خواطر في الدعوة
إحياء التراث.. كيف يكون؟
محمد العبدة
ليس غريباً أن يهتم المسلمون اهتماماً بالغاً بتراثهم العلمي، فيحاولون
إخراجه بحلة جديدة مع التحقيق والتدقيق، بل هذا من الواجب المناط بهم؛ فإنه لا
نهضة ولا قوام لهم إلا بالاتصال بهذا التراث: فهماً ودراسة، وتأملاً وعبرة، وفي
الوقت نفسه: نقداً وتصفية لما علق به مما يخالف أصول الإسلام وثوابته ومفاهيمه، متأثراً بالظروف المكانية والزمانية.
إن الأمة المبتورة المنقطعة عن ماضيها لا خير فيها؛ فالتراث هو القاعدة
الأساسية للانطلاق، ولكن هل نكتفي من الإحياء بتحقيق النص وذكر اختلافات
النسخ ما بين (أ) و (ب) .. إلى غير ذلك من وسائل علم التحقيق وأدواته -
الذي تقدم له في هذه الأيام من لا يحسنه -؟ أم أن هناك إحياءً من نوع آخر،
يجب أن يترافق مع هذا التحقيق -إن لم يكن هو الأصل والأساس -؟ ، ذلك هو إحياء أصحاب التراث في أخلاقهم وعملهم وعقلهم، فإذا أحيينا تراث الإمام
أحمد (رحمه الله) ، فلماذا لا نحيي صموده في وجه البدعة التي أرادت الدولة فرضها بالقوة، ونحيي حرصه على جماهير الأمة ألا تقع ضحية هذه البدعة، وليس أمامها عالم تقتدي به، فصبر وصابر، وكانت العاقبة للمتقين.
وعندما نحقق ما جمعه المحدثون، كي نميز الصحيح من الضعيف، فلماذا لا
نحيي منهجهم في طلب العلم والرحلة إليه، وتحملهم المشاق العظيمة في ذلك، ولو
أن يسمع حديثاً واحداً، ومنهجهم في الضبط والتوثيق، والبصر في الروايات
والرواة؟ . ولماذا لا نحيي أدب الشافعي (رحمه الله) في الحوار واهتمامه بأمر
المسلمين عندما نجده يتأسف أن تكون مهنة شريفة كالطب بأيد ي اليهود والنصارى، واهتمامه باللغة العربية لما رأى أن المسلمين أهلكتهم العُجمة فابتعدوا عن فهم
كتاب الله؟ .
إن نقل علم ابن تيمية من المخطوطات إلى الورق الأبيض لهو شيء مهم
وضروري، ولكن.. لماذا لا نحيي فيه تلك العقلية العلمية الواسعة وذاك الإنصاف
والاعتدال في تقويم الرجال، وتلك الأخلاق العالية في الاعتذار لمن يغلب عليهم
اتباع الحق، ولكن تبدر منهم هفوات وزلات، ثم محاربته لأهل الإلحاد ودفاعه عن
حياض الإسلام؟ ، وإن الذي يحيي فقه ابن المسيب لجدير به أن يحيي صلابته في
الحق، والذي يكثر من ترديد (إحياء منهج السلف) لو أنه يتمثل بشجاعة ابن
المبارك، وكرم الليث بن سعد، ويحيي منهج السلف في العمل والبعد عن شهوات
الرئاسة العلمية والتصدر للناس، وأن يتمثل صفاء قلوبهم وكثرة عبادتهم وخشيتهم،
وبعدهم عن الخصومات الردّية والمردية.
هذا الإحياء للتراث هو الداء الشافي لموات هذه الأمة، حتى لا تكون كما قال
الشاعر:
خلي الغمد، ما في الكف مال ... وهذا الرف يهوي بالكتاب(98/38)
دراسات تربوية
من ثمرات اليقين باليوم الآخر
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد، وعلى آله
وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد..
لما كان الإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان
مسلم بدونها.
ولما لذلك الإيمان من أثر في حياة المسلم وطاعته لأوامر الله (عزو جل)
واجتناب نواهيه، ولما له من أثر في صلاح القلوب وصلاح الناس وسعادتهم في
الدنيا والآخرة، ولما في نسيان ذلك اليوم العظيم والغفلة عنه من خطر على حياة
الناس ومصيرهم.. فلا غرابة إذن أن يرد ذكر هذا اليوم كثيراً في القرآن، حتى لا
تكاد تخلو منه صفحة من صفحاته.
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود
وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمق والجهل ألا نهتم بما اهتم به الوحيان.
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بها كل واحد منا هي: قضية وجوده وحياته
والغاية منها، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته، فلا يجوز أن يتقدم ذلك
شيء مهما كان، فكل أمر دونه هين وكل خطب سواه حقير. وهل هناك أعظم
وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله، ويخسر مع ذلك سعادته وسعادتهم، فماذا
يبقى بعد ذلك؟ [قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ
هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] [الزمر: 15] .
وأهمية هذا الموضوع تتجلى فيما يلي:
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك
من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس
وتصدهم عن الآخرة، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
من الإيمان والتقوى، فقدكان يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد
للآخرة، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم، فلا شك ولا ريب أننا أحوج منهم
بكثير إلى أن نتذكر الآخرة ويذكّر بعضنا بعضاً بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها.
2- ركون كثير من الناس للدنيا ولقد ترتب على ذلك أن قست القلوب،
وتحجرت الأعين، وهُجِرَ كتاب الله (عز وجل) ، وإذا قرأ أحدنا القرآن قرأه بقلب
لاهٍ، فأنّى لمثل ذلك القلب أن يخشع لذكر الله؟ وأنّى لعينيه أن تدمع خوفاً من الله،
وقد انعكس ذلك على الصلاة فقلّ الخاشعون والمطمئنون فيها.. والله المستعان.
3- لما في تذكر ذلك اليوم ومشاهده العظيمة من حث على العمل الصالح
والمبادرة لفعل الخيرات وترك المنكرات، بل ما تكاسل المتكاسلون في عمل
الصالحات سواء الواجب منها والمسنون إلا بسبب الغفلة عن الآخرة والانشغال عنها، يقول (تعالى) في وصف عباده الصالحين: [رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن
ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ] [النور: 37] . [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ
سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لايَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [الزمر: 9] .
4- لما ظهر في عصرنا اليوم من المشكلات المعقدة والأمراض المزمنة،
التي نشأت عنها الأمراض النفسية المتنوعة من القلق والاكتئاب اللذين يؤديان غالباً
إلى حياة يائسة، ومن أسباب ذلك: البعد عن الله (تعالى) ، وعن تذكر اليوم الآخر.
5- لما تميز به زماننا اليوم من كثرة المظالم في بعض المجتمعات واعتداء
الناس بعضهم على بعض، من أكلٍ لأموال غيرهم بدون وجه حق، وكذلك النيل
من الأعراض، والحسد والتباغض، والفرقة والاختلاف، وبخاصة بين بعض
الدعاة وطلبة العلم، ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر اليوم الآخر وتذكر الوقوف بين
يدي الله (عز وجل) علاجاً لتلك الأمراض.
6- ولما كان الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة من أعظم الأسباب في
وهن النفوس وضعفها كان لا بد من التذكير المستمر بذلك اليوم وما فيه من نعيم أو
جحيم، لأن في هذا التذكير أكبر الأثر في نشاط الهمم وعدم الاستسلام للوهن
واليأس رجاء ثواب الله (عز وجل) وما أعده للمجاهدين في سبيله الداعين إليه.
7- ولما قلّ في برامج الدعوة والتربية الاعتناء بهذه الجانب العظيم من
التربية مما له الأثر الكبير في الاستقامة على الجادة والدعوة إلى الله على بصيرة،
ولكن نرى من بعض المهتمين بالدعوة من يستهين بهذا الجانب العظيم حتى صار
بعضهم يقلل من أثر التذكرة بالآخرة بقوله: إن هذا الأمر يغلب عليه الوعظ أو هذا
مقال عاطفي وعظي… إلخ.. مع أن المتأمل لكتاب الله (سبحانه) وسنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم- يرى بجلاء جانب الوعظ بارزاً بالربط بين الدنيا والآخرة
والثواب والعقاب.. نسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يوفقنا للاقتداء بالسنة والسير
على نهجها.
الآثار المرجوة لليقين باليوم الآخر:
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحة وثماراً طيبة، لابد
أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلها، ولكن هذا اليقين
وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق، لأن الواحد منا
مع يقينه باليوم الآخر وأهواله يرى في حياته أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة، فلابد
إذن من سبب لهذا الأمر، ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى)
فيقول: (فإن قلت كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة
والنار ويتخلف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى
بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهياً
غافلاً! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته؟ ! .
قيل: هذا (لعمر الله) سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق؛ فاجتماع هذين
الأمرين من أعجب الأشياء، وهذا التخلف له عدة أسباب:
أحدهما: ضعف العلم ونقصان اليقين، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت، فقوله
من أفسد الأقوال وأبطلها.
وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة
الرب على ذلك، ليزداد طمأنينة، ويصير المعلوم غيباً شهادة.
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي أنه قال: (ليس الخبر كالمعاينة) [1] .
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من
أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع، وغلبات
الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاء الوعد،
وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورخص التأويل، وإلف العوائد،
فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وبهذا السبب
يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب.
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله
(سبحانه) أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة الدين، فقال (تعالى) : [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: 24] ) [2] .
ذكر الثمرات المرجوة:
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها حول ثمرات اليقين بالنبأ العظيم نذكر ما
تيسر من هذه الثمرات، والله ولي التوفيق:
1- الإخلاص لله (عز وجل) والمتابعة للرسول:
إن الموقن بلقاء الله (عز وجل) يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على
أعماله، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، حيث
إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، فتصير هباءً منثوراً، والشرك الأصغر
يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء، والعجب، والمن، وطلب الجاه والشرف في الدنيا، فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص
الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة، يوم أن يكون في أشد
الأوقات حاجة إليها؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها
لله (تعالى) لعل الله (عز وجل) أن ينفعه بها، كما أن اليقين بالرجوع إلى الله (عز
وجل) يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول -صلى الله عليه وسلم- غير مبتدع
ولامبدل؛ لأن الله (عز وجل) لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً، قال
(تعالى) : -[قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] [الكهف: 110] .
2- الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب
وسلامته:
إذا أكثر العبد ذكر الآخرة، وكانت منه دائماً على بال، فإن الزهد في الدنيا
والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب، وحينئذ لا يكترث بزهرتها، ولا يحزن
على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها،
وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة منها: القناعة، وسلامة
القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة
وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة، مع ملاحظة أن إيمان المسلم باليوم
الآخر وزهده في الدنيا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها؛ يقول
(تعالى) : -[وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ] [القصص: 77] .
كما يتولد أيضا من هذا الشعور، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة
الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله (عز وجل)
من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهو
ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله (عز وجل) ، قال
(تعالى) : [إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كََمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا
يَرْجُونَ] [النساء: 104] وما إن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم
والتعاسة، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن، أما ذاك الذي عرف
الدنيا على حقيقتها، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا
حسرات، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حرم في هذه الدنيا
الفانية فهو يعلم أن لله (عز وجل) في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم
القيامة، قال (تعالى) : [وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا
يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ] [الزخرف: 33- 35] .
3- التزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات واجتناب المعاصي والمبادرة
بالتوبة والاستغفار:
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) : (ومما ينبغي أن من رجا شيئاً
استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدهما: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء
والأماني شيء آخر، فكل راجٍ خائف، والسائرعلى الطريق إذا خاف أسرع السير
مخافة الفوات.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (من خاف
أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) [3]
وهو (سبحانه) كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل
الأعمال الصالحة، فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل، قال (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
(58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ
إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]
[المؤمنون: 57- 61] .
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: سألت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر
ويزنون ويسرقون؟ قال: (لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون
ويتصدقون ويخافون أن لايتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات) [4] وقد روي
من حديث أبي هريرة أيضاً.
والله (سبحانه) وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء
بالإساءة مع الأمن) [5] .
وقال (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ
يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [البقرة: 218] .
يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى) : (فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه
الطاعات؟ وقال المغرورون: إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره
الباغين المتجرئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله) [6] . للحديث صلة.
__________
(1) أحمد، ج1ص215، 271 وصحح إسناده أحمد شاكر (1842) .
(2) الجواب الكافي، ص 54.
(3) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 18 الحديث رقم 2450 وانظر صحيح سنن الترمذي (1993) .
(4) رواه أحمد، ج6ص159، والترمذي (كتاب التفسير) باب تفسير سورة المؤمنون، ح 3175.
(5) الجواب الكافي، ص 57، 58.
(6) الجواب الكافي، ص 56.(98/40)
مقال
دور الملأ في الصد عن سبيل الله
بقلم: فهد بن ناصر الجديد
عندما أمر الله (تعالى) ملائكته بالسجود لآدم، أبى إبليس واستكبر عن أمر
ربه، فقال (تعالى) مخاطباً إبليس بأمر قدري كوني: [فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن
تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ] [الأعراف: 13] .
ولم يكتف إبليس بالطرد والإبعاد عن رحمة الله، بل استدرك اللعين وسأل الله
النّظِرَةَ إلى يوم القيامة؛ إمعاناً في الكيد والحسد لآدم وذريته من بعده، [قَالَ رَبِّ
فَأَنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] [الحجر: 36] . وقد أجابه (تعالى) إلى ما سأل، لما له
في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه،
قال (تعالى) : [قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (37) إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ (38) قَالَ
رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
المُخْلَصِينَ] [الحجر: 37- 40] .
من هنا يتضح أن السبب الرئيس في امتناع إبليس عن السجود لآدم هو الإباء
والاستكبار على الله وليس التكذيب، شأنه في ذلك شأن الملأ من الناس أعوان
إبليس الذين تصدوا لدعوة الرسل.
والملأ هم: الرؤساء، سُمّوا بذلك لأنهم مِلاءٌ بما يحتاج إليه، وقيل: أشراف
القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدّموهم الذين يرجع إلى قولهم [1] ، وقد استخدم
أولئك الملأ كل ما يملكون من أساليب ووسائل لصرف الناس عن عبادة الله،
وصدهم عن سبيله، من هذه الأساليب:
الأسلوب الاجتماعي:
عند دراستنا للقرآن الكريم يتضح أن الملأ من قومي نوح ولوط (عليهما
الصلاة والسلام) قد استخدموا هذا الأسلوب لاستعباد الناس، فبجانب عبادة الأصنام
كان قوم نوح قد تفشى فيهم الصراع الطبقي، فالملأ من السادات والأشراف قد
ورثوا هذه المكانة بسبب تعظيم أسلافهم الصالحين، فزادهم ذلك مكانةً في مجتمعهم
عن أولئك الضعفاء من قومهم، حتى أدى بهم الأمر إلى أن اتخذوا لهم صوراً
وأصناماً، فلما اندرس العلم وعم الجهل وطال عليهم الأمد، عبدوا تلك الأصنام.
فلما أرسل الله (تعالى) نوحاً (عليه الصلاة السلام) دعاهم إلى التوحيد الخالص
ونبذ الشرك، قال (تعالى) : [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25)
أَن لاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ] [هود: 25، 26] .
وقد كان السبب الرئيس المانع من استجابة أولئك الملأ هو أن التابعين له هم
الضعفاء والمساكين، يقول (تعالى) : [فَقَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلاَّ
بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّاًيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن
فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] [هود: 27] .
وبعد أن أوضح نوح (عليه الصلاة والسلام) وبين حقيقة التوحيد وأبطل عبادة
الأصنام، أخذ يصحح الوضع الاجتماعي المتردي في مجتمعه، قال (تعالى) :
[وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَذِينَ آمَنُوا إنَّهُم
مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إن
طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلا أَقُولُ
إنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ
إنِّي إذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينََ] [هود: 29- 31] .
أما لوط (عليه الصلاة والسلام) فقد استخدم الملأ من قومه أسلوباً بشعاً من
الأساليب الاجتماعية التي يستعبدون بها الناس، هذا الإسلوب هو إتيان الذكران من
العالمين، ولم تكن تلك الظاهرة الخبيثة مرضاً مقصوراً على فرد أو جماعة من
الناس، وإنما كانت عامة في ذلك المجتمع [وَتَاًتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ]
[العنكبوت: 29] .
فلما أرسل الله لهم لوطاً (عليه الصلاة والسلام) دعاهم إلى توحيد الله وترك
عبادة ما سواه، ثم أنكر عليهم هذا الأسلوب البشع: [وَلُوطاً إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ
لَتَاًتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَاًتُونَ الرِّجَالَ
وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَاًتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَر] [العنكبوت: 28، 29] .
أما قوم عاد وقوم ثمود فقد استخدموا أسلوب البناء العمراني بجانب عبادة
الأصنام؛ ليصدوا الناس عن عبادة الله وحده، فقد كانت قبيلة عاد تسكن ما بين
اليمن وعُمان، وقد حباهم الله بنعم وفيرة وخيرات كثيرة حتى بلغوا قمة الإبداع
المادي والصناعي والرفاهة، ولكنهم لم يعبدوا الله ولم يشكروا نعمه عليهم، بل
استخدموا تلك النعم في استعباد الضعفاء، فأرسل الله لهم هوداً (عليه الصلاة
والسلام) ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، قال (تعالى) : [وَإلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إن أَنتُمْ إلاَّ مُفْتَرُونَ]
[هود: 50] .
وبعد أن دعاهم إلى التوحيد الخالص، اتجه (عليه الصلاة والسلام) إلى
إصلاح ما كان عليه القوم من فساد، فأنكر عليهم المبالغة في البنيان وشق السدود
واتخاذ المصانع حتى صرفهم ذلك عن عبادة الله، قال (تعالى) : [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ
آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ] [الشعراء: 128، 129] .
وقد تصدى الملأ من قومه لدعوته وحاربوه [قَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنَّا
لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ] [الأعراف: 66] .
أما قبيلة ثمود فقد كانت تسكن الحِجْر (بين الحجاز والشام) وقد ساروا على
نهج سلفهم من قوم عاد في اتخاذ القصور والسهول حتى صرفهم ذلك عن عبادة الله، فأرسل الله لهم صالحاً فدعاهم إلى التوحيد الخالص، قال (تعالى) : [وَإلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ] [هود: 61] .
وبعد أن دعاهم إلى التوحيد، انطلق صالحٌ (عليه الصلاة والسلام) فأنكر
عليهم أسلوبهم في استعباد الناس وصرفهم عن عبادة الله، قال (تعالى) : [واذْكُرُوا
إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ
الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] [الأعراف: 74] .
وقال (تعالى) : [أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ (151) الَذِينَ يُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ] [الشعراء: 146- 152] .
ولا شك أن الملأ قد تصدوا لدعوته وحاربوه ومن آمن معه [قَالَ المَلأُ الَذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن
رَّبِّهِ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ
كَافِرُونَ] [الأعراف: 75، 76] .
الأسلوب الاقتصادي:
تقع مدين في بلاد الشام، وقد حبى الله بلادهم مكانة مهمة، إذ تقع في ممر
قوافل التجارة، وقد استغل الملأ منهم هذه الأهمية، فبجانب عبادتهم للأيكة (وهي
الشجرة الكبيرة) أصبحوا يطففون الكيل والميزان، فبعث الله إليهم شعيباً (عليه
الصلاة والسلام) ودعاهم إلى التوحيد الخالص، قال (تعالى) : [وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ
شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ] [الأعراف: 85] ثم أبطل ما
كانوا عليه من الظلم في تطفيف الكيل وبخس الناس والإفساد في الأرض، قال
(تعالى) : -[فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي
الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [الأعراف: 85] وليس
مستغرباً أن يتصدى الملأ إلى دعوة شعيب (عليه الصلاة والسلام) ويهددوه بالنفي:
[قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن
قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ] [الأعراف: 88] .
الأسلوب السياسي:
استخدم فرعون وملؤه هذا الأسلوب في استعباد الناس وصدهم عن دين الله،
ففرعون الذي قال: [ ... أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] [النازعات: 24] ، لا يدعي أنه
الخالق المدبر، وإنما يدعي أنه الحاكم المسيطر بإرادته وقانونه، يفسر ذلك قوله
(تعالى) : [أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ] [الزخرف: 51] ، بل كان فرعون يعبد آلهة
قومه كما في قوله (تعالى) : [وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ
قَاهِرُونَ] [الأعراف: 127] لذا: استخدم فرعون وملؤه السحر، وأجبروا
مجموعة من الشبان على تعلمه؛ ليفرضوا سيطرتهم على المجتمع ويصدوهم عن
عبادة الله، ويتبين ذلك من قول أولئك السحرة لما آمنوا بالله (تعالى) فلم يرهبهم
التهديد والوعيد، قال (تعالى) : [إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ
مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى] [طه: 73] .
قال ابن عباس: (أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني اسرائيل، فأمر أن
يُعَلّموا السحر، وقال: علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض) [2] ، فبعث الله
(تعالى) موسى (عليه الصلاة والسلام) ، فدعاهم إلى وحدانية الله وأبطل ما كانوا
عليه من السحر بالمناظرة التي انتهت بإيمان السحرة.
سبيل التصدي:
مما سبق يتضح أن معظم الكفر الحاصل في البشرية ليس بسبب تكذيب دعوة
الرسل وإنما بالإباء والاستكبار على أمر الله، يقول (تعالى) : [وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواً] [النمل: 14] يقول ابن القيم: (إن الله (تعالى) أيد
رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة، وأزال به
المعذرة) [3] لذا: لابد لمن أراد دعوة الناس إلى الهدى أن يسلك سبيلاً واحداً سار
عليه الرسل جميعاً، هذا السبيل هو البدء بالتوحيد الخالص ودعوة الناس إليه،
وكشف ما يناقضه من الشرك بالله، وسد الذرائع الموصلة إليه، ثم الانتقال إلى
إصلاح ما تآلف الناس عليه من الفساد بمختلف أساليبه في المجالات الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أي فساد في أي مجتمع هو من
صنع الملأ، لذا: لابد من التحلي بالصبر على مشاق الدعوة تجاه ما يحدثه أولئك
الملأ، يقول المودودي: (والظاهر أن أول ما يطالِب به دينُ الله عباده: أن يدخلوا
في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد، حتى لا يبقى في أعناقهم قلادة
من قلائد العبودية لغير الله (تعالى) ، ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما
أنزله الله (تعالى) وجاء به الرسول الأمي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ثم إن
الإسلام يطالبهم بأن ينعدم من الأرض الفساد، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات، الجالبة على العباد غضب الله (تعالى) وسخطه) [4] .
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب.
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3 ص176.
(3) مدراج السالكين، ج1ص346.
(4) مقدمة كتاب الأسس الأخلاقية، للمودودي.(98/46)
مقال
السلام.. كما جاء في القرآن الكريم
بقلم: د. محمد بن عبد الله الشباني
ورد لفظ (السلام) ومشتقاته في عدد كبير من آيات القرآن الكريم، حيث عالج القرآن الكريم مفهوم السلام وفق معنى الإسلام الذي يقوم على ضرورة الخضوع التام والمطلق لخالق الإنسان، من حيث القبول والتسليم بما يُوجبه الله، وتكييف السلوك وفق مقتضيات ذلك.
إن أصل مادة (السلام) تأتي من الفعل الثلاثي (سَلَمَ) والمشتقات منه التي تأتي
لمعانٍ متعددة، لكنها جميعاً تدور حول مفهوم: الاستسلام، والطاعة، والخضوع،
والصلح، وترك الحرب والمنازعة، والسلم، والأمان، ولاستجلاء هذه المعاني
للفظة (السلام) كما جاء في القرآن الكريم فسوف أستعرض المعاني والدلالات التي
ورد فيها لفظ (السلام) على النحو التالي:
أولاً: في مجال الحياة الأسرية:
ورد أحد مشتقات كلمة (السلام) في سورة البقرة عند معالجة القرآن الكريم
لجانب من جوانب الحياة الأسرية، الذي يتعلق بحماية الطفولة وتحقيق الأمان عند
انفصام الروابط التي تجمع بين عنصري الأسرة (الأب، والأم) في قوله (تعالى) :
[وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى
المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نُفْسٌ إلاَّ وسْعَهَا.... . وَإنْ أَرَدْتُّمْ
أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُم إذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] [البقرة: 233] في هذه الآية ورد لفظ (سَلّمتم) ، وهو أحد مشتقات كلمة (السلام) ، وقد جاء اللفظ ضمن سياق آيات نظّمت
وعالجت أموراً تتعلق بالنتائج التي تترتب على الخلاف الذي يقع بين الزوجين؛
مما قد يؤدي إلى الانفصال النهائي، وبالتالي: فقد تم تنظيم علاقة الأطفال الذين
نتجوا عن تلك العلاقة، ولقد استخدم القرآن الكريم لفظ (سَلّمْتُم) بدلاً من أي لفظ
آخر يفيد المنح والإعطاء؛ لنكتة بلاغية وتربوية، وهي: أن السلام في الحياة
الأسرية من أهم متطلبات الاستقرار النفسي لأفراد الأمة، ومن هنا وردت كلمة
(سَلّمتم) لتنظم العلاقة بين الزوجين المنفصلين؛ بإضفاء مفهوم الأمان، ويورد
الزمخشري (رحمه الله) عند تفسيره لهذه الآية معنًى جليلاً لمفهوم (السلام) في
الأسرة المسلمة، فيقول: (إذا سلمتم إلى المراضع ما آتيتم: ما أردتم إيتاءه، كقوله
(تعالى) [.. إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ..] [المائدة: 6] وقرئ ما أتيتم من أتي إليه
إحساناً إذا فعله، ومنه قوله (تعالى) [.. إنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَاًتِياً] [مريم: 61] أي
مفعولاً، وروى شيبان عن عاصم: ما أوتيتم أي ما آتاكم الله، وأجركم عليه من
الأجرة ونحوه، وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو نَدْب إلى الأَولى،
ويجوز أن يكون نعتاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنأ ما يكون
لتكون طيبة النفس راضية؛ فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره،
فأمرنا بإتيانه ناجزاً يداً بيد، كأنه قيل إذا أديتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن
بالمعروف؛ مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما
أمكن؛ حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن) [1] ! .
ثانيا: في مجال الحرب والسلم:
جاء لفظ (السلام) في القرآن الكريم في مواضع عديدة، عندما تحدث القرآن
عن علاقة المجتمع المسلم مع بقية الجماعات الأخرى التي تدين بغير دين الإسلام،
وأوضح الإطار الذي يحدد مظاهر ونوعية علاقات السلم، والظروف التي يمكن
فيها قبول المهادنة والصلح مع العدو، ولهذا لابد من فهم هذه الآيات التي تحدثت
عن الحرب والسلم وورود لفظ (السلام) فيها كوحدة واحدة؛ لمعرفه كيفية بناء
العلاقات السلمية مع الجماعات والمجتمعات الأخرى على النحو التالي:
1- المناوأة والمضادة للمجتمع المسلم:
من أبرز الآيات التي يُسْتَشْهَدُ بها لإجازة السلام مع أعداء الأمة قوله (تعالى) :
[وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا..] [الأنفال: 61] وذلك بعد فصلها عن سياقها.
ولفهم هذه الآية لابدّ من فهم الآيات السابقة واللاحقة لها، فهذه الآية جاءت تعقيباً
بعد قوله (تعالى) : [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم..] [الأنفال: 60] وجاء بعدها قوله
(تعالى) : [وَإن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ..] [الأنفال: 62] ، وإذا أردنا فهم هذه
الآيات أو ربطها ببعضها، فلابد من الرجوع إلى ما قبلها من الآيات التي حددت
الظروف الحربية التي كانت سائدة في زمن الرسول، فقد وصف القرآن الكريم هذه
الظروف بقوله (تعالى) : [إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ..] [الأنفال: 55] ، فقد وصفت هذه
الآيات حقيقة الكفر والكافرين فيما يتعلق بمدى التزامهم بمواثيقهم، ولقد أوضح ابن
كثير (رحمه الله) في تفسيره لهذه الآية: ماذا ينبغي أن تمارسه الأمة، يقول (رحمه
الله) : (أخبر (تعالى) أن شر مادة على وجه الأرض هم الذين كفروا، فهم لا
يؤمنون، وكلما عاهدوا عهداً نقضوه، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه، وهم لا يخافون
من الله في شيء ارتكبوه من الآثام، فإن تَغْلِبْهُم وتَظْفَرْ بهم في حرب فنكلْ بهم:
قاله ابن عباس، والحسن البصري، والضحاك، والسدي، وعطاء الخرساني،
وابن عيينة، ومعناه: غلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف مَن سواهم مِنْ الأعداء
من العرب وغيرهم، ويعتبروا أو يصيروا لهم عبرة [لعلهم يذكرون] ، وقال
السدي: يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيقع بهم مثل ذلك [2] .
إن السلام لا يقوم بدوره لصالح المسلمين إلا عندما يدرك العدو أن المسلمين
يمتلكون القدرة على تأديب الأعداء عند عدم احترامهم للمعاهدات، لهذا لا يمكن
تحقيق السلام إلا إذا ذاق اليهود وأعوانهم الهزيمة المرة وأصبحوا تحت سيطرة
المسلمين، وبالتالي: سيوفون بالعهد خوفاً من أن يُنكل بهم، ولكنهم إذا عرفوا أنهم
إذ ينقضون المواثيق يحصلون على أوضاع أفضل مما حصلوا عليه؛ فإنهم لا
يمتنعون عن نقض تلك المواثيق، وما يحدث من نقض لمواثيق وعهود في البوسنة
والهرسك مثلاً لدليل معاصر يؤكد هذه الحقيقة.
إن قبول السلم والمهادنة مع الأعداء كما أوضحته الآية يرتبط بالالتزام من
قبل الأمة الإسلامية بما جاء في الآية التي سبقت آية [وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ..]
[الأنفال: 61] وهي قوله (تعالى) : [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم..] [الأنفال: 60] ، فقد أعقب هذه الآية قوله (تعالى) : [وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ..] [الأنفال: 61]
فشرط قبول السلام أو المهادنة كما أوضحته الآية السابقة يتمثل في أمرين:
الأول: عدم جواز عقد الهدنة إلا إذا توفرت للأمة عناصر القوة، المتاحة
وفق ما يتوفر في كل عصر من العصور من أسباب القوة، وأن على الأمة العمل
على توفير هذه القوة بتنمية القدرات العسكرية بشكل مستمر ومتواصل حتى في
عهد السلم، وبالتالي: - فأي مهادنة من قبل أي حاكم مسلم لا تكون سارية إذا أخل
بهذا الشرط، وقد أشارت هذا الآية إلى حقيقة مهمة، وهي: عملية تنمية القوة
العسكرية واعتبار أنها الوسيلة الفعالة لتحقيق السلام الحقيقي، كما في قوله (تعالى) : [.. تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ..] [الأنفال: 60] ، فالاستعداد لا يُقصد
به القيام بالحرب، وإنما هو التخويف به، أي: تحقيق الردع؛ ولهذا: وجّه الله
(تعالى) الأنظار إلى أن هذا الاستعداد يحتاج إلى الإنفاق، وأن على أفراد الأمة بذل
المال في هذا السبيل، وأن هذا الإنفاق لغرض تحقيق إرهاب العدو هو إنفاق في
سبيل الله، يجزي الله المنفقين على بذله، فلا يُبْخسون شيئاً مما أنفقوه في هذا
الوجه، كما أن الاستعداد وتنمية القدرات العسكرية يجب أن يكون بتنمية القدرة
على تصنيع هذا السلاح، والعمل على توفير المناخ الإداري والسياسي والمالي
لتوفير القدرة على ذلك، فشراء السلاح من الأعداء بدون العمل على توفير
الإمكانات لصنعه يعتبر تضييعاً لحق الأمة، وصرفاً لمفهوم قوله (تعالى) :
[وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم..] [الأنفال: 60] .
الأمر الثاني: عدم قبول السلام أو المهادنة من موقف الضعف؛ فيجب إلغاء
أي معاهدة أو هدنة إذا اتضح أن الالتزام بها سوف يؤثر على مصالح الأمة،
وعندئذٍ، ووفق الأخلاق الإسلامية التي يأمر بها الله، فإن من الواجب إبلاغ
الطرف الذي تمت المعاهدة معه بإلغائها والاستمرار في مناصبة العدو الحرب إلا إذا
قبل العدو تعديل المهادنة وفق مصلحة الأمة، والامتناع عن طلب السلم معهم إلا إذا
طلبوا المسالمة وخضعوا لشروط المسلمين؛ أي إن السلام يكون مطلباً للعدو بعد أن
يدرك أن القوة للمسلمين، وليس أمامه إلا طلب السلام والقبول بما يفرضه
المسلمون من شروط، يقول ابن كثير (رحمه الله) في تفسير قوله (تعالى) [وَإن
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ..] الآية: (فإذا خفت من قوم خيانة فانبذ لهم عهدهم على سواء،
فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، وإن جنحوا، أي: مالوا، للسلم، أي:
المسالمة والمصالحة والمهادنة، فاجنح لها، أي: فمل إليها واقبل منهم ذلك؛ ولهذا
لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، أجابهم إلى ذلك) [3] . ...
وبجانب ما أشارت إليه هذه الآيات من سورة الأنفال من شروط لقبول السلام
والمهادنة مع الأعداء، فقد أوضحت سورة النساء أوضاعاً أخرى لقبول المهادنة
وتحقيق السلم مع الأعداء، وذلك في حالة أن يكون هناك ضعف داخلي في مجتمع
المسلمين، وأعداء يتربصون بهم، يتحينون الفرص للانقضاض على الأمة، يقول
(تعالى) : [فمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا
مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِياً وَلا نَصِيراً (89) إلاَّ الَذِينَ يَصِلُونَ
إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا
قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ
السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَاًمَنُوكُمْ
وَيَاًمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ
وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً] ... [النساء: 88- 91] .
السلام الذي تتحدث عنه هذه الآيات، إنما هو سلم متعلق بوجود ظروف
توزع القوة بين معسكر الإسلام ومعسكر الكفر؛ أي إن القوة متكافئة بين المسلمين
والكفار، ولهذا تعمد فئة بالتظاهر بالإسلام أو بالوقوف على الحياد، وقد أوضحت
هذه الآيات نوع المهادنة والسلم، والأسلوب الذي يجب انتهاجه. وهذا التوجيه
الوارد في هذه الآيات يخص حالة قيام دولة مسلمة في مجتمعات إسلامية، وفي
حالة وقوع معارضة لولي أمر المسلمين من فئات تنازعه الأمر بادعاء شرعي
فتطلب المصالحة أو المهادنة، كما حدث من طلب معاوية (رضي الله عنه) الصلح
والتحكيم من علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) الذي كان أميراً للمؤمنين، ويؤكد
هذا المفهوم ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد بسنده إلى علي بن أبي طالب (رضي
الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: (إنه سيكون اختلاف أو
أمر، فإن استطعت أن يكون السلم فافعل) [4] .
كما توضح الآيات طبيعة السلم والمهادنة في حالة التعامل مع المنافقين الذين
يدّعون الإسلام، أو في ظل مفهوم السلام العالمي، ويتمثل ذلك في الحقائق التالية:
1- إن طبيعة المنافقين هي خذلان الأمة في أشد المواقف خطورة حيث
يمارسون دور التثبيط وزعزعة ثقة الأمة بنفسها، فهم يعمدون إلى تخويف الأمة
من أعدائها؛ ليغرسوا فيها الوهن حتى لا تقاوم العدو فتستسلم له. وهذه الطبيعة
المتأصلة في نفوسهم إنما تعود إلى اتباعهم الباطل، ولذا: لا نجد فترة من فترات
التاريخ الإسلامي كان المنافقون أصحاب القوة والنفوذ في الأمة إلا ونجد أن الأمة
وقعت في قبضة الأعداء، وإن مجانبة هذا الأمر تكون بمنع المنافقين أن يُوَلّوْا قيادة
الأمة، وعدم موالاتهم أو الاستعانة بهم وطلب النصرة منهم.
2- حددت الآيات نوعية نفاق الجماعات سواء داخل المجتمع المسلم أو
خارجه، وتتمثل هذه الجماعات في دول كافرة، سواء أكان كفرها متمثلاً في تبني
العلمانية منهاجاً يقوم عليه نظام الدولة، أو دول أو مجموعات بشرية تتظاهر
بانتمائها للإسلام ولكن الكفر هو حقيقة هذه الجماعات أو الدول.
لقد أوضحت هذه الآيات كيفية التعامل مع هذه النوعية من الدول أو التجمعات
البشرية؛ وذلك بتصنيف علاقة السلم والحرب إلى نوعين من التعامل: النوع
الأول: مسالمة هذه الجماعات أو الدول التي ترتبط مع دول أو مجموعات بينها
وبين الدولة الإسلامية مهادنة وترغب أن تقف على الحياد، وهذا ما فعله رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- مع بني مدلج، فقد أورد ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:
عن سراقة بن مالك المدلجي (رضي الله عنه) أنه حدثهم، قال: (لما ظهر النبي -
صلى الله عليه وسلم- على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني
أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته، فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: مه، فقال النبي: دعوه، ما تريد؟ قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى
قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم
يسلموا لم تخشن لقلوب قومي عليهم، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد
خالد بن الوليد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم) [5] .
الثاني: يشبهون النوع الأول في الصورة الظاهرة، ولكن يختلفون في أن نية
هؤلاء غير نية النوع الأول، فهم لا يظهرون المناجزة والمساندة في الظاهر حتى
ينالوا المنفعة من المجتمع المسلم، ولكنهم في الحقيقة مع الأعداء، يتآمرون ضد
مصلحة المسلمين، بل إنهم يعمدون إلى المخادعة والتضليل، وقد ذكر ابن كثير
عن ابن جرير عن مجاهد أن قوله (تعالى) : [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَاًمَنُوكُمْ
وَيَاًمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ
وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ..] [النساء: 91] قد نزل في قوم
من أهل مكة، كانوا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسلمون رياءً، ثم
يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، ويبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا،
فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا) [6] .
إن هذا النوع لا يقتصر على الأفراد المذبذبين، بل يتعدى ذلك إلى الدول
والجماعات التي تمارس الخداع والتضليل؛ إما من أجل تخدير المجتمع المسلم
ونزع روح المبادرة، أو من أجل نهب خيراته من خلال إظهار مناصرة قضاياه
وحمايته من أعدائه بقصد ترويض المجتمع المسلم، ولهذا: فإن على المجتمع
المسلم ألا يسمح لهذا النوع من النفاق الكافر بالوجود، والعمل على قتالهم، وإن
المهادنة معهم لا يجوز عقدها إلا إذا التزموا بكف الأذى وعدم التدخل في أمور
المجتمع المسلم.
لقد أوضح القرآن الكريم أن المهادنة وعقد السلام كما جاء في القرآن الكريم لا
يجوز إلا عندما يتم تحقيق ما جاء في آيات سورة محمد، حيث قال (تعالى) : [إنَّ
الَذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا
تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ]
[محمد: 34، 35] . فقد حددت هذه الآية عدم جواز بدء طلب السلم أو المهادنة إلا إذا تحقق ما يريده الله: من أن المسلمين يكونون هم الأعلون، وبالتالي: فإنهم لا يطلبون السلام، ولكن يمنحونه لغيرهم إذا طلبه العدو، لما فيه من مصلحة الناس؛ من حيث تمكينهم من سماع كلمة الله حتى تقوم الحجة على الناس، فلا يكون للناس حجة بعد الرسل؛ ولهذا: جاء الإسلام ووضع أحكاماً لأهل الذمة من أجل أن يتحقق المبدأ الأساس في الإسلام، الذي أشار إليه قوله (تعالى) : [لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِ] [البقرة: 256] .
ثالثاً: جاء لفظ (السلام) بمعنى الخضوع والاستسلام لله، الذي هو المفهوم
الحقيقي لدين الإسلام، فقد ورد لفظ (السلام) ومشتقاته للدلالة على الإسلام، الذي
يعني كمال الخضوع والذلة والاستسلام لله بما شرعه وأمر به، فقد ورد لفظ (السّلم)
بهذا المعنى في قوله (تعالى) : [يا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ..] [البقرة: 208] ، فإذا جاء من يعرف معنى هذه الآية،
ويستشهد بأنها دليل على أن الإسلام يأمر بعقد السلام مع أعداء الله الذين نهبوا
الأرض وأخرجوا المسلمين من بلادهم، وشردوهم في الأرض، فقد صرف معنى
الآية عن مفهومها الذي نزلت به إلى معنى آخر مغاير لما نزلت من أجله.
إن المعنى الحقيقي لهذه الآية كما فسرها علماء المسلمين من المفسرين: هو
الأمر بالدخول في الإسلام، وقبول شريعة الإسلام، يقول الزمخشري: (السّلم
بكسر السين وفتحها وقرأ الأعمش بفتح السين واللام هو الاستسلام والطاعة، أي:
استسلموا لله وأطيعوه (كافة) لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته، وقيل هو الإسلام،
والخطاب لأهل الكتاب، لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، وللمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون (كافة) حالاً من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ... على
أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها، وأن لا يدخلوا في طاعة دون
طاعة، بل شُعَب الإسلام وشرائعه كلها، وأن لا يتركوا شيئاً منها، وعن عبد الله
بن سلام أنه استأذن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقيم على السبت وأن
يقرأ من التوراة في صلاته من الليل. [فإن زللتم] عن الدخول في السلم من بعد
ما جاءتكم البينات، أي: الحجج والشواهد على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو
الحق، فاعلموا أن الله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام منكم) [7] .
ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يقول الله (تعالى) آمراً عباده
المؤمنين به المصدقين برسوله: أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل
بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك، فقال العوفي عن ابن
عباس ومجاهد وطاووس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله
[ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ..] يعني: الإسلام، وقال الضحاك عن ابن عباس، وأبو العالية، والربيع، عن أنس [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ..] يعني: الطاعة، ومن المفسرين من
يجعل قوله [كَافَّةً] حالاً من الداخلين في الإسلام: كلكم، والصحيح الأول، وهو: أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جدّاً ما
استطاعوا منها، كما روى ابن أبي حاتم ... عن ابن عباس [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] كذا قرأه بالنصب، يعني: مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله
مستمسكين ببعض أمور التوارة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله: [ادْخُلُوا فِي
السِّلْمِ كَافَّةً] يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا تَدَعُوا
منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها، وقوله: [فَإن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ] أي: عدلتم عن الحق بعدما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله
عزيز، أي: في انتقامه، ولا يفوته هارب) [8] .
والآيات التي ورد فيها لفظ (السلم) ضمن مفهوم الإسلام المتضمن لمعاني
الخضوع والاستسلام مثل قوله (تعالى) : [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ
أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ..] [البقرة: 112] ، وقوله (تعالى) : [أفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ
أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً..] [آل عمران: 83] .
رابعاً: لقد ورد لفظ (السلام) في القرآن بما يفيد ضرورة استخدامه كتحية
يتخذها الأفراد، بقصد بث الأمان النفسي والمادي في المجتمع المسلم، وقد ورد
هذا المعنى في صور ومواقف متعددة، كحكاية عن واقع لما سيحدث في الدار
الأخرى، ولطمأنة أفراد المجتمع بعضهم لبعض في تعاملهم، ومن ذلك: ما ورد
في سورة هود، في قوله (تعالى) : [وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا
سَلاماً قَالَ سَلامٌ..] [هود: 69] ، وقوله (تعالى) : [إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً
قَالَ سَلامٌ..] [الذاريات: 25] ، وقوله (تعالى) : [.. قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ
وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى] [طه: 47] ، وقوله (تعالى) : [.. لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَاًنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا..] [النور: 27] ، وقوله (تعالى) : [.. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً..] [النساء: 94] ، وغير
ذلك من الآيات التي تدور حول مفهوم السلام الذي يعطي الأمان ويبث الاطمئنان في
النفوس ويزيل عنها الخوف والوجل.
فهذه الآيات جميعها تشير إلى أن السلام هو الأمان النفسي والمادي؛ ولهذا
يأمر الله عباده المؤمنين أن يمارسوا قول السلام وفعله في الدنيا لتحقيق السلام
الاجتماعي، الذي يمثل الغاية التي يسعى إليها الإسلام، فالسلام بمختلف معانيه
يقود إلى الأمان الذي هو غاية كل إنسان.
خامساً: ومن المعاني التي ورد فيها لفظ (السلام) أنها اسم من أسماء الجنة،
باعتبار أن السلام الحقيقي الدائم والمستمر هو ما يتحقق في الجنة، حيث يتحقق
للإنسان الأمان النفسي والمادي والخلود الأبدي، فهو السلام الذي يطمح إليه الإنسان، يقول الله (تعالى) مخبراً عن ذلك: [لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأنعام: 127] ، ولأن مانح السلام الحقيقي في الدنيا والآخرة هو
الله (سبحانه) ، ولأهمية السلام وعظيم شأنه فقد سمى نفسه بذلك، فمن أسمائه
الحسنى: (السلام) كما جاء في قوله (تعالى) : [هُوَ اللَّهُ الَذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ
القُدُّوسُ السَّلامُ..] [الحشر: 23] .
