
وعرض مخرجات وحدة عرض المعلومات.
د - وحدة القياس والتقويم:
هذه الوحدة ليست جزءاً من مكونات النظام، وإنما الهدف منها: قياس
مستوى أداء النظام وتنفيذ عمليات التقويم إذا لزم الأمر، والهدف الأساس لهذه
الوحدة هو تحسين أداء النظام والارتقاء به بصورة مستمرة.
__________
(1) انظر: أحمد شرف الدين: الحاسوب في خدمة السنة النبوية المطهرة، الندوة الثانية لتعريب الحاسوب، جامعة الملك سعود، شوال 1414هـ، وأيضاً: محمد طه أوم وآخرون، في استعراض سريع: البرامج الإسلامية تجارة رابحة، مجلة عربيوتر، ع/54 2/1995م.
(*) يعتبر الدكتور محمد محمود مندورة أحد أكبر الرواد في مجال استخدام الحاسوب في الدعوة.
(2) د محمد محمود مندورة: الحاسبات في خدمة الدعوة الإسلامية، ندوة استخدام الحاسوب في العلوم الشرعية، جدة، ربيع الآخر، 1411هـ.
(3) Mandurah, M M (Computer-Assisted Development of Beliefs (CADB) : The need for Multidisciplinary Research) ,proc Of the 13th Saudi Ncc, Riyadh, Nov 1995.
(4) د محمد محمود مندورة، وحسين السلمان: الحاسوب في خدمة الدعوة الإسلامية مشروع
تطوير نظام لتعليم القرآن لغير المسلمين، الندوة الثانية لتعريب الحاسوب، جامعة الملك سعود، شوال 1414هـ.(113/48)
البيان الأدبي
يقظة سعاد
شعر: عيسى علي آل خماش
بانت سعادُ فطال السهدُ والليل ... ولم يكن لأليم البعد تعليلُ
وما سعاد هوًى يشدوه شادنُه ... لكنها ملةٌ جاءت وتنزيلُ
فأيقظت نؤوماً كان مندثراً ... بين الرمال تناجيه الأباطيلُ
وألزمته زمامَ الأمر ممتشقاً ... سيف العدالة لاجورٌ ولا ميلُ
لما تغير وجه الأرض واكتملت ... معالم المجد لا قولٌ ولا قيلُ
ضاق العدو بهم ذرعاً فأضمرها ... حَربَ الدسائس تمليه القناديلُ
هذا وقد شرق الخصم الألد بهم ... أصحابُ عهدٍ قديمٍ والأناجيلُ
وكلما أوقدوا للحرب نارَهمُ ... يعود للملةِ الغراءِ تأصيلُ
يا أيها الشجن الغادي إلى هدفٍ ... تقسمته البراري والعراقيلُ
يقضي علينا بأسباب نحبذها ... كأنها فوقنا طيرٌ أبابيلُ
قل للشباب لنا دِينٌ يصيحُ بنا ... حتى متى يشغلنا فنّ وتمثيلُ
دعوا التوافه ضنوا بالحياة فما ... حرّ طليق كمن أرداه تكبيلُ
ويمكرونَ وعين الله شاهدةٌ ... يملي وليس لوعد الله تبديلُ
هناك تسمع للأبطال جلجلة ... ويستحثك تكبيرٌ وتهليلُُ(113/56)
البيان الأدبي
زَئيرُ الإسلام
شعر: محمد عبد الله الهويمل
يا جَمرةَ الرّوحِ العَضُوبِ تَضَرمي ... كوني شُعاعاً للفضاءِ الأعظمِ
كوني شعاعاً يستطيلُ إلى الثّريا ... والفراقدِ ثمّ كوني سُلّمي
ربّ اهتزازةِ شاعرٍ متألمٍ ... آست جروحَ العالمِ المتألمِ
يا أمتي كيفَ الذئابُ استأسدت ... والغابُ كلّ الغابِ ملكُ الضيغمِ
يا أمتي حولَ الرِّقابِ حبائلٌ ... تُدمي وقيدٌ قد أحاطَ بمِعصمي
كم ذا شجاعٍ جُردتْ أسيافُه ... أو في المنابرِ من فصيحٍ أبكمِ
كم فرحةٍ ماتت قبيلَ مجيئِها ... أو بسمةٍ عذراءَ تاهتْ عن فمي
ولَكَم بحثْتُ عن ابتسامةِ يُتّمٍ ... فَوَجدتها تَكسو شِفاهَ المُجرمِ
فالليلُ يمضغنا بأفواهِ الدّجى ... نَحيَا ونقبرُ تحتَ حوتِ المأتمِ
ونعيشُ مثلَ الطفلِ يشربُ دمعَه ... رَضَعَ الأسى دهراً ولمّا يُفطمِ
فزأرتُ زأرةَ ماردٍ حتى أرى ... خوفَ الفضاءِ أو اهتزازِ الأنجمِ
أو ما رأيتَ الشمسَ تَبسِطُ كَفّها ... نَحوي تصافحني ولمْ أتبسمِ
والأرضُ تَرْفَعُنِي تباركُ أوبتي ... أو كالسماءِ هوت تُقبّل مَبْسمي
قُل للثّريا في عُلوِّ سمائها ... إنّي اصطفيتُك أنْ تكوني توأمي
فلقد سمعتُ الدينَ صاحَ بمهجتي ... ولقد رأيت المجدَ يسبحَ في دمي
فنزعتُ من وجه الصباحِ صباحَه ... ورميتُه في وجهِ ليلٍ أظلمِ
فإذا الحياةُ تسألتْ عن ليلِها ... قد ماتَ ليلُك تحتَ وطأةِ مسلمِ(113/57)
البيان الأدبي
المثقف مستهلِكاً
بقلم: حسام المالكي
جاءني صديق شغوف بالأدب وعالمه، وحدثني عن كشف نقدي جديد، تحوّل
به مَن تحوّل من نقاد الأدب فجأة إلى باحثين في الشأن الثقافي العام، وكان صاحبي
قد أدهشته الفكرة، خصوصاً حين بدأ مروجوها يقرؤون اللغة والثقافة (والدين
بالطبع مقومها الأول) من خلال التسليم بفكرة أولية، مفادها: أن الرجل هيمن على
عالم الثقافة كله؛ فشَكّله لحسابه الشخصي! وجعل من النوع الرجالي مركزاً مهيمناً، وهمش المرأة ظلماً وعدواناً، ثم لم يزل الأمر كذلك حتى بدأ اتجاه النقد النسوي
المعاصر، فكان أن بدأت المرأة تتعلم كيف تكسر تاريخ الهيمنة الطويل هذا! ،
وسيستغرق الأمر منها أزماناً مدداً، حتى تستطيع إعادة تشكيل اللغة والثقافة معاً
بعيداً عن مركزية الرجل وهيمنته.
فقلت له: يا صديقي إن ذلك ليس سوى صرعة غربية من ستينيات قرننا هذا
المؤذن بالرحيل، وأنت تعلم مدى شغفنا باستجلاب كل المكدسات الغربية والغريبة، التي عادة ما يبدأ تاريخ صلاحيتها عندنا بعد دخول تاريخ انتهائها عندهم بسنين
عدداً، ابتداء من أسلحة القتال العسكرية (التي تجوع لأجل شرائها الشعوب، ثم
تُسد صرخة البطن الجائع بنيران تلك المشتريات حين تُصَب عليها لا على العدو) ،
ثم مروراً بأسلحة الفكر، التي تعبر عن صراعات عالم آخر، ومشكلاته
وخصوصياته، وإن كنا في استهلاك الفكر أكثر زيفاً، خصوصاً حين ننزع عن
المنتج ثوبه الأصلي، ثم نضع عليه رقعة شائهة، نكتب فوقها تاريخاً جديداً
للصلاحية! ومعه ختمنا المعتاد، وأسماؤنا اللامعة.
يا صديقي نحن ما زلنا بعد كل شيء: ذلك المشتري الكسول، الذي يظل
طوال عمره زبوناً يستهلك بضائع الآخرين! ، وربما اشترى ما أُعِدّ للاستهلاك
غير البشري؛ فصنع منه وجبته الرئيسة! ، متلمِّظا بطعم الورم! الذي يحسبه
الشحم واللحم.
ألا تذكر وصية جدك المتنبي:
أُعيذها نطراتٍ منك صادقةً ... أن تحسب الشحمَ فيمن شحمُهُ ورمُ!(113/58)
البيان الأدبي
حكاية (النص) وما وراءها
بقلم: د.محمد يحيى
شاع في الكتابات العلمانية في السنوات الأخيرة إطلاق وصف (النص) على
القرآن، فأصبحنا نسمع عبارة (النص القرآني) تتردد كثيراً لدى من يتناولون
الأمور الدينية الإسلامية من ذوي المنحى العلماني.
وقد يبدو لأول وهلة أن هذا المصطلح أو الوصف يستمد أصله من السياق
الإسلامي المعروف حول مفهوم (النص) ، والذي يدور حول صفات الوضوح
والبيان أو القطعية في الدلالة أو الثبوت.. ولكن القراءة المتأنية في مضامين
وإيحاءات استخدام هذا الوصف والمصطلح في الكتابات العلمانية تكشف عن أن
مفهوم كلمة (النص) عندها يختلف اختلافاً جليّاً عن مفهوم الدراسات الإسلامية للكلمة ... ويتصل عضويّاً بالمفهوم الغربي الأصيل لهذه الكلمة والفكرة كما تطور منذ عصر
النهضة الأوروبية وحتى أقرب المدارس الفكرية في الغرب، كالنفعية، والتأويلية،
والحداثة، وما بعد الحداثة، والتفكيكية، والتاريخية، وليس هذا الأسلوب بغريب
على أصحاب المذهب (اللاديني) ، فقد تعودوا في أطاريحهم المختلفة على أساليب
مما يمكن أن تسمى بالتدليس الفكري، ومنها: التلاعب في استخدام مصطلحات
معينة ذات أصل في تراث الفكر الإسلامي، يوهمون أنهم يستعملونها بمعانيها
الإسلامية، بينما هم في الواقع يملؤونها بالمضامين والإيحاءات التي اكتسبتها أو
أضفيت على مصطلحات مشابهة لها في الغرب وضمن السياق الفكري هناك.
ومصطلح (النص) الذي يقرن بالقرآن هو أحد هذه الكلمات الداخلة في إطار
تلك العملية من التدليس الفكري، فالذين يستخدمونه في كتاباتهم من العلمانيين قد
يوحون في الظاهر بأنهم إنما يلجؤون إلى مصطلح له جذور في التراث الإسلامي
والعربي، بينما الحقيقة كما يشي بذلك مضمون اللفظ، كما يتجلى عندهم هي على
العكس من ذلك تماماً.. فما هي أبعاد المصطلح الأوروبي الأصل ومضامينه
وإيحاءاته التي يكرسونها؟ .
إن أبرز ما يميز مفهوم (النص) في الفكر الغربي الحديث هو: نزع القداسة،
والتسوية العمياء بين جميع النصوص.. وهذا هو جوهر المدارس التي عرفت في
مجملها باسم ما بعد الحداثة والتفكيكية في مركزها، لكن (نزع القداسة) موجود في
التراث الفكري الغربي منذ قرون عديدة، وبالتحديد: منذ أن نشطت حركات تأويل
وتفاسير الإنجيل والتوراة عندهم والكتابات التحليلية التاريخية التي استعملت
المناهج النقدية لتقويض أسس مصداقية هذه النصوص كما تلقاها الغربيون من
أسلافهم، صحيح أن الفكر الغربي عرف التفرقة بين النص (المقدس) والنص
(الدنيوي) ، ولكن بعد أن تطرق الشك إلى أن هذه النصوص (المقدسة) وحي صادر
عن السماء أو عن الإله، وساد الاعتقاد بأنها وضع بشري أو على أحسن الأحوال:
جمع وصياغة بشرية عن أصول زعم أنها من الوحي الإلهي، حدثت حالة من
التسوية بين كل النصوص بمعنى كل الكتابات أو الأعمال المكتوبة، ولم تعد التفرقة
بين (المقدس) و (الدنيوي) تستخدم إلا بمعنى اصطلاحي؛ ليدل على بعض من
النصوص التي يعتقد بعضهم من (المؤمنين) أنها وحي سماوي.
مصطلح (النص) إذن في السياق الفكري والغربي وحتى قبل أن تعمل فيه
معاول مدارس ما بعد الحداثة والتفكيكية عملها الهدام كان بالفعل محملاً بمضمون
نزع القداسة أو إنكار أن هناك وحياً إلهيّاً أو (سماويّاً) قد نزل، فكل الكتابات
(نصوص) لا تختلف عن بعضها إلا في الأسلوب اللغوي، أو المقصد والغرض
العملي منها، أو الأثر الذي تتركه في نفوس قارئيها وعقولهم.
وإذا كان مصطلح (النص) محملاّ في جذوره وأصوله التاريخية الغربية بنزع
القداسة، وإنكار الأصل الإلهي لبعض النصوص، وتأكيد التسوية بين كل
النصوص أو الكتابات على أنها وضع بشري.. فإن مدارس ما بعد الحداثة
والتفكيكية قد أتت في العقدين الأخيرين لتكمل على ما تبقى من آثار للقداسة أو
التميز لبعض النصوص التي (زُعِم) أنها وحي؛ وذلك لأن جوهر هذه المدارس كان
القول بتحطيم أي مضمون ثابت تحتويه نصوص اللغة وتفكيكه وإلغائه، وإدخال
النسبية المطلقة على معاني النصوص كلها، وطرح مجموعة من العمليات اللغوية
الشكلية البحتة يقال إنها هي التي تنتج المعنى وهي التي تغيره في الآن نفسه، ومن
هنا: تعمقت التسوية بين النصوص ونزع القداسة عنها، وهذا النزع مما كان
موجوداً أصلاً في استخدامات مفهوم (النص) منذ القرن الماضي.
فقد أصبحت كل النصوص في ظل هذه المدارس الحديثة وسواء أكانت أدبية، أم (علمية) ، أم دينية مجرد كميات لغوية، لا تحتوي على مضامين ثابتة، ولا
تشير إلى حقائق خالدة، بل فقط (تنتج المعنى) بكميات معينة، تؤدي إلى أن يكون
هذا المعنى نسبيّاً ومتغيراً وغير محدد القوام، وبالطبع كانت النصوص (المقدسة)
هي الأكثر تأثراً بهذا الاتجاه؛ لأنها هي أكثر النصوص التي كانت تزعم لنفسها أنها
تحتوي على حقائق خالدة ومضامين ثابتة وأفكار مطلقة.. وتخرج هذه النصوص
من مطحنة التحليل التفكيكي وما بعد الحداثي وقد تحولت إلى ركام من المعاني
المتضاربة التي لا تشير إلى أي شيء أبعد من تهومات ذهنية أو معانٍ أخرى..
فالكل في النهاية: (لعبة اللغة) .
إن المحصلة النهائية لمفهوم (النص) كما تبلور في الغرب على يد المدارس
الفكرية هناك تشير كما أسلفنا إلى عملية متصاعدة من نزع القداسة عن النصوص
والكتابات الدينية، ثم إعمال التسوية بين كل أنواع النصوص، وإخضاعها في
نهاية المطاف إلى هيمنة بعض العمليات اللغوية الشكلية الآلية، التي تلغي حتى
وجود المعنى العلماني نفسه فيها، وتحل محله الإبهام والتميع والغموض و (عدم
التحدد) ، ومن هنا: فإن استخدام مفهوم (النص) في الكتابات ذات التوجه العلماني
التي تتحدث عن الإسلام وعن القرآن بالتحديد لا يأتي بريئاً من التحيز، ولا يأتي
في سياق الفكر والمصطلح الإسلامي كما قد يتصور بعض الطيبين لدى النظرة
الأولى، بل يأتي محملاً بكل هذه المضامين والإيحاءات الغربية.
ومن هنا: فإن الحديث عن (النص القرآني) في سياق هذه الكتابات العلمانية
يلف ويدور حول قضايا بعينها، أصبحت مشهورة الآن من كثرة ترديدها واللغط
حولها، وهذه هي قضايا ما يسمى بتاريخية النص القرآني، أي: تشكله عبر فترة
تاريخية، أو خضوعه في المعنى والتفسير لاعتبارات التاريخ والعهد الذي (كتب)
فيه هذا (النص) كما عبر أحد الكتاب في هذا السياق، ويرتبط بهذه القضية: ما
يطرح حول نسبية المعنى القرآني وتغيره بتغير العصور والمفسرين، كما يرتبط
بها: الحديث حول (بشرية) النص القرآني، بالقول بأن القرآن قد (كتب) بلهجة
عربية معينة، وفي عصر معين، وأنه موجه للبشر؛ ولذلك فإن الطابع البشري
يغلب عليه (!) .
وبصرف النظر عن التلاعب اللفظي المتضمن في هذا الرأي (وقد يكون هذا
موضوعاً لمقال آخر) ، فإنه نابع في الأساس من ذلك المفهوم عن النص الذي جُلب
من الفكر الأوروبي بسياقاته المختلفة عن السياق الإسلامي.
وفي الخلاصة: فإن مفهوم (النص) الذي يشيع في كتابات العلمانيين الآن في
بلادنا الإسلامية مطبقاً على القرآن يتضمن كثيراً من الأفكار التي تهدم أسس الدرس
القرآني، ويحول كتاب الله إلى مجرد (كلام بشر) تجوز عليه شتى العمليات الشكلية
التي تطبق لتفسير الأعمال الأدبية وتحليلها، وربما جاز التعليق بأن هذا الكلام ليس
جديداً عليهم، وإن كان الآن مصاغاً بمصطلحات تزعم الجدة والطابع الفلسفي؛ فقد
سبق للمستشرقين وأشياعهم منذ أوائل هذا القرن أن وصفوا القرآن بأنه كالعمل
الأدبي الذي يجب أن تطبق عليه أساليب الأدب حتى يفهم، ولا يعني ذلك سوى أن
القرآن تأليف بشر، وهي دعوى كفار قريش القديمة نفسها، تعود الآن في ثوب
عصري معقد، بينما كانت تطرح في الماضي ببساطة ساذجة.(113/60)
البيان الأدبي.. تراجم أدبية
البلبل الذي صمت
بقلم: أحمد عبد العزيز العامر
فقدت ساحة الأدب الإسلامي رجلاً متعدد المواهب، جرت الدعوة في شرايينه
شابّاً ومعلمّاً وشاعراً وكاتباً ومتحدثاً، له مشاركات نقدية في تقويم ما يسمى بالشعر
الحر، حينما استعرض قصته ومنطلقاته وأهداف رموزه، في كتابه: (جناية الشعر
الحر) ، مما دعا إلى مناصبته العداء من جمهرة الحداثيين.
لكنه لم يبال بردود أفعالهم، فأعقب ذلك بدراسة نقدية أخرى بعنوان: (بين
الأصالة والحداثة) ، وله ديوانا شعر: (جرح الإباء) ، و (رسالة إلى ليلى) .
لعلكم عرفتموه، فهو الأستاذ الداعية الأديب (أحمد فرح عقيلان) ، ولد (رحمه
الله) ، عام 1924م في (الفالوجة) بفلسطين، ونشأ في أسرة علم ودين، ونال
الشهادة العليا لمدرسي الثانوية عام 1946م، ثم عمل مدرساً للغة العربية في بعض
مدن فلسطين، وبعد نكبة 1948م، انتقل إلى (خان يونس) ودرّس بها، ثم هاجر
إلى السعودية ودرّس في معهد العاصمة النموذجي بالرياض لعدة سنوات، وعمل
مديراً للأندية الأدبية برئاسة رعاية الشباب ثم مستشاراً بها إلى أن توفي هذا العام،
ولقد عرّف به بعض الكتاب والنقاد، فأعطوه بعض حقه من الدراسة والتعريف،
وحللوا شعره، وبينوا مظاهر شاعريته وأدبه، منهم: د. (صالح الشنطي) ،
ود. (مأمون فريز جرار) ، و (أحمد الجدع) ، و (حسني أدهم) .
لكنه ووجه (رحمه الله) بعد وفاته بعقوق، لا سيما من محبيه، وتلامذته،
والأدباء والنقاد الموضوعيين، حيث لم يكتب عنه إلا قليل منهم، ومما يذكر فيشكر
ما كتبه الأديب (عبد الله بن سليم الرشيد) في ذكر ما له من شاعرية وما يحمله من
هموم إسلامية، ولقد وصف شعره بأنه وعظي، وأنه شاعر واعظ! ، وتساءل:
هل من العجب أن يكون الواعظ أديباً، أو الناقد والشاعر واعظاً، هذا إذا فهمنا
الوعظ بالمعنى الشامل الذي يدخل فيه التذكير المباشر وغير المباشر كالأسوة
الحسنة مثلاً، ومع ذلك: فلا تنافر بين الأدب والوعظ ما دام ذلك الأدب مستوفياً
شروط الإبداع صياغة ولفظاً، وكفى بكلام الله واعظاً وهو الحجة البالغة ... [*] .
والحقيقة: أن شاعرية (عقيلان) يلمحها المتذوق للشعر في ثنايا ديوانيه بما
يهز سامعه هزّاً، ويثيره شجناً، ويحلق بالقارئ إلى آفاق رحبة، يلمس فيها صدق
العاطفة وجمال العبارة ووضوحها، وهنا أورد بعض نماذج شعره:
- من قصيدته (يقول لنا الشهيد) والتي قالها حينما أُريد نقل رفات الشهداء
المصريين فيما أحسبهم بعد حرب 1948م على ثرى فلسطين:
يقول لنا الشهيد دعو عظامي ... فما في الدين مصري وشامي
دعوني واطلبوا ثأري فإني ... لقتل من استباحوا الحق ظامي
أليست روضة الشهداء حولي ... ونور المسجد الأقصى أمامي
فلسطين الجريح مكان روحي ... ووجهة الأنبياء بها إمامي
- ومن قصيدته (شباب وخنافس) يقول:
لهفي على ابن الأكرمين مخنفساً ... رخصاً يسابق في الدلال الغيدا
مستعبد التفكير خلف عدوه ... كالقرد يقضي عمره تقليدا
بسوالفٍ وسلاسلٍ وأظافرٍ ... يعصي الإله لكي يطيع يهودا
- ومن قصيدته (صرخة الأقصى) يقول:
صوت من المسجد الأقص يناديني ... إلى فدائية الإيمان يدعوني
يصيح والصخرة الغراء خاوية ... أين البطولات في الغر الميامين
أَبَعْد أن زفني عمرو إلى عمر ... في هالة المجد والقرآن والدين
يعربد الكفر مخموراً بمئذنتي ... ويستهين بقدسي كل ملعون؟
- ومن قصيدته (صرخة) يقول:
حطمت قيثارتي قطعت أوتاري ... ولّى الغناءُ ودقت ساعة الثار
ماذا أغني وتاريخ العروبة في ... مستنقع الذل والتشريد والعار
والقدس والمسجد الأقصى وصخرته ... عاد الأذان بها تهريج كفار
رحم الله الشيخ، وجمعنا به في الجنة ...
__________
(*) المجلة العربية، (أحمد فرح عقيلان) ، شهاب خبا، ع/239.(113/64)
مقال
وداعاً أيها العام! !
بقلم:محمد إدريس
وقفت أمام يوميتي لأنزع آخر ورقة بها لآخر يوم من عمر العام المنصرم
1417هـ، وعلى غير عادتي تثاقلت يدي هذه المرة، وهي تمتد إليها، وانتابني
إحساس نبه في وجداني شعوراً، ما كنت أأبه له على مدى أكثر من 350 يوماً قد
انتهت! ! ، لقد أحسست بإشفاق عليها، وقد تراءت لي كأنها تحتضر، وترنو إلى
يدي في فزع وذل؛ كأنها تطلب مني أن أمهلها لحظات تودّع فيها هذه الحياة! ! ،
فعدلت عن نزعها، ورحت أتأمل هذه الورقة الأخيرة، واعترتني رهبة عندما
عرفت أنني في الحقيقة بنزعها، قد نزعت حزمة من أيام عمري، لأطوي بها في
سجلي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وبما فيها من خير وغيره.
إن هذه اليومية (الشاهد) المحتضرة تشبه عمر أي مخلوق، وإنها تتناقص
أيامها مثلما تتناقص أعمارنا يوماً بعد يوم، وكما يتناقص بتراكمات الحقب والسنين
عمرُ الزمان، وكل المخلوقات في تناقص مطّرد حتى تنتهي إلى الزوال؛ [كُلُّ مَنْ
عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإكْرَامِ] [الرحمن: 26، 27] .
إن كل المخلوقات تنتهي أعمارها، وتمضي حيث شاء الله لها، وتُطوى! ،
إلا هذا المخلوق (الإنسان) فإنه الوحيد الذي يبقى متبوعاً بعد رحيله من هذه الدنيا،
وموقوفاً للحساب والجزاء.
عدت من ذهولي، وأخذت استحث ذاكرتي القاصرة؛ علّها تسترجع بعض
ما رسب وعلق بها من أحداث العام المنصرم، قبل أن تغمرها دوائر النسيان،
ووقفت طويلاً أستعرض ذلك الشريط الطويل (العمر) ، يا سبحان الله العظيم! ! ..
إنه شريط عجيب حقّاً، فقد اكتظ اكتظاظاً، وأفعم إفعاماً؛ لقد اكتظ بالحوادث
المختلفة، والأحداث المتباينة، والأعمال الحقيرة والجليلة، عنّي وعن غيري ممن
لا حصر لهم، من الذين مرّوا أمام عدسة هذا الشريط بالصوت والصورة! ! .
ثم مرّت أمامي لقطات متتالية مؤلمة مؤلمة وحزينة حزينة، من واقع كثير
من المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها.
أحبائي القراء المحترمين، إن استرجاع وعرض كل لقطات شريط عامنا
المنصرم عن أحوال أمتنا في هذه العجالة وفي هذه المساحة المحددة صعب جدّاً،
كما لا أحب أن أثقل به عليكم أكثر، ولنتركه مستوراً ليوم العرض الأكبر، ندعوه
(تعالى) ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنه البر الرحيم، ولكني أحبّ أن أذكر
بنزر قليل مجملٍ من غير تفصيل، وإن الذكرى تنفع المؤمنين.
وعليه: فإن ما أحزنني عن حالنا كان كثيراً كثيراً؛ وإن ما أسرّني منه كان
قليلاً! ! ، ولست أدري من أين أبدأ الكلام؟ ! ، وعمّ أتكلّم؟ .
المبدأ بأرض الكنانة؟ ، أم عن ضفاف النيلين الأبيض والأزرق؟ ، أم عن
الجبل الأخضر؟ ، أم عن جامع الزيتونة المقهور؟ ، أم عن موطن ابن باديس
المستلب؟ ، أم عن جامع القرويين النائم؟ ، أم عن معاقل الشناقطة الأعلام
المتخلف؟ ، أم عن بلاد الرافدين المغلوبة على أمرها؟ ، أو عن الشام المهيضة
الجناح؟ ، أم عن فلسطين السليبة؟ ، أم عن اليمن السعيد؟ ، أم عن بخارى
والسند؟ ، أم عن أخوات البوسنة؟ ، أم عن مسلمي الهند؟ .. أَم.. أَم.. أَم..
لكني رأيت فيها كلها عجباً عجاباً، رأيت فيها ليلاً أغدف، ونهاراً أكلف،
أرضاً صلعاءَ، وسماءً جلواء؛ ورأيت فيها باطلاً عسوقاً [1] ، وظلماً عنوقاً، عِزة
بالأثم وجوراً، وحقّاً مقهوراً، وباطلاً منصوراً! ! ، ورأيت ردّةً وشركاً واغتراباً،
ومسخاً وفجوراً، وتَجِنِّياً وسفوراً! ! ! .
رأيت فيها استكانة وذلة! ! ، ودَعَةً واستمراءً وغفلة! ! ، وصمتاً مهلاّ! ! .
نعم.. لقد رأيت فيها طواغيت قد عادوا بطغواهم، والمستضعفين المغلوبين
يعانون من جبروتهم وظلمهم، ولا ملجأ لهم إلا الله.
نعم.. لقد رأيت فيها قابيل يقتل هابيل ظلماً وعدواناً.
رأيت فيها نوحاً (عليه السلام) يواصل رسالته، ومع القلة المؤمنة يصنع
سفينته، ليرحل عن دنيا الناس، والغرباء ينتظرون الطوفان ليجرف المتجبرين..
فطوبى للغرباء الصابرين! .
ورأيت فيها النمرود يحاول حرق إبراهيم (عليه السلام) ، وإبراهيمَ، وإبراهيمَ، وإبراهيمَ، ويعتدي على عرضهم وأهلهم، وينفيه من أرضه، والقوم من جبروته
مبهورين ومقهورين، بل هم يتفرجون! .
ورأيت فيها قارون لم تكفِه خزائن الأرض كلها، ومع عصابته خطفوا كل
مفاتيح الخزائن، فأفلسوا البلاد، وعاثوا فيها الفساد، وأهلكوا الحرث والنسل..
قومه يتضورون جوعاً، ويمجدونه كذباً وزوراً! ! .
رأيت فيها فرعون لا يزال معانداً متألهاً، يكفر بموسى (عليه السلام) ، وبرب
موسى، وبرسالة موسى، ويأتي الطاغوت يعلن على الملأ بِقِحَة وصفاقة المتجبرين: بأنه لا ربّ سواه؛ وقومه له يسجدون، وهم راغمون، ولا ساكناً يحرّكون، ولا
واقعهم إلى الأحسن يغيرون.
رأيت العزيز يسجن الصديق، ويرمي به في غياهب السجون، ولكنه يمضي
في طغيانه، لأن البطانة تطريه، وإذا غضب ترضيه! ! .
ولكن الذي ملأني رعباً وغيظاً، وهلعاً وحنقاً، عندما رأيت، وكما يراه كل
المسلمين، عندما رأيت الإسلام لا يزال مكبّلاً بالسلاسل في كثير من ديار الإسلام،
يرسف في قيوده، ويساق إلى قفص الاتهام، للمرة السبعين، منذ عشرات العقود
من السنين لا يزال مُداناً، وفي كل عام بدون اتهام، ليطيلوا محاكمته، ويمدّدوا في
عقوبته وسجنه! ! ، فلقد أجمع المحلفون، والقانونيون، وفقهاء السياسة.. بحكم
المتحضرين والمتنورين، وبشهادات الشهود الموثقين، لقد أجمعوا على اتهامه في
هذا العام بأخطر اتهام، بأنه عين التطرف والإرهاب.. والهتيفة يُؤمِّنون.
وهنا أتوقف؛ فالحديث ذو شجون.... . وإن الأمر جدّ مهول، جدّ مهول،
جدّ مهول، دعاة الإسلام يحاكمون، أم إن دين الله أصبح في عهد ادعياء
الديمقراطية في (قفص الاتهام) ؟ ! .
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهالني الأمر، وأشفقت على أولئك
المضطهدين، تلك الفئة الصالحة المبتلاة، وأشفقت عليها من صبرها الطويل
الطويل! ! ، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
مددت يدي وانتزعت الورقة الأخيرة؛ لتبدأ البداية الجديدة.
لعام جديد، بأمل كبير، ودعاء صادق أن يقيض الله لهذا الدين مَن ينصره،
ومن يتبناه ويحكِّمه في أمتنا المأسورة في كثير من البلدان بالقوانين التي ما أنزل الله
بها من سلطان، سائلاً الله (عز وجل) أن ينصر الإسلام، وأن يعز المسلمين، وأن
يرينا في أعداء دينه وشانئيه يوماً أسود، وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(1) اقتباس من خطبة لأبي بكر (رضي الله عنه) .(113/66)
هموم ثقافية
المسلمون على مشارف القرن الواحد والعشرين
(1من2)
بقلم: د. محمد طاهر حكيم
كيف يستقبل المسلمون القرن الجديد؟ ! .. موضوع يكثر الحديث عنه منذ
عدة سنوات ويشغل بال كثيرين من مفكري الأمة.
إن الأيام والشهور والسنين والقرون شهود على الإنسان أو شهود له، وهي
شهود على الأمم والشعوب والحضارات أو شهود لها.
وشهادة القرن العشرين للأمة الإسلامية كُتب منها كثير وبقي منها قليل، ليس
أمام هذا القرن إلا بضع سنوات.. نسأل الله أن تكون سنين خير ورخاء واستقرار
على الأمة الإسلامية.
فكيف هو واقع المسلمين الذين يزيد تعدادهم على ألف مليون نسمة،
وينتشرون على ربع مساحة اليابسة من (جاكرتا) شرقاً إلى (طنجة) غرباً، كيف
واقعهم اليوم في مجالات العلم والمعرفة والبحث العلمي والتقني والاقتصاد
والاجتماع والعلاقات المحلية والدولية؟ ، وما المخاطر والمشكلات التي تواجههم
على عتبة القرن الواحد والعشرين؟ ، ثم: ما آفاق المستقبل للأمة الإسلامية؟ .
هذا ما سأحاول الإجابة عنه في هذا المقال إن شاء الله (تعالى) :
أولاً: واقع الأمة في مجال العلم والمعرفة والبحث العلمي والتقني: إن نسبة الأمية بين المسلمين تبلغ ما بين 50% إلى 80%، بينما تقل نسبة
الأمية عن 2% في دول الشمال، وأي مصيبة أكبر من أن تكون أمة [اقْراً] لا
تقرأ، جاء في دراسة أعدها (منتدى الفكر العربي) عن مستقبل الأمية بالوطن
العربي ما يلي: (يبلغ إجمالي الأميين في الوطن العربي نحو 33 مليوناً في عام
1994م) .
إن مشكلة الأمية بكل أبعادها ليست مشكلة تعليمية أو تربوية فحسب، بل هي
في الأساس مشكلة حضارية، لذا: فإن القضاء عليها ليس فقط استثماراً له مردوده
الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، بل يُشكّل وهذا هو الأهم شرطاً أساساً ولازماً
للتطور واللحاق بالركب الحضاري، وإنه لمن نافلة القول أن أؤكد أنه من المستحيل
قيام تقدم علمي وتقني في ظل الواقع الحالي، لهذا كان من الطبيعي أن تتعثر جميعُ
خطط محاولات اللحاق بركب التطور العلمي والتقني؛ لأن الحدود الدنيا من
المقومات العلمية والبشرية اللازمة لا تتوفر للدول الإسلامية، بل لا تمكن منها من
قبل الغرب.
والواقع: أن فجوة التخلف بيننا وبين العالم المتقدم في مجال العلم والتقنية
فجوة هائلة، تزداد اتساعاً بمرور الأيام، ومع أن الإحصائيات عن هذه الفجوة غير
متوفرة بشكل جيد، إلا إن الدراسة التي قُدمت لمنظمة المؤتمر الإسلامي في
اجتماعها الذي انعقد في (إسلام آباد) في الفترة من 10 13 مايو 1983م، تذكر بأن
هناك حوالي 45 ألفاً من العلماء والمهندسين في حَقْلي البحث والتطوير العلمي
والتقني في العالم الإسلامي بأكمله، وهذا العدد لا يقارن بعدد العلماء والمهندسين
العاملين في (اليابان) وحدها، وهو حوالي نصف مليون باحث، وفي (الاتحاد
السوفييتي) سابقاً يبلغ أكثر من مليون ونصف المليون.
وأما في حقل (الفيزياء والذرّة) : فقد نشرت اللجنة المركزية للمخابرات
الأمريكية تقريراً قبل بضع سنوات فيما يتعلق ببعض دول العالم الثالث، جاء فيه:
(أن هناك مئتي ألف عالم نووي يعملون في الهند، وخمسين ألفاً في إسرائيل،
وخمسة آلاف في باكستان) .
ومن أبلغ المؤشرات على عمق هذه الفجوة واتساعها: تدني إنفاق الدول
الإسلامية على الاهتمام بالبحث العلمي وتوظيفه من أجل التنمية، فقد ذكر الدكتور
(زغلول النجار) أن الدول المتقدمة تنفق ما بين 3% و 4% من دخلها العام على
البحث العلمي والتقني، في حين نجد أن إنفاق الدول الإسلامية والعربية لا يتعدى
2,.%، فكل من (إندونيسيا) ، و (إيران) ، و (باكستان) على سبيل المثال أنفقت
2. ,%، بينما أنفقت كل من (بنجلاديش) ، و (السودان) 3,.%، و (مصر)
7,.% في السبعينيات، وإذا ترجمنا هذه النسبة إلى ما يقابلها من الدولارات فإنها
تعادل ما يقرب من (550) دولاراً عن كل فرد في (أمريكا) ، و (10) دولارات في
الدول الإسلامية.
وتبلغ نسبة العلماء والتقنيين إلى مجموع تعداد السكان في الدول الإسلامية
رقماً لا يذكر إذا قورن بنسبتهم في دول التقدم العلمي، إذ تتراوح بين عشرين في
المليون في دولة (بنجلاديش) ، و190 في المليون في (مصر) ، بينما تتراوح بين
4300 في المليون في أوروبا وأمريكا، و8200 في المليون في (الصين)
و (الاتحاد السوفييتي) سابقاً [1] .
ولكن الأمرّ من هذا كله: أنه في الوقت الذي تدفع فيه الشعوب الإسلامية ثمن
تعليم وتطوير هذه العقول، يجني الغرب الثمرة، حيث إن أعداداً كبيرة من هذه
العقول تهاجر إلى الغرب وتصبح النتيجة مزيداً من التخلف التقني في المجتمعات
الإسلامية وزيادة مُطّردة في التقنية الحديثة التي نستوردها من الغرب والتي تشارك
في تطويرها عقولنا الإسلامية المهاجرة.
فقد ذكرت هيئات عالمية مثل (منظمة اليونسكو) ، و (منظمة التجارة العالمية)
و (لجان الجمعية العامة للأمم المتحدة) الحقائق الآتية:
أ - أن ما يقرب من مليون من الكفاءات العالية والتقنيات الفنية المؤهّلة علميّاً
هاجروا من دول العالم النامي إلى أمريكا وأوروبا خلال الفترة 1972م 1990م.
ب - أن 70% من الأطباء و 65% من المهندسين من البلاد الإسلامية
هاجروا إلى الخارج، وأن من بين كل مئة يبعثون للخارج على نفقة الدول العربية
لنيل درجات الماجستير والدكتوراة يبقى منهم 40% في الخارج ويهاجرون هجرة
نهائية، و 20% يهاجرون هجرة مؤقتة.
ج - بلغت هجرة الأطباء والمهندسين والعلماء العرب إلى الغرب حتى سنة
1976م ما نسبته: 50% من الأطباء، و 23% من المهندسين، و15% من
علماء الطبيعة.
د - أن ما بين 50% 70% من خريجي كليات الطب في (باكستان) يهاجرون
سنويّاً إلى الغرب خلال العقد الأخير، وفي المتوسط: يهاجر مئة عالم وفني وتقني
يوميّاً إلى الغرب.
هـ قدّر مكتب خدمات (الكونجرس) في أمريكا أنه في عامي 1971م 1972م
فقدت الدول الإسلامية نتيجة هجرة كفاءاتها العلمية استثمارات تقدر بـ (464)
مليون دولار، وتبدو خسارة الكفاءات أكثر مأساوية بالنسبة إلى بعض الدول النامية، حيث فقدت (بنجلاديش) 17% من المهندسين، وفي الثمانينيات: انتقل ثلث
الكفاءات العلمية من إفريقيا إلى أوروبا، وخسرت (غانا) وحدها 60% من أطبائها.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه المناطق تعاني أصلاً من نقص الكفاءات وسوء
الخدمات الصحية يَظهر بوضوح حجمُ مأساتها، فنصف سكان إفريقيا لا يحصلون
على خدمات صحية، وثلث سكانها لا يعرفون القراءة والكتابة، وحوالي ثلثي سكان
(بنجلاديش) من الأميين، في حين لا يوجد إلا ما نسبته طبيب واحد لكل 15 ألف
نسمة في (غانا) ، بينما يوجد في الدول المتقدمة طبيب لكل 460 نسمة [2] .
أنا لا أبحث هنا في أسباب الطرد من هنا والجذب من هناك، والاستبعاد من
هنا والاستقطاب من هناك، ولكن الاستنتاج الوحيد الذي يمكن الخروج به هو أن
السياسة التنموية المحبِطة التي تنتجها الدول الإسلامية هي الدافع الرئيس لهجرة
الكفاءات العلمية.
والأمرّ بعد هذا كله: أن كثيراً من أصحاب القرار في العالم الإسلامي
يفضلون حُثالات الغرب والشرق من غير المسلمين على الكفاءات الإسلامية
المتميزة، انطلاقاً من مركبات النقص العديدة تجاه أصحاب العيون الزرق بصفة
عامة، على الرّغم من أن الممارسة قد أثبتت أن هؤلاء لا يخرج كثير منهم عن
كونهم عملاء للاستخبارات الأجنبية أو للحملات التنصيرية، وكما أثبتت الأيام أن
أي مشروع نفذ بأيدٍ غير إسلامية هو فُرصة ضُيعت على أبناء الإسلام وإلى الأبد،
وكان من الأصلح أن يُنفّذ بأيدي أبنائها [3] .
هذا هو واقع الأمة العلمي والتقني على مشارف القرن الواحد والعشرين، فهل
إلى سبيل لإصلاح الواقع؟ .
فما واقعها الاقتصادي؟ :
إن الغالبية العظمى من سكان الدول الإسلامية اليوم (باستثناء الدول النفطية)
تعيش تحت الحد الأدنى للكفاف اللازم لصون كرامة الإنسان، وقد ذكرت في
مؤتمر الأمم المتحدة العالمي الذي انعقد في (كوبنهاجن) الأمور الآتية:
أ - عدد الفقراء في الدول النامية يبلغ 1. 3 مليار نسمة، أي: خمس سكان
الأرض تقريباً، 61% منهم في إفريقيا، و 31% من آسيا.
ب - أغنى عشر دول في العالم هي: (سويسرا) ودخل الفرد فيها 36.
410 دولار، ثم (لوكسمبرج) ، ثم (اليابان) ، ثم (الدنمارك) ، ف (النرويج) ،
ف (السويد) ، ف (أمريكا) ، ف (أيسلندا) ، ف (ألمانيا) ، وأخيراً: (الكويت) ،
ويبلغ دخل الفرد فيها 350، 23 دولاراً للفرد، والأخيرة هي المسلمة فقط.
ج - أفقر عشر دول في العالم هي: (موزمبيق) ، ودخل الفرد فيها 80
دولاراً فقط، ثم (تنزانيا) ، ف (إثيوبيا) ، ف (سيراليون) ، (نيبال) ، (فيتنام) ،
(بوروندي) ، (أوغندا) ، (رواندا) ، وأخيراً: (تشاد) ، ويبلغ دخل الفرد فيها:
200 دولار للفرد، وواضح أن ثلاثاً منها مسلمة، وهي: (تشاد) و (أوغندا)
و (تنزانيا) .
د - فيما يتعلق بالعالم العربي: فقد ذكر المصدر أن ثلث سكان العالم العربي
فقراء [4] .
ويمكن تقسيم العالم الإسلامي اليوم من حيث نصيب الفرد من الدخل إلى أربع شرائح:
1- دول ذات دخول منخفضة: لا تتعدى أربعمئة دولار للفرد في السنة، من
هذه الدول: (إريتريا) ، (أفغانستان) ، (بنجلاديش) ، (تنزانيا) ، (غينيا) ، ...
(موريتانيا) ، (الصومال) ، ... وغيرها.
2- دول ذات دخول متوسطة: تتراوح بين أربعمئة وثمانمئة دولار، أو يزيد
قليلاً، منها: (الجزائر) ، (تركيا) ، (مصر) ، (العراق) ، (المغرب) ، (تونس) ...
وغيرها.
3- دول ذات دخول فوق المتوسط: تصل إلى 3000 دولار، مثل (ماليزيا) .
4- دول ذات دخول مرتفعة: وتشمل دول الخليج النفطية، و (بروناي) .
ويرجع السبب الرئيس لهذا التباين الكبير في متوسط دخول هذه الشرائح إلى
عامل التجزئة، والكيانات المصطنعة التي رسمتْ حدودَها الراهنة القوى
الاستعمارية العالمية؛ لتبقى الأمة الإسلامية على هذه الصورة من التفتت الذي لا
يُمكّن أيّاً من دولها من القيام بذاته أو من تشكيل وحدة اجتماعية أو اقتصادية متكاملة
أو حتى شبه متكاملة.
وإمعاناً في هذا التفتيت: وظفت القوى الاستعمارية ولا تزال مبررات الفُرفة
بين هذه الكيانات من خلافات حدودية، وسياسية، وقبلية، وعرقية، وطائفية،
وفكرية.. وغيرها في الإبقاء على فرقتها، واشتعال الحروب الباردة والساخنة بينها
والعداوات الشخصية بين زعاماتها [5] .
وتأتي بعد هذا مشكلة الديون، وتفصيلها كالآتي:
إجمالي الديون المستحقة على الدول النامية المدينة (123 دولة) بلغت أكثر
من 1812 مليار دولار عام 1993م، منها 194 مليار دولار على الدول العربية،
وتقدر خدمة هذه الديون (الربا) بحوالي 18 مليار دولار سنويّاً، وهذه الديون تمثل
75% من إجمالي الناتج المحلي العربي.
وتبلغ ديون الدول الإسلامية عموماً بنحو 500 مليار دولار عام 1993م.
وعلى العموم: فإن مارد الربا يحصد ما تزرعه الدول النامية في صورة فوائد
للديون، فإذا ذهب 45% من الناتج القومي للمسلمين إلى الديون وفوائدها، وذهب
مثله تقريباً على السلاح والدفاع، فماذا بقي للتعليم والبحث العلمي والصحة والتنمية
الاجتماعية؟ .
على سبيل المثال: تبلغ ديون (باكستان) نحو 24 مليار دولار، ويذهب ثلث
الناتج القومي في مقابل الديون وفوائدها، ونحو 45% للدفاع والجيش، فماذا بقي
للتعليم والصحة والتنمية الاجتماعية؟ ، وهكذا حال بقية الدول الإسلامية التي تزيد
ديون بعضها على ديون باكستان، فمثلاً ديون تركيا تزيد على 51 مليار دولار،
وديون مصر تزيد على 40 مليار دولار، وديون الجزائر تزيد على 26 مليار
دولار.. وهكذا [6] .
مخاطر أخرى للديون:
وهذه الديون التي ندفع عليها فوائد عالية وتسبب الهم والغم للشعوب، هذه
الديون لا تزيدنا إلا فقراً وضعفاً، لأنها:
أولاً: تكون مشروطة بشروط مجحفة ظالمة تضر بهذه الشعوب واقتصادياتها.
ثانياً: أن 40% من عمليات الدعم المالي الغربي تذهب لصالح الخبراء
الأجانب في الدول الإسلامية مقابل بعض الدراسات التي لا جدوى لها، والتي تأتي
غالباً غير ملائمة لظروف واحتياجات الدول الإسلامية، وهو ما يعني أن الغرب
يأخذ بالشمال ما يعطيه باليمين تحت مسمى (مساعدات) ، من دون فائدة حقيقية.
ثالثاً: أن 85% من استثمارات ومساعدات البلدان الغربية للعالم الإسلامي في
مشروعات غير إنتاجية (استهلاكية خدمية) لا تخدم الاقتصاد المحلي، وليس لها
علاقة بتطوير الإمكانات الذاتية للإنتاج، من أمثلة ذلك: مشاريع الفنادق الضخمة،
والملاعب الرياضية الشاسعة، والملاهي ودور الأوبرا الفخمة، والبارات الكبيرة.. وغيرها من صور الترف والإفساد التي لا تحتاجها الدول الفقيرة في المراحل
الأولى من نموها على الأقل.
__________
(1) انظر: قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، للدكتور (زغلول النجار) ، ص122، وهو المرجع المهم لهذا البحث.
(2) انظر: مجلة (الدعوة) السعودية، 22/11/1413هـ.
(3) انظر: قضية التخلف العلمي، ص 116.
(4) الشرق الأوسط، ع/5941، الأحد 5/3/1995م.
(5) انظر: قضية التخلف العلمي، ص 116 117، بتصرف وزيادة.
(6) انظر: الشرق الأوسط، العدد السابق، الإثنين 23/1/1995م.(113/70)
حوار
حوار مع الشيخ /علي أكبر عبد العزيز سربازي
المتحدث الرسمي لجمعية الدفاع عن حقوق أهل السنة في إيران
مندوب المجلة
نظراً للتعتيم الذي ضرب على أهل السنة في إيران، وما يعانونه من
اضطهاد ومضايقات، فقد كانت فرصة سانحة للقاء مع الشيخ (علي أكبر عبد
العزيز سربازي) المتحدث باسم جمعية الدفاع عن حقوق أهل السنة والجماعة في
إيران والحوار معه، لإطلاع قراء على واقع إخواننا أهل السنة في إيران، في
حديث مفصل عن شؤونهم وشجونهم، وقد جاء الحوار على النحو التالي:
أ -من المعلوم تاريخيّاً أن بلاد فارس كانت في الأصل بلاداً للسنة بكافة
شعوبها، لكن الحكام الرافضة حولوا هذا الشعب بطريقتهم الخاصة إلى العقيدة
الرافضية، فما الأسباب التي حولت هذه الشعوب عن السنة؟ .
كما تعلمون أن إيران منذ أن دخلها الإسلام في عهد الخليفة الثاني (عمر بن
الخطاب) (رضي الله عنه) كانت تحت حكم أهل السنة والجماعة بكافة شعوبها حتى
(عام 907هـ) ولكن أعداء الإسلام يتآمرون على الإسلام والمسلمين في إيران،
وفي حين كانت الأمة الإسلامية مشغولة في الحروب الصليبية ضد أعداء الإسلام
اغتنموا هذه الفرصة وبحثوا عن شخص يبيع دينه فوجدوه في (أردبيل) ، ألا وهو
(صفي الدين الأردبيلي) مؤسس الدولة الصفوية التي قامت آنذاك بحرب شرسة ضد
الخلافة العثمانية بأنواع الكيد والمكر، وأضعفوا شوكة المسلمين بضرب المسلمين
من الوراء كما هى عادة المنافقين في صدر الإسلام، وفي داخل (إيران) بدؤوا
بتدمير وقتل وإبادة المسلمين (السنة) في جميع المدن الإيرانية الرئيسة، حتى إنهم
كانوا يقتلون الآلاف في اليوم الواحد، ثم ضيقوا الحياة على المسلمين السنة بشتى
الوسائل من المطاردة والقتل والتشريد، وبخاصة قتل العلماء والدعاة، مما أدى إلى
تشيع عدد كبير من السنة، وهروب عدد أكبر إلى المناطق الجبلية والحدودية وهي
أماكن تجمعهم الحالية، حصل كل هذا والعالم الإسلامي يغط في نوم عميق وغفلة
عن أحوال إخوانهم في إيران، حتى لم يبق منهم متمسكاً بالسنة سوى20% فقط من
عدد السكان.
- حدثونا عن واقع أهل السنة في إيران حالياً: مناطقهم، وعددهم؟
يعيش أهل السنة في إيران اليوم في حال من البؤس والشقاء وتحت مؤامرة
كبيرة محاطون بها، لذا: يخيم عليهم الظلم والجور والتشريد والإبادة الجماعية،
مما انعكس عليهم بالتخلف في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتخلف في فهم الدين أيضاً من جراء قتل العلماء والدعاة، والإهانة المتوالية
لمعتقداتهم ومضايقتهم في أعراضهم وشرفهم من قِبَل الحكومة الحالية وجلاديها
الحاقدين الظالمين.
ويعيش أهل السنة عموماً في المناطق الحدودية وعلى أطراف إيران،
ومعظم الشعب في مناطق السنة هم على عقيدة أهل السنة والجماعة، علماً بأن
استيطان الشيعة في مناطق السنة زاد بشكل رهيب بعد الثورة، حيث تحولت
المناطق التي كانت نسبتها 99% من السنة إلى 70% فقط، و80%، خاصة
(كردستان) الإيرانية، و (بلوشستان) ، و (هرمز تان) ، و (تركمن صحراء) ..
ويوجد عدد كبير من السنة في مناطق (خراسان) ، و (مازندران) ، و (طوالش) ،
والعاصمة (طهران) ، و (أذربيجان الشرقية) ، ومحافظة (كرمنشاه) ، ومحافظة
(باختران) .
ويوجد عدد غير قليل أيضاً في المدن الرئيسة، مثل: (شيراز) ، و (كرمان) ، و (مشهد) ، ويبلغ عدد أهل السنة من (15 20) مليوناً، علماً بأن الحكومة لا
تعطي إحصائية دقيقة لعددهم، اتباعاً لنهجها في تهميشهم ومضايقتهم ومحاولة
إذابتهم في شعوبها ذات العقيدة الرافضية.
ويشكل أهل السنة والجماعة في إيران حوالي ثلث سكانها، ويبلغ سكان إيران
خمسة وستين مليوناً، حسب إحصائيات الحكومة الأخيرة.
- ما هي حال أهل السنة قبل الثورة الإيرانية في عهد الشاه، وهل تحسن
وضعهم أم سار نحو الأسوأ؟
مع الأسف، كان أهل السنة في عهد الشاه أيضاً يعانون من الحرمان والفقر
وعدم اهتمام المسؤولين بأوضاعهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية،
وهذا بسبب نفوذ رموز الرافضة في حكومة الشاه، ولكن لم يكن هناك تعرض لأهل
السنة في عقيدتهم، وإبادة جماعية، أو تخريب المساجد، أو منع لبناء المدارس
الدينية، فقد كان المسلمون في حرية نسبية في الدين والتجارة والعمل، ولكن بعد
الثورة مع الأسف ومنذ دخول (الخميني) إلى إيران توالت أنواع من المشكلات
والمصائب على الشعب السني المسلم بعامة، وقد ألمحنا إلى شيء من ذلك.
- يعاني أهل السنة حالياً كما كتب بعض علمائهم ودعاتهم معاناة كثيرة، فما
هي مظاهر تلك المعاناة؟ ، وما الأسباب التي يُلجأ إليها للإيقاع بالمسلمين؟ .
معاناة الشعب السني المسلم تتمثل في الحرب الاعتقادية، والهجوم الثقافي ضد
أهل السنة بجميع إمكانات الدولة وقدراتها، ويفترض في دولة غنية مثل إيران
إتاحة التنمية لجميع شعوبها ما دامت تدعي الإسلام ونصرة المستضعفين، لكن
التضييق على السنة، ومحاربتهم في أرزاقهم، ومنعهم من الوظائف العليا ذات
الأهمية هو الوضع القائم الفعلي، فضلاً عن المضايقة لعقيدتهم، وذلك بنشر
وتوزيع كتب ضد معتقدات أهل السنة وما يدينون به، وتشكيك الناس بمعتقداتهم،
وتشويه التاريخ الإسلامي، وتحريف حقائق التاريخ، وإرسال مجموعات كبيرة من
دعاة الرافضة في مناطق أهل السنة لترغيبهم في عقائد الرافضة المنحرفة،
وتشجيعهم على ذلك بالأموال والمغريات، والاستفادة من الإذاعة والتلفزيون لنشر
عقائدهم وإعطاء صورة غير صحيحة عن معتقدات أهل السنة والجماعة، والإهانة
لأصحاب رسول الله، والإهانة لأمهات المؤمنين، خاصة (عائشة) ، و (حفصة)
(رضي الله عنهما) ، والسخرية بالشخصيات المسلمة السابقة، أمثال أئمة الحديث
والفقه بصورة خاصة.
ومعاناة السنة من الجهة السياسية واضحة، فلا يوجد أي شخص ممثل للسنة
في إيران، فهم لا يوظفون أهل السنة في المناصب الرئيسة في الوزارات والدوائر
المهمة بالدولة، وحتى المناصب غير المهمة لا تعطى بسهولة للسنة علماً بأن 80% من الموظفين في مناطق السنة هم من الروافض، ويحاولون بأقصى جهدهم
الوقوف أمام ترشيح مرشحي السنة في البرلمان، بحيث لا يقبلون المرشح من قِبَل
الناس، ويرشحون الرافضة غير المستوطنين في مناطق السنة، أو يأتون بمن باع
دينه مثل مرشح مدينة (إيرانشهر) السابق (نور محمد ربوشة) ، ومرشح (خراسان)
من (تربت جام) السيد (مجددي) ، وأمثال أولئك من الذين لا يرتاح لهم السنة؛
لأنهم صنائع معدة سلفاً.
أما اجتماعيّاً: فيُعامَل أهل السنة في (إيران) كأجانب مثل (الباكستاني، أو
الأفغاني) ، بحيث لا يكنون لأحدهم أي احترام ولا تقدير، بل هم مثار السخرية،
وبخاصة في المدن الكبرى، ولا يحس السني في (إيران) بأنه من أهل هذا البلد،
وتحاول الحكومة أن تجعل المواطن السني مواطناً من الدرجة الثانية بل الثالثة،
وتصرف على ذلك أموالاً طائلة.
أما اقتصاديّاً: فسياسة الحكومة الظالمة أن تسد جميع موارد الحياة في وجوه
أهل السنة، بحيث لا يسمح لهم بالعمل التجاري من الاستيراد والتصدير وفتح
المصانع والشركات، في حين تعطى للرافضة من مناطق أخرى مثل هذه
الامتيازات إضافة إلى التسهيلات الأخرى، أما المنتسب إلى السنّة: فيشجع على
التهريب وبيع المخدرات علناً من قبل الحرس الثوري والمنظمات الحكومية الأخرى ولكن إذا غيّر أحد من السنة دينه تعطى له مكافأة كبيرة، ويصدر الأمر بفتح
شركة، وممارسة الاستيراد من الدول المجاورة، ويرفع من شأنه، كما إنهم
يشجعون السنة ليتجسسوا لمصلحة الحكومة واغتيال العلماء والمخالفين لهم،
ويعطونهم مقابل ذلك الملايين.
- هل لأهل السنة مدارس خاصة بهم؟ أم إنهم يضطرون لإدخال أبنائهم
مدارس الرافضة، وبالتالي: يتعرضون لغسيل مخ بما يطرح في المنهج الحكومي
القائم على عقيدة القوم؟ .
لا يوجد لأهل السنة مدارس خاصة أبداً، ولا يستطيعون ذلك مهما بذلوا من
ثمن، ومن ثم: يضطر أهل السنة لإدخال أبنائهم مدارس الحكومة، وهناك يبدأ
غسيل مخ الطفل السني من قبل مدرسين مدربين على ذلك، تم بعثهم إلى المناطق
السنية خاصة، فتجد الطفل السني يحفظ جميع معتقدات الرافضة، فلا يعرف شيئاً
عن دينه إلا من رحم ربي.
- ما هي حال المدارس القرآنية المسموح بها؟ ، وما مدى إمكانية فتحها؟ ،
وهل يمكن للمتخرجين منها العمل في الوظائف والمشاركة في الحياة العامة
باعتبارهم مواطنين إيرانيين؟
منذ زمن الشاه أوجد أهل السنة مدارس قرآنية دينية، ولم تتعرض لها حكومة
الشاه، ولكن بعد الثورة بدأت الحكومة بوضع عراقيل متعددة أمام فتح مدارس
جديدة أو تنظيم المدارس القديمة، حيث يحاولون التدخل في شؤون هذه المدارس،
علماً بأن المدارس الدينية تبدأ من مرحلة تحفيظ القرآن والابتدائية إلى أن يتخرج
الطالب عالم دين ومتخصصاً في الشريعة، ولكن لا يعتبر هذا التعليم رسميّاً من قبل
الحكومة، بل يقبض على الطالب خلال دراسته ويرسل إلى التجنيد الإجباري، وقد
فتحت مكاتب من قبل الزعيم الروحي لإيران (سيد علي خامنئي) ؛ للسيطرة
والرقابة على مدارس ومساجد أهل السنة، وهدفها: الإرهاب، والتقليل من عطاء
أهل السنة، ثم التدخل في شؤون المدارس والمساجد، والإجبار على تسجيل هذه
المدارس والمساجد في الأوقاف الحكومية، ويحاول هذا المكتب التفريق بين الناس
والعلماء، وبين الناس وزعماء القبائل، وإيجاد حروب متعددة بين القبائل، ونصب
زعماء غير مؤهلين على القبائل من قِبَل مكتب (الخامنئي) عيوناً لهم.. وجدير
بالذكر أنهم اصطادوا عدداً غير قليل من علماء السنة؛ ليكونوا مستفيدين من مكانتهم
في هدم عقيدة أهل السنة والجماعة.
- لوحظ منذ سنوات وبعد الثورة استهداف العلماء والدعاة ورموز السنة
بالاغتيال، مَن أشهر العلماء الذين قتلوا؟ ، وبأي مبرر قتلوا؟
الحكومة القائمة لا تطيق أحداً يقف أمام زحفها لإبادة أهل السنة والجماعة في
إيران، وحينما يحاول أحد العلماء تثقيف أهل السنة أو الدفاع عن حقوقهم يتعرض
لأنواع التعذيب والقتل والسجن والمطاردة في الداخل والخارج، وأصدق شاهد على
ذلك: الشهداء فيما نحسبهم: العلامة (أحمد مفتي زادة) ، والأستاذ (ناصر سبحاني) ، والشيخ (محمد صلح ضيائي) ، والدكتور (مظفريان) ، والدكتور (أحمد ميرين
سياد) ، والشيخ (عبد الملك ملا زاده) ابن الشيخ (عبد العزيز سربازي) مفتي
(بلوشستان، وخراسان، وتركمن صحراء) وأحد نواب مجلس (جنرتان) ، والشهيد
(عبد الناصر جمشيد زاهي) ، والأخ (فاروق خرساد) ، والشيخ (ملا محمد ربيعي) ، والشيخ (عبد الحق جعفري) ، والشيخ (عبد الوهاب خراساني) ... وغيرهم ممن
لا يتسع المقام لذكرهم، حيث عانى هؤلاء أشد أنواع التعذيب من نتف الشعر،
وكسر الذراع والرقبة، وصب الأحماض على البدن، والضرب بالسياط، والإهانة
في الدين والعِرض، وصولاً إلى قتلهم برصاص الـ (كلاشينكوف) اغتيالاً وقتلاً
في الخارج والداخل.
- على ضوء معاناة المسلمين السنة في إيران وما يلاقونه من اضطهاد،
عزمتم على إنشاء جمعية للدفاع عن حقوق أهل السنة في إيران، هل لكم أن
تحدثونا عنها: دافع قيامها، مؤسسيها، ومصادر تمويلها؟ .
ما ذكرناه سابقاً من الدمار والقتل والإبادة لأهل السنة والجماعة في إيران
اضطر أهل العلم والفتوى والمخلصين من الشعب السني المسلم في الداخل والخارج
إلى التفكير في إنشاء (جمعية الدفاع عن حقوق أهل السنة في إيران) ؛ لكي تكون
محوراً أساساً لتجميع أهل السنة والجماعة، ومن ثم: العمل على محاولة نجاتهم من
مكر دعاة الرافضة بنشر الكتب والمجلات التي تشرح عقائد أهل السنة والجماعة،
وتحريك الإعلام العالمي لشرح معاناة أهل السنة وما يلاقونه من الإبادة والدمار من
قِبَل حكومة إيران الرافضية، وأسست هذه الجمعية خارج إيران، علماً بأنه غير
مسموح لأهل السنة إيجاد حركة أو جمعية داخل إيران، ومؤسسو هذه الجمعية من
العلماء المعروفين بزهدهم وتقواهم وتاريخهم الحافل بالجهاد والدفاع عن حقوق
السنة وشرف الصحابة ولا نزكيهم على الله
ومصادر التمويل ذاتية من بعض أهل السنة أنفسهم الموجودين خارج إيران،
وجدير بالذكر أننا نعاني من مشكلات اقتصادية شديدة تضعف مواصلة مسيرتنا،
ولا شك أن الطريق مليء بالأشواك والعراقيل من قِبَل حكومة الرافضة الحاقدة،
ولكننا عازمون على إيصال صوتنا للعالم، حتى يعرف العالم ما نعانيه من ظلم
واضطهاد.
- ما مدى تفاعل أهل السنة من الإيرانيين بإنشاء هذه الجمعية؟ .
يتفاءل كثير من أهل السنة الإيرانيين خيراً بإنشاء هذه الجمعية، ووصلتنا
مئات الاتصالات من الداخل والخارج تشجيعاً وتأييداً لذلك، غير أن أملهم الوحيد
بعد الله (سبحانه وتعالى) في إخوانهم المهاجرين الموجودين بالخارج، ومؤسسو هذه
الجمعية هم: السيد الشيخ (محيي الدين) ، عين رئيساً لهذه الجمعية، والشيخ
(حفظه الله) قضى مدة طويلة من حياته في سجون الرافضة، وعذب تعذيباً شديداً
يظهر في أنحاء جسده ويعرفه الشعب السني الإيراني تماماً.
والشيخ المجاهد (نظر محمد) أميناً عامّاً للجمعية، والشيخ (حفظه الله) كان
عضواً في المجلس الإيراني الأول بعد الثورة لفترة أربع سنوات، وكانت له مواقف
شجاعة في الدفاع عن شعبه المظلوم؛ ولهذا السبب بعد الانتهاء من الدورة الأولى
للمجلس لم يرشح للمرة الثانية، ورُفض من قِبَل الحكومة، وسجن لفترة ثلاث
سنوات صاحبها أنواع من الإهانات والتعذيب في سجن (إيفين) بـ (طهران)
العاصمة.
- يوجد مستشار لدى رئيس دولة إيران (رفسنجاني) لشؤون أهل السنة، ما
رأيكم في هذا المستشار؟ ، وهل استفاد أهل السنة عن طريق هذا الرجل؟ ، وما
تقويمكم لدوره؟ .
نعم يوجد مستشار سني لدى الرئيس الإيراني، وهذا يشكل أسلوب خداع
للعالم الإسلامي بدعوى أن حقوق أهل السنة في إيران مكفولة، علماً بأن هذا
المستشار إنسان لا يملك أي نفوذ، واختيار الحكومة له مقصود، وهو ألعوبه لدى
الرافضة يلعبون به كما يريدون، ويذهبون به إلى شتى دول العالم ليعلن أن أهل
السنة بألف خير في إيران، والحقيقة عكس ذلك تماماً.
لو كانت الحكومة صادقة في ادعائها بأن إيران دولة إسلامية لا تفرق بين
المسلمين لعينت وزراء أو وكلاء من أهل السنة أو بعض المسؤولين في مناطقهم،
علماً بأن من أهل السنة مَنْ لديهم الكفاءة والعلم، ولكن الأمر يؤكد عدم اعتبارهم
مواطنين، فكيف يوضعون مسؤولين؟ .
- هل هناك حركات ومناهج عاملة في إطار المسلمين السنة، وما مدى
التنسيق بينهم؟ ، وما مدى التقارب الفكري والعقدي والمنهجي أيضاً؟ .
لا يوجد حركات أخرى حالياً، الحركات السابقة مثل المجلس الأعلى لأهل
السنة في إيران، ومنظمة مجاهدي أهل سنة إيران، وغيرهما من المنظمات غير
المعروفة انضمت إلى هذه الجمعية، واتفقوا على أن يعملوا باسم (جمعية الدفاع عن
حقوق أهل السنة في إيران) .
- ما هو المطلوب تقديمه فيما ترون من المسلمين أفراداً وهيئات للمسلمين
السنة في إيران؟ .
المطلوب من المسلمين دعم قضيتنا ماديّاً ومعنويّاً؛ لأنها تتعلق بالعقيدة،
ونحن إن كنا لا نرتبط نسباً فإننا نرتبط في العقيدة [إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: 92] .
ولو غفل المسلمون عن قضية إخوانهم أهل السنة والجماعة في إيران
فسيكون هذا ذنب عظيم، وعليهم حينئذ أن ينتظروا سقوط السنة كما سقطت
فلسطين، وكما سقطت الأندلس وغيرها من البلدان، نسأل الله السلامة والعافية.
- ما هي منهجية ومخططات الرافضة في الغزو الفكري للسنة؟ .
هدفهم الوحيد: إبادة أهل السنة تماماً، وتشويه تاريخهم، والسيطرة على
الأماكن المقدسة وزعامة العالم الإسلامي، بزعم إرجاع الخلافة إلى أهل البيت،
وإذا أمعنتم النظر في العالم الإسلامي ترون الرافضة يتحركون حركة دائبة بشتى
أنواع الأساليب، من فتح المدارس، وبذل الأموال لتغيير مذاهب أهل السنة،
ونشر كتبهم، وأخذ الأولاد إلى إيران لتدريسهم في قم وغيرها مذهب الشيعة..
وهذا معروف للجميع.
- ما هي توقعاتكم للمرحلة المقبلة؟ .
نتوقع خيراً إن شاء الله بوقوف فعاليات العالم الإسلامي بأكمله معنا، وسنعمل
جاهدين بإذنه (تعالى) على وقف الزحف الشيعي ومخططاته تجاه المسلمين السنة،
وليعلم المسلمون في العالم من العلماء والدعاة والمفكرين حقيقة الرافضة ولا يغترون
بدعاويهم للتقارب مع أهل السنة، وكيف إنهم يزعمون كذباً بواسطة عقيدتهم في
(التقية) أنهم أنصار الوحدة وأنصار المستضعفين، وهم أعداء العقيدة وأعداء أهل
السنة في إيران، في بلادهم، وكيف أنهم يهدمون مساجد أهل السنة ولا يطيقون لها
وجوداً، ولا يسمحون ببنائها، وندعو أدعياء الموضوعية الذين يزعمون أن خلافنا
معهم في الفروع إلى معرفة معاناتنا هناك في بلدنا ومناطقنا؛ ليعلموا أنهم صبوا
علينا من العذاب والاضطهاد ما لم يصب على اليهود والنصارى الذين مكنوهم من
بناء معابدهم بينما يهدمون مساجدنا جهاراً نهاراً بدعاوى مكشوفة، كبناء حديقة أو
فتح شارع، والحقيقة: أنهم لا يطيقون للسنة وجوداً، لكن هل يعي إخواننا ذلك؟.. هذا ما نرجوه وندعو له، والله المستعان،،،(113/78)
المسلمون والعالم
لا ... لن تضيع القدس!
عبد العزيز كامل
درجت بعض الأوساط العلمانية مؤخراً على تكرار القول بأن القدس قد
ضاعت وانتهى أمرها كما انتهى أمر الأندلس من قبل، وذلك بعد أن تكشفت أبعاد
الخطوة الأخيرة في إقرار بناء مستوطنة يهودية في جبل (أبو غنيم) قرب القدس
الشرقية، وتناست هذه الأوساط أنها على مدى عقود طويلة خلت كانت تنفخ في
بوق الدعاية الكاذبة التي كانت تتاجر بقضية القدس تحت مسميات مختلفة؛ كانت
الأمة خلالها تخدّر بالوعود الوهمية من قبيل: إلقاء إسرائيل في البحر،.. أو
حرق نصف إسرائيل، و ... تحرير كل شبر من الأرض العربية، أو ... تحرير
كل بوصة وكل حبة رمل، أو النضال حتى آخر قطرة في الدم العربي.. إلى آخر
هذه الجعجعات التي كنا نسمعها ولا نرى معها طحناً! .
والآن ... وقد بات (المناضلون) يعترفون بأن لا سبيل لتحرير القدس إلا في
عالم الخيال والمثال.. من حقنا أن نقول لهؤلاء: لِمَ إذن زيفتم الحقائق طيلة هذه
العقود؟ .. لِمَ تصدرتم في واجهة الصراع ولستم أهلاً له..؟ ! ، لماذا حُلتم بين
الشعوب وأداء واجبها في جهاد عدو لا خلاف على وجوب جهاده..؟ ، لماذا
أقصيتم عن سبق إصرار وتعمد رفع الراية الإسلامية في إدارة الصراع، ورفعتم
بدلاً منها الرايات العلمانية العُميِّة في تلك المعركة العقدية أصلاً؟ .
الآن وقد بدا للعيان أن العلمانية العربية فشلت في الحرب، وفشلت في السلام.. آن الأوان لأن نقول لهم: كفى! ... كفى ضياعاً، كفى تنازلاً.. كفى تخاذلاً،
اتركوا الساحة للرجال، أو للأطفال، أو ... للحجارة! ! .
تلك الحجارة التي أوقفتموها بعد أن خدعتموها بـ (مدريد) ، و (أوسلو) ،
و (واشنطن) .. إن استدعاء حقائق التاريخ القريب، لتبين لنا بوضوح أن هناك
جريمة كاملة اقترفت بإبعاد الإسلام عن المعركة، ولكننا لا زلنا مصرين نحن
العرب على أن تَصْدُق فينا كلمة (ديان) الهالك: (العرب لا يقرؤون ... وإذا قرؤوا
لا يفهمون ... وإذا فهموا لا يعملون! !) ، ولا نستطيع أن نعقب على مقالته إلا
بتلك الكلمة النبوية المأثورة: (صدقك.. وهو كذوب) ! ، فقد صدق وصفه،
فالعرب دائماً بغير الإسلام لا شيء، فالإسلام وحده هو الذي يربيهم، ويزكيهم،
ويقويهم، ويزرع فيهم العزة والمسؤولية، وصدق عمر (رضي الله عنه) : (لقد كنا
أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله) .
لقد ابتغى العرب العزة في عصورهم المتأخرة بغير هذا الدين، ابتغوها في
القوميات ... وفي الوطنيات ... وفي الانتماءات البائدة والفاسدة.. فماذا كانت
النتيجة؟ .. إنها (الذل) .. ولا توجد كلمة أبلغ من هذه الكلمة، (ومهما ابتغينا العزة
بغيره أذلنا الله) ، والقدس التي يبشروننا بضياعها ويرِّوضون المشاعر والأسماع
على نغمة اليأس من رجوعها، هذه المدينة المقدسة، اختزَلَت تاريخاً من الذل
العربي في ظل الرايات غير الإسلامية، وإذا كانت قضية فلسطين هي القضية
المحورية والمركزية للعرب والمسلمين في الزمن المعاصر، فإن قضية القدس هي
محور هذه القضية ومركزها، فهي مركز المركز ومحور المحور، وما هذا إلا لأن
تلك المدينة هي ثالث أقدس أرض بعد الحرمين الشريفين، ولقد استمدت قداستها من
وجود أرض المسجد الأقصى فيها، ذلك المسجد الذي بارك الله حوله.
ولكي نتذكر كيف اختُصر الصراع في مدينة القدس.. لنسترجع من ذاكرة
التاريخ أبرز المحطات على طريق التضييع، حيث كان الأعداء دائماً يمثلون
(الفعل) ونمثل نحن ردود الأفعال أو الأقوال، العشوائية والارتجالية والحماسية
الخطابية.
- ففي 29 نوفمبر 1947م، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وكان
أساسه إنشاء دولتين: دولة عربية، ودولة يهودية، ضمن حدود جغرافية معينة،
وشمل القرار جزءاً يتضمن أحكاماً خاصة بمدينة القدس، حيث جُعلت تحت نظام
دولي خاص لمدة عشر سنوات، تسند إدارتها خلالها إلى مجلس وصاية تابع للأمم
المتحدة، يرأسه حاكم غير عربي وغير يهودي، فهو حاكم من قبل الأمم المتحدة،
ويعاونه جهاز من الإداريين التابعين للأمم المتحدة أيضاً، ولكن العرب رفضوا قرار
التقسيم، وكانوا على حق في ذلك الرفض، ولكنهم لم يعدوا للبديل الصحيح، وهو
الاستعداد لمنازلة فاصلة لإخراج عصابات اليهود.
- في 15 مايو عام 1948م، استغل اليهود رفض العرب لقرار التقسيم،
وأعلنوا من جانب واحد قيام الدولة اليهودية (إسرائيل) على القسم الذي فرضته الأمم
المتحدة لهم، ودخلت الجيوش العربية حرباً لم تستعد لها ضد (إسرائيل) ، وانتهت
الحرب بهزيمة تلك الجيوش العربية! .
- في مطلع عام 1949م، تقدمت الدولة اليهودية بطلب عضوية الأمم
المتحدة، فوعدت بالقبول على شرط أن تقر بالوضع الخاص للقدس من حيث
تقسيمها بين العرب واليهود في الشؤون البلدية، ومع إبقائها في وضع التدويل
سياسيّاً، وبادرت (إسرائيل) بتقديم هذا التعهد، وبموجبه قُبلت في الأمم المتحدة.
- في 4 مارس 1949م، صدر القرار بقبولها عضواً بالأمم المتحدة، ولم
تلبث دولة اليهود بعد قبولها أن أعلنت رفضها توحيد القدس تحت قيادة دولية، ولم
تكتف بهذا الرفض نظريّاً، بل سارعت عمليّاً إلى فرض أمر واقع جديد، فنقلت
بعض مصالحها الرسمية إلى المدينة نفسها.
- في 23 يناير 1950م، أعلنت إسرائيل القدس الغربية عاصمة لها.
- في 5 يونيو 1967م، اجتاح الجيش الإسرائيلي الشق العربي من مدينة
القدس، في الحرب التي هزمت فيها الجيوش العربية مرة أخرى، والتي احتل
اليهود فيها أيضاً أجزاءً كبيرة من (مصر) ، و (سورية) ، و (الأردن) ، وظل
المجتمع الدولي ينظر إلى القدس الشرقية على أنها أرض عربية محتلة، بينما كان
اليهود ينظرون إليها على أنها أرض إسرائيلية محررة، واستولى اليهود في العام
نفسه على 40% من الأراضي في القدس، وأقاموا عليها مستعمرات ومستوطنات
يهودية.
- وفي 1979م، أعلن (مناحم بيجن) أن القدس الموحدة (شرقية وغربية)
هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، ووصل عدد اليهود في القدس الشرقية إلى 19
ألف يهودي.
- في عام 1990م، تمت مصادرة عدة آلاف من (الدونمات) ؛ لتوسيع
الأحياء القديمة لصالح اليهود، وبنوا فيها مطاراً دوليّاً.
- في آخر عام 1992م، بلغ مجموع سكان القدس 555 ألف نسمة، منهم
155ألف نسمة من الفلسطينيين، و400 ألف يهودي، ولا يحصل الفلسطينيون إلا
على 5% من موازنة بلدية القدس.
- في 13 سبتمبر 1993م، اتفقت (إسرائيل) مع منظمة التحرير الفلسطينية
فيما سُمِّي بـ (إعلان المبادئ) على تأجيل بحث موضوع القدس إلى ما بعد عامين!.
- في 26 ديسمبر 1994م، أقر الكنيست الإسرائيلي قانوناً يمنع السلطة
الفلسطينية من مزاولة نشاطها من داخل القدس.
- في مايو 1995م، أمرت السلطات الإسرائيلية بإخلاء عدد من المؤسسات
الفلسطينية الموجودة في القدس، وفي هذا العام استولى اليهود على 4400 دونم،
بهدف دعم الاستيطان، وتولى (نتنياهو (بنفسه قبل انتخابه رئيساً للوزراء الإشراف
على تنفيذ هذا الاستيطان.
- وبنهاية عام 1995م، لم يبق للفلسطينيين في القدس إلا 21% من الأرض، هي في أغلبيتها مناطق جبلية وعرة، لا يصلح للسكن منها إلا نحو 4% فقط،
واتخذت الدولة اليهودية في تلك الأثناء أربعة قرارات مهمة تتجه نحو إتمام تهويد
القدس (العربية الشرقية) ، وهذه القرارات هي:
1- تحويل الإدارة البلدية للمدينة من إدارة عربية فلسطينية إلى إدارة يهودية.
2- تحويل النظام القضائي من نظام شرعي إسلامي إلى نظام يهودي.
3- تحويل اللوائح والإجراءات والقوانين في المدينة إلى الطابع اليهودي.
4- تغيير أسماء الشوارع والطرق والساحات العربية، واستبدالها بأسماء
يهودية صهيونية.
- في عام 1996م، جاء موعد بحث موضوع القدس في المفاوضات المؤجلة، وكانت إسرائيل قد أسرعت قبلها في تغيير وضع القدس، حتى قال أحد
المسؤولين الإسرائيليين: (الآن.. يستحيل على عرفات أن يزعم أن القدس الشرقية
عاصمته.. إن تقسيم المدينة من جديد سيعد أمراً مستحيلاً) وأصدر (نتنياهو) 23
قراراً استيطانيّاً جديداً خلال أشهر قليلة من عمر حكومته.
- في سنة 1997م، وبعد أن كاد ابتلاع القدس (الشرقية العربية) يكتمل،
بدأت (إسرائيل) في الاستيلاء على مناطق أخرى محيطة بالقدس الشرقية، فجاء
قرار الاستيطان اليهودي في منطقة جبل (أبو غنيم) ، بحيث تشرف على الطريق
الذي يصل بين القدس الشرقية ومدينة بيت لحم، وكانت قد تمت مصادرة الأراضي
في تلك المنطقة عام 1991م، ومستوطنة (أبو غنيم) يمكن أن تتسع لنحو 25 ألف
مستوطن يهودي، فهي حي كامل وليست مجرد مستوطنة صغيرة، ولهذا: فإن هذه
المستوطنة الكبيرة من شأنها أن تؤكد التفوق السكاني لصالح اليهود في القدس
الشرقية.
هم يبنون، ونحن نشجب:
ومن يوم الإعلان عن بدء العمل في إنشاء مستوطنة (أبو غنيم) ، ومشاعر
السخط والاحتجاج والتبرم العربي تحدث دويّاً عالميّاً، ولكن بلا صدى، فهي
كمفرقعات المناسبات لا تخيف أحداً، ولا تغير واقعاً.. وهذا بالتالي يشجع اليهود
أن يتَحَدّوا مَن أمامهم ويسخروا منهم، فالساحة حولهم خاوية، إلا من أطفال عادوا
إلى حمل الأحجار، وهم ممنوعون من حمل السلاح مهما بلغ الأمر! .
قال (نتنياهو (وهو يخاطب جمعاً من أنصاره: (أشعر أنني قوي جدّاً، وكما
تعلمون فإن لي خصلة، هي أنني أحب التحديات، ولكن الأهم: أحب النصر فيها.. وسوف ننتصر ... ! !) .
هل تضيع القدس؟ :
نعود فنقول: هل حقّاً ضاعت القدس بلا رجعة كما يروج العلمانيون العرب؟!. نقول: لا.. لن يستمر ضياعها، فرغم كل مظاهر القتامة والعتامة التي توحي
بها مشاهد الحاضر المهزوم والمستقبل الغامض المأزوم، ورغم تكدس معالم الفشل
العربي سياسيّاً وعسكريّاً وعقائديّاً وقانونيّاً في ظل العلمانية المتسلطة المنهزمة..
رغم كل هذا: فإننا نرى من وراء ذلك فتحاً قريباً، توهجت أنواره، لتكشف عن
رايات أمل تخفق في سماء مدينة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) .
ليس هذا تحدثاً من منطق السياسة القاصرة، ولا من منطلق خرافة ذاهلة،
ولا هو من معطيات الواقع المرير، ولكنها روح من الأمل الدافع للعمل، الذي
تغرسه فينا أهل الإسلام حقائق الوحي، وهدايات النبوة الخاتمة.
نعم: لن تضيع القدس؛ لأن الله الذي كرمها بسكن الأنبياء (عليهم الصلاة
والسلام) ، لن يديمها سكناً لقتلة الأنبياء، والأرض التي كان لها شأنها وقداستها في
الزمان الأول، سيظل لها الشأن والقداسة في الزمان الآخر؛ لأن قدسية المكان لا
تؤثر فيها صروف الزمان، بل قد عَلِمْنا من إخبار نبينا أن هذه الأرض بيت
المقدس سوف تكون موئلاً لأهل الإيمان كلما تقارب الزمان.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب
احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى
الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) [1] .
ولكن في أي بقاع الشام؟ ، يقول (عليه الصلاة والسلام) : (لا تزال عصابة
من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما
حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق، إلى أن تقوم الساعة) [2] .
فلسطين أرض الملحمة:
هناك سيكون الجهاد الحقيقي، وهناك ستنزل الخلافة.. نعم الخلافة؛ فعن
أبي حوالة الأزدي (رضي الله عنه) قال: وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يده على رأسي أو قال: على هامتي ثم قال: (يا ابن حواله: إذا رأيت الخلافة قد
نزلت الأرض المقدسة، فقد دنت الزلازل، والبلايا، والأمور العظام) [3] .
فأرض بيت المقدس رغم كل ما نرى سوف تكون بؤرة الأحداث العالمية
القادمة، ومنطلقاً لكتائب أهل الإيمان فيما يستقبل من الزمان، ولا ينبغي أن
يستغرب أهل الإسلام انبعاث شرارة الأمل من تلك الأرض التي كانت في غالب
عمر الدنيا قبل الإسلام أرضاً للتوحيد والإيمان، ثم كانت بعد البعثة النبوية معقلاً
للقوة ومعقداً للعزة تحت راية القرآن.
وإذا كانت مكة هي مهبط الوحي ومهد الرسالة في عمر الإسلام في الزمن
الأول، فإن بيت المقدس هو حصن الإيمان وقلعته في الزمن الآخر.
يقول (ابن تيمية) (رحمه الله) : (وقد دل الكتاب والسنة وما رُوي عن الأنبياء
(عليهم الصلاة والسلام) ، مع ما عُلم بالحس والعقل، أن الخلق والأمر ابتداءً من
مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها
الأرض، وهي التي جعلها الله قياماً للناس، إليها يصلون ويحجون، ويقوم بها ما
شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم، فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز
أعظم، ودلت الدلائل المذكورة أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها، فإلى بيت
المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر
الزمان يكون أظهر بالشام، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خير
من آخرها، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام كما أسرى بالنبي -صلى
الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) [4] .
وهذه الفضائل ليست متعلقة بآخر الزمان فقط، بل إن مناقب بيت المقدس وما
حوله من أرض الشام كانت تدفع على مر الزمان في تاريخ الإسلام إلى الانطلاق
من تلك الأرض لإقامة الدين وإحياء الجهاد.
يقول (ابن تيمية) (رحمه الله) أيضاً: (ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة
وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيض المسلمين على غزو التتار،
وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي العسكر
المصري إلى الشام، وتثبيت الشامي فيه) [5] .
فإذا كانت أرض بيت المقدس وما حوله هي الصخرة التي تحطمت عندها
أكبر التحديات في الماضي (في تبوك، واليرموك، وحطين، وعين جالوت) .
فإن الطغيان اليهودي اليوم لن يكون إلا حلقة في تلك السلسلة الخبيثة، التي لا
تفصم عراها إلا بالدين والعقيدة والتوحيد ... ولن يفل الحديد إلا الحديد.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] .
__________
(1) رواه أحمد (11/88) ، ح/6871، وقال أحمد شاكر: صحيح الإسناد، ورواه الطيالسي بنحوه (2293) .
(2) رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، انظر: مجمع الزوائد، 10/63، 64.
(3) رواه أحمد في المسند، 5/288، وأبو داود، 3/41 (9) كتاب الجهاد (37) ، ح/2535، ورواه الحاكم في المستدرك، 4/425، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج27، ص 43 44.
(5) مجموع الفتاوى، ج 27، ص 505.(113/88)
المسلمون والعالم
بعض الأضواء
على الأحداث الأخيرة في ألبانيا
بقلم:عبد الله الألباني
كي نفهم الأحداث الجارية في ألبانيا، فسنعود إلى الوراء فترة ليست بعيدة؛
فالتطور الأخير في ألبانيا ارتبط بعاملين مهمين جدّاً في الحياة السياسية الاقتصادية
والاجتماعية، هما:
العامل الأول: الأزمة السياسية الناجمة عن الانتخابات البرلمانية التي أثارت
جدلاً واسعاً، والتي جرت في 26/5/1996م، ولم تعترف الأحزاب المعارضة
بنتائجها، مما ترتب عليه: انسحابهم من البرلمان، الأمر الذي تسبب في أزمة
سياسية حقيقية، وصلت إلى مسامع الدول الأوروبية، وأقرت بها فيما بعد، بعدما
انتهت من بحثها ومناقشتها مع المتخصصين على أعلى المستويات السياسية.. أما
أمريكا: فقد اكتفت بمجموعة توصيات، منها: النظر في إجراء انتخابات مبكرة،
وهذه العملية أثارت الرأي العام، وكانت بمثابة نقطة سوداء في ثوب ديمقراطيتهم،
وتجاهلاً لحقوق الإنسان، وحتى للتعبير عن حرية رأيه في اختيار من يقوده..
وتركت هذه العملية أثاراً سلبية على شعب ألبانيا حيال المجتمع الأوروبي، وحتى
الأمريكي، وحيال ديمقراطيته المزيفة.
العامل الثاني: الشركات الربوية وتأثيرها على حياة البلد، [يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] [البقرة: 276] ، وللأسف الشديد: لم يسلم من هذه الفتنة
فتنة الكسب من الربا سوى قليل ممن رحم ربي، حتى الذين لا يملكون شيئاً
اقترضوا من أخرين لوضع المال في الشركات وأخذ فائدة ربوية! ، ففي الأعوام
الأربعة الأخيرة في ألبانيا تفاقمت ظاهرة الشركات الربوية، فبعض هذه الشركات
رفعت نسب الأرباح الربوية لتجذب أعلى نسبة من المودعين، وبالتالي: رؤوس
الأموال، وحسب بعض الإحصائيات فإن هذه الأموال بلغت قريباً من 5، 1 مليار
دولار، وكانت شركات مثل: (سوديا جافيري) ، (بوبولي) تعطي فائدة ربوية على
الأموال المودعة بدون مشروعات تغطيها، بينما شركات أخرى مثل (فيفا) ،
(كامبيري) ، (جاليتسا) ، (سيلفا) .. وغيرها، كانت لديها بعض المشروعات التي
يمكن أن تستخدم فقط في الدعايات، بل إن معظم هذه المشروعات كان يدور حول
إنتاج الخمور والسجائر.
ومن جهة أخرى: فهذه الشركات كانت تدير أموالها بدون توفر ضمانات
بنكية من أحد البنوك الحكومية.
ومن المعلوم حسب بعض الإحصائيات أن ظاهرة الشركات الربوية جذبت
أكثر من ثلث الشعب الألباني، وكان أكثر هؤلاء المودعين في مدينة (فلورا) ، وقد
تراوحت نسب الفوائد الربوية الموزعة على المودعين من 8 10% شهريّاً للشركات
العادية، وقد وصلت إلى 30% 50% في شركات (سوديا، وجافيري، وبوبولي) ، مما أثار الدهشة في كافة الأوساط المحلية والعالمية، لا سيما في النصف الأخير
من العام المنقضي (1996م) .
من ناحية أخرى: فقد حاول السياسيون ورجال الدولة إيجاد حلول لتقليل
خطورة هذه الظاهرة، واضعين في الاعتبار ثقة الناس في بعض هذه الشركات،
والتي اعتبرت الحكومة أنه ليس من واجبها كشف نظافة هذه الأموال أم لا، وقد
سبق لقوى المعارضة أن حاولت إظهار خطورة هذا الأمر، ولكن ليس بالشكل
القوي المطلوب، ولطالما حمّلت الحكومةَ مسؤولية مراقبة هذه الشركات، وظل
الوضع هكذا حتى زار ألبانيا وفد من (FBI) ، وحذر من تفاقم هذه الأزمة ومن
جراء ارتفاع نسب الفائدة بدون ضوابط اقتصادية تحكمها، وقد أثبتوا هذه المخاوف
في تداولاتهم مع الحكومة، الأمر الذي لا يستطيع أن ينكره أحد.
وفي تطور أخير للمشكلة قامت الحكومة بالتحذير من تفاقم هذه الأزمة، كما
أتى التحذير من مؤسسات أخرى أجنبية محلية ودولية، وقد ألغيت زيارة كان من
المزمع أن يقوم بها رئيس الوزراء الألباني السابق إلى إيطاليا بسبب رفض الحكومة
الألبانية تبرير موقفها تجاه الشركات الربوية لنظيرتها الإيطالية.
ورغم كل هذه المخاوف وهذه القلاقل إلا إن الشعب ما تقاعس عن المزيد من
الإيداعات، وكان عدد المودعين يزيد يوماً بعد يوم وحتى بعد ظهور علامات
للسرقة، حيث حاول أحد أصحاب هذه الشركات الهرب ومعه 13. 5 مليون دولار.
في منتصف نوفمبر 1996م ظهرت أول علامة من علامات إفلاس واحدة من
أقدم هذه الشركات بعد أربع سنوات من التعامل مع الشعب، وهي شركة (سوديا) ،
بعد أن نمى في حس الشعب أن هذه الشركات مدعومة من الحكومة، وأنها لا يمكن
أن تنتهي في يوم واحد، بل سيكتب لها الاستمرار، ولكن إفلاس (سوديا) وإعلان
الحكومة عن عدم ثقتها في هذه الشركات أوجد عند الشعب كبتاً نفسيّاً واجتماعيّاً،
مما عبر عنه بعض الناس بقليل من الاشتباك مع قوات الشرطة في العاصمة
(تيرانا) ، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحكومة في التفكير الجدي للتقييم الموضوعي
للأمور ومحاولة الوصول للطريقة المثلى لحل هذه الأزمة وعلاجها قبل أن تصير
طامة على الشعب، ومن هذا المنطلق قام البرلمان بتشكيل لجنة مختصة لمراقبة
أنشطة هذه الشركات الربوية، أما الصحف المحلية، فقد ذكرت جانباً من التكهنات
بشأن هذه الأرباح الخيالية، فمنهم من قال إنها عملية غسيل للأموال، ومنهم من
قال إنها عملية تهريب مخدرات وأسلحة.. وغير ذلك من التكهنات.
وبدأت المخاوف التي أثارتها الجهات المختلفة تجاه هذه الشركات بالظهور،
حيث بدأت بعض الشركات بتحديد تعاملاتها على أساس أنها ستعطي النسب المئوية
فقط دون إعطاء رأس المال حيث كان المتبع أن تعطي الشركة الفائدة مع رأس
المال في الوقت نفسه، وتدع الحرية لإعادة الإيداع للناس، ومنهم من خفض النسبة
التي كان يعطيها.
ورغم الغموض الذي كان يحيط بعمل اللجنة التي شكلها البرلمان وتلك التي
شكلتها الحكومة لمتابعة عمل هذه الشركات إلا إنهم فاجؤوا الشعب بنتيجة المراقبة،
وهي أن هذه الشركات مؤسسة على شكل تراكمي هرمي، وأن الشركات التي لديها
بعض المشروعات لا يتناسب حجم مشروعاتها مع الإيداعات، أي: إنها هي
الأخرى مؤسسة على شكل تراكمي هرمي.
ثم تلت هذه المرحلة أن وضعت الحكومة يدها على الأموال التي تخص
شركتي (بوبولي) ، و (جافيري) في البنك الحكومي وتقدر بحوالي 270 مليون
دولار، وحملت على عاتقها مهمة إعادة هذه الأموال إلى المودعين، وفي الوقت
ذاته: أصدرت الحكومة قراراً بحظر نشاط هذه الشركات، وفوراً تم القبض على
رؤسائها، الذين صرحوا بدورهم بأنهم قادرين على رد أموال المودعين إذا تركتهم
الحكومة، وقد نشرت الصحف هذه التصريحات، في حين أن الحكومة صرحت
بأنها سترد فقط 52% 60% من أموال المودعين، حيث إن هذا هو الرقم المتاح
الذي بحوزتها من أرصدة هذه الشركات، مما دفع الناس بإلقاء اللوم على الحكومة
لفقدان مدخراتهم وأموالهم.
وفي مدن (لوشيليا) ، و (فيري) ، و (بيرات) دوى صراع محتدم بين قوات
الشرطة والأهالي، وسبب هذا الصراع إقامة الحواجز في الشوارع، فبدأت النيران
تشتعل في المكاتب المحلية وأقسام الشرطة والبلديات والمحاكم ومكاتب الحزب
الديمقراطي الحاكم في تلك المدن، واتخذت الحكومة التدابير اللازمة للسيطرة على
الموقف، وسمحت لقوات الجيش بحراسة المنشآت المهمة، وفي هذه الأثناء:
انطلقت شرارة جديدة زادت الموقف التهاباً، فقد أثار خبر إفلاس شركة (جاليتسا)
الشركة التي أكثر مودعيها من مدينتي (فيري) ، و (فلورا) الجماهير الغاضبة،
والذي أثار المودعين أكثر: أنه وحسب التقارير تم تقدير مشروعات هذه الشركة
بما مجموعه 26 مليون دولار، في الوقت الذي بلغت فيه أموال المودعين قرابة
350 مليون دولار، ومن هنا، واعتماداً على مجموعة استقراءات، منها: أن هذه
الشركة ساندت الحزب الديمقراطي والحكومة في الدعاية الانتخابية الأخيرة، ومن
جهة أخرى: كانت الحكومة توليها اهتماماً واضحاً، فبناءً على هذين الأمرين،
استيقن الشعب أن هناك صلة وثيقة بين الحكومة وهذه الشركات المشبوهة، ومن
هنا: ظهرت تطلعات أحزاب المعارضة بضرورة الاتجاه إلى الحلول السياسية،
مستغلة في ذلك الوقتَ الذي آلت إليه الظروف الأخيرة ونقمة الشارع على الحكومة، وفي لحظة تاريخية لم يسبق لها مثيل: اجتمعت كل قوى المعارضة على هدف
واحد، وتشكلت لجنة ديمقراطية من كافة الأحزاب المعارضة (يمينية، ووسط،
ويسارية) ، وكذلك من بعض السياسيين القدامى، وبدأت هذه اللجنة عقد لقاءات
ومحاولة تنظيم مسيرات احتجاج، مطالبين فيها ليس فقط بإرجاع الأموال ولكن
كذلك باستقالة حكومة (ألكسندر ماكسي) ، وكذلك نددوا باستخدام أساليب العنف مع
الشعب من قِبَل قوات الشرطة والشيكو، ونددوا كذلك بتعنت الحكومة بجميع
أفرادها.
ورغم محاولات الحكومة إخماد هذه التظاهرات والمسيرات إلا إن الوضع كان
يزداد تفاقماً، وانتقل دوي المظاهرات في معظم مدن ألبانيا، وكان منها بطبيعة
الحال ما هو سلمي، ومنها ما استخدم فيها العنف وبخاصة في الجنوب، لا سيما
في مدينة (فلورا) ، التي صارت مركزاً للتظاهرات والمسيرات والاشتباكات، التي
خلفت وراءها ضحايا من أبناء البلد قتلى وجرحى، وقد أذاعت بعض الإذاعات
العالمية جانباً منها، وأعقبت هذه العمليات ضربة أخرى ساهمت في تفجير الموقف، وهي: قيام بعض الطلبة من جامعة (فلورا) بتنظيم إضراب واعتصام في مقر
الجامعة، تنفيذاً لقرار غالبية الطلاب، وكلما تجاهلت الحكومة طلبات المتظاهرين
ازدادت نقمة الشعب عليها، وازداد الإصرار، فمعروف عن هذا الشعب صلابته
وعناده، ولما لم يصغ الرئيس لطلبهم بإقالة حكومة (ماكسي) ولا وضع تصوره
لحل مشكلات المودعين في شركة (جاليتسا) ، اتخذت أعمال العنف شكلاً جديداً لم
يكن في الحسبان، وهو الشكل المسلح، إثر ترك الجيش والشرطة مواقعهم دون
مقاومة تذكر، وانضمت بعض قيادات من الجيش والشرطة إلى المتمردين في
الجنوب، وتم عزل بعض القيادات الأخرى، ومن المعروف أن شكل التمرد بدأ
بدون ترتيب ولا إعداد، ثم ما لبث أن أخذ شكلاً جديداً، وهو تكوين جبهة لها قيادة
وقادة، وكان القادة من أعمدة الجيش الشيوعي السابق، ومعروف كيف كانت
تدريباتهم واستعداداتهم في ذلك الوقت.
كما زادت طلبات المتمردين طلباً جديداً، وهو استقالة الرئيس (صالح بريشة) ... وعلى الرغم من محاولة الحكومة الاستفادة من النجاح الذي حققته في انتخابات
مايو 1996م، ومحاولتهم التحايل بإعادة تشكيل حكومة جديدة إلا إن الحزب
الديمقراطي نفسه بدا غير مكترث بطلبات المتمردين، ولم يقدم الحزب الديمقراطي
أي تنازلات على الرغم من تفاقم الموقف.
ثم تعاقبت المدن واحدة تلو الأخرى في الانضمام إلى المتمردين في (فلورا) ،
مبتدئة في (سراندا) ، ومنتهية في (دلفينا) ، مروراً بـ (تبالينا) و (مماليا) ، ثم
اختتمت في (جيروكاسترا) ، وصار كل القطاع الجنوبي المتاخم لحدود (اليونان)
بعيداً عن سيطرة الحكومة، وكذلك مصدر ضغط عليها، وتكونت في كل مدينة
تنظيمات أسمت نفسها بـ (الإنقاذ الوطني) طالبت بضرورة الاستماع إلى برنامجهم
الجديد، وفي هذا الوقت: أخطأت الحكومة أيضاً، حيث فرضت قانون الطوارئ،
وطالبت المتمردين بتسليم أسلحتهم خلال يومين وعدم اللجوء للعنف في المناطق
الجنوبية الملتهبة، وكان لهذا الخطأ عواقب وخيمة جدّاً، حيث لم يستمع المتمردون
للنداءات الحكومية، وكذا لم تستطع الحكومة السيطرة على الموقف، وبدت
تدخلات أجنبية غير معلنة لدعم مواقف المتمردين، وظهرت بوادر الشيوعية
الحمراء بشراستها المعهودة تظهر من جديد.
وبعد هذا التطور الخطير السريع جدّاً للأحداث، الأمر الذي لم يسبق له مثيل، بدأت التحركات الدبلوماسية الأوروبية بثلاث زيارات متتابعة من عدة منظمات
أوروبية، والمفوضية العليا، وبعض الموظفين في الإدارة الأمريكية، وبدهي أن
يظهر اهتمام دول الجوار لا سيما إيطاليا، واليونان واللتان تلعبان دوراً مهمّاً في
السياسة الألبانية، وكذا في السياسة الأوروبية حيث يتركز اهتمامها في محاولة
تقليل الهجرات الجماعية إلى أراضيها؛ لأن كثيراً من الألبانيين سافر إلى هناك
للعمل، ومنهم من يتاجر في المخدرات والأعراض والعياذ بالله.
وعلى ضوء هذا الاهتمام أو تلك المخاوف: كانت زيارة نائب وزير خارجية
اليونان لألبانيا، ثم تبعتها زيارة وزير خارجية إيطاليا، ومن جهة أخرى: شاركت
تركيا صديقتها وجارتها ألبانيا المشاعر، وعبرت لها عن أملها في الوصول لحل
سريع للأزمة.
وفور تسرب الأنباء عن تسلح معظم أبناء الشعب إلى بلاد الجوار من
المحتمل أن يكون لهم دور في ذلك تزايدت المخاوف، لا سيما وأن منطقة البلقان
تعج بالمشاكلات وليست البوسنة ذات الاستقرار الهش منهم ببعيد ودائماً تساورهم
مخاوف من احتمال اندلاع الحرب مرة ثانية في البوسنة وزحفها إلى مختلف دول
البلقان.
وبفقدان سيطرة الحكومة وجيشها في ألبانيا على منطقة (جيروكاسترا) بالطبع
كانت قبلها بعض المدن الأخرى اضطر (صالح بريشة) لتقديم بعض التنازلات،
والتي أصر في البداية على عدم تقديمها، وهي: إقالة حكومة (ماكسي) وإجراء
حوار سياسي مع كافة الأحزاب الأخرى؛ للوصول لتشكيل حكومة جديدة، في حين
أن الأخبار من الجنوب لم تتحسن، بل إن الموقف ازداد سوءاً، والأزمة آخذة في
الاشتعال، وتوسع المتمردون في فرض سيطرتهم على عدة مدن أخرى، مثل:
(بيرمت) ، و (بيرات) ، و (سكارابار) .. وغيرها، مما أثار مخاوف دول المنطقة
من قيام حرب أهلية، وفي هذه الأثناء: دعا الرئيس (صالح بريشة) جميع
الأحزاب للالتفاف حول مائدة المفاوضات، واقترح عليهم تشكيل حكومة انتقالية
أسماها حكومة المصالحة الوطنية، يتم تمثيل جميع الأحزاب التي فازت بنسبة
معتبرة في انتخابات مايو 1996م فيها، ثم يتبع ذلك إجراء انتخابات أخرى في
شهر يونية (حزيران) 1997م، وبعد يومين من المداولات تم تشكيل الحكومة من
رئيس وزراء (باشكيم محمد فيلو (من الحزب الاشتراكي (الشيوعي سابقاً) ، وكان
يشغل منصب عمدة مدينة (جيروكاسترا) ، ووزير للداخلية من الحزب الديمقراطي،
ووزير الدفاع من الحزب الاشتراكي، والوزراء الآخرين كذلك من مختلف
الأحزاب.
ورغم هذا إلا إن المتمردين أصروا على المطالبة باستقالة (صالح بريشة) ،
الأمر الذي آثار مخاوف أهل الشمال الجبليين والذين يساندون الرئيس (بريشة) ،
الذي يتمع بتأييد كبير جدّاً على مستوى أهل الشمال، حيث قد أعطاهم بصفتهم من
بلدته امتيازات كبيرة، وفتح لهم باب الهجرة لـ (تيرانا) وما حولها، وفوق هذا:
فقبيلة (بريشة) لها مؤيدون كذلك في إقليم (كوسوفو) على الحدود مع (ألبانيا) ، وفي
تطور سريع جدّاً للأزمة خلال يومين من تشكيل الحكومة الانتقالية: وجدنا أن
السلاح صار كذلك مع أهل الشمال، وتم الاستيلاء على معظم مخازن الذخيرة
والسلاح، وكان في البداية على حد زعم بعض المصادر الرسمية لمواجهة احتمالية
زحف متمردي الجنوب إلى (تيرانا) للإطاحة بالرئيس (صالح بريشة) حسب ما
أشاعته بعض المصادر الداخلية في ألبانيا، وأصبحت البلد بلا حكومة، ولا نظام،
ولا أمن، وحل على الناس الخوف والفزع وترقب الموت وهجوم المسلحين في أي
وقت، واختفت عن الأنظار الملابس الرسمية سواء لمنسوبي الجيش أو الشرطة،
وفتحت أبواب السجون على مصاريعها، وبدأت أعمال السطو المسلح على المخازن
والمدارس والمصانع والمحلات التجارية وعلى المشاريع التي تحت الإنشاء..
وغيرها من المنشآت، وصار منظر الشباب المسلحين في الشارع ظاهرة عادية في
العاصمة (تيرانا) ، وسمع دوي الطلقات النارية في الليل وفي وضح النهار، الأمر
الذي كان يفزع الكبار فضلاً عن الأطفال، وبحرب نفسية من نوع آخر وعبر
وكالات الأنباء العالمية والمحلية بدأت النداءات من معظم دول العالم بترحيل
رعاياها من ألبانيا، ولا سيما أمريكا التي كانت تنادي رعاياها في ألبانيا بأساليب
متعددة، كأن العالم ليس فيه إلا الأمريكان! ! ، وبدأت عمليات الإجلاء بالطائرات
الهليكوبتر الحربية إلى إيطاليا، وزادت نسبة الوافدين إلى الموانئ الألبانية للسفر
إلى إيطاليا، حتى أصبح المعدل اليومي ألف شخص.
بدأت حكومة المصالحة الوطنية أولى خطواتها على مسار العمل السياسي بعد
الاجتماع مع بعض المسؤولين الأوروبيين، وطلبوا بصفة رسمية المساعدة المسلحة
من دول أوروبا، ولكن ترددت الدول في تقديم تلك المساعدة، وفي الاجتماع الذي
دعا إليه (فرانيسكي) وزراء خارجية دول التعاون الأوروبي إلى ضرورة تقديم
المساعدة العسكرية لإعادة الأمن تلبية لنداءات الحكومة الجديدة ورئيس الجمهورية
انقسم المجتمعون إلى فريقين: الأول: مؤيد، ويضم: إيطاليا، واليونان، وفرنسا، وإسبانيا، وهولندا، والآخر: معارض، ويضم: ألمانيا، وبريطانيا، والسويد.
وعندما تقاعست هذه الدول عن تقديم المساعدة العسكرية لألبانيا: لجأت
الحكومة إلى محاولة علاج الأمر بما تستطيع، فقامت باستدعاء قوات الشرطة
والجيش حتى الذين في الاحتياط والمتقاعدين بعد عام 1990م بعد إغرائهم برفع
رواتبهم، وتم تشكيل فريق لإعادة الأمن في البلاد، ونظراً للإغراء المادي، وكذلك
لوجود بعض العناصر الوطنية في البلد والتي رأت من الضرورة تكاتف الجهود
لحل هذه الأزمة: عاد أصحاب الملابس الرسمية يظهرون من جديد، وقاموا بعمل
دوريات، وفرض ساعات حظر تجول محدودة مَن يتجاوزها يتعرض للمساءلة
العاجلة، حتى إنهم قد قتلوا بعض الأشخاص ممن لم يستجيبوا لندائهم بالتوقف
بالسيارات، وتكررت النداءات بتسليم الأسلحة، وأستطيع القول: إن هذا الأمر من
الصعب جدّاً أن يتم بسرعة، ولكن هناك بعض النتائج لا بأس بها.
وقد عاد الهدوء النسبي في الشارع رغم تسميته بالهدوء الذي يسبق العاصفة
إلا إن ذلك مطلوب أيضاً لإعادة ترتيب الصفوف وتنظيمها، وعادت الحياة بشكل
نسبي إلى طبيعتها، وقامت الحكومة بعمل نداءات لجميع الموظفين في الدوائر
الحكومية بالحضور للعمل وإلا سيفقدون وظائفهم في الحال.
وعلى صعيد آخر: فقد تم إرسال وفد من دول الاتحاد الأوروبي مكون من
11 عضواً، واجتمعوا مع رئيس الوزراء الألباني والرئيس (بريشة) وعدد من كبار
رجال الدولة في ميناء (دورس) على متن سفينة حربية، وخرجوا بمجموعة
توصيات ومحاور رئيسة لمساعدة ألبانيا، منها تقديم:
1- المساعدات الإنسانية.
2- المساعدات المالية والاقتصادية.
3- مساعدة بشأن عودة الحياة إلى طبيعتها.
الإصرار على إقالة (بريشة) :
وفي تطور آخر للأحداث: قامت منظمة (الجنوب الألباني) بإعطاء مهلة
للرئيس (صالح بريشة) حتى يوم 20/3/1997م لتقديم استقالته، وإلا فلن يعترفوا
بحكومة (فينو) ، وسيأتون إلى تيرانا للإطاحة بالرئيس، ولكن في رسالة قوية
أرسلها الرئيس (بريشة) أعلن فيها الموقف السابق نفسه، وأنه لن يترك الرئاسة إلا
إذا خسر حزبه في الانتخابات القادمة.
وقد سمعت أثناء كتابة هذه السطور أن المعارضة الجنوبية تنازلت عن موقفها، وأقرت بالحكومة الانتقالية، ودعت إلى انتظار نتائج الانتخابات القادمة.
بعض المعلومات السريعة:
1- السفيرة الأمريكية الحالية في ألبانيا هي نفسها التي كانت موجودة في
العراق أيام حرب الخليج! ! .
2- مدير المخابرات الأمريكية في ألبانيا يوناني الأصل.
3- حاول وزير الدفاع السابق الهرب، فأعادوه، ثم تمكن أخيراً من الفرار،
ويُتهم بأن له علاقة وثيقة بعمليات بيع السلاح الألباني.
4- اللصوص ومحترفو الإجرام الذين خرجوا من السجون هم الذين يسببون
كل أحداث الرعب وأعمال السرقة في البلد.
5- يحتمي الرئيس (صالح بريشة) في مقر قصر التشريفات وسط حراسة
مشددة جدّاً من أهل الشمال المسلحين.
ونحن في مجلة البيان: نعرض الواقع المؤلم الذي آلت إليه الحال في (ألبانيا) أفقر دول أوروبا، والتي لم ينقذها الغرب كما هو دأبه مع بني جنسه لكون جل الألبان من المسلمين، حتى ولو كانوا في غالبيتهم مسلمين بالحفيظة فقط، إذ إن الكابوس الشيوعي الذي حل بها منذ سنوات قد مسخ جل أهلها، حتى أنك لا تفرقهم عن سواهم من غير المسلمين.
وهناك جهود دعوية موفقة لإعادة الإسلام لشعب ألبانيا المسلم، وأعمال خيرية
نالها الأذى من جراء الفتنة التي عصفت بهذه الدولة، ولعلنا نتناولها في مقال قادم
إن شاء الله (تعالى) .
والله نسأل أن يمن بالاستقرار والطمأنينة على هذا الشعب، وأن تعود أحواله
سلاماً واطمئناناً ورغد عيش، وعودة إلى الله.
وما ذلك على الله بعزيز.(113/96)
المسلمون والعالم
إريتريا.. الوعد الكاذب بالحرية
مظاهر العلمنة والتنصير في توجهات الجبهة الحاكمة
(2من2)
بقلم: جمال سعيد حسن
تطرق الحديث في الحلقة الأولى إلى تاريخ إريتريا بعد نهاية الحرب العالمية
الثانية وحتى استقلالها عن الهيمنة الإثيوبية عام 1991م وتسليم الحكم فيها للجبهة
الشعبية الصليبية، وما اتخذته من وراء ذلك، وبيان حقيقة التقسيم الإداري للبلد
لتأكيد هيمنة النصارى، وبيان موقفهم من المهجرين المسلمين، وعلاقات الجوار
الساخنة، وضلوع الحكومة في مؤامرة تدويل الصراع في البحر الأحمر لصالح
الأعداء والمستفيدين منه ضد أهله، ويواصل الكاتب عرضه لمحاور باقية من
الموضوع. ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
العلاقات مع دول الجوار والصراع في البحر الأحمر:
كان من المفترض على دولة مستقلة حديثاً أن تسعى لخطب ود دول الجوار؛
لترسيخ وضعها السياسي والاقتصادي، ولكن الأمر في إريتريا كان على العكس من
ذلك، فقد استَعْدَت الجبهة الشعبية بعض الدول العربية الجارة وغير الجارة، فقبل
إعلان الاستقلال رسميّاً بدأت وسائل إعلامها بشن حملات عدائية ضد (السعودية،
وسوريا) ، وفي نهاية عام 1994م، قطعت علاقاتها الدبلوماسية رسميّاً مع السودان، وسلمت السفارة السودانية في إريتريا للمعارضة السودانية، بحجة أن السودان
بدت منها مظاهر عدائية، وأنها تدعم المجاهدين الإريتريين، متناسية موقف
السودان التاريخي المؤيد والداعم للقضية الإريترية في فترة النضال الذي استمر
ثلاثين عاماً، ثم ظهرت قضية جديدة افتعلها النظام في (أسمرا) ، وذلك في بداية
عام 1996م، وهي قضية (جزر حنيش) في البحر الأحمر، وعلى الرغم من أن
الخلافات بين دول الجوار في مسائل الحدود طبيعية في هذا العصر، وتعاني منه
كثير من الدول، إلا إن الأسلوب الذي سلكته حكومة (إسياس) لم يكن حضاريّاً ولا
مهذباً، بل كان أسلوباً ينم عن الحقد الدفين الذي لا يراعي حقوق الجوار، يصطنع
حرباً وطنية ضد دولة جارة، ادعى النظام في (أسمرا) أنها اعتدت على الأراضي
الوطنية لإريتريا، فذهب إلى الخيار العسكري لحل الخلاف، بالإضافة إلى
التحرشات العسكرية المتكررة أيضاً ضد دولة (جيبوتي) .
