سياسة شرعية
القانون الدولي الإسلامي
(علم السير)
الحلقة الأخيرة
بقلم: عثمان جمعة ضميرية
تطرق الكاتب في الحلقات السابقة إلى أكثر خصائص القانون الدولي الإسلامي وانتهى في الحلقة الماضية بالحديث عن خاصية: أن أحكام السير تخاطب الفرد
والدولة، ويواصل في هذه الحلقة عرض بقية الخصائص.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
خاصية الثبات والمرونة:
تقدم فيما سبق أن أحكام العلاقات الدولية في الإسلام تقوم أساساً على الوحي
(القرآن والسنة) الذي تكفل الله (تعالى) بحفظه، وأن المجتهدين في استنباطهم
للأحكام يتقيدون بالنصوص الشرعية، ويطبقون قواعد الشريعة في الاستنباط،
وهذا يعطي هذه الأحكام صفة الثبات والاستقرار [1] . حتى ولو تغير الحكام أو
اختلفت أنظمة الحكم؛ لأن الأحكام الشرعية لا ترتبط بالهيئة الحاكمة، وإنما ترتبط
بالدين الإسلامي الذي لا يتغير ولا يتبدل، قال (تعالى) : [لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ]
[يونس: 64] ، وقال: [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ العَلِيمُ] [الأنعام: 115] .
أي: لا تبديل لدين الله، وهو خبر بمعنى النهي، أي: لا تبدلوا دين الله [2] .
ونضرب بعض الأمثلة على هذا الثبات في مجال العلاقات الدولية، لبيان ذلك
الأثر الفريد الذي ينشئه ثبات أحكام هذه العلاقات: فمن مبادئ العلاقات الدولية:
احترام الكرامة الإنسانية في السلم والحرب، والحفاظ على حقوق غير المسلمين في
دار الإسلام، والعدالة التي ينبغي أن تتوخاها الحكومة المسلمة وتلتزم بها في
التعامل مع المسلمين وغير المسلمين، والوفاء بالعهود والمواثيق حتى مع الأعداء،
وعدم الغدر بهم حتى ولو غدروا هم بنا، والفضيلة والأخلاق في المعاملات ...
وعالمية الدعوة الإسلامية، وحق المسلمين بل واجبهم في الدعوة إلى دين الله
(تعالى) ، لأن الإسلام رسالة الله الأخيرة لهذه البشرية، فلا بد من إبلاغها لهم،
وحقيقة أن العلاقة التي تربط بين المسلمين هي آصرة العقيدة والإيمان، وأنه لا
ولاء بين المسلمين والمشركين والكفار، وإن كان هذا لا يمنع من البر بهم
والإحسان إليهم في المعاملة، ووجوب إعداد المسلمين للقوة التي يحافظون بها على
كيانهم ويرهبون بها عدوهم، لأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ... إلخ.
ولهذا الثبات فائدة عظمى، لأنه يؤدي إلى اطمئنان الأفراد وأمنهم من
المفاجآت والتقلبات، ووضوح أسس العدالة والنظام للكافة من أهل دار الإسلام في
الدولة الإسلامية والمقيمين الأجانب غير المسلمين.. وهذا كله يؤدي إلى الثقة
والازدهار، وينتج أفضل الظروف للتقدم الاجتماعي والاقتصادي وحسن العلاقات
الدولية وسيادة الأخلاق والآداب والفضيلة بسبب معرفة كل ذي حق حقه، فتمتنع
أسباب الصراع والاستغلال والغدر، وغير ذلك مما يحرض على الرذيلة وانتهاز
الفرص بسبب ضعف القانون والعدالة.
وهذا الثبات أيضاً: يضبط الحركة البشرية والتطورات الحيوية، فلا تمضي
شاردة على غير هدى، كما وقع في الحياة الأوروبية عندما أفلتت من عروة العقيدة، فانتهت تلك النهاية البائسة ذات البريق الخادع الذي يخفي في طياته الشقوة
والحيرة والنكسة والارتكاس، كما أنه يقيم الميزان العدل الثابت الذي يرجع إليه
الإنسان بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجدّ في حياته
من ملابسات وظروف، فيزن ذلك كله بهذا الميزان الثابت. ويعطينا هذا الثبات
مقوّماً للفكر الإنساني، مقوماً منضبطاً بذاته يمكن أن ينضبط به الفكر الإنساني،
فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات.
المرونة والدليل:
إلا أن ثبات الأحكام لا يعني جمود الفقه وعجزه عن مواجهة الوقائع الجديدة
وتلبية حاجات الأمة [3] هذه، فإن في مصادر التشريع الإسلامي مرونة وخصوبة
وسعة تتنافى مع الجمود، فإن أحكام المعاملات والعلاقات الدولية جاءت في القرآن
الكريم بنصوص تدل على أحكام أساسية ومبادئ عامة لا تختلف من بيئة إلى أخرى، وتقتضيها العدالة في كل أمة؛ ليكون أولو الأمر في سعة من أن يفرعوا ويفصلوا
حسبما يلائم حالهم وتقتضيه مصالحهم، من غير أن يصطدموا بحكم تفصيلي شرعه
القرآن، كما أن دلالة النصوص الشرعية ليست محصورة فيما يفهم من العبارة أو
النص فحسب، بل فيما يفهم من روحها ومعقولها، ومن هنا: كانت الدلالة دلالة
منطوق ودلالة مفهوم. كما أن النصوص التشريعية لم ترد بأحكام مجردة من عللها
والمصالح التي شرعت من أجلها، بل جاءت مقترنة بالعلة صراحة أو إشارة، مما
فتح باب القياس أمام المجتهدين، ثم جاء الإجماع، والاجتهاد الجماعي كذلك،
وسائر مصادر التشريع التبعية بما فيها من مرونة وقابلية لتلبية الحاجات ومواجهة
الوقائع والمستجدات؛ لتحكم حياة الناس في كل العصور والأماكن.
ومن الأمثلة على هذه المرونة والحركة في النظام السياسي الإسلامي: شكل
الحكومة الإسلامية، فلم تحصر الشريعة شكل الحكومة في قالب ضيق، وإنما
أفسحت له المجالات الصحيحة المتعددة، واكتفت بمبادئ عامة رحيبة تضبط هذا
الشكل سريع التغير بطبيعته دون أن تحد من حركته الصحيحة، ولعله من أجل ذلك
: تعمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا يحدد أبا بكر (رضي الله عنه) خليفة
له، على الرغم من فضله على سائر الصحابة.
وأيضاً: نجد الأمر نفسه في (الشورى) قاعدة للنظام السياسي الإسلامي، فهي
واجب لا بد من إقامته، وإن كانت طريقتها لم تحددها النصوص الشرعية أو لم
تقصرها على طريقة واحدة لا تتعداها، ليكون في ذلك سعة ومجالاً لاختيار أمثل
الطرق لإقامة الشورى.
كما أن الاجتهاد يحدد للدولة الإسلامية طريقة تعاملها مع الدول الأخرى من
النواحي المالية والاجتماعية والسياسية في حال السلم والحرب ضمن القواعد
الشرعية والأحكام الأساسية الثابتة، والأمثلة على ذلك كثيرة تعز على الحصر.
ومن نافلة القول أن نؤكد على أن هذه المرونة لا تعني بأي حال من الأحوال
خروجاً على حكم شرعي ثابت سواء أكان كليّاً أو جزئيّاً؛ لأنها محكومة بضوابط
دقيقة، حتى لا يؤدي التطور إلى التشويه والتدهور والخروج على أحكام الله التي
يحتاج إليها البشر، فإن المرونة والتطور يختلفان عن الهدم والانطلاق بلا حدود،
الأمر الذي تتخذه بعض الاتجاهات المعاصرة في الحياة الاجتماعية والقانونية [4] .
ومن هنا يمكن أن نصوغ هذه الخاصية بعبارة تجمع الثبات والمرونة في
سياق واحد مع ضابط ذلك وميزانه، فنقول مع الأستاذ سيد قطب (رحمه الله) : إنها
خاصية (الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت) [5] .
أحكام العلاقات الدولية مقيدة بالمشروعية الإسلامية وقائمة على العدل الحقيقي
تتقيد جميع الأحكام بالمشروعية الإسلامية [6] ، التي تتضمن التضامن في
تنفيذ ما أمر الله به وفيما نهى الله عنه، فقد قال الله (تعالى) : [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] ثم قال: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى
الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [ال عمران:
104] .
وقال: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ]
[المائدة: 2] .
ومن هنا: تتميز أحكام العلاقات الدولية عنها في ظل القانون الدولي الحديث، حيث تقوم في الإسلام على هذا التضامن، فإن وحدة الأمة الإسلامية التي تسكن
دار الإسلام إنما تظهر فيها أحكام الشريعة الإسلامية، وهذه الوحدة المتماسكة لا
يجوز أن يقوم بينها وبين غيرها علاقة الحرب إلا لأجل إعلاء كلمة الله (تعالى) ،
فلا يجوز أن تشن على سائر البلاد حرباً بقصد الاغتناء الاقتصادي، أو فتح
الأسواق، أو تأمين المواصلات.. أو غير ذلك، وإنما الهدف الوحيد الذي يسوغ
الحرب هو: الجهاد لإعلاء كلمة الله (تعالى) ، ولذلك: قال (عليه الصلاة والسلام)
وقد سئل عن الرجل: يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في
سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [7] .
وتؤدي هذه المشروعية إلى أن تقدم أحكام العلاقات الدولية على العدل الحقيقي بل تهدف إلى تحقيق أعدل سيرة ممكنة للحاكم المسلم في مجال العلاقات الدولية،
وتتنزه عن اعتبارات الأنانية والظلم والصراع على المصالح الذاتية، وحتى في
المعاملة مع الأعداء: لايجوز أن تحملنا العداوة لهم وبغضهم على أن نتنكب جادة
العدل، فإن شريعة الله (تعالى) هي شرعة الحق والعدل المطلق.
وقد أرست الآيات القرآنية هذا الأصل الكبير، فقال (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ
يَاًمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ
نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً] [النساء: 58] ، وقال (تعالى) : [وَإنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] [المائدة: 42] ، وقال (تعالى)
: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ... [المائدة: 8] .
كما حكت الآيات القرآنية واقعة عملية، حيث تنزلت لتبرئ ساحة يهودي اتهم
بالسرقة، بل لتقيم ميزان العدالة الذي لا يميل مع الهوى ولا مع العصبية،
ويتأرجح مع المودة والشنآن أيّاً كانت الملابسات والأحوال، وأمرت النبي ألا يجادل
عن الذين اتهموا اليهودي بذلك؛ لأنهم يختانون أنفسهم: [إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ
بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ
إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ... ] [8] .
ثم جاء الواقع التاريخي معَلَماً شاهداً صادقاً على ذلك، والأمثلة تعز على
الحصر، حسبنا منها هنا الإشارة إلى ما سبق من حكم القاضي (حاضر بن جميع)
على جيش المسلمين في الخروج من (سمرقند) بعد فتحها دون إنذار، تحقيقاً لهذا
العدل المطلق، وإلى حادثة أخرى فريدة حين ردّ أبو عبيدة (رضي الله عنه) على
أهل الذمة في بلاد الشام ما جبي منهم من الجزية والخراج؛ لأنه كان قد اشترط لهم
أن يمنعهم ويدافع عنهم، وهو لا يقدر على ذلك؛ لما رأى تجمع الروم، وقال لهم:
إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه بلغنا ما جُمِّع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا
أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على
الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قال لهم ذلك، وردوا عليهم
الأموال التي جبوها منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم
يردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لايَدَعوا لنا شيئاً [9] . هذا، بينما
تقوم الدول الاستعمارية في القديم والحديث على (الأنانية) وحب الذات، فتقوم
باستغلال الشعوب الضعيفة واستنزافها، شأنها في ذلك شأن (الأناني) في علاقته مع
الناس، مما يثير الصراع ويفشي الظلم، ويسوغ الغدر، ويبرر الواسطة مهما
كانت بالغاية الأنانية التي تستهدف المصلحة الخاصة مهما كان الضرر الذي تلحقه
بغيرها، وواقع العلاقات الدولية اليوم شاهد ناطق بذلك، وما قضايا المسلمين في
بقاع كثيرة من العالم ببعيدة عنا [*] .
__________
(1) (الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية) ، د/ عابد السفياني، ص 109 110.
(2) انظر (تفسير البغوي) : 6/271، (المحرر الوجيز) لابن عطية: 12/ 259.
(3) وغني عن البيان أن نؤكد هنا: أن الثبات لايعني الجمود الذي قال به شراح القانون الدستوري مثلاً بالنسبة للقواعد الدستورية، لأن لفظ الجمود يلقي ظلالاً كريهة على الأحكام الشرعية، وهي بريئة منها انظر: (المشروعية الإسلامية العليا) د علي جريشة، ص 190 191، وراجع (نظام الحكم الإسلامي) ، د/محمود حلمي، ص 119 123.
(4) انظر بالتفصيل: (المشروعية الإسلامية) ، د مصطفى كمال وصفي، ص 28 31، (التشريع الجنائي الإسلامي) ، عبد القادر عودة: 1/72 73، (خصائص التصور الإسلامي) ، سيد قطب، ص 85 وما بعدها.
(5) (خصائص التصور الإسلامي) ، ص 85 3) (المشروعية الإسلامية العليا) ، د علي جريشة.
(6) المشروعية الإسلامية العليا، د علي جريشة.
(7) أخرجه البخاري في الجهاد، (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) : 6/27 28، ومسلم في الإمارة، باب من قاتل ح/2810: 3/1512 1513.
(8) سورة النساء، الآيات (105 113) انظر القصة في (سنن الترمذي) : 18/395 399 مع (تحفة الأحوذي) للمباركفوري، (تفسير الطبري) 9/183، وانظر: ما كتبه الأستاذ سيد قطب في (الظلال) 2/751 753.
(9) انظر: (الخراج) لأبي يوسف، ص 149 150
(*) نعيد للأذهان بأن هذه الدراسة لمحات ووقفات من دراسة علمية شاملة عن الموضوع للكاتب لم تر النور بعد، شاكرين لفضيلة الكاتب إيثاره لنشرها على صفحاتها، وجزاه الله خير الجزاء.(104/102)
منتدى القراء
شروط قبول الرواية
بقلم:أحمد بن حسن بن علي
بما أن السنة النبوية (على صاحبها أفضل الصلاة والسلام) تُعتبر مصدراً من
مصادر التشريع لهذه الأمة، فمن المعروف أن هذه السنة انتقلت إلينا عن طريق
الرواة؛ فالراوي الثاني يروى عن الأول والثالث عن الثاني.. وهكذا.
وحرصاً على سلامة هذا المصدر: فقد وضع علماؤنا رحمهم الله (تعالى)
شروطاً لهؤلاء الرواة حتى تُقبل روايتهم؛ وقد ذكر هذه الشروط الإمام أبو عمرو
ابن الصلاح، فقال (رحمه الله تعالى) : (أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه
يُشترط فيمن يُحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يروي، وتفصيله: أن يكون
مسلماً، بالغاً، عاقلاً، سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظاً غير مغفل، حافظاً إن حدّث من حفظه، ضابطاً لكتابه إن حدّث من كتابة، وإن كان يحدّث
بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يُحيل المعنى) [1] .
وقال الإمام ابن الأثير الجزري: (شروط من تُقبل روايته أربعة:
الشرط الأول: الإسلام.
الشرط الثاني: التكليف.
الشرط الثالث: العدالة.
الشرط الرابع: الضبط) [2] .
لكن المتأمل لكلام ابن الأثير يجد أن بعض الشروط يُغني عن بعض، فالشرط
الأول والثاني يدخلان ضمن الشرط الثالث وهو العدالة؛ إذ إن الإسلام والتكليف من
شروط العدالة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : (الراوي إما أن تُقبل روايته
مطلقاً، أو بقيد: أما المقبول مطلقاً: فلا بد أن يكون مأموناً من الكذب بالمظنة،
وشرط ذلك: العدالة، وخلوه عن الأغراض والعقائد الفاسدة التي يُظن معها جواز
الوضع، وأن يكون مأمون السهو، بالحفظ والضبط والإتقان، وأما المقيد:
فيختلف باختلاف القرائن، ولكل حديث ذوق، ويختص بنظرٍ ليس للآخر) [3] .
وهذه الشروط التي ذكرها العلماء نجد أنها ترجع إلى شرطين أساسين، هما:
1 - العدالة.
2- الضبط.
فالعدالة هي: ملكة تحمل صاحبها على التقوى واجتناب الأدناس، وما يخل
بالمروءة عند الناس [4] .
والضبط هو: تيقظ الراوي، بألا يكون مغفلاً، حافظاً إن حدث من حفظه،
ضابطاً إن حدث من كتابة [5] .
****
ما أحوجنا عند نقلنا لأي خبر أو موضوع من التثبت من مدى صحة مضمونه
ومدى صدق راويه؛ لأن الملاحظ أن هذا العلم يكاد يكون حكراً على الدراسات
الحديثية فقط، بينما يجب أن يكون منهجاً في التلقي والبحث والتعامل.
ولقد بدأ نفر من العلماء والكتاب تَمَثّل ذلك في رسائل علمية وأبحاث جامعية،
والانطلاق من هذه المبادئ القيمة والسير على منوالها.
فما أجمل أن يكون ذلك منهجاً لنا معشر طلاب العلم في حديثنا ونقلنا وأبحاثنا.
وفقنا الله جميعاً إلى العلم النافع والعمل الصالح.
__________
(1) التقييد والإيضاح، للإمام العراقي، ص 114.
(2) جامع الأصول في أحاديث الرسول، (1/72) .
(3) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (18/47) .
(4) الوسيط، للدكتور أبي شهبة، ص85، ومنهج النقد للدكتور نور الدين عتر، ص 79.
(5) التقييد والإيضاح، للإمام العراقي، ص 114.(104/108)
الورقة الأخيرة
هل حقاً عرفنا يهود؟
بقلم: أحمد العويمر
قد سلط القرآن الكريم الأضواء على اليهود، وكشف حقيقتهم ودخائل أنفسهم،
وكيف يتعاملون مع غيرهم، وحذر منهم ... لكن هل حقّاً عرفنا هؤلاء الناس في
الواقع حق المعرفة، وفهمنا سياساتهم القائمة على المكر والخداع والإفساد في
الأرض والعلو والاستكبار وإيقاد الفتن، وتحريف الكلم عن مواضعه؟ .
حسبنا قول الله (تعالى) : [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا] [المائدة: 82] .
فالموقف من هذه الأمة التي باءت بلعنة الله (تعالى) : [لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ
بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]
[المائدة: 78] ليس مسألة خلافية في المصالح المحدودة، وليس مسألة متوهمة كما
سماها أحدهم (كسر للحاجز النفسي) فقط.
المسألة مع (إخوان القردة والخنازير) هي مسألة عقيدة لا يمكن بحال للمسلم
أن يتساهل فيها، فقد وقفوا وقفاتهم المعروفة من هذا الدين: من الكفر به، ومعاداته
رغم ما قدمه لهم من (إحسان) ، حتى إنهم لولا الله ثم حدب الأمة الإسلامية عليهم
لكانوا أثراً بعد عين؛ لما صب عليهم من عقاب؛ لمواقفهم من كثير من الأمم.
ومع ذلك: فقد وجدنا في كتبهم المحرفة (كالتوراة) والموضوعة (كالتملود) ما
يندى له الجبين من عداء للإنسانية عامة وللإسلام والمسلمين بخاصة، مما لا يتسع
المجال لبيان بعضه، وليس آخره احتلال (أرض الإسراء والمعراج) وتشريد أهلها
وسوم من بقي منهم سوء العذاب.
الغريب أن من قومنا من أسلم القياد لهم، وادعى زوراً وبهتاناً بأنهم (جنحوا
للسلم) فجنح له.. بينما هم محتلون معتدون، ومواقفهم المتطرفة والمتشنجة من
استمرار الاحتلال وبقاء المستعمرات وبقاء المستوطنين هي مواقف تهدد الأمن
والاستقرار في المنطقة كلها.
وها هم بنو يعرب يتداعون على السلام معهم تداعي الفراش على النار.
وها هو (الليكود الحاكم) بغطرسته واستكباره يؤكد منطلقاته المعروفة، وقومنا
مازالوا سادرين في وهم السلام المزعوم، فماذا هم فاعلون يا ترى أمام الحزب
المتطرف سوى المزيد من السقوط، والمزيد من الانحدار.
وها هو (نتنياهو) شامخاً بأنفه أمام ناخبيه، وأمام (الكونجرس (و (إيباك) في
أمريكا، وحينما وجد نوعاً من الرفض لتوجهه جاء لمصر، فأظهر التنازل عن
بعض لاءاته وأصر على بعضها، وفي الوقت نفسه: يرسل مندوباً منه لبعض
الدول العربية؛ ليبقى توجه التطبيع مع (إسرائيل) قائماً.
يا قومنا: لن يوقف الرجل ودولته ومن وراءهما سوى عودتنا إلى الحق،
وصدق منطلقاتنا، ووحدة صفنا، وبث روح الجهاد الحقة في شعوبنا.. وحينها
سيعرفون من هم! .. وبأي دينٍ يصطدمون.
فلماذا لا تعطى القوس باريها؟ ! !(104/111)
جمادى الأولى - 1417هـ
أكتوبر - 1996م
(السنة: 11)(105/)
دراسات شرعية
حتى يكون حجنا مبرورا
بقلم: فيصل بن علي البعداني
رتب الله (تعالى) أجراً عظيماً على الحج المبرور، دل عليه رسوله بقوله: ( ... والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [1] .
والحج المبرور: ما توسع فيه العبد بأعمال الخير، إذ معاني البر تعود إلى
معنيين [2] :
1- الإحسان إلى الناس وصلتهم، وضده العقوق، وفي الحديث: (البر:
حسن الخلق) [3] ، وفي المسند عن جابر مرفوعاً: (قالوا: وما بر الحج يا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام) [4] .
2- التوسع في الطاعات وخصال التقوى، وضده الإثم؛ ومنه قوله (تعالى) :
[أََتَاًمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أََنفُسَكُمْ] [البقرة: 44] ، قال القرطبي: (الأقوال
التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي: أنه الحج الذي وفيت أحكامه،
ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل) [5] .
وعلى ذلك: فليس كل من حج البيت كان حجه مبروراً، بل الأمر كما قال
ابن عمر (رضي الله عنهما) لمجاهد حين قال: (ما أكثر الحاج) قال: (ما أقلهم،
ولكن قل: ما أكثر الركب) [6] .
ومن أجل تفاوت الناس في الحج، فسأحاول في هذه السطور ذكر أبرز
الأمور التي تعين الحاج، ليكون حجه مبروراً بإذن الله، ومن ذلك:
أولاً: الإخلاص والمتابعة:
لا صحة ولا قبول للأعمال إلا بما يلي:
1- الإخلاص لله (تعالى) وإرادة وجهه وحده، قال الله (تعالى) في الحديث
القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري
تركته وشركه) [7] ، وقد كان يحذر من ضد ذلك، فيدعو مستعيناً بربه قائلاً:
(اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة) [8] .
2- متابعة العبد للنبي -صلى الله عليه وسلم- في كافة أعماله، قال: (من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [9] ؛ ولذا: كان يقول في الحج: (لتأخذوا
مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) [10] ، ولقد استوعب
الصحابة (رضي الله عنهم) ذلك الأمر، فقال الفاروق حين قبّل الحجر: (أما والله
إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- استلمك ما استلمتك، فاستلمه) [11] .
ثانياً: الاستعداد للحج:
تهيئة العبد نفسه واستعداده للحج من أهم الأمور التي تعينه على أداء النسك
على الوجه المشروع، وتجعل حجه مبروراً، ولعل أبرز الجوانب التي ينبغي أن
يستعد بها المرء للحج ما يلي:
1- إصلاح العبد ما بينه وبين الله (تعالى) بالتوبة النصوح بشروطها
المعروفة.
2- الاستعانة بالله (تعالى) وطلب توفيقه، وإظهار الافتقار إليه، والخوف
منه، والرجاء فيه، إذ إنه مع أهمية الاستعداد المادي للحج إلا أنه لا يجوز للمرء
الركون إلى الوسائل المادية وحدها.
3- تحلل العبد من الحقوق والودائع التي لديه، وقضاء الديون أو استئذان من
عُرِف عنه من أصحابها حرص وشدة طلب.
4- كتابة العبد لوصيته؛ إذ السفر مظنة تعرض الإنسان للخطر.
5- إعداد العبد النفقة الكافية لمن يعول إلى وقت رجوعه، ووصيته لهم خيراً، واستخلاف من يقوم بشؤونهم، وذلك حتى يكون همّه متجهاً لأداء النسك.
6- اختيار الراحلة المناسبة، وانتخاب النفقة الطيبة الحلال، لأن النفقة
الحرام من موانع الإجابة، عند الطبراني مرفوعاً: (إذا خرج الرجل حاجّاً بنفقة
طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه من السماء: لبيك
وسعديك؛ زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور، وإذا خرج بالنفقة
الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك، ناداه مناٍد من السماء: لا لبيك ولا
سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور) [12] .
ونحن الآن في زمن تفشت فيه المكاسب الحرام إلا من رحم الله، وكثرت فيه
الأموال المشبوهة، فليتق كلّ عبد ربه، وليتذكر قوله: (إن الله طيب لا يقبل إلا
طيباً) [13] .
ويستحب للعبد الإكثار من التزود بالنفقة الحلال على وجه يمكنه معه من
التوسع في الزاد دون الحاجة إلى الناس، والرفق بالضعفاء.
7- اختيار الرفقة الصالحة التي تعينه إذا ضعف، وتذكره إذا نسي، وتعلمه
إذا جهل، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر. وليحذر العبد من صحبة صنفين:
الصحبة الفاسدة التي تقود إلى المعصية، وتعين على الباطل.
صحبة البطالين الذين يقضون أوقاتهم فيما لا يعود عليهم بالنفع في الآخرة.
8- التفقه في أحكام النسك وآدابه، والتعرف على أحكام السفر، من حيث:
القصر، والجمع، والتيمم، والمسح على الخفين ... إلخ؛ قال: (من يرد الله به
خيراً يفقه في الدين) [14] .
ومما يعين العبد على ذلك: التزود بما يحتاج إليه من كتب أهل العلم
وأشرطتهم، ومصاحبة أهل العلم بالمناسك، وأهل المعرفة بأماكن وأوقات الشعائر.
ثالثاً: استشعار حقيقة الحج وغاياته:
إدراك العبد لحقيقة الحج، والحكم والأسرار التي شرعت الشعائر من أجلها
يهيئه ليكون حجه مبروراً؛ إذ القيام بذلك بمثابة الخشوع في الصلاة، فمن كان فيها
أكثر خشوعاً كانت صلاته أكثر قبولاً، وكذلك الحج: كلما استوعب المرء حقيقة
الحج، وروحه، والحكم والغايات التي شرع من أجلها، واتخذ ذلك وسيلة لتصحيح
عقيدته وسلوكه.. كلما كان حجه أكثر قبولاً وأعظم أجراً واستفادة، ولن يتمكن أحد
من ذلك ما لم يقم بتهيئة نفسه، ويستغرق في التأمل والبحث عن أسرار الحج
وحكمه، أما من لم يكن كذلك، فيخشى أن يكون عمله مزيجاً من السياحة والمتاعب
لا غير.
ولعل من أبرز الحكم والغايات التي ينبغي أن يستشعرها الحاج ما يلي:
1- تحقيق التقوى:
الغاية من الحج تحقيق التقوى، ولذا: نجد ارتباط التقوى بالحج في آيات
الحج بشكل واضح جلي، قال (تعالى) : [وَأََتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ.... وَاتَّقُوا اللَّهَ..] [البقرة: 196] [وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..] [البقرة: 197] .
2- تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها:
يرتكز الحج على تجريد النية لله (تعالى) وإرادته بالعمل دون سواه، قال
(تعالى) [وَأََتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ] [البقرة: 196] ، وقال (عز وجل) في ثنايا
آيات الحج: [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ..] [الحج: 30، 31] : وفي التلبية (وهي شعار الحج) جاء
إفراد الله بالنسك صريحاً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد
والنعمة لك والملك، لا شريك لك) [15] ، كما أن الحج يرتكز على توحيد المتابعة
للرسول وعدم الوقوع في شرك الطاعة، إذ لا مجال للتنسك في الشعيرة بالأهواء
والعوائد، بل لا بد من التأسي به والأخذ عنه.
3- تعظيم شعائر الله وحرماته:
من أبرز غايات الحج وحكمه تربية العبد على استحسان شعائر الله وحرماته،
وإجلالها ومحبتها، والتحرج من المساس بها أو هتكها، قال الله (تعالى) في ثنايا
آيات الحج: [ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ] [الحج: 32] ..
4- التربية على الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة، ومن ذلك:
(أ) العفة: قال الله (تعالى) : [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ
فَلا رَفَثَ..] [البقرة: 197] والرفث: هو الجماع ودواعيه من القول والفعل.
(ب) كظم الغيظ وترك الجدال والمخاصمة: قال الله (عز وجل) : [ولا
جِدَالَ فِي الحَجِ] [البقرة: 197] ، قال عطاء: (والجدال: أن تجادل صاحبك حتى
تغضبه ويغضبك، والأظهر أن المراد بنفي الجدال في الآية: (نفي جنس) مراد به
المبالغة في النهي عن الجدال المذموم فقط، وهو النزاع والمخاصمة في غير فائدة
شرعية.
(ج) الرفق واللين والسكينة: قال عندما سمع زجراً شديداً وضرباً وصوتاً
للإبل في الدفع من مزدلفة: (أيها الناس: عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع
(يعني الإسراع) [16] .
(د) إنكار الذات والاندماج في المجموع: في الحج ينكر العبد ذاته ويتجرد
عما يستطيع أن يخص نفسه به، ويندمج مع إخوانه الحجيج في اللباس والهتاف
والتنقل والعمل.
(هـ) التربية على تحمل تبعة الخطأ: ويظهر ذلك جليًّا في الفدية الواجبة على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام عمداً، وعلى من أخطأ الوقوف بعرفات، أو دفع إلى مزدلفة قبل غروب الشمس ... إلخ.
(و) التربية على التواضع: ويظهر ذلك جليّاً في الوحدة بين جميع الحجيج
في الشعائر والمشاعر، وإلغاء أثر الفوارق المادية بينهم من لغة ودم ومال ... إلخ،
وقد كان من خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: (يا أيها الناس:
ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي
على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) [17] .
(ز) التربية على الصبر بأنواعه: حيث يلجم العبد نفسه عن الشهوات بترك
محظورات الإحرام، ويمنعها عن بعض المباحات (في غير الإحرام) ، ويعرضها
للضنك والتعب في سبيل امتثال أوامر الله بأداء النسك وإتمامه؛ فيكون ذلك دافعاً
إلى ترك المعاصي، وامتثال الطاعات، وتحمل الأذى في سبيل ذلك بعد الحج.
ح) البذل والسخاء: وهذا واضح في تحمل العبد لنفقات الحج.
5- التذكير باليوم الآخر:
يُذكّر الحج العبد باليوم الآخر وما فيه من مواقف وأهوال بشكل واضح جلي،
ومن ذلك:
* خروجه من بلده ومفارقته لأهله: يذكره بمفارقته لهم حال خروجه من الدنيا
إلى الآخرة.
* التجرد من المخيط والخروج من الزينة: يذكره بالكفن وخروج العباد من
قبورهم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً.
* الترحال والتعب: يذكرانه بالضيق والضنك في عرصات القيامة، حتى إن
من العباد من يلجمه العرق يومئذ إلجاماً.
6- التربية على الاستسلام والخضوع لله (تعالى) :
يتربى العبد في الحج على الاستسلام والانقياد والخضوع والطاعة المطلقة لله
رب العالمين، سواء في أعمال الحج نفسها، من: التجرد من المخيط، والخروج
من الزينة، والطواف، والسعي، والوقوف، والرمي، والمبيت، والحلق (أو
التقصير (ونحو ذلك من الأمور التي قد لا تكون جلية المعنى، بل قد تكون إلى
الأمر المجرد الذي ليس فيه لنفس العبد حظ ورغبة ظاهرة، أو فيما تحمله تلك
الأعمال في طياتها من ذكريات قديمة من عهد إبراهيم (عليه السلام) ، وما تلاه من
استسلام وخضوع، وإيثار لمحاب الله (تعالى) ، ومرضاته على شهوات النفس وأهوائها.
7- تعميق الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية:
يجتمع الحجاج على اختلاف بينهم في اللسان والألوان والأوطان والأعراق في
مكان واحد، وزمان واحد، بمظهر واحد، وهتاف واحد، لهدف واحد، هو:
الإيمان بالله (تعالى) ، والامتثال لأمره، والاجتناب لمعصيته، فتتعمق بذلك المحبة
بينهم، فيكون ذلك دافعاً لهم إلى التعارف، والتعاون، والتفكير، والتناصح،
وتبادل الخبرات والتجارب، ومشجعاً لهم للقيام بأمر هذا الدين الذي جمعهم،
والعمل على الرفع من شأنه.
8- ربط الحجيج بأسلافهم:
تحمل أعمال الحج في طياتها ذكريات قديمة: من هجرة إبراهيم (عليه
السلام) وزوجه وابنه الرضيع إلى الحجاز، وقصته حين أُمر بذبح ابنه، وبنائه
للبيت، وأذانه في الناس بالحج حتى مبعث نبينا (محمد) ، والتذكير بحجة الوداع
معه حيث حج معه ما يربو على مئة ألف صحابي، وقال لهم: (خذوا عني
مناسككم) ، ثم توالت العصور الإسلامية إلى وقتنا الحاضر حيث تربو أعداد الحجيج
على أكثر من ألفي ألف من المسلمين؛ مما يجعل الحاج يتذكر تلك القرون ممن شهد
أرض المشاعر قبله، ويتأمل الصراع العقدي الذي جرى بين الموحدين والمشركين
فيها، وما بذله الموحدون من تضحية بالأنفس ومتع الحياة من أهل ومال وجاه،
وما قام به المشركون من عناد وبغي ودفاع عن مصالح أنفسهم وشهواتها؛ ليدرك
أسباب هلاك من هلك ونجاة من نجا، فيحرص على الأخذ بأسباب النجاة، ويعد
نفسه امتداداً للناجين من الأنبياء والصالحين، ويحذر من أسباب الهلاك، ويعد نفسه
عدوًّا للمجرمين، ويستيقن أن العاقبة للمتقين، ويرى بمضي من حج من تلك
الأقوام إلى ربهم أن مصير الجميع واحد، وأنهم كما رحلوا فسيرحل هو، فيعتصم
لكي ينجو ويسلم بين يدي الله بالتقوى.
9- الإكثار من ذكر الله (تعالى) :
المتأمل في شعائر الحج من تلبية وتكبير وتهليل ودعاء ... إلخ، وفي
نصوص الوحيين التي تتحدث عنه، يجد أن الإكثار من ذكر الله (تعالى) من أبرز
حكم الحج وغاياته، ولعل من تلك النصوص قوله (تعالى) : [فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ
المَشْعَرِ الحَرَامِ] [البقرة: 198] وقوله: (إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا
والمروة، ورمي الجمار: لإقامة ذكر الله في الأرض) [18] .
10- التعود على النظام والتربية على الانضباط:
في الحج قيود وحدود والتزام وهيئات لا يجوز للحاج الإخلال بها، تعوده
حب النظام والمحافظة عليه، وتربيه على الانضباط بامتثال الأمر وترك النهي،
والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جلية.
11- منافع أخرى:
ومنافع أخرى دنيوية وأخروية، فردية وجماعية، تجل عن الحصر، يدل
عليها تنكير المنافع، وإبهامها في قوله (عز وجل) : [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ] ... [الحج: 28] نسأل الله (تعالى) أن يهيء لنا من أمرنا رشداً وأن يكتب لنا منها أوفر الحظ والنصيب.
رابعاً: الحذر من مقارفة المعاصي والوقوع في الأخطاء:
لا يحصل للعبد بر الحج إلا بمجانبة المعاصي والحذر منها، ومع أن مقارفة
الذنوب والمعاصي مَنْهِيّ عنها في كل وقت، إلا أن الله (تعالى) أمر مَن حج بتركها، فقال (عز وجل) : [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِ] [البقرة: 197] وذلك لشرف الزمان وعظمة المكان،
قال (تعالى) : [وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] [الحج: 25] فكيف
يكون جزاء من فعل وقارف؟ !
والمتأمل في واقع الناس في الحج يجد الكثير من المنكرات والأخطاء الناتجة
عن: ضعف الخوف من الله، وعدم مراعاة حرمة الزمان والمكان، الناتجة عن
الجهل بالشرع واتباع الأعراف والعوائد، ولعل من أبرز ما يتفشى في الحج من
المنكرات والأخطاء: ارتكاب محظورات الإحرام عمداً بغير عذر وأذية المسلمين
بالقول والفعل، وترك التناصح والأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، وتأخير
الصلاة عن وقتها، والغيبة، والنميمة، واللغو، والجدال، وقيل وقال، والإسراف
أو التقتير في النفقة، والعبث بالأطعمة، وسوء الخلق، والتهاون في الذنوب:
كإطلاق النظر، والاستماع إلى ما لا يحل، ومزاحمة النساء للرجال، وكشفهن لما
لا يجوز كشفه، والتعجل أو التأخر عند أداء المناسك في الأوقات الشرعية المحددة
لها، وعدم مراعاة حدود الأمكنة التي لا يجزئ أداء أعمال الحج خارجها ... إلخ.
فما أغبن من بذل نفسه وماله وبدل حاله وجماله فيرجع بالمحرمات وغضب
الرحمن، قال الشاعر:
يحج لكيما يغفر الله ذنبه ... ويرجع وقد حطت عليه ذنوب
خامساً: الاجتهاد في الطاعة واستغلال الوقت:
وردت في ثنايا آيات الحج إشارات تحث العبد على الاستكثار من الطاعات
وقت أداء النسك، ومن ذلك قوله (عز وجل) : [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] [البقرة: 197] ولعل من أهم الطاعات التي ينبغي
أن يستكثر منها العبد ويشغل بها وقته أثناء النسك:
1- أعمال القلوب: من: إخلاص، ومحبة، وتوكل، وخوف، ورجاء،
وتعظيم، وخضوع، وإظهار افتقار، وصدق في الطلب والمسألة، وتوبة، وإنابة، وصبر، ورضا وطمأنينة ... ونحو ذلك من أهم ما ينبغي أن ينشغل به العبد في
حجه، إذ مدار الإسلام عليها، قال ابن القيم: (ومن تأمل الشريعة في مصادرها
ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها) [19] .
2- قراءة القرآن والذكر والاستغفار: وقد أمر الله الحجيج بالذكر والاستغفار
في ثنايا آيات الحج، وقال حاثًّا على التلبية والذكر: (ما أهل مهل ولا كبر مكبر
قط إلا بُشّر) [20] وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل: (أي الحاج
أفضل؟ قال: أكثرهم لله ذكراً) [21] .
3- بذل المعروف: قال ابن رجب: (ومن أجمع خصال البر التي يحتاج
إليها الحاج: ما وصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا جُرَيّ الهجيمي فقال:
(لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن
تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شِسْع النعل، ولو أن تنحي الشيء من طريق
الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك المسلم
فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوَحشان في الأرض) [22] وفي الحديث الآخر: قيل:
يا رسول الله، من أحب الناس إلى الله؟ قال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس) .
4- الدعوة إلى الله (عز وجل) :
ينتشر الجهل بين الحجيج، وتنتشر بدع ومنكرات وأخطاء كثيرة في الحج،
مما يوجب على العلماء والدعاة القيام بما يجب عليهم من إرشاد، ونصح، وتوجيه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي
أحسن، قال شجاع بن الوليد: (كنت أحج مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً) [23] .
5- الدعاء والمسألة:
الحج من مواسم المسألة والدعاء العظيمة التي ينبغي استغلالها والتضرع بين
يدي الله فيها، قال: (خير الدعاء دعاء عرفة) [24] وقال: (الحجاج والعمار وفد
الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم) [25] .
سادساً: الاستقامة.. الاستقامة:
ودليل الحج المبرور استقامة المسلم بعد الحج، ولزومه الطاعة وتركه
للمعصية، قال الحسن البصري: (الحج المبرور: أن يرجع زاهداً في الدنيا،
راغباً في الآخرة، ويشهد لذلك قوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ] [محمد: 17] .
فلتحذر أخي من أن تهدم ما بنيت، وتشتت ما جمعت، وتبدد ما حَصّلت،
فتنتكس بعد الاهتداء، وترتكس بعد النقاء.
وتذكر أن الحج يهدم ما قبله من ذنوب، وأنك بحجك ترجع كيوم ولدتك أمك،
فإياك أن تقابل الله بعد هذه النعمة بالمعصية، وافتح صفحة جديدة من حياتك مع
الله (عز وجل) ملؤها الطاعة، وعنوانها الاستقامة.. والله يتولاني وإياك.
__________
(1) البخاري مع الفتح، ح/1773.
(2) انظر: لطائف المعارف، ص410.
(3) مسلم، ح/2553.
(4) انظر: الفتح، ج4 ص446.
(5) فتح الباري، ج3 ص446.
(6) مصنف عبد الرزاق، ح/8836، وانظر: أنوار الحج للقاري ص55.
(7) مسلم، ح/2985.
(8) ابن ماجة، ح/2890، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة ح/1718.
(9) مسلم، ح/1718.
(10) مسلم، ح/1297.
(11) البخاري مع الفتح، ح/1610.
(12) المعجم الأوسط للطبراني، ح/5224، وجاء في مجمع الزوائد: (وفيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف) (ج10 ص 292) .
(13) مسلم، ج2ص703.
(14) البخاري مع الفتح، ح/71.
(15) البخاري مع الفتح، ح/1549.
(16) البخاري، ح/1671.
(17) انظر: لطائف المعارف، ص411.
(18) الترمذي، ح/902.
(19) بدائع الفوائد، ج3 ص330.
(20) المعجم الأوسط للطبراني، ح/7775، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/5569.
(21) المسند، ج3 ص438، وهو ضعيف.
(22) لطائف المعارف، ص411.
(23) سير أعلام النبلاء، ج 7 ص259.
(24) الترمذي: ح/3585، وانظر: صحيح سنن الترمذي، ح/837، والجواب الكافي، ص101.
(25) انظر: صحيح الجامع، ح/3173، وقال الألباني: حسن.(105/4)
كلمة صغيرة
الموضوعية الضائعة
الصحوة الإسلامية التي تعني العودة إلى الإسلام عقيدة ومنهج حياة ظاهرة
ملموسة لكل منصف، غير أن أعداء هذا الدين يتجاهلونها وينفرون منها عن حقد
وبغض؛ لما يحمله المنتمون لها من تصور عقدي يرفضون معه كل الأطاريح
المنحرفة، وعلى رأسها: التوجهات العلمانية من يسارية ويمينية، والعجيب: أن
المنحى العلماني بلغ به التطرف في الرأي: أن يُدّعى ظلماً وعدواناً بأن كل منتمٍ
لهذه الصحوة كائناً من كان فهو متطرف وإرهابي، ومن هذا المنطلق: نرى أن
الموقف المتشنج والعدائي لهذه الصحوة ينبثق من ذلك التصور الظالم من مثل:
(فرج فودة) و (فؤاد زكريا) و (سعيد العشماوي) وأضرابهم، الذين يتعاونون كما
هو واضح مع الحاكمين بأمرهم لحرب هذه الصحوة ومحاولة القضاء عليها.
الأعجب: أن تظهر بوادر موضوعية في الموقف من هذه الصحوة من
مفكرين وكتاب غربيين، منهم على سبيل المثال لا الحصر الباحث الفرنسي:
(فرانسوا بورجا) في كتابه: (الصحوة الإسلامية تجاهنا) ، الذي دعا فيه إلى إعادة
النظر في الآراء المسبقة السلبية والمعادية للصحوة الإسلامية، ومطالبته بفهم
أطاريحها على ضوء استشراف آفاق المستقبل.
أين موضوعية العلمانيين العرب الذين لا يعرفونها إلا حينما يتعرض واحد
منهم للنقد، وحين يحال للمحاكمة لتجاوزه وانحرافه عن الجادة، كما حدث في
محاكمة المدعو نصر أبو زيد؟ ، فهم يريدون إيهام القارئ بأن المذكور صاحب علم
ورأي حر، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، بل هو حاطب ليل، مهما أرادوا أن
يلمعوه.(105/1)
افتتاحية العدد
محاكمة مجرمي الحرب بين (نورمبرج) و (لاهاي)
فعالية الأولى.. وعجز الأخرى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فإن للإنسان حقوقاً معتبرة، جاء بها الإسلام، حيث كفلت الشريعة الإسلامية
له المكانة اللائقة، وحرمت إلحاق الأذى المادي والمعنوي به، وهيأت للجميع
الأمن والطمأنينة والمحافظة على حياتهم ورد أي اعتداء عليهم:
(إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، حرمة يومكم هذا) [أخرجه ابن ماجه،
كتاب المناسك] (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ... ) [اخرجه
الترمذي وابن ماجة، وأحمد في المسند] ، حتى إن الإنسان بإيمانه أعظم حرمة من
بيت الله الحرام: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك ... ) ... [اخرجه ابن ماجة، كتاب الفتن] .
وبقيت حقوق الإنسان المسلم لها قدرها لا يمسها أحد بسوء يوم كان للإسلام
قوته ومكانته، وحينما فرط أكثر المسلمين في مصدر عزتهم نتيجة بعدهم عن دينهم، وتنحيتهم لشريعة ربهم، وأخذهم بالأنظمة والدساتير المستوردة: تحولوا إلى
أتباع، واستبيحت بلدانهم، وانتهكت أعراضهم وصارت دماؤهم أرخص الدماء
على يد المستعمرين وأذنابهم.
ومع ما تعرض له المسلمون في جل البلدان التي احتلها أولئك الأعداء، وما
قاموا به من قتل واعتقال وتهجير إبان استعمارهم: فإن ذلك لم يوقظ إنسانيتهم،
ولم يدفعهم ذلك لإنصاف المسلمين حتى بعد ظهور ما سمي بـ (وثيقة حقوق
الإنسان) بعد نشوء هيئة الأمم المتحدة، ولم يظهر موضوع (محاكمة مجرمي
الحروب) إلا بعد الحرب العالمية الثانية لمحاسبة النازيين الذي أذاقوا دول الغرب
أمرّ العذاب في عنفوان قوتهم إبان حكم هتلر حيث أحيل إلى المحاكمة ثلاثة
وعشرون من كبار قادة الحزب النازي الألماني من المدنيين والعسكريين بعد انتصار
الحلفاء، وتدميرهم ألمانيا، ودخول جيوشهم (برلين) ، وإصرارهم على أن تكون
المحاكمة في مدينة (نورمبرج) مقر الحزب النازي طيلة خمسة وعشرين عاماً،
شهدت صعود وارتقاء الحكم الهتلري، لتشهد هذه المدينة نفسها انهيار النازيين
وسقوطهم، وتمت المحاكمة ابتداء من 21/10/1945م، وانتهت إلى تثبيت التهم
التالية عليهم:
1- التآمر ضد السلام وانتهاك حرمة المعاهدات والاتفاقات الدولية.
2- التواطؤ على ارتكاب جرائم ضد السلام.
3- انتهاك قوانين الحروب وتنفيذ أعمال القتل والتخريب وقتل الرهائن.
4- اقتراف جرائم ضد الإنسانية.
يقول د/ج. م. جلبرت في كتابه (محاكمات نورمبرج) بعد أن ساق التهم آنفة
الذكر: إنه يستنتج من بين السطور تهمة خامسة لكنها في نظر المحكمة على ما
يبدو تهمة أولى تغطي على كل التهم، وهي: مشاركة المتهمين فيما يزعم في
مذابح اليهود في ألمانيا وبولونيا.
واستمرت المحاكمة على أشدها وبدون أي كلل حتى إعلان النطق الأخير
بالحكم في الجلسة الختامية على النحو التالي:
1- الإعدام لأحد عشر متهماً.
2- البراءة لثلاثة منهم.
3- أحكام مختلفة لبقية المتهمين.
ونفذ الإعدام في مساء اليوم نفسه مع الاعتراضات القانونية التي قدمت على
تلك المحاكمة، من حيث التكييف القانوني للمحاكمة، وعدم وجود سوابق لها،
وضرورة أن تكون المحاكمة (عسكرية) .
لقد عانى المسلمون في جل ديار الإسلام مما سمي بـ (الاستعمار) لبلدانهم،
وانتهكت حريات شعوبهم، وسرقت خيرات بلدانهم، وتعرض مجاهدوهم للإعدام
بتهمة المقاومة للمحتلين، ولم تنتهك حرمات أحد مثلما انتهكت حرمات المسلمين
وبلدانهم، و (البوسنة والهرسك) أقرب شاهد ملموس يعرفه القاصي والداني عبر
كل وسائل الإعلام؛ حيث بلغ فيها العدوان الصربي ذروته والاستهتار الدولي
أقصاه حيال تلاعب الصرب بقرارات هيئة الأمم المتحدة وانتهاكها لما سمته
بالمناطق الآمنة، وقيامهم بالإعدامات الجماعية التي يعرفها الجميع.. ولم يُنصَف
المسلمون حتى بعد عقد (اتفاق دايتون) للسلام، الذي ألغى بصورة فعلية قيام دولة
إسلامية في أوروبا، حيث جعل البوسنة اتحاداً مع الكروات، وقبل المسلمون ذلك
على مضض؛ خوفاً من الاستئصال الذي كان يجري بمباركة الهيئة الأممية والدول
الكبرى، ومع أن ذلك الاتفاق تضمن محاكمة مجرمي الحرب في البلقان جميعهم،
إلا أن الأمر استقر على محاكمة زعيمي الصرب: (كرادتيش) و (ميلاديتش) ، وفي
يوم الثلاثاء الموافق 20/12/1416هـ بدأت محاكمة مجرمي حرب البوسنة في
لاهاي (حيث توجد محكمة العدل الدولية) ومن المتوقع استمرارها طويلاً؛ لتتقصى! انتهاكات الصرب بحق المسلمين! ! ، وقد اتخذت إجراءات مبدئية بعزل
المجرمَين الكبيرين من العمل السياسي، وبدأت المحاكمات على استحياء، مع أفراد
من مجرمي الحرب، وبقي الأسبوع الأول حافلاً بنشر الأخبار حول إثبات ونفي
موضوع (استقالة كراديتش) والحقيقة هي: ما قاله نائب الرئيس البوسني:
(أصبحت الأسرة الدولية رهينة كراديتش وقائده العسكري) .
لقد كانت متابعة ومعالجة هيئة الأمم المتحدة لهذه القضية لينة باردة وربما
متواطئة مع استهتارهم بقرارات الهيئة، وتلك الصورة إفراز واضح لازدواجية
المعايير التي تمارسها الهيئة تجاه حقوق المسلمين.
إن المحاكمة لمجرمي الحرب في (نورمبرج) استمرت بكل حماس ومتابعة
جادة، وصدرت القرارات بصورة سريعة وحازمة مع ملاحظاتهم على قانونية
المحاكمة كما سبقت الإشارة إليه، أما محاكمات (لاهاي) الأخيرة لمجرمي حرب
البلقان فقد بدأت على استحياء، وربما تأثر إيقاعها بتهديد الصرب بأنهم سيقتلون
جنود هيئة الأمم المتحدة في حالة إلقاء القبض على زعيمهم وقائده العسكري.
إن القوة والحزم بل الظلم مع المسلمين، والتساهل والاستهتار مع غيرهم:
ظاهرة ملموسة جعلت الهيئة في موقف مشبوه في إجراءاتها، مما يجعلنا غير
متوقعين لأي إنصاف منها لحل قضايا المسلمين.. وسيتضح للجميع أن محاكمة
(لاهاي) مهزلة في بداياتها، وفي أثنائها، وربما في نهاياتها، وهذا ما قد توضحه
الأيام، لأن الهيئة قامت على أساس ظالم، فرق بين الدول، وأوجد (دولاً كبرى)
لها حق النقض لكل ما لا تريده، وهناك أساليب أخرى لتمرير ما تريده تلك الدول
بوسائل الضغوط والتهديد باتخاذ مواقف بعينها لمصالحها.
نحن لا ننتظر الإنصاف من هيئة الأمم المتحدة ولا من منظماتها، لذا لا
نتوقع منها قرارات حازمة سوى ضد المسلمين. بينما يعربد الصهاينة مثلاً ويعتدون
ولا يصدر ضدهم أي قرار بالعقوبات؛ لكننا نذكر أبناء أمتنا بأن عزتهم ومنعتهم لن
تكون إلا بتجمعهم وتعاونهم، وبأن تكون منطلقاتهم هي أصول دينهم الحق بفهم
سلفنا الصالح، وأنهم ما داموا (شذر مذر) فهم عالة على من سواهم، وسيكونون
مُنْتَهَكِين في كرامتهم ومسلوبين في حقوقهم، لأن إذلالنا هدف أعدائنا الذين يعملون
له، كما قال (تعالى) : [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
[البقرة: 120] .(105/4)
دراسات شرعية
الوسائل وأحكامها
في الشريعة الإسلامية
بقلم: د.عبد الله التهامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.. أما
بعد:
فمن القضايا الملحّة: معرفة فقه الوسائل، وأحكام التوصل إلى المقاصد
الشرعية، خاصة مع تكاثر الوسائل في هذا العصر وتجددها بصورة مذهلة أخّاذة،
ويمكن الإشارة إلى أهمية بحث هذا الموضوع في الآتي:
1) أن الوسائل ربع التكليف؛ إذ التكليف إما نواهٍ أو أوامر، فيدخل في
النواهي: المفاسد وأسبابها وهي الذرائع، ويدخل في الأوامر: المصالح وأسبابها
وهي الوسائل.
2) أن في معرفة الوسائل وكيفية الاستفادة منها فتحاً لآفاق الإنتاج والإبداع،
وقبضاً لمعاقد الأمور، واستمساكاً بجادة الطريق، وسيراً على سواء الصراط.
3) أن في العمل بالوسائل المنضبطة بالضوابط الشرعية: راحة للبال،
وطمأنينة للنفس، وابتعاداً عن الهوى وحظوظ النفس، وتجرداً للحق، واتباعاً
للشرع، فيكون العمل بذلك أدعى للصدق والإخلاص، وأقرب لالتماس الأجر
والثواب.
4) بفقه الوسائل يمكن تقدير حجم الخلافات الواقعة في عدد كبير من وسائل
الإصلاح ومناهج التغيير والبناء، ومن ثم: الإجابة على أسئلة يكثر طرحها، مثل: وسائل الدعوة هل هي توقيفية أم اجتهادية؟ وما الفرق بين البدع والوسائل؟
وهل الغاية تبرر الوسيلة؟ .
المسألة الأولى: معنى الوسائل لغة واصطلاحاً:
معنى الوسائل في اللغة: [1]
الوسائل والوُسُل: جمع وسيلة، والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب
به، والوسيلة أخص من الوصيلة لتضمن الوسيلة لمعنى الرغبة.
وتأتي الوسيلة في اللغة لمعانٍ عدة، منها: المنزلة عند الملك، والدرجة،
والقرابة، والرغبة، وتأتي بمعنى السرقة.
معنى الوسائل في اصطلاح الأصوليين:
وللأصوليين في معنى الوسائل اصطلاحان: عام، وخاص: فالوسائل في
الاصطلاح العام هي: الطرق المفضية إلى المصالح والمفاسد،
وبعبارة أخرى: هي الطرق المؤدية إلى المقاصد.
قال القرافي: (وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة
للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل، وهي: الطرق المفضية إليها) [2] .
ويلاحظ في هذا التعريف:
1- اتفاق الاصطلاح العام للوسائل مع المعنى اللغوي.
2- أن الاصطلاح العام للوسائل يطلق في مقابلة المقاصد.
3- يدخل في الوسائل بالاصطلاح العام أمران:
* الطرق المؤدية إلى المصالح، كالأسباب والشروط الشرعية.
* الطرق المؤدية إلى المفاسد، كالحيل الباطلة، والذرائع المفضية إلى
الحرام.
أما الوسائل في اصطلاح الأصوليين الخاص فهي:
(الطرق المفضية إلى تحقيق مصلحة شرعية) .
ويلاحظ في الاصطلاح الخاص للوسائل:
1- أن فيه تقييداً للمعنى اللغوي للوسيلة؛ إذ هو خاص بالوسيلة المؤدية إلى
المصالح دون الوسيلة المؤدية إلى المفاسد.
2 - أن الوسائل بالمعنى الخاص تطلق في مقابل الذرائع بالمعنى الخاص.
3 - أن الوسائل بالمعنى الخاص يدخل فيها كل ما يتوقف عليه تحقيق
المصالح الشرعية وتطبيق الأحكام المرضية، من: لوازم، وشروط، وأسباب،
وانتفاء موانع، وصيغ وألفاظ [3] .
المسألة الثانية: الفرق بين الوسائل والذرائع:
الذرائع كالوسائل لها معنيان عام وخاص.
فالذرائع بالإطلاق العام: كل ما يتذرع به سواء إلى المصالح أو إلى المفاسد [4] .
والذرائع بهذا الإطلاق تتفق مع الوسائل في الإطلاق العام، ويرجع ذلك إلى
اتفاق اللفظتين في المعنى اللغوي؛ إذ الذريعة والوسيلة لغةً بمعنى ما يتوصل به
إلى الشيء.
أما الذرائع في الاصطلاح الخاص فهي: الطرق المفضية إلى المفاسد.
ومعنى قاعدة سد الذرائع [5] : أن الفعل المباح إذا كان ذريعة إلى محرم
فالشارع يحرم هذه الذريعة وإن لم يُقصد بها المحرم؛ لكونها مفضية إليه.
قال ابن تيمية: (والذريعة: ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت
في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم
يكن فيها مفسدة ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى
فعل المحرم) [6] .
ولمنع الذريعة قيود ثلاثة [7] :
أ- أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة.
ب- أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه.
ج- أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة غالباً.
مثال ذلك: أن الله نهى عن سب آلهة الكفار مع كونه من مقتضيات الإيمان
بألوهيته (سبحانه) ، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله (سبحانه وتعالى)
عَدْواً وكفراً على وجه المقابلة، قال (تعالى) : [وَلا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] [الأنعام: 108] .
وقاعدة سد الذرائع يقابلها على وجه الدقة قاعدة فتح الذرائع، وهي: طلب
تحصيل الوسائل المؤدية إلى المصالح.
وبذلك: يتبين أن الذرائع في الاصطلاح الخاص تقابل الوسائل في
الاصطلاح الخاص [8] ، فالذرائع هي طرق الشر والفساد، والوسائل هي طرق
الخير والصلاح.
والمطلوب شرعاً في الذرائع: سدها ومنعها؛ سعياً لمنع المفاسد وإبطالها.
كما أن المطلوب بقاعدة سد الذرائع: إبطال الحيل [9] ؛ إذ الحيل ذرائع
يتوصل بها إلى الحرام.
قال ابن القيم: (وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة؛ فإن
الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة.
فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم، إلى من يعمل في
التوصل إليه؟) [10] .
والحيل: منها ما هو جائز بل واجب، ومنها ما هو محرم، وهو الغالب في
عرف الفقهاء.
قال ابن القيم: (فالحيلة جنس، تحته: التوصل إلى فعل الواجب، وترك
الحرام، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته: التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات، ولما قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله
بأدنى الحيل) [11] غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم.
وكما يذم الناس أرباب الحيل فهم يذمون أيضاً العاجز الذي لا حيلة عنده؛
لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه.
فالأول: ماكر مخادع، والثاني: عاجز مفرط، والممدوح غيرهما، وهو من
له خبرة بطرق الخير والشر خفيّها وظاهرها؛ فيحسن التوصل إلى مقاصده
المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل، ويعرف طرق الشر الظاهرة
والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به، فيحترز منها، ولا يفعلها، ولا
يدل عليها، وهذه كانت حالات سادات الصحابة (رضي الله عنهم) [12] .
والمقصود بالحيل التي يتوصل بها إلى المقاصد المحمودة: الوسائل
المنضبطة بالضوابط الشرعية.
أما التحيل الممنوع فهو: (أن يقصد حل ما حرمه الشارع، أو سقوط ما
أوجبه، بأن يأتي بسببٍ نَصَبَه الشارع سبباً إلى أمر مباح مقصود؛ فيجعله المحتال
سبباً إلى أمر محرم مقصود اجتنابه) [13] .
مثال ذلك: أن بني إسرائيل لما حُرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت نصبوا
البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في
الكثرة نشبت بتلك الحبائل، فلما انقضى يوم السبت أخذوها؛ فمسخهم الله إلى
صورة القردة [14] ، قال (تعالى) : [وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ
إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَاًتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَاًتِيهِمْ
كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] [الأعراف: 163] .
جدول يبين أوجه الاتفاق والافتراق بين الوسائل والذرائع
--------------------------------------------------------------------------
أوجه الاتفاق أو الافتراق الوسائل الذرائع
-----------------------------------------------------------------------------------------
1- المعنى اللغوي ... كل ما يتوصل به
2- الاصطلاح العام ... الطرق المؤدية إلى المصالح والمفاسد
3- الاصطلاح الخاص الطرق المؤدية إلى المصالح الطرق المؤدية إلى المفاسد
4- المقصد المتوسل إليه مصلحة ... مفسدة
5- حكم العمل بكلٍّ مطلوب ... ممنوع
6- اعتبار النية لابد من القصد إلى ... لا يشترط القصد إلى المفسدة
القصد المتوسل إليه
-----------------------------------------------------------------------------------------
المسألة الثالثة: أقسام الوسائل:
أولاً: تنقسم مطلق الوسائل بالنظر إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار أو بالإلغاء إلى ثلاثة أقسام:
1- وسائل معتبرة شرعاً، وهي: كل ما أمر به في الكتاب أو السنة أمْر
وجوب أو استحباب، وهذه الوسائل كلها مصالح أو أسباب للمصالح لا للمفاسد.
2- وسائل ملغاة شرعاً، وهي: كل ما نهي عنه في الكتاب أو السنة نهي
تحريم أو كراهة، وهذه الوسائل كلها مفاسد أو أسباب للمفاسد لا للمصالح.
قال الشاطبي في بيان هذين القسمين: (فإذن: لا سبب مشروعاً إلا وفيه
مصلحة لأجله شُرع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة: فاعلم أنها ليست ناشئة عن
السبب المشروع.
وأيضاً: فلا سبب ممنوعاً إلا وفيه مفسدة لأجلها مُنع، فإن رأيته وقد انبنى
عليه مصلحة فيما يظهر: فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع.
وإنما ينشأ عن كل واحد منها: ما وُضع له في الشرع إن كان مشروعاً، وما
منع منه إن كان ممنوعاً.
وبيان ذلك: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً لم يقصد به الشارع
إتلاف نفس ولا مال، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق وإخماد
الباطل؛ كالجهاد، ليس مقصوده إتلاف النفوس، بل إعلاء الكلمة؛ لكن يتبعه في
الطريق الإتلاف: من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين
وشهر السلاح وتناول القتال) [15] .
3- وسائل مسكوت عنها، وهي: الوسائل المرسلة، وضابطها: كل ما
سكت عنه الشارع أو أباحه، وهذا القسم من الوسائل هوالمقصود بالبحث في هذا
المقام.
ثانياً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى درجة إفضائها إلى المقصود إلى ما يأتي [16] :
وسائل قطعية الإفضاء، ووسائل غالبة الإفضاء، ووسائل كثيرة الإفضاء،
ووسائل محتملة الإفضاء، ووسائل نادرة الإفضاء.
والمقصود: أن درجة الإفضاء قضية نسبية، تختلف من وسيلة إلى أخرى،
ومن مقصد إلى آخر، وتختلف أيضاً باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمنة،
والأمكنة.
ثالثاً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى تعيّنها أو عدمه في تحقيق المقصد إلى:
1- وسيلة متعينة؛ إذ لا توجد وسائل أخرى يتحقق بها هذا المقصد إلا هذه
الوسيلة فقط؛ فأشبهت هذه الوسيلة في تعيّنها: الواجب المعين والفرض المعين،
وذلك كالسفر إلى مكة لمن أراد الحج بالنسبة إلى البعيد؛ فإنه وسيلة لا بد منها
لتحقيق المقصود وهو الحج.
2- وسيلة غير متعينة؛ يتحقق المقصد بها أو بغيرها من الوسائل، فهذه
الوسيلة أشبهت الواجب المخير، أو المطلق والفرض الكفائي، وذلك من جهة تعدد
الوسائل وتخيّر المكلف ما شاء منها؛ كالسفر إلى مكة للحج بالنسبة إلى البعيد، فإنه
مقصد يتحقق بأكثر من وسيلة: بالسفر برّاً، أو جوّاً، أو بحراً.
رابعاً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى نوعها إلى:
لوازم، وأسباب، وشروط، وانتفاء موانع، ومكملات، وسيأتي الكلام على
هذه الأقسام عند الكلام على مقدمة الواجب.
خامساً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى قربها من المقصد إلى:
1- وسائل إلى المقصود.
2- وسائل إلى وسائل المقصود.
وقد بيّن هذين القسمين العز بن عبد السلام (رحمه الله) ، فقال: (وهذان
قسمان:
أحدهما: وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه؛ كتعريف التوحيد، وصفات
الإله؛ فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد، والتوسل إليه من أفضل الوسائل.
القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة؛ كتعليم أحكام الشرع؛ فإنه وسيلة إلى
العلم بالأحكام، التي هي وسيلة إلى إقامة الطاعات، التي هي وسائل إلى المثوبة
والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد [17] .
وقال في موضع آخر: (والحقوق كلها ضربان: أحدهما: مقاصد، والثاني:
وسائل، ووسائل وسائل) [18] .
إذا علم ذلك: فإن جميع المقدمات والوسائط والتدابير المفضية إلى مقصدٍ ما:
تدخل تحت مسمى الوسائل، ويمكن أن نمثل لذلك بالمسلم الذي وجب عليه الحج
من أهل الصين، فإنه لكي يؤدي فريضة الحج يلزمه مثلاً فعل الآتي: تحصيل
التكاليف المادية الكافية لهذه الرحلة، ثم تسجيل اسمه في قائمة الراغبين في الحج
من وقت مبكر، ثم الحصول على التصريح بالحج من الجهات الرسمية، ثم اختيار
وسيلة السفر ولتكن هي طائرة وحجز مقعد فيها، ثم الاستعداد للسفر بتهيئة لوازم
السفر وأغراضه الخاصة، مع الحرص على الحضور في موعد الانطلاق، وعدم
التأخر، ثم صعود الطائرة، ثم إكمال إجراءات الإقامة عند الوصول ... إلى غير
ذلك.
والحاصل: أن جميع هذه الأعمال التي لا بد من فعلها إما أن تكون وسائل
مباشرة في تحقيق المقصد، أو تكون وسائل غير مباشرة، بل هي تفضي إلى
وسائل وسائل وسائله، والقاعدة: أن وسائل الوسائل وسائل.
المسألة الرابعة: خصائص الوسائل:
لكي تتميز الوسائل عن المقاصد، ولا تلتبس بها: فإن الوسائل تنفرد
بالخصائص التالية:
1- أن كون الشيء وسيلة من الأمور النسبية؛ بمعنى: أن الشيء قد يكون
وسيلة باعتبار، ومقصوداً باعتبار آخر.
قال الشاطبي: (والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن
تكون مقصودة في أنفسها) [19] وذلك كالجهاد؛ فهو وسيلة إلى إعزاز الدين ومحو
الكفر، وهو مقصد يتوسل إليه بالإعداد والاستعداد [20] .
2- أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لذاتها؛ بل هي مقصودة
من حيث كونها محققة لمقصد آخر، والقاعدة: أن الأسباب مطلوبة لأحكامها لا
لأعيانها [21] .
قال الشاطبي: (وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة
لأنفسها، وإنما هي تبع للمقاصد؛ بحيث لو سقطت المقاصد: سقطت الوسائل،
وبحيث لو تُوصل إلى المقاصد دونها لم يُتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم
المقاصد جملة؛ لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث) [22] .
3- أن شرط اعتبار الوسيلة من حيث كونها وسيلة: ألاّ يعود هذا الاعتبار
على المقصد بالبطلان.
مثال ذلك: أن المصلي إذا لم يجد ساتراً صلّى على حالته، وسقط عنه ستر
العورة، وذلك: أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها فلا يصح اعتبارها
عند ذلك، لأمرين [23] :
أ- أن في إبطال الأصل إبطال للتكملة؛ لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع
الموصوف، فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك
ارتفاع الصفة أيضاً، فاعتبار التكملة على هذا الوجه مؤدٍّ إلى عدم اعتبارها، وهذا
محال لايتصور، وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة، واعتبر الأصل من غير مزيد.
ب- أنه لا مقارنة بين مصلحة الأصل ومصلحة تكملته، فلو خُيّرنا بينهما
لكان حصول مصلحة الأصل مع فوات مصلحة التكملة أولى من حصول التكملة
فرضاً مع فوات الأصل.
4- إذا علم أن الوسائل غير مقصودة لذاتها، فإنها إذا بطلت لايلزم من
بطلانها بطلان الأصل؛ كالموصوف مع أوصافه، ومن المعلوم أن الموصوف لا
يرتفع بارتفاع بعض أوصافه.
مثال ذلك: الصلاة إذا بطل منها الذكر والقراءة أو التكبير ... أو غير ذلك
مما لا يعد ركنا لأمر؛ لا يبطل أصل الصلاة إلا إذا كانت الصفة ذاتية، بحيث
صارت جزءاً من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية وقاعدة
من قواعد ذلك الأصل، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده، كما في الركوع
والسجود ونحوهما في الصلاة بالنسبة للقادر عليهما [24] .
5- وعلى العكس مما سبق: فإن الوسائل تسقط بسقوط مقاصدها [25] ؛ إذ
هي بالنسبة للأصل كالصفة مع الموصوف، ولا بقاء للصفة مع ارتفاع الموصوف
[26] .
والقاعدة: أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة من حيث هي
وسيلة إليه [27] .
ويقرب من ذلك قولهم: (الفرع يسقط إذا سقط الأصل) كالحائض؛ لا تقضي
رواتب الصلاة التي فاتتها أيام الحيض [28] .
قال العز بن عبد السلام: (ولا شك بأن الوسائل تختلف بسقوط المقاصد؛
فمن فاتته الجمعة والجماعات أو الغزوات سقط عنه السعي إليها؛ لأنه استفاد
الوجوب من وجوبهن، وكذلك تسقط وسائل المندوبات بسقوطهن؛ لأنها استفادت
الندب منهن) [29] .
6- أن الوسائل أخفض رتبة من المقاصد [30] .
فمن ذلك: قولهم: (مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل أبداً) [31] ،
وقولهم: (التابع لا يتقدم المتبوع) كالإمام مع المأموم [32] .
ولما كانت مرتبة الوسائل أدنى من مرتبة المقاصد حصل التساهل في حكم
الوسائل؛ فمن ذلك: قولهم: (يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد) [33] ،
وقولهم: (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها) [34] ، وقريب منها: (يغتفر
في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً) ، كالصلاة عن الغير: تجوز تبعاً لا قصداً، وذلك في ركعتي الطواف في الحج عن الغير، وكجواز بيع الحمل مع أمه تبعا لا
استقلالاً [35] .
7- أنها مبنية في الحكم عليها بالصحة أو البطلان على الأدلة الكلية والقواعد
العامة؛ كالاستصلاح، وقاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به) ، ومتى شهد للوسيلة دليل
خاص بالاعتبار لم تكن وسيلة مرسلة، بل هي والحالة كذلك مصلحة شرعية،
ومتى شهد للوسيلة دليل خاص بالإلغاء كانت مفسدة أو ذريعة إلى مفسدة. والحاصل: أن الوسائل لا حظّ لها من أدلة الشرع الخاصة.
8- أنها منتشرة واسعة؛ يصعب حصرها، وتتعذر الإحاطة بها، لا سيما مع
تجدد النوازل، واختلاف الأحوال، وتطاول الزمان، فلا بد لها من أصول تجمعها، وضوابط تعتبر بها.
9- أنها محتملة الإفضاء إلى مقاصدها؛ فقد يقطع بإفضائها، وقد يكثر، وقد
يبعد، بل قد يمتنع فيما إذا كانت موهومة، وهذا بخلاف المصالح والمفاسد
الشرعية: فإنها كما تقدم مفضية إلى مقاصدها.
10- أنها قد تكون اجتهادية؛ ذلك أنها في كثير من الأحيان تخضع لآراء
المجتهدين ونظر المكلفين: فما يعتبره بعضهم وسيلة مناسبة قد لا يعتبره بعضهم،
ومهما كان هذا الخلاف واقعاً في دائرة المسائل الاجتهادية فلا تثريب على المختلفين
فيما اختلفوا فيه.
__________
(1) انظر: أساس البلاغة، ص 499، والمفردات، ص 871، والنهاية في غريب الحديث والأثر، 5/185، ولسان العرب، 11/724، 725.
(2) الفروق: 2/32.
(3) انظر: مقاصد الشريعة، لابن عاشور، ص 148، والقواعد والأصول الجامعة، لابن سعدي، ص10، 11.
(4) انظر: شرح تنقيح الفصول، ص 448، 449، والفروق، 3/32، 33.
(5) انظر: إغاثة اللهفان، 1/36 370، وإعلام الموقعين، 3/135 159.
(6) الفتاوى الكبرى: 6/172.
(7) (انظر: المصلحة في الفقه الإسلامي، للدكتور حسين حامد حسان، ص 202.
(8) انظر: شرح تنقيح الفصول، ص 448، والفروق: 2/32، 33.
(9) انظر: الفتاوى الكبرى، 6/5 320، وإغاثة اللهفان: 1/338 360، 2/72 121، وإعلام الموقعين، 3/159 240.
(10) إعلام الموقعين، 3/159.
(11) لم أقف على تخريجه.
(12) إعلام الموقعين، 3/241.
(13) إغاثة اللهفان، 2/80.
(14) انظر: إعلام الموقعين، 3/162، وتفسير ابن كثير، 1/109.
(15) الموافقات، 1/238، 239.
(16) انظر: الموافقات، 2/348، 349، ومقاصد الشريعة، لابن عاشور، ص 86، 87.
(17) قواعد الأحكام، 1/105.
(18) قواعد الأحكام، 1/141.
(19) الموافقات، 1/66.
(20) انظر: قواعد الأحكام، 1/105، 106، شرح تنقيح الفصول 449، والفروق 2/33.
(21) انظر: قواعد الحصيري 449.
(22) انظر: الموافقات 2/212.
(23) الموافقات 2/12-25.
(24) الموافقات 2/20، 21، ومقاصد الشريعة لابن عاشور 148.
(25) وتسقط الوسائل أيضاً إذا تبين عدم إفضاؤها إلى مقاصدها انظر القواعد للمقري 1/242.
(26) إلا إذا كانت هذه الوسيلة مقصداً باعتبار آخر، فإنها لا تسقط من هذه الجهة، وذلك كمن لا شعر له في الحج، فإنه يمر بالموسى على رأسه انظر: قواعد الأحكام ص107، والقواعد للمقري 1/329، وشرح تنقيح الفصول ص 449 والفروق 2/32 والموافقات 2/19، 20.
(27) انظر المصادر السابقة.
(28) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص118، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص121.
(29) قواعد الأحكام، ص107.
(30) انظر شرح تنقيح الفصول ص449، والفروق 2/33.
(31) انظر القواعد للمقري 1/330.
(32) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص119، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص121.
(33) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص158.
(34) انظر المصدر السابق: ص120، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 121.
(35) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي، ص120.(105/8)
دراسات شرعية
تحديد أوقات الصلاة
بقلم: عبد الله الإسماعيل
لقد عظّم الله (جل وعلا) شأن أوقات الصلاة، كما قال (تعالى) : [إنَّ الصَّلاةَ
كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً] [النساء: 103] ؛ ولذا: فإن العاجز عن فعل
بعض شروط الصلاة وواجباتها كالطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، والقيام، والركوع: فإنه يصلي في الوقت على أي حال يستطيعه ولو أمكنه فعلها بعد
الوقت بتمام الشروط والواجبات. وكذا الأمر في صلاة الخوف، بل حتى في حال
القتال والمطاحنة فإنهم يصلون إيماءً مع إمكانهم أن يصلوها تامةً بعد خروج الوقت؛ كل ذلك محافظة على وقت الصلاة [1] .
فإذا انضم إلى ذلك: جهل كثير من المسلمين بأوقات الصلوات الخمس، كان
طرق هذا الموضوع ومدارسته بالغ الأهميّة.
أولاً: وقت صلاة الظهر:
أجمع أهل العلم على أن دخول وقت الظهر بزوال الشمس عن كبد ... السماء [2] .
وينتهي على القول الصحيح إذا صار ظلّ كل شيء مثله سوى ظلّ الزوال؛
لحديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أن جبريل أمّ النبي في يومين، فصلّى الظهر
في اليوم الأول حين زالت الشمس، وصلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظلّ
كل شيء مثله، ثم قال جبريل: (يا محمد: هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت
فيما بين هذين اليومين) [3] .
مسألة: يعرف الزوال بزيادة الظلّ بعد تناهي قصره، وبيان ذلك: أن
الشمس إذا طلعت صار لكل شاخص ظلّ طويل من جهة المغرب، ولا يزال الظل
يقصر مع ارتفاع الشمس، حتى يتوقف عن النقصان، والشمس في وسط السماء،
فإذا بدأ بالزيادة ولو شعرة فهو الزوال.
وإذا أردت ضبط آخر وقت الظهر: فضع علامة عند بداية الزيادة، واحسب
مقدار طول الشاخص من عند العلامة لا من الشاخص، والظل الذي يكون بين
الشاخص والعلامة هو الذي يسميه الفقهاء بظل الزوال، أو بفيء الزوال؛ أي:
الظل الذي زالت عليه الشمس [4] .
ثانياً: وقت صلاة العصر:
يدخل وقت العصر بخروج وقت الظهر؛ أي من مصير ظل كل شيء مثله
سوى فيء الزوال؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)
مرفوعاً: (ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر) [5] .
أما آخر وقت العصر ففيه خلاف قوي بين العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن آخره إذا صار ظلّ كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، وما
بعده إلى غروب الشمس فوقت ضرورة [6] .
القول الثاني: أن آخره إذا اصفرت الشمس، وما بعده إلى غروب الشمس
فوقت ضرورة.
القول الثالث: أن العصر ليس له وقت ضرورة، بل كله وقت جواز إلى
غروب الشمس.
والراجح هو القول الثاني، وهو مذهب المالكية [7] ، وقول الإمام أبي ثور،
ورواية عن الإمام أحمد، وهي أصح عنه [8] ، واختيار شيخ الإسلام ... ... ابن تيمية [9] (رحمهم الله) .
والدليل عليه: ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو (رضي الله
عنهما) مرفوعاً: (فإذا صليتم العصر: فإنه وقت ما لم تصفر الشمس) .
أمّا وقت الضرورة فالدليل عليه مجموع حديثين:
الأول: حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعاً: (ومن أدرك ركعة من
العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) (متفق عليه) .
والثاني: حديث أنس (رضي الله عنه) قال: (سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: (تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين
قرني الشيطان، قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها) [10] .
فحديث أنس يدل على أن تأخير العصر إلى قرب غروب الشمس أمر مذموم، لكن من أخرها إليه فصلاته أداء؛ لحديث أبي هريرة (رضي الله عنه) ، وهذا هو
وقت الضرورة. ويكون حديث عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) محدداً لنهاية
وقت الاختيار وبداية وقت الضرورة.
أما حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) في إمامة جبريل للنبي، وفيه أنه
صلى به العصر في اليوم الأول حين كان ظلّ كل شيء مثله، وصلّى به في اليوم
الآخر حين كان ظلّ كل شيء مثليه، وفي آخر الحديث قال جبريل: (يا محمد هذا
وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين اليومين) : فإنه لا يعارض حديث
عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) ؛ لأن حديث عبد الله بن عمرو دلّ على زيادة
في وقت العصر فوجب الأخذ بها.
وبهذا الترجيح تجتمع الأدلة ولا تتعارض.
ثالثاً: وقت صلاة المغرب:
أجمع أهل العلم على أن أول وقت المغرب إذا غربت الشمس [11] .
أما آخر وقتها: فالراجح وهو قول الجمهور أنه ينتهي بمغيب الشفق الأحمر،
والأدلة عليه كثيرة، منها:
ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) مرفوعاً:
(فإذا صليتم المغرب: فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق) .
عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنهما) عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة ... ثم أمره [يعني: بلالاً] [12] ، فأقام المغرب حين وقعت الشمس ... ) وفي اليوم الثاني: ( ... أخّر المغرب
حتى كان عند سقوط الشفق) .. ثم أصبح فدعى السائل: فقال: (الوقت بين ... هذين) [13] .
أما حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) في إمامة جبريل للنبي -صلى الله
عليه وسلم-، وأنه صلى المغرب في اليومين حين غربت الشمس، فإنه محمول
على تأكيد الاستحباب وكراهية التأخير، جمعاً بينه وبين الحديثين المتقدمين وما في
معناهما، وعلى فرض التعارض: فإن حديثيّ ابن عمرو وأبي موسى مقدمان؛
لأنهما متأخران، فيبينان آخر الأمر بالمدينة [14] .
وهنا تنبيهان:
الأول: أن المراد بالشفق الوارد في الأحاديث هو الشفق الأحمر لا الأبيض،
والأدلة على ذلك كثيرة:
قوله: (ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق [15] أخرجه مسلم،
والثّوَرَان إنما يطلق على الحمرة دون البياض [16] .
قول ابن عمر (رضي الله عنهما) : (الشفق: الحمرة) [17] .
الثاني: أن مغيب الشفق يكون بعد مضي ساعة إلى ساعة وربع تقريباً من
غروب الشمس في الجزيرة العربية وأن وقت المغرب يزيد وينقص مع تغير الوقت
صيفاً وشتاءً، خلافاً لما يتصوره بعض الناس أن وقت المغرب ساعة ونصف ثابت
لا يتغيّر.
رابعاً: وقت صلاة العشاء:
أجمع أهل العلم على أن وقت العشاء يبدأ بمغيب الشفق [18] ، والمراد
بالشفق هو الحمرة على الأرجح من قولي العلماء كما سبقت الإشارة إليه.
أما آخر وقت العشاء ففيه خلاف قوي:
القول الأول: أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر.
القول الثاني: أن وقت العشاء ينتهي بانتصاف الليل.
القول الثالث: بالتفصيل؛ فوقت الاختيار ينتهي بانتصاف الليل، وما بعده
فوقت ضرورة إلى طلوع الفجر.
والراجح هو القول الثاني: أنه ينتهي بانتصاف الليل، وليس له وقت
ضرورة، وهو قول ابن حزم [19] (رحمه الله) وبعض الشافعية [20] وبعض
الحنابلة [21] ، واختاره من العلماء المعاصرين الشيخ ابن عثيمين ... (حفظه الله) [22] .
والدليل عليه: حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (فإذا صليتم العشاء: فإنه
وقت إلى نصف الليل) أخرجه مسلم.
واستدل القائلون بأن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر وقت للعشاء إما
وقت اختيار، أو وقت ضرورة بحديث أبي قتادة (رضي الله عنه) أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- قال: (أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم
يصلِّ حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) [23] .
فقالوا: إن هذا الحديث يدل على أن كل وقت متصل بالآخر، وعليه: فإن
وقت العشاء لا يخرج إلا بدخول وقت الفجر.
والجواب عن هذا الاستدلال أن يقال: إن حديث أبي قتادة عام مخصوص
بغيره، فكما خصّ منه وقت الفجر فإنه غير متصل بالظهر بالإجماع [24] ، فكذا
يُخَصّ منه أيضاً وقت العشاء بالسنة، كما سبق في حديث عبد الله بن عمرو
(رضي الله عنهما) الذي يدل على انتهاء وقت العشاء بانتصاف الليل.
وهنا ثلاثة تنبيهات:
الأول: يتوهم كثير من الناس أن الليل ينتصف عند الساعة الثانية عشرة،
وهذا تصور خاطئ، والصواب: أن انتصاف الليل يُعرف بمضي نصف الوقت
من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإذا كانت الشمس تغرب الساعة السادسة،
والفجر يطلع الساعة الرابعة، فإن نصف الليل يكون الساعة الحادية عشرة تماماً،
وبه يخرج وقت العشاء.
الثاني: يؤخر بعض الناس وخاصّة النساء صلاة العشاء إلى ما قبل النوم،
ويكون التأخير في بعض الأحيان إلى ما بعد نصف الليل، وهذا خطأ كبير ينبغي
التنبّه له وتحذير الآخرين منه.
الثالث: أن راتبة العشاء وهي ركعتان بعد العشاء يخرج وقتها بانتهاء وقت
العشاء، وبعض الناس قد يؤخرها إلى آخر الليل، وحينئذ يكون فعلها قضاءً لا أداءً.
خامساً: وقت صلاة الفجر:
أجمع العلماء على أن وقت الفجر يدخل بطلوع الفجر الثاني [25] .
قال ابن قدامة [26] : (وهو البياض المستطيل المنتشر في الأفق، ويسمّى
الفجر الصادق) .
ويخرج وقت الفجر بطلوع الشمس، لدليلين:
الأول: عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال: (إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس)
أخرجه مسلم.
الثاني: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (من أدرك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)
متفق عليه.
ومما ينبغي التنبه له: أن بعض التقاويم الموجودة ليست دقيقة في بداية وقت
الفجر، فتتقدم الوقت بنحو عشر دقائق أو ربع ساعة، ولذا: ينبغي أن ينتبه الأئمة
في عدم التعجل بإقامة صلاة الفجر، وكذا: بعض النساء في البيوت اللواتي يصلين
الفجر من حين سماع الأذان، فعليهن الانتظار والاحتياط، فلا يصلين إلا بعد مضي
عشرين أو خمس وعشرين دقيقة. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، ص 56 58.
(2) انظر: الإجماع لابن المنذر، ص 7.
(3) حديث صحيح، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.
(4) انظر: المغني لابن قدامة.
(5) أخرجه مسلم، ح 612.
(6) وقت الضرورة: هو الوقت الذي لا يجوز تأخير الصلاة إليه إلا لعذر، فإن أخرها لغير عذرٍ أثم، ومتى فعلها فيها فهو مدرك لها أداءً في وقتها، سواء أخرها لعذر أو لغير عذر، (انظر: الشرح الكبير، 1/436) .
(7) انظر: مواهب الجليل، 1/389.
(8) انظر: المغني، 2/15.
(9) انظر: مجموع الفتاوى، 23/268.
(10) أخرجه مسلم، ح 622.
(11) انظر: مراتب الإجماع لابن حزم، ص 31.
(12) أي: المأمور هو بلال مؤذن الرسول.
(13) أخرجه مسلم، ح 614.
(14) انظر: شرح مسلم للنووي، 5/111، وإعلام الموقعين، 2/403.
(15) ثور الشفق: أي: ثورانه وانتشاره (شرح مسلم للنووي، 5/112) .
(16) انظر: المغني، 2/26.
(17) أخرجه عبد الرزاق، ح 2122، وصححه البيهقي وغيره، انظر: السنن الكبرى، 1/373، وبلوغ المرام، ص 44.
(18) حكاه النووي في المجموع، 3/41.
(19) انظر: المحلى، 2/198.
(20) انظر: المهذب، 3/39.
(21) انظر: الإنصاف، 1/436.
(22) انظر: الشرح الممتع، 2/109.
(23) أخرجه مسلم، ح 681.
(24) انظر: كتاب الإجماع لابن المنذر، ص7.
(25) انظر: الإفصاح، 1/106.
(26) المغني، 2/30.(105/20)
في إشراقة آية
[وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً] [*]
بقلم: عبد الكريم بكار
تشعر أمة الإسلام اليوم بغربة حقيقية بين الأمم المعاصرة، وتجد نفسها فريدة
ومتميزة على مستوى المبادئ والمفاهيم والأهداف؛ وهذا التميز والتأبي على السير
في ركاب القوى العظمى جرّ عليها ضغوطاً أدبية ومادية، هي أكبر مما نظن بكثير.
إن أدبياتنا تعلمنا أن الأسلوب الصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته
لايكمن في التشاغل بالرد عليها؛ مما قد يجرنا إلى معارك خاسرة، وإنما يتمثل في
الانكفاء على الداخل بالإصلاح والتنقية والتدعيم ... ولا ريب أن ذلك شاق على
النفس؛ لأن المرء آنذاك ينقد نفسه، ويجعل من ذاته الحجر والنحّات في آن واحد!
والآية الكريمة التي نحن بصددها معْلم بارز في التأصيل لهذا الانكفاء، ولعلنا
نقتبس من الدوران في فلكها الأنوار التالية:
1- إن كثيراً من النصوص يوجهنا نحو الانكفاء على الداخل في مواجهة
الخارج بالنقد والإصلاح والتقويم والتحسين، وإن المتتبع للمنهج القرآني في قصِّه
أحوال الأمم السابقة يجد أن ما ذكره القرآن الكريم من أسباب انقراضها واندثار
حضاراتها لا يعود أبداً إلى قصور عمراني، أو سوء في إدارة الموارد واستغلالها؛
وإنما يعود إلى قصور داخلي، يتمثل في الإعراض عن منهج الله (جلّ وعلا)
واستدبار رسالات الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وهذه الحقيقة بارزة في جميع
أخبار الأمم السابقة؛ حتى يتأصل في حسِّ القارئ للكتاب العزيز إعطاء الأولوية
لصواب المنهج قبل أي شيء آخر.
وحين حلّت الهزيمة بالمسلمين في أحد، وقال بعض الصحابة (رضوان الله
عليهم (: كيف نُهزَم ونحن جند الله؟ ! جاء الجواب: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ]
[آل عمران: 165] فالهزيمة وقعت بسبب خلل داخلي، وليس بسبب شراسة
الأعداء، وكثرة عددهم وعتادهم؛ إذ لا ينبغي تضخيم العدو إلى الحد الذي يجعل
تصور هزيمته شيئاً بعيداً؛ فالعدو بَشَر له أحاسيسه، وله موازناته ومشكلاته،
وبالتالي إمكاناته أيضاً، وفي هذا يقول (سبحانه) : [إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ
كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ] [النساء: 104] .
2- ترمي الآية الكريمة إلى تدعيم (الذاتي) في مقابل (الموضوعي) ؛ إذ تعلِّم
المسلم أنه إذا ساءت الظروف فإن عليه أن يُحسِّن من ذاته؛ لأن من المعروف أنه
حين تسوء الظروف، فإن الغالب أن يسوء الإنسان نفسه، ولذلك: فإنه يحدث في
حالات الفقر الشديد نوع من التحلل الخلقي من نحو: السرقة، والرشوة، وسؤال
الناس، والذل، والتحايل، والغش، والبخل، وقطيعة الرحم ... والمطلوب من
المسلم آنذاك: أن يقف (وقفة رجل) فيضغط على نفسه، ويضبط سلوكه ويُلغي أو
يؤجل بعض رغائبه، ويقتصد في نفقاته، حتى تمر العاصفة، وينتهي الظرف
الاستثنائي.
ومن النصوص الواضحة في تدعيم الشخصية عند صعوبة الظروف قوله:
(يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة، فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن
للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [1] .
لم نكن على مدار التاريخ نمتلك الوعي الكافي بهذه الحقيقة، فبدل أن نلجأ إلى
التربية والتوجيه والتعاضد والتراحم، واكتساب عادات جديدة، واقتلاع المشكلات
من جذورها.. كنا نواجه التفسخ الاجتماعي والانحراف السلوكي بأمرين: القوة،
ومزيد من القوانين، حيث كانا أقرب الأشياء إلينا تناولاً، وأقلها تكلفة حسب ما
يبدو وقد عبّر عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) عن هذه الحقيقة حيث قال: (يحدث
للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور) .
ونحن نقول: إن شيئاً من التوسع في الأنظمة والتشريعات الرادعة يحدث عند
جميع الأمم، حين يقع تهديد خطير لأمن الناس وحقوقهم، لكن الجزاءات
والعقوبات هي أشبه شيء بالتدخل الجراحي في العلاج الطبي، فهو آخر الحلول،
وعند اللجوء إليه ينبغي أن يتم في أضيق الحدود! .
إن العقوبات الرادعة إنما وجدت لمن فاتتهم التنشئة الاجتماعية القويمة؛
والعقوبات لا تنشيء مجتمعاً لكنها تحميه. وهذه رؤية إسلامية جلية، فآيات الأحكام
والعقوبات جزء منها لا تشكل أكثر من عُشْر آيات القرآن الكريم، أما الباقي فكان
يستهدف البناء الإيجابي للإنسان من الداخل. إن التجربة علمتنا أن كثرة القوانين
وتعقيدها تصب دائماً في مصلحة الأقوياء، وتزيد في قيود الضعفاء! ، وأن البطش
لا يحل المشكلات، لكن يؤجلها، فيكون حال المجتمع كمن يأكل عن طريق الدّين،
فهو ينتقل من سيء إلى أسوأ! ! .
إن الدولة الفاضلة هي التي تدير مجتمعها بأقل قدر ممكن من العنف واستخدام
القوة؛ لأنها ترتكز أساساً على استخدام الأساليب والأدوات السلمية في الضبط
والإدارة.
إن الآية الكريمة تعلمنا مرة أخرى: أن النصر الخاص يسبق النصر العام،
وأن الأمة المنتصرة على أعدائها هي أمة حققت نصراً داخليّاً أولاً، وحقق كل واحد
من أفرادها نصراً خاصّاً على صعيده الشخصي قبل كل ذلك.
3- لا ينبغي لنا أن نفهم نصّاً من النصوص بمعزل عن المنظومة التي ينتمي
إليها، ويعالج معها مشكلة واحدة؛ والنص الكريم هنا يوجهنا إلى أمرين: الصبر،
والتقوى.
ويعني الصبر: احتمال المشاق والديمومة في تأدية التكاليف الربانية، مهما
كانت الظروف قاسية؛ لأن ذلك نصف النصر، إذ إن نصف الفوز يأتي من
جهودنا، وقبله من توفيق الله (تعالى) لنا، والنصف الثاني يأتي من أخطاء أعدائنا.
إن الصبر لا يعني الاستسلام للأحوال السيئة كما هو مفهوم العوام لكنه يعني
عدم اللجوء إلى الحلول السريعة، وقد جرت العادة أن الناس حين يرون إنساناً
متفوقاً: يطلبون منه حلولاً سريعة لمشكلاتهم المتخمرة والمتأسنة؛ والحلول السريعة
تفضي في كثير من الأحيان إلى اليأس والإحباط، أو إلى الاندفاع والتهور؛ مما
يعقِّد المشكلة أكثر مما يحلها! .
إن من المهم أن ندرك أن ثمة أوضاعاً كثيرة لا نستطيع أن نفعل حيالها الآن
شيئاً، لكن إذا قلنا: ماذا نستطيع أن نفعل تجاهها خلال عشرين عاماً، فسوف
نرى أننا نستطيع أن نفعل أشياء كثيرة جدّاً، فكأن الصبر استخدام للوقت في
الخلاص من أوضاع لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها.
حقيقةُ ضرورة اقتران الصبر بالعمل والحركة للخلاص من الأوضاع الصعبة
حقيقة قرآنية لامعة، نطقت بها الكثير من الآيات القرآنية، مثل قوله (سبحانه) : ... [ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا
لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] [النحل: 110] ، وقوله (سبحانه) : [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا
بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] [البقرة: 153] ، وقوله (تعالى) : ... [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً] [الإنسان: 24] .
إن احتمال المعاناة دون حركة للخلاص من مسبِّباتها قد يكون ضرباً من اليأس
والاستسلام، وقد يكون ضرباً من العجز أو قصر النظر أو ضيق الأفق ... وهذا ما
لا يرضى الله (جل وعلا) لعباده المؤمنين منه شيئاً.
أما التقوى فتعني هنا بصورة أساسية: نوعاً من الحصانة الداخلية من التأثر بالظروف السيئة المحيطة؛ إذ إن الهزائم العسكرية والظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية.. كل ذلك محدود الضرر ما لم يغير من المبادئ والأخلاق والنفوس والسلوك، بل إنها تصلّب روح المقاومة، وتُكسب الخبرة، وتكشف عن الأجزاء الرخوة في البناء الداخلي، وتحطِّم هيبة العدو في النفوس.
وقد مرّت أمم كثيرة بأقصى مما نمر به، لكنها استطاعت عن طريق
الانتفاضة النفسية والشعورية، أن تتجاوز المحن، وتنبعث من جديد! .
4- إن المفهوم الأساسي للصبر والتقوى هنا هو: تهذيب الذات وتحسينها،
وتدعيمها، والرقي بها؛ وهذا التدعيم يأخذ أشكالاً كثيرة، منها: المزيد من الالتزام
الصارم، ومقاومة الشهوات، والتعاون، والمفاتحة، والمراجعة، والتضحية،
والمواساة لبعضنا بعضاً، والحفاظ على رأس المال الوطني، والاقتصاد في
الاستهلاك.. إنه يعني اكتساب عادات جديدة، من نحو تكثيف القراءة الجيدة،
والنظر دائماً إلى المستقبل بعقل مفتوح، وتحسين العلاقات مع الآخرين، والإكثار
من المعروف والنوافل، إلى جانب التخلص من أكبر قدر ممكن من العادات السيئة، مثل عدم الدقة وخلف الوعد، وتأجيل أعمال اليوم إلى أوقات أخرى ...
5- يركز الخطاب الإسلامي بصورة عامة على تدعيم الذاتي في كل الأحوال، وقلما يتطرق إلى علاج الظروف العامة التي يعيش فيها المسلم، ومن ثم: فإننا
نجده يؤكد على الصلاح واستقامة السلوك والانتهاء عن المناهي ...
أما تناول الشروط الموضوعية الضرورية لاستجابة المسلم للدعوة فإنه
ضعيف، وعلى بعض الأصعدة معدوم، وهو على كل حال فقير، وتنقصه الخبرة
والدربة.
إن بين الإنسان والظروف والأوضاع الحياتية العامة التي يعيشها علاقة جدلية ... فهو يؤثر فيها ويتأثر بها، ولا بد للدعاة من أن يدركوا أن الفرد المسلم لا يستطيع
أن يبتعد مسافات كبيرة عن الوضعية العامة للمجتمع، وذلك التباعد مرهق ومكلف؛ فحين يكون كسب القوت الضروري لا يتأتى للسواد الأعظم من الناس إلا عن
طرق محرمة أو ملتوية مثلاً فإن الذين سوف يستجيبون لنداء (اللقمة الحلال)
سيكونون قلة، وسوف تظل مبادئهم في حالة اختبار دائم، وربما أدخلهم ذلك في
مشكلات مع أقرب الناس إليهم.
ولهذا: فكما أن محاولات تحسين المستوى الشخصي للمسلم يظل ضروريًّا
وحيويّاً، فإن تحسين المناخ العام ينبغي أن يظل موضع عناية واهتمام؛ إذ ليس
المطلوب تحقيق شروط الدعوة الجيدة، وإنما تحقيق شروط الاستجابة ... ... الناجحة أيضاً.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
__________
(*) الآية: 120 من سورة آل عمران.
(1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح.(105/26)
دراسات تربوية
مقاصد التوبة
دعوة إلى السير في مدارج الكمال
(1 من 2)
بقلم: د.محمد عز الدين توفيق
التوبة التي أمر الله بها عباده توبتان: توبة تغير السير، وتوبة تصحح السير، توبة يسلم بها العبد، وتوبة يجدد بها إسلامه، فالأولى توبة إسلام، والثانية توبة إحسان، والثانية منهما تكمل عمل الأولى؛ ذلك أن التحول الذي تحدثه التوبة التي تعقب الغفلة والضلال، وإن كان شيئاً ضخماً في مجال الأفكار والمعتقدات والمشاعر والأحاسيس والأقوال والأعمال، إلا أنها غير كافية لتحقيق كل ما ينتظر الإنسان بعد الهداية، فعندما ينهض بإصلاح ما فسد من أخلاقه وعاداته، وتقويم ما اعوج من أعماله وتصرفاته، ويتتبع بقايا الجاهلية في سلوكه: يكون قد شرع في التوبة الثانية، وإذا كانت التوبة الأولى تحدث مرة واحدة ويعيشها صاحبها في لحظة أو يوم، فإذا هو قد فصل بين عهدين من حياته، فإن التوبة الثانية تجديد مستمر، وعمل متواصل، وسعي دؤوب لتقليص هامش الإساءة بجميع صورها وتوسيع هامش الإحسان بكل أشكاله.
إن توبة الهداية والإيمان تشبه الوقود اللازم لتشغيل محرك معطل عن العمل،
وتوبة الإحسان هي الوقود الآخر الذي يحتفظ بالمحرك في حالة اشتغال حتى يبلغ
صاحب السيارة مأمنه.
وقد يقول قائل: إن الإسلام إنما تحدث عن توبة واحدة، فلماذا جعلتهما
توبتين؟ والحقيقة: أننا لم نفرد التوبة الأولى عن الثانية بخصائص خاصة،
فالرجوع إلى الله والإقبال عليه قاسم مشترك فيهما، ولكننا ميّزنا بين مرحلتين في
حياة الإنسان، تحتاج كل منهما إلى توبة.
وإنما دعانا إلى هذا التمييز: ما نراه عند كثير من المسلمين من التهاون في
الارتفاع بإسلامهم وإيمانهم، فتجد الواحد منهم إذا كان قد حقق في أول التزامه
بعض التحولات لا يكاد يزيد عليها شيئاً جديداً، مع العلم أن إحلال السنة محل
البدعة والطاعة محل المعصية لا يتم بين يوم وليلة.
لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا، فقد كان الواحد
منهم إذا أسلم يخلع على عتبة الإسلام رداء الجاهلية ويشرع في إقصاء شوائبها من
حياته، ويواصل الليل بالنهار والنهار بالليل، ليصل أقصى ما يستطيع الوصول
إليه من درجات الإسلام.
إن الكمالات التي جاء بها الإسلام وأمر بالمنافسة عليها كثيرة جدّاً، كما أن
النقائص التي نهى عنها لا تنحصر، وإذا كان الشيطان يضع العوائق في وجه ابن
آدم يمنعه بها من التوبة الأولى، فإنه يستأنف محاولته مع من أفلت منه وتاب إلى
ربه ليعوقه عن التوبة الثانية، فيصرفه عن تجديد إسلامه لتستوي أيامه، وتضيع
منه الفرص، وتتحول حياته إلى ركود، بل لا يتردد في جر الإنسان إلى الوراء
والتقهقر إلى الخلف، فبعد أن كان يتقدم إذا به يتأخر.
حوافز التوبة:
إن دوافع التوبة إذا استقرت في قلب المسلم، وصارت جزءاً من العلم الذي
في صدره، دفعته للأخذ بأسباب الهداية التفصيلية، بعد أن أكرمه الله (تعالى) بنعمة
الهداية العامة، ويوجد بحمد الله (تعالى) أكثر من حافز لهذا التجديد الذي يرتقي بنا
في درجات الكمال الممكنة، ويجعلنا دوماً في زيادة من ديننا، ويجعل من التوبة
عمل اليوم والليلة.
الحافز الأول: عموم الأمر بالتوبة والحث على تعجيلها:
لقد أمر الله (عز وجل) الناس كافة بالتوبة، وأمر بها المؤمنين خاصة، وهذا
يعني أن أي إنسان مهما بلغ إيمانه، وتدينه واستقامته لا يستغني عن التوبة، فهي
بداية السير ونهايته، يصبح فيها العبد ويمسي، ولا يدعها أبداً، لكن الناس
يختلفون في موضوع التوبة: فقد يتوب عبد من الكفر، في الوقت الذي يتوب آخر
من بدعة، وثالث من ذنب كبير، ورابع من صغيرة، وخامس من شبهة، وسادس
من تقصير في فريضة أو نافلة، وسابع من ترك نصيحة أو غفلة عن ذكر أو
تهاون في دعوة أو جهاد ...
فهناك إذن أمر إلهي عام لعموم الناس ولعموم المؤمنين بالتوبة إليه، وهذا
الأمر يجعل من التوبة ثوباً لا ينزعه العبد ما عاش، وإن نزعه لبعض الوقت عاد
إليه من قريب.
فمن الآيات التي خاطب بها (سبحانه) عباده جميعاً: قوله (تعالى) : [وَإنِّي
لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] [طه: 82] .
وقوله (سبحانه) : [إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا
الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ] [النساء: 17، 18] .
ومن الأحاديث: قوله فيما رواه الترمذي وحسنه: (تُقبل توبة العبد ما لم
يغرغر) ، والغرغرة: الاحتضار، وقوله فيما رواه مسلم: (إن الله (تعالى) يبسط
يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع
الشمس من مغربها) .
أما الآيات التي خاطبت المؤمنين خاصة، فمنها قول الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً] [التحريم: 8] ، وقوله (عز وجل) : [وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [النور: 31] .
ولايخفى أن التوبة التي أمر الله بها المؤمنين ليست توبة الإسلام والإيمان؛
فهم مسلمون مؤمنون، ولكنها توبة الإحسان التي تجدد إسلامهم، وتقوي إيمانهم،
وتصلح ما فسد من أعمالهم وتقوِّم ما اعوج من تصرفاتهم.
وما دامت الأخطاء واردة فالأمر بالتوبة قائم لا يجاوزه أحد، وهو في كل
وقت على التعجيل والفور، لا التأخير والتراخي، وكل توبة قبل الموت فهي توبة
من قريب، وكل ذنب فارتكابه جهالة.
الحافز الثاني: التفكر الدائم في حقيقة الزمن:
هناك حجاب كثيف من الغفلة يمنع أكثر الناس من إدراك حقيقة الزمن، فهم
لا يرون في طلوع الشمس سوى بداية يوم جديد يربطون فيه الاتصال بمجموعة من
الهموم الآنية والأغراض العاجلة، كما لا يرون في الليل سوى نهاية ذلك اليوم،
ونادراً ما يتجاوزن هذا النظر القريب إلى نظر آخر بعيد، يبدو فيه تعاقب الليل
والنهار درساً بليغاً، وموعظة، وذكرى للنفس: [وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً] [الفرقان: 62] .
كل يوم يأتي هو فرصة لمن كان على قيد الحياة، فهذه الأيام لا تتعاقب بلا
نهاية، بل لكل إنسان منها عدد محدود، يبدأ يوم ولادته، وينتهي يوم وفاته.
إن قراءة الزمن على ضوء الآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم والإيمان
تنتهي بالعبد إلى نتيجة أخيرة، هي: أن أحسن ما يقدم بين يديه في هذه الأيام هو
العمل الصالح، وأول عمل صالح يقدمه بين يديه هو التوبة الصادقة، فيقبل على
ربه بالافتقار، ويعتذر إليه عن التقصير في القيام بواجب العبودية؛ لعل توبته تلك
تشفع له بين يدي أعماله القليلة الهزيلة.
إن دورة اليوم، ودورة الأسبوع، ودورة الشهر، ودورة العام: كل منها
يعطي مثلاً لعمر الإنسان، قال الله (تعالى) : [اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] [الحديد: 20] .
ففي هذه الآيات تعريف للدنيا وما يفعل الناس فيها؛ فهي لعب ولهو وزينة
وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، ومثالها في سرعة الانقضاء كمثل النبات يتم
دورته في مدة يسيرة: فبينما هو نبت صاعد أخضر، إذا هو هشيم أصفر.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكم وابن المبارك في الزهد
بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل
هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك
قبل موتك) .
ففي هذا الحديث: أن الزمن سريع الزوال، والدنيا فرص، إذا لم يغتنمها
صاحبها فاتت وذهبت، فالشباب لا بد يأتي بعده الهرم، والحياة يأتي بعدها الموت.
قال الحسن البصري: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وإنما أنت بين راحلتين تنقلانك، ينقلك الليل إلى النهار، وينقلك النهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطراً، والموت معقود
بناصيتك، والدنيا تطوى من ورائك.
لقد التفت الحسن البصري (رحمه الله) في هذه القولة إلى البعد الزماني في
تعريف الإنسان، فهو مجموعة من الأيام إذا مضى منها يوم مضى منه بعضه حتى
ينتهي.
لقد قال بعض العارفين يصف الدنيا: إنها أنفاس تُعد، ورحال تُشد وعارية
ترد، والتراب من بعد ينتظر الغد، وما ثمّ إلا أمل مكذوب، وأجل مكتوب، فكيف
يغفل مَن يَوْمُه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وعمره يقوده
إلى أجله.
إن التفكر في حقيقة هذا الزمن على ضوء تصور الإسلام للحياة الإنسانية
ضروري للقيام بتجديد شامل ومستمر في الأفكار والأعمال، فهو يكشف له أن
بضاعته في هذه الحياة هي الزمن، وكل يوم يبزغ فجره فرصة إمهال قد تكون
الأخيرة وبعدها العذاب الشديد أو المغفرة والرضوان.
إن هذا التفكر في ذلك البعد هو الذي يوقف داء التسويف الذي يعاني منه كثير
من الناس عندما يَعِدون أنفسهم بالتوبة عدة مرات، ويقولون: غداً غداً، فيجيء
الغد ويصير يوماً، ويصير اليوم من بعد ذلك أمساً، وهم على حالهم، مغترون
بالعافية والستر، لا يذكرون ما بين أيديهم من أهوال وأخطار، حتى يفجأهم الموت
في وقت لم يتوقعوه، ويصرعهم في يوم لم ينتظروه، فتفوتهم فرصة التوبة
والتدارك.
ولا يحسبن أحد أن التفكر الذي ندعو إليه هو تلك الأفكار السوداوية التي تدعو
إلى التشاؤم بهذه الحياة، بل نحن ندعو إلى تأمل إيجابي فعال، تكون ثمرته إعادة
النظر في عوائد الحياة، وتصحيح ما لا يتفق مع قيمتها وأمانة الاستخلاف فيها.
إنه ما لم يستحضر الإنسان حقيقة الزمن بين عينيه بكل خطورتها فلن يتقدم
خطوة واحدة في توبته، لكنه إن ذكر أن عمره ينقص ولا يزيد، وأنه يسعى في
هدمه منذ نزل من بطن أمه، وأنه في كل يوم مودع.. تنبه وتيقظ، ولم يؤخر
عمل اليوم إلى الغد؛ لأن للغد عمله.
وما أدري وإن أَمّلتُ عمراً ... لعلي حين أصبح لست أمسي
أَلم تر أَن كل صباح يوم ... وعمرك فيه أقصى منه أمس
الحافز الثالث: النظر إلى الماضي:
خلق الله (عز وجل) الإنسان بقدرات عقلية متميزة، ومنها القدرة على التذكر، وهذه القدرة التي أوتيها الإنسان دون سائر الحيوانات ليست من أجل التعرف على
الأشياء عند رؤيتها، أو من أجل إتقان المهن والحرف والمهارات، أو من أجل
القراءة والكتابة ... أو غير ذلك من منافع الذاكرة فقط، بل هناك مهمة أخرى أسمى
من هذا كله، هي: استرجاع الماضي بقصد المحاسبة والمراجعة، قال الله (تعالى) : [لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] [القيامة: 1، 2] .
والله (عز وجل) إذا أقسم بشيء من مخلوقاته: فإما لأجل بيان قدرة هذا
الشيء ومنزلته، أو للتنبيه على ما فيه من دلائل الحكمة الإلهية، وفي هذه الآية
أقسم (سبحانه) بالنفس اللوامة تنبيهاً على هذه الآية العقلية، وهي: قدرة الإنسان
على التفكير بعامة والتذكر بخاصة، وثانياً: تنويها بهذه النفس التي استعملت هذه
القدرات العقلية فيما خلقت لها ولم تقصرها على جانب التسخير والانتفاع فحسب،
فجعلتها للتفكر والمحاسبة والاعتبار أيضاً.
إن الماضي لا يرجع، ولكن الإنسان يستطيع أن يسترجعه من الذاكرة، فإذا
أحداثه حاضرة في وعيه وشعوره ينظر إليها، فإذا كان القصد من استرجاعها هو
المحاسبة والمراقبة، فنحن أمام حافز آخر من حوافز التوبة.
إن الذي ينسى ماضيه بمجرد مروره لا يمكن أن يصحح حاضره أو يخطط
لمستقبله، لأنه يعيش عمراً متقطعاً منفصلاً بعضه عن بعض، ولكن الذي يرى
عمره سلسلة واحدة متصلة الحلقات، يأخذ من ماضيه لحاضره، ومن حاضره
لمستقبله، وهذا الذي يأخذه هو الدروس والعبر، وهو التجارب والخبرات، فالذي
يفكر في ماضيه على ضوء الطموحات التي اختطها لنفسه في الحياة، وعلى ضوء
الغاية التي يسعى إليها، وهي رضوان الله والجنة، يستقل طاعاته لا محالة،
ولسان حاله في كل مرحلة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا ولتركت
كذا، فيتدارك ما استطاع، ويعوض عما فات ويسابق الأيام في ذلك.
بهذا يؤدي الماضي للمسلم الذي ينظر فيه مهمة جليلة؛ لأنه يتحول إلى ناصح
وموجه، يدلي بمشورته عند الحاجة.
وإذا كانت التوبة الصحيحة تمحو ما قبلها، فإن هذا لا يعني أن المسلم إذا
تاب ينسى ما قدمت يداه: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا
قَدَّمَتْ يَدَاهُ] [الكهف: 57] .
لكنه بعد التوبة يحتفظ لماضيه بهذه المهمة الإيجابية، وهي: الحث على
الاستدراك وإصلاح الأخطاء، وهذا معنى قول بعض العلماء: معصية أورثت ذلاً
وانكساراً خير من طاعة أورثت عجباً واستكباراً.
الحافز الرابع: النظر إلى المستقبل:
إذا كان الجسم الإنساني محصوراً في الحاضر، خاضعاً لسلطته: فإن القلب
يستطيع أن يتحرر من هذه السلطة ليرتاد أغوار الماضي وآفاق المستقبل، فيرى
حياته في أطوارها الماضية والحاضرة والمقبلة، والذي ينظر إلى حياته بهذا الشكل
الممتد ولا يبقى سجين الحاضر هو الذي يرى عواقب الأمور في بداياتها، فيغنم
خيرها، وينجو من شرها؛ لأنه يُعِد لكل أمر عدته ويلبس لكل حالة لبوسها،
ويتصرف أمام كل موقف بما يناسبه، لا قبل الأوان ولا بعد الأوان.
وإذا كان نظر المسلم إلى ما مضى يجدد عزمه ويشحذ همته، ليكون في يومه
أفضل منه في أمسه، فإن نظره إلى المستقبل يحثه على المسارعة بتنفيذ ما عزم
عليه من توبة وتصحيح، فالآجال بيد الله وحده، والأعمال بالخواتيم، والمستقبل
يشمل ما ينتظره بعد الموت من أهوال القبر، وما ينتظره بعد البعث من أهوال
الحشر والحساب.
إنه لا يدري متى يستدعى، ولا يدري ما اسمه غداً، ولايدري أيخف ميزانه
أم يثقل، ولا يدري أيكون من السعداء أم من الأشقياء.
كيف ينسى المسلم هذا المستقبل وهو معني به، وسيعيش لحظاته لحظة لحظة، ويجتاز أطواره مرحلة مرحلة، حتى يكون مثواه في الجنة أو في النار.
وإنما يغفل عن هذا المستقبل من ضعفت خشيته، وبهت يقينه باليوم الآخر،
وران على قلبه ما كسب من خطيئات، يلعب بالنار وهو لاهٍ غافل، ويقف على
حافة الهاوية وهو سادر معرض، حتى يفجأه الموت وهو على عمل من أعماله
الرديئة، فيهلك هلاك الأبد.
إنه لا ينجي من سوء الخاتمة إلا التفكر الدائم في المستقبل، والمستقبل يبدأ
من اللحظة الآتية، ومن خاف سوء الخاتمة اجتهد في توسيع دائرة الإحسان في
حياته وتقليص هامش الإساءة، وهذه هي التوبة الثانية بمعناها الواسع، فإنه لا
يودع فترة من حياته إلا وقد شهد فيها إسلامه تحسناً جديداً.(105/32)
دراسات إقتصادية
الجوائز والترويج السلعي
من المنظور الإسلامي
د. محمد ين عبد الله الشباني
تعددت أساليب الجذب لبيع السلع، كما تنوعت وسائل، وطرق تشجيع
المستهلكين لاقتناء ما تنتجه المصانع وما يعرضه مسوقو هذه السلع، فأصحبت
دراسة التسويق والترويج للمنتجات فنّاً يتم بحثه ودراسته في الجامعات.
إن الاهتمام بعمليات التسويق والترويج للسلع يعود في حقيقة أصله إلى
المنطلقات الفكرية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي.
إذ يقوم المفهوم الفلسفي للنظام الرأسمالي على فكرة الحرية المطلقة للعمل على
تحقيق الاستجابة الكاملة للرغبات، وضرورة إزالة جميع المعوقات والحواجز التي
تحد من تحقيق المنفعة الفردية، لهذا: قام الفكر الرأسمالي على مقولته المشهورة:
(دعه يعمل، دعه يمر) وهذه المقولة هي تأكيد لمفهوم الرأسمالية القائم على أسس
عدة، منها:
1- البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب.
2- المنافسة والمزاحمة في الأسواق، واتباع جميع الأساليب التي تحقق للفرد
الحصول على أكبر منفعة، حتى ولو أدى ذلك إلى حصول الضرر للآخرين.
3- استخدام الدعايات لتسويق السلع، بدون النظر إلى القيم الأخلاقية،
واستخدام كل الوسائل المثيرة للغرائز بدون التفات إلى حاجات المجتمع، فالغاية
الأولى والأخيرة: تحقيق الكسب وسلب ما لدى الناس من أموال.
لقد غزت أساليب وطرق الترويج والتسويق بلاد المسلمين، بدون النظر إلى
المحاذير الشرعية أو الأخلاقية، فأصبحنا نرى في كل يوم أسلوباً جديداً من أساليب
الترويج للمنتجات الاستهلاكية، التي تمارس من قبل النظام الرأسمالي، حيث
نلاحظ الكذب والتضليل والخداع عند تقديم المعلومات عن السلع التي يتم الترويج
لها، واستخدام جميع المثيرات الغريزية بقصد تحقيق التأثير النفسي للفئة المقصودة
جذبها للشراء، أو مخاطبة الغرائز الذاتية بقصد دفع الفرد للشراء، ومن ذلك مثلاً:
ما يعمد إليه مروجو الأدوات التجميلية من إبراز تأثير جهازٍ ما على التخفيف من
الوزن، أو إبراز تأثير المستحضر على زيادة الجمال، مع عدم الصدق في القول؛
حيث إن مروجو هذه السلع إنما يخاطبون الجانب الغريزي في الإنسان [*] .
وتعود أهمية الحكم الشرعي لهذا النوع من الممارسات التجارية إلى كثرتها، واتساع نطاقها، وانتشار التعامل بها في المجتمعات الإسلامية، وإلى تعلقها
بتصرفات الفرد المسلم فيما يتعلق باستخدامه للمال الذي جعله الله قياماً للناس، ولما
في هذا الأسلوب من دفع للأفراد في التوسع في الاستهلاك والشراء بدون حاجة؛
مما يستدعي الدراسة المستفيضة للوصول إلى الحكم الشرعي لهذا النوع من
المعاملات المالية، وفي هذه المقالة سوف أحاول دراسة هذا الجانب، مؤملاً من
إثارته دفع مزيد من المتخصصين إلى المساهمة في مزيد من البحث للوصول إلى
رأي حاسم في هذا الموضوع.
القاعدة الأصولية تقرر: أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ ولهذا: فإن
من مقتضيات البحث في هذه القضية: إعطاء تصور واقعي لهذه المعاملة.
الأسلوب المتبع في طرح الجوائز للترويج لشراء السلع من متجر معين، أو
شراء سلعة معينة، هو: قيام البائع بتحديد جائزة عينية أو عدة جوائز يشترط فيمن
يدخل في التنافس عليها أن يكون مشترياً من هذا المتجر سلعاً أو سلعة معينة بقيمة
معينة، خلال فترة زمنية معينة، ويتم إعطاء كوبونات (مستندات اشتراك لهؤلاء
المشترين من هذا المحل أو المشترين لهذه السلعة) ، وهذه الكوبونات تدخل في
السحب للفوز بالجائزة، أو بأحد هذه الجوائز، فالشراء شرط في الاشتراك في
الحصول على هذه الجائزة، وفي الغالب: يتم تحديد قدر معين من الثمن المدفوع
ثمناً لما يتم شراؤه؛ حتى يمكن الدخول في السحب للحصول على الجائزة، كما أن
عدد المشتركين في السحب غير محدد بعدد معين، وإنما يتم تحديد مدة زمنية،
يحق لمن يشتري خلالها الدخول في السحب؛ فالبائع متبرع ومانح للجائزة أو
الجوائز لأشخاص غير محددين، ولكن يشترط على من يرغب في الدخول في
السحب على هذه الجوائز ضرورة قيامه بالشراء لسلعة من السلع المعروضة للبيع
لدى المتجر الذي قدم الجائزة أو الجوائز، أو لدى مالك السوق الذي يقوم بتأجير
محلاته للتجار، ويرغب في دفع الناس إلى الشراء من هذا السوق؛ بقصد تثبيت
المستأجرين من خلال زيادة مبيعاتهم، وبالتالي: رفع القيمة الإيجارية مستقبلاً.
السؤال الذي يمكن طرحه هو: ما نوع هذا التعاقد، وما مدى سلامته من
حيث الصحة والفساد، وبالتالي: ما الحكم عليه من حيث الجواز، والمنع، والحل، والكراهة، أو الحرمة؟
الممارسون لهذا النوع من الترويج يعتبرونه نوعاً من الهبة أو المنحة،
وبالتالي: فيمكن أن يلحق بعقود التبرعات، وقبل مناقشة صحة مقولة من قال: إن
هذه الجوائز هي هبات، أو منح، أو تبرعات يمنحها البائع لأحد المشترين من
السلع التي يعرضها للبيع: فلا بد من دراسة عقد الهبة لتحديد مدى انطباق أحكام
الهبة على الأسلوب الممارس من قبل التجار المروجين لسلعهم من خلال الإغراء
بهذه الجوائز.
يعرف ابن قدامة الهبة بأنها: تمليك في الحياة بغير عوض [1] .
فإذا كانت الهبة نظير العوض فهي بيع في الحقيقة، فلا تخالف البيع إلا في
أمور يسيرة، منها: أنها تجوز مع جهل العوض، بخلاف البيع: فإنه يشترط فيه
تعيين الثمن.. وأنها تجوز مع جهل الأجل، بخلاف البيع [2] .
وعلى ضوء هذا: فإنه إذا ارتبطت الهبة بالعوض، فقد تغير حكمها، فتدخل
ضمن عقود المعاوضات، وبالتالي: تخضع لأحكام البيوعات، فالجوائز التي
تستخدم للترويج للسلع ليست منحاً ولا هبات، وإنما هي نوع من أنواع البيوع
المستخدمة، ينبغي إخضاعها لأحكام البيوع وإن أخذت شكل الهبة؛ حيث إن (الهبة
إما أن تكون هبة عين أو هبة منفعة، وهبة العين: منها ما يقصد بها الثواب،
ومنها ما لا يقصد بها الثواب، وهبة الثواب اختلفوا فيها، فأجازها مالك وأبو حنيفة، ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور، وسبب الخلاف: هل هي بيع مجهول
الثمن، أو ليس بيعاً مجهول الثمن؟ ؛ فمن رآه بيعاً مجهول الثمن، قال: هو من
بيوع الغرر التي لا تجوز) [3] .
على ضوء ذلك: فإن الجوائز التي تستخدم كوسيلة من وسائل الترويج لزيادة
المبيعات وجذب المستهلكين هي نوع من أنواع البيوع الفاسدة، التي تقاس على
البيوع التي ورد النهي عنها، حيث إن الهبة إذا كانت بعوض كانت بيعاً، يجري
فيها حكم البيع كما ذكر ذلك سيد سابق في فقه السنة [4] .
ووفقاً لذلك: فإن هذه الجوائز تدخل ضمن عقود المعاوضات، وهي من
البيوع الفاسدة التي لا يجوز ممارستها، وضابط البيع الفاسد هو: ما اشتمل على
شرط من الشروط التي تجعل البيع فاسداً، وهو ما اجتمع فيه أمور، هي [5] :
1- أن يكون الشرط مما لا يقتضيه العقد.
2- أن يكون الشرط غير ملائم للعقد.
3- أن يكون لأحد المتعاقدين منفعة فيه.
فإذا اعتبرنا الهبة أو المنحة بعوض هي عقد معاوضة: فإن الجائزة التي
يمكن أن يقال: إنها هبة أو منحة من البائع.. تدخل ضمن مفهوم الهبة التي قصد
منها الثواب، وبالتالي: أصبحت عقد بيع تضمن شروطاً فاسدة، من حيث ربط
الهبة بالشراء، وهو شرط لا يقتضيه العقد، وغير ملائم له، وفيه منفعة لأحد
المتعاقدين وهو الواهب والمانح.
وعلى ذلك: فإن ضوابط الشرط الفاسد تنطبق على الشروط الموضوعة لنيل
الجائزة أو المنحة أو الهبة، أيّاً كان الاسم، فالجوائز التي يتم استخدامها وسيلةً من
وسائل الترويج للسلع بقصد زيادة المبيعات، بدفع الأفراد للشراء من خلال الرغبة
في الحصول على هذه الجوائز، التي لا يمكن الحصول عليها إلا لمن قام بالشراء
وحصل على كوبون للدخول به في عملية السحب.
إن هذه الوسيلة لدفع الناس للشراء تتعارض مع قواعد وأصول الشريعة
الإسلامية، التي منها: النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، سواء بخداعهم، أو
التلبيس عليهم، أو الولوج إلى جيوبهم بالتغرير بهم من خلال أساليب بيوع الجهالة
والغرر، وبالتالي: فإن هذا النوع من الممارسات، إذا لم تصل إلى درجة الحرمة، فلا أقل من وصولها إلى دائرة الشبهات المنهي عن الولوج فيها؛ حيث قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن
بشير (رضي الله عنهما) ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس،
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في
الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى: يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد
كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [6] .
على ضوء ما سبق يمكن تحديد الأدلة التي يمكن الاستناد إليها، ليتجنب
ممارسة هذا العمل من أخذ أو منح هذه الهبات والمنح التي قصد منها الحصول على
المعاوضة بشراء السلعة التي وضعت لها المنح أو الجوائز، حيث إن هذه الممارسة
تؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وإلى الوقوع في البيوع الفاسدة المنهي عنها،
ونحن نستند في رأينا حول كراهة ممارسة هذا النوع من المعاوضات إلى الأمور
التالية:
أولاً: أن هذا الأسلوب من المعاوضات يندرج تحت النهي عن بيع المنابزة
والملامسة وبيع الحصاة، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- (نهى عن الملامسة والمنابزة) وروى مسلم في صحيحه عن أبي
هريرة أيضاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن الملامسة، وهو لمس
الثوب لا ينظر إليه) ، والنهي عن هذين النوعين لعلتين، هما: الجهالة، وكونه
معلقاً على شرط، وهو نبذ الثوب إليه أو لمسه له، والعلة الجامعة مع ما يعرف
بالمنح والجوائز هي: كون الجائزة أو المنحة معلقة على شرط أو أكثر من الشروط
لدخول السحب على هذه المنح أو الجوائز، وتعليق الهبة أو المنحة على شرط قد
أشار إليه ابن قدامة في المغني بعدم الصحة، يقول: (ولا يصح تعليق الهبة بشرط، لأنها تمليك لمعين في الحياة، فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فإن علقها على
شرط كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: (إن رجعت هديتنا إلى
النجاشي فهي لك) كان وعداً، وإن شرط في الهبة شروطاً تنافي مقتضاها؛ نحو أن
يقول: وهبتك هذا بشرط أن لا تهبه أو تبيعه، أو بشرط أن تهب فلاناً شيئاً: لم
يصح الشروط) [7] ، وأما بيع الحصاة: فقد روى مسلم عن أبي هريرة (رضي الله
عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر) ،
وتفسير بيع الحصاة هو: أن يقول: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو
لك بدرهم، وقيل: هو أن يقول بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ الحصاة إذا
رميتها بكذا، والشبه بين بيع الحصاة والمنح أو الجوائز أو الهبات بعوض هو: أن
المشتركين في السحب هم ممن قاموا بالشراء من متجر المانح أو الواهب للجائزة،
ولكل واحد منهم قسيمة، حيث يتم خلط هذه القسائم الدالة على الشراء جميعاً، ثم
السحب من هذا الخليط، فهو أشبه برمي الحصاة على البيع الذي يمثل الجوائز
الموهوبة أو الممنوحة، فعنصر الجهل أو الغرر في ذلك واضح، من حيث جهل
الموهوب له، حيث إن الموهوب له غير معروف إلا بعد السحب.
ثانياً: أن هذا الأسلوب من المعاوضات قد يندرج ضمن مفهوم (بيع وشرط)
الذي ورد فيه النهي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث روى أبو داود
والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما
ليس عندك) ، وقد علق ابن قدامة على ذلك بقوله: (والشروط تنقسم إلى أربعة
أقسام.... الثالث: ما ليس من مقتضاه، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه،
وهو نوعان، أحدهما: اشتراط منفعة البائع في المبيع ...
الثاني: أن يشترط عقداً في عقد، نحو: أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً
آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يصرف له الثمن،
أو غيره، فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري [ويقاس
على ذلك: الهبة المشروطة، باعتبار أن لها حكم بيع] .. الرابع: اشتراط ما ينافي
مقتضى البيع) [8] ، وعليه: فإن الهبة أو المنحة المتمثلة في الجائزة يتوفر فيها
اشتراط منفعة البائع مقدم الجائزة أو المنحة؛ حيث إن الهبة مشروطة بالشراء من
البائع، فلا يمكنه الاشتراك في السحب للحصول على الجائزة المقدمة من البائع إلا
وفقاً لهذا الشرط.
ثالثاً: أن هذا الأسلوب يؤدي إلى التوسع في الاستهلاك من خلال شراء سلع
لا يحتاج إليها الفرد، وإنما رغبة في الحصول على مال أكثر، مما سيكون حافزاً
له للاشتراك في السباق للحصول على الجائزة أو المنحة، وبالتالي: اضطراره
للشراء بغير حاجة لمايعرض من سلع. ومن الأمور التي نهى عنها الشرع، ووجّه
رسولنا (عليه أفضل الصلاة والسلام) أمته إلى الابتعاد عنها: التوسع في الإنفاق
بدون حاجة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن التبقر في المال والأهل) ومعنى التبقر هو:
التكثر، والسعة، بل إن الشراء بقصد الدخول في المسابقات لنيل الجوائز يدخل في
النهي العام الوارد في قوله (تعالى) : [وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَاماً] [النساء: 5] فالتوسع في شراء السلع الاستهلاكية التي يتولى مروجوها
إيجاد الوسائل لجذب الناس ودفعهم للشراء بكل وسيلة من وسائل الإغراء والتغرير
ومن هذه الوسائل: تلك الجوائز التي تمنح لمن يقوم بالشراء، لا لسد حاجته، بل
للحصول على جائزة من تلك الجوائز فهذا الأسلوب يدفع إلى غرس عادة الحصول
على المال بدون جهد.
بجانب أن زيادة الاستهلاك للمجتمعات الإسلامية التي تقوم باستيراد تلك السلع
الاستهلاكية تؤدي إلى أن تذهب تلك الأموال المنفقة على تلك السلع الاستهلاكية
غير المحتاج إليها إلى أيدي أعداء الأمة، من خلال زيادة الاستيراد لتلك السلع؛
مما يؤدي إلى التقليل من فرص نمو المدخرات، فالمصلحة العامة تقتضي منع مثل
هذه الجوائز.
__________
(1) المغني، ج5، ص 649.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري، ج3.
(3) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ج2، ص 331.
(4) فقه السنة، سيد سابق، ج3، ص 535.
(5) الفقه على المذاهب الأربعة، ج2، ص 226 230.
(6) أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ له.
(7) المغني، ج5، ص 658 6.
(8) المغني، ج4، ص 249 250.(105/40)
مقال
ظاهرة النسيان..
أسبابها وعلاجها
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
آيات: لله في الآفاق وفي الأنفس مبثوثة، ومن تلك الآيات: ما أودعه الله
(تبارك وتعالى) في ذاكرة الإنسان من قدرة فائقة على تخزين المعلومات والأحداث
وكل ما يمر بالإنسان، ثم استحضار ذلك أو بعضه في أوقات متباعدة، مما يبهر
عقل الإنسان، في إدراك كيفية حصول ذلك، [وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ]
[الذاريات: 21] .
وتلك الذاكرة نعمة من النعم يجب شكرها، وقد منّ الله على عباده بأن جعل
لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون، وإن الذي وهب هذه الذاكرة هو الذي
جعل في طبيعتها النسيان..، ولا شك أن الإنسان يعتمد على ذاكرته في أمور دينه: من طلب علم، وعبادة، ودعوة، وفي أمور دنياه وشؤونه الحياتية.
إلا أن الجانب الأبرز هنا هو طلب العلم النافع، فإنه على أهمية كتابته، إلا
أن الذاكرة تبقى أداة حفظ العلم واستذكاره الأساس، قال أبو موسى الأشعري
(رضي الله عنه) لتلاميذه: (احفظوا عنا كما حفظنا) [1] ، فلا غنى لطالب علم عن
رعاية ذاكرته وتحسين أدائها.
فما حقيقة هذا النسيان؟ وما أسبابه؟ وهل له علاج؟ .. هذا ما سأحاول إلقاء
الضوء عليه، والله المستعان.
ما النسيان:
النسيان: ضد الذكر والحفظ [2] ، ويعرفه بعض علماء النفس بأنه: (فقدان
طبيعي جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم لما اكتسبناه من ذكريات ومهارات ... حركية) [3] .
والمذموم من النسيان ما كان لعلوم عينية، وعن كسب من الإنسان، وقد
يكون ذلك بالتغافل والإعراض، وأما ما عذر فيه صاحبه: فهو ما لم يكن سببه ... منه [4] ، وقد وقع مثل ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، وهذا النسيان هو المقصود من الحديث، دون النسيان المرضي الناتج عن صدمة دماغية أو انفعالية.
وينبغي أن نعلم أن النسيان قد يكون رحمة من الله (تعالى) ، فلولاه ما سلا
محزون عن موت حبيب، أو قريب، ولا كررت امرأة الحمل والولادة.
وبناءً على ما سبق: فإن ترك الحفظ تعللاً بخشية النسيان ضرب من خداع
النفس ووسوسة الشيطان.
مخاطر النسيان وآثاره:
النسيان سبب لضياع العلم، وضياع الجهد والوقت، وطالما حذر السلف
الصالح (رحمهم الله) من نسيان العلم وإهماله، فيندرس.
ولذا: كانوا يكثرون الوصية بمذاكرة العلم ومدارسته، قال علي (رضي الله
عنه) : (تزاوروا وتذاكروا الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يُدرس) [5] ، وقال ابن
جماعة الكتاني: (لا بد لكل حافظ من أوقات يكرر فيها مواضيه ويراجعها، وإلا
كلفه النسيان شططاً) [6] .
وعليه: فإن من كمال العقل والحزم: الحرص على حفظ العلم، فحفظه
كحفظ الروح، وأول خطوة هي: معرفة الأسباب.
أسباب النسيان:
تتفاوت أسباب النسيان من شخص لآخر، وقد تتعدد الأسباب في الشخص
نفسه، ومن أسباب النسيان ما يلي:
1- ضعف التقوى:
تقوى الله (عز وجل) أعظم سبب لتحصيل العلم النافع، وضعفها يضيع العلم
ويفقده بهاءه ورونقه.
ومما يترتب على ضعف التقوى: الغفلة عن ذكر الله (تعالى) ، فيدرك نصيبه
من قوله (تعالى) : [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ]
[الزخرف: 36] ، ينسيه الطاعة، ويذكره المعصية، ومن ضعف التقوى: تضييع
أوامر الله وارتكاب المعاصي، وهو نسيان للنفس، كما أنه نسيان لله، ومن عقوبته: أن الله ينسيه مصالح نفسه، ويغفله عن منافعها وفوائدها.
2- كتمان العلم:
والنسيان هنا عقوبة عاجلة من جنس المعصية، بخلاف العقوبة الأخروية:
أن يلجم كاتم العلم بلجام من نار كما في الحديث.
3- إهمال حق الجسد أو التقصير فيه:
وذلك لأن الذاكرة متصلة بالجسد، تتأثر بصحته وسقمه، وقوته وضعفه.
ومن حق الجسد: تعاهد الصحة، والعناية بالتغذية السليمة، باتباع الهدي
النبوي فيها: كالأكل باعتدال، وترك الإكثار من الشبع.
ومن حقه أيضاً: الراحة الكافية، فإن كثرة الإجهاد أو السهر المضني مؤثر
على سلامة الذاكرة.
4- تشتت الذهن بكثرة الأشغال والعلائق:
إن مما يضعف أداء الذاكرة: توزيعها بشكل عشوائي بلا تنظيم ولاتركيز،
وإشغالها بكثير من التوافه، وما تقل أهميته؛ مما يعوقها ويضعف أداءها للمهمة
الأساس، ولذا: فإن المهتمين بحفظهم وذاكرتهم يفضلون استخدام المفكرات اليومية، التي من فوائدها ادخار الذاكرة لما هو أهم، وفي هذا قد تختلف قدرات الأفراد
وملكاتهم.
5- كثرة الهموم والأحزان:
الهمّ والحزن من أعظم ما يشتت القلب، ويضعف قوته.
وكثرة الهم والحزن على أمور الدنيا يعني أن القلب شغوف ومشغول بها، ولم
يبق مكاناً لما سوى ذلك من الأمور النافعة.
6- ترك أسباب اكتساب القوة العقلية وتنميتها:
إن الذاكرة ملكة وطاقة تنتج إنتاجاً طيباً، فإذا ما استخدمت بإحسان واعتدال،
فأحسنت رعايتها وعُودت بتدرج على ما يريد صاحبها، أثمر ذلك نماءً واتساعاً،
لذا: كان من أسباب حصول النسيان في هذا النطاق:
إهمال خطوات الارتفاع بمستوى الذاكرة، وعوامل التذكر الجيد.
تداخل المعلومات بسبب عدم تنظيم طرق إدخالها.
الشرود أثناء القراءة أو الاستماع.
شغل الذهن بأمور جانبية تشوش المعلومات.
ضعف الرغبة فيما يقرأ أو يسمع.
الشعور بالإحباط، وفقدان الثقة بالنفس، وضعف إرادة الاستذكار.
ومن أهم الأسباب: قلة المراجعة وضعفها.
7- تركيز الذهن على أمرٍ ما دون غيره:
وذلك أن النسيان أحياناً يحدث لجانب من المعلومات دون غيره، وذلك بسبب
التركيز على جانب آخر، فينبغي توزيع التركيز على الأهم فالمهم.
علاج النسيان وأساليب تقوية الحفظ:
1- تجريد النية، وتحقيق التقوى، والاستعانة بالله (جل وعلا) :
النية ذات أثر بالغ على أعمال الإنسان وأقواله وأحواله، والفرق واضح بين
من كانت نيته خالصة، تحركه وتبعثه، وبين من انحطت همته واختلطت نيته.
فإن الأول معان موفق، قال ابن عباس (رضي الله عنهما) : (إنما يحفظ الرجل
على قدر نيته) [7] .
ثم التقوى تورث في القلب نوراً، وهي تتضمن ترك الذنوب والمعاصي التي
لها رين على القلوب. وقد تكاثرت النقول عن السلف في التحذير من المعاصي،
وبيان أثرها على العلم.. سأل رجل مالكاً: يا أبا عبد الله هل يصلح لهذا الحفظ
شيء؟ قال: إن كان يصلح له شيء فترك المعاصي [8] .
2- الإكثار من ذكر الله وشكره:
ذكر الله حياة القلوب، وروح العبادات، يذهب الغفلة، ويورث اليقظة
والنباهة؛ ذلك أن الله (عز وجل) يذكِّر عبده الذاكر مصالحه ومنافعه، ويوفقه
ويسدده.
ثم الشكر سبب لحفظ النعم الموجودة، وجلب النعم المفقودة، فإذا شكر العبد
نعم الله عليه، وقام بذلك بقلبه ولسانه وجوارحه: فلا شك أن الله يزيده ويعطيه،
وكما أن العقوبة تكون من جنس المعصية، فالجزاء من جنس العمل؛ قال (تبارك
وتعالى) : [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] [ابراهيم: 7] .
3- العناية بصحة الجسد وغذائه وراحته، ومن صورها:
الاهتمام بالغذاء المتوازن.
تقليل الغذاء وعدم الشبع، وذكر العلماء أن أوقات الجوع أجود للحفظ من
أوقات الشبع [9] .
النظافة والوضوء والتطيب، وهي ذات أثر طيب على انشراح الصدر،
واتقاد الذهن؛ ولذا: كان كثير من سلفنا الصالح يتهيؤون للدرس بالوضوء،
والتطيب، ونظافة الملبس، حتى إنهم كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وهم على غير وضوء [10] .
وقد ذكر بعض العلماء أموراً لتنشيط الذاكرة، ولكنها في معظمها ليست
موصوفة من مشكاة النبوة، فتقع تحت التجربة والبحث العلمي، كتناول العسل،
والحبة السوداء، وأكل الزبيب، ومضغ اللبان.. ولا ندري مدى صحة ذلك طبيّاً.
4- تنظيم الوقت وحسن استغلاله:
والمقصود منه هنا: الحرص على الأوقات المناسبة للحفظ، التي اهتم العلماء
بذكرها عند الكلام عن آداب طالب العلم، قال ابن جماعة: وأجود الأوقات للحفظ:
الأسحار، وللبحث: الأبكار، وللكتابة: وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة: ... الليل [11] .
وعموماً: فإن استغلال الأسحار والأبكار، وطرف من الليل هو الأصل في
ذلك، فإن إفراز الغدة فوق الكلوية (الكظرية) كما تؤكد الأبحاث العلمية يزداد حتى
يصل إلى أعلى نسبة من هرمون التركيز من 4 8 صباحاً، وأدنى درجة منه تكون
بعد 11 مساءً، إذن: فلا بد من النوم ليلاً، إذ إن أي إخلال بذلك يخفض التحصيل
بنسبة 25%.
5- اتباع الأسس السليمة للحفظ والاستذكار:
وذلك يشمل عدة جوانب:
الجانب الأول: ما قبل الحفظ والتعلم:
وهو ما يتعلق بالاستعداد النفسي، ويشمل عوامل عدة:
1- إخلاص النية، وتصحيح القصد.
2- الثقة بالنفس، بمعنى التصميم على الإنجاز والنجاح، مع الاستعانة بالله
أولاً وأخيراً.
3- الاستمتاع بما يقرأ ويدرس ويحفظ؛ لأنه إن لم تنشرح نفسه لذلك لم
يتفاعل معه، ولم يثبت في ذاكرته ثبات ما استمتع به.
4- الأخذ عمن يثق بعلمه وأمانته.
5- قوة الإرادة بدءاً واستمراراً: وذلك أمر يُربى عليه المسلم، وقوة الإرادة
مظهر لأخلاق حميدة من الصبر والحلم.
6- التركيز الذهني: ومما يعين عليه: الاستمتاع وقوة الإرادة، كما يعين
عليه: اختيار الوقت والمكان المناسبين، وكذلك: تحديد الهدف والتصميم عليه.
وإلماحاً إلى هذا العامل قال ابن جماعة: (وأجود أماكن الحفظ الغرف، وكل
موضع بعيد عن الملهيات، وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات؛ لأنها تمنع من خلو القلب ... غالباً) [12] .
الجانب الثاني: أثناء الحفظ أو التعلم:
لا شك أن عملية الحفظ أو التعلم، والكيفية التي تتم بها: لها أثر في عملية
التذكر واستحضار ما في الذاكرة.
ومن الأسس التي ينبغي مراعاتها [13] :
1- التكرار: ويختلف باختلاف طبيعة المادة، وطبيعة الحفظ ونوعه، وكمية
المحفوظ، ومدة الحفظ.
2- توزيع التعلم في الحفظ والمراجعة على حد سواء: بأن تتخلله فترات
استراحة، وهذا أفضل من تجميعه في وقت واحد؛ لأنه يتيح دقة أكثر في
الملاحظة، حيث يتم بناء الذاكرة في فترة الاستراحة، ولأنه كذلك: يقلل التداخل.
3- اتباع الطريقة الكلية في التعلم:
(يقصد بالطريقة الكلية في التعلم أن تأخذ فكرة عامة عن الكل قبل الدخول
في الأجزاء والتفاصيل؛ لأن إدراك الكل أولاً يسهل ربط كل جزء بالكل، وكل
جزء بالجزء الآخر، فيكون الفهم أفضل والحفظ أسهل وأشمل وأدوم) .
4- التسميع الذاتي: وهو أفضل من القراءة مرات، ويذهب الملل، وهو
تقويم ذاتي، ويقوي الملاحظة، ويعطي تعزيزاً فوريّاً، ويبعد شبح الفشل، لأنه
يسهم في اكتشاف الأخطاء.
5- السماع من آخر: وهي وسيلة تحقق كثيراً من فوائد التسميع الذاتي،
لكنها لا تغني عنه. وهي مُعِينة على التذكر، فقد تذكر النبي -صلى الله عليه
وسلم- باستماعه آية كان أُنسيها [14] .
6- رفع الصوت أثناء الحفظ بقدر لا يشق عليه، فإن القراءة الخفيّة للفهم،
والرفيعة للحفظ والفهم [15] .
7- النشاط الذاتي واستخدام المؤثرات: بوضع الخطوط مثلاً، والتلخيص،
وكتابة ما يحتاج إلى تركيز أكثر في حفظه، كالتعاريف، والتواريخ.. ونحوها،
ووضع التساؤلات لما يشكل فهمه، ليركز عليه أثناء الإعادة والمراجعة، وليسأل
عما استعصى عليه فهمه.. فكل ذلك معين للعقل على الحفظ والتركيز.
8- تنويع العمليات العقلية: بتناول المادة من عدة زاويا، باستخدام: التفكير
الاستقرائي والاستنتاجي والمكاني، والزماني، والسببي، والتشابهي والمقارن، والتقييمي. وذلك يرسخ المعلومة، ويقلل تداخل المعلومات.
9- تنظيم المعلومات، وله أشكال، منها: ترتيب الأحداث زمنيّاً، أو مكانيّاً، واستخدام الأشكال، وربط المعلومات، واستخدام المقارنات.. إلخ.
10- معرفة المعنى: فإن حفظ الكلام الذي لا معنى له، أو غير معلوم
المعنى يحتاج لتسعة أمثال الوقت اللازم لحفظ الكلام المفهوم المعنى! ، وينبغي ألا
يتهاون في الفهم؛ لئلا يعتاد ذلك.
11- ربط القديم بالحديث: مما يسهل التعلم الجيد، ويحيي القديم؛ باكتشاف
أوجه الشبه والاختلاف.
12- تقليل القدر المحفوظ، بقدر ما يمكنه ضبطه بالإعادة مرتين.
والأمر في هذا واضح؛ فإن كثرة الكلام يُنسي بعضه بعضاً.
13- ومن أهم الأسس وأنفعها، تمرين الذاكرة وتعويدها على الحفظ، مع
الصبر والمجاهدة: وبذلك يستفيد طالب العلم مما وهبه الله من قدرات وملكات
عظيمة، فإن الذاكرة ذات قدرة فائقة على الحفظ وتتسع كلما زاد مخزونها، قال
الحارث بن أسامة: (كان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق
إلا القلب، فإنه كلما أفرغت فيه اتسع) [16] .
الجانب الثالث: ما بعد التعلم:
وذلك بمقاومة النسيان، وتلافيه قبل حلوله عبر خطوات عدة:
الخطوة الأولى: استمرار التعلم (المراجعة) :
بدايةً: ينبغي تصوّر أهمية المراجعة تصوراً صحيحاً، فهي ليست إضاعة
وقت، ولا توقفاً عن العمل، ولا تأخراً في التعلم والحفظ، بل هي تعلم بعينه،
وهي التي تحفظ النتائج السابقة، وتحافظ على رأس المال، فإن ما تم حفظه وفهمه
هو رأس المال؛ فإن المعلومات التي تحفظ جيداً لا تكاد تُنسى، وإنما تكون في
مكان ما في الذاكرة، ويحتاج استحضارها إلى وقت طويل بخلاف ما يترك وينسى
فلا يكاد يمكن استحضاره [17] .
وإذا أحسن الإنسان التعامل مع قواه العقلية، وأحسن استغلال ذاكرته
واستثمارها في شبابه وكهولته: تضاعفت قواه العقلية في الوقت الذي تضعف فيه
بنية جسمه وبقية القوى الأخرى [18] . وهذا الأمر يفسر لك ما كان عليه سلفنا
الصالح من ضبط وإتقان في سن الكبر، ولو جاوزوا الستين! ! .
ولا شك في صعوبة المراجعة على النفس كما ذكر ابن الجوزي ولكن الحقيقة
أنك أمام أمرين لا ثالث لهما: إما المراجعة، أو النسيان! فليختر العاقل لنفسه ما
أراد، وطالما تواصى السلف بألا يوضع العلم عند غير أهله ممن يضيعه وينساه،
وتختلف حاجة الناس إلى كثرة المراجعة حسب درجات حفظهم، وقوة استحضارهم.
أما طريقة المراجعة: فإن أمكن وجود شخص آخر موثوق به تتم المذاكرة
معه والمراجعة عليه: فهو الأفضل، وهو الأصل الذي نص عليه السلف،
ويسمونه: المذاكرة، والمدارسة. وإلا: فلا بد من المراجعة بأي طريقة ممكنة،
كالقراءة على نفسه، والكتابة.. ونحو ذلك، حتى لو احتاج الأمر لأن يقرأ على
غيره ممن ليس من أهل العلم، كالصبيان ونحوهم، وتبقى الأهمية الكبرى للتكرار
والمراجعة الشخصية.
وهنا لا بد من التنبيه على أمور:
أ- من المفضل أن يتم حفظ ما يراد تسميعه من الليل، ثم يعقبه نوم، ثم
تجري مراجعته سحراً أو بكرة؛ لأنه إذا تساوى زمن النوم واليقظة بين التعلم
والتذكر: فإن زمن النوم أقل ضرراً على الحفظ من زمن اليقظة؛ لعدم التعرض
لخبرات جديدة خلال النوم، والتي يحصل النسيان بسببها، فإن النسيان إنما يحدث
من جراء حصول خبرات جديدة، يفسح لها الدماغ مجالاً، فيطمس أشياء ... قبلها [19] .
ب- من المهم بعد عملية الحفظ تجنب الانفعالات والمثيرات العصبية؛ لأنها
تؤثر على الحفظ سلباً، ومن الصعب تفسير ذلك عصبيّاً، ولكن المقصود أن ذلك
يذهل الإنسان عن أشياء يعلمها، أو يحفظها.
ج- يقال في مراجعة الحرف والمهن كما قيل في مراجعة العلوم، فإنها مما
ينسى إذا لم تستعمل! وكما جاء الأمر بتعلم الرمي، جاء التحذير من نسيانه بتركه، فقال: (من علم الرمي ثم تركه، فليس منا، أو قد عصى) [20] وقد حرص
الصحابة على ممارسة ما تعلموه كما صح عن عقبة بن عامر في رميه في حال كبر
سنه.
ومثل الرمي: كل حرفة ومهارة، وكذا: كل علم يحتاج إلى تدريب،
كالفرائض، والحساب، والنحو، واللغات ... وكذا العلوم الطبيعية، فإن العقل
يحتاج إلى مراجعتها وممارستها، والتدرب فيها بحل المسائل التطبيقية فيها.
الخطوة الثانية: العمل والتطبيق:
العمل بالعلم هو ثمرة العلم، وبه يزكو العلم، ويثبت في النفس، ولا يكون
نافعاً ما لم يُعمل به.
وقد اعتبر السلف العمل بالعلم معيناً على تثبيت العلم وزيادته، قال إبراهيم
بن إسماعيل بن مجمع: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل) [21] .
ولايثبت العلم بمثل العمل، ولا سبيل إلى مراجعة كل العلوم، فإن العمر
قصير، لكن ببركة العمل يثبت العلم، وتأمل مثلاً حفظ أذكار الصلاة وأدعيتها،
وقارن بين من يحاول التنويع بحيث يأتي بكل أو جلّ ما حفظ في صلواته، وبين
من تكون صلته بها محصورة بين الكتب، وقِس على ذلك.
الخطوة الثالثة: مواصلة الطلب، واستمرار التعلم:
يعجب، ولا ينقضي عجبه، من تأمل حال سلفنا الصالح (رحمهم الله تعالى)
في مواصلة طلبهم للعلم حتى الممات، والشواهد كثيرة، ومن مآسي عصرنا: أن
اعتبرت بعض المراحل الدراسية هي الغاية، من بلغها بلغ الكمال!
الخطوة الرابعة: تبليغ العلم وتعليمه:
وهذا ثمن العلم وزكاته، وإذا كان المال ينقص بالإنفاق فإن العلم يزكو بالتعليم، ولا ينبغي أن يكون التقصير في العمل إذا وقع مانعاً من تعليم العلم وتبليغه، فإن
هذا تقصير آخر، ثم إن تعلم العلم وتعليمه معين جدّاً على العمل وباعث عليه..
وأخيراً: فلا بد من التأكيد على أهمية اللجوء إلى الله (تعالى) ، والإقبال عليه، والإكثار من دعائه [*] وسؤاله، فبيده (سبحانه) خزائن السموات والأرض،
لايغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار.
وختاماً: فقد ظهر أن المسألة تحتاج إلى حزم وجد ومثابرة، نسأل الله للجميع
التوفيق لمرضاته.
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله (1/282) ، وصحح محققه إسناده.
(2) لسان العرب، 6/4416.
(3) كيف تستذكر دروسك، زين شحاته، ص 43.
(4) انظر: المفردات، للأصبهاني.
(5) جامع بيان العلم، 1/623، وصحح محققه إسناده.
(6) تذكرة السامع، ص123.
(7) الجامع لآداب الراوي والسامع، للخطيب، 2/312.
(8) السابق.
(9) تذكرة السامع، ص72، 73.
(10) انظر آثاراً عنهم: جامع بيان العلم وفضله، 2/1217، 1220.
(11) تذكرة السامع، ص 72، 73.
(12) تذكرة السامع والمتكلم، ص 72، 73.
(13) انظر المهارات الدراسية، ص 98 وما بعدها.
(14) مسلم ح/788، وانظر: كيف تحفظ القرآن، عبد الرب نواب الدين، ص 94.
(15) انظر: الحث على طلب العلم، للعسكري، ص 72:.
(16) الحث على طلب العلم، للعسكري، ص 71.
(17) خطوات النجاح، محمد العثمان، ص 66.
(18) علاج النسيان، ص 56 58.
(19) انظر: المهارات الدراسية، ص: 124.
(20) مسلم، ح /1919.
(21) الجامع لأخلاق الراوي، 2/314.
(*) جدير بالتنبيه أن ما يطلق عليها صلاة حفظ القرآن لا يصح حديثها، وقد عده بعض العلماء موضوعاً انظر: ضعيف سنن الترمذي ح/719 والمستدرك 1/ 316، وفضائل القرآن، لابن كثير، تحقيق: أبو إسحاق الحويني، ص 290، ولايجوز أن يعمل بها في فضائل الأعمال؛ لضعفها الشديد ولعدم اندراجها تحت أصل عام، والله أعلم.(105/48)
نص شعري
رسالة إلى أبي محجن
بقلم: محمد بن عائض القرني
أيها الصحبُ أين أين المسير؟ ! ... ومتى المنتهى وكيف المصيرُ؟ !
أنا في زحمة الحياة غريب ... فلمن يُشتكى ومن لي مجير؟ !
وعلى الساح أمتي تتهاوى ... ذلّ منصورها وذل النصير! !
نفد الزادُ يا رفاق طريقي ... سئم الركبُ حين طال المسير
واضمحلت سنابل الحقل لما ... جُفِف النبعُ وهو عذب نمير
* * *
أيها الفارس العنيد ترجّل ... فخيولي حبيسة لا تغير! !
والسلاح الذي أُعِدّ كليل ... وأذى العرض لم يعد يستثير!
اصهلي يا براذن الفرس ماتت ... خيل سعدٍ ومات فينا الضمير!
وأبو محجن يئن بقيد ... فلِمَ القيدُ أيّهذا الأسير؟ ؟
عربدي يا علوجَ أيلة هذا ... زمن القحط! ! شره مستطير
كبت الناس عنوة! ! ! ورجانا ... ندع الزادَ والرِكاب تسير
و (كريستوفر) يحثّ خطاه ... وهو بالصلح والوفاق بشير!
وإذا (الجات) أثمرت فجناها ... سوف يأتي، وشوكها لا يضير!
* * *
يا ليالي الشتاء عودي ربيعاً ... نرجسيّاً يضوع منه العبير
واهنئي يا يهود إنا أناس ... ليس فينا حمائم أو صقور
فخذي القدسَ كلّها وكفانا ... (سمة الإذن) بالعبور نزور!
جزئي مسجد الخليل وإلا ... وحِديه؛ فذاك خطْب يسير
وصلاة مع الإمام فإن لم ... يأت، فالكاهن الحكيم نظير
هكذا دان قومنا أرأيتم ... كيف هُنّا صغيرنا والكبير؟ !
* * *
ليت شعري إلى متى نتمادى؟ ... في رضا الخصم وهو وغدٌ حقير! !
يا أبا محجن كفاك تراباً [*] ... (فِيلُ كسرى) على الثغور يغير
كُشِف السترُ فالعفاف ذبيح ... هُتك العرضُ والجناح كسير
فاعصب الرأس عزة تتلظى ... أنت بالحرب والسلام خبير
أَزِفت ساعة القصاص وإلا ... فاجرع الموتَ ثم بئس المصير
أفما آن للنيام انتباهٌ ... أوَ ما أيقظ النيام النذير؟ !
__________
(*) رضي الله عن أبى محجن، فقد تاب وجاهد جهاد المؤمن الغيور! ! .(105/60)
نص شعري
انتصار الحق
شعر: موسى محمد هجاد
أيها الفارس.. مهلاً..
لا تغادر صهوة الحق.. ولا تلقي اللجام..
واستمع..
يا فارس الحق.. صدى صوت الكرام..
هل تذكرت.. الألى
ساروا حفاةً.. والألى راموا القيام..
والألى.. من شرفة التاريخ
أعلوا هامة الصدق الهمام
والألى.. لم يعشقوا النوم..
وما أغضوا لتسفية اللئام..
***
أيها الفارس..
لما تذبل الأشجار في وادي الربيع..
لم تودعنا الأزاهير..
التي تحلم بالظل الصريع..
والإباء الشامخ.. الوردي
لم يستهوه الصوت الوديع..
لم يزر خيمة ليلى العامرية..
ما رأى قيساً وأطمار الشقاء الجاهلية..
ما رثى للشعر إذ ينساب في عشق
ولم ينسيه أوراق (القضية) ؟ ..
ما عفى للقوم آثار الحمية..
والخريف الهازل.. الهش..
ارتمى حزناً بأحضان المنية..
ساءه (الترتيل) في قارعة الليل البهيم..
واحتسى قسرا من الإعجاز.. آيات النعيم
لم ينم.. في ذلك الليل..
رمى عن جفنه اللهو القديم..
صاح مذعوراً تخطى حاجز الصمت.. الأليم..
كيف أحيا في صباح الصيف.. مزهوّاً..
وقد طال الأرق؟ !
كيف أستعذب أنغام الهوى..
يصغي لها سمع الشفق؟ !
أين فارس مأواي الرفيق..
أين أحلام الصباة.. استنفرت..
من كاهن الليل النعيق..
لم يعبرها (التقاة) ..
استعجمت أشباح أحلام الغريق..
أيها الفارس لا تجزع..
***
إذا طال الطريق..
وأسأل التثبيت.. في وقت..
علا صوت (النقيق)
واختفى في زحمة الأصوات..
مصداق الصديق..
***
أيها الفارس..
نوح عانق المأساة.. أحقاب السنين..
أعرضوا.. صموا.. عموا
لايستكين..
صفقت أشرعة المركب..
تستهزئ بالكفر الدفين..
واستفاق القوم..
في لجة طوفان من الحق المبين..
وانظروا
(لا عاصم اليوم) من الإغراق..
(إلا من رحم) ..
فارجعوا.. لا تركضوا..
لن يبلغ (الجوديّ) عُبّادُ الصنم..(105/62)
دراسات أدبية
معالم على طريق الأدب الإسلامي
(1 من 3)
بقلم: طاهر العتباني
التنظير والنموذج:
عندما ظهرت الدعوة إلى الأدب الإسلامي في العصر الحديث وقف منها
المثقفون العرب والمسلمون مواقف متعددة متباينة، فمنهم من احتفى بهذا المصطلح
الجديد احتفاءً جمّاً، وتحمس له غاية الحماس دون أن يكون مع ذلك الحماس رؤية
متكاملة تقوم على أسس واضحة وتتبنى تصوراً شاملاً لهذا المصطلح، ومنهم من
رفضه بدعوى أن الأدب العربي كله منذ البعثة النبوية إلى اليوم أدب إسلامي،
يُنتجهُ في معظمه مسلمون، فلا داعي إذن لهذا التمييز.
ولكن طائفةً من شداة الأدب ونقاده نظرت لهذا المصطلح نظرةً موضوعيةً
هادئةً، تقوم على أسس واضحةٍ ومعايير مستقيمة.
أول هذه المعايير والأسس: أن المذاهب الفكرية المختلفة التي كثرت في القرنين الأخيرين في أوروبا قد اصطنعت لنفسها مذاهب أدبيةً، تتفرع عن المذاهب الفكرية التي تدعو إليها وتتبناها، فكانت: الكلاسيكية، والكلاسيكية الجديدة، والرومانسية، والواقعية، والرمزية، والسيريالية، والبرناسية، والوجودية ... وغيرها: مسمياتٍ لمدارس وتيارات فكرية أدبية، هي في حقيقتها الثوب الأدبي لتيارات ومذاهب فكرية: كالفكر الذي ساد عصر النهضة، والفكر الرومانسي، والفكر الاشتراكي والماركسي ... وغيرها من الأفكار.
لقد حاول كل من هذه المذاهب أن يضع تصوراً للكون والحياة والإنسان، هو
بمثابة القاعدة، ثم تتفرع عنه عن ذلك التصور نظرية في السياسة، وأخرى في
الاقتصاد، وثالثة في الاجتماع.. إلى غير ذلك من جوانب الحياة المختلفة، ومن
ذلك: الأدب وفنونه.
والمثال على ذلك واضح: حيث كانت الرومانسية مثلاً ترى في الطبيعة الإله
المعبود! ، وكذلك كانت الشيوعية والاشتراكية وما تفرع عنها من الأدب الذي
تسمّى باسم الأدب الواقعي، وما قبلها من التيارات والمذاهب تتخذ لنفسها آلهةً
مختلفة، حتى وصل الأمر في نهاية المطاف بالفكر الشيوعي أنه لا يعترف بأيٍّ من
الآلهة السابقة، ولكنه يرى أن الحياة لايحكمها إلا قانون المادة الصماء، بحتميته
السياسية، والاقتصادية، والتاريخية، والاجتماعية.. وغيرها من الحتميات.
لقد رأى ذلك الفريق الثالث أنه مادام كل مذهبٍ فكري الذي هو عند معتنقه
بمثابة دين وعقيدة ينتج أدباً ينسجم مع مبادئه، ويدعو إليها، ويكوّن لنفسه معايير
وقيماً فنية وجمالية خاصة، فلا ضير إذن بل هو واجب أن يكون للمنهج الإسلامي
أدبه المتميز الذي يحمل رسالته ويدعو إلى قيمه ومفاهيمه، ويتعامل مع الكون
والحياة والإنسان بناءً على التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان.
ثاني هذه المعايير: أن الإسلام بوصفه رسالة شاملة للحياة البشرية والأدب أحد جوانب هذه الحياة لم يهمل هذه الناحية المهمة في حياة الإنسان، وهي الناحية التعبيرية عن المشاعر والعواطف والآراء والأفكار التي يحملها المسلم ويدعو إليها، ولكن الإسلام وضع المعايير والضوابط والأسس لهذا الجانب في حياة الإنسان المسلم، وجعلهُ وهو يَشْعرُ، ويُعبِّر، ويكتب لا يخرج عن كونه مسلماً يتعبد إلى الله (تعالى) بفكره ومشاعره وتعبيره، ولا عجب؛ فهذا حسان بن ثابت (رضي الله عنه) وهو الشاعر في الجاهلية والإسلام يضفي الإسلام على شعره موضوعاته وصوره، وتعبيراته، والقضايا التي يدافع عنها يضفي عليها سمتاً إسلاميّاً واضحاً، ليقدّم بذلك مع غيره من شعراء العهد النبوي نموذجاً للأدب الإسلامي في ذلك العصر.
ثالث هذه المعايير: أن المنهج الإسلامي يبدأ التغيير من النفس الإنسانية
بتثقيفها وتربيتها على قيمه ومبادئه، ويصوغ من هذه النفس عالماً ترسّخَتْ فيه هذه
القيم، وتغلغلتْ في حواشيه وخفاياه؛ فلا بد إذن أن يأتي تعبيرها عن الكون والحياة
والإنسان تعبيراً إسلاميّاً، سواء أكان ذلك: شعراً، أو قصةً، أو مسرحية، أو
خاطرة، أو مقالة.
رابع هذه المعايير: أن المدارس الأدبية المختلفة بدءاً بالكلاسيكية والرومانسية، وانتهاءً بغيرها من المدارس الأدبية قد غرست في تربتنا الأدبية مبادئ وقيماً فكرية وربما فنية لا تتفق مع منهجنا الإسلامي الذي هو معيار الحياة في كل جانب من جوانبها أو هكذا ينبغي أن يكون؛ مما أفسد أذواقنا، وأحدث في شخصيتنا الإسلامية والأدبية نوعاً من التناقض، أصبح من المحتم معه أن نعود إلى منهجنا الإسلامي الشامل، نستمد منه تصورنا لأدبنا الذي يجب أن يكون هو وغيره من جوانب الحياة إسلاميّاً خالصاً، هذا فضلاً عمّا ران على أدبنا شعراً ونثراً عبر تاريخنا الطويل من ركامٍ هائل من الأفكار والمعاني والمشاعر والقيم التي بعدت كثيراً عن التصور الإسلامي النقي للكون والحياة والإنسان، فأصبح يلزمنا أن نعيد النظر في ذلك الأدب عبر تاريخه الطويل بناءً على تصورنا للأدب الإسلامي ونظريته الأصيلة.
خامس هذه المعايير: أن الصحوة الإسلامية التي تشهدها ديار الإسلام اليوم، بل وغير دياره، لا بد لها من الوقود الروحي والتعبيري والأدبي الذي يغذوها
ويمدها بالطاقة التي تدفعها، ويجلو أمامها المفاهيم الإسلامية في ثوبٍ قشيب وعبارة
رائقة، وتعبير موحٍ جميل، وليس أفضل في ذلك من تبني نظرية إسلامية للأدب،
تأخذ على عاتقها تشكيل هذه البراعم التي نبتت في أرض الإسلام، والتي تود لو
عادت الأمة إلى سابق عهدها قيماً وأخلاقاً وتصوراً وقيادةً للحياة.
سادس هذه المعايير: أن الأدب الإسلامي هو أحد العوامل المهمة في تجلية مفاهيم الإسلام وتوضحيها في عالم يمتلئ بالتيارات والمذاهب التي أصبحت تتترس خلف العبارة الموحية والتعبير الفني الجميل في بث أفكارها وتوصيل مفاهيمها وتنشئة الأجيال على ذلك.
وحتى لا يقع الكثير من أبناء الأمة وهو ما حدث بالفعل تحت تأثير الفكر
الغازي في ثوب الأدب شعراً، وروايةً، وقصةً، ومسرحيةً، ودراسةً.. وغير
ذلك من ألوان التعبير وفنونه، فإنه لا بد من وجود أدبٍ إسلامي يكون بديلاً عن
ذلك كله، وفي الوقت نفسه: بناءً لجانب مهم من جوانب حياتنا الإسلامية التي لا
نستغني فيها عن البيان والتبيين.
سابع هذه المعايير: أن للشعوب الإسلامية الناطقة بغير العربية آداباً، سواء أكان ذلك شعراً أو نثراً، وهذه الآداب تتسم في كثير منها بسمات إسلامية خالصة وتعالج الموضوعات التي تطرحها من خلال التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، وهنا لا يصبح الأدب العربي على فرض موافقته كله للتصور الإسلامي، وهو فرض غير صحيح هو الأدب الوحيد الذي يتسم بسمة الإسلامية، بل لا بد من النظر بعين الاعتبار إلى هذه الآداب، وأقرب مثال على ذلك: شعر (إقبال) المكتوب بغير العربية [*] .
كل هذه المعايير وغيرها كانت وراء تمسك أولئك النفر بهذا المصطلح الجديد
والعمل على ترسيخ مفاهيمه في عالمنا الأدبي اليوم.
ومن ثم: ظهرت الدراسات المتعددة وإن كانت قليلةً قياساً إلى غيرها من
الدراسات الأدبية البعيدة عن هذا المصطلح وظهرت كذلك النماذج الأدبية التي تتبنى
نظرةً إسلامية للأدب: شعراً، أو قصة، أو رواية، أو مسرحية.. بغض النظر
عن مدى تحقيقها لما قد تبنته.
ومع اتساع قاعدة الأدب الإسلامي اليوم، وظهور جماعات أدبية تتبناه
ومجلات وصحف متخصصة تهتم بنشر نصوصه ونماذجه والحديث حول قضاياه
وأطاريحه وإن كانت قليلة جدّاً مع ذلك: فلا يزال الأدب الإسلامي المنتج على
الساحة اليوم قليلاً، خصوصاً إذا تصورنا أن الأدب الذي ينتج على أيدي كتاب
ومفكرين مسلمين يجب أن يعبر عن هويتهم وانتمائهم والتزامهم بهذا الدين.
كذلك: فلا يزال التعريف بقضاياه ورواده ونماذجه ونصوصه قليلاً.
وإذا كان هناك قصور لا يزال ظاهراً في تكوين نظرية إسلامية للأدب إلا من
بعض المحاولات الفردية فإن ذلك مرده فيما أتصور يرجع إلى أن التنظير يجب أن
يبدأ من الوقوف أمام النماذج الأدبية الإسلامية الجيدة، واستنطاقها، والبحث في
خصائصها وسماتها، بدلاً من البحث النظري الذي يقوم على الفرضيات المسبقة
دون مواجهة النصوص والكشف عن عطاءاتها الخصبة، وهذا بالطبع لا يعني
التقليل من أهمية البحوث النظرية التي تؤصل وتؤطر للأدب الإسلامي، وتستنبط
مراميه وغاياته من خلال البحث في أصول المنهج الإسلامي.
كما أن جزءاً من القصور ربّما يكون مرده إلى أننا لا نريد أن نعترف للنموذج
الأدبي الجيد، الذي لا يتناقض مع مفاهيم الإسلام بأنه يمكن أن يقدم ما يُنتفع به في
صياغة نظرية إسلامية للأدب.
إن كثيراً ممن ينظّرون للأدب الإسلامي فيما هو ملاحظ لا تمتد أيديهم إلى
نصوص ونماذج قد تكون جيدة جدّاً وتضيف جديداً لكن أصحابها لايرفعون لافتة
الأدب الإسلامي واضحةً صريحة، في حين أن نصوصهم أو كثيراً منها تنسجم مع
التصور الإسلامي للأدب انسجاماً، ولا عجب في هذا الكلام، ونحن نعرف أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستنشد أصحابه من شعر أمية بن أبي الصلت،
الذي آمن شعره وكفر قلبه.
إذن: لكي نتمكن من صياغة نظرية أدبية إسلامية على مستوى المنهج
الإسلامي الذي ستعبر عنه النظرية، وعلى مستوى هذا العصر الذي نعيش فيه:
فلا بد أن يبدأ البحث من اكتشاف النموذج الذي يقدم ويضيف، أيّاً كان صاحبه،
ومن هنا: فنحن ملزمون أن نعيد قراءة تراثنا الأدبي والشعري والتعبيري من جديد؛ لكي نعيد اكتشاف النماذج، ومن ثم: استنطاقها لاستخلاص السمات والمعالم لهذا
الأدب، بل إن هذا يستدعي إعادة تجميع هذا التراث والتعرف على ما أهمل منه؛
حتى نستطيع إعادة النظر في نتائج كثير من البحوث والدراسات التي أظهرت أدبنا
العربي في ثوبٍ بعيد عن الإسلام وقيمه ومفاهيمه.
إن كثيراً من البحوث التي تعرضت للأدب الإسلامي قد وقفت موقفاً متطرفاً
من هذا الأدب، إما إلى الإفراط في وصفه بصفة الإسلامية في كل نواحيه وجوانبه، وإما التفريط فيه جملة بدعوى أن أقل القليل منه هو الذي يتوافق مع منهج الأدب
الإسلامي، وكلا الرأيين في نظري غير صحيح.
من هنا: يصبح التفاعل المبدع بين الاستنباطات النظرية والنماذج المنتجة أو
تلك التي أعيد اكتشافها وقراءتها هو الطريق الذي لا بد منه لترسيخ هذه النظرية في
حياتنا الأدبية والفكرية.
كما أن هذه النظرة لن تمنعنا من الاستفادة من كل نصٍّ أو نموذج يُعاد اكتشافه
وقراءته، سواءٌ أوافق الأدب الإسلامي في رؤيته أو خالفه، فما بين الاختلاف
والاتفاق، والتناظر والمحاورة، وقرع الرأي بالرأي والحجة بالحجة: يستبين
الحق، ويستنبط الرأي الصواب، وتكتسب النظرة الموضوعية العميقة.
كما أني أعتقد أن اكتشاف معالم الأدب الإسلامي لا بد معه من تمحيص
النصوص المناقضة للتصور الإسلامي وهذا ما فعله بعض الباحثين فعلاً؛ لأن
جزءاً من مهمتنا هو كشف عوار التصورات غير الإسلامية في الأدب: شعراً،
ورواية، ومسرحية، وقصةً، ودراسة، وكذلك تمييز الغث من السمين، خصوصاً
وأن تيار الحداثة المعاصر الذي انتقل إلينا على يد فئةٍ من أدباء العربية وشعرائها
انحرف بالمسار الأدبي العربي انحرافات وصلت إلى حد التشكيك في العقيدة،
والتجرؤ على أصولها، ومحاولة تدمير كل المفاهيم الإسلامية، حتى تلك التي تعد
بداهات في فكر المسلم وتصوره.
ولقد كانت المدارس الأدبية المختلفة التي تأثر بها الأدب العربي المعاصر
إحدى الجراثيم التي لم نلتفت إليها وهي تتشبث بتربتنا الأدبية والفكرية، ولم
نستطع التعامل مع معطياتها الفنية بمعزلٍ عن الفكر الذي حملته، فوصل بنا الحال
اليوم إلى ما وصل إليه من فوضى فكرية وأدبية، وانغماسٍ حتى الأذنين في وبال
التصورات والأفكار الوافدة المناقضة لعقيدتنا وتاريخنا وتراثنا وسَمْتنا الحضاريّ
المتميز.
إن على كل دارس للأدب الإسلامي، أو مهتم به، أو مبدعٍ يتبناه ويدعو إليه
ويرى فيه الخلاص مما ران على حياتنا الأدبية والثقافية بوجه، على أولئك جميعاً
أن يأخذوا على عاتقهم قراءة كل ما يقع تحت أيديهم من نصوص أدبية لأدباء
يتبنون النظرية الأدبية الإسلامية أو لا يتبنونها، يحدوهم في ذلك كله البحث عن
كل معلم يمكن أن يسهم في بناء نظرية إسلامية للأدب، ويحرس مسيرتهم تلك:
عمق التوغل في مصادر الإسلام ومعارفه وثقافته، والوقفات الطويلة المتأملة
المتأنية أمام نصوص القرآن والسنة، وكتابات قادة الإصلاح ومفكري الصحوة
وعلمائها ودعاتها الذين كان لهم دور في إبراز مفاهيم الإسلام الصحيحة وتصوره
الحق للكون والحياة والإنسان.
الشكل والمضمون:
ظلت قضية الشكل والمضمون في العمل الأدبي تثير جدلاً عبر تاريخ الأدب
الطويل، وانقسم الناس إزاءها مذاهب واتجاهاتٍ وآراءَ وتياراتٍ.
فما هي الرؤية التي يطرحها الأدب الإسلامي إزاء هذه الإشكالية القديمة
الجديدة؟
لقد كانت القصيدة العربية تتميز بسمات شكلية، سواء من ناحية الوزن
والقافية، أو من حيث الصورة النموذجية للقصيدة التي تشمل موضوعات متعددة
هكذا في أغلب النماذج المستحسنة، تبدأ بالوقوف على الأطلال، وبكاء الديار، أو
الرحلة في الصحراء، أو التغزل بالمحبوبة.. إلى غير ذلك من الموضوعات التي
ربما انتهت بمدحٍ أو اعتذار أو هجاءٍ أو فخرٍ.. أو غير ذلك من أغراض القصيدة
القديمة.
وأصبح من المتعارف عليه: أن (القصيدة النموذج) يحتشد فيها عدد من
الأغراض الشعرية: من مدح، وهجاء، وفخرٍ، ونسيب، ووصف.. وما سوى
ذلك من أغراض شعرنا العربي القديم.
وكان النموذج المنتج للقصيدة هو الذي حدد هذه السمات الشكلية، وهذه ...
الأغراض، ثم جاء التنظير النقدي لاحقاً للنصوص مستنبطاً منها، حتى ترسخت
نظريات في النقد العربي القديم بناءً على الجهود المتلاحقة للنقد الذي استنطق
النصوص، واعْتُبر في مرحلةٍ لاحقة من التاريخ الأدبي العربي أن كل خروج على
شكل القصيدة العربية، وعمود الشعر الذي رسخه النقد القديم خروج على الفن
وقواعده، حتى لقد وقف النقد العربي القديم موقف الرافض لتجديدات الشعراء كأبي
تمام وغيره، حتى استقرت تجديداتهم هي الأخرى في ذاكرة التاريخ الأدبي
والشعري، وأصبحت هي الأخرى بعد ذلك معالم وسمات وأسساً نظرية تطبق على
النصوص.
وعندما بدأت النهضة الحديثة في الأدب على يد البارودي، ومن بعده شوقي
في الشعر، عاد أولئك المجددون من الرواد إلى النموذج القديم فاحتذوا شكله
ونسجوا على منواله، سواء من حيث الأغراض، أو من حيث الأوزان والقوافي،
أو جزالة الألفاظ واللغة، وانتزاع الصور التعبيرية والأخيلة والمعاني من دواوين
الشعر العربي القديم، إلا في قليل من التجديد الذي فرضته طبيعة العصر
ومستجداته وقضاياه وظروفه الراهنة، حتى أنك لا تجد قصيدة لشوقي وربما
البارودي إلا وهي معارضة واحتذاء لقصيدة أخرى من شعر العرب القدامى، وهذه
المعارضات هي في حقيقتها نوع من الالتزام الشكلي للنموذج القديم.
ثم كان تيار الرومانسية والنقد العربي الذي بدأ يعيد النظر في هذه النصوص
الشعرية القديمة منها والحديثة بناءً على معطيات نظرية وفروض نقدية منقولة من
الأدب الغربي الحديث، ليكتشف كما يرى فقدان هذه النصوص إلى شروط الإبداع
الجيد وسماته شكلاً ومضموناً، كفقدانها للوحدة الموضوعية والنفسية.. وغير ذلك
من المعايير الجديدة.
وهكذا أصبح كل جيل أدبي يعيد النظر في النصوص التي أنتجها الجيل
السابق له، ويعاملها بمعاييره وفروضه ومعطياته، ليكتشف إن حقّاً وإن باطلاً أنها
نماذج لا تصلح للأدب المطلوب في اللحظة الراهنة.
إذن: كان لكل جيلٍ أدبي تصوره لقضية الشكل، وللمضمون كذلك، حاول
أفلح أم لم يفلح أن ينفذها فيما أنتجه من النصوص.
من كل ذلك تصبح قضية الشكل الأدبي في تصورنا قضية يعطي لها كل
عصر من روحه وسماته وخصائصه، وترتبط بروح ذلك العصر وإيقاعه
ومتغيراته، فهي في تصوّرنا لنظرية الأدب الإسلامي مسألة متطورة ليس يحكمها
تصور مبدئي محدد، خلافاً للمضمون الذي يجب أن يعبر عن تصور الأديب المسلم
للكون والحياة والإنسان في إطار عصره وبيئته وقضايا ذلك العصر وروحه.
لقد استوعب الأدب العربي المعاصر الذي لم يعرف عبر تاريخه الطويل غير
النظم والنثر الفني أجناساً أدبية جديدة؛ منها: الرواية، والقصة القصيرة،
والطويلة، والمسرحية الشعرية والنثرية على السواء، كما استوعب كثيراً من
التجديدات الشكلية في القصيدة التي حدث لها أكبر تطور في تاريخها الطويل من
ناحية الشكل الوزن والقافية، أو من ناحية رؤيتها لمفهوم الأغراض الذي ارتبط به
الشعر القديم، وهي ناحية فيها ملمح شكلي، كما أن فيها ملمحاً مضمونيّاً أيضاً.
ولكن الذي حدث هو أن من استوعبوا هذه التجديدات الشكلية في القصيدة التي
تخلت عن كثير من أثوابها القديمة واستبدلت بها ثياباً أخرى جديدة وقعوا في
المضامين نفسها التي حملتها هذه التجديدات في الشكل، فنشأت تيارات ومذاهب
أدبية في الأدب العربي المعاصر تتبنى الآراء والتصورات نفسها التي يحملها الأدب
الوافد، وتدعو إلى المفاهيم نفسها دون محاولةٍ منها أن تستفيد من تجديدات الشكل
وجماليات التعبير، بعيداً عن المضمون والمفاهيم والأفكار والآراء التي حملها
الأدب الذي تأثرت به.
ولعل هذا هو الذي حدا بكثيرين ممن تابعوا هذا التجديد إلى رفضه جملةً
وتفصيلاً، شكلاً ومضموناً، دون أن تكون هناك نظرة هادئة موضوعية تنظر إلى
الأمر من جميع جوانبه، فتنتقي ما يتناسب مع تصورنا وانتمائنا الإسلامي،
وترفض ما يأباه ذلك التصور وهذا الانتماء.
ونظرية الأدب الإسلامي وهي تسعى لتأصيل مفاهيمها ومعالمها لا بد أن تنظر
إلى الشكل نظرةً واسعةً، ولا تضيق بأي شكل أدبي مهما يكن، فليس في الإسلام
بوصفه منهجاً ما يمنع من التجديد في الشكل، بل إن المضمُون الجيد والجديد الذي
يتوافق مع تصورنا الإسلامي لا يحتاج إلى شيءٍ قدر احتياجه إلى تجديدات في
الشكل تستوعب ذلك الجديد في المضمون.
ومع اعترافنا المبدئي بأن بين الشكل والمضمُون خصوصاً في مراحل التجديد
الأولى ارتباطاً كبيراً، فيجب أن يكون الأديب المسلم على حذرٍ منه، وأن يكون ذا
سعة في فهمه لمنهجه وتصوره، وذا عمق ووعي هائل، يستطيع معه أن يتعامل
مع الجديد بأصوله الثابتة وعقله المفتوح في آنٍ واحد، فينتقي ويختار ما يمكن
إضافته دون وقوعٍ تحت سنابك الفكر الغربي الوافد، ودون انغلاقٍ يؤدي إلى
الجمود والتقوقع، ولا غرو: فباب الاجتهاد يظل مفتوحاً لمن يملك آلته ويقدر على
ذلك.
ومن هنا: فإن الأشكال الأدبية الجديدة التي أنتجتها آداب غير إسلامية، يجب
أن يقف أمامها الأدب الإسلامي محللاً ومشرحاً؛ لكي يستطيع الإفادة من كل ذلك،
بل إن سعة المنهج الإسلامي وصلاحيته لكل عصرٍ، وبالتالي: سعة نظريته الأدبية
والنقدية، كل ذلك يدعو إلى الاستفادة من كل جديد في الآداب الأخرى، بشرط
غرسه في تربتنا الأدبية الإسلامية بعد إضفاء طابعنا عليه، ولهذا: تظل هذه
التجديدات في الشكل موطناً من مواطن الاجتهاد الأدبي إن صح هذا التعبير.