__________
(1) الكشاف، للزمخشري، ج1 ص 371 372.
(2) تفسير ابن كثير، ج2 ص 320.
(3) السابق، ج2 ص 322.
(4) السابق.
(5) المصدر نفسه، ج1 ص 533.
(6) السابق.
(7) الكشاف، ج1 ص 353.
(8) تفسير ابن كثير، ج1 ص 347.(98/52)
هموم ثقافية
إشكالية زاوية النظر للديمقراطية
(2)
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
تحدث الكاتب في الحلقة الماضية عن التباين الذي يحدث في تفسيرالديمقراطية وتبني موقف منها بناءً على اختلاف زوايا النظر إليها من خلال
منظور كل من: الحكام، والأحزاب، والمنظور القبلي، ومن خلال منظور العامة
من الناس، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة معالجة بقية الموضوع. ...
- البيان -
منظور الأبعاد:
هما بعدان: المكان والزمان.
إن مفهموم الديمقراطية في الاستغراق الزمني المحدد يتحول إلى مفاهيم متعددة
بحسب المكان، أي: بحسب البلدان والأقاليم والقارات، ففي جيلنا المعاصر
باعتباره بعداً زمنيّاً، فإن مفهوم الديمقراطية لدى الدول الغربية هو غير مفهومه
لدى دول العالم الثالث، كما أنه غير مفهومه لدى الدول التي تولدت من تفكك
الاتحاد السوفييتي السابق، وهناك أسباب عدة وراء اختلاف تلك المفاهيم، منها:
1- طبيعة التركيبة السكانية.
2- تنوع واختلاف المراجع العقدية.
3- تمايز الألوان الثقافية والتعبيرات الحضارية.
4- تباين الأنظمة السياسية.
5- اختلاف الطبيعة الجغرافية.
6- مقدار استحضار المختزن التاريخي.
7- بروز أو ضمور التفاوت الطبقي.
8- مضمون المنحى الاقتصادي وهياكله.
9- كيفية ممارسة وتطور العلاقات الاجتماعية.
10- حجم المشاركة الأممية، مع ملاحظة التنافس على الأدوار القيادية
والسيادة العالمية.
11- تعدد الاجتهادت المجتمعية للتعبير عن الذات وممارسة النفوذ.
12- تنوع المشاعر النفسية والانفعالات العاطفية بحسب الريادة أو التبعية.
فلو نظرنا من خلال بعد زمني محدد وليكن جيلاً أو جيلين إلى خارطة بلدان
الكرة الأرضية الآخذة بالديمقراطية، لوجدنا أن ديمقراطية كل بلد منها تختلف عن
الأخرى، إما لتحقق جميع الأسباب السابقة فيها، أو لتحقق بعضها، مع ملاحظة ما
يمكن أن يتولد من أسباب أخرى ناشئة عن التداخل والتفاعل بين الأسباب السابقة.
ذلك من حيث منظور بعدي الزمان المحدد والمكان غير المحدد.
وأما في إطار بعدي المكان المحدد والزمان غير المحدد، فإننا لو أخذنا بقعة
مكانية واحدة مثلاً، بلداً من البلدان، فإننا عند التدقيق في استغراقه الزمني سنلاحظ
للديمقراطية فيه تطوراً تاريخيّاً مستمراً، وهو يصعد درجات سلم السنين ثم القرون، فمفهوم الديمقراطية الآن في بلد ما ليس هو مفهوم الديمقراطية نفسه في ذلك البلد
قبل قرن أو قرنين، وإن الانتقال من مفهوم الديمقراطية السابق إلى مفهوم
الديمقراطية اللاحق لم يتم دفعة واحدة، فهو خارج إطار تطور الطفرة، بل تم هذا
التطور تدريجيّاً، وهذا يعني أن مفاهيم ديمقراطية متتابعة قد مرت على ذاك
البلد.. وما ينطبق على بلد واحد ينطبق على باقي البلدان، كل بحسب ظروفه وأحواله، وهناك عدة أسباب تؤدي إلى تغير أو تطور المفهوم الديمقراطي في البلد الواحد عبر الزمن، منها:
1-التطورات الثقافية.
2- التحولات الاجتماعية.
3- التغيرات السياسية.
4- المقدرات الاقتصادية.
5- التأثرات بالوافدات الخارجية.
6- الاستعدادات التعبوية، سواء أكانت نفسية أو مادية، انتشارية أو انكفائية.
7- الممارسات الاحتكاكية، كالحروب مثلاً.
8- طغيان الشعور بالتحدي الأممي.
9- الاندفاع أو الانخذالات الحضارية.
10- التعرض للظروف الحادة كالأمراض الوبائية أو الكوارث الجيولوجية.
ومن خلال تلك المؤثرات يمكننا أن نتخيل طبيعة تطور مفهوم الديمقراطية من
منظور البعد الزمني غير المحدد.
فإذا نظرنا للمفهوم الديمقراطي من خلال البعدين المكاني غير المحدد والزماني
غير المحدد وفق العناصر التي ذكرتها وطبيعة التداخل الذي بينها، لاتضح أمامنا
حجم الفوضى الحياتية التي سيحياها البشر من خلال اندراج ترتيب شؤون حياتهم
على ذلك المفهوم المتغير والمتطور باستمرار.
ويمكننا أن نرصد عناصر رئيسة في تلك الزوبعة الفوضوية الناشئة من
الاحتكام للمفاهيم الديمقراطية، ومن أهمها:
1- انبتات المسيرة البشرية عن التوجيه الرباني.
2- الاحتكام إلى منطلقات ذات طابع مصلحي لا يمكن الاتفاق عليها،
وبالتالي: الفشل في بلورة مرتكزات قيمية تستظل في فيئها معالم الاستقرار البشري.
3- شيوع الفوضى الفكرية وذيوغ النظريات الكلامية وامتداد التحليلات
الفلسفية.
4- (الغاية تبرر الوسيلة) سيكون الشعار الذي تحت ظله ترسم الخطط وتنفذ
البرامج.
5- التناحر والتقاتل لفرض الهيمنة وإحكام السيطرة وإخضاع الخصوم:
نفوساً وممتلكات.
6- تفاقم التفاوت الطبقي برعاية دستورية.
7- بروز الثقافات الإلحادية المكتظة بالإسفافات العقدية والجنسية.
8- استشراء التمزقات الاجتماعية، ومن أبرزها التفككات الأسرية.
9- ظهور الجنوحات نحو إبراز الذات وممارسة الهيمنة.
10- انعدام ضوابط ممارسة الحرية بمفهومها السوي.
11- التخلخل الاقتصادي الناجم عن التبدل المستمر بالنظريات والتطبيق.
12- استشراء الرذائل بسبب اختلاف النظرة لمفهوم الأخلاق، وبواعث القيم، ومدلولات الممارسات والتصرفات.
فإذا وضح لنا ذلك، علمنا مقدار الانحراف والخطر الذي وقع في مهاويه
بعض الإسلاميين، وهم يغذون السير في الطرق الديمقراطية.
ولعلنا من خلال منظور الأبعاد المذكورة نستطيع أن نمس الخسائر الفادحة
التالية المترتبة على انسياق بل انجراف الإسلاميين نحو المستنقع الديمقراطي:
1- التعبير العملي عن عدم إحاطتهم بكيفية استيعاب المنهاج الرباني
لمتطلبات البشرية عبر اختلاف المكان وتتابع الزمان.
2- محاولة تبرير ذلك التعبير بأطروحات عقلية محضة تتلمس لتمريرها
مصطلحات أصولية تتعلق بالمفاسد والمصالح.
إن هناك خطورة إضافية تتعلق باستخدام هذا المنهج للوصول إلى ذلك التبرير، تلك الخطورة تكمن في توسيع (ترجيح) قد حصل لحالة معينة في مكان محدد
وزمان معين ليشمل مسيرة منهج كامل، فلو حصل في بلد ما، وبظروف معينة أن
رجح الإسلاميون خوض الانتخابات النيابية، (وهم مخطئون في ذلك من وجهة
نظري) ، فإن هذا الترجيح لايجوز توسيعه لتمرير الفكرة الديمقراطية وممارساتها
في العالم الإسلامي أجمع.
3- إحلال المفاهيم الديمقراطية، بكافة ما تحتويه من سلبيات (ذكرت بعضها)
محل المفاهيم الإسلامية، أي: استبعاد الكتاب والسنة.
4- وقوع الاختلاف والشقاق بين الإسلاميين الديمقراطيين أنفسهم، بسبب
طبيعة ما تحمله المفاهيم الديمقراطية من اختلافات إزاء النظر لكل حالة قائمة أو
طارئة.
5- اندثار الثقافة الإسلامية وبروز الثقافة العلمانية باسم الديمقراطية.
6- الولوج في الامتزاج الحضاري، فكراً وممارسة، مع مجتمعات الكفر
والإلحاد، وذلك من خلال القفز على الفواصل العقدية المؤصلة في الكتاب والسنة.
7- الاحتكام إلى القوانين الوضعية البشرية، مما يترتب عليه أمران: أولهما: إلحاق الوصف الشرعي بفاعلي ذلك، وهو الكفر والظلم والفسق (كل بحسبه) .
وثانيهما: بلورة جميع مناحي الحياة في إطار صبغة تلك القوانين الوضعية، مما
يترتب عليه فوضى عقدية وأخلاقية وثقافية واقتصادية وأمنية تفوت جميع
الضرورات الخمس التي راعتها الشريعة من حفظ للدين والنفس والمال والنسل
والعقل.
8- استحقاق هذه الأمة المحتكمة في شؤونها للمفاهيم الديمقراطية لغضب الله
(تعالى) ، مما يترتب عليه تسليط الأعداء عليها، وإلحاق الهزائم المنكرة بجيوشها
وعساكرها، ورفع البركة من أقواتها ونزع الأمن من قلوبها، قال (تعالى) :
[وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَاًتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] [النحل: 112] .
وإن من أعظم النعم على هذه الأمة: كتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، وإن من الكفر بهما عدم الاحتكام إليهما، بل الاحتكام إلى غيرهما بدلاً عنهما،
وإننا لنرى بأم أعيننا كيف أن لباس الجوع والخوف لاحق بالمتحاكمين إلى
الديمقراطية.
9- إن الإسلاميين (الديمقراطيين) يتحملون المسؤولية الشرعية أمام الله
(تعالى) ، ثم أمام الناس من الأجيال القادمة فيما جنته أيديهم من آثار ردم المفاهيم
الإسلامية بالتراب الديمقراطي، كم من الجهد وبذل الطاقة واستغراق الأوقات
ستحتاجه الأجيال الإسلامية القادمة حتى تتمكن من إزالة ذاك التراب الديمقراطي
عن المفاهيم الإسلامية الحقة لتظهر كما هي.. حقيقة زاهية بهية.
10- أن الإسلاميين (الديمقراطيين) ، بسلوكهم الديمقراطي يعبرون عن قدوة
غير مُرضية، سواء على مستوى جيلهم أو على مستوى الأجيال القادمة، إن الناس
يذكرون أعلام الهدى من أهل السنة والجماعة الذين لم يتنازلوا قيد أنملة عن الحق
المكلل بالدليل الشرعي من أمثال: أحمد بن حنبل، والعز بن عبد السلام، وابن
تيمية (تغمدهم الله برحمته) .. وغيرهم كثير من علماء الإسلام، يذكرونهم بالخير
والتزكية، ولايزكون على الله أحداً، ويدعون لهم برفع الدرجات ونيل المكرمات
في أعلى الجنات، لكن بماذا سيذكر مسلمو الأجيال القادمة أولئك الديمقراطيين
الإسلاميين الذين انساقوا في خضم تلك المجالس التي تخضع كتاب الله وسنة رسوله
للتصويت البشري ليُرى هل يأخذ بهما أو لا يأخذ.. نعم، لن تذكر الأجيال
الإسلامية القادمة الإسلاميين أصحاب المفاهيم الديمقراطية بالخير والدعاء لهم بما
تدعو به لعلماء الإسلام الذين صان الله بهم دينه وأعلى بالتزامهم كتابه وسنة نبيه
كلمة الإسلام خفاقة عالية.
12- إن الإسلاميين الديمقراطيين، بمؤلفاتهم ودراساتهم وكتبهم حول الأخذ
بالديمقراطية سيُدخلون شوائب عظيمة في المفاهيم الإسلامية لا تقِل خطورة عن تلك
الشوائب التي أحدثها إدخال علم الكلام وفلسفة اليونان في مناهج النظر وإعمال
الفكر في المفاهيم العقدية الإسلامية، تلك العلوم التي حرفت الفهم الصحيح للعقيدة
السلفية، عقيدة أهل السنة والجماعة.
13- إن استغراق الإسلاميين (الديمقراطيين) في حمأة المناهج الفكرية
والممارسات العملية للديمقراطية قد صرف أذهانهم ولفت قلوبهم عن الجهاد في
سبيل الله (تعالى) ، ذلك أن الحكم الديمقراطي وهو حكم بشري بحت قد خلع الالتزام
بشرع الله (تعالى) من رقبته، ومن جملة ذلك: الجهاد في سبيل الله، إن الجهاد في
سبيل الله (تعالى) حكم معطل تماماً في ظل المجالس النيابية وأحكام الديمقراطية.
14- إن احتكام الإسلاميين للديمقراطية وأخذهم بها يفرض عليهم لزوماً عدم
الاعتراض على كل ما يعرضه الملحدون والمرجفون والمنافقون من أفكار علمانية
وطروحات حداثية. إن أقصى ما يمكن أن يعترض به الإسلاميون في هذا المجال
هو قولهم: لا يجوز أن يقال كذا أو يقال كذا. فيرد عليهم الآخرون بقولهم: إننا في
دولة ديمقراطية تكفل الحريات والإدلاء بالآراء، فليقل كل منا ما يشاء، ولم لا؟ !
فالدستور يحمي الجميع.
وبعد.. فتلك بعض آثار انعكاس المفاهيم الديمقراطية وأبعادها المختلفة على
أفكار وتوجهات الإسلاميين وممارساتهم تلك الأفكار التي تتبدى خللاً في الفهم
العقدي وانحرافا في الممارسة والتوجه الدعوي.
فهلاّ انتبهنا إلى آفاق تعدد زوايا النظر إلى الديمقراطية وما ينتجه من
إشكاليات؟ ! ! .(98/64)
نص شعري
العيد
شعر: حسين علي محمد
(1)
لا تطلب مني أن أطرب وأغنّي بجميلِ الشِّعرْ
في هذا العيدْ
فالحزنُ شديدْ
آلامى تقهَرُ جبلَ الصَّبْرْ
هل قُضي الأمرْ؟
(2)
يا كم خَدَعونا بالقول البرّاقِ.. بكلِّ غثاءْ
حتى صِرْنَا هَدَفاً لسهام الأعداءْ
خَدَعونا بالصِّور الشوهاءْ
فجرينا خلْف الأوهامِ الخَادِعِة السَّوْدَاءْ
حتى ضجَّتْ منا الأهْوَاءْ
(3)
آهِ من فتَنٍ ينسجُها الغشَّاشُون الكذَّابُون بلا رحْمَه
هل نحنُ الأبناءُ البررةُ في هذي (العتْمَه) ؟
هل نحنُ (الأمَّهْ) ؟
من يكشف عنَّا هذي الغُمَّهْ؟
من يمتلكُ العزْمةَ، والوثبةَ، والهمَّهْ؟
(4)
لا تطْلُبْ مني شرحاً، فالليلُ قصيرْ
والحزنُ وفيرْ
وأنا.. مكلومُ القلبِ، حسيرْ
لا تطلبْ مني أن أشدوَ في هذا العيدِ
بدرِّ القوْلِ
فقلبي.. مفطورٌ وكسيرٌ(98/71)
المسلمون والعالم
الأمم المتحدة
الموقف العجيب حيال قضيتي فلسطين والبوسنة! !
(3)
بقلم: عبد العزيز كامل
كان الحديث في حلقات سابقة، عن الواقع الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، الذي تمخض عن نشوء علاقات ليست عادلة بين أمم الأرض، تمثلت في وجود
عالم حرّ قوي ومستكبر، يتحكم في عالم آخر يرسف في قيود العبودية والتأخر
والضعف، على الرغم من أنه يمتلك كل إمكانات القوة والغنى والتقدم، وهذا العالم
المستضعف والمستهدف كان وللأسف يتمثل في غالبيته من شعوب الأمة الإسلامية
عرباً وعجماً، حيث فرضت الدول الكبرى أو المتكبرة من خلال هيئاتها العالمية
معادلات دولية صارمة وظالمة، لا تسمح تحت أي ظرف من الظروف لأي من
دول العالم الإسلامي منفردة أو مجتمعة أن تخرج عن إطار التبعية لهيمنة الكبار
وتسلطهم.
وإذا كانت السياسات العامة الدولية، تشير في مجموعها إلى الملامح الواضحة
لهذا المسلك الجائر من تلك الأمم ضدنا، فإن هناك محطات بارزة في تلك السياسات، تنطق وقائعها بأن ما أريد له أن يكون (شرعة دولية) أو (شرعية دولية) ! ليس
أكثر من بنود في برنامج تسلطي دولي يحفظ لتلك الأمم (المتحدة) سيادتها على الأمم
(غير المتحدة) ، وسأضرب مثالين فقط لقضيتين إسلاميتين، إحداهما وهي قضية
فلسطين تدور أحداثها منذ عقود، والثانية نشأت أحداثها من وقت قريب وهي قضية
البوسنة، ومع هذا: فإن طريقة الأمم المتحدة في معالجتهما، تثبت أن المنهاج في
التعامل واحد؛ لأنه يعكس إرادة واحدة هي إرادة الأعداء الكبار.
أولاً قضية فلسطين:
كانت (عصبة الأمم) هي المنشئة عمليّاً لـ (الوطن) القومي لليهود في فلسطين، وذلك بإخضاعها للانتداب البريطاني، لكي يُجهّزها موطناً دائماً لعصابات
الصهاينة، وكذلك تبنت عصبة الأمم وعد (بلفور) ، وحولته من وعد نظري فردي
إلى سياسة عملية جماعية، أسبغت عليها مقررات العصبة (شرعية دولية) .
ولما جاءت (هيئة الأمم المتحدة) وحلت محل عصبة الأمم، انتقلت بالأرض
الفلسطينية من حالة (الوطن) إلى حالة (الدولة) لليهود، فكانت هي المنشئة من
الناحية العملية للدولة السفاح التي سميت بعد ذلك (إسرائيل) ، وتحقق ذلك عندما
اقترحت لجنة تابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة في إبريل سنة 1947م تقسيم
فلسطين إلى دولتين مستقلتين، إحداهما يهودية والأخرى فلسطينية، مع إبقاء
القدس تحت نظام دولي خاص، وهو ما وافقت عليه على الفور الوكالة اليهودية،
التي كانت بمثابة دولة لليهود قبل مرحلة الدولة، أما عرب فلسطين وباقي الدول
العربية فقد رفضوا الاقتراح، ولكن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرته مع ذلك في
29 نوفمبر عام 1947م، وبهذا أعطت تلك الجمعية لنفسها لأول مرة حق تقرير
مستقبل شعب ومصير إقليم دون استفتاء ذلك الشعب أو الرجوع إليه.
ومن العجيب أن الجمعية العامة التي أقرت هذا القرار الجائر رغم أنف
أصحاب الشأن هي نفسها التي رفضت اقتراحاً عربيّاً بطلب رأي استشاري من
محكمة (العدل) الدولية، يبدي الرأي في أهلية تلك الجمعية لاتخاذ مثل هذا القرار
بذلك الشكل! .
لقد مضت الجمعية العامة للأمم المتحدة في وضع هذا القرار موضع التنفيذ،
وقررت تشكيل لجنة خاصة مهمتها إدارة المناطق التي ترحل عنها قوات الدولة
المنتدبة (بريطانيا) ريثما يتمكن اليهود من التحضير لإنشاء حكومتهم على الأرض
المقررة لهم، وطلبت من مجلس الأمن أن يراقب الوضع، ويتخذ الإجراءات
الضرورية لتمكين اللجنة من أداء مهمتها.
ولكن بريطانيا سارعت في 14 مايو 1948م إلى إنهاء انتدابها من جانب
واحد؛ لتمكين اليهود من التعجيل بإعلان دولتهم المستقلة قبل أن يتمكن العرب
والمسلمون من إجهاض المشروع، وحتى تتم لليهود الحماية من (المجتمع الدولي)
باعتبارهم (أصحاب دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة (، وكان لهذا القرار
البريطاني المفاجئ أثره؛ إذ سارع اليهود إلى إعلان الدولة بالفعل في اليوم التالي،
مما أدى إلى اندلاع القتال بين العرب و (دولة (اليهود، بدلاً من (عصابات) يهود،
وحسب ما هو متوقع، فقد تدخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وأمر بوقف
العمليات العسكرية، ودعا إلى هدنة، وكلفت الأمم المتحدة وسيطاً لها هو (الكونت
برنادوت (للمساعدة في إيجاد تسوية سلمية بين العرب و (دولة) إسرائيل، تضمن
التعايش بين الطرفين، ولكن اليهود لم يكونوا بعد على استعداد لحلول سلمية، فلا
يزال في برامجهم الكثير؛ فلهذا أقدم عملاؤهم على اغتيال الوسيط الدولي، ومع
ذلك سكتت الأمم المتحدة على هذا العقوق من الوليدة المشاكسة (إسرائيل) .
وقبلت المنظمة (الأم) وليدتها عضواً كاملاً بها، على الرغم من أزمة
العضوية الحادة التي كانت تواجه الأمم المتحدة في ذلك الوقت.
وظلت القضية الفلسطينية إحدى القضايا المزمنة في المنظمة الدولية،
وصدرت بشأنها مئات القرارات، بعدما تحولت مع مرور الوقت إلى ما سمي بـ
(الصراع العربي الإسرائيلي) ، ومن هذه القرارات ما يتعلق باللاجئين، ومنها ما
يتعلق بوضع القدس، أو موضوع التسوية النهائية. ودون الدخول في تفاصيل تلك
القرارات، فإنه تجدر الإشارة إلى أن هذه القضية ظلت تعامل في أروقة الأمم
المتحدة (قضيةً للاجئين) منذ نهاية حرب 1948م وحتى حرب 1967م، ثم
اعترفت الأمم المتحدة بعد حرب 1973م بمنظمة التحرير وأعطتها أهلية إدارة
الأماكن التابعة للقسم العربي من فلسطين بمقتضى قرار التقسيم ذلك القسم الذي
احتله اليهود أيضاً في حرب يونيو 67، كما هو معروف.
ولكن القضية أخذت منحًى آخر بعد زيارة الرئيس المصري السابق (أنور
السادات) للقدس واعترافه بـ (دولة إسرائيل) ، فقد أصبحت الولايات المتحدة
الأمريكية هي الوسيط الرئيس فيما سمي بـ (عملية السلام) ، وأصبح خيار الحرب
لاستعادة ما ضاع بالحرب في حكم الإلغاء، وانحصر الحديث في انسحاب اليهود
من الأراضي التي احتلوها بعد حرب 1967م بعدما كرست الأمم المتحدة بقراراتها
أحقية اليهود في كل أرض اغتصبوها قبل تلك الحرب، وكان اعتراف الكثير من
الدول العربية بدولة اليهود فيما بعد إقراراً وتصديقاً لهذا الأمر، وإضفاءً للشرعية
عليه.
وبعد حرب الخليج التي أعقبتها مباشرة مداولات مدريد، لم يعد للأمم المتحدة
ما تفعله، ولم يعد ليهود حاجة إليها، حتى إنهم رفضوا حضورها مؤتمر مدريد،
ولم يبق لها علاقة بالقضية سوى القرارات المدرجة في أدراجها.
إذن، فنصيب القضية الفلسطينية أو (الصراع العربي الإسرائيلي) من اهتمام
الأمم المتحدة على مدى نصف قرن انحصر في عدد من القرارات والتوصيات
المجملة أو المعطلة، التي قننت الظلم ولم تنصف العرب، ومع هذا: فإن العرب
تقبلوها قسراً على أنها (أفضل الأسوأ) ، وبالنظر إلى أن الجمعية العامة للأمم
المتحدة هي بمثابة (مجلس شعب) دولي تدلي فيه كل الدول الأعضاء بأصواتها،
فإنه تمارس فيها الطقوس الديمقراطية، دون مساس بالمصالح الاستعمارية الغربية
أو الشرقية، فقد صدر عن تلك الجمعية عدد من القرارات التي تعبر عن تنوع
وجهات النظر تحت سقف المنظمة الدولية، لكن دون أن تملك تلك الجمعية سلطة
تنفيذها أو فرض احترامها، إلا بإذن خاص من الدول الكبار، من تلك القرارات،
مثلاً: قرار صدر عام 1975م عن الجمعية العامة يدين (الصهيونية) ويعدها نوعاً
من العنصرية، وقد وقفت خلف القرار الدول العربية والإسلامية والمتعاطفة معها،
ولكن وكما هو متوقع رفضت الولايات المتحدة القرار، وهددت بقطع الأموال عن
مؤسسات الأمم المتحدة إذا لم تلغه، وظلت مبيتة النية لإلغائه، حتى دعا الرئيس
الأمريكي السابق (بوش) بنفسه الجمعية العامة إلى إلغائه دون قيد أو شرط،
فاستجابت راغمة! ، فنبذت القرار في سطر واحد، صدر في سبتمبر عام 1991م، أما القرارات الأخرى التي أظهرت نوعاً من التعاطف مع بعض الحقوق
الفلسطينية والعربية، فقد وصفتها (مادلين أولبرايت) المندوبة الأمريكية لدى الأمم
المتحدة بأنها قرارات (غير ودية) ومنافية لروح السلام، ووعدت في زيارة لها إلى
الشرق الأوسط في أكتوبر الماضي بأن تعمل لتعديل هذه القرارات في الدورة المقبلة
للجمعية العامة، إن هذه القرارات المرشحة للتعديل أو الإلغاء، هي التي كانت
تمثل في نظر العرب والمسلمين (عدالة) الشرعية الدولية، وكانوا ولا يزالون
يحلمون بمجيء اليوم الذي يستطيع المجتمع الدولي فيه أن يطبقها أو أن يفرضها
على الدولة المدللة (إسرائيل) ، إنها قرارات تتكئ عليها المطالب العربية
والفلسطينية في سعيها اللاهث نحو السلام العادل، فهي لا تملك غير هذا السيف
الخشبي، لتحارب به في (معركة السلام) كما أسموها، ولكنهم مع هذا يواجهون
الآن الحرمان من هذا السلاح.
إن من القرارات المرشحة للحاق بقرار إدانة الصهيونية: القرار (194)
(خاصة الفقرات الضامنة لحق اللاجئين في العودة (، والقرار (237) الخاص
بعودة النازحين، والقرارات المراعية لوضع القدس الخاص، والقرارات التي تدين
الاستيطان، فماذا بقي؟ ! ! إنه لم يبق إلا الخنوع (لشريعة) الولايات المتحدة بعد
طول الخضوع لـ (شرعية) الأمم المتحدة! .
ثانياً: قضية البوسنة والهرسك:
أطلقت بعض الأوساط الغربية على مسلمي البوسنة وصف: (الفلسطينيين
الجدد في أوروبا) ، وبالفعل، فهناك أوجه تشابه كبيرة بين قضيتي الشعبين وطرق
المعالجة الدولية لهما، وتأتي الأمم المتحدة أيضاً لتعكس في إداراتها للأزمة وجهة
نظر الغرب الصليبي فيما ينبغي أن تسير عليه الأمور هناك، فكما فاضت المشاعر
الغربية النصرانية عطفاً على اليهود ضد المسلمين في فلسطين، فقد أحاط هؤلاء
إخوانهم الصرب الصليبيين بالتأييد ضد المسلمين في البوسنة، وتجلت مظاهر تلك
المعاملة لكل ذي عينين في تسلسل المواقف التي اتخذتها المنظمة الدولية، ويخطئ
من يظن أن الأمم المتحدة كان لها دور سلبي تجاه الأزمة في البوسنة، بل الحقيقة:
أن دورها كان في غاية الإيجابية؛ من حيث السعي إلى تحقيق الأهداف الصليبية
الصربية والكرواتية في أقصر مدة وبأقل تكلفة.
لقد كانت الأمم المتحدة وراء قرار حظر تصدير السلاح إلى جمهوريات
الاتحاد اليوغسلافي السابق، ذلك القرار الذي لم يطبق في الواقع إلا على جمهورية
البوسنة والهرسك، التي كانت تتعرض وحدها لحرب الإبادة والتدمير على مدى
ثلاث سنوات، أما صربيا: فقد ورثت الترسانة العسكرية الكبيرة للجيش
اليوغسلافي السابق، وأما كرواتيا فقد أظهرت أحداث سقوط (كرايينا) مؤخراً أنها
لم تتأثر أبداً بالحظر الصوري عليها، فالحظر كان فعالاً ومحكماً فقط على
البوسنيين المسلمين بأمر الأمم المتحدة، وظل أمينها يردد بمناسبة وغير مناسبة:
أن رفع الحظر عن المسلمين لن يحل المشكلة، بل سيطيل أمد الحرب! ! فعبّر
بذلك عن رغبة منظمته في تصفية الوجود الإسلامي في أقصر وقت ممكن، وتعللت
الأمم المتحدة في عدم تدخلها الجاد لوقف الحرب بأنها حرب أهلية، متنكرة للحقيقة
الواضحة التي تتمثل في قيام دولة ظالمة بالاعتداء على دولة أخرى مجاورة
ومستقلة،.. ولما تعالت بعض الأصوات منددة بازدواج المعايير في الأمم المتحدة،
وتناقض مواقفها بين أزمتي الخليج والبوسنة، برر بطرس غالي ذلك التناقض
بقوله: الوضع في البوسنة يختلف عن الوضع في الكويت! وأعرب عن مخاوف
الأمم المتحدة من أن يؤدي التدخل في هذا النزاع إلى تهميش النزاعات الأخرى،
بل وصل الأمر بأمين الأمم (المتحدة) إلى أن حذر مجلس الأمن من اتخاذ قرارات
متشددة مع الصرب، قد يتعرض موظفو الأمم المتحدة بسببها للخطر! وقصارى ما
فعلته الأمم المتحدة أن أعلنت حمايتها لبعض المناطق في البوسنة، وأعلنتها
(ملاذات آمنة) [سربرنيتسا جورارجدة بيهاتش توزلا جيبا سراييفو] .. ثم
ماذا؟ ! .. ثم نزعت منها السلاح في الوقت الذي بقيت فيه خمسة منها تحت الحصار الشامل من الصرب، ثم ... وبعد أن ظهر زيف تلك الحماية، تعلل بطرس غالي بأن إنقاذ تلك المناطق من الصرب يحتاج إلى ربع مليون جندي! وهو ما لا تقدر الأمم المتحدة على حشده. لقد استمر الحصار تحت سمع وبصر الأمم المتحدة لسنوات طوال، تحت دوي القنص والقصف والقذف، حتى تفتقت قريحة (الشرعية الدولية) عن ترتيب تمثيلية هزلية، يتقاسم بطولتهاحلف الأطلسي والمنظمة الدولية؛ يدور (السيناريو) الموضوع لها حول قيام الحلف بتوجيه ضربات جوية للقوات الصربية إذا هددت الملاذات الآمنة، بما يعطي انطباعاً بأن الأمم الغربية متحدة فعلاً ضد المعتدي لصالح المعتدى عليه، ولكن الحقائق أظهرت بعد ذلك أن الأمم المتحدة (المنظمة) كانت تعطي الصرب المعلومات مسبقاً عن زمان ومكان القصف، حتى تهيء المسرح بالرمال والأحجار وربما بعض الأبقار، لتكون من ضحايا القصف! .
وظلت الحماية الدولية معلنة، وظلت المدن المحمية تتساقط بعد أن جردتها
الأمم المتحدة الظالمة من السلاح المتواضع الذي كانت تدافع به عن نفسها.
وفي النهاية أفسحت الأمم المتحدة للولايات المتحدة المجال، تماماً كما فعلت
في فلسطين، فسلمتها القضية برمتها، لترى فيها رأيها وتنفذ فيها حكمها الذي لن
يكون أبداً منصفاً للمسلمين.
ماذا وراء اتفاق دايتون؟
وجاء اتفاق (دايتون) للسلام في البوسنة، على الطريقة الأمريكية، كنظيره
في قضية فلسطين أو الشرق الأوسط، جاء مُقنناً للظلم الذي رعته وحمته الأمم
المتحدة، ودفعت البوسنة وحدها مثلما دفعت فلسطين من قبل ثمن الحرب وثمن
السلام، فالاتفاق أنهى البوسنة والهرسك كما كانت قبل عام 1992م، وانتصر
للتطهير العرقي بقوة القانون بعد قوة السلاح، وأخضع المسلمين بعد أن سمح لهم
بسلطة وطنية لسيطرة الكروات في وحدة فيدرالية قسرية، لتكون أشبه بحكومة
السلطة الوطنية الفلسطينية تحت سيطرة وقهر الحكومة الإسرائيلية! .
ومثلما تقبل العرب في النهاية ما كان مرفوضاً من قرارات التقسيم قبل خمسة
عقود ماضية، فقد أُكره البوسنيون أخيراً على قبول القسمة الضيزى نفسها،
ووصف رئيسهم المغلوب على أمره (علي عزت بيجوفيتش (السلام الهزيل المرتقب
مع الصليبيين المتوحشين بقوله: (قد لا يكون سلاماً عادلاً، إلا أنه أكثر عدلاً من
استمرار الحرب) ! .
ولكن ما لم يقله بيجوفيتش: هو أن ذلك السلام لا يضمن انتهاء الحرب، فمن
يمنع الصرب أو الكروات من العودة إلى الحرب إذا عادت إليهم الشهية لالتهام
البقية؟ ! إن الجواب على ذلك مخبأ في جيوب أساطين (الشرعية الدولية) وفي
طوايا المقررات الأممية للمنظمة الدولية.
فليملأ المتحدثون عن المسلمين الدنيا ضجيجاً بالحديث عن احترام تلك
الشرعية الدولية، ولكننا نسأل ... هل لهذه (الشرعية الدولية) شرعية إسلامية؟ !!(98/72)
المسلمون والعالم
النفائس والعلمانية! !
في تحليل الانتخابات التركية
بقلم: د. عبد الله عمر سلطان
هناك مثل ألماني شهير يفرض نفسه فرضاً كلما تابعنا أحداث عالمنا الإسلامي
اليوم، هذا المثل يقول: (إننا لا نكتشف طباعنا إلا عندما نتكلم عن طباع الغير..) وحقّاً قد كشفت ردود الأفعال العالمية والعربية عن طبائع المتحدثين عشية إعلان
نتائج الانتخابات النيابية في تركيا.. لقد كانت انتخابات تركيا تجرى لعقود من
الزمن دون أن تثير في وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية ذلك الاهتمام
المثير أو تلك الإثارة المهمة! ! ، أما وقد طرح الإسلام بديلاً لنظام علماني متهرئ، فإن مراسلي وكالات الأنباء و (ناسخيها) العرب، والحكومات العدوة والصديقة
أصبحت تترقب نتائج الانتخابات على أحر من الجمر؛ حيث (البهارات
الأصولية..) التي أصبحت تثير شهية الجميع، وتجعلهم مهتمين بمتابعة تفاصيل التفاصيل، وكسور النتائج وإخفاقات المعسكر العلماني ...
أعلنت النتائج، فإذا بحفيد الأمراء السلاجقة المهندس (نجم الدين أربكان) يجر
الجميع إلى عبق التاريخ ... ويجبر المنسلخين من تاريخهم وهويتهم ومجدهم على
الجلوس من جديد في رواق الباب العالي، ويدعوهم إلى تناول وجبة (روحية) عبر
تلال (إسلامبول (التي كانت تعطس فتصاب عوالم أوروبا بالقشعريرة ... ! ! سقى
او تلك الأزمنة التي كانت الأرزاق فيها تحت ظلال الرماح، فها هو الزمان يدور
دورته فتجري أنقرة إلى أوروبا طالبة منها تذكرة دخول نادي أوروبا العلمانية،
فتصاب أوروبا بحالة من الصراحة والوضوح -هي غريبة عنها حتماً- لتقول: إن
العلمنة طبقة قطيفة فاخرة؛ لا بد أن تركيا تدرك أن وراءها روحاً صليبية تحتفل
الآن بمرور تسعه قرون على بدء حملتها المضادة تجاه الشرق المسلم ... !
إذن: هذه الانتخابات الأخيرة استطاعت أن تمزج العوامل العقدية بالعُقد
التاريخية، وأن تعري المعطيات الجمالية الدولية تجاه المنطقة الإسلامية، وأن
تشابك بين الردود والتصريحات (الأصيلة) القادمة من عوالم الغرب بتلك المتمثلة
(برجع الصدى) الغربي العلماني الهوى ...
كانت الانتخابات التي أظهرت -كما يقول المثل الألماني (طباع القوم) - وإن
اختلفت ألسنتهم حينما يمسون تلك الكلمة/العقدة ... ) الإسلام) .
العامل الدولي.. (وإسرائيل) :
لأول مرة تتدخل أوروبا وأمريكا مباشرة في انتخابات أناضولية ... لم تعد
تدري كما قال (كمال نوظلو) لمراسل التلفزيون الفرنسي: (هل الحملة هي لانتخاب
(شيراك) أم (تشيلر) ... ؟ وكان يسخر من تلك اللوحة الهائلة التي استخدمتها رئيسة
الوزراء التركية في حملتها، ولترسيخ (أوربة) الملف التركي.. كان رئيس فرنسا
(جاك شيراك) يقبل رئيسة الوزراء التركية للتأكيد على أهمية المرشحه العلمانية
أوروبياً ... ، لقد عمل (شيراك) بالفعل على دعم المعسكر العلماني بصورة قوية،
فقد قاد الاتصالات والضغوط التي أدت إلى قبول تركيا ضمن أعضائه المتمتعين
بمزايا اتفاقية الإعفاء الجمركي، التي ثبت أنها لم تكن لتمر لولا أن فرص (حزب
الرفاه) في الفوز كان يتوقع أن تكون كبيرة.
دعونا نتأمل هذا الاتفاق وظروفه في هذا التقرير:
(يعتبر قرار البرلمان الأوروبي الخاص بالتصديق على دخول تركيا الوحدة
الجمركية مع الاتحاد الأوروبي -الذي اتخذ يوم 13 ديسمبر (الماضي) قبل
الانتخابات البرلمانية التركية بـ 11 يوماً- نصراً سياسيّاً كبيراً (لتشيلر) رئيسة
الوزراء التركية، إذ إنها بذلك تكون قد حققت حلماً تاريخياً تُركياً بعد نضال دام 30
عاماً، على أمل أن تحصل تركيا على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي عام
2000م وفقاً لتصريحات (تشيلر) .
إلا أنه بقراءة ذلك النص في ظل المعطيات السياسية الداخلية والخارجية،
وفي إطار الشروط المفروضة لقبول عضوية تركيا، مع الأخذ في الاعتبار الثوابت
السياسية التركية، فإن النتيجة النهائية تشير إلى أنه نصر فارغ المحتوى، استهدف
دعم (تشيلر) في حملتها الانتخابية أولاً وإركاع تركيا ثانياً.
فالرفض الأوروبي السابق لدخول تركيا استند إلى مبررات لم تزل قائمة رغم
محاولات التجميل بمكياج رخيص؛ فسجِلّ تركيا الخاص بحقوق الإنسان لم يزل
سيئاً -وفقاً لرؤية منظمات حقوق الإنسان- وإن كان أفضل بكثير من دول أخرى
في المنطقة، والمادة الثامنة في قانون مكافحة الإرهاب هي نفسها، رغم تغيير
بعض كلماتها تلبية لرغبة الغرب، والنواب السابقون لحزب العمل الديمقراطي
(أكراد) ما زالوا يقضون عقوبات بالحبس، ولا يعني الإفراج عن قلة منهم سراً
محاولة لترطيب بشرة تركيا في مواجهة حرارة القضية الكردية، بل إن
الإصلاحات الديمقراطية لم تلب الطلبات الأوروبية.
والسؤال المهم الذي يحتاج إلى إجابة، هو: لماذا تم قبولها إذن؟ .. بقراءة
متأنية لشريط الأحداث نجد أن (تشيلر) أعلنت -سواء في لقاءاتها مع القادة
الأوروبيين أو في تصريحاتها الصحفية- أنها إذا لم تنجح وتستمر في حكم تركيا،
فإن الإسلاميين سيحكمون تركيا ويهددون المصالح الغربية ويُخلّون بالتوازن
الإقليمي والدولي.. ولذلك: فإنه يجب الإسراع (بأوربة تركيا (لقطع الطريق على
حزب (الرفاه الإسلامي (، خاصة وأن الرأي العام التركي أصبح في حالة غضب
من الرفض الأوروبي.
وبالطبع أكدت تقارير الاستخبارات واستطلاعات الرأي العام أقوال (تشيلر) ،
لذلك: ضغط الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) من ناحيته لقبول تركيا، كما بذل
(شيمون بيريز) رئيس الوزراء الإسرائيلي جهوداً أيضاً في هذا الإطار، من خلال
الرسائل التي بعث بها إلى كل من رئيس الوزراء الأسباني -بصفته الرئيس الحالي
للاتحاد الأوروبي وزعيم الحزب الاشتراكي-، وإلى رئيس حزب العمال البريطاني
يطالبهما بدعم الطلب التركي مشيراً إلى أن ذلك حماية للمصالح الغربية، وضمان
للاستقرار في المنطقة، وتقوية للنظام العلماني الذي يقوم بدور مهم في مواجهة
الأصولية الإسلامية.
ولما كانت الانتخابات البرلمانية على الأبواب وسط إخفاقات داخلية كبرى
تتحمل مسؤوليتها (تشيلر) مقابل نجاحات لم ينكرها أحد من الخاصة أو العامة حققها
(حزب الرفاه) من خلال البلديات الكبرى التي يتولاها منذ مارس 1994م ... كان
لا مفر من دعم (تشيلر) ، التي أشارت الاستطلاعات إلى تراجع حزبها للمركز
الرابع، بينما يحتل (الرفاه) المركز الأول، وذلك بتقديم نصر سياسي تاريخي لم
يحققه أحد من رؤساء وزراء تركيا، بهدف توظيفه في الحملة الانتخابية، وهو ما
حدث بالفعل.
إلا أن ذلك الأمر لا يعني عدم استفادة أوروبا، إذ يرى كل من (مسعود يلماظ)
زعيم (الوطن الأم) و (بولنت أجاويد) زعيم (اليسار الديمقراطي) وهما من مؤيدي
الوحدة الجمركية: أن شروط الوحدة مجحفة على الصعيدين السياسي والاقتصادي،
إذ تم تقديم تنازلات في ملف القضية القبرصية، كما أن مبلغ المليارات الثلاثة
المخصصة لتركيا يعتبر قليلاً جدّاً بعد إزالة الحواجز الجمركية.. ويريان أن تركيا
تنازلت كثيراً لأوروبا التي ستضغط أكثر، وهو ما اتضح من طلب البرلمان
الأوروبي أن تجلس تركيا مع حزب العمال الكردي الانفصالي، الذي تصفه
الحكومة والحكومات الأوروبية بالإرهاب، ومع ممثلي الشعب الكردي لحل المشكلة
الكردية بالطرق السياسية.
وبالتالي: يكون الغرب قد حقق أهدافه كاملة دون أن يقدم شيئاً يذكر لتركيا
الدولة؛ إذ إنها بذلك دخلت القفص الحديدي لفرض ما يريده الغرب عليها، ويكفي
أن يكون حل القضية الكردية قد جاء من الغرب، رغم أن هناك الكثير من
الأصوات التركية المخلصة طالما نادت بإيجاد حل سياسي للمشكلة، مما يعني أن
الحل الخارجي لن يساهم مطلقاً في ترطيب العلاقات بين الأتراك والأكراد؛ لأنه
ليس نابعاً من القلب ... ) .
إذن: كان هناك دعم خارجي واضح وقوي للأحزاب العلمانية -لا سيما حزب
(تشيلر) - قبل الانتخابات وبعدها، وقد اتضح ذلك أكثر بعد دخول حكومة
الصهاينة على الخط، حيث عبرت (تل أبيب) على لسان سفيرها عن قلقها من فوز
(أربكان) وحزبه، كما نشرت تقارير متعددة عن مشاورات ونصائح تقدمت بها
حكومة (بيريز) لحل الإشكال بين الأخوة والأخوات في العلمنة، ويتمثل في إنشاء
حكومة ترأسها (تشيلر) لنصف الوقت و (يلماز) لنصف الوقت الآخر، كما فعل
(رابين) و (شامير) من قبل.