ومن جانب آخر نجد العلاقة مع دول الجوار الأخرى متينة وقوية تتجاوز
المعاهدات الأمنية والعسكرية والاقتصادية.. إلخ، وتطمح للترابط (الكونفدرالي)
كما هو الحال مع إثيوبيا، كما أن العلاقة بـ (كينيا، وأوغندا) ممتازة جدّاً.
نخرج مما سبق: أن منهج حكومة الجبهة الشعبية في تكوين علاقتها
وصداقاتها يختص بالمتانة والقوة مع الدول التي تحمل الصبغة الصليبية، بينما كان
نصيب دول الجوار المسلمة: الحرب، والعداء، مما يعني أن (إسياس) يسعى
جاهداً إلى إيجاد حاجز كبير بين الشعب الإريتري وجيرانه المسلمين، بالإضافة إلى
أن هناك مؤامرة كبرى تحاك في شرق إفريقيا، كلها تشير إلى ترابط الدول
النصرانية في مواجهة الدول الإسلامية، وتحجيم انتشار الإسلام في المنطقة، فكل
من (إريتريا، وإثيوبيا، وأوغندا) تقف موقف العداء السافر ضد الحكومة السودانية، وتدعم بالإضافة إلى كينيا (جون قرنق) النصراني، وذلك حيال توجه السودان
الإسلامي المعلن، وإمكان انتشار تأثيره على منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا.
وإذا أضفنا إلى كل ما سبق العلاقة الحميمة التي يتمتع بها النظام في (أسمرا)
بالدولة اليهودية، والتعاون المطلق في المجالات الأمنية والدفاع والاقتصاد.. فلا
نستغرب سلوك النظام القائم في إريتريا هذا المسلك المشين والمسيء للشعب
الإريتري، ف (إسرائيل) ما زالت تسعى منذ نشأتها للسيطرة على المنفذ الجنوبي
للبحر الأحمر، وما (إسياس) إلا مجرد أداة ينفذ رغبات القوى النصرانية
والصهيونية العالمية.
الاقتصاد: يسيطر حزب الجبهة الشعبية متمثلاً في جهازه الذي يرمز إليه بـ
(09) على الاقتصاد الإريتري الضعيف أصلاً، وأصبح هذا الجهاز عائقاً أمام
التطور الاقتصادي للبلاد وللمواطنين، فكل الامتيازات الاقتصادية من استثمار
واستيراد وتصدير متاحة لهذا الجهاز الذي أصبح يمارس منافسة غير شريفة وغير
متكافئة مع التجار، ويدعي هذا الجهاز أن هدفه خدمة المواطنين ووقايتهم من جشع
التجار غير المحدود، بينما الأهداف الحقيقية غير المعلنة هي تحقيق دخل مالي
كبير لحزب الجبهة الشعبية، وإتاحة فرصة العمل لأعضاء الحزب، ومن ثم:
سيطرة هذا الحزب بواسطة هذا الجهاز على مقومات الاقتصاد الإريتري واحتكار
مقدرات الشعب واسترقاقه سياسيّاً وثقافيّاً عبر وسائل لقمة العيش.
الدستور ومجموعة القوانين: لا شك أن التقنين والتنظيم في الأمور الإدارية
على مستوى الأفراد والجماعات والدول سمة حضارية متى ما حُققت العدالة
والمساواة وتجنب الظلم، ولكن الخلاف والجدل يُظهر ماهية تلك النظم ونوعية
المراسيم التي تصاغ بها ليلتزمها الفرد والمجتمع، وقد أصدرت الجبهة الشعبية منذ
استيلائها على إريتريا وتربعها على عرش الحكم في (أسمرا) عدداً من القوانين التي
كانت مثار الاستغراب ومن ثم: الرفض من قبل الشعب الإريتري أجمع.
وقد كان قانون الجنسية الذي سبق عملية الاستفتاء على استقلال إريتريا من
المراسيم التي لم يستسيغها الشعب الإريتري، حيث فُتح المجال لكل من هب ودب
للحصول على الجنسية الإريترية، وحسب الواقع المعاش فإن المستفيد الرئيس من
هذا القانون كان نصارى إقليم (تجراي) الإثيوبي، وبهذا كثر سواد النصارى في
إريتريا في ظل غياب المسلمين في مخيمات اللاجئين في السودان والدول العربية،
مما يؤثر مستقبلاً على الأمن العام لإريتريا ويحدث معه خلل في تركيبة المجتمع
الإريتري لصالح النصارى.
ومن القوانين الأكثر جدلاً والأشد رفضاً من قبل المسلمين: قانون التجنيد
الإجباري الذي ألزم الفتيان والفتيات على حد سواء بالمشاركة في التدريب العسكري
والخدمة العسكرية لمدة سنتين، وقد قبل الشعب الإريتري على مضض تجنيد
الشباب لما يعرفه من أن الهدف من تجنيدهم ليس الدفاع عن الوطن والشرف، بل
لأغراض أخرى في نفس (إسياس) ، منها: صياغة جيش جديد بعقلية جديدة
تتناسب والمرحلة القادمة من مرحلة الحكم في إريتريا، لأن الجيش الشعبي السابق
فيه بقية من روح الثورة بل الجهاد الذي قد يرفض توجهات (إسياس) الدكتاتورية
والارتماء في أحضان الصهاينة والغرب.
أما تجنيد الفتيات فقد رفضه المسلمون من منطلق شرعي بحت، وما زالت
المواجهات بين النظام والشعب مستمرة في هذا الشأن، وقد تعرض كثير من
الفتيات والآباء والأمهات لعقوبة السجن من جراء رفضهم تنفيذ هذا القرار الجائر،
بل وصل الحال في بعض مناطق إريتريا أن واجهوا جنود النظام بالعصى
والهراوات والسيوف عندما حاولوا أخذ الفتيات قسراً لتجنيدهن.
والمتأمل للأمر يدرك أن الاتجاه إلى تجنيد الفتاة المسلمة ليس الغرض منه سد
النقص في عدد المدافعين عن إريتريا، ولا تنفيذ المساواة المزعومة بين الرجال
والنساء، إنما الغرض تربية الفتاة المسلمة على أفكار ومبادئ تناوئ العقيدة
الإسلامية وما ينبثق منها من شريعة وأخلاق وفضائل.
أما آخر المراسيم مكراً فقد كان المرسوم التشريعي رقم 73 لعام 1995م،
الذي نص على عدم أحقية المؤسسات الدينية في القيام بأعمال إغاثة أو خدمات
اجتماعية بالوكالة عن حكومات أو مؤسسات أجنبية، وهو القرار الذي عرف باسم
مرسوم تنظيم عمل المؤسسات الدينية، وقد حدد النظام في الوقت نفسه وجه التعامل
مع الجهات الخارجية، بحيث يكون عبر أجهزة الدولة الرسمية.
والغرض من هذا القرار هو تحجيم عمل المعاهد والمدارس الإسلامية وشل
العمل الدعوي الإسلامي في إريتريا؛ لأنه من المعلوم أن المؤسسات الإسلامية في
إريتريا تقوم على الجهد الأهلي، وبما أن الشعب الإريتري عاش ثلاثين عاماً في
حرب قاسية فَقَدَ فيها كثيراً من مقوماته الاقتصادية، فإن العمل الدعوي هناك أصبح
لا يستغني عن الاتصال بالمؤسسات الخيرية والتطوعية في العالم الإسلامي، وذلك
بغية الحصول على العون المادي والعلمي والأدبي، إنه في حاجة إلى المؤسسات
الرسمية في الدول الإسلامية (من جامعات ووزارات) التي توفر له منحاً دراسية
للطلاب، وإرسال الدعاة ومعلمي اللغة العربية والعلوم الشرعية، إلا إن هذا
المرسوم يقف عائقاً الآن أمام هذه المساعدات التي كان من الممكن أن تسهم في
مسيرة الدعوة الإسلامية في إريتريا، وهذا هو المقصود تماماً.
ولهذا ولغيره من الأسباب نجد اليوم إريتريا تخلو من المؤسسات الإسلامية
الخيرية، بينما تعج بالمؤسسات التنصيرية التي تعمل ليل نهار في بناء الكنائس
وتقديم خدمات الإغاثة والعلاج في ربوع إريتريا! ! .
حقيقة دستور الدولة: وقد تم تتويج هذه القوانين جميعاً في نهاية المطاف
بالدستور الذي صدرت مسودته في يوليو 1996م، وهو دستور علماني بحت، بل
علماني متطرف حسب تعبير الدكتور (جلال الدين محمد صالح) في جريدة
(المستقلة) العدد 128 تاريخ 9/6/1417هـ 21/10/ 1996م لم يراع ديانة شعبه
بل لم يراع العادات والتقاليد والموروثات الثقافية للشعب الإريتري كما زُعم في
ديباجته.
وقد تعمد الدستور تهميش الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية، والتركيز
علي الجوانب الإدارية والفنية البحتة في معظم فقراته، وأعطى الأجهزة التنفيذية
في الدولة مجالاً واسعاً لإصدار قوانين وتشريعات تنظم عمل الأجهزة الحكومية.
وقفات مع الدستور:
على الرغم من ذلك فإننا سوف نتناول منه عدداً من القضايا التي ما زالت تثير ردود الأفعال المتفاوتة، وتسبب الجدل والنقاش الحاد في اللقاءات التي تعقدها لجنة الدستور مع الشعب الإريتري في الداخل والخارج، وهذه القضايا هي:
1- اللغة: نص الدستور في الفقرة الثالثة من المادة الرابعة على أن (مساواة
جميع اللغات في إريتريا مصانة) ، ولم يحدد اللغة الرسمية للبلاد، بل ترك الأمر
بهذا الشكل عمداً، وفي ذلك دغدغة لمشاعر العامة وتلاعب بعواطفهم، فمن ذا الذي
يكره المساواة؟ ! ، وإذا قيل لأي مواطن: إن لغته الأم متساوية مع جميع اللغات
الأخرى التي في بلده فسوف يتقبل الأمر بكل سرور، إلا إن العمل بهذا النص بعيد
عن الواقع ولا يقبله عاقل؛ لأن المساواة تعني أن تتعامل الحكومة مع جميع لغات
إريتريا بنظرة واحدة وبقدر واحد في التعليم والإعلام وإصدار المراسيم والمكاتبات،
والخطب الرسمية ... إلخ، فيفترض بناءً على ذلك أن يُلم جميع موظفي الدولة
باللغات الإريترية على الأقل إن لم يتقنوها، ومعلوم أن في إريتريا تسع لغات
مختلفة، تتحدث بها تسع مجموعات لغوية، تسميها الجبهة الشعبية (قوميات) .
وقد حاولت حكومة الجبهة الشعبية تنفيذ هذا الأمر في مجال التعليم الابتدائي،
حيث حاولت إيجاد مدارس ابتدائية في القرى تدرس بلغة أهل المنطقة حتى إذا لم
تكن حروفها مكتوبة، فبدأت بكتابتها بالحروف اللاتينية والبعض الآخر بالحروف
التجرينية (لغة أغلب نصارى إريتريا وشمال إثيوبيا) ، إلا إن الأمر لم يحقق
المساواة الحقيقية للغات وأهلها، ففي المدن التي تختلط فيها القبائل والأعراق
والمجموعات اللغوية لم تستطع الوفاء بهذا الأمر، ففي مدينة (كرن) مثلاً لا توجد
مدرسة تدرس بلغة (البلين) مع أن أغلب سكان هذه المدينة من المتحدثين بهذه اللغة، بل بالعكس من ذلك فإن أكبر مدرستين حكوميتين تدرسان باللغة التجرينية مع
أهلها أقلية في المدينة المذكورة.
وإذا نُظر إلى هذا القرار من منظور الوحدة الوطنية التي تُرجع إليها الجبهة
جميع نظرياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية نجد أن لهذا الأمر تأثيراً سلبيّاً،
حيث إن تعلم كل مجموعة لغوية بلغتها الخاصة مع عدم وجود لغة وطنية واحدة أو
اثنتين يتعلمها جميع أفراد الشعب يضع حاجزاً بين أفراد الشعب الواحد، ويؤثر
على تفاهمهم وتعاملهم اليومي وأنشطتهم الثقافية والسياسية والاجتماعية، فمن أين
يأتي هؤلاء الموظفون الذين يعرفون جميع اللغات الإريترية والحال هكذا؟ .
إلا إن النتيجة النهائية لهذا النص الدستوري: تفتيت وحدة المسلمين في
إريتريا بإيجاد حاجز لغوي ومزاج ثقافي فكري محدود فيما بينهم حيث إن وجودهم
ينتشر في المجموعات اللغوية التسع، وإبعادهم عن خيارهم للغة العربية التي ما
زالوا ينادون بها، وفرض الأمر الواقع بنشر اللغة التجرينية وإسقاط اللغة العربية
كما أسلفنا.
2- المرأة: وجدت المرأة في الدستور الإريتري ذكراً لحاجة خبيثة في نفس
(إسياس) الماكرة، فقد جاء في الفقرة الثانية من المادة السابعة: (تعتبر ممنوعة كل
الممارسات التي تنتهك حقوق المرأة، أو تحط من شأنها، أو تقلل من دورها، أو
تعيق من مشاركتها) .
والفقرة بهذا الشكل عامة يمكن تفسيرها تفسيراً مقبولاً، ولكن.. ما هي
الحقوق التي تقصدها الفقرة والمنهي عن انتهاكها؟ .
إن الحقوق المعتبرة لدى الدستور لا تخرج حسب ممارسات الجبهة الشعبية
عن الحقوق التي نادى بها مؤتمر (بكين) النسائي في عام 1995م والذي أثار
مشاعر المسلمين، بل ومشاعر (بابا الفاتيكان) ، وقد شاركت إريتريا في هذا
المؤتمر بوفد نسائي كبير رفيع المستوى من عناصر حزب الجبهة الشعبية، وقد
احتفت وسائل الإعلام الإريترية بهذا المؤتمر وأيدت قراراته بدون تحفظ.
فالمقصود إذن: ضمان جميع الحقوق والأدوار التي تنافي الشرع الإسلامي
السمح وأخلاقه الحميدة، فقد يُعد في نظرهم الحجاب مما يحط من شأن المرأة،
ونصيبها الشرعي من الإرث انتهاك لحقوقها في المساواة، وإبعادها عن الاختلاط
والخلوة بالرجال مما يعِيق مشاركتها.... وهكذا.
3- الأسرة والزواج: فيما يتعلق بالأسرة والزواج حدد الدستور في الفقرة
الثانية من المادة (22) طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، قائلاً: (من حق الرجل
والمرأة اللذين بلغا السن القانوني أن يتزوجا ويؤسسا أسرة بحرية، وبملء إرادتهما، ودون أي شكل من أشكال التمييز، كما يكون لهما حقوق وواجبات متساوية في
كل المسائل الأسرية) .
وبهذا يحق لغير المسلم سواء أكان يهوديّاً أو نصرانيّاً أو وثنيّاً أن ينكح مسلمة، وكذا بالعكس، حيث لا تمييز في الدين وغيره، ولا يهم أن يكون الزواج بعقد
تتوفر فيه الشروط الشرعية من شهود وولي أم لا، كما إن المساواة في كل المسائل
الأسرية تعني أن الزوجين يتساويان في النفقات الخاصة بأمور الأسرة من مهر
وسكن وملبس ومأكل ومشرب، وأن يكون الطلاق في يديهما بالتساوي، وأن ترث
المرأة زوجها بالمقدار الذي يرثها زوجها، وأن تكون القوامة لهما، وما أدري هل
تعدد المرأة الأزواج إذا عدد الرجل زوجاته أم إن التعدد محرم في نظر الدستور؟ !
إذن: فلا مكان بمقتضى هذا الدستور لقوله (تعالى) : [إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ] [الطلاق: 1] ، وقوله (تعالى) : [وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً]
[النساء: 4] ، وقوله (تعالى) : [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ] [النساء: 11] ، وقوله (تعالى) : [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا] [النساء: 34] ، وقوله (تعالى) : [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ] [النساء: 3] ، وقوله: (لا نكاح إلا بولي) .. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث النبوية، مما يعني هدم نظام الأسرة في الإسلام، والاعتداء الصارخ على حرية الشعب الإريتري في ممارسة عقيدته ودينه الذي ارتضاه لنفسه وارتضاه الله له من قبل.
4- القَسَم: جاء في المادة (35) في القَسَم الخاص بأعضاء المجلس الوطني،
والمادة (45) الخاصة بقسم رئيس الدولة، والمادة (51) الخاصة بقسم القضاة أن
صيغة القسم تكون: (أقسم باسم شهداء إريتريا ... ) .
وهذا يعني أن يتناول المسلم باباً من أبواب الشرك بالله إذا قدر له أن يكون
عضواً في البرلمان، أو رئيساً للدولة، أو قاضياً في محكمة! ، إلا إذا كان
المقصود أن تولي هذه المناصب مما لا ينبغي أن يتولاها المسلم في إريتريا، فماذا
يرتجى ممن استهل عمله بأعظم ذنب يرتكبه الإنسان في حياته الدنيا كلها؟ ! .
ولم تترك هذه المادة للمرء فرصة في أن يضمر ما يعتقده في القسم، بحيث
تكون على حسب اعتقاده، بأن تكون الصياغة مثلاً: (أقسم أن كذا وكذا) بل تم
تعمد صياغة القسم بهذا الأسلوب، مبالغة في إبعاد الناس عن دينهم، وتطرفا في
علمنة الدستور.
5- المحاكم الشرعية: معلوم أن المحاكم الشرعية في إريتريا (استئنافية
وعادية) ما زالت تعمل منذ عهد الخلافة العثمانية، ومروراً بعهود الاحتلال الغربي
(إيطاليا، وبريطانيا) ، ثم الاحتلال (الإثيوبي) ، وعندما تحدثت مسودة الدستور
الإريتري عن القضاء والمحاكم لم تذكر المحاكم الشرعية بشيء، لا بالإلغاء
الصريح أوالبقاء الصريح، ولكن يبدو أن المراد هو موت المحاكم الشرعية بطريقة
تلقائية بعيداً عن الإثارة؛ فالفقرة الثالثة من المادة الثانية تقول: (يعتبر هذا الدستور
أعلى قانون ومصدراً لكل القوانين الإريترية؛ لذا: فإن أي قانون أو أوامر أو
ممارسات لا تتماشى مع نصوصه وروحه تعتبر لاغية) (هكذا) ! ! .
وقد أحال الدستور صلاحيات تنظيم وأداء المحاكم الدنيا وفترة عمل قضاتها
إلى القانون في المادة (50) ، ولا تدخل المحاكم الشرعية ضمن المحاكم الدنيا
المزمع تكوينها، لأن المحاكم الشرعية مختلفة عنها تماماً، كما إن أحكامها تتعارض
قطعاً مع نصوص الدستور، كالفقرة الثانية من المادة (22) الخاصة بالزواج
والأسرة على سبيل المثال.
إذن: فإن إقصاء المحاكم الشرعية عن الحياة في إريتريا أمر مؤكد، حتى
وإن أصبحت قاصرة على الأحوال الشخصية.
6- ملكية الأرض: كانت حكومة الشعبية قد سبقت دستورها في إصدار
قانون يجعل ملكية الأرض للدولة، وقد نص الدستور الجديد في الفقرة الثانية من
المادة (23) على (أن الأرض وكل الثروات الطبيعية ملك للدولة، وحقوق
المواطنين في استخدام الأرض تتحدد قانوناً) .
وقد فتح هذا القانون الباب على مصراعيه للنصارى للنزوح إلى مناطق
المسلمين الواسعة، واغتصاب أراضيهم (بالطرق القانونية) ، ومعلوم أن المساحة
التي يمتلكها المسلمون في إريتريا لا تقل عن 80% من مساحة إريتريا، وأغلبها
صالح للزراعة والرعي.
وبهذا يتضح أن المقصود من وراء هذا القانون هو التلاعب بالتركيبة السكانية
لمناطق إريتريا، ودعم النصارى اقتصاديّاً على حساب إفقار المسلمين الذين ما زال
أكثرهم يعيشون في مخيمات المهاجرين واللاجئين في السودان، ويعمل كثير منهم
أيضاً في دول الخليج العربي.
وفي الختام: يمكن أن نخلص من هذه الجولة القصيرة إلى أن الخطى سائرة
في إريتريا وفق مخطط نصراني مدروس يصب في نهاية المطاف لتحقيق حلم
المنصِرين بجعل (إفريقيا نصرانية عام 2000! !) .
[وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] .
مما يلزم أن يتداعى المسلمون الإريتريون لتحديد موقفهم حيال ما صاغته
الجبهة الشعبية من أنظمة وقوانين تؤكد الوجهة النصرانية لهذه البلاد الإسلامية
لصالح فئة محدودة.
ويؤكد العمل بكل الوسائل المتاحة لإيقاف المد النصراني الجائر عند حده،
وعلى كل المسلمين تحديد موقفهم من هذه الدولة العميلة التي ناصبتهم العداء
وصارت مخلب قط لصالح أعدائهم.(113/108)
متابعات
أعبدة للشيطان في مصر؟ !
مظاهر الخلل وأسبابه وعلاجه
بقلم: صفوت وصفي
في الوقت الذي كان المسلمون متوجهين فيه إلى الله بالصيام والقيام وأداء
الصلوات في شهر رمضان المنصرم لعام 1417هـ قضّ مضاجع المسلمين بعامة
ومسلمي مصر بخاصة ما أعلن عن اكتشاف شبكة من الشباب التافهين الذين يتبنون
ما يسمى بـ (عبادة الشيطان) ، وهو وإن كان نهجاً وثنيّاً قديماً إلا إن بعض
الاتجاهات الإلحادية المعاصرة أعادته من جديد بوسائل جديدة.
وقد أثارت هذه القضية الرأي العام بمصر، لا سيما وأن جل المضبوطين من
أبناء الذوات! ، أو ما يعرف بالطبقة (الأرستقراطية) من بعض أبناء المسؤولين
والفنانين.. وغيرهم، وقد استطاع الأمن تسجيل حفلاتهم ورصد حركاتهم وما
يقومون به من طقوس.. وأثبتت اعترافاتهم أثناء التحقيق معهم أن ما دفعهم إلى
ذلك عاملان: (المخدرات) ، و (الجنس) .. وهما كافيان لتداعي الشباب الفارغ من
العمل والمفرغ عقله من القيم والأخلاق للانضواء تحت لواء هذا التوجه.
ومما يؤسف له أنه رغم الزخم الإعلامي الذي سلط على هذه الفئة على مدى
الأشهر الماضية، وتأكيد ضلوع أولئك الشباب في الوقوع في هذه الطقوس
المنحرفة واعترافهم بها [1] إلا إن النيابة أخلت سبيل جميع المتهمين بعد المطالبة
بإعدامهم، وذلك بحجة أن القانون المصري لا يعاقب على فكر مهما كان! ، مع أن
القانون المصري نفسه يعاقب على مثل ذلك كما في قانون العقوبات المادة (98)
وكذلك المادة (160) .
كيف بدأت هذه الشبكة؟ : تنتشر عبادة الشيطان لدى اليهود، وتعرف
بجماعة (إخوة الشياطين) ، ومقرها (تل أبيب) و (إيلات) ، وتتخذ (النجمة السداسية
والصليب المقلوب) شعاراً لها، ولها وجود في ألمانيا، وفرنسا، واليابان، وجنوب
إفريقيا.. وقد أقام مواطن أمريكي يدعى (انوان ساندرو لافي) ويظهر من اسمه أنه
يهودي كنيسة ومحفلاً شيطانيّاً بأمريكا عام 1966م، ليمارس فيه هو وأتباعه
طقوس عبادة الشيطان، وكانوا يتناولون عقاقير الهلوسة، ويعمدون الأعضاء بالدم، وينبشون القبور، ويعملون على تحطيم دور العبادة وإحراقها.
المذهب يتسلل إلى مصر: وترجع بدايات ظهور هذا التوجه المنحرف والفكر
الشاذ في مصر عند بداية السبعينيات الميلادية من خلال (الروك) لاجتذاب الشباب،
ثم أخذت الأحداث تتابع على النحو التالي:
في شهري أكتوبر ونوفمبر عام 1993م نظمت أول حفلة لهم، وأقيمت في
ملعب التنس باستاد القاهرة، ووصفت بأنها كانت مرتعاً للجنس والمخدرات، ثم
تعددت الحفلات في مناطق المعادي، والزمالك، والإسكندرية.. وعادة ما يصيب
عبدة الشيطان حالات هيستيرية عبر استخدامهم موسيقى (الروك) .
وبعد التحقيق مع أعضاء الشبكة أكدوا أن مجموعة من اليهود وراء زرع هذه
الأفكار الغريبة في مصر خلال العامين الماضيين، عن طريق الجنس والمخدرات
داخل المناطق المنعزلة، أو في الصحراء، أو على شواطئ البحار ليلاً.. وأنهم
عادة ما يستخدمون القطط والكلاب قرابين للشيطان.
أن إحدى الدول الأجنبية قدمت للجماعة العديد من المساعدات التي تشجع
على قيامهم بطقوسهم الغريبة في بعض الأماكن المعينة.
تم إلقاء القبض على صاحب شركة تسجيلات فنية يحمل الجنسيتين المصرية
والكندية يروج الأشرطة الغنائية التي تتضمن أفكار هذه الشبكة المشبوهة، والتي
يعتبر المغني المشهور (ألفيس بريسلي) الأب الروحي لها.
من يدافع عن هؤلاء في مصر: في الوقت الذي صدم فيه الشعب المصري
بهذا التوجه المنحرف وتساءلوا عن دور الأسرة والمدرسة والإعلام والتوعية
والأزهر، وهل يعقل أن يعبد الشيطان في مصر أرض الإيمان والعلم؟ ..
في هذه الظروف نجد إحدى الدور الاستعمارية التي تشغل مسمى (الجامعة
الأمريكية) بالقاهرة، وعلى صفحات جريدتها (القافلة) ، تنشر معلقة على الموضوع
وردود الأفعال الرافضة له على صفحات كثير من الصحف والمجلات المصرية،
نجدها تقول بكل بجاحة: (إن ما تنشره الصحف المصرية عن هذا الموضوع هو
نوع من الاعتداء على حرية الرأي وتوجيه الاتهام بالكفر إلى شباب لا يهمه شيئاً
سوى سماع الموسيقى الأجنبية المختلفة..) هكذا! .
دوافع انضمام الشباب لهم:
من واقع تتبعي لهذه المشكلة يتبين لي أن دافع المنضوين لها ما يلي:
هناك كثير من الشبان في مصر يهتمون بسماع موسيقى (الروك آند رول)
وتعلم الرقص الغربي معها بأساليب تتميز بالصراخ والضجيج والحركات السريعة
التي أشبه ما تكون بحركات التشنج والاضطراب العقلي.
تعبر هذه الفئة عن نفسها من خلال الرقصات الموسيقية، ويعملون على وشم
أجسادهم عن طريق السفر إلى إحدى قرى سيناء السياحية، حيث يوجد محترفون
لعمليات الوشم وبعضهم لجأ إلى رسم كلمات غريبة على ملابسهم السوداء وتدوين
شعارات ملفتة للأنظار تصل إلى حد السباب والشتم.
ينظمون حفلات موسيقية من نوع خاص في أماكن وفنادق متفرقة، مع
توزيع إعلانات هذه الحفلات في مناطق تجمع الشباب في الجامعات والأندية
والمراكز الأجنبية.
ومن خلال استطلاع نشرته مجلة (الوسط) اللندنية مع بعض أعضاء هذه
الجماعة يتبين من أفكارهم ما يلي:
تقول (أ. أ) مغنية فرقة (فابير) وطالبة بكلية التجارة: (من خلال الحفلات
تعرفت على شباب ليس أمامه أي شيء يفعله، وفي كثير من الأحيان يدمن
المخدرات ولا يعرف ما يقوم به، ويهزون رؤوسهم على طريقة المغنيين الغربيين
للفت الأنظار لهم، ولو كان هذا عن طريق الزعم بأنهم يعبدون الشيطان!) .
ويقول (م. ع) مضيف جوي: هناك محاولات للتقليد الأعمى لكل ما يجري
في الغرب من دون تمييز أو اهتمام بمعنى ذلك التقليد.
ويقول طالب في كلية التجارة: إننا نعرف أن ما نفعله شيء غريب، لكنها
التسلية! ! .
ردود الفعل في المجتمع المصري:
بعد اكتشاف هذه الشبكة والجماعة المنحرفة واعتقال أعضائها تبين بالفعل أنها
فئة ضالة، تأثرت بهذا الفكر والسلوك عن طريق الوسائل التي سبقت الإشارة إلى
بعضها؛ مما أصاب الرأي العام بصدمة عنيفة، وتساءلوا: أحقّاً يُعبد الشيطان في
مصر، مصر بلد الأزهر وبلد العلماء؟ .
وكانت ردود الأفعال على المستوى الرسمي والفكري على النحو التالي:
1- استنكر! مجلس الشورى المصري في جلسة برئاسة د/ مصطفى كمال
حلمي، ظاهرة الانحراف الديني المتمثلة في هذه الجماعة المنحرفة، وطالب
بتطبيق الشريعة الإسلامية على هؤلاء الخارجين عن الدين! ! .
2- وقال الشيخ (نصر فريد واصل) مفتي مصر: إنهم سقطوا ضحية
الشيطان؛ لضعف إيمانهم وانحراف أفكارهم؛ لأن الشيطان لا يقترب ممن آمن
بربه، ولكنه يسيطر على الإنسان نتيجة ضعف! إيمانه، وقال: إنهم مرتدون عن
الدين.
3- وقال د. (سعد ظلام) الأستاذ بجامعة الأزهر: إننا أهملنا شبابنا حينما
انطلقنا نجلب لهم الإشباع المادي، وتركناهم بلا رقيب ولا هداية، ولم نربهم بالدين
والقيم.
4- ويقول د. (فكري عبد العزيز) (استشاري الطب النفسي) : إن التحليل
النفسي لهؤلاء الشباب يظهر أنهم فئة (سيكوباتية) فاقدة الأهلية، تحقق ملذاتها،
وتنظر إلى إرضاء الجسد والذات، وقد وصلت إلى كل هذا نتيجة الحرمان الأسري، وعدم وجود الأب أو بديله في هذه المرحلة، مع عدم الاستقرار النفسي
والاجتماعي، وعدم وجود المثل الذي يحتذى.
أسباب هذه الظاهرة:
ولا شك أن هذا الاتجاه ظاهرة شر ومظهر انحراف في سير المجتمعات، فما
أسباب وجود هذه الظاهرة؟ .
سبقت الإشارة إلى دوافع هذا التوجه الشاذ لدى هذه الفئة من الشباب، لكن
المتابع والباحث المدقق والمتأمل لما وراء السطور يلمس أن هناك أسباباً ساعدت
في نشوء هذا النهج المنحرف، يمكن إجمالها فيما يلي:
1- سياسة تجفيف المنابع التي ازداد أوارها بعد عملية السلام مع العدو
الصهيوني، حيث انبثق عنها ما يعرف بعمليات تطبيع العلاقات مع اليهود، والتي
استتبعت غربلة المناهج الدراسية، وإجراء كثير من التعديلات والحذف لصالح هذا
التوجه، فضلاً عما هو موجود أساساً من تحجيم لمواد التربية الإسلامية وعدم
اعتبارها في سلم الدرجات للطلاب والطالبات في جل البلدان الإسلامية، مما لا يقيم
لها الاعتبار المفروض لدى الطلاب، فأنّى لهذه المواد أن تربي الأجيال تربية
إسلامية تجعل منهم مبغضين للانحرافات الفكرية بكل جسارة وشمم.
2- دور الإعلام المتواصل عن طريق وسائله المنوعة من مقروءة ومسموعة
ومرئية في إثارة نزوات الشباب من الجنسين وإشغالهم بالفكر الهابط الرديء
والأغاني الماجنة، والأفلام الخليعة.
3- سوء استغلال شبكات الاتصالات الحديثة (الإنترنت) ، التي تحوي برامج
تروج لمثل هذا الفكر المنحرف، وتوصل مستجداته وطقوسه ومبادئه لمتابعيه
بأحدث ما يتوصل إليه مَن يتابعون هذه النزعات الشيطانية، وقد تلقى هؤلاء
الشباب معلوماتهم عن عبادة الشيطان عن طريق هذا الجهاز، وقد أثبتت التحقيقات
أن 90% من المعلومات التي حصلوا عليها من هذا التوجه المنحرف كان عن
طريق هذه الشبكة.
4- تحجيم التوعية الإسلامية من برامج ومحاضرات وندوات عن طريق
العلماء والدعاة، ولا سيما في الجامعات والنوادي والمراكز التربوية، بدعوى أن
لمن يلقونها أهدافاً غير مرضي عنها، ولا ندري أي أهداف للداعين إلى الله
والعلماء والمفكرين المسلمين سوى توعية الأجيال بالإسلام الحق والفكر الرشيد
والبيان للمخططات العلمانية التي تهدف إلى تدمير الشخصية المسلمة والمجتمعات
المؤمنة؟ ! ، إلا إن كان هذا غير مرغوب فيه، فذاك شيء آخر، ولا ندري
لمصلحة من يتم ذلك.
5- الحياة المترفة والمتفلتة التي تعيشها أسر هؤلاء الشباب بكل ما تعنيه
الكلمة من معنى، من شيوع التبرج والسفور، والاختلاط بين الجنسين، وترك
مسؤولية تربية الأبناء للخدم أو للمدارس الداخلية، والتي عادة ما تكون أجنبية
الولاء.
6- مثل هذه الجماعات تكون مدعومة كما سبقت الإشارة إليه من جهات
أجنبية ذات أهداف مشبوهة وذات خطط مرسومة، ودعمهم لمثل تلك النزعات
بالأموال يساعد في استمرارهم في طقوسهم الشيطانية، ومثل تلك الجهات الأجنبية
معروفة في دعمها للاتجاهات المنحرفة، كما هو شأنهم في دعم جمعيات تحرر
المرأة من قيمها وأخلاقها، وكما يدعمون سياسات تحديد النسل، وتشجيع الأبحاث
التي تتبنى إحياء الفكر الباطني والعنصري ...
7- المدارس المختلطة بين الجنسين في كثير من الدول العربية، وبخاصة
في الجامعات، ووضع المناهج المختلطة، ووصول الأمر إلى تدريب هؤلاء
الشباب من الجنسين في دورات ومعسكرات مختلطة.. لا شك أنها وسيلة لإشاعة
الفاحشة بينهم، يتهدم معها الوازع الخلقي في نفوسهم.
8- السياسة الأمنية المتطرفة حيال الاتجاهات الإسلامية في بعض الدول
العربية، والتي لا تفرق بين صالح وطالح، ولا بين معتدل وغالٍ (منحرف) ،
وهذا تصور ليس مرده إلى الجهل وحده بتلك الاتجاهات المختلفة، وإنما هدفه
ضرب الاتجاهات الإسلامية عموماً بدعاوى ساذجة لم تعد تنطلي على أحد.
ولا شك أن هذه السياسة فاشلة، وقد أحدثت ردود فعل معاكسة للعنف المضاد، ذهب ضحيته المئات من القتلى، ولا ندري لمصلحة من؟ .
ولا شك أن السياسات القمعية فاشلة، وما كان لهذه السياسة أن تتم لولا ما
تشيعه أقلام العلمانيين وأذنابهم من الهجوم على التوجهات الإسلامية واتهامها ليل
نهار بادعاء أنها تهدف إلى قلب المجتمعات وتغيير أنظمة الحكم، وهي حرب
مسمومة، بل هي مكر الليل والنهار لتهميش الإسلام في المجتمعات [يُرِيدُونَ أَن
يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَاًبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ]
[التوبة: 32] .
علاج هذه الظاهرة:
ولا شك أن أي ظاهرة انحراف لها أسبابها ولها علاجها، أما العلاج فهو
القضاء على كل مبررات نشوئها وإيقافها بكل قوة وحزم، ويمكن اتخاذ إجراءات
معينة في نظري تتمثل فيما يلي:
1- تجريم أولياء أمور هؤلاء الشباب ولو أدبيّاً وتحميلهم جزءاً كبيراً من
مسؤولية انحراف أبنائهم، حيث تركوا الحبل لأبنائهم على الغارب بتساهلهم في
مسؤولية تربية هؤلاء الشباب؛ مما أدى بهم إلى الوقوع في هذه التوجهات الفكرية
الشاذة والمنحرفة.
2- أهمية وضع النظم التي تجرم مثل هذه الاتجاهات الشاذة، إذ إن الدساتير
الحالية لا تجازي فاعليها إلا بأقل القليل، وأهمية تطبيق (حد الردة) بعد استيفاء
أركانه، ولا شك أن تطبيقه مع أحد المجرمين سيردع كل من تسول له نفسه الوقوع
في مثل تلك الانحرافات.
3- ضرورة إيجاد المحاضن التربوية الصالحة التي يجد فيها الشباب ما يشبع
ميولهم وينمي هواياتهم، وإدامة هذه المحاضن على مدار العام، وضرورة ترشيد
عمل الأندية الرياضية وتطعيمها بالتوعية الدينية والفكرية.
4- أهمية أداء وسائل الإعلام وبخاصة المرئية منها دورها الريادي في
التوعية والتوجيه، وألا تجاري القنوات الفضائية التي كثيراً ما تعمل على إشاعة
الخلاعة والمجون، حتى أصبح ذلك رسالة لها في كثير من محطاتها.
5- تجريم بعض الكتاب الذين دأبهم تضليل الأمة بإشاعة الاتجاهات العلمانية، وتضليل الشباب، ومهاجمة التيارات الإسلامية بدون وجه حق، إلى درجة أن
أصبح السمت الإسلامي عندهم علامة على التطرف والإرهاب، وهذا افتراء وإفك
وقذف للإسلام والملتزمين به بدعاوى باطلة أصجت سامجة وممجوجة، فمثل تلك
الأقلام هي التي توجد ردود الأفعال المعاكسة التي ربما أدت إلى النزوع للغلو
المرفوض شرعاً.
من الخطورة بمكان اعتبار هذا التوجه كأن لم يكن، وتناسيه، سواء
بضغوط معينة أو بتسامح، ما لم يعالج هؤلاء الشباب بتوبتهم أولاً، ثم بالعلاج
المتوالي بإصلاح الفكر بدورات تثقيفية متخصصة، أما دعوى أنه لا توجد حقيقة
لهذه الجماعة كما نُشر فهذا دفن للرؤوس في الرمال.
والله أسأل أن يوفق الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
مراجع تم الاستفادة منها:
1- إبليس، لعباس محمود العقاد.
2- عبدة الشيطان، لـ (محمد فوزي) ، نشرته (الأنباء) الكويتية في 17
حلقة بدءاً من العدد (7446) في 5/1/1997م.
3- مجلة الوسط، العدد 262، الصادر في 3/2/1997م.
4 - صحيفة الرياض، العدد 10451، الصادر في 25/9/1417هـ.
5 - جريدة الحياة اللندنية، العدد الصادر في 7/10/1417هـ.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: ما نشر على ألسنة المنتمين لهذه الفئة في مجلة المصور، ع/3773، الصادر في 31/1/1997م، ومجلة الشروق، ع/252، الصادر في 3/2/1997م، والوسط،
ع/262، الصادر في 3/2/1997م.(113/118)
الورقة الأخيرة
كلمات.. ومعان
بقلم: د. محمد بن ظافر الشهري
في تعريف الأشياء مزية عظيمة تبرر الوقت والجهد الذي يبذل في سبيل
الوصول إلى تعريف جامع مانع لبعض المصطلحات، وكما أنه لا مشاحة في
الاصطلاح؛ فإنه ينبغي ألا يكون اصطلاح مع المشاحة، فليس هناك كبير فرق
بين أن نعبر عن (الكمبيوتر) بـ (الحاسوب) أو (الحاسب الآلي) ، ولكن المشكلة أن
نستعمل مصطلح (الدين يسر) مثلاً ونحن غير متفقين بل متناقضين أحياناً في فهمنا
للمعنى المراد.
لقد أصبح العالم اليوم مثل المدينة الواحدة، وليس ذلك لتوفر وسائط النقل
السريعة فحسب؛ بل لأن التداخل الثقافي المتسارع بوصفه نتيجة حتمية للثورة
الإعلامية العارمة يكرس هذه الحقيقة يوماً بعد يوم، وهكذا، فقد انتشرت
مصطلحات كثيرة على ألسن الناس، أو في أذهانهم على أقل تقدير، دون أن يكون
لها تعريفات موحدة تُلْزِم المتحدث بالموضوعية وتعطي السامع حق التمحيص.
فلنأخذ مصطلح (التشدد) على سبيل المثال، وهو من الألفاظ التي كثر تداولها
في هذا الزمن، ففي بيئةٍ ما يكون المتشدد في الدين هو الذي لا يأخذ بالرخص التي
يحب الله أن تؤتى كما يحب أن تؤتى العزائم، وفي بيئة أخرى: يكون المتشدد بل
ربما المتطرف هو الذي يصلي المكتوبات في المسجد.. وتكمن الخطورة في أن
هذا البون الشاسع (المشاحة) في تعريف (التشدد) يمكن أن يختزله غزاة الفكر
بالتركيز على المصطلح وإهمال التعريف.
ولكي يكتسب المجتمع المستهدف (المسلم طبعاً!) القدرة على تمييز السموم
الفكرية فيتجنبها، ينبغي أن تنمى لديه ملكة التمحيص؛ حتى لا يكون كالمريد
الصوفي الذي لا يحق له أن يراجع الولي (زعموا!) في شيء مما يقول أو يفعل،
ولا بد للتمحيص أن يكون موضوعيّاً، حتى لا يتحول إلى رفض مطلق لكل طرح
تشم فيه رائحة الآخر، والموضوعية تقتضي وجود موازين مرجعية يمكن بواسطتها
تحديد الموقف من كل شيء، قبولاً أو رفضاً.
إن تميز الإسلام بوجود هذه الموازين وبراءتها من الخلل، يؤهل المسلم
ليكون أبعد الناس عن الانسياق الأعمى وراء الشعارات المضلة مهما كان بريقها..
وصلى الله على الصادق المصدوق إذ يقول: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) [1] .
__________
(1) صحيح الجامع الصغير، ح/2934.(113/127)
صفر - 1418هـ
يونيو - 1997م
(السنة: 12)(114/)
كلمة صغيرة
ولاؤهم لمن؟
تذكرنا أخبار تركيا بأحداث الجزائر، حيث انبرى الجيش في كلا البلدين
وائداً الجنين، ومهدداً الأم أن تئد ابنها الرضيع أو تحبسه حبساً مطلقاً، فلا يقرب
(الشارع السياسي) أبداً.
ضاق الجيش في (الجزائر) أو قل قادته بخيار الشعب، وما إن علموا أن
الجنين بدأ حركته داخل البطن بإعلان نتائج المرحلة الأولى حتى أجهز عليه سيف
(فرعون موسى) ، ولقد دفع الشعب (الجزائري) ولا يزال يدفع ثمن ذلك البغي من
قادة الجيش حينما سرقوا إرادته.
ولا يحسبن القارئ أننا نزكي كل ردود الأفعال التي أعقبت ذلك البغي، ولكن
الرجم لا يكون لابن الزنى؛ تخلصاً من المشكلة، وإنما الرجم لمن زنى أو زنت
[جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ] [المائدة: 38] ، ودائماً يركز دعاة (الاستئصال)
على تجريم ابن الزنى؛ لأنه ليس له شرعية! ، لقد ظلموه بجريرة غيره،
وحاكموه وهم أصل الجريمة.
واعترض الجيش التركي على الحد الأدنى من الحجاب الإسلامي (تغطية
الرأس للنساء) ، حيث ضاق قادة الجيش بتجويزه، وليس بفرضه، وهو ما يدخل
في نطاق (حقوق الإنسان والحرية الشخصية) بمعيار علمانيتهم، كما اعترض
الجيش على مدارس القرآن، في الوقت الذي فُتحت فيه الكنائس وأُعيد ترميمها في
كل بلد شيوعيّاً كان أو اشتراكيّاً بمباركة ومشاركة من الغرب.
هل أصبح الجيش هو العصا التي يُهشّم بها كل بروز ولو كان ضئيلاً لأي
وجه إسلامي، حتى ولو كان شاحب اللون، هزيل القوة؟ ! .
قديماً قال تقدمي كبير! ! : (إن الاستعمار لا بد أن يحمل عصاه ويرحل) ..
وقد رحل، ولكنه ترك عصاه يحركها بالتحكم عن بعد.
فهل لنا أن نتسائل: تلك الجيوش، وتلكم القادة الذين يأكلون، ويشربون،
ويلبسون، من دماء شعوبهم.. ولاؤهم لمن؟ ! .(114/1)
افتتاحية العدد
هذا موقف العلمانية من الإسلام وهذا موقفنا منها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء، والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل حقيقة أزلية معروفة عبر التاريخ، وهو سنة
يعرفها كل متدبر وتالٍ لآيات الذكر الحكيم، ويجدها في المواجهة بين الأنبياء
وأعدائهم من الكافرين برسالتهم، ويتكرر بصور مماثلة عبر العصور بين الدعاة
والمصلحين ومناوئيهم حينما يقفون بكل تبجح أمام الحق وأهله، رافضين جملة
وتفصيلاً ما يدعو الدعاة إليه من حق وما يطالبون به من تحكيم لشريعة الله،
فالعلمانية بخيلها ورجلها تقف بكل صلف ضد أي توجه إسلامي يقوم في أي بلد
مسلم مثيرة الشبهات ضده والإساءات المتوالية لكل منتمٍ له، بدعاوى أن أولئك
رجعيون ومتطرفون وإرهابيون؛ لهدم هذه الاتجاهات أمام الشعوب، وتخويفها منها
بالكذب والتزوير.
لقد وصف الله المنافقين أوصافاً دقيقة، تنبئ عن حقيقة ما يضمرونه من سوء
في الوقت الذي يتظاهرون فيه بالإسلام، وكأنه وصف لجوقة العلمانيين في عالمنا
الإسلامي اليوم، يقول (جل وعلا) : [وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأََرْضِ قَالُوا إنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أََلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] [البقرة: 11، 12] .
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء..، والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدّاً في كل زمان، يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم، فيتعذر على أولئك أن يشعروا بفساد
أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء
الذاتية، ولا يستند إلى أسس شرعية.
إن ظهور الإسلام هو بداية غيظ ورعب لأعداء هذا الدين وخصوم المنتمين
له في كل حين، فهو يؤذيهم ويخيفهم؛ لأنه من القوة والمتانة بحيث يخشاه كل
مبطل، ويرهبه كل باغٍ، ويكرهه كل مفسد.. لما فيه من حق أبلج ومنهج قويم،
فهو مضاد للباطل والبغي والفساد؛ ومن ثم: لا يطيقه المبطلون والبغاة والمفسدون، لذلك يرصدون لأهله، ليفتنوهم عنه.
علمانيو تركيا نموذجاً: وصورة هذا العداء السافر لم تتبين بشكل واضح جلي
كما تتضح اليوم في الحرب الشعواء التي يشنها العلمانيون على أهل الإسلام ودعاته
في كثير من ديار الإسلام، وبشكل أخص فيما يقوم به تلاميذ الرجل الصنم
(أتاتورك) من دعاة الطورانية الملحدة سواء من الأحزاب العلمانية التركية أو عن
طريق الجيش التركي الذي يعتبر نفسه حامي الدستور العلماني هناك، وهذا الولاء
الذي يدينون به له والذي جعل (أتاتورك) يحكمهم به من قبره لم يأت من فراغ،
فهو نتيجة بناء أسسه المذكور المشبوه بانتمائه للدونمة ذوي الأصول والاتجاهات
اليهودية، ومواقفه من الإسلام تؤكد ذلك، والعساكر الممسكون بأَزِمّة الأمور اليوم
هم خريجو المؤسسة العسكرية التابعة للجيش الذي تحول إلى مفرخ للقادة والضباط
المؤمنين بالمبادئ الطورانية، وجل ضباط الجيش التركي هم من ذلك الصنف؛ فلا
عجب أن نراهم حماة لتلك المبادئ العلمانية المتطرفة التي لا تطيق للإسلام صوتاً،
فضلاً عن أن يحكم أو يعمل في الهواء الطلق، ولذلك: كان لهذا الجيش موقفه
الصارم من التدخل المباشر في تعديل أي مسار ضد أي تجاوز للمبادئ العلمانية منذ
عام 1960م، حينما تدخل لإيقاف حكومة (عدنان مندريس) الذي أعلن في برنامج
حزبه الذي نال به الأغلبية وترأس الحكومة آنذاك منادياً بفتح مدارس تحفيظ القرآن، وإعادة الأذان بالعربية! .. فما كان من قادة الجيش ذوي الاتجاهات نفسها إلا أن
أسقطوا الحكومة، وأعدموا رئيسها وبعض وزرائه؛ بدعوى الخروج عن (المبادئ
الكمالية) ! ثم حصل التدخل عام 1970م مرة أخرى، ثم في عام 1981م..
فموقفهم من الإسلام موقف حياة أو موت كما ذكروا، ولولا الخوف من العواقب
الوخيمة للانقلاب العسكري الآن لأوقفوا (أربكان) الذي استطاع بكل دبلوماسية أن
يقف في وجوههم وأن يفتح العيون أمام الجميع على تدخلاتهم التسلطية في أعمال
الحكومة المنتخبة عن طريق ما يسمى بـ (مجلس الأمن القومي التركي) بشكل لا
يمكن أن يحدث في أي بلد متحضر.
والأخذ والرد الحاصل من التدخل العسكري ضد حكومة (أربكان) ومحاولة
إسقاطها بالتعاون مع الأحزاب العلمانية الهزيلة يكشف إلى أي مدى وصل العداء
القائم بين الإسلام والعلمانية، ويكشف أيضاً هلعهم من أي مظاهر إسلامية مهما
كانت محدوديتها، وهذا الخوف من عودة الإسلام مرجعه إلى الخوف على أنفسهم؛
لكثرة ما طغوا وبغوا في البلاد، فكم أذلوا الناس واستباحوا كرامتهم؟ ، وكم أساؤوا
إلى دينهم وعقيدتهم بدعوى الحفاظ على المبادئ الأتاتوركية؟ ، ولا ندري لحساب
من يجري هذا الإرهاب العلماني على الأمة والرفض المطلق للعودة لما تدين به
الأمة وتعتز؟ ولماذا الصمت المريب من المجتمع الدولي على خروقات
الديمقراطية! التي يهمهم أمرها؟ .
إن العلمانية ليست كما يشاع مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي في نهاية
الأمر وحقيقته: فصل الدين عن الحياة، ليتصرف الحاكمون بأمرهم على إشاعة
الباطل وتدجين الأمة على قبول الهوان والتبعية للأعداء بتقنين الباطل وحكم
الطاغوت.
ومن العجب أن يتحدث نفر من المنسوبين للإسلام بكل سذاجة وبورع بارد
حينما يدعوننا ألا نتحدث عن خطر العلمانية، وألا نفضح العلمانيين، وألا نتهمهم
بالخروج والضلال المبين.
كيف لا نتهمهم بكل ذلك وأهدافهم أصبحت مكشوفة للجميع؟ وكيف لا
نفضحهم وأفكارهم الرافضة للدين بانت لكل ذي عينين؟ وكيف لا نحذر الناس
من شرورهم وتلك هي مواقفهم واضحة من الإسلام وعلمائه ودعاته والمنتسبين
إليه؟ أين الحرية الشخصية التي تضمنتها دساتيرهم إياها ذرّاً للرماد في العيون؟ ...
أين حقوق الشعوب في تعلم ما تدين به؟ بل أين مظاهر الإسلام حتى الشكلية ...
منها؟ ! ...
لقد أكد كثير من علماء الإسلام أن حقيقة العلمانية هي رفض للدين أن يكون
حاكماً، بتنحية الإسلام عن الحياة في كل الأمور؛ والآن تقاتل العلمانية لمنع تحكيم
الإسلام وعودته من جديد حتى بالوسائل الديمقراطية التي يتشدقون بها ليل نهار.
فما هو موقف علماء المسلمين منها؟ .
يقول سماحة الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) أحد العلماء الأعلام في
هذا العصر في إحدى فتاويه: ( ... وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم
غير الله أحسن من حكم الله، أو أن هدي غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أحسن من هدي الرسول، فهو كافر، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد
من الناس الخروج عن شريعة محمد، أو تحكيم غيرها، فهو كافر ضال) .
ويضيف سماحته في فتوى أخرى: ( ... فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير
شريعة الله، ويرون أن ذلك جائز لهم، أو أن ذلك أولى من التحاكم إلى شريعة الله، لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام، ويكونون بذلك كفاراً ظالمين
فاسقين) [1] .
هذه هي العلمانية أيها الناس وهذا هو حكمها، فهي تلك التصورات القاصرة
والمشبوهة عن الإسلام، وأحكامه، وأصوله، وهذا ما يدين به رموز العلمانية في
كل بلد مهما تظاهروا زوراً بخلاف ذلك.
فاعرفوا العلمانية حق المعرفة واكفروا بها؛ لمصادمتها لدينكم، ولمعارضتها
لأصول عقيدتكم، والواقع أكبر دليل على ذلك.. فإلى متى نتجاهل ذلك، ونؤول
الحقائق؟ ، ثم حتى متى يتمسك بعض السذج بذلك الورع البارد الذي ينم عن مدى
الجهل بالإسلام نفسه؟ ! .
إننا نذكر الجميع بأن تلك هي مواقف العلمانية والعلمانيين من الإسلام، وذلك
هو حكم الإسلام فيهم:
[فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
__________
(1) مجموع فتاوى سماحته، ج1، ص 274، ص 275، وانظر له أيضاً: العقيدة الصحيحة، ونواقض الإسلام.(114/4)
دراسات شرعية
الاستغفار.. أهميته وحاجتنا إليه
بقلم: سلمان بن عمر السنيدي
استغفار الله والمداومة عليه جاء الأمر به من الله (تعالى) لنبيه في قوله
(تعالى) : [فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالإبْكَارِ] [غافر: 55] ، وفي قوله (تعالى) : [وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً
رَّحِيماً] [النساء: 106] ، وفي قوله (تعالى) : [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ] [محمد: 19] ، وفي قوله (تعالى) : [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ
تَوَّاباً] [النصر: 3] .
ولقد استجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر خير استجابة؛
فعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: (ما صلى النبي صلاة بعد أن نزلت [إذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) [1] .
وعنها (رضي الله عنها) قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر
أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول
القرآن) [2] .
وكان يكثر الاستغفار في غير الصلاة، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب
إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) [3] .
وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة) [4] .
وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-
يقول: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) في المجلس قبل أن
يقوم مئة مرة) [5] .
وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: (إنا كنا لنعد لرسول الله في المجلس: (رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم) مئة مرة) [6] .
وعن الأغر المزني (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة) [7] .
وقيل في معنى قوله: (إنه ليغان على قلبي) عدة معانٍ، وهي:
المراد بـ (الغين) : الفتور عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر
عنه لأمرٍ ما عدّ ذلك ذنباً، فاستغفر عنه، وحُكي عن عياض.
وقيل: هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس.
وقيل: هي حالة كمثل جفن العين حين يسبل ليدفع القذى، فإنه يمنع الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال [8] .
نماذج من استغفاره:
ولقد أخذ استغفاره نماذج عدة في مواطن كثيرة، منها: استغفاره بعد السلام
من الفريضة، وعند الخروج من الخلاء، وفي خطبة الحاجة، وعند النوم، وفي
كفارة المجلس.. وغيرها، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
بعد الفراغ من الوضوء:
عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن الرسول قال بعد الوضوء:
(سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) [9] .
عند القيام لصلاة الليل:
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم-
إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن
فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت
الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق،
والساعة حق، والنبيون حق، ومحمدٌ حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت،
وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما
أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت) [10] .
في استفتاح الصلاة:
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة، قال: أحسبه قال: هنيّةً، فقلت:
بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتُك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ ، قال: أقول
اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من
الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج
والبَرَد) [11] .
في آخر الصلاة:
عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما
أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم
وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) [12] .
عند موته:
عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأصغيت إليه قبل أن يموت وهو مسند إليّ ظهره يقول: (اللهم اغفر لي
وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى) [13] .
وفي عامة دعائه:
عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت
أعلم به مني، اللهم اغفر لي جِدِّي وهزلي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي،
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به
مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير) [14] .
استشكال ورَدّه:
واستشكل وقوع الاستغفار من النبي وهو معصوم؛ فالاستغفار يستدعي وقوع
المعصية، وأجاب العلماء على ذلك بعدة أجوبة، منها:
قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد.
وقال ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهاداً في العبادة لما أعطاهم الله (تعالى)
من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير، فكأن الاستغفار من
التقصير في أداء الحق الذي يجب لله (تعالى) .
وقال القرطبي في (المفهم) : (وقوع الخطيئة من الأنبياء جائز؛ لأنهم مكلفون، فيخافون وقوع ذلك ويتعوذون منه) [15] .
حث الأمة على الاستغفار:
عَدّ ابن كثير أمر الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالاستغفار تهييجاً للأمة
على طلب المغفرة، إذ كيف يكون خطاب أفراد الأمة إذا أمر نبيها بالاستغفار؟ [16] .
وجاء في الكتاب العزيز حث على الاستغفار وترغيب فيه والثناء على أهله،
في مثل قوله (تعالى) : [وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [المزمل: 20] ،
ومن ذلك: قوله (تعالى) : [وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ] [آل عمران: 17] .
يقول ابن كثير عن فضيلة الاستغفار وقت الأسحار:
وثبت في الصحيحين عن جماعة من الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (ينزل ربنا (تبارك وتعالى) في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى
ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ ، هل من داعٍ فأستجيب له؟
هل من مستغفر فأغفر له؟) [17] .
وفي الصحيحين عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: من كل الليل أوتر من
أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السّحَر [18] .
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟
فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.
وعن حاطب قال: سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول:
يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت، فإذا هو ابن مسعود
(رضي الله عنه) .. وعن أنس بن مالك قال: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن
نستغفر في آخر السحر سبعين مرة [19] .
تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- الاستغفار لأصحابه:
ومن مظاهر اهتمامه بالاستغفار: تعليمه لأصحابه، بل لخيرة أصحابه،
وصاحبه في الهجرة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال:
إن أبا بكر الصديق قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله علمني
دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي. قال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً
كبيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت
الغفور الرحيم) [20] .
وعن قوله: (مغفرة من عندك) قال الطيبي: دل التنكير على أن المطلوب
غفران عظيم لا يحيط به وصف، وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين، أحدهما:
الإشارة إلى التوحيد، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله لي، والثاني: أنه
إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من عمل حسن ولا غيره،
وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى: هب لي مغفرة تفضلاً، وإن لم أكن
لها أهلاً بعملي [21] .
ومن اهتمامه بشأن الاستغفار: تعليمه للرجل حديث الإسلام دعاءً يبدأ
بالاستغفار، فعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علّمه النبي
الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني
وعافني وارزقني) [22] .
إن الأمة في هديه محتاجة إلى اللهج بالاستغفار، ابتداءً من حديث العهد
بالإسلام إلى خير الأمة وصدِّيقها، فكيف بمن جاء بعدهم؟ ! .
ومن مظاهر حث الأمة على الاستغفار: ترغيبهم في سيد الاستغفار، فعن
شداد بن أوس (رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سيد
الاستغفار: أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا
على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك
عليّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: من قالها
من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من
الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) [23] .
قال ابن حجر: (وفي ذلك إعلام لأمته أن أحداً لا يقدر على الإتيان بجميع ما
يجب عليه لله، ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم، فرفق الله بعباده،
فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم.
وقال ابن أبي جمرة: جمع في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما
يحق له أن يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية،
والاعتراف بأنه هو الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذ عليه، والرجاء بما وعده به، والاستغفار من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها،
وإضافة الذنب إلى النفس، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على
ذلك إلا هو) [24] .
وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) [25] .
الحاجة إلى الاستغفار:
قال ابن القيم (رحمه الله) في بيان حاجة العبد للتوبة والاستغفار: (انسب
أعمالك وأحوالك إلى عظيم جلال الله، وما يستحقه، وما هو له أهل، فإن رأيتها
وافية بذلك مكافأة له فلا حاجة حينئذ إلى التوبة، وإذا رأيت أن أضعاف أضعاف ما
قمت به من صدق، وإخلاص، وإنابة، وتوكل، وزهد، وعبادة: لا يفي بأيسر
حق له عليك، ولا يكافئ نعمة من نعمه عندك، وأن ما يستحقه لجلاله وعظمته
أعظم وأجل وأكبر مما يقوم به الخلق: رأيت ضرورة التوبة، وأنها نهاية كل
عارف وغاية كل سالك، وإذا لم يكن للقيام بحقيقة العبودية سبيل فعلى التوبة
المعول ... ولولا تنسم روحه التوبة لحال اليأس بين ابن الماء والطين وبين
الوصول إلى رب العالمين، هذا لو قام بما ينبغي عليه من حقوق لربه، فكيف
والغفلة والتقصير والتفريط والتهاون وإيثار حظوظه في كثير من الأوقات على
حقوق ربه لا يكاد يتخلص منها؟ !) [26] .
وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ
تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال
به هكذا) [27] .
قال ابن حجر: (المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوة ما عنده من الإيمان، فلا
يأمن من العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم: أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر
عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيء. وقال المحب الطبري: إنما كانت
هذه صفة المؤمن؛ لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب
وليس على يقين من المغفرة) [28] .
ثمار الاستغفار:
أولاً: غفران جميع الذنوب، ويشمل ذلك ذنوب العبد التي لم يحصها أو
نسيها وقد أحصاها الله عليه مهما صغرت أو مضت عليه السنون، وقد حكى الله
عن أناس غفلوا عن أعمالهم ففجأتهم يوم القيامة، قال الله عنهم: [وَبَدَا لَهُم مِّنَ
اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ] [الزمر: 47] .
ثانياً: الدخول على الله من باب الخضوع والخشية والإخبات، وهذا يورث
التواضع باطناً وظاهراً.
ثالثاً: الاقتداء بالرسول، وظاهرٌ ما في الاقتداء به من البركة وحصول
الخيرات.
رابعاً: الاعتراف بالتقصير في الطاعات والخوف من الذنوب هو مطية
الإقبال على التزود من النوافل وعمل الصالحات والاستكثار من الحسنات.
خامساً: المحافظة على سلامة القلب وصفائه من آثار الذنوب، كما جاء في
الحديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في
قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب: صقل قلبه) [29] .
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كل بني آدم خطاء، وخير
الخطائين التوابون) [30] .
__________
(1) رواه البخاري، ح/4967، ومسلم، ح/484.
(2) رواه مسلم، ح/484، والنسائي، ح/1047، وأبو داود، ح/877، وابن ماجة، ح/889، وأحمد، ح/23643.
(3) رواه البخاري، ح/6307، ومسلم، ح/2702، والترمذي، ح/3259.
(4) رواه مسلم، ح/2702.
(5) رواه النسائي، وقال ابن حجر: بسند جيد، الفتح، 11/101.
(6) رواه أبو داود، ح/1516، وابن ماجة، ح/3814، والترمذي، ح/ 3434، وقال: حسن صحيح.
(7) رواه مسلم، ح/2702، وأبو داود، ح/1515.
(8) انظر: فتح الباري، 11/101.
(9) رواه ابن السني بسند جيد.
(10) رواه البخاري، ح/4967، ومسلم، ح/484.
(11) رواه البخاري، ح/6307، ومسلم، ح/2702، والترمذي، ح/3259.
(12) رواه البخاري، ح/6317، باب إذا انتبه من النوم، ومسلم، ح/769.
(13) رواه مسلم، ح/484، والنسائي، ح/1047، وأبو داود، ح/877، وابن ماجة، ح/889، وأحمد، ح/23643.
(14) رواه مسلم، ح/771، والترمذي، ح/3344، وقال: حديث حسن صحيح.
(15) رواه البخاري، ح/744، ومسلم، ح/598، والنسائي، ح/60، وأبو داود، ح/781، وابن ماجه، ح/805، وأحمد، ح/7124، والدارمي، ح/ 1244.
(16) انظر: الفتح، 11/101، 202.
(17) انظر: تفسير القرآن العظيم، 4/84.
(18) رواه البخاري، ح/1145، ومسلم، ح/758.
(19) رواه البخاري، ح/996، ومسلم، ح/745، واللفظ له.
(20) انظر: تفسير القرآن العظيم، 1/353.
(21) رواه البخاري، ح/834، في باب الدعاء قبل السلام، ومسلم، ح/ 2705، والترمذي،
ح/3531، والنسائي، ح/1302، وأحمد، ح/29.
(22) انظر: الفتح، 2/320.
(23) رواه مسلم، ح/2697.
(24) رواه البخاري، ح/6306، ورواه أحمد، ح/16662، والنسائي، ح/ 5522، والترمذي، ح/3393.
(25) انظر: الفتح، 11/100.
(26) رواه البيهقي، ورواه ابن ماجة، ح/3863، قال النووي في الأذكار، ص547: بإسناد جيد، وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال المنذري: إسناده صحيح.
(27) تهذيب مدارج السالكين، ص641.
(28) رواه البخاري، ح/6308 2) انظر: الفتح، 11/105.
(29) رواه أحمد، ح/7892، والترمذي، ح/3334، وابن ماجة، ح/ 4244، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/1670.
(30) رواه أحمد، ح/12637، والترمذي، ح/2499، وابن ماجة، ح/ 4251، عن أنس، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/4515.(114/8)
دراسات شرعية
المنتقدون على الصحيحين والرد على عليهم
بقلم: أحمد بن حسن آل عامر
ما من كتاب ألّفه أحد من البشر إلا وقد تعرّض للنقد، فلم يسلم من النقد أحد،
وهذا النقد قد يكون صواباً وقد يكون خلاف ذلك، ومن أجلّ الكتب التي تعرضت
للنقد صحيحا البخاري ومسلم.
والذين انتقدوا الصحيحين على صنفين:
الصنف الأول: بعض المعاصرين، وأكثرهم من المبتدعة، كأهل المدرسة
العقلية، والإباضية، والشيعة، وهؤلاء ردوا كثيراً من الأحاديث التي في
الصحيحين؛ لأنها تخالف مذاهبهم أو لا توافق عقولهم وأهواءهم [1] .
وهذا الصنف ليس هو موضوعنا؛ لأن نقدهم قام على أسس هاوية،
واختلافنا معهم غالباً يكون في منهج التلقي؛ مما يجعل الوصول إلى إقناعهم أمراً
صعباً جدّاً [*] .
الصنف الثاني: وهم الذين أتطرق إلى أقوالهم والإجابة عنها، وهم بعض
الحفاظ من أهل العلم ممن تأخروا عن البخاري ومسلم (رحمهما الله تعالى) ،
فاستدركوا عليهما بعض الأحاديث، وقد اعتبروا أن البخاري ومسلم قد أخَلا
بشروطهما فيها، وقد رد عليهم بعض العلماء ممن جاؤوا بعدهم، وهؤلاء نحسبهم
لا يريدون إلا الحق ويبحثون عن الصواب، ولا شك أن الرد عليهم يقتضي
دراسات علمية مطولة وأبحاثاً موثقة في علم الحديث، وهذا المقال مجرد إشارات
وتنبيهات ليس إلا.
وقد ذكر أهل العلم ك (ابن حجر العسقلاني) ، و (النووي) وغيرهما الذين
انتقدوا على الصحيحين، فكان أشهرهم ثلاثة:
الأول: الحافظ (أبو الحسن الدارقطني) (385هـ) :
فقد استدرك وتتبع (البخاري) و (مسلم) ، فكان بذلك من المنتقدين، وصنف
في ذلك كتابين:
الكتاب الأول: (الإلزامات) : وهو كتاب ذكر فيه أحاديث يرى أنها على
شرط (البخاري) و (مسلم) ، أو على شرط أحدهما ولم يخرّجاها، وقد بلغت سبعين
حديثاً.
فهو بذلك يُلزم (البخاري) و (مسلم) بإخراجهما [2] .
الجواب عن هذا النقد:
1- أن هذه الإلزامات من (الدارقطني) (رحمه الله) ليست بلازمة؛ لأن
(البخاري) و (مسلم) لم يلتزما أن يخرجا في صحيحيهما كل حديث صحيح، ولذلك
قال (البخاري) : لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً، وما تركت من الصحيح فهو
أكثر، وصرح (مسلم) أنه ليس كل صحيح أخرجه [3] .
2- أن بعض هذه الإلزامات قد أخرج (البخاري) و (مسلم) ما يغني عنها من
طرق أخرى عن صحابة آخرين، وليس معنى هذا أنه لا فائدة من الطرق الأخرى، بل هي تُقوّي الحديث وتزيده صحة، ولكن ما ذكره (البخاري) و (مسلم) طريق
قوي لا يحتاج إلى طريق يقويه، وإن جاء طريق يقويه فهو خير إلى خير، ولكن
لا يُعتبر هذا نقداً.
وعلى هذا: لا يلزم (البخاري) و (مسلم) ما ألزمهما (الدارقطني) .
الكتاب الثاني: (التتبع) : وانتقد فيه (الدارقطني) من أحاديث الصحيحين
مئتي حديث، مما يرى أن له علة، وقد بلغت أحاديثه بالعد ثمانية عشر ومئتي
حديث [4] .
الجواب عن هذا النقد:
أن هذه الاستدراكات من (الدارقطني) هي في الصناعة الحديثية لا في المتون، وليس معنى هذا أنه لا قيمة للانتقادات في الصناعة الحديثية، فرب محدث يرحل
من أجل سند الحديث الواحد، والمتن ثابت لديه من طريق آخر [5] .
وقد كان منهج (الدارقطني) في التتبع يدور مع القرائن ولا يلتزم طريقاً معيناً، فأحياناً يرجح بالكثرة، وأحياناً بالحفظ، وقد توخى بمسلكه هذا طريق فحول
العلماء والنقاد، مثل: (عبد الرحمن بن مهدي) ، و (يحيى القطان) ، و (أحمد بن
حنبل) وأمثالهم [6] .
الثاني: (أبو مسعود الدمشقي) (401هـ) :
ذكر (النووي) أن من المنتقدين (أبا مسعود الدمشقي) ، وأن له استدراكاً على
الصحيحين، وقد يكون المقصود بذلك: كتاب (أطراف الصحيحين) له، وهذا
الكتاب لا ندري هل هو مخطوط أم مفقود، وعلى هذا لا نستطيع الرد عليه؛ لعدم
معرفة ما الذي انتقده (أبو مسعود الدمشقي) على الصحيحين.
الثالث: الحافظ أبو علي الغساني (498هـ) :
ألف كتابه (التنبيه على الأوهام الواقعة في الصحيحين من قِبَل الرواه) قسم
البخاري.
وموضوع كتاب (الغساني) (رحمه الله) هو التنبيه على الأوهام الواقعة في
الصحيح، وذلك فيما يخص الأسانيد وأسماء الرواة، والحمل فيها على الرواة عن
(البخاري) ، لا ممن هم فوق (البخاري) أو من (البخاري) نفسه إلا في مواطن قليلة.
فيقول (رحمة الله تعالى عليه) : (هذا كتاب يتضمن التنبيه على الأوهام
الواقعة في المسندين الصحيحين، وذلك فيما يخص الأسانيد وأسماء الرواة،
والحمل فيها على نقلة الكتابين عن (البخاري) و (مسلم) (رحمهما الله) وبيان
الصواب في ذلك) [7] .
ومن خلال قوله (رحمه الله تعالى) فإنه لا يعتبر من المنتقدين كما ذكر ذلك
الحافظ (ابن حجر العسقلاني) عن (النووي) ؛ إذ إن الأوهام التي ذكرها ليست من
(البخاري) نفسه ولا ممن هو فوقه، وإنما هي من الرواة عن (البخاري) .
وعلى هذا يخرج (أبو علي الغساني) من المنتقدين على الصحيحين.
والخلاصة من هذا المبحث: أن الأحاديث الواردة في الصحيحين صحيحة،
لا مطعن فيها؛ ولذلك نقل (النووي) إجماع العلماء على صحة الأحاديث الواردة في
الصحيحين كما في كتابه (تهذيب الأسماء واللغات) .
ونقل الإجماع كذلك (سراج الدين البلقيني) ، وكذلك شيخ الإسلام (ابن تيمية) .. وغيرهم كثير، وأما ما انتقد به بعض العلماء على الصحيحين فقد أجاب عليها
العلماء كما ذكرنا سابقاً.
وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه.
__________
(1) مكانة الصحيحين، لإبراهيم ملا خاطر، ص 301.
(*) هناك دراسات لعدد من الباحثين والدارسين في مناقشة هذه الفئات، منها: كتاب (أعاصير في وجه السنة) ، للأستاذ (صلاح الدين مقبول) .
(2) الإلزامات، للدارقطني، ص 116، 381.
(3) هدي الساري (مقدمة فتح الباري) ، لابن حجر العسقلاني، ص 364.
(4) التتبع، للدارقطني، ص 382.
(5) المصدر نفسه، بتحقيق الشيخ مقبل الوادعي.
(6) بين الإمامين مسلم والدارقطني، للدكتور ربيع المدخلي، ص 30.
(7) التنبيه على الأوهام، لأبي علي الغساني، ص 43.(114/16)
من فتاوى أهل الذكر
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
فتاوى أهل العلم الأثبات هي عصارة علم المفتين وخلاصة فقههم، ومنارات
يسترشد بها، هي جواب عن نوازل ومستجدات، وباب لتبليغ دين الله (تعالى) ..
ونظراً لأهمية (الفتاوى) ، وتحقيقاً لرغبة القراء، فستقوم (البيان) إن شاء الله
(تعالى) بنشر جملة من الفتاوى المهمة، حيث روعي في اختيارها تنوّع
موضوعاتها، وعظم الحاجة إليها في هذا العصر، إضافة إلى تنوّع أصحابها زماناً
ومكاناً.
مدخل:
مسألة وصول ثواب الطاعات إلى الأموات من المسائل التي تنازع العلماء
فيها قديماً وحديثاً، وأقوالهم في هذه المسألة على طرفين ووسط كما هو الغالب في
المسائل العلمية والعملية، فمنهم من أنكر أن الميت ينتفع بشيء من القربات ألبتة
كما هو حال أهل الكلام، ومنهم من توسع في ذلك فادعى أن الميت ينتفع بكل ما
أهدي إليه، والحق وسط بين هذين الطرفين كما هو محرر في هذه الفتوى التي
صدرت من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم (4835) برئاسة سماحة
الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) (حفظه الله) ونائبه الشيخ العلامة
(عبد الرزاق عفيفي) (رحمه الله) ، وعضوية فضيلة الشيخ (عبد الله بن قعود)
(حفظه الله) .
والسؤال: هل يجوز إيصال الثواب للميت بالأعمال الحسنة عامة؟ ، وهل
يجوز عقد مجلس لختم القرآن ثم إيصال ثواب القراءة للموتى حتى الأنبياء؟
الجواب:
أولاً: الصحيح من أقوال العلماء: أن فعل القرب من حيٍّ لميت مسلم لا
يجوز إلا في حدود ما ورد الشرع بفعله، مثل: الدعاء له، والاستغفار، والحج،
والعمرة، والصدقة عنه، والضحية، وصوم الواجب عمن مات وعليه صوم واجب.
ثانياً: قراءة القرآن بنية أن يكون ثوابها للميت لا تجوز؛ لأنها لم ترد عن
المصطفى (صلوات الله وسلامه عليه) ، والأمر كما قدمنا بالفقرة الأولى: أنه لا
يجوز فعل قربة من حي لميت مسلم، إلا في حدود ما ورد الشرع به، وثبت عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يزور القبور، ويدعو للأموات بأدعية علّمها
أصحابه وتعلموها عنه، من ذلك: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين
والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) ، ولم يثبت
عنه أنه قرأ سورة من القرآن، أو آيات منه للأموات، مع كثرة زيارته لقبورهم،
ولو كان ذلك مشروعاً لفعله، وبينه لأصحابه؛ رغبة في الثواب، ورحمةً بالأمة،
وأداءً لواجب البلاغ، فإنه كما وصفه (تعالى) بقوله: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ]
[التوبة: 128] ، فلمّا لم يفعل ذلك مع وجود أسبابه دل على أنه غير مشروع، وقد عرف ذلك أصحابه (رضي الله عنهم) ، فاقتفوا أثره، واكتفوا بالعبرة والدعاء للأموات عند زيارتهم، ولم يثبت عنهم أنهم قرؤوا قرآناً للأموات، فإن القراءة لهم بدعة محدثة، وقد ثبت عنه أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .
ومما تقدم يعلم أنه لا يجوز عقد مجلس لختم القرآن للغرض المذكور.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(114/20)
تأملات دعوية
العلم والدعوة والصراع المفتعل
بقلم: عبد لله المسلم
تعد دعوى التعارض بين طلب العلم والدعوة إلى الله (عز وجل) من أكثر
القضايا الساخنة في أدبيات الصحوة الإسلامية اليوم، ويأخذ نقاش هذه القضية مكاناً
رحباً في الكتابات الدعوية، وفي المناقشات والمداولات، وفي التساؤلات التي
تطرح على المهتمين.
ومنشأ الصراع والجدل حول هذه القضية يتمثل في أن فئة من الناس ترى أن
ارتباط العلم بالدعوة ارتباط وثيق؛ فالدعوة بلا علم دعوة بلا رصيد، بل حقيقة
الدعوة هي تبليغ ما يعلمه المرء من الدين الصحيح للناس، ومن ثم: فلا يسوغ
لدى هؤلاء المشاركة في الدعوة لمن لم يتأهل التأهل العلمي الكافي.
وتنظر فئة أخرى إلى أن مشكلات المسلمين اليوم عديدة، وأنها تحتاج لحشد
الطاقات وجمع الجهود، ويرون أن التفرغ للتحصيل العلمي يعطل كثيراً من هذه
الطاقات التي يحتاج إليها الصف الدعوي، ويضيف هؤلاء: أن طلب العلم لا
ينتهي بصاحبه إلا حين يغادر الدنيا، ثم إن كثيراً من مشكلات المسلمين في نظرهم
لا تحتاج إلى كبير علم في معالجتها ومواجهتها.
ومهما حاول أي كاتب البحث المستفيض في القضية والسعي لوضع النقاط
على الحروف فيها.. فستبقى مجالاً للنقاش والأخذ والعطاء؛ فحجم هذه القضية
أكبر من أن يحيط به كاتب غير مبرأ من الهوى والمقررات السابقة، وهذه محاولة
لوضع إضاءات على الطريق، علها أن تقرب المسافة بين فئات ممن يعيشون جدلاً
حول هذا القضية:
1- إن على جيل الصحوة أن يضع التحصيل العلمي ضمن أولوياته، ويجب
على المؤسسات والجمعيات الإسلامية أن تضع رفع المستوى العلمي ضمن برامجها
الدعوية.
2- إن على الدعاة تبني برامج لتعليم الناس، وأن تستفيد هذه البرامج من
معطيات التقدم المادي ونتاج التقنية المعاصرة في ذلك.
3- لا ينبغي التهوين من شأن العلم وقيمته، أو احتقار من يعنى بطلبه وجمع
مسائله.
4- الإخلال بذلك يحول الدعوة إلى ميدان من التخبط والاضطراب، ويفتح
مجالاً واسعاً للآراء الشخصية والاجتهادات الفردية، ويؤدي إلى الانحراف والزيغ.
5- دعوة عامة المسلمين لترك المنكرات الظاهرة، وفعل الواجبات المعلومة
من دين الله بالضرورة.. أمر يجب على جميع المسلمين.
6- دعوة المرء لأمر محدد يعلمه، ونشره للعلم في حدود ما يعلم.. أمر ربى
النبي-صلى الله عليه وسلم- عليه أصحابه، فقال: (بلغوا عني ولو آية) [1] ،
وقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه؛
فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) [2] .
7- هناك مشاركات دعوية مهمة يمكن أن يقوم بها كل فرد مسلم مهما قل
نصيبه من العلم ما دام قادراً عليها، ومن ذلك: الأعمال الإغاثية، والإدارة الدعوية، والأعمال المساندة للدعاة وأهل العلم، كالرصد والأرشفة والتوثيق.
8- هناك أعمال دعوية ضرورية تشتد الحاجة فيها إلى أصحاب التخصصات، ... كالترجمة، والكتابة الأدبية، والنقد، والأعمال المالية، والتطوير الإداري ...
وغيرها، وكل هذه الأعمال تعتبر اليوم من ضرورات العمل الدعوي.
9- حين لا يوجد لدى أحد من الشباب الحماس للعلم الشرعي (أعني: القدر
الزائد عن الحد المفروض) فينبغي ألا تبدد طاقته في حمله على ذلك، بل يجب
صرف جهده إلى ما يفيد، وإلى ذلك يشير ابن القيم (رحمه الله) بقوله: (ومما
ينبغي أن يتعمد: حال الصبي، وما هو مستعدّ له من الأعمال، ومهيأ له منها،
فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن
حمله على غير ما هو مستعدّ له لم يفلح، وفاته ما هو مهيأ له) [3] .
__________
(1) رواه البخاري، ح/3461.
(2) رواه أبو داود، ح/3660، والترمذي، ح/2656.
(3) تحفة المودود، ص243.(114/22)
دراسات إعلامية
التقنية في خدمة الدعوة إلى الله
كيف نستفيد من الحاسوب؟
(2من2)
بقلم:حسين السلمان
تحدث الكاتب في الحلقة الماضية عن أهمية الحاسوب (الكمبيوتر) في الدعوة
بين المسلمين ودعوة غير المسلمين، ثم تحدث عن مزايا الدعوة بمساعدة الحاسوب
والمجالات التي يؤثر فيها، وأخيراً عرض للنظم والمكونات الأساس التي يرى أنه
ينبغي أن يرتكز عليها نظام تعليم الإسلام من خلال هذه الآلة.. وفي هذا الحلقة
يعرض جوانب أخرى.. ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
4- نظام تعليم القرآن الكريم:
هو النظام الأساس الثالث من الأنظمة المكونة لنظام الدعوة بمساعدة الحاسوب، ويمثل أكبر هذه الأنظمة وأضخمها، حيث يشمل ضمناً النظامين السابقين: الأول
(العقيدة) ، والثاني (النبوة) ، ويمكن تطبيق الأساليب المتبعة في بناء هذا النظام
على بقية الأنظمة.
وسيتم فيما يلي عرض بعض النتائج الأولية التي تم الحصول عليها في
مشروع تطوير نظام تعليم القرآن الكريم.
التعرف على المواد العلمية أو المواضيع:
يُعتبر تحديد المواد العلمية والمواضيع التي ينبغي أن يشملها نظام القرآن من
أهم مراحل بناء هذا النظام، ويعتمد هذا التحديد على الخبرة في الدعوة، التي لا
بد من التماسها من مصادر هذه الخبرة، وبالنسبة لنظام القرآن: تم اتباع خطوتين
أساسين في هذه المرحلة، هما [1] :
1- مراجعة الكتب والمراجع المتخصصة التي تناقش قضايا القرآن وتشرح
علومه المختلفة، والهدف من هذه الخطوة هو عمل تحديد أولي للمواضيع التي
تناقشها هذه الكتب خاصة الكتب الدعوية التي تهتم بتعريف غير المسلمين بالقرآن
ويشمل ذلك: الكتب التي تعرِّف بالكتب السماوية الأخرى مثل: الإنجيل، وذلك
بهدف تحديد المواضيع التي هي محل اختلاف كبير بين القرآن وكتب الأديان
الأخرى.
2- تصميم استبانة رأي وتوزيعها على الدعاة النشيطين؛ لمعرفة آرائهم
والاستفادة من خبراتهم، باعتبار ذلك وسيلة للتعرف على المواضيع ذات الاهتمام
للمستخدمين، وقد رُؤي أن يتم توزيع هذه الاستبانة على المهتمين بدعوة غير
المسلمين، سواء أكانوا من الدعاة البارزين، أو الذين قضوا فترة بين ظهراني غير
المسلمين، إما للدراسة أو للعمل.
وتتكون الاستبانة بشكل عام من جزئين: الأول: يتكون من أسئلة هدفها
الحصول على معلومات عن معبِّئ الاستبانة، وتشمل معلومات شخصية،
ومعلومات تدل على مدى تمرسه في الدعوة بين غير المسلمين، أما الجزء الثاني
من الاستبانة: فإنه يحتوي على أسئلة تطلب من معبئ الاستبانة أن يختار
المواضيع والقضايا الرئيسة التي يرى أنها تهم غير المسلمين ويجب تغطيتها في
البرنامج [2] .
وكما ذُكر سابقاً: فإنه تم بشكل أولي تحديد المواضيع المطلوبة، وذلك من
خلال مراجعة الكتب والمراجع التي تناقش مختلف علوم القرآن، وفي الاستبانة
طُلِبَ من معبئها أن يضع درجة من 1 إلى 10 أمام كل موضوع؛ للحكم على
أهميته، حيث (10) تعني الأكثر أهمية، و (1) تعني الأقل أهمية، وقد تم توزيع
أكثر من (150) نسخة من الاستبانة في ثلاث دول: داخل السعودية، وفي
الولايات المتحدة الأمريكية، وفي بريطانيا، وقد رجعت (115) نسخة منها، أي
إنه تم تجميع ما نسبته 76% من عدد النماذج الموزعة، وهذه نسبة جيدة تدل على
اهتمام الأشخاص الذين تم اختيارهم لتعبئة النماذج.
المقابلات مع الخبراء في الدعوة:
في الفقرة السابقة تم شرح إحدى وسائل استخلاص الخبرات والمعرفة من
الدعاة، وهي الاستبانات، ولكن تلك الوسيلة محدودة إلى حدٍّ ما، وتكمن فائدتها
الكبرى في قياس مدى اتفاق الآراء تجاه قضايا محددة، أما الطريقة المثلى
لاستخلاص الخبرة من الدعاة فهي إجراء مقابلات مفتوحة مع هؤلاء الدعاة، بحيث
يمكن استخلاص الخبرة منهم بطريقة تفاعلية.
وقد تم اختيار الدعاة لعمل المقابلات معهم من بين الدعاة ذوي الخبرة الطويلة
في مجال الدعوة، وأيضاً من بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الذين درسوا
في البلاد الأجنبية، كذلك تضمنت العينة عدداً من المسلمين الذين كانوا أساساً
معتنقين ديانات أخرى ثم هداهم الله للإسلام.
النتائج:
1- تحديد أهمية المواضيع وترتيبها:
اشتملت الاستبانة على (16) موضوعاً رئيساً، وتم تحديد أهمية كل موضوع
من الموضوعات بالاستناد إلى نتائج الاستبانة، وقد جرى حساب المتوسط الحسابي
لكل موضوع من هذه المواضيع وبالتالي: ترتيب أهميتها بناءً على قيمة متوسطها
الحسابي، وقد جرى عمل تحليل شرائحي لمعرفة آراء المستفتين بحسب شرائحهم، وهنا تم تحديد أربع شرائح: الشريحة الأولى: تشمل كل العينة، والشريحة
الثانية: تشمل الخبراء (بحسب تصنيفهم لأنفسهم) ، والشريحة الثالثة: تشمل
النشيطين في الدعوة، والشريحة الأخيرة: تشمل الذين قضوا عشر سنوات أو أكثر
في بلدان غير المسلمين.
ويبين الجدول رقم (1) ترتيب المواضيع بحسب اختيار كل شريحة من الشرائح المذكورة أعلاه، ويوضح هذا الجدول أهمية موضوعات معينة، مثل: موضوع التوحيد، وموضوع الرسالة وخاصة رسالة محمد، والمواضيع التي تشمل التعريف بالقرآن.
جدول (1) : ترتيب المواضيع بحسب نتائج الاستبانة
----------------------------------------------
كل العينة الخبراء النشيطون 10 سنوات
----------------------------------------------
التوحيد التوحيد التوحيد ... التوحيد
الرسل ... ... التعريف الرسل ... ... ... الرسل
المصادر الغرض المصادر ... المصادر
التعريف الرسل التعريف ... التعريف
المعجزات المعجزات الغرض ... الغرض
الكون الإنسان المعجزات الأسرة والمجتمع
الأسرة والمجتمع المصادر العدالة ... العدالة
شبهات العدالة الأخلاق ... المعجزات
الإنسان الأخلاق الأسرة والمجتمع الأخلاق
الغرض الكون الكون ... الكون
الأخلاق ... الأسرة والمجتمع العلم التجريبي ... الإنسان
العدالة ... نماذج ... الإنسان ... ... ... شبهات
العلم التجريبي شبهات جمع القرآن جمع القرآن
نماذج ... الاقتصاد شبهات ... العلم التجريبي
الاقتصاد العلم التجريبي الاقتصاد ... الاقتصاد
جمع القرآن جمع القرآن نماذج ... نماذج
---------------------------------------------
2- تحديد صفات المستخدمين:
إن معرفة كل النواحي المتعلقة بمستخدمي البرنامج من غير المسلمين سواء
الناحية الشخصية، مثل: العمر، والحالة الاجتماعية.. أو الناحية العلمية،
كالتخصص، والمؤهل العلمي، أو الناحية الاقتصادية ومستوى الدخل، وغيرها
من النواحي.. تؤدي ولا شك إلى توجيه الحوار وطريقة العرض بشكل يحقق أكبر
فائدة ممكنة من استخدام مثل هذه البرمجيات، بل إن معرفة هذه النواحي وأخذها
أساساً في عملية التحاور والعرض مع المستخدم تؤدي إلى توفير الجهود وضمان
فاعلية أكثر من نتائج هذه البرامج، فالمستخدم يجد أن النظام كأنما صمم له شخصيّاً.
وتحديد صفات المستخدمين التي على ضوئها يتم تصميم محتوى المواضيع
هو الأساس في بناء نموذج المستخدم، وقد تمت الاستفادة من مصدرين أساسين
لتحديد صفات المستخدمين: الأول: هو الكتب والمراجع المتخصصة في الدعوة،
والمصدر الثاني: هو المقابلات التي تمت مع الخبراء في الدعوة، ويبين الشكل
(4) الصفات الرئيسة التي تم تحديدها محاور لتصنيف المستخدمين.
3- نمذجة المستخدمين:
المقصود بنمذجة المستخدمين هو: أن يكون لكل مستخدم نموذج خاص،
وهذا النموذج يعتمد هنا على الموضوع الذي سوف يتم عرضه، وأهم خصائص
المستخدم التي تؤثر في هذا الموضوع، ففي برنامج تعليم القرآن هناك أكثر من
(16) موضوعاً رئيساً سوف يتم عرضها للمستخدم، وكل موضوع سوف يُعرض
بأسلوب يناسب المستخدم، فالموضوع الواحد يعرض بأساليب متنوعة ومحتوى
مختلف، والمواضيع التي يحويها البرنامج تعرض للمستخدم الواحد بأساليب ونماذج
مختلفة.
ويمكن التعبير عن النمذجة كما يلي:
شكل رقم (4) : الصفات الأساس للمستخدم
طريقة نمذجة المستخدم:
وقد تم إيجاد العلاقة بين كل موضوع رئيس وصفات المستخدم التي تؤثر في
محتوى الموضوع وطريقة عرضه، وهنا سوف نوضح هذه النمذجة لموضوع واحد
على سبيل المثال، وهو (التوحيد) .
التوحيد:
هناك ثلاث صفات رئيسة للمستخدم تؤثر في موضوع التوحيد، وهذه
الصفات هي:
1- العمر. 2- الدين. 3- التخصص.
ويمكن تفصيل هذه الصفات كما يلي:
الصفة ... ... ... ... ... ... ... ... الرمز
العمر:
1- دون 15عاما. ... ... ... ... ... [D1]
2- فوق 15عاما. ... ... ... ... ... [D2]
الدين:
1- ملحد. ... ... ... ... ... ... [11]
2- هندوسي/ بوذي. ... ... ... ... [12]
3- يهودي / نصراني. ... ... ... ... [13]
4- مسلم. ... ... ... ... ... ... [14]
5- غير ذلك. ... ... ... ... ... ... [15]
التخصص:
1- تاريخ، دين، فلسفة. ... ... ... ... [E1]
2- تربية، نفس، اجتماع، قانون. ... [E2]
3- رياضيات، حاسب، هندسة، فيزياء. [E3]
4- طب، كيمياء. ... ... [E4]
5- غير ذلك. ... ... ... ... ... ... [E5]
ويمكن تمثيل هذه العلاقة بشكل مرسوم، كما في الشكل (5) الذي يبين أنه
يوجد نموذج لموضوع التوحيد لفئة العمر (دون 15 عاماً) ، أما بالنسبة لفئة العمر
(فوق 15 عاماً) فإنه توجد خمس فئات للدين، وتوجد خمسة نماذج بحسب
التخصص لكل فئة من فئات الدين، أي إنه يمكن أن يوجد 25 نموذجاً للتوحيد
لفئات المستخدمين (فوق 15 عاماً) ، وإذا أضفنا إلى ذلك نموذج العمر (دون 15
عاماً) يصبح مجموع عدد النماذج لموضوع التوحيد: 26 نموذجاً، وهذا بالطبع
عدد كبير من النماذج، وربما يمكن دمج بعضها مع نماذج أخرى عند التطوير
الفعلي لها.
شكل رقم (5) : الصفات الأساس للمستخدم
__________
(1) حسين السلمان، ود محمد مندورة: استخلاص المعرفة لنظم تعليم الإسلام بمساعدة الحاسوب، المؤتمر الوطني الرابع عشر للحاسبات، الرياض، ذو القعدة، 1415هـ.
(2) Al-Salman, A M , " A conceptual Design for An Intelligent Computer Aided Instruction System for Da'wah " , Master's.(114/24)
بأقلامهن
أعذار من لا ترتدي الحجاب
وبيان تهافتها
بقلم: د. هويدا إسماعيل
اركبي يا أختاه قطار التوبة قبل أن يرحل عن محطتك.
تأملي يا أختاه في هذا العرض اليوم قبل الغد.
فكري فيه يا أختاه من الآن.
أحمد الله (تعالى) كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على
رسوله الكريم الذي رسم الطريق إلى رضوان الله وجنته.
فكان ذلك الطريق مستقيماً، تحف جنباته الفضيلة، ويحفَلُ بطيب الأخلاق،
ويزدان بزينة الطهر والستر والعفاف.
وكان طريقاً يقود شِقّي المجتمع الإنساني الرجل والمرأة إلى مرافئ الاطمئنان
والسعادة في الدنيا والآخرة.
فكان من ذلك: أن أوجب المولى (تبارك وتعالى) على المرأة الحجاب؛ صوناً
لعفافها، وحفاظاً على شرفها، وعنواناً لإيمانها.
من أجل ذلك كان المجتمع الذي يبتعد عن منهج الله ويتنكّبُ طريقه المستقيم:
مجتمعاً مريضاً يحتاج إلى العلاج الذي يقوده إلى الشفاء والسعادة.
ومن الصور التي تدل على ابتعاد المجتمع عن ذلك الطريق، وتوضح بدقة
مقدار انحرافه وتحلله: تفشي ظاهرة السّفور والتبرج بين الفتيات.
وهذه الظاهرة نجد أنها أصبحت للأسف من سمات المجتمع الإسلامي، رغم
انتشار الزي الإسلامي فيه، فما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الانحراف؟ .
للإجابة على هذا السؤال الذي طرحناه على فئات مختلفة من الفتيات كانت
الحصيلة: عشرة أعذار رئيسة، وعند الفحص والتمحيص بدى لنا كم هي واهية
تلك الأعذار.
معاً أختي المسلمة نتصفح هذه السطور؛ لنتعرف من خلالها على أسباب
الإعراض عن الحجاب، ونناقشها كلاّ على حدة:
العذر الأول:
قالت الأولى: (أنا لم أقتنع بعد بالحجاب) .
نسأل هذه الأخت سؤالين:
الأول: هل هي مقتنعة أصلاً بصحة دين الإسلام؟ .
إجابتها بالطبع: نعم مقتنعة؛ فهي تقول: (لا إله إلا الله) ، ويعتبر هذا
اقتناعها بالعقيدة، وهي تقول (محمد رسول الله) ، ويعتبر هذا اقتناعها بالشريعة،
فهي مقتنعة بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهجاً للحياة.
الثاني: هل الحجاب من شريعة الإسلام وواجباته؟ .
لو أخلصت هذه الأخت وبحثت في الأمر بحث من يريد الحقيقة لقالت: نعم.
فالله (تعالى) الذي تؤمن بألوهيته أمر بالحجاب في كتابه، والرسول الكريم
الذي تؤمن برسالته أمر بالحجاب في سنته. وهو لعن المتبرجات السافرات.
فماذا نسمي من يقتنع بصحة الإسلام ولا يفعل ما أمره الله (تعالى) به ورسوله
الكريم؟ هو على أي حال لا يدخل مع الذين قال الله فيهم: [إنَّمَا كَانَ قَوْلَ
المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ] [النور: 51] .
خلاصة الأمر: إذا كانت هذه الأخت مقتنعة بالإسلام، فكيف لا تقتنع بأوامره؟ ...
العذر الثاني:
قالت الثانية: (أنا مقتنعة بوجوب الزي الشرعي، ولكن والدتي تمنعني لبسه، وإذا عصيتها دخلت النار) .
يجيب على عذر هذه الأخت أكرم خلق الله، رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، بقول وجيز حكيم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله) [1] .
مكانة الوالدين في الإسلام وبخاصة الأم سامية رفيعة، بل الله (تعالى) قرنها
بأعظم الأمور وهي عبادته وتوحيده في كثير من الآيات، كما قال (تعالى) :
[وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] [النساء: 36] .
فطاعة الوالدين لا يحد منها إلا أمر واحد هو: أمرهما بمعصية الله، قال
(تعالى) : [وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا]
[لقمان: 15] .
ولا يمنع عدم طاعتهما في المعصية من الإحسان إليهما وبرهما؛ قال (تعالى) : [وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً] .
خلاصة الأمر: كيف تطيعين أمك وتعصين الله الذي خلقك وخلق أمك؟
العذر الثالث:
أما الثالثة فتقول: (إمكانياتي المادية لا تكفي لاستبدال ملابسي بأخرى
شرعية) .
أختنا هذه إحدى اثنتين:
إما صادقة مخلصة، وإما كاذبة متملصة تريد حجاباً متبرجاً صارخ الألوان،
يجاري موضة العصر، غالي الثمن.
نبدأ بأختنا الصادقة المخلصة:
هل تعلمين يا أختاه أن المرأة المسلمة لا يجوز لها الخروج من المنزل بأي
حال من الأحوال حتى يستوفي لباسها الشروط المعتبرة في الحجاب الشرعي
والواجب على كل مسلمة تعلمها، وإذا كنت تتعلمين أمور الدنيا فكيف لا تتعلمين
الأمور التي تنجيك من عذاب الله وغضبه بعد الموت..؟ ! ألم يقل الله (تعالى) :
[فَاسْأََلُوا أََهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [النحل: 43] ، فتعلمي يا أختي شروط
الحجاب.
فإذا كان لا بد من خروجك فلا تخرجي إلا بالحجاب الشرعي؛ إرضاءً
للرحمن، وإذلالاً للشيطان؛ وذلك لأن مفسدة خروجك سافرة متبرجة أكبر من
مصلحة خروجك للضرورة.
يا أختي لو صَدَقَتْ نيّتُك وصحّتْ عزيمتُك لامتدت إليك ألف يدٍ خيِّرة،
ولسهل الله (تعالى) لك الأمور! ، أليس هو القائل: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ] [الطلاق: 2، 3] ؟
أما أختنا المتملصة، فلها نقول:
الكرامة وسمو القدر عند الله (تعالى) لا تكون بزركشة الثياب وبهرجة الألوان
ومجاراة أهل العصر، وإنما تكون بطاعة الله ورسوله والالتزام بالشريعة الطاهرة
والحجاب الإسلامي الصحيح، واسمعي قول الله (تعالى) : [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] .
خلاصة الأمر: في سبيل رضوان الله (تعالى) ، ودخول جنته: يهون كل
غالٍ ونفيس من نفس أو مال.
العذر الرابع:
جاء دور الرابعة، فقالت: (الجو حار في بلادي وأنا لا أتحمله، فكيف إذا
لبست الحجاب؟) ..
لمثل هذه يقول الله (تعالى) : [قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ]
[التوبة: 81] .
كيف تقارنين حرّ بلادك بحر نار جهنم؟
اعلمي أختي أن الشيطان قد اصطادك بإحدى حبائله الواهية، ليخرجك من
حر الدنيا إلى نار جهنم، فأنقذي نفسك من شباكه، واجعلي من حر الشمس نعمةً لا
نقمة، إذ هو يذكرك بشدة عذاب الله (تعالى) الذي يفوق هذا الحر أضعافاً مضاعفة،
فترجعي إلى أمر الله وتضحي براحة الدنيا في سبيل النجاة من النار، التي قال
(تعالى) عن أهلها: [لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً (24) إلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً]
[النبأ: 24، 25] .
خلاصة الأمر: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات.
العذر الخامس:
لنستمع الآن إلى عذر الخامسة، حيث قالت: أخاف إذا التزمت بالحجاب أن
أخلعه مرة أخرى؛ فقد رأيت كثيرات يفعلن ذلك! ! .
وإليها أقول: لو كان كل الناس يفكرون بمنطقك هذا لتركوا الدين جملة
وتفصيلاً، ولتركوا الصلاة؛ لأن بعضهم يخاف تركها، ولتركوا الصيام؛ لأن
كثيرين يخافون من تركه.. إلخ.. أرأيت كيف نصَبَ الشيطان حبائله مرة أخرى
فصدك عن الهدى؟ .
والله (تعالى) يحب استمرار الطاعة حتى ولو كانت قليلة أو كانت مستحبة،
فكيف إذا كانت واجباً مفروضاً مثل الحجاب؟ ! .
قال: (أَحَبّ العمل إلى الله أدومه وإن قل) .. لماذا لم تبحثي عن الأسباب
التي أدت بهؤلاء إلى ترك الحجاب حتى تجتنبيها وتعملي على تفاديها؟ .
لماذا لم تبحثي عن أسباب الثبات على الهداية والحق حتى تلتزميها؟ .
فمن تلك الأسباب: الإكثار من الدعاء بثبات القلب على الدين كما كان يفعل
النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك: الصلاة والخشوع، قال (تعالى) :
[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ] [البقرة: 45] ،
ومنها: الالتزام بكل شرائع الإسلام ومنها: الحجاب قال (تعالى) : [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا
مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] [النساء: 66] .
خلاصة الأمر: لو تمسكت بأسباب الهداية وذُقتِ حلاوة الإيمان لما تركتِ
أوامر الله (تعالى) بعد أن تلتزميها.
العذر السادس:
الآن ها هي ذي السادسة، فما قولها؟ قالت: قيل لي: (إذا لبست الحجاب
فلن يتزوجك أحد، لذلك سأترك هذا الأمر حتى أتزوج) .
إن زوجاً يريدك سافرة متبرجة عاصية لله هو زوج غير جدير بك، هو زوج
لا يغار على محارم الله، ولا يغار عليك، ولا يعينك على دخول الجنة والنجاة من
النار.
إن بيتاً بني من أساسه على معصية الله وإغضابه حَقّ على الله (تعالى) أن
يكتب له الشقاء في الدنيا والآخرة، كما قال (تعالى) : [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي
فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى] [طه: 124] .
وبعدُ، فإن الزواج نعمة من الله يعطيها من يشاء، فكم من متحجبة تزوجت،
وكم من سافرة لم تتزوج.
وإذا قلت: إن تبرجي وسفوري هو وسيلة لغاية طاهرة، ألا وهي الزواج،
فإن الغاية الطاهرة لا تبيح الوسيلة الفاجرة في الإسلام، فإذا شرفت الغاية فلا بد من
طهارة الوسيلة؛ لأن قاعدة الإسلام تقول: (الوسائل لها أحكام المقاصد) .
خلاصة الأمر: لا بارك الله في زواج قام على المعصية والفجور.
العذر السابع:
وما قولك أيتها السابعة؟ قالت: (لا أتحجب؛ عملاً بقول الله (تعالى) :
[وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] [الضحى: 11] ، فكيف أخفي ما أنعم الله به عليّ من
شعر ناعم وجمال فاتن؟ .
أختنا هذه تلتزم بكتاب الله وأوامره ما دامت هذه الأوامر توافق هواها وفهمها!، ... وتترك هذه الأوامر نفسها حين لا تعجبها، وإلا فلماذا لم تلتزم بقوله (تعالى) :
[ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] [النور: 31] ، وبقوله (سبحانه) : [يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ] [الأحزاب: 59] .
بقولك هذا يا أختاه تكونين قد شرعت لنفسك ما نهى الله (تعالى) عنه، وهو
التبرج والسفور، والسبب: عدم رغبتك في الالتزام.
إن أكبر نعمة أنعم الله بها علينا هي نعمة الإيمان والهداية، ومن ذلك:
الحجاب الشرعي، فلماذا لم تظهري وتتحدثي بأكبر النعم عليك؟ .
خلاصة الأمر: هل هناك نعمة أكبر للمرأة من الهداية والحجاب؟ .
العذر الثامن:
نأتي إلى أختنا الثامنة، التي تقول: (أعرف أن الحجاب واجب، ولكنني
سألتزم به عندما يهديني الله) .
نسأل هذه الأخت عن الخطوات التي اتخذتها حتى تنال هذه الهداية الربانية؟ ...
فنحن نعرف أن الله (تعالى) قد جعل بحكمته لكل شيء سبباً، فكان من ذلك
أن المريض يتناول الدواء كي يشفى، والمسافر يركب العربة أو الدابة حتى يصل
غايته، والأمثلة لا حصر لها.
فهل سعت أختنا هذه جادة في طلب الهداية، وبذلت أسبابها من: دعاء الله
(تعالى) مخلصة كما قال (تعالى) : [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] [الفاتحة: 6] ،
ومجالسة الصالحات؛ فإنهن خير معين على الهداية والاستمرار فيها، حتى يهديها
الله (تعالى) ، ويزيدها هدى، ويلهمها رشدها وتقواها، فتلتزم أوامره (تعالى)
وتلبس الحجاب الذي أمر به المؤمنات؟ .
خلاصة الأمر: لو كانت هذه الأخت جادة في طلب الهداية لبذلت أسبابها
فنالتها.
العذر التاسع:
وما قول أختنا التاسعة؟ ، قالت: (الوقت لم يحن بعد، وأنا ما زلت صغيرة
على الحجاب، وسألتزم بالحجاب بعد أن أكبر، وبعد أن أحج!) .
ملك الموت، أيتها الأخت، زائر يقف على بابك ينتظر أمر الله (تعالى) حتى
يفتحه عليك في أي لحظة من لحظات عمرك.
قال (تعالى) : [فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاًخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ]
[الأعراف: 34] ، الموت يا أختاه لا يعرف صغيرة ولا كبيرة، وربما جاء لك
وأنت مقيمة على هذه المعصية العظيمة تحاربين رب العزة بسفورك وتبرجك.
يا أختاه سَابقي إلى الطاعة مع المسابقين، استجابة لدعوة الله (تبارك وتعالى) : [سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]
[الحديد: 21] .
يا أختاه: لا تنسي الله (تعالى) فينساك، بأن يصرف عنك رحمته في الدنيا
والآخرة، وينسيك نفسك، فلا تعطينها حقها من طاعة الله وعبادته.. قال (تعالى)
عن المنافقين: [نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ] [التوبة: 67] ، وقال (تعالى) : [وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ] [الحشر: 19] ، أختاه: تحجبي في صغر السن
عن فعل المعاصي؛ لأن الله شديد العقاب سائلك يوم القيامة عن شبابك وكل لحظات
عمرك.
خلاصة الأمر: ما أطول الأمل! ! ، كيف تضمني الحياة إلى الغد؟ .
العذر العاشر:
وأخيراً قالت العاشرة: (أخشى إن التزمت بالزي الشرعي أن يطلق علي اسم
جماعة معينة وأنا أكره التحزب) .
أختاه في الإسلام: إن في الإسلام حزبين فقط لا غير، ذكرهما الله العظيم في
كتابه الكريم، الحزب الأول: هو حزب الله، الذي ينصره الله (تعالى) بطاعة
أوامره واجتناب معاصيه، والحزب الثاني: هو حزب الشيطان الرجيم، الذي
يعصي الرحمن، ويكثر في الأرض الفساد، وأنت حين تلتزمين أوامر الله ومن
بينها الحجاب تصيرين مع حزب الله المفلحين، وحين تتبرجين وتُبْدين مفاتنك
تركبين سفينة الشيطان وأوليائه من المنافقين والكفار، وبئس أولئك رفيقاً.
أرأيتِ كيف تفرِّين من الله إلى الشيطان، وتستبدلين الخبيث بالطيب، ففري
يا أختي إلى الله، وطبقي شرائعه [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ]
[الذاريات: 50] ، فالحجاب عبادة سامية لا تخضع لآراء الناس وتوجيهاتهم
واختياراتهم؛ لأن الذي شرعها هو الخالق الحكيم.
خلاصة الأمر: في سبيل إرضاء الله (تعالى) ورجاء رحمته والفوز بجنته:
اضربي بأقوال شياطين الإنس والجن عرض الحائط، وعضي على الشرع بالنواجذ، واقتدي بأمهات المؤمنين والصحابيات العالمات المجاهدات.
خاتمة:
الآن يا أختاه أحدثك حديث الصراحة:
جسدك معروض في سوق الشيطان، يغوي قلوب العباد: خصلات شعر بادية، ملابس ضيقة تظهر ثنايا جسمك، ملابس قصيرة تبين ساقيك وقدميك، ملابس
مبهرجة مزركشة معطرة تغضب الرحمن وترضي الشيطان.. كل يوم يمضي عليك
بهذه الحال يزيدك من الله بعداً ومن الشيطان قرباً، كل يوم تنصبّ عليك لعنة من
السماء وغضب حتى تتوبي، كل يوم تقتربين من القبر ويستعد ملك الموت لقبض
روحك: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] [آل عمران: 185] .
اركبي يا أختاه قطار التوبة قبل أن يرحل عن محطتك.
تأملي يا أختاه في هذا العرض اليوم قبل الغد.
فكِّري فيه يا أختاه الآن قبل فوات الأوان.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد.(114/32)
دراسات اقتصادية
آراء وتأملات في فقه الزكاة
(4)
د. محمد بن عبد الله الشباني
تحدث الكاتب في الحلقات الماضية عن الزكاة من حيث مفهومها اللغوي،
وأنواع الأموال التي تستخرج منها، والضوابط التي تحدد صفة هذه الأموال.. ثم
عرض لزكاة الأنشطة الزراعية، وبخاصة صور الإنتاج الزراعي في العصر
الحديث، وفي هذه الحلقة يعرض الكاتب آراءه في صور أخرى من الأنشطة الاقتصادية. ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
زكاة الثروة الحيوانية ومنتجاتها:
من نعم الله (تعالى) على عباده أن خلق لهم أنواعاً مختلفة من الحيوان؛
لينتفعوا بها، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، ولقد نبه الله عباده إلى هذه
الحقيقة من نعمه، يقول (تعالى) : [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا
تَاًكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى
بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [النحل: 5 7] ،
ويقول (سبحانه) : [أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَاًكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا
يَشْكُرُونَ] [يس: 71 73] .
لقد أوجب الله في هذه الأنعام حقوقاً ينبغي القيام بها، وإن من أوجب
الواجبات: إخراج زكاتها.
إن من نعم الله (تعالى) على الخلق أن كشف لهم في هذا العصر من المعارف
والعلوم ما تطورت به وسائل الاستفادة من الحيوان، حيث مكنه الله من معرفة
كيفية الحصول على سلالات حيوانات مخصصة لإنتاج أنواع محددة من المنتجات،
فهناك أساليب لتربية أنواع من الحيوان مخصص لإنتاج اللحم، أو لإنتاج الحليب،
وكذلك بالنسبة للدجاج: فهناك دجاج مخصص للحم، ودجاج مخصص للبيض.
تنقسم الثروة الحيوانية إلى نوعين:
الأول: الأنعام، وتشمل: الأبقار، والجواميس، والأغنام، والجمال،
فتنوعت أغراض استغلالها اقتصاديّاً، فمنها ما هو لإنتاج الحليب، ومنها ما هو
لإنتاج اللحم.
الثاني: الطيور الداجنة، مثل: الدجاج الرومي، والبط، والأوز، والحمام.. حيث تنوعت أغراض استغلالها اقتصاديّاً في إنتاج بيض الأكل، وبيض التفقيس، وإنتاج الأفراخ التي تربى لغرض إنتاج الطيور الخاصة بإنتاج البيض، أو لإنتاج
الطير اللاحم.
إن الثروة الفقهية لعلماء المسلمين لم تتطرق لزكاة الثروة الحيوانية، أو زكاة
منتجاتها إلا لنوعية معينة، وهي الأنعام، ممثلة في: الإبل، والغنم، والبقر،
والخيل، بشرط أن تكون سائمة، وبالتالي: لم تناقش كثيراً من مكونات الثروة
الحيوانية المستجدة في الوقت الحاضر، حيث لم تكن الحالات الأخرى ذات قيمة
فيما مضى، ولم تمارس بالشكل والأسلوب المعاصر، حيث أصبح لها مكان في
تكوين الثروة ونمائها، مثل: تسمين الأغنام والأبقار، وتربية الدواجن.. وغير
ذلك من الوسائل المستخدمة في زيادة الاستفادة من الثروة الحيوانية وتكثيرها،
وأصبح الاشتغال في هذا النشاط يحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة للاستفادة من
معطيات هذا النشاط الاقتصادي.