إن من أدبائنا الإسلاميين اليوم من يقف موقفاً متشدداً من قصيدة (التفعيلة)
كتجديد شكلي أخذت به القصيدة المعاصرة، ويرى أنها تحللت من إطار البيت ذي
التفعيلات المحددة إلى السطر الشعري، لهثاً وراء الفكر والتصور الغربي،
وخروجاً على التراث واللغة وقواعد الفن، بل وعلى الدين، في حين أنه قد أنتجت
بالفعل قصائد إسلامية في هذا الشكل الجديد، تتميز بحساسيتها الشديدة وقدرتها على
الإضافة والتجديد، في الوقت الذي حملت فيه مضموناً إسلاميّاً صافياً رائقاً، لتؤكد
لمن يقفون ضد مصطلح (إسلامية الأدب) أن الأدب الإسلامي حقيقةٌ واقعةٌ، وأنه
معاصر في الوقت نفسه.
كذلك كان للنماذج الروائية والقصصية والمسرحية الإسلامية التي أنتجها أدباء
مسلمون، مثل: نجيب الكيلاني، وعلى أحمد باكثير دور بارز في ترسيخ استيعاب
الأدب الإسلامي لكل جديد في الشكل، يعين على إبراز مضامين الإسلام،
ومفاهيمه، ورؤاه، وتصوراته للقضايا المختلفة.
__________
(*) شعر إقبال وفكره يحمل بعض المفاهيم المنحرفة المخالفة للعقيدة الصحيحة، وقد ناقش ذلك بعض الباحثين، ومنهم الأستاذ سيد قطب في (خصائص التصور الإسلامي، ج1) وكذا الأستاذ / خليل الرحمن عبد الرحمن في كتابه (إقبال والحضارة الغربية) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -(105/65)
نص شعري
عجائب الأحلام
شعر: إبراهيم بن عبد العزيز الفوزان
مضتْ تبعثر الخطا ... بين الدروب المظلمه
طريدةً صراخها ... يضيع وسط الهمهمه
والذئب يعدو خلفها ... بين الكلاب المتخمه
وَأكْلُبُ الحي بدتْ ... أمامه مُستسلمه
والذل في أجفانها ... للذئب أمسى مرحمه
وابنة الحي بها ... من الجراح أوسمه
دماؤها قد كتبت ... على الدروب مَعلَمَه
بأحرفٍ رموزها ... غامضةٌ منمنمه
فتيانها قد قرؤوا ... تلك الحروف المبهمه
فعرفوا مأساتها ... من النيوب المجرمه
فجردوا سلاحهم ... لقتل ذئب الدونمه
فجرّحوه فارتمى ... يعوي بصوت المرحمه
يعوي بحزنٍ شاكياً ... من السهام المؤلمه
شكاته قد حركت ... ضمائراً مؤممه
هناك ذئب أشقرٌ ... أتى لرفع المظلمه
أتى يجرُ تيهه ... عواؤه كالدمدمه
وأكلبُ الحي انحنت ... لصوته معظمه
حتى الكلابُ الخاملات ... أقبلت مسلِمه
بنظرة من طرفه ... فيها معانٍ مبهمه
تناظرت جميعها ... ثم انحنت مهمهمه
فانطلقت نابحةً ... لنصر ذئب الدونمه
من فتيةٍ لم يدركوا ... حق الذئاب المكرمه
فهجمت بقسوةٍ ... بخطةٍ معممه
أما الفتاةُ لا تسل ... عن نفسها المحطمه
فتيانها قد هوجموا ... بأكلبٍ منظمه
فمزقت أجسادَهم ... نيوبُها المُسَممه
وأصبحت فتاتهم ... للذئب أشهى مطعمه
عجائباً رأيتُها ... في نومةٍ مُنعمه
أحلامُها كأنها ... حقيقة مسلمه(105/76)
المسلمون والعالم
مصر في القرن الحادي والعشرين
(قراءة أصولي)
(1 من 3)
بقلم:عبد الرحمن الكناني
تمثل الدراسات المستقبلية إحدى أهم المرتكزات العلمية التي تقوم عليها
البرامج العملية لتوجيه طاقات وتنمية إمكانات تملكها مجموعة بشريةٌ ما نحو
مستقبل أفضل في ظل مبادئ وأهداف محددة.
وقد تنبه بعض المنتمين إلى التيار الإسلامي لأهمية استشراف المستقبل
ومحاولة رصده، ولكنها حتى الآن في نظري محاولات تعتمد الجانب النظري
التأصيلي، ولم تخرج بعد فيما أعلم إلى الإطار الواقعي الواضح المدروس، بما
يتوافق مع حجم انتشار وأهمية تفاعل حركة الصحوة الإسلامية في المجتمع، في
الوقت الذي بدا فيه العلمانيون آخذين بناصية هذه الدراسات، متظاهرين بـ
(العلمية) و (العقلانية) و (الحرص على مستقبل البلاد) .
ولا شك أن مِن هؤلاء مَن يُعَدّون أهلاً من منطلق توجهاتهم للتصدر للحديث
عن رؤاهم المستقبلية، ولكن هذا لا يمنعنا نحن الأصوليين [*] ! من متابعة وربما
نقد بعض الرؤى التي تُطرح على أنها (مشاريع مستقبلية) من قِبَل هؤلاء.. نفعل
ذلك ليس لهثاً وراء أطاريحهم، ولكن رصداً وفقهاً لواقع يؤثر فينا ونؤثر فيه،
وليس لتقديم حلول ومشاريع بديلة لهذه المشاريع على منوالها؛ فإن المشروع
الإسلامي لُحمة واحدة أساسها التوحيد لا يمكن فصل أسلاخ منها لترقيع مشروع
آخر يعترف أصحابه وأحياناً يفتخرون بأنه لم يقم على تصور إسلامي شامل للكون
والحياة والإنسان، بل ينكرون أن هذا التصور موجود خارج المسجد ومحكمة
الأحوال الشخصية في أحسن الأحوال! ! .. ولكن لمحاولة بيان حقيقة (العقلانية) ... و (الاستنارة) في مشروع علماني!
وعموماً: فإني أظن أن قراءتنا معاشر الأصوليين لهذه المشاريع مفيدة لنا من
باب استبانة السبيل، ومفيدة لهم أيضاً إن تجرأنا وقلنا: إن هناك ما يمكن إفادتهم
به! من باب (التعارف) والتصافح العقلي.
نعود إلى موضوعنا: فقد نُشرت في بعض الصحف اليومية دراسة بعنوان
(مصر في القرن الواحد والعشرين.. التحديات والآمال) [1] ، ومما يعطي لهذه
الدراسة أهمية كبرى: كونها عن (الشقيقة الكبرى) مصر، الدولة ذات الثقل الكبير
في المنطقة، وكون كاتبها علماً بارزاً من أعلام السياسة المصرية، هو: الدكتور
أسامة الباز، وقد طرح فيها رؤية وتصوراً لما ينبغي أن تحتذي به مصر في القرن
الميلادي المقبل.
عرض موجز للدراسة:
بدأت الدراسة بتمهيد يوضح أهمية الموضوع، وبيان لطبيعة القرن القادم، ثم
استعراض موجز للتحديات و (الإنجازات) السابقة، وتنويه بالآمال، وعناصر
التفاؤل التي تصاحب دخول مصر القرن الحادي والعشرين، ثم قدّم لرؤيته
المستقبلية بعرض اثنتي عشرة دراسة مستقبلية، كان (مركز الأهرام للترجمة
والنشر) كلف بها بعض المتخصصين، ودعاه أن يكون محرراً للكتاب الذي
سيصدر بها، ودارت هذه الدراسات حول محاور أربعة:
1- الثوابت والمتغيرات الأساسية في مصر: الجغرافيا، والسكان،
والاقتصاد، والمرأة.
2- التطور الذي تشهده القيم السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري:
مفاهيم التطور في الألفية الثالثة، الإحياء الديني، فكرة الوحدة الوطنية ودور
الأقباط.
3- التطور الذي تشهده المؤسسات السياسية والاجتماعية: قضية الديمقراطية
والنظام، فجوة العلم والتكنولوجيا، ودور المؤسسة العسكرية.
4- دور مصر: الإقليمي، والدولي.
وبعد عرض الدراسات الاثنتي عشرة قدم الدكتور أسامة الباز رؤيته الخاصة
للمشروع المستقبلي لمصر في القرن القادم، الذي حدد ملامحه بست ركائز:
1- تنمية الموارد البشرية، من خلال:
أ- خفض النمو السكاني باستخدام وسائل أكثر فعالية في الترويج لمفاهيم
تنظيم الأسرة، وإقناع الجماهير بأفضلية الأسرة الصغيرة.
ب- تبني برنامج صارم لمحو الأمية.
2- القيام بمسح شامل للموارد الطبيعية، وكيفية الاستفادة منها.
3- خطة طموحة للدخول في عالم البحوث العلمية والتكنولوجيا.
4- تطوير وإصلاح التعليم، ووضع خطة شاملة (لحماية) عقول الشعب من
السقوط في هوة التيارات الضالة المضللة، للانطلاق من أسار (الماضي) والحاضر
إلى التقدم في الدنيا الجديدة.
5- الدخول في (إصلاح) سياسي (بعد) الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية،
بحيث يشمل هذا الإصلاح تبني الأفراد والجماعات للديمقراطية قلباً وقالباً قبل
مطالبة الحكام بها.
6- الاهتمام بتنمية القدرات العسكرية، والحفاظ على موقع مصر باعتبارها
قوة رائدة إقليميّاً وعالميّاً، من حيث عدم تبعيتها، وقيادتها لدول أخرى.
ملحوظات عامة على الدراسة:
وقبل الخوض في مناقشة بعض التفصيلات لبعض القضايا التي أثارتها
الدراسة أود التنبيه إلى ملحوظات عامة عليها:
أولاً: تجنب الدكتور الباز المناقشة التفصيلية للدراسات الاثنتي عشرة التي
قدمها بين يدي رؤيته، ولم يعلق عليها بالقبول أو الرفض لما جاء فيها، ولكن
تقديمه لهذه الدراسات باعتبارها أبحاث المشروع المستقبلي مع عدم اعتراضه عليها
وإن تحفظ على بعض جزئياتها يجعلنا ننظر إلى رؤيته الخاصة على أنها إجمال،
تفصله الدراسات المذكورة، مع كوننا لا نلزم أحداً بكلام غيره، ولكننا نناقش
الدراسة باعتبارها مشروعاً علمانيّاً، وإن تعددت مدارسه.
ثانياً: كثير ممن شاركوا في تقديم الدراسات كما يقول الدكتور الباز: شارك
في صياغة برامج التنمية في مصر، أو في (صنع) تاريخ الحقبة السابقة، أو له
إسهام بارز في الفكر السياسي والاجتماعي في العقود الماضية ... ، فينبغي علينا
أولاً النظر بتأمل في نتيجة جهودهم الماضية، وبحث آثار الخطط الخمسية وبرامج
التنمية، وخطط النهوض والارتقاء بالمواطن، ورفع المعاناة ... هل سيكون
المستقبل امتداداً لفشل الماضي؟ ! ، وهل عقمت مصر عن ولادة آخرين (بدون
سوابق) قادرين على العبور بها إلى القرن القادم؟ ! .
ثالثاً: معظم المفكرين الذين صدّر الدكتور الباز رؤيته بدراساتهم: إما
خارجين من عباءة الماركسية بعد فشلهم في التبشير بها؛ إثر تيتمهم بوفاة الاتحاد
السوفييتي الذي وافته المنية على يد الرفيق جورباتشوف، أو قادمين من الرؤى
الأمريكية الليبرالية حاملين معهم رياح النظام العالمي الجديد (في شقه الإقليمي) على
أمل أن يكون لها موطئ قدم على الخارطة المصرية، فالجميع كتبوا بقلم علماني
وإن اختلف مداده، ولذا: كان موقع (الدين) في مشروعهم هو موقع (التوابل) ! ،
حيث لابد منها لإعطاء النكهة، ولكنها ليست ضرورية أو مفيدة، ولذا أيضاً: رأينا
الاضطراب عند معالجتهم علاقة (الدين) بالنسبة للفرد والمجتمع وتنميتهما.
رابعاً: يقر الدكتور الباز أن التحدي المستقبلي هو تحدٍّ حضاري، وهو كذلك
بالفعل، ولكن لم تقدم لنا الدراسة تصوراً محدداً وواضحاً أو غير واضح لرؤية
حضارية خاصة ومميزة تواجه الرؤى الحضارية الأخرى للدخول بها إلى القرن
القادم.
خامساً: ذُكر في الدراسة بعض النقاط التي لا يُختلف على إيجابيتها إجمالاً،
أما تفصيلاً فالأمر يختلف بحسب التوجه (الحضاري) الذي يتبناه (القارئ) ، وذلك
كالإحياء الحضاري، والاهتمام بتنمية الإنسان، ورفع فعاليته، وإصلاح وتطوير
التعليم، ودخول عالم التكنولوجيا، والمسح الشامل للموارد الطبيعية للاستفادة منها،
والاهتمام بتنمية قدرات البلاد العسكرية.
سادساً: وضع الدكتور الباز بداية لتدشين العمل بهذا المشروع، حددها في
سنة 2005م، آخذاً في الاعتبار من يتحفظون على موعد كهذا تعجيلاً أو تأخيراً،
وإذا كنا لا نناقش هذا الموعد أو غيره، ولكننا لا نستوعب كيف يمهد للعمل بهذا
المشروع في هذا الموعد بإجراءات وتوجهات لا تتفق إن لم نَقُل تتعارض معه كما
سيتضح لاحقاً إن شاء الله (تعالى) ، وذلك إذا اعتبرنا أن هذا المشروع هو ما يصلح
للمجتمع المصري في المرحلة المقبلة.
ملحوظات تفصيلية:
فتلك كانت بعض الملحوظات العامة على الدراسة، فإذا فحصناها بعين أكثر
مجهرية رصدنا بعض الملامح الأخرى التي تتمثل في الملحوظات الآتية:
الملحوظة الأولى: مكانة (الإنسان) في المشروع:
حيث وضح غياب البعد الإنساني عن التنمية، واعتبار (الإنسان) مجرد (أداة)
تنفيذ، ينبغي توجيه الاهتمام للجوانب التي تؤدي إلى تطويره من هذه الناحية،
وليس لأنه يستحق ذلك باعتباره كياناً له المكانة الأولى والتكريم الأوفر بين خلق الله، بل لأنه: (هو العمود الفقري لأي تنمية أو تقدم، وأن الاستثمار في البشر
وتنميتهم يمثل نقطة البدء في أي نهضة حقيقية) ، و (الإنسان المصري هو الثروة
الحقيقية المؤكدة في هذا المجتمع، وهو مصدر القوة الحقيقية متى أحسن إعداده
وأطلقت طاقته الإبداعية) ، وأهمية دور المرأة (باعتبارها جزءاً من عملية التنمية) ،
و (لأن السكان يمكن أن يكونوا عنصراً فعالاً في دفع عملية التنمية، بخاصة إذا
كانوا أصحاء ومنتجين) ، وينبغي النظر في (الضغوط والتوترات التي تتعرض لها
الطبقة الوسطى ذات الدخل الثابت، التي يمثل التدهور النسبي والمتزايد لوضعها
تهديداً للاستقرار الاجتماعي) .
ولا يختلف أحد على أن (الإنسان) هو المقصود بالتنمية، كما أنه عنصرها
الفعال، ولكن قصر الحديث عنه والاهتمام به على الجوانب المادية وما يقاس
ويوزن ويحصى ... وإهمال الجوانب المعنوية التي على رأسها تنمية روحه ... وعقله.. كل ذلك يشير إلى نبع المبادئ التي قامت عليها الحضارة الأوروبية التي تقدس القوة المادية، والتي ربما تأثرت بها ثقافات معظم من شارك في هذه الدراسة، وبالطبع فلن نسأل عن تربية أو (تنمية) إيمانية إسلامية لذلك الإنسان؛ لأنه لا ينبغي سؤال أرباب العلمانية عن أمر كهذا، بل ينبغي دعوتهم إليه.
الملحوظة الثانية: تحرير الإنسان أم الوصاية عليه؟
تحدّث كثير من المشاركين في الدراسة عن: (تحرير قدرات الإنسان
الإبداعية) ، و (زيادة الفاعلية) ، و (تحريك طاقات المجتمع) ، و (تعميق الممارسة
والمشاركة الديمقراطية) ..
والمفهوم: أن كل ذلك مبني على تحرير عقل الإنسان وإرادته في مناخ من
حرية تبني خيار، ويكون ذلك بتنمية عقلية ومعرفية واسعة، مع رفع الوصاية
على عقل وإرادة ذلك الإنسان..
فهل ما تمارسه الأجهزة الرسمية من إعلامية وأمنية وغيرها يتفق أو يمهد لهذا
التحرير؟ .. إن الحملات الإعلامية المكثفة، والأفلام والمسلسلات التلفزيونية
الموجهة، وتعديلات منهاج التعليم بما يتفق مع الرؤية العلمانية والرسمية.. ليدلنا
على وصاية كبرى على عقل الإنسان المصري.
وقد يعتبر بعض (المحايدين) أنه من الطبيعي أن يعبر القائمون على هذه
الأجهزة عن توجههم، أيّاً كان هذا التوجه، ولكن الصورة تكتمل إذا اتضح حجم
التضييق والملاحقات للدعاة الذين لا يسايرون الوجهة الرسمية، ومنع التيارات
الإسلامية من العمل الدعوي (السلمي) ، فلماذا لا تعطى الفرصة (للإنسان المصري)
ليسمع ما يشاء ويختار ما يريد؟ .
كما أن الممارسات الانتخابية المشبوهة من استغلال لمراكز النفوذ، والرشا
الانتخابية الصريحة والمقنّعة، إضافة إلى ما يذكر من تجاوزات وأحداث تزوير
صدرت بها أحكام قضائية أكثر من مرة، وملاحقة المنتسبين إلى التيار الإسلامي
في وظائفهم وأعمالهم، بل واستصدار (قرار) من وزير التعليم بمنع ارتداء
الطالبات للحجاب إلا إذا وقّع ولي أمرهن على إقرار بذلك في المدرسة (مع منع
النقاب نهائيّاً) إرهاباً لمن يُظهر مظهراً إسلاميّاً ... وغير ذلك من ممارسات تتحطم
عليها دعاوى الليبرالية والحرية الشخصية والديمقراطية المزعومة: تدل دلالة
واضحة على مصادرة إرادة الإنسان المصري.
إننا معشر الإسلاميين نعتقد أن التحرير الحقيقي للإنسان لا يكون إلا في
العبودية الحقة لله (عز وجل) ، حيث يتحرر الإنسان من المغريات التي قد تؤثر
على خياره من مال، أو جاه ورياسة، أو شهوة جنس كما في الحديث الصحيح:
(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم..) ، وكما في الحديث الآخر: (ما ذئبان
جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) ،
ويتحرر أيضاً من الموانع التي تكبل إرادته؛ لإيمانه بأن أكبر ما يخافه الإنسان
قطعه بيد الله وحده، وهو الرزق والأجل: [اللَّهُ الَذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ] [الروم: 40] ، [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ] [قريش: 3، 4] ، (ألا يمنعن أحدَكم رهبةُ الناس أن يقول
بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو
يُذَكِّرَ بعظيم) .
الملحوظة الثالثة: الطفرات السياسية بين الوهم والحقيقة:
ومما له علاقة بالممارسات السابقة: ما ذُكر في مدخل الدراسة من أنه: (شهدت الحياة السياسية في مصر طفرات لا يمكن إنكارها في اتجاه الديمقراطية،
أساسها التعددية الحزبية، وحرية الصحافة، وتعميق سيادة القانون) ، وأغفلت
الدراسة أن هذه الطفرات صاحبتها ولاحقتها انتكاسات لا يستهان بها، فما زالت
تسيطر على الحياة السياسية (العلمانية!) عقلية وروح احتكار السلطة وعدم القبول
بمبدأ تداول السلطة، ولأننا لا نؤمن بأن الديمقراطية تفي بحاجات الإنسان من
الحرية والعدالة، فسنورد هنا شهادات، ليست لمتهمين بالانتماء للصحوة الإسلامية، بل من مصادر تؤمن بهذه الديمقراطية وتدعو إليها:
فعن التعددية الحزبية: يقول الأستاذ/ السيد ياسين وهو أحد المشاركين في
هذه الدراسة: (.. مشكلة تداول السلطة في مصر وتطوير النظام الديمقراطي،
وهل سيظل الحزب الوطني هو الحزب الأوحد الحاكم في القرن الواحد والعشرين
أم سيتم تداولها، وهذه قضية جوهرية لم يتم الإدلاء فيها بالرأي) [2] ، ويقول
الدكتور السيد عوض عثمان: (.. ومن ناحية أخرى: فإن مؤسسات القطاع
الخاص خاصة الكبرى منها ومؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها النقابات المهنية
والعمالية، والجمعيات الطوعية، والاتحادات التي برزت في كافة المجالات سوف
تضع ثقلها وراء قوى وأحزاب متباينة، وتسهم بالتالي في زيادة حدة المعركة
الانتخابية، وفي المقابل: فإن هناك خطراً حقيقيّاً من أن تصبح النقابات والجمعيات
ساحة للعمل السياسي، كامتداد للأحزاب أو حتى بديل لها.
والمشكلة هنا: أن الدولة مستعدة أن تؤيد هذا الاتجاه إذا كان في مصلحة
الحزب الوطني، ولكنها مستعدة أيضاً لمحاربته والحد منه إذا رأت أنه يسير في
الاتجاه المعاكس! !) (3) .
وتكمل الصورة عندما ندرك أن الحديث الدائر عن: الاتجاه نحو الممارسة
الليبرالية، وتقليص الهيمنة على المجتمع المدني، وإفساح المجال أمام النشاط
التطوعي، والاهتمام بالمنظمات الأهلية غير الحكومية ... كل ذلك المقصود منه
التحلي بمظهر مسايرة الاتجاه العالمي في ذلك، مع عدم تنفيذ إلا ما يخدم أهداف
الدولة، وما أدل على ذلك من محاربة الحكومة للنقابات المهنية المنتخبة من قِبَل
المنتسبين إليها، والتضييق على منظمات حقوق الإنسان المصرية بدعوى دفاعها
عن إرهابيين إذا تحدثت عن تجاوزات الأجهزة الرسمية، بل التضييق على
مشروع كفالة اليتيم الذي تبنته إحدى الجمعيات الدينية المسجلة منذ عشرات
السنوات بوزارة الشؤون الاجتماعية، بدعوى أن هذا المشروع سيخرج إرهابيين! .
وقد وضعت الدولة حاجزاً اسمه عدم السماح بظهور أي حزب سياسي/ديني،
معلنة تبرير ذلك: (لما قد يفرزه من أضرار واسعة المدى على الوحدة الوطنية،
وتماسك المجتمع المصري في المستقبل) ، ولكنه في الحقيقة حاجز لعدم السماح
بإفساح المجال أمام اتجاهات ذات وجهة حضارية مخالفة لتوجه الدولة السائد
بممارسة العمل السياسي والاجتماعي، حتى من خلال قنوات مصرح لها بذلك
بالفعل.. وهكذا أصبح (تعدد الأحزاب (مجرد (ديكور ديمقراطي) ، الغرض منه
إلهاء الجماهير، والإشباع النفسي الكاذب بمسايرة (روح العصر) .
أما حرية الصحافة: فمع الإقرار بوجود حرية نسبية للتعبير في إطار محدد،
إلا أن قانون الصحافة الأخير الذي رفضه ممثلو الصحفيين (القانون 93 لعام 1995 م وتعديلاته) أظهر أن الدولة ضاقت ذرعاً بهذه الحرية النسبية، حيث (جاء القانون
رقم 93 مفاجئاً وصادماً لجموع الصحفيين، الذين شعروا بخطر وتهديد غير
مسبوقين؛ فبالرغم من قسوة تشريعات الصحافة والنشر في مصر بشكل عام، ... وما تنطوي عليه من قيود شتى على حرية التعبير، إلا أن ما جاء به القانون ... المذكور ... تجاوز كل القيود السابقة) [4] ، و (المعروف أن هناك ترسانة من القوانين والمواد التي تكبل هذه الحرية، حتى قبل صدور القانون 93، لكن السياق العام في اللحظة الراهنة لا يتيح التطلع إلى تغيير وتعديل جوهري يطلق حرية التعبير والصحافة، رغم ضرورة ذلك لتجاوز حالة الركود، وإعطاء دفعة لعملية التطور الديمقراطي، فإلى جانب القانون 93 توجد قيود هائلة على حرية التعبير في عدد من القوانين الأخرى..) [5] .
وحتى إذا اكتملت حرية الصحافة التي هي إحدى صور التعبير فإنها حق
أصيل وليست منحة أو هبة ممن سمح بها.
و (تعميق سيادة القانون) يوضحها الدكتور السيد عوض عثمان، فيقول: (إن
إحدى المشكلات المزمنة في العلاقة بين السلطات في النظام السياسي المصري بعد
ثورة يوليو 1952م هي: ضعف السلطة التشريعية في مواجهة السلطة التنفيذية)
إلى أن يقول: (وبعبارة أخرى: فإن أبرز علامات التطور الديمقراطي التي
يتصور أن تتحقق في المرحلة القادمة، هي المزيد من فعالية مجلس الشعب في
مزاولة سلطاته التشريعية والرقابية، على نحو يختلف بشكل ملموس عن الفترة
السابقة، وإلا فإن الحديث عن الاقتراب نحو مزيد من الديمقراطية لن يكون سوى
شعارات فارغة! !) [6] .
فإذا أضفنا إلى ذلك: استمرار قانون الطوارئ وعائلته، والقوانين التي تُقَنن
حسب الطلب، مثل: قانون الصحافة المشار إليه سابقاً، والقانون 100 لسنة
1993م الخاص بإعادة تنظيم النقابات المهنية، بحيث تتوافر الضمانات بعدم
سيطرة الاتجاهات الإسلامية عليها، وتعديل قانون الحسبة بما يتفق وحرية تهجم
العلمانيين على الدين، ومحاولة تعديل القانون رقم 32 لسنة 1964م الخاص
بالجمعيات الأهلية.. وغيرها، عندها نفهم المقصود بتعميق سيادة القانون، وهو
أن تكون القوانين خاضعة لتوجهات السلطة لا غير، ثم المطالبة بعد ذلك بوجوب
الالتزام.
__________
(*) يبدو أن الكاتب يستعمل هذا التعبير وأضرابه من باب المشاكلة اللفظية وإظهار عدم الاكتراث بما يَسِمُون به المنتسبين إلى الصحوة الإسلامية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
(1) نشرت في ثلاث حلقات متتالية بدءاً من 6/7/1996م في صحيفة الأهرام القاهرية، كما نشرت في التوقيت نفسه في بعض الصحف الخليجية، كالقبس والاتحاد.
(2) ندوة (مصر والقرن الواحد والعشرون) ، مجلة عالم الكتب، ع/47، القاهرة، يولية 1995م.
(3) ملف الأهرام الاستراتيجي السنة الأولى العدد (9) 9/1995م، ص81.
(4) د وحيد عبد المجيد، ملف الأهرام الاستراتيجي، السنة الأولى، العدد.
(7) ، ص61.
(5) المصدر السابق، ص2.
(6) المصدر السابق، ع (9) 9/1995م، ص 82.(105/78)
المسلمون والعالم
مجاهدو الشيشان
يقدمون دروساً جديدة
بقلم: مبارك سالم
حين تتعرض رقعة جغرافية محدودة لهذا النوع الشرس من القتال، فإن المرء
يتساءل: لماذا لم تحظ هذه البقعة الساخنة باهتمام وحرارة تماثل حرارة القضية،
ونيران القتال، واشتعال طرفي الجبهة، لا أبالغ إن قلت: إن حرب الشيشان هي
أعنف حرب عصابات شهدها العالم منذ الحرب العظمى، وإن كميات الرصاص
والنيران التي تعرضت لها جروزني في أقل من سنتين تفوق تلك التي تعرضت لها
برلين في حصارها وسراييفو في حربها الأهلية.. بحسبة بسيطة: ينال كل مواطن
يقطن جروزني ما يعادل 800 طلقة، ونصف قنبلة جوية، وثلاث وربع قنابل
أرضية ... إنه جحيم قررنا بطوعنا أن نغمض أعيننا عنه، ونكتفي بمتابعته
بصورة سطحية) .. هكذا تكلم مراسل التلفزيون الألماني وهو يعلق على (مفاجأة)
اقتحام جروزني من قبل المجاهدين الشيشان في يوم صيفي صاعق، شهد صعودهم
السريع وانقضاضهم المدهش على الجنود الروس المرعوبين، الذين تدفع بهم
قيادتهم نحو معركة ... بلا قضية ...
الإعلام الدولي وطرق المعلومات السريعة أضحت اليوم دون حاجة إلى أدلة
ترسم الواقع (الافتراضي) كما يقرر أباطرة المحطات الفضائية والإذاعات
والوكالات المتعددة المواقع، ونصيب الشيشان وقضيتهم انحسر في الفترة الأخيرة
على حصر الموضوع في كونه (موضوعاً انتخابيّاً) ، يلعب به مرشح البيت الأبيض
لمنصب الكرملين ... لم يفت الفريق الأمريكي الذي رسم لبوريس يلتسين حملته
الانتخابية وصورته المفترضة في أن (يلعب) بأرواح شعب كامل وقضية ضاربة
بجذورها في عروق وصدور الشيشانيين بأسلوب أمريكي سينمائي.. تتحرك
عدسات التصوير قبيل ساعات من التصويت على منصب الرئاسة الروسي لتلاحق
زعامات الشيشان التي تتنقل بين الكرملين وقصر الضيافة، وتسلط الأضواء على
(صانع السلام) المخمور الذي يَعِد أمة اضطهدت عبر قرون بأنه الذي سيحيل جبالها
إلى قمم آمنة، وسهولها إلى ملاعب للطير ... ! ! ثم يطير (طائر السلام) الثقيل
إلى الشيشان في حركة تمثيلية ليعد الجموع المسحوقة بنيرانه بأنه جاد في عرضه
ومبادرته ... وما أن ينتصر (الرجل المريض) ، وتضمن واشنطن عودته إلى
الكرملين حتى تُنقض الوعود، وتبدأ الآلة الروسية المتوحشة عادتها المألوفة
وهوايتها القديمة في سحق (المتمردين والمرتزقة) وبمباركة دولية شاملة وكاملة..
حتى (ألكسندر ليبيد) مستشار الرئيس الروسي للشؤون الأمنية الذي ارتقى إلى القمة
بانتقاده المر ليلتسين ولجرائم الروس في الشيشان انضم إلى فريق الكواسر البشرية
التي لا ترى بأساً في سحق آدمية شعب الشيشان والقضاء على حريته وإرادته.
وبعد أن تمت التمثيلية (السمجة) واتضح للمراهنين على يلتسين أنه ممسك
بمقاليد السلطة، أبعدوا عدساتهم وأضواءهم عن الشيشان وقضيتها، وأدخلوها في
(ثلاجة القضايا) التي يشربون منها ما يريدون حسب الظروف.. ويقدمونها وجبة
سريعة كلما رأوا لذلك حاجة.
توارت قضية الشيشان بعد أن حققت أهدافها روسيّاً، وأمريكيّاً، ودوليّاً،
وأصبحت من القضايا الهامشية التي لا تثير سوى النعاس، ولا تستحق أن تضعها
الـ (سي. إن. إن) في نطاق اهتماماتها.. وتلك قسمة واضحة للنظام العالمي
الجديد الذي يتحرك هنا أو هناك وقد سبقته جلبة وضجة أُعد لها بعناية، حيث
الإعلام في خدمة السياسة، والمراسل هو الجندي الأول في الحملة العسكرية،
والتقارير الصحفية لا تختلف كثيراً عن المنشورات العسكرية وأوراق التحذير التي
تلقيها الطائرات المغيرة من الجو..
التزوير الإعلامي الغربي لصالح يلتسين:
وسائل الإعلام الغربية خصوصاً تعاملت مع الشيشان بازدراء شديد وتجاهل
فاضح، وهذا ما يؤكده المراقب الروسي (يوري زاراكوفيش) ، الذي أشار إلى
إحدى المهازل المضحكة التي أفرزتها انتخابات الرئاسة الروسية، قائلاً: (هل
تصدقون أن التزوير الفاجع وصل إلى مرحلة أن دائرة الشيشان الانتخابية أعطت
80% من أصواتها للجزار يلتسين الذي كان يسرق من أبنائها ونسائها وشيوخها
النومة الهنيئة؟ ! ، وبالرغم من ذلك: فلا حديث أو متابعة دولية لهذه الفضيحة؛
لأن المعنيين هم الشيشان البغيضون! ! ..) .
هؤلاء.. بدورهم فوجئوا بعد ثلاثة أيام من انتخاب يلتسين الذي وقع اتفاقية
للسلام مع المقاومة الشيشانية بتحذير روسي (للعصابات الإجرامية) بأن تسلم
سلاحها ورجالها.. وبتعالٍ شديد وجه الجنرال الروسي (فتيسلاف تيخاميروف)
إنذاره، متجاهلاً اتفاقيات السلام السرابية، وقام بتغطية هذا النقض الواضح بحجة
وجود أسرى روس لدى الشيشان، ويصف (رسلان حسب الله توف) حليف روسيا
السابق والناطق باسم البرلمان الروسي فعلة الدب الروسي بقوله: مع إنذار
(تيخاميروف) المفاجئ هذا تبخرت الآمال في تحقيق ما سبق الاتفاق عليه في
الكرملين، وما تم توقيعه في (نازران) من اتفاقيات، مثلما سبق وأن تبخرت الآمال
في خطط يلتسين لإقرار السلام بالشيشان.
بانتهاء المهلة المحددة لتسليم الأسلحة والرهائن المحتجزين: كانت أوامر
الجنرال تيخاميروف قد صدرت فعلاً لقواته بالبدء في أكبر عملية تمشيط للبلاد،
طوقت جنوب وشرق البلاد واستخدمت فيها الأسلحة والمدفعية الثقيلة، معززة
بغطاء جوي حوّل سماء مناطق القصف إلى جحيم حقيقي ... واستمر القصف حتى
الثالثة صباح التاسع من يوليو.
ومع بزوغ فجر اليوم نفسه، وفي الخامسة صباحاً بعد هدوء استمر ساعتين
عاودت قوات الجيش الروسي طلعاتها وهجومها البري، في محاولة للسيطرة على
قرية جيخي على بعد حوالي ثلاثين كيلو متراً من غرب جروزني والملاصقة لحي
أروس مارتان، على الطريق المؤدي لجيخي اصطدمت حاملات الجنود الروس
وعرباتهم المصفحة بمتاريس قوات المقاومة، حيث صدرت الأوامر للروس من
جنرالاتهم بالتقهقر، على أن يتقدم بدلاً منهم سرب الطائرات الروسية المروحية
والطائرات الحربية ليبدأ من جديد قصف جوي عنيف للقرية وقصف سكانها العزل.
قال الجنرال (شامانوف) قائد قوات وزارة الدفاع الروسي في الشيشان:
(هدفنا من العملية كان مجرد التحقق من هويات مواطني القرية (! !) ، وهو ما لم
تسمح لنا به قوات المقاومة، فاضطررنا للتعامل معها) ، ولم يكن هذا التفسير
الهزلي للعملية بجديد، فقد سبق وكان حجة لعشرات العمليات العسكرية المتوحشة،
التي راح ضحيتها آلاف مؤلفة.
ولم تمض أيام حتى غرقت قرى الشيشان في بحر من الدم والدموع والجثث،
وخصت قوات يلتسين الديمقراطية المدنيين بجزء كبير من قذائفها وحممها؛ مما
اضطر الرئيس الروسي لعزل تيخاميروف وتعيين قائد جديد هو (قسطنطين
كوليكوفسكي) .. لكن هذا التغيير في الوجوه لم يصاحبه تغيير في السياسات أو
الوسائل الوحشية لآلة الحرب الروسية.. أيقن الشيشان أن الحل بأيديهم.. ولذا:
فاجؤوا العالم بهجومهم الصاعق بعد شهر من نقض روسيا لاتفاقها معهم..
مفاجآت الشيشان الجديدة:
رفضوا أن يكونوا مجرد (إعلان انتخابي) أو (وسيلة لوصول يلتسين لسدة
الرئاسة) ، وظهرت المفاجآت المصاحبة للهجوم: من الإعلان عن وجود جوهر
دوداييف حيّاً، وظهور القائد العسكري سلمان دادوييف على شاشات التلفاز.. إذن:
قلب الشيشانيون المشهد رأساً على عقب، وأكدوا عدة نقاط مهمة لا بد للشعوب
المسلمة من تذكرها واستلهامها في المعركة الدولية الشاملة ضدهم:
-أن الوحدة على الهدف والمبدأ أمر مكلف يحتاج إلى تضحيات كبيرة وعمل
ضخم وكلام قليل، وأن الاختلاف على الوسائل والتفاصيل لا يجب أن يقف أمام
القضية الكبرى التي يتفق الجميع على خطوطها العريضة، فبالرغم من شراسة
العدو وغلبته العددية والقتالية ومعرفته التفصيلية بنواحي الضعف ونقاط الاختلاف
بين قادة الفصائل الشيشانية.. إلا أن المقاومة الشيشانية حافظت على حد معقول من
الوحدة والتجانس التي أفضت إلى فشل الروس في شق صفوفهم وتفريق وحدة
كلمتهم، لقد استند الشيشانيون إلى تاريخهم العريق في الصراع مع روسيا، والذي
اتسم بوعي عالٍ من مسلمي الشيشان بقضيتهم، كما اتسم بوضوح أهدافهم واتفاقهم
على حد أدنى من المطالب.
-أثبت الشيشان أن العملاء كالأحذية، لا يذكرون إلا من قبل التندر عليهم،
فمن منكم يعرف اسم قائد الحكومة العميلة لموسكو، الذي يشبه كثيراً الزعامات
الكرتونية المفروضة على شعوبها، تارة باسم السلطة الوطنية، وأخرى باسم الثورة، وثالثة تحت عنوان الخلاص أو الإنقاذ الشعبي! ! .
-رسم الشيشان مساراً آخر لتأكيد عدالة قضيتهم، وأكدوا للجميع أن التفاوض
مضيعة للوقت، وأن الواقع هو الذي يحدد مسارات هذه المفاوضات، كما كشفوا
للعالم أن قوة عظمى كروسيا لا يمكن أن تحفظ العهد أو الوعد، وأن القضية العادلة
تنتصر على الباطل مهما كثر خيله ورجله.
-نسف الشيشان نظريات جاهزة تستخدم دوماً لتثبيط الهمم وتهيئة الجو
للتنازل يتلوه تنازل.. من هذه المقولات التي توظف بالباطل رغم أن في بعضها
حقّاً: أن القضايا الحارة لا بد أن تخضع للموقف الدولي وحساباته، وأن قرب
ساحة المعركة من العدو الروسي يؤثر سلبيّاً على القضية.. كما أكدوا للمسلمين:
أنه حتى في حالة خذلان إخوانهم لهم، فإنهم قادرون على التوكل على الله، وحمل
أرواحهم على راحاتهم.
-ضرب الشيشان في قتالهم الأخير مثالاً جديداً لم يألفه المسلمون في صراعهم
الجهادي المعاصر: حين ابتعدوا عن التهويل، بل حاولو أن يظهروا بمظهر
المتواضع البعيد عن التهويل والمبالغة، واتضح هذا جليّاً في إعلانهم عن نيتهم
الانسحاب من جروزني بعد احتلالها، وضربوا لهذا الانسحاب موعداً لا يتجاوز
اليومين، لكن الأحداث أثبتت أنهم خططوا للاستيلاء على جروزني وأركان لفترة
طويلة، هذا ما لم تتعود عليه قيادات أخرى تصر في كل مرة على المبالغة
والتهويل من قدرتها، مما يصيب الجماهير بالإحباط.
-ومن الدروس الشاخصة: ابتعاد الشيشان عن صناعة الرمز والأسطورة
الشخصية، فقضيتهم لم ترتبط منذ انفجارها بشخص أو اثنين أو عشرة، صحيح
أن للزعامات الشخصية دوراً بارزاً في شحذ الهمم والالتفاف حول راية القضية،
لكن العالم اليوم يلتف أيضاً حول البرنامج كما يلتف حول الزعامة، بل ربما أتت
الزعامة في مرتبة بعيدة عن البرنامج ... شتان بين الشيشان وقياداتهم وبعض تلك
القيادات المفضوحة في الساحة، التي تختزل قضية شعب بل أمة بتاريخها
ومقدساتها وعدالة قضيتها.. في شخص (أراجوز سياسي) أو زعيم من زعامات
الفقاقيع الصابونية..! ! .
-ولعل من الأرصدة المهمة التي انتزعها رجال الشيشان الأبطال: ذلك المجد
الذي شهد لهم به عدوهم.. هذا (ألكسندر ليبيد) الجنرال الروسي ورئيس مجلس
الأمن القومي يصرح بعد زيارته الخاطفة للشيشان بأنه: يعجب أشد الإعجاب
بصلابة وإيمان المقاتلين الشيشان، مقابل الانهيار المروع في معنويات وأداء ثاني
أضخم جيش في العالم، الذي انهار أمام بزوغ فجر الحلم الشيشاني ...
والسؤال: هل يشرق صبح الشيشان وينعمون بالحرية والاستقلال، كما سعوا
وحاربوا لهذا الهدف منذ قرون..؟ .
لعل هذا السؤال يجد بعض حروف إجابته في كلمات (الإمام شامل) قائد
الشيشان الراحل، الذي خاطبهم قائلاً: (أيها الجبليون: علينا أن نحارب، لا وقت
لدينا لتأليف الأغنيات وإنشائها، ولا لرواية القصص، فلنجعل الأعداء يغنون فينا
الأغنيات، وستعلمهم سيوفنا كيف يفعلون ذلك ... امسحوا دموعكم واشحذوا
سيوفكم) .
ويبدو أن يلتسين وليبيد هما أول من نظم الأغنيات للشيشان، كما توقع قائدهم
المجاهد بذلك! !
فهل من معتبر؟(105/88)
المسلمون والعالم
المسلمون البلغاريون بين الواقع والمأمول
(2 من 2)
بقلم: عبد الله بن إبراهيم المسفر
تطرقنا في العدد الماضي إلى تاريخ مسلمي بلغاريا، ومعاناتهم من الحكم
الشيوعي وما بعده، وما يلاقونه من اضطهاد ومحاولة لشق صفوفهم، وتبني
الحكومة لأشخاص مشبوهين ليكونوا مسؤولين عنهم، وإخفاقاتها حيال ما تخططه
في هذا المجال.
وسنتحدث في هذا المقال عن واقع المسلمين الحالي فيما يلي:
إطلالة على الداخل:
الحالة السياسية القائمة في بلغاريا، والتزاحم على الصوت المسلم كما أشرنا
وما سبقه من احتكاكات مع المسلمين: نبهت ولفتت أنظار الكثير من المسلمين وإن
لم يصل للدرجة المطلوبة لحقيقة ما يجري أولاً، ولحقيقة التنافس السياسي وأهمية
دورهم في الحلبة، وأنهم ليسوا في معزل عن نتائجه وإفرازاته، ولهذا: فلو خرج
المسلمون من هذه المعمعة على أقل تقدير بسعة في الإدراك، وتفتح في الأذهان
والأفهام، واتساع في الاهتمامات لتشمل هذا القطاع المهمل.. لكفى، وهذا بحد
ذاته تطور محمود ومؤشر طيب.
فنحن لا يهمنا على المدى القريب أن نجني كل ثمار هذا التقدم؛ لأن ذلك غير
منطقي، لكن بلا شك فإن ابتداء هذا التحول من الآن، سيكون له الأثر الكبير
الملموس في حياة الجيل القادم، لأنه سيكون أكثر تفهماً ووعياً وجرأة وجسارة،
وأكثر إيجابية وفعالية.. وهذا هو مدار الحديث، بل هو مدار التنافس والتآمر في
الوقت نفسه.
وعلى المدى القريب: فهذا التحول والانعطاف، إن استمر وتفاعل، سيحول
بإذن الله (تعالى) دون تكرار مأساة الشيوعية وقهرها للمسلمين والتضييق عليهم،
كما أنه سيدفع صانعي الأحداث والمسؤولين السياسيين جديّاً أن يضعوا في حسبانهم
كافة المعادلات سيئة أو حسنة ما دامت ترتبط بقطاع المسلمين.. فإن أضفنا لهذا
الأمر: التوجه الأوروبي الخارجي، والمحيط العام كما سيأتي، وفشل الخيار
العسكري في تقويض الحلم البوسني: لازدادت قناعتنا بأن الحال لن يدوم طويلاً
على هذا المنوال، وإن دام فسيتغير للأحسن إن شاء الله (تعالى) .
الوضع الاجتماعي:
وهوكما تقدم ليس بأفضل حالاً من الوضع السياسي، بل التغيير الديموجرافي
(السكاني) باستمرار يدخل في حسابات السياسات الدولية والإقليمية والمحلية،
صحيح أن التحول الديموجرافي في بلغاريا على المدى البعيد لصالح المسلمين،
وهذا سيحول هو أيضاً بإذن الله (تعالى) عاجلاً دون حدوث صدام أو تهجير، كما
أنه يفرح القلوب المؤمنة أن الأعوام التي تمر سراعاً تحمل في طياتها خيراً إن شاء
الله للمسلمين.. إلا أننا يجب أن نكون يقظين متنبهين؛ لأن الكائدين ليسوا في
غيبة عما يدور، ولهذا: لن يعدموا الوسائل والطرق لتغيير عناصر المعادلة وقلب
الموازين (قتلاً، أو تهجيراً، أو تذويباً) ، وإن كانت هذه الخيارات تبقى صعبة،
وتحتاج لتوافر ظروف وأجواء معينة..
الوضع الاقتصادي:
وهو مشابه لما مر، إلا أننا في هذا المضمار نوجه الأنظار لإمكانية المسارعة
في الاستثمار، وإن كان ما ذكرناه عامل منع، فإننا ننبه أحباءنا أن الوضع لن
يستمر على ما هو عليه؛ فبلغاريا ليست في معزل عن العالم، وبخاصة أوروبا
ومن حولها من الدول، والتغيرات الجارية فيها لمزيد من الديمقراطية والتعددية.
وصحيح أن الوضع غير مستقر الآن، لكن ارتفاع سعر الدولار وهبوط سعر
العملة يجعل الأيدي العاملة رخيصة، وإمكانية الاستثمار متوفرة، وتصدير المواد
البلغارية للخارج مربحة.. ويمكن على الأقل الاستفادة من الوضع الحالي في وضع
موطئ قدم للاستثمار والتجارة، فإن تيسر الأمر وسنحت فرص: تم اقتناصها،
وإن عدمت: ينتظر حتى تتغير الأوضاع والأحوال وينتعش الاقتصاد، ورجاؤنا ألاّ
نكون كالمعتاد آخر الركب مقبلين ومستفيدين..
هذا من زاوية، ومن زاوية أخرى: فإن الوضع الاقتصادي الآن يشغل
الحكومة والشعب، ولذا: فالحكومة البلغارية ليست لها قدرة على فتح جبهات
استنزافية إضافية، بل يسعى الحزب الاشتراكي الآن بكل جهده لإعادة الثقة ... المفقودة، وتلميع الصورة المشوهة لها لدى الغرب بعامة وأوروبا بشكل خاص.
الوضع الخارجي:
انتهاء حرب البوسنة، وفشل صربيا وأوروبا وكل حاقد وكائد في إنهاء الأمل
البوسني تماماً في الوجود والحياة، ثم استمرار الحرب في الشيشان، وانهيار ما
تبقى من سمعة للجيش الروسي الجرار.. كل ذلك في تقديري أثّر أيما أثر على
تفكير أوروبا والغرب في مدى نجاح الخيار العسكري لحل النزاعات أو فرض
السيطرة بالقوة..
وحال المسلمين البلغار مختلف تماماً: فهم خط الدفاع الأول لتركيا القوية،
ويقطنون دولة صغيرة منهكة ضعيفة.. كما أن بلغاريا تقع في منطقة تخضع
لمخططات أمريكية أوروبية، لذا: فلا مجال (في حدود تقديرنا البشري) لحدوث
نزاع أو صدام جديد في هذه المنطقة على المدى القريب..
وبلغاريا لا تستطيع أن تقف حجر عثرة أمام مخططات وتطلعات أمريكا
وأوروبا في منطقة البلقان التي تربط الشرق بالغرب، بل هي الآن تعاني أشد
المعاناة من موقف الغرب منها لميلها فقط للطرف الروسي والقطب الأرثوذكسي،
فكيف إذا لبست ثوب النمر واستأسدت؟
من هنا: نخلص إلى أن عموم الوضع الداخلي والخارجي لا يساعد نهج
الحكومة الحالية ولا مخططاتها على النجاح، بل ولا على الاستمرار في الوجود،
فكيف إذا قدمت رأسها للمقصلة بإخفاقاتها العديدة؟ .. وبمقارنة سريعة بين حال
وتفكير وبرامج الاشتراكيين في بلغاريا، والاشتراكيين في كل من بولندا، وإيطاليا، وإسبانيا.. يتبين للمطلع أن الاشتراكيين البلغار يسبحون عكس التيار ويعيشون
أحلاماً مضت وولت، ... ولهذا وذاك حالفهم الفشل، في حين تفيد التقارير الحالية
أن إخوانهم من الاشتراكيين قد حققوا نجاحاً؛ لأنهم عرفوا طبيعة الظروف المحيطة
بهم، وقوانين حلبة المصارعة السياسية الجديدة.. كما يقولون.
هل ستبقى الحكومة الحالية؟ !
الحكومة في تقديرنا (ولله الأمر من قبل ومن بعد) معرضة للسقوط وإن طال
عمرها، بالطبع: هناك احتمال أن يعيد الحزب الاشتراكي تشكيل حكومة جديدة
أخرى، وهذا إن حصل: فلن تكون كسابقتها، وستتخذ نهجاً مغايراً تماماً؛ لتحسين
صورتها داخليّاً وخارجيّاً، ومع أننا نميل للرأي الأول وهو السقوط تماماً إلا أننا
أيضاً نوافق من قال: إن مرد ذلك كله يعود (بعد مشيئة الله طبعاً) إلى نتائج
الانتخابات الرئاسية، وتوجه الفائز فيها:
إن كان ديمقراطيّاً: فإن سقوط الحكومة، وحل البرلمان، وإجراء انتخابات
جديدة.. حاصل لا محالة.
إن كان يساريّاً فاحتمال تغيير الحكومة، وتشكيل حكومة جديدة وارد.
وقبل أن أختم المقال: ألفت الأنظار إلى أن التوجه العالمي أيضاً قد اتفق على
محاربة الأصولية والإرهاب، وهذا مفهوم واسع ومطاط؛ لأن تحديد هذه المفاهيم
تعود لشرطي النظام العالمي الجديد، وهذه السمة لن يبرأ منها أحد من المسلمين
(شخصاً، أو هيئة، أو دولة) ... إن حل عليه الغضب من ذلك الشرطي.. المهم:
أن هذا المفهوم سيلاحق العمل الإسلامي والعربي المهاجر لتقديم العون والمساعدة
لإخوانه تحديداً، وسيضيّق عليه منافذ التنسم والتنفس، وبالطبع سيجد هذا الأمر
قبولاً من قبل الدولة البلغارية (مدار حديثنا) ، لكن في حالة كون العمل الإسلامي
قائماً تحت غطاء دار الإفتاء العام هناك فهو أفضل الحلول، وإن عُدم، وقام تحت
غطاء بلغاري بحت: فهو أفضل في كل الأحوال من الغطاء الخيري الجديد.
واقع دار الإفتاء الآن:
دار الإفتاء العام الآن وحسب ما يجري تعاني والله أعلم، كما يبدو لنا من آلام
المخاض، ونتمنى أن يكون المولود خيراً، حتى لو كانت الولادة قيصرية، فلعله
بإذن الله (تعالى) ينفتح بابٌ من الأمل عظيم على المسلمين والعمل الإسلامي
لصالحهم، وإلا فإن البديل يبقى في ظل هذه الأجواء والأحوال الغطاء البلغاري
الرسمي البحت.. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وبلغاريا لا تعاني من مشاكل مع العرب أو المسلمين بين بعضهم البعض، بل
لا يوجد ذلك التناحر بين التوجهات والمناهج المختلفة كباقي بعض الدول الأخرى،
فأكثر العاملين في مجال الدعوة وفي الجمعيات الخيرية القليلة العدد مثلاً هم من
الطلاب، وأكثرهم لا ينوي البقاء في بلغاريا، ولهذا: لا يوجد بينهم ما يوجد بين
الجمعيات والمؤسسات من اختلاف في التوجهات والمتطلبات التي تنعكس سلباً على
مستوى وأداء ذلك العمل الخيري.. وهذا بلا شك عامل مساعد وإيجابي في سير
الدعوة والعمل الإسلامي دون منغصات داخلية أو مشاكل جانبية.
ونأمل أن يكون العاملون في هذه المجالات الدعوية والخيرية أكثر تفهماً لهذه
الأوضاع الشائكة، وأكثر معرفة بضرورة تكاتف الجهود وتعاون الجميع لأداء
رسالة الدعوة والتعليم لإخواننا هناك، بعيداً عن حساسيات أو اختلافات، ستؤدي
بلا شك إلى أعمال سلبية، ما أحوجنا لتلافيها؛ لأن القصد هو التوعية والتوجيه
وإنشاء كوادر من إخواننا المسلمين هناك يقومون بواجب الدعوة والتعليم.
ويا حبذا لو اختير أفراد من شباب المسلمين ليكملوا دراساتهم في الجامعات
الإسلامية، وبخاصة في (المملكة العربية السعودية) ، فإنهم بإذن الله سيكونون ذخراً
وأملاً يرتجى لغد مشرق، وما ذلك على الله بعزيز.(105/96)
في دائرة الضوء
حتى لا نصل إلى الانهيار الداخلي
بقلم: محمد محمد بدري
حين: نتجاهل مستقبلنا حتى يصبح حاضراً، ونغفل عن حاضرنا حتى
يصير تاريخاً، ونهمل بناءنا الداخلي حتى يفرز في أنفسنا (الوهن الحضاري) .. ... و (القابلية للهزيمة) و (القابلية للسقوط) .. حينئذ تتداعى علينا برابرة الأمم ليأخذ كل منهم نصيبه من أشلائنا، كما تتداعى الكلاب وصغار الوحوش لنهش لحم الأسد الميت، بعد أن كانت في حياته تمتلئ رعباً من منظره.. بل من مجرد سماع زئيره! !
إن المنهاج الإسلامي يبين في تشخيصه لنكبات الأمم: أن هذه النكبات إنما
هي النتيجة الحتمية لما كسبت أيدي أفرادها..
-ففي القرآن: التأكيد على هذه السنة العامة التي لا تتخلف ولا تتبدل ... [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] [الشورى: 30] ، ولذلك: فإنه حين تساءل المسلمون بعد هزيمة (أحد) : [أَنَّى هَذَا] .. جاءهم الجواب من الله: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ... ... [آل عمران: 165] ، وتحت العنوان نفسه: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] كان تعقيب القرآن على غزوة حنين: [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] [التوبة: 25] .
-وفي السنة: يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه
ثوبان أن مصائب أمتنا إنما تكون بما في أنفسنا، فيقول: ( ... وإني سألت ربي
لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة (قحط شامل أو مجاعة مهلكة) وأن لا يسلط عليهم
عدوّاً من سوى أنفسهم [] قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ [] فيستبيح بيضتهم، وإن ربي
قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا
أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم،
ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال مَنْ بين أقطارها (يعني: أهل المعمورة)
حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) [1] .
فالحديث كما نرى ظاهر في أن تسلط العدو علينا إنما هو بسبب ما في أنفسنا
وبنائنا الداخلي من إصابات حضارية.. وأن هذه (الإصابات الحضارية) الداخلية
هي الأخطر؛ لأنها هي التي تعطي الإصابات الخارجية إشارة العمل والفاعلية..
ويؤكد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى في حديثه الآخر: (يوشك
الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.. فقال قائل: ومن قلة نحن
يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من
صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) [2] .
فتداعي الأمم إنما يكون بسبب من (الوهن الحضاري) في الأمة، ذلك
(الوهن) الذي يجعل الأمة بمثابة غثاء من النفايات البشرية التي تخاف من تكاليف
مجابهة الظلم في الداخل، وتجبن عن صد الغزاة في الخارج..
وكما تؤكد آيات القرآن وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن سبب
الهزائم ينشأ من داخل الأمة بـ (الوهن) الحضاري الذي لا يُنْتج إلا الاستسلام للأعداء، والكف عن منازلتهم.. كذلك تشهد لهذه القاعدة آيات الآفاق والأنفس [3] .. ونظرة واحدة في تاريخ المسلمين تؤكد أن ما لحق بالأمة ولا يزال يلحق بها إنما هو في الحقيقة عقوبات مستحقّة.. وأن كل أمة تستسلم للنوم، فإن الله يبعث عليها سوطاً يوقظها.. سواء أكان هذا (السوط) عدوّاً من الخارج، أو اضطراباً في الداخل:
برابرة التتار:
كانت غارة التتار كاسحة.. خربّت بغداد وقتلت أكثر من مليون مسلم حسب
رواية ابن كثير والسيوطي ولم يسلم من القتل إلا من اختفى في بئر أو قناة! ،
وقتل الخليفة رفساً وركلاً بأقدام التتار.. وجرى النهر أربعين ليلة أحمر اللون من
كثرة ما أريق فيه من دماء المسلمين..
فهل كانت قوة التتار وحدها هي السبب وراء هذه المذبحة؟ أم أن الخيانة
والتآمر من العلقمي وبطانة السوء من جانب، وضعف الأمة من جانب آخر هو
السبب المباشر والأقوى؟ ..
إن ابن كثير يحدثنا أمراً عجباً.. يحدثنا أن جنديّاً تتريّاً أراد قتل مسلم ولم
يكن معه (أي: التتري) سلاح.. فقال للمسلم: ابق هنا لا تتحرك، فبقي المسلم
بسبب من الهزيمة الداخلية حتى غاب الجندي التتري، ثم عاد وبيده السلاح،
فذبحه! ! .. هكذا.. لم يبد المسلم أدنى مقاومة.. حتى لو كانت هذه المقاومة هي
مجرد الفرار! !
بل إن ابن كثير (رحمه الله) يحكي لنا قصة أخرى أقسى وأكثر دلالة على أن
من يهزمه عدوه من داخله لا يبقى أمامه إلا أن يصفي ساحة المواجهة معه من فلوله
العاجزة المذعورة دون جهد أو تعب..
يحكي لنا ابن كثير أن مُلَثّماً من جنود التتار دخل خاناً فيه الكثير من المسلمين، فبدأ في قتلهم.. وهو واحد وهم كثرة.. وهم لا يفعلون شيئاً إلا أن يسلموا رقابهم
للذبح.. حتى رأى أحدهم أن من يقوم بقتل الجميع هي فتاة ضعيفة! ! هنا.. وهنا
فقط! ! اجتمعوا عليها فقتلوها! ! [4]
ويتساءل المرء: ما الفرق بين أن تكون فتاة ضعيفة أو رجلاً قويّاً في مواجهة
هذه الكثرة من المسلمين؟ .. ولكنه الوهن.. والهزيمة الداخلية، التي تُوجِدُ في
النفوس الرهبة والخوف، فتشلها عن المواجهة، وتقعدها عن المجاهدة فتلقي
بسلاحها قبل أن تبدأ المعركة..
المحاق الأندلسي:
ظهرت (القابلية للسقوط) في الأندلس على مستوى الفرد والأمة، بداية من
التناحر والصراع على السلطة، وإقامة الكيانات الطائفية الصغيرة، والاستعانة
بأعداء الله لحماية تلك الكيانات الهزيلة..
وكانت هذه الأسباب وغيرها من الأسباب التي نشأت في (داخل) الأمة هي
التي أعطت (إشارة) العمل والقوة لأعداء الأمة، فقاموا بتفريغ كل حقدهم الكاثوليكي
على الإسلام والمسلمين.. ومن ثم: سقطت الأندلس، وشهد المسلمون هناك العمل
المتواصل لإزالة كل ما هو إسلامي..
أمّا نحن: فقد علمتنا الأندلس (المعادلة الصحيحة في تفسير التاريخ: خروج
على سنن الله.. إمهال نسبي من الله قد يغرى الخارجين على تلك السنن بالتمادي،
ثم تتجمع عوامل الفناء لتشكل عامل إغلاق لباب العودة.. إبادة وموت في شكل
مجموعة من الكوارث) [5] تلك الكوارث التي تمثل النتيجة الحتمية لمقدمات موت
الأمة، ووصولها إلى الطريق المسدود في حركتها داخل التاريخ.
سقوط آخر خلافة:
الدارس لسقوط الخلافة العثمانية على يد الطاغية: كمال أتاتورك، يوقن أن
هذا (الرجل) لم يكن يملك قوة خارقة أو يستند إلى قوة لا تقهر تمكنه من إسقاط ذلك
الكيان.. وإنما كان السقوط بسبب داخلي هو (الشيخوخة) السياسية لدولة الخلافة
بسبب الاستبداد، و (الشلل) العلمي بسبب إقفال باب الاجتهاد، واللذين أديا إلى
تسكير الأبصار وتوقف الاعتبار، مما جعل الأمة عالة على غيرها.. فعاش كل
فرد فيها همّه الفردي في الطعام واللباس والمسكن.. ومن ثم: تحولت الأمة إلى
أمة (ميتة) ، لم يدلنا على موتها إلا (كمال أتاتورك) الذي قام بدور دابة الأرض كما
حصل ذلك في قصة موت سليمان (عليه السلام) [فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ
عَلَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَاًكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ] [سبأ: 14] .
وهكذا حال كل أمة (ميتة) : قد تبقى زمناً دون أن تسقط؛ لأنها (تتكئ على
منسأتها من أجهزة الأمن، فيخيل للرازحين تحت ظلمها أنها حية قائمة، فإذا بعث
الله عليها عناصر مقاومة من الداخل، أو قوة غازية من الخارج، فتأكل منسأتها
فتخر ساقطة، وحينئذ يتبين الرازحون تحت ظلمها أن لو كانوا يعلمون الغيب ما
لبثوا في العذاب المهين! !) [6] .
إن من يرى الحياة من خلال واقعه، وليس من خلال أمانيه.. يدرك أن واقع
أمتنا لا يخرج عن أن يكون النتيجة البدهية للمقدمات التي صغناها نحن بأيدينا..
وأنه لو زالت أمامنا كل عقبة خارجية تحول بيننا وبين التغيير، لما أمكنا أن نصنع
شيئاً قبل أن نغير ما بأنفسنا وداخل أمتنا، وندرك دون لبس أو غموض أو إيهام
الإجابة الشافية على السؤال التالي:
متى تبدأ هزائم أمتنا؟
إن سنة الله التي تحكم قيام الأمم أو سقوطها هي أن (السقوط) والهزيمة
(نتيجة) تتكرر كلما جاء (سببها) وهو (الوهن الداخلي) .
لقد فطن لتلك (السنة) أعداء أمتنا، بل وتحركوا من خلالها قديماً وحديثاً:
حكمة ملك الصين:
أرسل (يزدجرد) كسرى الفرس إلى ملك الصين يطلب منه العون والنجدة بعد
هزيمته في معركة (نهاوند) .. فقال ملك الصين لرسول كسرى: قد عرفتُ أن حقّاً
على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين
أخرجوكم من بلادكم، فقال رسول يزدجرد: سلني عما أحببت:
ملك الصين: أيوفون بالعهد؟ .
رسول يزدجرد: نعم.
ملك الصين: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ .
رسول يزدجرد: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إمّا دينهم، فإن أجبناهم
أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.
ملك الصين: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ .
رسول يزدجرد: أطوع قوم لمرشدهم.
ملك الصين: فما يحلون وما يحرمون؟ .. ويخبره رسول يزدجرد.
ملك الصين: أيحرمون ما حلل لهم، أو يحلون ما حرم عليهم؟ .
رسول يزدجرد: لا.
ملك الصين: فإن هؤلاء القوم لايهلكون أبداً حتى يحلّوا حرامهم، ويحرّموا
حلالهم....
ثم كتب ملك الصين كتاباً إلى يزدجرد جاء فيه: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك
بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين
وصف لي رسولك صفتهم لو يطاولون الجبال لهدوها، ولو خُليّ سربهم أزالوني
ماداموا على ما وصف، فسالمهم، وارض منهم بالمساكنة، ولا تهيجهم ما لم
يهيجوك [7] .
هذه هي حكمة ملك الصين: إن هؤلاء القوم لا يهلكون أبداً حتى يُحلّوا
حرامهم، ويُحَرّموا حلالهم..
إن الهزائم تبدأ من هنا.. من داخل الأمة، وليس من خارجها.. وهذه الحكمة
جديرة بأن نضعها نصب أعيننا ونحن نقرأ الماضي، ونبصر الحاضر، حتى نقدر
على القراءة الصحيحة لمستقبلنا..
درس من توينبي:
لم يتمكن علماء وفلاسفة الاجتماع والحضارة من الوصول إلى كثير من السنن
التي تحكم البناء أو السقوط الحضاري.. هذه حقيقة.. ولكن هذه الحقيقة لا تعني
جهلهم التام بها.. فقد أصاب المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه (دراسة تاريخ
العالم) حين أشار إلى أن علة انهيار الأمم وهزيمتها هي (الانتحار الداخلي) ، قبل
أي عامل خارجي لا يعدو دوره الكشف عن هذا الانتحار [8] .
ونحن هنا لا نستدل بآراء توينبي، فهذه الآراء ما زالت تستدعي الكثير من
الحوار والنقاش.. ولكن حسبنا أن هذه القاعدة التي ذكرها تدفعنا في رحلة للتفتيش
عن مواطن الخلل الداخلي لاستدراكها، ومراجعة أسباب القصور الذاتي لعلاجها،
ولتكن نتيجة هذه الرحلة هي: خطوة في الطريق الصحيح.
الهزيمة والتحدي:
إن أعداءنا يدفعوننا دائماً إلى الزهد في أخطائنا الداخلية تحت دعوى أولويات
مزعومة ننخدع لها نحن أحياناً بسذاجة غريبة.. بينما هذه الأخطاء الداخلية هي في
رأس قائمة الأولويات.. ذلك أن التأثير القوي في الخارج إنما هو النتيجة البدهية
لنظام دقيق وصحيح في الداخل..
إن من البدهي أن نتوقع من أعدائنا كل خبث وكيد وتخطيط مضاد، وليس لنا
أن نطالبهم بعدم الكيد لنا، والعمل على تحقيق ذلك الهدف.. فهذا لون من سفه العقل.. وإنما سيطرتنا على أعدائنا لها طريق واحد، هو: تطهير أنفسنا من الداخل، من أخلاقيات الضعف والخوف وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية، والتي تمهد لقبولنا الاستعباد والخضوع..
إن واقعنا اليوم قد يكون (أزمة كبرى) .. ولكن الأزمات الكبرى هي التي
توقظ الأمم من سباتها، وتحفّزها للانطلاق من جديد.
فهل نقدر اليوم على أن نحوّل (الهزيمة النفسية) بعد شعورنا بوجودها إلى
دافع يفجر روح (التحدي) والرفض للواقع المزري؟ فنبدأ خطوة في الطريق
الصحيح تقضي على الخلايا الشائخة في الأمة، وتدفعها نحو بعث جديد من
(مرقدها الحضاري) .. هل نخطو هذه الخطوة في الطريق الصحيح، أم نُبْقي عجلة
التحكم في مصير أمتنا بيد أعدائنا بدعوى أن قوتهم هي التي تقتل بعثنا ... الحضاري.. بينما الحقيقة المرّة: أننا نحن الذين نقتل هذا البعث الحضاري عبر ما بأنفسنا من (الانحراف الفكري) .. و (القابلية للهزيمة) .. و (الانتحار الداخلي) ؟ !
هذا نذير.. فهل من مجيب؟ !
__________
(1) أخرجه أبو داود، وأحمد بن حنبل، والترمذي، واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.
(2) أخرجه أحمد بن حنبل، وأبو داود، واللفظ له، وصححه الألباني.
(3) انظر: ابن تيمية، رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 31.
(4) ابن كثير: البداية والنهاية، ج 13، ص 200 وما بعدها.
(5) د عبد الحليم عويس: أوراق ذابلة من حضارتنا، ص 39.
(6) د ماجد الكيلاني: إخراج الأمة المسلمة، ص 130 بتصرف.
(7) تاريخ الطبري ج 4، ص 172، 173.
(8) أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ج 1، ص 412.(105/102)
الورقة الأخيرة
من يحمل هم التوحيد؟ !
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
يتقطع قلب المسلم أسًى وحسرة على هذا الواقع المحزن لبعض المسلمين..!
يذوب قلب المسلم حزناً حينما يرى هؤلاء الجهلة والسذج وقد عبثت فيهم
البدع والشركيات..!
تتلى الأوراد البدعية، وتنشد المدائح الشركية، وتدور الرؤوس طرباً وهياماً
بدفوف ليالي الموالد المزعومة.
جماعات في إثر جماعات، وأفواج في إثر أفواج، يتقاطرون كالسيل المنهمر، يستنجدون بذلك المقبور، ويستغيثون به، يعفرون وجوههم بالتراب، ويتمرغون
على أعتابه، ويتعلقون بأستاره، وتسمع الصراخ والعويل الذي لا ينقطع من
الرجال والنساء: يا فلان أغثني.. يا فلان ارزقني..! !
يرحل أحدهم الليالي ذوات العدد، ويتكبد من المشاق الشيء الكثير، حاملاً
نذره ليذبحه بين يدي ذلك القبر، يلتمس القربى والبركة، ويطلب العون والمدد..!
سبحان الله.. هكذا يكون الإسلام عند هؤلاء الضلال؟ ، لقد سيطرت
الدروشة بصورها العبثية المختلفة وألوانها الشركية المتعددة، على عقول كثير من
المنتسبين إلى الإسلام.. كم هو محزن ومؤلم للنفس أن تطل علينا من جديد
الجاهلية بصورتها الأولى!
كيف يلذ لنا طعام، أو نهنأ بشراب، ونحن نرى هذه الخرافة التي تعبث
بعقول السذج وقلوبهم؟ !
هل يطيب لنا عيش ونحن نرى هذا الضلال ينخر في قلوب العباد، ويجعلها
ألعوبة بأيدي الدراويش والمخرفين ودهاقنة الفساد؟ !
إن هذه الجموع أمانة في أعناقنا، فأين العلماء.. وأين الدعاة والمصلحون في
مشارق الأرض ومغاربها..؟ !
ماذا قدمنا لتوضيح حقيقة هذا الدين، وشرح أصول التوحيد، وقواعد ... الشهادة..؟ !
لقد كان همّ التوحيد هو الهم الأكبر الذي يحمله الأنبياء (عليهم الصلاة
والسلام) ، قال الله (تعالى) : [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا
إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: 25] ؛ ولهذا كانت وصية النبي لمعاذ لما بعثه إلى
اليمن: البدء بالأهم فالمهم: (إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم
إلى أن يشهدوا أنّ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ... ) الحديث [1] .
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحمل هذا الهم حتى وهو في النزع
الأخير، ويحذر أمته من الشرك، ويقول: (لعنة الله على اليهود والنصارى؛
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا [2] .
فما أحوجنا إلى هذه الوصية والعض عليها بالنواجذ، فالتوحيد بشموله وكماله
هو المنطلق الأساس للدعوة، وهو أولى الواجبات الدعوية التي يلزم الاعتناء بها.
وكم يحزن المرء حينما يرى بعض الدعاة يجعلون همهم الأكبر هو الاشتغال
بالفروع دون الأصول، أو حينما يتخبطون في متاهات جدلية وكلامية تشغلهم عن
هم التوحيد.
__________
(1) البخاري: رقم (4347) ، ومسلم (1/50) .
(2) البخاري: رقم (4443) ، ومسلم (1/377) .(105/111)
جمادى الآخرة - 1417هـ
نوفمبر - 1996م
(السنة: 11)(106/)
كلمة صغيرة
حتى لا تخدع الجماهير
التحرير
سبق بأن قلنا إن حزبي (العمل) و (الليكود) الصهيونيين وجهان لعملة واحدة،
وإنهما ينطلقان من أسس ومبادئ واحدة، وإن كان لهما أسلوبان متغايران ظاهراً،
لكن (الليكود) يقول في العلن ما يقول (العمل) وراء الكواليس.. وجاءت أحداث
المسجد الأقصى الأخيرة لتثبت وتجلي كثيراً من الحقائق.
فالنفق الذي أثار المشاعر كان العمل قد بُدئ فيه قبل حكومة (نتن ياهو)
الأقل دهاءً من سلفه، وسبق لكثيرين التحذير من حفريات العدو على أساسات
المسجد الأقصى؛ لبناء هيكلهم المزعوم مكانه.
و (السلطة) الفلسطينية كانت على علم به قبل ذلك، وعلى علم بمخططات
العدو وخطته التوسعية في المستوطنات، ولم تحرك ساكناً، ولكنها تركب الآن
مشاعر الجماهير بانتهازية ظاهرة، وتستغل الحدث للمساومة به، والظهور بمظهر
المقاوم للاحتلال، ومن ثم كسب شعبية مفقودة، وتفويت الفرصة على (حماس) ،
وهذه السلطة هي التي كانت وما تزال تقمع الشعب وتطارد الإسلاميين لحساب
العدو.
وانتفاضة الشعب الفلسطيني تثبت أن في الأمة طاقات وإمكانات كبيرة،
تستطيع فعل الكثير إن شاء الله (تعالى) إن أُحسن استغلالها وتوجيهها. وأن مدعي
العجز أمام التفوق الصهيوني مخدوعون وخادعون، وأن العدو لا يرضخ إلا لمنطق
القوة، وأن طاولة المفاوضات هي عنوان الاستسلام وتخدير الشعوب.
ولكن الأحداث تثبت أيضاً أن للجماهير عاطفة جياشة، ولكن بلا وعي غالباً؛ فثورتها عند تهديد جدران المسجد الأقصى رغم حتميتها كان أولى بها أن تكون
لوقوعه تحت سلطان اليهود، وعدم تحكيم كتاب الله وسنة رسوله فيهم، وإراقة
الدماء المسلمة على أيدي إخوان القردة والخنازير وأعوانهم، فحرمة المسلم أكبر
عند الله من حرمة بيته الحرام.
... ... ... ... والله غالب على أمره،،،،(106/1)
الافتتاحية
لكم دينكم ولي دين
دعوة إلى الثبات على المبادئ الصحيحة
التحرير
من الظواهر الاجتماعية الجديرة بالدراسة التي ذكرها العلامة ابن خلدون في
مقدمته: «ميل المغلوب إلى تقليد الغالب والنظر إليه بضعف وانكسار» ، هذه
الظاهرة أخذت بعدها الواضح في حالة الاستلاب الفكري والاجتماعي والسياسي،
والانبهار بحضارة الغرب الذي تمرّ به الأمّة الإسلامية منذ أواخر الدولة العثمانية.
وليس غريباً أن يقع في هذا العجز والدونية عامة الناس من الجهلة والسذج،
خاصة مع سياسة التغريب والعلمنة التي تشهدها المنطقة الإسلامية بعامة، ولكن
الغريب جدّاً أن تقع مثل هذه الدونية عند بعض الإسلاميين والدعاة سواء أكان ذلك
على مستوى الأفراد، أو حتى على مستوى التجمعات الدعوية (! !) .
لقد ظهرت في العقد التاسع من هذا القرن الهجري شعارات فكرية عديدة،
مثل: (اشتراكية الإسلام.. اليسار الإسلامي.. ديمقراطية الإسلام.. ونحوها) ، ثم
أخذت هذه الظاهرة تزداد في السنوات الأخيرة، وتأخذ أبعاداً جديدة جعلت بعض
الإسلاميين يستصغر نفسه، ويفكر بروح منهزمة وضيعة، ويكون همه الأكبر هو
إرضاء الدوائر الإعلامية والأجنبية، وتراه يتكيف ويتشكل بناءً على المعطيات
الفكرية والسياسية التي تضغط عليه، فيدخل في دوّامة من الانحرافات المنهجية
التي تؤدي به إلى سلسلة من التنازلات عن بعض الأصول والأحكام الشرعية،
حتى لا يوصم بالتشدد والتطرف والأصولية! ويعلل ذلك بفنون من التأويلات
الباردة الهزيلة، ويبدو ذلك في أقرب مظاهره على مستوى تبعية الأفراد خاصة في
الهدي الظاهر للرجل أو المرأة، كما يبدو ذلك على المستوى العام في التجمعات
الدعوية في علامات كثيرة تضعف حيناً وتقوى أحياناً أخرى، ومن ذلك مثلاً:
تهرب بعضهم من مبدأ الجهاد في سبيل الله (وليس تحفظهم على بعض صور
ممارساته) ، وتمييع عقيدة الولاء والبراء، والتهرب من إظهار تكفير اليهود
والنصارى، وإنكار الحدود الشرعية، والدعوة إلى التقارب بين الأديان، وعقد
التحالفات المهينة مع الأحزاب العلمانية واليسارية.. ونحو ذلك، وتزداد هذه
الظاهرة بخاصة مع سياسة الضغط والديكتاتورية التي تمارسها بعض الأنظمة
العلمانية أو الاستعمارية، وكلما ضعف إيمان المرء بالعقيدة التي يحملها، هان عليه
أن يتنازل عن بعض أصولها، ويخضعها للجدل والمساومة..!
لقد كانت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- واضحة جلية منذ أيامها الأولى، فحينما رأى المشركون قوة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتفاف الناس
حوله: أرادوا أن يجروه إلى التفاوض على المبدأ وسياسة الترقيع والقبول بالحلول
الوسط والمنافع المشتركة، أنزل الله (تعالى) قوله: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1) لا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] [الكافرون: 1 - 6] ؛ ولهذا فمن مبادئ
الدخول في دين الإسلام: الكفر بالطاغوت، قال الله (تعالى) : [فَمَن يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا] [البقرة: 256] . ويتربى الصحابة (رضي الله عنهم) على هذه الحقيقة أعزة شامخين بإيمانهم، فها
هم هؤلاء يخرجون من غزوة أحد وقد أثقلتهم الجراح، وفقدوا جمعاً كريماً من أجلّة
الصحابة، ومع ذلك يتنزل عليهم قول الله (تعالى) : [وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [ال عمران: 139] .
صحيح أنّ ذلك قد يجرّ مزيداً من التسلط والتضييق والملاحقة لأولياء الله
الصالحين، ولكن هذه هي طبيعة هذا الدين، فما من نبي من الأنبياء (عليهم أفضل
الصلاة والسلام) إلا وقد تسلط عليه قومه بالسخرية والإيذاء، بل بالضرب ... والقتل أحياناً، قال الله (تعالى) : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً مِّنَ المُجْرِمِينَ] ... ... [الفرقان: 31] ، ولما سمع ورقة بن نوفل (رضي الله عنه) ما حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، قال له: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أومخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي [1] ، وقال قيصر الروم في حواره مع أبي سفيان بن حرب: «سألتك كيف قتالكم إياه، فزعمت أنّ الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة» [2] .
نذكر بهذا الأصل العظيم بعد التحالفات السياسية في تركيا، التي أدت إلى
تسلم حزب الرفاه الإسلامي سدة الحكم بالتحالف مع حزب الطريق القويم! ونحن
نقدر الجهود الكبيرة التي بذلها (الرفاه) ، وأسعدتنا جدّاً الانتصارات المتتالية له،
ورأينا كم جنّ جنون الغرب حينما استطاع الإسلاميون التقدم على جميع الأحزاب
العلمانية، بعد أن كانوا يتوهمون أنهم دفنوا الراية الإسلامية في تركيا تحت أنقاض
الدولة العثمانية، على يد حليفهم الوفيّ كمال أتاتورك، ورأينا كذلك اللعبة القذرة
التي مارستها الأحزاب السياسية بمختلف اتجاهاتها في تركيا، لتحول دون تفرد
حزب الرفاه بقيادة البلاد! !
ومع تفهمنا للظروف والضغوط التي أدت بحزب الرفاه إلى هذا التحالف إلا
أننا كنا نتمنى أن يصل إلى قيادة الحكومة التركية، لكن دون الدخول في تحالفات
غير واضحة المعالم مع أحزاب مشبوهة منقطعة الصلة بجذور الأمة وفكرها،
وذات تاريخ مخز، جرّت البلاد جرّاً للارتماء في أحضان الغرب.. ولا زلنا نتألم
من هذه الخطوة، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعل العواقب سليمة.
إننا نثق بنباهة وحنكة قيادة حزب الرفاه وتمرسها السياسي وخبرتها العريقة،
وهم من أقدر الناس على معرفة الواقع السياسي للأحزاب المتصارعة في الميدان..
ولكننا نؤكد على ضرورة التميز الإسلامي، وعدم الرضوخ للمساومات الفكرية
والسياسية، فأصالة هذا الدين تظهر بأصالة حَمَلته ودعاته.
نعم، قد يؤدي ذلك إلى تأخر وصول الحزب الإسلامي إلى قيادة البلاد، وقد
يؤدي إلى تدخل الجيش، أو إلى حصار غربي يضرب على البلاد كلها.. ولكن
هذه سنة طبعية للتغيير الإسلامي المنشود.
إنّ ثمة انحرافاً منهجيّاً عند بعض الإسلاميين في سياسة التعامل مع المتغيرات
الفكرية والسياسية التي تشهدها الأمة الإسلامية، وبمراجعة شاملة لمناهج التغيير في
أوساط الصحوة الإسلامية يتبين حجم الضعف والهزال الذي نعاني منه، فلماذا
نخجل من إسلامنا؟ !
لماذا لا نتحدث بشجاعة وثقة، وليفعل غيرنا ما يفعل، وليصفنا بما شاء،
فما لنا ولهم؟ ! ما دامت مواقفنا مضبوطة بالضوابط الشرعية، وروعيت فيها
مصالح الأمة [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: 42] .
إنّه عبء ثقيل وحمل كبير بلا شك ولا يقوى على حمله إلا الأقوياء في دين
الله، وحقّاً فإن الهزيمة النفسية هي أخطر ألوان الهزائم! !
اللهم أرنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
وصل اللهم على محمد وآله وسلم
__________
(1) أخرجه: البخاري رقم (3) .
(2) أخرجه: البخاري رقم (5) .(106/4)
دراسات شرعية
الوسائل وأحكامها في الشريعة الإسلامية
(2 من 2)
بقلم: د.عبد الله التهامي
افتتح الكاتب مقاله السابق بالإشارة إلى أهمية موضوع الوسائل، ثم أخذ في
عرضه على هيئة مسائل، فتناول: معنى الوسائل، والفرق بينها وبين الذرائع،
وأقسامها من أكثر من زاوية، ثم تعرض لخصائصها.. ويواصل الكاتب عرضه
لمسائل أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
المسألة الخامسة: الأدلة على مشروعية العمل بالوسائل:
المسلك الأول: النصوص من الكتاب والسنة:
1 - قوله (تعالى) : [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ
عَمَلٌ صَالِحٌ] [التوبة: 120] ، قال العز بن عبد السلام: «وإنما أُثيبوا على
الظمأ والنصب وليس من فعلهم؛ لأنهم تسببوا إليهما بسفرهم وسعيهم، وعلى
الحقيقة: فالتأهب للجهاد بالسفر إليه وإعداد الكراع والسلاح والخيل وسيلة إلى
الجهاد، الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين.. وغير ذلك من مقاصد الجهاد،
فالمقصود ما شُرع الجهاد لأجله والجهاد وسيلة إليه.
وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد، الذي هو وسيلة إلى مقاصده،
فالاستعداد له من باب وسائل الوسائل» [1] .
وقال ابن سعدي: «فالذهاب والمشي إلى الصلاة، واتباع الجنائز.. وغير
ذلك من العبادات: داخل في العبادة، وكذلك الخروج إلى الحج والعمرة، والجهاد
في سبيل الله من حين يخرج ويذهب من محله إلى أن يرجع إلى مقره وهو في
عبادة؛ لأنها وسائل للعبادة ومتممات لها، قال (تعالى) : [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ
ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ... ] » [2] .
2- قوله (تعالى) : [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ
والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2] ، قال العز بن عبد السلام: «وهذا نهي عن التسبب إلى
المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح» [3] .
3 - قوله (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] [النحل: 90] ، قال العز بن عبد السلام: «وهذا
أمر بالمصالح وأسبابها ... ونهي عن المفاسد وأسبابها» [4] .
4 - قوله: (تعالى) : [إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ]
[يس: 12] ، قال ابن سعدي: «وفُسِّر قوله (تعالى) : [إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] أي: نَقْل خطاهم وأعمالهم للعبادات أو لضدها، وكما
أن نقل الأقدام للعبادات تابع لها؛ فنقل الأقدام إلى المعاصي تابع لها، ومعصية ... أخرى» [5] .
5 - قوله: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له طريقاً إلى ... الجنة» [6] .
6 - قوله: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي
فريضة من فروض الله: كانت خطوتاه إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع ... درجة» [7] .
المسلك الثاني: القواعد الشرعية:
مما يدل على مشروعية العمل بالوسائل؛ ثلاث قواعد: قاعدة مقدمة الواجب، وقاعدة اعبتار المآل، ومكملات المقاصد. وإليك البيان:
أولاً: مقدمة الواجب، أو: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [8] .
معنى القاعدة: أن كل ما يتوقف عليه إيقاع الواجب، وهو في مقدور المكلف [9] فهو واجب، وما يتوقف عليه الواجب ينقسم بعدة اعتبارات إلى ما يأتي:
أولاً: إلى ما كان واجباً بدليل شرعي، كالسعي إلى الجمعة في قوله (تعالى)
[فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ] [الجمعة: 9] ، فالسعي دل على وجوبه دليلان: الآية
الكريمة، والقاعدة.
وإلى ما كان مباحاً لم يدل على وجوبه دليل شرعي، لكنه وجب تحقيقاً
للواجب؛ كالسفر إلى الحج بالنسبة للبعيد عن مكة، فهذا دل على وجوبه دليل واحد
فقط، وهو قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكلا هذين القسمين من باب الوسائل، إلا أن القسم الأول وسيلته ثبتت
بالنص، والقسم الثاني لم تثبت بالنص، وإنما ثبتت بطريق الوسائل.
ثانياً: إلى ما يكون: قبل الواجب؛ كالسعي إلى الجمعة.
أو بعده؛ كإمساك جزء من الليل في الصوم.
أو مقارناً له؛ كاستقبال القبلة للصلاة.
وهكذا الوسائل: فإنها قد تسبق المقصد، وقد تقارنه، وقد تتأخر عنه، وهي
على كل الأحوال خادمة للمقصد، مؤدية إليه، مكملة له.
ثالثاً: إلى ما يكون: جزءاً من ماهية الواجب؛ كالسجود في الصلاة، فهذا
ركن لا وسيلة؛ إذ الوسيلة لا تكون ركناً.
وما يكون خارجاً من الماهية؛ كالطهارة للصلاة، فهذا شرط ووسيلة.
رابعاً: إلى ما يكون: سبباً شرعيّاً؛ كصيغة العتق في العتق الواجب للكفارة
أو سبباً عقليّاً؛ كالصعود إلى موضع عالٍ فيما إذا وجب إلقاء الشيء منه.
وإلى ما يكون: شرطاً شرعيّاً؛ كالطهارة للصلاة.
أو شرطاً عقليّاً؛ كترك أضداد المأمور به.
فهذه الأربعة وسائل مطلوبة.
خامساً: إلى ما يكون: فعلاً؛ كالطهارة للصلاة، فإنها وسيلة إليها.
وما يكون كفّاً وتركاً؛ كترك أكل المذكاة إذا اشتبهت بميتة [10] ، وهذه هي
قاعدة الاحتياط [11] ، وهي داخلة تحت أصل سد الذرائع.
سادساً: إلى ما يكون: واجباً وجوباً معيناً؛ كالإمساك الواجب امتثالاً لصيام
رمضان.
وما يكون واجباً وجوباً مخيراً فيه بين أشياء محصورة؛ كخصال الكفارة في
اليمين.
وما يكون واجباً وجوباً مطلقاً غير معين؛ كالعتق المطلق، فإنه يتم بعتق
مطلق رقبة.
وهكذا الوسائل: تارة تتعين، وتارة تكون كالواجب المخير، وتارة تكون
مطلقة.
ثانياً: اعتبار المآل [12] :
المراد باعتبار المآل: النظر فيما تؤول إليه الأفعال من مصالح ومفاسد؛ إذ
العمل قد يكون في الأصل مشروعاً، لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو
يكون في الأصل ممنوعاً، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة [13] .
قال الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت
الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك: أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال
الصادرة من المكلفين بالإقدام، أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل» [14] .
ومما يدخل تحت هذه القاعدة، وهو يدل على صحتها:
قاعدة سد الذرائع. إبطال الحيل.
النهي عن الغلو في العبادات والزيادة على الحد المشروع فيها؛ لكونه قد
يؤدي إلى السآمة والملل وترك العمل جملة [15] .
قاعدة: (ما حرم استعماله حرم اتخاذه) ، كالخنزير، وآلات اللهو، وآنية
الذهب والفضة [16] .
قاعدة: (ما حرم أخذه حرم إعطاؤه) كالربا، ومهر البغي، والرشوة [17] . ويقرب منها: (ما حرم فعله حرم طلبه) [18] .
قاعدة: (الحريم له حكم ما هو حريم له) ، كالفخذين حريم للعورة ... الكبرى [19] .
قاعدة: (للوسائل حكم المقاصد) [20] ، وبذلك يتبين أن قاعدة الوسائل
فرع عن قاعدة اعتبار المآل.
ثالثاً: مكملات المقاصد [21] :
المكمل هو ما من شأنه تحسين صورة أصله وتقوية جانبه؛ كالنافلة للفريضة.
ولما كانت مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة:
الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال: كانت هي الأصل، وكانت الحاجيات
والتحسينيات مكملات لهذا الأصل؛ فهي بهذا النظر خادمة للأصل، ومحسنة
لصورته؛ إما مقدمة له، أو مقارنة، أو لاحقة.
وعلى كل تقدير: فالمكملات تدور حول الأصل بالخدمة؛ حتى يتأدى الأصل
على أحسن حالاته.
وذلك: أن الصلاة مثلاً إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم، فإذا
استقبل المصلي القبلة أشعر بحضور التوجه، ثم يدخل في الصلاة بزيادة سورة
خدمة لفرض أُمِّ القرآن، ولو قدم قبل الصلاة نافلة كان ذلك تدريجاً للمصلي
واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضاً لكان خليقاً باستصحاب الحضور في
الفريضة.
فالمكملات دائرة حول حمى الضروري؛ خادمة له، ومقوية لجانبه، ولو
خلت الضروريات منها أو من أكثرها لوقع فيها خلل بوجه ما [22] ، والوسائل من
قبيل التكملة؛ إذ بها يتحقق المقصود ويكتمل.
المسألة السادسة: شروط اعتبار الوسائل:
هل يجوز التوسل بكل وسيلة؟ ، أو: ما هي الشروط الواجب توفرها في
وسيلةٍ ما حتى يمكن اعتبارها وسيلة شرعية؟ .
والجواب: أن الوسائل لكي تعتبر وسائل شرعية لا بد لها من ضوابط،
ولمعرفة هذه الضوابط لا بد من النظر في أمور أربعة على الترتيب:
1 - الوسيلة في ذاتها. 2 المقصد الذي تفضي إليه.
3 - درجة الإفضاء. 4 المآل.
1- النظر في الوسية ذاتها:
يشترط في الوسيلة أن تكون في ذاتها مشروعة: مطلوبة، أو مباحة، أو
مكروهة، بمعنى ألا تكون محرمة.
فإذا وجد في الوسيلة هذا الضابط نُظِر في الأمر التالي، وهو:
2- النظر في المقصد الذي تفضي إليه هذه الوسيلة:
يشترط في المقصد المتوسل إليه أن يكون حلالاً: واجباً، أو مندوباً، أو
مباحاً، أو مكروهاً.
أما الضابط الثاني فهو: أن يبقى هذا المقصد ولايسقط؛ إذ الغرض من
التوسل تحصيل المقصد، فإن سقط المقصد وزال: بطل بزواله التوسل، وبطلت
معه الوسيلة. وقد سبق التنبيه على هذا الضابط عند الكلام على خصائص الوسائل.
فإذا توفر في المقصد هذان الضابطان: نُظِر في الأمر التالي، وهو:
3- النظر في درجة الإفضاء:
يشترط في إعطاء الوسيلة حكم مقصدها أن تكون مفضية إليه، فإن تبين عدم
إفضاء الوسيلة إلى المقصد فإن الوسيلة يسقط اعتبارها [23] .
ويشترط أن يكون إفضاء الوسيلة إلى مقصدها مقطوعاً به، أو غالباً.
أما إن كان الإفضاء نادراً فلا عبرة به؛ إذ الأحكام الشرعية إنما تناط بالكثير
الغالب، لا بالبعيد النادر [24] ؛ ولذلك قيل: «لا عبرة بالظن البيّن خطؤه» [25]
فإذا كانت درجة الإفضاء كافية، فلا بد من النظر في الأمر التالي، وهو:
4- النظر في المآل:
وذلك ألا يترتب على التوسل بهذه الوسيلة إلى مقصدها مفسدة تزيد على
مصلحة هذا المقصد أو تماثلها؛ إذ الغرض من هذا التوسل تحصيل مصلحة
المقصد المتوسل إليه، وهذه المصلحة متى ترتب على تحصيلها مفسدة أعظم منها
أو مثلها كانت تحصيلاً للمفسدة أو من قبيل تحصيل الحاصل، وكلا الأمرين ... باطل [26] . ومعلوم أن سد الذرائع أصل معتبر، وأن أعظم الضررين يدفع ... بأقلهما [27] .
المسألة السابعة: أحكام الوسائل:
أولاً: أحكام الوسائل من جهة فضلها ومراتبها:
يختلف فضل الوسائل ودرجاتها بحسب أمور ثلاثة:
الأول: فضل المقصد ودرجته، فبحسبه توزن الوسيلة:
قال العز بن عبد السلام: (يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل
المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى [افضل] المقاصد أفضل من سائر الوسائل) [28] .
ومن الأمثلة على ذلك [29] :
أن التوسل إلى معرفة الله وذاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه.
وأن التوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته.
وأن التوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات
في الصلوات المكتوبات.
وأن التوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبات أفضل من التوسل بالسعي إلى
المندوبات التي شرعت فيها الجماعات؛ كالعيدين والكسوفين.
الثاني: درجة إفضاء الوسيلة إلى المقاصد:
فكلما كان إفضاء الوسيلة أكمل في تحقيق المقصد كانت الوسيلة أفضل.
قال العز بن عبد السلام: «وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة كان
أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها» [30] .
وقال ابن القيم: (فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها
بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها.
ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى
غايتها) [31] .
وقضية إفضاء الوسيلة إلى مقصدها قد تكون من الأمور النسبية؛ فقد تختلف
قوة الوسيلة من وقت لآخر، ومن مقام لآخر؛ فما يكون من الوسائل قويّاً في مقام
قد لا يكون كذلك في مقام آخر.
والمقصود على كلٍّ: الحرص على أكمل الوسائل، وأعلاها في تحقيق
المصلحة؛ بحيث تحصل كاملة، راسخة، عاجلة، ميسورة [32] .
ولذلك قيل: «الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها»
كصلاة الجماعة، ولو كانت خارج المسجد، فإنها أفضل من الصلاة فيه بلا ... جماعة [33] .
الثالث: نية المتوسل ومقصده:
ذلك أن الوسيلة غير مقصودة لذاتها، وهي تفتقر إلى النية لاعتبارها أو
إبطالها من جهة الشرع.
قال ابن القيم: «فالنية روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها: يصح
بصحتها، ويفسد بفسادها.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال كلمتين كفتا وشفتا، وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله:» إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى « [34] [35] .
وقد بُني على هذا الحديث العظيم قاعدة كبرى من قواعد الفقه، وهي: ... » الأمور بمقاصدها « [36] .
ويندرج تحت هذه القاعدة جميع العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر
العقود والأفعال [37] ، بل يسري حكم هذه القاعدة» إلى سائر المباحات؛ إذا قُصد
بها التقوِّي على العبادة أو التوصل إليها؛ كالأكل والنوم واكتساب المال وغير ذلك.
وكذلك النكاح والوطء؛ إذا قُصد به إقامة السنة والإعفاف أو تحصيل الولد
الصالح وتكثير الأمة « [38] .
وعلى المكلف إذا أراد صحة قصده شرعاً أن يتحرى قصد الشارع في كل
أعماله، وإن حصل له مع ذلك بعض أغراضه وشهواته؛ لأن هذه الشريعة
موضوعة لمصالح العباد [39] .
ثانياً: أحكام الوسائل من حيث التعيّن والتخيّر:
لا يخلو المقصد المتوسل إليه من حالتين:
الحالة الأولى: أن يتوقف تحصيله على وسيلة واحدة لا يتحقق إلا بها [40] . فالوسيلة في هذه الحالة متعينة الوجوب أو الاستحباب بحسب حكم المقصد.
الحالة الثانية: أن تتعدد الوسائل؛ فيمكن تحصيل المقصد بأكثر من ... وسيلة [41] .
ففي هذه الحالة لا تخلو تلك الوسائل المتعددة من أمرين:
1 - أن تكون متساوية في الإفضاء إلى المقصد؛ فعلى المكلف التخيّر منها.
2 - أن يكون بعضها أقوى من بعض في الإفضاء إلى المقصد؛ فعلى المكلف
التماس أقوى الوسائل وأكملها في تحقيق المقصد.
قال ابن عاشور:» وقد تتعدد الوسائل إلى المقصد الواحد، فتعتبر الشريعة
في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلاً للمقصد المتوسل إليه بحيث
يحصل كاملاً، راسخاً، عاجلاً، ميسوراً، فتقدمها على وسيلة هي دونها في هذا
التحصيل.
وهذا مجال متسع، ظهر فيه مصداق نظر الشريعة إلى المصالح، وعصمتها
من الخطأ والتفريط ... فإذا قدّرنا وسائل متساوية في الإفضاء إلى المقصد باعتبار
أحواله كلها: سوّتْ الشريعة في اعتبارها، وتخير المكلف في تحصيل بعضها دون
الآخر؛ إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها « [42] .
ثالثاً: أحكام العمل بالوسائل من جهة الحكم التكليفي:
الأصل في أحكام الوسائل أنها تابعة لأحكام مقاصدها التي تفضي إليها، ولهذا
قيل:» للوسائل أحكام المقاصد « [43] .
قال القرافي:» وحكمها [أي: الوسائل] كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو
تحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها « [44] .
وقال ابن سعدي:» الوسائل لها أحكام المقاصد: فما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، وما لايتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروهات
تابعة لها، ووسيلة المباح مباح « [45] .
ومما مضى يتبين أن الوسيلة:
-قد تكون واجبة وجوباً متعيناً، وذلك بشرطين:
أ - أن يكون مقصدها واجباً.
ب - أن يتوقف تحصيل هذا المقصد على هذه الوسيلة بعينها.
-وقد تكون الوسيلة واجبة وجوباً مخيراً فيه بالتساوي؛ كخصال الكفارة،
وذلك بشرطين:
أ - أن يكون مقصدها واجباً.
ب - أن تتعدد وسائل هذا المقصد مع كونها متساوية في إفضائها إليه.
-وقد تكون الوسيلة مندوبة، وذلك بشرطين:
أن يكون مقصدها مندوباً، وأن تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد كافية.
وربما تكون الوسيلة مندوبة أيضاً بشرطين: أن يكون مقصدها واجباً، وأن
تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد محتملة.
-وقد تكون الوسيلة مباحة، وذلك بشرطين:
أن يكون مقصدها مباحاً، وأن تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد كافية.
-وأما إن كان المقصد محرماً: فالوسيلة والحالة كذلك تعد ذريعة محرمة،
يجب سدها.
وكذلك إذا كان المقصد مكروهاً: فالوسيلة في هذه الحالة تعد ذريعة، وحكمها
الكراهة.
المسألة الثامنة: الفرق بين الوسائل والبدع [46] :
الاشتباه بين البدع والوسائل حاصل من وجهين:
أنهما لايستندان إلى دليل شرعي خاص، لذا: فقد اعتبر بعض أهل العلم
الوسائل المرسلة كجمع المصحف، وكتابة العلم من البدع المستحسنة [47] .
كما أن كلاّ منهما من الأمور الحادثة التي لا عهد للسلف بها.
ويتضح الفرق بين الوسائل والبدع من وجهين:
أن الوسائل غير مقصودة لذاتها، بل هي راجعة إلى حفظ مقصد من مقاصد
الشريعة، بخلاف البدع فإنها في الغالب مقصودة لذاتها؛ إذ هي عبادة شرعية بزعم
أصحابها.
إذا علم ما سبق؛ فإن الوسائل تكون ممنوعة إذا ناقضت شيئاً من مقاصد
الشريعة، أو خالفت أصلاً من أصولها، فهذا شرط مهم وأساس في اعتبارها والأخذ
بها؛ ذلك أن مستندها تحقيق مقصد الشارع، أما البدعة مع كونها مناقضة لمقاصد
الشريعة فإنها عند أهلها معتبرة على الإطلاق والدوام ولا تسقط بحال من الأحوال،
وذلك لما تقدم من كونها عند أهلها مقصودة بذاتها.
المسألة التاسعة: وسائل الدعوة، هل هي توقيفية أم اجتهادية؟
لقد كثر الجدال وطال الكلام حول هذا السؤال، والناس في الجواب عنه
فريقان: كل فريق يقطع بصحة رأيه وخطأ مخالفه، وربما جُعل من هذه القضية
عند بعضهم معقد اجتماع وافتراق، وموطن ولاء وبراء.
ولعل السبب في ذلك أن كل فريق بنى موقفه من قضية وسائل الدعوة على
نظرته الخاصة إلى تطبيقات وأمثلة معينة؛ كالنشاط المسرحي المشتمل على بعض
القصائد المنشودة والمشاهد التمثيلية، وكالبرامج الإعلامية المعتمدة على تصوير
ذوات الأرواح، وكالمشاركة في المجالس الشعبية والانتخابات الجمهورية، فمن
ارتضى هذه الوسائل ورأى شرعيتها: جزم بأن وسائل الدعوة اجتهادية، ومن أنكر
هذه الوسائل ورأى عدم شرعيتها: جزم بأن وسائل الدعوة توقيفية.
فانظر: كيف قُلبت الموازين عند هذين الفريقين، حينما أخضعوا القاعدة
الكلية أعني: كون وسائل الدعوة توقيفية أو كونها اجتهادية لبعض أمثلتها وتطبيقاتها، وكان المفترض: إخضاع هذه الأمثلة وإرجاعها إلى قاعدتها الكلية. وإليك بيان ذلك بمثال واحد:
من وسائل الدعوة ونشر الخير وتعليمه للناس: شريط الفيديو المشتمل على
الندوات والمحاضرات المصحوبة بالصورة الحية، فإذا أردنا معرفة حكم هذه
الوسيلة فلا بد أن نطبق على هذه الوسيلة شروط اعتبار الوسيلة الماضي بيانها؛
فننظر: هل هذه الوسيلة في ذاتها ممنوعة؟ إن قلنا بتحريم التصوير ومنعه
فالنتيجة: أن هذه الوسيلة محرمة لا يجوز التوسل بها، فلا حاجة لنا عند ذلك إلى
النظر في الشروط المتبقية، وإن قلنا بجواز التصوير وإباحته، فننظر في الشروط
المتبقية: هل المقصد المتوسل إليه مقصد شرعي صحيح؟ وهل هو باقٍ لم يسقط؟ وهل درجة الإفضاء كافية؟ وهل يترتب على هذا التوسل مفسدة مساوية
لمصلحته أو أعظم منها؟ .
وبعد ذلك وقبله: لا بد من النظر في مسألة حكم تصوير ذوات الأرواح: أهو
من المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ فيبقى الخلاف حينئذ دائراً في نطاق المسائل
الاجتهادية، ولا ينكر على المخالف في هذه الحالة إلا بالحجة والدليل، دون تشنيع
ولا تفسيق، أو هي مسألة لا يسوغ فيها الاجتهاد ولا الخلاف؛ فيكون الخلاف
والحالة كذلك مرفوضاً، بل قد يرمى المخالف بالبدعة أو أزيد.
والمقصود: أن وسائل الدعوة لا يحكم عليها إلا بعد عرضها على الشروط
الشرعية؛ فمتى وجدت هذه الشروط جميعها في وسيلةٍ ما: حُكِم بصحة هذه
الوسيلة، ومتى تخلفت هذه الشروط أو بعضها: حُكم ببطلانها.
ومن جهة أخرى فإن في هذا السؤال أعني: وسائل الدعوة، هل هي توقيفية
أم اجتهادية؟ إجمالاً في ثلاث لفظات، والألفاظ المجملة ينبغي التحفظ في إطلاقها
دون بيان أو تقييد، وهذه اللفظات هي:
لفظة (وسائل الدعوة) من الألفاظ المجملة، التي تحتمل أكثر من معنى:
فإن أُريد بوسائل الدعوة: منهج الأنبياء الثابت في الدعوة إلى الله (تعالى) كضرورة
البدء بالعقيدة ونبذ الشرك بمختلف صوره.. فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى
لا مجال فيها للاجتهاد؛ بل هي توقيفية.
وإن أريد بوسائل الدعوة: أساليب الدعوة إلى الله، وطرائق تبليغ الدين من
كتابة أومشافهة مباشرة أو غير مباشرة: فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى
ليست توقيفية، بل هي خاضعة للاجتهاد والنظر حسبما يحقق المصلحة.
وكذلك: فإن لفظة» الاجتهاد «الواردة في قول القائل:» وسائل الدعوة
اجتهادية «من الألفاظ المجملة؛ فإن الاجتهاد يحتمل معنيين: فإن أريد به الاجتهاد
غير المنضبط، وهو القول بالرأي المجرد واتباع الهوى: فلا شك أن وسائل
الدعوة ليست اجتهادية بهذا المعنى، وإن أريد بالاجتهاد إعمال الفكر، وإطالة النظر
في إطار الضوابط الشرعية: فيصح القول بأن وسائل الدعوة اجتهادية على هذا
المعنى.
وكذلك لفظة» التوقيف «الواردة في قول القائل:» وسائل الدعوة توقيفية «، فإنها من الألفاظ المجملة؛ لأنها تحتمل معنيين: فقد يراد بالتوقيف أولاً: مطلق الدليل الشرعي عامّاً كان أو خاصّاً، وعلى هذا المعنى يصح أن يقال: إن وسائل الدعوة من أساليب وطرائق توقيفية، بمعنى: أن هذه الوسائل لا بد أن تضبط بالضوابط الشرعية؛ لئلا تكون ميداناً لزيادات المبتدعين وتحريف الضالين المضلين.
وقد يراد بالتوقيف ثانياً: الدليل الشرعي المعين، بمعنى: أن الأدلة الشرعية
الكلية التي قد تدل على اعتبار مثل هذه الوسيلة لا تكفي وحدها دليلاً على صحة
هذه الوسيلة واعتبارها شرعاً، بل لا بد من دليل شرعي يدل دلالة خاصة على
اعتبار عين هذه الوسيلة وصحتها من جهة الشرع، ولكن الأخذ بهذا المعنى لا
يستقيم كما يشهد لذلك واقع الحال إلا بتحريم جميع وسائل الدعوة العصرية التي لم
توجد في عصر النبوة والصحابة، كإنشاء المدارس والمكتبات وما إلى ذلك من
الآلات والمخترعات الحديثة المنتشرة في عصرنا هذا؛ ذلك أن هذه الوسائل لم يدل
على اعتبارها دليل شرعي خاص.
وزيادة في الإيضاح نقول: إن أصحاب التوقيف الخاص، الذين يذهبون إلى
أن وسائل الدعوة توقيفية لا يحل لأحد أن يشرِّع فيها ما لم يأذن به الله وهو ما كان
عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه اضطروا إلى التزام أمور ثلاثة
على الترتيب الآتي:
القول بمنع وتحريم كل ما يسمى وسيلة مما لم يشهد له دليل شرعي خاص.
اعتبار الأخذ بهذه الوسائل من قبيل الابتداع في الدين.
تسمية بعض الوسائل الدعوية الحديثة كالأشرطة ومكبرات الصوت التي دلت
على صحتها الأدلة الشرعية العامة دون الأدلة الخاصة باسم آخر، مثل: قالب أو
وعاء أو طريقة أداء وبلاغ أو آلات نقل.
وقد غاب عن هؤلاء أن هذه القوالب أو الأوعية التي تقوم بنقل الوسيلة
الشرعية كالشريط ومكبر الصوت يمكن أن تسمى بوسائل الوسائل، وقد عُلم أن
وسائل الوسائل وسائل، وهذه التسمية مشهورة مذكورة عند العلماء الذين لهم عناية
بقضية الوسائل.
المسألة العاشرة: هل الغاية تبرر الوسيلة؟
الجواب على هذا السؤال: إنما يتضح بعد معرفة أصل ونشأة القول بأن ... » الغاية تبرر الوسيلة «وهو مذهب الميكيافيليين، وهو مبني على نظرتهم المادية
للحياة.
وبالجملة: فلا بد من النظر أولاً في الغاية؛ فإن كانت غاية فاسدة ومقصداً
باطلاً: فلا يجوز التوسل إليها ألبتة؛ بل الواجب منع هذه الغاية، ومنع كل وسيلة
تؤدي إليها، وهذا ما يعرف بأصل سد الذرائع، أي منع ذرائع الفساد ووسائله.
ثم: إن كانت هذه الغاية مقصداً شرعيّاً صحيحاً فلا بد من النظر ثانياً في
الوسيلة؛ لأن الوسيلة: إما أن تكون مطلوبة شرعاً، أو ممنوعة شرعاً، أو وسيلة
مرسلة.
فإن كانت الوسيلة مطلوبة: فالواجب في هذه الوسيلة تحصيلها والالتزام
بحكمهما الشرعي، ما لم يترتب على الأخذ بهذه الوسيلة مفسدة أعظم؛ كإنكار
المنكر إذا ترتب عليه مفسدة تربو على ذات المنكر، فالغاية ها هنا لا تبرر الوسيلة، على الرغم من كون هذه الغاية غاية شرعية نبيلة، وكون الوسيلة أيضاً وسيلة
مطلوبة.
أما إن كانت الوسيلة ممنوعة شرعاً: فالواجب في هذه الوسيلة منعها
وإبطالها، إلا إن ترتب على الأخذ بهذه الوسيلة الممنوعة دفع مفسدة أعظم؛
كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فالغاية ها هنا وهي غاية شرعية نبيلة تبرر
الوسيلة، على الرغم من كون هذه الوسيلة في ذاتها ممنوعة، وإنما كان ذلك دفعاً
لأعظم المفسدتين بأدناهما.
أما إن كانت الوسيلة مرسلة: فالواجب النظر في ضوابطها على النحو الذي
سبق بيانه في شروط اعتبار الوسائل.
نسأل الله (عز وجل) أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
__________
(1) قواعد الأحكام، ص 105، 106، وانظر: شرح تنقيح الفصول، ص 449، والفروق، 2/33.
(2) القواعد والأصول الجامعة، ص11.
(3) القواعد والأصول الجامعة، ص11.
(4) قواعد الأحكام، ص131.
(5) القواعد والأصول الجامعة، ص 12.
(6) البخاري: كتاب العلم.
(7) انظر: قواعد الأحكام، ص 106، والقواعد والأصول الجامعة، ص 12، والحديث أخرجه مسلم: كتاب المساجد، باب المشي إلى الصلاة.
(8) انظر: مجموع الفتاوى، 20/159 161، والمسودة، ص61، وشرح الكوكب المنير، 1/357 360.
(9) المراد بهذا القيد أن ما لا يتم الوجوب إلا به ليس بواجب؛ كملك النصاب، فإنه شرط في وجوب الزكاة، لكن لا يجب على العبد تحصيله، بخلاف ما لا يتم الواجب إلا به فإنه واجب؛ كنقل أموال الزكاة لإيصالها إلى مستحقيها، انظر: مجموع الفتاوى، 20/160، وقواعد المقري، 3/393، ونزهة الخاطر، 1/107، والوجيز لبورنو، ص 343.
(10) انظر: روضة الناظر، 1/110، ومجموع الفتاوى، 10/533.
(11) انظر في قاعدة الاحتياط: بدائع الفوائد، 3/257 275.
(12) انظر: الموافقات، 4/194 211.
(13) انظر: الموافقات، 4/198.
(14) الموافقات، 4/194.
(15) انظر فيما يتعلق بالنهي عن الغلو: مجموع الفتاوى، 25/281، 282، والمحجة في سير الدلجة، ص 46، 47.
(16) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص150.
(17) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 150، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 158.
(18) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 151.
(19) السابق، ص 125.
(20) انظر: قواعد الأحكام، 1/46، وشرح تنقيح الفصول، ص449، والفروق، 2/33، والقواعد والأصول الجامعة، ص10.
(21) انظر: الموافقات، 2/12 25، وشرح الكوكب المنير، 4/163.
(22) انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور، ص 148.
(23) انظر: القواعد للمقري، 1/242.
(24) انظر: إعلام الموقعين، 3/279، والموافقات، 2/358.
(25) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 157، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 161.
(26) انظر: قواعد الأحكام، ص 53، 79، ومجموع الفتاوى، 20/ 48، 51، 54، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 86 88، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 90، 91.
(27) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 88، 89.
(28) قواعد الأحكام، ص104.
(29) انظر: المصدر السابق، ص 104.
(30) المصدر السابق.
(31) إعلام الموقعين، 3/135.
(32) انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور، ص 148.
(33) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 147.
(34) أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، ومسلم: كتاب الإمارة.
(35) إعلام الموقعين، 3/111.
(36) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 8، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 27.
(37) انظر: إعلام الموقعين، 3/111.
(38) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص10.
(39) انظر: الموافقات، 2/168 176.
(40) ويدخل تحت ذلك: إذا كان للمقصد أكثر من وسيلة، إلا أنه لايتحقق كاملاً إلا بواحدة، وربما يتحقق هذا المقصد بوسائل أخرى إلا أنه غير كامل، فوجود هذه الوسيلة وعدمه سواء.
(41) بشرط أن تشترك هذه الوسائل في تحصيل أصل المقصد، وأن يكون التفاوت فيما بينها في قضية الكمال.
(42) مقاصد الشريعة لابن عاشور، ص149.
(43) انظر: قواعد الأحكام، وشرح تنقيح الفصول، ص449، والفروق، وإعلام الموقعين، والقواعد والأصول الجامعة، ص10.
(44) القواعد والأصول الجامعة، ص 10.
(45) شرح تنقيح الفصول، ص 449.
(46) انظر: الاعتصام، 2/111 135، والإبداع، ص 83 92، وأصول في البدع والسنن، ص 39 47، والبدعة والمصالح المرسلة، ص359 362، وحقيقة البدعة، 2/185 189.
(47) ممن ذهب إلى ذلك: العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام، 2/ 172، وتلميذه القرافي في كتابه الفروق: 4/202 وهذا التقسيم مبني على أن البدع ليست كلها مذمومة بل منها ما هو حسن والحق: أن كل بدعة ضلالة كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وما ذكره هؤلاء العلماء من أن هناك بدعة حسنة لا يخلو من حالين: إما ألا تكون بدعة لكن يظن هؤلاء أنها بدعة، وإما أن تكون بدعة سيئة لكن لا يعلم هؤلاء سوءها انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/188 وما بعدها، والإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع، لابن عثيمين، ص 11 وما بعدها.(106/8)
دراسات تربوية
مقاصد التوبة دعوة إلى السير في مدارج الكمال
(2 من 2)
بقلم: د. محمد عز الدين توفيق
استهلّ الكاتب الحلقة الماضية ببيان نوعي التوبة، وماهية كلٍّ منهما،
مع توضيح أهمية التوبة التي تجدد الإسلام (توبة الإحسان) ، ثم أخذ يتحدث عن
حوافز (دوافع) التوبة، فكان منها: عموم الأمر بها، والتفكر في حقيقة الزمن،
والنظر إلى الماضي، والنظر إلى المستقبل، ويواصل الكاتب عرضه لجوانب
أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
الحافز الخامس: الشعور بالاصطفاء:
لقد مضت سنة الله (تعالى) في الناس أن يكون أهل الهداية قلة وأهل الضلالة
كثرة [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] [يوسف: 103] ، [وَإن تُطِعْ
أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [الأنعام: 116] ، [وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] [هود: 119] ، [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ
شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] [سبأ: 13] ، [وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي
خُسْرٍ (2) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]
[العصر: 1-3] .
والتفكر في هذه الحقيقة الإلهية، وتتبع شواهدها في التاريخ والواقع: من
أعظم الحوافز التي تدعو إلى التمسك بالهداية، والتشبث بأسبابها، والحذر من
عوامل سلبها، فالذي يعلم أنه بالتوبة الأولى قد التحق بالموكب الكريم من المؤمنين
الصالحين، وانتمى إلى الصفوة المختارة من عباد الله يتقدمهم الأنبياء والمرسلون:
يعمل أقصى جهده ليتبوأ أفضل مقعد في هذا الموكب، ويأخذ أحسن موقع في هذا
الصف، ولا يزال يجاهد نفسه ويحملها على الأحسن والأصوب، وحتى يدرك من
المراتب ما لا يشاركه فيه إلا القليل من الناس.
وأي شيء يهدده في هذه النعمة، ويحرمه من هذه المعية الطيبة وهذا الجوار
المقدس: يبعد عنه ويحذر منه.
هذا الشعور بالاصطفاء الذي يبدأ في القلب عقب التوبة الأولى، ويزداد
ويعظم بالتوبة الثانية: هو الذي يهون على النفس سائر المعاصي مهما تكن جاذبيتها؛ لأنه عندما يضع تلك اللذات في كفة، ويضع هذا الاصطفاء في كفة، ويكون ذا
عقل ورأي: لا يرجح إلا الثاني، ولا يأنس إلا به، وكيف لا يأنس وقد وجد
الطريق ووجد الرفيق؟ ! .
الحافز السادس: التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
إن التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوق أنه فرض واجب، فهو
من أعظم الحوافز التي تدعو المسلم إلى تجديد إسلامه باستمرار.
والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس عمل يوم أو ليلة، ولكنه
عمل كل يوم وكل ليلة حتى الوفاة، فقد جمع الله (عز وجل) الكمالات البشرية في
نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وزكى سيرته من فوق سبع سماوات لتكون قدوة
للناس، فكل مسلم مأمور أن يدرس هذه السيرة بنيّة التأسي والاتباع، قال الله
(تعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .
ومن اكتشف هذا المعِين: لزمه، واستقى منه، ومنع أي مصدر آخر أن
يشوش عليه، وكيف يترك المقطوع به للمظنون، والمعصوم لغير المعصوم؟ ! .
وما دام المسلم يرى في سلوكه بدعاً ومحدثات وذنوباً وآثاماً، فإنه يشعر
بالنقص الحاصل في امتثاله للآية السابقة، فيزداد اقتراباً من سيرة نبيه -صلى الله
عليه وسلم-، جاعلاً الغاية التي يشمر إليها والشعار الذي يسعى نحوه: الأخذ بكل
ما كان يفعله نبيه، والإقلاع عن كل ما كان يتركه.
إن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، وصيامه، وحجه، وذكره، وطهوره، ودعوته، وفي شأنه كله: حافز من حوافز التوبة الثانية التي
تمتد سائر العمر.
وإذا علم المسلم أن النبي نفسه وهو المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر قد أُمر بالتوبة والاستغفار في عدة آيات، آخرها عند فتح مكة لما قال الله
(تعالى) له: [إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ
أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] [النصر: 1-3] .
ماذا يكون حال غيره ممن لا يدري بَعْدُ مصيره، وفي الحديث الذي رواه
مسلم يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس: توبوا إلى الله
واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة» .
الحافز السابع: الاقتداء بالسلف الصالح:
الاقتداء بالسلف الصالح فرع عن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح هم القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، بالخيرية ثم جميع الذين يشبهونهم في الفهم والتطبيق، كيفما كان
عصرهم، وكيفما كان بلدهم.
السلفية اتجاه في فهم الإسلام والعمل به، والسلف هم الذين تحققوا بمقومات
هذا الاتجاه في كل عصر، الأمثل فالأمثل، وفي حديث العرباض بن سارية
(رضي الله عنه) ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أوصيكم بتقوى الله....
فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين
الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن
كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» [1] .
فذكر سنته، ثم ذكر سنة الخلفاء الراشدين بعده؛ لأنها امتداد لسنته، فقد كانوا
(رضي الله عنهم) أشبه الناس به في صلاته وقضائه وجهاده وفي هديه كله، ثم
يأتي بعدهم التابعون لهم بإحسان في كل جيل.
ويحتاج المسلم الذي يريد أن يجدد إسلامه ويتوب توبة الإحسان أن ينظر في
سيرة من سبقوه، وحازوا قصب السبق في كل فضيلة؛ فعندما يطالع سيرهم: يقف
على نماذج رائعة في استغلال الوقت، واستثمار العمر، ومبادرة الأجل بالأعمال
الصالحة، وترتيب الأعمال حسب الأولوية، والموازنة بين العبوديات، والشمول
في فهم الدين، واليقين العظيم في الجزاء، والبعد عن موجبات النقمة والعذاب، ثم
ينظر إلى نفسه، فيجدها بعيدة عن كل ذلك، فتتحرك في نفسه غبطة محمودة تحمله
على منافستهم في مقاماتهم، والاقتداء بهم في أخلاقهم وأعمالهم، وقد كتب علماؤنا
كتب التاريخ والتراجم لهذا الغرض؛ حتى تبقى التجارب الناجحة في تطبيق
الإسلام محفوظة، يستشهد بها الواعظ والخطيب والمربي والداعية والمدرس
والشاعر والكاتب، كلّ في مجاله وموضوعه، وهذه مقتطفات من كتاب صيد
الخاطر للشيخ عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ، نوردها مثالا لهذه
السيرة النموذجية [*] يقول [2] : (تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين
انفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم،
فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي لندمت عليه، ثم تأملت حالي: فإذا
عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته
من معرفة العلم لا يقاوم، وما طالت طريق أدت إلى صديق كما يقال، وقد كنت
في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما
أرجو وأطلب) .
(كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج إلى طلب الحديث،
وأقعد على نهر عيسى في ضواحي بغداد، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما
أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا تحصيل العلم، وأثمر عندي ذلك
من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة
والعزبة: قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء
الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من خوف الله (عز وجل) ، ولولا
خطايا لا يخلو منها بشر ... لقد أخاف على نفسي العجب، غير أنه (عز وجل)
صانني وعلمني وأطلعني من أسرار العلم على معرفته وإيثار الخلوة به، حتى لو
حضر معي معروف الكرخي وبشر الحافي لرأيتهما زحمة) .
(وقد رباني (سبحانه) منذ كنت طفلاً، فإن أبي مات وأنا لا أعقل به، والأم لم تلتفت إليّ، فركّز في طبعي حب العلم، ومازال يوقعني على المهم فالمهم،
ويحملني إلى من يحملني على الأصوب حتى قوّم أمري ...
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مئتي ألف، وأسلم على يدي
أكثر من مئتين، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل ... ) .
هذه نشأة عالم مسلم وكلها تصون وعفاف، وعلم نافع وعمل صالح، ومع
ذلك: كثيراً ما يؤنب نفسه، ويرى أنه لم يسلم بعد إسلاماً جيداً، يقول رحمه الله
(تعالى) [3] :
(تفكرت في نفسي يوماً محققاً، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن
توزن ... ولقد تفكرتُ في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كشف
للناس بعضها لاستحييت، ولا يعتقد معتقد أنها من كبائر الذنوب حتى يظن بي ما
يظن في الفساق، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي، وقعت بتأويلات فاسدة ...
أف لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلم وما عبق بها من فضيلة، إن
نُوظِرَتْ شَمَخَتْ، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران
الرخم وسقوط الغراب على الجيف ... أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً
تحتها! ، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن إخلاقي وأنا بين
الأحباب ... وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني بحق معرفتي ما
دفنوني ... والله لأنادين على نفسي نداء المكشِفين معايب الأعداء، ولأنوحن نوح
الثاكلين للأبناء ...
واحسرتاه على عُمْر انقضى فيما لا يطابق الرضى، واحرماني من مقامات
الرجال الفطناء، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو بي، واخيبة
من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح عَليّ، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر
والله مني الشيطان وأنا الفطن) .
ثم يختم هذه المعاتبة بقوله: (اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة
صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار) .
فإذا كانت نهاية حوار هذا العالم مع نفسه أن يسأل توبة خالصة ونهضة
صادقة، فما أحرى من هو دونه علماً وعملاً أن يسأل ذلك.
ونؤكد أن المسلم إذا طالت صحبته لسِيَر السلف استوحش من أهل زمانه
وأنكر أسلوب حياتهم، وتعلق بالآفاق العالية التي حلق فيها أولئك الرجال العظماء
النبغاء الموهوبون، فهو في كل ساعة مشغول بمنافستهم ومزاحمتهم، وكلما حل
بمنزلة من منازل السير: تراءت له أخرى أعلى، وكلما دهمه كسل أو فتور:
تذكر أنه في حلبة سباق، وأي تهاون أو تباطؤ سيلقي به في مؤخرة المتنافسين،
ويزيده تشجيعاً: أن الاجتماع بهؤلاء السلف الصالح هو السير على نهجهم والتخلق
بأخلاقهم.
إن الاقتباس من السِّيَر الناجحة والتجارب الموفقة في تطبيق الإسلام يحدث
توبة متجددة في حياة المسلم، ويصحح من أوضاعه باستمرار.
الحافز الثامن: حقارة الإنسان بلا إيمان:
إن مما يزكي خطوات المسلم في طريق التوبة: علمه أن الإنسان بلا إيمان
كائن تافه حقير، بل هو لا شيء، يولد ويحيا ويموت كما ولد ومات الملايين من
أمثاله.
ها هو الليل والنهار قد صحبا قوم نوح وعاد وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً،
فقرب بهما البعيد، وبلي بهما الجديد، وتحقق بهما الموعود، ولا زالا يسيران في
الباقين سيرتهما في السابقين، أفيكون من التبصر والتعقل تعرض الإنسان الضعيف
الفقير لهلاك الأبد إذا أصر على الكفر أو المعصية، وأنفق أيام عمره فيما يغضب
الله ويسخطه عليه؟ .
أيكون من التعقل أن يعرف الإنسان طريق الأمان ويظل شارداً عنه، والله
(سبحانه) يفرح بتوبته إذا تاب كما يفرح المسافر الذي أضل راحلته حتى أوشك
الهلاك جوعاً وعطشاً، فوجدها وعليها طعامه وشرابه؟ .
كثير من الناس تتضخم عندهم ذواتهم، وتتحول إلى معبود يعبدونه من دون
الله، فيظن أنه ذو شأن كبير بما عنده من أموال، أو ما يحمله من ألقاب، أو ما
عنده من خدم وحشم وولد، وتخدعه الأعراض الزائلة، فيغفل عن البداية والنهاية،
أو الميلاد والممات، وينسى أن ما أدركه من مال وجاه عَرَض حاضر، وعن
قريب يزول، قال (تعالى) : [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمََعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ] [الهمزة: 1 4] ، فمالُه لا يُخلده، بل مثله مثل سائر الناس يموت بأجَله؛ فيترك المال وراء ظهره، ويقدم على ربه
وحده.
تضخم الذات وتحولها إلى محور لاهتمامات الشخص، واغتراره بالمكانة
والجاه في بلده وقومه: موانع تحول دون الإنسان والتوبة، ولكنه متى علم أنه بلا
إيمان كائن حقير، وأنه يموت فيرجع إلى ربه: طلب المكانة اللائقة به، بصفته
مخلوقاً كريماً على الله الذي خلق كل شيء من أجله وخلقه لعبادته.
الحافز التاسع: العلاقة بين الإنسان والكون:
إن الإسلام ليس دين الإنسان فحسب، بل هو دين الكون كله، فالسماوات
والأرض وما فيهما خاضع لكلمة الله الواحدة، وكل ما فيهما من كائنات علوية
وسفلية مسلم لله عابد له بالكيفية التي تناسبه.
وأي مخالفة مهما كانت هينة تمثل شذوذاً عن كوْنٍ مسلم خاضع لربه مطيع
لخالقه.
هذا الكون إبداع الخلاق العليم، والإنسان جزء منه، فالقوانين التي تحكم
فطرته ليست بمعزل عن الناموس الذي يحكم الوجود كله، والله الذي خلق هذا
الكون وخلق الإنسان، هو الذي سن للإنسان شريعة تنظم حياته تنظيماً متناسقاً مع
طبيعته، فأي خروج عنها يعني التصادم مع الفطرة والكون.
وإذا كان الحفاظ على هذا الانسجام بين الفطرة والكون مطلباً عزيزاً؛ لكثرة
أخطاء الإنسان وذنوبه: فإن الله (عز وجل) فتح باب التوبة، يدخله العبد كل وقت، فيجدد عهود الخلافة ويصحح ما كان قد انتقض منها، وفي بعض الآثار: أن
الإنسان إذا أذنب الذنب تستأذن المخلوقات في إهلاكه، فيقال لها: لعله يتوب،
لعله يتوب.
إن الإحساس بالرابطة التي تربطنا بالكون وهي رابطة العبودية لله هو الذي
يدفع إلى الالتزام الصارم بأوامر الشريعة؛ لأنها توفق بين نظام الكون ونظام
الفطرة، وتكون التوبة التي تعقب الذنوب أو تجدد الطاعات بمثابة المصالحة التي
تعقب الخصام، أو القرب الذي يقرب التباعد والهجران.
الإنسان المسرف على نفسه مثل النغمة النشاز التي تشذ عن أنشودة الكَوْن،
أو هي المتسابق الذي يسير في عكس اتجاه الكوكبة، أو هو المصلي الذي يصلي
في اتجاه مقابل للقبلة مخالفاً لباقي المصلين.
فلو تذكر الإنسان أنه ليس وحده في هذا الكون، ولو التفت يميناً وشمالاً،
ورفع بصره وخفضه، ورأى آيات الله في الآفاق والأنفس، لرأى مخلوقات مقبلة
على شأنها، قائمة بحق ربها، فيقبل مثلها على شأنه وينظر في أمر ربه فيلزمه،
عند ذلك يشعر بالأُنس، وتزول عنه الغربة التي يشعر بها غيره، فكيف إذا ترقى
من الشعور بالأُنْس مع المخلوقات إلى الأنس بالخالق، فيأنس إلى ربه عندما يشعر
أن الله (تعالى) معه، يشهده وينظر إليه، وأن الله (تعالى) معه، يحفظه ويرعاه،
وهذه هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة بإذن الله.
والآن: وبعد أن استعرضنا هذه الحوافز: لا بد أن نؤكد في الأخير أن تجديد
الإسلام في حياة المسلم مشروع كبير، وحتى ينجح أي مشروع لا بد أن يمر بثلاث
مراحل: الأولى: التفكير والتنظير، والثانية: التخطيط والبرمجة، والثالثة:
التنفيذ والمحاسبة.
فالتوبة التي تصحح سير المسلم إلى ربه مشروع ما بعد الهداية، فليضع له
المسلم ما يحتاج إليه من أهداف وبرامج، وهذا الشق العملي لا يُقَال، بل يمارس
ويطبق.
نسأل الله (تعالى) أن يرزقنا الإخلاص في القصد، ويلهمنا الصواب في العمل.
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب السنة، ح /4607، وصححه الألباني.
(2) صيد الخاطر، ص 597.
(3) ص 372.
(*) ابن الجوزي عالم وواعظ مشهور، غير أن له بعض السقطات في كتابه صيد الخاطر، انظر: (تهذيب صيد الخاطر) للأستاذ محمود الحداد، وأما عقيدته: فهو يميل إلى الأشعرية، وقد ضمنها تفسيره، وللوقوف على أخطائه العقدية: انظر: رسالة د/ محمد الغمراوي عن (التفويض عند المفسرين لآيات الصفات) ، أما بحث عقيدته وتسليط الأضواء عليها: فانظر: كتاب (اتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه أهل التشبيه) للشيخ سليمان العلوان، وكذلك كتاب (الصواعق والشهب المرمية على ضلالات السقاف البدعية) للشيخ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-(106/22)
مرتكزات للفهم والعمل
الإخلاص وهمّ الدعوة
في حياة الداعية
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
الإخلاص: تجريد قصد التقرب إلى الله (تعالى) عن جميع الشوائب.
وهو أمر عزيز، صعب على النفس؛ لأن كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح
إليه النفس، ويميل إليه القلب، ويخفّ العمل بسببه، قَلّ أم كَثُر، إذا تطرق إلى
العمل: تكدّر به صَفْوُه، وزال به الإخلاص؛ فلذلك قيل: من سلم له لحظة من
عمره خالصة لوجه الله نجا! !
قال أيوب: «تخليص النيات على العمال: أشد عليهم من جميع ... الأعمال» ! [1] .
الداعية والإخلاص:
من أحوج الناس إلى الإخلاص: الدعاة؛ لأن أعمالهم أخروية تفتقر إلى النية
والإخلاص في كل جزئياتها وإلا ضاعت سدى، ولأنهم أفقر الناس إلى ربهم
وأحوجهم إلى عونه وتوفيقه؛ لأن أعداءهم كثر، ولا ناصر لهم إلا الله، ولا ينجو
إلا المخلصون.
وفي ميادين الدعوة إلى الله لا يثبت إلا المخلصون، فلماذا؟ :
يثبتهم الله، ويعصمهم من الشيطان [إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ] ... [الحجر: 40] ، وفي القراءة الأخرى [المخلٌصين] [2] .
يورثهم إخلاصهم صبراً؛ فيعينهم صبرهم على الثبات.
إذا ادلهمت الخطوب لجؤوا إلى الله، وإذا أقفرت السبل تذكروا جزاء الآخرة.
كلما فتروا شحذ إخلاصهم هممهم.
قد ارتاحوا من هموم الدنيا ونَصَبها، إذ تَوحّد همّهم.
يبارك الله في جهودهم المتواضعة فتثمر الكثير، فيزداد حماسهم.
يحافظون على نتائج دعوتهم، ويمضون قدماً.
وإذا تأملنا سير الدعاة على مر القرون وجدنا أن أعظم الناس اهتماماً بالدعوة: المخلصون، وهم الذين يثبتهم الله، ويرفع ذكرهم، ويحيي دعوتهم، ويبارك في
جهودهم، ويجعل العقبى لهم.
وسِيَر الأنبياء ومَنْ بعدهم شاهدة على ذلك، فالأنبياء أكمل الناس إخلاصاً،
وأكثر الناس اهتماماً بالدعوة، وأعظم الناس انتصاراً!
الداعية وهمّ الدعوة:
وكم نحن بحاجة إلى تأمل، وتدبر ما قصه الله علينا من قصص الدعاة
المخلصين: كمؤمن آل ياسين، الذي جاء من أقصى المدينة، وانتهى به المقام في
الجنة، ومؤمن آل فرعون الذي مَحَضَ قومه النصح، وأَبْدَأ وأعاد ناصحاً مذكراً،
وناصِح موسى (عليه السلام) الذي انتدب نفسه محذراً لموسى من كيد فرعون وقومه، بل والعجب من الجن الذين سمعوا القرآن فولوا إلى قومهم منذرين!
والأعجب من ذلك: الهدهد الذي بادر ساعياً في تصحيح العقائد وإزالة الشرك
حين رأى من يسجدون للشمس من دون الله.
أفيكون الجن والطير أكثر حرصاً منا على دعوة الناس لدين الله (تعالى) ،
ونحن الذين كلفنا الله بالدعوة، وحمّلَنا المسؤولية والأمانة التي أبت السموات
والأرض والجبال أن تحملها؟ .
إن الدعوة إلى الخير والإصلاح واجب الأمة، وأشرف مهمة ينتدب لها أهل
العلم والتعليم، ويتحملونها كما يتحملون سائر التكاليف الشرعية؛ فإن الله قد جعل
التواصي بالحق والتواصي بالصبر أعظم أسباب النجاة بعد الإيمان والعمل الصالح
وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبباً
للرحمة، وقدمه في الذكر على الصلاة والزكاة، فقال (عز وجل) : [وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ] [التوبة: 71] .
وجعل (تبارك وتعالى) خيرية هذه الأمة مرتبطة بتحقيق ذلك الواجب.
وقد كانت القضية واضحة غاية الوضوح عند سلف هذه الأمة، فقد كان
المسلمون الأوائل إذا أسلم الواحد منهم، وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم-،
استأذن النبي أو أرسله هو إلى أهله وقومه داعياً لهم إلى دين الله (تعالى) ، فيسلم
بإسلامه ناس؛ كما فعل أبو ذر، وربما أسلم قومه كلهم؛ كما حصل للطفيل بن
عمرو الدوسي.. والأمثلة أكثر من أن تحصر، وما خبر إسلام خمسة من العشرة
المبشّرين على يد الصديق عنا ببعيد [3] .
زاد الداعية:
وأعظم زاد يحتاجه من سلك سبيل الدعوة إلى الله (تعالى) : الإخلاص،
والعلم الذي يحقق به المتابعة.
وفي هذا الباب تمس الحاجة إلى معرفة فضائل الإخلاص وأسراره، ومخاطر
الرياء وآثاره، وأسباب ضعف الإخلاص والوقوع في الرياء، وعلاج ذلك.
وهذه إشارات موجزة لا تكفي عن تفصيل ذلك وتأمّله كثيراً وتدبره طويلاً.
فضائل الإخلاص:
أما فضائل الإخلاص، فمنها: أنه تحقيق لما أمر الله به، وبه يصح العمل
ويتأهل للقبول.
وهو قوة يُعتصم بها من شياطين الجن والإنس، وبه حصول التوفيق والسداد، والنجاة والثبات والنصر، وخلود الذكر الحسن، وبقاء الثمرة. وبالإخلاص
تحصل الهمة العالية، التي تولد العزيمة الماضية، التي ينطلق صاحبها في العمل
الجاد والإنتاج المثمر، لا يلوي على شيء؛ لأن الإخلاص جمع قلبه على الله، فلا
همّ له إلا مرضاة ربه، فيستوي عنده مدح الناس وذمهم وحضورهم وغيابهم.
والإخلاص سلامة للقلب من الغل والحقد والحسد، والإخلاص يورث القوة
في الحق، والشجاعة والإقدام والصبر؛ لأنه يربط القلب بالله (تعالى) ، فلا يخاف
سواه، ولا يرجو إلا إياه، فيتمثل له كل الخلق كالأموات، لا يملكون من أمر
أنفسهم شيئاً.
ومن بركات الإخلاص: أنه يتضاعف به فضل العمل ويعظم أجره، كما أنه
يجعل فعل المباحات طاعات يثاب عليها؛ فتكون حياة العبد كلها لله، ومن فضائل
الإخلاص: أن أصحاب الأنبياء وجلساءهم الذين أمر الله الأنبياء أن يصبروا أنفسهم
معهم: هم المخلصون.
مخاطر الرياء وآثاره:
أما الرياء: فيكمن خطره في كونه أمراً خفيّاً سريعاً إلى القلب، قد يقع فيه
الإنسان من حيث لايشعر، وقد حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخافه
على أمته.
ومن مخاطره العظيمة: أنه سبب لحبوط العمل، وضياع الجهد، ويؤدي
بصاحبه إلى النار، فهو فضيحة في الدنيا والآخرة؛ قال: (من سمّع سمّع الله به، ومن راءى؛ راءى الله به) [4] .
ومن آثاره: الحرمان من الهداية والتوفيق، وحصول الضيق والاضطراب
النفسي، ونزع الهيبة من قلوب الناس، والإعراض من الناس وعدم تأثرهم، وعدم
إتقان العمل، والوقوع في غوائل الإعجاب بالنفس، والغرور، والتكبر، وحب
الثناء، والتشبع بما لم يعط.
ومن آثاره على الدعاة: محق بركة الأعمال، وضعف الثمرة أو انعدامها،
وطول الطريق، وكثرة التكاليف؛ فإن الله لا يمكِّن للمرائين، حتى يُمحِّص
الصفوف، ويميز الخبيث من الطيب.
أسباب ضعف الإخلاص:
من الأسباب التي توقع في الرياء وضعف الإخلاص: عدم المعرفة الحقيقية
بالله وعظمته واستحقاقه للعبادة والطاعة مع تجريد القصد وإخلاص النية، ومن
الأسباب: الرغبة في الصدارة والمنصب، ومنها: الطمع فيما في أيدي الناس،
والحرص على الدنيا، وحب المحمدة والثناء، والخوف من ذم الناس، والغفلة عن
عواقب الرياء.
علاج الرياء وضعف الإخلاص:
إن معرفة الأسباب لهي أكبر معين على التخلص من الرياء؛ وذلك بالتزام
وسائل المعالجة، التي منها: معرفة الله (عز وجل) حق المعرفة، واستشعار منته
وفضله وتوفيقه، والعلم بما يستحق من العبودية، وآدابها الظاهرة والباطنة،
وشروطها، وتعميق حب الله (تعالى) والتعلق بالآخرة في القلب، وتعميق مراقبة
الله (تعالى) ومحاسبة النفس، والتوقف عند نوايا الأعمال، ودفع ما يخطر من
موارد الشيطان ووساوسه في الحال، وترك المبالاة بالخلق، ومعرفة حقيقتهم،
ووضعهم في منزلتهم ومرتبتهم البشرية.
وتذكر عواقب الرياء الدنيوية والأخروية، وتصور حال المرائين ومصيرهم، والإكثار من قراءة وسماع النصوص المرغبة في الإخلاص الداعية إليه،
ومطالعة أخبار المخلصين وحكاياتهم: كل ذلك معين على الإخلاص.
ولا بد من اللجوء التام إلى الله والاستعانة به، فقد قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل) ، فقال له
من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-؟ قال: (قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه،
ونستغفرك لما لا نعلم) [5] .
علامات الإخلاص:
وبعد: فإن للإخلاص علامات تظهر على صاحبها، يعرفها كلّ في نفسه
وجوداً وعدماً، ومنها:
- الحماس للعمل لدين الله (تعالى) ، والحرص على الدعوة إليه بدافع ذاتي
وليس بمقتضى العمل الوظيفي فحسب.
- المبادرة الذاتية المنضبطة، والفاعلية، والإيجابية، وعدم انتظار التكليف من أحد بعد التكليف من خالق الأرض والسماء (تبارك وتعالى) .
- الصبر، والتحمل، واحتساب الأجر، وعدم التذمر والتشكي.
- الحرص على إخفاء الأعمال الصالحة مثل إخفاء السيئات، بل أشد.
- إحسان العمل وإتقانه في السر، أعظم من إتقانه في العلن.
- الإكثار من أعمال السر، فهي أبعد شيء عن الرياء.
علامات الرياء:
أضداد ما تقدم من العلامات هي مظاهر لضعف الإخلاص، وشَوْبِهِ بالرياء
عياذاً بالله، ومن ذلك: التخاذل والتكاسل عن أداء الواجبات، والحماس للتكليف
الوظيفي أكثر من التكليف الشرعي، وكثرة التشكي والتذمر من العقبات
والصعوبات، وتحسين العمل ظاهراً لا باطناً، والتشوّق لإظهار الأعمال.. رحماك
يارب، نسألك السلامة والعافية.
وأخيراً: فلا ينبغي أن يوقعنا الحديث عن الإخلاص في ترك العمل خوف
الرياء، فذلك مزلق شيطاني خطير، يسعى الشيطان ليوقع فيه الصالحين
والمصلحين؛ ليتركوا تبليغ الدعوة وعمل الخير، بل الواجب: العمل، مع
استمرار محاسبة النفس.. وعلى الله قصد السبيل.
__________
(1) انظر: تزكية النفوس، أحمد فريد حسن، ص 10، 11.
(2) وهي قراءة سبعية، انظر: البدور الزاهرة، ص 172.
(3) انظر مثلاً: الإصابة، ج 4، ص 64، ج2، ص 334.
(4) أخرجه مسلم، ح/2986.
(5) المسند، ج 4، ص 403.
(*) مراجع أخرى:
... ... 1 - مدارج السالكين، لابن القيم.
... ... 2 - آفات على الطريق، السيد محمد نوح.
... ... 3 - عقبات في طريق الدعاة، عبد الله علوان.
... ... 4 - تهذيب موعظة المؤمنين.(106/30)
مقال
النصيحة أمن الفضيحة [*]
بقلم: سعيد بن جمهور الزهراني
كان يقال: ما ارتضي الغضبان، ولا استعطف السلطان، ولا سُلت السخايم، ولا دفعت المغارم، ولا توقي المحذور، ولا استميل المهجور: بمثل الهدية والبر، وقال ابن عبد البر: وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ... (تجاوزوا وتزاوروا وتهادوا؛ فإن الهدية تثبت المودة، وتسل السخيمة) ، وقال
الشاعر:
هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في الضمير هوى ووداً ... وتلبسهم إذا حضروا جمالا
ولكن ماذا لو أهديت إلى أخٍ لك بعضاً من عيوبه وتقصيره في أمور دينه،
التي قد لا تظهر له ولا يراها ببصره أو بصيرته! ، فماذا تتوقع؟ ! أيقبل هذا منك، أم يرد ما أهديت إن كان ما أهديت حقّاً؟ ، قال عمر (رضي الله عنه) : «رحم
الله من أهدى إليّ عيوبي» .. ومما للمسلم على أخيه المسلم: أن يستر عورته،
ويغفر زلته، ويرحم عبرته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غِيبتَه، ويديم
نصيحته، ويقبل هديته، ويجيب دعوته، ويكافئ صلته، ويحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.. قال: «إن الدين النصيحة» ، قلنا: لمن يا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين
وعامتهم» ، ومعنى الحديث: أن قوام الدين وعماده النصيحة، كقوله: «الحج
عرفة» وقال جرير (رضي الله عنه) : «بايعت رسول الله على السمع والطاعة
والنصح لكل مسلم» ، وقد أخبر القرآن الكريم أن بني إسرائيل استحقوا اللعنة
والحرمان والتشريد؛ لأنهم كانوا لا يتناصحون: [لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ لله (78)
كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ... ] [المائدة: 78، 79] .
وليس أدل على رقي الأمة واستقامة ضمائرها من تمسكها بخلق التناصح فيما
بينها؛ ينصح الأخ لأخيه، والجار لجاره، والأب لابنه، والأستاذ لتلميذه،
والموظف لرئيسه، والمسؤول لأمته ... فلا ترى حينئذ إلا حقّاً محترماً، وفضيلة
يعمل بها، وثقةً تربط بين الناس بعضهم مع بعض، فلا خيانة ولا غش ولا اتهام
ولا تجريح، فمن يهدي إليك بعضاً مما لاحظه عليك من قصور في أمر الدين فاقبل
منه، واعلم أنه يحبك، كما قيل: من أحبك نهاك.. نهاك عن التمادي في الباطل،
نهاك عن الوقوع في الرذيلة، نهاك عن كل ما قد يجرح دينك أو خلقك.. ومن
أبغضك أغراك، وقد قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [1] ،
وقيل: «النصيحة أمن الفضيحة» ! !
ومن لا يقبل نصح الناصح، فهو كالمريض، الذي يترك ما يصف له ... الطبيب، ويعمد لما يشتهيه فيهلك، قال الله (تعالى) حكاية عن نبيِّه صالح (عليه السلام) : [لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] [الأعراف: 79] .
قال بعض الحكماء: «اثنان ظالمان: رجل أهديت له النصيحة فاتخذها ذنباً، ورجل وسع له في مكان ضيق فجلس متربعاً» ، وقال أبو حاتم البستي: ... «النصيحة محاطة بالتهمة، وليست النصيحة إلا لمن قبلها، كما أن الدنيا ليست إلا لمن تركها، ولا الآخرة إلا لمن طلبها» .
وإنك لتقرأ في سيرة سلفنا الصالح من صحابة الرسول والتابعين والعلماء
والخلفاء، فتعجب مما تراه بينهم من صدق اللهجة، ووفاء الأخوة، والقيام بواجب
النصح، والترحيب بالنقد البريء والمواعظ الحسنة، مما تشعر معه أنك إزاء أمة
لم تخلد في التاريخ بسيف ولا ظلم ولا تدمير، وإنما خلدت بخلق قوي، ونفوس
كريمة، وعقول راجحة، وآداب متماسكة.
هذا عمر (رضي الله عنه) يقول: «أيها الناس: اسمعوا وأطيعوا» ، فيقوم
إليه رجل ليقول له: لا والله، لا نسمع ولا نطيع! .. فيسأله عمر عن ذلك،
فيجيب بأنهم: يشكّون فيما يلبس عمر من ثياب، ويطلبون لذلك حساباً عليه،
ويسألونه من أين لك هذا يا أمير المؤمنين، فلا يضيق عمر بطلب الرعية، ولكنه
يقدم له حسابه، حتى إذا اقتنع الناس بطهارة يد عمر، قال قائلهم: الآن سمعاً
وطاعة.
ليس منا من لا يخطئ ولا ينحرف عن سنن الحق، بل فينا من الغرائز
والطباع ما يميل بنا إلى الرشد والغي، والخير والشر.. وما أجمل قول الشاعر:
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
بل ما أروع قول الله (تبارك وتعالى) في وصف النفس الإنسانية على حقيقتها، حين يقول حاكياً عن امرأة العزيز: [وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] [يوسف: 53] ، وليس كل إنسان يعرف خطأه أو يهتدي إليه،
وبذلك كان من حق الأخ على أخيه، أن يبصره بعيبه وينصح له في أمره..
قال أبو حاتم البستي: «النصيحة تجب على الناس كافة، ولكنّ إبداءها لا
يجب إلا سرّاً؛ لأن من وعظ أخاه علانية فقد شانه، ومن وعظه سرّاً فقد زانه،
فإبلاغ المجهود للمسلم فيما يزين أخاه أحرى من القصد فيما يشينه» . وعلامة
الناصح الذي أراد زينة المنصوح له: أن ينصحه سرّاً، وعلامة من أراد شينه:
أن ينصحه علانية، فليحذر العاقل نصحه الأعداء في السر والعلانية..
حقيقة النصيحة:
قال (عليه الصلاة والسلام) : «إن الدين النصيحة» ثلاثاً ... وهذا يشمل
الدين كله، والخير كله، والبر كله، ولهذا: عندما قال الصحابة (رضوان الله
عليهم) : لمن يا رسول الله؟ ، قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم» [2] .
فدينك أيها المسلم النصيحة، كأن الدين كله تجمعه كلمة واحدة، هي:
النصيحة، فلا بد أن يكون المسلم ناصحاً مخلصاً في نصحه.
والنصيحة تجمع أمرين: الإخلاص والصدق، فكأنك بهذه الكلمة تقول: كن
مخلصاً وكن صادقاً، فإن الرجل إذا نصحك وكان نصحه حقّاً، ولكنه لم يكن عن
إخلاص، لا يسمى ناصحاً، وكذلك: لو كان مخلصاً في قوله ولكنه لم يكن صادقاً: فإنه أيضاً لا يسمى ناصحاً، فحقيقة النصيحة ما يجمع معنيي الإخلاص والصدق، ولهذا قال رسول كريم: [وَأَنصَحُ لَكُمْ] [الأعراف: 62] ، وقال آخر: ... ... [وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ] [الأعراف: 68] ، فلا بد أن يكون كل واحد منا ناصحاً أميناً، ينصح لهذه الأمة كما بين النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا بد أن يسأل الإنسان نفسه عن ذلك: هل أنا ناصح فعلاً؟ ، وهل نصحت بحق؟ ، وهل قمت فعلاً بهذا الواجب؟ ، هذه أسئلة لا بد أن يتأملها المسلم مع نفسه، ومع إخوانه؛ لينظر ما موقعه من ذلك الحديث الشريف الذي هو من جوامع كلمه، ومثله أو قريبٌ منه قوله: «لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [3] ، ومقتضى هذا الحديث المحبة، والمحبة لا تتعارض مع النصح، بل تقتضيه ويقتضيها، أن أحب لأخي ما أحب لنفسي.. من هو أخي؟ ! أيّ أخٍ هذا المقصود؟ .. لا شك أنه هو المسلم، كما قال: «المسلم أخو المسلم» [4] ، وكما قال: «وكونوا عباد الله إخواناً» [5] ، فيجب عليك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، تحب لنفسك أن تفوز بالجنة، فيجب أن تحب لأخيك الفوز بالجنة، وتحب لنفسك أن تنجو من النار، فيجب أن تحب لأخيك أن ينجو من النار، وتحب أن تعطى من الخير، كذلك يجب أن تحب لأخيك المسلم.
مراتب النصيحة:
وحتى تؤدي النصيحة ثمرتها في نفس المنصوح يلزم أن يُلحظ في أهدافها
المراتب التالية:
أولاً: التثبت، فلا تبادر إلى تصديق كل ما يقال عن أخيك المسلم من جار أو
صديق، لا تصدق كل ما يُقال ولو سمعته من ألف فم، وإنه يجب عليك عدم إساءة
الظن بالآخرين، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] [الحجرات: 12] ، وقال: [وَإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقّ ... شَيْئاً] [النجم: 28] ... وإذا رأيت أمراً أو بلغك عن صديقك كلامٌ يحتمل وجهين، فاحمله محملاً حسناً، وأنزله منزلة الخير، فذلك ألصق بالأخوة، وأجدر بمكارم الأخلاق.
قالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف وكان
أجود قريش في زمانه: ما رأيت قوماً ألأم من إخوانك! قال لها: مه! ولم ذلك؟
قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها: هذا والله من
كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن
القيام بحقهم.. فانظر كيف تأول صنيع إخوانه.
ثانياً: أن تقدر طبائع الناس وغرائزهم، وأنهم ليسوا ملائكة ولا أنبياء، فلا
تطمعْ ألا تعثر على زلة أو هفوة أحد من إخوانك، ولكن احمل ذلك على الضعف
الإنساني الذي لا يكاد يخلو منه أحد، وعلى الغرائز التي لا ينجو من سلطانها إلا
الأقلون، وانظر أنت في نفسك، ألا تقع في مثل تلك الزلات؟ ، ولهذا قال الشافعي
(رحمه الله تعالى) : ما من أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه، ولا أحد يعصي
الله ولا يطيعه، فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل.
ثالثاً: ألا تحكم على الأمر الذي تريد إنكاره بالخطأ أو الانحراف من وجهة
نظرك فحسب، بل انظر إليه من وجهة نظر صاحبه أيضاً، فقد يكون مجتهداً فيما
اعتقد من رأي، متحرياً الخير فيما سلك من سبيل، فلا تسارع إلى الإنكار عليه،
ما دام من الممكن أن يكون له وجهة من الحق.
رابعاً: أن يكون النصح سرّاً لا أمام الناس، ولا على ملأ من الأشهاد؛ فإن
النفس الإنسانية لا تقبل أن يطلع أحدٌ على عيبها، وإنك إذا نصحت أخاك سرّاً كان
أرجى للقبول، وأدل على الإخلاص، وأبعد من الشبهة، ولقد كان من أدبه في
إنكار المنكر، أنه إذا بلغه عن جماعة ما ينكر فعله لم يذكر أسماءهم علناً، وإنما
كان يقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا..» ، فيفهم من يعنيه الأمر أنه المراد بهذه
النصيحة.
قال رجل لعليّ (رضي الله عنه) أمام جمهور من الناس: يا أمير المؤمنين،
إنك أخطأت في كذا وكذا، وأنصحك بكذا وكذا، فقال له علي: «إذا نصحتني
فانصحني بيني وبينك، فإني لا آمن عليك ولا على نفسي، حين تنصحني علناً بين
الناس» .
فإذا استوت لك هذه الخطوات، ورأيت النصيحة واجبة، كان عليك أن
تؤديها برفقٍ وحكمة وأسلوب لا يُنَفِّر مَن تنصحه، ولا تبدو أنك متعالٍ عليه، معلم
له، وإلى هذه الآداب أرشدنا الله (تعالى) بقوله: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] [النحل: 125] ، ولقد قالوا في وصف الرسول (عليه أفضل
الصلاة والسلام: (إنه ما كان يواجه أحداً بشيء يكرهه) ؛ ذلك أن النصيحة إذا
خرجت عن الرفق واللين، كانت غلظة وقسوة تنفر القلوب ولا تفتحها، وتبعد
الناس عن الخير ولا تقربهم إليه.
فيعلم مما تقدم كما ذكر: أن النصيحة تشمل الدين كله: أصوله وفروعه،
حقوق الله وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق الخلق كلهم، أهل الحقوق
العامة والخاصة، فمن قام بالنصيحة على هذا الوجه فقد قام بالدين، ومن أخل
بشيء مما تقدم فقد ضيع من دينه بقدر ما ترك، فأين النصيحة ممن تهاون بحقوق
ربه فضيعها، وعلى محارمه فتجرأ عليها؟ ، وأين النصيحة ممن قدم قول غير
الرسول على قوله، وآثر طاعة المخلوق على طاعة الله ورسوله؟ وأين النصيحة
من أهل الخيانات والغش في المعاملات؟ ، وأين النصيحة ممن يحبون أن تشيع
الفاحشة في الذين آمنوا، وممن يتبعون عورات المسلمين وعثراتهم؟ ، وأين
النصيحة من أهل المكر والخداع؟ ، وأين النصيحة فيمن يسعى في تفريق المسلمين
وإلقاء العدواة والبغضاء بينهم؟ ، وأين النصيحة ممن يتملقون عند اللقاء بالمدح
والثناء، ويقولون خلاف ذلك في الغيبة عند الأعداء وعند الأصدقاء؟ ، وأين
النصيحة ممن لا يحترم أعراض المسلمين ولا يرقب فيهم إلاّ ولا ذِمة؟ ، وأين
النصيحة من المتكبرين على الحق والمستكبرين على الخلق، المعجبين بأنفسهم،
المحتقرين لغيرهم؟ ، فهؤلاء كلهم عن النصيحة بمعزل، ومنزلهم فيها أبعد منزل،
وكل هؤلاء قد اختل إيمانهم، واستحقوا العقوبات المتنوعة، وحرموا من الخير
الذي رُتِّب على النصح، وحرموا من الأخلاق الفاضلة، وابتلوا بالأخلاق السافلة،
أولئك هم الخاسرون.
فطوبى للناصحين حقيقة، ما أعظم توفيقهم، وما أهدى طريقهم، لا تجد
الناصح إلا مشتغلاً بفرض يؤديه، وفي جهاد نفسه عن محارم ربه ونواهيه، وفي
دعوة غيره إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي التخلق بالأخلاق
الجميلة والآداب المستحسنة، إن رأى من أخيه خيراً أذاعه ونشره، وإن اطلع على
عيبٍ كتمه وستره، إن عاملته وجدته ناصحاً صدوقاً، وإن صاحبته رأيته قائماً
بحقوق الصحبة على التمام، مأموناً في السر والعلانية.
وأخيراً: فهذا حديث النصيحة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى فقه آدابها
وشروطها، بعد أن استشرت العداوات، وكثرت الخصومات، وساءت التهم،
وأفرطت الأقلام والألسنة في النقد بحق وبغير حق، فهل لنا أن نطمع من النقاد أن
يقفوا عند حدود الحق فيما ينقدون؟ ، وهل لنا أن نرجو الناصحين أن يبتعدوا عن
مجال الشبهة فيما ينصحون بمنهج حكيم ومنطلق سليم؟ .
فاللهم ألهم حملة الأقلام، وكتاب الصحف، وخطباء المنابر.. أن يقولوا ما
يصلح الفساد، ويقوِّم الانحراف!
__________
(1) أخرجه الستة، عدا أبي داود.
(2) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد ابن حنبل والنسائي، واللفظ له.
(3) سبق تخريجه.
(4) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
(5) أخرجه الشيخان وابن ماجه.
(*) رجع الكاتب إلى مراجع عدة، من أهمها:
1 - دليل الفالحين شرح رياض الصالحين، ابن علان
2 - أخلاقنا الاجتماعية، تأليف د مصطفى السباعي
3 - المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي
4 - محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء، الراغب الأصفهاني
5 - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، لأبي حاتم البستي
6 - العقد الفريد، لابن عبد ربه.(106/36)
نص شعري
هل فينا ضيغم؟
شعر: حفيظ بن عجب آل حفيظ
نار بصدري والفؤاد تضرّم ... ودموع عيني يستفيض بها الدمُ
فالمسلمون دماؤهم مَسفوحة ... وعدوهم في أرضهم يتحكمُ
والظالمون مع العدو تآمروا ... وتعاهدوا عهداً علينا يبرمُ
فالليل داجٍ والكروبُ طويلة ... وبناؤنا في كل أرضٍ يهدمُ
وبكاء أمتنا يشق سماءنا ... فإلى متى يا أمتي نتألمُ
وإلى متى يبقى العدو يدوسنا ... ونموت لا نسعى ولا نتكلمُ
وسليبة الإسلام تندب أهلها ... وتصيح لكن ليس فيهم ضيغمُ
فتقول ويحكمو أما فيكم فتًي ... كابن الوليد إلى العدا يتقدمُ
يا أمة الإسلام قدسك ضيعت ... وحماة دار المسلمين استسلموا
فتلفتي نحو العدو فربّما ... خرج المخلِّصُ من ديارٍ تحرمُ
فَلَكَمْ رأينا مسلماً في أرضهم ... يدعوا إلى التوحيد بل ويعلِّمُ
ولكم رأينا زهرة في وحلةٍ ... خرجت تبث عبيرها وتنمنمُ(106/43)
مقال
صلاحنا بما صلح به أوائلنا
بقلم: محمد عبد الأعلى
في ظل حالة من الوهن وعدم التمكين، وعلى إثر محاولات عدة للبعث
الإسلامي؛ بدافع الحب للإسلام، ورغبة في استنهاض المسلمين، وفي أجواء
شاعت فيها ثنائيات ومفردات: تقدم.. تأخر، تنمية ... وتخلف، أصالة،
معاصرة، رجوع إلى الهوية ... فرضت تلك المصطلحات على ساحة الفكر، وبدا
الناس أسارى أطرهن، لا ملجأ لهم إلا إليهن، وبدا إسلاميون وكأنهم يدورون في
الفلك ذاته، وليست المشاحة أن تتحدث بلسان القوم لتُبَيِّنَ لهم، ولا أن تتعرف
لسانهم لتَتَبَيّنَهم، وإنما الخطورة أن يكون الخطاب الإسلامي رجع صدى للخطاب
القومي، الذي هو في معظمه صدى ومحاكاة للخطاب الغربي، الذي وصل إلى كل
أذن عبر عجائب الاتصالات المعاصرة.
بات الغيورون من المسلمين عاكفين على تلمس طوق النجاة للأمة، والتعرف
على أسباب عودتها العود الحميد إلى أيام عزتها، فيمم بعضهم وجهه شطر
الحضارة الغربية، ممسكاً بمصباحها، يتجول في جنبات نصوص الإسلام وتاريخه، يتلمس من خلالها الحلول (الحضارية) ، ويبحث في معطياتها عن طوق النجاة
(الحضاري) ، وكأن الحضارة هي الغاية، فلنبحث عن «الإسلام ومشكلات
الحضارة» ، وكأن النهضة هي الهدف، فلنبحث عن «شروط النهضة» ، حتى
ذهب بعضهم إلى القول: «إن الرسول قد اتبع كل قواعد العمران البشري والمادي
في سبيل إنشاء المجتمع الذي أرسل من أجله» [1] .
وبين يدي الشروع في مناقشة ذلك الطرح أحسبني في حاجة إلى إيضاح:
أن المسلمين وإن كانوا صنعوا حضارة وكانت قيم الإسلام وهديه عاملاً رئيساً
في حركتهم لصنعها، إلا أنهم لم تقم قائمتهم بقواعد العمران البشري والمادي، ولم
يُخرَجوا للناس أمةً من أجل هذا.
المثال الأول:
لقد كان العالم يسير سيره الطبيعي قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-،
ولم يكن ينكر من أمر معاشه شيئاً: كانت الزراعة، وكانت التجارة، وكانت
الصناعة، كانت المدن عامرة بالسكان، والعواصم الكبرى زاخرة بالعمران، كان
واديا النيل والفرات بساتين وحقولاً، فاضت لبناً وعسلاً، بل إن أرض يثرب
كانت خضراء منتجة، وحدائق الطائف كانت عامرة مثمرة، كان أنباط الشام،
وأقباط مصر، وأهل الصين بل يهود يثرب قد أحكموا أمر التجارة، وانتشروا في
أرجاء العالم المعمور بقوافلهم غادية رائحة، وكانت الأسواق مشحونة بالمتاجر
والبضائع، وكانت الحكومات والإمارات غنية بأموالها ورجالها ...
لم يكن في الحياة الإنسانية عوز أو فراغ، ولم تكن رئاسة المدنية وقيادة
الحضارة وظيفة شاغرة تحتاج إلى من يملؤها، لم يكن العالم في حاجة إلى أمة
تبعث في واد غير ذي زرع! ! ... كانت كأس الحياة مترعة لا تطلب المزيد، ولم
يكن العرب وجهاء ذلك الركب أو كانوا أعضاء بارزين فيه، لقد كانوا حقّاً في ذيل
الركب وعلى هامش فعالياته.
جاء في البداية والنهاية: « ... فتكلم يزدجرد فقال: إني لا أعلم أمة في
الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بَيْنٍ منكم، قد كنا نوكل بكم قرى
الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولاتطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم
كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً، وأكرمنا وجوهكم،
وكسوناكم، وملّكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.. فقال المغيرة بن شعبة: أيها الملك، إنك
قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً؛ فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ
حالاً منا، وأما جوعنا فلم يشبه الجوع: كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب
والحيات، ونرى ذلك طعاماً لنا، وأما المنازل فهى ظهر الأرض، ولا نلبس إلا
من غزل أوبار الإبل وأشعار الغنم، وحالنا قبل اليوم على ما ذكرت، فبعث الله
إلينا رجلاً ... » [2] ، وروي أن كسرى لما علم ببعثة النبي -صلى الله عليه
وسلم-، أرسل إليه بضعة جنود يأتون به في الأصفاد! .
وذكر الوليد بن مسلم: «أن ماهان طلب خالداً، يعني: ابن الوليد (رضي
الله عنه) يبرز إليه، فيجتمعا في مصلحة لهما، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما
أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فهلموا إليّ أعطي كل رجل منكم عشرة
دنانير وكسوة وطعاماً، وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم
بمثلها» [3] .
لقد كان واقع هذه الأمة ببداوتها، والأمم التي عاصرتها بحضارتها واقعاً
واحداً بميزان الله: «إن الله نظر إلى أهل الأرض جميعاً، فمقتهم عربهم وعجمهم
إلا بقايا من أهل الكتاب» [4] ، لقد أجمل هذا النص الكريم القضية تشخيصاً
وعلاجاً، لم يكن الهدف منازلة حضارية، لقد كان بعث أمة لغرض سام، لمهمة
طال عهد الإنسانية بالبعد عنها، ذلك هو ما خاطب به الله (عز وجل «هذه الأمة
بقوله: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] [ال عمران: 110] .
لقد كان صراعاً طويلاً، لم يكن نزاعاً في أغراض المادة، لم يكن صراعاً
على الاستئثار بالأسواق، ولا التسابق في الصناعة والتجارة، وإنما كان صراع
الإسلام والجاهلية بمعنى هاتين الكلمتين: نزاعاً بين حياة العبودية والانقياد لله
(تعالى) والحياة المطلقة التي لا تعرف قيداً، ولا تخشى معاداً، ولا حساباً.
لقد كان من حلقات ذلك الصراع: غزوة بدر، التي قاد فيها النبي -صلى الله
عليه وسلم- عدداً من المقاتلين لا يزيد عن ثلاثمئة وثلاثة عشر قبالة جيش فيه ألف
محارب، فزع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله (تعالى) في إنابة نبي وإلحاح
عبد، ودعاء مضطر ... في كلمات صريحة واضحة هي خير تعريف بهذه الأمة
ومهمتها التي أخرجت من أجلها، وغاية التغيير الذي ستتحمل أمانته، لم يقل
الرسول: لو هلكت هذه العصابة وكانت فريسة للعدو؛ أقفرت المدينة، وأوحشت
الأسواق، وكسدت التجارة، ولم يظهر المجتمع الحضاري المنشود، وفات العالمين
فرصة ظهور حضارة وثابة، بل قال:» اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في
الأرض « [5] » فكأنما كان بقاء المسلمين مشروطاً بقيام حياة العبودية بهم وقيامهم
بها « [6] .
لقد انتصرت الدعوة، وقام المجتمع المسلم في المدينة، وفتحت مكة، وأتم
الله النعمة بإتمام الدين عقيدة وشريعة، والمرء لا يلحظ تفوقاً عمرانيّاً ماديّاً داخل
حدود الدولة التي تركها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لقد ترك الرسول
مجتمعاً قِيَميّاً صنعه وحكمه منهج، كان إنجاز الرسول رجالاً وعوا الرسالة
واستوعبوا القضية، فخرجوا إلى الناس يقولون:» ابتعثنا الله لنخرج من شاء من
عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام «، وكان إنجازهم
أن أدوا المهمة على التمام، فقد خلصوا الأمة الرومية من عبادة المسيح والصليب
والأحبار والرهبان (أعني: من أسلم منهم» ، وخلصوا الأمة الفارسية من عبادة
النار، وخلصوا الهنود من عبادة البقر.. أخرجوهم حقّاً من جور الأديان إلى عدل
الإسلام.
لقد تحير أصحاب الموازين المادية في تعليل صعود هذا المجتمع وانتصاره:
هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف الشديد، وهذا النشاط العجيب بعد ذلك الخمود
والسبات العميق ... ! يقول المؤرخ جبون: «بقوة واحدة ونجاح واحد زحف
العرب على خلفاء أغسطس في الروم واصطخر في فارس، وأصبحت الدولتان
المتنافستان في لحظة ساعة واحدة فريسة لعدو لم يزل موضع الازدراء والاحتقار
منهما، في عشر سنوات من أيام حكم عمر أخضع العرب لسلطانه ستة وثلاثين
ألفاً من المدن والقلاع، خربوا أربعة آلاف كنيسة ومعبد للكفار، وأنشؤوا أربعة
عشر ألفاً من المساجد لعبادة المسلمين، وعلى بعد قرن من هجرة محمد من مكة،
امتد سلطان خلفائه من الهند إلى المحيط الأطلاطيكي، رفرف علم الإسلام على
أقطار نائية كفارس وسورية ومصر وإفريقية وأسبانيا» [7] .
ويقول هـ. أ. ل. فيشر: «لم يكن هناك للعرب قبل الإسلام أثر لحكومة
عربية أو جيش منظم، أو طموح سياسي عام، كان العرب شعراء خياليين، إنهم
كانوا على نظام منحط من الشرك ... بعد مئة سنة حمل هؤلاء المتوحشون
الخاملون لأنفسهم قوة عالمية عظيمة، إنهم فتحوا سورية ومصر وجزءاً من
البنجاب، إنهم انتزعوا إفريقية من البيزنطنيين والبربر، وإسبانيا من القوط،
وهددوا فرنسا في الغرب، والقسطنطينية في الشرق» [8] .
لم ينتصر المسلمون في عصر النبوة ولا في عصر الخلافة الراشدة لعدد أو
عدة، فإن قلة عددهم وضعف عدتهم من المسلمات التاريخية التي لا يُجَادَلُ فيها،
ولم يكن العرب متفوقين أيضاً في النظام الحربي، ولم يكن هناك منهج حضاري
اتبع فيه الرسول قواعد العمران البشري والمادي، إن «منبع هذه القوة، وسبب
هذا الانقلاب العظيم الذي لا يوجد له مثيل في التاريخ: أن العرب أصبحوا بفضل
تعليم محمد أصحاب دين ورسالة، فبعثوا بعثاً جديداً، انقلبوا في داخل أنفسهم،
فانقلبت لهم الدنيا غير ما كانت، نظروا إلى العالم حولهم وطالما رأوه في جاهليتهم
بدهشة واستغراب فإذا الفساد ضارب أطنابه، وإذا الظلام مخيم على العالم كله،
وكل شيء في غير محله..» [9] .
لقد تعلقوا بمثل قول الرسول: «زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها
ومغاربها، وأعطيت الكنزين الأصفر (الأحمر) والأبيض (يعني الذهب والفضة)
وقيل لي: إن ملكك إلى حيث زوي لك ... » [10] ، وقوله: «إذا هلك كسرى
فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن
كنوزهما في سبيل الله» [11] . لقد كان وعداً لصحابته توفرت فيهم شروطه،
وانتفت عنهم موانعه؛ فتحقق لهم: [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ] [النور: 55] .
ولقد طال على المسلمين الأمد، ونسوا ما ذكروا به، وقد كثر عددهم وعدتهم، ولكنهم صاروا يحكمون الناس حكم الناس على الناس، وأشبهوا الأمم التي خرجوا
يقاتلونها بالأمس، عادوا فقلدوها في مدنيتها واجتماعها وسياستها وأخلاقها ومناهج
حياتها مما مقتها الله من أجله، فابتلاهم الله (عز وجل) بالمغول (أشقى أمم الأرض
وأخملها وأجهلها) فوضعوا فيهم السيف وأجروا دماءهم سيولاً وأنهاراً.
إلا أن المسلمين في هذه الظلماء التي غشيتهم والفتنة التي عمتهم، كلما أفاقوا
من سكرتهم وأصلحوا شأنهم واستنزلوا النصر: أتاهم نصر الله، كما حدث ذلك في
عين جالوت على يد القائد صلاح الدين (رحمه الله) .
من هنا نعلم:
بعد ذلك الاستعراض الطويل، فإن المتأمل يلحظ أن المد والجزر في حياة
المسلمين أفراداً وجماعات وأمةً له مؤشر واحد، هو: الإيمان الحي الصحيح ...
إن أكبر مهمة في هذا العصر وكل عصر، وأعظم خدمة وأجلها للأمة هي: دعوة
السواد الأعظم منها إلى الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقته، ودعوة سائر
البشرية إلى حقيقة الإسلام، ليس من خلال قناة فكرية ضيقة ولا مذهبية محدودة،
إنما من خلال رحابة تعاليم هذا الدين، وكما فهمه سلفنا الصالح حتى لا نضيع في
دوامة المفاهيم والمنطلقات ... رحابة لا تتملق العواطف وإنما تأتلف القلوب، ولا
تترك الحق، وإنما تقوِّم العقول، وتحاورها، وتعود بها إلى النهج القويم ... نعم
إنه صراع متعدد الجوانب، متشعب المجالات، يحتاج إلى صبر ومثابرة، أولاً
وقبل كل شيء على العلم واستبصار تلك الحقيقة.
علينا ونحن نستشرف عودة إلى الإسلام وبعث الأمة من جديد أن نستعرض
ذلك المثال الذي كان شاخصاً في خير القرون، علينا أن نستجلي حقائقه ونتبين
معالمه، ولسنا مضطرين في الوقت ذاته أن نجترئ على مقام النبوة فنجعل الرسول
قد اتبع قواعد ... ! لنا أن نجتهد فيما هو جائز، ونتحمل نتائج الاجتهاد سلباً أو
إيجاباً، ولكن ليس لنا أن نقحمه في منهج الله بالقطع.
ولا يحسبن القارئ الكريم: أن كاتب السطور يحشد الأدلة، ويعد العدة لهجمة
على الحضارة بعقل جامد، تاهَ في سراديب الماضي؛ ولا يدري ما نزل بساحته من
صدى صراع رهيب يفيض في كل أرجاء المعمورة، أو تعامى عن إيجابيات
الحضارة الغربية في كثير من مناحي الحياة، وليس همه كذلك إنكار سنن الله
الكونية في معاش عباده أو إنكار عمل الأسباب.
إنني أدندن حول ترسيخ وتأصيل: أن الإسلام لا ينصر بأدوات غيره، وأن
المسلمين يبعثون من جديد بنفخة من أصل الإيمان، حتى إذا شب المجتمع المسلم،
فلا عليه أن يأخذ بأسباب القوة التي يشترك فيها البشر بوصفهم بشراً، ولا بوسائل
الدعوة التي لا حرج فيها شرعاً.
كما إنني أؤكد على عدم الانزلاق إلى ما يمكن وصفه (بالتفسير الحضاري
للإسلام) بحيث تحجب معالم الهدى في سيرة الرسول وهديه، ولا تعرض للناس إلا
من خلال لون واحد، وقد وُضِعَ على الأعين منظار التنظير الحضاري المعاش.
لقد كان المنهج، كان الكتاب، كانت السنة، كان كل ذلك هو القوة التي
سخرت الأسباب فضعضع المسلمون الأكاسرة والقياصرة، ودان لهم الملوك
والجبابرة.
لقد تحقق ذلك للمسلمين مرتين:
يوم أن خرجوا مواكبَ من نور، تفتح البلدان التي فاقتهم حضارة وتميزوا
عنها بالإيمان، ويوم أن عادوا إلى الإيمان فهزموا التتار بعد أن كانوا قد دحروهم
والمسلمون فوقهم في ميزان الحضارة.
ولا يزال صلاح آخر الأمة ممكناً بإذن الله بما صلح به أولها.
فلدينا رصيد الفطرة، ولدينا رصيد التجربة، ولدينا الطموح الكبير لإعادة
العزة والتفوق لمجتمع المسلمين، انطلاقاً من القول النبوي الحكيم: «لا تزال
طائفة من أمتي على الحق..، وقبل ذلك قول الله (تعالى) : [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ] [المنافقون: 8] .
والله المستعان.
__________
(1) انظر: المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، د محسن عبد الحميد، ص 63، 64.
(2) البداية والنهاية، ج7، ص 41، 42.
(3) المصدر نفسه، ج7، ص 410.
(4) أخرجه مسلم، وأحمد في المسند.
(5) أخرجه أبو داود.
(6) إلى الإسلام من جديد، أبو الحسن الندوي، ص 15.
(7) إلى الإسلام من جديد، أبو الحسن الندوي.
(8) إلى الإسلام من جديد، أبو الحسن الندوي.
(9) إلى الإسلام من جديد، أبو الحسن الندوي.
(10) أخرجه ابن ماجة، كتاب الفتن، ح/3952.
(11) أخرجه أحمد في المسند.(106/44)
تأملات دعوية
إن مع العسر يسرًا
بقلم: محمد بن عبد الله الدويش
وعد من الله (تبارك وتعالى) وهو لا يخلف الميعاد [فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً (5)
إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً] [الشرح: 5، 6] .
وإذا جاز تخلف وعود البشر وتبدل قوانينهم، فوعد الله لا يتخلف، وسنة
الله لا تتبدل إنه وعد من الله (سبحانه) يتجاوز حدود الزمان والمكان، ولا يقف عند
حدِّ من وما نزلت فيه الآيات.
وقد فهم منها السلف هذا المعنى الواسع، فقالوا: لن يغلب عسر يسرين،
وقالوا: لو كان العسر في جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه.
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيبُ
وأوطأت المكاره واطمأنت ... وأرست في أماكنها الخطوبُ
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ... ولا أغنى بحيلته الأريبُ
أتاك على قنوط منك غوثٌ ... يمن به اللطيف المستجيبُ
وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها الفرج القريبُ
بل يربط الله ذلك بالتقوى: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً]
[الطلاق: 4] .
وسنة الله (تبارك وتعالى) : أنه حين تشتد الأزمات وتتفاقم: يأتي اليسر
والفرج، أرأيت كيف فرج الله للأمة بعد الهجرة وقد عاشت قبلها أحلك الظروف
وأصعبها؟ وفي الأحزاب حيث بلغت القلوب الحناجر وظن الناس بعدها الظنون،
بعد ذلك كانت مقولة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي مقولة صدق: «الآن
نغزوهم ولا يغزوننا» [1] ، وحين مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وضاقت
البلاد بأصحاب النبي، وارتد العرب، وأحدق الخطر: ما هي إلا أيام وزال الأمر، وتحول المسلمون إلى فاتحين لبلاد فارس والروم، وصار المرتدون بإذن الله بعد
ذلك جنوداً في صفوف المؤمنين.. والعبر في التاريخ لا تنتهي.
فهل يعي المسلمون اليوم هذه الحقيقة وهم يعيشون أزمة البعد عن دين الله،
والإعراض عن شرعه، وانتشار ألوان الفساد، وفي المقابل: التآمر في كثير من
الدول على الإصلاح والمصلحين وانسداد الأبواب في وجوههم، مما أدى إلى
سيطرة اليأس على كثير من المسلمين وأصبحت لغة التشاؤم هي السائدة في مجالس
بعض الصالحين.
أضف إلى ذلك: أن المسلم يشعر أن الأمور بقدر الله، وأنه (تبارك وتعالى)
قد كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وأن قدره وقدرته فوق
كل ما يريد ويكيد البشر.
وثالثة: أن الأمر قد يكون في ظاهره شرّاً، ثم تكون العاقبة خيراً بإذن الله،
أرأيت حادثة الإفك وفيها من الشناعة والبشاعة ما فيها، ومع ذلك هي بنص القرآن
: [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] [النور: 11] ، وها هو سراقة بن مالك
(رضي الله عنه) يلحق النبي -صلى الله عليه وسلم- «فكان أول النهار جاهداً على
نبي الله، وكان آخر النهار مسلحة له» [2] .
ورابعة: أن الفساد وإن كان الواجب رفضه شرعاً والسعي لدرئه، إلا أنه
أحد روافد الإصلاح، وواقع الأمة اليوم قد بلغ من الترهل والخمول ما يجعل يقظة
الأمة أجمع لا تتحقق إلا حين تبلغ الغاية في الذل والانهيار والمهانة، فالمسلم
يرفض ذلك شرعاً وديناً ويسعى لدفعه، لكنه قدَراً يعلم أن عاقبته إلى خير بإذن الله، وفي التاريخ عبرة: ألم يكن اجتياح التتار والمغول لبلاد الإسلام، والغزو
الصليبي.. رافداً مهمّاً من روافد يقظة الأمة ونهوضها، بعد أن وصلت إلى مرحلة
شبيهة بما نحن فيه اليوم؟
فما أجدر بالصالحين اليوم أن ينظروا بعين التفاؤل، وأن ينصرفوا للعمل
والجد، ويَدَعُوا عنهم اليأس والتخذيل؛ فكيد أهل الفساد في بوار، ودين الله ظاهر
[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] [المنافقون: 8] .
__________
(1) رواه البخاري (4110) .
(2) رواه البخاري، ح/3911.(106/52)
نص شعري
إياكِ أعني
شعر: محمد الصالح حسن
تخرُجينَ من الرِّقَةِ الأُنَثويّةِ
ظِلِّ الحياءِ الوَرِيفِ،
ونَهْرِ الجمالِ العفيفِ،
إلى.. صَحَرَاءَ الجَسَدْ
تخرُجينَ مِنَ السِّتْرِ في النّفْسِ،
في الثّوْبِ،
في البَيتِ،..
في بَسْمةِ الزوجِ أو في عيونِ الوَلَدْ
تخرُجينَ كشَمْسٍ مُزَيّفَةٍ في المَسَاءِ
وبينَ الْتماعِ السّلاسِلِ
ضوءِ الخَوَاتِمِ.. والقُرْطِ
تَنْسَيْنَ أنّ الظلامَ هنا يَتَوَسّدُ
رُوحَكِ خَصْماً ألدّ
تخرُجينَ كَأنّكِ في رِحَلةِ الصّيدِ
والقَومُ غَابَهْ
فَتستنَفِرينَ عَلى الآدَمّيِ ذِئَابَهْ
وتستمتعينَ، وأنتِ تَرَيْنَ كِلابَ
الغَرِيزَة تَنْهَشُ صَدرَ الفَرِيسَةِ، أو
عَينَهَا..
أو تَرَينَ عَلى شَفَتَيْها اللهاثَ الحَقِيرَ
ولونَ الزّبَدْ
تخرُجينَ ويسبقُ ظِلّكِ كُلّ
صُنُوفِ الغِوَايةِ:
لونُ الشِفاهِ،
ولونُ الخُدودِ،
ولونُ الأظَافِرِ..
لونُ الصّفَاءِ المُلَطّخ في شَهوَةٍ تَستَبِدّ
تخرُجينَ كَأنّكِ كَاسِيةٌ تَزعُمينْ
وثَوبُكِ.. (هذا الذي يَتآكَلُ شَيئاً فشَيئاً فيسقُطُ مِنهُ العَرَاءُ الرَخِيصُ)
يجودُ بما يَتَيسرُ للعابِرينْ
فنُبصِرُ رَأساً دنيئاً إليكِ تَدُورُ،
فتَستَبْشِرينْ! !
ونَسمعُ قولاً بَذيئاً يمُورُ،
فَلا تَعبَئِينْ! !
ولا يَبقَ من طَيفِكِ المُتَلألِئِ في كُلِّ
عَينٍ سوى ...
خُطُواتِ السّقوطِ الأَكيِدةِ:
«جيمٍ» و «نونٍ» و «سين»
تَدُوسُ البراءةَ في صَدرِ كُلِّ
طَهُورٍ ليُصبِحَ وَغدْ
تُرى.. أيّ زَادٍ أَعَدّتْهُ أَيامُكِ الخَالياتِ
لما سوفَ يأتي؟ !