ويمكن من خلال استعراض الصحافة ووسائل الإعلام الغربية استنباط خطوط
عريضة تحكم النظرة الغربية للوضع في تركيا، وأهمها:
* أن تركيا لا تزال بعيدة عن أن تحكم بالإسلام؛ فهناك سياسة متفق عليها
تسمى سياسة الصمامات المتعددة التي تكفل إبقاء تركيا في الطابور الغربي، ويمثل
دعم السياسيين العلمانيين والقوانين اللادينية والثقافة المعادية للإسلام الصمام
(الديموقراطي) الأول، بينما يشكل الجيش التركي المعروف بِهَوَسِهِ العلماني خط
الدفاع الثاني ثم يأتي بعد ذلك خط الدفاع الثالث المتمثل في التفتيت الداخلي لتركيا
في حالة اقترابها من تكوين دولة إسلامية موحدة.. وذلك عبر الأقليات والقوميات
المتعددة التي طالما أتقن الغرب عبر التاريخ توجيهها في سبيل تمرير مشروعه
التغريبي.
* أن العلمانية لا تزال قوية ومؤثرة وغنية، فعلى الرغم من تصويت 21%
من السكان لصالح (الرفاه) ، فإن أكثرية السكان لا تزال تمنح أصواتها للأحزاب
العلمانية، وهذا يعني أن (بني علمان يسيطرون على الميدان) ! ! .
* أن على الأحزاب العلمانية كما تقول صحيفة (وول ستريت جرنال) أن
تتحد، أو بعبارتها: إن غياب الخطر الإسلامي المباشر (لا يشكل مبرراً لعدم
الاكتراث بتنامي قوة حزب (الرفاه) ، فقد أعلنت كافة الأحزاب العلمانية ردّاً على
حصوله على أكبر عدد من الأصوات: أنها سترفض الدخول في ائتلاف معه
لتشكيل الحكومة الجديدة، وفي هذه الحالة: فإن كلاّ من حزب (الطريق القويم)
وحزب (الوطن الأم) اللذين حصلا مجتمعين على مئتين وسبعة وستين مقعداً في
البرلمان، سيكونان بحاجة لتأييد: إما الحزب الديمقراطي اليساري (67 مقعداً) ، أو
حزب الشعب الجمهوري (49 مقعداً) من أجل تشكيل الحكومة، وليس من شأن ذلك
سوى إبعاد حزب (الرفاه) عن الحكم لعدة سنوات أخرى، إذا فشل أي ائتلاف
علماني آخر في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها تركيا بإلحاح.
فالمطلوب هو دمج سريع لحزبي (الوطن الأم) و (الطريق القويم) في حزب
علماني واحد ذي اتجاه يميني وسط، ويجب أن تكون في تركيا حكومة قوية
ومستقرة من أجل تحويل المؤسسات العامة إلى القطاع الخاص، وإعادة هيكلة نظام
الأمن الاجتماعي الذي يعاني من (الإفلاس) ، وكذلك: إصلاح سياسات الدعم
الزراعي، وإذا لم تقم مثل هذه الحكومة في تركيا، فإن الطريق سيكون مفتوحاً أمام
حزب الرفاه لتولي السلطة بمفرده، ودون الحاجة إلى الائتلاف مع أحزاب أخرى،
قبل نهاية العقد الحالي) .
* أن الأحزاب العلمانية تترهل، وهي فاسدة عموماً، وقد سجلت الحكومة
السابقة مؤشرات انحدار خطيرة، حيث زاد العجز في الميزانية، وانخفضت قيمة
الليرة التركية بنسبة 130% في الربع الأول فقط من عام 1994م، (ولسبع سنوات
مضت يعاني الاقتصاد التركي تضخماً شديداً حتى بلغ حالياً 70%، وقد بلغ قبل
ذلك 150%، لكن إجراءات التقشف التي اتبعتها (تشيلر) قد أنزلته إلى النسبة
الأولى، ويكفي أن نعرف أن الدولار الأمريكي كان -لسبع سنوات مضت- يعادل
44 ليرة تركية، أما حالياً فقد قفز عن الـ 57 ليرة.
ارتفعت ديون تركيا الخارجية منذ عام 1991م وحتى الآن من 5075 مليار
دولار، كما ارتفعت ديونها الداخلية من 8 - 26 مليار دولار. والمشكلة ليست في
الديون فقط، فكما هو معروف فإن الأطراف الدائنة تعيش على فوائد الديون، وهي
نسبة عالية. وهكذا: فإن الميزانية الحكومية والمؤسسات غير الحكومية تُستنزف
سنويّاً بدفع فوائد الديون بالإضافة إلى أقساط الديون المستحقة، الأمر الذي أثقل
كاهل الاقتصاد التركي خلال السنوات الأربع التي مضت، وهي سنوات الانقلاب
في تصويت الجماهير التركية، أي: إنها سنوات البحث عن حزب وأيديولوجية
تختلف عن أيديولوجية العلمانيين) .
* في المقابل تجُمِع التقارير الدبلوماسية والصحفية والإعلامية على كفاءة
(حزب الرفاه (التي تصفه صحيفة (وول ستريت جرنال) بأنه القوى المؤهلة لملء
فراغ الفساد القائم، وتقول: (لقد تسارع بروز (حزب الرفاه) الإسلامي كقوة سياسية
لها ثقلها في السنوات الأخيرة، مع تراجع الأوضاع الاقتصادية في ظل الحكومة
التي هيمن عليها كل من حزب (الوطن الأم) وحزب (الطريق القويم) .
لقد فاجأ (حزب الرفاه) المؤسسة التركية بتحقيق الانتصار في الانتخابات
المحلية في شهر مارس 1994م عندما تولى (حزب الرفاه) رئاسة بلديتي (أنقرة
واستانبول) وعدد آخر من المدن الرئيسة، بالإضافة إلى حصوله على 19 بالمئة
من إجمالي الأصوات، لقد أثبت (حزب الرفاه) قدرته وأمانته في ممارسة الحكم
المحلي عن طريق العمل الجاد (دون دعم كبير من حكومة حزب الطريق القويم) ؛
لحل مشكلات المناطق الريفية التي تتجاهلها الحكومات المتعاقبة منذ زمن طويل.
لقد نجح (حزب الرفاه) من خلال الحملة الانتخابية المنظمة على النمط الأميركي في
انتخابات ديسمبر الماضي، لا سيما في المناطق الريفية الفقيرة؛ حيث وجدت هذه
الحملة صداها في ظل السياسات الاقتصادية غير الموفقة لحكومة (تشيلر) . وأصبح
الحزب الأقوى المرشح لتشكيل الحكومة الجديدة. لقد استطاع (حزب الرفاه)
استغلال مشاعر الاستياء في أوساط الشعب التركي من ارتفاع نسبة التضخم،
والبطالة، وانخفاض قيمة العملة الوطنية بسرعة، والفساد، واتساع الفجوة بين
الأغنياء والفقراء، والثورة الكردية المستمرة منذ أحد عشر عاماً في جنوب شرقي
البلاد.
ونتيجة لذلك: لم يعر الأتراك اهتماماً عندما خرجت (تشيلر) في حملاتها
الانتخابية لتعرض نفسها بأنها: (قاهرة الاتحاد الأوروبي) وباعتبارها أناتورك (أم
الأتراك) تشبهاً بكمال أتاتورك (أبو الأتراك) .
إذن: ليس هناك (هلع غربي) إلى الآن، ولكن هناك (تهيئة) لخطوات لاحقة
من صعود المد الإسلامي في تركيا.(98/80)
المسلمون والعالم
في الفلبين.. هل تحقق خطة (غزة / أريحا) أهدافها؟
محمد عبد الله
لقد باتت خطة (غزة /أريحا (التي توصل إليها اليهود في فلسطين المحتلة
و (م. ت. ف) بما تحمل في طياتها من تآمر على القضية الفلسطينية وإهدار للحقوق
التاريخية والجغرافية للمسلمين الفلسطينيين أصبحت تلك الخطة رمزاً لكل قضية
إسلامية يراد لها التصفية، ولكل شعب مسلم أُريد هضم حقوقه الثابتة، فبعد أن
اعتمدت الخطة المذكورة على شبري (غزة / أريحا (من أرض فلسطين الممتدة من
البحر إلى النهر، واعتقد يهود بذلك أنهم قد نجحوا في طمس معالم قضية الشعب
الفلسطيني، وأثبتوا حقهم المزعوم في الوجود الأبدي على أرض الإسراء، واعتقد
عرفات وجماعته أنهم قد ربحوا البيع، واستخلصوا من فم الأسد ما لا يمكن لغيرهم
استخلاصه.
ها هي الخطة نفسها بحذافيرها وبأهدافها ذاتها، يسعى أعداء الإسلام
الصليبيين لفرضها على المسلمين في الفلبين، عبر الطرف العلماني نفسه الذي
يمثل تنظيماً شبيهاً ب (م. ت. ف) .
أوجه الشبه بين ظروف القضيتين:
كثيرة هي أوجه الشبه بين القضيتين الفلسطينية والفلبينية، فالقضيتان تتعلقان
باغتصاب واحتلال أراضٍ إسلامية، وقمع شعب مسلم بالقوة العسكرية، بل تكاد
تتشابه (تكتيكات) طريقتي الاحتلال إلى حد كبير؛ ومن ذلك: اعتماد المحتلين على
سياسة الاستيطان باستجلاب المستوطنين غير المسلمين وزرعهم في أراضي
المسلمين المغتصبة لتغيير تركيبتها السكانية ومعالمها الأصلية، وهو ما يحدث في
جزر الفلبين الإسلامية الجنوبية، كما هو الحال في فلسطين.
أما على صعيد أصحاب البلاد الأصليين؛ فنجد في كلتا الحالتين طرفين
يختلفان في الأيديولوجية والمنهج والتصورات والطموح، فالطرف الأول هم
(الإسلاميون) الذين وعوا قضيتهم وتناولوها من خلال المنظور الشرعي، وتبنوا
خيار الجهاد للدفاع عن دينهم وكرامتهم السليبة، واتخذوا ذلك طريقاً لتخليص
بلادهم من الكافر المحتل، أما الطرف الآخر فهم (العلمانيون (الذين لا يهمهم إلا
إثبات وجودهم وتحقيق ذواتهم وتحصيل المغانم، ولا يبالون في سبيل ذلك بالثمن
الذي يقدمونه من مذلة ومهانة وتفريط في الواجبات والأوامر الشرعية، ولايعيرون
اهتماماً للدماء التي سالت والتضحيات الجسام التي قدمت، ولا همّ لهم إلا ما
يتهافتون على تحصيله اليوم! ! .
واليوم: أراد أعداء الإسلام من يهود وصليبيين وأعوانهم طي ملفي القضيتين
بالطريقة نفسها والأسلوب والإخراج ذاته، فبعد أن حقق اليهود خطوات على
الصعيد الفلسطيني جاء الدور على قضية مسلمي الفلبين لوأدها بالأسلوب نفسه.
(غزة / أريحا) الفلبينية:
لما استعصى أمر المسلمين في الفلبين على الحكومة الصليبية المغتصبة،
وفشلت جميع خططها لاحتوائهم، وعجزت عن قهرهم وإخضاعهم بالطرق
العسكرية القمعية على مدار السنوات الطوال الماضية، وأصر مسلمو الفلبين
بدورهم على مواصلة جهادهم؛ حتى يحققوا النصر ويتحرروا من طغيان هذه
الحكومة التي أيقنت أنها لن تصل لأهدافها بالطرق القمعية التي اعتمدت عليها في
السابق، وبعد أن ازدادت حدة العمليات الجهادية وتصاعدت كمّاً وكيفاً في مواجهتها، وسيطر الإسلاميون بشكل كبير على دفة التوجيه في المجتمع، حيث لاقوا تأييداً
واسعاً بين صفوفه، الأمر الذي جعل هذه الحكومة تستشعر الخطر المحدق بها لو
تركت الأمور تمضي على هذا النحو، فلم يعد لها بد من الاعتماد على مثل هذه
المؤامرة الجديدة لتدارك أمرها قبل فوات الأوان، فأعلنت بدورها عن عزمها على
عقد مفاوضات (سلام!) مع المسلمين، ولم تجد الحكومة الصليبية أفضل من
الجبهة القومية (العلمانية (لتمرير مؤامراتها عن طريقها، لما يتسم به القائمون عليها
من مؤهلات للقيام بهذا الدور من: تعطش للسلطة، وحب للظهور، ورغبة في
الزعامة، أما من جهة العلمانيين أنفسهم فقد لاحت لهم الفرصة التي لا تفوّت
لتنصيبهم على رؤوس المسلمين، الذين نبذوهم وانفضّوا من حولهم بعدما تبين لهم
حقيقة منهجهم، والأطماع الشخصية التي يضمرونها في أنفسهم، والمصالح الذاتية
التي يسعون لتحقيقها.
وكل هذه العوامل هيأت الظروف للطرفين ليجتمعا على هذه الخطة ليحقق كل
طرف مأربه من خلالها.
الأهداف الحقيقية وراء هذه الخطة:
حين لجأت الحكومة الفلبينية لهذه المؤامرة لم تكن تقصد بذلك التخلص من
معاناتها مع المسلمين وتركهم لحال سبيلهم، بل سعت لتحقيق عدة أهداف على
أصعدة شتى فشلت في تحقيق أي منها بسياستها الأولى.
ويمكن تلخيص هذه الأهداف فيما يلي:
1- قطع الطريق على التيار الإسلامي المتنامي، والحد من نشاط الحركة
الجهادية الصاعدة، وعدم تمكين القيادات الإسلامية من احتلال مواقع الصدارة في
قيادة المجتمع المسلم في الفلبين.
2- إحكام سيطرتها بشكل نافذ ودائم على مناطق المسلمين الجنوبية، وهو
الأمر الذي لم تتمكن من تحقيقه على مدى السنوات الماضية منذ استقلال دولة
الفلبين عام 1946 م وحتى اليوم؛ وذلك من خلال سيطرتها على الميلشيات
المسلحة التابعة للجبهة العلمانية، الذين سيصبحون جزءاً من الحكومة وقواتها،
وبالتالي: تتمكن قواتها العسكرية والأمنية من الانتشار في هذا المناطق بحرية تامة
وأمان نسبي كلما دعت الضرورة لذلك (حسب ما نصت عليه مسوّدة الاتفاق
المبدئية) .
3- توفير الأموال والدماء التي تتكبدها في كل مواجهة مع المجاهدين، حيث
ستوكل مهمة (التطهير الأمني) وحفظ النظام وفرض قانون الدولة لتقوم الميلشيات
المسلحة المحسوبة على المسلمين بها.
4- خطب ود الدول الإسلامية التي تربطها بها علاقات اقتصادية حيوية،
وتحسين صورتها أمام هذه الدول وشعوبها المسلمة؛ بتظاهرها بأنها قد منحت
المسلمين حريتهم وأحسنت إليهم، ومن جهة أخرى: استقطاب رؤوس الأموال
الإسلامية لتنفيذ مشروعات استثمارية في جنوب الفلبين بالإضافة إلى الاستفادة من
المنح المالية التي ستقدمها بعض الدول الإسلامية لدعم السلطة الجديدة (الحكم
الإداري) مما سيوفر للحكومة المركزية ما كانت ستنفقه من ميزانيتها الاقتصادية في
المنطقة.
5- التفرغ نسبيّاً لحل بعض مشكلاتها الاقتصادية المزمنة، وتوفير جانب من
نفقات الدفاع التي ترهق ميزانيتها المالية وتستنزف منها ما قيمته مليون (بيسوز)
يوميّاً (63 ألف دولار) حسب ما صرح به رئيس الفلبين نفسه.
6- استغلال الثروات الطبيعية من (أخشاب ومعادن (التي تذخر بها بلاد
المسلمين الجنوبية، ولا تستطيع الحكومة الوصول إليها في ظل الظروف الحالية،
حيث لا يمكنها المسلمون من ذلك.
ومما يؤكد سعي الحكومة في تحقيق هذه الأهداف: الموافقة الفورية التي
أبدتها فيما يتعلق بإدراج المناطق التي تشهد نشاطاً كبيراً وسيطرة للمجاهدين، ولا
تجد لها فيها مستقراً ضمن الاتفاقية.
هل تحقق الخطة أهدافها المرسومة؟ ! :
مما لاشك فيه أن الحكومة الفلبينية تعلق آمالاً كبيرة على تحقيق أهدافها من
وراء هذه الخطة أو أكثرها على الأقل في هذه المرحلة، ولكن ليس معنى هذا أنها
قد فرطت في أهدافها الكبرى بعيدة المدى، أو أنها ستترك السلطة التي ستعينها
تفعل ما تشاء وتتصرف بحرية في المهام التي أوكلت إليها دون إشراف ومتابعة
منها، فمن جهتها: ستحاول هذه السلطة إثبات نجاحها فيما أوكل إليها ولو بالقوة.
عقبات في طريق الخطة:
إن حرص الطرفين على إنجاح الخطة وتحقيق أهداف كل طرف منها لا يعني
بالضرورة نجاحها الفعلي؛ ذلك أن هناك عقبات كبيرة في طريقها خارجة عن إرادة
الطرفين، وأهمها:
أولاً: الرفض الشعبي العام لهذه الخطة وحالة السخط والاستياء التي تتعرض
لها الجبهة لإقدامها على هذه الخطوة وعدم الالتفات لرغبة الشعب الحقيقية في
التخلص من السيطرة الصليبية عليهم.
ثانياً: الرفض الجماعي من قبل الجماعات الجهادية والجمعيات الإسلامية
الفاعلة للخطة ومقاطعتها بشكل تام.
ثالثا: إصرار القادة الميدانيين والمجاهدين (في الخنادق) على مواصلة
جهادهم ضد الحكومة، حتى لو منحت الجبهة ذلك الحكم الإداري.
وهذه الأسباب بل بعضها كفيل بإفشال هذه الخطة طالما أنها لم ترد للمسلمين
حقوقهم وتحقق آمالهم، وافتقادها لعنصر التأييد والرضا الشعبي وحده كفيل بالقضاء
عليها في مهدها، ولن تتمكن الجبهة العلمانية إن شاء الله من مواجهة الشعب المسلم
المعارض بأكمله، وفي هذه الحالة لن تترك الحكومة الأوضاع بدون معالجة جديدة،
وستعود للتدخل كما كان الحال من قبل، هذا إذا لم تغير الحكومة رأيها وتتراجع
عن التنفيذ بعد إتمام الاتفاق لمصلحة أخرى تراها كما حدث عقب (اتفاقية طرابلس)
عام 1976م التي لم تُنَفّذْ من بنودها بنداً واحداً حتى اليوم على الرغم من مصادقة
الحكومة الليبية التي استضافت المفاوضات ومنظمة المؤتمر الإسلامي عليها! ! .
وبعد.. فهذه عينة من عينات المكر الصليبي والدولي ضد المسلمين في كثير
من ديار الإسلام، إن (خطة غزة /أريحا) في فلسطين جعلت السلطة في فلسطين
أسيرة الحكم الصهيوني، بل جعلتها عيناً وعصاً بيد (يهود) ضد شعبها، فهل يفطن
شعب مورو المسلم لهذه الخطة والمؤامرة؟ ! أم تكون سبباً لتقاتل المسلمين مع
بعضهم البعض، والصليبيون يتفرجون، ثم لا يحصل للمسلمين نصر سوى
الحرب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر، وهذا هو المتوقع إن لم يتدارك هذا الشعب
وقادته ومجاهدوه الموقف برفض الخطة، حتى يعطى المسلمون حقوقهم كاملة. ثم
إن على قادة الجبهة الذين وقعوا الخطة الجديدة أن يفيئوا إلى الله ويحرصوا على
مصالح الشعب المسلم في الفلبين، وألا يكونوا مع الحكومة ضدهم طمعاً في عرض
زائل، وعليهم تصحيح مسارهم والتعاون مع إخوانهم على البر والتقوى، وتلافي
أساليب البغي والعدوان. فحتى متى يخسر المسملون جل قضاياهم بحلول هزيلة
وتصرفات حمقاء، هلاّ اجتمعوا وكانوا يداً واحدة، فإنهم حينئذ سيأخذون حقهم
كاملاً.
هذا ما ندعو إليه ونحذر من خلافه، والله المستعان.(98/90)
في دائرة الضوء
جهود الأسلمة وعوائق التقليدية
بقلم: خميس بن عاشور
الاحتواء من الأساليب التي يستخدمها خصوم الحل الإسلامي وذلك بهدف
توظيف قوة الإسلام والمسلمين لأغراض العلمنة وأهداف النظام العالمي الجديد.
والذي نهتم له في هذا الحديث ليس العالم الغربي، وليست الأنظمة والدول العميلة
له، ولكن الذين نقصدهم بالحديث هم أولئك الذين يعملون من أجل إرجاع الإسلام
إلى مكانته في مجتمعاتهم ودولهم وتخليصها من هذا الجمود الفكري، وفي إطار هذا
الاحتواء أصبح كثير من العلماء والدعاة يستمرئون وضعهم، ويطمئنون إلى عدوهم، بل صاروا من العناصر التي تسهم في تلك الجهود من خلال المشاركة في إثراء
القضايا المطروحة لخدمة النظام العالمي، وتجاهَلوا قضايا الإسلام الأساسية،
وواجب العمل من أجل تحقيقها، وما يتطلبه ذلك من قوة تغييرية كبيرة من أجل
كسر تلك الحواجز المادية والمعنوية التي تكونت في فترات هجران تطبيق الشريعة
والتفريط في سلطة التنفيذ التي هي شرط لهذا التطبيق.
قال الماوردي: (فليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه وطُمست
أعلامه) [1] . إن من أسباب هجر الشريعة وعدم التفكير في تطبيقها: إقصاءها من الواقع، وهذا ما كرس مقولة عدم صلاحيتها للتطبيق في هذا العصر، فالضرورة إذن تبدو ملحّة لتكوين قوة معنوية كبيرة تسهم في تحطيم هذه الحواجز، التي نشأت في زمن القوانين الوضعية الظالمة داخل مجتمعاتنا ودولنا.
إن أولئك الذين لا يزالون يبحثون عن صيغة اجتهادية لعرض الحل الإسلامي
كان حريّاً بهم أن يراجعوا حساباتهم ويقرؤوا قوله (تعالى) : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] . فالإسلام قد
كمل وتم، ولم يبق إلا تطبيقه تطبيقاً شرعيّاً حسب مقتضيات كل عصر دون
المساس بالثوابت الاعتقادية والتشريعية، ومن المفيد إزالة تلك العقدة التاريخية لدى
كثير من المثقفين المسلمين والدعاة؛ التي تتمثل في المشاعر الأبوية نحو الدعوة،
فحماية الدعوة قبل أن تكون بالأشخاص يجب أن تكون بالمبادئ التي شرعها الإسلام، فالمبادئ هي التي يحتمي بها الأشخاص وليس العكس صحيحاً؛ لأن التنازل عن
هذه المبادئ لحجة مصلحة هذه المبادئ هو (الإهانة المهذبة) لها! ! .
إن كثيراً من المدائح التي قيلت في مزايا الشرع الإسلامي بعد سقوط الخلافة
إنما هي في الغالب عمليات دفاعية سببها الانبهار والشلل الحضاري، وبسبب
المعاناة التي يتعرض لها دعاة الإسلام ودعاة تطبيق الشرع؛ فإن كثيراً منهم يميلون
نفسيّاً نحو استصعاب تحقيق الحل الإسلامي، ومع ذلك فلا يمكنهم التملص من
واجب العمل على إرجاع سلطة التنفيذ التي هي شرط للتطبيق كما سبق. وتطبيق
الحكم يجب أولاً كما يراه المحققون من الفقهاء والأصوليين لعلة أولى هي الامتثال
لأمر الله (عز وجل) ، أما إدراك المقصد أو الحكمة فليس ذلك شرطاً في تطبيق
الحكم، وذلك لأن إدراك المقصد عمل اجتهادي يقوم به عقل المجتهد الذي قد
يصيب وقد يخطئ، ولذلك فلا يعلّق التطبيق على إدراك المقصد أو الحكمة؛ لأن
كل ذلك متحقق دون ريب بعد تطبيق الحكم.
سؤال يطرح نفسه:
ولو سُئلنا ذلك السؤال التقليدي، وهو: كيف نطبق الحدود مثلاً والأمة غير
مؤهلة ومستعدة لذلك؟ فالجواب: شرط التهيؤ والاستعداد هو تطبيق هذه الحدود
فعلاً، وسوف تتهيأ بإذن الله، ولنا أن نقول: إن الحدود من حقوق الله التي لا تنفع
فيها شفاعة ولا عفو، فمن خوّل لنا التعطيل لحكم هو من حقوق الله (عز وجل) ؟ ،
إنه لا يمكننا مطلقاً أن ندعي أننا أكثر رحمة من الله نحو العصاة والمذنبين، ولذلك
فإن التردد في فعل الخير ليس من ورائه خير، وإن منهج التطبيق في الإسلام لا
يحتاج إلى بيان أفصح وأوضح من السير فيه قدماً. وعندما ننطلق من عمق الأزمة
من أجل البحث عن حلول موضوعية فإننا لا نجني سوى الخيبة والنتائج الفاسدة،
وكذلك فإن الانطلاق من واقع التقليد بمفهومه الأصولي الفقهي وحتى بمفهومه
السياسي [2] لا تكون الثمرة والنتيجة منه إلا تقليداً مركّزاً، سِمَتُهُ الأساسية:
التدليس والتمويه والعيش في ظلال الوهم، الذي يعتبر عاملاً رئيساً في عملية الهدم
الفكري الذي تعيشه بعض العقليات المذهبية والفعاليات الإسلامية اليوم.
إن النظر في مجالات الشرع يفتقد عند مثل هذه الفئة إلى البعد المستقبلي الذي
وضعه الشارع الحكيم؛ أي إن بعض الصفات التي تميز العملية التشريعية شبه
منعدمة في نفس هذا المنظور الضيق؛ فالله (عز وجل) عندما وضع هذه الشريعة
وأرسل بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إنما فعل ذلك بعلمه بما كان وبما هو
كائن، أي: إن البعد المستقبلي لعملية التشريع الإلهية يجب أن نضمنها عملية فهمنا
للإسلام عقيدة وشريعة، وذلك من أجل ألا نقع فيما هو تقديم بين يدي الله ورسوله،
وكذلك حتى لا نقع في اجتهاد هو في مقابلة نص صحيح بالنسبة لمجال التشريع،
أو أن نجتهد لإيجاد عقيدة بديلة عن عقيدة الوحي الإلهي كالذي اقترفته مدرسة
التأويل قديماً وحديثاً.
إن فرض الإسلام على الواقع هو الذي يقضي على تلك المحاولات المنحرفة
لفرض الواقع على الإسلام لأن منهج الإسلام تغييري النزعة، وهذا يدل على أنه لا
يقبل المواجهة إذا كانت بدافع سد الثغرات وتعويض النقائص، بالإضافة إلى أن
المصدرية الإلهية للإسلام لا تقبل إلا أن يكون الإسلام فوق الجميع، وقديماً قال
الشاعر:
إذا غامرت في شرفٍ مروم ... فلا تقنع بما دون النجومِ
فَطَعْم الموتِ في أمرٍ حَقيرٍ ... كَطَعْمِ الموتِ في أَمْرٍ عظيمِ
وكما سبقت الإشارة إليه، فإن التقليد الذي يحاول أصحابه إلباسه لباس
الإصلاح والتجديد، إنما هو الداء العضال الذي يجب إزاحته من ميدان العمل نحو
إرجاع الشرعية للعمل الإسلامي وترشيده، حتى لاينحرف عن منهج الرسالة
الإسلامية التغييري، الذي من شأنه أن يُحوّل ما أمر الله ورسوله بتحويله من
عادات الأمم وتقاليدهم وأفكارهم وسلوكياتهم، وإن هذه العملية الانتقائية للتفكير
والسلوك هي التي من شأنها وضع الأسس والخصائص التي يجب أن تميز المجتمع
الإسلامي العالمي من غير تمييز بين الأجناس والشعوب؛ وذلك حتى لا تصبح
النظرات الضيقة للمجتمع الإسلامي عائقاً في وجه الرجوع الميمون نحو الإسلام ديناً
ودولة، وحتى لا تصبح القومية والوطنية وجهاً من وجوه الانغلاق نحو الذات،
وبالتالي بروز النظام القبلي والعشائري في أقنعة جديدة تخفي وراءها معالم
(الأرستقراطية) التي لا تقبل التغيير، ومع ذلك: فإنه لا يمكننا أن ننكر اعتراف
الإسلام بالخصائص والفروق بين الأفراد والمجتمعات؛ لأن الشارع الحكيم قد
راعى ذلك أثناء عملية التشريع؛ قال الله (تعالى) : [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ] [الروم: 22] .
إن هذه النزعة التقليدية بالنسبة لنا نحن المسلمين لها جذور دينية، وهي
تهدف إلى المقاصد نفسها التي تتركز أساساً فيما يسميه بعضهم بـ (الآبائية) [3]
التي ترفض التغيير وتتمسك بالتقليد، هذا التقليد الذي يعرفه الأصوليون بأنه:
(قبول قول الغير من غير معرفة دليله) [4] ، أو هو (قبول قول بلا حجة، وليس
ذلك طريقاً إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع) [5] وقد نهى القرآن الكريم
المسلمين عن أن يَقْفُوا ما ليس لهم به علم، قال (تعالى) : [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء: 36] .
والتقليد في أمور الدين هو الأخطر؛ لأنه يسهم في مزاحمة المصدر الحقيقي
للشرع الذي هو الوحي الإلهي (كتاباً وسنة) ، وهنا يمكننا أن نطرح سؤالاً لنجيب
عليه، وهو: لماذا لا يريد المسلم أن يترك دينه على الرغم من أنه في كثير من
الحالات لا يلتزم به سلوكاً وتفكيراً؟ والجواب يمكن أن يكون كما يلي: إن تلك
الآبائية على الرغم من سلبياتها وخطرها هي التي حافظت على هذا الانتماء الذي
ترسخ عبر الأجيال ليصبح عادة وتقليداً، ورغم أن هذا التقليد وهذه العادة لا تدفعنا
إلى التشكيك في هذا الانتماء مثلما يفعله أهل النظر وأهل الكلام إلا أننا سنتخذ
هذه الآبائية نقطة للانطلاق الذي سيرتكز على العلم وعلى الاتباع.
إن البحث عن الحلول من خارج الموضوع أي الإسلام لا يمكن أن يقود إلى
نتيجة سارة بلا ريب، فلقد ذمّ الإسلام التقليد بينما حث على العلم وعلى الاتباع
للوحي.
إن عدم معرفة المسلم دليل السلوك والاعتقاد هو الذي أحال التدين إلى عادات
وتقاليد فاقدة لصيغ الاقتناع؛ لأنه لا يمكن أن يقتنع المسلم بدينه إلا إذا كان هذا
الدين مدلّلاً عليه، وحينئذ ستنبعث الروح والحياة في تلك التقاليد والعادات لتصبح
عملاً مثمراً وعبادة خالصة يجني من ورائها المسلم ثمار التزكية والعمل الصالح،
وإنما يتم ذلك بمعرفة أدلة السلوك والاعتقاد الشرعية من مظانها ومصادرها.
إن هذه العملية التي تهدف إلى تغيير جذري في منهج الاعتقاد والعمل هي
التي يمكن أن نطلق عليها إصلاحاً وتجديداً فعلاً، ومع ذلك فإن هذه العملية
ستصطدم بعوائق التقليدية والآبائية، ولكن سرعان ما ستنهار هذه العوائق لسبب
يسير، وهو: أنها لم تكن مشيدة إلا على الأوهام والأباطيل.
__________
(1) الماوردي: أدب الدنيا والدين، ص 78.
(2) انظر: د أحمد زكي بدوي: معجم المصطلحات السياسية والدولية، ص 148، د عبد الوهاب الكيالي وآخرين: موسوعة السياسة، ص 777.
(3) جودت سعيد: حتى يغيروا ما بأنفسهم.
(4) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: مذكرة أصول الفقه، ص 314.
(5) أبو حامد الغزالي: المنخول من علم الأصول، ص 387.(98/96)
متابعات
هل يستحق نجيبب الكيلاني أن يكون رائداً؟ !
بقلم:محمد الدوسري
لقد قرأت في العدد 92 (ربيع الثاني 1416هـ) ، مقالة تتحدث عن (نجيب
الكيلاني) بصفته رائد القصة الإسلامية المعاصرة! . وكثيراً ما أتوقف وأتعجب عند
مثل هذه المقالات التي تتحدث عن هذا الرجل، ومما يزيد في عجبي أن أهلها لا
يتورعون عن إطلاق صفات: الكاتب الكبير، الرائد.. إلخ، على نجيب الكيلاني
(رحمه الله) ، ويتغاضون بشدة عن سقطاته التي لا تكاد تخلو منها قصصه
ورواياته! ، بل إن أحدهم قال في أحد مهرجانات الجنادرية المقامة في الرياض: إنه يطمأن على أولاده تمام الاطمئنان إذا قرؤوا روايات الكيلاني! ، وأخذ يكيل له الشكر كيلاً وافراً! .
وكتابتي لهذا التعقيب ليست اعتراضاً على الاحتفاء بالرجل، ولكنها رجاء
موجه للأدباء الإسلاميين وخصوصاً مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي أن ينحوا
العاطفة جانباً، ويتأملوا الأمر مليّاً؛ فَلَكَمْ ولَكَمْ عانى العمل الإسلامي من الانسياق
وراء العاطفة، ووضع الأشخاص فوق مكانتهم الحقيقية، والذي نرجوه من إخواننا
الأدباء هو: أن يضعوا الأمور في نصابها؛ فنجيب الكيلاني هذا كان يضَمّن
رواياته مشاهد جنسية يخجل المسلم من قراءتها، ولكن يبدو أن بعض الأدباء
الإسلاميين (سامحهم الله) قد تأثروا تأثراً غير مباشر بالروايات الحديثة التي لا
تتعفف عن إقحام الجنس في ثنايا القصة، فأصبحوا لا يرون ضيراً في هذا الأمر!، وقد قيل: كثرة الإمساس تقلل الإحساس.
ولَكُم أن تتخيّلوا ماذا يقع في حس المراهق، وهو يرى بطل رواية (ليالي
تركستان) لـ (نجيب الكيلاني) ، لا يفتأ يضم ويُقَبّل عشيقته! ، ولو أن المؤلف
ينبهه إلى أن هذا الأمر محرم لكان أهون، ولكنه لم يفعل؛ فماذا تتوقع أخي القارئ
أن ينمو في حس المراهق: حب الفضيلة، أم حب الرزيلة؟ ! .
ولقد أمسك بي أحد الإخوة، وقال: (يا أخي كيف تقولون: إن نجيب
الكيلاني أديب إسلامي، وأنا قرأت له رواية (رأس الشيطان) ، فوجدت فيها من
المشاهد ما يندى له الجبين) ، ولقد حرت جواباً في البداية، فلم أدر ما أقول،
ولكني تداركت نفسي وذكرت له بأن الرجل أخطأ، وكان يتوجب عليه أن يرتفع
بمستوى القصة عن هذه القذارات، فلا يكفي أن تكون روايته يدور رحاها حول
موضوع إسلامي.
ويجب على أدبائنا الإسلاميين، أن يكونوا على شجاعة حقيقية وواقعية في
التعامل مع جميع الأدباء؛ فلا يعطوا أحداً أكبر من حقه، ولا يزنوا الحق بالرجال؛ فإذا تكلموا عن نجيب الكيلاني، فيجب أن يذكروا أخطاءه وبوضوح كامل؛ فخطأ
الرجل في تضمينه المشاهد المخلّة بالأدب أمر ليس بالهيّن، فالرسول صلى الله
عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً. ونجيب الكيلاني لا يرى بأساً في إقحام
المشاهد الجنسية في ثنايا الرواية، فهو يقول: (.. وإذا كان الزنا صورة الجنس
المنحرف الحرام وباءً خطراً، أفلا يمكن تناوله بما يستحقه من تقبيح وتنفير؛ وما
يصاحبه من مقدمات وإغراءات وسقوط؟) [1] .
فهو كما نرى لا يمانع أن يتناول مقدمات الزنا، والإغراء، والسقوط! ، مع
أنه يذكر أن (الأدب الإسلامي حينما يحتفي بقضايا المجتمع والعصر فإنه ينهج نهج
القرآن الكريم، وأحاديث نبينا المختار، صاحب الرسالة العظمي صلى الله عليه
وسلم) [2] ، وأورد دليلاً: قصة يوسف (عليه السلام) ، ولكنه للأسف لم ينضبط
بهذا الضابط، فالقرآن في قصة يوسف (عليه السلام) ، والسنة في قصة عابد بني
إسرائيل الذي أغراه الشيطان بالزنا، لم يتناولا الجنس بالطريقة التي فهمها نجيب
الكيلاني وحاول إقناعنا بها! .
ونجيب الكيلاني لا يرى بأساً من ظهور المرأة على المسرح! ، معللاً ذلك
بالتعليل التالي: ( ... لأن هناك قضايا وأموراً حساسة لا يمكن أن تقدم إلا من
خلال المرأة، فضلاً عن أن (وضعية) المرأة في المجتمع وما يلابسها من محاذير
وحرج وسلبيات، لا يمكن تناولها إلا بالتواجد المباشر للمرأة) [3] ! . ومشكلة
نجيب الكيلاني ومعظم أدبائنا، هي أنهم لم يحاولوا الانعتاق من أسر الأشكال الأدبية
الغربية؛ فمن الذي قال بضرورة المسرح في الأدب الإسلامي؟ ! ، ففيما عداه
غنية وفضل؛ ثم: لماذا لا يقوم الأديب المسلم الملتزم بمعالجة مشكلة ظهور المرأة
إن كان ولا بد من مسرح فيبدع لنا مسرحية تتطرق لقضايا المرأة بدون ظهورها
على المسرح؟ ! ! .
وفي تاريخنا خير مثال على ذلك، فلقد قام الفنان المسلم المتقدم باستبدال
التصاوير المحرمة، بالخط العربي والنقوش الإسلامية.
ورجاؤنا الحار من الأخوة الأدباء الذين أخذوا على عواتقهم مهمة تقديم أدب
إسلامي متميز خاصة أعضاء رابطة الأدب الإسلامي أن يؤطروا الأطر التي
تتناسب مع إسلامنا فعلاً، وأن تكون أسس وبدايات جهودهم وتنظيرهم، ونقدهم،
وإبداعاتهم، مستمدة (بكاملها) من الإسلام؛ فلا نرضى بأن يقدموا لنا كلاماً فاحشاً،
ثم يقولوا لنا: هذا أدب إسلامي! ، أو يقدموا لنا قصة أو رواية تتخللها انحرافات
عقدية، ثم يقولوا لنا: هذا إبداع من إبداعات الأدب الإسلامي! .
ونرجو منهم أن يكونوا صرحاء مع أنفسهم، ومع غيرهم من الأدباء، فلا
تكون المجاملة هي الفيصل في تقرير إبداع هذا الكاتب أو ذاك، وأن يتقوا الله في
إخوانهم المسلمين، وليقدموا ما يعكس روح دينهم، وينفع أمّتهم، ويرسخ في أبنائها
حب الله ورسوله ثم حب الفضيلة.
تعقيب الكاتب
بعد ورود وجهة نظر الأستاذ محمد الدوسري حول الموضوع، عرضناها
على الكاتب الأديب الناقد محمد حسن بريغش، فكتب التعقيب التالي:
لقد تفضل الأخ الكريم بالكتابة عن نجيب الكيلاني (رحمه الله) ناصحاً ومحذراً
الأدباء الإسلاميين والنقاد: ألاّ يطلقوا صفات الريادة والمديح، وألا يُؤْثروا المجاملة
في نقدهم، وألا يتغاضوا عن الانحرافات والأخطاء عند الكيلاني وغيره، وألاّ
ينساقوا وراء العاطفة في تقويم الأشخاص، فيضعوا الأشخاص فوق مكانتهم.. إلخ.
وذكّرهم بمسؤوليتهم أمام الله (عز وجل) ، لكي يقدموا ما يعكس روح دينهم
وينفع أمتهم، ويرسخ في أبنائها حب الله ورسوله ثم حب الفضيلة.
وأشكر الأخ الكريم الذي عقّب على ما كتبتُه عن نجيب الكيلاني في العدد
(92) من مجلة (البيان) ، ولقد كانت غيرته على دينه، وخوفه على شباب الأمة
من الانحراف، وحماسته في الصّدع بالحقيقة باعثاً لهذا التعقيب، فجزاه الله خيراً،
وله منا الشكر.
أما اعتراضات الأخ فلها ما يبررها، ولكنه وقع في مبالغات وأحكام متعجلة؛
لأن ما نُشر في البيان عن الكيلاني (رحمه الله) لم يقع في إطلاق الأحكام العاطفية،
بل حدد بشكل دقيق ومختصر مكانة الكاتب وظروفه، وحدد بعض الأسباب التي
دفعت الكيلاني لمجاراة كتاب القصة.
ولذلك قلت فيما كتبت: (وهذا يؤكد بأن الكيلاني كان في بداياته القصصية
معنيّاً بترسيخ قدميه، وتقديم نفسه بوصفه كاتب قصة مصريّاً يجيد كتابة الرواية،
ويقف مع كتّاب القصة الآخرين: (نجيب محفوظ، وباكثير، والسّحار، وعبد
الحليم عبد الله، والشرقاوي، ويوسف إدريس.. وغيرهم) ولهذا: لم تكن قصصه
الأولى تختلف عن قصص غيره إلا في نسبة مشاركة المرأة والجنس في
القصة..) [4] .
وقلت أيضاً: (وتأرجح بين الرضوخ لتقاليد القصة الغربية والالتزام بالتصور
الإسلامي للقصة) [5] .
ووضّحت سبب تأرجحه في ذلك، وأشرت إلى أن هذه الظاهرة تثير لدينا
قضية مهمة، تبدو عامة عند كثير من الأدباء والكتاب الذين يتحدثون عن الأدب
الإسلامي؛ وهي: فقرهم في الزاد الشرعي، وتأثرهم بالفكر الغربي) [6] .
ولكن ذلك كله لا يمنع من الاعتراف للرجل بريادته في مجال القصة
الإسلامية، وإسهاماته في مجال الأدب الإسلامي، فالريادة لا تعني الإصابة؛ لأن
الرائد هو من يتقدم القوم ليبصر لهم مواطن الكلأ ومساقط الغيث [7] ، فهو سابق
للناس يستطلع لهم، ويخبرهم، وقد يخطئ وقد يصيب. والكيلاني كان يخوض
غمار التجربة وسط جو يعج بالهيجان السياسي والفكري، ويمتلئ بالأفكار المعادية
التي تهيمن على الساحة، ولا يستطيع كاتب التعقيب أن يتصور مثل هذه الأجواء
المليئة بالفتن، ووسط ذلك الجو بدأ الكيلاني يكتب حينما كان الآخرون يتهيّبون من
كلمة إسلام، فهو رائد حقّاً في هذا المجال، اجتهد فأصاب وأخطأ، وحينما نتحدث
عنه لا نغض الطرف عن أخطائه، ولا تأخذنا العاطفة في إطلاق الأحكام، ولكننا
أيضاً لا نقع بالمقابل في الغلو فنرفض كل شيء منه؛ لأنه أخطأ هناك وأصاب هنا.
لقد كتبت عن الكيلاني منذ وقت مبكر، وكنت صريحاً وواضحاً في الكشف
عن هذه الأخطاء في كتابين خاصين بالقصة [8] ، بل وكان الرجل (رحمه الله) من
أحسن من يستمع إلى نقد ناقديه، ويتقبل نصيحة إخوانه، ويصغي إلى أصحاب
الرأي الآخر من قراء أدبه والنقاد.
ولهذا نلتمس له العذر، ونسأل الله له الرحمة، ونبين أخطاءه برفق وعدل،
ولا نبخسه حقه من المميزات التي يستحقها عن جدارة.
وكذلك فإن لكل فن شروطه وأجواءه، شريطة ألا يخرج عن الإطار الشرعي: أي دائرة الحلال المباح، ولا ينفع في إطلاق الأحكام العامة أن نطبق أخلاق
العابد الزاهد على كل المسلمين، فربما كانت فضائلهم نوعاً من الإسراف والتبذير
والإساءة عند مثل هذا الرجل الزاهد.
وأخيراً: فللأخ الشكر كله على غيرته، ونرجو الله (عز وجلّ) أن يقوي من
عزيمة المسلمين لارتياد مجالات الحياة بإيمان وصدق وشجاعة لتقديم الخير للناس،
وإعطاء الصورة الصحيحة للحياة بعامة، والأدب بخاصة، وكما يريدها لنا رب
العالمين (سبحانه وتعالى) .
__________
(1) مدخل إلى الأدب الإسلامي، نجيب الكيلاني، كتاب الأمة (1408هـ) ، ص113.
(2) المصدر السابق، ص 115.