يرتبط الحكم الشرعي لهذا النوع من النشاط الاقتصادي بعموم الحكم المتعلق
بالأموال، وبالتالي: فإن وجوب أخذ الزكاة وتحديد نصابها أمر مهم في هذا العصر، من ناحية أن أي مسلم يمارس هذا النشاط يرغب في معرفة حكم زكاة هذه الأموال
وطريقة تحديدها، ومن ناحية أخرى: فإن للفقراء حقوقاً في أموال الأغنياء.
إن تنمية الثروة الحيوانية على أسس اقتصادية تستوجب صرف مبالغ كبيرة
على توفر الظروف البيئية لتحقيق الغايات من الاستثمار في هذا النشاط الاقتصادي، فمثلاً: تربى الأبقار: إما من أجل الحليب، أو من أجل اللحم، أو للغرضين معاً، ويتطلب ذلك تكاليف كبيرة، سواء فيما يتعلق بتوفير الظروف البيئية المناسبة،
أو أساليب التقنية ذات التكلفة العالية، أوالعناية الصحية اللازمة للإبقاء على قدراتها
الإنتاجية..
على ضوء هذه الحقيقة: فإن ممارسة نشاط تنمية الثروة الحيوانية أصبح
نشاطاً اقتصاديّاً جديداً مغايراً لما كان في السابق، من حيث أن تربية الأنعام تقوم
على أساس التوالد فقط، ويتم تغذيتها من الكلأ الذي لا يحتاج إلى استنبات.
لهذا فإن الثروة الحيوانية تتوزع إلى قسمين:
1- قسم يقتنى للتسمين والتوالد من أجل بيعها بعد تسمينها وتحقيق التوالد
والتناسل، ومن ثم: بيعها لغرض استغلال لحمها، على أن تتم التغذية من خلال
استنبات الحشائش أو شرائحها في المزارع المتخصصة في ذلك، وليس من خلال
الرعي في المراعي، أو ما يعرف بـ (السوم) .
2- قسم يقتنى لغرض الحصول على ناتجها وبيعه، مثل اقتناء الأبقار
والجواميس بقصد الحصول على الحليب بصفته منتجاً يتم بيعه، أو الدجاج بقصد
إنتاج البيض أو لأجل اللحم، وعلى ضوء هذه الحقائق: فإننا سوف نناقش في هذه
الحلقة زكاة الدواجن، وزكاة المنتجات الحيوانية والألبان؛ حيث إن هذه الأنشطة
المتعلقة بالثروة الحيوانية من الأمور المستجدة التي يثور حولها النقاش والتساؤل.
زكاة الدواجن:
استطاع الإنسان بما أوتي من علم، وما فتح الله عليه من خزائن المعرفة أن
يتوصل إلى أساليب في جعل الطيور مصدراً مهمّاً لتغذية الإنسان، وخاصة:
الدجاج، والديك الرومي، والطيور المائية، مثل: البط، والأوز، واستخدام
أساليب علمية متقدمة في إنتاج البيض، وإنتاج اللحوم من هذه الدواجن.. في
فترات زمنية قصيرة وبكميات كبيرة، حيث تمكن من جعلها مصدراً أساساً من
مصادر توفير اللحوم والتغذية.
لقد ساعد على ذلك تطور علم الدواجن، الذي هو فرع من فروع العلوم
الزراعية العامة، حيث يختص هذا العلم بدراسة كيفية تربية الدواجن وتحسينها من
ناحية تحسين التركيب الوراثي، وأسس تغذيتها، من حيث تقدير احتياجات
الدواجن من العناصر الغذائية، وغير ذلك من الجوانب الغنية التي تتعلق بتحسين
الإنتاج وتقليص الفترات الزمنية للإنتاج، مع العناية بتوفير العناصر الأساس
لمكونات اللحوم فيها أو مكونات البيض المنتج منها.
إن النشاط الخاص بتربية الدواجن من الأنشطة الاقتصادية الحديثة والمستجدة، فهذا النشاط لم يتسع إلا في أواسط القرن العشرين، وعليه: فإن كتب الفقه في
السابق لم تتطرق إلى ذلك؛ لعدم ظهور الحاجة حينها، حيث إن تربية الدواجن
كانت منزلية وللاستهلاك الخاص، وليس من أجل تحقيق الغنى والثروة.
وبحث طبيعة هذا النوع من النشاط، ومناقشة أحكام الزكاة المتعلقة به لم يتم
التطرق له والبحث فيه لأحد من الفقهاء المعاصرين حسب علمي ما عدا فضيلة
الدكتور (يوسف القرضاوي) ، فقد تعرض له عَرَضاً في كتابه (فقه الزكاة) عندما
تحدث عن المنتجات الحيوانية بقوله: (والقاعدة التي نخرج بها هنا: أن ما لم تجب
الزكاة في أصله تجب في نمائه وإنتاجه، كالزرع بالنسبة للأرض، والعسل بالنسبة
للنحل، والألبان بالنسبة للأنعام، والبيض بالنسبة للدجاج، والحرير بالنسبة
للدود) [1] .
إن تحديد الحكم الشرعي، وتحديد مقدار الزكاة ونصابها يستدعي أدراك
طبيعة النشاط، وكيفية إنشاء المشروعات، وكيفية الإنتاج.. حتى يمكن تصور
الحكم الشرعي لهذا النوع من النشاط.
وقفة مع الثروة الداجنة:
إن عملية ما يطلق عليه (صناعة الدواجن) ، تمر بعدد من الحلقات التي تسهم
في العملية الإنتاجية لهذه الصناعة، والتي يمكن إيجازها على النحو التالي:
1- عمليات التفقيس: ففي هذه العمليات يتم إنتاج الأفراخ التي تربى لغرض
إنتاج اللحم، أو لإنتاج البيض، وتحتاج هذه العملية إلى وجود (ماكينات) كبيرة
تستوعب آلاف البيض، والطريقة في عمليات التفقيس مستوحاة من الأسلوب الذي
تتبعه الطيور الداجنة، مثل: الدجاج، والديك الرومي، والبط، ولكن بأساليب
تساعد على تخفيض المدة التي تستغرقها الدجاجة في عملية التفقيس الطبيعية التي
ألهمها الله للدجاج.
2- عمليات إنتاج أمهات الدجاج: وهذه العمليات هي التي تمد عمليات
التفقيس بالبيض المخصب، وبالتالي: تزويد مشروعات إنتاج الدجاج اللاحم، أو
الدجاج البياض بأفراخ اللحم، أو أفراخ البيض، وفي هذه العمليات يتم اختبار
الأفراخ الجيدة، وبعد نضجها الجنسي الذي يتم بعد مضي ما بين 21 إلى 26
أسبوعاً يتم وضع كل ذكر واحد مع عشر دجاجات، ويتم الحصول على نسبة
إخصاب بعد عشرة إلى أربعة عشر يوماً من بدء وضع الذكور مع الإناث، وبهذا
يتم إتاحة فرصة للذكور لتلقيح كافة الإناث.
3- عمليات إنتاج الدجاج اللاحم: حيث يتم شراء الصيصان من المشروعات
المنتجة للأفراخ، وهي مشروعات التفقيس، والتي تقوم بتزويد هذه المشروعات
بهذا النوع الخاص من الصيصان.
4- عمليات إنتاج البيض: ويتم تزويدها بالأفراخ المخصصة لإنتاج البيض
من مشروعات التفقيس.
وكل عملية من العمليات السابقة تختلف في طبيعتها وأساليب المعالجة الفنية
والتغذية عن غيرها، بحيث يمكن أن يُكَوّن مشروع متكامل من هذه العمليات كلها،
وقد يكون هناك مشروع لكل عملية من العمليات، ويتم البيع فيما بين هذه العمليات.
على ضوء ما سبق ندرك أن عملية إنتاج الدواجن أصبحت صناعة تجارية
تدر على المستثمر فيها عائداً ماليّاً على ما يستثمر فيها من أموال.
كيف نزكي هذه المشاريع:
والسؤال الذي يفرض نفسه من ناحية وعاء الزكاة هو: ما هو مقدار النصاب
الواجب؟ ، وأي نوع من الأموال يتم إلحاق هذه المشروعات به؟ ، وبالتالي: بم
تقاس به؟ ..
إن الأموال التي وردت فيها أدلة شرعية في تحديد أنصبتها، ومقدار الواجب
فيها وقت إخراج الزكاة منها هي: سائمة بهيمة الأنعام، والزروع، وعروض
التجارة، والمعادن، والنقد، فهل تلحق الدواجن بالمستغلات أم بالأموال المستفادة؟ ...
إن أدلة وجوب الزكاة على مشروعات الدواجن هي أدلة عموم وجوب الزكاة
في الأموال، كما في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ] [البقرة: 267] ، فما يتم الحصول عليه من مال، أوثروة ناتجة عن
ممارسة نشاط صناعة الدواجن وتربيتها هو من الكسب الطيب المشمول بقوله
(تعالى) : [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] [التوبة: 103] ،
و (المال) عام يشمل كل شيء متحول ومملوك، والمال مفرد (الأموال) ويشمل كل ما يرغب الناس في اقتنائه وامتلاكه من الأشياء [2] .
أي نوع من الأموال تلحق به هذه المشاريع:
الأمر بالنسبة لمشروعات صناعة الدواجن وتربيتها يعود إلى: أي نوع من
أنواع الأموال يمكن قياسه عليها؟ ، وما هو النصاب ومقداره؟ .
من خلال الاستعراض الموجز لطبيعة صناعة الدواجن وتربيتها نلحظ عدة
أمور، هي:
1- أنها ملحقة بالثروة الحيوانية من حيث النماء والتناسل، فهي مثل البقر،
والغنم.. وغيرها من الأنعام، من حيث أنها تتكاثر بالتوالد، ومن حيث أصول
تواجدها، فالدجاجة طير ينتج نتجاً هو البيضة؛ والبيضة إما: أن تؤكل، أو تفقس
وينتج عنها فرخة تربى: إما من أجل تكوين أمهات دجاج لإنتاج اللحم، أو دجاج
لإنتاج البيض، فعملية التناسل وفترة النمو اللازم للاكتمال من أجل اللحم أو البيض
مرتبطة بدورة الإنتاج نفسها بالنسبة للحيوانات.
2- أن بعض مراحل صناعة الدواجن تشبه مراحل التناسل في الأنعام،
فالدجاج يربى من أجل إنتاج البيض المخصب، فهو أصل ينتج عنه ناتج مثل البقر
المخصص لإنتاج الحليب، وينطبق ذلك على مشروع الدجاج البياض الذي يكون
مهمته الأصلية إنتاج البيض؛ فهو يربى من أجل إنتاج بيض المائدة، والدجاج
اللاحم، والذي تربى أفراخه من أجل زيادة الوزن عند حد معين، ثم يذبح ويباع،
أي: إنه يشبه الأغنام التي تشترى لأجل التسمين.
3- بعض مشروعات الدواجن تتكون من جميع مراحل صناعة الدواجن، أي: إن منها مراحل لإنتاج أمهات الدجاج، ومراحل لإنتاج البيض، وإنتاج الفراخ،
وإنتاج الدجاج اللاحم.
4- أن هذه الصناعة تحتاج إلى معرفة أساليب كيفية التربية لكل نوع من
أنواع هذه المراحل، وتحتاج إلى رؤوس أموال لتوفير الأجهزة اللازمة لتوفير
المستلزمات الضرورية لإنتاج البيض واللحم، التي هي المنتج النهائي المطلوب من
المستهلكين.
على ضوء ذلك: فهل يمكن إلحاق مشروعات الدواجن بعروض التجارة أم لا؟
إن مفهوم (عروض التجارة) كما عرّفه (ابن قدامة) بقوله: (غير الأثمان من
المال على اختلاف أنواعه، من: النبات، والحيوان، والعقار، وسائر المال،
فمن ملك عرضاً للتجارة فحال عليه الحول وهو نصاب: قوّمَه في آخر الحول، فما
بلغ أخرج زكاته، وهو: ربع عشر قيمته) [3] ، كما يحدد (ابن رشد) مفهوم
(العروض) بأنه ما قصد به التجارة بقوله: (اتفقوا على أن لا زكاة في العروض
التي لم يقصدها التجارة) [4] ، والمعنى اللغوي للعروض هو: كل ما خالف النقد
من متاع الدنيا وأثاثها.
وقال الإمام (النووي) : (مال التجارة: كل ما قصد الاتجار منه اكتساب المِلك
بمعاوضة المال: مال تجارة) .
فهل صناعة الدواجن تعتبر من عروض التجارة، وبالتالي: تعطى حكم
عروض التجارة؟ .
إن طبيعة صناعة الدواجن التي أوضحناها فيما سبق لا تتصف بصفة التجارة، حيث إنه لا يتم الاتجار بأعيان معينة؛ فالمشروع الذي ينتج أفراخ الدجاج اللاحم
والبياض، يقوم بشراء البيض المخصب ممن ينتج هذا البيض من مشروعات
الأمهات، ويتولى إجراء عملية التفقيس، ثم التسمين لفترة محدودة، بعدها يبيع
المنتج، فصناعة الدواجن ليست أعمالاً تجارية، وإنما هي تشبه ما ينتج عن
الحيوان، مثل الحليب الناتج، فأمهات الدجاج تنتج البيض المخصب، الذي ينتج
عنه أفراخ لإنتاج اللحم أو البيض، فالأصل هو دجاج الأمهات اللائي ينتجن بيضاً
مخصباً لإنتاج دجاج بيض الأكل، أو بيضاً مخصباً لإنتاج دجاج اللحم، وبالتالي:
فإن الجامع بين الدجاج والنحل هو ما ينتج عنهما، فالعسل ناتج من النحلة،
وأمهات الدجاج ينتج عنهن دجاج لإنتاج البيض أو أفراخ يتم تسمينها من أجل اللحم.. فالجامع هو بقاء الأصل وبيع المنتج.
__________
(1) فقه الزكاة، للقرضاوي، ج1، ص 431.
(2) انظر: المغني، ج3، ص 30.
(3) انظر: المغني، ج3، ص30.
(4) بداية المجتهد، ج1، ص25.(114/40)
مرتكزات
الوسطية من أبرز خصائص هذه الأمة
بقلم:عبد الحكيم بن محمد بلال
إن سنة الله (عز وجل) في خلقه للكون والحياة: التكامل والتوازن، وقد خلق
(جل وعلا) الإنسان في أحسن تقويم، وجعله يحوي جوانب كثيرة مختلفة: عقلاً،
وروحاً، وجسداً، وعواطف، ومشاعر، ولكلٍّ منها حق، ولا يمكن الوفاء بكل
حقوقها إلا بتوازن يكمِّلها جميعاً، ولا يغلِّب جانباً منها على حساب جانب آخر.
وذلك التوازن هو: الوسطية التي جاء بها الإسلام، وهي الصراط المستقيم.
حتى نفهم الوسطية [1] :
لا تخرج معاني الوسطية عن: العدل والفضل والخيرية، والنِّصف والبينية،
والتوسط بين طرفين، فقد استقر عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (الوسط) أرادوا
معاني: الخير والعدل والنّصَفَة، والجودة والرفعة والمكانة العالية.
ولا يصح إطلاق مصطلح (الوسطية) على أمر إلا إذا توفرت فيه صفتان:
1- الخيرية، أو ما يدل عليها.
2- البينية، سواء أكانت حسية أو معنوية.
كما يقصد بالتوازن في الشريعة الإسلامية: النظر في كل الجوانب، وعدم
طغيان جانب على آخر، وذلك باجتناب الغلو والجفاء..
ولا بد من فهم حقيقة هذين الأمرين؛ لتفهم حقيقة الوسطية والتوازن، فإنه لا
يمكن تحقيقها إلا بعد الفهم السليم لها.
معالم في فهم الوسطية:
أولاً: الغلو والإفراط:
قال الله (تعالى) : [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ] [النساء: 171] ،
وقال: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) [2] .
والغلو: المبالغة في الشيء، والتشديد فيه بتجاوز الحد، فحقيقته: مبالغة في
الالتزام في الدين، وليس خروجاً عنه في الأصل، ويكون متعلقاً بفقه النصوص،
أو الأحكام، أو الحكم على الآخرين، وكما يكون فعلاً فإنه يكون تركاً، كترك النوم
وتحريم الطيبات، وليس منه: طلب الأكمل من العبادة، بل هو تجاوز الأكمل إلى
المشقة، ومعلوم أن الحكم بالغلو على شخص أو فعل لا يجوز إلا بالكتاب والسنة،
ولا يقدر عليه إلا العلماء.
وقد أُتِيتْ بعض الدعوات والحركات من هذا الباب، فاستلزم الحذر منه،
ومعرفة آفاته ومظاهره وأسبابه ليحذر منه.
فمن أخطار الغلو في الدين وعيوبه وآثاره [3] :
1- كراهية الناس ونفورهم، وانفضاض الأنصار، قال: (إن منكم منفرين،
فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة) [4] .
2- الفتور أو الانقطاع، فالإنسان ملول، وطاقته محدودة.
وقد وضح طبيعة هذا الدين فقال: (إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد
إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من
الدلجة) [5] .
فبَيّن أنه لا يتعمق أحد في العبادة، ويترك الرفق كالرهبان إلا عجز، فيُغلب.
3- التقصير في الحقوق والواجبات الأخرى، وانظر قول النبي -صلى الله
عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) : (فإن بحسبك أن تصوم من كل
شهر ثلاثة أيام) ..؛ (فإن لزوجك عليك حقّاً، ولزورك عليك حقّاً، ولجسدك عليك
حقّاً) [6] .
4- تضييع العمر فيما لا فائدة فيه، بل ما فيه الضرر.
5- الفرقة والتمزق في الصف الإسلامي، وهو ما نشاهده ونعيشه كثيراً.
وللغلو مظاهر كثيرة، منها [7] :
كثرة الافتراضات والسؤالات عما لم يقع، والمبالغة في التطوع المفضي إلى
ترك الأفضل، أو تضييع الواجب، والعدول عن الرخصة في موضعها إلى العزيمة، والاشتغال بمسائل الفروع على حساب الأصول، واستفراغ الجهد في المختلف
فيه مع إهمال المجمع عليه، علماً وعملاً، ومن المظاهر أيضاً: التعصب للرأي،
وعدم الاعتراف بالرأي الآخر، وإلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم به الله،
والتشديد في غير محله، ككونه في غير مكانه أو زمانه أو أهله، ومنها: الغلظة
والجفاء والخشونة في غير الجهاد وإقامة الحدود، وسوء الظن بالآخرين، وتهمتهم
وإدانتهم، والسقوط في هاوية التكفير بلا ضوابط شرعية.
أسباب الغلو:
وللغلو دوافع وأسباب، منها:
البيئة الغالية، أو المستخدمة للشدة والضغط والإكراه، ومنها: التكوين
النفسي والفكري لبعض المغالين، والذكاء مع الفراغ وعدم البصيرة بالأولويات،
والاعتماد على النفس من أول الأمر في تحصيل العلم أو المعرفة، أو التلقي عن
الجاهلين، مع خلو الساحة من العلماء الذين يضبطون الفكر والتصور والسلوك،
والتصدر للفتوى والاجتهاد قبل الاستواء والنضج.
الرغبة في الطاعة مع الجهل بالسنة.
وقد يكون من الأسباب أحياناً: الحظوظ النفسية، والإغراء بالدنيا.
ومن أبلغ الأسباب تأثيراً: تعطيل شرع الله في الأرض، والعلمنة الصريحة، وإعراض أكثر المسلمين عن دينهم، متمثلاً في: كثرة البدع والعقائد الفاسدة،
والإعراض عن منهج السلف، وشيوع الفساد، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، أو التقصير في القيام بذلك، وشيوع الظلم، وتحكم الكافرين في مصالح
المسلمين، ومحاربة التمسك بالدين، والجفوة بين العلماء والشباب، والخلل في
مناهج بعض الدعوات، مع وجود قوة العاطفة لدى فئات من الشباب.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينكر كل بادرة غلو، وينهى عن ذلك
أشد النهي، كما في قصة النفر الثلاثة، الذين عزموا على الصيام، والقيام، وترك
النساء [8] ، وأخبر أيضاً بهلكة المتنطعين [9] ، وأراد أن ينكل بمن واصلوا معه
في الصيام [10] ، وقد نهاهم عنه، ليرتدعوا.. وما ذاك إلا لأن الغلو شطط
وانحراف وبُعْدٌ عن الصراط المستقيم، ونافذة على الانحراف والضلال.
ثانياً: التفريط والجفاء:
التفريط هو: التضييع، والتقصير، والترك، ومنشؤه غالباً: التساهل
والتهاون.
والجفاء هو: الترك، والبعد، ويستعمل غالباً فيما فيه قصد الأمر، من
الترك والبعد وسوء الخلق.
ومن مظاهر التفريط: تأخير الصلاة عن وقتها، وترك إنكار المنكرات،
وإهمال تربية الأولاد، وترك الأخذ بالأسباب، والغلظة في المعاملة، والسلبية تجاه
الاهتمام بواقع المسلمين.
ويبدو خطر التفريط واضحاً في كونه عين العجز والكسل، ولا يتحقق به أمر
الله (تعالى) كما أراده (سبحانه) ، وأنه يقطع الإنسان عن كثير من الأجور
والدرجات، فقد يخرجه من دائرة أولياء الله الصالحين، وقد يعرضه للوعيد
والعقوبة، وقد يجره إلى الانحراف (والعياذ بالله) .
وسببه إما أن يكون: الجهل، أو الكسل.
فأما الكسل: فما أكثر ما استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من العجز
والكسل؛ الكسل الناتج من إيثار العاجلة، ونسيان الآخرة، وهو نوع من الظلم.
وأما الجهل: فداء عضال، وأَقْبِحْ باتصاف الداعية به، خاصة إذا كان
الإخلال بالقدر الواجب من العلم، المتعين أو الكفائي، أو حتى القدر المستحب.
وقد يكون السبب في التفريط: الاستجابة لضغط الواقع، أو الهروب من تهمة
التطرف والغلو.. ونحو ذلك مما يكون في الغالب إفرازاً لانحراف في المنهج،
ومظهراً من مظاهر الانحراف في الفهم.
ثالثاً: الصراط المستقيم:
وهذا المعلم لا يمكن فهم الوسطية دون فهمه، ومعناه: الطريق الواضح
الهادي، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه، وهو كتاب الله، أو الإسلام، أو
الرسول، أو السنة والجماعة، وحاصل كل ذلك: المتابعة لله ورسوله.
ومعنى الصراط المستقيم يدل على الوسطية في مفهومها الشرعي الاصطلاحي، فمثلاً في سورة الفاتحة جعله الله طريق الخيار الذين أنعم عليهم، وهو بين
طريقي المغضوب عليهم والضالين، وفي سورة البقرة ذكره ثم ربطه بالوسطية،
فقال: [يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً]
[البقرة: 142، 143] ، فالصراط المستقيم يمثل أعلى درجات الوسطية.
والقرآن الكريم، وكذا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يرشدان إلى
التوسط، ويذمان التقصير والغلو، وسورة الفاتحة قد وضعت القاعدة والمنطلق،
ورسمت المنهج، وحددت معالمه، ثم جاءت الآيات مقررة، قال الله (تعالى) :
[إنَّ اللَّهَ يَاًمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ] [النحل: 90] ، وقال (تعالى) : [قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ] [الأعراف: 29] ، والعدل في كل الأمور: لزوم الحد فيها، وألا يغلو
ويتجاوز الحد، كما لا يقصر ويدع بعض الحق.
وانظر إلى الوسطية واضحة في مثل قوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً] [الفرقان: 67] ، وفي قوله (تعالى) :
[وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] [القصص: 77] ،
وقوله (تعالى) : [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً] [البقرة: 201] ،
وفي دعائه: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي
فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ... ) [11] .
وكذا: فإن الوسطية سمة ثابتة بارزة في كل باب من أبواب الإسلام: في
الاعتقاد، والتشريع، والتكليف، والعبادة، والشهادة والحكم، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والأخلاق والمعاملة، وكسب المال
وإنفاقه، ومطالب النفس وشهواتها..
ملامح الوسطية وسماتها وضوابطها:
وتحديد ذلك ضروري؛ لتتميز الوسطية عن غيرها، ولئلا تكون مجالاً
لأصحاب الأهواء والشهوات، ومن تلك الملامح:
1- الخيرية: وهي تحقيق الإيمان الشامل، يحوطه الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
2- الاستقامة: وهي لزوم المنهج المستقيم بلا انحراف، فالوسطية لا تعني
التنازل أو التميع أبداً.
3- البينية: وذلك واضح في كل أبواب الدين، فالصراط المستقيم بين
صراطي المغضوب عليهم والضالين.
4- اليسر ورفع الحرج: وهي سمة لازمة للوسطية.
5- العدل والحكمة: وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الوسط بالعد [12] ، وذلك هو معنى الخيار؛ وذلك لأن خيار الناس: عدولهم.
والوسطية أمر نسبي يخضع تحديده لعدة عوامل لا بد من مراعاتها، ولا
يتحقق ذلك إلا بإتقان الحكمة.
مثال تطبيقي للوسطية: فعل السنن:
تتمثل مظاهر البعد عن السنة في اتجاهين [13] :
الاتجاه الأول: التفريط والجفاء، ومن مظاهره: عدم العناية بها، ودعوى
تقسيم الإسلام إلى لب وقشور، والانشغال بالقضايا المعاصرة فقط.
الاتجاه الثاني: الغلو، ومن مظاهره: تتبع الغرائب من السنن، والاهتمام
بها على حساب الواجبات، والاهتمام بها على حساب القضايا المعاصرة، والإكثار
من طرحها وإثارتها، والتكلف والتشدد في تطبيقها.
والواجب: العناية بالإسلام جملة وتفصيلاً، بالسنة والواجبات، مع الحرص
على إحياء السنن المهجورة، كالتبكير للصلاة، والتبكير للجمعة، وقيام الليل،
والجلوس في المسجد للذكر بعد الصبح، لما لذلك من أثر في إحياء القلوب، وإزالة
قسوتها..
ولا بد من التحلي بالحكمة والتأني، وعدم التكلف، ولايسوغ الإكثار من
طرحها وإثارتها على حساب ما هو أهم منها، بل يكفي تأصيلها.
نحو تربية متكاملة متوازنة:
إن التربية التي نحتاجها اليوم هي التي تأخذ الإسلام جملة وتفصيلاً، وتراعي
شخصية الفرد بجميع جوانبها وأبعادها، مع التوازن في تربية الجوانب المختلفة:
العقلية، والمعرفية، والوجدانية، كما توازن أيضاً في رعاية الجانب الواحد،
كالجانب العقلي مثلاً، وهذا بالنسبة للفرد.
وعلى صعيد المجتمع: ينبغي ألا تكون التربية نخبوية تخص فئة من الناس
دون غيرهم، وتهمل بقية الفئات، كما ينبغي أن تتكامل كل المؤسسات التربوية
وتتظافر جهودها، وأن تتكامل الجهود داخل المؤسسة التربوية الواحدة، وكذلك أن
تتكامل في استخدام الوسائل التربوية.
ومما يعين على ذلك: التفكير، والتخطيط، والترتيب للعملية التربوية،
ووضع الأهداف الواضحة المنضبطة بالضوابط الشرعية مع المراجعة المستمرة؛
لتلافي الأخطاء، وألا تكون التربية مجرد استجابة لردود الأفعال.
ومما يجب التنبه له: أن التوازن والتكامل لا يعني أن يحمل كل شخص قدراً
متساوياً من كل جانب؛ وذلك لاختلاف الأشخاص في القدرات والمواهب، ولحاجة
الأمة إلى أبواب كثيرة تستدعي أن تُعنى بكل جانب فئةٌ من الفئات، كما لا يعني
التوازن: ترك التخصص [14] .
وجدير بالذكر: أن فهم الوسطية تزول به إشكالات كثيرة، يكثر السؤال عنها
بسبب عدم فهم الوسطية كالتوفيق بين: العلم، والعبادة، والدعوة، والجهاد ... إلخ.
تلاميذ المدرسة النبوية:
وقد كان نتاج تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لصحابته أن عُرفوا
باستجابتهم لأمر الله (تعالى) ، ومسارعتهم إلى الطاعة، حتى صار لهم في كل
ميدان سهم، مع تحقيق التوازن في أنفسهم بحيث لا يُغلِّبون جانباً على حساب آخر، وتحقيقه أيضاً في المجتمع؛ حيث كان منهم متخصصون في كل ميدان هم أساتذته
ومراجعه، ولم يكن ينكر بعضهم على بعض من ذلك شيئاً، بل كان من سجيتهم أن
يعرف بعضهم حقوق بعض، رضي الله عنهم.
واليوم نقول ما قاله قديماً معاوية بن قرة (رحمه الله) : (من يدلني على رجل
بكّاء بالليل، بسّام بالنهار؟) [15] .
وختاماً: عن الحسن قال: (السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي،
فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل
الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع
في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا) [16] .
__________
(1) انظر: الوسطية في ضوء القرآن الكريم، د ناصر العمر.
(2) أخرجه النسائي، وانظر صحيح سنن النسائي، ح/2863.
(3) انظر: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، د يوسف القرضاوي.
(4) رواه البخاري، ح/702.
(5) رواه البخاري، ح/39.
(6) رواه مسلم، ح/1159.
(7) انظر: آفات على الطريق، د السيد محمد نوح، ج 3، ص 193.
(8) البخاري، 6/116.
(9) صحيح مسلم، ح/1104.
(10) مسلم، ح/2670.
(11) مسلم، ح/2720.
(12) المسند، 3/32، والترمذي، ح/2961.
(13) انظر مقالاً بعنوان: تطبيق السنة بين الغلو والجفاء، لمحمد الدويش، مجلة البيان، ع/36، ص 36.
(14) مقتبس من محاضرة بعنوان: التكامل والتوازن ثم التربية، للشيخ محمد الدويش، وانظر رسالة بعنوان: التنازع والتوازن في حياة المسلم، لمحمد حسن بن عقيل موسى، فقد بيّن جوانب التوازن المطلوبة في نوازع العلم والعبادة والدعوة والجهاد وطلب المال، وأسس ذلك التوازن.
(15) سير أعلام النبلاء، ج5، ص 154.
(16) إغاثة اللهفان، 1/70.(114/48)
هموم ثقافية
المسلمون على مشارف القرن الواحد والعشرين
(2من2)
بقلم: د. محمد طاهر حكيم
تناول الكاتب في الحلقة السابقة واقع الأمة في المجالات العلمية والتقنية،
فبيّن الهوّة الواسعة بين واقعها وموقعها المفترض، ثم قسم العالم الإسلامي في
معرض بيانه لواقعه الاقتصادي حسب ارتفاع الدخل وانخفاضه.. وأخيراً: عرض
لمشكلة الديون وأخطارها.. وفي هذه الحلقة يستكمل جوانب أخرى.
- البيان-
الخطر الرابع للديون:
إن المساعدات الغربية تأتي مصحوبة ومتوازية مع بضائع أجنبية ومع
احتكارات غربية لسلع بعينها، وترتبط هذه المساعدات بنهب المواد الخام في
صورة تصدير إلى الدول الأجنبية [1] .
ثم بعد هذا، والأمرّ من كل ما تقدم: التنازل أو شبه التنازل عن السيادة
الوطنية أو الاستقلال الاقتصادي، أو حتى التدخل في شؤون الأفراد الدينية! .
وفيما يلي نذكر مثالين [2] فقط:
1- وافقت مصر في يوليو 1994م على شروط صندوق النقد الدولي، ومن
بين هذه الشروط: وضع احتياطي البنك المركزي المصري تحت رقابة الصندوق،
وهذا يعتبر في رأي كثير من المراقبين مساساً بسيادة السلطات النقدية المصرية.
2- في زيارة قام بها وفد من صندوق النقد الدولي إلى صنعاء في نهاية مايو
وأوائل يونيو لعام 1995م وضع الوفد توصيتين مهمتين إلى الحكومة اليمنية،
وذلك مقابل منحها مساعدات تبلغ قيمتها (280) مليون دولار على مدى اثني عشر
شهراً.
أما التوصية الأولى: فهي كما جاءت على لسان خبير اقتصادي يمني
ونشرتها وكالة الأنباء الفرنسية تتمثل في: (الحد من نفوذ التيار الإسلامي داخل
المؤسسات الحكومية) .
أما التوصية الثانية: فهي (إلغاء قرار إنشاء البنك الإسلامي) الذي كانت
الحكومة اليمنية قد وافقت مبدئيّاً على إنشائه في شهر إبريل من العام نفسه.
ثم إن المؤسف والمحزن: أن هذه الأموال التي نستقرضها هي في الأصل من
أموال العرب والمسلمين، فالعالم الإسلامي مدين كبير ودائن أكبر، فقد ذكرت
التقارير أن هناك نحو 800 مليار دولار من الأموال العربية والإسلامية تستثمر في
بنوك الدول الكبرى، وإنه لمن السخرية بعد هذا أن تدّعي الدول الكبرى أن فائض
أموالها يُستثمر اليوم في دول العالم الثالث على هيئة قروض حكومية، فكأنها
تستعبد المسلمين بأموال المسلمين، وتغرق المقرض والمستقرض في أوحال الربا،
وكان الأجدر بأموال المسلمين أن تُتَداول بينهم بغير وِصاية أو ابتزاز من أعدائهم أو
اضطرار إلى الخروج على أوامر ربهم والخوض في كبيرة الربا.
يأتي بعد هذا: اعتماد الدول الإسلامية على الاستيراد من الدول الأخرى،
بدلاً من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها، مما أدى إلى خنق
كثير من الأنشطة الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال
المسلمين واستغلالهم من قبل الدول الكبيرة وتكتلاتها الصناعية والتجارية والزراعية
المختلفة.
إن ما يدفعه العالم الإسلامي سنويّاً في الاستيراد يكفي لإقامة كبرى الصناعات، فقد ذكرت التقارير الرسمية: أنه قد بلغ حجم الصادرات بين الدول العربية 12.
88 مليار دولار سنة 1993م، أي حوالي 9% من إجمالي صادرات هذه الدول
التي تقدر بـ 142. 3 مليار دولار، وبلغ حجم الواردات داخل العالم العربي
1,11مليار دولار في السنة ذاتها، مما يمثل 8. 7% من إجمالي الواردات العربية
الذي بلغ 126. 6 مليار دولار عام 1993م طبقاً للإحصاءات التي نشرها صندوق
النقد العربي الذي مقره في (أبوظبي) .
وأما حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية فلا يُمثل أكثر من 6% (نعم،
أكرر: 6%) من تجاراتها الدولية [3] .
مصادر الغذاء:
وأما الغذاء: فإن الأمة الإسلامية باتت تعتمد فيه على الاستيراد من الخارج،
فهي تستورد 65% من احتياجاتها من القمح، و 74% من السكر، و62% من
الزيوت النباتية.. في مقابل بلايين الدولارات سنويّاً، رغم أنها تملك الأراضي
الواسعة الصالحة للزراعة، ففي العالم العربي على سبيل المثال 133 مليون هكتار
لأراضٍ صالحة للزراعة، لا يستغل منها سوى 32% فقط.
وفي يوم 16 أكتوبر الماضي وبمناسبة يوم الغذاء العالمي ذكرت التقارير:
1- أن متوسط الاستثمارات الزراعية في الوطن العربي لا يتجاوز أكثر من
5 , 7% من حجم الاستثمارات العامة خلال النصف الأول من عقد التسعينيات
الميلادية.
2- التكاليف الناتجة عن الفجوة الغذائية بين الإنتاج والاستهلاك ارتفعت من
600 مليون دولار عام 1970م إلى (20) مليار دولار عام 1994م.
3- استوردت الدول العربية من المواد الغذائية عام 1994م ما قيمته 21
مليار دولار، علماً بأن هذه القيمة لم تتجاوز عام 1971م مبلغ 2. 5 مليار دولار، ويقول الدكتور (فلاح سعيد جبر) أمين عام الاتحاد العربي للصناعات الغذائية:
إنه من المتوقع أن يرتفع عدد سكان العالم العربي إلى 295 مليون نسمة سنة
2000م (والبالغ عدده الآن 240 مليون نسمة) ، وبالتالي: فقد ترتفع الفاتورة
الغذائية إلى 50 مليار دولار عام 2000م.
وأما الدول الإسلامية، فقد استوردت من الغذاء عام 1989م ما يعادل 28.
5 مليار دولار من الدول الأخرى، وصدّرت من المواد الغذائية ما قيمته 10 مليار
دولار، وهذا رقم ضئيل إذا وضع في الحسبان كثرة عدد هذه الدول [4] .
هذا، وإن من المتوقع أن يزداد الوضع سوءاً بعد أن وقّعت أغلب دول العالم
الإسلامي والعربي على اتفاقية (الجات) ، التي سيتم بموجبها إلغاء كافة أنواع الدعم
الزراعي الذي تقدمه الحكومات على بعض السلع الضرورية.
وكذلك ستلغي هذه الاتفاقية كافة أنواع الامتيازات التي كانت تسمح لكل دولة
أن تحدد السقوف الجمركية المناسبة لحماية منتجاتها الوطنية، وبالتالي: سيؤدي
هذا إلى ارتفاع أسعار فاتورة الغذاء بنسبة 30% عن سعرها الحالي.
الحاجة الملحة إلى الاتحاد:
وتأتي بعد هذا حالة التشرذم والتشتت والتفرق التي تعيشها الدول الإسلامية
وهي تستقبل القرن الواحد والعشرين، كيف يمكن لهذه الدول أو الدويلات والكيانات
الصغيرة أن تتعايش مع التكتلات الكبرى التي تتكامل فيها الطاقات البشرية
والموارد الطبيعية، مثل: (أوروبا الموحدة) ، ونمور شرق آسيا، وأمريكا،
والصين.. وغيرها؟ .
إنه لمن المحزن والمؤسف حقّاً: أنه لم تُتخذ أو لم تتحقق بعدُ خطوة عملية
جادة من أجل وحدة الأمة، على الرغم من وحدة العقيدة التي تربطها، وعلى الرغم
من تجاور الأرض، وتشابك المصالح، وتشابه الطبيعة الجغرافية والمناخية،
واتفاق العادات والعبادات والأخلاق والسلوك، ووحدة الأعداء، ووضوح الرؤية
لدى الكافة.
رغم أن الحاجة شديدة وملحة للوحدة الإسلامية عن أي وقت مضى، خاصة
بعد اغتصاب فلسطين، والاعتداء على البلاد والعباد في البوسنة وكشمير وبورما..، وتقتيل الأطفال والشيوخ، والنساء، وانتهاك الحرمات، وملء السجون
والمعتقلات بالمسلمين، واستخدام الأسلحة الكيميائية والجرثومية المحرمة دوليّاً
ضدهم، وبعد حروب باردة وساخنة ومؤامرات مستمرة.. رغم كل هذا إلا إن
الوضع كما هو مع وجود منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية والاتحادات
الإقليمية المختلفة، فإننا لم نزدد إلا تفرقاً واختلافاً! ، إننا لم نع الدرس كما وعته
أوروبا الغربية، فبدأت على الرغم مما بينها من اختلافات عرقية ولغوية وعقائدية
وتاريخية وتنافسات على السوق الدولية ومصالح متعارضة تتجه إلى الوحدة،
وحققتها في فترة وجيزة [5] .
وإنها لمصادفة عجيبة ولكنها تُجَسِّد مفارقة لا تخلو من مغزى ودلالة أن الوحدة
الأوروبية والوحدة العربية بدأتا في وقت واحد تقريباً، فقد ولدت فكرة التعاون
الاقتصادي العربي في سنة 1945م، بينما دعا رئيس الوزراء البريطاني إلى إقامة
اتحاد الدول الأوروبية في سنة 1946م، وتكوّن المجلس الاقتصادي العربي في
سنة 1950م، بينما ولد اتحاد أوروبا للفحم والصلب سنة 1951م [6] .
وحين وُقِّعت اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية في سنة 1957م كانت
مفاوضات تأسيس المجموعة الأوروبية قد انتهت وجرى التوقيع على (معاهدة روما)
التي كانت بمثابة إعلان عن ميلاد المجموعة في العام ذاته، وبعدما قرر مجلس
الوحدة الاقتصادية إنشاء السوق العربية المشتركة في سنة 1964م ثم توحيد
الجمارك الأوروبية في سنة 1968م، وإذ أنشئ في سنة 1973م صندوق النقد
العربي فإن النظام النقدي الأوروبي واكبه في الميلاد حيث قام سنة 1979م، وفي
العام نفسه جرى انتخاب البرلمان الأوروبي مباشرة من قبل شعوب الدول الأعضاء، وفي ديسمبر 1991م وقّع زعماء اثنتى عشرة دولة أوروبية في (ماستريخت)
اتفاقية الاتحاد الأوروبي، التي تنص على تحقيق الوحدة الاقتصادية والنقدية بما في
ذلك اعتماد عملة أوروبية موحّدة بحلول عام 1999م، وكذلك تحويل المجموعة
الأوروبية إلى اتحاد سياسي مع منح البرلمان الأوروبي مزيداً من الصلاحيات،
وعليه، ومنذ 1/11/1993م: أطلق مسمى الاتحاد الأوروبي على المجموعة
الأوروبية، وتحققت الوحدة الأوروبية اقتصاديّاً وسياسيّاً.
إذا كان هذا هو النموذج الأوروبي للوحدة فإن التحرك الوحيد الذي حدث على
مستوى الأمة من ذلك الحين وحتى اللحظة الراهنة تمثل في اجتماع المسؤولين
لمناقشة قضية تثبيت الأمن ومكافحة التطرف والإرهاب! .
مآزق العالم الإسلامي وتحدياته:
إن العالم الإسلامي يُقبل على القرن الواحد والعشرين بكمٍّ هائل من التحديات
والمشاكل والمآزق الأخرى، منها:
مأزق حضاري: ويتمثل في غياب المشروع الحضاري المستقل النابع من
ضمير الأمة محققاً أحلامها وآمالها، وفي ظل النخب المتغربة القابضة على زمام
السلطة ومنابر التوجيه والإرشاد في كثير من الدول وهيمنة المشروع الليبرالي
الغربي.. فإن فرص صياغة ذلك المشروع المرتقب تصبح عسيرة إلى حد كبير.
أليس من المؤلم والمحزن أن دول العالم الإسلامي وقد مضى على استقلال
أكثرها نحو نصف قرن لا تملك مشروعاً مستقلاً للمستقبل، وكانت إلى وقت قريب
تحاول أن تستفيد من التناقض الموجود بين الشرق والغرب لتحتمي في خندق
أحدهما في محاولتها الحفاظ على نفسها، ولكن زوال الاتحاد السوفييتي أبقى ظهر
تلك الدول مكشوفاً، إذ وجدت نفسها أمام المشروع الغربي وعليها أن تختار: إما
أن تلحق به وتدور في فَلَكه، وإما أن تبحث لنفسها عن خندق من نوع آخر تحتمي
به شريطة أن تكون مستعدة لدفع ثمن ذلك الخيار، فإن لم تجد ولن تجد فسيظل باب
الإسلام خياراً لا مناص من اللجوء إليه لتأسيس المشروع الحضاري المستقبلي.
مأزق التشرذم: الذي ظهر بوضوح في الآونة الأخيرة، ويتمثل في تفجير
الصراعات المذهبية والقومية والعرقية، الذي يسعى بعض المغرضين إلى تأجيجها
في مختلف دول العالم الإسلامي، وهذا لا يخفى على أي متابع.
مأزق أهل الشتات: ويتمثل في أفواج اللاجئين والمهجّرين الذين يزيد
عددهم على 18 مليوناً، 80% منهم من النساء والأطفال لا يجدون ملجأً ولا مأوى، هذا بالإضافة إلى الأقليات المسلمة في كل من الهند، وبورما، والفلبين..
وغيرها، وأما البلاد المغتصبة في فلسطين، وكشمير، والبوسنة.. فذلك مأزق
آخر.
مأزق التنصير: ويتمثل في تعاظم فتنة المؤسسات التنصيرية في العديد من
بلدان العالم الإسلامي، ولا سيما في مناطق اللاجئين وضحايا الجفاف والحروب في
آسيا وإفريقيا، وأكثر هؤلاء من المسلمين الذين صاروا مهددين في عقائدهم وعقائد
أبنائهم [7] .
هذا باختصار هو واقع العالم الإسلامي في مستهل القرن الواحد والعشرين.
مقومات بناء الأمة:
ومن الواضح أن هذا الواقع ليس وليد صُدفة فقط، وإن كنا نحن المسلمين
ننتظر القَدَر من الله لتغييره، إلا إننا ننسى أن هذا الواقع لا يتغير إلا بالأسباب التي
سنها الله لتغييره: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد:11] .
إن الأمة الإسلامية تملك المقومات الكافية لتغيير هذا الواقع، وهي (آفاق
المستقبل) لو أحسنا التعامل معها، فإن المستقبل لهذه الأمة في القرن الواحد
والعشرين بإذن الله.
وقبل أن أذكر هذه المقومات أؤكد أنه لابد للمسلمين أن يعيدوا في أنفسهم
إحياء معنيين أصليين مهمين، وهما: شمول الإسلام، والوحدة الإسلامية، فإذا
آمنت القيادة الفكرية والسياسية في عالمنا الإسلامي المعاصر بهذين الأصلين
الأساسين الشرعيين، ودعت إليهما، وعملت جاهدة على تحقيقهما بخطى وئيدة
متزنة، وتخطيط يتسم ببعد النظر وعمق الرؤية حينها.. يتبلور الأمل في إمكانية
نهضة الأمة من كبوتها واجتياز فترة التخلف التي عاشتها إن شاء الله [8] .
أما المقومات التي تملكها الأمة فهي متنوعة وكثيرة، من أهمها كما ذكر
الدكتور النجار:
1- مقومات بشرية: حيث يبلغ عدد المسلمين أكثر من ألف ومئتي مليون
نسمة، ويمثل هذا العدد قرابة ربع سكان العالم، ويضم الملايين من العلماء
والمهندسين والأطباء والأدباء والمفكرين والمتخصصين في مختلف مجالات المعرفة
الإنسانية، ويمثل ذلك أكبر تجمع بشري على وجه الأرض تربطه عقيدة واحدة.
2- مقومات أرضية: تبلغ مساحة دول العالم الإسلامي أكثر من أربعين
مليون كيلو متر مربع، ويمثل ذلك أكثر من ربع مساحة اليابسة، ويزيد من قيمة
تلك المساحة الشاسعة: اتصالها مع بعضها، وتوسطها دول العالم، وتكاملها من
ناحية المناخ والتضاريس وطبيعة الأرض، وتعدد ثرواتها، وتنوع مصادر الحياة
فيها، وكثافة سكانها، وعراقة حضارتها، وقدم ارتباطها بالرسالات الإلهية.
3- مقومات بحرية: يطل العالم الإسلامي على مسطحات مائية عديدة،
تخترقها أهم خطوط المواصلات البحرية في العالم، وله موانئ مهمة على كل من
المحيطات: الأطلسي، والهندي، والهادي، وعلى البحار: الأبيض، والأحمر،
والأسود، وبحر قزوين، كما يتحكم في مداخل كل من المحيط الهندي والبحر
الأحمر وكذا: الأبيض والأسود، هذا بالإضافة إلى عدد من المسطحات والقنوات
المائية المهمة التي تعتبر إسلامية بأكملها، مثل: البحر الأحمر، والخليج العربي،
وبحر عُمان، والبحر العربي، وقناة السويس.
4- مقومات اقتصادية: وهذه تشتمل على مقومات زراعية وحيوانية عديدة
ومصادر للطاقة، وثروات تعدينية لم تُقّدر تقديراً نهائيّاً بعد، ومنشآت صناعية
مختلفة، يمكن إيجازها فيما يلي:
أ- الثروة الزراعية: وتتمثل في أكثر من أربعمئة مليون من الأفدنة
المزروعة في مناطق مختلفة، وتشكل هذه المساحة نسبة 11% من الأرض
المزروعة في العالم، و394 مليون هكتاراً من الغابات، هذا بالإضافة إلى مساحات
شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، والتي لم تزرع بعد.
ب- مصادر الطاقة: يملك العالم الإسلامي ما يتراوح بين 72% إلى 77%
من احتياطي النفط العالمي، وأكثر من 25% من احتياطي الغاز الطبيعي، ونحو
45% من احتياطي اليورانيوم.
ج- الثروة المعدنية: على الرغم من أن معظم أراضي العالم الإسلامي لم يتم
مسحها بعد مسحاً علميّاً مفصّلاً باستخدام الوسائل التقنية الحديثة إلا إن الدراسات
المحدودة التي أجريت حتى الآن أثبتت وجود العديد من الخامات المعدنية، مثل:
القصدير (25% من احتياطي العالم) ، والكروم 23%، والفوسفات 45%،
والمنجنيز 9. 2%، والرصاص 6%، وغيرها من الخامات المعدنية العديدة.
وربما كان تأخر المسلمين في اكتشاف ثرواتهم التعدينية واستغلالها لحكمة لا
يعلمها إلا الله، وذلك لأن العالم قد استنفد ثرواته من خامات المعادن أو كاد نتيجة
لعملية الاستنزاف التي تعرضت لها تلك الخامات، وهنا تبرز خامات العالم
الإسلامي احتياطيّاً مأمولاً، ولكنه يحتاج إلى الكفاءات العلمية والتقنية القادرة على
استخراجه وتصنيعه، وإلى الرجال القادرين على حمايته من شَرَه الدول الصناعية.
د- مقومات تعليمية وتدريبية: تضم دول العالم الإسلامي اليوم أكثر من 224
جامعة، و335 معهداً عالياً من المعاهد المتخصصة، بالإضافة إلى ما يفوق
التسعمئة من مراكز البحوث وأكاديميات العلوم والتقنية، وخمسة عشر مركزاً
ومؤسسة للطاقة الذرية والنظائر المشعة (يتركز خمسة منها في باكستان، وثلاثة في
تركيا، واثنان في مصر، ومركز واحد في كل من: الجزائر وإيران وتونس
وأفغانستان، وكان أحدها في العراق) .
وتملك دول إسلامية عديدة قاعدة صلبة في الصناعات الثقيلة والتقنية المتقدمة، وتصنع الطائرات والسيارات والقاطرات ومنتجات هندسية وكيميائية وكهربائية ومنسوجات ومعادن وبناء سفن.. وغير ذلك، مثل: ماليزيا، وإندونيسيا، وتركيا، ثم باكستان، فمصر.. وغيرها.
وقبل هذا كله: نملك أعظم مقومات التقدم البشري المتمثل في الإسلام
ورسالته الخالدة، الرسالة التي نزلت للناس كافة، والتي بدأ العالم يتلمس طريقه
إليها في ظرف لم تعرف له البشرية نظيراً من قبل، بعد أن سئموا الحياة المادية
الخاوية الخالية من الروح، وإن المعطيات الكلية للعلوم في هذا العصر قد تجمعت
لتؤكد على ضرورة الإيمان بالله وعلى صدق الرسالة المحمدية.
فهل يدرك المسلمون ذلك فيبادروا بجمع طاقاتهم المبعثرة في خطة محكمة
هدفها إعادة بعث الأمة على أسس إسلامية سليمة، وهداية الإنسانية إلى نور
الرسالة التي حملوا أمانتها، فإذا فعلوا ذلك فإن المستقبل في القرن الواحد والعشرين
يكون لهم بإذن الله، وتفتح لهم الدنيا، وتجثوا أمامهم الأمم، وهنا تحضرني كلمة
للأستاذ (ت. ب إيرفنج) الأستاذ بجامعة (تنسي) الأمريكية حينما وقف مخاطباً
تجمعاً للمسلمين في مدينة (جلاسجو) ببريطانيا منذ سنوات قائلاً: (إنكم لن
تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علميّاً أو تقنيّاً أو اقتصاديّاً أو سياسيّاً أو عسكريّاً، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا تلك الدول تجثوا على ركبها أمامكم بالإسلام، أفيقوا
من غفلتكم لقيمة هذا النور الذي تحملون والذي تتعطش إليه أرواح الناس في
مختلف جنبات الأرض، تعلموا الإسلام وطبقوه، واحملوه لغيركم من البشر تنفتح
أمامكم الدنيا ويدين لكم كل ذي سلطان، أعطوني أربعين شابّاً ممن يفهمون هذا
الدين فهماً عميقاً، ويطبقونه على حياتهم تطبيقاً دقيقاً، ويحسنون عرضه على
الناس بلغة العصر وأسلوبه وأنا أفتح بهم الأمريكيتين!) [9] .
فهل نفهم هذا الكلام ونعيه ونطبقه، ونعمل جاهدين لإدراك قيمة ديننا في
واقعنا؟ .. آمل ذلك.
__________
(1) انظر: (الدعوة) السعودية، ع/1455، الخميس 18/3/1415هـ.
(2) انظر: أزمة المديونية الأجنبية في العالم الإسلامي، لعبد سعيد إسماعيل، المقدمة، ص 5.
(3) انظر: جريدة (العالم الإسلامي) ، مقابلة مع الدكتور زغلول النجار، ص 12، الإثنين 10 شعبان 1416هـ، ومجلة (الدعوة) ، ص 32، ع/1556، 15 ربيع الآخر 1417هـ.
(4) جريدة المدينة المنورة، 16/10/1995م.
(5) انظر: قضية التخلف العلمي، ص 85.
(6) انظر: جريدة الشرق الأوسط، ع/5165، 18/1/1993م، مقال الأستاذ فهمي هويدي.
(7) مجلة (الحوراء) ، ص 28 31، ع/19، خريف 1990م، مقال الأستاذ فهمي هويدي.
(8) قضية التخلف العلمي، ص118.
(9) المرجع السابق، ص 132 138، بتصرف واختصار.(114/56)
نص شعري
إلى أمتي
شعر: عبد الله الزهراني
وَاقِفٌ فِي حِمَى الْحَرَمْ ... قاصِدٌ بَابَ ذِي الْكَرَمْ
طَارِقٌ بَابَ وَاحِدٍ ... يَغْفِرُ الْجُرْم وَاللّمَمْ
خَلَقَ الكونَ كُلّهُ ... لَيسَ يَسْهُو وَلا يَهمْ
قَدْ تَعَالى جَلالُهُ ... عَلّمَ النّاسَ بِالْقَلَمْ
بَابُهُ ليسَ دُونَهُ ... مِنْ حِجَابٍ، وَلا حَشَمْ
***
بَينَ جَنْبَيّ خَافِقٌ ... يَتَشَكّى مِنَ الأَلَمْ
ألَمِي جُرْحُ أُمّتِي ... جَلَبَ الْهَمّ وَالسّأَمْ
كُلّمَا قُلْتُ جُرْحُهَا ... سَوفَ يَبْرَى وَيَلْتَئمْ
رَاشَهَا سَهْمُ حَاسِدٍ ... بِالعَدَاوَاتِ قَدْ وُسِمْ
سَيفُهَا كَانَ مُصْلَتاً ... فَنَبَا السّيفُ وَانْثَلَمْ
أَنْشَبَ الذّلّ نَابَهُ ... فَبَدَا السّقْمُ وَالْوَرَمْ
شَفّني حَالُ إِخْوَتِي ... فِي عِرَاقٍ وَفِي شأَمْ
فِي رُبَى الْقُدْسِ إِخْوَةٌ ... فِيهِمُ الْحُزْنُ مُرْتَسِمْ
فِيهِمُ الظّلمُ قَدْ عَدَا ... فِيهِمُ الْفَقْرُ قَدْ جَثَمْ
أينَ يَمّمْتُ نَاظِرِي ... رَاعَنِي الذّلّ وَالْغَشَمْ
لا تَسَلْ عَنْ جِرَاحِهِمْ ... إِنّ رَبِّي لِمَنْ ظُلِمْ
***
آهِ مِنْ حَالِ أُمّتِي ... فَقَدَتْ عِزّها الأَشَمْ
نَسِيَتْ يَومَ خَيبَرٍ ... يَومَ صُهْيُونَ قَدْ وَجَمْ
نَسِيَتْ كُلّ وَقْعَةٍ ... فِعْلُهَا يَسْبِقُ الْكَلِمْ
تَرَكَتْ هَدْيَ رَبِّهَا ... وَتَخَلّتْ عَنِ الْقِيَمْ
وَاسْتَهَانَتْ بِدِينهَا ... فَأَتَى الْجِيلُ فِي صَمَمْ
كَانَ مُلْكُ الدّنا لَهَا ... كَانَتِ الْخَصْمَ وَالْحَكَمْ
زَلْزَلَتْ عَرْشَ فَارِسٍ ... دَكْدَكَتْ كُلّ مُنْهَزِمْ
أَوَلَمّا أَصَابَهَا ... هَولُ خَطْبٍ بِهَا أَلَمْ
عَاتَبَ الْقَومُ بَعْضَهُمْ ... ونَسُوا عَاقِبَةَ إرَمْ
إِنّ لله غَضْبَةً ... قَدْ أُعِدّتْ لِمَنْ ظُلِمْ
***
طَرَحَ الْقَومُ كَرْبَهُمْ ... فِي حِمَى هَيْئَةِ الأُمَمْ
وَتَشَكّوا لِمَجْلِسٍ ... مَزّقَ الْعَدْلَ وَالشِّيَمْ
ونَسَوْا بَابَ ربِّهم ... كاشفِ الكربِ والغُمَمْ
كَيفَ نَشْكُوا لخَصْمِنَا ... وهو بالحقد يضطرم
كَيفَ نَشْكُوا لِكَافِرٍ ... قَنّنَ الظّلْمَ وَالنِّقَمْ
يَالَهَا مِنْ مَهَازِلٍ ... تَجْلِبُ الشّيبَ وَالْهَرَمْ
كَيَفَ نَبْنِي وَغَيرُنَا ... يَعْشَقُ الْهَدْمَ وَالرِّمَمْ
ليتَ شِعْرِي إِلى مَتَى ... تَدَاعَى نَحْوَنا الأُمَمْ
***
رُبّمَا عَزّ قُومُنَا ... رُبّمَا الْفَجْرُ قَدْ قَدِمْ
فَنَرَى الْحَقّ عَالِياً ... وَنَرَى الذّلّ قَدْ حُسِمْ
وَنَرَى الْغيثَ قدْ همَعْ ... وَنَرَى الليلَ قَدْ خُتِمْ
وَنَرَى كُلّ رَوضَةٍ ... غُصْنُهَا مَادَ وَانْسَجَمْ
وَنَرَى الْبَدْرَ ضَاحِكاً ... وَنَرَى الشّمْسَ تَبْتَسِمْ(114/66)
دراسات تربوية
فضيلة الشكر..
العملة النادرة في هذا العصر
(1من2)
بقلم: د. محمد عز الدين توفيق
الشكر هو: الاعتراف بالإحسان [1] ، يقال: شكرتُ الله، وشكرتُ لله،
وشكرتُ نعمة الله ... والشكر مثل الحمد، إلا إن الحمد أعم منه، فإنك تحمد
الإنسان على صفاته الجميلة، وتحمده على معروفه وإحسانه، لكنك لا تشكره إلا
على معروفه دون صفاته.
وأصل الاستعمال اللغوي للشكر هو ظهور أثر الغذاء في جسم الحيوان،
فالشّكور من الدواب: ما يكفيه العلف القليل، أو الذي يسمن على علف قليل،
فيكون الشكر هو: ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيماناً، وفي لسانه
حمداً وثناءً، وفي جوارحه عبادة وطاعة، ويكون القليل من النعمة مستوجباً للشكر
الكثير، فكيف بالكثير منها؟ ! .
الشكر شعبة من شعب الإيمان: وشعب الإيمان هي صفاته وأخلاقه المتفرعة
عنه، مثل: الصبر، والرضا، والتوبة، والإنابة، والخوف، والرجاء، والرغبة، والرهبة، والتقوى، والورع، والخشوع، والإخبات، والإحسان، والعبادة.
هذه الشعب، وإن كانت جميعها تتفرع عن الإيمان، فهى آثاره في باطن
المؤمن وظاهره، إلا إن بينها فروقاً تميز بعضها عن بعض، وبعضها أعم من
بعض، ومن شعب الإيمان الجامعة: الشكر؛ فإن كثيراً من الشعب الأخرى تطبيق
عملي له، كما إن شعباً أخرى تطبيق عملي للصبر الذي يقابله، فيكون الإيمان
نصفين: نصف شكر، ونصف صبر.
وقد اقترن الصبر والشكر في كتاب الله (تعالى) في مواضع، مثل قوله
(تعالى) : [إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] [إبراهيم: 5] .
فالشكر على النعمة يقابله الصبر على الضراء، وفي الحديث: (عجباً لأمر
المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته
ضراء صبر فكان خيراً له) [2] .
ويتداخل الشكر والصبر في شعب عديدة، فيبدو الشكر أعم من الصبر من
بعض الوجوه، والصبر أعم من الشكر من وجوه أخرى، ومما يبدو به الشكر أعم: أنه يكون على كل ما قضى الله (تعالى) ، بما في ذلك ما يستوجب الصبر،
فالمؤمن يشكر ربه على ما نزل به من ضراء ويصبر، وشكره ذلك لإيمانه الراسخ
بأن الله (تعالى) حكيم رحيم، فالخير فيما اختاره، وما ظنه العبد مصيبة هو بعاقبته
نعمة، ويكفي أن الله (تعالى) يكفِّر بها خطاياه ويكتبها له في حسناته إلى يوم يلقاه،
والمقصود: أن كل ما يستوجب صبر المؤمن فإن الشكر يخالطه، فهو بهذا المعنى
أعم من الصبر.
والشكر صفة من صفات الله (عز وجل) : فقبل أن يُشَرف الحق (سبحانه
وتعالى) عباده بدعوتهم إلى التخلق بالشكر أخبرهم أنه في حقه صفة من صفات
كماله، فمن أسمائه الحسنى: (الشّكُور) ، لا يبخس العبادَ أعمالهم، ولا يظلمهم
حقهم، بل يجزي بالحسنة أضعافها، ويجزي بالسيئة مثلها وقد يعفو ويغفر، يثني
على عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويضاعف أجرهم وثوابهم، قال (عز
وجل) : [مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً]
[النساء:147] .
وقال (سبحانه) : [إن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
شَكُورٌ حَلِيمٌ] [التغابن: 17] ، ويوم القيامة: يرى الناس من هذه الصفة الإلهية ما
لم يروه في الدنيا، وعند ذلك يقول المؤمنون ما قال الله عنهم في كتابه: [وَقَالُوا
الحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ] [فاطر: 34] .
والشكر خلق من أخلاق الأنبياء: فهم أول من اقتبس من نور هذه الصفة
الإلهية، فشكروا الله (تعالى) فشكر الله لهم، قال (تعالى) عن نوح (عليه السلام) :
[إنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً] [الإسراء: 3] ، وقال عن إبراهيم (عليه السلام) : [إنَّ
إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ] [النحل: 120] ، وقال عن
سليمان (عليه السلام) لما رأى عرش بلقيس مستقرّاً عنده: [فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراً عِندَهُ
قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ] [النمل: 40] ، وكان نبينا محمد
أول الشاكرين، فقد قام بواجب الشكر على أكمل وجه، وامتثل لأمر ربه الذي قال
له: [بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ] [الزمر: 66] ؛ أخرج الشيخان عن
عائشة (رضي الله عنها) ، قالت: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم من الليل
حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من
ذنبك وما تأخر، فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً) ؛ فهو النبي -صلى الله عليه وسلم-
الذي لا يلحقه أحد في معرفة النعمة وتعظيمها وشكرها بالقلب واللسان والجوارح.
والشكر خلق من أخلاق المؤمنين: وإنما كان الشكر من أخلاقهم لأن الإيمان
يُعَلِّمهم أنهم وما يملكون لله، وما هم فيه من نعم محضُ فضل الله، فكيف لا
يشكرون؟ ، ويعلمهم أنهم إذا شكروا الله (تعالى) فإنما يشكرون لأنفسهم؛ لأن خير
هذا الشكر يعود إليهم، والله غني عنهم، قال الله (تعالى) : [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ] [البقرة: 172] ،
وقال (سبحانه) : [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] [لقمان: 12] .
الشكر في الناس قليل: إذا كان الشكر من صفات الأنبياء والمؤمنين، فإنه
ليس كذلك عند كل الناس؛ فالانتفاع بالنعم والغفلة عن المنعم بها سمة أكثر البشر،
على الرغم من ظهورها وكثرتها وإحاطتها بهم من كل جانب، [وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي
الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ] [الأعراف: 10] ، وقوله
(تعالى) : [وَهُوَ الَذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ]
[المؤمنون: 78] ، وقوله (تعالى) : [وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] [سبأ: 13] .
تقصير أهل هذا الزمان في الشكر: ولو كان الناس يُحْدثون لكل نعمة شكراً،
لكان أهل هذا الزمان أَشكر لله من كل من سبقهم، لكثرة ما فتح الله عليهم من نعمة، آثرهم بها على غيرهم، فهم يشتركون مع السابقين في نعم لا تحصى، ويزيدون
عليهم بنعم أخرى لم يعرفها المتقدمون على الرغم من وجودها في الأرض، وإنما
تمكنوا من اكتشافها في هذا العصر لتقدم علومهم، والعلوم هبة العقل، والعقل هبة
الله الأكرم الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
لقد حصل تطور هائل في الإنتاج الزراعي والحيواني، وفي النقل ووسائل
المواصلات، وفي اللباس والزينة، وفي الكسب والاحتراف، وفي السكن والفراش
والأثاث، وفي الطب والعلاج، وفي الإعلام والتواصل، وفي كل مجال تقريباً نجد
تطوراً كبيراً غيّر ظروف الناس نحو الأحسن ومكّنهم في الأرض ما لم يمكن لمن
قبلهم.
ويبدو موقف هذا الجيل صعباً عندما يلقى ربه، بالنظر إلى المفارقة العجيبة
بين ازدياد النعم وتناقص الشكر، فالنعم تزيد والشكر ينقص، وصدق الله: [إنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ] [البقرة: 243] .
الشكر يقابله الكفر: فشكر النعمة: ذكرها ونشرها، وكفرها: جحدها
وحجبها، قال الله (تعالى) : [وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ
كَرِيمٌ] [النمل: 40] ، وقال (عز وجل) : [إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا
يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ] [الزمر: 7] .
ومن أسباب كفر النعم: الغفلة عنها ونسيانها؛ أو تفسير مصدرها تفسيراً
باطلاً، فتصده شبهات أو شهوات عن رؤية النعم أو رؤية المنعم بها، وإذا تسلطت
الشبهات والشهوات على قلب ابن آدم كثرت فيه الأفكار الباطلة والإرادات الفاسدة،
ومن ذلك: ما ذكره الله (تعالى) عن قارون عندما ذكّره قومه بأن ما أدركه من مال
نعمة من الله، فليحسن كما أحسن الله إليه [قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي]
[القصص: 78] ، وظن أن تلك الأسباب التي أدرك بها ذلك المال نتيجة علمه
ومهارته، وغاب عنه أنه وما يملك لله وحده، وأنه لا يرد عن نفسه ولا عن ماله
الهلاك إذا شاء الله (تعالى) أن يهلكه أو يهلك ماله، وكذلك كان، لكنه لم ينتفع
بآيات الله لما نزلت به، وإنما انتفع بها من اغتر به من قومه، أما هو فقد ذهب
عِبرة لمن خلفه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من اتعظ الغير به.
فحتى لا يكفر العبد نعمة الله يجب أن ينظر إلى ما وراء الوسائط والأسباب
حتى لا تحجبه الوسائط عن رؤية المنعِم الذي قدرها، قال (تعالى) : [وَمَا بِكُم مِّن
نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ....] [النحل: 53] .
الشكر درجات: إذا كانت النعم تتفاضل، فهل يتفاضل الشكر؟ ، والجواب:
نعم، فالشكر أشبه بمتصل يبدأ بأسوأ درجات الكفر وينتهي بأعلى درجات الشكر،
فإذا كان الكافر محروماً من هذا الخلق ولا حظ له فيه، فإن المؤمنين بعد اشتراكهم
في أصل الصفة يتفاوتون فيها زيادة ونقصاً، بل تتفاوت أحوال الواحد منهم، فلا
يكون شكره على درجة واحدة في كل أوقاته ومراحل عمره، وحتى ينافس المسلم
على هذه الدرجات: ينبغي أن يدخل حلبة السباق متسلحاً بالعلم اللازم، وذلك بأن
يعرف مراتب الشكر الثلاث، وهي: شكر القلب، وشكر اللسان، وشكر الجوارح.
شكر القلب: أول الشكر: علم، ومحله: القلب، فيعلم أن الله (تعالى) هو
المنعم بكل النعم التي يتقلب فيها، فالالتفات إلى النعمة وحدها لا يجعل القلب شاكراً
حتى يفسر: هذه النعمة من أين جاءت؟ ، ومَنْ ساقها إلى الإنسان؟ ، وما دور
الأسباب التي حصلت بها؟ .
وقد جاء القرآن الكريم ليدفع جميع التفسيرات التي تنسب النعم لغير الله، قال
(تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم
مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ] [فاطر: 3] ، وقال (عز وجل) :
[أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ] [العنكبوت: 67] .
إن رصد النعم، والتعرف إليها، وتسميتها.. مرحلة تمهيدية لابد منها لشكر
القلب، ولذلك أمر القرآن الكريم بإحصاء النعم ليكتشف الإنسان كثرتها وعجزه عن
الإحاطة بها، فيعتبر بما عرف منها وأحصى، ويعتبر بما عجز عن معرفته
وإحصائه، ولا يفهم من الآية الآتية عكس هذا؛ لأنها جاءت عقب مجموعة من
النعم سماها القرآن الكريم وعدها، ثم قال: [وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ
اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] [النحل: 18] .
وهناك طرق يمكن أن يسلكها القلب ليجمع بها في عالمه الذهني ما يوجد من
النعم في العالم الخارجي، ومنها: ردها إلى أصولها، فالنعم أصول وفروع،
فالصحة نعمة أصلية، يتفرع عنها: الحركة، والمشي، والعمل، والرياضة،
والأكل، والشرب، والنوم، والسفر، والتعلم.. ومثل الصحة: الوقت، والعلم،
والمال.. فهي نعم أصلية تندرج تحت كل واحدة نعم لا تحصى.
ومن هذه الطرق: ضم النعم إلى ما يجانسها ويشابهها، ونستطيع أن نصف
النعم التي أنعم الله بها علينا في ثلاث دوائر، تضم كل واحدة عدداً لا يحصى من
النعم.
فالأولى: تشمل النعم التي أنعم الله بها علينا بوصفنا مخلوقات، فهي نعم
متفرعة عن نعمة الخلق والإيجاد، والثانية: تشمل النعم التي أنعم الله بها علينا
بوصفنا آدميين، فهي نعم متفرعة عن نعمة الآدمية والإنسانية، والثالثة: تشمل
النعم التي أنعم الله بها علينا بوصفنا مسلمين، فهي نعم متفرعة عن نعمة الهداية
والإيمان.
فالدائرة الأولى: تشمل سلسلة لا تنتهي من الترتيبات الكونية جعلت حياتنا
على هذا الكوكب ممكنة، وقد عرف الإنسان اليوم ما لم يكن يعرفه أسلافه عن هذه
الترتيبات، وعرف من دقتها أن أي خلل يقع في واحد منها يجعل الحياة على
الأرض مستحيلة.. وعلى سبيل المثال: لو كانت الأرض أقرب إلى الشمس مما
هي عليه الآن لكانت كالكواكب القريبة منها كوكباً ملتهباً وساخناً تصل حرارته إلى
بضع مئات، ولو كان القمر أقرب إلى الأرض منه الآن لارتفع المد في البحار إلى
الدرجة التي تغرق فيها المناطق الساحلية المأهولة، وإذا زاد المد أزالت الأمواج
أعلى قمم الجبال في أيام، ولو لم يكن للأرض غلاف هوائي لم يمكن وجود حياة،
ولو لم يكن فيها ماء لم يظهر كائن حي واحد، ولو لم تكن تدور على نفسها وحول
الشمس لم يمكن بقاؤها في مدارها، بل إن وقوفوها للحظة واحدة يعني اجتذاب
الشمس لها وفناءها السريع بالاندماج مع هذا النجم المشتعل الذي يزود الأرض
بحاجتها من الضوء وهو على بعد مئة وخمسين مليوناً من الكيلومترات.. والأمثلة
لا تحصى.
والدائرة الثانية: تجمع النعم التي خص الله بها الإنسان من دون سائر
الحيوانات التي تشاركه الحياة على الأرض، ومنها: أنه (سبحانه) خلقه بيده،
ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله عاقلاً ناطقاً، وسخر له ما في
السموات والأرض، وأنزل إليه الكتب، وبعث إليه الرسل، ووعده على الإيمان
والطاعة بالجنة.
فهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه النجوم، والجبال، والبحار، والأنهار
والأشجار، والدواب، والأنعام، والأسماك، والمعادن، والثمار.. كلها سخرة له،
يأكل، ويلبس، ويفترش، ويدخر، ويتنزه.. فتمت نعمة الله عليه بما أعطاه من
قدرة على التسخير، وبما جعل في هذا الكون من استعداد للتسخير.
[أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ
نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] [لقمان: 20] ، [اللَّهُ الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ
بِأَمْرِهِ وسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ
الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] [ابراهيم: 32، 34] ، [وَهُوَ الَذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَاًكُلُوا مِنْهُ
لَحْماً طَرِياً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (17) وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ]
[النحل: 14 18] ، [وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَاًسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ] [النحل: 81 83] .
والدائرة الثالثة: تشمل النعم التي خص الله بها المؤمنين دون سائر الناس،
وأعظمها في الدنيا هي: نعمة الإيمان نفسه، وأعظمها في الآخرة: رضوان الله
(تعالى) ، ورؤيته، وجواره في جنته، وصحبة الأنبياء والصديقين والشهداء
والصالحين من عباده.
[يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [الحجرات: 17] ، [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] .
وتتفرع عن نعمة الهداية والإيمان نعم كثيرة، منها: الأمن، والسكينة،
والمغفرة، والرحمة، والتيسير، والرزق الواسع، والبركة في المال والعمل
والأهل.. وغيرها كثير.
هذه دوائر ثلاث تصنف النعم حسب أنواعها وأجناسها.
أما اكتشاف النعم والتعرف عليها تفصيلاً فله طريقان، هما: الوحي، والعقل، فالكتاب والسنة ذكرا نِعماً كثيرة، وأرشدا إلى وجوه المنافع الكامنة فيها، وبيّنا
طريق شكرها.. والعلوم البشرية طبيعية، وإنسانية اكتشفت نعماً أخرى، ولا
زالت تكشف نعماً جديدة أو منافع جديدة لنعم معروفة.
كثير من النعم لا يحتاج الإنسان إلى العلوم المتخصصة ليعرف منافعها
وفوائدها، لكن هذه العلوم تُوسِّعُ معارف الإنسان، فيعرف منها ما لا يعرفه بالنظر
العادي أو بالتجربة العادية، فالحواس الخمس، واللسان والفم، واليدان والرجلان،
والماء والهواء، والطعام واللباس، والشمس والقمر، والليل والنهار.. نِعَم يستطيع
كل إنسان أن يعد منافعها، ولكن العلوم التي درست هذه النعم تعرف عنها أكثر مما
يعرفه الشخص العادي، فهذه العلوم في مسيرتها الطويلة كشفت بقصد أو بغير قصد
من وجوه المنافع في الشيء الواحد ما يجعل نعمة واحدة من نِعَم الله نعم لا تحصى،
وهذا وجه آخر في معنى قول الله (تعالى) : [وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا]
[النحل: 18] ؛ لأن إحصاءها لا يمكن إلا وهي محصورة، فكيف وهي تتجدد،
وتزيد، ويظهر في نعم معروفة ما لم يكن معروفاً؟ ، فكيف يحصي الإنسان شيئاً لا
ينحصر؟ .
يقول الله (تعالى) : [فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ] [الطارق: 5] .
ويقول (سبحانه) : [فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِه] [عبس: 24] .
فلو قام الإنسان برحلة عقلية مع الجنين في أطوار خلقه حتى يصير إنساناً
سويّاً، وقام برحلة مماثلة مع الطعام خارج الجسم ثم داخل الجسم حتى يصير غائطاً
وبولاً.. ما استطاع أن يحصي نعم الله عليه في هاتين الرحلتين اللتين يمر بالأولى
مرّاً، أو يمر بالثانية آلاف المرات، فيكف إذا استعان بما قاله علم الأجنّة عن
الرحلة الأولى وما قاله علم الفسيولوجيا عن الثانية؟ ، ومع كل نعمة احتمالات
عقلية أخرى لِما كان سيحدث من أنواع الاختلالات والأعراض والإصابات لو لم
تسر الأمور سيراً طبيعيّاً، فالنعم تعرف بما يقابلها من المحن، وكثيراً ما نجد في
القرآن الكريم التذكير بالنعمة وبالاحتمالات العقلية المقابلة، كقوله (تعالى) :
[أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ (69) لَوْ
نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ] [الواقعة: 68 70] .
أي: لو نشاء جعلناه مالحاً، ولو تبخرت مياه البحر مرة واحدة بأملاحها
لسقطت الأمطار مالحة، فأفسدت الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية لكنها تتبخر
دون أن تحمل معها الأملاح فتسقط ماءً عذباً.
شكر القلب وفتنة الشيطان: لا يمكن أن يسلك الإنسان طريق الشكر دون أن
يعرض له الشيطان بفتنته، بل سيقعد له بكل وجه، ويأتيه من كل طريق، ليُغفل
قلبه عن ذكر الله وشكره، قال (تعالى) : [ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] [الأعراف: 17] .
فلا بد من كسب هذه الجولة والتصدي لهذه الفتنة ودفع وساوسه عن القلب،
وهي شبهات تفسر النعمة بالباطل أو شهوات تصرف القلب عن الالتفات إلى النعمة
عند الانتفاع بها، فإذا تحرر القلب من هذه الوسوسة فاللسان والجوارح تبع له،
تصلح بصلاحه وتفسد بفساده.
__________
(1) انظر: لسان العرب، مادة (ش ك ر) .
(2) رواه مسلم في الزهد.(114/68)
المسلمون والعالم
ليبيا.. وسراب الدولة الجماهيرية
بقلم:محمد علي محمد
في ليبيا أو (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى!)
أصدر برلمانها أو ما يسمى بـ (المؤتمر الشعبي العام) عقوبات جماعية هي الأولى
من نوعها في العالم العربي الإسلامي الحديث، ضد كل من يخالف أو يقاوم هذا
النظام، على شكل قانون أطلق عليه: (ميثاق الشرف) ! ، والذي يهدف إلى مكافحة
ما أسماه بالجريمة الجماعية التي تشَكل وفق تعريف هذا القانون العجيب (التعطيل
لسلطة الشعب) ، وبموجب هذا القرار تتعرض عائلة (المخالف) أو قبيلته لعقوبات
سياسية واقتصادية ما لم تتبرأ منه ومن أفعاله التي يعاقب عليها، ومن العقوبات
التي توقع على المستحقين لها: الحرمان من الخدمات الحياتية كالماء، والكهرباء،
والهاتف، ووقود المنازل والسيارات، والخدمات الإدارية، والسلع التموينية،
والمخصصات المالية.
هذه العقوبات المنتهكة لأدنى حقوق الإنسان فضلاً عن مخالفتها للشريعة
الإسلامية لم تأت من فراغ، وإنما هي (بنات أفكار) (العقيد) التي ضمنها (كتابه
الأخضر) ، وفي هذا المقال يعرض الكاتب لوقفات من واقع (المؤتمر الشعبي)
ولجانه الشعبية، والأسس التي يُحكم بها شعب ليبيا المغلوب على أمره.
والله نسأل أن يصلح الأحوال، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
- البيان-
في 2/3/1997م مرت على (ليبيا) الذكرى العشرون على إعلان قيام سلطة
الشعب المستندة على تعاليم (الكتاب الأخضر) الذي يبشر الشعوب بالهداية إلى
طريق الديمقراطية [1] ، لمؤلفه (الملازم ثان) (معمّر القذافي) القائد، والمفكر،
والمعلم، والملهم، والقائد الأممي، ومهندس النهر الصناعي العظيم، صانع أول
جماهيرية في التاريخ ... إلى آخر الألقاب! ! .
إن من حق الباحث بعد مرور هذه السنوات العجاف أن يتساءل عن مصير
هذه التجربة، تجربة سلطة الشعب في ليبيا، وكيف كانت التجربة؟ ، خصوصاً
وأن الذي يشرف على إخراجها وتنفيذها هو المؤلف نفسه، الذي توفرت له جميع
الإمكانات الهائلة والفرصة المواتية لتطبيق أفكاره، وبحرية واسعة، فقد كانت
تجربته هذه تحميها وتقرها وتدعمها سلطة دولة وثروتها وسلاحها، فكيف كانت
الحصيلة لهذا الشعب الذي عانى ويعاني من هذه المحنة حتى يومنا هذا؟ .
البناء الفكري للتجربة:
أصدر (القذافي) الفصل الأول من الكتاب الأخضر عام 1976م، وهو الفصل
المخصص لمناقشة شكل الديمقراطية، وقد جاء في البيان الصادر بإعلان سلطة
الشعب 2/3/1977م، أنه (اهتداء بمقولات الكتاب الأخضر..) ، لذا: فإن
الأساس الفكري للتجربة يعتمد على (الكتاب الأخضر) مباشرة، الذي يقرر بأسلوب
جازم قطعي أن (المؤتمرات الشعبية هي الوسيلة الوحيدة للديمقراطية الشعبية) [2] ،
وينفي بالأسلوب نفسه (أن أي نظام للحكم خلافاً لهذا الأسلوب (أسلوب المؤتمرات
الشعبية) هو نظام غير ديمقراطي) [3] ، (فلا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية
واللجان في كل مكان) [4] ، أما فكرة المؤتمرات الشعبية فتقوم كما جاء في كتابه
الأخضر على النحو التالي:
1- يقسم الشعب إلى مؤتمرات شعبية أساس في كل حي أو محلة.
2- يختار كل مؤتمر أمانة له.
3- من مجموع أمانات المؤتمر تتكون مؤتمرات شعبية أعلى.
4- تختار جماهير تلك المؤتمرات الشعبية لجاناً إدارية؛ لتحل محل الإدارة
الحكومية، فتصبح كل المرافق في المجتمع تدار بواسطة لجان شعبية.
5- تصير اللجان الشعبية التي تدير المرافق مسؤولة أمام المؤتمرات الشعبية
الأساس، التي تملي عليها السياسات وتراقبها في تنفيذها.
6- ما تتناوله تلك المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية يرسم في صورته
النهائية في مؤتمر الشعب العام، الذي تلتقي فيه أمانات المؤتمرات الشعبية واللجان
الشعبية.
7- ما يصفه مؤتمر الشعب العام الذي يجتمع دوريّاً أوسنويّاً يطرح بالتالي
على المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية؛ ليبدأ التنفيذ من قِبَل اللجان الشعبية
المسؤولة أمام المؤتمرات الشعبية الأساس [5] .
وقد وصف (القذافي) أسلوبه بأنه نظام بديع وعملي [6] .
وإذن: فقد انحلت مشكلة الديمقراطية نهائيّاً في العالم [7] بذلك الأسلوب
المزعوم.
من عقدة العظمة والغرور ينطلق (القذافي) في (كتابه الأخضر) ويقرر بطريقة
الأستاذ الملهم أنه جاء بالحلول النهائية والحتمية لجميع مشكلات العالم عبر التاريخ، وبأسلوب لا يحتمل النقاش أو المراجعة أو الجدال، ولم يبق أمام الجماهير إلا
الكفاح للقضاء على كافة أشكال الحكم الديكتاتورية السائدة في العالم الآن [8] .
وإذا كانت الفلسفات والشرائع الأرضية تشهد تهافتها وتساقطها حيناً بعد حين،
وأن ما يبقيها ويجعل لها بعض القبول عند الناس هو ما تحمله من بقية وحي، أو
أثارة من علم، أو شيء من حكمة.. فإن ما أبقى فكرة سلطة الشعب والكتاب
الأخضر ما هو إلا الإرهاب والقمع والقهر.
إذ إن الكتاب الأخضر جاء خلواً من أي فكر صحيح، بل هي أوهام رجل
مصاب بعقدة العظمة، وتمكن على حين غفلة من الناس، وانفرد بالسلطة، فزينت
له أوهامه أنه مفكر، وأنه رسول الصحراء كما نقلت الصحفية الإيطالية (إيزابيلا
بيانكو (في كتابها عنه: (رسول الصحراء) ، ولن تجد مثالاً في التاريخ يمكن أن
تقربه إلى أفكار الكتاب (الأخضر) أقرب من (قرآن مسيلمة) أو أفكار ووسائل
الحاكم الفاطمي، أو دين (جلال أكبر) الحاكم المغولي، أو فلسفة الثورة لعبد الناصر.. وهذه الأفكار الشاذة مصيرها الدفن في مزبلة التاريخ.
التجربة والممارسة:
باشر (القذافي) بقوة السلطة وقهرها تنفيذ أفكاره على الشعب الليبي المغلوب
على أمره في أواخر عام 1976م، وخدع في البداية شعبه بدعوته لتطبيق الشريعة
الإسلامية والزخم الإعلامي الذي قام به إعلامه حول هذا المشروع، إلا إن ذلك لم
يطبق فعليّاً، وربما كان ذرّاً للرماد في العيون، ثم تنزل عليه (الوحل) بأفكار كتابه
الأخضر، وديمقراطيته إياها لم يجر فيها استفتاء على الشعب: هل يرغب في
تطبيق الكتاب الأخضر أم لا؟ ؛ لأن الاستفتاء كما يقول تدجيل على الديمقراط [9] ، وإنما سيق الناس وحشروا إلى تلك المؤتمرات حشراً، إما رغبة وإما رهبة،
فقد كانت جميع المعاملات والإجراءات من إصدار الرخص والتوظيف والجوازات
والتأشيرات.. وغيرها لا يمكن الحصول عليها إلا إذا أثبت المواطن حضوره
للمؤتمرات الشعبية عن طريق بطاقة الحضور، وكانت تغلق المحلات والإدارات
ليتمكن المواطنون من الحضور إلى تلك المؤتمرات.
وإذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه كما يقولون، فإنه في أول جلسة لمؤتمر
الشعب العام في 2/3/1977م والمنقولة مباشرة عبر التلفزيون الحكومي تمت
مناقشة الاسم الرسمي للدولة (القذافية) ، وكانت المؤتمرات الشعبية قد قررت أن
يظل الاسم كما هو عليه، أو اقترحت: جمهورية ليبيا الإسلامية أو العربية ... إلخ، فألقى (القذافي) بهذه القرارات في سلة المهملات وهي ملزمة حسب كتابه الأخضر
واختار اسماً عجيباً لا يحسده عليه أحد، ليصبح أطول اسم في تاريخ الدول كما
سبقت الإشارة إليه.
هذه هي البداية، أما تطبيق الأفكار فقد جرى على نحو عجيب كما سنرى:
أسلوب اختيار المتنفذين:
كان اختيار أمانات المؤتمرات وأعضاء اللجان الشعبية يتم دائماً في غرفة
اللجان الثورية، ويلقى بالاسم خارجاً ليتم التصفيق والهتاف وصيحات الإجماع،
هذا في المحِلات والأحياء، أما على مستوى الدولة فإن الاختيار والتعيين يتم من
قبل (القذافي) مباشرة، ويوعز لأحد الأعضاء أن يطالب به! .
أما قرارات الدولة (الجماهيرية) سواء أكانت قرارات مهمة أو تافهة، وحتى
قرار بداية شهر رمضان أو العيد، فإنها تتخذ في خيمة القائد، وأصبحت عبارة
(الموضوع في الخيمة) مألوفة، ولا يجرؤ أمين اللجنة الشعبية العامة (رئيس مجلس
الوزراء) على اتخاذ أي قرار مهما كان، وإنما مهمته تنحصر في تتبع مقر إقامة
(القذافي) المتنقل دائماً والجري وراءه لالتقاط قراراته، ثم إعلانها متى ما أجازها
الزعيم! .
ومن المعروف لدى الليبيين أن قرارات تغيير العملة، وإلغاء التجارة،
والحرب على تشاد، وتأميم الشركات والمساكن، وفرض الجندية.. وغيرها لم
تعرض ولم تناقش على المؤتمرات، ولو أنها عرضت لم يكن يتغير من الأمر شيء! ولقد علم الشعب بهذه القرارات عن طريق الإعلانات أو الإذاعات
الخارجية! .
ومن المعروف أن القرارات تتخذ وتنفذ قبل انعقاد المؤتمرات الشعبية، ثم
تدعى لكي توافق على القرارات السارية! ، وأصبح من التقليد المعروف (للزعيم)
قبل انعقاد المؤتمرات بيوم أن يظهر في التلفزيون الوحيد الخاص به، ليستعرض
مع شعبه البنود المعروضة للنقاش في اليوم التالي، كالأستاذ مع تلميذه ليلة الامتحان، ويقرر لهم ما يريد، لينطلق (الهتيفة) الثوريون يرددون ما قاله، وسميت هذه
العملية بترشيد الجماهير.
وبفضل تلك الأساليب أصبح الشعب يكذب على نفسه، وحاكمه يكذب عليه،
وأصبحت ليبيا المسكينة مسرحاً سخيفاً كبيراً لأكبر مأساة في تاريخها، سميت زوراً
وبهتاناً: عصر الجماهير وسلطة الشعب.
أما اللجان الشعبية فقد نشأت بعد خطاب (زوارة) في شهر ربيع الأول عام
1973م، فيما يعرف بخطاب النقاط الخمس وإعلان الثورة الشعبية، ولكن لم
تطلق يد اللجان الشعبية بالكامل إلا في إعلان سلطة الشعب، فعاثت في الأرض
فساداً، تهلك الحرث والنسل، وتخرب وتدمر جميع مرافق وخدمات الدولة..
فالجامعة ترأسها لجنة من الطلاب الثوريين الفاشلين، والمرافق العامة كالصحة
والتعليم والبريد يرأسها نفر من الوصوليين؛ فالمستشفى يديره ممرض (معروف
السيرة) ، والتعليم يديره مشرف خدمات متهرب من العمل من العينة نفسها، والبريد
يرأسه معروف بالرشوة.. وهلمّ جرّا، أما الشركات: فيرأسها أناس غير
متخصصين، وأصبحت المرافق والخدمات والشركات نهباً موزعاً لهم، واستأثر
بالقسط الأكبر منها الأتباع ورجال المخابرات والمقربون.. فهذا عصر الدجل،
وكل لجنة شعبية من هؤلاء تتغير أو تبقى بعد عمليات ما سُمي بـ (التصعيد) ،
ومن قفز من أهل الخير والفضل خطأً إلى هذه اللجان أسقطت عضويته بقرار من
اللجنة الثورية، أو هُمِّش، أو لفقت له تهمة، أو ينساق في تيار (الإنجازات
الثورية) حتى ولو لم يقتنع بها؛ ليسلم من المصير المجهول! .
وظهرت طائفة في المجتمع معروفة بالسرقة من الأموال العامة، كالفئات التي
تظهر بعد الحروب والأزمات، تعيش بأساليب غير نظامية مما يسمى بأغنياء
الحرب.
ولا تسأل بعد ذلك عن حال الخدمات والمرافق والبنية الأساس للبلاد، فما لم
تحطمه الفوضى والتسيب أدركته السرقة والنهب، وساعد (الزعيم) على هذا
الوضع الوحشي بالتأخير المتعمد للمرتبات، حتى حطمت الدولة (الجماهيرية) الرقم
القياسي لتأخير المرتبات، فقد وصلت في بعض القطاعات إلى 8 أشهر مؤجلة! ،
أما تأخير المرتبات لبعض الأفراد فقد وصل إلى سنة! أو أكثر، وذلك في دولة
بترولية تعم أرضها بالخيرات! .
والوحيدة التي سلمت من هذه الفوضى إلى حدٍّ ما هي شركات النفط؛ لأنها
ببساطة مقسمة قسمة (ضيزى) بين القذافي وجلود.
من بركات الجماهيرية:
منذ قامت ثورة الفاتح من سبتمبر أو الانقلاب (القذافي) ، وليبيا تعاني الأمرين
من سوء الأحوال والاضطرابات السياسية؛ نتيجة هذا الحكم العجيب، ومن
المظاهر السلبية التي يعانيها الشعب المغلوب على أمره ما يلي:
-الإذلال والقهر والإرهاب للشعب، فقد صار المكان المفضل للقذافي هو
ساحات المؤتمرات الشعبية؛ حيث يعدم المعارضون وعلى رأسهم الإسلاميون.
-تدمير البنية الأساس لجميع مرافق وخدمات البلاد، بنشر الفوضى والنهب
وحماية القائمين على ذلك.
-إفساد الأخلاق والقيم، ونشر معاني تدني الأخلاق والرذيلة والرشوة
وانتهاك الحرمات.
-تشجيع النعرات القبلية والجهوية بين أبناء البلد، وإثارة الفتن بينهم.
-تسليط اللجان الثورية ورجال المخابرات على عامة الناس.
-هجرة العقول المتميزة، وقتل ذوي الكفاءات، وتقديم الأراذل والسفهاء.
والأهم من ذلك وقبله وبعده: تعبيد الناس لطاغوت يسومهم سوء العذاب،
وإخضاع الناس لشرعه من دون الله.
وأختم حديثي بالذي هو خير:
[وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ] [النور: 39] .
[أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
[التوبة: 109] .
والله نسأل أن ييسر لبلادنا من ينقذها من أفكار العقيد الضالة وأساليبه
الغوغائية التي لم تنل منها بلادنا سوى التأخر والضعف والحصار.
فعسى أن يقيض الله لنا من يحكم بشرع الله ليرد لبلادنا كرامتها ومكانتها،
وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(1) الكتاب الأخضر، ص 47.
(2) المصدر السابق، ص 45.
(3) المصدر السابق، ص 45.
(4) المصدر السابق، ص48 50.
(5) المصدر السابق، ص48 50.
(6) المصدر السابق، ص 47.
(7) المصدر السابق، ص 46.
(8) المصدر السابق، ص 47.
(9) المصدر السابق، ص 39.(114/76)
المسلمون والعالم
النصارى في بنجلاديش
دراسة عن دور المنظمات غير الحكومية في نموهم غير العادي
بقلم: محمد نور الزمن
تقوم المنظمات التنصيرية الدولية بعمل دؤوب من أجل تنصير مسلمي
بنجلاديش، مستخدمة في ذلك الوسائل غير المشروعة وغير الأخلاقية [*] ، وذلك
ما توضحه حقائق ومعلومات مدهشة مقتبسة من تقرير حكومي داخلي أعده المدير
العام لقسم المنظمات غير الحكومية لحكومة (بنجلاديش) ، والذي يفضح تصرفات
خطيرة تقوم بها هذه المنظمات، مما يمس سيادة البلاد واستقلالها، فأراد المدير
وهو موظف حكومي جريء إصدار إشعار للفت الأنظار إلى عديد من المنظمات
غير الحكومية ذات النفوذ الواسع، الأمر الذي أدى بسفراء ثلاث دول غربية قوية
تقدم مساعدات للبلاد إلى زيارة (خالدة ضياء) رئيسة الوزراء آنذاك، وهددوها
بقطع المساعدات الغربية لبنجلاديش إن أصرت الحكومة على إصدار الإشعار،
فنقلت السيدة المذعورة عقب هذه الزيارة مدير القسم إلى قسم حكومي آخر؛ من
أجل إرضاء أولئك الأجانب، كما تنازلت عن كل الإشعارات الحكومية في هذا
المجال، اختراقاً لقوانين البلاد وأنظمتها.
لقد انقضّت المنظمات غير الحكومية على بنجلاديش منذ إنشائها، كالنسور
الجائعة، ويتضح ذلك من الآتي:
1- يوجد في بنجلاديش ثلاثون ألف منظمة غير حكومية تملك من مساحة
البلاد54. 000 ميل مربع (ولم يسجل لدى الحكومة إلا بعض منها) .
2- تصرف ثمانية آلاف مليون (تاكا) من مجموع المساعدات الخارجية التي
تبلغ عشرة آلاف مليون (تاكا) سنويّاً إلى المنظمات غير الحكومية، إما مباشرة، أو
تنفق تحت إشرافها باعتبارها جزءاً من ميزانيتها لتنمية البلاد، (دولار أمريكي 40
تاكا بنجالية) ، كما تجمع هذه المنظمات تبرعات أخرى من المؤسسات الأجنبية باسم
تنمية أوضاع السكان الفقراء في (بنجلاديش) .
وبعض هذه المنظمات تصرح علناً بكونها ذات طابع تنصيري، مثل: قوة
الإنقاذ (Salvation Army) ، والبعثة اللوثرية التنصيرية (Lutheran
Christian Mission) ، وكنيسة اليوم السابع (Seventh Day
Adventurist Church..) وما إلى ذلك، لكن بعضها الآخر يخفي نشاطه
تحت ستار أسماء أخرى.
3- لا تنفق هذه المنظمات إلا جزءاً ضئيلاً من هذه المبالغ الهائلة لصالح
الفقراء، بينما تنفق الباقي منها وهو يشكل 80% إلى 95% منها في مجالات
الرواتب الباهظة للموظفين، والفلل، والسيارات الفخمة، ونشر النصرانية، وفي
صورة منح في مجالات الإسكان والصحة والتعليم.. وغيرها، تعطى للمتنصرين
من المسلمين.
4- لقد أنشئ مستشفى تبشيري عام 1965م في قرية (معلوم جات) من منطقة
(شيتاجانج) التي لم يكد يوجد بها نصراني آنذاك، أما الآن: فقد بلغ عددهم أربعين
ألف نصراني، والنتيجة: تم منع رفع الأذان في مسجد قريب، كما صدر الأمر
بعدم رفع الأذان في ثلاثة مساجد أخرى تقع على بعد عشرة كيلومترات.
5- لقد ركزت هذه المنظمات غير الحكومية على تنصير المسلمين في
المناطق الحدودية، ونجحت في تنصير عدد كبير من السكان المسلمين؛ لكي توجد
حالة مثل حالة جنوب السودان.
6- تقوم هذه المنظمات بتوفير الأموال والأسلحة للحركة الانفصالية بقبيلة
(جارو هيل) التي قبلت النصرانية! ، وشنت حرب عصابات ضد الحكومة
البنجلاديشية في مناطق جبلية لـ (شيتاجانج) للحصول على الاستقلال، وكان
المواطنون الأبرياء هم ضحايا هذه الحرب.
7- هذه المنظمات غير الحكومية قوية جدّاً، وتتمتع بنفوذ واسع في الأوساط
الحكومية، لقد نجح شخص يدعى (بيه. مانكين) ، وهو رئيس منظمة نصرانية
أصولية تدعى (وورلد فيزن World Vision) ، نجح في قبول ترشيحه من ضمن
قائمة حزب (عوامي ليج) ، وفاز بالانتخاب النيابي عن دائرة المنطقة الجبلية لـ
(شيتاجانج) ، وذلك عن طريق دفع خمسمئة ألف تاكا (25ألف دولار أمريكي)
للحزب! ، فقد فاز بأصوات 16. 000 ناخب نصراني ضد منافسه (تي. إيتش.
خان) محام معروف ووزير سابق في حكومة الحزب البنجالي القومي السابقة، لم
يكن حزب (عوامي ليج) حتى العام الماضي يتمتع بالأغلبية في البلاد، لكن رحلة
الحج التي قامت بها رئيسة الحزب (شيخة حسينة واجد) ، ساعدت في عطف آراء
الشعب نحوها، فاستغلت حجها لإثارة عواطف الجماهير الدينية، وبالتالي: لكسب
أصوات الناخبين لصالح حزب (عوامي ليج) .
8- كان عدد السكان النصرانيين في عام 1972م 200. 000 نسمة،
وارتفع العدد في عام 1991م إلى خمسة ملايين! ، بينما من المخطط أن يرتفع
العدد إلى عشرين مليون نصراني في عام 2020م.
9- تمارس هذه المنظمات التي تبلغ قرابة 30 منظمة أنشطة غير مشروعة،
وقد وافقت حكومة (خالدة ضياء) على تحركات هذه المنظمات المعادية للبلاد رغم
معارضة رئيس الأمن الداخلي لبنجلاديش.
10- خصصت في عام 1992 1993م ميزانية هائلة لإكمال 1018
مشروعاً لهذه المنظمات، بلغ قدرها الإجمالي 315. 08 مليون تاكا بنجالية، ينفق
منها جزء قليل لتحقيق الهدف الأصلي، أما الباقي منها فهو ينفق في مجال التنصير
وتشجيع الارتداد عن الإسلام.
11- يَعتبر العلمانيون واليساريون من رجال السياسة البنجالية المنظمات غير
الحكومية صديقاً حميماً لهم، ويقفون أمام مكاتبها من أجل الحصول على مبالغ
ينفقونها لصالح مشاريع التنمية الصغيرة في دوائر انتخابهم؛ من أجل كسب
الأصوات.
12- تقوم هذه المنظمات بحملات ضد القرآن والسنة النبوية، فلقد صدر
كتاب ألفه كاتب نصراني، هو الدكتور (مارك حنا) وقامت بطبعه مؤسسة نصرانية
اسمها (International Poorways Publications) يحتوي على بيانات من
سبعة (مسلمين بنجاليين) تنصروا فيما بعد، يسبون فيها الإسلام ويستهزؤون به،
شارحين الآيات القرآنية شرحاً خاطئاً، ويتجرؤون على النيل من شخصية رسولنا
الكريم والمس بكرامته، ولقد طبعت منظمة نصرانية أخرى (الجمعية النصرانية
لداكا) الكتاب مترجماً إلى اللغة البنجالية، ووزعته مجاناً.
13- يبقى الموظفون الحكوميون صامتين لا يحركهم شيء، أما إذا اجترأ
أحد منهم وجهر بقول ضد هذه الأنشطة فإنه يجد نفسه أمام تهديدات النقل إلى وضع
صعب، وذلك بسبب النفوذ الواسع الذي تتمتع به هذه المنظمات في أوساط الحكومة
العليا، ولا نتوقع حدوث تغيير جذري في الوضع بتغيير الحكومة.
14- من أخطر المنصِّرين: المدعو (ريتشارد هالويه) الذي قضى 14 سنة
في (إندونيسيا) يعمل بدأب في مجال التنصير، ثم جاء إلى (بنجلاديش) في حقبة
حكومة الرئيس السابق (محمد إرشاد) ، فأنشأ في البلاد منظمة باسم (اتحاد إدارات
التنمية لبنجلاديش) ، بلغت عضويته (180) منظمة غير حكومية، من مجموع
(635) منظمة سجلت لدى الحكومة، وهو يمارس بفضل هذه المنظمات الضغوط
على الحكومة، كما يتمتع بدعم كامل من قبل سفراء ثلاثة من البلدان الغربية القوية
لدى (بنجلاديش) .
15- تقوم هذه المنظمات في الغالب، بتوظيف المتنصرين المرتدين، وفي
حالة توظيف مسلم ما فهو يعاني العراقيل في سبيل أداء الصلاة، وإن أراد أن
يصلي فعليه أن يصلي بعيداً عن أنظار أصحاب العمل، لأنهم يكرهون هذا.
ماذا نفعل إذن؟ :
رغم هذه الظروف غير الملائمة، نرى شعاعاً من الأمل، لقد أصدر ثمانون
شخصية بارزة بياناً إنذاريّاً ضد الضغوط المتزايدة للمنظمات غير الحكومية الأجنبية
ومساعديها المحليين، وهذه الشخصيات من فئات العلماء والمحامين والمفكرين،
وعلاوة على ذلك، كلما افتضح أمر التنصير وعلم به الشعب قام كرد فعل بالعمل
المباشر ضد المجرمين.
العلماء والآخرون الذين يتصدون لأنشطة المنظمات غير الحكومية يتعرضون
لهجمات شديدة تشنها الصحف والجرائد الأسبوعية واليومية التي تمتلكها هذه
المنظمات، وحتى الذين على الخط الأمامي لمواجهة الخطر لا يعرفون إلا نزراً
يسيراً من الأنشطة التنصيرية، وما يتنبهون إلا إذا حدث حادث في منطقتهم،
وليس فيهم أحد على إلمام تام بالمخطط الكامل للمنظمات التنصيرية الذي وضعته
لتنصير البلاد، ولا هم على وعي بخطورة الوضع.
سيكون إصدار كتاب يفضح هذه المنظمات بمثابة إنذار للجميع ووثيقة قوية
بأيدي العلماء والمسلمين المعنيين لتعليم الجماهير ومساعدتهم في منع المسلمين
الفقراء من شراء إيمانهم، كما سيكون تحدياً وكبحاً لجماح المنظمات غير الحكومية.
ولأجل ذلك: هناك دراسة لمشروع طبع 10. 000 نسخة من كتاب صدر
عن مركز الدراسات البنجلاديشية يكشف حقائق مذهلة عن الأنشطة التنصيرية،
ومن ثم: توزيعها مجاناً بتكلفة 107. 000 (تاكا) بنجالية، ويضاف إلى هذه
الميزانية 76. 000 تاكا أخرى لتغطية نفقات التحقيق والصّف والتوزيع والدعاية
والإعلان، لقد تمكنا من جمع هذا المبلغ وهو بأيدينا الآن، والحقيقة: أننا كنا قد
خططنا لطبع 100. 000 نسخة باللغة البنجالية للتوزيع المجاني داخل البلاد،
وطبع 3000 نسخة أخرى باللغة الإنجليزية للتوزيع بين أوساط السلك الدبلوماسي
الخارجي، والمفكرين الأعلام، والمتعاطفين معنا في مختلف البلدان الإسلامية،
لكن نفقات الطبع الباهظة تحول دون تحقيق هذا الهدف.
ولكن ليس من المعقول التأخر في الطباعة، لقد طال بنا الانتظار سنتين في
انتظار تحقيق وعود منظمة خيرية وعدت بالطبع، ثم خيبت آمالنا فيما بعد،
فالحاجة ملحة للإسراع في اتخاذ قرار الدعم والمساعدة.
فهل من أحد يمد يد المساعدة إلى المسلمين البنجاليين الفقراء لإنقاذهم من
الفتن والمحن التي تكاد تنزع الإيمان من قلوبهم؟ .
مخطط مستقبلي:
المرحلة الأولى: لقد بدأ العلماء والمسلمون المعنيون العمل على مستوى
صغير، فلقد تقرر من أجل تبادل المعلومات فيما بينهم أن يتم إنشاء لجنة صغيرة
في العاصمة (دكا) تحت رئاسة خطيب معروف، وسيكون من ضمن مهام اللجنة:
الاتصال بجميع ضحايا هذه المنظمات وبجميع من أبدوا اهتمامهم بالقضية، وتحثهم
اللجنة على إنشاء لجان محلية لتعليم الجماهير وعقد مؤتمرات وندوات لشرح تعاليم
عقيدة التوحيد وفضائح عقيدة التثليث، ثم تقوم اللجان المحلية بإرسال ممثليها
لتأليف لجنة مركزية، وستكون اللجنة مترفعة عن الولاء الحزبي السياسي؛ لكي
تشمل كل من يريد أن يساهم فيها بغض النظر عن ولائه السياسي.
الطموح والإمكانات:
المطبوعات:
نقترح طبع الكتب التالية في هذه المرحلة:
- طبع فصول مختارة من كتاب (إظهار الحق) باللغة البنجالية، ذلك الكتاب
المهم الذي ألفه الشيخ (رحمت الله الكيرانوي) بناءً على طلب من السلطان
(عبد الحميد) ، لقد أفحم المؤلف رئيس البعثة التنصيرية في الهند آنذاك (القس فندر) في مناظرة عقدت بمدينة (آجرا) على مقربة من (دلهي) في شهر يناير 1854م، ففرالأسقف من الهند وظهر ثانياً في تركيا، فلما سمع القس عن الشيخ أنه جاء من (مكة المكرمة) إلى تركيا للمناظرة فر ثانياً ولم يعقب، فوفر السلطان للشيخ كل التسهيلات؛ لكي يؤلف كتابه التاريخي (إظهار الحق) ، الذي قدم فيه العرض والنقد التحليلي للنصرانية المعاصرة.
- ترجمة بنجالية لموجز كتاب Blood on the Cross (دم على الصليب) . ...
- ترجمة بنجالية لأعمال مختارة للشيخ (أحمد ديدات) .
مكتب متواضع للاتصال والتنظيم:
تكون مهمته: تيسير جهود مكافحة هذه التنظيمات وتنسيقها، وتقدر تكاليف
تأسيسه بـ (000ر582) تاكا.
أما ميزانية طباعة الكتب فسيعلن عنها بعدما تصبح الكتب جاهزة للطبع.
سيوزع تقرير مجاناً باللغتين البنجالية والإنجليزية، بعد ذلك نتمكن من تقييم
التجاوب معه، والتخطيط للمرحلة الثانية في ضوء مدى التجاوب من داخل البلاد
وخارجها.
لقد بدأنا الأبحاث لوضع صيغة لمشروع القروض الصغيرة وفقاً للشريعة
الإسلامية، وسيقدم المشروع بعد اللمسات الأخيرة إلى المؤسسات الراغبة في
المشاركة فيه، ومن بين هذه المؤسسات: مؤسسة تسمى Islamic Ummah
Corporation Ltd، تعمل في إطار الشريعة الإسلامية، وتستخدم10% من
الأرباح لتوفير القروض الصغيرة بهدف القضاء على الفقر.
وكذلك ستنشأ لجنة الدفاع التطوعية، وتشمل المحامين البارزين للدفاع عن
ضحايا المنظمات غير الحكومية، ونحاول تدبير نفقات سفر وإقامة هؤلاء المحامين
الذين سيقدمون خدماتهم بدون مقابل.
الخطة التبشيرية في بنجلاديش:
نقاط من مرتكزات هذه الخطة:
- من المعلوم أن بنجلاديش حصلت على استقلالها حديثاً.
- وُجدت فرص فريدة لتنصير المسلمين فيها.
- لم يعد الإسلام دين الغالبية والحكومة.
- انتشرت بين الناس روح الحرية والتطلع إلى الاستقلال.
- وقد ظهر ضعف العقيدة بين الناس، خاصة بين الطلبة منهم.
- وحدثت حروب وفتن بين المسلمين أنفسهم في سنة 1971م.
- وقد أبدى بعض الزعماء والعلماء تعاوناً مع الجيش الباكستاني.
- استغلال اعتقاد الباكستانيين أن الإسلام ضعيف في نفوس البنجال.
- وجه النصرانية في بنجلاديش جيد إلى حدٍّ ما.
- بعض الشباب النصارى كانوا مسرورين باشتراكهم في حرب الاستقلال.
- فتح النصارى أبواب بيوتهم لمد يد المساعدة للمحتاجين أثناء الحرب.
- ساهمت الكنائس هناك في إدارة عمليات الإغاثة.
- لندعو الرب أن يمدنا بأفراد متطوعين لنشر النصرانية في بنجلاديش.
- سيلقى عملهم ونشاطهم قبولاً لدى المسلمين.
- وسيعملون في الأرياف، حيث لا يوجد نصارى ولا نصرانية، كمثل
(جمالبور) ، (نتروكونا) ، تنجايل) ، (كيشوركنج) .
- نحن لا نريد فقط أفراداً يدخلون النصرانية، بل نريدهم أن يكونوا دعاة
للنصرانية بين أبناء جلدتهم.
- وسيكون عملهم مدروساً وطبقاً لخطة معينة لنشر النصرانية.
- ولنبتهل إلى الرب أن يوفق الشباب الداعي إلى النصرانية في استمالة
قلوب المسلمين وتنصيرهم.
- ومجلس الكنائس الأسترالي سوف يقدم لنا العون المادي لنشر ديننا.
- وسوف يفتح الرب قلوب المسلمين لقبول دينه.
- والبعثات التبشيرية ستعمل على إحراز النصر المبين في نشر النصرانية.
وبعد: فإنا نذكر بالصورة التي وضعها (برناردشو (من كلمات (نابليون) عن
الإرساليات التبشيرية المسيحية الإنجليزية، وهي كما يلي:
الفوز الأعظم من الحرية والاستقلال الوطني سيطر واتسع في سيطرته إلى
نصف العالم بما يسمى الاستعمار، عندما أراد سوقاً جديداً لمنتجاتٍ ما غير صالحة، هو يرسل الإرساليات لكي تدرِّس المواطنين الأناجيل والسلام، يقتل المواطنون
الإرساليات وهو يحلق ليصلح دفاعات المسيحية، ويحارب لأجلها، ويأخذ السوق
كمكافأة من السماء.
سوف يكون متغير مهم جدّاً أن نلاحظ أن المحاولات المسيحية ممكن أن
تتوقف فقط إذا واجهت محاولات مضادة بالمثل.
وأخيراً:
فالأمة الإسلامية تحمل مسؤولية كبيرة لإنقاذ مسلمي (بنجلاديش) من محاولات
التنصير المتوالية، فإذا لم يكن الرد سريعاً ومناسباً للثقافة والأيديولوجية وأعمال
المنظمات غير الحكومية، سيتعرض أي إنسان للخراب الروحي، وبالتالي تدمير
العقيدة.
وسوف يشرد كل إنسان في بنجلاديش إذا تم السماح للإرساليات التنصيرية
بالعمل في البلاد كما سمح لها في لبنان.
نسأل الله أن يعطينا القوة والشجاعة، وللأمة الإسلامية السيطرة على خطط ...
المنصرين وعملائهم من ذوي الاتجاهات المشبوهة والوقوف في وجهها. ...
__________
(*) سبق لمجلة (إمباكت انترناشيونال) اللندنية أن قدمت عرضاً ملخصاً لهذا الموضوع، روت فيه
ما يجري وراء الكواليس من أعمال المنظمات التنصيرية من جهود محمومة لأعمالها المشبوهة.(114/84)
المسلمون والعالم
واقع مسلمي إثيوبيا ودعوة للإنقاذ
بقلم: عبد الله المحتسب
أرض الحبشة أو ما يعرف اليوم بإثيوبيا أرض عرفت في التاريخ الإسلامي
بالأسبقية إلى استضافة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين خرجوا
من ديارهم فراراً بدينهم من جهة، ولكون حاكمها النجاشي عادلاً من جهة أخرى،
وقد آمن برسالة الإسلام فيما بعد.
ويمثل المسلمون الآن في تلك الديار 75% من مجموع سكان الحبشة البالغ
عددهم 55 مليون نسمة.