المَرايَا التي تَعشَقِينَ!
(.. وتكذبُ في كُلِّ يومٍ عَليكِ)
المساحيقُ!
(تِلكَ التي تَرسُمِينَ بِها لَوْحَةَ
الشِّقْوَةَ الأَبديةَ في وَجْنَتَيْكِ)
تُرى أَيّ جِيلٍ شَريدٍ سَيدعُوكِ
أُمّاً ويَرْنُو إلَيْكِ؟ !
وأيّ زَمانٍ تَصيرينَ فيهِ لإبليسَ نِدّ
رُبّما كُنتِ أبيضَ مِنْ عَفَنِ الخُبزِ
فَوْقَ بَقَايا الطّعامْ
وأنَعَمَ مِن حَيّةٍ تَتَسَلّلُ بالسّمِ حتّى
نُخاعِ العِظَامْ
... ولكِنّ لونَكِ لَنْ يَملأَ القَبرَ نُورا
وجِلدَكِ رَغمَ نُعُومَتِهِ.. لَنْ يُحيلَ
ثَرَاهُ الغَلِيظَ حَرِيرا
وَوَجهَكِ رَغمَ مَلاحَتِهِ.. لَنْ يُلينَ
مَلاكَ الحِسَابْ
وهيهاتَ أن يَدفعَ الحُسنُ عَنكِ
مُرّ العذابْ(106/54)
دراسات تاريخية
أتاتورك..
حقيقته.. والدور الذي أداه
(1 من 2)
بقلم: ياسر قارئ
يمتد عمر الدولة العثمانية عبر ستة قرون ونصف من الزمان (699 /1340 هـ) ، وبالتالي: فهي تشغل جزءا كبيراً من تاريخ الإسلام منذ أن بزغ فجر الدعوة المحمدية وعمّ نورها أركان الأرض، ولقد كان للأتراك الحظ الأوفر من رعاية المسلمين والحفاظ على مجتمعهم، ومن الطبيعي جدّاً أن تتعرض دولة كهذه للمؤامرات الخارجية والحروب الضارية، خاصة إذا علمنا حجم الرقعة التي شملتها، والمقدار الذي اقتطعته للإسلام من أوروبا النصرانية، فقد تسابق الملوك والرؤساء في أوروبا على حربها، وتولى الفاتيكان كبر هذه العمليات، واتحدت أوروبا الممزقة على هدف واحد، هو: تصفية الوجود العثماني في أوروبا على أقل تقدير، واستعادة بيزنطة منها، إذا لم تنجح محاولاتها في إنهاء حياتها بالكلية، إلا أن حكمة الله أبت أن يكتب لتلك المحاولات النجاح، فعمدت أوروبا إلى أسلوب آخر هو أمضى وأنجع على الرغم من كونه خفيّاً وغير ملموس، إذ سرّبت إلى الجسد المسلم خلايا فاسدة تظاهرت بالإسلام وأبطنت الكفر، مستغلة بذلك سذاجة بعض المسلمين وغفلتهم، وتأويلات بعض المرجفين، أو انهزامية بعض المؤمنين، فسعت في الأرض وعاثت فيها فساداً، حتى نجح الثالوث اليهودي النصراني الوثني في تحقيق الحلم الأوروبي الكبير، وانمحت من الوجود دولة الخلافة وسلطان المسلمين، وغدت ديار الإسلام نهباً للأمم والشعوب الأوروبية (المتحضرة) ، التي ارتقت بها إلى الخراب الاقتصادي والفساد الأخلاقي.
هل كانت هذه المؤامرة امتداداً لفتنة عبد الله بن سبأ؟ .. الأسلوب والنتائج
يشيران إلى تشابه كبير، فهل تواصوا به؟ ! .
كما يقول المنصرون في أدبياتهم: «إنه لا يهدم البيت إلا أحد أركانه» ، لذا فقد فطن أعداء الإسلام إلى غرس فئة من اليهود في جسد الدولة العثمانية
يتظاهرون بالإسلام، فيما يقومون وبالتنسيق مع أعدائها بدك عرشها، وإزالة ... سلطانها، تلك الطائفة التي عرفت بيهود (الدونمة) ، وهذه اللفظة التركية تعني الردة عن الإسلام [1] ، وقد تركزت في منطقة (سلانيك) في الأراضي اليونانية حالياً، حيث نسجت خيوط اللعبة التي أدت بالدولة العثمانية إلى مصيرها المحتوم، وهنا: لا بد من الإشارة إلى أن الدولة هي التي تسببت في ذلك ابتداءً؛ إذ إنها لم تسع جاهدة إلى نشر الإسلام بين صفوف رعاياها، واكتفت بترك الطوائف وشأنها، بل تهاونت معهم كثيراً، الأمر الذي انعكس سلباً عليها وفتح ثغرة فيها نفذ منها الأعداء، فكانت الكارثة، ولقد شكل اليهود الخطر الأكبر على الدولة؛ بسبب مديونيتها لهم من جهة، وطبيعة هذا الشعب الماكر وحقده على السلطان عبد الحميد الثاني الذي رفض السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين من جهة أخرى، فما برحوا يحيكون الدسائس ويستغلون الأحداث لإنهاء هيمنة دولة المسلمين على (الأرض المقدسة) ، وقد برز من يهود الدونمة رجل ساهم بشكل كبير في تغيير مجرى التاريخ المعاصر، حيث ألغى كيان الخلافة التي استمرت لمدة أربعة عشر قرناً في لمح البصر! !
سؤال خطير وجوابه:
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تمكن فرد من تحقيق ما عجزت عنه
أوروبا بقضها وقضيضها، ولمدة سبعة قرون تقريباً؟ .. هذه الدراسة تحاول تسليط
الأضواء على هذه الشخصية ودورها وميراثها، وقد قسمتها إلى مقدمة عن
الأوضاع قبيل ظهور هذا الرجل، ثم مولده ونشأته، والتساؤلات حول أصله ونسبه، ثم تطرقت إلى تدرجه في السلك العسكري، وبروزه على الساحة، ثم صناعة
الإنجليز له وعلاقته بهم، بعد ذلك تعرضت إلى أعماله إبان فترة حكمه، وختمت
البحث بالحديث عن الإرث الذي تركه، ومدى استمرار الدولة في السير على نهجه.
تمهيد عن الأوضاع في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني:
اعتلى عرش السلطة في وقت حرج جدّاً شاب طموح وعبقري، قد بزّ أهل
زمانه، وفاق أقرانه من الحكام، ذلكم هو السلطان عبد الحميد خان الثاني، الذي
حكم البلاد منذ سنة 1293هـ (1876م) إلى سنة 1327هـ (1909م) ، أي:
قرابة ثلاثة وثلاثين عاماً، وقد كانت الحياة الاقتصادية في عهده رخيصة، وأوشك
مؤشر التضخم الاقتصادي على الهبوط إلى الصفر، على الرغم من الحروب
الروسية المتتالية، ومضايقة الإنجليز المستمرة في مجال التجارة الدولية، لكن فئة
الضباط الذين عاشوا في أوروبا وجلهم من غير المسلمين لم تعجبهم تلك السياسة
الحميدة في الوقت الذي مات فيه ألوف البشر بسبب المجاعة في أيرلندا والهند
الخاضعتين للحكم الإنجليزي، ثم إن بريطانيا كانت تكره السلطان بسبب وقفه
لطموحاتها وتغلغلها في أراضي الدولة العثمانية من جهة، وسلطانه الروحي على
رعاياها في المستعمرات وكذلك النصارى الواقعين تحت حكمه من جهة أخرى [2] .
في تلك الحقبة: فُتحت المجالس النيابية في روسيا وإيران، وقد سرت هذه
الظاهرة إلى الدولة العثمانية، فتطلع الشعب الذي شعر بالملل من طول فترة حكم
السلطان إلى النظام البرلماني الشائع في أوروبا، وقد استجاب السلطان لتلك
المطالب، فشكل لجنة للنظر في الدساتير الغربية والاستفادة منها، لكن أوروبا
المتربصة والمعارضين المفتونين بها أصروا على وضع دستور عام يضمن استقلال
المناطق والشعوب، مما يعني عمليّاً إلغاء سلطة الدولة على رعاياها، الأمر الذي
فطن إليه السلطان، وقد نصحه بذلك أيضاً المستشار النمساوي «بسمارك» ، لذلك: شكلت المعارضة جمعية في فرنسا تدعى (الاتحاد والترقي) ، القصد المزعوم منها: تطوير نظام الحكم [3] ، وقد طالب أعضاؤها بمنح جميع الأقطار استقلالاً ذاتيّاً
وتقسيم البلاد على أسس قومية [4] .
رضخ السلطان لمطالب المعارضة باستئناف أعمال مجلس المبعوثان (النواب) لكن الاتحاديين وكما يبدو من قرارات مؤتمر باريس قد أصروا على تنفيذ خطتهم
بتقسيم البلاد، بل وخلع السلطان بقوة السلاح، فأغاروا على العاصمة في سنة
1909م، ولم يشأ السلطان مواجهتهم، بل استسلم لقضاء الله وقدره على الرغم من
سيطرته على الجيش! إلا أنه لم يشأ إراقة الدماء بسببه هو! ، فآثر مواجهة
الموقف وحيداً بعد أن أخلى القصر من الحرس، وتلك من حسناته التي يتعالى عنها
الحاقدون والمرجفون [5] .
لقد استغل اليهود (جمعية الاتحاد والترقي) للعمل ضد السلطان عبد الحميد
المتربص بمخططاتهم.. والمتتبع لطبيعة القادة البارزين فيها: يتأكد أنها ليست
تركية أو إسلامية، فأنور باشا: بولندي، وجاويد باشا: من الدونمة اليهود،
وقارصوه يهودي إسباني، وأما طلعت باشا وأحمد رضا فهما من أصل غجري
تظاهرا بالإسلام [6] ، وكما يذكر أحد المؤرخين: فإن السلطان قد أمر بجمع
المعلومات عن الصهاينة من سفاراته وإرسال مخبرين متنكرين إلى اجتماعاتهم
ليوافوه بالتقارير عنها، وكذلك إرسال قصاصات الصحف والمجلات الأوروبية
المتعلقة بنشاطهم [7] ، لذلك: لا نفاجأ عندما يصرح طلعت باشا في مذاكرته بأن
الوفد الذي أخبر السلطان بعزله لم يكن فيه مسلم أو تركي واحد! ، وإنما كانوا:
يهودي، وأرمني، ويوناني، ويوغسلافي [8] ، وهذا ما دعى أحد المؤرخين
الأتراك إلى القول بأن الثورة سنة 1908م تقريباً من عمل مؤامرة يهودية ماسونية،
وشاركه الرأي رفيق بك أحد شخصيات الجمعية البارزة [9] ، ومما يؤكد هذه
الحقيقة: أن جيش الجمعية الذي احتل (إستانبول) كان مكوناً من أرباب السوابق
وعصابات الروم والبلغار والأرناؤوط (الألبان) ويهود الدونمة من (سلانيك) ... وغيرها [10] ، فيما يحاول مستشرق فرنسي موتور تلميع صورة أولئك الأوباش، فيزعم أنهم ينحدرون من صفوف البورجوازية الصغيرة كالمحامين والصحفيين وصغار الضباط [11] ، وللمزيد من الأدلة على دور اليهود في توجيه الجمعية والثورة لتحقيق أهدافهم: هذه شهادة من طلعت باشا (العضو في الجمعية) يعترف فيها بأن (الاتحاد والترقي) كان أمل اليهود المنشود، بينما يتنبأ شخصيّاً بإقامة دولة يهودية في فلسطين [12] ، ويزيد الصورة إيضاحاً كلام الدكتور رضا نور، إذ يعترف بأن الآمر الناهي في الاتحاد والترقي هم: جاويد، وقارصوه، وهما من يهود الدونمة، وطلعت باشا، وهو ماسوني [13] .
مصطفى كمال.. مولده ونشأته:
كما يقال بأن الشائعة إذا راجت في زمانها كان لها أثر كبير من الصحة،
ومصطفى كمال، المولود في مدينة (سلانيك) باليونان حالياً سنة 1296 هـ ... (1880 م) ، تحوم حول نسبه شكوك أثيرت في أيام طفولته حول هوية والده من ناحية، وحول أصله العرقي من ناحية أخرى، فوالده مجهول الهوية؛ إذ عندما قدمت له صورة والده الرسمي أنكرها [14] ، بينما يُقال: إن والده هو علي رضا، الموظف الحكومي المتواضع، وقد توفي ومصطفى ابن سبع سنين، فتولت أمه (زبيدة) رعايته، فكان يدرس اللغة الفرنسية سرّاً في العطلات المدرسية على يد رئيس دير فرنسي، وكان يعتني به شخصيّاً بصفة خاصة [15] ، فيما يدّعي بعض المطلعين بأن أباه قد مات بسبب عدم سيطرته على فسق زوجته وفجورها، وأن الأب الحقيقي لمصطفى هو إما صربي أو بلغاري أو روماني، وقد تبرأ علي رضا أفندي من مصطفى رسميّاً، إلا أنّ السجلات أزيلت من المحكمة [16] من جهة أخرى: فإن الأدلة الأنثروبولوجية لمصطفى كمال بشُقْرَته وعينيه الزرقاوين، وجمجمته: تؤكد أنه أكثر ما يكون بعداً عن الملامح التركية [17] .
التحق مصطفى كمال بالجيش بعد إنهائه للثانوية العسكرية، وهناك أضيف له
اسم «مصطفى» بسبب تشابهه مع أحد المدرسين، وكان من المعجبين بنابليون
والثورة الفرنسية، وكان له اهتمام بعلاقة الجنسين والحرية التامة لهما [18] بعد
تخرجه من الكلية الحربية بإستانبول خاطب زملاءه قائلاً: «إن الباشاوات
العثمانيين كلهم في غفلة وانخداع بفكرة العالم الإسلامي، وعلينا أن نجمع كل منابع
قوتنا في الأناضول التركي» [19] ، عُيِّن قائداً في الشام، وكان يتردد على مقهى
للعمال الإيطاليين ليشاركهم في الرقص وشرب الخمر، وهناك كوّن (جمعية الوطن
والحرية) في سنة 1906م، كما أسس مع رفاقه فروعاً لها في يافا والقدس وبيروت، وكان قد التحق بالمحفل الماسوني (فداتا) [20] ، ثم رجع إلى سلانيك سنة 1907 م، حيث قضى أوقاته في الملاهي، لكنه تمكن عن طريق المحافل الماسونية هناك
من الترويج لحركته التي سميت (تركيا الفتاة) ، والتي اندمجت لاحقاً مع الاتحاد
والترقي [21] ، ولكن الاتحاديين لم يرتاحوا له، فنفوه إلى طرابلس الغرب في
مهمة عسكرية، ثم رجع إلى سلانيك، وعين قائداً للواء الثامن والثلاثين، وكان
هو أول من يتخلى عن التحية الإسلامية في الجيش [22] ، وقد أكد السلطان عبد
الحميد توجس الاتحاديين من مصطفى كمال، إذا تجاوزوه وعينوا أنور باشا وزيراً
للدفاع؛ لأن به سكوناً خطيراً جعل طلعت باشا يتجاهله ويؤيد أنور باشا الذي كان
يتفاداه [23] ، وفي حقه يقول أنور باشا: إنه «إذا ترقى إلى رتبة باشا فإنه يرغب
أن يكون سلطاناً، وإذا أصبح سلطاناً فإنه يرغب أن يكون إلهاً!» [24] ، هذا
الطموح الشخصي والغرور الذي لا حد له سينعكس على كل قراراته وسياساته
المستقبلية، كما سيمر معنا.
بروزه على مسرح الأحداث وعلاقته بالإنجليز:
ملكت الثقافة الألمانية على زعماء الاتحاد والترقي الذين شكلوا الحكومة التي
أعقبت خلع السلطان عبد الحميد عقولهم وقلوبهم، فاندفعوا خلف ألمانيا في الحرب
العالمية الأولى ظنّاً منهم أن ذلك سوف يحميهم من التوسع البريطاني في أراضي
الدولة العثمانية، تلك الحرب التي كان ينتظرها السلطان المخلوع (عبد الحميد) ؛
لكي تدمر أوروبا نفسها، ويخرج هو سالماً بعدم مشاركته فيها [25] ، وبعد أن
ورطوا البلاد في حرب خاسرة: رحل كبراء الجمعية (طلعت، وأنور، وجمال)
إلى ألمانيا، وبذلك خلت الساحة أمام مصطفى كمال، وبدأت أسهمه في الصعود،
لكننا لا بد أن نذكّر بأنه كان سبباً في هزيمة الدولة في حرب البلقان سنة 1912م؛
لانسحابه من المعركة حتى لا يحصل أنور باشا على شرف الانتصار، ثم انتُدب
لتخليص الحجاز من الإنجليز إبان اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكانت خطته
العسكرية توصي بالتضحية بالحجاز مقابل المحافظة على القدس [26] ، ثم ما لبث
أن انسحب أمام الجيش الإنجليزي في سورية، وبالاتفاق مع القائد (اللنبي) ؛
فتسبب في هزيمة الأتراك، لكنه لايكتفي بذلك، بل ينعى على الاتحاديين سياستهم
الموافقة لألمانيا والتي دمّرت الدولة [27] ، ولا نزيد على أن نقول: «إذا لم تستح
فاصنع ما شئت» .
انتهت الحرب واحتل الحلفاء إستانبول، ودخل الجنرال الفرنسي «دسبري» المدينة، ممتطياً جواداً أبيض أهداه له سكان المدينة من اليونانيين؛ أسوة بما
فعله السلطان محمد الفاتح قبل 466 عاماً [28] ، لكن السلطان محمد وحيد الدين
السادس لم يصبر على الضيم ونظراً لعجزه شخصيّاً عن إثارة القلاقل في وجه
الحلفاء: فإنه عدل إلى مصطفى كمال باشا الذي أمده بالأموال اللازمة [29] ، كما
أطلق يده، إذ عينه مفتشاً عامّاً لجيش الأناضول، ليقوم بالثورة على قوات
الاحتلال، فيتسنى بذلك للسلطان هامش للمناورة والمساومة السياسية مع المحتلين،
وقد أمده بمئة وعشرين ألف ليرة ذهبية [30] ، ويبدو أن السلطان قد تجاهل
خيانات مصطفى كمال السابقة للدولة وتواطؤه مع الإنجليز، بينما اعتقدت بريطانيا
أن المشاكل المثارة في الأناضول تجري بناءً على عرض سابق تقدمت به إليه (أي: إلى مصطفى) سنة 1917م عندما كان قائداً في فلسطين، تطلب فيه الثورة على
السلطنة والخلافة مقابل مساعدته في ذلك [31] ، وربما كان هذا الرأي هو الأقرب
إلى التصديق؛ إذ لم تمانع إنجلترا في خروج مصطفى كمال من إستانبول بحراً إلى
مدينة سامسون، وهو الذي دحر الحلفاء في جناق قلعة [32] ، وقد استغرب (ثريا
إيدمير) مؤلف كتاب (الرجل الأوحد) ، عن أتاتورك تصرف الإنجليز هذا،
وتزول الغرابة تماماً عندما نعلم بأن الجنرال اللنبي رشح مصطفى كمال لقيادة
الجيش السادس المرابط بالقرب من الموصل، حيث النفط والنفوذ الإنجليزي في
المنطقة الذي يتطلب شخصاً يستطيع الإنجليز التعامل معه [33] .
وبالفعل: أجج مصطفى كمال الشعب على الاحتلال العسكري للبلاد، لدرجة
اضطر معها الإنجليز إلى الطلب إلى السلطان بتنحيته عن قيادة المنطقة، وفي هذا
الصدد: يضيف شيخ الإسلام (مصطفى صبري) بأن السلطان قد ماطل في
فصل مصطفى كمال لمدة شهرين على الرغم من تذمر قوات الاحتلال، واستمر في
دعوته للعودة إلى إستانبول، لكنه أبى، وقد ظل السلطان يحسن الظن به حتى قال
فيه: «ليخدم الوطن وليغتصب عرشي» ! [34] ، علماً بأن أنور باشا بعث
ببرقية إلى السلطان يحذره فيها من «أن إرسال مصطفى كمال إلى الأناضول
سيكون بداية لمصائبنا» [35] .. وبعد أن أُعفي من منصبه العسكري سارع إلى
عقد المؤتمرات (أرضروم سنة 1918م، وسيواس سنة 1919م) لتعزيز سلطته في
المنطقة، وقد خرج المجتمعون بتوصيات، منها: المحافظة على أراضي الدولة،
واستقلال الشعب، ومقاومة الاحتلال.. وتم تغيير اسم الجمعية إلى جمعية (الدفاع
عن حقوق شرق الأناضول والرومللي) ، أي: إسقاط باقي مناطق الدولة،
والمحافظة على المناطق التركية فقط [36] ، كما تم انتخاب مصطفى كمال رئيساً
للجمعية.
وتستمر فصول المسرحية الهزلية، فيهاجم مصطفى كمال وجيشه مستودعات
الأسلحة والذخائر التابعة للحلفاء، وأرسلوا ما حصلوا عليه إلى الأناضول بوصفه
غنائم حرب [37] ، فكان رد الفعل الإنجليزي هو: إرسال قواتها لاحتلال إستانبول، والزّج بنوّاب مصطفى كمال بالبرلمان في السجن، وحلّ البرلمان، ونفي بعض
أعضائه، وفرض الرقابة على الصحف والبريد والبرق والوزارة، وتم تشكيل
وزارة جديدة.. وكل ذلك بموافقة السلطان الذي لا يملك من أمره شيئاً، ثم أجليت
القوات الإنجليزية عن (إسكى شهر) و (قونية) دون الاشتباك مع قوات مصطفى
كمال المحاصرة، فظهر للناس وجود معسكرين، أحدهما يضم السلطان والمحتلين
الإنجليز، بينما يتكون الآخر من المناضل! مصطفى كمال ومؤيديه [38] ، أما
المناضل الوطني! فقد أوعز إلى مفتي مدينة أنقرة بإصدار فتوى تندد بفتوى مفتي
إستانبول القاضية بمحاربة الكماليين؛ بحجة أنها والسلطان والحكومة محتلين من
قبل الإنجليز [39] ، وهذه هي حيلة المنافقين دائماً: الإذعان إلى الدين متى ما
احتاجوا إليه في دعم باطلهم، كما أعلن عن تكوين برلمان في مدينة أنقرة ومقر
للحكومة لمكافحة الأجنبي، وكان مما صرح به هو: «أن كل التدابير التي ستتخذ
لا يقصد منها غير الاحتفاظ بالخلافة والسلطة، وتحرير السلطان والبلاد من الرق
الأجنبي» [40] ثم إن الإنجليز قاموا في تلك الأثناء بنشر بنود معاهدة (سيفر) ،
التي تتنازل الدولة العثمانية بموجبها عن أراضٍ كثيرة؛ ليوغروا صدور العامة
على السلطان ويرفعوا من أسهم مصطفى كمال، كما قاموا بغض الطرف عن
تمويل وتسليح ذلك المناضل الوطني! [41] ، لكن هذا الرجل المتقلب عدل من
رأيه حول السلطة والخلافة (وبصورة غير ديمقراطية تماماً!) ؛ إذ صرخ في
أعضاء المجلس الجديد في أنقرة منادياً بحتمية الفصل بينهما، ولكن من المحتمل أن
بعض الرؤوس كانت ستقطع إذا لم توافق على ذلك الرأي [42] ، ولقد اعترف فيما
بعد في كتاب الخطابة بأن الفصل بين السلطتين كان نقطة أساسية ولازمة وكانت
بمثابة الخطوة الأولى [43] ، ترى ما هي الخطوة الثانية إذن؟ .
عقب التطورات الخطيرة، دعت بريطانيا إلى عقد مؤتمر لندن لحل المشكلة
(المسألة) الشرقية وقد وجهت إلى كل من إستانبول وأنقرة دعوتين منفصلتين، وقد
كانت الهيمنة لوفد أنقرة لحكمة يعلمها الحلفاء جيداً، من ثمارها: تنازل مصطفى
كمال عن سورية للفرنسيين، وعن باطوم للروس [44] ، وتمخض عن هذه
التنازلات: قيام الحلفاء بتحريض اليونان على غزو إستانبول، ثم التخلي عنها،
بينما توقف الهجوم اليوناني وبدأ في الانسحاب، وكان مصطفى كمال قد أمر بوقف
القتال قبل تراجع اليونانيين، وقد ضخمت الدعاية الغربية الحادثة لتظهر الغازي
مصطفى كمنقذ للبلاد من عدوها التقليدي، والتساؤل الذي نطرحه هو: كيف يأمر
قائد بوقف القتال أمام عدو لم يعلن عن استسلامه أو انسحابه بعد؟ فإذا لم يكن هناك
تنسيق مسبق بين القوات فهذا يعني وضع الجيش تحت رحمة الأسلحة اليونانية، أم
إنها إحدى لعبات الإنجليز في صنع الأبطال القوميين؟ ! . وبعد تلك اللعبة تظاهر
الحلفاء بمقاومة الغازي في هجومه على (تراقيا) ، لكن الإنجليز توسطوا لإنهاء
القتال وانسحاب اليونان [45] ، والأعجب من ذلك هو: قيام السفن الإنجليزية
الراسية في البحر بنقل الفاريين اليونانيين من سكان الأناضول وشارك معها سفن
الحلفاء [46] ، ثم إن إنجلترا، وهي المنتصرة في الحرب العالمية، الأولى تنازلت
بمحض إراداتها عن مدينة أزمير لتظهر مصطفى كمال أمام العالم الإسلامي بأنه
الغازي والمنتصر، ثم تفرض شروطها عليه، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام
مصطفى صبري [47] .
ثم إن الغازي! مصطفى كمال هدد أعضاء المجلس الوطني الكبير بالقتل،
إذا لم ينزلوا على رأيه بإلغاء السلطة العثمانية [48] ، هذا هو أسلوب معاملة الرجل
الذي راهنت عليه إنجلترا، وتلكم هي طريقة تعامله مع البرلمان الموقر ونوابه
المحترمين، الذين يتمتعون بحصانة يكفلها الدستور الذي خلعوا السلطان عبد الحميد
الثاني من أجله! فكيف ستكون سياسته عندما يصبح الآمر الناهي في البلاد
والعباد؟
بعد هذه السلسلة من الحروب الكرتونية المفتعلة: قرر الحلفاء عقد مؤتمر
لإنهاء وضع الدولة العثمانية، وذلك لكسب الرأي العام التركي لصف الغازي
مصطفى كمال الذي صُنع على أعين الإنجليز، فكان مؤتمر (لوزان) بسويسرا سنة
1340هـ (1924م) ، ويقال: إن اللورد (كرزون) رئيس وفد إنجلترا قد طرح
أربعة شروط للاعتراف باستقلال تركيا، وهي: إلغاء الخلافة، وطرد الخليفة،
ومصادرة أمواله، وإعلان فصل الدين الإسلامي عن الدولة والحياة ... (العلمانية) [49] .
بينما يؤكد شيخ الإسلام مصطفى صبري وبناءً على تصريح مستشار وزير خارجية بريطانيا بأن مصطفى كمال قد اقترح على المؤتمر: إلغاء الخلافة، وقطع
علاقة الدولة بالإسلام، وتجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية،
واستبدال الدستور القائم بآخر مدني.. وقد وكل إلى عصمت إينونو القيام بتلك
المهمة [50] ، وكان قد همس في أذن إينونو قبيل سفره بألا يعارض الإنجليز،
حتى ولو طلبوا التنازل عن مدينة إستانبول وتراقيا! [51] ، لكن الإنجليز اكتفوا
فيما يبدو بما قدمه الغازي من تنازلات، اللهم إلا اشتراط بقاء بطركية الروم في
إستانبول بناءً على ضغوط مجلس الكنائس البريطانية [52] .. وإذا كان هذا لا
يكفي المسلمين جراحاً فإن الآلام تزداد عندما يخرج علينا مؤرخ مسلم حاول الدفاع
عن الدولة العثمانية في موسوعته، فيزعم بأن قرار مصطفى كمال بإلغاء السلطنة
كان الهدف منه هو: حسم ازدواجية الحكومة، وإلغاء معاهدة سيفر الظالمة، وسد
الباب على الإنجليز؛ لكيلا يضربوا بعضها ببعض [53] .
ولكي يحقق الغازي! آماله: اضطر إلى حل المجلس الوطني الكبير،
وتشكيل مجلس مؤيد له يوافق على ما جاء في معاهدة لوزان، والمضحك في الأمر: أن 40 (فقط من النواب هم الذين حضروا الاجتماع الذي أعلن فيه عن قيام
الجمهورية التركية وإلغاء مؤسسة الخلافة بعد أربعة عشر قرناً من الزمان [54] ،
وقد أصدر المجلس القوانين: 429، 430، 431 التي تنص على إلغاء الخلافة،
وطرد الخليفة وأسرته، وإلغاء وزارة الأوقاف والشرعية والمدارس الدينية [55] ،
ويقول عن تلك النكبة الكبرى ذلك المؤرخ: إنها كانت انتصاراً للقومية التركية،
واستطاع بذلك الغازي! تحدي بريطانيا وحلفائها، أما عن نقله للعاصمة إلى مدينة
أنقرة: فيبرر ذلك بحجة تجريد المدينة (إستانبول) من السلاح والتخلص من
الماضي [56] ، فعلاً لقد نجح مصطفى كمال في خداع قطاع كبير من الناس بنفاقه
البغيض، لدرجة أن السلطان عبد الحميد الثاني على الرغم من ثاقب نظره صدّق
انتصار مصطفى كمال على الحلفاء في معركة جناق قلعة، أو ربما رغبته في
حماية البلد هي التي دفعته لتصديق تلك المهزلة، حتى دعا الله أن يتقبل منه عمله
ذاك! [57] ، ولم يقف الحد عند ذلك، إذ تسابق الشعراء في الثناء على انتصارات
الغازي وتمجيدها، كما حصل مع أمير الشعراء أحمد شوقي، إذا أنشد [58] :
الله أكبر كم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدد خالد العرب
حذوت حذو صلاح الدين في زمن ... فيه القتال بلا شرع ولا أدب
ثم انصدم بعد ذلك كغيره من المسلمين بأعمال الغازي! المناهضة لدين الله،
وتأسف على ما فات. ويعلق المؤرخ إحسان حقّي على تلك الأحداث قائلاً: (لقد
عاصرت الثورة الكمالية وتأثرت بها؛ لغربة المسلمين ووقوعهم تحت الاحتلال،
وانخدعت بها كغيري، بينما استغل هو مشاعر المسلمين وأموالهم، وكان يتظاهر
بالإسلام، إذ كان يأمر بقراءة صحيح البخاري قبل المعارك بفترة) ! [59] بينما
يأسف مستشرق ألماني حاقد على قصر همة مصطفى كمال الذي آثر التخلي عن
المنافع التي كانت دولته جديرة بجنيها لو رغب في إبقائها مركزاً روحيّاً ... للإسلام [60] ، لكن مصطفى كمال كان صريحاً في موقفه من الإسلام، إذ خاطب المجلس الوطني أثناء مناقشة شروط معاهدة لوزان قائلاً: (إن الآوان قد آن لتنظر تركيا إلى مصالحها، وتتجاهل الهنود والعرب، وتنقذ نفسها من تَزَعّم الدول الإسلامية) [61] ، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أحد النواب الإنجليز كان قد اعترض على استقلال تركيا، فأجابه اللورد كرزون قائلاً: «إن القضية هي أنّ تركيا قد قضي عليها، ولن تقوم لها قائمة؛ لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها، وهي الخلافة الإسلامية» [62] .
بعد أن حقق مصطفى كمال آمال أوروبا التي سعت إليها طوال سبعة قرون
تقريباً: هل توقف عند ذلك؟ أم تمادى في محاربته لله ولرسوله؟ .
هذا ما سنراه في الحلقة التالية.
__________
(1) أحمد النعمي: تركيا وحلف شمال الأطلسي، ص 31.
(2) يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ج2، ص 148 152، بتصرف.
(3) انظر: محمد صلاح الدين، جمعية الاتحاد والترقي ودورها في إسقاط الخلافة الإسلامية.
(4) أوزتونا، مصدر سابق، ص 171.
(5) راجع: مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة د محمد حرب.
(6) أحمد الشوابكة: حركة الجامعة الإسلامية، ص 308 309.
(7) د محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص 38.
(8) نجيب قيصه كورك: السلطان عبد الحميد خان الثاني واليهود، ص 67.
(9) حركة الجامعة الإسلامية، ص 310.
(10) جمعية الاتحاد والترقي ودورها في إسقاط الخلافة، ص 40.
(11) روبير مانتران، تاريخ الدولة العثمانية، ج2، ص 245.
(12) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص 143.
(13) المصدر السابق، ص 186.
(14) الرجل الصنم، لمؤلف مجهول/ ضابط تركي سابق، ج1، ص 37.
(15) علي حسّون، تاريخ الدولة العثمانية، ص 307.
(16) الرجل الصنم، ص 44 46، بتصرف.
(17) المصدر نفسه، ص 50.
(18) حسّون، مصدر سابق، ص 308.
(19) الرجل الصنم، ص 60.
(20) أحمد مصطفى: في أصول العثمانيين، ص 301.
(21) مانتران، مصدر سابق، ص 237.
(22) الرجل الصنم، ص 73.
(23) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص 261.
(24) الرجل الصنم، ص 90.
(25) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص 136.
(26) الرجل الصنم، ص 86.
(27) عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، ج 1، ص 253.
(28) المصدر نفسه، ص 245.
(29) الرجل الصنم، ص 129، ص 135.
(30) محمد فريد، تاريخ الدولة العليّة العثمانية، ص 747.
(31) المصدر نفسه، ص 751.
(32) الرجل الصنم، ص 125.
(33) المصدر نفسه، ص 105.
(34) محمد فريد، مصدر سابق، ص 749.
(35) الرجل الصنم، ص 181.
(36) الشناوي، مصدر سابق، ص 259.
(37) المصدر السابق، ص 261.
(38) حسّون، مصدر سابق، ص 319.
(39) الشناوي، مصدر سابق، ص 263.
(40) حسّون، مصدر سابق، ص 320.
(41) المصدر نفسه، ص 321.
(42) الرجل الصنم، ج2، ص 259.
(43) المصدر السابق، ص 257.
(44) حسّون، مصدر سابق، ص 322.
(45) المصدر السابق، ص 324.
(46) الشناوي، مصدر سابق، ص 275.
(47) مصطفى حلمي، الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة الإسلامية، ص 33.
(48) حسون، مصدر سابق، ص 325.
(49) المصدر السابق، ص 326.
(50) الأسرار الخفية، ص265.
(51) الرجل الصنم، ج2، ص 270.
(52) المصدر السابق، ص 276.
(53) الشناوي، مصدر سابق، ص 278.
(54) حسّون، مصدر سابق، ص 327.
(55) الرجل الصنم، ص 298.
(56) الشناوي، مصدر سابق، ص 304 307، بتصرف.
(57) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص260.
(58) حسّون، مصدر سابق، ص 323.
(59) محمد فريد، مصدر سابق، ص 754.
(60) كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 696.
(61) تركيا وحلف شمال الأطلسي، ص 37.
(62) حسّون، مصدر سابق، ص 327.(106/56)
المسلمون والعالم
مصر في القرن الواحد والعشرين
(قراءة أصولي)
(2 من 3)
بقلم: عبد الرحمن الكناني
بعد تمهيد ببيان أهمية طَرْق مثل هذه الموضوعات من قِبَل الإسلاميين؛
لإبداء وجهة نظرهم فيما يطرحه العلمانيون، وتنويه بأن ذلك ينبغي ألا يكون من
موقع الهزيمة النفسية: عرض الكاتب في الحلقة السابقة تلخيصاً للدراسة المستقبلية
التي طرحها الدكتور أسامة الباز، ثم أبدى بعض الملحوظات العامة على الدراسة،
وبدأ في توضيح بعض الملحوظات التفصيلية، التي كان منها: مكانة الإنسان،
وتحريره أم الوصاية عليه، وحقيقة الطفرات السياسية.. ويواصل الكاتب ما بدأه
من هذه الملحوظات.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
الملحوظة الرابعة: الموقف من الصحوة الإسلامية:
يفسر الأستاذ السيد ياسين أسباب ظهور الصحوة الإسلامية بفشل الفلسفات
والأيديولوجيات الوضعية (المنافسة للدين) مثل الليبرالية والاشتراكية في الإجابة
عن الأسئلة الكبرى لمعنى الحياة وجوهرها، ثم تنافس هذه الفلسفات
والأيديولوجيات فيما بينها، وليس بينها وبين الدين، (مما جعل الشباب يعود
للدين في صورة موجات من التدين الشعبي، ثم في صورة حركات إسلامية منظمة، انقلب بعضها ليصبح حركات إرهابية صريحة لا تخفي مخططاتها) ، بينما
يرصد الدكتور حسن حنفي أسباب بروز (الإحياء الديني) ، فيرى أن (هزيمة
1967م كانت أول وأهم هذه الأسباب، ثم تأتي سياسات الانفتاح وما أعقبها من
غلاء وبطالة، وزيادة التفاوت بين من يملكون ومن لا يملكون، فضلاً عن ازدياد
الفساد الأخلاقي والاجتماعي، وأخيراً يتحدث الباحث عن التوجه إلى الصلح مع
إسرائيل والتعاون مع الغرب والولايات المتحدة) .
ونلاحظ أن التفسيرات في مجملها تلمح إلى عدم أجدرية الدين برجوع الشباب
إليه، ولكننا نلفت نظر المتأمل إلى أن تنافس الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية
والصراع بينها وحده.. ليس كفيلاً وحتميّاً برجوع الشباب إلى الدين، كما أن هذا
الصراع لم يتجاوز دائرة (النخبة الثقافية) ، ولم يكن للجماهير التي (أصابتها
موجات التدين الشعبي) احتكاك بهذا الصراع، أما هزيمة 1967م: فليست سبباً
منطقيّاً لبروز هذه الصحوة؛ فقد كانت الصحوة ممتدة من قبل هذا التاريخ، وإن
أخذت بعداً آخر في عمقها واتساعها بعد 1967م ليس بسبب الهزيمة نفسها في
رأيي ولكن بسبب ظهور فرصة التحرك الدعوي التي أُتيحت نتيجة ضعف النظام
وانكساره بعد الهزيمة.. وأما التفسير (الاشتراكي) بالعوامل الاقتصادية والتقارب
مع الغرب، فرغم تناقضه مع ما يدعيه آخرون من إنجازات اقتصادية واجتماعية
وسياسية حققت بعد (ثورة 1952م) ، إلا أنه أيضاً لا يفسر لنا امتداد الصحوة شرقاً
وغرباً، في أقطار لا تعاني من ضائقة اقتصادية، بل تعيش في رغد ورخاء، وفي
أقطار ما زالت تعلن العداء (للإمبريالية الغربية) ، وتصر على أن فلسطين (من
البحر إلى النهر، ومن الجنوب إلى الجنوب) .
وحسب الرؤية الأصولية التي نظنها إسلامية صحيحة فإن انتشار الصحوة
راجع إلى أن الإسلام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي هي ملاذ الأفراد
الطبيعي عندما يعودون إلى أنفسهم وتتاح لهم فرصة التذكير والتعريف بهذا الدين،
وأن الإسلام هو قَدَر هذه الأمة وهويتها التي لا تستطيع بدونه أن يكون لها تميز
أممي بين البشر، وُجِدت الصحوة رغم محاولات الصد والمنع والكيد التي تبذل
للحيلولة دونها، وهذا ما يحيِّر العلمانيين.
وعن الصراع بين التيارات الإسلامية والعلمانيين:
يرى الأستاذ/ السيد ياسين أن (الصراع الثقافي: بين العلمانيين وهم
أنصار فصل الدين عن الدولة وبين من يزعمون أهليتهم للحديث باسم الإسلام،
ويرفعون شعار (الإسلام هو الحل) .
وهؤلاء لن يتاح لهم أن يحصلوا على أغلبية مقاعد مجلس الشعب في أي
انتخابات حرة ونزيهة؛ لأنهم وهذه حقيقة أساسية لا يمتلكون أي مشروع محدد
سوى شعارهم العام الذي يفتقر إلى التحديد، ويعاني فقراً شديداً في المضمون
الفكري) .
ونلاحظ أن المعاني التي تحتويها هذه الفقرة هي محتوى أنشودة علمانية لا
يمل المناوئون للتيار الإسلامي في أكثر من قطر من ترديدها، وتدور حول (فقد
البرنامج) ، ولكننا نلفت الانتباه إلى:
أولاً: التنافس على مقاعد مجلس الشعب ليس صراعاً ثقافيّاً، والفوز بهذه
المقاعد لا يمثل انتصاراً لثقافة على أخرى، بل يمثل مهارة في الإدراة باستخدام
الأساليب المشروعة وغير المشروعة، التي أشرنا إلى جانب منها سابقاً: كاستغلال
النفوذ، والابتزاز السياسي، والتمويل السخي، إضافة إلى الاعتبارات المناطقية
والعائلية، هذا إذا ضربنا صفحاً عن اتهامات التزوير على نطاق كبير.
ثانياً: إذا كان هؤلاء الذين يزعمون أهليتهم للحديث باسم الإسلام غير
مؤثرين، ولا يملكون برنامجاً، ولن تتاح لهم فرصة نجاح.. فلماذا الخوف منهم،
ومطاردتهم، وملاحقتهم، ومنعهم من ممارسة أي نشاط ثقافي أو اجتماعي أو
سياسي؟ ، ثم: أليس العلمانيون يزعمون أيضاً أهليتهم للحديث باسم الإسلام، فما
الفرق المؤثر بينهم وبين الإسلاميين عند (المفكرين) وعند الجماهير، إلا الإحساس
بصدق التوجه؟ .
ثالثاً: الدندنة حول (البرنامج) على طريقة (الرؤية الإسلامية لحل أزمة
المواصلات) و (الطرح الإسلامي لمعالجة مشكلة الصرف الصحي! !) ... ليست
طريقة صحية في الحوار الفكري والمناوشة السياسية:
- فالصحوة الإسلامية تملك بديلاً حضاريّاً متكاملاً ومتميزاً عن غيره لا ينكره
من خصومها إلا مكابر.
- وهذا البديل الحضاري ليس تصوراً نظريّاً فقط، بل دامت تحت ظله
مجتمعات متنوعة الأعراق واللغات ودول عتيدة لقرون عدة، وإن اختلفت درجة
قربها أو بعدها منه.
- والتيار الإسلامي لم تتح له فرصة العمل الحر حتى يقدم ما عنده، وعندما
أتيحت هذه الفرصة تقدم على منافسيه رغم الحضور العلماني المكثف كما حدث في
الجزائر، وتركيا أخيراً.
- وراية (البرنامج) لا يلوح بها إلا في وجه الإسلاميين، فرغم عدم تمكين
الحركة الإسلامية من العمل السياسي المنظم والمعلن، والحجر عليها بدعوى عدم
وضوح منهجها وفراغ شعاراتها من محتوى فكري محدد، نجد غض الطرف عن
الأحزاب العلمانية وإفساح المجال لها، وذلك رغم (غياب التمايز الواضح بين
برامج الأحزاب السياسية، مما يجعلها لا تمثل بدائل حقيقية في نظر الناخبين،
وغياب الديمقراطية الداخلية في أغلب الأحزاب القائمة.. وعجز الكثير من أحزاب
المعارضة عن القيام بوظيفة التعبير عن المصالح وبلورتها في شكل سياسات
وبرامج حزبية) ، وهذه شهادة الدكتور علي الدين هلال في بحث آخر من الدراسة
التي نحن بصددها، فلماذا الكيل بمكيالين لشيئين متماثلين؟ ! .
- وأخيراً: فينبغي تجاوز الصور والأشكال إلى الحقائق والنتائج، فما هو
نصيب (البرامج) العلمانية التي طقطقت بها الأحزاب أو الدولة من التطبيق الفعلي؟ وماذا جلبت هذه البرامج على الفرد والمجتمع طوال الفترة الماضية، حتى نعي
حجم الخطر الداهم والفوائد الضائعة على التيار الإسلامي والشعب إذا تخلف عنه
(البرنامج) ؟ .
وأما الموقف من التعامل مع التيارات الإسلامية:
فنرى الدكتور علي الدين هلال الذي ينعى على ضعف أداء الأحزاب السياسية
جميعها يفاجئنا بتحديد مشكلة التمثيل السياسي في مصر (في الجماعات التي لجأت
لاستخدام العنف والإرهاب كأداة للعمل السياسي؛ فاستخدام العنف يمثل أداة لقهر
الآراء المخالفة وتوجيه المواطنين في مسارات معينة دون غيرها برغم أنفهم) ..
ولكننا نرى في هذا الكلام خلطاً لبعض الأوراق؛ فالجماعات التي تلجأ (لاستخدام
العنف) ترفض المشاركة في العملية السياسية برمتها، وبالتالي: فهي ليست
بحاجة (لقهر الآراء المخالفة وتوجيه المواطنين في مسارات معينة) ، إضافة إلى
أن أعمالها في الغالب كانت موجهة إلى ما اعتبروه رموزاً للنظام السياسي العلماني، وليست موجهة إلى المواطنين لتوجيههم في مسارات معينة رغم أنفهم كما ذكر
الدكتور هلال.
كما أن قهر الآراء المخالفة وتوجيه المواطنين في مسارات معينة هو بالضبط
ما يتم من قِبَل الدولة؛ كما رأيناها في قرارات منع الحجاب في المدارس، وفي
الممارسات الانتخابية المشار إليها، وفي السيطرة والتوجيه الإعلامي المكثف، وفي
سن قوانين (بالمقاس) لمواجهة الآراء المخالفة (كقانون الصحافة وتعديله، وقانون
النقابات، وقانون المنظمات الأهلية) .
وواضح أن الرأي مستقر في المشروع المستقبلي على استبعاد التيارات
الإسلامية من المشاركة في الحياة العامة:
فبينما يعيب د. علي الدين هلال على الأحزاب السياسية (ضعف) بنيتها،
فإنه يشكو من (وجود) التيارات الإسلامية التي يسميها التيارات الأيديولوجية
الشمولية هكذا قال: (وتواجه عملية التحول الديمقراطي عقبات عدة، منها:..
ضعف بنية الأحزاب السياسية، ووجود التيارات الأيديولوجية الشمولية) .
ويحدد الدكتور هلال دائرة عريضة من الاتفاق بين الأحزاب، تسمح بالعمل
المشترك، وتضمن استمرار عملية التحول الديمقراطي في مواجهة التيارات
المعادية للديمقراطية.
والدكتور الباز نفسه يلمح إلى حق الحكومة في عدم التعامل الديمقراطي مع
بعض الأفراد الذين لا يؤمنون إيماناً كاملاً بالديمقراطية، والمفهوم: أن الكلام موجه
بصورة أساسية إلى الحركة الإسلامية التي تُتهم بعض فصائلها باستغلال الإطارات
الديمقراطية مع عدم الإيمان بها، يقول الدكتور الباز: (ويتصل بعملية الإصلاح
السياسي: تعميق الممارسة الديمقراطية وترسيخ قواعدها في الحياة اليومية، بحيث
لا تقتصر على خلق التوازن بين الفرد والجماعة وعلى حماية المواطنين وتجمعاتهم
من عسف السلطة، وإنما تكون منهجاً ومسلكاً يتبعه المحكومون بقدر ما يلزم به
الحكام، ويتطرق إلى مختلف جوانب الحياة والمعاملات التي لا يعيش المجتمع
بدونها، فإذا لم يبدأ الفرد بنفسه ويلتزم بالقيم الديمقراطية في كل تعاملاته مع الغير
ومع السلطة وإذا لم يستوعب حقيقة أن الديمقراطية هي قيم وأصول قبل أن تكون
نظاماً وأشكالاً وقوالب دستورية وقانونية صماء: فإنه يكون قد أهدر حقه في مطالبة
الآخرين والمجتمع ككل بالالتزام بالمفهوم الديمقراطي) .
وهذا الكلام فيه انتقائية في التطبيق الديمقراطي غير مبررة وغير منتهية؛ فقد
كنا نفهم أن الديمقراطية حسب اعتقاد أصحابها توجه فكري قبل أن يكون سياسي،
قائم على الاقتناع به قبل أن يكون محققاً لمصلحة ومنتظِراً لمبادلة ومقابلة، وكاشِفاً
عما في نفوس الناس، وهي طريقة أقرب ما تكون إلى (التكفير الديمقراطي!) ،
إضافة إلى أن هذا المنطق يعطي مبرراً للأفراد لعدم (الالتزام الديمقراطي) ما لم
تظهر الحكومة أولاً هذا الالتزام وتتخلص من هذه الانتقائية. هذا أولاً..
وثانياً: أن في هذا الكلام دعوة للاستمرار في مبدأ إعطاء (الديمقراطية على
جرعات) وهو ما يؤكده الدكتور الباز بقوله: (فتح المجال للدخول في إصلاح
سياسي، بعد توافر القدر اللازم من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية) والحجر
على الاتجاهات الحضارية المخالفة للوجهة الرسمية، ووصاية على الشعب.. فمن
الذي أعطى لهم حق الحجر على اتجاه دون آخر إلى درجة أن يتساءل الأستاذ/السيد
ياسين قائلاً: (ما هو دور الإسلام السياسي في المجتمع المصري، هل يستبعد
هذا التيار أم أننا لا نستطيع استبعاده؟) [1] ، فما هي الصلاحية التي تخول لمن
يتحدث بهذا الأسلوب أن يحدد من يسمح له بالبقاء ممن يُحكَم عليه بالفناء؟ .
إنها قوة السلطة وليست دافعية الحق.. ليس إلا.
والعجيب: أن هذا الأسلوب في التعامل هو ما يحذرون لأجله من التيارات
الإسلامية، وهو: أنه لو وصلت فصائل من الحركة الإسلامية إلى السلطة: فإنها
ستنقلب على (العملية الديمقراطية) وتحجر على أي اتجاه غيرها، وتمنع تداول
السلطة، أي إن العلمانيين يمارسون بالفعل ما يُحذِّرون منه بالقول، مع اتهامهم
للآخرين بما لم يفعلوه.
والأعجب من ذلك في أمر الانتقائية تلك: أن الدولة تعترف وتتعامل بدرجات
متفاوتة ببراجماتية وميكيافيلية سياسية مع مسؤولين خارجين من عباءة الحركة
الإسلامية ابتعدوا عنها في الحقيقة أو قربوا، كما في حالة التعامل مع مسؤولين من
أفغانستان والسودان وتركيا، وهذا يدلنا على أن الصحوة أصبحت واقعاً لا يُنكر في
الداخل أو الخارج، مهما حاول بعض العلمانيين تجاهلها أو التعامي عن وجودها.
ولكن: هب أن بعض فصائل الحركة الإسلامية استقر رأيها على العمل من
خلال الإطارات الديمقراطية مع عدم إيمانها بها.. أليس ذلك هو ما يفعله العلمانيون
أنفسهم عندما يُضَمِّنون مضطرين برامجهم الحزبية بند تطبيق الشريعة الإسلامية مع
عدم إيمانهم بها لأن في الدستور المصري مادة تنص على أن دين الدولة الرسمي
هو الإسلام والشريعة الإسلامية هي المصدر (الرئيسي) للتشريع؟ ! .. وما الذي
يضير العلمانيين في هذا المسلك من هذه الفصائل الإسلامية؟ ، أليس الأجدر بهم
أن يعاملوهم كما نعامل نحن (الأصوليين!) من ظهرت عليه علامات النفاق (من
غير أن تصل إلى البينة الشرعية) ، حيث لا نخرجه من دائرة الانتساب إلى
الإسلام إذا لم يتلبس بشرك أو كفر ظاهر؟ ! .
إن هذا الأمر يجرنا إلى مسألة مهمة أغفل العلمانيون طرحها رغم منطقيتها،
وهي: إذا وصل إنسان ما بناءً على حريته في التفكير والاعتقاد إلى قناعة بعدم
الإيمان بالعلمانية التي تروج لها الدولة، وأراد أن يكون مواطناً صالحاً يخدم بلده
بما يعتقد أنه صالح بلده وأهله، فما السبيل له لكي يفعل ذلك إذا سدت أمامه الدولة
طرق التعبير والدعوة، وحجرت عليه أن يمارس حياته بناءً على اعتقاده؟ .. إنه
ليس أمامه إذا لم يكن لديه طاقة على الدعوة إلى الحق والصبر على الأذى إلا:
الانزواء والانسحاب من المجتمع الذي صادر عليه حقه في أن يعيش كما يعتقد
ويدعو إليه، أو ممارسة العنف لفرض آرائه بالقوة على المجتمع الذي قهر إرادته،
أو الدخول في النفاق السياسي والاجتماعي ليوهم نفسه بالاحتفاظ بقناعته ويساير
المجتمع مضطراً ليقيم حياته، أو تغيير قناعته والذوبان والانصهار في ذلك
المجتمع الذي مارس عليه ضغوطه و (إرهابه) لكي يتخلى عن قناعته، ويسير في
ركابه، ويعمل ضمن آليته.
ويبدو أن الفرض الأخير هو ما استقر عليه المشروع المستقبلي، وهذا ما
يشير إليه الأستاذ/ السيد ياسين بقوله: سوف نجد أن أكبر تحدٍّ سيواجه الدولة
والمجتمع معاً هو: كيفية استيعاب حركات الشباب المصري بكافة توجهاته.. وفي
ضوء عجز مؤسسات المجتمع بكافة أنواعها بما فيها الأحزاب السياسية عن أن تقدم
للشباب ما يجعلهم يحققون مكانتهم الاجتماعية، وبالتالي: فإنه يجب علينا أن نبحث
عن وسائل استيعاب الحركة النشيطة والخلاقة للشباب بإدخالهم في وقت مبكر في
دوائر صنع القرار ... فإذا تذكرنا موقف الأستاذ ياسين من (الصراع) بين
العلمانيين ومن (يزعمون) أهليتهم للحديث باسم الإسلام لأدركنا أن (الاستيعاب)
المقصود إذا خوطب شباب الصحوة بهذا الكلام أصلاً ليس المقصود به (الاحتواء)
العملي، بل هو (انصهار) الشباب في الرؤية الفكرية العلمانية ومؤسساتها القائمة،
وهو ما يعبر عنه أيضاً الدكتور الباز بعبارة قد لا يُختلف عليها إلا بتحديد التوجه:
في وقت نحن أشد ما نكون فيه حاجة إلى لم الشمل وتعبئة قوى المجتمع وقدراته
لخدمة الأهداف القومية الكبرى.
وهذا الانصهار والذوبان ليس فقط على مستوى الانخراط العملي للشباب، بل
أيضاً على مستوى القيم التي يحملونها؛ حيث يرى الدكتور حسن حنفي في بحثه
عن (الإحياء الديني) أن (الإسلام المستنير (!) ينبغي أن يلتقي مع الواقع
والتيارات الأخرى، حيث تعيد التيارات السياسية والفكرية صياغة أسسها
ومصادرها، وتبدأ من تراث الناس أنفسهم وبحيث تبدأ الليبرالية من التراث
الإسلامي، ويقوم التيار القومي بتجديد نفسه عن طريق ربط القومية بالإسلام؛ لأنه
أكبر دعامة لهذا التيار، وتقوم الاشتراكية بالارتباط بمفهوم العدالة الاجتماعية في
الإسلام والملكية العامة، وتتخلص من خطابها الماركسي المادي الإلحادي، كما
يتخلص الإسلام المستنير من الإسلام الشكلي الشعائري الذي لا يقدم القضايا
السياسية والاجتماعية وقضايا التحرر في خطابه، ويهتم فقط بالشكل!) .
ويرى الدكتور حنفي أن مفهوم (الإسلام السياسي الحقيقي) (عليه أن يواجه
تحديين:
أولهما: يتمثل في ضرورة انفتاح الإسلام على التعددية وحق الاختلاف،
وعدم جواز تكفير الآخر.
ثانيهما: التخلي عن الشعائرية والشكلية، وخوض ساحة المعارك الوطنية،
مثل قضايا التخلف والتنمية.. إلخ، أما التحدي الخارجي فيتمثل في كيفية تعامل
الإسلام مع نظام عالمي ذي قطب واحد!) .
ويتساءل الأصولي الساذج مثلي: وماذا بقي من الإسلام إذن؟ ! أليست هذه
صورة صارخة لاستخدام الدين خادماً! للتنمية والأيديولوجيات العلمانية؟ ! .
وهل بعد ذلك ذوبان وانصهار؟ نعم.. هناك ذوبان هذا المشروع برمته في
الكونية والعالمية؛ حيث يرى الدكتور الباز أن استراتيجية مصر في التعامل مع
تطورات مفاهيم المجتمع السياسي التي تبشر بتغير كبير في ثقافتنا (تقوم على
مبدأين أساسين:) ... ثانيهما: هو التفاعل المنفتح على التجارب، والثقافات
المرتكزة على فكرة تعايش الحضارات والثقافات والأديان، كما يرى الأستاذ
ياسين أن المجتمع المصري يحتاج لتجديد شامل للثقافة السياسية؛ لأن السلفية
السياسية السائدة سواء كانت إسلامية أو ناصرية أو ماركسية أو حكومية (! !)
ليس لها بالقطع أي مستقبل في القرن القادم، وأخيراً يرى الأستاذ ياسين: (أننا
نحتاج لرؤية استراتيجية للمجتمع المصري، تحقق الانتقال، بطريقة سلمية
وديمقراطية ومتحضرة، إلى عصر الكونية السياسية والاقتصادية والثقافية) .
فالمطلوب ليس انصهاراً داخليّاً (للمتدينين) فقط، بل انصهار وذوبان في
الكونية والعالمية، على حساب القومية والوطنية التي طالما جعلوها بديلاً للهوية
الإسلامية.
فمن الذي يسيطر على هذه الكونية والعالمية ويوجهها؟ وأين هوية الأمة ... و (مشروعها) الذي يقوم على رؤية حضارية خاصة؟ ! .
هل هناك علاقة بين تعايش الحضارات والثقافات والأديان، والانتقال إلى
عصر الكونية، ومواجهة الصحوة الإسلامية؟ ! .. دعوة للتفكّر! ! .
__________
(1) ندوة مصر والقرن الواحد والعشرين، مجلة عالم الكتب ع/47.(106/68)
المسلمون والعالم
البحر الأحمر.. والمطامع الصهيونية
بقلم: محمد مبارك مسعود
لكي يقترب العدو الصهيوني من أهدافه في البحر الأحمر: فهو بحاجة إلى
أن يكون له قواعد متقدمة تتحكم في إغلاقه لا تبعد كثيراً عن مضيق باب المندب،
الذي ليس بالإمكان دخوله سوى عن طريق موضعين يمكنه السيطرة منهما على
المضيق، هما: الجزر اليمنية، والأراضي الواقعة على الساحل الجيبوتي.. غير
أن الأخيرة ممتنعة عليه بسبب الوجود العسكري الفرنسي في جيبوتي، ولهذا: لم
يجد الصهاينة أخيراً وسيلة إلا عن طريق الجزر اليمنية، ونظام أسياسي أفورقي
(حاكم إريتريا الصليبي) ؛ فهو وحده الأداة الطيعة الكفيلة بتحقيق هذا الهدف،
وبذلك: يكون العدو الصهيوني قد بدأ بتحقيق مطامعه القديمة التي بدأ قبل ما يقرب
من عشرين عاماً يوليها عناية خاصة بعد حرب 1967م، حيث أدرك أن أمنه في
البحر الأحمر لا يبدأ عند خليج العقبة، وإنما يبدأ من باب المندب، الذي إن أُحكم
إغلاقه يشكل تهديداً لأمنه «فإن حصار باب المندب لا يختلف عن حصار مضايق
تيران إلا من حيث المسافة؛ لأن الأثر التقييدي المفروض على (إسرائيل) واحد لا
يتغير» [1] ، ومع وجود عشرات الجزر المهملة في تلك المنطقة: فقد بدأ العدو
في ترتيب علاقات قوية مع إثيوبيا منذ ذلك الوقت تخوله استخدام بعض الجزر التي
يستطيع من خلالها تأمين الملاحة الصهيونية، ومراقبة أي وجود عسكري في ... المنطقة، حيث «أجّر» هيلاسي « [الإمبراطور الإثيوبي سابقاً] قاعدة كاغنيو العسكرية في أسمرة بإريتريا إلى الولايات المتحدة، وسمح لإسرائيل بأن تؤسس وجوداً لها في إريتريا» [2] .
وقد نشرت بعض الصحف الأمريكية في مارس 1973م أخباراً مفادها: أن
(إسرائيل) قد وضعت يدها على بعض الجزر التي تقع في مدخل البحر الأحمر،
ومن بينها جزيرة (زقر) التي تعتبر أحدّ أهم الجزر الاستراتيجية التي تتحكم في
مضيق باب المندب، ونوقش الأمر بالفعل في الجامعة العربية، وشكلت لجان،
وأجرت مسحاً للجزر، وظهر بأن تلك الجزر مهملة بالفعل من قبل اليمن، حيث لا
توجد فيها قوات لحمايتها! ، ونترك الحديث للعميد محمد علي الأكوع، الذي كان
يومها وزيراً للداخلية اليمنية في حكومة القاضي الحجري عام 1972م، حيث ... يقول [3] :
وبعد شهر فوجئت بتليفون من رئيس المجلس الجمهوري آنذاك القاضي
الإرياني يعاتبني لبطء الرد على مذكرة الجامعة العربية التي تقول: بأنه بلغ
الجامعة أن إهمالنا لجزرنا بالبحر الأحمر قد شجع إسرائيل على احتلالها، وأن
الجامعة تنتظر تصحيح خبر ذلك أو نفيه، ولنلاحظ أن الجامعة العربية قد وجهت
لنا وحدنا المذكرة عن هذه الجزر.... إلى أن قال: وقد أرسلنا لجنتين: أحدها من
الجيش برئاسة رئيس الأركان آنذاك العقيد حسن المسوري، وأخرى أمنية برئاسة
المقدم محمد خميس وكان في ذلك الوقت مديراً للأمن الوطني، وكانت النتائج: أن
تلك الجزر خالية تماماً من البشر ولا أثر لهم ووجدنا جزرنا بالبحر الأحمر (حنيش
الكبرى، وحنيش الصغرى، وزقر، وسيول، والمالح، وأبو علي) كلها خالية من
أي علامات تدل على أن أحداً قد وطأت أقدامه أراضيها، وحيث إن مذكرة الجامعة
العربية تحملنا مسؤولية حماية جزرنا هذه: فإنا نشرك الجامعة العربية معنا في
تحمل تلك المسؤولية، لاعترافنا أننا مقصرون بعدم تأهيلها بالحاميات العسكرية
الكافية.
وفي ذلك الوقت: دفع هذا الأمر مصر إلى التحرك لدى الدول المطلة على
مداخل البحر الأحمر لمناقشة الأمر، لا سيما وأن مصر كانت تعد في ذلك الوقت
لحربها مع العدو، التي قامت بالفعل في أكتوبر 1973م، وتم إغلاق باب المندب
وقتها في وجه الملاحة الإسرائيلية؛ مما دفع العدو إلى السعي بقوة لترسيخ نفوذه في
هذه المنطقة.
الاستراتيجية الصهيونية في البحر الأحمر [4] :
على الرغم من الاضطرابات والأعاصير السياسية والعسكرية التي عاشتها
شواطئ البحر الأحمر، وعلى الرغم من كل النتائج الخطيرة التي ترتبت عليها
ونتجت عنها، ظل منفذان يطلان على البحر تحت سيطرة أشكال استعمارية مختلفة، تمثل خطراً من حيث وجودها العسكري في البحر الأحمر:
1 - ميناء إيلات الصهيوني، الذي يمثل إطلالة العدو على مياه البحر الأحمر.
2 - ساحل إريتريا (ألف كيلو متر) أي: أكثر من نصف طول ساحل البحر
الأحمر الغربي بأكمله يخضع للسيطرة الإثيوبية /الإسرائيلية / الأمريكية سابقاً،
وحالياً: تحت سيطرة الجبهة الشعبية الصليبية الحاكمة في إريتريا، هذا الوجود
البحري المعادي المطل مباشرة على البحر الأحمر يشكل استعماراً استراتيجيّاً
ستكون له عواقبه المستقبلية بلا شك ولكي يتحقق الوضوح الكامل للصورة: ينبغي
أن نتعرف على الاستراتيجيات العامة في البحر الأحمر، التي بالفعل تضع ثقلها في
سبيل السيطرة على تطور الأحداث في البحر الأحمر.
ويجب أن نحدد بوضوح القوى العاملة بنشاط في البحر الأحمر:
ماذا تريد؟ ، ما حجم وجودها؟ ، ما أهمية وجودها العسكري؟ ، ما أثره
على ميزان القوى في البحر الأحمر؟ ، وبالتالي: انعكاس ذلك على ميزان القوى
في المنطقة العربية، وبالذات: الدول المطلة على البحر الأحمر.
ويمكننا القول: إن الاستراتيجية الصهيونية في البحر الأحمر تعمل على
فرض الوجود البحري في مياه البحر الأحمر، وهي في الوقت نفسه: تمثل عنصر
الاضطراب والقلق، ليس فقط على أمن المنطقة، ولكن أيضاً: على استقرار
واقتصادية كل شبكة النقل العالمي المرتكزة على منافذ البحر الأحمر، وتعمل هذه
الاستراتيجية بكل قواها على أن تكون هي المستفيد الأول من كل ضرر أصاب
المنطقة أو يصيبها، وإدراكها لأهمية العمق الاستراتيجي لكيانها، وارتباطه
العضوي بأمنها، وقدرتها على التوسع العسكري المستقبلي، لذا: بذل العدو خلال
العقد السابع من القرن الميلادي جهوداً مضنية في سبيل تعزيز علاقاته، وبخاصة
في الشرق الإفريقي المطل على البحر الأحمر باعتباره ممراً مصيريّاً بالنسبة له.
من أهدافهم في البحر الأحمر:
(بدأت الاستراتيجية الإسرائيلية حيال البحر الأحمر عام 1949م بعد تأسيس
الوجود الإسرائيلي في خليج العقبة؛ وبهدف الاتصال مع العالم الخارجي عن طريق
البحر الأحمر، لتحقيق ذلك الهدف: بدأت إسرائيل بتأسيس وجود لها على البحر
الأحمر؛ بغية استخدامه لتحقيق مصالحها العسكرية، والاقتصادية والسياسية) [5] ،
وحيث «يتسم البحر الأحمر، بما في ذلك القرن الإفريقي، بأهمية حيوية
واستراتيجية لـ (إسرائيل) ، وعليه: فقد اتبعت (إسرائيل) باستمرار ثلاثة أنماط
متداخلة من العمل على تحقيق سيطرتها على البحر الأحمر: تدعيم قواتها المسلحة، وإنشاء علاقات ودية سياسية، ودبلوماسية مع إثيوبيا [ثم: إريتريا أيضاً بعد ...
انفصالها] ، واستغلال جزر البحر الأحمر» [6] .
ويمكننا رصد بعض الأهداف الصهيونية في البحر الأحمر، وذلك من خلال:
1- فرض الوجود البحري العسكري الصهيوني في مياه البحر الأحمر
وترسيخه، وتأمين مصالح إسرائيل، بما يضمن الاتصال والأمن للخطوط البحرية
العسكرية والمدنية الإسرائيلية بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، عن طريق
البحر الأحمر والطريق البرية من إيلات إلى حيفا وعسقلان؛ ولذلك جنّدت طرادات
حراسة سريعة ترافق السفن التجارية التي تحمل بضائع للعدو، مروراً بباب المندب
حتى المحيط الهندي، وأمّنت محطات تزويدها بالوقود في الجزر الإريترية: حالب، وفاطمة، وميناء عصب، وجزر دهلك، وبعض الجزر المغتصبة من اليمن مثل: ذكور، وحانش (حنيش) .
2 - إيجاد عمق استراتيجي ووجود عسكري مباشر يتيح رصد أي نشاط
عسكري عربي في المنطقة، بما يتيح لها إمكانات الهجوم المباشر على العرب في
باب المندب، ويشتت الجهد العربي العسكري على طول البحر الأحمر.
3 - استخدام التفوق الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي في المستقبل ضد
قوات إسرائيل وسفنها في البحر الأحمر، وبخاصة في حالة أي مواجهة عربية
إسرائيلية! .
4 - حماية حركة تجارة العدو الخارجية المتجهة إلى جنوب إفريقيا، وشرقها، وآسيا.
5 - تأمين ملاحة ناقلات النفط، وإنعاش كل موانئ ونقاط استقبال وتكرير
النفط وإعادة تصديره.
تدويل البحر الأحمر [7] :
إن للدول العظمى استراتيجيات ليس من اليسير الكشف عن مراميها على
الفور، ولكن يمكن رصد ذلك على مراحل متباعدة، وأهم هذه الاستراتيجيات في
الوقت الحالي: تدويل البحر الأحمر، فمن رأس الخليج شمالاً، وحتى باب المندب
أمام جيبوتي والصومال على مشارف المحيط الهندي، حيث تتسكع الأساطيل
البحرية لبعض الدول التي تسمى بالعظمى، في استعراض مكشوف، ينم عن
مأرب لا يخفى على الجميع.
لقد أعلن أباطرة أوروبا منذ ما يقرب من مئتي عام: أن «من يسيطر على
البحر الأحمر يسيطر على العالم» ، ومن بعد ذلك بمئة وخمسين عاماً، في أعقاب
الحرب العالمية الأولى سادت نظرية تقول: (لا يمكن السيطرة على أوروبا إلا من
جنوبها) ، وجنوب أوروبا هو البحر المتوسط الذي يربط بينها وبين إفريقيا، ثم
البحر الأحمر الذي يرى فيه أصحاب هذه النظرية مدخلاً للسيطرة على العالم،
والذي تمر به أربعة أخماس المواد الأولية من آسيا وإفريقيا إلى العالم الغربي،
وهنا تبرز أهمية باب المندب.
نبذة عن باب المندب:
وباب المندب يتكون من مضيقين: الأول: صغير، ويقع برمته في
الأراضي اليمنية، حيث يقع بين الساحل اليمني وجزيرة ميون اليمنية التي تشق
المضيق إلى مضيقين، ويبلغ عرض هذا المضيق الصغير حوالي (ميلاً بحريّاً
ونصف الميل) وطوله حوالي (ثلاثة أميال) ، وهذا المضيق الصغير الذي يقع
برمته في الأراضي اليمنية كما أسلفنا هو المفضل للملاحة الدولية؛ لخلوه من
الشّعَب المرجانية والمخاطر التي تحف بالملاحة في المضيق الكبير الذي يقع بين
جزيرة ميون والساحل الإفريقي.
والمضيق لم يخضع تاريخيّاً للملاحة الحرة الدولية؛ فقد كانت الملاحة في
مضيق باب المندب تحت إشراف الدولة التي تسيطر على المنطقة اليمنية، وباب
المندب بعد استقلال اليمن يقع تحت سيطرة اليمن، ويعتبر مياهاً إقليمية بحتة منذ
أن انسحبت بريطانيا.
واليمن لم ترفض الملاحة فيه لأي دولة، ولكن من حقها أن تغلقه إذا شاءت؛
لأن المضيق الصغير المفضل للملاحة الدولية يقع برمته في أراضي دولة واحدة،
لذلك: فإنه يعتبر جزءاً من إقليم الدولة، ولها عليه السيادة المطلقة كسيادتها على
إقليمها البري، كما يحق لها فرض الحصار البحري في حالة الحرب، وقد طبقت
قواعد الحصار البحري من قِبَل القوات المصرية عند محاصرة باب المندب خلال
حرب أكتوبر 1973م في وجه ملاحة العدو وغيرها من السفن القادمة والمتجهة من
الأراضي المحتلة وإليها.
هذا عن الساحل العربي، أما الساحل الإفريقي:
فهناك دولتان (إريتريا، وجيبوتي) تطلان على المضيق، وعلى الرغم من أن
الموقف يكاد يكون شبه مستقرٍّ على الساحل العربي، فإنه يزداد تدهوراً في القرن
الإفريقي، خاصة أن إريتريا أصبحت رهينة المصالح الغربية، وبالذات:
الصهيونية والأمريكية، ومن هنا فإن محصلة الصراع الدائر الآن للهيمنة على هذا
المجرى المائي ستؤثر تأثيراً مباشراً على أمن مياه البحر الأحمر، وبالتالي: على
استقرار الساحل العربي، وهذا ما يحمل في ثناياه تهديدات، قد تصل إلى الخليج
والمناطق المطلة عليه كافة.
إريتريا وحصان طروادة:
كان للدعم العربي المادي والمعنوي للقضية الإريترية أبعاده ومدلولاته
السياسية، ليس باعتبار أن إريتريا هي امتداد عربي إسلامي، أو أنها ثغر من
ثغور المسلمين لا بد من استرداده لأهميته الجغرافية والاستراتيجية في القارة
الإفريقية، ولكن حقيقة هذا الدعم تنطلق من مرتكزات أخرى غير هذه الحيثيات.
لذلك: لم ينقطع المدد العربي طوال سنوات حرب التحرير الإريترية عن
الفصائل الإريترية، بل إن اليمن كانت تشكل خطّاً خلفيّاً للثورة الإريترية، ترفدها
بالسلاح، وكانت عدن معقلاً للمقاومة الإريترية، ومخزناً للأسلحة، وقاعدة
للانطلاق، واستمر هذا الدعم إلى أن سيطر الشيوعيون بقيادة (مانجستو
هيلاماريام) على الحبشة، حيث انتقلت المقاومة إلى شمال اليمن، وهناك
تحصلت على الدعم الكثير بسبب العداوة من قبل دول الخليج للنظام الموالي لموسكو
في عدن آنذاك، وقدّمت اليمن تسهيلات كبيرة للمقاومة الإريترية، من أهمها:
إعطاؤهم جزيرة حنيش الكبرى كنقطة انطلاق، منها يتم شحن الأسلحة، وإدخال
المقاتلين الذين يتم تدريبهم في اليمن وبعض الدول العربية الأخرى، واستمر الدعم
العسكري من الدول العربية منذ عام 1986م. وهنا أمر يكرر نفسه: وهو أن هذا
الدعم العربي اتخذ في بعض الأحيان أشكالاً سلبية، من خلال محاولة ربط فصائل
إريترية معينة بمحاور عربية أو خلافها، وكانت بعض الدول العربية (مثل: اليمن
الجنوبي، وسورية) في مراحل معينة قد نفضت يدها من القضية الإريترية إرضاءً
للنظام الماركسي آنذاك في أديس أبابا، ثم إرضاءً لموسكو.
فهذا هو الواقع الأليم لهذه القضية المهمة التي لم يبذل الإسلاميون جهداً كبيراً
من أجلها مثلما عملت بعض الأنظمة العربية من متاجرة ومساومة لأخذ مكاسب
سياسية لإرضاء الشرق أو الغرب وياليت الإسلاميين تبنوا قضية الجهاد الإريتري
التي تمثله حركة الجهاد الإسلامي الإريتري مثل تبني غيرها من المنظمات
الإسلامية في كشمير والفلبين والبوسنة وغيرها، أسوة بما يعمله مجلس الكنائس
العالمي وأمريكا والعدو الصهيوني الذين قطعوا شوطاً كبيراً في دعم الأقلية المسيحية
الأرثوذكسية صاحبة النفوذ في الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا رغم أن 75% من
سكان إريتريا (البالغ عددهم حوالي أربعة ملايين نسمة) هم من المسلمين، فيما لا
يزيد عدد المسيحيين عن 20%، و 5% يتبعون ديانات أخرى، لذلك: فإن
الولايات المتحدة قد ركزت جهدها حينما بدأت تتدخل في القرن الإفريقي بقوة في
النصف الثاني من العقد التاسع من هذا القرن، وذلك بدعم الجبهة الشعبية التي
يتزعمها (أفورقي) التي لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من السكان المسيحيين الذين
لا يزيدون بمجموعهم عن 20% من عدد السكان، فيما أهملت كافة الجبهات
الأخرى، وأهمها: الجبهات التي تمثل المسلمين وإن كان فكرهم قوميّاً أو علمانيّاً
والذين تبلغ نسبتهم 75% من سكان البلاد.
وفي (أتلانتا) دعت الولايات المتحدة في عام 1979م لندوة، عقدت تحت
رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق «كارتر» للبحث عن حلول سلمية للنزاعات
الإقليمية في إفريقيا، حيث تم اختيار (أسياسي أفورقي) وحده لتمثيل إريتريا،
وفي هذا الوقت: ثم تكليف مساعد وزير الخارجية الأمريكية اليهودي «هيرمان
كوهين» برسم السياسة الأمريكية في إفريقيا عموماً، والقرن الإفريقي خصوصاً،
حيث قام المذكور بترسيخ دعائم «أفورقي» بدعوته في مطلع يونيو 1991م
لحضور مؤتمر لندن، الذي تم فيه الترتيب بين «أفورقي» و «ملس زيناوي»
زعيم المعارضة الإثيوبية في ذلك الوقت (الرئيس الإثيوبي حالياً) علماً أن هؤلاء
تربطهم صلة قرابة، فهم أبناء خالة، على أن يتم منح إريتريا حق تقرير المصير
بعد سقوط العاصمة (أسمرة) في أيدي الإريتريين وهذا ما تم بالفعل في 24 مايو
1991م وسقوط النظام الاشتراكي لمنجستو هيلامريام.
وفي الفترة من مايو 1991م وحتى إجراء الاستفتاء في 25 إبريل 1993م
كانت الدولة الصهيونية قد رتبت أوضاعها مع كل النظامين الجديدين في المنطقة
(نظام «ملس زيناوي» في إثيوبيا، ونظام «أسياسي أفورقي» في إريتريا) ،
وقد بدأت الصورة تتضح حينما ذهب «أفورقي» مرتين متتالتين إلى (إسرائيل)
بدعوى العلاج من الحمى الدماغية، الأولى كانت في يناير 1993م، والثانية في
مارس من العام نفسه، واتضح أن هاتين الزيارتين لم تكونا سوى تتميم للعلاقات
الحميمة التي بدأت مع العدو الصهيوني فور إعلان استقلال إريتريا وأنها شملت
اتفاقات عسكرية، وزراعية، وتدريبات مشتركة، ووجود صهيوني في جزيرة
(دهلك) الاستراتيجية، ومراكز تجسس كما في القاعدة التي توجد في منطقة
(دقمجرى) التي تبعد عن أسمرة (40) كيلو متراً، وكذا: المسح البحري في البحر
الأحمر من قِبَل خبراء عسكريين صهاينة، وعندما بدأ الاستنكار من قبل بعض
الأنظمة لما فعله «أفورقي» ، خرج المذكور على العالم في عدة تصريحات
صحفية مؤكداً أن إريتريا ليست عربية، وقال في حوار إلى مجلة (ميدل إيست) ،
نشرته في يوليو 1993م: «لقد أعلنا عن علاقتنا مع (إسرائيل) منذ وقت طويل،
ولم نكن في يوم من الأيام نتعامل في هذا الشأن بأي سرية، وإننا نهدف من هذه
العلاقات أن تساهم (إسرائيل) بالنفع على بلادنا» ، وقد أكد المفوض العام
الإريتري في فرنسا «دانيال يوهاس» في مقابلة أجراها مع مجلة (الوسط) في
فبراير 1993م «على أن الإريتريين ليسوا عرباً» .
أما الدعم الأمريكي الغربي الصهيوني: فقد وضحته الصحفية الفرنسية ... «ماري سوبيتل» في تقرير نشرته في صحيفة (اللوموند) الفرنسية في أبريل ... 1993 م، حينما قالت: «لقد نظر الغرب دائماً إلى إريتريا كحصن منيع أمام الزحف الإسلامي في القرن الإفريقي، ولذلك فهو يدعم» أفورقي «في إريتريا ... و» ملس زيناوي «في أديس أبابا معاً» .
وبعد: فهذا هو واقع الجهود الصهيونية في السيطرة على البحر الأحمر،
وجزره، ومضايقه.. وتعاون الدول المطلة على البحر نفسه (إثيوبيا والجبهة
الحاكمة في إريتريا) التي جعلت نفسها نائبة عن (إسرائيل) عندما عجزت عن
الزعم بأن لها حقوقاً في تلك الجزر والمضايق! ! يفضح العلاقات المشبوهة بينها.
__________
(1) البحر الأحمر والصراع العربي / الإسرائيلي، للدكتور عبد الله عبد المحسن السلطان، ص 187.
(2) المصدر السابق، ص 203.
(3) العدد 682 صحيفة (26 سبتمبر) اليمنية، 21/12/1995م.
(4) يراجع كتاب (البحر الأحمر ومضايقه بين الحق العربي والصراع العالمي) للدكتورة آجية يونان جرجس، الأستاذة في كلية الآداب جامعة المنوفية مصر، وقد فصلت فيه المخطط الصهيوني في هذه المنطقة، ووصفت فيه الجزر اليمنية بـ (المغتصبة) ، علماً بأن تاريخ إصدار الكتاب يعود إلى عام 1979م كما يراجع كتاب الدكتور عبد الله عبد المحسن المشار إليه سابقاً، ص 181وما بعدها.
(5) البحر الأحمر والصراع العربي الإسرائيلي، ص 181.
(6) المصدر السابق، ص 182.
(7) انظر: البحر الأحمر ومضايقه، ص80، والبحر الأحمر والصراع العربي/ الإسرائيلي.(106/78)
المسلمون والعالم
الإسلام والمسلمون في تنزانيا
(1 من2)
بقلم: سعيد عبيد الله
تنزانيا دولة اتحادية تتكون من جزئين: «تنجانيقا، وزنجبار» ، استقلت
تنجانيقا عام 1961م عن الاستعمار البريطاني، أما زنجبار فكانت سلطنة (محمية
بريطانية) ، وسلطانها «عبد الله خليفة» ، وكان بجانبه معتمد بريطاني بمثابة
الحاكم الرسمي، وكانت أصول الأسرة الحاكمة من عُمان، ولما توفي السلطان عبد
الله خلفه ابنه «جلمشيد» ، واستقلت السلطنة في 3/8/1383هـ الموافق 19/1/
1963م، ثم وقع انقلاب في زنجبار في 27/8/1383هـ، أزيح بموجبه السلطان، وأُعلنت الجمهورية بزعامة المدعو: «عبيد كرومي» ، وقتل في الانقلاب
(70000) مسلم، ووقّع الانقلابيون الوحدة مع تنجانيقا، فقامت دولة تنزانيا عام
1964م لأول مرة [1] .
القبائل في تنزانيا:
يوجد في تنزانيا أكثر من (130) قبيلة، لكن مع كثرة هذه القبائل: فإن
تنزانيا تتميز بعدم وجود العصبيات القبلية، كما أنه أيضا لا توجد قبيلة تشكل
الأكثرية في السكان، وتجدر الإشارة إلى أن بعض القبائل في عهد الاستعمار
حظيت بفرص التعليم أكثر من غيرها، وهذه القبائل هي:
1 - واتشاغا (في محافظة كليمانجارو) .
2 - واهايا (في محافظة بوكابا) .
3 - وانياكيوسا (في محافظة مبيبا) .
اللغات: إن اللغة السائدة في تنزانيا هي اللغة السواحيلية التي انتشرت في
جميع أطراف تنزانيا، وهي اللغة الأولى الرسمية للدولة، تليها اللغة الإنجليزية،
وهناك لهجات ولغات أخرى محلية من فصيلة البانتو.
الحكم: تنزانيا دولة علمانية، وعاشت لفترة طويلة تحت نظام الحزب الواحد، وهو الحزب الثوري الحاكم (س. س. أم ... ) ، وهي تعيش الآن منذ آخر عام
1991م تحت نظام تعدد الأحزاب السياسية، ودستور الدولة مع تصريحه بتعدد
الأحزاب إلا أنه ما زال ينص على علمانية الدولة، وعليه: فإنه يحظر أي حزب
ينتمي إلى الدين.
وتنزانيا مقسمة إلى (25) محافظة، خمس منها في زنجبار (تنزانيا البحر) ،
وعشرين في تنجانيقا (تنزانيا البر) ، وكل محافظة من هذه المحافظات لها والٍ يتم
اختياره من قبل رئيس الدولة، كما أن كل محافظة أيضا مقسمة إلى ولايات، وكل
ولاية لها والٍ يتم اختياره أيضاً من قِبَل رئيس الدولة.
دخول الإسلام إلى تنزانيا:
دخل الإسلام تنزانيا عن طريق التجار العرب، وكان دخوله قبل النصرانية
بمدة طويلة، وهو الدين الذي يشكل نسبة كبيرة من السكان، إذا قيس المسلمون
بالطوائف الدينية الأخرى، فأقدم الإحصاءات التي أجريت في عام 1958م تشير
إلى أن الدين الإسلامي يشكل نسبة 55% قياساً بالديانات الأخرى، أما الإحصاءات
التي أجريت في أعوام 1968م، 1987م، 1988م: فلم تتعرض للانتماءات
الدينية.
هذا ونشير إلى أن نسبة 55% (للمسلمين) التي أشارت إليها إحصاءات عام
1957م، يعتقد أنها غير سليمة؛ حيث إن كثيراً من المتابعين يرى أن النسبة
الحقيقية للمسلمين في تنزانيا هي ما بين 65% إلى 75%.
أوضاع المسلمين هناك:
1 - تعليميّاً: إن الحالة التعليمية للمسلمين في تنزانيا مع تشكيلهم النسبة العليا
من السكان سيئة جدّاً؛ حيث إنهم محارَبون في هذا المجال بجماعات التنصير التي
بدأت بناء وتعميم المدارس العصرية في تنزانيا، وكانت سياستها بالتعاون مع
الاستعمار قائمة على إتاحة فرص التعليم لأبناء النصارى فقط، اللهم إلا من كان
لديه الاستعداد لتنصير أبنائه؛ ليحصل على فرص أكثر للتعليم، وهذه السياسة هي
التي جعلت المسلمين يمتنعون من إرسال أولادهم إلى المدارس التنصيرية، كما
جعلتهم أيضاً يكرهون الاستعمار، ومن ثم: القيام بتأسيس الأحزاب السياسية
للمطالبة بالاستقلال، ولهذا: نجد الكثير من مؤسسي الأحزاب السياسية في عهد
الاستعمار من المسلمين (في حين أن معظم مؤسسي الأحزاب السياسية الآن بعد
وجود نظام تعدد الأحزاب السياسية عام 1992م من النصارى) ، ومن نتائج
المدارس التنصيرية: أن نجد اليوم بعض من كانوا مسلمين وهم الآن شخصيات
بارزة يحملون أسماء مثل: جون رمضان، جورج مبارك، جوسف محمد (وهم من
زعماء الأساقفة) ، موسيس ننائوي نائب الأمين العام للحزب الثوري الحاكم (وكان
اسمه: موسى علي ننائوي) .
واستمرت الحرب في حرمان المسلمين من فرص التعليم حتى بعد الاستقلال
الذي كان المسلمون أول من طالب به من أجل التعليم والحفاظ على عقيدتهم.
فبعد أن تولى «يوليوس نيريري» منصب رئيس الجمهورية وضع خطة
مدروسة لإضعاف قوة المسلمين وحرمانهم من التعليم، ذلك الجانب الحيوي المهم
في حياة الأمة، ففي فترة رئاسته التي دامت نحو ثلاثين عاماً لم يضع أي مسؤول
مسلم في وزارة التربية والتعليم وهي وزارة لها وزنها في أي دولة، بل لم يكن
المسؤولون فيها نصارى فقط، وإنما كانوا أيضاً من رجال الكنيسة، كما أن
المسؤولين في المجلس الوطني للامتحانات كانوا أيضاً من رجال الكنيسة.
وكان من نتيجة هذه الخطة الخبيثة: أن نجد النسبة العليا من الطلاب في
المدارس الابتدائية من المسلمين، حيث تصل نسبتهم إلى 80% لكن هذه النسبة
للأسف نجدها تقل كلما اتجهت إلى التعليم الثانوي، لتصل إلى10% في التعليم
العالي (المعاهد العليا والجامعات) .
ولم يتوقف «نيريري» عند ذلك، بل ألغى أيضا (جمعية مسلمي شرق
إفريقيا) التي كانت لها حركة إسلامية قوية في البلاد، خاصة في مجال التعليم،
حيث كانت تبني وتدير المدارس الابتدائية والثانوية العصرية الإسلامية، فقد ألغى
هذه الجمعية وأسس باكواتا (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في تنزانيا) ، وسلّم
جميع ممتلكات هذه الجمعية بما في ذلك المدارس إلى باكواتا، وهذه المدارس التي
بناها المسلمون بأموالهم من أجل أولادهم المحرومين من فرص التعليم يدرس فيها
الآن أولاد المسلمين وغير المسلمين للأسف الشديد، في حين أنه لم يكن يدرس فيها
تحت ملكية (جمعية مسلمي شرق إفريقيا) إلا أولاد المسلمين فقط.
ولقد حاول المسلمون في عهد «نيريري» افتتاح المدارس العصرية
الإسلامية، إلا أنهم كانوا كلما وصلوا وزارة التعليم وجدوا العراقيل، في حين أن
الكنيسة كانت يوماً بعد يوم تفتتح المدارس التي لا يدرس فيها إلا أولاد النصارى.
ولم يتمكن المسلمون من افتتاح المدارس العصرية الإسلامية المسجلة رسميّاً
إلا بعد استقالة «يوليس نيريري» ، وتولي منصب رئيس الجمهورية «علي
حسن مويني» ، وكان أول تغيير أجراه هو إسناد منصب وزير التعليم لأول مرة
إلى مسلم، هو الأستاذ الدكتور «كيغوما علي ماليما» ، فلقد اكتشف هذا الوزير
المسلم خطة الكنيسة في حرمان المسلمين من فرص التعليم، وقام بعمل تعديلات في
الوزارة، كان من نتائجها:
1 - حصول انتعاش في ارتفاع نسبة الطلبة المسلمين في المراحل التعليمية
المختلفة.
2 - افتتاح المسلمين قليلاً من المدارس الابتدائية والثانوية العصرية ... الإسلامية.
ولكن لم تسكت الكنيسة عن هذه التحولات، بل كتبت عدة مذكرات سرية إلى
الرئيس «علي حسن مويني» وضغطت عليه كثيراً؛ مما اضطر الرئيس أخيرا
إلى نقل ذلك الوزير المسلم من وزارة التعليم إلى وزارة المالية، لكن مع ذلك جعل
الرئيسُ الأمينَ العام لوزارة التعليم مسلماً، وهو السيد «كينيا حسن» ، كما جعل
أيضا الأمين العام في وزارة التعليم العالي والعلوم والتكنولوجيا وهي وزارة جديدة
الدكتور «محمد بلال» .
ومع هذا كله: فإن الأمر ما زال صعباً على المسلمين في هذا المجال؛ فلقد
أعلنت الحكومة إلغاء التعليم المجاني الذي أعلنته منذ أكثر من عشرين عاماً،
وقررت من جديد أن يساهم أولياء الأمور بتكاليف التعليم، وعليه: أعادت الرسوم
الدراسية التي هي عالية جدّاً في التعليم الثانوي والتعليم العالي، الأمر الذي يعجز
عنه الكثير من أولياء الأمور المسلمين؛ نتيجة ضعف المستوى الاقتصادي ... للمسلمين.
وأما من ناحية التعليم الديني في تنزانيا: فهو أيضاً دون المستوى المطلوب،
فمع وجود النسبة العليا من المسلمين فإن هناك ثلاث مدارس فقط على مستوى
الإعدادية، فلا يوجد معهد ثانوي ولا جامعة، ولكن توجد في تنزانيا بعض
المدارس القرآنية، إلا أن هذه المدارس ليس لها منهج دراسي معتمد، كما أن
مستوياتها غير محددة، ومنهج التدريس والتربية فيها ما زال تقليديّاً قديماً وصوفيّاً.
أما المدارس القرآنية المعروفة بـ (الكتاتيب، أو الخلوات) فهي كثيرة جدّاً،
غير أن معظمها عبارة عن غرف ملصقة ببيوت أشخاص، وليست مدارس مستقلة، فبيئتها غير تعليمية، كما أن أكثر المعلمين، فيها تقليديين، والتدريس فيها متأخر
جدّاً.
2 - اقتصاديّاً: إن المستوى الاقتصادي للمسلمين في تنزانيا ضعيف، وهذا
الضعف يأتي بسبب اعتماد اقتصاد تنزانيا أساساً على الزراعة، التي يزاولها أكثر
المسلمين في المناطق الساحلية، ويمكن أن يتحسن الوضع الاقتصادي من خلال
تطوير الزراعة من حيث نوعية المحاصيل والأساليب الرزاعية، ولكن الحكومة لا
ترغب في ذلك.
والمجال الوحيد الذي يمكن القول بأن للمسلمين قوة نسبية فيه هو التجارة،
لكن مع هذا: فإن معظم البارزين في هذا المجال هم الإخوة من العرب والهنود،
وكما يلاحظ: فإن نسبتهم قليلة في عدد السكان، أما الأصليون (الأفارقة) فليس لهم
ذكر في مجال التجارة.
ومن الملاحظ: أن كبار التجار هم من الهنود الرافضة الاثني عشرية.
3 - سياسيّاً: بعد أن تولى «جوليوس نيريري» رئاسة الجمهورية ألغى
نظام تعدد الأحزاب السياسية، ثم بدأ بإبعاد الشخصيات الإسلامية الملتزمة عن
حزبه الحاكم، كما قام أيضاً بحرمان المسلمين من المناصب السياسية، فلم يكن في
فترة رئاسته إلا القليل من المسلمين، ومعظمهم كانوا من الذين خلعوا شخصياتهم
وانتماءاتهم الإسلامية، وكان معظم أركان الدولة من النصارى.
وبعد أن رشح لرئاسة الجمهورية السيد «علي حسن مويني» فإن الكنيسة لم
تسكت على ترشيحه ليرأس الجمهورية، غير أن «نيريري» أصر على موقفه.
ومنذ بداية فترة رئاسة السيد «علي حسن مويني» فإنه إلى يومنا هذا يحاول
أن يوجِد التوازن في المناصب السياسية بين المسلمين والنصارى، لكن الكنيسة
تبذل قصارى جهدها في الضغط على الرئيس للتراجع عن هذه السياسة، فعندما بدأ
الرئيس «علي حسن» بضم الوجوه الإسلامية والتي لم تكن تبلغ نصف المجلس
إلى مجلس الوزراء أقامت الكنيسة الدنيا وأقعدتها، ونشرت عبر الصحف
والمجلات المحلية والأجنبية أن الرئيس «علي حسن» يريد أن يجعل تنزانيا دولة
إسلامية، كما أن الكنيسة أثارت ضجة أيضاً عندما ولى الرئيس «علي حسن
مويني» وزارة التربية والتعليم لمسلم هو الدكتور «كيجوما على ماليما»
وضغطت عليه حتى نُقل كما مر سابقاً إلى وزارة المالية.
4 - الخدمات الصحية: إن الخدمات الصحية في تنزانيا هي من أسوء
الخدمات الاجتماعية، فالشعب التنزاني عموماً والمسلمون خصوصاً يعانون الكثير
من الأمراض، وأحد أسباب هذا الأمر هو ضعف الخدمات الصحية، والحكومة
التنزانية عجزت عن توفير الخدمات الصحية الجيدة لشعبها.
إن نسبة كبيرة من السكان في تنزانيا يعيشون في القرى، حيث لا توجد فيها
المستشفيات أو المراكز الصحية أو المستوصفات، والجهة الوحيدة التي يمكن القول
بأنها حاولت إلى حدٍّ ما الاقتراب من توصيل الخدمات الصحية إلى المناطق القروية
هي الكنيسة، التي تملك الكثير من المستشفيات والمراكز الصحية والمستوصفات
في القرى، لكن يلاحظ أن هذه الخدمات موجودة في المحافظات والمناطق التي فيها
أغلبية السكان من النصارى، وتقل فيها نسبة المسلمين.
أما الخدمات الصحية في المدن: فمع وجود المستشفى العام في كل محافظة
من محافظات تنزانيا، ومع وجود مستشفى في كل ولاية من ولايات المحافظات،
إلا أن المشكلة في هذه المستشفيات الحكومية هي عدم توفر الأدوية والأجهزة الطبية، ويمكن القول: إن عمل الأطباء في هذه المستشفيات الحكومية هو مجرد فحص
المريض وكتابة وصفة، أما الأدوية: فالمريض يقوم بنفسه بالبحث عنها في
الصيدليات الخاصة، والأدوية في الصيدليات الخاصة غالية جدّاً.
هذا: وهناك مستشفيات خاصة على مستوى المستشفيات الحكومية، تملكها
الشركات والمؤسسات الدينية التي معظمها كنسية وهندوسية، غير أن الخدمات فيها، وإن كانت جيدة إلى حد كبير، إلا أنها تعتبر من مراكز تنصير المسلمين.
وللحديث بقية،،،
__________
(1) التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، ج 16 ص 165، وما بعدها، بتصرف.(106/88)
نص شعري
القنبلة الإيمانية
شعر: فيصل بن محمد الحجي
إلى المجاهدين الأبطال في فلسطين الذين يُفجِّرون أنفسَهم في تجمعاتِ اليهود
فيَقتلون ويُقتلون ... ! [*]
فجّر عيونَكَ إن رآك طغاة ... لا تُغمضَنّ لهم كأنك شاةُ
وانْحَرْ بنحرِكَ كلّ سيفٍ.. إنما ... تلقى السيوفَ على لهاك [1] وفاةُ
واثقب بجبهتِك الرصاصَ.. كأنه ... خَرَزٌ يُصاغ لزينة وبُرَاةُ
أطْلِقْ دماءَك كالرصاص على العدا ... إيّاك أن تتوقّفَ الطلَقَاتُ
مُتْ.. مُتْ.. ولا تقنعْ بألفَي ميتةٍ ... فالموت من أجل الحياة حياةُ
ليست حياةً أن تعيشَ منعّماً ... في ظلِّ طاغيةٍ له السّجَداتُ
ليست صلاةً أن تقومَ لخالقٍ ... وتعيشَ في القلب المريض (اللاتُ)
قدماك ما خُلِقَتْ لمشيٍ.. إنما ... خُلقَتْ لِتُسْحقَ تحتها الشهواتُ
دُسْها.. تَقَدّم.. وانطحِ الخطرَ الذي ... يخشى ثباتَكَ ... فالحياة ثباتُ
في (ذرة) الإيمان معجزةٌ لها ... تعنو (النّواةُ) وتخنسُ (الذراتُ)
بُشراك.. ليست جنةً تسعى لها ... بشهادةٍ.. بل إنها جنّاتُ
يا أيّها العملاقُ في الزمن الذي ... فيه طغى الأقزام والقَزَمَاتُ
يا موكبَ العزِّ الذي لولاه ما ... برقَتْ بليل قنوطِنا البسَمَاتُ
نَتْنُ الخيانةِ قد أحال ديارَنا ... مستنقعاً تنمو به الآفاتُ
بالنتن أُزكِمَتِ الأنوفُ.. فجُدْ لنا ... يا عِطْرُ ... وَلْتَعْصفْ بنا النّفَحَاتُ
لمّا جنودُ الشيخ ياسين انبروا ... عُقِدَتْ بشرم الشيخ مؤتمراتُ
ما بالهم..! كي لا يبينَ هلالُنا ... تتدفّقُ الصلبانُ والنجماتُ
كلّ يصون ضلالَهُ ... فإلى متى ... من قومنا تتسارع الخُطُواتُ؟
لغة العدالة طَلْسمٌ في عصرنا ... قد أنكرتْها ألسنٌ ولُغَاتُ
لغة الجهادِ إذا نَطَقْتَ حروفها ... فَهِمَ الجميعُ.. وذلّت الهاماتُ
فاسْلُكْ سبيلَ الصاعدين إلى العُلا ... ولهم بإحدى الحسنيَيْن نجاةُ
عيّاش يحيا في طليعة زحفهم ... ودماؤه لجنوده راياتُ
ويُطِلُّ (دوداييفُ) بدرَ شهادةٍ ... فيها لأجيال الهدى دَعَواتُ
يتجلجَلُ الإقدامُ في أنفاسِهِ ... وبناظريهِ تصهلُ العَزَمَاتُ
يا أيها الباكي من استبسالهم ... ستزيد بعد سلامك العَبَراتُ
الواهمون.. سبى اليهودُ عقولَهم ... فتضاءلتْ بسرابها الرغباتُ
كمن ارتضى بتحيةٍ من زوجه ... في حضن غاصبها ... وسلماً باتوا
قد أُلبسوا حُللَ السلام لأنهم ... عرفوا بأن الخائنين عُراةُ
هُنّا فهان على البغاث قتالُنا ... حتى غزانا الصربُ والكِرواتُ
حَمّلْتُ شع'ري فوق طاقته إلى ... أن خِفْتُ أن (تتكسّرَ) الأبياتُ
ولد تمرّد يافعاً.. ونما على ... موج الجراح ومن دمي يقتاتُ
أَلِفَ المرارةَ.. فاستحال مذاقُها ... عسلاً.. به تتكامل اللذّاتُ
وحروفه انتصَبَتْ تصيحُ تحدِّياً: ... هاتوا لنا من كل همٍّ.. هاتوا
وعقيدة التوحيد صَحّحتِ الرؤى ... فانظر لما جاءت به الآياتُ:
عاش الذين إلى القبور تسابقوا ... والساكنون قصورهم قد ماتوا
__________
(1) اللها: جمع اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم، وهي هنا كناية عن الحلق نفسه.
(*) ننشر انطباعات وأحاسيس الشاعر، بغض النظر عن الخلاف الفقهي الحاصل حول حكم من يفجرون أنفسهم لمجاهدة العدو، والذي كان محل الحوار بين بعض العلماء على صفحات بعض المجلات الإسلامية مؤخراً.(106/96)
قراءة في كتاب
الخروج إلى اتفاق
فوائد من كتاب (فن التفاوض)
عرض:نجوى الدمياطي
يشيع الاعتقاد بأن التفاوض وأساليبه من مهمات «الدبلوماسيين» ... و «السياسيين» لا غير.. ورغم أهمية هذه الإمكانات والأدوات التفاوضية لهؤلاء إلا أن كلاّ منا لا يخلو من التعرض لمواقف من هذا القبيل يستخدم فيها مهاراته
التفاوضية المكتسبة من معارفه وخبراته أيّاً كانت للخروج إلى اتفاقٍ ما، قد يكون
لهدفٍ مادي أو لهدف قِيَمي، فقد يكون التفاوض لعقد صفقة صغيرة أو كبيرة، أو
لإصلاح ذات بين المسلمين؛ من إصلاح بين أخوين، أو محاولة رأب صدع أسرة
على وشك الانهيار، أو للتآلف والتنسيق بين جناحين أو أكثر للعمل الدعوي أو
الخيري.
وفي كل هذه المواقف وغيرها نشعر بحاجتنا إلى قواعد وأسس تنظم معارفنا
وخبراتنا الحياتية؛ للخروج إلى اتفاق يحقق أقرب المتاح وأقصى ما يمكن من
المصلحة الشرعية.
ولعلنا نلاحظ أن هناك أسلوباً تفاوضيّاً رفيعاً في سيرة المصطفى وصحابته،
كما يتجلى ذلك في مفاوضات صلح الحديبية مع مشركي مكة، والاتفاق مع يهود
المدينة عند القدوم إليها، وعند غزوة الخندق، ومن قبل: في عرضه نفسه على
القبائل وما أثمر ذلك من اتفاق، كبيعة العقبة.. وكمفاوضة عمر بن الخطاب
(رضى الله عنه) لعياش بن أبي ربيعة في خبر الهجرة ... إلى غير ذلك من مواقف
كثيرة تسترعي انتباه المتابع، وتدعو أهل الهمة إلى تتبعها، واستخلاص العِبَر منها، ونظمها في قواعد وأسس واضحة.
ومنذ غياب ريادة المسلمين رأينا أن الغرب أخذ بناصية هذا الفن، فأصّل له
أصولاً، وقعّد له قواعد، ثم أصبحت هذه القواعد سلوكاً منظماً لدى من يعنيهم أمر
الاهتمام بهذا الفن، فرأينا كيف يخرجون في مفاوضاتهم بمعظم ما يريدون إن لم
يزيدوا عليه، مقابل الآخرين المهزومين عن دينهم وحضارتهم الذين يخرجون في
ذلة ومهانة صفر اليدين.
ومن منطلق أن (الحكمة ضالة المؤمن) فقد يكون من المفيد عرض بعض
الخلاصات من هذا الكتاب الذي هو بعنوان: (فن التفاوض) للكاتب: «ويليام
أوري» ، ترجمة: د. «نيفين غراب» .
وهو محاولة للتعريف بالعوامل النفسية والاجتماعية التي تساعدنا على إقناع
الآخرين، وتجيبنا: كيف يمكن تحويل مواجهة الآخرين لنا إلى تعاون معنا؟ ،
وكيف نستطيع تغيير مواقفهم من الصراع ... إلى السعي لإيجاد الحلول والوصول
إلى التوافق ما أمكن؟ ..
ونعرض لأهم فوائد هذا الكتاب فيما يلي:
عوائق التفاوض والاتفاق:
يمكن إجمال هذه العوائق فيما يلي:
1 - رد فعلنا: فالعائق الأول ينبع من داخلنا ويظهر في ردود الفعل التي
نأتيها أثناء التفاوض.
2 - مشاعر الآخرين: كالعداوة، والخوف، وعدم الثقة فيمن يفاوضون.
3 - موقف الآخرين: حيث لا يرى بعضهم التفاوض إلا لوناً من الاستسلام
للآخر، ومن ثم: لا يقبلونه أبداً.
4 - عدم رضا الآخرين: فقد يرفض بعضهم حلولاً مناسبة لمجرد أنها تأتيهم
من جهة لا يرضونها.
5 - قوة الآخرين: فقد يغتر الآخرون بقوتهم، فلا يرون سبباً يدعوهم
للتفاوض.
سياسة الاختراق:
يمكن اجتياز عوائق التفاوض والاتفاق عبر سياسة الاختراق كما يلي:
1 -لا تنفعل.. اذهب إلى الشرفة:
أي: لا تجعل الانفعال والغضب يستبد بك، وإذا شعرت بشيء من ذلك،
ففرغ انفعالك بالتحول إلى حالة أخرى، فالسيطرة على ردود فعلنا تجاه الآخر تدعو
إلى التفكير في مصالحنا من الاتفاق، والتركيز في الحصول على ما نريد.
وإيضاح ذلك: أن قوة الآخرين الحقيقية تنبع من خلال قدرتهم على إثارة
انفعالنا.. ولذلك فإن الخطوة الأولى في إنجاح التفاوض هي أن نملك القدرة الدائمة
على الخروج من دائرة الفعل ورد الفعل، وذلك بالامتناع عن الانفعال..
ففي مواجهة هجوم الآخرين يلزم ما يلي:
لا ترد الهجوم.. واعلم أن رد الهجوم لا يخدم مصالحك بل يسيء إلى
علاقاتك، فإنك إذا انتصرت في بداية التفاوض، فإن النتيجة النهائية للتفاوض هي
الفشل.
لا تستسلم: ذلك أن الإذعان والرضوخ الدائم للإنسان الغاضب يشجعه على
تكرار هذه المواقف في المستقبل.
لا تقطع علاقتك بالآخر: فقطع العلاقات تصرف متسرع، وكثيراً ما نندم
عليه، لأن ثمنه يكون باهظاً.
ولكي تختار بين الانفعال وعدمه:
افصل بين العاطفة والعقل.. فإذا واجهت موقفاً تفاوضيّاً صعباً، فلا تتسرع
في أخذ قرار، وحاول أن تُطل من علٍ على ساحة التفاوض لتقويم ما يحدث بهدوء.
اعرف نقاط ضعفك.. فمعرفتك «أزرارك الساخنة» يمكنك من السيطرة
عليها إذا ضغط عليها الآخر.
توقف ولا تقل شيئاً.. فالصمت يعطيك وقتاً للتفكير، وإلا فيمكنك الحصول
على هذا الوقت من خلال إعادة ما قاله الآخر مع طلبك منه أن يصحح لك أي خطأ.
2 - لا تجادل.. اخطُ إلى جانبهم:
لكي نتغلب على مخاوف الآخرين وشكوكهم، لا بد أن نحرص على الإصغاء
إليهم، وتفهم ما يريدون، والثناء على قدراتهم، والاتفاق معهم كلما كان ذلك ممكناً.
وذلك حينما يشعر الطرف الآخر بعدم الثقة فيمن يفاوضه، وحين يغضب،
أو يثور.. ولكي نعيد إليه توازنه النفسي والعقلي لا بد أن نقف إلى جانبه عبر:
الإصغاء إلى ما يقول.. وهذا يتطلب الصبر والسيطرة على النفس وعدم
مقاطعته وإن أخطأ.. وسؤاله بعد كل فقرة من الحوار إن كان لديه شيء يضيفه،
ثم تلخيص كلامه مع طلب التصحيح منه.
الاعتراف بصحة منطقه.. وهذا لا يعني بالضرورة الاتفاق معه فيما يقول،
وإنما يعني قبول رأيه كأحد وجهات النظر القابلة للدراسة، وتقدير خلفيات هذا
الرأي.
الاتفاق معه قدر الإمكان.. وذلك بالموافقة على النقاط التي توافق عليها
بالفعل، والبحث عن الفرص التي نستطيع فيها أن نقول للآخر «نعم» ، مع
إعطائه التقدير اللازم والتعبير عن رأينا دون استفزاز، والتأكيد الدائم على أن
تمسكنا برأينا لا يعني إلغاء الرأي الآخر.
3 - لا ترفض.. أعد الصياغة:
الرفض لا يؤدي إلا إلى تشدد الآخر، ومن ثم: وجب علينا النظر فيما يقوله
الآخرون، ثم إعادة صياغته من خلال بعض الأسئلة التي قد تؤدي إلى حل المشكلة، وذلك أن نقطة التحول في الاختراق التفاوضي تكمن في النجاح في توجيه الآخر
بعيداً عن موقفه الأصلي، وفي اتجاه تحديد المصالح، والوصول من خلال كلامه
إلى حلول عادلة.
ويمكن النجاح في ذلك من خلال:
طرح أسئلة تساعد في حل المشكلة.. مثل أن نسأل الآخر: لماذا تريد ذلك؟ ، لماذا تعتبر غيره حلاً غير مقبول؟ .. لماذا لا توافق على حل آخر مثل ( ... ) ؟ ماذا لو فكرنا معاً في صياغة جديدة للحل؟ .
طلب النصيحة من الطرف الآخر.. مثل أن نسأله: ماذا تفعل لو كنت
مكاني؟ ماذا تقترح عليّ من حلول أخرى؟ .. إلى غير ذلك من الأسئلة المفتوحة،
والتي تبدأ بـ كيف؟ .. لماذا؟ .. لماذا لا؟ ... ماذا؟ .. مع تجنب الأسئلة التي
تبدأ بـ هل؟ ... أليس؟ ... هل من الممكن؟ ... وغيرها من الأسئلة التي تتيح
للآخر فرصة الإجابة بـ (لا) .
استخدام قوة الصمت.. فالصمت بعد السؤال يتيح للآخر فرصة التصارع
الفكري معه والوصول إلى الإجابة، ولذلك: فإن من واجبنا بعد كل سؤال منا
للآخر أن نقاوم إغراء الكلام.. ثم نحاول في السؤال نفسه من زاوية أخرى.
4 - لا تضغط.. ابنِ لهم جسراً ذهبيّاً:
والمقصود هنا: تهيئة وتزيين تراجع الآخر وعبوره إلى مصالحنا ووجهة
نظرنا من خلال عرضٍ برّاق له، وذلك من خلال إشراكه في الوصول إلى الحلول، وتسهيل عبوره للهوة بين مصالحه ومصالحنا، مع حفظ ماء وجهه، وإظهار ما
توصلنا إليه من اتفاق كما لو كان نصراً له علينا.
فقد يرفض الطرف الآخر فكرتنا لأنه يحس أنها ليست فكرته.. أو يرى أننا
أغفلنا بعض مصالحه.. أولخوفه من الإحراج أمام أتباعه إذا قبلها.. أو لشعوره
بالحيرة أمامها.
ولكي تساعد الآخر على تخطي هذه المعوقات:
أشركه في الحل.. من خلال جعل أفكاره أساساً للحل المقترح، وطلب
الرأي منه فيما نقترحه، وإتاحة الفرصة له للاختيار بين بدائل نطرحها عليه.
تعرف على اهتماماته.. وحاول تحقيق مصالحه، واسأل نفسك: هل كنت
أقبل هذا العرض لو كنت في موقفه؟ .. ولماذا لا؟ .. ثم حاول إجراء بعض
المبادلات معه تكون قليلة التكلفة كثيرة الفائدة.
حافظ على ماء وجهه.. فإذا تراجع الآخر عن موقفه، فاحرص على أن تجد
له الطريقة المناسبة التي يستطيع بها تقديم الاتفاق لاتباعه كما لو كان نصراً لهم.
لا تتعجل إتمام الاتفاق.. فإذا تحير الآخر فيما تعرضه، فأوضح له ما تريد
خطوة خطوة، ولا تطلب منه القبول حتى نهاية الاتفاق.
5 - لا تصعِّد الموقف.. استخدم قوتك للتعليم:
وذلك من خلال توضيح واقع التفاوض، ومحاولة تعريف الآخر ثمن عدم
الاتفاق، واستعراض أفضل بدائلنا عند فشل التفاوض، والتأكيد على أن هدفنا ليس
هزيمة الآخر، وإنما تحقيق مصالح الطرفين.
فقد يغتر الآخرون بقوتهم، فيرفضون محاولاتك للتفاوض، فلا تُصعد الموقف
بالتهديد، وإنما استخدم قوتك لتعلمهم أن السبيل الوحيد لانتصارهم هو أن تنتصروا
معاً.. وأن تفاوضك معهم من أجل الوصول إلى أفضل الطرق لخدمة مصالح
الطرفين، ويمكنك ذلك عبر ما يلي:
أسئلة اختبار الواقع.. والتي يمكن للآخرين من خلالها التفكير في نتائج عدم
الاتفاق، مثل: ماذا تعتقد سيحدث إذا لم نصل إلى اتفاق؟ .. ماذا ستفعل أنت؟ ..
وماذا سأفعل أنا؟ .. ولكن مع مراعاة عدم التهديد؛ لأن التهديد يستفز الآخرين
ويدفعهم للرفض بشدة.
تحديد طريق الحل بوضوح.. وبيان الفرق بين نتائج عدم الاتفاق وقبول
عبور الهوة بين مصالحكما فوق جسرك الذهبي.. مع إشعارهم دائماً بأنه ما زال
أمامهم مخرج.. ثم التراجع من ناحيتك وتركهم للاختيار الحر.
توطيد العلاقة مع الآخر.. والتصرف بلباقة وكرم، ومقاومة الإغراء
الغريزي في التباهي بالانتصار على الآخر.
وبكلمة موجزة:
إن عقد عقدةٍ ما يحتاج إلى طرفين، بينما حل موقف معقد لا يحتاج إلا
لطرف واحد قادر على التغلب على عوائق التفاوض والاتفاق، مثل: ردود فعله،
ومشاعر الآخرين العدوانية، وشكوكهم، وعدم رضاهم، وغرورهم بقوتهم.. وذلك
من خلال استخدام سياسة التفاوض الاختراقية وإتقان (فن التفاوض) .(106/98)
في دائرة الضوء
ثقافة آكلي لحوم البشر
بقلم: د. محمد يحيى
صدر منذ أشهر قليلة عن إحدى دور النشر الأمريكية وهي: (ويست فيو)
بمدينة (بولدر) بولاية كولورادو كتاب مهم لباحثة أمريكية اسمها (ديبورا روت) ، ... وعنوان الكتاب: (ثقافة آكلي لحوم البشر: الفن، والاستهلاك، وإضفاء ...
الطابع السلعي على الفروق) ، وعلى الرغم من غرابة هذا العنوان وصعوبته إلا أن
الكتاب نفسه يحتوي على أطاريح مهمة للغاية تكشف العديد من الأساليب الفكرية
التي تتبعها الثقافة الغربية في تعاملها مع الثقافات الأخرى، بل وفي تعاملاتها
الداخلية في نطاق الحضارة الغربية ذاتها.
وعندما تَصِفُ الكاتبة الثقافة الغربية بأنها ثقافة آكلي لحوم البشر فإنها تعني
بذلك: أنها تقوم على العنف الشديد، والرغبة الجامحة في الاستحواذ والسيطرة بأي
ثمن، وعلى حساب كل شيء، ويتجلى الاتجاه للاستحواذ والتملك والسيطرة في
النزعة الاستهلاكية العارمة التي تتسم بها الحضارة الغربية، ولا تتحدث الكاتبة عن
الاستهلاك بمعناه الدارج والمألوف من الأكل والشرب واللبس والتمتع بالترف
والكماليات، وإنما تقدم لنا تصوراً دقيقاً وجديداً لهذه الكلمة حينما تذكر استهلاك
الثقافات والفنون الأخرى من جانب الثقافة الغربية.
ونتوقف قليلاً عند هذه الفكرة المهمة:
إن الثقافة الغربية لا تستهلك الثقافات والفنون الأخرى بمعنى أنها تأكلها طبعاً، ولا تستهلكها بمعنى أنها تدمرها تماماً وإن كان التدمير يحدث بدرجات متعددة،
الاستهلاك المقصود هنا هو: أن الثقافة الغربية تتعامل مع ثقافات وفنون الشعوب
الأخرى بطريقة معينة تجعلها لا تعترف بها، ولا تقبلها، ولا تسمح لها بالوجود
المستقل إلى جوارها، وتبدأ طريقة التعامل هذه بوضع الثقافات والفنون الأخرى في
نطاق تعريفات وتصنيفات وخانات، تختزلها، وتبسطها، وتسهل بالتالي: النظر
إليها والتصرف إزاءها.
وهذه التصنيفات دائماً ما تضع الفنون والثقافات غير الغربية في موضع متدنٍّ
بجانب الثقافة الغربية، فهي الثقافات البربرية كما كان اليونانيون القدامى ينظرون
إليها، أو هي ثقافات الشعوب المتوحشة، أو الشعوب الأصلية، أو غير
المتحضرين، أو الثقافات الغريبة والبعيدة والساحرة، ومع وضع الثقافات والفنون
الأخرى في هذه المراتب المتدنية وداخل أطر وتعريفات تتسم بالتبسيط المخل
والتسطيح الشديد، تنتقل الثقافة الغربية إلى مرحلة أخرى أو أسلوب آخر من
أساليب التعامل معها.
وفي هذه المرحلة الجديدة من مراحل استهلاك الثقافات والفنون الأخرى وهي
مرحلة الاستهلاك والاستحواذ تُنتقى عناصر معينة من هذه الثقافات والفنون، بحيث
تكون مما لا يهدد الثقافة الغربية، ولا يشكل تحدِّياً لها، وهي في الغالب العناصر
المتعلقة ببعض الآثار القديمة والملابس والفنون الشعبية (الفولكلورية) أو العادات
الاجتماعية، وبعد انتقاء هذه العناصر تقدم للغربيين في إطار سلع أو أشياء غريبة، يمكن لهم تذوقها أو امتلاكها أو التعرف عليها دونما تهديد لثقافتهم، بل على
العكس: فإن هذا الاستهلاك لتلك السلع يغني الثقافة الغربية ذاتها، ويضفي عليها
مظهراً خارجيّاً بأنها منفتحة على الثقافات والفنون الأخرى، بينما هي في الواقع
ليست منفتحة على الإطلاق، بل مستحوذة على هذه الثقافات بعد عملية طويلة من
التشويه والاختصار والتحويل من مظاهر إنسانية حية إلى سلع وأشياء للاستهلاك
المأمون.
وتشير الكاتبة في هذا الصدد إلى صناعة السياحة في الغرب: حيث تكثر
الإعلانات والصور التي تقدم حياة بعض الشعوب غير الغربية في أشكال نمطية
وتقليدية مكررة، تبدو متخلفة للغاية عن مستوى حياة الغربيين، كما تبدو بعيدة
وغريبة إلى حد لا يمكن الاعتراف به، بل فقط استهلاك واستحواذ ما يصلح منه
بعد تنقيته وهندمته.
إن هذا العرض لجانب مما ورد في هذا الكتاب المهم قد احتوى على أفكار
ضمنها كاتب هذه المقالة للتوضيح والشرح، لكن الخلاصة هي أننا أمام تحليل
الأساليب الثقافية الغربية في التعامل مع الثقافات الأخرى، لا نخرج كثيراً عن
التحليلات التي يقدمها الكتاب والمثقفون والدارسون الإسلاميون لهذه الثقافة الغربية،
وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب وأمثاله؛ فإذا كان الكتاب المسلمون معرضون لاتهام
(زائف) بأنهم قد لا يفهمون الثقافة الغربية الفهم الصحيح، أو أنهم غير قادرين على
التعمق فيها، أو أنهم يتحاملون عليها بدافع عقدي ... فإن هذا الاتهام لا يمكن ولا
يستقيم أن يوجه إلى البحاثة الغربيين، وهم على أي حال أدرى بشعاب حضارتهم،
والحق: أن ما تشير إليه هذه الكاتبة من أساليب تتعامل بها الثقافة الغربية مع
الثقافات الأخرى: سبق أن لفت النظر إليها العديد من الكتاب والباحثين المسلمين
في معرض تحليلهم لمفاهيم الحوار والآخر التي فرضت على ساحة الجدل
والمؤتمرات في بعض البلدان العربية في الفترة الأخيرة.
لقد ذهب بعض مثقفي الاتجاهات غير الدينية وأيضاً بعض من يفترض أنهم
مسلمون، بل حتى أرباب مناصب دينية إلى أن المسلمين، بل وحتى الإسلام ذاته، يعانون من مرض حب السيطرة ورفض الاعتراف بالآخر والحوار معه، ووصل
الأمر إلى حد أن مؤتمراً عقد خلال شهر يوليو (1996م) في القاهرة سمعت فيه
اتهامات موجهة للمسلمين (من مسلمين آخرين، أو يحملون أسماء إسلامية) بأنهم
غير متسامحين تجاه أصحاب الأديان الأخرى، وأنهم متعالون متغطرسون.
ولم تجد هذه الاتهامات من يفندها أو يرد عليها من بين المشاركين الآخرين
في ذلك التجمع الذي نظمه مجلس أعلى للشؤون الإسلامية، وحضره رؤساء دينيون
عديدون.
لكن هذه الباحثة الأمريكية (وليست هي الوحيدة) تكشف الآن: عمن هو في
الحقيقة متعال ورافض للحوار من منطلق عنصري تصفه بأنه أشبه بنزعات آكلي
لحوم البشر. والثقافة الغربية كما تثبت الكاتبة لا تعترف بالآخر، أي: بالثقافات
والفنون الأخرى، ولا تتحاور معها، بل تخضعها وتستعمرها.
وحتى ما يبدو على الظاهر أنه اعتراف بهذه الثقافات الأخرى، ليس في
الواقع سوى صور مشوهة منتقاة ومبسطة و (معقمة) تطرح على الغربيين لكي
يستحوذوا عليها ويتملكوها من منطلق العلو الثقافي، وباعتبارها سلعاً استهلاكية
(السياحة، المنتجات الفنية والحرفية ... إلخ) وليست مظاهر حية لثقافات مستقلة،
وذات تاريخ وهوية لكن عيبها الوحيد هو أنها ليست غربية.
إذن: رفض الاعتراف والحوار مع الآخر، بل ورفضه، ونفيه، والتعامل
معه بأسلوب عنيف استحواذي متحامل.. ليس هو مسلك المسلمين أو اتجاه ثقافتهم، بل هو مسلك الغربيين وطابع الثقافة الغربية، ومن هنا وصفنا كتاب الباحثة
الأمريكية بالأهمية؛ لأنها تحلل وبشكل موضوعي تحليلي قوي الحجة أساليب
الثقافة الغربية في إخضاع الثقافات الأخرى.
ولكن من غرائب وطرائف الاتجاه العلماني في بلادنا: أنهم يأخذون نقائص
الثقافة الغربية التي يحاولون التمسح بها، ويرمون بها الثقافة الإسلامية وهي بريئة
منها، والأغرب والأطرف: أنهم وهم يزعمون الثقافة والفكر والاستنارة لأنفسهم لا
يُقْدمون وهم يوجهون الاتهامات للثقافة الإسلامية على دعم هذه الاتهامات بالحجة
والتحليل المقنع، كما تفعل هذه الباحثة الأمريكية وهي توجه الاتهامات نفسها إلى
ثقافتها الغربية، ولكن يبدو أن هناك فرقاً بين أهل الثقافة الغربية أنفسهم والمتغربين
من أصحاب التيار (اللاديني) ، الذين تحركهم فقط كراهية الإسلام، دون الاكتراث
ببناء هذه الكراهية على أسس من الحجة العقلية.(106/104)
منتدى القراء
تاهت قوافي الشعر
عيسى بن سعد آل عوشن
في مساء يوم الثلاثاء 6/4/1417هـ وصل إلى مسمعي نبأ وفاة ثلاثة من
إخواني في الله في ريعان شبابهم، إثر حادث مؤلم (رحمهم الله وجعلهم في عداد الشهداء) فوفاءً ببعض حقهم، وتذكيراً بشيء من خلالهم، نظمت هذه القصيدة.
والبيان بدورها تقتطف بعض أبياتها؛ تقديراً للناظم؛ ومشاركة وجدانية لمشاعره الطيبة.
تاهت قوافي الشعر مذ جاء الخبر ... وحروف شعري لم تطق تك الصور
فالعين تبكي حسرة وتألماً ... والقلب عانقه اليقين فلا ضجر
وأكفكف العبرات مني صابراً ... هذا القضاء، فلا مناص ولا مفر
هذي ثرى (تثليث) تسعد بعد أن ... سكن الصحاب بأرضها بيت المدر
قد أسلموا الأرواح لله الرحي ... م وحالهم من قبل ذا: مجد أغر
طوبى لهم يا صاح قد جاءت لهم ... بشرى تزيل الحزن عنا والكدر
من صادقٍ وهو النبي محمد ... فلقد أتى عنه بقول مختصر
إن الشباب الناشئين على الهدى ... في ظل مولانا الكريم بلا ضرر
بالله لا تسأل كتاب الله عن ... أصحابنا كم رتلوا آي السور
ولكم أتوا نحو المساجد رغبة ... في العلم كي يصلوا قمم الظفر
ولقد حزنا يا صحاب بفقدكم ... هذا قضا ربي، رضينا بالقدر
يا رب فارحمهم وأعظم أجرهم ... وَأْجُرْهُم من هول يوم منتظر
يا رب فارحمهم وألهم أهلهم ... صبراً جميلاً، فاز دوماً من صبر
يا رب أمّن خوفنا وصحابنا ... يوم القيامة إن تشققت الحفر
يا رب أسألك النجاة لإخوتي ... ودخول جناتٍ منوعة الثمر
هذي هى الدنيا تقول أنا التي ... فيّ الحوادث والفواجع والعبر(106/108)
مدافعة الباطل بالحق
علي مطاوع
إنّ التكليف الشرعي يأتي متناسباً مع القدرة على القيام به، سواء أكان
المكلف فرداً أو جماعة؛ لأن مقصود الشرع هو دفع العنت والمشقة عن الناس،
وإظلالهم بظل الإسلام في خاصة شؤونهم وعامتها، وفتح أبواب السعادة أمامهم في
الدنيا والآخرة.
ولقد كان إعلان كلمة التوحيد إنارة للعقل والقلب بنور الحق، وفتح باب
الهداية لسلوك سبيلها بالتعبد لله على شريعته والاستقامة على منهاجه.
ولقد اختص الله (تعالى) نبيه محمداً برسالته إلى الناس كافة؛ لينير بها العقول
والقلوب بالحق الذي جاءه من عند الله، فتسعد حياتهم في الأولى والآخرة، ولقد
كان حمل الرسالة للناس يتناسب مع قدرته النفسية والروحية والجسدية، ومكث
فترة يُسِرّ بها إلى من يتوسم فيهم العقل الراجح والنفس الصافية، فآمن به ثلة من
خيرة المجتمع المكي، إلى أن كلف بالصدع بالحق الذي نزل عليه، وإنذار
الكافرين المستكبرين عن الحق، وبشارة المستجيبين لدعوة الله، وكان الواجب
حينها: البيان باللسان من تلاوة آيات الرحمن، ودفع الشبه التي تخيم على عقول
الجاهلين، ورفض أباطيل المستكبرين واحتمال ما يصيبه والمؤمنين برسالته من
الأذى في ذلك حتى يحكم الله بينه وبين أعداء الله (تعالى) ورسوله - صلى الله عليه
وسلم-، ولقد طالت فترة الامتحان، وتعرض الصحابة (رضوان الله عليهم
أجمعين) للفتنة والإيذاء، وأصبحوا لا يجدون سبيلاً لدفع الأذى عن أنفسهم إلا
الهجرة وترك الأوطان؛ لكي يسلم لهم إيمانهم بالله (تعالى) الذي رضوا به بديلاً عن
الدنيا وما فيها، فكانت الهجرة إلى الحبشة، ثم الهجرة إلى المدينة، وفي المدينة
تكون المجتمع وقامت الدولة، واستقر الأمر بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاء الأمر من الله (تعالى) بالإذن للمسلمين بدفع عدوان الكافرين بقوة السلاح؛
فكانت المعارك والغزوات التي وعى التاريخ منها ما وعى.
فهل وعينا نحن العِبَر من سيرة الرسول في مدافعة الباطل بالحق؟ ، وهل
أخلصنا نياتنا لله (سبحانه) وصوّبنا متابعتنا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لتسلم
أعمالنا من شوائب الشرك والرياء والبدعة، وننال رضى الله ونصرته؟ ، إننا مَهْما
شغلتنا الأشغال والتمسنا لأنفسنا المعاذير، فلن يغير ذلك من حقيقة الأمر شيء: أن
مدافعة الباطل بالحق من واجبنا، وفي قدرتنا.(106/109)
الورقة الأخيرة
احذروا الأستاذ شحاته
بقلم:أحمد العويمر
قد يتداعى إلى ذهن القارئ لعنوان هذه الكلمة لأول وهلة أن مضمونها تعريف
أو دعاية (لفيلم كوميدي) أو (مسرحية هزلية) ! مما يلحظه المار بشوارع بعض
العواصم العربية، وإن كان الأمر في الحقيقة ليس كذلك! ، إلا أنه ليس بعيداً عنه
كل البعد؛ فالموضوع يدور حول كشف ظاهرة عجيبة وتوجه أعجب مما يحفل به
الواقع الفكري في إحدى العواصم العربية: (فالأستاذ شحاته) أو على الأصح:
(الشيخ) حسن شحاته رجل غريب الأطوار، متغير التوجهات، ومتناقض الأفكار؛
فهو أصلاً صوفي المشرب، ثم عاد ناقداً لذلك المنهج نقداً سطحيّاً، ثم هو يتبنى
(التوجه الخارجي) بتضليل وتبديع من يُخالف منهجه، حيث يرميهم بالضلال..
فالإسلاميون عموماً من وجهة نظره (خوارج) ! ، ومن يسميهم (الوهابية) ! خوارج، و (شيخ الإسلام ابن تيمية) في (النار) ! ، والصحابة في نظره ليسوا كلهم عدول، بل وصل به الانحراف إلى تكفير الصحابي الجليل «معاوية بن أبي سفيان»
(رضي الله عنه) ! ، وهذا أحد فروع عقيدة الرافضة.
و (الشيخ شحاته) ليس فرداً واحداً، ولكنه نموذج لبعض المشايخ (المستنيرين) ، وقانا الله شرهم.
والمتأمل في هذا النوع من الناس وهذا النمط من التفكير لا يعجزه تحديد هوية
مثل هذا الرجل، فهو في نظري خليط من التصوف والإرجائية والتكفيرية! ! ،
يُخرج من كلٍّ ما يناسب الحال والمقام، ولا أستبعد أنه صنيعة معدة لإشغال الناس
بالقول والرد؛ لأهداف لم تعد مجهولة على أحد، لا سيما إذا عرفنا أن المذكور إمام
مسجد مشهور في عاصمة عربية معروفة، ومع أنه تعرض للنقد من بعض العلماء
والدعاة في ذلك البلد حيث كشفوا حقيقته وأخطاءه الفكرية والعقدية، إلا أن مجلة
(روزا..) اليسارية [*] أجرت معه مؤخراً لقاءً صحفيّاً، وفتحت له المجال لينقد
ويهجو بلا وازع من دين ولا رادع من ضمير، فانظر إلى التنسيق بين (اليمين) ... و (اليسار) ! ! .
والمسلم الحق مطالب برفض هذه المنطلقات المشبوهة التي ديدنها السب
والشتم أو التكفير بلا مسوغ، وهذه التوجهات تؤكد العلاقة الوثيقة بين التصوف
والرفض، وتؤكد أيضاً العلاقة الودية بين الاتجاهات المتباينة، إذا كان ذلك في
سبيل ضرب التيار الإسلامي.
إن هذه الحركات المشبوهة والتوجهات المكشوفة لم تعد تنطلي على أحد سوى
الجهلة وأنصاف المتعلمين، والذي يظهر أن هذا الرجل وأمثاله في الغالب حينما
يطرحون مثل تلك الأفكار المنكرة ربما يطمحون لأهداف يُخطّط لها ولو على
حساب الحق والحقيقة، ولا يُستبعد أن ينال على هذا الغثاء مكسباً ما، ما دام يؤدي
ذلك الدور الذي يقوم به الإعلام الرخيص في إيذاء عباد الله وإشغال الناس بما لا
طائل من ورائه.
إن العزاء لكل مسلم مخلص أن الحق باقٍ ما دامت السموات والأرض،
والباطل سيتلاشى كالزبد؛ يقول الله (تعالى) : [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] [الرعد: 17] .
والله من وراء القصد.
__________
(*) العدد 3562، الصادر في 2/9/1996م.(106/111)
رجب - 1417هـ
ديسمبر - 1996م
(السنة: 11)(107/)
كلمة صغيرة
التواصل الحميم
تعتز مجلة البيان بثقة قرائها الكرام فيها، وكريم تواصلهم معها: مشاركة،
وثناءً، ومتابعة، وتوجيهاً، ولقد استطعنا بتوفيق الله أولاً، ثم بحرص بعض
الكتاب الذين شاركوا ويشاركون بالكتابة لنا أن نكسب أقلاماً جديدة وأفكاراً متنوعة،
مما يلمسه القارئ في ثنايا أعداد هذه المجلة، ومما سرنا: أن بعض القراء يقترح
علينا أن تتطرق المجلة للكتابة عن موضوع بعينه وتتفاعل المجلة تجاهه؛ فأحدهم
طلب معالجة (ظاهرة النسيان) معالجة علمية، وهو ما كلفنا به أحد الأخوة
المحررين، فكتب دراسة عن هذا الموضوع نشرت في عدد ماضٍ، وقارئ كريم
آخر من لبنان تابع الندوة التي عقدت مؤخراً تحت عنوان (مسلمون ومسيحيون معاً
من أجل القدس) ، وطالب المجلة أن تكتب عن هذا الموضوع، وسيلمح القارئ
طرفاً من المعالجة عن فلسطين والقدس في هذا العدد، على أن نُفَصِّل موقف
النصارى من هذه القضية في عددٍ قادم.
وترحب البيان بكل تعاون مخلص معها في الكتابة، ولا سيما من أصحاب الفضيلة العلماء والدعاة وطلاب العلم، بما يرونه مناسباً لتوجه المجلة التي تتبنى عقيدة أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة ومنهجهم المعروف في التلقي، وستُدرس أي مشاركة تردنا، وسترى النور بإذن الله متى كانت صالحة. والله نسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا جميعاً الإخلاص في القول والعمل.(107/1)
افتتاحية العدد
الجهاد الأفغاني إلى أين؟ !
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى
بهداه، أما بعد.
فلا شك أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وما ذل المسلمون في عصورهم
الأخيرة إلا حين تساهلوا في أداء واجب هذه الفريضة.. التي عمل أعداء الإسلام
كل ما يستطيعونه لإطفاء جذوتها ومحاولة إضعاف تأثيرها في النفوس.. فتداعت
الأمم على جل ديار الإسلام، وكان من آخرها: الاحتلال الشيوعي البائد لدولة
أفغانستان بمؤامرة دنيئة، كان وراءها الفئات الماركسية الأفغانية، فعز ذلك على
أبناء أفغانستان المسلمة وتداعى رجالها وعلماؤها وطلاب العلم فيها من كل حدب
وصوب للوقوف في وجه الحكم الشيوعي، وبدأ الجهاد عام 1975م، وتواصل المد
الجهادي وتدافع المسلمون من شتى أقطار الدنيا لنجدة إخوانهم بالنفس والنفيس،
انطلاقاً من قول الله (تعالى) : [وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] ... [الأنفال: 72] ، واحتفاء المسلمين بذلك الجهاد الذي هدى الله بسببه أنفساً ضالة، ورفع به رؤوساً خانعة جعله مدرسة كبرى للتربية أقضت مضاجع أعداء ... الإسلام باستمراره حتى قال جنرال غربي: «إن استمرار الجهاد خطر على مصالح الغرب في العالم الإسلامي» وعلى ضوء ذلك قيل: إن الإسلام هو العدو البديل للشيوعية، فبدؤوا بالتخطيط لإسقاط هذا الجهاد، والعمل المتواصل للإساءة إليه، ووصمه بكل نقيصة، فوُسِمَ بالإرهاب، وصار اسم المجاهدين يعني في هذه الحرب الخسيسة تهمة يُرمى بها كل من شارك في ذلك الشرف.. صحيح أن هناك من وقع في أخطاء صريحة وممارسات منحرفة، غير أن ذلك لا يعني تعميم تلك الأخطاء على الجميع، والإساءة إلى تلك الفريضة والمشاركين فيها بدون وجه حق.
كانت آمال المسلمين كبيرة في استمرار الجهاد ليؤدي دوره في التربية والبناء، لكن الذي حصل أن النزعة الحزبية سيطرت على الأوضاع هناك، والتوجهات
الشخصية تحكمت في أزمة الأمور، فضلاً عما كان من القادة أنفسهم من ذوي
المنطلقات الصوفية والقومية الجاهلية، بل وذوي الولاءات والنعرات الطائفية
المقيتة، ومن هنالك انقسموا على أنفسهم، وتحاربوا فيما بينهم، وعلى الرغم من
إسقاطهم للحكم الشيوعي ودخولهم كابل العاصمة، إلا أنهم فشلوا في إقامة الدولة
الإسلامية التي سعوا إلى إقامتها وكانت هدفهم ومبتغى آمالهم، ولا شك أن لذلك
أسباباً، من أهمها:
-أن المجاهدين لم يوحدوا منهجهم في التلقي المفترض قيامه على الكتاب
والسنة وفهم سلف الأمة والبعد عن المنطلقات المشبوهة أيّاً كان نوعها.
-النزعة الحزبية القائمة على بناء الأمجاد الشخصية وتلبية الحاجات الذاتية
التي لم يصهرها الجهاد في قالب واحد، بعيداً عن كل الشبهات.
-ظهور التوجهات القومية والنزعات العنصرية.. حتى كنا نسمع بأن فلانا
من القومية (الفلانية) ومن الجنس (العلاني) ، وكأن الإسلام لم يوحد الجميع في
بوتقة إيمانية وعقيدة ربانية.
-العجز في تمثل كثير من قادة الجهاد حقيقة أخلاق الإسلام القائمة على
التعاون والتواد والرحمة ونكران الذات والإيثار، ورفضهم للاتحاد الفعلي الذي
يجمعهم كالجسد الواحد.
-التحالف مع الفئات المنحرفة عقيدة ومنهجاً، بل وصل الأمر أن يُتَحَالَفَ
مع شيوعي عريق مثل «دوستم» يدخل معهم كابل، وأن يرشح طُرُقِيّ ليكون في
قمة السلطة، وهذا ما جعل الجهاد يدخل في دوامة ما زال يعاني منها حتى الآن.
-عجزهم عن فهم الدروس التي مرت على الحركات الإسلامية المعاصرة
وسر فشل كثير منها.
ولذلك: حرص المسلمون جميعاً أفراداً وجماعات على مطالبة المجاهدين
بأهمية التعاون فيما بينهم، وضرورة أن يكونوا يداً واحدة على من سواهم، بل
جُمع قادة الجهاد أكثر من مرة في أكثر من مناسبة ودُعوا لتناسي الإشكالات فيما
بينهم للمصلحة العليا ومصلحة بلادهم، غير أنهم ما أن يتفقوا حتى يختلفوا، حتى
إن الشعب الأفغاني وجد أن جهاد هذه الجماعات لم يوصله إلا إلى مزيد من الشقاق
والعيش الكفاف والإعاقات لكثير من أفراده، بعدما قدم هذا الشعب المجاهد الصابر
من الشهداء فيما نحسبهم وا لله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً أكثر من مليون
ونصف المليون.
وأضحى الشعب كالغريق الذي يتمسك حتى بقشة رغبة في الوصول إلى بر
الأمان.
وجاءت «حركة طالبان» الجديدة التي برزت بشكل مفاجئ للكثيرين،
وأخذت تكتسح المدن والقرى، وتدعو جميع الفصائل الأخرى للتسليم لها.
ولعل معاناة هذا الشعب المسكين وخلو الساحة من بديل راشد قد دفعه إلى
انتظار أي بديل، حتى ولو كان مجهول التوجه والمستقبل، أملاً في رفع المعاناة
التي عاشها طوال عقود سني الحرب العجاف.
وبغض النظر عن التقويم الشرعي والواقعي لهذه الحركة، وما هي حقيقتها؟
، وهل هي مدعومة من جهات مشبوهة؟ ، وما مستقبل أفغانستان تحت سلطتها؟ ،
وهل تستمر تلك الحركة أم تتلاشى؟ .. فهذا كله ليس مجاله هنا ولعله يكون في
مقال قادم إن شاء الله (تعالى) .
لكننا من واقع الأخوة الإسلامية وما تقتضيه من محض النصيحة لإخواننا في
الله، ومن دافع الشفقة على هذا الشعب المسلم المغلوب على أمره، ورغبة أن
يضطلع المسؤولون في الجهاد الأفغاني ومنهم (حركة طالبان) نذكرهم وكل من يهمه
الأمر والذكرى تنفع المؤمنين بما يلي:
* ضرورة أن يكون منطلقهم: فهم الإسلام (عقيدة ومنهج حياة) ، بعيداً عن
النزاعات الطائفية والقومية والحزبية، والتي يسعى أعداء الإسلام لزرعها بينهم،
وأن يكون رائدهم الحق ولا شيء غيره.
* الحذر كل الحذر من التحالفات مع الفئات المنحرفة عقديّاً وفكريّاً،
والحرص على جمع الكلمة مع أخوة الدرب والمصير، لا سيما من لهم سابقة في
الجهاد والدعوة، وأهمية الاستفادة من العلماء في جمع الكلمة وتوحيد الصفوف.
* أخذ الدروس والعبر من عدم الوقوع في المنزلقات التي وقع فيها مَن قبلهم
من الأخطاء الجسيمة التي أودت ببلادهم للدمار والخراب.
* الحذر مما يخطط له الأعداء من تصفية الحركة الإسلامية جميعها بضرب
بعضها ببعض، ومن ثم: الإجهاز عليهم جميعاً، تمهيداً لإعادة الحكم السابق من
جديد، والذي سيرضى بكل الحلول المطروحة، ومنها علمنة البلاد، وسيكون
الجهاد والمجاهدون وقوداً لهذا الاتجاه المطلوب دوليّاً.
* ليس من الحكمة مناصبة الآخرين العداء، والتسرع في الحكم، والسرعة
في إصدار القرارات بدون روية، مما سيثير الفتن التي ستقيم الدنيا ولا تقعدها.
* تأمين الناس وإظهار ديننا الحنيف على حقيقته: دين نهضة وبناء؛ مما
يحبب المجاهدين إلى الناس، فيتداعون لنصرتهم.
* الحرص على وحدة أفغانستان وعدم تحول الصراع فيها إلى صراع عرقي
تتفتت معه البلاد إلى دويلات بدعم من الدول المجاورة.
هذا تحللينا لواقع الجهاد الأفغاني، والمنزلقات التي سقط فيها، والأسباب
المساعدة للخروج منها.
أيها الإخوة في الجهاد ندعوكم لتصحيح المنطلقات وجمع الكلمة وتوحيد
الصف والحذر من الشباك التي تنصب للإيقاع بكم وبالمسلمين، وعليكم بالبناء لا
الهدم، والتعاون فيما بينكم لا الشقاق والخلاف.
[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ] [الأنفال: 46] .(107/4)
دراسات شرعية
فضائل شهر رجب.. في الميزان
بقلم: فيصل بن علي البعداني
فضّل الله (تعالى) بعض الأيام والليالي والشهور على بعض، حسبما اقتضته
حكمته البالغة؛ ليجدّ العباد في وجوه البر، ويكثروا فيها من الأعمال الصالحة،
ولكن شياطين الإنس والجن عملوا على صد الناس عن سواء السبيل، وقعدوا لهم
كل مرصد؛ ليحولوا بينهم وبين الخير، فزينوا لطائفة من الناس أن مواسم الفضل
والرحمة مجال للهو والراحة، وميدان لتعاطي اللذات والشهوات.
وحرّضوا طوائف أخرى سواء أكانوا ممن قد يملكون نوايا طيبة ولكن غلب
عليهم الجهل بأحكام الدين أو من ذوي المصالح والرياسات الدينية أو الدنيوية
الخائفين على مصالحهم وزوال مواقعهم من مزاحمة مواسم الخير والسّنّة مواسم
مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، قال حسان بن عطية: «ما ابتدع قوم بدعة
في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ولايعيدها إليهم إلى يوم القيامة» [1] ، بل
قال أيوب السختياني: «ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا زاد من الله بعداً» [2] .
ولعل من أبرز تلك المواسم البدعية: ما يقوم به بعض العباد في كثير من
البلدان في شهر رجب، ولذا: فسأحرص في هذه المقالة على تناول بعض أعمال
الناس فيه، وعرضها على نصوص الشريعة وكلام أهل العلم، نصحاً للأمة
وتذكيراً لهم؛ لعل في ذلك هداية لقلوب، وتفتيحاً لعيونٍ وآذانٍ عاشت في ظلمات
البدع وتخبطات الجهل.
هل لـ (رجب) فضل على غيره من الشهور؟
قال ابن حجر: «لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في
صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه.. حديث صحيح يصلح
للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه
عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره» [3] .
وقال أيضاً: «وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو في فضل صيامه، أو صيام شيء منه صريحة: فهي على قسمين: ضعيفة، وموضوعة، ونحن
نسوق الضعيفة، ونشير إلى الموضوعة إشارة مفهمة» [4] ، ثم شرع في سوقها. صلاة الرغائب:
أولاً: صفتها: وردت صفتها في حديث موضوع عن أنس عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال: «ما من أحد يصوم يوم الخميس (أول خميس من رجب)
ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة يعني ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل
ركعة بفاتحة الكتاب مرة و [إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ] ثلاث مرات، و [قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ] اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من
صلاته صلى عليّ سبعين، فيقول في سجوده سبعين مرة: (سبوح قدوس رب
الملائكة والروح) ، ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة: رب اغفر وارحم وتجاوز
عما تعلم، إنك أنت العزيز الأعظم، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة
الأولى، ثم يسأل الله (تعالى) حاجته، فإنها تقضى» .. قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده، ما من عبد ولا أَمَة صلى هذه الصلاة إلا غفر
الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، وعدد الرمل، ووزن الجبال،
وورق الأشجار، ويشفع يوم القيامة في سبعمئة من أهل بيته ممن قد استوجب ... النار» [5] .
ثانياً: كلام أهل العلم حولها:
قال النووي: «هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات،
فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها» [6] .
وقال ابن النحاس: «وهي بدعة، الحديث الوارد فيها موضوع باتفاق
المحدثين» [7] .
وقال ابن تيمية: «وأما صلاة الرغائب: فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا
تستحب، لا جماعة ولا فرادى؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام، والأثر الذي
ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة ... أصلاً» [8] .
وقد أبان الطرطوشي بداية وضعها، فقال: «وأخبرني أبو محمد المقدسي،
قال: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب
وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمئة، قدم علينا في
بيت المقدس رجل من نابلس، يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام
فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان ... إلى أن قال: وأما صلاة
رجب فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربعمئة، وما كنا
رأيناها ولا سمعنا بها قبل ذلك» [9] .
وقد جزم بوضع حديثها: ابن الجوزي في الموضوعات، والحافظ أبو
الخطاب، وأبو شامة [10] ، كما جزم ببدعيتها: ابن الحاج [11] ، وابن رجب،
وذكر ذلك عن أبي إسماعيل الأنصاري، وأبي بكر السمعاني، وأبي الفضل بن
ناصر [12] .. وآخرون [13] .
ثالثاً: حكم صلاتها جلباً لقلوب العوام:
قال أبو شامة: «وكم من إمام قال لي: إنه لا يصليها إلا حفظاً لقلوب العوام
عليه، وتمسكاً بمسجده خوفاً من انتزاعه منه (!) ، وفي هذا دخول منهم في
الصلاة بغير نية صحيحة، وامتهان الوقوف بين يدي الله (تعالى) ، ولو لم يكن في
هذه البدعة سوى هذا لكفى، وكل من آمن بهذه الصلاة أو حسنها فهو متسبب في
ذلك، مغرٍ للعوام بما اعتقدوه منها، كاذبين على الشرع بسببها، ولو بُصِّروا
وعُرِّفوا هذا سَنَةً بعد سَنَةٍ لأقعلوا عن ذلك وألغوه، لكن تزول رئاسة محبي البدع
ومحييها، والله الموفق.
وقد كان الرؤساء من أهل الكتاب يمنعهم الإسلام خوف زوال رئاستهم، وفيهم
نزل: [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاًً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ] [البقرة: 79] » [14] .
الإسراء والمعراج:
من أعظم معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم-: الإسراء به ليلاً من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم العروج به السماوات السبع فما فوقها، وقد
انتشر في بعض البلدان الاحتفال بذكراها في ليلة السابع والعشرين من رجب، ولا
يصح كون ليلة الإسراء في تلك الليلة، قال ابن حجر عن ابن دحية: «وذكر
بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، قال: وذلك كذب» [15] ، وقال ابن
رجب: «وروي بإسناد لا يصح، عن القاسم بن محمد، أن الإسراء بالنبي -
صلى الله عليه وسلم- كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم
الحربي وغيره» [16] .
وقال ابن تيمية: «لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها،
ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به» [17] .
على أنه لو ثبت تعيين ليلة الإسراء والمعراج لما شرع لأحد تخصيصها
بشيء؛ لأنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من صحابته
أو التابعين لهم بإحسان أنهم جعلوا لليلة الإسراء مزية عن غيرها، فضلاً عن أن
يقيموا احتفالاً بذكراها، بالإضافة إلى ما يتضمنه الاحتفال بها من البدع ... والمنكرات [18] .
الذبح في رجب وما يشبهه:
مطلق الذبح لله في رجب ليس بممنوع كالذبح في غيره من الشهور، لكن كان
أهل الجاهلية يذبحون فيه ذبيحة يسمونها: العتيرة، وقد اختلف أهل العلم في
حكمها: فذهب الأكثرون إلى أن الإسلام أبطلها، مستدلين بقوله كما عند الشيخين
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) : «لا فرع ولا عتيرة» [19] .
وذهب بعضهم كابن سيرين إلى استحبابها، مستدلين بأحاديث عدة تدل على
الجواز، وأجيب عنها بأن حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أصح منها وأثبت،
فيكون العمل عليه دونها، بل قال بعضهم كابن المنذر بالنسخ؛ لتأخر إسلام أبي
هريرة، وأن الجواز كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا هو الراجح [20] .
قال الحسن: «ليس في الإسلام عتيرة، إنما كانت العتيرة في الجاهلية، كان
أحدهم يصوم ويعتر» [21] .
قال ابن رجب: «ويشبه الذبح في رجب: اتخاذه موسماً وعيداً، كأكل
الحلوى ونحوها، وقد روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه كان يكره أن
يتخذ رجب عيداً» [22] .
تخصيص رجب بصيام أو اعتكاف:
قال ابن رجب: «وأما الصيام: فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه
شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه» [23] .
وقال ابن تيمية: «وأما صوم رجب بخصوصه: فأحاديثه كلها ضعيفة، بل
موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى
في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات ... وقد روى ابن ماجة في
سننه، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه نهى عن صوم
رجب، وفي إسناده نظر، لكن صح أن عمر بن الخطاب كان يضرب أيدي الناس؛ ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول: لا تشبهوه برمضان ... وأما
تخصيصها بالاعتكاف الثلاثة الأشهر: رجب، وشعبان، ورمضان فلا أعلم فيه
أمراً، بل كل من صام صوماً مشروعاً وأراد أن يعتكف من صيامه، كان ذلك
جائزاً بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام ففيه قولان مشهوران لأهل ... العلم» [24] .
وكونه لم يرد في فضل صيام رجب بخصوصه شيء لا يعني أنه لا صيام
تطوع فيه مما وردت النصوص عامة فيه وفي غيره، كالإثنين، والخميس،
وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم وإفطار آخر، وإنما الذي يكره كما ذكر
الطرطوشي [25] صومه على أحد ثلاثة أوجه:
1- إذا خصه المسلمون في كل عام حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة،
مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان.
2- اعتقاد أن صومه سنّة ثابتة خصه الرسول بالصوم كالسنن الراتبة.
3- اعتقاد أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام سائر الشهور،
وأنه جارٍ مجرى عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من
باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان كذلك لبينه النبي -صلى الله
عليه وسلم- أو فعله ولو مرة في العمر، ولما لم يفعل: بطل كونه مخصوصاً
بالفضيلة.
العمرة في رجب:
يحرص بعض الناس على الاعتمار في رجب، اعتقاداً منهم أن للعمرة فيه
مزيد مزية، وهذا لا أصل له، فقد روى البخاري عن ابن عمر (رضي الله عنهما) ، قال: «إن رسول الله اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت (أي عائشة) : يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهِدُه، وما اعتمر في رجب
قط» [26] .
قال ابن العطار: «ومما بلغني عن أهل مكة (زادها الله تشريفاً) اعتيادهم
كثرة الاعتمار في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلاً» [27] .
وقد نص العلامة «ابن باز» [28] على أن أفضل زمان تؤدى فيه العمرة: شهر رمضان؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عمرة في رمضان تعدل
حجة» ، ثم بعد ذلك: العمرة في ذي القعدة؛ لأن عُمَرَه كلها وقعت في ذي القعدة،
وقد قال الله (سبحانه وتعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]
[الأحزاب: 21] .
الزكاة في رجب:
اعتاد بعض أهل البلدان تخصيص رجب بإخراج الزكاة، قال ابن رجب عن
ذلك: «ولا أصل لذلك في السُنّة، ولا عُرِف عن أحد من السلف ... وبكل حال:
فإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب، فكل أحدٍ له حول يخصه بحسب
وقت ملكه للنصاب، فإذا تم حوله وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان» ،
ثم ذكر جواز تعجيل إخراج الزكاة لاغتنام زمان فاضل كرمضان، أو لاغتنام
الصدقة على من لا يوجد مثله في الحاجة عند تمام الحول.. ونحو ذلك [29] .
وقال ابن العطار: «وما يفعله الناس في هذه الأزمان من إخراج زكاة
أموالهم في رجب دون غيره من الأزمان لا أصل له، بل حكم الشرع أنه يجب
إخراج زكاة الأموال عند حولان حولها بشرطه سواء كان رجباً أو غيره» [30] .
لا حوادث عظيمة في رجب:
قال ابن رجب: «وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم
يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع
والعشرين منه، وقيل في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك ... » [31] .
وقفة مع بعض الدعاة:
يمارس بعض الدعاة اليوم أنواعاً من البدع الموسمية كبدع رجب مع اقتناعهم
بعدم مشروعيتها؛ بحجة الخوف من عدم اشتغال الناس بغير عبادةٍ، إن هم تركوا
ما هم عليه من بدعة.
ومع أن البدعة أخطر الذنوب بعد الشرك، إلا أن هذا توجهٌ في الدعوة
وطريقة التغيير خطير مخالف لهدي النبي، والواجب: أن يدعى الناس إلى السنة
المحضة التي لا تكون استقامة بدونها، قال الثوري: «كان الفقهاء يقولون: لا
يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية
إلا بموافقة السنة» [32] .
وكان الواجب على هؤلاء أن يتعلموا السنة، ويعلموها، ويدعون أنفسهم ومن
حولهم إلى تطبيقها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من عمل عملاً
ليس عليه أمرنا فهو رد» ، ولله در أبي العالية حين قال لبعض أصحابه: ... «تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم: الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط المستقيم يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين أهلها العداوة ... ... والبغضاء» [33] .
ومن قبله قال حذيفة (رضي الله عنه) : «يا معشر القراء: استقيموا، فقد
سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً» [34] .
وأخيراً:
فإن الدعاة اليوم والأمة معهم مطالَبون بتجريد المتابعة للنبي -صلى الله عليه
وسلم- في كل شأن، تماماً مثل ما هم مطالبون بتجريد الإخلاص لله (عز وجل) ،
إن هم أرادوا لأنفسهم نجاةً، ولدينهم نصراً وإعزازاً، قال الله (عز وجل) : ... ... [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] [الكهف: 110] وقال (سبحانه) : [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] .
وفق الله الجميع للخير، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.
__________
(1) الحلية، 6/73.
(2) الحلية، 3/9.
(3) تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب، لابن حجر، ص6، وانظر: السنن والمبتدعات للشقيري، ص125.
(4) المصدر السابق، ص 8.
(5) انظر: إحياء علوم الدين، للغزالي، 1/202، وتبيين العجب فيما ورد في فضل رجب، ص 22 24.
(6) فتاوى الإمام النووي، ص 57.
(7) تنبيه الغافلين، ص 496.
(8) الفتاوى لابن تيمية، 23/132، وانظر: الفتاوى، 23/134 135.
(9) الحوادث والبدع، ص103.
(10) انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 61 67.
(11) المدخل، 1/211.
(12) انظر: لطائف المعارف، تحقيق الأستاذ / ياسين السواس، ص 228.
(13) مقدمة مساجلة العز بن عبد السلام وابن الصلاح، ص 7 8.
(14) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 105.
(15) تبيين العجب، ص 6.
(16) زاد المعاد لابن القيم، 1/275، وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري (7/ 242 243) الخلاف في وقت المعراج، وأبان أنه قد قيل: إنه كان في رجب، وقيل: في ربيع الآخر، وقيل: في رمضان أو شوال، والأمر كما قال ابن تيمية.
(17) لطائف المعارف، لابن رجب، ص 233.
(18) ذكر بعض تلك المنكرات: ابن النحاس في تنبيه الغافلين، ص 497، وابن الحاج في المدخل، 1/211 212، وعلي محفوظ في الإبداع، ص 272.
(19) البخاري، ح/ 5473، ومسلم، ح/ 1976.
(20) انظر: لطائف المعارف، ص 227، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي، ص 388 - 390.
(21) لطائف المعارف، ص 227.
(22) لطائف المعارف، ص 227.
(23) لطائف المعارف، ص 228.
(24) الفتاوى: 25/290 - 292.
(25) البدع والحوادث، ص110 111، وانظر (تبيين العجب) لابن حجر، ص 37 38.
(26) صحيح البخاري، ح/1776.
(27) المساجلة بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح، ص 56، وانظر: فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم، 6/131.
(28) انظر: فتاوى إسلامية، جمع الأستاذ/ محمد المسند، 2/303 - 304.
(29) لطائف المعارف، 231 - 232.
(30) المساجلة بين العز وابن الصلاح، ص 55.
(31) لطائف المعارف، ص233.
(32) الإبانة الكبرى، لابن بطة، 1/333.
(33) الإبانة الكبرى، لابن بطة، 1/338.
(34) البدع والنهي عنها، لابن وضاح، ص 10 11.(107/8)
دراسات شرعية
من أحكام اللباس
بقلم:عبد الله الإسماعيل
من قواعد الشريعة المقررة: أن الأصل في الألبسة الحل، ما لم يرد دليل
المنع [1] ، والأدلة على هذا الأصل كثيرة، منها قوله (تعالى) : [هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] [البقرة: 29] ، وقوله (تعالى) : [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] [الأعراف: 32] .
فيكون البحث إذن فيما نهى عنه الشرع فيجتنب، وما عداه فيبقى على أصل
الإباحة.
ما نهى عنه الشرع من الألبسة:
أولاً: ما فيه تصاوير ذوات الأرواح وتصاليب: ويكثر في ألبسة النساء
والأطفال، وهذه يحرم بيعها وشراؤها ولبسها، إلا بشرط الطمس أو الإزالة.
والأدلة على هذا كثيرة، ومنها:
1- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: سمعت النبي -صلى الله
عليه وسلم- يقول: «إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون» [2] .
2- عن عائشة (رضي الله عنها) أنها اشترت نمرقة [3] فيها تصاوير، فقام
النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يدخل، فقلت: أتوب إلى الله، ماذا أذنبت؟ !
قال: ما هذه النّمْرقة؟ قلت: لتجلس عليها وتوسدها، قال: إن أصحاب هذه
الصّور يعذبون يوم القيامة، يُقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتاً
فيه الصورة « [4] .
3- عن عائشة (رضي الله عنها) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن
يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه» [5] .
ثانياً: الإسبال:
طول الثوب للرجل له أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يكون سنّة، وهو نصف الساق.
الحالة الثانية: أن يكون مباحاً، وهو ما دون نصف الساق إلى الكعبين
(الكعب: العظم النّاتئ عند ملتقى الساق والقدم) .
الحالة الثالثة: أن يكون حراماً، وهو ما أسفل من الكعبين.
الحالة الرابعة: أن يكون أشد حرمة، وهو أن يجرّه خيلاء.
ودليل هذا التفصيل: حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «إزْرَة المؤمن إلى
نصف الساق، ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في
النار، من جرّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه» [6] .
وفي هذا الحديث تفصيل للحالات الأربع السابقة، وفيه أيضاً: أن الإسبال
محرم وإن كان بدون خيلاء، بل عدّه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخيلاء،
فقال لجابر بن سليم (رضي الله عنه) : «إياك والإسبال؛ فإنها من المخيلة، وإن
الله لا يحب المخيلة» [7] .
وبقيت حالة لم تذكر في الحالات الأربع؛ وهي وضع الإزار على الكعبين،
وهي صورة محرّمة؛ لقوله: «موضع الإزار إلى أنصاف الساقين والعَضَلَة، فإن
أبيت فمن وراء الساق، ولا حقّ للكعبين في الإزار» [8] .
وهذا الحكم خاص بالرجال كما تقدم، أما النساء: فالإسبال في حقهن مشروع؛ لحديث ابن عمر (رضي الله عنهما) ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه» ، قالت أم سلمة: يا رسول
الله، فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ ، قال: «ترخينه شبراً» ، قالت: إذن
تنكشف أقدامهنّ، قال: «ترخينه ذراعاً ولا تزدن عليه» [9] .
ثالثاً: ثياب الحرير على الرجال:
والأدلة عليه كثيرة، ومنها: حديث أنس (رضي الله عنه) أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال: «من لبس الحرير في الدينا فلَنْ يلْبسه في الآخرة» [10] .
ويجوز عند الحاجة، كالأمراض الجلدية، فعن أنس (رضي الله عنه) قال:
«رخّص النبي للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكة بهما» [11] .
ويجوز أيضاً إذا كان قليلاً: كرقعة في الثوب، أو تطريز، أو في أطراف
الثوب.. ونحو ذلك، بشرط ألا يزيد عرضه عن أربع أصابع، فعن سويد بن غَفَلة
أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية، فقال: نهى نبي الله عن لبس الحرير، إلا
موضع أصبعين، أو ثلاثٍ، أو أربع « [12] .
وعن أبي عثمان النهدي، قال:» أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد
بأذربيجان، أن رسول الله نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان
الإبهام، قال فيما علمنا أنه يعني الأعلام « [13] .
رابعاً: كل ما فيه إسراف ومخيلة:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-:» كلوا، واشربوا، وتصدقوا، والبسوا من غير إسراف ولا ... مخيلة « [14] .
ولعلّ من أبرز مظاهر الإسراف في اللباس: ما يحصل من كثير من النساء
في حفلات الأعراس، ونحوها.
خامساً: ما فيه تشبه بالكفار، أو تشبه بالفساق:
لقوله (عليه الصلاة والسلام) :» من تشبّه بقوم فهو منهم « [15] .
والأمثلة على التشبه كثيرة في واقعنا، ومنها:
المثال الأول: ما يسمى بالموضات، وهي تشبّه بالكفار إن كانت قادمة من
الغرب ونحوه أو تشبه بالفساق، سواء أكان في الثياب أو غيره، وكذا قصات
الشعر ... إلخ.
ومن الموضات التي انتشرت قريباً: لبس البنطال للنساء، ولو سلمنا بأن
ليس فيه تشبه، فإن المحاذير التي توجب منعه إذا لبسته المرأة أمام النساء أو
محارمها من الرجال غير الزوج كثيرة ...
مع التذكير بأن شكل البنطال كان واسعاً فضفاضاً في بداية تقديمه إلى
المسلمين؛ حتى يتقبلوه ويكسروا حاجز التردد والحياء في لبسه، ثم لم نلبث إلا
وقد امتلأت الأسواق بأنواع كثيرة من البناطيل الضيقة، التي استساغ لبسها بعض
النساء مع الأسف الشديد، فحذار حذار أيتها المؤمنة وأيها الغيور أن نتورط في
شراك الشيطان، وحبائل أهل الشرّ.
المثال الثاني: لبس الدبلة عند الخِطبة أو عقد الزواج، فهو تشبه ظاهر
بالنصارى.
المثال الثالث: ثوب العروس الأبيض، ذو الطرحة البيضاء، وقد التزمه
عدد كبير من الناس، وهي من عوائد الغرب المستوردة.
سادساً: ما فيه تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال:
لحديث ابن عباس (رضي الله عنهما) مرفوعاً:» لعن الله المتشبهين من
الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال « [16] .
سابعاً: ثوب الشهرة:
وهو ما قصد به الترفع الخارج عن العادة، أو التواضع والتخفض الخارج
عن العادة [17] ، لقوله:» من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلّة
يوم القيامة، ثم ألهب فيه ناراً « [18] .
ثامناً: المشي بنعل واحدة:
لحديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال:» لا يمشِ أحدكم في نعل واحدة، ليُحفهما أو ليُنعلهما جميعاً « [19] .
ومن المناسب هنا ذكر بعض السنن المتعلقة بلبس النعل:
الأولى: ما جاء في حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال:» إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا انتزع فليبدأ بالشمال،
لتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع « [20] .
الثانية: الصلاة في النعال: سُئل أنس بن مالك:» أكان النبي يصلي في
نعليه؟ قال: نعم « [21] ، وثبت من حديث شداد بن أوس (رضي الله عنه) قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:» خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في
نعالهم ولا خفافهم « [22] ، ولم يكن من هديه (عليه الصلاة والسلام) المداومة على
لبس النعلين في الصلاة، لحديث عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه) ، قال: ... » رأيت رسول الله يصلي حافياً ومنتعلاً « [23] ، ومن المناسب: تقييد هذه السنّة
بعدم الإيذاء، كما في المساجد المفروشة اليوم.
الثالثة: أن يحتفي أحياناً؛ فعن عبد الله بن بريدة (رضي الله عنه) عن رجل
من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:» كان النبي يأمرنا أن نحتفي
أحياناً « [24] .
تاسعاً: التختم بالذهب [25] والحديد للرجال:
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:» أنه
نهى عن خاتم الذهب « [26] ، وعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) أن
النبي نهى عن خاتم الذهب، وعن خاتم الحديد» [27] .
أما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اذهب فالتمس ولو خاتماً من ... حديد) [28] : فلا دليل فيه على جواز لبس الخاتم للرجال، لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس [29] ، وإنما فيه جوازه للنساء.
أما خاتم الفضة: فجائز للرجال، ويسن عند الحاجة إليه كالقاضي الذي
يحتاج إلى خاتم، والدليل: حديث أنس (رضي الله عنه) : «أن النبي أراد أن
يكتب إلى رهط أو ناس من الأعاجم فقيل له: إنهم لايقبلون كتاباً إلا عليه خاتم،
فاتخذ النبي خاتماً من فضة، نقشه: محمد رسول الله» [30] .
والسنّة: أن يوضع في الخنصر من اليد اليمنى أو اليسرى، وقد نهى النبي
-صلى الله عليه وسلم- عن وضعه في الموحِّدة (السبابة) والوسطى، أما البنصر
فمسكوت عنه، فيبقى على أصل الإباحة، والأدلة على ذلك:
1- عن أنس (رضي الله عنه) قال: صنع النبي -صلى الله عليه وسلم-
خاتماً، قال: إنا اتخذنا خاتماً ونقشنا فيه نقشاً، فلا ينقشن عليه أحد، قال: فإني
لأرى بريقه في خنصره « [31] .
2- ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدد من الأحاديث أن النبي -
صلى الله عليه وسلم- وضع الخاتم في اليمنى، وفي أحاديث أخرى أنه وضعه في
اليسرى، وقد اختلف أهل العلم في طريق الجمع بينها، ولعل أقرب المسالك جواز
الأمرين [32] . ومن تلك النصوص:
أ- حديث أنس (رضي الله عنه) ، قال:» كان خاتم النبي في هذه، وأشار
إلى الخنصر من يده اليُسري « [33] .
ب- عن علي (رضي الله عنه) :» أن النبي كان يتختم في يمينه « [34] .
3- عن علي (رضي الله عنه) قال:» نهاني رسول الله أن أتختم في إصبعي
هذه أو هذه، قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها « [35] ، وعن أبي داود
التصريح بذكر الوسطى والسبابة [36] . وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.
__________
(1) انظر: القواعد والأصول الجامعة، لابن سعدي، ص 33.
(2) أخرجه البخاري، ح/5950، ومسلم، ح/2109.
(3) والجمع نمارق، وهي الوسائد التي يصف بعضها إلى بعض، وقيل الوسادة التي يجلس عليها، انظر الفتح، 10/403.
(4) أخرجه البخاري، ح/5957.
(5) أخرجه البخاري، ح/5952.
(6) صحيح سنن أبي داود، ح/3449، وقال النووي: إسناده صحيح (المجموع، 3/183) .
(7) صحيح سنن أبي داود، ح /3442، وصححه النووي (رياض الصالحين، ص 312) .
(8) صحيح سنن النسائي، ح/4922.
(9) صحيح سنن النسائي، ح /4929.
(10) أخرجه البخاري، ح /5832.
(11) أخرجه البخاري، ح /5839.
(12) أخرجه مسلم، ح/ 2069.
(13) أخرجه البخاري، ح/5828، وهو يكون في الثياب من تطريف وتطريز ونحوهما، الفتح 10/298.
(14) صحيح سنن النسائي، ح/2399.
(15) صحيح سنن أبي داود، ح/3401، وجوّد إسناده ابن تيميّة، وحسنه ابن حجر.
(16) أخرجه البخاري، ح/ 5885.
(17) انظر مجموع الفتاوى، 22/138.
(18) صحيح سنن ابن ماجة، ح/2906.
(19) أخرجه البخاري، ح/5856، ومسلم، ح/2097.
(20) أخرجه البخاري، ح/5855.
(21) أخرجه البخاري، ح /386.
(22) صحيح سنن أبي داود، ح/ 607.
(23) صحيح سنن ابن ماجة، ح/850.
(24) صحيح سنن أبي داود، ح/ 3506.
(25) وصح عن النبي تحريم الذهب على الرجال، سواء أكان في خاتم أو سلسال، أو في ساعة أو نظارة أو قلم أو مفتاح أو غير ذلك.
(26) أخرجه البخاري، ح /5864.
(27) السلسلة الصحيحة، ح/ 1242.
(28) أخرجه البخاري، ح /5871.
(29) انظر: الفتح، 10/ 336.
(30) أخرجه البخاري، ح/5872.
(31) أخرجه البخاري، ح/ 5874.
(32) انظر: الفتح، 10/339.
(33) أخرجه مسلم، ح/2095.
(34) صحيح سنن أبي داود، ح/ 3558.
(35) أخرجه مسلم، ح/2078.
(36) صحيح سنن أبي داود، ح /3556.(107/16)
مرتكزات للفهم والعمل
تزكية النفس والحذر من الفتور
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على نبي الهدى،
ومن بهديه اهتدى، وبعد:
فإن الفلاح مطلب العاملين، وقد رتبه الله (تعالى) على تزكية النفس وتربيتها
وتطهيرها، فقال (عز وجل) : [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى] [الأعلى: 14] ، وقال:
[قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] [الشمس: 9، 10] .
وقد بعث الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- معلماً ومربياً، فقال: [هُوَ
الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [الجمعة: 2] ، فكان -صلى الله عليه وسلم-
يتعاهد نفوس أصحابه بالتربية والتزكية.
وإن إصلاح النفوس وتزكيتها دأبُ السائرين إلى الله (تعالى) : الأنبياء
وأتباعهم، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكابد من دعوة قومه الشدائد، فإذا أظلم
الليل انتصب لربه راكعاً وساجداً، يسأله ويرجوه، ويخضع بين يديه ويتذلل له،
وقد كان قيام الليل واجباً على المسلمين عاماً كاملاً، وذلك لما له من أثر في إصلاح
القلب، وانطلاقة المسلم وثباته في آنٍ معاً، مما يجعله ضرورة ملحة لا غنى عنها.
ومن ثَم: كان واجب كل مسلم، وخاصة المشتغلين بالعلم والدعوة أن يجعل
من أكبر همه إصلاح نفسه وتهذيبها، وتعاهدها في صلته مع الله، وأخلاقه وسلوكه
مع الخلق، ويجعل من ذلك منطلقاً لدعوة الناس وإصلاحهم.
التخلية والتحلية والمجاهدة:
من أعظم قواعد تربية النفس: تخليتها من اتباع الهوى؛ فإن اتباع الهوى
موجب لأمراض لا حصر لها، وعلّة المرض لا تعالج إلا بضدها، فالطريق
لمعالجة القلوب: سلوك مسلك المضادة لكل ما تهواه النفس وتميل إليه، وقد جمع
الله ذلك كله في كلمة واحدة، فقال (عز وجل) : [وَأَمَّا منْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى
النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى] [النازعات: 40، 41] ، وقال:
[وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... ] [العنكبوت: 69] .
والأصل المهم في المجاهدة: الوفاء بالعزم، فإذا عزم على ترك شهوة،
وابتلاه الله وامتحنه بتيسير أسبابها، فالواجب الصبر والاستمرار، فإن النفس إذا
عُوِّدت ترك العزم ألفت ذلك، فَفَسَدَت.
ثم يتعين بعد ذلك: تحلية النفس وتعويدها على الخير، حتى تألفه ويكون
سجية لها، قال: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يُعطَه، ومن يتق الشر يوقه» [1] ، فإن الأعمال لها أثر يمتد حتى يصل إلى القلب،
فكما أن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح: فإن كل فعل يجري
على الجوارح قد يرتفع منه أثر إلى القلب، والأمر فيه دَوْر، وهذا من عجيب
العلاقة بين القلب والجوارح [2] .
الحذر من الفتور [3] :
فإذا ما تمت تخلية النفس من اتباع الهوى وتحليتها بفعل الخيرات والفضائل:
وجب بعد ذلك أن يَنْصبّ الاهتمام على متابعة النفس في فعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات والنية في المباحات، فإن النفس من طبعها الكسل
والتراخي والفتور.
قال: «لكل عمل شَرّة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد
أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك» [4] .
قال ابن القيم (رحمه الله) : «تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن
كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم،
رُجي له أن يعود خيراً مما كان» [5] .
درجات الفتور:
إذن: فالفتور أمر لا بد منه، ولكن الفتور درجات وأقسام:
1- أخطرها كسل وفتور عام في جميع الطاعات، مع كره لها، وهذه حال
المنافقين.
2- ثم كسل وفتور في بعض الطاعات، مع عدم رغبة، دون كره لها، وهذه
حال كثير من فساق المسلمين.
3- كسل وفتور سببه بدني، فهناك الرغبة في العبادة، ولكن الكسل والفتور
مستمر، وهذه حال كثير من المسلمين.
والخطير في هذه الحالة أن العمر يمضي، والأيام تنصرم دون إنتاج ولا عمل
يذكر، والأخطر من ذلك: الانتقال إلى حالة أشد منها، فتعظم المصيبة، أو يقع
الشبه بالمنافقين في التكاسل عن الطاعات، والتثاقل عن الخيرات؛ لذا: كان النبي
-صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من العجز، ومن الكسل في الصباح والمساء،
ويعلم أصحابه أن يستعيذوا منه.
وقد عاتب الله المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، ودعاهم إلى المسارعة
والمبادرة إلى الخيرات، ورغبهم في جزاء السابقين المسارعين إلى الخيرات،
وبيّنه لهم.
الداعية والفتور:
والفتور والكسل داء يدب في الناس على مختلف درجاتهم، وأخطر ما يكون
على الدعاة وطلبة العلم، مما يجعل تفاديه قبل حلوله، أو تلافيه بعد نزوله أمراً
ضروريّاً، والدفع أسهل من الرفع.
ومن هنا: وجب تعاهد النفس؛ لئلا تقع في فتور ينقلها من مرحلة إلى مرحلة، فيتعسر الداء، وتصعب المعالجة؛ لأن أمراض النفس كالنبتة، أسهل ما يكون
قلعها وإزالتها أول نباتها، فإذا ما تركت أخذت في النمو والكبر والثبات في الأرض، حتى يحتاج قلعها إلى الرجال والفؤوس، وكذلك أمراض القلوب: تبدأ في ظواهر
يسيرة، فإذا أهمل صاحبها علاجها تمكنت منه حتى تكون هيئات راسخة، وطباع
ثابتة.
لذلك: كان الواجب علينا معشر الدعاة أن نتفحص أنفسنا، ونتأمل أحوالنا:
هل نجد شيئاً من مظاهر الفتور؟ ، فنبادر إلى معرفة الأسباب والسعي في العلاج.
مظاهر الفتور:
مظاهر الفتور كثيرة، منها:
التكاسل عن الطاعات، والشعور بالضعف والثقل أثناء أدائها، والغفلة عن
الذكر، وقراءة القرآن.
الشعور بقسوة القلب، وضعف تأثره بالقرآن والمواعظ.
التساهل في ارتكاب المعاصي وإلفها.
عدم استشعار المسؤولية والأمانة، وضعف هم الدعوة في القلب.
انفصام عرى الأُخُوّة بين المتحابين.
الاهتمام بالدنيا، والانشغال بها عن فعل الخير.
كثرة الكلام الذي لا طائل تحته، وكثرة الجدال والمراء، والحديث عن
الأمجاد، والمشكلات، والانشغال بذلك عن العمل الجاد والمثمر المفيد للأمة.
ضعف جذوة الإيمان، وانطفاء الغيرة على محارم الله.
ضياع الوقت، وعدم الإفادة منه.
عدم الاستعداد للالتزام بشيء، والتهرب من كل عمل جدي.
الفوضوية في العمل.
خداع النفس؛ بأن يتوهّم بأنه يعمل، لكنه في الحقيقة فارغ، أو عمله بلا
هدف.
النقد لكل عمل إيجابي.
التسويف، والتأجيل، وكثرة الأماني.
أسباب الفتور:
وإذا تساءلنا: ما أسباب هذا الفتور الذي نعاني منه، وما دواعيه؟ ، فالجواب: إنها كثيرة، متفاوتة في الأهمية، ومنها:
عدم الإخلاص في الأعمال، أو عدم مصاحبته؛ بأن يطرأ الرياء على
الأعمال.
ضعف العلم الشرعي؛ فيضعف علم فضائل الأعمال وثوابها، وفضل
الصبر وأثره، ونحو ذلك.
تعلق القلب بالدنيا ونسيان الآخرة.
فتنة الزوجة والأولاد، فإنها ملهاة عن كثير من الطاعات، إذا لم ينتبه لها.
عدم فهم الدين نفسه، وهذا غريب! ، والأغرب: أن يفهم طبيعة الدين،
ويتذوق حلاوة الإيمان، ثم ينصرف عن العمل في ميدانه.
الوقوع في شيء من المعاصي والمنكرات، وأكل الحرام أو المشتبه بالحرام.
عدم وضوح الهدف الذي يدعو من أجله، وهو: طلب مرضاة الله، وتعبيد
الناس لرب العالمين، وإقامة دين الله في الأرض.
ضعف الإيمان بالهدف، أو الوسيلة الدعوية التي يسلكها.
الغلو والتشدد، بحيث ينقلب ذلك سبباً للملل وترك العمل.
العقبات والمعوقات الكثيرة في طريق الدعوة والداعية، وتلك سنة الله في
الدعاة والدعوات.
الفردية وإيثار العزلة، فيدركه الملل والسأم.
الجمود في أساليب الدعوة وعدم التفكير في وسائل وأساليب توصل المقصود
إلى المدعوين، وتحافظ على أصول الدعوة وروحها، ومن ذلك مثلاً: التنويع في
أساليب مخاطبة الناس، كلٍّ حسب مستواه: بالكلمة المسموعة، والمقروءة، بشتى
صورها وأشكالها، ومنه: التنويع في كيفية إلقاء دروس العلم والقرآن، من حيث
المكان والوسائل.
عدم استحضار عداوة الشيطان المستمرة، وأيضاً: عدم استشعار تحدي
الكفار للمسلمين، وأنهم يبذلون كل وسيلة لصد المسلمين عن دينهم والكيد لهم.
الأوهام ووساوس الشيطان التي تزرع الخوف في القلوب، وتشكك الداعية
في سلامة الطريق.
أمراض القلوب: كالحسد، وسوء الظن، والغل، وحب الصدارة، والكبر ...
التقصير في العبادة وعمل اليوم والليلة من الرواتب والسنن والأذكار والورد
اليومي ...
استبطاء النصر، واستعجال النتائج.
عدم الاستقرار على برنامج أو عمل معين، وترك العمل قبل إتمامه، ثم
الانتقال إلى غيره.. وهكذا.
النظر إلى مَنْ دونه في العلم والعبادة، وذلك مثبط للهمم.
الدخول على أهل الدنيا ومخالطتهم، وفيه مفاسد عظيمة، لا ينجو منها إلا
من سلّمه الله.
الفتور في معالجة الفتور.
علاج الفتور:
ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، والفتور من أشد الأمراض المعنوية،
وتتأكد خطورته حينما لا يحس به الإنسان حتى ينقله إلى الانحراف، فيقضي عليه
والعياذ بالله، ومن هنا تتأكد أهمية العلاج باتخاذ سبل الوقاية منه ابتداء، أو عمل
الأسباب التي تذهب به بعد وقوعه، وأهم سبل العلاج: تلافي أسبابه، وذلك أعظم
وسيلة للنجاة، وإن القناعة بخطورة هذا المرض ووجوب التخلص منه وقاية
وعلاجاً أمر ضروري للإفادة من سبل العلاج، ومنها:
الدعاء والاستعانة؛ فإن الله يجيب المضطر إذا دعاه، والمصاب بدينه الذي
يخاف على نفسه: أعظم المضطرين، والله هو المستعان على كل خير، ولذا:
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً أن يقول دبر كل صلاة: «اللهم أعني
على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك» .
تعاهد الإيمان وتجديده، والحرص على زيادته بكثرة العبادة؛ مما يكون زاداً
للمؤمن، ومخففاً عنه عناء الطريق.
مراقبة الله، والإكثار من ذكره، ومراقبته تستلزم خوفه وخشيته، وتعظيمه، ومحبته، ورجاءه، والإيمان بعلمه وإحاطته وقدرته، أما الذكر: فهو قوت
القلوب، وبه تطمئن، وأعظم ذلك: الصلة بكتاب الله (تعالى) : تلاوة، وفهماً،
وتدبراً، وعملاً، وحكماً، وتحاكماً، فإن من لم ينضبط بالقرآن أضله الهوى.
الإخلاص والتقوى؛ [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً]
[الأنفال: 29] .
تصفية القلوب من الأحقاد، والغل، والحسد، وسوء الظن؛ مما يشرح
الصدر، ويسلم القلب.
طلب العلم، والمواظبة على الدروس وحلق الذكر والمحاضرات؛ فإن العلم
طريق الخشية، وهو قوت القلوب.
الوسطية والاعتدال في العبادة، وفي عمل الخير.
تنظيم الوقت، ومحاسبة النفس.
لزوم الجماعة، وتقوية روابط الأخوة.
تعاهد الفاترين ومتابعتهم؛ لئلا يؤدي بهم الفتور إلى الانحراف.
التربية الشاملة المتكاملة على منهاج النبوة التي تقي من الفتور بإذن الله
(تعالى) .
تنويع العبادة والعمل، من: الذكر، وقراءة القرآن، والصلاة، وقراءة
الكتب المفيدة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقضاء حوائج الناس،
وإغاثة الملهوفين ...