(3) المصدر نفسه، صفحة 112، 113.
(4) البيان، العدد (92) ، ص 76.
(5) السابق، ص 77.
(6) انظر: البيان، (92) ، ص 78 79.
(7) انظر: القاموس المحيط، ص362، مؤسسة الرسالة والمعجم الوسيط، ص 381، المكتبة الإسلامية باستانبول.
(8) هما: (في القصة الإسلامية المعاصرة (و (دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة عرض ودراسة لعدد من قصص الدكتور نجيب الكيلاني) .(98/102)
منتدى القراء
دعوة إلى التفكير
بقلم:سالم فرج سعد
إن مما تحيا به أمتنا: تفكير جاد معطاء، وتصور بناء؛ ذلك أن الأمم تحيا
بعقول أفرادها، وتنمو بتفكيرهم..
ولا شك أن التفكير في حق خير أمة أخرجت للناس وأشرفها وأكرمها على الله
أوكد وأوجب، لأنها أمة الهدى ودين الحق؛ التي حازت قصب السبق إلى الخيرات
بنبيها محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومما يدفعها إلى إحياء روح التفكير،
ويرغبها فيه: ما أشاد به كتابها المنزل من التفكر والتدبر، قال (تعالى) [.. أَن
تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] [سبأ: 46] ، وقال في صفات أولي الألباب
[ ... وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ..] [ال عمران: 191] فالقرآن
يربينا ويأخذ بأيدينا لنلتمس منه العبرة والعظة حين يفتح للفكر آفاقه، وللتدبر أبوابه، وإن كان مبدأ التفكير هو في نعم الله ومخلوقاته إلا أن ذلك هو الانطلاقة العملية
والباعث للتفكير.. فهو منطلق العمل، وبداية الحركة، وإشراقة النور، وكما قال
(سفيان بن عيينة) (رحمه الله) : (الفكر.. نور يدخل قلبك) ، وربما يتمثل بهذا
البيت:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة [*]
والتفكير الجاد ليس مجرد فلسفة نظرية أو تصورات عقلية، بل هو يقظة
روحية وهمة وقّادة ذات فعالية، به تتضح معالم الطريق ويتبين الهدى من الضلال، فالفكرة مرآة ترى فيها حسناتك وسيئاتك، ومدرسة تكتسب منها حقائق وتجارب.
__________
(*) تفسير ابن كثير ,ج1 ص 477.(98/108)
التاريخ الإسلامي: زاد
بقلم: زهرة الإبراهيمي
لقد وهب الله (عز وجل) الطفل قدرات ذهنية وعقلية عالية تتمثل غالباً في
ملكة الحفظ.. ولا غرو في أن أطفالنا يحفظون أسماءً.. وقصصاً كثيرة..، أسماء
شخصيات اجتماعية، وسياسية، وفنية وهي الغالبة وقصصاً خرافية وبطولية ربما
سمعوها أو شاهدوها أو قرؤوها في إحدى الوسائل الإعلامية.. وهذا في حد ذاته
أمر معتاد.. ولا يدعو للدهشة.. ولكن الغريب أن هذا الطفل الذي يمتلئ ذهنه بهذه
الأسماء والأحداث ربما لا يعرف إلا النذر اليسير عن الشخصيات الإسلامية
التاريخية ... ماذا يعرف أبناؤنا عن خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص؟ وماذا
تعرف بناتنا عن الخنساء أو سمية بنت الخياط أو..؟
ولا شك أن التاريخ الإسلامي كان هدفاً لأعداء الأمة من مستشرقين
ومستغربين.. بداية من جورجي زيدان وانتهاءً بالمسلسلات التاريخية الهابطة،
التي تشوه الحقائق والأحداث. لقد عرف أعداؤنا أن الشعب الذي لا يملك ماضياً هو
بالتأكيد لا مستقبل له، وشاهدوا ولمسوا قوتنا النابعة من معين التاريخ الإسلامي
الصافي، من نماذجه المشرقة، من تضحيات أفراده: من صفحات التاريخ وجد
هذا التراث الهائل من القيم والأخلاق. أيتها الأم المسلمة في البيت، أيتها المعلمة
المسلمة: نحن نعد جيلاً مسلماً نريد منه أن يحمل الأمانة، أمانة الدين وأمانة
التاريخ، وهذه بلا شك رحلة مضنية وشاقة يلزمها الكثير من الصبر والكثير من
الجلد.
ولا شك أن التاريخ لن ينسى صبرك وجلدك في سبيل المحافظة عليه! !
وليكن التاريخ الإسلامي الصحيح هو زادك والمعين الذي تسقين منه هذا الجيل
المتعطش للمبادئ والقيم السامية، إننا نقف على ثغر من ثغور الإسلام، فحذار أن
يؤتى الإسلام من قبلنا..(98/108)
كشف اللثام
عما تعانيه الأمة من الجروح والآلام
بقلم: غازي الوادعي
إن الأمم ترقى إلى السمو والعلو بما تنتجه من حضارة، وبما تقدمه للبشرية
من خير.
وقد كانت الأمة الإسلامية، وستبقى بإذن الله هي الأمة الوسط التي تقود
الناس إلى بر الأمان وإلى طريق النجاة.
كانت أمة صاحبة رسالة تخرج الناس من ظلمات الشرك إلى نور الإسلام،
كانت مصدر السعادة للناس.
إن حضارة الإسلام لم تكن حضارة مادية فحسب أو حضارة أرضية (وإن
كانت هذه الأشياء مما لابد منه) ، وإنما هي قبل ذلك حضارة عقيدة، حضارة جهاد، حضارة أخلاق، حضارة استخلاف في هذه الأرض..
واليوم تمر الأمة بأسوأ مراحل ضعفها، والناظر المتأمل بعين البصير المتدبر
يرى حال الأمة الإسلامية: يرى من الجروح والآلام ما تنفطر له القلوب؛ فيرى
أن الأمة قد استهوت الذل واستمرأته؛ لأنها أخلدت إلى الأرض، وتتبعت شهواتها
وغرائزها بنهم، فنست الجهاد والقتال في سبيل الله.
ومن الآلام: الجهل المطبق عند عامة الناس إلا من رحم الله، ليس جهلاً في
أمور معيشتهم أو أمور دنياهم، وإنما في أمور دينهم، والشرك المنتشر في أطناب
الأمة الإسلامية أكبر شاهد على ذلك، وانتشار الأحاديث الضعيفة بين الناس
وتمسكهم بها، وجهلهم وتساهلهم في أداء الفرائض والعبادات المفروضة عليهم،
وأما أخلاقيات وسلوكيات كثير من أفراد الأمة: فأصبحت مقيدة بما تمليها عليهم
المصالح الدنيوية.
وأيضاً من الجروح التي تأن بسببها الأمة:
* الغياب الكلي أو الجزئي للدين في بيوت كثير من الناس؛ حتى أنهم ألفوا
المعاصي: كبائرها وصغائرها، وأصبحت النفوس لا تفرق بين المعروف والمنكر
في صغيرة أو كبيرة من حياتهم.
* إن الأمة ما زالت تعاني الأمرين من صنف من الناس، وصفهم الرسول -
صلى الله عليه وسلم- بأنهم دعاة على أبواب جهنم، يقذفون الناس إلى جهنم بحلاوة
كلامهم وطلاوته، هم المنافقون، وما أدراك من هم؟ ! ، إنهم قوم وصفهم الله
(سبحانه وتعالى) ونعتهم بنعوت في أكثر من سورة من القران الكريم: يطعنون في
الدين، يتلونون في كل ثوب، إنهم خفافيش الدجى في كل عصر وزمان، يظهرون
في الليل حتى يضربوا ضربتهم.
* وثالثة الأثافي جهل الأمة بالعدو المتربص بها، تربص الدوائر، وقد نست
الآيات المحذرة من هذا العدو، فأصبحت توالي مَنْ غضب الله عليه ولعنه،
وأصبح الولاء والبراء معتمداً على مصالح خاصة ليس لها بالدين علاقة، لا من
بعيد ولا من قريب.(98/109)
بريد البيان
رسائل نعتز بها:
تصلنا رسائل من مختلف ديار الإسلام ما بين مادحة وعاتبة، وموجهة
ومصوبة ومشجعة، ونرد على بعضها ما وسعنا الجهد. إلا أنه وصلتنا رسالة من
فضيلة الدكتور عبد الله بن محمد العجلان، ولقد اضطررنا إلى حذف الكثير من
الثناء فيها على المجلة، ونكتفي بنشر تلخيص لرسالته (جزاه الله خير الجزاء) :
إن القراءة المتأنية لمجلة البيان جعلتني أشعر بفيض من المشاعر والأحاسيس
التي ما كانت تخطر ببالي قبل ذلك، ولا ينبغي أن تكون حبيسة النفس، بل هي
قضية مشتركة، ومن أهم ملامح هذه المشاعر:
1- إن مجلة البيان (هذا الصوت الندي من ديار الغربة) تخاطب الفرد المسلم
في ديار الإسلام، وهي مؤهلة لتبليغ رسالة الإسلام: عقيدة، وعبادة، ونظام حياة.
2- إن تقصير كثير من العلماء بالمشاركة والتوجيه في مثل هذه المجلة جعله
الله خيراً في شباب واعد من طلبة العلم، ومن بعض العلماء والمفكرين؛ ليقيم الله
به المحجة ويوضح الحجة والله غالب على أمره.
3- إن كثيراً من المجلات العربية على اختلاف ألوانها ومشاربها ذات
انتماءات متعددة، إلا أن هذه المجلة لا تكاد توجد إلا في أماكن محددة وبأعداد قليلة، إذ هي مجلة الخاصة، وتلك مع الأسف مجلات العامة، وهذا يومئ إلى خلل في
حياة الأمة الإسلامية، يتمثل في عدم التوازن بين الفرص المتاحة لكل الأصوات
على اختلاف ألوانها.
4- الشعور العميق بالاحترام والاعتزاز تجاه المجلة وأقلامها، للمعالجة الجادة
والطرح الموضوعي للأفكار.
وفي النهاية يدعو الدكتور (جزاه الله خيراً) للمجلة بالتوفيق في خدمة الدين
الحنيف ورفع شأن الأمة الإسلامية.
القارئ الحريص على المجلة:
بعد شكره لجهود القائمين على المجلة أبدى ملاحظات ومنها: سؤاله عن
نصيب المرأة والطفل والأسرة عامة وعن الرقائق والإيمانيات. وتمنى لو وجدت
في المجلة زاوية للفتاوى التي تهم المسلمين، ولاسيما في الغرب، ونحن نقدر
حرص الأخ الكريم وما ذكره من ملاحظات جيدة ونتمنى على الكتّاب التطرق لها.
والفتاوى ننشرها بين وقت وآخر. وسنحاول جاهدين نشر كل ما يصلنا مما
يعالج الواقع ويفصل الموقف من النوازل المستجدة.. وفق الله الجميع إلى كل خير.
كاتب لم يذكر اسمه:
يؤكد مع جمع من القراء أهمية وضع الهوامش في كل صفحة عوضاً عن
وضعها في نهاية كل مقال. نشكرك وهذا الاقتراح سيرى النور قريباً إن شاء الله
مشتاق حسين:
قصيدتك -ابتسم فأنت مسلم- ستنشر في عدد قادم بإذن الله.
عثمان حمد الحواس
نرحب بك، ونشكرك على مشاركتيك المعنونة ب لنفكر بمرونة -وهموم
طالب في المرحلة الثانوية- وقد رأت أسرة التحرير نشر أجزاء منهما في منتدى
القراء، كما ان مقالك -صناعة المشاعر- معروض الآن على المحرر الأدبي.
د. حسن إبراهيم
نعتذر عن نشر مشاركتك (عرض لكتاب الأمة الإسلامية من لتبعية إلى
الريادة) لكون الكتاب صدر منذ فترة ليست قصيرة وبعض مواده سبق نشرها في
المجلة.(98/110)
الورقة الأخيرة
بائع خبز فقيه!
بقلم:محمد بن عبد الله آل شاكر
رأيته وهو يحمل عبء السبعين من السنين، تزينه لحية بيضاء، وابتسامة
لطيفة، يلقاك بها وأنت تشتري منه الخبز في واحد من مخابز بلدنا الحبيب، ولما
دخلت عليه في إحدى الليالي، بعد صلاة التراويح بادرني بالسؤال: ما رأيك في
القراءة من المصحف في الصلاة؟ وكان يقصد صلاة التراويح في رمضان.
وقد وقع في ظني أنه تفقّه على مذهب الإمام أبي حنيفة (رحمه الله) كغالبية
أهل موطنه (أفغانستان) فقلت له: صلاته تامة؛ لأن القراءة عبادة انضمت إلى
عبادة أخرى هي الصلاة، والعبادة لا تفسد الصلاة، وهو قول أبي يوسف ومحمد
بن الحسن.
فأجابني: ولكن شيخهما (أبا حنيفة) يخالفهما في ذلك؛ وكأنه بهذا الكلام يشير
إلى ترجيح رأي الإمام في فساد هذه الصلاة لما فيها من تشبّه بأهل الكتاب، إذ
الفتوى على قول أبي حنيفة في المذهب سواء أَوَافَقَهُ أحد أصحابه أم لم يوافقه.
ثم مدّ يده إلى كتاب ضخم، فإذا هو جزء من (فتح القدير) للكمال بن الهمام
شرح (الهداية) للمرغيناني الحنفي، بطبعة حجرية هندية دقيقة، وعليها حواشٍ لا
يصبر على القراءة فيها وبين سطورها المتعرجة والمائلة إلا أولو العزم من طلبة
العلم، وفتح الكتاب ليقرأ لي نصّاً فيه ذلك الحكم، فعجبتُ والله لهذا الفقه الدقيق
عند بائع الخبز الطاعن في السن، وزادني هذا حبّاً له وإكباراً، ولكن عجبي ازداد
أكثر عندما فتح كتاباً آخر بجانب منضدته (بل هو ثلاثة كتب في كتاب: متن،
وشرح، وحاشية! !) ، واسمه (قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار) لكي
يؤيد ما ذهب إليه من الفقه بقاعدة من الأصول! .
وعندئذ أصابتني حالة من الذهول والشرود، عدتُ بعدها إلى انتباهي وقد
ارتسمت أمام ناظريّ صورة عدد من الطلبة في إحدى الجامعات، وقد أهدتهم الكلية
التي ينتسبون إليها مجموعة من الكتب والمصادرالعلمية، تشجيعاً لهم وحفزاً لهممهم، وتعزيزاً لتفوقهم، وبين هذه الكتب (فتح القدير) نفسه، ولكن بطبعة جميلة
واضحة، وهم يريدون أن يستبدلوا به كتاباً آخر، متسائلين عن فائدته
وموضوعه!!.
أما الكتاب الآخر، وهو (قمر الأقمار ... ) فهو شرح العلامة محمد بن عبد
الحي على (نور الأنوار) لِمُلا جَيّون، وهذا شرح (للمنار) للنّسفي، فقد قفز إلى
ذهني سؤالٌ حياله: كم من أساتذتنا وطلابنا المتخصصين قد سمع بالكتاب ومؤلّفه،
أو اكتحلت أعينهم بمرآه، بَلْه القراءة فيه والرجوع إليه؟ .
ما أظن أنّ حالفاً يحنث لو حلف بأنّ كثيراً منهم لم يسمع بهذا الكتاب، ولم
يره من باب أولى! ، تُرى ما الذي يشغل كثيراً منا ومن طلاب العلم؟ وما مدى
اهتمامهم بما نذروا أنفسهم له؟ أم أن الاهتمام بالرصيد ومتابعة الأسعار وتقلّباتها
زاحمت اهتماماتهم العلمية ونموّهم التربوي المهني؟ أسأل الله لي ولهم الهداية
والتوفيق، وأن يردّنا إلى ما نكون به خير أمة [*] .
__________
(*) مسألة حمل الإمام للمصحف للقراءة في الصلاة فيها خلاف بين أهل العلم، واختار بعض المحققين جواز ذلك، فإذا كان الإمام لم يحفظ، أو كان حفظه ضعيفاً وقراءته في المصحف أنفع للناس وأنفع له، فلا بأس بذلك، وقد أورد البخاري (رحمه الله) تعليقاً في صحيحه عن عائشة (رضي الله عنها) أن مولاها (ذكوان) كان يصلي بها في الليل من المصحف، والله أعلم
- البيان -.(98/111)
ذو القعدة - 1416هـ
أبريل - 1996م
(السنة: 10)(99/)
دراسات دعوية
الدعوة الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة
د. عدنان علي رضا النحوي
[قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما
أنا من المشركين] [يوسف: 108]
هذه هي الدعوة الإسلامية، وهذا هو جوهر خصائصها الربانية، وتمضي
الآيات البينات والأحاديث الشريفة تفصل خصائص الدعوة الإسلامية، وخصائص
دعاتها ورجالها، فاستمع إلى قوله (سبحانه وتعالى) : [ومن أحسن قولاً ممن دعا
إلى الله وعمل صالحاْ وقال إنني من المسلمين] [فصلت: 33] .
فهذه هي أولى خصائص الدعوة الإسلامية: الدعوة إلى الله ورسوله، الدعوة
إلى الإيمان الحق والتوحيد الصافي، ثم ينعكس هذا الإيمان والتوحيد إلى عمل
صالح في واقع الحياة، إلى ممارسة إيمانية تتجلى فيها خصائص الإيمان وعظمة
التوحيد.
إنه توحيد لا شرك معه أبداً: [قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به،
إليه أدعو وإليه مآب] [الرعد: 36] .
لقد كانت قضية الإيمان والتوحيد هي القضية التي عرضها القرآن الكريم في
كل سورة من سوره، حتى أصبحت محور كتاب الله ومحور كل سورة، ومنها
تنبثق سائر القضايا في كتاب الله وبها ترتبط، وحولها يدور القصص في القرآن،
ومن أجلها تُعرض آيات الله في الكون، وتُعرض أحداث التاريخ وشواهده.
لذلك: ومن أجل هذه القضية أولاً تقوم الدعوة الإسلامية في الأرض لتحمل
هذه القضية إلى الناس كافة، في العصور كلها، حتى تقوم الساعة، ولم يكن القيام
أمراً بشرياً من قائد أو سلطان، بل كان أمراً من عند الله توالت الآيات والأحاديث
على تأكيده، وعلى بيان تفصيلاته وميادينه وقواعده.
إنها هي دعوة الحق وحده:
[له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء]
[الرعد: 14] .
ووقفة مع تلك الآية، تبرز لنا خصائص الدعوة الإسلامية، فمن خصائصها:
أنّ نهجها ودربها وأهدافها ووسائلها وأساليبها تنبع كلها من كتاب الله، ينطلق بها
المؤمنون على ضوء الواقع الذي يمضون فيه.
فمن كتاب الله والواقع الذي تسير فيه الدعوة يقوم النهج والخطة ليجتمع
العاملون المؤمنون الصادقون عليه فلا يتفرقوا:
[شرع لكم من الدين ما وصَى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به
إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه] [الشورى: 13] .
إنه دين واحد مع كل الأنبياء والمرسلين، ودعوة واحدة تقوم على هذا الدين،
إنه دين الإسلام ودعوة الإسلام، جاء أمر الله أن لا يتفرق المؤمنون فيه:
[ ... أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... ] لقد كانت هذه الدعوة التي يلتقي عليها المؤمنون مصدر فزع كبير للمشركين على مر العصور والأجيال، فإذا تفرقوا خالفوا أمر الله فنزع الله مهابتهم من قلوب أعدائهم.
وتتوالى الآيات الكريمات لتبين خصائص هذه الدعوة الربانية وجوهرها
ومراحلها: [فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ... ] الآية
[الشورى: 15] .
لقد كانت هذه الدعوة على هذا النحو وبهذه الخصائص كبيرة على المشركين
حين شعروا أنها تزلزل أركان الظلم في الأرض وتزلزل الظالمين، وتهزّ الفساد
والمفسدين، وتظل حرباً على المجرمين، أخذهم الفزع حين انطلق بها محمد -
صلى الله عليه وسلم-، وسيظل الفزع يأخذ المجرمين المعتدين، والظالمين
المفسدين أبد الدهر.
[فلذلك فادع..] نعم! ادع إلى هذا الأمر العظيم، إلى شهادة «أن لا إله
إلا الله وأن محمداً رسول الله» ، إلى الإيمان والتوحيد، إلى منهاج الله قرآناً وسنة
[واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ... ] فالاستقامة على هذا النهج أمر من
عند الله كذلك، حتى لا ينحرف الدعاة ولا يتبعوا أهواء المشركين ودعواتهم من
اشتراكية أو شيوعية أو حداثة أو ديموقراطية أو غير ذلك من الأهواء!
وتتكرر قضية الالتزام والاستقامة على دين الله دون انحراف في منهاج الله:
[فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير * ولا
تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا ...
تنصرون] [هود: 112-113] ، إنها استقامة كما أمر الله، يمضي بها القادة والجنود، دون طغيان أو انحراف، فالله رقيب عليهم، عليم بما يصنعون.
ثم تأتي الخصيصة المهمة، ألا وهي: عدم الركون إلى الظالمين المجرمين
المفسدين فمن يركن لهم فستمسه النار، ولن يجد له أولياء من دون الله، ولن يجد
النصر مهما غرّته زخارف الركون وزينة الانحراف وفتنة الطغيان.
إن عدم الركون إلى الظالمين يعني أن الولاء الحق الأول هو لله (سبحانه
وتعالى) ، وأن العهد الحق الأول هو مع الله (سبحانه وتعالى) ، وأن الحب الأكبر
هو لله ولرسوله، وأنه من هذا الولاء الأول والعهد الأول والحب الأكبر ينبثق كل
ولاء في الحياة الدنيا وكل عهد وكل حب، فإذا لم تستقر هذه الحقائق في القلوب
والنهج والمسيرة، فما أسهل الانحراف وما أيسر الركون إلى الظالمين، إن
اضطراب الولاء والعهد والحب يعني كذلك اضطراب التصور للألوهية والربوبية،
واضطراب تصور عبودية الإنسان لربه وخالقه.
إن هذه الخصائص يجب أن تستقرّ في قلوب الدعاة، قادة وجنود، وتُرَبّى
الأجيال عليها، وتُغْرس في نفوس الناشئة، وتكون محور المنهاج للدعوة وللتربية
والبناء، ولإعداد الأجيال المؤمنة، ويظل التأكيد عليها في جميع مراحل الدعوة.
وتمضي الآيات تفصل خصائص الدعوة الإسلامية، حتى يتضح الدرب
وتشرق الأهداف، وتتميز المراحل والمسؤوليات:
[وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله
وعدوَكم] [الأنفال: 6] ، إن إعداد هذه القوة ضرورة للدعوة الإسلامية، وحتى
ينجح هذا الإعداد يجب أن تتوافر الخصائص التي سبق ذكرها كلها، وأن يكون من
ثمرة هذه الخصائص أمران: الأول: أن تكون الدعوة الإسلامية جبهة واحدة
وصفاّ مرصوصاً، والثاني: أن يبادر الجميع إلى الإنفاق في سبيل الله لبناء هذه
القوة في صف مرصوص من المؤمنين، غير ممزّق ولا متفرّق [إن الله يحب
الذين يقاتلون في سبيله صفاًّ كأنهم بنيان مرصوص] [الصف: 4] ومن خلال هذا
الترابط والتماسك تتحدد المواقف وتُفهم الآيات الكريمات، ففي قوله (تعالى) :
[وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم]
[الأنفال: 6] ، لا يفهم من «السلم» الاستسلام العاجز، أو المساومة الواهنة، أوالهزيمة وما يتلوها من ضياع، إن الجنوح «للسلم» جنوح الدعوة الإسلامية، جنوح المسلمين لا يتحقق إلا إذا كانت الخصائص السابقة كلها متوافرة في واقع الدعوة، لتوفر الصف المتراص والقوة المعَدّة والعزّة الحقيقية للمؤمنين:
[ ... ولله العزَة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون]
[المنافقون: 8] ، وكيف تكون العزة للمؤمنين إذا تفرقوا شيعاً، ولم يُعِدّوا قوة، ولم ينهضُوا إلى خصائص الدعوة الإسلامية مما عرضنا طرفاً منه.
لقد نزلت الآية الكريمة: [وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ... ] ، نزلت في
مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية وهي في عزة وقوة ونصر من عند
الله، فكان «السلم» طلب أعداء الله، هم الذين يطلبون السلام والأمن بعد هزائمهم، فكان قبول المؤمنين عندئذ، في تلك المرحلة وفي ذلك الواقع، وهم أعزاء أقوياء، صف واحد كالبنيان المرصوص، يتيح للمؤمنين الفرصة لتحقيق نصر أوسع.
وعلى نفس النهج نفهم الآية الكريمة: [ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله
وهو أعلم بالمهتدين] [النحل: 125] ، فلا تفهم هذه الآية الكريمة بعزلها عن
منهاج الله وعن الآيات قبلها والآيات بعدها، وسائر آيات الدعوة، وإنما تُفهَمُ من
خلال النهج المترابط المتماسك للدعوة الإسلامية في منهاج الله، عندئذ تصبح هذه
الآية الكريمة تمثل مرحلة من مراحل الدعوة ماضية مع الزمن كله حين تتوافر
ظروفها وشروطها، وأهم هذه الشروط أن تكون الدعوة الإسلامية بخصائصها
الربانية ماضية في الأرض على نهج واضح الأهداف، محدد المراحل، مستكمل
لشروطه الإيمانية، قائم على ركنين أساسيين هما: المنهاج الرباني، والواقع.
لا نستطيع هنا أن نوفي عرض خصائص الدعوة الإسلامية، ولكن منهاج الله
يعرضها العرض المفصل الميسر المعجز، وحسبنا هنا أن نشير إلى أهم هذه
الخصائص الربانية، الخصائص التي لم تأت من بشر، من لجنة أو عالم أو
سلطان، وإنما نزل بها الوحي الأمين.
مفهوم حزب الله:
ومن هذه الخصائص الربانية نستطيع أن ندرك حقيقة الجماعة والحزب
ومفهومها في كتاب الله، فقد وردت كلمة «حزب» في كتاب الله كثيراً، وأعطت
ظلالاً كثيرة أيضاً، ولنأخذ أولاً آيتين كريمتين نستدل بهما على ما نهدف إليه:
[ومن يتولَ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب لله هم الغالبون] [المائدة: 56] ،
[لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَ الله ورسوله]
[المجادلة: 22] .
إن «الحزب» إذن ليس شعاراً يُطلق أو مسمى يُعلن ولكنه خصائص تبرز
في ميدان الواقع، وجميع هذه الخصائص تنبثق من حقيقة الإيمان والتوحيد وركائزه، ومن أهم هذه الركائز: الولاء لله، ولرسوله؛ للنبوة الخاتمة القائدة، ثم للمؤمنين
ليكونوا أمة واحدة: [إنما المؤمنون إخوة ... ] [الحجرات: 10] .
إذن: هذه هي رابطة الدعوة الإسلامية، رابطة إيمان وأخوة في الله، لا
يمكن أن تتحقق في الواقع البشري إلا إذا تحقق الولاء الأول لله فكراً وتصوراً،
وشعوراً وعاطفة، وتطبيقاً وممارسة، ورأياً وموقفاً، فإذا لم يتحقق الولاء الأول لله
فأنّى لهذه الرابطة الربانية أخوّة الإيمان أن تتحقق، ويتبع ذلك أن يكون العهد الأول
مع الله، والحب الأكبر لله ولرسوله، والخشية والخشوع والتضرّع لله رب العالمين، حقيقة ثابتة في القلب، ويقينا يعمر حنايا النفس.
فمهمة الدعوة الإسلامية إذن أكبر من أن تكون كتاباً أو مقالة أو محاضرة تُلقى
ويتفرق الناس بعدها أشتاتاً، إنها جهد ومعاناة، وإشراف ومراقبة ومتابعة وتوجيه،
وبناء وإعداد، حتى ينهض الجيل المؤمن الذي تتوافر فيه الخصائص الربانية،
فيتابع المضيّ إلى سائر الأهداف المرحلية المحددة والأهداف الثابتة، على بصيرة
وهدى ويقين، على درب ممتد إلى الهدف الأكبر والأسمى رضوان الله والجنة
حيث تتعلق القلوب والأبصار منذ اللحظة الأولى وعلى الدرب كله، وحيث ترتبط
الدنيا بالآخرة على ميزان دقيق أمين، لينجو الإنسان في الدنيا من الفتنة برحمة الله، وينجو في الآخرة من عذاب النار برحمة الله.
إذن: لا تكون العشيرة ولا العائلة ولا الأرض ولا القوم هم أساس الولاء،
وإنما تأخذ هذه القيم منزلتها الحقيقية على أساس من منهاج الله، ليصوغ منهاج الله
روابط المؤمن كلها في الحياة الدنيا، فلا يصوغها الهوى والمصالح.
حين تحمل كلمة «الحزب» في واقعنا المعاصر هذه الخصائص الربانية كلها
نهجاً ودرباً وأهدافاً ورابطة فإنها تتساوى مع كلمة الدعوة الإسلامية.
وهذه الرابطة الإيمانية ليست مجرد شعار يطرح، ولكنها مسؤوليات وحقوق
وواجبات، عندئذ يكون التجمع تحت أي اسم من الأسماء المباحة ثمرة طيبة مباركة
لصدق الإيمان والتوحيد والدعوة إليهما والبذل من أجلهما، وهذا المنطلق في الدعوة
الإسلامية يقود إلى بناء الأمة المسلمة الواحدة في الأرض، ليكون هذا هو الهدف
الثابت على طريق الدعوة الإسلامية، على طريق الجنة، ونوجز هذه الأهداف
الثابتة بما يلي: الدعوة إلى الله ورسوله وإلى الإيمان والتوحيد، التعهد والتربية
والإعداد، بناء الجيل المؤمن، الجهاد في سبيل الله، بناء الأمة المسلمة الواحدة
التي يحكمها منهاج الله، عمارة الأرض بحضارة الإيمان.
حزبية مرفوضة:
وفي كتاب الله معنى آخر لكلمة «الحزب» و «الأحزاب» : [استحوذ
عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم
الخاسرون] [المجادلة: 19] .
[إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب
السعير] (فاطر: 6) .
وكذلك: [جند مَا هنالك مهزوم من الأحزاب ... ] الآيات [ص: 11-14]
[فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً، كل حزب بما لديهم فرحون] [المؤمنون: 53] .
حين ندرس هذه الآيات الكريمات، كل آية من خلال أجوائها في سورتها،
ومن خلال منهاج الله، نجد أن حزب الشيطان خارج عن منهاج الله، روابطه
الفتنة والفجور والفساد والظلم والطغيان، حين تفلت أفراده من ذكر الله ومن الولاء
لله والعهد مع الله، فنشأت روابط شتى وسبل شتى وأحزاب شتى يجتمعون على
المصالح والأهواء، ويفترقون على المصالح والأهواء.
الدعوة الإسلامية سبيل واحد، وغيرها سبل شتى، هذا ما علمنا إياه محمد -
صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: «خط لنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطاً ثم قال:» هذا سبيل الله «ثم خط خطوطاً
عن يمينه وشماله ثم قال:» هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو
إليه «ثم قرأ الآية: [وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا
السبل] » [1] .
أهم خصائص حزب الشيطان: أنهم يعبدون آلهة شتى، ولهم سبل شتى،
متفرقون على ذلك، تركوا الصراط المستقيم.
في واقعنا اليوم انتشرت كلمة «حزب» و «أحزاب» وما يتبع ذلك من
رايات وشعارات، هذه الأسماء والشعارات ليست هي التي تقرر حقيقة الحزب أو
الجماعة أو الطائفة أو غير ذلك من الأسماء، إن الذي يقرر حقيقتهم هو الخصائص
التي يلتقون عليها، والنهج الذي يرسمونه، والأهداف التي يسعون إليها.
عندما يصبح «التجميع» العددي هو هدف المسعى والجهد، تنتهي هنالك
خصائص الدعوة الإسلامية، ثم يبدأ التنازل التدريجي عما كان يرفعه الحزب من
شعارات، أما الدعوة الإسلامية فهمها الأول هو الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، ثم
الانتقال من هدف ثابت إلى هدف ثابت وفق منهجها الواضح.
كلمة «الحزب» في واقعنا أصبحت تحمل ظلالاً كئيبة من المعنى والممارسة، وتاريخاً مليئاً بالأحداث السوداء، «الحزب» اليوم أصبح يعني التفرغ للعمل
السياسي بعد عزله عن سائر ميادين النشاط، وأصبحت الدعوة إليه تعني: الولاء
الأول هو للحزب، والرابطة الأولى هي عضوية الحزب، وميدان الممارسة هو «
اللعبة السياسية» مع ما يتبعها من أساليب مستوردة من الغرب، ووسائل تسللت
إلينا من ساحات الوثنية!
الأحزاب أصبحت تعني اليوم الصراع الدائم المستمر على منصب أو نفوذ،
وانظر إلى معركة الانتخابات في أمريكا حيث تصبح الانتخابات ساحة لنشر
الفضائح، وميداناً تشترى الأصوات فيه وتباع، وتدور المساومات والمؤامرات
وأشكال الخداع المتعدّدة، حيث تسحق القيم وتسقط الشعارات.
في الدعوة الإسلامية لا تنفصل الغايات ولا الوسائل، بل تتساند كلها لتمضي
المسيرة تحقق الخير والصلاح، والحق والعدل، والأمن والمساواة في واقع الإنسان.
الدعوة الإسلامية بخصائصها الربانية هي وحدها تحمل أبعد عمق إنساني،
فهي حاجة البشرية كلها، حاجة الشعوب كلها، حاجة الإنسان.
الدعوة الإسلامية يجب أن تكون هي النظام العالمي الجديد، لا ما نسمعه اليوم
من افتئات على الحق، وادعاء باطل تحميه الصواريخ والطائرات والدبابات
لترتكب أسوأ أنواع الجرائم في تاريخ البشرية، والنظام العالمي الجديد الذي تدعو
له القوى الكبرى في الأرض يتبنى ما يسمونه «الديمقراطية» الليبرالية، وهذا ما
دعا إليه «فوكوياما» في مقالته «نهاية التاريخ» التي نشرتها «National
Inlerst» ، وطلع بضلاله هذا ليدعم القوى الإجرامية في الأرض، وليوجه
الدعوة إلى حرب الإسلام على إنه الخطر الذي يهدد الديموقراطية بعد سقوط الاتحاد
السوفيتي.
أمام الواقع الخطير الذي يجابهه المسلمون اليوم في حرب مكشوفة وقحة،
يجب على كل مسلم، وعلى كل حركة إسلامية أو دعوة أو حزب، أن تقف مع
نفسها موقف مراجعة وحساب، وتقويم ونظر لمسيرتها، حتى تعرف أخطاءها
وصوابها، ومدى توافر الخصائص الربانية في مناهجها وتطبيقها وممارساتها،
ومدى تجنبها العصبيات الإقليمية والقومية، حتى تمهد الطريق للقاء المؤمنين
الصادقين الذين يريدون الجنة والدار الآخرة، ينصرون الله ورسوله، وينصرون
دين الله، على درب جليّ واضح الأهداف، على بصيرة ونور وهدى.
لابد أن ندرك اليوم مع كثرة التجارب المريرة والمآسي الدامية أن المعركة
الحقيقية تبدأ في أنفسنا، فإذا انتصرنا هناك، هيأ الله لنا برحمته أسباب النصر في
فلسطين وكشمير وغيرهما، فهل سننهض إلى الوفاء بعهدنا مع الله.
أيها الناس، أيها الدعاة، أيها المسلمون! لا تخافوا على الإسلام، فللإسلام
رب سينصره على يد من يشاء من عباده، ولكن خافوا على أنفسكم حين تقفون بين
يدي الله تحاسَبُون عَمّا قدمتم لنصرة دين الله، فالحساب يومئذ شديد، والله سريع
الحساب.
[.. وإن تتولوا يستبدل قوماْ غيركم ثمَ لا يكونوا أمثالكم] [محمد: 38] .
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) أخرجه مالك وأحمد والنسائي، وصححه الحاكم.(99/11)
كلمة صغيرة
حديث ذو شجون
يطلق جل الإعلام العربي إطلاقات فضفاضة، ولكنها لا تتسع إلا للإسلاميين، مثال ذلك الصارخ: لفظة الإرهاب ومشتقاتها، ومن عجائب ذلك الإعلام أنه لم
يضع تعريفاً جامعاً مانعاً للإرهارب، حتى إنه بات في حس الكثيرين: أنه متى
أطلق لفظ إرهابي، فإنه يعني إسلامي، وهذا ادعاء باطل وافتراء مقصود.
ولكن حين يأتي الإرهاب من وراء البحار، أو حين يقوم به ذوو الدماء
الزرقاء! فإنه يسلم من هجمات ذلك الإعلام (المؤمم) ولا حديث حيئنذ عن الخطر
الداهم الذي ينتظر العالم، ولا عن العنف الذي سيعصف بالحضارة، ولا ...
لقد فجر (اليمين الأمريكي) مبنى فيدراليّاً في أمريكا، وحصلت انتحارات
جماعية لمتطرفين أجانب، وقام (الشين فين) الأيرلندي بانفجارات هزّت لندن،
والعنف الصهيوني يذيق الفلسطينيين كل يوم سوء العذاب.. وغير ذلك كثير.
ولم يسجن أحد من اليمين الأمريكي مدى الحياة، وما زال البريطانيون
يخطبون ود (الشين فين) الإرهابية، وزعيمهم تستقبله أمريكا بالأحضان، وأما
الصهاينة فهم محبوبو دعاة التطبيع، والهرولة إليهم جارية بمباركة (الإعلام
المشبوه) .
نقول لذلك الإعلام: شيئاً من الموضوعية، بل شيئاً من الحياء، كفى حقداً،
وكفى خبثاً.. أسفروا عن حقيقتكم ومواقفكم العدائية للإسلام ودعاته ... وعند الله
تجتمع الخصوم.(99/1)
افتتاحية العدد
يا دعاة الإسلام:
الائتلاف.. لا الاختلاف
بعد سقوط الدولة العثمانية، وتمزق العالم الإسلامي، سيطر الاستعمار على
ديار الإسلام، وأذاق المسلمين ألواناً من الذل والهوان، وسعى جاهداً لنزع الهوية
الإسلامية، وسلخ الأمة الإسلامية عن حضارتها وتاريخها، ثم خرج المستعمر بعد
أن زرع أذناباً علمانية من بني جلدتنا، يتكلمون بلساننا، أجسامهم نبتت في أرضنا، وقلوبهم وعقولهم تربت على فكر الغرب أو الشرق، واستمرت متعلقة برموزها
وحُدَاتُها هناك. وأصبح هؤلاء القوم أشد خطراً على المسلمين من أسيادهم
المستعمرين، حيث تفننوا في مسخ الأمة الإسلامية وإفسادها وسلب هويتها،
وخدعوا الشعوب بالشعارات البراقة والأطروحات الملفقة.
ولكن ماذا كانت النتيجة؟
دخلت الأمة في أنفاق مظلمة، وتعرضت لهزائم ونكسات متنوعة في شتى
المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية.. ولا تخرج الأمة من مأزق إلا وتدخل
في مأزق أشد منه إظلاماً وفساداً.. وكلما سقط قناع وانكشف ما وراءه صُنِعَتْ
أَقْنِعَةٌ أُخر، لمعت في وسائل الإعلام..
وفي هذا الجو المظلم من الزيف والخداع.. وفي هذه المستنقعات الآسنة من
التخلف والانحطاط.. ولدت الحركة الإسلامية المعاصرة من جديد..!
لقد ظن أعداء الإسلام أنه بسقوط الدولة العثمانية قد وئد الإسلام، فإذا
بالصحوة الإسلامية تقلب الموازين، وتزيل تلك الظنون والأوهام.
وعلى الرغم من القمع والتسلط الذي ووجهت به الحركة الإسلامية ورجالاتها، إلا أن مطارق الظلم لم تزدها إلا قوة وتجذراً وصلابة.
لقد امتدت هذه الأغصان الكريمة، وتنامت بصورة مذهلة أدهشت جميع
المراقبين والمتابعين لسير الأحداث، وأصبحت الصحوة الإسلامية هي الشغل
الشاغل للساسة والكتاب العلمانيين ووسائل الإعلام، وبخاصة بعد السقوط المفاجئ
للمعسكر الشيوعي.
لقد درجت وسائل الإعلام الغربية على التحذير من ذلك (الغول) القادم من
المشرق الإسلامي، وتوالت التقارير السياسية و (التحليلات) الإعلامية، تشرح هذه
الظاهرة، وتحدد معالمها وأبعادها، وترسم الخطط والاستراتيجيات السياسية
والعسكرية لمواجهتها.
ماذا تملك الصحوة الإسلامية حتى يهابها أعداء الله؟ !
هل تملك التقنية..؟ !
هل تملك الاقتصاد..؟ !
هل تملك القوة..؟ !
هل تملك السلاح..؟ !
لا تملك شيئاً من ذلك على الإطلاق، ولكنها تملك هذا الدين الرباني الذي
أنزله الله ليبقى إلى قيام الساعة، قال (تعالى) : [هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] [التوبة: 33] .
لقد أنجزت الصحوة الإسلامية خلال العقود الماضية إنجازات هائلة، والتفت
الشعوب الإسلامية حولها بكل ثقة واطمئنان، حتى أصبحت بحمد الله بعثاً شمل
معظم طبقات الأمة، فهذه المسيرة المباركة سائرة، ولن تتوقف بإذن الله (تعالى) .
ولكن..! أليس من العقل والحكمة.. بل ومن الشرع: أن نعاود النظر في
هذه المسيرة، ونقلب الطرف هنا وهناك، ونحاول بكل جدية وإشفاق تقويم هذه
المسيرة سلباً وإيجاباً، حتى نضمن سلامتها واستقامتها على الطريق المستقيم،
خاصة في هذا العصر الذي تمر فيه الصحوة الإسلامية بمنعطف خطر بالغ ... الأهمية..؟ !
إن ثمة حقيقة دعوية تدمي القلب، وتحزن النفس، ولا تحتاج إلى كبير جهد
أو عناء لإثباتها، وذلك: أن الإنسان لا يكاد يذهب إلى بلد من بلاد الإسلام إلا
ويجد الدعاة أحزاباً متفرقين وأشتاتاً متناحرين.
ونظرة سريعة في أحوال العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، تُظْهِرُ لنا
بجلاء ذلك التصدع الداخلي في صفوف الحركة الإسلامية: فالفرقة والتنازع
والتدابر سمة مشتركة لدى معظم العاملين للإسلام، فهي القاسم المشترك الأكبر
بينهم:
الجماعات الإسلامية في مصر لا تحصى ...
الحركة الإسلامية في سوريا تتمزق وتتنازع، وكانت مأساة حماة ثمرة مرة
لذلك..
الحركة الإسلامية في كشمير تجاوزت عشرين حزباً..
الجهاد الأرتيري يبدأ بالتوحد والائتلاف، وينتهي بالفرقة وتبادل التهم..
الصراع الحزبي في الباكستان يؤدي إلى هزيمة الإسلاميين في الانتخابات
هزيمة ساحقة..
الأحداث الدامية في أفغانستان مثال صارخ للفوضى الحزبية والتنظيمية..
أحداث الخليج شرقت بالمسلمين وغربت، وكشفت ما كان مستتراً..
وهكذا في الأردن، والخليج، واليمن، والسودان، والمغرب العربي ...
وتجول حيثما شئت داخل هذه المنظومة الإسلامية، فالظاهرة هي هي، تزداد حيناً
حتى تصل إلى الصراع وتشابك الأيدي، وتقل حيناً آخر، ولكنها كما قال الشاعر:
أرى تحت الرماد وميض نار ... وأخشى أن يكون لها ضرام
إن أي متابع لمسيرة العمل الإسلامي المعاصر يلحظ هذا الشرخ الممتد في
الجسم الإسلامي، ورغم أن الأصل الذي حث عليه الإسلام، وتواترت به
النصوص، واجتمعت عليه الأمة، هو الائتلاف والاتحاد، وأن تكون الأمة المسلمة
يداً واحدة على من سواها، يسعى بذمتها أدناها، إلا أن رياح الفرقة وأعاصيرها
تزداد يوماً بعد يوم، وما تزيدها الأحداث إلا تجذراً واتساعاً، وكان الظن أن المحن
والشدائد سوف تقود إلى التوحد، أو على أدنى الأحوال إلى التنسيق واتخاذ مواقف
مشتركة، ولكن التجارب الماضية والجارية أظهرت شيئاً آخر، فعقدة التفرد
والتميز ملازمة لأكثر التجمعات، وكل تجمع يعتقد بأنه الإمام الذي تثنى عنده
الركب، ويلتف حوله الناس، ويسلّم بين يديه القريب والبعيد، ويجتمع عنده
العرب والعجم ... !