وللدعوة الإسلامية في المنطقة نشاط قوي ولله الحمد، ولا سيما بعد عودة
كثير من الدعاة المتخرجين من جامعات السعودية وغيرها؛ مما ساعد على تنشيط
وانتشار عقيدة أهل السنة والجماعة في أوساط المسلمين، ولم نجد قبل الآن ولله
الحمد ما يحد من نشاط الدعوة إلى الله وإلى المنهج الصحيح في المنطقة، إلا إنه
مع الأسف الشديد قد شهدت الساحة الإثيوبية في الأيام الأخيرة تطورات خطيرة ضد
العمل الدعوي الإسلامي الصحيح، في موقف لا يحسد عليه، بين فرق الضلال
والابتداع المنتسبة للإسلام، وبين فرق التنصير وحملاته، وهذه التطورات
والمستجدات تتمثل في النقاط التالية:
النشاط الرافضي:
ويتمثل في محاولة تغلغله عن طريق بعض الأشخاص المنتسبين إلى العلم،
فعلى الرغم من أنه لا يذكر هناك أي نشاط للرافضة خلال الفترة الماضية على
مستوى البلد، إلا إنه في الآونة الأخيرة نظراً لكون البلاد مفتوحة لكل من يرغب
في ترويج بضاعته قامت بعض العناصر منهم قبل ثلاث سنوات بالتحديد عبر
سفارتهم في البلاد بالاتصال بأحد المشايخ المحليين والعمل معه، حتى استطاعوا
كسبه أخيراً في صفهم، وقد قام بزيارات متكررة لإيران.
هذا وقد تمكن هذا الرجل الآن من أن يُرَشّحَ قبل شهرين تقريباً لمنصب
المفتي للإقليم الرابع عشر (أديس أبابا) وهي عاصمة البلاد.
ومن هنا: بدأ يستفيد من هذا المنصب للتضييق على الدعاة والمصلحين،
وبالذات على الدعاة السلفيين، الذين يسميهم هؤلاء بالوهابيين، بل أعلن هذا
الرجل صراحة وبالحرف الواحد في الاجتماع الذي عقد في عاصمة البلاد قبل
شهرين تقريباً بمناسبة تنصيبه مفتياً للبلاد بأنه: يسعى للقضاء على الوهابيين
وأنشطتهم، ولتوضيح هذه الفقرة أكثر يمكن إيراد بعض التوصيات والقرارات لذلك
الاجتماع، التي كان منها:
- منع إلقاء أي خطبة أو وعظ في داخل المساجد.
- وقف جميع الحلقات العلمية والدروس التي كانت تقام في مساجد العاصمة
من قِبل الدعاة.
وهذا التيار له دعم قوي ماديّاً ومعنويّاً من إيران، وذلك عبر سفارتها في
أديس أبابا.
النشاط الصوفي:
ويتمثل ذلك بتشكيلهم لمجلس العلماء في عاصمة البلاد (أديس أبابا) قبل أقل
من ثلاثة أشهر، ومن شرط العضوية في هذا المجلس ألا يكون العضو من خريجي
الجامعات الإسلامية! ، وبالأخص جامعات السعودية.
فهذا التيار الصوفي تجمع تحت مظلته بعض الصوفيين والقبوريين المتشددين
من داخل العاصمة وخارجها، ومن أهم مشاريعهم وأوليات عملهم في المرحلة
القادمة: القضاء على من يسمونهم بالوهابيين حسب زعمهم، والتصدي لأنشطتهم
الدعوية وغيرها، وذلك بإعداد ونشر بعض الكتب الصوفية والكتب المخالفة لمنهج
أهل السنة والجماعة في باب العقيدة.
النشاط البدعي:
ويتمثل في قيام زعيم جماعة من يسمون بـ (الأحباش) (عبد الله الحبشي)
بزيارة خاطفة للبلاد مع بعض أنصاره، حيث قام بزيارة ميدانية لعدد من الأقاليم:
(أديس أبابا) ، (دردوي) ، و (هرر) ، ووزع في هذه الأقاليم بعض مؤلفاته
ومنشوراته، والتي تتضمن الهجوم على علماء أهل السنة والجماعة وتكفيرهم.
هذا ... وقد وعد الرجل في نهاية هذه الزيارة بعض المتعاطفين معه بفتح
مركز دائم لأنشطته في عاصمة البلاد، تكون مهمته الإشراف على المشاريع التي
تنوي هذه الفرقة تنفيذها في البلاد.
النشاط التنصيري:
يتمثل في وجوده وانتشاره الواسع في المنطقة ونشاطه المكثف، حيث وصل
عدد الإرساليات والجمعيات والمنظمات التنصيرية التي تعمل الآن في البلاد أكثر
من مئة منظمة، وكلها أتت إلى المنطقة بخيلها ورجلها تحت مظلة المساعدات
الإنسانية؛ لتنصير المسلمين، وبخاصة في المناطق التي تعاني من الجفاف
والكوارث الطبيعية.
دعوة للتفكير:
وفي ضوء هذه الظروف والمستجدات التي ذكرناها على الساحة في البلاد
ضد دعاة أهل السنة والجماعة وعلمائهم نود أخانا الكريم أن تعلم بأنه ليس هناك
للمسلمين في الحبشة عامة والدعاة منهم خاصة من يقف معهم ويساندهم إلا الله
(سبحانه وتعالى) ، ثم ما يجدونه ويأملونه من إخوانهم الغيورين على دينهم
والمتألمين لواقع أمتهم، لذا: فبالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن إخواننا المسلمين
في الحبشة عامة والدعاة منهم بخاصة، أتقدم لمن يهمه الأمر بالاقتراحات التالية:
تعيين مزيد من الدعاة، سواء من أبناء البلد أو من غيرهم.
دعم المراكز والمؤسسات الإسلامية ذات المنهج الصحيح.
التركيز على دعم المجالس الإسلامية، وبخاصة تلك التي تملك التوجه
الصحيح؛ لأنها هي الجهات الرسمية، ويمكن استغلالها في شتى المجالات.
عقد دورات مكثفة لتأهيل الدعاة وتبصيرهم بالمخاطر وسبل مواجهتها بطرق
غير مثيرة.
تزويد المنطقة بكميات كثيرة من المصاحف بأحجامه المختلفة.
فتح مكتبات إسلامية في عدد من المساجد والجوامع في الحبشة.
التركيز علي نشر الكتاب الإسلامي في البلاد، وذلك باللغات الرئيسة في
المنطقة مثل: الأمهرية، الأورومية، والعربية، وذلك أن غالب سكان الحبشة
وبالذات طبقات المثقفين والطلاب في المدارس والجامعات لا يتمكنون من الاستفادة
من الكتاب الإسلامي باللغة العربية بسبب حاجز اللغة، وهذه النقطة قد تفطنت لها
بعض الفرق المنحرفة، فقامت بتوزيع منشوراتها ومعتقداتها وأفكارها بين المسلمين
وغيرهم باللغات السائدة.
وأخيراً:
نود أن نضع أمامكم حقيقة، وهي: أننا إذا تمكنا من القيام بشيء من هذه
المهمة وتوفيرها ستكون الجولة والمستقبل المشرق إن شاء الله لأهل الحق في
الحبشة..
[وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً] .(114/94)
في دائرة الضوء
وعينا ووعيهم بين حدثين
بقلم:سليمان بن عبد العزيز الربعي
في الوقت الذي كانت فيه الجرّافات اليهودية تشرع في أعمال التمهيد لبناء
مستوطنة (جبل أبو غنيم) التي سموها بالعبرية (هارحوما) ، كانت دوائر الإعلام
في بعض البلاد العربية تخصص تلك الفترة لمواكبة الاحتفال بذكرى وفاة مطربهم
الشهير! .
وفي الوقت الذي كان فيه مركز البحوث الاستراتيجية في جامعة (تل أبيب)
يُجري استطلاعاً للرأي حول أعمال البناء في المستوطنة الجديدة لحشد التأييد اللازم؛ كانت تلك الدوائر الإعلامية مشغولة باستطلاع من نوع آخر، كانت شبكات
الإذاعات والتلفزة تُجري اتصالات عشوائية بالمواطنين لمعرفة انطباعاتهم عن
(مطرب الشعب) [1] في (ذكراه الخالدة) [2] ، مسدية (خدمات جليلة) [3]
للجماهير في اتصالاتها المستمرة بأقرباء الراحل وجيرانه وأصدقائه؛ كيما يعطوا
المتابع (المتلهف) [4] أدق التفاصيل اليومية عن (معشوق) [5] الجميع، في ملبسه
ومشربه، وحركاته وسكناته، بل في طريقة ضحكته.. إي والله! ! .
ولئن أبان استطلاع الرأي اليهودي عن وعي جماهيرهم بقضايا أمتهم اللقيطة، المفروضة، الـ ... ،...؛ فإن الاستطلاع الآخر لم يكن بحمد الله الذي لا يحمد
على مكروه سواه بأقل وعياً وهمّاً؛ إذ تجلت المعارف الخطيرة عن الفن والطرب
وأربابهما؛ أولئك الذين أضافوا إلى الأمة بحسب تعبير أحد المشاركين في الاحتفالية: (مجداً حضاريّاً لا يُنكر) ! ! .
فروق بين الاستطلاعين:
وإذا كان ثمّ تعليق تمكن به قراءة هذه المفارقة بين أمتين متباينتين تبايناً عقديّاً
وواقعيّاً حادّاً يضاف إلى ما يعطيه الحدث نفسه من دلالات فهو التأكيد على وجوب
النظر إليه (أي إلى ذلك الحدث) في سياق القضايا الكبرى التي تشكل بها الأمم سلباً
أو إيجاباً، بحيث يُدرك المتابع أن وعياً يمنح آحاد أمة بلا تاريخ اجتماعي وسياسي
موحد مثل (يهود) قيمة التفاعل المؤثر في مسألة حساسة تتعلق ببعد جوهري يقف
عليه مصيرها وأمنها ومستقبلها، إنما ينتظم على سبيل الحقيقة في سلك مشروع
كبير يهدف إلى صياغة إنسان مسؤول، بحيث ينتج بدوره الهوية في فكره وقدراته
لتستحيل سلوكاً ذا معطى يجاوز الرقم الإحصائي إلى أن يكون بذاته شرطاً مهمّاً في
مسيرة أمته، ليس على مستوى التشييد العفوي فحسب، بل على مستوى العملية
النقدية التي تضطلع بدور التخطيط والتقويم والترشيد للمجريات بعموم.
ومع التأكيد ثانية على أنّ هذا الدور لم يكن ليتأتى جُزافاً، بل سُبق بمراحل
الإعداد والتهيئة لقيمة الوعي في الذوات المسؤولة، من خلال حيثيات بناء الثقة
المطلقة بقضاياهم المصيرية وأحقيتها المادية والتنظيرية، وبالجزم المتناهي بأن
المصير الفردي والجمعي متعلق بالمفردات الصغيرة ونجاح المساعي فيها، تماماً
كما هو مرتبط بالمشكلات الكبرى التي لا يتعدد فيها الحل، بل هو واحد ينطلق من
رؤية مصلحية عامة، بعيداً عن المكاسب الفردية التي تعني في قاموسهم الجمعي
خيانة لا تغتفر، وهي منطلقات ترى في المرجع الديني نصّاً أو وسيطاً القداسة
المطلقة التي تصدر عنه مسلكية الفرد والأمة.
وإلى هذا وفي الجانب المقابل يتبين المراقب أن تخلفاً بحجمٍ ما نجحت في
ترميزه تلك الاحتفالية الليلاء التي لا يمكن أن تقرأ مفردة عن مسلسل هوان الأمة
اللاغبة، إنما يعكس نمطاً فريداً من عدم الوعي الذي تعيشه الأمة، بحيث نجح
العدو المتربص من خلال وسائل كثيرة في استلاب قيمة التفاعل الإيجابي من
العقول والقلوب على السواء من ناحية، ومن ناحية ثانية: استطاع استقطاب ما
تبقى من فكر وتفاعل إلى فضاءات العبث المبرر بحيثيات مضحكة ومبكية في آن.
ولقد كانت جهود الاستلاب والاستقطاب ناجحة إلى مدى بعيد؛ فأمة يعيش
أفرادها هم التأوه الطروب، على أنغامٍ مدغدغة للعواطف والشهوات المستعرة، في
ظل أوضاع عاصفة تتعلق بمصير أمةٍ ومقدّسٍ، لأمة تعيش اغتراباً خطيراً في
المفاهيم والقناعات، وهي أمة لم تعد تنشغل على الحق باعتباريات بقائها، فضلاً
عن النظر في شروط تطورها.
وإن الغريب الذي لا ينقضي منه العجب حقّاً أن تتماهى هذه الممارسة
الموجعة، بخلفية إرثٍ قديم عن الحقوق الضائعة، والمقدسات المغتصبة، و..، و.. إلى آخر هذه المنظومة التي أصبحت لازمة التشكل المظهري بهموم الأمة
وقضاياها (!) .. الأمر الذي يدعونا إلى التأكيد على بعد الأثر الذاتي في المشكلة،
وعدم التسليم لقول المتكئين على نظرية المؤامرة في التبرير أو الهروب من
المسؤولية في الواقع الذي يمس هؤلاء من القضاء المحتوم والقدر الغالب! ، ولئن
كان بيان خطل هذه الرؤية بالتدليل الشرعي على وجوب الدفع بالأسباب المباحة
يمكن أن يُقنع؛ فإن في التأكيد على عدم واقعية هذا التفسير ها هنا خروجاً من
القعود الخُلُوفِي، بإثبات أن للعامل الذاتي دوراً أساساً في تكريس التخلف والاشتغال
بما لا يفيد؛ ذلك أنه في مقابل عقيدة القناعات الواحدة في قضايا الآخر الذي سلف
بيانه آنفاً، بقيت قضايا أمتنا نسبية الحق والباطل، تبعاً لمتغيرات الزمان والمكان،
فما كان بالأمس محرّماً يمكن أن يصبح اليوم قابلاً للنقاش، و (لا) أمس يصح أن
يلوى عنقها لتصبح (نعم) ، وما لا يجوز التنازل عنه قبلاً يخضع بعداً لمداورات
الأيام ومصالح الأعلام..! ، من هنا: أصبح الفعل الجماهيري عاجزاً عن الوقوف
على أرض صلبة تسمح له بالمشاركة المؤثرة، بل وأضحت المسلمات المحترمة
في عقله ووجدانه ضرباً من (الأفكار) التي يصدق عليها التطور الحداثي القائم على
عدمية ثبات المضمون! .
وإلى هذه الحقيقة (المطلقة) لم يكن للمرجعية العقدية في الأعم الأغلب أيّ دور
في ثبات مُسَلّمات الجماهير وإعادتهم إلى الوعي الصحيح في قضاياهم المصيرية،
فأصبح هذا الغثاء بين مطرقة الشك وسندان العبث بفعل فاعل غير مستتر أو
موارب.
الغربة العقدية:
ومن غير ما شك، عُدّ هذا الوعي الرديء من أمارات الغربة العقدية التي
تحدث عنها الصادق المصدوق في قوله: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً ... [6] ، وتلك الصورة المتحدث عنها تمثل الجرح الأول، أو الصورة الكبرى للغربة
التي تمارسها الأمة الأم في مضامين الكشوفات المعرفية عن كل شيء، إلا معرفة
الشريعة التي كان قَدَرُهَا الوحشة، بحيث لا يدرك منها في كثير من البلاد إلا الرسم
المتعتع والهيكل الغفل، حتى إن المرء ليتهلهل وجهه لرؤية سمة للدين أشفق ألا
يراها في بعض بلاد المسلمين.. والله وحده المستعان! ، أما القلة المحافظة على
قيمة الوعي ذي المنحى المفيد الوسطي، فتعيش هم الغربة الثانية، أو المعنى
المراد في مدلول اللفظ الأسيف؛ إذ تصبح أمة وسط أمة، فريدة في الهم والطرح،
بل وفي الوعي المجرد، وذا هو الجرح الراعف الثاني:
جرحان تمضي الأمتان عليهما ... هذا يسيل، وذاك لا يلتامُ! !
ولئن كنا أوغلنا البيان في خلفيات ما نحن فيه وهو أمر ذو أهمية قصوى آمل
أن يتاح له عرض آخر؛ فإن من المفيد العود على تأكيد أن أزمة الوعي التي
تعيشها أمة الإسلام بوجه عام تعود بكل وضوح إلى البعد عن المصدرين المشرِّعين، مما أودى بالقوامة التربوية والثقافية على مطلق الصّعُد.
حقّاً، إن من يريد أن يقيس مسافات الوعي بين أمتين متباينتين فلا بد له أن
يقف طويلاً عند موقفين شبيهين بما افتتح البيانُ به، إنهما يعودان إلى جريمة
إطلاق النار من قِبَل يهودي على المصلين في مسجد الخليل إبراهيم (عليه السلام)
قبل أعوام، إذ بادر الوعي اليهودي بحشد التأييد الشعبي وشبه الرسمي لفعل
(البطل) [7] (جولدشتاين) من حيث دلالته العقدية والتأثيرية، بل وأصبح قبره
مزاراً قوميّاً وقيمة تربوية ضُمّ إلى قائمة الأماكن التي تُزار، ناهيك عن حجم
الاستفادة من خلفيات الحدث وتوظيفه دينيّاً وأمنيّاً.
وفي المقابل: أنتج الوعي المحسوب على العرب والمسلمين عينة مخجلة؛ إذ
بادر أحد المعلقين إلى الإفصاح عن رأيه في معالجة الحادث من قِبَل بعض المصلين، مؤكداً على أن رد الفعل كان ذا خلفية صراعية، غير مغفل وهوالمخلص أن
(يستنكر) ما قام به (الجاني) ، وإذا كان هذا الوعي يمثل عينة نخبوية؛ فإن عينة
الجماهير كانت ذات طابع وقتي، بالإضافة إلى فشلها الذريع في تقييم الوضع
وإعادة تمثله بوعي حصيف، مجلية وزرَ مَن حملها على اختزال الحل والردع
والثأر في شخص فلان أو علان! ! .
لقد كانت مسافة الوعي بين رد الفعل (الجولدشتايني) ورد الفعل العربي المسلم
بعيدة بُعد ما بين جرافات (أبو غنيم) المسكين وذكرى الراحل، شاسعة بقدر ما بين
الجد واللهو من مسافة لا يمكن أن تُردم، غريبة الاتجاه والتفاعل، إن في المثير
وإنْ في المستجيب، بقدر ما بين المسلك الطيب والرديء من تنافر غريب وتباين
جلي.
سؤال يطرح نفسه:
والتساؤل الممض: كم ينبغي أن ينفق المسلمون من العمل والوقت للوصول
إلى درجة من الوعي ناضجة؟ ، وقبل ذلك: كم من الجهد ينبغي أن يصرف كيما
يقتنعوا بجواب سريع سهل لهذا الأمل، وهو أنه كامن في العودة الحقة إلى الله
(عز وجل) وتحقيق العبودية له كما يحب ويرضى؟ .
حقّاً، إنه لمطلب نفيس، وإلى أن يتحقق فلا زال العجب متملكاً العقول من
صورة حية لتغطية الإذاعة اليهودية لأعمال البناء في (أبو غنيم) (!) ، إذ بادر
المذيع إلى سؤال أحد المستوطنين عن مدلول قرار حكومتهم في الشروع في البناء،
فكان جواب المستوطن: إن هذا العمل يُعَدّ لبنة من لبنات العمل اليهودي الذي بدأه
(هيرتزل) ، و (جولدا مائير) ، و (بيجن) ، و (شامير) ، و (جولدشتاين) ! ! .
في هذا الوقت كان المذيع العربي في احتفالية الراحل مشغولاً بمكالمة مع أحد
الأطفال الذين (يعشقون سماع أغاني مطرب الشعب) ، فيتملك الإعجاب المذيع
بدرجة قوية جعلته يجلجل بضحكة مدوية تنم عن الفخر، معقباً بالقول: (إذن،
والله، لا زالت (....) [8] بألف خير) ، في حين راحت الإذاعة تحتفي بهذه
الإجابة (الواعية) .
ولله الأمر من قبل ومن بعد،
__________
(1) هذه الألفاظ مأخوذة من قاموس مذيعي تلك الشبكات وبعض المشاركين في الاحتفالية.
(2) هذه الألفاظ مأخوذة من قاموس مذيعي تلك الشبكات وبعض المشاركين في الاحتفالية.
(3) هذه الألفاظ مأخوذة من قاموس مذيعي تلك الشبكات وبعض المشاركين في الاحتفالية.
(4) هذه الألفاظ مأخوذة من قاموس مذيعي تلك الشبكات وبعض المشاركين في الاحتفالية.
(5) هذه الألفاظ مأخوذة من قاموس مذيعي تلك الشبكات وبعض المشاركين في الاحتفالية.
(6) رواه مسلم.
(7) هذه المفردة مأخوذة من قاموس أعضاء في البرلمان اليهودي (الكنيست) ، (لاحظ بُعد الوعي حتى في التسمية) .
(8) ذكر اسم البلد العربي الذي ينتمي إليه المحتفون، والمحتفى به! .(114/98)
متابعات
هل يكفي النفي؟ !
بقلم:محمد بن عبد الرحمن الزامل
حرص د. (محمد يحيى) في كتاباته على المعلومات الحديثة، والأسلوب
المتجدد، والطرح المميز، مما جعلني من مداومي قراءة مقالاته، ولعل ذلك كان
السبب وراء هذا التعقيب أيضاً.
فقد قرأت مقاله المعنون بـ (ثقافة آكلي لحوم البشر) في العدد (106) ،
فوجدته يسير على المنوال نفسه الذي أَلِفتُه، حتى استوقفتني فقرة تحدث فيها عن
عدة تهم وجهت إلى الإسلام، نفاها عنه جملة وتفصيلاً بلوحة كبيرة كتب عليها (لا) ، دون أن يزيد على ذلك، ربما لأن المقام لم يكن يسمح بالتفصيل.. إلا إنني
أستسمح الدكتور عذراً في طرح بعض الأسئلة حولها:
- كيف تنفي عنا وعن ديننا تهمة الرغبة في السيطرة، والآخر يسمعنا نكرر
أنا مأمورون بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو
يعطوا الجزية [عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] ؟ .
- أليس من حق هذا الآخر أن يتهمنا برفض الحوار الذي لا يمكن حدوثه إلا
في حال استعداد الطرفين للتنازل، وللتفاوض، ولمزج الأفكار؟ ، ومعلوم أن لدينا
ثوابت لا نتنازل عنها، ولا نفكر في ذلك أصلاً، بل يجب أن ندعو إليها ...
والثرى عن الثريا الفرق بين الدعوة والحوار.
- هل ستكون فكرة التسامح في الإسلام قائمة في ذهنه وهو يعلم أن الإسلام
إن سمح لأهل الملل الأخرى بالبقاء على عقائدهم، وإقامة شعائرهم، فلن يسمح
إطلاقاً بالدعوة لها، أو تحول المسلم إليها؟ .
- لماذا لا يصم الإسلام بالعنف، والإسلام يعد الجهاد وجهاد الطلب بالذات
ذروة سنامه؟ .
هل يمكن أن نمحوا كل هذه التهم، وفق كل هذه المعطيات، بإنكارها فقط؟ ! .
نعم.. كل هذا مما يحق للآخر أن يطرحه، وأن يتساءل عنه، وأن يورده
باعتباره تهماً، إذا كان لا يعرف أو لا يريد أن يعرف سمتين رئيستين للإسلام،
تقنن أداءه، وتحكم تفكير أهله:
أولاً: أنه منهج ينظر للأمور من زاويتين، دنيوية وأخروية، مغايراً بذلك
كل طرق التفكير السائدة اليوم، فحد الردة مثلاً معرة عند التفكير الدنيوي، أما عند
من جعل الجنة هدفاً يصوغ عليه منهجه فهو ضرورة، ولو أن يدخل الناس الجنة
(وهم يقادون إليها بالسلاسل) .
ثانياً: أنه منهج إلهي، خلافاً للمناهج الأخرى، القابلة للزيادة والنقص
والمراجعة والتنقيح، والانحياز والخطأ، لذا: نرى نحن المسلمين انعدام الغرابة
في أن يحكم الناس شرع ربهم، حتى ولو وصمه أعداؤه بحب السيطرة، وعدم
إعطاء الفرصة للآخر.
هاتان السمتان تجعلان الحوار مع أي حضارة أخرى يبدو عندي عديم الفائد [1] ، لغياب المرجعية في هذا الحوار وانعدامها، اللهم إلا أن يدور الحوار حول
المرجعية نفسها، كما هو الشأن في بداية الإسلام، فإما أن نرتد عن ديننا أقول ذلك
ثقة بديني، سائلاً الله الثبات وإما أن يكون الحوار في بقية الأحكام لمجرد التشويش، ليس إلا.
تعقيب الكاتب د. محمد يحيى:
بعد أن أزجي الشكر للأخ الفاضل (محمد بن عبد الرحمن الزامل) على
اهتمامه الكريم بما أكتب: أود أن أذكِّر أنني لم أنف التهم الموجهة ضد الإسلام
بكلمة (لا) فقط، ولكنني رددت على بعضها بتفصيل داخل المقال المذكور، وأيضاً
في غيره من المقالات، وأوضح أنني أفرِّق بين التهم التي توجه إلى الإسلام في
الغرب، وهذه لا أُعنى كثيراً بالرد عليها؛ لأنني أعلم مدى عداوة القوم وعدم
موضوعيتهم، بين ذلك ونفي التهم أو ما يشابهها مما ينقل من هناك إلى هنا ليردده
العلمانيون على مسامع قومنا ويَخْدعوا به من يخدعون، وهذه هي ما أحاول الرد
عليه.. وتعقيباً على ما ذكره الأخ الفاضل في رسالته أقول: إنني ممن لا يهتمون
ولا يفضلون مسألة الحوار مع الغرب التي فرضت فرضاً على الساحة الإسلامية
فيما يشبه الإكراه؛ لكي يضطر المسلمون إلى اتخاذ مواقف دفاعية، أو لينشغلوا
عن واجب الدعوة بالرد على التهم، أو ليقدموا تنازلات فكرية بل وعقدية مهمة؛
فقط لكي يحصلوا على رضا محاوريهم من الغربيين، ويؤسفني أن أشير إلى أسماء
معينة ذات مناصب كبيرة اتخذت هذا المنهج مؤخراً في عدة بلدان إسلامية، منها
(مصر) من حيث أكتب.
وأنا في هذا أتفق مع ما ذهب إليه الأخ (الزامل) في ختام خطابه، أما بالنسبة
لسائر ما جاء في الخطاب فأود أن أقول: إن الدعوة إلى الإسلام في تصوري تسبق
قتال المخالفين، أما وصم الإسلام بالعنف فنحن نستطيع نفيه إذا عرّفنا العنف حق
التعريف، بحيث لا يشمل دعوة الآخرين إلى عقائدهم ومنع ذلك، أو منع تحول
المسلم إليها، وكما قلت: إن الدعوة إلى الإسلام تسبق قتال المخالفين، وهذا أيضاً
رد على تهمة العنف، لكن هذا كله إن أردنا نفي تهم الغربيين وهو ما سبق أن قلت
إنني لا أهتم به، بل أهتم برد التهم والشبهات التي يلقيها عملاؤهم العلمانيون في
الداخل، ولكن مما يساعد على رد هذه التهم أن نذكر أن الحديث عن قتال الآخرين
شيء والواقع القائم شيء آخر، وهذا الواقع يؤكد أن أحداً من دعاة الإسلام
المعتبرين لا يدعو بداراً إلى قتال الغربيين إلا على سبيل الدفاع المشروع، كما أن
أحداً لا يتحدث عن السيطرة على بلادهم، بل فقط عن الدفاع عن بلادنا، أما
الحوار فيفترض أننا نملك أمرنا في يدنا، بحيث ندخل فيه من موقع الثقة بالنفس
وليس من موقع الاعتذار والتنازل، وبحيث يكون الهدف هو الدعوة إلى الإسلام
قبل أن يكون نفي التهم ونبذ ثوابت ديننا.
__________
(1) المقصود هنا: حوار الثقافات، وليس حوارات التعاملات السياسية والاقتصادية.(114/104)
منتدى القراء
المرأة وجهاد القلم
بقلم: مريم المحمد
لقد كثرت الزوايا الصحفية والمقابلات والندوات والمقالات التي لا تزال تنال
من الإسلام، فتارة تعترض على بعض تشريعاته، وتارة تهاجم بعض دعاته
وتلمزهم، وتارة تطالب بالتجديد بل مسخ أحكامه ... وهكذا.
وكثيرٌ من شباب الصحوة يعلمون حقيقة هذا الأمر، ولكن قليل أولئك الذين
يبادرون بأداء دورهم المطلوب تجاه هذه المشكلة أو تلك، وهنا تختلف المعوقات،
ما بين معوقات حقيقية يُعذر أهلها وأعذار واهية وقيود مصطنعة وضعها أصحابها
لتسويغ مواقفهم السلبية.
وهناك العديد من الموضوعات والقضايا التي تدعو الحاجة لنقاشها والردّ على
من يتبنّاها، فمثلاً: ما أكثر ما يتطرق المغرضون إلى الحديث عن قضية المرأة،
ودعوى ظلمها في مجتمعاتنا، وهضم حقوقها في ظل عاداتنا وتقاليدنا بخلاف بلدان
الحضارة والنور! المزعومة.... إلخ.
وكأنه ليس في العالم مشكلة سوى هذه المشكلة التي تتواطأ الأقلام بل
والمؤسسات الصحفية والنقابية على عرضها وتكرارها بدعوى أنها هي العائق
الأكبر في مسيرة تقدم الأمة نحو الحضارة والرقي.
صحيح أن هناك بعض القصور وسوء الفهم لقضية المرأة، لكن الإسلام
بريء من أي ظلم للمرأة، وحسبنا قول الرسول في خطبة الوداع من الوصية
بالنساء خيراً بقوله: (فاتقوا الله في النساء) .
موقفنا من التغريب: يلزم فضح هذا الاتجاه وأصحابه بكتابة الردود
والتعقيبات التي توضح خطر هذا التوجه ومَن وراءه، ولذلك فوائد: منها:
1- نقد الصوت الآخر وفضحه والتخفيف من ضغطه وزحفه، لأن تركه في
الساحة دون مُنازل سيشعره بانهزام مقابله، ويغريه بالتقدم والهجوم.
2- دفع الإحباط وطرد اليأس الذي أخذ يسري وينتشر في بعض النفوس،
مع غفلة عن [إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ] [آل عمران: 160] .
3- حفز همم أهل القدرات والطاقات، وحثّهم على المبادرة والعمل البناء.
4- إظهار نموذج مقبول لطريقة الردّ المنضبطة التي تحتذى ويقتدى بها؛
لأن هناك ردوداً وتعقيبات كُتبت بدافع الحماس والغيرة مع اشتعال العواطف وخبوء
ضوء الفكر فيها، فجاءت لنا بثغرات هوجمت الدعوة من خلالها.
ضوابط للرد والتعقيب:
حتى تكون مناقشتنا موضوعية ومقنعة يلزم الأخذ بالأسباب التالية:
- الإلمام بخلفية كافية عن القضية المطروحة والآراء المتداولة حولها.
- العلم بخلفية كافية عن الكاتب واتجاهه ونمط تفكيره وأسلوب طرحه.
- فهم المقال المراد نقده أو تأييده فهماً جيداً، دون تحميل الكلام ما لا يحتمل.
- الموازنة بين الرد على الفكرة والرد على الأسلوب، وانتقاد الكاتب دون
تجريح أو تهجم، فإن هذا أقوى وأسلم وأدعى للقبول.
- مراعاة الفروق والاختلافات بين الكتّاب (حتى لو تماثلت القضايا
المطروحة) ، فالرد على من يُعرف عنه سوء الاتجاه وخبث الطوية يختلف عن الرد
على من أخطأ عن غير قصد.
- مراعاة الوضوح في عرض الفكرة وجودة العرض والموازنة بين الإسهاب
والاختصار.
- الحذر من الاندفاع العاطفي غير المنضبط والسقوط في العبارات الساقطة
المبتذلة.
- البدء بالأهم فالمهم، والتغاضي عما يمكن التغاضي عنه من صغار المسائل.
- حسن التقسيم والتفريع لنقاط الموضوع؛ مما يعطي المقال قوة وقبولاً؛
ولئلا يمله القارئ.
- الاهتمام بقواعد اللغة العربية وسلامة الأسلوب وصحة الإملاء.
- تدعيم الآراء بالأدلة والبراهين العلمية الشرعية والعقلية.
- الجمع بين القوة والثقة من ناحية، والتواضع ورحابة الصدر وفتح المجال
للنقاش وإبداء وجهات النظر وفق الضوابط الشرعية من ناحية أخرى.
- الحذر من الدخول في قضايا شائكة تفتح ثغرات لردود مقابلة.
- إظهار أن صاحب الرد لا يقف وحده، بل هذا هو موقف كل مسلم غيور
على دينه.
- عرض الرد على بعض أهل العلم والتخصص، واستشارة ذوي الرأي ما
أمكن، دون أن يعوق ذلك سرعة النشر التي قل أن ننتبه لها.
- التنسيق بين عدة أشخاص للتفاعل مع القضية، بإعداد ردود وتعقيبات
موضوعية من جوانب أخرى.
- متابعة الصحيفة أو المجلة للتأكد من نشر الرد، والمهاتفة أو المكاتبة عند
عدم النشر.
- معرفة ردود الفعل على الرد وأثره، سواء من المؤيدين أو من المعارضين، ومتابعة الكتابة مرة أخرى إذا لزم الأمر.
آملة أن يكون فيما ذكرته حافزاً لإخواني وأخواتي للمبادرة بنصرة قضايانا
الدعوية، التي طالما تشدقنا بفهمها ومعرفة أبعادها، دون أن يكون لنا في الواقع
رصيد من نصرتها والدفاع عنها على الوجه المطلوب.
والله من وراء القصد،(114/107)
الورقة الأخيرة
نخبة.. استحباب العمى
بقلم: محمد البشر
أخطر مزالق العقل، ومنتهى منازل الجهل، وأحط مسالك الهلكة: أن
يَستحب الإنسان العمى على الهدى، ويُؤْثر الغواية على الجهالة، ويستبدل بالرشاد
التيه والضلال.
ولقد حكى القرآن العظيم قصة أمة بأكملها استحبت العمى على الهدى بعد أن
جاءها الدليل وقامت عليها الحجة، فحلت بها عقوبة الجحود والتنكر والاستحمار:
[وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذَابِ الهُونِ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ] [فصلت: 17] ، والهدى المذكور في الآية: هو هدى الدلالة
والبيان، لا هدى التوفيق والاصطفاء، أي إنه تبين لهم بالحجة القاطعة والبرهان
الساطع أن صالحاً مرسل من ربه ومبلغ عنه، فجحدوا دعوته وكذبوا به، فأصابهم
ما أصاب أسلافهم من العتاة والمكذبين والمتكبرين.
وإذا كان عقاب من تبينت له الطريق ووضحت له الحجة جاء (في سياق
الحديث عن قوم ثمود) بصيغ متعددة وألفاظ متنوعة، مثل: الصاعقة، والصيحة،
والرجفة، والتدمير، والدمدمة، والطاغية.. مما يؤكد عظم الذنب وحجم الخطيئة
مع أنهم لم يكفروا بعد إيمان، ولم يرتدوا بعد إسلام فكيف بمن يؤثر العمى على
الهدى إذا كان هدى توفيق واصطفاء وإسلام؟ ! .
إن من النّخب الفكرية والثقافية في وطننا العربي من تريد تكثير سواد حملة
لواء (استحباب العمى) ، وتنويع قاعدة الأتباع لتشمل فئات المجتمع بأكملها، مع
التركيز على الناشئة وصناع القرار؛ لتكتمل منظومة صياغة (جيل العمى) باسم
التنوير، وهي نخبة تجيد فن صياغة الشخصية، وتعدد الأقنعة، وتلون الغايات،
تقتات في بيئة الخوف والذل والصغار والانكسار، لكنها واضحة وصريحة في
هجومها على دعاة الهدى والإنقاذ من العمى.
فهل يَعْقل تعدد أدوار هذه النخبة، وتلوّن رموزها، وتنوع أقنعتها.. مَن
يملك قرار اجتثاثها، وتخليص الأمة من مكائدها؟ ! .(114/111)
ربيع الأول - 1418هـ
يوليو - 1997م
(السنة: 12)(115/)
كلمة صغيرة
الانتخابات المحسومة
تتسم انتخابات ما يسمى (دول العالم الثالث) ومنها الدول العربية والإسلامية
بأنها تحسم وتعرف نتيجتها قبل نهايتها لأسباب، منها:
*- أننا تعودنا: أن تلك الانتخابات تحسم لصالح الحزب الحاكم بنسبة 99.
99%، وبعد أن صار ذلك محل سخرية الناس تواضعت النسبة إلى 90%،
و85% وربما 75%.
*- أن تلك الأحزاب يقودها الحاكم الفعلي في البلد؛ ومن الطبيعي أن تستخدم
الدول كل إمكاناتها (المالية والإعلامية) ليفوز حزبها في النهاية.
*- تلك الانتخابات تتأثر بالواقع المحلي والدولي سلباً وإيجاباً.
*- الحرب ضد الأحزاب المعارضة التي عادة ما تكون بأساليب عدة، منها:
التحجيم لوسائلها، والترغيب والترهيب لمن يجرؤ أن يكون في صفوفها.
*- تقنين ما يحجِّم تلك الأحزاب ويجعلها هزيلة تافهة بدعاوى المقصود منها: إبعادها عن مكان التأثير والقرار.
*- ردود الأفعال العنيفة ضد الخصوم، وهي في العادة نتيجة طبيعية للظلم.
*- الشكاوى والاعتراضات التي لا تخلو منها أي من تلك الانتخابات التي
تستغل فيها الدولة سلطتها: لا يعار لها أي اهتمام.
*- أعضاء الوفود المراقبة للانتخابات عادة ما يكونون في ضيافة الدولة
وتحت ملاحظاتها، فليس لديهم الإمكانات لتغطيتها تغطية شاملة.
تساءلت صحيفة بريطانية: ما الفرق بين الانتخابات في اليمن والانتخابات
في بريطانيا؟ فأجابت: إن الانتخابات في بريطانيا اعترف فيها المهزوم بهزيمته،
بينما في اليمن حصل العكس وشكا الإصلاح معتبراً أن حقه ضِعف ما ذكر له؛ هذا
هو الفرق، وتلك هي الأسباب. وكما فاز حزب الحكومة في أندونيسيا (جولكار)
فمن المرجح فوز حزب السلطة في الجزائر (التجمع الوطني الديمقراطي) كما هو
المتبع.(115/1)
افتتاحية العدد
صحوة الضمير هل تأخذ بعداً أشمل؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن رصد الواقع ومتابعته ثم التفاعل معه والتأثير فيه، مما يحث عليه ديننا
الحنيف، ولعل في الآيات الكريمات في صدر سورة الروم إشارة إلى ذلك حيث
يقول (تعالى) : [الّم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ]
[الروم: 1 4] ، فلفت أنظار الطائفة المؤمنة إلى الصراع الدائر بين قوتين غير
مسلمتين إحداهما: (كتابية) والأخرى (مشركة) ثم التعقيب على ذلك بطبيعة المداولة
بين الأمم؛ فكل ذلك جدير بأن يأخذ منا نصيباً من الاهتمام الذي ينبغي أن ينعكس
على واقعنا واهتماماتنا.. ومن هذا المنطلق تأتي متابعتنا للواقع والتعليق عليه.
ومن ذلك الخبران اللذان لفتا نظرنا ولم يُعَلّق عليهما في كل ما اطلعنا عليه بما
يليق بقيمتهما الحضارية والأخلاقية ولا ندري ما السبب؟
والخبران يتلخصان فيما يلي:
أولاً: اعتذار رئيس دولة البرتغال (جورج سمبايو) في ندوة (التراث العربي
المشترك) ، حيث وصف ما جرى (للمسلمين) من اضطهاد في بلاده منذ قرون عبر
(محاكم التفتيش) بأنه ساعد في تخلف شبه الجزيرة (الإيبيرية) لعدة قرون، مؤكداً
أن بلاده تمتلك الشجاعة للاعتراف بإيجابيات الوجود العربي والإسلامي في هذه
المناطق الذي لا يزال أثره ماثلاً إلى اليوم في اللغة والأسماء والمعمار والخيال
الشعبي ...
... ... ... [الشرق الأوسط، ع/6744، 10/1/1418هـ]
ثانياً: اعتذار الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) في احتفال في البيت الأبيض
في 10/1/1418هـ باسم الولايات المتحدة الأمريكية لنفر من الأمريكيين السود
ممن بقوا على قيد الحياة (أصغرهم يبلغ 91 عاماً) ولذوي نحو من 400 أسرة
آخرين راحوا ضحية اختبارات طبية عنصرية دامت أربعين عاماً (1932 1972م) في مراكز حكومية في مدينة (توتسكيجي) بالألباما وكانت الاختبارات تهدف إلى
الاطلاع على تطور مرض الزهري في غياب أي علاج، وقال لهم: أقدم لكم
اعتذاراتي وأنا متأسف لتأخرها! .
[الوطن، ع/7633، 11/1/1418هـ]
ورغم إيجابية الخبرين إلا أنه من خلالهما يتبين للقارئ الكريم حقيقة الحضارة
الغربية التي وإن أسهمت في تطور الإنسانية وإمتاعها من النواحي المادية إلا أن لها
وجهاً آخر يتجلى في العنصرية والظلم والميكيافيلية وإثارة الحروب بين البلدان
لترويج الأسلحة وربما لتجريب نوعيات جديدة منها، إضافة إلى عالم الحروب
السرية المقرر فيها خسارة ما يسمونه دول العالم الثالث أمام الأحلاف الأخرى،
ويمكن الاطلاع على هذا العالم في كتاب (ألعاب الحرب) لـ (توماس إيلن) أحد
اللاعبين الكبار في ذلك العالم الرهيب، وهذه الحضارة ذات الوجهين مهما تظاهرت
بالوجه الإنساني إلا أنها أحدثت من الأضرار في الدول التي ابتليت باستعمارها
وتسلطها وبعض تصرفات المنتمين لها ما يشهد به حتى المنصفون من مفكريها.
إن معاناة الإنسانية والمسلمين بخاصة من المواقف الجاحدة لفضلهم، وما
قامت به محاكم التفتيش من تنصير عن طريق التعذيب والقتل والسحل الذي لم
يشهد له التاريخ مثيلاً، كانت جسيمة وعظيمة. والاعتراف وإن جاء متأخراً من
الرئيس البرتغالي شيء جميل، ولكن ينبغي أن ينعكس إيجابياً على واقع المسلمين
هناك وهم أقلية وفيهم من هم من أهل البلاد نفسها بإعطائهم حقوقهم المدنية وإشهار
مؤسساتهم الإسلامية وافتتاح المدارس والمساجد أسوة بغيرهم من أهل الديانات
الأخرى، ولعل ذلك يكون في الحسبان في أقرب فرصة، ولعله أيضاً يحتاج إلى
جهد وتحرك من المسلمين أهل الشأن، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: ترى
ماذا ستكون ردود أفعال الكُتّاب والمؤرخين البرتغاليين حول إعادة الصورة
الصحيحة لواقع الإسلام وتاريخه بعد ذلك الاعتراف وهل ستصحح الصورة أم لا؟
وأملنا كبير في إعادة كتابة التاريخ الإسلامي هناك في الجامعات والمعاهد
ولدى المؤرخين والباحثين بصورته الصحيحة، فالرجوع إلى الحق خير من
التمادي في الباطل.
* -أما أمريكا فلا شك أن اعتراف رئيسها بتلك المأساة الإنسانية وإن كان
بهدف غلق ملف العلاقات العنصرية في أمريكا إلا أن هذا الموقف إيجابي وإن جاء
متأخراً؛ ولكن هل هذا الاعتراف للمواطنين السود في أمريكا أم لكل خطأ (غير
إنساني) قامت وتقوم به هذه الدولة الكبرى ولا سيما في مواقفها من قضايا الإسلام
والمسلمين؟
فالدستور الأمريكي ما زال يقف من السود بعامة والمسلمين منهم بخاصة موقفاً
غير منصف، وهذا مسجل في دراسات وأبحاث معروفة، والمسلمون لا يُعْطَوْن
الحقوق نفسها التي تعطى لغيرهم وبخاصة (يهود) الذين استطاعوا أن يكوّنوا دولة
في وسط الدولة، وشكلوا (فعاليات) مهمة لها دورها في توجيه سياسات الدولة
وهيمنتها على موقع القرار، ويستطيع اللوبي الصهيوني أن يعمل ما يريد لا سيما
في مواقفه غير المنصفة من القضية الفلسطينية ومناصرة العدو الصهيوني في كل
سياساته العدوانية، ومع هذا الارتباط المصيري بينهما فاليهود هم اليهود ومصالحهم
هي الأوْلى بالرعاية، ولا نستغرب اكتشاف فضائح جديدة للتجسس من قِبَلهم على
أمريكا مثل (قضية الجاسوس ميجا في وزارة الخارجية الأمريكية) ، ولا نعتقد أن
ذلك غريب إذا عرفنا مكر اليهود وخبثهم وعملهم المستمر لصالح أنفسهم ودينهم فقط.
ثم إلى متى تقف أمريكا مواقف غير منصفة من كثير من دول العالم الإسلامي
وتعمل على تحجيم دورها، ولا سيما حيال إجهاض القرارات المصيرية في هيئة
الأمم المتحدة وإحباطها حتى ولو كانت مجرد إدانات شكلية للعدو، فضلاً عن
وقوفها في وجه أي محاولة للحصول على الأسلحة الاستراتيجية والرفض المطلق
لامتلاك (القنبلة النووية) من قبل دولة مسلمة مثل (باكستان) وتهديدها بكل ما تملكه
من مواقف لإلغاء مشاريعها تلك؛ وفي الوقت نفسه لا تحرك ساكناً تجاه امتلاك
جارتها (الهند) لذلك السلاح والتهديد به لإبقائها الدولة الأولى في القارة، وبالتالي
تهديد مصالح المسلمين ومحاصرتهم في المنطقة؟
وشيء آخر أصبح لكثرة ما تحدثت عنه صحافة الغرب بعامة والأمريكية
بخاصة أمراً ممجوجاً لكنه مسألة كبرى عندهم حيال دول العالم الإسلامي بعامة
والإسلاميين منهم على وجه الخصوص هو الاتهام بإشاعة الإرهاب والتطرف وذلك
يتجلى في أمرين:
أولاً: من الناحية الفردية: مضايقة الإسلاميين حتى ولو كانوا يحملون
الجنسية الأمريكية، والعمل بكل بساطة لتسليم أولئك لإسرائيل وغيرها مما
يواجهون معه مصائر معلومة النهاية كما ظهر في أكثر من حالة.
ولقد رأينا كيف يتحوّل أي عمل إرهابي في أمريكا (وبقدرة قادر) إلى تهمة
إجرامية تفسر رجماً بالغيب: أن من ورائها المسلمين، كما حصل في (تفجير
مركز أوكلاهوما الفيدرالي) وما عاناه المسلمون آنذاك من ضغوط نفسية ومضايقات
غير إنسانية؛ وفي النهاية تبين أن وراء الجريمة عصابة من اليمين الأمريكي
المتطرف، فمتى يُنصف الإسلاميون ويعطون حقوقهم أسوة بغيرهم؟
ثانياً: موقف الولايات المتحدة من الدول التي تعلن تبني الاتجاه الإسلامي مثل
السودان، فالموقف الداعي لعزله وحصاره لا يتفق والعدل والإنسانية في شيء، لا
سيما إذا عرفنا رفض السودان لكل الاتهامات التي تُدّعى عليه، وهذا يحتاج إلى
مزيد من الإنصاف ولا نريد أن يعاني المسلمون بجريرة غيرهم من ظلم المجتمع
الدولي وحصاره ثم لا يُنصفون إلا بعد سنوات!
إن صحوة الضمير ظاهرة تستحق التنويه لكنها في الوقت نفسه تقتضي أن
تكون شاملة كل المواقف السلبية تجاه الإنسانية أو الإسلام، فهل يحدث شيء من
الإنصاف وشيء من العدل حيال أمتنا وشعوبنا، أم أن المسألة انتقائية ومظاهر
إعلانية لا غير؟
هذا ما ستثبته الأيام أو تكذبه.(115/4)
دراسات شرعية
جهود الأئمة في حفظ السنّة
(1من2)
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
بلّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دين الله (تعالى) أكمل بلاغ وأتمه،
وحرص على تعليم أصحابه وتفهيمهم دلائل الكتاب والسنة، ولقد تتابع اهتمام
السلف الصالح بحفظ السنة ونقلها على الوجه الصحيح منذ عصر الصحابة (رضي
الله عنهم) إلى هذا العصر، حتى إنّ الصحابة (رضي الله عنهم) لاستشعارهم
أهمية هذا الأمر العظيم، نقلوا لنا كل كبير وصغير من حياة النبي -صلى الله
عليه وسلم-، مما يحتاجه الناس في دينهم، سواء أكان ذلك في حال إقامته أو سفره، في سلمه أو حربه، في رضاه أو غضبه، حتى في خاصته مع زوجاته أمهات
المؤمنين (رضي الله عنهن) ، بل وفي شأنه كله [1] ، ولهذا قال: أبو ذر الغفاري
(رضي الله عنه) : تركَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائر يقلب جناحيه
في الهواء، إلا وهو يذكر لنا منه علماً، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (ما بقي شيء يقرب من الجنة، ويباعد من النار، إلا وقد بُيِّن لكم) [2] ،
وهذا مصداق قوله: (تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا
هالك) [3] .
وعلى الرغم من تتابع القرون، وتعاقب الأجيال.. وعلى الرغم من كثرة
الزنادقة والمفسدين، إلا أن الله (تعالى) حفظ سنة نبيه من التبديل والتحريف،
وبذل أئمة الإسلام جهوداً عظيمة جداً في حفظها ورعايتها، ووقفوا سداً منيعاً في
وجوه الزنادقة والعابثين قديماً وحديثاً، وهذه منّة جليلة على هذه الأمة، نحمد الله
(تعالى) عليها حمداً كثيراً.
وقد تمثلت جهود الأئمة في حفظ السنة في مسائل عديدة، أذكر منها:
أولاً: حفظ السنة وضبطها في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-وعصر
الصحابة:
- حَثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حفظ السنة ونقلها:
حثّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رعاية السنة النبوية ونقلها،
فقال: (بلغوا عني ولو آية) [4] ، وكان يقول في مناسبات عدة: (وليبلِّغ الشاهد
الغائب) [5] .
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصاً أشدّ الحرص على أن يُنقل كلامه
نقلاً صحيحاً دقيقاً، ويتبيّن ذلك في الأمور التالية:
أ- ترغيبه في حفظ السنة ونقلها:
رغّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفظ السنة، ودعا لنَقَلَةِ الحديث
بالنضارة والبهاء، فقال: (نضّر الله امرءاً سمع منّا حديثاً، فحفظه حتى يبلغه
غيره، فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه) [6] .
وكان يقول لأصحابه: (احفظوهنّ وأخبروا بهن مَنْ وراءكم) [7] .
وقال لمالك بن الحويرث وأصحابه: (لو رجعتم إلى بلادكم فعلّمتموهم) [8] .
ب- دعاؤه لأصحابه بالفهم والحفظ:
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو لبعض أصحابه بالفقه والفهم،
فهو يقول عن ابن عباس (رضي الله عنهما) : (اللهم فقهه في الدين) [9] ، وكان
يدعو لبعض أصحابه بالحفظ والضبط، فها هو ذا يقول لأصحابه يوماً: (من يبسط
ثوبه حتى أقضي مقالتي، ثم يقبضه إليه، لم ينس شيئاً سمع مني أبداً) ، قال
أبو هريرة (رضي الله عنه) : ففعلتُ، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئاً سمعته
منه [10] .
ج- تكراره الحديث حتى يُفهم عنه:
عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنّه
كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، حتى تفهم عنه) [11] .
د- مراجعته لمحفوظات بعض أصحابه:
عن البراء بن عازب (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: (إذا أخذت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك
الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، وألجأت ظهري
إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي
أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن من آخر كلامك، فإن مت من ليلتك مت
وأنت على الفطرة) .
قال: فردّدتهن لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال: (قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت) [12] .
هـ تحذيره الشديد من الكذب عليه:
حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- تحذيراً شديداً من الكذب عليه، فقال:
(من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) [13] ، وقال: (من حدث عني
بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) [14] .
وهذا التحذير إنما هو لمن جاء بعد الصحابة (رضي الله عنهم) ، إذ إن
الصحابة عدول بتعديل الله (تعالى) لهم، (فلا يعرف من الصحابة من تعمد الكذب
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا
الباب ممّا عصمهم الله فيه من تعمد الكذب على نبيهم) [15] .
وإذنه للصحابة بكتابة الحديث:
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نهى أصحابه عن كتابة السنة [16] ،
خشية أن تختلط بالقرآن، أو أن يشتغل الناس بها دون القرآن، فلما أمن ذلك أذن
لأصحابه بكتابة السنة زيادة في الضبط والإتقان، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص
(رضي الله عنهما) أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه،
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ ! فأمسكت
عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأومأ بإصبعه إلى
فيه، فقال: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق) [17] .
وفي عام الفتح خطب خطبة في مكة، فجاء رجل من أهل اليمن، فقال:
اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله: (اكتبوا لأبي فلان) [18] .
ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على هذا، ويقول:
(قيّدوا العلم بالكتاب) [19] .
ثانياً: حرص الصحابة (رضي الله عنهم) على حفظ السنة وضبطها:
كان الصحابة (رضي الله عنهم) يحرصون على الجلوس عند النبي -صلى
الله عليه وسلم- وحفظ حديثه، وكانوا أخلص الناس في طلب العلم وفهمه، وأكتفي
هنا بالمثالين التاليين:
المثال الأول: تناوبهم في الجلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار
في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنّا نتناوب النزول على رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم
من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك) [20] .
المثال الثاني: الرحلة في طلب الحديث:
كان الصحابة (رضي الله عنهم) يحرصون على طلب الحديث، ويبذلون في
ذلك جهداً عظيماً، حتى قال عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) : (والله الذي لا
إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من
كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه) [21] .
وقد رحل جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) مسيرة شهر، إلى عبد الله بن
أُنيس (رضي الله عنه) في حديث واحد [22] .
وعن عطاء: أن أبا أيوب رحل إلى عقبة بن عامر فلما قدم مصر، أخبروا
عقبة فخرج إليه، قال: حديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
ستر المسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك، قال: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: (من ستر مؤمناً على خزية ستر الله عليه يوم القيامة) ، قال:
فأتى أيوب راحلته فركبها، وانصرف إلى المدينة، وما حلّ رحله) [23] .
وهذه الأمثلة تدلّ على تفانٍ عظيم في حفظ السنة، فكانوا قدوة حميدة لمن جاء
بعدهم من التابعين وتابعيهم، ومراجعة كتاب: (الرحلة في طلب الحديث) للخطيب
البغدادي تعطي تصوراً واضحاً عن الجهد الكبير الذي بذله أئمتنا في جمع السنة
وحفظها.
ثالثاً: توقي الصحابة وورعهم في روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم:
كان الصحابة (رضي الله عنهم) يتورعون أشد التورع في الرواية عن النبي
-صلى الله عليه وسلم-، فعن عمرو بن ميمون قال: كنت آتي ابن مسعود كل
خميس، فإذا قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، انتفخت أوداجه،
ثم قال: (أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريب ذلك، أو شبيه ذلك، أو كما
قال) [24] . ...
وعن السائب بن يزيد قال: (صحبت عبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن
عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والمقداد بن الأسود، فلم أسمع أحداً منهم يتحدث
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أني سمعت طلحة بن عبيد الله يتحدث
عن يوم أحد) [25] .
وعن أبي إدريس: أن أبا الدرداء كان يحدث بالحديث عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، فإذا فرغ منه قال: هذا أو نحو هذا، أو شكله) [26] .
وعن حبيب بن عبيد الرجي قال: (إن كان أبو أمامة ليحدثنا الحديث كالرجل
الذي عليه أن يؤدي ما سمع) [27] .
رابعاً: دقة الصحابة (رضي الله عنهم) في الرواية:
كان الصحابة (رضي الله عنهم) يتحرون الدقة في روايتهم عن النبي -صلى
الله عليه وسلم-، ويتورعون في ذلك أشد التورع؛ فها هو ذا عبد الله بن عمر
يسمع عبيد بن عمير يحدث بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مثل
المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين) ، فقال ابن عمر: ويلكم، لا تكذبوا على
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين) [28] .
ولهذا قال محمد بن علي: (كان ابن عمر إذا سمع الحديث لم يزد فيه، ولم
ينقص منه، ولم يجاوزه، ولم يقصر عنه) [29] .
وكان الأعمش يقول: (كان هذا العلم عند أقوام كان أحدهم لأن يخرّ من
السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واواً أو ألفاً أو دالاً) [30] .
ومن كان من الصحابة يروي بالمعنى، فإنه يتحرى الدقة في ذلك، فعن
عروة ابن الزبير قال: قالت لي عائشة (رضي الله عنها) : يا بني يبلغني أنك تكتب
عني الحديث، ثم تعود فتكتبه، فقلت لها: أسمعه منك على شيء، ثم أعود فأسمعه
على غيره، فقالت: هل تسمع في المعنى خلافاً؟ قلت: لا، قالت: لا بأس بذلك [31] .
خامساً: تثبت الصحابة (رضي الله عنهم) في سماع الحديث:
إن للرواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شأناً عظيماً جدّاً، ولذا كان
أصحابه يتثبتون عند السماع، ويتأكدون من صحة النقل، ونقل عنهم في ذلك أمثلة
كثيرة، أذكر منها:
أ- تثبت أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) :
جاءت الجَدّة إلى أبي بكر (رضي الله عنه) تسأله عن ميراثها، فقال لها: ما
لك في كتاب الله شيء، ولا علمت لك في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
شيئاً، فقال المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) : حضرت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن
مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذ لها أبو بكر [32] .
ولهذا قال الذهبي في ترجمة أبي بكر الصديق: (وكان أول من احتاط في
قبول الأخبار) [33] .
ب- تثبت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) :
عن أبي سعيد الخدري قال: (كنا في مجلس عند أبي بن كعب، فأتى أبو
موسى الأشعري مغضباً، حتى وقف فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع؟ قال
أبيّ: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت، ثم جئته اليوم فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت بالأمس فسلمت ثلاثاً،
ثم انصرفت، قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل، فلوما استأذنت حتى
يؤذن لك، قال: استأذنت كما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال:
فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا، فقالوا: لا يشهد
لك على هذا إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي
عليّ هذا من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ألهاني عنه الصفق
بالأسواق) [34] وزاد مالك في الموطأ: أن عمر قال لأبي موسى: (أما إني لم تهمك، ولكني أردت ألاّ يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) [35] . ...
ج- تثبت عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنها) :
عن عروة بن الزبير قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي، بلغني أن عبد الله
بن عمرو مارّ بنا إلى الحج فالقه فسائله، فإنه قد حمل عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- علماً كثيراً، قال: فلقيته، فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، قال عروة: فكان فيما ذكر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال: (إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء، فيرفع العلم
معهم، ويبقى في الناس رؤساء جهال يفتونهم بغير علم، فيضلون ويضلون) ، قال
عروة: فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته، قالت: أحدثك أنه سمع
النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا؟ ! قال عروة: حتى إذا كان قابل: قالت
له: إن ابن عمرو قد قدم، فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في
العلم، قال: فلقيته فسألته، فذكره لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى.
قال عروة: فلما أخبرتها بذلك، قالت: ما أحسبه إلا قد صدق، أراه لم يزد
فيه شيئاً ولم ينقص شيئاً، وفي رواية للبخاري أنها قالت: والله لقد حفظ عبد الله
بن عمرو [36] .
د- تثبت عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) :
عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدِّث ويقول:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس! ما لي لا
أراك تسمع لحديثي؟ أُحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تسمع!
فقال ابن عباس: (إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلمّا ركب الناس الصعب
والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف) [37] .
__________
(1) من الأمثلة اللطيفة في دقة الصحابة (رضي الله عنهم) في النقل: قول عبد الله بن مسعود: (لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه) أخرجه مسلم، ح/ 186.
(2) أخرجه: الطبراني في الكبير، ح/1647، وإسناده صحيح.
(3) أخرجه: أحمد، (4/126) ، وابن ماجة، ح/43، وإسناده صحيح.
(4) أخرجه: البخاري (6/496) .
(5) أخرجه البخاري، 1/158، 198، ح/67، 104.
(6) أخرجه أبو داود، ح/3/438، والترمذي، 4/141، وابن ماجة، 1/ 84، وإسناده صحيح.
(7) أخرجه البخاري، ح/1/129، 184، ح/53، 87.
(8) أخرجه البخاري (2/170) .
(9) أخرجه البخاري (1/244) .
(10) أخرجه البخاري، ح/1/190، 5/21، 13/271، ومسلم، ح/4/ 1940 رقم 2492.
(11) أخرجه البخاري، 1/188، رقم 95.
(12) أخرجه مسلم، 4/2082، رقم 2710.
(13) أخرجه البخاري، ح/1/200، ومسلم، 1/10.
(14) أخرجه مسلم (1/9) .
(15) ابن تيمية في الرد على الأخنائي، ص 103.
(16) ورد ذلك في حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) ، أخرجه: مسلم، 4/2298.
(17) أخرجه أحمد، 2/162، 192، وأبو داود، ح/3646، وقال ابن حجر في الفتح، 1/207: (لهذا طرق يقوي بعضها بعضاً) .
(18) أخرجه البخاري، ح/112، 2434، 6880، ومسلم، 2/989، وفي بعض الروايات: (اكتبوا لأبي شاة) .
(19) أخرجه الحاكم، 1/106، وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/431.
(20) أخرجه البخاري، 1/185، رقم 89.
(21) أخرجه البخاري، 9/47، ومسلم، 4/1910 1911.
(22) أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به (1/173) ، وقال ابن حجر: (الإسناد حسن، وقد اعتضد) .
(23) الكامل لابن عدي: 1/32، وليس كلام ابن مسعود من باب الشك، ولكنه من شدة التوقي والحذر.
(24) أخرجه أحمد، 4/153، والحميدي، ح/384، وجامع بيان العلم (1/ 392) .
(25) المرجع السابق: (1/30) .
(26) الكفاية، ص 241.
(27) الكفاية، ص 206.
(28) المرجع السابق، ص 208.
(29) المرجع السابق، ص 205.
(30) المرجع السابق، ص 212.
(31) المرجع السابق، ص 240.
(32) الكفاية، ص 26.
(33) تذكرة الحفاظ، (1/2) .
(34) أخرجه البخاري رقم (2062 و6245 و 7353) .
(35) الموطأ (2/964) .
(36) أخرجه البخاري، ح/ 7307، ومسلم، 4/2059.
(37) أخرجه مسلم، 1/12 13.(115/8)
من فتاوى أهل الذكر
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
فتاوى أهل العلم الأثبات هي عصارة علم المفتين وخلاصة فقههم، ومنارات
يُسترشد بها، هي جواب عن مسائل ونوازل ومستجدات، وباب لتبليغ دين الله
(تعالى) .. ونظراً لأهمية (الفتاوى) ، وتحقيقاً لرغبة القراء، فستقوم (البيان) إن
شاء الله (تعالى) بنشر جملة من الفتاوى المهمة، حيث روعي في اختيارها تنوّع
موضوعاتها، وعظم الحاجة إليها في هذا العصر، إضافة إلى تنوّع أصحابها زماناً
ومكاناً.
تساءل بعض الأحبة من الشباب عن حقيقة ما هو شائع لدى بعض المنتسبين
للدوحة النبوية من (آل البيت) من دعوى أنه لا يُعاقَب العصاة منهم تكريماً لانتمائهم
لهذا النسب الشريف، وبينما نحن نُعد السؤال لعرضه على أحد علمائنا الأجلاء
وجدنا السؤال نفسه قد طرح على الإمام الشوكاني (رحمه الله) في رسالته (إرشاد
السائل إلى دليل المسائل) [1] ووجدنا جواباً مفيداً في بابه ننقل السؤال والجواب
فيما يلي:
السؤال: حاصله: ما قيل من أن العصاة من أهل بيت النبوة لا يُعاقَبون على
ما يرتكبون من الذنوب بل هم من أهل الجنة على كل حال تكريماً وتشريفاً! هل
ذلك صحيح أم لا؟ .
الجواب: أقول: لا شك ولا ريب أن أهل هذا البيت المطهّر لهم من المزايا
والخصائص والمناقب ما ليس لغيرهم، وقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية شاهدة لهم بما خصهم الله به من التشريف والتكريم والتبجيل والتعظيم، وأما
القول: برفع العقوبات عن عصاتهم، وأنهم لا يُخاطَبون بما اقترفوه من المآثم،
ولا يُطالَبُون بما جنوه من العظائم، فهذه مقالة باطلة ليس عليها أثارة من علم، ولم
يصح في ذلك عن الله ولا عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- حرف واحد، وجميع
ما أورده علماء السوء المتقربون إلى المتعلِّقين بالرياسات من أهل هذا البيت
الشريف: فهو إما باطل موضوع أو خارج عن محل النزاع؛ بل القرآن أعدل
شاهد وأصدق دليل على زجر قول كل مكابر جاحد فإنه قال (عز وجل) في نساء
النبي -صلى الله عليه وسلم-: [مَن يَاًتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ
ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] [الأحزاب: 30] ، وليس ذلك إلا لما لهن من
رفعة القدر وشرافة المحل بالقرب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذريتُه
الأطهار هم أحق منهن بهذا المضمار فإنهم أقرب إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأشرف قدراً وأعلى محلاً وأكرم عنصراً وأفخم ذكراً، ولو كان الأمر كما
زعم هذا الزاعم لم يكن لقوله (تعالى) : [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]
[الشعراء: 214] ، معنى ولا كبير فائدة، وإذا كان المصطفى يقول لفاطمة البتول التي هي بضعة منه يغضبه ما يغضبها ويرضيه ما يرضيها: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً) فليت شعري مَنْ هذا من أولادها الذي خصه الله بما لم يخصها ورفعه إلى درجة قصّرت عنها؟ !
فأبعد الله علماء السوء وقلل عددهم؛ فإن العاصي من أهل هذا البيت الشريف
المطهر إذا لم يكن مستحقاً على معصيته مضاعفة العقوبة، فأقل الأحوال أن يكون
كسائر الناس.
فيا من شرفه الله بهذا النسب الشريف! إياك أن تغتر بما ينمقه لك أهل
التبديل والتحريف.
__________
(1) طبع الكتاب الذي يحتوي على هذا السؤال وغيره (إرشاد السائل إلى دليل المسائل) للعلامة الشوكاني بتحقيق الأستاذ (محمد صبحي الحلاق) ، نشر دار الهجرة بصنعاء.(115/16)
دراسات تربوية
فضيلة الشكر
العُملة النادرة في هذا العصر
(2من2)
بقلم: د. محمد عز الدين توفيق
تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى توضيح حقيقة الشكر، فبيّن أنه شعبة من
شعب الإيمان، وصفة من صفات الله، وخلق من أخلاق الأنبياء والمؤمنين، ثم
بيّن قلة الشاكرين. وبعد أن ذكر كفر النعمة الذي يقابل الشكر وضح درجات الشكر
ودوائره ... وفي هذه الحلقة يتابع بيان جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان-
شكر اللسان:
ولسان المرء يعرب عما في قلبه، فالكلام اللفظي يترجم ما في النفس ويظهره؛ فإذا امتلأ القلب شكراً لله (تعالى) لهج اللسان بذلك، وقد جاء الإسلام ليعلم الناس
كيف يشكرون ربهم بألسنتهم كما يشكرونه بقلوبهم، جاء يعلمهم ماذا يقولون.
وهذه أمثلة لأذكار وأدعية تتضمن الحمد والثناء على الله (تعالى) وشكره على
نعمه وآلائه:
أولاً: إذا أفاق من نومه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه
النشور) [1] .
ويقول: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد عليّ روحي وأذن لي بذكره) [2] .
ثانياً: وإذا أوى إلى فراشه لينام يقول: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي) [3] .
ثالثاً: ومن أذكار الصباح والمساء يقول: (اللهم ما أصبح بي من نعمة أو
بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر، من قاله حين
يصبح فقد أدى شكر يومه، ومن قاله حين يمسي فقد أدى شكر ليلته) [4] .
رابعاً: وإذا أراد أن يستغفر فسيد الاستغفار أن يقول: (اللهم أنت ربي لا إله
إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من
شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر
الذنوب إلا أنت، من قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة، ومن قاله حين
يصبح فمات من يومه دخل الجنة) [5] ، والاعتراف بالنعمة والاعتراف بالتقصير
في شكرها، في قوله: أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي.
خامساً: وإذا أراد أن يدعو أي دعاء افتتح بالحمد لله أولاً والثناء عليه بما هو
أهله، ثم الصلاة على نبيه، ويذكر بعد ذلك حاجته.
سادساً: وإذا أراد أن يخطب في جمعة أو نكاح أو أي أمر ذي بال افتتح
بالحمد لله كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل، وتسمى خطبته
الافتتاحية بخطبة الحاجة.
سابعاً: وإذا صلى فالحمد في دعاء الاستفتاح وفي سورة الفاتحة وفي الرفع
من الركوع وفي أذكار ما بعد السلام.
فمن أذكار الاستفتاح: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة
وأصيلاً [6] .
ومن أذكار الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمداً
كثيراً طيباً مباركاً فيه [7] .
أو (ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء
بعد. أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد. وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما
أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) [8] .
ومن الذكر عقب الصلوات المفروضة أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمده
ثلاثاً وثلاثين، ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقول تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من قال ذلك غفر ذنوبه
وإن كانت مثل زبد البحر [9] .
ومن أدعية التهجد: اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن،
ولك الحمد أنت قَيّام السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات
والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق
والجنة حق والنار حق ومحمد حق والساعة حق [10] ... إلى آخر الدعاء.
ثامناً: وإذا أكل أو شرب أو أفطر أو سافر أو سئل عن حاله أو عطس يقول: الحمد لله.
تاسعاً: وإذا أراد أن يحمد ربه في أي ساعة من ليل أو نهار حمده؛ لأنه من
الأذكار المطلقة: (كل تحميدة صدقة) [11] .
ولو مكث العبد يومه كله يلهج بالحمد لله (تعالى) ما وفّى شكر نعمة واحدة من
النعم الإلهية عليه، فكيف وهي نعم كثيرة لا تحصى؟ وما أهدف الدعاء النبوي
الذي رواه مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: افتقدت النبي -صلى الله عليه
وسلم- ذات ليلة، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما
منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من
عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) .
لا يستطيع أحد أن يحصي الثناء على ربه؛ لأنه لا يستطيع أن يحصي نعمه
عليه، فليسأل العون من ربه، وليقل كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(يا معاذُ! إني أحبك؛ فلا تَدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك) [12] .
شكر الجوارح:
والقلب واللسان معدودان في الجوارح والمقصود ما سواهما من بقية أعضاء
الإنسان وحواسه التي يكسب بها أعماله، والحقيقة: أنه ما من عمل يعمله ابن آدم
إلا وهو فيه شاكر لنعم الله أو كافر لها، ويتصور شكر الأعمال باستعمال النعم فيما
يرضي الله (تعالى) وهذا يحتاج إلى فقه في دين الله (تعالى) ؛ لأن العمل الصالح
الذي يرضاه الله (تعالى) يعرف من طريق الوحي قال (تعالى) : [حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ] [الأحقاف: 15] ، فسأل العمل الصالح الذي يرضاه الله
عقب سؤاله التوفيق إلى شكر النعمة؛ وهذا دليل أن الشكر باللسان وحده لا يكفي.
وقد جاء في السنة النبوية أن كل آدمي يصبح معافى في بدنه؛ فهو مطالب
بثلاثمئة وستين صدقة يتصدق بها في ذلك اليوم بعدد مفاصل جسمه؛ وتكون هذه
الصدقات هي الشكر اليومي الذي يفك به رقبته من النار.
وعند النظر في روايات الحديث الوارد في ذلك نجد أنه وَسّع معنى الصدقات
فلم يحصرها في الصدقة المالية، بل جعلها أنواعاً من الأعمال الصالحة فيها أذكار
وعبادات، وفيها أعمال اجتماعية، وفيها أعمال مهنية، وفيها أعمال دعوية..
يجمعها وصف البر والخير أو العمل الصالح، فصارت هذه الأعمال الصالحة
المتنوعة فداءً يفدي به العبد نفسه من النار كل يوم.
أخرج مسلم من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خُلق
ابن آدم على ستين وثلاثمئة مفصل، فمن ذكر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح
الله، وعزل حجراً عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل عظماً، أو أمر
بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمئة السلامى أمسى يومه وقد
زحزح نفسه عن النار) [13] .
وقد تتبع ابن رجب الحنبلي (رحمه الله تعالى) روايات هذا الحديث وألفاظه
في شرحه للحديث السادس والعشرين من الأربعين النووية واستخرج منها أنواعاً
كثيرة من الأعمال سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقات، كما تتبعها النووي
(رحمه الله تعالى) في الباب الثالث عشر من رياض الصالحين وجعل عنوانه: باب
في بيان كثرة طرق الخير.
واللافت للنظر في هذه الأحاديث هو التصريح بأن تلك الصدقات (أو
الأعمال) تؤدي عن صاحبها شكر يومه، وقد قسّم ابن رجب في شرحه للحديث
السادس والعشرين المشار إليه آنفاً الشكر إلى: واجب ومستحب، فحمل ما ذكر من
الفرائض واجتناب الكبائر على الشكر الواجب، وحمل ما سوى ذلك من أنواع البر
على المستحب.
ولم يكن قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- حصر الصدقات في الأعمال التي
ذكر رغم كثرتها بمجموع الروايات؛ وإنما قصد التمثيل، والقاعدة هي أن كل عمل
صالح فهو صدقة تضاف إلى الصدقات الأخرى التي يؤدي بها العبد شكر يومه
ويجب أن يجاوز في مجموعها ثلاثمئة وستين، وهو شكر يتجدد كل يوم فلا يغني
شكر يوم عن شكر يوم غيره؛ والدليل أن الأمثلة ليست للحصر هو حديث جابر
(رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كل معروف صدقة) [14] .
لا تعارض بين شكر الله وشكر الناس:
لأن الله (عز وجل) هو الذي أذن بشكرهم إذا استحقوا الشكر قال (تعالى) :
[أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيرُ] [لقمان: 14] .
ولا يخفى الفرق بين شكر العبد وشكر الله، فلا أحد في قلب المسلم يعدل ربّه
وخالقه لكنه يعرف لكل ذي فضل فضله، ويكافئ كل صانع معروف بما يستحقه؛
فإن لم يستطع مكافأته شكره ودعا له وقال: جزاك الله خيراً.
هناك من يشكر المخلوق ولا يشكر الخالق، وهناك من يشكر الخالق ولا
يشكر المخلوق؛ وهدي الإسلام أن يشكر الخالق والمخلوق، وفي الحديث [15] :
(لا يشكر الله من لا يشكر الناس) ، أن الله (تعالى) لا يقبل شكر عبده له إذا لم يشكر
من أجرى النعمة على يديه، أو يكون المعنى: أن من كان من طبعه كفر نعمة
الناس كان من عادته كفر نعمة الله.
لا تنظر إلى ما ليس عندك وتنسى ما عندك!
تعرف النعم بدوامها، وتعرف بزوالها، وتعرف بالمقارنة، وتعرف بالتفكر.
ومن الآفات التي تضعف شكر العبد كثرة نظره إلى ما عند غيره من النعم فينسى ما
عنده أو يحتقره، والمنهج السليم أن ينظر ما عنده ويقارنه بما ليس عند غيره؛
فيحمد الله على ما أولاه وآتاه، ويسأل ما ليس عنده من الله وحده، قال الله (عز
وجل) : [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] [ابراهيم: 7] وقال
(تعالى) : [وَلا تَتََمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا
اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ] [النساء: 32] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛
فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله) .
وحتى لا يحيك في صدر المؤمن شيء إذا رأى من يفضله في النعم فإنه ينبغي
أن يذكر بأن النعم ابتلاء يتبعه حساب فعليه أن يُقبل على ما آتاه الله منها فيؤدي
شكره ويسأل الله من فضله والإعانة على الشكر، قال (تعالى) : [وَهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ
خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ
العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] [الأنعام: 165] .
وقال (تعالى) : [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] [التكاثر: 8] .
الشكر ووسطية الإسلام:
قد يشتط بعض الناس في فهم شكر ما أسبغ الله عليهم من النعم إلى الدرجة
التي يشددون فيها على أنفسهم ويحملونها على التقشف الشديد والحرمان من الطيبات
بدعوى العجز عن الشكر والخوف من الحساب، وهذا مخالف لهدي الإسلام؛
فالشكر لا يتعارض مع الانتفاع بالنعم إذا كان في حدود الاعتدال؛ قال (تعالى) :
[كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأََرْضِ مُفْسِدِينَ] [البقرة: 60] ، وقال
(تعالى) : [يَا أََيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأََرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [البقرة: 168] ، ومن اتباعه التبذير والإسراف،
وقال (سبحانه) : [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن
كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ] [البقرة: 172] ، فليس الشكر بتحريم الحلال بل بإحلال الحلال
وتحريم الحرام: [لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن
رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ] [سبأ: 15] .
ولو كان شرطاً في الانتفاع بالنعمة أداء ثمنها من الشكر لما وفّت أعمال العبد
كلها بنعمة واحدة؛ فالاعتراف بالنعمة والاجتهاد في شكرها هو المطلوب، والله
(سبحانه) هو الذي يحب إذا أنعم على عبد أن يرى أثر نعمته عليه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(1) رواه البخاري، ح/6314، (الفتح11/118) ، ومسلم، ح/2083، 2711.
(2) أخرجه الترمذي 5/473.
(3) رواه مسلم، 4/2085، ح/ 2715 ورواه أبو داود، والترمذي.
(4) رواه أبو داود 5/314، ح/5073 بإسناد حسن وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، ح/1079.
(5) رواه البخاري، ح/6323 (الفتح 11/134) .
(6) رواه مسلم 1/420، ح/601.
(7) رواه البخاري، ح/799 (الفتح 2/332) .
(8) رواه مسلم 1/347، ح/477.
(9) رواه مسلم 1/418، ح/597.
(10) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، ح/ 769 واللفظ له.
(11) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، ح/720.
(12) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، ح/1007.
(13) انظر جامع العلوم والحكم، ح/ 26.
(14) رواه البخاري ومسلم، ح/6021، (الفتح 10/462) .
(15) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ح/417.(115/18)
دراسات دعوية
النقد الذاتي خطوة على الطريق
بقلم: يوسف عمر قوش
النقد الذاتي هو إحدى العمليات الأكثر ضرورة وإلحاحاً في حياة الفرد
والجماعة ويقصد به: المراجعة الدائمة، والتقييم المستمر الذي يجب أن يقوم به
الفرد أو الجماعة دون توقف ضمن مجموعة من الضوابط السليمة التي تكفل لهذه
العملية أن تنمو وتتطور وتتواصل بشكل كامل وموضوعية تامة.
ولذا فإننا لا نعجب حين نجد القرآن يُقسِم بتلك النفس التي تعيش دوماً عملية
اللوم والمعايبة، والمراجعة لذاتها، أو بالأحرى لصاحبها؛ تحاسبه، وتدفعه إلى
تصحيح أخطائه، والندم عليها، والعزم على تلافيها في المستقبل أملاً في النجاة
يوم الحساب الأعظم.. يوم القيامة: [لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ] [القيامة: 1، 2] .
إن المعطيات والمقدمات الصحيحة توصل إلى النتائج الصحيحة، ذلك قانون
من قوانين هذا الكون، وسنّة من سنن الحياة، وإن على من يُخفق أو يصل إلى
نتائج خاطئة تخالف الأهداف التي وضعها نصب عينيه، عليه أن يبحث جيداً
وبعمق وصدق في أسباب إخفاقه وهزيمته، لكن مثل هذا كان عليه ألا ينتظر
الإخفاق، بل كان من الواجب عليه أن يتابع باستمرار، ويتفحص أولاً بأوّل مدى
صلاحية المواد المتفاعلة (المدخلات) وشروط التفاعل (الوسائل والإمكانيات
وظروف الواقع) ، وذلك كي لا يتوقف هذا التفاعل فجأة أو ينحرف عن مساره
فيؤدي ذلك إلى كارثة قد لا يدركها إلا بعد فوات الأوان.
إننا أمام سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تنحرف، بل تسير بشكل ثابت
وفي مسارٍ ثابت، [فَلَن تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]
[فاطر: 43] ، وإن هذه السنّة، بل وجميع السنن الكونية لم تخلق للمسلم فحسب لكنها خلقت للإنسان الذي يعيش في هذا الكون، فالأقدر على فهمها ووعيها واستيعابها هو دون شك الأقدر على تسخيرها لنفسه والاستفادة منها لصالحه؛ فسنن الله ليس
حكراً على فرد دون غيره أو جماعة دون أخرى، وفي حين أنها تصطدم بمن يسير
في عكس اتجاهها أو يناقضها فإنها أداة طيّعة في يد من يعيها ويستوعبها ويسير
وفقها.
ضرورة النقد الذاتي:
وعملية النقد الذاتي مهمة وضرورية في التغيير والبناء سواء على صعيد
الفرد أو الجماعة؛ لأن عملية التغيير التي تتم دائماً وعلى مراحل تتطلب بعد كل
مرحلة وقفة مراجعة وتأمّل وتقييم يتمّ من خلالها اكتشاف الخلل وتشخيصه، ووضع
العلاج المناسب له بغية تعديل الانحراف وتقويم الاعوجاج.
إن السير وفق السنن الكونية يقتضي إرساء منهج للنقد الذاتي يهدف إلى منع
حالة الفوضى والترهّل التي قد تصيب الفرد أو الجماعة في حال غياب هذه العملية
الحيوية.
إنني على قناعة تامة أننا نعيش ومنذ وقت ليس بالقليل أزمة النقد الذاتي،
وأزمة استخلاص العبر. إننا نعيش إشكالية التناقض مع نظرياتنا وقناعاتنا ومبادئنا
وأفكارنا رغم أننا نمتلك أو ندّعي امتلاك المنهج الذي يدعونا دائماً إلى التفكّر
والتأمل، والقراءة والنظر، واكتساب الخبرة واستخلاص العبر، والاستفادة من
قصص التاريخ وأحداثه وأمثاله!
إن الكثير من التساؤلات التي تبدو معقدة وصعبة تجد جواباً لها إذا وعينا
حركة التاريخ، ونواميس الكون، وسنن الحضارات.
وعملية النقد الذاتي لكي تأخذ شكلها المتكامل لا بد أن تشمل باستمرار مراجعة
النظرية (الاستراتيجية) التي ننطلق أو انطلقنا منها، وكذلك مراجعة أسلوب العمل
(التكتيك) أو وسائل العمل وأدواته، وذلك رغبة في الوصول إلى الصواب وتلافي
الأخطاء.
خصائص النقد الذاتي:
لعملية النقد الذاتي سمات مهمة يجب أن تتوفر فيها كي تحقق هذه العملية
أهدافها وتخرج في صورتها الرائعة، هذه الصفات هي:
1- الشمولية. 2- الاستمرارية. 3- الموضوعية.
1- الشمولية: وهذا يعني: أن النقد الذاتي يجب أن يكون شاملاً بحيث
يتعرض لكل عناصر الصحوة وقياداتها دون استثناء، ولتاريخها بأكمله، وواقعها
وحاضرها، ومنهجها وأهدافها، وأساليبها ووسائلها، واستراتيجياتها وتكتيكاتها،
ورؤيتها المستقبلية، كل ذلك وغيره يجب أن يخضع لعملية النقد التي يجب أن لا
يُعفى منها أحد أو شيء؛ فيصبح فوق النقد أو خارج الدائرة.
2- الاستمرارية: إن النقد الذاتي عملية دائمة ومستمرة ومتواصلة ويجب أن
تكون كذلك، ويجب الحفاظ على ذلك بأيّ ثمن، أي يجب عدم إيقافها في أيّ زمان
ومكان ولأي سبب كان، سواء على صعيد الفرد أو الجماعة؛ وذلك لضرورتها
وأهميتها وحيويتها فهي كالماء والهواء والغذاء للإنسان والجماعة، وإذا تمّ الاستغناء
عنها أو تعطيلها فإن الجسد يصاب بالمرض والموت والتعفن والتحلل.
إن عملية النقد الذاتي يجب أن لا تكون خاضعة في توقيتها للأهواء والأمزجة
بحيث يتم الاستنفار لها في المناسبات المختلفة وللمناسبات المختلفة، بل يجب أن
تلازمنا حتى نشعر بأنها جزء منّا لا نستطيع التخلي عنه في أي وقت من الأوقات.
3- الموضوعية: وهي تعني التزام جانب العدل في الحكم، والنزاهة في
الموقف، وعدم التحيّز أو التعصب بدون حق.
والموضوعية أهم صفات النقد الذاتي؛ لأن النقد إذا خرج على الموضوعية
كان نقداً ظالماً وسلبياً وغير بنّاء؛ ومن هنا فإننا أمام نوعين من النقد:
1- نقد موضوعي غير متحيز ولا متعصب يهدف إلى البناء، والتغيير
والتقدم نحو الأفضل.
2- نقد غير موضوعي وهو متحيز ومتعصب لا يعمل على البناء، بل على
الهدم والتراجع إلى الأسوأ؛ لأن الإصرار على الخطأ خطيئة.
صفات الناقد:
وحتى يكتمل حديثنا عن النقد الذاتي لا بد من التطرق إلى الصفات التي يجب
أن يتحلّى بها الناقد، ومن هذه الصفات ما يلي:
1- الوعي: والمقصود بالوعي هنا أن على الناقد أن يكون عالماً بطبيعة
الظاهرة التي يريد نقدها، ويفضّل أن يكون خبيراً بها [فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً]
[الفرقان: 59] ، [وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] (فاطر: 14) .
ولا يمكن أن يكون واعياً وخبيراً بها إذا لم يدرس تاريخ الظاهرة فيربط
ماضيها بحاضرها مما يمكّنه من تصوّر الظاهرة في شكلها الكلّي المتكامل والمتداخل
والمتشابك، ويمكّنه بالتالي من تشخيص الخلل الذي يريد انتقاده ويحاول علاجه.
إن رؤية الأحداث كلاّ على حدة، والنظر إلى الأمور منفصلة عن بعضها،
والتفكير في الأشياء منفردة، أو باختصار: ما يطلق عليه المفكر الجزائري (مالك
ابن نبي) مصطلح: (الذريّة في التفكير) يقود بلا شك إلى ضياع الوقت، ويؤدي
إلى عملية نقد غير مجدية يدور فيها صاحبها حول نفسه، ويراوح مكانه دون أن
ينطلق بنفسه أو بجماعته خطوة واحدة.
2- الإخلاص: إن الدافع لذكر الإخلاص هنا هو أن الوعي أو العلم أو
الخبرة قد لا يجدي نفعاً إذا صاحبته الأهواء والمطامع والشهوات؛ فالأهواء
والمصالح الخاصة تدفع بالأفراد أحياناً إلى نقدٍ غير نزيه وغير عادل، أما إذا كان
الإخلاص هو الدافع وأعني بالإخلاص: الحرص على المصلحة العامة والتفاني في
سبيلها فإن النقد هنا وبدون شك لن يهدف إلى إرضاء جهة معينة أو مجاملتها، كما
أنه لن ينبع من كراهية جهة أخرى أو الحقد عليها.
وكما أن النقد إذا لم يرافقه الوعي والعلم قد يتحول إلى ضربٍ من اللغو
والهراء والمراء، فإنه إذا لم يرافقه الإخلاص والتجرد عن الهوى قد يتحول إلى
شيء من الطعن والتجريح والتشويه والتشهير.
3- الالتزام: فعلى الناقد أن لا يمارس عملاً ينقده لفظاً، وإلا ذهب نقده
أدراج الرياح، لذا يجب عليه أن يعمل بما يقول فقد [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا
مَا لا تَفْعَلُونَ] [الصف: 3] ، فمن انتقد عملاً مّا، وجب عليه اعتزاله.
مجالات النقد الذاتي:
تتم عملية النقد الذاتي على صعيدين: صعيد الفرد وصعيد المجموعة، فالفرد
قد يوجّه النقد لنفسه على أخطاء ارتكبها، والمجموعة أيضاً قد تتناول في داخلها
نقداً لعناصر ثلاثة هي:
1- المنهج. 2- القيادة. 3 الأفراد.
فأيّ مرضٍ أو خلل أو انحراف ينشأ في مجموعة ما، فإنما يكون ناتجاً عن
خللٍ في أحد العناصر الثلاثة المذكورة: (المنهج، القيادة، الأفراد) .
والنقد يجب أن يوجه أولاً إلى منهج المجموعة؛ لأنه هو الذي يصنع القيادات
والأفراد، فإذا كان المنهج سليماً وخالياً من النقائص والثغرات والتناقضات، فإن
النقد يجب أن يتجه إلى القيادة نفسها من حيث كفاءتها وقدراتها والتزامها وإخلاصها، فإذا كانت القيادة خالية من العيوب، بعيدة عن الانحراف فإن النقد سيوجّه إلى
أفراد الجماعة على اعتبار أن الخلل كامنٌ فيهم أو كائنٌ بينهم.
من هنا أقول: إن النقد الذاتي يجب أن يطال منهج الصحوة الإسلامية
ودعاتها وأبناءها بحيث لا يبقى أحدٌ فوق النقد، أما أن يبقى المنهج والقيادة خارج
دائرة النقد خوفاً من خدش قدسيتهما، فإن ذلك يحوّل هذه العملية الرائعة البنّاءة إلى
عملية ترقيعية تؤدي مع مرور الوقت إلى تفاقم المرض وانفجار الموقف.
النقد الذاتي والجماعات الإسلامية:
إن النقد الذاتي لا يعفى منه الإنسان المسلم كما لا يعفى منه كُثُرٌ من المنتسبين
للدعوة، فالنقد الذاتي ليس منحة تمنحها أي جماعة لأبنائها وتمنّ عليهم بها، إنه
حقّ منحنا الله إياه، أو بالأحرى هو واجب كلّفنا الله (سبحانه وتعالى) به، وأمرنا
أن نقوم به، وهو عبادة نتقرب بها إلى الله، وإذا فرّطنا في هذه العبادة فسوف
نُحاسَب من قِبَلِ الله (تعالى) عليها.
يجب أن ننقد منهجنا وقيادتنا وأنفسنا، وربما يسأل سائل هنا: كيف ينقد أبناء
الحركة الإسلامية منهجَها، ومنهجُها هو الإسلام؟ ! وكيف ينتقدون قادتهم، وهم
يمثلون الإسلام؟ ! ! .
وللإجابة على هذه التساؤلات وغيرها أقول: إنه جائز للمنضوين في سلك
الدعوة، بل واجب عليهم أن يوجهوا نقدهم لمنهجهم ولقادتهم ولا يخافوا في ذلك
لومة لائم، وعليهم أن يدركوا أن منهج الله شيء ومنهج غيره شيء آخر؛ فمنهج
الله هو الإسلام كما أنزل على محمد، ومنهج الجماعة أياً كانت هو المنهج الذي
وضعه مؤسسوها وقادتها؛ إذ أخذوا من الإسلام ما أخذوا ووضعوا من اجتهاداتهم ما
وضعوا، واجتهاد البشر قد يخطئ وقد يصيب.
لذا فإنني أؤكد هنا أن لا قدسية لمنهج غير منهج الله، ولا عصمة لأحدٍ بعد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأخيراً: فإن النقد الذاتي عملية مهمة وضرورية ولازمة لكل زمان، وهي
عملية لها خصائصها التي يجب ألا تفارقها، كما أن للناقد أيضاً صفاته التي يجب
أن تلازمه، وللنقد الذاتي أيضاً مجالاته التي يتمّ فيها.
وأعود مؤكداً: أن على كل فرد أن يمارس النقد الذاتي داخل نفسه، وداخل
أسرته وبيته، وداخل جماعته ومجتمعه، ويعمل على التشجيع عليه باستمرار،
وإن من يدّعي أن النقد يثير الفتن ويمزّق الصفوف لا بد له أن يعلم جيداً أن
الصمت والسكوت أشد خطراً وهو الذي يمزّق ويهدم، أما النقد الذاتي الموضوعي
والمنصف فيوحّد ويبني.
والله، نسأل للجميع التوفيق والسداد،(115/24)
بأقلامهن
قلتُ لصاحبتي.. وقالت لي! !
حوار.. دعوي
بقلم:نجوى الدمياطي
.. هي إحدى ذوات القلوب المؤمنة والنفوس المجاهدة..
وقد اعتدنا أن نلتقي في جلسة نتواصى فيها بالحق وبالصبر، ونحاول فيها
الارتقاء بأنفسنا فكرياً وسلوكياً عبر التعلم والتحاور في مسائل شرعية.
وفي يوم.. دخلت عليّ غاضبة وهي تردد: (لا فائدة.. لا فائدة) .
.. ولم تنتظر سؤالي عن سبب ذلك، حتى بادرتني قائلة: لقد اكتشفت أنني
كنت غبية، بل بلهاء ساذجة! ! .
.. حاولت تهدئتها، ثم سألتها: ماذا حدث؟ .. فلم ترد جواباً.
قلت: اهدئي وقصّي عليّ الأمر فربما أستطيع مساعدتك!
قالت: أتعرفين (فلانة) كم ساعدتها وأحسنت إليها؟ .
أتعرفين (فلانة) كم أهديت لها وتوددت إليها؟ .
أتعرفين (فلانة) كم بذلت مالي وجهدي من أجلها؟ .
.. لقد اجتمعن عليّ، واختلقن حولي الشائعات والافتراءات التي لا حصر
لها..
إني لا أجد أي تفسير لموقفهن ضدي.. ولكني أعرف التفسير الصحيح
لمواقفي السابقة معهن.. لقد كنت غبية.. بلهاء.. ساذجة.
قلت: اهدئي: صاحبتي وأختي.. اهدئي فإن هذه التجربة الصغيرة التي
مررت بها هي رصيد كبير لإدراك سنة من سنن الله في خلقه، تلك السنن التي
يمثل النظر للأفراد والمجتمعات والأحداث من خلالها الوقاية من أن تجمح بنا
العوامل النفسية إلى التشاؤم المفرط، أو التفاؤل الذي تشم منه رائحة السذاجة..
والعلاج لأغلب مشكلاتنا الاجتماعية! !
قالت: هل هذا هو وقت فلسفة؟ .
قلت: النظر إلى سنن الله في خلقه ليس فلسفة بالمعنى الذي تقصدينه.... بل النظر إلى سنن الله في حياة البشر هو نظر في قوانين ثابتة مطردة لا
تحابي أحداً مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباة، ولا تتغير مهما تعجل الأذكياء
أو توهم الأصفياء [فَلَن تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]
[فاطر: 43] .
قالت: وما علاقة ذلك بما نتحدث عنه؟ .
قلت: لقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنظر السنني في مواقف
البشر فقال: (تجدون الناس كإبلٍ مئةٍ، لا يجد الرجل فيها راحلة) [1] .
فكما أننا قد لا نجد في مئة من الإبل الواحدة التي تصلح لعبور المفازات وسير
المسافات؛ فكذلك البشر! ! .. قلّ أن تجد فيهم متكامل الصفات نسبياً ... فإذا رأينا
تساقط العناصر الإسلامية لم نَرَ في ذلك أمراً عجباً أو مفاجئاً.. بل هو أمر طبيعيّ!!.
قالت: طبيعي! .. تريدين أن نرضى بواقعنا الأليم، ونقبل واقع هذه
الأوساط الدنسة الحقيرة؟ ! .
قلت: لم أقصد ذلك أبداً.. بل يجب علينا أن نحاول الارتقاء بأنفسنا إلى
المستويات السامقة، والأخذ بيد من يسقط بقدر ما نستطيع..
إنما قصدت ألا يؤثر تساقط الأخريات فينا، فيكون مصيرنا نحن أيضاً هو
السقوط! ! .
ثم.. أريد أن أحدثك حول كلمة: (الأوساط الدنسة) التي ذكرتها؟ ! .
قالت: ماذا تقصدين؟ إنها أوساط دنسة حقيرة بالفعل! ! .
قلت: لماذا لا نرى الأشياء حولنا إلا (دنسة حقيرة) أو (طاهرة مقدسة) ؟ ! .
لماذا لا نرى في الآخرين الخير كما نرى فيهم الشرور؟ ! .
لماذا لا تكون نظرتنا إليهم بأن (نعتقد فيهم الخير، ونعرّفهم بأحسن الأوصاف
التي اتصفوا بها، ولو بمجرد الإسلام) كما أخبر الإمام الشاطبي.
لماذا لا نتقبل منهم أحسن ما عملوا، ونتجاوز عن أخطائهم معنا؟ .
لماذا لا نفتش عن أعمالهم الطيبة، وندفن السيئات منهم ونعرض عنها؟ .
إن كل بني آدم خطاء.. فلماذا يسهل علينا رؤية الآخرين خطائين، ولا
تحدثنا أنفسنا ولو للحظة أننا قد نكون المخطئين؟ ! .
قالت: وما الخطأ الذي وقعت فيه وأنا أعامل من ذكرتهن لك؟ .. اللهم إلا إن
كان إحساني إليهن هو الخطأ.
قلت: الإحسان لا يكون خطأً أبداً.. ولكن الإحسان ليس هدايا وصدقات وبذل
مال وإطعام طعام فقط، بل الإحسان عمل أخلاقي شامل يتناول كل ما هو معاملة
طيبة، وأقوال حسنة.. وقد أشار القرآن إلى هذا المفهوم الواسع للإحسان فقال
(تعالى) : [قُوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌ حَلِيمٌ]
[البقرة: 263] .
قالت: لا أخفيك سراً.. إني أحس اليأس في إصلاح من حولي! ! .
قلت: لا يا أختاه.. انبذي عنك اليأس، واستمسكي بالثبات والصبر، فإنه
(يجب علينا أن نثبت على الحق، وليس علينا أن نأخذ بمجامع الخلق إليه، إذ ليس
ذلك إلينا، بل الله وحده هو الهادي والمضل، وقال ربنا (سبحانه) : [إنَّمَا أَنتَ
نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ] [هود: 12] .. فالتزمي أختاه هذه الوصية ولا
تطلبي الناس بما ليس لك، واطلبي نفسك بما قلت من الحق، والله يعينني وإياك
على القيام بحقه) .. هذه هي وصية الإمام الشاطبي (رحمه الله) [2] .
قالت: وكيف السبيل إلى ذلك؟ .
قلت: بأن نتخلى عن المصادمات الحادة مع الآخرين، ونسلك معهم طريقاً
يتسم باللين والتدرج في معالجة الأمور؛ بمعنى أن نتمسك بالحق كله، مع المرونة
في الدعوة لهذا الحق كما أخبر الإمام الشاطبي (رحمه الله) : (فرأيت الهلاك في
اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عنّي من الله شيئاً فأخذت في ذلك على
حكم التدريج في الأمور) [3] .
قالت: إن الإنانية وحب الذات قد ملأت قلوب الناس..
قلت: نعم.. إن أكثر الشرور إنما تأتي من إيثار الذات (من الأنانية)
والتحاسد والكراهية والبغضاء والتدابر.. وعلاجُ هذه الأمراض النفسية البغيضة:
اتباعُ الشريعة فيما جاءت به من محبة الناس ومواساتهم والإحسان إليهم..
ولقد علمنا القرآن: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ] (فصلت: 34) .
.. قد يكون هذا أمراً صعباً، ولكنه ليس مستحيلاً.. فقط يحتاج إلى الصبر، ولذلك كان تعقيب القرآن على الآية: [وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ
ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]
[فصلت: 35] .
فهل يمكن أن نرتقي بأنفسنا إلى هذا المستوى السامق؟ .
هل يمكن أن نُعلّم أنفسنا الدفع بالتي هي أحسن؟ .
هل يمكن أن نجتث جذور الكراهية والحسد والغل.. تلك الجذور الخبيثة التي
تجعل حياتنا وحياة الآخرين جحيماً؟ ! .
[ ... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] [المطففين: 26] .
قالت: إن مشكلتنا معقدة.. إني أراها أحيانا مستحيلة الحل! ! .
قلت: إنها معقدة بالفعل.. ولكنها ليست مستحيلة على العلاج، بل إنني حين
أسمع شكواك وشكوى أخريات من سوء أوضاعنا وعدم رضاهن عن واقعنا.. حين
أسمع ذلك كله لا أخاف ولا أحزن! ! .. إن هذا (القلق) من واقعنا هو (أرضية
الحل) .. هو المناخ الذي يساعد على ظهور الحلول لما نحن فيه، وخاصة إذا آمنا
بإمكانية صنع البديل، إذا آمنا بإمكانية التغيير..
إن مدخلنا إلى هذا التغيير، هو تغيير ما بأنفسنا.. فحين نغير ما بأنفسنا،
فإن الجو سيتهيأ للتغيير وفق سنة الله التي لا تتغير ولا تتخلف [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .
ومدار هذا التغيير في التعامل مع الآخرين قاعدة عظيمة ذكرها الإمام ابن القيم
بقوله: (كن مع الحق بلا خَلْق، ومع الخلق بلا نفس) [4] .
فتأملي أختاه هاتين الكلمتين، فإنهما مع اختصارهما قد جمعا قواعد السلوك،
وكل خلق جميل..
إن فساد الأعمال إنما ينشأ من توسيط الخلق بينك وبين الله (تعالى) وفساد
الأخلاق وتوسيط نفسك بينك وبين خلقه..
فمتى عزلت الخَلْق حال كونك مع الله.. وعزلت نفسك حال كونك مع الخلق.. فقد فزت في الدنيا والآخرة..
قالت: ألا ترين أن فكرة أن نعيش مع الناس بلا نفس فكرة صعبة؟ .
قلت: نعم.. قد تكون فكرة صعبة، ولكنها هي طريق تزكية النفس،
وطريق تغيير الآخر..
إنها طريقة أهل السنة والجماعة الذين ينصرون الحق ويرحمون الخلق..
إنها طريقة من يقيمون علاقاتهم مع كل الأمة وفي قلوبهم الرضا عن أفرادها
باعتبارهم إخوة.. وكيف لا يرضونهم إخوة لهم، وقد رضيهم الله عبيداً له؟ ! .
أختي الحبيبة.. إن مجتمعنا ليس (فلانة) و (فلانة) ..
ليس أنا وأنت.. إنه أكبر منذ ذلك بكثير.. وإذا كان يمر بمرحلة من مراحله
مليئة بالمشكلات، فإن طريقنا إلى حل مشكلاته هو أن نعرف جوانب النقص في
أنفسنا، فلا ننكرها ولا نخفيها، وإنما نواجهها بصراحة ليكون ذلك بداية الشفاء من
أمراض الأمة..
قالت: سبحان الله.. كيف غاب ذلك عني؟ ..
إن تبرئة الذات واتهام الآخرين ليس طريق القرآن وليس طريق السنة.. ففي
القرآن [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] [آل عمران: 165] .
وفي السنة من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم اغفر لي هزلي
وجِدِّي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي) ..
قلت: نعم.. أختي الحبيبة.. إن نقصنا يدفعنا إلى ذم الآخرين بدل أن نبحث
في ذواتنا..
إن طريق الحل لواقعنا المريض، أن نذبح غرورنا.. وننحر التعالي في
نفوسنا.. أن نتخلص من الكبر الذي لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه..
فهل يمكن أن نواجه الحقيقة المرة؟ .
وهل نتعلم كيف نحول المرارة إلى حلاوة؟ .
.. لا بد من محاولة للتغلب على نقائصنا.. ذلك أن هذه المحاولة هي طريق
الفلاح في الدنيا والآخرة.
[وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ]
[العنكبوت: 69] .
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ح/2547.
(2) انظر: الموافقات، ج2، ص 203.
(3) الاعتصام، ج 1، ص 27.
(4) مدارج السالكين، ج 2، ص 339.(115/30)
مقال
في الصراع الفكري
ملاحظات على معركة حسن حنفي
وجبهة علماء الأزهر
بقلم: جمال سلطان
على طريقة المسلسلات التلفزيونية السمجة والمملة، ظهرت حلقة جديدة من
تمثيلية المفكرين الأحرار المضطهدين في مصر، من قِبَلِ الإسلاميين المتطرفين،
وكانت الحلقة الجديدة، هي تلك المتعلقة بحادثة الدكتور (حسن حنفي) ، أستاذ
الفلسفة في جامعة القاهرة. وحاصل (السيناريو) : أن الدكتور (يحيى إسماعيل) ،
الأستاذ بجامعة الأزهر، والأمين العام لجبهة علماء الأزهر نشر مقالاً سماه (بياناً)
يهاجم فيه أفكار الدكتور (حسن حنفي) ، ويصفها بأنها أفكار تدميرية، ولكن المقالة
التي سلمها للصحيفة التي قامت بنشرها، كانت مكتوبة على أوراق خاصة بجبهة
علماء الأزهر، وقد ختمها الرجل بوصفه الأمين العام لجبهة علماء الأزهر، وهنا
قامت الدنيا ولم تقعد بعد: هجوماً على الأزهر وجبهة علماء الأزهر، وعلى
الإسلاميين سلفاً وخلفاً، وتحدثت هذه الحملات عن دعوى (تكفير حسن حنفي) ،
وأن (جبهة علماء الأزهر) هي مجرد واجهة لتنظيمات إسلامية غير مشروعة،
ونحو ذلك من طلقات طائشة كثيرة، يصعب إحصاؤها، مما نشر في الصحافة
المصرية والعربية خارج (مصر) ، ولم يشفع للدكتور (يحيى إسماعيل) ما أعلنه
مراراً من أنه لا يكفر (حسن حنفي) وإنما هو يفضح ما يراه انحرافاً فكرياً في كتبه
ومقالاته، كما لم ينفع البيان الذي أصدره رئيس جبهة علماء الأزهر الشيخ (محمد
عبد المنعم البري) ، الذي أعلن فيه أن ما سمي ببيان من جبهة علماء الأزهر ضد
(حسن حنفي) ، ما هو إلا مقال للدكتور (يحيى إسماعيل) يعبر عن اجتهاده ورؤيته
ولا يعبر بالضرورة عن جبهة علماء الأزهر؛ وذلك أن هناك الآن في (مصر) وفي
بعض العواصم العربية ميليشيات ثقافية وإعلامية علمانية مدربة تدريباً عالياً على
صناعة الفتنة، وافتعال المعارك الثقافية، واصطناع وسائل التشويش والتشويه
للفكر الإسلامي ودعائمه ورموزه السياسية والثقافية والدينية، وما إن تصدر طلقة
الإعلان عن بدء الموقعة، حتى تجد هذه الميليشيات تتحرك بصخب واسع،
وتنسيق بديع، مما يحدث دوامة ثقافية وإعلامية تضيع فيها حقائق المواقف،
وتضل فيها العقول والأفهام، خاصة لمن لا يدري خلفيات الأمور وآليات عمل هذه
الميليشيات، وهذا ما حدث مع قضية (حسن حنفي) ، وما حدث من قبله مع
(نصر أبو زيد) ، وما سوف يقع غداً في تمثيلية جديدة آتية لا محالة.
ولكن واقعة الدكتور (حسن حنفي) تكشف لنا عن غفلة كبيرة في الساحة
الإسلامية في مقابل الوعي الكبير للعلمانيين بطبيعة المعركة التاريخية، والفاصلة
اليوم بين الإسلام والمناهج الوافدة؛ وذلك أن هناك قطاعاً من الدعاة لا ينتبه إلى
حساسيات الصراع الفكري ومستوياته وموازناته، وكذلك أولويات المواجهة،
وبالتالي؛ يحدث كثيراً أن يخسر الدعاة معارك مهمة كان بمقدورهم أن يكسبوها
بيسر بالغ، لو فهموا خلفيات المواقف الفكرية، ولم يتوقفوا عند السطح الظاهر،
ولو أدركوا تناقضات الأفكار والنفوس في المعسكر العلماني، وفي مشكلة (حسن
حنفي) تجلت هذه المسألة بشكل واضح؛ والحقيقة أن إثارة معركة مع (حسن حنفي)
في هذا الوقت، لم يكن له ما يسوِّغه أبداً، ومن أي وجه من الوجوه؛ فالأخطاء
العقدية والفكرية عند الرجل، قديمة، وليست جديدة، والكتب المشار إليها صدرت
قبل سنوات، ومرت دون أن يشعر بها أحد، كذلك فإن أسلوب (حسن حنفي)
المسهب والمطنب في التأليف يجعل القارئ غير المتخصص زاهداً في قراءته،
ولذلك لم يشعر أحد بأي خطر فكري لـ (حسن حنفي) يستحق هذه الضجة الكبرى،
إلا بعد البيان الذي نشره الدكتور (يحيى إسماعيل) ، وأنا شخصياً كتبت منذ سنوات
نقداً لبعض آراء (حسن حنفي) ، ونشرت ذلك النقد في بعض كتبي، ومرّ النقد كما
مرّ كلامه هو نفسه، دون أن يثير الكثير من الانتباه، ولو استقبلت من أمري ما
استدبرت لما فعلت ذلك، فلماذا إذن ننشط الآن لإحياء وترويج الفكر المنحرف
المهمل والمنسي ونجذب الانتباه إليه بدعوى الرد عليه؟ ! كذلك فإن الدكتور (حسن
حنفي) يمثل هذه الأيام شرخاً نفسياً عميقاً في معسكر العلمانية؛ وذلك أن حرصه
على أن يقدم نفسه بوصفه مفكراً إسلامياً متحرراً ومستنيراً ونصيراً للمستضعفين،
جعله يهاجم بقوة وجرأة الأقلام والرموز العلمانية المتحالفة مع الفساد، التي لا
تتوقف عن التخويف من الإسلاميين، وإغراء السلطة بهم، ويصف هذه الرموز
العلمانية من اليمين واليسار بالانتهازية والظلامية، وأنها مجرد واجهات للقمع
الثقافي والسياسي الذي تتعرض له الصحوة الإسلامية، في الوقت نفسه الذي
يتعاطف فيه بوضوح مع الحركات الإسلامية سياسياً ونفسياً وإن كان يختلف معها
بطبيعة الحال فكرياً، وقد شهدت بنفسي مواجهة مثيرة بين (حسن حنفي) وبعض
أقطاب العلمانية في (مصر) ، في إحدى ندوات معرض القاهرة الدولي للكتاب،
الذي انعقد في شهر يناير الماضي (كانون الثاني 1997م) ، وقذف الرجل في
وجوههم اتهامات دامغة وخطيرة، ودافع عن الإسلاميين ووجودهم وحقهم المشروع
في الوجود الثقافي والسياسي، حتى إنني لما جاء دوري للكلام أثنيت على الرجل
وحييت شجاعته لدرجة أن الشاعر المصري (أحمد عبد المعطي حجازي) وهو من
رموز العلمانية قاطعني بتشنج واتهمني بمحاباة (حسن حنفي) لأنه يحابي الإسلاميين!
ولقد حرصت على مقابلة (حسن حنفي) وتحاورت معه، واستمعت إليه أكثر
مما تحدثت، حيث وجدته شخصية قلقة، ومترددة، ومتعاطفة إلى أبعد مدى مع
الإسلاميين، وكنت أدرك من خلال دراستي لبعض كتبه أن قناعات الرجل الفكرية
والاعتقادية في قضايا الدين بوجه عام مادية، والإيمان بالغيب عنده مسألة فيها نظر!، وهو متأثر كثيراً بالفيلسوف اليهودي الشهير (باروخ اسبينوزا) ، وبتجربة ما
يسمى (لاهوت التحرر) في نضال شعوب أمريكا اللاتينية، حيث تحالفت الكنيسة
مع الحركات الماركسية، وهو ينظر من هذه الناحية إلى الصحوة الإسلامية والفكر
الديني كمجرد أدوات للنضال الوطني، وحشد طاقات الشعوب، والماركسية هي
قاعدة التفكير عنده، ولذلك تجده يتحاشى المواجهات الفكرية مع المفكرين
الإسلاميين، ويتجنب طرح قضايا الاعتقاد في الندوات العامة، بل إن تأثير (حسن
حنفي) على طلابه في الجامعة محدود جداً ولايكاد يذكر، على غير عادة أمثاله من
أصحاب الأفكار اللادينية، وذلك أن مشروع (حسن حنفي) هو سياسي اجتماعي
بالدرجة الأولى والأساس، ولذلك تجنب ورفض حتى الآن قبول دعوة مناظرة
الدكتور (يحيى إسماعيل) ، وذلك أن أفكاره هي مما لا يصمد طويلاً في ساحة النقد
العلمي الإسلامي، وهذا ما يدركه هو نفسه قبل غيره.
وسط هذه الأجواء، وبهذه الخلفيات، يبدو لي أن إثارة معركة (عقائدية) مع
(حسن حنفي) دون غيره من عشرات العلمانيين الأكثر غلظة وبشاعة وسفاهة،
تمثل نوعاً من سوء التقدير غير المسوّغ، وغير المفهوم؛ والمثير للدهشة أن
هؤلاء العلمانيين الذين يكرهون (حسن حنفي) من صميم قلوبهم ويحاصرونه
ويحاربونه، هم الذين يتاجرون الآن بقضيته، ويتقدمون بوصفهم كتائب المدافعين
عنه ضد الأصوليين والمتطرفين!
إن الصراع الفكري، مثل الصراع السياسي أو العسكري، يحتاج إلى فنون
خاصة في إدارة معاركه، وليس يكفي أن تكون صاحب الحق حتى تنتصر، وإنما
يحتاج الحق إلى حكمة وتخطيط وذكاء ووعي بالواقع، واقع الناس وواقع الصراع
فيه، وبدون ذلك فإننا مهما أخلصنا نكون قد أسأنا إلى الحق وأهله.(115/36)
دراسات اقتصادية
آراء وتأملات في فقه الزكاة
(5)
د. محمد بن عبد الله الشباني
استأنف الكاتب حديثه في الحلقة الماضية عن صور الإنتاج الزراعي، حيث
فصّلَ الحديث عن زكاة الثروة الحيوانية ومنتجاتها مسترسلاً في الحديث عن
الدواجن بوصفها نوعاً من الثروة الحيوانية وقد كيّفها فقهياً وخلص إلى أن فيها زكاة
محدِّداً نصابها ومقدارها. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة طرح مرئياته عن الزكاة
في عسل النحل. ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
عرفنا حكم زكاة الدواجن حسب ما توصلنا إليه بإلحاق حكمها بحكم زكاة
العسل وهنا نفصل حكم زكاة العسل ومقداره على النحو التالي:
أولاً: إن العسل من الطيبات التي أنعم الله بها على عباده، وقد سميت سورة
من سور القرآن بسورة النحل، وقد أشار المولى (عز وجل) إلى النحل بوصفه
مخلوقاً من مخلوقات الله التي يجب على الإنسان أن يتفكر في طبيعتها ويستدل بها
على عظمة الخالق، يقول (تعالى) : [وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أََلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُُونَ] [النحل: 68، 69] ، والجامع بين النحل باعتباره ثروة حيوانية
والأنعام: أن كلا النوعين ينتج عنهما شراب فيه غذاء للناس، يقول (تعالى) : [
وَإنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغاً
لِّلشَّارِبِينَ] [النحل: 66] .