الاقتداء بالأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، والدعاة المخلصين.. في نشاطهم، وحرصهم على أوقاتهم وأعمالهم.
علو الهمة ونبل المقصد والأخذ بالعزيمة، بأن يكون الهمّ: الجنة،
والمقصود: مرضاة الله؛ بالسعي في العبادة حتى الموت.
الإكثار من ذكر الموت، وخوف سوء الخاتمة، بزيارة المقابر، ورؤية
المحتضرين، فإن ذلك يورث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة..
ونسيان الموت: يورث أضداها.
جعل ذكر الجنة والنار من الإنسان على بال، وقراءة صفة كلٍّ منهما في
كتاب الله (تعالى) وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن ذلك يشحذ الهمم
ويذكي العزائم.
الحرص على زيادة العمل، والاستمرار فيه، والحذر من التكاسل، خاصة
فيما حافظ عليه من عمل، فإن من ترك سنة يوشك أن يترك واجباً.. وهكذا.
الصبر والمصابرة؛ فإن طريق العلم والعبادة والدعوة إلى الله طريق شاق
وطويل، وكثير المتاعب والمصاعب.
نسأل الله (عز وجل) أن يثبتنا على دينه ويختم لنا بخاتمة الخير.
__________
(1) انظر: صحيح الجامع، ح/461.
(2) انظر: تهذيب موعظة المؤمنين، ص 221 225.
(3) انظر: الفتور، د ناصر العمر.
(4) المسند: 2/21، وصحح أحمد شاكر إسناده، وانظر: صحيح الجامع، ح/ 2152.
(5) انظر أيضاً بمعنى هذا الكلام: مدارج السالكين، ج3، ص 121 1 مراجع أخرى مهمة:
1 - روحانية الداعية، عبد الله ناصح علوان ... ... 2 - الفتور، جاسم الياسين.(107/22)
مقال
تأملات في فقه الجهاد
(1 من 2)
بقلم: د.محمد بن عبد العزيز الشباني
ترتبط قوة المجتمع الإسلامي بمدى تمسكه والتزامه بأسس وقواعد الإيمان
الذي يرتكز عليها البناء العقائدي للإسلام، وممارسته للتشريعات والأحكام التي
تمثل المنهج السلوكي لأفراد الأمة، في مجتمع يقوم تنظيمه السياسي والاجتماعي
والاقتصادي على هذه التشريعات والأحكام.
إن ضعف المجتمع الإسلامي وانهزامه يرتبط مباشرة بابتعاده وخروجه عن
أحكام الإسلام، سواء أكان منها ما يرتبط بسلوكيات الفرد، أو بالتنظيمات
الاجتماعية التي يجب على المجتمع المسلم الالتزام بها، لحماية المجتمع المسلم
وإبقائه مرتبطاً بمرتكزاته العقائدية والتشريعية المنظمة لأموره؛ فقد وضع الإسلام
منهجاً أوجب على كل فرد من أفراد مجتمع المسلمين ممارسته، كل بحسب طاقته
وقدرته وعلمه، يتمثل هذا المنهج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال
جهاد اليد واللسان والقلب، فموضوع الجهاد أكبر من أن يقصر على قتال الكفار من
النصارى واليهود وغيرهم.
لقد ورد لفظ الجهاد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة من القرآن، تدور
كلها حول المفهوم الشامل للمجاهدة والمدافعة، يقول الإمام الماوردي في تفسيره
لقول الله (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
[البقرة: 218] : « (وجاهدوا) يعني: قاتلوا، وأصل المجاهدة: المفاعلة من قولهم: جهد كذا، إذا أَكَدّه وشق عليه، فإن كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد
من صاحبه شدة ومشقة، قيل: فلان يجاهد فلاناً» [1] ، ويشير صاحب تفسير
(غرائب القرآن) إلى مفهوم الجهاد، فيقول: «والمجاهدة من (الجَهد) بالفتح، الذي
هو المشقة، أو من (الجُهد) بالضم: الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل جهد كذا، إذا أَكَدّه وشق عليه، فإن كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد
العدو مثل ذلك، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله، كالمساعدة: ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصل القوة» [2] ، ويوضح الحافظ
ابن حجر (رحمه الله) في (فتح الباري) مفهوم الجهاد بقوله: «الجِهاد (بكسر الجيم) ، أصله لغةً: المشقة، يقال: جهدت جهاداً إذا بلغت المشقة، وشرعاً: بذل الجهد
في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق، فأما مجاهدة
النفس: فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها، وأما مجاهدة
الشيطان: فعلى ذم ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات، أما مجاهدة
الكفار: فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفساد: فباليد، ثم اللسان،
ثم القلب» [3] .
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم التي ذكر فيها لفظ (الجهاد) ضمن المفهوم العام
الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر يمكنه حصر متعلقاتها بالآتي:
1- مغالبة الكفار ومقاتلتهم، أي: المواجهة الحربية وقتالهم؛ لإلزامهم
بالدخول في الإسلام، مثل مشركي العرب، أو بدفع الجزية وفتح المجال أمام من
يرغب في الدخول في الإسلام بإزالة الخوف وتحقيق مبدأ «لا إكراه في الدين» ، ومن الآيات المؤكدة لهذا المعنى: قوله (تعالى) : [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] [آل عمران: 142] ، ... وقوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً] [الأنفال: 74] ، وقوله (تعالى) : ... ... [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الصف: 10، 11] .
2- بذل المال للجهاد: وإطلاق لفظ الجهاد على بذل المال، وقد قدّم المال
على النفس في معظم الآيات التي تحدثت عن الجهاد؛ لما له من دور في تحقيق
غاية الجهاد، ومن ذلك قوله (تعالى) : [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] ... [الحجرات: 15] ، وقوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ] [التوبة: 20] .
3- جهاد الكلمة: من خلال الدعوة إلى الله، ورد شبهات المنافقين والكافرين
بالحجة والبرهان، والعمل على نشر الحق والخير، ومنع المنكرات الفعلية والقولية
من خلال الكلمة الصادقة والحجة القاطعة، يقول الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ
الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] [التحريم: 9] ، ومعروف أن المنافقين يمارسون
حياتهم ضمن المجتمع المسلم، ولكنهم يمارسون الكفر من خلال الكيد للإسلام بقول
الكلمة السيئة؛ لصرف الناس عن الحق وتشويه الأفكار والأحكام الإسلامية؛ بقصد
بذر بذور الشك، ولقد صور القرآن الكريم تلك الأساليب من الكيد للإسلام خلال
العهد النبوي وذلك: بالتحالف مع اليهود ومشركي العرب بزعامة قريش في عدد
من آيات الكتاب الحكيم، وحيث إن مجابهة المنافقين لا تتم من خلال المواجهة
العسكرية، وإنما من خلال الكلمة، فقد كان لجهاد الكلمة مكانة رفيعة وبارزة في
الدفاع عن الأساس العقدي والتشريعي للمجتمع المسلم، ولهذا: وجه الله رسوله إلى
الاستعانة بالقرآن الكريم للرد عليهم، يقول (تعالى) مخاطباً رسوله ومن معه ومن
بعده من المؤمنين: [فَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً] [الفرقان: 52] ، ويفسر ابن كثير هذه الآية بقوله: « (وجاهدهم) ، أي: بالقرآن، قاله ابن عباس، جهاداً كبيراً، كما قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ] ... الآية [4] ، وقوله (تعالى) : [وَمَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ] [العنكبوت: 6] ، قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من
الدهر بسيف» [5] .
4- مغالبة النفس وجهادها: بمنعها من الوقوع في الشرك والكفر والفسوق
وارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب، ويطلق القرآن على هذه المدافعة النفسية لفظ
الجهاد، يقول (تعالى) : [وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ] [لقمان: 15] فقد
نزلت هذه الآية في سعد بن مالك (رضي الله عنه) وموقفه من أمه، وكان بارّاً بها،
ومع ذلك: لم يتابعها على دينها مع ما يبذله من بر وطاعة وحسن خلق معها، كما
أن من المجاهدة: الصبر على تحمل الأذى في سبيل العقيدة، والالتزام بما أمر الله
به من فعل، وترك ما نهى الله عنه من فعل، يقول (تعالى) : [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] ، وقد ذكر ابن كثير عن
ابن أبي حاتم عن أبي أحمد من أهل عكا تفسيراً لمفهوم هذه الآية أنه قال: «الذين
يعملون بما يعلمون: يهديهم الله لما لا يعلمون» ، وهذا لا يحصل إلا بمجاهدة
النفس.
يرتبط الجهاد حسب المفاهيم السابقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
من حيث إن الجهاد هو وسيلة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبدون
ممارسة المجتمع المسلم بمختلف فئاته وفقاً للضوابط الشرعية وظيفة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر: فإن الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام يفقد دوره
الحافظ لقيم ومبادئ وتشريعات الإسلام، ولهذا: فهناك التلازم فيما رواه مسلم في
صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما من نبي بعثه الله في
أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها
تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن
جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو
مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» [6] .
فهذا الحديث يؤكد التلازم بين الجهاد بالمعنى العام والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بشكل واضح؛ حيث يحدد أن الإيمان الذي يمثل الركيزة التي يقوم عليها
البناء الاجتماعي للمجتمع المسلم إنما يقوم على مجاهدة أولئك الذين يريدون أن
ينحرف المجتمع المسلم عن مساره قولاً وفعلاً، فمقاومتهم جهاد، وعليه: يأتي
التوجيه النبوي لمجموع أفراد الأمة بوجوب تغيير المنكر، كما جاء في الحديث
الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول: «.. من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [7] .
لقد جاءت لفظة (المنكر) في هذا الحديث بصيغة التنكير التي تفيد العموم،
وقد ذكر الحسن بن محمد النيسابوري في كتابه غرائب القرآن عند تفسيره لقوله
(تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] مفهوم الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بقوله: «إن لفظ (الخير) جنس، تحته نوعان: الترغيب في فعل ما
ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته، والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان، فقال: ويأمرون بالمعروف، وينهون
عن المنكر [اي: أتبع كلمة (الخير) المشتملة على النوعين، الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر] ، واختلفوا في أن كلمة (مِنْ) في قوله (منكم) للتبيين أو للتبعيض، فذهبت طائفة إلى أنها للتبيين؛ لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه.. وقال آخرون: إنها للتبعيض،
إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كالنساء والمرضى والعاجزين، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون
الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما،
وكيف يباشر» [8] .
أنواع وأشكال الجهاد:
إن مراتب الجهاد المرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتحدد في
ثلاثة أشكال حسبما حددها حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) على النحو
التالي:
أولاً: الجهاد العسكري، وهو جهاد يقصد منه إزالة المنكر الذي يحتاج إلى
استخدام القوة لتغييره.. والمنكر الذي يحتاج إلى استخدام القوة من خلال الجهاد
العسكري ينقسم بدوره إلى: جهاد لنشر الإسلام، باعتبار أن أكبر المنكرات هو
الصد عن الإسلام من خلال محاربة الإسلام والمسلمين ومنع الناس من أن يعبدوا
الله وفق ما شرعه.. وإلى جهاد لصد الكفار من اليهود والنصارى ممن استباح ديار
المسلمين واحتلهم واستذلهم وحاربهم وحارب كل من سعى لتطبيق منهج الله وشرعه
في ديار الإسلام من خلال التهديد بمختلف صوره قولاً وفعلاً.
هذا الجانب من الجهاد قد ضعف، بل أصبح من الأمور التي يُتكلم فيها على
استحياء، فنجد المقولة التي يُراد لها أن تتعمق في العقل المسلم: إن الإسلام دين
يدعو إلى السلام، ولو كان السلام يقوم على التمكين لغير شرع الله! ، وبالتالي:
فلا يجوز محاربة الكفر وإعلان الجهاد لتبليغ رسالة الإسلام وإزالة الطواغيت التي
تصد الناس عن سماع واتباع الحق، من أجل ذلك: فقد قامت الدعوة إلى عقد
الندوات والمؤتمرات الداعية إلى التقارب بين الأديان ونبذ الصراع مع الباطل
ومسالمته، مع أن سنة الله قائمة على استمرار الصراع بين الحق والباطل.
إن الجهاد العسكري ضد الدول الكافرة التي تحارب الإسلام؛ فتصد عن سبيل
الله، أو تساعد وتناصر القوى الظالمة والجبابرة من أجل إبقاء المجتمع المسلم تحت
عبوديتها، والعمل على تجذير الفرقة، والتمكين لأعداء الإسلام من المنافقين
والملحدين من استعباد المسلمين.. هذا الجهاد أمر أوجبه الله على المسلمين، لقد
جاءت نصوص القرآن واضحة جلية بهذا الخصوص، فمن ذلك قوله (تعالى) : [فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] [النساء: 74] ، وقوله (تعالى) : [وَمَا
لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياً وَاجْعَلْ لَّنَا
مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75) الَذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] [النساء:
75، 76] ، وقوله (تعالى) : [قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] ، إن دلالة هذه الآيات
صريحة بأمر قتال جميع قوى الكفر ممن يحاربون الإسلام ويمنعون عباد الله من
الانضواء تحت شريعة الله، بل يظاهر بعضهم بعضاً لمحاربة الإسلام ودعاته
والمطالبين بتحكيم شرعه، من هنا: فإن واجب الأمة السعي لتوجيه الجهد والطاقة
لإحياء مفهوم الجهاد ومناصرة المستضعفين من المسلمين، الذين تنتهك حرماتهم،
وتستباح ديارهم، ويُخرجون من ديارهم لا ذنب لهم إلا أنهم مسلمون، وقد أوجب
الله جهاد هذه الفئة ممن يظاهر ويناصر أعداء المسلمين في قوله (تعالى) : [إنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [الممتحنة: 9] ، ومن مفهوم
هذه الآية: فإن أي موالاة ومناصرة وخضوع لتلك القوى الكافرة اقتصاديّاً وإعلاميّاً
سيجلب مقت الله وعذابه، فقد حذرنا رسول الله من الوقوع في ذلك بالحديث الذي
جاء فيه: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم
الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» [9] ، وهذا الحديث
يصور واقع الأمة الإسلامية وما وصلت إليه من ذل ومهانة، بحيث أصبح بعضها
يلجأ لحل مشاكلها ونزاعاتها فيما بينها إلى دول الكفر من النصارى واليهود لحلها
ونيل النصرة منها، مع أن الله (تعالى) قال في كتابه: [ ... لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاًّ وَلا
ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] [التوبة: 8] ، وقال
(تعالى) : [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ]
[الممتحنة: 2] .
إن التجربة التاريخية المعاصرة توضح هذه الحقيقة التي أشار إليها القرآن عن
مدى الحقد والغل الذي يكنّه النصارى واليهود حتى مع استسلام المسلمين
وخضوعهم لهم، وصدق الله: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى] [البقرة: 120] .
من الفتن المظلمة في هذا العصر فيما يتعلق بمفهوم الجهاد: أن أعداء الله من
المنافقين الذين ابتليت بهم الأمة عمدوا إلى تحريف العبارات عن مدلولاتها ومعانيها
لتوافق أهواءهم وأهواء من باعوا أنفسهم له، فمن ذلك: استخدام لفظ الجهاد وأدلته
لدفع كثير من البسطاء ممن يدفعه الحماس الديني والرغبة في الاستشهاد والانخراط
في القتال باسم الجهاد وباسم الاستشهاد؛ لتحقيق أغراض، الله عليم بها، وكذلك:
إطلاق لفظ الشهيد على أولئك الذين يقتلون تحت راية وطنية أو قومية أو مذهبية أو
طائفية؛ بقصد تحقيق مكاسب سياسية تخدم قوى الكفر من النصارى واليهود.
المفهوم الصحيح للجهاد:
المعنى الصحيح للجهاد هو ما فسره الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) في
الحديث الذي رواه البخاري، عن أبي موسى (رضي الله عنه) قال: «قال أعرابي
للنبي: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، من
في سبيل الله؟ ، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل ... الله» (10) ، ويعلق الإمام ابن حجر على هذا الحديث فيقول: «وفي إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم- بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمه؛ لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله لاحتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله، وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة» [11] .
إن على المسلمين أفراداً أو جماعاتٍ أن يكونوا على حذر من الدعوات التي
تطلق باسم الجهاد، فلا ينخدع المسلم بكل من رفع راية الجهاد، وزعم أن رايته
راية إسلامية، وعليه أن يتحقق من صحة دعوى الجهاد التي يطلقها الزعماء والقادة
وأتباعهم ممن يزعم العلم والصلاح، وذلك بعدة أمور، من أهمها ما يلي:
1- النظر إلى المنهج الفكري للداعي للجهاد، وهل هو منهج إسلامي أم غير
إسلامي، وهل من يدعو للجهاد يمارس الإسلام قولاً وسلوكاً وتنظيماً ونظاماً، أم
إن الدعوة جاءت لجذب الأنصار وللتضليل مع أن منهج الداعي في منظمته أو
دولته يتعارض مع الإسلام ومبادئه؟ ، لهذا: ينبغي النظر بدقة إلى واقع الداعي،
ومدى التزامه بالإسلام فعليّاً من عدمه.
2- دراسة وتمحيص التاريخ الشخصي للقادة الذين ينادون بالجهاد ومُنظِري
ذلك من أتباع القادة من المفكرين الذين يؤطرون لهؤلاء القادة من خلال دراسة مدى
سلامة عقيدتهم وسلوكهم قبل وصولهم إلى مراكز القيادة، وهل كانوا ذوي
ارتباطات سابقة مع أعداء الله من ولاء وعمالة وخيانة ونفاق؟ ، وعلى ضوء هذا
يتم تحديد صدق دعوة ذلك الزعيم من عدمها؛ فإذا كان القائد الداعي إلى الجهاد
معروفاً بعدائه السابق للإسلام وتشريعاته، بل كان حرباً على التوجهات الإسلامية،
عليه: فلا يمكن الركون إليه ولا إعانته، حتى ولو أظهر للناس عند الحاجة مظاهر
الإسلام لخداعهم.
3- معرفة أهداف القتال ومراميه، الذي من أجله طلب من الناس القيام
بواجب الجهاد، فهل هذا القتال من أجل محاربة الكفار وصد عدوانهم على مجتمع
يعيش فيه المسلمون، أو محاربة وجودهم في أرض الإسلام؟ ، ففي هذه الحالة
ينبغي تلبية الداعي ولو كان فاسقاً في نفسه ومنحرفاً في سلوكه، وإن كان الغرض
من القتال هو العمل على إقامة حكم يلتزم بشرع الله وذلك بتحكيم الإسلام في كل
أمور الحياة فينبغي عندئذ: وضوح هذا الهدف وأن يكون ذلك سياسة معلنة لا
غموض ولا لبس فيها، وليس من أجل الاستهلاك وخداع الناس وتضليلهم، ولهذا:
لا بد من التأكد من صحة هذه الدعوى من خلال قيام الداعي بالممارسة العملية
لتطبيق الشريعة قبل وبعد إعلان الجهاد، وعدم التسويف حتى تنتهي الأزمة ويتم
الانتصار، ثم يقلب الزعيم ظهر المجن لأولئك البسطاء من الناس ممن خدعهم.
4- التأكد من نوعية القيادة لمختلف مستويات المجموعة أو الدولة التي تعلن
الجهاد، فهل هي نوعية ملتزمة في سلوكها وعقيدتها بالإسلام، وهل سياساتها
وعلاقاتها تجري على ضوء تعاليم الإسلام، أم إن المسألة دعايات ومظاهر فقط،
وربما تكون وليدة ردود أفعال لمآزق وقعت فيها الأنظمة، فيكون الهدف حشد الرأي
العام في مناصرتها، فهذا ما يجب معرفته بحق.
فإذا تأكد المسلم من توافر هذه الشروط والأحوال فيمن يدعو لجهاد أعداء الله
من الكفار، وأصبح للداعي تميز مكاني؛ فأصبح للجماعة المنادية للجهاد أرض
تمارس فيها حكم الله، ومن موضعها يتم الانطلاق للجهاد، فعندئذ يصبح الجهاد
فرضاً على كل قادر، بل إن الهجرة لهذا المكان واجبة على القادرين لمناصرة
المسلمين، وهذا ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما هاجر إلى المدينة، وأصبح للمسلمين دار إسلام ودار منعة؛ حيث وُجدت القيادة، وأصبح للأمة قائد
يتولى أمرها، أما قبل ذلك، وخلال مرحلة الضعف في مكة: فإن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- منع المسلمين من مقاتلة كفار مكة، وأوجب عليهم تحمل
الأذى.
__________
(1) النكت والعيون في تفسير القرآن، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، ج1،.
(2) غرائب القرآن، للحسن بن محمد النيسابوري، ج2، ص 228.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ج3.
(4) تفسير ابن كثير، ج3، ص 321.
(5) تفسير ابن كثير، ج3، ص 404.
(6) أخرجه مسلم، ك الإيمان، ح/80.
(7) أخرجه مسلم، ك الإيمان، ح/78، وكذا: الترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل.
(8) غرائب القرآن ورغائب الفرقان، للحسن بن محمد النيسابوري، ج4، ص 28.
(9) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 2/84، وأبو داود واللفظ له، ك البيوع، وصححه الألباني، ح/11 من السلسلة الصحيحة - البيان -.
(10) أخرجه البخاري، ك الخمس، واللفظ له، ومسلم، ك الإمارة، ح/ 149، وأحمد ابن حنبل، 1/416.
(11) فتح الباري، ج 6، ص 28، 29.(107/30)
ملف العدد
حتى لا ننسى فلسطين
فاتحة الملف
فلسطين الأرض المباركة إسلامية من قديم الأزل، وليس فقط منذ فتحها
المسلمون على يد الخليفة الراشد «عمر بن الخطاب» (رضي الله عنه) فالفتح
الإسلامي كان وصلاً لمعالم التوحيد وتجديداً للعهد على ملة إبراهيم.
وقضية فلسطين محورية في حياة المسلمين من حيثيات ثلاث: قَدْر الأرض
المقدسة وعزيز مكانتها، ومن حيث: طرف الصراع فيها (اليهود) الذين يتولون
كبر الحرب على المسلمين وينسجون مكائد الإجرام ضدهم، والثالثة: من حيث
قدرية الصراع معهم الذي ما تركنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا نصحنا
بأبعاده، ودلنا على فاعل أدوات إدارته وأمضى أسلحة التعامل فيه، حيث يصدع
صدى مبشراته: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون،
حتى يختبئ اليهوديّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم،
يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود»
الحديث رواه مسلم وأحمد.
إن هذه الأرض إسلامية مهما تكالبت عليها الخطوب، وحتى بعدما تحول
الشمم العربي من لاءاته الثلاث الشهيرة إلى الاستسلام، عفواً: السلام، بل
الهرولة إلى السلام وكأنه مغنم وفتح! .
وحتى لا ننسى (فلسطين) يجيء هذا الملف محتوياً على عدد من المشاركات
التي تعالج هذه القضية من أبعاد مختلفة، راجين أن نكون قد وفقنا للتذكير بهذا
الهدف الكبير والأمانة العظمى.
ومع ما وصلنا إليه من ضعف فإن أمل العودة يجب إلا يغيب عن أذهاننا،
ولنذكر به أجيالنا ونرضعهم حبه وأنه لا شك قريب؛ لأن اليأس جاء في القرآن
الكريم قرين الكفر [إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] [يوسف: 87] .
والله من وراء القصد،،،(107/39)
ملف العدد
(حتى لا ننسى فلسطين)
المسجد الأقصى.. والزلزال القادم
بقلم: عبد العزيز كامل
لا يغيب عن علم المطلع على تاريخ النبوات، أن لكل أمة قبلة تتجه إليها في
صلواتها وعبادتها، فكما أن لنا نحن أهل الإسلام قبلة هي الكعبة المشرفة، فقد كان
لكل من أصحاب الديانات السماوية السابقة قبلة يتجهون إليها [وَلِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيهَا] [البقرة: 148] ، وكان هذا التوجه عند أصحاب كل ملة جزءاً من
شريعتهم، ولكن الأمر الذي جدّ بعد بعثة الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- أن
تلك الشرائع نُسخت وأُلغي العمل بها، وبالتالي: فقد نسخت شرعية كل قبلة يُتجه
إليها إلا الكعبة المشرفة، فهي وحدها التي تقبل العبادة بالتوجه إليها، وهي أيضاً لا
تقبل إلا من موحد مسلم.
والمشكلة: أن هؤلاء المتبعين للشرائع المنسوخة لم يعترفوا وخاصة اليهود
منهم بذلك النسخ، ولم يؤمنوا بالشريعة التي جاء بها النبي الخاتم -صلى الله عليه
وسلم-، وهم بالتالي قد ظلوا متشبثين بالقبلة التي كانوا عليها [وَلَئِنْ أََتَيْتَ الَذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ... ] [البقرة: 145] .
إن قبلة اليهود منذ كانوا، وإلى اليوم هي المعبد الذي شيده سليمان (عليه
السلام) ، والذي يطلقون عليه: (هيكل سليمان) ، وهو الاسم التاريخي القديم
للمسجد الأقصى قبل أن يتحول إلى إرث الأمة الإسلامية، والمعروف تاريخيّاً أن
ذلك المعبد قد دُمِّر مرتين، المرة الأولى على يد الملك البابلي «بختنصر» عام
(587 قبل الميلاد) ، والمرة الثانية عام (70 ميلادي) على يد الإمبراطور الروماني
«طيطس» ، حيث دمره تدميراً كاملاً، ولم يبقَ منه إلا جزءاً من السور في
الجهة الجنوبية الغربية لساحة المعبد، وهو الجزء الذي ظل باقياً حتى بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي رُبط فيه (البراق) في ليلة الإسراء والمعراج،
وهو نفسه السور الذي تسميه اليهود اليوم بـ (حائط المبكى) ، وقد جاء ذكر
التدميرَين (الأول والثاني) في القرآن الكريم في أول سورة الإسراء.
والمقصود هنا: أن اليهود ظلوا يتجهون إلى ناحية ذلك الهيكل في صلواتهم
منذ ذلك التاريخ، وظلوا يتشوقون ويتشوفون إلى يومٍ يستطيعون فيه إعادة بناء ذلك
الهيكل الذي يدْعُونه اليوم بـ (الهيكل الثالث) .
ولم تسنح الفرصة لليهود طوال ما يقرب من ألفي عام لتحقيق حلمهم التاريخي، إلا في هذا القرن، بعد أن عادوا للاستيطان في أرض فلسطين، وظل حلمهم
يقترب من التحقيق شيئاً فشيئاً، حتى اقترب جدّاً باحتلالهم لمدينة القدس بعد حرب
عام 1967م، حيث وقع المسجد الأقصى أسيراً تحت أيديهم، ولكن الأمور لم تكن
بالسهولة التي يستطيعون معها في الحال أن يُقدموا على إنفاذ رغباتهم المحمومة في
هدم المسجد الإسلامي وبناء المعبد اليهودي مكانه، فلجؤوا إلى الحيل والمكائد
والمؤامرات للوصول إلى ذلك الهدف.
عندما بدأ الاحتلال الإسرائيلي للقدس، لم يكن ظاهراً من حائط المبنى القديم
إلا (28) متراً فقط، وكان الباقي محجوباً بالأبنية والمنازل المكونة لما يعرف بـ
(حي المغاربة) ، ذلك الحي الذي أقدمت السلطات اليهودية في عام 1967م على
هدمه؛ لكي تكشف بقية حائط المبكى، ووسعت الطريق المقابل له، بحيث أصبح
ساحة كبيرة جعلها اليهود مركزاً دينيّاً مؤقتاً لعبادتهم، وكان هذا الإجراء هو أول
مرحلة من ضمن عشر مراحل من تلك المؤامرة (مؤامرة الحفريات) ، التي تمت
تحت زعم البحث عن أي آثار تاريخية للهيكل المهدوم منذ ما يقرب من ألفي عام،
هذا هو الهدف الظاهر، أما الهدف الباطن فيظهر لنا من خلال استعراض مختصر
لتلك المراحل العشر:
المرحلة الأولى: وهي تلك التي هدم اليهود فيها حي المغاربة نهائيّاً لتكون
الأرض جاهزة لأي أعمال حفر وتنقيب، وقد استمرت الحفريات في هذه المرحلة
سنة كاملة، ووصل عمقها إلى (14) متراً.
المرحلة الثانية: واستمرت فيها عمليات الهدم في الأحياء الإسلامية مع إجلاء
سكانها العرب، وفي هذه المرحلة حدث حريق المسجد الأقصى عام 1969م.
المرحلة الثالثة: استمرت خلال الأعوام (1970م 1972م) وبدأ فيها شق
الأنفاق تحت أسوار المسجد الأقصى من جانبيها الجنوبي والغربي، حتى نفذت إلى
الأرضية الداخلية تحت ساحة المسجد، وشملت هذه المرحلة الاستيلاء على أبنية
إسلامية كثيرة، منها: مبنى المحكمة الشرعية.
المرحلة الرابعة: (عام 1973م) ، حيث اقتربت الحفريات من الجدار الغربي
للمسجد الأقصى، وتغلغلت مسافة طويلة تحته، ووصلت أعماق الحفريات وقتها
إلى أكثر من ثلاثة عشر متراً.
المرحلة الخامسة: (عام 1974م) ، وفيها توسعت الحفريات أفقيّاً تحت الجدار
الغربي.
المرحلة السادسة: (1975م 1976م) ، وفيها أزال اليهود أثناء التوسع في
الحفريات مقبرة للمسلمين تضم رفات الصحابيين الجليلين عبادة بن الصامت،
وشداد بن أوس (رضي الله عنهما) .
المرحلة السابعة: (1977م) ، وصلت الحفريات إلى تحت مسجد النساء
داخل المسجد الأقصى، وتمت فيها موافقة لجنة وزارية إسرائيلية على مشروع
بضم أقسام أخرى من الأراضي المجاورة للساحة، وهدم ما عليها بعمق تسعة أمتار.
المرحلة الثامنة: (1979م) ، وبدأت فيها حفريات جديدة قرب حائط البراق،
وتم شق نفق طويل، وتقرر الاستمرار فيه حتى يخترق المسجد الشريف من غربه
إلى شرقه، وقد تم تحصين هذا النفق بالأسمنت المسلح، وأقيم كنيس يهودي صغير، افتتحه رسميّاً رئيس الدولة اليهودية ورئيس وزرائه.
المرحلة التاسعة: (1986م) ، وفيها استشرت الحفريات من كل جانب، وتم
إجلاء أعداد كبيرة من السكان من القدس القديمة، وأغلقت السلطات الإسرائيلية
مستشفى فلسطينيّاً، واغتصبت بيوتاً عربية كثيرة، وسكن «شارون» وزير
الدفاع السابق ووزير الإسكان الحالي في واحدة منها! ، تأكيداً على تهويد القدس.
المرحلة العاشرة: (عام 1988م) ، وقد بدأت بشراسة، فازداد التوغل تحت
أرضية الساحة وحولها، وبينما يقوم الحراس المسلمون بحماية المسجد من الداخل
ضد أي اعتداء، إذا بالحفارين اليهود يتوغلون في الحفريات من المحيط الخارج
عن الأسوار، ومن الأحياء التي تسيطر عليها القوات العسكرية اليهودية سيطرة
تامة، وتركزت الحفريات على الطبقات التحتية لتفريغها من التربة.
وكانت هذه المرحلة من أخطر المراحل؛ لأنها كانت تهدف إلى تفريغ الأتربة
والصخور من تحت المسجد الأقصى ومسجد الصخرة لترك المسجدين قائمين على
فراغ، ليكونا لا قدر الله عرضة للانهيار أو السقوط بفعل أي تقلبات مناخية أو
هزات أرضية، أو حتى صوت عالٍ تسببه طائرة تخترق حاجز الصوت..! !
النفق ليس جديداً:
إذن: فأمر النفق (أو الأنفاق) ليس جديداً، فهذا النفق قد بُدئ العمل فيه منذ
ثمانية عشر عاماً، إلا أنه تم إكمال حفره في ليلة عيد الغفران اليهودي لهذا العام،
وتم افتتاحه رسميّاً يوم الثلاثاء 24 سبتمبتر الماضي في احتفال شارك فيه «إيهودا
ألمرت» رئيس بلدية القدس، ومندوبون عن وزارة الشؤون الدينية، ويبلغ طول
النفق 457 متراً، وقد وضع الإسرائيليون بوابة حديدية عند نهايته، وفرضوا عليه
حراسة عسكرية مشددة بموافقة مباشرة من (بنيامين نتنياهو) .
وإذا كان حفر النفق جزءاً من مؤامرة الحفريات التي تهدف إلى تفريغ الأرض
تحت المسجد الأقصى تمهيداً لهدمه، فإن هناك هدفاً آخر من افتتاحه رسميّاً وسط
هذا الضجيج الإعلامي الدولي، وهو الترويج لدعاية أن القدس ليست هي ما يراه
العالم اليوم، وإنما هي (أورشليم) الموجودة تحت سطح المدينة، والتي سيعملون
على إخراجها من باطن الأرض أو باطن التاريخ من جديد، ويُذكر هنا أيضاً: أن
هناك الآن ما يطلق عليه اليهود (إسطبلات سليمان) التي يقول اليهود: إنها كانت
مكاناً يجمع فيه سليمان (عليه السلام) الدواب التي يستعملها في حروبه وفتوحاته،
ومكان هذه الإسطبلات أيضاً: أسفل الجهة الجنوبية للمسجد الأقصى.
فاليهود إذن نقلوا جزءاً من الصراع إلى تحت الأرض، وهم يدعون يوماً بعد
يوم أن هذا الجزء أو ذلك الجزء تحت الأرض هو ملك خاص لهم، وليهنأ العرب
والمسلمون بملكية الدور الثاني أو الثالث أو الرابع من تلك الأدوار التي بنيت فوق
الأراضي المملوكة للغير! .
أما إذا هدمت تلك الأدوار أو سقطت لأي عارض.. فالملك سيعود لأصحاب
الأرض ... ولكن أي أرض؟
إنها (أرض إسرائيل) كلها، أو (أرض التوراة) ، أو (أرض الميعاد) .. من
النيل إلى الفرات، تلك الأرض التي لا قيمة لها عندهم إلا بالقدس، ولا قيمة للقدس
عندهم إلا بإكمال بناء الهيكل الثالث فيها، لتكتمل ملامح الدولة الدينية لذلك الكيان
العبري اليهودي، إن هذا ما درج على قوله أساطينهم منذ (بن جوريون) ، ... و (بيجن) ، و (نتنياهو) : «لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس
بدون الهيكل» .
ومنذ فترة في منتصف عام 1995م تقريباً عرض الزعيم الفلسطيني ياسر
عرفات على الصحفيين مجموعة من الصور والقطع المعدنية الإسرائيلية الحديثة
التي تظهر فيها القدس بدون المسجد الأقصى وقبة الصخرة.. وعرض التلفزيون
الإسرائيلي نفسه في منتصف عام 1995م صوراً مأخوذة من إدارة مدرسة دينية في
القدس، وقد اختفت فيها معالم المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، وظهر مكانها
منظراً لهيكل سليمان قائماً مكانها، وذلك في البرنامج التلفزيوني (مباط شني) .
وقد نشرت صحيفة (يديعوت أحرنوت) الإسرائيلية قصة هذه الصور بقلم أحد
الصحفيين اليهود «نرهار سميلانسكي» ، حيث قال: «إن اليهود المتدينين
يعكفون بين آن وآخر على دراسة الخطط المعدة لشن هجوم على المسجد في الوقت
المناسب لتدميره عن آخره، حتى يفرضوا أمراً واقعاً جديداً، وقال:» إنهم
يعرفون جيداً كيف سيتم إخلاء بقايا المسجدين وجثث المصلين قبل الاحتفال بـ
(عيد أنوار الهيكل) ! ! «.
إن شيئاً واحداً في تقديري هو الذي يوقف ويؤخر القرار الأخير بالهدم على
المستوى الإسرائيلي الرسمي، وهو عدم معرفة أبعاد ردود الفعل الإسلامية إذا نفذت
المؤامرة، وعلى أي حال فهم يجرون كل مدة (بروفة) لقياس مقادير ردود الأفعال،
وهي (مطمئنة) لهم على كل حال على المستوى العربي والإسلامي، فهى لا تعدو
أن تكون فورة تتبعها غورة، وكان آخر البروفات: حدث افتتاح النفق.
يقول القادمون من الأرض المحتلة: إن السلطات الإسرائيلية تستخدم في
أعمال الحفر تحت الأقصى والأبنية المجاورة آلات خاصة، تطلق اهتزازات ذات
قوة صوتية عالية، بقصد خلخلة أسس المسجد وتفكيك أركانه المتماسكة، حتى
يسهل تداعي أسسه بعد ذلك، إذن: فقدسية المكان لدى اليهود غير قابلة للنقاش،
وتأجيل قضية القدس إلى آخر مراحل المفاوضات السلمية، ما هو إلا تضييع
للوقت وإعطاؤهم فرصة لتحقيق مخططاتهم.
ولكن هناك أمراً ينبغي التنبيه عليه، وهو أن اليهود الذين يدينون بتقديس تلك
البقاع المكانية، لهم أيضاً مقدسات زمانية لا تقل عندهم قدسية، وهم قوم مغرمون
بالرموز والطقوس ذات الايحاءات، وكثيراً ما يحبون الجمع بين مناسبتي الزمان
والمكان (كما حدث مؤخراً في افتتاح النفق ليلة عيد الغفران اليهودي) .
فاليهود الذين يقدسون (القدس المكان) يعدون الآن للاحتفال زمنيّاً بما يسمى
(القدس 3000) وهو احتفال لإحياء ذكرى مرور ثلاثة آلاف عام على بناء القدس
على يد النبي الملك سليمان (عليه السلام) ، وهم أيضاً يقدسون (الهيكل المكان) ،
ويعدون الآن للاحتفال ببناء سليمان لذلك المعبد ضمن بنائه للمدينة المقدسة قبل
ثلاثة آلاف عام.
واليهود يعدون أيضاً للاحتفال في العام القادم بمرور مئة عام على مولد فكرة
الدولة اليهودية على يد زعيم الصهيونية الحديثة» تيودور هرتزل «عندما أصدر
كتابه المسمى (الدولة اليهودية) التي اجتمع لأجل إقامتها أساطين اليهود في مؤتمر
(بازل) بسويسرا عام 1897م.
واليهود سوف يحتفلون في العام القادم (1997م) بمرور 50 عاماً على إعلان
إنشاء تلك الدولة اليهودية (إسرائيل) التي أعلن عن تأسيسها في 14 مايو 1947م،
إذن: فالعام أو الأعوام القليلة القادمة هي أعوام حبلى بالأحداث والعلم عند الله،
ولكن إذا سارت الأمور على حسب ما يخطط له اليهود (نسأل الله أن يخزيهم
ويدحرهم) : فإن مرحلة تدشين الهيكل الثالث قد اقتربت ... والمسلمون في غفلة
وسبات عميق وطويل، لا أظن أنهم سيفيقون منه إلا على وقع أحداث كبرى.
واليهود يروجون من اليوم لدعاية أن المسجد المقام فوق جبل المعبد سوف
يُهدم بفعل إلهي (كرامة لليهود) ! ! ! هذا إذا لم يستعجل بعض (المتطرفين) منهم أو
أصحاب (الهوس الديني) بتقريب موعد هذا الحدث! .
إنهم، بمعنى آخر وبعد أن أكملوا أكبر الأشواط في مؤامرة الحفريات
ينتظرون زلزالاً طبيعيّاً، أو صناعيّاً (كذلك الذي تحدثه التجارب النووية) لكي
يخلصهم من ذلك المسجد الإسلامي العريق (المسجد الأقصى) ، ويوصلهم إلى إعادة
بناء معبدهم اليهودي العتيق (الهيكل الثالث) ...
ونحن المسلمين في انتظار زلزال معنوي آخر يوقظ أحاسيسنا وينقذ
مسجدنا ...
إننا وهم ... على موعد مع الزلزال! !
... ... ... ... ... ... ... ... ونسأل الله السلامة!(107/40)
ملف العدد
(حتى لا ننسى فلسطين)
الفلسطينيون بين فكي الكماشة
بقلم:عبد الملك محمود
من القصص الرمزية المعروفة أن امرأة كانت لا تملك شيئاً يسد رمق أولادها
من الجوع فوضعت على النار قِدراً فيه ماء وحصى وهم جلوس حول أمهم يبكون
ويتضاغَوْن، وهي تسكتهم وتلهيهم وكأن هناك في القدر طعاماً سينضج.. هذا هو
شعور المراقب للمفاوضات العربية الإسرائيلية منذ سنوات، فحالنا مع تمثيليات
السلام المصطنع مع اليهود تشابه هذا الوضع التمثيلي، حيث إنها تمثل حوار
الطرشان الذي لا يمكن أن يصل إلى نتيجة.
على الجانب الفلسطيني الآن وبعد مرور ثلاث سنوات على اتفاق أوسلو (تم
في 13/9/1993م) يتساءل كثير من الناس بمرارة خصوصاً الفلسطينيون في
فلسطين وعلى الأخص سكان الضفة والقطاع عما جنوه من وراء اتفاقات السلام مع
إسرائيل؟
إن السياسة التي عودتنا عليها منظمة التحرير تؤكد أنها لا تخرج من حفرة إلا
لتقع في هاوية، وقد دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً مقابل مواقف المنظمة وتخبطاتها
السياسية والفكرية الخرقاء، وها هي المنظمة، وبعد رحلة طويلة فاشلة وبعد سلسلة
تنازلات ما لها من قرار، تعود إلى نقطة الصفر لتشكل مع بداية هذا الشهر
(أكتوبر) خمس لجان للمفاوضات مع إسرائيل، وكأن عشرات اللجان السابقة لا
تكفي.
حنظل السلام:
لقد كانت السلطة الفلسطينية ولا زالت تروِّج لأحلام وهمية ووعود كاذبة عن
الخيرات والبركات التي ستنتج من السلام، كما أن جزءاً من الفلسطينيين هلل
لاتفاقات السلام وأبدى سعادته للمستقبل المشرق، ربما كان الدافع لهم حالة الإحباط
التي عانوها، باعتبار أنه لن يكون هناك ما هو أسوأ مما هم فيه، من جهة أخرى: ساهم أصحاب المسارات التفاوضية الأخرى والإعلام العربي الرسمي خصوصاً
بشكل كبير في إشاعة أجواء كاذبة من التفاؤل المبالغ فيه: بأن السلام القادم للمنطقة
يحمل في طياته الخير والرخاء، وما علينا سوى الخلود إلى الراحة والانتظار، لقد
كان تيار الواقعية السياسية العربي ينفخ في هذا، ويحاول صبغ حاضرنا ومستقبلنا
بموجة من الحزن واليأس والتقزم أمام اليهود.
لكن الواقع المرير الآن يكذب كل أحلام السلام، وبإجراء (جردة حساب)
بسيطة يمكن مقارنة الوضع الحالي مع السابق ليرى المرء مدى مرارة هذا الوضع:
بالنسبة إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة: فما تم هو انسحابات
صورية لا قيمة لها، وبعضها واضح الجدوى لإسرائيل كالانسحاب من غزة وأريحا.
أما على الصعيد الاقتصادي: فالمعاناة والجوع غاية في الشدة، خصوصاً
بعد الحصار الاقتصادي الذي فرضته إسرائيل منذ سبعة أشهر، كما أن البطالة تبلغ
أعلى النسب عالميّاً، وتتحدث وسائل الإعلام عن صور مؤلمة من البؤس والفقر
والغلاء، ولكن الحديث عن معاناة الناس هناك خصوصاً في قطاع غزة وواقعهم
المرير يتجاوز بكثير حدود التغطية الإعلامية في وسائل الإعلام.
وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن الظروف الأمنية: فإن الصورة مأساوية،
وسنشير لاحقاً إلى شيء منها.
ثلثا الشعب الفلسطيني يرزحون تحت الاحتلال الإسرائيلي، والثلث الباقي
يعيشون تحت سلطة تمارس ألواناً بشعة من القهر والظلم والتعذيب.
موضوع اللاجئين: يبدو أن الكلام فيه أصبح ضرباً من الخيال، ولا أمل
في حله، حتى ولو اجتمعت لجان مختلفة لهذه القضية.
مسألة المعتقلين: لا زال الآلاف يرزحون في سجون العدو الصهيوني،
والغالبية العظمى منهم من الإسلاميين، وقد قامت السلطة الفلسطينية باستضافة من
تبقى منهم في سجونها.
على صعيد المفاوضات: فإن ما يتم إنجازه هو الشق الأمني الذي يصب في
صالح العدو، أما الأمور الأخرى فلا مجال لتحقيقها.
أما القدس: فسنشير لاحقاً إلى بعض المخططات الإسرائيلية حولها.
المستوطنات والهجرة اليهودية: إن عملية السلام المزعومة لم تَحُل دون
زيادة المستوطنات وزيادة المهاجرين اليهود خلال عهد رابين بيريز، فما هي
الحكمة من استمرار المفاوضات؟
وأخيراً وليس آخراً: حكومة جديدة للعدو لا تقيم وزناً لكل الاتفاقات السابقة، التي أمضى عرفات وأتباعه بل وأنظمة أخرى سنوات للحصول عليها، هذه
المكتسبات (! !) ذهبت أدراج الرياح تحت جرافات «شارون» لبناء
المستوطنات وتوسيعها، وتلاشت مع وطأة الجوع الذي يعاني منه قطاع غزة.
ومع هذا.. فالسلطة الفسلطينية مستمرة في دوامة التنازلات التي لا تنتهي
والاتفاقات التي لا تنجز، وتقزمت الأهداف الكبيرة إلى جزئيات، فلا زالت
المنظمة تسيطر على قطعة محدودة من الأرض، كانت إسرائيل تحلم بالتخلص منها
زمناً طويلاً، أكثر من ثلاث سنوات من وعود.. مجرد وعود في مسيرة أوسلو
البائسة، مارست السلطة خلال هذه الفترة ألواناً من التضليل.
من ناحية أخرى: ينبغي الإشارة إلى عنصر آخر في هذه المعادلة البائسة،
وهو طبيعة الحكومة الإسرائيلية الحالية، حيث إنها تسعى إلى تعثر اتفاقات أوسلو
وانسحابات إسرائيل الشكلية من الخليل والمواعيد الأخرى، ومع هذا: فالمنظمة لم
تهتم بإعادة النظر في المعاهدات والاتفاقات مع إسرائيل، وقد أثبت اليهود أن
المراوغة والكذب أحد أهم الأسهم في كنانتهم طوال التاريخ، فهم قوم خيانة وخديعة
ولؤم.
بين فكي الكماشة:
لبيان صورة المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في الداخل، سنكتفي هنا
بالإشارة إلى صورتين: الأولى: شكل الحكومة الإسرائيلية الحالية، والثانية:
السلطة العرفاتية.. فالفلسطينيون لا يعانون فقط من الاحتلال اليهودي، بل ربما
يعانون أشد من ذلك من سلطة عرفات.
الحكم الإسرائيلي: إحدى أهم الأوراق الإسرائيلية المعروفة هي لعبة
الانتخابات وسياسة تبادل الأدوار بين الحمائم والصقور، ووفقاً للعبة الانتخابات:
فاز (بنيامين نتنياهو) بمنصب رئيس الوزراء، وتبددت كل أحلام اللاهثين
وراء السلام بمجيء حكومة الليكود، يقودها (نتنياهو) ، ولا ندري، لعل في
توليه للحكم خيراً في كشف اليهود للذين يفرقون بين الحمائم والصقور.
لم يجن عرفات وسلطته إلا الفشل والخسارة تلو الخسارة، ومن أوجه الخيبة: أن وضع عرفات كل إمكاناته في سبيل فوز بيريز في الانتخابات، بما في ذلك
تشجيع فلسطيني 48 لانتخاب بيريز، وشن حملة أمنية شرسة ضد المعارضة،
وزج المئات منهم في السجون؛ للحيلولة دون قيام عمليات عسكرية ضد أهداف
إسرائيلية.
للتعرف على شخصية (نتنياهو) والحكومة التي يقودها إليكم هذا المثال:
أثناء تظاهرات الطلاب الصينيين والأحداث الدامية في ساحة (تيانمين) في بكين،
اقترح (نتنياهو) على الحكومة الإسرائيلية أن تقوم باستغلال انشغال العالم في
الحدث وتهجير الفلسطينيين بسرعة، وذكر أنه إذا سنحت له الفرصة فإنه سيقوم
بذلك.. هذا نموذج من أطاريح (نتنياهو) ، أما الأطاريح الأخرى فلا تقل عنه،
ولاءاته الانتخابية مشهورة: (لا لتقسيم القدس لا للدولة الفلسطينية لا للانسحاب من
الجولان) ، وشعاراته الداعية إلى زيادة الاستيطان، والحق الشرعي لليهودي في
الاستيطان في أي مكان في أرض إسرائيل.. كل ذلك معروف للجميع.
لقد بدأ (نتنياهو) حياته عسكريّاً إرهابيّاً في مجموعة نظمها (إرييل
شارون) لنسف بيوت الفلسطينيين في غارات ليلية، كما أنه جمع في حكومته
بعض أشهر المجرمين مثل (شارون) ، حتى إن ستة وزراء في حكومته شاركوا
في الهجوم على مطار بيروت المدني سنة 1968م، أو خططوا لتنفيذ نسف
طائرات مدنية [الحياة 4/10/1996] ، ولكم أن تتصوروا دولة فيها وزير مثل (شارون) ، ووزير البيئة (رفائيل إيتان) رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي
سابقاً خلال غزو لبنان، الذي كان له دور رئيس خلال مذابح (صبرا وشاتيلا) ،
التي راح ضحيتها مئات الفلسطينيين، والذي يصف الفلسطينيين بأنهم صراصير
[دي ديلي تلجراف الأنباء 18/3/1417هـ] .
حال المفاوضات:
حول سياسة (نتنياهو) : من المتوقع أن يعمد إلى إطالة أمد المفاوضات
قدر الإمكان أسوة بسلفه في قيادة الليكود (شامير) ؛ لإضاعة الوقت وإطالته
للضغط على الأطراف العربية، وخلالها يكون العدو الصهيوني قد أوجد كثيراً من
الحقائق الجديدة على الأرض، وبخاصة ما يتعلق بالاستيطان ومصادرة الأراضي،
وإقامة الطرق الالتفافية، هذه المحاور تنبئ عن المستقبل الغامض للمفاوضات،
وربما أبدى (نتنياهو) بعض المرونة المحدودة مستقبلاً في خطاباته وتكتيكاته،
ولكنها ستكون للمراوغة وكسب الوقت.
(نتنياهو) الذي يحتقر العرب والمسلمين [1] يريد إذلال عرفات، وهو لا
يقيم وزناً لما اتفق عليه طبقاً لسياسة اليهود الذين أخبرنا الله (سبحانه) العليم بأنه:
لا عهد لهم ولا ميثاق (أليس من العجيب أن يصرح شنودة بأن (اليهود لا عهد لهم
ولا ذمة، ولا يحترمون عهودهم) [الحياة 4/10/1996 م] بينما يصر بعض
الزعماء على وصف (نتنياهو) بأنه رجل يحترم كلمته ومواقفه؟) ، وقد أصاب
الإحباط أركان السلطة الفلسطينية، لأن الاتفاقات مع اليهود قد توقفت عمليّاً.
الأحداث الأخيرة:
لم تكد تمر مناسبة مرور ثلاثة أعوام على الاتفاق دون درس بليغ ومؤلم، ف
(نتنياهو) يوغل في تحدي المسلمين (والعالم أيضاً) ، فيفتتح نفقاً طوله 457 متراً
يهدد أساسات المسجد الأقصى، وتقوم الجموع الغاضبة بالاحتجاج والتظاهرات
العارمة التي تذكرنا بالانتفاضة ويواجهها العدو بالحديد والنار، ويسقط عشرات
القتلى ومئات الجرحى، ولم يترك اليهود في هذه المواجهات حتى رجال السلطة
الفلسطينية، فقد أصيب اثنان من وزراء عرفات، وشوهدت صور الجنود اليهود
وهم يضربون بعض رجال السلطة، بالإضافة إلى إصابة بعض الشخصيات
المعروفة، وتلك كانت صورة أخرى تبين مدى هوان عرفات ورجاله وأنه لا قيمة
لهم ولا حصانة، كما تكررت هذه الصورة سابقاً عند كل معبر يمر فيه رجال
عرفات وأعضاء المجلس التشريعي.
مفاوضات عرفات نتنياهو: المفاوضات في أمريكا باءت بالفشل وبلغت قمة
الخيبة لعرفات، ولو كان لديه كرامة أو عزة لذهب إلى تونس مباشرة ولم يعد إلى
غزة.
ونظراً لأن السلطة الفلسطينية لا تملك شيئاً من عناصر القوة: فإنها كلما
شعرت بأزمة خانقة تلوح بورقة الشعب الفلسطيني وقدرته على العودة إلى
الانتفاضة وإلحاق أضرار كبيرة بالكيان الإسرائيلي وبعملية السلام برمتها، وربما
تعمد السلطة إلى إطلاق سراح بعض ناشطي حماس، أو يطلق عرفات بعض
التصريحات بأن الانتفاضة ستعود، مع أنه لم يكن له دور في بدايتها أصلاً.
القدس:
يعتقد اليهود أنه لا كيان حقيقي لهم دون (أورشليم) ، وبالتالي: فإن
مخططاتهم لتهويد مدينة القدس تجري على قدم وساق، وقد وضع عام 2000
موعداً نهائيّاً لانتهاء حلقات هذا المسلسل الطويل، ولو تتبعنا الإجراءات التي مرت
بها هذه المخططات لطال الأمر، لقد تم هدم نحو 500 مسجد خلال الفترات
الماضية في منطقة القدس، وتم تحويل بعض المقابر إلى مواقف للسيارات، ونشط
بعض رؤساء البلديات اليهود خصوصاً «إيهودا أولمرت» في ذلك، كان
المسلمون يملكون ما نسبته 82% من مساحة القدس عام 1948م، أما الآن: فإن
النسبة أصبحت معاكسة، حيث يقع ما نسبته 96% من المساحة تحت أيدي اليهود، وقد تعاقبت الحكومات الإسرائيلية على هذه السياسة.
وفي الآونة الأخيرة: ازدادت (حمى) تهويد القدس وتتالت الأحداث
والمؤشرات التي تؤكد مضي رئيس الوزراء الإسرائيلي في تطبيق وعوده
الانتخابية، لتحقيق أحلام ناخبيه في جعل القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ثم قام بإغلاق المؤسسات الفلسطينية في القدس المحتلة، واعتبر ذلك شرطاً لاستمرار المفاوضات، وأخذ يلوح بهذه الورقة، وإلا فلا ... وقد أعد نائب رئيس بلدية القدس (شمويل مائير) بالتنسيق مع منظمة (اتريت كوهانيم) المتطرفة خطة للاستيلاء على القدس الشرقية، تتضمن إغلاق خمسين مؤسسة فلسطينية، ومن هذه المؤسسات: بيت الشرق، وبعض المؤسسات الخيرية الفلسطينية [العالم اليوم 13/4/1417هـ] وقد رضخت سلطة عرفات للمطالب الإسرائيلية، ووافقت على إغلاق هذه المؤسسات.
وقامت الحكومة الإسرائيلية، بوسائل كثيرة لمصادرة أراضي الفلسطينيين
بوسائل مختلفة، والتضييق على الموجودين في القدس الشرقية على سبيل المثال:
عندما قام أحد المواطنين بتجديد الدور العلوي لبيته قامت السلطات اليهودية بهدمه
بحجة عدم وجود ترخيص بالبناء، وتتالت هذه الأمور، ثم جاء أخيراً وليس آخراً
افتتاح النفق الذي اكتشفه عالم الحفريات الإنجليزي «رون» في منتصف القرن
الماضي، وقد افتتحه اليهود في تحد سافر للمسلمين والعالم كله، حتى تم تصويت
مجلس الأمن بأعضائه الأربعة عشر ولم يعارضه سوى الولايات المتحدة، يريد
اليهود تهويد القدس في أسرع وقت؛ فنسبة اليهود المتعصبين لدينهم المنحرف أعلى
نسبة، وهناك جمعيات مختلفة تخطط لبناء «هيكل سليمان» ، وبالمناسبة: فإن
هذا النفق المحفور تحت المسجد الأقصى قد أعلن عنه منذ 15 عاماً (عام 1981م) فماذا ستكون ردة الفعل يا ترى؟ قد يذكر بعضنا بمرارة ما هي ردة الفعل على
حادث إحراق المسجد الأقصى عام 1969م، حين اجتمع زعماء البلاد الإسلامية،
وكان موقفهم التعبير في بيانهم الختامي عن (أعمق القلق) في قلوب 600 مليون
مسلم، هم تعداد المسلمين آنذاك، كان ذلك وقت أن كانت هناك بقية من روح
العداوة لليهود، والبيانات النارية كانت تخدم الحكام، أما الآن: فلا مكان لتلك
الشعارات، والسلطات الإسرائيلية ماضية في خططها ولا تنوي التراجع، كيف ... و (نتنياهو) يؤكد في المقابلات المتتالية معه أن العرب ينفعلون بسرعة ويبردون
بسرعة؟ ! !
الحاصل: أن اليهود يخططون الآن لإنشاء معبد الهيكل، ويعتقدون أن جبل
الهيكل هو باحة المسجد الأقصى.
المستوطنات:
تخطط الحكومة الإسرائيلية لزيادة عدد المستوطنين اليهود في الضفة البالغ
عددهم (140) ألفاً بصورة كبيرة، وذلك برفع القيود على بناء المستوطنات التي
كانت مفروضة سابقاً، رغم مخالفة ذلك لاتفاقات أوسلو بشكل واضح، وقد قرر
مجلس المستوطنين زيادة المستوطنين إلى نصف مليون خلال السنوات القريبة
القادمة، وتتضمن هذه الخطط التي تدعمها الحكومة بناء ثماني مستوطنات. [القبس
14/3/1417هـ] .
لقد كان تعيين (شارون) وزيراً للبنى التحتية يهدف إلى تحقيق الأحلام
التوسعية اليهودية، ودعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وزيادة عدد المستوطنات،
تمده في ذلك وزارة ثرية تتمتع بميزانية تقدر بسبعة بلايين دولار، وقد بدأ
(شارون) بتكثيف أنشطته لشراء أراضٍ في الضفة الغربية تحت غطاء مسميات
أشخاص وشركات مسجلة في أوروبا وقبرص وغيرها، مدعوماً في ذلك بمئات
الملايين من الدولارات التي خصصتها حكومة ليكود السابقة لهذا الغرض، وقد
كشف النقاب عن بعض الصفقات المشبوهة التي كادت تتم عن طريق سماسرة من
العملاء العرب [الحياة 27/3/1417هـ] .. (شارون) أعلن في أول مؤتمر له بعد
توليه الوزارة عن عزمه بناء مدينة جديدة قرب الخط الأخضر بين (الخليل) و (بئر
سبع) ، كما أعلن من جهة أخرى: تكثيف الاستيطان في الخليل وتوسيع (بئر سبع)
لتصبح قادرة على استيعاب نصف مليون شخص، وتحدث عن مشاريع أخرى،
وقال: (لقد انتخبت الحكومة لكي تنفذ هذه السياسة) [الحياة 16/3/1417هـ] ،
وأكد (نتنياهو) على أنه سيعمل على زيادة الاستيطان في الأراضي المحتلة
بنسبة 50% خلال السنوات الأربع القادمة.
فإذا ما استمر الاستيطان على هذا النمط المحموم، فعلى ماذا ستفاوض
المنظمة مستقبلاً، وقد ابتعلت إسرائيل الأرض كلها؟ ! .
أما الإنجازات التي حققها الفلسطينيون فهاكم بعضها:
حكم وسلطة وهمية: لقد أدرك الجميع أن سلطة عرفات غير مسموح لها
بممارسة أي سلطة أوسيادة، اللهم إلا سلطة القمع والإرهاب لمواطنيها، ومن
العجيب أنه رغم صغر المساحة التي تسيطر عليه سلطة عرفات فإنها اتسعت
لاعتقال آلاف الشباب الذي ينشد الكرامة والعزة، لقد حققت سلطة عرفات بعد
عامين من السلطة الوهمية هدفاً ذهبيّاً لإسرائيل كانت تسعى إليه، حيث خلصتها
من كابوس غزة، وأراحتها من المتاعب اليومية مع الفلسطينيين في ظل الانتفاضة
[الحياة 7/4/1417هـ] .
ولعل أبرز وأول إنجازات هذه السلطة هو ضرب النشاط الإسلامي الفاعل في
فلسطين، وقد أثبتت السلطة الفسلطينية طوال الفترة الماضية أنها مجرد سلطة
تتلقى الأوامر من حكومة إسرائيل للقضاء على عدوها التقليدي والمتمثل في حركتَي
المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي، وقد تجلى هذا الأمر في سجن
قيادات وعناصر العمل الإسلامي، وبرز في ضرب الجمعيات الإسلامية ... الاجتماعية، بل وظهر في محاولة عرفات السيطرة على المساجد في خطوة عجز
عنها كثير من الأنظمة الطاغوتية الأخرى، ويشير المراقبون إلى دور رئيس للسلطة الفلسطينية في التعاون مع السلطات الإسرائيلية في قتل بعض قيادات حماس العسكرية والجهاد الإسلامي، وفي هذا الإطار لا يستبعد ما ذكره (بيريز) في مقابلة مع صحيفة (نوفيل أوبسرفاتور) من أنه اتفق مع عرفات على تأجيل الانسحاب من الخليل في الموعد المحدد؛ لخشية عرفات من سيطرة حماس على المدينة، وذلك في أعقاب هجمات حماس الانتحارية [رويتر والوكالات في 4/ 10/ 1996م] ، ومع هذا وذاك: لم يستح عرفات من الحديث عن تدبير الأصوليين في الخارج (! !) محاولات انقلاب ضد السلطة الفلسطينية [صحيفة الوطن 20/ 8 / 1996م] .. لقد سعت المنظمة مدعومة بكل الخبرات والإمكانات العسكرية والأمنية والسياسية والمالية الإسرائيلية والغربية، ومقتبسة كل تجارب الأنظمة الديكتاتورية القمعية في محاربة الشعوب، سعت إلى سحق الحركة الإسلامية في فلسطين وتصفيتها أو تفريغها من مضمونها، وبث الفتن والفرقة بينها، ونحن نحذر إخواننا.
هذه الحرب للإسلاميين يقابلها عند اليهود دعم لا بل تنفيذ لأوامر حاخامات
اليهود ورجال دينهم، خصوصاً بعد أن قويت شوكة الأحزاب الدينية في إسرائيل،
وأصبح لهم (29) نائباً في الكنيست.
سِجِل السلطة في التعذيب والقهر: لا أحد خارج بطانة عرفات يعرف كم
هي عدد الأجهزة الأمنية الواقعة تحت سيطرته، فالتخمينات المعلنة تشير إلى أنها
بين (6) و (10) أجهزة، وتقول الاستخبارات الإسرائيلية: إنها ثمانية تضم
(30000) شخص، ولعل القارئ الكريم يذكر أن كثيراً من قيادات وعناصر هذه
الأجهزة تلقى تدريبات خاصة في بعض البلدان المجاورة حيث توجد أشرس آلات
القمع العربية، وطبقاً لاتفاقات أوسلو العلنية والسرية: فإن المطلوب من رجال أمن
عرفات مكافحة الإرهاب مستخدماً (جميع الإجراءات الضرورية) ، وبناءً على ذلك: قامت سلطة عرفات باعتقال ما يزيد عن ألفي شخص في هذا الإطار، ويتحدث
الذين أطلق سراحهم عن عمليات تعذيب منتظمة بشعة [الأنباء، ع (7279) نقلاً
عن نيوزويك] ، ويذكر مقال الـ (نيوزويك) أيضاً أن الدبلوماسيين في المنطقة
يوافقون على أن سجل عرفات في مجال حقوق الإنسان (فظيع جدّاً) ، وعندما كان
رجال عرفات يدخلون بيتاً من البيوت كانوا يعيثون فيه فساداً، يكسرون ويحطمون، فما هي الحكمة من هذه الأفعال الشائنة رغم أنهم يعتقلون صاحب البيت؟ ! .
تشير صحيفة (الأوبزيرفور) إلى أن الشهادات التي جمعها ناشطون في
مجال حقوق الإنسان تشير إلى أن قادة شرطة عرفات (التي يبلغ عدد أفرادها 45
ألف شخص) ملطخون بالفضائح التي تتراوح ما بين الخطف والاغتصاب والابتزاز
وسرقة الأراضي [الأنباء 9/8/1996م] .
وفي الحقيقة: فإن هذا القمع والاعتداء لم يقتصر على حماس (العدو التقليدي
للسلطة) ، بل أصاب بعض المنتمين إلى فتح (صقور فتح) ومَن يناهضون العملية
السلمية والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وهذه شهادة من داخل البيت: يقول (حسام خضر) عضو المجلس
التشريعي الفلسطيني: (أستطيع أن أقول: إن هناك عمليات تعذيب منظمة في
سجون عرفات، لقد كنت أنا نفسي نزيلاً مخضرماً في سجون إسرائيل، حيث
اعتقلني الإسرائيليون (23) مرة، ولكن ما يجري في سجوننا الآن هو أسوأ بكثير
مما عرفناه في السجون الإسرائيلية خلال (27) عاماً من الاحتلال) [الأنباء 9/8/
1996م، ترجمة مقال في الأوبزيرفور] .
في مقابل هذا القمع والتعذيب: هناك صورة مناقضة تبين مخططات عرفات
ومنظمته للشعب الفلسطيني: لقد دأب عرفات ورجاله على ترديد معزوفات سخيفة
حول (الانتعاش السياحي) و (هونج كونج الشرق الأوسط) ، وكان من أبرز ما
بدؤوا به وشجعوه: إنشاء نوادٍ مختلفة للفسق والمجون، ومن هذه المنتجعات:
نادي النورس الذي كلف ملايين الدولارات، [انظر: القبس، رويتر 13/4/1417
هـ] كما يتناقل الناس الحديث عن صور أخرى من الفساد لم تكن موجودة سابقاً، خصوصاً خلال سني الانتفتاضة، فهل نشر الفساد مقصود؟
تلك صورة لبعض ما يعانيه الفلسطينيون.
... ... ... ... ... ... والله المستعان،،
__________
(1) كما كشف في لقاءاته، وفي كتابه مكان تحت الشمس.(107/48)
ملف العدد
(حتى لا ننسى فلسطين)
إسرائيل..
دولة خارجة عن القانون الدولي.. بالأدلة
بقلم: ياسر قارئ
بانتهاء الحرب العالمية الثانية، اتخذت الدول) المتحضرة! (من هيئة الأمم
المتحدة منبراً للحوار ومرجعاً لفض النزاعات بين الدول، وقد وقعت المعاهدات
والمواثيق التي) تضمن (السلام والاستقرار في العالم، والتقليل من الجرائم
البشعة في حق الإنسانية، والأخذ على يد المعتدي، ونصرة المظلوم، وضمان
الرفاهية، والرعاية الصحية للشعوب.. لكن العالم المتحضر ما فتئ يقدم عجائبه
بل وتناقضاته للمجتمع الدولي، ومن ذلك: اعتراف الهيئة الأممية بما كان يعرف
عندنا بالكيان الصهيوني أو دولة العدو (إسرائيل) على رفات الفلسطينيين ودمائهم
ومقدّراتهم، فذاك الشعب المشرد لا بد له من ملاذ آمن يفيء إليه، بينما تكون
أوروبا قد نجحت في التخلص من آفة هذا الشعب المتوحش البربري، ولكن (دولة
إسرائيل) وساستها العسكريين أبوْا إلا أن يفضحوا شعور الأوروبيين المتحضرين
نحو المسلمين، فالإشكناز وهم اليهود الأوروبيون الذين يمسكون بأزمّة الأمور هناك
انتهكوا القانون الدولي مراراً وتكراراً، فيما اكتفت الدول الأم لأولئك السفاحين
بالتنديد والاستنكار، في الوقت الذي ظلت الهبات المالية والتبرعات والمعونات
العسكرية تتدفق فيه إلى مملكة الرب!
لقد أقدم الكيان الصهيوني ولا يزال على الاعتداء على دول (الجوار) العربي
وعلى جبهات مختلفة، ضارباً عرض الحائط بالقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية،
وفي ظل صراع المعسكرين (الشرقي والغربي) ، معرِّضاً المنطقة لخطر وويلات
حرب شاملة مدمرة، وعلى الرغم من ذلك: فقد أحجم العالم المتحضر عن ردع
المعتدي والأخذ على يديه حسبما تمليه قرارات الأمم المتحدة، وظل يقدم له الدعم
والمساندة، وكأنه رأس حربة لأوروبا في قلب العالم الإسلامي، بينما مارس
الضغوط المختلفة على المظلومين والضحايا بدعوى ضرورة ضبط النفس واللجوء
إلى الحوار والمفاوضات، وقد اكتشف العالم الآن سياسة الصهاينة التفاوضية على
حقيقتها؛ لذلك: فلا بد من التذكير بممارسات تلك العصابة الهمجية خلال سني
الحرب الباردة وما بعدها وانتهاكاتها لمعاهدات الأمم المتحدة؛ حتى لا ننخدع
بالحوار المزعوم أو الاتفاقيات المبرمة، فدولة تخرق قانون العالم الدولي منذ نصف
قرن من الزمان على الرغم من تبعات ذلك التصرف حسبما ينص عليه من عقوبات
وفي ظل استقطاب عقائدي مرير: لا يتوقع منها أن تحترم اتفاقيات أو معاهدات
تبرمها مع كيانات هامشية على مسرح السياسة العالمي ممن ليس لها وزن اقتصادي
أو اعتبار أدبي يحميها من امتهان حقوقها وكرامتها، فقد دأبت دولة العدو على شن
الاعتداءات العسكرية، والقيام بالقرصنة الجوية، وإساءة استخدام وسائل
الاتصالات، وتسخيرها للجاسوسية، وازدراء واحتقار حقوق الإنسان، بَلْهَ
الاعتداء على أعضاء الهيئة الدولية، كل ذلك في زمن الحرب، فكيف إذا غُلّت
الأيدي بالسلام؟ !
وفيما يلي سنعرض نماذج من خرق الصهاينة للقوانين والأعراف الدولية على
مدى نصف قرن تقريباً (هو عمر هذا العضو الدخيل الذي زرع في قلب دار
الإسلام) ، تشتمل تلك المخالفات على نواحٍ متعددة، منها: ما يتعلق بالزراعة
والاقتصاد، وحقوق الإنسان، والقرصنة الجوية، والاعتداء على الأمم المتحدة
نفسها، ثم التجسس، فالاعتداءات العسكرية المستمرة على الدول المجاورة.
أولاً: الزراعة والاقتصاد:
دمرت الآلة العسكرية الصهيونية في شهر سبتمبر سنة 1969م قسماً من قناة
الغور الشرقي في الأردن، وهو جزء من مشروع ساهمت فيه الولايات المتحدة
لتنمية البلد زراعيّاً واقتصاديّاً، لكن ذلك العمل الإجرامي قضى على المحاصيل
الزراعية، والأخطر من ذلك: أنه أثر على منسوب المياه في المنطقة، ثم أكمل
المجرمون مهمتهم ودمروا ما تبقى من المشروع في مطلع السنة التالية [1] ، وبعد
ثماني سنوات من تلك الحادثة: قام الصهاينة بالهجوم على لبنان، وتم تدمير
المؤسسات الصناعية والحرفية والممتلكات الشخصية والمرافق الحيوية، وكذلك
القطاع الزراعي ومنشآته وموارده المائية [2] ، ومن المعلوم أن (إسرائيل) تخشى
من دور لبنان الاقتصادي القوي في المنطقة؛ لذلك فهي تسعى وحلفاؤها لفرض
مشروع السوق الشرق أوسطية، لسحب البساط من تحتها، ولتسخير إمكانات
وموارد المنطقة لانتشال الاقتصاد الإسرائيلي من الغرق في ظل الكساد العالمي
وتخفيض الموازنات الدولية، ولم يكتف الأعداء بذلك، بل قاموا بتوريد البضائع
الإسرائيلية والقبرصية إلى لبنان، ثم أعادوا تصديرها على أنها منتجات لبنانية! ،
كل ذلك في مخالفة صريحة وواضحة للاتفاقيات التجارية الدولية التي نصت عليها
بنود مفاوضات التجارة والتعرفة الدولية التي كانت قائمة في ذلك الوقت! ، أما فيما
يتعلق بشريان الحياة الاقتصادية في المنطقة والعالم، فقد استعمل اليهود أسلوب
التهديد بالسلاح مع بعثة تابعة لشركة النفط الأمريكية) إمكو) التي كانت تقوم
بأعمال التنقيب في مياه منطقة الطور، فيما كان الصهاينة يقومون بأعمال التنقيب
عن البترول في صحراء سيناء المصرية التي كانت واقعة تحت احتلالهم، الأمر
الذي اعتبرته أمريكا أنه غير قانوني، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً لثني اليهود عن
عزمهم [3] .
مما سبق يتضح لنا رغبة العدو في إبقاء المنطقة وشعوبها تحت رحمة
البضائع المستوردة باهظة الثمن، وتجريدها من كل المقومات الأساس لتدشين
صناعة ثقيلة وحرّة؛ مما يضمن استقلاليتها السياسية قبل الاقتصادية، وأيضاً من
الدور الهدام الذي تقوم به دولة يهود: إحجام الشركات والمؤسسات العالمية عن
المشاركة في أسواق المنطقة، لكونها بؤرة للصراعات ولا تتمتع بالاستقرار
المطلوب للصناعة الحديثة، فتكتفي باستنزاف الأموال الطائلة إلى الخارج عبر
التصدير لسلع في جملتها استهلاكية لا تسمن ولا تغني من جوع.
ثانياً: حقوق الإنسان:
على الرغم مما تمارسه دولة يهود من العنصرية ضد طائفة السفارديم (اليهود
الشرقيين) لكونهم من أصول عربية، إذ لا يتمتعون بالوظائف والمزايا التي يحصل
عليها أقرانهم من الإشكناز الغربيين، إلا أنّ هذا لا يشفع لها في ظل القانون الدولي
بانتهاك حقوق المواطنين الفلسطينيين أصحاب الدار الأصليين، ولا رعايا الدول
المجاورة وبالذات العزّل من السلاح حسبما نصت عليه معاهدة لاهاي (1907م)
وجنيف الرابع (1949م) ، اللتين نصتا على حماية المدنيين خلال الحرب، إلا أن
الحقد والاستعلاء اليهودي يأبى إلا أن يُطل بوجهه الكالح، ومن ذلك: ما حصل في
مدينة السويس من ضرب للسكان وأماكن كثافتهم، فيما يتأسف وزير دفاعهم الهالك
) موشي دايان (على تمثالين منصوبين على رصيف الميناء هناك [4] ، أما في
لبنان فقد استخدمت يهود قنابل تنفجر بعد مرور خمس وأربعين دقيقة من سقوطها،
أي: عندما تبدأ عملية إسعاف المرضى والجرحى من الهجمات السابقة، وبالتالي:
تحصد أكبر عدد ممكن من الأبرياء [5] ، بل وتنّكر الصهاينة لوعود قطعوها
لأمريكا بعدم استخدام القنابل العنقودية المحرّمة دوليّاً إلا في حالة الدفاع فقط [6] ،
ولم يشبع حقد العدو عدد الأبرياء الذين سقطوا في لبنان وفلسطين، فاتجهت
الحكومة الصهيونية إلى الحرب العراقية الإيرانية داعمة إيران لإذكاء نار الحرب،
علماً بأن الأمم المتحدة كانت قد فرضت حظراً دوليّاً يقضي بعدم مساندة أي من
الدولتين [7] ، ولم يعد سرّاً حجم الدور الصهيوني في ذلك بعد فضيحة إيران
(كونترا) التي شهدتها أروقة مجلس الشيوخ الأمريكي في العقد الماضي.
وعلى جبهة لبنان: ترفض (إسرائيل) الانصياع لقرار مجلس الأمن في سنة
1981م بوقف القتال وإرسال مراقبين إلى بيروت المحتلة، بل واقتحمت بيروت
الغربية [8] ، أما على الجانب الفلسطيني: فإن دولة يهود على الرغم من هدمها
لمنازل الفلسطينيين وإجلائهم عن أراضيهم ونفيهم وسجنهم، إلا أنها تمانع في
منحهم الجنسية الإسرائيلية حتى لمن تقدم بذلك منهم! ! [9] ، علماً بأن ذلك مخالف
لميثاق حقوق الإنسان الذي صدّقت عليه دولة يهود، والسبب في ذلك: هو ما
صرح به) بن جوريون (بقوله:) هم معتادون على العادات والتقاليد العربية،
وأنا لا أرغب في هذا النوع من الحضارة، فنحن لا نريد أن يصبح الإسرائيليون
عرباً ( [10] ، أما (موشي دايان) فيعبر عن ذلك قائلاً:) نحن نسعى إلى دولة
يهودية، لا دولة مزدوجة القومية ( [11] .. تلكم هي الديمقراطية الوحيدة في
الشرق الأوسط التي يتعاطف معها العالم المتحضر، فأصحاب الأرض مرفوضون
ومنبوذون كما لوكانوا في الهند الطبقية، وقد أقر بشرعية وجودهم) دايان (نفسه، إذ قال:) لقد جئنا إلى فلسطين والعرب يقيمون فيها، وبنينا القرى اليهودية
مكان العربية، فليس هناك أي مكان في هذا البلد لم يكن يقيم فيه سكان عرب في
الماضي ( [12] ولكن المسلمين لا بواكي لهم! !
في سنة 1981م نشرت الجمعية الإسرائيلية لحقوق الإنسان تقريراً حول
معاملة العرب حسب قول أحد المحاضرين للجنود المتوجهين إلى مدينة الخليل: ... ) إن العرب ليسوا بشراً، ويجب معاملتهم كالحيوانات ( [13] ، وهذا يذكرنا
بالتصريحات التي صدرت من بعض أركان المؤسسة العسكرية الصهيونية في
أعقاب مذبحة (قانا) في جنوب لبنان مؤخراً، فعلى الرغم من السلام الشجاع الذي
انتُزع من بعض الأطراف العربية! ! إلا أن العقيدة اليهودية التلمودية لا تزال
راسخة كالجبال، فيما ألقى بعض المنسوبين للإسلام بالولاء والبراء خلف القضبان
وأحكموا عليها القيود.
ثالثاً: القرصنة الجوية:
لم تتورع تلك الشرذمة من شذاذ الآفاق عن اعتراض الطائرات المدنية
المحمية بموجب اتفاقية (وارسو) للطيران المدني، وإخضاع ركابها للتفتيش الدقيق
على مرأى ومسمع من العالم المتمدن، ففي أغسطس سنة 1973م اعترضت
طائرتان مقاتلتان من الجيش الإسرائيلي طائرة ركاب مدنية في رحلتها من بيروت
إلى بغداد، وأجبرتها على الهبوط، واقتيد واحد وثمانون راكباً تحت السلاح
للتحقيق لبضع ساعات، على الرغم من إعلان أمريكا انتقادها لذلك العمل البربري
ووصفه بالتعدي على القانون الدولي [14] ، ولأن الهيئة الأممية لا تمارس من
السلطات والصلاحيات إلا بقدر ما تسمح به الدول النافذة في مجلس الأمن: فقد
مرت الحادثة بلا عقاب أو حساب، وكأن أرواح العرب وحرياتهم لا تشملها
المواثيق الدولية التي يتشدق الغرب بأنها قمة ما توصل إليه العقل البشري
والحضارة الغربية، وينذر الجميع من الدول الهامشية بالانصياع لها، لهذا: فقد
كررت العصابة الصهيونية عملية القرصنة في ربيع عام 1986م، إذ أجبرت
طائرة خاصة أقلعت من ليبيا على الهبوط في قاعدة (رامات دافيد) الجوية قرب
مدينة حيفا ظنّاً بأن على متنها بعض أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية ... الأشاوس [15] .
وفي مجال الطيران المدني وتجاوزات اليهود للاتفاقيات الدولية يقول ... ) فيكتور إستروفسكي (وهو ضابط سابق في المخابرات الإسرائيلية: إن الطائرة
المحملة بالوقود في مهمة ضرب المفاعل النووي العراقي سنة 1981م كانت
مصبوغة بشعار شركة الخطوط الأيرلندية؛ للتمويه بأنها طائرة ركاب مدنية تقوم
برحلة في المنطقة [16] ، بالإضافة إلى ذلك: فإن جميع الطائرات التابعة لشركة
الطيران الإسرائيلية (العال) مزودة بكاميرات متطورة للغاية لغرض التجسس، وقد
قامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بتزويدها بالكاميرات، وهذا العمل
مخالف لميثاق الطيران المدني الموقع في (شيكاغو) الذي يحرّم استعمال الطائرات
التجارية لغير الغرض المخصصة له [17] .
رابعاً: التطاول على هيئة الأمم المتحدة ذاتها:
كما قيل في الأثر: من أمن العقوبة أساء الأدب، فقد برهن اليهود على ذلك
من خلال موقفهم من القانون الدولي كما مر معنا، بل وأدى بهم العنت والغطرسة
إلى إهانة ممثلي المنظمة الدولية والاعتداء على أفرادها ومنشآتها، ومن ذلك: ما
حصل من الجيش الإسرائيلي في الرابع عشر من شهر يوليو سنة 1967م، حين
قصف الفندق الذي يقيم فيه مراقبو الهدنة التابعون للأمم المتحدة، فيما قام الجنود
بنهب مقر قيادة قوات الطوارئ الدولية بمدينة غزة [18] .
وحيث إن اليهود لم يقع عليهم من جرّاء ذلك العمل عقاب يردعهم: فقد
كرروا فعلتهم مرة أخرى في صيف سنة 1982م حيال قوات حفظ السلام الدولية في
لبنان، إذ قامت زوارق من البحرية الإسرائيلية بمطاردة سفن الأسطول الأمريكي
المشارك في القوة، بينما قام) إرييل شارون) وزير دفاع يهود آنذاك باستفزاز
القوات الأوروبية والأمريكية أثناء ترحيل الفلسطينيين بإعادة بعض السفن المغادرة
والقيام بتصوير الميناء [19] ، ربما لأعمال وخطط مستقبلية، وقد عملت الشيء
نفسه للموانئ الليبية من خلال السفن التي تجوب تلك المناطق [20] .
ونظراً لأن الأمريكيين يؤمنون بأنّ) من ضربك على خدك الأيمن فأدر له
خدك الأيسر (فيما يتعلق باليهود واليهود وحدهم، لذلك لم يعاقبوا شباب البحرية
اليهودية أو زبدة العالم كما وصفهم) إميل حبيبي (، وهذا شجع تلك الطغمة
البشرية على الأصح بإطلاق النار على رائد الجيش الأمريكي عضو هيئة مراقبة
الهدنة في مطلع سنة 1983م [21] .
خامساً: استخدام الوسائل الدولية المصرح بها للتجسس:
خير ما يجسد هذا الخرق الشنيع لقوانين الأمم المتحدة هو حادثة الطائرة
الليبية التي أسقطتها القوات الجوية الإسرائيلية في 21 /2/ 1973م، بحجة أنها
حلّقت فوق منطقة عسكرية حسّاسة والتقطت صوراً لها، وأنها لم تستجب
للإجراءات الدولية المتبعة [22] ، والسؤال الطبيعي هو: لماذا افترض الطيارون
الإسرائيليون أن الطائرة التقطت صوراً للمنطقة؟ ، والجواب: هو ما أشرت إليه
سابقاً من اعتماد إسرائيل على الطائرات المدنية في جمع الصور والمعلومات خلال
رحلاتها، وقد حاول الصهاينة رشوة مضيف فرنسي لكي يزور شهادته، خاصة
بعد تبين وحشية اليهود، إذ قاموا بإطلاق النار على صالة/مقصورة الركاب
والطائرة تشتعل وتهوي إلى الأرض! ! ، بينما تكفلت أمريكا بإلغاء كل إشارة في
تحقيق منظمة الطيران الدولي تدين إسرائيل أو تُعرّض بها، ومن المفارقات
الأمريكية التي يطول منها العجب: هو تنديد الرئيس الأمريكي) ريجان (بعد
عقد من الزمان بإسقاط الاتحاد السوفييتي لطائرة الركاب الكورية، فصرح ... قائلاً:) إن القتل للمدنيين الأبرياء هو قضية خطيرة بين الاتحاد السوفييتي والمتحضرين.. ( [23] ، بقي أن نذكِّر أولئك المهتمين بحقوق الإنسان بأن الجنود اليهود قاموا بنهب أمتعة ركاب الطائرة المحطمة، لكن الضمير الصهيوني تحرك هذه المرة وقدّم أربعة جنود للمحكمة العسكرية [24] ، ومكافأة لها على هذا الشعور المرهف فقد تبرعت أمريكا بالمزيد من طائرات (فانتوم 4) التي أسقطت الطائرة الليبية، وكذلك طائرات (سكاي هوك 4) بقيمة (220) مليون دولار [25] .
كذلك: لم تسلم خطوط الاتصالات الدولية من العبث الصهيوني والخرق
الفاضح لكل المواثيق الدولية التي ساقتها للبشرية الحضارة الغربية، فهذا شاهد
يهودي أنّبَه بقية ضمير حي أو مغنم شخصي، يقر باستخدام حكومته متمثلة بجهاز
مخابراتها خط البحر الأبيض المتوسط المرتبط بالأقمار الصناعية الذي تبث عليه
أغلب الاتصالات العربية الهاتفية، للحصول على المعلومات عبر التصنت المحرّم
دوليّاً على هذه الوسائل [26] .
كما يجد اليهود أرضاً خصبة في مصانع السلاح الغربية، حيث يتم تجنيد
بعض المتعاونين من ضعاف النفوس أو أصحاب الولاء المزدوج؛ للتجسس على
الأقطار العربية والصفقات التي تبرمها، وبالتالي: تبني حكومة صهيون عليها
ردود أفعالها ومساوماتها للحكومة الغربية، وقد تقرر أحياناً استخدام الحل الأخير
كما حصل مع المفاعل النووي العراقي إذ أوفدت الموساد خمسة مخربين وعالماً
نوويّاً إلى داخل مصنع (دوسوبريكيه) في بلدة (لاسين) بفرنسا وقاموا بتفجير ... أجزائه، والتساؤل هو: كيف تمكن أولئك النفر من التسلل إلى المصنع، علماً بأنه تتم فيه أيضاً صناعة محركات طائرات الميراج المقاتلة؟ [27] ، هذا يعني: أن حجم التواطؤ كبير جدّاً، ويشمل مسؤولين كباراً؛ لكون الميراج تمثل فخر الصناعة والتقنية الفرنسية، مما يتطلب وجود حماية كبيرة جدّاً لها، في عالم انتقلت فيه الجاسوسية من المخزون العسكري إلى التقنية الحديثة في حد ذاتها! ، كما تبرز إلى حيز الوجود قضية المواطنين اليهود من رعايا الدول الغربية ومدى إخلاصهم لبلادهم، أو تغلب عواطفهم الدينية على القومية /الوطنية.
سادساً: الاعتداءات العسكرية:
في هذه الفقرة ليس التركيز على الحروب أو الغارات العسكرية التي شنتها
الآلة الصهيونية، بقدر ما هو منصب على التجاوزات الصريحة لمجمل القرارات
الدولية المتعلقة بالحرب وقوانينها، ففي حرب الأيام الستة (النكبة الكبرى) عام
1967م، استخدمت إسرائيل مع مصر دبابات ومدّرعات وأزياء عسكرية مصرية
كانوا قد استولوا عليها (أو ربما طلوها بالعلم المصري) ، وبالتالي: انخدع الجيش
المصري بتلك الحيلة، علماً بأن مواثيق (لاهاي) المتعلقة بالحرب وضوابطها تنص
في المادة الثالثة والعشرين على عدم) إساءة استعمال علم الهدنة أو العلم الوطني أو
الشارات أو الأزياء العسكرية الخاصة بالعدو [28] .
أما على الجبهة اللبنانية التي حمى وطيسها عقب اتفاقية (كامب ديفيد) ،
التي حيّدت الجانب المصري في صراع المنطقة: فقد قامت إسرائيل بخروق
للقوانين الدولية في مجالات شتى، منها على سبيل المثال: قيام السلطات
الإسرائيلية المحتلة للبنان بتنظيم رحلات سياحية في لبنان، واستخدام مطارها
الدولي المحتل متبعة سياسية فرض الأمر الواقع [29] ، ومع ذلك: لم يفرض
عليها المجتمع الدولي أي حظر، ومما يؤكد حقيقة سياسة استعراض العضلات:
انطلاق الطائرات الحربية الإسرائيلية من شبه جزيرة سيناء عام 1981م،
واختراق الأجواء الدولية دونما استئذان من الدول المعنية، وضرب المفاعل النووي
العراقي [30] .. الجدير بالذكر: أن سيناء كانت ترزح تحت الاحتلال، ويحرّم
القانون الدولي استعمال الأراضي المحتلة للأعمال العدوانية وغيرها.
بالإضافة إلى ذلك: قامت (إسرائيل) ومنذ عام 1975م بدعم حزب الكتائب
النصراني بالسلاح والصواريخ والدبابات، فضلاً عن إرسالها قرابة خمسة
وعشرين ألف جندي إلى لبنان في سنة 1978م [31] ، مما يخالف القانون الدولي
القاضي بعدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية للغير، إلا أنّ المخالفات الصهيونية
لا تعترف بحدود؛ ولذلك فقد أقدم) إرييل شارون) بنفسه على وضع خطة إدخال
ميليشيات حزب الكتائب إلى المخيمات الفلسطينية سنة 1982م، وما ترتب على
ذلك من مذابح وحشية في (صبرا وشاتيلا) [32] ، كل هذه المخالفات الصريحة
لمواثيق حقوق الإنسان وحدود الدول وأمنها تتم تحت سمع وبصر العالم، فلا يحرّك
(المتحضرون) ساكناً، وكأن أولئك البشر لا يشملهم القانون الدولي الموقر! ولا
عجب من أن يحدث أكثر من هذا كله إذا كانت (إسرائيل) تتمتع بدعم من القوى
العظمى، فقد أقر أحد الموارنة المشهورون بأن وزير الخارجية الأمريكية ... (ألكسندر هيج (كان يعلم بالغزو الإسرائيلي للبنان في مايو 1981م وأعطى الضوء
الأخضر للعملية [33] .
لم تحل الاختلافات العقائدية فضلاً عن الحالة الاجتماعية والموقع الجغرافي
بين الصلف الصهيوني وانتهاك حقوق المسلمين حتى في أقصى الكرة الأرضية؛
فها هي المخابرات الإسرائيلية تقوم بتدريب قوات مختارة من) نمور التاميل (
الذين يشنون حرباً على الحكومة السيرلانكية وتبيع لهم السلاح، ومعلوم للجميع
معاملة هذه الفئة للمسلمين هناك، والأعجب من ذلك: مساعدة (إسرائيل) للجيش
الحكومي السيرلانكي، ومساعدة الحكومة على الاحتيال على البنك الدولي وبعض
المستثمرين لدفع ثمن الأسلحة [34] ، مرة أخرى تتدخل (إسرائيل) في الشؤون
الداخلية لدولة مستقلة وعضو في المجتمع الدولي، وتشعل نار الحرب الأهلية فيها، وتمد طرفي النزاع بالسلاح، ملقية بالقانون العالمي خلف ظهرها، علماً بأنها قد
وقعت على ميثاق الأمم المتحدة الذي يحض الدول كلها على نشر السلام في العالم
والمساعدة على استتبابه بين الشعوب.
ولقد قامت دولة يهود سنة 1979م بإجراء تجربة نووية في جنوب المحيط
الأطلسي بالتعاون مع نظام جنوب إفريقيا العنصري الذي وفّر لها المكان الملائم
مقابل تبادل التقنية الإسرائيلية في ذلك المجال، وعلى الرغم من أن (إسرائيل)
ترفض الاعتراف بوجود برنامجها النووي الذي أسسه) شمعون بيريز (بتمويل
ودعم من فرنسا في العقد السابع من هذا القرن الميلادي، وبالتالي: رفض
الانضمام والانصياع للمعاهدة الدولية التي تحد من انتشار الأسلحة النووية.. إلا أنّ
الحكومة الأمريكية هي الأخرى قد تعامت عن قصد عن تلك التجربة، بل وقامت
إدارة الرئيس (كارتر) بحجب معلومات سياسية وعسكرية عن لجنة فنية كانت
تحقق في الموضوع حتى توصي بخطأ القمر الصناعي الذي رصد التجربة؛ لئلا
تضطر إلى معاقبة (إسرائيل) حسب قانون المعاهدة المذكورة وكذلك التشريعات
الأمريكية في هذا المجال [35] .
وأخيراً:
فيما سبق عرضت نماذج من خرق دولة صهيون للقانون الدولي، وليست
الاختراقات محصورة في ذلك، بل هذا هو ما سمح به الحيز ومصادر المعلومات،
ويكفينا أن نأخذ العبرة مما مر معنا، فالدولة اليهودية التي ترفض توضيح حدودها
السياسية [36] ، لأن لديها أهدافاً وأطماعاً لم تحققها بعد، والكيان الذي لا يزال
يفتقر إلى دستور مكتوب [37] ، علماً بأنه يزعم اعتناق الديمقراطية التي تثبت
الحقوق والواجبات ... يقوم بتنفيذ سياسة المندوب السامي في زمن الاحتلال
العسكري، ولكن تحت مظلة العالم الغربي المفتون بالتنظيم والحقوق، ومن أخصها
تلك المتعلقة بالإنسان، فإسرائيل تدمر البنية الاقتصادية لدول المنطقة بطرق ... مختلفة، وتسعى جاهدة ومن ورائها الحلفاء الغربيون إلى تكوين (سوق شرق أوسطية) تكفل الرفاهية للشعب المختار على حساب شعوب المنطقة برمتها، وقد وصفها الصحفي الإسرائيلي) يعقوب تيمرمان) بأنها: (جنوب إفريقيا في المنطقة، تحيل العمال العرب إلى مواطنين من الدرجة الثانية لخدمتها، فيما تحولت إلى بروسيا [*] الشرق في توسعها وسيطرتها ( [38] .
ترى بعد كل هذا: من يستطيع أن يضمن الحقوق العربية التي تدور حولها
المفاوضات؟ ، ومن لديه القوة الكافية لمعاقبة (إسرائيل) إذا تخلت عن عهودها؟ ،
وكيف والحالة هذه يثق المفاوضون العرب والمؤيدون لعملية السلام بالديمقراطية
الصهيونية؟ لقد رأينا كيف فعلت إسرائيل باتفاقيات أوسلو على أرض الواقع،
فلماذا الإصرار والمراهنة على عملية مصيرها الفشل الذريع؟ .
أهو فقدان الثقة بالله؟ أم فقدان الثقة بالنفس؟ أم الخوف من المستقبل؟ أين
أمتي عن مبشرات النهاية المحتومة لليهود؟ .. ألم يقرؤوا القرآن؟ ألم يراجعوا
السنة؟ .. أم على قلوب أقفالها..؟ ! .
__________
(1) ستيفن جرين، بالسيف: أمريكا والشرق الأوسط، ص 33.
(2) زهير هواري، الاجتياح الاقتصادي الإسرائيلي للبنان، ص 25.
(3) بالسيف، مصدر سابق، ص 144.
(4) المصدر السابق، ص 56.
(5) جوزيف أبو خليل، قصة الموارنة في الحرب، ص200.
(6) المصدر السابق، ص233.
(7) المصدر السابق، ص 232.
(8) المصدر السابق، ص 253.
(9) ضياء الهاجري، إسرائيل من الداخل، ص 18.
(10) المصدر السابق، ص 77.
(11) المصدر السابق، ص 21.
(12) المصدر السابق، ص 81.
(13) المصدر السابق، ص 87.
(14) بالسيف، مصدر سابق، ص 111.
(15) فيكتور إستروفسكي، عن طريق الخداع نكسب الحرب، ص 148.
(16) المصدر السابق، ص 29.
(17) بالسيف، مصدر سابق، ص 102.
(18) المصدر السابق، ص 53.
(19) بالسيف، مصدر سابق، ص 219، ص223.
(20) عن طريق الخداع نكسب الحرب، ص 257.
(21) بالسيف، مصدر سابق، ص 237.
(22) المصدر نفسه، ص 99.
(23) بالسيف، مصدر سابق، ص 109.
(24) المصدر نفسه، ص 102.
(25) المصدر نفسه، ص 108.
(26) عن طريق الخداع نكسب الحرب، ص 131.
(27) المصدر نفسه، ص 23.
(28) بالسيف، ص 64.
(29) الاجتياح الاقتصادي الإسرائيلي للبنان، ص 31.
(30) بالسيف، ص 180.
(31) المصدر نفسه، ص 145.
(32) إسرائيل من الداخل، ص 95.
(33) قصة الموارنة في الحرب، ص 198.
(34) عن طريق الخداع نكسب الحرب، ص 63.
(35) بالسيف، مصدر سابق، ص 176.
(36) المصدر نفسه، ص 70.
(37) إسرائيل من الداخل، ص 7.
(*) المقصود ببروسيا هو ألمانيا حالياً.
(38) المصدر السابق، ص 142.(107/60)
ملف العدد
(حتى لا ننسى فلسطين)
ماذا يبقى من فلسطين؟
(قراءة في ملف التنازلات)
(1 من 3)
بقلم: حسن أحمد قطامش
ما زالت الآثار السلبية لفوز (نتنياهو) زعيم تكتل الليكود برئاسة الحكومة
الصهيونية مستمرة، وما زالت عنجهيته تلقي بظلالها على مسار السلام المزعوم،
وما زال العرب اللاهثون وراء أوهام السلام يتلقون ضرباته الموجعة ومواقفه
التشنجية، لا سيما لاءاته: لا لعودة القدس.. لا للدولة الفلسطينية.. لا للانسحاب
من الجولان.
جاءت هذه اللاءات وكأنها مصمّمة على مقاس اللاءات العربية الشهيرة التي
ولدت ولادة قيصرية في قمة الخرطوم عقب هزيمة 1967م: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض.
أدركنا من شعاراتهم تلك حجم الاستخفاف والاستغفال للشعوب المسكينة التي
طالما دغدغت وسائل إعلامهم مشاعرها باللاءات، والتي تمنت تحقيق شيء منها،
فالناس تلهث وراء من يحقق أحلامها.. ولو بالشعارات.
وحين كان الوطيس حامياً لم يعلم كثير من الناس ما يدار من وراء الظهور،
فقد كان إن أُحسن الظن جدّاً هناك بقية من حياء، أو قل في حقيقة الأمر: لم يكن
من السهل على الشعوب تقبل هذا الكيان الدخيل كجار له حق الجوار بعدما فعل ما
فعل، لم تكن هناك وسيلة يومها للحفاظ على مكاسب الحكم إلا بهذه اللاءات.
لم يكن من السهل يومها أن تتنازل منظمات وجبهات عن خطاباتها ... (الاستراتيجية) أو عن (الأيديولوجيا (التي تربت عليها نخبها الفكرية والمسلحة.
لم يكن هذا ولا غيره ممكناً وقوميتهم العربية! تدرّس للفتيان والفتيات في
المراحل المتوسطة على أنها دين جديد.
لكن ما كان مثبتاً صار منفياً، وكان لهم كثير مما أرادوا، انجلت الحقيقة
وأعلنوها بكل عنترية ومن (موقف القوة (: إننا ننادي بالسلام! !
ونرى القوم اليوم وقد تعالت لهم لاءات أخرى رنانة، يثبتون وينفون، ولكن
ما عادت الشعوب هي الشعوب، فصاروا هم في واد، والناس في وادٍ آخر.
سقطت كل الأقنعة، وفتحت (كل الأبواب (الموصدة بمبادئ (الكفاح حتى
التحرير (و (الخنادق لا الفنادق (.. فتحت على مصاريعها للسلام والمفاوضات، وتبارى القوم في إثبات الأحقية بلقب المفاوض السري الأول مع بني صهيون.
ويذكرنا ذلك بقصة ذكرها حسنين هيكل في كتابه (أكتوبر.. السلاح
والسياسة (: أن (هنري كيسنجر ((اليهودي الألماني الأصل) وزير خارجية
أمريكا الأسبق، عندما تردد على مصر أكثر من مرة، كان الساسة الحضور
يتبارون في احتضانه وتقبيله؛ ليثبت كل منهم للآخر أنه على معرفة به، مما حدا بـ (كيسنجر) أن يُخْبِرَ الرئيس (نيكسون (بشكه في نفسه من كثرة المقبِلين له
من الرجال..! ! [ص 726] .
والعجيب أن اللاءات القديمة كانت تعيش دهراً حتى يأتي زمان انقلابها.. أما
اليوم: ف (لا) الصباح هي (نعم) المساء.
ونأتي الآن على هذه القواميس الجديدة، وهي نصوص حرفية لتصريحات
صحفية لم نُحرف فيها حرفاً..
ولنبدأ بـ (أصحاب القضية) ، ثم (مملكة السلام الدافئ جدّاً (، ثم (أرض السلام البارد (، ثم نأتي على أصحاب (التطبيع الاقتصادي (المتواري! ! ...
ثم نأتي على العموميات للخطاب الظاهر والباطن في دفتر التنازلات ... لبني صهيون، ولننظر: ما الذي يبقى من فلسطين بعد كل ذلك؟ !
أولاً: أصحاب القضية:
أ - العرفاتيون ينقضون الميثاق:
لا أريد أن أستبق الحديث عن خطر نقض الميثاق الوطني الفلسطيني، وعن
محو ذاكرة شعب بأكمله، وتحويل الجهاد بمحاربة يهود إلى تطرف وإرهاب،
ولكن سنترك للميثاق نفسه الحديث، وسنذكر نص المواد التي تضمنها الميثاق الذي
أُلغي، ثم نذكر بعدها النصوص التي نُقض بها بُنْيان الأول، ثم ... التهديد مرة
أخرى للعودة للميثاق القديم! ! فلا عجب، ولنجري بعدها المقارنة بين ... ... (استراتيجيات الأمس (و (تكتيك اليوم (! !
من نصوص الميثاق القديم:
المادة [1] : (إن فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب
البريطاني وحدة لا تتجزأ (.
المادة (9) : (إن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو
بذلك (استراتيجية (وليس (تكتيكاً (.
المادة (19) : (إن تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947م وقيام دولة
إسرائيل باطل من أساسه، مهما طال عليه الزمن؛ لمغايرته لإرادة الشعب
الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه، ومناقضته للمبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم
المتحدة، وفي مقدمها: حق تقرير المصير (.
المادة (20) : (باطل كل من تصريح بلفور، وصك الانتداب، وما ترتب
عليهما، وإن دعوى الترابط التاريخي والروحي بين اليهود وفلسطين لا تتفق مع
حقائق التاريخ ولا مع مقومات الدولة في مفهومها الصحيح، وإن اليهودية بوصفها
ديناً سماويّاً ليست قومية ذات وجود مستقل، وكذلك: فإن اليهود ليسوا شعباً واحداً
له شخصيته المستقلة، وإنما هم مواطنون في الدول التي ينتمون إليها (.
المادة (21) : (إن الشعب العربي الفلسطيني معبراً عن ذاته بالثورة
الفلسطينية المسلحة يرفض كل الحلول البديلة عن تحرير فسلطين تحريراً كاملاً،
ويرفض كل المشاريع الرامية إلى تصفية القضية أو تدويلها (.
كانت هذه بعض بنود الميثاق الذي أُقر في العام 1964م، وتم تعديله في العام
1968م.. لم يمر عليه إلا ثلاثة عقود فقط حتى انعقد المجلس الوطني الفلسطيني
في غزة مرة أخرى يوم 22 إبريل 1996م، وقرر ما يلي:
(يؤكد المجلس التزامات منظمة التحرير الفسلطينية في اتفاق إعلان المبادئ
(أوسلو/1 (والاتفاق المؤقت في القاهرة، ورسائل الاعتراف المتبادل الموقعة في
9 سبتمبر (أيلول) 1993م، والاتفاقية الإسرائيلية المرحلية حول الضفة وقطاع
غزة (أوسلو/2 (الموقعة في 28 سبتمبر (أيلول) 1995م، وقرار المجلس
المركزي الموقع في 28/10/1993م، الذي وافق على المشاركة في مؤتمر مدريد، وإذ يستند إلى المبادئ التي انعقد على أساسها مؤتمر مدريد للسلام، ومفاوضات
واشنطن.. يقول:
أولاً: يُعدّل الميثاق الوطني الفلسطيني بإلغاء البنود التي تتعارض مع رسائل
الاعتراف بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل يومي 9، 10/9/1993م.
ثانياً: يكلف المجلس الوطني الفلسطيني اللجنة القانونية بإعادة صياغة الميثاق
الوطني، وعرضه على المجلس المركزي في أول اجتماع له (.
فبين الميثاق، وتعديل الميثاق ... لا تعليق.
إن الأساس الإلزامي لإلغاء أو حذف بنود الميثاق الوطني وردت أساساً في
رسالتي التعهدات اللتين قدمهما ياسر عرفات باسم المنظمة في 9 سبتمبر 1993م
إلى كل من رئيس وزراء إسرائيل (رابين (، ووزير خارجية النرويج، واللتين
يسميهما المجلس الوطني: (الرسائل المتبادلة (! !
ولقد تضمنت الرسالتان تعهدات رئيسة، هي:
1- الاعتراف بحق (إسرائيل (في الوجود.
2- قبول قراري مجلس الأمن الدولي: 242، 338.
3- الالتزام بعملية السلام في الشرق الأوسط، وبتسوية سلمية للنزاع مع
إسرائيل.
4- التخلي عن اللجوء إلى (الإرهاب (وغيره من أعمال (العنف (،
وتحمل مسؤولية ضبط جميع عناصر المنظمة وأفرادها، والتأكد من امتثالهم، ومنع
أي مخالفات، و (معاقبة المخالفين (.
5- التعهد بأن يقوم المجلس الوطني الفلسطيني بتعديلات في ميثاق المنظمة؛
لإلغاء البنود التي تنكر على (إسرائيل (حقها في الوجود.
وفي تلك الآونة: صدرت تصريحات لكبار القادة (من أصحاب القضية
والكفاح المسلح) نقف على بعضها الآن، فيها النفي، وفيها الإثبات، ولكن في
القاموس الجديد للنفاق السياسي:
ياسر عرفات: إن هذا الميثاق ليس ميثاقي، ولا ميثاق الثورة الفلسطينية،
ولم يكن ميثاق حركة فتح، لأن ميثاق فتح وميثاقي هو الدولة الديمقراطية ... العلمانية! ! ، وهو الذي انتخبت على أساسه رئيساً لمنظمة التحرير، وليس بناءً على الميثاق السابق. [الشرق الأوسط ع/6362 29/4/1996م، مقال بلال الحسن عضو المجلس الوطني] .
عرفات: فقرة تدمير إسرائيل لاغية، وباطلة، وعفا عليها الزمن [الخليج
ع /6104 1/2/1996م] .
وفي باريس، في عام 1988م، استقبل الرئيس الفرنسي (ميتران (ياسر
عرفات، مما اعتُبِر اعترافاً بمنظمة التحرير، واجتمع وزير خارجية فرنسا وقتها
(آلان دوما (وعرفات، وتكلم معه (كصديق (، وقال: إنك لا تتصور كم
سوف تكلف هذه المقابلة الرئيس (ميتران (سياسيّاً أمام الرأي العام، وإذا سمحت، فإنني أقترح عليك أن تقدم له شيئاً في المقابل، إنك أعطيت كثيراً لـ (جورج
شولتز (وزير خارجية أمريكا وقتها، ومن حق (ميتران (أن تساعده.. ثم
اقترح عليه (دوما (أن يعلن تخليه عن مواد الميثاق الوطني التي تختص
بإسرائيل (عدم الاعتراف بها وتدميرها.. إلخ) ، فرد عرفات بأنه مستعد لذلك،
والآن، وللصحفيين الواقفين في انتظار أمام مكتب وزير الخارجية.. ثم سأله
عرفات عن كلمة بالفرنسية تؤدي المعنى الذي يريده وزير خارجية فرنسا، فاقترح
عليه أن يقول للصحفيين: إنه يعتبر ميثاق منظمة التحرير: (CADUV (، أي: مُلْغًى، وليس له مفعول! ! ! ( [القنوات السرية العالم اليوم ع/1716 23/ 9 /1996م] .
نايف حواتمة: (الميثاق ليس مقدساً وبعض بنوده شاخت، وعفا عليها
الزمن ( [الخليج ع/6109 6/2/96م] .
محمود عباس: (أبو مازن (: (عدلنا الميثاق سنة 1988م (!) ، والمطلوب إشهار التعديل ( [حوار للاتحاد، ع/7673 29/1/296] .
وتقول السيدة (ماري كلير) أرملة رئيس وزراء فرنسا الأسبق (بيير ...
فرانس) : التي عقد في بيتها أول لقاء سري على حد قولها بين اليهود ... والفلسطينيين (مَثّلهم فيه عصام السرطاوي، الذي قتل في البرتغال عام 1984م) وكان ذلك في باريس عام 1976م، تقول: (إنه بعد وفاة زوجها التقت عرفات في تونس عام 1989م، وأبلغته بعد زيارتها لتل أبيب أن العثرة القائمة أمام قيام حوار فلسطيني/ إسرائيلي هي: ميثاق المنظمة الذي يدعو لرمي إسرائيل في البحر، وأبلغته: أن عليه أن يشطبها من الميثاق؛ لأنهم أي: الفسلطينيون غير قادرين على ذلك، فأخبرها عرفات بأن تلك المقولة أصبحت لاغية وباطلة المفعول ( [حوار لعكاظ ع/ 10946 1/8/1996م] ، هذه السيدة اسمها الأصلي (ليلى شكوريل (، يهودية من أسرة شكوريل المصرية الشهيرة، وهي لا تزال مهتمة بقضايا إسرائيل/فلسطين، من تأثير اهتمام زوجها بها، وقد كان يهوديّاً أيضاً.
وعليه: فقد صَدَق أبو مازن فيما قاله، لقد كان الثمن الذي يدّعيه الفلسطينيون
لقاء الاعتراف ونقض الميثاق هو: وعد من يهود بقيام دولة فلسطينية، ومع رحيل
الواعد والوعد، وتشدد الخلف (نتنياهو) : حاول القوم النكوص مرة أخرى
ومحاولة رمي إسرائيل في ( ... ((!) ، فهذا رئيس المجلس الوطني الفلسطيني
(سليم الزعنون (في حوار أجرته معه صحيفة (العالم اليوم (يجيب على
السؤال التالي:
س: هل هناك خيارات أخرى بعد إلغاء نص القضاء على إسرائيل؟
ج: عندما قررنا إلغاء الميثاق الوطني كان مقابل اعتراف (شيمون بيريز (
وحكومته بقيام دولة فلسطينية، وإذا لم تلتزم إسرائيل بتنفيذ الاتفاقيات الموقعة ... معها، فسوف نعيد نص الميثاق الخاص بالقضاء على إسرائيل!
س: ما هي البدائل المتوافرة لدى السلطة الوطنية لاستخدامها في حال
استمرار (نتنياهو) في تشدده ورفضه تنفيذ الاتفاقيات؟
ج: نحن نراهن على استنهاض القوى المحبة للسلام والمؤيدة له داخل
إسرائيل، وهي بالمناسبة قوى مهمة ومؤثرة في الوقت نفسه، وسنظل نخاطب
المجتمع الدولي لهدف مساعدتنا في استرداد حقوقنا المشروعة، وسنحافظ على ما
حققناه على الأرض بكل الوسائل، حتى إذا استدعى الأمر أن نتحلى بالصبر طوال
السنوات الأربع القادمة مدة حكم نتنياهو [يا لها من وسائل] مع الاستمرار في
النضال على كل الجبهات.. [العالم اليوم ع/1662 23/ 7/1996م] .
كان هذا رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، أما رئيس المجلس التشريعي ... (أحمد قريع (، الذي يمثل مع الزعنون على حد قول عرفات هيكل الدولة، فقد
سُئل من قِبل محطة (بي. بي. سي (عن:، ماذا ستفعلون إذا استمر (نتنياهو)
في مواقفه المتشددة؟ فأجاب: سنفعل كل شيء، ما الذي لا نستطيع أن ... نفعله؟ ! إنها ستكون مواجهة بمعنى الكلمة، مواجهة سياسية، مواجهة دبلوماسية الانتفاضة! ! .. [مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية 26/2/1417هـ، 12/7/
1996م] .
فيا معشر العقلاء.. من نصدق من أولئك الساسة العظام.. حَمَلة ... ... (القضية (؟ !
ب: الدولة الفلسطينية وعاصمتها.. (القدس) (1) :
قبل البدء في عرض تصريحات القوم حول الدولة والعاصمة: نلقي نظرة
سريعة حول هذه الدولة والقدس العاصمة الأبدية لها، ولننظر: هل تصلح هذه
التصريحات مع هذا الواقع.. أم هي جعجعة كلامية؟ !
- مساحة الأرض:
بعد عقود من الحروب والتشتت والمعاناة نجري مقارنة بين حقوق
الفلسطينيين المشروعة، وبين ما قدمته لهم إسرائيل من (تنازلات (من خلال
اتفاقيات السلام! !
تبلغ مساحة الأرض الفلسطينية وهي جوهر الصراع (26.320.000)
دونم، وذلك في عام 1917م، وعندما أنشئت الدولة اليهودية عام 1948م كانت
مساحة الأرض اليهودية (1.491.699) دونماً، أي 5. 7% من مساحة
فلسطين، ومنها انطلق الجيش الصهيوني ليحتل باقي فلسطين وأجزاء من مصر
والأردن وسوريا ولبنان.
والآن أعطت اتفاقية السلام السلطة الوطنية الفلسطينية ما مساحته (1.860.000) دونم، والعجيب: أن هذه المساحة وهي غزة والضفة تساوي تقريباً مساحة الأرض اليهودية عام 1948م، فكأنما تبادل الفلسطينيون واليهود أراضيهم، فأخذ الفلسطينيون 6% وأعطوا اليهود 94% من فلسطين! .
- المياه:
تبلغ مصادر المياه في الضفة الغربية وغزة 700 مليون م3/سنة، تأخذ منها
يهود 420 مليون م3/سنة، والفلسطينيون (1.500.000) نسمة يحصلون على
115 مليون م3/ سنة، والمستوطنون (130.000 نسمة) يحصلون على 50
مليون م3/سنة، أي: إن نصيب المستوطن من المياه خمسة أضعاف نصيب
الفلسطيني.
- عدد السكان:
يبلغ عدد الفلسطينيين الآن (7.700.000 نسمة) ، منهم حوالي مليون
(12%) في إسرائيل، و 2.255.000 نسمة (29%) في الضفة وغزة، ويبقى
4.500.000 فلسطيني في الشتات يمثلون أكثر من ثلثي الشعب، بينما يبلغ
عدد السكان اليهود في إسرائيل الآن 4.500.000 نسمة، كان عددهم عند
احتلالهم فلسطين 605.900 منهم 250.000 يحملون الجنسية الفلسطينية،
والباقون أغراب، وبالزيادة الطبيعية أصبح عدد يهود 1948م في العام الماضي
(1995م) 1.682.000، وهذا يعني أن 2.800.000 يهودي استُجلبوا
من الخارج، لإحلالهم محل 4.500.000 فلسطيني طردوا من ديارهم، بمعنى
أن اتفاقية السلام أسبغت الشرعية على حقوق 2.800.000 مستورد، وحرمت
حقوق 4.500.000 فلسطيني من العودة لوطنه.
__________
(1) بتصرف عن دراسة سليمان أبو ستة عضو المجلس الوطني الفلسطيني، جريدة الحياة اللندنية، ع/11919 10/10/1995م.(107/72)
المسلمون والعالم
مصر في القرن الواحد والعشرين..
قراءة أصولي..
(3 من 3)
بقلم: عبد الرحمن الكناني
عرض الكاتب في الحلقتين الماضيتين لأهم نقاط الدراسة المستقبلية عن
مصر التي قدمها الدكتور/ أسامة الباز، ثم بدأ في نقد هذه الدراسة بذكر ست
ملحوظات عامة عليها، وأخذ في عرض بعض الملحوظات التفصيلية، كان آخرها: الموقف من الصحوة الإسلامية، حيث تعرّض لأسباب ظهور الصحوة،
والصراع بينها وبين العلمانيين، ورؤية أصحاب الدراسة لطريقة التعامل معها..
ويواصل الكاتب قراءته للدراسة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
الملحوظة الخامسة: عن المرأة والسكان:
رغم أن الدكتورة مديحة السفطي (أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية،
ومستشارة الأمم المتحدة ووكالة التنمية الأمريكية، وعضو المجالس المتخصصة)
تحاول أن تجمع بين التوجهات الدولية نحو المرأة: من زيادة فرص ومجالات
التساوي في الحقوق بين الرجل والمرأة، والاهتمام بالمرأة من زاوية (حقوق
الإنسان) ، تحاول أن تجمع بين ذلك ووجوب (تعاملنا مع المؤتمرات العالمية
بشكل انتقائي، فنأخذ من المؤتمرات الدولية وقراراتها ما يتفق مع تقاليدنا، ونترك
كل ما يخالف إسلامنا «وهو تحفظ مشكور من الدكتورة السفطي، ولكن يبدو أن
التصور المنقوص لعلاقة الإسلام بالحياة الاجتماعية حال دون وضع تصور صحيح، والغالب أن الدكتورة تقصد بهذا التحفظ رفض اللغط الدولي الدائر حول حقوق
الشاذين جنسيّاً و (الأشكال الجديدة) للأسرة، ولكنها تفتح المجال أمام قضايا أخرى
قد ترى فيها التقاءً مع تحرك الأمم المتحدة، وإلا فلن يكون هناك مجال للحديث عن
هذا التحرك، وهذا ما عبرت عنه الدكتورة بأن (هناك اتجاهاً دوليّاً نحو زيادة
فرص ومجالات التساوي في الحقوق بين الرجل والمرأة) ، فإن المرأة المصرية
(برغم أنها استطاعت أن تحقق مكاسب في المجتمع، إلا أنها لم تنجح في الحصول
على المساواة مع الرجل) .. فإذا كانت المرأة المصرية قد حصلت على إلزام
للدولة بموجب دستور 1971م (بحماية الأمومة والطفولة، ومن ثم: سن
التشريعات التي تعطي للمرأة بعضاً من الحقوق، ومنها الحقوق السياسية) ، كما
توفر للمرأة زيادة نسبة مشاركة المرأة في العمل، وفي انخراطها بالمراحل التعليمية
المختلفة، وزيادة مجالات التوظيف، وإذا علمنا أنه ليس هناك أي تفريق بين
الرجل والمرأة في الأجور ومجالات التعليم أو التوظيف، فما هي المساواة
المقصودة التي لم تحصل عليها المرأة، إننا نرى أنه لم يبق إلا المساواة في
الميراث وحق التطليق، وهو ما يدندن عليه كثيراً بعض متطرفي (العلمانية
النسائية) .
والدكتورة السفطي تركز على عمل المرأة، فإضافة إلى ما تقره من (مكاسب)
في هذا المجال تشير إلى زيادة نسبة تمثيل المرأة في سوق العمل نتيجة هجرة
العمالة المصرية للخارج، كما ترى (أن تحرير المرأة يؤدي إلى رفع الأعباء عن
كاهل الأسرة، عن طريق مساهمتها في زيادة الدخل) .. فما المقصود بـ
(التحرير) ؟ !
نعرض فيما يلي إلمامة بالنتائج (الاجتماعية) و (الاقتصادية) لمساهمة المرأة
في زيادة الدخل [1] :
يقول الدكتور أحمد إبراهيم عبد الهادي، أستاذ إدارة الأعمال بكلية التجارة
جامعة بنها: (في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد النساء بالقوى العاملة بالمنظمات
المصرية، وبالإضافة إلى التوقعات الخاصة بتزايدهن بمعدلات سريعة في الإدارة
بشكل عام وفي الإدارة الحكومية بشكل خاص: فإن الاختلافات في التكوين
البيولوجي والنفسي والقدرات العقلية بين النساء والرجال في المتوسط، وأيضاً:
اختلاف تأثير العوامل الاجتماعية والتنظيمية ينتج عنها تأثيرات سلبية في مدى
فعالية النساء في العمل أو الإدارة ... ولقد قام الباحث بدراسة علمية تناولت العوامل
المؤثرة في سلوك المرأة المديرة مع التطبيق على بعض المنظمات في مصر)
أوضح فيها صراع الأدوار الذي تعيشه المرأة العاملة: من سيطرة مشكلات رعاية
الأطفال، ودور المرأة نحو زوجها، والتأثيرات الصحية والنفسية والاجتماعية،
ومظاهر التوتر النفسي والقلق ...
وميخائيل جورباتشوف (الرفيق) يقول في (البيروسترويكا) : (إن المرأة
تعمل في مجال البحث العلمي، وفي الإنتاج والخدمات، وتشارك في النشاط
الإبداعي، ولم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية في المنزل (العمل المنزلي) ،
وتربية الأطفال، وإقامة جو أسري طيب) .
(في 23/12/1985م تقدم مجموعة من أطباء الأطفال بمذكرة للدكتور
عاطف عبيد وزير شؤون مجلس الوزراء تدعو إلى مساعدة الأم المصرية للقيام
بأهم وظائفها المتمثلة في رعاية الأطفال وتنشئتهم التنشئة الصحية السليمة ...
وأيضاً حماية الاقتصاد المصري من استنزاف ميزانيته في استيراد الألبان ... الصناعية..) .
وفي (21/3/1987م: أصدر رئيس هيئة القطاع العام للغزل والنسيج قراراً
بمنع تعيين السيدات في ثلاثين شركة غزل ونسيج، وقال: إنه استند في قراره هذا
إلى أن العائد من عمل المرأة لا يتجاوز 20% مما يحققه الرجل) .. وذلك بخلاف
التصريحات والقرارات التي صدرت منذ 1971م حول إنتاجية المرأة المنخفضة،
والرغبة في تشغيل المرأة نصف أيام العمل الرسمية، ومشروعات قوانين لمنح
المرأة العاملة إجازة (10) سنوات بنصف الأجر ...
فإذا أضفنا إلى تلك الآثار: نسبة البطالة المرتفعة بين الشباب التي تسهم
المرأة العاملة في ارتفاعها بينهم، والتي يتعاظم أثرها على الرجل بخلاف المرأة في
مجتمعاتنا وما ينتج عن الفراغ المصاحب لذلك من مشكلات نفسية واجتماعية وأمنية
... لوقفنا حائرين أمام الإصرار على خروج المرأة إلى العمل.
ولكن جانباً من هذه الحيرة يزول إذا طالعنا الآتي [2] : (في 6/1/1972م:
نشرت الصحف أن الدكتور أحمد السيد درويش وزير الصحة حينئذ بحث مع
أعضاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير الاتجاه إلى إيجاد فرص عمل ملائمة لكل
امرأة عاطلة في مصر؛ لإمكان رفع مستواها الاقتصادي، وشغل وقت فراغها
الطويل كوسيلة فعالة من وسائل تنظيم الأسرة في مصر.. على أساس أن المرأة
ذات الدخل المناسب أقل إنجاباً وأحرص على تنظيم أسرتها) ، وفي (20/1/
1986م: ناقش المجلس القومي للسكان برئاسة د. ماهر مهران مقرر المجلس
إعداد خطة قومية للتوسع في تشغيل المرأة المصرية على مدى خمس سنوات،
باعتبار أن ذلك هو الحل الأمثل والوحيد لأزمة السكان في مصر.. بعد أن أثبتت
الأبحاث العلمية أن المرأة العاملة أقل خصوبة وإنجاباً! !) .
وهذا ما يقرره أيضاً الدكتور محمد السيد غلاب في المشروع المستقبلي الذي
نحن بصدده؛ حيث يقول: إن (انتشار التعليم واهتمام المرأة بالعمل، لهما أثرهما
في الحد من الزيادة السكانية) .
ويبدو أن الأمر مستقر في المشروع المستقبلي على الحد من الزيادة السكانية،
فإضافة إلى ما نصح به الدكتور غلاب يضع الدكتور الباز من أهم ركائز رؤيته
المستقبلية: وضع خطة شاملة لتنمية المورد البشري في مصر، تقوم أولاً على
ضبط النمو السكاني، بحيث ينخفض إلى أقل من 2%، وذلك باستخدام وسائل
أكثر فعالية في الترويج لمفاهيم تنظيم الأسرة وإقناع الجماهير في المناطق الريفية
وفي الأحياء الشعبية في المدن بأفضلية الأسرة الصغيرة القادرة» ، ولا يخفى على
القارئ أن (تنظيم الأسرة) هو الاسم الجديد لـ (تحديد النسل) ، وهذا ما وضحه
الدكتور الباز بـ (أفضلية الأسرة الصغيرة) .
ولا يظهر في المشروع: هل الإصرار على الحد من الزيادة السكانية
والوقوف عند حد الـ 70 مليون بسبب خطر الزيادة السكانية نفسها أم لعجز الدولة
عن تأهيل واستثمار وتوظيف هذه الزيادة؟ ! ، ولكن هناك إشارات في الدراسة
تلمح إلى إدراك أهمية القوة البشرية، منها ما ذكره الدكتور غلاب نفسه من (أن
الزيادة السكانية لم تكن أبداً عبئاً، ولا يصح أن تعتبر كذلك في القرن القادم؛ فهي
التي مكنت مصر من التقدم في كل العصور) ، وفي دراسة أخرى: يشير الدكتور
مصطفى الفقي إلى أن من أهم العوامل المؤثرة في دور مصر عربيّاً: (اعتبار
مصر مستودع الثروة البشرية) .
وفي هذه الإشارات توافق مع منطق العقل والتاريخ؛ يقول الأستاذ خورشيد
أحمد: (القوة الغالبة لا تكون في المستقبل إلا للبلاد التي تتمتع بزيادة السكان،
وتتحلى في الوقت ذاته بالعلوم الفنية، فليس ثمة شيء يستطيع أن يحتفظ لأمم
الغرب بسيادتها وقيادتها العالمية سوى أن تعمل على نشر حركة تحديد النسل ومنع
الحمل في بلاد آسيا وإفريقيا؛ لأجل هذا: فإن البلاد الغربية تعمل اليوم وسعها
لزيادة سكانها، ولكنها في الوقت نفسه تستعين بأحسن ما عندها من أساليب الدعاية
لتعميم حركة تحديد النسل في البلاد الآسيوية والإفريقية) [3] .
ويقول أيضاً: (وما أصدق الأستاذ (أورجانسكي) في قوله: وفي
المستقبل، إنما تكون القوة أكثر عند المعسكر الذي يكون عنده الأفراد أكثر) [4] .
ويقول في الكتاب نفسه: (مما لا يخفى على طالب لعلم التاريخ: أن تعدد
السكان له أهمية سياسية جذرية، ولذا: فإن كل حضارة أو قوة عالمية قد أولت جل
اهتمامها إلى زيادة أفرادها في عصرها الإنشائي والتعميري، ولذا: فإن المؤرخ
المعروف الأستاذ (ويل ديورانت) يعد كثرة السكان من أهم أسباب التقدم المدني وأيضاً يعدها الأستاذ (آرنولد توينبي) من تلك التحديات الأساسية التي ردّاً
عليها يخرج إلى عالم الوجود تقدم أي حضارة إنسانية) [5] .
فهل عرف العلمانيون بعضاً من حكمة حث الرسول على التكاثر والتناسل
والتوالد؟ !
الملحوظة السادسة: الاقتصاد والإنجازات! الثورية:
التطور السريع الذي شهده الاقتصاد المصري منذ قيام حركة 23 يوليو
1952م (لاحظ أنه لا تُذكر هنا الصحوة الإسلامية والأسباب الاقتصادية لظهورها)
هذا التطور الذي يحدثنا عنه الدكتور/إبراهيم حلمي عبد الرحمن، وما أدى إليه من
(نمو كبير في قطاع الصناعة والخدمات، وإلى تحويل مصر تدريجيّاً من دولة
زراعية أساساً إلى دولة أصبحت مساهمة القطاع الزراعي فيها لا تتجاوز 20% من
الناتج المحلي، لكن الضغوط الخارجية والحروب المتتالية في ثلاثة عقود أرهقت
الاقتصاد القومي، ثم عاد الاقتصاد المصري أخيراً إلى مرحلة التنمية السريعة في
الثمانينات) .
هذا التطور حقيقته: تراجع الإنتاج الزراعي نتيجة التصحر، وعدم مواكبة
الزراعة لأساليب متطورة ومتقدمة، وهجر الفلاح المصري للعمل في مجال
الزراعة.. الحال الذي أدى لما هو معروف من تحويل مصر إلى بلد مستورد لقُوته
بعد أن كان سلة غذاء، حيث أصبحت مصر الآن تستورد 60% من حاجاتها
الغذائية، وكمثال على ذلك [6] : فالقمح الغذاء الأساس في مصر تعتبر مصر أكبر
مشترٍ له من أمريكا (أكثر من مليون طن) ، كما تعتبر مصر ثالث أكبر مستورد في
العالم للقمح والدقيق، وذلك نتيجة سياسة مقصودة، فقد وصل الأمر إلى قطع المياه
لأكثر من شهر عن إحدى القرى، فتم تدمير آلاف الأفدنة المزروعة بالقمح، وفي
أخرى: أُغرقت الأراضي بالمياه، مما أحدث خسائر مماثلة، وفي ثالثة: زرعت
بذور البطيخ فأصابت التربة بما جعلها غير صالحة لزراعة القمح.. كما أن
فيروسات وأمراضاً تستعصي على السيطرة أُدخلت عن طريق البذور المستوردة..
وكان تدمير (350000) فدان بسبب مقاومة الفيروسات بمبيدات مستوردة، ونفقت
60% من الثروة الحيوانية نتيجة أمراض حيوانات مستوردة.. وقد بلغت كارثة
القطن حد استيراد مصر من أمريكا حالياً (19600) طن قطن قصير التيلة،
بخسارة بلغت 500 مليون دولار ...
وجدير بالذكر أن الصهاينة سربوا عبر الحدود المصرية (85) نوعاً من
البذور والمخصبات المحقونة بهرمونات ضارة، فضلاً عن ثمانين نوعاً آخر من
المبيدات السامة الممنوعة دوليّاً..
وحقيقة هذا التطور أيضاً: تخلف صناعي كبير مقارنة بتجارب مواكبة زمنيّاً
للتجربة المصرية (التجربة اليابانية، ثم التجربة الكورية) ، كما أن هناك تغافلاً عن
أن (شماعة إرهاق الاقتصاد المصري بالحروب) قد تحطمت منذ ما يقرب من ربع
قرن، وظهرت خلال هذه الفترة الأخيرة قفزات اقتصادية كبيرة في دول أقل في
الإمكانات كثيراً من مصر (النمور الآسيوية السبعة وتوابعها) .
وهذا التطور (السريع) والعودة إلى مرحلة التنمية (السريعة) في الثمانينات
صاحبه تطور سريع أيضاً في حجم الديون المثقلة بها الدولة والحكومة، فبالإضافة
للدين الخارجي الذي تتضارب التقديرات حوله، والذي بلغ (55) بليون دولار عام
1991م قبل تخفيضه إلى (40) بليون دولار بعد إسقاط الشريحة الأخيرة، لمشاركة
مصر في حرب الخليج وموقفها من قضية (سلام الشرق الأوسط) [7] ، بخلاف
فوائد خدمة الدين المتراكمة، بالإضافة إلى ذلك الدين: هناك الدين العام المحلي
(المقدر بنحو 122. 7 بليون جنيه (نحو 37 بليون دولار) تمثل 80 في المئة من
إجمالي الناتج المحلي المتوقع في الخطة 1996 1997م، إضافة إلى نحو 16. 3
بليون جنيه تمثل أعباء خدمة الدين المحلي والفوائد المستحقة، ليبلغ إجمالي الدين
العام وفوائده: نحو 139 بليون جنيه (41 بليون دولار) تمثتل 86 في المئة من
الناتج الإجمالي الحقيقي ... وتشير الأرقام إلى ارتفاع أرقام الدين المحلي المتوجب
على الحكومة من الأفراد والمصارف والشركات والهيئات العامة من 11 بليون جنيه
عام 1981م إلى نحو 134 بليوناً و700 مليون جنيه بنهاية عام 1995م، بنسبة
زيادة مقدارها 1225 في المئة، أي 12 ضعفاً خلال 14 عاماً.. ويعزو خبراء
اقتصاديون تضخم هذه المديونية إلى تزايد حجم النفقات الحكومية في ظل ثبات
حجم الإيرادات ... واعتماد الحكومة على الاستدانة من الداخل.. لسد العجز في
الموازنة..) [8] .
الملحوظة السابعة: هدف تنمية القوة:
تحفظ الدكتور الباز على خفض الإنفاق العسكري، مشيراً إلى (أن ما
يتهامس به البعض أحياناً، ويروجه في أحيان أخرى، عن وجوب خفض الإنفاق
العسكري لصالح الإنفاق المدني ... هو نظر خاطئ وغير سليم في تقديري
المتواضع؛ لأننا لا بد أن ندرك أن المجتمع لا يمكن أن يكون قويّاً متماسكاً ومنيعاً،
مستعصياً على التهديدات وأخطار الانهيار والتمزق إلا إذا كانت الدولة قوية ... )
و (لا يفكر في المساس بقدرة مصر العسكرية في السنوات المقبلة إلا ساذج أو واهم ينخدع بالقشور، ولا يحيط بالظواهر المركبة المعقدة من زاوياها المختلفة) .
وإذا كنا نقدر للدكتور الباز هذا الموقف، ونفهم (التهديدات) على أنها الأخطار
الخارجية حيث (إن الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط التي نعيش فيها لم تستقر
بعد بالدرجة الكافية) وحيث لا بد (أن نحث دولها على تبني مفهوم جديد للأمن،
يقوم على تحقيق الأمن المتوازن المتكافئ الذي لا يتمتع فيه طرف بميزة نسبية تخل
بالتوازن المطلوب) ، إلا أن المقصود بـ (أخطار الانهيار والتمزق) لم يكن
واضحاً، فهل المقصود هو المخطط الصهيوني لتقسيم مصر إلى أربعة محاور
جغرافية، وهو ما حذر منه تفصيلاً الدكتور حامد ربيع أستاذ العلوم السياسية ذو
المكانة العالمية، وكتب ذلك في مجلة (الأهرام الاقتصادي) العدد 733 في 31/1/
1983م وما بعده، وأورده الدكتور جمال عبد الهادي في الجزء الثالث من كتاب
(الطريق إلى بيت المقدس) ، كما أورد نص وثائقه الصهيونية الكاتب الفرنسي
(روجيه جارودي) في كتابه (فلسطين أرض الرسالات الإلهية) ، أم إن المقصود
أخطار أخرى، قد تنشأ على (الحكومة) نتيجة تنامي اتجاهات غير مرغوب فيها!
وإذا كان موقف الدكتور الباز واضحاً في هذا الجانب (الحفاظ على قدرة مصر
العسكرية) إلا أن طرح اللواء أحمد فخر في الدراسة الخاصة لتحديد دور المؤسسة
العسكرية المصرية كان غير محدد، غير أنه أجاب لنا عن تساؤلنا السابق الأخير،
حيث افترض أن منطقتنا يمكتن أن تشهد أحد سيناريوهين سيؤثران على دور
المؤسسة العسكرية:..
(السيناريو الثاني: فيتمثل في عدم نجاح السلام، ومحاولة القوى الجديدة التي
تظهر خارج الإطار المؤسسي صياغة الأحداث بما يتلاءم مع أهدافها، وفي حالة
حدوث هذا السيناريو: فإن دور المؤسسة العسكرية في الدولة التي ستنجو من
مخاطر تفكك السلطة المركزية سيصبح دوراً أساسيّاً مسيطراً لمواجهة التهديدات
الداخلية أو الخارجية) ، ومن غريب هذا الطرح: أنه لم يهتم بمعالجة كيفية
مواجهة التهديد الخارجي المحوري والطبيعي، وهو الدولة الصهيونية! !
أما السيناريو الأول فكان: (سيناريو نجاح السلام، وفيه سيتم الاختيار بين
عدة مفاهيم للأمن، منها مفهوم الأمن الجماعي، والأمن الشامل، والأمن المشترك، والأمن بالتعاون) ، وهو ما تحفظ عليه الدكتور الباز بتبنيه (تحقيق الأمن
المتوازن المتكافئ) .
وإذا تحقق هذا السيناريو كما في طرح اللواء فخر، فإن هناك دوراً جديداً:
(طبيعة هذا الدور ستفرض على المؤسسة العسكرية إحداث تغييرات في هيكلها،
وإن اختيار مصر للمشاركة في توجهات النظام الدولي الجديد مثل المشاركة مع
قوات الأمم المتحدة في قوات حفظ السلام سوف يؤدي إلى تغير في شكل ومهام
بعض عناصر المؤسسة العسكرية) ..
تصريحات مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأمريكية في حديث إلى الصحفيين
حول زيارة الوزير (بيري) لمصر أوضحت وأكدت لنا طرح اللواء فخر، حيث
يقول المسؤول: (وثمة موضوع آخر، وهو أن لنا بعض برامج المساعدات
الأمنية الرئيسية التي نناقشها دائماً بالطبع، وسنتحدث عن الاستمرار في تحديث
القوات المسلحة المصرية، وأيضاً كما تعلمون عما هو ضروري للاستقرار الإقليمي
ومصالح الولايات المتحدة بالتأكيد. وما تسفر عنه مجموعة القضايا عندما توضع
في مجملها أمام أبصاركم هو: أن تتمكن مصر من اللعب في ساحات شتى في
المنطقة وبالتضافر مع الولايات المتحدة، وكما ذكرت سابقاً: كان اشتراك
المصريين في الخليج أمراً مهمّاً، واشتركوا في حفظ السلام في الصومال،
واشتركوا في قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة التي عملت على حفظ السلام في
البوسنة، كما أنهم سيشتركون أيضاً في القوة الدولية في البوسنة، ولذلك وإن لم
تتوافر قوات مقاتلة عصرية وقوات حسنة التدريب قادرة على النهوض بمهام دقيقة
لحفظ السلام، فسوف لا يكون بوسعها الاشتراك في هذه الأمور) [9] .
فهل ستكون القوات المسلحة المصرية ترساً في الآلة العسكرية الأمريكية؟ !.. مجرد سؤال!
الملحوظة الثامنة: تحديات غير مطروقة:
هناك بعض التحديات لم تتطرق الدراسة إلى الإجابة عليها، ومن ذلك:
أ -كيفية القفز عبر الهوة التكنولوجية الواسعة للحاق بالدول الرائدة فيها، فقد
تحدثت الدراسة عن أهمية معالجة التخلف التكنولوجي الذي تعيشه البلاد، وأي
منصف وليس الإسلاميون فقط يعتبر أن هذا التخلف أحد أسباب التبعية والتغريب،
كما أن أمة تعد نفسها للريادة الحضارية لا ينبغي لها أن تتخلف عن الأخذ بأسباب
الرقي التقني والمدنية.
ولكن الدراسة مع إدراكها لأهمية هذا الموضوع إلا أنها لم تعطنا رؤية
واضحة للنهوض من هذا التخلف، في ضوء:
أ - عِظَم الهوة بين الواقع الذي تعيشه البلاد والنموذج الذي تريد اللحاق به.
ب - عدم سماح الدول المالكة لهذه التقنيات بانتقالها إلى غيرها، وبخاصة
بعد اتفاقية الجات.
ج - هجرة العقول والكفاءات المتميزة التي تزخر بها البلاد إلى الخارج،
نتيجة: عدم تقديرها، والافتقار إلى المناخ الملائم لاستثمار إمكاناتها، كأثر من
تخلف العقلية الإدارية التي تتحكم في توجيه واستثمار هذه العقول.
-مواجهة التهديد النووي الإسرائيلي في ظل الإمكانات المصرية المحدودة
والمكبلة بالقوى الدولية، والإصرار الإسرائيلي على التفوق النوعي والكمي
للأسلحة الاستراتيجية وأسلحة الدمار الشامل.
-مواجهة مخططات تقسيم مصر المشار إليها في الملحوظة السابعة في حال
خروجها إلى حيز التنفيذ، وبخاصة أن هناك مؤشرات على التمهيد لهذا المخطط
الذي وُقِّت عام 1997م لتنفيذه بمشاريع وإجراءات رصدها الدكتور حامد ربيع
وتابعها الدكتور جمال عبد الهادي، ولا يُستبعد منها العمل على إبراز (التراث
النوبي) ومحاولة إدراج مشكلة (الأقلية النوبية) إضافة إلى الأقباط على جدول أعمال
مؤتمر الأقليات الذي كان مزمعاً عقده في القاهرة برعاية د/سعد الدين إبراهيم
الأستاذ بالجامعة الأمريكية.
-عوّل كثير من المشاركين في الدراسة على مكانة مصر والثقل الكبير الذي
تتمتع به بناءً على موقعها على الخارطة السياسية الإقليمية والدولية، والتي تعمل
على تشكيلها القوى الدولية، فماذا لو حاولت هذه القوى تهميش وعزل مصر،
مثلما ظهر التلويح بذلك (تحريض مسؤولين إسرائيليتين لأمريكا على فرض
عقوبات على مصر) في أزمة صواريخ سكود الكورية الشمالية؟ ! .
-كيفية النهوض في ظل الدين الخارجي الكبير، وكيفية الاعتماد على العالم
الغربي اقتصاديّاً مع الاستقلال عنه رياديّاً وسياسيّاً، حتى تكون مصر (قوة كبرى
إقليميّاً وإحدى القوى الفعالة دوليّاً، دولة لا تنصاع لأي قوة مهما كبرت وبلغت من
أسباب الرفعة والتقدم، ولا تقبل أن تكون تابعة أو ممالئة لقوة، كانت ما كانت)
على حد تعبير الدكتور الباز.
وأخيراً:
فنعيد ما ذُكر في أول الحلقة الأولى من هذا المقال، من أن الإسلاميين يجب
أن يرقبوا واقعهم ويتابعوه كلّ بحسب قدراته وإمكاناته، وينقدوا ما يُطرح نقداً
متوازناً منصفاً، ويظهروا بدون تردد عوار المناهج الوضعية، كما نذكِّر بأن هذا
النقد لمثل هذا المشروع لا يهدف إلى (تصحيحه وإصلاحه) ؛ لأن ما قام على باطل
فهو باطل، والعلمانية أساس منبتّ الصلة عن ديننا وأمتنا، لا يصلح أن يجمّل
ببعض الوصفات أو الصبغات الإسلامية! ..
فإذا لم يكن الإسلام هو البديل، فما هو البديل؟ !
__________
(1) انظر: إمبراطورية النساء العاملات، إيمان محمد مصطفى الزهراء للإعلام العربي.
(2) انظر المصدر السابق.
(3) حركة تحديد النسل، أبو الأعلى المودودي، ص 184.
(4) المصدر السابق، ص186.
(5) المصدر نفسه، ص 178.
(6) انظر تقرير د تسنيم إبراهيم (أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كاليفورنيا الولايات المتحدة) ، عن مجلة (المجتمع) الكويتية) .
(7) انظر: جريدة الحياة اللندنية، ع/12289، 18/10/1996م.
(8) جريدة الحياة، ع/12218، 8/8/1996م.
(9) أضواء على الأنباء استعراض أسبوعي للصحف الأمريكية وكالة إعلام الولايات المتحدة، 2/4/1996.(107/80)
المسلمون والعالم
الإسلام والمسلمون في تنزانيا
(2 من2)
بقلم:سعيد عبيد الله
بعد استعراض لتاريخ هذه الدولة وكيف دخلها الإسلام، وبعد إطلالة على
أوضاع المسلمين هناك، يواصل الكاتب معالجة بقية الموضوع، مذكراً ببعض
الأمور التي يرى أنها في حاجة للعناية بها من أجل النهوض بالعمل الإسلامي في
تلك البلاد:
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
1- الاهتمام بالتعليم:
أهم الخدمات التعليمية التي تدعو الضرورة إلى توفيرها للمسلمين هناك،
وهي:
-المدارس الابتدائية الإسلامية العصرية:
إن التعليم الابتدائي هو الأساس في تكوين شخصية المسلم المتميز.
وحكومة تنزانيا تحت رئاسة الرئيس السابق «جوليوس نيريري» ، الحاقد
على الإسلام لم تسمح بافتتاح مدارس ابتدائية غير حكومية، والهدف من ذلك هو:
منع المسلمين من تربية النشء على المنهج الإسلامي، وبالتالي: تكوين شخصية
علمانية ليسهل السيطرة على المسلمين، وقد حقق بعض النجاح في هذه الخطة
الخبيثة، إلا أن المسلمين لما رأوا هذا الخطر بدؤوا يطالبون بحقوقهم، وكان نتيجة
ذلك: أن سُمح لهم بافتتاح مدارس بالمرحلة الابتدائية، فما على المسلمين إلا انتهاز
هذه الفرصة الذهبية.
-المدارس الثانوية والمعاهد الفنية الإسلامية:
التعليم الثانوي الذي يؤهل للتعليم العالي، والمدارس الفنية سيساعدان
المسلمين على مواصلة التعليم وتعلم الحرف التي تساعدهم على الاعتماد على النفس
بعد الله والاشتغال بأعمال طيبة، بدلا من البطالة التي تجرهم إلى ما لا يحمد عقباه.
-المعاهد الدينية:
هناك حاجة أيضاً إلى وجود المعاهد الدينية، فالمعاهد الموجودة الآن في
تنرانيا غير كافية من حيث العدد ومن حيث المستوى التعليمي، حيث إنها على
مستوى (المرحلة المتوسطة) فقط، فالحاجة ماسة إلى وجود معاهد أخرى ذات
مستويات أعلى.
-دور تأهيل المسلمات:
كما يحتاج المسلمون إلى مراكز لتأهيل النساء اللاتي تحتاجهن المدارس
والمستوصفات ودور الأيتام التي ترعى أبناء المسلمين.
-معاهد إعداد المعلمين:
هناك حاجة أيضاً إلى معاهد إعداد المعلمين، حيث سيساعد ذلك في إعداد
المعلمين المسلمين للتدريس في المدارس الابتدائية والثانوية الإسلامية، حيث إن
المعلمين في هذه المدارس تم أعدادهم في المعاهد الحكومية أو الكنسية التي لا تلتزم
في إعداد المعلمين بأي التزامات سلوكية؛ مما يسبب تخريج معلمين غير ملتزمين
إسلاميّاً.
2- الدعوة في حصص الدين الإسلامي في المدارس الحكومية:
وعلى المسلمين أن يستغلوا فرصة إتاحة الحكومة التنزانية تدريس الديانات
في مدارسها، بالعمل على الاهتمام بتدريس حصص الدين الإسلامي، واستغلالها
مساحةً دعوية مهمة، وحماية لأبناء المسلمين من التنصير الذي قد يقعون تحت
طائلته إذا حضروا حصص الدين النصراني في حالة عدم وجود من يدرِّس الإسلام.
3- إقامة دروس تقوية:
هناك أيضاً الحاجة إلى إقامة دروس تقوية للطلبة المسلمين الدارسين في
المدارس الحكومية والخاصة؛ لكي يتفوقوا في دروسهم ويتفوقوا في الامتحانات،
ونقترح أن تقام هذه الدروس في المدارس القرآنية، وفي المساجد، وذلك لربط
هؤلاء الطلاب بالبيئة الإسلامية، كما نرى الحاجة إلى دروس في الثقافة الإسلامية
مع دروس التقوية، وذلك من أجل ربط الطلبة بثقافتهم الإسلامية.
4- إقامة محطات الإذاعة والتلفزة الإسلامية:
لا شك أن محطة الإذاعة والتلفزيون لها دور كبير في التثقيف والتوعية
والتعليم، حيث تستطيع بما تبثه عبر برامجها المسموعة والمرئية اختراق حواجز
الزمان والمكان لتصل إلى المستمعين والمشاهدين بسهولة، والمحطات الإسلامية لا
توجد في تنزانيا، بل لا توجد في شرق إفريقيا كلها، تلك المنطقة التي تتكلم باللغة
السواحيلية، في حين تملك الكنيسة أربع إذاعات، وهي موجودة في مدينة (موشي) ، ومدينة (عروشا) ، ومدينة (سونغيا) ، كما أن لها محطة تلفزيونية في مدينة (دار
السلام) ، كما أن للرافضة محطة تلفزيونية في مدينة (دار السلام) .
ولأهمية الحاجة إلى وجود محطات إذاعية وتلفزيونية إسلامية في تنزانيا التي
ستنقذ المسلمين في جميع دول شرق إفريقيا طلب رئيس الجمهورية التنزانية السيد
(علي حسن مويني) من الأمين العام للجنة مسلمي إفريقيا الدكتور (عبد الرحمن
السميط) في لقائه مع الرئيس في منزله في دار السلام عام 1991م أن تفتح
المؤسسة المذكورة الإذاعة الإسلامية (إذاعة القرآن الكريم) في تنزانيا، ولعل ذلك
يكون في خطة المؤسسة المذكورة وحسب أولوياتها الدعوية في إفريقيا.
والجدير بالذكر: أن الحكومة التنزانية قد وافقت على وجود الإذاعات
والتلفزيونات الخاصة في تنزانيا، والنصارى قد انتهزوا هذه الفرصة.
5- إقامة الدورات التدريبية:
ونرى أن تكون إقامة هذه الدورات لتحقيق أهداف عدة، منها:
1- رفع الكفاءة العلمية والدعوية للدعاة.
2- تدريب الدعاة والمعلمين على طرق تدريس المنهج الشرعي في العقيدة
والعبادة والسلوك.
3- التنبيه على بعض البدع السائدة، التي اعتادها العوام؛ لما ألفوه من
الطرق الصوفية على وجه الخصوص.
6- إقامة الندوات العلمية والثقافية:
هناك حاجة أيضاً إلى إقامة الندوات العلمية والثقافية الإسلامية لتوضيح
الحقائق الإسلامية ومعالجة القضايا الإسلامية المختلفة، خاصة تلك الشبهات المثارة
من قبل أعداء الإسلام.
7- إقامة المكتبات الصوتية والمرئية الإسلامية:
نظراً لانتشار وسائل الإعلام الحديثة من المسجلات والفيديو التي يقتنيها الآن
كثير من الناس: فإن هناك حاجة إلى اقتحام هذا المجال دعويّاً، وذلك بافتتاح
المكتبات الصوتية والمرئية الإسلامية لبيع ونشر أشرطة الكاسيت والفيديو الإسلامية
التي تحوي القرآن الكريم ومحاضرات ودروساً ومواعظ، وهناك حاجة إلى أن
تكون هذه المحاضرات والدروس والمواعظ باللغة السواحيلية والإنجليزية والعربية.
8- مكتبات بيع الكتب:
وهناك حاجة إلى إنشاء مكتبات للمراجع والكتب الإسلامية، وخاصة المراجع
المهمة في العلوم الشرعية؛ فمعظم المسلمين والدارسين على الخصوص يحتاجون
إلى هذه الكتب، لكنها غير متوفرة، وبما أن هذه الكتب ليس من السهل توزيعها
مجاناً: فالأحسن بيعها بسعر التكلفة مساهمة في دعم طلبة العلم وتشجيعهم على
اقتناء الكتب الإسلامية المفيدة.
كما أن هناك حاجة إلى وجود المكتبات العامة، وهذه المكتبات ستساعد من
ليس لديه القدرة على شراء الكتب على الاستفادة من هذه الكتب في المكتبات في
المحافظات.
9- نشر الكتاب الإسلامي:
هناك حاجة إلى نشر الكتاب الإسلامي في تنزانيا باللغة السواحيلية، وأهم
الكتب التي نرى الحاجة إلى نشرها هي التي تتكلم عن:
1- العقيدة الإسلامية الصحيحة، حيث إن كثيراً من القضايا العقدية مشوهة
ومغلوطة لدى كثير من المسلمين.
2- ما يتطرق للتصور الصحيح للإسلام.
3- الردود على الشبهات المثارة ضد الإسلام.
4- القضايا الشرعية، من فقه (خاصة أركان الإسلام) وغيره.
5- السيرة النبوية، وتاريخ الخلفاء الراشدين، والأذكار.
10- إصدار النشرات الإسلامية:
هناك حاجة أيضاً إلى إصدار النشرات الإسلامية باللغة السواحيلية، لتتحدث
تلك النشرات عن المعاني الإسلامية والمقاصد التربوية لهذه الموضوعات، على أن
تكون طباعة الكتب والنشرات طباعة جيدة أنيقة تجذب القارئ لقراءتها واقتنائها.
11- القوافل الدعوية:
إن القوافل لها أهمية من ناحية الاستطلاع والتعرف على واقع المسلمين
واحتياجاتهم وظروفهم، ومن ثم: القيام بواجب الدعوة فيما بينهم.
وقد أخبرنا أحد الأطباء المسلمين وهو الدكتور (هارون عمر) الذي يشارك
في القوافل الدعوية التي يقيمها مركز شباب الأنصار في محافظة (تانغا) بالتعاون
مع الندوة العالمية للشباب الإسلامي، أن هذه القوافل خاصة إذا ركزت على القرى
تستطيع أن تقضي على كثير من الانحرافات العقدية، وقال: إن كثيراً من
المسلمين في القرى نتيجة الجهل بالإسلام الصحيح، والفقر، وقلة الخدمات
الصحية إذا مرضوا سرعان ما يلجؤون إلى المنجمين والمشعوذين؛ ولهذا: تجد
كثيراً من حالات تعليق التمائم في القرى بين عامة الناس نتيجة جهلهم بالدين
الصحيح.
فالقافلة تستطيع القضاء على هذا، حيث يقوم الطبيب المرافق للقافلة بالكشف
على المريض ويعطيه الدواء المناسب، والمشائخ من جانبهم يوضحون للمسلمين
العقيدة السليمة والإسلام الصحيح، وبذلك: استطاعت تلك القوافل القضاء على
كثير من الانحرافات، وبالتالي: إيصال الدعوة وتصحيح العقائد.
12- مساعدة بعض المنظمات الإسلامية المحلية:
هناك حاجة في نظرنا إلى مساعدة بعض المنظمات الإسلامية المحلية النشيطة من أجل أن تواصل أنشطتها، وأهم هذه المنظمات التي نرى أنها تحتاج إلى
المساعدات هي:
1- جمعية مركز الأنصار للشباب المسلم، (تانغا) .
2- جماعة أنصار السنة، (دار السلام) .
3- جماعة أنصار السنة، (عروشا) .
4- اتحاد المدرسين المسلمين في تنزانيا، (دار السلام) .
5- اتحاد الطلبة المسلمين في جامعة دار السلام.
6- معهد مروة الإسلامي، (امتوارا) .
13- الاهتمام بالدعاة:
بما أن تنزانيا ذات مساحة كبيرة: فإن هناك حاجة إلى دعاة كثيرين، بل
وهناك حاجة أيضاً إلى الاهتمام والعناية بهم، فمما لا يماري فيه أحد: أن جل
الأعمال الدعوية ونجاح الدعوة نفسها يعتمد بعد الله (سبحانه وتعالى) على هؤلاء
الدعاة، ولذلك: كان من الأهمية بمكان العناية بالدعاة بتوفير ما يسد الحاجات
الضرورية لعيشهم اليومي من سكن، وقوت، وعلاج، وكسوة.. وأيضاً: توفير
ما يعين على عملهم من وسائل؛ لكي يبذلوا المزيد من الجهد ويتفرغوا للدعوة.(107/92)
البيان الأدبي.. دراسات أدبية
معالم على طريق الأدب الإسلامي..
المرجعية التعبيرية والتصويرية والدلالية
(2 من 3)
بقلم: طاهر العتباني
قدم الكاتب في الحلقة الأولى تفصيلاً المعايير والأسس التي بنى عليها متبنو
مصطلح (الأدب الإسلامي) مقومات قبوله ووجوده، ثم بدأ بإلقاء الضوء على بعض قضايا الأدب من منظور إسلامي، معالجاً قضايا: التنظير والنموذج، والشكل والمضمون، ويواصل في هذه الحلقة معالجة قضايا أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
لا شك أن كل عملٍ أدبي ينتمي إلى فكر معين أو تصور محدد يحمل في
مضامينه ونسيجه الداخلي سماتِ هذا الفكر وذلك التصور الذي ينتمي إليه، لا
مجرد الفكرة التي يعبر عنها والدلالات التي يشير إليها.
ولقد رأينا كيف أن النموذج الغربي في القصيدة والقصة والمسرحية والرواية
حمل إلى جانب الفكرة التي يحملها والدلالة التي يعبر عنها ويريد إيصالها للقارئ،
حمل معها إلى جانب ذلك في نسيجه الداخلي من أدوات التعبير المختلفة من
الاستعارات والمجازات والصور التعبيرية.. قسطاً وفيراً من الصور والمجازات
والإشارات التي تضرب في عمق التاريخ الغربي منذ العهد اليوناني وحتى العهد
الروماني النصراني، وتمتح من قيمه التاريخية والفلسفية والمثيولوجية.
لقد رأينا كيف أن (الفردوس المفقود) (لميلتون) ، و (كوميديا) دانتي،
ومسرحيات شكسبير، والشعر الرومانسي ... وغير ذلك، رأينا كيف حملت هذه
الأعمال الأدبية الكبرى روحاً نصرانية، واتخذت من الكتاب المقدس (الأسفار
والأناجيل المحرفة) ، وكذلك التاريخ الأوروبي منذ العهد اليوناني بأساطيره وآلهته
المتعددة، التي مثلت العقائد الوثنية في ذلك العهد.. إطاراً مرجعيّاً انطلقت منه، لا
في موضوعات هذه الأعمال فحسب، بل كذلك في بنائها الداخلي وصورها
التعبيرية مما يمكن أن نسمّيه: المرجعية التعبيرية، والتصويرية، والدلالية.
ثم انتقل هذا التأثير إلى الأدب العربي المعاصر، فوجدنا الشعراء
والمسرحيين والروائيين يعتمدون كما اعتمد أولئك الغربيون على التاريخ اليوناني
بأساطيره ووثنياته، وكذلك التاريخ الروماني والأوروبي بماديته، بشكل عام،
كمرجعية تعبيرية وتصويرية ودلالية، فشاع في الشعر العربي المعاصر استخدام
الأسطورة للتعبير عن الفكرة وتصوير القضية التي يراد طرحها على المتلقي.
وكمثال مبكر على ما نقول: يمكن مراجعة بعض قصائد الشابي، وعلي
محمود طه، وعبد الرحمن شكري.. على سبيل المثال، لنرى كيف استخدم هؤلاء
هذه الأساطير في أشعارهم منذ وقتٍ مبكر.
فعند علي محمود طه مثلاً نرى كيف سيطر عليه جو الأسطورة اليونانية مما
ذكر طرفاً منه في مقدمة ديوانه (أرواح وأشباح) .
وفي الأعمال المسرحية المبكرة رأينا كيف اتخذ توفيق الحكيم من أسطورة
(جالاتيا) و (بجماليون) مرجعية تعبيرية، ودلالية لعرض فكرة قلق الفنان أو ...
الأديب إزاء فنه، وكذلك غيرها من مسرحياته.
ثم ما انتصف القرن الحالي حتى شاع هذا الأمر في أدب الشعراء والكتاب
والمسرحيين والروائيين العرب، وأصبح شعر ما بعد العقد السادس من هذا القرن
إلى يومنا هذا تهيمن على صوره ومرجعيته التعبيرية أساطير اليونان والرومان
وتاريخهم، وكذلك أساطير الفترات السابقة للعصر الإسلامي، كأساطير بلاد
الرافدين والآشوريين والفراعنة.. وغيرها من الفترات التي انقطعت حضاريّاً بعد
ظهور الإسلام، مثل أسطورة (عشتار) في العراق، وأمثالها في العصر
الفرعوني، كقصة (إيزيس وأوزوريس) الفرعونية.. وغيرها.
كل هذا سيطر على الأدب العربي المعاصر، وأصبح يشكل مرجعيته
التعبيرية والتصويرية والدلالية.
ونذكر على سبيل المثال عدداً من أولئك الذين شاع في شعرهم الاتكاء على
مثل ذلك من أساطير ووثنيات وميثولوجيات كإطار مرجعي وتعبيري للصورة،
والدلالة، بل والفكر.
من هؤلاء: السياب، ونازك، والبياتي من العراق، وما تلاهم من أجيال
الحداثة، وفي مصر: صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وبعض
أشعار أمل دنقل، وفي سوريا وبلاد الشام: أدونيس، ومحمود درويش، وسعيد
عقل، ونزار قباني.. وغيرهم، وفي السودان: محمد الفيتوري وغيره.
ولم يعد الأمر يقتصر على الاستعانة في التعبير بعناصر مستمدة من هذه
الأساطير وما تدور حوله من الحديث حول الآلهة! وصراعها مع بعضها ومع بني
البشر، بل إن الأمر تعدى ذلك كله لتصبح الأفكار النصرانية كفكرة الخطيئة
والصلب وفكرة الخلاص، والاستهزاء بلفظ الإله فَيَرِدُ في أي سياق وفي أي نمط
تعبيري يقضي على قداسة هذه الكلمة ومفهومها في فكر المسلم وعقيدته، أصبح كل
ذلك أدوات تعبيرية وتصويرية، حتى لقد وصل الأمر بأحد نقاد الحداثة أن يقول:
(الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر
المعرفية للتراث في كتب ابن خلدون الأربعة أو اللغة المؤسساتية أو الفكر الديني،
وكون الله مركز الوجود، الحداثة انقطاع لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر
والفكر العلماني، وكون الإنسان مركز الوجود.
الحداثة ليست انقطاعاً نسبيّاً فقط، بل هي أعنف شرخٍ يضرب الثقافة العربية
في تاريخها الطويل، ليس في الثقافة العربية ما يعادل هذا الانشراخ المعرفي
والروحي والشعوري الذي يكاد يكون انبتاتاً لا انقطاعاً وانفصالاً عن الجذور، لا
يبقى فيه من رابط سوى اللغة بأكثر دلالتها أوليةً، أي بكونها قاموساً مشتركاً
للتواصل) [1] .
هذه هي الصورة التي وصل إليها فكر الحداثيين وتصورهم الفني والأدبي
والمعرفي لتراثنا وتاريخنا وفكرنا الإسلامي واللغة العربية التي هي الوعاء الذي
يحمل ذلك كله، ولقد جاء شعر الحداثيين مؤازراً لهذه التصورات مُطَبِّقاً لها،
وأصبح الاستهزاء بكل ما يرمز إلى الإسلام والدين في نفوس أبناء الأمة هدفاً رئيساً
لكتابات الحداثيين:
يقول عبد المنعم رمضان وهو من أجيال الحداثة المصرية في العقد الثامن في
ديوان له بعنوان (الغبار) ، يقول تحت عنوان (جسد) :
جسد يدخل في جسدٍ
يتوالد هذا الرحم الواضح مثل الأرض
يصير مساحة أغرابٍ أخرى تتحاذى
والناس هنا يمشون على الأعشاب
الناس هنا يقصون الله (!)
عن الجمرات الدافئة المسكونة
الناس هنا أوردةٌ
تطفو ساعة يطلق فيها
اليشمك والجنيّ وبارحة النسيان [2]
وأستطيع أن أقول: إن هذا الديوان وأمثاله كثير يكاد يغص بمثل هذه
الترهات والأباطيل، التي أعجب كيف تسمى شعراً؟ ! ، وكيف تنشرها مؤسسات
فكرية وثقافية رسمية في بلادنا؟ [3] .
ويمكن مراجعة دواوين وإصدارات وقصائد كلٍّ من رفعت سلام، وحلمي ... سالم، وحسن طلب، ومحمد أبو دومة.. لنقف على كثير من الغثاء، والشذوذ، والانحراف الفكري والفني.
كما يمكن مراجعة ما تنشره حالياً مجلة (إبداع) المصرية وغيرها من المجلات
الأدبية المتخصصة في أقطار العالم العربي.
ما الدور المطلوب:
ماذا على الشاعر المسلم والروائي المسلم والمسرحي إزاء ذلك كله؟ .
إن على الأديب المسلم مهمةً مضاعفةً في عمله الفني، إن عليه أن يمتد
ببصره وبصيرته الفنية إلى مصادره المعرفية والثقافية الإسلامية، وأولها: القرآن، وثانيها: السنة، وثالثها: تاريخ الإسلام وسير عظمائه وأبطاله ووقائعه وأحداثه؛
ليتخذ من هذا كله وسيلةً تعبيرية ومرجعية دلالية، بحيث يستوحي ذلك كله
ويستلهمه في أعماله الأدبية، فبلاغة القرآن، وصوره، وتعابيره، وقصصه، وما
يدخل في تضاعيف ذلك كله: يجب أن يستثمره الشاعر والأديب لكي يبني نسيج
عمله الأدبي الداخلي، ويرسم صوره واستعاراته ومجازاته ووسائله التعبيرية داخل
عمله الأدبي من خلال ذلك كله، فيصبح العمل الأدبي من أي النواحي أتيتَه عملاً
إسلاميّاً، إذا درسته فكريّاً: طالعتك مفاهيم الإسلام وعقائده وتصوراته للكون
والحياة والإنسان، وإذا درسته فنيّاً وتعبيريّاً: طالعتك روح القرآن والسنة
وتعبيراتهما ومجازاتهما وأساليبهما التعبيرية والدلالية [4] .
ففي ديوان (نقوش إسلامية على الحجر الفلسطيني) [5] يستعمل الشاعر
الفلسطيني محمود مفلح صور القرآن ودلالالته وصور السنة النبوية والسيرة
والتاريخ الإسلامي كخطوط أساسية للصورة الشعرية، ولقد استطاع باقتدار أن
يجعل نسيج القصيدة وبناءها الداخلي ينطق كما ينطق مضمونها وموضوعها بسَمْتِها
الإسلامي الأصيل.
وفي قصيدة (قال الهدهد) للشاعر نصار عبد الله استلهام جميل لقصة (هدهد
سليمان) في التعبير عن واقع العالم العربي اليوم، يقول الشاعر نصار عبد الله في
(قال الهدهد) :
قال الهدهد:
في كل زمانٍ عاش سليمان
وسليمان الآن
يسألني في بعض الأحيان
عن نبأٍ من سبأٍ
أو ما يشبهُ سبأً
فأقول له:
إني من كل مكانٍ أحمل نبأ
إني شاهدت بلاداً يحكمها أفاقون وكذابون
ولصوصٌ محتالون وسفاحون
وذبّاحون هَداهِدَهمْ
ومُوَلّون محاريب معابدهمْ
نحو موائدهم
ومصلون لم يسمع أحد منهم عن ملك سليمان [6] .
والقصيدة بطولها في ديوان الشاعر (قصائد للصغار والكبار) .
وفي قصيدة (القدس حين تغيب عن موكب الهجرة) للشاعر أسامة عبد الرحمن
استلهام رائع للتاريخ الإسلامي في الصور والتعبيرات والدلالات، يقول الشاعر في
قصيدته تلك:
على صعيدك من وهج البراق سنا ... يكاد يخترق المكسيك والصينا
أكاد ألمح فيك وقع حافرهُ.. ... أكاد أسمع همسات النبيينا
أكاد في الحرم الأقصى وساحَته ... أرى النبي وقد أمّ الممصلينا [7]
وفي قصيدة (لو تقرئين صحائفي) يقول أسامة عبد الرحمن أيضاً:
ما بال خيل بني (أمية) أجفلت ... ما بالها نكصت على الأعقابِ
ما بال صقر قريش داهمه الأسى ... كالليل حتى صار مثل غرابِ
ما بال «حلق» أقفرت جناتها ... وخلت من الأطيار والأطيابِ
ما بال قاهرة المعزِّ تسربلتْ ... بالذل فوق شواطئٍ وروابي
ما بال تاريخي الطويل تمكنت ... منه سموم الرجف المرتابِ [8]
إن بإمكان الشاعر المسلم، والروائي المسلم، والقصاص والمسرحي المسلم.. أن يستعينوا بهذا التراث والتاريخ كله ليفجر من خلال استلهامه له أعمق الصور
تأثيراً، وأعظم القيم التعبيرية جمالاً، في إطار الرؤية الإسلامية للأدب.
ومن يطالع (قاتل حمزة) و (عمر يظهر في القدس) من الأعمال
الروائية لنجيب الكيلاني، وكذلك من يطالع مسرحيات علي أحمد باكثير: يجد
كيف استفاد هؤلاء من الصور القرآنية والتاريخ الإسلامي في نسيج وبناء العمل
الأدبي شعراً، ومسرحية، وقصة، وروايةً.
وإذا كان الشاعر الحداثي المعاصر قد استعمل أيضاً التراث العربي والتاريخ
الإسلامي، بل والتناص مع نصوص القرآن والسنة، فإن الملاحظ كذلك على ما
استعمل من ذلك كله أنه اقتصر في مجال التاريخ الإسلامي والتراث العربي على
الشواذ من هذا التاريخ والتراث، ممن عرفوا بأفكار شاذة أو آراء متناقضة مع
العقيدة الإسلامية:
فالحلاج، وابن عربي، وإخوان الصفا، وغلاة الباطنيين.. وغيرهم ممن
عُرفوا بالشذوذ الفكري أو الأخلاقي عبر تاريخنا المشرق المضيء يصبحون في
أعمال المعاصرين من الشعراء والمسرحيين والروائيين، أبطالاً ونماذج.
كذلك أسيء فهم مواقف كثير من عظماء هذا التاريخ في أعمال المعاصرين
الأدبية، وتم تفسيرها تفسيراً مناقضاً للفكر الإسلامي الصحيح والتصور الإسلامي
القويم، أو تم الاعتماد على الروايات الضعيفة والمكذوبة فيما يتعلق بأخبارهم
ومواقفهم.
ففي مسرحيته (الرجل المجهول) لعز الدين إسماعيل: يصور الخلاف الذي
وقع بين عثمان بن عفان وأبي ذر الغفاري (رضي الله عنهما) صراعاً على المال
والسلطان، وهذا افتراء وتزوير.
وفي مسرحية (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور: يجعل الشاعر (الحلاج) أحد أبطال التاريخ الإسلامي، رغم ما ثبت من قوله بفكرة (الحلول والاتحاد)
التي تناقض عقيدة الإسلام الصحيحة، ويعتمد المؤلف فيها على كتاب عن الحلاج
كتبه المستشرق الغربي الفرنسي (لوي ماسينيون) [9] .
وكذلك من الحداثيين المعاصرين (مهدي بندق) في مسرحيته (غيلان
الدمشقي) ، التي استهزأ فيها بمواقف رجل من التابعين هو (رجاء بن حيوة)
الذي قيل فيه: (برجاء بن حيوة وأمثاله نُنْصَر) [10] ، كما سخر من الحجاب
الإسلامي في جرأةٍ عجيبة وتطاولٍ غريب.. ولا تزال هذه النماذج تملأ مكتباتنا
ومؤسساتنا الثقافية يوماً بعد يوم.
إن على الأديب المسلم أن يقف موقف المدافع والمصحح لذلك كله؛ إذ عليه
وهو ينسج عمله الأدبي شعراً كان أو قصةً أو روايةً أو مسرحية أن يكون القرآن
الكريم والسنة المطهرة ومواقف التاريخ الإسلامي والتراث العربي حاضرة في
وجدانه، يختار منها ما يناسب موضوعه وقضيته التي يطرحها في عمله الأدبي،
كما أن عليه أن يعي دلالات الصور القرآنية، ودلالات القصص القرآني،
فيستخدمها الاستخدام الذي يترك الأثر الإسلامي المطلوب، أو على الأقل: الأثر
الذي لا يتناقض مع التصور الإسلامي في نهاية الأمر.
ولقد استعمل الحداثيون الصورة القرآنية، والتعبير القرآني، ولكنهم حين
عكسوا دلالالتها وصورها، وقلبوا معانيها في كتاباتهم إلى معاني مناقضة للتصور
الإسلامي: تركوا بها في نفس القارئ أثراً غير حميد، ومعنًى يناقض ما سيقت له
في سياقها القرآني، ومن ذلك: ما يقوله عبد المنعم رمضان تحت عنوان ... (الرسوله / 2) [11] :
(إني أشتاق إلى شجر الزقوم، وأحسب نفسي امرأةً حين أمرر رجلي فوق
شواظٍ من نارٍ ونحاس، أنفذ من أقطار الأرض بسلطاني، وأمر إلى آنيتي، أشرب
شرب الهيم، وأفرد جسمي فوق فراشٍ من عهن منفوش، لا يألفه غيْري، فتباركت
تباركت، التف على جسمي بذراعيك، وآكلني من شجر الحنطة؛ حتى نعلم أنا
عريانان، تفوح لنا رائحةٌ، وبأوراق التين تغطيني وتغطي نفسك) .
وهكذا أصبح هذا الهوس غير الواعي، والهرطقة غير المحكومة بأي قانون
لغوي أو فني.. هي الشائعة فيما يُكتب اليوم.
إن على الأديب المسلم أن يصوغَ عقل قارئه من خلال تأكيد المعاني القرآنية
والصور والدلالات الإسلامية، وإبراز الجوانب المشرقة في التاريخ الإسلامي،
والتأكيد على أن ما حدث من خروج على قيم الحضارة الإسلامية من أحداثٍ
تاريخية يؤكد القاعدة، ولا يعطي لهذه المواقف الشاذة إلا كونها شواذّ في التاريخ
الإسلامي، حينما خرجت بعض حقبه أو رجاله عن المفهوم الصحيح للإسلام
وتصوره للكون والحياة والإنسان، أو عن مقتضى ذلك التصور.
كما أن الشعر العربي بتاريخه الطويل يمكن أن يكون إطاراً مرجعيّاً من خلال
صوره وقضاياه وتعبيراته، يمكن أن يدخل ضمن الإطار المرجعي للصور
والتعبيرات والدلالات لدى الشاعر والأديب المسلم المعاصر، ويستطيع لو أحسن
استيعابه أن يخرج من كل ذلك بمذاقاتٍ فنيةٍ مختلفٍ ألوانها ولها رونق المعاصرة
في آن واحد، وليعالج من خلال ذلك كله قضايا عصره وأمته من المنظور
الإسلامي الصحيح.
فعلى الأديب المسلم مهمةٌ مضاعفةٌ: إن عليه أن يتمثل كل ذلك في أدبه
ويوجهه الوجهة الإسلامية التي تترك في نفس القارئ الأثر الإسلامي المطلوب في
العمل الأدبي الإسلامي، فقد يستخدم الشاعر أو الأديب في موضوعه رمزاً إسلاميّاً
أو موضوعاً من الموضوعات الإسلامية، ثم ينظر إليها نظرة علمانيةً غربيّةً،
ويضفي عليها روحاً مغايرةً للتصور الإسلامي للأدب، فيخرج بها عن دلالتها
الحقيقية ورؤياها الإسلامية الأصيلة.
كما أن استلهام صور القرآن والسنة ومجازاتهما وتعبيراتهما ودلالاتهما
وقصصهما وأحداث السير والتاريخ الإسلامي.. لا يعني عدم استلهام التراث
الإنساني بصفة عامة والاستفادة منه، ولكن على شرط أن يدخل ذلك في إطار
التأثير الإسلامي المطلوب، وألا يسرف الشاعر أو الأديب في استخدامه، مُعْرضاً
عن تراثه الحقيقي، وإطاره المرجعي الأصيل؛ فعليه إذن أن يراعي النسب،
ويدرك إلى أي جانب ينتسب، وهل الأَوْلى أن يمتح من مائه المعين، أم يدلي دلوه
في ركام الثقافات والأفكار والتصورات المناقضة لتصوره الإسلامي الصحيح وفكره
المتميز؟ !
ويمكن مراجعة قصيدة (الخيزران والبلوط) لنصار عبد الله، حيث استعمل
الشاعر حكاية الخيزران والبلوط التي كتبها الشاعر الفرنسي (فولتير) ،
واستطاع استثمارها فنيّاً ليرسم لنا صورة الصراع الاجتماعي الذي ينتهب أجيال
الكبار، وينتهي بالهلاك لكل من يدخل هذا الصراع، ويبقى جيل الصغار في
النهاية هو الذي يصنع المستقبل، ويبقى فيه الأمل بإعطاء الحياة معنًى جديداً، بعد
أن أكل الحقد والضغينة والكبرياء أجيال الكبار.
ونقتطف هنا مقطعاً من هذه القصيدة، للشاعر نصار عبد الله:
وفجأةً أرعدت السماء
واهتزت الضفاف بالزلزالْ
ومادت الجبالْ
تدحرج البلوط داهساً بجذعه العيدان والسيقان
الخيزران صار قطعةً من العجين في يد العجان
* * *
وانفجر النجيل ضاحكاً
إني أنا المنتصر الوحيد في النهايهْ
أنا الذي أهمله الكبار في الحوارْ
ولم تُشر إليه أسطر الحكايهْ [12]
وهكذا تتكامل النظرة في الأدب الإسلامي لكل جوانب المعرفة الإنسانية،
فتقبل من المعارف الإنسانية والثقافات والأفكار ما يتفق مع التصور الإسلامي، أو
ما لا يختلف عنه، في إطار الحكمة التي هي ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحق
الناس بها.
__________
(1) جريدة (المسلمون) : مقال للدكتور جابر قميحة عن نظرية النقد الحداثية التي تقوم على فكرة موت المؤلف، المنقولة عن رولان بارت الناقد الفرنسي، في معرض استشهاده على فكر الحداثة، والكلام المنقول لكمال أبو ديب.
(2) ديوان (الغبار) لعبد المنعم رمضان، ص 113، من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 1993م.
(3) يلاحظ أن المؤسسات الثقافية ودور النشر لا تقف ضد منشورات الحداثيين التي فيها تهجم على الإسلام والعقيدة، بل وتسعى جاهدة لنشرها، وذلك ملاحظ على مستوى أكثر أقطار العالم العربي.
(4) حول المجاز في القرآن والسنة هناك رأيان، الأول: يرى أن القرآن والسنة تعبيراتهما على الحقيقة ولا يوجد فيهما ما يمكن أن نسميه (المجاز) ، والرأي الآخر: يرى أن أساليب القرآن تجري على الأساليب العربية التي تنقسم إلى أساليب حقيقية ومجازية كالاستعارة والكناية والتشبيه وغيرها من أساليب البلاغة العربية، وقد انتصر شيخ الإسلام ابن تيمية للرأي الأول، ولكن باحثاً وعالماً معاصراً هو الدكتور القرضاوي يرجح الرأي الثاني ويستدل على ذلك بأدلة كثيرة وردت في القرآن والسنة، وهو ما يذهب إليه صاحب هذه الدراسة، خصوصاً وأن رأي الإمام ابن تيمية لا ينكر وجود التشبيه والاستعارة والكنا في أساليب القرآن، وإن لم يسمها مجازاتٍ، لورود أمثالها في لغة العرب.
(5) ديوان نقوش إسلامية على الحجر الفلسطيني، من إصدارات دار الوفاء المصرية.
(6) ديوان (قصائد للصغار والكبار) للشاعر نصار عبد الله، من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 103 105.
(7) ديوان (استوت على الجودي) لأسامة عبد الرحمن، المطابع الأهلية بالرياض، ص62 63.
(8) السابق، ص 82، 83.
(9) راجع التذييل الذي كتبه صلاح عبد الصبور عن مصادره في أخبار الحلاج.
(10) القول لمسلمة بن عبد الملك، انظر سير أعلام النبلاء، 4/561، نقلاً عن صور من حياة التابعين، ج2، د عبد الرحمن رأفت الباشا.
(11) ديوان الغبار لعبد المنعم رمضان، ص100.
(12) ديوان (قصائد للصغار والكبار) لنصار عبد الله، ص 44، 45.(107/98)
نص شعري
أينَ البَرَاء؟
شعر: مروان كجك
كان الصحابي الجليل البراء بن مالك إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار
يقولون: «يا براء أقسم على ربك؛ فيقسم على الله؛ فينهزم الكفار» ، فتساءلتُ:
أين بيننا من هو مثل البراء؟ ، وتداعت هذه القصيدة:
أَيْنَ (الْبَرَاءُ) فَقَدْ هَجَمْ ... لَيْلٌ، وَأَقْبَلَت الظّلَمْ
وَاسْوَدّتِ الآفَاقُ حَتْ ... تَى حَارَ فِيها مَنْ حَلُمْ
وَتَوَالَتِ الأَوْهَامُ في ... نا حَامِلاتٍ كُلّ هَمّ
لَمْ يَبْقَ فِينَا مِفْصَلٌ ... إلاّ تَخَلّعَ أَوْ رَزَمْ
لَمْ يَبْقَ فِينَا مِئْزَرٌ ... إلاّ تَمَزّقَ وَانْخَرَمْ
هَذِىِ يَدِي مَشْلُولَةٌ ... وَلِسَانُ حَالِيَ قَدْ بَكِمْ
وَالنّاسُ يَا رَبّاهُ أَضْ ... حَوْا فِي الْحَظِيرَةِ كَالْغَنَمْ
يَلْهُو بِهَا الرّاعِي الْغَشُو ... مُ وَيَستبِدّ بِهَا صَنَمْ
وَيَذُودُهَا عَنْ دَارِهَا ... لِصّ وتَحْسَبُهُ حَكَمْ
تُلْقِيِ لَهُ بِنَشِيدِها ... وتقولُ: يَارَبّ النِّعَمْ
أَمْرِعْ لَنَا بَطْحَاءَنا ... فَالنّبْتُ أَعْطبَهُ الصّرَمْ
***
أَيْنَ (الْبَراءُ) فَقَدْ طَمَا ... خَطْبٌ وَضَجّ الْمُزْدَحَمْ
وَتَنَاوَبَتْ فِتَنٌ عَلَى ... أَهْلِ الْقُرَى وَالظّلْمُ عَمّ
وَالْمُسْلِمُونَ تَمَزّقُوا ... شِيَعاً وَأَضْحَوْا كَالنّعَمْ
يَلْهُو بِهِمْ دَاعٍ غَشُو ... مٌ جَاهِلٌ لا يَنْهضِمْ
حَتّى غَدَوْا لا شَوْكَةٌ ... لَهُمُ تُهابُ وتُحْتَرَمْ
لَم يَبْقَ مِنْ أَهْلِي سِوَى ... شَبَحٍ يَعِيشُ بِغَيْرِ دَمْ
مَاتَ الْحيَاءُ وَسُكِّرَتْ ... أَبْصَارُهُمْ عَنْ كُلِّ ذَمْ
وَتَعَطّلَتْ أَسْمَاعُهُمْ ... وَتلاوَمُوا فِيمَا انْهَدَمْ
وَتَوَسّمُوا النّصْرَ الْمُؤَزّرَ ... بِالْمَدَائِحِ وَالْقَلَمْ
وَنَسَوْا بِأَنّ اوَ ثُمّ ... السّيْفَ للنّصْرِ الأَتَمْ
***
أَيْنَ (الْبَرَاءُ) أَيَا جُنُو ... د الله يُدْرِكُ مَا الأَلَمْ
أَيْنَ الأُخُوّةُ وَالْمَحَبّةُ ... وَالكَفَالَةُ وَالرّحِمْ
أَيْنَ القَنَاعَةُ وَالشّهَامَةُ ... وَالرّجُولَةُ وَالْكَرَمْ
بَاتَتْ بِلا مَعْنًى ... وَضاعَتْ فِي سَوَالِيفِ الْقِدَمْ
أَضْحَتْ حِكَايَاتٍ يَرُوقُ ... سَمَاعُهَا لِمَنِ انْهَزَمْ
***
أَيْنَ (الْبَرَاءُ) أَحِبّتِي ... يَمْضِي وَيَمْتَشِقُ الْقَسَمْ؟
فَالنّصْرُ لَيْسَ بِهَوْجَةٍ ... بَلْهَاءَ أَوْ خفرِ الذِّمَمْ
وَالنّصْرُ لَيْسَ تَعِلّةً ... للنّفْسِ كَافِرَةِ النِّعَمْ
هُوَ لِلْجُنُودِ الْمُؤمِنِي ... نَ بِرَبِّهِمْ وَذَوي الهِمَمْ
لِلْمُسْلِمِينَ الطائِعِي ... نَ الصّاعِدِينَ إلَى القِمَمْ
الذّاكِرِينَ اوَ في ... خَلْوَاتِهِمْ، أَهْلِ القِيَمْ
الْمُخْبِتِينَ لِرَبِّهِمْ ... صُدُقِ الرّجُولَةِ وَالشِّيَمْ
لِلْمَاجِدِينَ الْبَاذِلِي ... نَ حُظُوظَهُمْ لأخٍ وَعَمْ
أَكْرِمْ بِهِمْ جُنداً إذَا ... حُمّ الفِدَا، كَيْفاً وَكَمْ
هُمْ قِلّةٌ فِي الْخَلْقِ لَكِنْ ... لا يُجَارِيهِمْ عَلَمْ [1]
هُمْ فِتْيَةٌ قَدْ آمَنُوا ... بِالله وَاجْتَنَبُوا الْحُرُمْ
لَوْ أَقْسَمُوا يَوْماً عَلى ... رَبِّ السّمَا لأَبَرّهُمْ
__________
(1) العَلَمْ: الجبل.(107/108)
قصة قصيرة
ولم ترفع الجلسة
بقلم: خالد أبو الفتوح
امتطيت خيالي، عسى أن يقودني إلى واقعي، شحذت قلمي، وتوجهت
لحضور وقائع الجلسة، ولأن الموقع كان (شديد الحراسة) ؛ فقد استعملت سلاحاً
فعّالاً في التعامل مع هذه الحالة، وهو سلاح (الوضوء) ، كما إنني تحصنت بـ
(آية الكرسي، والمعوذات) .. وبعد ضروب من المناورات والمغامرات: تمكنت
من اتخاذ ساتر في إحدى الزوايا مرصداً لي؛ لمتابعة ما يجري..