قلب الحركة الإسلامية يغلي ويتمزق من الداخل بسبب هذه الصراعات
المستمرة بين الإسلاميين، تلك التي تغذيها الحزبية الطاغية في الصفوف، والتي
أنهكت الجسم المسلم وحاصرته، وأصبحت عند بعض فصائله معيار الحق وأساسه؛ فالحق ما قاله القادة، ولو خالف من خالف، والباطل ما ردوه، ولو وافق من
وافق..!
إذا هدأت الأمور بين بعض الدعاة لا ترى إلا الابتسامات الصفراء الباهتة،
والمجاملات الباردة، مشوبة بشيء من التوجس والحذر والشك، وقد يتحول ذلك
في بعض الأحيان إلى تراشق بالتهم وإسفاف في العبارات ولغط أجوف ومهاترات
تطول ولا تنتهي، وإذا دعت الضرورة الحزبية شمر المشمّر عن ساعديه واستل
لسانه، وأخذ يفري في أعراض إخوانه المسلمين، فالغيبة والنميمة محرمتان على
العوام، أما بين الدعاة فالمصلحة الحزبية تجيزهما..! !
أما آن لنا أن ندرك بعد كل هذه التجربة أن الاعتصام بحبل الله المتين
والاجتماع على الهدى المستقيم هو القوة الحقيقية التي نستطيع أن نواجه بها ... الأعداء..؟ !
قال الله (تعالى) : [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [آل عمران: 105] .(99/4)
دراسات قرآنية
مصادر التفسير
(4)
تفسير الصحابة للقرآن
- الحلقة الثانية -
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
كانت الحلقة السابقة هي الأولى من تفسير الصحابة، والرابعة من هذه
السلسلة، وقد تحدث فيها الكاتب عن: قدر الصحابة، ثم عن أهمية تفسيرهم، ...
ويواصل في هذه الحلقة بقية الموضوع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
مصادر الصحابة في التفسير:
للتفسير مرجعان:
الأول: ما يَرْجِعُ إلى النقل.
والثاني: ما يرجع إلى الاستدلال [1] .
ويمكن توزيع مصادر الصحابة على هذين المرجعين؛ لأن تفاسير الصحابة:
منها ما يرجع إلى النقل، ومنها ما اعتمدوا فيه على استنباطهم، وهم فيه مجتهدون.
تفصيل مصادر الصحابة:
أولاً: ما يرجع إلى النقل، ويندرج تحته قسمان:
الأول: ما يرجع إلى المشاهدة، وتحته ما يلي:
1- أسباب النزول.
2- أحوال من نزل فيهم القرآن.
وهذان بينهما تلازم في حالة ما إذا كان سبب النزول متعلقاً بحال من أحوال
من نزل فيهم القرآن.
الثاني: ما يرجع إلى السماع، ويندرج تحته ما يلي:
1- ما يروونه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من التفسير النبوي الصريح.
2- ما يرويه بعضهم عن بعض.
3- ما يروونه من الغيبيّاتِ.
ثانياً: ما يتعلق بالفهم والاجتهاد (الاستدلال) ، ويندرج تحته ما يلي:
1- تفسير القرآن بالقرآن.
2- تفسير القرآن بأقوال الرسول مما ليس نصّاً في التفسير.
3- التفسير اللغوي (المحتملات اللغوية) .
4- المحتملات المرادة في الخطاب القرآني، أو ما يرجع إلى احتمال النص
القرآني أكثر من معنى.
تفصيل هذه المصادر:
أولاً: ما يَرْجِعُ إلى النّقْلِ:
الأول: ما يتعلق بالمشاهدة:
ويعتبر هذا مما تميّز به الصحابة (رضي الله عنهم) ؛ لأن المشاهدة لا يمكن
أن تتأتّى لغيرهم؛ ولذا: فإن الأصل أن ما ورد من هذا الباب فإن مَحَلّهُ القبول بلا
خلاف.
ويدخل فيما يتعلق بالمشاهدة ما يلي:
1- أسباب النزول:
لقد سبق الحديث عن أن مشاهدتهم لأسباب النزول كانت من أهم أسباب
رجوع من جاء بعدهم إلى تفسيرهم، والاعتماد عليه في فهم الآية.
والمراد بسبب النزول: ما كان صريحاً في السببية، ويظهر ذلك من خلال
النصّ المروي في السبب؛ كأن يقول الصحابي: كان كذا وكذا فنزلت الآية، أو
يقع سؤال فينزل جوابه، أو غيرها مما يمكن معرفته من خلال النص بقرائن تدل
على السببية الصريحة.
2- معرفة أحوال من نزل فيهم القرآن:
إن معرفة هذه الأحوال تفيد في درايتهم بقصة الآية، الذي هو أشبه بسبب
النزول، بحيث لو فقدت هذه المعرفة لوقع الخطأ في فهم المراد بالآية، كما وقع
لعروة بن الزبير (رضي الله عنه) في فهم قوله (تعالى) : [إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن
شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..] ... [البقرة: 158] .
قال عروة: (قلت لعائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا يومئذ
حديث السّن أرأيتِ قول الله (تبارك وتعالى) : [إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ
فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أََوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..] [البقرة: 158] فما
أرى على أحدٍ شيئاً ألا يطّوف بهما.
فقالت عائشة: كَلاّ، لو كانت كما تقول كانت: (فلا جناح عليه أن لا يطوّف
بهما) ، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يُهِلّون لمناة وكانت مناة حَذْوَ قُدَيدٍ
وكانوا يتحرّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأنزل الله: [إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ
فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أََوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..] [البقرة: 158] ) [2] .
ويلحظ من هذا المثال: أن سبب النزول قد يكون من أجل حالٍ من أحوال من
نزل فيهم الخطاب من العرب أو اليهود، وبهذا يكون المثال صالحاً للتمثيل به في
الأمرين.
ومما نزل بسبب حال من أحوال اليهود، ما روى جابر (رضي الله عنه) قال: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: [نساؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..] [البقرة: 223] [3] .
تنبيه:
للصحابة فيما يتعلق بالمشاهدة حالتان:
الأولى: أن يكون الصحابي ممن حضر سبب النزول، أو عايش الأحوال
التي نزل بشأنها القرآن، وهذا هو الذي ينطبق عليه الحديث هنا.
الثانية: أن يكون سمعه من صحابي آخر، وبهذا فإنه يدخل في القسم الذي
بعده.
الثاني: ما يتعلق بالسماع:
يشمل هذا القسم كل الروايات التي يرويها الصحابي عن غيره، ويدخل في
هذا القسم ما يلي:
1- الرواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
والمراد به: ما يروونه من التفسير النبوي الصريح، وقد يقع تفسيره جواباً
لأسئلتهم، أو أن يفسّر لهم ابتداءً.
* ومن الأول: ما رواه مسلم في تفسير قوله (تعالى) : [.. لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ..] [التوبة: 108] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر
المسجد الذي أسس على التقوى؟ .
قال: قال أبي: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت
بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيّ المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال:
فأخذ كفّاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، لِمسجد
المدينة.
قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره) [4] .
* ومن الثاني: ما رواه البخاري عن أبي ذرّ، قال: (كنت مع النبي -صلى
الله عليه وسلم- في المسجد عند غروب الشمس، فقال: يا أبا ذر، أتدري أين
تغيب الشمس؟ .
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله (تعالى) :
[وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] ) [5] .
2- ما يرويه الصحابي عن الصحابي:
قد تكون الرواية عن الصحابي مجردة من السؤال، بحيث يورد الصحابي
تفسير الصحابي إيراداً من غير سؤال، أو تكون عن سؤالٍ؛ ومنه: ما رواه
البخاري عن ابن عباس في قوله (تعالى) : [.. وَإن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] [التحريم: 4] .
قال ابن عباس: أردت أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمكثت سنة، فلم أجد له موضعاً، حتى
خرجت معه حاجّاً، فلما كنّا بظهران ذهب عمر لحاجته، فقال: أدركني بالوضوء، فأدركته بالإداوة، فجعلت أسكب عليه، ورأيت موضعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان تظاهرتا؟
قال ابن عباس: فما أتممت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة) [6] .
ويدخل في باب الرواية: ما كان من أسباب النزول، أو أحوال من نزل فيهم
القرآن، إذا كان الصحابي لم يحضر السبب أو الحال، فإن طريقه في ذلك:
الرواية، وروايته مقبولة في ذلك، وإن لم ينسبها إلى من رواها له من الصحابة،
وذلك لأن الصحابة عدول باتفاق الأمة.
ويمكن التمثيل لهذا بما يرويه صغار الصحابة أو من تأخر إسلامهم من أحداثٍ
لم يحضروها أو يعاصروها.
ومن أمثلة ذلك: ما رواه: أبو هريرة، وابن عباس في تفسير قوله (تعالى) : ... [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] [الشعراء: 214] من أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- صعد الصفا، ونادى بطون قريش.. إلى آخر الحديث [7] .
وذلك أن أبا هريرة أسلم في المدينة، وابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث
سنين، والحدث الذي يرويانه في تفسير الآية كان بمكة، وكان في أوائل سني
البعثة.
3- ما يروونه من المغيّبات:
تشمل الأمور الغيبية ما مضى، وما سيكون، والأخبار الماضية إما أن يكون
مصدرها الرسول، وهذا هو المراد، وإما أن يكون مصدرها أهل الكتاب، وهذا
يدخل في البحث السابق.
أما الأخبار المستقبلية، فالغالب أنها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
وقد يرد منها ما هو عن أهل الكتاب.
وها هنا مسألة تحتاج إلى بحث، وهي: كيف نُميّزُ ما روي عن أهل الكتاب
مما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ .
الجواب: (................) [*] .
هذا.. وما يُروى عن أهل الكتاب، فقد اصطلح العلماء على تسميته بـ
(الإسرائيليات) . وهي عند الصحابة على قسمين من حيث التحمّل في الرواية:
الأول: السماع منهم، وهذا يأخذونه عن بعض مسلمة أهل الكتاب: كابن
سلام من الصحابة، وكعب الأحبار وأبي الجلد من التابعين.
ويظهر من استقراء المرويات الإسرائيلية أن الصحابة لا يسندون مروياتهم
في الغالب مما يجعل الباحث لا يجزم بالأخذ المباشر عن مُسِلمةِ بني إسرائيل، بل
قد يكون مما اطّلعوا عليه وقرؤوه، والله أعلم.
ومن أمثلة الرواية عن عبد الله بن سلام: ما رواه ابن مُجلّز، قال: (جلس
ابن عباس إلى عبد الله بن سلام، فسأله عن الهدهد، لم تفقّده سليمان من بين الطير؟
فقال عبد الله بن سلام: إن سليمان نزل منزلة في مسيرٍ له، فلم يَدْرِ ما بُعْدُ
الماء، فقال: من يعلم بُعْدَ الماء؟ ، قالوا: الهدهد، فذلك حين تفقّده) [8] .
الثاني: ما يكون من طريق الوجادة، وهو ما يقرؤونه من كتب أهل الكتاب، كما حصل لعبد الله بن عمرو بن العاص من إصابته زاملتين فيها كتبٌ من كتب
أهل الكتاب [9] .
اسْتِطْرَادٌ:
مما يحسن توجيه النظر إليه في هذا المبحث، أن بعض المعاصرين قد شنّ
غارة على وجود مرويات بني إسرائيل في تفسير الصحابة، وعدّ ذلك من عيوب
تفسيرهم.
والذي يجب التنبّه له أن الحديث عن الإسرائيليات يَطَال سلف الأمة من
المفسرين: صحابةً، وتابعين، ولقد كان هؤلاء أعلم الناس بالتفسير، وأعظم
الذائدين عن الدين كل تحريف وبطلان.
لقد تجوّز سلف هذه الأمة في رواية الإسرائيليات، أفلم يكونوا يعرفون حكم
روايتها ومنزلتها في التفسير؟ .
ألم يكونوا يميّزون هذه الإسرائيليات التي استطاع المتأخرون تمييزها؟ !
وإذا كان ذلك كذلك؟ فما الضرر من روايتها؟ .
ألا يكفي المفسر بأن يحكم على الخبر بأنه إسرائيلي، مما يجعله يتوقف في
قبول الخبر؟ .
إن بحث (الإسرائيليات) يحتاج إلى إعادة نظر فيما يتعلق بمنهج سلف الأمة
في روايتهم لها، ومن أهم ما يجب بحثه في ذلك ما يلي:
1- جَمْعُ مروياتهم فيها، وجَعْلُ مرويات كل مفسرٍ على حِدَةٍ.
2- محاولة معرفة طريق تحمّل المفسر لها، وكيفية أدائه لها، فهل كان
يكتفي بعرضها ثقةً منه بتلاميذه الناقلين عنه؟
أو هل كان ينقدها، ويبين لتلاميذه ما فيها؟
3- ما مدى اعتماد المفسر عليها؟
وهل كان يذكرها على سبيل الرواية لما عنده في تفسير هذه الآية، من غير
نظر إلى صحة وضعف المروي؟
أوْ هل كان يرويها على سبيل الاستئناس بها في التفسير؟
أو هل يعتمد عليها، ويبني فهم الآية على ما يرويه منها؟
تلك المسائل وغيرها لا يتأتّى إلا بعد جمع المرويات، واستنطاقها لإبراز
جوابات هذه الأسئلة وغيرها مما يمكن أن يَثُورَ مع البحث.
ثم بعد هذا يمكن استنباط منهج السلف وموقفهم من الإسرائيليات في التفسير.
والله أعلم.
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العلم: إما نقلٌ مُصَدّقٌ، وإما استدلال محقّقٌ) (مقدمة في أصول التفسير، ص55) .
(2) رواه البخاري (فتح الباري، ج8 ص24 25) .
(3) رواه البخاري (فتح الباري، ج8 ص37) .
(4) رواه مسلم في صحيحه (رقم 1398) .
(5) انظر: البخاري (فتح الباري، ج8 ص402) .
(6) رواه البخاري (فتح الباري، ج8 ص527) .
(7) انظر روايتهما في: صحيح البخاري (فتح الباري، ج8 ص 360) .
(*) جواب هذا السؤال يحتاج بحثاً خاصّاً، والمراد هنا الإشارة إلى هذا الإشكال فقط.
(8) تفسير الطبري، ج19 ص 143 وانظر: سؤال ابن عباس لأبي الجلد في تفسير الطبري: ج1 ص 151، 13، 123.
(9) رواه البخاري (فتح الباري، ج1 ص167) .(99/18)
دراسات تربوية
من ثمرات اليقين باليوم الآخر
(2)
بقلم:عبد العزيز بن ناصر الجليل
تطرق الكاتب في الحلقة الأولى إلى بعض ثمار الإيمان باليوم الآخر، وهي:
الإخلاص لله (تعالى) والمتابعة للرسول، والحذر من الدنيا، والزهد فيها، والصبر
على شدائدها، والتزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات، واجتناب المعاصي،
ويواصل الكاتب في هذه الحلقة ما تبقى من هذا الموضوع.
... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
4- الدعوة إلى الله (عز وجل) والجهاد في سبيله:
وهذا يدخل في الثمرة السابقة، حيث إنه من أفضل القربات والأعمال
الصالحة، وقد أفردته هنا باعتباره ثمرة مستقلة من ثمار اليقين باليوم الآخر، وذلك
لما يلي:
(أ) فضل الجهاد والدعوة إلى الله (سبحانه) وأثرهما في إنقاذ الناس بإذن
ربهم من الظلمات إلى النور، ولذلك كان من أحب الأعمال إلى الله (عز وجل) ،
قال (تعالى) : [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ
المُسْلِمِينَ] [فصلت: 33]
(ب) وصف الرسول للجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام.
في الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفيه أيضاً: حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله، لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال،
ولا في سبيل الحمية.. وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون
كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود، كما
قال (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ
أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ]
[التوبة: 111] .
(ج) في الحديث عن الجهاد في سبيل الله (عز وجل) ومحاربة الفساد وتعبيد
الناس لرب العالمين أكبر رد على الذين يرون أن التعلق باليوم الآخر والاستعداد له
يعني اعتزال الناس، وترك الدنيا لأهلها، والاشتغال بالنفس وعيوبها، وترك
الحياة يأسن فيها أهلها.
نعم هذا ما يراه بعض المتصوفة وأصحاب الفهم المنحرف لحقيقة الدنيا
والآخرة.. ( [لقد كان] الناس في فترات من الزمان يعيشون سلبيين، ويَدَعون
الفساد والشر والظلم والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا مع ادعائهم الإسلام هم
يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف؛ ولأن يقينهم
في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ... فما يستيقن
أحد من لقاء الله في الآخرة؛ وهو يعي حقيقة هذا الدين، ثم يعيش في هذه الحياة
سلبيّاً أو متخلفاً أو راضياً بالشر والفساد. إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا وهو
يشعر أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في
الدنيا خالصة له يوم القيامة ... ، ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى
والتضحية حتى الشهادة، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة ... إنه يعلم من دينه أن
الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا
صغيرة زهيدة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى) [1] .
5- اجتناب الظلم بشتى صوره:
نظراً لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر، وأنه لا شيء
يمنع النفس من ظلم غيرها في نفس أو مال أو عرض: كاليقين بالرجوع إلى الله
(عز وجل) ، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه، فإذا تذكر
العبد هذا الموقف العصيب الرهيب، وأنه لا يضيع عند الله شيء، كما قال (تعالى) : [وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ
خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] [الأنبياء: 47] وقوله (تعالى) [وَقَدْ خَابَ مَنْ
حَمَلَ ظُلْماً] [طه: 111] ، إذا تذكر هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقن
بتحققها فلا شك أن ذلك سيمنعه من التهاون في حقوق الخلق، والحذر من ظلمهم
في دم أو مال أو عرض، خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص
على استيفاء الحق من الخصم، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد فيه
أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فضلاً عن غيرهم من الأباعد،
ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات.
فياليتنا نتذكر دائماً يوم الفصل العظيم، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس،
ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد
العظيم، حتى لا يجور بعضنا على بعض، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض، ولا
نتكلم إلا بعلم وعدل، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله (عز وجل)
وخوف الوقوف بين يديه، واليقين الحق بأن ذلك كائن في يوم لا ريب فيه؛ قال
(تعالى) : [إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ]
[الزمر: 30، 31] .
6- حصول الأمن والاستقرار، والألفة بين الناس بالحكم بشريعة الله:
إن مجتمعاً يسود بين أهله الإيمان بالله (عز وجل) واليقين بالآخرة والجزاء
والحساب، لا شك أنه مجتمع تسوده المحبة ويعمه السلام؛ لأن تعظيم الله (سبحانه)
سيجعل هذه النفوس لا ترضى بغير شرع الله (عز وجل) بديلاً، ولا تقبل
الاستسلام إلا لحكمه، وهذا بدوره سيضفي الأمن والأمان على مثل هذه المجتمعات، لأن أهلها يخافون الله ويخافون يوم الفصل والجزاء، فلا تحاكم إلا لشرع الله،
ولا تعامل إلا بأخلاق الإسلام الفاضلة: فلا خيانة ولا غش ولا ظلم، ولا يعني هذا
أنه لا يوجد في المجتمعات المسلمة من يظلم أو يخون أو يغش، فهذا لم يسلم منه
عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة، لكن هذه المعاصي تبقى فردية، يؤدّب أفرادها
بحكم الله (عز وجل) وحدوده، إذا لم يردعهم وازع الدين والخوف من الله،
والحالات الفردية تلك ليست عامة، أما عندما يقل الوازع الديني والخوف من
الآخرة، ويكون التحاكم إلى أهواء البشر وحكمهم فهذا هو البلاء العظيم والفساد
الكبير: حيث تداس القيم والحرمات، ويأكل القوي الضعيف، وبالتالي: لا يأمن
الناس على أديانهم ولا أنفسهم ولا أموالهم ولا أعراضهم، وكفى بذلك سبباً في عدم
الأمن والاستقرار، وانتشار الخوف، واختلال حياة الناس.
7- تقصير الأمل وحفظ الوقت:
إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد: طول الأمل،
والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة، واغترار بزينة
الحياة الدنيا، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل
الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها،
وأضاعت من أوقاتها. ولكن اليقين بالرجوع إلى الله (عز وجل) والتذكر الدائم
لقصر الحياة وأبدية الآخرة وبقائها، هو العلاج الناجع لطول الأمل وضياع الأوقات.
يقول ابن قدامة (رحمة الله) : (واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان:
أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل.
أما حب الدنيا: فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل
على قلبه مفارقتها، فامتنع من الفكر في الموت، الذي هو سبب مفارقتها، وكل من
كره شيئاً دفعه عن نفسه.
السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب
الموت مع الشباب، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل
من العشرة؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، وإلى أن يموت شيخ قد يموت
ألف صبي وشاب، وقد يغتر بصحته، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، وإن
استبعد ذلك) [2] .
8- سلامة التفكير وانضباط الموازين وسمو الأخلاق:
لا يستوي من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوقن بيوم الحساب والجزاء ولا يغفل
عنه، ومن لا يؤمن بالآخرة، أو يؤمن بها ولكنه في لهو وغفلة عنها، لا يستويان
أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فيوضحه قوله (تعالى) : [لا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ] [الحشر: 20] .
وأما في الحياة الدنيا فلا يلتقي أبداً من يعلم أن له غاية عظيمة في هذا الحياة،
وأن مرده إلى الله (عز وجل) في يوم الجزاء والحساب والنشور، مع من لا يعلم
من هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها، وأنها كل شيء عنده، وهو عن الآخرة من
الغافلين.
إنهما لا يلتقيان في التفكير، ولا في الميزان الذي توزن به الأشياء والأحداث، ولا في الأحكام، وبالتالي: فبقدر ما تسمو أخلاق الأول وتعلو همته لسمو منهجه
وميزانه بقدر ما تسفل وترذل أخلاق الآخر لسفالة تصوره وفساد ميزانه. قال
(تعالى) في وصف أهل الدنيا: [يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ
هُمْ غَافِلُونَ] [الروم: 7] .
9- الفوز برضا الله (سبحانه) وجنته، والنجاة من سخطه والنار:
وهذه ثمرة الثمار، وغاية الغايات، ومسك الختام في مبحث الثمار، قال
(تعالى) : [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] [آل عمران: 185] .
يقول الشيخ السعدي (رحمه الله تعالى) عند قوله (تعالى) : [فَمَن زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] : (أي: حصل له الفوز العظيم بالنجاة من العذاب
الأليم، والوصول إلى جنات النعيم، التي فيها: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ومفهوم الآية: أن من لم يزحزح عن النار، ويدخل
الجنة، فإنه لم يفز، بل قد شقي الشقاء الأبدي، وابتلي بالعذاب السرمدي، وفي
هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه، وأن العاملين يجزون فيه بعض
الجزاء مما عملوه، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه) [3] .
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا
الجلال والإكرام، نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار
وما قرب إليها من قول وعمل، ونسألك أن لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ
علمنا، يا حي يا قيوم، يا أرحم الراحمين.
__________
(1) اليوم الآخر في ظلال القرآن، ص6.
(2) مختصر منهاج القاصدين، ص367 368.
(3) تفسير السعدي، ج1 ص 467 468.(99/24)
خواطر في الدعوة
الحق والباطل
محمد العبدة
وصف الباطل في القرآن الكريم بأنه (زهوق) ، أي: من طبيعته أن يتلاشى
ويضمحل، وتخرج أنفاسه مرة بعد مرة، والتعبير بالفعل الثلاثي (زهق) دليل على
أن الهلاك من طبيعته، ومن معاني الحق: الثبات والصحة، [خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ] [الزمر: 5] ، [وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ] [القمر: 3] ، (أي: كل
شيء إلى غاية، فالحق يستقر ثابتاً ظاهراً، والباطل يستقر زاهقاً ذاهباً) [1] ،
وهذا من سنن الله الكونية والشرعية، [بلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا
هُوَ زَاهِقٌ] [الأنبياء: 18] وقد جرت سنته في خلقه بأن الضعيف ينتصر بالحق
على القوي، وأن الحق أكبر من أن يُكافَح، ولئن ثبت الباطل أمامه مرة، فقلما
يثبت أخرى [وَيَمْحُ اللَّهُ البَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ] [الشورى: 24] ، أي: من عادته
ذلك، وقال (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ] [يونس: 81] أي: لا
يثبته ولايديمه، ولكن يسلط عليه الدمار.
فإذا كانت هذه سنته في خلقه، وإذا كان الباطل بهذه المثابة وهذه المنزلة،
فلماذا نجد أهل الحق مدفوعين مقموعين؟ ولماذا نجد أن حقوقهم مهضومة وأمورهم
ضعيفة؟ ولماذا نرى الباطل قويّاً منتفشاً، قد زرع الأرض طولاً وعرضاً، وصال
وجال حتى ظُن أن لن يبيد! ... أيتغلب الباطل على الحق؟ والكون كله قائم على
الحق [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً] [آل عمران: 191] ونواميس الطبيعة وقوانينها
قائمة على الحق، والشريعة المنزلة قائمة على الحق، فالكل من عند الله.
لا بد أن المسلمين مقصرون في اتباع الحق والتمسك به، فسنن الله لا تتخلف
[ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً] [طه: 112] ، بل إن المسلمين يقومون بأعمال تفسد عليهم أصل الحق الذي معهم، حتى كثر
الباطل في هذه الأيام، وعربد وتكبر (وإنما ثبات الباطل وتماسكه إنما يكون بالتوكؤ
على أركان من الحق: كالنظام، ومراعاة سنن الله في الخلق، والأخلاق والسجايا
الفاضلة، كالصدق والأمانة، فالحق ثابت في نفسه، والباطل ثابت به، فلو تداعت
أركان الحق عند هؤلاء لسقط الباطل) [2] ومن الأشياء المشاهدة لكل ذي بصيرة،
والتي يراها الإنسان في كل آن: أن العاقبة للمتقين، لأهل الصدق والعدل والأمانة، وإن ظهر في البداية أهل الظلم والفساد.
__________
(1) تفسير ابن عطية، ج14 ص142.
(2) مجلة المنار، مجلد 2 ص 646.(99/30)
من قضايا المنهج
الفاعلية.. طريق الحضارة
محمد محمد بدري
الإنسان في أي أمة هو أساس الحضارة، وصعود حضارة أو هبوطها دائماً ما
يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى فاعلية الإنسان، فإذا اتسم سلوك الإنسان في أي أمة
بالفاعلية، كان النهوض الحضاري لهذه الأمة.. أما إذا انعدمت فاعلية الإنسان،
وتوارى جهده فإن مستقبل هذه الأمة لا يحمل لها إلا التخلف والانحطاط الحضاري.
ولقد كان (الإنسان) في الأمة الإسلامية هو مدار الحركة الحضارية، وتمثل
حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام والأجيال الأولى من
المسلمين هذه الحقيقة تمثيلاً واضحاً.
وإذن: فقد كان الإنسان حاضراً ومؤثراً في بناء الحضارة الإسلامية.. وإلا
(فمن الذي دخل في الصراع مع الشرك حتى قضى عليه؟ ، من الذي نشر الإسلام
وما جاء به من الهداية والحق والعدل والخير؟ ، دماء مَنْ جرت في سبيل إنقاذ
الإنسان المسحوق من عبادة العباد وهدايته إلى عبادة الله وحده؟ ، من الذي ترجم
نتاج الحضارات الأخرى، واستخرج منها حضارة مستقلة بصبغة إسلامية؟ ..
ألم يفعل كل ذلك وغير ذلك (الإنسان) المسلم الذي كرمه الإسلام وأعاد إليه
حقيقته الإنسانية في الواقع والحياة بعد أن كان مستلباً، عبداً للشركاء والأنداد) [1] .
لقد فهم الصحابة (رضوان الله عليهم) والأجيال الأولى من المسلمين: أن
منهاج الله الذي أنزله على رسوله _صلى الله عليه وسلم-، هو منهاج للحياة
البشرية (يتم تحقيقه في حياة البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، وفي حدود
الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، ويبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر
عندها، حينما يتسلم مقاليدهم، ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم
البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة [2] وليس بطريقة خارقة غامضة
الأسباب! !
ومن هنا: كانت حركة المسلمين الأوائل في سبيل بناء الأمة الإسلامية
والحضارة الإسلامية تقوم على أساس أن العمل وحده هو الذي يخط مصير الأمة في
واقع الحياة، وأن عرق الأحياء في عمل جماعي مشترك هو الذي يتكفل ببناء
حضارة هذه الأمة، وأن وجود الحق في الأمة وحتى الانتساب إليه لا يكفي في
التمكين له في الأرض، إلا أن يكون من يحمل هذا الحق (يعمل) من أجل تمكينه
ونصرته.
(وانطلاقا من هذه المقدمة الموجزة، نصل إلى تحديد معلم مهم من معالم
الأزمة التي تمر بها اليوم عقلية كثير من المسلمين، هذه العقلية التي غدت طافحة
بالأفكار النظرية المجردة، ولكنها ما تزال على الرغم من ذلك عاجزة عن وضع
هذه الأفكار موضع التنفيذ العملي، أو هي ما تزال مقصرة في تسخير الأفكار
بطريقة واقعية، تجعلها على أكبر قدر من الفاعلية.. في حين أن أصول هذه
الأفكار نفسها قد نهضت في زمن بأمتنا بل وبالجنس البشري كله نهضة تفوق
الخيال) [3] .
إن المسلمين يمتلكون نظرية صحيحة ومنهجاً متكاملاً، منّ الله به عليهم يوم
أكمل لهم الدين وأتم عليهم نعمته، ولكنهم في واقع الحياة يعانون من الاستلاب
الحضاري وانطفاء الفاعلية.. ولذلك؛ فإنهم يزحفون وراء غبار الركب البشري مع
الزاحفين المنقطعين..
إن الأفكار تبقى (ميّتة) حتى لو كانت صادقة وصحيحة حين لا تكون ذات
(فاعلية) في إطار زمني محدد، والأشياء تصبح باهتة ومجرد أكداس إذا لم تكن
متأتية عن حركة الحضارة ومتسقة مع وظيفتها، والأشخاص يتحولون إلى البداوة
وعدم التحضر عند فقدهم للروابط التي تفسر اجتماعهم وعملهم المشترك في سبيل
أهدافهم الحضارية.
إن التقدم أو التخلف لا يعتمد على الأفكار الصحيحة فقط، وإنما يعتمد أيضاً
على أسلوب الحياة الذي ينتجه أفراد الأمة في سبيل تحقيق أهدافها..
ولكي نوضّح أثر أسلوب الحياة على سلوك أفراد الأمة في سبيل تحقيق
أهدافها، نتصور (لو أن أنساناً سار في البلاد الشرقية الإسلامية، وتنقل في
تطوافه من مدينة جاكرتا متجهاً إلى أقصى الغرب حتى بلغ مدينة طنجة، ومر في
مسيرته هذه على مختلف البلاد الواقعة على محور: جاكرتا/طنجة، لوجد ظواهر
اجتماعية تكاد تسيطر على هذه البلاد جمعيها.
ولو أن هذا الإنسان نفسه بعد رحلته الأولى شرع في رحلة ثانية على محور
آخر بادئاً من مدينة واشنطن متجهاً إلى موسكو محاولاً زيارة مختلف البلاد التي تقع
على هذا المحور لوجد هنالك أيضاً ظواهر اجتماعية تكاد تسيطر على هذه البلاد
جميعها، وتختلف اختلافاً تامّاً عن الظواهر الأولى.
في البلاد الثانية يلاحظ المتأمل ما يلي:
أ- فاعلية هؤلاء الناس وحياتهم المملوءة جدّاً وحرصاً على الوقت وتنظيمه.
ب- الاستفادة من هذا الحرص وهذا التنظيم لتكون محصلة العمل الذي يتم
أكبر محصلة ممكنة.
ج- ظاهرة التخصص لدى أفراد المجتمع واضحة بالغة حدّاً كبيراً من الدقة،
وفرة الإنتاج لدى هؤلاء وفرة تزيد عن حاجاتهم أضعافاً كثيرة، وشبيه بهذا المجتمع
مجتمع النحل بما فيه من فعالية وتخصص ووفرة في الإنتاج عظيمة.
يقابل هذه الظواهر في المجتمع الأول ما يلي:
1- فعالية تكاد تكون منعدمة، ونظرة إلى الوقت على أنه لا قيمة له.
2- نشاط متجه إلى اللغو والحديث الغير منتج.
3- وبعد هذا كله: فالتخصص مفقود، والجهود مبعثرة.
4- والإنتاج أضأل من حاجات المجتمع، ولذلك: كان هذا المجتمع عالة
على المجتمع الثاني في حاجاته الحيوية.
من أجل ما سبق: سمي المجتمع الأول متخلفاً، والثاني حضاريّاً، ولقد امتن
أفراد المجتمع الثاني على أفراد المجتمع الأول فرأوا أن يعدلوا عن تسميته متخلفاً
إلى تسميته مجتمعاً آخذاً في النمو [5] ، ولكن نواياهم الحقيقية مكان ارتياب كبير.
ومن أجل ما سبق: فرض المجتمع الثاني على الأول سبقه، وتقدمه، ... وبالتالي: وصايته وسيطرته، كما فرض عليه ضرورة الاقتداء به وإسراع السير للحاق به) [6] .
إن الإنسان الذي يعيش على محور جاكرتا / طنجة، يواجه المشكلات نفسها
التي يواجهها الإنسان على محور واشنطن/موسكو.. فهو يكدح من أجل قوت أبنائه، ويناضل في سبيل بناء أمته، ويعمل بصورة ما لتدعيم حضارتها.. فما الذي
جعل مجتمعات الإنسان الأول تصنف على أنها مجتمعات متخلفة، ومجتمعات
الإنسان الثاني تصنف على أنها مجتمعات متقدمة؟ .
لا شك أنها (الفاعلية) في المجتمع الثاني التي دفعت به إلى التقدم، وغياب
هذه الفاعلية في المجتمع الأول هو الذي جعل منه مجتمعا متخلفاً، (فعلى محور
(واشنطن/موسكو) توجد ديناميكية خاصة تختلف عن ديناميكية محور
(طنجة/جاكرتا) ، والفرق منحصر في أن الثرثرة تكثر كلما قل النشاط والحركة، إذ
حيثما يسود الكلام تَبْطُؤ الحركة.. وميزانية التاريخ ليست رصيداً من الكلام، بل
كتل من النشاط المادي، ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه) [7] ولذلك:
كانت المجتمعات التي لا تمتلك إلا رصيد (الكلام) هي المجتمعات المتخلفة، وكانت
المجتمعات التي تمتلك رصيد (العمل) والنشاط هي المجتمعات المتقدمة.
إنه قد يكون من الأولى للمشتغلين بعملية بعث الأمة الإسلامية وإحيائها من
مواتها من الإسلاميين الذين يكتبون ويحاضرون ويتحدثون عن عظمة الإسلام الأمر
الذي أصبح يقيناً عند معظم المسلمين اليوم أن يتفقوا ولو مرة واحدة للقيام بعمل
حقيقي يبدأ من الإجابة على السؤال الحيوي: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا لم
يُحدث الإسلام هذا الدين العظيم التفاعل والتغيير المطلوبَيْن في واقع الأمة الإسلامية
اليوم؟
إن الإجابة المحددة عن مثل هذه الأسئلة هي التي تسهم في تغيير واقع الأمة،
وتحقق لها النقلة النوعية نحو التقدم والحضارة.
لقد زعمت القيادات العلمانية في بلاد الإسلام أن الكثافة البشرية للمجتمعات
الإسلامية هي السبب الأول في تخلفها.. فهل هذا هو السبب الحقيقي؟
(والشاهد من هذا كله: أننا نحن المسلمين لم نتعامل إلى الآن مع قضية
الكثافة البشرية من منطلق حضاري واقعي، صحيح أن هناك معاناة شديدة في
بعض بلدان العالم الإسلامي، ولكن سبب هذه المعاناة ليس في عدد السكان بقدر ما
هو في الإدارة الفاسدة السيئة التي تشرف على إدارة الموارد [8] .
(إن الأرض الإسلامية من المحيط إلى المحيط هي بقدر من الله أغني بقعة
في الأرض وأكثرها خيرات، وقد كانت وماتزال حتى هذه اللحظة لم تستثمر
الاستثمار الكامل، الذي يستغل كل مواردها وكل طاقاتها) [9] ؛ ولذلك: فإن أهل
تلك الأرض الإسلامية رغم بترولها، ومعادنها، ومواردها المائية، وقوّتها البشرية
هم أفقر أهل الأرض جميعهم وأكثرهم مشكلات!
إن السبب وراء فقر الأرض الإسلامية وكثرة مشكلاتها ليس قلة مواردها،
وإنما (هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزائم، والانصراف
عن عمارة الأرض، والرضى بالفقر على أنه قدر من الله لا ينبغي السعي إلى
تغييره خوفاً من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله) [10] .
(إنه ليس من الضروري (ولا من الممكن) أن يكون لمجتمع فقير المليارات
من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي وضعه الله بين يديه: الإنسان،
والتراب، والوقت) [11] .
ولذلك: فإن الجهد الأكبر لا بد أن يوجه لصناعة الرجال الذين يتحركون في
الواقع، مستخدمين التراب والوقت والمواهب من أجل بناء نهضة الأمة الإسلامية.
إذن: لابد من التفكير في أمور ثلاثة: في بناء الإنسان بناءً كاملاً، ويعتني
في الوقت ذاته بالتراب، والزمن.. (فإذا فُعِل ذلك، فإنه حينئذ قد كُوّن المجتمع
الأفضل، وكوّنت الحضارة التي هي الإطار الذي تتم فيه للفرد سعادته، وللأمة
تقدمها) [12] .
وإذن: فإن الخطوة الأولى على طريق الحضارة هي التفكير في الإنسان الذي
لم يتحضر بعد، ومحاولة توفير الشروط التي تحقق له ما ينبغي من الفاعلية التي
تؤهله لحمل رسالته وبناء حضارة أمته (فحاجتنا الأولى هي الإنسان الجديد..
الإنسان المتحضر.. الإنسان الذي يعود إلى التاريخ الذي خرجت منه حضارتنا منذ
عهد بعيد. وصياغة هذا الجهاز الدقيق الذي يسمي (الإنسان) لا تتم بمجرد إضافة
جديدة إلى معلوماته القديمة؛ لأنه سيبقى هو قديماً في عاداته الفكرية، وفي ... مواقفه أمام المشكلات الاجتماعية، وفي فعاليته إزاءها، وعلى الأخص في (لا فعاليته) [13] التي يدركها كل من ينظر نظرةً فاحصةً إلى واقع الأمة الإسلامية، مقارنة بغيرها من الأمم ...
ولكي نوضح ما نقصده بقولنا: إن حاجتنا الأولى هي الإنسان الجديد..
الإنسان الفعال.. وأنه لابد من توفير الشروط التي تحقق له ما ينبغي من الفاعلية:
ننظر إلى واقع بلد مثل (اليابان) .. ذلك البلد الذي يعيش في منطقة فقيرة في المواد
الخام كالبترول والمعادن، كما أنها ليست استراتيجية من ناحية الوضع الجغرافي،
ولكنه في ظل هذه الظروف الصعبة يتقدم يوماً بعد يوم، بل ويغزو إنتاجه العالم
الغربي..
(لقد كانت مصر واليابان ذات يوم متأخرتين على مستوى واحد أو متقارب، ودخلتا الخضم في وقت واحد أو متقارب.. فمضت اليابان في الشوط حتى سبقت
السابقين الذين تتلمذت عليهم من أهل الغرب، وتعثرت مصر في خطواتها،
وتخاذلت، وانتكست عدة مرات.. لماذا؟ !
أحست اليابان بالحاجة إلى النهوض وهي محتفظة بذاتيتها، فأعطت من نفسها
العزيمة المطلوبة، وبذلت الجهد المطلوب، وأحست مصر بالحاجة إلى النهوض
وهي مسلوبة الشخصية، فلا شخصيتها الإسلامية كانت حية تدفعها إلى العمل، ولا
اكتسبت وهي في موضع التقليد ذاتية مستقلة، لأن التقليد يقتل الذاتية ولا ينميها،
ومن ثم: ظلت في مكانها، أو تحركت خطوات متخاذلة متعثرة، لا توصّل إلى
شيء ذي بال) [14] .
إن اليابان بدأ الطريق إلى التقدم ببناء الإنسان المتحضر والمجتمع المتحضر،
ودرس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته، (فالفارق العظيم
بين الصلة التي ربطها اليابان بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها: أن اليابان وقف
من الحضارة موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون! ! إنه استورد منها
الأفكار بوجه ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص) [15] .
والأمة الإسلامية إذا أرادت التقدم، وأحست بضرورة أن تدخل السباق
الحضاري، فإنه لا سبيل لها إلى ذلك إلا أن تقف هذا الموقف المتوازن، فتدعو
إلى الاستفادة مما عند الغرب من تقدم مادي وعلمي وحضاري، وفي الوقت ذاته
تَحْذَر من الذوبان في شخصية الغرب.
(وبمثل هذه الروح يمكن للعالم الإسلامي أن يحل مشاكله، فحين يسترد
ذاتيته المفقودة سيكون أقدر على الاستفادة من تقدم الآخرين المادي والعلمي،
أضعاف أضعاف ما يستفيده اليوم وهو في موضع التقليد كالعبيد.. وعندئذ يتقدم،
ويتغلب على (التخلف) الذي يرى البعض أنه العقدة التي لا تحل) [16] .
إن الأمة الإسلامية قادرة على أن تنهض من تخلفها وعجزها وهوانها وواقعها
الراهن، كما نهضت اليابان من تحت أنقاض هزائمها وكوارثها ودمارها المادي
والمعنوي، لتصبح رغم ضيق مساحتها، وحرمانها من الثروات الطبيعية
الضرورية.. تصبح الدولة الثانية في العالم بمقياس التقدم الصناعي والتجاري.
ما الذي ينقصنا عن الشعب الياباني الذي لم يكن يملك غداة انتهاء الحرب
العالمية الثانية إلا مدناً خربة، وصناعةً مدمرة، فشق طريقه بعزيمة صادقة،
وإرادة صارمة، ووسائل مكافئة للحاجة والأهداف، حتى غزت صناعته أسواق العالم ... وأصبح الغرب يبحث عن سبيل اللحاق بهذا الشعب.
وكذلك الشعب الألماني، صاحب أقوى دولة أوربية اقتصاديّاً.. كيف خرج
من الحرب العالمية الثانية؟
لقد خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية وهي تحمل ذكرى عشرة ملايين
قتيل، ولا تمتلك إلا أنقاض حضارة سادت ثم بادت، ولكنها بالعمل الجدي البصير
المستمر تغلبت على مشاكلها، وتقدمت، واستعادت كل قوتها وأكثر، وأصبحت في
سنوات معدودات أهم دولة في أوروبا، وواحدة من أهم دول العالم في الصناعة
والتجارة والاقتصاد والتقدم العلمي، وأيضاً في دورها وأثرها في حركة المجتمع
البشري!
(إن سر تقدم الأمم يكمن دائماً في القدرة على تسخير القوى المتاحة، وإذا
أرادت الأمة الإسلامية أن تنهض وتتقدم، فليس أمامها من سبيل إلا أن تتصرف في
حدود ما تملك فعلاً، لا أن تحلم بما هو خارج عن أيديها، لأن مثل هذه الأحلام لا
تثمر في النهاية إلا الحسرة والندامة.
وحين تتصرف الأمة الإسلامية فيما تملك وفق السنن، التي فطر الله عليها
أمور الخلق فإنها بهذا تستثمر الطاقات المتاحة على أحسن وجه) [17] .
(إن وطناً متخلفاً لابد له إذا أراد التقدم أن يستثمر سائر ما فيه من طاقات،
يستثمر كافة عقوله وسواعده ودقائقه، وكل شبر من ترابه، فتلك هي العجلة
الضخمة التي يجب دفعها لإنشاء حركة اجتماعية [18] وبالتالي: حركة حضارية
في ذلك الوطن.
إن المتأمل للنماذج التنموية في الأمة الإسلامية، يجد أن الأنظمة العلمانية
القائمة عليها تركز على عنصر رأس المال، بل وتزعم أنه العنصر الوحيد القادر
على تحقيق التنمية في دول العالم الإسلامي، وأنه لا سبيل لهذه الدول للخروج من
التخلف إلا باستيراد التقنية! !
ولا شك أن هذه الطريقة في بناء التقدم لاتقيم تقدماً حضاريّاً، ولكنها تعطي
مظهراً مزيّفاً من التمدين عندما يقيم المخدوعون بهذا الزيف المصانع العملاقة، ثم
يستوردون لها كل المعدات من الغرب، بل ويستوردون كوادر العمل في هذه
المصانع.
ومن هنا: فإن هذه المصانع والمشروعات التنموية رغم الحجم الكبير للإنفاق
فيها لا يكون لها أدنى أثر في تقدم الأمة الحضاري، وما ذلك إلا لأن (الإنسان) في
كل هذه المشروعات كان غائباً.