ثانياً: اختلف فقهاء المسلمين في وجوب الزكاة في العسل على قولين:
الأول: من يقول بوجوب الزكاة في العسل، وهم الأحناف، وقد اشترطوا ألا
يكون النحل في أرض خراجية؛ لأن الأرض الخراجية يُدفع عنها الخراج، ولا
يجتمع حقان لله في مال واحد بسبب واحد، ويروى ذلك عن الإمام أحمد، حيث
سئل: هل في العسل زكاة؟ قال: نعم، أذهب إلى أن في العسل زكاة العشر؛ قد
أخذ عمر منهم الزكاة.. قلتَ ذلك على أنهم تطوعوا به؟ ، قال: لا، بل أخذه منهم، ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري، وسليمان بن موسى،
والأوزاعي، وإسحق كما ذكر ذلك ابن قدامة [1] .
الثاني: من يرى عدم وجوب الزكاة في العسل، وهم: الإمام مالك،
والشافعي، وابن أبي ليلى، والحسن، وصالح، وابن المنذر.
ثالثاً: استدل الموجبون لزكاة العسل بأدلة، منها ما رواه الدارقطني، وابن
ماجة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- أنه أخذ من العسل العشر [2] ، وفي حديث آخر في سنن أبي داود والنسائي
عن عبد الله ابن عمرو، قال: جاء هلال (أحد بني مُتْعَان) إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي له وادياً يقال له سَلَبَة فحمى
له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب
(رضي الله عنه) كتب سفيان ابن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك،
فكتب عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من
عشور نحله فاحم له سلبة، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء [3] ، وفي
حديث آخر رواه أحمد وابن ماجة عن أبي سيارة المُتّقِي، قال: قلت يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن لي نحلاً، قال: أدِّ العُشْرَ، قلت: يا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، احمها لي، فحماها لي) [4] .
كما روى (البيهقي) عن سعد بن أبي ذباب أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
استعمله على قومه، وأن سعداً: قال لهم: أدوا العشر في العسل، وأنه أتى به
عمر، فقبضه، فباعه، ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين [5] ، وروى الترمذي
من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (في العسل كل
عشرة أزُقٍ زق) [6] ، وفي أسانيد هذه الأحاديث ضعف، ولكن بعضها يقوي
بعضاً [7] .
رابعاً: أما المانعون لزكاة العسل فقد احتجوا بأمرين:
1- ما قاله ابن المنذر: إنه ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت ولا
إجماع.
2- إنه مائع خارج من حيوان، فأشبه اللبن، واللبن لا زكاة فيه بالإجماع.
خامساً: إن العسل مال يتحقق من خلال تربية النحل واستخراجه منه، وقد
أصبح للعسل في الوقت المعاصر مزارع متخصصة في تربيته من أجل استخراج
العسل وبيعه، ويتحقق من مزاولة نشاط تربية النحل فضل مال، وكسب، وبالتالي: فإنه مال تجب فيه الزكاة، وقد قال بهذا الرأي من الفقهاء المعاصرين فضيلة
الدكتور (القرضاوي) ، ونحن نميل إلى الأخذ به ونتفق معه على الأدلة التي أيد بها
رأيه، وهي [8] :
1- أن عموم النصوص المتعلقة بوجوب الزكاة لم تفرق بين مال وآخر، مثل
قوله (تعالى) : [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً] ، وقوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ] [البقرة: 267] ، وقوله
(تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ] [البقرة: 254] .. وغير ذلك
من الآيات والأحاديث.
2- القياس على ما فرض الله فيه الزكاة من الزروع والثمار، فالدخل الناتج
من استغلال الأرض يشبه الدخل الناتج من استغلال النحل.
3- للآثار والأحاديث التي وردت في ذلك من طرق مختلفة يقوي بعضها
بعضاً، وقد تعددت مخارجها واختلفت طرقها؛ فمُرسَلُها يعضد بمسندها.
4- أما احتجاج المانعين بأنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن، ولا زكاة
في اللبن إجماعاً، فالجواب: ما قاله صاحب المغني: إن اللبن قد وجبت الزكاة في
أصله، وهو السائمة، بخلاف العسل [9] .
أما بالنسبة لقياس الدواجن بالنحل في حكم الزكاة فيعود إلى عدة أمور، هي:
1- عموم نصوص وجوب الزكاة على كل مال وكل كسب.
2- أن وجوب الزكاة في النحل والدواجن ليس في أصليهما وإنما فيما ينتج
عنهما.
3- التشابه في عمليات التربية والاستغلال، من حيث إنتاج خلايا النحل
لزيادة الإنتاج وتكثيره، واتباع أساليب تقنية في زيادة كميات الإنتاج في كل من
النحل والدواجن.
4- أن صناعة الدواجن وما ينتج عنها من بيض ولحوم تشبه صناعة تكثير
خلايا النحل لإنتاج العسل بقصد الربح وتحقيق الكسب.
سادساً: مقدار الواجب إخراجه: إن المقدار الواجب إخراجه وفق رأي
الموجبين لزكاة العسل هو العشر، قياساً على الزرع والثمر [10] ، وقد استدلوا بما
رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
يؤخذ في زمانه من قرب العسل، من عشر قربات قربة من أوسطها [11] ، وكذا
بما روى سلمان بن موسى، أن أبا سيارة المتّقِي قال: (قلت: يا رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إن لي نحلاً، قال: أَدِّ العشر، قال: فاحمِ إذن جبلها، قال: فحماه
له) [12] .
وعلى ضوء هذه الآثار يمكن تحديد زكاة العسل وفق الجهد المبذول والكلفة
قياساً على الزرع الذي يكون فيه كلفة، ففيه نصف العشر، وما لم يكن فيه كلفة
ففيه العشر من الإنتاج قبل تكاليف الإنتاج، وهذا مبني على أمرين: الأول:
حديث أبي سيارة المتّقي؛ حيث إن النحل الذي كان يؤدي زكاته كان يرعى في
جبال معينة، ومنع الرعي فيه بالحمى، وليس لأبي سيارة جهد سوى جمع العسل،
فهو أشبه بالزروع التي تسقى على المطر، حيث ورد النص على أن فيها العشر،
وأن فيما سقي بالنضح نصف العشر، كما روى البخاري من حديث ابن عمر
(رضي الله عنهما) قوله: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريّاً: العشر، وفيما
سقي بالنضح: نصف العشر) [13] .
الثاني: أن إنشاء مزارع تربية النحل أصبح ذا كلفة من حيث التغذية،
والعناية من حيث رعاية الخلايا، وما يسبب ذلك من جهد مكلف يحتاج إلى رأس
مال للحصول على إنتاج من العسل مربح، فأشبه الزرع الذي يسقى بالسائبة أي
يبذل فيه جهد وكلفة.
وجه إلحاق الدواجن بالنحل:
وعلى ضوء ما سبق: فقد ألحقت صناعة الدواجن بالعسل في الحكم لتشابه
الطبيعة، وعلى ذلك: يتم تحديد مقدار الواجب في الدواجن بنصف العشر، حيث
إن تكلفة التغذية والآلات والحظائر وغير ذلك من مؤنة الإنتاج مثل ما يحصل في
الزرع من سقي وجلب الماء، ومَثَل العسل الذي يكون في الجبال والذي لا يستدعي
جهداً مثل ما يتم إنتاجه من المزارع الخاصة بإنتاج العسل.
وبالتالي: فإن مقدار الواجب هو: نصف العشر، أي 5% من إجمالي
المبيعات، وعدم خصم أي مصروفات تشغيلية بما في ذلك قيمة الفراخ الخاصة
بإنتاج بيض التسمين والأمهات اللاتي ينتجن البيض المخصب، أما بالنسبة
للنصاب: فإن تحديده ملحق بنصاب العسل الذي قيست عليه منتجات الدواجن،
وحيث إنه لم ترد آثار في تحديد نصاب العسل فقد اختُلف في نصابه، فيرى أبو
حنيفة أن في قليله وكثيره الزكاة بناء على أصله في الحيوان والثمار [14] .
أما صاحبه أبو يوسف: فقد اعتبر أن النصاب هو خمسة أوسق من أدنى ما
يكال كالشعير، واستدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ليس فيما دون خمسة
أوسق صدقة، أما الإمام أحمد: فيرى النصاب مئة وستين رطلاً بالبغدادي، ومئة
وأربعة وأربعين بالمصري، والراجح كما ذكره الشيخ القرضاوي [15] أن يقدر
النصاب بقيمة خمسة أوسق، أي 653كيلو جراماً من أوسط ما يوسق كالقمح
باعتباره أوسط الأقوات العالمية، وقد جعل الشارع نصاب الزروع والثمار خمسة
أوسق، والعسل مقاس عليهما، فتجعل الأوسق هي الأصل في نصابه، وهو ما
نأخذ به؛ لاتفاقه مع أصل القياس، وبالتالي: فإن مقدار النصاب الذي تجب فيه
الزكاة يعادل 653 كيلو جراماً من القمح قياساً، وذلك من قيمة إجمالي بيع
الدواجن [16] .
زكاة المنتجات الحيوانية:
من الأنشطة الاقتصادية ذات المردود الاقتصادي والمرتبط بالثروة الحيوانية:
تربية حيوانات غير سائمة تتخذ لإنتاج الألبان، وهذه المشروعات أصبحت تدر
دخلاً وفيراً على أصحابها، كما أن بعض الأنعام تربى في مزارع خاصة من أجل
تسمينها وتوالدها لبيع لحومها وأصوافها.
لقد اختلف في وجوب الزكاة على المنتجات الحيوانية (الألبان) ، حيث أجمع
على أنه لا زكاة فيما يخرج من الحيوان، إلا العسل الذي اختلف فيه [17] . إن
قدماء الفقهاء (رحمهم الله) لم يتطرقوا إلى معالجة وضع الحيوانات التي تربى من
أجل ما تنتجه من ألبان؛ لعدم ظهور الحاجة لذلك في الماضي، بخلاف عصرنا
الحاضر؛ حيث أصبح إنتاج الألبان وما ينتج عنها من منتجات صناعية غذائية..
تجارة رابحة ومصدراً من مصادر الدخل وتحقيق الثروة.
ومن الفقهاء المعاصرين الذين تطرقوا لزكاة منتجات الثروة الحيوانية: فضيلة
الشيخ القرضاوي، حيث أوجب الزكاة على هذه المنتجات مقاسة على العسل من
حيث إن العسل خارج من حيوان، واللبن خارج من حيوان وقد استرشد لرأيه بما
فرق به الفقهاء بين لبن السائمة وعسل النحل، حيث منع أخذ الزكاة من اللبن
الخارج من السائمة على أساس أن أصل الزكاة وجبت في أصل السائمة، بخلاف
العسل، والمفهوم من هذا: أن ما لم تجب الزكاة في أصله تجب في نمائه وإنتاجه،
وبالتالي: قاس ألبان البقر والجمال ونحوها من المنتجات الحيوانية على عسل
النحل؛ فإن كلاّ منهما خارج من حيوان لم تجب الزكاة في أصله [18] ، قد أشار
ابن قدامة في المغني إلى ذلك، حيث فرق بين وجوب الزكاة في العسل وعدم
وجوبه في اللبن بقوله: (أما اللبن فإن الزكاة وجبت في أصله وهي السائمة،
بخلاف العسل) [19] ، وبهذا فإن قياس منتجات الحيوان بالعسل في وجوب الزكاة
إنما يعود إلى عدة أمور، منها:
1- أن النحل ليس فيه زكاة كحيوان، إنما الزكاة فيما نتج منه ما دام أن
الزكاة لم تجب في النحل وإنما وجبت فيما نتج منه، فيؤخذ من ذلك قاعدة أصولية:
أن كل ما لم تجب الزكاة في أصله وجبت في نتاجه ونمائه مثل الزرع بالنسبة
للأرض، فالأرض لا زكاة فيها وإنما الزكاة فيما نتج منها.. وهكذا بالنسبة لبقية
الأشياء، وعليه تقاس الأبقار الموقوفة على إنتاج الألبان.
2- أن سقوط الزكاة في بعض أقوال أهل العلم عن بهيمة الأنعام المعلوفة أو
العاملة واشتراط السوم استند على قاعدة أصولية، وهي: معارضة القياس لعموم
الخطاب في قوله (عليه الصلاة والسلام) : (في أربعين شاة شاة) [20] ، وقد أوضح
الفقهاء أن السائمة مقصود منها النماء والربح، وهو الموجود فيها أكثر ذلك،
والزكاة إنما هي فضلات الأموال، وفضلات الأموال إنما توجد أكثر في الأموال
السائمة، وبالتالي: فقد خصص القياس عموم اللفظ الوارد في الحديث، وما دام قد
أصبح النماء سبباً في قصر الزكاة على السائمة كما ذكره ابن قدامة بقوله: (وصف
النماء معتبر في الزكاة، والمعلوفة يستغرق علفُها نماءَها، إلا أن يعدّها
للتجارة) [21] فإن تعلّق وصفها بالنماء ليس في ذاتها، وإنما فيما ينتج عن إعلافها، فالعلف إنما يقصد به تحويله إلى لبن، فهي تُعلف من أجل إنماء اللبن، بالتالي: فيتحقق فيها صفة الربح؛ حيث إن الإنفاق عليها بإعلافها قصد منه تحقيق الربح بما تدره من لبن يتحقق به الحصول على الربح، فالنماء حاصل من خلال ما يتحقق من فضلات خارجة عن بهيمة الأنعام، وبالتالي: وجبت الزكاة فيما نتج منها.
نصاب المنتجات الحيوانية:
يتحدد نصاب المنتجات الحيوانية كالألبان وملحقاتها بنصاب العسل؛ لوجود
الرابطة القياسية بين العسل والمنتجات الحيوانية؛ فالنحل حيوان لا تجب في أصله
زكاة، وإنما تجب على ما ينتج عنه، واللبن مثلاً ناتج من البقر ولكن البقر غير
سائمة وغير معدة للنماء بذاتها، فهي أشبه بالنحل، فالزكاة على ما ينتج عنها،
وبالتالي: فتؤخذ الزكاة من إنتاجها، ويتحدد النصاب إذا بلغ قيمة ما يباع بما يعادل
قيمة خمسة أوسق من القمح؛ باعتباره قوتاً من أوسط الأقوات مثل نصاب العسل،
وما قيل عن نصاب العسل ومقداره يقال عن نصاب المنتجات الحيوانية
ومقدارها [22] .
__________
(1) المغني، ج 2، ص 713.
(2) أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو، ك/ الزكاة، ب/20، وحسنه الألباني، ح/1447.
(3) أخرجه النسائي وأبو داود، واللفظ له، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ح/1415.
(4) أخرجه ابن ماجة، ك/الزكاة، ب/20، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، ح/1476.
(5) أخرجه البيهقي مطولاً، السنن الكبرى، ج 4، ص 127.
(6) أخرجه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، ح/ 4252، والزق: جلد يجزّ ولا ينتف، للشراب.
(7) فقه الزكاة، للقرضاوي، ج 1، ص 421.
(8) فقه الزكاة، للقرضاوي، ص 426.
(9) المغني، ج2، ص 714.
(10) المغني، ج2، ص 713.
(11) الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، ص 598.
(12) المرجع السابق، ص 597.
(13) أخرجه الستة.
(14) بدائع الصنائع، ج 2، ص 13.
(15) فقه الزكاة، ج 1، ص 428.
(16) لمعرفة كيفية تحديد وعاء الزكاة محاسبيّاً: يرجع إلى كتابنا (زكاة الأموال، فقهاً ومحاسبة) ، تحت الطبع، عالم الكتب بالرياض.
(17) فقه الزكاة، ص 428.
(18) فقه الزكاة، ص 430.
(19) المغني، لابن قدامة، ج2، ص 714.
(20) أخرجه الخمسة، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن ابن ماجة، ح/1461، وصحيح
سنن أبي داود، ح/1386.
(21) المغني، ج 2، ص 577.
(22) للموضوع دراسات وتحليلات أخرى ستصدر ضمن كتاب قريباً إن شاء الله فنشكر الكاتب
الكريم إيثاره البيان لنشر هذا الموضوع العلمي متمنين له التوفيق والسداد.(115/40)
تأملات دعوية
الدعاة والبعد الزمني الغائب
بقلم: عبد الله المسلم
حين خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف ليبحث عن مجال أنسب
وأخصب للدعوة، وفعل معه أهل الطائف ما فعلوا، وصف هذه الحال بقوله:
(فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي
فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع
قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم،
فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت
أن أُطْبق عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن
يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) [1] .
لقد قال هذه المقالة عقب هذا الحدث وآثاره لمّا تزل بعدُ ماثلة، ولم يقلها وهو
في جلسة تفكير هادئة.
والأمر نفسه نجده في سيرة نوح (عليه السلام) حين لبث يدعو قومه ألف سنة
إلا خمسين عاماً، وحين دعا ربه على قومه قال: [وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً]
[نوح: 27] ، إذ كان (عليه السلام) يؤمل بذريتهم وأولادهم، فلما يئس من هذه
الذرية دعا ربه عليهم.
إن هذين الموقفين ليعطيان المسلم دلالة على البعد الزمني في تفكير الأنبياء
(عليهم السلام) وتخطيطهم للدعوة، وهو بُعْدٌ تعاني الأمة اليوم من فقده كثيراً، إنه
مرض ورثه بعض الدعاة والخيِّرين من عقلية المجتمعات الإسلامية التي لا تفكر إلا
فيما تزرعه اليوم وتحصده في الغد وتأكله في اليوم الثالث.
ولقد كان من نتائج غياب البعد الزمني في تفكير الدعاة:
1- الابتعاد عن الأعمال المنتجة العميقة الأثر التي تحتاج إلى وقت وجهد
للقيام بها، ولا تظهر آثارها في الزمن القريب، والعنايةُ أكثر بالأعمال سريعة
الأثر وقريبة النتائج، وهي مهما علا شأنها لا يسوِّغ أن تكون بحال هي الميدان
الوحيد الذي يفكر فيه الدعاة.
2- غياب الرؤية البعيدة والنظر الاستراتيجي العميق للواقع، وعدم دراسة
المتغيرات التي تحكمه واتجاهاتها، مما يوقع المجتمعات الإسلامية أمام المفاجآت،
ويحرمها من التوقع المسبق للمشكلات، ومن ثم الإعداد لها ومواجهتها، وذلك
واجب ينبغي أن يقوم بأعبائه الدعاة إلى الله (عز وجل) .
3- التسرع في التقويم، والحكم على كثير من الجهود الدعوية التي ربما
لاتظهر آثارها في الزمن القريب المنظور، وترتب على ذلك اعتبار الابتلاءات
التي تصيب الدعوة دلائل فشل وإخفاق، وافتراض ثبات الأوضاع القائمة بكل
متغيراتها وظروفها.
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في طريقة تفكيرنا، وإعطاء الأمور ما
تستحقه من الوقت مما يؤمل معه أن تنتقل الدعوة إلى مواقع ومساحات كانت قد
حرمت منها، وأن تتسع النظرة ويبعد الأفق.
إننا حين نتأمل شاباً مستجمع القوى والنشاط، يملك قدرات وخبرات،
وحيوية وفتوة، ندرك أن عقدين من الزمان كانت على الأقل هي فترة بنائه توافر
عليها عوامل ومؤثرات عدة لا يمكن أن ينفرد عامل منها في مسؤولية عن جانب
واحد من جوانب شخصيته، فهل نحن نفكر اليوم ولو على الأقل على مدى عقدين
من الزمان؟ فليت الذين عمرهم في الصحوة ربما يقصر عن هذه الفترة يدركون أن
عمر الأجيال والمجتمعات لا يقارن بعمر الأفراد، فكيف، والأمر كذلك، نطالب
المجتمعات بنضج في وقت ربما لا ينتظر فيه نضج فرد من الأفراد؟
وواقع المجتمعات الإسلامية اليوم لم يكن نتاج قفزة هائلة إنما هو نتاج عوامل
عدة أثرت وساهمت مجتمعة في صياغته، يضاف إلى ذلك عشرات من السنين،
فكيف يراد إصلاح هذا الواقع في سنيات عدة؟
__________
(1) رواه البخاري، ح/3231، مسلم، ح/1795.(115/48)
من قضايا المنهج
العلم بالسنن الربانية
(1من2)
بقلم: د.محمد أمحزون
لقد وجه القرآن الكريم المسلمين نحو الوعي بعالم الشهادة، فحثهم على النظر
والتدبر والاستقراء؛ للكشف على قوانين المادة وسنن الاجتماع، كما نبّه إلى أهمية
التعرف على السنن التاريخية، والإفادة من ذلك في الاعتبار وبناء الحضارة وكيفية
المحافظة عليها من السقوط.
وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه السنن، فذكرها نصّاً في بعض الأحيان [1] ، ولم يذكرها أحياناً أخرى نصّاً، وإنما فهمت من النص دلالة وفحوى [2] ، ...
وذكرها تارة مضافة إلى الله (تباركت وتقدست أسماؤه) [3] ، وذكرها تارة أخرى
مضافة إلى أقوام [4] .
وللإشارة، فإن هذه السنن تعمل مجتمعة ومتسلسلة، فيكون في حصيلتها في
الحياة البشرية ما هو كائن بقدر الله (عز وجل) .
وقد نبه الله (جل ثناؤه) المسلمين إلى أن هذه السنن صارمة؛ تتسم بالاطراد
والشمول والثبات، كما في قوله (تعالى) : [فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتََ الأَوَّلِينَ فَلَن
تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] [فاطر: 43] ، وقوله (تعالى) :
[سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً] [الإسراء: 77] .
فينبغي إذنْ معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله (تعالى) :
[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ...
[النساء: 26] .
ومن خلال السنن في كتاب الله (تعالى) وسنة رسوله نفهم التاريخ على حقيقته، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والتقدم، وعوامل الهدم والخوف
والانحطاط والتخلف.
على أن هذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان
والكفر، والتوحيد والشرك، فالإنسان إذا أتى الأمر واجتنب النهي ووقف عند حدود
الله، أصاب خير السنة الربانية، وإذا أهمل الأمر وخالفه وارتكب المنهي عنه
ووقع في حدود الله، أصاب شر السنة الربانية [5] .
وقد انتبه إلى أثر السنن في المجتمعات والاعتبار بها (ابن تيمية) (رحمه الله)
فقال: (ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد
فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم
نظيره كالأمثال المضروبة في القرآن) [6] .
إن معرفة أثر السنن في الأنفس والمجتمعات ضروري لمعرفة طبيعة هذا
الدين وطبيعة الجاهلية المقابلة.
... وقد جاء الحديث عنها في القرآن المكي، في مواضع كثيرة، وجاء
تصويرها في مواقف كثيرة؛ ليفهم المسلمون طبيعة الصراع بين الجاهلية والإسلام
على حقيقته، وليكونوا على بيّنة من مباينة السبل واختلاف المناهج والتوجهات
والأهداف بينهم وبين الكافرين.
ومن أمثال ذلك: قوله (تعالى) : [وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ
أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ] [ابراهيم: 13، 14] .
وقوله (تعالى) : [قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ
افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ
فِيهَا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ] [الأعراف: 88-89] .
ومن هنا تأتي أهمية ربط عمل الدعاة بالجهد والعمل وفق السنن التي لا
تحابي فرداً على حساب فرد آخر، أو مجتمعاً على حساب مجتمع آخر، فالنتائج
التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيماناً وأشدهم ورعاً وتقوى
سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً وأشدهم فسقاً وفجوراً، إذا وافق المقدمات
الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المؤمن ارتكازاً
على إيمانه وحده واعتماداً على ورعه وتقواه، دون أن يطلبها من مقدماتها التي
خلقها الله (عز وجل) طريقاً إليها، فأنى يستجاب له! [7] .
ومرجع ذلك إلى أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، منتظمة
أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تجامل ولا تحابي، ولا تتأثر بالأماني وإنما
بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء [8] .
سنن: الابتلاء، التمحيص، التمكين:
ومن أهم هذه السنن التي نبّه إليها القرآن الكريم: سنة الابتلاء، فهي تضع
المؤمن على محك الاختبار، لقوله (تعالى) : [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الكَاذِبِينَ] [العنكبوت: 2، 3] ، وقوله (جل ثناؤه) : [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ] [الأنبياء: 35] ، وقوله (عز من قائل) : [إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ] [المؤمنون: 30] .
ومن ثبات تلك السنة أنها قد بسطت في وحي الله وعلمها أناس قبل أن تقرأ
في القرآن الكريم، فهذا (ورقة بن نوفل) الذي كان لديه علم بما عند أهل الكتاب
يقول للنبي بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: (يا ليتني فيها جذعاً، ليتني
أكون حيّاً إذ يخرجك قومك) ، فيسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعجب:
(أَوَمخرجي هم؟ !) ، قال: (نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)
(الحديث) [9] .
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: (سألتك كيف كان قتالكم
إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل: تبتلى، ثم تكون لهم
العاقبة) [10] .
وجاء في الحديث الصحيح: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك
كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: ربي، إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استَخْرِجْهم كما استخرجوك،
واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن
أطاعك من عصاك) [11] .
في هذا الحديث دلالة اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة
التكليف وبدء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية، ومنها سنة
اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض، مع سنة العهد الرباني بنصر
دينه وأوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملاً واحداً في
نهاية المطاف [12] .
ولعلم الله (عز وجل) أن الابتلاء هو الوسيلة لتمييز الصفوف وتمحيص
القلوب، جعله سنة ماضية، فحملُ الأمانة لا يصلح له كل الناس، بل يحتاج إلى
قوم مختارين، وهم الصفوة الذين يعدّون لهذا الأمر إعداداً خاصّاً ليحسنوا القيام به.
ويضرب (محمد قطب) مثلاً لذلك قائلاً: (أرأيت لو أنّ قائداً أراد إعداد جنوده
للفوز في معركة صعبة ضارية، أيكون من الرحمة بهم أن يخفف لهم التدريب
ويهوِّن لهم الإعداد، أم تكون الرحمة الحقيقية بهم أن يشدد عليهم في التدريب،
على قدر ما تقتضيه المعركة الضارية التي يعدِّهم من أجلها؟ والمؤمنون هم حزب
الله وجنوده ولله المثل الأعلى والمعركة التي يعدهم من أجلها هي المعركة العظمى:
(معركة الحق والباطل، التي ينصر فيها الله الحق على يد أولئك الجنود حسبما
اقتضت مشيئته وجرت سنته) [13] .
ومن النتائج المترتبة على سنة الابتلاء لاحقاً: سنة التمحيص، فالمؤمن من
جهة يتعرض للمحنة، فيُصقل معدنه من أثرها، وينضج بها كما ينضج الطعام
بالنار، والمنافق من جهة ثانية لا يستطيع الصمود أمام الفتنة فتخور قواه وتنحل
عراه وينكص على عقبيه؛ ولهذا جعل الله (تعالى) التمحيص مَعْبراً لتنقية الصف
المؤمن من أدعياء الإيمان، فيقع به التمييز بين الدر الثمين والخرز الخسيس، كما
في قوله (تعالى) : [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ] [آل عمران: 179] ، وقوله (تعالى) : [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] [آل عمران: 154] .
وعلى ضوء سنة التمحيص تتحقق سنة أخرى، وهي سنة التمكين، إذ يمكّن
الله (عز وجل) للمؤمنين في الأرض بعد أن يثبتوا جدارتهم واستحقاقهم للنصر
بلجوئهم إليه وحده في وقت المحنة، وتجردهم له، وتطلعهم إليه في زمن الشدة،
مستيقنين من نزول نصره بعد الأخذ بكافة الأسباب المأمور بها شرعاً من صبر
وتقوى وإعداد.
وقد أدرك أهل العلم والبصيرة هذه الحقيقة؛ فعندما سئل الإمام الشافعي
(رحمه الله) : (أيما أفضل للرجل: أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكّن حتى يبتلى) [14] .
ومحصّلة هذه السنن: أن بعضها يمسك برقاب بعض كحلقات السلسلة يشد
بعضها بعضاً، فلا تمكين بلا تمحيص، ولا تمحيص بلا ابتلاء؛ إذ متى تحققت
أوائلها تحققت أواخراها، إنها سنن ساطعة وحقائق ثابتة.
وجدير بالإشارة أن الحكمة من صرامة وثبات السنن الربانية هو أن تنضبط
الموازين وتستقر معايير الحكم على الأشياء والمواقف والأحداث والرجال؛ لكن من
ناحية أخرى: لا ينبغي أن يغتر المؤمن بهذا الاطراد والاستمرار؛ لأنه قد يورث
الغفلة، قال (تعالى) : [لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ
مَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ] [آل عمران: 196-197] .
فحين يشاهد المؤمن الكفار وهم يسعون في الأرض ويمكّنون اقتصاديّاً
وسياسيّاً وعسكريّاً، وتفيض عليهم كنوز الأرض وخيراتها، فليعلم أن ذلك ليس
(تمكين الرضا) ، بل يندرج ضمن (تمكين الاستدراج) أو سنة الإملاء؛ فمن سنن
الله الجارية أن يملي للكفار قبل أن يهلكهم: [وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ
ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإلَيَّ المَصِيرُ] [الحج: 48] .
كما ينبغي ألا يغتر المؤمن بديمومة وامتداد النعم، فدوامها ينسي عادة أنها قد
تزول في الدنيا بسبب من الأسباب، أو تضمحل وتذهب بموت الإنسان، ولذلك
نبّه القرآن الكريم إلى الاعتبار بفنائها وزوالها: [أَفَرَأَيْتَ إن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ]
[الشعراء: 205: 207] .
وللحديث بقية،
__________
(1) في مثل قوله (تعالى) : [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] [آل عمران: 137] .
(2) في مثل قوله (تعالى) : [وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ] [الأنعام: 10] .
(3) في مثل قوله (تعالى) : [سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ]
[غافر: 85] .
(4) في مثل قوله (تعالى) : [إلاَّ أَن تَاًتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ] [الكهف: 55] .
(5) محمد بن صامل السلمي: كيف نفسر التاريخ، مجلة البيان، عدد 50، ص 98.
(6) ابن تيمية: جامع الرسائل، ص 55.
(7) محمد عبد الهادي المصري، أهل السنة والجماعة، معالم الانطلاقة الكبرى، ص 252.
(8) محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 120.
(9) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، ج 1،
ص3 قال في فتح الباري: (جذعاً) بالنصب على أنه خبر كان المقدرة قاله الخطابي، وفي رواية الأصيلي: (يا ليتني فيها جذع) .
(10) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب: [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاَّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ] ، والحرب سجال، ج 3، ص 204، 205.
(11) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، كتاب الجنة، ج 17، ص 197 198.
(12) سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء، ص 16.
(13) محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 111.
(14) ابن القيم: الفوائد، ص227.(115/50)
البيان الأدبي
لغة الخطاب
شعر: حفيظ بن عجب الدوسري
مهلاً فقد زال الشباب وودّعَ الليلُ الصِّحابْ ...
وانظر فقد وقف الزمان مخاطباً لك في الترابْ ...
وتأمل الماضي الذي قد صيغ من لَحنِ العذابْ ...
واسأل تواريخ الزمان عن الحساب بلا حسابْ: ...
هل نحن نحيا هكذا بين الحقيقة والسّرابْ ...
هل نحن نمضي هكذا؟ لا والذي فَرَض الكتابْ ...
بل نحن نحيا للعبادة والحياةِ على الصّوابْ ...
نحيا نطيع الله حتى لو بقينا في اغْتِرَابْ ...
حتى ولو كانت حِراب الظالمين على الرِّقابْ ...
سنظل نعبد ربنا حتى ولو زاد الضّبابْ ...
حتى ولو نبحت كلاب الغاصبين فلن نهابْ ...
ضحكت ذِئاب القوم حتى بان للشفتين نابْ ...
فعلمت أن حياتهم قد صار يحكمها الذئابْ ...
وسمعت صوتاً كالعواء فقلت هل تعوي الكلابْ ...
عهدي بها نباحة ما بالها لغة الخطابْ؟ ...
قالوا: تغيّر كل شيء صار كالعَجِبِ العُجَابْ ...
دُبِغَ الإهاب فما تغير في الإهاب سوى الإهابْ ...
وتبدلت كل الثياب ونحن لم نُبلِ الثيابْ ...
هذا لأنا لا نذل ولا نخون ولا نُعابْ ...
دوماً يصيح خطيبنا! لا لن نرُدّ له الجوابْ ...
فلتزرعوا الخير الذي تحيا به الأرض اليبابْ ...
ولتشربوا ماء السحاب لتعتلوا فوق السّحابْ ...
فلربّما نفع الخضاب إذا دنا منه الرّبابْ ...
ولربّما عشنا دهوراً نستفيد من الصعابْ ...
لنزيل عُرْفَ الجاهلية إنه عُرْفُ الخرابْ ...
يا مَنْ تُرِيدُ العيش مثل الماء بالعسل المُذابْ ...
وتريد أن تحيا بلا تعبٍ ولا كدٍ ولا فتحٍ لبابْ ...
لن يستقيم العيش إن لم تُستذلّ لك الهِضَابْ ...
أو أن تسير فتقطع الصحراء بحثاً عن شرابْ ...
فاذكر إلهك دائماً إنّ الإنابة في الإيابْ ...(115/56)
البيان الأدبي.. دراسات أدبية
الإبداع في الشعر العربي
بقلم: إبراهيم نهار العنزي
الشعر ملكة يمتلكها الشعراء، وموهبة يتميز بها ذوو الشعور المرهف
والأحاسيس الجامحة والعواطف الجياشة، فهم يعبرون بشعرهم عما يحسون به إزاء
ما يواجهونه في حياتهم من حزن وفرح، وغضب ورضا، وحب وكره، والشعر
صعب كما قال الحطيئة:
الشعر صعبٌ وطويلٌ سُلّمهْ ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ
زلّت به إلى الحضيض قدمهْ ...
فإذا كان قول الشعر ونظمه صعباً؛ فإن الإبداع في الشعر أصعب، بل في
غاية الصعوبة. وقد تفنن الشعراء منذ القدم في كيفية الإبداع في الشعر حتى
عصرنا الحديث، وتنافس الشعراء في هذا الإبداع، فيلقي كل شاعر ما في جعبته
من نتاج شعري حتى تولد لنا عبر التاريخ هذا الموروث من الدواوين الشعرية عبر
العصور التي مرت بها الأمة الإسلامية والعربية والتي حفظت لنا التراث الأدبي
الجم لعدد كبير من الشعراء المشهورين والمبدعين. والإبداع في الشعر لا يكون إلاّ
إذا توفرت ظروفه، وتهيأت أسبابه، ووجدت عوامله، ومن أهم هذه العوامل:
أولاً: الموهبة الشعرية التي قد تكون كامنة في الشاعر ذاته ولا تخرج إلى
النور إلا بمحاولاته الشعرية التي تكشف الستار عن هذه الملكة الفطرية.
ثانياً: العزيمة والرغبة الصادقة في الإبداع الشعري، ولا يكونان إلا إذا توفر
الإنتاج الجيد الذي يحاول الارتقاء بالشعر إلى آفاقٍ أرحب وأوسع.
ولا بد أن يتوفر لدى الشاعر مجموعة كبيرة من الأفكار التي تفرزها مخيلته،
وتكون هذه الأفكار غير مطروقة من قبل، عند ذلك يكون الشاعر قد وصل إلى
محطة من محطات الإبداع الشعري.
ثالثاً: ثقافة الشاعر، وثروته العلمية، واطلاعه على مختلف العلوم، والأخذ
من كل علم بطرف؛ لأن ثقافة الشاعر تنعكس في إنتاجه الشعري، وقد يدرج كثيراً
من معلوماته التي اكتسبها في أبياته الشعرية.
رابعاً: معرفة الشاعر وإحاطته بالنحو العربي والمسائل النحوية؛ لأن فهمه
للنحو ينعكس في إنتاجه الشعري، ولهذا يجب أن يكون ما يكتبه من شعر مطابقاً
لكلام العرب وللغتهم الفصيحة في عصور الاحتجاج. وقد قعّد علماء اللغة الأوائل
اللغة العربية لتيسير فهمها على دارسيها لِمَا طرأ على اللغة الأم من تغيير بعد
عصور الاحتجاج للأسباب والظروف التي مرت بها الأمة العربية والإسلامية في
تاريخها المجيد، فعلى الشاعر أن يولي النحو بالغ اهتمامه، ولا يتأفف من طلب
مسائله وكثرتها، ولا يكون حاله كقول القائل:
أفٍّ من النحو وأصحابه ... قد صار من أصحابه نفطويهْ
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقي صراخاً عليهْ
خامساً: إلمام الشاعر باللغة والمفردات والاشتقاق وذلك من خلال اطلاعه
على كتب الصرف والمعاجم اللغوية ومعرفة دلالات المفردات ومعانيها واشتقاقاتها،
واطلاعه يكون على قدر ما تسعفه نفسه.
سادساً: معرفة الشاعر بالتراكيب البلاغية والصور البيانية، وذلك من خلال
قراءة النصوص البيانية التي تحتوي على مثل هذه التراكيب البلاغية، التي تشتمل
على أنواع البديع من طباق وجناس وتورية ورد أعجازٍ على صدورها والتشبيه
والاستعارة والالتفات وغيرها من أنواع البديع. وأعظم نصٍ ينبغي على الشاعر أن
يطلع عليه هو القرآن الكريم؛ لأنه المصدر الخالد والمعين الذي لا ينضب
والمعجزة البيانية الكبرى التي تحدّت أولي البيان وأرباب الفصاحة واللسان؛ فهو
أعظم مصدر نهل من معينه الصافي معظم الشعراء المبدعين بدايةً من صدر الإسلام
وحتى عصرنا هذا، فعلى سبيل المثال، لا الحصر: تأمّل هذه الآيات وما تحويه
من تشبيهٍ بلاغيٍّ راقٍ، قال (تعالى) : [كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ] [المدثر: 50] ،
وأيضاً في قوله (تعالى) : [يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ] [القارعة: 4] ،
وأيضاً في قوله (تعالى) : [وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغَضَبُ] [الأعراف: 154] .
والصور البيانية والبلاغية في القرآن الكريم كثيرة جداً.
وكذلك ينبغي على الشاعر الاطلاع على الأحاديث النبوية الشريفة التي تمثل
قمّة البلاغة البشرية؛ لأنها كلام المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى وهو أفصح
العرب وقد أوتي جوامع الكلم، فيتأمل الشاعر ما تحويه هذه الأحاديث من صور
بيانية وبلاغية.
وكذلك الاطلاع على النصوص الأدبية التي كتبها الأدباء المتميزون في تراثنا
الأدبي، والاطلاع على كتب البلاغة وما فيها من تفاصيل لعناصر البلاغة التي
تثري ملكة الشعر عند الشاعر، وتعزز من جمال التذوق الشعري لديه. ولعل
اطلاعه على شعر شعراء الصنعة والبديع الذين اشتهروا في العصر العباسي يثري
هذا الجانب لدى الشاعر، فمن الشعراء المتميزين في البديع: (أبو تمام) ،
و (البحتري) ، و (ابن الرومي) على سبيل المثال.
ومعظم الشعراء يستخدم البديع ليدل على قدرته في التلاعب بالألفاظ والمعاني
وصياغتها كيفما يشاء، مثل قول أبي تمام:
فغرّبتُ حتى لم أجد ذكر مشرقٍ ... وشرّقتُ حتى قد نسيت المغاربا
أو كما قال أبو الطيب:
لنا ملكٌ لا يطعم النوم ... همّه مماتٌ لحيٍّ أو حياةٌ لميتِ
سابعاً: الاطلاع على الموروث الشعري للشعراء السابقين والاستفادة من هذا
الموروث في سبيل الارتقاء بالذوق الشعري والإحساس بجمال ما ابتكره الآخرون
من صور شعرية تندرج في ثنايا قصائدهم مما يعزز الملكة الشعرية لدى الشاعر
المطلع، وينمي معرفته بشعر مَنْ قَبْلَهُ محاولاً بذلك التقليد والمحاكاة.
ثامناً: التقليد والمحاكاة وهذه هي النقلة التي تؤدي إلى الإبداع فيما بعد، وهي
من أهم العوامل التي تصل بالشاعر إلى الإبداع والارتقاء الشعري.
فعندما يقلد الشاعر شاعراً مبدعاً من الشعراء السابقين عن طريق معارضته
لقصيدةٍ مشهورة من قصائد ذلك الشاعر السابق محاولاً من خلال هذه المعارضة
التقليد بالمحاذاة والمحاكاة للارتقاء بهذا العمل الشعري الجديد، سواء وصل هذا
العمل إلى مستوى تلك القصيدة المقلّدة (الأصل) أم لم يصل، فإنه يعتبر معزِّراً
ومثرياً لشاعرية الشاعر (المعارض) ودافعاً له نحو الإبداع.
تاسعاً: أهمية الاطلاع على جيد الشعر: قديمه وحديثه، والاستمرار على
ذلك حتى تستقيم الملكة الشعرية بالاطلاع على روائع أولئك الشعراء.
فإن تهيأت تلك الظروف بهذه العوامل فعند ذلك ينشأ الإبداع في الشعر من
خلال ما ينتجه الشاعر، وما عليه سوى اختيار الموضوعات الجديدة التي لم تطرق
بأسلوب جديد وبفكرة مبتكرة حتى تنفذ في أفئدة القارئين والمستمعين، ويحظى
قائلها عندئذٍ بتقدير الجميع.(115/58)
البيان الأدبي
حسرة وعتاب
شعر: محمد بن عبد الرحمن المقرن
كيف أُبْدِي بأَحْرفي ما أريدُ ... وبماذا تراه يحكي القصيدُ
كلّ يومٍ تدقّ بابي عظاتٌ ... ويهزّ الفؤادَ خطبٌ جديدُ
ويح نفسي ألم تفق من هواها؟ ... أوَما هزّ خافقيها الوعيدُ؟
آهِ من يوم سكرتي ومماتي ... حينما أنثني وروحي تجودُ
أستغيثُ الطبيبَ ماذا جرى لي؟ ... قيل: هذا ما كنت منه تحيدُ
لم تُغِثْني دموعُ من كان حولي ... لا ولا عدة الطبيبِ تفيدُ
آه من عمرٍ استقلّ بذنبي ... رَكْبَه، ليته إليّ يعودُ
لست أدري: أبين جنبيّ قلبٌ ... أم هو اليوم من عنادي حديد؟ !
أنا من يستبيح كسبَ الخطايا ... ما بعمري سوى الذنوب رصيدُ
أتلهّى برحمة الله، ويلي! ... إنما أخذُه أليمٌ شديدُ
أوَما آنَ أن أعدّ ليومٍ ... من رؤى هوله يشيبُ الوليدُ
عندها يفرق العباد: شقيٌ ... في لظى النار أو رضيّ سعيدُ
كيف يحلو بلذة الذنب كأس ... وبقعر الجحيم ماءٌ صديدُ؟ !
كيف أجرو على المعاصي وفي الن ... ار حميم تذوب منه الجلود؟ !
تلك ذكرى لمن له اليوم قلبٌ ... ولمن ألقى السمع وهو شهيدُ
إنما زخرف الحياة سرابٌ ... والتقى واحة وظلّ مديدُ
إن حَيينَا بنشوة المال عمراً ... واحتوتنا على النعيم عهودُ
فالجنا منه بعد حينٍ عجيبٌ: ... كفنٌ عن قوامِنا لا يزيدُ(115/62)
خاطرة أدبية
أدب الحرفة
خالد أبو الفتوح
الأصل في الأدب أنه تعبير جميل ومميّز عن مجموعة من الانفعالات العاطفية
أو الفكرية، يصعب على صاحبها كتمها حين نضجها، فيقوم بإخراجها في صورة
إبداعية، متقولبة بأحد الأشكال الأدبية المختلفة (شعر قصة مقال مسرحية....)
حاملة خلفية الكاتب الثقافية، وملامح شخصيته الأخلاقية، وسماته النفسية، وحالته
المزاجية الآنيّة.
ولكن.. ماذا إذا قرر كاتب أن (يمتهن) الأدب؟ ! .
إنه يبحث حينها عن أصول (الصنعة) ، ويتكلف الالتزام بها؛ ليستر بها
جفاف انفعالاته التي قد يستدعيها فتتأبى عليه وتستعصي.. ثم مع الدربة والمكابدة
يتمرس كاتبنا على اصطناع المعايشة والانفعال، ويصبح (محترفاً) يستطيع تفصيل
أي فكرة على حسب الطلب! ، فتخرج حينئذ قطع أدبية (استرتش) على قدر
المطلوب تماماً، كما تُنتَج أيضاً قطع (فري سايز) تصلح لجميع المقاسات،
وترضي جميع الأذواق، فالمهم: إرضاء (الزبون) .
إن معظم من عاشوا تجربة الكتابة الأدبية يدركون أن ولادة تعبير عن فكرة أو
إحساس تمر بمراحل ومعاناة ولادة كائن حي، حيث يتم الحمل بالتلاقح مع حدث أو
فكرة أخرى، يعقبها سعادة ونشوة بالموجود الجديد، الذي ينمو ويكبر، يتحرك في
باطن صاحبه الذي تظهر عليه علامات الحمل، وقد تؤدي به إلى حالة من القلق
والاضطراب يصعب فهمها على من ابتلوا بالعقم.. ويخشى الحامل على حمله،
ويتعهده، حتى يتم نضجه، فيطلب الخروج والانفصال عن صاحبه، ولا يتحمل
الأديب بقاءه في باطنه ولو أبقاه ربما يموت أو يولد مشوّهاً، فيحدث مخاض الولادة، وهي أصعب وألذ اللحظات، يستعذب الأديب فيها الألم.. إلى أن تخرج سالمة
إحدى بنات أفكاره.. فيطوف بها سعيداً، يلبسها أجمل ثوب، يعرِّفها إلى كل من
يلقاه.. وقد تموت فيحزن عليها أشد الحزن، وقد تنمو وتكبر وتنتشر في الآفاق،
فيفرح أيما فرح، وينظر إلى بنات أفكاره فيراها (عرائس من نور) ..
ثم يموت الكاتب وتبقى بناته بإذن الله تتزاوج، وتتكاثر، وتلد، وتنتشر في
الثنايا.. وقد تنفعه بعد موته إذا كانت نبتاً صالحاً.(115/63)
البيان الأدبي
قصة قصيرة
ثم انتبهت
بقلم: نورة بنت سعيد الصفار
الشمس تلم أشعتها راحلة نحو الغروب، والحديقة الكبيرة في القصر الواسع
ضجت بأصوات الطيور العائدة إلى أعشاشها، والظلام بدأ ينشر أجنحته على الكون، فأنيرت الأضواء في القصر الفخم، وانتشرت روائح العطور مع الزهور يحملها
هواء هادئ.
فتحت البوابة ودلفت سيارة كبيرة فخمة، فوقفت، وخرج منها رجل يظهر
للرائي كأنه في الثلاثين من عمره إلا أنه تجاوز الخمسين، دلف إلى منزله وكان
ضائق النفس، فقد خسر صفقة كانت ستدر عليه أرباحاً طائلة، ولكن ... ها قد
انتهى حلمه بالنسبة لها ... على العموم لن تكون أول ولا آخر صفقة، فالأيام طويلة
والحياة لا زالت تفتح له ذراعيها بكل جمالها، هكذا خاطب نفسه وهو متجه إلى
غرفته، وفتح جهاز التكييف، واستلقى على سريره فالحر شديد، آه هذا كتيب
جديد.. نعم لا بد أنه من ابني (المعاملات الربوية) لقد بلغت به الجرأة بأن يتهمني
بالربا، هذا الولد العاق الأحمق المعقد الذي يترك أحسن الجامعات الأوروبية التي
عرضت عليه.
ألقى الكتاب بعيداً، وفتح جهاز التسجيل ليستمع إلى موسيقى هادئة قد تساعد
على نومه! لكنه سمع من بعيد صوت الأذان فتردد في إغلاق جهاز التسجيل،
وأخيراً قرر أن يغلقه بنفسه، ثم راح يفكر: هل يذهب إلى الصلاة أم لا ... همس
في أعماقه بأنه أحسن من غيره؛ فهو أحياناً يصلي مع الجماعة وكثيراً جداً يصلي
في البيت، وهناك من لا يصلون أبداً، فهو أحسن منهم بالطبع.
ارتاحت نفسه لهذا الخاطر، استرخى وأخذ يفكر في المستقبل، وتذكر آخر
رحلة له فابتسم.. تذكر آخر فتاة قابلها كانت تظنه شاباً ودهشت حين علمت أن له
من الأولاد عشرة أغلبهم متزوج وفي الجامعات، فامتلأ نشوة وفرحاً ... آه ما أجمل
الدنيا، ما أجمل السفر والتلذذ بالمناظر بـ (الكازينوهات) وما فيها! أطلق لنفسه
عنان الأحلام وراح يسبح في بحيرة الأوهام فأخذته وطارت به بعيداً فغرق في
سبات عميق.
ولم يفق إلا على صوت مريع هز الدنيا كلها واضطربت السماوات والأرض، أحس أنه في مكان ضيق لا يستطيع الحراك منه، إلا أن المكان اضطرب
اضطراباً شديداً لسماع الصوت المفزع، فانفرج فخرج منه أشعث أغبر عارياً،
كان الصوت مفزعاً مريعاً يكاد يمزقه، أحس أن أحشاءه تقطعت وأن عروقه
انفجرت.
الفزع العظيم يتجلى في عينيه ولم ينتبه إلا وهو خارج ذلك الشيء الذي
عرف فيما بعد أنه قبره ... الصوت لا زال يدوي في أعماقه: الخوف من كل شيء
حوله، صار كالمجنون يدور ويبحث عن شيء يختبئ فيه، تمنى لو يموت ويرتاح
من هذا الفزع ولكن هيهات أن يتسنى له ذلك فلا موت بعد اليوم، أراد أن يختبئ
في أعماق الأرض فإذا هي تمور ... ركض قاصداً كهوف الجبال فإذا هي تسير
وتتفتت وتطير.
كان يدور ويذهب ويجيء والآلام تحوطه، يبحث عن شيء لا يعرفه، وبعد
أن أضناه التعب علم أنه يبحث عن نفسه فوجدها كامنة في جسمه، تحسس عظامه
وأعضاءه فعلم أنه هو.. فخر صعقاً، وحينما أفاق تحسس الوخزة في قلبه فتذكر
الدنيا.. قبل قليل كنت في غرفتي الهادئة وعلى سريري الجميل.. المريح.. ماذا
حدث الآن؟ هل هذه هي الآخرة؟ ! ما أسرع أيام الدنيا كأنني ما مكثت فيها غير
ساعة، يا ويلتاه إن كانت هذه هي الآخرة؛ لأنني لم أتزود لها.. يا حسرة على ما
فرطت في جنب الله.
حينما كان يحدث نفسه وهو يجري سقط في حشد من الناس الساقطين فمشى
عليه حشد من الناس الزائغين.. المسرعين، وكلما حاول النهوض سقط، وبعد مدة
من الزمان ظنها أعواماً استطاع أن ينهض.. كانت الشمس قد اقتربت من الأرض
أكثر، فأصبحت الأرض كالجمرة تحرق قدميه وهو يحاول أن يرفعهما عنها..
أحس أن دماغه يغلي من الشمس، العرق يتصبب من جسمه، والعطش بلغ به
منتهاه، حوله خلق غارقون في بحار من العرق يحاولون التنفس، فجزع لمنظرهم، لا يزال يركض، لمح من بعيد حوض ماء كبيراً حوله أناس قد ارتووا من الماء،
فاتجه نحوهم وجر أقدامه وجسده المنهك يخوض في عرقه يلهث وهو يصطدم
بجثث لاهثة مثله، فأخذ يحاول الجري والتحامل على نفسه وبعد مدة من الزمان
أحسها أعواماً: وصل إلى المكان فحيل بينه وبين الماء فصرخ: أريد أن أشرب
ولو قطرة، فقيل له: ارجع فهذا حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يَرِدُهُ إلا
الذين أطاعوا الله ورسوله وأخلصوا لله ورفعوا رايته بالجهاد في سبيله.. بالسيف،
بالكلمة.. بالقلم، هذا الحوض لمن خشي الرحمن بالغيب، لمن تبع ما أمر به
الرسول وانتهى عما نهى عنه.. فاذهب.
وألقي بعيداً، كان العرق قد بلغ ركبتيه فوخزه قلبه، تذكر كم كان في الدنيا
يشمت بالعابدين، كم مرة استهزأ بالملتزمين، ورماهم بالتعقيد والانحطاط، تحسر
على نفسه حينما تذكر أنه كان يفتخر بالسفر إلى بلاد الفجور والكفر، كان يعدها
مفخرة، صرخ: ما أغباني، عض أصابع الندم، جحظت عيناه، وهو يتذكر أنه
في سفراته تلك قد اغترف من نهر الشهوات إلى أن ارتوى؛ فحيل بينه وبين هذا
النهر فصرخ: تَعْساً لي، ما أحقر أحلامي كلها كانت في الدنيا، يا ويلتاه ما أشقاني.. وخر مغشياً عليه، وحينما أفاق كان قد أبعد بعيداً عن النهر فأخذ يركض لاهثاً..
يخوض في عرقه وكان في كل لحظة يتمثل الفزع أمام عينيه يكاد أن يتمزق ولسانه
قد أصبح عظماً وفي أثناء ذلك رأى من بعيد ظلاً كبيراً بارداً فيه جمع غفير من
الخلق يستظلون به.. فقال في نفسه: هؤلاء مرتاحون ونحن نعاني من هذا الحر
والعذاب، لماذا لا أذهب معهم؟ اتجه نحوهم يجرجر نفسه من عذاب إلى عذاب،
أنفاسه لا يكاد يستردها لكثرة ما لاقاه من النصب والتعب وحينما اقترب من الظل
سمع صوتاً شجياً يرتل قوله (تعالى) : [وَقِيلَ اليَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا] [الجاثية: 34] ، فعرف الصوت، إنه صوت حبيبه.. ابنه.. فلذة كبده،
فناداه: ابني تعال، انتشلني من هذا العذاب، لا تجعلهم يطردونني كما طردوا
غيري، فقال الابن: لست بأبي، فقال الأب: أنا أبوك في الدنيا تذكر جيداً.
فقال الابن: لست بأبي لا أعرفك، وهذا الظل لا يستظل به إلا من كان فيه
صفة من سبع يعرفهم الله وملائكته، وأنت لست منهم.
تذكر أنه لم يعدّ شيئاً يذكر يوضع له في ميزان حسناته، فصلاته لم تكن كاملة، وليس فيها خشوع، والزكاة لا يخرجها كاملة، الصدقات تمنعه نفسه الشحيحة من
الجود بها، الصوم لم يكن لوجه الله، بل عادة اعتاد عليها، لم يخطر على باله
الحج أو العمرة على كثرة أمواله، كان يفضل أن يسافر إلى الدولة التي سوف تشبع
رغباته ويسوّف بالحج والعمرة.
ارتعدت فرائصه حينما رأى الصحف تتطاير في الهواء، ولفت نظره ابنه
قادماً من بعيد بوجه كأنه فلقة القمر، يحمل كتابه بيمينه، يكاد من الفرحة أن يطير
في الهواء يصيح فرحاً في كل من يقابله من الخلق أو الملائكة قائلاً: هاؤم اقرأوا
كتابيه.. هاؤم اقرأوا كتابيه.. فبلع الأب ريقه الذي أشفى على الجفاف، ونظر إلى
يده الشمال وكأنه يحذرها أن تلتقط الكتاب، ورفع يده اليمين واقترب متعثراً لاهثاً
وأمسك بكتابه فنظر فإذا هو ممسك به بالشمال.. صرخ ... وخرّ راكعاً، وهو
يقول: ما أغنى عني ماليه، وتحسر في نفسه وهو يردد: هلك عني سلطانيه،
كانت صرخاته تتردد في أعماقه وصداها قد ضج به الكون فانتكست رجلاه،
وأصبح خلفه أمامه، وأمامه خلفه، فسقط في هاوية عظيمة ليس لها قرار وهو
يصيح.. لا.. لا.
في تلك اللحظة كان قد سقط عن سريره، وسمع أهله صرخته فأقبلوا عليه،
أخذه ابنه وضمه إلى صدره وقرأ عليه قرآناً فهدأ واطمأنت نفسه، فتح عينيه،
وحينما تيقن أنه لا يزال حياً، وأن الذي مر عليه إنما كان حلماً خر مغشياً عليه من
الفرحة، ولكنه ما لبث أن أفاق مبتسماً عازماً على إعادة حساباته من جديد! .(115/64)
المسلمون والعالم
الصراع العربي (الإسرائيلي) تحت الرايات العلمانية
خمسون عاماً من الفشل..!
(1من2)
بقلم: عبد العزيز كامل
تجري الاستعدادات في دولة اليهود على قدم وساق للاحتفال في العام القادم
بذكرى مرور (50 عاماً) على إعلان (دولة إسرائيل) تلك الدولة المسخ التي
زرعتها أحقاد الغرب، بينما تعهدتها بالرِّي والنماء أخطاء العرب.
نعم، فما كانت (إسرائيل) لتبقى وتعلو، أو لتوجد أصلاً، لولا سلسلة من
أخطاء تترادف، وخطايا تتراكم، ممن وضعوا أنفسهم في واجهة هذا الصراع
الديني الاعتقادي، حيث تعمد هؤلاء عن سابق إصرار وترصد أن يفرغوا هذا
الصراع من محتواه الاعتقادي وخلفيته الدينية من جانبنا، في مقابل تعمد الآخرين
عن سابق إصرار وترصد أيضاً أن يصبغوه بالصبغة العقائدية في كل جزئياته،
بدءاً من اختيار اسم هذه الدولة (إسرائيل) ورمزها (نجمة داود) ودستورها (التوراة
والتلمود) وشعارها (أرض الميعاد) وحلمها التاريخي إعادة بناء (هيكل سليمان) في
(أورشليم القدس) حيث يتطلع اليهود لمجيء ملك من نسل داود يحكم العالم! .
أما بنو قومنا، فتحت الرايات العلمانية المتعددة، قد جدوا واجتهدوا في إبعاد
الإسلام عن المعركة، وإقصاء القرآن عن توجيهها، وتنحية العقيدة الحقة عن
مواجهة العقيدة الباطلة، بل بالغوا في ذلك حتى استبعدوا المسلمين غير العرب من
المشاركة في المعركة ابتداء، فأطلقوا على هذا الصراع: (الصراع العربي
الإسرائيلي) مرة، و (معركة القومية العربية) مرة أخرى، و (أزمة الشرق
الأوسط) مرة ثالثة. بينما كان في الإمكان حشد الأمة الإسلامية كلها خلف الأمة
العربية في هذا الصراع الحضاري المصيري بين أمة الإسلام وأمة يهود.
ولكن الذي حصل ولا يزال يحصل أن القيادات العلمانية تصر على التصدي
لمعركة ليست لها ولا أهلها، وتأبى التنازل عن مبادئها المنافية للدين، على
الرغم من كل أنواع الفشل الذي جرّته على الأمة عبر خمسين عاماً من عمر هذا
الصراع.
ولما كانت هذه الأعوام الخمسون قد انقضى نصفها في الحروب الخاسرة،
بينما انقضى نصفها الآخر في عمليات السلام الفاشلة، فسوف نبدأ أولاً باستعراض
جولات تلك الحروب في النصف الأول من عمر الصراع (1948-1973م) ثم نثنِّي
بمسارات ومراحل العملية السلمية في المرحلة الثانية من (1973-1997م) .
الجولة الأولى: حرب أيار (مايو) 1948م
انتهت هذه الحرب إلى نتيجة مذهلة؛ إذ تعرضت سبعة جيوش تابعة لسبع دول عربية لهزيمة منكرة، لا أقول أمام جيش لدولة واحدة، ولكن أمام عدة منظمات يهودية شبه عسكرية، وهي تلك التي تم توحيدها بعد ذلك تحت اسم (جيش الدفاع الإسرائيلي) فما الذي حدث..؟
يمكننا التعرف على ذلك من خلال اللقطات التاريخية التالية:
* - بعدما أصدرت الأمم المتحدة قرارها الظالم في نوفمبر 1947م بتقسيم
فلسطين بين العرب واليهود، سارع القادة السياسيون العرب إلى اتخاذ قرار بدخول
حرب شاملة ل (تأديب) عصابات اليهود، وكان ذلك القرار حماسياً ارتجالياً، لم
يسبقه إعداد أو تخطيط، وقد عارض القادة العسكريون قرار الحرب بشدة في هذا
التوقيت، وحذروا منه أشد التحذير.
* - فوجئ القادة العسكريون باتخاذ القرار السياسي الفعلي بالحرب، قبل بدء
تلك الحرب بيومين أو ثلاثة، في وقت لم يكن لدى معظم الجيوش العربية حتى
ميزانية تسمح بدخول حرب، ولم يكن قد جرى تدريبها بعدُ على الدخول في
حروب شاملة.
* -اجتمع رؤساء أركان كل من (مصر والعراق والأردن وسوريا ولبنان)
قبل الحرب وأعلنوا الاتفاق على إعداد ما لا يقل عن خمس فرق عسكرية كاملة
الاستعداد والتسليح مع ستة أسراب من المقاتلات والقاذفات، بحيث تكون جميعاً
خاضعة لقيادة عربية موحدة، ولكن هذا الاتفاق لم ير النور، فلم يتم إعداد الفرق،
ولم تدبر الأسراب ولم توحد القيادة!
* -لم توضع خطة منسقة للجيوش العربية لخوض الحرب، بل حُدد لكل
جيش هدف يصل إليه، وأُجِّل التنسيق إلى ما بعد وصول كل جيش إلى هدفه!
* -لم يتجاوز عدد الجنود العرب الذين سيقوا إلى الحرب خمسة عشر ألف
جندي، في حين حشد اليهود نحو ستين ألف مقاتل مجهزين تجهيزاً كاملاً للمعركة
التي لم يقرروا هم البدء فيها.
* - دخلت الجيوش العربية الحرب في 15 مايو 1948م، دون أي معلومات
عن العدو، بل كانت غالبية تلك الجيوش تقاتل في أرض تجهل طبيعتها وطريقة
القتال فيها.
* - كان الفيلق الأردني هو الأجود من حيث التدريب والتسليح، ولكنه مع
الأسف كان تحت قيادة الجنرال البريطاني النصراني (جلوب) .
* - بالرغم من كل هذا، فقد دفعت العاطفة الإسلامية الجنود العرب إلى
إحراز عدة نجاحات في بداية الحرب، كادت أن تحوِّل الدفة لصالحهم ضد اليهود
المعروفين بالجبن الشديد في القتال، ولكن حكومتي (بريطانيا وأمريكا) أحستا بذلك
الخطر، فسارعتا إلى دفع مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرار بفرض الهدنة
اعتباراً من يوم 8 يوليو 1948م ولمدة شهر كامل.
* - مرة أخرى سقط السياسيون في العجلة، ووافقوا على الهدنة، فتنازلوا
بذلك لليهود عن عنصر المبادأة أو المبادرة، وحرص العرب على أن يظهروا
بمظهر الحريص على احترام (الشرعية الدولية) ! التي لم تحترمهم، والتي زرعت
اليهود في أرضهم.
* - حرص اليهود على استغلال كل دقيقة من فترة الهدنة لتغيير موازين
القوى لصالحهم، وسخروا أشد السخرية من غباء القرار العربي بقبول الهدنة،
حتى إن (مناحم بيجن) كتب وقتها يقول: (إننا لا نعرف حتى الآن كيف ولماذا
قبلت الدول العربية الهدنة، بعد أن كان الموقف العسكري في صالحها تماماً) !
* - بعد انتهاء شهر الهدنة، كان اليهود قد نجحوا في تسلم زمام المبادرة
سياسياً وعسكرياً، ثم بدؤوا في حرب استنزاف للجيوش العربية كلاً على حدة، فقد
عادت الحرب ثانية، وكان اليهود هم البادئون هذه المرة، فنفذوا ضربة جوية
مفاجئة لمطار العريش في (مصر) ، وهو المطار الذي كان يعتمد عليه الجيش
المصري؛ لأن بقية المطارات كانت خاضعة للمحتل الإنجليزي، ثم أعقب ذلك
قصف جوي لتجمعات الجيش البرية في كل قطاعات القتال مما أدى إلى حالة من
الفوضى والارتباك.
* - بعد أن حقق اليهود قدراً كبيراً من النجاح وأصبحوا في حاجة إلى فرصة
لالتقاط الأنفاس، أصدر مجلس الأمن قراراً ثانياً بالهدنة، واستجاب العرب مرة
أخرى فأعطوا لليهود فرصة ثانية للمزيد من لمِّ الشمل واستعادة النشاط!
* -عادت الحرب للمرة الثالثة بمعارك متفرقة هنا وهناك، إلى أن أصدر
مجلس الأمن قراره الثالث بإيقاف الحرب نهائيّاً بعد أن فشلت كل الجهود العربية في
إجلاء اليهود عن الأراضي التي احتلوها في فلسطين، وهو ما يعني بعبارة أخرى:
الهزيمة في تلك الحرب والفشل في تحقيق أي من أهدافها!
ومما يجدر ذكره هنا، أن عقد الأربعينات الذي جرت فيه تلك الحرب، قد
شهد انتعاشاً في الشعور بالانتماء القومي العربي، حيث بدأ العرب وقتها في الفصل
بين مفهومي (الأمة العربية) و (الأمة الإسلامية) وتُوِّج هذا الشعور القومي بإنشاء
(الجامعة العربية) رداً على من كانوا ينادون بالعودة إلى (الجامعة الإسلامية) .
الجولة الثانية: حرب 1956م:
جاءت الجولة الثانية بعد أن آلت السلطة في بعض الدول العربية إلى أنظمة
ثورية، دعت نفسها بالتقدمية، وكان النظام الثوري العسكري في (مصر) هو
المتزعم لها، وقد عدّ من أهدافه الرئيسة المعلنة: تحرير (فلسطين) والقضاء على
دولة (إسرائيل) ، وجعل من هذا الهدف إلى جانب توحيد العرب تحت راية القومية
العربية قضية يبني بها المجد والزعامة، فماذا كان مسلك الثوريين العساكر بعد أن
تسلموا دفة الصراع مع اليهود..؟ هذا ما توضحه المشاهد التاريخية التالية:
-كان أول عمل قام به (قائد الثورة) (جمال عبد الناصر) بعد تسلمه منصب
الرئاسة رسمياً هو تأميم قناة السويس في 26 تموز (يوليو) 1956م، وكان ذلك
قراراً دعائياً اتخذ دون دراسة أو تحسب لما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، وقد
جاء رد فعل على صريح لوزير الخارجية الأمريكي وقتها (فوستر دالاس) قال فيه: إن الاقتصاد المصري منهار.
-ثار الغرب لهذا القرار، وخاصة ما كان من (إنجلترا وفرنسا) حيث أخذتا
في الإعداد لإجراء حاسم وتواترت الأنباء عن حشود إنجليزية وفرنسية في
(قبرص) استعداداً لعمل عسكري ضد (مصر) بالاشتراك مع دولة اليهود، ولكن
(عبد الناصر) لم يكترث، ولم يأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد، بل كان هناك
استرخاء عسكري بالرغم مما يجري، حتى إن القيادة المصرية خففت من أعداد
القوات المعدة للقتال لأسباب غير مفهومة.
-عندما بدأت نذر الحرب كان اليهود يحتفظون بالتفوق العسكري مقارنة
بالإمكانات المصرية التي يفترض أنها أكبر وأقوى الإمكانات العربية، فقد كان
التفوق ظاهراً حتى في الجانب العددي البشري، فكان التفوق في المشاة بنسبة 1: 3 لصالح اليهود، وفي القوات البرية (الدبابات) بنسبة 1: 1.8 لصالح اليهود، ...
وفي سلاح المدفعية بنسبة 1: 2.5 لصالح اليهود أيضاً.
-نسق اليهود جهودهم مع حلفائهم استعداداً للحرب، فاتفقوا مع فرنسا على
تأمين الغطاء الجوي الكافي للمدن الإسرائيلية وعلى أن يتولى السلاح البحري تأمين
حراسة السواحل الإسرائيلية، وأن تشارك القوات الفرنسية بالقتال ضد أي دولة
عربية تدخل الحرب إلى جانب (مصر) ، وأُسند إلى السلاح الجوي البريطاني مهمة
تدمير الطيران المصري على الأرض.
-وأخيراً اقتنعت القيادة الثورية بأن أمر الحرب جد لا هزل فيه، فبدأت في
تركيز الجهود على حماية سيناء من الشرق، بينما أهملت الجبهة الجنوبية إهمالاً
مريباً، حيث كان من الغريب أن يخصص لهذه المنطقة الحيوية نحو 120 جندياً
من المشاة لحمايتها! ! .
-وبدأت الحرب في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1956م بمهاجمة الخط الأقل
خطراً في نظر القيادة المصرية، وهو المنطقة الجنوبية من سيناء، وأعلن اليهود
أنهم يقاتلون على بعد 40 كيلو متراً من قناة السويس، حتى يعطوا الذريعة لكل من
إنجلترا وفرنسا للتدخل العسكري، بحجة حماية حرية الملاحة الدولية في قناة
السويس.
-وبالفعل أقدم سلاح الجو البريطاني على ضرب الطيران المصري على
الأرض، واضطر المصريون للقتال دون غطاء جوي على مختلف المحاور،
وأبلى المقاتلون المصريون بلاءً حسناً في القتال، لولا أن الأوامر صدرت من
القاهرة، للقوات الرئيسة بالانسحاب بعد إنذار أرسلت به إنجلترا وفرنسا، وبدأ
الانسحاب ليلة 31 أكتوبر 1956م، من قطاع إثر قطاع مما سبب حالة من
الارتباك والاضطراب.
-وفي ظل غياب أي غطاء جوي أو طبيعي من جبال أو أشجار، كان
الانسحاب شاقاً ومكلفاً، فقد أصبحت القوات المنسحبة هدفاً مكشوفاً أمام الطائرات
النفاثة المغيرة والمحملة بكل أنواع الأسلحة المدمرة والحارقة.
وهكذا انتهت الحرب بهزيمة الجيش المصري وإهانته في حرب بدأتها الدعاية
وأوصلها الغرور إلى أسوأ نهاية، فقد احتُلت سيناء ولم تنسحب إسرائيل منها إلا
بعد أن ضمنت السماح لها بالملاحة في خليج العقبة كيف تشاء.
وكان لـ (بريطانيا) (صديق العرب المفضل دائماً) الدور الأكبر في تقديم
الجيش المصري لقمة سائغة لإخوان القردة والخنازير.
الجولة الثالثة: حرب يونيو 1967م
هي الحرب الثانية في العهد لثوري التقدمي الوحدوي الاشتراكي ... العلماني! وقد كانت عاراً لم تُمسح آثاره إلى اليوم، حيث كان الهدف الرئيس لها احتلال القدس، فتحقق الاحتلال، ولم يتم التحرير إلى اليوم لا سلماً ولا حرباً. وهذه بعض المشاهد التاريخية للكارثة التي سميت زوراً (نكسة) !
-تضخم الغرور في الذات اليهودية بعدما تم إحرازه من انتصارات رخيصة
على شعوب مغلوبة على أمرها، ولم تكد تنقضي عشر سنوات على حرب 1956م
حتى تفتحت شهية اليهود لحرب جديدة، ففي شهر ديسمبر 1966م أعلن (ليفي
إشكول) رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، نية بلاده في دخول حرب جديدة
ضد العرب وهدد بغزو (سوريا) ، في لهجة جديدة وغير معهودة من اليهود
المتظاهرين أبداً بالمسكنة والاستضعاف.
-وفي عام 1967م لم ينقض شهر نيسان (إبريل) منه حتى كان اليهود قد
نفذوا ما توعدوا به؛ فشن سلاحهم الجوي هجوماً ضخماً ضد (سوريا) ، وفي الشهر
التالي هدد الهالك (إسحاق رابين) بدخول دمشق، بعد افتعال مشكلة وأزمة بسبب
تحويل مجرى نهر الأردن، وقيام أعمال فدائية ضد دولة اليهود من داخل (سوريا) .
-وكان هذا الهجوم الإسرائيلي ضد (سوريا) رسالة موجهة أيضاً إلى (مصر) ، التي كان قادتها منهمكين أو غارقين في المستنقع اليمني، حيث الحرب الظالمة
التي أقحم فيها الجيش المصري للقتال هناك نصرة للقوى (التقدمية) ضد القوى
(الرجعية) ! وبدلاً من أن تتنبه تلك القيادة للخطر، وتسعى لحشد القوة ضد العدو
الحقيقي المتربص من وراء الحدود، اكتفى الثوار بنشر قوات بغرض الردع
والتخويف واستعراض القوة في (سيناء) .
-اعتبر اليهود ذلك الاستعراض بمثابة إعلان حرب من (مصر) ، وأعلن
(موشي دايان) وقتها أن (مصر) هي العدو الحقيقي وليست (سوريا) ، وأن على
(إسرائيل) أن تتفرغ لحربها وأصبح قرار الحرب في إسرائيل في حكم المنتهى منه، ولم يبق إلا انتظار الذريعة المناسبة.
-ومرة أخرى قدم النظام الثوري الذريعة لليهود المتربصين، فصدر قرار
بمنع الملاحة في خليج العقبة الذي تنتقل منه البضائع من وإلى (إسرائيل) .
وانتشرت القوات المصرية على خليج العقبة بعد انسحاب قوات الطوارئ
الدولية منه، وزاد الطين بلة أن جرى الإعلان عن توقيع ميثاق دفاع مشترك بين
(مصر) و (الأردن) بالرغم من الخلافات التي كانت قائمة بينهما.
-لم يعد هناك وقت للتفكير لدى دولة اليهود، فشكّل رئيس وزرائها حكومة
حرب وأدخل فيها (موشي دايان) وزيراً للدفاع، لينفذ توعده بالانتقام من (مصر) ،
وكانت القوات الإسرائيلية قد أتمت استعداداتها التي بدأتها منذ زمن لخوض الحرب
الشاملة في حين كانت القوات المصرية غير مستعدة حتى مساء الرابع من يونيو من
العام نفسه.
-وفي صباح الخامس من يونيو 1967م، قام اليهود بشن الحرب، معلنين
أنهم في وضع دفاع عن النفس بعد أن حشدت مصر قواتها في سيناء، وأغلقت
خليج العقبة؛ وأحلت قواتها محل قوات الأمم المتحدة، وبدأ اليهود في توجيه
ضربة جوية مفاجئة ضد القواعد الجوية العربية في كل من (مصر) و (سوريا)
و (الأردن) و (العراق) ، وأطلق على هذه العملية (ضربة صهيون) !
-انطلق الطيران اليهودي كله من مرابضه (150 طائرة) وتوجه نحو 19
قاعدة مصرية جوية موزعة في أنحاء (مصر) (الدلتا سيناء الصعيد) لتدكها وهي
على الأرض وبعد خمس عشرة دقيقة من بدء الحرب كان الجنرال (مردخاي هود)
قائد سلاح الجو الإسرائيلي في لقاء مع ممثلي الصحافة الإسرائيلية والعالمية، حيث
زف إليهم البشرى بتلك المذبحة الجوية وقال: لقد دمرنا الحصيلة الكبرى من
طائرات العدو، منها (309) طائرة في (مصر) ، و (60) طائرة في (سوريا) ،
و (29) طائرة في (الأردن) و (12) طائرة في (العراق) ، وطائرة واحدة في (لبنان) ، في حين لم تخسر (إسرائيل (إلا (19) طائرة! ! .
-يعود السبب في هذا الحدث المفجع في تاريخ الحروب الحديثة إلى عدد من
الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها القيادات العربية، ومنها:
إساءة تقدير قوة العدو، وإهدار الاستفادة بالقدرات الذاتية، ويعود أيضاً إلى
سبب آخر مهم، وهو: أن القيادة المصرية كانت قد قررت القبول بتلقي الضربة
الأولى نزولاً على نصائح (السوفييت) ، حيث قدرت الخسائر المتوقعة في حال تلقي
الضربة الأولى بما يتراوح بين 15 20% من مجموع القوة الجوية العربية،
واعتبرت القيادة السياسية هذه النسبة ضئيلة، وتُعد تضحية مقبولة في مقابل إظهار
(إسرائيل) بمظهر البادئ بالعدوان أمام الرأي العام العالمي! ! !
-أما الحرب البرية الرئيسية بعد ذلك، التي دارت رحاها في سيناء، فيكفي
أن نتصور ساحة قتال مكشوفة أمام طيران معادٍ، يصول ويجول فيها وينتقي
الأهداف التي يشتهيها دون أي عائق من جيش مأمور بالانسحاب لا بالمقاومة!
-وبالرغم من كل عوامل الفشل التي بدأت بها المعركة، إلا أن دفاعاً
مستميتاً من الجنود، حاول في بعض الجهات مقاومة الهزيمة ببسالة نادرة، حتى
إن القادة الإسرائيليين أنفسهم اعترفوا بحدوث موجة من الاضطراب سادت صفوفهم
في المحور الشمالي بسبب المقاومة العنيفة.
-وأجمع عسكريون كثيرون على أن القيادة العسكرية المصرية لو كانت قد
دبرت هجمة مضادة لإجهاض الهجوم الإسرائيلي في ذلك الوقت لكان لذلك تأثير في
تغيير مجرى المعركة غير أنها أصيبت بالشلل المعنوي بسبب الضربة الجوية
المفاجئة فاكتفت بإصدار أوامر الانسحاب، مما تسبب في فقد الجيش المصري لـ
80% من سلاحه، وفقد عشرة آلاف جندي، وألف وخمسمئة ضابط، ووقوع
خمسة عشر ألف جندي، ونحو خمسمئة ضابط أسرى في يد العدو، ولم تتوقف
الحرب على الجبهة المصرية إلا بعد أن طلبت مصر وقف إطلاق النار على جبهتها
معلنة بذلك التسليم بالهزيمة.
-التفت اليهود بعد ذلك إلى الجبهة الأردنية، فاحتلوا الضفة الغربية، فطلبت
الأردن وقف إطلاق النار وسلمت بالهزيمة، ثم اتجه اليهود إلى سوريا واحتلوا
مرتفعات الجولان مع قاعدتها مدينة القنيطرة، ثم أعلن عن وقف إطلاق النار؛
وبذلك انتهت الجولة العسكرية الثالثة، وأعلن الرئيس المصري أنه يتحمل مسؤولية
الهزيمة؛ وأنه لذلك سوف يتخلى عن السلطة، ولكن الجماهير التي خدرتها
الشعارات الثورية، تقبلت الهزيمة والتضحية بالأرض والدم والوطن، ولكنها لن
تقبل التفريط في الزعيم ولو قادها إلى الجحيم! .
الجولة الرابعة: حرب أكتوبر 1973م
درجت أوساط كثيرة على وصف حرب أكتوبر عام 1973م بأنها حرب (التحريك) وليست حرب (التحرير) كما اشتهرت على الألسنة. ومن العجيب أن الرئيس المصري الحالي نفسه قد وصفها علناً بذلك الوصف، فهل في الأمر من سر؟ ! الظاهر أن ذلك الوصف فيه شيء من الصحة، إذ إن الأمور بعد هزيمة عام 1967م، كانت تتجه نحو الحل السلمي، حتى إن ... (عبد الناصر) نفسه قد قبل في آخر حياته بمبادرة أمريكية للسلام بين العرب وإسرائيل، وهي مبادرة (روجرز) ولكن جو الإحباط بعد أن تبينت الشعوب حجم الكارثة، ومشاعر السخط على القيادات العربية التي تسببت فيها، بالإضافة إلى استمرار احتلال اليهود لما احتلوه في تلك الحرب في (مصر وسورية والأردن وفلسطين) ، كل ذلك حال دون إمكانية الإقدام على توقيع معاهدات صلح مع اليهود، تقرهم فيه الزعامات العربية من موقف ضعف على البقاء والعيش في أرض فلسطين، كان لا بد إذن من عمل شيء كبير، يكون نقطة انطلاق نحو إنهاء حالة الحرب مع اليهود إلى الآن..!
ولأن هذه الخطوة المطلوبة أعني إنهاء الصراع مع اليهود كانت كبيرة في
حجمها، خطيرة في أبعادها، ومثيرة في تفاصيلها، فقد كان لا بد من تخفيف وقعها
على الشعوب قدر المستطاع وعلى مراحل؛ ولهذا كان الإعداد لحرب (التحريك)
التي وُضِعَ لها سيناريو مسبق في ردهات وكواليس السياسة الدولية.
وكان هذا السيناريو يقضي باستعادة الجيش المصري والنظام معه لهيبته
باسترجاع جزء من شبه جزيرة سيناء التي أضاعها النظام الثوري نفسه في مرحلة
سابقة، وفي الوقت نفسه يحفظ لقادة اليهود ماء وجوههم أمام شعبهم فيلتفون حول
هذا النصر، ويفرغونه من محتواه من الناحية العسكرية ثم من الناحية السياسية.
وقد تم الأمر على هذا النحو:
في يوم السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973م الموافق للعاشر من
رمضان 1393هـ، اجتازت القوات المصرية قناة السويس، وانتقلت إلى الضفة
الشرقية، واقتحمت خط (بارليف) الحصين، لتأخذ مواقع دفاعية بعد عشرة كيلو
مترات من شاطئ القناة في داخل سيناء، ولم تعط للقوات المسلحة بعد ذلك أي
صلاحية لتتابع تقدمها في سيناء لإكمال تحريرها مع وجود الإمكانية لذلك، حتى إن
رئيس الأركان نفسه في الجيش المصري (سعد الدين الشاذلي) قد اختلف مع القيادة
السياسية واتهمها بالتواطؤ، وعاش سنوات طويلة في منفاه الاختياري خارج البلاد.
وبعد عشرة أيام من بدء الحرب وإحراز تلك الانتصارات فيها لصالح العرب، عبرت عدة دبابات يهودية قناة السويس من منطقة (الدفرسوار) وفتحت ثغرة في
صفوف القوات المصرية، ثم تتابع تقدم الدبابات اليهودية، وانتشرت على طول
القناة من ضفتها الغربية، وحاصرت مدن القناة، وحجزت القوات المصرية في
سيناء، وبهذا انقطعت وسائل الاتصال بين قطاعات الجيش المصري، وبدت
(إسرائيل) أمام مواطنيها ومؤيديها في الداخل والخارج منتصرة، حيث تمكنت من
أسر القوات المصرية كلها في سيناء، والالتفاف عليها؛ بينما كانت الدعاية
المصرية والعربية تصور العبور على أنه من أعظم الانتصارات، وانتهت الحرب
عند ذلك الحد بإعلان وقف إطلاق النار، في وضع لا يسمح للمصريين بادعاء
النصر الشامل، ولا يمنع اليهود من ادعاء الثأر الكامل. وبعد انتهاء الحرب
مباشرة بدأ تدشين العملية السلمية بين مصر وإسرائيل في مراحلها المبكرة، وذلك
بزيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي (اليهودي) (هنري كيسنجر) لمصر، حيث
اتفق مع القيادة على فض الاشتباك بين المصريين والإسرائيليين والاتجاه نحو حل
النزاع في الشرق الأوسط بالطرق السلمية.
وهنا أمر ينبغي تنبيه القارئ إليه، وهو أننا لا نشكك في إمكانية تحقيق
النصر على اليهود، ولا في إخلاص الجنود الذين قاتلوا وقتلوا، بل لا نقلل من
أهمية دور التعبئة المادية والمعنوية للمعركة هذه المرة، ولكننا نعبر فقط عن قناعة
بأن هذا النصر الجزئي كان حجة أقامها الله على العرب والمسلمين في إمكان
نصرهم على عدوهم ولو كانوا أذلة، وأنه كان يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو
نهضة ووحدة عربية وإسلامية شاملة، ولكن أعداء الأمة أصروا أن يجعلوا منه
نقطة انطلاق أيضاً، ولكن إلى نكبة وفرقة عربية وإسلامية شاملة ... وهذا ما كان
في النصف الثاني من عمر الصراع، عبر خمسين عاماً من الضياع....
وللحديث بقية.(115/68)
المسلمون والعالم
دور الرافضة في إندونيسيا
بقلم: فريد أحمد
مدخل:
إندونيسيا دولة مسلمة يبلغ عدد سكانها 147 مليون نسمة، و60% منهم في
جزيرتي (جاوه ومادوره) ويؤلف المسلمون 89% من مجموع السكان وهم من
أهل السنة ولغتهم الرسمية الأندونيسية ويدرس إلى جانبها الإنجليزية لغة ثانية.
عاش مسلمو إندونيسيا تحت الاستعمار الأوروبي لمدة ثلاثة قرون، وبعد مقاومة
طويلة استقلت عام 1364هـ الموافق 1945م، وقام رئيسها الأول (أحمد سوكارنو
(بحرب ضد الإسلام بالاستعانة بالشيوعيين والنصارى، حيث فتح لهم مجالات
العمل على مصراعيها وقد أسس المسلمون حزب (ماشومي) وهو المجلس
الاستشاري لمسلمي (إندونيسيا) برئاسة الدكتور (محمد ناصر) (رحمه الله) الذي
تولى رئاسة الوزراء لعدة مرات، ولكن (سوكارنو) حل الحزب عام 1960م،
واعتقل زعماءه وقادته ونفذ في غيابهم سياسته المعادية للإسلام، وأسس نهج (باتشا
سيلا) وهو خليط من البوذية والنصرانية والإسلام وما زالت الحكومة تسير على
نهجه في حزب الحكومة (جولكار) الذي نال كالمألوف في الانتخابات الأخيرة أكثرية
ساحقة بينما نال (حزب التنمية الموحدة) ذو الاتجاه الإسلامي المرتبة الثانية [1] .
- البيان -
وكاتب هذه السطور ممن عايش انتشار الرافضة في (إندونيسيا) منذ البداية
وذلك بعد ثورتهم البائسة [2] في عام 1979م، وشاهد كيف كان موظفو السفارة
الإيرانية دعاةً ميدانيين للرفض حتى إن السفير (عبد العظيم) آنذاك كان يتجول في
المدن البعيدة، وكانت النواة المستجيبة لهذه الجهود فئة الصوفية هناك. وقد بدأت
الجهود الرافضية بتبادل الزيارات وإهداء الكتب وعرض الأفلام ونشر مجلة
(القدس) ؛ مما أثار ألباب الشباب المتحمسين بلهيب الثورة، ومما زاد الطين بلة
وجود فئة من المساندين لدعوة التقريب من العلماء المعاصرين. والسفارة الإيرانية
تمتلك برامج قريبة المدى وبعيدة المدى وهي تعمل ليل نهار في نشر مذهبها وكان
موظفوها يستدرجون الناس في تعاملهم بالظهور بالأخلاق الطيبة، ولما توطدت
علاقة (حسين الحبشي) بالسفارة الإيرانية (وهو صاحب المعهد الإسلامي في
نانجيل) بدأ يرسل خريجي المعهد إلى (قم) بـ (إيران) عن طريق (ماليزيا)
و (باكستان) وبعد أربع سنوات أو أكثر رجع هؤلاء الشباب وأصبحوا دعاة للرفض:
بعضهم بالمواربة وبعضهم بالمصارحة، ولما كثر أفرادهم عددهم بالمئات قاموا
بتنظيم أنفسهم وتوزيع المهام حسب المدن والحاجة، وذلك بربط المدعوين من عامة
الناس بعلماء الشيعة، وبجهودهم المتواصلة قامت أكثر من أربعين مؤسسة شيعية
تنتشر الآن في أنحاء البلاد.
دور الرافضة في التربية والتعليم:
كانت الضجة نتيجة انتشار توجه الرافضة قد وصلت قمتها في التسعينات
بخروج الفتاوى وإصدار الكتب وإقامة المحاضرات والمناظرات، ولكنها هدأت بعد
ذلك؛ ويبدو أنهم رأوا تغيير تخطيطهم وبدؤوا ينسحبون من الميدان الدعوي بشكل
ظاهر ويعملون عن طريق الحلقات وإقامة المحاضرات العلمية بزعمهم وبالتعليم
المنظم؛ فظهرت جامعة في (بونجيت جاكرتا) باسم (الزهراء) يمولها أحد رجال
الأعمال (اسمه فاضل محمد) وحلقات كثيرة، منها حلقة في (جيبنانج تشمبيداك) كل
ليلة سبت، وظهر معهد (مطهري) في (باندونج) يرأسه (جلال الدين رحمت)
(دكتور في السياسة من أستراليا) وظهر معهد خاص في (بكالونجان) يرأسه (أحمد
بارقبة) (زعيم الرافضة حالياً بلا منازع) ، ولكن الناس ممن يقيمون حول المعهد
قاموا بتخريبه، فأغلق ثم فتح مرة أخرى، وهو يشرف على الدعاة الروافض،
ويقوم كذلك بالجولات التشييعية أيضاً، كما ظهر معهد الحجة في (جمبر) أشرف
عليه (عشماوي) ، وتنتشر أيضاً عشرات المعاهد الأخرى التي تقوم الآن بمهمة
تعليم التشيع أمثال المعهد الإسلامي (بانجيل) . وظهرت مؤسسات تربوية أخرى
شبه رسمية تدرس فيها مواد شيعية؛ كما قاموا بإدخال الأساتذة الشيعيين إلى
الجامعات والمعاهد والمدارس؛ لينشروا عقائد الشيعة بطريقة المقارنة أو ما يسمى
التقريب بين السنة والشيعة؛ ومعلوم أن هذه الأساليب تجري لتمرير عقائد القوم
ومنطلقاتهم المخالفة لأهل السنة [3] .
دور الرافضة في الإعلام:
إن من أنجح السبل التي اتخذها الرافضة في نشر عقائدهم: طباعة الكتب عن
طريق دور نشر متعددة، منها: (الميزان) في باندونج، و (فردوس) و (الهداية)
في جاكرتا، وغيرها كثير جداً، وأخطر الكتب إطلاقاً:
1- المراجعات وهي عبارة عن حوار مختلَق بين عالم الشيعة (عبد الحسين
شرف الدين) وعالم السنة شيخ الأزهر (سليم البشري) [4] .
2- السقيفة أول افتراق الأمة لـ (عمر هاشم) (طبيب في لمبونج) من
الحضارمة العلويين.
3- ثم اهتديت لمؤلفه د. (محمد التونسي) وهو عبارة عن تصورات صوفي
مغفل يظهر تأثره ببدعيات الشيعة فيتحول لمذهبهم والقصة فيما يبدو ملفقة
مصطنعة [5] .
وهناك مجلات تصرح بوضوح أنها تدعو إلى التشيع أمثال مجلة القدس التي
تصدرها السفارة الإيرانية، ومجلة الحكمة التي يصدرها (جلال الدين) وبطانته من
(باندونج) ومجلة الحجة التي يصدرها (عشماوي) من (جمير) ومجلات أخرى لا
تصرح بتشيعها لكنها تدعو إلى ذلك بطريقة غير مباشرة. وهناك مجلاتٌ الأمر
جلي في خطوط سياستها أمثال مجلة (الأمة) من جاكرتا.
دور الرافضة في الحكومة: ولما رأى الرافضة محاولات أهل السنة لمنع
عقائدهم عن طريق الحكومة ببيان رسمي استدركوا الأمر وحاولوا الاتصال برجال
الحكومة الأقوياء وجعلوهم يزورون (إيران) ليروها عن كثب، ثم يقوموا بحملة
دعائية لرئيس الجمهورية، وأقنعو الرئيس حتى وافق على زيارة (إيران) لتوثيق
العلاقة الثنائية بين البلدين، وكان الهدف أول الأمر اقتصادياً، ولكن فيما بعد طلبت
الحكومة الإيرانية من الرئيس (سوهارتو) القيام بالتعاون التربوي، ولكن الرئيس
علق الموضوع حتى يستشير مجلس العلماء، وفي الآونة الأخيرة جاء طلب آخر
وبشكل رسمي لإرسال الطلاب الأندونيسيين إلى إيران بالمنح الدراسية ولا ندري
هل وافقت الحكومة الأندونيسية على ذلك أم لا؟
دورهم في أوساط المثقفين والعلماء: من المعلوم أن المثقفين الأندونيسيين
يحبون الفلسفة؛ فقام بعضهم بتسويق أفكار أساطين الشيعة المتفلسفين لنفث روح
الحماسة في الشباب المتحمسين حيث يقيمون الندوات واللقاءات العلمية بزعمهم
والدورات ومنها دورة لمجموعة من العلماء الشباب الناهضين في (جاكرتا) قبل
شهر تقريباً، فدعاتهم نشطون جداً؛ لأنهم متفرغون للتشييع يناقشون المثقفين
والعلماء وغيرهم.
سبل مواجهتهم في إندونيسيا:
1- متابعة أعمال الرافضة بشكل عام ومستمر، ومتابعة الكتب المطبوعة
والمجلات بشكل خاص ودراستها، وبعد ذلك تنشر الخلاصة من خلال نشرة شهرية
بعنوان: معلومات عن الشيعة في (إندونيسيا) ، ثم توزع على الجهات المختصة
بالمهمة أو الجهات التي تتأثر بالشيعة.
2- نشر الدراسات الموجزة بالكتيبات عن أضرار عقائد الشيعة وطباعة
الكتب التي ترد عليهم.
3- إقامة الندوات والمحاضرات عن الشيعة التي تكشف حقيقة مذهبهم.
4- إقامة الدورات الطويلة لإعداد الكوادر التي تهتم بنقد الشيعة.
5- توفير الكتب والمراجع الشيعية حتى نتمكن من الرجوع إلى أصولها.
6- نشر الأشرطة المسجلة عن الشيعة.
7- استضافة العلماء والمفكرين العرب المهتمين بموضوع الشيعة لإلقاء
المحاضرات في الدورات الخاصة أو في المدن الكبيرة التي فيها أثر للشيعة.
أما البرامج قريبة المدى فهي:
1- متابعة الكتب والمطبوعات الأخرى التي أصدرها الرافضة؛ ويبدأ بحصر
المطبوعات المتداولة في الأسواق، ثم تطبع الخلاصة من هذه الدراسة.
2- نسخ الأشرطة وتوزيعها مثل: (حقيقة القوم) للأستاذين محمد با عبد الله
ونبهان حسين.
3- عقد خمس حلقات علمية لمجموعة الدعاة في كل منطقة لتوجيههم وزيادة
وعيهم والإجابة عمّا لديهم من شُبه.
ومما يسعد كل مسلم قيام معهد الدراسات والبحوث الإسلامية بإندونيسيا وهو
مؤسسة خيرية تقوم بمهمة متابعة ومواجهة الفرق المنحرفة وخاصة تيار الرافضة
ولهم جهود طيبة في مكافحة التيارات الفكرية المنحرفة.
والله نسأل أن يكفي مسلمي إندونيسيا مخططات الرافضة الفاسدة، وأن يعيننا
على فضح الحلف المشبوه بين الرافضة والصوفية.
الرافضة يواصلون جهودهم في (شرق إفريقيا)
من ضمن المخططات التي رسمها الرافضة لهذه المنطقة إنشاء جامعة في
(كينيا) لتغطي شرق إفريقيا من أجل ترسيخ اتجاهاتهم العقدية، وقد صرح بهذا
السفير الإيراني (محمد طبطباني) ، وقال: إن هذه الخطة تم الاتفاق عليها منذ
1990م بمناسبة التبادل الثقافي، ونشرت صحيفة (استندر) الكينية هذا الخبر في
يوم 14/5/1997م رقم 25811 ص4، وبناء على مصادر أخرى تدل على أن
الحكومة الإيرانية تسعى لتشييع منطقة شرق إفريقيا خلال 20 سنة، وقد مهدت
لهذه الخطة بتقديم المنح الدراسية الكثيرة لأبناء المسلمين ليذهبوا إلى (إيران) ، ...
و (لبنان) إضافة إلى فتح مراكز ثقافية في المدن الكبرى مثل (نيروبي) ، و (ممباسا)
وغيرها إضافة إلى المدارس العصرية في الدول الثلاث، وهم يمارسون أنشطتهم
متسترين بشعارات الوحدة، ومحاربة (أمريكا) .
وقد تعاطف مع الرافضة معظم الفنانين والعقلانيين والخرافيين، وشكلوا ما
يسمى بـ (المجلس الأعلى للعلماء) ، ويعقدون مؤتمرات على مستوى شرق إفريقيا، ويضعون استراتيجيات لمحاربة السلفية! التي يسمونها الأصولية ويطلقون على
السلفيين عملاء اليهود على حد زعمهم. (عاملهم الله بما يستحقون) .
وإن تلك الجهود والممارسات لتستحق الوقفات الواعية، التي تتبعها خطوات
جادة من كل مسلم غيور في نطاق ما يستطيع للوقوف أمامها والتعاون مع كل ذي
شأن على التصدي لها: [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ]
[الأنفال: 30] .
__________
(1) بتصرف من (قضايا هامة في حاضر العالم الإسلامي) للأستاذ / القضماني (البيان) .
(2) كما وصفها د موسى الموسوي في كتابه عن ثورة الخميني بعنوان: (الثورة البائسة) .
(3) انظر (مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة) د عبد الله القفاري، مجلدان.
(4) انظر (البينات في المراد على أباطيل المراجعات) للأستاذ محمود الزعبي وهو رد على مراجعات المدعو (عبد الحسين) ! الموسوي.
(5) انظر مناقشة الأستاذ سعيد الجنيد في كتابه (الشيعة والسنة) ، حيث فضح المذكورَ وبين ضحالة علمه ومن خلال كتاباته التي يعتقد أنه مجرد واجهة فيها ليس إلا لأنها تتبنى شبه الرافضة وتدافع عنها.(115/80)
المسلمون والعالم
اليمن بعد الانتخابات الأخيرة
رؤية متابع
بقلم: أيمن بن سعيد
بعد هزيمة الحزب الاشتراكي اليمني في حرب عام 1994م، وخروج
الحكومة اليمنية فيها منتصرة، كان من المفترض أن تتم مكافأة التجمع اليمني
للإصلاح على موقفه الكبير المؤثِّر في تلك الحرب وتجييشه الشارع اليمني لصالح
الوحدة وإعطائه للحرب مع الاشتراكي بعداً عقدياً، لكن قيادات المؤتمر الشعبي
العام فيما بعد أعطت لكوادر الحزب السياسية والعسكرية والاجتماعية الضوء
الأخضر لتحجيم حزب الإصلاح والحد من تحقيقه لأي مكاسب جديدة يتجاوز بها
الخطوط الحمراء المرسومة سلفاً؛ وانطلاقاً من ذلك فقد تم إضعاف الوزارات
الخدمية التي أُوكِلت إلى الإصلاح بتحديد موازناتها المادية، بحيث لا تسمح لمن
يكون على رأسها بتقديم خدمات جيدة للناس؛ خوفاً من زيادة شعبيته ونفوذه، كما
تم إضعاف تأثير وزراء الإصلاح داخل وزاراتهم، حتى صار بعضهم ليس له كلمة
على صغار الموظفين في وزارته فضلاً عن كبارهم؟
كما أُجْبِرَ حزب الإصلاح في كثير من الأحيان على تنفيذ برامج حكومية
تتعارض مع أهدافه ومبادئه.
وتم عملياً رفض أطاريح الإصلاح لتحسين الوضع الإداري السيئ داخل
أجهزة الدولة، ومكافحة السلبيات التي تعاني منها تلك الأجهزة، وبالتالي صار
عامة الشعب اليمني لا يحسون بنتاجٍ حسن من مشاركة الإصلاح في السلطة، هذا
إن لم يزدد الأمر بالنسبة لهم سوءاً نتيجة ما سمي بالإصلاحات الاقتصادية
بمرحلتيها الأولى والثانية التي طلبها صندوق النقد الدولي من اليمن وتحملت آثارها
السلبية عامة الشعب؛ نتيجة زيادة أسعار المواد الأساس مع التدهور المريع للقيمة
الشرائية للريال اليمني وقتاً بعد آخر.
الإعداد للانتخابات:
وحين قربت الانتخابات اليمنية الأخيرة التي خطط لها المؤتمر الشعبي العام
لصالحه تخطيطاً جيداً؛ نتيجة كونه الحزب الذي بيده كل الإمكانات المالية (أنفق
حزب المؤتمر في الانتخابات الأخيرة عدة بلايين ريال) وغيرها مثل: الإعلام
والجيش والأمن العام والأمن السياسي والحكام المحليين في المحافظات وجل شيوخ
القبائل واللجنة العليا للانتخابات وجل اللجان الفرعية لها.. حين ذاك تم حساب
الأصوات جيداً في كل دائرة وأجريت تنقلات لمعسكرات الجيش، حسب ما تتطلبه
ظروف كل دائرة انتخابية.
ولقد كان المؤتمر الشعبي العام يهدف من ذلك: تحقيق أغلبية مريحة داخل
مجلس النواب، هذا بالنسبة له، أما بالنسبة إلى حزب الإصلاح فقد كان المؤتمر
الشعبي العام يهدف إلى تحقيق أمرين:
الأول: عدم تجاوز حزب الإصلاح سقفاً محدداً من الأصوات داخل مجلس
النواب أي عدد مقاعده في مجلس النواب الماضي لكي يظهر بمظهر الضعيف في
الداخل والخارج، وليتم الإثبات للدوائر المهتمة إقليمياً ودولياً بالصحوة الإسلامية
في اليمن أن الصحوة لا تعدو أن تكون أداة طيّعة تبرز متى احتيج إليها في مواجهة
الأعداء، ويهوِّن من شأنها وتقزّم متى تطلب الأمر ذلك، وليكون ذلك أيضاً ذريعة
أمام الشعب اليمني لممارسات التضييق على الصحوة ومكتسباتها بعد الانتخابات.
الثاني: أن يتم منع بعض رموز التجمع اليمني للإصلاح التي يتهمونها
بالتشدد العقائدي من الوصول إلى مجلس النواب، وذلك بهدف تحسين صورة اليمن
في الخارج كما صرح بذلك مسؤول يمني كبير لصحيفة الحياة ونشرته في عددها
(12480) .
ولقد استطاع المؤتمر الشعبي العام بإمكانات الدولة التي بيده أن يسيِّر الأحداث
بعد ذلك ويكيفها لصالحه إلى أن حانت الانتخابات وجاءت مرحلة الاقتراع فالفرز
فإعلان النتائج، المعروفة: (226) نائباً للمؤتمر الشعبي العام، (63) نائباً
للإصلاح مع المستقلين المؤيدين له، (3) نواب للوحدوي الناصري، نائبين للبعث
العربي الاشتراكي.
وللحقيقة فإنه مما ساعد المؤتمر في الوصول إلى هذه النتائج توظيفه بشكل
مباشر أو غير مباشر لبعض الرموز الإسلامية وطلابها ممن لهم موقف متشنج من
حزب الإصلاح ويسعون إلى تشويه سمعته ورموزه، بل وصل الأمر ببعض أولئك
الطلاب إلى مهاجمة دعاة الإصلاح في مقابل الدفاع بشكل مباشر عن حزب المؤتمر
ومرشحيه، ويتجاوز الأمر ذلك في أحيان أخرى إلى أن يتحول بعض أولئك إلى
دعاة انتخابيين لمرشح المؤتمر؛ بل تجاوز ذلك إلى حد أن بعضهم رشح نفسه في
بعض الدوائر ليحول دون فوز مرشح الإصلاح.
وفي ظني: أن حزب الإصلاح أيضاً قد ساعد المؤتمر الشعبي على الوصول
إلى هذه النتيجة سواء من خلال بعض قيادييه المحسوبين على السلطة وهم من
العناصر التي تشارك بقوة في صناعة قرار حزب الإصلاح.
أو من خلال التزكية للمؤتمر في أوساط الشعب اليمني وادعاء ألا فروق
جوهرية بين الحزبين، بينما في المقابل يَصِمُ المؤتمر حزب الإصلاح بالتشدد
ويدعي أحد أمنائه المساعدين أن استلام الإصلاح للسلطة يعني عودة البلاد إلى
عصور الظلام!
أو من خلال سوء الاختيار لبعض ممثلي الإصلاح في دوائر كثيرة نتيجة
اختياره أشخاصاً لا يحسنون معاملة الناس، أو أفراداً لا يمتون إلى الالتزام بصلة.
أو من خلال السكوت عن نقد القيادات الفاسدة داخل أجهزة الدولة وعدم بيان
عوارها للشارع اليمني ليحذر منها، ويتقي شرها.
أو عدم الوضوح أحياناً في الانطلاق من رؤية إسلامية جلية في التعامل مع
الأحداث، وعدم مخاطبة الشارع بخطاب إسلامي بدلاً من الخطاب الوطني.
ومع إدراكنا للعوائق المانعة داخلياً وخارجياً على الأقل من وجهة نظر
الإصلاح من القيام بتبني هاتين القضيتين الأخيرتين بجلاء، والوقوع في معضلة
الحرص على حماية الصحوة ومكتسباتها وما يتطلب ذلك من مداراة الظالمين أو
مقارعتهم وما يحمل ذلك في طياته من مشكلات لا تخفى في بلدان العالم الثالث، إلا
أن ما أشرنا إليه آنفاً له دوره فيما آلت إليه النتائج. والله المستعان.
ماذا بعد الانتخابات؟
أعلنت الدوائر المعنية بالأمر في كثير من العواصم الغربية رضاها عن
النتائج التي تحققت، وطالبت بمزيد من الانفتاح الذي يعني التحرر من قيم الشعب
اليمني ومعتقداته، والسير الحثيث في تبني القيم الغربية وتقاليد الحياة هناك [وَلَن
تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] [البقرة: 120] .
ولذا: فإن أبرز القضايا التي من المتوقع أن تبادر الحكومة اليمنية الجديدة إلى
تنفيذها فيما أراه والله أعلم ما يلي:
- احتمال العمل على زعزعة بعض مكتسبات الصحوة الإسلامية وأبرزها
المعاهد العلمية التي يتهمها بعض من حاد عن الصواب بأنها معاهد تخرج متطرفين
يكفِّرون المجتمع؛ وهذا ادعاء باطل وشنشنة نعرفها من أخزم.
- تضييق حرية التعبير والكلمة وبخاصة من قبل ذوي المواقف المعهودة من
الصحوة والمخالفين لها عقدياً نسأل الله أن يهديهم وأن يكفينا شر ما يخططون له.
- استهداف المرأة اليمنية المحافظة، ومحاولة إخراجها من وقارها وحشمتها،
وقد كان ذلك واضحاً في البرنامج الانتخابي (للمؤتمر) ، والتصريحات الصحفية
لكبار قياداته، كما كان ذلك واضحاً أيضاً من خلال اتهام حزب الإصلاح باضطهاد
المرأة ومنعها من حقوقها، وأجلى من كل ذلك: دعوة المتحدث باسم خارجية أعتى
دولة غربية القيادة اليمنية إلى المزيد من تحرير المرأة اليمنية وإعطائها المزيد من
حقوقها!
- تشويه صورة الإسلاميين واتهامهم بالإرهاب، وبالتالي إزاحة كثير منهم
عن مواقعهم الرسمية والاجتماعية، أو شراء ذمم من يستطاع شراء ذمته منهم.
نسأل الله السلامة.
- الدعم القوي لبعض الطوائف البدعية المعادية للصحوة الإسلامية ومكتسباتها، ... ومد يد العون لبعض فصائل الصحوة الإسلامية التي بينها وبين تجمع الإصلاح
اختلافات في بعض وسائل المعالجة والتغيير نكاية بالإصلاح من جهة، وتحسيناً
لصورة المؤتمر الإسلامية من جهة ثانية، وتعميقاً للخلاف بين فصائل الصحوة
الإسلامية من جهة ثالثة.
المطلوب من الإسلاميين في هذه المرحلة:
في ظني أن المطلوب من الإسلاميين في اليمن في هذه المرحلة الكثير والكثير
وفقاً لما يلي:
1- حسن الظن بالله (عز وجل) والثقة به والاعتماد عليه وحده؛ لأن ما شاء
كان وما لم يشأ لم يكن، وما أصاب العباد لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن
ليصيبهم، والله (عز وجل) عند ظن عباده به فليظنوا به ما شاؤوا.
2- التوبة والإقلاع عن الذنوب، فما نزل بلاء إلا بذنب ولارفع إلا بتوبة،
قال الله (عز وجل) [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]
[الشورى: 30] ، وعلى قيادة الصحوة وعلمائها داخل الإصلاح وخارجه العمل
على التخلص من تسويغ كافة الإخفاقات بنظرية المؤامرة مع وجودها ومحاسبة
الذات أولاً، والسعي الجاد لاكتشاف الأخطاء وجوانب النقص والقصور، والعمل
على معالجتها وتلافيها.
3- المزيد من العمق في الانضباط الشرعي في اتخاذ المواقف، وعدم الحيدة
عن الحق إرضاء للخلق؛ فمن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى
عنه الناس، ومن أسخط الله برضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس؛
وفي اعتقادي أن هذه قضية جوهرية لا بد من استيعابها، والعمل على تصحيح
الأخطاء الكثيرة الواقعة حيالها قبل أن يُنْدَم حين لات مندم.
4- تحويل القناعات النظرية والعلمية في وحدة الكلمة واجتماع الصف لدى
فصائل الصحوة الإسلامية إلى مواقف عملية لا تقل عن تنسيق الجهود واتحاد
المواقف في القضايا الرئيسة، والتجرد عن الهوى وحظوظ النفس والعقلية الضيقة
التي تنطلق من مبدأ: أنّ من لم يكن معها فهو ضدها؛ لأن الجميع مستهدف، ولا
يظنن ظان من أبناء الصحوة أن أخاه هو المستهدف وحده؛ فإن ظن ذلك فقد أُكِل
حقيقة يوم أكل الثور الأبيض.
5- إدراك طبيعة التغيير الذي حصل في المؤتمر الشعبي العام وتحوله من
مظلة يجلس تحتها كافة الفئات الشعبية والتوجهات الفكرية إلى حزب أخذ ينحو
منحًى فكرياً ويقيم تنظيماً هرمياً بعد أخذه للأغلبية المريحة ولنا أمل في قيادة
المؤتمر ألا يتراءى لها عدم الحاجة في الزمن القريب إلى الحركة الإسلامية التي
كانت الوسيلة لمواجهة أعدائها الذين كانوا يحتكمون إلى السلاح كلما لاح الخلاف
قبل الوحدة وبعدها.
كما إن لنا أملاً ألا تنجر قيادة المؤتمر إلى التضييق على الحركة الإسلامية
تحت تأثير ذوي العداء العقدي أو الشخصي لرموز الصحوة ومكتسباتها، وأن تأخذ
في اعتبارها أن الحركة الإسلامية رقم يصعب تخطيه. والدخول في محاولة الكبت
له قد يقود البلاد إلى حالة من عدم الاستقرار الداخلي نسأل الله أن يكفي البلاد شره
وهو ما يتنافى مع متطلبات شعار الإصلاح والتنمية الذي ترفعه الحكومة ومع
الاستهداف الخارجي الذي تعاني منه اليمن و (حنيش) خير شاهد.
6- الاهتمام بالتربية ونشر العلم الشرعي؛ فإن ذلك هو الدرع الواقي من
الانزلاق في دركات كثير من المعاصي، وهو السبيل لعبادة الله على بصيرة،
والثبات على الحق في مواجهة فتن شياطين الجن والإنس على سواء.
والمتأمل في واقع الحركة الإسلامية المنضوية تحت راية تجمع الإصلاح
يلاحظ تهميشاً لهذا الجانب وبخاصة في السنوات الأخيرة، والاكتفاء بمجرد
الانضواء تحت راية الحزب والحصول على بطاقته، ولعل هذا هو السر في تأييد
كثير من أبناء الشعب اليمني المسلم بقوة لمن لا يُظن في دينه خيرٌ من ناحية فكرية
أو سلوكية؛ مما يتطلب من الدعاة الاعتناء بالدعوة والتربية الإيمانية والعمق الكبير
في ذلك.
7- التنويع والتجديد في الوسائل الدعوية المناسبة لكافة أبناء الشعب اليمني
مع ضرورة عدم التفلت من الضوابط الشرعية والاعتناء بكافة فئاته وعلى وجه
الخصوص المرأة التي يريد لها الأعداء أن تكون سلعة رخيصة يُسْتَمتَع بها في
سوق النخاسة متسترين تحت شعارات الحرية والمساواة بينها وبين الرجل في
الحقوق والواجبات.
ومن المتأكد على الدعاة وأهل العلم إدراك جوانب القصور الكبيرة في دعوتهم
للمرأة وتعليمهم لها، ومبادرتهم إلى رفع صور الظلم المختلفة التي قد تعاني منها
بعض النسوة في المجتمع، وعدم الاكتفاء بالمظاهر الاجتماعية المحافظة وسط
النساء اليمنيات في أكثر مناطق اليمن ما لم تكن تلك المحافظة نابعة من بُعد عقدي
لا من مجرد تقليد اجتماعي كما هو واقع الكثيرات لأن أعراف المجتمعات وتقاليدها
تتبدل من وقت لآخر، ولعل في تجربة بعض المجتمعات الإسلامية وما كان من
الانتكاسات التي أصيبت بها المرأة في محافظتها على دينها مع أن تلك المجتمعات
كانت قبل ردح من الزمن أكثر محافظة من المرأة اليمنية في الوقت الراهن لعلّ في
ذلك خير دليل على ما قدمنا.
إيجابيات في الانتخابات:
ولعل من حسنات هذه الانتخابات أنها عادت ببعض رموز الإصلاح العلمية
المعروفة بنشاطها الدعوي والتربوي إلى أوساط الناس ليقوموا بواجبهم حيال ذلك.
ولعل من حسناتها أيضاً: أنها قد تكون أعادت الاهتمام بهذا الجانب لدى كثير
من الإصلاحيين إلى الموقع الذي يجب أن يكونوا عليه بعد أن كانوا يراهنون على
التغيير نحو الأصلح عن طريق المجلس النيابي الذي لا يعدو أن يكون سوى أداة
طيعة بيد من بيده سلطة الحل والعقد، فإذا جاوز المجلس قدره فطريقه الحل أو ...