حبست أنفاسي، أرهفت سمعي، وأطرقت رأسي، محاولاً لمح ما استطيعه
بطرف بصري..
قاعة كبيرة، يغلب عليها مظاهر البذخ والترف، يتصاعد من جنباتها دخان
أسود، ولأمرٍ ما فإن الإضاءة كانت تقتصر على مشاعل من نار علقت على الأعمدة
التي بدت كأعمدة المعابد الرومانية.. كان الحضور (الأباليس الصغار) يجلسون
على مقاعد وثيرة، حتى كأن الجالس عليها يبدو متكئاً، كما أن الضوء والظل كان
دقيقاً، بحيث يجلس كل عضو نصفه في الضوء والنصف الآخر في الظل..
الكرسي الإبليسي يبدو أنه مصنوع من حوض زجاجي ممتلئ بالماء، يعلوه شعار
دولته، استطعت لمح الحية والشمس من مكوناته، يضيء الشعار شعلة نار كبيرة،
ذكرتني بشعلة تمثال الحرية الشهير دائمة الاشتعال، أو شعلة الألعاب الأوليمبية..
فجأة.. انقطعت همهمات الحضور، وأخذوا في الوقوف.. دوّت في القاعة
أصوات موسيقية.. سددت آذاني بأصابعي، وظللت أرقب الموقف.. فإذا بإبليس
يدخل القاعة في مَخْيَلة وعنجهية وكبر، يلاحقه جمع كبير من المصورين، بينما
يفسح له حراسه الشخصيون الطريق.. شق طريقه وسط تصفيق الأباليس الصغار
وصفيرهم.. أخذ مكانه على كرسيه المائي، ثم أخذ الحضور في الجلوس.. رفعت
أصابعي عن آذاني.. صمت مطبق يخيم على (المجلس الإبليسي) ، خشيت معه أن
تُسمع دقات قلبي، ولكني استعنت بالله..
بدد إبليس مخاوفي من افتضاح أمري، حيث بدأ جلبةً مفتتحاً الجلسة:
باسم الذات نبدأ الجلسة.. أيها الأباليس.. يا شياطين الجن والأنس.. لقد
مر العمل الإبليسي بمراحل..
أحد الأباليس الصغار من وسط القاعة يقف مقاطعاً وهاتفاً:
عاش مؤسس الإمبراطورية الشيطانية.. باسم جميع الأبالسة والشياطين
نجدد الولاء والفداء.
إبليس: لقد مر عملنا بمراحل عديدة، وبذلنا جهوداً مضنية، حتى وصلنا
إلى نتائج مرضية، ولكنها لا تكفي لإشباع رغباتنا، وتحقيق أهدافنا..
إن النكسة التي لحقتنا عندما بُعث خاتم النبيين، بعد كبير نجاحنا في نشر
الشرك والفساد، تكاد تتكرر مرة أخرى الآن بخروج أتباع صادقين لهذا النبي من
جديد، يحاولون تطبيق ما دعا إليه.. لقد سبق أن قلت لكم: إنني لا أخشى
الاشتراكية والصعاليك المرتزقين منها، ولا الرأسمالية والأباطرة المنتفعين بها،
وقد تمكنا من يهود وعبدة المسيح، وأصبح عبدتي وأتباعي ينتشرون في أطناب
الأرض ... لم تبق إلا هذه الأمة، التي كلما أوشكت أن أتمكن منها استعصت عليّ
وأفلتت من يدي..
سنضرب بيد من حديد على هؤلاء الشرذمة الذين يعملون على إفاقة البشرية
ويحذرونها منا.. لم تبق إلا قفزة واحدة.. قفزة واحدة وأحقق أهدافي، لن أدعهم
يفسدون سلطاني..
ولكني الآن أرغب في الاطمئنان عليكم.. سأسمع منكم، ولتستفيدوا من
بعضكم، ليبدأ (جونليس) ..
يقف أقرب الأبالسة الصغار إليه من جهة اليسار، يرتب هندامه في ثقة،
ويبدأ الكلام:
سيدي الرئيس، لقد كنا وما زلنا نركز على هدم البنية التحتية للإنسانية،
وذلك بالعمل على القضاء على الأسرة، وكان ذلك يتم عادة بالتحريش بين الزوجين
حتى يقع الطلاق، ولكني اتبعت منذ فترة تكتيكاً جديداً، وهو التركيز على
(العمليات الكبيرة) ، فبدل أن أهدم المجتمع أسرةً أسرة عملت على نسف هذا الشكل
الاجتماعي من أساسه، وذلك بعقد المؤتمرات والندوات للتنفير من هذا الشكل،
والدعوة إلى ذلك، بل إلزام جميع الأنظمة التابعة لنا بالعمل لذلك، وقد أثمرت هذه
العمليات في معظم البشر، عدا الأمة التي حذر فخامتكم منها.. فأرى تعميم هذا
الأسلوب والتركيز عليه.
إبليجور: أوافق (جونليس) على رأيه؛ فبدل الاقتصار على غانية تغوي
فرداً أو مجموعة: يمكننا نشر الرذيلة في هذه الأمة على نطاق واسع عن طريق
العمليات الكبيرة: بَثّ إباحي يصل إلى كل بيت، صور فاضحة لمن يملك ثمن
جريدة أو مجلة، أدوات زينة رخيصة، ثم بالعمليات الكبيرة أيضاً نصعِّب الفضيلة: أزمة إسكان، غلاء مهور ...
ويمكننا على هذا النسق إغراق الشعوب في الديون؛ لتذل لنا رقاب الأمة
بأكملها، ونستطيع قيادها.. كما يمكننا بهذه العمليات إثارة القلاقل والفتن؛ لتفتيت
القوى الكبيرة فيها واستنزافها..
ولكن تبقى الشرذمة التي حذرتم منها سيادة الرئيس هي العائق أمامنا.
إبليس: وماذا ترون في أمرها؟ .
إبلينوف: أرى فخامة الرئيس اتباع أسلوب (النّفَس الطويل) مع سياسة
تجفيف المنابع التي بدأتها منذ وقت بعيد، حيث ستنتهي هذه الشرذمة مع الزمن،
ولا يخرج غيرهم بعد تجفيف المنابع.
إبليس: مع أهمية ما ذكرت يا إبلينوف، ولكن الاكتفاء بذلك يُعد سذاجة.
زيزاليس: سيدي ومعلمي.. لقد فكرت في الأمر جيداً، فاستقر رأيي على
خطة، أقطع بأنها أفضل السبل، وقد اقتفيت فيها معلمي أثر تجربتك مع أبي البشر.. والخطة مزيج من سياسة الغرور وسياسة الخطوة خطوة، وتقضي بأن نُبقي
بعض المظاهر الخادعة لهم؛ ليغتروا بها، ونعمل على الإفساد من الداخل خطوة
خطوة، فيسكنون لهذا المظهر ولايقاوموننا، وخطوة خطوة أيضاً يألفون ما ألقيناه
إليهم..
فمثلاً: ندعهم يُصلّون في الظاهر، وباطنهم يعبد الشهوات، ونحرص على
اكتفائهم بمظاهر احتشام نسائهم، وفي المقابل: نعمل على أن يكنّ مثل نسائنا في
الباطن، كما يمكن أن نلهيهم عن محاربة اتِّبَاعِ فخامتكم بإقامة احتفالات ومظاهر
دينية.. وحتى.. وحتى محاربة صور محدودة من الشرك الصغير..
إبليس (مقاطعاً وغاضباً) : لا.. لا.. كفى يا زيزا.. لا أريد أن أسمع هذا
الكلام.. اجلسي يا زيزاليس.. لا أريد أن يُحارب الشرك في أي صورة مهما
صغرت.. لا بد أن تعلموا جميعاً أننا الآن في مركز قوة، وعدونا في أضعف
حالاته، ولا بد أن ننتهز الفرصة..
إن ما ذكرتيه أسلوب صحيح، ولكنه ليس الأسلوب الوحيد..
أريد حلاً للإجهاز على الفريسة ...
هالني ما يضمرونه، بل يظهرونه، أخذت أهدئ من روعي بقراءة آية
الكرسي والمعوذات مرة أخرى..
ما زال إبليس يواصل كلامه.. ثم سكت.. وتابع..
إبليس (ضاغطاً على النبرات) : هناك شيءٌ ما غيْرُ مريح يحدث في هذه
القاعة.. ما الذي يجري بيننا؟ ! ..
أدركت أنه آن أوان عودتي من (برلمان إبليس) ، خصوصاً وقد أشرف الفجر
على الدخول، لممت شتاتي، وشرعت أبحث عن مسلك للعودة، مكتفياً بما وقفت
عليه من دخائلهم..
ولكن.. لم ترفع الجلسة..(107/110)
نص شعري
محبوبتي
شعر: مشبب أحمد القحطاني
هزّني الشوقُ يا أنيسَ حياتي ... واستثار الفؤادَ بالذكرياتِ
ورماني بألفِ سهمٍ مصيبٍ ... رُبّ سهمٍ أصاب عينَ حياتي
أكتبُ الشعرَ والأماني عِذابٌ ... ليتَ عُمْري كهذه اللحظاتِ
يَذْبلُ الروضُ في الخريفِ وقلبي ... دائمُ الزهوِ طيِّب الثّمراتِ
قلتُ للّيلِ هل لطولِكَ حدّ؟ ... شُدّ رحلاً فقد أردت وفاتي
أستقي النورَ من شروقِ خليلي ... أبتني المجدَ في كياني وذاتي
يا هوى النفسِ كم تعاظمْتَ حُسناً ... كن كما كنتَ يا عظيم الهِباتِ
أَلْبسِ الصبّ من معانيك ثوباً ... وارم للنفسِ أجملَ الحسناتِ
لا تلوموا تلهّفِي واشتياقي ... إن في الوصل بُغْيَتي ونجاتي
قل لمجنون ليلى: أَقيسٌ ... هل ترى الحبّ في عيونِ البناتِ؟
عِشْتَ يا قيسُ ثم مُتّ وحيداً ... أينَ ليلى وأين عَهْد الصِّلاتِ؟ !
كم رمى العشقُ في فؤادكَ سهماً ... كم قضى الهجرُ فيك روحَ الكماةِ
خَذْ من القول جملةً باختصارٍ ... (إن حُبِّي لدعوتي والدّعاةِ)
صادقُ الود من معاني قصيدي ... أسأل الله أن يديم ثباتِي(107/114)
منتدى القراء
طلب العلم بين السلف والخلف
بقلم: طارق محمد العمودي
من المسلّمات المعروفة: أنّ علماءنا الجهابذة (رحمة الله عليهم) لم يطلبوا
العلم براحة النفس والجسد، ولم تكن مجالسهم شكلية تضيع في القيل والقال، بل
ذاقوا أنواع المعاناة والمشقة والصبر، الأمر الذي تعجز الأسطر عن وصفه،
وضربوا في ذلك أروع الأمثلة مما لا تجده في علماء أمة من الأمم السابقة؛ حيث
كانت مجالسهم ذات هيبة لما يتلى ويذكر فيها من الآيات والأحاديث، تتنزل عليها
الرحمات وتحفها الملائكة.
ولذلك: هجروا في سبيل طلب العلم النوم، والراحة، والدعة، وسائر
اللذات، قال أبو أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي: (لا ينال هذا
العلم إلا من عطّل دُكانه، وخرّب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله إليه
فلم يشهد جنازته) [1] .
وقال الإمام بدر الدين بن جماعة معلقاً: (وهذا كله، وإن كانت فيه مبالغة،
فالمقصود به أنه لا بد فيه من جمع القلب، واجتماع الفكر ... ) [2] وذلك في
طلب العلم والحرص عليه.
وقال صالح بن أحمد بن حنبل: رأى رجل مع أبي محبرةً، فقال له: يا أبا
عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟ يعني: ومعك المحبرة
تحملها؟ ! فقال: (مع المحبرة إلى المقبرة) [3] .
وقال محمد بن إسماعيل الصائغ: (كنت في إحدى سفراتي ببغداد، فمر بنا
أحمد بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا
أبا عبد الله، ألا تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟ قال: إلى ... الموت) [4] .
وقال الحافظ ابن كثير عن أمير المؤمنين في الحديث (الإمام البخاري) :
(وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة
تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى، حتى كان يتعدد منه
ذلك قريباً من عشرين مرة) [5] .
وهذا الحافظ محمد بن فتوح الحميدي الأندلسي: كان ينسخ بالليل في الحر،
فكان يجلس في إجّانة ماء وهي إناء يغسل فيه الثياب يتبرد به [6] .
وكانت هممهم العالية في طلب العلم تعينهم على الصبر على الفقر وشظف
العيش ومرارته، قال الإمام الشافعي (رحمه الله) : (لا يطلب أحد العلم ... بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه ببذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح) [7] .
وهذا ابن القاسم يقول عن شيخه إمام دار الهجرة مالك بن أنس: (أفضى
بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه) [8] .
وذكر عمرُ بن حفص الإمامَ البخاري، فقال: إنهم فقدوا البخاري أياماً من
كتابة الحديث بالبصرة، قال: فطلبناه، فوجدناه في بيته وهو عريان، وقد نفد ما
عنده، ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً
وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث [9] .
وهذا إمام الشافعية في زمانه أبو إسحاق الشيرازي صاحب (المهذب) في
الفقه الشافعي، الذي أشبعه العلماء شرحاً وتحقيقاً وتخريجاً، كان لا يملك شيئاً من
الدنيا، فبلغ به الفقر مبلغه، حتى كان لا يجد قوتاً ولا ملبساً، ولقد كان يأتيه طلبة
العلم في سكنه، فيقوم لهم نصف قومة، ليس يعتدل قائماً من العري، كي لا يظهر
منه شيء! ! [10] .
وهذا الإمام الواعظ ابن الجوزي يقول عن نفسه: (ولم أقنع بفن واحد، بل
كنت أسمع الفقه والحديث، وأَتْبَعُ الزهاد، ثم قرأت اللغة، ولم أترك أحداً ممن
يروي ويعظ، ولا غريباً يَقْدُم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل، ولقد كنت أدور
على المشايخ لسماع الحديث، فينقطع نَفَسي من العدو لئلا أُسبق، وكنت أصبح
وليس لي مأكل، وأُمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولو شرحت
أحوالي لطال الشرح) (11) .
والصور المشرقة من هذا النوع في حياة علمائنا كثيرة.
إنّ المرء ذا التدين العادي، الذي قد لا يكون دارساً للشريعة، ليعجب من هذه
الصور والأمثلة الصادقة، والتي دلت على علو همة أصحابها، فيتأثر بها.
وأحرى أن يؤثر ذلك في طلبة العلم والدعاة والمربين اليوم.
ولكننا نجد فئة اليوم نسبت نفسها إلى العلم والوعظ، استبدلوا (الهاتف
الجوال) و (البيجر) بالمحابر، والمصاحف ذات الحجم الصغير، والمسواك الذي ما
كان يدعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل وقت مما أكّد سنيته، أقول:
استبدلوا هذا بذاك، فأصبحت جيوب ثيابهم منتفخة بها من غير حاجة أحياناً، ولكن
من باب التفاخر والترف والإسراف في صرف المال في غير محله.
ولست ممن يصدون عن الانتفاع بوسائل التقنية الحديثة، ولكن ليس الأمر
باندفاع من غير حاجة، فيكون من باب الترف والمباهاة والزهو.
وبدلاً من أن يجمعهم موعظة أو تدارس لطلب علم، أصبح يجمعهم ما هو
أدنى من ذلك بكثير من اللعب واللهو مثلاً، وقد يكون على حساب أوقات فاضلة
نص عليها الشرع.
وأصبح المجلس يمر بالساعات من غير إلقاء فائدة، ومن غير ذكر لله، ولا
ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبدلوه بالكلام السطحي، وبآخر
موديلات السيارات وأسعارها، أو بنقد الآخرين ونسيان نقد أنفسهم أولاً، وأخشى
أن يكون ذلك حسرة يوم القيامة.
ومنهم من يتصدى لإمامةِ مسجد أو الأذان فيه، مع أخذ الأجرة عليه والمسألة
فيها خلاف بين أهل العلم، ومع ذلك: فحضوره قليل لانشغاله بوظيفته الأساسية أو
بتجارة.. أو غير ذلك مما لا يشفع له، فبأي حق يأخذ هذا الأجر.
ولا تسأل بعد ذلك عن الصورة السلبية التي تكونت عند المصلين بسبب هذا
الفعل.
هذه بعض الصور السلبية التي داخلت بعض طلبة العلم والدعاة والمربين في
يومنا هذا، وهم قلة ولله الحمد، وكلمتي خاصة بهم.
والله نسأل لنا ولهم العلم النافع والعمل الصالح.
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، 2/174.
(2) تذكرة السامع والمتكلم بآداب العالم والمتعلم، لابن جماعة، ص 71.
(3) مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص 31.
(4) مناقب الإمام أحمد، ص 32.
(5) البداية والنهاية، 11/25 2) تذكرة الحفاظ، 4/1219.
(6) مقدمة المجموع للنووي، 1/64، طبعة المطيعي.
(7) ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض، 1/130.
(8) تاريخ بغداد، للخطيب، 2/13.
(9) طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، 3/90.
(10) من مقدمة (صيد الخاطر) ، ص 27.(107/115)
هموم ثقافية
إشكالية التعبير العملي عن الديمقراطية
(1)
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
ما إن نتجاوز المعاني النظرية لمفهوم الديمقراطية وفق المدارس التي ذكرتها
إلى التطبيقات العملية لتلك المدارس: حتى نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الإشكاليات
التالية:
- إشكالية التعريف.
- إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية.
- إشكالية البلورة الثقافية للديمقراطية.
- إشكالية البلورة الاقتصادية للديمقراطية.
إشكالية التعريف:
قد اصطُلح على تعريف الديمقراطية بأنها «حكم الشعب بالشعب، أي:
(السيادة للشعب) ، ولدى التطبيق العملي انقسم الناس في طريقة التعبير الواقعي
عن هذا التعريف؛ ومن هنا: نشأت المدارس المختلفة التي عبر كل منها عن فهمه
للديمقراطية بأسلوب يختلف عن الآخر، فمن أين نشأ هذا الاختلاف؟
لقد نشأ الاختلاف من تنوع زاوية النظر لكل كلمة من كلمات التعريف
المذكور، مما دفع إلى سطح الواقع تفسيرات شتى لذلك التعريف.
فكلمة (الحكم) ،
وكلمة (الشعب) ،
وكلمة (السيادة) أو (بالشعب) ،
لم يتم الاتفاق على تفسيرها.
إن كلمة (الحكم) لها معانٍ تعبيرية شتى:
فمعناها لدى المدرسة الليبرالية: أن المجلس النيابي المعبِّر عن الشعب يضع
الدستور الذي تقوم الحكومة على تنفيذ بنوده.
ومعناها لدى المدرسة الاشتراكية: أن مجلس الشعب المعبِّر عن اتحاد القوى
العاملة يسن التشريعات التي تقوم الحكومة بتنفيذها بعد إقرارها مما يسمى باللجنة
المركزية.
ومعناها لدى المدرسة الديكتاتورية: أن المجلس النيابي هو أداة تشريع
القوانين التي تكرِّس هيمنة الملأ الطاغوتي، ورغم أنه منتخب من قبل الشعب
بطريقة خاصة إلا أنه يعامل طوعاً لإرادة الطغمة الديكتاتورية الحاكمة، فهو معبِّر
عنها وليس معبِّراً عن الشعب.
ويلاحظ في هذه المدارس الثلاث أن مزاولة (الحكم) من المنظور الأمني
تتم من خلال مؤسسات تمارس أفعالاً بشعة، بما لها من صلاحيات تستمدها من
التعابير الفضفاضة للقوانين؛ فمؤسسات المباحث والمخابرات العسكرية وتوابعهما
تعتبر مؤسسات مغلقة لا يكاد يعلم أعضاء المجلس النيابي عنها شيئاً.
ومعناها لدى المدرسة الجبرية: أنها وسيلة لحل إشكال تناقضات التعايش
القسري في دولة واحدة لطوائف وأديان شتى؛ لذلك: فإن كلمة» الحكم «لدى هذه
المدرسة هي معنى اصطلاحي لواقع متناقض التوجهات، أفرز في واجهته أشخاصاً
اختص كل منهم برئاسة مرفق دستوري (رئاسة الدولة، رئاسة الحكومة، رئاسة
المجلس النيابي، قيادة الجيش، قيادة الأمن العام..) .
ومعناها لدى المدرسة المصلحية: أنها وسيلة دستورية لتحقيق مصالح
أعضاء المجلس النيابي بغطاء شعبي مصطنع.
ومعناها لدى المدرسة الإسلامية النيابية: أنها مجرد وسيلة متاحة يمكن
استغلالها من خلال المشاركة الجزئية وإن كانت محدودة جدّاً، على أمل أن تتسع
هذه المحدودية لتشكل أغلبية ساحقة في المستقبل البعيد، فيتمكن الإسلاميون من
تنفيذ أحكام الشريعة بتقنينات نيابية.
فالنتيجة التي وصلنا إليها هي: لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة (الحكم) بين المدارس الديمقراطية المختلفة.
وأما كلمة (الشعب) : فهي أيضاً محل خلاف عند التطبيق.
فمن هم أفراد الشعب؟ ! .
هناك نظرتان رئيستان في هذا الصدد.
الأولى: أنهم الأفراد الذين يقعون ضمن حدود جغرافية معترف بها دوليّاً،
ويعبِّر عنهم نظام سياسي حاكم.
إن جميع المدارس الديمقراطية تعترف نظريّاً بهذا التعريف.
الثانية: أن الشعب هو مجموع الأفراد الذين يطبّق عليهم القانون، وهم العامة
أو الغوغاء، أي: الذين لم يسجِّلوا عضويتهم في الحزب الحاكم. وأما المنضوون
في الحزب الحاكم فهم إما فوق القانون، أو يطبّق عليهم القانون بطريقة خاصة،
فهم بهذا المعنى فوق الشعب! ! وتشمل هذه النظرة المدرستين الاشتراكية
والديكتاتورية.
وهذا يعني: أنه لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة (الشعب) بين
المدارس الديمقراطية المختلفة.
وأما كلمة (السيادة) ، أو (بالشعب) : فهي أيضاً لها مفاهيم منوعة لدى
المدارس الديمقراطية.
ففي المدرسة الليبرالية: الشعب لا يحكم نفسه، بل هناك أفراد مقتدرون
ماليّاً، ولهم وجاهات اجتماعية، يبحرون على متن سفنها التي تلقي مراسيها تحت
قبة المجلس النيابي، فيمارسون التشريع وفق ما يرونه هم، وليس وفق ما يراه
الشعب، فهم أقلية يحكمون أغلبية، لكنهم لا يعبرون عنها تعبيراً حقيقيّاً وشاملاً.
فالديمقراطية في المدرسة الليبرالية هي حكم الأغلبية بالأقلية مع ملاحظة تناقض
المصالح بين الأغلبية والأقلية، التي تعني أن الأقلية تستثمر طاقات الأغلبية، أي
طاقات الشعب، لتحقيق مصالحها أولاً، ولا يضر أن تلك المصالح قد يشاركهم فيها
الشعب بشكل جزئي.
وأما في المدرسة الاشتراكية: فالسيادة هي لمجموع القوى العاملة من خلال
ممثليها في مجلس الشعب، ولا بد أن يكونوا حزبيين حُكماً، أي: إن مفهوم
الديمقراطية في هذه المدرسة هو: حكم الشعب بالحزب الحاكم.
وأما في المدرسة الديكتاتورية: فالمجلس النيابي ليس سوى صورة مجردة
من الأبعاد والألوان، مهمتها تشريع القوانين التي تخدم الطغمة الديكتاتورية الحاكمة، فمفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو حكم الشعب بالطاغوت الديكتاتوري.
وأما في المدرسة الجبرية: فمعناها حكم الشعب أي حكم الطوائف المكونة
للشعب بقوانين يصطلح على سنِّها مجموع ممثلي الطوائف في المجلس النيابي، أي
إن الأحكام التي تنفذ على طائفة معينة منها ليست أحكامها الخاصة، بل ولا حتى
المعبرة عنها، ذلك أنه لا توجد أحكام تنفذ على كل طائفة بشكل مستقل في هذه
المدرسة، وهذا يعني أن مفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو حكم الطائفة، من
أي دين كانت أو من أي عرق، بواسطة مجموع آراء جميع الطوائف المشكلة
للشعب من خلال قوانين يتفق على سنّها.
وأما في المدرسة المصلحية: فمعناها حكم الشعب بواسطة القوانين التي
يشرعها أصحاب المصالح الذين وجدوا في حياض المجالس النيابية مرتعاً خصباً
ومقبولاً، للوصول من خلاله إلى مآربهم، فمفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو
حكم الشعب بأصحاب المصالح.
وأما في المدرسة الإسلامية النيابية فهي بحسب ما يكونون فيه من مدارس،
فهم ليس لهم وضع مستقل. لكنهم يقولون: إن مفهوم الديمقراطية عندهم هو حكم
الشعب من خلال مجلس نيابي تتمثل فيه جميع الطوائف والأديان والأحزاب، فهو
حكم الشعب بممثلي الطوائف والأديان والأحزاب.
ومن ذلك يتبين لنا: أنه لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة (السيادة)
أو (بالشعب) بين المدارس الديمقراطية المختلفة.
إذن: إن إشكالية التعريف تتناول كل كلمة من كلمات مفهوم الديمقراطية،
وليس هناك اتفاق بين المدارس المختلفة على أي كلمة من كلمات تعريف
الديمقراطية، مما نتج عنه اختلاف التعبيرات العملية للديمقراطية في الإطار
السياسي وغيره من الأطر.
إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية [1] :
إن التحدي الذي تواجهه أي مدرسة من مدارس مفهوم الديمقراطية التي ذكرتها
هو مدى النجاح الذي تحققه في بلورة الصياغة الاجتماعية لمجموع الشعب؛ بحيث
تتوافق مع أفكار وأهداف تلك المدرسة.
ولكي تتضح أمامنا صورة هذا التحدي فلا بد من تكثيف الضوء على الأجزاء
الرئيسة والمعالم البارزة التي تجتذب بصر الناظر إلى تلك الصورة، وهي كالتالي:
-التفاوت الطبقي:
إن التفاوت الطبقي يعتبر ظاهرة تكاد تعم جميع مجتمعات الأرض دون
استثناء، وإن العلاقة الجدلية للصراع بين تكريس هيمنة الأغنياء واستخلاص
حقوق الفقراء تتوسع دائرتها يوماً بعد يوم، أما متوسطو الدخل فهم وإن كانوا
يؤيدون مطالب الفقراء، ويكرهون تسلط الأغنياء، إلا إنهم ينؤون بأنفسهم عن
الوقوع بين فكي كماشة ذلك الصراع الذي يمكن أن يتطور إلى ثورة غير مسيطر
على توجهاتها ولا على اضطرام أوارها.
وعندما اصطلح الجميع على الاستظلال بمظلة الديمقراطية: فشل ذلك الحل
في برمجة مشروع عملي لتفكيك تلك العلاقة الجدلية للصراع، لإعادة ترتيب
مفاصل الربط فيها وتغيير مجرى قنواتها، بل يمكن القول باطمئنان: إن
الديمقراطية كرّست إبقاء ذلك الصراع بغطاء دستوري، فُصِلت بنوده بحيث تحمي
مصالح الأغنياء، والمفارقة العجيبة في ذلك: أنه يتم بدعم من أصوات الفقراء! !
وعند التحقيق نرى بوضوح: أن الديمقراطية لم تنجح في بلورة لحمة
اجتماعية من زاوية نظر التفاوت الطبقي، وهذا لا يختص بمدرسة واحدة، بل
بجميع المدارس.
-التنوع الديني:
إن الجميع متفقون على أن كل دين يضفي على أتباعه ثوباً معيناً من العلاقات
الاجتماعية، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الأسر أو مستوى الوحدات
الاجتماعية (عائلات، قبائل ... ) .
وبالتالي: فإن لكل دين أحكامه وتشريعاته، سواء أكان ذلك للمسلمين أو
للنصارى أو لليهود [2] .
إن الديمقراطية جاءت لتقول لكل هؤلاء: ألقوا ما عندكم من أحكام وتشريعات، وتعالوا نصطلح على أحكام وتشريعات جديدة يوافق عليها الجميع.
وبمعنى آخر تقول: ألغوا الصيغ الاجتماعية التي انفرزت من تلك الأحكام
والتشريعات عبر القرون، وتعالوا لنوجد صيغة اجتماعية موحدة بجرة قلم نيابي! !
وأنّى لأي نوع من الديمقراطية أن تنجح في فعل ذلك؟ !
إلا أن معنى الديمقراطية يفرض عليها أن تلج نفق تلك المفارقة الصعبة،
وهذا يعني أنه لا بد لممثلي الأديان في مجلس النواب من الاتفاق على تشريعات
توفيقية، ولا بد للشعب أن ينصاع لها.
وهذا يعني غرس بذور المواجهة بين:
1- المجلس النيابي من جهة، والمنتسبين لكل دين من جهة أخرى، والغلبة
في هذه المواجهة هي للمجلس النيابي، إذا نظرنا إليها من زاوية قدرته على إمرار
ما يريد بقوة القانون.
إن الانكسار النفسي الذي يتولد في صدور المنتسبين لتلك الأديان يغذي حالة
الاستعداد للتمرد في يوم من الأيام بسبب التشتت الاجتماعي الذي أصبح مقنناً
بواسطة المجلس النيابي.
2- المنتسبين لكل دين بعضهم ضد بعض، فالمسلمون سيؤيدون التشريعات
التي تتوافق مع دينهم وسيعتبرون ذلك انتصاراً له، في حين يعارض ذلك اليهود
والنصارى، وهذان الأخيران سيؤيدان التشريعات التي تتوافق مع ما هم عليه،
وسيعارضهم المسلمون، وسيترتب على هذا مزيد من تعميق وتكريس التباعد
والتناقض الاجتماعيين، وهذا بدوره سيوجد لوناً إضافيّاً من الصراع، ذا قاعدة
اجتماعية وإطار تخاصمي تشريعي.
3- المنتسبين للدين الواحد بعضهم ضد بعض، ذلك أن القوانين التشريعية
الجديدة التي يشرعها المجلس النيابي قد تلاقي توافقاً مع أهواء بعض المنتسبين لذلك
الدين، رغم أنها تتناقض مع تشريعات وأحكام دينهم. فيتقمّصونها، ويدافعون عنها، مع استعدادهم للمواجهة الفعلية مع التيار المتمسك بدينه، وهذا بدوره سيفتت
اللحمة الاجتماعية للمنتسبين للدين الواحد.
ولنتصور كيفية حدوث ذلك، أضرب مثالاً واحداً:
مثال:
-أقر المجلس النيابي فعل الشذوذ.
المسلمون والنصارى واليهود رفضوا ذلك، لكن المجلس النيابي انتصر بقوة
القانون (الحالة الأولى) .
-أقر المجلس النيابي شرب الخمر.
المسلمون رفضوا، النصارى، واليهود وافقوا، لقد كرّس هذا القانون
المواجهة بين الطرفين (الحالة الثانية) .
-أقر المجلس النيابي الإجهاض.
المتمسكون بدينهم من الأديان الثلاثة رفضوا ذلك، غير المتمسكين وافقوا
عليه؛ لأنه يوافق أهواءهم (الحالة الثالثة) .
إن الصدام الاجتماعي سيقع بين الموافقين والرافضين في الحالات الثلاث،
انتهى المثال.
وما يهمني هنا هو: الإشارة إلى أن مبدأ التنوع الديني في موقع إصدار
التشريعات وسن القوانين مرفوض إسلاميّاً، إلا أن موافقة الإسلاميين المجلسيين
على الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية جعل هذا المرفوض مقبولاً عندهم
حكماً، لكنهم اختلفوا في تفسير هذا القبول، فمنهم من قال بقبوله ضرورة، ومنهم
من قال بقبوله منهجاً، إن هذا الاختلاف في التفسير له أثره البيّن في تفتيت اللحمة
الاجتماعية على مستوى القابلين بالديمقراطية.
إن سبب هذا التفتيت هو التفاوت الحاصل عند تعبيرهم العملي عن ذلك.
ومثاله: إن الذين يقولون بقبوله ضرورة يصرّون على التطبيق الفوري
للشريعة الإسلامية، وهذا يعني الارتقاء الاجتماعي الشمولي من حضيص الواقع
إلى قمة الإسلام، لكن الذين يقولون بقبوله منهجاً قد لا يطالبون بالتطبيق الكلي
للشريعة الإسلامية مراعاة لليهود والنصارى، وإذا طالبوا بها فإنهم قد [3] لا
يطالبون بتطبيقها فوراً للسبب نفسه، إن الإفرازات الاجتماعية لهذين الطرحين
تأخذ مساري المجابهة والمواجهة في تسارع حثيث على مدرج الصدام! !
إن تلك المواجهة لن تنحصر في إطار الممثلين الإسلاميين في المجلس النيابي، بل ستتسع دائرتها لتشمل أنصار الطرفين في عموم الشعب.
المواجهة الاجتماعية الأخرى ستقع بين المؤيدين من المسلمين للمشروع
الديمقراطي والمعارضين له، ذلك أن المؤيدين للمشروع الديمقراطي ستصطبغ
حياتهم الاجتماعية بالألوان المفرزة من قبل المجلس، في حين أن المؤيدين
للمشروع الإسلامي (إن صح التعبير) [4] سيجاهدون من أجل الحفاظ على حياتهم
الاجتماعية المتميزة بالانتماء الإسلامي أي: اللون أو الصبغة الإسلامية، [صِبْغَةَ
اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] [البقرة: 138] .
إن التفاوت في التعبير الاجتماعي بين المؤيدين للديمقراطية والمعارضين لها
سيؤدي إلى خلل في اللحمة الاجتماعية، تحمل في طياتها بذور الصدام أيضاً! !
__________
(1) وتشمل: 1 - التفاوت الطبقي 2- التنوع الديني
... 3- التعدد التكويني 4 - التباين الثقافي
... 5 - الاستقطاب الحزبي النوعي 6 - نوعية الحكم السلطوي.
(2) نحن لا نقر ما عليه النصارى واليهود من أحكام وتشريعات، ولكننا نقرر ما هو واقع حالياً بالفعل.
(3) أرجو من القارئ أن يعير انتباهاً خاصاً لكلمة قد.
(4) أنا لا أميل لهذا التعبير، لكني تكلمت بلغة القوم! ! .(107/118)
بريد البيان
الكويت تودع عالمها (الجراح)
(1322هـ 1417هـ)
لا تخلو الأرض من بقايا للسلف في كل مكان، ومن هؤلاء: آخر العلماء
المعروفين في الكويت، وهو الشيخ (محمد بن سليمان الجراح) الذي توفي عن
95 عاماً، قضاها (رحمه الله) في فعل الخير، والتدريس، والخطابة، والإمامة،
والفتوى، أخذ العلم عن علماء بلده مثل المشائخ: عبد الله الدحيان، وهاشم الحنيان، وأحمد الفارسي، وغيرهم من العلماء أمثال: الشيخ عبد العزيز العلجي الإحسائي، ومحمد الشنقيطي، وأحمد عطية الأثري، كان (رحمه الله) حافظاً للقرآن، فقيهاً،
بارعاً في النحو والصرف، معظّماً للآثار النبوية، حاضر البديهة.. درس على
يديه طلاب العلم، وبعض الوجهاء في الكويت، وله ذكر حسن عندهم، وقد رثوه
وأثنوا عليه خيراً، وما أصدق قول ابن مسعود (رضي الله عنه) : (موت العالم
ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار) .. رحم الله الفقيد،
وأسكنه فسيح جناته.(107/126)
الورقة الأخيرة
الاستسلام بلفظ آخر
بقلم: علي العيسى
هذا بعضٌ مما يمكن قوله عن استعمال اللفظ في غير موضعه، الصلح
مقاسمة، والاستسلام عطاء بلا أخذ، ولا يكفي أن توضع كلمة مكان أخرى ليتحول
الواقع إلى مراد المصطلح، فالمصطلح لا يطلق على الأشياء لتتغير حقائق الأشياء، وإنما الأشياء هي التي توجد المصطلح المطابق لواقعها.
واليهود الإسرائيليون يخفون ما يصيبهم؛ من أجل الحرب النفسية لعدوهم،
ورفع الروح المعنوية لذويهم، ولذا: كرسوا كل جهودهم للسلام بمعنى الاستسلام
لهم؛ لأنهم في الواقع كما قال (تعالى) لنا: [وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إن تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً
حَكِيماً] [النساء: 104] ، [إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ ... الظَّالِمِينَ] [آل عمران: 140] ، إلا إنهم على باطل، والمسلمون على حق، ويجتهدون أن يفعلوا ما يؤمرون: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] [آل عمران: 142] .
واليهود اليوم، وإن كانوا أكثر نفيراً، إلا أنهم أكثر تضرراً لقلتهم، ولأنهم
يريدون الاستسلام من عدوهم، لكي يسيطروا على العالم الإسلامي كما يظنون كما
سيطروا على العالم الغربي والشرقي المتقدمين عسكريّاً، ولأنهم يودون إتمام ذلك
قبل نضج الصحوة الإسلامية وتمكنها.
والغريب فقدان كثير من الحجج والمنطق في وسائل الإعلام؛ فمثلاً: اليهود
الإسرائيليون يهدمون بيت من يقوم بعملية فدائية، فمن احتج قانوناً وقضاءً بأن أهل
البيت لا دخل لهم فيما حصل، وليسوا مسؤولين عنه، والبيت ليس بيت من
استشهد، وإنما تحولت ملكيته إن كان يملك أساساً إلى غيره: لم يسمعوا له.. هذا
هو الإرهاب، وهذا هو التطرف والعنف والغلو والتشدد والوحشية وضياع حقوق
الإنسان والقيم والحضارة ومبادئ النظام الدولي الجديد الواعد بالعدل، ثم: لماذا لم
يهدم بيت الإرهابي (جولد شتاين) مجرم مذبحة الخليل؟ ، ولماذا لم يهدم بيت
(إيجال عامير) قاتل رابين؟ ، هل وُجِّه مثل هذا السؤال في المحافل الدولية،
والصحافة، وكل وسائل الإعلام، ومؤسسات الدعوة إلى حقوق الإنسان، والمحاكم
في فلسطين المحتلة وغيرها، والمحاكم الدولية بالذات والأمم المتحدة..؟ ! هذا
الكلام يساق لمن يؤمنون بفعالية الإعلام والملاحقة القانونية والحديث عن التعصب
والتمييز العنصري.
ونتهم اليهود بنقض العهود والمواثيق، فهل نوقع على عهود بدعوى إمكانية
نقضها متى ما أحسسنا بقوتنا وقدرتنا، (لا تنهَ عن خُلُق وتأتي مثله) ، لذا: لا
ترتبط بعهد لن ترعاه، إن من يتمسك بالإسلام لن يخذله من أسلمنا وأسلم أمره إليه، وما دعوى ضعف الإسلام في المسلمين بمبرر للاستسلام، وإنما هي مبرر للحث
على تقوية الإسلام في نفوسنا وسلوكنا وواقعنا.(107/127)
شعبان - 1417هـ
يناير - 1997م
(السنة: 11)(108/)
كلمة صغيرة
زيارات (جاكسون) لماذا؟
الدور التغريبي الذي تقوم به الحكومات العلمانية في العالم العربي لم يعد
مجهولاً، إذ تعد له الميزانيات والخطط التنموية، وتونس بالذات إحدى هذه الدول
التي لا يعرف الزائر لها أنه في بلد عربي مسلم؛ لما يوجد فيها من تكشف وتعري
النساء، وويل ثم ويل لمن يقف في وجه موليته مانعاً إياها من التفرنج، فإن
مصيره السدود والقيود.
ومواصلة لذلك الدور المشبوه استدعي (مايكل جاكسون) لتونس مؤخراً،
وحشد له الإعلام المؤمم أكثر من 90 ألف نفس في الملعب الرياضي بالعاصمة؛
ليروا رقصه وتمايله الجنوني في الوقت الذي تعيش تونس فيه ضموراً اقتصاديًّا
معروفاً، جعل التونسيين من أكثر الجاليات العربية في الخارج طلباً للعيش.
ومع ذلك: تصادر الدولة (الاتجاه الإسلامي) وتسجن رموزه وآلافاً من مؤيديه، وتشردهم، وتفتح المجال لكل اتجاه آخر مهما كان منحرفاً!
ومما يؤسف له إقامة حفل لهذا الماجن مؤخراً في ماليزيا، لكن الجميل في
هذا المقام: أن (مايكل جاكسون) خطط له أن يزور (مصر) فوقف الاتجاه
الشعبي و (النقابي) لذلك المخطط بالمرصاد، وأفسده؛ لما عرف عن (جاكسون)
من فساد أخلاقي، ومواقف مسيئة للعرب والمسلمين، والانضمام لجماعة صهيونية
معروفة هي (شهود يهوه) .
إننا نتساءل بكل مرارة: إلى متى تغيب شعوبنا؟ ، وإلى متى يراد إفساد
أخلاق شبابها؟ وإلى متى يعمل العابثون لإماتة روح العزة فيها؟ وإلى متى
يخوف زوراً وبهتاناً من الاتجاهات الإسلامية الصالحة؟
إن تلك الحملات المشبوهة لم تعد مجهولة الأهداف والنوايا في تلك الدول.
[وَسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] [الشعراء: 27](108/1)
افتتاحية العدد
ردة.. ولا أبا بكر لها [*]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلقد قال بأبي هو وأمي: ( ... وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن
اعتصمتم به: كتاب الله) [أخرجه مسلم، كتاب الحج] ، وهذا ما وعاه صحابته
الكرام (رضي الله عنهم) ، فكانوا أمناء على العهد، أوفياء لرسالة الإسلام، حيث
تحملوا في سبيلها المحن والشدائد حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً؛ فاستقامت
دولة الإسلام وعز جانبها طوال القرون المفضلة، إلى أن أصاب الأمة داء الأمم:
الفرقة، والانحرافات العقدية، وما تبع ذلك من الاحتلال الأجنبي والتبعية والتقليد،
ثم ظهور الملل والنحل كالقاديانية والبهائية والبابية.. وغيرها من الفرق الباطنية
التي حكم العلماء المحققون بردتهم، وكان ظهور تلك الفرق بعدما عطلت الشريعة
الإسلامية في كثير من البلدان وعطل معها حد الردة؛ مما جرأ زعماء تلك الطوائف
المنحرفة على إظهار عقائدهم الضالة، فتبعهم كل ناعق، وسار على دربهم أدعياء
التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر من المدرسة العقلانية أو ما يسمى باليسار
الإسلامي الذين تبنوا الدعوة إلى محاكمة النصوص الشرعية مثلها مثل النصوص
البشرية، وإلغاء حكم الردة، وإباحة زواج المسلمة بغير المسلم! . ومن هنا:
جاءت الآراء المشبوهة التي طرحها أمثال (فرج فودة) ، و (سعيد العشماوي) ، و (محمد أحمد خلف الله) ، ثم ما أثاره مؤخراً المدعو (نصر حامد أبو زيد)
في كتاباته، ومنها: (مفهوم النص) ، و (إشكاليات القراءة وآليات التأويل) ... و (نقد الخطاب الديني) ، التي دعا فيها إلى محاكمة (النص القرآني) وتأويل
تعاليمه، بما يخرجها عن معناها الشرعي، ولقد فشل في نيل درجة (الأستاذية)
لما احتوته كتبه من أخطاء وتأويلات باطلة، حيث فضحه العلماء والمفكرون على
رءوس الأشهاد، ثم كونت لجنة أخرى من مناصريه بقدرة قادر أجازت أبحاثه،
وأعطته الدرجة التي يسعى إليها، لكنه فوجئ بفتوى علماء الأزهر بردته على
ضوء ما كتبه من آراء وأفكار منحرفة في حق الإسلام والحكم بالتفريق بينه وبين
زوجته، ولما طُعن في الحكم أكده القضاء الوضعي مرة أخرى ورفض نقضه..
ولا يستبعد أن يحاول (اللوبي العلماني) إصدار قرار بتبرئته، وتنصيبه عالما
يشار له بالبنان.
ويبدو أن ما تعرض له (أبو زيد) زمانه من دفاع مستميت لإلغاء الحكم
بردته، ومناصرة التيار العلماني له بكافة فئاته حتى صار حديث المنتديات ومتابعة
وسائل الإعلام.. قد أغرى بعض المنهزمين بتبني هذا النهج لينال بدوره شهرة
أخرى، حتى ولو على حساب ما يدين به من عقيدة وما ينتسب إليه من دين،
فقرأنا عن أستاذ مغمور بجامعة الكويت أنه بدأ بطرح آراء شاذة، والدفاع عن
المنحرفين فكريّاً بمقالات صحفية متوالية، ومن آخر ما كتبه: تهجمه على رسالة
الرسول، وما زعمه عنه من الفشل في إقامة دولة الإسلام!
ويكفينا أن جهة الفتوى هناك أدانت رأي المذكور واعتبرته مسيئاً للرسول.
العجيب: أن هذا الرجل كان في بداياته يتظاهر بالدين والدعوة للإسلام، وفتحت له
بعض المجلات الإسلامية صفحاتها في لقاءات ومشاركات عديدة، وكانت آراؤه
تناصر الاتجاه الإسلامي ضد فلول العلمانية، لكنه انتكس وبات يردد بصفاقة مزاعم
العلمانيين ضد التيار الإسلامي الذي يطلقون عليه (الإسلام السياسي) ، مع أن
المذكور ترجم رسالة عن الفكر السياسي لدى شيخ الإسلام (ابن تيمية) ، وهذه
ظاهرة مَرَضيّة بالفعل تستحق الدراسة، (نسأل الله السلامة) .
لقد كان لأمة الإسلام وحكامها على مر التاريخ مواقف حاسمة من الحركات
الشاذة والدعوات المشبوهة، التي كانت لا تجرؤ على طرح أفكارها في العلن؛
لخوفها من تطبيق حد الردة على كل منكِر لما علم من الدين بالضرورة.
وكذلك من سار على دربهم من المعاصرين، هم عادة ما يكونون ذوي
منطلقات مشبوهة وذوي أهداف معدة سلفاً، لهدم الإسلام من الداخل.
فما أحوجنا إلى التعامل مع أصحاب هذه الأطاريح المنحرفة بحزم، وبيان
انحرافهم عن الصراط المستقيم؛ حتى لا يضللوا غيرهم، وما أشد حاجة الأمة إلى
التطبيق صراحة لما تذكره في دساتيرها وأنظمتها من أن دين الدولة هو الإسلام،
فإنها مدعوة إلى تطبيق حد الردة باعتباره حكماً شرعيّاً محكماً ورد في الكتاب
والسنة، يقول (تعالى) : [وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] [المائدة: 5] ، ويقول: (من بدل دينه فاقتلوه) [متفق عليه] ، وألا
تجعل الذوات الحاكمة فقط هي المحمية والمصانة، إذ إن الله ورسوله أولى من
غيرهما بالاحترام والتبجيل.
ومعلوم للقراء الكرام أن هجوم العلمانيين على الإسلام والسخرية منه ومن
المنتسبين له بدعاوى تافهة: سبق أن فضحناها وبينّا أن تلك التهجمات ذات أهداف
مكشوفة، وأن المراد هو: الهجوم على الإسلام ذاته، والإسهام فيما أسموه بـ
(تجفيف المنابع) .. نسأل الله أن يعاملهم بما يستحقونه.
ومن تحصيل الحاصل: أن تلك الاتجاهات المعادية للإسلام قد شجعت على
الارتداد عن دين الإسلام في بعض الدول، وعلى سبيل المثال لا الحصر: ما
حصل من تنصِّر أحد مواطني الكويت الذي التجأ إلى إحدى كنائسها بعد الحكم عليه
بالردة من طائفته، ثم الموقف المتميع حيال هذه الحالة إلى حد أن أتيح له محامياً
يدافع عنه، وفي الأخير: سُرِّب المرتد وسافر خارج البلد.
وقد ذكر أن هناك أعداداً أخرى أعلنت الردة عن الإسلام، ولا ندري عن مدى
صحة ذلك، وكذلك كان الرسام المصري (بيكار) قد تبنى النحلة البهائية في
قضية سابقة، وتسوهل معه فيها، وتم إطلاق سراحه.
إننا نرى أن الموقف يحتاج إلى وقفة ومزيد تأمل لعلاج هذه المسألة والبحث
عن حلول مناسبة لها؛ إذ لا يمكن بحال من الأحوال أن يرتد مسلم بحق عن دينه
سوى:
1- ضعيف إيمانٍ ممن وُسوِس له بالشبهات وأغري بالشهوات.
2- من سقط في شباك المنصرين، فتعرض لغسيل فكري متواصل.
3- من جهل دينه، وأعرض عن تعلمه، والعمل به، حري به أن يضل
ضلالاً بعيداً.
4- من ألقي من أبناء المسلمين إلى المدارس التنصيرية للدراسة بها،
وتشربوا مبادئها. والحلول الناجعة للوقوف في وجه هذا الطوفان الذي يعمل ليل
نهار في جل ديار الإسلام هي: قلب تلك المظاهر، والقضاء المبرم على أسبابها،
والعمل المتواصل لإيقاف تلك الهجمة التنصيرية القائمة في وسائل الإعلام،
وضرورة فسح المجال لدعاة الإسلام كي يقوموا بدورهم ويقولوا كلمتهم في تلك
التيارات المنحرفة، وفضح رموز التيار العلماني المنافق الذي يدافع عن المرتدين
بدعوى الحرية الشخصية! ، ويعمل على إبراز وتلميع مثل هذه الحالات؛ لإشاعة
الفاحشة والانحراف العقدي في الأمة.
بقيت مسألتان، هما:
أولاً: أن الردة ليست فقط اعتراف فلان من الناس بارتداده عن الإسلام أو
إقراره بذلك، وإنما تكون الردة أيضاً بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام الكثيرة،
ومنها: بغض شيء جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو عمل به ظاهراً.
الاستهزاء بشيء من دين الله. الاعتقاد بأنه يمكن الخروج على شريعة ... الإسلام [**] .
ثانياً: تظاهر العلمانيين بالإسلام، وفي الوقت نفسه: محاربته بتبني أفكار
مضادة له، والدفاع عن الزنادقة والمرتدين.. فعليهم أن يوضحوا للناس حقيقة
إسلامهم والتبرؤ من كل ما يناقض الإسلام، أو أن يعلنوا صراحة موقفهم الرافض
لهذا الدين، فيعرفهم الناس على حقيقتهم.
كم نحن بحاجة ماسة إلى حزم الخليفة الراشد (أبي بكر الصديق) ، وموقفه
العظيم من المرتدين، الذي أصر فيه على حربهم.. حتى عادوا إلى الإسلام.
والله نسأل أن يقر أعيننا بنصر الإسلام وعز المسلمين، وأن يرينا في أعداء
دينه إن لم يهتدوا يوماً أسود، وما ذلك على الله بعزيز
__________
(*) هذا العنوان مأخوذ من محاضرة للشيخ أبي الحسن الندوي (حفظه الله) ، طبعت في رسالة صغيرة وضمت لكتابه إلى الإسلام من جديد، وهذا الموضوع لا علاقة له بذاك، وهو ليس دراسة شرعية عن موضوع الردة إذ إن ذلك سيكون بإذن الله في دراسة شرعية تأصيلية في عدد قادم بإذن الله (تعالى) .
(**) لمزيد بيان لهذه النواقض: تراجع إحدى رسالتين علميتين في هذا الموضوع، هما:
1- نواقض الإيمان القولية والعملية، د/ عبد العزيز آل عبد اللطيف. 2 - نواقض الإيمان الاعتقادية، د/ محمد الوهيبي.(108/4)
دراسات شرعية
السبيل إلى انحسار البدع
بقلم: سلمان عمر السنيدي
البدع مظهر نشاز في مجتمع المسلمين، وجرح غائر يستشري في أقطار
كثيرة، ويظهر في صور متعددة؛ وما يزال غلاّ كئيباً على عقول المسلمين بالتقليد
والتعصب والجهل، وتشكل البدع ظلاماً على الأبصار، يحجب نور السنة وفرقان
الاتباع، وكل بدعة في دين الله قديمة كانت أو حديثة لها ما يضادها في شرع الله،
مما سطر العلماء فيه جهوداً مكتوبة ومواقف مشهودة.
فتكونت لأهل السنة والجماعة سبيل واضحة لمواجهة البدع وأهلها، مما
سيظل طريقاً واضحاً له أساليبه، ومنهجه، وأهدافه، وغايته.
ولقد كانت جهود العلماء ومواقفهم العظيمة زاداً كشف للأمة عمق هذا السبيل
ومتانته، ويمكن تقسيم جهود العلماء في سبيل مقاومة البدع إلى الجهود التالية:
أولاً: نشر العلم النافع وإحياء العمل بالسنة:
نشر العلم والعمل به غاية ومقصد لذاته؛ وهو كذلك وسيلة لإزالة البدع
ودحضها والقضاء عليها.
ولقد كان همّاً تحمله الأمة المسلمة، وفي مقدمتها العلماء وطلاب العلم، كلّ
يحمله بحسب منزلته وجهده وعلمه؛ وذلك لحفظ الدين وحمايته من النقص والزيادة، ومن التحريف والتعطيل، لقول الرسول: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأوليل الجاهلين) [1] .
وفي الشرع المطهر دلائل كثيرة على الحض على حفظ العلم ونشر السنة،
ومن ذلك: قوله: (نضّر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فرب مُبَلّغ
أوعى له من سامع) [2] .
وفي حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من دعا إلى
هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) [3] .
ومن ثمرات هذا السبيل المبارك: القضاء على البدع، وكسر شوكتها،
وتبديد ظلامها أمام سلطان العلم ونور الدليل.
وما نبتت للبدع نابتة إلا بقصور هذا الجانب، وما كسفت شمس السنة في
بلاد إلا عمتها البدع، وتمكنت فيه المحدثات، وظهرت فيها المنكرات، فعن عمرو
بن العاص (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء،
حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم؛ فضلوا
وأضلوا) [4] .
ثانياً: الوقاية من البدع:
إن الوقاية من ظهور البدع من مقاصد الشريعة؛ ولقد جاء التحذير في كتاب
الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من البدع وأسبابها، ويمكن تقسيم
النصوص والآثار الواردة في هذا المجال إلى ما يلي:
1- التحذير من اتباع الأهواء، كما في قوله (تعالى) : [وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [ص:26] وقوله: [وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ] [المائدة:48] ، وقوله: [وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أََهْوَاءََهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنَّكَ إذاً لَّمِنَ ... الظَّالِمِينَ] [البقرة: 145] وقوله: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ] [الجاثية: 23] .
2- التحذير من التقليد بغير علم، كما عاب الله (تعالى) على من قال: ... [إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون] [الزخرف: 22] .
وقال (سبحانه) : [وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أََنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أََلْفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا أََوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ] [البقرة: 170] .
وقد حذر الرسول من تقليد الأمم السابقة: (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم) [5] .
3- التحذير من إحداث البدع في الدين، لحديث عائشة أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [6] ، وفي
رواية لها أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [7] ، وعن
جرير بن عبد الله أنه سمع الرسول يقول: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل
بها بعده كتبت عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء) [8] ،
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (من دعا إلى
ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) [9] .
قال مالك: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان
الرسالة؛ لأن الله يقول: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا
يكون اليوم ديناً) [10] .
4- التحذير من البدع وأهلها، لحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- كان يقول في خطبته: (وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ... ضلالة) [11] ، وفي رواية: (وكل محدثة بدعة) [12] ، وفي حديث العرباض بن سارية: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) [13] .
وفي قوله (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ ... ... فِي شَيْءٍ] [الأنعام: 159] ، قال ابن عطية: (هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء المعتقد) [14] .
وفي قوله (تعالى) : [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] [الأنعام: 153] ، قال الشاطبي: (والسبل هي أهل البدع، ليس المراد سبل المعاصي؛ لأن المعاصي من حيث هي معاصٍ لم يضعها أحدٌ
طريقاً تسلك دائماً على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع
المحدثات) [15] .
وقال مجاهد في قوله: [وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ] [الأنعام: 153] : (السبل: البدع والشبهات) [16] .
وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز: (أوصيك بترك ما أحدث
المحدثون، وعليك بلزوم السنة؛ فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من
الخطأ والزلل والحمق والتعمق) [17] ، ويقول ابن القيم: (واشتد نكير السلف
والأئمة للبدع، وحذروا منها أشد التحذير؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها
له أشد من عامة الفواحش والظلم والعدوان) [18] ، وقال القاضي أبو يعلى:
(أجمع الصحابة والتابعون على مقاطعة المبتدعة) ، وقال البغوي: (وقد مضت
الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا، مجمعين متفقين على معاداة
أهل البدع ومهاجرتهم) [19] ، وقال الغزالي في الإحياء: (السلف اتفقوا على
إظهار البغض للظلمة والمبتدعة وكل من عصى معصية متعدية إلى غيره) .
ثالثاً: دوافع مواجهة البدع:
وتبرز أهمية التصدي للبدع وأهلها فيما يلي:
1- حراسة الدين وحفظه:
يقول ابن تيمية: (فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ الدين وتبليغه؛ فإذا لم
يبلغوا الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين، ولهذا قال الله
(تعالى) : [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أََنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إلاَّ الَذِينَ تَابُوا وَأََصْلَحُوا وَبَيَّنُوا]
[البقرة: 159، 160] ، فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها؛ فلعنهم
اللاعنون حتى البهائم) [الفتاوى] .
2- باب من أبواب الجهاد:
عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:
(جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) [20] ، قال شيخ الإسلام: (فالراد
على أهل البدع مجاهد؛ حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذب عن السنة أفضل
من الجهاد..، والنصح واجب في المصالح الدينية الخاصة والعامة؛ ومثل أئمة
البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن
حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ ، فقال:
إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبيّن: أن نفع هذا عام للمسلمين من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ
تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفعه بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك:
واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد
الدين، وكان فسادهم أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا
استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون
القلوب ابتداءً) [21] .
3- إقامة العدل:
وذلك بإقامة ميزان الاعتدال في الولاء والبراء بحق وعلم، وذلك حين
تصرف المحبة ويعقد الولاء جهلاً لمن لا يستحقها، وحين يحصل التعدي والجفاء
ظلماً لمن لا يستحق ذلك، فالواجب هو التصدي لأهل المخالفات والبدع بالعلم
والعدل، ومحو ما ينشره أهل الظلم والجهل من الولاء والبراء بغير علم ولا كتاب
منير، قال شيخ الإسلام: (وصار كثير من أهل البدع يعتقدون اعتقاداً هو ضلال، يرونه هو الحق، ويرون كفر من خالفهم في ذلك، وإزاء هؤلاء المكفرين
بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه
ويجهلون بعضه، ولا ينهون عن البدع، ولايذمون أهل البدع، ولايعاقبونهم،
ويقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة كما يقر العلماء في موضع الاجتهاد التي
يسوغ فيها النزاع، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب ... والسنة) [22] .
مراتب مهمة في كشف البدع:
ومن هنا كانت ضرورة انتصاب طائفة للرد على أهل البدع، وكشف حقيقتها، وسبر رؤوسها الداعين إليها، وتحذير الأمة من شرورهم، وذلك برصد الأحداث، وتقديرها، وتقويمها، وتصورها على وجه الواقع، ثم القيام حسب الوسع
والطاقة بالمراتب التالية:
المرتبة الأولى: الرد على أهل البدع:
وذلك بمراعاة المنهج القويم في الرد عليهم، المتضمن ما يلي:
1- كشف تاريخ البدعة وأصل نشأتها وارتباطها بأصحابها الذين أحدثوها،
وأنه لا أصل لها في دين الله.
2- توثيق الرد بالاعتماد على كلام الخصوم في كتبهم ومقالاتهم، وعدم
الاكتفاء بالكتب التي تروي أجزاءً من مقالاتهم؛ لأن هذا أبلغ في الحجة وأسلم في
النقل.
3- بيان تناقض المنهج الداعي إلى البدعة مع نفسه، وأن أهله ملزمون
بالتناقض أو ترك البدعة.
وفي موقف ابن عباس وجداله للخوارج خير مثال على ذلك، حيث قال لهم:
أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم، أترجعون؟ ، قالوا:
وما لنا لا نرجع، قال: أما أن علي (رضي الله عنه) حكّم الرجال في دين الله:
فإن الله قال عن صيد المحرم: [يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ] ، وقال في المرأة
وزوجها: [فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا] ، فصير الله ذلك إلى حكم
الرجال، فنشدتكم الله: أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم
أفضل أو في حكم أرنب ثمنه ربع درهم وفي بضع امرأة؟ ، قالوا: بلى هذا أفضل، قال: أخرجتم من هذه؟ ، قالوا: نعم. قال: فأما قولكم: قاتل، ولم يَسْبِ، ولم
يغنم؛ أَفَتَسْبُون أمكم عائشة؟ ! ، فإن قلتم: نسبيها، فنستحل منها ما نستحل من
غيرها: فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا: فقد كفرتم، فأنتم تترددون بين
ضلالتين، أخرجتم من هذه؟ ، قالوا: بلى. قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة
المؤمنين، فإن نبي الله-صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية قال: اكتب يا علي:
هذا ما صالح عليه محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو سفيان
وسهيل ابن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، قال رسول الله: اللهم تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، قال ابن عباس:
فرجع من الخوارج ألفان، وبقي بقيتهم.
ولقد كان لعمر بن عبد العزيز مع الخوارج موقفاً آخر حينما جادلهم فقالت
طائفة منهم: لسنا نجيبك حتى تكفِّر أهل بيتك وتلعنهم، وتتبرأ منهم، فقال عمر:
إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني: هل تبرأتم من فرعون، أو
لعنتموه، أو ذكرتموه في شيء من أموركم؟ ، قالوا: لا، قال: كيف وسعكم تركه
ولم يصف الله عبداً بأخبث من صفته إياه؟ ، ولا يسعني ترك أهل بيتي ومنهم
المحسن والمسيء والمخطئ والمصيب.
4- تحديد المخالفة ونقض الوصف القائم بالبدعة وذمه، وتحرير موطن
الانحراف والضلال.
5- الإنصاف والعدل مع أصحاب البدعة في ثلاثة مواطن:
أ- بالتفريق بينهم وبين من هم أسوأ منهم في الانحراف الابتداعي، وفي هذا
يقول ابن تيمية: (ومما ينبغي أن يعرف: أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في
أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول
عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومنهم من يكون قد رد
على غيره من الطوائف الذين هم أبعد من السنة منه، فيكون محموداً فيما رده من
الباطل وما قاله من الحق، لكن قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق
وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد باطلاً بباطل
أخف منه، وهذا أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا
لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون:
كان من نوع الخطأ، والله (سبحانه وتعالى) يغفر للمؤمنين خطأهم في ... ... مثل ذلك) [23] .
ب- التفريق بين أصحاب البدعة الواحدة، فالداعين إليها يختلفون عن غير
الداعين من المقلدين والأتباع، وكذلك من يوالون عليها ويعادون: فإنهم يختلفون
عن الذين يجعلونها بمنزلة الخلاف السائغ، يقول ابن تيمية: (السلف يفرقون بين
الداعية وغير الداعية، لأن الداعية أظهر المنكر فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم:
فإنه ليس شرّاً من المنافقين الذين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل علانيتهم
ويكل سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثير منهم) [24] .
ج- عدم معاملتهم بمثل ما يعاملون به أهل السنة والجماعة؛ فلا يرد ضلالهم
بتكفير أهل القبلة بتكفيرهم.. وهكذا، وإنما يعاملون بما يستحقون.
6- تنزيل الأحكام على الأقوال والأفعال لا على الأشخاص، إلا بعد يقين،
قال شيخ الإسلام: (إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى كفر وتفسيق
ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً
تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، إن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق
القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو حق، ولكن يجب التفريق بين الإطلاق
والتعيين) [25] ، (وأصل ذلك: أن المقالة التي هي كفر بالكتاب، والسنة
والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، ولا يجب
أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير
وتنتفي موانعه) [26] ، (وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط
حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه
بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) [27] .
7- فتح باب العودة للخصم واحتواؤه، ومن ذلك: الدعاء له بالهداية والرحمة.
المرتبة الثانية: مناظرة رءوس البدعة ومحاجتهم:
قال ابن عبد البر: (قال بعض العلماء: كل مجادل عالم، وليس كل عالم
مجادل. يعني: أنه ليس كل عالم يتأتى له الحجة، ويحضره الجواب، ويسرع
إليه الفهم بمقطع الحجة، ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء وأنفعهم مجالسة
ومذاكرة) [28] .
قال المزني: (وحق المناظرة أن يراد بها الله (عز وجل) ، وأن يقبل منها
ما يتبين) [29] ، ويلزم المناظر ما يلي:
1- المطالبة بالدليل؛ لقوله (تعالى) : [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ]
[البقرة: 111] ، وقوله (تعالى) : [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ ... حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: 42] ، وقوله (تعالى) : [إنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا] [يونس:68] .
2- إحكام النقض: كما قال إبراهيم (عليه السلام) للنمرود حين قال: [أَنَا
أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ
فَبُهِتَ الَذِي كَفَرَ] [البقرة: 258] ، ولما رأى ابن مسعود (رضي الله عنه) جماعة
يعدون تسبيحهم بالحصى، قال لهم: (والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة أهدى من
ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة) [30] .
3- الإقناع بالدليل، وذلك يتطلب الأمور التالية:
أ- صحة الحجة. ... ... ب- صحة الدلالة.
ج - ترتيب الأدلة. ... ... د- ترك التشهي.
4- حسن الصياغة: وذلك بسلامة اللغة، وسهولتها، والاقتصاد في ... العبارة [31] .
المرتبة الثالثة: تعزيرهم وكسر شوكتهم:
وذلك بمعاقبتهم بما يستحقون من العقوبات الشرعية، من: هجرهم، وترك
توقيرهم، ونزع ولايتهم، وحرمانهم من العطاء، وطردهم، وسجنهم، وقتلهم،
قال شيخ الإسلام: (من كفّر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم، ببدعة ابتدعها، ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: فإنه يجب نهيه عن
ذلك وعقوبته بما يزجره ولو بالقتل أو القتال؛ فإنه إذا عوقب المعتدون من جميع
الطوائف، وأُكرم المتقون من جميع الطوائف: كان ذلك من أعظم الأسباب التي
ترضي الله ورسوله وتصلح أمر المسلمين) [32] ، وذلك حين تكون لأهل السنة
ولاية قائمة.
المرتبة الرابعة: إزالة رسومهم:
مثل تسوية الأضرحة، ومنع كتبهم، ومنع اجتماعهم على البدع.. ونحو ذلك أسوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال علي (رضي الله عنه) لأبي
الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله؟ : أن لا تدع صورة إلا
طمستها ولا قبراً إلا سويته) [33] .
وكما فعل عمر بن الخطاب بقطع شجرة (بيعة الرضوان) لما رأى بوادر الغلو
فيها قامت أو تكاد.
المرتبة الخامسة: الثبات والصبر حال تسلط أهل البدع:
ويذكر ابن تيمية (رحمه الله) صوراً من هذا التسلط في فتنة الجهمية ودعوتهم
إلى القول بخلق القرآن، فيقول: (امتحنوا الإمام أحمد وسائر علماء وقته، وفتنوا
المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهّم بالضرب والحبس والقتل والعزل
عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادات وترك تخليصهم من العدو) [34] .
فالواجب والحالة هذه الصبر، والثبات، والتمسك بالدين، والحذر أن تزل
قدم بعد ثبوتها، والنظر إلى تسلط الأعداء على أنبياء الله، وكيف كانت العاقبة
للمؤمنين، وكيف أن التاريخ يحفظ للصابرين جميل فعلهم بحفظ الدين وتثبيت
العامة على الدين.
وأما متى يسوغ السكوت عن البدع، فذلك في مقامين:
الأول: أن يكون في الرد مفسدة أعظم، فليس كل راد مؤهلاً لذلك، قال شيخ
الإسلام: (وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة
وجواب الشبهة؛ فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى الضعيف في
المقاتلة أن يقاتل علجاً قويّاً من علوج الكفار) [35] .
والثاني: أن يلحق الداعي بلاء فادح، فهو مخير بين الأخذ بالعزيمة أو الأخذ
بالرخصة الموسعة للمستضعفين من الرجال والنساء.
__________
(1) صححه الإمام أحمد، وابن عبد البر، والعراقي، والحافظ العلائي، ورواه الخطيب في (شرف أصحاب الحديث) ، 35/2، وانظر: مشكاة المصابيح، ص 248.
(2) رواه الترمذي، ح/2668، وصححه، وأبو داود، ح/3660، وابن ماجة، ح/230 و3506، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، ص 230.
(3) رواه مسلم، ح/2674.
(4) رواه البخاري: كتاب العلم، ح/100، 7307، ومسلم، ح/2673.
(5) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ح/2181، والإمام أحمد، 5/218.
(6) رواه مسلم، 12/16.
(7) رواه البخاري، 5/301، ومسلم، 12/16.
(8) رواه مسلم، ح/1017.
(9) رواه مسلم، ح/2674.
(10) الاعتصام، 1/64.
(11) رواه مسلم، 6/135.
(12) مسلم، 6/156.
(13) رواه أبو داود، ح/4607، والترمذي، ح/2676، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة، ص44، وأحمد، 4/126، وقال البزار: حديث ثابت، وقال البغوي: حديث حسن، وقال أبو نعيم: حديث جيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/2549، وفي الصحيحة، ح/937.
(14) الاعتصام، 1/79.
(15) الاعتصام، 1/76، ورحمة الله على الشاطبي؛ فقد توفي سنة 790هـ، لقد كان الأمر في شأن المعاصي على ما ذكر، فكيف سيقول لو عاش في زماننا هذا؟ .
(16) الاعتصام، 1/77.
(17) الاعتصام، 1/65.
(18) مدارج السالكين، 1/372.
(19) شرح السنة، 1/226.
(20) رواه أحمد، 3/124، وأبو داود، ح/2504، والنسائي، ح/3098، والحاكم، 2/81، وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان، ح/1618، والألباني في صحيح الجامع، ح/3090.
(21) الفتاوى، 28/231.
(22) الفتاوى، 12/466.
(23) الفتاوى، ج 3، ص 348.
(24) الفتاوى، 28 /203.
(25) الفتاوى، 3/229.
(26) الفتاوى، 35/165.
(27) الفتاوى، 12/446.
(28) جامع بيان العلم وفضله، ص 107.
(29) جامع بيان العلم وفضله، ص 107.
(30) رواه أحمد في الزهد، ص 258، والدارمي في سننه، 1/68، وأبو نعيم في الحلية، ... 4/380.
(31) انظر: الرد على المخالف من أصول الإسلام، للشيخ بكر أبو زيد، ص 54.
(32) الفتاوى، 3/423.
(33) رواه مسلم، ح/969، وأبو داود، ح/3218، والترمذي، ح/1049، والنسائي، 4/88.
(34) الفتاوى، 12/488.
(35) درء تعارض العقل والنقل، 7/173.(108/8)
دراسات تربوية
المفهوم الصحيح للتوكل
ومظاهر الانحراف فيه
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
يمكن القول بأن التوكل نصف الدين، ونصفه الثاني هذه (العبادة) ؛ لأن الدين
استعانة وعبادة، كما يشير إليه قوله (تعالى) : [إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ... [الفاتحة: 5] ، وقد ورد التوكل في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية
الصحيحة، ومن ذلك: قوله (تعالى) : [وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]
[المائدة: 23] ، وقوله (تعالى) : [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ... [الطلاق: 3] .
وقال (تعالى) عن أوليائه: [رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ]
[الممتحنة: 4] ، وقال (تعالى) لرسوله: [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّكَ عَلَى الحَقِّ ... المُبِينِ] [النمل: 79] ، وكذلك: [وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ] [الفرقان: 58] .
وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً، منها:
أ- في الصحيحين: حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب
(هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يَكْتَوون، وعلى ربهم يتوكلون) [1] .
ب- وفي صحيح البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: ((حسبنا
الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم، حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له: ... [إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ ... ... الوَكِيلُ] ) [2] .
ج- وفي الترمذي عن عمر (رضي الله عنه) مرفوعاً: (لو أنكم تتوكلون
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) [3] .
تعريف التوكل بمعناه الصحيح:
التوكل عمل قلبي من أعمال القلوب، وقد وردت له تعريفات كثيرة يكمل
بعضها بعضاً لتنتهي مجتمعة إلى حقيقة التوكل ومعناه:
أ -فمن ذلك: ما ذكره الإمام ابن القيم (رحمه الله) عن التوكل: (هو حال
للقلب ينشأ عن معرفته بالله، وتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء
والمنع، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه
الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه، وتفويضاً إليه، وطمأنينة به، وثقة به،
ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه) [4] .
ب- ومن ذلك: ما نقله الشيخ محمد العثيمين (حفظه الله) في شرحه لكتاب
التوحيد، حيث قال: (التوكل: هو الاعتماد على الله (سبحانه وتعالى) في جلب
المطلوب وزوال المكروه، مع فعل الأسباب المأذون فيها) [5] .
تباين الخلق في توكلهم على الله (سبحانه) وأفضلهم في ذلك:
وضّح الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) هذه المسألة أتم توضيح بقوله:
(فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل، وإن تباين
متعلق توكلهم:
فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه وإعلاء كلمته،
وجهاد أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله،
فارغاً عن الناس.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلوم يناله منه: من رزق، أو عافية،
أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد.. ونحو ذلك.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب
هذه المطالب لا ينالونها غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه.
فأفضل التوكل: التوكل في الواجب أعني واجب الحق، وواجب الخلق،
وواجب النفس وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية،
أو في دفع مفسدة دينية؛ وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين
في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم
ومقاصدهم، فمِنْ متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول
رغيف) [6] .
التوكل وأنواعه:
1- توكل الموحدين الصادقين:
وحقيقته: الاعتماد على الله (عز وجل) وحده، والثقة بكفايته مع فعل
الأسباب المأذون فيها من غير اعتماد عليها ولا ركون إليها؛ فخالق الأسباب
ومسببها هو الله وحده.
2- التوكل الشركي، وهو نوعان:
أ - أكبر، وهو: (الاعتماد الكلي على الأسباب، واعتقاد أنها تؤثر استقلالاً
في جلب المنفعة أو دفع المضرة، وهذا من الشرك الأكبر) [7] .
ب - الشرك الأصغر، وهو: (الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه..
وغير ذلك، من غير اعتقاد استقلاليته في التأثير، لكن التعلق به فوق اعتقاد أنه
مجرد سبب، مثل اعتماد كثير من الناس على المالية في الراتب، ولهذا تجد أحدهم
يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا الراتب أو من يقرر الراتب اعتماد افتقار، فتجد
في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر) [8] .
3- التوكل الجائز:
(وهو أن يُوكِّلَ الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكِّل بذلك بعض
مطلوبه، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده) [9] (كمن وكّل شخصاً
في شراء شيء أو بيعه، فهذا لا شيء فيه، لأنه اعتمد عليه، وكأنه يشعر أن
المنزلة العليا له فوقه، لأنه جعله نائباً عنه، وقد وكل النبي علي بن أبي طالب أن
يذبح ما بقي من هديه، ووكل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن
يشتري له أضحية) [10] ، ولكن توكيل المخلوق غايته أن يفعل بعض المأمور،
وهو لا يفعل ذلك إلا بإعانة الله له، فرجع الأمر كله لله وحده.
ضوابط الأخذ بالأسباب:
الأخذ بالأسباب لا بد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من
التعلق بها والاعتماد عليها، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:
1 - (الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب، بل تُتعاطى من غير ركون إليها،
ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع: لم يحصل
المقصود، وهو (سبحانه) ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ لم يكن وإن
شاءه الخلق) [11] .
2 - (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا علم، أو بما يخالف الشريعة: كان مبطلاً في إثباته، آثماً في اعتقاده) [12] ... 2 - (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا.
3 - (أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً، إلا أن يكون
مشروعاً، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يتقرب إلى الله (عز وجل)
بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها) [13] .
4 - (إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً: فلا
يجوز مباشرته ولا الأخذ به، وتوحد السبب في حقه في التوكل على الله (عز
وجل) ، فلم يبق سبب سواه، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد، ودفع
المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق) [14] .
5 - (إن كان السبب مباحاً، نُظر: هل يضعف القيام به التوكل أو لا
يضعفه، فإن أضعفه، وفرق على العبد قلبه، وشتت همه: فترْكه أولى، وإن لم
يضعفه: فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به، فلا
تعطل حكمته مهما أمكن القيام بها، لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله (عز
وجل) ، فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل، وعبودية الجوارح بالسبب
المنوي به القربة) [15] .
(إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل، فمن عطل
الأسباب المأمور بها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول
الخير يحقق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون
توكله عجزاً أو عجزه توكلاً) [16] .
(وسر التوكل وحقيقته هو: اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره
مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله
(توكلت على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان
شيء، وتوكل القلب شيء) [17] .
مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل وتطبيقه:
بعد أن اتضحت حقيقة التوكل والفهم الصحيح له ومراتب الناس فيه، فيجدر
بنا الآن أن نتعرف على بعض مظاهر وصور الانحراف التي طرأت على هذا
العمل العظيم من أعمال القلوب، وما كان لهذا الانحراف من أثر سيء على بعض
أبناء الأمة في عجزهم، أو تعلقهم بغيرهم، أو تركهم لما يجب الأخذ به.. وما إلى
ذلك من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة، هذا.. ولقد كان للفكر الصوفي المنحرف،
وظهور الفِرَق: أكبر الأثر في انتشار هذه المظاهر من الانحراف، يضاف إلى ذلك: ما ساهم به الغزو الفكري لهذه الأمة من نشر للمذاهب المادية، التي لا تربط
النتائج إلا بالمادة المحسوسة، وتلغي جانب الغيب والإيمان بالله (عز وجل) وقضائه
وقدره وملكه وقهره وعظمته.. وما كان لهذه الأفكار كلها أن تؤثر لو كان العلم وفهم
العقيدة الصحيحة منتشراً بين الأمة، ولكن لما وافق هذا جهلاً عند بعض المسلمين
بحقيقة هذا الدين وأصوله: نشأ من ذلك بعض المفاهيم المغلوطة للتوكل كما نشأ
الضعف في التطبيق لهذه العبادة العظيمة.
وفي الفقرات التالية: أستعرض بعض صور الانحراف والضعف في هذا
الجانب المهم من جوانب العقيدة، لعلنا نتفقده في أنفسنا أو عند غيرنا؛ حتى نتجنبه، ونحذر منه.
ومن أهم مظاهر الانحراف في ذلك ما يلي:
1- النظر إلى التوكل على أنه تواكل وترك للأسباب، والذين وقعوا في هذا
الانحراف على صنفين:
أ- صنف يعلم أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب والأمر واضح عنده بلا شبهة، ولكنه ينطلق من هذا الفهم المنحرف في تبرير عجزه وكسله وتفريطه، فهذا
عجزه توكل، وتوكله عجز، وهذا الصنف من الناس لا ينقصه إلا أن يتقي الله
(عز وجل) ، ولايبرر شهوته بشبهة، وفي ذلك يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى) :
(وكثيراً ما يشتبه في هذا الباب: المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص.
ومنه: اشتباه التوكل بالراحة، وإلقاء حمل الكَلِّ فيظن صاحبه أنه متوكل، ...
وإنما هو عامل على عدم الراحة..) [18] .
ب- أما الصنف الثاني: فقد أُتي من جهله بحقيقة التوكل على الله (عز وجل)
وجهله بسنن الله (سبحانه) في ارتباط المسببات بالأسباب، وأن الأخذ بالأسباب
بضوابطها الموضحة سابقاً لا ينافي التوكل، بل إن تركها قدح في حكمة الله (عز
وجل) ، ونقص في العقل، وما علم صاحب هذا الفهم أن التوكل عليه (سبحانه) هو
أقوى الأسباب في حصول المطلوب ودفع المكروه، يقول الإمام ابن رجب (رحمه
الله تعالى) : (واعلم أن تحقيق التوكل لا يُنافي السعي في الأسباب التي قدّر الله
سبحانه المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله (تعالى) أمر بتعاطي
الأسباب مع أمره بالتوكّل، فالسّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكل
بالقلب عليه إيمانٌ به، كما قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]
[النساء: 71] ) [19] .
ويتحدث ابن القيم (رحمه الله تعالى) عن توكل الرسول وصحابته الكرام مع
أخذهم بالأسباب، فيقول: ( ... وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين،
وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد، وجميعُ أصحابه،
وهم أولو التوكل حقّاً، ... فكانت هممهم (رضي الله عنهم) أعلى وأجل من أن
يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعي؛
فيجعله نصب عينيه، ويحمل عليه قوى توكله) [20] .
2- ويقابل الانحرافَ السابق انحرافٌ في الجانب المقابل، ألا وهو الإفراط
في فعل الأسباب والتعلق بها محبةً وخوفاً ورجاء، ومعلوم ما في هذا الانحراف من
خطر شديد على التوحيد، فهو إما شرك أكبر: إذا اعتقد فاعل الأسباب أنها تؤثر
استقلالاً، وإما شرك أصغر: إذا لم يعتقد ذلك، ولكنه تعلق بها وحابى من أجلها،
وجعل أكثر اعتماده عليها في حصول المطلوب وزوال المكروه. وما أكثر من يقع
منا في هذا الضعف القادح في التوكل على الله (عز وجل) ، ولكن ما بين مُقِلٍّ
ومكثر، وإن وجد من يحقق التوكل على الله (عز وجل) في أمور الدنيا فإن
المحققين له في العبادة وأمور الآخرة أقل وأقل، وفي ذلك يقول الشيخ محمد ابن
عثيمين (حفظه الله) :
(ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة
أوالعادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في
الغالب على الأسباب الظاهرة، وننسى ما وراء ذلك، فيفوتنا ثواب عظيم وهو
ثواب التوكل) [21] .
3- ما ينقل عن بعض غلاة المتصوفة من أن التوكل من مقامات العامة، لا
من مقامات الخاصة، ومنشأ هذا الانحراف أتى من ظنهم أن التوكل لا يطلب به إلا
حظوظ الدنيا، كما هو شأن عامة الناس، وهذا غلط، فإن أعظم ما يُتوكل على الله
فيه الأمور الدينية، وحفظ الإيمان، وجهاد أعداء الله (عز وجل) ، ورجاء ثوابه
(سبحانه) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(.. وعلى هذا: فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا
يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط، بل التوكل في الأمور الدينية ... أعظم) [22] .
4- جبن القلب والخوف من المخلوق:
إن مما ينافي حقيقة التوكل: الخوف من المخلوق خوفاً يدفع إلى ترك ما يجب
أو فعل ما يحرم، محاباة للمخلوق أو خوفاً من شره، ومثل ذلك يكون أيضاً في
الطمع والرغبة، فالطمع في نفع المخلوق أو الخوف من شرِّه إذا أدى إلى ضعف
التعلق بالله (عز وجل) وضعف الثقة به (سبحانه) ؛ فإن هذا يقدح في التوكل،
ويضعفه إن لم يذهبه، ومن تعلق بشيء وُكِلَ إليه، ومن وكل إلى غير الله (عز
وجل) ضاع وهلك، وخاب وخسر.. ومما يصلح التمثيل به في عصرنا اليوم على
هذا الضعف: ما يعتري بعض الدعاة وهو في دعوته إلى الله (عز وجل) من خوف
على نفسه أو رزقه أو منصبه، الأمر الذي يؤدي ببعضهم إلى ترك ما هم عليه من
تعليم للعلم أو دعوة إلى الله (عز وجل) ، والإحجام عن مجالات الخير ونفع الناس،
بحجة الحذر والبعد عن الفتن.. والله (سبحانه) أعلم بما في قلوب العالمين. ثم إنه
لو كان يغلب على الظن حصول الأذى والابتلاء لكان لذلك بعض الوجه في الأخذ
بالرخصة وترك العزيمة، أما وأن الأمر على العكس من ذلك؛ حيث يغلب على
الظن عدم التعرض للأذى، فإنه لا تفسير لهذه المواقف إلا ضعف التوكل على الله
(عز وجل) ، والوسوسة الشديدة، والمبالغة في الخوف، والحذر الزائد من المخلوق
الضعيف، وتهويل أمره، وهذا من كيد الشيطان ووسوسته، وكأننا لم نسمع ولم نعِ
قوله (تعالى) : [إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ] [آل عمران: 175] .
يقول صاحب الظلال (رحمه الله تعالى) : (والشيطان صاحب مصلحة في
أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قويّاً قادراً قاهراً بطّاشاً جباراً، لا
تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مُدافِع، ولا يغلبه غالب، الشيطان صاحب
مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا، فَتَحْت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب
والبطش: يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه، يقلبون المعروف منكراً، والمنكر
معروفا، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويُخفتون صوت الحق والرشد
والعدل.. والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في
صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته ... ومن هنا: يكشفه الله ويوقفه عارياً، لا
يستره ثوب من كيده ومكره، ويُعرِّف المؤمنين الحقيقة: حقيقة مكره ووسوسته؛
ليكونوا على حذر، فلا يَرهبوا أولياء الشيطان، ولا يخافوهم، فهم وهو أضعف
من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته) [23] .
__________
(1) البخاري، ح/5705، ك/ الطب، من حديث عمران بن حصين، ومسلم، ح/218، ك/ الإيمان.
(2) البخاري ح/4563، ك/ التفسير سورة آل عمران.
(3) الترمذي في الزهد، ح/2345، وابن ماجة، ح/4164، وأحمد، 1/ 52، وصححه الشيخ أحمد شاكر، 1/206، وهو في صحيح سنن الترمذي، ح/ 1911.
(4) مدارج السالكين، 1/82 وهو دراسة موسعة شرح فيها معاني [إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ، وهو (شرح منازل السائرين) للإمام الهروي، والكتاب مع أهميته واستقصائه لأعمال القلوب فيه استطرادات وبعض شطحات يسيرة، وقد حُقق مؤخراً تحقيقاً جيداً من قبل الأستاذ محمد المعتصم بالله البغدادي، ولتلافي بعض الملحوظات فيه عمد بعض العلماء والدعاة إلى اختصاره ليكون سهل التناول، ومن أفضل المختصرات: (تهذيب مدارج السالكين) للشيخ عبد المنعم العزي، وكذلك: (بغية السالكين من مدارج السالكين) للشيخ عبد الله السبت.
(5) شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين، 2/185.
(6) مدارج السالكين، 2/113، 114.
(7) انظر: شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين (حفظه الله) ، 2/190، 191.
(8) انظر: المصدر السابق، 2/190، 191.
(9) انظر: جامع الرسائل لابن تيمية، 1/89.
(10) انظر: شرح كتاب التوحيد، للشيخ ابن عثيمين (حفظه الله) ، 2/ 190، 191.
(11) انظر: توحيد الخلاق، للشيخ سليمان بن عبد الله، ص 169 - 172.
(12) انظر: توحيد الخلاق، للشيخ سليمان بن عبد الله، ص 169 - 172.
(13) المرجع السابق.
(14) انظر: الفوائد، لابن القيم، ص 86، 87.
(15) المرجع السابق.
(16) المرجع السابق.
(17) المرجع السابق.
(18) مدارج السالكين، 2/123، 124.
(19) جامع العلوم والحكم، ص 498.
(20) مدارج السالكين، 2/134، 135، بتصرف.
(21) شرح كتاب التوحيد، للشيخ ابن عثيمين، 2/190.
(22) مجموع الفتاوي، 10/18 20، باختصار.
(23) طريق الدعوة في ظلال القرآن، 2/151.(108/18)
تأملات دعوية
بين المصالح الشخصية والمصالح الدعوية
بقلم: محمد بن عبد الله الدويش
لاشك أن مراعاة المصالح الشرعية أمر جاء به الدين، بل (إن الله بعث
الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها) [1] ، وحيث إن
الدعوة تتعامل مع قضايا المجتمع: فهي لا تنفك عن ارتباطها بالمصالح والمفاسد.
فأحياناً تصبح الدعوة إلى أمر من الأمور خلافاً للمصلحة، وقد يكون من
المصلحة ألا تقال هذه الكلمة، وألا يقف الدعاة هذا الموقف، فقد ترك النبي -صلى
الله عليه وسلم- هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم؛ مراعاة للمصلحة،
فعن عائشة (رضي الله عنها) زوج النبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال
لها: (ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟) فقلت:
يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت، فقال عبد الله (رضي الله عنه) : لئن كانت عائشة (رضي الله عنها) سمعت هذا
من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد ... إبراهيم [2] .
إلا أنه قد تدخل عوامل شخصية ذاتية، ويخلط بعض الناس بين مصالح
الدعوة ومصالحه الشخصية.
فقد يشعر الداعية أن قيامه بهذا الأمر لا يحقق المصلحة، أو أنه يفوت بعض
المكاسب، لكنه ينسى في غمرة الأحداث، وسيطرة مطالب النفس ورغباتها أن هذه
المصالح لا تعدو أن تكون شخصية، أو أن ما فات لا يعدو أن يكون مكاسب دنيوية.
إن من سنة الله (تبارك وتعالى) في الدعوات أن تحتاج لتضحيات، وأن
تترتب عليها تبعات، وأن يضحي صاحبها وتفوته مكاسب كان يؤمل فيها، فهل
هذا من المصالح التي يجب أن يراعيها الداعية؟ أم إنها من المصالح الشخصية؟
إن من يقرأ كتاب الله يرى ما واجه الأنبياء والمصلحين من أقوامهم، ويرى
ما بذلوه من جهد وما قدموه من تضحيات، فيدرك أنها سنة قائمة لمن سار على هذا
الطريق، وأننا حين نريد طريقاً نحافظ فيه على مكتسباتنا ومصالحنا الشخصية
ونضن بها، فنحن نريد غير طريقهم.
وفرق بين أن يسوغ للإنسان ترك الأمر والنهي في موقف معين مع أن ذلك لا
يجب عليه، بل ربما كان الأفضل وأن يكون هذا هو المصلحة الشخصية.
وقل مثل ذلك في المكاسب الشخصية، فقد يجيِّر الداعية مكاسبه الشخصية
ومصالحه للدعوة، فيرى أن حصوله على شهادة، أو توليه لوظيفة مرموقة، أو
تحسن أوضاعه الاقتصادية.. مصلحة دعوية لا يسوغ التفريط فيها، ويرى أن
الدعاة يجب أن يتميزوا في مستوى تعليمهم، ومظاهرهم، ووظائفهم.
نعم: إن ذلك مطلوب، لكن حين ترى ذاك النموذج من الناس الذي يستميت
وراء تحقيق هذه المكاسب الشخصية، ويسعى إليها، ويبذل الجهد والوقت من أجلها، وهو لا يبذل لدعوته معشار ما يبذله لتحقيق هذه المكاسب الشخصية.. تدرك أنه
حين يحصل على هذه المكاسب فليس بالضرورة انتظار تقديمه المفيد لدعوته، وكم
هم الناس الذين دخلوا في ميادين التجارة وطلب المال بحجة أن الداعية يجب أن
يستقل في مصدر رزقه، وألا يعتمد على غيره، وأخيراً، حين انفتحت له أبواب
الدنيا، استقال من الدعوة، وولاها ظهره، وأقبل على دنياه.
ولله در الإمام (الشاطبي) حين قال: (المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد
المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء
النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية) [3] .
وقال أيضاً: (ومع ذلك: فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة
المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس) [4] .
إن استحضار التقوى والتجرد لله (تبارك وتعالى) وسؤاله التوفيق ...
والإخلاص، والتوقف ومراجعة النفس عند كل خطوة، إضافة إلى التجرد من ... حب الدنيا والتعلق بها.. كل ذلك مما يعين المرء على تجاوز تلك المهالك.
__________
(1) مجموع الفتاوى، 13/96.
(2) رواه البخاري، ح/1583، ومسلم، ح/1333.
(3) الموافقات، 2/29.
(4) الموافقات، 2/30.(108/28)
متابعات
مؤتمر القاهرة الاقتصادي
حلقة من حلقات السقوط
د. محمد بن عبد الله الشباني
عُقد مؤتمر القاهرة الاقتصادي في ظل ظروف الاستكانة للتبجح الإسرائيلي،
والتنصل من مواجهة حقيقة الأهداف اليهودية في المنطقة، والجري خلف سراب
الانتعاش الاقتصادي المأمول بعد حلول السلام وقبول اليهود بالتعايش مع الدول
العربية ضمن منظومة دول إقليم (الشرق الأوسط) ، التي يكون لدولة اليهود الهيمنة
المطلقة في التحكم في شؤونها.
إن مؤتمر القاهرة الاقتصادي ما هو إلا حلقة من حلقات دمج الجسد اليهودي
في قلب العالم العربي والإسلامي، بمنحه القدرة على الهيمنة على السوق من خلال
استغلال خيرات العالم العربي، وتحويل الشعوب العربية إلى شعوب تخدم اليهود
ولا حيلة لها إلا قبول ما يمليه اليهود من سياسات تخدم مصالحهم.
إن المتمعن والفاحص لنوعية الهيئات والمنظمات التي شاركت في أعمال
المؤتمر والموضوعات التي تم طرحها يدرك الأهداف الحقيقية للمؤتمر، باستجابة
المؤسسات والمنظمات الإقليمية لما تطلبه المؤسسات المالية الدولية، فمن المنظمات
المالية الإقليمية: (صندوق النقد العربي) ، و (صندوق الإنماء الاقتصادي
والاجتماعي) ، و (المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين) ، و (المصرف
العربي للتنمية الاقتصادية) ، و (الصندوق الكويتي للتنمية) .. وهي منظمات إقليمية
لم تمارس دورها الحقيقي في التنمية، فلو مارست الدور الفاعل ضمن إطار
استقلالية القرار عن المنظمات المالية الدولية لما كان واقع الأمة التنموي كما هو
مشاهد في الوقت الحاضر.
إن الوثيقة الرئيسة التي تم إعدادها من قِبَل (المنتدى الاقتصادي العالمي)
ركزت على خمسين ندوة ضمن إطار ما أطلق عليه: بناء المستقبل وإيجاد مناخ
استثماري مواتٍ، وتدور محاور هذه الندوات كما أعلن عنها حول كيفية جذب
رؤوس الأموال، والإصلاح القانوني، وعلاقة هذا الإصلاح باقتصاديات المنطقة،
والعمل على تحرير التجارة.
والهدف الذي ترمي إليه حلقات النقاش والمشروعات المطروحة تدور في فلك
التمكين لرأس المال اليهودي، المتمثل في المؤسسات البنكية، من التحكم في
التوجهات الاقتصادية لمختلف بلدان المنطقة على أساس المنطلقات التي تم بحثها في
مؤتمري (عمان) و (الدار البيضاء) ، اللذين قصد فيهما التمكين لدولة اليهود في
فلسطين من خلال الاندماج في المنطقة وتحقيق التطبيع الاقتصادي، وإعطاء
الفرصة للمال اليهودي لإحكام قبضته على الموارد الاقتصادية المتاحة في المنطقة
لخدمة أهداف وأغراض اليهودية العالمية.
إن من أهداف هذا المؤتمر: جعل هذه المنطقة التي تزخر بالخيرات حيث
يتوفر فيها احتياطي للطاقة تحت سيطرة الهيمنة الرأسمالية اليهودية، التي أحكمت
قبضتها على اقتصاديات العالم من خلال تحقيق الهيمنة الاقتصادية.
وقد تحقق ذلك من خلال التحكم في الاقتصاد العالمي بناء على ثلاثة محاور،
هي:
1- النظام النقدي العالمي، من خلال هيمنة الدولار الأمريكي على وسائل
الدفع العالمية، حيث يمثل وسيلة الدفع العالمية المقبولة التي حلت محل الذهب
لتغطية إصدارات معظم عملات الدول، وبخاصة دول (العالم الثالث) ، وتتحكم في
هذا النظام المؤسسات المالية العالمية المملوكة في معظمها لليهود، ويقوم هذا النظام
على التمكين للربا من التحكم في حركة الأموال، من خلال ما يعرف بميكانيكية
التغيرات الفعلية والمفتعلة لنسب الفائدة على حركة تداول الأموال، فالربا هو لحمة
النظام النقدي، وتقوم المؤسسات المالية الدولية مثل: (البنك الدولي) و (صندوق
النقد الدولي) ، بوضع السياسات النقدية والمالية التي تخدم همينة رؤوس الأموال
على اقتصاديات دول العالم الثالث والكتلة الشرقية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية
في شرق أوروبا بزعامة (الاتحاد السوفييتي) ، ولهذا: نجد العمل الدؤوب من
المؤسسات المالية الدولية على تبني جميع دول العالم لمفهوم الخصخصة، وتوجيه
سياسات جميع الدول للعمل على إزالة العوائق التي تحد من تحكم الرأسمالية العالمية
في اقتصاديات الدول الفقيرة، بالعمل على إغراق تلك الدول في الديون العالمية.
2- التحكم في حركة رءوس الأموال، من خلال أسواق المال العالمية،
التي تتركز في (أمريكا) بالدرجة الأولى، و (أوروبا) بالدرجة الثانية، و (اليابان)
بالدرجة الثالثة، وهذه الحركة لرؤوس الأموال تتم السيطرة عليها من خلال
السياسات النقدية التي تضعها المؤسسات المالية الأمريكية، التي تتحكم بدورها في
المؤسسات المالية الأوروبية واليابانية، من خلال تملكها لمعظم أسهم تلك المؤسسات، ومن أجل ذلك: نجد الدعوة التي تتبناها المؤسسات المالية الدولية بالسماح
لرؤوس الأموال بتملك أسهم الشركات والسندات التي تصدرها الحكومات المحلية،
وذلك بهدف تحقيق الهيمنة الاقتصادية على اقتصاديات تلك الدول.
3- التحكم في التجارة العالمية، من خلال إزالة القيود على حركة التجارة،
وتكوين الشركات التابعة؛ ولهذا: نجد أن مؤتمر الإيواء الذي عقد في (إستانبول)
قد ركز على تغيير السياسات التجارية وحق الاقتراض من رؤوس الأموال الأجنبية
من قِبَل الحكومات المحلية للدول النامية، مع تعديل التشريعات لتمكين رؤوس
الأموال من حرية الحركة والتملك.
إن منطقة (الشرق الأوسط) التي تمثل الحلقة الأخيرة التي تسعى اليهودية
العالمية في تحقيق هيمنة رأس المال اليهودي عليها ويتم ذلك من خلال المؤسسات
المالية الأمريكية والأوروبية لما لهذه المنطقة من تأثير على اقتصاديات العالم،
بسبب موقعها الجغرافي وما تملكه من مواد أولية هائلة يأتي على رأسها البترول،
حيث تمتلك منطقة (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) أكثر من نصف احتياطي العالم
من الطاقة.. إن هذه المنطقة على مفترق طرق.
ومقاومة الهجمة اليهودية والعمل على الحد من تأثيرها أمر يوجبه الدين،
حيث إن هذه الهجمة الاقتصادية اليهودية تحمل في ثناياها تعطيل شرع الله، من
خلال فرض الربا وجعله لحمة اقتصاديات المنطقة، ومنع أي محاولة للخروج على
المنهج الربوي، ومن خلال إغراق المنطقة في اقتصاديات الاستهلاك التي تؤدي
إلى إضعاف البنية الاجتماعية والعقائدية، بإشاعة فلسفة المتعة واللذة هدفاً وغاية
للحياة.
إن مقاومة هذه الهجمة لا يمكن أن تأتي إلا من خلال الأفراد، بتبنيهم ما يمكن
أن يطلق عليه المقاومة السلبية، وتتمثل هذه المقاومة في عدم التعامل مع الشركات
والبضائع الإسرائيلية والغربية المناصرة لليهود، والتوجه إلى استهلاك السلع البديلة
من المنتجات المحلية أو من منتجات الدول الأقل مساندة لليهود، وتحقيق ذلك لا يتم
إلا بقيام العلماء بتوجيه الناس إلى حرمة التعامل مع اليهود والنصارى وأن من
يتعامل معهم أو يستثمر أموالهم في بلادهم أو يضعها في بنوكهم يتعتبر محارباً لله
ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(108/30)
دراسات تاريخية
أتاتورك..
حقيقته، والدور الذي أدّاه
(2 من2)
بقلم: ياسر قارئ
في الحلقة الماضية: مهّد الكاتب لموضوعه بذكر مكانة الدولة العثمانية والأوضاع في عهد السلطان عبد الحميد، ثم استعرض بداية حياة مصطفى كمال منذ نشأته، وبروزه على مسرح الأحداث، وعلاقته بالقوى الغربية وما أحدثه من تغييرات جذرية في تركيا.. ويواصل في هذه الحلقة ذكر جوانب أخرى عنه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
أعماله وتركته:
يروي أحد المقربين من مصطفى كمال (ويدعى (مفيد كانصو) ، وقد كان
يدوّن تصريحات وخلجات الغازي!) : أنه في إحدى المرات في سنة 1919م
تحدث مصطفى عن أحلامه المستقبلية، فتطرق إلى إلغاء الخلافة وإعلان
الجمهورية، ثم فَرْض السفور، وإلغاء الحروف واللغة العربية، ومنع لبس
الطربوش، إلا أن (مفيد) لم يتحمّل ذلك، وتوقف عن الكتابة في دفتر مذكراته،
وبعد الثورة سأله مصطفى كمال عن البند الذي وصل إليه وأنجزه حسبما انتهت إليه
تسجيلاته [1] ، وبناءً على شروط معاهدة لوزان السالفة الذكر، فلا غرابة أن تكون
أول أعمال الغازي! هو إقصاء الشريعة ومؤسساتها، وتنحية القانون الإسلامي عن
الساحة، وتبنى القانون المدني، ونظام التعليم العلماني، والتقويم الجريجوري
النصراني، والحروف اللاتينية؛ ليقطع الصلة بين المسلمين الأتراك وتراثهم
الثقافي، وجعل العطلة الأسبوعية يوم الأحد، كما منع ارتداء الزي الإسلامي خارج
المسجد، وأغلق جامع (آيا صوفيا) ، وجامع السلطان محمد الفاتح، ومنع الصلاة
فيهما بعد أن حولهما إلى متحفين للآثار، وفرض تلاوة القرآن باللغة التركية! ،
وكذلك الأذان، كما ألغى قوامة الرجال على النساء، وشجع العصبية القومية [2] ،
ولم يكتف بذلك، بل سمح بزواج الإخوة من الرضاعة، علماً بأنه محرم في
الدستور المدني السويسري الذي أخذ عنه! ! ، وقد علّق أحد زبانية أتاتورك على
ذلك بقوله: (لقد فقنا حتى المسيحيين) [3] ، أما الكاتب الفرنسي (موريس
برنو) في كتابه (آسيا الإسلامية) فقد سخر من جهل الغازي وسذاجته، إذ قال:
(إن القانون المدني السويسري الذي تبناه أتاتورك ناشئ عن مصدرين روماني
ونصراني، وإذا لزم أهل كل زمان التجديد بسبب عدم ملائمة القوانين القديمة، فإن
على الشعوب تغيير القوانين في كل عصر بصفة مستمرة) [4] .
من جهة أخرى: فقد أعلن الغازي على الملأ أنه عازم على قهر أولئك الفئة
المعممة الباحثين عن الديانة، وتكفل هو بتلك المهمة دون سائر رفاقه [5] ، كما
أصدر أمراً بإلغاء تعدد الزوجات، فيما فرض صلاة الذئب الأبيض (معبود
الطورانيين القدماء) على الجيش [6] ، ولقد كانت هذه التغيرات الجذرية في
المجتمع التركي من التأثير والتغريب بمكان، لدرجة أن ملك بريطانيا «جورج
السادس» أصابه الذهول مما شاهده في زيارته لتركيا بسبب فقدان المجتمع لمظهره
وكتابته ولغته ودينه؛ مما لم يحصل في مستعمراته هو [7] ، وهنا نتذكر شهادة
شيخ الإسلام (مصطفى صبري) في أتاتورك، إذ يقول: (إن الرجل مَن لا
تجد إنجلترا مثله ولو جدّت في طلبه، من حيث إنه يهدم ماديات الإسلام وأدبياته
ولا سيما أدبياته في اليوم، ما لا تهدم إنجلترا نفسها في عام، فلما ثبتت كفاءته
وقدرته من هذه الجهات: استخلفته لنفسها وانسحبت من بلادنا) [8] .
أما سلوكه الشخصي: فهو مما يندى له الجبين، لدرجة أنه فاق السلاطين
الذين زعم هو وزمرته فسقهم ومجونهم، إذ تحول قصر (جانقايا) مقر إقامته في
أنقرة إلى بؤرة للرذيلة والفساد: تزواج ما بين الشاذين جنسيّاً، واغتصاب طالبات
المدارس بعد اختطافهن، والاستمتاع بزوجات المسؤولين والتجار مقابل تلبية
طلباتهم، وتكديس القصر بالراقصات العاريات، والتحرش بأقارب السفراء، فضلاً
عن معاقرة الخمور يوميّاً، بالإضافة إلى سرقة أموال المسلمين وتبرعاتهم،
واغتصاب الأراضي الزراعية، وبيع ممتلكاته على الدولة بأضعاف ثمنها، وسلسلة
من الاغتيالات السياسية لمعارضيه، بل وبيع أذربيجان المسلمة إلى الروس [9] ،
وقد حاول إشراك شاه إيران أثناء زيارته لأنقرة في هذا الوسط العفن، فقدم له
إحدى البغايا لتلبية احتياجاته! ، فاعتذر الشاه [10] ، كما أنه أغرق ملك بريطانيا
في الخمر حتى الثمالة.
وخرج ذات يوم من أحد الفنادق وهو مخمور كعادته، وصادف وقت أذان
الفجر، فتعجب من شهرة هذا الرجل (يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-) ، إذ
جعل اسمه يتكرر في كل لحظة في العالم! ، فما كان منه إلا أن أمر بإزالة مئذنة
ذلك المسجد [11] ، وطفق بعد ذلك في نصب تماثيل له في طول البلاد وعرضها،
على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها البلاد، كما استحدث مذهباً
جديداً في الإسلام يزعم فيه بأن الإسلام دين تركي، وهو علاقة خاصة وقلبية بين
العبد وربه، ومن أجل ذلك: فينبغي استخدام اللغة الأم للإنسان، بمعنى آخر:
شرّع أداء الدعاء باللغة التركية.
هذا الرجل لم يعرف الاستقرار الأسري في طفولته، وقد لازمه هذا السلوك
طيلة حياته على الرغم من أنه تزوج بامرأة ثرية ومن أسرة عريقة، إلا أنها
انفصلت عنه بعد مدة قصيرة بسبب فسقه وفجوره، وبالذات مع خالدة أديب، وهي
من أبرز الشخصيات النسائية في (الأدب) التركي، وكان أبوها من يهود الدونمة
يعمل في قصر السلطان، وهي التي رعت تمثيل أوبرا (رعاة كنعان) في مدرسة
كانت تشرف عليها في بيروت، وكالت في تلك الحفلة المديح لليهود، كما عبّرت
عن أملها في قيام دولة لهم في فلسطين [12] ، وقد شكلت في سنة 1908م جمعية
(ترقية النساء) لمنح المرأة حرية الانتخاب والقوامة [13] ، بل قلّدها الغازي!
وزارة المعارف في فترة حكمه [14] ، وبالإضافة إلى هذه المحظية: فقد كان يتبنى
الفتيات بعد أن يستمتع بهن، ويبتعثهن إلى أوروبا لإتمام دراستهن، وقد غص
قصره بهن، إذ كانت الواحدة منهن لا تقضي معه أكثر من أسبوعين فقط [15] ،
فكم يا ترى منهن تقلدن المناصب فيما بعد؟ ، وما هي ثمار أعمالهن في المجتمع
التركي؟ .
إن الخمر التي أدمنها منذ شبابه سببت له آلاماً ما برحت تعاوده، حتى كانت
نهايته، وقد شاع عنه ذلك السلوك في سائر أنحاء البلاد، وقد كان يجاهر بذلك في
الأماكن العامة [16] ، ولم تكن تمر عليه وأصحابه وأحبابه يوم وليلة بلا مسكر،
على الرغم من أنه سنّ قانوناً يحرّم تعاطي المسكرات [17] ، وعلى الرغم من
توفر أفضل سبل الرعاية الصحية له إلا أن أحداً لم يتمكن من تشخيص علّته،
وبالتالي: علاجه، فهلك حتف أنفه يوم العاشر من أكتوبر سنة 1938م، ومن
السخف الذي رافق حقبة مرضه: أنه أمر بتكليف مختصين من القوة البحرية
بمحاربة النمل الأبيض المهاجر من الصين الذي يسبب له الأعراض التي كان يشكو
منها، بينما هي في الواقع من جرّاء إفراطه في تعاطي الخمور [18] ، فالرجل
وحاشيته من حوله يرفضون الاعتراف بالأمر الواقع والناشئ عن محادّة الله ورسوله
(عليه الصلاة والسلام) !
ومما جاء في وصيته بعد تخصيص المبالغ اللازمة لبناته بالتبني: ألا يُصلى
عليه صلاة الميت، لكن أخته توسلت إلى المسؤولين بفعل ذلك على حد قول شيخ
الإسلام مصطفى صبري [19] ، وقد تمت الصلاة في وسط حضور محدود في
قصر (دولة بانجه) بإستانبول، حيث وافته المنية في قصور السلاطين الذين أنكر
عليهم تلك الحياة المترفة! ولقد تم تحنيط جثته ووضعت في تابوت من الرصاص
على عادة النصارى، ولا يُعلم إن كان قد غُسّل وكفن أم لا، ثم نقل الجثمان في
ظل موكب مهيب من السفن الحربية للدول الأجنبية إلى مدينة أنقرة، ووضع
التابوت أمام مجلس الأمة ليمر الناس عليه ليلاً ونهاراً، وقد أوفدت بريطانيا سَرِيّة
كاملة من جنود الحرس للمشاركة [20] ، وقد صرّح خليفته وساعده الأيمن وهو
يسير خلف الجنازة بأن (حُبّه عبادة) [21] ، بينما علق مستشرق ألماني على
غياب أتاتورك قائلاً: (لقد توفي وشعبه في أمسّ الحاجة إليه، تاركاً لهم دولة
مصونة من الخارج ومزدهرة في الداخل) [22] ، ويضيف فرنسي آخر:
(استطاعت الثورة الكمالية، وبدفع من مؤسسها الملهم، الانطلاق دون مكابدة
مؤسسات فات زمانها، وقدمت للعالم صورة لبلد قادر على لعب دور نموذجي في
مجمع الأمم المتحضرة) [23] .
رفض مصطفى كمال منصب القائد العام للجيش في أول حرب بعد قرار
الاتحاديين؛ خشية إلحاق الهزيمة به شخصيّاً، ثم ما لبث أن طالب المجلس بإضفاء
لقب (غازي) عليه ومنحه مبلغ أربعة ملايين ليرة مكافأة على انتصاره [24] ،
ثم إن الجمعية الوطنية خلعت عليه لقب (أتاتورك) (أي: أبو الأتراك) ، تكريماً
له سنة 1934م بعد تصديق قانون ألقاب الأسر [25] ، ووالله لا أدري ما هو موقف
هؤلاء القوم بعد أن أصبح معروفاً للناس بأن أتاتورك استدعى سفير بريطانيا لدى
بلاده وهو على فراش الموت راجياً منه تولي مقاليد البلاد عقب وفاته، كما نشرت
ذلك جريدة (الصنداي تايمز) اللندنية، ونقلتها الأهرام المصرية في عدد 15/2/
1968م [26] ، ولا نعجب عندما يروي لنا القنصل المصري في إستانبول
(مصطفى السعدني) سنة 1952م أن أتاتورك كان يفكر جديّاً في إعلان النصرانية
ديناً للبلاد لولا تحذير أعوانه [27] ، ربما لم يعرف قدر الرجل من وسط هؤلاء
جميعاً بل وحقيقته سوى بابا الفاتيكان (جون بول الثاني) ، فعندما زار تركيا سنة
1979م صرّح قائلاً: (إني أول بابا في التاريخ ينحني باحترام أمام مقبرة
أتاتورك، فتركيا بلد له أهميته القصوى دينيّاً وتاريخيّاً) [28] ، أما اليهودي
(موئير كوهين) وهو تركي من الدونمة فقال عن أتاتورك: (إنه ليس أسطورة،
بل إنسان من لحم ودم، بل إنه فوق الإنسان!) [29] ، والعبارة الأخيرة أما أن
تكون معبرة عن عقيدة الشعب المختار التي ينتمي إليها أتاتورك، أو السلوك
الشخصي الذي سار عليه والذي وصل به إلى حد التأليه، بينما يطلع علينا مؤرخ
مسلم يزعم بأن العلمانية التي فرضها أتاتورك لم تكن تسعى إلى مقاومة الدين
بالصورة التي يشيعها أعداؤه [30] ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
الورثة وإنفاذ الوصية:
يُؤْثَر عن (ميكافيللي) في روايته الشهيرة (الأمير) قوله: (رجحان
عقل الأمير (الحاكم) وكفايته يقاسان بصفات المحيطين به، فالأمانة والكفاية والخلق
تدل على رجحان عقله، وإلاّ عكس ذلك كان الرأي في الأمير) [31] ، وباعتبار
هذه المقياس، فإن أتاتورك قد أحاط نفسه بطائفة من الإمعات والنكرات الذين لم
يجرؤوا على إخباره بحقيقة مرضه وسبل الشفاء منه، ف (عصمت إينونو)
مبعوثه الخاص إلى مؤتمر لوزان ونائبه لفترة طويلة ليس له دور قيادي في ظل
وجود ولي نعمته، لكنه كان معجباً بسيده حتى الموت، على طريقة (وزير
فرعون) ، على أي حال: فقد انتخبه المجلس الوطني الكبير لرئاسة الجمهورية،
وحكم لمدة ستة عشر عاماً (1356 1370هـ) ثم انتقل إلى صفوف المعارضة، حتى
هلك سنة 1393هـ في أنقرة [32] ، والحق يقال: إنه ظل مخلصاً لمبادئ سيده
المناهضة للإسلام، فاستمرت سياسة التضييق على دعاة الإسلام حتى عام 1369
هـ، حيث حصل بعض الانفراج برئاسة رئيس الوزراء (عدنان مندريس)
فأعيد القرآن والأذان بالعربية، وأعيد فتح المدارس الدينية، إلا أنّ الكماليين
رفضوا إشراك الدين في السياسة [33] ! ! ، وفي المقابل: نجد أن الولايات
المتحدة توجه الصفعات المتتالية للعلمانيين الأتراك، إذ رفض الكونجرس إقراض
تركيا خمسة ملايين دولار لـ (عصمت إينونو) وحكومته من أجل تطوير
الصناعة (لإبقائه عالة على صدقات الغرب) ، فيما عارض (دين أتشتسون)
وزير خارجية أمريكا دعم تركيا عسكريّاً في سنة 1946م؛ لشعوره بالقلق من
احتمال انتصار تركيا (العلمانية) على الاتحاد السوفييتي (إمبراطورية الشر) [34] ،
وبالفعل: فقد أفصحت أمريكا عن هدفها الحقيقي، وهو الاحتفاظ بإدارة الشؤون
الاقتصادية؛ بغية عرقلة وصول تركيا إلى التقدم الصناعي، والتأكيد على بقائها
دولة زراعية [35] ، وبسبب التوجه العلماني والاعتناق الشديد للمدنية الغربية،
وفي مقابل الانفتاح الاقتصادي والسياسي: تمكنت تركيا من المشاركة في المجلس
الأوروبي سنة 1949م، وحلف الأطلسي سنة 1952م، ثم الانتساب إلى السوق
الأوروبية سنة 1964م [36] .
ولا تزال القضية الأخيرة موضع أخذ ورد بين الأوروبيين، ففي نظرهم:
تركيا لا تزال دولة إسلامية على الرغم من علمانيتها المعروفة، وفي هذا الجانب
كتب رئيس تحرير صحيفة (التايمز) اللندنية معلقاً على انضمام تركيا إلى المجلس
الأوروبي: (إنه من المضحك قبول تركيا فيه، حيث لم تكن هناك خصائص
الاتحاد والتي تتمثل في التقليد المشترك والدين واللغة) ، فكان رد المندوب التركي
للمجلس هو: (إن الدين يجب ألا يؤخذ بعين الاعتبار في العلاقات الدولية، ثم إن
تركيا ليست دولة دينية؛ لأنها تبنت العلمانية منذ ربع قرن، وكذلك: فإن اللغة
التركية هي من سلالة اللغات الهنغارية والفنلندية، وعليه: فإن الأتراك يعتبرون
أنفسهم جزءاً من المدنية الغربية) [37] ، وقد مضى على إعلان الجمهورية أربعة
وسبعون عاماً، ولا تزال أوروبا ترفض انضمامها إلى كيانها الاقتصادي! .
الشعب يصحو:
نتج عن التحول الضئيل عن السياسة الكمالية عودة لمطالبة الشعب بالقوانين
الإسلامية، وبالفعل: تمكن أول نائب إسلامي وهو (نجم الدين أربكان) من
الوصول إلى منصب الرجل الثاني في الحكومة بتحالفه مع حزب الشعب ذاته الذي
أسسه أتاتورك ضمن حكومة ائتلافية، وكان ذلك سنة 1977م، إلا أن الكماليين
وبالذات العسكريين منهم لم يتحملوا هذه التحولات، فقاموا بانقلاب سنة 1400هـ
(1980م) ، وتم حل البرلمان وإلغاء الأحزاب السياسية [38] ، وقد حاكم
العسكريون (أربكان) وأعضاء حزب (السلامة) بتهمة العمل على قيام دولة
إسلامية، وتطبيق الشريعة، وافتتاح مدارس للقرآن، وإعادة فتح جامع (آيا
صوفيا) ، وتحويل العطلة إلى يوم الجمعة، وتغيير الحروف إلى العربية [39] ،
ويظهر أن العسكر قد أدركوا حجم الخطأ! الذي ارتكبه الساسة سابقاً عندما قدموا
بعض التنازلات، فبادروا هم كالعادة إلى حل المسألة!
استمرت أمريكا وحلفاؤها يرفضون مجرد انضمام تركيا لمفاوضات حلف
شمال الأطلسي؛ وذلك بسبب عدم انتمائها إلى الأسرة المسيحية الأوروبية، وعقب
انضمامها سنة 1952م قامت أمريكا ببناء مئة قاعدة عسكرية في البلاد للتنصت
على الاتحاد السوفييتي دون علم المجلس الوطني التركي، ومُنِع الأتراك من دخول
تلك القواعد بمن فيهم العسكر [40] ، وفي هذا دلالة على أن الشعور بعدم الثقة لا
يزال قائماً، في الوقت الذي قامت فيه حكومة (عدنان مندريس) وتحت إشراف
خبراء أمريكيين بتشكيل لجنة تعليمية عليا للتخلص من كل ما تبقى من الكتب
القديمة والعزيزة على الأتراك، وفتح الباب أمام منظمة (فيالق السلام) لتقوم بتغيير
أفكار المجتمع بحرية مطلقة تماماً [41] ، فيما هدد الرئيس (جونسون) حليفه
(مندريس) بأن يتركه فريسة للروس إذا غزا جزيرة قبرص، وقد فرضت حكومة
الرئيس (نيكسون) حظراً عسكريّاً على تركيا، بعدما تجاهلت التهديد السابق،
وغزت قبرص إبان تولي (أربكان) نيابة رئاسة مجلس الوزراء عام 1977 م،
ولم يرفع الحظر إلا في زمن إدارة الرئيس (كارتر) الذي شعر بخطر تغلغل
حزب (الإنقاذ الوطني) بقيادة (أربكان) في الريف التركي واستقطابه ... للشباب [42] .
الخاتمة:
بعد هذه الرحلة الطويلة عبر الماضي مع هذه الشخصية المثيرة للجدل،
نحاول استخلاص العبر والدروس مما مر معنا؛ لأن هذه هي ثمرة العلم بالتاريخ،
فالرجل المجهول الأصل والنسب الذي أراد التضحية بالحجاز حيث قبلة المسلمين
ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكي يحافظ على القدس! (وربما يفسر لنا
هذا صحة ما أشيع عن رغبته في إعلان النصرانية ديناً للبلاد) ، ثم خياناته المتتالية
للمسلمين في سورية وفلسطين والبلقان وأذربيجان، وانقلابه على السلطان (وحيد)
الذي أوفده للأناضول، ثم تجاهل الإنجليز لتسلحه وتمويله، بل واصطناع
الأحداث لجعله بطلاً قوميّاً تخضع له جماهير الشعب مثلما حصل مع اليونان في
إستانبول وتراقيا، ومروراً بتعهده بإلغاء الخلافة ونفي أسرة الخليفة، ونبذ الإسلام، وانتهاءً بإشاعة الفاحشة في أوساط المسلمين الأتراك.. كل هذه الأعمال قام بها
رجل يدّعي الإسلام، فلم يواجه من المتاعب معشار ما لاقته بريطانيا في محاولاتها
المستميتة في ثني رعاياها المسلمين عن الحماس لدينهم، وإخوانهم في أرجاء
المعمورة، فكيف تسنى له ذلك؟ ! ، وهل الكفر بالله لفظاً، أو عملاً، أو كتابة..
ينبغي أن يصدر من أناس أسماؤهم أوروبية غربية أو شرقية حتى تتحرك العواطف؟ أم أن المسلمين طالما أن القانون صدر عن شخص يحمل اسماً إسلاميّاً، فهذا
يكفيهم لقبوله وتنفيذه، أو على الأقل: عدم مقاومته وفضح خطره وخطله؟ .
عندما حكم الاتحاديون البلاد عينوا الكونت (أوستورلغ) الإيطالي مستشاراً
لوزارة العدل، لأنه أفقه أهل المدينة [43] ! ، إذ لا يوجد في إستانبول كلها عالم
بأصول الفقه مثله! ، بينما السلطان (محمد وحيد الدين) السادس يأمر قائد جيشه
بالتراجع أمام جيش الكماليين عن فرط حسن ظنه بالغازي [44] ، في الوقت الذي
سرت مقولة عند الإنجليز بأن (السلطان وحيد الدين أراد أن يكيد الإنجليز
بمصطفى كمال، فكاد الإنجليز السلطان به) [45] ، ذلك الباشا الذي يقول عنه
السلطان عبد الحميد الثاني في المرة الوحيدة التي لمحه فيها: (لم يكن يشبه
العسكريين العاديين) [46] ، فهل قصد أصله العرقي أم شخصيته الماكرة؟ ، وبعد
أن أدى واجبه: عرض عليه منصب الخلافة، فجاء رده الطبيعي: (إن الإنجليز
سوف لا يرضون عن هذا) [47] .
وإن المرء ليتملكه العجب؛ إذ كيف تنهزم دول الحلفاء المنتصرة في الحرب
العالمية الأولى أمام قائد عثماني سبق وأن انهزم أمام الإنجليز في فلسطين حينما
كانت إمكاناته أكثر وأكبر، لأنه كان يحقق أهداف إنجلترا وفرنسا في تقسيم البلاد
العربية، وحل المشكلة اليهودية على حساب العرب، وكبت الشعور الإسلامي في
الهند، وإلغاء السلطة الروحية للخلافة [48] ، لكن عودة أصول أتاتورك إلى يهود
دونمة يذهب تلك الحيرة، فتلك الفئة استمالت الضباط، وخدعت الناس بالشعارات
الطنانة، وأقحمت الدولة في حرب خاسرة، وإن العلمانيين في العالم الإسلامي مع
الأسف يفكرون بالطريقة نفسها، ويرومون تخريب البلاد كما فعل أتاتورك [49] ،
فيما يعترف أحد أساطين السياسة في زمانه وهو المستشار النمساوي (بسمارك) :
(بأن وجود السلطة العثمانية والمحافظة عليها، وإن كان فيهما كثير من المخالفة
للمدنية المسيحية، فهما خير لأوروبا) [50] ، وعلى الرغم من النظرة الطبقية
والعصبية الدينية في هذه المقولة، إلا أنها تحمل في طياتها معنًى كبيراً لا يدركه
علمانيو زماننا في انتشار التطرف والإرهاب والأصولية كما يزعمون، وهم
يشتركون مع أحد المنصرين الألمان الذي أعماه الحقد عن رؤية الحق والخير،
فدعى إلى محاربة الإسلام في عقر داره، وبالذات إستانبول حيث الخلافة [51] .
يبدو أن مشكلة العلمانيين منذ عهد أتاتورك وإلى الآن هي في مصادر تلقيهم
للمعلومات، وكما قرّر ذلك أحد المتخصصين في التاريخ العثماني بقوله: (إن
اهتمام أوروبا بالعثمانيين بدأ منذ القرن السادس عشر الميلادي، وقد تم تدريس
تاريخهم بصورة عدائية، فلما توجه أبناء المسلمين للدراسة هناك في القرن الحالي
ورثوا عن الأوروبيين عداء العثمانيين أيضاً) [52] ، وأضيف: أنهم تلقوا منهم
حتى معلوماتهم عن الإسلام وشرائعه، فضلّوا وأضلّوا، فلا بد إذن من تصحيح
مصدر التلقي عند هؤلاء، وكذلك المسلمين جميعاً؛ حتى لا نظل نوقد الشموع،
ونضطر إلى التوقف عن الحركة لمدة دقيقتين، ونصدر الصحف باللون الأسود،
حداداً على ذكرى رجال الإنجليز من العلمانيين كما يفعل الأتراك [53] ، وهو ما
تفعله تركيا في ذكرى وفاة أتاتورك من كل عام حتى الآن.
__________
(1) الرجل الصنم، ص 346 349، بتصرف.
(2) علي حسّون، تاريخ الدولة العثمانية، ص 328.
(3) الرجل الصنم، ص 329.
(4) حسّون، مصدر سابق، ص 333.
(5) الأسرار الخفية، د مصطفى حلمي، ص 238.
(6) المصدر نفسه، ص 251.
(7) الرجل الصنم، ص 443.
(8) الأسرار الخفية، ص 327.
(9) الرجل الصنم، ص 363 434، بتصرف.
(10) المصدر السابق، ص 441.
(11) المصدر نفسه، ص 465.
(12) العثمانيون في التاريخ والحضارة، د محمد حرب، ص 87.
(13) مانتران، تاريخ الدولة العثمانية، ج2، ص 255.
(14) تركيا وحلف شمال الأطلسي، د أحمد النعمي، ص 31.
(15) الرجل الصنم، انظر: الفصل السابع كاملاً.
(16) الرجل الصنم، ص 381.
(17) الأسرار الخفية، ص 163.
(18) الرجل الصنم، ص 512.
(19) محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 752.
(20) الرجل الصنم، ص 529 536، بتصرف.
(21) الرجل الصنم، ص 544.
(22) بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 710.
(23) مانتران، مصدر سابق، ص 347.
(24) الرجل الصنم، ص 242.
(25) بروكلمان، مصدر سابق، ص 703.
(26) الأسرار الخفية، ص 17.
(27) المصدر نفسه، ص 164.
(28) العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص 20.
(29) المصدر نفسه، ص 95.
(30) في أصول العثمانيين، أحمد مصطفى، ص 315.
(31) الشناوي، ص 312.
(32) حسّون، ص 334.
(33) حسّون، ص 337.
(34) تركيا وحلف شمال الأطلسي، ص 71.
(35) المصدر نفسه، ص 89.
(36) المصدر نفسه، ص 113.
(37) المصدر نفسه، ص 115.
(38) حسّون، ص 345.
(39) المصدر نفسه، ص 352.
(40) تركيا وحلف شمال الأطلسي، ص 147.
(41) المصدر نفسه، ص 162.
(42) المصدر السابق، ص 360.
(43) الأسرار الخفية، ص 183.
(44) الرجل الصنم، ص 261.
(45) محمد فريد، ص 750.
(46) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص 261.
(47) الرجل الصنم، ص 541.
(48) محمد فريد، ص 764.
(49) التعصب الأوروبي أم التعصب الإسلامي، ص 253.
(50) المصدر السابق، ص 159.
(51) حسّون، ص 328.
(52) العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص3.
(53) الرجل الصنم، ص 541.(108/34)
بأقلامهن
بارك الله لكِ
بقلم:نجوى الدمياطي
ابنتي الحبيبة.. هذه الكلمات هي هديتي لكِ في يوم من أجمل أيام العمر الذي
تحلم به كل فتاة، إذ هو سنة الحياة، وحكمة الله (تعالى) في بقاء النوع الإنساني وبناء الرابطة الزوجية على المحبة والمودة.. إنه يوم بنائك (بيت الدعوة) .. وهي هدية أرجو الله (عز وجل) أن يكون قبولك لها قبول استجابة وعمل، يحقق لكِ به الحياة الطيبة والسعادة الدائمة، ويرزقك الله بها السكينة والمودة والرحمة التي أرادها الله لعباده من الزواج.. فليس هناك حياة أسعد وأقر من حياة تُبْنى على الإسلام، وتضبط علاقاتها شريعة السماء..
ابنتي الحبيبة..
إن غايتك في الحياة هي رضا الله، ووسيلتك إلى هذه الغاية هي (توحيد
المشرّع ومتابعة رسوله المبلغ) ، وهذا يعني: أن تقبلي شرع الله وترفضي كل
شرع سواه، وتكون كل خطوات حياتك تبعاً لرسول الله..
ولقد رغّب الله في الزواج، وأخبر أنه من آياته (سبحانه) : [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً] [الروم: 21] ، وقال (سبحانه) في وصف رسله: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ
أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً] [الرعد: 38] ، بل مدح الله أولياءه بسؤال ذلك في دعائهم: ... [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ] [الفرقان: 74] .
كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغّب في الزواج، وجعله من
سننه، فقال: (النكاح سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني ... ) [1] ، وقال:
(من رغب عن سنتي فليس مني) [2] .
ومن هنا ابنتي الحبيبة: فإن زواجك قبول لشرع الله، ومتابعة لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، وممارسة لعبادة الله في الزواج، وعبادته في الإنسال،
وعبادته في إقامة الحياة وفق شريعته ودينه.
ابنتي الحبيبة:
إذا كان واجب العبودية لله هو أول واجباتك، فإن أهم واجباتك بعده: أن
تكوني سنداً لزوجك وسكنا له، كما أمر ربك: [هُوَ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا] [الأعراف: 189] .
فكوني ابنتي سنداً لزوجك: بعونه على أداء رسالته التي حُمِّلها في الحياة،
واجعلي سكنه إليك دافعاً لانطلاقته القوية فيها، واعلمي ابنتي الغالية أن المرأة إذا
تزوجت كان زوجها أَمْلَك لها من أبويها، وكانت طاعة زوجها أوجب.. وهذه
عائشة (رضي الله عنها) حين يخبرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقول لها:
(إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك) ، فتقول (رضي
الله عنها) :.. ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار ... الآخرة) [3] .
فاجعلي يا ابنتي الحبيبة عائشة (رضي الله عنها) قدوتك، واعلمي أن طاعتك
لزوجك هي طاعة لله وقربة إليه، تعتزين بها وتحرصين عليها؛ لأن مما تحرص
عليه المرأة الصالحة: ما أخبر به رسول الله: (إذا صلت المرأة خَمسها،
وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من
أي أبواب الجنة شئتِ) [4] .
ابنتي الحبيبة:
اعلمي أنه كما أن من صفات الزوجة الصالحة: أنها إن (أمرها زوجها
أطاعته) ، فإن من صفاتها أيضاً: أنها (إن نظر إليها سرّته) .. فاحرصي أن
تكوني لزوجك (تحقيق السرور) ، واعملي على أن يراك (شريك الحياة)
جميلة دائماً، وتزيني الزينة المباحة، فلك لبس الحرير والذهب، قال: (حُرّم
لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم) رواه الترمذي [5] ، ولكِ
لبس الفضة وأنواع الجواهر.. كما أن من الزينة المباحة: وضع الطيب والكحل
واستعمال الحناء..
ومما يحرم من ذلك: ما يمنع نفوذ الماء إلى مواضع الوضوء، من الأصباغ
وطلاء الأظافر.. فاحذريها يا ابنتي، واحذري كل زينة محرمة، مثل: وصل
الشعر، وما يسمى (الباروكة) ، أو الوشم، أو النمص، أو تفليج الأسنان..
فكل ذلك محرّم، توعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلته بسوء العقاب،
فقال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) [6] ، كما لعن
رسول الله: (المتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله) [7] ..
فكل ذلك حرام، سواء أصُنع بإذن الزوج أو بغير إذنه، ذلك أن الزوج لا يحل
حراماً.
ابنتي الغالية..
إن بيتك هو المكان الذي تجدين فيه حقيقة نفسك، وتدركين فيه عظمة دورك.. فليس هناك سكن إلا أن توجِده امرأة بإذن الله، ولا يكون له عطر إلا أن تطلقه
زوجة، ولا يشع فيه حنان إلا أن تتولاه أم، ولذلك كان أمر الله: [وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ] [الأحزاب: 33] ، وهو أمر لا يعني ملازمة البيوت وعدم الخروج منها
مطلقاً، وإنما يعني أن يكون البيت هو الأصل، والخروج هو الاستثناء الطارئ.
فاجعلي ابنتي بيتك هو أصل حياتك، ولا تغادريه إلا لحاجة، فإذا خرجتِ فلا
يكون ذلك إلا بإذن زوجك، فإذا إذن لك الزوج بالخروج، فليكن لباسك (الحجاب
الشرعي) الذي يستوعب جميع بدنك، ولا يصف جسمك، ولا يشف عنه،
واحذري أن يكون به طيب أو يكون ثوب شهرة، أو أن يحتوي على صور لما فيه
روح أو صور صلبان، واحرصي ألا يشبه لباس الكافرات أو لباس الرجال.. فإذا
خرجت إلى الشارع فلا تستعطري؛ فإنه محرّم، وليكن مشيْك مهذباً يحفظ عليك
وقارك ودينك..
ابنتي الحبيبة..
إن الإنسان مدنيّ بالطبع، يحب أن يعيش مع الناس وفي قلب مجتمع،
فاحذري ابنتي الوقوع في شبكة العلاقات الاجتماعية المزيفة التي لا تكترث
بالمعاصي ولا تصغي إلا للشيطان، واجعلي علاقاتك الاجتماعية على أساس من
الإسلام وفي دائرة الاهتمامات الإسلامية..
واجعلي لك صحبة طاهرة من صواحب القلوب المؤمنة والنفوس المجاهدة،
كما أوصانا ربنا (عز وجل) : [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً] [الكهف: 28] .
وحاولي ابنتي أن يكون لك دور في توعية صاحباتك، واجعلي لهن جلسة
تحاولين فيها معاً التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والارتقاء فكريّاً وأخلاقيّاً عبر
التعلم والتحاور.. واعلمي ابنتي أن جماع الخير في الحوار قد ذكره النبي -صلى
الله عليه وسلم- في أربعة أحاديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل
خيراً أو ليصمت) [8] ، وقوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) [9]
وقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [10] ، وقوله:
(لا تغضب) [11] .
واعلمي ابنتي أن المرأة والرجل أمام مسؤولية الدعوة إلى الله سواء، قال
(عز وجل) : [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [التوبة: 71] .. فأنت ابنتي الحبيبة الشق الآخر لزوجك،
تقفين على ثغر من ثغور الإسلام يناسبك ويحقق هدف الدعوة.. بل إن قيامك
بالدعوة إلى الله يجعلك لوناً منسجماً مع صبغة حياتك، مع زوجك، ويفجر ينبوعاً
للحب لا يجف بينك وبينه..
ابنتي الحبيبة..
إن للمرأة دور الأم الذي يربطها بالبيت، ولها دور الزوجة الذي يعطي لبيتها
الشأن الأكبر في حياتها.. ولكن لها دوراً أيضاً في مجتمعها الذي تعيش فيه صاحبة
فكرة وحاملة رسالة، تعمل من أجل تغيير الواقع الفاسد، ليكون واقعاً إسلاميّاً
صالحاً..
فكوني ابنتي زهرة المجتمع الذي تعيشين فيه، فلا يسمع منك إلا أطيب الكلام، ولا يرى منك إلا أحسن الفعال..
فإذا شعرت بغربتك بين نساء عصرك: فاقتدي بالصحابيات الجليلات خديجة، وعائشة، وأسماء ...
واذكري كيف كانت خديجة صورة للزوجة المجاهدة بالنفس والمال..
وتأملي كيف كانت أسماء صورة أخرى للزوجة المؤمنة المجاهدة مع بطلها
الزبير، وقولي كما قالت: (إن جنتي في إيماني، وإن إيماني في قلبي، وإن
قلبي ليس لأحد عليه سلطان إلا الله) .
ابنتي الحبيبة..
لقد نشأ بيتك ببذرة الحب التي وضعها الله في قلبك وقلب زوجك، ونسمة
المودة والرحمة التي جعلها (سبحانه) بينكما.. فحافظي على هذا البيت، واجعلي
الحب والصفاء في القلب والنفس هتما أساسه الذي يقوم عليه، وكوني لزوجك سكناً
وسنداً: تعيشين همه وتحفظين سره، تهتمين بما يحمل بين جنبيه من نفس، وليس
بما يحمل بين يديه من نفيس.. تساهمين معه في الدعوة إلى الله، وتعملين معه
على إزالة غربة الإسلام، وقد أوصى بذلك قدوتنا، فقال: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ ، قال:
الذين يصلحون إذا فسد الناس) [12] .
أسأل الله لكِ التوفيق والبركة.. و.. بارك الله لكِ،،
__________
(1) أخرجه ابن ماجة، ح1846، وانظر صحيح سنن ابن ماجة، ح /1496.
(2) أخرجه البخاري، ومسلم، ح/1401.
(3) أخرجه البخاري، ج6، ص 23.
(4) انظر صحيح الجامع، ح/660، وعزاه لابن حبان.
(5) ح/1720، وانظر صحيح الجامع، ح/3137.
(6) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب وصل الشعر 83، ج7، ص62.
(7) أخرجه البخاري، ج7، ص 62.
(8) أخرجه مسلم، ح/48 مكرر، ص 1352.
(9) أخرجه ابن ماجة، ح/3976، وانظر صحيح سنن ابن ماجة، ح/3211.
(10) أخرجه مسلم، ح/45.
(11) أخرجه البخاري، ج7، ص 99.
(12) أخرجه الترمذي، واللفظ له، ومسلم، بدون زيادة: قيل، وابن ماجة، وأحمد ابن حنبل، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، ح/ 1273.(108/46)
نص شعري
نفق السلام
شعر: فيصل بن محمد الحجي
مابال قلبكَ لايذوق مشاعري ... فلي العنا..ولك ارتياح الخاطرِ؟
لو ذاقها لشكا..ومِن همٍّ بكى ... كبكاء ثكلى في ظلام غابرِ
لِمَ لا يذوق؟ ألا يُحرِّكهُ الذي ... يجري؟ ألا يُضنيه جَوْرُ الجائِرِ؟
شتان بين ملازم الدرب ... القويم ومَن يسير على الطريق الدائري
ليدورَ ما دار الهوى ... ويعيش في ... بُعد ٍعن الإحساس بُعد َ مُهَاجرِ
أو لا ترى صهيون جاوز حدّه ... ويُذلَ أهلي في عداءٍ سافرِ؟
أرأيت أقزام اليهود تعملقوا ... واستهزؤوا بعقيدتي وشعائري؟
سرتم بأنفاق السلام..فما الجدا ... إلا المذلة مِن حقود ماكرِ؟
نَفَقُ السلام أبٌ.. ومن أبنائه ... نفقٌ رمى الأقصى بجرحٍ غائرِ
نفق تخفى النفاق..وغاص في ... قلب السلام..فأين عين الناظرِ؟
قد أثخنوا القدسَ الأسيرَ وأوغلوا ... فيها بأنفاقٍ لهم وحفائرِ
والمسجد الأقصى وَهَت أركانهُ ... وأخاف أن يلقى مصير (البابري)
وهل استفاد (البابري) من الألى ... جُنّوا احتجاجاً..في ادعاءٍ خائرِ؟
إلا نقيقَ (ضفَيدعٍ) كتبوا له ... أن يُتَقِنَ التزويرَ فوق منابري؟
وتكاد تحسبه زئيرَ ضياغمٍ ... وَثَبَتْ لتفتكَ بالعدوِّ الغادرِ
وتراه إن ظهر العدو كأنه ... (فتخاء تنفر من صفير الصافرِ)
(حجَاجُ) هذا العصر أقسى خطة ... فينا..وألطفُ بالعدوِّ الكافرِ
سَقَطَاتُه طَمَسَتْ خطايا جدِّهِ ... (الحجّاج) ..بل لاحتْ لنا كمفاخرِ
أين الهداية في الدجا ودليلنا ... يرجو الهداية من ضلال (السامري) ؟
يا قدس والأشواق تعصف في دمي ... كيف الوصول إلى جوار مُحاصَرِ؟
يا مَن إلهُ الكونِ بارك حولها ... ليفوز زائرها بحظٍ وافرِ
وإليكِ أسري بالنبي محمدٍ ... ليلاً.. ليعرج للقاء النادرِ
وإليكِ حجّ الأنبياءُ.. فكلهم ... يتزاحمون على البساط الطاهرِ
يا مَن رضعتُ مع الحليب ودادها ... وكتبتُ قصة حبها بدفاتري
زيّنتُ أشعاري بها ولأجلها ... رصّعت بالحرف المضيء بشائري
أنا لا أخاف من اليهود.. ولا الذي ... خلف اليهود..فإن ربي ناصري
لكنني أخشى تمزّقَ صَفِّنا.. ... وفساد أنفسنا..وظُلْمَ الآمرِ
أخشى المعاصيَ أن تخلِّفنا بلا ... نصرٍ..من الله المعين الناصرِ
أخشى تزاحمَنا على الدنيا التي ... كم أهلكتْ في غابر أو حاضرِ؟
أخشى تبلّدنا.. تقاعُسَنا. . تغافُلَنا ... فلم نعبأ بسيل مخاطرِ
والقلبُ يشوي في لظى آلامه ... شيّ الأسير على سياط الآسرِ
وتضج في قلبي المنى.. وتُحيلني ... سُحُبُ الرؤى ليثاً بهيئة طائرِ
لو أن بعضاً من رؤاي تحققتْ ... وغدوتُ ممتلئاً بعزمٍ ساحرِ
لقطعتْ رأسَ خِواننا بقواطعي ... وحفرتُ قبرَ هواننا بأظافري
يا فتية الأمل الوضيءِ توحّدوا ... وتيقظوا من خائن متآمرِ
وخذوا الحذارَ من الأعادي مرةً ... وخذوه دوماً من صديق غادرِ
لا يخدعنكم ادعاء مراوغٍ ... يزهو بألقاب العظيم الثائرِ
فالخزي قد يأتي لكم من ناصر ... والعسر قد يأتي لكم من ياسرِ ...
شتان بين فؤاد من خاض الوغى ... ينوي الفداءَ..وبين قلب التاجرِ ...
جَزِعٌ إذا زأر العدو مهدداً ... ولذا يُبَالغُ في احترام الزائرِ
ويجود من خيرات أمتنا التي ... تحيا بلا أمنٍ..بقدرة قادر
الله أكرمكم وبارك حملَكم ... علمَ الجهاد..على الطريق العاطرِ
يا للجمال..وزحف أمتنا مضى ... والحقّ يصرُخُ: يا كتائب بادري
وصواعق التكبير فيها تمتطي ... موج الصهيل إلى اللقاء الظافرِ
ومناجل الأبطال تحصد في الوغى ... الأش واكَ..أشواكَ الضلال الداعرِ
وطلائع الصبح المنير تعيد ... لي أمجادَ أبائي..كأمسي الدابرِ
آن الأوان لكي أعيشَ مكرّماً ... وتفيضَ بالخير العميم بيادري
هذا الجهاد طبيبُ أمتنا التي ... مرضتْ بفعل تخاذلٍ وتناحرِ
صلّت قوافي الشعر في محرابه ... دوماً وصامت عن سلام خاسرِ
أنا شاعر ما دمتُ تحت لوائه ... فإذا نأى عني فلستُ بشاعر(108/51)
المسلمون والعالم
بعدما انفض السامر
هل ينصَّب (رئيس) للعالم؟ !
بقلم: عبد العزيز كامل
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة
العالم، راق لبعض المراقبين أن يطلق على وزير خارجيتها آنذاك «بيكر» لقب:
«وزير خارجية العالم» ... في إشارة إلى أن رئيس أمريكا من الآن فصاعداً هو
رئيس العالم! ، وقد أصبحت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة تشعر أنها
القوة المسيطرة الرئيسة في أكثر الأماكن حيوية في العالم.
وهذا الشعور لا يتأتي من فراغ، فالعلو الأمريكي في ارتفاع مطّرد، يزيده
ارتفاعاً ذلك الاقتصاد العملاق الذي يقوم عليه هذا الكيان الضخم، وهو اقتصاد
يعتمد في جزء كبير منه على إخضاع اقتصاد العالم واستغلاله.
لقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية مؤسسة اقتصادية ضخمة، أو شركات
اقتصادية متعددة لها مدير واحد، هو رئيس الولايات المتحدة.
فمن هو ذلك الرجل الذي يمكنه أن يتسنم ذلك المنصب الأول في العالم..؟ ،
لقد بات معروفاً للجميع منذ الانتخابات الأمريكية لعام 1976م وحتى الآن: أنه
سيفوز لذلك المنصب كل مرشح يملك تحت تصرفه أكبر قدر من الأموال التي
يسخرها لدعايته الانتخابية، فمفتاح النصر هو توفر أكبر قدر من المال لدى
المرشح في وقت مبكر.
إن من المسلمات الآن: أن الرئيس الأمريكي المرشح للفوز، هو: ذلك
الرجل القادر على تمثيلٍ أكبر لمصالح من انتخبوه ... أو بتعبير أدق: من موّلوه ... ! فمن هؤلاء الممولون؟ ومن أولئك الذين لهم مصالح في التمويل؟ !
إن من البدهي أن تتجه الأنظار أولاً إلى عُبّاد المال؛ أولئك الذين عبدوا
العجل الذهبي يوماً، ثم أصبحوا عبدة الدرهم والدينار، وهم اليوم عبدة الإسترليني
والدولار ...
إنهم يهود الذين يسهمون بثلث تمويل الحملات الانتخابية الأمريكية، إلى
جانب نشاطهم الحزبي في الانتخابات، وسط صراع محموم لدفع رجل معين
للمقدمة، لقاء صفقة مقايضة مريبة.
لقد غدت الانتخابات الأمريكية بشكل عملي مزاداً هائلاً، تتنافس فيه الشركات
الكبيرة وتنفق عليه الأموال بلا حساب؛ لتؤثر في سير الانتخابات، وإيصال
الشخص المطلوب إلى كرسي الرئاسة، وتتم الصفقة عبر خيوط خفية تربط بين
المرشح الذي ينفق مئات الملايين على الدعاية الانتخابية، وبين الجهات التي تسعى
لتأمين تلك الأموال له.
لقد تم التبرع لتنصيب «كلينتون» في ولايته الأولى بنفقات تفوق الإنفاق
على أي حدث سابق مشابه، وقد بلغ الإنفاق على حملته الأولى مبلغ (32) مليون
دولار، كان أصحابها من الماليين الكبار هم الناخبون الحقيقيون، وتلقى الحزب
الديمقراطي في الانتخابات التالية (70) مليون دولار تبرعات في عام واحد، أما
الشعب الأمريكي: فهو ليس صاحب الكلمة الأولى كما يُظن في المجيء بالرئيس أو
النواب، فالحقائق تقول: إن (85) مليون أمريكي ممن لهم حق التصويت لم يدلوا
بأصواتهم في انتخابات عام 1992م التي جاءت بكلينتون للمرة الأولى، في حين
أن (114) مليون ناخب أمريكي لم يدلوا بأصواتهم في الانتخابات التشريعية التالية.
أما الأمريكيون اليهود: فإنهم يقفون صفّاً خلف مجموعات الضغط اليهودية
(اللوبي) ممثلاً في منظمة (إيباك) وغيرها، وهذه المنظمة، ليست سوى فريق عمل
تحركه «المنظمة الصهيونية العالمية» و ... حكومة إسرائيل، فقد كان يطلق
على هذه المجموعة حتى وقت قريب: مجموعة رابين! .
والأرقام تشير إلى أن «كلينتون» حصل في الدورة السابقة على 80% من
أصوات الجالية اليهودية المقدر عددها بـ (5. 8) مليون نسمة، ولقد كررت هذه
الجالية تأييدها له في هذه المرة بنسبة مماثلة، لقد تقاضى «بيل كلينتون» من
اليهود: السلعة (الأصوات والتبرعات) ، وسيدفع الثمن كما دفعه أول مرة، فقبل
بدء الانتخابات قدّر المراقبون أن كل مرشح سيحتاج إلى نحو (20) مليون دولار
في عام 1995م وحده، ليتمكن من شن حملة قابلة للاستمرار، والمرشح سيضطر
للظهور في (200 250) احتفال لجمع التبرعات خلال العام نفسه، وعلى هذا:
سيحتاج إلى قضاء 80 %على الأقل من وقته في حفلات جمع التبرعات!
فهل هناك فريق منظم ومتجانس وقوى يمكن الاعتماد عليه في هذا أكثر من
اليهود؟ .. بالطبع لا ... ولهذا انطلق «كلينتون» وراءهم بلا تردد، فقد تعلم من
الانتخابات السابقة أن اليهود هم الأمل والرجاء لكل من أراد سكنى البيت الأبيض.
جمع «كلينتون» بمساعدة اليهود في عام 1991م الذي سبق انتخابه للمرة
الأولى مبلغ (3. 3) مليون دولار، أما في عام 1995م: فكان عليه أن يجمع
أضعاف هذا المبلغ؛ لأن ثلاثة من المرشحين الجمهوريين المنافسين قد جمع كل
واحد منهم أكثر من ضعف ذلك المبلغ في الربع الأول من عام 1995م، لقد بدأت
حملة إعادة انتخاب كلينتون بقوة دفع على جميع المحاور وفي جميع الاتجاهات
وسط أبواق الدعاية اليهودية، بدءاً من المساعدة بريع الأغنية، وانتهاء بثمن الدبابة
والبندقية.
وقد دشنت الممثلة اليهودية «بربارة سترايسند» مع (20) شخصية فنية
حملة التبرعات لحزب كلينتون، وخصصت ريع الحفل الذي بلغ (3. 5) مليون
دولار لصندوق تمويل الحملة الانتخابية، وتقول الإحصاءات: إنه ما بين عامي
1994م و 1995م، قدمت ثلاث عشرة شركة لصناعة الأسلحة يملك اليهود أكثرها
حصيلة مبيعاتها من الأسلحة للحزب الديمقراطي على شكل تبرعات.
واليهود هم اليهود، إنهم لايساندون كلينتون ولا غيره حبّاً في زرقة عيونهم أو
رغبة في الدعوة لدينهم، بل إنهم لا يدفعون دولاراً من المال إلا وهم يؤملون من
ورائه قنطاراً من المنافع.
لقد أدرك كلينتون في الفترة الرئاسية الأولى مسؤوليته تجاه من جاؤوا به إلى
السلطة، وأدرك أيضاً أنه بحاجة إليهم بعد فوزه أكثر من حاجته إليهم قبل الفوز؛
فإن تحقيق برنامجه الانتخابي الأول كان مرهوناً باستمرار بوقوف هؤلاء بجانبه،
ولهذا أفلتت منه كلمات بعد الفوز الأول فقال متبرماً في إحدى المقابلات: «هل
يعني ذلك أن نجاح برنامجي الانتخابي، وبالتالي إعادة انتخابي لفترة ثانية، يعتمد
على حفنة من التجار في سوق الأوراق المالية ... ؟ !» .
إن الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» مدين إذن لليهود، بل غارق في
المديونية لهم، وعليه أن يسدد الدين ويرد الجميل مرتين، وقد كان عند وعده لهم،
وكانوا على عهدهم به، فهو كما يقول المراقبون من أكثر الرؤساء الأمريكيين
مسارعة إلى إرضاء يهود، بدءاً من كثرة ترديده للتصريحات المؤيدة لهم
والقرارات الداعمة لمطالبهم، ومروراً بكثرة ترداده لزيارة كيانهم، وانتهاء بتبنيه
لوجهات نظرهم، بل تصديه لفرضها، والدفاع عنها، وقد جاء في برنامجه ...
الانتخابي لعام 1992م، أن زعامة الحزب الديمقراطي تعتبر القدس عاصمة لهم،
وينبغي أن تظل هكذا مدينة موحدة كما هو موقفهم.
وبالغت إدارة كلينتون في تأييدها لدرجة أنها اقترحت إنشاء حلف عسكري
أمريكي إسرائيلي معلن ورسمي! .
أما في برنامجه الانتخابي لعام 1996م، فقد اختفت جميع الوعود البراقة فيما
يتعلق بعملية السلام على أساس مبادلة الأرض بالسلام، وحل محلها تبنى الرؤية
الإسرائيلية الجديدة لسير العملية، وهي ربط السلام بالأمن.
وماذا للعرب:
أما بالنسبة للعرب والمسلمين (وما أهونهم على صنائع اليهود) : فإن البرنامج
الانتخابي لكلينتون في فترة رئاسته الثانية قد أكد على ضرورة دعم العلاقات مع
الدول العربية والإسلامية، شريطة أن تبدي استعداداً للتعايش السلمى وخوض
عملية السلام إلى نهايتها.
وأما القضية الفلسطينية بوجه خاص: فلم تكن في يوم من الأيام موضوعاً
رئيساً في الانتخابات الأمريكية، ومع هذا: لا يزال العرب يتوارثون الوهم بأن
(تضغط) الإدارة الجديدة على دولة يهود لصالحهم.
والآن، وبعد أن أعيد انتخاب كلينتون، فإن العرب يجددون الوهم في هذا
(الضغط) ، والعجيب: أنهم في الوقت الذي يطالبون فيه أمريكا بالضغط، يقومون
هم بإفساح المجال للدولة العدو لكي تدخل ضمن نسيج المنطقة، وذلك بإشراكها في
المؤتمر الاقتصادي الثالث لدول الشرق الأوسط، أما أمريكا المطالبة بالضغط على
دولة يهود: فقد صرح وزير خارجيتها في مناسبة انعقاد المؤتمر بأنه لا يمكن فصل
الاقتصاد عن السياسة، وفي هذا إشارة إلى أنه يجب على العرب أن يثبِّتوا إقبالهم
على السلام اقتصاديّاً، كما أجمعوا على قبوله سياسيّاً.
إن عملية السلام في ظل الإدارة الأمريكية قد تستمر؛ لأن استمرارها هو
لصالح يهود ولو مرحليّاً، ولكن في أي اتجاه يمكن أن تستمر، إنها ومنذ أن بدأت
لا تتقدم خطوة إلا على إيقاعات رتيبة من الضغوط الأمريكية والتنازلات العربية،
ولكن الجديد المنتظر في سيرها اليوم هو: التوجه المتزايد لدى اليهود نحو الطموح
للقيام بدور القيادة والتحكم في المنطقة عبر «حرب سلمية» قد لا تخلو من حروب
تأديبية أو توسعية، وقد تطور هذا الطموح الجموح إلى حدٍّ حدا باليهودي المخضرم
«هنري كيسنجر» أن يطالب الأنظمة العربية بحماية إسرائيل (مِنْ مَنْ ... ؟ !)
من المعارضين للسلام من منطلقات إسلامية.
إن العرب اليوم لا يُحسدون على أحوالهم، فهم مقبلون على مرحلة حرجة
وغامضة، وهم يضربون أخماساً في أسداس لما يمكن أن تكون عليه الحال في
المستقبل المجهول إذا أمعن (الراعي) لعملية السلام في تسليط الذئب على الغنم!
إن سنة الله (تعالى) في إذلال من تخلى عن أمانة حمل الدين لتصدق اليوم
وتتجسد في واقع أحوال العرب والمسلمين، حيث ذلوا وما زالوا يُستذلون للأمة ... «الملعونة» ، ببعدهم عن الدين، وصدق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : ... «إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله: أذلنا الله» [1] .
أما أولئك السادرون في العتو والعلو من اليهود وأوليائهم النصارى، فلا نشك
في أن علوهم الكبير سوف يعقبه انخفاض كسير؛ لأن هذه أيضاً سنة من سنن الله
(تعالى) ، التي عبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «حقّ على الله:
أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» [2] .
إن هذه سنة ربانية قادمة لا شك فيها، وقد بدأت أولى أماراتها بالنسبة
للأمريكان بتفردهم بقيادة العالم، فليس بعد هذا علو، أما اليهود: فقد لاحت بوادر
هذه السنة لهم، فهم يرون أنفسهم قد اقتربوا جدّاً من مرحلة القدرة على تنصيب ملك
يهودي يحكم العالم (كما يحلمون) ، ولكنهم الآن يكتفون باحتكارهم القدرة على
تنصيب ... رئيس العالم!
__________
(1) الأثر أخرجه الحاكم في المستدرك، ك/ الإيمان، 1/62، وقال صحيح عى شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه البخاري: ك/الجهاد والسير، ب/59، ح/2872، فتح الباري (6/86) .(108/54)
المسلمون والعالم
مؤتمر..
(مسلمون ومسيحيون من أجل القدس)
عرض وتقويم
بقلم: صفوت وصفي
كانت القدس إسلامية منذ فتحها المسلمون في عهد الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) ، وحتى عصر السقوط العربي، حين استولى يهود
عليها عامي 1948م، 1967م، عدا فترة الاحتلال الصليبي التي أنهاها القائد
المسلم «صلاح الدين الأيوبي» بتحريرها.
ولا شك أن كل عمل ينطلق من الرغبة في استعادة الأرض المحتلة مطلوب،
ولا سيما في عصورنا المتأخرة التي اشتبكت فيها المصالح، واستطاع (إخوان
القردة والخنازير) أن يوطدوا أقدامهم فيما احتلوه من الأراضي العربية، واستطاعوا
بكل الوسائل الشيطانية أن يغروا الدول والشعوب بتأييدهم، وبخاصة الدول الغربية
وبمكر منقطع النظير مدعين أحقيتهم الكاذبة في أرض الميعاد بزعمهم، بعدما زيفوا
التاريخ ليوافق مزاعمهم في الأرض المحتلة، ولا عجب، فقد زيفوا حتى كتبهم
المقدسة.
لقد تم عقد مؤتمر (مسلمون ومسيحيون من أجل القدس) في بيروت بلبنان في
الفترة من 14 إلى 16 يونية 1996م بدعوة من مجلس كنائس الشرق الأوسط،
والفريق العربي للحوار المسيحي/الإسلامي، وقيادات إسلامية ومسيحية.. بهدف
تبليغ العالم بموقف الجميع حيال مدينة القدس، واحتلالها من العدو الصهيوني.
المؤتمر: إيجابيات وسلبيات:
وحتى نكون موضوعيين في الموقف من هذا المؤتمر وأمثاله فلا بد من قول
الحق، وإن كنا نختلف مع الداعين لهذا المؤتمر في المنهج والمنطلقات، فلقد علّمَنا
ديننا الإنصاف بقوله (تعالى) : [وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [المائدة: 8] ، فمما يحسب للمؤتمر ما يلي:
1- ما ذكره المؤتمرون من أن القدس مأسورة باحتلالها من الصهاينة، ولا بد
من عودتها إلى جسم فلسطين.
2- لا يوجد سلطة في العالم لها حق تهويد القدس أو تدويلها أو نزع صفتها
الأساسية.
3- دعوة المنظمات والهيئات الإسلامية والمسيحية بأن يكون شغلها الشاغل
تحرير القدس، وأن تصرف له كل جهد ودعم.
4- دعوة المسلمين والمسيحيين معاً للوقوف إلى جانب الحقوق الفلسطينية
المشروعة.
5- دعوة الدول العربية والسلطة الفلسطينية لتوحيد موقفها من قضية القدس،
باعتبارها أمانة في أعناق الجميع، لتعود لعروبتها و (التعددية الدينية) !
6- على (إسرائيل) باعتبارها (سلطة محتلة) أن تكف عن أي إجراء من شأنه
إغلاق القدس أمام أبنائها وكل أبناء الشعب الفلسطيني و (المؤمنين) كافة، والتوقف
عن أي تدبير يؤدي إلى تبديل وجه القدس في سكانها وجغرافيتها.
7- عدم الاعتراف بشرعية أي ممثلية أو بعثة أجنبية لدى (إسرائيل) تتخذ من
القدس مقرّاً لها، وإن حصل هذا: فيعتبر عملاً عدائيّاً عند الجميع.
ولا ندري ما هو الإجراء العملي الذي اتخذه المؤتمرون ولاسيما النصارى
منهم بالتنسيق مع بني ملتهم من نصارى الغرب، وكيف السبيل إلى كشف خطر
الاتجاهات الصهيونية لدى فئات من النصارى أصبحوا أنصاراً لـ (يهود) ، بل
وصهاينة أكثر منهم.
السلبيات في مثل هذا المؤتمر:
1- إن تلك التجمعات التي دعت له، زيادة على منطلقاتها الكنسية والقومية،
إلا إنها تتبنى أطاريح مشبوهة، مثل: (التعددية الدينية) ، و (الحوار
الإسلامي/المسيحي) ، الذي عادة ما يكون لصالح النصرانية والتنصير على حساب
الإسلام، ولا يهمهم حكم الإسلام في هذه المواضيع الذي سنراه مبسوطاً إن شاء الله.
2- إن ما يطرح في مثل هذا المؤتمر من أفكار وجيهة هي في نظري ليست
سوى هالات إعلامية ليس إلا، فالعلاقة بين اليهود والنصارى وثيقة، توضحها
الصلات الحميمة بين دول الغرب النصرانية عامة والكيان الصهيوني.
3- وموقف الإنجيل من اليهود صريح جدّاً، كما سيتبين لك أخي القارئ فيما
بعد، ومع ذلك: وجدنا الفاتيكان يعيد العلاقات مع اليهود ويتنازل حتى عن عقيدتهم
المشهورة وإن كانت باطلة بقتلهم وصلبهم للمسيح، بعد اعتراف الفاتيكان بدولة
(إسرائيل) ودعوته إلى إزالة العداء التاريخي بين أتباع الديانتين، وصدرت بذلك
وثيقة رسمية، أذاعها رئيس أساقفة بالتيمور، ونشرت في 12/12/1969م [1] ،
ومع ذلك: لم نر موقفاً للمؤتمرين من هذه الوثيقة.
4- يجب أن يُفَرّق بين الولاء من ناحية، والتسامح والمعاملة بالحسنى من
ناحية أخرى، فقد قال (تعالى) : [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] ... [الممتحنة: 8] ، والمعنى الصحيح كما رجحه ابن جرير: [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ] من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتَصِلُوهم وتقسطوا إليهم؛ لأن الله (تعالى) عم في الآية جميع من كانت تلك صفته، فلم يخص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لمن قال: إن ذلك منسوخاً كما ذكره ابن جرير في تفسيره (28/66) [2] .
5- سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما
قد يختلطان عند بعض المسلمين ممن لم تتضح لديهم الرؤيا بحقيقة هذا الدين
ووظيفته، فالسماحة التي جاء بها الإسلام مع أهل الكتاب لا تعني الولاء لهم، بل
إن هذا ما حذر منه القرآن، ومن هنا: يحاولون تمييع المفاصلة بين المسلمين
وأهل الكتاب باسم التسامح والتقريب؛ إذ إنهم يخطئون في فهم الدين، كما يخطئون
في فهم التسامح [3] .
6- إن الدعوة إلى ما يسمى (زمالة الأديان) أو الدعوة للتقارب معها: دعوة
مشبوهة، تخالف أصول الإسلام المعروفة القائمة على المفاصلة العقدية مع الأديان
التي نسخها الإسلام، وهذه الدعوة معروفة لدى المدرسة العقلية الحديثة، وكانت
صحيفة العروة الوثقى ميداناً لهذا الباب، بدعوى إزالة الاختلاف والشقاق بين
الأديان الثلاثة [4] .
بيان أن النصارى حلفاء اليهود:
في البداية: أؤكد للقارئ الكريم أن مشكلة فلسطين بدأت بتواطؤ من النصارى
ضد مسلمي فلسطين، فقد نكثوا بالعهد الذي قطعه رهبانهم للخليفة الراشد «عمر
بن الخطاب» (رضي الله عنه) في العهدة العمرية المعروفة [5] ، واشترطوا ضمن
ما اشترطوه: ألا يدخل القدس اليهود ولا اللصوص، وبقي النصارى هناك لهم
أمان الذمة حتى عصر الإحياء النصراني في أوروبا (1096م 1291م) حيث كانت
زعامة البابوية وسيطرتها على ملوك أوروبا آنذاك، فرأوا أن وحدة أوروبا وأمانها
لا بد لاستمراره بتوحيد القوى فيما بينهم والعداوة لفئة واحدة، هم (المسلمون) ،
وتخليص (كنيسة القيامة) من الكفار (المسلمين) .
وحينما دعا «سمعان الثاني» بطريك القدس إلى الحرب الصليبية والقضاء
على الإسلام وإنقاذ كنائسهم، وكان حكام المسلمين آنذاك هم العبيديون، وكان
واليهم على القدس هو «افتخار الدولة» ، وبعد محاصرة الصليبيين للقدس (40)
يوماً: طلب التسليم، على أن ينسحب هو وجيشه إلى (برج داود) وأن يسلم لهم
مبلغاً كبيراً من المال مقابل إبقاء حرسه، ثم دخل الصليبيون بعدها القدس بنشوة
النصر، فأخذوا يقتلون المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً بلا تمييز، حتى وصل الدم
إلى الركب كما نقل «ريتسمان» النصراني، ووصف ابن الجوزي سقوط القدس
شهادة عيان، وذكر أنهم قتلوا ما يزيد على (70) ألف مسلم، وسرقوا قناديل
المسجد من الذهب والفضة، وبعد أن وحد المسلمون كلمتهم وجمعوا صفوفهم:
استردوا القدس على يد القائد المسلم «صلاح الدين الأيوبي» في معركة حطين،
التي أظهر فيها من البلاء والفروسية والتسامح ما جعله محل إعجاب وتقدير حتى
مؤرخي الصليبية أنفسهم.
ثم سقطت القدس عام 1917م عندما احتلتها جيوش الإنجليز في نهاية الحرب
العالمية الأولى، وبقيت تحت حكمهم (30) عاماً، وضعوا البلاد أثناءها في ظروف
سياسية واقتصادية سيئة، وسمحوا بهجرة كثير من اليهود إلى فلسطين، وأعطى
وزير خارجيتهم وعده المشؤوم (وعد بلفور) بإقامة وطن قومي لليهود في ... فلسطين [6] .
والغريب أن لنصارى العرب في لبنان موقفاً مشيناً، حينما طالبوا بكيان
لليهود في فلسطين منذ عام 1935م، ثم عام 1945م (قبل ولادة دولة يهود) [7] .
اعتقادات النصارى تدعم اليهود:
تعتقد بعض طوائف النصارى أن بناء الهيكل الثالث سيؤدي إلى ظهور
المسيح مرة أخرى، وبموجب هذه العقيدة يحصل التحالف والدعم من النصارى
لليهود.
وعندما عقد المجمع العالمي الثاني للكنائس المسيحية في (أفانستون) سنة
1954م: أكد أن هذا المبدأ أو هذه العقيدة لدى النصارى تتطلب حدوث ثلاثة أمور
حتى يجيء المسيح (بزعمهم) ، وهي:
1- قيام دولة إسرائيل. ... ... ... 2- اتخاذ القدس عاصمة لها.
3- إعادة بناء الهيكل (طبعاً على أنقاض المسجد الأقصى) .
وقد ألّفت الكاتبة الأمريكية المنصِّرة «جريس هالسيل» كتابها (النية القاتلة
المبشرون البروتستانت على درب الحروب النووية) [8] ، وبه معلومات عن
العلاقة الوثيقة بين اليهود والنصارى من أجل تنفيذ تلك الأهداف الشيطانية، وهذا
مشهور لدى كثير من نصارى أمريكا، ويؤمن بها حتى بعض رؤسائها ... المعاصرين، حيث يؤمنون بمجيء يوم يحدث فيه صدام بين قوى الخير والشر (الهرمجدون) [9] ، وفي استفتاء أجرته مؤسسة (بانكلوفيتش الأمريكية) أظهر أن 39% من الشعب الأمريكي يؤمنون بذلك، وهو ما يعادل (85) مليون أمريكي تقريباً، وهؤلاء النصارى هم المسيحيون الصهاينة، وهم أتباع الكنيسة (الإنجليكانية) ، يقول «جورج دلاوب» في كتابه (الدين في أمريكا) : إن أولئك: مَن تنصروا مرة أخرى، ويؤمنون بالمسيح مخلّصاً، ويوسمون إعلاميّاً بالمسيحيين الأصوليين، ولهم جهود إعلامية كبرى، ويتحكمون في الانتخابات الأمريكية، وإليهم ولغيرهم يعزى الولاء الأمريكي لإسرائيل، ومن أبرز رموزهم: المنصر الشهير «سويجارت» .
ماذا يقول اليهود عن النصارى:
الذي يظهر أن اليهود من خلال مكرهم بالأديان بعامة والنصرانية بخاصة
يعتمون على آرائهم عن النصرانية والمسيح (عليه السلام) ، ولو علم عامة
النصارى ما قيل عنهم وبخاصة في كتاب (التلمود) لأبغضوهم ولعنوهم ليل نهار،
فلننظر ماذا قال التلمود عن النصارى:
يقول الأب «آي. بي. براناتيس» في استعراضه لتعاليم الحاخامات اليهود
السرية، في كتاب (فضح التلمود) :
يقول التلمود عن المسيح: إنه كان ابناً غير شرعي، حملته أمه خلال فترة
الحيض، وإنه مجنون ومشعوذ ومضلل، صلب (!) ، ثم دفن في جهنم، فنصّبه
أتباعه وثناً لهم يعبد.
من الطبيعي أن المُضلّل والوثني لا يستطيع تعليم شيء سوى الكذب
والهرطقة اللتين يعوزهما التفكير السليم، ويستحيل على العقل إداركها.
وإن المسيحيين وثنيون، وأسوأ أنواع الناس، وأنهم أكثر سوءاً من الأتراك
(المسلمين) ، وأنهم لا يستحقون أن يكونوا بشراً، بل هم بهائم بأشكال آدمية،
وأصلهم شيطان بهيمي.
إن طقوس النصارى وعباداتهم وثنية، وكهنتهم كذلك، وصلواتهم هي
صلوات أثيمة وعدوانية للرب، وفي الجزء الثاني من الكتاب تحت عنوان (وصايا
التلمود فيما يتعلق بالمسيحيين) ما يلي: يفرض على اليهودي تجنب المسيحيين،
وتجنب الاحتكاك والتعامل معهم، لأسباب: فهم لا يستحقون المشاركة والطريقة
اليهودية للحياة، ولأنهم نجسون وثنيون وقتلة.
العمل بكل ما يستطيعون لإفناء المسيحيين.. فالتلمود يلزم بالتهجم على
المسيحيين على نحو غير مباشر على الأقل، أي: إلحاق الضرر بهم بكل طريقة،
وعلى اليهودي انتظار الظرف السانح لقتل المسيحيين وبدون رحمة [10] ، فهذه
المعلومات يجهلها كثير من النصارى، ولجهل النصارى بتلك المواقف ضدهم من
اليهود: فهم يتعاطفون معهم من تأثير وسائل إعلامهم، غير أن قليلاً جدّاً من
النصارى من يعرف ما قاله اليهود عنهم، ولذلك: فهم يقفون من اليهود موقف
المعادي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: «الأنبا شنودة الثالث» بطريرك
الكنيسة القبطية بمصر، حيث وضح في محاضرة له ما قاله كتابهم المقدس عن
اليهود من أنهم شعب عنيد مكابر مؤذٍ للأنبياء، فقد أتعبوا نبيهم موسى (عليه
السلام) ، وأنهم شعب شرير عابد للأصنام، وأنه لا يوجد فيهم صالح واحد، وأنهم
نقضوا عهد الرب وعبدوا آلهة غريبة، ومجدوا أصنامها.. كل هذا فضلاً عن
كفرهم بالمسيح وسبهم له ولوالدته [11] .
الحوار مع أهل الكتاب بشروط:
وإن كان هذا المؤتمر يندرج تحت إطار (الحوار) فلا يعني ذلك رفض الحوار
جملة وتفصيلاً، ولكن يمكن الحكم على الحوار من خلال معرفة أهدافه [12] : هل
هي مشروعة أم لا؟ ، فإن كانت مشروعة فحيهلا، ومنها:
الدعوة إلى الإسلام وإقامة الحجة عليهم ببيان محاسن الإسلام والدفاع عنه.
بيان ما هم عليه من باطل سواء بتحريفهم لكتبهم، أو انحرافهم عن منهج
الأنبياء، أو إشراكهم بالله.
الحوار معهم للرد على شبهاتهم وطعنهم في الإسلام، كإثبات رسالة الرسول، وأن الإسلام خاتم الرسالات.
الحوار معهم لتحقيق مصالح المسلمين المشروعة، وكشف شبهاتهم التي
ينصرون بها جهال المسلمين.
أهداف غير مشروعة للحوار معهم:
وأكثر الحوارات التي تدور مع أهل الكتاب يقوم بها بعض الفئات التي
ينقصها العلم الشرعي الصحيح، إذ يشوب تلك الحوارات الموالاة لهم، مستدلين
بمثل قوله (تعالى) : [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم
مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] [الممتحنة: 8] ،
وهذا كما سبق الإشارة إليه خلط بين السماحة التي تدعو إلى البر بهم وحسن
معاملتهم في المجتمع الإسلامي،.. والولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللمؤمنين، فضلاً على أن الله (تعالى) قال: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ]
[المجادلة: 22] ، ولخطر موالاة الكفار والمشركين جاءت النصوص الصحيحة
بتحريم كل ذريعة إلى ذلك، ومنها: التشبه بهم، حتى في الأمور الظاهرة اليسيرة؛ لأنها قد تؤدي إلى مودتهم القلبية.
الحوار معهم من أجل التقارب، وهذا مثل التنازل عن شيء من الدين، أو
أخذ شيء من دينهم، أو مشاركتهم في عبادتهم.. فهذا مردود ومرفوض.
مسلك التقارب في إقرارهم على دينهم، وتصحيحه لهم، أو مدحه باعتباره
ديناً صحيحاً، أو مساواته بالإسلام بدعوى أنه دين سماوي.. فهذا لا يقر أيضاً..
أما ما ورد من مثل قوله (تعالى) : [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ] [المائدة: 82] ، فهذه الآية نزلت فيمن أسلم
من النصارى كما قاله كل المفسرون.
وأخيراً:
فإن التعاون الذي يبديه بعض النصارى لصالح القضية الفلسطينية ولصالح
مدينة القدس هو جهد مشكور، لكن الأولى أن يبدأ حوارهم فيما بينهم أولاً لتحديد
موقف إخوانهم النصارى لا سيما في الغرب من اليهود وكيف يوقف أولئك النصارى
دعمهم للصهاينة المحتلين لفلسطين، وثانياً: أهمية أن يعمل النصارى العرب
جهوداً متواصلة بتوعية بني ملتهم، وبيان خطر اليهود عليهم، وإظهار موقف
اليهود من دينهم ومن نبيهم ومن كتبهم المقدسة، ولعل في ذلك ما يحدث ردود أفعال
جذرية لصالح القضية الفلسطينية وكشف ألاعيب اليهود لخدمة مخططاتهم واستخدام
النصارى حلفاء لهم.
ولا مانع من الحوار مع أهل الكتاب بالشروط المشار إليها للوصول إلى الحق، أما الحوار بشكله الذي يتم وبمخالفاته الشرعية: فإن ضرره أكثر من نفعه.
والله من وراء القصد،،،
__________
(1) التبشير والاستعمار، لعمر فروخ ومساعد اليافي، ص266.
(2) فاعلم أنه لا إله إلا الله، د صلاح الصاوي، دار الإعلام العربي بالقاهرة، ص99 100، بتصرف.
(3) انظر في (ظلال القرآن) لسيد قطب، ج2، ص 909، وما بعدها، بتصرف، وكذلك: الولاء والبراء، د محمد سعيد القحطاني.
(4) أهمية الجهاد، د علي بن نفيع العلياني، والولاء والبراء، د محمد سعيد القحطاني، ص 344 وما بعدها.
(5) العهدة العمرية فيها خلاف بين رواتها، وحصلت عليها إضافات، انظر مناقشتها علميّاً في كتاب (تاريخ القدس والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين فيها حتى الحروب الصليبية) ، د/شفيق جاسر، ط عمّان، 1404هـ.
(6) تاريخ القدس والعلاقة مع المسيحيين، د/ شفيق جاسر.
(7) انظر كتاب الاستعمار والتبشير، لعمر فروخ ومساعد اليافي، نقلاً عن (لبنان الطائفي) لأنيس الصايغ.
(8) ترجم الأستاذ/ محمد السماك ذلك الكتاب بعنوان: (النبوءة والسياسة) ، وله كتاب (الأصولية الإنجيلية) ، نشر مركز دراسات العالم الإسلامي.
(9) لمزيد البيان انظر: المصدر السابق، و (قبل أن يهدم الأقصى) ، للأستاذ عبد العزيز مصطفى، وكتاب (الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي) ، د/ إسماعيل الكيلاني.
(10) انظر: كتاب (فضح التلمود) ، إعداد زهدي الفاتح، نشر دار النفائس ببيروت، وكتاب (الكنز المرصود في فضائح التلمود) ، د محمد الشرقاوي.
(11) طبعت المحاضرة في كتاب (رأي المسيحية في إسرائيل) ، نشر لجنة الإعلام بالمركز الملي العام بالقاهرة، مع أننا لا نوافقه بالطبع فيما ذكره عن أنبياء الله من اتهامات غير لائقة.
(12) انظر: (الحوار مع أهل الكتاب، أسسه ومنهجه) ، للأستاذ/خالد القاسم، دار المسلم بالرياض.(108/60)
المسلمون والعالم
ماذا يبقى من فلسطين؟
(2 من 3)
القدس والمستوطنات
بقلم: حسن أحمد قطامش
عرض الكاتب في الحلقة الأولى، كيف أثبت الواقع كذب الشعارات الطنانة
التي كان يطلقها زعماء (التحرير) وأساطين المنظمات الفلسطينية وأوضح مسلسل
الاستلاب للأراضي المحتلة، حتى أصبح الفلسطينيون قلة مجردة من السيادة
ومحرومة من الثروات، واستحوذ اليهود على الأرض والثروات، ويواصل الكاتب
في هذه الحلقة عرض جوانب أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
قدسنا.. والمستوطنات:
«لم أدرك أبداً أن مدينة القدس قد تهودت إلى هذا الحد كما أدرك ذلك ... الآن! !» .. هذا ما صرح به أحد المسؤولين الفلسطينيين وهو «محمد حسين» لرفاقه الذين يبحثون السبل والخطط لمواجهة السياسة (الإسرائيلية) في المدينة.
إن الأمر جد مفجع مع هذه الأرقام وهذه الخطط اليهودية لتغيير المدينة بأكملها.
يقول «خليل التفكجي» مدير دائرة الخرائط في «جمعية الدراسات العربية» في القدس: لقد سيطروا على 34% من مساحة القدس، وحولوا 40% من
أراضيها مناطق خضراء يمنع البناء عليها، وصادروا 5% من مساحة أراضيها
لشق الطرق، وأخرجوا 7% من مساحة أراضيها من التنظيم، فيما يقيم المقدسيون
الآن على 10% فقط من مساحة القدس، لم يبق الآن سوى 4% من المساحة كلها « [الحياة، ع/12163 15/6/ 1996م] .
كان عدد سكان القدس العربية (170) ألفاً، إلا أن الاضطهاد الذي مارسته
إسرائيل ضدهم أجبر نحو (70) ألفاً منهم على ترك المدينة للإقامة في القرى
الفلسطينية المجاورة، وتقول» توفا إلينسون « (الناطقة باسم وزارة الداخلية
الإسرائيلية) : إن ثلاثة آلاف فلسطيني من القدس الشرقية حصلوا على الجنسية
الإسرائيلية عام 1994م، أي أكثر من ضعف العدد في العام 1993م [الحياة، ع/
11656 17/8/ 1415هـ] .
ومنذ نحو سنتين لجأت مؤسسات الحكومة (الإسرائيلية) إلى سحب حق
المواطنة» الهوية الشخصية «من الفلسطينيات المقيمات مع أزواجهن خارج
القدس، وذلك بهدف تقليل عدد المسلمين في القدس، ودفعهم إلى الحصول على
الجنسية (الإسرائيلية) ، وخلف الكواليس: بدأت مؤسسة التأمين الوطني
(الإسرائيلية) (الضمان الاجتماعي) تشجيع السكان على الحصول على الجنسية
(الإسرائيلية) ؛ للحصول على امتيازات أفضل، فيما طالبت مؤسسات (إسرائيلية) ؛
عديدة موظفيها العرب بالحصول على الجنسية (الإسرائيلية) مقابل الاستمرار في
العمل لديها [انظر: الحياة، ع/1216315/6/1996م] .
المشكلة أكبر من أي تصور؛ إذ إن عدد الذين يفقدون حقهم في أن يكونوا
مواطنين في مدينة القدس يتراوح ما بين 50 60 ألف فلسطيني، فعدد سكان مدينة
القدس حالياً (567) ألف نسمة، الفلسطنيون منهم (170) ألفاً، منهم تسعة آلاف
حصلوا على الجنسية (الإسرائيلية) ، فالهدف واضح من تحويل الكثافة السكانية
لصالح اليهود، حتى إذا جاء التفاوض حول القدس، فالأغلبية يومها (لا قدر الله)
(إسرائيلية) ، فلا مجال وقتها للحديث عن سلطة فلسطينية على أغلبية (إسرائيلية) .
وفي التقرير الذي نشرته منظمة (بيت تسليم) المعنية بالدفاع عن حقوق
الإنسان في الأراضي الفلسطينية، ذكرت أن في عام 1967م كان أكثر من 85%
من الأراضي ملكاً للفلسطينيين، واليوم: لم يبق لهم سوى 13% من مساحة القدس
[الشرق الأوسط، ع/6413 19/6/1996م] .
والآن، وبعد فوز حزب الليكود في الانتخابات بجانب بقية الأحزاب اليمينية: فلقد أصبحت المشكلة أكبر حجماً؛ إذ إن رأس الحكومة ليكودي، ورئيس بلدية
القدس» أيهودا أولمرت «ليكودي، وسيخلفه في رئاسة البلدية المتطرف ... » شموئي مائير «من حزب (مفدال) ، حزب الوطنيين المتدينين، والذي يوصف
بأنه (البلدوزر) ؛ وذلك لتهديده الدائم بهدم (2000) منزل، قال إنها بنيت بدون
ترخيص في القدس، هذا (البلدوزر) لديه خطة استيطانية (نسأل الله أن يعجل به
قبل أن يبدأها» تتلخص في المشاريع التالية:
1- بناء (1700) وحدة سكنية قرب شارع القدس، (معاليه أدوميم)
(مستوطنة يهودية كبيرة، على طريق القدس/أريحا) وذلك بهدف إيجاد تواصل
إقليمي يهودي بين حي بسفات زئيف (شمال غرب القدس) والتلة الفرنسية (حي
الشيخ جراح) ، ولتنفيذ هذا المخطط (الذي يطلق عليه: بوابة الشرق) سيتم
مصادرة (827) دونماً من أراضي القدس.
2- إقامة (132) وحدة سكنية استيطانية على أراضي حي رأس العامود،
وهو المشروع الذي رفض تنفيذه وزير الداخلية السابق «حاييم رامون» ، وقد
صادقت على هذا المشروع اللجان (الإسرائيلية) ، ويبقى إقراره من وزير الداخلية
الجديد.
3- إقامة (6500) وحدة سكنية استيطانية على أراضي جبل أبو غنيم (بين
بيت ساحور وقرية أم طوبا) لإسكان المتدينين اليهود، وسيطلق على هذه
المستوطنة اسم (هارجوماه) وهي ستسد الثغرة الأخيرة في السلسلة الاستيطانية التي
تحيط بمدينة القدس.
4- إقامة مئات الوحدات السكنية على (350) دونماً من أراضي قرية (أبو
دليس) قرب القدس، وهي أرض منعت (إسرائيل) مع بداية احتلالها للقدس البناء
عليها بحجة أنها أرض زراعية.