إن التنمية الناجحة تعتمد أساساً على تحول (الإنسان) ، ولذلك فلا بد أن
يتحول اهتمامنا بالتكنولوجيا ورأس المال إلى (الإنسان) .. كيف نعيد تشكيل عقله
وفق المنهج الإسلامي؟ وكيف نعيد إليه الفاعلية التي يمنحه إياها ذلك المنهج؟
وكيف نحرره من روح الاتكالية، وندفعه إلى التطلع إلى التقدم؟
فإذا استطعنا الإجابة على هذه الأسئلة، فقد وضعنا أقدامنا على أول الطريق
للتقدم والخروج بالأمة من مرحلة (القصعة المستباحة) إلى التمكين والريادة.
إن الطريق إلى التقدم والحضارة والريادة، يقضي ببتر كل علاقات التبعية
للغرب مهما كان نوعها، وتقبل سائر الصعوبات التي تواجه الإنسان عندما يرشد
ويتحمل كامل مسؤولياته.. ولذلك: فإننا إن كنا صادقين في محاولتنا لإخراج أمتنا
من التخلف إلى التقدم، فلا بد لنا من التحرك في هذا الطريق وإن كان وعراً
وصعباً، لنعزم العزمة ونمضي في هذا الطريق، وليعقد كل منا العزم على أن يقلل
شيئاً من تخلف هذه الأمة التي يعيش فيها.. فإذا فعلنا ذلك: فإننا قادرون إن شاء
الله على أن نلحق بمن سبقونا، بل وربما نتجاوزهم.
وبكلمة موجزة أقول:
الإنسان هو أساس الحضارة، ولذلك: يؤكد منهج التغيير الحضاري الإسلامي
على صياغة الإنسان المسلم من جديد قبل بناء العمارات وإنشاء المصانع وتعبيد
الطرق وتنظيم الحياة المادية، أو معها على الأقل.. بينما تركز الأيديولوجية
العلمانية على نقل التكنولوجيا وتغييب الإنسان.
ولا شك أن الواقع خير شاهد على أن هذه الأيديولوجية العلمانية لم تفشل في
ردم الهوة الحضارية بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم فقط، بل إنها ساهمت
في زيادة اتساع هذه الهوة، لأنها كانت تسير بخطوات الغرب نفسها، فردت
بضاعة الآخرين إليهم وصبت كل الجهود في محصلته.
وإذن: فالطريق الصحيح للخروج بالأمة الإسلامية من دائرة التخلف: أن
نعود إلى منهاج الإسلام في التغيير الحضاري، فنقوم بتفجير الطاقات الكامنة في
الإنسان المسلم، عندها نمتلك القدرة على القفز فوق كل الحواجز لتحقيق التقدم
والإنجاز الحضاري.
إن الأمة الإسلامية لن يكون لها مكان على خريطة المستقبل إلا إذا تاب
أبناؤها من خطيئة الكلام الكثير والعمل القليل، وإلا إذا شمر كل منهم عن ساعديه،
وتعبد لله في ليله ونهاره بالعمل الكثير.. وبدون ذلك، تبقى هذه الأمة بين مطرقة
الغرب الحاقد وسندان أفعال أبنائها العاجزة، التي لا تعدو في كثير من الأحيان
مجموعة من الكلمات! !
إن التخلف الذي ترسف فيه أمتنا إنما هو في حقيقته نتيجة لازمة لكسلنا
وعجزنا عن المبادأة في أي ميدان. ولا طريق لنا إلى التقدم إلا أن نكون على يقين
أن الفاعلية هي طريق الأمم إلى الحضارة.
__________
(1) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، د محسن عبد الحميد، ص 63، 64.
(2) المصدر السابق، ص 65، 66.
(3) هذا الدين، سيد قطب، ص 6.
(4) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، د أحمد كنعان ص 33، 34.
(5) لقد أطلقوا على المجتمعات المتخلفة لفظة (النامية) كي لا تشعر بعمق المأساة، فلا تتساءل عن سبب تقدم الآخرين وتخلفنا، ولا تتحول الهزيمة النفسية إذا ما أحستها إلى دافع يفجر فيها روح (التحدي) والرفض للواقع المزري؛ مما يجرها نحو التغيير من أجل التقدم والرقي.
(6) المجتمع الإسلامي، د محمد أمين المصري، ص 33 35.
(7) مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، ص 108.
(8) فقه الدعوة ملامح وآفاق، عمر عبيد حسنة، ص 175.
(9) واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص 181.
(10) المصدر السابق، ص 181.
(11) بين الرشاد والتيه، مالك بن نبي، ص 60.
(12) تأملات، مالك بن نبي، ص 170.
(13) تأملات، مالك بن نبي، ص 190 191.
(14) كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ ، محمد قطب، ص 242.
(15) تأملات مالك بن نبي، ص 185.
(16) كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ ، محمد قطب، ص 244.
(17) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، د أحمد كنعان، ص 50.
(18) بين الرشاد والتيه، مالك بن نبي، ص172.(99/32)
البيان الأدبي
رسالتان إلى سعد! !
شعر:جمال الحوشبي
الرسالة الأولى
إلى المرابط على ثغر الدعوة ينافح عنها!
أيقظتَ ركاماً يا سعد ... في صف الصحوة ممتدُ
وبنيت لعزتهم مجداً ... وسهرت ليكتمل العقدُ
فبراك نحول من أرق ... والسيف يرِقّ له الحدّ
وظللت تجاهد في زمن ... حدّاه الدرهم والنقدُ
***
مزّقت بكفك أردية ... كانت بالباطل تسوّدُ
وأقمت لواءك منتصباً ... من نبع الصحوة ممتدُ
ما ذقت الراحةَ من كمد ... والخِلْوُ لعيشته رغدُ
ورضيت بأن تحيا حرّاً ... وسواك لشهوته عبدُ
قالوا يا سعد لأمتنا: ... سعد قد جانبه الزهدُ!
سعد يحتال لنهضتنا ... ليقوم لدعوته سدّ
قالوا والحرص رديفهم: ... رفقاً بالصحوة يا سعدُ!
ما ضرّك لو قلت: حلالاً؟ ... والمكره ليسَ لهُ بُدّ
ما ضرّك لو قلت: سلاماً؟ ... والسّلم لأمتنا مَجْدُ
هل تطمع أن ترفع رأساً ... ورؤوس الباطل تحتدّ؟
اللحظ بمبدئنا برقٌ ... واللفظ لمخرجه رَعْدُ
والصمت بحكمته بحر ... في لجّة حكمته لَحْدُ!
الحكمة يا سعدُ سلاح ... والأمر بشرعتنا قَصْدُ
قد كان السعد يحالفنا ... دهراً من قَبْلِكَ يا سعد
ما ضرك لو عشت عزيزاً؟ ... وطريقك.. أَنت بِهِ فَرْدُ
فَقَلاك محبّك معتذراً ... ورماك الشانئ والوَغْدُ
ما ضَرّك سعد ما فعلوا ... فلك الإشراقة والرّشدُ
ومكانك ليس يقاربه ... منهم من أصبح يرتدّ
ما كان النصح دليلهم ... ولنا من موقفهم عَهْدُ
فلهم أقوال تحسبها ... من قوة منطقها تعدو
وفعال تسبح جامدة ... ولها في مربطها وِرْدُ
قد كنت الكوكب بينهم ... يقضون وأنت لهم سدّ
واليوم تغيّر مبدؤهم ... فالقرب بنظرتهم بُعدُ
أفنوا أعمارًاً غالية ... فغدوا واللحد لهم مهدُ
ما كنت الجاهل في زمن ... الصّاع بشرعته مُدّ
والظلم بمنهجه عَدْلٌ ... والحُسْن بِمظهره ضِدُّ
لم تلهك يا سعد قصورٌ ... وبنين ترضْعهم هِنْدُ
ووظائف في زمن الشهوا ... ت ومالٌ ليس له حَدّ
تاريخك يا سعد عظيم ... كالبحر يكلله المَدّ
بالحق سهامك صائبةٌ ... وسِهام الباطل تَرتَدّ
وبدينك تفخر منتسباً ... وسِوَاك بنعرته صَلْدُ
أردفت ركابك منطلقاً ... تسفيك الظلمة والبردُ
وقراحُ الماء تجرّعه ... صبراً للدعوة يمتدّ
فمَضَيتَ وَركْبُك مِن سفَهٍ ... يلهون وأعينهم رمدُ
وثباتك للحق قديم ... والحق بدعوتنا وِرْدُ
فبلغت مرادك منتصراً ... ولسانك: ربّ لك الحمدُ
ما كنت السالك أوديةً ... في خضرة فتنتها وَرْدُ
وطريقك لستَ به فرداً ... فعلام الدمعة يا سعد؟ ؟(99/42)
البيان الأدبي
رسالتان إلى سعد [*]
الرسالة الثانية
شعر: أسامة جاسر
سعد طفل من البوسنة.. تبنته أسرة أمريكية بعد أن فقد عينيه إثر هجوم
صربي.
لماذا الحزن يا (سعد) ؟ ... كساك الخوف والسهدُ
قريب أنت من قلبي ... بعيدٌ والأسى بُعْدُ
وتبكي في صدى نفسي ... فهل لبكائكم ردّ؟
غريبٌ في ديار الكفر ... تشكو والنوى فقدُ
أترضى أن يقال غداً ... فتى الإسلام مرتدّ؟
ولكن ليس ذنبُكمُ ... بريءٌ أنت يا (سعدُ) !
أصدّق جرح نكبتكم ... إذا ما كذّب الرعدُ
أراك مقيّد العينَيْن ... هدّ مسيرك القيدُ
تُعاني فقد أحبابٍ ... وكم ذا يؤلم الفقدُ
وتسأل أمة الإسلام: ... أين العدل والرّشدُ؟
وأين سيوف (عكرمة) ؟ ... وأين بنوك يا (زيدُ) ؟
تقود أسود أمّتنا ... وخيل الله إذ تعدو
فنعم الركب إذ يمضي ... ونعم الخيل والأسدُ
فكم مَنْ وجهه نورٌ ... وكم مَنْ عزمه صلدُ
ونحو الرّوم وجهتهم ... إلى أن حُقّق الوعدُ
ودار الكون دورته ... وضاع العزم والعهدُ
وخيرٌ بعده شرّ ... كذاك الجزر والمدّ
فأين الجيش يحميني؟ ... وأين البأس يا جندُ؟
وأين سيوفكم؟ صدئت ... فعافت لونها الغمدُ
تُنادي جند (معتصم) ... بأرضي عربد الوغدُ
وجال الغدر في داري ... وصال المكر والحقدُ
بحقّ الله أخبرني ... تُرى! هل غادر الوفدُ؟ !
***
بقلبي أنت يا (سعدُ) ... لك التّحنان والودّ
فأنت الجرح مذعوراً ... بصدري فهو يمتدّ
فليس لنزفه حدّ ... وليس لحده صدّ
وأعيا من وصالكُمُ ... فبين وصالنا سدّ
عظيمٌ ما تعانيه ... أليمٌ ما له نِدّ
فحزنك في دُجى بُؤسٍ ... وطالع نجمنا سعدُ
ونشرب من كؤوس الشهد ... يشهدُ عيشنا زُهدُ!
وتشرب أنت كأس الموتِ ... يسكُبها لكم لُدّ
هنا أمنٌ وعافيةٌ ... هناك الخوف والبردُ
(سراييفو) ألا صبراً ... دعائي ما له حدّ
وصبراً يافتى الإسلام ... بُشرى نصرنا تبدو
فيوم النصر موعدنا ... لنا الإكرام والمجدّ
أزيِّنُ بالرّضى شِعري ... فيا ربي لك الحمدُ
وكن يا ربّنا عوناً ... فأنت الخالق الفردُ
***
أزاهر شعري المذبوح ... ضم رفاتها لحدُ
فهل شعري سيسعفكم ... إذا نفَسي به يشدو؟
وهل أزهار أشعاري ... وبيتٌ زانَهُ وردُ
تصدّ قذائف الأعداء ... فوق رؤوسكم تغدو؟
ولكن جهدُ مكلومٍ ... عسى أن يجدي الجهدُ
أداعب مقلةً ثكلى ... يحيط بدمعها الوجدُ
وتصنع نزفَ أعصابي ... جراحٌ ما لها عدّ
وترسم همّ أنفاسي ... دموعٌ ضمّها خدّ
لعلّ الدمع يشفع لي ... إذا ما حوسب العبدُ
فيوم الحشر نخشاه ... إذا ما الحرّ يشتدّ
ونسأل عنك يا (سعد) ... فهل لسؤالهم ردّ؟
صمتنا لا لمكرمةٍ ... ولكن ما لنا بُدّ؟
__________
(*) وصلت القصيدتان إلى المجلة في وقت واحد، ومن بلدين مختلفين، واشتراك الشعور بين مرسليهما جعلنا نشركهما في الظهور في ملف واحد وهما سعدان مختلفان، عسى أن يكون لأولهما موقع قادم يمنع من تكرر مأساة الثاني.(99/45)
البيان الأدبي
الغيمة التي لم تمطر بعد
بقلم:علي محمد
أما آن لك أن تمطري قبل أن أموت اختناقاً؟
كان (صابر) ينظر إلى تلك السحابة، ويستجديها أن تمطر، وهو يتأمل وجهه
على صفحة ماء النبع الذي يمر بخجل بين الحقول الصغيرة في قريته المستلقية
تحت إبط جبلٍ ضخم، يربض على الغرب منها وكأنه يدسّها عن أعين تتربص بها
الدوائر.
أمطري، أغرقيني، أو فاجعلي برقك المكتوم يحرقني.
ظل صامتاً ينتظر أن يدوي الرعد من صدر السحابة،.. فإذا بالنبع يكتسي
حمرة ظنها أول الغيث، لكنه صعق بصوت الغريب الذي نبذته القرية فأقام على
أطرافها إذْ مرّ وهو يردد:
كل مساء يدلف ليلٌ
وعلى فمه بقعة دمْ
كل مساء تهوي ذَبْلىَ
خلف تخوم الظلمة شمسْ
يجرؤ همسْ
كلّ صباح تُشرقُ شمسْ
وعلى فمه كلّ مساء تُسْحق شمسْ!
خُنق الهمسْ فمحى دمَه أثر الشمس.
رفع (صابر) رأسه، فإذا الأفق تجاه الجبل تغشاه حمرة داكنة، لم تكن تلفت
انتباهه من قبل، والشمس تسقط في فم ليل قاسٍ، وعلى شفتيه بحر دم.
آه أنتِ أنا أيتها السحابة.
لم تمطري بعد؟
حمل سحابته، وسار خلف الغريب الذي ابتلعه الظلام، وصدى صوته يدوّي
بين جنبات الوادي.
ليلٌ فم شمسٌ دم
لكنه لم يتمكن من اللحاق به، ورويداً رويداً بدأ صوت أمه يخنق صوت
الغريب ليحل مكانه، وهي تردد: لا بد أن تذعن لرغبات عمك، إنه عمك الذي
ربّاك وإخوتك.. وضع إصبعيه في أذنيه وهو يصرخ: لا ... لا ... لقد آن أن
تتجرعي ثمرةً مرةً من شجرة العقوق التي غرستيها في مهجتي منذ فرضت عليّ
عمومة هذا الوغد.
ألستِ من صنع له الحبل ليشد منه مشنقتي؟
أنسيتِ أنك من نزع الجلجل المعلق برقبة ذلك الحمار الذي رُبط برجله
الطرف الآخر لحبل مشنقتي؟
لا ضير أن أموت، لكن ذلك الحمار حينما يركض نحو العشب المزيف الذي
ألقيتِ به على بعد خطوات منه لتخدعيه، لن يشعر إلاّ بقليل من الحسرة والكثير
من المقت والاحتقار؛ فيركض لمسافة أبعد في المرة القادمة.
والحبل في عنق أخي الآخر.
ومضى يردد كلمات الغريب بين بيوت القرية حتى خرج منها، وكان الصيف
بحرارته الخانقة رابضاً في بطن الوادي، وهبوب السموم بين الأشجار كفحيح
الأفعى حين تقتنص رأس الفريسة لتخنقها.
وجد نفسه أمام دار الغريب الذي كان مستلقياً على ظهره خارجها، وعيناه
ترقبان الجبل الذي جثم على صدر الليل، فأمسى الليل لا حراك به، فلا تسمع إلا
أصوات الحشرات، وكأنها حشرجة أنفاس الليل الذي يحتضر خوفاً من الجبل
الصامت، قال دون أن يلتفت إلى صابر: كم تثلج صدري هيبة الجبل وأنا أتخيل
الليل ترتعد فرائصه من أن يتحرك.
أصغى إليه صابر وهو يحاول تأملَهُ رغم عتمة الظلمة.
منذ أدركت حقيقة الجبل أحببته وظللت أرقبه، وأبشّر باليوم الذي يتحرك فيه
حتى اتهمني السّذج بالجنون، وظلت الشمس التي تعاني من جراحاتها تخرج
مبتسمة كل صباح، وتشارك الآخرين السخرية مني، حتى انتبذتُ مكاني قرب
الجبل.
آهٍ ليتني أستطيع الصعود إليه، لكن السذج سيتهمونني بالصعلكة قبل أن
يقذفني الليل بتلك القرية.
وليتهم يكتفون بذلك، بل ها هم يقومون بحفر القبور في طريقه.
اقترب (صابر (أكثر، فعقدت لسانه المفاجأة حين رأى على جبين الغريب
سحابةً أشد قتامة من تلك التي على جبينه، وأكثر انتشاراً على وجهه.
أدرك الغريب ما يدور بخلده، لكنه استرسل في كلامه.
آهٍ كم أود معانقة قمة الجبل فلعله يفجر هذه الغيمة السوداء التي تسكن وجهي،
فهناك تُبدّد الغيوم حينما تلاحقها قمم الجبال.
صمت الغريب.. و (صابر) لم يعد يرى سوى ضخامة الجبل، ويتخيّل
معاناته وهو يرى الشمس كل يوم تنزف بين فكي الليل، وهو مكبل بالقبور تحت
قدميه وموثق بشفقته على أولئك المغفلين.
مرت أمام وجه (صابر (نسمة حارقة نبهته إلى أنه بحضرة الغريب الذي
سكت وتخيل أن صمته إيذان له بالحديث.
لم تزرني السعادة أبداً، فلقد سجنها موت أبي ووضعت أمي مفتاح السجن
بقبضة ذلك الوغد، الذي زرع الحرمان في قلوب إخوتي قبل قلبي، وظل يضرب
حولنا سياجاً من العتمة، وأمّنا في بلاهة وخنوع تقدم له أكثر مما يتمنى حين تخنقنا، وتتوقع أنها بذلك تمنحنا طوق النجاة.
والتفت في هذه اللحظة إلى الغريب قائلاً بلهجة الباكي: انظر إلى هذه
السحابة التي على جبيني لم يراكم غيومها إلا أكُفّ القهر.. تأمل جيداً.. إنها تشبه
الغيمة التي على وجهك؟
لم يرد الغريب ...
اقترب (صابر) من وجهه، وحدّق فيه فلم يجد سوى غيمة سوداء جامدة لم
تمطر، فأصابت قلب الغريب بالقحط والجفاف، فمات..
وتذكر تلك النسمة الحارقة قبل قليل.
آهٍ.. حتى أنت أيها الغريب رفضت سماعي، وأنت تشاركني وطأة الغيوم،
إن الموت ليس نهاية المطاف، لكنني لن أرضى أن تظل هذه الغيمة تخنق أنفاسي
أو أظل أرقب الجبل، لكن قبل ذلك: لا بد أن أواري جثمان هذا الغريب، وأمسى
ليلة يحفر القبر، ومع شروق الشمس كان الغريب تحت الثرى..
و (صابر) الذي أنهكته تفاصيل الليلة السابقة، ينظر إلى الشمس التي لم تزل
تخرج رغم معاناتها.
فاستلقى تحت شجرةٍ قرب الغريب، والتفت ليتأكد أن ما عاشه الليلة الماضية
لم يكن حلماً، فرأى القبر وأخذ مزودة الماء، وتوضأ، وبدأ رحلته إلى الجبل،
وعيناه لا تريان إلا القمة.
يطأ الشوك ... فلا يبالي ... وتخترق أذنيه نداءات العاطلين فيخرجها من
الجهة الأخرى، وبدأ يتجاوز بعض القبور التي تحيط بالجبل، وهي تزداد كثافة
كلما تقدم في الطريق، والحجارة تدمي عقبيه، وأصوات المغفلين تقذفه بما تعرف
وما لا تعرف، فلم يبال بها، لكن بعض الأصوات مزّقت قلبه فلم يجد بدّاً من
الالتفات للتأكد من أصحابها.
إنهم إخوته الذين اختار هذا الطريق لتخليصهم.
كانت أمه وبعض إخوته أكثر من يرجمه بالحجارة والبذاءة، وبعض إخوته
يرقبه بصمت.
وبدأ الليل كالأخطبوط يجذب الشمس إلى فيه ليقطع (صابر) الطريق إلى قمة
الجبل، لكن (صابر (لم يعد يملك إلا المجازفة، فإما الوصول إلى القمة ليفجر عليها
سحابته التي على وجهه فتمطر، أو يحرقه البرق الذي بصدرها ويشعل النار في
رأس الجبل لتكون دليلاً يقود الآخرين ممن تعتمر الغيوم جباههم، أو يمزق بطن
الليل ويخرج الشمس منه لتبقى مضيئة حتى تحرق العيون التي لا تعيش إلا في
الظلام الدامس.
لكن الليل ابتلع الشمس كعادته، والمغفلون ما زالوا ينتظرون أن يصاب ذلك
الصعلوك بلعنة الجبل التي يخافونها، ويشكرون الليل أنه يحجب عنهم الجبل حينما
يريحهم من رؤيته كل مساء.
ودوت في قمة الجبل صرخة أفزعتهم، وإذا بالنار تشتعل في القمة والبرق
يمزق السماء، وإذا بهم تتهلل أساريرهم، لكن الصرخة لم تنته، والنار بدأت في
الانحدار بشكل سريع، وصوت (صابر) يرتفع، والنار تلتهمه، فقذف بنفسه من
قمة الجبل، وقبل أن يصل الأرض استيقظ من حلمه، وإذا بالشمس قد اشتدت
حرارتها، والشجرة لم تعد تظلله وهو يلهث من شدة العطش، وعيناه في اتجاهين
مختلفين إحداهما ترمق قمة الجبل، والأخرى تتمعن قبر الغريب والغيمة السوداء
بينهما لم تمطر، وحينما كرر نظرته وجد أمه وإخوته يحولون بينه وبين رؤية
الجبل وعمه يبتسم بجوار قبر الغريب.(99/48)
نص شعري
ابتسم فأنت.. مسلم! !
شعر:مشتاق حسين
حَطّمِ العودَ مُثيرَ الشجَن ... نَغمَةُ الحُزنِ مُجاجُ الأذُنِ
ازْرَعِ البَسْمَةَ في الكونِ ولا ... تَقْتُلِ الحُسْنَ بِخَلْقِ الحَزَنِ
كُنْ سَفيرَ السّعْدِ في كَوْكَبِنَا ... بِابْتسَامٍ مِثلَ طه فَكُنِ
كانتِ البَسْمَةُ لا تَهجُرُه ... ابْتسامُ المَرْءِ بعضُ السّنَنِ
رُتّبَ الأجْرُ على البَسْمَة وال ... عَبْسُ بئسَ الفِعْلُ بخسُ الثمنِ
بَسْمةُ الطْفلِ يَراعٌ عَجَبٌ ... تنقلُ القَفْرَ إلى روضٍ سَنِي
فَاعْزِفِ اللّحْنَ بأوتَار الهُدى ... ثمّ في بِشْرٍ أخَيّا غَنّنِ
يَصْدَحُ البُلبلُ في السجنِ كما ... يُبدِعُ الحُرّ بأعْلَى الفَنَنِ
كُنْ سَمَاءً حينَ تَبكي فَرَحاً ... دَمْعُها الحُلْوُ حَياةُ المُدُنِ
وغَمَامُ الحُزْنِ يبكِي مَطَراً ... حَامِضاً يُهْدي الرّدَى في سَننِ
نِعمةُ النّسْيانِ أغلَى المِنَنِ ... لَفّتِ الأدْمُعَ مِثْلَ الكَفَنِ
أنَا لمْ أدْعُكَ أنْ تَضْحَكَ في ... مَأتم أوْ سَوْدَةٍ في الفِتَنِ
أو تظُنّ الطّودَ أدْنَى حَجَرٍ ... أوْ تَخَالَ العِطْرَ وَسْطَ النّتَنِ
أنْتَ إنْ لَمْ تَكُ ذِكْرى أمَلٍ ... أيها المسلم فِينا فَمَنِ؟ !(99/53)
البيان الأدبي
صوت جديد: أمتي
شعر: د. علم الدين مصطفى
وطريقكِ المفروشِ بالأشْواكِ؟ ! ... أَوَصَلتِ رغم الجُهدِ والإنهاكِ
والذارفاتِ دماً هُما عيناكِ؟ ... وخُطاكِ تلكَ المثقلاتِ مِنَ الأسى
أم في الترابِ الوهنُ قَدْ واراكِ؟ ... هَلْ شانَ وجهَكِ ذلّهُ وهَوَانُهُ
وسَقَاكِ مُرّ كؤوسِهِ فرواكِ؟ ... أم ذا صَغَارٌ قدْ كساكِ بثوبهِ
مَنْ عَنْ طريقِ الرّشْدِ قد أعْماكِ؟ ... باللهِ مَنْ في الوَحْلِ قَدْ ألقَاكِ؟
تَبّتْ يدا جَزّارِكِ السّفّاكِ! ... مَنْ فيكِ قد ذبحَ السماحةَ والتّقَى؟
يا ويلَهُ من كاذبٍ أفّاكِ! ... مَن قالَ إنّكِ قد طوتكِ يَدُ الرّدَى؟
سفحَ الدموع على عهودِ صباكِ ... فكفاكِ مِن هَذا البُكاءِ وَوَدّعِي
في ليلِ تيهٍ طالَ فيه سُرَاكِ ... ها آذنَ الفجرُ الجميلُ بنورِهِ
هذا صداهُ سارَ في الأفلاكِ ... صوتٌ جديدٌ أمّتي ناداكِ
دنسَ السنينِ، فإنهُ آذاكِ ... فلترفعي عنك القناعَ وتنفضي
ومآثراً جادَتْ بها كفّاكِ ... قُومِي أعيدي للدّنا ذكراكِ
ومفاخراً شهدتْ بها أَعْدَاكِ ... فضلاً وعدلاً، رحمةً وهدايةً
قد كانَ بالعزّ الأثيلِ سقاك ... عودي لمنبعكِ الأصيلِ فطالما
دكّت حصونَ البغي والإشراكِ ... أبطالُكِ الغُرّ الكرامُ ألم تكنْ
لم يعرفوا نورَ الهُدى لَوْلاكِ ... أوَ لمْ تكوني للورى بدرَ الدّجى
والخيرُ والإيمانُ غرسُ يَدَاكِ ... بَدّدْتِ بالقرآنِ ظُلمةَ كونِهِم
رَفعتْ قديماً في الوجود لِوَاكِ ... فاعطِ القيادَ لِعُصْبةِ الحقّ التي
خيلَ الجهادِ إلى رفيعِ ذُراكِ ... هُبّي وبِسْمِ اللهِ ربّكِ فارْكبي(99/54)
المسلمون والعالم
اتفاقية التجارة العالمية GATT
قراءة في تقرير.. وأسئلة ملحة ...
بقلم: ياسر قارئ
إدراكاً منهم لصعوبة المواجهة العسكرية مع المسلمين في ظل راية الجهاد،
عدل أعداء الإسلام إلى وسائل أشد فتكاً وأقل إثارة لقمع المارد الإسلامي ودحضه
ورده إلى موقعه الذي يليق به كما يتخيلون؛ وأنشطة المنظمات الدولية التي ترعى
تلك الوسائل والأساليب مجهولة إلى حد كبير لدى كثير من المثقفين داخل حدود
أوطانهم وخارجها، ومتابعة ذلك تبدي لك حجم الفراغ والهوة التي بيننا وبين
المخططات العالمية للانقضاض علينا من كل حدب وصوب؛ وما ذاك إلا بسبب
عدم إلمام الكثيرين أو عدم اكثراثهم بتلك المؤسسات؛ تقليلاً لشأنها أو لندرة
المصادر التي تحكي واقعها في ظل التعتيم الإعلامي عن سياسات القوم والانصراف
إلى البرامج الرياضية والمجلات النسائية الرحبة، من أجل ذلك كله أسوق إليك
أخي القارئ الكريم ملخصاً موجزاً لما احتواه تقرير غربي [*] عن الاتفاقية العامة
للتعريفات والتجارة، التي يرمز لها اختصاراً بـ، التي تمخضت عنها (منظمة
التجارة العالمية) .
يحتوي التقرير على ثلاثة وعشرين فصلاً، يتحدث الأول منها عن نشأة
الاتفاقية والجولة الأخيرة المعروفة باسم (أوراجواي) (وهي الدولة التي انبثقت منها
الاتفاقية عام 1986م) ، ثم تغطي الفصول من الثالث وحتى الحادي عشر الاتفاقات
المتعلقة بالزراعة، والمنسوجات، والملابس، والخدمات، والاستثمارات،
والملكية الفردية، وتسوية المنازعات، والدعم، والرسوم، والضمانات، وسياسة
الإغراق، بينما يركز النصف الثاني من التقرير على آثار هذه الاتفاقيات على كل
القطاعات السابقة.. (من 12- 15) ، ثم على دول أوروبا الغربية والاتحاد
السوفييتي (السابق) ومنطقة آسيا الباسفيكي، وأمريكا الشمالية واللاتينية، فالشرق
الأوسط وإفريقيا (16 22) ، أما الفصل الأخير فيلقي الضوء على المنظمة العالمية
ومستقبلها.
يصطدم القارئ من العالم الثالث من الصفحة الأولى بحقيقة هذه الاتفاقية
وأثرها؛ إذ يتعجب المؤلفان من تغير توجهات الدول النامية وانضمامها إلى
المفاوضات في الوقت الذي كانت تمر فيه الجولة بانتكاسات ومصاعب جمة، على
الرغم من الخسائر التي ستتعرض لها تلك الدول (وهي المستوردة للغذاء) على
المدى القصير، هذا بالإضافة إلى دور الاتفاقية في انتقاص جانب السيادة على
السياسة الداخلية للدولة، على الرغم من عبادة تلك الدول وتقديسها للاستقلالية
السياسية! ! (ص13) ، وليس هذا فحسب، بل ستكون المنظمة الشريك الثالث
لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في وضع السياسات العالمية، كما عبر عن ذلك
(بيتر سذر لاند) مدير عام الاتفاقية (ص4) ، فضلاً عن اختلاف الخبراء حول
الجدوى الاقتصادية للاتفاقية على مدى العقد القادم؛ بسبب زيادة نمو التكتلات
الاقتصادية الإقليمية القوية؛ الأمر الذي يؤذن باندلاع الحروب التجارية بين الدول
(ص6) .
أما أهم مكاسب هذه الجولة الأخيرة فهي: دخول مجالات الزراعة
والمنسوجات ضمنها، وتطبيق الجزاءات ضد الدول المنتهكة لأحكام الاتفاقية، وفي
هذا الصدد: فقد أعلنت أمريكا عزمها على استغلال حق المطالبة بالتعويض أو
فرض العقوبات التجارية (في حالة فشل الوصول إلى حل مع المخالفين) إلى أقصى
أبعاده (ص2) ، فإذا كان هذا توجه الدولة التي تقود العالم، فماذا عسى التابعين أن
يفعلوا؟ !
بدأت جولة أوراجواي سنة 1986م، وهي الثامنة، إذ عقدت الجولة الأولى
في جنيف عام 1947م بعد نهاية الحرب الكونية الثانية بمشاركة ثلاث وعشرين
دولة، وبمرور الوقت ازداد عدد المشاركين، وبالتالي: طول فترة انعقاد الجولة
بسبب تشعب المواضيع والخلافات حتى اختتمت في سنة 1963م وقد وصفها (سذر
لاند) بأنها لحظة حاسمة في التاريخ الحديث (ص1) ، فلماذا؟
لقد استنتج الساسة الأمريكيون: أن انهيار التجارة الدولية، وزيادة عدد
التكتلات التجارية، بالإضافة إلى التصعيد الجمركي الذي عمق الكساد وتسبب في
قطبية التجارة الدولية: هما سببا قيام الحربين العالميتين (ص9) ؛ لذلك: فإن قيام
نظام دولي للتجارة سوف يقلل من فرص الحرب في الوقت الذي تملي فيه أمريكا
شروطها بحكم أنها المنتصرة في الحربين والدولة ذات الوزن الاقتصادي الأثقل في
العالم، بمعنى آخر: فإن نظام التجارة المطلوب والمتوقع هو الذي يحقق مصالح
الدول الكبرى فقط!
ثلاث نقاط مهمة:
سوف أضرب صفحاً عن الفصول التي تتحدث عن الاتفاقيات ذاتها (311) ،
وذلك لكونها معلومات وإحصاءات علمية صرفة، وكذلك لإبقاء الموضوع مختصراً
قدر الإمكان، خاصة وأن الهدف المنشود هو: بيان أثر تلك الاتفاقيات التي هي
فرع عن مضمونها، إلا أن هناك ثلاث نقاط ينبغي التوقف عندها مليّاً:
الأولى: فيما يتعلق بالزراعة، يقول التقرير: إنه على الرغم من الصراع
بين أوروبا وأمريكا واليابان واستراليا ونيوزيلندا (أين الدول النامية؟) ، إلا أن
الحل النهائي يمثل في تحرير القطاع الزراعي في ثلاثة مجالات، هي: النفاذ إلى
الأسواق، والدعم المحلي، ومنافسة الصادرات، كما تتضمن النتائج طلباً بمعالجة
خاصة لوضع الدول النامية (ص21) .
إن الأمر في غاية الوضوح: فالدول المتنفذة تفرض سياستها، وما على
المعدومين إلا التقدم بطلب الاسترحام، وإلا فالأسواق يجب أن تفتح، والدعم يجب
أن يرفع، وإلا ستبادر أمريكا إلى استخدام حقها في الرد المناسب على المخالفين
لبنود الاتفاقية كما ذكرنا. فهل ستكون هناك زراعة محلية مستقبلاً؟ وما هو حجم
الخطر الذي يشكله الاعتماد على الواردات الزراعية، وبالذات في مجال استقلالية
القرار والدار؟ .
النقطة الثانية: وهي تكشف مدى مأساوية الواقع الذي تعيشه الدول النامية،
إذ تصف الأمم المتحدة في تقريرها لعام 1975م: أن براءات الاختراع تأتي من
خمس دول متقدمة فقط، وهذا يعني أن حماية حقوق الملكية الفكرية سوف تساهم
في زيادة عجز الميزان التجاري بين الدول المتقدمة والنامية، وعلى الرغم من
مقاومة أمريكا وأوروبا لهذا القرار المجحف، إلا أنهما خضعتا لضغوط شركات
صناعات الأدوية والملابس من أجل مراقبة وحماية تلك الحقوق (ص45) ، وهذا
يعني إبقاء العلاج والكساء بعيداً عن متناول أيدي المحتاجين في العالم النامي، فبعد
الزراعة جاء دور الطب، لكن صبراً.. أليس هناك منظمات غربية خيرية تسد هذا
الفراغ؟ الجواب نعم، لكن.. ما الثمن الذي تطلبه في المقابل؟
النقطة الثالثة: وتظهر حقيقة تلاعب الدول الكبرى بالاقتصاد العالمي وقوانينه
بصورة لا لبس فيها، فالطائرات مثلا تكلف كثيراً في صناعتها، وبالتالي: هي
صناعة توصف بأنها احتكارية، لكن أوروبا ممثله ببعض دولها أسست شركة
(إيرباص) ودعمتها ماليّاً لتتحدى بها الهيمنة الأمريكية على الطيران والفضاء،
خاصة وأن أمريكا تدعم الشركات المصنعة لديها من خلال الإعانات العسكرية غير
المباشرة، وكلاّ من أوروبا وأمريكا خالفا نظام التجارة العالمي، ولم يتعرضا لأي
عقوبات (ص74) .
ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها هنا، لماذا يتنافسون وهم على مذهب اقتصادي
واحد وملة دينية واحدة؟ ولماذا لا يعاقبون على خرقهم للقانون الذي فرضوه على
العالم بأسره؟ ومتى تكون للدول النامية سياسة مستقلة ومُجْدية كهذه؟ !
من آثار الاتفاقية الخطرة:
يخوض التقرير بعد ذلك في آثار الاتفاقية على الزراعة والصناعة والحواجز
غير الجمركية وقطاع الخدمات، فأوروبا مثلاً تساهم في تصدير 47% من إجمالي
الصادرات الزراعية العالمية، ولكن 90% من تلك الصادرات لا تتعدى أوروبا
الغربية! (ص77) ، أليس هذا هو الأمن والتكامل الغذائي الذي ترعاه أوروبا؟ ثم: إن دعم الدول الصناعية لزارعيها سيقلل من حصة الدول النامية من هذه التجارة، في الوقت الذي سترتفع فيه أسعار الصادرات الزراعية الأوروبية، وتتفق
الدراسات العلمية على حتمية هذا الارتفاع في الأسعار، وبالتالي: فإن الخاسر
الأكبر هو الدول الإفريقية والآسيوية، بينما ستمتلئ جيوب الفلاحين في أمريكا
الشمالية والجنوبية وأوروبا (ص81 - 82) .
أما في مجال الصناعة فإن استفادة الدولة النامية وبخاصة في مجال الملابس
والمنسوجات والأغذية والمواد الخام طفيفة جدًّا، بيد أنها ستحدث انتعاشاً في
صناعة الحديد والصلب والمعدات الصناعية والكيميائية والسيارات في أوروبا
وأمريكا (ص92) ، وهذا يذكر بالمثل القائل (ما تجمعه الذرة في سنة يأخذه الجمل
في خُفّه) !
كما يشير تقرير الأمم المتحدة سنة 1988م إلى أن التأثير الإجمالي للحواجز
غير الجمركية على الواردات من الدول النامية أكبر منه على واردات الدول
المتقدمة التي تستخدم هذا الأسلوب لحماية قطاعات الأغذية والحديد والمنسوجات
والسيارات في بلادها (ص94) ، والأعجب من هذا الانحياز الغربي أو العداء
المستحكم أو التعالي الأوروبي العرقي هو: زيادة نسبة الحواجز غير الجمركية
على القطاع الذي يتوقع الفقراء الاستفادة منه، ألا وهو قطاع الملابس: وذلك
بسبب وفرة ورخص الأيدي العاملة، وتوفر المواد الخام وقلة تكلفتها (ص95) ،
بعبارة أشد وضوحاً: إن الدول المتقدمة عاقدة العزم على إبقاء الدول النامية في
حالة التبعية المطلقة إلى أجلٍ غير معلوم، طالما استمرت الأخيرة في الاستماع إلى
نصائح الخبراء الغربيين وإقصاء الناصحين المخلصين، ويؤيد التقرير هذه النظرة
القاتمة بتأكيده على استفادة أوروبا في المجالات الصناعية عموماً، مما يعني
استمرار ارتفاع مستوى المعيشة في الغرب وانخفاضه في الشرق (النامي) ،
وبالتالي تعميق الفجوة الحضارية أكثر فأكثر! وليست مجالات الخدمات
والاتصالات والمدارس والمصارف والمستشفيات والمواصلات بأفضل حال من
سابقيها فيما يتعلق بالعالم الثالث؛ إذ سيكون نصيب الأسد للدول المتقدمة، بينما
يتوزع الفقراء فتات السياح الذين سيتدفقون إلى العالم (النامي) للفرجة على عالم
البؤس والضياع الإنساني (ص106) ، وهنا نقف مع ما تنطوي عليه السياحة
ومفهومها لدى (الخواجات) من إسفاف وانحلال وفجور ورذيلة سينجرّ إليها العالم
(النامي) ، وينطق لسان الحال: (حشف وسوء كيل) ، لكن من المقصود؟ !
ينتقل التقرير بعد ذلك لتوضيح آثار الاتفاقية على دول العالم مبتدئاً بأوروبا
الغربية، فالبشائر بالنسبة لدافعي الضرائب هناك كثيرة، منها: انخفاض أسعار
السلع الزراعية والأعلاف، مما يفيد شركات التعليب ومعالجة الأغذية وتجار
المواشي (ص108) ، هذا بالإضافة إلى تراجع نسبة الضرائب على المواطنين
بسبب رفع الدعم الحكومي عن قطاع الزراعة، بينما ترفض دول الاتحاد الأوروبي
تحرير الخدمات التجارية: كالإعلام، والسينما، والفيديو حسب ما تنص عليه
الاتفاقية والسبب هو: حجم ذلك القطاع؛ إذ يشكل نصف صادرات العالم ... (ص 111) ، ونتساءل عن الحرية والتعددية (والآخر) عند دول غرب أوروبا، لأننا قد تعلمنا مما سبق ألا نسألهم عن احترام الاتفاقية التي أبرموها.
ثم إن خسارة دول هذه المنطقة تكمن في قطاع المنسوجات والملابس الذي
ستستحوذ عليه البرتغال وإيطاليا وتركيا؛ بسبب رخص الأيدي العاملة، كذلك
ستنافس الشركات غير الأوروبية مثيلاتها في قطاع الكيماويات، في الوقت الذي
تبدو فيه الصناعات ذات التقنية العالية في طور الأفول، بسبب قلة الإنفاق
الحكومي على برامج الأبحاث والتطوير اللازمة.
على الطرف الآخر: نجد أن دول أوروبا الشرقية (سابقاً) ستربح كثيراً من
تصدير السلع الزراعية للخارج، وبخاصة: القمح، والسكر، واللحوم، والألبان،
ومنتجاتهما، كما أن بعض الدول مثل: بلغاريا، وبولندا، ورومانيا، والمجر،
وروسيا، تمتلك ميزة نسبية في مجال الحديد والصلب، سوف تساهم إضافة إلى
الاستثمارات الأجنبية المتدفقة في تنشيط قطاع الصناعة (ص113) ، ولا نملك إلا
أن نقول: إن الغرب ماضٍ في الاهتمام بمحيطه الجغرافي وامتداده التاريخي
والديني الطبيعيين، وهناك شواهد أخرى على ذلك: كالأحلاف والمنظمات الأمنية
والاقتصادية التي استحدثت مؤخراً.
يسوق التقرير البشارة إلى شريك أوروبا الأكبر وهو الولايات المتحدة: بأن
الضرائب سوف تنخفض بسبب تخفيض الجمارك على الرغم من قلة الإنتاج وزيادة
الاستهلاك ورفع الدعم الحكومي؛ لأن الاستيراد سوف يلبي حاجات أبناء (العم)
وبأسعار زهيدة، بينما ستساهم الجمارك المحلية المخفضة في إنعاش القطاع
الصناعي، إلا أن أعظم الفوائد بالنسبة لأمريكا سوف تأتي من قطاع الخدمات ... (ص 124) ، ولن تكون الحديقة الخلفية لأمريكا بأقل حظّاً من جارتها العظمى، إذ إن سياسة دول أمريكا اللاتينية التصديرية وارتفاع الأسعار العالمية ستنعشان اقتصاديات تلك الدول في مجال الزراعة والمعادن والمنسوجات والحديد والصلب والجلود والأحذية والسياحة والسفر (ص131) .
دول الشرق الأوسط والاتفاقية:
يستعرض المؤلفان بعد ذلك منطقة الشرق الأوسط في ظل الاتفاقية الجديدة
ويؤكدان ما قالاه في بداية التقرير من محدودية الأثر؛ وذلك بسبب استبعاد
الهيدروكربونات (النفط ومشتقاته) من جولة المحادثات، كما أن ارتفاع أسعار السلع
الزراعية سيؤدي إلى زيادة سوء حالة المنطقة في الوقت الذي تغنم فيه إسرائيل من
الاتفاقية لكونها مصدراً للخضروات والفواكه، ولقلة وارداتها الزراعية (ص137) ،
ثم إن تواضع القاعدة الصناعية للمنطقة، يقلل من فرص استفادتها في مجال
التصنيع تحت الظروف الجديدة، بينما ستترك حقوق الملكية الفكرية وإجراءات
الاستثمار آثارها على المنطقة.
وعلى الرغم من عدم جدوى الاتفاقية لدول المنطقة إلا أن هناك سببين
رئيسين للانضمام إليها حسب رأي المؤلفين: الأول: هو النفاذ إلى الأسواق الدولية
في مجال التصدير، والثاني: هو جذب رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة والعامة،
وهذا يعني استمرار مسلسل الانقياد إلى شروط وأهداف الدول الدائنة، التي لا
تختلف عن تلك التي ينشدها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ثم: ما هى
الصادرات التي تحرص المنطقة على استمرار تدفقها؟ ! إذ هي فقيرة صناعيًّا،
وعالة زراعيًّا على غيرها، ومسلوبة (جيولوجيّاً) .