وتجربة الجزائر خير شاهد. وغيرها كثير مما يعرفه المتابعون.
وختاماً: فالمرحلة القادمة والله أعلم شائكة، والأمر يحتاج إلى اعتماد على
الله ولجوء إليه ثم بُعد نظر وروية. والتفكيرُ بهدوء وواقعية لا يعني التنازل عن
مكتسبات الصحوة تحت تأثير الجبن والخوف من الأعداء، ولا يعني التهور
والوقوع في إشكالات ومواقف غير مسؤولة نتيجة عدم تقدير قوة الصحوة تقديراً
صحيحاً ووضعها في موضعها المناسب؛ لأن جر شباب الصحوة إلى المواجهة
هدف لجهات كثيرة في الخارج والداخل، وتكرار تجارب بعض الدول في القضاء
على المكتسبات الإسلامية في المجتمع، والتضييق على شباب الصحوة، وفتنتهم،
هَمّ للدوائر المعنية بمحاربة الصحوة في بلداننا الإسلامية.
ولذا فإن الفردية في اتخاذ المواقف من قِبَلِ شباب الصحوة أو إحدى الفصائل
الإسلامية مرفوضة.
والالتفاف حول العلماء والدعاة الربانيين واجب متحتم.
نسأل الله أن يصلح الأحوال بمنه وكرمه، وأن يحمي اليمن وأهله وعلماءه ودعاته، ويكفيهم شر الأشرار وكيد الفجار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(115/86)
هموم ثقافية
إشكالية البلورة الثقافية للديمقراطية
بقلم: سامي محمد الدلال
مدخل:
تعرض الكاتب في حلقات سابقة إلى عرض رؤية إسلامية لإشكاليات مفهوم
الديمقراطية، ثم إلى تحليل إشكالية زاوية النظر للديمقراطية.. فتطرق إلى
المقصود بالديمقراطية ومبادئها وتطبيقاتها في المجالات الفردية والجماعية، ثم
عرض كيف تختلف النظرة إليها بحسب الناظرين سواء أكانوا حكاماً أم أحزاباً..
وتناول أيضاً اختلاف مفهومها بحسب اختلاف المكان والزمان..
ويواصل الكاتب في هذا المقال عرض أبعاد أخرى لهذا الموضوع المهم.
-البيان -
هل تنجح الديمقراطية في بلورة ثقافية ذات أبعاد محددة للمجتمع المحكوم بها؟ وما هي الآليات العملية التي تصيغ تلك البلورة؟ وإلى أي مدى كمّي وكيفي
تتغلغل تلك البلورة في المقوِّمات التي تشكل النسيج الثقافي لذلك المجتمع؟ وما أثر
كل ذلك على الموروث الحضاري الإسلامي وعلى بعثرة المعالم المؤصلة من الكتاب
والسنة في أذهان الإسلاميين النيابيين؟
هذه الأسئلة، وغيرها، تبرز إطار إشكالية البلورة الثقافية للديمقراطية.
وللإجابة على تلك الأسئلة لا بد أن نسبر أغوار التأثيرات الثقافية الناتجة عن
الحكم الديمقراطي، مع ملاحظة أننا نخص بالحديث البلاد الإسلامية، إلا ما أشير
إليه بخلاف ذلك. وابتداء نتساءل عن طبيعة الإفرازات الثقافية المنبثقة من
المجالس النيابية وعن أهدافها.
فأما عن طبيعة إفرازاتها فهي:
أ- إفراز ثقافي علماني:
وهذا أمر بدهي طالما أن ثقافة الأغلبية البرلمانية علمانية، أي منعتقة عن
الالتزام الديني، وقد يكون أصحاب هذه الثقافة العلمانية من المنتسبين للدين
الإسلامي أو من النصارى أو من اليهود أو من المرتدين أو من الكفار الأصليين.
إن هؤلاء وإن تنوعت مشاربهم الثقافية واختلفت تبعاً لذلك توجهاتهم المعرفية، فإن
إطاراً واحداً يضمّهم جميعاً، أو قل إن شئت: هناك صبغة واحدة تصبغهم جميعاً؛
ذلك الإطار وتلك الصبغة هي العلمانية، وبما أن كل إناء بما فيه ينضح، فإن
الإفراز الثقافي لهذه (التركيبة) سيكون علمانياً، قولاً واحداً! ! .
ذو توجه غربي:
إن الثقافة العلمانية، وإن تنوعت مغذياتها، إلا أن الثقافة العلمانية الغربية
تحتفظ بمراكز الثقل، وبشكل أكثر تحديداً أقول: إن النواب الديمقراطيين، وإن
كانت ثقافاتهم العلمانية المنتسبة لأدبيات انتماءاتهم الدينية أو المذهبية لها رصيد ما
في صياغة أفكارهم التصورية أو إنتاجاتهم الكتابية، إلا أنها لا تشغل إلا حيزاً
صغيراً من مجمل الثقافة العلمانية لديهم، في حين تحتل الثقافة العلمانية الغربية
الحيز الأوْفى، حيث إنها النتاج الطبيعي للمناهج التعليمية التي بلورت أفكار
وتوجهات أولئك النواب، كما أنها أيضاً نتاج الكم الهائل من دور الترجمة والنشر
المرئي والمسموع والمقروء التي تتبنى الضخ اليومي لمفردات وتراكيب الثقافة
الغربية العلمانية باللغة العربية واللغات الأجنبية من خلال مؤسسات كبرى
استطاعت باستخدام أحدث الوسائل التقنية الوصول إلى جميع الطبقات الشعبية على
مختلف أعمارهم ومهنهم وأجناسهم، وإن النواب المشار إليهم يمثلون طلائع ركب
تلك الثقافة العلمانية الغربية.
وأما أهدافها فهي:
1- خدمة النظام الحاكم:
لا أتكلم هنا عن المعارضة النيابية، فهي جزء لا يتجزأ من اللعبة الديمقراطية، ولذلك فهي دوماً أقلية، دورها لا يتجاوز المسحة التجميلية التي مهمتها تزيين
المهرجان النيابي، لتؤكد للجميع أن الذي أمامهم هو بالفعل كيان ديمقراطي! ! .
أما الأغلبية النيابية فهم لحمة النظام الحاكم وسداه، ويستمدون منه مكوثهم في
المجلس، بل المجلس النيابي كله يستمد وجوده أو عدمه، من رضا النظام الحاكم
أو سخطه! ! .
وبما أن الأنظمة الحاكمة، كلها أو معظمها، أنظمة علمانية، فإن الإفراز
الثقافي للمجلس النيابي ينبغي أن يكون منصبّاً في دعم ديمومة ذلك النظام وتأصيل
علمانيته! ! .
وهنا يأتي دور المجلس النيابي في سن القوانين التي تؤكد استمرارية ذلك
الاتجاه وتوطّد أطره، وذلك من خلال إتاحة الفرصة المغطاة قانونياً للجمعيات
الثقافية، والأقلام الصحفية والمؤلفات الأدبية والمؤسسات الإعلامية لممارسة جميع
التعابير العلمانية التي تسبِّح بحمد النظام العلماني الحاكم وتدعم مشروعيته.
2- صياغة مجتمع علماني غربي المنهج:
لا يستطيع النواب العلمانيون الاحتفاظ بكراسيهم النيابية إلا إذا نجحوا في
إضفاء الصبغة الثقافية العلمانية الغربية على المجتمع الإسلامي.
إن واحداً من التحديات المهمة التي يواجهها النواب العلمانيون هو قدرتهم على
مواصلة التقدم في ذلك الاتجاه، وهم يعتبرون أنفسهم في سباق مع الزمن، خشية
أن يسبقهم الإسلاميون إلى المواقع المفصلية التي تشكل قواعد الانطلاق في التغيير
الثقافي.
إن تطعيم المجالس النيابية بعدد ضئيل من الإسلاميين يساعد كثيراً في تحقيق
تلك البغية، حيث يتخذ العلمانيون من وجود أولئك النواب في المجلس دريئة
يمررون عبرها مشاريعهم الثقافية العلمانية، وعندما يحتدم النقاش يقول النواب
العلمانيون: لماذا تعارضون أيها الإسلاميون توجهات الشعب الثقافية؟ ! لو كان
الشعب يؤيد توجهاتكم لكنتم أنتم الأكثرية النيابية، أما وإن الشعب قد قال كلمته
وانتخبنا نوابه، فعلينا أن نعبر عن إرادته الثقافية العلمانية! وليس الواقع كما قالوا، إنما هي حجة يتذرعون بها لتمرير القوانين التي يُبث من خلال تطبيقها الفكر
الثقافي العلماني على أوسع نطاق.
إن النواب العلمانيين يحرصون كل الحرص على استغلال سني وجودهم في
المجلس للوصول إلى تلك النتيجة، حيث إن نجاحهم في ذلك يضمن لهم أو
لأعوانهم من العلمانيين استمرار السيطرة على المجلس النيابي، مصدر سن
القوانين ومنبر الرقابة على التنفيذ.
إن الوصول إلى تحقيق تلك الأهداف التي يراد تعميم نتائجها من خلال طبيعة
الإفرازات الثقافية المنبثقة عن المجالس النيابية يتطلب حل إشكاليات الصدام بين
المنبثق عن المجالس النيابية والمنبثق عن مختلف المنابع الثقافية للأديان والطوائف
والأعراق والفئات السياسية المتنوعة، وذلك في المجالات الثقافية التالية:
- الثقافة الدينية (وهي ثقافة علمانية فيما يخص المجالس النيابية) .
- الثقافة السياسية.
- الثقافة الفكرية.
- الثقافة الاقتصادية.
- الثقافة العامة.
- الثقافة الاجتماعية والترفيهية.
- الثقافة التخصصية (كالإعلام والمحاماة والهندسة والطب والتدريس
وغيرها) .
إن الناتج المتوقع من المجالس النيابية هو سعيها الحثيث لصياغة جميع أنواع
الثقافة المذكورة صياغة علمانية، ولأجل ذلك: فإنها توفر كافة الإمكانات القانونية
والتمويلية للوصول إلى تلك البغية، مع ما يتطلبه ذلك من افتتاح مؤسسات ونوادٍ
وشركات ومنتديات وملتقيات ودور نشر ومطابع، وإعداد دورات تدريبية لتخريج
(كوادر) وظيفية متخصصة توكل إليها مهمات تحقيق تلك الأهداف في البلورة
الثقافية الديمقراطية العلمانية.
فما هو التجهيز والإعداد لدى الإسلاميين لمقابلة هذه البلورة الثقافية
الديمقراطية؟ ! ! .
إن الحكم بالديمقراطية يوفر إمكانات النجاح للخط الثقافي العلماني من خلال
قنوات كثيرة، منها:
- مناهج التربية.
- مناهج الإعلام.
- مناهج الترفيه.
- امتلاك وسائل النشر.
- التغطية المالية المقتدرة.
- الدعم البشري التخصصي على المستويين المحلي والدولي.
علماً أن مشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية لا تستطيع توفير السيطرة
على أي قناة من القنوات المذكورة؛ لأنهم أقلية في المعتاد، وإذا حصلوا على
الأغلبية تحركت جحافل الملأ فصادرت الديمقراطية (كالجزائر مثلاً) .
وعلى العموم، فإن الامتداد الثقافي الإسلامي عمقاً ومساحة يحمل في طياته
حالياً كثيراً من عوامل الوهن، منها:
- عدم امتلاكه قرار وضع المناهج التربوية في المحافل التعليمية (المدارس
والجامعات والدراسات العليا) ، ولذلك فهو يمارس توجيهاً تربوياً محدوداً لا يتجاوز
غالباً مجموع الأفراد المنتسبين إليه، وحتى هذا التوجيه فيه خلل ودخن.
- افتقاره للإمكانات والمنابر الإعلامية مما يؤدي إلى محدودية صدعه الثقافي.
- عدم جديته في استغلال المساحات المتاحة لتوفير مناهج ترفيهية ذات
مضمون وتوجيه إسلامي ثقافي.
- تعثره في استغلال وسائل النشر الثقافي؛ وذلك لأسباب ذاتية وأخرى
خارجية من أهمها مقص الرقيب الإعلامي الحكومي.
- ضعف الموارد المالية المخصصة للبث الثقافي الإسلامي.
- قلة أعداد الفريق البشري التخصصي في المجالات الثقافية المختلفة،
إضافة إلى تواضع الخبرات وضعف استغلال التقنيات الثقافية المتطورة.
وبناء على ما تقدم، فإن محصلة الصراع هي في صالح بلورة ثقافية علمانية
في ظل الأنظمة الديمقراطية الحالية؛ ذلك أننا إذا اعتبرنا أن طرفي الصراع هما
الإسلاميون والعلمانيون فإن الإمكانات المتاحة للعلمانيين هي أعظم وأكبر بكثير من
نظيراتها المتاحة للإسلاميين، فلا يوجد أدنى تكافؤ في المسألة حيث إن النظام
العلماني الحاكم يضع جميع إمكاناته الهائلة في خدمة الخط العلماني، بما يعطي
العلمانيين قوة برلمانية حتى وإن لم يشكلوا الأغلبية، فكيف لو كانوا هم الأغلبية؟
إن مشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية يضفي مزيداً من المشروعية الرسمية
والشعبية على المشروع الثقافي العلماني؛ ذلك لأنهم طرف محسوب على بلورة
صياغاته النهائية، علماً أنهم لم يشاركوا في تلك الصياغات العلمانية الثقافية (هذا
إذا أحسنا الظن في الموضوع، وإلا فإن الواقع المشاهد لكثير من الإسلاميين
النيابيين يؤكد وُلُوجَهم في ألوان إيجابية مدعمة للمشروع الثقافي العلماني! !) .
إن الساحة الثقافية في البلاد الإسلامية الديمقراطية وإن شهدت وتشهد صراعاً
غير متكافئ بين الثقافتين الإسلامية والعلمانية، إلا أنها تشهد صراعاً حقيقياً متكافئاً
بين المشاريع الثقافية العلمانية بعضها إزاء بعض مما تساعد حرارته على إضفاء
جوّ من الدفء على البرود الثقافي السائد، ذلك الدفء الذي تتسرب نفحاته العلمانية
إلى أذهان وعقول المثقفين أو رائدي الثقافة بما ينتج عنه بلورة ثقافية ديمقراطية
على المستوى المجتمعي بكافة شرائحه ومختلف فئاته وتنوع طبقاته.
إن ذلك سيؤدي إلى مزيد من ترسيخ وتجذير المفاهيم الديمقراطية على كافة
المستويات الثقافية السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والتخصصية، خلافاً
لما قرره المفكر الغربي المشهور (نعوم شومسكي) في كتابه (إعاقة الديمقراطية)
بقوله: (إن مفهوم الديمقراطية في الثقافة السياسية السائدة، إنما هو مفهوم يتلاشى
حتى بصفته مثلاً أعلى مجرداً) [1] .
إن الذي ذكره (شومسكي) ربما استقاه من الواقع الغربي رغم أننا لا نسلِّم له
بمقولته تلك بالنسبة للغرب ولكن بالنسبة للمثقفين في البلاد الإسلامية من العلمانيين
وكثير من الإسلاميين تعتبر الديمقراطية في الثقافة السياسية مثلاً أعلى! ! وكل ذلك
على حساب الإسلام وثقافته المؤصلة بالكتاب والسنة.
__________
(1) كتاب (إعاقة الديمقراطية) ، نعوم شومسكي، ص 345، من منشورات مركز دراسات
الوحدة العربية.(115/96)
في دائرة الضوء
الحقيقة التي يتجاهلها العلمانيون:
الإسلام ليس كنيسة! !
بقلم: د. محمد يحيى
من الجوانب المهملة في السجال الدائر بين أصحاب الفكرالعلماني
(اللاديني) وأنصار الفكر الإسلامي سؤال يتجاهله الأولون عمداً ويسعون إلى
إخفائه من المناقشة، ألا وهو: إلى أين يكون مصير الإسلام؟ ومن يقوم به عندما
يفصل عن الدولة كما يطالبون؟ . وقد يتبادر إلى الذهن أن الإجابة هي: الناس
(أي جموع المسلمين) ، أو فئة العلماء والفقهاء، أو ما اصطلح على تسميته
بالمؤسسات الدينية وهي جامعات ومعاهد تعليمية في الأساس والأصل، لكن هذه
الإجابات خادعة؛ فالناس لا يقدرون على كفالة أو حمل دين والقيام به وبكل شؤونه
إذا ظلوا مجرد آحاد وأفراد متفرقين وإن كثروا، حيث لا تجعل منهم كيانات
مؤسسية قوية تعلو على مستوى الفرد المنعزل أو حتى الجماعة المفككة، والعلماء
والفقهاء مدرسون وباحثون وناقلو علم على أحسن الأحوال، وليسوا مؤهلين أو
قادرين على تولي شؤون الدين إذا ما فصل عن المؤسسة القادرة على ذلك وهي
الدولة. أما عن المؤسسات الدينية فهي الأخرى في أساسها معاهد تعليمية أضيفت
عليها في بعض الدول أوضاع رسمية بروتوكولية استجابة لسلطان الدين في نفوس
الشعوب، لكنها سرعان ما سحبت أو خبت أنوارها مع تدخلات دوائر الحكم
العلمانية فيها.
إننا عندما نتحدث عن القيام بشؤون الدين لا نقصد مجرد الإيمان به وتلقينه
للأبناء وهو ما قد تقوم به الأسر والأفراد، ولا نقصد مجرد البحث في جوانبه
ونقلها تعليماً إلى المجتمع المحيط مع الحفاظ على تراثه الفكري والعقدي، فالقيام
بشؤون الدين وكفالته بالمعنى الواسع يعني: وجود قوة حاملة بمصطلح علم
الاجتماع ترى نفسها مسؤولة عن الدين بحكم إيمانها به، كما تكون قادرة بفضل
إمكاناتها على تحقيق مطالب هذه المسؤولية: من نشر للدين في الخارج، وترسيخ
له في الداخل، ودفاع عنه بكل وسائل الدفاع، مع إعمال تعاليمه، وإنفاذ شريعته،
وتحقيق قيمه ومثله من خلال شتى السياسات، وعلى كل المستويات، هذه القوة
الحاملة ينبغي أن تتخذ من الدين المرجعية العليا لها أو (الأيديولوجية) والعقيدة
السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن الجلي أن آحاد المسلمين أو حتى جماعاتهم
المحدودة ومؤسساتهم التعليمية لا تستطيع النهوض بهذه المسؤولية، ليس فقط
لافتقارهم إلى الإمكانات والسلطات التي تضمن لهم هذا الأداء، بل لسبب بسيط جدّاً، وهو أنهم لم يُعَدّوا للقيام بتلك المهمة.
كان للإسلام دائماً دولة تكفله وتقوم به، ويضعف كثيراً أو يختفي إن ضاعت
هذه الدولة، كما تشهد بذلك حالة الأندلس وحالة الدولة العثمانية لا سيما بالنسبة
للشعوب التابعة لها خارج نطاق شبه جزيرة الأناضول.
وسنوات البعثة النبوية في مكة كانت سنوات استضعاف، ولولا حفظ الله
الدينَ خلالها لضاع، ويجب ألا ننسى أن المسلمين الأوائل كانوا أيضاً جزءاً من
النسق الاجتماعي العربي، وإن كانوا خالفوه في قضية العقيدة الجوهرية، والدولة
أو الدول الإسلامية على مر التاريخ الإسلامي هي التي دفعت عن المسلمين غائلة
العدوان الخارجي من قوى الكفر، وهي التي أوجدت السبل والظروف لتستقر
المجتمعات الإسلامية على إيمانها وممارسته، وهي التي قامت على وظائف العدالة، كما وفرت القواعد المادية لتقوم المؤسسات التعليمية والعلمية بوظائفها الحيوية،
وإذا ضاعت الدولة الإسلامية كما حدث ويحدث في العصر الحديث سقطت كل هذه
المهام وبقي المسلمون ومعهم مؤسساتهم التعليمية والعلمية عارين عن أي حماية
ومعرضين لكل عوامل الغزو والاجتياح من أعداء الإسلام في الداخل والخارج دون
قوة تذود عنهم. ويزيد الأمر سوءاً عندما تحل محل الدولة الإسلامية الذاهبة دولة
يسيطر عليها إن صراحة أو ضمناً أصحاب الفكر العلماني ذي النزعة المتغربة على
اختلاف مشاربهم، هنا تتحول الدولة من الدفاع عن الإسلام والذب عنه والقيام
بشؤونه ورعاية مصالحه وتطبيق شريعته وأحكامه إلى العداء له والكيد وتحطيم
بنيانه وهدمه وتفريق جمعه وإضعاف شوكته، والواقع المشهود يدل على ذلك.
إن أصل الخلط وسوء الفهم المتعمد يعود إلى الحديث عن الدين والدولة
والفصل بينهما بعمومية تتجاهل الفرق بين الإسلام والمسيحية كما تطورت تاريخيّاً، وهذا الفارق الجوهري والحيوي هو مؤسسة الكنيسة في مختلف مذاهبها،
فالكنيسة بوصفها بيتاً تاريخيّاً هي المؤسسة التي قامت على المسيحية من ناحية
النشر والترويج والمحافظة عليها ولمّ شعث المؤمنين بها، والكنيسة مؤسسة شاملة
حقّاً وذلك وفق المفهوم العلمي وهي ليست كذلك لأن لها ممتلكات وأراضي ومباني،
بل ومعاهد تعليمية وعلمية وهيئات إعلامية ودور نشر.. إلخ، فكل هذه قد تنزع
منها في فترات الانكسار والجَذْر التي قد تتعرض لها، والتي تعرضت لها فعلاً إبان
الثورة الفرنسية والثورة الروسية مثلاً، ولكن الكنيسة مؤسسة بمعنى: أنها تنظيم
هرمي يقوم على فئة منظمة ومنضبطة بلوائح وقوانين تحدد مهامها وواجباتها
وأدوارها، وهي فئة الكهنوت التي يحكمها القانون الكنسي. ووجود الكهنوت بهيكله
التنظيمي والهرمي وقانونه يُوجِد مؤسسة تعلو على الأفراد وتتوفر لها إمكانية
الاستمرارية وتجديد الذات والبقاء، دون أن تذهب وتموت بذهاب الأفراد المشكلين
لسلك الكهنوت وموتهم، الكنيسة وفق هذا التصور مؤسسة ذات نواة وهيكل أساس
قابل للتوسع والامتداد والامتلاء في فترات الاستقرار والظروف الاجتماعية المواتية
أو الانكماش والتقوقع على الذات مع الاحتفاظ بالدين المحمول، وذلك في فترات
القهر أو الاضطراب.
والكنيسة الحاملة للمسيحية ليست مجرد تجميع للمؤمنين داخل مبنى، وليست
مجرد هيئة تعليمية تلقن الأفراد تعاليم دينهم، لكنها بجانب ذلك كما أسلفنا مؤسسة
شاملة ترى نفسها حاملة وحامية للدين ومسؤولة عنه. صحيح أنه لا توجد للكنائس
جيوش، لكنها في فترات القوة تهيمن على الدولة التي تعمل في نطاقها، وتجعل
من جيشها جيشاً مدافعاً عن النصرانية ومهاجماً في سبيل فرضها بالقوة، أما في
فترات الضعف فهي لا تذوي أو تموت لعدم وجود جيش لها أو عدم وجود الإمكانات
والسلطات الأخرى للدولة؛ ذلك لأنها تبقى حتى في ظل أشد الأنظمة عداءً لها وكما
حدث في ظل بعض الأنظمة العلمانية الحديثة الشرسة في فرنسا الثورة أو في النظام
السوفييتي معترفاً بها رسميّاً وقانونيّاً بوصفها الجهة المسؤولة عن الدين النصراني
حتى لو أُضْعِفَتْ قوتها.
عندما يدور الحديث إذن في الغرب عن الفصل بين الدين (أو الكنيسة) والدولة
فإن ذلك الحديث لا يرمي إلى عداوة للدين أو ينوي تصفيته؛ لأن فصله عن الدولة
لا يعني ضياع وجوده أو قوامه، ولا يعني انعدام المؤسسة الحاملة والكافلة له؛ إذ
ستبقى الكنيسة هي ممثلة هذه القوة، وكل ما يرمي إليه حديث فصل الكنيسة عن
الدولة في الغرب هو إحداث إجراء تنظيمي إداري يفصل بين مجالات الاختصاص، وهو ما تتسع النصرانية له؛ لغياب الشريعة المفصلة بها، لكن العكس هو ما
يحدث في الإسلام عندما يفصل عن الدولة، إذ يفقد في هذه الحالة القوة الحاملة له
ولا يجد لها بديلاً كما قد يتصور بعضهم في عدد من المؤسسات الأخرى (جامعات
أو وزارات أوقاف وشؤون دينية) ؛ لأن هذه المؤسسات ليست بحكم النشأة والوظيفة
والتكوين مؤهلة لأن تكون قوة حاملة للإسلام، بل هي في أحسن الظروف حاملة
لبعض جوانب الإسلام العلمية أو الاجتماعية. ومما يلحظ: أن محاولات تحويل
بعض هذه الهيئات المحدودة إلى مؤسسات قائمة بالإسلام تُخفق لهذا السبب، ومع
ذلك: يصر العلمانيون على القيام بها؛ إما لإخفاء حقيقة ما يفعلونه بالإسلام لدى
فصله عن الدولة وهو في الحقيقة تضييع له وإما لإدراكهم أن حصر سعة الإسلام
وحبسها في هيئات ضيقة وجعله احتكاراً لهذه الهيئات يؤدي في الواقع إلى إضعاف
الإسلام بشدة، بل وإلى إنهائه؛ لأن الجماهير لا تؤمن بهذه المؤسسات قوًى حاملة
للإسلام.
إن فصل الإسلام عن الدولة يعد قتلاً له، ويزيد الأمر سوءاً كما قلنا عندما
تكون الدولة الآتية علمانية التوجه؛ لأنها في هذه الحالة تستغل كل القوى
والإمكانات والسلطات التي كانت تدافع عن الإسلام وتضعها ضده.(115/102)
منتدى القراء
الشيخ إسماعيل الأنصاري..
العالم الذي فقدناه
بقلم: عبد الله بن محمد الهلالي
قال الله (تعالى) : [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَاًتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ
يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ] [الرعد: 41] .
قال ابن كثير في تفسيره (2/521) : (.... وقال ابن عباس في رواية:
خرابها بموت علمائها، وفقهائها، وأهل الخير منها، وكذا قال مجاهد أيضاً: هو
موت العلماء وفي هذا المعنى ...
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ
ففي يوم الجمعة الموافق 26/11/1417هـ، وفي مدينة الرياض، أقيمت
صلاة الجنازة على جثمان الشيخ (إسماعيل الأنصاري) (رحمه الله تعالى رحمة
واسعة وغفر له) ، وذلك بعد صلاة الجمعة بالجامع الكبير.
وهذه نبذة مختصرة جداً عن حياته.
مولده ونشأته: ولد الشيخ في صحراء إفريقيا سنة 1340هـ، وتلقى هناك مبادئ العلوم؛ فحفظ القرآن عن ظهر قلب، وقرأ في العقائد والفقه والنحو والبلاغة والأصول والمصطلح وغيرها من العلوم على مشايخ تلك البلاد.
ثم هاجر فضيلته إلى الحرمين الشريفين، ووصل إلى مكة عام 1369هـ
واستقر بها.
أعماله: تولى فضيلته التدريس في المدرسة الصّولتية عام 1370هـ، وفي
عام 1372هـ أخذ إجازة التدريس بالمسجد الحرام، ثم في عام 1374هـ انتدب
للتدريس في المعهد العلمي بالرياض، وأخيراً عين باحثاً بدار الإفتاء في عام
1382هـ بأمر من سماحة الشيخ (محمد بن إبراهيم) (رحمه الله) ، واستمر في
عمله هذا حتى أعياه المرض ولازم البيت.
آثاره: للشيخ عدة مؤلفات تمتاز بالدقة في البحث، كما تدل على سعة
اطلاعه (رحمه الله) منها:
1- حكم بناء الكنائس والمعابد الشركية في بلاد المسلمين.
2- القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل.
كما قام الشيخ بتصحيح طائفة من الكتب العلمية، وعلق عليها تعليقاً زادها
فائدة، وعلماً، منها:
1- الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.
2- الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي.
وللشيخ أيضاً عدة مقالات علمية تبلغ مجلدين لو جمعت.
شهاداته العلمية: أعطي فضيلته شهادة علمية موقعة من سماحة الشيخ (عبد العزيز بن باز) (حفظه الله تعالى) ، ومن فضيلة الشيخ (عبد الرزاق عفيفي (رحمه الله) قرّرا فيها: أنه من العلماء الأجلاء، وأن مستواه العلمي يفوق مستوى كثير من حملة الشهادات العليا في الوقت الحاضر.
كما أجازه العلامة الشيخ (حمود بن عبد الله التويجري) (رحمه الله) ، وللشيخ
إسماعيل (ثبت) متداول بأسانيده [1] .
لقد فقدنا عالماً جليلاً فنسأل الله (عز وجل) أن يخلفنا خيراً منه.
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) لقد استفدت أكثر هذه المعلومات من ترجمة للشيخ نشرت في مجلة البحوث الإسلامية
العدد 13، 1405هـ.(115/106)
ضراعة
شعر: صالح بن عبد الكريم العبودي
أنت أدرى بما يُكِنُّ ضميري ... وجناني وخاطري وشعوري
فُضِحَ السر قبل أن يُخلَقَ السرّ ... إذ كان من عليم بصير
إن بحثي عن الهروب لحمق ... وضياع يتيه فيه نفوري
نحن في قبضة الإله أسارى ... يا منى النفس للضعيف الأسير
السموات والكواكب تعنو ... في خضوع لربها، مستجير
كيف لا وهن قبضة في يديه ... مسلمات لربهن القدير
كيف أنجو من العقاب وجرمي ... في يدَيْ عالمِ بأمري، خبير
يا إلهي عرفت منك وجودي، ... وحياتي، وحاضِري، ومصيري
مذ هديتَ الفؤاد درباً قويماً ... سبح الفكر في فضاء منير
لا يهاب الظلام مهما تغشّى ... عالمَ الناس من سكون مثير
مطمئن يروح خلف رؤاه ... محرزاتٍ لكل معنى كبير(115/108)
بأبي أنت وأمي
يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بقلم: تركي بن عتيبي الغامدي
(اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) ، (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
هذا ما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- - صلى الله عليه وسلم - قبل
أربعة عشر قرناً من الزمان في قومه، وبذلك والله فلتهنأ البشرية كلها إلى يوم
القيامة بالرحمة المهداة في قوله وأفعاله، ومن أجل ذلك؛ فلتفخر أمتنا بنبيها العظيم، ولتستخلص الحكم السامية من السيرة العطرة، والسنة الثابتة، وما كان من حياته
المجاهدة.
فهو بأبي وأمي، في أشد حالات الحزن، والأذى، والألم، يُخيّر من قِبَل الله
(سبحانه وتعالى) في قومه، فيختار العفو، فيقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا
يعلمون) .
وهو بأبي وأمي في أعظم صور الفتح والنصر المبين، والقوة، والعزة،
والمنعة، والتأييد والتمكين، وكل الخيارات في يده: يُخَيّر في مكة بما فيها من
كفرة وأصنام، فيختار العفو، فيقول: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
من يفعل ذلك بقومه، من يفعل ذلك من أجل الإنسان والإنسانية، من يفعل
ذلك من أجل تحقيق معنى استخلاف الله (عز وجل) للإنسان على هذه الأرض لتنفيذ
شريعته في خلقه، من يفعل ذلك لتكون هناك أسمى صور التسامح بين الحاكم
والمحكوم من يفعل ذلك كله غير النبي؟ .
فمن يقتدي به من أمته - صلى الله عليه وسلم -؛ فيعفو هذا عن القاتل،
ويعفو هذا عن دَيْن له عند صاحبه، وتعفو هذه عن زلة لسان جارتها، من يفعل
ذلك وغيره؟ .
إن لنبينا العظيم بهذين الموقفين العظيمين دَيْناً كبيراً لا يمكن سداده، وسيبقى
في أعناق البشر، حتى يقتدوا بسنته عبادة وحياة.
فبالله عليكم.. ماذا عساها أن تكون الحياة، وماذا كان سيسود فيها، لو لم
يحدث ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- - صلى الله عليه وسلم -؟ .
أعتقد أنها كانت ستكون كما نرى حالها اليوم وقد سادت شريعة الإنسان الظالم
الجهول في غير مكان من هذا العالم، بعيداً عن الإسلام وشريعته السماوية السمحة.
ويكفي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- الحبيب محمداً - صلى الله عليه
وسلم - بذلك قد قدّم للبشرية ولأمته، أكبر الأدلة على سمو أخلاقه الكريمة، وسمو
رسالته الخالدة، وخيرية المؤمنين بها بين الناس، وأن ذلك هَدْيٌ يُقتدى به في حكم
البشر وفيما بينهم أبد الدهر، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(115/109)
الورقة الأخيرة
ومن يبكيهم بعد عمر؟ !
بقلم: حسن أحمد قطامش
ذكر ابن كثير في تاريخه، أن السائب بن الأقرع قدم على عمر بن الخطاب
(رضي الله عنه) يبشره بنصر المسلمين في معركة (نهاوند) ، فسأله عمر عن قتلى
المسلمين، فعدّ فلاناً وفلاناً من أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال لعمر: وآخرون من
أفناد الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين.. فجعل عمر يبكي ويقول: (وما ضرهم ألا
يعرفهم أمير المؤمنين؟ ! لكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون
بمعرفة عمر؟ !) [1] .
قسم الله (تعالى) الناس إلى مؤمنين وكافرين، وغَلّب الكفار في العدد [وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] [يوسف: 103] ، ومن هذا القسم مَنْ هم أهل
رأي وفكر وسيادة، وهم فيهم قلة قليلة جدّاً، وعند المسلمين كذلك أهل حكمة وعلم
ورأي ووجاهة، وهم قلة كذلك، وهذا مُشَاهَدٌ معلوم، فترى أهل التراجم والسير
يختمون أحداث السنة بذكر من توفي فيها من (الأعيان) ! ! .
وجيوش المسلمين التي كانت تخرج للغزو والجهاد بألوف مؤلفة لا تذكر كتب
التاريخ لنا منهم إلا القادة والأمراء وأهل الرأي، فماذا عن بقية الجيش؟ ماذا إذن
عن بقية الناس الذين هم (أفناد الناس) الذين ليسوا بأهل حلٍّ ولا عقد ولا رأي ولا
إمارة؟ من هم خارج دائرة السلطة والذين يمكن تسميتهم بـ (الرأي العام) على حد
المصطلح الشائع.
خرجوا في سبيل الله، وكُتبوا في ديوان أهل الجنات شهداء [عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ] [آل عمران: 169] ، قاموا بأشرف الأعمال وأجلها ولم يُشَر إليهم ببيان
ولا بنان، وما دعوا إلى مؤتمر أو اجتماع محترم، بل كانوا ناساً وسط الناس
يعملون لله وحده وما ضر أحدهم أن يكون هكذا، ما اشترط يوماً لعمله أن يكون
رئيساً موجِّهاً ولا أميراً مطاعاً، بل كان همه: رضا الله، وأولئك النفر من الناس،
ومما قال فيهم سيد الناس (عليه الصلاة والسلام) : (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في
سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرّ قدماه، إن كان في السّاقة.. كان في الساقة، وإن
كان في الحراسة.. كان في الحراسة، إن استأذن ... لم يؤذن له! ! ، وإن شفع..
لم يُشفّع! !) [2] .
إذن ما الذي يُضير أولئك إن لم يعرفهم أمير المؤمنين؟ من الممكن أن
يضيرهم إن كان عملهم لذات أمير المؤمنين، ولكن يكفيهم أن الله يعرفهم ويعرف
سرائرهم.
ما الذي يضيرنا إن عبدْنا الله وحده، ولم نعبُد ذواتنا حين نَشْرُطُ للعمل لله أن
نكون في موقع القيادة والإمارة ظناً أننا أصحاب قدرات ومواهب خاصة، ولا
يمكننا العمل وسط (العامة) ! ! .
إن وقفة مهمة نحتاج إليها لإعادة النظر في ذواتنا، وإلى النظر إلى (أفناد
الناس) بمنظار الوعي، فهم بحاجة إلى (أعيان الناس) ليعُبِّدوهم لله وحده، ولا
يضيرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين.
__________
(1) البداية والنهاية، ج 4/113.
(2) البخاري، ك/الجهاد، والسير.(115/111)
ربيع الآخر - 1418هـ
أغسطس - 1997م
(السنة: 12)(116/)
كلمة صغيرة
هم العدو فاحذرهم
كان المنافقون في صدر الإسلام أشد الأعداء عليه؛ لذلك حذر الله منهم كثيراً
بل وأنزل فيهم سورة كاملة (المنافقون) ، ولخطورة منهجهم وخبث طويتهم جعلهم
الله في الدرك الأسفل من النار، وعصرنا له منافقوه الذين ابتليت أمتنا بهم وهم
العلمانيون الذين يزيد حنقهم وغضبهم عند كشف أوراقهم، ويدّعون زوراً وبهتاناً
أنهم مسلمون مع أن مبادئهم وأفكارهم تناقض الإسلام عقيدة ومنهجاً، وهم سواء
أكانوا من الاتجاه الليبرالي، أو الاتجاه الماركسي أعداء هذا الدين وأعداء دعاته،
ولعل المتابعين لما تنشره صحافتنا ومجلاتنا العربية رأوا ذلك رأي العين حينما قال
أحد رموزهم الرأسماليين (وهو باشا سابق) في مقابلة معه إنه يكره الشيوعيين
والناصريين وإحدى الجماعات الإسلامية التي ذكرها بالاسم، ورأينا أحد ممثلي
الجانب الآخر وهو ممن اهتموا بالكتابة الظالمة عن الإسلاميين في كثير من
دراساته حتى قال عنهم ما لم يقله مالك في الخمر.
فما يدين به أولئك الكتاب من عداء للإسلام ودعاته يظهر على فلتات ألسنتهم
وفي جل كتاباتهم؛ حيث يضيقون ذرعاً دائماً بالعاملين في الصف الإسلامي،
ويفضلون التعامل مع اليهود والنصارى، بل ومع الشياطين على أن يتعاملوا مع
دعاة الإسلام! !
فأين الموضوعية؟ وأين الحرية؟ وأين الديمقراطية التي يتشدق بها هؤلاء؟
بل أين الإسلام الذي يدّعونه؟ ، إنه عداء عقيدة، ومن هنا جاء الخلاف.(116/1)
افتتاحية العدد
الإسلام قادم..
رغم السدود والقيود
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله
وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد،،
فإن المتابع لواقع أمتنا وما ابتلاها الله به بكثير من الأحزاب العلمانية الحاكمة
ووسائل إعلامها التي تواصل عملها الدؤوب للصد عن دين الله والتخويف منه؛
لعداوتهم لهذا الدين والرعب من أن يعود، وخوفاً من فضح تلك التوجهات الظالمة
وكشف مكرها المستمر يعجب المتابع لهذه الحال، وإن كان الشيء من معدنه لا
يستغرب.
والمتابع بصفة خاصة للحالة التركية يجد هذا العداء جلياً، وسبق أن بينا
حقيقة تلك (المافيا العسكرية) الممسكة بأزمّة الأمور هناك في حربها للمد الإسلامي
في تركيا ومواقفها التسلطية حيال (حزب الرفاه) الذي يعلم الجميع مدى تساهله
وتسامحه فضلاً عمّا أعلنه من قبولٍ للعبة الديمقراطية، وما ذاقه الرفاه من الضغوط
المتوالية لقرارات ما يسمى بـ (مجلس الأمن القومي) وبخاصة تحركاته المشبوهة
لإحراج الرفاه مثل تدخله العسكري في العراق بدعوى مطاردة حزب العمال الكردي، وكذلك العلاقات العسكرية المكشوفة مع الصهاينة وإجراء المناورات معهم في هذه
الآونة بالذات، وإصرارهم على إقفال مدارس تحفيظ القرآن ومعاهد الأئمة
والخطباء مما اضطر (أربكان) إزاء تلك الضغوط للاستقالة قبل نهاية فترته
الرئاسية. ويستمر ضغط المؤسسة العسكرية على بعض النواب في الحزب الحليف
(الطريق القويم) للانسحاب ترغيباً وترهيباً حتى فقدوا الأغلبية تمهيداً لقيام الحكومة
الجديدة برئاسة العلماني المتطرف (يلماظ) الذي يحاول إنجاح وزارته بالتأكيد على
النهج الأتاتوركي ومجاملة العسكر مع أن وزارته على كف عفريت كما يقال ولو
نجحت في الثقة بها برلمانياً لما نجحت في أداء رسالتها المفترضة لفساد عناصرها
وعدم تجانسهم؛ بل وتناقضهم؛ مما سينعكس سلباً على أدائها ويجعلها للسقوط
أقرب؛ كل ذلك بمباركة الرئيس (ديميريل) الذي ما زال هلعاً لطرده لمرتين
سابقتين من قِبَل العسكر. مما يؤكد حقيقة أن تلك العصابات الحاكمة لا تعير
الديمقراطية أدنى اهتمام، زيادةً على أنها ترفض الإسلام، وهي أقرب ما تكون
لأتباع زعيم الدونمة المعروف (سبتاي بن زفي) فهؤلاء العسكر والعلمانيون من
كُتّاب وحزبيين وإعلاميين من واقع عدائهم الصريح للإسلام ورفضه جملة وتفصيلاً
لا يماري أحد منهم من أنه من فلول تلك الطائفة التي تظاهرت بالإسلام وما زالوا
ينفذون تعاليم زعيمهم الهالك [*] . والغريب أن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا
ترى تدخل الجيش في شؤون الحكومة المنتخبة ديمقراطياً بشكل سافر ولم تحرك
ساكناً كعادتها، ولم يهمها سوى الاعتراض على حكم محكمة النقض الإداري
المصري المتعلق بختان البنات! ! ، بل إن من رموزها من كتب وحذر من حزب
الرفاه واختراقه للجيش بشكل يهدد مستقبل قواعدهم العسكرية هناك؛ فالمسألة
ضمان مصالحهم فحسب؛ وعلى الديمقراطية السلام! !
أما الأحزاب العلمانية الأخرى في بلدان عالمنا الإسلامي فإن مواقفها وإن
كانت ظاهراً أقل عداءً للإسلام من النموذج التركي فإنهم بمنطلقاتهم الفكرية
وإيديولوجياتهم العقائدية لا يقلون حرباً للإسلام عن تلك الطغمة الفاجرة؛ ويظهر
ذلك فيما يلي:
* رفضهم الإسلام شريعة ومنهج حياة ومطالبتهم بتحجيمه حتى لا يتجاوز
دُور العبادة.
* وقوفهم ضد أي توجه إسلامي مهما كان ورفضه واتهامه بالإرهاب
والتطرف والظلامية.
* الإسلاميون سواء أكانوا دعاة عقيدة، أم رواد فكر، أم عاملون في مجالات
التنمية والأعمال الخيرية غيرُ مرضي عنهم؛ بدعوى أن لهم أهدافاً مبيتة
ومخططات بعيدة المدى وأنهم بهذه الأعمال يستحوزون محبة الناس لهم!
* ديمقراطية هؤلاء العلمانيين التي يتشدقون بها ليس فيها أي فسحة للرأي
الآخر المخالف لهم؛ في الوقت الذي تحكم فيه الأحزاب المسيحية دولاً في أوربا
الغربية، ويحكم تكتل الليكود المتطرف دولة الصهاينة، بل وتقوم في الفاتيكان دولة
لها سفراؤها حتى في بعض تلك الدول ولها تدخلها المكشوف في الشؤون السياسية
في بعض البلدان كما حصل أثناء زيارة بابا الفاتيكان إلى لبنان وما أصدره مما سمي
بـ (الإرشاد الرسولي) وهو في حقيقته مخطط مرسوم لتوحيد القوى النصرانية في
لبنان في إطار ما دعي بـ (سياسة التوازن العادل) لتبقى للنصارى الأغلبية والنفوذ
القائمان الآن.
فلماذا يقف هؤلاء الأعداء في بلداننا ضد الإسلام وضد الداعين إليه بدعاوى
ما أنزل الله بها من سلطان، ويجعلون همّهم مصادرة أي اتجاه إسلامي وإن رُشّح
من الشعب نفسه؟ فديمقراطيتهم فُصّلت على مقاساتهم، لذا نجد ظاهرة الإطاحة
بالإسلاميين باتهامات معدة سلفاً منها: انتماؤهم لتيارات محظورة، أو أنهم يشكلون
خطراً على الوحدة الوطنية! التي هي أصلاً على جرف هار لضعف الأسس التي
قامت عليها فذلك معروف للجميع.
إن تلك الضغوط التي تصبّ ظلماً وعدواناً ضد الإسلاميين والداعين إلى
ضرورة التحاكم إلى شريعة الله لا تزيد هؤلاء العاملين والداعين سوى اليقين بأن
ذلك امتحان وابتلاء من الله، ثم إن الشعوب المسلمة تعرف حقاً المصلح من المفسد.
حقاً إن دين الله باقٍ مهما استبد الطغاة الحاكمون بأمرهم في حرب الإسلام
ودعاته وهذه حقيقة علّمنا إياها الله جل وعلا بقوله: [هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] [التوبة: 33] يقول
صاحب الظلال رحمه الله موضحاً انتشار هذا الدين في صدر الإسلام ثم كيف تخلى
عنه أهله (خطوة فخطوة ... بفعل عوامل داخلة في تركيبة المجتمعات الإسلامية من
ناحية، وبفعل الحرب الطويلة المدى المنوعة الأساليب التي أعلنها عليهم أعداؤهم؛
لكن هذا ليس نهاية المطاف ... إن وعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة التي تحمل
الراية وتمضي مبتدئة من نقطة البدء التي بدأت بها خطوات الرسول وهو يحمل
دين الحق ويتحرك بنور الله) (1644/ج3) .
ولعل من مبشرات انتصار هذا الدين ما نشرته وكالة الأنباء الإسلامية مؤخراً
عن (الكتاب الدولي للكنائس) الذي ذكر فيه أن النصارى يمثلون ربع سكان العالم
وعددهم 6، 1 بليون نسمة، والمسلمون يمثلون خمس سكان العالم وعددهم بليون
نسمة وأكثر، ولكن عدد المسلمين يتزايد بمعدل 82 ألف نسمة يومياً نتيجة دخول
كثيرين للإسلام ونتيجة للإنجاب المستمر لدى المسلمات وإذا استمر هذا المعدل فإن
الإسلام سيصبح الدين الأول في العالم عام 2058م؛ فضلاً عما نشرته الوكالة
نفسها من أن غالبية شباب أوربا يقولون: إن الدين النصراني ليس له أهمية في
حياتهم؛ مما دفع المنصّرين إلى إعلان الطوارئ لتوجيه أعمالهم لإعادة أولئك إلى
دياناتهم.
إن ديننا الحنيف دين واقعية ووضوح وإنسانية وأخلاقية، ويرفض الظلم
والعدوان، ويقدم الحلول الجذرية لمشكلات العالم بكل موضوعية بعيداً عن الإفراط
والتفريط، وهذا ليس ادعاءً بل له رصيده من التجربة في عصور الإسلام السابقة
واللاحقة، وقد قدم بعض علماء الإسلام أكثر من نموذج لدساتير الدولة الإسلامية
وهي جاهزة للتطبيق ونتساءل: حتى متى تعطل ولمصلحة من يحال دون تنفيذها،
ومن المتواطئون ضدها؟ وهذا لا يخفى على اللبيب معرفة من وراءه؟ وكل ذلك
يجب ألا يوهن همم المسلمين أو يثبط عزائمهم.
إن كيد الأعداء ضد الإسلام ودعاته مستمر؛ لكنهم سيبوؤون إن شاء الله
بالخسار والدمار، فالإسلام قادم رغم كل السدود والقيود وصدق الله العظيم: [وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]
[الأنبياء: 105] .
__________
(*) لمزيد من الإيضاح لحقيقة الدونمة ودورهم في سقوط الخلافة العثمانية
واستمرارهم في الكيد للإسلام انظر (يهود الدونمة) د / محمد عمر.(116/4)
دراسات شرعية
جهود الأئمة في حفظ السنّة
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن المعالم التي قادت المسلمين إلى حفظ
السنة في صدر الإسلام، ثم جهود الخلفاء (الأئمة) وكذلك الصحابة الأعلام (رضي
الله عنهم) . ويواصل الأخ الكاتب في هذه الحلقة بيان جهود الأئمة من السلف ومن
بعدهم.
ثانياً: جهود السلف في حفظ السنة وضبطها:
بذل أئمة الإسلام جهوداً عظيمة في حفظ السنة وتنقيحها، وحمايتها من
تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وقد تمثلت جهودهم في
مسائل عديدة، أذكر منها:
1- حفظ السنّة:
اهتم السلف الصالح بحفظ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وإتقانه،
وجعلوا ذلك شرطاً من شروط الرواية، حتى قال عبد الرحمن بن مهدي: (يحرم
على الرجل أن يروي حديثاً في أمر الدين حتى يتقنه ويحفظه كالآية من القرآن،
وكاسم الرجل) [1] .
وقد سطر أئمة الحديث أروع الأمثلة في هذا الباب، وأتوا بما يبهر الإنسان
ويعجزه، ومن علامات ذلك:
(أ) غزارة الحفظ:
تميّز بعض الأئمة بكثرة محفوظاتهم وتنوعها، وهناك أمثلة كثيرة جداً على
ذلك، وقد جمع الذهبي تراجم هؤلاء الحفاظ في كتابيه: (سير أعلام النبلاء)
و (تذكرة الحفاظ) وذكر عجائب من علومهم وأحوالهم، ومن أمثلة هذا الباب:
المثال الأول: حفظ الإمام أحمد:
كان الإمام أحمد واسع الحفظ، جمع حديثاً كثيراً، حتى قال أبو زرعة: (كان
أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل: ما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذتُ
عليه الأبواب) [2] .
المثال الثاني: حفظ الإمام إسحاق بن راهويه:
قال أبو داود الخفّاف: (سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لكأني أنظر إلى مئة
ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألفاً أسردها) . قال: (وأملى علينا إسحاق أحد عشر
ألف حديث من حفظه، ثم قرأها علينا، فما زاد حرفاً، ولا نقص حرفاً) [3] .
وقال علي بن خشرم: (كان إسحاق بن راهويه يملي سبعين ألف حديث
حفظاً) [4] .
المثال الثالث: حفظ الإمام عبد الرحمن بن مهدي:
قال القواريري: (أملى عليّ عبد الرحمن بن مهدي عشرين ألف حديث
حفظاً) [5] .
المثال الرابع: حفظ الإمام الحميدي:
قال الإمام الشافعي: (ما رأيت صاحب بلغم أحفظ من الحميدي، كان يحفظ
لسفيان بن عيينة عشرة آلاف حديث) [6] .
ب- قوة الحفظ ودقته:
على الرغم من كثرة محفوظات الأئمة وتنوعها، إلا أنهم تميزوا بقوة الحافظة، والرعاية الشديدة لمحفوظاتهم، حتى قال الأعمش: (كان هذا العلم عند أقوام كان
أحدهم لأن يخرّ من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واواً أو ألفاً أو دالاً) [7] .
ولهذا كان الإمام مالك يتحفظ من الباء والتاء والثاء، في حديث رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-[8] .
ومن الأمثلة على قوّة الحفظ ودقته:
المثال الأول: قوة حفظ الإمام الزهري:
جمع الإمام الزهري علماً عظيماً، واجتمع له ما لم يجتمع لغيره، مع قوة
وإتقان، فقد قال عن نفسه: (ما استعدت حديثاً قط، وما شككت في حديث إلا حديثاً
واحداً فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت) [9] .
وقد أراد هشام بن عبد الملك أن يمتحنه، فسأله أن يملي على بعض ولده
أربعمائة حديث، وخرج الزهري، فقال: أين أنتم يا أصحاب الحديث؟ فحدثهم
بتلك الأربعمائة، ثم لقي هشاماً بعد شهر أو نحوه، فقال للزهري: إن ذلك الكتاب
ضاع، فدعا بكاتب فأملاها عليه، ثم قابل بالكتاب الأول فما غادر حرفاً
واحداً) [10] .
المثال الثاني: قوة حفظ قتادة بن دعامة:
قال الإمام أحمد: (كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئاً إلا حفظه،
قرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها) [11] .
وقال معمر: (رأيت قتادة قال لابن أبي عروبة: أمسك عليّ المصحف، فقرأ
البقرة، فلم يخطئ حرفاً، فقال: يا أبا النضر، لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني
لسورة البقرة) [12] .
ولهذا قال قتادة عن نفسه: (ما قلتُ لمحدث قط أَعِدْ عليّ، وما سمعت أذناي
شيئاً إلا وعاه قلبي) [13] .
المثال الثالث: قوة حفظ الإمام أحمد:
كان الإمام أحمد آية في الحفظ والإتقان، على الرغم من كثرة محفوظاته،
حتى قال ابن المديني: (ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن
حنبل) [14] .
ومن شدة إتقانه أنه كان يقول لابنه عبد الله: (خذ أي كتاب شئت من كتب
وكيع، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد
حتى أخبرك عن الكلام) [15] .
المثال الرابع: قوة حفظ ابن أبي شيبة:
قال عمرو الفلاس: (ما رأيت أحداً أحفظ للحديث من ابن أبي شيبة، قدم
علينا مع ابن المديني، فسرد للشيباني أربعمائة حديث حفظاً وقام) [16] .
ولهذا قال الخطيب البغدادي: (كان متقنا حافظاً مكثراً) [17] .
وقال الذهبي: (كان بحراً من بحور العلم، وبه يضرب المثل في قوة
الحفظ) [18] .
المثال الخامس: قوة حفظ الإمام البخاري:
قال محمد بن حاتم: (قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك في طلب
الحديث؟ قال: ألهمتُ حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب قال: وكم أتى عليك إذ ذاك؟
قال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكُتّاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى
الداخلي وغيره، وقال يوماً فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن
إبراهيم، فقلت له: يا أبا فلان، إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني،
فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج وقال لي:
كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأحكم
كتابه، فقال: صدقت، فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة) [19] .
وقصة البخاري لمّا قلبت عليه عشرة أحاديث بأسانيدها ومتونها لامتحانه،
فأعادها عليهم، ثم ساقها على وجهها الصحيح، قصة عجيبة تدل على إمامته في
هذا العلم، وقدرته العظيمة على الحفظ والاستيعاب) [20] .
2- جمع السنّة وتدوينها:
حرص العلماء على سماع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتلقيه عن
أئمته من الصحابة والتابعين، ثم حرصوا على جمعه وتدوينه وكتابته، وقد مرّ ذلك
بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: جمع السنة في أواخر القرن الأول:
لعل من أوائل المحاولات لجمع السنة: ما قام به عبد العزيز بن مروان،
حيث كتب إلى كثير بن مرة وكان قد أدرك بحمص سبعين بدرياً من أصحاب
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- من أحاديثهم، إلا حديث أبي هريرة، فإنّه عندنا) [21] .
ولما جاء بعده ابنه عمر بن عبد العزيز حرص على جمع السنة، وسلك في
ذلك طريقين:
الأول: كتب إلى أبي بكر ابن حزم: (انظر ما كان من حديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا
حديث النبي) [22] .
الثاني: أمر الزهري بجمع السنة، حيث قال الزهري: (أمرنا عمر بن
عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً) [23] .
ولهذا قال الترمذي: (هو واضع علم الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز،
مخافة ضياعه بضياع أهله) [24] .
المرحلة الثانية: تدوين السنة في منتصف القرن الثاني:
قال الذهبي: (لم ينتصف القرن الثاني حتى نشطت حركة تدوين الحديث،
وكان من سبق إليها من رجال هذا القرن: ابن جريج المكي، وابن إسحاق،
ومعمر ابن راشد، وسعيد بن أبي عروبة، وربيع بن صبيح، وسفيان الثوري،
ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وابن المبارك، ثم تتابع الناس) [25] .
وقال ابن حجر: (ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب
الأخبار لمّا انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض
ومنكري الأقدار) [26] .
المرحلة الثالثة: تصنيف السنّة في القرن الثالث:
في بدايات القرن الثالث أخذ التصنيف دوراً جديداً، فظهرت المصنفات:
كمصنف عبد الرزاق [ت211هـ] وابن أبي شيبة [235هـ] ، والمسانيد: كمسانيد الحميدي [ت219هـ] ، وأحمد [ت241هـ] ، والدارمي [ت هـ] ، والجوامع: كجامع البخاري [ت 256هـ] ، وجامع مسلم [ت261هـ] ، وجامع الترمذي [ت279هـ] ، والسنن: كسنن أبي داود [ت 275هـ] ، وابن ماجه [ت 273هـ] ، والنسائي [ت303 هـ] .
وبهذا نتبين أن أئمة السنة بذلوا جهداً عظيماً في جمع السنة وتبويبها، وتركوا
لنا تراثاً غزيراً في عشرات المصنفات والدواوين، حتى أصبحت هذه الأمة تمتلك
بحق أغنى تراث عرفته البشرية، فاللهم لك الحمد والمنة على هذه النعمة العظيمة.
3- علم الإسناد:
لمّا ظهرت الفتن في أواخر الخلافة الراشدة، بدأ الأئمة في البحث عن
الأسانيد، والنظر في مصادر الروايات، حتى لا يدخل في هذا العلم من ليس من
أهله، قال ابن سيرين: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا:
(سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع ولا
يؤخذ حديثهم) [27] .
والإسناد خصّيصة من خصائص هذه الأمة، تروى به الأحاديث، وتعرف به
الطرق، ولهذا تتابع اهتمام الأئمة بالأسانيد، وأصبح الحديث بلا إسناد لا قيمة له،
ولهذا قال عبد الله بن المبارك: (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما
شاء) [28] .
وقال ابن حبان: (ولو لم يكن الإسناد وطلب هذه الطائفة له، لظهر في هذه
الأمة من تبديل الدين ما ظهر في سائر الأمم؛ وذاك أنه لم تكن أمة لنبي -صلى الله
عليه وسلم- قط حفظت عليه الدين عن التبديل ما حفظت هذه الأمة، حتى لا يتهيأ
أن يزاد في سنة من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألف ولا واو، كما لا
يتهيأ زيادة مثله في القرآن. فحفظت هذه الطائفة السنن على المسلمين، وكثرت
عنايتهم بأمر الدين، ولولاهم لقال من شاء بما شاء) [29] .
4- التفتيش في الأسانيد ومنازل الرواة:
كان من ثمرات علم الإسناد: اهتمام العلماء في وقت مبكر جداً بدراسة أحوال
الرواة ومراتبهم، من حيث العدالة والضبط، ومن حيث صحة طرق التحمل
والأداء، من حيث تواريخهم وأشياخهم وتلاميذهم.... ونحو ذلك، وسمي هذا العلم
فيما بعد بـ: (علم الجرح والتعديل) .
وعلم الجرح والتعديل من العلوم الجليلة التي كانت سبباً رئيساً من أسباب
حفظ الدين، والذبّ عن سنة سيد المرسلين، ولهذا قال ابن خلاد ليحيى القطان:
(أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ !
قال يحيى: لأن يكونوا خصماء لي أحب إليّ من أن خصمي المصطفى إذ لم أذبّ
عن حديثه وشريعته) .
وقد اعتنى أئمة الحديث بعلم الرجال عناية فائقة، حتى عده ابن المديني:
(نصف علم الحديث) [30] . ولهذا صنفت مصنفات خاصة في هذا العلم، ورتب
فيه الرواة من حيث القوة والضعف، وبين فيه الذي تقبل روايته من الذي ترد،
ولهذا اشترط الأئمة في الناقد المتكلم في الرجال جرحاً وتعديلاً أن يكون بصيراً
بأحوال الرجال، واسع الاطلاع على الأخبار، خبيراً بالحديث وعلله، ويجب أن
يتحلى بالأمانة والورع، وبالفطنة والنباهة، عنده ملكة نقدية راسخة تعينه على
تفهم دقائق العلل وخفايا المسائل.
5- إرساء قواعد الرواية وأصولها:
لَمّا توسعت الرواية، وكثر النّقَلَة، اهتم علماء الحديث بتقعيد قواعد الرواية،
وبيّنوا أصولها وضوابطها بياناً تفصيلياً، وسمي هذا العلم فيما بعد ب: (علم
مصطلح الحديث) ، وكان من أوائل من كتب فيه: الإمام الشافعي في أجزاء متفرقة
من كتبه، وخاصة كتابه الرسالة، ثم تلميذه عبد الله الحميدي، ثم كتب الإمام مسلم
شيئاً من قوانين الرواية في مقدمة صحيحه، وكتابه التمييز، وكذلك الترمذي في
العلل الصغير. وفي منتصف القرن الرابع ألف الرامهرمزي كتابه الجليل:
(المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) . ثم تتابعت المؤلفات، وكثرت المصنفات
من المطولات والمختصرات.
ومن أشهر قواعد الرواية التي سأشير إليها في هذه المقالة: أنّ أئمة الحديث
وضعوا شروطاً خمسة للرواية الصحيحة التي يعتمد عليها، وهي على سبيل
الاختصار:
الشرط الأول: اتصال الإسناد، وسلامته من الانقطاع.
فكلّ راوٍ لا بد أن يكون قد سمعه ممّن هو فوقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ويعرف الاتصال عادة بمعرفة تواريخ الرواة، ومواليدهم، ووفياتهم،
ورحلاتهم، وأسماء شيوخهم وتلاميذهم، ومتى وأين وكيف تم تتلمذهم على بعضهم. وهكذا، ولهذا قال سفيان الثوري: (لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم
التاريخ) [31] .
ومراجعة كتب الجرح والتعديل وتواريخ الرجال والبلدان، تبين الجهد العظيم
الذي بذله الأئمة في تسجيل كل شاردة وواردة في وتواريخ الرجال وسيرهم.
الشرط الثاني: عدالة الرواة في جميع طبقات السند.
ويعرف المحدثون العدالة بأنها: (ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى
والمروءة) [32] . والعدل هو: كل مسلم مميّز سليم من أسباب الفسق وخوارم
المروءة. ولهذا قال عبد الله بن المبارك: (العدل من كان فيه خمس خصال: يشهد
الجماعة، ولا يشرب هذا الشراب (أي: النبيذ) ، ولا تكون في دينه خربة، ولا
يكذب، ولا يكون في عقله شيء) [33] .
الشرط الثالث: ضبط الرواة في جميع الطبقات:
والراوي الضابط: هو الذي يكون متيقظاً غير مغفّل، حافظاً إن حدّث من
حفظه، ضابطاً لكتابه من التبديل والتغيير إن حدث من كتابه، عالماً بمداخل
المعنى إن روى بالمعنى [34] .
ويعرف الراوي بدراسة مروياته، وعرضها على مرويات الآخرين. ولهذا
اهتم الأئمة بتتبع الطرق وجمعها، ودراسة أحوال الرواة في أزمان مختلفة من
أعمارهم، لمعرفة التغيرات التي قد تطرأ على محفوظاتهم، وبذلوا في ذلك جهداً
عظيماً، حتى إنهم لذمتهم وشديد عنايتهم يميزون الخطأ اليسير النادر في أحاديث
الثقات، ويعرفون الصحيح النادر في أحاديث الضعفاء.
وكان بعض النقاد يمتحن الرواة ويتأكد من محفوظاتهم، فها هو ذا حماد بن
سلمة يقول: (كنت أقلب على ثابت البناني حديثه وكانوا يقولون: القُصّاص لا
يحفظون، وكنت أقول لحديث أنس: كيف حدثك عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ فيقول: لا، إنما حدثناه أنس، وأقول لحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى: كيف حدثك أنس؟ فيقول: لا إنما حدثناه عبد الرحمن بن أبي ليلى) ولهذا كان حماد يقول: (قلبت
أحاديث على ثابت البناني فلم تنقلب، وقلبت على أبان بن أبي عياش
فانقلبت) [35] .
الشرط الرابع: سلامة الرواية من العلة:
والعلة: هي سبب غامض خفي قادح في صحة الحديث مع ظهور السلامة
منه. ومعرفة الحديث المعل من أدق علوم الحديث وأغمضها، ولهذا لا يستطيع
تمييز العلل إلا الأئمة الجهابذة، وذلك بجمع الطرق، وتتبع مخارجها، وعرضها
على بعضها، واستقراء أحوال الرواة، وسبر متون الحديث، ثم تطبيق المعايير
النقدية التي وضعها المحدثون.
الشرط الخامس: سلامة الرواية من الشذوذ:
والشذوذ هو: التفرّد، والحديث الشاذ هو: ما رواه المقبول مخالفاً من هو
أوْلى منه، لكثرة عدد أو زيادة حفظ.
ومعرفة الحديث الشاذ من العلوم الدقيقة جداً، حتى قال ابن حجر: (وهو أدق
من المعلل بكثير فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة، وكان
في الذروة من الفهم الثاقب ورسوخ القدم في الصناعة، ورزقه الله نهاية
الملكة) [36] .
وتحت كل شرط من هذه الشروط الخمسة توجد تفاصيل وتفريعات كثيرة
تراجع في مظانها، وإنما المقصود الإشارة إلى دقة المحدثين في تمييز المرويات،
وحرصهم على بيان منازل الرواة. وكانت نتيجة ذلك أنهم أصبحوا حصوناً واقية،
ودروعاً حامية، لا يستطيع عابث أو جاهل أو مفرط أن يُدخِل في سنة النبي -
صلى الله عليه وسلم- ما ليس منها، ولهذا قال الإمام الثوري: (لو همّ رجل أن
يكذب في الحديث، وهو في بيت في جوف بيت لأظهر الله عليه) [37] وها هو ذا
إسحاق بن راهويه يقول: (أحفظ أربعة آلاف حديث مزوّرة. فقيل له: ما معنى
حفظ المزوّرة؟ ! قال: إذا مرّ بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة فليتُهُ منها
فَلْياً) [38] .
__________
(1) الكفاية: للخطيب البغدادي.
(2) تاريخ بغداد: (4/419) وطبقات الحنابلة: (1/6) .
(3) سير أعلام النبلاء: (11/373) .
(4) تهذيب تاريخ ابن عساكر: (2/216) وتدريب الرواي: (1/51) .
(5) شرح علل الترمذي: (ص 175) .
(6) سير أعلام النبلاء: (10/618) وطبقات الشافعية الكبرى: (2/140) .
(7) الكفاية: (ص212) .
(8) المرجع السابق: (ص 213) .
(9) تذكرة الحفاظ: (1/111) .
(10) المرجع السابق: (1/111) والإلماع للقاضي عياض: (ص243) .
(11) سير أعلام النبلاء: (5/276 277) .
(12) الطبقات الكبرى: (7/229) والتاريخ الكبير: (7/182) .
(13) تذكرة الحفاظ: (1/123) .
(14) تقدمة الجرح والتعديل: (ص: 295) .
(15) شرح علل الترمذي: (ص182) .
(16) سير أعلام النبلاء: (11/123) وتهذيب: (6/3) .
(17) تاريخ بغداد: (10/66) .
(18) سير أعلام النبلاء: (11/123) .
(19) تاريخ بغداد: (2/7) وطبقات الشافعية: (2/216) .
(20) انظر القصة في تاريخ بغداد: (2/15 16) ووفيات الأعيان: (4/ 190) وغيرها.
(21) الطبقات الكبرى: (7/448) .
(22) أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به: (1/194) .
(23) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
(24) مختصر الشمائل المحمدية: (ص125) .
(25) تذكرة الحفاظ: (1/229) .
(26) هدي الساري مقدمة فتح الباري: (6) .
(27) مسلم في مقدمة صحيحه: (1/15) .
(28) المرجع السابق.
(29) كتاب المجروحين: (1/25) .
(30) تهذيب الكمال: (1/165) .
(31) مقدمة ابن الصلاح: (ص 282) .
(32) نزهة النظر: (ص29) .
(33) الكفاية: (ص 79) والخَرَبَة هي: العيب، كما في النهاية في غريب الحديث: (2/78) .
(34) مقدمة ابن الصلاح: (ص94) .
(35) الجامع لأخلاق الراوي: (1/135 136) ، وانظر قصة امتحان يحيى بن معين للفضل بن
دكين للتأكد من حفظه، حيث أثقل عليه يحيى، حتى رفسه فرمى به، فقال يحيى: (والله لرفسته أحب إلّيّ من سفرتي) سير أعلام النبلاء: (10/ 148 149) .
(36) توضيح الأفكار: (1/379) .
(37) سير أعلام النبلاء (7 /248) .
(38) تاريخ بغداد: (6/352) .(116/8)
دراسات شرعية
هل يمكن التعاون بين المسلمين
مع وجود الاختلاف؟
بقلم: سلمان بن عمر السنيدي
مدخل:
التعاون أمر مطلوب، أوجبه الشرع ولا يستغنى عنه في الواقع، والاختلاف
غير المذموم أمر واقع أقره الشرع ضرورة وفطرة، وبعض الناس يغيب عنه منهج
الإسلام الوسط في أمور شتى من بينها: التعاون حال الاختلاف؛ وحجم وطبيعة
ذلك الخلاف الذي يوجب الإسلام التعاون رغم وجوده، وذلك المطلب الشرعي المهم
هو المحور الذي تدور حوله هذه الدراسة التي نرى أنها تكون مجالاً للنقاش
الموضوعي بين ذوي الاختصاص، والله نسأل للجميع التوفيق والسداد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
التعاون على البر والتقوى مبدأ شرعي وواجب عام بين المسلمين بنص
القرآن الكريم قال الله (تعالى) : [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى] [المائدة: 2] ،
والبر إذا اقترن بالتقوى يقصد به ما تعدى نفعه إلى المسلمين من الأعمال المشروعة. والتقوى تختص بما يقتصر نفعه من الأعمال الصالحة على خاصة الإنسان.
وبهذا تحوي دلالات الآية مجالاً خصباً يتسع لكل عمل صالح يتحقق نفعه وخيره
بالتعاون على مستوى الفرد والأمة. وبرغم ما في الآية من وضوح وإشراق وحض
على التعاون؛ يجد الناظر إلى واقع العمل الإسلامي المعاصر أن التعاون بين فئاته
العاملة كثيراً ما يكون محصوراً أو مقيداً أو مشوباً بما يكدره ويعيق الغاية المنشودة
منه؛ إلا ما شاء الله.
أما الخلاف المفرق للألفة، والجهود، والأعمال؛ فإنه يعد من أهم العوائق
التي تحول دون التعاون على البر والتقوى؛ وهذا ما يدعونا إلى التوقف الطويل مع
هذا العائق وتحليله والنظر في حقيقته وما يكون منه مانعاً للتعاون، وما لا يكون
كذلك.
حقيقة الخلاف وأقسامه:
يدعي كل طرف في النزاع وجود عناصر للخلاف تدعو إلى الفرقة والتنافر
تمنع من التعاون على البر والتقوى؛ وبالنظر إلى هذه العناصر نجدها تنقسم إلى
قسمين:
الأول: عناصر مفتعلة: تُذْكَر للتشنيع على الخصم وتكبير هوة النزاع، ولو
توقف الخلاف عليها لأمكن التنازل عنها واحتواؤها وعدم إنكارها؛ بدليل: أنك
تجد في أتباعه من ينكرها وأنصاره غالباً من هو متلبس بمثلها من المخالفات.
الثاني: عناصر حقيقية للخلاف: وإذا نظرنا إلى أسبابها وجدنا أنها تنقسم
إلى قسمين هما:
1- أسباب غير سائغة مثل: التعصب القبلي، أو اتباع الأهواء، أو التنافس
على الزعامة، أو التنافس على الوجاهة والتمكن من التصرف في حقوق عامة من
حفنة مال أو أوقاف، ومنها أسباب يدفعها الثأر الشخصي، ويوجهها رصيد من
الصراعات السابقة حصل فيها تبادل الاتهامات وإلصاق التهم واتهام المقاصد.
2- أسباب سائغة وهي تنقسم إلى قسمين هما:
أ- أسباب سائغة للخلاف ولكن لا تقتضي التفرق كما هو في الحالات التالية:
الاختلاف في مسائل فرعية من الشريعة.
الاختلاف في مسائل عقائدية ولكنها مما خفي دليلها، أو من الظنيات العلمية
كما اختلف الصدر الأول في رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه.
الاختلاف في مسألة اجتهادية اعتبرها أحد الأطراف بدعة وضلالة.
الاختلاف في مسألة حادثة من النوازل الواقعة التي لم ينقل فيها نص أو
إجماع أو اتفاق، إنما اعتمد كل طرف فيها على نصوص عامة من الكتاب والسنة.
ب- أسباب سائغة للاختلاف بل توجبه وتقتضي التفرق؛ ونمثل له بما يلي:
المخالفة في أصل من أصول الإسلام وهي كثيرة ومن أشهرها: عدم توحيد
الله في تصريف الكون والأحوال، وعدم توحيد الله في أفعال العباد كالدعاء والذبح
ونحوه، تقديم العقل على الكتاب والسنة، نفي صفات الله (تعالى) ، الغلو في تعظيم
الرسول بصرف شيء له من حقوق الله ومقتضيات ألوهيته وربوبيته، الشك في
عدالة الصحابة، وتكفير المسلمين بلا مكفر.
إحياء مخالفات أهل البدع الكبار المشهورة كالخوارج والجهمية والروافض
والمعتزلة والقدرية والجبرية وغلاة الصوفية.
وهنا يأتي السؤال الذي يعقب هذا التقسيم: إلى أي مدى يمنع الاختلافُ
التعاونَ على البر والتقوى؟ وللجواب عليه يتضح أن عناصر الاختلاف لا اعتبار
لها في منع التعاون إلا ما كان منها حقيقيّاً، ولا اعتبار لغير السائغ منها في منع
التعاون، وأما السائغ فما كان منه لا يقتضي التفرق فلا اعتبار له في منع التعاون.
وهنا نجد فداحة خطأ من يتصور عدم التعاون مع وجود أدنى نوع من
الاختلاف، وذلك واضح من وجوه عدة منها:
أن الاختلاف من طبيعة البشر ولا يمكن التخلص منه في العادة، قال الله
(تعالى) : [وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ] (هود: 118-119) ، قال الشاطبي: (فتأملوا رحمكم الله كيف صار الاتفاق محالاً في العادة) [1] ،
فاشتراط رفع الخلاف لحصول التعاون كاشتراط المستحيل، وهذا فيه تعطيل مبدأ
التعاون الذي دلت على مشروعيته نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.
أن قبول التعاون مع وجود خلاف الذي لا يقتضي التفرق لا يعني بالضرورة
المطالبة بأعلى صور التعاون؛ بل المطالبة بدرجة من التعاون يتحقق فيها الواجب
والمندوب، ويزول فيها المحذور والمكروه، فإن أعلى صور التعاون محمودة،
ولكنها عزيزة الوجود وخاصة وقد بَعُدَ الناس عن نهج النبوة.
ومع تخطئة مبدأ: (ترك التعاون مع وجود الاختلاف) ، يلزم التنبيه إلى ما
يقابله، وهو: أنه لا يدعى إلى التعاون مع كل مخالف بلا شرط وقيد فإن الأصل
عدم التعاون مع وجود اختلاف جذري يقتضي التفرق والمفاصلة، كما هو الحال مع
أصحاب المبادئ العلمانية أو الاشتراكية أو البعثية أو الفرق الباطنية؛ لأن هذا
تعاون على غير البر والتقوى، تقدم فيه المصالح النفعية، وتهضم فيه مبادئ
إسلامية وتعطل فيه أحكام شرعية.
درجات التعاون والاختلاف:
لا يعرف كثير من الناس إلا حالتين: إما التعاون الشامل، والوحدة الكاملة،
أو التنازع والخصومة والمواجهة، وهذا التصور صورة من صور الجهل وضيق
النظر وغياب الحكمة وقلة المعرفة بقواعد الشريعة وأحكامها، وقد يعذر بعض
العامة والجهلة على هذا القصور، ولكن اللوم والتثريب يقع على من بيده زمام
الأمور والطاعة والتوجيه لفئام من الناس، كيف يحجّر سبل التعاون الواسعة،
ويحرم غيره من الانتفاع مما شرع الله من المحبة والألفة والتعاون والتقارب
والتسامح والعفو والتواضع والإحسان إلى الخلق بإصلاح ذات البين؛ وذلك بسبب
مواقف شخصية تجعله يأنف من التواضع والتسامح والعفو والتقارب، ويبالغ في
الصدود والنفرة، ويسارع في اتخاذ المواقف الصارمة، ويبالغ في اتخاذ الأحكام
القاسية، ويغلو في التعامل مع الخصوم والمخالفين، ويتشنج حال التفاهم والحوار
مع إخوانه المسلمين، جاعلاً الناس قسمين: إما موافقاً له متبعاً لقوله فهذا يواليه،
وإلا جعله خصماً له يعاديه.
وهناك مراتب بين التعاون الشامل والوحدة الكاملة، وبين التنازع والخصومة
والمواجهة، ونجدها على درجات تالية:
1- التعاون الشامل والوحدة الكاملة.
2- التعاون الوثيق والمشاركة الفعالة وتوحد الكلمة.
3- المحبة والاحترام والتشاور وتبادل المنافع.
4- الاعتزال بالمعروف وتبادل النصح.
5- الإعراض وكف الأذى -التعاون السلبي-.
6- الجفاء والغلظة.
7- إعلان النقد وإظهار العيوب.
8- المواجهة ومحاولة القضاء على الآخر.
وهنا يجب التنبيه إلى أن درجة النزاع الأخيرة التي تدعو إلى محاولة القضاء
على الطرف الآخر ينبغي أن تكون تحت نظر مصلحة السياسة الشرعية للأمة
الإسلامية، التي تسعى في الغالب إلى صرف النظر عن هذا الاحتمال في حال
ضعف أهل الحق والسنة والجماعة، وتفكك الأمة وغياب الولاية الشرعية العامة،
ومن ثم تأجيل مباشرته حتى يقوم لهم كيان مستقل استقر أمر الأمة فيه على ولاية
قوية، ذات شوكة وسلطان أمّنت فيه الثغور، وزال سلطان الكفر البواح، وقُضي
فيه على مظاهر الشرك وصرف العبادة لغير الله، عند ذلك ينظر إلى المخالف
نظرة المواجهة والمصادمة ومحاولة القضاء على شوكته إن كان يستحق ذلك، وكان
لا سبيل لدفع الشر والمنكر إلا هذا، وذلك بعد البيان والإعذار.
ثمار التعاون:
1- زيادة الألفة، وتنمية المحبة، وتضييق دائرة الفرقة والعداوة.
2- عدم إشغال عامة الناس وضعاف الإيمان بتلقي التهم وسماعها وتداولها،
وإشغالهم بدلاً عن ذلك بقضايا العلم النافع والعمل الصالح.
3- إشغال أصحاب الطاقات المتميزين بالكتابة والخطابة والحجة والبيان بما
هو مفيد ونافع لخدمة الإسلام وأهله، ورصد الباطل وصده، ودحض الفساد
والانحراف من البدع والمنكرات.
4- قطع الباب على المنافقين والمرجفين الذين يفرحون بنشر العيوب
وتشكيك الناس بدعوة الإصلاح في المجتمع والذين يفرحون بالشماته بالمصلحين.
5- حسم مادة الخلاف وزوال بذرة الشقاق، لكي لا يثيرها من شاء من
المرجفين، متى شاء وكيف شاء.
6- إغاظة أصحاب الفساد الذين يفرحون بتفريق الجهود الإصلاحية وضعفها، لينفذوا أغراضهم السيئة بيسر وسهولة، في ظل انشغال أهل الحق بعضهم ببعض، وضعف شوكتهم. وفي حال التعاون توجه الجهود لكشف مخططاتهم الإفسادية،
وقطع السبيل عن تحقيق أهدافهم.
7- توحد الكلمة وهذا له أثر بالغ في دحض الباطل وأهله، وإرغامهم على
إظهار تعظيم شعائر الله واحترام الدين وأهله.
__________
(1) انظر: الموافقات، 3/764.(116/18)
دراسات دعوية
النقد الذاتي للواقع الدعوى
الانتقاء النوعي في حوارات المتخالفين نموذجاً
بقلم: سليمان بن عبد العزيز الربعي
تظل مناهج الدعوة إلى الله (عز وجل) وآلياتها بحاجة ماسة إلى الترشيد
والمراجعة والتقويم، وليس مما يعيب الدعوة في شيء أن تُعالج مشكلاتها المنهجية
والوسائلية في سياق المناقشة الواعية المتزنة، وأن يُشيع أهلها والمشتغلون فيها
أدبيات (النقد الذاتي) ، بعيداً عن الحساسيات المفرطة والذاتية المعوِّقة، بل ليست
الدعوة ببالغة مناها إلا بممارسة هذا الواجب المقرّر متى اكتملت الشروط الشرعية
فيه.
وها هو النهج القرآني يعالج قضايا الأمة ومشكلاتها ببيان معلن ونقاش
جَهْوَري غير موارب، بل إنه ليقرر هذه الكلية في قوالب زمانية ومضمونية غاية
في التنوع والاختلاف، هادفاً إلى تقريرين مهمين، أما الأول: فكامن في وجوب
معرفة أنّ مصائب الأمة وهمومها مسائل يجب أن تكون تحت المجهر الجمعي رجاء
البرء، وثانيهما: لتأكيد ألا فرق بين تلك المشكلات زمناً وحالاً من جهة العلاج
والتصحيح والإصلاح، فلئن كان (النقد) مطلوباً في أزمنة الرخاء والمواءمة التي
تتيح العمل بمقتضياته، فهو كذلك مطلوب في أزمنة العسرة لتكون إرشاداته ثَمّ في
صميم القلوب المترعة بالضنك، ولتنقش فيها الإيجاب نقش الحجر، وأنت واجد
كل ذلك لا محالة في مناخات التعبير القرآني الفريد، ويمكن أن نقدم على ذلك مثالاً
واحداً: إنه في الدرس المستفاد من التعقيب الإلهي عن استفهام المؤمنين الذين
أصابهم القرح في أحد في ألم وأسى عن سبب مصابهم، بأنه من أنفسهم، ولما لم
يكن الفعل مَرْضِيّاً أيّاً كان؛ فقد نالهم في أول معركة تالية ما به الدرس [1] ، قال
الله (تعالى) : [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ
أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 165] ، أي: أعندما تُصابون
في أُحُدٍ بمصيبة القتل من قِبل المشركين بسبعين منكم والبلاء في المجموع، وأنتم
قد أصبتم منهم في بدر ضعف مصابكم (قتل سبعين وأسر سبعين) ؛ تتساءلون: من
أين لنا هذا ونحن المسلمون وهم المشركون؟ ! ، والجواب: أن هذا العقاب إنما
هو بسببٍ منكم، على خلاف فيه بين أهل العلم: هل بأخذ الفداء من أسارى بدر
بدل الإثخان، أو بمعصية الرماة أمره، أو بمخالفة رأيه في البقاء في المدينة [2] ،
وأغلب المفسرين على الرأي الأخير [3] ، ومع إدراك أن البيان الذي نحن فيه لا
يهدف إلى تمحيص السبب، إلا أن من تمامه أي البيان الإشارة إلى أن كل هذه
الأقوال قد تكون مرادة بلا تعارض، والله وحده أعلم، وغايتنا هنا: لفت الأنظار
إلى الدرس العام المستفاد؛ إذ أخذ صفة الصدع، معلناً الحق، ولم يكن البيان
القرآني ليتأخر لظرف قد يُتذرّع بعاقبته زمنيّاً أو نفسيّاً.
وإنك تلحظ كذلك أن الآي الحكيم لم يعمد إلى عرض السبب بقالب تسلية بحت، من شأنه تخفيف وطأة المصاب، بل جاء التعبير بالتسلية المبطنة [قَدْ أَصَبْتُم
مِّثْلَيْهَا] والتذكير الصّراح [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] ، فهو قد (ذكر السبب الذي
أصيبوا به، وذكر القدرة التي هي مناط الجزاء، فذكر عدله فيهم بما ارتكبوه من
السبب، وقدرته عليهم بما نالهم من المكروه) [4] ، ملتفتاً عن أسلوبه المعهود في
مناسبات شبيهة، ولعل الحكمة في ذلك والله أعلم أن سياقات التسلية التامة إنما
تكون في مناسبات التسليم والإذعان الكامل الفوري، في حين أنّ هذا التميز قد جاء
في مناسبة مغايرة، حيث لم يذعن المخاطبون على القول الثاني لرأي النبي -صلى
الله عليه وسلم- في البقاء في المدينة والتحصن فيها، مع التأكيد على نبل هدفهم
وسموه (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) ، وفائدة أخرى: أن تلحظ أن القرآن
الكريم لم يستعض عن تناول الحادثة المشار إليها بقاعدة عامة يمكن الإلحاق بها،
من مثل قوله (تعالى) : [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] [الشورى: 30] ، مع كونها آية مكية سابقة؛ بل جاء التعبير بالتعيين، ليكون
درساً في الطاعة والانقياد، ولأن آية (آل عمران) قد تضمنت معنًى زائداً يدخل في
أهداف ما نحن فيه من بيان منهج القرآن الكريم في الصدع العلني إزاء مشكلات
الأمة؛ إذ إن المولى (عز وجل) يختم الآية الكريمة بقوله: [إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ] ، وفي هذا (نكتة لطيفة، وهو أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته، وأنه هو
الذي لو شاء صرفه عنكم، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، ولا تتوكلوا على
سواه) [5] .
وإذا كان ما تقدم بيانه في الشؤون العامة للأمة؛ فلا ريب أن شؤونها
المتفرعة تندرج في هذه القاعدة ويصدق عليها هذا الحكم، وعليه تكون هذه المقدمة
ضرورة في حق المشتغلين والمعنيين بأمر الدعوة إلى الله (تبارك وتعالى) ؛ كي
يمكن لهم التنمية والتطور، وتحقق (الدعوة) الفاعلية والتأثير، فالدعوة والدعاة
بأمس الحاجة إلى المراجعات والتقويم، بشروط الاعتبار الشرعية كما قد سلف
وهي شروط مبثوثة في كتب أهل العلم المنصرفين في بيانها وتوضيحها، ليس
المقام لتقصي أطرافها ودرس مضامينها، بل حسبه التذكير.
ولا ريب بعدُ أن التحديات التي تواجه الدعوة إلى الله (تعالى) كثيرة متعددة،
وإنه ليحسن التذكير بتقسيم لها قد سبقت الإشارة إليه في كتابة سابقة، وهو أن
مشكلات الدعوة ومعوقاتها تنقسم إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول: المعوقات المباينة الخارجية.
القسم الثاني: المعوقات الصفّيّة الذاتية.
ولقد سبق في الكتابة المشار إليها آنفاً التأكيد على أنّ تلك المشكلات التي تأتي
من خارج المناخ الدعوي تكون أقل ضرراً وتأثيراً من المعوقات التي تبتلى بها
الدعوة من بعض أهلها أو المحسوبين عليها، فتلك الخارجية مرصودة متوقعة،
بحيث يسهل مواجهتها أو على الأقل التخفيف من نتائجها، أما الذاتية فتحمل في
طياتها من العوامل الفرعية السالبة ما يذهل عن أصول المشكلة ويشتت الجهد.
أسلوب الانتقاء النوعي:
هذا، وإن من أخطر المعوقات الذاتية في ميدان الدعوة إلى الله (عز وجل) ،
ما يمكن أن يصطلح عليه بأسلوب (الانتقاء النوعي) من المضامين إبان الخلاف في
آليات الدعوة ومناهجها.
ولهذا الداء الخطير صورتان تمثلان حقيقته، فأما الأولى: فيعمد بعض
المشتغلين بالدعوة أو بعض المحسوبين عليها عند الاختلاف يعمد إلى آثار الآخر
المختلَف معه بالبحث والتنقيب، في محاولة (للظفر) بما يمكن أن يكون إدانة تسجل
على صاحبه، وتحسب للظافر! ! ، وليس مكمن الخطر في إشاعة هذا (الظفر) (! !) ، فتلك قضية أخرى تتصل بأدب النصيحة وفقه الإصلاح والتوجيه، وإنما
الخطر كله أن يكون البحث قائماً على غير ذي بال من الصحة والصدق، بل يكون
لصيق الصلة بـ[لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ] [6] ، وبـ[فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ] [7] ،
مجتزءاً، قد بُترت أطرافه واندثر سياقه.
ولئن كنا مأمورين بالعدل مع الأعداء؛ فإنه من باب أوْلى أن نشيعه معشر
الدعاة في مناهجنا وحواراتنا الدعوية، لا سيما الخلاف الذي هو في أغلب الأحايين
خلاف تنوع لا خلاف تضاد؛ إذ الأقربون أولى بالمعروف، وحقّاً: لم تعرف هذه
الصورة السلبية إلا في بيئات المبتدعة وأهل الأهواء الذين يتخذون من (اجتزاء)
السياقات والنصوص القرآنية والحديثية منهجاً مطرداً في تقرير أباطيلهم وبدعياتهم، إنْ في التقرير المجرد الذاتي كما في بعض مصنفاتهم المتجهة للبيان القرآني من
مثل (كشاف) الزمخشري المعتزلي، وإنْ في مناظراتهم مع أئمة السنة والجماعة.
وللمطلع على شيء من حوارات الجهبذ شيخ الإسلام (ابن تيمية) (رحمه الله تعالى)
معهم، أن يقف على نماذج لا تحصى من هذه المناخات الانتقائية في الحوار،
ويقف بعدُ على ما تقرر من أن هذا الأسلوب شائع عند المبتدعة، بل وهم مُعَرّفون
به، وهذا مشين بحق المنتمين إلى أنبل مهمة أن يكونوا متصفين بشيء من هذا
الخلق الرديء، فضلاً عن أن يكون حمادى طاقة بعضهم وهجيراه. والحق الذي لا
مرية فيه بعدئذ أن هذه الصورة من أبشع صور الظلم المتوجه إلى مستقبل الدعوة
بالويل، فهو متعد في السلبية إلى صدقيتها ومناهجها وريادتها، فشؤمه لا يقتصر
على الآحاد.
والصورة الثانية لهذه الآفة لا تقل خطراً عن الصورة الأولى، وهي تتمثل
بأن يقصد المخاصم إلى بعض زلات (خصمه) ، مستتراً بالنصح، متذرعاً بالإعذار، ولعلهم يتقون! ! ، وليست المشكلة ها هنا كذلك في إشاعة الخطأ، فسالفاً قَعّدَ
البيان لمثله، ولربما كان من قبيل الصحة والعافية، وإنما الزلل في منهج (الانتقاء)
الذي يُغفل الحسنات ويقتصر على إشاعة السيئات، لجهة وقوع الممارس في
مخالفات شرعية ومنهجية، فأما الملحظ الشرعي، فلكونه قد جانب العدل مع
الآخرين، ولا مشاحّة في أن إقامة العدل وإشاعته من أعظم مقاصد الشريعة
واستشرافاتها، هذا من ناحية، ومن جهة أخرى: فلأن في هذه الممارسة غمطاً
للناس، وهو من علامات الكبر والعجب (أعاذنا الله تعالى من مرذول الخُلُق) .
والجانب المنهجي يتعلق بأدبية التعامل، فلا شك أن الواقع في شيء من هذه
الآفات يتطلب العدل من الآخرين، وإذا كان من الواجب في حقه المعاملة بالمثل،
والراصد لواقع الآفة يفاجأ بالتناقض الصارخ في مسلكية الوالغين فيها؛ فهم مع
الآخر (انتقائيون) ، وفي التنظير لمحاوراتهم وإبان الشعور بالخطأ يطالبون بالعدل
باللفت إلى النظرة الواقعية المعتدلة! .
وإن السنة في حق هؤلاء أن يربوا أنفسهم على قيم العدل في إبراز جوانب
الخير كما هم متحمسون لإظهار جوانب الخلل إن كان ثَمّ، وإن الديانة والمروءة
تقتضي منهم ألا يجعلوا من محاريب علمهم موئلاً لانتقاص الآخرين وذمهم، إلا مَنْ كان مبتدعاً مخالفاً لمنهاج أهل السنة والجماعة، فمثله يُندب للرد عليه ودفع أباطيله، وإنما النهي عن المخالفين في آليات الدعوة، فإنهم منهم وهم من أولئك، شريطة
موافقة الكتاب والسنة هنا وهناك بكل حال.
إنه في الوقت الذي تنتظر فيه الدعوة من أبنائها وحدة الصف للعمل والإنتاج
تفاجأ بشيوع نماذج الصورة الثانية وانتشارها في المحافل وفي دور العلم، انتشار
النار في الهشيم، فالمخاصِم يقلب عينيه في مصنّف المشنوء رجاء الزلة، ويبث
العيون ويسترق السمع طُلبة للخطأ، وهو في هذا وذاك يُغفل الخير ولا يرجوه،
ويُحصي الشر ويتمناه، يختار الأدنى على الذي هو خير، ينتخب السقطة ويُقصي
المحمدة، إنّه ذاهل عن الخير بالتوجس والنبض والتمني! ، مَثَلُه في ذكر السوء
النزر وودع الحق، مثل الآخذ بأذن الكلب دون طيب النعم، وذاك تشبيه البليغ
الفصيح إذ يقول: (مثل الذي يجلس فيسمع الحكمة ثم لا يحدث عن صاحبه إلا بشر
ما سمع، كمثل رجل أتى راعياً فقال: يا راعي! اجزر لي شاة من غنمك. قال:
اذهب فخذ بأذن خيرها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم) [8] .
وأما البحث عن دوافع (الانتقاء النوعي) ، فراجعةٌ في الأعم الأغلب إلى
الجهل، وقد ترجع إلى الهوى، فالمخالف المتوجه إلى ممارسة (الانتقاء) في
صورتيه، إما أن يكون جاهلاً بعاقبة عمله في العاجل، بحيث لا يدرك الآثار
السيئة التي يمكن أن تخلفها هذه الممارسة في صورتيها على الدعوة وواقعها،
وعلى المستويات كافة، أو لا يدرك بجهله آجل الظلم ومآل الغمط في الآخرة، وإما
أنه ذو هوى فتّاك يقوده إلى المعصية، وهو يدرك نتائجها، فلا يلوي في سبيل
تحقيق هواه على شيء، فهو به جاهل، ومن هنا سمّت العرب الهوى هواناً [9] ،
وهكذا ترى أن الهوى والجهل هما دافعا (الانتقاء النوعي) ، بل هما سبب السيئات
كلها على سبيل الحق، يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية) (رحمه الله) في حديث نفيس
عن سبب المعاصي: (فإن أحداً لا يفعلُ سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها سيئة
قبيحة، أو لهواه وميل نفسه إليها ... وفي الحقيقة: فالسيئات ترجع إلى الجهل،
وإلا لو كان عالماً علماً نافعاً بأن فعل هذا يضره ضرراً راجحاً، كالسقوط من مكان
عال، أو في نهر يغرقه،.. ونحو ذلك لم يفعله؛ لعلمه بأن هذا ضرر لا منفعة فيه، ومن لم يعلم هذا يضره كالصبي والمجنون..، فالغفلة والشهوة أصل الشر، قال
(تعالى) : [وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً]
[الكهف: 28] ، فالهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل..، ولهذا قال
الصحابة (رضي الله عنهم) : (كل من عصى الله فهو جاهل) ، وفسروا بذلك قوله
(تعالى) : [إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ]
[النساء: 17] ، قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية، فقالوا: (كل
من عصى الله فهو جاهل) [10] .
ومن هنا: أصبح من الواجب اللازم على المشتغلين بالدعوة، أن يطهروا
قلوبهم من أدرانها، لا سيما تلك التي تتعدى آفاتها إلى الدعوة ذاتها، وإن عليهم
تعاهدها بالعلم والعمل وصولاً إلى مراتب التزكية والخيرية، وإن عليهم كذلك أن
يفطنوا وهم فاعلون إن شاء الله لمعوقات الطريق الذاتية، وأن يوقنوا أن العدو
المتربص الذي يعمل على إذكاء الخلاف وبعث الفتنة، إنما يمارس ذلك لإدراكه أن
وقف مسيرة الدعوة بالمشكلات الذاتية أجدى من التعويق بالصد المباين.
لقد آن للدعاة إلى الله (عز وجل) وخاصة من وقع في بعض الأخطاء أن
يتعاطوا مع مشاكلهم الزاحفة المتربصة تعاطياً مناسباً لأحجامها من المسؤولية، وأن
تكون مناهجهم العملية والعلمية متسمة بأدبية التمحيص والتصحيح من خلال الكتاب
والسنة وفهم السلف الصالح، بل وإن من الواجب في حقهم أن يستفيدوا من مناهج
المراجعات المختلفة، متسلحين بالتجرد الأمكن، والمجاهدة النفسية، والروح
المتسامحة، والنظرة العميقة النافذة.
حقّاً! إن الأمة لا تنتظر من الواقعين في شيء من بُنَيّات الطريق مجرد
الصفح، بل تترقب التحول السريع إلى ميادين التعاون الجمعي في سبيل تطوير
مناهج الدعوة وآلياتها، يداً بيد، وخطوة بخطوة.
وإنه لا مناص من التأكيد عاقبة أن إشاعة (النقد الذاتي) من دلائل الصحة
والنضج، وأن الخطأ والزلل شأن العمل البشري كله، وليست العصمة لبشر عدا
الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وعليه: فإن الحديث عن (الانتقاء النوعي) ليس
إلا مرحلة من مراحل المراجعة الطويلة الممحصة.
وإنه متى كانت هذه القناعات أساسيات العمل الدعوي في النفوس والتعامل؛
فإن المسيرة بخير وطيب حال.
__________
(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ج1/424، 425، ط دار الفكر.
(2) والرأي الأول اختيار عمر وعلي (رضي الله عنهما) ، وإلى الثاني ذهب ابن عباس (رضي الله عنهما) ، والثالث قول قتادة والربيع (رحمهما الله) ، يُنظر: زاد المسير لابن الجوزي، 1/396،: الكتب العلمية، 1414هـ، وللضحاك (رحمه الله) : أي بسبب ذنوبكم السالفة، يُنظر: بحر العلوم للسمرقندي، 1/ 313، ط: الكتب العلمية، الأولى، 1415هـ.
(3) يُنظر: جامع البيان للطبري 3/506، وتفسير السعدي، 1/274.
(4) بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم، جمع: يسري السيد محمد، 1/ 535، ط، دار ابن الجوزي، 1414 هـ.
(5) تفسير القاسمي (محاسن التأويل) ، 2/171، ط مؤسسة التاريخ العربي، 1415هـ.
(6) جزء آية من سورة النساء، آية: 43، وتمامها الشرعي والدلالي بذكر قيد النهي: [وَأَنتُمْ سُكَارَى] .
(7) جزء آية من سورة الماعون، آية: 4 5، وتمامها الشرعي والدلالي بذكر صفتهم: [الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ] .
(8) رواه الإمام أحمد (رحمه الله) في مسنده، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) ، قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده حسن، هذا وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تضعيف الحديث انظر: مسند الإمام أحمد، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط، وعادل مرشد، 14/284، ح/8639، 15/148، ح/9260،
ط الرسالة، 1417هـ، وينظر: المسند، ح/8624، 8/373، ط: دار الحديث، 1416 هـ.
(9) ينظر: عيون الأخبار، لابن قتيبة، م1 ج1/94، ط دار الفكر.
(10) دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية، وضع: د محمد السيد الجليند، 1/99.(116/24)
مقال
الإرهاب مصطلحاً!
بحث في إشكالية تعريف (الإرهاب)
وسر غموض التعريف
بقلم:أحمد بن صالح السالم
مع ما نلحظه فيما يتعلق بمصطلح (الإرهاب) من إجماع دولي على محاربته،
وتخطيط محكم لاقتلاع جذوره ونسف شجرته، نلحظ أيضاً عدم امتلاك أي من هذه
الدول لتعريف واضح ومقبول لهذا المصطلح.
فلماذا بدا مثلاً (الأفغان) ، و (الإيرلنديون) ، و (الكشميريون) إرهابيين في
نظر أعدائهم الروس، والإنجليز، والهنود، بينما لا يعتبرهم آخرون كذلك؟ ! بل
ما هو الأساس الذي اعتمد عليه الصرب المجرمون في وصم (البوشناق) المساكين
بالإرهاب؟ ! .
ومن هنا تتبين أهمية طرح إشكالية تعريف هذا المصطلح، واستجلاء سر
غموضه، بل تعمد أن يكون غامضاً، من أجل أن نصل أخيراً إلى تقدير مدى
إمكانية إقرار المصطلح واستخدامه.
أولاً: إشكالية التعريف:
أ- المعنى اللغوي:
تبين لنا من خلال استقراء المعاجم العربية الأصلية أنها قد خلت من كلمة
(إرهاب) ، وهي كلمة أقرها المجمع اللغوي وجذرها (رهب) بمعنى خاف.
ومصطلح (الإرهاب) ترجمة حرفية للكلمة الفرنسية (Le Terrorisme)
التي استحدثت أثناء الثورة الفرنسية، وهي ترجمة حرفية أيضاً للكلمة الإنجليزية
(Terrorism) ، ويُعْتَقَدُ أن الترجمة الصحيحة للمصطلح الأجنبي هي كلمة
(إرعاب) ، وليس (إرهاب) [1] .
ب- المعنى الاصطلاحي:
من أجل تأكيد أعمق لإشكالية التعريف الاصطلاحي نشير إلى أن كتاباً [2]
أُورد فيه من تعريفات الإرهاب ما يزيد على المائة وضعت من قِبَلِ بعض
المتخصصين بين عامي 1936م 1981م.
ونظراً لحاجة التحليل الذي نحن بصدده إلى بعض التعريفات أثبت منها ما
يلي:
1- يعرّف (جي فاوفيتش) ، الإرهاب بأنه: (الأعمال التي من طبيعتها أن
تثير لدى شخص مّا الإحساس بالخوف من خطر مّا بأي صورة) [3] .
2- أما (ليمكين) فيعرف الإرهاب بأنه: (يكمن في تخويف الناس بمساعدة
أعمال العنف) [4] .
3- ويعرفه (جورج ليفاسير) بأنه: (الاستعمال العمدي والمنتظم لوسائل من
طبيعتها إثارة الرعب بقصد تحقيق أهداف معينة) [5] .
4- أما المشروع الفرنسي المقدم عام 1972م، للأمم المتحدة فيعرف
الإرهاب بأنه: (عمل بربري شنيع) ، في حين وصفته (فنزويلا) بأنه: (عمل
يخالف الأخلاق الاجتماعية ويشكل اغتصاباً لكرامة الإنسان) [6] .
ولكي نتمكن بعد استعراض هذه التعريفات من تحليلها بغرض تحديد درجة
دقتها وقياس مدى إمكانية الاعتماد عليها في عملية وصف وضبط وتحديد ما يمكن
تسميته بـ (العمل الإرهابي) ، فإنه لا بد من إيضاح أركان (الإرهاب) .
ج- أركان الإرهاب:
بعد تأمل ما يسمى بـ (العمل الإرهابي) ، يمكن القول بأنه يقوم على أركان
أربعة هي:
1- القائم بالعمل. 2- الهدف.
3- الوسيلة. ... ... 4- المستهدف.
ولكي يكتسب تعريف (الإرهاب) صفة الدقة، ويحظى بدرجة معقولة من
القبول: فإنه لا بد من قيامه على هذه الأركان الأربعة مجتمعة، مع ضرورة اتكائه
على عقيدة أو إيديولوجية معينة، وذلك لتعذر ضبط الهدف والوسيلة إلا بالاعتماد
على مثل هذه العقيدة أو الإيديولوجية.
وبهذا يتبين لنا عدم دقة أي من هذه التعريفات لعدم اصطباغها بالمقومات
الضرورية السابقة واللازمة لاكتساب صفتي الدقة والقبول.
وفي هذا السياق، ومن أجل تقرير وتأكيد حقيقة مهمة نبادر بطرح السؤال
التالي:
لماذا لم تفلح الدول في بلورة تعريف واضح ومقبول للإرهاب؟
السبب في ذلك يعود إلى تباين وتضارب العقائد أو الإيديولوجيات التي
اعتنقتها الدول وارتضتها مناهج حياتية لها ولشعوبها واتخذتها فلسفة تصدر عنها في
سن تشريعاتها ونظمها، فأدى ذلك التباين والتضارب إلى جعل اتكاء التعريف على
عقيدة أو إيديولوجية بعينها أمراً متعذراً ... فتم الاتكاء على الأخلاق الحضارية
والقيم الإنسانية والمعطيات الواقعية! ! ! .
ثانياً: سر غموض المصطلح:
وحتى مع الإقرار بالحقيقة السابقة فإنه يبرز سؤال تعوزه إجابة منطقية مفاده: ألا تستطيع هذه الدول أن تقلل من غموض هذا المصطلح وتظفر بالتالي بتعريف
أكثر دقة وقبولاً وأقرب إلى تحقيق العدل والإنصاف؟
بلى! تستطيع ... بيد أن الكبيرة منها على وجه الخصوص تهدف إلى
ممارسة الإذلال والاضطهاد لأعدائها من خلال المصطلح ذاته، ولا سيما الأعداء
الأيديولوجيين وعلى الأخص الراديكاليين الدينيين (أو بتعبيرهم المتزمتين!) ! .
فأصبحت هذه الدول في جو ضبابية المصطلح لا تتكلف إذا أرادت أن تقضي
على أعدائها (أياً كانوا: شخصاً، جماعةً، حزباً، نظاماً، شعباً) أكثر من أن تشير
ببنانها إلى هذا العدو واصمة إياه بالإرهاب؛ لتنطلق بعد ذلك نحوه بخيلها ورجلها
جيوش العالم التي سبق تجييشها ضد (الإرهاب) دونما تروٍ ولا تثبت، بل ولا
سماعٍ لشاهد آخر! !
ولقد ثبت عن وكالات الاستخبارات الغربية ما يؤكد هذه الحقيقة، فمن ذلك:
ما ثبت عن إحداها قولها: (إن الدوائر الرسمية في الدولة قد تعمد إلى استدراج
(رئيس دولة ما) إلى مغامرة خارجية أو انتقال أعمال إرهابية لتهيئة الأجواء الدولية
لتوجيه ضربة موجعة لهذه الدولة) [7] .
ومما يفيده هذا الاقتباس أن هدف هذه الدول قد يتعدى إلى ما هو أكبر من
تصفية شخص عادي أو القضاء عليه أو حتى جماعة أو حزب.. وبهذا ندرك سر
تعمد الغموض.. فلماذا يعينهم الآخرون على أنفسهم؟ ! .
وإلى هذا الهدف يضاف هدف آخر لا يقل أهمية عنه، بل هو أهم،
ويتلخص في سعيهم الجاد إلى القضاء على الالتزام الصحيح بالإسلام عقيدة وشريعة
ومنهاج حياة وذلك من خلال إقرارهم واقعياً للمعادلتين التاليتين:
إسلام المعتدلين (في نظرهم) الإرهاب
إسلام المتشددين (في نظرهم) الإرهاب
فهم يصفون الإسلام الذي يساوونه بالإرهاب بأنه أصولية وتطرف! ! .
أما الإسلام الذي لا يصح من وجهة نظرهم أن يُربط بالإرهاب فهو إسلام
المعتدلين! !
هذا بالنسبة للدول الكبيرة، أما الصغيرة منها فمعظمها يرمي إلى تحقيق
الهدف الثاني من وراء استخدام هذا المصطلح الضبابي! ! أما الهدف الأول فمتعذر
لهم وممكن عليهم! ! !
ثالثاً: المصطلح: استخدام أم إحجام؟
وفي نهاية الموضوع نأتي إلى السؤال (الثمرة) الذي يُلِحّ على تحرير إجابة
منهجية له وهو:
هل يسوغ لنا استخدام هذا المصطلح بعد الإقرار بهذه الحقائق والتسليم بها؟ !
والجواب: لا يسوغ استخدامه من وجهة نظري لأسباب من أهمها:
1- أن الله (عز وجل) يقول: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [البقرة: 104] .
وأجزم بأن الآثار السيئة المترتبة على إقرار هذا المصطلح واستخدامه أكثر
وأخطر من تلك التي قد ترتبت على قول بعض المؤمنين [رَاعِنَا] وهو ما
سيتضح في النقاط التالية.
2- أننا بإقرار هذا المصطلح واستخدامه قد نمكّن للحاقدين من تنفيذ
مخططاتهم العدوانية.
3- قد يفيد استخدام المصطلح دون تبيين لماهية الإرهاب المُدان من الناحية
الشرعية بأننا نحكم على بعض الأعمال الجهادية بأنها من الإرهاب! .
4- لقد تقرر معنى الإرهاب في كثير من الأحيان عند أولئك بأنه الإسلام!
فهل نُدينه نحن بدورنا! !
5- إن مصطلح (الإرهاب) قد جاء في قوله (جل وعز) : [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ
لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ] [الأنفال: 60] .
رابعاً: مصطلحات بديلة:
لغتنا العربية لغة ثرية في كلماتها، دقيقة في معانيها، واسعة في مصطلحاتها، واضحة في لوازمها، وهي مع ذلك لغة تواكب تطورات العصر وتفي باحتياجاته.
وعليه فإن المصطلحات التي يمكن استخدامها كبديل لمصطلح (الإرهاب)
كثيرة في عددها ومتنوعة في أغراضها، فمنها على سبيل المثال: العنف الإجرام العدوان.
وأخيراً:
أؤكد على أولئك الذين لم يقتنعوا بعدُ بعدم تسويغ استخدام هذا المصطلح،
وعلى أولئك الذين اضطرهم السياق إلى التحدث بلغة القوم، أؤكد عليهم جميعاً بألاّ
يستخدموه على نحو يُشعر بقبولهم العام له، أو بانتفاء الإشكالية في تعريفه، وبألا
يستخدموه على نحو يكرس ما لا يجب تكريسه! ! .
والله الموفق،،
__________
(1) الإرهاب الدولي، خطورته والتخطيط لمواجهته، عبد الله المهنا، 1407 هـ، ص 5،
وانظر: (الإرهاب في القانون الجنائي) ، د / محمد مؤنس محب الدين، ص 77.
(2) الإرهاب الدولي ومشكلات التحرير والثورة في العالم الثالث، د / أسامة حرب، وآخرون.
(3) الإرهاب في القانون الجنائي، ص 73 74.
(4) الإرهاب في القانون الجنائي، ص 73 74.
(5) الإرهاب في القانون الجنائي، ص 73 74.
(6) الإرهاب الدولي، خطورته والتخطيط لمواجهته، ص 21.
(7) الإرهاب والعنف السياسي، محمد السماك، ج2، 1992م، ص 138.(116/32)
دراسات تربوية
الاهتمام بدعوة المرأة وتربيتها (1من2)
بقلم: عبد اللطيف بن محمد الحسن
تعاني الصحوة اليوم من ضعف في طاقاتها العاملة المؤهلة التأهيل اللازم، مما يساعد على محدودية الانتشار، ونخبوية العمل، ومن أشد ذلك تَبِعَةً: عدم تكافؤالجهد المبذول لدعوة المرأة وتربيتها مع الواجب تجاهها، وما ترتب عليه من تنحي المرأة عن ميدان الدعوة، وبخاصة في ظل الدور الإفسادي المركّز الموجّه إلى المرأة المسلمة في جل ديار الإسلام لإبعادها عن رسالتها.
التقصير في دعوة المرأة:
إن نظرة في واقع الصحوة اليوم، ومكان المرأة فيه تنبئ عن ذلك دون عناء، ومن أبرز مظاهر ذلك:
1- قلة الطاقات والكفاءات الدعوية النسائية.
2- ضعف الاستفادة من هذا القليل؛ لندرة المبادرات الذاتية المستغلة لتلك
الطاقات القليلة، وإهمالها في غالب الخطط الدعوية.
3- ضعف التكوين الدعوي والتربوي والعلمي لدى الداعيات الموجودات،
وكثير من نساء الدعاة.
4- ضعف استيعابهن لدور أزواجهن الدعوي المنوط بهم شرعاً مما يفضي
إلى شيء من التذمر، وربما الخصام! !
5- تفشي الجهل في الأمور الشرعية لدى غالبية النساء.
6- تأثير الدور العلماني الموجه لإفساد المرأة في الواقع المعاش.
7- ندرة المؤسسات الدعوية النسائية.
8- ضعف المؤسسات النسائية الدعوية القائمة غالباً؛ بدليل ضعف الإنتاج،
وكثرة الوقوع في الأخطاء [1] .
أسباب التقصير:
إن مما سبب إهمال المرأة أموراً عدة، هي في الحقيقة عقبات وعوائق،
يصعب معها القيام بالواجب دون معرفتها وتحليلها، والسعي إلى معالجتها وتجاوزها:
-تسليم المجتمع للموروثات الخاطئة عن المرأة، ونظرته المستنقصة لها،
حيث يعتبرها مجرد أداة لحفظ النسل فقط، وأيضاً بمراعاته للعادات والتقاليد التي
ليس لها أصل في الشرع، والتي تحد من الحركة الدعوية للمرأة.
-عدم اقتناع الرجل بمسؤولية المرأة الدعوية، وذلك عندما يحمّل قول الله
(تعالى) : [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] [الأحزاب: 33] ، ما لا يحتمل، ويسيء استخدام
حق القوامة، فيمنع المرأة من الخروج لمصلحة دينها ودنياها، وينسى أن المعاشرة
بالمعروف تستلزم إذنه لها فيما لا محذور فيه ولا ضرر، ويسوء الحال أكثر عندما
يكون أنانياً، أو ضيِّق الأفق، لا يفكر إلا في مصلحة شخصه، وأسوأ من ذلك:
عندما يكون غير مستقيم.
-وبشكل أخصّ، فإن من الأسباب: غياب الأولويات لدى الرجل الداعية
الذي أذهله واقع أمته عن الاهتمام ببيته وأهله، واستُنفِدت طاقته في العمل الدعوي
خارج المنزل، فلم يُبق له شيئاً في ظل تخاذل غيره عن القيام بواجبه، مما أرهق
الداعية وأفقده شيئاً من التوازن الضروري.
-والمرأة ذات دور مؤثر في الموضوع؛ وذلك عندما يضعف مستوى الوعي
عند الملتزمات ويقفن دون مستوى النضج المطلوب، وأيضاً: حين تضعف رغبة
المرأة في التضحية، أو تبالغ في التوسع في المباحات والكماليات، مما يضاعف
جهدها داخل المنزل، وحين تصعب عليها الموازنة بين الحق والواجب، وحين
تفقد شيئاً من الموضوعية والتوازن، فتنسى أن عملها داخل بيتها هو جوهر
رسالتها، وتغفل عن أداء دورها فيه، وأيضاً: حين تجهل ترتيب الأولويات
فترتبط بعمل وظيفي يشغلها عن بيتها، فضلاً عن رسالتها الدعوية داخله وخارجه،
وكذلك حين ينقلب الحياء خجلاً من أداء الواجب، فيصير مرضاً خطيراً يفتقر إلى
العلاج.