5- بناء عشرات الوحدات السكنية الاستيطانية على أرض جبل الزيتون
(المطل على المسجد الأقصى المبارك) سكناً لطلاب مدرسة «بيت أرومط»
التلمودية المتطرفة.
6- ولعل أبرز المخططات الاستيطانية وأكثرها إمكانية للتطبيق: استيطان
بلدة القدس القديمة وقرية سلوان، إذ يدور الحديث عن وجود (28) منزلاً سيتم
إسكان المستوطنين بها قريباً في قرية سلوان، وذلك في مسعى لتحويل القرية إلى
ما يسمى (مدينة داود) أما بلدة القدس القديمة فيدور الحديث عن وجود عشرات
المنازل التي سيتم التوطين فيها قريباً [الحياة، ع/12164 15/6/1996م] .
وأخيراً: نكتفي بالخبر التالي دون سرد تفاصيله المحزنة: ذكرت تقارير
نشرت في (إسرائيل) أن حكومة «نتنياهو» بدأت بإعداد خطة عملية أولية لتنفيذ
قرارها المتعلق باستئناف أنشطة البناء والتوسع الاستيطاني في الأراضي ... الفلسطينية، وذلك بالتنسيق مع مجلس المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتهدف هذه الخطط إلى إقامة (11) كتلة استيطانية وأربعة أحزمة أمنية، أحدها حول القدس [صحيفة الخليج، ع/62907/8/1996م، والرأي العام، ع/10646 14/8/ 1996م] .
والآن نعود للسؤال المطروح: ماذا يبقى من فلسطين؟ ! ، وما هي
التحركات التي اتخذتها السلطة الوطنية تجاه ما يجري تحت سمعها وبصرها؟ .
وبموضوعية: فكما نقبنا عن مخططات يهود نقبنا كذلك عن «تصريحات»
و «لاءات» السلطة، فما وجدناه سنذكره.
1- ياسر عرفات: عاصمة دولتنا المستقلة هي القدس، ومن لا يعجبه..
فليشرب من بحر غزة.. [حوار لمجلة الحوادث، ع/2046 19/ 1/1996م] .
2- ياسر عرفات: الدولة الفلسطينية قادمة، ولن تكون لها عاصمة غير
القدس، ونحن مسؤولون عن ذلك [الخليج، ع/6228 6/6/1996م] .
3- ياسر عرفات في قمة العقبة الثلاثية: إن الدولة الفلسطينية ستعلن قريباً،
وعاصمتها القدس الشريف، وهذا خيار الشعب الفلسطيني، ولا يمكن لأحد الوقوف
أمامه [الأنباء، ع/7204 5/6/ 1996م] .
4- ياسر عرفات: هل كان هناك اتفاق مع حزب العمل وشمعون بيريز على
قيام الدولة الفلسطينية؟
ج: لقد قلت مثل هذا الكلام بوضوح كوضوح الشمس مع رئيس الوزراء
الراحل رابين ومع شمعون بيريز رئيس الوزراء الحالي، وها أنا أقوله في بداية
عهد نتنياهو: إن موقف فلسطين لا يتغير، ويجب أن تُفهم الانتخابات التشريعية
والرئاسية على أنها تكريس للسيادة الفلسطينية فوق الأرض الفلسطينية [حوار
للشرق الأوسط، ع/6409 15/ 6/ 1996م] .
ونذكّر عرفات بحديثين، الأول: لبيريز الذي قالها واضحة كوضوح الشمس، قال فيه: «بإمكان عرفات أن يستمر في أحلامه بدولة فلسطينية عاصمتها القدس، ومع ذلك فإن إسرائيل لن تعطي موافقتها» [الشرق الأوسط، ع/6366 3/5/
1996م] .
الثاني: نتنياهو: «لا يوجد الآن إمكانية لأن نتفق مع السلطة الفلسطينية
على الوضع النهائي، لأن الوضع النهائي للقدس، ويبدو أنها إحدى القضايا غير
القابلة للحل» [الرأي العام، ع/ 10644 12/8/ 1996م] .
وفي يوم 5/9/1996م اجتمع نتنياهو بحزب الليكود، وقال لهم: يمكنكم أن
تحلموا كل ليلة.. وستستيقظون كل صباح لتجدوا أنه لا وجود لدولة فلسطينية! ! ، لا وجود لدولة فلسطينية، ولن تقوم دولة فلسطينية [القبس، ع/8337، والرأي
العام، ع/10670 7/9/1996م] .
5- فريح أبو مدين/ وزير العدل في حديث عن المستوطنات: حين
يصادرون أرضي ومستقبلي ومياهي يعتبر ذلك بمنزلة إعلان حرب، والحرب
تؤدي إلى حمام دم [الأنباء، ع /725931/7/1996م] .
6- أحمد قريع (أبو العلاء) / رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني: إنه ما لم
يتم حل مشكلة القدس، وما لم يتم إعادة المدينة للفلسطينيين، فإن عملية السلام
ستتوقف [الوطن، ع/734120/7/1996م] .
7- والآن، وأخيراً: لنرى ماذا لدى المسؤول المكلف بملف القدس: فيصل
الحسيني:
أ- إن الوضع في مدينة القدس كفيل بتهديد عملية السلام بالانهيار، الأمر
الذي يستلزم موقفاً حازماً وحاسماً.
ب- إن القدس تتعرض الآن إلى عزل سياسي، وذلك من أجل شطبها من
اهتمامات المواطن الفلسطيني، وإن هذا العزل أثر على الوضع الاقتصادي
والتجاري [الخليج، ع/6281 29/7/1996م] بعد السماح لليهود المتطرفين بدخول
المسجد الأقصى.
ج- القدس لن تكون قرباناً لأي اتفاق سياسي [الاتحاد، ع/ 7803 29/6/
1996م] .
د - القدس خط أحمر.. وعودتها إلى السيادة الفلسطينية حتمية. [حوار
لعكاظ، ع/109473/8/1996م أثناء الزيارة الأخيرة للمملكة العربية السعودية] .
هـ- س: هل أنتم متفائلون حقيقة بإنجاز حل يعيد القدس الشرقية ويثبت حق لاجئي 48 في العودة لأرضهم، ويزيل المستوطنات؟ .
ج: لدينا أهداف، ويجب أن نفهم أن لدى كل شعب من الشعوب آمالاً وتقاليد
وعقائد وتاريخاً طويلاً، وهي مجتمعة تمثل تطلعاته المستقبلية، وتشكل السقف
العالي الذي يطمح في الوصول إليه، مع أنه ليس بالضرورة أن يصله دائماً.. فمن
حقنا العودة، ومن حق كل فلسطيني أن يعود إلى المنزل الذي يسكنه أبوه أو جده
في السابق، إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون هذا هو ما نسعى إليه أو ننجح في
تحقيقه عمليّاً! ! «.
وحول سؤال عن المعارضة الفلسطينية في الداخل قال: المعارضة موجودة،
فعندما أرى أمامي أحد قادة الجبهة الشعبية أو الديمقراطية فأنا ملتزم بالحديث معه
... وعندما تقام مستوطنة.. نذهب» للتظاهر «معاً. [حوار مع صحيفة الاتحاد،
ع/ 776920/5/1996م] .
8- صحيفة يديعوت أحرونوت: إسرائيل تفكر بأن تقترح على الفلسطينيين
بناء قدس ثانية كعاصمة لكيانهم السياسي المستقل. [الوطن، ع /728222/5/
1996م] .
9- فيصل الحسيني: نؤيد تحويل0 المدينة إلى عاصمتين، إحداهما
للفلسطينيين، وأخرى لليهود، على أن تكونا مفتوحتين. [الحياة، ع/1214123/
5/1996م] .
10- مصطفى اللداوي/ممثل حركة حماس في بيروت: السلطة الفلسطينية
وإسرائيل اتفقتا على إيجاد قدس بديلة محاذية لرام الله. [المستقلة، ع/94 26/2/
1996م] .
وأخيراً: فقد تتابعت الأحداث بشكل مأساوي؛ فقد أقدم (بيبي) لإرضاء
صديقه (أيهودا أولمرت) رئيس بلدية القدس، وإرضاء حلفائه اليمينيين، ووافق
على فتح نفق» الحشمو نائيم «نفق الأقصى، وهو عبارة عن قناة مائية اكتشفت
في القرن الماضي وبقيت منسية! ! ، إلى أن اهتمت بتنظيمها وزارة الأديان عام
1987م، وأوصلتها بنفق البراق الممتد نحو (500 متر) تحت حائط المبكى، وذلك
ضمن سلسلة الحفريات التي يقوم بها يهود لهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكلهم
المزعوم، وعندها هب المسلمون في أرض فلسطين: كانت مواجهة دموية توفي
خلالها (96) شخصاً، وجرح (1086) آخرين، وهذا العمل الإجرامي اليهودي
كان من شأنه أن يحدث تغيراً كبيراً في مفاهيم (القوم) وأقوالهم وأعمالهم، ولكن
كالعادة: لم يكن تجاه هذا العمل إلا العادة ذاتها: الجعجعة الكلامية.
فلقد أصدرت السلطة الفلسطينية مرسوماً، وزع على السفارات والبعثات
الدبلوماسية الفلسطينية في الخارج، وكان مما جاء فيه:
إن الشعب الفلسطيني ومنذ اليوم الأول لانطلاقة عملية السلام في المنطقة
اختار طريق السلام عن قناعة وإيمان، باعتبار السلام الذي اختاره (خياراً
استراتيجيّاً لا رجعة فيه) .
ووضعت شروطاً لإعادة مفاوضات السلام على ضوء الاتفاقيات التي ولدت
السلام الهزيل، ثم حلت قمة واشنطن، ثم فشلت القمة، وبقي النفق مفتوحاً،
وأعيد التفاوض حول مسألة إعادة الانتشار في الخليل، والذي رفض في (الفقرة
ثانياً) من البيان، وعادت لعبة الكراسي الموسيقية مرة أخرى، وقد سمعنا من
التصريحات ما يضيق المقام عن حصره، والتي منها:» إعلان الجهاد « ... و» تكوين جيش إسلامي للدفاع عن الحرم المقدس «.. وإلى.. قطع المفاوضات!
وهي مزايدات، أول من يعرف كذبها: الشعب الفلسطيني نفسه.
هذا ما حصدناه من تصريحات (أصحاب القضية) بعد ما رأيناه من» أفعال «
أبناء القردة والخنازير.. وهو غيض من فيض، يؤلم كل مسلم أن تصير التنازلات
إلى هذا الحد المرير من الذل والمهانة.. ونتسائل: بأي ثمن باعوا الأرض؟ ! ،
وما الذي بقي منها؟ ، وماذا نحن فاعلون؟ ! .
... ... ... ... ... ... ... وحسبنا الله ونعم الوكيل.(108/70)
هموم ثقافية
إشكالية التعبير العملي عن الديمقراطية
(2)
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
تعرض الكاتب في الحلقة الأولى بالتوضيح لإشكاليات التعبير العملي عن
الديمقراطية فعالج: إشكالية التعريف، وإشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية،
ملقياً الضوء على ظاهرتي التفاوت الطبقي والتنوع الديني، ويواصل في هذه
الحلقة عرض جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
التعدد التكويني:
أقصد بذلك: الأعراق والأجناس والقبائل التي يتألف الشعب من مجموعها،
وكذلك هي الممُثّلة أيضاً في المجلس النيابي.
إن الذي قلناه بخصوص التفكك الاجتماعي الناشئ من تعدد الأديان في إطار
المفهوم الديمقراطي، ينطبق هنا أيضاً، مع ملاحظة التفاوت الذي يضفي مزيداً من
التفتت في حالتنا هذه.
ذلك أن المنتسبين إلى كل دين، من المسلمين واليهود والنصارى يتكونون من
أعراق وأجناس وقبائل شتى، ولكل عرق وجنس وقبيلة حصيلة عادات وأعراف
اجتماعية في إطار المفهوم الاجتماعي لذلك الدين المنتسبين إليه.
إن السهام الديمقراطية المنطلقة من قوس مفهومها الاجتماعي المقنن والمتلون
بصبغتها، إن لم تُصِبْ مقتلاً في العلاقات الاجتماعية لتلك الأعراق والأجناس
والقبائل، فإنها على الأقل تؤدي إلى جروح غائرة في تلك العلاقات، ليست فقط
غير قابلة للاندمال، بل هي متجددة ومتفجرة دائماً! !
وهذا يعني باللغة العملية الواقعية تفتيتاً شاملاً لوحدة المجتمع الإسلامي، تلك
الوحدة التي أمرنا الله (تعالى) بالمحافظة عليها من خلال اعتصامنا بكتابه وسنة نبيه، قال (تعالى) : [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] .
فهلا انتبه الإسلاميون النيابيون إلى هذه الحقيقة؟ ! !
مثال توضيحي:
أقر المجلس النيابي الاختلاط في التعليم الثانوي.
نطبق الحالة على مستوى القبيلة:
1- بعض عائلات القبيلة ممن يضفون على أنفسهم صفة العصرية والتقدم
سيسارعون إلى تأييد قرار المجلس النيابي، عائلات أخرى من القبيلة نفسها ممن
لهم سمت التمسك بالإسلام سيسارعون إلى رفض قرار المجلس النيابي، النتيجة
هي: احتدام الصراع الاجتماعي بين المؤيدين والرافضين.
2- ننتقل إلى دائرة أضيق، وهي دائرة العائلة الواحدة: الأب والأم الغيوران
على بناتهما سيرفضان إرسال بناتهما إلى تلك المدارس الثانوية التي أُقر فيها
الاختلاط، لكنهما سيوافقان في الأغلب على إرسال أولادهما الذكور إلى تلك
المدارس؛ لعدم توفر البديل! .
الأولاد الذكور سيتعرفون على بنات في تلك المدارس، سينشأ عنها في
الأغلب علاقات قد تصل إلى حالة انهيار جدار العفة، مما يترتب عليه حالة من
الانفصال الاجتماعي بين عائلتي الطرفين، لا يستبعد أن تتصاعد إلى مراحل
التصفية الجسدية المؤطرة بالمحافظة على العرض.
النتيجة:
تفتت العائلة اجتماعيّاً.
تفتت القبيلة اجتماعيّاً.
إيجاد حالة صراع اجتماعي ذي طبيعة مستغرقة في الزمن.
على نسق المثال المذكور يمكن أن تساق أمثلة أخرى تبين حالة الانفصام
الاجتماعي للأعراق والأجناس التي قد تنشأ بسبب قرارات نيابية! !
التباين الثقافي:
إن التباين الثقافي بين الأفراد في إطار الدين الواحد أمر طبيعي، والخلل
المؤثر اجتماعيًّا الناشئ عنه يمكن احتواؤه، وليس عن هذا حديثنا.
بل حديثنا عن أثر التباين الثقافي بين المنتسبين للأديان والطوائف المختلفة
على بلورة الواقع الاجتماعي في المجتمع المحكوم ديمقراطيّاً.
ولا نشك أن الثقافة مهما لبست من أكسية علمانية فإن حامليها لا يستطيعون
إخفاء ألوان أجسادهم ذات الألوان المصطبغة ثقافيّاً بالدين أو الطائفة التي ينتسبون
إليها.
إن الثقافة ليست مجرد مجموع المعارف المكتنزة ذهنيّاً، بل هي أيضاً:
إبراز الصياغة المعرفية العملية المجسدة والموضحة لتلك المكتنزات، ولا يختلف
اثنان على أن العلاقات الاجتماعية وما يتجلى عنها من آثار نتيجة تداخلاتها أو
اندماجاتها هي واحدة من تلك الصياغات المعرفية.
فالثقافة الإسلامية لها أثر معرفي في صياغة العلاقات الاجتماعية بين
المسلمين، وكذلك: فإن الثقافة اليهودية، والثقافة النصرانية.. لهما أثران معرفيان
في صياغة العلاقات الاجتماعية بين اليهود وبين النصارى، كلٍّ على حدة.
إن هذه الصياغات المعرفية المعبِّرة عن اللون الثقافي لكلٍّ من منتسبي الأديان
المذكورة ليست وليدة العقود المتأخرة [1] التي سادت فيها الديمقراطية، بل هي
محصلة المجموع التراكمي لحصيلة خمسة عشر قرناً بالنسبة للمسلمين، وأكثر من
ذلك بالنسبة لليهود والنصارى، وبالتالي: فإن العلاقات الاجتماعية المتأثرة بتلك
الثقافات تخضع للمعادلة نفسها لذلك المجموع التراكمي.
وإننا على يقين تام بأن الديمقراطية لن تتمكن خلال عقود قليلة من الإطاحة
بذلك المجموع التراكمي الممتد عبر القرون.
إن النتاج الثقافي للديمقراطية هو من لون خاص، ليس إسلاميّاً ولا يهوديّاً ولا
نصرانيّاً، بل هو مزيج من ذلك كله، إضافة لغيره من الثقافات العلمانية ذات
المضامين الإلحادية والقومية والوطنية.
إن هذا النتاج الثقافي سيفرز علاقات اجتماعية جديدة، ليست مألوفة لدى
أتباع الأديان الثلاثة، مما يترتب عليه اصطدام هذه العلاقات الاجتماعية الوليدة
بالعلاقات الاجتماعية السائدة، وبما أن الانضباط الترابطي في العلاقات الاجتماعية
لدى اليهود والنصارى مصاب بالترهل الشديد والتآكل البيّن: فإن الثقافة
الديمقراطية الناشئة ستكون أكثر قدرة على التغلغل لدى أولئك، في حين أنها
ستصطدم بمعوقات كثيرة لدى محاولة التأثير على العلاقات الاجتماعية لدى
المسلمين؛ بسبب ما لديهم من مضادات ثقافية ذاتية من الكتاب والسنة وتراث سلف
الأمة تركت آثارها البارزة في أدق تفاصيل العلاقات الاجتماعية بين المسلمين.
إن النتيجة المتوقعة لتفاوت تأثير الثقافة الديمقراطية على منتسبي الأديان
الثلاثة ستؤدي حتماً إلى تعميق العلاقات الاجتماعية بينهم.
وهذا يعني: أن البلورة الاجتماعية الناشئة عن التباين الثقافي المذكور ستكون
ذات طابع تهديمي وتهشيمي في ظل الواقع الديمقراطي لنظام حاكم، وإن هذا
التهديم والتهشيم سيكونان أعمق أثراً لدى المسلمين مقارنة مع غيرهم من أصحاب
الأديان الأخرى.
الاستقطاب الحزبي النوعي:
في ظل الديمقراطية: فإن حرية تشكيل الأحزاب مطلقة للجميع، وهذا يعني
إنارة الضوء الأخضر لكل فئة سياسية أو طائفة دينية أو مجموعة عرقية أو فئة
قبلية لأن تشكل حزباً خاصّاً بها، ومن خلال هذا الحزب فإنها تدفع بأكبر عدد من
مرشحيها ليكونوا نواباً في المجلس النيابي، إن النواب الفائزين بكراسي المجلس
تمثل مجموعاتهم الأحزاب التي يمثلونها، وهذا يعني أنهم يعتبرون واجهة لنظرة
أحزابهم لمجموع العلاقات الإنسانية، التي منها العلاقات الاجتماعية، فإذا كان
نواب طائفة معينة يشكلون أغلبية المجلس النيابي كطائفة الشيعة في إيران مثلاً فإن
الشق الاجتماعي من التشريعات والقوانين الصادرة عن المجلس ستعمِّم ألوان
علاقاتها الاجتماعية على مجموع الشعب عن طريق القانون، وهذا ينطبق أيضاً
على الفئات السياسية المعبِّرة عن نفسها حزبيّاً، كحزب البعث مثلاً.
وهذا يعني أن تلك الطائفة أو الفئة المهيمنة حزبيّاً على المجلس النيابي
ستسعى لبلورة الواقع الاجتماعي ليكون متماشياً مع ما هي عليه، وهذا يدخلها في
صراع اجتماعي، أحد طرفيه يملك قوة القانون وإمكانية الدولة، والآخر مجرد من
هذين السلاحين معاً، وإن إيران تعتبر من أحسن الأمثلة لبيان كيفية حدوث هذا
الصراع والنتائج المترتبة عليه، حيث إن الطائفة الشيعية تريد فرض علاقاتها
الاجتماعية المنبثقة من العقيدة الشيعية على السّنة، وذلك عن طريق الدستور
وباستعمال إمكانات الدولة الهائلة، مما ولّد صراعاً شاملاً، تضمّن فيما تضمّن
صراع العلاقات الاجتماعية، وهذا لون من ألوان إشكالية البلورة الاجتماعية
للديمقراطية.
إن قبول بعض الإسلاميين للديمقراطية وانخراطهم في تلافيفها يجعلهم وجهاً
لوجه مع هذه الحقائق البيّنة، حيث إنهم لن يتمكنوا من بلورة اجتماعية إسلامية من
خلال الديمقراطية إلا إذا كانوا أغلبية في المجالس النيابية التي لا يملكون مفاتيح
التحكم في دروبها ومساراتها؛ مما يحول بينهم وبين حصولهم على الأغلبية
المتمكّنة، وإن الجزائر لتعتبر خير مثال على قلب ظهر المجن على الإسلاميين؛
لأنهم شكلوا في الانتخابات النيابية أغلبية فائزة لكنها غير متمكنة، مع ملاحظة أن
سبيل التمكن للإسلاميين عن طريق الديمقراطية هو طريق مسدود، إن لم يكن
محليّاً فدوليّاً، لكن الواقع الحالي يبين اجتماع الاثنين معاً! !
ولذلك: نقول للإسلاميين النيابيين: طالما أن طريق الديمقراطية الذي تسعون
من خلاله فيما تسعون إليه إلى توطيد الاستقرار الاجتماعي هو طريق مسدود،
فلماذا لا توظفون تلك الجهود المضنية المبذولة في غير ما طائل ولا فائدة في
الإطار الصحيح الذي تبنى دعائمه على سلوك المنهج النبوي في الدعوة إلى الله
(تعالى) ، بما يتضمن ذلك من ملابسات منوعة لأشكال كثيرة من ألوان الصراع مع
أعداء الإسلام، مهما تنوعت عقائدهم وتعددت راياتهم.
نوعية الحكم السلطوي:
وأقصد بها المؤسسة الحاكمة صاحبة السلطة، حيث إن لكل مؤسسة حاكمة
نظرة معينة في صياغة البلورة الاجتماعية، وذلك بحسب الآلية الفكرية أو
المنطلقات النظرية التي تشكل مرجعيتها لدى الممارسة العملية.
وفيما عدا المرجعية الإسلامية، فإن جميع المدارس السلطوية المستظلة
بالديمقراطية تحاول التدرج في صياغة البلورة الاجتماعية، آخذة بيدها نحو
العلمانية الإباحية.
وبما أن المجتمعات الإسلامية تملك رصيداً دينيّاً من التمنّع الذاتي، فإن
وصول تلك المدارس عبر الديمقراطية إلى أهدافها سيستغرق زمناً طويلاً فيما
يخص البلاد الإسلامية.
لقد بيّنت سابقاً أن مالكي الحكم السلطوي، سواء أكانوا حزباً، أوطائفة، أو
قبيلة، أو فئة سياسية، أو طغمة عسكرية ديكتاتورية، أو أي لون آخر غير
إسلامي، سيحاول كل منهم أن يصبغ العلاقات الاجتماعية بصبغته الخاصة، وأن
ذلك سيقود نحو شكل أو أشكال من الصراع الاجتماعي، يحاول كل طرف من
أطرافه أن يعزز فيه مواقعه من جهة، وأن يحرز إلى صفّه مواقع جديدة من جهة
أخرى، مما سيؤدي بطبيعة الحال إلى الاحتكاكات الاجتماعية التي تأخذ أحياناً
مسارات حادة.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العلمانية الإباحية هي القاسم المشترك للبلورة
الاجتماعية غير الإسلامية، فإن الصراع المتوقع في العالم الإسلامي على المستوى
الاجتماعي سيكون بين هذه الصبغة العلمانية والصبغة الإسلامية.
إن هذا الصراع سيشمل كافة المرافق الرسمية، أي: مؤسسات الدولة،
كمجلس الأمة، والوزارات، وسائر المنتميات الحكومية، ويشمل أيضاً: جميع
الشرائح الشعبية على مختلف مواقعها الجغرافية والنوعية.
في المنظور الواقعي: فإن الإسلاميين النيابيين لن يشكلوا أغلبية في أي
مجلس نيابي، وإذا حصل ذلك مرة في مجلسٍ ما، فلن يكون له طابع الديمومة
والاستمرار وذلك بسبب وجهات نظر موضوعية تبرر هذه الوجهة.
وهذا يعني أن نتيجة الصراع في الساحة التشريعية على مستوى التقنين
الاجتماعي محسومة سلفاً لصالح الوجهة العلمانية، (ومثال ذلك في دولة الكويت
مثلاً: فقد فشل الإسلاميون النيابيون في إقرار هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر لها سلطة حكومية، تدعم عملها في إطار إرجاع مؤشر التوازن الاجتماعي
إلى حالة الاستقرار وفق الشريعة الإسلامية) .
وأما على الساحة الشعبية: فإن العلمانية الاجتماعية ستمارس جميع أنشطتها
تحت مظلة قانونية صاغ بنودها الحكم السلطوي العلماني.
إن أبرز الانبثاقات الاجتماعية تحت تلك المظلة هي ما يلي:
1- السفور ومحاربة الحجاب.
2- الاختلاط في جميع المرافق الرسمية والشعبية، في إطار غير منضبط،
وجو ينعدم فيه الاحتشام.
3- التفكك الأسري بسبب الطلاق، الناشئ عن استحداث علاقات محرمة من
جهة الرجال أو النساء على السواء، أو بسبب انعتاق الأبناء من ضوابط المراقبة
الأسرية، مما يؤدي إلى إقامة اتصالات غير شرعية قد تصل إلى مرحلة الزنا،
ينشأ عنها جيل من الأولاد غير الشرعيين، مما يجعل للإجهاض وجهاً ضاغطاً ذا
تيار شعبي، يبرر إيجاد غطاء قانوني له.
وهناك أسباب أخرى كثيرة.
4- فشو الجريمة، التي يزداد أوار اضطرامها بسبب عدم الاحتكام لأحكام
الحدود الشرعية.
5 - استفحال ظاهرة الانتحار بسبب حالة اليأس النفسي، أو الاضطراب
العاطفي.. أو غير ذلك.
6- إباحة الخمور، مع ما يتبع ذلك من سلبيات خطيرة على مستوى الفرد
والأسرة والمجتمع.
7- انتشار المرافق السياحية والترفيهية ذات الطابع الانفتاحي، ويدخل في
ذلك: النوادي السياحية، والسواحل البحرية، والسينمات، والملاهي الليلية،
وقاعات عروض الأزياء أو ملكات الجمال، وسوى ذلك.
8- المؤسسات الإعلامية، من إذاعة وتلفزيون وصحافة ونشر، وما يتخلل
برامجها وصفحاتها من دعوات سافرة للتحلل الاجتماعي والفساد الأخلاقي.
9- سوء استخدام وسائل الاتصالات الحديثة، حيث أصبحت معبراً سريعاً
مُختصِراً للزمن والجهد، يتم من خلالها ترتيب المواعيد المحرمة، واستشعار
الحالات الجنسية المتخيلة، بما اصطلح على تسميته الزنا عبر الهاتف! !
10- ازدياد الفقير فقراً والغني غنًى؛ بسبب جشع الأغنياء المسيطرين على
المجالس النيابية، حيث يستغلونها لصالح تشريع قوانين تدعم مصالحهم، يرتكز
أكثرها على استمرار ازدياد النزف المادي من جيوب أفراد الشعب على شكل
ضرائب، أو رسوم، أو مجهود حربي.. أو ما شابه ذلك، مما يعزز فشو الرشوة
والمحسوبية وأمراض الجشع المالي.
وهناك انبثاقات اجتماعية أخرى سوى التي ذكرتها.
إن نوعية الحكم السلطوي لها أثر بالغ في تكريس كل ذلك، أو الحد منه، أو
إلغائه، وإنني أقول باطمئنان: إن الحد من ذلك أو إلغاءه لن يتم إلا عن طريق
الحكم بالإسلام.
وبما أن الإسلام لن يتم الحكم به من خلال الديمقراطية، وبما أن الإسلاميين
النيابيين لا يزالون يشاركون في (اللعبة) الديمقراطية دون أي تأثير لهم يذكر في
تصحيح المسار الاجتماعي: فإن جميع تلك الانبثاقات ستتوطد دعائمها وتستشري
آثارها، مما يعني أن البلورة الاجتماعية الناشئة من الحكم السلطوي القائم الآن في
البلاد الإسلامية على أسس ديمقراطية هي بلورة علمانية، سماتها الغالبة هي الفساد
والخلاعة والبذاءة (أَجَلّكم الله) .
وهكذا: يتبين لنا أن إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية من الزاوية
العملية تمثلت فيما يلي:
التفاوت الطبقي.
التنوع الديني.
التعدد التكويني.
التباين الثقافي.
الاستقطاب الحزبي النوعي.
نوعية الحكم السلطوي.
وسنتكلم في الحلقات المقبلة إن شاء الله عن إشكالية البلورة الثقافية
للديمقراطية، ثم البلورة الاقتصادية للديمقراطية، معقبين ذلك بالحديث عن إشكالية
النتائج.
__________
(1) هذا بالنسبة للعالم الإسلامي، وأما في الدول العربية: فالديمقراطية قديمة كما هو معلوم، لكنها تخلفت عن الحكم لقرون طويلة.(108/78)
في دائرة الضوء
هل الإسلام دين علماني؟ ! !
العلمانيون.. وعلمنة الإسلام
بقلم: د.محمد يحيى
أثارت الفكرَ في نفسي عبارةٌ وردت عرضاً ولعلها بحسن نية في مقال لكاتب
يتحدث عن تشكيل الحكومة التركية برئاسة «نجم الدين أربكان» زعيم حزب
الرفاه.
قال الكاتب: إن هناك حقيقة غائبة في الإعلام الإسلامي، ألا وهي: وجود
تقارب بين العلمانية في رفضها للكهنوت والإسلام في رفضه المماثل لادعاء الحق
الإلهي كما جاء في المقال.
والحق: إن القول أو الزعم بوجود تقارب أو تشابه بين العلمانية والإسلام
ليس بجديد، لقد ذهب كثيرون غير الكاتب مثلاً منذ فترة إلى القول نفسه، حيث
قالوا: إن الإسلام بطبعه دين علماني؛ لأنه يهتم بأمور الدنيا والحياة الحاضرة بدلاً
من أمور الآخرة، وقالوا: إن الإسلام والعلمانية يلتقيان في الإيمان بالعقل وتحبيذه، وفي اعتناق الديمقراطية والليبرالية، وفي الاهتمام بالنزعات المادية، وقبل كل
شيء: في الإيمان بالتوجه الإنساني (هيومانزم) وقبول مبادئ النسبية والتاريخية
وما أشبهها.
وقبل الخوض في هذه الدعوى العريضة ينبغي أن نوضح سياقها: فهي تجيء
في معرض محاولة اكتساب القبول للعلمانية بين الجماهير المسلمة، بتصويرها
وكأنها تكاد تتفق بل تتطابق مع الإسلام، وهي محاولة تعمل كذلك وفي الاتجاه
المقابل إلى تطويع الإسلام للعلمانية، بإلغاء تميزه وتفرده، وهويته التشريعية
والعقائدية، ولكن في كلتا الحالتين فإن الهدف واحد، سواء في أسلمة العلمانية أو
علمنة الإسلام، وهو: نزع الخشية الجماهيرية من العلمانية باعتبارها نبتاً غربيّاً
غريباً، يراد فرضه على الواقع الإسلامي.
ونلاحظ في هذا الصدد أن تلك العملية مرحلية فقط، وأنها تتم في سياقٍ تكون
فيه العلمانية جديدة أو غير متمكنة إلى الحد الكامل؛ مما يستدعي القيام بالتمويه
والخداع وتصوير الإسلام بأنه علمانية أو العلمانية على أنها الإسلام، ولكن ما أن
تتمكن العلمانية فإن الخطاب يتغير إلى لغة الإقصاء والإبعاد والرفض، وهذا هو ما
تشير إليه، ليس فقط التجارب التاريخية القديمة في تركيا أو إيران أو أفغانستان،
بل التجارب الراهنة، وبالذات في الوسط الثقافي والفكري في بلدان كمصر
والجزائر مثلاً.
والسؤال الذي ينبغي مواجهته رأساً هو: هل يوجد تقارب بأي درجة بين
الإسلام والعلمانية؟ ، وهل يكفي مجرد ذكر رؤوس مواضيع، يوحى بأن فيها
تشابهاً في المواقف للقول بوجود مثل هذا التقارب؟ ، والأهم من هذا كله: هل
يوجد تشابه أو تقارب حقيقي في المواقف، أم إن المسألة لا تعدو عملية تفسير
وتأويل وتأول بارعة ماكرة توحي بوجود مثل هذا التقارب؟ ، ولنأخذ هذا التساؤل
الأخير مدخلاً لنا، ونسأل: هل فعلاً يوجد تقارب بين العلمانية والإسلام لمجرد
مثلاً أن هذه ترفض الكهنوت وهذا يرفضه؟ ، لقد ساق الكاتب المشار إليه هذا
المثال باعتباره حقيقة لا يتطرق إليها الشك، وقد تكون كذلك، لكن ذكر الأمور
على هذا المستوى من العمومية والتجريد يدخلنا إلى حد الإبهام والغموض، فهل حقّاً
ترفض العلمانية الكهنوت؟ ! ، إننا نجد تكريساً له في مفهوم «أوجست كومت»
أحد أبرز دعاة الوضعية إلى دين صناعي فلسفي تكون له كنيسة وكهنوت خاص به، وهل ترفض العلمانية الكهنوت أم إنها ترفض الكنيسة كلها والدين (المسيحي
والإسلامي) والعقائد والأفكار الدينية، حتى ولو كانت بدون كهنوت؟ .
إن القول برفض العلمانية للكهنوت يخفي حقيقة أن العلمانية ترفض الدين
نفسه، وإلا فإن البروتستانتية وهي مذهب مسيحي كبير ترفض الكهنوت الكنسي،
حتى وهي تدعو في تجلياتها الحديثة إلى أصولية مسيحية طاغية ومتطرفة.
وبالمثل: فهل عندما يرفض الإسلام الكهنوت يرفض معه الدين والعقيدة؟
لا أحد يستطيع القول بذلك؛ لأن الإسلام نفسه دين.
وإذا قلنا: إن الإسلام يرفض الكهنوت، فإن هذا يعني أنه يرفض الأسلوب
الكنسي المعروف، في ضرورة وجود عناصر خاصة لا تكتمل العبادة ولا ترفع إلا
بها، بل لا يكتمل الدين والإيمان نفسه إلا بمباركتها وتطويبها، لكن هذا لا يستتبع
أبداً رفض وجود فئة من الفقهاء والعلماء تدرس الدين، عقيدته وشريعته،
وتتخصص فيهما، وتنصح وتوجه غيرها من فئات الأمة التي لا تسمح لها ظروف
الحياة وكفاحها بمثل هذا التخصص، لكن هذا لا يمنع أي فرد أو أي جماعة من
الدراسة والتخصص والاطلاع على هذا النحو، فالدين مفتوح، وهذا هو معنى
رفض الإسلام للكهنوت.
ونلاحظ أن العلمانيين عندما يرفعون الصوت عالياً بأن الإسلام يرفض
الكهنوت، فإنهم يقصدون كما تدل الأحداث رفض آراء وفتاوى وشروحات الفقهاء
والعلماء المسلمين التي تزعجهم؛ لقيامها على العلم الصحيح بالإسلام.
وينطبق التحليل نفسه على سائر النقاط التي يقال عادة: إن هناك تقارباً بين
الإسلام والعلمانية فيها، والتي كان حظ بعضها في المعالجة وفيراً، كمفهوم
الديمقراطية والليبرالية بين الإسلام والعلمانية مثلاً، أو مفهوم العقل فيهما، ولكننا
هنا نضرب مثلاً لرأس موضوع آخر يقال إن فيه مِثْلَ هذا التقارب، ألا وهو:
التركيز على النزعة الإنسانية، أو ما يعرف بـ (الهيومانزم) ، لقد قيل كلام كثير
عن التقاء الإسلام بالعلمانية في هذه النقطة؛ لأن الإسلام قد كرم الإنسان وأعلى من
شأنه؛ بينما تدعي العلمانية في جوهرها أنها هي الفكر الذي جعل من الإنسان ... «معيار كل شيء» ، كما يقول المثل العلماني الأشهر، ولكن: هل إعلاء الإسلام لشأن الإنسان مثل إعلاء العلمانية لشأنه؟ من الواضح أن الاتجاهين على طرفي نقيض في هذه الناحية؛ فالعلمانية تجعل الإنسان (ككائن مجرد مطلق) بديلاً عن الإله الذي رفضته أو أبعدته عن العالم، وتجعله الواضع لكل القيم والمعايير، كما تجعله الهدف الأسمى الذي يصب كل شيء في خدمته مهما كان، أما الإسلام: فلا يجعل الإنسان على هذه الدرجة أو الكيفية من التأله والإطلاق والغائية، كما أنه ليس هو واضع القيم العليا والمبادئ الكلية، وهو يستمد تكريمه من خالقه، وليس من مجرد كينونته هو، كما أن هذا التكريم مقصور على النواحي المادية الدنيوية بالنسبة للجميع، لكنه في الآخرة يقتصر على المؤمنين المقبولين وحدهم.
إذن: نلاحظ مرة أخرى أن هناك خلطاً متعمداً، فيكفي عند هؤلاء أن يجيء
في القرآن أن الله كرم بني آدم حتى تعقد المقارنات مع العلمانية التي كرمت الإنسان
كما زعمت حتى وإن كان العالم قد عرف في عهود العلمانية من الجرائم في حق
الإنسانية والإنسان ما لم يعرفه في عهود الوثنية والأديان السالفة.
إن الطرح القائل بوجود تقارب بين مواقف الإسلام والعلمانية حول عدد معين
من القضايا الفكرية والاجتماعية يعبر في ضحالته عن اتجاه في المحاججة، نلمسه
عند بعضهم في تناولهم لشتى المسائل والأفكار، ونعني بهذا الاتجاه المعيب:
الوقوف عند ظواهر المصطلحات أو على معانيها الأولية المبهمة غير الدقيقة؛ مما
يسهل تمرير أي موقف، ويسهل كذلك من القول بالتقارب أو حتى التماثل بين ذلك
المذهب وتلك الفلسفة، ولكن ما إن نبدأ في بحث دقيق حول نطاق المعاني
والمضامين المبثوثة في مصطلحات أو مقولات معينة.. إلا ونلاحظ الفروق الجلية
بين المذاهب، ومن الأمثلة على ذلك: مفهوم «الإله» في الإسلام والمسيحية،
فقد درج بعض الناس على القول بتوحد الأديان السماوية كما يطلق عليها؛ لأنها
كلها تعبد الإله نفسه! ، ولكن مفهوم «الألوهية» في الإسلام يختلف اختلافاً نوعيّاً
وجذريّاً عن مفهوم «الرب» في النصرانية المتداولة، أو في اليهودية.
وقد يكون لدعوى التقارب بين الإسلام والعلمانية مبرراتها السياسية الآنية عند
بعض أولئك ممن ينشغلون بالمناورات والتحركات السياسية، لكنها غير مبررة ولا
منطقية في عرف الفكر الصحيح.(108/86)
منتدى القراء
الندم الفاعل
بقلم: عبد الهادي الحسيني
إنّ المتأمل في أحوال معيشة النّاس: يجدها تجيش بمعانٍ شتى، وتفور
بانفعالات متنوعة، يستطيع العاقل أن يقبس منها قبسات تعضده في سيره إلى الله
(تعالى) .
فثمة صور من النّدم والتّحسّر تتردّد أصداؤها في حياتنا، فنجد التاجر
يعتصره الندم على فوات صفقة تجارية كانت سترفع أرصدته عالياً، ونجد الطالب
يعض أصبع الندم على ضياع درجات قليلة كانت سترفع معدله الدراسي شيئاً ما،
ونجد الموظف يأكله التحسر أكلاً على فوات فرصة وظيفية كان معلقاً عليها آمالاً
في تحسين حالته المادية! .. وصور وصور أخرى تضج بها حياتنا.. والصبغة
العامة لها: أنها دنيوية بحتة! .
بيد أن هناك صورة مضيئة لامعة لندم مطلوب وتحسر مرغوب، ولا نعجب
لذاك؛ فالأسلاف قد برعوا وبرزوا في كل أمر! .. ندم رائع! .. رائع في هدفه،
رائع في مقصده، رائع في منبعه، رائع في سببه، رائع في كل شيء، وكم هو
رائع أن يحدث ذلك! ، ولعلنا نستمطر ذاكرة صحيح البخاري ليجود علينا بهذه
اللوحة الندمية الرائعة: «قال أنس: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، غبت
عن أول قتال قاتلتَ فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتالهم ليرين ما أفعل» ..
فقط هكذا! والنتيجة: «فلم تعرفه إلا أخته ببنانه» ! .. أرأيتم الروعة والجمال!
كم هو رائع هذا الندم الفاعل الدافع للعمل، لا ذاك الندم المؤدي إلى ضرب
أخماس في أسداس! ندم دافع للمضي قدماً في دروب الخير المعشوشبة بالأجر،
لا المؤدي إلى اجترار «اللّوّات» [1] .
ندم مبيد للتحسر والقنوط، ندم محفز للعمل، وتحسر مرغوب في عمل أعظم
من العمل الفائت! انظروا لأنس (رضي الله عنه) يمضي سراعاً للعمل المنتج
المثمر لنصرة دين الله بدافع الندم على ما مضى من فوات قربة يتقرب بها للمولى،
وإن كانت تلك القربى روحه التي بين جنبيه! .
فتحول عنده الندم من مجهض للإمكانات والقدرات إلى ندم حافز أو ملهم
لتكرير واستغلال المهام القادمة، وغدا ندمه مُلهباً للحماس المطارد لكل جزئيات
الدعة والسكون في نفسه.
فيا من أَلِفَ العيش في فضاءات السكون والجمود، ويا مَن مضت عليه سنة
الفتور والركود ... قم وانفض أردية الخمول وانهض من حضيض الفتور إلى قُنّة
الفاعلية، ومن مهامة الكسل إلى صدر الإيجابية، وليكن لك من هذا الندم نصيب!
فمتى نهب جميعاً لخدمة أمتنا على كافة الصعد، قائلين: «ليرين الله ما أفعل» ؟
__________
(1) قول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا.(108/90)
منتدى القراء
حول الوحدة الإسلامية
بقلم: علي إبراهيم محمد
يظل البحث عن الوحدة الإسلامية همّاً يؤرق الكثير من أبناء هذه الأمة
الغيورين على لمِّ شتاتها وتوحيد صفها، فالخلافات قد شلت أياديها وأصبحت تهدد
مستقبل الدعوة الإسلامية، وتشيع الكراهية والبغضاء بين المسلمين، بل قد يمتد
الأمر إلى أن يحمل المسلم السلاح ضد أخيه المسلم. وإذن: فالبحث عن وحدة
الصف الإسلامي لا يقل أهمية عن البحث عن مَصْل يقضي على فيروس الإيدز! ،
فكم من مقالات كتبت وخطب ألقيت تحض المسلمين على الاجتماع وعدم إتاحة
الفرصة للخلافات الهامشية أن تصنع فجوات بينهم وتحيلهم إلى أشتاتٍ وشراذم،
ولكنها ذهبت أدراج الرياح، فها نحن نواجه التفرق والتنازع الفكري المتواصل
الذي أخذ يباعد بين أفراد المجتمع المسلم، فأصبح المسلمون عازفين عن مواجهة
المحن صفّاً واحداً في أمور تتطلب التماسك وتناسي الخلافات، وقد تجلى ذلك في
كثير من التجارب الجهادية، ولم ينتبه المسلمون إلى هذه القضية الخطيرة، حتى
أصبحت نكسة مؤلمة أفضت إلى تناحر وقتال داخلي، وأخذ بعضهم يبيح دماء
بعض! ! .
إن الاختلاف في الفقه والفهم للآيات والأحاديث أمر لا مفر منه، وقد حدث
ذلك في عهد الصحابة، ولكن لم يكن ذلك الاختلاف يدعوهم إلى التباغض، ولم
يحاول أحدهم أن يقصر المسلمين على فهمه.
ومن حِكَم الله البالغة: ألا يكون الناس أمة واحدة، ومَن رحمهم الله يجتمعون
على الحق، كما ورد في قوله (تعالى) : [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] (هود: 118، 119) .
وقد قال ابن عباس في هذه الآية: إن الله خلقهم للرحمة، أي: لم يخلقهم
للاختلاف، فالمسلم ملزم باتباع النبي، ولا يجوز التعصب للعلماء والمذاهب، فمن
صح دليله فهو المتبع، فهذا الإمام مالك يقول: «كل بني آدم يؤخذ من قوله ويرد، إلا صاحب هذا القبر» ، وأشار بيده إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أما في مسألة العقيدة: فقد كان الصحابة (رضوان الله عليهم) مجتمعين على
عقيدة التوحيد اجتماع البنيان المرصوص.(108/91)
الدولة ... ... ... عدد الدورات ... ... الدولة ... ... عدد الدورات
-------------------------------------------------
لندن ... ... ... ... 14 ... ... ... نيجيريا ... ... 16
السودان ... ... ... 2 ... ... ... بنجلاديش ... ... 8
كينيا ... ... ... ... 18 ... ... الحبشة ... ... ... 3
تشاد ... ... ... ... 4 ... ... ... مالي ... ... ... 9
غانا ... ... ... ... 7 ... ... ... أوغندا ... ... ... 5
الصومال ... ... ... 6
ص 95
الدولة ... ... عدد المخيمات
------------------------
كينيا ... ... ... 9
مالي ... ... ... 5
الحبشة ... ... ... 1
السودان ... ... 2
جامبيا ... ... ... 1
غانا ... ... ... 2
السنغال ... ... 1
بريطانيا ... ... 8
نيجيريا ... ... ... 2
تشاد ... ... ... 3
توجو ... ... ... 1
ص 97
الدولة ... ... عدد المدارس ... ... ... ... ملاحظات
-------------------------------------------------
بريطانيا ... ... 1
كينيا ... ... ... 8 ... ... ... منها: (4) روضة، و (3)
... ... ... ... ... ... ابتدائية، و (1) ثانوية.
غانا ... ... ... 9 ... ... ... منها: (2) روضة، و (3)
... ... ... ... ... ... ابتدائية، و (3) إعداية، (1) ... ...
... ... ... ... ... ... ثانوية.
تشاد ... ... ... 1
بنجلاديش ... ... 1 ... ... ... ... ... ابتدائية
الدولة ... ... عدد المدارس ... ... ... ملاحظات
-------------------------------------------------
كينيا ... ... ... 31
تشاد ... ... ... 1
نيجيريا ... ... ... 1 ... ... ... ... للمرحلة الثانوية
ص 98
الدولة ... ... ... ... عدد الكتب
---------------------------
غانا ... ... ... ... 110844
كينيا ... ... ... ... 52250
مالي ... ... ... ... 17000
السنغال ... ... ... 2500
الصومال ... ... ... 3000
أوغندا ... ... ... ... 1000
بنين ... ... ... ... 18000
توجو ... ... ... ... 48206
ص 100
الدولة ... ... ... عدد القوافل
----------------------------
كينيا ... ... ... 16
غانا ... ... ... 11
الصومال وجيبوتي ... 11
مالي ... ... ... 16
السودان ... ... ... 3
تشاد ... ... ... 3
أوغندا ... ... ... 3
الحبشة ... ... ... 2
بنجلاديش ... ... 5
نيجيريا ... ... ... 21
عدد 101
الدولة ... ... عدد المساجد ... عدد المساجد ... ... المجموع
... ... التي تم تنفيذها ... التي تحت التنفيذ
-------------------------------------------------
الحبشة ... ... 17 ... ... 3 ... ... ... ... 20
إريتريا ... ... 2 ... ... ... 2 ... ... ... ... 4
أوغندا ... ... ... 8 ... ... ... 1 ... ... ... ... 9
باكستان ... ... 41 ... ... ... - ... ... ... 41
أفغانستان ... ... 1 ... ... ... - ... ... ... ... 1
بنجلاديش ... ... 80 ... ... ... 6 ... ... ... 86
تشاد ... ... ... 12 ... ... ... - ... ... ... ... 12
توجو ... ... ... 3 ... ... ... - ... ... ... ... 3
بنين ... ... ... 1 ... ... ... - ... ... ... 1
الجمهوريات الإسلامية 4 ... ... ... - ... ... ... 4
السنغال ... ... 1 ... ... ... 1 ... ... ... 2
السودان ... ... 8 ... ... ... 4 ... ... ... 12
الصومال ... ... 16 ... ... ... - ... ... ... 16
غانا ... ... ... 19 ... ... ... 6 ... ... ... 25
الفلبين ... ... 5 ... ... ... 1 ... ... ... 6
كينيا ... ... ... 17 ... ... ... 2 ... ... ... 19
مالي ... ... ... 7 ... ... ... 5 ... ... ... 12
نيجيريا ... ... 3 ... ... ... 8 ... ... ... 11
الهند ... ... 3 ... ... ... 2 ... ... ... 5
جيبوتي ... ... - ... ... ... 1 ... ... ... 1
تنزانيا ... ... 2 ... ... ... - ... ... ... 2
-------------------------------------------------
المجموع ... 250 ... ... ... 42 ... ... ... 292 ...
-------------------------------------------------
الدولة ... ... ... ... عدد المكتبات الكبيرة ... ... عدد المكتبات
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصغيرة
-------------------------------------------------
بريطانيا ... ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ـ
كينيا ... ... ... ... ... 3 ... ... ... ... ... 17
مالي ... ... ... ... ... 4 ... ... ... ... ... 4
غانا ... ... ... ... ... 2 ... ... ... ... ... ـ
الصومال ... ... ... ... 7 ... ... ... ... ... 7
السنغال ... ... ... ... 1 ... ... ... ... ... 1
بنجلاديش ... ... ... ... 3 ... ... ... ... ... 1
السودان ... ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ـ
تشاد ... ... ... ... ... 1 ... ... ... ... ... 1
أوغندا ... ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ـ
الحبشة ... ... ... ... ـ ... ... ... ... 5.5سمعية
نيجريا ... ... ... ... ـ ... ... ... ... ... 2
ص 104
--------------------------------------
الدولة ... ... ... ... عدد المكتبات
--------------------------------------
كينيا ... ... ... ... ... 188
غانا ... ... ... ... ... 141
مالي ... ... ... ... ... 50
بنجلاديش ... ... ... ... 110
تشاد ... ... ... ... ... 150
الصومال ... ... ... ... 45
أوغندا ... ... ... ... ... 25
توجو ... ... ... ... ... 2
ص 108
----------------------------------------------
الدولة ... ... ... عدد الآبار ... ... ... ... ملاحظات
----------------------------------------------
غانا ... ... ... 31 ... ... ... ... ... ـ
مالي ... ... ... 8 ... ... ... ... ... ـ
الحبشة ... ... ... 9 ... ... ... ... ... ـ
كينيا ... ... ... 14 ... ... منها بئر ارتوازي واحد بالإضافة ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... إلى خمسة خزانات مياه
الصومال ... ... ... 14 ... ... ... ... ... ـ
توجو ... ... ... 11 ... ... ... ... ... ـ
بنجلاديش ... ... 36 ... ... ... منها (4) آبار ارتوازية.
تشاد ... ... ... 9 ... ... ... منها بئر بالطاقة الشمسية.
بنين ... ... ... 11 ... ... ... ... ... ـ
باكستان ... ... ... 12 ... ... ... ... ... ـ
أوغندا ... ... ... 2 ... ... ... ... ... ـ
جنوب شرق آسيا ... 5 ... ... ... ... ... ـ
السنغال ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ـ
نيجيريا ... ... ... 9 ... ... ... ... ... ـ(108/92)
من ثمرات المنتدى
التقرير السنوي لأنشطة
المنتدى الإسلامي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيسرنا في هذا التقرير أن نقدم وصفاً شاملاً ومختصراً لأنشطة المنتدى
الإسلامي في مختلف مواقع العمل، سائلين الله (تعالى) أن يبارك في جهودنا،
ويسدد خطانا، ويجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
ويتضح ابتداءً من خلال هذا التقرير حرص المنتدى الإسلامي على الجانب
الدعوي، فهو أحد الأهداف الرئيسة التي يسعى لتحقيقها، رغبةً في نشر رسالة
التوحيد، وأداءً لأمانة البلاغ، التي كلفنا الله (تعالى) بحملها إلى جميع الأمم،
وجميع الأنشطة الأخرى (التعليمية، والإغاثية، والاجتماعية.. ونحوها) إنما
تُسخّر التسخير الأمثل لخدمة الهدف الدعوي الأساس.
ونتيجة لتوسع العمل وتعدد مجالاته، اتخذت إدارة المنتدى الإسلامي عدداً من
الإجراءات التنظيمية التي تكفل المتابعة الدقيقة لسير البرامج وفق الأسس العلمية
المتقنة، بعيداً عن الارتجال والعفوية، ومن هذه الإجراءات:
1- رسم خطط واضحة للعمل، حددت فيها الأهداف والوسائل، بحيث ينمو
العمل نمواً صحيحاً.
2- افتتاح مكاتب فرعية للإشراف على الأنشطة ميدانيّاً، حيث بلغ عدد
مكاتب المنتدى الإسلامي ومجلة البيان (14) مكتباً.
3- تكوين لجنة للتقويم والتخطيط، تهدف إلى دراسة الإنجازات الماضية
وتقويمها تقويماً ميدانيّاً، وتتلمس جوانب القوة لاستثمارها وتنميتها، وجوانب
النقص لمعالجتها وتصحيحها بشكل مستمر.
4- تكوين لجنة علمية، تهدف إلى إعداد الدراسات الشرعية والتربوية التي
تحتاجها المكاتب الميدانية واللجان الدعوية.
وفيما يلي عرض مختصر لبعض أنشطة المنتدى الإسلامي:
أولاً: برامج تعيين الدعاة والأئمة والمدرسين:
يعد برنامج تعيين الدعاة والأئمة والمدرسين من أبرز البرامج التعليمية التي
يقوم بها المنتدى الإسلامي، حيث تم تعيين (500) داعية ومدرساً، يقومون بالتعليم
والدعوة والإمامة، في عدد غير قليل من الدول، مثل: كينيا، وأوغندا،
والصومال، وجيبوتي، ومالي، ونيجيريا، وغانا، وبنين، وتوجو، وبنجلاديش، وإثيوبيا ... وغيرها.
وقد وضع المنتدى الإسلامي برامج دعوية وتعليمية لكل داعية ومدرس،
تختلف باختلاف المناطق والقدرات.
وللرفع من كفاءة الدعاة العلمية والعملية، فقد أعد المنتدى سلسلة من
الدراسات التي تعين الدعاة في تنفيذ برامجهم على الوجه الصحيح، ومنها:
1- سلسلة الدراسات الشرعية المتخصصة التي تعالج بعض الانحرافات
المنهجية والعقدية في مواقع العمل، مثل: (الاتباع في ضوء الوحيين، التوسل:
المشروع والممنوع آل البيت: منزلتهم، وخصائصهم، والغلو فيهم محبة النبي -
صلى الله عليه وسلم- بين السنة والبدعة.. ونحوها) .
2- سلسلة الدروس الرمضانية، وتنقسم إلى قسمين:
أ- الدروس الفقهية. ... ب- الدروس العقدية التربوية.
3- الرسائل الدعوية:
وهي رسائل دعوية شهرية يزود بها الدعاة في الموقع، وتهدف إلى تذكيرهم
بعظيم مسؤوليتهم، وتعالج المشكلات التي تواجههم في واقعهم العملي، وتكون هذه
الرسائل أوراق عمل يتذاكر فيها الدعاة وينصح بعضهم بعضاً.
ويحرص المنتدى على تزويد الدعاة بالكتب والمراجع العلمية والدعوية التي
تسهل لهم العملية التعليمية والدعوية.
ثانياً: الأنشطة الدعوية والتربوية:
يقوم المنتدى بأنشطة دعوية وتربوية متعددة منها:
1- الدورات الشرعية:
تهدف هذه الدورات إلى تصحيح وترشيد العمل الإسلامي، ورفع المستوى
العلمي، والوعي الدعوي، لدى الدعاة، وتأصيل ذلك تأصيلاً شرعيّاً مبنيّاً على
الكتاب والسنة الصحيحة ومنهج السلف الصالح.
وقد بلغ عدد الدورات الشرعية (92) دورة، شارك فيها نخبة من
المتخصصين والأساتذة وطلبة العلم، وقدمت فيها دورس متخصصة في: العقيدة،
والتفسير، والفقه وأصوله، والحديث وعلومه، وفقه الدعوة، والسيرة النبوية،
والتاريخ الإسلامي ... وكانت الدورات موزعة كالتالي:
الدولة عدد الدورات الدولة عدد الدورات
لندن 14 نيجيريا 16
السودان 2 بنجلاديش 8
كينيا 18 الحبشة 3
تشاد 4 مالي 9
غانا 7 أوغندا 5
الصومال 6
وقد كان لهذه الدورات آثار علمية ودعوية كبيرة، ولله الحمد والمنة.
2- الملتقيات الدعوية:
تهدف هذه الملتقيات إلى معالجة مشكلات الدعوة والدعاة، وتنمية القدرات
العلمية والدعوية لدى المشاركين.
وقد تم بحمد الله (تعالى) عقد (35) ملتقى دعويّاً، في عدد من الدول،
موزعة كالتالي:
بريطانيا: (22) ملتقى دَعَويّاً.
غانا: ملتقيان دعويان. كينيا: ثلاثة ملتقيات دعوية.
السنغال: ملتقى دعوي. توجو: ملتقى دعوي.
مالي: ملتقيان دعويان. الصومال: ملتقى دعوي.
أوغندا: ملتقى دعوي. نيجيريا: ملتقيان دعويان.
3 -المخيمات الشبابية التربوية:
يحرص المنتدى الإسلامي على إقامة المخيمات الشبابية والطلابية؛ لدورها
الكبير في إيجاد المحاضن التربوية التي تربي الشباب، وتنشر الوعي الإسلامي في
صفوفهم، وقد بلغ عدد المخيمات التربوية التي أقيمت (35) مخيماً، وهي موزعة
كالتالي:
الدولة عدد المخيمات
كينيا 9
مالي 5
الحبشة 1
السودان 2
جامبيا 1
غانا 2
السنغال 1
بريطانيا 8
نيجيريا 2
تشاد 3
توجو 1
4- الدورات الإدارية:
تهدف هذه الدورات إلى تنظيم العمل وضبطه، والارتقاء به نحو الأفضل،
درءاً للفوضوية والارتجال، وقد أقيمت ست دورات متخصصة في هذا المجال،
بالإضافة إلى عدد من الدروس والمحاضرات في أكثر مكاتب المنتدى، وهذه
الدورات هي:
1- دورة في الإدارة المدرسية وطرق التدريس، أقيمت في غانا.
2- دورة في الإدارة وأساليب التخطيط والتنظيم، أقيمت على هامش الملتقى
الثالث في توجو.
3- دورة في طرق تنظيم الدورات والأنشطة العلمية والتربوية في توجو.
4- دورة تدريبية في الإدارة العامة وشؤون المشاريع في نيروبي.
5- ورشة العمل الأولى لرؤساء الأقسام والأفرع بمكتب نيروبي.
6- دورة تدريبية لأقسام السكرتارية في كينيا.
5- المحاضرات والدروس العلمية:
يواصل المنتدى الإسلامي منذ إنشائه عقد الدروس الشرعية والمحاضرات
العلمية في مركزه الرئيس في لندن، ومن هذه الدروس الأسبوعية المنتظمة:
أ - دروس في العقيدة، من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
ب- دروس في علم الحديث، من كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري.
ج - دروس في الفقه، من كتاب: سبل السلام (خاصة بالنساء) .
د - دروس في التفسير، يعقبها محاضرة أسبوعية.
هـ - دروس مختارة للناطقين بالإنجليزية.
هذا بالإضافة إلى أن كل داعية تابع للمنتدى في جميع المكاتب يكلف بالتعليم
وعقد الدروس العلمية في المساجد، كما يقوم الدعاة بإلقاء الخطب والمحاضرات في
شتى المعارف الإسلامية في المدارس والمعاهد والمساجد والتجمعات العامة، فدعاة
مكتب مالي على سبيل المثال يلقون (816) درساً علميّاً في المساجد شهريّاً، ... و (116) محاضرة عامة شهريّاً، ودعاة مكتب كينيا يلقون (2340) درساً علميّاً و (468) محاضرة في مختلف العلوم الشرعية.
ثالثا: الأنشطة التعليمية:
1- المدارس النظامية: ويقصد بها المدارس التي تلتزم بتدريس العلوم
العصرية المقررة في البلد الذي تقام فيها، بالإضافة إلى تدريس العلوم الشرعية
المعدة من قبل المنتدى، وبهذا يجمع الطالب بين الثقافتين، ويستطيع المواصلة في
الجامعات الحكومية في أي تخصص يريد، وبذلك نضمن إن شاء الله وجود مسلمين
أكفاء في مختلف القطاعات الحكومية.
وقد بلغ إجمالي عدد المدارس (20) مدرسة، وهي موزعة كالتالي:
الدولة عدد المدارس ملاحظات
بريطانيا 1
كينيا 8 منها: (4) روضة، و (3) ابتدائية، (1) ثانوية
غانا 9 منها: (2) روضة،و (3) إعدادية، و (1) ثانوية
تشاد 1
بنجلادش 1 ابتدائية
2- المدارس الشرعية:
يهتم المنتدى اهتماماً بالغاً بإنشاء وتشغيل المدارس الشرعية؛ لنشر العلم
الصحيح، ورفع الجهل عن أبناء المسلمين، وقد بلغ عدد هذه المدارس (33)
مدرسة، موزعة كالتالي:
الدولة عدد المدارس ملاحظات
كينيا 31 للمرحلة الثانوية.
تشاد 1
نيجيريا 1
3- معاهد إعداد الدعاة:
الاهتمام بتنمية الطاقات وإعداد الدعاة له أهمية كبيرة جدّاً في إنجاح العمل
الدعوي، ولهذا: سعى المنتدى الإسلامي لافتتاح عدد من المعاهد العليا لإعداد
الدعاة، واكتمل إعداد المناهج العلمية، والخطط الدراسية، ولكن تأخر افتتاحها
بسبب بعض الإشكالات النظامية في الدول المعنية، ومن أهم هذه المعاهد:
معهدا إعداد الدعاة في مالي ونيجيريا: حيث جهزت المباني، وذللت العقبات
النظامية، وسوف يبدأ العمل في معهد مالي بداية العام القادم، إن شاء الله.
4- توزيع المناهج الدراسية:
تفتقر كثير من المدارس الإسلامية في إفريقيا إلى المناهج الدراسية، بسبب
ضعف إمكاناتها المادية، فهذا يؤدي في الغالب إلى ضعف المستوى العلمي للطلاب؛ ولهذا: سعى المنتدى الإسلامي إلى توزيع المناهج الدراسية على بعض هذه
المدارس، حيث بلغ عدد الكتب الموزعة تقريبا: (252800) كتاب، موزعة
كالتالي:
الدولة عدد الكتب
غانا 110844
كينيا 52250
مالي 177000
السنغال 2500
الصومال 3000
أوغندا 1000
بنين 18000
توجو 48206
رابعاً: تحفيظ القرآن الكريم:
يهتم المنتدى الإسلامي اهتماماً خاصّاً بكتاب الله (عز وجل) ، حفظاً، وتلاوة، ودراسة، ويسعى لتربية النشء المسلم على آدابه وتوجيهاته، وذلك من خلال
إقامة خلوات وحلقات لتحفيظ القرآن الكريم، ويبلغ عدد الحلقات التي يشرف عليها
المنتدى (330) حلقة تتوزع في عدد كبير من الدول بالإضافة إلى أربعة مراكز
لتحفيظ القرآن في مخيمات اللاجئين الإرتيريين في شرق السودان.
وقد أعد المنتدى الإسلامي خطه متكاملة للارتقاء بمستوى الحلقات إداريّاً
وتربويّاً وفنيّاً، وقد دونت هذه الخطة في كتاب تحت الطبع، سوف يوزع لعموم
القراء إن شاء الله، ووضع المنتدى أيضاً منهجاً علميّاً رديفاً في العلوم الشرعية:
التوحيد، والفقه، والتفسير، والسيرة، والآداب الإسلامية، كما يحرص المنتدى
الإسلامي على الرفع من قدرات المشرفين على الحلقات والمدرسين فيها، وذلك
بعقد الدورات العلمية لهم، ومنها:
1- دورة شرعية لمدرسي حلقات تحفيظ القرآن الكريم في توجو.
2- دورة شرعية لمدرسي حلقات تحفيظ القرآن الكريم في غانا.
3- دورتان تدريبيتان لمدرسي حلقات تحفيظ القرآن الكريم في مالي.
4- دورة تدريبية لمعلمي الحلقات في أوغندا.
هذا بالإضافة إلى الدورات المحلية التي يعقدها المشرفون الميدانيون مع
مدرسيهم بين فترة وأخرى.
وقد وزعت مكاتب المنتدى أعداداً كبيرة جدًّا من المصاحف، بالإضافة إلى
توزيع ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، والفرنسية والصومالية.
خامساً: القوافل الدعوية:
المناطق الإسلامية مناطق واسعة مترامية الأطراف، وقد انتشر الإسلام بحمد
الله في مختلف الأدغال والقرى النائية، ولكن غلب الجهل في عامة المسلمين في
المدن الرئيسة فضلا عن القرى والهجر النائية، مما جعل البدع والشركيات والسحر
ينتشر في أوساط الجهلة من المسلمين.
ولتعسر تعيين الدعاة في كل المناطق المحتاجة، ولصعوبة الانتقال من منطقة
إلى أخرى، كلف المنتدى الإسلامي دعاته بإعداد القوافل الدعوية للوصول إلى
المسلمين وغيرهم، ونشر العقيدة الصحيحة بينهم، ومحاربة البدع والخرافات.
ومن أجل أن يكون تأثير القافلة على المستوى الأمثل، رأى المنتدى الإسلامي
أن يُرْسِل مع بعض القوافل طيبياً لعلاج المرضى، كما تحمل القافلة أحياناً بعض
الملابس والمواد الغذائية لتأليف الناس، وبعض الكتب باللغات المحلية.
وقد نفّذت (ولله الحمد) (90) قافلة دعوية موزعة كالتالي:
الدولة عدد القوافل
كينيا 16
غانا 11
الصومال وجيبوتي 11
مالي 16
السودان 3
تشاد 2
أوغندا 3
الحبشة 2
بنجلاديش 5
نيجيريا 21
وقد كان لهذه القوافل (والحمد لله) أثر محمود، ونتائج إيجابية كبيرة، لعل من
أبرزها إسلام (62) وثنيًّا في قافلة واحدة قام بتنفيذها مكتب مالي.
وفي كينيا أسلم (ولله الحمد) في عام 1416هـ 1417هـ: (3500) شخصاً،
وفي نيجيريا أسلم (164) شخصاً.
ونتيجة لهذا الإقبال العظيم للدخول في الإسلام، فقد حرص المنتدى الإسلامي
على متابعة هؤلاء المهتدين بطرائق مختلفة، منها:
1- إنشاء مركز محو الأمية للمهتدين الجدد في منطقة (كسومو) في كينيا.
2- في كل قرية يكثر فيها المهتدون يعين عندهم داعية يجيد لغتهم المحلية؛
ليتابع تعليمهم.
3- الجولات الدعوية الدورية للدعاة في مختلف المناطق والقرى.
سادساً: بناء المساجد:
قام المنتدى ببناء (246) مَسجداً وجامعاً في دول مختلفة، منها (37) مسجداً
تحت التنفيذ، وهي كالتالي:
الدولة عدد المساجد عدد المساجد المجموع
التي تم تنفيذها التي تحت التنفيد
---------------------------------------------
الحبشة 17 3 20
إريتريا 2 2 4
أوغندا 8 1 9
باكستان 41 - 41
أفغانستان 1 - 1
بنجلاديش 80 6 86
تشاد 12 - 12
توجو 3 - 3
بنين 1 - 1
الجمهوريات الإسلامية 4 - 4
السنغال 1 1 2
السودان 8 4 12
الصومال 166 - 16
غانا 19 6 25
الفلبين 5 1 6
كينيا 17 2 19
مالي 7 5 12
نيجيريا 3 8 11
الهند 3 2 5
جيبوتي - 1 1
تنزانيا 2 - 2
ويحرص المنتدى الإسلامي على الاختيار الأمثل لموقع المسجد، وتسجيل
ملكيته رسميًّا، كما يسعى كذلك لإحياء رسالة المسجد، وتنشيطه دعويّاً، بتعيين
داعية مؤهل في كل مسجد يقوم المنتدى ببنائه، ليتولى إمامة المسلمين، وإقامة
الدروس الشرعية، والمواعظ، وحلقات تحفيظ القرآن.
سابعاً: المراكز الإسلامية:
رغبة من المنتدى الإسلامي في تركيز العمل الدعوي، وبنائه بناءً متيناً: فقد
وافقت الإدارة على إقامة أربعة مراكز إسلامية، وهي:
1- المركز الإسلامي في نيجيريا كانو: وقد بدأ البناء منذ مدة، وسوف يفتتح
المسجد ومصلى النساء في شهر رمضان المبارك 1417هـ.
2- المركز الإسلامي في بنجلاديش، وقد بدأ البناء فيه منذ مدة.
3- المركز الإسلامي في غانا أكرا: وقد بدأت الإجراءات الأولية لشراء
مبنًى كبير، وأرض مجاورة له، ليقام عليها المسجد إن شاء الله (تعالى) .
4- المركز الإسلامي في كينيا نيروبي: تم شراء الأرض وتسجيلها رسميّاً،
والعمل جارٍ لإعداد المخططات الهندسية للمشروع.
ويحتوي كل مركز على:
1- مسجد جامع كبير.
2- مصلى للنساء.
3- مكتبة باللغة العربية والإنجليزية واللغات المحلية.
4- مكتبة سمعية ومرئية.
5- فصول مدرسية.
6- مبانٍ إدارية.
ثامناً: المكتبات العامة ومكتبة طالب العلم:
للكتاب الإسلامي دور كبير في نشر العلم، ونشر العقيدة الإسلامية الصحيحة، وبسبب ندرة الكتاب الإسلامي وقلة المراجع العلمية في كثير من الدول، سعى
المنتدى الإسلامي إلى توفير الكتب والمراجع العلمية بعدة وسائل، منها:
1- المكتبات العامة: وهي نوعان:
مكتبة كبيرة: توضع في المدن الرئيسة، وفي أماكن التجمعات الكبيرة للدعاة.
مكتبة صغيرة: توضع في المساجد والمدارس ونحوها.
وتم انتقاء الكتب بناءً على الاحتياجات الأساس للدعاة في كثير من البلاد.
وبلغ عدد المكتبات التي جهزت حتى الآن (63) مكتبة، موزعة كالتالي:
الدولة عدد المكتبات عدد المكتبات الصغيرة
بريطانيا 1 -
كينيا 3 17
مالي 4 4
غانا 2 -
الصومال 7 7
السنغال ... ... 1 1
بنجلاديش 3 1
السودان ... 1 -
تشاد 1 1
توجو - 1
أوغندا 1 -
الحبشة ... - 5 و5 سمعية
نيجيريا ... - 2
2- مكتبة طالب العلم: يحرص المنتدى الإسلامي على تنمية قدرات الدعاة
العلمية، ورفع مستوياتهم الشرعية، وذلك بتوفير مكتبة صغيرة لكل داعية،
تحتوي على الأصول العلمية المهمة، ولكي يكون الاختيار متلائماً مع قدرات الدعاة
وضعت قائمتان:
الأولى: للدعاة الجامعيين.
الثانية: للدعاة غير الجامعيين.
وقد بلغ عدد مكتبات طالب العلم التي وزعت (711) مكتبة، موزعة كالتالي:
الدولة عدد المكتبات
كينيا 188
غانا 141
مالي 50
بنجلاديش 110
تشاد 150
الصومال 45
أوغندا 25
توجو 2
3- توزيع الكتاب والشريط الإسلاميين:
* عدد المصاحف الموزعة: 28. 000 مصحف.
* عدد الكتب الإسلامية: 239. 409 كتب.
* عدد الأشرطة: 105. 000 شريط.
تاسعاً: مطبوعات المنتدى الإسلامي:
1- مجلة البيان: بدأ المنتدى الإسلامي بإصدارها في عام 1406هـ،
لتوزع في مختلف أنحاء العالم. وقد اعتمد المنتدى (4500) اشتراكاً شهريّاً مجانيّاً
في عدد من الدول، إسهاماً منه في إيصال كلمة الحق والهدى إلى الدعاة وطلاب
العلم الذين لايستطيعون شراء المجلة، بالإضافة إلى العديد من الجمعيات الإسلامية
والمعاهد والمراكز.
2- نشرة المنار: وهي نشرة صغيرة تصدر باللغة الإنجليزية وتوزع في
بريطانيا وأمريكا، ومكاتب المنتدى في إفريقيا في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية،
وتتناول هذه النشرة بعض البحوث الميسرة في العلوم الإسلامية.
3- مجلة النصيحة: وهي مجلة دعوية جديدة تصدر باللغة الإنجليزية
والسواحيلية في كينيا، بدأ إصدارها من شهر رمضان 1415هـ، ولنجاح هذه
المجلة سوف تطور وتوزع إن شاء الله في الدول الإفريقية الناطقة بالإنجليزية.
4- كتاب المنتدى:
يقوم المنتدى الإسلامي بطباعة الكتب والرسائل المفيدة مع الحرص على
حسن الاختيار والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة، ومن هذه الإصدارات:
* التجديد في الإسلام.
* رؤية إسلامية للاستشراق.
* اعتقاد أهل السنة في الصحابة.
* علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام.
* الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي.
* البداوة والحضارة.
* خواطر في الدعوة، ج1، 2.
* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أصوله وضوابطه.
* تجربة المنتدى الإسلامي في العمل الدعوي.
* أيعيد التاريخ نفسه؟ ! .
* على من تعرض الصور؟ ! .
* فن التعامل مع الناس.. وغيرها.
وسوف يصدر قريبا إن شاء الله كتاب: المدارس والكتاتيب القرآنية.. وقفات
تربوية وإدارية.
5- طباعة الكتب المترجمة:
قام المنتدى الإسلامي بطباعة عدد من الكتب الإسلامية المترجمة إلى عدد من
اللغات، ووزعت في عدد من دول العالم، ومنها:
* الأصول الثلاثة، (باللغة الفرنسية) .
* الأصول الثلاثة، (بلغة الهوسا) .
* الخطوط العريضة، (بلغة الهوسا) .
* وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة، للشيخ ابن باز، (بالإنجليزية) .
* وجوب أداء الصلاة جماعة، لابن باز، (بالفرنسية) .
* رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية، (بالبنغالية) .
* عقيدة أهل السنة والجماعة، لجميل زينو، (بالبنغالية) .
* صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجوب صلاة الجماعة، ... لابن باز، (بالسواحيلية) .
* الطهارة والصلاة، لابن عثيمين، (بالسواحيلية) .
* الدروس المهمة لعامة الأمة، لابن باز، (بالسواحيلية) .
* توجيهات إسلامية، لجميل زينو، (بالبنغالية) .
* كشف الشبهات للإمام محمد بن عبد الوهاب، (بالسواحيلية) .
* حصن المسلم، (بالسواحيلية) .
* المرأة في الإسلام، (بالسواحيلية) .
* مختصر العقيدة الإسلامية، لمحمد جميل زينو، (بالسواحيلية) .
بالإضافة إلى أن المنتدى الإسلامي يسعى لتوفير الكتاب الإسلامي باللغات
المختلفة من الأسواق، ويوزعها في دول العالم.
عاشراً: النشاط الإغاثي والاجتماعي:
المنتدى الإسلامي مؤسسة دعوية في الأصل، ولكنه يقدم أنشطة اجتماعية
وصحية متعددة، كما يساهم في إغاثة المنكوبين وإعانة الملهوفين من المسلمين،
ومن البرامج التي تم تنفيذها:
1- المراكز الإغاثية:
قام المنتدى الإسلامي بإنشاء (28) مركزاً إغاثياً، استفاد منها ( ... 15)
شخص يوميا، موزعة كالتالي:
أ- كينيا: (23 «مركزاً إغاثيا للاجئين الصوماليين، واستمرت لمدة سنتين
، استفاد منها: (11700) شخص يوميًّا، وقد أغلقت جميعها لنزوح اللاجئين إلى
مواقع أخرى.
ويوجد الآن سبعة مراكز تغذية للطلاب في منطقة مرتي، يقدم كل منها وجبة
واحدة، ما عدا مركز واحد يقدم ثلاثة وجبات يوميّاً، ويستفيد من هذه المراكز الآن
(2020) شخصاً يوميّاً.
ب - بنجلاديش: أقيم مركز إغاثي استمر لمدة سنتين، وتم إغلاقه لانقضاء
الحاجة منه.
ج - الصومال: مركزان إغاثيان، ثم إغلاقهما أخيراً.
د - إثيوبيا: مركزان إغاثيان، تم إغلاقهما أخيراً.
2- الأعمال الإغاثية العامة:
وتشمل توزيع المواد الغذائية واللباس والكساء والدواء، حيث قام المنتدى
الإسلامي بأعمال إغاثية متعددة في الصومال، وبنجلاديش للمتضررين من
الفيضانات والأعاصير، والبورماويين بسبب الحروب، وجبيوتي، ومالي..
وغيرها.
ويصاحب هذه الأنشطة برامج دعوية مكثفة من دعاة المنتدى الإسلامي.
3- برنامج إفطار صائم:
اعتاد المنتدى الإسلامي تنفيذ البرنامج سنويّاً في عدد من دول العالم، وقد بلغ
عدد الوجبات التي تم توزيعها في رمضان 1413هـ (168، 849) وجبة،
شملت (18) دولة، وأما في رمضان 1414هـ فقد بلغ عدد الوجبات (677،
326) وجبة، شملت (16) دولة، وفي رمضان 1415هـ بلغ عدد الوجبات
(700، 784) وجبة، شملت (16) دولة، وفي رمضان 1416هـ بلغ عدد
الوجبات (350. 871) وجبة، شملت (11) دولة.
وفي الغالب: يصاحب الإفطار دروس وعظية وعلمية وتربوية يعدها دعاة
المنتدى الإسلامي؛ مما يكون له أثر مبارك (ولله الحمد والشكر) .
وقد بلغ عدد الدروس العلمية في إفطار عام 1416هـ (3126) درساً، ... و (510) محاضرات، و (1067) كلمة توجيهية.
4- برنامج الأضاحي:
يقوم المنتدى الإسلامي سنويّاً بتنفيذ برنامج الأضاحي في عدد من دول العالم،
وذلك لتوزيعها على فقراء المسلمين، وقد بلغ عدد الأضاحي حتى نهاية عام 1416
هـ (24381) أضحية، بالإضافة إلى ذبح العقائق والكفارات والنذور؛ لتوزيعها
على المحتاجين.
5- حفر الآبار:
بسبب تتابع الجفاف ومواسم القحط التي سادت أجزاءً من القارة الإفريقية،
وزيادة حاجة المسلمين إلى مصادر نقية للمياه، عمل المنتدى ولا زال يعمل على
سد حاجة المسلمين في بعض المناطق من المياه الصالحة للشرب، وقد حفر المنتدى
الإسلامي حتى الآن (172) بئراً في عدد من الدول، موزعة كالتالي:
الدولة عدد الآبار ملاحظات
غانا 31 -
مالي 8 -
الحبشة ... 9 -
كينيا 14 منها بئر ارتوازي واحد، بالإضافة إلى خمسة خزانات للمياه.
الصومال 11 -
توجو 36 -
بنجلاديش 9 منها (4) آبار ارتوازية.
تشاد 11 منها بئر بالطاقة الشمسية.
بنين 12 -
باكستا ن 2 -
أوغندا 5 -
جنوب شرق آسيا 1 -
السنغال 9 -
وقد بدأ المنتدى بمشروع جديد لحفر الآبار الارتوازية في السودان باسم
(عيون الحياة» ، وجهز المشروع بمختلف التجهيزات الفنية والآلية اللازمة، وبناء
على الخطة المرسومة فسوف يحفر (12) بئراً سنويّاً إن شاء الله (تعالى) ، تم تنفيذ
(24) بئراً حتى الآن، ولله الحمد.
6- كفالة الأيتام:
يكفل المنتدى الإسلامي (258) يتيماً موزعين في عدد من الدول كفالة تامة،
تشمل الغذاء والكساء والتعليم.
وفي ختام هذا التقرير الموجز: نسأل الله (تبارك وتعالى) أن يبارك في هذه
الجهود الخيرية وأن يخلص النيات، وأن يتقبلها بواسع فضله، وأن يوفقنا لإكمال
هذه المسيرة على الوجه الذي يرضيه، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
وصلِّ اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.(108/92)
الورقة الأخيرة
لا.. لوظيفة التزوير
بقلم: علي بن موسى
ليس غريباً أن يطفو فوق السطح بعض من امتهن تزوير وتزييف وعي
القارئ، من الذين باعوا عقولهم وأفئدتهم للكفر وأهله، ليس بغريب أن يَلمَعَ هؤلاء
وأن تتاح لهم فرص نشر ضلالهم وتضليلهم للأمة.
فمن ضلالات القوم: ما يحاول هؤلاء المشبوهون إشاعته بين القراء، ومن
ثم بين قطاعات الأمة كافة.. من أن الإسلام لا صلة له بالسياسة ولا بالحكم، وهي
شنشنة نعرفها من أخزم، وضلالتهم هذه ليست بمستغربة منهم، ومن اتخذ طريق
العلمنة والإلحاد له نهجاً فلا عجب منه أن يقول: إن الإسلام لا صلة له بالسياسة،
فليس بعد الكفر ذنب، لكن الذي يدفعنا إلى الكتابة عن هذا الأمر: هو حماية بعض
الأغرار من الانسياق وراء فجورهم وكفرهم وضلالهم؛ درءاً للمفسدة ومنعاً
للضلالة والردة من الاستشراء، فإن من حق الأمة على كل ذي قلم وفكر أن ينهض
لحماية كافة المسلمين من هذه الشرذمة الناكصة عن دينها.
إن الإسلام دين ودنيا، دين ينظم حياة الأمة في دنياها وأخراها، دين كامل
تام لا نقص فيه ولا عوجاً، قال الله (تعالى) : [إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ] ... [آل عمران: 19] ، وقال (تعالى) : [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينََ] [آل عمران: 85] ، فالإسلام إذن: منهج حياة كامل ينظم جميع جوانب الحياة بما في ذلك السياسة والحكم، يقول الله (تعالى) : [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] [المائدة: 49] .
لقد تكرر لفظ «حكم» واشتقاقاته المختلفة كثيراً وبخاصة صيغة الأمر ... «احكم» ، وهذا له دلالة قطعية أن الأمر للوجوب، وقد قال (تعالى) لنبيه: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] [الجاثية: 18] ، فشريعة الإسلام مهيمنة هيمنة كاملة على الحياة، كلها رحمة ... وعدل، لا ظلم ولا جور فيها، فماذا يقول أعداء الحق والحقيقة من العلمانيين ومن لف لفهم؟ ! ، غير أننا نذكرهم بقوله (تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] ، فهل يَعْقل ذلك أولئك المزورون لرسالتهم، الذين يعملون لتضليل الناس؟
لكن حسبهم قوله (تعالى) : [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ
كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] [الأعراف: 179] .(108/111)
رمضان - 1417هـ
فبراير - 1997م
(السنة: 11)(109/)
كلمة صغيرة
وما تخفي صدورهم أكبر
منذ أن ظهر ما يسمى بالنظام العالمي الجديد والمسلمون يكتوون بنيرانه دون
غيرهم، فالمواقف الجارحة، والقرارات الصارمة، والعدوان المبيّت، والحصار،
والمقاطعة.. لم نسمع بأنها طبقت بحق غيرهم، مع وجود الباعث القوي من
ممارسات قمعية واعتداءات سافرة.
ولم نر يوماً قيام هيئة الأمم ومجلس أمنها (المزعوم) بتطبيق قراراته الحازمة
والحاسمة ضد دول غير إسلامية (إلا تحلة القسم) .
نعم قد يحكم بعض بلاد المسلمين طواغيت وجبابرة يسومون شعوبهم سوء
العذاب، وقد يرتكبون من الموبقات ما الله به عليم.. ولكن: ما ذنب الشعوب التي
تحاصَر وتجوّع وتُهَدّد بهدم بنيتها الأساسية بدعاوى تافهة واتهامات معلبة لم تعد
تنطلي على أحد؟
العجيب: أن هيئة الأمم في مواقفها من السودان صارت مثاراً للسخرية من
كل متابع، فاتهامها بالإرهاب وتصديره وإعداد معسكرات لمن يسمون بالمتطرفين.. أصبح دعايات ممجوجة؛ فليس هناك أكثر إرهاباً من الصهاينة والصرب،
وليس هناك تصدير للإرهاب مثل ما يحصل من دول لم تعد مجهولة كبعض الدول
المحيطة بالسودان التي جعلت من حدودها مجالاً لتدريب المعارضين والتدخل في
شؤونه الداخلية، بل إن من العاملين تحت لواء الأمم المتحدة وبعض الدول الغربية
من يتدخل في السودان ويجتاح أراضيه ليل نهار.
فشيئاً من الموضوعية، وشيئاً من الصدق، ولتطبق العقوبات على كل
المجرمين، بما فيهم (يهود) الذين يعربدون في فلسطين وجنوب لبنان بدون حسيب
ولا رقيب. ومرحى للمعارضة السودانية (الشريفة) التي صارت تحت قيادة
(الصليبي جرنج) ، وعلى الشعب السوداني الأبي أن يعرف من هو حقّاً أولى
بالنصرة، ونحن لا نزكي السودان بقدر ما ندعوه للمزيد من الأسلمة الحقيقية. لكننا
نحذر من الظلم والسكوت عليه.(109/1)
افتتاحية العدد
رمضان فرصة للتغيير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد:
فالأيام تمر مر السحاب، وتمضي السنون سراعاً، وجلنا في غمرة الحياة
ساهون، وقل من يتذكر أو يتدبر واقعنا ومصيرنا مع أننا نقرأ قول الله (تعالى) : ... [وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً] ... [الفرقان: 62] .
والمسلم في عمره المحدود وأيامه القصيرة في الحياة قد عوضه الله (تعالى)
بمواسم الخير، وأعطاه من شرف الزمان والمكان ما يستطيع به أن يعوض أي
تقصير في حياته إذا وفق لاستغلالها والعمل فيها، ومن تلك المواسم: شهر رمضان
المبارك، يقول الله (تعالى) : [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [البقرة: 183] ، (إنه نداء رباني حبيب لعباده
المؤمنين يذكرهم بحقيقتهم الأصيلة، ثم يقرر بعد ذلك النداء: أن الصوم فريضة
قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد القلوب للتقوى
والخشية من الله، هكذا تبرز الغاية الكبرى من الصوم.. والتقوى هي التي توقظ
القلوب لتؤدي هذه الفريضة طاعةً لله وإيثاراً لرضاه.
والمخاطبون بهذا القرآن من الرعيل الأول ومن تبعهم بإحسان يعلمون مقام
التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم
أداة من أدواتها وطريق موصل إليها) [*] .
ولهذا الشهر الكريم من الخصائص التي ميزه الله بها دون غيره من الشهور ما
يساعد على أن يكون فرصة لزيادة معدلات التغيير والتصحيح في حياة كل فرد،
بل في حياة الأمة جمعاء، يقول الرسول: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة
وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين) [اخرجه الترمذي] ، وفي رواية أخرى:
(إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وفتحت أبواب الجنة،
فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي
الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة) .
هذه الفرصة العظيمة سانحة في هذا الشهر المبارك حيث تصفو النفوس،
وترق القلوب، فيؤوب العباد إلى ربهم ويقومون بين يديه.
وليعلم كل منا أنه يساهم بقسط وافر في تردي الحال وتأخر النصر إذا لم
ينتهز فرصة رمضان لزيادة رصيده من الصالحات، وتصفية ما عليه من الآثام،
حيث هو لبنة في بناء الأمة التي وعد الله بتغيير واقعها إلى أحسن وحالها إلى
أفضل إن هم غيروا ما بأنفسهم: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا ... بِأَنفُسِهِمْ....] [الرعد: 11] .
ما أحوجنا معشر المسلمين كافة إلى وقفة محاسبة، كل منا مع نفسه في هذه
الأيام الفاضلة، نراجع أحوالنا لا سيما من أسرف وفرط في جنب الله ومن قصّر
في حق أهله أو حق من ولاه الله رعايته، ومن زلت به القدم وفرط في حقوق
إخوانه المسلمين فلم يسلموا من أذاه.
إنها فرصة لأن يتساءل فيها كل منا مع نفسه: حتى متى يبقى ضالاً عن
صراط الله المستقيم، وهو يعلم أن الطريق الصحيح هو ما دعا إليه البشير النذير
وأن خلافه ونقيضه هو الضلال المبين؟ ، لماذا أكون [كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] [النحل: 92] ؟ ! .
إن الاستمرار على الحق والعض عليه بالنواجذ، والعودة إلى رحاب الله،
وترك ما ألفته النفس من لهو وهوى قديكون الفكاك منه صعباً كما قال الشاعر:
النفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
لكنْ لا بد من إرادة قوية واستشعار لواجب التغيير، وبخاصة إذا آمنا إيماناً
جازماً أننا معرضون للخطر وسوء الخاتمة إن لم يتداركنا الله برحمته، فما أحوجنا
إلى الصبر والمصابرة حتى نلقى الله وهو عنا راضٍ.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن من ورائكم أياماً الصابر فيهن
كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله خمسين منهم
أو خمسين منا؟ قال خمسين منكم) [رواه أبو داود] .
إننا معشر المسلمين حكاماً ومحكومين يجب أن نصطلح مع الله، وهذا الشهر
الكريم فرصة وأي فرصة.
فمن الحاكمين بأمرهم اليوم من يحارب الله ورسوله جهاراً نهاراً، فأنّى له أن
يوفق وأنّى له أن يمكّن، وأنّى له أن يختم له بخير، فإن كانوا مسلمين حقّاً؛
فليعلنوا حقيقة إسلامهم، وليحكِّموا شريعة الله، وليوطدوا العزم على السير بهدي
الإسلام، وليغيروا وفق منهاجه، فليس الأمر مجرد دعوى.
الدعاوى إذا لم يقم علي ... ها دليل فأصحابها أدعياء
وهنا أيضاً دعوة لكل جماعة أو فئة تنتمي إلى الإسلام وتدعو إلى ذلك أن
تحقق ولاءها لله (تعالى) وأن تجرد متابعتها للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكم
رأينا في الواقع من يزعمون أنهم من الداعين إلى الإسلام، بينما هم في العقيدة
منحرفون، وعن السنة زائغون، وعن آداب وأخلاق الإسلام متخلون.
وقصارى ما عندهم: الكلام والخصام والحزبية المقيتة واللدد في الخصومة،
فما أحوج المنتمين إلى سلك الدعوة إلى الله لتمثل الإسلام في منطلقاتهم وتعاملاتهم
والولاء للمسلمين والبراء من أعداء الدين.
فهل يكون هذا الشهر فرصة للعودة إلى الله وسلوك صراط الله المستقيم؟ !
عسى ولعل.
وأخيراً: ندعو كل مفكر وكاتب مسلم ممن اتخذ الكتابة مهنة ومصدر رزق ألا
يزل به القلم ويتبنى الأطاريح المنحرفة والآراء الفجة فيما يزعمونه علاجاً
للمشكلات، لأننا قَلّ أن نجد من هؤلاء الكتاب من يسلك السبيل السوي فيما يسود
به الصفحات؛ لكثرة ما يقولون بلا علم، ولجُل ما ينقدون بلا فهم؛ فضلاً عن
هجومهم المتوالي على الدعاة والطعن في نواياهم واتهامهم بما هم منه براء.
فهؤلاء إن كانوا غير مسلمين فليس بعد الكفر ذنب؛ وإن كانوا مسلمين فعليهم
أن يتوبوا إلى الله؛ وأن يستشعروا الأمانة الملقاة على عواتقهم؛ وعليهم ألا يتسببوا
في أذى إخوانهم والإساءة لهم والتحريض ضدهم بلا دليل؛ وعند الله تجتمع
الخصوم.
فلعل في هذا الشهر المبارك ما يوضح الرؤية الشاملة في الموقف من الإسلام
ودعاته؛ وألا يكونوا أذناباً لأعداء الله في الهجوم على الإسلام والتخويف منه
بمناسبة وغير مناسبة.
ولعل في هذه الأيام الفاضلة ما يعين على تجاوز الأخطاء وتناسي الإحن،
والعودة إلى الحق وعدم التمادي في الباطل، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ .
والله أسأل أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللهم وسلم على البشير النذير وعلى آله وصحبه وسلم..
__________
(*) في ظلال القرآن، م1، ص 168، بتصرف.(109/4)
في إشراقة آية
[ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون] [*]
بقلم: د.عبد الكريم بكار
في هذه الآية الكريمة إخبار عن قاعدة من قواعد الخلق، وناموس من نواميس
الوجود؛ وهي في الوقت نفسه: دليل على أن القرآن من عند اللطيف الخبير الذي
أحاط بكل شيء علماً.
إن المعرفة والتقدم العلمي الذي كان متوفراً في زمان النبي -صلى الله عليه
وسلم- لايمكِّن على أي نحو من الكشف عن قاعدة (الزوجية) في الوجود، بل إن ما
كان في حوزة الناس آنذاك من استقراء واطلاع لم يكن كافياً للكشف عن ظاهرة
(الزوجية) في (الأحياء) فضلاً عن ميادين الوجود المختلفة، وإن الكشوفات الكونية
المتسارعة؛ تميط اللثام في كل يوم عن أشكال من التزاوج والاقتران والارتباط في
ميادين الحياة كافة، وعلى مستويات مختلفة، ابتداءً بالذرة، وانتهاءً بالمجرة؛ مما
يُضيف شواهد جديدة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ولنا مع هذه الآيات وقفات عدة، نوضحها في الحروف الصغيرة الآتية:
1- إن فَطْر الله (جل وعلا) للكون على المزاوجة دليل إضافي على المغايرة
بين المخلوق والخالق المتفرد في ذاته وصفاته وأفعاله؛ حيث إن ما يترسخ في
الخبرة البشرية على الدوام من أن الخلق واحد، ويخضع لقوانين واحدة، وتحكم
حركتَه ونموه وانهياره قواعدُ واحدة.. إن كل ذلك يدل على توحد الخالق (جل
ثناؤه) الذي أوجد كل ذلك التنظيم الدقيق المعجز.
وفي ختم الآية بقوله [لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] إشارة واضحة إلى هذا المعنى، حيث
يدرك الناس تفرد الخالق وأَحَديته من خلال ما يشاهدون من ظواهر تزاوج الأشياء
وتركيبها، وارتباطاتها، وتوازناتها على نحو يستحيل معه العبث، والارتجال والمصادفة.
وكأن في الآية بعد هذا وذاك إيحاءً إلى أهمية استثمار المعرفة بسنن الله في
الخلق في غرس الإيمان وتقويته، والارتقاء في إدراك واجبات العبودية وآدابها.
2- إن ظاهرة الزوجية ليست دليلاً على وحدانية الخالق (جل وعلا) فحسب،
وإنما هي دليل على نقص المخلوقات وافتقارها لغيرها، حيث لا تتحدد معاني
الأشياء وقيمها الحقيقية من خلال ذواتها، وإنما من خلال كونها أجزاءً في تركيبات
أعم، وفي هذا الصدد فإنه يمكن القول: إنه عند تدقيق النظر لا يخلو شيء عن
تركيب! .
لولا معرفة الناس بالقبح لما كان للجمال أي معنى أو قيمة إضافية؛ ولذا قالوا: إن للشوهاء فضلاً على الحسناء؛ إذ لولاها لما عُرف فضل الحسناء.
ما فضل التنظيم لولا الفوضى، والذكاء لولا الغباء، والغنى لولا الفقر،
والفضيلة لولا الرذيلة، والنهار لولا الليل، والحلو لولا المر ... أشياء لا حصر لها، ولا تستمد قوامها من ذاتها، وإنما من خلال غيرها! !
وهكذا: فالخلق، وما يَتَغَنّوْنَ به من خصائص فقراء فقراً مزدوجاً، فقراً إلى
الخالق الموجد، وفقراً إلى مخلوق آخر، يجعل له معنى!
ومن وجه آخر: فإن طبيعة العلاقة الزوجية تميل إلى المرونة، وذات أوساط
متدرجة؛ فالغنى درجات، وكذلك الفقر، وقل نحو ذلك في الذكاء والغباء،
والجمال والقبح، والاستقامة والانحراف ... حيث تلامس أدنى درجات الأول أعلى
درجات الثاني؛ مما يشكِّل مناطق برزخية متأرجحة، هذه الوظيفة للعلاقات
الزوجية تكسر من حدة تفرد كل طرف، وتجعل الخصائص الفائقة نسبية، فتتطامن، وجوانب النقص اعتبارية، فتشمخ، وكأنها بذلك تتهيأ للتعاون والاندماج عوضاً
عن التنافس والصدام.
وكأن ذلك يوحي إلينا بإيجاد الأرضيات المشتركة، والعدول عن النفخ في
الخصوصيات الاجتهادية الذي يحولها إلى حواجز منيعة وقواطع حقيقية بين أبناء
التيار الواحد، والأمة الواحدة! ، وهكذا: فإذا كنا عاجزين عن أن نستشف من
النصوص ما يساعدنا على صياغة علاقات ومواقف جيدة ومنتجة.. فإن علينا أن
نتعلم من إيحاءات السنن الكونية ما نُصلح به حياتنا الاجتماعية، وعلاقاتنا الأخوية؛ حيث إننا في نهاية الأمر جزء من الظاهرة الكونية الكبرى.
3- الإخصاب أوضح نتائج التزاوج بين الأشياء، وهو أوضح ما يكون في
التقاء الأزواج من الإنسان والحيوان؛ فمن خلال لقاء الزوجين يتم حفظ النوع
وإعتاؤه بنسل على درجة كبيرة من التنوع والتعدد.
ولا يقلّ الإخصاب في الأشياء المعنوية والمادية عنه في الكائنات الحية؛ فمن
عناصر الأرض التي لا تزيد عن المئة إلا قليلاً يوجد بين أيدي الناس اليوم ما يزيد
على مليونين من المصنوعات! ، وعلى الرغم من صرامة القوانين والخصائص
الكيميائية يوجد في الأسواق ما يزيد على ثمانين ألف نوع من المركبات الكيميائية،
كما أنه يطرح منها في الأسواق كلّ عام أكثر من ألفي نوع جديد! .
هذه الخصوبة الهائلة هي نتيجة مباشرة لألوان التزاوج التي تتم بين العناصر
المختلفة.
ومما لا ينبغي أن يعزب عن البال أن اللقاء السعيد بين العناصر المختلفة
يجب أن يتسم بالمزيد من العناية والدقة والتجربة، إذا ما أردنا إنجاباً وخصوبة
على مستوى عالٍ من الجودة؛ ولهذا السبب أخذ التقدم في علوم الكيمياء يعتمد على
الرياضيات أكثر فأكثر، وقد كان من قبل يعتمد على التجربة، حيث تمنح
الرياضيات مستويات من الدقة، لا توفرها التجربة.
وقد أصبح من مقاييس التقدم العلمي الشائعة: قدرة دولة من الدول على إنتاج
(المواد الجديدة) ذات المواصفات الفائقة، والمواد الجديدة لا تتخلق إلا من خلال
التزاوج بين عناصر لم يسبق لقاؤها على النحو الجديد، وبالنسب الجديدة.
اللقاء بين الأفكار والثقافات لا يقل خصوبة عن اللقاء بين العناصر الطبيعية،
وهو الآخر يحتاج حاجة ماسّة إلى وعي وفطنة وحذق، حتى يكون منجباً، والقاعدة
في هذا: أنه إذا التقت فكرتان ضمن شروط إيجابية، فإنه ينتج عن ذلك اللقاء فكرة
ثالثة، هي أرقى منهما جميعاً؛ حيث تؤدي المزاوجة بينهما إلى نضج وتبلور كل
منهما، وحيث يتخلص كل منهما من أجزائه المعطوبة من خلال المقارنة ونمو
الوعي النقدي، لكن ذلك لا يتم إلا إذا اتّسم حاملو الفكرتين بالكثير من الموضوعية
والشفافية والهدوء والمرونة الذهنية والرؤية المركبة، ونحن نلاحظ في هذا السياق
أن أكثر من يذهب من إخواننا للدراسة في الغرب ينقسمون إلى فريقين:
فريق يُفتَتَن بما يراه هناك من تنظيم وتقدم صناعي ورعاية لحقوق الإنسان،
فيشغله ذلك عن إدراك بذور الانهيار في تلك المجتمعات، وجوانب التخلف فيها،
ويؤدي ذلك به إلى الزهادة فيما لديه، والاستحياء من طرحه على مسامع القوم.
أما الفريق الثاني: فإنه بِداعٍ من الكبر أو الخوف ينغلق على نفسه، ويتتبع
بجدية نادرة كل الجوانب السلبية لديهم، لكنه يعجز عن تلمس أسرار النهوض
والخيوط الدقيقة التي تمد التقدم المادي الهائل الذي أحرزوه بالحيوية والاستمرار.
ويعود هذا الصنف في العادة بنُتَف من المعلومات والمقولات والخبرات التي
لا تتكافأ أبداً مع الجهد والمال اللذين بُذلا خلال سنوات عدة، ولا يلامس هذا
الصنف أبداً آفاق المنهجية الفكرية والتنظيمية والأخلاقية والثقافية التي تقف خلف
(الحضارة الغربية) ، فكأنه ما سافر ولا اطلع ولا تعلم!
إن احتكاك الثقافات والأفكار والمناهج المختلفة قديكون عامل انحسار وهدم
وتمزيق، وقد يكون عامل إثراء وتصحيح وتطوير، والمهم في ذلك أبداً هو شروط
ذلك الاحتكاك والخلفيات، والأسس التي يقوم عليها.. إن العزلة والانغلاق لا
يكونان أبداً خياراً جيداً إلا إذا كانت شروط التزاوج سيئة وغير متكافئة، وإذا ما
استطعنا توفير الشروط الجيدة لذلك فإن في تلاقح الأفكار والثقافات من عوامل
التجديد والنفع والغنى ما لا يمكن التعبير عنه! .
4- إن قاعدة اللقاء في ظاهرة الزوجية الكونية هي التخالف، وليست التوافق، فاللقاء الخصب المنجب يجب أن يتم بين متخالفين ومتباينين، ومن ثم: فإن
العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم على التخالف، على المستويات العضوية والعقلية
والنفسية، وهذا التخالف هو الشرط الأساس لوجود ظاهرة (التكامل) والتعاون،
حيث يظهر لكل واحد من الزوجين: أن كمال البنية المشتركة بينهما وهو الأسرة لا
يأتي من أيٍّ منهما على انفراد، وإنما من خلال اللقاء الإيجابي بينهما، وتكميل
أحدهما للآخر.
ليس إدراك التكامل في ظاهرة الزوجية في الخلق متيسرَ الإدراك واللمس في
كل وقت؛ إذ كثيراً ما تتغلب علينا النظرة الأحادية، فنتعامل مع الأشياء على أنها
عناصر مفردة، ونغفل عن كونها عناصر في تراكيب أعم!
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
أ - إن تضخم الجانب العاطفي لدى المرأة على النحو المعروف يُنظر إليه
عادة على أنه الحلقة الأضعف في تركيبها النفسي، كما أننا ننظر النظرة نفسها إلى
ما نحسّه من تضخم (عقلانية) الرجل وبرودة عواطفه.
فإذا نظرنا إلى كل منهما على أنه طرف في تركيب واحد هو الأسرة أدركنا
أن ما خلناه نقصاً هو في الحقيقة مظهر كمال، وعامل توازن وانسجام، إذ إن
طبيعة وظيفة المرأة في رعاية الأطفال ذوي الشفافية والرهافة المطلقة.. تتطلب
مشاعر وعواطف كالتي عند المرأة، وطبيعة وظيفة الرجل في قيادة الأسرة،
ومعاناة طلب الرزق، وخوض المواقف الصعبة.. تتطلب من قوة الشكيمة وتماسك
الشخصية كالذي نجده عند الرجل.
إن دعاة تحرير المرأة لم ينظروا هذه النظرة، فدفعوها إلى المطالبة بالمساواة
مع الرجل، وأدى ذلك إلى الإخلال بالتوازن الأسري، وكثرت حوادث الطلاق،
وكُلِّفت المرأة بالقيام بأعمال لا يتحملها تكوينها ولا جملتها العصبيّة، والأخطر من
ذلك: انتشار مظاهر الشذوذ واستغناء النساء بالنساء! !
ب- إننا كثيراً ما نصوِّر (القلق) على أنه مرض نفسي، وهو كذلك عندما
يتجاوز حدوداً معيّنة، لكن حين نتذكر أن الطمأنينة كثيراً ما تكون زائفة ومبنية
على معطيات موهومة، وهي حينئذ أخطر من القلق وأشد فتكاً بوجود الإنسان،
ولذا: فإن بعض صور القلق ولا سيما (القلق المعرفي) تكون ضرورية لتوازن
الشخصية، وللوعي بالمصير وتدارك الأخطار قبل فوات الأوان.
ج- إذا نظرنا نظرة أحادية إلى ثبات المبادئ والتشبث الشديد بها، فسوف
نراه جموداً وعائقاً في سبيل التطور، وربما دفع ذلك ببعض الناس إلى التفريط بها
أو إلى الثورة عليها.
وإذا نظرنا إلى (التطور) على أنه مجموعة من التغيرات المستقلة، فسوف
نراه (تفلتاً) وطيشاً وخيانة للأصالة ...
ولكن حين نسلك كلاً من الثبات والتطور في ظاهرة (الزوجية) الكونية،
فسوف يتبين لنا أن ثبات الأصول والمبادئ والنواميس ليس جموداً ولا عائقاً للتغير
المطلوب، وإنما هو سمة أساسية لطبيعتها؛ إذ لا يستطيع المبدأ أداء وظيفته إلا من
خلال ثبوته واستمراره، كما أننا سنجد أن جمود المبادئ شرط أساس لجعل التطور
ذا معنى، ولإبقائه تحت السيطرة، وفي الاتجاه الصحيح.
والتطور في الأدوات والأساليب والخطط والأشكال ليس تفلتاً، بل إنه
ضروري للمحافظة على المبدأ والجوهر والهدف؛ إذ إن صروف الأيام والليالي
تعطب بعض جوانب المناهج والخطط والأشياء، وليس هناك حلّ لذلك سوى
التخلي عن الأجزاء المعطوبة، وإحلال غيرها محلها.
وإن تحويل الأشياء إلى بنًي ثبوتية في سياق وسط مائج بالتغير والتطور لا
يعني سوى التضحية بالأصل والفرع، والجوهر والمظهر، والمبدأ والوسيلة ...
وهكذا: فما يُظن نقصاً في بعض الأشياء يتحول إلى ضرب من ضروب الكمال إذا
ما نظرنا إليه على أنه جزء من كل، وعنصر في تركيب أشمل.
5- خَلَق الله (جل ثناؤه) الدنيا داراً للابتلاء، فوفّر فيها كلّ شروط الابتلاء،
ومن ثم: فإنه حيث يكون أمام المرء مجال للاختيار، يكون في الحقيقة منغمساً في
حالة ابتلاء، سواء أأخذ بأحد الخيارات، أو ظل عاطلاً عن اتخاذ قرار.
كثيراً ما تتيح ظاهرة (الزوجية) مجالات للاختيار والابتلاء، وكثيراً ما يجد
الإنسان نفسه مأموراً بالتوازن الدقيق في التعامل مع الظواهر الزوجية؛ لأن
الإخلال به يعني خروجاً عن المنهج الرباني، وقد يعني ظلماً للنفس أو تفويت
مصلحة كبرى.
وحتى يكون الابتلاء تامّاً، فإن الله (جل وعلا) قد فطر الإنسان على قابلية
قوية للانجذاب نحو أحد المتقابلات وإهمال غيره؛ مما يجعلني أذهب إلى أن
الإخلال بالتوازن المطلوب في هذه المسألة، يكاد يكون أصلاً!
ومن هنا: فإن الموقف الصحيح كثيراً ما يتطلب نوعاً عالياً من اليقظة
الفكرية والشعورية، وإلا: فما أسهل الانحراف إلى طرف على حساب طرف آخر!
عند تقليب النظر في واقعنا التاريخي، وواقعنا المعيش، نجد أن عدم إقامة
التوازن بين الأشياء المتزاوجة كان سبباً لانحرافات كثيرة، إذ كثيراً ما نرى جماعة
تهتم بالفكر والتنظير ورسم الخطط والتحليل السياسي، لكنها تهمل جانب الروح
والأخلاق، وجانب السلوك؛ مما جعلها فقيرة في جنود التنفيذ وأرباب الهمم العالية، وجعلها بالتالي قليلة العطاء والتضحية! .. ونجد في المقابل: جماعات تركز
على مسائل صفاء القلوب وحسن السلوك، لكنك لا تجد عندها أدنى وعي بأدب
الوقت ومتطلبات العصر، وقد يكون عدد أتباعها عشرات الألوف، ثم إنك لا تعثر
فيهم على مفكر واحد مرموق! ، وكثيراً ما يقودها ذلك إلى أن تكون ألعوبة في يد
القوى المتنفذة، مما يدفعها إلى حتفها ويجعل ضررها لا يقل عن نفعها! .
في الماضي البعيد قامت مزاوجة في بنية التربية والتعليم بين علوم الشريعة
والعلوم الحياتية والكونية، وقد أنجب ذلك الاقتران حضارة إسلامية زاهية باهرة،
ثم أخذت علوم الحياة تنسحب من المناهج والحلق الدراسية شيئاً فشيئاً، حتى جهلت
الأمة أبجديات المعرفة في الطبيعة والكون والصناعة، ووصلت إلى الحضيض،
واليوم ترتكب الأمة الخطأ نفسه على نحو معكوس، حيث تَرَاجع نصيب العلوم
الشرعية في المناهج الدراسية في أكثر البلدان الإسلامية، كما تراجعت المفردات
القيمية والأخلاقية في لغة التربية والإعلام، وكان حصاد ذلك: أعداداً كبيرة من
البشر تحيط بالكثير من المعارف المختلفة، لكنها تجهل بدهيات وأساسيات في
عباداتها ومعاملاتها! ، وصار لدينا اليوم كمّ هائل من المفردات التي تحث على
النشاط والفاعلية والنجاح والتنظيم وحيازة الثروة وتحقيق الذات.. على حين
تنوسيت المفردات التي تغرس أخلاق الصلاح والاستقامة والبعد عن الحرام،
والإقبال على الآخرة.. ولا بد أن الناس بدؤوا يشعرون بعواقب هذا الخلل من
خلال انتشار اللصوصية وهي أصناف، والرشوة، والشره المادي، والأنانية،
والانغماس في الشهوات، وقطع الأرحام، ونسيان الله والدار الآخرة.
6- إذا كانت (الزوجية) تمثل قاعدة مهمة من قواعد خلق الوجود، فإن ذلك
يعني أن ننسجم نحن مع تلك القاعدة، ونحاول أن نمتلك رؤية مركّبة للأشياء، ما
دام ليس هناك شيء لا ينتمي إلى مركبٍ ما على وجه من الوجوه.
وامتلاك هذه الرؤية سيكون ضروريّاً للمحافظة على توازننا العقلي والنفسي،
وضروريّاً لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وعلى سبيل المثال: فإنه مهما بلغ
صلاح الأفراد والجماعات، فلا ينبغي أن نفسر ما نراه لهم من تصرفات على
أساس المبادئ وحدها، فهناك مبادئ، وهناك مصالح أيضاً، وليس في هذه
الأرض من يستطيع النفض عن مصالحه على نحو كامل.
وفي مقابل هذا: فإن السواد الأعظم يحاولون تحقيق مصالحهم في إطار
المبادئ التي يؤمنون بها، ما وجدوا أن ذلك ممكن، وبما أن المبادئ والمصالح
طرفان في تركيب زوجي واحد، فإن احتمال جور الإنسان على أحدهما لحساب
الآخر، يظل أمراً وارداً، بل يكون في كثير من الأحيان أمراً لا مفر منه، ولست
أقصد من وراء هذا شيئاً سوى الاستبصار في فهم سلوك الناس، وفهم خلفياته،
ومحاولة تفسيره على أنه يتم وفق موازنات، وفي سياق ضرورات وطموحات،
وتحت ضغوط وأحياناً تهديدات، وهذا مهم في الاقتداء والإعذار وأمور أخرى..
الرؤية المركبة تجعلنا نبصر القصور الذاتي إلى جانب التآمر الخارجي،
وإعطاء كلٍّ منهما وزنه وتأثيره الحقيقي، كما أنها تجعلنا نشعر بنعمة الرخاء
وفيوض النعم إلى جانب الإحساس بالحساب والسؤال عنها يوم القيامة.
بالرؤية المركبة ندرك الصبر وعواقبه، والظلم ومآلاته، وبذلك يتم لنا توسيع
مجال الرؤية؛ لنقف على طرفي الموازنة وعنصري المزاوجة، وبذلك نجسِّر
العلاقة بين الأطراف المتنافسة والمتحالفة، ونحاول أن نرى الأرضية المشتركة
التي تجمع بينها.
__________
(*) الآية: 49 من سورة الذاريات.(109/8)
دراسات شرعية
النفاق والمنافقون.. تنبيهات وأخطار
بقلم: د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
(إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً؛ لأنهم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في
الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية
الجهل والإفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟ ، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه
وخربوه؟ ، وكم من عَلَم له قد طمسوه؟ ، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول
غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه
من شبههم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، [أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ
وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] [البقرة: 12] ) .
هذا بعض ما سطّره ابن القيم (رحمه الله) في التحذير من النفاق ... والمنافقين [1] ، الذي هو موضوع هذه المقالة، وسيكون الحديث عن خطر النفاق والمنافقين من خلال ما يلي:
1- خطر المنافقين داهم:
فالمنافقون أعظم خطراً وضرراً من الكفار المجاهرين، كما أن المنافقين أغلظ
كفراً وأشد عذاباً.
قال ابن القيم عنهم: (طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من
النار، قال (تعالى) : [إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً] [النساء: 145] ، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم في دركات النار؛ لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبليةُ المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال (تعالى) : [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] [المنافقون: 4] ، ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، والمراد: إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوّاً من الكفار المجاهرين، فإن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً، ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل، صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم ... وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الإيمان ما لم يصل إلى المنابذين بالعدواة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم، قال (تعالى) عن المنافقين: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ] [المنافقون: 3] ) [2] .
2- تحذير القرآن منهم:
حذّر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان
الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين
سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمئة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم (رحمه الله) :
(كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم) [3] .
3- تحذير الرسول -صلى الله عليه وسلم- من النفاق:
خاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من النفاق والمنافقين، وحذّر
وأنذر من سلوك المنافقين، وحذر من الوقوع في شُعَب النفاق في أحاديث كثيرة.
فعن عمران بن حصين (رضي الله عنهما) مرفوعاً: (إن أخوف ما أخاف
عليكم بعدي: منافق عليم اللسان) [4] .
قال المناوي في التفسير [1/52] : (كل منافق عليم اللسان: أي: عالم للعلم،
منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغر للناس بشقاشقه
وتفحصه وتقعره في الكلام) .
وقال المناوي أيضاً [1/309] : (أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها، وأبهة يتعزز بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو
منه) .
4- خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق:
كان سلفنا الصالح (رحمهم الله) مع عمق إيمانهم وكمال علمهم يخافون النفاق
أيما خوف، فقد أخرج البخاري تعليقاً أن ابن أبي مليكة (رحمه الله) قال: (أدركت
ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه) .
قال الحافط ابن حجر [الفتح1/111] : (والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلِّهم: عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، ... وأبو هريرة ... فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلّ من هؤلاء كعليّ، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم..) .
وكان أبو الدرداء (رضي الله عنه) إذا فرغ من التشهد في الصلاة يتعوذ بالله
من النفاق، ويكثر التعوذ منه، فقال له أحدهم: وما لك يا أبا الدرداء أنت ... والنفاق؟ فقال دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيُخلع منه [5] .
وكان الحسن البصري (رحمه الله) يقول: (ما خافه -النفاق- إلا مؤمن، ولا
أمنه إلا منافق) [أخرجه البخاري تعليقاً] [6] .
وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال: (ومن
يأمن على نفسه النفاق) ! [7] .
يقول ابن القيم: (وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من أهل
هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم أن يكونوا منهم،
فكان عمر يقول لحذيفة: ناشدتك الله، هل سماني رسول الله مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً [8] ، يعني لا أفتح عليّ هذا الباب في تزكية الناس، وليس
معناه أنه لم يَبرأ من النفاق غيرك) [9] .
فتأمل رحمك الله ما عليه أولئك الأسلاف الأبرار من خوف شديد من النفاق
ودواعيه، ثم انظر إلى حال الأكثرين منا في هذا الزمان، فمع ضعف الإيمان
وغلبة الجهل تجد الأمن من النفاق والغفلة عنه! .. فالله المستعان.
5- المنافقون كثر:
ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين: أنهم كثيرون،
منتشرون في بقاع الأرض، كما قال الحسن البصري (رحمه الله) : (لولا المنافقون
لاستوحشتم في الطرقات) [10] .
وقال ابن القيم: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر
الأرض، وفي أحواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون
في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في
الفلوات، سمع حذيفة (رضي الله عنه) رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال:
يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك) [11] .
ولا يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الأكثرية والأغلبية، فإن النفاق شُعَب
وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، والمعاصي بريد الكفر، فكذا من كان متهماً
بنفاق فهم على أنواع متعددة، كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (ولهذا لم
يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم مَن فيه إيمان
ونفاق، وفيهم مَن إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق، ولما قوي الإيمان وظهر
الإيمان وقوته عام تبوك: صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكن يعاتبون عليه
قبل ذلك..) [12] .
6- سهولة الانخداع بهم:
فالمنافقون أصحاب تذبذب وتقلب، وأرباب خداع وتلبيس، فيتكلمون بمعسول
الكلام، وفصيح الخطاب، ويظهرون للناس في هيئة حسنة، ومظهر جذاب،
فربما انخدع لهم الفئام من المسلمين، فمالوا إليهم وأصغوا إلى قولهم وتدليسهم، قال
(تعالى) : [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] [التوبة: 47] ، وقال (سبحانه) : [وَإن يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ] [المنافقون: 4] .
إن هذا التلون والتذبذب يجعل خطرهم كبيراً، وشرهم مستطيراً، حيث
يخفون كفرهم وضلالهم، ويتظاهرون بالإيمان والاهتداء.
ولذا: خفي على كثير من المسلمين حال بعض الزنادقة (المنافقين) في القديم
والحديث، وكما قال الذهبي (رحمه الله) في شأن الحلاج: (فهو صوفي الزي
والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن: فهو من صوفية الفلاسفة
أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- منتسبون إلى
صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي -صلى
الله عليه وسلم- ولا يعلم بهم، قال (تعالى) : [وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ
لا تَعْلَمُهُمْ] [التوبة: 101] ، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين
وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى: أن يخفى حال جماعة من المنافقين
الفارغين عن دين الإسلام بعده (عليه الصلاة والسلام) على العلماء من أمته) [13] .
7- انتشار النفاق الأصغر في مجتمعاتنا:
ومما يؤكد خطر النفاق: أن الكثير من شعب النفاق الأصغر الذي لا يُخرج
عن الملة قد عمت وطمت في مجتمعات المسلمين، كالكذب، وخلف الوعد،
والرياء، والخيانة، والجبن، وترك الجهاد في سبيل الله (تعالى) ، وعدم تحديث
النفس بذلك.
ومع أن هذه الخصال من النفاق الأصغر، لكنها قد تؤول إلى النفاق الأكبر
المخرج من الملة، وفي هذا يقول ابن رجب: (والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى
النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما يُخشى على من أصرّ على
المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت، كذلك يخشى على من أصر على النفاق أن
يسلب الإيمان، فيصير منافقاً خالصاً) [14] .
بل استفحل الأمر، وعظم النفاق حتى صرنا نشاهد صوراً أو أنواعاً من
النفاق الأكبر في بلاد المسلمين، ومن ذلك: الاستهزاء بدين الله (تعالى) ، والفرح
والسرور بانخفاض دين الإسلام وهزيمة المسلمين، وكذا العكس..، والإعراض
التام عن حكم الله (تعالى) ، ومظاهرة الكفار ضد المسلمين ...
إن على الدعاة إلى الله أن يَحْذروا مكايد المنافقين ومسالكهم، فلا ينخدعوا بهم، أو يتساهلوا معهم، وأن يعنى الدعاة بمعرفة النفاق وخطره وشعبه؛ مخافة أن
يصيبهم، وأن يتعرفوا على مكايد المنافقين ومخططاتهم في الماضي والحاضر لكي
لا يقعوا في شراكهم، وأن يجتهد المصلحون في تحقيق تزكية النفوس وتربية
الأجيال على الإيمان الصحيح، والقيام بالعبادة ظاهراً وباطناً، فالمنافقون أرباب
ظواهر لا بواطن، وسيدرك الصادقون في إيمانهم أولئك المنافقين من خلال لحن
القول، كما قال (سبحانه) : [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ القَوْلِ] [محمد: 30] .
قال شيخ الإسلام: (فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مُقْسَم عليها، لكن
هذا يكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله) [15] .
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) : ما أسرّ أحد سريرة إلا
أظهرها الله على وجهه وفلتات لسانه.
8- الرد على منكري النفاق:
وأشير إلى مسألة مهمة، وهي: أن النفاق موجود وواقع، خلافاً لمن أنكره
من طوائف المرجئة، فقد زعم صنف من المرجئة أنه ليس في هذه الأمة ... نفاق [16] .
قيل للحسن البصري: إن قوماً يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق،
فقال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إليّ من طلاع (ملء)
الأرض ذهباً [17] .
وقال سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاثة،.. وذكر منها:
نحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق [18] .
وحمل أولئك المرجئة حديث عبد الله بن عمرو: (أربع من كن فيه كان ... منافقاً ... ) على المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث تلبسوا بهذه الخصال الأربع [19] .
وليس لهم أن يحتجوا بما أخرجه البخاري عن حذيفة (رضي الله عنه) ، حيث
قال: (إنما كان النفاق على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأما اليوم فإنما هو
الكفر بعد الإيمان) ؛ حيث قال الحافظ ابن حجر (رحمه الله) : (والذي يظهر: أن
حذيفة لم يرد نفي الوقوع، وإنما أراد نفي اتفاق الحكم؛ لأن النفاق إظهار الإيمان
وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم- كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم
احتمال خلافه، وأما بعده: فمن أظهر شيئاً فإنه يؤخذ به ولا يترك لمصلحة التآلف
لعدم الاحتياج إلى ذلك) [20] .
وبالإضافة إلى ذلك: فقد نصّ حذيفة على وقوع النفاق بعد عهد النبوة في عدة
أقوال، ومن ذلك قوله (رضي الله عنه) : (المنافقون الذين فيكم شرّ من المنافقين
الذين كانوا على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: وكيف ذاك؟ ،
فقال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء يعلنون) [21] .
وجاء رجل من المرجئة لأيوب السختياني، فقال: إنما هو الكفر والإيمان،
فقال أيوب: أرأيت قوله: [وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ] [التوبة: 106] ، أمؤمنون هم أم كفار؟ فسكت الرجل، فقال أيوب:
اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على ... نفسي! [22] .
ولعل هذا الأثر يكشف سبب إنكار أولئك المرجئة للنفاق، فهذا المرجئ ... يقول: -صلى الله عليه وسلم- إنما هو الكفر والإيمان، ومقصوده: أن الإيمان شيء واحد إذا ثبت بعضه ثبت جميعه، وإذا زال بعضه زال جميعه، فلا يجتمع عندهم في العبد إيمان وكفر أو نفاق أصغر، ولذا: احتج عليه أيوب بالآية الكريمة [وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ..] فهذا صنف جمعوا بين إيمان ومعاصٍ، وخلطوا
عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فأمْرهم إلى الله (تعالى) ، فليسوا من أهل الإيمان المطلق
التام، كما أنهم ليسوا كفاراً مطلقاً.
وقد غلط المرجئة في ذلك، فليس الإيمان شيئاً أو شعبة واحدة، بل إن
الإيمان شعب متعددة كما في حديث شعب الإيمان وكذلك الكفر والنفاق شعب متعددة.
ويدل على ذلك: ما رواه أبو هريرة مرفوعاً: (ثلاث من كن فيه فهو منافق:
إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، فقال رجل: يا رسول الله،
ذهبت اثنتان، وبقيت واحدة؟ قال: فإن عليه شعبة من نفاق ما بقي منهن ... شيء) [23] .
قال الذهبي: (وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو
شعب ويزيد وينقص..) [24] .
وقال شيخ الإسلام: (وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب،
كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة..) [25] .
وأمر آخر، وهو: أن مقالة الكرامية، وهم من طوائف المرجئة، بأن
الإيمان: قول باللسان، قد تكون سبباً في إنكارهم النفاق ونفيه، فالمنافق عندهم
مؤمن، مع أن الله (تعالى) قد نفى الإيمان عن المنافقين بقوله (سبحانه) : [وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ] [البقرة: 8] .
كما أن غلاة المرجئة الجهمية ومن تبعهم ينكرون الأعمال القلبية، فيخرجونها
عن مسمى الإيمان، فالإيمان عندهم معرفة أو تصديق بلا عمل قلبي.
وهذا لا يعدّ إيماناً صحيحاً ولا مقبولاً، فالتصديق بلا نية أو عمل قلبي ... نفاق [26] ، فجعلوا هذا التصديق هو الإيمان، وبطبيعة الحال سينكرون النفاق.. والله أعلم.
9- الموقف إزاء المنافقين:
أما عن الموقف والواجب تجاه المنافقين فيتمثل في جملة أمور، منها:
1- النهي عن موالاتهم والركون إليهم، كما قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَاًلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنتُمْ
أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ... [آل عمران: 118، 119] .
2- زجرهم ووعظهم: لقوله (تعالى) : [أُوْلَئِكَ الَذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِم
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً] [النساء: 63] .
3- عدم المجادلة أو الدفاع عنهم، حيث قال (تعالى) : [إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ
الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ
إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً] [النساء: 105- 107] .
4- جهادهم والغلظة عليهم: لقوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] [التوبة: 73] .
5- تحقيرهم وعدم تسويدهم: فعن بريدة بن الحصيب مرفوعاً: (لا تقولوا
للمنافق (سيّد) ، فإنه إنّ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم (عز وجل) [27] .
وكان حذيفة يؤيس (يحتقر) المنافقين [28] .
6- عدم الصلاة عليهم، امتثالاً لقوله (تعالى) : [وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم
مَّاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ] [التوبة: 84] .
10- تنبيهات مهمة:
ونذكر في نهاية هذه المقالة جملة من التنبيهات:
أولاً: علينا أن نفرق بين المداهنة وهي من خصال المنافقين وشعب النفاق
والمداراة، فالمداهنة: مجاراة أهل الكفر والفسق في باطلهم، وأما المداراة فهي:
مداراة أهل الكفر والفسق اتقاء شرهم، أو تأليفاً لقلوبهم.
فالمداهن صاحب تلون وتذبذب، ويَلْقى كل طائفة بما تهوى، كما في حديث
أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تجدون شر
الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء ... بوجه) [29] .
قال القرطبي: (إنما كان ذو الوجهين شر الناس؛ لأن حاله حال المنافق، إذ
هو متعلق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس، وقال النووي: هو الذي
يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق
ومحض كذب) [30] .
فالمداهنة محرمة ومذمومة، بخلاف المداراة؛ فقد سلكها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، كما في حديث أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) عندما:
(استأذن رجل في الدخول على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (بئس أخو
العشيرة) فلما جلس تَطلّق له النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط له،
فسألته عائشة، فقال: يا عائشة متى عهدتيني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله: من
تَرَكه الناس مخافة فحشه) [31] .
وقد بيّن أهل العلم الفرق بين المداراة والمداهنة، ومراد النبي -صلى الله
عليه وسلم- في مسلكه تجاه ذلك الرجل.. (قال القاضي عياض: الفرق بين
المداراة والمداهنة: أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدين، أو الدنيا، أو هما معاً،
وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي -
صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع
ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه
حسن عشرة) [32] .
وقال ابن بطال: (حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله، وحيث تَلَقّاه بالبشر
كان لتأليفه، أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين، ويؤيده أنه لم
يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح) [33] .
ثانياً: ينبغي أن نفرِّق بين النفاق وما يعرض القلب من الغفلة والتغير بعد
الخشوع والإخبات.
يقول ابن رجب: (لما تقرر عند الصحابة (رضي الله عنهم) أن النفاق هو
اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور
قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد
والأموال.. أن يكون ذلك منه نفاقاً، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأُسيْديِّ أنه
مرّ بأبي بكر الصديق (رضي الله عنه) (فقال: كيف أنت يا حنظلة، قلت: نافق
حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول، قال: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- عافسنا [اشتغلنا بـ] الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا
كثيراً، فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، وأخبره حنظلة بحاله، فقال (عليه الصلاة والسلام) : (والذي نفسي
بيده لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم،
ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) [34] .
وقال النووي: (وأصل النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن
يكون ذلك منافقاً، فأعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ليس بنفاق، وأنهم لا
يكلفون الدوام على ذلك) [35] .
والمقصود: أن أمر النفاق شيء، والغفلة والذهول شيء آخر، حيث يرد
هذا التغير على القلب، لكنه أمر عارض يصيب القلب ساعة، فيستغفر العبد ربه
وينيب.
ثالثاً: أن نفرِّق بين قبول الحق من كل شخص سواءً أكان مؤمناً أو كافراً أو
منافقاً، وبين موالاة ذلك الشخص ومودته، فالمنافق إذا قال صواباً، فإنه يقبل هذا
الصواب منه، ومع ذلك فله واجب العداوة والبغضاء بحسب نفاقه، وفي المقابل:
فإن العالم الفاضل أو الداعية الصادق، وإن وقع في زلة أو عثرة، فلا يُوَافَق على
زلته وعثرته، لكن يبقى له حق الولاء والنصرة حسب إيمانه وتقواه.
كما قال معاذ بن جبل (رضي الله عنه) : (واحذروا زيغة الحكيم، وقد يقول
المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق؛ فإن على الحق نوراً) [36] .
فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من النفاق، وأن يختم لنا بالإيمان
وبالله التوفيق ,
__________
(1) انظر: مدارج السالكين، 1/347.
(2) طريق الهجرتين، ص 402 404، باختصار يسير.
(3) مدارج السالكين، 1/347.
(4) أخرجه الفريابي في (صفة المنافق) ، ص 23، والطبراني في الكبير، 18/237، والبيهقي في الشّعَب، 2/161، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، (1/ 187) : (رجاله رجال الصحيح) ، وصححه الألباني في الجامع الصغير.
(5) أخرجه الفريابي في (صفة المنافق) ، ص69، وقال الذهبي في السير (6 /382) : إسناده صحيح.
(6) وأخرجه الخلال في السنة، 5/68.
(7) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/493.
(8) كان عمر الفاروق (رضي الله عنه) يخاف من نفاق العمل لا نفاق الكفر، كما أن عمر يخاف هذا النفاق الأصغر على نفسه في الحال وليس عند الموت فحسب، انظر تفصيل ذلك في جامع العلوم، 2/492، وفتح الباري، 1/90.
(9) طريق الهجرتين، ص 409.
(10) أخرجه ابن بطة في (الإبانة الكبرى) ، 2/698.
(11) مدارج السالكين، 1/358.
(12) مجموع الفتاوي، 7/523.
(13) سير أعلام النبلاء، 14/343.
(14) جامع العلوم، 2/492.
(15) مجموع الفتاوي، 17/118.
(16) انظر: (التنبيه والرد) للملطي، ص164.
(17) أخرجه الخلال في السنة (5/72) ، والفريابي في صفة المنافق (72، 85) .
(18) أخرجه الفريابي في (صفة المنافق) ، ص 93.
(19) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/480.
(20) فتح الباري، 13/74.
(21) أخرجه الفريابي في (صفة المنافق) ، ص 53.
(22) أخرجه الفريابي في (صفة المنافق) ، ص 92.
(23) أخرجه الفريابي في (صفة المنافق) ، ص 4، وقال الذهبي في السير (11/362) : (هذا حديث حسن الإسناد) .
(24) سير أعلام النبلاء، 11/362.
(25) مجموع الفتاوى، 28/433.
(26) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، 7/171.
(27) أخرجه أبو داود والنسائي.
(28) أخرجه الخلال في السنة، 5/70.
(29) أخرجه البخاري ومسلم.
(30) فتح الباري، 10/475.
(31) أخرجه البخاري ومسلم.
(32) فتح الباري، 10/454.
(33) فتح الباري، 13/171.
(34) جامع العلوم والحكم، 2/94.
(35) صحيح مسلم بالنووي، 17/67.
(36) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 1/232، 233.(109/16)
دراسات شرعية
حكم التهنئة بدخول شهر رمضان
بقلم: عمر بن عبد الله المقبل
هذا بحث مختصر حول: (حكم التهنئة بدخول شهر رمضان) ، حاولت أن
أجمع فيه أطرافه، ملتمساً في ذلك طلب الحق إن شاء الله (تعالى) .
قبل البدء بذكر حكم المسألة لا بد من تأصيل موضوع (التهنئة) .
فيقال: التهاني من حيث الأصل من باب العادات، والتي الأصل فيها الإباحة، حتى يأتي دليل يخصها، فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر.
قال الشيخ العلامة (عبد الرحمن ابن سعدي) (رحمه الله تعالى) في منظومة
القواعد.
والأصلُ في عاداتنا الإباحةْ ... حتى يجيءَ صارفُ الإباحةْ
وليس مشروعاً من الأمور ... غير الذي في شرعنا مذكور [1]
ثم قال (رحمه الله) معلقاً على ذلك:
(وهذان الأصلان العظيمان ذكرهما شيخ الإسلام (رحمه الله) في كتبه، وذكر
أن الأصل الذي بنى عليه الإمام أحمد مذهبه: أن العادات الأصل فيها الإباحة، فلا
يحرم منها إلاّ ما ورد تحريمه ... إلى أن قال: فالعادات هي ما اعتاد الناس من
المآكل والمشارب، وأصناف الملابس والذهاب والمجيء، وسائر التصرفات
المعتادة، فلا يحرم منها إلاّ ما حرّمه الله ورسوله، إما نصّاً صريحاً، أو يدخل في
عموم، أو قياسٍ صحيح، وإلاّ فسائر العادات حلال، والدليل على حلها قوله
(تعالى) : [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] [البقرة: 29] ، فهذا يدل
على أنه خلق لنا ما في الأرض جميعه لننتفع به على أيّ وجهٍ من وجوه ... الانتفاع) [2] .
وإذا كانت التهاني من باب العادات، فلا ينكر منها إلاّ ما أنكره الشرع، ولذا مرّر الإسلام جملة من العادات التي كانت عند العرب، بل رغب في بعضها،
وحرّم بعضها، كالسجود للتحية.
حكم التهنئة بدخول الشهر الكريم:
روى ابن خزيمة (رحمه الله) في صحيحه (3/191) عن سلمان (رضي الله
عنه) قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر يومٍ من شعبان، فقال:
(أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلةٌ خيرٌ من
ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة،....) الحديث.
قال ابن رجب (رحمه الله) : ( ... هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم
بعضاً في شهر رمضان) [3] .
وإنما تأخر الاستدلال به على مسألتنا لأنه لم يثبت، بل هو حديث منكر كما
قال الإمام أبو حاتم الرازي [4] ، ولذا: بوّب عليه الإمام ابن خزيمة في صحيحه
بقوله: (باب فضائل شهر رمضان، إن صحّ الخبر) [5] .
وفي سنده (علي بن زيد بن جُدْعان) وهو (ضعيف) [6] .
وذهب الجمهور من الفقهاء إلى أن التهنئة بالعيد لا بأس بها، بل ذهب
بعضهم إلى مشروعيتها، وفيها أربع روايات عن الإمام أحمد (رحمه الله) ، ذكرها
ابن مفلح (رحمه الله) في (الآداب الشرعية) ، وذكر أن ما روي عنه من أنها لا
بأس بها هي أشهر الروايات عنه [7] .
(قال الإمام أحمد (رحمه الله) : ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد:
تقبّل الله منا ومنك.
وقال حرب: سئل أحمد عن قول الناس: تقبل الله منا ومنكم؟ قال: لا بأس، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل: وواثلة بن الأسقع، قال: نعم، قيل:
فلا تكره أن يقال: (هذا يوم العيد) ؟ ، قال: لا....) [8] .
فيقال: إذا كانت التهنئة بالعيد هذا حكمها، فإن جوازها في دخول شهر
رمضان الذي هو موسمٌ من أعظم مواسم الطاعات، وتنزل الرحمات، ومضاعفة
الحسنات، والتجارة مع الله.. من باب أولى، والله أعلم.
تحقيق بعض العلماء في المسألة:
ومما يُستدَل به على جواز ذلك أيضاً: قصة كعب بن مالك (رضي الله عنه)
الثابتة في الصحيحين من البشارة له ولصاحبه بتوبة الله عليهما، وقيام طلحة
(رضي الله تعالى عنه) إليه.
قال ابن القيم (رحمه الله) ضمن سياقه لفوائد تلك القصة:
(وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا
أقبل، ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية،
وأن الأَوْلى أن يقال: يهنك بما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربّها، والدعاء لمن نالها بالتهني بها) [9] .
ولا ريب أن بلوغ شهر رمضان وإدراكه نعمةٌ دينية، فهي أولى وأحرى بأن
يُهنّأ المسلم على بلوغها، كيف وقد أثر عن السلف أنهم كانوا يسألون الله (عز
وجل) ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وفي الستة الأخرى يسألونه القبول؟ ، ونحن
نرى العشرات ونسمع عن أضعافهم ممن يموتون قبل بلوغهم الشهر.
وقال الحافظ ابن حجر (رحمه الله) : (ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة: بمشروعية سجود الشكر، والتعزية [10] ، وبما في
الصحيحين عن كعب بن مالك ... ) [11] .
ونقل القليوبي عن ابن حجر أن التهنئة بالأعياد والشهور والأعوام مندوبة.
وقد ذكر الحافظ المنذري أن الحافظ أبي الحسن المقدسي سُئِل عن التهنئة في
أوائل الشهور والسنين: أهو بدعة أم لا؟ ، فأجاب: بأن الناس لم يزالوا مختلفين
في ذلك، قال: والذي أراه أنه مباح، ليس بسنة ولا بدعة [12] .
خلاصة المسألة:
وبعد هذا العرض الموجز يظهر أن الأمر واسع في التهنئة بدخول الشهر، لا
يُمنع منها، ولا ينكر على من تركها، والله أعلم.
هذا، وقد سألت شيخنا العلامة (محمد بن صالح العثيمين) عن التهنئة بدخول
شهر رمضان، فقال: (طيبة جدّاً) ، وذلك في يوم الأحد 8/9/1416هـ، حال
بحثي في هذه المسألة، والتي أسأل الله (عز وجل) أن أكون قد وفقت فيها للصواب، فإن كان كذلك فمن الله وحده، وإن كان ما قلته خطأً فأنا أهلٌ له، والله ورسوله
منه بريئان، وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي، 1/143.
(2) انظر (الموافقات) للإمام الشاطبي، 2/212 246، ففيه بحوث موسعة حول العادات وحكمها في الشريعة.
(3) لطائف المعارف، ص 279، ط دار ابن كثير.
(4) علل الحديث للرازي، 1/249.
(5) صحيح ابن خزيمة، 3/191.
(6) تقريب التهذيب، رقم الترجمة (4734) .
(7) الآداب الشرعية، 3/219.
(8) المغني لابن قدامة، 3/294.
(9) زاد المعاد، 3/585.
(10) كذا في الموسوعة الفقهية التي نقلت عنها.
(11) الموسوعة الفقهية الكويتية، 14/99100، وانظر، وصول الأماني، للسيوطي وقد بحثت عن كلام الحافظ في مظنته ولم اهتد إليه.
(12) وصول الأماني، 1/83 (ضمن الحاوي للفتاوي) .(109/28)
مقال
تأملات في فقه الجهاد
(2 من 2)
بقلم: د. محمد بن عبد الله الشباني
بدأ الكاتب في الحلقة السابقة مقاله ببيان العلاقة الاضطرادية بين قوة ... المجتمع الإسلامي وعزته وتطبيق أحكام الإسلام، ثم شرع في بيان أنواع الجهاد وأشكاله، وفصل الكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره من صور الجهاد، ثم طفق يتحدث عن القتال والنزال، مبيناً المفهوم الصحيح لتلك الصورة من صور الجهاد، وانتهى به الحديث إلى أهداف القتال ومراميه، وكذلك صفات القيادة التي يجب توفرها في دعاته، ويواصل حديثه عما بقي من صور الجهاد في هذه الحلقة.
- البيان -
ثانياً: جهاد الكلمة:
النوع الثاني من أنواع الجهاد في تغيير المنكر هو جهاد الكلمة، الذي يمثل
أفضل الجهاد؛ لما للكلمة من تأثير في تغيير المجتمعات، فجميع الحركات التي
حدثت في التاريخ كان للكلمة المكانة الأوفر في إحداث تلك التغيرات، لقد وجه
الرسول (عليه الصلاة والسلام) الأمة إلى أهمية جهاد الكلمة، وأعطاها المنزلة
الرفيعة؛ حيث إن لها دوراً مؤثراً وفاعلاً في تغيير المجتمعات، وتحويلها من
مجتمعات مسلوبة الإرادة إلى مجتمعات حية متفاعلة، تأمر بالمعروف، وتنهى عن
المنكر، وتردع الظالم، وتمنع الظلم أن يكون له مرتع في كيان الأمة، من تلك
الأحاديث الموجهة لجهاد الكلمة: ما رواه أحمد والطبراني في قوله (عليه الصلاة
والسلام) : (أحب الجهاد إلى الله: كلمة حق تقال لإمام جائر) [1] ، وقوله (عليه
الصلاة والسلام) في الحديث الذي رواه الترمذي: (أفضل الجهاد: كلمة عدل عند
سلطان جائر) [2] ، وما رواه النسائي من أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه
وسلم- وقد وضع رجله في الغَرْز: أيّ الجهاد أفضل؟ ، قال: (كلمة حق عند
سلطان جائر) [3] ، وكذلك قوله (عليه الصلاة والسلام) : (أفضل الشهداء رجل قام
إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) ، وقوله-صلى الله عليه وسلم-: (سيد الشهداء:
حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) [4] ، ومن
جملة هذه الأحاديث يتضح ما للكلمة من مكانة في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبط أشد الارتباط بالجهاد من
خلال الكلمة الصادقة الجريئة، بل إن لها دوراً أكثر تأثيراً على تغيير المجتمعات
وإصلاح أحوالها بدلاً من حمل السلاح والعمل على تغيير المنكر باليد، لهذا: نجد
كثيراً من الأحاديث تنهى عن الخروج على الحاكم الجائر ذى المنعة والقوة؛ لأن
الخروج عليه لا يحقق الهدف من إقامة المعروف وإزالة المنكر؛ حيث إن للحاكم
المقيم للمنكر والمساند له وسائل عديدة للتأثير على الناس يفوق ما تملكه الفئة التي
تسعى إلى تغيير المنكر وإقامة الحق؛ لهذا جاءت الأحاديث تنفر من هذا المسلك في
المجتمع الذي يقل فيه العلم وتمارس فيه شعائر الإسلام التعبدية، فقد روى مسلم
والنسائي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) ، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-: (عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة
عليك) [5] ، وقوله (عليه الصلاة والسلام (كما رواه مسلم والترمذي وأبو داود من
حديث أم سلمة (رضي الله عنها) أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) قال: (ستكون
عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر بلسانه فقد برئ، ومن أنكر بقلبه فقد
سلم، ولكن من رضي وتابع، فقيل: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ ، قال: لا، ما
صلوا) [6] وحديث ابن عباس الذي رواه مسلم والبخاري أن الرسول (عليه الصلاة
والسلام) قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً
مات ميتة جاهلية) [7] ، إن هذه الأحاديث تؤكد حقيقتين:
الأولى: أن الخروج المسلح لا يجوز إلا إذا وصل الأمر بالحاكم إلى الكفر البواح أو منع الشعائر التعبدية التي ترتبط بالحياة الفردية المباشرة، أما إذا كان الأمر يتصل بالمظالم المادية: فإنه لا يجوز ذلك، حيث أرشد الرسول (عليه الصلاة والسلام) إلى ذلك، كما رواه أبو داود عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه قال: قال رسول الله: (كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء، قلت: إذن والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي، ثم أضرب به حتى ألقاك، أو ألحقك، قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ .. تصبر حتى تلقاني) [8] .
الثانية: ضرورة الإنكار باللسان وتبيان الحق لأولئك المخالفين؛ فإن البراءة
من المسؤولية أمام الله لا تكون إلا بقول الحق، والتاريخ الإسلامي شاهد على تأثير
الكلمة ودورها في إنكار المنكر، وتحقيق التغيير، وردع الباطل.. أكثر من
استخدام القوة، ففي عهد المأمون ومن جاء بعده من خلفاء بني العباس، حيث
ظهرت بدعة خلق القرآن وإجبار الناس على ذلك، فقد كانت هناك جبهتان
للمناهضة:
الأولى: جبهة أحمد بن نصر الخزاعي (رحمه الله) صاحب الإمام أحمد بن حنبل، وأحد العلماء المشهورين، حيث عمد إلى استخدام القوة لإزالة المنكر ومجابهته، فانتهى أمره إلى قتله وصلبه وتفرق أصحابه.
أما الثانية: فكانت بقيادة الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) ، الذي ناهض هذه البدعة وأنكرها بلسانه، وتحمل المشقة والسجن، وانتهى الأمر بانتصاره، والرجوع إلى الحق، وحماية عقيدة الإسلام من التبديل والتشويه، وكان لصلابته وتحمله الأذى الأثر البالغ بأن تتابع المجاهدون بالجهر بقول الحق، فقتل منهم أعداد كثيرة، وسجن أعداد كثيرة، ولكن كانت النهاية هزيمة فكر المعتزلة الذي تبنته الدولة العباسية في عهد المأمون والمعتصم والواثق، وانتصار نهج السلف الصالح أخيراً.
أهمية الجهاد بالكلمة:
إن قيمة جهاد الكلمة وبلوغ ممارسها منزلة سيد الشهداء في سبيل الله كما أخبر
بذلك الرسول (عليه الصلاة والسلام) إنما تعود إلى الأمور التالية:
1- أن الكلمة الشجاعة القوية تعرض صاحبها للمخاطر والمهالك؛ لأن
المجاهد في الميدان ضد الكفار يجاهد في معركة جلية، وهو بين احتمالين: نصر
وعزة في الدنيا، أو شهادة يذوق فيها الموت مرة واحدة، أما مجاهد الكلمة: فهو
فرد أعزل أمام سلطة ذات بأس شديد، واحتمال هلاكه أكثر من سلامته.
2- المجاهد بالكلمة الصادقة في معركة خفية مبهمة عند الناس، ولاسيما في
زمن انتشار البدع وضعف الإسلام وقلة حماته، وبالتالي: فهو يتعرض ميِّتاً وحيّاً
للتشويه والتجريم، فهو عند السلطة التي لا تحكم بالإسلام مرتكب خيانة ومجرم
سياسي خطير، فيتسنى لها إلصاق التهم به واستخدام كل الوسائل المؤثرة لديها
لتحقيق ذلك من خلال الشرطة، والإعلام، وتحريف الكلم والحقائق.. واعتبار
قول الحق انحرافاً ورجعيةً، والاحتساب بذلك في نظرها فتنة وجريمة وخروج
على السلطة الحاكمة بأمرها.
3- إن مجاهد الكلمة معرض للفتنة أكثر من مجاهد السلاح واليد، والنجاة من
الفتنة أشق؛ لأن فتنة التعذيب والسجن قد تسبب الانهيار العصبي والكآبة، فقد
ينقلب من صف المصلحين إلى نقيضهم.
ومن هنا: ندرك مغزى ورود نصوص الجهاد والأمر بالمعروف، مثل قوله
(تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] ، ومن هذه الآية يفهم أن كلمة
الحق واجب عيني على جماعة القادرين من أهل العلم والدراية، كالعلماء ورجال
الفكر والمختصين في الميادين التي يشيع فيها المنكر.
إن جهاد الكلمة لا يمكن أن يحقق هدفه في إزالة المنكر وأشاعة المعروف إلا
إذا تعاون المجتمع كله تحقيقاً لقوله (تعالى) : [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا
تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2] ، إن من المفاهيم الخاطئة حول جهاد
الكلمة عند بعض الناس: تحميل العلماء فقط كل مسؤولياتهم ليريحوا أنفسهم من
عناء المجاهدة، والرسول (عليه الصلاة والسلام) لم يشترط أن يكون قائل كلمة
الحق والعدل فقيهاً مجتهداً أو عالماً أو مفكراً أو طالب علم؛ لأن قول كلمة الحق
واجب عام على الخاصة والعامة، كل بحسب حاله، والشريعة لم تشترط أن يكون
المجاهد بالكلمة والآمر بالمعروف عالماً، وإنما يُشْتَرط أن يكون الآمر بالخير على
بصيرة فيما يأمر به، عالماً بالحكم الشرعي فيما يأمر به أو ينهى عنه.
إن مفهوم السلطان الجائر كما جاء في الأحاديث يشمل كل متسلط لا تتوافر
فيه العدالة والكفاية والعدل والمشاورة، فغالباً ما يكون السلطان طائفة مذهبية أو
هيئة حزبية لا يستطيع أحد معارضتها، ومن فعل ذلك: فقد يتعرض للأذى
والمطاردة، فعبارة (السلطان الجائر) تتضمن أمرين: الأول: السلطة التي يخضع
لها رغبة فيها أو رهبة منها، فكل من خافه الناس ورجوه فهو سلطان، والثاني:
الجور، وكل من حاد عن الطريق المستقيم فهو جائر، وكل جائر لا يتوقع منه
المعاملة بالعدل والإنصاف.
ثالثاً: الجهاد بالقلب:
النوع الثالث من أنواع الجهاد هو الجهاد بالقلب، وقد أشار إلى ذلك الحديثُ
الذي رواه مسلم: (ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن) [9] ، وهذا الجهاد هو رخصة
أباحها الله للذين لا يستطيعون الجهاد باليد أو بالكلمة، ولكن لهذه الرخصة ضوابطها
وشروطها، ولها إطارها الذي ينبغي أن يفهم فيه جهاد القلب، والذي يمكن تسميته
(الجهاد الصامت) .
والجهاد بالقلب له دور فعال ومؤثر في تغيير المنكر وإقامة المعروف،
وممارسته في واقع حياتهم، واتباع أوامر الدين في خاصة أنفسهم، وعدم مناصرة
الظلمة ممن يحكمون بغير ما أنزل الله..، وإذا لم يتوفر ذلك: فإن الجهاد يصبح
فرضاً، كما في قوله (تعالى) : [انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً] [التوبة: 41] ؛ لأن بقاء
المنكر يعني التعرض للهلاك كما أشار إلى ذلك القرآن في قوله (تعالى) : [وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً] [الأنفال: 25] ، وقول الرسول (عليه
الصلاة والسلام) : (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع،
وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) [10] .
إن من أسباب ضعف وعدم بروز الجهاد بالقلب في الحياة الإسلامية: ما أشار
إليه الحديث الذي رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود، والذي قال فيه المصطفى
(عليه الصلاة والسلام) : (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: كان الرجل
يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتقِ الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من
الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله
قلوب بعضهم ببعض) ، ثم قال: [لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ
دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ] إلى قوله [فَاسِقُونَ] ، ثم قال الرسول (عليه الصلاة
والسلام) : (كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على
يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو
ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليعلننكم كما لعنهم) [11] ، فالحديث
أشار إلى حقيقة واضحة، وهي: أن الناهين عن المنكر من بني إسرائيل لم
يعتزلوا أولئك الممارسين له، بل مارسوا الحياة العامة معهم، فلم يشعروهم بالعداوة
من خلال اعتزالهم ومنابذتهم.
يتم تحقيق الجهاد بالقلب من خلال تطبيق التوجيهات النبوية التي أشار إليها
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم، الذي جاء فيه:
(يهلك أمتي هذا الحيّ من قريش، قالوا: فما تأمرنا؟ ، قال: لو أن الناس
اعتزلوهم) [12] ، فهذا الحديث يشير إلى أسلوب الجهاد بالقلب الذي ينبغي عمله
لجميع الناس عندما يرون تفشي المنكر، وهو: تنفيذ الاعتزال كحركة جماعية،
فالرسول (عليه الصلاة والسلام) لم يقل: لو اعتزلتموهم أنتم، بل قال: لو أن
الناس اعتزلوهم.
وهذا أسلوب سلمي.. مع تجنب المجالسة والمخالطة لأولئك المعتدين
والمنحِّين لشرع الله.
هذه اجتهادات وتأملات، آمل أن أكون قد لامست فيها الحقيقة، فإن أصبت
فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.
والله أسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) أخرجه أحمد والطبراني، وحسنه الألباني، انظر صحيح الجامع، ح/ 168.
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، وأبو داود، كتاب الملاحم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/491، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح/ 4344، وابن ماجة، ح/4011.
(3) أخرجه النسائي، واللفظ له، ك/البيعة، وابن ماجة، وأحمد بن حنبل، وصححه الألباني.
(4) أخرجه الحاكم والطبراني، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد، ومال الألباني إلى تصحيحه، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح/374.
(5) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، ح/1836، واللفظ له، والنسائي، وأحمد بن حنبل.
(6) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، ح/1854، وأبو داود، كتاب السنة، باب قتل الخوارج، واللفظ له، والترمذي، وأحمد بن حنبل.
(7) أخرجه البخاري، كتاب الفتن، ب/2، واللفظ له، ومسلم، ح/1849، وأحمد في المسند، 8/87.
(8) أخرجه الإمام أحمد، ج5 ص180، وأبو داود، كتاب السنة، باب قتل الخوارج، ح/4759، وضعفه الألباني، انظر: ضعيف سنن أبي داود، ص 471.
(9) سبق تخريجه.
(10) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 2/84، وأبو داود واللفظ له، ك/ البيوع، وصححه الألباني، ح/11 من السلسلة الصحيحة.
(11) سبق تخريجه.
(12) أخرجه مسلم، كتاب الفتن، ح/2917.(109/32)
دراسات إعلامية
الإعلام
من المنطلق الغربي إلى التأصيل الإسلامي
(1 من 2)
بقلم: أحمد حسن محمد
مدخل:
في عصرنا الحاضر تطورت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة
وفق تقنيات عالية، بما أكسبها قدرة ملموسة على الاستقطاب والتأثير والتوجيه،
حيث وجدت من الحضارة الغربية عناية بالغة، وقام الغرب بتطويرها لدعم المفاهيم
والأفكار التي يؤمن بها، مما جعل الإعلام أسيراً للإبداع الأوروبي بما توفرت
لوسائله من أسباب التقدم التقني والتجديد والإبداع، ليكون سلاحاً خطيراً يتعدى
دوره الترويحي والإخباري، ليعمل على تبديل المفاهيم وصناعة الاتجاهات، حاملاً
لقيم ومفاهيم تحكم قواعد التلقي والتثقيف بصورة تحقق التأثير المطلوب، ليس في
المجتمع الغربي فقط، بل في كافة المجتمعات والدول بما فيها المجتمع ... الإسلامي [1] .
ولما كانت الدعوة الإسلامية هي قدر أمتنا الإسلامية: فقد أصبح لزاماً عليها
أن تنظر للإعلام باعتباره قوة لمسيرة المسلمين واتجاهاتهم الفكرية والعقدية أمام هذا
الغزو الغربي، والذي لا يمثل بالطبع النموذج المطلوب وفق الهدي الإسلامي..
مما يتطلب محاولات جادة لتأصيل الإعلام، ليكون عنصراً فاعلاً في مسيرة الدعوة
الإسلامية.
أثر الحضارة الغربية في المسيرة الإعلامية الحديثة:
من المعلوم أن الحضارة الغربية المعاصرة قامت على إثر الصدام الذي حدث
بين المجتمع الأوروبي والكنيسة، أي: بين المجتمع ورجال الدين، نتيجة لمواقف
الكنيسة ضد العلماء والمفكرين آنذاك، وبالتالي: ظهر الاستبداد الكنسي على كافة
مظاهر الحياة ومناشطها [2] .
وانسحب العداء ليتعدى رجال الدين النصراني ويشمل الدين أيّ دين؛ مما
أحدث المفاصلة الكاملة بين الفكر الديني والعقل الأوروبي في كافة أنشطة الحياة،
فظهر الاتجاه المادي المتحلل من تعاليم الدين ليحكم المسيرة العلمية والفكرية للنهضة
الأوروبية [3] ، ولما كان الإعلام واحداً من هموم هذه النهضة: فقد جاء متأثراً
بهذه المفاصلة، ومع التطور الهائل في تقنيات الإعلام وتجدد وسائله: فإن هذه
المفاصلة ظهرت في اتجاهين مختلفين في المسيرة الإعلامية الأوروبية.
الاتجاه الأول: الإعلام المادي الدنيوي الذي ابتعد عن الالتزام بالمثل والقيم،
واتجه نحو إشباع الميول والغرائز والإلهاء دون النظر إلى كون ذلك حراماً أو حلالاً، حتى أصبح أقرب للتجارة، والكسب منه إلى التوجيه والتبصير، فاتجه نحو
الجماهير والعامة سعياً وراء التسويق والكسب المادي؛ مما كرس الاتجاهات
الرخيصة، فظهرت صحف وأفلام الجنس والإغراء، وقد ساعد اليهود كثيراً في
دعم هذا الاتجاه [4] .
الاتجاه الثاني: الإعلام الموجّه، والذي استخدمته بعض المنظمات
والمؤسسات في أوروبا ودولها لدعم اتجاهاتها ونشر أفكارها والتأثير بها على
شعوب العالم بعد أن أثبتت الخبرة السياسية المعاصرة أن الإدارة الإعلامية هي
إحدى الأدوات المهمة في مجال تنفيذ السياسة الخارجية، مما يندرج تحت ما يطلق
عليه بعض الباحثين اسم (الأدوات الرمزية لتنفيذ السياسة الخارجية) ، تلك الأدوات
التي تهدف إلى التأثير على مفاهيم الآخرين في الوحدات الدولية الأخرى [5] .
التدفق الإعلامي الغربي نحو المجتمع الإسلامي:
لقد استهدف الإعلام الغربي الأوروبي بشقيه (المادي والموجه) العالم الإسلامي
ضمن ما استهدفه من المجتمعات، لا سيما في العالم النامي.
ففي الوقت الذي بدأت فيه أوروبا نهضتها الحديثة بعيدة عن الدين كان العالم
الإسلامي يعيش حالة تخلف واضح قعد به تماماً عن أسباب التجديد والإبداع، وفق
قيمه ومثله العليا [6] ، بينما العقل الأوروبي يعيش نشاطاً إنسانيّاً متجدداً متحرراً
من القيود، بعيداً عن الإسلام الذي لم يعرفه لقصور المسلمين عن ذلك، وبذلك وقع
العالم الإسلامي والعالم العربي أسير هذا الإبداع الأوروبي المتنامي.
ولما كان الإعلام واحداً من أهم قضايا الفكر وناتجاً أساساً لقيم الحضارة
المتجددة: فقد سقط بدوره أمام الزحف الغربي الذي يقود ثورة هائلة في عالم
الاتصال، فأصبح إعلاماً تابعاً معتمداً في أدائه لوظائفه على الخارج.. وهذه التبعية
تبدأ من استيراده الآلات والتقنيات، وتنتهي باستيراد البرامج والمواد الإعلامية
المعلبة [7] ، حيث بلغت ما تستورده أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي من المواد
الغربية والمعلومات أكثر من 90% من مجموع ما تبثه من برامج وأخبار،
وسيطرت وكالات الأنباء الكبرى وكلها غربية، بل يهودية في معظمها على أكثر
من 80% من البث الإعلامي العالمي [8] .
وتصدر الولايات المتحدة وحدها أكثر من مئة ألف ساعة سنويّاً من البرامج
التلفازية، فضلاً عن السيطرة على السوق الدولية للمعلومات والاتصال في العالم
بواسطة مؤسسات وتجمعات رأسمالية أمريكية [9] .
ونتج عن هذا التدفق الغربي: أن أصبحت المنطقة الإسلامية بعامة والعالم
العربي بصفة خاصة تعيش في ظل الثقافة الغربية بفضل ما تبثه أجهزة الإعلام
التي لم تجد المقاومة الفاعلة من الشخصية الذاتية للمجتمع المسلم، والتي كانت
وليدة لا تمتلك مصادر التجديد والابتكار؛ مما جعلها مقلدة أكثر من كونها مجددة
مبدعة.
ومما ساعد على ذلك التأثير: اختلاط البلاد الإسلامية والعربية بالمجتمع
الغربي، فحمل طلاب البعثات والزائرون من الوسائل الترفيهية والمعنوية والفكرية
من بلاد الغرب أكثر مما حملوه من وسائل الصناعة والتقنية، وظلت المنطقة تعيش
مستورِدة: إما لفقرها المادي، أو لعجزها البشري.
ومع غياب الأصالة الإسلامية: فإن الأمر تعدى إلى محاولة إبعاد الثقافة
الإسلامية نفسها المتمثلة في القيم الخلقية والعقدية في نفوس أبناء الأمة المسلمة
متأثرة بذلك بقناعة عزل الدين عن أمور الحياة كلها.
اتجاهات الإعلام الغربي وآثاره:
لم تكن الرسالة الإعلامية الغربية محايدة، بل كانت تحمل أهدافها وأغراضها
للعالم الإسلامي بصفة خاصة، الذي كان في معظمه تحت الاستعمار الأوروبي،
وعندما قامت حركات الاستقلال حاولت أوروبا استبدال الاحتلال الفكري
بالاحتلال العسكري؛ مما كان سبباً أساساً في هذا التدفق الإعلامي باتجاهيه:
التحرري المنحل، والثقافي الموجه والمنظم.
أما الاتجاه التحرري المنحل: فقد جاء مجرداً من قيم الدين، بل وقيم الإنسان
المعتدل، فزخر بالقيم الهابطة؛ مما أوجد حشداً من الصحف والمجلات والوسائل
الإعلامية المسموعة والمرئية تمارس ألواناً من الفساد والتضليل والانحلال، تسرب
معظمها إلى بلاد المسلمين في غيبة من الالتزام الصحيح، فأصبحت تمثل تهديداً
لأبناء الأمة في أعز ما تملكه من قيم ومبادئ [10] .
وأصبحت الوسيلة الإعلامية تعمل على إلهاء الأمة المسلمة لتعيش حالة ضياع
تقرب من حالة كثير من مجتمعاتهم، وصدق الله العظيم: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ] [النساء: 44] .
وقد تركت هذه النزعة الانحلالية آثارها على المجتمع المسلم، حيث انساقت
بعض وسائل الإعلام نحو القيم الهابطة التي تتعارض مع هدي الإسلام، فزخرت
بالبرامج الرديئة، ففقدت النصائح التربوية آثارها في نفوس الأبناء والأجيال
الصاعدة، كما احتلت مواد البث الإعلامي الغربي مكان الوظيفة التربوية للمدرسة
والبيت، فأصبحت الأجيال المسلمة تعيش تناقضاً بين ما تتلقاه وتسمعه من وسائل
الإعلام وما تقدمه لها المدرسة وينصح به الآباء [11] .
أما الاتجاه الثقافي الموجه: فقد تصدرته الكنيسة والجمعيات الدينية الغربية،
في محاولة للتنصير بين أبناء المسلمين في البلاد النامية، وجاء مسانداً للحملات
والمنظمات الكنسية التي تنتشر في معظم أنحاء العالم الإسلامي في إفريقيا وآسيا
على وجه الخصوص، امتداداً لحركة التغريب التي بدأت في تركيا المسلمة،
فظهرت العديد من المطبوعات من صحف ومجلات ونشرات، ثم استخدمت الإذاعة
على المستوى القومي والشعبي، حيث استقلت بعض الهيئات الدينية النصرانية
بمحطات خاصة كما حدث في البرتغال وإيطاليا وهولندا.
وفي عصرنا الحاضر: فإن حملات التنصير ما زالت تعمل من خلال وسائل
الإعلام المختلفة، مثل إذاعة (مونت كارلو) ، و (صوت الغفران) ، و (مركز
النهضة) [12] ، وحيث تبث إذاعة (الفاتيكان) وحدها عبر ست موجات قصيرة،
بثلاثين لغة عالمية، تعمل ضمن 40 محطة إذاعية تنصيرية، تبث أكثر من ألف
ساعة أسبوعيّاً.
هذا بخلاف الصهيونية العالمية التي تسخر أكثر من (954) صحيفة ومجلة،
تصدر في (77) دولة، تقوم عليها مجموعة كبيرة من محطات البث الإذاعي
والتلفازي ومؤسسات الإنتاج المسرحي والسينمائي [13] .
كما صاحب هذه الموجة من الإعلام الموجه حمى بث مشابهة استهدفت
الإسلام والمسلمين في حملات مباشرة، فظهرت كتابات تطعن في عقائد المسلمين
وتتناول الأنبياء والرسل بالتشكيك في رسالتهم وسيرتهم، بل إن بعض الاتجاهات
العقائدية المشبوهة قامت أخيراً بتبني حملة إعلامية منظمة ضد المسلمين، انتصاراً
لآرائهم الضالة فأنشؤوا شبكات إذاعية تبث برامجها، مستهدفة المسلمين في آسيا
والخليج وإفريقيا [14] .
الدعوة الإسلامية والإعلام:
أهمية الإعلام الدعوي:
حسب العرض السابق: نلمس أن الإعلام يعتبر من أهم أدوات الأمة داخليّاً
وخارجيّاً، ويعكس بالضرورة حقيقة الأوضاع السياسية والفكرية، ويقود الرأي
العام في الداخل نحو التماسك الاجتماعي، مما يتطلب ضرورة الوصول إلى برنامج
عام متميز يحقق إبراز رموز الأمة وحَمَلة الفكر فيها، مع افتراض درجة عالية من
النقاء والوضوح.
وتظهر الأهمية أكثر عندما يكون للأمة فكر وعقيدة تسعى لنشرها وحمايتها
عن إيمان وصدق ويقين.. وأمة المسلمين تحمل عقيدة الإسلام ورسالة التوحيد،
فهى ولا شك في حاجة إلى تبليغ ما تحمله، ليس عن رغبة في الظهور، ولكن عن
يقين وإيمان بأن ما تقدمه للناس هو الأصلح لهم والأنفع لدنياهم وآخرتهم.
وأمام إحكام السيطرة الغربية على وسائل الإعلام: فإن مخاطبة الغرب بأفكاره
ومبادئه التي هي في غير صالح المسلمين تتم مباشرة لشعوب العالم الثالث،
وضمنها الشعوب الإسلامية، مما أثر كثيراً في معظم المجتمعات الإسلامية على
حساب دعوتها وعقيدتها، حتى كادت أن تضيع ملامح الدين الحق بين إفراط
وتسيب وتشدد ومغالاة.
ولعل مما يؤكد سوء النية في التدفق الإعلامي الغربي (الذي سارت عليه
معظم الأجهزة الإعلامية في كثير من بلاد المسلمين أنفسهم) : ما تقوم به من
حملات للنيل من الإسلام والمسلمين والطعن في معتقداتهم للنيل من عقيدة الأمة
وتاريخها وتراثها بعامة، وبتشويه سيرة العلماء فيها، حتى أصبح التاريخ الإسلامي
في الإعلام المعاصر لا يمثل سوى مواقف الثأر والغدر والتبذير، بل العشق
والغرام.
الإعلام الإسلامي بين الواقع والواجب:
صحيح أن هناك محاولات ظهرت فيها بعض الزوارق الصغيرة تحاول
الإبحار مع تيار الحق، تلك هي المجلات والصحف الإسلامية ثم التلفاز بعد ذلك
لتحمل صوراً توجيهية وبرامج تتعلق بالدعوة الإسلامية منها قراءة للقرآن الكريم، أو حديث ديني، أو ندوة، أو كلمة وعظ وإرشاد.. وبجانب بعض المحاولات
التمثيلية والكتابات المسرحية، غير أنها اتسمت بقلة الإمكانات المادية نتج عنها
ضعف في الإخراج وسوء الطباعة، رغم ما تحتويه بعضها من معلومات طيبة،
مما جعلها غير قادرة على الوقوف في مواجهة المنافسة مع غيرها من الوسائل
الحديثة [15] .
ولكنها في النهاية صدرت تحت مسمى البرامج الدينية أو الصفحات الإسلامية
في الصحف، بما كرس مفهوم المفاصلة بين ما تقدمه وسائل الإعلام من مواد عامة
متنوعة وتلك التي حملت اسم الدين، فجعلها في عزلة، تعزيزاً للنظرة الغربية التي
قامت على الفصل بين علوم الدنيا وعلوم الدين، متعارضة بذلك مع طبيعة الإسلام
المتكامل الذي يجعل الحياة كلها عبادة.
ومما زاد عزلة هذه البرامج التي قدمت تحت مظلة الدين: أنها لم تحظ
بنصيبها من الفن الإعلامي في التجديد والتسويق، وظهرت غريبة، وساعد على
غربتها: تدني مستوياتها إخراجاً وتقديماً بالنسبة إلى غيرها من البرامج الترويحية
والمنوعات والرياضة ... إلخ.
لهذه الأسباب وغيرها: تظهر الحاجة إلى إعلام ملتزم يحمل الدعوة الإسلامية
بكل مفاهيمها وشمولها، مستقلاً عن المفهوم الغربي باتجاهاته المادية والعنصرية،
حتى لا تقوم تلك الازدواجية بين ما هو برنامج ديني أقرب إلى الجمود منه إلى
الحركة والعطاء، وما هو برنامج غير ديني مقيد بآداب المجتمع وقواعد الشرع،
وبذلك يتحقق القضاء على الانفصام القائم بين الإعلام وبرامجه والشخصية السوية
والنظرة المستقيمة، وبما يحرر الدعوة الإسلامية نفسها من هذه الأطر والنماذج
التقليدية التي هي عليها في كثير من وسائل الإعلام للاستفادة من مميزات عدة تتميز
بها هذه الدعوة الإسلامية، نذكر منها:
أولاً: الطبيعة الإعلامية للدعوة الإسلامية.
ثانياً: قدرة الدعوة الإسلامية على استيعاب الوسائل المتاحة.
ثالثاً: تمايز المسيرة الإسلامية ومنطلقاتها.
وسنحاول أن نلقي الضوء باختصار على كل ميزة من هذه المميزات اعتباراً
من الحلقة التالية إن شاء الله (تعالى) مع استكمال باقي الموضوع.
__________
(1) إبراهيم علي، بحث مقدم للندوة العالمية للشباب الإسلامي، اللقاء الثالث، ص373، بتصرف يسير.
(2) أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص190 391.
(3) أبو الحسن الندوي، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية.
(4) وسائل الإعلام والمجتمع الحديث، وليام ل رفوريز وآخرون، ترجمة د إبراهيم إمام.
(5) محمد سعد أبو عامود، نقلاً عن محمد السيد سليم، مقال (الإعلام العربي والسياسة الخارجية العربية) ، مجلة المستقبل العربي، ع/182، 1994م.
(6) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص 190 193.
(7) محمد سعيد أبو عامود، مرجع سابق.
(8) انظر: وكالات الأنباء في الميزان، د سعيد محمد.
(9) د جيهان رشتي، التنسيق والتعاون في مجال التلفزيون عالميّاً، ص 21.
(10) د عبد القادر طاش، دراسات إعلامية.
(11) د محمود محمد سفر، الإعلام موقف، ص 53.
(12) انظر عبد الرحمن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة.
(13) لمزيد من المعلومات: انظر: دراسات إعلامية، د عبد القادر طاش، ص 91، وكذلك: الإذاعات التنصيرية، د أكرم شلبي.
(14) أشير هنا إلى القناة الفضائية القاديانية، انظر ما أثير حولها في صحيفة الشرق الأوسط، ع/490، 15 /1/ 1415هـ، 24 /6/ 1994م.
(15) د محمد محمود سفر، الإعلام موقف، ص 54.(109/38)
محاضرات وندوات
نجيب محفوظ..
خلفية فكرية لفنه الروائي
(1 من 2)
بقلم: د. مصطفى السيد
ولد نجيب محفوظ في 11/12/1911م في وقت لم تكن الساحة الثقافية في
مصر تعيش لحظة المخاض بين يدي ميلاد ثقافة جديدة مبهمة المعالم ملتبسة
الخطوط، لم يكن الأمر كذلك؛ لأنه منذ تولى (محمد علي) (1769م 1849م) حكم
مصر بدأ مشروع تهميش جزء كبير من الإسلام وإقصائه عن الحضور الشامل في
وجدان كثيرين من أفراد المجتمع وسلوكهم، كما جرى إبعاده عن أكثر مؤسسات
الدولة، وحصره في المساجد والجوامع، وإضعاف أكبر معاقله التاريخية في أرض
الكنانة (الأزهر الشريف) ، وذلك لحساب المدارس والبعثات الأجنبية التي شكلت
العمود الفقري للبنية الثقافية الجديدة، ولقد سبقت البعثات التي أرسلها (محمد علي)
إلى فرنسا هذه المدارس ومدارس البعثات الأجنبية إلى زحزحة الأزهر والأزهريين
عن مكانتهم التاريخية بوصفهما مرجعين تربويين وعلميين في مصر وخارجها ... أيضاً.
ولقد أدى تقلص دور الأزهر والأزهريين في الحياة المصرية وتمدد المشروع
الغربي إلى فتح كثير من منافذ البلاد الفكرية والثقافية أمام ذلك المشروع، ولا سيما
شطره الفرنسي الذي أراد نابليون أن يجعل من أرض الكنانة أولى البلاد الإسلامية
التي يزرع في تربتها بذور الثورة الفرنسية (1789م) .
يقرأ (جومار) الخبير الفرنسي الذي رافق نابليون في حملته على مصر، ثم
أصبح مشرفاً على المبتعثين المصريين أيام (محمد علي) إلى فرنسا، يقرأ إجاباتهم
فيعلق عليها قائلاً:
(يظهر من فحوى كتاباتهم: أنهم قبل أن يكتبوا يفكرون بعقل فرنسي لا بعقل
عربي، فمن المنتظر أن الخرافات الشرقية ستمحى من عقولهم تدريجيّاً) [1] .
هكذا يرى هذا الفرنسي في هؤلاء المبتعثين بداية واعدة تؤذن بتفتت البنية
العقلية العربية والهوية الإسلامية لهؤلاء الطلبة، فيقربهم ذلك من اعتماد المرجعية
العقلية للحضارة الغربية ويعدهم للدوران في فلكها.
دور رفاعة الطهطاوي:
لقد ترتب على مشروع (محمد علي) انكماشاً وتهميشاً لدور الأزهر التاريخي
والمستقبلي [2] ، ومما يبعث على الأسى: أن هذا التراجع للأزهر شيوخاً وطلاباً
قد تم على أيدي بعض الأزهريين، ويعد الأزهري (رفاعة الطهطاوي) (ولد عام
1801م) ضمن هذا السياق (ممثلاً حالة نموذجية لوضع العالِم ضمن مشروع (محمد
علي) التحديثي، ف (الطهطاوي) نشأ وتشكل في سياق التجربة الجديدة، ووجد في
الشيخ (حسن العطار) (أستاذه، وشيخ الأزهر فيما بعد) القدوة والموجه، فالشيخ
(حسن العطار) هو من العلماء القلائل الذين فتنتهم علوم المحتل الفرنسي ووقعوا
تحت وطأتها، إن حداثة سن (الطهطاوي) ، والمرجعية الفكرية التي مثلها بالنسبة
إليه الشيخ (العطار) ، مضافاً إلى ذلك نشأته الفقيرة: جعلت من الآفاق التي فتحتها
أمامه سياسة (محمد علي) الأسس التي صاغت توجهه اللاحق عبر مختلف الكتابات
التي حبّرها بعد رجوعه من فرنسا والتي شكلت تعبيراً دقيقاً عن واقع العالم الملحق
بمنطق الدولة الناشئة، والمشارك في تنفيذ سياستها انطلاقاً من موقعه هذا) [3] .
ولم ينته دور هؤلاء الأزهريين (القلائل) عند حدود المشاركة العلمية والعملية
في التغريب الذي بدأ على استحياء أيام (محمد علي) ليصبح مشروعاً شاملاً في أيام
محفوظ، لم ينته دورهم عند حدود تلك المشاركة، بل تطور إلى مدح ما قام به
(محمد علي) ، يقول (رفاعة الطهطاوي) :
(لو لم يكن للمرحوم (محمد علي) من المحاسن إلا تحديد المخالطات المصرية
مع الدول الأجنبية لكفاه ذلك، فلقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد، وآنسها
بوصال أبناء الممالك الأخرى لنشر المنافع العمومية، واكتساب السبق في ميدان
التقدمية) [4] .
وهكذا تحول الشيخ (رفاعة) إلى مجرد باحث عن كل ما يبرر ويدعم سياسات
(محمد علي) التحديثية التي كانت أساس الانفتاح على الغرب، وقد وصل في
أحايين كثيرة إلى حدود التهور والفجاجة، لقد كان المتوقع أمام المأزق الحضاري
أيام (محمد علي) العودة إلى التجربة الإسلامية الراشدة، لتحصين الأمة بدينها، لا
باستعارة حضارة لم تأت بتقدم، ولم ترتق بدين يمتلك عناصر الرقي ويحفظ على
الأمة وحدتها وشخصيتها ورسالتها.
دعاة التغريب ورموزه:
وبمرور الزمان أخذ الاتجاه نحو تغريب المجتمع العربي المسلم في مصر،
ومن ثم: بقية العالم العربي، أخذ يشتد ساعده ويكثر مساعدوه، ويتغلغل فكراً
ومفكرين في شؤون الحياة كلها، ويتقدم نحو مواقع كانت تاريخيّاً وقفاً على دعاة
التوجه الإسلامي.
وكان في دعم الدولة ممثلة بالخديوي (إسماعيل) حفيد (محمد علي) أقوى
الأسباب التي مكنت للمشروع الغربي في مصر، يضاف إلى ذلك: ضعف الدولة
العثمانية التي آذنت شمسها بمغيب، وزاد الطين بلة: غياب مخطط إسلامي يوقف
التداعي الداخلي.. هذه الأمور وأمور أخرى ليس هنا موضع سردها تركت الساحة
العربية المسلمة مشرّعة على شتى الاحتمالات، تستقبل شتى التحديات واهنة القوى
مشتتة الرأي؛ فاشرأبت أعناق دعاة التغريب من المثقفين لتقصر المرجعية
الحضارية على لندن وباريس، وجأر (أحمد لطفي السيد) (1870م 1963م)
بدعوته إلى الليبرالية الغربية، ومحاربته للجامعة الإسلامية، جاعلاً من سلبيات
الحكم العثماني منطلقاً لمجابهة أي توجه إسلامي، ومن إشرافه على الجامعة
المصرية (1925م 1941م) فرصة لا تفوّت لتأسيس هذه الجامعة توجهاً ولوائح
ومناهج على أصول الفكر الليبرالي الغربي.
وبالجملة: فلقد (انتقل الفكر القومي على يد (لطفي السيد) إلى مرحلة جديدة،
وقد تميز فكره السياسي بالخصائص التي ميزت فكرة الطهطاوي، وهي:
الإيمان ب: القومية المصرية، والديمقراطية الليبرالية؛ والدعوة إلى نقل
مقومات الحضارة الغربية، وإن تميز بأن تفكيره أكثر علمانية كما يتضح من
مهاجمته لفكرة الجامعة الإسلامية) [5] .
دور علي عبد الرازق الانهزامي:
في هذا المناخ الليبرالي أخرج (علي عبد الرازق) كتاب (الإسلام وأصول
الحكم) سنة 1925م، مكملاً بذلك الشطر الآخر من دعوة (أحمد لطفي السيد) الذي
استمات في الدفاع عن القيم الغربية وتقديمها للشرق العربي المسلم بوصفها الدواء
الشافي لكل علل التأخر والتخبط، لقد أراد (علي عبد الرازق) أن ينهض بالشطر
الأهم من هذه الهجمة المتمثل بالدعوة الكاذبة القائلة بخلو الإسلام من العناصر
اللازمة لقيام دولة، وأن كل ما في الإسلام عن هذا الجانب لا يعدو بعض القيم
الأخلاقية التي هي أضعف من أن تشكل دولة بالمفهوم القديم لهذه الكلمة، فأنّى لها
أن تكوّن عناصر قيام دولة بالمفهوم المعاصر؟
الأدباء والدعوة لليبرالية:
ولم تكد العاصفة التي أحدثها (الإسلام وأصول الحكم) تهدأ حتى يفاجأ العرب
المسلمون في مصر وخارجها بكتاب (في الشعر الجاهلي) سنة 1926م، لا ليمثل
ثرثرة حول قضايا أدبية تتسع لأكثر من رأي، بل للتشكيك في صدق الحقائق
التاريخية الموجودة في القرآن الكريم، وإذا كان الجمهور المصري من عامة
وعلماء وأحزاب أكثرهم قد أدانوا الكتاب الضرار، فإن (أحمد لطفي السيد) عمل
بكل ما في وسعة مستغلاً حربة البحث العلمي واستقلالية الجامعة، ليواري بها
السوأة الفكرية للكتاب والكاتب، داعماً مثل هذه البحوث المشبوهة وأصحابها الذين
صُنعوا على أعين الغرب.
في هذا المناخ القاتم الذي يعد امتداداً لمشروع (محمد علي) ، و (رفاعة
الطهطاوي) ، و (حسن العطار) ، وما كان يحمل من بذور حضارية نافعة غطت
عليها وألغتها سيطرة الروح الغربية الطاغية على دعوته ودعاته، ثم تجلّى هذا
المشروع بداعية جَلَد ضاعف فيه من الجرعة الغربية، وقلّت فيه الروح الإسلامية
الواهنة التي صاحبت دعاة المشروع الأوائل، قصدت بذلك من أطلق عليه لقب
أستاذ الجيل: (أحمد لطفي السيد) ، ولم يكن (لطفي السيد) يعمل وحيداً، بل آزره
(علي عبد الرازق) و (طه حسين) من خلال ما كتبا، وأخيراً: يأتي تراجع الأزهر؛ ليزيد الطين بلة، ويبلغ السيل الزبى والحزام الطبيين ...
بيئة نجيب محفوظ وثقافته:
في هذا المناخ القاتم يولد هذا الروائي الكبير ليمتص هذا الثقافة، ويغذو قلبه
وعقله بفكرها ومفكريها، يولد في مثل هذا المناخ الملوث الذي يشكل حصاراً
وتحدياً لكل محاولات البعث الإسلامي، يتنفس محفوظ في هذا الجو، وتتأسس
ثقافته، ومن ثم: إبداعه الروائي، تأسيساً يجعل منه اللسان الروائي لتجمع
(الضرار) .
لم يكن محفوظ ليتردد في الانتماء الثقافي والروائي والسياسي إلى تجمع
(الضرار) الذي يمكِّن عمليّاً وفي العمق للفكر الذي يتناقض مع الدين، في الوقت
الذي يعلن فيه الضراريون أنهم لا يعملون إلا لبعث الدين [وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ
الحُسْنَى] [التوبة: 107] .
وإذا كان الفكر الغربي يجد بعض المسوغات لتسويقه في بلاد المسلمين بما
يمتلك من منجزات في الميدان التقني، فبم نفسر انحياز الأستاذ (نجيب محفوظ)
لفكر منقرض مذموم في الكتاب والسنة؟ ، وكيف نفهم قوله لـ (جمال الغيطاني)
الكاتب الروائي: (إن العصر الفرعوني هو المرحلة المضيئة في مواجهة الواقع
المر الذي كنا نعيشه) [6] .