دول إفريقيا والاتفاقية:
لا تختلف إفريقيا كثيراً عن الشرق الأوسط من جهة استفادتها من الاتفاقية؛ إذ
هي تحتاج إلى وقت طويل من الإصلاحات الزراعية حتى تجني ثمار حرية التجارة
وارتفاع أسعار السلع الغذائية والزراعية، لكن الشمال الإفريقي لديه فرصة في
مجال المنسوجات والملابس إذا تمكن من تحسين البنية التحتية للبلاد، الأمر الذي
يتطلب مبالغ طائلة جدّاً (ص139) ، ولكن التقرير يبشر بزيادة الاستثمار الأجنبي
المباشر على أي حال، مما يعني زيادة في إغراق المنطقة وإرهاق الشعوب ورهن
أجيال المستقبل بالديون الخارجية.
التحديات التي تواجه الاتفاقية:
يحدثنا الفصل الأخير عن هيكل المنظمة الوليدة، ثم عن التحديات التي سوف
تواجهها، وعلى رأسها الحاجة إلى وضع قواعد للاستثمار الأجنبي على الرغم من
استحسان الدول النامية له وركضها خلفه، وكذلك: مكافحة الاحتكار العالمي،
وعلاقة التجارة والبيئة، وحقوق الإنسان والعمال (عارضتها الدول النامية ضمن
جوله المناقشات سنة 1986م رغبة في استمرار زيادة الأرباح في ظل غياب مراقبة
وشروط النقابات) والتكتلات الإقليمية وأثرها على حرية التجارة (ص143-152) .
بهذا انتهى التقرير.. وتبرز الأسئلة الملحة فيما يتعلق بالاتتفاقية وأطرافها
المتفاوتين في القوة السياسية والاقتصادية.
فلماذا تخضع دول العالم بأسرها لقوانين لا يحترمها مشرعوها؟ ولماذا تختار
الدول المتقدمة الطرق القانونية لفرض رغباتها على العالم النامي أو فيما بينها؟
أَلأَنها أكثر حضارية من وسائل القوارب المسلحة التي اتبعها المستعمرون القدامى؟
أم لإيجاد مبرر قانوني يقضي بمعاقبة المخالفين، والذين يتوقع زيادتهم مستقبلاً في
ظل بروز أجيال ترفض الخضوع والتبعية وتنشد الاستقلالية؟ .
لعل الجواب الذي توصلتُ إليه يشير إلى قيام أمم متحدة اقتصادية لتحل محل
نظيرتها العسكرية في مرحلة الوفاق الدولي الجديد، وندعو ونرجو! ! ألا تكون
ظالمة كسابقتها، إلا أن المتعارف عليه هو أن الأفعى تغير جلدها ويبقى السم في
أنيابها.
__________
(*) فيليب إيفانز وجيمز والش (دليل وحدة أبحاث الإيكونومست إلى الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة) : (جات) الجديدة: منظمة التجارة العالمية، ترجمة / حمد الخريف وفواز الدخيل، ط1، الرياض، 1415هـ.(99/56)
المسلمون والعالم
المسلمون في أوغندا
تاريخ وتحديات
بقلم: زياد صالح لو بانغا
تمهيد:
إفريقيا الخضراء (جنوب الصحراء الكبرى) ، يعتبرها المستعمرون
الأوائل ومن خلفهم من جماعات التنصير التي ربت نفراً من أبناء إفريقيا ونصّرتهم
وجعلتهم حكاماً، يعتبرون تلك المناطق حكراً على النصرانية، مع أن جل تلك
المناطق سبق أن حكمتها دول إسلامية قديمة، وكثير من أهلها مسلمون، وأوغندا
نموذج لتلك الدول التي نرى من تاريخها القديم ما يؤكد إسلاميتها حتى عصر متأخر
جدًّا، وسنرى كيف تمزق المسلمون فيها، وفتح المجال لفئات منحرفة منسوبة إلى
الإسلام للعمل بها حتى حكمها (نصراني متغطرس) ، نلمس حقده في تصريحاته
ومواقفه الأخيرة، وفي هذا المقال بيان لحال هذه الدولة والتحديات التي واجهتها
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
أولاً: تعريف بأوغندا جغرافيّاً:
موقعها الجغرافي: تقع دولة (أوغندا) في الوسط الشرقي للقارة الإفريقية،
على خط الاستواء، ولها خمس جارات من الدول: تجاورها دولة (كينيا) شرقاً، ... و (زائير) غرباً، و (السودان) شمالاً، و (تنزانيا) و (رواندا) جنوباً، ولعدم إطلالها
على البحر، انتظمت في مجموعة الدول البرية الحبيسة، التي ظلت سنين طويلة
دون أن تطأها الأقدام الأجنبية، مما ساعدها على المحافظة على أصولها البشرية؛
فسكانها أفارقة أقحاح، ينتمون إلى قبائل (البانتو (، و (النيليين) ، و (لووا) [1] .
سبب تسميتها: أطلقت عليها بريطانيا (يوغندا) نسبة إلى مملكة (بوغندا)
إحدى الممالك التي كانت تتكون منها أوغندا قبل اتحادها، غير أن الدكتور (محمد
سيد محمد) ذهب إلى أن تسميتها راجعة إلى اشتقاق كلمة (يوغندا) من اسم إحدى
ممالكها (بوغندا) ، فأصل الكلمة بلغة البانتو: (غاند) ، وكلمة (باغندا) معناها:
قبيلة الغاند، وتسمى لغتها (لوغندا) : ويطلق على بلادهم (بوغندا) ، واعتاد
المستكشفون القادمون من ساحل شرق إفريقيا استخدام المقطع الأول في اللغة
السواحلية وهو (أو (، فأطلقوا على البلاد (أوغندا) ، وهو ما أطلق بعد ذلك على
كل المناطق التي أدمجت في محمية أوغندا [2] ، وهو رأي وجيه، يدل على أن
التسمية محلية وليست أوروبية.
مساحتها: تبلغ مساحتها حوالي (410ر243) كم2، تغطي المياه منها 15%.
المناخ: إن كثرة المساحات المائية، وعظم ارتفاعها، وهطول الأمطار على
مدار السنة.. كل ذلك ترك أثراً بالغاً في تعديل درجة الحرارة في أوغندا، إذ لا
تزيد غالباً على (27) [3] .
أهم مدنها: من أكبر مدنها (كمبالا) ، وهي العاصمة الإدارية والتجارية، ... و (عنتيبي) ، وهي المدينة السياسية، وبها المطار الدولى، و (جنجا) ، وهي المدينة
الصناعية، ومنها ينبع نهر النيل أطول نهر في العالم، و (إمبالي) ، وفيها أنشئت
الجامعة الإسلامية، التي افتتحت سنة 1988م.
6- استقلالها: دخلت أوغندا تحت الاحتلال البريطاني سنة (1308هـ
1890م) ، وظلت تابعة لحكمه اثنين وسبعين عاماً، وأخذت استقلالها سنة (1381
هـ 1962م) . [4]
عدد سكانها: يبلغ عدد السكان في أوغندا الآن حوالي (17مليون) نسمة [5] ،
يترواح عدد المسلمين فيها بين (35%40%) [6] ، وعددهم في ازدياد مطرد.
ثانياً: دخول الإسلام في أوغندا:
ظلت (أوغندا) ردحاً من الزمن بلداً وثنيّاً، حتى منّ الله عليها بالإسلام، حين
دخلها سنة (1260هـ 1844م) ، ويعتبر الإسلام أول دين سماوي شق طريقه إليها؛ ليخرج الناس من عبادة الأوثان والطواغيت إلى عبادة الله الواحد القهار [7] ، وقد
أخذ دخول الإسلام في هذا البلد مكاناً رئيساً في تاريخه، إذ المؤرخون كلهم يبدؤون
عنده، وليس هناك من الحفريات أو الآثار ما يتحدث عن هذا البلد قبل الإسلام،
ومن هنا.. كان لزاماً على المسلمين أن يهتموا بهذه البقعة وسائر البقع الإفريقية
وغيرها، لعدة أمور، منها:
1- انتشار الإسلام: انتشر الإسلام في أكثر مناطق القارة الإفريقية بسرعة
فائقة؛ حيث أصبحت نسبة المسلمين فيها هي الغالبية العظمى، فقد وصلت إلى ... (7 ر51%) ، وقيل (57%) [8] مما يدل على أن هذه القارة إسلامية من حيث النسبة
العددية، وأن مستقبلها إن شاء الله مستقبل إسلامي مشرق.
2- أن إفريقيا تتوسط قارات العالم الخمس، وبإمكانها أن تكون همزة وصل
بين بقية القارات من حيث نقل الثقافة، والمعرفة، والتجارة.. وغيرها من
الحاجات الضرورية للإنسان، أضف إلى ذلك أن أكثر أراضيها خصبة، فلو
استغلت كلها في الزراعة والحرث لقل الفقر في العالم كله.
وقد دخل الإسلام أوغندا عبر محورين أساسين:
المحور الأول: التجار العرب والمسلمون السواحليون، الذين أتوا من شرق
إفريقيا، أيام الدول الإسلامية التي قامت في تلك المنطقة في عهد النبهانيين،
وإمبراطورية الزنج الإسلامية، ودولة بنى سعيد في (زنجبار) ، وقد دخل هؤلاء
أوغندا سنة (1260هـ 1844م) ، وكان أولهم وصولاً الشيخ/أحمد بن إبراهيم
العمري (رحمه الله) ، وذلك في عهد الملك (سونا الثاني) وقد وقف هذا الشيخ
(رحمه الله) في مجلس الملك، وتحدث عن الإسلام ومحاسنه وآدابه، حتى اقتنع
الملك، فأسلم ومن معه، وتعلم القرآن الكريم، وحفظ منه أربعة أجزاء، إلا أنه لم
يعثر على أنه فعل شيئاً يذكر لنشر هذا الدين [9] .
المحور الثاني: العرب المسلمون: حيث انضم عدد منهم إلى الحملات
الاستكشافية لمنابع نهر النيل، التي لقيت ترحيباً كبيراً من الملك (موتيسا الأول) ،
الذي ورث عرش الملك بعد أبيه (سونا الثاني) ، وقد أسلم هو أيضاً وحسن إسلامه، وطلب من (الخديوي إسماعيل) حاكم مصر أن يرسل له علماء لهداية شعبه،
وأبدى هذا الملك حماساً منقطع النظير للإسلام، وعمل على نشره، ليس وسط
قومه في مملكة (بوغندا) فحسب، بل تعداها إلى الممالك الأوغندية المجاورة،
عندما كتب إلى (كابا ريغا) ملك مملكة (بونيورو (داعياً إياه إلى الإسلام، كما حث
أمراءه في مملكته وشعبه كله على اعتناق هذا الدين الرباني، وإقامة شعائره الدينية، وتشييد مساجده، ومنح المسلمين السواحليين مشيخات وولايات؛ لتدبير شئونها
الدينية، كما أدخل التقويم الهجري في أنحاء مملكته، وأمر الناس بالتحلي بآداب
الإسلام وأخلاقه: في معاملاتهم اليومية، وشؤونهم الاجتماعية [10] .
وهكذا انتشر الإسلام في ربوع أوغندا، وكان انتشاره في مملكة (بوغندا)
أقوى من أي مملكة أخرى مما جعل التيارات الوافدة تتآمر عليها لتمنع المد
الإسلامي المتدفق منها، ولولاها لكانت ممالك أوغندا كلها مسلمة، ولكانت بمثابة
ركيزة إسلامية كبيرة في منطقة الشرق الإفريقي كلها، وقد دام عهد (موتيسا الأول)
ثمانية وعشرين عاماً؛ أي: من سنة (1273هـ 1856م) إلى سنة (1302هـ
1884م) [11] .
ثالثاً: مراحل انتشار الثقافة الإسلامية وتحدياتها:
ويمكن تقسيم هذه المراحل إلى ثلاث، وهناك تحديات كثيرة واجهت كل
مرحلة، وسنذكر بعضها بإيجاز، وهذه المراحل هي:
1- المرحلة الأولى: من وقت دخول الإسلام في أوغندا سنة (1260هـ
1844م) إلى سنة (1391هـ 1971م) .
2- المرحلة الثانية: من سنة (1391هـ 1971م) إلى سنة (1399هـ
1979م) .
3- المرحلة الثالثة: من سنة (1399هـ 1979م) إلى سنة (1416هـ
1996م) . الثقافة الإسلامية وتحدياتها من (1260هـ 1844م) إلى (1391هـ
1971م) :
قبل أن أتطرق إلى الثقافة الإسلامية في هذه الحقبة من الزمن، أود أن أكمل
الشوط مع القادة والملوك، لتتضح الصورة التاريخية جيداً، فقد ورث (موانغا) أبيه
(موتيسا الأول) سنة (1302هـ 1884م) ، ولم يكن في قوة أبيه من التمسك بالدين، بل إن انحيازه إلى الإرساليات التنصيرية دليل واضح على تحوله عن الإسلام،
صحيح أن أباه في نهاية عهده، هو الذي أذن للإرسالية البروتستانتية بدخول
أراضيه سنة (1877م) ، ثم أذن للإرسالية الكاثوليكية بعد ذلك سنة (1879م) ، لكن
عهد (موانغا) امتلأ بالحروب ضد الإسلام والمسلمين، ففي سنة (1889م) توحدت
الإرساليتان لمحاربة المسلمين، وألحقت بهم هزيمة مؤلمة، أجبرتهم على التقهقر
إلى (يونيورو (في المملكة المجاورة، ولم يحرك ذلك ساكن (موانغا) .
كما أنه في سنة (1891م) هاجم المسيحيون المسلمين في حدود مملكة (يونيورو (وقتلوهم شر قتلة، وكان ذلك بمرأى ومسمع من (موانغا) ، وقد دام ملكه حتى سنة (1315هـ 1894هـ[12] ثم تلاه حكام نصرانيون، حتى آخر المرحلة، فقد تلاه ابنه (داودى شوا) سنة (1315هـ 1894م) ودام ملكه حتى سنة (1360هـ 1939م) [13] ، ثم اعتلى العرش ابنه (إدوارد فريدريك موتيسا الثاني) ، وفي عهده في عام (1369هـ 1948م) بدأت الأحزاب الوطنية تتكون للمطالبة بالاستقلال عن بريطانيا، وفي سنة (1373هـ 1952م) طالب الملك (موتيسا الثاني) بالحكم الذاتي من بريطانيا، فمنحته ذلك سنة (1382هـ 1962م) وفي السنة نفسها نظمت الانتخابات العامة التي فاز فيها حزب (مؤتمر الشعب الأوغندي) بقيادة الدكتور (ملتون أبوتى) ، فأصبح أول رئيس لأوغندا بعد الاستقلال، وفي سنة (1386هـ 1966م) اختلف الرئيس مع الملك (موتيسا الثاني) ، فأرسل الرئيس حرسه الخاص للقبض عليه، إلا أنه تمكن من الفرار، ولجأ إلى بريطانيا ليقضي فيها بقية عمره، وتوفي سنة (1389 1969م) ، ثم انتهى عهد هذا الرئيس بانقلاب عسكري في سنة (1391هـ 1971م) [14] وبانتهاء عهده انتهت المرحلة الأولى للتاريخ الأوغندي من حيث القادة والملوك.
أما الثقافة الإسلامية فقد انتشرت مع مجيء الإسلام إلى أوغندا؛ حيث أنشئت
هناك المساجد والمدارس على نمط الكتاتيب، وكان الذي يتخرج منها يصير عضواً
فعالاً في المجمتع الإسلامي، وقد انحصرت تلك الثقافة في المبادئ التي أتى بها
المسلمون الأوائل، الذين قدموا إلى أوغندا، وتوقفت صحتها من عدمها على ما
كان يحملونه من اعتقادات واتجاهات وأفكار ومفاهيم، وكان لها الأثر البالغ في
الأجيال القادمة، التي تربت في كنفهم، وتخرجت على أيديهم. وأيّاً ما كان الأمر،
فقد انتشرت الثقافة الإسلامية عبر تعليم اللغة العربية قراءة ونطقاً: إذ هي الأساس
في معرفة الدين الإسلامي وفهم عباداته وشعائره، وقضاياه الجوهرية، ولم يكن
الاعتماد في تعليمهم إياها، على كتاب معين، إلا ما كانوا يرتجلونه من حفظهم
وسليقتهم، حيث كان أغلبهم من العرب التجار، والمصريين الذين أرسلهم حاكم
مصر (الخديوي إسماعيل) . وأما علم الفقه، فقد استقوه من بعض الكتب المختصرة
في المذهب الشافعي، التي تيسر عليهم حملها في رحلاتهم التجارية، وكان منها:
1- سفينة النجاة. 2- إرشاد المسلمين. ... 3- الغاية والتقريب. ...
4 -الياقوت النفيس. ... ... 5- هداية الأطفال. ...
6- المبادئ الفقهية. 7- عمدة المالك وعدة الناسك، وغير ذلك ...
كما أنه في الرقائق والمواعظ، اعتمدوا على: تذكرة الواعظين، ودرة
الناصحين، والخطبة المنبرية لابن نباته [15] ، فاستطاعوا بذلك أن يضعوا حجر
الأساس للثقافة الإسلامية في أوغندا، الذي انطلق منه من بعدهم، فأخدت رقعة
الثقافة تتسع بكثرة طلابها، الذين وفدوا إلى مدارس هؤلاء الشيوخ لطلب العلم
والمعرفة.
والتحديات المواجهة للثقافة الإسلامية في كل مراحلها كثيرة ومتعددة، ولكنى
سأوجزها في نوعين:
1- التحديات الداخلية:
وأعني بها التي كانت من المسلمين أنفسهم، وعلى رأسهم علماؤهم الأوائل،
فإنه على الرغم من جهودهم المشكورة، وفضلهم الكبير في نشر الإسلام في ربوع
أوغندا، إلا أنهم اصطحبوا بعض الكتب الخطيرة، التي تحتوي على البدع
والخرافات، وعلموها أبناء الإسلام الجدد، فتصور هؤلاء أن هذه الكتب من جملة
المصادر التي يُستقى منها الإسلام الصحيح، أضف إلى ذلك: أن وقع اللغة العربية
وهيبتها في نفوسهم لكونها لغة القرآن والسنة جعلهم يعتقدون أن كل ماكتب بالعربية
متصل بالقرآن، فهو إذن من الإسلام، وبالتالي: يجب توقيره واحترامه.
وهذه الكتب شكلت تحدياً كبيراً على عقيدة المسلمين الأوغنديين، وخاصة في
موضوعاتها الجوهرية، مثل:
(أ) الغلو في الرسول:
فإن المسلمين في أوغندا عرفوا نبيهم عبر الكتب التالية: كتاب المولد للبرزنجي، وهو كتاب يحتوي على قصص مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع الغلو في شخصيته مدحاً وثناءً، وقد أصبح هذا الكتاب معظماً جدّاً؛ حيث كانت تقرأ أبوابه في المناسبات الإسلامية، وكان كل مسلم يحرص على اقتنائه، حتى الذي لا يعرف منه إلا اسمه، واستمر هذا الوضع حتى في المرحلة التي تلت تلك المرحلة.
كتاب البردة، للبوصيرى، وهو كتاب صوفي، كان صاحبه من الغلاة في
الإطراء والمدح لرسول الله، حتى إن بعض مقالاته، تصل إلى الشرك بالله
(تعالى) ، وقد كان المسلمون يحفظونه عن ظهر غيب، ويتدارسونه كل ليلة جمعة، وفي رمضان كله.
(ب) علم السحر والتنجيم:
أما التنجيم فقد استقوه من كتاب الأباجاد، وأما السحر، فقد أخذوه من كتاب شمس المعارف، وكلاهما يحتويان على الضلال والشرك بالله، فإن الأخير ذكر في خاتمته إشارات تلزم البراءة من الله (تعالى) ورسوله، وتعظم الجن والشياطين [16] . وهذا يدل على أن الثقافة الإسلامية في تلك المرحلة كانت مهددة بالسقوط والانحطاط؛ لفقدان الأساس من العقيدة والتصور السليم لحقائق الوجود وطرق التعامل معها.
2- التحديات الخارجية:
وأعني بها: التي واجهت الثقافة الإسلامية من قبل التيارات غير الإسلامية،
التي اكتسحت البلاد بشكل كبير، وكان على رأسها الاستعمار البريطاني؛ فقد
أصيبت الثقافة الإسلامية بنكسة كبيرة، عندما احتلت بريطانيا أوغندا سنة (308
هـ 1890م) ، وفرضت الحماية عليها سنة (1312هـ 1894م) ، وحولتها إلى
مستعمرة تابعة لحكمها ونفوذها، وهذا الاحتلال اتخذ أسلوبيين من التحدي:
(أ) تعزيز البعثات التنصيرية: لقد عزز الاستعمار مواجهته للثقافة
الإسلامية بالبعثات التنصيرية التي تنافست في العمل على ارتداد الناس عن الإسلام، وعلى رأسهم الملك (موتيسا الأول) ؛ لأنها أدركت خطورة انتماء حاكم أعلى لدين
معين وخاصة الإسلام لأنه بذلك يمكنه الحيلولة دون اعتناق قومه أي دين آخر،
وفعلاً، تمكنت الإرساليتان البروتستانتية والكاثوليكية من تحويل الملك (موتيسا
الأول) عن مناصرة الإسلام وأهله، وذلك بإطلاق شائعات مختلفة، من بينها: أن
أتباعه المسلمين يكرهون إمامته في الصلاة، لأنه غير مختتن (وكان من عادات
الملوك عدم إراقة شيء من دمائهم، سواء بالختان أو بغيره) وأنه بذلك أخل بسنن
الإسلام وتعاليمه، فلما سمع الملك هذا الكلام استدعى مؤذنه ورئيس خدامه وسأله
عن ذلك، فردد على مسامعه: أنه وجميع المسلمين يكرهون الصلاة خلفه والأكل
معه؛ لأنه لم يتبع سنة الإسلام في الختان، وعلى الفور انزعج الملك بما صدر من
المؤذن، وأمر بمحاصرة المسلمين وأحرقهم أحياء في (نامغونغو) [17] ، وما أن
أحرق هؤلاء حتى أصبحت الثقافة الإسلامية، في غيابة الركود والجمود، إذ لم
يلتقطها أحد لينشرها في الأجيال الجديدة، إلا بعض من أنجاهم الله (تعالى) من فتنة
هذا الملك.
(ب) تشجيع المذاهب الهدامة، وتقديمها بديلاً عن الإسلام الصحيح:
كالقاديانية، والإسماعيلية، والبهائية وغيرها، فهذه المذاهب المنشقة عن الإسلام،
جاء بها الباكستانيون والبنغاليون والهنود، الذين استقدمتهم بريطانيا وكان أكثرهم
يحملون جنسية بريطانية لمد خطوط السكك الحديدية، وحيث إن بريطانيا كانت قد
احتلت بلادهم، فقد زاد توافدهم وهجرتهم إلى أوغندا، حتى استوطنوها، وزاولوا
التجارة فيها حتى فاقوا أقرانهم المواطنين [18] ، وبنوا مساجد ومدارس عرفت
بأسمائهم، فهؤلاء مهما أظهروا الإسلام، فإنهم يشوهونه بعقائدهم الفاسدة، وآرائهم
الباطلة، وتقديم بريطانيا لهم على المسلمين الحقيقيين، إنما يعني ذلك: التحدي
السافر للإسلام وتعكير صفو ثقافته وحضارته.
وللحديث صلة.
__________
(1) انظر: حقائق تاريخية عن العرب والإسلام في إفريقيا الشرقية، لمحمد أحمد مشهور ص 75.
(2) مجلة كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز، العدد (3) 1397هـ، مقال بعنوان: أوغندا قبل الحماية، لسيد عبد المجيد بكر ص67.
(3) الأقليات المسلمة في إفريقيا: ج2/ 128، 129.
(4) الأقليات المسلمة في إفريقيا: ج2/ 128، 129.
(5) انظر: العالم الإسلامي اليوم، د عادل طه يونس، ص48.
(6) انظر: مجلة منار الإسلام، شعبان 1410هـ 7.
(7) انظر: الأقليات المسلمة في العالم، ج2 ص971.
(8) المصدر السابق، ص11.
(9) مجلة العلوم الاجتماعية العدد (6) ، ص21، 23.
(10) مجلة العلوم الاجتماعية العدد (6) ، ص21، 23.
(11) مجلة العلوم الاجتماعية العدد (6) ، ص21، 23.
(12) مواطن الشعوب الإسلامية في إفريقيا، ص21، 25-30.
(13) مواطن الشعوب الإسلامية في إفريقيا، ص21، 25-30.
(14) مواطن الشعوب الإسلامية في إفريقيا، ص21، 25-30.
(15) مظاهر الانحراف في توحيد العبادة، ص10، 11.
(16) مظاهر الانحراف في توحيد العبادة، ص10، 11.
(17) الدفاع عن أراضي المسلمين من أهم فروض الأعيان، ص92.
(18) الأقليات المسلمة في إفريقيا، ج2/133.(99/66)
المسلمون والعالم
مجاهدو مورو.. حصاد مرحلة
بقلم: التحرير [*]
تمهيد:
يسود التوتر الشديد منطقة مورو الإسلامية في هذه الأيام، ويتوقع سكانها
المسلمون والنصارى وغيرهم أن تندلع نيران الحرب المدمرة في أي لحظة، ذلك
أن حكومة (راموس) حشدت قواتها المسلحة البرية والبحرية والجوية في هذه
المنطقة، إذ إن سبعين في المئة من جنود القوات المسلحة الفلبينية قد تم نقلهم مع
أجهزتهم الحربية إلى منطقة (مينداناو) .
ومنطقة (مينداناو) هي المنطقة التي يطلق عليها المسلمون: اسم (مورو) ،
وما زالت الحكومة تنقل إليها القوات معللة ذلك بسببين، هما:
أولاً: حراسة المشاريع الحكومية في المنطقة، ومنها: اكتشاف منابع النفط،
وإنشاء الطرق، واستصلاح الأراضي الزراعية.
ثانياً: مواجهة الهجوم الموسع المتوقع من قبل (جبهة تحرير مورو الإسلامية) علماً بأن الحكومة تزعم أن أجهزة استخباراتها استخلصت معلومات أكيدة تفيد أن
مجاهدي (جبهة تحرير مورو الإسلامية) سيقومون بهجوم شامل وضربات مفاجئة،
والواقع أن حكومة الفلبين الصليبية اتخذت ادعاءها وزعمها المذكورين مبرراً لحشد
قواتها في المناطق الإسلامية؛ فبالنسبة إلى مشاريعها المذكورة: فهى مشاريع عادية
لا تحتاج إلى أكثر من مئة ألف جندي لحراستها، وأما زعمها بأن مجاهدي (جبهة
تحرير مورو الإسلامية) سيقومون بالهجوم الشامل على الفلبين فلا أساس له أيضاً،
ولكنها اصطنعت ذلك لتبرير تلك الحشود الضخمة في المنطقة، لمحاولة تحقيق
نواياها السيئة من وراء ذلك.
والسر وراء حشد القوات معروف، وهو: أن هذه الدولة الصليبية (التي
أقامها الاستعمار في منطقة الشرق الأقصى) تحاول أن تحقق نواياها القديمة، وهي
القضاء على المسلمين في المنطقة؛ لأن الصليبيين لا يستطيعون أن يتعايشوا مع
الموحدين الحقيقيين.
الأزمة الاقتصادية المتزايدة: بينما تنشر الحكومة الصليبية قواتها المسلحة في
المناطق الإسلامية، تعاني هذه المناطق أزمة اقتصادية شديدة، وقد ارتفع ثمن كل
شيء، ومن ذلك: الأرز الذي يعتبر غذاءً أساساً في المنطقة، وبطبيعة الحال فإن
الناس يكرهون ارتفاع الأسعار، ولكن هناك شيء آخر أخطر وأشد وأبغض من
ارتفاع الأسعار، وهو: ارتفاع نسبة الجرائم وانتشارها، وقد تصاعدت الجرائم مع
حشود قوات الفلبين المسلحة في المنطقة، ففي كل يوم يقتل أو يغتال عدد من الناس، وخاصة في محافظتي (ماجينداناو) و (كوتباتو) الشمالية، ولا يكاد يمر أسبوع إلا
ويكون قد خُطف أحد الأغنياء أو الموسرين، وقد انتشرت الفواحش وشرب الخمر
ولعب القمار وغير ذلك، وتدهور الاقتصاد، وانتشرت السرقة والنهب وجميع
أنواع الفساد والإفساد، بالإضافة إلى ما ذُكر: فإن الجواسيس ورجال المخابرات
الذين يقومون بأعمال تخريبية خفية وينشرون الشائعات، ويوقعون العداوة بين
الناس عن طريق الدسائس وإشعال الفتن؛ مما أدى إلى انتشار الفوضى.
المناطق المحررة سالمة: أما المناطق المحررة التي يسيطر عليها المجاهدون، فلم تتأثر أبداً بسموم هؤلاء، ولم تتعرض للفساد، علماً بأن النظام المتبع فيها
نظام إسلامي، ولا يوجد فيها آثار الانحراف، ولا تمارس فيها المحرمات: كشرب
الخمر، ولعب القمار، وغيرهما من الأمور التي لا يبيحها الشرع.
الوضع الدعوي: رغم الظروف الصعبة التي تحيط بالمنطقة والحياة القاسية
التي يعيشها دعاتنا، فإن الدعوة إلى دين الله الحق تشق طريقها، فيحسن إسلام
المسلمين، ويزداد عدد المسلمين الجدد يوماً بعد يوم؛ حيث يعتنق الإسلام كثير من
النصارى والوثنيين بحب ورضا، غير أننا لا نستطيع أن نقدم إحصاءً في هذا
التقرير العاجل، ولكننا نوضح هذه الأدلة:
أدلة على تحسن إسلام المسلمين السابقين:
1- تزدحم المساجد بالمصلين، وخاصة في القرى التي يسيطر عليها
المجاهدون.
2- كثرة التجمعات الكبيرة للاستماع إلى المحاضرات الإسلامية، ومناقشة
المسائل المتعلقة بتعاليم الدين الحنيف.
3- وجود آلاف مؤلفة من المسلمين في قواعد (جبهة تحرير مورو الإسلامية)
ومراكزها؛ للاشتراك في الأنشطة الإسلامية فيها.
4- انتشار الحجاب في الجامعات العلمانية، والمؤسسات الرسمية، وفي
الأسواق والشوارع.
5- تمسك المسلمين بعقيدة السلف الصالح، وخاصة المجاهدين منهم التابعين
لجبهة تحرير مورو الإسلامية، وتركهم البدع والخرافات.
6- نبذ العادات والتقاليد المخالفة للإسلام.
7- نمو عقيدة الولاء والبراء، وخاصة لدى المجاهدين.
8- نمو الوحدة والتضامن، والتعاون على البر والتقوى.
من ثمرات الجهود الدعوية للجبهة:
1- توافد عدد كبير من النصارى والوثنيين على المساجد الجديدة لإعلان
إسلامهم، مثل المسجد الذي بني في محافظة (بوكيد) .
2- تسابق زعماء القبائل على تعيين خريجي الدورات الشرعية، لتعليم
المسلمين أمور دينهم، وذلك في محافظة (بوكيد) التي يقطنها سكان معظمهم وثنيون.
3- إقامة مسجد ومدرسة في محافظة (أجوسان) على نفقة أهل الخير.
وقد فوجئ المدرسون المعينون في المدرسة: أن معظم التلاميذ الذين التحقوا
بالمدرسة من أولاد النصارى والوثنيين، الذين قالوا: إنهم يريدون أن يعتنقوا
الإسلام.
4- وقد أسلم عدد كبير من القبائل الوثنية في محافظة (سرانجاني) ، وفي
محافظة (كوتباتو) الجنوبية، ومحافظتي (داباو) الجنوبية والشمالية، ومحافظة
(أجوسان) ومحافظة (سوريجا) ومحافظة (زامبرانجا) الشمالية، وقد حضر عدد
كبير منهم إلى قاعدة أبي بكر الصديق حيث مقر القيادة العامة للدعوة والجهاد في
سبيل الله لحضور دورات تدريبية قصيرة هناك تعقد للمسلمين الجدد.
5- في هذه الأيام يتوافد على قاعدة أبي بكر الصديق عدد من المسلمين الجدد
الحاصلين على الشهادات الجامعية، لأداء الخدمة في التمريض، وفي الزراعة،
وغيرهما، ولتلقي الدروس الإسلامية.
وما ذكر أمثلة فقط للإنجازات والأنشطة الدعوية التي تشرف عليها (جبهة
تحرير مورو الإسلامية) .
الوضع الجهادي:
كان مجاهدونا منذ عام 1970م يلجؤون إلى ما يسمى حرب العصابات، أو
حرب الكر والفر؛ بسبب قلة الإمكانات الحربية، وليست لديهم أماكن ثابتة، فكانوا
يتنقلون في المناطق الجبلية الغابية، وظلوا على هذا الحال قرابة عشرين عاماً.
وقد بدأ الوضع يتغير منذ عام 1990م إلى وقتنا الحاضر، وشهدت هذه الفترة
تصاعداً كبيراً على صعيد المواجهات المسلحة بين مجاهدينا والقوات المسلحة
الفلبينية، وكانت معظم المواجهات لصالح المجاهدين (والحمد لله) .
وكانت بداية المواجهات التي انتصر فيها مجاهدونا حول قاعدة أبي بكر
الصديق في عام 1990م، واستمرت المواجهات الحربية المتقطعة إلى عام
1993م، وفي عام 1994م كانت المواجهات الحربية في محافظة (كوتباتو) الشمالية، في بلدية كل من (كارمين) و (أليوسان) و (بانيسيلان) .
واستولى مجاهدونا على ثلاث من القرى التي يستوطنها النصارى، وفي عام 1995م حشدت الحكومة سبعين في المئة من جنود قواتها المسلحة في المناطق الإسلامية، وحاول الجنود الصليبيون أن يحاصروا قاعدة أبي بكر الصديق حيث المقر الرئيس للقيادة العامة لجبهة تحرير مورو الإسلامية كما حاولوا أيضاً أن يحاصروا قواعدنا العسكرية الأخرى، وتقدم مجاهدونا لملاقاة جنود العدو الذين كانوا على أهبة الهجوم الموسع، وعندما شعر العدو أن مجاهدينا قد أتموا سيطرتهم على جميع الأماكن الاستراتيجية في الميدان، وأن جنوده محاصرون: بادر رئيس أركان القوات المسلحة الفلبينية الجنرال (أرتورو إينريلي) بإصدار أوامر إلى قواته المسلحة بالانسحاب، وانسحب جنوده فعلاً، وأما مجاهدونا فبقوا في مواقعهم ولا يزالون ثابتين فيها حتى الآن، وتقدم بعضهم قليلاً.
آثار انسحاب الجنود الصليبيين:
كان لانسحاب الجنود الحكوميين آثار طيبة في وضع الجهاد بخاصة، وفي
وضع المسلمين بعامة، وأهمها ما يلي:
1- رفع معنوية المسلمين المستضعفين الذين اعتادوا الهروب أمام جنود
الكفار، وهذه هي المرة الأولى في هذه البلاد منذ خمس وعشرين سنة أن ينسحب
عشرات الآلاف من جنود الكفار أمام المجاهدين، وكان المألوف أن يهرب الناس
أمام هؤلاء الجنود.
2- ارتفاع الأمل في النصر، وقد كان كثير من المسلمين المستضعفين يرون
أن النصر على جنود الحكومة المزودين بالأسلحة المتطورة أمر صعب، وبعيد
الوقوع، ولكن عندما رأوا أن عشرات الآلاف من الجنود الصليبيين مع دباباتهم
ومصفحاتهم ومدافعهم الثقيلة ينسحبون أمام المجاهدين: تيقنوا بأن النصر ممكن،
وليس بعيداً.
3- أن النصارى المستوطنين في بلاد المسلمين فقدوا ثقتهم بجنود الحكومة،
ويخشون الآن ألاّ يستطيع هؤلاء الجنود حمايتهم.
4- زعماء النصارى يتصلون بقادة الجهاد للتفاهم معهم، ويطلبون الأمان
منهم.
5-تغيرت معاملة النصارى مع المسلمين إلى الأحسن، فكان هؤلاء ينظرون
إلى المسلمين نظرة احتقار، والآن أصبحوا يحترمونهم.
6- تغيرت معاملة الجنود، ورجال الشرطة مع المسلمين في المدن إلى ... الأحسن، فأصبحوا الآن ينظرون إلى المسلمين نظرة احترام وإعزاز.
7- توقفت الأعمال الوحشية التي يقوم بها النصارى المسلحون أو الميلشيات
النصرانية ضد المسلمين.
وقد تبين عندنا الآن أن القتال الذي يكرهه كثير من المسلمين هو خير لهم، ... وأن المفاوضات السلمية التي يميل إليها كثير منهم هو شر لهم.
المرحلة الحاسمة:
لقد وصل جهادنا اليوم إلى مرحلة حاسمة، فقد كان مجاهدونا كما ذكر
يلجؤون إلى حرب العصابات، لقلة إمكاناتهم، ولأنه لم تكن لهم قواعد ومواقع ثابتة.
قواعدنا ومعسكراتنا ثابتة:
ولكن لدينا الآن بحمد الله قواعد ومعسكرات عسكرية ثابتة وبعضها معروف
لدى العدو، ومجاهدونا يقفون وجهاً لوجه مع جنود العدو في حدود البلديات والقرى
التي نسيطر عليها.
وقد حاول جنود العدو أن يستولوا على قواعدنا العسكرية ومعسكراتنا منذ
أربع سنوات، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع (ولله الحمد والمنة) ولا يزالون
يحاولون حتى الآن أن يستولوا على مناطقنا المحررة، وأن يحسموا المواجهة
المسلحة لصالحهم، ولكن بعون الله وفضله يتقدم مجاهدونا شيئاً فشيئاً إلى الأمام
لتحرير مزيد من أرضنا المحتلة.
حرب العدو النفسية:
بعد المساجلة العسكرية الملحوظة في هذه الفترة لجأ العدو إلى الحرب النفسية
والدعائية، ونشر الشائعات، وإيقاع العداوة بين الناس، وإلى نشر الفساد والإفساد
من إشاعة الخمور وأماكن اللهو.. لأن العدو ما زال يسيطر على جميع وسائل
الإعلام، وتتعاون معه قصداً ومن غير قصد بعض وسائل الإعلام الإسلامية.
دور علماء مورو المسلمين:
أصدر علماء مورو بياناً منذ ثلاثة أسابيع تقريباً، أوضحوا في مقدمته: أن
مسلمي مورو لم ينهزموا أمام الاستعمار في جهادهم الذي استمر أربعة قرون،
ولكنهم فقدوا وطنهم بسبب المؤامرات ضدهم والمفاوضات السلمية التي أدت إلى
إلحاق بلادهم بدولة الفلبين الصليبية، وصرحوا بأنه لا حل لمشكلة مسلمي مورو
إلا بإعادة استقلال بلادهم استقلالاً تامّاً مع سيادة الدستور الإسلامي من خلال حكومة
إسلامية تحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإذا لم يتحقق الهدف المذكور، فسوف
يواصل مسلمو مورو جهادهم جيلاً بعد جيل إلى أن يتم استقلال بلادهم مع قيام حكم
الله فيها.
وقد هز البيان الفلبين كلها، وكان دويه أقوى من دوي القنابل، وقد عقد
(راموس) اجتماعاً طارئاً بخصوص البيان المذكور.
أما الحكم الذاتي فلن يحل المشكلة مهما كان نوعه، لأن المسلمين لن يطيقوا
استمرار الحياة في ظل دستور الفلبين وقوانينها الوضعية الجائرة، ويجب على
المسلمين أن يقيموا حكم الله وشرعه، ولن يتم ذلك في ظل الدستور الفلبيني
الوضعي، لذلك: أصبح الجهاد فرض عين على مسلمي مورو.
فشل سياسة العدو:
لقد أدرك العدو الصليبي ذلك، وأدرك أن عمليات القمع والاضطهاد والظلم
والإرهاب لن تمنع المسلمين من مواصلة جهادهم، كما أدرك كذلك أن المكر والكيد
والخداع لن يفيده في معاملته مع المسلمين، كما علم أيضاً أن سياسة الاستعمار
القديمة وهي (فرق تسد) لن تؤثر على المسلمين.
وإذا كان العدو يريد أن يحسم الأمر لصالح الاستقرار والأمن فلم يبق أمامه إلا
أمران فقط:
إما أن ينسحب من المناطق الإسلامية، ويترك المسلمين أحراراً ليعيدوا بناء
دولتهم المغتصبة وهو الخيار السهل.
وإما أن يحارب المسلمين بقيادة (جبهة تحرير مورو الإسلامية) ، والعلماء
الأحرار والأخيار، وخيرة المسلمين من الدعاة والمربين والمجاهدين والمثقفين،
ويعلم العدو أن (جبهة تحرير مورو الإسلامية) تملك الآن قوة عسكرية لا بأس بها،
وأن مجاهديها قد تضاعف عددهم، وتحسنت أوضاعهم العسكرية.
هل يتم الحسم:
إن (جبهة تحرير مورو الإسلامية) تعتبر هذه السنة مرحلة حاسمة في جهادها
الطويل، وتتوقع قيام حرب واسعة النطاق بينها وبين حكومة الفلبين، فقد أعد كل
فريق عدته وحشد قواته، وكل فريق يبذل أقصى الجهد لحسم المواجهة المتوقعة
لصالحه، لهذا نقول: إن جهادنا في سبيل الله وصل الآن إلى مرحلة حاسمة،
ونسأل الله أن يكون الحسم لصالح الإسلام والمسلمين.
__________
(*) من تقرير عن أوضاع المسلمين في مورو، صدر عن جبهة تحرير مورو الإسلامية، وكتب أصله رئيس الجبهة الشيخ (سلامات هاشم) (بتصرف) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -(99/76)
في دائرة الضوء
أسماء الله الحسنى الفقه والآثار
بقلم: د. عبد العزيز آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام
على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: إن أجلّ المقاصد وأنفع العلوم: العلم بمعاني أسماء الله (عز وجلّ)
الحسنى وصفاته العلا، فإن التعرّف على الله (تعالى) من خلال أسمائه وصفاته
يحقق العلم الصحيح بفاطر الأرض والسماوات، والعلم بأسماء الله وصفاته يستلزم
عبادة الله (تعالى) ومحبته وخشيته، ويوجب تعظيمه وإجلاله.
ومع أهمية هذا الجانب وجلالة قدره، إلا أن ثمة غفلة عنه، فنلحظ التقصير
في فقه أسماء الله وصفاته، وإهمال التعبّد والدعاء بها، وضعف الالتفات إلى ما
تقتضيه هذه الأسماء الحسنى من الآثار والثمرات.
وسأتحدث - مستعيناً بالله (تعالى) - عن هذا الموضوع من خلال ... ما يلي:
أ- تظهر أهمية هذا الموضوع عبر الآيات القرآنية المتعددة التي تحض على تدبر القرآن الكريم؛ كما قال (سبحانه) : [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [ص: 29] ، وذمّ القرآن من لا يفهمه، فقال (تعالى) : [فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً] [النساء: 78] ، ولا شك أن فقه أسماء
الله (تعالى) وصفاته يدخل في ذلك دخولاً أوليّاً.
كما أن عبادة الله (تعالى) ومعرفته آكد الفرائض، ولا يتحقق هذا إلا بمعرفة
أسماء الله وصفاته.
يقول قوام السنة الأصفهاني (ت 535 هـ) :
(قال بعض العلماء: أول فرض فرضه الله على خلقه: معرفته، فإذا عرفه
الناس عبدوه، قال الله (تعالى) : [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ] [محمد: 19] ،
فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها؛ فيعظموا الله حق عظمته، ولو
أراد رجل أن يعامل رجلاً: طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجده، وسأل
عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا، ونحن نرجو رحمته ونخاف من
سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها) [1] .
وفقه أسماء الله (تعالى (وصفاته يوجب تحقيق الإيمان والعبادة لله وحده،
وإفراده (سبحانه (بالقصد والحبّ والتوكل وسائر العبادات، كما بيّن ذلك أهل العلم.
ولذا: يقول العز بن عبد السلام: (فهم معاني أسماء الله (تعالى) وسيلة إلى
معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير
ذلك من ثمرات معرفة الصفات) [2] .
ويقول أيضاً: (ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال
موجب للمهابة، وبالتوّحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء،
وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر، ولذلك قال (سبحانه) : [اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً] ) .
ويقول ابن القيم في هذا الصدد:
(لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرّب
(جلّ جلاله) ويعرفها معرفة تخرج عن حدّ الجهل بربه، فالإيمان بالصفات
وتعرّفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فضلاً عن أن
يكون من أهل العرفان ... ) [3] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:
(إن معرفة الله (تعالى) تدعو إلى محبته وخشيته ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته،
والتفقه في فهم معانيها..