-ومن الأسباب: محدودية بعض الدعوات الإصلاحية، وعجز أكثرها عن
استيعاب المرأة، وعدم مراجعتها لخططها وبرامجها، وضعف التربية المؤدي إلى
ضعف الشعور بالمسؤولية بالشكل المتكامل.
-ومن الأسباب: الكيد الخارجي والداخلي أيضاً المتمثل في الغزو الفكري،
وخاصة الموجه للمرأة، تحت ستار: تحرير المرأة، مما أقصى المرأة عن رسالتها، وشوّه صورة الإسلام في ذهنها، واستخدمها في غير ما خلقت له، ومنها أيضاً
الأوضاع الجائرة في كثير من بلاد المسلمين التي أقصت الرجال عن ميدان الدعوة، فضلاً عن النساء.
-وهناك أسباب أخرى، مثل: صعوبة المواصلات، وهذا أمر يهون؛ إذ لا
مانع من الدعوة داخل البيت، ومع الجيران والزائرات والأرحام، وفي هذه الحال
على ولي المرأة وكل من يعنيهم الأمر احتساب الأجر، وسعيهم في تذليل هذه العقبة.
أهمية إعداد المرأة الداعية:
ثمة أسباب ومسوغات كثيرة تعكس أهمية ذلك، ومنها:
1- أن المرأة أقدر من الرجل على البيان فيما يخص المجتمع النسائي.
2- أن المرأة تتأثر بأختها في القول والعمل والسلوك أكثر من تأثرها بالرجل.
3- أنها أكثر إدراكاً لخصوصيات المجتمع النسائي، ومشكلاته.
4- قدرتها على الشمولية للجوانب الدعوية النسائية، والتمييز بين الأولويات، لطبيعتها ومعايشتها للوسط النسائي.
5- أنها أكثر قدرة وحرية في الاتصال بالنساء، سواء بصفة فردية، أو من
خلال المجامع النسائية العامة، التي يكثر فيها لقاء النساء من خلال قنوات الدراسة
والتدريس والعمل والزيارات وغيرها.
6- أن كثيرات من المسلمات اللاتي يحتجن إلى دعوة وتوجيه وتربية يفتقرن
إلى وجود المحرم الذي يقوم بدعوتهن؛ مما يعني تحتّم قيام بنات جنسهن بهذا الدور
تجاههن.
7- أن وظيفة المرأة التربوية أوسع من وظيفة الرجل؛ لقيامها بالحمل
والولادة والرضاع والحضانة، مما يجعل الأولاد أكثر التصاقاً وتأثراً بها من الأب،
بالإضافة إلى طول ملازمتها للأولاد في البيت، خاصة قبل بلوغ الأبناء وزواج
البنات، مما يمكنها من تنشئة أولادها كما تريد، وبالتالي فقد تضيِّع كثيراً من جهود
زوجها الدعوية، إذا لم تحمل الهمّ الدعوي الذي يحمله، أو تقتنع بجدواه على الأقل، ولعل في قصة امرأة نوح (عليه الصلاة والسلام) وابنه ما يشير إلى هذا (نسأل
الله السلامة) .
8- أن للمرأة تأثيراً كبيراً على الزوج، فصلاحها معين على صلاحه،
وأيضاً فإن ضعف قناعتها بأمر دعوته موهن له كثيراً، وفي قصة طلب زوجة
فرعون الإبقاء على موسى (عليه السلام) ما يؤكد هذا، وكذا قصة إسلام عكرمة
بسبب إلحاح زوجه أم حكيم (رضي الله عنها) [2] .
9- تتميز المرأة بجملة من الصفات والخصائص، تؤكد الأهمية، كما ينبغي
وضعها في الحسبان، ومنها:
أ - رقة العاطفة، والحماس لنشر قناعاتها.
ب - ضعف الإرادة، وسرعة التأثر، وحب التقليد.
ج - ضعف التحمل، والميل إلى الفسحة واللهو.
د - كثرة الإلحاح على الرجل ومراجعته، ومحاولة ثني إرادته، وتغيير
قراره [3] .
آثار قيام المرأة بالدعوة:
-رفع الجهل وإعمال سعة الأفق الفكري، وتوفير كفايات علمية نسائية تكون
مرجعاً للنساء.
-إصلاح السلوك، واختفاء كثير من الممارسات الخاطئة التي أخذت طابع
الظاهرة الاجتماعية في كثير المجتمعات.
-كون الداعية رقيبة على نفسها في حركاتها وسكناتها، مما يقلل متابعة الرجل، وحرصه على ذلك للثقة بها.
-إبراز مكان المرأة في الإسلام وإشعارها بحقوقها وواجباتها؛ لتسعى إلى
أداء الواجب، والمطالبة بالحق الشرعي.
-التوازن في التوجيه، واتحاد الأهداف وتضافر الجهود لتنشئة الجيل المسلم
الصالح.
-سدها ثغرة من ثغرات المجتمع، بوقوفها أمام تيار الفساد الموجه ضد
المسلمين بعامة، والنساء منهن بخاصة.
-إحياء قوة الانتماء للإسلام، بإظهار شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وهي من أعظم شعائره.
-تأمين رافد مالي مهم للدعوة، وهو جانب الإنفاق النسائي في وجوه الخير،
لوفرة ما لديهن عادة، ووجود المال أحياناً من إرث ونحوه، ومن ناحية أخرى:
حفظ مال الزوج من تبديده في الكماليات، للإبقاء عليه معيناً له على الاستمرار في
دعوته [4] .
المرأة المسلمة مدعوّة وداعية:
كل أمر ونهي عام في خطاب الشارع فإنه شامل للذكر والأنثى قطعاً، والمرأة
داخلة فيه بلا شك، وإنما يوجّهَ الخطاب للذكور تغليباً على الإناث، وهذا أمر سائغ
في اللغة، إلا أن هناك أحكاماً لا خلاف في اختصاصها بالرجال.
وبالمقابل فإن الله (عز وجل) ونبيه قد خصّا النساء بأمور دون الرجال، مما
يدل على اعتبار شخصيتها المستقلة عن الرجال، وهذا وذاك يؤكد وجوب التوجه
إلى المرأة بالدعوة والتربية والإصلاح والتوجيه؛ فإنها مخاطبة بدين الله (عز وجل) ، مأمورة بالتزام شرعه، مدعوة لامتثال الأوامر، وترك النواهي.
ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجه للنساء خطاباً خاصاً بعد حديثه
للرجال، وربما خصهن بيوم يعلمهن فيه دون الرجال [5] .
ويؤكد الوجوب أيضاً: مسؤولية الرجل عن بيته مسؤولية خاصة، قال الله
(عز وجل) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]
[التحريم: 6] ، وقال الرسول: (والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عن رعيته) [6] ، وقد أورد البخاري (رحمه الله) في باب: (تعليم الرجل أَمَته وأهله) حديث أبي موسى (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة لهم أجران وذكر منهم: رجل كانت عنده أَمَةٌ فأدبها فأحسن تأديبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران) [7] ، ولا شك أن الاعتناء بالأهل الحرائر في التعليم والتربية آكد من الاعتناء بالإماء.
ويزداد هذا الواجب في حق الداعية؛ لاعتبارات كثيرة لا تخفى، هذا من
ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المرأة مكلفة بالدعوة إلى الله (عز وجل) ، ويستفاد
وجوب الدعوة عليها من أدلة كثيرة منها:
1- عموم الأدلة على وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
كقول الله (تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ... ] [آل عمران: 104] ، ونحوه من الآيات والأحاديث.
2- تخصيصها بخطاب التكليف بالدعوة؛ كقوله (تعالى) : [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً] [الأحزاب: 32] ، قال ابن عباس (رضي الله عنهما) في قوله
(تعالى) : [وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً] : (أمْرُهن بالمعروف، والنهي عن المنكر) [8]
وهذا خطاب عام لنساء المؤمنين، وقوله (تعالى) : [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... ] [التوبة: 71] ، وهذا دليل على وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر عليهن كوجوبه على الرجال، حيث وجدت
الاستطاعة، وكذا قوله: (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ... ) ، وفيه:
(والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم) ، والراعي: هو
الحافظ المؤتمن على ما وضع عنده، الملتزم صلاح ما قام عليه.
3- بعض الأحوال والقرائن والأحكام الشرعية، نحو:
أ- حرمة الاختلاط بين الجنسين؛ مما يعني وجوب قيام داعيات بين صفوف
النساء.
ب- وجود بعض الأحكام الشرعية التي اختصت المرأة بروايتها عن النبي.
ج- صعوبة قيام الدعاة من الرجال بكل ما تحتاجه الدعوة بين النساء؛
لاختصاص المرأة ببعض الأحكام والأعذار الشرعية، التي يصعب إفصاح الرجال
عنها، وتستحيي النساء من السؤال عنها [9] ، إلى غير ذلك من الأمور التي
يصعب القول معها بغير الوجوب.
حقيقة دور المرأة الدعوي المطلوب:
الناظر في دور المرأة المسلمة في هذا المجال يجد أنه كان لدعم عمل الرجل،
ولا يصح بحال أن يستهان بهذا الدور؛ فإن المرأة تمثل السكن النفسي للرجل،
وهي بذلك تؤدي دوراً دعوياً مهماً؛ لأنه لا يستطيع حل مشكلاته الخاصة إذا كان
مشغول البال، فضلاً عن تحمله أعباء الدعوة. وكم عرفت الدعوات أناساً سقطوا
على طريق الدعوة أو ضعف إنتاجهم؛ لهذا السبب.
وموقف خديجة (رضي الله عنها) في مواساة النبي -صلى الله عليه وسلم-
ومؤازرته وعونه: أكبر دليل على الأهمية البالغة لهذا الدور. ولقد تأملت في حال
الصحابة (رضي الله عنهم) وسلف الأمة (رحمهم الله) في انطلاقهم في كل صقع من
الأرض، مجاهدين ودعاة ومربين ... وغياب بعضهم المدد الطويلة فألفيتها تعطي
أوضح دليل على ما كان لنسائهم من دور فعّال في تربية أبنائهم، الذين كانوا على
خطى آبائهم؛ ديناً ومنهجاً وقوة ومَضَاء! ! .
وجُلّ نساء اليوم لا تعي هذا الدور، ولا تفهمه، ومن باب أوْلى لا تقوم به،
فعندما تزف البنت إلى عش الزوجية تظنه مكاناً للراحة والتدليل، وما درت أنه
بداية الكفاح والتضحية والمسؤولية والعطاء الذي تطرق به باب الجنة، إن قامت به
على وجهه.
ولا يقف دور المرأة عند هذا الحد، فإن لها دوراً قوياً مؤثراً في كونها قدوة
حسنة، كريمة الأخلاق، حسنة المعشر، تقضي حوائج الناس، وتشاركهم همومهم
وأفراحهم مع التزام الشرع إضافة إلى الدعوة المقصودة في انتهاز الفرص المناسبة
للدعوة والتوجيه، مع مراعاة أحوال المدعوات والمدعوين من المحارم [10] ، وقد
بلغ نساء السلف في هذا مبلغاً عظيماً.
صور من دعوة المرأة تجلي دورها:
حقاً لقد فهمت المرأة واجبها فبدأت بنفسها، فبادرت بطلب حقها من التعليم
والتربية ولم تبالِ بعد ذلك بما حصلت عليه من متع الحياة الفانية، روى البخاري
عن أبي سعيد (رضي الله عنه) قال: قالت النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال،
فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن..
الحديث [11] .
فكانت ثمرة ذلك الفهم النسوي مع ذلك الاهتمام النبوي صوراً مشرقة، أدعو
المرأة المسلمة إلى الوقوف معها.
فهذه (أم سليم) (رضي الله عنها) تلقن ولدها أنس بن مالك الشهادتين، مع
رفض زوجها مالك بن النضر الإسلام، حتى هلك، فخطبها أبو طلحة وكان مشركاً
فتجعل مهر زواجها الإسلام، فيسلم، فتتزوجه، وتجعل ابنها خادماً لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، وأم حكيم كانت سبباً في إسلام زوجها عكرمة، وعمة عدي
بن حاتم كانت سبباً في إسلامه (رضي الله عنهم) .
وعَمْرَة امرأة حبيب العجمي توقظ زوجها للصلاة ليلاً، وتقول: (قم يا رجل! فقد ذهب الليل، وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل
الصالحين قد سارت قدّامنا، ونحن قد بقينا) [12] ، وأسماء (رضي الله عنها) نهت
ابنها عبد الله ابن الزبير (رضي الله عنهما) عن قبول خطة غير مرضية خشية
الموت، مع كبر سنها، وحاجتها لابنها، ومن قبل كان لها موقف في صباها يوم
هجرة الرسول، حين سميت (ذات النطاقين) ، وكانت حفصة بنت سيرين (رحمها
الله) تقول: (يا معشر الشباب! خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإني ما رأيت العمل
إلا في الشباب) [13] ، فإذا كان هذا حالهن في دعوة الرجال، فماذا يُظن بدورهن
بين النساء؟ .
وإذا انتقلنا إلى دائرة أوسع وجدنا للمرأة المسلمة دوراً عظيماً في التضحية
والبذل لدين الله (عز وجل) ، فبذلت سمية (رضي الله عنها) نفسها قتلها أبو جهل
لإسلامها، فكانت أول شهيدة في الإسلام، وأنفقت خديجة (رضي الله عنها) مالها،
فكانت أول مناصر للدعوة، وكانت رقية (رضي الله عنها) من المهاجرات إلى
الحبشة أول مرة، وضحّت أم سلمة (رضي الله عنها) بسبب الهجرة كثيراً، ففارقت
زوجها، وأوذي ولدها، حتى جمع الله شملها، وكان لعائشة (رضي الله عنها)
صولات وجولات في العلم والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وحضرت أم عمارة يوم أحد، وابنها معها، وقاتلت دفاعاً عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، وحضر نساء من المسلمين يوم اليرموك، فرددن المنهزمين إلى
صفوف القتال، وكان لرفيدة الأسلمية وغيرها جهد في معالجة جرحى المسلمين ...
والأمثلة أكثر من أن تذكر.
ضوابط عمل المرأة الدعوي:
الدعوة الموجهة إلى المرأة ينبغي أن لا تخرجها عن فطرتها وأنوثتها؛ وهناك
ضوابط مهمة في هذا الباب يمكن إجمالها فيما يلي:
1 - الأصل: قرار المرأة في البيت، قال (تعالى) : [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] [الأحزاب: 33] ، وقال: (المرأة عورة، فإذا
خرجت من بيتها استشرفها الشيطان حتى ترجع) [14] .
2 - للمرأة أحكام خاصة، لا بد من مراعاتها في أي نشاط دعوي يوجه إليها، أو تقوم به، ومن ذلك:
أ - التزام الحجاب الشرعي بشروطه، مع تغطية الوجه والكفين، فالوجه
موضع الزينة، ومكان المعرفة، والأدلة على وجوب ستره كثيرة.
ب - تحريم سفرها دون محرم، قال: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي ...
محرم) [15] .
ج - تحريم خلوتها بالأجانب، لقوله: (لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي
محرم) وفي رواية: (إلا كان الشيطان ثالثهما) [16] .
د - تحريم اختلاطها بالرجال الأجانب، فقد قال للنساء: (استأخرن؛ فإنه
ليس لكنّ أن تَحْقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق) ، فكانت المرأة تلتصق
بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به [17] .
هـ تحريم خروجها من بيتها إلا بإذن وليها ... إلى غير ذلك من الضوابط
الشرعية التي لا يجوز الإخلال بها.
3 - يضرب أعداء الإسلام على هذا الوتر الحسّاس، ويجعلون مثل هذه
الأحكام مدخلاً لوصفهم الإسلام بإهانته المرأة، فتأثر بذلك بعض دعاة الإسلام،
فحصل لديهم تفلّت في هذا الباب، فيتأكد في حق دعاة أهل السنة: ضرورة
الانضباط في ذلك، وعدم التأثر والانصياع لشهوات المجتمع ورغباته.
4 - الأصل في الدعوة والتصدر للميادين العامة: أنها للرجال، كما كان
الحال عليه في عصر الرسول والقرون المفضلة، وما رواه التاريخ من النماذج
النسائية الفذة لا يقارن أبداً بما روي عن الرجال؛ وذلك مصداق قول النبي: (كمل
من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: آسية: امرأة فرعون، ومريم: بنت
عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) [18] ،
فطلبُ مساواة المرأة بالرجل في أمور الدعوة ينافي روح الدعوة أصلاً.
5 - ولا يعني هذا الكلام إلغاء دور المرأة وتهميشه وإهماله، بل دورها لا
ينكر، وشأنها له أهميته، لكن مع التزام ما سبق [19] من ضوابط، وللحديث بقية
في العدد القادم إن شاء الله (تعالى)
__________
(1) وانظر: مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية، عبد الحميد البلالي، ص 151.
(2) انظر: المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، د / أحمد أبا بطين،
141- 146 (وهي رسالة دكتوراه قيمة في هذا الباب) ، نشرتها (دار عالم الكتب) بالرياض.
(3) انظر: منهج ابن تيمية في الدعوة، د / عبد الله الحوشاني، ج1، ص 216، 220.
(4) انظر: المصدر السابق، 147 152.
(5) انظر: صحيح البخاري، ح/98، 101.
(6) متفق عليه، البخاري، ح/7137، مسلم، ح/1829.
(7) كتاب العلم، ح/97، (الفتح ج 1، ص 229) .
(8) تفسير القرطبي، ج 14، ص 178.
(9) انظر: المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، د / أحمد أبا بطين،
ص 121- 129، ومسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د / فضل إلهي
ظهير، ص 11.
(10) صفة الصفوة، ج 4، ص 21.
(11) رواه الترمذي، ح/1173، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ح/ 936، والمرأة
فتنة ولو كانت متحجبة، لذا شُرع قرارها في البيت، فيقدر خروجها بقدر الحاجة.
(12) رواه البخاري، ح/1862.
(13) رواه البخاري، ح/5233، واللفظ للترمذي، ح/1171.
(14) رواه أبو داود، ح/5272، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ح/4392،
ومعنى (تحققن الطريق) : تركبن وسطها.
(15) رواه البخاري، ح/3411.
(16) انظر: مجلة البيان، ع/95، ص 56.
(17) انظر: مقابلة مع الأستاذة: خولة درويش، في مجلة البيان، ع/40، ص 78 84.
(18) رواه البخاري، ح/101.
(19) صفة الصفوة، ج 4، ص 30.(116/38)
من قضايا المنهج
العلم بالسنن الربانية
(2من2)
بقلم: د.محمد أمحزون
تناول الكاتب في الحلقة الأولى أهمية التعاطي الواعي مع سنن الله في
التاريخ والاجتماع والتماس معالم المنهج الإسلامي في ذلك، وتعرض الكاتب إلى
تفاعل السنن الإلهية وأسلوب عملها وأثرها في المجتمعات، وبين أنها مرتبطة
بالأمر والنهي والطاعة والمعصية، ثم فصّل الكلام عن: الابتلاء والتمحيص
والتمكين، ويواصل في هذه الحلقة بقية الموضوع.
سنن: التغيير، التداول، النصر:
من أهم دلالات سنة التغيير أن الله (عز وجل) لا يغير حال قوم حتى يبدلوا
ويغيروا ما بأنفسهم؛ فالتغيير يبدأ من النفس سواء بالارتقاء والارتفاع إلى أعلى،
أو بالانتكاس والهبوط إلى أسفل: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، فإذا وجدت الأسباب فالنتائج تتبعها؛ إذ إن حدوث التغيير من الله
(عز وجل) مترتب على حدوثه من البشر سلباً وإيجاباً [1] .
ونتيجة لذلك: فالتغيير في واقع الدعوة ومحيط الدعاة يتوقف على بذلهم ما في
الوسع؛ لتتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس،
ومن داخل الصف المسلم، ومن ثَمّ: تنفذ فيهم سنة الله (تعالى) في التغيير؛ بناءً
على تعرضهم لهذه السنة من خلال سلوكهم وأعمالهم: [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] .
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في مكة يمثلون الجماعة التي
أخذت على عاتقها مسؤولية التغيير وحماية الحق الذي آمنت به، وإن كان من وراء
ذلك جفوة الأهل وسخط العشيرة وعذاب الملأ من قريش ونكالهم.
فلم يصرفهم الاضطهاد والفتنة عن أن يضطلعوا بأعباء الدعوة، ويسعوا
جاهدين إلى تغيير ما بأنفسهم وتغيير واقعهم من واقعٍ شركي إلى واقع إيماني،
فترى تغيير الأنفس في النماذج الكثيرة من الجيل الأول الذي ما إن يشهد أن لا إله
إلا الله، حتى يعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها، ويقطع
العلائق والوشائج التي طالما وثقها حتى مع أقرب الناس إليه [2] .
وتلك الحال الإيمانية الحية التي تمت نتيجة المجاهدة للنفس والشيطان قد
أثمرت بالفعل تغييراً جذريّاً وانفصالاً كلياً عن الحياة السابقة، حيث انخلع المسلم
من البيئة الجاهلية وعُرفها وتصورها وعاداتها وروابطها، وتلألأت عقيدة التوحيد
في نفسه، وصار مع المؤمنين، مانحاً إياهم ولاءه وحبه.
وللتنبيه: فإن الفترة السابقة لمبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- تعدّ من
أحلك الفترات في تاريخ البشرية وأكثرها ضلالاً وضياعاً؛ ولهذا استحقت المقت
من الله (تعالى) كما أخبر بذلك النبي: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم
عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) [3] .
فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة والوثنيات الكالحة
والأنظمة المستبدة، وحياة الناس في قسم كبير منه هي أقرب إلى حياة السوائم منها
إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة، والقسم المتمدن منه وتمثله الدولتان العظميان، فارس والروم كان يخضع لنظام طاغوتي مستبد، ويدين بدين باطل محرّف،
والنظام الاجتماعي في كلتا الدولتين من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز
العنصري والتفاوت الطبقي [4] .
وأما عرب الجزيرة فهم في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى
الشعوب الهمجية [5] ، لولا ما خصهم الله (عز وجل) به من ميزات إرهاصاً لحمل
الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة.
والحاصل: أن العالم البشري كله كان يعيش حالة مزرية تحتاج إلى جهد
ضخم وعمل هائل لتغيير أوضاعه وعقائده وأنظمته، وانتشال الناس من هذا الواقع
المؤلم الرهيب.
فكان الإعداد لتلك المهمة الضخمة يبدو ظاهراً جليّاً في كل مرحلة من مراحل
الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جدّ ونَصَب وصبر وبلاء.
فمنذ نزلت [قُمْ فَأَنذِرْ] [المدثر: 2] ، قام النبي -صلى الله عليه وسلم-
قياماً جهاديّاً متواصلاً، نازل به قومه قريش والعرب قاطبة ثم اليهود والدولة
البيزنطية، فجاهد الناس بالقرآن: [وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً] [الفرقان: 52] ،
كما جاهدهم بالحديد حين توفرت له شروط الجهاد حتى يستقيموا على دين الله:
[وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحديد: 25] .
وهذا ما أعلنه بقوله: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف؛ حتى يعبد الله وحده
لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف
أمري) [6] .
ومن السنن الربانية: مداولة الأيام بين الناس، من الشدة إلى الرخاء، ومن
الرخاء إلى الشدة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الهزيمة إلى النصر، قال
(تعالى) : [إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]
[آل عمران: 140] .
وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ
يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الأنفال: 53] .
وهنا يضع الله (عز وجل) أيدينا على سر عظيم، وهو ارتباط المداولة بين
الأمم والدول والمجتمعات مع التغيير النفسي والذاتي في الأمة؛ فسقوط الحضارات
ونهوضها، والأمم في ارتفاعها وهبوطها، مرتبطة بهذا التغيير النفسي في مسارها
عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنة ماضية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
يقول (رشيد رضا) (رحمه الله) في (تفسير المنار) : ( ... إن أنعم الله (تعالى)
على الأقوام والأمم منوطة ابتداءً ودواماً بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال
تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها، كانت تلك النعم ثابتة
بثباتها، ولم يكن الرب الكريم ينتزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم ولا ذنب، فإذا هم
غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يترتب عليها من محاسن الأعمال
غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم وسلب نعمته منهم) [7] .
وهذا السلب يكون بالإدالة عليهم؛ بتسليط عدو عليهم يستأصل شأفتهم،
ويكون ذلك سبباً في انهيارهم وزوال ملكهم جزاء فسقهم وعصيانهم.
ومن أسباب الفتن وزوال النعم أن يفشو فيهم الظلم، وعدم إقامة العدل،
والجهر بالمعاصي، فيأخذهم الله (عز وجل) بالسنن، ويبتليهم بالأمراض والفقر،
ويجعل بأسهم بينهم.
أخرج ابن ماجه بسنده إلى عبد الله ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: إنّ
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل علينا بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين!
خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها
إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ
المكيالَ إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولا خفر قوم العهد إلا سلط
الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بما أنزل
الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم) [8] .
وقد تكون الإدالة على المسلمين بتخلف النصر عنهم حين يتركون طاعة
الرسول أو يطمعون في الغنيمة كما حدث في غزوة أحد، أو حين يركنون لكثرة
العدد، ويعجبون بأنفسهم، وينسون سندهم الأصيل كما وقع في غزوة حنين.
وحينئذ تكون الدُولة والغلبة لغيرهم بصفة مؤقتة، لحكمة هي استكمال حقيقة
الإيمان ومقتضاه من الأعمال، ومتى تحقق ذلك جاء النصر؛ لأن (الهزيمة في
معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً، فأما
إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصّرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة المعركة
وطبيعة العقيدة وطبيعة الطريق: فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد) [9] .
إن سنة النصر لا تتخلف متى استوفيت الشروط، وأهمها: الاستقامة على
منهج الله بطاعة أمره واتباع رسوله، قال (تعالى) : [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [محمد: 7] ، وقال (جل ذكره) : [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
المُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ]
[الصافات: 171-173] .
وجاءت عوامل النصر جلية واضحة في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]
[الأنفال: 45- 46] .
ولكن إذا تخلفت هذه الأسباب تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلت
الهزيمة؛ لأن سنن الله (تعالى) لا تحابي ولا تجامل أحداً من الخلق، ولا تجاري
أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم، وإنّ الذين يرثون الكتاب وراثة بالاسم وشهادة
الميلاد، ولا يترجمون ما فيه من الأوامر والنواهي واقعاً سلوكيّاً، ثم يقولون:
سيغفر لنا! .. لا يستجيب الله (عز وجل) لهم حتى يعودوا إلى العمل بما أمرهم الله
في كتابه المنزل [10] : [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَاًخُذُونَ عَرَضَ
هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإن يَاًتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاًخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ
الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] الأعراف: 169 [.
وبناءً على ذلك، فإن السنن لا تحيد ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر
بالأعمال الجيدة والجهود المنظمة والمخططات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج
المحددة المطلوبة.
ومعنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون النصر بغير اتخاذ الأسباب سواءْ أتعلق
الأمر بالمؤمنين أم بالكفار.
سؤال مهم: قد يتبادر إلى الذهن سؤال وجيه وهو: ماذا يحدث لو وافق
المسلمون السنن الإلهية في التغيير واستيفاء شروط النصر، فأخذوا بالأسباب
واستكملوا الإعداد للجهاد، غير أن أعداءهم كانوا أكثر كفاءة منهم تخطيطْا وتنظيمْا
وقوة؟
والجواب: إن المؤمنين حين يغيرون ما بأنفسهم ويستكملون أدوات النصر لا
يضرهم تفوق الأعداء عليهم؛ لأن سنة أخرى تتدخل وهي وعد الله بالتمكين
والنصر لعباده المؤمنين:] وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ [] الروم: 47 [،
] وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [] النساء: 141 [،] إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ (غافر: 51) .
وقد يتأخر ويبطئ نصر الله لحكمة ما، لكن في نهاية المطاف هو آتٍ لا
محالة:] حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن
نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ [] يوسف: 110 [.
__________
(1) محمد بن صامل السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص 64.
(2) ابن الأثير: أُسْد الغابة في معرفة الصحابة، ج 4، ص 405، وابن كثير: السيرة النبوية،
ج 2، ص 207.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الجنة من صحيحه (بشرح النووي) ، باب الصفات التي يعرف بها
أهل الجنة، ج 17، ص 197.
(4) انظر: تاريخ الطبري عن دولة فارس، ج2، ص 37 234، ومصطفى العبادي،
الإمبراطورية الرومانية، ص 63، وما بعدها، ص157 وما بعدها.
(5) انظر: حديث جعفر بن أبي طالب مع النجاشي عن حالة العرب قبل البعثة، مسند أحمد،
ج 1، ص 252، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد
صرح بالسماع، ج 6، ص 26.
(6) رواه أحمد، ح/2، ص 50، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم 1269، ج 5، ص 109.
(7) رشيد رضا، تفسير المنار، ج 10، ص 42.
(8) أخرجه ابن ماجة في السنن، كتاب الفتن، رقم 4019، ج 2، ص 1332، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ج 4، ص 540، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة، ج 1، ص 167.
(9) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 248.
(10) محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 102.(116/48)
مقال
استراتيجية أسلمة المجتمع
بقلم: د. أحمد إبراهيم خضر
تنبه المراقبون والباحثون الغربيون مؤخراً إلى أن تغلغل النفوذ الإسلامي بين
فئات الشعب المختلفة ليس أمراً اعتباطياً أو مجرد تحركات تحكمها العاطفة نحو
الدين، وإنما هو محصلة استراتيجية جديدة أطلق عليها (أوليفيه روا) عدة مسميات
منها: استراتيجية قرض المجتمع في العمق أو في الداخل، أو السيطرة مجدداً على
المجتمع عبر العمل الاجتماعي أو سياسة تثمير العمل الاجتماعي على صعيد
العادات والممارسات وعلى صعيد الاقتصاد، وأخيراً استراتيجية (النطاقات
المؤسلمة) على غرار المناطق المحررة، كما كان الحال لدى حركات التحرر في
الماضي [1] .
لاحظ (روا) ، وغيره من الباحثين الراصدين لتطورات الحركة الإسلامية أن
هذه الحركة في جملتها، باستثناء بعض فصائلها ومجموعاتها المتشددة، قد غيرت
من استراتيجيتها واتخذت تعبيراً جديداً محافظاً متلوناً أعادت فيه ترتيب الأولويات؛
ليصبح (الاجتماعي) أولاً يتلوه (السياسي) أو يصحبه أو يتباعد عنه مؤقتاً، مع عدم
اللجوء إلى أي تشكيك في الدولة، فالهدف هو عودة الناس إلى ممارسة الإسلام على
أن يرافق ذلك حركة اجتماعية من (تحت) ، دون المرور بالدولة والسلطة، أي
أسلمة المجتمع من جديد عبر (القاعدة) ، وليس عبر (القمة) ، وبمعنى آخر: أن
الحركة الإسلامية قد حولت خطابها من خطاب حول (الدولة) إلى خطاب حول
(المجتمع) .
يرصدون عمل الإسلاميين لماذا؟
رصد الباحثون الغربيون الاختراق الإسلامي للجامعات وللانتخابات الجامعية
والمصانع والإدارات الذي ابتكر (لحُمة) مجتمعية أوهنها ضعف شبكات التضامن
التقليدية: (نواد، مكتبات، دروس مسائية، تكافل وتعاون اجتماعي) ، فاسترجعوا
ما طوره الإسلاميون في الأربعينات من شبكات المدارس والمستوصفات وحتى
الصناعات الصغيرة، وما أنشؤوه من فروع طلابية ومهنية موجهة نحو المهن
الحديثة (محامون، مهندسون، أطباء، معلمون، موظفون) ، وفروعاً عمالية
شجعوا فيها العمل النقابي.
كما رصدوا كذلك سيطرة الإسلاميين على النقابات المهنية (للمهندسين،
والأطباء، والمحامين) ، وعلى المؤسسات المالية، وأن الإسلاميين ما عادوا
ينظرون إلى العلاقات الاجتماعية والاقتصاد على أنها مجرد أنشطة ثانوية، تُصنّفُ
في خانة أعمال التقوى أو أداء فرائض الشرع، بل أصبحوا يعتبرونها ميادين أساساً.
راقب الباحثون الغربيون جهود الإسلاميين من أجل إعادة التأهيل المجتمعي
سواء في المدن أو في الأحياء الشعبية وما استتبع ذلك من تأسيسهم لنواد رياضية
ولتعاونيات تعاضدية ومؤسسات للترويح، وأخرى للحد من غلاء المهور وللرعاية
الطبية، كما راقبوا جهودهم في فصل الجنسين في النطاق العمومي وإفراد نطاقات
خاصة للنساء في المساجد، والأماكن العمومية، واختراع زي جديد خاص (نقاب،
قفازان، معطف) ! ! ، وبمعنى آخر انخراط المرأة الجديد في الدورة الاجتماعية،
كما رصدوا رفض الإسلاميين وسائل التسلية والفنون واللهو الخليع وتصميمهم على
إزالة مواقع المتعة الرخيصة كالمراقص ودور السينما و (الكبريهات) ، هذا بخلاف
نشرهم للأدبيات التي تقدم حقائق بسيطة وضرورية للناس عن الإسلام في صورة
موعظة وتبكيت ولوم، كل ذلك على أساس العودة إلى ما هو جوهري: العبادة
وخشية الله.
دوافع الإصلاح الإسلامي:
لم تكن هذه الأنشطة وغيرها ذات الطابع الاجتماعي مبعثرة بلا ضابط ولا
رابط، وإنما تقولبت في إطار ذي مسارين:
الأول: الإصلاح الفردي بالدعوة.
الثاني: إنشاء نطاقات مؤسلمة.
يتمحور الإصلاح الفردي حول العادات ويأخذ شكل الممارسة الفردية للدعوة،
فالدعاة يبلغون دعوتهم من بيت إلى بيت، وهنا تلتقي الحركة مع بعض الجماعات
العاملة بالدعوة منذ زمن بعيد تلتحم معها وتخترقها وتغلغل فيها أفكارها، فتصحح
لها أخطاءها ومفاهيمها وتغير من أساليبها وتضمها إليها.
يعظ الدعاة الناس أو يوبخونهم لتناسيهم عباداتهم مستفيدين من مُرَكّب
الإحساس بالذنب والاحترام المزود بالحنين الذي يكنه المسلم للدين رغم أنه لا يتقيد
بالفرائض ولا يؤدي العبادات ويحرص أن يقول: إنه مسلم، كما يستفيدون كذلك
من ربط الظروف التي يعيشها الناس من بؤس وتفكك قيمي أو عائلي باستجابتهم
لإغواءات المجتمع وممارساته البعيدة عن الإسلام.
أما عن النطاقات المؤسلمة: فهي إسلامية أو مؤسلمة إما بمصطلحات مكانية
محضة (كالأحياء والمدن) وإما بمصطلحات الممارسات والشبكات (كالمصارف
الإسلامية) ، ويستند هذا المحور على قاعدة أنه (لا بد من استباق المجتمع الإسلامي
والتحضير له بإتمام سيطرة مُثل الإسلام الأصيل على هذه النطاقات دون إقامة
سلطة سياسية أو دولة مضادة) .
وما أن تتكون هذه النطاقات وتصبح واقعاً حتى تسعى الدعوة إلى الحصول
على مباركة الدولة لهذا الأمر الواقع للتوسع به بعد ذلك والتمدد بالمبادئ التي
تتأسس عليها النطاقات الإسلامية إلى المجتمع بأسره.
في هذه النطاقات المؤسلمة تشجع النساء على ارتداء الحجاب ويحظر فيها
تعاطي المشروبات الكحولية ويُرفض الاختلاط بين الجنسين وتُبذل جهود حثيثة
لترقية أخلاقيات المجتمع عبر مكافحة القمار والملاهي والأفلام الإباحية وأحياناً
الموسيقى والمخدرات والجنوح، وهناك محور آخر هو العمل على تكييف الحياة
اليومية مع الشعائر الإسلامية (ضمان مواقيت الصلاة خلال ساعات العمل والطعام
الحلال) .
وأخيراً العمل الحثيث على تكييف النظام المدرسي مع الإسلام بحظر مواد
التدريس التي تتناقض مع الإسلام، وبمنع الاختلاط؛ وما إلى ذلك.
ما الهدف المقصود من كل ذلك؟
خلاصة القول: أن الهدف هنا هو إقامة مجتمع مصغر يكون مسلماً حقاً في
إطار مجتمع لم يُعَدّ أو لم يصبح بعدُ مسلماً.
تتحول هذه النطاقات المؤسلمة فيما بعد إلى مناطق نفوذ، ومن هنا تأتي أهمية
استراتيجيات السيطرة الانتخابية في الانتخابات المحلية.
إصلاح العادات إذن مسألة مركزية لكنها ليست الهدف الوحيد، فهذه النطاقات
المؤسلمة، تخترقها شبكات التعاضد والتكافل الاجتماعي والاقتصادي التي تعوض
عن قصور الدولة، فتمتد إلى أنشطة أخرى كتخصيص حافلات غير مختلطة
والمساعدة في إعارة المحاضرات الجامعية وطبعها وتوزيع الكتب والأدوات
المدرسية على الطلاب، وتأسيس أسواق إسلامية تواجه غلاء الأسواق الرسمية
وهكذا ...
استراتيجية الأسلمة:
ترتكز استراتيجية الأسلمة هذه على عدة قواعد أساس يمكن اختصارها على
النحو التالي:
1- التفرقة بين ما هو (مسلم) وما هو (إسلامي) ، فإنه لا يكفي أن يكون
المجتمع مؤلفاً من مسلمين، بل ينبغي أن يكون إسلامياً في أسسه وبنيته.
2- أن القضية ليست مجرد بعث لمثال أمة المؤمنين الأولى في زمن النبي -
صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين الأربعة فحسب، ولكنها السعي الحثيث
لتطبيق الشريعة أيضاً، لإقامة المصلح والرقيب ضد الفساد في المجتمع، وضد
إهمال النصوص الشرعية، وضد الاستعمار وهيمنة الأجنبي والانتهازية السياسية
وانحراف العادات وتغرب المثقفين.
هذه الشريعة هي المصدر الوحيد للقانون وهي معيار السلوك الفردي ومحور
العلاقات الاجتماعية، إنها ليست مجرد قائمة بأسماء الفرائض والمحرمات ولكنها
شريعة حركية فاعلة مُستَبْطنَة ومُعَاشَة، تقفل الدائرة فلا يكون هناك فصل بين ما
هو ديني وما هو سياسي وقانوني واقتصادي واجتماعي.. إلخ.
3- أن الهدف البعيد هو قيام دولة جامعة وجسم اجتماعي شامل يُنظر إليه
كأمة دينية ضد تفرد الدولة وضد تشرذم المجتمع وضد المجتمع القبلي القديم وضد
المحسوبية والفساد والرشوة والسلطة ذات المقومات غير الإسلامية.
4- أن الإسلام نظام كامل وجامع لا حاجة له إلى أن (يَتَحَدْثن) أو (يتكيف)
رغم أنه يطبق نموذجه على مجتمع حديث، ففي الوقت الذي يدعو فيه إلى استعادة
عهد (النبوة) واسترجاع استلهام التقوى والتطهر، فإنه يستهدف الاستيلاء على كل
ما هو (حديث) واستيعابه داخل الهوية المستعادة، فهو يسعى إلى التنمية الصناعية
والعمران المدني ومحو الأمية على مستوى جماهيري، وتحصيل العلوم لصالح
المسلمين جميعهم تحت شعار: الشريعة زائد الكهرباء.
ويشهد (روا) على تكيف الإسلاميين المذهل مع متطلبات العالم الحديث
والمدني بدءاً باستخدام التقنيات الحديثة من السلاح إلى وسائل الاتصال وصولاً إلى
تنظيم المظاهرات.
5- أن التمايز الاجتماعي نتاج أساس وقاعدي فيما يسمى بالخطاب الإسلامي
الموجه إلى مجموعات نوعية مختلفة كالفلاحين والطلاب والعمال والعسكريين،
والمرأة التي ينظر إليها على أنها كائن وليست مجرد أداة للمتعة والإنجاب تمارس
دوراً أساساً في تربية المجتمع وتنخرط في دروته الاجتماعية.
وتدرك هذه الاستراتيجية تماماً أنها تتعامل مع جماهير (تناصرها) أصلاً لكنها
ذات خصائص وسمات لا بد من وضعها في الاعتبار عند مخاطبتها، كما تدرك
أيضاً أنها تواجه قطاعات ترى في (الخطاب) الإسلامي تهديداً لوجودها ومصالحها.
أما عن الجماهير، فهناك جماهير المدن التي تحيا في ظل قيم المدينة الحديثة
(الاستهلاك والترقي الاجتماعي) والتي غادرت بمغادرتها القرية، أشكال التآلف
والتواصل القديمة واحترام المسنين والإجماع، إنها مفتونة بقيم الاستهلاك التي
تعرض في واجهات المحلات في الحواضر الكبرى، وعالمها هو عالم السينما
والمقاهي والجينز ومسلسلات التلفزيون والفيديو ... في الوقت الذي تحيا فيه في
ظل هشاشة المهن الصغيرة والبطالة وتعاني الحرمان في مجتمع استهلاكي ليس في
متناولها. وهناك الشباب الذي لا يقدم له المجتمع أي مستقبل ويحيا في اختلاط
مفرط قياساً إلى ما كان سائداً في المجتمع التقليدي سواء في المدارس والجامعات
والسكن والنقل المشترك بالإضافة إلى ما يبثه التلفزيون والقنوات الفضائية وأعمدة
الالتقاط من نماذج للتحرر الجنسي والأفلام والمجلات، وكذلك التجارب والروايات
عن الحياة في الغرب.
وهناك جماهير القرى في بعض البلدان حيث لا تجد الشعارات الإسلامية لها
صدى في الأرياف ويسيطر عليها ما يسمى (بالإسلام الشعبي) ذي النمط (الصوفي
الكراماتي) الممزوج بالسحر والعادات والأعراف التي تعود إلى حقبة ما قبل الإسلام، ... ولا تعرف هذه الجماهير من علماء الدين إلا ما ندر، لكن الرصد الغربي لهذا
المسار كشف أن البعث الإسلامي قد تغلب على هذا الإسلام الشعبي واتجه إلى ما
عرّفوه (بالعلم الشعبي بالإسلام) ، وقد ظهر لهم ذلك جلياً في (أفغانستان) ، وآسيا
الوسطى السوفياتية.
عراقيل في الطريق:
أما عن القطاعات المعرقلة لهذه الاستراتيجية فهناك قطاع من العلماء الذين
يؤخذ عليهم طواعيتهم وانصهارهم في ما يؤدي بهم إلى القبول بالعلمانية وبقوانين لا
تتفق مع الشريعة، وإصدارهم فتاوى تصدم وتخالف ما استقر في حس الناس بأنه
من الإسلام، هذا: بالإضافة إلى إقرارهم بإجراء تسوية مع الحداثة الغربية وظهر
ذلك في قبولهم بفصل (الديني) عن (السياسي) مما يؤدي حكماً وبالضرورة إلى
العلمنة.
وهناك أيضاً قطاع المثقفين المتغربين الذين يقبلون مهما كانت مواقفهم
السياسية بفكرة المعرفة العقلية الحديثة الشمولية غير المرتبطة بالدين، وتضم هذه
القطاعات أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين وكتاباً وشعراء وفنانين وصحفيين
يحملون أسماء إسلامية وبعضهم محسوبون من علماء المسلمين.
يعمل هذا القطاع على خلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب في صورة
بحث وعلم وأدب وفن وصحافة، ويهوِّن من شأن العقيدة والشريعة، ويؤولها
ويُحمّلها ما لا تطيق، ويدق باستمرار على ادعاء (رجعيتها) ، ويدعو للتفلت منها
وإبعادها عن مجال الحياة، ويبتدع تصورات ومُثُلاً وقواعد للشعور والسلوك تناقض
وتحطم تصورات العقيدة ومثلها، ويزين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويهه
للتصورات والمثل الإيمانية كما لاحظ ذلك مفكرو جيل الستينات.
خلاصة أطاريح (روا) :
بقي أن نشير إلى النتائج إذ يرى (روا) أن قيام ما يسميه: (الجيوب
الإسلامية) يتم حسب الأوساط الاجتماعية والمناطق أكثر مما يتم حسب البلدان،
فحيث كانت الظروف الاجتماعية والتقاليد مواتية للإسلاميين، استطاعوا أن
يفرضوا مطالبهم دون أن يكون بوسع الدولة أن تعارضهم ولو بكلمة، وأكثر
المناطق تقبلاً لهذه الجهود هي الأحياء الشعبية في المدن الكبرى ومناطق الأقليات
المسلمة في الدول الغربية.
وتسهم هذه الاستراتيجية إلى حد بعيد في إبراز قدرة الإسلام على الحشد
والتعبئة خاصة حينما تكون هناك مواجهة مع آخر يتخذ موقفاً من الإسلام،
فباستثناء ما يحدث في حالة الجهاد التي تحمل الشبان على خوض الحرب غير
عابئين كلية بأي سياق مؤسسي أو سياسي أو عرقي، كما أكد (روا) ، فهناك مواقف
مواجهة بالداخل أفقدت المثقفين العرب صوابهم وجعلتهم يقولون بالحرف الواحد:
(لا شك أن لدى التقدميين والمستنيرين والعلمانيين الكثير مما يمكن تعلمه من قدرة
الجماعات الإسلامية على الحشد والتعبئة وضمان إطاعة القواعد الجماهيرية للأوامر
الصادرة من المستويات العليا) [2] .
وللبيان كلمة:
لا شك أن الباحث الفرنسي (أوليفيه روا) واحد من الكتاب المتميزين في
طروحاتهم لا سيما في حديثه عن الصحوة الإسلامية، ويعتبر من أميز الكتاب
لموضوعيته، ولكن يبقى أن ما يطرحه في هذا البحث ينقصه المنهجية الإسلامية
الصحيحة التي يفترض إلمامه بها فضلاً على أن الرؤية مهما كانت موضوعية ففيها
نوع من الرجم بالغيب ومحاولة تحميل الأنشطة الإسلامية ما لا تحتمل مما يجعله
يسهم عَلِمَ أو لم يعلم في تقوية الموقف السلبي من الصحوة القائم في كثير من البلدان
ضدها؛ وفاقد الشيء لا يعطيه!
__________
(1) (أوليفيه روا) ، تجربة الإسلام السياسي، ترجمة: (نصير مروّة) ، دار الساقي، بيروت، ط2، 1996م، ص 5 103.
(2) فؤاد زكريا، ندوة الإسلام والعلمانية، المنتدى، عمان ع/13، أكتوبر، 1986م، ص 13.(116/54)
نص شعري
حيرة
شعر: فيصل عبد الله المشرقي
إن الحياة بدون الحبّ هاوية ... نار تأجج في القلب الظمي ضَرَما
سألته زمناً والقلب في كمد: ... يا صاحِ يا أملي يا أفضل الندما
ما سرّ نائحتى والناس في طرب ... هل بان منزل من تهواه وانصرما؟
قال الحبيب ودمع العين يخنقه: ... يا كاشح الطرف يا من يندب الرمما
جانبْ سفاسف أمر قد علقت به ... إن الأسود تُحاذر أن تُرى بُهما
إني سلكت سبيلاً ليس يسلكه ... إلا من امتلأت أوصاله كرما
آليت أنّ طريقي لست أبرحه ... حتى يرفرف أمري في الورى قُدُما
***
النفس بالنفس في الألواح قد كتبت ... للعبد والحر والأسياد والزعما
فهل تضيع دماء المسلمين سدًى ... في القدس والهند والبلقان يا حُكَما؟
وهل تصير دِما الحيتان غالية ... حتى يكون لها من عطفكم حرما؟
بأي حق جرى القانون عندكمو ... أم كيف سُطِر حتى صار محترما؟
لا يحجب الشمسَ غربالٌ إذا طلعت ... في العالمين تزيل البغي والظُلَما
***
فهل ترى يا رفيقي أن تكون معي ... حتى نقيم من البنيان ما انهدما؟
فما رميت إذِ الكفار قد دُحِروا ... لمّا رميت، بل الله القويّ رمى
القولُ قولُهُ، والخَلْقُ العظيم له ... من شاء دمّره منهم لينتقما
كن في الصفوف وإلا خادماً لهمُ ... أو داعياً لهمُ أو مرشداً فَهِما
أو ساتراً لعيوب قد تُرى جَللاً ... أو كن أُخَيّ من المستَحْسَنين فَمَا
أو جُد أخي بعزيز المال عن رغَبٍ ... حتى نَدُكّ بعزمٍ هذه الأُطُما
واسمع أُخَيّ ندا الأيام، إن لها ... قولاً تردده: يا أكرم الكُرَما
أعط الشحيح دماراً سابغاً تَلَفاً ... وامنح بفضلك كل المنفقين نَمَا
فإن قدِرْت فحقّاً تلك مفخرة ... وإن عجزت فجود العاجزين بِمَا
فدع أذاك وحاذِر أن تُعيقَهُم ... إياك إياك أن تغدو لهم خَصِما
فالفجر لاح وعين الله تحرسه ... والكون صاح، وذاك الظلم قد رُجِمَا(116/62)
قراءة في كتاب
النظام العالمي الجديد..
دراسات تحليلية سياسية لبعض المتخصصين
عرض: محمد حيان الحافظ
شهد العالم منذ أواخر عقد الثمانينات وأوائل عقد التسعينات مجموعة من
التحولات الدولية المهمة في شرق الكرة الأرضية وغربها، أسفرت في النهاية عن
ظهور هيكلية دولية جديدة مغايرة لتلك التي سادت مرحلة الحرب الباردة، حيث
كان النظام الدولي آنذاك يتسم بهيكلية القطبية الثنائية والصراع بين الكتلة الشرقية
بزعامة (الاتحاد السوفييتي) السابق والكتلة الغربية بزعامة (الولايات المتحدة
الأمريكية) .
توصيف النظام العالمي الجديد:
وفي خضم هذه التحولات ظهر العديد من الكتابات التي تقدم توصيفاً لهذا
الواقع الدولي الجديد، فبعض المحللين يصف الهيكلية الدولية الحالية بأنها أحادية
القطبية، وآخرون يصفونها بالقطبية المتعددة، وهناك من يصفها بأنها قطبية متعددة
قيد التشكيل، ومنهم الذي ينكر أصلاً وجود نظام دولي جديد، ويصف الهيكلية
الحالية بأنها حالة من الفوضى الدولية.
ولكن لا خلاف على أننا أمام واقع دولي جديد، وأنه مصحوب بطائفة من
التحديات لعالمنا الإسلامي، ولذلك فمن المهم التعرف على نمط توزيع القوة في
العالم ونمط التفاعل السائد، وفي هذا السياق يأتي كتاب (النظام العالمي الجديد) ،
وهو عبارة عن مجموعة أبحاث قدمها عدد من الباحثين في مجال العلاقات الدولية
إلى ندوة (النظام العالمي الجديد) ، التي عقدها مركز البحوث والدراسات السياسية
بجامعة القاهرة [*] .
محاور الدراسة:
يقع الكتاب في أربعمئة وثماني صفحات، وينقسم إلى أربعة أبحاث هي الآتي:
القسم الأول: يتناول الأبعاد النظرية للنظام العالمي الجديد، ويضم هذا القسم
ثلاثة أبحاث:
البحث الأول: للدكتورة (ودودة بدران) ، تناولت فيه الرؤى المختلفة للنظام
العالمي الجديد، من حيث هيكليته ومصادر التهديد فيه، ومسار التفاعلات الدولية،
وهل هو في اتجاه التكتل الاقتصادي الإقليمي أو الاعتماد المتبادل، وتحديد
انعكاسات النظام على إمكانيات العمل الجماعي العالمي، ومكانة الدول النامية في
النظام العالمي الجديد.
ويؤخذ على تحليل الدكتورة (ودودة) الاقتصار على التصورات الغربية،
وعدم تناول رؤى مفكري العالم الإسلامي وباحثيه للنظام العالمي الجديد، وهذا دأب
جل الدارسين في البحوث السياسية الحديثة.
أما البحث الثاني، الذي قدمه الدكتور (عبد المنعم المشاط) : فإنه أيضاً تناول
مسألة هيكلية النظام الدولي الحالي وخصائصه، فبالنسبة لهيكل النظام الدولي
الحالي: فإنه يصفه بأنه (تعددية قطبية قيد التشكيل) ، حيث يستبعد مقولة أن
(الولايات المتحدة) هي قطب القوة الوحيد في العالم؛ وذلك لأنها لم تعد المركز
الوحيد لعملية صنع القرارات الدولية، فضلاً عن أن مفهومها للأمن ليس مفهوماً
عالميّاً، وإنما هو مفهوم (أمريكي) صرف، يرتبط بحماية المصالح الأمريكية في
الداخل والخارج، ويرى أنه إلى جانب (الولايات المتحدة) ، توجد قوى أخرى
تسعى لبناء قدرات عسكرية خاصة بها، ك (اليابان) ، و (ألمانيا) ، خصوصاً بعد
زوال القيود الدستورية التي كانت مفروضة على الدولتين بخصوص التسلح أو
ممارسة نشاطات عسكرية خارج إقليميهما.
أما الخصائص فنذكر منها:
1- نمو كثافة الصراعات العرقية.
2- التحول إلى تكتلات اقتصادية كبرى كالسوق الأوروبية الموحدة و (آسيا) ..
3- تضاؤل أهمية الأحلاف في السياسة الدولية.
4- تدهور الدور الأساسي للمنظمات الإقليمية.
البحث الثالث: للدكتور محمد السيد سليم، وعنوانه: (الأشكال التاريخية
للقطبية الواحدة) ، سلم فيه بداءة بأن النظام الدولي الحالي أحادي القطبية، حيث
تسيطر على بنيان النظام الدولي: (الولايات المتحدة) وشركاؤها أعضاء حلف
(شمال الأطلسي) ، وللتعرف على المستقبل المتوقع لهيكلية القطبية الواحدة، فإنه
قام بتتبع الأشكال التاريخية لنظام القطبية الواحدة باعتبار أن التاريخ هو معمل
التجارب بالنسبة للظواهر الاجتماعية، فاستعرض أربعة نماذج تاريخية لهيكلية
القطبية الواحدة، وخلص الدكتور سليم إلى أن النظام العالمي الحالي هو نظام مؤقت؛ إذ سرعان ما ستتولد بل تولدت بالفعل قوى أخرى منافسة تسعى لموازنة قوة
الدولة المسيطرة، ومن هذه القوى: الاتحاد الأوروبي الذي يتجه إلى الاستقلال عن
(الولايات المتحدة) في الأجل المتوسط.
القسم الثاني: يتناول دور القوى الكبرى في النظام العالمي الجديد، ويتضمن
هذا القسم ثلاثة أبحاث:
تناول البحث الأول منها الذي قدمته د. (نهى المكاوي) مسألتين: الأولى:
مقومات القوة لدى (الولايات المتحدة) ، بجوانبها الاقتصادية والتقنية، وخلصت إلى
وجود تدهور في هذه القوة مقارنة بنظيرتها في (اليابان) و (ألمانيا) ، بينما ترجح
كفة (الولايات المتحدة) في الميدانين السياسي والعسكري.
البحث الثاني: وهو للدكتور (طه عبد العليم) ، يتناول فيه دور (روسيا) في
النظام العالمي الجديد، ومحددات هذا الدور، حيث أشار الباحث إلى أن الدور
(الروسي) سوف يكون مقيداً بعدة اعتبارات، أهمها: حاجة (روسيا) إلى
المساعدات الاقتصادية الغربية، وربط الغرب هذه المساعدات بحدوث تحول كامل
في (روسيا) نحو الرأسمالية، وبالنسبة لمكانة (روسيا) العالمية: فإن الباحث يرى
أنه نظراً للتدهور الواضح في عناصر قوتها؛ فإنها لن تعود قوة عظمى مهيمنة
ومؤثرة في تشكيل النظام العالمي الجديد، وإن كانت ستظل تمارس دور القوة
الإقليمية القائدة في المنطقة التي تقع بها (الجمهوريات) التي استقلت عن (الاتحاد
السوفييتي) السابق، وقد يمتد هذا النفوذ إلى دول الجوار الإقليمي في شرق أوروبا
وغرب آسيا.
وقد أشار الباحث إلى مجموعة من البدائل أمام روسيا في النظام العالمي
الجديد، وهي: البديل الأوروبي، البديل الأوراسي، البديل الواقعي الذي يؤلف
بين البدائل السابقة.
ومع التسليم بما قاله الدكتور (طه) عن عوامل التدهور في قوة روسيا التي
تحول في رأيه دون بلوغ روسيا مصاف القوى العظمى، إلا أنني أعتقد أن عوامل
الضعف هذه لا تمنع (روسيا) من ممارسة دور مؤثر في قضايا خارج النطاق
الإقليمي لما كان يعرف بـ (الاتحاد السوفييتي) ، حيث هددت روسيا باستخدام حق
النقض (الفيتو) ضد أي مشروع قرار يعرض على مجلس الأمن مما لا توافق عليه. وتشارك روسيا الولايات المتحدة في رعاية عملية السلام الحالية بين العرب
وإسرائيل، ومفاد هذا كله: أن روسيا لم تقنع بمجرد أن تكون قوة إقليمية قائدة في
مجال نفوذها، وإنما تريد أيضاً أن تثبت حضورها قوةً عظمى في مناطق أخرى
من العالم.
البحث الثالث: وعنوانه: (القوى الصاعدة في النظام العالمي الجديد..
أوروبا واليابان) ، وهو للدكتورة (هالة سعودي) ، حيث تحلل ركائز القوة المتاحة
لكل من الاتحاد الأوروبي واليابان، ودور كل منهما في النظام العالمي الجديد، وما
إذا كان ممكناً أن يصبحا قطبين أساسين في هذا النظام، وقد خلصت الباحثة إلى
نتيجة مفادها: تصاعد القوة الاقتصادية لكل من الاتحاد الأوروبي واليابان، ودللت
على ذلك بعدد من المؤشرات الكمية، مثل: ارتفاع حجم ناتجها العام، ومتوسط
دخل الفرد، وارتفاع معدل النمو، وترى الباحثة أنه رغم هذا الازدهار لعناصر
القوة، إلا أنه توجد صعوبات تحول دون ترجمة هذه العناصر إلى قوة عسكرية
فعالة، ومن ذلك: القيود الدستورية في اليابان، وتعدد نظم التدريب والتسليح في
جيوش الجماعة الأوروبية، ولكن هذا لا يعني أن هاتين القوتين ستكونان غائبتين
عن مسرح السياسة الدولية؛ إذ أنهما ستلعبان دوراً قياديّاً في القضايا التي لا
يقتضي حسمها استعمال القوة العسكرية، فضلاً عن الدور القيادي في الإقليم المحيط
بكل منهما.
القسم الثالث: يركِّز على دور النظم الفرعية والمنظمات الدولية في النظام
العالمي الجديد، ويتضمن هذا القسم ثلاثة أبحاث:
البحث الأول عنوانه: (النظم الإقليمية في إطار النظام العالمي الجديد) ،
وهو للدكتور (جمال زهران) ، تناول فيه وضع النظم الإقليمية في ظل هيكلية
القطبية الواحدة الحالية، ويقصد بالنظم الإقليمية: شبكة العلاقات والتفاعلات في
منطقةٍ ما تحدد على أساس جغرافي، وقد قام الباحث بتقسيم هذه النظم وفقاً لعلاقتها
بالنظام العالمي الجديد إلى: (نظم محتكرة) ، وأخرى (تنافسية) ، وقد ركز الباحث
على النظام الإقليمي لأوروبا الشرقية، والنظام الإقليمي لأمريكا اللاتينية، والنظام
الإقليمي الآسيوي، والنظام الإقليمي العربي.. مبيناً آليات تأثير النظام العالمي على
دورها، ويرى الباحث أن مسألة استمرارية هذه النظم الإقليمية تتوقف على مدى
تماسكها الداخلي، وتوافر قائد إقليمي، والقدرة على الحركة والمناورة في النظام
العالمي.
البحث الثاني: (الأمم المتحدة والنظام العالمي الجديد) ، وهو للدكتور (حسن
نافعة) ، يتضمن البحث تقييماً عامّاً لدور الأمم المتحدة في النظام الدولي، في ظل
هيكلية القطبية الثنائية، وبين أن المنظمة العالمية بهيكلها التنظيمي الحالي
وإمكاناتها الحالية تواجه مشكلتين مهمتين، كلتاهما من مخلفات حقبة الحرب الباردة، ألا وهما:
1- عدم استكمال الترتيبات الخاصة بنظام الأمن الجماعي، وخصوصاً ما
يتعلق منها بإعمال المادة (43) .
2- تضخم بيروقراطية الأمم المتحدة على نحو بات يشكل عبئاً ماليّاً كبيراً
على ميزانية المنظمة، ويقترح الباحث في ختام بحثه إجراء إصلاح هيكلي لهذه
المنظمة العالمية يتمثل في ضرورة حدوث توازن بين دور الجمعية العامة ودور
مجلس الأمن، وذلك في إطار نظام مؤسسي يقوم على فصل السلطات التشريعية
والتنفيذية والقضائية، وتحديد قواعد التوازن والرقابة المتبادلة بينهم.
والحقيقة: أن مقترحات الدكتور (حسن نافعة) ما هي إلا أمنيات غير واقعية؛
فالأمم المتحدة ليست حكومة عالمية حتى ينادى بإصلاحها، وإنما هي منظمة تعكس
حقائق القوة في عالم اليوم أكثر من كونها جهازاً لإعمال الشرعية الدولية. إن
إصلاح الأمم المتحدة يجب أن يبدأ بإجراء إصلاحات هيكلية في الدول الأعضاء
وفي المنظومات الإقليمية، بشكل ينتهي إلى ظهور قوى دولية فاعلة وموازنة
للولايات المتحدة، ولها إسهاماتها المالية الكبيرة في ميزانية الأمم المتحدة، وتنسق
فيما بينها في عملية التصويت في الأمم المتحدة، وعندئذ يكون من السهل إصلاح
الأمم المتحدة، بشكل يجعلها أكثر تمثيلاً لإرادة المجتمع الدولي! .
المبحث الثالث: (حركة عدم الانحياز والنظام العالمي الجديد) ، للدكتور
(محمد عز الدين عبد المنعم) ، يتناول مسألتين، هما:
1- كيف يمكن لحركة عدم الانحياز أن تكتسب إمكانية التأثير على صياغة
نظام عالمي جديد والتعامل معه بكفاءة؟
2- تحديد نقاط الضعف الكامنة في حركة عدم الانحياز، التي تعوقها عن
المشاركة الفعالة في صياغة النظام العالمي الجديد، ومن أبرزها: تكاثر حجم
المشكلات الداخلية لدى الدول الأعضاء، التفاوت المضطرد لمراحل النمو بينهم،
تفاقم المنازعات بين دول الحركة، وتخلف قطاع السياسة الخارجية لدى كثير من
دول الحركة، افتقار هذه الحركة إلى إطار تنظيمي كفء، تعدد تجمعات العالم
الثالث دون صيغة دقيقة ومتفق عليها للتنسيق بين هذه التجمعات، كـ (مجموعة
الـ 15) و (مجموعة الـ 77) .
وإنني أرى فيما يتعلق بأسباب ضعف الحركة أن الباحث قد أغفل السبب
الأهم الذي أدى إلى أفول نجم الحركة، وهو ليس فقط منذ ظهور ما يسمى بالنظام
العالمي الجديد، بل أيضاً منذ منتصف السبعينات وحتى الآن، ألا وهو دخول عدد
كبير من الدول الأعضاء في ترتيبات أمنية مع القوى العظمى، أخذت أحياناً مسمى
(اتفاقيات التعاون الأمني والصداقة) ، ورغم أن دول الحركة لم تكن أعضاء بشكل
رسمي في الأحلاف القائمة، إلا أنها كانت تخدم استراتيجية هذه الأحلاف، من
خلال ما تقدمه لها في أراضيها من تسهيلات عسكرية؛ مما أدى إلى تقويض
الأساس الذي بنيت عليه الحركة، وأعتقد أنه لم يعد مجدياً الآن ولا منطقيّاً
الاستمرار في تنظيمٍ فَقَدَ مسوغات وجوده بانتهاء الحرب الباردة؛ فإن من الأفضل
تحري أسس جديدة لإعادة بناء مثل هذا التكتل؛ ليلعب دوراً فعالاً في إصلاح النظام
الدولي.
القسم الرابع، وعنوانه: (الأبعاد الفكرية والمستقبلية للنظام العالمي الجديد) ،
وقد قام بإعداده كل من الدكتور (محمد سيد سليم) ، والدكتور (محمد سيد سعيد) ،
ويتناول هذا القسم مسألتين:
الأولى: تتعلق بالمفاهيم السياسية في إطار النظام العالمي الجديد، حيث أشار
الدكتور (محمد سليم) إلى أن التحولات الدولية قد تركت آثاراً واضحة على مضامين
المفاهيم السياسية ودلالاتها، وظهور مفاهيم جديدة.
الثانية: احتمالات التطور المستقبلي للنظام العالمي الجديد، حيث أورد
الدكتور (محمد سيد سعيد) ثلاثة محددات مباشرة للتطور المستقبلي للنظام العالمي،
وهي: درجة استقرار موقع الهيمنة، والتوترات المتصلة بعولمة الاقتصاد، وأزمة
التكيف المؤسسي مع تفجر الخصوصيات الثقافية بكل أشكالها، وأشار إلى أن
النظام الدولي الحالي قد يتطور إلى واحد من الأشكال الأربعة الآتية: نظام دولي
هرمي، نظام كتلي متوازن، نظام كتلي فوضوي، نظام مشاركة عالمية، وقد
استعرض الباحث كلاّ منها بالتفصيل.
وهكذا.. من خلال الأبحاث العلمية والدراسات التحليلية التي يضمها هذا
الكتاب بأقلام عدد من المتخصصين يتاح للقارئ الوقوف على هيكلية النظام الدولي
في الماضي والحاضر، والمستقبل المتوقع له.
وقد تميز الكتاب بالعرض السلس المبسط للموضوع، والتغطية الشاملة
المتوازنة لعناصره، ومن ثم: فإنه يمثل إضافة قيمة للمكتبة العربية فيما يتعلق
بالدراسات السياسية، وإن كان كما أسلفت تفتقد أبحاثه للرؤية السياسية الإسلامية،
وهذا قصور ولا شك [**] .
__________
(*) ألف الكتاب مجموعة من الباحثين منهم الدكتور (حسن نافعة) وآخرون، والمحرر هو: الدكتور (محمد سيد سليم) ، والناشر: مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة القاهرة.
(**) كتب بعض المفكرين الإسلاميين عدداً من الدراسات حول موضوع (النظام العالمي الجديد) من خلال الرؤية الإسلامية، ومنهم الدكتور (توفيق القصير) في كتابه (على مشارف القرن الحادي والعشرين) ،والدكتور (محمدعبد القادر أحمد) ، (هموم إسلاميةفي نظام عالمي جديد) ، والدكتور محمد التكريتي , بالاشتراك في كتاب (المسلمون والنظام العالمي الجديد) . ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -(116/64)
المسلمون والعالم
خمسون عاماً من الفشل..!
أجواء الحرب.. في أحلام السلام
بقلم: عبد العزيز كامل
بالرغم من قناعتنا نحن المسلمين بأن السلام (الدائم) مع اليهود أمر مستحيل،
فضلاً عن كونه أمراً غير مشروع لعدم جواز الاعتراف لهم باغتصاب أرض
فلسطين.. إلا أن كثيراً من القيادات العربية كانت ولا تزال تمني نفسها بإمكانية
تحقيقه، فتخطية البحث في مشروعية تطبيقه، وكانت تلك القيادات تتطلع من
خلال البحث عن (السلام) إلى تحصيل ما عجزوا عن تحقيقه عبر (السلاح) .
ونحن سوف نفترض حسن النية في هذه القيادات، وسوف نفترض أنها فعلاً
أرادت التغلب على اليهود عبر طاولة المفاوضات بدلاً من ساحة الصراعات..
سنستبعد إلى حين ما يعده بعضهم: هواجس التآمر، ووساوس الخيانه، واتهامات
العمالة، وسنقول: إن هؤلاء أرادوا حقاً الانتصاف للأمة من عدوها سلماً بعد أن
عجزوا عن الانتصار لها حرباً.. فهل أفلحت تلك القيادات في السلام بعد أن فشلت
في الحرب ... ؟ ! .
هذا ما سوف نناقشه من خلال استعراض مسيرة الحلول السلمية التي حملها
(قطار السلام) الذي انطلق بعد حرب 1973م وهو التاريخ الذي يمثل نصف مدة
الخمسين سنة من الصراع العربي الإسرائيلي منذ بدأ وإلى الآن ... وهذه الحلقة
الأولى لأهم المحطات.
المحطة الأولى: مؤتمر جنيف 1974 م:
(الحرب من أجل السلام) : بهذا العنوان، أو بهذه الروح دخل العرب
الحرب الرابعة مع اليهود عام 1973م، وأثناء تلك الحرب، وقبل أن تضع
أوزارها، وجه الرئيس المصري السابق (أنور السادات) يوم 16 أكتوبر 1973م
(أي بعد بدء الحرب بعشرة أيام) رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق
(ريتشارد نيكسون) اقترح فيها مشروعاً للسلام يتضمن الدعوة إلى إيقاف إطلاق
النار على أن تنسحب إسرائيل فوراً من جميع الأراضي العربية التي احتلتها في
حرب يونيو 1967م، وأبدى استعداده لحضور مؤتمر سلام دولي لإقرار السلم في
منطقة الشرق الأوسط.
وسرعان ما تحركت الأطراف الدولية وعلى رأسها (واشنطن) و (موسكو)
لإنهاء القتال الذي بدا أنه يمكن أن يهدد الدولة اليهودية، وأسفرت جهودهما عن
صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو لوقف القتال والبدء فوراً في مفاوضات
بهدف إقامة سلم (دائم) و (عادل) ! في الشرق الأوسط، وسارعت مصر وسورية
والأردن و (إسرائيل) أيضاً إلى قبول قرار وقف إطلاق النار، بينما رفضته العراق
ومنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتبنى مبدأ عبد الناصر وهو أن (ما أخذ
بالقوة لا يمكن أن يسترد بغير القوة) .. وهنا وبسبب عدم وجود أرضية من الثوابت
المشتركة، بدأ التصدع في الجدار العربي، الذي كان ماثلاً أصلاً بسبب الأرض
الهشة التي يقف عليها فمصر بدأت تسير في (عملية السلام) في اتجاه الحل المنفرد، بينما تباينت مواقف الدول العربية الأخرى بما يدل على أن العرب بدأوا عمليه
السلام في مراحلها المبكرة، دون أدنى اتفاق أو تنسيق أو تحديد للثوابت، كما كان
شأنهم عبر عقود الحرب.
ثم جاء وقت انعقاد مؤتمر (جنيف) الذي دعا إليه مجلس الأمن بعد الحرب،
إلا أن كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لم يرق لهما أن تُبحث قضية
السلام دولياً، فربما تبرز أنواع من الضغوط عبر القنوات الدولية لا تكون في
صالح اليهود؛ ولهذا تقرر فجأة أن تدخل واشنطن بثقلها لتحويل مجريات الأمور،
فكان أن جاء وزير خارجية الولايات المتحدة في ذلك الوقت اليهودي (هنري
كيسنجر) إلى مصر في بداية عام 1974م ليجري مباحثات كانت بمثابة مرحلة
التدشين لعملية السلام الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة.
وبدأ العمل على إدخال مصر في مسار الحل المنفرد لدورها الكبير في قضية
الصراع.
المحطة الثانية: كامب ديفيد 1978م:
توالت الأحداث لتوصل إلى الهدف المحدد بدقة من قبل، وهو إخراج مصر
من ساحة المعركة مع اليهود، لينكسر بذلك أحد فكي الكماشة التي كان يمكن لها في
وقت من الأوقات أن تكسر ظهر الكيان اليهودي في فلسطين، وكانت (كامب ديفيد)
الاتفاقية التي أوصلت إلى هذا المصير المنتظر، فقد أعلنت الولايات المتحدة في
17 سبتمبر 1978م عن توصل كل من مصر (وإسرائيل) إلى صيغة اتفاق بينهما
لوضع حد نهائي للنزاع العربي الإسرائيلي، وكان هذا الإعلان بعد سلسلة من
الاجتماعات استمرت (13) يوماً، ضمت كلاً من الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي
كارتر) والرئيس المصري السابق (أنور السادات) ورئيس الوزراء الإسرائيلي
الأسبق (مناحيم بيجين) ، وكان ذلك في المنتجع الذي أطلقوا عليه (مخيم داود)
والذي اشتهر إعلامياً باسم (كامب ديفيد) .
وأثمرت هذه الاجتماعات إعلاناً عن توقيع اتفاقيتين منفصلتين:
الأولى: تتعلق بتحديد أسس علاقات السلام بين دولة اليهود والدول العربية
الأخرى، وتدعو بقية دول المواجهة أن تحذو حذر مصر في إنهاء الحروب مع
اليهود، وتنص من جهة أخرى على إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية
وقطاع غزة، وذلك لمدة خمسة أعوام، دون تحديد موعد البدء بها، أو ما سيكون
عليه الحال بعدها.
أما الوثيقة الثانية: فتحدد أسس معاهدة سلام بين مصر و (إسرائيل) على أن
تنجز وتبرم في فترة لا تتعدى ثلاثة أشهر من تاريخ اجتماعات (كامب ديفيد) ، أما
بنود هذه المعاهدة الثانية، فهي تأكيد لكل الإجراءات التي من شأنها إيقاف أي
أعمال عسكرية بين الطرفين بشكل نهائي، واستعداد كل طرف لممارسة علاقات
طبيعية مع الطرف الآخر، ونصت إحدى بنود هذه الاتفاقية على أنها معاهدة ملزمة، وليس لأحد الطرفين حق نقضها! ومن الجدير ذكره هنا، أن تلك الاتفاقيات
المعلنة، صاحبتها أيضاً اتفاقات سرية؛ فكان هناك اتفاق سري حول لبنان يقضى
بتجريد القوات الفلسطينية والميلشيات اللبنانية من السلاح تدريجاً بإشراف دولي
وعربي! وقد ترجم هذا عملياً بعد ذلك بإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام
1982م.
وتتضمن بنود كامب ديفيد اتفاقات سرية أخرى وتتلخص فيما يلي:
1- وعد أمريكي لمصر بزيادة المساعدات المالية والاقتصادية كلما تم تنفيذ
بنود المعاهدة؛ ويتضمن ذلك وعداً أمريكياً آخر بتعويض مصر عن المساعدات
العربية التي يمكن أن تفقدها بإيقافها من قِبَلِ الدول العربية [1] .
2- اتفاق على تنسيق التعاون بين الاستخبارات المصرية ووكالة
الاستخبارات المركزية الأمريكية (السي أي إيه) ليس فقط يتعلق بالأوضاع في
مصر، بل في إطار المنطقة العربية كلها.
3- تتعهد أمريكا بتحديث الجيش المصري (ضد من..؟) وتزويده بالأسلحة
الأمريكية التي تعوضه عن الأسلحة السوفييتية عند الاستغناء عنها.
4- موافقه الرئيس المصري على تسريح قطاع كبير من الجيش المصري،
بحيث تخفض أعداده من 650 ألف جندي إلى 250 ألف جندي فقط!
5- السماح باستخدام أمريكا لبعض القواعد العسكرية التي ستتخلى عنها
إسرائيل في سيناء.
6- إعطاء أمريكا صلاحيات موسعة لاستخدام منطقة شرم الشيخ فيما يخدم
استراتيجتها في المنطقة.
ردود الفعل العربية على اتفاقات كامب ديفيد:
بطبيعة الحال، كان لا بد أن ترفض أكثر الدول العربية اتفاقيات كامب ديفيد، لا لأنها تتضمن اعترافاً بدولة اليهود فتلك دعوى كانت تتردد بين آن وآخر ولكن
لأن هذا الاعتراف جاء بشكل منفرد ودون سابق مشورة، أما الأدبيات القومية أو
الليبرالية أو حتى الثورية، فإنها لم تكن تتضمن مبادئ ثابتة فيما يتعلق بضوابط
الصداقة والعداء.. أو الولاء والبراء، فالدول التي ترتمي في أحضان القوى
الشيوعية الملحدة، أو النصرانية الصليبية، ما الذي يمنعها من إقامة علاقة ود
وصداقة مع دولة يهودية؟
لقد أثبتت الأيام بعد ذلك أن كل محرمات العلمانية يمكن استحلالها، وكل
ممنوعاتها يمكن السماح بها، فليس ثَمّ حرام دائم أو حلال دائم عند من يستمدون
تشريعهم من الأهواء..
ولكن الظروف وقتها كانت لا تسمح إلا بالرفض على مستوى الدول، وأيضاً
على مستوى الشعوب التي صدمت فيما رأته تراجعاً عن ثوابت لا يمكن التراجع
فيها.
لقد أخذ الرفض العربي صورة تشنجية عالية الصوت، لامعة الضوء، ولكنها
سراب يحسبه الظمآن ماءً، وقد أثمر هذا الرفض في النهاية ولادة ما أطلق عليه
وقتها: (جبهة الصمود والتصدي) ! ! تلك الجبهة التي تعهدت بالمضي في المعركة
مع الغاصبين إلى النهاية، وتم الإعلان عن هذه الجبهة في مؤتمر القمة العربي
المنعقد في بغداد 1979م، وقد عقدت دول تلك الجبهة بعد ذلك أكثر من مؤتمر
لإحكام المقاطعة العربية للدولة التي خرجت عن (الإرادة العربية) ولكن ... لم يكد
ينقضي عقد من الزمان حتى آل أمر جبهة (الصمود والتصدي) إلى الخمود
والتصدع! فقد بدأ بعض أعضائها في التسلل تحت جنح الظلام إلى معسكر السلام!
المحطة الثالثة: (مؤتمر فاس) :
شرع الرافضون لكامب ديفيد من (الصامدين) يتصدون لطرح مبادرة عربية،
تقول للسلام مع اليهود: نعم، ولكن.. (بشكل جماعي) وكان ذلك في مؤتمر (فاس)
الذي عقد في المغرب بين (6 9/9/1982م) ومن العجيب أن ما علت الأصوات
العربية باستنكاره من اتفاقات كامب ديفيد (الخيانية الانفرادية) قد سطّر بهدوء،
ودون ضجيج في البند السابع من مشروع (فاس) ، ولكن مع الفارق المذكور، وهو
أن الأول كان بمبادرة فردية، والثاني كان بمبادرة شبه جماعية.
وتعد نتائج مؤتمر (فاس) هي الأرضية التي انطلقت منها بعد ذلك كل
مشروعات التسوية بدءاً من الاتفاق الأردني الفلسطيني (22/11/1984م) الداعي
إلى مبدأ (الأرض مقابل السلام) وحتى اتفاقات أوسلو وصدق فيها المثل الشعبي:
(وقعت الفاس في الرأس) !
المحطة الرابعة: مشروع إعلان الدولة الفلسطينية:
في الفترة ما بين 1986، 1988م، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية تنشط
بدورها في إجراء اتصالات مع عناصر إسرائيلية، تمهيداً للدخول في حوار سلمي
مع الدولة اليهودية، وذلك بعد قرار صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني في
دورته لعام 1986م، يدعو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لوضع خطط بفتح
الاتصال المباشر مع دوائر يهودية وإسرائيلية.
وكانت الإشارات قد بدأت تدل على نية رئيس المنظمة ياسر عرفات إلى
الاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يدعو إلى اعتراف العرب بدولة
(إسرائيل) بحدود ما قبل حرب 1967م، وكان العرب جميعاً قبل ذلك يطلقون على
رفض هذا القرار باعتبار أنه يعني التنازل مقدماً عن ثلثي أرض فلسطين، بل كان
ياسر عرفات يقول ويكرر إنه يقبل أن تقطع يده على أن يقبل بالقرار 242! ولكن
عرفات عاد وقبل بالقرار وهو يعده الآن أثمن ورقة في يده! ولكن قبوله وقتها كان
له وقعه وصداه (المؤقت) وحتى يغطي على هذا التراجع المخيف، فقد أوعز إلى
المجلس الوطني الفلسطيني بأن يعلن في دورته التاسعة عشرة عن قيام (دولة
فلسطين المستقلة) ! ثم خطت منظمة (التحرير) خطوة (سلمية) أخرى، حينما ذهب
رئيسها إلى جنيف، وأعلن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 ديسمبر 1988
ما يلي:
1- أنه على استعداد للتفاوض مع (إسرائيل) .
2- تتعهد المنظمة أن تتعايش بسلام مع (إسرائيل) وأن تحترم حقها في
العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها.
3- أن المنظمة تدين أعمال العنف الفردي والجماعي وإرهاب الدولة، ولن
تلجأ إلى شيء من ذلك! ولقد كانت هذه (التوبة) المعلنة كافية لكي تكفر عن
الفلسطينيين أمام الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل كل ما اقترفته أيدي الفدائيين
الفلسطينيين والمجاهدين وأبطال الحجارة من (إساءات) في حق اليهود (المظلومين) ! وقد قرت أعين هؤلاء اليهود وأعوانهم بما قال عرفات، حتى إن (جورج
شولتز) وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت علق على خطاب عرفات قائلاً:
إنه انتصار باهر، يدل على أن اللاءات الثلاث العربية الشهيرة في مؤتمر
الخرطوم 1967م، تحولت في جنيف لتصبح (نعم) ثلاث مرات أيضاً!
المحطة الخامسة: مؤتمر مدريد:
قبيل حرب الخليج الثانية، كان الفلسطينيون قد سد في وجوههم باب (السلام)
بعد أن عادت الولايات المتحدة ساخطة عليهم بسبب عملية فدائية قامت بها إحدى
الفصائل الفلسطينية التي كانت على علاقة بالمنظمة، وبعد أن توقفت الحرب وفي
يوم 6 مارس 1991م، وهو يوم الاحتفال بالنصر، ألقى الرئيس الأمريكي السابق
جورج بوش خطاباً أعلن فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية عازمة وبحزم على
تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وقد بدأ (جيمس بيكر) وزير الخارجية
الأمريكي وقتها جولات مكوكية لتهيئة الأوضاع لعملية سلمية جديدة. تتناسب مع
ظروف جديدة، وكان المقرر أن يعقد مؤتمر دولي يكون مجرد واجهة علنية عامة
لمحادثات ثنائية منفصلة بين كل دولة عربية وبين (إسرائيل) أما منظمة التحرير
المعنية أصلاً بموضوع السلام، فقد تقرر استبعادها لموقفها في حرب الخليج، على
أن يكون البديل عنها وفد من فلسطينيي الداخل، وليس من المنظمة وعلى أن يكون
ذلك الوفد أيضاً جزءاً من الوفد الأردني في المؤتمر.
وتقرر أن تكون العاصمة الأسبانية (مدريد) المقر الرسمي لانعقاد المؤتمر
(الواجهة) ثم تجري بعد ذلك المفاوضات في مسارات ثنائية بين كل طرف عربي
على حدة وبين الطرف اليهودي، واختيرت مدريد في ذلك الوقت لأسباب لا تخلو
من إيحاءات ورموز زمانية ومكانية لم تكن خافية.
وقد تجسد الضعف بل الذل العربي في هذا المؤتمر، حيث صال إسحاق
شامير رئيس وزراء (إسرائيل) الأسبق وجال، ولوّح بالتوراة وآياتها، وذكّر
بالتاريخ ودروسه وشرّق وغرّب باسم اليهودية وأمجادها وآمالها وآلامها في القديم
والحديث، وكان هو الزعيم الوحيد من أطراف الصراع الذي حضر بنفسه ولم ينب
أحداً عنه، وكان قد أصر على شروط لا تقبل أنصاف الحلول قبل التفاوض في أي
شيء وكأنما أراد أن يذكّر بها أن الجلوس على مائدة المفاوضات لا يعني النّدّية أو
التكافؤ بين الأطراف؛ وأراد شامير أن يذل العرب والمسلمين في شخص
الفلسطينيين فاشترط هذه الشروط:
1- لا يسمح بمشاركة أي فلسطيني عضو في المجلس الوطني في المؤتمر.
2- مجرد ذكر منظمة التحرير في المؤتمر يعني انسحاب اليهود.
3- الإشارة لأي اعتزاز بالانتماء للكفاح الفلسطيني، يعني أن المؤتمر في
حكم الملغي، وسينسحب هو ووفده منه! وكاد يحدث بالفعل ما حذر منه شامير، إذ
أقدم أحد أعضاء الوفد الفلسطيني وهو (صائب عريقات) على وضع الكوفية
الفلسطينية المشهورة على رأسه أثناء الاجتماع فاحتج شامير واحتد، وطلب إزالة
هذه المخالفة فوراً! ! .
فبأي روح يا ترى، وبأي نفسية كانت تجري المفاوضات (السلمية) ومع هذه
الشخصيات (العدوانية) في تركيبها وتكوينها وتفكيرها واعتقادها وأحلامها..؟ !
المهم أن المؤتمر انعقد، وكأنه تظاهرة تحتفي بهوان أمة لم تجد من يتكلم
باسمها أو يدافع عن كرامتها ومقدساتها، وكان من المفاوضات العجيبة بعد انتهاء
المؤتمر أن تُختار النصرانية (حنان عشراوي) لتتكلم باسم القضية الفلسطينية
العربية الإسلامية! ! ولهذا الموضوع بقية في جزئه الثالث في العدد القادم إن شاء
الله.
__________
(1) يلاحظ أن هذه المساعدات المالية والاقتصادية، استمرت طوال السنوات الماضية، لتعطي
الدولة العربية الكبرى إمكانية التصدي لزعامة (عملية السلام) فلما انتهى هذا الدور أو أوشك على الانتهاء الآن، فقد أصدر (الكونجرس) الأمريكي قراراً هذا الشهر (يونيو 97) بإيقاف المعونة
الأمريكية لمصر (مليار دولار سنوياً) بدعوى أن مصر أصبح لها دور سيئ في تعويق عملية
السلام! .(116/72)
المسلمون والعالم
عولمة أم أمركة
(1)
بقلم: حسن قطامش
كتب شاعر عربي شيوعي قصيدة من أربع كلمات يعبر فيها عن شعوره تجاه
الحالة الأمريكية الحالية فقال: الخلق نوعان: إنس وأمريكان.
وسياسي عربي، جمع شعبه وخطب فيهم بصراحته المعهودة قائلاً: في اليوم
الذي كنا نختلف فيه مع الاتحاد السوفييتي كنا نذهب إلى أمريكا، ويوم أن كنا
نختلف مع أمريكا.. نذهب للاتحاد السوفييتي، واليوم لم يعد إلا أمريكا، فأين
نذهب؟ ! (سبحان الله) . هكذا يفكر التائهون.
وسياسي آخر من أرض الجزائر ضاقت به السبل لحل الأزمة الراهنة
واستعصت عليه المسائل فطالب أمريكا بالتدخل لحل الأزمة.
وكاتب عربي مسلم رأس تحرير إحدى المجلات الإسلامية لفترة من الزمن،
طالب بعدم السعي لإسقاط أمريكا، وطالب بالحفاظ عليها دولة وحيدة مهيمنة! !
لأن في سقوطها ضرراً كبيراً؛ إذ إن مصالح العالم كله مرتبطة بها وفي سقوطها
خسارة للعالم! !
لكن الكاتب لم ينس أن يطالب أمريكا أن تكون محترمة لا مستعلية!
هذه نماذج من شرائح عدة في مجتمعاتنا تكشف عن استقرار كبير في شعور
هذه الفئات بسيطرة النموذج الأمريكي على العالم، وهذا الاستقرار فرض على
المشاعر والسلوك الصبغة الأمريكية حتى في أخص الخصوصيات التي استوردت
من ثقافة (اللاثقافة) ، وحضارة (اللاحضارة) ؛ فأصبح من الطبيعي أن تجد وأنت
ساجد لله، في أحد المساجد العلم الأمريكي على جورب يلبسه أحدهم، وإن اعتدلت
قائماً طالعك الـ (تي شيرت) وقد حفر على واجهته وخلفيته حروف.. بل يكفي
الاقتناع التام بجودة المنتج إذا كان أمريكيّاً، مهما كانت جودة منتج آخر من دولة
أخرى.
استقر في نفوس أولئك أن أمريكا نموذج للحرية والعدل والمساواة، ولهذا
صارت أمنية الأماني وحلم الأحلام لدى بعضهم: الحصول على (الجرين كارت)
فضلاً عن السعي الحثيث ودفع الأموال الطائلة للحصول على الجنسية الأمريكية
والمفاخرة بحمل جواز سفر.. أمريكي.
سؤال مهم وهو سبب لما نسطره الآن: ما الذي قدمته أمريكا للعالم؟
والإجابة ستكون من غير تشنج ولا تحيز ومن خلال ما سنراه: لقد قدمت
أمريكا للعالم نموذجاً واحداً، هوالنموذج المصلحي، فلا ثقافة أصيلة، ولا حضارة
إنسانية حقيقية يمكن أن يسجلها لها التاريخ، فنموذج (الأمركة) ليس له وسيلة
لفرضه على العالم إلا ما يرادفه في اللفظ! ! فالأمركة ترادفها (العلمنة) ويرادفها
(المكدلة) نسبة إلى (ماكدونالدز) ، وقد يراد منها (الكوكلة) نسبة إلى (كوكاكولا) !
لم تقدم أمريكا إلا أفلام الجنس، أفلام العنف، الجينز، وهو ما يمكن تسميته
بـ (الثقافة السائلة) الثقافة الاستهلاكية، ثقافة (تعالَ إلى حيث النكهة) .
ولذلك تَعْجَبُ من بعض قومنا أن تكون مشاعرهم تجاه هذه الصرعات غير
الحضارية بتلك الحرارة، ونعجب أكثر من بعض المثقفين الذين يحملون على
عاتقهم هَمّ تسويق النموذج الأمريكي نموذجاً مثالياً جديراً بالتطبيق في جميع مجالاته!
وعندها لا نعجب أبداً من أبناء هذه القبيلة الأمريكية حين يتيهون على الدنيا،
ويطلقون التصاريح الإمبراطورية يفاخرون فيها بأنهم أسياد الدنيا وحكامها؛ ونخشى
أن تزيد هذه التصريحات بعض قومنا عمًى على عمى (ونسأل الله السلامة) .
شهادات مغرورة:
1- (ألبرت بيفريدج) ممثل ولاية (إنديانا) في مجلس الشيوخ الأمريكي يلقي
خطاباً في مجلس ولايته، يقول فيه وكأنه مجلس حكام الدنيا:
(إن الله لم يهيّئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها بكسل ودون
طائل، لقد جعل الله منا أساتذة العالم! ! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون
الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة،
وبدون هذه القوة، ستعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله الشعبَ
الأمريكي دون سائر الأجناس كشعب مختار! ! يقود العالم أخيراً إلى تجديد ذاته) .
أما الرئيس الأسبق (دوايت أيزنهاور) فقد خاطب أمته عام 1953م قائلاً:
(لمواجهة تحديات عصرنا حَمّل القدر بلدنا مسؤولية قيادة العالم الحر) ومن تجليات
تلك العنجهية وغرورها ما تفوّه به (وارن كريستوفر) وزير الخارجية السابق في
دراسته التي نشرتها مجلة (فورين بوليسي) (السياسة الخارجية) في نهاية عام
1995م بعنوان: قيادة أمريكا فرصة أمريكا على أعتاب القرن الحادي والعشرين،
يقول: (الحقيقة البسيطة هكذا هي أن أحداً، أي أحد آخر لن يقود إذا لم نقم نحن
بتولي مسؤولية القيادة، تصوروا شكل العالم خلال العامين الأخيرين فقط لو كانت
القيادة الأمريكية غائبة! !
إنه ومنذ الثورة الأمريكية يتطلع الناس في كل مكان نحو الولايات المتحدة
التماساً للإلهام في نضالهم من أجل الحرية وحياة أفضل، وثمة أمم أخرى طالما
قبلت بقيادة أمريكا، لا لشيء إلا لأن أمتنا تمتلك إرادة مجربة، واستعداداً سبق
اختباره للدفاع عن شيء ما أكبر منها) .
أما الملياردير الأمريكي ومرشح الرئاسة المستقل، الخاسر ثلاث جولات
(روس بير) فيقول في كتابه: (ليست للبيع بأي ثمن) (إن الأمريكيين محظوظون
من بين شعوب العالم؛ لأنهم يعيشون في أعظم دولة عرفها تاريخ الإنسان! ! وإن
مئات الملايين من الناس يتمنون الوصول إلى ما وصل إليه المواطن الأمريكي
اليوم) .
شهادة من تاجر لا يعرف من الحضارة إلا المادة، فالدولار إله معبود.
وأخيراً إلى من يزعم أنه كُتب على أمريكا تحمل مسؤولية العالم! ! فهذا
(روزفلت) في أعقاب الحرب العالمية الثانية يصرح: (إنّ قدرنا.. هو أمركة العالم، تكلموا بهدوء، واحملوا عصاً غليظة.. وعندئذ يمكن أن تتوغلوا بعيداً) .
ولعل الأغنية التي يرددها الأمريكان خير تعبير عن بلوغ النشوة والعنجهية
ذروتها بامتلاك العالم: (القمر أصبح أرضاً أمريكية، بلاد السوفييت أصبحت
أرضاً أمريكية، المريخ سيصبح أرضاً أمريكية.. وعلى الأرض السلام والخراب) .
بعد هذه المقدمة، نقوم بجولة نستعرض فيها التاريخ الأمريكي منذ بدايته حتى
نتمكن من التوصل إلى رؤية شاملة للولايات المتحدة (سيدة العالم) وحتى تكون
أحكامنا عن تصور واضح ومنطقي لا عن تشنج غير مسوّغ.
كذلك أود أن ألفت الانتباه إلى أن من الأهمية بمكان الوقوف على تصريحات
الساسة وصناع القرار الأمريكيين؛ إذ إن هذه التصريحات هي من أقوى الأدلة
وأوضح البراهين على إثبات المراد بيانه من سياستهم، فهي ليست حشواً للأسطر
أو تسويداً للصفحات بلا داعٍ؛ بل هي مخطط مدروس، فهل نعي ذلك؟
رحلة سريعة في التاريخ الأمريكي:
وقت أن كانت فرنسا قوة مسيطرة، رفعت شعار: (دور فرنسا في تحضير
العالم) ، وحين جاء دور (بريطانيا) رفعت شعار: (عبء الرجل الأبيض) ، ويوم
حكمت أمريكا رفعت شعار: (حق الشعوب في تقرير المصير) وجميعها شعارات
استهلاكية.
لكن التاريخ الأمريكي يبدأ منذ أن رسم البحارة الإيطالي (كولمبوس) خطته
بالإبحار غرباً، ونفذ هذه الخطة بمساعدة ملك أسبانيا وملكتها في نهاية القرن
الخامس عشر الميلادي، ثم أعقبه الإيطالي (أميريكو نسبوتشي) الذي سميت أمريكا
باسمه واستقر الأسبان والبرتغال في أواسط أمريكا (المكسيك والبرازيل) وتوالت
الرحلات، فاكتشف الإنجليز والفرنسيون شرق أمريكا الشمالية فاستقروا فيما صار
بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وقام صراع بين انجلترا وفرنسا حول الأرض
الجديدة، وقامت حرب السنوات السبع في النصف الثاني من القرن الثامن عشر،
وكان الإنجليز قد تمكنوا من بناء أول (مستوطنة) في أمريكا الشمالية، وهي التي
جذبت العديد من (المستعمرين) إلى أمريكا، حيث بدؤوا تكوين مجتمعهم الجديد، ثم
زادت المستوطنات، وعاش (المستوطنون) تحت الحكم البريطاني، ولكن تجاهلهم
لتطبيق القانون البريطاني أدى إلى الخلاف مع بريطانيا.
وبعد الاستفراد البريطاني في الأرض الجديدة، صدرت بعض الإجراءات
أدت إلى بدء حركة الاستقلال، كزيادة الضرائب على المطبوعات والوثائق، وقد
أثارت هذه التغييرات ردود فعل غاضبة لدى المسَتْعمِرين الذين عارضوها بشدة،
ونجحت الاحتجاجات في إلغاء هذه الإجراءات.
لم يدم الود بين الحكومة البريطانية والمستوطنين الجدد طويلاً، فقد صدرت
قوانين جديدة مثيرة للسخط، وأرسلت بريطانيا قواتها إلى كل من (بوسطن)
و (نيويورك) حيث قتلوا بعض المستوطنين الجدد وهو ما عرف وقتها بـ (مذبحة
بوسطن) ، ورد المستوطنون على ذلك بأن ألقوا الشاي البريطاني في الميناء،
فعاقبتهم (بريطانيا) بما سمي بالقوانين غير المحتملة التي تمثلت في إغلاق الميناء
وإجبار المستعمِرين على إيواء البريطانيين وإطعامهم، فكوّنت اثنتا عشرة مستوطنة
ما سمي بالمجلس القاري الأول بـ (فلاديفيا) الذي أجبر بريطانيا على سحب
القوانين غير المحتملة، وغضب الملك (جورج) على المستعمرات، فاعتدت
جيوشه على مؤن تخص المستعمرات، فكان ذلك سبباً من الأسباب في ابتداء الثورة
الأمريكية على الحكم البريطاني، واستمرت المعارك، وفي يوليو 1776م أعلن
المجلس القاري الرابع الاستقلال عن بريطانيا، مكوناً الولايات المتحدة الأمريكية،
واستمرت الحرب الطاحنة بين (أمريكا) وبريطانيا حتى انتصر الأمريكان عام
1781م، ثم وقعت معاهدة باريس بين الطرفين عام 1783م إعلاناً لنهاية الثورة
الأمريكية، وكانت قد تكونت الحكومة الدستورية، وكتب دستور البلاد عام 1787م.
ومما يجدر بالذكر أن معظم الذين هاجروا إلى الأرض الجديدة (أمريكا) من
الأوروبيين كانوا من مجرمي الحروب والسجناء الذين ضاقت بهم السجون، ومن
تجار الرقيق، والباحثين عن الذهب؛ فالنزعة الإجرامية والقتالية، وحب السيطرة، وعبادة المال، وتقديم المصلحة الشخصية: سمات غالبة على المستعمِرين
والمستوطنين الجدد، والجميع هنا بلا جذور، وأولئك هم الذين قامت عليهم
الولايات المتحدة، وهم الذين وضعوا دستورها وسياستها ... وللحديث بقية.(116/80)
المسلمون والعالم
الانتخابات الإيرانية وخطأ الحسابات
نظرات في خلفيات الانتخابات الإيرانية الأخيرة
بقلم: د. عبد الرحيم البلوشي
1- كتبت جريدة (كيهان) الإيرانية الناطقة بلسان المخابرات الإيرانية قبل
2يونيو: أن حصون القوى الصديقة الداخلية أخذت في الانهيار، وفي الثاني من
يونيو انهارت هذه الحصون فعلاً في يوم الاقتراع؛ لذا بدأ الآيات والقوى الحاكمة
يركزون على ناطق نوري رئيس البرلمان حيث سموا منافسه الخاتمي: (بني صدر
الثاني) وأصبحت النتيجة أن شعب إيران بأكمله تحرك ضد النظام، وكان رد الفعل
هو الخوف وارتكاب الحماقات، ففي اليوم الخامس من يونيو قام آمر الجيش
الشعبي برفقة (2000) من قواته بمظاهرة مقابل بيت (الخامنئي) وكانوا يهتفون:
(نحن لا نريد بني صدر، الموت لبني صدر، الموت لخاتمي) .
واعترفت جريدة (جمهوري إسلامي) الفارسية في 31 من مايو أنه مهما كانت
نتيجة الانتخابات فإن رجال الدين الروحانيين (أي الآيات: ويسمونهم في إيران
أيضاً: روحانيت) ، وكذلك النظام هما الخاسران الأكبران.
إن مناورة النظام على حكم (ولاية الفقيه) [1] وحكومة الشعب وخطر بني
صدر، كانت صفعات مهلكة على وجه النظام.
إن رضا جرندابي في أسبوعية نيمروزط (ص21: لندن) اعتبر نجاح
الخاتمي اتحاداً غير ديني للناس ضد ولاية الفقيه.
2- مع أن العلاقات الإيرانية الأوربية معلقة، إلا أن هناك فضيحتين تتكلمان
عن العلاقات الفاسدة بين آيات إيران وإسرائيل من جهة، وبين إيران وإنجلترا من
جهة ثانية، وهما: (لاري جيت) و (عنبر جيت) [2] .
أما جريدة كيهان [3] ، فقد اعتبرت أن أنصار الخاتمي اليوم هم أنفسهم
أنصار بني صدر سابقاً، وقالت: على فرض نجاح الخاتمي، فإننا سنسلك معه ما
سلكه الخميني مع بني صدر.
لكن الضربة المثلى هي ما أوردته مجلة النساء (زنان) الإيرانية، من أن
ناطق نوري قام بقراءة النياحة والتباكي [4] على قبر الخميني، فسألته المجلة:
هل ستنوح ثانية إذا ما فزت برئاسة البلاد؟ ! ولذا عقبت كيهان بأنهم يستهزئون
بالنياحة! قاصدة ناطق نوري عندما أعلن نفسه مرشحاً للنظام وليس مرشحاً من
جناح معين فإنه بعمله هذا نسف نظام ولاية الفقيه من أساسه.
مناورات الخامنئي:
أخذ خامنئي يناور بادئ ذي بدء حينما منع ترشيح المهندس حسين الموسوي
رئيس الوزراء السابق ولما نجح في ذلك: ظن الجناح اليميني أن الجناح المنافس
لا يوجد لديه مرشح آخر، ولكن بعد أخذ ورد وتردد تم ترشيح آية الله الخاتمي،
وقَبِلَهُ الخامنئي بعد وساطة (خروبي) و (خوئي) (وكلاهما من الآيات) . ولكن
خامنئي لوّح بترشيح ناطق نوري، وفي 31 من مايو، قال آية الله مهدوي كني
وهو من أركان نظام ولاية الفقيه قال في جريدة (رسالت) : (إن القائد يميل إلى
ترشيح ناطق نوري) . وفي اليوم نفسه وجه خامنئي أوامره إلى وزير الخارجية
ولايتي بعقد مؤتمر صحفي يقول فيه: إن ناطق نوري هو الأصلح من غيره في
الوقت الذي منع خاتمي من إلقاء كلمته في ملعب أمام 100 ألف مستمع. وفي
(يونيو) ، أعلن مكتب القائد تشكيكه بما أعلنه الكروبي وخوئيني عن موافقة خامنئي
على ترشيح الخاتمي، مع منع خطبة الخاتمي وإغلاق مكاتبه الانتخابية وتوقيف
الحملات الإعلامية في الإذاعة والتلفاز وهما تحت أمر القائد مباشرة، هكذا
وبسرعة أعلن الخامنئي موقفه العدائي المباشر والصريح من خاتمي، وهنا توهم
الناس أن القائد يدافع عن ناطق نوري، ولذا: فهو ينتخبه كرئيس، وأعلن 190
نائباً من مجلس الآيات أنهم يعتبرون ناطق نوري هو الأصلح كما فعل ذلك (شورى
حراس الدستور) وبناءً على هذا جعل النظام بقائده ورؤساء القوى المتنفذة، (ناطق
نوري) مرشحهم الانتخابي، الذي يؤيد نظام ولاية الفقيه.
ردود الأفعال العالمية على فوز خاتمي:
لما فاز الخاتمي، أعلنت جريدة الجمهورية الإسلامية والصحف العالمية بحق
أن هزيمة ناطق نوري كانت هزيمة النظام بأكمله؛ لأن 90% من الشعب الإيراني
اقترعوا ضد ولاية الفقيه أمام (150) من صحفيي العالم الذين كانوا بمثابة مراقبين
للانتخابات. وتقول جريدة (الانقلاب الإسلامي) [5] : إن عدد المشاركين في
الاقتراع كان متفاوتاً إلى درجة كبيرة، وأعلن أنه كان ما بين 30% إلى 90%،
أما وزارة الداخلية الإيرانية فقد أعلنت أن المقترعين 89% حيث صوّت 70%
لصالح الخاتمي، و7% لناطق نوري و 5، 2% لكل من زواره أي رئيس
السجلات حجة الإسلام، وري شهري رئيس المخابرات الأسبق.
أما وكالتا رويتر وفرانس فقد أعلنتا نقلاً عن مراسليهما أن 60% من الناس
كان لهم حق المشاركة. أما جريدة الانقلاب الإسلامي فقالت: إن الإحصائيات
الواصلة إليها من داخل إيران تفاوتت نسبها من 60% إلى 33%، والآخرون قالوا
إن النسبة 50%.
أما في خارج إيران فقد شارك 60 ألفاً فقط أي 2 % من المقيمين في الخارج.
وبناء على البيانات الواردة من وزارة الداخلية الإيرانية، فإن المشاركين كانوا
أقل قليلاً من 30% أي 11 مليوناً، ونسبة المقترعين مهما بلغت فإنها دليل واضح
قاطع على استبداد الآيات ورفض الشعب لهم وعدم شعبيتهم في إيران.
محاولة السلطة إلغاء الانتخابات:
بعد يوم واحد من الاقتراع ذهب أسد الله بادامّيان السكرتير التنفيذي للهيئة
المؤتلفة مع عدد من مديري الدوائر الانتخابية لناطق نوري عن (شورى حراس
الدستور) وطلبوا منهم إلغاء الانتخابات أو على الأقل إلغاء نتائج مراكز الاقتراع
المهمة، حيث أعلن (7) ملايين صوت لخاتمي لتؤجل الانتخابات إلى الدور الثاني، لكن نظراً إلى الجو المكهرب في الداخل والموقف الذي فرضه حضور (150)
صحفياً من العالم، فإن إلغاء الانتخابات سيؤدي إلى ردود أفعال عنيفة، ولذلك
كشفت الانتخابات عن ضعف النظام المفرط؛ إذ لم يكن أحد يتصوره بهذا الوهن،
فقد كانوا فيما مضى يختلقون الأصوات ويوجهونها تبعاً لإرادة القائد.
ولكن مع كل هذا فإن جماعة (أنصار حزب الله) [6] كتبت تحت صور
الخاتمي: إن مصير بني صدر بانتظار الخاتمي.
أما التلفاز الإيطالي: فقد جعل رأي الشعب في الانتخابات الإيرانية مكملاً
لرأي محكمة ميكرونوس؛ لأن رأي المحكمة سلب المشروعية من النظام وتصويت
الشعب أيد هذا الرأي؛ إذ إن الشعب الإيراني فوض خاتمي لإصلاح جذور الآيات. ويقول مراسل نوفكوتيدين [7] : إن هذا الاقتراع كان زلزلة واقعية، واعتُبِرَ
الخاتمي غورباتشوف إيران.
والصحف الألمانية: جعلت هزيمة الثاني من يونيو هزيمة للنظام، وثورة
صغرى، تقول هامبورغر إنبدبلات [8] : إن خاتمي يضع قدميه على أرض ملغمة؛ لأنه يواجه من جهةٍ المجلسَ الذي يخالف سياساته، ومن جهة أخرى فإن الناس
الذين انتخبوه ينتظرون منه الكثير.
أما الصحف الفرنسية: فإن ليبراسيون تقول: إن النظام انهزم بشدة في هذا
الاقتراع إلا أن مخالفيه الذين حرموا الاقتراع كمجاهدي خلق وأنصار الشاه وغيرهم
انهزموا أيضاً.
يقول مراسل جورنال دودبانش: إن الشعب الإيراني قال للآيات.. لا.
أما أبزورفر [9] فإنها اعتبرت الانتخابات ضربة قاضية للمتشددين في النظام.
أما واشنطن بوست [10] فقالت عن نتيجة الانتخابات بأنها هزيمة لنظام
الآيات الحاكمين. ويطلق مراسل الجريدة جان لانكستر على الخاتمي: (آية الله
غورباتشوف) .
أما نيويورك تايمز، فتنصح الخاتمي أن لا يتعجل في تطبيق سياساته مثل
بني صدر [11] .
والصحف الإسرائيلية [12] اعتبرت الانتخابات ثورة ثانية.
أما الصحف العربية: فإنها قارنت انتخاب الخاتمي بانتخاب بني صدر؛
حيث إن كلاهما قد انتخب انتخاباً رغماً عن الآيات، وعدت ذلك ضربة قاضية
لأسس النظام، وقارنت بني صدر الثاني ببني صدر الأول.
وكتبت النهار [13] : إن الانتخابات في إيران دلت على اختيار الشعب
للتعددية والحرية والأخلاق، وقالت: إن على الخاتمي تغيير إيران الجذري، وإنه
يريد التغيير في السياسة الخارجية إلا أن العائق الوحيد هو الخامنئي.
كتبت الشرق الأوسط [14] : مع نجاح الخاتمي بدأ عهد (بروستوريكا) إشارة
إلى عهد غورباتشوف والتغييرات التي حدثت في العهد الشيوعي على يديه قبل
انهيار النظام بالكامل.
وكتبت الأهرام [15] : لقد قارن زعماء النظام في الأسابيع الأخيرة بين
خاتمي وبني صدر وبما أن الناس قد اختاروا الخاتمي فهم إذن يريدون العودة إلى
عهد بداية الثورة. ويبدو من الصحف العالمية المذكورة حيال الانتخابات الأخيرة
في إيران: أنها ثورة جديدة. أما (الخامنئي) : فقد قال قبل الاقتراع في جمع من
الحرس الثوري: (انتبهوا لا يخدعنّكم لون العمامة) إشارة إلى لون عمامة الخاتمي
السوداء، أي لا يغرنكم كونه من (السادة) ولذا رسمت مجلة غل آتا الكاريكاتورية
على صندوق الاقتراع: نُدخل في الصندوق الخاتمي ويخرج منه نوري، وتم
إيقاف المجلة بعد ذلك.
وبما أن كثيراً من الناس لم يكونوا يريدون المشاركة في الانتخابات إلا أنهم
شاركوا فيها لمواجهة الخامنئي والإعلان عن مخالفتهم له، ولذا لم يستطع القائد
المصاب إخفاء غضبه فصرح بعد انتخاب الخاتمي بأنه: لن يكون مثل رفسنجاني.
المستفاد من الانتخابات:
والدرس الذي يجب استخلاصه من الانتخابات أن عداء هذا النظام للحرية
على حد قول جريدة (الانقلاب الإسلامي) قطعي وأنه لا يمكن الجمع بين منح
الحريات وبقاء النظام، ويقول آية الله (مهدوي كني) صراحة: إن الذين يتكلمون
عن الحرية هم عملاء أمريكا، ويريدون تكرار تجربة ثورة الحركة الدستورية في
إيران. وأما الذين تربطهم بأمريكا وإنجلترا وإسرائيل وألمانية وفرنسا على حد قول
بني صدر سلسلة من الفضائح مثل: (إيران غيت) و (ولاري غيت) ومنبر غيت)
والذين هم شركاء في شبكة الفساد العالمي، فلم تكتشف فضيحة فساد إلا وكانوا
شركاء فيها، والذين يرتبط وجودهم بها بسبب ما ارتكبوا من الجرائم المتتابعة
بالمصالح القومية للدول الغربية خلافاً لما يعلنون ويدعون وهم مع ذلك يستمرون في
حياتهم الدنسة والتمسك بسياساتهم النجسة وهم يعلمون جيداً أن أمريكا لو أرادت
لإيران أن تكون حرة لما حدث الاتفاق الخفي في (أكتوبر سوربرايز) ولما أوصلت
الخونة المفسدين إلى الحكم في إيران وما زال هؤلاء يصرخون أنهم أعداء لأمريكا
ولكنهم يعلمون جيداً أن هذه السفاهات لا تخدع أحداً.
وأهم العِبَر المستفادة من هذه القضية أنه لا يمكن إيجاد حل أبداً من داخل
النظام نفسه ولو كان بدعم من الدول الأجنبية.
وبعد ما قام آمر الجيش الشعبي مع قواته بالتظاهر بإشارة من الخامنئي
باعتباره رئيس القوات المسلحة محاولاً التكشير عن أنيابه للخاتمي، هدد الأخير
بإفشاء الأسرار، ثم هدد مجلس الشورى حراس الدستور بالاستقاله، كما هددت
رابطة مدرسي قم بالاستقالة أيضاً. يقول الآيتان: راستي وكاشاني: إن الكفر بدأ
يحكم إيران. ويقول الطبسي [16] نائب خامنئي في مشهد وهو متولي قبر الإمام
الرضا وسادنه: قال الإمام الرضا: إذا فاز الخاتمي فسيظهر الإمام الغائب! !
على كل حال فقد كثرت الاستقالات والتنبؤات والتهديدات، وهناك علامات
استفهام كبيرة حول المسؤولين، فإن بعضهم يعمدون إلى إخفاء المستندات وإتلافها
فقد أقرضوا أنفسهم من بيت مال الدولة الذي تحت أيديهم.
وأصر الخاتمي على إبقاء نوري في رئاسة المجلس، وإن كان فوز خاتمي لا
يدل على أنه الزعيم الأنسب والأحب لدى الشعب، ولكن ذلك يعتبر بمثابة توجيه
صفعة لنظام الآيات. ولا ندري ماذا سيصنع الرئيس الجديد في بحر التماسيح
الحانقة؛ وإن كان هناك خطوط حمراء لا يتجاوزها الجميع! !
__________
(1) ولاية الفقيه: بمعنى حكم نائب إمام المهدي المنتظر لدى القوم ويمثله حالياً (الخامنئي) وهو عندهم فوق سلطة القانون وفوق الشرع ولا يحاسب، بل بإمكانه على حد قول الخميني وأنصاره وأتباعه من بعده إذا رأى أن من مصلحة النظام أن يعطل الصلاة أو الحج أو توحيد الله فله، فهل يليق بمن لديه مسكة من عقل أن يصدق أن لحاكم مّا تعطيل فروض وشعائر الإسلام بدعوى
المصلحة! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم! ! .
(2) توضيح ذلك فيما بعد.
(3) 29 أردى بهشت مايو، في عدد 31 أردى بهشت.
(4) كما هو معروف لدى القوم: بالروضة: أو قراءة الروضة وهي عبارة عن البكاء والتباكي والنياحة على القبور.