ولقد أتيحت لهذا الروائي الموسوعي الفرصة لكي يطل على الثقافة الإسلامية
من موقع علمي وموثوق، وذلك عندما سجل رسالة الماجستير عن (علم الجمال عند
المسلمين) بإشراف العلامة الشيخ (مصطفى عبد الرازق) (رحمه الله تعالى) ،
وكانت الفرصة لو تمّت ستتيح للكاتب الاطلاع على الثقافة الإسلامية من مصادرها
التي يعتد بها، لا من المشعوذين الذين ازدحمت قصصته ورواياته بشخوصهم
وآرائهم، إن الجلوس مع أمثال الشيخ (مصطفى عبد الرازق) كان سيشكل مكسباً
عظيم العائد والمردود لهذا الروائي المتمكن، لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو
خير، واستعاض بالشيخ (مصطفى عبد الرازق) أصدقاء كان يشرب معهم الشيشة
ويحتسي بعض كؤوس الويسكي والاستماع إلى أم كلثوم [7] .
تتلمذه على (سلامة موسى) :
كما استبدل بالشيخ رأساً من رؤوس الفكر الغريب عن روح الأمة وعن
تجربتها ومسيرتها، قصدت بذلك (سلامة موسى) الذي يقول عنه محفوظ:
(وكان لـ (سلامة موسى) أثر قوي في تفكيري؛ فقد وجهني إلى شيئين
مهمين هما: العلم، والاشتراكية، ومنذ دخلا مخي لم يخرجا حتى الآن) [8] .
إن (سلامة موسى) قد وجهه إلى العلم الذي جعل (كمال عبد الجواد) يقول
على لسان الكاتب في (قصر الشوق) : (أبونا آدم؟ ! ، لا أب لي، ليكن أبي قرداً
إذا شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة نبي حقّاً ما
سخرت مني سخريتها القاتلة) [9] .
لعله ليس من المبالغة القول: إن التصور الإسلامي بما يمنح المؤمن من
القدرة على تجاوز اليأس والإحباط، واستبدال التفاؤل بالتشاؤم، إن هذا التصور
عندما غاب عن رؤية الكاتب لمستقبل الصراع العالمي للإنسان فإنه جعل هذه
الرؤية (لا تحمل أملاً في خلاص الإنسان، ولا حلماً بالخلاص، والأديب الذي
يكتب بمثل هذه الرؤية، لا يُنتَظر منه أن يعيد تشكيل الواقع ليكشف عن رؤية
جديدة للإنسان والواقع، وغاية ما يمكن أن يقدمه هو الوقوف عند حدود تصوير
الواقع الذي يراه في صورة مأساة كاملة ومستمرة) [10] .
إن غياب هذا التصور قد أفقد الكاتب تلك النزعة المتفائلة والواعدة بمستقبل
أفضل للإنسان، تلك النزعة التي أخذها أمثال (ديكنز) و (تولستوي) و (همنجواي)
من نصرانية محرفة، فباعدت بين أدبهم واليأس والقتامة، في حين كان بمقدور
كاتبنا أن يفيد من روضة الإسلام (اللامتناهية) في هذا الموضوع، ومن روحية
الشعب المصري المفطور على الكفاح المتفائل، والمكتشف بحسه الروحي لحزم
النور في ليالي الظلام المتكاثف.
لقد أدار الكاتب ظهره، ونأى بقلمه عن الاستفادة من الكنوز الروحية لمصر
الإسلامية، وراح ينقل الهموم الغربية إلى الرواية العربية نقلاً جعل بعض النقاد
يقول: (إن جرأة مشروع محفوظ في (حكاية بلا بداية ولا نهاية) .. وهو طي
صفحة التصور الديني للعالم، وتكريس التصور العلمي بديلاً له ووريثاً، وأن
التصور الديني للعالم قد دبت فيه الشيخوخة، وفَقَد القدرة مثله مثل الشرايين حين
تصاب بالتيبس على الاستجابة لمتطلبات العصر الذي لا سنة له غير التغير) [11] .
وبقدر ما كان محفوظ يباعد ما بينه وبين التصور الإسلامي ويقترب من
الغرب المقيم من خلال مثقفيه ومسوقيه من العرب، والغرب البعيد في دياره
وأوطانه.. بقدر ما كان يفعل ذلك كانت أزمته تكبر وكان يسقطها على أبطاله مع
كثير من التعسف والقسر الفني والموضوعي للشخصيات لتكون مطواعة لتصورات
الكاتب.
لقد ظهر ذلك جليّاً في رواياته (اللص والكلاب) ، و (السمان والخريف) ، ... و (الطريق والشحاذ) ، وأجلى ما يكون في (دنيا الله) ، و (حكاية بلا بداية ولا نهاية)
ولينفجر مدوياً فادحاً وفاضحاً في آن معاً في (أولاد حارتنا) .
ولعلي اكتفي بشواهد من (الثلاثية) التي جسدت هذه الأزمة:
تأتي أقوال (كمال) بن السيد أحمد عبد الجواد أحد أبطال الثلاثية (بين
القصرين، قصر الشوق، السكرية) [12] لتجسد بصورة صارخة عمق الأزمة
الروحية لمحفوظ، مبرزة رؤيته القاتمة للدين، سواء بقيمته المعنوية في حفظ كيان
الفرد والأمة، أو لجهة دوره في الصراع المستقبلي، بوصفه أحد أهم عناصر
النصر في هذا الصراع، إن لم يكن بتطبيقه وفهمه الفهم الدقيق عنصر النصر
الوحيد.
وأقوال (كمال عبد الجواد) وغيره من أبطال محفوظ لا تظهر أزمة الكاتب
الروحية وموقفه من الدين فحسب، بل تبلور انعكاس أفكار (سلامة موسى) في
الكاتب ودعوة (محمد علي) و (رفاعة) إلى التغريب التي كانت لها تجلياتها في
مختلف مجالات الحياة العربية المسلمة في مصر، وكتابات محفوظ تمثل في إنتاجها
أحد أهم هذه التجليات.
ولقد دندن أكثر النقاد عن العلاقة بين محفوظ وأبطاله عامة و (كمال عبد
الجواد) بصورة خاصة، وإذا كان النقاد قد وقفوا على أرضية صلبة في استكشاف
معالم العلاقة بين كل من (نجيب محفوظ) و (كمال عبد الجواد) بوصف جهدهم عملاً
مشروعاً من الناحية النقدية، فهم قد تركوا إبداعات مهمة في رصد هذه العلاقة
وإثبات وشائج القربى بينهما، ومما أكد على عمق العلاقة: مقولات الكاتب نفسه
التي أصّلت مقولات النقاد ورسخت ما ذهبوا إليه [13] .
يقول محفوظ: (الثلاثية، وأولاد حارتنا، والحرافيش: هم أحب أعمالي إلى
نفسي، في الثلاثية كما قلت: جزء كبير من نفسي، يتمثل في شخصية (كمال عبد
الجواد) ، إن أزمة كمال هي أزمتي، وجانب كبير من معاناته هي معاناتي، من
هنا يجيء حبي للثلاثية وحنيني إليها) [14] .
لنستمع إلى ما أورده الكاتب على لسان (كمال عبد الجواد) ، ولِنَرَ المسافة
البعيدة التي قطعها في البعد عن الدين، ووقوعه في حيرة وشك قاتلين: (سيكون -
أي: كمال- في تحرره من الدّين أقرب إلى الله مما كان في إيمانه به) [15] ،
ويقول كمال مناجياً نفسه في (قصر الشوق) : (كان كأنما يود أن ينعي إلى الناس
عقيدته، لقد ثبتت عقيدته طوال العامين الماضيين أمام عواصف الشك التي أرسلها
(المعري) و (الخيام) ، حتى هوت عليها قبضة العلم الحديدية فكانت القاضية، على
أنني لست كافراً! ، لا زلت أؤمن بالله، أما الدين! ، أين الدّين؟ ! ، ذهب كما
ذهب رأس الحسين، وكما ذهبت عايدة -حبيبته-، وكما ذهبت ثقتي بنفسي، كفى
عذاباً وخداعاً، لن تعبث بي الأوهام بعد اليوم، أبونا آدم؟ ! ، لا أب لي، ليكن
أبي قرداً إن شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة
نبي حقّاً ما سخرت مني سخريتها القاتلة) [16] .
إن (كمال عبد الجواد) ، ومن قبله (إسماعيل) بطل (قنديل أم هاشم) لـ (يحيى
حقي) ، وبطل (الأيام) و (أديب) لـ (طه حسين) ، و (محسن) بطل (عصفور من
الشرق) لـ (توفيق الحكيم) ليسوا إلا فتية من سلالة (رفاعة الطهطاوي) [17] .
__________
(1) عمر طوسون، البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهدي عباس الأول وسعيد، مطبعة صلاح الدين بالإسكندرية، 1934م، ص 408.
(2) يؤكد نجيب محفوظ على هذه الحقيقة منذ فجر إبداعه الروائي الذي تناول فيه الشؤون والشجون المصرية عامة والقاهرية خاصة، كما في (القاهرة الجديدة) التي تدور أحداثها عام 1934م، حيث يذكر فيها على لسان أبطاله: (الحاجة ماسة حقّاً إلى وعاظ من نوع جديد، من كليتنا لا من الأزهر) الرواية، ص 44، وتبدو الشخصية التي تمثل توجهاً إسلاميّاً أو أزهريّاً، تبدو عاكسة لنظرة الكاتب إلى الإسلام والأزهر بوصفهما عاجزين عن التقدم، بل متهمين غالباً بازدواج الولاء، وتناقض السلوك المعاش مع الدور المنشود من كل منهما، يبدو ذلك في أكثر رواياته.
(3) مجلة الفكر العربي، آذار/مارس 1987م، ع/45، من مقال: عقيدة التحديث عند الطهطاوي، بقلم: د حسن الضيقة.
(4) الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، د محمد عمارة، ج1، ص441 442.
(5) البطل في الرواية المصرية المعاصرة، د أحمد إبراهيم الهواري، ص 65، دار المعارف، ط3، 1986م.
(6) نجيب محفوظ يتذكر، إعداد جمال الغيطاني، ص 44.
(7) المرجع السابق، ص 88.
(8) المرجع نفسه.
(9) قصر الشوق، ص 347.
(10) الرؤية والأداة، ص 64.
(11) (الله) في رحلة نجيب محفوظ الروائية، جورج طرابيشي، ص88 90.
(12) بين القصرين: من أكتوبر 1917م إلى إبريل 1919م، وقصر الشوق: من يوليو 1924م إلى 23 أغسطس 1927م، والسكرية: من يناير 1935م إلى صيف 1944م.
(13) في كتاب (نجيب محفوظ، إبداع نصف قرن) ، إعداد وتقديم (غالي شكري) ، يقول (سامي خشبة) ، ص 82 عن الثلاثية: (كان موضوعها الأساسي هو معاناة كمال الروحية والفكرية والاجتماعية، باعتباره تصويراً للمؤلف نفسه، كما أقر بذلك نجيب محفوظ) ، وتقول د) لطيفة الزيات) في شهر 9/1996م في الكتاب نفسه، ص 193: (قد صرح محفوظ أكثر من مرة بأن شخصية كمال في الثلاثية إنما هي التصوير الفني لشخصه في الواقع) .
(14) المرجع نفسه، ص 6.
(15) قصر الشوق، ص 350.
(16) المصدر نفسه، ص 347.
(17) مجلة فصول، 1982م، ص 59.(109/46)
هموم ثقافية
السقوط عند اللحظة الفارقة
بقلم: د.أحمد إبراهيم خضر
لبعض الكتاب علامة فارقة تميزه عن غيره، فهو صاحب مبدأ لا يتغير،
وبعضهم متقلب الفكر يميل مع الريح أنّى مالت، ولا سيما إذا وجد فيها مصلحة ما
أو أداءً لدور معدّ سلفاً، وحديثي عن رجل من النوع الثاني، اتسم زيادة على ما
ذكرت بعداء شديد للفكر الإسلامي ورواده المعاصرين، وهو مع كل توجه منحرف
لأدعياء الفكر الإسلامي، إذ هم عنده رموز لا تمس، وإن هلكوا فهم في تصوره
شهداء، إنه المدعو (غالي شكري) .
فمن هو (غالي شكري) هذا؟ ! ، وأين هو الآن؟ .
إنه حامل حقيبة (سلامة موسى) كما وصفه الأستاذ (محمود شاكر) [1] .
(غالي شكري) هو الكاتب القبطي الماركسي المعروف، رئيس تحرير مجلة
(القاهرة) اليسارية، صاحب (النهضة والسقوط) ، و (الماركسية والأدب) ، و (قضية الجنس في الأدب) ، و (ثورة المعتزل) و (المنتمي) ، و (نجيب محفوظ في خط المواجهة) .. إلخ.
هو التلميذ التابع لـ (لويس عوض) كما يقول عن نفسه.
كوّنَت فكره: الترجمات الروسية والفرنسية، ومطبوعات دار التقدم بموسكو، وأفكار (لينين) و (يلنجانوف) و (ماركس) و (إنجلز) [2] .
صحب (غالي شكري) (سلامة موسى) ست سنوات (كصحبة (أوجست كونت)
الشاب (سان سيمون) العجوز) وكان من أهم قرائه، وأكثرهم نبشاً في فكره،
وأقدرهم على الإشارة إلى مواطن ريادته! .. احتفى (سلامة موسى) بتلميذه (غالي
شكري) ، ودعاه إلى زيارته في بيته، ومدّ له يد العون، وقيل عنه: إنه ابن ... أخته [3] ، لقن (سلامة موسى) تلميذه الجديد معلومات جديدة عن (فرويد) ... و (نيتشه) و (شو) ، و (تولستوي) ، ثم علّمه كيف يحول هذه المعلومات إلى خبرة حية ومزاج عقلي، في وقت لم يكن في بيت (غالي شكري) إلا كتاب واحد، هو (الإنجيل) [4] .
معظم أفكار (غالي شكري) ترديد لأفكار (سلامة موسى) ، هذا الأخير الذي
يزعم أن (الله) فكرة! ، والدين هو الإنسانية، وفرنسا هي القبلة [5] ، والتعليم لا
بد أن يكون أوروبيّاً لا سلطان للدين عليه ولا دخول له فيه، هذا الأستاذ هو
صاحب مقولة (نحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان) ، لغة
القرآن عند (سلامة موسى) لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية
كتلك التي نعيش بين ظهرانيها [6] .
أصدر (غالي شكري) مجلته (القاهرة) متسلحة بما يسمونه بالفكر الحر
والمتقدم في خط المواجهة الأول للدفاع عن العقلانية من أجل صياغة مشروع ثقافي
وفكري مستنير [7] ، ضد دعاة الجمود والتخلف المتمسكين بالموروثات دون تغيير
، الذين يقدمون القرابين للسلف الصالح [8] ، تماماً مثلما أصدر (سلامة موسى)
مجلته (الجديد) اليسارية العلمانية الجريئة.
(سلامة موسى) هو أول من أصدر كتاباً بالعربية في مصر عن الفكر
الاشتراكي، وهو الذي صدّر صورة (كارل ماركس) في العدد الرابع من مجلة
الهلال، التي كان يرأس تحريرها عام 1921م.. تقلد (غالي شكري) خطى (سلامة
موسى) نحو الاشتراكية مثلما تقلدها (لويس عوض) و (نجيب محفوظ) من قبله [9] ، ولما سئل (نجيب محفوظ) عن تأثره بعلمانية (سلامة موسى) ، وإلى أي مدى
ظهر هذا التأثير على ملامح شخصيته؟ ، أجاب ضمن ما قاله بالحرف الواحد:
(لهذا أشعر بالإجلال لـ (سلامة موسى) ولخدمته لهذا الوطن ودعوته للاشتراكية..
(بلاش) اشتراكية لأنها كلمة سيئة السمعة) [10] .
(غالي شكري) و (سلامة موسى) من أصحاب المشروع الثقافي الطائفي،
وكان الأخير ينظر إلى نفسه كمثقف عربي طائفي [11] ، لكنه أخفى تعصبه
الطائفي تحت عباءة الاشتراكية مثلما أخفاه (غالي شكري) تحت عباءة الماركسية،
نادى (سلامة موسى) بالتعقيم الاختياري [12] ، ودعا إلى ضبط النسل، في الوقت
الذي أنجب فيه ثلاثة صبيان وخمس بنات! ! ، [13] أما (غالي شكري) الذي
يقول عن نفسه أنه درس القرآن قراءة وتدويناً، وحفظه عن ظهر قلب [14] : فقد
جعل مجلته منبراً ينادي بالعلمانية، وقلعة للماركسية وأفسح مساحات كبيرة فيها لـ
(ألبير قصيرى) و (جورج عبد المسيح بشاي) و (سمير صادق حنا) و (مجدي
فرج) و (ماري إلياس) و (ميخائيل جرجس) و (جرجس شكري) و (إلهام غالي) ... و (توفيق حنا) يرسمون ويتحدثون عن (دليل الحيارى في أعمال النصارى) و (مع
المسيح ذلك أفضل) وعن (الأقليات والألحان القبطية وامتداداتها الفرعونية) .. إلخ
[15] ، والأخطر من ذلك: الترويج لفكرة الإلحاد [16] .
وإذا كان (سلامة موسى) قد وضع التجارب فوق العقائد، وأخرج الدين من
دائرة علاقة الإنسان بالحكومة، وحكم بالموت على كل من يؤمن بتدخل الدين في
أصول المعاملات بين الناس من تجارة وزواج وامتلاك [17] ، فإن تلميذه (غالي
شكري) قد تعرض بخبث للإسلام والإسلاميين، تارة في ثنايا مدحه لتفاعل
الحضارة العربية الإسلامية مع غيرها، وتارة ثانية تحت دعاوى الإرهاب
والتطرف، وأخيراً: تحت مظلة الديمقراطية وحرية الفكر والتعبير.
(غالي شكري) هو الذي كتب قائلاً: (إن ميراثنا الحضاري يقبل التغيير
والتجدد، فلا يجوز أن نسمح لدعاة الجمود بالإبقاء على موروثاتنا دون تغيير،
ومن ثم: لا يجوز أن نقدم القرابين للسلف الصالح) ، ولهذا استمات حتى أعاد من
على منبره اليساري نشر كتاب (في الشعر الجاهلي) لـ (طه حسين) ، ودعوة
(شادي عبد السلام) لإحياء الفرعونية، كما نشر محاكمة (نصر حامد أبو زيد) تحت
عنوان (وثيقة إعدام مثقف مصري) [18] .
وخصص مساحة كبيرة لنشر محاكمة (محمد محمود طه) زعيم الإخوان
الجمهوريين في السودان [19] الذي ارتد عن الإسلام وأُمهل ثلاثة أيام ليتوب، لكنه
لم يتب؛ فأعدم شنقاً في صباح الجمعة 27 ربيع الثاني 1405هـ الموافق 18/1/
1985م بتهمة الزندقة ومعارضة تطبيق الشريعة الإسلامية.
(محمد محمود طه) ، رجل يمتاز بقدرة فائقة على المجادلة والملاحاة، أسس
حزبه الجمهوري سنة 1945م، قال بآراء دينية منحرفة مصحوبة بكثير من الآراء
الشخصية لم يقل بها أي عالم من علماء المسلمين وأئمتهم، قال: إنه صاحب
الرسالة الثانية التي تلقاها من الله نفسه كفاحاً بدون واسطة ليرفع وصاية الشريعة
الإسلامية عن الرجال والنساء؛ ولهذا أسقط التكاليف الشرعية عن الإنسان في
مرحلة من المراحل لاكتمال صلاحه، ولعدم وجود داع للعبادة بعدها.. الجهاد عنده
ليس أصلا في الإسلام، ولا الحجاب، ولا الزكاة، وتعدد الزوجات كذلك، والدين
عنده هو الصدأ والدنس، أما القرآن: فهو شعر ملتزم، وموسيقا عُلوية، يعلِّم كل
شيء ولا يعلِّم شيئاً بعينه، حرّض الجنوبيين المسيحيين في السودان ضد تطبيق
الشريعة، وروج لفكرة الإنسان الكامل الذي هو زوج الله (! !) [20] .
لهذه الأسباب، ولسبب آخر مهم، هو دعوته إلى ما يسميه بالمساواة
الاقتصادية التي تبدأ بالاشتراكية وتتطور نحو الشيوعية، ومناداته بالفردية المطلقة، بمعنى أن يكون لكل فرد شريعته الفردية، خلع عليه اليساريون ألقاباً وصفات
عديدة، منها: الأستاذ الشهيد المفكر الإسلامي صاحب الدماء الزكية كاتب صفحات
النور في تاريخ الفكر والاستنارة، وأعدوا له فيلماً بعنوان (القتلة يحاكمون ... الشهيد) [21] .
(غالي شكري) يريد شابّاً متديناً من طراز خاص جدّاً، أهم ما فيه أنه لا يقدم
القرابين للسلف الصالح! ! ولكنه نسخة مطابقة لشخصية (أحمد عبد الجواد) في
ثلاثية نجيب محفوظ.
يقول (غالي شكري) عن (أحمد عبد الجواد) : (فهو المؤمن المتدين الذي
يقضي لياليه بين الخلان شارباً، وبين العوالم راقصاً، وبين النساء متهالكاً نشوان
طروباً، دون أن يفرض على الوعي أي تناقض بين أداء الفرائض وفرضها على
أفراد عائلته، والحياة الليلية الملونة.. شخصيته مزدوجة حقّاً! ، ولكن ما أبعدها
عن التمزق؛ فلا إحساس بالذنب، ولا عذاب للضمير، وإنما انسجام تام بين
الوجهين كأنهما وجه واحد) [22] .
(غالي شكري) كأستاذه (سلامة موسى) من دعاة (المتوسطية) نسبة إلى انتماء
مصر إلى أوروبا عبر المتوسط لا العرب، وشكل الاستعلاء على العرب والسلام
مع إسرائيل جزءاً من أطروحته الوطنية الثقافية مع (نجيب محفوظ) قبل عام
1952م وبعده [23] ، ولكنه لما دعي إلى احتفال ولادة معجم البابطين للشعراء
المعاصرين في الكويت تلوّن وقال: (فمن يملك التاريخ الواحد وسمات الأمة الواحدة
لا يمكن أن يختلف مع زميله [24] ، رغم أنه قال قبل ذلك: (إن اللغة والدين
والتاريخ المشترك أحياناً بين المصريين وغيرهم من العرب لا تقيم شمل أمة أو
قومية) [25] .
ولأن العدو واحد عندهم جميعاً، هم الذين يطلق عليهم (غالي شكري) :
(الجهلاء، خصوم العقل، الذين تمكنوا من رفع الصوت عالياً في البرلمان ضد
الشعر والنثر واللون، وفي ساحات المحاكم، وفي الغرف المغلقة داخل الجامعات)
[26] ، تناسى ما قاله بالأمس من أن الصحراء تفصل بين مصر والعرب، وأن
المتوسط هو الذي يربط بينها وبين أوروبا (!) ، ليقول اليوم: (أصحاب المال
العرب) قدموا نموذجاً رفيعاً على أن العطاء الثقافي هو أعظم أنواع العطاء [27] .
حينما تعرض (نجيب محفوظ) لمحاولة اغتياله بعث إليه (غالي شكري)
يواسيه، ويقول له: إنه تعلم منه ومن تجربة اغتياله شجاعة العقل والتعقل،
وشجاعة الإصرار إلى حد الاستبسال، وإنه صامد متمسك بالعقلانية، ولن يتخلى
لحظة واحدة لرعد العواصف الهوجاء الطائشة العمياء، حاملاً الراية ذات النجوم
الثلاث (الحرية، والمعرفة، والعدالة) [28] .
هذا ما قاله (غالي شكري) ، لكنه (عند اللحظة الفارقة) التي سمع فيها بحادث
(أديس أبابا) سقط مصاباً بجلطة في الدماغ، فأصبح عاجزاً عن التفكير والحركة
معاً، فحملوه إلى قبلته (باريس) على كرسي متحرك.
ومع سقوط غالي شكري (تصاعدت في كل أركان الضمير الثقافي العربي
صيحات الفزع، فليس ذلك العقل اللامع مما يمكن تعويضه، خاصة في هذه الفترة
الحرجة من عمر المأزق الثقافي العربي) هكذا اعترف الحواريون [29] ، أما لحظة
انهيار الحواريين فقد كتبوها بأيديهم في النص التالي: (ما الذي سيحدث لو (لا قدر
الله!) وأصيب الرئيس، إلى أين سنتجه؟ ، وماذا سنكون؟ ، من هو القادم؟ ،
ما هي صفاته؟ ، كيف سيسلك معنا؟ ، وهل سينتهي الأمر عند هذا الحد، أم إنها
هوجة كبرى ستأتي على الأخضر واليابس في هذا البلد الذي لم يعد يحتمل المزيد؟ لا بد أن (غالي شكري) قد أحس بهذا كله لأن الأرض دارت به، ولأن الألم
تصاعد إلى رأسه [30] .
الوزراء يتقدمهم كبيرهم، والمثقفون من كبار المسؤولين.. وغيرهم التقوا
حول (غالي شكري) في أزمته هذه.. (كانت الجموع من حولي، من اللحظة الأولى
خير عنوان على هذا الشوق العارم) أثبت الجميع (.. على اختلاف اتجاهاتهم أنهم
حريصون ليس على غالي شكري بالتحديد، ولكن على ما يمثله غالي شكري من
قيم ومبادئ في الحياة المصرية) .. هكذا توهم غالي شكري.
(لقد كنتم جميعاً أهم كثيراً من العصا في يدي لتعلم المشي من جديد، كنتم
جميعاً أهم من المقعد المتحرك تحتى في قطع المسافات قبل أن ينقلني مجدداً إلى
الحركة الطبيعية، إنكم كنتم حولي في أقسى اللحظات، وسوف أذكر ما حييت كيف
أن بعضكم قد ترك مسرات الحياة وعادني في وقت صعب) .. هكذا قال (غالي
شكري) .
وعاد (غالي شكري) إلى منبره مرة أخرى (خشية على مستقبل الفكر في
مصر) وما يمثله للحياة المصرية من قيم ومبادئ [31] كما توهم.
لكن الحال لم يدم طويلاً، إذ سقط (غالي شكري) مرة أخرى مصاباً بجلطة
ثانية في دماغه، واختلف الأمر هذه المرة، فهؤلاء الذين تركوا مسرات الحياة
وعادوه في وقت صعب.. لم يكونوا يفعلون ذلك من أجله، إنما من أجل شيء آخر
نتلمسه في النص التالي الذي كتبوه بأيديهم ومن فوق منبرهم:
(إلا أن هناك في الحياة الثقافية سلوكاً أخلاقيّاً تكرر إلى حد ما يشبه الظاهرة
كاملة الأركان، وهذه الظاهرة هي ما يعبر عنه المثل الشعبي العميق (عايزين
جنازة ويشبعوا فيها لطم) ! .. في هذا السياق هناك من كانوا ينتظرون غياب (غالي
شكري) في حالة شبه نشوة حبيسة؛ وذلك للقفز بسرعة الزمن إلى مكانه ومكانته) .
لم تنته الصورة بعد، ولم يسقط (غالي شكري) وحده، إنما سقطت القمم
الثقافية الواحد بعد الآخر، هذا (سمير سرحان) سقط مصاباً باضطراب في نبضات
القلب، وهذا (جمال الغيطاني) تعطلت صمامات قلبه، وهذا الرمز الكبير (جابر
عصفور) سقط مصاباً بمرض السكري ... [32] .
ورغم أن هذا هو قدر الله عليهم جميعاً، [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ] [البقرة: 20] ، لكنهم ما لانوا وما استكانوا وما عادوا إلى الله أو
تضرعوا إليه، فقد كانت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، فباتوا يفلسفون ما حدث
بأنه (هو الثمن الذي يدفعه أبطال الفكر على مدار التاريخ في سبيل الحرية
والعقلانية.. هذا هو الثمن الذي يدفعه المثقف المستنير منذ (ابن رشد) إلى ... (محمد عبده) ، و (عبد الرحمن الكواكبي) ، و (قاسم أمين) ، و (مصطفى عبد الرازق) ، و (أحمد أمين) ، و (أحمد لطفي السيد) ، و (طه حسين) ، و (توفيق الحكيم) ، و (يوسف إدريس) ، و (جمال حمدان) ، و (نجيب محفوظ) ... إلخ.. إن المثقف المستنير، سيظل يدفع الثمن مادام يلح على التصدي لمختلف تيارات التخلف، فيعمل ليل نهار من أجل التطور والتنمية ويحارب الإرهاب بمختلف صوره) [33] .
إن الله (تعالى) يأخذ المكذبين برسله بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة
الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى، وأن يرقق القلوب
التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية ... هكذا قال علماء الإسلام.
لكن الفطرة حينما تبلغ حدّاً معيناً من الفساد: لا تتدبر، ولا تتذكّر، ولا ينفع
معها الإنذار ولا التذكر.. هكذا قالوا أيضاً.
إن من رزقه الله بصيرة نافذة عَلِمَ سخافة عقول هؤلاء، وأنهم من أهل
الضلال المبين، لا يفقهون ولا يتدبرون القول؛ ولهذا فإن كشف عوراتهم، وبيان
فضائحهم، وفساد قواعدهم.. من أفضل الجهاد في سبيل الله، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لحسان بن ثابت: (إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن
رسوله) ، وقال: (اهجهم أو هاجهم وجبريل معك) ، وقال: (اللهم أيده بروح القدس
ما دام ينافح عن رسولك، وقال عن هجائه لهم: (والذي نفسي بيده لهو أشد فيهم
من النبل) [34] .
__________
(1) محمود شاكر، أباطيل وأسمار، ص 334.
(2) مجلة (العربي) ، ع/452، يوليو 1996م، ص 70.
(3) محمد محمود عبد الرازق، سلامة موسى أبي وأبوه، مجلة (القاهرة) ، ع/154، 9/1995م.
(4) مجلة (العربي) ، مصدر سابق، ص 71.
(5) غالي شكري، حساب سلامة موسى مع التاريخ، مجلة (القاهرة) ، ع/ 154، ص135، 136.
(6) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ص 221 223.
(7) انظر مجلة (القاهرة) ، ع/156، 11/1995م، ص 3.
(8) غالي شكري، من المحرر، (القاهرة) ، ع/157، 12/1995م، ص 3.
(9) محمد محمود عبد الرازق، مصدر سابق، ص 158.
(10) هاني لبيب، نجيب محفوظ سلامة موسى وجهاً لوجه، (القاهرة) ، ع/158، 1/ 1996م.
(11) محمد محمود عبد الرازق، مصدر سابق، ص 158.
(12) المصدر نفسه، ص 175.
(13) غالي شكري، حساب سلامة موسى مع التاريخ، مجلة (القاهرة) ، مصدر سابق، ص 136.
(14) انظر: (العربي) ، مصدر سابق، ص 71.
(15) انظر: (القاهرة) ، ع/140، 7/1994م، ص13 80، 147 175، وع/154، 9/1995م، ص 175.
(16) رمسيس عوض، عصر الإلحاد ونهاية المسيحية في الغرب، (القاهرة) ، ع/152، 6/ 1995م، ص170 211.
(17) محمد محمود عبد الرازق، مصدر سابق، ص 173.
(18) (القاهرة) ، ع/159، 2/ 1996م.
(19) عطيات الأبنودي، النص الكامل لمحاكمة وإعدام زعيم إسلامي في السودان، (القاهرة) ، ع/134، 1/1985م.
(20) الجمهوريون في السودان، الموسوعة الميسرة المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص 181 190.
(21) عطيات الأبنودي، مصدر سابق، ص 45.
(22) غالي شكري، نجيب محفوظ في المواجهة، (القاهرة) ، ع/157، 12/ 1995م، ص57.
(23) المصدر السابق، ص 46 70.
(24) المصدر السابق، ص 3.
(25) المصدر السابق، ص 70.
(26) المصدر السابق، ص 35.
(27) المصدر السابق، ص 3.
(28) المصدر السابق، ص 33.
(29) مجلة العربي، مصدر سابق، ص 68.
(30) انظر (القاهرة) ، ع/152، 7/ 1995م، ص3.
(31) انظر (القاهرة) ، ع/154، 9/1995م، ص 3.
(32) انظر (القاهرة) ، ع/163، 6/1996م، ص 3.
(33) المصدر السابق، ص 3.
(34) ابن القيم الجوزية، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ص 301 302، ط العاصمة، وبها تخريج الأحاديث المذكورة.(109/56)
البيان الأدبي
- نصوص شعرية -
مؤتمر الشهداء..
(محاولة لمسرحة الشعر)
إعداد [*] :محمد الصالح حسن
- هل تذهب إلى اجتماع هذا المساء يا صلاح؟ ! .
بادر إبراهيم ذو الثمانية عشر ربيعاً صديقه صلاح بالسؤال، ليرد عليه:
وماذا سنفعل في هذا الاجتماع؟
سيناقشون الحوادث الأخيرة للمجاهدين في سبيل استقلال أرض الإسراء
والمعراج.
وماذا في ذلك من جديد يا أخي؟
إن هذا الاجتماع لن يتكرر! ! ، لقد دُعيَ إليه ممثلو الحل السلمي، وفوق
ذلك: دُعيَ إليه أربعة من الشهداء.. أحدهم من شهداء حرب 48، والآخر من
شهداء مذبحة صبرا وشاتيلا، والثالث من شهداء مذبحة الخليل، ورابعهم من
شهداء عمليات عز الدين القسام.
حدّق صلاح في وجه إبراهيم مندهشاً، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئاً.. إن
إبراهيم نفسه هو أحد الشهداء! !
في المساء، كان صلاح يتخذ مقعده في المدرسة المغلقة، التي اتخذت مركزاً
للمؤتمر، وقد اكتظت بكثير من الحضور، بالطبع لم يندهش صلاح عندما رأى
عدداً من الحاضرين يرتدي أكفانه البيضاء بينما جُرحه يثعب دماً، يملأ القاعة
برائحة تشبه المسك.
صعد المنبر مدير المؤتمر بعد تلاوة آيات من القرآن ليبتدئ الحديث:
في أول الأمر أسأل:
هل ضيع الدم مجراه؟
أم أن هذي الجرائد قد سرقت لونه؟
وهل هذه الأرض حد يضيق ويكبر
كي نكبر الآن ثم نضيق
كيفما شاءت الريح أو شاءت الأنظمة؟
في أول الأمر أسأل:
هل نغلق الحلم في وجه أيامنا القادمة؟
حدثت جلبة في القاعة بعد هذه المقدمة المباغتة، ثم استدعى مدير المؤتمر
أحد الأطفال من الصفوف الأمامية ليلقي كلمة الافتتاح:
نحن جيل الحروب..
نحن جيل السباحة في الدم..
ألقت بنا السفن الورقية فوق ثلوج العدم
نحن جيل الألم
لم نر القدس إلا تصاوير
لم نتكلم سوى لغة العرب الفاتحين
لم نتسلم سوى راية العرب النازحين
ولم نتعلم سوى أن هذا الرصاص مفاتيح باب فلسطين
فاشهد لنا يا قلم
أننا لم ننم
أننا لم نقف بين (لا) و (نعم)
أكمل المقدم حديثه قائلاً:
سنسمح لممثل الحل السلمي بالحديث أولاً؛ حيث إن وقته الثمين مليء
بالمقابلات والمفاوضات ولن يسمح له بالاستمرار معنا إلى آخر المؤتمر.
صعد الممثل منبر القاعة وانطلق في حديثه:
أخيراً تعلمت أن جهاد اليهود ضلال..!
وبوابة.. للمجاعة!
وأن عِناق اليهود شجاعة!
وأن نضالي الحقيقي تفريغ ذاكرتي..
من حكايا دمائي المضاعة!
ووهم القتال..
وحسبك من شر لفظٍ سماعه
فقط.. طلقوا وهمكم واتبعوني
فإني كرهت سجون الكرامة! !
أنا خلف وجه الصقور اختنقت عقوداً..
فما أجمل الآن وجه النعامة!
عندما أنهى الرجل حديثه اندفع أحد الشهداء الذين كانوا يجلسون على المنصة
وقد تركوا تحتهم بركة من الدماء، اندفع قائلاً:
كيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم في كل كف؟
إن سهماً أتاني من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم الآن صار وساماً وشارة
لا تصالح، ولو توجوك بتاج الإمارة
عندما سمع صلاح والده الشهيد انبرى واقفاً وهو يقول بصوت مدوٍّ:
أقول لكم: لا نهاية للدم..
هل في المدينة يضرب بالبوقِ، ثم يظل الجنود على سرر النوم؟
هل يرفع الفخ من ساحة الحقل.. كي تطمئن العصافير؟
إن الحمام المطوق ليس يقدم بيضته للثعابين..
حتى يسود السلام،
فكيف أقدم رأس أبي ثمناً؟
بعد كلام صلاح قام مجموعة من الشباب الحاضرين ليهتفوا بصوت واحد:
ستبقى الدماء
أول الضوء.. والماء
أول من منح الناس قاماتهم
كي يروا مجدهم
وستبقى الدماء.. ونَتْبعها
مثلما يَتْبع القلب في نبضه
آخر الأنبياء
حاول مدير المؤتمر تهدئة الموقف المتفجر في القاعة بعد أن امتلأت بالضجيج:
فقال مؤكداً كلام الحضور:
من يجرؤ الآن أن يخفض العَلَم القرمزي الذي رفعته الجماجم
أو يبيع رغيف الدم الساخن المتخثر فوق الرمال
أو يمد يداً للعظام التي ما استكانت (وكانت رجال..)
كي تكون قوائم مائدة للتواقيع
أو قلماً
أو عصاً في المراسم؟ .
ثم أردف: والآن، أيها السادة، مع ضيف المؤتمر.. الشهيد محمد أحد
أعضاء خلايا عز الدين القسام، ويحكي لنا قصتَه الشهيدُ إبراهيم، فليتفضل.
صعد إبراهيم إلى المنبر وعندما همّ بالحديث سبقته دموعه، فتحامل على
نفسه وهو يحكي قصة معلمه الشهيد محمد:
اشترى في المساء
قهوة، وشطيرة
واشترى شمعتين، وغدارة، وذخيرة
وزجاجة ماء!
عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد
ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض..
من حول مائدة مستديرة
ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء
كان صوت البكاء قد ارتفع في القاعة عندما تقدم إبراهيم إلى محمد سائلاً:
كان يمكن أن تنحني لتظل
على قيد خبزك
أو تدفع العشب عن باب بيتك
كي لا يدل عليك
وتُقتل، كالفأر أو كالحصان!
كان يمكن أن تشرب الكأس مرّاً
وتطوي ضلوعك حين تهان
كان يمكن أن تلجم الخيل فيك
ويصدح صوتك بين القيان
ونعرف أنك حين أنيخوا..
جمحت
وحين اطمأنوا قتلت الأمان
وها أنت تعبر هذي الشوارع
مَن حدّث الضوء عنك
ليومئ هذا الصباح إليك
ويهتف مبتهجاً..
هو ذا (الإنسان)
كانت عيني محمد محدقة إلى الداخل وهو يتذكر إخوانه من الشهداء الذين قضوا نحبهم قبله وهو يجيب:
هو الدم يرفع قاماتنا فوق هذا الحطام
هو الدم يستنهض الأرض فينا
فلا عاصم اليوم إلا من اختزن العشب في جرحه ثم نام
كتبنا لأحبابنا جثة وانتظرنا بريد العظام
وما وصلتنا رسائلهم بعد
ما وصلتنا عناوينهم في الظلام
كان المشهد دراميّاً بعد كلمات الشهيد محمد.. فقد غصت القاعة بالنحيب المختلط بالهتاف، وتحول المقدِّم إلى شهيد مذبحة صبرا وشاتيلا قائلاً:
أيها الإخوة الأعزاء، إن معنا شهيداً فريداً هذه الليلة، إنه مصعب الذي
صُلِب وعذب حتى الموت..
تقدم إليه مدير اللقاء يحاوره بينما يرد عليه الشهيد بالنظرات؛ فقد قطع لسان قبل أن يصلب:
على ضوء صوتك ننزف حزن السنين الطويلة
تنساب فينا اخضراراً ورملاً
ونسأل: هل قتلونا كثيراً؟ !
تقول: انظروا لجراحي تُجِب
ونسأل: هل قيدوك طويلاً؟ !
تقول: انظروا للغصون تجب
على ضوء صوتك نعزف نبضاً
فتنساب فينا غناءً وخيلاً
نسأل: هل صلبوك طويلاً؟ !
تجيب خروقُ المسامير في راحتيك.. وفي نظراتك
على ضوء وجهك نغفو قليلاً
لنبدأ في الفجر موسمنا
وبينما كان صلاح يراقب الحوار وقد دمعت عيناه، أحس بحنين إلى الحديث
مع أبيه؛ فإنه لم يحاوره منذ عشرة أعوام عندما طبع على خده قبلة لم يره بعدها،
فقام منطلقاً إليه، إلا أنه ما أن قارب على الوصول إلى المنصة إذ بالشهداء الأربعة
ومعهم إبراهيم يرتفعون كأنما تحملهم الملائكة ويتردد في القاعة أصوات تسابيح
وتحاميد غاية في العذوبة.
إلى أعلى.. إلى أعلى.. حيث يختفون بين ضجيج الأفواه وصمت العيون
الذاهلة..
انظروا.. انظروا..
هتف صلاح من على المنصة وهو يمسك بقطرات من دماء أبيه
دمهم ناصع كالحصى
سجّلوا في بياض العناقيد أحلامهم
هل ترون الثمار التي خلفوها؟
وإذ توصد الأرض أبوابها،
ترتديهم نجوم السماء فلا يرجعون
قل لهم يا أمير الجنادب أن يرجعوا
قل لهم إننا نعتلي تحت شمس سديمية طائر الذكريات
ربما يرجعون
فلقد صار للجلد لون التراب،
ولا شيء في الأفق إلا صهيل الجنون
ويتجمع حول صلاح جميع الحضور.. المقاعد.. العصافير.. الكلمات التي
قيلت منذ قليل.. رجال يرتدون أكفانهم إلا أنهم لم يقيدوا في سجل الشهداء بعد،
يتجمع الجميع ليهتفوا:
سنطلع من كل بيت تشتت
من كل جرح تفتت
من كل طفل هوى في البياض القتيل
توحدت الأرض فينا
فكل قتيل سيصبح جيل
وكل بنفسجة أحرقوها ستغدو بنفسجة المستحيل
أفاق صلاح على هذا الهتاف المدوي من إغفاءته القصيرة قبل أن ينطق
بالشهادتين، ويلحق بأبيه..
__________
(*) مختارات شعرية في إطار قصصي مسرحي المقطوعات الشعرية للشعراء: أمل دنقل، إبراهيم نصر الله، شوقي بزيع، عبد الله محمد العسيري.(109/64)
دراسات أدبية
معالم على طريق الأدب الإسلامي
(3 من3)
الروح الإسلامية في العمل الأدبي
بقلم: طاهر العتباني
فصّل الكاتب في الحلقة الأولى المعايير والأسس التي بنى عليها مَن تبنّى
مصطلح (الأدب الإسلامي) مقومات قبوله ووجوده، ثم تحدث في الحلقة الثانية عن
مضامين الأدب، حيث يحمل كل أدب سمات الفكر الذي ينتمي إليه ونسيجه، ثم
تحدث عن دور الأديب المسلم ومعالم تبعاته ووجوب استلهامه صور القرآن والسنة
ودلالالتهما وتعبيراتهما أصلاً ينطلق منه، ويواصل الكاتب في حلقته الأخيرة بقية
الموضوع.
- البيان -
قد يتصور بعضنا أن الأدب الإسلامي شعراً أو قصةً، روايةً أو مسرحية
يجب أن تكون موضوعاته ما ورد في المنهج الإسلامي من مفاهيم وعقائد وعبادات
وشرائع ونماذج إسلامية تاريخية كشخصيات الصحابة والتابعين، وما يتبع ذلك من
أحداث إسلامية أو مناسبات كذكرى الهجرة والإسراء، والغزوات التي خاضها ... النبي - صلى الله عليه وسلم- وصحابته ... وما إلى ذلك من مفاهيم إسلامية مجردة ومعانٍ دينيةٍ خالصة دون أن يتطرق ذلك الأدب إلى الحديث عن الهموم الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية والإنسانية بشكل عام، وبدون أن يصوّر الشر الذي وقعت فيه مجتمعات العالم اليوم إسلامية كانت أو غير إسلامية.
والحق كما نراه في نظرية الأدب الإسلامي أن هذا الذي ذُكر، وإن كان جانباً
من جوانب الموضوعات التي يمكن للأديب المسلم أن يطرحها، فليس ذلك هو ما
نريده فقط للأدب الإسلامي.
إن الأدب الإسلامي يجب أن ينغرس في هموم الواقع الذي يحياه المسلمون
على المستوى الفردي والجماعي والعالمي، ويمكن أن يكون موضوعه أي موضوع
في أي جانب من جوانب الحياة البشرية، وكذلك الكون كله بسمائه وأرضه وآفاقه،
وبعالميه: الغيب والشهادة.. كل ذلك مما يجب على الأدب الإسلامي أن يتناوله
ويضرب فيه بسهم.
إنه كما يكون تصويراً للخير والفضيلة وتحبيبها إلى النفوس، فكذلك يكون
تصويراً للرذيلة والتنفير منها وإظهارها في صورتها القبيحة التي ترفضها الفطر
السوية وتأباها النفوس المستقيمة.
إن إسلامية الأدب لا تعني محاصرة الأديب فيما يكتب، وتقييد ما يختاره من
موضوعات، ولكن إسلامية الأدب تعني هيمنة روح الإسلام على العمل الأدبي في
جملته وتفصيلاته، بحيث يترك في النهاية الأثر الإسلامي المطلوب في نفس
القارئ، ولقد تُطالعنا كثير من الصحف والمجلات الإسلامية بقصائد عن الإسلام
تحت مسمّى الشعر الإسلامي، تتناول حادث هجرته، أو حادث الإسراء والمعراج، أو ذكرى بدر.. أو غيرها من هذه الموضوعات، ويعالجها كتابها معالجةً تاريخيةً
بحتة، تشعر وأنت تقرؤها أن كاتبها لا يعيش في هذا العصر الذي نحياه بقضاياه
وتطوراته ومتغيراته وأحداثه ومشاكله التي يهمنا كمسلمين من جوانبها الشيء ... الكثير. ...
لماذا لا يكون الحديث عن الإسراء مدخلاً إلى الحديث عن القدس والمشكلة
الفلسطينية كإحدى مشاكل المسلمين وقضاياهم الراهنة مثلاً؟
إن المرجوّ ممن يعالج مثل هذه الموضوعات الإسلامية من الأدباء أن ينتقل
بها من مفاهيمها الإسلامية المجردة ليسلط الضوء على الواقع الإسلامي المتدهور
المتخلف الذي يَرِين على العالم الإسلامي اليوم، عرضاً ومعالجة.
إنه لا يذكرنا بهذه الأحداث في صورة شعرية، وصور أدبية فقط، ولكنه يجب
أن ينقلنا إلى معايشة واقعنا اليوم من خلالها في الصغيرة والكبيرة من أمور حياتنا،
إن الأدب الإسلامي مطالب أن ينقل لنا الروح الإسلامية في كل ما يطرحه من
موضوعات، وليخترْ بعد ذلك من الموضوعات ما يشاء، وليكن علاج هذه القضايا
المطروحة من خلال المنظور الإسلامي والتصور الإسلامي الصحيح.
فإذا كانت روح العمل الإسلامي الأدبي روحاً إسلامية يمكن استشعارها من
خلال الاقتراب من النص الأدبي والإحساس بها في كل تفاصيله وجزئياته: فإن
الكون كله بمجاله الواسع، والحياة الاجتماعية بكل تفصيلاتها وبما فيها من خيرٍ
وشرٍّ.. كل ذلك يمكن أن يكون موضوعاً للأدب الإسلامي.
ولندلل على ذلك [1] :
في وصف الجبل لابن خفاجة الأندلسي روح إسلامية تطالعك في موضوع
وصفيّ بحتّ، ولكنه ينتقل بهذا الغرض إلى رحاب التصور الإسلامي الفسيح،
ويتخذ من ذلك فرصةً عظيمة للتأمل والتفكر في الكون الفسيح والحياة والموت
والزمن وتجاربه المختلفة.
يقول ابن خفاجة الأندلسيّ في هذه القصيدة:
أصخت إليهِ وَهْو أخرسُ صامتٌ ... فحدّثني ليل السّرى بالعجائبِ
وقال ألا كم كنت ملجأ قاتلٍ ... وموطنَ أواهٍ تبتّلَ تائبِ
وكم مرّ بي من مُدْلجٍ ومؤوّبٍ ... وقال بظلي من مطىٍّ وراكبِ
ولاطمَ من نكبِ الرياح معاطفي ... وزاهم من خضر البحارِ غواربي
فما كان إلا أن طوتهم يد الردى ... وطارت بهم ريح النوى والنوائبِ
وفي سينية شوقي نموذج رائعٌ للتأمل في التاريخ ودورته والمجد الإسلامي
الذي ظل قروناً في الأندلس، وفيها يقول شوقي وهو يعارض سينية البحتري
الشهيرة:
وعظ البحتريّ إيوان كسرى ... وشفتني القصور من عبد شمس
ويقول في مطلعها:
اختلاف النهارِ والليل يُنسي ... اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
يا ابنة اليمِّ ما أبوكِ بخيلٌ ... ما له مولعاً بمنعٍ وحَبْسِ ...
أحرامٌ على بلابله الدوحُ ... ... حلالٌ للطير من كل جنس
والقصيدة رغم أن فيها حديثاً عن منفى شوقي إلى الأندلس، إلا أن التأمل في
تاريخ الأندلس وقصورها وحضارتها، وما أبقته يد المسلمين فيها من روائع
حضارية يعطيها سمةً إسلامية واضحة وتشعر بالروح الإسلامية تتغلغل في كل بيتٍ
من أبياتها فتحسها في الألفاظ والصور التعبيرية والمعاني التي يطرحها، مما
يشعرك أنك أمام نموذج رائع للأدب الإسلامي.
وشعر أبي فراس الحمداني، حين أُسر في أيدي الروم نموذج جيد للروح
الإسلامية والمشاعر المرهفة لأسير مسلم في يد أعدائه، ومن ذلك قوله:
أُسِرْتُ وما صَحْبي بعزلٍ لدى الوغى ... ولا فرسي مُهرٌ ولا رَبُّهُ غَمْرُ
ولكن إذا جُمَّ القضاءُ على امرئٍ ... فليس له بَرُّ يقيهِ ولا بحرُ
وقال أصيحابي: الفرارُ أو الرَّدى ... فقلتُ: هما أمران أحلاهما مُرُّ
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسْرُ
يقولون لي بعتَ السلامة بالردى ... فقلت: أما والله ما نالني خسْرُ
وهل بتجافى عنِّي الموتُ ساعةً ... إذا ما تجافي عَنِّيَ الأسْرُ والضرّ
وهكذا الأديب المسلم شاعراً كان أو روائيّاً أو مسرحيّاً: تطل روح الإسلام
من كل موضوع من الموضوعات التي يتناولها وكل قضية من القضايا التي يطرحها.
وفي المسرح الإسلامي: كان (علي أحمد باكثير) نموذجاً رائعاً في مسرحياته
التي تناول فيها الموضوعات غير الإسلامية، نراه لم يتنازل عن تصوره الإسلامي
وروحه الإسلامية في كل ما كتب، يقول الدكتور نجيب الكيلاني:
(وإذا ما نظرنا إلى مسرح (باكثير) وجدنا منه: التاريخي، والأسطوري،
والسياسي، والاجتماعي، وهذا لا يخل بوجهة النظر القائلة بأنه رائد المسرح
الإسلامي؛ فالمسرحيات الأسطورية مثل (مأساة أوديب) نراه يغير فيها الأحداث
وينفي الصراع مع الآلهة، ويضع الصراع بين أوديب والكاهن، وينظر إلى القدر
والجبر والاختيار نظرةً خاصة يستوحيها من المنهج الإسلامي، وهو أمرٌ أكده النقاد
الذين كتبوا عن مسرح باكثير وأخضعوه للتحليل والتفسير، من هنا: فإن (باكثير)
ظل متمثلاً لعقيدته يعيش بها ولها، وينثرها في مسرحياته القصيرة والطويلة،
ويثبتها في قصصه وشعره، وقد حدا هذا بأحد النقاد أن يعلن أن (باكثير) هو
الكاتب الوحيد الذي التزم بخطٍّ معين طوال حياته الأدبية، لا يحيد عنه ولا يفرط
فيه) [2] .
مجمل القول: إن الأدب الإسلامي وهو بإزاء موضوعاته المتنوعة وقضاياه
المتعددة لا يغيب عن مبدعه أنه يحمل هم الإسلام وروحه في كل أعماله، لا على
سبيل الإلزام الخارجي، بل إن ذلك يكون طبيعيّاً غير مفتعلٍ عندما تتشكل الرؤيا
الفكرية والتصويرية للكون والحياة والإنسان على أساس التصور الإسلامي، وينشأ
جيلٌ من أبناء الإسلام المبدعين في كل مجالات الإبداع الأدبي، يكونون قد تربوا
على مائدة الفكر الإسلامي الصحيح، والروح الإسلامية التي تنبثق انبثاقاً من
تسرّب تصورات القرآن والسنة، وتمتزج بالواقع وتلتحم به لتُخرج مذاقاتٍ مختلفاً
ألوانها، ولكنها جميعاً تحيا في إطار التصور الإسلامي الصحيح.
إن كل هذا لا يتحقق إلا مع التربية الوجدانية والأدبية التي يرسمها الإسلام،
فتكون أداةً لتشكيل الوجدان المسلم، وهذا ما قد نفرد له حديثاً آخر في فرصة قادمة
إن شاء الله.
__________
(1) أبيات الشعراء الثلاثة موجودة في دواوينهم، وقد اعتمدنا في استرجاعها على الذاكرة.
(2) انظر: حول المسرح الإسلامي، لنجيب الكيلاني، ص 74، 75.(109/70)
نص شعري
الحُلم
شعر: عبد الله متعب السميح
دعتني ابنتي والعبرة تغالبها لأرى ما تفعله عنجهية الصهاينة وهم يواجهون
انتفاضة الشعب الفلسطيني وجهاده البطولي، فإذا آليات الحقد تضرب الشعب
الأعزل بشيوخه وأطفاله ونسائه، وتساءلت: لماذا يهرول القوم إلى السلام المزعوم
مع ذلك العدو اللدود؟ ؛ فتداعت هذه الأبيات:
جاءت تغالب ما وارته غصتها ... والحزن في صوتها المغلول يضطرم
قالت دماءٌ وأشلاءٌ مبعثرةٌ ... وهامةٌ يتنزى فوقها قدم
شيخٌ أسيرٌ تهاوت فوق كاهله ... معاول الحقد إذ يغتاله الهرم
ماذا ترى؟ حقبةً عجفاء موحلةً ... وأمة في عراء الذل تنهدم
تعسفتها سياسات الألى سقطوا ... فيما استطابوا وأردوها بما زعموا
تعاورتها رياح الوهن فارتكنت ... لكل جرفٍ تمطى فوقه العدم
يا أمةً رسفت في بؤسها زمناً ... أين الكتاب وأين السيف والقلم
تبعثرت في قفار الصمت أسئلتي ... ولذت بالصبر حتى ملّني الألم
فهل لعينيّ من نجواك بارقةٌ ... يشدو بها الليل أو تزهو بها الديم
هل يورق الدرب بالآمال إذ عصفت ... غوائل الجدب والأرزاء تحتدم
وهل لمن أدلجوا في حزنهم قمرٌ ... يجلو الطريق الذي عاثت به الظلم
هل سوف يبزغ في آفاقنا أملٌ ... ويستفيق على علاّته الحلم
نعم وإني بإيماني على ثقةٍ ... من أن فجراً وراء الأفق يرتسم
لابد آتٍ.. خيول الحق تسبقه ... والبيد تحضنه شوقاً وتبتسم(109/75)
نص شعري
لغة الدماء
شعر: مشتاق حسين
أتدري أم لعلك لست تدري ... بأن الجرح ثغرٌ، أي ثغر!
وأن دمَ الضحايا حين يجري ... لسانٌ ناطقٌ بالظلمِ يُزري
لسانٌ يلتقي سَمْعَ البرايا ... بصوتٍ من لهاة الحق يسري
يجوسُ خلال آذانٍ وإن لمْ ... تَزَلْ تحمي غِوايتَها بِوَقر
أن اخسأ أيها النوّام سُحقاً ... لك الويلاتُ مِنْ فَرّي وكَرّي
أَتُبْصُرُني وحيداً ثم تغفو ... وَتَتْرُكُني أنوء بحمل إصري
لقدْ ألهبْتَ من حَزَنٍ حُرُوفي ... ألا فاطوِ المنامَ وخذ بثأري
وَصَيّرْ قلبك الرعديدَ بَرّاً ... إذا ما لَجّ في أمواجِ ذُعرِ
لِتَصنعْ فلك ربي للبرايا ... ولا تسأل فديتك أين تجري
ألا فاخلع رداءَ الجبن والبسْ ... برودَ النصر كي تحظى بنصرِ
إذا لم يقترن حرف بخطوٍ ... فعد للنوم تصحُ غداً لحشرِ
إذا الشيطان مسك منه نُصب ... فقم واركض برجلك دون صبرِ
شرابٌ من رحيق الوحي يشفي ... ومغتسلٌ ينبّه كل حُرِّ
أرى الأقوامَ قد راشت سهاماً ... لقد طاشت سهامكمُ لعمري
سُلِبت قريحتى إن لم تروها ... فداءَ الحق في شعري ونثري
يد الأشلاء تستعدي فؤادي ... وهيجت الدماءُ غليلَ صدري
أسًى ما للمشاعرِ منه واقٍ ... وما لبنات شعري من مَفَرِّ
لساني ملك إيماني ووقفٌ ... لأحزاني فلا تعجبْ لشعري
إذا أنا لم يكن شعري لهيباً ... يذيبُ جمود قومي كيف عذري؟ !
إذا لم نلق طوقَ النوم عنا ... فما جدوى التّطلعُ نحو فجْرِ؟ !(109/76)
المسلمون والعالم
بعد الدستور.. الجزائر إلى أين؟ !
بقلم: عبد العزيز كامل
التجربة الجزائرية تجربة متميزة، لا تهم الجزائريين وحدهم.. ولكن ينبغي
أن يتوجه إليها الاهتمام العام؛ لما فيها من حقائق عميقة، فلا تزال تلك التجربة
أنموذجاً صارخاً وواضحاً في دلالاته وإيحاءاته ودروسه وعبره، فلا أبالغ إن قلت:
إن هذا الأنموذج يختصر تجارب أجيال في العمل الإسلامي، رغم القصر الظاهر
في عمر هذه التجربة، التي كانت ولا تزال تقذف بالرسائل في كل اتجاه فيه
عاملون للإسلام: أن افهموا كذا ... وتنبهوا إلى كذا ... واحذروا من كذا.. فما
حدث هناك قابل لأن يتكرر في أنحاء عديدة من عالمنا الإسلامي، إذ تتكرر الوقائع
وتتشابه الظروف.
لا أبالغ أيضاً إن قلت: إن كل أشكال العمل الإسلامي وأنواعه المعهودة
والموجودة في عصرنا قد أكملت تجاربها في ذلك العمر القصير نسبيّاً للحركة
الإسلامية هناك، وفي الوقت ذاته: فقد أسفرت كل الاتجاهات المعادية للدين هناك
عن أقصى ما يمكن أن تفعله من وسائل المواجهة والكيد والصيد في الماء العكر.
ليست قضية الشعب الجزائري الآن قضية شعب قد تسلط عليه (الإرهاب) كما
يصور الإعلام الغربي وتَابِعُهُ العربي، بل إنها قضية أمة قد سُلط بعضها على
بعض عبر وسطاء لا يقل وصفهم عن (شياطين الإنس) .
لهذا فلا بد من وقفات مع المستجدات، وتأملات في الرسالات التي لا تزال
تنبعث من الجزائر بدروس عميقة:
أولاً: وقفة مع (اللعبة الديمقراطية والألعوبة الدستورية) :
الديمقراطية تعني عند أصحابها باختصار: حكم الشعب بالشعب للشعب، وإذا
كان مخترعو الديمقراطية في الغرب يعبرون عنها بـ (اللعبة) ، فإن الشعار
المذكور للديمقراطية، قد مكن كثيراً من الحكام في عالمنا الإسلامي أن يلعبوا
بالشعب لعباً ما بعده لعب؛ نظراً لأن ما أُخذ من ديمقراطية الغرب هو فقط: الاسم، أو الشكل، أو الشعار المفرغ من المضمون الجاد للديمقراطية الغربية، رغم
تحفظاتنا وعدم تسليمنا بأنها الأنموذج الأمثل للحكم.
إن الثوب الديمقراطي الذي يتسع لكل لابس ما عدا الإسلاميين، يحلو
لأصحابه دوماً أن يطرزوه بمطرزات دستورية، تفصّل حسب مقاس كل نظام،
وتحاك على هوى كل عهد.
وفي الجزائر كما في كثير غيرها شاء كل حاكم أن يكون له دستوره الخاص،
فالرئيس (بن بيلا) كان له دستوره، ثم كان لـ (بومدين) دستوره، ثم كان لـ
(الشاذلي بن جديد) دستوره، وكان لكل واحد منهم هدفه في تعديل الدستور، وها
هو العهد الجديد يأتي بدستور جديد لأهداف جديدة، على رأسها: إبعاد الإسلاميين،
أو بالأحرى إبعاد الإسلام من بسط نظامه على بلد الجهاد والفداء والبطولة.
إنه وبعد مضي خمس سنوات على إيقاف السلطة العسكرية لعملية الانتخابات
التشريعية للحيلولة دون حصول الإسلاميين على الأغلبية في البرلمان، رأت تلك
السلطة في صورتها الجديدة: أنه قد آن الأوان لإغلاق ملف (جبهة الإنقاذ) ، وذلك
بإلغاء دستور 1989م الذي أنهى حكم الحزب الواحد، وسمح بقيام جبهة الإنقاذ،
وبالتالي: فقد نُظر إليه على أنه مصدر الأزمة؛ لاحتوائه على (ثغرات) لا تمنع
قيام أحزاب أو جمعيات على أساس ديني.
لقد عودتنا السلطات في بلاد العالم الثالث على أن تلجأ إلى (لعبة الدستور)
لإعطاء خياراتها شرعية إضافية، أو تلجأ إليه تجنباً لتحمل مسؤولية قرارات
(تاريخية) ، أو تلجأ إليه للالتفاف على المؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية
والضغوط القانونية والبرلمانية ... إن كان لها وجود.
إن اللعب بالدستور على طريقة الاستفتاءات التلفزيونية، وهو الأمر الذي يعد
جزءاً من اللعبة الديمقراطية في عالمنا، يعد سوءة من سوءات ذلك النظام الوضعي
البشري القاصر، الذي لو صلح لقوم فلا يصلح لآخرين، إذ إنه على الأقل في
البلاد النامية يختزل قضايا معقدة ومركبة ومصيرية في صيغة سؤال يكون الجواب
عليه بـ (نعم) أو (لا) ، دون السؤال عن (كيف) و (لماذا) ! ! .
وتكون تلك الإجابات ربما في غالبيتها من أقوام أو أرقام لا تعرف المعنى
المراد بالدستور أو الهدف المقصود من تعديله أو تغييره أو تفسيره! .
وما دام الأمر لعباً في لعب، فقد أكد مشروع تعديل الدستور: أنه لا يمس
الجوهر ولا (الثوابت) ، وإنما يركز على المتغيرات! ومعلوم أن أكبر المتغيرات
في الواقع الجزائري الراهن هو ما يتعلق بالنشاط السياسي الإسلامي، ولهذا فقد
عُدِّل الدستور كله بدءاً من الديباجة وانتهاءً بالأحكام الأخرى شكلاً، باستثناء مادة
واحدة كان التغيير فيها جوهريّاً.
المادة التي عُدِّل من أجلها دستور (1989م) تنص على: أن (إنشاء الجميعات
ذات الطابع السياسي حق معترف به) ، وعلى الرغم من أنها لم تنص صراحة على
الإذن بالجمعيات الدينية مثل جبهة الإنقاذ إلا إنها لم تمنع أيضاً من ذلك صراحة،
وهذا ما مكن الإنقاذيين من تأسيس الجبهة.
وقد تحولت المادة بعد التعديل إلى النص التالي، من المادة (42) : (حق
إنشاء الأحزاب السياسية معترف به) ، ثم أضافت: (ولا يجوز تأسيس الأحزاب
السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي ... ) إلخ.
وبالطبع، فهذه المادة قد قَنّنَتْ على أعلى مستوًى إعدام شرعية الجبهة
الإسلامية، وأيضاً: أي حزب إسلامي قائم أو سيقوم، إلا إذا أثبت أنه (لا ديني)
أو قرر ألا يستمد شرعيته من الدستور.
لقد تحولت الديمقراطية في الجزائر من لعبة في يد السياسيين إلى لعنة في يد
العسكريين، يفرضون بها من خلال الدستور العلمانية فرضاً على شعب كامل من
المسلمين.
ثانياً: أي سلطة للشعب:
لقد دفع الشعب الجزائري ثمناً باهظاً لكي تصل رسالة العلمانيين للناس: لا
سلطة للشعب إذا اختار نظام الإسلام، فقد مُنع شعب الجزائر من اختيار ممثليه،
مع أن نجاح الحزب الذي اختاره كان في إطار دستوري، أما بعد أن قال
الجزائريون كلمتهم، فقد سُلبوا ثمرة تلك الكلمة الحرة، واعتُبر الشعب قاصراً، لم
يبلغ سن الرشد، فكان لا بد من فرض (وصاية) مسلحة عليه، حتى يعود إلى
الرشد القديم، أيام كان يصفق لكل ناعق! .
من العجيب: أن السلطة التي قهرت إرادة الشعب في اختياره الإسلام،
واعتبرته لذلك قاصراً؛ تحتكم الآن إلى هذا الشعب، ولا تستحي من النص في
الدستور مرة ثانية على أن (الشعب مصدر كل سلطة) وأن (السيادة الوطنية ملك
للشعب وحده) ! ! فما أتعس الشعوب في بلادنا، حيث تُتجاهل حيناً، وتُستغل حيناً، وتُنتهك حرمة دمائها وأموالها أحياناً، ومع هذا يتم اللجوء إليها دائماً ليكون قهر
الشعوب وفق إرادة شعبية، واستفتاء شعبي!
ثالثاً: الدين والسياسة:
النص على أن دين الدولة (الرسمي) هو الإسلام، هو نص متكرر في معظم
الدساتير الوضعية اللادينية، التي وضعت أصلاً مناقضة للدين ومناهضة لسلطانه
القويم، والسلطة الجزائرية رغم كل ما حدث ويحدث تنص في الدستور الجديد على
أن دين الدولة هو الإسلام، ولا ندري ... ما الإسلام الذي تريد؟ . أهو إسلام
الوجه لله، أم إسلامه لأعداء الله في باريس وواشنطن ولندن؟ !
ومن الطريف: أن الأحزاب الأخرى المعارضة والمتطرفة في علمانيتها،
تعارض هذا النص، وتتهم الدولة بأنها ستفسح المجال من جديد لقدوم (الأصولية) ! ! وهي تجهل أو تتجاهل أن هذا النص ليس أكثر من (وصولية) تستغل الدين
أبشع استغلال في الأغراض السياسية، فطالما استغل اللادينيون الدين في السياسة،
على الرغم من أنهم أعلى الناس صوتاً في التحذير من استغلال الدين في السياسة،
ولكن يبدو أن العلمانية فقط من حقها استغلال كل شيء: الشعب، والدستور،
والجيش.. والدين نفسه!
رابعاً: وحدة الشعب تحت ظل الرايات العلمانية:
العلمانيون دمروا وحدة العالم الإسلامي بالقوميات، ثم فجروا وحدة العرب
بالوطنيات، وها هم حتى على المستوى الوطني يمزقون وحدة الشعوب بالتحزبات
والتناقضات.
ووحدة الشعوب حق مقدس عند العلمانيين، إذا ما انتظمت تلك الشعوب خلف
قيادتهم وانساقت خلف طروحاتهم، أما إذا لاحت في الأفق بوادر خروج شرائح من
تلك الشعوب عن تلك البرامج التسلطية، فلا مناص أمام العلمانيين من ضرب
قطاعات تلك الشعوب بعضها ببعض وإشعال نيران الفتنة في صفوفها.
إن التقليد الذي تعودت عليه الحركات القومية في مطلع مدها (الثوري) والقائل
بأن الشعوب تدار وتساق من فوق بغية التخلص من المستعمر الخارجي، ما تزال
تهيمن على تصرفات وسلوكيات النخب السياسية، مع فارق وحيد هو: أنهم حولوا
المعركة إلى اتجاه آخر ضد من يرون فيه أنه (مستعمر داخلي) ، فتحول الصراع
من تحرير (الوطن) إلى تحرير (المواطن) ، ولن تعدم أي سلطة الحيلة في أن
تحول زخم التحدي ضد الطامع الخارجي، إلى تحدٍّ وتجمع ضد الطامح الداخلي.
والشواهد حولنا تشير إلى استنفار أكثر الشعوب إلى معارك داخلية بعضها
ضد بعض ... فلا بد للثوريين من ثورة أيّاً كانت، ولو كانت ثورة ضد الشعب.
خامساً: مَنْ هم الإرهابيون حقاً؟ !
أصبح من المألوف أن نسمع الآن مصطلحات كثيرة تدل على استمرار ثوران
الثوار داخليّاً بعد أن بطل مفعول ثورانهم الخارجي، فالثورة الآن، ضد (الأصولية) ، ضد (الإرهاب) ، ضد (التطرف) .. حتى سمعنا ممن ينسب نفسه للعلم والدين،
من ينادى بإعلان (الجهاد) ضد التطرف الإسلامي بعد إعلان السلام مع التطرف
اليهودي!
لا ننكر أن هناك عنفاً غير مقبول ولا مشروع، تزهق تحت وطأته أرواح
الأبرياء، وتنتهك وتسفك بسببه الأعراض والدماء ... ولكن نسأل: من الذي فجر
ينبوع الصراع في الجزائر وفي غيرها؟ ! أهم الذين ذهبوا مسالمين يحملون
مشاريع وبرامج سلمية عبر قنوات (شرعية) للتغيير من خلال كسب التأييد
المشروع من الشعب للطريقة التي يختارها في الحكم؟ ! ونسأل: من الذي أنزل
الجزائريين العسكريين في الشوارع ضد الجزائريين المدنيين لتصادر بالقوة نتائج
انتخابات حرة؟ ، ونسأل: من الذي رفع صوت المدفع والبندقية فوق صوت
الناخب في المعركة الانتخابية؟ ، ونسأل: من الذين فتحوا أبواب الفتنة بإغلاق
باب الرأي أمام شعب له إرادة نبيلة يحلم بتحقيقها؟
كل منصف يعترف بأن ما يحدث في الجزائر الآن أصبح (فتنة) لا يعرف
القاتل فيها لِمَ قَتَل، ولا يعرف المقتول فيها لِمَ قُتل ... !
فالعسكريون ورجال الشرطة يتخفون في ملابس مدنية ليقتلوا مدنيين في
ملابس عسكرية! ، والسلطة تضرب من خرج على سلطتها وترى ذلك واجباً!
والأمة تخرج على من خرج على دينها وترى ذلك جائزاً! !
ومن الظلم والجور أن يستغل الطرف الذي بيده دولاب أجهزة الإعلام الهائلة
التأثير، في قصر الاتهام على طرف واحدٍ فقط بأنه سبب الفتنة والفوضى والقتل
والدمار، فالإعلام يعلن عن سابق إصرار وترصد: أن ما يحدث في الجزائر هو
من صنع الجماعات الإسلامية! ! .
فإذا كان القتل وإزهاق الأرواح غريزة متأصلة لدى الإسلاميين في الجزائر أو
غيرها ... فما الذي منعهم قبل ذلك من القتل ومن سفك الدماء ... ثم، لماذا يصادَر
حق الإنسان في الدفاع عن نفسه أمام عداء مستحكم يستهدف روحه قبل عرضه
وماله..
إن مسألة الثأر والثأر المضاد هي إحدى التفسيرات التي تفرض نفسها لتفسير
ما يحدث في الجزائر وما حدث قبل ذلك في مصر وغيرها ... لكن يظل السؤال:
على من يقع إثم القتل الأول؟ ! ، إنه على القاتل الأول.
وحالة الطوارئ المفروضة على (28) مليون إنسان منذ عام 1992م.. الكل
يعرف من فرضها ولماذا فرضها، إنها ليست بسبب غزو خارجي، ولا عدوان
أجنبي، إنها ليست أكثر من حالة شعور بالكارثة والنازلة الفاجعة لدى السلطة أن
استيقظت أمة واختارت الإسلام على العلمانية ... وما أكثر تلك النوازل والطوارئ
اليوم في بلدان المسلمين.
سادساً: حقوق الإنسان وخرس الشيطان:
في خضم الصراع والفتنة تكاد الحقيقة تضيع، مَنْ الجاني، ومَنْ المجني
عليه؟ ، ولكن يأبى الله إلا أن تظهر أجزاء من الحقيقة في الدنيا، حيث لن تظهر
الحقيقة كاملة إلا يوم يقوم الأشهاد.
الحكومة الجزائرية نفسها اعترفت عن طريق وزارة الداخلية في نهاية عام
1994م أنه تم قتل عشرين ألفاً من (الإرهابيين) خلال عامين سابقين، بينما ذكر
تقرير صدر في مطلع عام 1996م عن (المرصد الوطني لحقوق الإنسان) هناك:
أن (50029) خمسين ألفاً وتسعة وعشرين وصفوا بأنهم إرهابيون قد لقوا مصرعهم
على أيدي قوات الأمن، بينما تقول تلك المصادر: إنه تم قتل نحو ألف وأربعمئة
من المدنيين على أيدي جماعات المعارضة المسلحة.
ومما يدل على أن السلطة تستغل مجرد القوة في تنفيذ أعمال القتل دون رقيب
أو حسيب من البشر: ما تواتر ذكره عن مقتل نحو (96) سجيناً من العزل في
سجن (سركابي) إثر ما ادّعي عن وجود تمرد في السجن! .
ويشاء الله أن يفضح ممارسات السلطة الحاكمة هناك على لسان (منظمة العفو
الدولية) التي أصدرت تقريراً عن حقوق الإنسان، حيث جاء فيه: (أصبحت
عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، وعمليات القتل العمد، وحوادث الإخفاء
والتعذيب، وعمليات الاختطاف، والتهديد بالقتل.. وغير ذلك من الانتهاكات:
جزءاً لا يتجزأ من الواقع اليومي في الجزائر ... ) ، وتحت هذه الكلام الخالي من
التفاصيل تتناثر المعلومات دون إحصاء دقيق في التقرير الذي صدر في نهاية
نوفمبر 1996م، ويقع في (40) صفحة وعنوانه: (الخوف والصمت الأزمة
المستترة لحقوق الإنسان في الجزائر) ، وقد أبرز التقرير عمليات التمويه والإخفاء
المقصودة لما يحدث بالتفصيل في الجزائر، فيقول: (.. أما الجرائم التي ارتكبتها
قوات الأمن من قبيل القتل خارج نطاق القضاء، والتعذيب، والإخفاء.. وغير
ذلك من الانتهاكات التي تنفذها قوات الجيش والأمن في القرى والأماكن النائية: فقد
حجبت خلف جدار من الصمت والتلعثم..) ! !
ويقول التقرير: (فضلاً عن ذلك: فقد تزايدت القيود المفروضة على وسائل
الإعلام الأجنبية حيث مُنِعَ الصحافيون الأجانب من مباشرة عملهم أو أُبعدوا ...
بينما حيل بين آخرين وبين دخول البلاد) ، وقال التقرير أيضاً: (لقد دأبت
السلطات الجزائرية مراراً على نفي الأنباء التي ذكرتها منظمة العفو الدولية وغيرها
من المنظمات عن وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان) .
ولكن يبقى السؤال: ماذا فعل العالم تجاه هذا الانتهاك الصارخ لحقوق ... الإنسان؟ ! إن الدولة الجزائرية لم تُعَدْ من الدول الراعية للإرهاب رغم كل هذا ... والسبب واضح، إنها لم تصدر الإرهاب، ولكنها تستورده، أو عندها منه اكتفاء ذاتي!
سابعاً: الصراع غير المتكافئ والعدالة الضائعة:
عندما تُجيش الجيوش ضد جموع من العزل، فلا بد لهؤلاء العزل يوماً من
البحث عن سلاح، دفاعاً عن الحياة فضلاً عن الدين، وقبل أن يكون لجبهة الإنقاذ
جيش إنقاذ، وقبل أن تتشكل الميلشيات العسكرية من الجماعات الأخرى، نزل
الجيش إلى الشوارع للإرهاب والتهديد والوعيد لمن أعطوا أصواتهم للإسلام، فلم
يكن هناك يومها جيش للإنقاذ، ولا جيش للجماعات الإسلامية الأخرى.
إن إقحام الجيوش في مثل تلك الصراعات الظالمة، هو إهانة من الأمة لنفسها، فهذا العسكري أو الدركي: على من يطلق النار؟ ، أليس على مسلم مثله قد يكون
قريباً أو نسيباً أو جاراً؟ ! ، ومع هذا: فما أكثر ما حُولت مهام الجيش إلى غير
أغراضها الأصيلة على يد القيادات العلمانية الطائشة، إذ من المفترض أن للجيش
في الجزائر مهمات وصلاحيات خاصة، تتمثل حسب نص المادة (25) من الدستور
في (تنظيم الطاقة الدفاعية للأمة ودعمها وتطويرها) ولكن الواضح الآن: أنه قد
طرأ فهم خاص لهذه المادة، ويبدو أنه سيطرأ تطوير أكثر في المستقبل، فالدفاع
عن (السيادة) يمكن أن يفسر عمليّاً بأنواع من السيادات، مثل: (سيادة القانون) ،
و (سيادة الرئيس) ، و (سيادة الجنرال) .. إلخ.
ولا يوجد الآن من يوضع هدفاً للدفاع عن السيادة، إلا الإسلاميون الساعون
إلى التغيير، والشواهد كلها تدل عن أن الجيش قد نزل بثقله في المعركة، وكان
نزوله سبباً في تكبيرها وتوسيع أبعادها.
آلاف مؤلفة من الجزائريين تُجيّش ضد جزائريين آخرين.. لمصلحة من؟ ! .
القوات شبه العسكرية تضم (24) ألف فرد، وهي تحارب ضد الإسلاميين! والحرس الجمهوري يضم (12) ألف فرد، وهو غير بعيد عن المعركة مع
الإسلاميين، وقوات (أمن الوطن) تتألف من (16) ألف فرد، وهي على استعداد
للدفاع عن (الوطن) ضد الإسلاميين، (والحرس الأهلي) (16) ألف فرد، وهو
مؤهل لقتال الأهل من الإسلاميين، والقوات المسلحة تتألف من (121) ألف فرد،
وهي التي تتصدر وتتصدى الآن لحرب شاملة ضد الإسلاميين! ! ، ومؤخراً:
شكلت الحكومة ميلشيات خاصة تطلق عليها (جماعات الدفاع الذاتي) للأغراض
نفسها، وبعد هذا، يقول المغرضون المبغضون للإسلام: إن الإسلاميين مسؤولون
عن قتل (50) ألف شخص في الجزائر! ! .
ثامناً: مَنْ الضحية يا ترى؟ !
هل تقرر أن يُعاقب الشعب على جرأته في قول كلمته لصالح الإسلام؟ ! ،
إن هناك حرصاً شديداً على أن يكون التغيير لصالح السلطة أولاً وقبل كل شيء،
ممثلةً بالطبع في رموز الجيش الحاكم الفعلي للبلاد، وقد كان من العناصر المؤثرة
على إحداث التغيير لصالح السلطة في الجزائر: جو الإرهاب الذي نجح في إبقاء
الناس قابعيين تحت كابوسه، فالإعلام يضخم الأمور، وقد يفتعل ويبتكر عرض
أساليب متنوعة من الرغبة في القتل والفتك بكل مواطن على يد أولئك (المغول)
الجدد: الإسلاميين! ؛ مما جعل الأسبقية في اهتمام ذلك المواطن العادي تتركز في
البقاء حيّاً، وأصبح مع الوقت لا يهتم على أي حال يحيا وتحت أي حكم يعيش،
المهم أن يعيش وينجو من القتل الذي يستهدفه، وصار لسان حال كل إنسان يقول:
إذا لم أستطع حياة الإسلام، فلا أقل من الهروب إلى أي حياة.
لقد استُغل ذلك كله في دفع أفراد الشعب إلى صناديق الاقتراع للموافقة على
اختراع الدستور الجديد، لقد دفعتهم السلطة وهي تعلم مسبقاً بأن ذلك الحجم من
التأثير على رأي الناخب لن يمنعه من قول (نعم) للدستور، حتى ولو كان ذاهلاً
عن معنى تعديل الدستور أو الهدف من هذا التعديل، أو ما هو الفارق بين الدستور
السابق واللاحق! .
الجزائريون في دولتهم البترولية الغنية، يعانون من نقص مزمن في المساكن
وارتفاع في الأسعار، ويعانون بطالة تصل نسبتها إلى (28%) ، من المحتمل أن
تزيد في ظل احتمالات إلغاء مزيد من الوظائف بسبب برامج (الخصخصة) ... ومع
كل هذا يُخوف هذا الشعب من الإسلام القادم ... فماذا أعطيتموه (أيها الاشتراكيون
العساكر) باشتراكيتكم البائدة التي أفقرت الغني ولم تغن الفقير؟ ! .
تاسعاً: البعث الوطني بعد البعث القومي:
حتى لا يقع المحظور وتستيقظ في الأمة روح البعث الإسلامي المرتقب،
فالعلمانيون يحرصون على إحياء موات أي شيء وبعثه؛ لكي ينافس روح الإسلام
المتوثبة في الصعود، المد القومي مات، وقد يأس العلمانيون من إحيائه، والآن
يحاولون إنشاء بعث وطني، فكل قطر له خصوصيته وشخصيته وتفرده ... المتميز ... وإذا كان من الممكن إحلاله محل البعث الإسلامي فهذا غاية المنى، ومنتهى الرجاء، وفي الجزائر: استغلت السلطة الإعلام في محاولة هذا البعث، حيث استعملت الأناشيد الوطنية والبرامج الحماسية والتسجيلات التاريخية الوثائقية، لتثير المشاعر وتدغدغ العواطف الجياشة لدى (المواطن) نحو (الوطن) وتعبئها بمشاعر الكراهية ضد (أعداء الوطن) .
لقد استغل الإعلاميون كل شيء في محاولة إعادة صياغة الرأي العام، فحتى
المباريات الرياضية التي (انتصرت) فيها الجزائر على دول مثل فرنسا وألمانيا،
يعاد عرضها، والأغنيات التي تغنت بأمجاد الثورة في الماضي، أعيد بثها، هذا
إلى جانب إعطاء الفرصة لكل من يستطيع أن يؤثر برأيه من الشخصيات العامة
والمختصة في شتى الميادين، كل هذا ليحل الانتماء الوطني محل الانتماء الإسلامي.
عاشراً: محصلة الأوضاع:
إن منع السماح بإنشاء أحزاب ذات اتجاه إسلامي بمقتضى الدستور الجديد لن
يلغي وجود تلك الأحزاب بداهة، ولكنه حتماً سيغير من طرق وأشكال نشاطها؛
حيث سيدفع وقد دفع بالفعل الكثير من أفرادها إلى العمل تحت الأرض، فالقهر
دائماً يولد العناد، والدستور الذي يمنع العمل العلني السلمي، لن يخضع له ولن
يؤمن به الذين يُدفعون إلى العمل السري، فما الإشكال الذي حله، وما التغيير الذي
أحله تغيير الدستور؟ ! ... إن الدستور الجديد لن يزيد النظام قوة، ولا الدولة هيبة، ولا الوضع استقراراً.. لماذا؟ .. لأن أسباب التناقض وبذور الشقاق لا تزال
تنبت الفرقة والبغضاء.
لن يغير شيئاً من حقائق الأمور القول بأن التعديل المقترح قد حصل على
تأييد أكثر من (85%) من الأصوات؛ لأنه لا يمكن لنا أن نصدق ادعاء أن الشعب
الذي وقف متراصّاً خلف جبهة الإنقاذ مصرّاً على العودة إلى الإسلام، هو نفسه
الذي يقف الآن مع العسكر ضد الجبهة نفسها، ليبعدها نهائيّاً عن أي حل سياسي،
ويقصيها تماماً عن المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة المتوقع إجراؤها خلال
العام المقبل.
للعلمانيين أن يأمنوا خلال تلك الانتخابات القادمة من مزاحمة أهل الدين لهم،
فقد خلا لهم الجو ليبِيضوا ويُصفروا.. وللعالم (الحر) أن يصفق لمذبحة الديمقراطية
وسحلها في شوارع الجزائر ... وللأنظمة الشقيقة والصديقة أن تحذو حذو السلطة
في الجزائر؛ إذ نجحت في تجربتها الدموية ... ولكن لنا نحن الإسلاميين أن نقول: لا تزال في التجربة فصول!
والله نسأل أن يصلح الأحوال وأن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل أعداء الإسلام
وأعوانهم.. وما ذلك على الله بعزيز.(109/78)
المسلمون والعالم
ماذا يبقى من فلسطين؟
(إعلان الحرب على الجهاد)
(3 من 3)
بقلم: حسن أحمد قطامش
فَصّل الكاتب الحديث عن مخطط تهويد مدينة القدس، ورَصَد الخطوات
العملية لمحو هويتها العربية الإسلامية، ثم عرّج على تصريحات (اللاءات) لزعماء
منظمة التحرير، ويواصل في هذه الحلقة معالجة بقية الموضوع.
- البيان -
(نبرة هادئة يعلوها حزن ذليل.. أو قل: ذل حزين، خرجت كلماته بعفوية.. قال: سيدي، إننا نعتبر قتل الفلسطيني المقاوم لكم.. عملاً وطنيّاً، كما نعتبر
قتل الفلسطيني للفلسطيني المقاوم لكم جريمة وطنية! ! وأنا تحملت مسؤولية سقوط
(عدد كبير) من المقاومين من أبناء شعبنا برصاص إخوته من الأمن الفلسطيني من
أجل أن أحفظ صدقية توقيعي على الاتفاقيات، وأن ألتزم بمسؤلياتي كسلطة وطنية
قادرة على الوفاء بتعهداتها) .
[الخليج، ع/635410/10/1996م] .
هكذا تكلم (ياسر عرفات) في اللقاء الخاص بينه وبين (نتنياهو) في قمة
واشنطن التي انعقدت عقب أحداث فتح نفق الأقصى.
ولكلامه مدلولات ومغازٍ ومخازٍ كثيرة، ولكن أشد ما يحزن هو ذلك الاعتراف
الصريح بتحمل دماء المسلمين المجاهدين من أجل الوفاء بالعهود مع يهود، فهو قد
تعهد أن يكون حارساً أميناً لأمنها وسلامة شعبها واستقراره.. وإلا استبدلوه بأكفأ
منه!
قال (تعالى) : [وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً] [النساء: 93] ، وإن حرمة دم المسلم عند الله
(تعالى) أشد من حرمة بيته الحرام.
نعود للوراء قليلاً، ولنستمع لـ (عرفات) ماذا يقول عن أطفال الانتفاضة
وشبابها:
(إن أطفال الحجارة كرموني بثورتهم في حين أساء إليّ الزعماء والرؤساء
العرب في (قمة عمان) 1987م، وقد استجابوا لندائي في حين ظل القادة العرب
غير مستعدين لسماعي.. أنا لا أستطيع أن أترك أطفال الانتفاضة وشبابها وحدهم؛
فإن ثورتهم هي آخر نفس باقٍ عند الشعب الفلسطيني) .
قد يطول الحديث بنا جدّاً إن استعرضنا تفاصيل (الكفاح المسلح) ضد
المسلمين المجاهدين من قِبَل السلطة العرفاتية، ولكن حسبنا وقفات نشهد بها على
محاولات القضاء على فريضة الجهاد ضد أعداء الله يهود، والقضاء على (آخر
نفس باقٍ للشعب الفلسطيني) .
وما نظن أن عرفات لا يعرف قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا
تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله
عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم) [1] ! !
وهذا الحديث رواه الصحابي الجليل (عبد الله بن عمر بن الخطاب) (رضي
الله عنهما) .
قال عرفات لقومه يوم دخل (فاتحاً) غزة! ! إنني أترسم فيكم خطى (عمر بن
الخطاب! !) ، ولكن الراجح أن استجابة عرفات لقول النبي -صلى الله عليه
وسلم- ضعيفة! ، والأرجح استجابته (لنصوص) يهود الذين نصحوه بالقضاء على
الجهاد.
ففي اللقاءات الأولى بين يهود ومنظمة التحرير تكلم (ستيفن كوهين) ممثل
المنظمة اليهودية في أمريكا، قائلاً: أنتم في غفلة عن الحقيقة، إن الخطر على
منظمة التحرير لم يعد الجيش الإسرائيلي! ! ، وإنما الخطر على شعبية المنظمة
وعلى قيادتها وعلى فاعليتها.. هو خطر (حماس) ! !) .
وفي لقاء آخر تكلم وزير الصحة الإسرائيلي (إفرام سنيه) : (قبل أن نتفاوض
على الحكم الذاتي، لا بد أن نتفاوض على كيفية احتواء التيار الإسلامي،
وخصوصاً ذلك الذي تمثله (حماس) ، فقاطعه أحد أعضاء الوفد الفلسطيني معلقاً:
إن إسرائيل هي التي أعطت (حماس) تصريحاً بإنشاء الحزب.. فرد قائلاً: أنا
أحدثكم بمنتهى الصراحة عن خطر يهددنا كما يهددكم في المستقبل، وأنتم مصرون
على العودة إلى الماضي ومحاكمة إجراءاته) [انظر: أوسلو.. قبلها،
وبعدها/هيكل/الفصل الثامن] .
وبإخلاص منقطع النظير وحفاظاً على العهود، قامت المنظمة بدورها على
أكمل وجه، فهذا (محمد دحلان) رئيس أجهزة الأمن السرية الفلسطينية يقول:
(أجهزتنا عازمة على تدمير الجناح العسكري لحركة حماس! !)
[حوار للوموند الفرنسية، الأنباء، ع/715011/4/1996م]
وهذا سيده (ياسر عرفات) يصرح بعد عملية (بيت ليد) التي هلك فيها (19)
يهوديّاً يبين المنهجية المتبعة مع الذين (أكرموه) وفي حضور وزير الخارجية
الأمريكي وقتها (وارن كريستوفر) : (إننا سنواصل طريقتنا في معالجة ومواجهة
هذه القوى المتطرفة، ولن نسمح لهم بمواصلة نشاطهم.. ليس لديّ عصاً سحرية،
ولكنني سأبذل قصارى جهدي) . [الشرق الأوسط، ع/5916 8/2/1996م] .
جهود الزعيم إياها:
وكان من جهوده هذه أن ساعد على إحباط ما لا يقل عن (80) هجوماً ضد
أهداف إسرائيلية في عام 1995م فقط، وهو ما أشاد به (كارمي جيلو) رئيس جهاز
(الشاباك) ، ولننظر كيف كان حال يهود وقد وقعت فيهم هذه العمليات الاستشهادية؟ فيوم وقعت عملية (بيت ليد) جاء (رابين) مهرولاً إلى موقع الحادث، ثم قال:
(إن هذا اليوم يوم رهيب وفظيع وأليم لكل شعب إسرائيل، وقد اجتمع عشرات
الآلاف من اليهود من كل مكان للصلاة أمام حائط المبكى من أجل وقف هذه
العمليات ضد الإسرائيليين) .
[القبس، ع/77661/2/1995م] .
ومن (الاستراتيجيات) الجديدة أن حماس أصبحت تهديداً للدولتين (إسرائيل..
والسلطة العرفاتية) فإن التعاون بينهما مهم وضروري، ففي تصريحه يقول العقيد
(توفيق الطبراوي) مدير عام الاستخبارات الفلسطينية في الضفة الغربية: (إن هناك
تعاوناً وتنسيقاً بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والفلسطينية، إن هذا التعاون
ضروري وفي مصلحة الجانبين) .
[الأهرام، ع/40098 18/9/1996م] .
أما (أمين الهندي) قائد المخابرات العامة الفلسطينية فقد وسع دائرة التعاون
حين قال: (التنسيق مع الأجهزة الأمريكية والإسرائيلية أمر ضروري.. إنه من
الضروري أن يوجد تنسيق بين جهازنا و (السي. آي. أيه) من أجل مكافحة
الإرهاب) [حوار مجلة المشاهد السياسي، ع/4 13/4/1996م] ، بل ولقد تخطى
الأمر من تنفيذ الأوامر وضرورة التعاون إلى المبادرة لكسب الود وطلب القرب
والمحافظة على (صدقية التوقيعات) .
وزير التجارة الأمريكي (رونالد بروان) الذي هلك بطائرته فوق البوسنة ... يقول: (لقد تأثرت جدّاً، لأنه وبدون مبادرة مني.. ألزم الرئيس (عرفات) نفسه باجتثاث الإرهاب، من المهم جدّاً وجود مثل هذا الالتزام الذاتي الذي يساعد على دفع عملية السلام) .
[الشرق الأوسط، ع/5916 8/2/1996م] .
وبشهادة أخرى لـ (عرفات) من (وارن كريستوفر) : (إن ياسر عرفات
أبدى تعاوناً بنسبة مئة بالمئة في معركة مكافحة الإرهاب) .
[الوطن، ع/171212/3/1996م] .
فضح اللجنة العرفاتية لمقاومة التيار الإسلامي:
وقبل الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة شكل (عرفات) (لجنة الطوارئ
المشتركة) وكلفها بوضع خطة لمواجهة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بحيث
يضمن عدم وقوع أي عملية فدائية، مما قد يؤثر على فوز (الصديق بيريز) ،
وقامت هذه اللجنة بإعداد وثيقة سرية تقوم على ثلاثة محاور:
الأول: محور تصفية البنية العسكرية (كتائب القسام) .
الثاني: محور التفكيك السياسي.
الثالث: محور إرباك حماس في الخارج.
وطالبت اللجنة بتنفيذ الإجراءات التالية لتصفية البنية العسكرية على مراحل
ثلاث:
أ - على المدى القريب (وقد انتهى بانتهاء الانتخابات) .
ب - في المدى الاستراتيجي، على النحو التالي:
1- تكثيف الجهد الاستخباري نحو اختراق التنظيم السري لكتائب القسام
باستخدام وسائل جديدة.
2- التصفية الجسدية لعدد من قادة (التنظيم) وعلى فترات متباعدة (وبلا تردد)
رغم ما يجره ذلك من عمليات انتقام، فلا بد من هدم المعنويات وتحطيم البنية
النفسية التي تخطط وتعمل على تنفيذ العمليات.
3- الاستمرار في إلقاء اللوم على الأردن ولبنان وسوريا عند حدوث أي عمل
إرهابي، حتى لو لم تُثبت المعلومات ذلك، فذلك مدعاة لتخفيف الضغط على
السلطة وتوجيه مزيد من الضغوط على قواعد إسناد حماس في تلك الدول.
4- رصد ومراقبة أساليب العمل والتنقل والتجنيد والاتصال وتبادل
المعلومات بشأنها مع أجهزة الأمن في الدول المحيطة.
5- الضغط على وسائل الإعلام الفلسطينية وغيرها من أجل عدم تغطية
الأعمال الإرهابية، بحيث لا تمجد منفذيها، مع ضرورة التركيز على أثرها المدمر
على الاقتصاد الفلسطيني و (تجربة السلطة الوطنية) .
6- ضرب العمل المسلح لحماس يكمن في التصفية الشاملة له على المدى
البعيد، ولا شيء غير ذلك، فالتحجيم لهذا العمل مع السماح له بالبقاء ولو في أطر
محدودة لا يكفي لقطع الطريق على المشروع البديل لدى المنتمين لحماس، كما أنه
بات لا يقنع الإسرائيليين.
هذه الوثيقة عرضت على (عرفات) في مارس 1996م، وقد تسربت
للصحافة، ونشرتها عدة مطبوعات عربية، منها: الحوادث، 17/5/1996م،
والأسبوع العربي، 18/12/1416هـ.
وإن كانت هذه وثيقة نظرية في نظر بعض المراقبين وخاصة بعد أن نفت
السلطة الوطنية نسبتها إليها بعد تسربها إلا أن هناك خطوات عملية وملموسة على
أرض فلسطين تجاه الحركات الجهادية، وخاصة حماس، لقد قامت السلطة
العرفاتية بشن حرب شرسة، وبررتها في البيانات الرسمية بأن ما تقوم به
الجماعات المسلحة ليست موجهة ضد عملية السلام وضد الإسرائيليين فقط، وإنما
موجهة ضد (مصالح الشعب الفلسطيني) و (ضد تجربته الوطنية) ، واعتبار أن
دوامة (العنف) القائمة سيكون وقودها الأول: الشعب الفلسطيني، ومكتسباته
الوطنية، وحياته المعيشية، ومستقبل أجياله.
وعلى هذه الخلفية قامت السلطة بخطوات فاعلة، لعل من أبرزها:
1- حظر نشاط الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية تحت شعار (تأمين
الاستقرار والأمن) ووضع هذه التشكيلات في إطار (الإرهاب) والخروج على
القانون.
2- شن نوع من الحرب الاجتماعية على الحركات الإسلامية شملت مداهمةً
وإغلاقاً وتفتيشاً للمؤسسات الشعبية والتعليمية والصحية ذات الطابع الإسلامي،
خصوصاً دور القرآن، والمساجد، ولجان الزكاة والصدقات، والجامعات، وبعض
الجمعيات.. باعتبارها مراكز خيرية تغذي البنية التحتية للحركة.
وتبدو هذه الحقيقة ذات أهمية كبيرة، خصوصاً إذا أدركنا الدور المهم الذي
أدته المساجد طوال السنوات السابقة في تغذية الصحوة الإسلامية، فهناك ما يزيد
عن (750) مسجداً في الضفة الغربية، إضافة إلى حوالي (400) في قطاع غزة،
وقد سارعت السلطة إلى وضع يدها على المساجد ونقل مهمات إداراتها إلى وزارة
الأوقاف التابعة لها، بمعنى تحويلها إلى مؤسسات رسمية تأتمر بأمر السلطة وتنفذ
سياستها بما فيها التقليل والتأويل لخطوات السلطة في هرولتها نحو وهم السلام، أو
على الأصح: الاستسلام للعدو.
3- انتهاج نوع من الحرب النفسية على القوى الإسلامية، بربط نشاطاتها
العسكرية بمفاهيم الإرهاب والتطرف، واتهامها بتبني أفكار ومفاهيم محرفة عن
الإسلام ما دامت ترفض النهج السائد في المنطقة.
ويشار هنا إلى الدور الخطير الذي تلعبه وسائل الإعلام التابعة للسلطة،
خصوصاً الإذاعة والتلفزيون، إذ ركزت هذه الوسائل على النهج نفسه، باعتبار أن
(حماس) تمس مصالح الشعب والسلطة والاستقلال والدولة، كما أن الوسائل تلك
تخضع لرقابتين مباشرة وغير مباشرة من قبل السلطة الوطنية، ولم تنشر حتى
الآن ما يسيء إلى هذه السلطة أو أي نشاط ضدها، وتُركز في المقابل على
ضرورة استمرار حسن العلاقات مع الطرف الإسرائيلي وتسوية أي خلافات قد
تعترض استكمال المفاوضات بينهما.
4- اتجاه آخر للحرب ضد الحركة الإسلامية تتمثل في محاولة السلطة إبراز
جو من التناقض داخل هذه الحركة، وجَرَت محاولات لإظهار أشكال من الخلافات
بين شخصيات (حماس) وتأكيد حدوث انشقاق داخلها (انسحاب شخصيات بارزة فيها
لتشكل أحزاباً بديلة) ومحاولة الالتفاف على قيادتها واستمالة مقربين ومحسوبين
عليها، والادعاء بأنها مشاركة باطلة وإبراز ما يسمى بالداخل والخارج أو على
صعيد القيادتين العسكرية والسياسية داخل حماس.
وحقيقة: إن جرم السلطة العرفاتية يتجاوز بكثير تلك الأنظمة التي تحارب
الحركات الإسلامية، إذ لدى تلك الأنظمة من الحجج مع تفاهتها وعدم منطقيتها ما
تستطيع به أن تصل إلى ما تريده عبر طرق كثيرة، وعلى رأسها الناطقين باسمها
من الفئات المعروفة، أما سلطة عرفات فإنها تتحمل مهمة شاقة ووقحة في آن واحد، إذ لا حجج واهية يتعلق بها في حربه تلك ولا فتوى أو حتى قبول شعبي لحماية
(يهود) من عمليات المجاهدين.
الإسلاميون.. هكذا يُستخدمون؟
والعجيب: أن النظام العرفاتي نفسه كلما ضُيّق عليه الخناق من قبل حكومة
يهود لجأ إلى التهديد بتسريح عدد من معتقلي الحركات الإسلامية، وقد ذكرت
الإذاعة الإسرائيلية أن أجهزة الأمن الفلسطينية تحذر (نتيناهو) من أن عملية مكافحة
المنظمات الأصولية سوف تزداد صعوبة إذا لم تغير حكومته سياستها! ! .
[الحياة، 14/6/1996م] .
فالسلطة على يقين من أن أولئك المجاهدين هم من يستطيع حقّاً الصمود أمام
يهود.. ويهود تعلم ذلك يقيناً.. ولكن (جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) .
ونتعجب أيها الكرام من أن (13) جنرالاً يرأسون قوات الشرطة الفلسطينية،
بينما الجيش الأحمر (الروسي) في أوقات الذروة لم يرأسه أكثر من (جنرالٍ واحد!
!) بل لقد بلغ عدد قوات الشرطة 20 ألف عنصر في حين أن جهاز الشرطة
الإسرائيلي 17 ألف عنصر فقط، بل ونتساءل: لماذا تُوجّه أغلب المعونات التي
تصل إلى السلطة إلى جهاز الشرطة؟ ! .
إن الأمة حين لا تكرم مجاهديها الصادقين يضرب الله عليها الذل.
ونختم بصورة مريرة لهذا الذل ونتبعه بتعليق واحد.
سئل (عزيز عمر) محافظ الخليل من قِبَلِ هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي.
سي) : ما الذي أعدته السلطة عند الانسحاب من الخليل وخاصة ما يخشى من قوع
مجازر من قبل المستوطنين؟ ، أجاب: (جملة واحدة أستطيع أن أقولها، هم أعدوا
السلاح.. ونحن أعددنا المستشفيات! !) .
[بي. بي. سي، 15/11/1996م] .
لقطة:
قام كبير حاخامات مستوطنات (كريات أربع) اليهودية بزيارة في 14/7/
1996م إلى ابن الإرهابي المجرم (باروخ جولدشتاين) في الخليل.. ثم قال له: كن
بطلاً.. وسر على خطى أبيك! ! .
هكذا يشجع المتدينون وترفع من روحهم المعنوية، ولكن كيف يفعل الحاكمون
بأمرهم (بمتدينينا) ، هذا ما توحيه اللقطة التي تغني عن عشرات الصفحات.
وحسبنا الله ونعم الوكيل،،
__________
(1) أبو داود، كتاب البيوع، باب النهي عن بيع العينة، ح /3462.(109/90)
المسلمون والعالم
إريتريا والدور المشبوه
للجبهة الصليبية الحاكمة
بقلم: محمد مبارك مسعود
عندما احتل الإيطاليون ما يعرف اليوم بـ (إريتريا) منذ عام 1890م: كان
سكانها مجموعة من الشعوب تنتمي إلى إثيوبيا، والسودان، وبعضها من أصول
عربية، وعندما كانت محمية إيطالية (1881م 1941م) حيث أصدرت الحكومة
الإيطالية قراراً بتسميتها بـ (إريتريا) وتعني: البقعة الحمراء، وهي كلمة يونانية
الأصل.
وفي عام 1951م وضعت المنطقة التي عرفت بـ (إريتريا) تحت الحكم
الفيدرالي مع إثيوبيا، وذلك حتى عام 1961م، بعد ذلك ضمها (هيلاسلاسي) إلى
إثيوبيا، واستمر ذلك حتى عام 1991م.
جغرافية إريتريا:
الموقع: تقع إريتريا غرب البحر الأحمر، في القرن الإفريقي، تحدها من
الجنوب الشرقي: جيبوتي، ومن الشرق والشمال: البحر الأحمر، ومن الشمال
الغربي والغرب: السودان، ومن الجنوب: إثيوبيا.
أهمية الموقع: يشكل الموقع الجغرافي لإريتريا أهمية بالغة، من كونها:
تشرف على الجزيرة العربية، وتعتبر البوابة الشرقية لإفريقيا التي عن طريقها
انتشر الإسلام في شرق إفريقيا، وعبرها كانت الهجرتان لصحابة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إلى بلاد الحبشة.
المساحة: تبلغ مساحة إريتريا (124 ألف كلم2) ، وتطل بواجهة بحرية
طولية تبلغ حوالي (1080كلم2) على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وتملك
إريتريا (126) جزيرة، أهمها: أرخبيل (دهلك) .
أهم المدن:
- أسمرا: وهي العاصمة، وتعتبر أكبر المدن الإريترية، وتقع في إقليم
حماسين.
- مصوّع: وتقع في إقليم سمهد على البحر الأحمر، وتعتبر الميناء الرئيس
لإريتريا.
- عصب: تقع في إقليم دنكاليا على البحر الأحمر، بالقرب من باب المندب، وتعتبر الميناء الثاني لإريتريا.
- كِرن: تقع في إقليم سخيت، وهى من أبرز مناطق الوجود الإسلامي
الفاعل.
- أغددات: تقع في إقليم بركة.
- مدينة نقفة: تقع في إقليم الساحل.
- مدينة مندفرا: وتقع في إقليم القاش بالقرب من الحدود السودانية.
السكان واللغة:
كانت إريتريا بحكم موقعها الجغرافي منذ أقدم العصور مسرحاً لاختلاط
وانصهار شعوب مختلفة، ولذا: نجد أن سكان إريتريا تختلط فيهم الدماء الحامية
والسامية، أما عدد السكان فيبلغ حوالي أربعة ملايين نسمة تقريباً، ويشكل
المسلمون أغلبية، فهم أكثر من 75%، والبقية منهم نصارى ووثنيون.
وتعتبر اللغة العربية لغة أساسية في إريتريا، كما توجد بجانبها ثماني لهجات
محلية.
إريتريا والإسلام:
دخل الإسلام إريتريا منذ سنوات الدعوة الأولى، حيث حملها المهاجرون
الأوائل من الصحابة، ثم توالت هجرات التجار المسلمين والدعاة الذين جاؤوا بدين
الفطرة ودخل الإريتريون في دين الله أفواجاً.
وابتداءً من عام (80 هـ) كانت جزيرة (دهلك) القريبة من (مصوع) مصدر إشعاع لتعليم القرآن الكريم والعلوم الشرعية ونشر الدعوة الإسلامية في دول شرق إفريقيا، كما كانت هذه الجزيرة أحد الثغور للجيش الإسلامي في عهد ... ... عبد الملك بن مروان، وكانت جزءاً من أرض الخلافة الإسلامية حتى نهاية القرن التاسع عشر.
الموقع الاستراتيجي:
إن امتلاك إريتريا لساحل طويل ومجموعة الجزر المهمة على البحر الأحمر
باعتباره ذا قيمة استراتيجية دولية جعل إريتريا تتعرض لأطماع دولية وإقليمية
مستمرة؛ وذلك بهدف إقامة قواعد عسكرية بها، حتى تتحقق من خلالها:
السيطرة على حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
الاقتراب من مصادر الطاقة النفطية والتحكم فيها.
القرب من أهم المقدسات الإسلامية، وهذا يشكل أحد أهم الأهداف الرئيسة
للدول المعادية، وعلى رأسها العدو الصهيوني، فقد أقامت إسرائيل قواعد عسكرية، بعد أن سمحت الحكومة الإثيوبية لها ببناء قواعد في الجزء الغربي في إريتريا،
وأهم هذه القواعد: قاعدتا (دوراحباب ومكهلاى) ، وهي تقع بالقرب من الحدود
الإريترية/ السودانية، وتقوم الطائرات الإسرائيلية بالطيران المباشر من هذه
القواعد إلى تل أبيب، كما أن إثيوبيا قد سمحت لإسرائيل ببناء قاعدة بحرية في
جزيرتين إريتريتين عند مضيق باب المندب، وهما: جزيرة (حالب) ، وجزيرة
(فاطمة) ، وتبعد هاتان الجزيرتان حوالي (50 ميلاً) عن مضيق باب المندب.
كما أن إسرائيل تعتبر أسمرة مركزاً إفريقيّاً مهمّاً لمخابراتها، حيث تنطلق
توجيهاتها لكل الذين يتعاملون معها في المنطقة، وبخاصة الدول المطلة على البحر
الأحمر.
إريتريا والاستعمار الصليبي:
عندما ضعفت دولة الخلافة العثمانية وقعت إريتريا تحت سيطرة الاستعمار
الإيطالي (1885م 1941م) ، الذي سعى لفرض مفاهيمه الصليبية في البلاد، كما
عمل على إتاحة فرص التعليم أمام أبناء النصارى الإريتريين في الوقت الذي مارس
فيه سياسة التجهيل لأبناء المسلمين، وقد استخدم الشعب الإريتري في حروبه
الاستعمارية في شمال إفريقيا وشرقها، وبعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية
الثانية: حل الاستعمار البريطاني محل الاستعمار الإيطالي باسم الانتداب (1941م
1951م) ، وقد مهد هذا الانتداب الطريق أمام (هيلاسيلاسي) كي يحقق حلم
النصارى الإثيوبيين في احتلال إريتريا، ولهذا: فإن مرحلة تقرير المصير في
نهاية العقد الخامس ومطلع العقد السادس من القرن الميلادي الحالي شهدت صراعاً
كبيراً بين النصارى الإريتريين (الذين كانوا يسعون من خلال حزبهم الصليبي
الداعي للانضمام إلى إثيوبيا أندنّت لضم إريتريا إلى إثيوبيا) ، وبين المسلمين الذين
كانوا ينادون بالاستقلال التام لإريتريا من خلال حزب (الرابطة) الإسلامية، الذي
تأسس في نهاية 1946م.
وفي هذه المرحلة وقفت كل القوى الصليبية على مستوى المنطقة والعالم خلف
النصارى الإريتريين في صراعهم ضد المسلمين، وكان في مقدمة ذلك كل من
إثيوبيا وأمريكا وبريطانيا، وفي إطار التآمر الصليبي: صدر قرار الجمعية العامة
للأمم المتحدة في عام (1950م) القاضي بربط إريتريا فيدراليّاً مع إثيوبيا.
إعلان الكفاح المسلح:
وفي الفترة (1961م 1985م) شهدت إريتريا عدداً من الانتفاضات الشعبية،
تمخض عنها ميلاد جبهة التحرير الإريترية التي فجرها المسلمون عام 1961م،
في وجه التآمر الصليبي وذلك اعتماداً على إمكاناتهم الذاتية المحدودة، وقد حققت
هذه الجبهة انتصارات باهرة على المستعمر الإثيوبي الذي استعان عليها بدعم
وخبرات الدول الصليبية وإسرائيل، فضلاً عن قوات الكوماندوز (الخاصة) التي
كانت تتكون في غالبيتها من أبناء النصارى الإريتريين الذين تدرب بعض ضباطهم
في الكليات العسكرية الإسرائيلية، وقد تم عن طريق هذه الحروب الشرسة تخريب
ديار المسلمين وتدمير ممتلكاتهم، وقتل وتشريد جموعهم، وفرض اللجوء الجماعي
لكثير منهم إلى الأقطار المجاورة، وبخاصة السودان، الذي ما زال يستضيف أكثر
من مليون مهاجر في الإقليم الشرقي.
وعلى الصعيد الداخلي لجبهة التحرير الإريترية: فقد تغلغت إلى صفوفها
الأحزاب العلمانية فانحرف مسارها الإسلامي، وهيأت المجال لتدفق النصارى إلى
صفوفها، وفي بداية العقد الثامن الميلادي: اتسعت الصراعات الحزبية في داخل
الجبهة؛ مما أدى إلى انشطارها إلى عدة تنظيمات علمانية، وفي مقدمتها الجبهة
الشعبية، التي انفردت فيما بعد بالساحة بعد حروب تصفوية، وآلت على نفسها
حرب الإسلام، ونشر الرذيلة، ونهب الممتلكات، وانتهاك الأعراض، وتحجيم
المسلمين، وإبعادهم عن الواجهة إلا من كان علمانيّاً على نهجها.
الهجمة الصليبية الجديدة:
لما أصبحت حركة الجهاد تقض مضاجع الصليبية في المنطقة، وصارت
الصحوة الجهادية تنتقل إلى بقية دول القرن الإفريقي: تحرك الأخطبوط الصليبي
المسمى بالنظام الدولي الجديد؛ ليرعى أهداف الصليبية في المنطقة ومصالحه
الاستراتيجية فيها، فكانت محادثات أتلانتا ونيروبي بإشراف (كارتر) الرئيس
الأمريكي الأسبق، ومحادثات لندن بإشراف (كوهين) اليهودي مسؤول الشؤون
الإفريقية في الخارجية الأمريكية، وكانت نتائج المحادثات: توحيد الجبهات
الصليبية الإثيوبية في جبهة (إهودق) .
كما تم التنسيق بين الجبهة المذكورة والجبهة الشعبية الإريترية (تنظيم
صليبي) في شتى المجالات، واستكمالاً للمخطط: قامت رموز النظام العالمي
الجديد باتصالات سرية ببعض كبار ضباط الجيش الإثيوبي، وعقدت صفقات سرية
أسفرت عن نقل (الفلاشا) من أديس أبابا إلى تل أبيب، واستسلام جيوش نظام
(مانجستو هيلا ماريام) أمام القوى الصليبية الجديدة، من غير إبداء أي مقاومة في
مايو 1991م! وتسلمت جبهة (هودق) السلطة في إثيوبيا برئاسة (ملس زيناوي) ،
كما تسلمت الجبهة الشعبية السلطة في إريتريا برئاسة (إسياسي أفورقي) ، وفي
إطار هذه التطورات: فإن الجبهة الشعبية سعت جاهدة بالتحالف مع جبهة (ملس
زيناوي) حكام إثيوبيا الجدد وإلى تأكيد وتدعيم الهيمنة الصليبية في المنطقة عموماً
وفي إريتريا على وجه الخصوص، وذلك من خلال السياسات والبرامج التي تنفذها
على مختلف الأصعدة، ومنها:
أولاً: على الصعيد المحلي:
محاربة الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً، من خلال:
فرض البرنامج التعليمي للجبهة الشعبية على المدارس والمعاهد الدينية، مما
يؤدي إلى زعزعة العقيدة الإسلامية والتعاليم الدينية في نفوس الناشئة.
تنفيذ قانونها الخاص بالزواج والمواريث، الذي يبيح زواج النصراني
بالمسلمة، ويورث أبناء السفاح، ويشجع على الفاحشة.
إثارة النعرات القبلية والطائفية؛ بهدف تفتيت وحدة المسلمين وإضعاف
شوكتهم.
إلغاء دور المسلمين في مسألة تقرير المصير وتهميشهم في إدارة شؤون البلاد.
تغيير البنية الجغرافية والتوزيع السكاني في إريتريا، من خلال توطين
النصارى من أبناء إريتريا والتجراي في مواطن المسلمين بمختلف المناطق
الإريترية، وخصوصاً في المنخفضات الغربية والشرقية ذات الأراضي الزراعية
الخصبة.
تعزيز المركز السياسي والاجتماعي للنصارى في إريتريا من خلال إصدار
القوانين التي من شأنها ضمان تحقيق ذلك، والتي منها:
- قانون منح الجنسية الإريترية للنصارى.
- القوانين المنظمة لعملية الاستفتاء التي تتبناها الجبهة الشعبية لصالحها
وللمنتسبين لها، ومن أهم ما تستهدفه هذه القوانين: تغليب النسبة السكانية
للنصارى على المسلمين في إريتريا؛ مما يساعد على تحقيق الأهداف والنوايا
الصليبية، ويضعف دور المسلمين، ويهدد الوجود الإسلامي في إريتريا بخاصة،
ومنطقة القرن الإفريقي بعامة.
- محاربة اللغة العربية وإبعادها عن الدواوين والمؤسسات الحكومية،
وفرض اللغة (التجرينية) لغة رسمية وحيدة؛ مما يضعف الوعي الإسلامي، ويهدد
الثقافة الإسلامية والعربية.
ثانياً: وعلى الصعيد الإقليمي والدولي:
توطيد العلاقات مع نظام (ملس زيناوي) الصليبي في إثيوبيا، والتنسيق معه
لضرب المسلمين في كل من إريتريا وإثيوبيا، والسعي لإقامة حلم دولة (أكسوم)
النصرانية.
رعاية المنظمات والهيئات الكنسية العالمية، وجعل إريتريا منطلقاً للنشاط
التنصيري في منطقة القرن الإفريقي بخاصة والقارة الإفريقية بعامة، وإعاقة نشاط
المنظمات والهيئات الخيرية الإسلامية داخل إريتريا.
الإساءة إلى العلاقات العربية، كالتعاون مع (إسرائيل) ، وإنكار دور العرب
والمسلمين في دعم القضية الإريترية، وذلك من أجل قطع علاقة الشعب الإريتري
بالشعوب الإسلامية والعربية.
السعي الجاد في توطيد العلاقة مع الدول النصرانية والمنظمات الصليبية
العالمية، بما يحقق مصالحها الاستراتيجية وأطماعها الصليبية.
توطيد وتطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، مما يضر بمصالح الأمة
الإسلامية، ويهدد أمن منطقة حوض البحر الأحمر.(109/98)
في دائرة الضوء
الصفوة والأمة
بقلم: محمد محمد بدري
في مكة، وحين كان الإسلام يعيش غربته الأولى: كان النبي -صلى الله
عليه وسلم- يخاطب بدعوته أفراد مجتمعه كافة، ويُؤَثِّر فيهم تأثيراً إيجابيّاً، كان
من آثاره: نشأة الجيل القرآني الفريد الذي أزال الله على يديه غربة الإسلام الأولى، وأقام على أكتافه دولته القوية العزيزة.
واليوم.. عادت غربة الإسلام ثانية للذين يقولون ربنا الله، يدعون لدينه،
ويتبنونه منهاجاً، ويعملون لنصرته، ويتخذون ذلك غاية لهم، حمل الغرباء
السعداء بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم بالحسنى، حملوا راية الإسلام
لبدء الجولة الثانية لهذا الدين، وليُخْرجِوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة الله
وحده.. وبدأ الناس يعودون إلى الإسلام، يريدونه رائقاً صافياً كما أُنْزِل أول مرة
بلا غبش ولا ركام.
ولا شك أن أخوف ما يخافه خصوم الإسلام: أن تمتد للدعوة الإسلامية جذور
في أوساط (الأمة) ، وأن ينشأ لها في (قواعدها) تأييد أو تعاطف.. من أجل ذلك:
كانت خططهم دائماً تقوم على محاولة فصل الدعاة إلى الله عن عامة الأمة، فإذا
استجابت الدعوة الإسلامية لهذه الخُدْعة، وصنعت هوة بينها وبين الناس تحت أي
دعوى فقد انفصلت عن أرضها وقاعدتها، وبدأت طريق الهلاك العاجل أو الآجل! !
ومن هنا: فإننا لا بد أن ندرك أن دعوتنا لا حياة لها إلا بقلب الأمة النابض،
وأن عِلْمنا لا بد أن يكون في محاولة هداية أفرادها وإصلاحهم، دون ممالأة أو
ذوبان في شهواتهم، بل لأننا ندرك (أن من يعتزل الناس لأنه يحس أنه أطهر منهم
روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً.. لا يكون
قد صنع شيئاً كبيراً.. لقد اختار لنفسه أيسر السبل وأقلها مؤونة..
إن العظمة الحقيقية: أن يخالط المسلم هؤلاء الناس وهو مشبع بروح السماحة
والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم،
وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستواه بقدر ما يستطيع.. وليس معنى هذا أن يتخلى المسلم
عن آفاقه العليا ومثله السامية، أو أن يتملق هؤلاء الناس ويثني على رذائلهم، أو
أن يشعرهم أنه أعلى منهم أفقاً، بل لا بد من التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة
الصدر، لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد) [1] .
فالداعية الإسلامي: رجل يحب الناس، ويحبه الناس؛ فلا فجوة بينهم وبينه.. وهو في حركته روح تسري في قلب الأمة، فتحييها بالقرآن.. وجسد يسعى في
سبيل تحرير الأمة من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي
تمارسه الأنظمة العلمانية المتغربة والغريبة عن الأمة وعن دينها.. وعقل يلمؤه
الوعي..
بل العمل الإسلامي: جهاد (أمة) ، وليس جهاد (حزب) أو (جماعة) أو
(تنظيم) ، ولذلك: فإن الدعوة الإسلامية تواجه أعداءها بـ (الأمة المسلمة) بعد
إحيائها وإخراجها من حالة الالتباس والاغتراب، فتكون مواجهتها لهم مواجهة قوية، وليست مواجهة (غرباء) لا يجدون من يقف معهم أو ينتصر لهم! !
ولكي تصل الدعوة الإسلامية إلى (إحياء الأمة) فإنه من الضروري أن تقوم
بترتيب أولويات أعمالها، وتراعي هذا الترتيب في دعوة الناس، وفي تنظيم
مراحل علاج المواقع الفاسدة، والبناء للواقع الإسلامي الصالح، وذلك من خلال ما
تتبناه من أفكار، ومنهاج للتربية، وأسلوب في العمل.. على النحو التالي:
1- الأفكار: لا بد أن تكون ملكاً للأمة، وليست حكراً على النخبة أو الصفوة، ومن ثم: فلا بد أن تكون باللغة التي تفهمها جماهير الأمة، وتقوم على حل
مشكلات الواقع، ورسم خطة المستقبل الأفضل.. فإنها إن كانت كذلك تحوّلت بإذن
الله إلى تيار عام كاسح، يغيّر بجهاده المستمر أسس الجاهلية الفكرية والخلقية
والثقافية السائدة في كثير من أحوال الأمة.
2-منهاج التربية: تربية كل فرد على الشعور بأنه (هو) المسؤول عن تغيير
واقع الأمة الإسلامية وليس (غيره) .. وأنه يمتلك القدرة على هذا التغيير إذا سعى
إليه بروح الائتلاف مع الأمة، والارتباط بجذورها، وعدم العزلة عنها أو مفارقتها.. ولذلك: فإنه لا بد أن يخالط الناس ويصبر على أذاهم؛ لأن ذلك أرضى لله،
وأنفع لعباده.
ولا شك أن هذا المنهاج التربوي سيُخْرِج بإذن الله دعاة إلى الحق يأخذون بيد
كل فرد في الأمة إلى الله، ولا يحصرون أنفسهم بين الجدران، بل يتغلغلون في
أوساط الأمة لتبسيط دعوتهم ودرء ما ألحقه بها الطواغيت والمبطلون.
3- أسلوب العمل: توسيع دائرة العمل للإسلام إلى أبعد حد ممكن، عبر
إقامة شبكة متكاملة من الروابط والعلاقات، ومد جسور التواصل مع مختلف طبقات
الأمة، بحيث تصبح العلاقة بين (الصفوة) و (عامة) الأمة هي علاقة إيجابية تقوم
على الحب المتبادل وتكامل الطاقات لخدمة الإسلام.. في صورة تتفق أو تقترب
من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى) [2] ، وقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعض بعضاً) [3] .
ولا شك أن هذا يتطلب من العاملين للإسلام (امتلاك القدرة على فقه التعامل
مع المجتمعات، والانفتاح المتزن أكثر، وفتح منافذ جديدة للدعوة، وامتلاك قدر
أكبر من المرونة، مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف، والتقدير
للإمكانيات.. ولايعني هذا بحال من الأحوال أن يكون دعاة الإسلام دماً جديداً في
قوة الباطل، أو أن يوظف الإسلاميون لغير الأهداف الإسلامية، وإنما يعني:
النزول إلى الساحة، وفهم واقع الناس؛ حتى يجيء الأخذ بيدهم ثمرة لهذا الفهم،
ذلك أن الناس هم محل الدعوة، وهم جديرون بالشفقة والإنقاذ) [4] .
إن العاملين للإسلام عندما يكونون في الطليعة فإنهم يحصرون دائرة الصراع
مع الأنظمة العلمانية التي تجتال الناس عن دينهم وتحمل الأمة على التحاكم في
الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله.
ولا تنقل الدعوة الإسلامية الطليعية صراعها ومعركتها إلى الأمة التي يقع
عليها الكثير من المظالم، والتي تتطلع لليوم الذي تُحكَم فيه بالإسلام، وبشريعة
العدل الرباني.
إن الدعوة الإسلامية التي تنفذ إلى أعماق الأمة تمتلك السلاح الأقوى في
الصراع بين الإسلام والعلمانية، لأنها تمتلك قلوب عامة الناس بأخلاقها الحسنة
وفعالها الطيبة.. بينما تحكم العلمانية الأمة بنظم عسكرية قهرية، فتبقى معزولة
عن الأمة ومرفوضة من عامة الناس.
ولذلك: فإن الضغط على هذه الأنظمة العلمانية بـ (الأمة) ذات الولاء الثابت
للإسلام، قادر إن شاء الله (تعالى) على جرف هذه الأنظمة العلمانية (الورقية)
والإلقاء بها في مزابل التاريخ.
وبكلمة أخيرة: لا تقدر الدعوة الإسلامية على القيام بدورها ومسؤولياتها كاملة
إلا أن تمتلك رصيداً كبيراً في الأمة، وتستند إلى قاعدة عامة قوية، تدخل بها دائرة
المفاصلة مع الأنظمة العلمانية لإقامة الحكم الإسلامي.. ولكي تحقق هذا الهدف: لا
بد أن تشق الطريق نحو الأمة أكثر وأكثر، فتدخل في نسيجها الاجتماعي والثقافي
والاقتصادي، توظف كل ذلك لخدمة أهداف الإسلام، عبر الإحياء الإسلامي الكبير
الذي ينساب في خلايا المجتمع، ويسري في روح الأمة، فيحييها بالوحيين.
__________
(1) أفراح الروح، سيد قطب بتصرف.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري.
(4) نظرات في مسيرة العمل الإسلامي، عمر عبيد حسنة بتصرف.(109/106)
الورقة الأخيرة
وماذا بعد رمضان؟
بقلم:فيصل البعداني
ها هو الشهر المبارك قد أقبل، وستنصرم أيامه، وتنقضي لياليه، وكما بدأ
سينتهي، بعد أن يجتهد المجدون، ويتسابقوا في الخيرات، ويصبح المخلصون
يعيشون بين أمل قبول العمل وخشية رده وحبوطه.
ولكن في ظني أن هناك أموراً لا بد للساعين إلى الله (عز وجل) من اعتبارها
والتنبه لها بعد هذا الموسم العظيم سواء في حياتهم الشخصية أو الدعوية؛ وذلك:
لأن المطلوب من العبد اتخاذ هذه المواسم محطات للتزود من التقوى، ثم السير بهذا
الزاد من محطة إلى أخرى، لا أن يجعل حياة الطاعة مقصورة على تلك المواسم،
فمتى مضت مضت طاعته معها! .
وليست الإشكالية في اختلاف مقدار العبادة التي يقوم بها العبد في تلك المواسم
وفي غيرها، إذ أمر العبادة مهيأ للعبد فيها أكثر من غيرها، فرمضان مثلاً شهر
(تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين) ... [أخرجه النسائي، وصححه الألباني] ، ولذا: حين نتأمل في عبادة النبي -صلى الله
عليه وسلم- الذي أمرنا الله (عز وجل) أن نتأسى به نجد أنه كان أكثر اجتهاداً في
العبادة في رمضان من غيره، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في
شهر رمضان) [أخرجه مسلم] ، وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: (كان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)
[أخرجه مسلم] .
وعليه: فإن المطلوب من العبد أن يداوم على مجالات الخير التي طَرَقها في
رمضان، سواء أكانت قيام ليل أو قراءة قرآن أو صدقة تطوع أو دعوة إلى الله
(عز وجل) .. أو غير ذلك ولو بمقدار أقل؛ لأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن
قل، ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حدثت عائشة (رضي الله عنها) :
(كان إذا عمل عملاً أثبته) [اخرجه مسلم] .
ولو تأمل الإنسان مقدار الخسارة التي يجنيها من جراء بطالته العبادية
والدعوية في غير مواسم الخير سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الأمة
لوجدها جسيمة.
فكم من الأوقات تمضي عليه سدًى مع أن العبد يوم القيامة يتمنى لو أضاف
إلى رصيده خيراً مهما قل مقداره وتدنّى أجره ليدرأ عن نفسه عقوبة أو ليرتفع
درجة.
ولو حسبنا مقدار الأوقات والجهود والإمكانات المضاعة من مجموع أفراد
الأمة التي لو استثمرت بشكل جيد لمصلحة الأمة في المجالات المختلفة دعوية أو
غيرها لعلمنا حجم الجناية التي تحدثها البطالة والانقطاع عن العمل العبادي في غير
مواسم الخيرات على الصعيد الشخصي والجمعي.
إن أبرز ما في هذه المواسم المباركة ومنها رمضان أنها تقنع العبد بأن بإمكانه
أن يفعل الكثير والكثير متى ما أخذ نفسه بمأخذ الجد وقوّى استعانته وصلته بالله
(عز وجل) .
إنها تجعل من العبد نفسه قدوة عملية لنفسه في غيرها، إذ بإمكانه بأن يفعل
في غيرها ما فعل فيها من خيرات، بدليل أنه فعل! ، والتجربة خير برهان،
والواقع أكبر دليل، والملهيات والعوائق النفسية والاجتماعية وغيرها التي تجاوزها
في موسم الخير يمكنه تجاوزها في غيره كما تجاوزها فيه، والدافع الذي مكنه من
تجاوزها ما زال موجوداً، إذ الرب (سبحانه) بالمرصاد، والجنة والنار مخلوقتان،
ولكل منهما أهلون.
فلنبادر ونحن ما زلنا في هذا الموسم العظيم قبل أن تغلق أبواب الجنان وتفتح
أبواب النار وتُطْلق الشياطين أن نرسم لأنفسنا الخطط، ونعد لها البرامج الخيرة
التي سنسير عليها حتى الموسم القادم ومحطة التزود الأخرى، آخذين أنفسنا بالجد
الذي ابتدأناه في رمضان، مستعينين بالله (عز وجل) الذي لا حول ولا قوة لنا
معاشر العباد إلا به.(109/111)
شوال - 1417هـ
مارس - 1997م
(السنة: 11)(110/)
كلمة صغيرة
حقوق وعقوق
هل سمعتم بالمدعوة (B. B) .. إنها ممثلة فرنسية محالة للاستيداع بعد أن
عملت لعقود في هدم أخلاق الغربيين بالإباحية والفجور، وحتى لا تُنسى كما نُسِي
غيرها بعدما أسدل عليهم الستار اهتمت بما يسمى بحقوق الحيوان، والحدب عليها
من أن تقتّل أو تتخذ رياشاً للزينة، أو أن تُستأصل، فقامت بحملات متواصلة
لحماية حقوق الحيوان، نعم حقوق الحيوان.. وليس الإنسان، وقد نقل عن
المذكورة أنها تتهم الإسلام والمسلمين بالبطش وعدم الرحمة لذبحهم الذبائح حسب
الشريعة، بدون تخدير لها، وفي هذا غِلظة.. هكذا.
وحينما تقدم المسلمون بطلب محاكمتها لهذا التهجم على الإسلام رفضت التهم
الموجهة إليها.. ونحن لا نستغرب التناقضات الحاصلة في الحياة الغربية من
الاهتمام بالتوافه ونسيان الحقائق، ومن ذلك: تناسيهم لحقوق الشعوب المغلوبة على
أمرها التي تقتل ليل نهار، وهم الذين استعمروا الشعوب واستولوا على خيراتها
وحرموها منها، فأين دعاة حقوق الحيوان من حقوق هذا الإنسان في هذه البلاد؟ ،
بل أين هذه المدعوة من حقوق الإنسان في بلادها، حيث يضيق على المسلمين إلى
حد المنع الرسمي لكتب فكرية إسلامية، ومنع الفتيات من ارتداء الحجاب؟ !
وأين هؤلاء الدعاة من حقوق الإنسان في فلسطين، بل لدى جيرانهم شرقاً في
البوسنة والهرسك، أم أن الإنسان المسلم لم يبلغ بعد درجة الحيوان؟ ! ، فهل يعي
الغربيون تلك الحقائق أم أن المسألة ليست سوى استهلاك وجعجعة ودعايات، وهم
الذين تتورم أنوفهم حينما يكون الاعتداء على غير المسلمين فقط؟ !
وحتى متى يسمح للاتجاهات العنصرية بالعمل ضد الآخرين كما هو ملموس
في الغرب، إن الغرب وحضارته لن تصل إلى مستوى رحمة دين الإسلام مع
الإنسان، بل حتى مع الحيوان، جاء في حديث نبوي: (وليحد أحدكم شفرته،
وليرح ذبيحته) .. فأين رحمتهم بالإنسان والحيوان؟ ، أين الثرى من الثريا؟ !
والله المستعان(110/1)
الافتتاحية
كلمة في البناء الدعوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى
آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد كانت الصحوة الإسلامية في العقود الماضية بحاجة إلى الانتشار والاتساع
الأفقي، وتكثير سواد الصالحين، ونحسب أنها ما زالت بحاجة إلى ذلك الانتشار
والامتداد، من أجل تبليغ الرسالة، وإقامة الحجة على العباد.
ولكنها في هذه المرحلة على وجه الخصوص بحاجة أشد إلى نظرة إلى الداخل، نظرة بعمق داخل الفرد بوصفه فرداً، وداخل الأمة بعامة؛ لتنمية وترسيخ
الإيجابيات عقديّاً وعمليّاً، لتمتين قواعد البناء، والاهتمام بالنوعية، ورفع الكفاءة،
وذلك يتطلب بلا شك جهداً أكبر في تعميق جذور الدعوة الإسلامية في شتى أنحاء
الأرض؛ لكي ترسخ وتقوى ويشتد عودها، ثم تنمو نموّاً محكماً متزناً، بعيداً عن
العشوائية والارتجال.
ولعلّ من أبرز المعضلات التي تواجه الصحوة الإسلامية في مرحلتها الحالية: ضعف المَلَكة الإدارية لدى كثير من العاملين في الحقل الإسلامي، مما أدى إلى
ضعف الخطط وإغفال دراسة الأهداف القريبة والبعيدة، وبناء كثير من المشاريع
والبرامج الدعوية على غير أسس علمية، وإنما هي غالباً ردود أفعال آنية غير
مدروسة، ومجرد عواطف غير موجهة..!
إن بناء الرجال، وتوظيف الطاقات البشرية في مقدمة التصحيح الذي يتطلع
إليه المخلصون، إذ إن اكتشاف المعادن الكريمة من الرجال، وإعدادها إعداداً
متكاملاً لتحمل أعباء المسؤولية، هو القاعدة الأساس التي تبنى عليها كافة الفعاليات
والأنشطة المختلفة.
ولا شك في أنّ الصحوة الإسلامية تحوي أعداداً غير قليلة من رجالات الأمة،
ولكن نسبة كبيرة من هذه الأعداد تُعَدّ طاقات كامنة خاملة، عاجزة عن الحركة
والإنتاج فضلاً عن الابتكار والإبداع! ؛ لكونها مقيدة بآسار من التبعية والاتكالية،
فقد أنهكت السلبية والغثائية والتفلت من المسؤولية جسم الأمة الإسلامية في كثير من
قطاعاتها، وأصبحت بعض رجالات الأمة أرقاماً هامشية، لا تعْدُ أن تكون تكثيراً
لسواد الصالحين فحسب، دون أن يكون لها دور أكثر جدية في العطاء والبناء! ،
وصدق الرسول الكريم: (تجدون الناس كأبل مئة، لا يجد الرجل فيها راحلة) [1] .
لقد بدت مساحة الخير الواسعة التي امتدت فشملت قطاعات كبيرة من الأمة
أرضاً خصبة قابلة للتنمية، والاستنبات والرعاية، وبدا أبناء الصحوة محتاجين إلى
اليد التي تنقلهم من العاطفة النقية إلى الإخلاص المؤصل، ومن الثقافة العابرة إلى
العلم الراسخ، ومن العبادة الآلية إلى التنسك المخبت، ومن المشاعر الطيبة إلى
الوعي الواثق، ومن الشعارات العامة إلى الإيمان الصادق.
ونحسب أنه آن الأوان للنهوض من هذه الغفلة، والتخلص من تلك السلبية،
فإنّ المهمة الكبرى التي تواجه المصلحين والدعاة والمربين في كثير من المحاضن
التربوية: هي اكتشاف تلك الطاقات، وإعادة بناء المحاضن العلمية والتربوية
القادرة على احتوائها، وتنميتها، وتوجيهها التوجيه الأمثل، وفق خطط علمية
مدروسة، ورؤى منهجية محكمة.
إن للتربية الإيمانية المتكاملة أثراً كبيراً في بناء الطاقات، وتنميتها،
واستثمارها استثماراً مناسباً..
تأمّل حال العرب قبل الإسلام، وانظر إلى التخلف العقلي والفكري الذي كان
يسيطر عليهم، ثم انظر كيف استطاع الإسلام تكوينهم تكويناً جديداً، نقلهم من وهدة
الجاهلية وضلالها وسكرتها، إلى نور الإسلام وصفائه وإيجابيته، وأضحى رعاء
الشاء قادة للأمم كلها، حين تساقط تحت أقدامهم عرشا كسرى وقيصر.
لقد كان من أوائل ما نزَل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول الله
(تعالى) : [يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] [المزمل: 1-4] .
تتحدث هذه الآيات عن الإعداد والبناء من أجل تحمل المسؤولية العظيمة: [إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً] ... [المزمل: 5، 6] .
وكان للصحابة (رضي الله تعالى عنهم) نصيب وافر من هذه التربية الكريمة، قال الله (تعالى) : [إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ
وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
[المزمل: 20] .
إنّ إحياء الشعوب، وبناء الأمم، وصناعة الحضارات، يتطلب جهداً عظيماً، تتآلف فيه كافة الإمكانات والطاقات البشرية منها على وجه الخصوص، ولن يتم
ذلك إلا بشحذ الهمم وتقوية العزائم والسعي الحثيث لبناء الرجال.
إن الله (تعالى) اختار نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- ليكون المثل الأعلى
والقدوة الحسنة للناس كافة، [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .
فكانت سيرته العطرة منهجاً عمليّاً يعكس الحياة الإسلامية في أسمى صورها،
فقد كان الرسول-صلى الله عليه وسلم- حاكماً عادلاً، وأباً حنوناً، وقائداً موجهاً،
وداعية مخلصاً.. فالطريق الحق هو طريقه، والمنهج الكامل هو منهجه، وذلك ما
دلنا عليه الهدي الكريم في قوله (تعالى) : [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
__________
(1) أخرجه مسلم: ك فضائل الصحابة، ح/2547.(110/4)
في إشراقة آية
النفس اللوامة
د. محمد عز الدين توفيق
في هذا المقال أحاول الحديث عن بعض معاني النفس اللوامة التي أقسم الله
تعالى بها في قوله (عز من قائل) : [لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ * ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ] [القيامة: 1، 2] مستفيداً في قراءتي للآية من أبحاث علم النفس
المعاصر؛ بقصد توسيع إدراكنا لمعاني هذا القسم الإلهي، ومعرفة بعض المقاصد
التي وراء الإقسام بالنفس الإنسانية عندما تتصف بهذه الصفة (صفة اللوم) .
أسلوب القسم في القرآن الكريم:
سورة القيامة مكية بلا خلاف، وموضوعها يُعرف من أول آية فيها، ولذلك
سميت به، وهذا من براعة الاستهلال، عندما تعرف موضوع الكلام من أول جملة
تسمعها منه.
وتنضم سورة القيامة إلى مجموعة من السور القرآنية المبدوءة بالقسم، والقسم
في لغة الناس وكلامهم طريقة في تأكيد ما يخبرون به، فهم يقسمون على الخبر
لأنه صحيح، ومهم، ويترتب على جحده من طرف السامع خطر أو ضرر،
ويُقسم الشخص على كلامه إذا لمس في الناس تردداً في تصديقه، ولا يلزم أن
يكون متهماً عندهم بالكذب، فقد يكون مصدَّقاً فيهم، ولكن غرابة الخبر تدعهم في
تردد بين صدق الخبر وغرابة الخبر، فيأتي القسم ليدعم صدق الخبر ويقويه،
حتى لا يدعو استغرابه إلى التكذيب به، والذي أخبر به الرسل من أمور الغيب
غريباً على الناس وهم في عالم الشهادة؛ فيستدلون لهم بصدقهم في أمور الشهادة
أنهم صادقون فيما أخبروا به من أمور الغيب، ومن طرق الاستدلال: القسم.
يتكون أسلوب القسم من: مقسم به، ومقسم عليه، وأداة القسم، ومن أمثلة
وروده في القرآن: القسم الذي جاء في سورة العصر، والمقسم به هو: الزمان، ...
أو صلاة العصر، والمقسم عليه هو: سعي الانسان الذي يجعله اما من أصحاب
الحكم العام (الخسران) أو الاستثناء الخاص (النجاة) ، وقد تظهر لنا مناسبة بين
المقسم به والمقسم عليه، وقد لا تظهر، وفي الحالتين فإن اختيار المقسم به والمقسم
عليه وتجاورهما في أي موضع من كتاب الله لا يخلو من حكمة ومناسبة.
المُقْسَم به في القرآن الكريم:
والله يقسم في القرآن بذاته وبمخلوقاته، وقد جاء في كتابه المنزل الإقسام بهما، فمثال الإقسام بذاته فقط قوله (سبحانه) : [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] ... [النساء: 65] ، ومثال الإقسام بالمخلوقات فحسب قوله (تعالى) : [فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم ِ* وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ] [الواقعة: 75 - 79] ومثال الإقسام بهما معاً قوله ... (تعالى) : [فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *ومَا لا تُبْصِرُونَ *إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ] [الحاقة: 38 - 40] ، وهذا أعظم قسم في القرآن؛ لأن الله (عز وجل) أقسم فيه بكل شيء، ففيه الإقسام بالخالق والمخلوق، وبالغيب والشهادة وبالسماء والأرض، وبالدنيا والآخرة، وتضمن الإخبار بالغيب كله.
وإذا كان له (سبحانه) أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقد أقسم بعدد منها،
فلا بد أن تكون في اختيار المقسم به حكمة خاصة غير الحكمة العامة التي يأتي من
أجلها القسم، وهي: توكيد المقسم عليه.
وقد أبدى العلماء حكمتين للمقسم به في القرآن الكريم:
الأولى: توجيه نظر الإنسان إليه؛ لأنه آية من آيات الله، فيكون الإقسام
بتلك الآية وسيلة لتوجيه نظر الإنسان إليها وتدبر ما فيها من عبرة، وأكثر أقسام
القرآن الكريم من هذا القبيل، فجميع الآيات الكونية والنفسية التي وجه القرآن
الكريم النظر إليها بأساليب أخرى جاء الإقسام بها.
الثانية: هي التنبيه على قدر المقسم به وفضله وشرفه، كما أقسم (تعالى)
بحياة نبيه، تبياناً لشرف هذه الحياة، فإنه أشرف عمر وأبركه بين أعمار الناس،
قال (تعالى) في قصة لوط وقومه: [لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ] ... [الحجر: 72] وفي الإقسام بيوم القيامة والنفس اللوامة الحكمتان معاً؛ ففيه لفت النظر إلى الآيات المبثوثة فيهما، وفيه بيان قدر هذا اليوم وقدر هذه النفس.
المقسم عليه في القرآن الكريم:
لم يقسم في القرآن الكريم على مثل ما يقسم عليه الناس من أمور صغيرة
وتافهة، بل أقسم على القضايا الكبيرة، فأقسم على الحق الذي جاء به رسوله إلى
الناس، والله هو الحق، ولقاؤه حق، والنبيون حق، والجنة حق، والنار حق،
لقد أقسم القرآن الكريم على أعظم أركان الايمان وهو الإيمان بالله فقال (عز وجل) : [وَالصَّافَّاتِ صَفاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً *فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً*إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ]
[الصافات: 1- 4] ، وأقسم على صدق نبيه، فقال: [يس * والْقُرْآنِ الحَكِيمِ* إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ] [يس: 1 - 3] ، وأقسم على صدق القرآن وأنه حق من عند
الله، فقال: [فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ] [الذاريات:
23] ، وأقسم على صدق البعث وأنه واقع لا محالة، فقال [زَعَمَ الَذِينَ كَفَرُوا أَن
لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] ... [التغابن: 7] .
العلاقة بين المقسم به والمقسم عليه:
وحيث إن في كل قسم من أقسام القرآن مقسماً به ومقسماً عليه: فلا بد من
مناسبة بينهما، فإذا اتحد المقسم به والمقسم عليه وكانا شيئاً واحداً فالمناسبة هي هذا
الاتحاد نفسه، كما في سورتنا، حيث جعل (سبحانه) يوم القيامة مقسماً به ومقسماً
عليه. وإن اختلف المقسم به والمقسم عليه: فلا بد أن تظهر بعض المناسبات
بينهما، ففي قوله (تعالى) [وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى * والنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى * ومَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنثَى * إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى] [الليل: 1- 4] ، كانت المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه: أن الليل والنهار هما وعاء الأعمال، ولا تتصور أعمال الناس خارج الزمن، فهم يتسلمون أعمارهم أقساطاً أقساطاً، ويصنعون منها أعمالاً تيسرهم لليسرى أو للعسرى.
وفي قوله (تعالى) [وَالْعَصْرِ*إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: 1-3] أقسم (تعالى)
بالعصر، وهو الزمان أو العمر؛ لأن المقسم عليه هو سعي الانسان الذي يجعله إما
من أصحاب الحكم العام (الخسران) أو الاستثناء الخاص (النجاة) ، وقد تظهر لنا
مناسبة بين مقسم به ومقسم عليه، وقد لا تظهر، وفي هذه الحالة فإن اختيار المقسم
به، والمقسم عليه وتجاورهما في أي موضع من كتاب الله لا يخلو من حكمة، ومناسبة.
النظر في القسم الوارد في سورة القيامة:
فلننظر في القسم الوارد في هذه السورة، لننظر أولاً في هذا الحرف الذي
سبق القسم، والذي قد يفهم منه نفي القسم، وليس كذلك: وليس هذا هو الموضع
الوحيد الذي جاء فيه القسم مبدوءاً بحرف (لا) ، فقد جاء في سورة البلد [لا أُقْسِمُ
بِهَذَا البَلَدِ] [البلد: 1] ، وفي سورة الانشقاق: [فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ] [الانشقاق:
16] ، وفي سورة الواقعة [فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ] [الواقعة: 75] ، وقد اتفق
المفسرون: أن (لا) في هذه المواضع ليست لنفي القسم، بل لتأكيده، والمعنى:
(أقسم) ، وأحسن ما قيل في زيادة (لا) على الفعل: أن ذلك مشهور في كلام العرب
كأن الخبر من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى قسم، والله (تعالى) أجل
وأعظم من أن يحتاج إلى القسم ليصدقه الناس، فهو أصدق القائلين، وإنما أقسم كما
قدمنا على ما جرت به عادة الناس في كلامهم من تأكيد الكلام بالإقسام عليه، ثم قدم
حرف (لا) لينفي ضرورة القسم، وهذا أبلغ في التأكيد، كما يحدث الرجل القوم
بحديث، ثم يقول لهم: إني لست بحاجة أن أقسم لكم على ما قلت؛ فإن دلائله
ظاهرة، وصدقه لا يحتاج إلى مزيد تأكيد.
ولننظر ثانياً في المقسم به الأول، وهو يوم القيامة: وقد سُمي بيوم القيامة؛
لأن أبرز حدث يقع فيه هو قيام الناس لرب العالمين، فالبعث والحشر والحساب،
هذه المواقف الثلاثة يشهدها الناس وهم قيام، فهو يوم القيامة.
ولننظر ثالثاً في المقسم به الثاني، وهو النفس اللوامة: وكلام المفسرين في
معناها يدور حول معنيين:
الأول: أنها النفس البشرية بصفة عامة، مؤمنة أو كافرة، تقية أو فاجرة،
فإن كل نفس تلوم صاحبها على أشياء، وإنما يختلف موضوع اللوم والباعث عليه
حسبما تدين به كل نفس من مبادئ وتعتنقه من تصورات.
الثاني: أنها النفس المؤمنة: فإن نفس المؤمن هي اللوامة، تلومه على كل
فعل حتى تطمئن أنه وقع خالصاً، وهذا المعنى الثاني مشتق من الأول، فالنفس
المؤمنة تشترك مع غيرها في أصل الصفة، وتتميز بموازينها الخاصة في وضع
اللوم موضعه الصحيح، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن المعنى العام هو الأظهر؛
لأن له نظائر في أقسام أخرى، مثل القسم الوارد في سورة الشمس، حيث أقسم ... (سبحانه) بالنفس البشرية كما سواها، مؤمنة أو كافرة، تقية أو فاجرة، ونحن
سنحتفظ بالمعنيين كليهما لأنهما متكاملان، والاختلاف بينهما اختلاف تنوع لا
اختلاف تضاد، كما أن الإقسام بالنفس اللوامة إذا كانت هي النفس البشرية له معنى، وإذا كانت هي النفس المؤمنة له معنى آخر.
عندما تكون النفس اللوامة هي النفس البشرية:
عندما تكون النفس اللوامة هي النفس البشرية: فإن الإقسام بها في هذه الحالة
تنبيه على ما فيها من آيات، وخامة الآيات العقلية والمعرفية، فإن الإقسام بالنفس
البشرية وما تتمتع به من ملكات عقلية متعددة دعوة للتفكر في ذلك كله؛ ذلك أن
اللوم الذي وصفت به النفس البشرية في هذا القسم نوع من أنواع التفكر، والتفكر
إحدى عمليات العقل الداخلية المرتبطة بخاصية الفكر واللغة، فقد اتضح من أبحاث
علم النفس المعرفي أن اللغة ليست وسيلة للتخاطب الخارجي فقط، بل هي النظام
الأساس الذي يستخدمه الإنسان في التفكير أو الكلام النفسي، واللوم اتجاه من
الاتجاهات التي يسير فيها التفكر، فعندما يتجه تفكير الإنسان إلى أعماله
ولمراجعتها فهذا لوم، وتذكير الإنسان بالنفس اللوامة دعوة للنظر في آيتين:
إحداهما: آية الفكر بصفة عامة، والثانية: آية التذكر بصفة خاصة، لأن النفس
إنما تقوم بهذا اللوم بواسطتهما، وليس المجال مجال بسط ما قاله العلم الحديث في
آية الفكر، والعجز الذي أصابه عندما حاول بيان الصلة بين الجسم والعقل، فالعلم
البشري عندما يصعد من المستوى البيولوجي إلى المستوى العقلي في السلوك
الإنساني يلتقي بالتعقيد في قمته، وقد قال أحد العلماء: (إذا وفق النوع البشري في
استعمال كل وسائله الحالية لبناء كمبيوتر يمكن أن يفعل كل شيء يقوم به العقل
الإنساني سيكون هذا الجهاز بحجم كرتنا الأرضية، ولن يعرف أحد كيف سيبرمجه) .
ورغم هذا العجز الذي أصاب العلم البشري في فهم الصلة بين الفكر والسلوك، فإن القرآن الكريم دعا إلى التفكر في آيات الأنفس جسمية وعقلية؛ لأن نظر
الاعتبار غير متوقف على نظر التسخير، فإن الجهل بكيفية حدوث عمليات العقل
العليا لا يمنع من التفكر فيما يحدثه ويمارسه الإنسان، لقد وصف القرآن الكريم
النفس ب (اللوامة) ، وهذا يعني أن اللوم إحدى عملياتها، فالإنسان ليس مجموعة
من الاستجابات وردود الأفعال الآلية أو الحيوانية، ولكن الإنسان قوة حية واعية،
تفكر وتقرر وتفعل، وحياته الفكرية ممتازة في الاحتفاظ بالمعلومات إذا تم تدريبها،
وحصول التذكر المفاجئ لأحداث قديمة دليل على أن الاحتفاظ يحل في كل وقت،
أما حجم المعلومات التي تضمها سجلات الذاكرة فقد لا تتسع لها أضخم مكتبات
العالم.
والإنسان عندما يمارس حياته العادية لا يعي دور الذاكرة في حياته، ولكنه
عندما يتصور نفسه بدون ذاكرة سيعلم أنه يرتد إلى لحظة الولادة، وفي هذه الحالة
سيعجز عن أبسط الأعمال، ولن يعرف اسمه وعنوان بيته، فالذاكرة هي مدة العمر
وجرابه الذي يجمع الخبرات والمعلومات، والغريب: أننا نحمل معنا هذه الصرة
ولا نعرف أين هي، فإلى الآن لم يعرف العلماء أين تقع المراكز والأقسام التي
نحتفظ فيها بذكرياتنا، وكيف تتم برمجتها في تلك الأقسام، وهناك جملة من
النظريات تقدم تفسيرات مختلفة.
إن العلماء حائرون في معرفة تلك الورقة وذلك الحبر وتلك الحروف التى
يستخدمها عقلنا لتدوين وحفظ ما يصل إليه من معلومات، ولا زال الغموض يكتنف
مسلسل الذاكرة الثلاثي: التسجيل والاحتفاظ والاستدعاء، فلماذا يدعو القرآن الكريم
إلى النظر في آية التفكير عامة، وآية التذكر خاصة؟ ، ليس الهدف هو فهم كيفية
حدوث هذه العمليات، فهذا شأن العلوم البشرية التي تدرس الظواهر من أجل التنبؤ
والتسخير، بل الهدف هو: الاعتبار بها، سواء فهم مسلسل حدوثها أو لم يفهم.
إن هذه الملكات العقلية اللغوية ليست لحل مشكلات الحياة فقط، وليست
لمجرد التكيف مع البيئة والدفاع عن الذات والصراع من أجل البقاء، بل هناك
الوظيفة الإنسانية العليا، وهي استعمال هذه الملكات في محاسبة النفس ومراجعتها
استعداداً لحساب الآخرة.
ورغم أن الذاكرة نفسها سجل تدون فيه أعمال الانسان إلا أننا نؤمن بأن الله ... (تعالى) وكل بكل إنسان ملائكة يدونون أعماله تدوينا مستقلاً عن ذاكرته، ولا
يعرض لهذا التدوين ما يعرض للتدوين البشري من الاضطراب أو التحريف، ولأن
الإنسان لا يطلع في الدنيا على هذا التدوين الملائكي ليعرف ما فيه: جعل الله له
كتاباً -هو الذاكرة - يدون علومه واعماله، وبإمكانه الاطلاع على صفحات هذا
الكتاب في أي وقت، ولا يختلف ما فيه عما في الكتاب الآخر إلا في طريقة
التدوين.
الخلاصة: أن النفس اللوامة، إذا كان المقصود بها هو النفس البشرية،
فالإقسام بها لأجل توجيه نظر الإنسان إلى آيات الله في نفسه.
إذا كانت النفس اللوامة هي النفس المؤمنة:
وإذا كانت النفس اللوامة هي النفس المؤمنة، فالإقسام بها تنويه بقدرها
وشرفها عند الله (تعالى) ؛ لأنها وجهت ملكاتها العقلية في مجال التسخير، وهذا
تشترك فيه مع بقية النفوس، وفي مجال الاعتبار، وهذا ما تنفرد به، وبه
استحقت التنويه، هذا التنويه نالته النفس المؤمنة لأنها استشعرت هذه الملكات
الفكرية في أسمى مجال، وهو التهيؤ للقاء الله والتدرب على المحاسبة الشاملة التي
ستجرى بين يديه، فأي نفس لوامة يعني القرآن الكريم؟ .
لابد أن نتساءل هذا التساؤل؛ لأن اللوم منه ما هو إيجابي وما هو سلبي،
فالسلبي هو: اللوم العابر الذي لا أثر له، كما يلوم المرء نفسه، ويعتب عليها إذا
سمع موعظة، أو مرت به شدة، فإذا ابتعدت الموعظة وزالت الشدة انمحى أثر
ذلك اللوم، وزال وشم ذلك العتاب، فهذه ليست النفس اللوامة التي نوه بها القرآن
الكريم حتى جعلها الحق (سبحانه) مقسماً به في إحدى سوره.
أما اللوم الإيجابي: فهو اللوم الذى يستمر في النفس وتعقبه محاسبة يتبعها
تغيير، فشأننا بهذا اللوم الإيجابي، وعنه نتحدث.
كيف يبدأ اللوم في النفس:
لقد أكدت آخر الأبحاث في علم النفس المعرفي أن تغير الأفكار هو المدخل
الصحيح لتغيير أي استجابات شعورية أو خارجية، وأثبت علماء النفس المعروفون
أن كل عمل اختياري يقوم به الإنسان يسبقه نشاط فكري داخلي، وهذا نفسه ما
قرره الإسلام الذي دعا إلى البدء بتغيير هذا النشاط المعرفي الداخلي، ولقد اهتم
العلماء المسلمون - قبل علماء النفس الحديث - بالخواطر والأفكار الأولى التي
تدور في قلب الانسان قبل أن تتحول إلى قرارات وأعمال ظاهرة، وقرروا أن
القلب في نشاط دائم، وشبهوه بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولابد لها من شيء
تطحنه، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي في الرحى، وبين هؤلاء العلماء أن أحسن طريق لإحداث التغيير في الشخصية هو تغيير
الاتجاه الذي تسير فيه الخواطر والأفكار.
فما هي الفكرة المركزية التي إذا تغيرت صارت النفس لوامة؟
إنها ليست سوى فكرة الإنسان عن نفسه، حيث تتغير نظرته لأصله وغايته
ومصيره، فتتغير- تبعاً لذلك - فى (قراءاته) وتأويلاته للكون والتاريخ والمجتمع
والحياة، ويستقبل الوجود والزمان بنظرة جديدة، حتى إنه يتعجب: كيف لم يكن
يرى الأشياء من قبل كما يراها الآن رغم قرب هذه النظرة الجديدة منه، فهي في
أعماق فطرته، وهي في كل شيء، وفي نفسه، فيكون مثله كما قال الشاعر:
ومن العجائب والعجائبُ جَمّة ... قربُ الحبيب وما إليه وصول
كالعِيسِ في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
وكما قال الآخر:
ومِنْ عَجَبٍ أنّي أحِنّ إليهمُ ... وأسأل عنهم دائماً وهُمُو معي
وتطلبهم عيني وهم في سَوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
هذه اللحظة التي تنطلق فيها عملية اللوم تسمى لحظة التوبة، أو لحظة الهداية، وهي الميلاد الثاني؛ لأن به يدرك حكمة الميلاد الأول، وبين الميلادين مشابهات، ففي الميلاد الأول: يكون الرحم مغلقاً من عنقه، ولا يزال عند المخاض ينفتح
ويتسع حتى يبلغ سداه، فيخرج الوليد، وفي الميلاد الثاني: يتفتح القلب وتتسع
نافذة النور فيه، حتى يبلغ هذا النور أقصاه ويضيء أقطار القلب، فيحصل فيه
الايمان، وتحل به الهداية.
في الميلاد الأول: يتكلم الأطباء عن تقلصات للرحم تأخذ صورة نبضات
متباعدة، ولا تزال تتقارب وتتسارع حتى تزف لحظة الميلاد، وفي الميلاد الثاني
أيضاً: تبدأ ومضات متباعدة، ولا تزال تتقارب وتتسارع وتقوى حتى تبدد ظلمة
القلب، وتمزق الحجب التي تحجب عنه النور.
في الميلاد الأول: يخرج الإنسان من عالم الرحم، وهو عالم ضيق صغير
مظلم، إلى عالم واسع فسيح مضيء، وفي الميلاد الثاني: يخرج القلب من تصور
ضيق صغير مظلم إلى تصور واسع مضيء يتسع للغيب والشهادة.
وقد وصف القرآن الكريم لحظة الهداية بأنها حياة من بعد موت، ونور من
بعد ظلمة، فقال (تعالى) : [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا] [الأنعام: 122] .
ودعا كل إنسان أن يعيش هذه اللحظة ويجتاز هذه التجربة التي تشبه القَوْمة
التي تأتي بعد رقاد طويل، قال (تعالى) [قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] [سبأ: 46] .
أن تقوموا كما يقوم هذا النائم من نومه، فيسمع، ويبصر، ويعقل، وهذا لا
يعني أن الإنسان قبل الهداية لم يكن يفكر، بل كان يفكر، لكنه لم يكن يتفكر،
وكان يشاهد، لكنه لم يكن يشهد، وكان ينظر، لكنه لم يكن يعتبر، والتفكير غير
التفكر، والمشاهد ة غير الشهود، والنظر غير الاعتبار.
التفكر (هذه العملية العقلية السامية) يستفيد من كل عمليات التفكير لكنه
يختلف عن التفكير المعتاد في كونه لا يسعى الى حل مشكلات، بل إلى الاعتبار
بآيات، فالمعارف والإدراكات التي اكتسبهما الشخص بوسائله المعرفية هي نفسها
مادة هذا التفكر.
بداية النفس اللوامة: يقظة تشتغل منها الوظيفة الإنسانية للسمع والبصر ... والفؤاد، فيخرج الإنسان من دائرة الذين قال الله فيهم [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] [الأعراف: 179] .
إنما نفى عنهم في حال الغفلة الوظيفة الإنسانية للأعين والآذان والقلوب ولم
ينف الوظيفة الحيوانية (الفسيولوجية) .
وأول ثمرات هذه القوَْمة: هو النظر فيما سلف من الإساءة وما تقدم من
التقصير، وكان قبل ذلك غافلاً عنه، ناسياً له [ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ
فَأَعْرَضَ عَنْهَا ونَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ] [الكهف: 57] .
وكيف ينسى أو يغفل الآن ومعه فكرة وبصيرة وعزم؟ ! .. ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ .. وإن الفاجر يمضي قُدُماً ما يعاتب نفسه.
وهذه المحاسبة، هل تكون قبل العمل أو بعده؟ ... الصحيح أنها قد تكون
قبل الفعل أو بعده، وقد ذكر (سبحانه) عن المتقين أنهم يتذكرون قبل الفعل، أو
يتذكرون بعده، قال (سبحانه) في لومهم أنفسهم بعد الفعل: [والَّذِينَ إذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] [آل عمران: 135] ، وقال (عز وجل) في لومهم أنفسهم قبل الفعل [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ] [الأعراف: 201] .
واللوم الذي يكون قبل الفعل أنفع من الذي يكون بعده؛ لأن الأول يعترض
السوء وهو لازال خاطرة أو فكرة، بينما يمنع الذي يكون بعد الفعل من تكراره فقط.
اللوم حراسة للفضاء النفسي:
ويمكن تشبيه اللوم قبل الفعل بالحراسة التي تضربها الدول على مجالها
الجوي، فترغم كل طائرة غريبة على الانسحاب، وسماء الفكر لدى الإنسان
مستهدفة في كل لحظة بخواطر كثيرة: إلهامات ووساوس، فإذا كانت للقلب حراسة
فإنه يأذن لخواطر الخير، ويمنع خواطر السوء، كلاهما يجول في الصدر ينتظر
الإذن بالهبوط، فيؤذن لإلهامات الملك وتطرد وساوس الشيطان.
وإذا أردنا أن نُفَصل هذا المثل أكثر نقول: إن الخاطرة الطارئة تثير
رادارات القلب، فيستدعي كافة المعلومات اللازمة لإصدار القرار، وتجري
مشاورات مع الأقسام المختصة تنتهي بإصدار حكم على هذه الخاطرة، يكون أساس
الرفض أو القبول.
اللوم مناعة روحية:
كان ذلك تشبيهاً (عسكرياً) ، ويمكن أن نستعير تشبيها آخر من عالم
البيولوجيا والطب يقرب إلينا دور اللوم الذي تقوم به النفس قبل الفعل، فمعروف
أن الجسم يملك جهازاً دفاعياً يحميه من هجوم الجراثيم، ويتكون هذا الجيش من
كتائب، هي عبارة عن مجموعات من الخلايا البيضاء الحية تدور في الجسم
وتحاصر المهاجمين وتدمرهم، ومع تكرار المعارك يتكون في الدم ما يشبه
(المضادات الحيوية) التي تكون خط مناعة يمنع الجراثيم من اختراق الجسم
والدخول فيه، وكذلك اللوم: إذا تكرر أفرز شبيهاً بخط المناعة ذاك، يمنع
الوساوس والخواطر من أن تلج وتتحول إلى أفعال.
نسأل الله أن يقينا مواضع الزلل، ويرزقنا النفس اللوامة التي تحرس
جوارحنا من مضلات الفتن.(110/8)
دراسات شرعية
مقدمة في التنوع المشروع
(صفة الصلاة أنموذجاً)
(1 من2)
بقلم: سلمان بن عمر السنيدي
مدخل:
العبادات التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنواع، لا يلزم أن
يرجح نوع منها دون غيره بلا مرجح؛ أو يفعل واحد منها مع هجر الأنواع
الأخرى، بل كمال العمل بالسنة: أن يفعل ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-
من أنواع العبادات على الصفة التي فعلها من غير كراهة لشيء من ذلك، قال شيخ
الإسلام تأكيداً لهذا الأمر: (العبادات التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- على
أنواع، يشرع فعلها على جميع تلك الأنواع، لا يكره منها شيء، وذلك مثل:
الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة؛ وأنواع القراءات التي أنزل القرآن عليها،
ومثل الترجيع في الأذان وتركه، ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها، وإن قيل إن بعض
تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يفعل هذا تارة
وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين وهجر الآخر كالاستفتاح ... فجميع ما
شرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- له حكمة ومقصود؛ فلا يهمل ما شرعه من
المستحبات) [1] .
وقال (رحمه الله) : (الصواب: مذهب أهل الحديث ومَن وافقهم، وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي؛ لا يكرهون شيئاً من ذلك؛ وليس لأحد أن يكره ما سن رسول الله؛ والوسط: أنه لا يكره هذا ولا هذا، ومن تمام
السنة في هذا: أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا في مكان وهذا في مكان؛ وهذا
أصل مستمر في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها) [2] .
ولابن القيم (رحمه الله) كلام نفيس عند ذكر منهجه في تأليف كتابه (زاد المعاد
في هدي خير العباد) ، قال (رحمه الله) : (وليس مقصودنا إلا ذكر هديه -صلى الله
عليه وسلم- الذي كان يفعله هو؛ فإنه قبلة القصد وإليه التوجه في هذا الكتاب،
وعليه مدار التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله شيء؛
ونحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز وما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هدي
النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكمل الهدي وأفضله) [3] .
وذكر الشوكاني ما يشبه القاعدة في ذلك، فقال: (والحق إن صح تعدد الواقعة: أن الأحاديث المشتملة على زيادة يتعين الأخذ بها؛ لعدم منافاتها للمراد) [4] .
وقد أكد الشاطبي في الموافقات على التوسط في ذلك، وهو تحري الأعم
الأغلب والأكثر والمداومة على ما هو مشهور وإن كان العمل على وفق الآخر لا
حرج فيه، وقد حذر من ملازمة العمل النادر، فقال: (أما لو عمل بالقليل دائماً
للزمه أمور:
أحدها: المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها، وفي مخالفة السلف الأولين
ما فيها.
والثاني: استلزام ترك ما داوموا عليه، إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف
هذه الآثار، فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه.
والثالث: أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه؛
إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال؛ فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد، فالحذر الحذر من مخالفة الأولين! ؛ فلو كان ثم فضل ما، لكان الأولون أحق به، والله المستعان) [5] .
وتعليقاً على حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قال فيه: (لا يجعل أحدكم
للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن حقّاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد
رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ينصرف عن يساره) ، يقول ابن المُنيّر:
(وفيه أن المندوبات قد تنقلب مكروهات إذا رفعت عن رتبتها؛ لأن التيامن مستحب
في كل شيء، أي من أمور العبادات، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه: أشار إلى كراهيته) [6] .
متى يكون التنوع مشروعاً؟
يشترط للعمل بالتنوع بين الصفات المتعددة في أي عبادة شرطان:
الأول: صحة الدليل الذي يفيد نوعاً من الصفات المشروعة في العبادة.
الثاني: خلو المسألة من تعارض لا يقبل التنوع، فيصار إلى ترجيح إحدى
الصفات؛ وهذا يكون غالباً إذا كانت الحادثة لم تقع إلا مرة واحدة واختلفت فيها
الروايات، فلا سبيل إلى التنوع؛ بل لا بد من الترجيح لأحد الوجهين أو الصفتين، فإن وجود التعارض صارف لوجود التنوع؛ يقول الشاطبي (رحمه الله) : (وهو
واضح في أن العمل العام هو المعتمد، على أي وجه كان، وفي أي محل وقع،
ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل، ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير ...
وبسبب ذلك: ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين، فلا يسامح
نفسه في العمل بالقليل، إلا قليلاً، وعند الحاجة، ومس الضرورة، إن اقتضى
معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل، أو عدم صحة في الدليل، أو احتمالاً لا
ينهض به الدليل أن يكون حجة، أو ما أشبه ذلك) [7] ، ويقول شيخ الإسلام ابن
تيمية (رحمه الله) : (إن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة
أثراً يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله) [8] .
مراتب التنوع المشروع من حيث الطريق الذي جاء به التنوع:
المرتبة الأولى:
ما دل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- على تنوعه وجاء في رواية
واحدة، ومثاله: تنوع القراءات الوارد في حديث عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم، حيث قرأ كل واحد منهما سورة الفرقان بقراءة مختلفة عند رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فقال لكل واحد منهما: (هكذا أنزلت) [9] .
المرتبة الثانية:
ما دل قول الصحابي على مشروعية كلا النوعين، ومثاله: ما رواه ابن
مسعود (رضي الله عنه) من تنوع انصرافه -صلى الله عليه وسلم- من القبلة بعد
انقضاء الصلاة عن اليمين وعن الشمال، حيث قال (رضي الله عنه) : (قد رأيت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ينصرف عن شماله) [10] ، ومفهوم
كلامه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعل كلا النوعين.
المرتبة الثالثة:
ما انفرد صحابي أو أكثر بذكر نوع من هديه -صلى الله عليه وسلم-،
وانفرد غيره بذكر نوع آخر، ومثاله: تنوع الأذان، وتنوع التشهدات في الصلاة،
وعامة التنوعات من هذا المرتبة.
مراتب التنوع المشروع من حيث درجة التنوع:
يمكن تقسيم التنوع المشروع بحسب درجة التنوع إلى ثلاث مراتب، كما يلي:
المرتبة الأولى:
التنوع المطلق، وهو ما يتساوى فيه الفضل بين الأنواع، قال شيخ الإسلام
ابن تيمية (رحمه الله) : (فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد شرع تلك
الأنواع، إما بقوله وإما بعمله، وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض: كانت
التسوية بينها من العدل، والتفضيل من الظلم؛ وكثير مما تتنازع الطوائف من
الأمة في تفاضل أنواعه لا يكون بينها تفاضل، بل هي متساوية، وقد يكون ما
يختص به أحدهما مقاوماً لما يختص به الآخر، ثم تجد أحدهم يسأل: أيهما أفضل
هذا أو هذا؟ ، وهي مسألة فاسدة؛ فإن السؤال عن التعيين فرع ثبوت الأصل،
فمن قال: إن بينهما تفاضلاً حتى نطلب عين الفاضل!
والواجب أن يقال: هذان متماثلان؛ أو متفاضلان، وإن كانا متفاضلين:
فهل التفاضل مطلقاً، أو فيه تفصيل، بحيث يكون هذا أفضل في وقت، وهذا
أفضل في وقت؟) [11] .
المرتبة الثانية:
تنوع يكون فيه أحد الأنواع أفضل؛ لكونه أشهر وأكثر استعمالاً، ويؤخذ ذلك
من وصف الصحابة لفعله -صلى الله عليه وسلم-، أو ما نقل من فعل الصحابة
وهديهم، أو ما اشتهر من فعل السلف الصالح وطريقتهم السائرة.
واختلفت تسمية هذا الفرق بين النوعين عند الفقهاء، وفيما يلي بعض أقوالهم
التي توضح اختلاف تسميتهم:
فمنهم من (يسمي المشهور: السنة المؤكدة، وغيره: غير المؤكدة) [12] .
ومنهم من (يسمي السنة: ما واظب عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-،
والمستحب: ما فعله مرة، أو مرتين، أو أحياناً، ولم يواظب عليه) ، نُقل ذلك عن
القاضي حسن والبغوي والخوارزمي من الشافعية [13] .
ومنهم من (يسمي السنة: ما واظب -صلى الله عليه وسلم- على فعله مع
تركٍ ما بلا عذر، وما لم يواظب عليه: مندوباً ومستحبّاً وإن لم يفعله بعدما رغّب
فيه) [14] .
وقال ابن الهمام (رحمه الله) : (حديث (من ثابر على ثنتي عشرة ركعة ... ) ، إنما يصلح دليل الندب والاستحباب لا السنة؛ لما عرفت أن السنة لا تثبت إلا
بنقل مواظبته) [15] .
وأما عن وصف الصحابة (رضي الله عنهم) صلاة النبي: (أنه كان يفعل كذا
... ) فيقول ابن دقيق العيد: (كان) تشعر بكثرة الفعل أو المداومة، وقد تستعمل
في مجرد وقوعه) [16] .
قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (يستحب بعض المأثور ويفضل على بعض إذا
قام دليل يوجب ذلك التفضيل ولا يكره الآخر) [17] .
وقد أشار الشاطبي (رحمه الله تعالى) إلى هذه المرتبة: حيث إن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قد يكون فعله في عبادةٍ ما مستمرّاً على طريقة معينة، ولكنه يُؤثِر
أحياناً قليلة فعلاً مخالفاً للأول، إما من جهة الكثرة أو الوقت أو الحال، فيتبعه في
ذلك الصحابة والسلف الصالح، وحكمه الذي ينبغي فيه: الموافقة للعمل الغالب
كائناً ما كان؛ وترك القليل أو تقليله حسبما فعلوه، ولا بد من تحري ما تحروا
وموافقة ما داوموا عليه، وإن فرض أنه يقتضي التخيير؛ فعملهم إذا حقق النظر
فيه لا يقتضي مطلق التخيير؛ بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة
وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه، وأما الأئمة والعلماء والفضلاء
المقتدى بهم: فإن هؤلاء منتصبون لأن يقتدى بهم فيما يفعلون، فيوشك أن يعتقد
بهم الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوماً عليه أنه واجب، وسد الذرائع مطلوب
مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع [18] .
وقد يفعل المرجوح أحياناً لمصلحة راجحة، وعن ذلك يقول شيخ الإسلام:
(قد يكون ترك المستحبات لغرض راجح أفضل من فعله، بل الواجبات كذلك،
ومعلوم أن ائتلاف الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو تركها
المرء لائتلاف القلوب كان ذلك مستحبّاً، ويكون فعله أفضل إذا كانت مصلحة
ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب، ولو كان أحدهما أفضل لم يجز أن
يُظلم من يختار المفضول، ولا يذم، ولا يعاب، بإجماع المسلمين، ولا يجوز
التفرقة بذلك بين الأمة، ولا أن يعطى المستحب فوق حقه، فإنه قد يكون من أتى
بغير ذلك المستحب من أمور أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير؛ ولا يجوز أن
تجعل المستحبات بمنزلة الواجبات بحيث يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه خرج
من دينه، أو عصى الله ورسوله) [19] .
المرتبة الثالثة:
التنوع المقيد، وهو ما يكون فيه أنواع مشروعة تفعل للحاجة، أو للتعليم،
أو لبيان الجواز.. ونحو ذلك، كما علم جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أوقات الصلاة، فصلى به في أول الوقت وفي آخر الوقت [20] .
وقسم الشاطبي اختلاف أفعاله -صلى الله عليه وسلم- إلى قسمين:
الأول: أن يكون له سبب، كتأخير صلاة الظهر للإبراد، وحكم هذا النوع:
أن يتبع السبب.
الثاني: ألا يتبين لذلك سبب [21] ، فيجعل فعله -صلى الله عليه وسلم-
حادثة عين لا يقاس عليها، كالخاص به.
أقسام المَوَاطن من حيث اجتماع الأنواع فيها وعدمه:
القسم الأول:
مواطن لا تجتمع فيها الصفات المتنوعة، بل ينوب بعضها عن بعض، فيأتي
الإنسان مرّة بصفة، ومرّة أخرى بصفة أخرى، مثل: أنواع الأذان، وأنواع
التشهدات.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن
يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد: لا يمكنه أن يأتي
بتشهدين معاً، ولا بقراءتين معاً، ولا بصلاتي خوف معاً، وإن فعل ذلك مرتين
كان ذلك منهيّاً عنه، فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة، ومكروه أخرى ... ،
وذلك من وجوه:
الوجه الأول: ليس سنة، بل خلاف المسنون؛ فإن النبي -صلى الله عليه
وسلم- لم يقل ذلك جميعه جميعاً، وإنما كان يقول هذا تارة وهذا تارة، إن كان
الأمران ثابتين عنه فالجمع بينهما ليس سنة، بل بدعة وإن كان جائزاً.
الوجه الثاني: أن جمع ألفاظ الدعاء والذكر الواحد على وجه التعبد مثل جمع
حروف القراء كلهم على سبيل التلاوة والتدبر بدعة مكروهة قبيحة، إلا على سبيل
الدرس والحفظ.
الوجه الثالث: أن الأذكار المشروعة أيضاً لو لفّق الرجل له تشهداً من
التشهدات المأثورة فجمع بين حديث ابن مسعود وصلواته وزاكيات تشهد عمر
ومباركات ابن عباس، بحيث يقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات
والمباركات والزاكيات، لم يشرع له ذلك، ولم يستحب؛ فغيره أولى بعدم
الاستحباب.
الوجه الرابع: أن هذا إنما يفعله من ذهب إلى كثرة الحروف والألفاظ، وقد
ينقص المعنى أو يتغير بذلك، ولو تدبر القول لعلم أن كل واحد من المأثور يحصل
المقصود وإن كان بعضها يحصله أكمل، فإنه إذا قال: ... (اللهم صلِّ على محمد
وآل محمد) ، أو قال: (اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته) ، فأزواجه وذريته
من آله بلا شك، أو هم آله، فإذا جمع بينهما وقال: (على آل محمد، وأزواجه
وذريته) لم يكن قد تدبر المشروع.
فالحاصل: أن أحد الذكرين، إن وافق الآخر في أصل المعنى، كان كالقراءتين اللتين معناهما واحد وإن كان المعنى متنوعاً: كان كالقراءتين المتنوعتي المعنى، وعلى التقديرين: فالجمع بينهما في وقت واحد لا يشرع، وأما الجمع في صلوات الخوف أو التشهدات أو الإقامة أو نحو ذلك بين نوعين: فمنهي عنه باتفاق المسلمين) [22] .
القسم الثاني:
مواطن يشرع للإنسان فيها صفة يفعلها أحياناً، ويتركها أحياناً، مثل ارتفاع
صوته بالقراءة بالآية والآيتين فيما حقه الإسرار، فيكون المشروع فيها يدور بين
الفعل والترك.
القسم الثالث:
مواطن يمكن للإنسان أن يأتي بالصفات المتعددة المشروعة بعد إتيانه ... بالواجب، مثل: أذكار الركوع، وأذكار السجود.
اهتمام العلماء بالتنوع المشروع:
لقد اهتم العلماء بالتنوع المشروع: ففي طبقة الصحابة (رضي الله عنهم)
كانوا يقرؤون القرآن بقراءات متنوعة كما سمعوها من النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقرهم على ذلك التنوع، فعن عمر بن
الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة
رسول الله؛ فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، فكدت أساوره [23] في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته برادئه [24] ، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ ، قال:
أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: كذبت [25] ، فإن رسول الله
قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها؛ فقال
رسول الله: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعت يقرأ، فقال
رسول الله: كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني،
فقال رسول الله: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما
تيسر منه) [26] .
وكذلك أنكر عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) من يستمر على صفة واحدة
في موطن شُرع فيه التنوع، وجعل ذلك من مكر الشيطان بالإنسان؛ حيث ألزم
نفسه بعمل لم يلتزمه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال (رضي الله عنه) : (لا
يجعل أحدكم نصيبِاً للشيطان من صلاته: ألا ينصرف إلا عن يمينه، وقد رأيت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ينصرف عن شماله) [27] .
ولقد اختلف اهتمام العلماء بالتنوع المشروع، فأخذ صوراً متعددة:
فابن خزيمة (رحمه الله) في صحيحه يعبر عن التنوع المشروع بتعبير آخر،
فيقول في باب ترجيع الأذان: (وهذا من جنس اختلاف المباح؛ فمباح أن يؤذن
فيرجع في الأذان ويثني الإقامة، ومباح أن يثني الأذان ويفرد الإقامة؛ إذ قد صح
كلا الأمرين من النبي) [28] ، وأورد أربعة مواطن يعبر عنها بالاختلاف المباح
في كتاب الصلاة من صحيحه.
وأما محمد بن رشد القرطبي (رحمه الله) فيذكر في ذلك ما يشبه القاعدة،
فيقول: (فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض) ،
ويعلق على من ذهب مذهب التخيير بينها بأنه قول حسن [29] .
أما ابن تيمية (رحمه الله) فقد أخذ اهتمامه بالتنوع المشروع صوراً عدة: منها: حثه على الأخذ بالتنوع المشروع وعدم كراهيته شيئاً من ذلك، وجعلها ك القاعدة العامة.
ومنها: بيانه أن الأخذ بهذه القاعدة يجعل كثيراً من اختلاف المذاهب يزول،
ويبقي اختلاف اختياراتهم بين السنن المشروعة، وذلك طريق إلى اجتماع الأمة
بموافقة هديه؛ حيث إن السنة مقرونة بالجماعة.
وذكر (رحمه الله) وجوهاً خمسة تدعو إلى التنوع المشروع، وأنه أفضل من
المداومة على نوع واحد، وتقدم ذكره لأربعة وجوه تدل على ضعف الجمع في
عبادة واحدة بين نوعين في وقت واحد، وذكر اثني عشر موضعاً للتنوع المشروع، جمعها في قوله: (جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة
أثراً يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع
صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان: الترجيع وتركه، ونوعي الإقامة: شفعها
وإفرادها، وفي أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات،
وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع صلاة الجنازة، وسجود
السهو، والقنوت قبل الركوع وبعده، والتحميد: بإثبات الواو وحذفها، وغير ... ذلك) [30] .
أما الشاطبي (رحمه الله) فقد أفرد المسألة الثانية عشرة من كتاب الأدلة
الشرعية في الموافقات لذلك، فقال: (كل دليل شرعي لا يخلو:
أ- أن يكون معمولاً به في السلف المتقدمين دائماً أو أكثريّاً.
ب- أو لا يكون معمولاً به إلا قليلاً أو في وقت ما.
ج- أو لا يثبت به عمل) [31] .
ثم أكد المثابرة على ما هو الأعم والأكثر من عمل السلف المتقدمين وإن كان
العمل على وفق الآخر لا حرج فيه، ثم ذكر أمثلة على ذلك، وقد تميز بذكر لوازم
المداومة على العمل القليل [32] .
أما ابن مفلح (رحمه الله) فينقل ما يشبه القاعدة في ذلك عن شيخه تقي الدين
في تنوع الاستفتاح: (قال شيخنا: الأفضل أن يأتي بكل نوع أحياناً، وكذا قاله في
أنواع صلاة الخوف وغير ذلك، وأن المفضول قد يكون فاضلاً لمن انتفاعه ... به أتم) [33] .
ويعلق المرداوي موضحاً السبب في ذلك التنوع، فيقول: (وهو الصواب؛
جمعاً بين الأدلة) [34] .
وأما الشوكاني (رحمه الله) فإنه يوافق ابن تيمية في قاعدة الأخذ بالسنن
وتنوعها دون هجر بعضها أو اختيار نوع دون غيره، وأكد على الأخذ بالأحاديث
المشتملة على زيادات ثابتة، ولا يصار إلى الترجيح إلا إذا كانت الحادثة ... واحدة [35] .
أما من العلماء المعاصرين:
فإن المحدث محمد ناصر الدين الألباني (حفظه الله) له في ذلك كتاب قيم هو
(صفة صلاة النبي) ضمنه جل الصفات المتنوعة في الصلاة من التكبير إلى التسليم، دون ذكر الأذان والإقامة والأذكار بعد السلام وصلاة الخوف، وأما صفات الصلاة
على الميت: فذكرها في كتابه الجنائز، وفي كتاب صفة الصلاة ذكر الأحاديث
دون ذكرٍ لاختيارات الفقهاء، متمثلاً القاعدة التي أكدها في مقدمة كتابه، وهي:
الأخذ بجميع السنن الثابتة دون هجر شيء منها، وكان يعبر عن تفاوت التنوع في
هديه -صلى الله عليه وسلم- بكلمات، منها قوله: (وتارة يفعل) ، و (ربما يقول) ،
و (أحياناً يفعل) .. حيث ترك للقارئ تمييز المشهور من السنة: الأكثر فعلاً من
النادر أو الأقل فعلاً، وذكر في كتابه اثني عشر موطناً يشرع فيها التنوع.
وأما سماحة الشيخ (عبد العزيز بن باز) (حفظه الله) : ففي كتابه (صفة صلاة
النبي) على صغر حجمه، ذكر خمسة مواطن تتنوع فيها الصفات المشروعة،
وقال مبيناً القاعدة في ذلك: (لثبوت الصفتين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-،
الأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة) [36] .
وأما الشيخ (محمد بن صالح العثيمين) (حفظه الله) : فقد أخذ اهتمامه بالصفات
المتنوعة في الصلاة تقسيمه للعلماء تجاه العبادات الواردة على وجوه متنوعة، فذكر
من يرى أن الأفضل الاقتصار على واحدة، ومن يرى فعل جميعها في أوقات شتى، ومن يرى جمع ما يمكن جمعه، وصحح القول الثاني، ومن جملة اهتمامه: ذكره
فوائد لفعل العبادات الواردة على وجوه متنوعة، وقال: (وهذه قاعدة ينبغي لطالب
العلم أن يفهمها: أن العبادات إذا وردت على وجوه متنوعة فإنها تفعل على هذه
الوجوه، على هذا مرة، وعلى هذا مرة) [37] .
__________
(1) الفتاوى، 22/335، وانظر أيضاً: 24/246.
(2) الفتاوى، 22/66 99.
(3) زاد المعاد، 1/275.
(4) نيل الأوطار، 3/328.
(5) الموافقات، 3/70 71.
(6) فتح الباري، 2/338.
(7) الموافقات، 3/67 70.
(8) الفتاوى، 24/242.
(9) رواه البخاري، ح/4992.
(10) رواه البخاري، ح/852، ومسلم ح/707.
(11) الفتاوى، 24/252.
(12) انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم، 1/171.
(13) انظر: الإشارات شرح نظم الورقات، للشيخ عبد الحميد محمد، ص 11، وكذلك المجموع للنووي، 4/2.
(14) انظر: التحرير، ص 303، لابن الهمام.
(15) انظر: فتح القدير، 1/442.
(16) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ج1، ص 230.
(17) الفتاوى، 24/243.
(18) انظر: الموافقات، 3/57 61.
(19) الرسالة الثامنة من مجموع الرسائل المنيرية، ج3 /146.
(20) رواه مسلم والترمذي والنسائي.
(21) انظر: الموافقات، 3/65.
(22) انظر: الفتاوى، 24/243، بتصرف.
(23) قال ابن حجر: (أي: آخذ برأسه، ووقع في رواية مالك: (أن أعجل عليه [، الفتح 9/25.
(24) قال ابن حجر: (أي: جمعت عليه ثيابه، لئلا يتفلت مني) ، الفتح 9/ 25.
(25) قال ابن حجر: (المراد بقوله: (كذبت) أي: أخطأت، لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ) ، الفتح 9/25.
(26) رواه البخاري، ك 66 ب5، ح/4992.
(27) رواه البخاري، ح/852، ومسلم، ح/707.
(28) صحيح ابن خزيمة، 1/194.
(29) بداية المجتهد، 1/136.
(30) الفتاوى، 24/242.
(31) الموافقات، 3/56.
(32) انظر: الموافقات، 3/70.
(33) انظر: الفروع، 1/413.
(34) انظر: الإنصاف، 2/47.
(35) انظر: نيل الأوطار، 3/328.
(36) انظر: ص 8 من (صفة صلاة النبي) .
(37) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، 3/36، ومنظومة في أصول الفقه وقواعد فقهية، الأبيات 44، 45، ودروس في الحرم المكي، عام 1408 هـ، ص 57.(110/20)
دراسات اقتصادية
آراء وتأملات في فقه الزكاة
(1)
بقلم: د. محمد بن عبد الله الشباني
يتميز الإسلام بمنهجية متفردة، حيث يعمل على تحقيق التوازن بين الحاجات
المادية والروحية، ضمن تنظيم يعطي للحياة الدنيا دورها والآخرة دورها، بدون
تفريط ولا إفراط، [وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ]
[القصص: 77] ، [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ] [الأعراف: 32] .
تتمثل هذه المنهجية في الاهتمام بالفرد باعتباره مناط التكليف، لذلك: فقد
وضع قواعد وسن شرائع تمثل في مجموعها نمطية السلوك الذي ينبغي على
الإنسان المسلم التزامه، حتى تتحقق خلافته لله في الأرض، كما يريدها الله، وفق
العهد الذي أخذه الله على بني آدم.
يتميز دين الإسلام بأنه الدين الذي جمع في إهابه الواجبات التي ينبغي للفرد
القيام بها تجاه خالقه، والواجبات التي عليه القيام بها تجاه أخيه الإنسان، فتنتظم
الحياة الإنسانية، فلا يكون انفصال بين متطلبات الحياة الآخرة ومتطلبات الحياة
الدنيا، وإنما هناك رابط يجمع بينهما.
من الشواهد على حقيقة الارتباط بين عبادة الله وأداء الحقوق المالية تجاه
المجتمع: ما نجده من اقتران الصلاة والزكاة في آيات القرآن الكريم، حيث نلاحظ
أن الصلاة، التي هي الشعيرة المحسوسة لتأكيد خضوع الإنسان لله تقرن دائماً
بالزكاة، التي تمثل الجانب المالي في تنظيم المجتمع، يقول الله (تعالى) : ... [وَأََقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] [البقرة: 43] ، ويقول: [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً] [مريم: 31] .
الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهو الركن الذي لا يصبح
الإنسان مسلماً حقّاً إلا إذا أداه، فهي واسطة العقد، وهي الرابطة بين صحة
الاعتقاد والعبادة، فالصلاة والصيام والحج عبادات بدنية، والزكاة تمثل جسر
الإيمان الذي يربط بين ظواهر ومؤشرات ودلائل الاعتقاد.. وواقع الحياة، حيث
يتحقق التلازم بين الاعتقاد والعبادة من جانب، والتكافل الاقتصادي لأفراد المجتمع
من جانب آخر، فيتحقق مفهوم الإسلام الذي يقوم على أساس أن الدين لا ينفصل
عن واقع الحياة، وأنه يعمد إلى إسعاد الناس في حياتهم الدنيا كما يسعدهم في
حياتهم الآخرة.
إن دور الزكاة في تحقيق التوازن الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي دور مهم، لكن واقع المجتمعات الإسلامية في هذا العصر لا يعطي لهذا الأمر أهمية، فتُرك
الأمر للأفراد في تأدية الزكاة، وغُيِّر وجهها، واستبدلت الضرائب وغيرها من
وسائل الجباية بالزكوات، وأصبحت التنظيمات المالية الحالية لا تعطي أهمية لدور
الزكاة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والتكافل الاجتماعي، وتحقيق ما ينادي به
الاقتصاديون المعاصرون من إقامة دولة الرفاهية، فحلت الأنظمة المالية القائمة
على النظام الربوي محل النظام المالي الإسلامي، الذي يقوم على منهج مغاير للفكر
الفلسفي الذي تقوم عليه التنظيمات المالية المطبقة حالياً، والمقتبسة من النظام ... الغربي [1] .
المفهوم السائد لدى كثير من الناس عن الزكاة أنها نوع من التصدق لا علاقة
لها بتنظيم شؤون الدولة المالية، وليست جزءاً من التنظيم الاجتماعي، وبالتالي:
فإن الزكاة هى جزء من التراث الأخلاقي الذي لا يمكن أن يقوم عليه البناء المالي
للمجتمع، هذا المفهوم الخاطئ يرجع في أساسه إلى عدم فهم حقيقة الزكاة، والجهل
التام بالتراث الفقهي المالي، مما ينتج عنه هذا المفهوم القاصر لدور الزكاة في
المجتمعات الإسلامية.
إن الزكاة هي التنظيم المالي الوحيد في التشريعات المالية التي عرفها البشر
المخصصة للإنفاق على احتياجات الأفراد الذين لا يجدون كفايتهم، ولم تقتصر
الزكاة على نوع معين من الدخل، بل شملت كل مصادر الدخل، كما أنها تميزت
بشمولية المشاركين في دفعها، حيث ظلت الحد الأدنى الذي إذا بلغه المال وجبت
فيه الزكاة، مع ملاحظة طبيعة المال، فربطت وجوب الزكاة في بعضه على مرور
الحول مثل النقدين والتجارة والأنعام، وبعضه الآخر في تاريخ تحققه مثل الزروع
أو الركاز أو المعادن.
إن الزكاة هي التنظيم المالي القادر على تحقيق التوازن الاقتصادي في
المجتمع، والتقليل من التفاوت بين مختلف الأفراد والجماعات، وغرس روح
التعاطف والمودة بين مختلف الأفراد، لذا: فلا بد من معرفة أحكامها وكيفية تحديد
وعائها، ومقدارها حسب الأموال التي تجب فيها، وحسب واقع الأنشطة
الاقتصادية المعاصرة، والتي تعددت وتنوعت، وما صاحب ذلك من ازدياد حجم
الثروات ووسائل تبادلها، مع بروز أشكال من الأعمال الاقتصادية لم تكن معروفة
في الماضي؛ مما يوجب دراستها وبيان التخريج الفقهي الملحِق لها بنوع المال الذي
ورد فيه النص، وبالتالي: مقدار نصاب زكاتها والأحكام المتعلقة بذلك.
إن الغاية من نشر هذه المجموعة من الحلقات هو دراسة ومناقشة أحكام الزكاة
المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية المعاصرة، التي من أمثلتها: مزارع الدواجن،
والخضروات، والعقارات، والمصانع، والمناجم، وشركات الخدمات، ومقاولات
البناء، والصيانة.. وغير ذلك من الأنشطة الاقتصادية التي يثور حولها كثير من
التساؤلات فيما يتعلق بكيفية تحديد زكاتها.
مفهوم الزكاة وشمولها:
لفهم أحكام الزكاة باعتبار أنها الركن الثالث من أركان الإسلام: لا بد من
تحديد معنى الزكاة لغة، حيث يفيد اللفظ معنى النماء والزيادة، فأصل (الزكاة) :
من زكا الشيء، إذا نما وزاد، وفي لسان العرب: فإن الزكاة تعني الطهارة والنماء
والبركة، ولقد وردت هذه المعاني في القرآن والحديث، أما المفهوم المرتبط بالمال
وفق المدلول الشرعي فيوضحه ابن قدامة بقوله: (الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة، سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه، يقال: زكا الزرع إذا كثر ريعه، وزكت
النفقة إذا بورك فيها، وهي في الشريعة: حق يجب في المال، فعند إطلاق لفظها
في موارد الشريعة ينصرف إلى ذلك) [2] .
من الألفاظ الدالة على الزكاة وفق المفهوم الشرعي التي إذا استخدمت عُرف
أن المقصود هو الركن الثالث من أركان الإسلام: لفظ (الصدقة) ، ولتداخل المعنى
بين لفظي الصدقة والزكاة، فقد حدد الإمام الماوردي معنى التطابق للفظين، فهو
يقول: (الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، ويفترق الاسم ويتفق المسمى) [3] .
ويؤكد هذا المفهوم (ورود لفظ الصدقة بمعنى الزكاة) ما جاء في القرآن الكريم، حيث جاءت آيات الصدقة وقصد بها الزكاة، كما في قوله (تعالى) : [خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] [التوبة: 103] ، وقوله: [وَمِنْهُم مَّن
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ]
[التوبة: 58] .
لكن العرف صرف معنى الصدقة، فأصبحت عنواناً على التطوع، وما تجود
به النفس على المتسولين وغيرهم، وأصبح لا يُدرَك مدلول الآيات القرآنية لدى
عامة الناس عند تلاوتها، حيث ارتبط مفهوم الصدقة بالتطوع لا بالإلزام والوجوب.
إن دلالة لفظ (الصدقة) يُفهم من أصل مادة الكلمة، يقول القاضي ابن العربي
بهذا الخصوص: إن مدلول لفظ الصدقة حسب مادتها (مأخوذ من الصدق في مساواة
الفعل للقول والاعتقاد) [4] .
إن هذا المفهوم الذي أشار إليه ابن العربي (رحمه الله) يرتكز على مفهوم
أساس يقوم عليه الإسلام، وهو التلازم بين الفعل، والقول، والاعتقاد، فلا يكمل
الاعتقاد بدون قول، كما لا يكمل القول بدون فعل، فالتلازم بين هذه الأمور الثلاثة
لحمة عقيدة الإسلام ومرتكزها.
إن ارتباط الزكاة بالعقيدة وكونها جزءاً أساساً لا يكتمل الإيمان إلا بها.. يدل
عليه ما ورد من آيات عن الزكاة في العهد المكي، حيث لم تتكون بعد الدولة
الإسلامية، ولم تتحدد أنواع الأموال والمقادير الواجب إخراجها، إنما كانت الإشارة
إلى الزكاة في هذه الفترة باعتبار أنها جزء من الاعتقاد، مما يوضح ويؤكد مدى
التلازم بين الإيمان بالله والعبودية، والالتزام تجاه الجماعة المسلمة في الحياة الدنيا، ففي سورة الأعراف أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله (تعالى) : [وَاكْتُبْ لَنَا
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أََشَاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأََكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ] [الأعراف: 156] ، لقد جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن بني
إسرائيل وطلبِ موسى (عليه الصلاة والسلام) المغفرة من ربه، حيث كانت الإجابة
بنفيها عن قومه لأسباب، من أهمها: أن المغفرة لا تعطى إلا لمن اتقى وآتى الزكاة، فغضب الله يحيق بأولئك الذين لايعطون حق الله في أموالهم التي منحهم الله أياها، هذا الارتباط بين الإيمان القلبي والسلوك المادي تؤكده كذلك سورة مريم حكاية
عن عيسى (عليه السلام) ، في قوله (تعالى) : [وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ
وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً] [مريم: 31] ، وفي السورة نفسها عندما
مدح الله نبيه ورسوله إسماعيل (عليه الصلاة والسلام) أشار إلى هذه الحقيقة بقوله:
[وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً] [مريم: 55] .. وغير
ذلك من الآيات التي تتحدث عن الزكاة في العهد المكي، حيث أوضحت أن الزكاة
جزء أساس لاستكمال حقيقة الإيمان.
إن رسالة الإسلام هي إيجاد المجتمع المؤمن الذي يرعى أغنياؤه فقراءه،
وتربية للفئة المؤمنة التي التحقت بالركب الإسلامي في مكة، بأن عقيدة الإسلام لا
تفصل واقع الحياة عن العقيدة، وأن التكافل الاجتماعي أحد المقومات الأساس
للمجتمع الذي يريده الإسلام، كما إنها تأكيد للأجيال المسلمة ممن يدخل الإسلام بعد
تكوين دولته وقيام السلطة المسؤولة عن تنفيذ أحكام الله أن الإسلام دين لا يؤدي
دوره الفاعل في الحياة الإنسانية إذا لم يقم المال بدوره في تحقيق الحياة الآمنة
المستقرة.
إن آيات القرآن الكريم التي نزلت في المدينة أعلنت بكل وضوح وجوب
الزكاة، في سورة البقرة جاء أمر الوجوب في قوله (تعالى) : [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]
[البقرة: 110] ، بعد الإشارة إلى الرغبة لدى أهل الكتاب في صرف المسلمين عن
الإيمان في قوله (تعالى) : [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ
كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاًتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [البقرة: 109] ، وكأن الله ينبه المؤمنين
إلى أن الإيمان الذي يرغب الكفار في صرف المسلمين عنه تتمثل مظاهره في
الصلاة والزكاة، فتَرْك واحدة من هاتين العبادتين تحقيق لأمنية الكافرين.
كما نجد هذا المفهوم يظهر أكثر وضوحاً عند تحديد الإطار التنظيمي لجماعة
الأمة المسلمة، بأنها تلك الجماعة الملتزمة بأداء الصلاة والزكاة، وأن المشركين لا
يمكن دخولهم حظيرة الجماعة إلا إذا أدوا هاتين الشعيرتين، ويحدد في سورة التوبة
أن الزكاة جزء من إطار العلاقة التي تُبنى عليها الجماعة المسلمة، والتي تتميز بها
عن بقية الجماعات الأخرى، في قوله (تعالى) : [فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا
المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: 5] ، وفي
السورة نفسها: حدد مفهوم الأخوة الإسلامية، وإطار بنائها، ومن هو الذي يحق له
الانتماء إليها ممن لا يكون منها، وذلك عندما تحدث عن المشركين، وعهودهم،
وما تضمره قلوبهم، وأن شرط دخولهم في حظيرة الجماعة المسلمة يتحدد وفق ما
جاء في قوله (تعالى) : [فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] [التوبة: 11] .
لهذا نجد كيف فهم خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق
(رضي الله عنه وأرضاه) هذا التلازم بعد أن التحق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى
وارتدت بعض قبائل العرب وزعمت أن الزكاة شيء كان يأخذه رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- منهم وبموته ينتهي هذا الالتزام، فقد أطلقها مدوية في سمع التاريخ
قائلاً: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو
منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها.
إن من المفاهيم الأساس للزكاة، التي ينبغي إدراكها ومعرفتها: أن الزكاة من
أهم المقومات التي يتميز بها المجتمع المسلم، وتعطيل الزكاة والتهرب من أدائها
علامة من علامات انحراف المجتمع، وبروز النفاق، ويؤكد القرآن هذا المفهوم في
قوله (تعالى) : [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة: 71] .
أما المنافقون: فهم أولئك القابضون على أيديهم، فهم لا ينفقون، مخالفين
لكل ما فيه خير وصلاح، يقول (تعالى) : [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ
يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ
المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ] [التوبة: 67] .
تجب الزكاة وفق هذا المفهوم كما أجمع عليه علماء الإسلام على كل مسلم،
بالغ، عاقل، حر، مالك نصاب الزكاة وفق شروطها، فالزكاة لا تجب على غير
المسلم، فلا يطالب بها الكافر، ولهذا: وجب فصل موارد الزكاة عن الموارد
الأخرى التي تتحصل عليها الدولة؛ لأن طبيعة الزكاة وأغراضها والأهداف التي
من أجلها شُرعت تختلف عن الأموال الأخرى التي قد يقوم ولي الأمر بجبايتها
لمصلحة ظاهرة، فالزكاة لا تسقط بعدم وجود الحاجة إليها ولا تسقط باستبدالها
بموارد أخرى، فهى تملك خصوصية ارتباطها بطبيعة التنظيم الاجتماعي للجماعة
المسلمة الذي يسعى إلى تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي القائم على الأخوة الإيمانية،
بجانب ارتباطها بالاعتقاد، فإخراجها يرتبط بالإيمان، فهي لا تدفع لقاء منفعة
مباشرة كما في الرسوم والضرائب وغير ذلك من أنواع الجبايات التي تفرضها
الدول على رعاياها لتحقيق مصلحة ومنفعة عامة.
لم يحدد القرآن الكريم جميع الأموال التي تجب فيها الزكاة، ولا شروط
وجوبها ولا مقاديرها، ولكن السنة النبوية القولية والعملية فصّلت ما أجمله القرآن،
وبينت ما أبهمه، وخصصت ما عمّمَهُ، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- مكلف
ببيان ما أنزل الله من القرآن، وهذا ما يقرره قوله (تعالى) : [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: 44] .
لقد أشار القرآن إلى بعض أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة، وأجمل بقية
الأموال بكلمة عامة، وهي كلمة (أموال) ، كما في قوله (تعالى) : [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] [التوبة: 103] ، وفي قوله (تعالى) : [وَفِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] [الذاريات: 19] .
أما الأموال التي حددها فهي:
أولاً: الذهب والفضة، كما في قوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] [التوبة: 34] .
ثانياً: الزروع والثمار، كما في قوله (تعالى) : [كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] [الأنعام: 141] .
ثالثاً: الكسب من التجارة وغيرها، كما في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ] [البقرة: 267] .
رابعاً: الخارج من الأرض من معدن وغيره، كما في قوله (تعالى) : [وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ] [البقرة: 267] .
إن شمولية الزكاة لجميع الأموال يعود إلى المفهوم اللغوي لكلمة (المال) كما
جاءت في القرآن الكريم، والذي يُدخل كل ما يرغب الناس في اقتنائه وامتلاكه،
وقد جاء في لسان العرب: (المال: ما ملكته من جميع الأشياء..، والجمع:
أموال، وفي الحديث: نهى عن إضاعة المال، قيل: أراد به الحيوان، أي:
يُحسَن إليه ولا يهمَل، وقيل: إضاعته: إنفاقه في الحرام والمعاصي وما لا يحبه
الله،.. قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يُملك من الذهب والفضة، ثم أُطلِق
على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم) [5] .
__________
(1) لمعرفة أسلوب التنظيم المالي للدولة وفقاً للشريعة الإسلامية، يرجع إلى كتابنا (المالية العامة على ضوء الشريعة الإسلامية) ، نشر: دار عالم الكتب بالرياض.
(2) المغني، لابن قدامة، ج2، ص 572.
(3) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي، ص 145.
(4) أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، ج2، ص 946.
(5) لسان العرب، ج11، حرف اللام، ص 935 936.(110/32)
نص شعري
أهزوجة للعيد
شعر: محمد بن سعد العجلان
إخواننا المنكوبون في جل ديار الإسلام، ماذا عساهم أن يقولوا وهم يستقبلون
العيد؟
قتل وتعذيب وتشريد ... فمتى سيغمر كوننا العيد!
ومتى متى يا أمتي فرحي! ... ومتى متى ستزغرد الغيد!
في كل أرض صرخة لفم ... دوّت فدوّت بالصدى البيد
لكننا نلهو فلا غضب ... نبدي ولا الإيثار موجود
وكأن وقراً قد تغلغل في ... آذاننا فالسمع مسدود
صرب وصهيون تمزقنا ... وسلاحنا في الصدر تنهيد!
والمجلس المأمول في شغل ... عنا يماطل فوقه الهود
والنخوة القعساء صادرها ... متفرد في الرأي نمرود
وإذا العروبة تنبري شيعاً ... عادت إليها الأزمن السود
يا أمة شاخ الزمان بها ... وعلت محياها التجاعيد
عاث الخلاف بها وفرقها ... بُعْدٌ عن الإسلام مشهود
الهدي فيها وهي ضائعة ... يقتادها القيثار والعود
قد خدرت بفم منغمة ... شغلت بها والسيف مغمود
في كل يوم يستباح بها ... دم يقامر فيه عربيد
يا أمتي ما ضاع يرجعه ... سيف به الإيمان معقود
يا أمتي هذا الكتاب لنا ... ولنا به عز وتسويد
فإذا به سِرْنا سيغمرنا ... نصر من الرحمن موعود(110/41)
دراسات إعلامية
الإعلام من المنطلق الغربي إلى التأصيل الإسلامي
(2 من 2)
بقلم: أحمد حسن محمد
تناول الكاتب في الحلقة السابقة: أثر الحضارة الغربية في المسيرة الإعلامية بعامة، وأوضح مدى التدفق الإعلامي الغربي نحو المجتمع الإسلامي، واتجاهات الإعلام الغربي وآثاره، ثم انتقل إلى الحديث عن الدعوة الإسلامية والإعلام، فبيّن أهمية الإعلام الدعوي، معرجاً إلى الحديث عن مميزات الدعوة الإسلامية التي يفصِّلها وجوانب أخرى في هذه الحلقة.
- البيان -
أولاً: الطبيعة الإعلامية للدعوة الإسلامية:
فالدعوة الإسلامية ذات طبيعة إعلامية مميزة ولها سماتها التي تؤكد قدرتها
على إبراز كافة عناصر الرسالة الإعلامية القادرة على التعامل بإيجابية بما يجعلها
في مكان الريادة والقدرة في مجال الدراسات الإعلامية المعاصرة.
فحملتها أتباع دعوة المُرسِلُ فيها هو الحق (سبحانه وتعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إلَى اللَّهِ بِإذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً]
[الأحزاب: 45، 46] ، [وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ مُبَشِّراً
وَنَذِيراً] [الإسراء: 105] .
ومضمون الرسالة هو التوحيد وعبادة الله في الأرض: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] [النحل: 36] .
والوسيلة هي الوحي الذي هو التعليم السري الصادر عن الله (تعالى) الوارد
إلى الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام) [1] : [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ
رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] [الحج: 75] ، [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ
اللَّهُ إلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ مَا يَشَاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ
حَكِيمٌ] [الشورى: 51] .
والدعاة إلى الله هم وسائل تحمل رسالة الله للناس، وهم أهل العلم
والاختصاص: [فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا
قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] [التوبة: 122] .
والمتلقي للرسالة هي البشرية جميعها، بل والجن أيضاً، حيث إن الرسالة
الإسلامية تخاطب الإنسان لأن مادتها الإنسان ذاته [2] : [الّر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ]
[إبراهيم: 1] ، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً] [النساء: 1] [3] .
ثانياً: قدرة الدعوة الإسلامية على استيعاب الوسائل المتاحة:
نظراً لأن هذه الدعوة هي قَدَر هذه الأمة وغايتها [4] : فقد أصبح لزاماً عليها
أن تبحث عن كل الوسائل المتاحة والممكنة للقيام بوظيفة البلاغ المبين وتقديم رسالة
الإسلام.
وإذا كان الغرب قد حقق تقدماً في وسائل الإعلام وتقنياته فإن الإسلام لا يقف
حائلاً دون الاستفادة من هذه التقنيات لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية إذا ما توفر
شرطان أساسان:
أ - أن يكون استخدام الوسائل لا يعني بالضروة نقل الأفكار والاتجاهات..
فالوسائل أجهزة محايدة تنقل ما يطلب منها.
ب - أن يكون استخدام الوسائل الحديثة لا يعني فساد الوسائل الرئيسة في
الدعوة الإسلامية، التي جاءت في الهدي القرآني والسنة المطهرة، وبالتالي: لا
يعني تركها وإبعادها عن الاستخدام في الساحة الإعلامية.
وبذلك فإن الأمة الإسلامية تستطيع تقديم رصيدها الثقافي والحضاري مستفيدة
من التطور التقني في مجال وسائل الإعلام الحديثة بجانب ما تتمتع به الوسائل
الإسلامية المتميزة في مجال الدعوة الإسلامية من فاعلية وقدرة على المعايشة
والاستمرار، بل إن الوسائل التقنية الحديثة يمكن استيعابها ضمن الوسائل الإسلامية
المتميزة، مثل: استخدام التسجيلات ومكبرات الصوت في المساجد التي تعتبر
منابر حية للدعوة الإسلامية، وكذلك في مجتمعات المسلمين التعبدية مثل صلاة
الجمعة ومواسم الحج، فإن الأقمار الصناعية الحديثة وما تقدمه من خدمات إعلامية
عالية تقوم بدور كبير إذا ما أحسن استخدامها للإعلام بالرسالة الإسلامية، ليس فقط
على المستوى المحلي بل على المستوى الدولي والعالمي.
وتظل العبرة قائمة بمدى الاستفادة التي تفيد منها الدعوة الإسلامية من كافة
المخترعات الحديثة في كافة المجالات والنظم، حيث إن الأصل هو نشدان رضا
الله بخدمة الإسلام في مجالات العلوم الضرورية لرقي الأمة المسلمة وعزتها، وهذا
الشرط ليس ضروريّاً لكل جهد يسهم بقصد أو عن غير قصد في مسيرة التطبيق
الإسلامي؛ فكم من كافر أسهم في إثراء العلوم الإسلامية، وكم من مسلم أسهم في
تشويه التراث المعرفي للإسلام، فالعبرة إذن بنتيجة المساهمة، فإن كانت موافقة
للإسلام فلا مانع من الاستفادة منها [5] ، وعلى ذلك يتأكد أن استخدام ما أنتجه
الغرب غير المسلم ليس كله مرفوضاً لمجرد أنه غربي غير مسلم، بل إن الرفض
والقبول يتوقفان على ما يحقق لهذا الدين من نفع وانتشار، مع التفريق بين نية
المسلم في الاستخدام والاستفادة ونية الكفار في الاختراع والإنتاج.
ثالثاً: تمايز المسيرة الإسلامية ومتعلقاتها:
إذا كان الغرب قد رفض الدين نتيجة لمواقف معادية وتناقضات بين تطلعات
الناس وما فرضه رجال الدين عندهم من قيود.. فإن العالم الإسلامي لم يصطدم
يوماً بأصول عقيدته، وإذا كانت بعض السلبيات قد ظهرت في مجال الأسلوب
الدعوي، فإن مَرَدّ ذلك يعود غالباً إلى التطبيق الخاطئ الصادر عن فهم بعيد عن
الأصول الثابتة، وليس خطأ في أصل الشريعة ومنهاجها ... ذلك لأن الإسلام يتمتع
بمصدريه الأساسين الثابتين (القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، التي وصلت بحمد
الله إلى درجة عالية من التوثيق والثبات، فضلاً عن حفظ الله (سبحانه) للقرآن
الكريم [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] ،) وظل هذان
المصدران وسيظلان بإذن الله مرجعاً موثوقاً لكل من يريد البحث والاستقصاء،
وفيصلاً لكل خلاف يخرج بالمسلمين عن الأصول الشرعية الكبيرة.
ومن جانب آخر: فإن الدين الإسلامي لم يكن بمعزل عن الحياة البشرية
والنشاط اليومي بما يحمله من توجيهات للمسلم بضرورة الذكر المتصل، والعبادة
بأوقاتها المحددة، وضوابط التعامل اليومي في الأسرة والجماعة والمجتمع، بجانب
أخلاقيات العلاقات الدولية في السلم والحرب.
وبذلك: فإن الإسلام يحمل إعلاماً لا يحتمل ما حدث من انفصام بين الخطاب
الديني والخطاب الدنيوي (كما حدث في الغرب) ، حيث ظلت له القدرة على تحقيق
المصالح الدنيوية وإرضاء أذواق الناس وحاجاتهم من المتعة والتسلية ضمن إطاره
الذي لا يخرجه عن الشرع الذي أباح كل هذه الأنشطة وفق شروطها بعكس الرسالة
الإعلامية التنصيرية من محطات نصرانية.
وبذلك: فإن الرسالة الإعلامية الإسلامية تتعدى إلى مجالات متنوعة دون
التقيد بحيز ضيق، حيث إن الدعوة الإسلامية هي دعوة للإيمان، مقترنة بالدعوة
إلى العلم، والعبادة، والعمل، والفكر، وتنمية الروح والوجدان ... ويظل الفصل
بين ما هو ديني وما هو غير ديني أمراً ترفضه طبيعة الإسلام ويؤثر كثيراً على
الرسالة الإعلامية المسلمة؛ إذ يحصر العقيدة والدين في مكان ضيق ويبعده عن
مفهومه الواسع، والأمر إذن يتطلب رفض الاتجاه الغربي الذي يقدم القضايا
الدنيوية والحياتية بعيداً عن قيم التوجه الأخلاقي، حيث تتحلل هذه القضايا من
الالتزام بهذه القيم.. مما أوجد حشداً من الصحف والمجلات والوسائل الإعلامية
المسموعة والمرئية (في الغرب) تمارس ألواناً من الفساد والتضليل والانحلال،
تسرب معظمها إلى بلاد المسلمين في غيبة الالتزام الإسلامي الصحيح، فأصبحت
تهدد أبناء الأمة في أعز ما تملكه من قيم ومبادئ [6] .
المنطلقات الأساس للإعلام الإسلامي:
إن الإعلام باعتباره نتاجاً لنشاط بشري إنما يأتي معبراً عن قيم ومبادئ وأفكار
المصدر الذي تصدر عنه الرسالة الإعلامية ... فقد جاء الإعلام الغربي متأثراً
بالمادية، باحثاً عن اللذة والرفاهية، بينما كان الإعلام الشيوعي مدعّماً بمفاهيم
الإلحاد وسيطرة الطبقة العاملة، في حين أن الإعلام النازي كان يركز على سيادة
الدم الأزرق والعنصرية القومية، معلناً شعار (ألمانيا فوق الجميع) .
وتتفق كل هذه الاتجاهات على تأصيل السيطرة وبسط النفوذ الفكري
والاقتصادي على كافة الشعوب النامية لضمان التبعية والخضوع لها.
ويأتي الإعلام الإسلامي مختلفاً في منطلقاته؛ حيث يعبر عن الإسلام دين
القيم والمبادئ، التي تتمثل فيما يلي:
1- منطلق العقيدة التي تقوم على فطرة البشر، وتستقيم مع متطلبات الحياة
الإنسانية، وتعطي للفرد معنى الحرية من قيود الدنيا وشهواتها، فلا يخضع إلا لله
رب العالمين وبذلك تتحقق حرية التعبير والسلوك والفكر في إطار تحكمه قيم السماء؛ لأن الهدف هو إرضاء الله (تعالى) وليس المكسب الدنيوي فقط.
2- منطلق العلم، الذي هو طريق المعرفة، فقد جاءت آيات الله (سبحانه)
واضحة، تفرق بين العالم والجاهل، والرسالة الإعلامية تؤتي ثمارها بقدر ما
يتوفر لها من زاد علمي صحيح.
3- الأخلاق، وهي سمة الإنسانية الفاضلة ودستور التعامل بين البشر،
فيصدر الإعلام عن نفْس تعرف الصدق والأمانة والطهارة عن إيمان وامتثال،
وليس عن تقليد ومحاكاة.
4- منطلق الإنسانية، بما تحمله من معاني الرحمة والتكافل والتعاطف، وما
تعنيه من أخوة بين البشر ورغبة في التعايش والتعاون المثمر. والإعلام الذي يحمل سمات الإنسانية هو أقدر من غيره على التأثير والتجاوب.
5- الجمال وحسن العرض، وهي أمور تحقق الارتياح النفسي، لذا: فقد
دعا الإسلام إلى الجمال في الملبس والتعامل والحديث والسكن.
6- منطلق المصلحة العامة للأمة والحرص على أمن المجتمع واستقراره
بعيداً عن الإشاعة المغرضة والتحريض الهدام ضد فئات المجتمع وقادته، بل دعوة
صادقة لمسؤولية مشتركة تحفظ كيان الأمة وتنشر الخير للناس جميعاً [7] .
هذه هي بعض المنطلقات الأساس للإعلام الإسلامي، التي يمكن أن تكون
أساساً يحقق تمايز الرسالة الإعلامية في المجتمع المسلم عن غيرها في المجتمعات
الأخرى، وحتى يتحقق هذا التمايز في التطبيق العملي، فإننا نوصي بالتوجيهات
الآتية التي في مجملها خلاصة للعرض السابق في هذا البحث:
توصيات ومقترحات:
1- رفع العزلة عما أطلق عليه (إعلام ديني) والذي جعل المفاهيم الإسلامية
محصورة في بعض البرامج والمقالات المنفصلة عن بقية الموضوعات المطروحة
في الوسائل الأخرى، مما أدى إلى عزل الدين عن الحياة المعاشَة وحصره في
مفاهيم العبادة والتشريع، بخلاف طبيعة الدين الإسلامي الذي يعايش الناس في كل
أمور حياتهم الدينية والدنيوية وينظم أنشطتهم سواء في المسجد أو ملعب الرياضة أو
أماكن العمل من مكاتب ومزارع ومتاجر ومصانع، كما يعالج قضايا الأمة السياسية
والاقتصادية والعلمية والفنية ... والإعلام بطبيعته يتفاعل مع كل هذه الأمور إبلاغاً
وتوجيهاً ونقداً، وفي تقسيمه إلى إعلام ديني وآخر دنيوي ما يتعارض مع وحدة
التوجيه واستقامة التربية ويؤدي إلى ازدواجية الرأي والمعالجة، فيصبح إعلاماً
متناقضاً في رسالته ومضمونه.
2- أن يكون الخطاب الإعلامي الصادر عن الأمة المسلمة خطاباً شاملاً لكل
البشر على طول الزمان وسعة المكان، حيث إن الإسلام جاء للناس جميعاً: ... [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] وكانت الرسالة السماوية التي قام عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مؤكدة لهذا المعنى الذي اختص بها سيدنا محمد (عليه
الصلاة والسلام) : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ] [سبأ: 28] ، وصدع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استجابة
لأمر الحق (سبحانه) : [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [الأعراف: 158] .
فالخطاب الإسلامي ليس وقفاً على أمة دون غيرها، بل هو خطاب عالمي
أزلي، والرسالة الإعلامية الدعوية هي ترجمة لهذا المفهوم القائم على هدي الوحي
المنزل.
3- التأهيل الأمثل والإعداد السليم للقائمين على الإعلام الذي يحمل رسالة
الإسلام، أو بمعنى آخر: إعداد القائم بالاتصال في مجال الإعلام إعداداً إسلاميّاً
متكاملاً ... فقد عني الإعلام الغربي كثيراً بكل من له صلة بالرسالة الإعلامية،
ونشأت نظرية (حارس البوابة) والذي يقوم على صناعة المعلومة قبل بثها ... وقد
عني الإسلام كثيراً بحملة الرسالات وأصحاب البلاغ المبين، فاصطفى رسله من
حملة رسالته من أحسن الخلق، وأصدقهم قولاً، وأفضلهم أخلاقاً: [وَاذْكُرْ فِي
الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً] [مريم: 41] ، [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ
كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياً] [مريم: 51] ، [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ
كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياً] [مريم: 54] ، [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إدْرِيسَ
إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً] [مريم: 56] ، [أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن
ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً] [مريم: 58] .
وكان خاتم الرسل (عليهم الصلاة والسلام) هو نبي هذه الأمة، ورسولها
المصطفى (عليه الصلاة والسلام) [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى] [النجم: 3-5] .
فقد أعده الله (سبحانه) لهذه الرسالة ليكون القدوة والأسوة والنموذج الأعلى
للداعية الصادق: [يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إنَّ
نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَّبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً]
[المزمل: 1-9] .
ثم أعطاه الله من الخير في حياته الدنيا والآخرة، [وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ
المَثَانِي وَالْقُرْآنَ العَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ] [الحجر: 87-88] ، فاستحق بذلك أن يكون
صاحب الخلق القويم والسلوك الأمثل: [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ... [القلم: 1-4] .
والإعلام الإسلامي هو الامتداد الأمثل لرسالة هؤلاء الرسل، وعليه حمل
أمانة التبليغ لإقامة أمة الرسالة: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] ، وذلك
على شرط الحق والثبات: [وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إلاَّ الَذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: 13] .
ولما كان الإعلام في عصرنا الحاضر قد تعددت وسائله وأساليبه: فقد
أصبحت الضرورة قائمة لإعداد إعلاميين، أو بمعنى أدق: حملة رسالة لكل وسيلة
من هذه الوسائل بما يتيح استخدامها الاستخدام الأمثل، ويعطي للمسلم القدر الكافي
على التعامل السليم مع الجمهور المتلقي، ويشمل ذلك بجانب الصفات الأخلاقية
والعقدية الأساس: الإعداد المهني السليم لحامل الرسالة في كافة المجالات، مثل:
مجال الخطابة في المساجد والمحافل والتجمعات.
مجال المناظرة والحوار والندوة.
مجال الكتابة الصحفية والأدبية.
مجال الإلقاء الإذاعي والتلفازي.
مجال الإعداد البرامجي في الإذاعة والتلفاز.
الإخراج، التمثيل، الثقافة، الإنشاد.
مجال المعارض.
مجال المؤتمرات.
على أن يقوم هذا الإعداد وفق برامج تدريبية مدروسة ذات أهداف واضحة
على أيدٍ مخلصة واعية وخبيرة.
وبذلك يتحقق للإعلام أصالته الإسلامية وتمايزه عن الصبغة الغربية.
__________
(1) د محمد عبد الله دراز، المختار من كنوز السنة، باب الوحي.
(2) د طه عبد الفتاح، كيف تبنى مؤسسات الإعلام على أسس إسلامية (بحث من وقائع الندوة العالمية للشباب الإسلامي) ، ص 437.
(3) انظر: زين العابدين الركابي، النظرية الإسلامية في الإعلام، ص 293.
(4) القيام بأمانة التبليغ يعتبر فرضاً على الأمة المسلمة، وقد قال بعض العلماء بأنه فرض عين.
(5) د سعيد إسماعيل صيني، مدخل إلى الإعلام الإسلامي.
(6) د عبد القادر طاش، دراسات إعلامية، وانظر: (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفاز (، لمروان كجك.
(7) د سيد محمد ساداتي، البرامج الإعلامية بين الواقع والأمل.(110/42)
محاضرات وندوات
نجيب محفوظ خلفية فكرية لفنه الروائي
(2 من 2)
بقلم: د. مصطفى السيد
عرض الكاتب في الحلقة الماضية المناخ الثقافي والاجتماعي قبل مولد (نجيب
محفوظ) ، ثم أوضح الخلفية الثقافية والفكرية لهذا الروائي، وأخذ يعرض أثر هذه الخلفية في رواياته وانعكاسها على أبطال هذه الروايات ... ويواصل الكاتب عرض جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
إن هؤلاء الأبطال ومثلهم كثير في الرواية العربية، كبطل (موسم الهجرة إلى
الشمال) لـ (الطيب صالح) ، وبطل (الحي اللاتيني) لـ (سهيل إدريس) .. ليسوا
إلا تجسيداً وإن كان متفاوتاً في درجته وحدته للخروج على ميراث الأمة الديني
وتراثها الأدبي، تمهيداً لإيجاد قراء يحاكون هؤلاء، وبذلك تزلزل الرواية عبر
نصوصها وشخوصها ومن ثمّ: عبر قرائها قواعد البُنى الفكرية للأمة، تمهيداً
لاستيلاء شرائح نخبوية تتبنى الفكر الغربي ويضمحل الحس الديني والنص
الشرعي في قلوبها وعقولها وسلوكها.
وكيف تكون النتائج السابقة مستنكرة على الرواية العربية التي يقومها أحد
النقاد بقوله: (الرواية العربية الجديدة التي شكل الواقع بؤرتها ومادتها، رواية
الفضيحة والعري والحرائق والهزيمة والجنس) [1] .
يفهم المسلم أن يكون لأمثال (سارتر) و (همنجواي) و (كامي) و (دستوفسكي)
وأضرابهم أزمتهم الروحية بوصفهم نتاجاً لمسيحية محرفة وحضارة ممزقة، ولكن
ما هو متعذر على الفهم أن يكون لمحفوظ هذه الأزمة التي تحدث في أكثر رواياته! هل كانت أزمة مصطنعة لتضع الرواية العربية في مصاف الرواية الغربية
بوصف القلق أحد أهم مؤهلات الأخيرة؟ ! ! ، أم كان القلق يعكس أزمة حقيقية
للكاتب، سببها ابتعاده أو إبعاده عن قراءة واعية ومراجعة دائمة للإسلام، راضياً
من الفكر العربي بـ (سلامة موسى) ، الذي قد لا يحمل من مؤهلات هذا الفكر إلا
اللسان العربي؟
وإذا كان محفوظ قارئاً نهماً للفكر الغربي لا سيما في عالم الرواية وعلم
الفلسفة، وكان معنيّاً كما صرح غير مرة بمتابعة الجديد في هذين الأمرين، فإنه
على العكس من ذلك: يتجمد في ثقافته الإسلامية، مكتفياً بخلاصة أو ملخص إن
أغنت مسلماً عاديّاً فكيف تغني أكبر كاتب روائي عربي؟ .
إن ثقافته العقدية جاءت واضحة في مقالاته التي كتبها في شبابه (1930م) في
مجلة (شيخه) (سلامة موسى) ، وإن هذه الثقافة كما يقول الدكتور (عبد المحسن
بدر) : (استمر يكتبها حتى وصل إلى مرحلة الرجولة، وهذه الفترة من حياة
الإنسان هي فترة تكوينه لقيمته الاجتماعية والثقافية التي تعمق وتنضج الفترات
التالية من عمره، ومن النادر أن تتحول بعد هذه الفترة تحولاً جذريّاً) [2] .
يقول محفوظ في (المجلة الجديدة) سنة 1930م، ص 1468، في أحد
مقالاته التي يشير إليها الدكتور بدر: (لا نبتئس بقرب زوال المعتقدات البالية، ولا
ندعو المفكرين إلى الكف عن بحثها ونقدها) .
ما المعتقدات البالية التي يريد هذا الشاب ألا يبتئس لزوالها، ولا يمنع
المفكرين من نقدها؟ .
أليست هي ما جاء على لسان (كمال) في (السكرية) آنفاً؟
وفي مقابل ما يعيشه أبطاله بوصفهم امتداداً مباشراً أو غير مباشر له: ما
يعيشونه من الانفلات من ربقة الدّين، بل التجرؤ الصادم لمشاعرنا على نقده، نجد
الكاتب يعقد صلحاً نهائيّاً مع العلم الذي تحدّر إليه من (سلامة موسى) وأمثاله،
فيقول سنة 1970م: (لعل الإيمان الوحيد الحاضر في قلبي هو الإيمان بالعلم
وبالمنهج العلمي!) [3] .
وإذا سلم الباحث لبعض النقاد بأن هَدَف محفوظ (الوصول إلى ما يشبه علمنة
الدين وتديين العلم) [4] فإن هذا أيضاً يظل إسلاميّاً غير مقبول؛ لأنه لا يعدو إحياء
مذهب المعتزلة بأثواب جديدة.
إن ما خطه (نجيب محفوظ) من أعمال روائية وقصة قصيرة لم تلق فنيّاً في
حدود ما قرأت نقداً شديداً باستثناء ما كتبه د. (عبد المحسن طه بدر) ، ولكن
المعركة حول القيم الفكرية لأعماله الروائية لم يَخْبُ أوارها، وما أخاله يخبو ما
دامت هذه الأعمال يرتفع فيها صوت الفكر على صوت الفن، وتتصدى بجلد
وإصرار لنقد المفاهيم القائمة في المجتمع والدعوة إلى قيم وأفكار تضاد عقيدة
المجتمع وهويته في أحايين كثيرة، يقول على لسان أحد أبطاله في (السكرية) :
(حسن أن تدرسوا الماركسية، ولكن تذكروا أنها وإن تكن ضرورة تاريخية،
إلا أن حتميتها ليست من نوع حتمية الظاهرات الفلكية، إنها لن توجد إلا بإرادة
البشر وجهادهم، فواجبنا الأول ليس في أن نتفلسف كثيراً، ولكن في أن نملأ وعي
الطبقة الكادحة بمعنى الدور التاريخي الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها والعالم
جميعاً) [5] .
قد لا يحتاج القارئ إلى دليل يؤكد أن الكاتب قد تخلى عن دوره الروائي إلى
الدور التحريضي، حتى ليمكننا القول: إن الفقرة السابقة نشرة حزبية وليست فقرة
روائية.
وإذا كان (نجيب محفوظ) قد يمم وجهه شطر (الحارة) القاهرية، ولم
يتجاوزها في أكثر أعماله، جاعلاً من الحارة الفضاء المكاني لأدبه والإطار
الموضوعي لأفكاره، فهو لم يعرف عنه أدنى تعاطف مع هذه الحارة، ولم ير منها
غير الجوانب المظلمة، ولم يُقدّم في أعماله إلا الشخصيات التي أشربت في قلبها
الشر، وأهلكت الحرث والنسل، لا تنتقل من سيء إلا إلى ما هو أسوأ، ولا تغادر
منكراً إلا إلى ما هو أنكر، حتى ليخيل للقارئ أنه يقرأ عن أناس لم يعد في حياتهم
مثقال ذرة من دين أو خير، أو يعيش في مجتمع أقرب إلى الجحيم منه إلى
المجتمعات السوية.
ولقد كان الكاتب متورطاً إلى حد كبير فيما أخذه على أبطاله ورآه سبباً
لانحرافهم، فقد اعترف بمعاقرته الخمر كما مر بنا قريباً، و (لقد سمح لنفسه ابتداءً
من سنة 1945م بكتابة سيناريو عدد كبير من الأفلام، فيها الكثير من الأفلام التي
تخضع للمقاييس الفنية الهابطة للسينما المصرية، وقد يدهش المرء حين يعلم أن
كاتبنا الكبير هو كاتب سيناريو أفلام مثل: (ريا وسكينة) ، و (المنتقم) ، و (عنتر
وعبلة) ، و (لك يوم يا ظالم) [6] .
ويتهمه ناقد آخر بتوظيفه فنه لأغراض مادية رخيصة، وخدمة مآرب أخلاقية
خسيسة عندما يتجنى على أبطاله وطبقتهم، وإظهارهم بصور غاية في الانحلال،
تهييجاً للغرائز واستدراراً لأموال منتجي الأفلام، وذلك عندما (يرصد نماذج مشوهة
وساقطة وعاجزة لكي يضعها في أعماله، ويتجنى بعد ذلك على صدق وحقيقة ما
يحصل في قلب الواقع المصري من طرح جديد دائم لنماذج إنسانية بين الثوريين،
وبين فتيات الجامعة بالذات، وهو يعرف سلفاً ما سيعقب ذلك من استخدام هذه
النماذج في السينما المصرية التجارية، ومنتجي الأفلام التجارية الرخيصة الذين
يزيدون في تشويه الصورة وتملق غرائز متدنية للمتفرج، سواء في الجنس أو
تزييف صورة الثوري اليساري في رواياته، [لقد كان] الأمر يتعلق بإلحاح (نجيب
محفوظ) على أن يظل روائي المرحلة الجديدة، وشاهداً على لوحة الصراع الدرامي
في مجتمعنا، ولقد كان في اعتقادي بعيداً عن التقاط حقيقة أزمة الفتاة المتعلمة،
التي لها موقفها السياسي، والتي تقف مع الرجل ضد كل ما يسلب الإنسان حريته
وأحلامه في تقدم طبقته المسحوقة.
إن (سمارة بهجت) ، و (سوسن حماد) ، و (زينب دياب) [*] للأسف لا وجود
لهن إلا في الاتساق الشكلي لبناء الرواية بمواصفات جاهزة عند نجيب محفوظ، أما
الفتاة المصرية المثقفة والمناضلة فلم تلتقطها عدسته الروائية، فهي بعيدة عن عالمه، لأنه هو أيضاً بعيد عن عالمها أيّاً كانت حسن نياته) [7] .
ومن العجيب أن يكون موقف الكاتب من مجتمع الطبقات الشعبية منبثقاً من
رؤية طبقية لا من نظرة قيمية، وذلك عندما يمنح إعجابه الفتيات الأرستقراطيات،
ويمنعه عن نساء الطبقة العاملة! .
يقول الدكتور (عبد المحسن بدر) من حديث له في مكتبه (الأهرام) :
(الأرستقراطيات جديرات بالإعجاب، أيّ متعلمةٍ أو رقيقة كانت أرستقراطية، أما
سيدات الطبقة العاملة فأرضيات) [8] .
يقول هذا الكلام في الوقت الذي يرسم نده ومعاصره (إحسان عبد القدوس) (ت
1989م) صورة مظلمة للطبقة الأرستقراطية عموماً، وصورة حالكة في السواد
والتردي الأخلاقي لنساء هذه الطبقة على وجه الخصوص (حيث إنه ما من كاتب
استطاع أن يصور الشرائح العليا من البورجوازية المصرية مثله، فقد استطاع
النفاذ إلى واقع الحياة الاجتماعية في (الزمالك) ، و (جاردن سيتي) ، واخترق
بأعماله الحصار المضروب على (نادي الجزيرة) ، لكي لا تقترب منه أعين الدهماء
والصعاليك من أبناء الشعب، ولولا كتاباته لسقط هذا الجانب المهم من الذاكرة
التاريخية) [9] .
هل تمالأ الكاتبان ليكملا الحصار على المرأة، فيشوه أحدهما سمعة هذه
الطبقة، ويشكك الآخر في عفة الطبقة الأخرى؟ !
وهل بات الفن نوعاً من القذف العشوائي لأخلاقيات المجتمع؛ لييأس
المصلحون والتربويون؟
وهل يليق بكاتب بمكانة الأستاذ (نجيب محفوظ) أن يتخذ موقفاً مسبقاً قبْليّاً من
المرأة العاملة، فيصمها بالأرضية، وينحاز آليّاً إلى المرأة الأرستقراطية فيجعل
الرقة والأرستقراطية وجهين لعملة واحدة؟
وما الفرصة المتاحة للمرأة العاملة (امرأة الحارة) بمستقبل أفضل إن كان
الكاتب قد حكم بألاّ مستقبل لها أصلاً؟
ثم: أليس من الجمود الفني أن تكون الشخصية جامدة، ولا تمتلك إمكانات
النمو والتطور؟
إن ما حققه الكاتب وما يحققه أي كاتب من مستوى فني متقدم لا يمنع مساءلته، ولا يسقط حق الأمة عبر نقادها ومثقفيها في محاكمة المضامين الفكرية للأعمال
الأدبية، لا سيما أعمال المشهورين الذين تتعاقب الأجيال على قراءتهم والتفاعل
الإيجابي والسلبي مع هذه القراءة.
ومما شجعني على إيلاء الجانب الفكري في أدب محفوظ هذا الاهتمام هو ما
قاله بعض الروائيين والنقاد عن محفوظ: إنه مفكر يتقنع بالقناع الروائي.
يقول الروائي السوداني (الطيب صالح) : (وليس نجيب محفوظ في اعتقادي
رائد الرواية العربية الأول، لكنه من أعظم المفكرين في العالم العربي، وتقوم
اقتراحاته كمفكر وليس ككاتب [**] [10] .
ويقول الدكتور (مصري حنورة) : (لنتفق مبدئيّاً على أن نجيب محفوظ مفكر
قبل أن يكون فناناً؛ وأنه لا يكتب أساساً بحثاً عن قيم جمالية، أو استعراضاً
لأساليب بلاغية، وإن كان هذا يتم دون عمد منه، كذلك فهو لا يهتم في المقام
الأول بأن يقدّم تطويراً لتكنيك فني، حيث إن كل ذلك خارج عن دائرة اهتمام هذا
المبدع، فشاغله الأساسي هو قضايا مجتمعه وهموم الإنسان، أي إنه وفقاً لمنظورنا
يغلب عليه الجانب المعرفي) [11] .
ويقول ناقد ثالث: (إن المرحلة الجديدة التي دخلت إليها الرواية على يد
نجيب محفوظ تتلخص في عدة مميزات، منها: الاهتمام بـ (هموم الفكر) [12] .
ويقول ناقد رابع: (نظراً لأن الأسلوب الروائي عند نجيب محفوظ أسلوب
واضح، وسهل، وخالٍ من التراكيب المفتعلة، وأقرب إلى اللغة العادية، يظل
التحليل الأسلوبي لأعماله الروائية محدود الأثر، ونظراً لأن الأعمال الروائية لـ
(نجيب محفوظ) تكاد تخلو من الصور الفنية أو المركبة، مثل (وغنى الماء في
القنينة) لوصف قرقرة الجوزة، فإن تحليلها يظل أيضاً محدوداً، لذلك يظل النقد
البنيوي لمعرفة المعمار الروائي عند (نجيب محفوظ) وأنماطه المثالية السائدة
والمتكررة في أعماله الروائية: هو الأكثر غنى للكشف عن العالم الروائي عنده،
ويظل النقد الاجتماعي كذلك هو الكاشف للنص الروائي الذي يعكس الواقع
الاجتماعي الثقافي والديني والسياسي هو الأكثر مباشرة على الاقتراب من هذا العالم
الروائي) [13] .
ولعل القارئ الكريم يعذرني إن أطلت في هذه النقول لأسباب، أهمها:
- أن أدب (نجيب محفوظ) دخل كل بيت تقريباً، إما مقروءاً، وإما مرئيّاً
على شاشة (التلفاز) ، وإما مسموعاً من (المذياع) ، ومن حق القارئ على الكاتب
وواجب الأخير أن يبين ما فيها من فكر هابط وفن سامق.
- قول الناقد (سيد قطب) (رحمه الله) :
(إن الناقد في الشرق العربي لا ينهض لتصحيح مقاييس الفن وحدها، ولكن
ينهض لتصحيح معايير الأخلاق أيضاً) [14] .
- ولأن همسات المجتمع تلقين للبطل، وهجمات البطل تجسيم لأحلام
المجتمع، فإن معايير البطولة التي تتفاعل معها ولا سيما تفاعلنا مع أبطال كاتب
مقروء باستمرار وواسع الانتشار ك (نجيب محفوظ) ينبغي ألاّ تكون فنية محضة.
ولعله من ذلك كله يكتسب الحديث عن الخلفية الفكرية لـ (نجيب محفوظ)
مشروعيته ويستمد أهميته.
__________
(1) مجلة كتابات معاصرة، ع/6، م/2، 5/1990م، ص49.
(2) الرؤية والأداة، ص 34.
(3) مجلة الهلال، شباط / فبراير، 1970م.
(4) (الله) في رحلة نجيب محفوظ الروائية، لجورج طرابيشي، ص 30.
(5) السكرية، ص 296.
(6) الرؤية والأداة، ص 67.
(*) من بطلات روايات نجيب محفوظ.
(7) الرؤى المتغيرة في روايات نجيب محفوظ، عبد الرحمن أبو عوف، ص 147، 148.
(8) الرؤية والأداة، ص 63.
(9) مقال في جريدة الحياة، ع/12026 27/1/1996م.
(**) الصواب أن يقال: بوصفه مفكراً وليس بوصفه كاتباً.
(10) نجيب محفوظ والقصة القصيرة، إيفلين يارد، دار الشروق، عمان، ط1، 1988م، ص21.
(11) مجلة فصول، الحداثة في اللغة والأدب، ج2، ع/4، ص 199.
(12) مجلة فصول، تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة، ص 22.
(13) مجلة عالم الفكر، مجلد: 23، ع/3، 4، يناير إلى يونيو 1995م.
(14) مجلة الرسالة، 27/11/1944م، ص 1044.(110/46)
قراءة في كتاب
السقوط من الداخل..
ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي
تأليف / د. محمد بن سعود البشر
عرض: محمد حيان الحافظ
تمهيد:
تحرص مجلة البيان على عرض بعض الكتب والدراسات المتميزة في مختلف
فنون المعرفة، مما يفيد القارئ، وينوع ثقافته، ويؤصل وعيه، وقد سبق أن نشرت البيان عرضاً لكتاب آخر للمؤلف نفسه بعنوان (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة) [*] ، جاء فيه أن مثل هذه الدراسات وإن كانت موجهة أصلاً للشعب الأمريكي، إلا أنها مفيدة لنا معشر المسلمين، فإن دراسة واقع المجتمعات الغربية التي لها علاقات متشابكة مع عالمنا الإسلامي لها أهمية بالغة من عدة جوانب، لعل أبرزها: رصد ظاهرة تأثر الضعيف بالقوي، وظاهرة التقليد عموماً، إضافة إلى استشراف مستقبل هذه الأمم ورصد زمن أفول تلك الحضارات؛ مما يشد أزر المسلمين بعامة، ويدفع المسلمين ممن يعيشون في تلك المجتمعات إلى الاستفادة من الواقع المتردي في عرض دين الإسلام، ولعله يكون عامل نجاة لهم إن آمنوا به.
كما أنها تكشف كيف أن عقلاء تلك المجتمعات يحذرون بني قومهم من خطر
السقوط؛ لما هم عليه من انحرافات، بينما يخرج من بين قومنا من يعمل جاهداً
ليل نهار بإغرائنا بشتى الوسائل حتى نسير وفقاً لتلك الفلسفات المادية والنفعية في
الحياة؛ جهلاً منهم وربما تجاهلاً ليسهموا بتغريب مجتمعاتنا وربطها بالتبعية والتقليد.
وهيا نتصفح معاً هذا العرض الموجز لهذا الكتاب.
- البيان -
بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي وتحلل الهياكل التنظيمية
للكتلة الشرقية، ازداد سطوع نجم الولايات المتحدة في سماء السياسة الدولية،
وذهب كثير من المراقبين إلى اعتبارها القوة العظمى في العالم، مستدلين على ذلك
بالدور الذي لعبته في تحرير الكويت من الاحتلال العراقي عام 1991م.
بيد أن فريقاً آخر من المحللين والباحثين في مجال العلاقات الدولية يرون أن
الولايات المتحدة، وإن كانت تتمتع في الوقت الحالي بمقومات القوة العظمى، إلا
أنها تحمل في ذاتها بذور اضمحلالها؛ ففيها من عوامل الضعف الاقتصادي
والاجتماعي والتعليمي والسكاني والإداري ما يكفي لانحدارها قريباً وهزيمتها في
المنافسة الآتية من كل من الاتحاد الأوروبي واليابان.
ويأتي كتاب (السقوط من الداخل) ليسلط الأضواء على نقاط الضعف الموجودة
في كلٍّ من الدولة والمجتمع في أمريكا، وما يميز هذا الكتاب عن غيره: أنه
شخّص عِلَل المجتمع الأمريكي استناداً إلى شهادات أمريكية مهمة لها وزنها ومكانتها
العلمية.
والكتاب يقع في (140) صفحة، ويتضمن (6) دراسات، الخامسة منها
أعدها المؤلف دراسة شخصية له في موضوعها، أما الأخريات: فإن دور المؤلف
فيها قد اقتصر على ترجمتها إلى العربية وتقريبها، وتمتاز هذه الدراسات في
مجملها بأنها تمثل انعكاساً صادقاً لحقيقة المجتمع الأمريكي وليست انطباعات
شخصية لمؤلفيها، كما أنها معززة بالأرقام والجداول الإحصائية الموثقة.
الدراسة الأولى: (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة) :
هي دراسة أنجزها باحثان أمريكيان، هما: (جيمس باترسون) و (بيتر كيم)
تناولت واقع المجتمع الأمريكي في شتى مناحي الحياة من دينية وسياسية وثقافية
واقتصادية وإعلامية، وتمتاز الدراسة بأنها تصف ملامح المجتمع الأمريكي من
خلال لقاءات ميدانية أجراها المؤلفان مع عينة كبيرة من الشعب الأمريكي، وأهم
الحقائق التي تضمنتها الدراسة ما يلي:
- فقدان ثقة المواطنين في قياداتهم السياسية والدينية، وذلك بسبب غياب
القدوة، وأدى ذلك إلى اختلاط المعايير وعدم احترام تعاليم الدين؛ لأنها خاطئة
حسبما ظهر لهم.
- الحياة الشخصية لعامة الشعب الأمريكي تتسم بالنفاق، فهم يظهرون خلاف
ما يبطنون، هذا بالإضافة إلى الكذب الذي أصبح عادة في حياة الفرد الأمريكي!
- انتشار الزنا، حيث تشيع الخيانة الزوجية هناك، فأكثر من ثلث
الأمريكيين المتزوجين كانت لهم أو لا يزالون مرتبطين بعلاقات جنسية غير ... شرعية، وغالبية الشعب الأمريكي تؤمن بأن الاتصال الجنسي مع شخص آخر ... غير الزوج أو الزوجة جائز ومباح.
- كثرة جرائم القتل والانتحار والاغتصاب، فنسبة من ارتكبوا جرائم
بأنواعها المختلفة يصل إلى 39% من مجموع الشعب الأمريكي، وعدد جرائم القتل
بلغ (25) ألف جريمة سنويّاً، ونتيجة لذلك: ينفرط عقد الأمن، ويتضاعف عدد
السجناء، وتتزايد حالات عقوبة الإعدام.
الدراسة الثانية: (نحن القوة الأولى: أين تقف أمريكا، وأين تسقط في النظام العالمي الجديد؟)
أصدر هذا الكتاب (أندرو شابيرو) في عام 1992م، كشف فيه المؤلف
مواطن الضعف وملامح الانهيار في بنية المجتمع الأمريكي السياسية والاقتصادية
والتعليمية والاجتماعية.. وغيرها، وذلك في سياق تفنيده لمقولة: إن الولايات
المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى الأولى في العالم، تلك المقولة التي وردت على
لسان الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، ويرى
المؤلف أن الولايات المتحدة هي القوة الأولى، من حيث مؤشرات القوة الاقتصادية
والعسكرية، إلا أن عوامل الضعف والتدهور تسري في الوقت ذاته في شتى
القطاعات، فمثلاً: تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في الإنفاق على الشؤون
الصحية، إلا أنها الدولة الأولى في عدد الوفيات والموت الجماعي للأطفال الرضع، وقد عقد المؤلف مقارنة بين الولايات المتحدة و (18) دولة صناعية أخرى، هي: أستراليا، والنمسا، وبلجيكا، وكندا، والدانمارك، وفنلندا، وفرنسا، وألمانيا،
وأيرلندا، وإيطاليا، واليابان، وهولندا، ونيوزيلندا، والنرويج، وإسبانيا،
والسويد، وسويسرا، وبريطانيا.
ثم استعرض المؤلف بعد ذلك بشكل أكثر تفصيلاً، مظاهر الضعف في
الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها دولة، والتي تشمل مختلف القطاعات:
السياسية، والاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية.
فبالنسبة للقطاعات السياسية: يرى المؤلف أن ثقة الشعب الأمريكي في الحياة
السياسية مهزوزة، وذلك نظراً لما يراه من فساد سياسي وأخلاقي يتجلى في إنفاق
بعض المرشحين لعضوية الكونجرس ملايين الدولارات على حملاتهم الانتخابية،
ومن مؤشرات الضعف السياسي في الولايات المتحدة: تضخم مديونيتها للأمم
المتحدة، وعدم قبولها لتوصيات منظمات ولجان حقوق الإنسان، وضآلة مساهمتها
في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، حيث تحتل المرتبة الثامنة عشرة في
هذا المجال.
وفي الاقتصاد: يلاحظ أن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى في العالم في
عدد المليونيرات، بينما تضم في الوقت ذاته أكبر نسبة من الأطفال البائسين الذين
يعيشون فقراً مدقعاً، حيث يعيش خُمْس الأطفال الأمريكيين وعُشر المواطنين
البالغين في فقر مدقع، كما يوجد بالولايات المتحدة ما يقرب من ثلاثة ملايين
مواطن بلا سكن، 46% من المواطنين السود، و15% من أصول إسبانية أو
برتغالية أو أمريكية لاتينية.
وفي مجال الدفاع: تعتبر الولايات المتحدة هي الدولة الأولى في العالم من
حيث الإنفاق الدفاعي، ولكن هذا يأتي على حساب مجالات أخرى، كالرعاية
الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي، وفي المقابل: تعاني الولايات المتحدة من
عجز كبير في الميزانية العامة، بحيث وصل العجز في عام 1991م إلى ما يقارب
(279) بليون دولار، وفي عام 1992م وصل إلى (362) بليون دولار.
أما الديون الخارجية: فقد وصلت إلى (400) بليون دولار، وهذا فقط جزء
من المديونية العامة للدولة التي تصل إلى (2، 2) ترليون دولار.
وفي التعليم: يلاحظ ارتفاع معدل الأمية، حيث يبلغ عدد الأميين (27)
مليوناً، كما يتدنى مستوى التحصيل العلمي في صفوف الطلاب، وبالنسبة لنسبة
العلماء إلى المواطنين، فإنها 55 لكل 1000 مواطن، وهي دون النسبة الموجودة
في الدول المتقدمة الأخرى.
وفي مجال الحياة الاجتماعية: تقع في الولايات المتحدة أكثر من عشرين ألف
جريمة سنويّاً، بمعدل جريمة واحدة كل 25 دقيقة، وتتصدر الولايات المتحدة قائمة
الدول الصناعية في عدد حالات الاغتصاب المسجلة رسميّاً، أما جرائم تعاطي
المخدرات: فعددها مليون جريمة سنويّاً، وتتزايد فيها حالات تعاطي الكوكايين
والماراجوانا، كذلك تشيع في المجتمع الممارسات الجنسية غير الشرعية، إذ
تصاب! فتاة واحدة من بين كل عشر فتيات بين سن الـ 15 والـ 19 بأعراض
الحمل نتيجة الممارسة الجنسية غير المشروعة، كذلك تحتل الولايات المتحدة
المرتبة الأولى من بين الدول الصناعية في عدد حالات الإصابة بالإيدز، ولقد مات
بسبب هذا المرض أكثر من 130.000 أمريكي، وقبل حلول عام 1993 م
أصيب أكثر من 480.000 أمريكي بالمرض نفسه.
الدراسة الثالثة: (دولة من شعبين: البيض والسود.. تمييز، وانفصال وعداء، وعدم مساواة) :
وهي بقلم البروفسور (أندرو هيكر) ، وصدرت في عام 1992م، وقد تناول
فيها قضية التمييز العنصري في الولايات المتحدة بين المواطنين البيض والمواطنين
السود، وانعكاساتها على المجتمع الأمريكي، حيث استعرض المؤلف المتاعب
والمضايقات التي يتعرض لها السود من قِبَل البيض على المستوى الشعبي وعلى
المستوى المؤسسي، حيث تحدث المؤلف عما أسماه بـ (العرقية المؤسساتية) التي
قد تحدث في الكنيسة أو الجامعة أو الشركات التجارية أو الدوائر الرسمية الحكومية
كالمباحث الفيدرالية ومديرية أمن (لوس أنجلوس) ، كذلك تناول المؤلف موقف كل
من المحافظين البيض والليبراليين من السود، وذكر المؤلف أن السود لا يزالون
يواجهون مضايقات من جراء وضع العقبات أمام توظيفهم، ويختم البحث بإثارة
نقطة على صعيد العنصرية السياسية، تتمثل في كون عملية الاقتراع في
الانتخابات تتم وفقاً للأصل العرقي للمرشح، بمعنى أن كثيراً من الناخبين البيض
في الولايات المتحدة يصوتون للمرشح الأبيض، بينما يصوت السود لصالح
المرشح الأسود.
وننتقل إلى الدراسة الرابعة، وعنوانها: (السقوط التراجيدي.. أمريكا عام 2020م) :
وقد أصدرها الجنرال المتقاعد (هاميلتون هوز) في عام 1992م، وهو رجل
أمريكي شغل عدة مناصب عسكرية مهمة في بلاده، والكتاب يتناول الخصائص
العامة للمجتمع الأمريكي في شتى مناحي الحياة: السياسة، والاقتصاد، والصحة،
والتعليم، والمخدرات، والجريمة، والأخلاق، مع تركيز واضح على الفساد
السياسي في الحكومة والدستور والقانون الجنائي، ويرى المؤلف أن العالم لم يعد
ينظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة فريدة في العالم، وأن أهم علل المجتمع
الأمريكي: تردي الأخلاق، ويظهر ذلك في الممارسات الجنسية الشاذة، كما
يتحدث المؤلف عن الجريمة والقانون الجنائي الأمريكي، فيذكر أن معدلات الجريمة
قد ارتفعت، وذلك بسبب فساد القانون الجنائي الأمريكي، إذ يوجد تساهل كبير في
إصدار الأحكام القضائية على المجرمين، كذلك يعاني المجتمع الأمريكي من عجز
في الميزانية وتضخم المديونية؛ نتيجة للفساد السياسي والاقتصادي وعجز الحكومة
عن إيجاد حلول لمشكلات تعاني منها البلاد، مثل: مشكلة الجريمة، والمخدرات،
والعجز في الميزانية، وارتفاع الضرائب، وتردي النظام التعليمي، والعنصرية،
ويختم المؤلف كتابه بالتعبير عن قلقه على الولايات المتحدة التي لن تستمر طويلاً
في كونها القوة العظمى الوحيدة في العالم؛ وذلك مرده إلى الانحطاط الأخلاقي
وانهيار القيم على كافة المستويات: المجتمع، والكونجرس، والقضاء.
الدراسة الخامسة: (البيت الأبيض.. تسييس الشذوذ في وضح النهار) :
وهي لمؤلف الكتاب الذي نعرض كتابه: د. (محمد بن سعود البشر) ، تناول
فيها حركة الشواذ جنسيّاً في المجتمع الأمريكي وازدهار نشاطهم في عهد الرئيس
الأمريكي الحالي (بيل كلينتون) ، حيث إنهم ساندوا حملته الانتخابية، ولذلك كافأهم
بعد تنصيبه بأن اعترف بمطالبهم، ووعد بالعمل على تلبيتها في رسالته التي بعث
بها إليهم وهم يتظاهرون أمام البيت الأبيض في السادس والعشرين من أبريل
1993م، ويذكر المؤلف أن ظهور فئة الشاذين جنسيّاً يرجع إلى عقد السبعينيات،
أما نشاط هذه الفئة فقد امتد ليشمل مجالات عديدة من الحياة السياسية والاجتماعية
والثقافية والإعلامية والترفيهية، ويذكر المؤلف أن من أهم وأخطر أسباب ظاهرة
الشواذ جنسيّاً في المجتمع الأمريكي: التغلغل اليهودي في مراكز القوى السياسية
والاجتماعية في المجتمع الأمريكي، وما سببه من (شذوذ) حضاري في واقع الحياة
الاجتماعية في أمريكا، فليس صحيحاً أن الحركة اليهودية موجهة ضد المسلمين
فقط، وإنما هي حركة تهدف إلى تدمير الأخلاق، وانتشار الفاحشة، وهدم مبادئ
الدين للمجتمعات الغربية أيضاً، فهم أحد أسباب طغيان المادية والانحطاط الأخلاقي
الذي نشاهده اليوم في عالم الغرب.
الدراسة السادسة: (ليست للبيع بأي ثمن ... .. كيف نحفظ أمريكا لأطفالنا؟) : ...
وهي لـ (روس بيرو) ، رجل الأعمال الأمريكي الشهير الذي رشح نفسه لانتخابات الرئاسة الأمريكية 1992م، وهزم فيها أمام مرشح الحزب الديمقراطي
(بيل كلينتون) .
يناقش هذا الكتاب المشكلات التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، مع اهتمام واضح بالوضع المتردي للاقتصاد الأمريكي الذي يعزوه في الأساس
إلى فساد الحكومة والكونجرس، ويذكر (بيرو) أن أمريكا هي أكثر الدول الصناعية
عنفاً، وأن نظام التعليم فيها هو أقل الأنظمة التعليمية كفاءة مقارنة بأنظمة التعليم
في الدول الصناعية، ويذكر أيضاً أن هناك غلاءً فاحشاً في الخدمات الصحية، كما
أن علامات التصدع والانهيار بدأت تظهر على الطرق السريعة والجسور والأنفاق،
ويلوم (بيرو) الساسة الأمريكيين لعدم جديتهم في تطبيق الفلسفة الرأسمالية،
وانشغالهم بدلاً من ذلك بفرض القوانين، وزيادة معدلات الضرائب، وجمع الأموال
.. لتمويل الحملات السياسية، وعن الدّين العام: ذكر (بيرو) أنه بلغ أكثر من
أربعة تريليونات دولار، وأن ديون الولايات المتحدة قد زادت بمقدار ثلاثة
تريليونات خلال اثنتي عشرة سنة فقط، وهو ما يعني: أن الزيادة كانت بمعدل
تريليون واحد لكل فترة رئاسية، وعن البطالة في الولايات المتحدة، قال (بيرو) :
إن الشركات الكبرى هناك أخذت في تقليص حجمها، وتقليل كميات إنتاجها،
وتسريح بعض مستخدميها، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة، حيث فقد
المجتمع الأمريكي أكثر من 700 ألف وظيفة في القطاع الصناعي الخاص) ، ويختم
بيرو كتابه بالحديث عن فقر الأطفال في بلاده، حيث يذكر أن خُمْس أطفال أمريكا
يعيشون في مستوى الفقر المعروف دوليّاً.
__________
(*) انظر العدد (84) من مجلة البيان، ص 31 37، حيث عرضت هذه الدراسة بعد صدورها بترجمة موسعة في كتاب مستقل.(110/60)
المسلمون والعالم
جماعة الأحباش..
حقيقتهم وآراؤهم
بقلم: عبد الرحمن بن عبد الله الحجاج
لا شك أن الابتداع في الدين قد ذمته نصوص السنة صراحة ونصوص الكتاب
ضمناً، والبدعة مذمومة ذم الكفر إذا كانت مكفرة، وذم الفسوق والعصيان إذا كانت
أدنى من ذلك، ومن عموم النصح للمسلمين: تعرية الفرق والجماعات والمذاهب
المبتدعة، وكشف عقائدهم الباطلة.. ومن تلك الجماعات: جماعة الأحباش، التي
سوف نستعرض في هذه المقالة واقعها وما هي عليه من الضلال والانحراف.
أولاً: تاريخ ونشأة الأحباش:
ينتسب الأحباش إلى شيخهم عبد الله الهرري الحبشي، والهرري نسبة إلى
بلاد (هرر) في الحبشة، وينسب نفسه إلى بني عبد الدار، وقد جاء إلى بلاد الشام
سنة 1370هـ (1950م) [1] تقريباً.
وقد بدأ في نشر عقيدته الفاسدة في سوريا، حيث وجد بعض القبول عند
بعض مشايخ الطرق الصوفية، وقد تصدى للحبشي وأفكاره المنحرفة الشيخ (محمد
ناصر الدين الألباني) ، فإن له عدة ردود عليه ومقالات في نقده، أهمها: كتاب
(تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره) ، وكتاب (الرد على التعقيب الحثيث) ،
حيث رد فيهما على الحبشي، وبيّن قلة علمه في الحديث.
ولما لم يجد الحبشي في سوريا أرضاً خصبة لترويج عقيدته الفاسدة وأفكاره
المنحرفة، انتقل إلى لبنان واستغل ظروف اضطراب البلاد في حربها الأهلية
الأخيرة بعد عام 1975م، واتخذ من بيروت مستقراً له في منطقة (برج أبي حيدر) ، ثم أخذ يتردد على طرابلس، ويجالس الناس في المقاهي، ويجمعهم حوله،
ويؤول لهم الرؤى والأحلام، ويروي لهم القصص، فاجتذبهم من هذا الباب؛ حيث
إن عوام الناس بطبعهم يحبون القصص والقصاصين والخرافة وتفسير الأحلام.
وبهذا الأسلوب تزايد أتباعه، وخاصة أن في مذهب الأحباش ما تشتهيه
الأنفس المريضة من اللهو واللعب، بل إن كل مريد يجد مراده في هذا المذهب،
فمريد التصوف والخرافات يجد مراده، ومريد الانحراف الخلقي يجد بغيته بما
ستراه من تأويلات باطلة، وكل صاحب هوى يجد شهوته.
ويزعم الأحباش أنهم أهل السنة والجماعة! وهم أبعد الناس عنها، بل هم
أعداء السنة الذين يكيدون لها، وقد حذر منهم كثير من أهل العلم، منهم: الشيخ
الألباني، كما ذكرنا سابقاً، والشيخ عبد العزيز بن باز، حيث يقول: (إن هذه
الطائفة معروفة لدينا، فهي طائفة ضالة، ورئيسهم المدعو عبد الله الحبشي معروف
بانحرافه وضلاله، فالواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم الباطلة، وتحذير الناس منهم، ومن الاستماع لهم، أو قبول ما يقولون) [2] .
وقد صدرت بعض الكتب للرد على هذه الطائفة الضالة، منها:
(الرد على الشيخ الحبشي) ، عثمان الصافي.
(استواء الله على العرش) ، أسامة القصاص.
(الاستواء بين التنزيه والتشويه) ، عوض منصور.
(إطلاق الأعنة في الكشف عن مخالفات الحبشي للكتاب والسنة) ، للهاشمي.
(الرد على عبد الله الحبشي) ، عبد الله محمد الشامي.
(بين أهل السنة وأهل الفتنة) ، عبد الله الشامي.
(شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة) ، عبد الرحمن دمشقية.
(موسوعة أهل السنة في نقد أصول وشبهات أهل البدعة) ، وهو كتاب ضخم، يقع في حوالي خمسمئة صفحة، لم يصدر حتى الآن، لعبد الرحمن دمشقية.
ثانياً: عقيدة الأحباش:
عقيدة الأحباش عقيدة فاسدة مباينة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وهي خليط
من عقائد الفرق الضالة، وهي عقيدة متناقضة، وتتضح معالم الانحراف والضلال
لديهم فيما يلي:
1- صفات الله (عز وجل) :
ينفي الأحباش جميع الصفات التي وصف الله (جل وعلا) بها نفسه، ولا
يثبتون إلا ما تتخيله عقولهم القاصرة، زاعمين أنهم بِرَدِّ هذه الصفات الواردة في
الكتاب والسنة ينزهون الله، وهم يُكَفِّرُون كل من يثبت هذه الصفات لله، ويتهمونه
بأنه مشبه ومجسم.
وللأحباش طريقة عجيبة في نفي صفات الله (جل وعلا) أو كما يقولون:
لتنزيهه، وذلك بمقارنته بالمخلوق، فيقولون: المخلوق له يد، فالله منزه عن اليد،
والمخلوق له قدم، فالله منزه عن القدم، والمخلوق له عينان، فالله منزه عن العينين، ويتجاهلون أن الله ليس كمثله شيء، وأن صفاته ليست كصفات المخلوقين،
فإثبات هذه الصفات كما يليق بجلاله لا يستلزم تمثيله بمخلوقاته.
وقد وصل الأمر بالأحباش إلى كلام عن اللسان والحنجرة والأسنان، بل إلى
الإليتين! ! ، فقالوا: (إذا قلنا: إن الله مستو على العرش، فمعنى ذلك أن له
إليتين) [3] ، انظر إلى هذه الجرأة في حق الله (جل وعلا) وإلى هذا الجهل ... المطبق.. [سبحانه وتعالى عما يقولون علوَْا كبيرْا] .
ويقوم الأحباش بنفي بعض الصفات عن الله (تعالى) تفصيليّاً بطريقة بدعية،
ويقارنون ذات الله بذوات المخلوقين، فيقولون: الله ليس كالرجل الضخم، الله
ليس كذا وكذا، مما يطبع في ذهن السامع صوراً وأشكالاً وتفكراً في ذات الله
(سبحانه وتعالى) ، وقد ورد عن ابن عباس (رضي الله عنه) موقوفاً، وروي
مرفوعاً إلى النبي: (تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله) [4] .
والمعلوم أن طريقة القرآن في الغالب هي أن نفي النقائص عن الله يكون
مجملاً، وإثبات الكمال لله يكون مفصلاً، بخلاف طريقة أهل البدع التي تقوم على
النفي المفصل والإثبات المجمل، وأيضاً: إن هذا النفي المفصل والذي يسميه
الأحباش تنزيهاً يعتبر ذمّاً وليس مدحاً؛ فلو قلت لرجل: أنت لست سارقاً ولا زانياً
ولا كلباً ولا قذراً.. إلخ.. ألا يغضب هذا الرجل، ويعتبر هذا التنزيه عن هذه
النقائص ذمّاً؟ ، فكيف بمقام رب العالمين، (سبحانه وتعالى عما يقولون علوّاً
كبيراً) .
وقد أورد الله (تعالى) في كتابه العظيم هذا النفي مجملاً، فقال: [هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِياً] [مريم: 65] ، وقال: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] [الشورى: 11] ، وقال: ... [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] [الإخلاص: 3، 4] .
ولكن أنّى لهم أن يفقهوا العقيدة الصحيحة في الله (تعالى) ، وفاقد الشيء ... لا يعطيه.
2- توحيد الله (جل وعلا) :
التوحيد عند الأحباش هو توحيد الربوبية فقط، وهو توحيد الله بأفعاله،
كالاعتقاد بأن الله هو الخالق الرازق.. وقد تأثروا في ذلك بالفلاسفة والمتكلمين،
وهذا التوحيد آمن به حتى مشركو قريش، يقول (تعالى) : [وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] [العنكبوت: 61] ويقول:
[وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ]
[العنكبوت: 63] ، ولكن هذا التوحيد لم يكتمل لديهم، ولو اكتمل لم ينفعهم؛ لأنه
يلزم معه توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء، والاستغاثة،
والاستعانة، والاستعاذة..
والأحباش هم أعظم الناس نقضاً لتوحيد الألوهية؛ حيث أباحوا الشرك الأكبر، كدعاء الأولياء، والأموات، والاستغاثة بهم.. وفي هذا يقول شيخهم: (الاستغاثة
بغير الله والاستعانة لا تعتبر شركاً، كما زعم بعض الناس، فلو قال قائل: يا
رسول الله.. المدد! ، فهو صار كافراً عندهم) [5] ويقول: (إني لأعجب من
هؤلاء الذين يكفرون المسلمين لمجرد التمسح بقبر وليّ أو قولهم: يا رسول الله
المدد) [6] ، وقال شيخهم عن حكم من يستغيث بالأموات ويدعوهم، كأن يقول: يا
سيد يا بدوي أغثني، يا سيدي دسوقي المدد.. فقال: (يجوز ذلك، فإنه يجوز
أغثني يا بدوي، ساعدني يا بدوي) فقيل له: إن الأرواح تكون في برزخ معين،
فكيف يستغاث بهم وهم بعيدون؟ فأجاب بقوله: (الله (تعالى) يكرمهم بأن يسمعهم
كلاماً بعيداً وهم في قبورهم، فيدعون لهذا الإنسان وينقذه، وأحياناً: يخرجون من
قبورهم فيقضون حوائج المستغيثين بهم، ثم يعودون إلى قبورهم) [7] .
وهذا والله من أعظم الشرك والعياذ بالله، وكأنهم لا يقرؤون قول الله (تعالى) : [وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً] [الجن: 18] ، وقوله (تعالى) : ... [إن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] [فاطر: 14] ، وقوله عن رسول الله: [إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى] [النمل: 80] ، وقوله (تعالى) على لسان رسوله: [قُلْ إنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً وَلا رَشَداً] [الجن: 21] ، [قُل لاَّ أََمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَراً إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [الأعراف: 188] .
ثم: ألا يعلم هؤلاء أنهم بهذا الدعاء يعبدون موتاهم؟ ! ، كما أخبر (عليه
الصلاة والسلام) بقوله: (الدعاء هو العبادة) [8] ، وقوله: (إذا سألت فاسأل الله،
وإذا استعنت فاستعن بالله) [9] .
3- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته:
عقيدة الأحباش في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقيدة غريبة عجيبة،
فهم غلاة في مواطن، وجفاة في مواطن أخرى؛ حيث يستغيثون به، ويطلبون منه
المدد والعون، ويجعلون ذلك من القربات ومن دواعي محبته، بل من لوازمها
أحياناً، فهم مخالفون معاندون لأمره وهديه -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال:
(لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله
ورسوله) [10] ، وعندما قال أحد أصحابه: ما شاء الله وشئت، قال: (جعلتني لله
عدلاً، ما شاء الله وحده) [11] .
ومن جهة أخرى: فالأحباش مجحفون في حقه -صلى الله عليه وسلم- بعدم
اتباعهم هديه، ثم بقولهم وإعلانهم أنه يكفي أن يصلي المسلم على النبي -صلى الله
عليه وسلم- مرة واحدة في عمره كله.. وأهل السنة والجماعة الذين يدعي هؤلاء
أنهم منهم يقولون بمشروعية وتأكيد الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- في مواطن
كثيرة، وأن تاركها آثم، وخاصة عند ذكره -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال:
(رَغِمَ أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليّ) [12] ، وقال أيضاً: (البخيل من
ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ) [13] ، والأحباش مخالفون لسنته -صلى الله عليه
وسلم- أشد الخلاف، ولهم شغف بالبدع، كبدعة الاستغاثة به -صلى الله عليه
وسلم-، وبدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وهذه من ضروريات مذهبهم، وهم
يحتفلون بها على أكبر نطاق، ويقيمون لذلك صالات الاحتفالات الكبيرة،
ويحتفلون بالمناسبات البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويملؤون الشوارع
بإعلاناتهم لذلك، بل إنه في بعض البلاد ينقل التلفزيون هذه الاحتفالات باسم
الإسلام.
ولا يكتفي الأحباش بهذه البدع، بل تعدى ذلك إلى خرافات المتصوفة
وانحرافاتهم، فهم أي الأحباش يعظّمون أئمة يعظّمون أئمة التصوف الزنادقة،
ويترضون عنهم، ويطعنون فيمن يتكلم فيهم بسوء، ويتهمونه بأنه يكفّر علماء
المسلمين [14] .
__________
(1) مجلة الفرقان، عدد (33) 14/1/1993م، ص 13، نقلاً من كتاب للأحباش، وانظر أيضاً: لقاءً مع نزار الحلبي في جريدة (المسلمون) ، العدد (407) .
(2) فتوى أرسلها سماحة الشيخ في معرض جوابه للجالية الإسلامية اللبنانية بأستراليا عام 1406هـ، بتاريخ 30/10/1406هـ.
(3) لقاء مع نزار الحلبي في جريدة (المسلمون) ، العدد (407) ، وورد في كتاب شيخهم (الدليل القويم) ، ص 36، مثل هذه التخرصات البدعية.
(4) حديث حسن، رواه أبو نعيم في الحلية، وانظر صحيح الجامع: ح/ 2976.
(5) عبد الله الهرري الحبشي: بغية الطالب، ص10.
(6) المصدر السابق، ص 51.
(7) عبد الله الشامي: بين أهل السنة وأهل الفتنة.
(8) حديث صحيح، رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، وأبو داود في كتاب الصلاة، وابن ماجة في كتاب الدعاء، والإمام أحمد في مسند الكوفيين.
(9) حديث صحيح، رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة، والرقائق، والورع، وأحمد في مسند بني هاشم.
(10) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، والإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة.
(11) حديث صحيح، رواه أحمد في مسند بني هاشم.
(12) حديث صحيح، رواه الترمذي في كتاب الدعوات، والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين.
(13) حديث صحيح، رواه الترمذي في كتاب الدعوات، والإمام أحمد في مسند أهل البيت.
(14) عبد الله الهرري الحبشي: الدليل القويم، ص 152.(110/68)
المسلمون والعالم
جهود الرافضة..
في الجزر الفلبينية
بقلم: محمد بن عبد الله المهاجر
مدخل:
لما كنت من الراصدين لنشاط الروافض في الفلبين منذ سنوات: فقد توقفت عند كل ذلك طويلاً، متأملاً ما يبذلونه من جهود كبيرة لنشر مبادئهم في أوساط
المسلمين بالفلبين كما سيتضح من هذا الموضوع.
وقررتُ مستعيناً بالله كشف تلك الأفاعيل التي تجتاح هذه البلاد على حين
غفلة من بعض أهلها.
فتعالوا معي للاطلاع على تلك الحقائق والوقوف على آليات تحركهم من ... ناحية، والتعرف على الخطر الداهم الذي يُهدد مسلمي هذه البلاد في دينهم من ناحية أخرى! !
متى ... وكيف دخل الرافضة الفلبين؟ !
يحدد بعض المراقبين عام 1966م بداية لدخول الشيعة إلى الفلبين، ومنذ ذلك
التاريخ وحتى العام 1976م، كان نشاط الشيعة يقتصر على مجهودات فردية غير
منظمة لعدد من الطلاب الإيرانيين الوافدين للدراسة في الجامعات الفلبينية، إلى أن
وقعت حادثة أدت إلى توقف هذا النشاط بشكل مؤقت، حيث قتل اثنان من أولئك
الطلاب الإيرانيين الذين كانوا يدرسون في جامعة (مينداناو (الحكومية، وكانوا من
أبرز الناشطين في الدعوة لمذهبهم بين مسلمي (مينداناو (، وذلك في ظروف
غامضة، ولم يعرف حتى اليوم الدافع وراء القتل أو من هم منفذوه.
والجدير بالذكر أن من العوامل المهمة التي ساعدت أولئك الطلاب على حرية
الحركة والانتشار: خصوصية العلاقات السياسية المتميزة التي كانت تربط دولة
الفلبين سابقاً بقيادة (ماركوس) ودولة إيران بقيادة (الشاه رضا بهلوي) حيث كان
الاثنان من أوفى عملاء أمريكا في تلك الحقبة الزمنية البائدة.
وعلى إثر وصول (خميني) إلى كرسي الحكم في طهران أخذت حكومة الآيات
على عاتقها تصدير دين الرفض وخرافات (خميني) وأمثاله، التي بثوها عبر
منشوراتهم عن طريق وسائل إعلامهم الأخرى.
ومن هنا: تحولت سفارات إيران في الخارج إلى بؤر لنشر مذهبهم، ولما
كانت سفارتهم في الفلبين من أكبر أوكارهم بالخارج، ومن أكثرها حركة وإمكانات: فقد عرّض ذلك مسلمي الفلبين لجرعة كبيرة من دعاياتهم، هذا بالإضافة لعدة
عوامل أخرى حفزت الرافضة وجعلتهم يولون اهتماماً كبيراً لاختراق المجتمع
المسلم الفلبيني السني، ومن أهم هذه العوامل ما يلي:
1- تأثر بعض القبائل الفلبينية المسلمة بعادات واعتقادات الشيعة، وإقامة
الاحتفالات الشيعية البدعية التي ورثوها من قديم الزمان، حيث إن دعاة الإسلام
الأوائل الذين قدموا لجزر الفلبين من حضرموت بجنوب الجزيرة العربية كانوا من
الصوفية الذين يشتركون مع الرافضة في المظاهر البدعية المعروفة، وقد تلقت
منهم هذه القبائل الإسلام على نحو ما يعتقده أولئك، ولا زالت حتى اليوم بقايا من
هذه المعتقدات والمظاهر بين تلك القبائل.
2- يشكل المسلمون في الفلبين نسبة مقدارها (12%) من مجموع السكان،
وهي نسبة لا بأس بها لأقلية تتجمع في جزيرة من جزر الجنوب الثلاث مما يسهل
عملية انتشار الدعوة بين صفوفهم.
3- تردي الحالة الاجتماعية والاقتصادية لمسلمي الفلبين وحاجتهم الماسة
للمساعدة، حيث يمكن الدخول عليهم من هذا الباب الواسع.
4- وجود سفارة إيرانية ذات إمكانات كبيرة وعدد غفير من الطلاب
الإيرانيين الدارسين في الجامعات الفلبينية المختلفة، والذين ينظمون أنفسهم تحت
ما يسمى بـ (اتحاد الطلاب الإيرانيين بالفلبين) .
5- انتشار الجهل والتخلف بين كثير من المسلمين في الفلبين؛ مما يجعلهم
صيداً سهلاً لأصحاب المذاهب المنحرفة والاتجاهات الهدامة.
الطرق والوسائل التي اتبعها الرافضة:
لقد اتبع الرافضة طرقاً شتى وفاعلة للوصول لأهدافهم، من أهمها ما يلي:
1- الإغراء بالمال:
لقد كان المال من أقوى الوسائل التي أغروا بها مسلمي الفلبين، فقد دخلوا إلى
الفلبين بأموال كثيرة لثقتهم بالأثر القوي جدّاً لهذا العنصر في بلد يعاني مسلموه من
فقر شديد، فاستغلوا حاجة الناس أسوأ استغلال، تماماً كما يفعل المنصرون، ولعلنا
نستطيع القول بداية بأن نسبة النجاح التي حققوها في الفلبين إنما وصلوا إليها فقط
بما ينفقونه من أموال.
2- توجيه الدعوات للعلماء والدعاة لزيارة إيران:
لقد حرص الرافضة منذ البداية على توجيه دعوات رسمية للعلماء والدعاة من
أهل السنة لزيارة إيران ويقومون بتقديم كل التسهيلات اللازمة لهم من مصاريف
وتذاكر سفر وتأشيرات وتنظيم لقاءات رسمية مع رؤساء ومسؤولي الحكومة في
طهران، بل وحتى إصدار وثائق سفر إيرانية خاصة لبعضهم، وتسفير من يريد
عن طريق أوروبا بطريقة غير مباشرة؛ حتى لا تعرف ذلك عنه الحكومة الفلبينية، مع عدم وضع تأشيرات في جواز سفره الأصلي.
والمؤسف أنه قل أن يَسْلَم أحد من مسلمي الفلبين ممن زار إيران من التشيع
باستثناء اثنين فقط من العلماء.
3- تنظيم المؤتمرات والندوات:
ينظم الروافض الإيرانيون في الفلبين مؤتمرات وندوات ينفقون عليها أموالاً
ليست قليلة، وغالباً ما تعقد هذه الندوات والمؤتمرات في المناسبات الدينية الشيعية
مثل عاشوراء وغيرها أو المناسبات الوطنية الإيرانية، وقد أعد أول مؤتمر لهم في
الفلبين في عام 1984م، في محافظة (لاجونا) المجاورة لمنطقة العاصمة (مانيلا) ،
وقد أشرف على ذلك المؤتمر الإيراني المدعو (علي مرزا) وهو أنشط رافضي في
الفلبين في مجال الدعوة لمذهبه، وتقول بعض المصادر الفلبينية أن (مرزا) هذا
مرتبط بأجهزة الاستخبارات الإيرانية.
وقد دعي لهذا المؤتمر أكثر من سبعين من العلماء المحليين تحت شعار
(توحيد صفوف علماء مسلمي الفلبين) وفي ختام المؤتمر وجهت الدعوة الرسمية
لسبعة من المؤتمرين لزيارة (طهران) ، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم يشكل خمسة
من أولئك السبعة الدعامة الرئيسة للدعوة الرافضية في الفلبين، وعلى رأس هؤلاء: المدعو (علوم الدين سعيد) والذي لقّبُوه بإمام الفلبين! ! .
أما عن الندوات العامة: فإنهم يستغلونها لدعوة العوام وإيقاع جهال الناس في
شراكهم.
4- وسائل الإعلام:
يقوم الرافضة في الفلبين باستغلال وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة،
خاصة المقروءة بشكل واسع، فيقومون بنشر كتبهم ومطبوعاتهم باللغات العربية
والإنجليزية، وقد قام المدعو (علوم الدين سعيد) بترجمة بعض الكتب الشيعية إلى
اللغة المحلية (المراناو) ، ويقومون بتوزيع هذه المطبوعات على المدارس والمعاهد
الإسلامية وحتى الأشخاص عن طريق عناوينهم البريدية، دون علم أصحاب هذه
العناوين، ومن أشهر تلك الكتب التي يقومون بتوزيعها كتاب (ثم اهتديت) .
أما عن الوسائل المسموعة: فيقوم الروافض المحليين بتأجير بعض ساعات
الإرسال في إذاعة مدينة (مراوي) الإسلامية، ويتعمدون خلال ذلك مهاجمة علماء
ودعاة أهل السنة كما أن القسم الثقافي في سفارة إيران في (مانيلا) يقوم ببث برنامج
أسبوعي عبر ما يسمى بـ (إذاعة الهداية صوت الإرشاد) DWBL.
هذا بالإضافة إلى توزيع الآلاف من صور (خميني) و (خامنئي) أمام المساجد
في أيام الجمع والمناسبات والاحتفالات الدينية.
5- تأسيس مكتبات عامة ومساجد ومدارس خاصة:
لقد عمد الرافضة الإيرانيون بالتعاون مع الرافضة المحليين إلى إنشاء ثلاث
مكتبات عامة في مواقع تَجمّع المسلمين، فأقاموا اثنتين في مدينة (مراوي) حيث
تبلغ نسبة المسلمين فيها 95%من السكان، الأولى أطلقوا عليها (مكتبة حزب الله) ،
ويقوم بالإشراف عليها بعض المثقفين ثقافة غربية من أبناء الفلبين، وملحق بهذه
المكتبة مطبعة لطباعة الكتب، أما المكتبة الثانية: فهي (مكتبة وردة الزمان) ويقوم
بالإشراف عليها بعض العلماء الذين تشيعوا، أما الثالثة: فقد أُنشئت بضاحية
(تاجيج) بالقرب من مدينة (مانيلا) ويطلق عليها (مكتبة الإمام خميني) .
أما عن مساجد الرافضة في الفلبين: فقد لجؤوا لإنشاء مساجد خاصة بهم
لإقامة شعائرهم وطقوسهم الخاصة، وذلك بعد أن ضيق عليهم الدعاة والأئمة
المخلصين الخناق، ولم يمكنوهم من اعتلاء منابر مساجد أهل السنة كما كان الحال
قبل معرفة حقيقة هذه الدعوة.
ويقع مسجدهم الرئيس في مدينة (مراوي) بجزيرة (مينداناو) ، وملحق به
مدرسة لأطفال المسلمين، ويتولى الإمامة فيه (علوم الدين سعيد) ، ويطلق عليه
(مسجد كربلاء) ، أما المسجد الثاني: فيقع في مدينة (باكولود) بجزيرة (بيسايس)
بوسط الفلبين، والثالث: ببلدية (ألاباتج) بالقرب من (مانيلا) بجزيرة (لوزون) ،
وبهذا يكونون قد غطوا الجزر الثلاث الرئيسة لدولة الفلبين بمساجدهم.
ويجدر أن نشير إلى أنهم قد تمكنوا بإغراءات مادية من السيطرة على
المدرسة العربية الواقعة بقرية (مهارليكا) من ضواحي (مانيلا) ، وقد أدخلوا ... في منهجها الدراسي مادة اللغة الفارسية على حساب اللغة العربية! !
6- المنظمات والجمعيات:
وحتى يتمكن الروافض من اختراق المجتمع المسلم بفئاته المختلفة فقد أقاموا
ثلاث جمعيات متعددة، لكل جمعية نشاط موجه لقطاع معين من المجتمع المسلم،
فالأولى وهي عامة تسمى (منظمة أهل البيت) ، ومقرها الرئيس مدينة (مراوي) ،
وعلى رأسها إمام الرافضة في الفلبين، وينضوي تحت لوائها عدد ممن بدل جلده
من العلماء، أمثال: (علي سلطان) ، و (جنيد علي) ، و (عبد الفتاح لاوي) .
أما الجمعية الثانية ونشاطها موجه للشباب بشكل خاص فيطلق عليها:
(مؤسسة حزب الله) ، ويتولى الإشراف عليها مجموعة من ذوي الثقافة الغربية،
ومقرها مدينة (مراوي) أيضاً، والجمعية الثالثة: جمعية نسائية، وتسمى (مؤسسة
فاطمة) ، وتقع في مدينة (مانيلا) ، وتضم بعض النسوة العلمانيات ومجموعة من
النساء معتنقات الإسلام حديثاً.
7- زواج الإيرانيين من النصرانيات الفلبينيات:
لما كان عدد الإيرانيين خاصة الطلاب في الفلبين كبيراً: فقد لجؤوا لطريقة
جديدة لتكثير سوادهم ونشر مذهبهم، وهي الزواج من الفتيات النصرانيات
الفلبينيات، وبذلك نجحوا في إخراج جيل فلبيني جديد رافضي قلباً وقالباً! !
مدى إقبال المسلمين على المذهب الشيعي:
يمكن القول بأنهم في البداية أدخلوا المذهب الشيعي على مسلمي الفلبين،
فنجحوا في جذب أعداد غير قليلة إلى دعوتهم، وسارت في ركابهم أعداد أخرى،
ولم يكن ليتصدى لهم أحد، معتمدين على جهل كثير من مسلمي هذه البلاد بحقيقة
دعوتهم، ومروجين لشعاراتهم الزائفة، إلا أنه مع عودة الدفعات الأولى من الدعاة
الفلبينيين الذين أتموا دراساتهم الشرعية في الدول الإسلامية، بدأت الأمور تأخذ
منحًى آخر، حيث قاد هؤلاء حملات التصدي لدعوة الرافضة، وتصاعد هذا
التصدي حتى أخذت الدعوة الرافضية في الانحسار، وتنبه عوام الناس لحقيقة
دعوتهم، وعاد كثير منهم إلى الحق تاركين خلفهم بقية من المنتفعين، وعماة الجهل، وأصحاب العقد النفسية الذين وجدوا لأنفسهم متنفساً في الدعم الإيراني المادي
والمعنوي، وكان للجمعيات الخيرية العاملة في الدعوة إلى الله في الفلبين جهود
مشكورة في بيان مكر وخداع الرافضة في الدعاية لمذهبهم، حيث كشفوا كثيراً من
مخططاتهم بوسائل الدعوة، ومنها:
1- الدراسة في المدارس الإسلامية.
2- نشر الكتب الشرعية التي توضح انحرافاتهم العقدية وترجمتها.
3- الدروس الدعوية والمحاضرات التي تبين حقيقة هذا الدين دون زيادة أو
نقصان [*] .
الحصاد المر:
منذ أن عمل الرافضة على نشر دعوتهم بين المجتمع الفلبيني المسلم ولم
يحصد مسلمو هذه البلاد إلا مزيداً من التناحر والخلافات وشق الصفوف، هذا في
الوقت الذي هم في أمس الحاجة بوصفهم أقلية لجمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم! !
نعم، فلم يدخل الرافضة على مسلمي الفلبين حاملين معهم الغذاء والدواء كما
يفعل المنصرون ودعاة المذاهب الشيطانية الأخرى، إنما دخلوا عليهم حاملين السب
واللعن والطعن والتسفيه لأهل السنة والجماعة وعلمائهم سلفاً وخلفاً، مما أشعل
الفتنة (لعن الله من أيقظها) بين الإخوة في الدين، وغدت محطة إذاعة مدينة
(مراوي) ميداناً للتهجم على أهل السنة وعرض الخلافات بين أبناء المجتمع الواحد، هذا في دولة يتربص بمسلميها عدو صليبي حاقد! !
ومن ناحية أخرى: ساد اتجاه جديد بين عوام الناس، وهو: أنه كلما عرض
عليهم رأي فقهي في مسألةٍ ما سارعوا مباشرة بمقارنتها بمذهب الرفض في المسألة
ذاتها.
كما أنه قد ترتب على الخلاف بين علماء السنة ودعاة الرفض المحليين حالة
من البلبلة وعدم الثقة في العلماء والدعاة عامة، سعد بها الزعماء السياسيون
العلمانيون وعملوا على تأجيجها لتوطيد مراكزهم والاستئثار بقيادة المجتمع المسلم.
كما أنهم تمكنوا من دعوة بعض النصارى فاعتنقوا دين الرفض، وأصبحوا
يشكلون طابوراً خامساً لهم، أما الأمر المؤسف فهو نجاحهم في التأثير على بعض
الطلاب العرب الذين يدرسون في الفلبين، وذلك عن طريق صرف أموال لهم
بصفة دورية وتسهيل الزنا باسم المتعة! !
دور علماء السنة في التصدي للمد الرافضي:
لقد أجمع العديد من علماء ودعاة الفلبين المخلصين ممن نحسبهم كذلك أجمعوا
أمرهم على التصدي لجهود الرافضة، وقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ كبير، حيث
استخدموا منابر المساجد لتوعية المسلمين، وقام بعضهم بترجمة بعض الكتب إلى
اللغات المحلية لهذا الخصوص.
كما أنه كانت لـ (اتحاد الطلبة المسلمين بالفلبين) وهو اتحاد للطلاب
الدارسين في الفلبين من الدول الإسلامية جهود محمودة في هذا السبيل، لذا:
فيعتبر الرافضة هذا الاتحاد عدوهم اللدود في الفلبين، وعداوتهم لأعضائه ظاهرة
جدّاً.
قبل الختام:
وأخيراً لا بد من التنبيه إلى أنه على الرغم من انحسار الموجة العاتية لدعوة
الرافضة في الفلبين، فإنهم لم يستسلموا، ولا زال سعيهم حثيثاً لتحقيق أهدافهم، لذا
: لا يمكن بحال غض الطرف عن نشاطهم وحركتهم، خاصة بعد أن لجؤوا إلى
تغيير آلية حركتهم من العلن إلى السر في غالب الأحيان بعد أن تصدى لهم العلماء
والدعاة، وأصبح من يتبع مذهبهم يخفي ذلك عمن حوله، ويتظاهر تُقية! باتباع
أهل السنة، ومن هنا: فأرى أنه لا بد على المسلمين في الداخل والخارج العمل
على تحقيق التوصيات التالية:
أولاً: لا بد لزاماً على المجامع العلمية والهيئات والمنظمات الإسلامية وعلماء
الأمة جميعاً إعلان التبرؤ من البدع الرافضية الاعتقادية والعملية، وإعلانها
صريحة جلية ببيان المخالفات المعروفة بين أصولهم المعتبرة عندهم ومنهج أهل
السنة والجماعة.
ثانياً: الاهتمام بأمر مسلمي الفلبين وتوفير الدعوة والتربية الإسلامية
الصحيحة لهم، واستغلال أموال المساعدات التي تقدم لهم استغلالاً فعّالاً، وضرورة تعاون الجمعيات الإسلامية القائمة بجهود مشكورة في هذا الباب فيما بينها، وتوحيد
صفوفها لمواجهة ذلك الغزو الخطير.
ثالثاً: قيام الجهات والجمعيات المهتمة بطباعة المزيد من الكتب والنشرات
التي تفضح مخططات الرافضة وتفند مزاعمهم الضالة، وترجمتها لعدة لغات مختلفة
ما أمكن لذلك سبيلاً.
رابعاً: ضرورة قيام الدعاة الفلبينيين بواجباتهم كاملة، وإعطاء مواجهة
الدعوة الرافضية القدر المناسب من نشاطاتهم، حتى لا تقوم لهذه الدعوة قائمة، ولا
يرتفع لها لواء فوق أرض الفلبين مهما أجلبوا لذلك من جهود، وذلك بالتذكير
بالتباين الجذري بين عقيدتهم والعقيدة الإسلامية الصحيحة.
والله نسأل أن يوفق العاملين المصلحين لما فيه الخير والصلاح، وأن يحبط
كيد المرجفين ودعاة المبادئ المنحرفة، وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(*) سبق أن وضحت البيان بعض جهود هذه الجمعيات الخيرية في الدعوة والإغاثة لمسلمي الفلبين، انظر: العدد (88) ، وكذلك: (الدعوة الإسلامية في الفلبين) للشيخ سعود آل عوشن.(110/76)
المسلمون والعالم
مالي.. من يسبق إلى احتلال القلوب؟ !
بقلم: مندوب المجلة المتجول
تعتبر جمهورية مالي من كبريات دول غرب إفريقيا مساحة، حيث تبلغ
مساحتها 1.240.000 كم2 تقريباً.
وتقع في الوسط الشمالي الغربي لإفريقيا، وتحدها شرقاً جمهورية النيجر،
وغرباً جمهوريتا السنغال وغينيا، وشمالاً جمهوريتا موريتانيا والجزائر، وجنوباً
جمهوريتا ساحل العاج وبوركينا فاسو.
تتألف جمهورية مالي من ثمانية أقاليم إدارية، هي: كاي، وكوليكورو،
وسيكاسو، وسيقو، وموبتي، وتبمكتو، وغاو، وكيدال، والعاصمة باماكو.
ويبلغ عدد السكان حوالي (8) ملايين نسمة تقريباً، وتتكون أجناسهم من:
السود: وهم الأغلبية، منهم البامارا، والفلاتة، والسركولي، والصونغاي،
وسنيفو، وبوزو، والدغوني، والمالكي، وسومونوا، ومانيكا،.. وغيرهم..
والبيض: ومنهم البيضان والطوارق.
واللغات في مالي كثيرة جدّاً، ولكل جنس لغته ولهجته، أما اللغة الرسمية
فهي الفرنسية.
وتوزيع الأديان في مالي كالتالي:
1- الإسلام، ونسبة المسلمين 95%.
2- النصرانية، ويوجد من طوائفها: الكاثوليك، البروتستانت، شهود
... ... ... يهوه، الرسالة الجديدة، السبتية أو المجاتية.
3- الوثنية.
مالي والإسلام:
تعتبر جهود بعض المنتسبين إلى الطرق الصوفية سبباً في انتشار الإسلام في
دولة مالي إن لم يكن في أغلب الدول الإفريقية، ولكن صاحب ذلك انتشار بعض
العقائد الفاسدة والعبادات البدعية، وبعد ظهور الدعوة الإصلاحية في نجد على يد
الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) (رحمه الله) وتوافد المسلمين إلى مكة في موسم الحج
ومكثهم هناك، وبرجوع هؤلاء من الحرمين الشريفين قبل تأسيس الجامعات: بدأت
الدعوة السلفية في مالي (مع العلم أن المنطقة لم تخل من أفراد أهل السنة) ، وفي
الخمسينيات من هذا القرن الميلادي بدأت بشائر الدعوة السلفية تظهر في الآفاق،
وفي عام 1948م بدأت أولى المصادمات في باماكو بين رواد الدعوة السلفية وأهل
الطرق الصوفية، الأمر الذي تسبب في خسائر فادحة.
ومنذ وقت مبكر كان قد التحق عدد من أبناء مالي بالحرمين الشريفين
والأزهر قبل تأسيس الجامعات الحديثة؛ لطلب العلم ونشره في البلاد بعد عودتهم،
مثل: الشيخ (أحمد حماه الله) ، والشيخ (محمد عبد القادر ذكري) ، والشيخ (يعقوب
كمارا) ، والشيخ (محمد السنوسي) ، وعندما منّ الله على المسلمين بفتح الجامعات
بمختلف الدول العربية والإسلامية بادر عدد كبير من أبناء مالي بالالتحاق في تلك
الجامعات، ونال كثير منهم الألقاب العلمية المختلفة.
ويوجد في مالي عدد كبير من هؤلاء الخريجين الذين يقومون بخدمة الإسلام
والمسلمين في مجالات التدريس والخطابة والإمامة والوعظ والإرشاد والفتوى.
لكن الواقع الأليم الذي خلّفه النظام الغربي والعلماني والغزو الفكري قلل من
دور هؤلاء العاملين في الإصلاح الاجتماعي.
وفي العقد الأخير خاصة بدأت الصحوة الإسلامية الرشيدة تأخذ مجراها
الطبيعي في المفاهيم وتوضيح الأهداف وتصويب المسيرة، وذلك عن طريق:
1- دروس المساجد، وخطب الجمعة.
2- توزيع المصاحف والكتب وخاصة المترجمة إلى اللغة الفرنسية
على المثقفين: طلبة وموظفين.
3- توزيع الشريط الإسلامي الميسر.
4- تسيير القوافل الدعوية والإغاثية.
5- تنظيم الدورات والملتقيات.
6- تنظيم المخيمات الطلابية والشبابية.
7- التعليم في المدارس النظامية والكتاتيب.
وقد ركزت الدعوة السلفية جهودها في تأسيس المساجد والمدارس بشكل
واضح، وهي تعاني من مشكلة خطيرة للغاية، وهي عدم وجود مفتٍ عام أو إمام
موحد تجتمع عليه الكلمة ويرجع إليه، مع وجود أئمة للفتوى على مستوى العرف
العام، إلا أن كل تجمع قد يميل إلى هذا المفتي أو ذاك، وفي نظري: إن هذه
المشكلة جاءت نتيجة لعدم تمكن هذه الجماعات من نيل نصيبها من التربية
الإسلامية الجادة وخاصة باب الولاء والبراء، إضافة إلى أن السلطات لم تعط
فرصة لهذه الدعوة لتنمو وتؤدي واجبها على النحو المطلوب، بل كانت هناك
محاولات كثيرة لعرقلة هذه الدعوة، إضافة إلى جهل كثير من المستجيبين لها
لدورهم الذي يجب عليهم القيام به.
المؤسسات الدعوية في مالي:
مما سبق يتضح أن أهم المؤسسات الدعوية في مالي هي: المساجد،
والمدارس، والهيئات، والجمعيات.
1- المساجد:
دور المسجد في الدعوة إلى الله دور مهم ومعروف، وإمام المسجد في مالي له
مكانة كبيرة وعالية جدّاً، حتى أن الإمام يكون أحياناً هو القاضي أو المفتي في
شؤون الحياة كلها.
والمساجد السلفية في باماكو خاصة وفي مالي عامة لعبت دورها في تصحيح
المفاهيم، حيث تولى إمامتها مشايخ وشباب جامعيون، مما جعل المسجد يتمتع
بأعلى سلطة لتوجيه المسلمين وإرشادهم، ونسأل الله (عز وجل) دوام التوفيق
والسداد.
ولقد كان أهل السنة ممنوعين من بناء المساجد باسمهم، وكان أكثرهم يصلي
الجمعة مع أعضاء بعثة المهندسين المصريين الذين كانوا يشتغلون في بناء فندق
الصداقة في باماكو.
وكان الشيخ الحاج (موركي منغاني) قد تبرع بجزء من منزله، واتخذ أول
مسجد جامع لأهل السنة في باماكو في (باجالا) عام 1968م، وهو المسجد الذي
يعرف الآن بمسجد النور، ومن ثم: توالى إنشاء المساجد في العاصمة (باماكو)
وخارجها بعد الانقلاب العسكري الذي تم بقيادة (موسى تراوري) .
ولا يوجد في الوقت الحاضر أي قيود على بناء المساجد طالما التزم المسلمون
الحكمة واتحدت كلمتهم وتواصوا على الحق والصبر، وبحمد الله يوجد في (باماكو)
العاصمة مئة مسجد لأهل السنة، غير تلك التي توجد في بقية الأقاليم والقرى
المجاورة.
2- المدارس الإسلامية:
لا يخفى أن المدرسة دار تربية وتعليم، ومرعى للتكوين والإعداد، وكذا:
تعتبر المدارس من أهم المؤسسات الدعوية التي يجب على المسلمين الاعتناء بها
والحرص عليها.
وفي عام 1946م، بدأ تأسيس المدارس الإسلامية في مالي على النمط
المعروف حالياً، فأسس الحاج (محمود باه) مدرسة في (كاي) ، و (سعد عمر
توري) في (سيقو) ، وتم تأسيس أول مدرسة سلفية في (باماكو) على يد جمعية
الشباب المسلمين، وتولى إدارة المدرسة الشيخ (أحمد حماه الله يتابري) .
ثم توالى إنشاء المدارس العربية والإسلامية على الرغم من المضايقات من
قبل السلطات الاستعمارية آنذاك.
وتوجد في مالي أكثر من (300) مدرسة عربية إسلامية، وكلها أهلية، مما
يدعو أهل الخير والفضل والخبرة إلى الاهتمام والمبادرة بالمساهمة في تسيير هذه
المدارس، وتوجيهها وتزويدها بالمناهج والكتب والمدرسين.
ومن أهم المشاكل التي تواجهها المدارس الإسلامية ما يلي:
1- عدم وجود منهج متكامل يدرس فيها.
2- الافتقار إلى معهد لتكوين أو تدريب المعلمين.
3- ندرة الكتاب المدرسي.
4- عشوائية نظام الامتحانات.
5- غياب التنسيق بين المدارس والمسؤولين فيها.
أما المدارس الحكومية: فبعد استقلال مالي عام 1960م كان المستعمرون قد
تمكنوا من تغيير لغة التعليم من العربية إلى الفرنسية، وصارت اللغة الفرنسية هي
اللغة الرسمية للبلاد، ومن ثم: اتجه الناس إلى تعلم اللغة الفرنسية حسب منهج
مرسوم من قبل المستعمر الفرنسي، وانتشرت المدارس الفرنسية في كل أنحاء
البلاد، وقصدها الطلاب والطالبات، إما رغبة أو رهبة، ومنذ وقت مبكر قامت
السلطات في مالي بافتتاح المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وكذلك بعض
المدارس المهنية والمعاهد العليا في العاصمة وفي المدن الرئيسة، كما تم إيفاد عدد
كبير إلى الخارج للدراسة الجامعية، وكان الاتحاد السوفييتي يحظى بنصيب الأسد،
كما أوفد إلى فرنسا والجزائر ودول أخرى حسب خطة مرسومة.
3- الهيئات الإسلامية في مالي:
بدأ ظهور الهيئات الإسلامية في مالي منذ عشر سنوات تقريباً، وذلك عن
طريق فتح مكاتب تقوم بتسيير أعمال تلك الهيئات، أو اختيار مندوب يشرف على
الأعمال التي تتبناها.
وفيما يلي نذكر أسماء بعض الهيئات التي يوجد لها مكتب أو مندوب يقوم
بتسيير أعمالها:
1- المنتدى الإسلامي.
2- مؤسسة الحرمين الخيرية.
3- جمعية إحياء التراث الإسلامي.
4- مكتب لجنة مسلمي إفريقيا.
5- المركز الثقافي الإسلامي.
6- مؤسسة إبراهيم البراهيم الخيرية.
7- هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية.
8- مكتب الوكالة الإسلامية الإفريقية للإغاثة.
9- مكتب الجمعية الإسلامية العالمية للدعوة.
كما أن الرافضة افتتحوا منذ فترة مركزاً لبث مذهبهم من خلاله.
4- الجمعيات الإسلامية في مالي:
منذ عام 1979م تم تأسيس أول جمعية إسلامية في مالي، وهي: (جمعية
مالي للاتحاد وتقدم الإسلام) ، وهي الجمعية الوحيدة لعموم مسلمي مالي، وذلك
بتوجيه ومبادرة من الحكومة.
وكانت اجتماعات الجمعية تعقد بحضور مندوب الحكومة، وذلك حتى نهاية
حكم (موسى تراوري) للبلاد.
المرأة في مالي:
بالرجوع إلى عهد ما قبل الاستعمار نجد أن المرأة في مالي قد نالت حظها في
التربية الإسلامية الجادة، حيث شاركت بدور بارز في تربية النشء وملازمة بيت
الزوجية، وفي عهد الاستعمار ومع وجود عدد كبير من المنصرين بمفاهيمهم
المخالفة للإسلام وبسلوكهم وبدينهم وبقوانين معاملامتهم المنحرفة: تأثرت المرأة في
العالم بصفة عامة وفي مالي بصفة خاصة بهذه المؤثرات التي شكلت ظواهر
ومظاهر اجتماعية ذات أبعاد خطيرة، متأثرة بمنهج التعليم العلماني وبرامجه
وأدواته وأساليب التثقيف العام من الصحف والمجلات والسينما والمسرح والفن
والإعلام المقروء والمسموع والمرئي..
وتوجد في مالي أكثر من خمس منظمات نسائية غير حكومية، كلها تعمل في
خط لا تراعي فيه الحكم الشرعي في تصرفاتها ونشاطاتها، وأما التجمعات النسائية
الإسلامية في مالي فكثيرة أيضاً، يقودها في الغالب نساء متقاعدات تعودن القيادة
في عملهن الوظيفي، والغرض من هذه التجمعات: تعليم أحكام الصلاة والقراءة
والكتابة (مستوى محو الأمية) ، وبعضها لتعليم الخياطة والتطريز، وتخلو الساحة
من وجود مراكز نسائية متكاملة، إلا إن (الجمعية الإسلامية للإصلاح) و (جمعية
الشباب المسلم) استطاعتا تكوين فروع نسائية نشيطة على نطاق واسع في البلاد،
ومعظم رواد هذه الفروع من الشابات المتعلمات تعليماً عربيّاً وفرنسيّاً، وكذلك
(جمعية عباد الرحمن) و (جمعية ليما) اللتين تضمان عدداً كبيراً من النساء في
صفوفهما.
التنصير في مالي:
لا يمكن إغفال دور المنصرين الذي سبقت حركتهم تواجد الاستعمار في مالي، بل إن حركات التنصير هي التي مهدت الطريق للاستعمار.
وللتنصير في مالي تواجد كبير وإمكانات ضخمة، يعملون من خلالها في
المجتمع، ويعتبر إقليم (كاي) في منطقة (كيتا) كعبة المنصّرين التي يحجون إليها
كل عام، ويبرز وجودهم في المناطق التالية: منطقة (كولو كاني) ، و (سان) ، ... و (بنجاغارا) ، و (الدغوي) ، و (كاتي) .
ويقومون بتقديم المساعدات للسكان، كالعلاج، وبناء المدارس الحكومية،
وتوفير اللوازم الدراسية، وبناء المستوصفات، وتوزيع الغذاء والملابس، وبناء
المشاريع الزراعية والحيوانية، وكفالة المنصّرين.. وغير ذلك.
ويوجد في منطقة (سان) ذات الجو الحار على سبيل المثال منصِّر فرنسي
يبلغ من العمر (83) سنة! ! استطاع بناء مجمع يضم عيادة طبية، وروضة
للأطفال، ومعهداً، بالإضافة إلى كنيسة كبيرة.
ولكن يعتبر تأثير المنصرين محدوداً مقارنةً بالجهود والمساعدات التي
يقدمونها [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ] [الأنفال: 36] .
وبعد: فإن نسبة ارتفاع المسلمين في هذه الدولة الإفريقية، وتقبل أهلها لمنهج
أهل السنة والجماعة، وعدم ترسخ العقائد الصوفية في أغلب مجتمعه، وانتشار
العلم الديني بين الشباب.. لعلامة خير تبشر بمستقبل إسلامي زاهر في هذه الدولة
الفقيرة، السبب الذي يجعلنا ننادي الهيئات الخيرية المتواجدة في مالي لمضاعفة
الجهد، مع عدم إغفالنا لنشاط بعض الهيئات المتميز.
ونسأل الله (عز وجل) أن يعلي كلمته وينصر دينه وعباده.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.(110/86)
نص شعري
معاناة داعٍ إلى الله
شعر: وفاء بنت عبد الله
الدعاة إلى الله يعملون جاهدين لتبليغ أوامر الله ونواهيه وفقاً لكتاب الله
ورسوله وبفهم السلف الصالح، وطريقهم ليس مفروشاً بالورود، وقد صورت حال
(داعٍ إلى الله) وما قد يواجهه في بعض المجتمعات الإسلامية من مضايقات، أرجو
أن أكون وفقت لنقل هذه الصورة.
سائرٌ في ربى الزمن ... طارقٌ بابَ ذي المننْ
حامل بين أضلعي ... لوعة من لظى الشجنْ
صابر في مضرتي ... أبتغي الجنة الثمنْ
بين قوم تململوا ... وأذاقونيَ الإحنْ
كل هذا لأنني ... قلت: ما الدهر مؤتمنْ
قلت يا قوم احتذروا ... أنْ تميلوا إلى الفِتنْ
جئت بالحب مشفقاً ... أنْ تضلوا خطى السَنَنْ
***
في دجى الليل قَهقَهوا ... صافحوا راحة العَفَنْ
وأنا بِتّ ضارعاً ... مَنْ لقومي سِواك مَنْ؟
ويح قومي بصيفهم ... حسرة ضيعوا اللبنْ
قولهم عند دعوتي ... هوِّن الأمر لا تُجَنْ
إنما الدين هيّن ... حَلّ بالقلب واقترنْ
إنما الله غافر الذ ... نب رحماك فاصمتنْ!
***
وأنا الهون منهجي ... ما سيرضيهمو إذنْ؟
ذاع صيتي بريبة ... ظِلْتُ في الناس ممتهنْ
كل هذا لأنني ... قد وعى قلبي (اتزِن) [*]
والذي ينشر الخنا ... لا يرى غيره الحسنْ
يا لقومي متى أرى ... عَوْدهم يخضل الفَنَنْ
أغفلوا الدين وارتضوا ... غربتي واشتروا الوسنْ
قل لهم صابر أنا ... لو دنى أو نأى الوطنْ
وسأحيا بدعوتي ... لله مَنْ سواهُ مَنْ؟
__________
(*) المقصود: الاستقامة الواردة في قوله (تعالى) : [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] [هود: 112] .(110/94)
متابعات
و.. عبد الناصر تحت المجهر
بقلم: أحمد عبد الله المصري
دفعني ما نشرته البيان في العددين (106، 107) ، تحت عنوان: (أتاتورك حقيقته والدور الذي أداه) ، إلى الكتابة عن (جمال عبد الناصر) ، نظراً لوجود
تشابه بين الشخصيتين من عدة وجوه، مع تماثل الدور الذي قاما به.
ويمكن إجمال أوجه التماثل فيما بينهما فيما يأتي:
الميلاد والنشأة:
هناك كلام كثير حول يهودية (مصطفى كمال أتاتورك) وانتسابه إلى طائفة
الدونمة، وعلاقاته باليهود والمحافل الماسونية وصداقاته لشخصيات يهودية، كذلك
التحاقه بالجيش بعد حصوله على الثانوية العسكرية، وأنه كان على صلة بالإنجليز.
كذلك عبد الناصر: فقد ذكر بعض الكتاب وجود دلائل حول مدى نسبته
لليهود؛ إذ لما بلغ من العمر ثماني سنوات [1] أرسله والده إلى القاهرة لاستكمال
دراسته، فكان يقطن مع إحدى قريبات والدته في حي اليهود في منطقة الموسكي
(5 شارع خميس العدسي) .
وذكر الدكتور علي شلش [2] : أن سيدة يهودية تدعى مدام (يعقوب فرج
شمويل) كان عبد الناصر يدين لها بالفضل؛ لأنها هي التي رعته في طفولته بعد
وفاة أمه، وكانت تعامله كأحد أبنائها، وذكر (حسن التهامي) أن هذه السيدة قريبة
والدته.. فإذا كانت قريبة والدته يهودية فتكون والدته كذلك، ولا يخفى أن نسب
الشخص عند اليهود لأمه وليس لأبيه، ثم: لماذا اختار أبوه سيدة يهودية لرعايته
قريبة كانت أو بعيدة؟ ولماذا حارة اليهود شبه المغلقة على اليهود وقتها؟ ، وهل
ضاقت القاهرة كلها إلا من حارة اليهود؟ .. وقد استمر عبد الناصر في حارة اليهود
حتى رتبة (الملازم أول) وعمره (24) عاماً.
يقول اللواء (محمد نجيب) (أول رئيس لجمهورية مصر) للواء (عبد المنعم
عبد الرؤوف) عام 1979: (عبد الناصر أصله يهودي، من يهود الشرق الذين
جاءوا من اليمن) [3] .
ويقول (جلال كشك) : (أعترف أن مثل هذه النصوص التي يقدمها هيكل
تجعل التفسير القائل بيهودية عبد الناصر يلح إلحاحاً لا يمكن مقاومته..) [4] .
الصلات المشبوهة:
تذكر الكتب والمراجع صلة أتاتورك باليهود والإنجليز، وكذلك عبد الناصر:
كان على صلة مستمرة باليهود والأمريكان قبل الثورة وبعدها [5] ، ففي عام ... 1948م، أثناء حصار (الفالوجا) ، كان يقوم بالاتصال مع كل من (بروجام ... كوهين) ، و (إيجال آلون) ، وفي عام 1950م عاد إلى (تل أبيب) ليدلهم على جثث قتلاهم في حرب 1948م كطلب الحكومة الإسرائيلية! ، ومكث هناك أكثر من عشرة أيام اجتمع خلالها كثيراً مع (إيجال آلون) .
وذكر زملاء عبد الناصر في الكتيبة السادسة [6] احتمال نجاح إسرائيل في
تجنيد عبد الناصر لحسابها بواسطة (إيجال آلون) ، وأنه كان يحمل مشاعر الحب
لليهود منذ صباه، وارتبط بصداقات مع الفتيان اليهود بالحارة رفاق عمره.
وكان عبد الناصر عضواً بالتنظيم الشيوعي (حدتو) ، الذي يرأسه اليهودي
(هنري كورييل) ، وضمن أعضائه (ماري روزنيئال) و (مارسيل ليون) ، و (إيلي
شوارتز) صهر (موشيه ديان) (قائد جيش إسرائيل في حرب 1967م) .
واستمرت صلة عبد الناصر باليهود حتى وفاته، ولم تنقطع أبداً.
أما عن صلة عبد الناصر بالولايات المتحدة الأمريكية، والمماثلة لصلة
أتاتورك بإنجلترا، فقد بدأت عام 1949م مع السفير الأمريكي (كافري) كما تقول
بعض المصادر، أو مع الملحق العسكري الأمريكي (دافيد إيفان) من عام 1950م
إلى 1952م، واستمرت مع (كيرميس روزفيلت) مندوب المخابرات الأمريكية في
الشرق الأوسط، و (مايلز كوبلاند) مندوب المخابرات الأمريكية في القاهرة،
واستمرت علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية طوال حياته كذلك ولم تنقطع أبداً،
رغم الصلة والتغطية الظاهرة لعلاقته بروسيا [7] .
التلميع والدور البطولي:
ظهر أتاتورك بأنه دَحَر قوات الحلفاء في (جناق قلعة) ، وأن جيشه هاجم
مستودعات الأسلحة، والذخائر التابعة للحلفاء، وأنهم أرسلوا ما حصلوا عليه
باعتباره غنائم حرب.
وقام الحلفاء بتحريض اليونان على غزو (إستانبول) ، ثم توقف الهجوم
اليوناني وانسحب أمام قوات أتاتورك (تماماً كانسحاب قوات إنجلترا وفرنسا
وإسرائيل من مصر عام 1956م) .
وقامت الدعاية الغربية بتضخيم الحادثة؛ لتُظهر أتاتورك منقذاً للبلاد من
عدوها (والشيء نفسه حدث مع عبد الناصر) .
وهكذا يلمِّع الأجانب أذنابهم دائماً، ويصنعون منهم أبطالاً، لكن الحقائق قلّ
من يعرفها، والله المستعان.
فقد بالغت الدعاية الواسعة بإظهار أتاتورك بصورة البطل المغوار الذي هزم
الحلفاء، وخاصة الإنجليز واليونان، حتى تسابق الشعراء في الثناء عليه وعلى
انتصاراته، فأنشد أحمد شوقي مخاطباً أتاتورك قبل أن تتضح له حقيقته:
الله أكبر كم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدّد خالد العرب
أما الدعاية الواسعة والدور البطولي المزعوم، فقد كان مع عبد الناصر أكبر
وأضخم بكثير، فقد ذُكر أن السفير الأمريكي (كافري) استدعى مسؤول الدعاية
السوداء في المخابرات الأمريكية [8] ، ليقوم بتخطيط إعلامي يهدف إلى تصعيد
نجومية عبد الناصر، وقد أجرى عبد الناصر بعض التعديلات عليها واحتفظ بنسخة
عنده، وسلمت نسخة لـ (عبد القادر حاتم) وزير الإعلام حينها ليقوم تنفيذ دوره.
ومن أساليب الدعاية وإضفاء البطولة على عبد الناصر: (حادث المنشية)
المنسق مع المندوب المذكور عام 1954م، وظهوره بصورة البطل الشجاع،
وتعاطف الشعب معه على إثر هذا الحادث.
ومن أساليب الدعاية معه كذلك: تنسيق واستغلال تأميم قناة السويس عام
1956م، وإظهاره بمظهر المتحدي للغرب، ثم هجوم الدول الثلاث وانسحابها بعد
أن تم تحقيق الدور البطولي له باستعادة القناة وانسحاب القوات المعتدية، وكان
للولايات المتحدة دور كبير في إتمام الانسحاب.
ومن مسرحيات التلميع له كذلك: طلب تمويل بناء السد العالي، ورفض
الولايات المتحدة الأمريكية، ثم اللجوء إلى روسيا، ومن ثم: بناء السد العالي،
واستغلال ذلك والظهور بمظهر المتحدي لأمريكا كذلك.
وكان من هذه التمثيليات: طلب السلاح من الغرب، ثم رفض هذا الطلب،
وعمل صفقة ضخمة مع (تشيكوسلوفاكيا) ، رغم أنف الولايات المتحدة كما يبدو،
الأمر الذي أظهره بمظهر البطل القومي الذي لم يرضخ لأكبر دولة في العالم.
وغير ذلك كثير، مثل: تأميم المصانع والشركات.. وغيرها.
وقد اشتركت أجهزة الإعلام المصرية، ودور التعليم [*] ، والإعلام العالمي
شرقاً وغرباً في تمجيد البطل، وإعلاء شأنه، حتى تضاءل أمامه أي زعيم، ودونه
أي بطل.
وقد تكرر ذلك في المناسبات المختلفة، وفي غير المناسبات، ولعل إخراج
فيلم سينمائي أخيراً في مصر اسمه (ناصر 56) وعرضه في (14) دار عرض في
وقت واحد يسير في هذا الطريق، أو لعله لإبراز وتلميع بقايا فلوله الذين لم يعد لهم
قبول شعبي، والعجيب: أن يتم ذلك بعد فضائح حكمه وهزائم جيشه خاصة عام
1967م، وفساد حاشيته.
لكن عندما تضعف ذاكرة أفراد الأمة يستطيع المتاجرون بالفن والقيم التلاعب
بعواطفها وقلب الحقائق، ليصنعوا من الأقزام عمالقة وأبطالاً.
الاستبداد والتجبر:
من سمات هؤلاء الحكام: قسوة القلب، وحب السلطة والظهور، وهكذا كان
أتاتورك جباراً وطاغية، يقول: (سوف أجعل كل إنسان ينفذ رغباتي ويطيع
أوامري، ولن أقبل نقداً أو نصيحة، سأسير في طريقي الخاص وسوف تنفذون أنتم
جميعاً ما أريده دون مناقشة) [9] .
ويقول عبد الناصر نظير هذا الكلام: (اسمع يا فريد ... أقول لك اللي في
نفسي واخلص.. أنا عندي فكرة مستوْليّة عليّ، ولا أعرف بأن كانت غلط ولا
صح! ! .. إنما أنا عايز في خلال سنتين.. ثلاثة، أَوْصَل إلى أني أضغط على
زر البلد تتحرك زي ما أنا عايز.. وأضغط على زر البلد تقف! !) [10] .. وقد
كان، وتم له ذلك فيما بعد.
واتسمت فترة حكمه كلها بالطغيان والاستبداد، واعتقال الآلاف، والمحاكمات
الصورية، والسجن والإعدامات، ولم تنجُ فئة من ذلك أبداً، وإن كان للإسلاميين
النصيب الأوفر: (فلقد استطاعت (الثورة) القضاء على كل معارضيها، حتى
هؤلاء الذين شاركوا في صنع الثورة، ولا اعتراض على أي قرار تتخذه الحكومة،
فالكل يصفق للقرار، ويصفق لإلغائه، طالما أنه من السلطة ... فلم يعد في مصر
صحافة ولا برلمان له رأي أو صوت، ولا مجلس وزاري له حق النقاش) [11] .
ولا يقف الكلام عن عبد الناصر عند حد معين، ولقد تكلم فيه كثيرون:
زملاؤه السابقون في الجيش، أو الثورة، أو الحكم.. أصدقاؤه.. معارفه [12] .
وعبر عن شخصيته في هذا المجال (مايلز كوبلاند) : فقد (سئل مرة، إذا خُيّر
عبد الناصر بين التنازل عن السلطة أو دمار مصر؟ ، فقلت: بلا تردد سيختار
البقاء في السلطة) [13] .
تقديم الخدمات لأعداء الإسلام:
قدم أتاتورك خدمات عظيمة لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى في مجالات
كثيرة، أهمها: إلغاء الخلافة، وفصل الدين عن الدولة، والاتجاه الحاد نحو
التمكين للعلمانيين.
وكذلك فعل عبد الناصر، أو هكذا نَفّذ ما طُلب منه بعناية فائقة سواء ما
يختص بمصر فقط، أو المنطقة العربية، أو ما يتعلق بالقضية الفسلطينية،
ونخص بالذكر الخدمات والمكاسب التي حققها لليهود، وبإيجاز:
1-مقتل البطل أحمد عبد العزيز:
وهو قائد الفدائيين في حرب فلسطين، وكان أعد خطة للاستيلاء على القدس
التي حاصرها بعشرين ألف فدائي، وفي اليوم السابق للهجوم، ذهب إليه (صلاح
سالم) زميل عبد الناصر في الثورة، وعند معسكر عبد الناصر، أطلق عليه
الرصاص من جهة (صلاح سالم) ، ولم تتم له إسعافات طبية حتى فارق الحياة،
وفشل بالتالي الهجوم (14) .
2- حرب 1956م، 1967م:
حيث الهزيمة والخسائر الفادحة في الأموال والعتاد والأرواح بدور عبد
الناصر الرئيس في ذلك [15] .
3- حرب اليمن عام 1964م:
حيث أُنفقت الأموال الطائلة، وقتل أكثر من 100.000 من الجيش
المصري، هذا إلى جانب خسائر العتاد والأسلحة، وإلى جانب الخسائر في الجانب
اليمني، وإشعال فتنة الانقسامات والحروب بين الأمة.
4-الوحدة الفاشلة مع سوريا:
والتي كانت مثالاً على استبداد عبد الناصر وسفهه وسوء تدبيره في الإنفاق
والسياسة هو وزمرته، وتم أثناءها استصلاح وردم بحيرة الحولة، بعد أن منع عبد
الناصر القوات المسلحة من التعرض للقوات الإسرائيلية، كما كان يحدث قبل هذه
الوحدة.
ولا نريد أن نستطرد أكثر من هذا؛ فغيرها كثير، وقد ذكرنا بعض الأمثلة
فقط للدلالة على ما نقول.
آثار الحكم:
لم يتوقف التغيير والإفساد على فترة حكم أتاتورك، بل أمتدت إلى ما بعد
موته حتى الآن، بل كثيراً منها يُحمى ويُفرض بقوة القانون.
أما عبد الناصر فالتغيير الذي تم في عهده امتد وزاد وانتشر بشكل عجيب،
وشمل معظم المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والزراعية.. وغيرها،
وأهم التغييرات: التغيير الاجتماعي والنفسي في تركيبة الإنسان المصري، ولولا
ضيق المكان لأفسحنا لذلك كلاماً مستقلاً، ويمكن الرجوع بشأنه إلى الكتب
المختصة [16] ، وبنظرة تأمل واحدة إلى الواقع؛ فسنرى فرقاً هائلاً بينه وبين ما
قبل عبد الناصر
وللبيان كلمة:
حقيقة نشكر الكاتب على تجشمه عناء المتابعة والربط بين شخصيتين من
أخطر ما مر بتاريخ الإسلام المعاصر، حيث كان لهما من الآثار السلبية والجهود
الكبرى والمحاولات المتتابعة لوأد الإسلام وتغريب مجتمعاته، إلا أن الله أبطل
كيدهم وجعل عاقبة المحنة التي مرت بالإسلام ودعاته في عهديهما خيراً..
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ... أتاح لها لسان حسود
والحقيقة: إن اتهام (عبد الناصر) أو غيره بأنه يهودي أو من أصل يهودي
ينبغي ألا يعوّل عليه كثيراً؛ فإنه ينبغي أن يُنظر إلى الأعمال ذاتها بغض النظر
عن أصل صاحبها ونسبه، كما أن ما حصل من كيد ومكر ضد الإسلام ودعاته
سواء أكان من رجل مسلم أو من متظاهر بالإسلام له دلالته على إبطال كيد الكائدين، إذ لا يمكن أن تكون العاقبة النهائية: فلاح تلك الجهود في أداء أدوارها؛ لأن الله
ناصر دينه ومعلي كلمته، ومن يكيد للإسلام سيفضحه الله جزاءً وفاقاً، سواء في
دنياه أو في أخراه، ولكن.. هل يتعظ أعداء الدين والمتربصون به وبدعاته ... السوء؟ ، هل يعقلون ذلك أم إنهم لا يعقلون؟ .. [وَلَقَدْ ذَرَاًنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] [الأعراف: 179] .
- البيان -
__________
(1) انظر: ملفات السويس، محمد حسنين هيكل، ص 143، ولعبة الأمم وعبد الناصر، محمد الطويل، ص48.
(2) تاريخ اليهود والماسونية في مصر، ص 163.
(3) مذكرات عبد المنعم عبد الرؤوف، ص 75.
(4) ثورة يوليو الأمريكية، ص 557.
(5) عبد الناصر وعلاقاته الخفية، ص 36: 53.
(6) جريدة الشرق الأوسط، 13/6/1987م.
(7) انظر: علاقة جمال عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية، لجلال كشك، ولعبة الأمم، لمايلز كوبلاند.
(8) لعبة الأمم، مايلز كوبلاند، ص 133.
(*) سُئل الأديب (أحمد الحوفي) (رحمه الله) : لماذا يضع اسم (عبد الناصر) ضمن الأبطال في كتابه (االبطولة والأبطال) ؟ ، فقال (رحمه الله) : إن هذا الفصل وضع ضمن الكتاب حتى يتسنى وضعه مقرّراً للدراسة في مدارس مصر آنذاك.
(9) من كتاب الذئب الأغبر لـ (أرمسترنج) ، ص 157.
(10) الصامتون يتكلمون، ص 46، مذكرات حسن العشماوي، ص 104.
(11) مذبحة الأبرياء في 5 يونيو، ص 137.
(12) منقول منها الكثير من كتاب: (الإخوان وعبد الناصر) ، ص 313: 321.
(13) ثورة يوليو الأمريكية، لجلال كشك، ص 616.
(14) لعبة الأمم وعبد الناصر، ص 31.
(15) للمزيد: يرجع لكتاب مذبحة الأبرياء في 5 يونيو، وغيره.
(16) الخطايا العشر لعبد الناصر، تأليف: إبراهيم الدسوقي أباظة، باشوات وسوبر باشوات: د حسين مؤنس، الناصرية في قفص الاتهام، سراديب الشيطان: أحمد راتب، عبد الناصر وعلاقاته الخفية، أحمد عبد المجيد وغيرها.(110/96)
في دائرة الضوء
تحولات التعبير..
عن الفكر الإسلامي المعاصر
بقلم: د. محمد يحيى
شهد الخطاب الدعوي أو الفكري الإسلامي (وأنا أفضل أن أسميه بالحديث
تجنباً للمصطلح الآخر غير الدقيق) تحولات عدة في السنوات الأخيرة، كادت
تنحرف به بعيداً عن المسار الصحيح، ولو كانت هذه التحولات حدثت استجابة
طوعية متدبرة لمتغيرات طرأت على الساحة، أو كانت من علامات النضج
والتطور إلى الأفضل: لكانت مما يستحق الترحيب والتشجيع، إلا إنها في نظري
وقعت تحت ضغط ظروف وأوضاع غير طبيعية وغير مقبولة فُرضت على هذا
الحديث الفكري الذي أقصد به الكتابات الإسلامية المتحدثة عن هذا الدين، ولعل
أبرز هذه الضغوط: تلك الضجة القبيحة المثارة في أجهزة الإعلام ومن ورائها
دوائر ثقافية واجتماعية وسياسية في الغرب بل وفي أنحاء عدة من العالم الإسلامي
ضد مجمل الأوضاع الإسلامية، وهي ضجة صاحبتها تحركات سياسية وأمنية
أثمرت اضطرابات وصراعات زادت الأمور بلبلة واضطراباً، وقد ولدت هذه
الضغوط الشديدة التحولات التي أعنيها في الحديث الديني المعاصر، ولا سيما ما
يصدر منه عن جهات وهيئات تقع بحكم طابعها تحت سيطرة أو تأثير الدوائر
صاحبة الحملة على الإسلام.
وإذا أردنا أن ندخل مباشرة إلى وصف معالم تلك التحولات دون أن نسهب في
تفصيل الضغوط والظروف غير الموضوعية التي أدت إليها، للاحظنا على الفور
تحول نبرة الحديث الديني ومحتواه من الطرح الإيجابي الواثق وأكاد أقول
(الهجومي) لولا الإيحاءات السيئة التي قد تحيط بهذه الكلمة إلى نوع من الموقف
الدفاعي والاعتذاري والتبريري الذي كان قسمة من قسمات الحديث الديني البارزة
في عنفوان الهجمة الغربية الاستعمارية والعلمانية في مطلع هذا القرن وأواخر القرن
الماضي.
ويلمح المرء سمات هذه الردة أو التراجع في الحديث الديني كأشد ما تكون في
نفي تهم التطرف والإرهاب والتعصب عن الإسلام والمسلمين في وجه الطرح الدائم
لهذه الاتهامات في الأجهزة المعادية، ويصاب المرء بالدهشة الشديدة بل وبالهلع
عندما يجد أن معظم الحديث الديني الإسلامي في الوقت الراهن يخصص للرد على
هذه الاتهامات، إلى حد أن نفي التهم أصبح طقساً مقدساً من طقوس الكتابة
الإسلامية.
ويتصور المتابع لهذه الكتابات ومنها ما يصدر عن مراجع دينية وعلمية
رسمية مرموقة المناصب أن الإسلام لا يحتوي من المبادئ إلا مبدأ نفي تهمة
التطرف والأصولية عنه، وأن هذا الدين ما نزل إلا ليعلن أنه العقيدة التي لا
تُغضِب الآخرين ولا تختلف معهم، وتمتزج بهذه الكتابات والأطاريح الاعتذارية
نبرة من الاستخذاء والإحساس بالدونية، وتكون عقدة بالذنب تجاه غير المسلمين،
الذين يفترض أن الإسلام قد عاداهم وظلمهم طيلة عهده بالوجود، وأذكر أنني
طالعت في أواخر جمادى الأولى مقالاً صحفيّاً يتناول لقاء وزير للشؤون الدينية في
بلد مسلم كبير مع وفد من التجار الألمان، وهالني أن الرجل لم يتحدث إليهم بكلمة
واحدة تعرفهم بمبادئ الإسلام أو عقيدته، بل تركز حديثه على موضوع واحد فقط،
وهو طمأنة زواره أن الإسلام بريء من التطرف والإرهاب، وكأنه يسم إخوانه
المسلمين بهذه التهم ثم يحاول الاعتذار للأجانب الذين لا يهتمون إلا بالصفقات
التجارية عن هؤلاء المسلمين، وقد وصل الأمر إلى أن العديد من المؤتمرات التي
تعقد هنا وهناك في العالمين العربي والإسلامي من جانب المؤسسات الدينية لا
تبحث إلا في قضية نفي التهم المختلفة عن الإسلام من التعصب إلى انتقاص حقوق
المرأة والإنسان.
إن للجانب الدفاعي في الفكر الإسلامي دوراً لا ينكر في الذب عن تعاليم الدين
وعقيدته ودحض الشبهات والافتراءات ببيان الحقائق جلية ناصعة، لكن لا يعني
هذا أن الحديث الديني ينبغي أن يكون كله مكرّساً لهذا الجانب، أو أن الدفاع عن
الدين في وجه الاتهامات لا بد وأن يتحول إلى نوع من الاعتذار المستخذي أو
التبرير دونما حاجة إلى تبرير، كما أن القيام بواجب الدفاع الفكري عن الدين لا
يعني تناول كل اتهام يوجه إلى هذا الدين من أي مصدر كان، لا سيما وأننا نشهد
في هذه الفترة سهولة وسيولة في توجيه الاتهامات إلى الإسلام من كل حدب وصوب، حتى من جانب صحف الدرجة الثالثة والأقلام المشبوهة التي لا يستطيع المرء
الرد عليها دون أن يحط من قدر نفسه بمجرد النزول إلى مستوى مخاطبتها، والفكر
الدفاعي الواعي والمتزن لا يمكن أن يستدرج إلى الدوران في حلقة مفرغة من الرد
(اللانهائي) الواحد على تهمة واحدة توجه بشكل (لا نهائي) أيضاً كما هو الحال في
تهم التطرف والإرهاب والأصولية التي نسمعها الآن توجه منذ أكثر من عقد من
الزمان وبالحدة نفسها والصيغ المبسطة ذاتها دون أن يفلح الرد والنفي الدائم لها من
جانب المسلمين في التخفيف منها أو إسكاتها، ولا بد لنا أن ندرك في هذا الصدد:
أن توجيه الاتهامات والشبهات إلى الإسلام والمسلمين لا يكون مدفوعاً إلا في حالات
قليلة بالرغبة الصادقة في المعرفة أو بسوء الفهم أو نقصه، فالباعث الأكبر وراء
هذا التوجيه الملح لِكَمٍّ محدودٍ من الاتهامات المبسطة المطروحة بشكل دائم رغم كل
الردود عليها هو تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وإشغالهم بالرد عليها، وحصر
تنوع وثراء الفكر الإسلامي في نطاق ضيق لا يتعدى مجرد نفي تهم محفوظة
مكررة بمقولات معادة مملة، كتلك الكتابات التي نعهدها والتي لا تفتأ تجتر مقولات
حقوق المرأة أو الأطفال أو العمال في الإسلام في وجه الاتهامات، دون أن تقدم لنا
أطاريح إيجابية حول كيفية ضمان هذه الحقوق في دنيا الواقع، أو تربط مفاهيم
الحقوق بالإطار الإسلامي الأوسع.
ويبدو على ضوء ما نراه حولنا من تردي الحديث الإسلامي إلى هوة الاعتذار
والتبرير وعُقَد الدونية والذنب: أن ما ابتغاه القائمون على الطرح الرتيب للاتهامات
ضد الإسلام قد تحقق بشكل كبير، فالتركيز الشديد على مجرد نفي الاتهامات
ومحاولة الرد عليها، ثم الرد مرة ثانية بعد إعادة طرحها.. وهكذا دواليك: قد حرم
الفكر الإسلامي من تقديم أي أطاريح إيجابية حول ماهية الإسلام، وطبيعة عقيدته
وشريعته، ومعالم حلوله لقضايا الحياة والإنسانية، ويزداد العجب والغيظ عندما
نجد من متابعتنا لما يجري في الغرب أن الفكر الكنسي النصراني هناك الذي هو
بحاجة شديدة إلى الدفاع عنه في مواجهة اتهامات حقيقية وخطيرة ظلت توجه إليه
على مدى سنين أو حتى قرون لا يشغل نفسه في هذه الفترة بالرد على الاتهامات،
بل يطرح النصرانية بشكل إيجابي يبرز أنها تقدم الحلول لمشكلات المجتمعات
الغربية! ! ، وأنها تستطيع معالجة أوجه الفشل والقصور في المذاهب العلمانية
نفسها التي كانت حتى عهد قريب تتعالى على نصرانية الكنائس وتصوب إليها
الاتهامات في مقتل، وهكذا.. فالفكر النصراني وهو واقع في وضع ضعف حقيقي
لا يرد ولا يستدرج إلى حلقة الفكر الدفاعي التبريري المفرغة، في حين أن الفكر
الإسلامي وهو القوى الواثق والواقف على أرض صلبة يجثو على ركبتيه؛ ليعتذر
عن نفسه ويبرر مجرد وجوده أمام اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا توجه
لغرض معرفة الحق، بل للكيد وللاستدراج إلى فخ الدفاع السلبي المعاد غير المقنع، وقد بلغ التردي في هوة الاعتذار والتبرير مداه حينما أصبحنا نجد أن جوانب
عديدة من الشريعة والأخلاق والقيم الإسلامية يجري تجاهلها بل وإسقاطها من بنية
الفكر الديني نفسه خوفاً من ألا تُعجب الأجانب وتصبح عرضة لتوجيه اتهامات
جديدة، وهكذا خفت الحديث أو اختفى عن تطبيق الشريعة الإسلامية، أو إعداد
العدة للجهاد، أو تكريس الجهود لنشر الدعوة الإسلامية، أو رعاية قيم الفضيلة
والعفة والتماسك الأسري والحياء، إن أحداً لا يستطيع الآن في الحديث أو الخطاب
الديني الإسلامي أن يتحدث مثلاً عن ضرورة طاعة المرأة لزوجها، أو تطبيق
الحدود الشرعية، أو النهوض لمحاربة غير المسلمين المتسلطين على بلاد الإسلام، فكل هذا الحديث ممنوع في ظل سيادة نزعة دفاعية اعتذارية قد رتبت وجودها
على مجرد النفي الدائم والأزلي لاتهامات دائمة وأزلية.
إن هذا هو إحدى قسمات التحول في الحديث الديني المعاصر نتيجة لخضوع
بعض المتحدثين أو أكثرهم، للضغوط والظروف التي سلطت على هذا الخطاب.(110/104)
منتدى القراء
وجاء العيد
شعر: علي بن جبريل
في هذا الجو المشحون بالأحداث والأعاصير! وفي هذه الساعة المُترعة
بأخبار المسلمين المُسِرّة والمحزنة! ! يجيء العيد.. فأتساءل..! ويتساءل
الغيورون على الأمّة الإسلامية في كثير من بقاع الأرض..! هذه التساؤلات
المترجمة لحال المنكوبين من المسلمين.
عيدٌ.. بربّك هل تحلو الأناشيدُ؟ أم هل تُرى في الدّنا تعلو التغاريدُ؟
عيدٌ.. بربك ما هذا يحلّ بنا؟ أُنسٌ وعُرسٌ.. أم تنكيلٌ وتسهيدُ؟
عيدٌ.. بربّك هل ترجوا السرورَ لنا يا عيد؟ أم إنها الأحزانُ يا عيدُ؟
هل إنها الفرحةُ الغمراء تأسِرنا أم إنه اليأس يضنينا وتنكيدُ؟
هل إنه الطيبُ والحلوى يُجاء بها أم إنه صوتُ رشّاشٍ وبارودُ؟
يا عيدُ.. أقبلْتَ والمأساةُ ما برحِتْ ... ترجو الخلاص، وخيطُ القهرِ ممدودُ
فأمّتي لم تَزَلْ يا عيدُ في كمدٍ قتلٌ ونهب وإحراقٌ وتشريدُ
وأمّتي لم تزلْ في الذلِّ غارقةٌ بيعٌ وحبس وإرغامٌ وتعبيدُ
وأمّتي لم تزل في القيد مُوثقَةٌ يسومُها السوءَ طاغوتٌ وصنديدُ
وأمّتي لم تزل في الشرقِ مُكلَمةٌ وأمّتي لم تزل في الغرب تهديدُ
وإخوةُ الدينِ من عُرْبٍ ومن عَجمٍ سهامهم للعدا: شجبٌ وتنديدُ
كيف السرور وأرض المسلمين لظًى؟ كيف الهناءُ و (أقصى) الشرق موؤودُ؟
فمسجدُ القدسِ واأسفي يدنّسه شعب اليهودِ، ويُذْكي النار (ليكودُ) [1]
والأرض ترجف من عُهرٍ ومن دنَسٍ أما الديار فتنصيرٌ وتهويدُ
يا عيد فَجْرُك يُدمي الروحَ مُذْ يبدو يا عيد يومُك بالآلامِ مقصودُ
هلاّ تغرّبْتَ عن داري وعن بلدي؟ هلاّ ترحّلت كي يصفو لنا عيد
فنظرةٌ منك نحو الشرقِ ثاقبةٌ تُلين قلبَك حتماً وهو جلمودُ
***
أتيتَ يا عيد والأيام مترعة ومن معانيك: تغييرٌ وتجديدُ
فقد رأيت ظروفَ المسلمين، فلم ... يُرحمْ لنا صِبيةٌ مأواهمُ البيدُ
انظر.. ترى طفليَ الباكي طفولتَه ... ثيابُه رثّةٌ، أقدامُه سُود
يداه ما حملتْ حلوًى ملوّنةً ... كالطيفِ، أو لامست أثوابَه (عودُ)
انظر إلى دمعِه الرقراقِ يسكبُه ... وقلبُه مُترَعٌ بالهمِّ، محشودُ
يودّ لو عاش في أكنافِ أسرته ... لكنّه تائهٌ في الكونِ، مطرودُ
وجئتَ يا عيد ترجو البشر يأسِرُنا ... فكيف يركضُ من في القيدِ مصفودُ؟
***
عذراً أيا عيدُ، فلترحلْ إلى أمَدٍ ... كيما تزول عن الوجه التجَاعيدُ
عيدٌ سعيدٌ.. نعم.. لو أمتي انتصرتْ ... أمّا وأمّتنا ثكلى فلا عيدُ
إذا رأيت ديار المسلمين غدتْ ... مأمونة؛ عندها فلتأتِ يا عيدُ
فعندها تصدح الأطيارُ هانئةً ... وبلبلٌ يُرسلُ الألحانَ، غِرّيدُ
__________
(1) حزب الليكود الصهيوني الذي تولى رئاسة إسرائيل حالياً بزعامة (بنيامين نتنياهو) .(110/108)
الورقة الأخيرة
علمهم يا (تشارلز)
CHARLS'.. TEACH THEM!
بقلم: أحمد العويمر
من نافلة القول: التأكيد على أن الإسلام دين له من المعطيات والأحكام
والرؤى ما يحل به مشكلات الحياة جميعها؛ ولذلك كنا وما نزال نؤمن إيماناً قاطعاً
بأن الإسلام هو الحل لواقعنا المعاش، وأن التخبطات التي أبى أفراخ العلمانية في
عالمنا العربي والإسلامي إلا إرغام مجتمعاتنا للولوج فيها لم تزدنا إلا تردياً ويقيناً
أن تغريب مجتمعاتنا ليس المراد به إلا إفسادها وفرنجتها وإبعادها عن الصراط
المستقيم، وهذا ما آل إليه حال كثير من تلك المجتمعات التي ابتليت بحكم من
يسمون بـ (الليبراليين) عسكريين أو مدنيين، أو على الأصح: (العلمانيين
المتطرفين) الذين دأبوا على ترويج مقولة: إن الطريق لنهضة أمتنا ليس سوى
السير وراء الغرب في مسيرته العلمانية، ولسان حالهم جميعاً: ما قاله كبيرهم الذي
علمهم الإفك (لتُؤخَذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها) .
فماذا استفدنا من آرائهم الزائفة تلك سوى أن صرنا في آخر الركب، فلا نحن
الذين تمسكنا بمبادئنا، ولا نحن الذين صارت لنا مكانة مرموقة، مع أن الغرب
نفسه وفي قرارة نفسه يسخر من تلك المجتمعات الممسوخة، ويرفض أن تكون
جزءاً من منظومته الحضارية، كما يفعل الغرب مع تركيا في محاولاتها للدخول في
(السوق الأوروبية المشتركة) أو الاستفادة من معطياتها، وكما هو موقف الغرب
بكافة فئاته من قضايانا الملحة مع ذلك الواقع المؤلم.
يصر العلمانيون في بلادنا على المزيد من التغريب والسقوط، وفي الوقت
نفسه: يصرون على محاربة أسلمة مجتمعاتنا، ومواجهة الدعاة لأسلمة المعرفة،
والإصرار على إبعاد أمتنا عن مصدر عزتها وفخارها، بل وتقنين الأنظمة
والدساتير التي تؤكد علمنة البلدان وإبعادها عن العودة لهويتها الحقيقية.
العجيب: أن رجلاً بمكانة (الأمير تشارلز) مع كونه غير مسلم فهو أعرف
بحقيقة ديننا الحنيف من كثير من علمانيينا؛ إذ له من الوقفات والآراء والمواقف ما
أشاد فيها بالإسلام، حيث دعا إلى الاستفادة من معطياته، وأنحى باللائمة على أمته
بخاصة والغرب بعامة على المادية المفرطة والسقوط الأخلاقي المفجع الذي يتردون
فيه؛ مما يؤذن بخطر عظيم، ومن ذلك: كلمته في (مركز الدراسات الإسلامية في
جامعة إكسفورد) ، التي أشاد فيها بدور الإسلام في نهضة الحضارة الغربية،
ودعوته للاستفادة من الإسلام في عدالته وتسامحه وشموله.
وكذلك: ما أدلى به في كلمته المتميزة التي ألقاها مؤخراً في (مؤتمر بناء
الجسور بين الإسلام والغرب) في لندن، ومما قاله: (إن القيم الإسلامية تساعد على
استعادة الرؤية المتكاملة لما يجري في عالمنا الفسيح) .
فمتى يعي العلمانيون العرب الذين يصرون على تغريب مجتمعاتنا الإسلامية
ولا يعيرون آداب وأخلاق الإسلام أدنى اهتمام.
ومتى يعرفون حقيقة ديننا وأهميته؟ وأنه ليس لنا فقط، وإنما للإنسانية بعامة.
إننا نذكرهم بأهمية العودة للجذور، فنحن أمة أعزنا الله بالإسلام، ومهما
ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، فهل يعون ذلك، أم على قلوب أقفالها؟(110/111)
ذو القعدة - 1417هـ
مارس - 1997م
(السنة: 11)(111/)
كلمة صغيرة
عبدة الشيطان
العبثية وغيبة الهدف اللتان تسيطران على الحياة الغربية، أوجدا تصدّعاً
نفسيّاً، وخواءً روحيّاً سيطرا على الناس هناك، وظهرت آثاره في التخبط الفكري
الذي يعيث في نفوسهم فساداً، ولهذا تعددت المنظمات الفكرية و (الروحية) ،
وتباينت معتقداتها وتوجهاتها.. حتى إن بعضها تتبنى عبادة الشيطان! ، وتمارس
كل أنواع التفلت والشذوذ.
والغريب: أنّ تلك المنظمات سعت لتصدير هذا الفكر المنحل إلى بعض
البلاد الإسلامية، تريد غزوها في عقول شبابها، والأكثر غرابة: أن منهم من
استجاب لهذه الدعوة، فقد أعلن مؤخراً في (مصر) عن ضبط تنظيم لـ (عبدة
الشيطان) من أبناء طبقة الفنانين والمسؤولين كما ذكرت الصحف، كما أُعلن أن
للتنظيم صلة ببعض تلك المنظمات الغربية، وبغض النظر عن الدوافع السياسية
التي دعت مصر لاعتقال بعض أفراد هذا التنظيم، وتصعيده إعلاميّاً، فإنه يدل
دلالة واضحة على عمق الانحراف النفسي والفكري الذي ينخر في نفوس بعض
الشباب.
ولنا أن نتسأل: هل الدولة بكافة فعاليتها معفاة من تلك المسؤولية..؟ !
إن هذا التخبط الفكري والخواء النفسي نتيجة حتمية لسياسة التغريب والعلمنة
المكثفة، وفتح أبواب العبث والانحلال على مصاريعها، كما أنه نتيجة حتمية
لسياسة تجفيف المنابع، وملاحقة منابر الدعوة الإسلامية، خاصة أن التحقيقات
المعلنة ذكرت بأن تعاطي المخدرات، وارتياد الخمارات، ودور اللهو، والشاليهات
السياحية..! ! سلوكيات رئيسة في تجمعاتهم.
ولعله يتسنى رصد أشمل لهذه الظاهرة في عدد قادم إن شاء الله.(111/1)
افتتاحية العدد
ماذا وراء التحالف المشبوه؟ !
الصلة الوثيقة التي أوجدها الإسلام بين معتنقيه نادرة المثال في أصالتها
وديمومتها، وحسبنا أنّ ديننا الحنيف جعل العلاقة بين المسلمين مثل علاقة أجزاء
الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالتأثر السريع، يقول البشير
النذير: (ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، ف (الجسد أصل كالشجرة،
وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها،
كالشجرة إذا حُرك غصن من أغصانها اهتزت كلها بالتحرك والاضطراب) [*] .
هكذا كان حال المسلمين في ارتباطهم وتعاونهم مع شكاية بسيطة، فكيف
يكون حالهم مع النوازل والطوام؟ .. لا شك أن العلاقة أكبر والتعاون أشد، وذلك
حينما يناصَبون العداء ويوقف في طريق نهضتهم، وكيف يكون الحال حينما تقوم
فئات منسوبة إلى الإسلام بالتعاون مع أعداء الإسلام الحقيقيين لجلب منافع ذاتية أو
مصالح متوهمة؟ !
وإلا كيف يفسر تعاون جناحي المعارضة السودانية الممثلة في شخص كل من
زعيمي حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي الديمقراطي ووضع أيديهما في يد
الصليبي الحاقد: (جون قرنق) والهجوم على دولة السودان بعد أن فعلا ما فعلا في
الحياة السياسة في ذلك البلد؟ ، ولا يُغَضّ الطرف عما يُعرف عن حقيقة هذين
الحزبين وانحرافاتهما العقدية والبدعية، وكذلك انحرافاتهما السياسية النفعية
وجنايتهما على الحياة السياسية في السودان على ضوء تاريخهما.
وللحقيقة والتاريخ فقد بيّنّا أكثر من مرة مآخذنا على النظام القائم، وما زلنا
نطالبه بالتصحيح والمزيد من الأسلمة، بعيداً عن أي شعارات مبهمة، أو اتجاهات
حزبية، أو انحرافات فكرية.
لكننا نعلم كما يعلم غيرنا أن السودان دولة على الأقل تعلن تبني الإسلام
ظاهراً، وتنادي بتطبيق الشريعة.
وترفض أن ينتزع سيادتها المتآمرون عليها الذين استطاعوا في فترات عديدة
من تاريخها بوسائلهم الميكيافيلية استغلال ضعفها، وتحريك الفعاليات الحاكمة فيها
من وراء الكواليس، وجعل الجيب النصراني الجنوبي وسيلة ضغط لإضعاف
السودان وابتزازه والتدخل في شؤونه الداخلية، وبخاصة حينما يكون الأمر متعلقاً
بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا ما ترفضه الحكومة الحالية؛ مما جعلها تتعرض
لعداوة الغرب وأذنابه.
وما يتعرض له السودان من ضغوط ومضايقات واتهامات ممجوجة ومكرورة
إلا دليل على ما نقول، فلماذا لم يتعرض لهذه العداوة إبان الحكم العسكري والطائفي
في كثير من فترات تاريخه المعاصر..؟ !
الغريب: أن حزبي المعارضة المذكورَيْن محسوبان على الإسلام باعتبارهما
في الأصل من الطرق الصوفية، لكن بعض رموزهما اتخذوا الدين فيما يظهر
ستاراً لتحقيق مصالح طائفية ضيقة، ولا نشك في مدى معرفتهما بخطورة ما يفعلان، وهما اليوم مخلب قط في يد العدو الصليبي، يحاربان إخوانهم في الدين! ! ، ثم
ماذا عن حقيقة (الولاء والبراء) الذي هو أصل من أصول العقيدة أكده القرآن كثيراً، في مثل قوله (تعالى) : [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ..] [المجادلة: 22] .
إن ما فعله الحزبان يذكرنا بالأدوار المشبوهة لفرق الضلال وصلاتها
المعروفة بأعدائنا عبر التاريخ؛ مما يعيد للذهن تلك العلاقات المريبة، فهل يكون
ما عملاه إعادة لتلك المهازل التاريخية؟ !
بقي لنا في هذا المقام وقفات وتنبيهات نلخصها فيما يلي:
أولاً: أن الاعتداء الآثم الذي اجتمع فيه نصارى إثيوبيا، وإريتريا، وأوغندا، ونصارى الجنوب، وتعاونهم فيما بينهم.. على دولة السودان، يؤكد العلاقة
الوثيقة بين الذين كفروا في الوقوف ضد كل مظهر إسلامي، وصدق الله العظيم:
[وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ..] [البقرة: 120] .
ثانياً: نعتقد أن هذا التحالف المشبوه ليس مؤامرة عابرة بسبب خلاف سياسي
مع الحكومة السودانية، بل هو تحالف استراتيجي يمتد ليهدد الأمة العربية
والإسلامية بأسرها، فهو حلقة من حلقات التعاون العسكري الصهيوني مع دول
القرن الإفريقي، الذي بدأ في وقت مبكر، وكان من أبرز معالمه:
- إقامة عدد من القواعد العسكرية اليهودية في كل من إثيوبيا وإريتريا، وما
تبع ذلك من المناورات الميدانية المشتركة، التي تهدف إلى تطويق البلاد العربية
من الجهة الجنوبية، وفتح ثغرات عسكرية لمواجهة أمتنا من جهات مختلفة.
- احتلال جزيرة (حنيش) اليمنية الاستراتيجية، بالتعاون بين إريتريا والعدو
الصهيوني للسيطرة على الملاحة البحرية في البحر الأحمر، والتحكم بالممرات
الجنوبية في مضيق باب المندب.
- دخول يهود بشكل مكشوف في الصراع الدائر في منطقة البحيرات
العظمى للسيطرة على مجاري الأنهار ومنابع المياه، ولإحكام السيطرة على دول
نهر النيل، وتهديد أمنها، (وخاصة السودان ومصر) .
ثالثاً: أنّ الحركات الانفصالية النصرانية في جنوب السودان بقيادة (جون
قرنق) ، صنيعة الاستعمار البريطاني منذ الأيام الأولى للاستقلال، وُجدَت لزعزعة
الأمن في السودان وخلخلة أركانه، ويراد من ذلك أمور، منها:
- إشغال السودان بالحروب لتعطيل برامج التنمية، وإفقاره، ومحاصرته
اقتصاديّاً، خاصة أن السودان يملك أرضاً زراعية خصبة يمكن أن تكون مصدر
دخل اقتصادي كبير، ليس للسودان فحسب، بل للأمة العربية كلها.
- الوقوف في وجه المد الإسلامي في القارة الإفريقية، إذ إن السودان هو
البوابة الإسلامية لإفريقيا السوداء.
ومن المعلوم أن جميع الحكومات السابقة فشلت فشلاً ذريعاً في الوقوف أمام
الحركات الانفصالية (وخاصة حكومة الصادق المهدي الأخيرة! !) ، حيث توغلت
عصابات جون قرنق داخل الأراضي السودانية، وهددت الخرطوم، فلما جاءت
الحكومة الحالية استطاعت أن تحرر الأراضي السودانية المحتلة، وتقف في وجه
الانفصاليين النصارى، وتتبع فلولهم في إثيوبيا وأوغندا، وهذا الموقف بلا شك
أزعج الدول الغربية التي رمت بثقلها العسكري والسياسي لدعم (قرنق الصليبي) ،
ثم كان هذا التحالف المشبوه تحت القيادة العسكرية لهذا (الزعيم) ؛ لفتح ثغرات
متعددة على السودان؛ حتى يعجز عن السيطرة على منطقة الجنوب، ومن ثم:
تمهيد الطريق لانهياره من الداخل.
رابعاً: لا شك بأن التحالف بين الانفصاليين الجنوبيين والمعارضة الشمالية، له دلائل وعلامات كثيرة، منها:
-إفلاس المعارضة الشمالية، وعجزها عن اتخاذ قرار مسؤول يخدم السودان فقد كانوا يعارضون الحركات الانفصالية الجنوبية، ولكن المصالح والأهواء
جعلتهم ينسون ثوابتهم الحزبية، ويبيعون أرض السودان بثمن بخس.
-عدم مقدرة عصابات نصارى الجنوب على تحقيق أهدافها، خاصة بعد
التصدع السياسي والعسكري الذي أصاب جيوش قرنق، مما جعله يمد يده للتنسيق
مع المعارضة الشمالية، على الرغم من عدائه السابق لها.
-عجز المعارضة السابقة بشتى فصائلها عن زعزعة الحكومة الحالية أو
إسقاطها من الداخل، ممّا ينبئ بأن الشارع السوداني ليس مع المعارضة، مما
جعلهم يلجؤون إلى التحالف مع دول الجوار النصرانية..! !
وأخيراً: فإننا أمام واقع مأساوي مزعج، تحالف فيه الأعداء ضد بلد مسلم،
فعلينا فَهْم الأهداف الاستراتيجية الخطيرة لذلك التحالف، وألا نكون عوناً للأعداء
ضد إخواننا لمجرد خلافات أو مصالح، ولنحذر من السقوط في أيدي الأعداء
والتعاون معهم ضد ديننا وعقيدتنا.
ومما يؤسف له: الشماتة الظاهرة بدون مبرر مقبول في متابعة بعض
الصحف العربية للحدث، بل وفرحهم بسقوط بعض المواقع الحكومية الأمامية! !
وبين عجز العرب وكيد الغرب الأيام حبلى، والله نسأل أن يصلح الأحوال
وأن يرفع عن أمة الإسلام ما يحاك ضدها من مؤامرات.
وما يثار بين أبنائها من فتن
... ... ... ... ... والله من وراء القصد،
__________
(*) انظر فتح الباري، ج10، ص 452، والحديث أخرجه البخاري، ح/ 16011، وكذا: مسلم بصيغة مقاربة (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم) ، ج 3، ح/2586.(111/4)
دراسات شرعية
أحكام قضاء الصلوات الخمس
بقلم: عبد الله الإسماعيل
مدخل:
الصلاة.. وما أدراك ما الصلاة، فريضة محكمة، هي أحد أركان الإسلام
الخمسة، افترضها الله (تعالى) على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في
السماوات العلى، ووجوب أدائها ثابت بالكتاب والسنة ومعلوم للجميع، وقد تساهل
في أدائها كثير من الناس لأعذار ما أنزل الله بها من سلطان، بل تركها بعضهم
مطلقاً، نسأل الله العافية، وقد تنازع العلماء في حكم تاركها سلفاً وخلفاً إلا إن القول الراجح الذي نراه هو ما حرره العلامة الشيخ (محمد العثيمين) بقوله: إذا رَدَدْنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا أنهما يدلان على كفر تارك الصلاة الكفر الأكبرالمخرج من الملة، وساق الأدلة على ذلك [1] .. ولمعالجة موضوع قضاء الصلوات الخمس يتناول الكاتب الكريم هذا المبحث بدراسة علمية، نسأل الله أن ينفع بها الجميع.
- البيان -
ينقسم الناس من حيث وجوب القضاء وعدمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يجب عليهم القضاء بالإجماع، وهم:
1 - النائم. 2- الناسي. 3- السكران.
أما النائم والناسي: فقد حكى الإجماع عليهما ابن حزم في (المحلى) [2/10]
وابن القيم حكى الاتفاق في كتابه (الصلاة) [ص 51] ، ومن أدلة السنة عليه:
حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله: (إذا رقد أحدكم ... عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله يقول: [وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي] ) [2] .
وأما السكران: فقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على وجوب
القضاء عليه، كابن المنذر في كتابه (الإجماع) [ص 10] ، وقال ابن حزم في
المحلى [3] : (وأما من سكر حتى خرج وقت الصلاة، أو نام عنها حتى خرج
وقتها، ففرض على هؤلاء خاصّة أن يصلوها أبدًاً.. وهذا كله إجماع متيقن) ،
وقال ابن قدامة [4] : (لا نعلم فيه خلافاً) .
القسم الثاني: من لا يجب عليهم القضاء بالإجماع، وهم:
1 - الحائض والنفساء. ... ... ... 2- الكافر الأصلي.
أما الحائض والنفساء: فقد حكى الإجماع على عدم وجوب القضاء عليها جمع
من أهل العلم، منهم ابن المنذر في كتابه (الإجماع) [ص 9] ، وابن حزم في
(المحلى) [2/8] ، والنووي في (المجموع) [1/383] ، ومن أدلة السنة: حديث
معاذة (رحمها الله) قالت: سألت عائشة (رضي الله عنها) فقلت: ما بال الحائض
تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحروريّة [5] أنت؟ قلت: لست
بحروريّة، ولكني أسأل، فقالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم ولا
نؤمر بقضاء الصلاة) [6] .
أما الكافر الأصلي: فقد حكي الإجماع على أنه إذا أسلم لم يجب عليه قضاء
الصلاة [7] ، ومن أدلة الكتاب: قوله (تعالى) : [قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنتَهُوا يُغْفَرْ
لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ] [الأنفال: 38] ، ومن السنة: قوله: (أما علمت أن الإسلام يهدم
ما كان قبله؟) [8] .
القسم الثالث: من هم محل خلاف بين العلماء، وهم:
1- المجنون: والخلاف فيه ضعيف، والراجح أن المجنون لا يقضي ما
تركه زمن الجنون، وهو قول جماهير الأمّة [9] ، والأدلة في ذلك كثيرة، ومنها:
حديث عائشة (رضي الله عنها) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (رفع
القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون
حتى يعقل) [10] .
2- المرتد: والراجح أنه لا يقضي ما تركه زمن الردّة، وهو قول الجمهور، والأدلة عليه كثيرة، منها:
أ - القياس على الكافر الأصلي، فكما أن الكافر الأصلي لا يجب عليه
القضاء بالإجماع، فكذا المرتد بجامع الكفر.
ب - أن الذين ارتدوا زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كعبد الله بن سعد بن
أبي السرح، وغيره مكثوا على الردة زمناً ثم أسلموا، ولم يأمرهم النبي -صلى الله
عليه وسلم- بالقضاء، وكذا: من أسلم من المرتدين في زمن أبي بكر الصديق
(رضي الله عنه) لم يؤمروا بقضاء ما تركوه زمن الرِّدة، ولو أمروا لنقل إلينا [11] .
ج - ولأن في إبجاب القضاء عليه تنفيراً له من التوبة مع طول زمن الردّة،
بل تكون التوبة في حقه عذاباً إذا ألزمناه بالقضاء.
3- المغمى عليه: وقد اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال، الراجح منها:
أن المغمى عليه لا يقضي ما تركه زمن الإغماء؛ طال الإغماء أو قصر، وهو
مذهب المالكيّة [12] ، والشافعيّة [13] ، وقول طاووس، والحسن البصري، وابن
سيرين، والزهري، وأبي ثور [14] ، وابن حزم [15] .
والدليل: أن المغمى عليه فاقد لمناط التكليف وهو العقل فأشبه المجنون،
ويعضد هذا التعليل أثر ابن عمر (رضي الله عنهما) : (أنه أغمى عليه فذهب عقله، فلم يقض الصلاة) [16] .
واستدل القائلون بمشروعية القضاء بأثرين:
الأول: عن يزيد مولى عمار: (أن عمار بن ياسر (رضي الله عنه) أغمى
عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل، فصلّى الظهر
والعصر، والمغرب، والعشاء) .
الثاني: عن أبي مجلز قال: قيل لعمران بن حصين: إن سمرة بن جندب
يقول في المغمى عليه: يقضي مع كل صلاة مثلها، فقآل عمران: ليس كما يقول،
يقضيهن جميعاً) .
وأثر عمار ضعيف؛ فقد أخرجه عبد الرزاق [ح/4156] ، والدارقطني: [2/
81] ، والبيهقي [1/388] ، كلهم من طريق السدي عن يزيد مولى عمّار، ويزيد
مجهول (انظر نصب الراية، 2/177) ، والسدي قال عنه ابن حجر: (صدوق يَهِم، ورُمي بالتشيّع) [التقريب، ص 108] ، وقال الشافعي: (هذا ليس بثابت عن
عمّار) [نصب الراية، 2/177] ، وقال ابن التركماني: (وسنده ضعيف) [الجوهر
النقي، 1/388] .
وأثر عمران ضعيف أيضاً؛ فقد أخرجه ابن أبي شيبة [2/269] بإسناد رجاله
ثقات، إلا إن أبا مجلز لم يلق سمرة ولا عمران، كما صرح بذلك ابن المديني
[انظر تهذيب الكمال، 31/178] ، فالإسناد ضعيف بهذا الانقطاع.
وبضعف الأثرين يكون أثر ابن عمر (رضي الله عنهما) سالماً من المعارض.
4- من زال عقله بدواء، كالبنج [17] قديماً، والآن يستعمل المخدِّر لإجراء
العمليات الجراحيّة في المستشفيات.
والراجح فيه: وجوب القضاء عليه، وهو مذهب الحنفيّة [18] ، ... والحنابلة [19] قياساً على النوم بجامع زوال الإدراك تماماً، وعدم امتداده، وعدم ثبوت الولاية فيهما [20] .
أما إلحاقه بالمغمى عليه فبعيد؛ لأن الإغماء آفة ليس للعبد فيها أي قصد،
بخلاف زوال العقل بالدواء، فإنه يكون بقصد من العبد، وغالباً ما يعلم المريض
بأنه سيخدّر تخديراً تاماً، ولو تركه لما زال عقله.
5- تارك الصلاة عمداً؛ أي: من ترك الصلاة عمداً بلا عذر حتى خرج
وقتها، سواء أكانت صلاة واحدة، أو فروضاً كثيرة.
والخلاف في هذه المسألة قوي جدّاً، وجماهير العلماء على وجوب القضاء.
والقول الآخر: بعدم وجوب القضاء، وهو قول الحسن البصري [21] ،
وابن حزم [22] ، واختيار ابن تيمية [23] (رحمهم الله) ، واختاره من العلماء
المعاصرين: الشيخ (ابن باز) ، والشيخ (ابن عثيمين) [24] (حفظمها الله) .
ولعل القول الثاني هو الأقرب إلى الرجحان، وهو: أن الصلاة لا تقضى ولو
كانت فريضة واحدة لجملة من الأدلة، منها:
1- حديث عائشة (رضي الله عنها) : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [25] .
2- أن القضاء لا يجب إلا بأمر جديد، ولم يرد أمر جديد بقضاء الصلاة لمن
تركها عمداً [26] ، وإنما ورد في حق النائم والناسي.
3- أن تارك الصلاة قد يكون مرتدّاً، والمرتد لايشرع في حقه القضاء كما
سبق.
والله (تعالى) أعلم، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) انظر: رسالة (حكم تارك الصلاة، والرد على المخالفين) ، لفضيلة الشيخ (حفظه الله) .
(2) أخرجه مسلم، ح/684.
(3) المحلى، لابن حزم، ج2، ص9، 10.
(4) المغني، لابن قدامة، ج2، ص 52.
(5) نسبة إلى حروراء، وهي بلدة على ميلين من الكوفة، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج: حروري؛ لأن أول اجتماع لهم للخروج على علي (رضي الله عنه) كان بالبلدة المذكورة، فاشتهروا بالنسبة إليها، (انظر الفتح، 1/502) .
(6) أخرجه البخاري، ح/321، ومسلم، واللفظ له، ح/335.
(7) ابن قدامة في المغني، 2/48، وغيره.
(8) أخرجه مسلم، ح/192.
(9) انظر: المغني، 2/50.
(10) أخرجه أصحاب السنن، وصححه الألباني، كما في (الإرواء) ، 2/4.
(11) انظر: مجموع الفتاوى، 22/103.
(12) انظر: التاج والإكليل، 1/410.
(13) انظر: المجموع، 3/8.
(14) انظر: الأوسط، 4/491.
(15) انظر: المحلى، 2/8.
(16) أخرجه مالك، ح/24، وعبد الرزاق، ح/4152، بإسناد صحيح، وممن صرح بتصحيحه: ابن المنذر في الأوسط، 4/390، وابن حزم في المحلى، 2/9.
(17) البنج: نبات مغيّب للعقل، مسكن للأوجاع، وهو غير الحشيشة، فإنها مسكنة، ولها لذّة عند تناولها بخلاف البنج، انظر: مجموع الفتاوى، 34/198.
(18) انظر: البحر الرائق، 2/118.
(19) انظر: الإنصاف، 1/390.
(20) انظر: الكافي: لابن قدامة، 1/94.
(21) انظر: تعظيم قدر الصلاة، 2/996.
(22) انظر: المحلى، 2/10.
(23) انظر: مجموع الفتاوى، 22/40 41.
(24) الشرح الممتع، 2/135.
(25) أخرجه مسلم، ح/1718.
(26) انظر: المسوّدة، ص 24.(111/8)