(5) باللغة الفارسية العدد رقم412 وصاحبها د أبو الحسن بني صدر أول رئيس جمهورية لإيران
الذي خلعه الخميني من السلطة، ويعيش حالياً في باريس، ويواصل كفاحه ضد النظام من هناك: وما قضت به محكمة ميكونوس الألمانية كان له دور بارز فيها.
(6) التي يتزعمها آية الله جنتي، العضو في شورى حراس الدستور، والذي لا يكل ولا يمل عن محاربة أهل السنة بدعوى محاربة الوهابية في داخل إيران، ولا يتورع المذكور عن السب والشتم ولسانه أقرب إلى السوقة من السياسيين! ولله في خلقه شؤون.
(7) 26مايو 97.
(8) 26 مايو 97.
(9) 26 مايو 97.
(10) 26 مايو 97.
(11) إلا أن بني صدر يراسلها ويثبت له أنه لم يتعجل ويضع اللوم على الآيات.
(12) نقلاً عن إذاعة إسرائيل 25 مايو 97.
(13) 26 مايو 97.
(14) 25 مايو 97.
(15) 30 مايو 97.
(16) والمذكور له دور بارز في هدم مسجد السنة (مسجد شيخ فيض) في مشهد وقال: يجب أن لا يوجد سني واحد في قطر 100 كيلو متراً من قبر الإمام الرضا وهو من أكبر مراكز القوى لثرائه بما يملكه من أوقاف قبر الرضا التي لا تعد ولا تحصى ومن الأراضي الشاسعة والعقارات والمزارع وغيرها.(116/86)
في دائرة الضوء
محاكم التفتيش العلمانية!
بقلم: محمد يحيى
تفاخر العلمانية الأوروبية ويتباهى معها وكلاؤها المحليون في البلاد الإسلامية
بأن أعظم إنجازاتها كانت في إحلال روح التسامح الديني محل التعصب الذي
رمزوا له بمحاكم التفتيش المشهورة في التاريخ، التي لا يذكر أحد في العادة أن
الكثير من ضحاياها كانوا من مسلمي الأندلس المقهورة قبل أن يكونوا من النصارى
أنفسهم، وأياً كانت الحال فقد أقام العلمانيون وعلى مدى ما يقارب العقد من السنين
في بلادنا المسلمة محاكم تفتيش خاصة بهم نصبوها على صفحات الجرائد
والمجلات وموجات الأثير ومنابر الثقافة التي سلمت لهم، بل وجُعلت حكراً خاصاً
بهم، وراحوا في هذه المحاكم يفتشون الضمائر والنيات ويرمون المسلمين والإسلام
بكل نقيصة وجريمة تعن لهم حتى أكثرها غرابة وتهافتاً وبطلاناً، مطمئنين إلى أن
الإسلام ليس له من يذب عنه ويحامي في ظل أوضاع فرضت حتى على رؤساء
بعض الهيئات الدينية المرموقة أن يعلنوا أنهم ليسوا سوى موظفين تصدر لهم
الأوامر فيطيعون ويخرجون على صفحات الجرائد يتهمون المسلمين بالتعصب
ويثنون على الغربيين لتسامحهم.
وقد بلغ السيل الزبى كما يقال في محاكم التفتيش العلمانية هذه واتهاماتها
العبثية إلى حد أنني في أسبوع واحد، بل وفي مجلة واحدة أحصيت عدة منها رأيت
أن أشرك القراء معي في غيظي وحيرتي من وقاحتها: ففي مجلة صادرة من لندن
بتمويل مشبوه المصدر زعمت أنها منبر الفكر والثقافة يكتب فيلسوف شهير في
الأوساط العلمانية (أو هكذا يدعي لنفسه) ليقول: (إننا كعرب لا نهتم عادة إلا
بالأمور الجسدية البدنية بحيث تكون الأجسام في بؤرة الاهتمام، أما قضايا الفكر
فإننا نجعلها في مؤخرة اهتماماتنا، فالأم العربية تدعو لابنها قائلة له: ربنا يجنبك
شر الفكر؛ ومعنى هذا أن الفكر والفلسفة (وهي أعظم صور الفكر) قد أصبحا
مرادفاً للهم والغم) ، والغريب أن هذا الكاتب يمضي ليخصص بقية مقاله في الحديث
عن التيارات الفلسفية السائدة على الساحة العربية: ويخص بالذكر ما يسميه بالتيار
السلفي الأصولي (الإسلامي) فأين إذن هذا الاهتمام بالأجسام ووضعها في بؤرة
الاهتمام كما يقول، بل إنه يمعن في السطحية عندما يتعمد الخلط بين المعنى العامي
الواضح لكلمة الفكر في سياقات محددة: بمعنى التحير والتفكير الملحّ بلا طائل في
محاولة للخروج من مأزق مستحكم، ومعنى الكلمة نفسها في سياقات محددة أخرى
في مجال البحث والدراسة مثلاً، ويتجلى تعسف الكاتب في توجيه التهم وهذا هو
هدف مقالته الأولى عندما يلجأ إلى تلك التقسيمات السطحية العنصرية القديمة التي
تلخص كل خصائص أمة من الأمم في عبارة واحدة مثل: (مادي) أو (روحاني) أو
(خيالي) أو (عقلاني) ، وما أشبه ذلك. وهكذا يحصر الكاتب العرب ويقصد
المسلمين في كلمة واحدة وهي: أنهم أعداء الفكر المنكبون على رعاية الجسد؛ دون
أن يدعم هذا الزعم الواسع العريض إلا بتفسير متعمد سيئ النية لكلمة يعرف الكل
أن معناها عكس ما يقول، بل وحتى وهو يتحدث في مقاله عن تيارات الفكر بين
أعداء الفكر هؤلاء.
وبجوار تلك المقالة يكتب (فيلسوف) يشار إليه بالبنان في أوساط العلمانيين،
بل وتعينه إحدى الدول الغنية أستاذاً جامعياً كبيراً يشرف على سلاسل إنتاجها من
الكتب الفكرية والثقافية، فماذا يقول هذا الفيلسوف؟ إنه لا يتحدث في تلك المجلة
الثقافية الفكرية عن قضايا الفلسفة، ولا يهاجم المسلمين لافتقارهم إلى الفكر ... إلخ، بل ويا للعجب إذ يورد فقرات مطولة من تقارير تكتب في صحف محلية ببلد
عربي مبتلى بتسلط العلمانيين والحرب بين أبنائه، ليخرج من هذه التقارير
المشكوك تماماً في صحتها بأن الإسلاميين (كل الإسلاميين) لا يكنون للمرأة إلا سوء
المآل والحال؛ لأن (الإسلاميين) في هذا البلد يحرقون مدارس البنات (رغم أن
التقارير تتحدث عن حرق كل المدارس بلا تفرقة بين مدارس بنين وبنات) ، ولأنهم
يقتلون الفتيات اللواتي لا يخضعن لرغبات الإرهابيين المسلمين الدنيئة، ويحار
المرء في فهم هذا التدني في مستوى الخصومة إلى حد اعتماد الكتابات الصحفية
الموجهة والكاذبة في معظم الأحيان حول عمليات تقوم بها جهات مشبوهة لا يعلم
أحد حقيقتها، واتخاذ هذه الكتابات، بل الإشاعات والدعاية السوداء حجة موثقة
للطعن في كل دعاة الإسلام وأصحاب الفكر الإسلامي؛ فأين الفلسفة والفكر
والمنطق هنا؟ وهل لم يجد الفيلسوف الكبير ما يقوله إلا هذا؟ وبصرف النظر عن
مجرد الرغبة في الكتابة وقبض الأجر فإن الدافع مرة أخرى واضح جلي وهو سعار
إلقاء الاتهامات أياً كانت.
وبجوار المقالين يكتب (مفكر) علماني آخر ليهاجم دعاة فكر القومية العربية؛
لأن بعضهم ذكر أن (الدين) جزء أصيل من مفهوم القومية العربية مما فتح الباب
للصراعات الطائفية بين العرب الذين اشتبكوا حول: أي دين يسود؟ وبعد أن ينعي
على هؤلاء القوميين العرب مجرد ذكر الدين في تعريفاتهم الذي فتح الباب للمسلمين
لكي يدخلوا إلى الساحة بتعصبهم وقمعهم لغير المسلمين يمضي ليقول: (إن القوة
الإسلامية التي دخلت بلدان المنطقة بحق الفتح أو الغزو تحولت إلى غالبية
اجتماعية كانت لها تصوراتها في الحكم والسياسة والإدارة ومن ثم وضعت بذور
الشقاق الطائفي) ، وهذا الكلام يعني ببساطة شديدة وأيضاً بوضوح شديد إدانة كاملة
وشاملة للإسلام واتهامه بخلق الشقاق الطائفي بمجرد وجوده وطرح تصوراته،
وكأن المطلوب لمنع الشقاق الطائفي هو ألا تكون هناك أغلبيات إسلامية ولا تكون
للمسلمين أي تصورات في الحكم والسياسة والإدارة حتى ينتفي الشقاق الطائفي!
ولو ترجمنا هذا الكلام بصيغة أخرى لا تخرج عن مضمونه لرأينا أن الكاتب يقول: إن الشقاق الطائفي (من المفترض أنه بين المسلمين وغيرهم في المنطقة العربية)
نشأ بسبب قدوم الإسلام واعتناق الغالبية لتعاليمه ثم العمل بشريعته وأحكامه، ولكي
نلغي هذا الشقاق والصراع فمن الأفضل أن نلغي (الدين) ذاته (والمقصود الإسلام
وحده) من تعريف القومية العربية، ولا يسأل الكاتب نفسه: لماذا لا تلغى الأديان
الأخرى وأصحابها وهي على أي حال أقليات صغيرة طالما أن إلغاء الدين هو الحل
الذي يراه محل مشكلة الشقاق الطائفي؟ ثم لماذا يكون الحل لهذا الشقاق هو إلغاء
دين الغالبية العظمى من أبناء هذه الأمة وتنحيته؟ الكاتب بالطبع يقدم الإجابة حين
يتهم هذا الدين أنه وحده المسؤول عن بذر بذور الشقاق وقهر الأديان الأخرى
واضطهادها دون أن يقدم دليلاً واحداً على هذا في مقاله سوى الحديث عن حكاية
(أهل الذمة) التي أثبت العديد من الباحثين الموضوعيين أنها هي التي حفظت
أصحاب الأديان الأخرى من الضياع أو الذوبان في المحيط الإسلامي.
عندما يصل الأمر إلى أن تتجمع كل هذه الاتهامات الحاقدة في حدود بضعة
صفحات في ثلاثة مقالات متجاورة في مجلة واحدة (أي في عدد واحد من هذه
المجلة) التقطها كاتب هذه السطور مصادفة؛ فلنا أن نتخيل مدى شراسة محاكم
التفتيش العلمانية ومدى تهافتها وتعسفها في الطعن في الإسلام والمسلمين.(116/94)
هموم ثقافية
إشكالية البلورة الاقتصادية للديمقراطية
بقلم: سامي محمد الدلال
قد بينت سابقاً أن أصحاب المصالح، وأهمها المصالح الاقتصادية هم الفئة
المسيطرة حقيقة على التوجهات التشريعية النابعة من المجالس النيابية.
وبما أن أولئك الطغام لا يفكرون إلا في مصالحهم الذاتية، ولا يطمعون إلا
في إشباع رغباتهم الأنانية، فإن فرصتهم الذهبية في حيازتهم على المنصة
التشريعية النيابية، وهم لا يدَعُونها تفوتهم بحال من الأحوال.
إن من أهم الإنجازات التي يرومون الاضطلاع بتنفيذها: سن القوانين
التشريعية التي تتيح لهم الهيمنة على مقدرات البلاد، ليس فقط في فترة حياتهم
النيابية، بل إلى ما بعد ذلك، حيث تكون القوانين التي شرعوها في الفترة النيابية
مظلة لهم لممارسة أوسع أوجه الاستثمار الاحتكاري حتى بعد انقضاء الفترة النيابية
تلك.
إن المعادلة الصعبة التي يواجهونها في الفترة النيابية هي كيفية صياغة تلك
التشريعات بطريقة تضمن وتكرس مصالحهم ولكن بالْتحاف رغبة أو مصلحة
شعبية! ! ! .
وهنا يبرز دور الإعلام المضلِّل الذي يأخذ على عاتقه بيان الفوائد والثمار
العظيمة التي سيجنيها الشعب المغلوب على أمره من تلك التشريعات التي ظاهرها
الرحمة وباطنها مضطرم بالظلم والحيف والجور وأكل أموال الناس بالباطل.
إن الذي يتابع ما تشرعه المجالس النيابية يرى بسهولة عدم خلو معظم
الدورات النيابية من مسرحية تشريعية من هذا النوع ذي المظهر العسلي والذي
مضمونه السمّ الزعاف.
ولذلك ترى النواب المجلسيين يبذلون جهوداً كبيرة في ساحاتهم الجماهيرية في
محاولات محمومة لإقناع الناخبين بأنهم ما أرادوا من تشريعاتهم تلك إلا المصلحة
الوطنية والخدمة الشعبية. يقولون ذلك، وأكثرهم يعلمون أنهم كاذبون مخادعون
منافقون.
أي إنهم في سبيل خدمة مصالحهم الاقتصادية الذاتية يدوسون بأقدامهم واحدة
من أهم الخصائص الخلقية لدى الإنسان السوي! ! .
إن من أهم الآمال السوداء التي تعشش في عقولهم الباطنة: استرداد ما أنفقوه
في حملاتهم الانتخابية، فضلاً عن وضع القواعد القانونية التي يشيدون عليها
ثراءهم المأمول، إن أولئك النواب لا يلبثون أن يفقدوا مصداقيتهم بعد أن تكشف
الجماهير حقيقة ما تنطوي عليه نفوسهم، إلا أنهم لا يُلقون لذلك بالاً طالما أن ما
صَبَوْا إليه من تشريعات تحمي وتكرس مصالحهم قد تم إنفاذها.
لقد أتاحت المجالس النيابية المجالات الواسعة أمام الأثرياء للسيطرة على
المرافق الاقتصادية الكبرى في بلادهم، بما في ذلك الحيوية منها، كالبترول
والصناعات الثقيلة والخفيفة والمنتوجات الزراعية والحيوانية وغيرها، كما أتاحت
لهم تأسيس الشركات الكبرى ذات الاحتكارات المالية الهائلة، وافتتاح المؤسسات
الاستثمارية الضخمة، وإنشاء المجمعات التسويقية الموسعة، وتشييد المدن
الترفيهية الشاسعة والمشاريع السياحية المنوعة، وسوى ذلك كثير، مما يعود
مدخوله إلى جيوبهم.
إن المناخ الديمقراطي الذي تهب رياحه على تلك الأنظمة يهيئ مثل هذه
البلورة الاقتصادية التي أعطت للإقطاع معنى أشمل مما كان عليه سابقاً بخصوص
الأراضي الزراعية؛ فهو يعتمد اليوم على البيوت المالية التي عمودها البنوك
الربوية التي أصبحت مهيمنة تماماً على الساحات الاقتصادية على جميع المستويات
المحلية والإقليمية والعالمية. إن البنوك الربوية التي تحتضنها الأنظمة الديمقراطية
لم تعد مجرد واسطات للتعاملات المالية، بل أصبحت مجمعات كبيرة للاحتكارات
الاقتصادية بكافة أصنافها وتوزعاتها.
إن استقلال المجالس النيابية بالتشريع وسيطرة النواب العلمانيين على مراسي
تلك المجالس (ولا يمكن أن يسيطر عليها سواهم؛ لأن الديمقراطية مفصلة على قَدِّ
مقاسهم) ، هذا الاستقلال بالتشريع أتاح الفرصة الكاملة وأعطى المجال الموسّع
لإضفاء علمانيتهم على كافة قوانين الشركات والمؤسسات والبنوك، بما جعلها في
واقع الحال تعبيراً عملياً عن علمانية البلورة الاقتصادية للديمقراطية، تلك العلمانية
التي وفّرت الغطاء الفضفاض لاستقدام الخبرات الاقتصادية العلمانية الأجنبية، بما
تتضمن تلك الخبرات من أشخاص من اليهود والنصارى وكل دين وملة، ومن
أعراف تسويقية علمانية تتضمن الإعلانات الخليعة وعروض الأزياء الفاضحة،
وإقامة الحفلات الماجنة، ومسابقات ملكات الجمال باسم السياحة التي تعتبر مرفقاً
اقتصادياً مهمّاً، والدعوة إلى المناسبات التي لا تكاد تنتهي تارة تحت مظلة إحياء
المعالم الأثرية، وأخرى تحت مظلة معارض الفنون التشكيلية، وثالثة تحت مظلة
تجسيد الأعراف من خلال الرقصات الفلوكلورية، وهلم جراً.. كل ذلك لدعم
المجهود الاقتصادي وترويج المواد السلعية والمنتجات المحلية والعالمية.
وفي ظل البلورة الاقتصادية العلمانية تزدهر مكاتب السفر الجوية والبحرية
والبرية لاستقبال الوفود الاقتصادية التي ترافقها غالباً الفرق الغنائية التي تنشر
فسادها من على منصات المسارح المبثوثة في الفنادق والمطاعم وقصور المؤتمرات، سوى تلك المخصصة لذلك الفن الوضيع.
كما تزدهر أيضاً حانات الخمر وصالات لعب القمار، وتكثر الملاهي
والمقاهي التي تدار فيها الكؤوس المحرّمة، وترقص فيها الفتيات رقصاتها الداعرة.
وتزدهر أيضاً بيوت الخنا ويزداد أولاد الزنا.. وتزدهر وتزدهر..
كل ذلك تحت حجة إنعاش الاقتصاد الوطني، ودعم المجهود المالي للدولة! ! . إنني ألجم قلمي عن الاسترسال في بيان أوجه البلورة الاقتصادية الديمقراطية
لحياة الشعوب المسلمة.
إن نتائج على قدر كبير من الخطورة تنجم من هذه البلورة الاقتصادية
للديمقراطية، من أهمها:
1- صياغة التعامل الاقتصادي اليومي للفرد المسلم في إطار علماني، بمعنى: أن المسلم يجد نفسه في واقع يفرض عليه التعامل بالربا والاحتكام إلى التشريعات
العلمانية في جميع شؤونه الاقتصادية، بما في ذلك تأسيس الشركات وافتتاح
المؤسسات وعقد الصفقات وتوثيق المعاملات، بل حتى في المعروض عليه من
أصناف الأطعمة وألوان الأزياء.
2- استشراء الفساد الأخلاقي وازدياد الانحلال الاجتماعي، وفشو الكذب
والدجل في التعاملات الاقتصادية وسواها.
3- علمنة الثقافة وذلك من خلال افتتاح المؤسسات الثقافية ذات الدخول
الاقتصادية الفردية أو الاستثمارية.
إن الاعتراض ليس على المؤسسات الثقافية بحد ذاتها، فهى شيء محمود
ومطلوب، بل الاعتراض على علمانية تلك المؤسسات بما تجلبه من ثقافة علمانية
لها طابع تسويقي اقتصادي.
4- انتشار الرشاوى والمحسوبية، واستشراء الواسطة والوصولية، في
معظم التعاملات المالية، مما يؤدي إلى فساد الذمم وفقدان المصداقية وتفاقم
الانتهازية، مما يتيح الفرصة للوجهاء والمتنفذين أن يكونوا شركاء في الوكالات
والرخص التجارية، بل وفي معظم الصفقات الاقتصادية.
5- ازدياد فجوة الفارق الطبقي بين الأغنياء والفقراء، بما يؤدي إلى تفاقم
الاحتكاك الاجتماعي، وتصعيد توترات الصراع بين مختلف طبقات المجتمع.
6- إن مجمل ما ذكرت، هو معارِض لما جاء به الإسلام من العدالة
الاجتماعية، والمناهج الاقتصادية، ولذلك: فإن المجتمعات الديمقراطية متعرضة
إلى غضب الله (تعالى) لا محالة. قال الله (عز وجل) : [وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] .
لقد شارك الإسلاميون في معظم المجالس النيابية في البلاد الإسلامية، فهل
نجحوا في أي بلد منها في الحد من أية ظاهرة من ظواهر الفساد الاقتصادي التي
ذكرتها في هذا المبحث؟ ! .
لا، لم ينجحوا، بل أخفقوا إخفاقاً ذريعاً في كل ذلك. وما زالت المجالس
النيابية تتتابع، وما زال الإسلاميون يلهثون للحصول على بعض كراسيها، والفساد
الاقتصادي يزداد انتشاراً ويتوسع دائرة! ! .
إن مشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية، فضلاً عن أنها لم تحقق شيئاً
يذكر في اتجاه الحد من البلورة الاقتصادية للديمقراطية علمانياً، فإنها أيضاً للأسف
أصبحت جزءاً من تلك البلورة العلمانية رغم محاولاتها تسويغ عجزها عن تغيير
الوضع القائم؛ حيث إن القرارات الاقتصادية ذات الصبغة العلمانية يشرعها
المجلس النيابي الذي يشارك فيه إسلاميون، مما يحسب عليهم وإن كانوا
معارضين! ! ! .(116/98)
متابعات
حمّى التأليف والنشر.. نظرات في معجم جديد
بقلم: صالح درباش الخزمري
إن من نعم الله على عباده المؤمنين هذه العودة والأوْبة إلى الله (الصحوة
المباركة) التي نلمس آثارها في مجالات عديدة متنوعة، ومن أبرزها ما نراه من
حركة علمية واسعة الانتشار، في مجال التعلم والتعليم، والتحقيق ونشر التراث،
والتأليف والطباعة، وما إلى ذلك؛ حيث ظهرت كتب كثيرة من كتب الأسلاف
العظام محققة مضبوطة، كما ظهرت مؤلفات أخرى عليها طابع الجدّة والابتكار
والأصالة، فنفع الله بها من شاء من عباده.
ولكن ظهر في ثنايا تلك الحركة الدؤوب الجليلة، وتسلل إلى صفوفها بعض
المكدّرات وشيء من العبث والتلاعب باسم التحقيق تارة، وباسم التأليف المبتكر
تارة أخرى؛ وهذه الأفعال جديرة بأن تسمى عبثاً ولعباً ومسخاً.
ولقد نبه بعض الغيورين محذرين من هذا العبث والتعالم، من أمثال الشيخ
العلامة (بكر أبو زيد) وفقه الله الذي له جهود مباركة في هذا المجال ككتابه:
(التعالم وأثره على الفكر والكتاب) ، وكتابه: (حلية طالب العلم) و (الرقابة على
التراث) ... وغيرها.
وألف الأخ الفاضل (محمد آل شاكر) ، كتابه: (أوقفوا هذا العبث بالتراث) ،
بعد أن كان مقالات على صفحات (البيان) .
وألف الأخ الفاضل (أحمد الصويان) كتابه: (الكتاب الإسلامي المعاصر..
نظرات نقدية) ، وغير هؤلاء من الغيورين على تراث الأمة وحياتها العلمية فجزى
الله الجميع خير الجزاء.
ومع هذه التحذيرات الصارخة: فلا يزال العبث مستمراً وفي ازدياد ممن
تصدروا للتأليف والتحقيق قبل أن يتأهلوا لذلك، متشبعين بما لم يُعْطَوْا ضاربين
بهذه الصرخات عرض الحائط:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
وفي الآونة الأخيرة طالعتنا إحدى المكتبات بالرياض بنشر كتاب يحمل عنوان
(معجم ألفاظ العقيدة) ، ويقع الكتاب في أكثر من 480 صفحة في مجلد أنيق.
والعنوان كما ترى مهم للغاية وضخم، يستحق أن يتعاون على تأليفه مجموعة
من المتخصصين وحالما طالعته وجدت مؤلفه يقول في مقدمته: إن علم العقيدة
يحوي مصطلحات يغيب معناها عن كثير من طلبة العلم فضلاً عن عامة الناس،
وإنه لم يُسبق إلى هذا العمل، فشمّر عن ساعد الجد وحاول حصر المستطاع من
ألفاظ العقيدة لإفادة الناس، بل طلاب العلم..! !
وإذا نظرنا في هذا الكتاب نَجِدُهُ خِلْواً من التحقيق والتدقيق والتمحيص
المطلوب في المعاجم، بل في كل تأليف، وأما تحرير المصطلحات ونسبة الأقوال
إلى أهلها والتعامل مع المراجع كما ينبغي، فلا تسأل عن شيء من ذلك في هذا
الكتاب؛ كما سنرى أخي القارئ.
ولو تتبعنا الملحوظات عليه لوجدناها كثيرة جداً، لكنني أكتفي بما يؤدي
الغرض ويفي بالمقصود إن شاء الله (تعالى) .
ففي مجال التعريف بالمصطلحات وشرحها الذي هو أساس الكتاب نجد الآتي:
في كثير من الأحيان لا يعرِّف بالمصطلح، وإنما يسترسل في أمور أخرى
لا علاقة لها بالتعريف: كالحكم على هذا المصطلح من حيث الجواز وعدمه، أو
بيان رواية حديث أو غير ذلك من الأمور؛ انظر مثلاً لفظ: الأوعال، البركة،
التعليل، التصوير ... ، وغيرها ككثير من الأسماء والصفات التي يكتفي بإثباتها
دون شرحها وبيان معناها.
وكثير من التعريفات غير تامة، بل هي قاصرة جداً مثل:
1- تعريفه للبراهمة بأنهم (الذين يزعمون أن العقل يغني عن الوحي) وهذا لا
يكفي في تعريفهم.
2- تعريفه لأصحاب الهياكل حيث استرسل في شرح معنى هذا اللفظ ولم
يبين أنهم من الصابئة.
3- الجارودية: عرّفها وشرح حالها ولم يذكر أنها إحدى فرق الزيدية.
4- حدوث العالم حيث نقل عن بعض الكتب المعاصرة: أن ذلك قول معظم
مفكري الإسلام، ونقول: بل هو عقيدة المسلمين جميعاً، وسائرُ أهل الديانات كلهم
يؤمنون بحدوث العالم ووجوده وخلقه بعد أن كان معدوماً وليس خاصاً بفئة من
المفكرين.
والسبب الذي يوقعه في هذه المآخذ نقله من المراجع التي اعتمد عليها دون
تمحيص، وأحياناً يعرّف تعريفات بعيدة عن الصواب، بل هي خطأ مثل:
1- تعريف الإرجاء: فقد تحدّثَ عنه بأنه ظهر في عصر الصحابة، ثم أخذ
يسترسل في بيان أصناف المرجئة وفرقهم دون تحديد لمعنى الإرجاء، والإرجاءُ
الذي يعنيه في عصر الصحابة ليس هو الإرجاء بوصفه فكرةً ومعتقداً وهو الذي
يدخل ضمن معجمه! !
2- الكلام النفسي لم يوضحه، وإنما نسبه إلى المعتزلة والفلاسفة. ومن
المعلوم عند طلاب العقيدة الذين يؤلف لهم هذا الشيخ معجمه، أن الكلام النفسي أول
من قال به ابن كلاب، ثم تبعه عليه الأشاعرة والماتريدية.
3- تعريفه للاثني عشرية قال: هي التي تدعي عصمة اثني عشر إماماً (ثم
عدّهم أحد عشر إماماً..! !) وعد منهم (أحمد الباقر! !) ، وصحة اسمه: (محمد
الباقر) ، كما عد منهم فاطمة (رضي الله عنها) و (فاطمة) ليست منهم.
وهو غير موفق في كثير من تعريفاته:
1- ففي تعريفه للمهدية وصفها بأنها سلفية، وهذا وهْمٌ فهي طريقة صوفية.
2- وفي تعريفه للسنوسية وصفها أيضاً بأنها سلفية.. وهذا الكلام غير سليم؛
والسبب: أنه نقل من مرجع معاصر لكاتب ليس على منهجية صحيحة في نظراته
وأطاريحه.
3- وفي تعريفه للزيدية وصف (زيد بن علي) بأنه صاغ نظرية شيعية
متميزة.. (هكذا قال) .
وهو في هذا مجرد ناقل عن غيره دون تمحيص وإلا ف (زيدٌ) (رحمه الله) لم
يكن شيعياً قط، ولم يؤمن بنظريات الشيعة، واقرأ إن شئت كتاب: (الإمام زيد بن
علي المفترى عليه) لشريف الخطيب.
وأحياناً كثيرة يترك مصطلحات السلف لا يعرّفها مع أنه زعم في المقدمة
الحصر ما استطاع، فلم يعرّف مثلاً: الجنة، الحفظة، الكوثر، القرين، المحدّث، الملهم، الإلهام، الرؤيا وغيرها؛ وحتى لفظ العقيدة الذي هو عنوان معجمه
الشامل..! ! فإنه أهمل تعريفه؛ واهتم بتعريف مصطلحات لا أهمية لها كأسماء
بعض الفرق المندثرة كالعلبائية، والبزيغية، والبيهسية، والزروانية والكيومرثية
والرقيونية.. وغيرها مما لا تهم القارئ، وترك التعريف بفرق حية معاصرة مع
أهمية ذلك كالتعريف ببعض طرق الصوفية كالرفاعية، والختمية، وغيرها،
وبعض المذاهب الفكرية المعاصرة: كالرأسمالية والديمقراطية، والحداثة، وغيرها.
وبعض التعريفات ينسبها إلى غير أهلها، كتعريف الكبيرة نَسَبَهُ لابن تيمية،
وهو في الحقيقة لعلماء سابقين عليه من عهد الصحابة فمن بعدهم؛ ولو رجع إلى
كتب التفسير عند قوله (تعالى) : [إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ ... ] [النساء: 31] ، ورجع إلى (فتح الباري، 12/183) وكتاب
(الزواجر) للهيتمي لكان أوثق له وأصدق.
وأحياناً يذكر المصطلح ناقلاً له عن غيره دون عزو أو توثيق؛ فيظن القارئ
أنه من مبتكراته، كتعريف الشيعة، إذ نقل تعريف الشهرستاني في الملل والنحل
ولم يعزه إليه. وانظر كذلك ألفاظ: (المعتزلة، الإرجاء، الصوفية ... وغيرها مما
لم يعزُه إلى أحد ... ! !) .
وأما مصادره المعتمدة في هذا المعجم فجلّها حديثة معاصرة مع وجود الأصول
التي أخذ منها هؤلاء المعاصرون:
1- ففي تعريف الماتريدية اعتمد على رسالة صغيرة لأحد الدكاترة مع وجود
مراجع معتمدة غيرها.
2- وعرف البراهمة معتمداً على كتاب (الرسل والرسالات للشيخ عمر
الأشقر) ، مع أن الأشقر لم يعرّف البراهمة أساساً.
3- وعرف الرافضة من فتاوى فضيلة الشيخ (محمد العثيمين) مع وجود كتب
الفرق المعتمدة التي عرّفت بهذه الفرقة.
4- ووثق قصة ابن صياد من كتاب (القيامة الصغرى) للشيخ الأشقر مع
وجود القصة في صحيح مسلم وغيره.
5- وعرّف بالإنجيل نقلاً عن كتاب الملل والنحل للشهرستاني، وزعم أن
إنجيل (برنابا) اختفى ذكره، ونقول: إنه موجود مترجم، نقله إلى العربية خليل
سعادة وطبعه محمد رشيد رضا، وأعيد طبعه في بيروت مرات.
6- وعرّف برسائل إخوان الصفا من كتاب (كشف الظنون) مع وجود هذه
الرسائل مطبوعة.
7- ويحيل أحياناً في بيان المصطلحات السلفية إلى غير كتب السلف،
كإحالته للتوسع في الإيمان وأقوال الفرق فيه إلى كتاب تبصرة الأدلة للنسفي
الماتريدي، مع وجود كتب السنة وتوفرها في توضيح ذلك.
8- نقل تعريف القرامطة من تسجيل صوتي لأحد المشايخ المعاصرين! !
وهذا قصور ظاهر منه مع وجوده في مصادر قديمة وحديثة متوفرة.
وخلاصة القول في مراجعه: أن جلها من المؤلفات الحديثة التي يغلب عليها
النقل إلا ما ندر، ومؤلف هذا المعجم أفرغ ما ألف من هذه الكتب المعاصرة في
تأليفه:
- فهو قد أفرغ كتاب شرح أسماء الله الحسنى للشيخ سعيد بن وهف القحطاني
في معجمه مع أنه كان بالإمكان الرجوع إلى كتب التفسير عند تفسير الأسماء
الحسنى الواردة في القرآن، وكذلك شروح الحديث، وأيضاً الكتب التي اهتمت
بشرح الأسماء الحسنى عند القدامى.
- وكذلك كتاب الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة د (ناصر القفاري) ،
د (ناصر العقل) ومؤلفاه قد ذكرا: أن كتابهما ألف لأغراضٍ دراسية فقط، فقام
بإفراغه في معجمه على أنه مرجع أساس مع توفره وغيره.
- والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة الصادرة عن الندوة
العالمية للشباب الإسلامي بالرياض وهي التي أوقعته في خطأ تعريف الزيدية [*] .
4- فتاوى الشيخ (محمد بن عثيمين) (حفظه الله) ، فإنه لا يكاد يخرج عنها
مع وجود فتاوى غيره من أهل العلم من السابقين واللاحقين ممن هم على منهاج
السلف، كفتاوى شيخ الإسلام (ابن تيمية) وغيره من العلماء القدماء والمحدثين.
5- وأما في الفرق والأديان فمع ما سبق في رقم (2، 3) فقد يرجع إلى الملل
والنحل للشهرستاني في أحيان قليلة، ونادراً ما يرجع إلى غيره من كتب الفرق
المتقدمة المعتمدة.
وختاماً نقول: إن تأليف معجم ليس من السهولة بحيث يؤلف بهذا الأسلوب
نقلاً من الكتيبات والرسائل الصغيرة التي طابعها نشر الوعي أكثر من التحرير
والتأصيل، وإصدار معجم بهذه الأهمية يستغرق وقتاً طويلاً من الجمع والتحقيق
والتدقيق والتمحيص والتوثيق والترجيح بين الآراء والأقوال، فلا يأتي إلا بعد
سنوات طوال من الجهد المضني، وقد تأهل مؤلفه ونبغ في العلم ورسخ فيه وعلا
كعبه، وإن أردتم أمثلة على ما أقول فانظروا إلى أيِّ معجم معتمد كيف بلغ مؤلفه
به شأواً عظيماً؛ ودونكم معجم المناهي اللفظية للعلامة (بكر أبو زيد) ، كيف حرره
وأبدع فيه.
أخي القارئ: هذه إشارات عاجلة سريعة على سبيل التمثيل لا الحصر، والله
نسأل للجميع التوفيق والسداد.
__________
(*) انظر مجلة البيان، ع/23،مقال عن ملحوظات على هذه الموسوعةلعبد العزيز آل عبد اللطيف.(116/102)
منتدى القراء
السفينة الماخرة
شعر:علي بن جبريل
من خلفِ باقة الأيّام والكثُبِ ... خلفِ تلٍّ من الأمواج مضطربِ
سفينةٌ برزتْ تسعى على مَهلٍ ... تداعبُ الريحَ في رفق وفي دأبِ
تجيء ترقصُ من فرحٍ ومن أملٍ ... ومن حنينٍ ومن حُبٍّ ومن طرَبِ
تسيرُ سيراً حثيثاً في مكابَدةٍ ... تجُرّ هيكلها المضْنِيّ في تعبِ
ربّانها ثغرُه للموج مُبتسمٌ ... يقودُها بثباتٍ، غير مكتئبِ
لا يرعوي لخطوبٍ قد تُلِمّ به ... ما دام معتصماً بالله، ذا أدبِ
تسير في جَلَدٍ رغم العوائق في ... طريقها، لم تخفْ يوماً ولم تهَبِ
سفينة.. لو رأتْ عيناك ملعبها ... وسط البحارِ، وبين الموجِ والصّخبِ
لخالتا -عندها- أن لا نجاة لها ... وأن ركّابها لا شكّ في كُرَبِ
رأيتُها.. والأسى لفّ الرّداء على ... نفسي، وقلبي، ووجداني، ومُطّلبي
ولألأت حينها الأنوارُ طافحةً ... والبشرُ في مُهجتي، والنّورُ شعْشَع بي
واغرورقتْ مقلتي بالدّمعِ في فرحٍ ... وأطلقت عبراتٍ أذهبَتْ وصَبي
فيا سفينتنا.. سيري ولا تقفي ... وأبحري في خضم البحر لا تَهبي
وأيقظي أمتي من طولِ رقدتها ... وحرِّكي الركب من عُجمٍ ومن عربِ
وبيّني سنّة الأسلافِ واضحةً ... وفنّدي كلّ قولٍ جَدّ في لَعِبِ
فقد حُبيتِ بياناً ساحراً سلساً ... يسيرُ حذوَ بيانِ المصطفى العربي
بيانُكِ الحلوُ أرضى كلّ ذي خُلُقٍ ... وذي صلاحٍ، وذي تقوًى، وذي أدبِ
أسيرُ بين روابيكِ التي حسُنتْ ... أنقِّلُ الطّرف من شِعْبٍ إلى شِعَب
فأستلِذّ بيانَ الحقِّ يُطربني ... يا بهجة الروح بين الدين والأدبِ
فشمّري.. شمّري عن ساعدٍ قوِيَتْ ... وأبحري.. أبحري وسط الضبابة بي
تشبّثي عروةَ الرحمن جَاهدةً ... فعُروَةُ الله سلوى كل مغترِبِ
وعروةُ الله أمضى ما نسيرُ به ... وعروةُ الله لا تُبتاع بالذّهبِ(116/108)
الورقة الأخيرة
بين هبل وأفروديت
بقلم:محمد الروبي عبد الوهاب
هل تخيلت مرة أن ترتدي ثوباً كتب عليه هُبَل، أو اللات أو العزى أو مناة؟
هل كان لك قميص مكتوب عليه (ودّ) أو لزوجتك أو أختك خمار كتب عليه سواع
أو لطفل من أطفالك رداء جميل مكتوب عليه يعوق أو نسر؟ ماذا سوف يكون رد
فعلك؟ هل توافق على هذا العبث والهراء؟ هل تقف بين يدي الله تصلي وأنت
ترتدي هذه الخبائث التي تمجد الأصنام؟ هل تسير بها في الشارع كي يرى الناس
ذلك الاسم الوثني الذي يتربع على صدرك أو كتب على ظهرك؟ إنني أظن أنك
حين تدرك معنى ذلك العبث والهراء فسوف توقد فيه النار من اللحظة الأولى،
سوف تحكم على البائع بالترويج لعبادة الأوثان وجلب الملابس التي تحمل هذه
الأسماء أو تتهمه بإشاعة الفتنة بين أبناء المسلمين الموحدين وهذا أضعف الإيمان.
غير أنني لاحظت أن في الأسواق مؤامرة خبيثة تحاك خيوطها بإحكام ضدنا،
تستهدف ضرب العقيدة التي هي أعز ما نملك تسير حثيثاً حتى يتملك المرض
جسدنا المنهك من كثرة الفتن التي تركت الحليم حيران يقول: ماذا نفعل؟ فمنذ أن
ظهرت الدعوة لدين الله حاربها الكفار بكل ما توفر لديهم من عدد وعتاد، ووقفوا لها
وقفة الجاحد المنكر، وحاربوها بأساليب المكر والخديعة والدس والمواجهة؛
وهاهم اليوم يعاودون الكرّة مرة ثانية وقد تمكنوا من الولوج إلى منازلنا بل إلى غرف
النوم، وعاشوا معنا وفي دمائنا من خلال البث الفضائي وأصبح كثير من بيوتنا
مرتعاً لهم ولفجورهم ولفسقهم، وساعدناهم نحن باتباع الهوى والنفس وإبليس،
وغرتنا الحياة الدنيا، وأَلْهَانا الأمل حتى سرنا على دربهم دون أن نفكر في إرضاء
الله، بل سارعنا نخطب ود الزوجة والأولاد ولو غضب الله تعالى علينا.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: قلدناهم في ملابسهم، وأصبحنا نرى
الشباب، ويا حسرتنا عليهم، والفتيات، وما أعظم مصابنا فيهن، والأولاد
والأطفال، وما أسوأ تربيتنا لهم، والزوجات، وما أشد غفلتنا عنهن يرتدين
الملابس الفاضحة المكتوب عليها عبارات باللغة الإنجليزية أكثر خدشاً للحياء من
هبل وأمثاله، جاؤوا بها من الرومانيين وأساطيرهم والآلهة التي كانوا يعبدونها،
ومن الإغريق وأيضاً، إلى جانب بعض من أسماء الآلهة الفرعونية، ورأيت أنه
لزاماً عليّ أن أكتب وأوضح هذا الأمر ليكون بياناً للناس حتى لا يوضع لي لجام
من نار يوم القيامة.
وما أكثر الأنواع التي هي عبارة عن سترات (بلوزات) نسائية، وملابس
تخص الرجال والنساء، وكذلك أنواع من أغطية الرأس ذات اللسان الذي يتدلى
على الجبهة ويكتب فوقها أسماء قبيحة تعني مدلولات معينة كما توضحه أسماء آلهة
القوم المزعومة [*]
والله أرجو أن ينفع بها عامة المسلمين ويجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.
__________
...
(*) من آلهة الإغريق الشهيرة المزعومة ما يلي:
(1) أفروديت إلاهة الحب والجمال Aphrodite،
(2) إيروس: إله الحب Eros،
(3) نايكي: إلاهة النصر Nike،
(4) بس: إلاهة الاستجمام Bisu،
(5) كلبة عاهرة Bitch.(116/111)
جمادى الأولى - 1418هـ
سبتمبر - 1997م
(السنة: 12)(117/)
كلمة صغيرة
بروتوكولات
اعتادت بعض الدول على إضافة بعض مراسم الاحتفال الخاصة باستقبال كبار
ضيوفها، فيما يعرف بالبروتوكول (فن التعامل بين الدول والهيئات) ، فهناك بعض
الدول التي تقدم باقة من الزهور يحملها بعض أطفالها إلى الضيف، وهناك دول
أخرى تضع في البروتوكول زيارة قبر الجندي المجهول، ودولة اليهود تصر على
أن يزور الضيف حائط البراق (الذي يسمونه حائط المبكى) معتمراً قلنسوة اليهود
الشهيرة، ومن طقوس بروتوكولهم أيضاً زيارة متحف ضحايا النازية (الهولوكست) ، وتركيا تضع ضمن برامج البروتوكول زيارة ضريح الهالك أتاتورك ووضع إكليل
من الزهور عليه، وكذلك كانت الدولة الشيوعية سابقاً: إذ كان لا بد من زيارة
قبرَيْ: لينين وستالين، وكم وقف الرفاق العرب أمام قبريهما خاشعين وقدموا لهما
قرابين الطاعة قبل أكاليل الزهور!
والقاسم المشترك بين هذه المراسم أنها تحمل دلالة رمزية ومعنى بعيداً يراد
إشراك الزائر فيه.
ولكن أغرب ما رأيناه هو ما ابتدعه بعضهم عند استقبال رجال الحرب اليهود
في بلادهم، حيث تكرر فيما يشبه البروتوكول المفروض تقديم (سيف عربي) إلى
وزير آلة العدو الحربية ثم إلى رئيس أركانه! فما هي الدلالة الرمزية والمعنى
البعيد من هذا الطقس الجديد؟ ! إذا كانوا يقصدون إفهام العالم أنهم سلّموا أسلحتهم
وجيوشهم إلى يهود فهذا قد عرفناه منذ زمن، أم المقصود التذكير المستمر بالخنوع
وإهدار الكرامة..؟ فإننا نذكرهم بأن العزة (لله ولرسوله وللمؤمنين) .
ثم إلى أي مدى ستذلنا (البروتوكولات) ؟ ! وإلى الله المشتكى.(117/1)
افتتاحية العدد
بعد سنوات عجاف.. الإنقاذ من جديد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى
يوم الدين، أما بعد:
فلقد خرج أخيراً الشيخ عباسي مدني ومن قبله الشيخ عبد القادر حشاني،
وتبع ذلك العديد من التحليلات السياسية التي تحاول تفسير الموقف الحكومي من
جهة، وموقف جبهة الإنقاذ من جهة أخرى، وموقف الشارع الجزائري والمغاربي
بوجه عام. وبغض النظر عن دقة تلك التحليلات أو عدم دقتها، فإننا نرى أنّه من
المناسب الإشارة إلى المسائل التالية:
المسألة الأولى:
لا شك أن الأحداث المتتابعة، وفترة السجن الطويلة التي قضاها شيوخ الإنقاذ، أعطتهم فرصة كبيرة للنظر والتأمل، ودراسة المواقف السياسية المختلفة التي
تمخضت عنها الأحداث المتلاحقة. ولقد اتضحت طبيعة النظام الجزائري،
ومواقف الأحزاب بمختلف اتجاهاتها السياسية، وتكشفت مواقف الأنظمة الغربية.
وهذا يستوجب إعادة النظر بطبيعة الخطط والشعارات التي تبنتها جبهة الإنقاذ،
وكيفية إدارتها للمواقف العملية.
وإذا أضيف إلى ذلك الرصيد الخصب للتجربة الإسلامية التي اكتسبها الشيخ
عباسي مدني وأصحابه؛ فإنه سيساعدهم بالتأكيد إن شاء الله تعالى على تقويم
الموقف برمته تقويماً شاملاً يدرس كافة الإيجابيات التي تم اكتسابها، وكافة الأخطاء
التي تم الوقوع فيها لأي سبب من الأسباب. ولعل ذلك يعدّ من أولى أولويات
المرحلة القادمة التي ينبغي أن تدرج ضمن خطة جبهة الإنقاذ ليتم الانطلاق منها بعد
ذلك إلى رسم الخطط المستقبلية القريبة والبعيدة.
المسألة الثانية:
بعد الاعتقالات الشاملة التي واجهت جبهة الإنقاذ، والتي أدت إلى غياب أكثر
القيادات الشرعية والسياسية، حدثت شروخ فكرية ومنهجية في جسم الحركة
الإسلامية بعامة، وظهرت بعض الأطروحات العلمية والعملية التي قد ينقصها
العمق الشرعي والأصالة المنهجية، كما تصدعت بعض الصفوف وانفرطت وحدتها، وتعددت البراعم التنظيمية هنا وهناك. وهذا كله يتطلب استنفاراً كبيراً في طاقات
الشيوخ الفضلاء لترميم البناء من الداخل، وإعادة تأطيره، ومعالجة الانحرافات
المنهجية علاجاً شرعياً مؤصلاً.
ونحسب أن شيوخ الإنقاذ بحمد الله تعالى يملكون الأصالة العلمية، والقدرة
الإدارية والفنية، لوضع أيديهم بحكمة على مواضع النقص والخلل، لمعالجتها
بعمق شرعي وبنفس طويل وصدر واسع، مع مراعاة كافة الاعتبارات التي تمر
بها المرحلة الحالية من داخل الجبهة وخارجها.
المسألة الثالثة:
لا شك أن رجالات جبهة الإنقاذ أثبتوا ولله الحمد والمنة بسالة وشجاعة في
تحمل أعباء السجن والملاحقة والتضييق، وضرب الشيوخ أروع الأمثلة في ثباتهم
وصدقهم واستعصائهم على الترويض، فكانوا قدوة ومثلاً يحتذى. نسأل الله تعالى
أن يعظم للجميع الأجر والمثوبة، وأن يرفع درجاتهم، ويعلي منازلهم في الدنيا
والآخرة.
إنّ الطريق لإعلاء كلمة الحق واضح المعالم، بيّن السمات، ولن يقوم به إلا
الخُلّص الأبرار الذين باعوا نفوسهم لله تعالى، وآثروا الباقية على الفانية، ولم
يضرهم من خذلهم أو خالفهم، بل اعتصموا بحبل اله المتين، واقتدوا بهدي سيد
المرسلين، وهانت في أعينهم مختلف المشاق والمصاعب.
وها هنا ينبغي التأكيد على أهمية البناء التربوي الراسخ في الصفوف؛
فتزكية النفس وتهذيبها وبناؤها من أولى أسس التغيير الشامل الذي يتطلع إليه
المخلصون. ولن يبلغ البنيان تمامه إلا بجهد كبير في رعاية المحاضن التربوية.
ولم يكن هذا البعد التربوي غائباً عن صفوف الجبهة في المرحلة السابقة،
ولن نظن بحول الله تعالى أنه سيغيب في المراحل القادمة؛ ولكننا نرجو أن يولى
عناية أكبر، وأهمية أعظم. والجماهير العريضة المتعطشة للحل الإسلامي، والتي
تلتف حول العلماء والمصلحين والدعاة الصادقين تحتاج إلى رعاية تربوية ومنهجية
أصيلة.
فالخطاب الوعظي المجرد مهما كان بليغاً لا يبني رجالاً راسخين، كما أن
العاطفة المتوهجة التي لم تتجذر في أعماق الأرض مهما كانت صادقة قد لا تثبت
أمام الأعاصير والأمواج العاتية! ! ولهذا كان بناء الرجال وإعداد النفوس هو
الطريق الصحيح للتغيير، وما لم تتضافر الجهود لذلك فسوف نظل نعرج ونتعثر! !
المسألة الرابعة:
كشفت أحداث الجزائر السابقة، ومثلها التجارب السابقة للحركات الإسلامية
المختلفة الأهمية الكبرى لوحدة الصف الإسلامي، فذلك هو السبيل الأمثل لمواجهة
جموع الأحزاب العلمانية والأنظمة النفعية التي أجلبت بخيلها ورجلها لوأد الصحوة
الإسلامية بعامة.
ولقد آن الأوان أن يدرك العقلاء والمخلصون في الحركة الإسلامية الجزائرية
بمختلف فصائلها: أن التهارش والتدابر والتقاطع والاشتغال بالأعراض يُعد أفضل
خدمة نقدمها للعلمانيين.
آن الأوان بأن ندرك: أن انكسار فصيل من الفصائل الإسلامية إنما هو
خسارة للعمل الإسلامي بعامة.
آن الأوان أن ندرك: أن القوة الحقيقية لنا إنما هي باتحادنا وتعاوننا على البر
والتقوى، والواجب علينا أن نتعالى على حظوظ النفوس وشهواتها، ونسمو فوق
الهموم الصغيرة والولاءات الحزبية الضعيفة.. وصدق المولى الحق: [وَلا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] [الأنفال: 46] .
لقد علق المخلصون في أقطار الأرض آمالاً عريضة على الحركة الإسلامية
في الجزائر، ولا زالوا يتطلعون إلى آفاق رحبة، خاصة أن المعطيات والبيئة
الاجتماعية في الجزائر لا زالت خصبة واعدة بالمزيد من الخيرات، إن شاء الله
تعالى، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين إخواننا للنهوض من كبوتهم ويسدد
خطاهم. وأن يحفظ الجزائر وأهلها الصالحين بالإسلام وأن يرد عنها كيد الأعداء
المتربصين.
وصلى الله على محمد وآله وسلم،،(117/4)
في إشراقة آية
نسوا الله فأنساهم أنفسهم
بقلم: عبد الكريم بكار
يقول الله جل وعلا: [وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ
الفَاسِقُونَ] [الحشر: 19] .
هذه آية جليلة الشأن في كتاب الله تعالى وهي تضع أيدينا على حقيقة كبرى
من حقائق هذا الوجود، وتمنحنا استبصاراً بشأننا العام، لا يليق بنا أن نتجاوزه
دون أن يملأ حياتنا بمعنى جديد!
ولعلنا في الصفحات التالية نقتبس من نور هذه الآية:
1- إن نسيان الله تعالى يكون على مستويين: مستوى ضعف صلة المسلم به، وتبلد أحاسيسه ومشاعره نحو خالقه جل وعلا ومستوى الإعراض عن هديه
واستدبار منهجه.
وفي إطار المستوى الأول نجد أن لدينا الكثير الكثير من النصوص التي تحث
المسلم على أن يكون كثير الذكر والمراقبة لله تعالى حتى يصل إلى مرحلة الحب له
وفرح الوعي به، والاستئناس بذكره، وقد قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] [الأحزاب: 41-42] وقال:
[وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] [العنكبوت: 45] .
وفي الحديث الصحيح: (مثل الذي يذكر ربه ولا يذكره كمثل الحي والميت) [1] ولو رجعنا إلى ما حثت عليه النصوص من الذكر، مما يسمى بعمل اليوم
والليلة لوجدنا أن الالتزام بذلك يجعل المسلم لا يكاد ينفك عن تسبيح وتحميد وتهليل
واستغفار وتضرع ودعاء، ما دام مستيقظاً. إن كثرة ذكر لله تعالى تولّد لدى المسلم
الحياءَ منه وحبه، وتنشّطه للسعي في مرضاته، كما تملأ قلبه بالطمأنينة والأمان
والسعادة؛ لينعم بكل ذلك في أجواء الحياة المادية الصاخبة.
إن الفكر يرسم المسار، ويرشد إلى الطريق الأصلح للحركة والعمل، لكنه لا
يكون أبداً منبعاً للطاقة والعزيمة والإرادة الصلبة، وإن الصلة بالله تعالى والتي هي
لباب كل عبادة هي التي تمدنا بكل ذلك، وإن المعاناة التي يشعر بها المسلم اليوم
من جراء الانفصال بين قيمه وسلوكه، لم تتجذر في حياة كثير من المسلمين إلا
بسبب ما يشعرون به من العجز عن الارتفاع إلى أفق المنهج الذي يؤمنون به؛
وذلك العجز لم يترسخ، ويتأصل إلا بسبب نضوب ينابيع المشاعر الإيمانية في
داخلنا!
إن تيار الشهوات والمغريات الذي يجتاج كل ما يجده أمامه اليوم، لا يقاوم إلا
بتيار روحي فياض، يعب منه المسلمون ما يسمو بهم عن أوحال الملذات والمتع
الدنيوية، ويعوضهم عن نشوتها. ولذا فإن (أدب الوقت) يقتضي من المربين
والعلماء الناصحين وأهل الفضل، التوجيهَ إلى إثراء حياة الشباب والناشئة بالأعمال
الروحية وعلى رأسها الذكر حتى لا يقعوا في مصيدة النسيان واللهو والإعراض عن
الله تعالى.
إن مما صار شائعاً أن ترى بعض العاملين في حقل الدعوة، وقد شُغلوا
بضروب من أعمال الخير، لكن الجانب الروحي لديهم صار ذابلاً، وأقرب إلى
الجفاف بسبب إفراغ طاقاتهم في السعي إلى تحقيق أهداف عامة، كنفع الناس،
أو الدعوة إلى الله تعالى دون أن يستحضروا النية، ودون أن يطبعوا على ذلك اسم
الله تعالى ودون أن يعطروه بشذى من الصلة به، والإحساس العميق بالامتثال لأمره.
وكانت نتيجة ذلك أن فقدت تلك الأنشطة نكهتها وتأثيرها، وقصّرت عن بلوغ
أهدافها، بل صار تسرب حظوظ النفس إليها أمراً قريباً ووارداً. إن البنية العميقة
للثقافة الإسلامية متمحورة على نحو أساسي حول تعظيم الله ومرضاته، وإن المسلم
إذا فقد قوة الشعور بالارتباط بذلك، لن يسعى في إعمار الأرض، وإذا فعل ذلك
فإن عمله لن يكون له أدنى تميز، وسيخبط، ويرتع كما يفعل غيره!
2- هناك مستوى آخر من نسيان الله جل شأنه يتمثل في تخطيط شؤون الحياة
بعيداً عن الاهتداء بكلماته، والتقيد بالقيود التي فرضها على حركة عباده. وهذا في
الحقيقة هو النسيان الأكبر.
وعند تقليب النظر في واقع أمة الإسلام اليوم نجد أن نسبة محدودة من
المنسوبين لهذه الأمة تلتزم على نحو كلي بفعل الواجبات، وترك المحرمات. وبما
أن الإحصاء حول أي شيء ليس مرغوباً فيه، فإننا لا نعرف، ولا نحزر الاتجاه
الذي تسير فيه تلك النسبة المحدودة من الملتزمين: هل هو النمو، أو هو الانكماش
والانحسار؛ لكن من الواضح أن العديد من القيم والأخلاق الإسلامية العتيدة بدأ يفقد
التأثير في ضبط السلوك، وتكوين المواقف؛ لأسباب عديدة، ليس هنا موضع
ذكرها. وحين تسمع لكلام كثير من ذوي النفوذ والثقافة في الساحات الإسلامية لا
تجد في أحاديثهم وخطابهم العام ما يدل في الشكل أو في الروح على أنهم على شيء
من ذكر الله والدار الآخرة، أو أنهم متأثرون بشيء من منهجيات هذا الدين وأدبياته، على الرغم من أنهم يُذكرون في عداد المسلمين!
وإن مما يلاحظ في هذا السياق أن تطوراً مريعاً قد اجتاح لغة الخطاب لدينا
خلال السنوات العشر الماضية، فقد كانت لدينا قيم موضوعية ثابتة، على من
يستحق الثناء أن يتخلق بها، وقد كان الناس يقولون: فلان طيب (ابن حلال)
خلوق، صالح، مستقيم، تقي، متواضع.. أما اليوم فإن ألفاظ المديح تتمحور
حول عدد من المزايا الشخصية المرتكزة على مهارات معينة، وعلى علاقات
اجتماعية واسعة، هي أشبه بما على (مندوبي المبيعات) أن يتقنوه! وصار يقال:
فلان ناجح، شاطر، اجتماعي (دبلوماسي) حَرِك، مَرِن، أثبت ذاته، وحقق
وجوده.
وفي اعتقادي أن مثل هذا التطور سوف يجعل المجتمع يموج باللصوص
والمرتشين والمحتالين ما دام النجاح، لا الفلاح، هو المنظم الخفي للتراتيبية
الاجتماعية! وقد نعد هذا من أسوأ ما شاهدناه من أشكال التطور الأخلاقي
والاجتماعي والتربوي، وسوف تكون له آثار بعيدة المدى في البنية الأساسية
للشخصية المسلمة على مدى عقود عديدة قادمة!
3- إن الآية الكريمة صريحة في أن نسيان الله تعالى كان سبباً مباشراً في
جعل المرء ينسى نفسه، وكأن الذي يضيّع نفسه في عاجلها وآجلها، يضيّع الدنيا
فتلفه المشكلات من كل صوب، ويضيع الآخرة بخسران النجاة والفوز بالجنة.
إن نسيان النفس ليس على درجة واحدة، وإن الضرر الذي سيلحق الناس
سيكون بالتالي متفاوتاً، وعلى مقدار النسيان والتضييع لأمر الله تعالى سيكون
التضييع للنفس والدنيا والآخرة.
إن خسران الآخرة للذين ينسون الله، واضح المعالم، ويستوي في معرفته
العامة لدينا والخاصة، لكن التضييع لأمر الدنيا هو الذي يحتاج إلى نوع من البيان، ولعلنا نجلوه في النقطتين التاليتين:
- إن عصر المعلومات الذي يظلنا الآن سيكون والله أعلم أقصر العصور
الحضارية، وسوف يعقبه عصر آخر، هو عصر (الفلسفة) وبحث المسائل الكلية،
وستطرح الأسئلة الكبرى: من أين جئنا، ولماذا نحن هنا، وإلى أين المصير، ما
حدود الطبيعة البشرية، وما ماهية الخير والشر..؟ وإنما نقول ذلك؛ لأن قراءة
التعاقبات التاريخية، تنبئنا أنه حين تصل حالة مّا إلى حدود متقدمة، تبزغ من
الطبيعة البشرية حالة مضادة لها؛ فحين تشتد العقلانية أو التقنيّة في أمة، فإن
أشواقاً تنبعث لكسرها، فينبثق من العقلانيّ العاطفيّ، ومن التقنيّ الفلسفيّ والفكريّ، إنه أحد مظاهر سُنّة التوازن التي بثها الخالق جل وعلا في هذا الكون!
ولذا فإن الهمجيّين وسوقة السوقة وحدهم، هم الذين لا يتشوّفون إلى معرفة
مصيرهم النهائي، وإلى معرفة الغايات الكبرى للوجود!
حين تصير البشرية إلى هذه المرحلة، سيكتشف الذين نسوا الله، أنهم لا
يملكون أي جواب جازم، أو مُقْنع على الأسئلة الكبرى المثارة بإلحاح، بل سيجد
الغرب على نحو خاص أنه قد أحرق كل سفن العودة إلى (الوحي) الذي يُعد المصدر
الوحيد الذي يجيب على تلك الأسئلة.
وقد كان (أينشتاين) يقول: (إن حضارتنا تملك معدات كاملة، ولكنها تفقد
الإحساس بالأهداف الكبرى) ! .
إن كل إصلاح لشؤون البيئة والاقتصاد، وإن أي نوع من المحافظة على
منجزات البشرية، سيقتضي من اليوم فصاعداً تقدماً ملحوظاً على صعيد (الإنسان)
وما لم يحدث هذا التقدم، فإن كل شيء سيكون في مهب الريح! !
والملاحظ بقوة أن الحضارة الحديثة بصبغتها المادية، قد نقلت مجال السيطرة
من الإنسان إلى الأشياء، حيث أضعفت إرادة البشر، وأحاطتها بكل ما يخل
بتوازنها، وهذا يعني أن الحضارة الغربية ببنيتها الحاضرة ليست مؤهلة للنهوض
بالإنسان.
إذا كنا نعتقد أن الطبيعة البشرية واحدة، فهذا يعني أن غايات وجودها يجب
أن تكون واحدة، وهذا هو منطوق الوحي، وهذا ما لا يبصره الإنسان العلماني
اليوم! !
لن تكون الأسئلة المثارة أصيلة إلا إذا كان لها أجوبة موجودة عند جهة مّا
وهذه الجهة لن تكون أبداً الإنسان، فمن تكون إذن؟ ؟
إن العقل البشري خلقه الله تعالى ليكون في الأصل عقلاً عملياً، وهو في
عمله يشبه (الحاسوب) ، وهو كالحاسوب لا يستطيع إدخال تحسينات جوهرية على
المدخلات التي يُغذى بها، وسيكون الأمر مضحكاً إذا عمدنا إلى تشغيل العقل
البشري وتحسين طروحاته وعمله بشيء من منتجاته التي تولى تنظيمها الفلاسفة،
وهم الذين لم يفلحوا في الاتفاق على أي شيء! ! . إن كل شيء اليوم يتقدم إلا
الإنسان فإنه في تدهور مستمر، وإن مما يثير الفَزَع أنه على مدار التاريخ كان
التقدم المادي والعمراني مشفوعاً بانخفاض في وتائر التدين والسمات الإنسانية
الأصيلة، مما يدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يوازن بين مطالبه الروحية
والجسدية، دون عون من خالقه.
ولكن المؤسف مرة أخرى أننا لا نريد أن نعترف بذلك؛ لأن ذلك يقتضي منا
تغييراً هائلاً، نحن غير مستعدين الآن لدفع تكاليفه!
إن نسيان الله تعالى قد أفسد النسيج الإنساني كله، وحين يفسد النسيج العام،
فلن يكون ثمة فائدة تذكر من وراء التعليم والتدريب والتربية، وكيف يمكن إصلاح
خبز أو كعك أو فطير فسد طحينه؟ !
إن ضعف الإنسان على مدار التاريخ كان من عوامل استمرار بقائه، أما اليوم
فقد اجتمع له القوة الغاشمة مع الطيش الشديد، وهذا ما سيسبب الكوارث ما لم
يحدث انعطاف كبير في اتجاه الرشد والهداية والتدين المبصر الأصيل.
ب - إن المهمة الأساسية للرسل عليهم السلام أن يبصّروا الناس بما يجب
عليهم تجاه خالقهم، وأن يذكّروهم الدار الآخرة ومطالب الفوز فيها: [رَفِيعُ
الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ] [غافر: 15] .
ومهمة المصلحين إذا ما أرادوا الاستجابة لدعوتهم أن يُنضحوا من التعاليم
الإسلامية ما يمزجونه بالخيال الخصب والخبرة البشرية والملاحظات الذكية، من
أجل توفير الظروف التي تجعل الناس أقرب إلى الالتزام. وإن هذه الدنيا دار
ابتلاء، ولذا فإن علينا دائماً أن نختار ما يصلح أحوالنا، وإن لكل عصر اختياراته
واجتهاداته. والمشكلة أن الفضائل والقيم والنظم لا تتفق بعضها مع بعض اتفاقاً كلياً، بل إن إقامة كثير منها قد يتطلب التضحية ببعضها الآخر: إذا اخترنا الحرية
الفردية، فقد يقتضي ذلك التضحية بشكل تنظيمي نحن في أمس الحاجة إليه، وإذا
اخترنا العدالة، فقد نُرغَم على التضحية بالرحمة، وإذا اخترنا المساواة، فقد
نضحي بقدر معين من الحرية الفردية..
ومن وجه آخر هل يصح أن نعذب أطفالاً كي ننتزع منهم معلومات عن خونة
أو مجرمين خطرين؟ وهل للمرء أن يقاوم حاكماً ظالماً، ولو أدى ذلك إلى مقتل
والديه أو أطفاله؟ ؟
كل هذا لا يستطيع العقل أن يعطي أجوبة واضحة وقاطعة عنه. وننتهي من
هذا إلى أن كل مجتمع يحتاج إلى مقدار مّا من تلك الفضائل والنظم، كي يجعل
حياته متوازنة ومتسقة، فكيف يتم تحديد ذلك المقدار؟
إن المنهج الرباني لا يحدد لنا على نحو دقيق القدر المطلوب من التماثل
الاجتماعي، ولا القدر المطلوب من الحرية الفردية، أو العدل أو الرحمة.. لكنه
يضيق دوائر الاختيار، ومساحات البحث والاجتهاد؛ والفارق بين المهتدي بنور
الله والمحروم منه كالفارق بين من يبحث عن إبرة في صحراء، ومن يبحث عنها
في غرفة. على الجميع أن يبحث، ولكن حظوظ العثور على المطلوب متفاوتة
تفاوتاً عظيماً، كما أن إمكانات الوقوع في الخطأ، هي الأخرى متفاوتة كذلك.
إن العقل بطبيعة تركيبه لا يستطيع أن يعمل في أي مجال: فلسفي أو تنظيمي
أو تقني إلا إذا أُسعف بإطار توجيهي يهيئ له مقدمات، وبعض المدخلات
الضرورية، وإن المنهج الرباني عقيدةً وشريعةً هو الذي يوفر ذلك الإطار.
في مجال التربية الاجتماعية مثلاً نجد أن الشريعة الغراء حددت لنا محاور
أساسية، يجب أن ترتكز عليها أنشطتنا التربوية، وهي ما سماه أهل الأصل
بالكليات أو الضرورات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وقد تكفّل الفقه الإسلامي بتوفير الأحكام والأدبيات التي ترسم حدود الحركة
التربوية في ظل هذه المحاور الخمسة، كما وضحت المرتبية التي يجب اتباعها
عند ضرورة التضحية ببعضها لحفظ الآخر، على ما هو واضح في كتب الأصول
والفقه؛ فالشأن التربوي لدينا على علاته أفضل مما هو موجود لدى دول كثيرة
متقدمة عمرانياً؛ وذلك بسبب وجود هذا الإطار التوجيهي، وهذا كله مع أن أكثر
الشعوب الإسلامية تعاني من أوضاع معيشية قاسية، والجرائم بأنواعها لدينا أقل،
والتماسك الأسري والاجتماعي أفضل.
إن محنة العقل الذي نسي الله لم يحن أوانها بعدُ، ولكن إذا وصل النمو
الاقتصادي إلى حدوده القصوى، وانتشرت البطالة، وعم ضنك العيش، فسوف
يرى كل المعرضين عن دين الله أن الليبرالية والرأسمالية ليست أفضل ما أنتجه
العقل البشري، وأن الخلاص يتطلب مراجعة جذرية، من أجل العودة إلى سبيل
الرشاد.
الإنجازات الحضارية وسعادة الأفراد، ووحدة الكيان الحضاري، كل ذلك
سيكون على حافة الهاوية إذا لم يضئ كل منعطفات الطريق شعاع من الغاية الكبرى، وإذا لم تتلفع جميعاً بهدي من هدي الله؛ والله غالب على أمره.
__________
(1) أخرجه البخاري.(117/8)
دراسات شرعية
الضحك من منظور شرعي
بقلم: عبد الله عثمان الماضي
تمهيد:
إن عالم الضحك عالمٌ كالبحر واسع الجنبات، يمتد من جانب حتى يصل
بالملحة والنادرة المحبّبة اللطيفة الظريفة إلى عالم الظرف والرّقة، ويمتد من جانب
آخر حتى يصل بالتهكم والهجاء والسخرية إلى عالم المأساة والترويع، ويشتمل فيما
بين ذلك على ألوان من الابتسام، وصنوف متفاوتة في درجات الخِفة والثقل،
ومقادير الحلاوة والمرارة، ومراتب الرفق والعنف، وعناصر الفكر والعاطفة
والنشاط، وأساليب التلميح والتصريح، وما إلى ذلك [1] .
تفسير الضحك:
لقد شغلت ظاهرة الضحك الناس جميعاً على حد سواء: المفكرين منهم أو
القادة أو السواد الأعظم من الناس القديم منهم والحديث، كلّ نظر إلى هذه الظاهرة
متعاملاً معها من خلال اهتمامه واختصاصه.
ورغم كثرة نظريات تفسير الضحك إلا أنها في الغالب لا تخرج عن المعالم
الآتية:
1- المفارقات والجمع بين المواقف المتناقضة.
2- وضع الشيء في غير موضعه.
3- التعبير عن السعادة.
4- المحاكاة والتجاوب مع ضحك شخص آخر (ابتسامة المجاملة) .
5- حدوث بعض الوقائع المفاجئة التي تتجاوز التصور المنطقي.
مراتب الضحك:
بتتبع هذه المراتب نجدها لا تخرج عن حالات ثلاث هي ما يلي:
أولاً: التبسم:
ويعتبر مبتدأ الضحك، وهو انفراج الفم بلا صوت؛ إذ يمثل أقل الضحك
وأحسنه؛ ويكون غالباً للسرور. قال تعالى: [فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا]
[النمل: 19] . قال الزجاج: التبسم أكثر ضحك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وكانت البسمة أقرب ما تكون إلى قلب الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-
وشفتيه، بل كانت من ضمن وصاياه للناس؛ حتى رفع قدرها إلى مستوى الصدقة
فقال: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) [2] .
وجعل -صلى الله عليه وسلم- لقاء الناس بوجه طليق أي بوجه باسم من قبيل
المعروف فقال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه
منبسط) [3] .
ينبغي أن تكون الابتسامة وسيلة لجمع القلوب على الحب وتجديد النفس
للإقبال على الحياة والتعبير عن حمد الله تعالى على نعمائه، وما أوثق علاقة التبسم
بالتسامح إزاء كل الناس وكل الطبقات لتكون السعادة حقاً للجميع.
والابتسامة: هي مفتاح مؤكد النتيجة لفتح حوار محبوب صامت مع الآخرين.
والوجه المبتسم: هو من نعم الله تعالى على الإنسان، وينظر إلى صاحبه
بشيء من الثقة التي لا توحي بها الملامح المتجهمة المنكرة تحت وطأة الآلام
والأحزان.
والمبتسم: يكون في حالة ارتياح نفسي، فهو أقدر على التفكير واختيار
الكلمات الملائمة التي يتعامل بها مع الناس واتخاذ قرار مّا في وقته المناسب.
ثانياً: الضحك:
وهو أعم من التبسم، فكل تبسم ضحك وليس كل ضحك تبسماً؛ ولذلك قال
ابن حجر رحمه الله: فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بُعد فهو القهقهة وإلا
فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم.
وتسمى الأسنان في مقدم الفم: الضواحك، وهي الثنايا والأنياب وما يليها،
وتسمى النواجذ وهي التي تظهر عند الضحك.
صفة الضحك: خلق الله سبحانه وتعالى الضدين: الضحك والبكاء في محل
واحد قال تعالى: [وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى] [النجم: 43] كما خلق الموت والحياة
والذكورة والأنوثة في مادة واحدة [4] ، وهذا دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى فهو
خالق لقوتَيِ الضحك والبكاء، كما أنه سبحانه خالق لفعلَيِ الضحك والبكاء [5] .
استعمالات الضحك:
1- يستعمل الضحك للتعجب المجرد؛ وهذا المعنى قَصْدُ من قال بأن الضحك
يختص بالإنسان دون سواه قال تعالى: [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ..] [هود:71] فضحكها كان للتعجب.
2- يستعمل الضحك في السرور المجرد كما في قوله تعالى: [وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ] [عبس: 38، 39] .
3- يستعمل الضحك عند التهكم. قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ
الَذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ] [المطففين: 29، 30] .
ومن أنواع ضحك التهكم:
أ) ضحكة الازدراء.
ب) ضحكة الهزء.
ج) ضحكة السخرية.
4- يستعمل أيضاً عند الغضب: وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد
غضبه. وسببه: تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب، وشعور نفسه بالقدرة
على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكه لملكِهِ نفسَه عند الغضب،
وإعراضه عمن أغضبه، وعدم اقتدائه به [6] .
5- يستعمل كذلك عند الملاطفة أو الترحيب.
6- ويستعمل عند الانتصار.
7- وكذا عند التسلية.
8- ويستعمل الضحك في الحالة الهستيرية والجنون.
الضحك المندوب: من الأمور المحمودة:
1- مضاحكة الزوجة وملاعبتها قال -صلى الله عليه وسلم-: (تزوجتَ ياجابر؟ فقلت: نعم! فقال: بكراً أم ثيّباً؟ قلت: بل ثيّباً، قال: فهلاّ جارية
تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك ... ) [7] .
2- لقاء الناس بوجه طلق لإدخال السرور عليهم كما في حديث جرير ابن
عبد الله، قال: ما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت إلا تبسم في
وجهي ... [8] .
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ( ... تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) [9] .
من فوائد الضحك والتبسم:
1- كونه باباً من أبواب الخير والصدقة: عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
قال رسول الله: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) الحديث [10] .
2- كسب مودة الناس: كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (لن تَسَعُوا الناس
بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه) [11] .
فينبغي لمن كان عبوساً منقبض الوجه أن يتبسم، ويحسّن خلقه، ويمقت نفسه
على رداءة خلقه، فكل انحراف عن الاعتدال مذموم، ولا بد للنفس من مجاهدة
وتأديب.
قال الجاحظ في مقدمة كتاب البخلاء، شارحاً بعض فضائل الضحك: (وكيف
لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء من
أصل الطباع ومن أساس التركيب؛ لأن الضحك أول خيرٍ يظهر من الصبي، وبه
تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه الذي هو علّة سروره ومادة قوته) .
ولفضل خصال الضحك عند العرب فإنها تسمّي أولادها ب: الضحاك وبسام.
ثالثاً: القهقهة:
القهقهة هي الضحك بصوت مرتفع بحيث يُسمع من بُعد.
قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مستجمعاً ضاحكاً قطّ حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يتبسم) [12] .
واللهوات جمع لهاة وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم يعني: ما
يكون ضاحكاً تاماً مقبلاً بكليته على الضحك، بحيث تبدو اللهاة التي في آخر
الفم [13] .
ولذلك كان هذا النوع من الضحك مخالفاً لهدي الرسول -صلى الله عليه
وسلم- حيث كان لا يكثر الضحك ولا يقهقهه، أي لا يرفع صوته به، بل كان
وقوراً متزناً هادئاً كما وصفه جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (إن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان طويل الصمت قليل الضحك) [14] .
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى بعد أن استعرض عدداً من الأحاديث المتعلقة
بالتبسم والضحك: (والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه -صلى الله عليه وسلم-
كان لا يزيد في معظم أحواله عن التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك؛ والمكروه
في ذلك إنما هو الإكثار منه أو الإفراط؛ لأنه يُذهب الوقار.
آداب الضحك:
1- أن يكون الضحك تبسماً:
كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه السابق في وصف رسول الله ( ... وكان لا يضحك إلا تبسماً ... ) .
2- الإكثار من التبسم، والإقلال من الضحك:
كما في حديث عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه أنه قال: (ما
رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله) [15] .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (التبسم دعابة [16] وهو أبلغ في
الإيناس من الضحك) .
أما من روى عنه أنه لم يضحك ولم يبتسم مطلقاً، فهو خلاف الأفضل
فالأفضل الضحك اليسير والتبسم.
وأهل العلم في هذا على قسمين:
أ- يكون فضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة،
واستشعاراً لما بعد الموت.
ب- يكون مذموماً لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً [17] .
3- الإقلال من الضحك:
فإن كثرته تميت القلب، والإفراط فيه يُذهب الوقار والهيبة.
ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي: (أقِلّ الضحك؛
فإن كثرة الضحك تميت القلب) [18] .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن
أكثر من شيء عُرِفَ به [19] .
ولذلك حذر من كثرته العلماء، فقال الماوردي [20] : أما الضحك فإن اعتياده
شاغل عن النظر في الأمور المهمة، مُذْهِبٌ عن الفكر في النوائب الملمة، وليس
لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وُسِمَ به خطر ولا مقدار.
4- خفض الصوت في الضحك ما أمكن.
5- أن يضحك مما يُضحَك منه، وهو ما يُتعجب من مثله ويُستغرب وقوعه
ويندر.
فلا تروى الطرف المكذوبة التي لا أصل لها؛ بقصد الإضحاك فقط.
فلقد روي النهي الشديد عن ذلك في الحديث الذي رواه بهز بن حكيم عن أبيه
عن جده قال: قال رسول الله: (ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك به الناس، ويل
له، ويل له) [21] .
بعض المناسبات التي ابتسم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو ضحك:
1- قصة نعيمان وسويبط رضي الله عنهما:
عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر في تجارة إلى
بصرى قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعام ومعه نُعيمان وسويبط بن
حرملة، وكانا شهدا بدراً، وكان نُعيمان على الزاد، وكان سويبط رجلاً مزاحاً،
فقال لنعيمان: أطعمني. قال: حتى يجيء أبو بكر. قال: فلأغيظنك. قال:
فمروا بقوم، فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم. قال: إنه عبد
له كلام، وهو قائل لكم: (إني حر) فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا
تفسدوا عليّ عبدي. قالوا: لا، بل نشتريه منك. فاشتروه منه بعشر قلائص [22] ، ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً! فقال نُعيمان: إن هذا يستهزئ بكم
وإني حر لست بعبد! ! ! فقالوا: قد أخبرنا خبرك. فانطلقوا به، فجاء أبو بكر.
فأخبروه بذلك، قال: فاتبع القوم ورد عليهم القلائص وأخذ نعيمان. قال: فلما
قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبروه، قال: فضحك النبي -صلى الله
عليه وسلم- وأصحابه منه حَوْلاً! [23] .
2- تبسمه -صلى الله عليه وسلم- على قول صهيب الرومي رضي الله عنه:
عن عبد الحميد بن صيفي عن أبيه عن جده صهيب، رضي الله عنه، قال:
قدمتُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين يديه خبز وتمر. فقال النبي: (ادنُ
فكل) فأخذت آكل من التمر، فقال النبي: (تأكل تمراً وبك رمد) [24] ؟ قال:
فقلت: إني أمضغ من ناحية أخرى! فتبسم رسول الله [25] .
قلت والله أعلم: يظهر من سياق الحديث أنه كان مرمداً في إحدى عينيه فلما
قال -صلى الله عليه وسلم- ذلك أجاب بأنه يمضغ من ناحية أخرى: أي إن كان
في العين اليمنى فهو يمضغ من ناحية اليسرى، وكذا بالعكس.
3- السباق على الرّجل:
عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، قالت: خرجت مع النبي في
بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: (تقدموا) ، فتقدموا
ثم قال لي: (تعالَيْ حتى أسابقك) . فسابقته فسبقته فسكت عني، حتى إذا حملتُ
اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: (تقدموا) فتقدموا ثم
قال: (تعالي حتى أسابقك) . فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: (هذه
بتلك) [26] .
فيه: حُسن معاشرته -صلى الله عليه وسلم- لأهله ومداعبته، ولم يتزوج
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكراً غير عائشة رضي الله عنها، وكانت جارية؛ ففي هذه السن تحب المرأة الضحك والمزاح واللعب كما صح عنه.
العلاج من كثرة الضحك:
تعالج كثرة الضحك بعدة أمور، منها:
1- الإكثار من ذكر الله تعالى.
2- تذكر عظمة الله تعالى.
3 - تذكر الموت واليوم الآخر.
4- مجاهدة النفس في كتم الضحك.
5- عدم الإكثار من مخالطة الشخصيات الهزلية.
6- محاولة اعتياد الجدية [27] .
وأخيراً:
فإن موضوع الضحك أوسع من أن تحيط به هذه العجالة، وما ذكرته إنما هو
إضاءات لبعض زواياه، وومضات في بعض جوانبه.
__________
(1) دراسات فنية في الأدب العربي، د عبد الكريم اليافي، مكتبة لبنان ط الأولى 1416هـ بتصريف) .
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
(3) رواه أحمد بإسناد صحيح (5/63) .
(4) التفسير الكبير للرازي (29/19) .
(5) الكشاف للزمخشري (4/34) .
(6) زاد المعاد لابن القيم (ج/1) مؤسسة الرسالة.
(7) متفق عليه.
(8) متفق عليه، رواه البخاري في مواضع منها (ح 68) في التبسم والضحك، ومسلم (ح44) في فضائل جرير.
(9) رواه الترمذي كما تقدم.
(10) أخرجه الترمذي (ح1956) وحسنه وأحمد (5/168) ، وابن حبان (ح864) وصححه.
(11) أخرجه البزار (ح 3035) ، والحاكم (1/124) ، وأبو نعيم (10/25) وهو ضعيف.
(12) مسلم: كتاب الاستسقاء/ باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والفرح بالمطر، ح 16.
(13) فتح الباري شرح صحيح البخاري/ باب التبسم والضحك.
(14) رواه البغوي في شرح السنة دون قوله: (قليل الضحك) .
(15) أخرجه الترمذي في المناقب (ح3645) وحسنه.
(16) أدب الدنيا والدين (ص302) للماوردي.
(17) سير أعلام النبلاء (10/140) .
(18) أخرجه الترمذي في الزهد وابن ماجه في الزهد (2/1410) .
(19) انظر: المنهج المسلوك في سياسة الملوك (ص450) الشيرازي ج 1، عام 1407هـ.
(20) أدب الدنيا والدين (ص302) .
(21) أخرجه أحمد (5/705) ، وأبو داود (باب 80) والدارمي (باب 66) وغيرهم وصححه الحاكم.
(22) نوق.
(23) سنن ابن ماجه: الأدب، باب المزاح: 2/1225.
(24) الرمد: وجع العين وانتفاخها اللسان 3/185.
(25) أخرجه ابن ماجه: في الطب، باب 3 الحمية 2/1139 قال في الزوائد: إسناده صحيح رجاله ثقات وأحمد في مسنده 5/375.
(26) مسند أحمد: 6/264.
(27) محاضرة في آداب الضحك: محمد صالح المنجد.(117/16)
دراسات تربوية
الاهتمام بدعوة المرأة وتربيتها (2من 2)
بقلم: عبد اللطيف بن محمد الحسن
تحدث الكاتب عن أهمية الدعوة في محيط النساء وأهمية أن تقوم النساء
بالدعوة،وبيَّن الضوابط في خروج المرأة الداعية، بعد أن بيَّن العوائق التي قد تقف أمام حركتها في دعوة بنات جنسها، ويواصل في هذه الحلقة بقية الموضوع. ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
أهداف دعوة النساء:
أعظم معين على بلوغ الأهداف بعد عون الله (عز وجل) هو رسم الخطط
العلمية ووضوحها، وتعيين الوسائل والطرق المعينة على الوصول إليها، ومتابعة
العمل فيها بدقة وجدّ، ولعل أهم الأهداف التي ينبغي للداعية رجلاً كان أو امرأة أن
يهتم بها في دعوته في داخل البيت وخارجه، ما يلي [1] :
أولاً: التربية الإيمانية، ويتحقق هذا الهدف بالعناية بوسائل منها: الوعظ
والرقائق، ودراسة أسماء الله وصفاته وآثارها، وآياته في الكون من خلال الوسائل
المتاحة، ودراسة الآيات والأحاديث ذات الصلة بها.
ثانياً: التأهيل العقدي، بتأصيل عقيدة أهل السنة والجماعة إجمالاً، وتأصيل
القضايا ذات البعد العملي كالشرك، والولاء والبراء، وخطر التشبه بغير المسلمين، وذكر ملامح أهل السنة والجماعة.
ثالثاً: التأصيل العلمي والشرعي، بتنمية حب العلم، والاهتمام به، وحفظ
القرآن الكريم، وبعض الدروس والبرامج العلمية.
رابعاً: التأهيل الفكري، بالتوعية بمعرفة التيارات والأفكار المنحرفة،
وخطط الأعداء الماكرة التي كثيراً ما تخدع المرأة بأنواع من زخرف القول وادعاء
إنصافها وتحريرها. ومن التأهيل الفكري أيضاً: توضيح المفاهيم الإسلامية الغائبة
لدى كثيرات في خضم كثير من المناهج القاصرة والبعيدة عن التأصيل الشرعي في
مناهج مدارس البنات في أكثر ديار الإسلام. والحق يقال: إن تعليم البنات في
السعودية يعتبر نموذجاً طيباً للالتزام الشرعي، ويستحق التقدير.
خامساً: التأهيل الدعوي، ويمكن تحقيقه من خلال: تحميل المدعوين همّ
الإسلام والدعوة؛ بتبصيرهم بأحوال المسلمين وجهود الأعداء، وتكوين الثقافة
الدعوية، وبناء المبادرات الذاتية والمشاركة الفعالة في الدعوة، وتنمية الملكات
التي يُحتاج إليها في الدعوة.
سادساً: تنمية الملكات التربوية، نظرياً وعملياً بالاستفادة من الأخطاء وكيفية
التعامل معها، والاستفادة من التجارب التربوية للآخرين ما أمكن ذلك.
سابعاً: تنمية الملكات الاجتماعية، في التعامل مع الآخرين، بتمثّل القدوة
الصالحة في نفسه، والربط بالقدوات، والتعريف بالحقوق والواجبات، وذكر
النماذج الحيّة من حسن الخلق، وبيان كيفية كسب الآخرين.
ثامناً: بناء الحصانة ضد المنكرات، ويتم ذلك ببيان أضرار المعاصي
وخاصة النسائية وسد ذرائعها؛ بإبعاد وسائلها، وتجنب أماكنها.
تاسعاً: ملء الفراغ بالمباح، واستغلاله بالمفيد، ووسائل هذا كثيرة.
طرق إعداد المرأة للدعوة:
وهو المقصود الأهم من الحديث عن هذا الموضوع، وغير ممكن أصلاً أن
تفي كتابة كهذه المقالة بشيء من هذا، غير أن هذا لا يمنع من إشارة تذكّر بجوانب
من الموضوع، وتفتح الذهن لمداخله، وتبقي العهدة في مراجعة ما كتب في
الموضوع لمباشرة العمل، ومما يعوّل عليه في هذا الصدد: رسالة (المرأة المسلمة
المعاصرة، إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، للدكتور أحمد أبا بطين) [2] .
أسلوب إعداد المرأة للدعوة:
ولإعداد المرأة الداعية طريقان:
الأول: الإعداد النظري، ويشمل الجوانب التالية:
1- الإعداد العلمي: وهو أمر ضروري في جانبين:
أولهما: المادة العلمية التي تدعو إليها، وتريد تعليمها [3] .
وثانيهما: العلم بالكيفية المناسبة لعرض تلك المادة.
وقد عني الإسلام بإعطاء المرأة حقها في التعليم، مع التزام الضوابط
الشرعية لذلك، والعلم المقصود هنا: ما يفيد المرأة في دعوتها من العلوم الشرعية، والعلوم المساعدة على فهمها، ولا يجوز بحال أن نجعل العلم عائقاً عن الدعوة،
كحال الكثيرين اليوم، فالواجب التوازن، وكل تدعو حسب علمها وقدرتها.
2- الإعداد النفسي: بأن تتوفر في الداعية صفات: الإيمان بالله ورسوله،
والإخلاص، والتفاؤل، والجرأة في الحق، والاعتزاز بالإسلام، والصبر،
ومعرفة حال المخاطبين وبيئاتهم.
وهو إعداد غاية في الأهمية لارتباط وظيفة الداعية بالناس، وهم مختلفون في
أديانهم وثقافاتهم وعاداتهم وأخلاقهم وأهوائهم وأهدافهم.
3- الإعداد الاجتماعي: وهو أن تعيش الداعية الحياة الإسلامية في الأسرة
والمجتمع تطبيقاً عملياً كما تعلمتها نظرياً، وكما تريد للناس أن يكونوا، وذلك
بالتزام دين الله (عز وجل) ، والتخلق بأخلاق الإسلام، وأخلاق الدعاة بخاصة،
وإلا كانت الداعية على هامش المجتمع.
ومن أهم عناصر الإعداد الاجتماعي: الشعور بأن الدعوة حق لجميع الناس
يجب بذلها لهم، والصدق والأمانة والكرم والسخاء في حدود ما تملك، والزهد
والعفة، والحلم والعفو، والرحمة، والتواضع، والمودة والتآلف [4] .
الثاني: الإعداد التطبيقي:
وهو: تهيئة الداعية بالتدريب العملي على فن الإلقاء، والكتابة؛ لنقل دين
الله (سبحانه وتعالى) إلى الناس، عن طريق الخطبة والدرس والمحاضرة والندوة،
والكتابة بأنواعها المختلفة.
وهو أمر في غاية الأهمية؛ إذ الإلقاء والكتابة هما وسيلتا مخاطبة الناس
بالدعوة، وبهما نحصّل الثمرات المرجوّة من الإعداد النظري، فكم من الدعاة مَنْ
يضعف أثره بسبب ضعف إعداده التطبيقي، وقد حصل في هذا الإعداد تقصير
كبير، أسهم في قلة الدعاة المؤثرين.
ويقوم هذا الإعداد على أمرين:
أولاً: فن الإلقاء للمحاضرة أو الدرس أو الندوة، أو الكلمة أو الموعظة أو
الخطبة.. ونحو ذلك.
ويعتمد على عنصرين:
1- إقناع المستمع بمخاطبة عقله بالأدلة والبراهين.
2- إثارة عاطفته وأحاسيسه ومشاعره وهما أساس التأثير.
ولكل نوع من أنواع الإلقاء خصائصه ومميزاته وفوائده وأسسه وطريقته
الخاصة، ويتطلب الإعدادُ لها جانبين:
أ - النظري: بمعرفة أهمية الخطبة مثلاً وأنواعها وصفات الخطيب.
ب- العملي: بالتطبيق والإلقاء أمام النساء في خطبة في المسجد أو المدرسة
أو مجتمع النساء.. مع مراقبة المتدربة، وملاحظتها وتقويم أخطائها شيئاً فشيئاً.
ثانياً: الكتابة وذلك بإعداد البحوث والمقالات والنشرات ... لنشرها في الكتب
والمجلات والصحف التي طالت كل الناس، وأخذت جزءاً كبيراً من أوقاتهم،
ويعتمد أسلوب الكتابة على عاملين:
1- دقة العبارة وسلامتها.
2- قوة إقناع القارئ بالمكتوب: بوضوح الدليل، وقوة الاستدلال، والصدق
والتوثيق.
وتعد الكتابة من أنسب وأهم الوسائل الدعوية بالنسبة للمرأة؛ إذ يمكنها الكتابة
وهي في بيتها، فتستغل بها أوقات فراغها، وتصل بما تكتب إلى جميع طبقات
المجتمع. والكتابة كالإلقاء تتطلب إعداداً نظرياً وعملياً ليس هذا مكان تفصيله [5] .
ميادين دعوة المرأة:
الإنسان مكوّن من روح وجسد، ويمكن تقسيم عمل الداعية بناء على هذا
قسمين:
أولاً: الميادين التربوية: وهي الميادين المتعلقة بتربية الروح وتزكية النفس
وتطهيرها بالإيمان، ويمكن من خلالها مخاطبة عقل الإنسان وروحه، وتتمثل هذه
الميادين في المساجد والمدارس والمؤسسات والجمعيات الدعوية، ونحوها.
ثانياً: الميادين الاجتماعية، وهي الميادين المتعلقة بتربية الجسد من ناحية
النمو والسلامة والصحة النفسية والاجتماعية والجسدية وأخذ الزينة، وتبادل هذه
الخدمات بين الناس بما يخدم التربية الروحية؛ لإبراز الشخصية المسلمة، كما أراد
الله (عز وجل) .
وهذان الجانبان الروحي والجسدي مترابطان، وينبغي الوفاء بهما جميعاً
بتوازن؛ لأن تغليب طلروح: رهبانيةٌ، وتغليب الجسد: حيوانيةٌ، وكلاهما مذموم، وكم كانت تلبية الحاجات الجسدية سبباً في إسلام وهداية الكثير، وهو أسلوب
يركز عليه المفسدون وخاصة المنصّرين اليوم؛ لأنه يصةب على الجائع والمريض
والعاري والمشرّد أن يستمع لك ويعي كلامك، بل يكاد ذلك أن يكون محالاً [6] .
وسائل دعوة المرأة:
يمكن للداعية أن تبث دعوتها في الميادين التربوية والاجتماعية من خلال
الوسائل التالية:
1- المنزل: وهو الميدان الخصب، والوسيلة الأبلغ تأثيراً، ولا غرو أن الله
جعل كلاً من الزوجين راعياً في بيته، وسيسأله الله عن أهله وزوجه، وأمرهما
بوقاية الأهل من النار، ومهما حصل من تقصير من أهل المسؤولية في الدعوة من
خلال الوسائل الأخرى، فإن ذلك مما يزيد مسؤولية الأبوين. والأم لها نصيب كبير
كما تقدم والمسؤوليات التي تشارك فيها الرجل كثيرة أهمها: مسؤولية التربية
الإيمانية، والعلمية، والخلقية، والجسمية، والنفسية، والاجتماعية، والجنسية،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله (تعالى) .
ويتميز المنزل عن بقية الوسائل باجتماع أفراد الأسرة فيه لساعات طويلة،
والتوافق النفسي والاجتماعي بينهم، مما يتيح إمكانية عرض القدوة الصالحة،
والتأثير عبر التوجيه الموزع غير المباشر، والملاحظة المستمرة، والاستفادة من
سائر الفرص والأحوال وتأثير التوجيه والعقاب؛ لكونه بعيداً عن أعين الناس.
2- المجتمع: من خلال الإحسان إلى ذوي القربى والجيران والمحتاجين،
ودعوتهم وتوجيههم، مما يوحي بترابط أفراد الأمة، وكونهم كالجسد الواحد.
3- المدرسة: من خلال استغلال المناهج الدراسية، والأنشطة المدرسية في
توجيه الطالبات، وتربيتهن، والعمل على توجيه المدرسات والعاملات وإصلاحهن.
4- المسجد: حيث يجوز للمرأة الحضور إليه بإذن زوجها، ولا ينبغي له
منعها إذا استأذنته للاستفادة مما يلقى فيه، ومن القدوة الصالحة؛ حيث يرتاد
المسجد النخبة من الناس، وهو مكان مناسب لأنشطة نسائية مفيدة من حلقات تحفيظ
القرآن، وتعليم العلم الشرعي النافع وغيرها.
5- المستشفيات والسجون ومراكز الرعاية الاجتماعية [7] .
وعَوْداً على بدء أقول: إن المقصود بالكلام هو العمل، ولا مكان اليوم
للكسالى ولا النائحين. إن إعداد المرأة ميدانُ تنافُسٍ كبير، تتسابق فيه الأمم
والشعوب والملل والمذاهب.
انظر مثلاً: كتاب (المرأة وبرنامج التثقيف المجالس الحسينية نموذجاً)
لـ (عالية مكي) لترى أن الرافضة ينتقلون من مرحلة النياحة، إلى مرحلة أخرى من البناء والتثقيف والإعداد والتربية؛ ليقينهم أن العواطف لا تجدي شيئاً في عالم الصراع اليوم.
ولقد وعت الصوفية هذه الحقيقة، فسعت إلى إقامة حركة نسائية، امتدت في
بلدان عدة، تقوم بتربية المرأة تربية تتفق مع المنهج الصوفي.
فأين المتحرقون من أهل السنة والجماعة حقاً لواقع المرأة المسلمة حتى لا
تكون صيداً سهلاً للمنصّرين وللرافضة والمبتدعة؟
وبعد: فما زالت المرأة تتطلع إلى المزيد من عناية العلماء والدعاة بها، كما
أن الصحوة تنتظر من المرأة الكثير والكثير من التوجيه والإرشاد السليمين من
الإفراط والتفريط.
وما نيل المطالب بالتمني
والله من وراء القصد.
__________
(1) انظر شرح هذه الأهداف، ووسائل تحقيقها وطرقها، في مقال: الدعوة إلى الله في البيوت، عبد الله البوصي، في البيان، ع/88، ص 14 22.
(2) وأظن الكتاب سد ثغرة مهمة، فجزى الله مؤلفه خيراً، ومن الكتب المفيدة في الجوانب الدعوية والتربوية النسائية على قلتها: مشكلات المرأة المسلمة المعاصرة وحلها في ضوء الكتاب والسنة، دكتورة/ مكية مرزا، والمرأة في العهد النبوي، دكتورة/عصمت الدين كركر، ومسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د/ فضل إلهي، والنساء الداعيات، د/ توفيق الواعي، ويا نساء الدعاة، للزبير فضل مضوي، والداعية الناجحة، لأحمد القطان، وشخصية المرأة المسلمة، د محمد علي الهاشمي.
(3) من الجوانب العلمية الملحّة: ما يخص المرأة من أحكام، وهو أمر تأخر إفراده بالتأليف، فقد كتب ابن الجوزي (رحمه الله) (ت597هـ) كتاباً سمّاه (أحكام النساء) ، قال في مقدمته: (ولم أر من سبقني إلى تصنيف مثله) ، ولـ (صدّيق حسن خان) كتاب: (حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة) وهناك موسوعة نسائية شاملة بعنوان: (المفصّل في أحكام المرأة) ، د عبد الكريم زيدان، غير أن (ابن الجوزي) (رحمه الله) قد ضمّن كتابه على صغر حجمه ما لم يشتمل عليه الكتابان على كبرهما وهو فصل لذكر صفحات نسائية مشرقة في جوانب عدة بمثابة قدوات عملية للمرأة.
(4) انظر تفصيلاً أكثر في رسالة د أحمد أبا بطين، ص 153 244.
(5) لمعرفة تفاصيل الخطوات العملية للإعداد، انظر رسالة د أبا بطين، ص 245 298.
(6) انظر الميادين مفصّلة، في مشكلات المرأة المسلمة المعاصرة، ص 432 459.
(7) انظر: المصدر السابق، ص 460- 520.(117/24)
دراسات دعوية
الفرار إلى الله.. حقيقته والسبيل إليه [*]
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
إن الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه، أما بعد:
فإن الناظر اليوم بعين البصر والبصيرة في واقع الأمة الإسلامية وما حل بها
من مصائب وويلات وفتن عظيمة على مستوى كثير من الأفراد والمجتمعات ليأخذ
به الأسى والتوجع مأخذاً بعيداً حتى إن اليأس ليوشك أن يحيط به لولا عظيم الأمل
في وعد الله عز وجل على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه:
(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر
الله وهم كذلك) [1] . ومما يُذهب اليأس ويعزي النفوس أيضاً معرفة المسلم بسنن
الله عز وجل، في عباده، وإدراك أن ما أصابنا من المصائب والفتن العظيمة إنما
هو من عند أنفسنا، وبسبب ذنوبنا، وبما طرأ على حياتنا من بُعد عن الله عز
وجل، ونسيان للآخرة، وانغماس في الملذات، وإقبال على الدنيا والجري وراءها
والانغماس في متاعها، مما انتشر بسببه كثير من المعاصي والفتن التي انجرف
فيها الكثير إلا من شاء الله.
وما دام أن الداء قد عرف والمرض قد شُخّص فلا يبقى أمام من ينشد النجاة
لنفسه ولأمته إلا مباشرة العلاج؛ وذلك بالفرار إلى الله عز وجل، والإنابة إليه،
والاعتصام به سبحانه كما أمر في كتابه العزيز بقوله: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم
مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] [الذاريات: 50] ، وهذا الفرار يعني ترك أسباب سخطه إلى
أسباب مرضاته، والفرار من عقوبته إلى معافاته، ومنه إليه سبحانه كما جاء ذلك
في دعاء سيد المرسلين والمتقين -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (اللهم إني
أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) [2] .
من أجل ذلك جاءت فكرة الاهتمام بهذه القضية المهمة من الوقفات التربوية
القرآنية، وعلى هدي من تلك الآية الكريمة. ودافعي لذلك أسباب لعل من أهمها:
1- انفتاح الدنيا الشديد، وتغلب الجانب المادي على حياة أكثر الناس وما
ترتب على ذلك من لهث وتكالب على حطامها دون تمييز بين حلال وحرام،
وطيب وخبيث؛ فحصل التنافس الشديد على حطامها، وصار الحب والبغض من
أجلها، بل والقتال عليها. نسأل الله السلامة.
وحصلت الغفلة الشديدة عن الآخرة والغاية التي من أجلها خلقنا، وتحولت
هذه الدنيا الفانية من كونها خادمة ومملوكة إلى أن تكون مالكة مخدومة. لذا فمن
موجبات النصيحة التحذير من فتنة الدنيا وغرورها، والفرار منها إلى الله عز وجل
والدار الآخرة، وتنبيه الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد للرحيل إلى دار البقاء
والحياة السرمدية.
2- ظهور المنكرات في أغلب البلدان، وانتشار الفساد بشكل ينذر بالخطر
والعقوبة إن لم يتدارك الله عز وجل عباده ويرحمهم بالرجوع إليه وإحياء شعيرة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك ببعث الناصرين لدينه والصابرين على
ما أصابهم في ذلك ابتغاء رضوان الله عز وجل.
3- ظهور الفتن المتلاطمة في هذا الزمان والتي يرقق بعضها بعضاً، ورؤية
المتساقطين فيها ما بين هالك فيها بقلبه أو بلسانه أو بيده؛ حتى أصبح المسلم يخشى
على نفسه في أي لحظة أن يزل فيها ويسقط، وصار هجيراه قولَ: (ربّ سلّمْ سلّمْ)
و [لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلاَّ مَن رَّحِمَ] [هود: 43] وغدت هذه الفتن من
الكثرة بحيث أصبح من يريد لنفسه النجاة لا يدري بأيها يبدأ بالمقاومة، أم مِن أيها
يفر إلى الله عز وجل: أمِن فتنة الدنيا وزينتها ومناصبها، أم من الفتنة بالعلم وآفاته
ومبطلاته، أم من فتنة البدع والمعاصي التي طمت وعمت، أم من الفتنة العمياء
التي تدور رحاها اليوم بين المسلمين حيث دب فينا داء الأمم من الفرقة والشحناء
والأهواء والحزبيات الكريهة، حتى صار كل حزب بما لديهم فرحين؟ وإن مما
يزيد هذه الفتنة عمًى وشدة أنها في صفوف الطائفة المنصورة: طائفة أهل السنة
والجماعة. وإن لم يتداركنا الله برحمته، ويسعى المخلصون من أهل السنة في
إخماد هذه الفتنة فإن أمام الأمة ليلَ فتنةٍ طويلاً ثقيلاً يفرح به أعداء الإسلام
ويستبشرون بذلك في مزيد من التسلط والاستعلاء. ولعل في طرح هذا الموضوع
إسهاماً متواضعاً في التماس أسباب النجاة من هذه الفتنة الصماء والداهية الدهماء،
وغيرها من الفتن.
4- الغربة الشديدة على الإسلام وأهله في أكثر بلدان المسلمين، حيث نُحّيَ
شرع الله، وتسلط الأعداء على أهل الغربة بالنكال والأذى؛ فقلّ النصير والمعين،
ونجم النفاق؛ حتى استوحش أهل الغربة من هذه الحال؛ فكان لا بد من التواصي
معهم على الحق والصبر، لعل الله عز وجل، أن يثبت القلوب، وينجي من الفتن، ويكشف الكربة، وينصر حزبه المؤمنين.
5- التأكيد على الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد -صلى الله
عليه وسلم- في التماس سبل النجاة من الفتن والمهلكات، ولفت الأنظار إليهما بعد
أن ابتعد كثير من الناس عنهما، والتأكيد أنه ما من خير إلا دلاّ عليه، وما من شر
إلا حذّرا منه. قال تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ] [الأنعام: 38] ، كما
أن السنة النبوية ما تركت من فتنة ولا شر يأتي على هذه الأمة إلى قيام الساعة إلا
وألمحت إليه، وحذرت منه، وحددت سبيل النجاة منه؛ فلا عذر لنا في ترك ما
فيه حياتنا وسبيل نجاتنا: كتابِ الله عز وجل وسنةِ نبيه.
وشيء آخر يتعلق بهذا الأمر ألا وهو لفت الأنظار إلى ذلك الانقياد العظيم من
سلفنا الصالح لهدي الكتاب والسنة في الفرار من الشرور والفتن وضرورة الاطلاع
الدائم على تلك المواقف العملية الموفقة من سلفنا الصالح إزاء الفتن، والزوابع،
وضرورة الاقتداء بهم في تلك المواقف النبيلة المهتدية بالكتاب والسنة، وهذا ما
سيرد ذكره في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وقفة مع تفسير قوله تعالى: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ] :
قال الله عز وجل في سورة الذاريات: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ
مُّبِينٌ] [الذاريات: 50] يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: ... لما تقدم ما جرى من تكذيب الأمم لأنبيائهم وإهلاكهم؛ لذلك قال الله تعالى ...
لنبيه: قل لهم يا محمد؛ أي قل لقومك: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ]
أي فروا من معاصيه إلى طاعته.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى معلقاً على الآية نفسها:
(فلما دعا العباد إلى النظر إلى آياته الموجبة لخشيته، والإنابة إليه، أمر بما
هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه. أي: الفرار مما يكرهه الله، ظاهراً
وباطناً؛ إلى ما يحبه، ظاهراً وباطناً، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى
الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى الذكر. فمن استكمل هذه
الأمور؛ فقد استكمل الدين كله، وزال عنه المرهوب، وحصل له غاية المراد
والمطلوب) .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (منزلة الفرار) :
(قال الله تعالى: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ] فحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى
شيء. وهو نوعان:
فرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل. وفرار الأشقياء: الفرار منه لا
إليه) [3] .
وأغلب أقوال المفسرين لا تخرج عن تلك المعاني السابقة في تفسير الآية،
فكلها ترجع إلى معنى واحد في أن المقصود هو: الفرار من المعصية إلى الطاعة؛
أي: الفرار من أسباب غضب الله تعالى إلى أسباب رحمته. والمراد منه الفرار
من غضب الله عز وجل وما يترتب عليه من العقوبة، إلى رحمته وما يترتب عليها
من المعافاة.
ومن الآيات التي تدخل في معنى الفرار واللجوء إلى الله عز وجل:
- قوله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: -
[حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن
لاَّ مَلْجَأََ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ] [التوبة: 118] .
· وقوله تعالى عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: [وَقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ
إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] [الصافات: 99] .
· وقوله تعالى: [وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] [آل عمران: 133] .
فاللجوء إليه سبحانه والذهاب والهجرة إليه، والمسارعة إلى مغفرته وجناته:
كلها من معاني الفرار والهجرة إليه سبحانه؛ وذلك بتوحيده والسعي إلى مرضاته
وجنته هرباً من سخطه وعقوبته؛ وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
(وله في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل
والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجأ والافتقار
في كل نفس إليه. وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث
تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته) [4] . 1هـ.
ومن الأحاديث الواردة: في معنى الفرار إلى الله عز وجل واللجوء إليه:
قوله: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك،
وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) [5] .
ومنها أيضاً: ما رواه الإمام البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه عن
أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله: (يوشك أن يكون
خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) [6] .
وسيأتي شرح الحديث عند الكلام عن العزلة وضوابطها إن شاء الله تعالى.
الفتن وأسباب السقوط فيها:
وقوع الفتن سنة ربانية لا تتبدل كما في قوله تعالى: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن
يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ] [العنكبوت: 2] . وقد كتبها الله عز وجل
على عباده لحكم عظيمة: منها تميز المؤمنين من غيرهم، ومنها تكفير السيئات
ورفع الدرجات، ومنها غير ذلك مما لا نعلمه. فعن حذيفة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (تُعرض الفتن على القلوب
كالحصير عوداً عوداً؛ فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها
نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة
ما دامت السموات والأرض، والآخر مرباداً، كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا
ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) [7] . والحديث عن الفتن وأسبابها يتطلب إفراد
كلمة (الفتن) بالتعريف والشرح، وتوضيح الفرق بين مدلولاتها.
(فالفتن) : وهي بكسر الفاء وفتح التاء، جمع فتنة، قال الأزهري: جماع
معنى الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان، وأصلها مأخوذ من قولك: (فتنت
الفضة والذهب) أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد، ومن هذا قول الله عز وجل: [يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ] [الذاريات: 13] .
أي يحرقون بالنار، وقال ابن الأنباري: فتنت فلانة فلاناً، قال بعضهم:
أمالته.. قال تعالى: [وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ] [الإسراء: 73] أي يميلونك ...
فتنت الرجل عن رأيه أي أزلته عما كان عليه.... والفتنة: الإثم في قوله تعالى:
[وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا] [التوبة: 49] وأما قول
النبي: (إني أرى الفتن خلال بيوتكم) [8] فإنه يكون القتل والحروب والاختلاف
الذي يكون بين فرق المسلمين إذا تحزبوا، ويكون ما يبلون به من زينة الدنيا
وشهوتها فيفتنون بذلك عن الآخرة والعمل لها. والفتنة الإضلال في قوله تعالى: -
[مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ..] [الصافات: 162] يقول ما أنتم بمضلين إلا من أضله
الله.. والفتنة العذاب نحو تعذيب الكفار ضعفة المؤمنين في أول الإسلام ليصدوهم
عن الإيمان، والفتنة الاختبار، والفتنة المحنة، والفتنة المال، والفتنة الأولاد،
والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء، والفتنة الإحراق، وقيل: الفتنة:
الغلو في التأويل المظلم. يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا أي قد غلا في طلبها.
وجماع الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان) [9] اهـ.
مما سبق بيانه يتحصل لدينا أن الفتنة تطلق ويراد منها معان كثيرة تدل على
كل معنى منها، ويعرف حسبما ورد بالسياق والقرائن، ومن هذه المعاني:
1- الابتلاء والامتحان. 2- الميل عن الحق. 3- الإثم.
4- القتل والحرب. 5- الاختلاف والفرقة. 6- الإضلال.
7- الكفر. 8- العذاب، وغير ذلك من المعاني المذمومة.
والآن وبعد أن تبين لنا معنى الفتنة وما يتفرع عنها من المعاني، وبعد أن
تبين لنا خطرها وذم الشرع لها، وجب الحذر منها والهرب والفرار والفزع إلى الله
عز وجل من شرورها. ومما يساعد على البعد عنها والنجاة منها إذا وقعت معرفة
أسبابها والطرق المؤدية لها؛ لأن معرفة أسباب السقوط فيها تعين على النجاة منها
بإذن الله عز وجل.
أسباب السقوط في الفتن:
الأسباب المؤدية إلى ملابسة الفتن والسقوط فيها كثيرة؛ لكنها لا تخرج في
مجموعها عن سببين هامين يرجع إليهما جميع الأسباب. وقد ذكر هذين السببين
الإمامان الجليلان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله تعالى، وعبرا عن ذلك
بأسلوبين مختلفين لفظاً لكنهما متفقان في المعنى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر
بالصبر. فالفتنة إما مِنْ تَرْك الحق، وإما من ترك الصبر) [10] .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (الفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهي
أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبدِ. وقد ينفردُ بإحداهما) .
وهما ما ذكره شيخ الإسلام نفسه من الأسباب. فالشبهة إنما تنشأ من ترك
الحق والجهل به، بينما تنشأ الشهوة من ترك الصبر أو ضعفه.
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك
فسادُ القصد، وحصول الهوى.
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فَهْمٍ فاسدٍ، وتارةً من نقلٍ كاذب، وتارةً من حق
ثابت خَفيَ على الرجل فلم يَظْفر به، وتارةً من غرض فاسد وهوى مُتبع، فهي من
عمى في البصيرة، وفسادٍ في الإرادة.
وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: [كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ
مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ] [التوبة: 69] .
أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها. والخلاق هو النصيب المقدر، ثم
قال: [وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا] [التوبة: 69] فهذا الخوض بالباطل، وهو
الشبهات.
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان، من
الاستمتاع بالخلاق، والخوضِ بالباطل؛ لأنّ فساد الدين إما أن يكون باعتقادِ الباطل
والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.
فالأول: هو البدع وما والاها، وهو فساد من جهة الشبهات. والثاني: فسقُ
الأعمال، وهو فساد من جهة الشهوات.
ولهذا كان السلف يقولون: (احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه
هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه) وكانوا يقولون: (احذروا فتنة العالم الفاجر،
والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون) [11] .
ويمكن تلخيص هذه الأسباب فيما يلي:
1- ترك الحق وعدم السعي للعلم به أو عدم إصابته بسبب شبهة أو تأويل
فاسد؛ ومن هنا تنشأ الفتنة بسبب الجهل أو الفهم الفاسد.
وهذا ما عبر عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: (ترك الحق) ، وعبر
عنه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: (فتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة
العلم) .
2- ترك الصبر: وأصل الفتنة في هذا السبب هو عدم الصبر على الحق؛
فصاحب هذه الفتنة لا ينقصه العلم بالحق بل يعلمه ولا يجهله؛ ولكنه تركه ضعفاً
وشهوة، وهو يعلم من نفسه أنه تارك للحق.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى،،،
__________
(*) توقفنا عن نشر مقتطفات من بحث الكاتب الكريم في وقفاته التربوية القرآنية مع قوله تعالى: [فبهداهم اقتده] بعدما صدر البحث مؤخراً في كتاب، ونواصل مقتطفات أخرى مع بحث الكاتب الجديد: [ففروا إلى الله] وهذه الحلقة الأولى منه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
(1) البخاري (6/632) الفتح، مسلم (13/66) النووي.
(2) أبو داود في الصلاة (1427) والترمذي في الدعوات.
(3) مدارج السالكين: (1/469) .
(4) مقدمة طريق الهجرتين: ص 9 ط دار الحديث.
(5) رواه مسلم (486) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود.
(6) البخاري في كتاب الفتن (7088) .
(7) مسلم: كتاب الإيمان (144) .
(8) البخاري كتاب المناقب (3597) .
(9) تهذيب اللغة (14/297 299) (باختصار) .
(10) الاستقامة (1/39) .
(11) إغاثة اللهفان 1/165-167 (باختصار) .(117/30)