بل حقيقة الإيمان أن يعرف الربّ الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة
أسمائه وصفاته، حتى يبلغ درجة اليقين.
وبحسب معرفته بربه، يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه، ازداد إيمانه،
وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك: تدبر صفاته وأسمائه من
القرآن..) [4] .
* والمقصود بالتعبد بأسماء الله (تعالى) وصفاته: تحقيق العلم بها ابتداءً،
وفقه معاني أسمائه وصفاته، وأن يعمل بها، فيتصف بالصفات التي يحبها الله
(تعالى) : كالعلم، والعدل، والصبر، والرحمة.. ونحو ذلك، وينتهي عن
الصفات التي يكرهها له (تعالى) من عبيده مما ينافي عبوديتهم لله (تعالى) ،
كالصفات التي لا يصح للمخلوق أن يتصف بها كالكبر والعظمة والجبروت ...
فيجب على العبد إزاءها الإقرار بها والخضوع لها.
ومن العمل بها: أن يدعو الله (تعالى) بها؛ كما قال (سبحانه) : [وَلِلَّهِ
الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] [الأعراف: 180] ، كما أن من العمل بها: تعظيمها
وإجلالها، وتحقيق ما تقتضيه من فِعْل المأمورات وترك المحظورات.
يقول ابن تيمية: (إن من أسماء الله (تعالى) وصفاته ما يُحمد العبد على
الاتصاف به كالعلم والرحمة والحكمة وغير ذلك، ومنها ما يذم العبد على الاتصاف
به كالإلهية والتجبر والتكبر، وللعبد من الصفات التي يُحمد عليها ويؤمر بها ما
يمنع اتصاف الربّ به كالعبودية والافتقار والحاجة والذل والسؤال
ونحو ذلك..) [5] .
وقال ابن القيم: (لما كان (سبحانه) يحبّ أسماءه وصفاته: كان أحبّ الخلق
إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه: من اتصف بالصفات التي
يكرهها، فإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت؛ لأن اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من
اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدّه،
وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنها لا تنافي العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها
من العبيد لم يتعد طوره، ولم يخرج بها من دائرة العبودية) [6] .
وقال الحافظ ابن حجر أثناء شرحه لحديث (إن لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا
واحداً من أحصاها دخل الجنة) [7] :
(وقيل: معنى أحصاها: عمل بها، فإذا قال: (الحكيم) ، مثلاً، سلّم جميع
أوامره، لأن جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال: (القدوس) ، استحضر كونه
منزهاً عن جميع النقائص، وهذا اختيار أبي الوفا بن عقيل. وقال ابن بطّال:
طريق العمل بها: أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم: فإن الله يحب
أن يرى حالاها على عبده، فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما
كان يختص بالله (تعالى) كالجبار والعظيم: فيجب على العبد الإقرار بها،
والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد: نقف منه عند
الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد: نقف منه عند الخشية والرهبة) [8] .
* ومما يستحق تقريره ها هنا: أن تلازماً وثيقاً بين إثبات الأسماء والصفات
لله (تعالى (وتوحيد الله (تعالى) بأفعال العباد، فكلما حقّقَ العبد أسماء الله وصفاته
علماً وعملاً، كلما كان أعظم وأكمل توحيداً، وفي المقابل: فإن هناك تلازماً وطيداً
بين إنكار الأسماء أو الصفات وبين الشرك.
يقول ابن القيم في تقرير هذا التلازم: (كل شرك في العالم فأصله التعطيل،
فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن السوء به، لما أشرك به، كما قال إمام
الحنفاء وأهل التوحيد لقومه: [أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ
العَالَمِينَ] [الصافات: 86، 87] أي: فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه
غيره؟ ، وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟ أظننتم أنه محتاج إلى
الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى
شركاء تعرفه بها كالملوك؟ ، أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم
وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاسٍ فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ ...
والمقصود: أن التعطيل مبدأ الشرك وأساسه، فلا تجد معطلاً إلا وشركه على
حسب تعطيله، فمستقلّ ومستكثرٌ) [9] .
ونورد أمثلة في توضيح هذا التلازم والصلة بين توحيد العبادة وتوحيد الأسماء
والصفات.
فالدعاء مثلاً هو آكد العبادات وأعظمها؛ فالدعاء هو العبادة كما أخبر
المصطفى، وهو لا ينفك عن إثبات وفقه أسماء الله (تعالى) وصفاته.
ويشير ابن عقيل إلى هذه الصلة بقوله: (قد ندب الله (تعالى (إلى الدعاء،
وفي ذلك معانٍ:
أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يُدعى.
الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يُدعى.
الثالث: السمع، فإن الأصم لا يُدعى.
الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يُدعى.
الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى.
السادس: القدرة، فإن العاجز لا يُدعى) [10] .
والتوكل على الله (تعالى (وحده شرط في الإيمان، وأجلّ العبادات القلبية،
ولا يتحقق التوكل إلا بمعرفة أسماء الله (تعالى) وصفاته.
وقد وضح ذلك ابن القيم بقوله:
(ولا يتم التوكل إلا بمعرفة الربّ وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته
وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، قال شيخنا ابن تيمية
(رحمه الله) : ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية
النفاة القائلين بأن يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضاً من الجهمية النفاة
لصفات الربّ (جلّ جلاله) ، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه، ولا هو
فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة، ولا يقوم به صفة؟ فكل من كان بالله
وصفاته أعلم وأعرف، كان توكله أصح وأقوى، والله (سبحانه وتعالى) ... أعلم) [11] .
وحسن الظن بالله والثقة به (تعالى) عبادة جليلة تقوم على فقه أسماء الله
وصفاته، كالحكمة والقدرة..، كما أن سوء الظن بالله من آثار إنكار أسماء الله
(تعالى) وصفاته.
يقول ابن القيم: (وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما
يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وأسماءه وصفاته، وعرف
موجب حكمته وحمده ...
ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تَعَتّباً على القدَر وملامة له ... وأنه كان
ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم ... ... من ذلك؟) [12] .
وأشار الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) إلى أن أصول العبادة الثلاثة
(الحبّ، والرجاء، والخوف) من آثار وثمرات التعبد بأسماء الله وصفاته، فقال في
مسائل ذكرها في تفسير سورة الفاتحة: (أركان الدين: الحب، والرجاء، والخوف، فالحب في الأولى، وهي [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] ، والرجاء في الثانية،
وهي [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ، والخوف في الثالثة، وهي [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ) [13] .
إذا ظهر بهذه الأمثلة مدى التلازم الوثيق بين صفات الله (تعالى) وما تقتضيه
من العبادات الظاهرة والباطنة، فيمكن أن نخلص إلى ما حرره ابن القيم بقوله:
(لكل صفة عبوديةٌ خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني: من
موجبات العلم بها والتحقيق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي
على القلب والجوارح، فعلم العبد بتفرد الرب (تعالى) بالضرّ والنفع، والعطاء
والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً،
ولوزام التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه (تعالى) وبصره، وعلمه أنه لا يخفى
عليه مثقال ذرة، وأنه يعلم السر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور: يثمر له
حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق
هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك: الحياء باطناً، ويثمر له الحياء
اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته
توجب له سعة الرجاء ... وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له
الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية
الظاهرة، هي موجباتها.. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء ... والصفات) [14] .
* والتعبد بأسماء الله (تعالى) وصفاته له آثاره الطيبة في حسن الخلق وسلامة
السلوك، كما أن تعطيل أسماء الله (تعالى) وصفاته لا ينفك عن مساوئ الأخلاق
ورديء السلوك.
ومثال ذلك: أن القدرية النفاة لما كانوا ينفون علم الله (تعالى (المحيط بكل
شيء، ويزعمون أن العبد يخلق فعله نفسه، فالخير هو الذي أوجده العبد وفَعَله
على حدّ زعمهم، ودخوله الجنة عوض عمله، فأورثهم ذلك غروراً وعُجباً، وكما
قال أبو سليمان الداراني:
(كيف يعجب عاقل بعمله؟ وإنما يعدّ العمل نعمة من الله، إنما ينبغي له أن
يشكر ويتواضع، وإنما يعجب بعمله القدرية) [15] .
والتعبد بأسماء الله (تعالى) وصفاته سبب رئيس في السلامة من الآفات:
كالحسد، والكبر، كما قال ابن القيم: (لو عرف ربّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، لم يتكبر ولم يحسد أحداً عى ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك،
فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته ... ) [16] .
والتعبد بأسماء الله (تعالى) وصفاته يثمر الموقف الصحيح تجاه المكروهات
والمصائب النازلة؛ فإن الإنسان ظلوم جهول، والله (تعالى) بكل شيء عليم، وهو
(سبحانه) حَكَمٌ عدْل، ولا يظلم (تعالى) أحداً، قال (سبحانه) : [كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ
وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ
لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [البقرة: 216]
يقول ابن القيم: (من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم
يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح
والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها
فيما يحب ... ) [17] .
ويقول أيضاً: (.. فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة ونقص في
نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب (تعالى) بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن
أجراه على يد ظالم، فالمسلط له أعدل العادلين، كما قال (تعالى) لمن أفسد في
الأرض: [بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَاًسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً
مَّفْعُولاً] [الإسراء: 5] [18] .
* وفي ختام هذه المقالة نسوق أمثلة من أسماء الله (تعالى) ، وبيان معانيها
وما تقتضيه من العبادات، يقول قوام السنة الأصفهاني أثناء حديثه عن اسم الله
(تعالى) (الرزاق) :
(الرزاق: المتكفل بالرزق، والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها،
وَسِعَ الخلقَ كلهم رزقُه، فلم يخص بذلك مؤمناً دون كافر، ولا وليّاً دون عدو،
ويرزق مَنْ عبده ومَنْ عبد غيره، والأغلب من المخلوق أن يرزق فإذا غضب منع، حكي أن بعض الخلفاء أراد أن يكتب جِراية لبعض العلماء، فقال: لا أريده، أنا
في جراية من إذا غضب عليّ لم يقطع جرايته عني، قال الله (تعالى) : [وَكَأَيِّن
مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإيَّاكُمْ] [العنكبوت: 60] ، والمخلوق إذا
رزق، فإنه يفنى ما عنده فيُقْطعُ عطاؤه عمن أفضل عليه، فإن لم يفن ما عنده فني
هو وانقطع العطاء، وخزائن الله لا تنفد وملكه لا يزول..) [19] .
ولما ذكر القرطبي من أسماء الله (تعالى) (الحفيظ) محتجّاً بقوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ] [الشورى: 6] ، قال: (يجب
على كل مكلف أن يعلم أن الله هو الحافظ لجميع الممكنات، وأعظم الحفظ: حفظ
القلوب وحراسة الدين عن الكفر والنفاق وأنواع الفتن وفنون الأهواء والبدع؛ حتى
لا يزلّ عن الطريقة المثلى، قال (تعالى) : [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] [ابراهيم: 27] .
ويجب علينا حفظ حدوده، وحفظ ما وجب علينا من حقوقه، فيدخل في ذلك:
معرفة الإيمان والإسلام وسائر ما يتعيّن علينا علمه..) [20] .
* ومن إشراقات ابن القيّم التي سطرها أثناء حديثه عن اسمي الله (تعالى) :
(الأول) و (الآخر) مايلي:
(من عبد الله (تعالى) باسمه (الأول) و (الآخر) حصلت له حقيقة هذا الفقر
[توجه القلب إلى الله وحده في جميع الأحوال] .. فإن عبوديته باسمه (الأول)
تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى
مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد.
وعبوديته باسمه (الآخر) تقتضي أيضاً عدم ركونه للأسباب، فإنها تنعدم لا
محالة وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم
وينقضي، والتعلق ب) الآخر) (سبحانه) تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول،
فالمتعلّق به حقيق أن لا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به) [21] .
__________
(1) الحجة في بيان المحجة، ج 1، ص 122.
(2) شجرة المعارف والأحوال، ص 1.
(3) مدارج السالكين، ج 3، ص 347.
(4) تفسير السعدي، ج 1، ص 24.
(5) الصفدية، ج 2، ص 338.
(6) طريق الهجرتين، ص 129.
(7) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب 12، وكتاب الشروط، باب 18، وكتاب الدعوات، باب 68.
(8) فتح الباري، ج 11، ص 229.
(9) مدارج السالكين، ج 3، ص 347، باختصار.
(10) شرح الطحاوية، ج 2، ص 678.
(11) مدارج السالكين، ج 2، ص 117.
(12) زاد المعاد، ج 3، ص 229235، بتصرف، وانظر: كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، باب قوله (تعالى) : [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ] .
(13) تاريخ ابن غنام، ج 2، ص 360.
(14) مفتاح دار السعادة، ج 2، ص 90 باختصار، وانظر: طريق الهجرتين، ص 43، ومدارج السالكين، ج 1، ص 420، ج 3، ص 351، والفوائد، ص 63.
(15) حلية الأولياء، لأبي نعيم، ج 9، ص 263.
(16) الفوائد، ص 150.
(17) السابق، ص 85.
(18) مدارج السالكين، ج 1، ص 425.
(19) الحجة في بيان المحجة، ج 1، ص 138، وانظر: الأسنى للقرطبي، ج 1، ص 284.
(20) الأسنى، شرح أسماء الله الحسنى، ج 1، ص 311.
(21) طريق الهجرتين، ص 19، باختصار.(99/86)
مقال
خير أيام الدنيا
ماذا يشرع فيها؟
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
تمهيد:
من رحمة الله (تبارك وتعالى) أن فاضل بين الأزمنة، فاصطفى واجتبى منها
ما شاء بحكمته، قال (عز وجل) : [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ
الخِيَرَةُ..] [القصص: 68] وذلك التفضيل من فضله وإحسانه؛ ليكون عوناً
للمسلم على تجديد النشاط، وزيادة الأجر، والقرب من الله (تعالى) . ونظرة في
واقع الكثير تنبئك عن جهل كبير بفضائل الأوقات، ومن أكبر الأدلة على ذلك:
الغفلة عن اغتنامها، مما يؤدي إلى الحرمان من الأجر.
والأمر الذي يحتاج إلى وقفة تأمل: التباين الكبير بين كون عشر ذي الحجة
أفضل أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل فيما سواها، وبين
واقع الناس وحالهم في تلك العشر، فالكثير لا يحرك ساكناً، والأكثر لم يقم الأمر
عنده ولم يقعد، ومن مظاهر ذلك مثلاً هجر سُنّة التكبير المطلق وهي من شعائر
تلك الأيام.
وعلى الرغم من أن هذه الأيام أعظم من أيام رمضان، والعمل فيها أفضل،
إلا أنه لا يحصل فيها ولو شيء مما يحصل في رمضان؛ من النشاط في عمل
الآخرة، ولا غرو، فالفارق بين الزمنين واضح، فقد اختص رمضان بما لم
تختص به العشر، ومن ذلك:
وقوع فريضة الصوم فيه، وهي (فريضة العام) على كل مسلم، مع ما يكون
فيها من تربية للمسلم، وزيادة لإيمانه، بخلاف الحج فهو فريضة العمر.
ارتباط رمضان بنزول القرآن فيه مما جعله شهر القرآن، وذلك له أثر كبير
في إقبال الناس فيه على كتاب الله الكريم.
الترغيب الخاص بقيام لياليه، وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام
العشر، وتحري ليلة القدر.
وهذه الأمور الثلاثة جعلت لرمضان جوّاً خاصًّا متميزاً تنقلب حياة النّاس فيه، وتتغير أيًّا كان نوع ذلك التغير.
ما يحصل في رمضان من تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق
أبواب النيران، مما يكون له أعظم الأثر في انبعاث الناس للعبادة وحماسهم لها.
فيكون ذلك حافزاً للعلماء والدعاة والأئمة والخطباء ليخاطبوا قلوب الناس، ما دامت
مقبلة على الخير.
كل ذلك وغيره يجعل هذه العشر ابتلاءً وامتحاناً للناس، فلا يحصل فيها من
المعونة على الخير كما يحصل في رمضان، والموفق من وفقه الله، فشمر وجد
واجتهد.
فضل عشر ذي الحجة:
قد دل على فضلها أمور [1] :
الأول: قال (تعالى) : [وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْرٍ] [الفجر: 1، 2] قال غير
واحد: إنها عشر ذي الحجة، وهو الصحيح [2] . ولم يثبت عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- شيء في تعيينها.
الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد أنها أعظم أيام الدنيا، وجاء
ذلك في أحاديث كثيرة منها: قوله (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من
هذه الأيام العشر، فقالوا: يارسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم
يرجع من ذلك بشيء) [3] .
وقوله: (ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه
العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) [4] ، والمراد في الحديثين:
(أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء أكان يوم الجمعة
أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من الجمعة في غيره؛ لاجتماع الفضلين فيه) [5] .
الثالث: أنه حث على العمل الصالح فيها، وأمر بكثرة التهليل والتكبير.
الرابع: أن فيها يوم عرفة ويوم النحر.
الخامس: أنها مكان لاجتماع أمهات العبادة فيها، وهي: الصلاة، والصيام،
والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها [6] .
أنواع العمل الصالح في أيام العشر:
وحيث ثبتت فضيلة الزمان ثبتت فضيلة العمل فيه، وأيضاً فقد جاء النص
على محبة الله للعمل في العشر، فيكون أفضل، فتثبت فضيلة العمل من وجهين.
وأنواع العمل فيها ما يلي:
الأول: التوبة النصوح:
وهي الرجوع إلى الله (تعالى) ، مما يكرهه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً
وباطناً، ندماً على ما مضى، وتركاً في الحال، وعزماً على ألا يعود. وما يتاب
منه يشمل: ترك الواجبات، وفعل المحرمات. وهي واجبة على المسلم حين يقع
في معصية، في أي وقت كان؛ لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، ثم إن السيئات
يجر بعضها بعضاً، والمعاصي تكون غليظة ويزداد عقابها بقدر فضيلة الزمان
والمكان؛ قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً]
[التحريم: 8] ، وقد ذكر ابن القيم (رحمه الله تعالى) : أن النّصْح في التوبة يتضمن
ثلاثة أشياء:
استغراق جميع الذنوب، وإجماع العزم والصدق، وتخليصها من الشوائب
والعلل، وهي أكمل ما يكون من التوبة [7] .
الثاني: أداء الحج والعمرة:
وهما واقعان في العشر، باعتبار وقوع معظم مناسك الحج فيها، ولقد رغب
النبي -صلى الله عليه وسلم- في هاتين العبادتين العظيمتين، وحث عليهما؛ لأن
في ذلك تطهيراً للنفس من آثار الذنوب ودنس المعاصي، ليصبح أهلاً لكرامة الله
(تعالى) في الآخرة.
الثالث: المحافظة على الواجبات:
والمقصود: أداؤها في أوقاتها وإحسانها بإتمامها على الصفة الشرعية الثابتة
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومراعاة سننها وآدابها. وهي أول ما
ينشغل به العبد في حياته كلها؛ روى البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله قال: من عادى لي وليّاً فقد
آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما
يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن
سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي
عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته) [8] .
قال الحافظ: (وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به: امتثال الأمر،
واحترام الآمر، وتعظيمه بالانقياد إليه، وإظهار عظمة الربوبية، وذل العبودية،
فكان التقرب بذلك أعظم العمل) [9] . والمحافظة على الواجبات صفة من الصفات
التي امتدح الله بها عباده المؤمنين، قال (عز وجل) : [وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ
يُحَافِظُونَ] [المعارج: 34] ، وتتأكد هذه المحافظة في هذه الأيام، لمحبة الله للعمل
فيها، ومضاعفة الأجر.
الرابع: الإكثار من الأعمال الصالحة:
إن العمل الصالح محبوب لله (تعالى) في كل زمان ومكان، ويتأكد في هذه
الأيام المباركة، وهذا يعني فضل العمل فيها، وعظم ثوابه، فمن لم يمكنه الحج
فعليه أن يعمر وقته في هذه العشر بطاعة الله (تعالى) ، من: الصلاة، وقراءة
القرآن، والذكر، والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.. وغير ذلك من طرق الخير، وهذا من أعظم
الأسباب لجلب محبة الله (تعالى) .
الخامس: الذكر:
وله مزية على غيره من الأعمال؛ للنص عليه في قوله (تعالى) : [وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] [الحج: 28] قال ... ابن عباس: أيام العشر [10] ، أي: يحمدونه ويشكرونه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويدخل فيه: التكبير، والتسمية على الأضحية والهدي [11] ، ... ولقوله: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) .
السادس: التكبير:
يسن إظهار التكبير في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق، وغيرها،
يجهر به الرجال، وتسر به المرأة، إعلاناً بتعظيم الله (تعالى) .
وأما صيغة التكبير فلم يثبت فيها شيء مرفوع، وأصح ما ورد فيه: قول
سلمان: (كبروا الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً) . وهناك صيغ وصفات
أخرى واردة عن الصحابة والتابعين [12] .
والتكبير صار عند بعض الناس من السنن المهجورة، وهي فرصة لكسب
الأجر بإحياء هذه السنة، قال: (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له
من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً) [13] . وقد ثبت
أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس
بتكبيرهما [14] . والمراد: يتذكر الناس التكبير، فيكبرون بسبب تكبيرهما، والله
أعلم.
والتكبير الجماعي بصوت واحد متوافق، أو تكبير شخص ترد خلفه مجموعة: من البدع التي ينبغي على المسلم الحريص على اتباع سنة النبي -صلى الله عليه
وسلم- اجتنابها والبعد عنها، أما الجاهل بصفة التكبير فيجوز تلقينه حتى يتعلم،
فإن قيل: إن التكبير الجماعي سبب لإحياء هذه السنة، فإنه يجاب عليه: بأن
الجهر بالتكبير إحياء للسنة، دون أن يكون جماعيًّا، ومن أراد فعل السنة، فإنه لا
ينتظر فعل الناس لها، بل يكون أول الناس مبادرة إليها، ليقتدي به غيره.
السابع: الصيام:
عن حفصة (رضي الله عنها) قالت: (أربع لم يكن يدعهن النبي -صلى الله
عليه وسلم-: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل
الغداة) [15] . والمقصود: صيام التسع أو بعضها؛ لأن العيد لا يصام، وأما ما
اشتهر عند العوام ولا سيما النساء من صيام ثلاث الحجة، يقصدون بها اليوم السابع
والثامن والتاسع، فهذا التخصيص لا أصل له.
الثامن: الأضحية:
وهي سنة مؤكدة في حق الموسر، وقال بعضهم كابن تيمية بوجوبها [16] ،
وقد أمر الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ]
[الكوثر: 2] فيدخل في الآية صلاة العيد، ونحر الأضاحي، فقد كان النبي -صلى
الله عليه وسلم- يحافظ عليها، قال ابن عمر (رضي الله عنهما) : أقام النبي -صلى
الله عليه وسلم- بالمدينة عشر سنين يضحي [17] .
التاسع: صلاة العيد:
وهي متأكدة جدًّا، والقول بوجوبها قوي [18] فينبغي حضورها، وسماع
الخطبة، وتدبر الحكمة من شرعية هذا العيد، وأنه يوم شكر وعمل صالح.
يوم عرفة:
وقد زاد هذا اليوم فضلاً ومزية على غيره، فاستحق أن يخص بحديث مستقل
يكشف عن أوجه تفضيله وتشريفه، ومن تلك الأوجه ما يلي:
أولاً: أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:
روى البخاري [19] : قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا
لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين كان
رسول الله حين أنزلت: يوم عرفة، إنا والله بعرفة، قال سفيان: وأشك كان يوم
الجمعة أم لا: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ
دِيناً] [المائدة: 3] . وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل؛ لأن المسلمين لم يكونوا
حجوا حجة الإسلام من قبل، فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ولأن الله أعاد الحج على قواعد إبراهيم (عليه السلام) ، ونفى الشرك وأهله، فلم
يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد. وأما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة، فلا تتم النعمة بدونها، كما قال الله لنبيه: [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ] [الفتح: 2] [20] .
ثانياً: أنه يوم عيد:
عن أبي أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يوم عرفة، ويوم
النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) [21] .
ثالثاً: أن صيامه يكفر سنتين:
قال عن صيامه: (يكفر السنة الماضية والباقية) [22] .
رابعاً: أنه يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار:
عن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما
من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي
بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟) [23] قال ابن عبد البر: (وهو يدل على
أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب، إلا بعد التوبة والغفران،
والله أعلم) [24] .
الأعمال المشروعة فيه:
أولاً: صيام ذلك اليوم:
ففي صحيح مسلم قال: ( ... صيام يوم عرفة أَحْتَسِبُ على الله أن يكفر السنة
التي قبله، والسنة التي بعده ... ) [25] . وصومه إنما شرع لغير الحاج، أما
الحاج فلا يجوز له ذلك. ويتأكد حفظ الجوارح عن المحرمات في ذلك اليوم، كما
في حديث ابن عباس، وفيه: (إن هذا اليوم من مَلَك فيه سمعه وبصره ولسانه:
غُفر له) [26] . ولا يخفى أن حفظ الجوارح فيه حفظ لصيام الصائم، وحج الحاج، فاجتمعت عدة أسباب معينة على الطاعة وترك المعصية.
ثانياً: الإكثار من الذكر والدعاء:
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما
قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) [27] ، قال ابن عبد البر: (وفي الحديث دليل على أن
دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وأن أفضل الذكر: لا إله إلا الله) [28] . قال
الخطابي: (معناه: أكثر ما أفتتح به دعائي وأقدمه أمامه من ثنائي على الله (عز
وجل) ، وذلك أن الداعي يفتتح دعاءه بالثناء على الله (سبحانه وتعالى) ، ويقدمه
أمام مسألته، فسمي الثناء دعاء ... ) [29] .
ثالثاً: التكبير:
سبق في بيان وظائف العشر أن التكبير فيها مستحب كل وقت، في كل مكان
يجوز فيه ذكر الله (تعالى) . وكلام العلماء فيه يدل على أن التكبير نوعان:
الأول: التكبير المطلق: وهو المشروع في كل وقت من ليل أو نهار، ويبدأ
بدخول شهر ذي الحجة، ويستمر إلى آخر أيام التشريق.
الثاني: التكبير المقيد: وهو الذي يكون عقب الصلوات، والمختار: أنه
عقب كل صلاة، أيًّا كانت، وأنه يبدأ من صبح عرفة إلى آخر أيام التشريق [30] .
وخلاصة القول: أن التكبير يوم عرفة والعيد، وأيام التشريق يشرع في كل
وقت وهو المطلق، ويشرع عقب كل صلاة وهو المقيد.
يوم النحر:
لهذا اليوم فضائل عديدة: فهو يوم الحج الأكبر [31] وهو أفضل أيام العام؛ لحديث: (إن أعظم الأيام عند الله (تبارك وتعالى) : يوم النحر، ثم يوم القرّ)
[32] وهو بذلك أفضل من عيد الفطر، ولكونه يجتمع فيه الصلاة والنحر، وهما
أفضل من الصلاة والصدقة [33] .
وقد اعتبرت الأعياد في الشعوب والأمم أيام لذة وانطلاق، وتحلل وإسراف،
ولكن الإسلام صبغ العيدين بصبغة العبادة والخشوع إلى جانب الفسحة واللهو ... المباح [34] . وقد شرع في يوم النحر من الأعمال العظيمة كالصلاة، والتكبير، ونحر الهدي، والأضاحي، وبعض من مناسك الحج ما يجعله موسماً مباركاً للتقرب إلى الله (تعالى) ، وطلب مرضاته، لا كما هو حال الكثير ممن جعله يوم لهو ولعب فحسب، إن لم يجعله يوم أشر وبطر، والعياذ بالله.
أيام التشريق:
وهي الأيام الثلاثة التالية ليوم النحر [35] ، وهي التي عناها الله (تعالى)
بقوله: [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ] [البقرة: 203] ، كما جاء عن ... ابن عباس [36] ، وذكر القرطبي أنه لا خلاف في كونها أيام التشريق [37] . ... وهي أيام عيد للمسلمين؛ لحديث: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى: عيدنا أهل الإسلام) [38] . وقد نهي عن صيامها، وهي واقعة بعد العشر الفاضلة، فتشرف بالمجاورة أيضاً، وتشترك معها بوقوع بعض أعمال الحج فيها، ويدخل فيها يوم النحر، فيعظم شرفها وفضلها بذلك كله [39] . كما أن ثانيها وهو يوم القر وهو الحادي عشر أفضل الأيام بعد يوم النحر، وهذه الأيام الأربعة هي أيام نحر الهدي والأضاحي على الراجح من أقوال أهل العلم؛ تعظيماً لله (تعالى) ، وهذا مما يزيدها فضلاً، وهذه الأيام من أيام العبادة والذكر والفرح، قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله) [40] ، فهي أيام إظهار الفرح والسرور بنعم الله العظيمة، وفي الحديث إشارة إلى الاستعانة بالأكل والشرب على ذكر الله، وهذا من شكر النعم [41] . وذكر الله المأمور به في الحديث أنواع متعددة منها:
1- التكبير فيها: عقب الصلوات، وفي كل وقت، مطلقاً ومقيداً، كما هو
ظاهر الآية، وبه يتحقق كونها أيام ذكر لله [42] .
2- ذكر الله (تعالى) بالتسمية والتكبير عند نحر الهدي والأضاحي.
3- ذكره عند الأكل والشرب، وكذا أذكار الأحوال الأخرى.
4- التكبير عند رمي الجمار.
5- ذكر الله (تعالى) المطلق [43] .
هذه ذكرى، أسأل الله أن ينفع بها، وأعوذ بالله من أن يكون أهل البدع أجلد
في بدعهم، وأنشط في باطلهم، من أهل الحق في فعل الخير والاستقامة على السنة.
__________
(1) انظر: (مجالس عشر ذي الحجة) للشيخ / عبد الله بن صالح الفوزان.
(2) تفسير ابن كثير، ج4 ص505.
(3) أخرجه البخاري، ح/969، والترمذي، ح/757، واللفظ له.
(4) أخرجه أحمد، ج2ص75، 132، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(5) فتح الباري، ج2ص534.
(6) انظر: المصدر السابق.
(7) انظر: مدارج السالكين، ج1 ص316، 317.
(8) أخرجه البخاري، ح/6502.
(9) فتح الباري، ج11 ص351.
(10) صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق.
(11) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج24 ص225.
(12) فتح الباري، ج2 ص536، وقال الحافظ: (وقد أحدث في هذا الزمان زيادة لا أصل لها) .
(13) أخرجه ابن ماجة، ح/209، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة، ح/ 173.
(14) البخاري، كتاب العيدين، باب العمل في أيام التشريق.
(15) انظر: المسند، ج6 ص287.
(16) انظر: مجموع الفتاوى، ج23 ص162، 164.
(17) المسند، ج2 ص38، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، والترمذي، ح/1559، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ح/261.
(18) انظر: الفتاوى، ج23 ص161.
(19) ح/4606.
(20) انظر: لطائف المعارف، ص486، 487.
(21) رواه أبو داود، ح/2419، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح/2144.
(22) أخرجه مسلم، ح/1163.
(23) أخرجه مسلم، ح/1348.
(24) انظر: التمهيد لابن عبد البر، ج1ص120.
(25) مسلم، ح/1162.
(26) المسند، ج1ص329، وصحح أحمد شاكر إسناده، ح/3042.
(27) الترمذي، ح/2837، ومالك، ج1ص422، ح/246، وصححه الألباني.
(28) التمهيد، ج6ص41.
(29) مجالس عشر ذي الحجة، لعبد الله الفوزان، ص970.
(30) انظر: الفتح، ج2ص535، والفتاوى ج24ص220.
(31) سن أبي داود، ح/1945، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح/ 1714، والبخاري، ح/4657 تعليقا.
(32) سنن أبي داود، ح/1765، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح/ 1552، ويوم القر هو: اليوم الذي يلي يوم النحر، سمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى.
(33) لطائف المعارف، ص482، 483.
(34) انظر: الأركان الأربعة، ص60.
(35) وسميت أيام التشريق؛ لأن الناس يشرقون فيها لحوم الهدي والأضاحي، أي: يقددونها وينشرونها في الشمس.
(36) البخاري تعليقا، وله إسناد صحيح، الفتح ج2ص530.
(37) تفسير القرطبي، ج3ص3.
(38) أخرجه أبو داود، ح/2419، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح/2114.
(39) انظر: فتح الباري، ج2ص532، 533.
(40) أخرجه مسلم، ح/1141.
(41) انظر: لطائف المعارف، ص504.
(42) انظر: نيل الأوطار، ج3ص389.
(43) انظر: لطائف المعارف، ص501، 502.(99/96)
مذكرات قارئ
شكوى من الذاكرة
بقلم: محمد بن حامد الأحمري
كلنا في الهم شرق، كلمة يقولها لك زميلك عندما تشتكي إليه من ضعف
الذاكرة، وتبدد المعلومات، وتفلت القرآن والحديث، ونسيان أسماء الأصدقاء،
وضياع المواعيد، وأمور العامة إذا نسوا تهون، ولكن مصيبة المثقفين بذاكراتهم
كبيرة، وكنت أظن أن لا سبيل لي إلى العلم والمعرفة لضعف في الذاكرة، وكنت
أحسب نفسي ولم أزل منهم، وأقول عليك بمغادرة قاعة المعرفة والقراءة، فهذه
لقوم ليسوا مثلك، إنها لأولئك الذين يحفظون فلا ينسون، وتعرض عليهم الأمور
فلا تغادر أذهانهم، ثم كانت لي جولات في ميدان القراءة فوجدت علماء نجباء
تفوت عليهم الاستدلالات في كتب مكتوبة ومواقف مشهودة، ينسون ما لا أعذرهم
آنذاك بنسيانه ثم قرأت في تراجم الرجال ما شجع الضعف وهزه للعمل وعدم اليأس، فذاك الفذ الكبير لم يحفظ القرآن، وذاك العالم النحرير ضعيف في حفظه،
وطعنوا في أبي حنيفة فتألمت له وفرحت لنفسي، ومع السنين كانت الذاكرة تضعف
وشواهد الخلل تتزايد، حتى لكأنه الشخص يفرح بها أيما فرح، يقول زكي نجيب
محمود [*] في (الكوميديا الأرضية) : ( ... ما أشقاني بهذه الذاكرة الضعيفة العاجزة
التي توشك أن تبدد لي كل ما قد وعيت وخبرت في أعوامي السوالف، فلا تبقي لي
من ذلك شيئاً، وإني لأعلم من ذاكرتي هذا الضعف الشديد، وهذا الإسراف في
تبديد الودائع، حتى لتراني أتحوط لها بكل ما يشير به علماء النفس من وسائل،
فأشدد الروابط بين أجزاء الشيء المحفوظ، وأضع تحته الخطوط، وأوضحه في
هوامش الكتب برموز وعلامات وملخصات، لكن هيهات للغربال أن يحفظ في
جوفه ماء، تراني أقرأ الكتاب، فلا تمضي أيام قليلة بعد الفراغ منه حتى يذهب
عني، وتذهب كل آثاره، فلا عنوانه هناك ولا اسم كاتبه، ولاشيء من مكنونه،
فالرأس بعده خلاء خواء كما كان قبله، فلا زيادة به إن لم يكن نقصان) [1] .
وبعد أن أطال في الشكوى تذكر القصة التي قرأها كما يقول، قبل ثلاثين
عاماً، فإذا به يذكرها ويكتب تفصيلاتها، وعجبت لجوره على ذاكرته مع أنها
كانت له وفية رغم تباعد السنين.
وقد قرأت من قبل لعدد من العلماء والمشاهير وكبار الفلاسفة شكواهم المرة
من ذاكراتهم.
وحصيلة هذه التجارب: أن الحفظ نسبي، وكلّ يشعر بمقدار نقصه كلما زاد
سهمه من القدرة على الحفظ والتذكر، أما الكثير ممن يعانون ضعفاً أكبر فإنهم غالباً
لا يشعرون بالمشكلة التي يعانونها، وعلى النقيض أولئك الذين يقنعون أنفسهم
بضعف القدرة على الحفظ، ويدمرون قدراتهم بإشعار أنفسهم أن لا مجال لتطوير
القدرة على الحفظ، فهؤلاء ربما كان لهم نصيب من القدرة لو قدروا وحافظوا
ودربوا ذاكراتهم.
ومما أزيدك هنا بيانه أن مما علق بذاكرة كاتب هذه السطور من وسائل التذكر، وهي كثيرة:
أن تكرر النص المطلوب حفظه وترجع له مرات في غير وقت الحفظ الأول، وأن تجعل للنص رايات شاهرات ككلمة غريبة تضع عليها علامة وتبرز تلك
القضية أو اسم شخض أو مكان، وهذه العلامات تدلك على مسالك النص. ويذكّر
المهتمون بهذا العلم إن كان به علماً أن تتصور النص أو القائل أو الأشخاص وتجسم
هذه المعلومات، ثم يربط بينها بشيء، كما يقولون لو كنت تريد شراء عدة
أغراض مثلاً: بصل، طماطم، سكر، حليب فما عليك إلا أن تتصور ابنك في
فمه رضاعة، وبيده اليمنى طماطم، واليسرى بصل، وقد نثر كيس السكر،
تركب هذه الصورة في الذاكرة ثم تذهب، ولا أظن أنك لو تعودت هذه الطريقة أنك
سوف تنسى.
وينصحون أيضاً باستخدام النص المراد حفظه سواء أكانت كلمة في لغة جديدة
تتعلمها، أو حديث مهم تحب حفظه؛ فالاستخدام للنص يعين على الحفظ.
وبعد سياق كل هذه الإرشادات والنصائح تذكر أن كاتب هذه الأسطر لولا أنه
يعاني من سوء الحفظ ومشكلة الذاكرة لما كتب هذا.
__________
(*) ما نقله الكاتب عن د زكي نجيب محمود مما تشترك فيه القرائح، ولا يحمل شيئاً من أطروحات الدكتور الفلسفية والعلمانية، وقد سبق للمجلة أن تناولت أفكار الدكتور المذكور بالنقد، انظر: العددين (69) ، (70) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.
(1) الكوميديا الأرضية ص 87.(99/106)
منتدى القراء
بضاعتنا.. متى ترد إلينا
فايز خالد جنينة
دخلت يوماً مكتب أحد أعضاء هيئة التدريس وذلك يوم أن كنت في الجامعة
لأسأله عن أشياء في المقرر. كان الأستاذ مشغولاً بأمر ما على الهاتف، فأشار لي: بأن أجلس وأنتظره قليلاً، تحول انتباهي كله أثناء ذلك إلى ورقة قد علقها هذا
الأستاذ الفاضل خلفه، كانت مكتوبة باللغة الإنجليزية. وإليكم ملخص ما ذكر في
هذه الورقة:
عشر خطوات عليك أن تتبعها لتكون مثاليًّا في تعاملك مع الآخرين:
1- ابتسم. 2- تكلم بهدوء. 3- أعط متحدثك جل اهتمامك عند تحدثك إليه
أو تحدثه إليك. 4- لا تقاطع محدثك ... إلى آخر هذه التعليمات الجميلة، وأعتذر
إليك أخي الكريم عن عدم تذكري لباقي هذه التعليمات المفيدة.
حقّاً لقد ملكت هذه الورقة على مشاعري، وأعجبتني كثيراً وأنا في ذلك
الموقف، وأحسست أنها ورقة مثالية قد علقها رجلٌ مثالي، ولا يطبقها إلا من كان
مثاليّاً، ولكن هناك أمر آخر نال اهتمامي أكثر وأكثر وأتمنى منك أخي القارئ أن
تشاركني هذا الاهتمام:
لقد تذكرت أن هذه الورقة الرائعة قد كتبها أُناس يتكلمون بلغة غير لغتي
ويدينون بدين غير ديني مع أنني أجد في ديني العظيم دليلاً صحيحاً على كل مبدأ
فيها: فأولها يذكرني بحديث المصطفى: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) .
وثانيها يذكرني بقول الحق (جل علاه) : [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن
صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ] [لقمان: 19] .
وثالثها يذكرني بهدي رائع من القدوة الكريم (عليه أفضل الصلاة والتسليم) ،
وهو: أنه كان يلتفت إلى من يحدثه بكامل جسده، وليس بوجهه فحسب، كما ورد
عنه.
ورابعها يذكرني بقوٍل ورد عن أحد الصحابة (رضي الله عنهم أجمعين)
عندما وصف مجالسهم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (.. وكنا إذا
تكلم منا أحد أنصت له الباقون كأن على رءوسهم الطير) .
وخامسها وسادسها وسابعها ... إلخ.
كانت كلها على هذه الشاكلة أو قريبة منها جدّاً على ما أذكر.
بعد هذا وذاك يدور الآن في خلدي سؤال أظنه في غاية الأهمية، ألم يقل الله
(جل وعلا) : [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: 24]
إذن أخي الكريم من الذي على قلبه الأقفال؟ أهو الذي يدين بغير دين الله
الذي ارتضاه (سبحانه) ، ولكنه يدعو لرسم نظام حياته منه، مع تمسكه بكفره
وعناده وضلاله، أم الذي دان لهذا الدين الحق الكامل، ولكنه ترك تعاليمه ومبادئه،
واغتر بغيره من الزيغ والضلال..؟ ! !
__________
(*) تفسير ابن كثير، ج1ص477. (هامش غير مشار إليه. ماس)(99/108)
ثمرة الفؤاد
سعيد بن جمهور الزهراني
كم يشتد حنين المرء حين تستقر به الحياة، ويطول عمره، ويقرب أجله،
ويشرف على الرحيل، إلى ولٍد من نطفته، يمد من عمره القصير، ويخلفه بعد
الرحيل، يحمل اسمه، ويكون له أثراً يدل عليه (إذا مات ابن آدم، انقطع عمله
إلا من ثلاث..) منها ولد صالح يدعو له، نعم.. إن المال والبنون زينة، ... [المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا] [الكهف: 46] زينة ولكنهم ثمرة للفؤاد، وفلذات
للأكباد، وبسمات للوجود، وزهرات الحياة، هم جنى البشرية الشهي، وقطفها
الزكي، وعبيرها الفواح، هم بقاء للبشرية وامتداد لها، واستخلاف في الأرض ... واستثمار لها، وبناء للحياة واستمرار لها. فحب الولد والحنين إليه حقيقة كائنة في
كيان كل إنسان سوي، وساكنة في كل ضمير حي، تتفق مع النظام الإلهي والبقاء
والاستمرارية في حياتنا الزائلة ...
ولكننا في عصرنا وحضارتنا المليئة بالعادات الوبيئة، والوسائل الإعلامية
الخليعة والمستوردة بأنواعها، جعلنا من أبنائنا وفلذات أكبادنا عرضة للانحرافات
الخلقية والعادات السيئة، التي لا ينقذنا منها (بعد الله) سوى التمسك بتعاليم ...
الإسلام السمحة، والابتعاد عما يتلوث به الأبناء، وذلك بحسن التربية (تربية
الإسلام) ، حتى يكون لنا الأجر والثواب، ولهم الصلاح والعفاف، والبعد عن
الرذيلة.
وتربية الأولاد مسؤولية عظمى، سوف نسأل عنها أمام الله (عز وجل) .
فاتقوا الله في الأبناء، وارحموهم أيها الآباء، واعلموا أنكم مسؤولون عن
هذا التحلل والتأثر بأخلاق الشرق والغرب.(99/109)
زمن.. لماذا؟
أم مجاهد
- لماذا نرهق أنفسنا في هذه الحياة بالتفكير في تفاهات الآخرين.. وتعمى أبصارنا عن تفاهات أنفسنا؟ .
- لماذا نجعل من الزمن شماعة نعلق عليها ضعفنا ومآسينا؟
- لماذا نصنع من العزلة سدًّا عن السيول المنهمرة من مآقينا؟
- لماذا يعني العمر عندنا لحظة (إن عشناها يوماً) لا نبالي بالشهور؟
- لماذا نضيء الشموع، ومن ضياها نحترق؟
- لماذا نظن بأن الظلام هو الذي يسمع شكوانا واليد التي تمسح أدمعنا؟
- لماذا يجرحنا شوك الورد.. ولا ينعشنا أريج العطر؟ .
- لماذا نجد في الذكرى ألماً وأطلالاً حزينة.. ولا تزرع فينا حافزاً وعبرة
تنجينا؟
- لماذا نركض خلف السراب.. بينما تجف أنهارنا العذبة هجراً؟
- لماذا نجعل من الصمت حاجزاً عن الصدع بالحق - ولا نجعل منه صرحاً
عن فضول الكلام؟
- لماذا تفيض سيول أدمعنا لفراق الأخلاّء.. ونبخل بدمعة صغيرة من خشية
الله؟
- لماذا نسمع همس الحبيب.. ونصمّ آذاننا عن صرخة ثكلى وأنّة شيخ؟
- لماذا ترتفع أكفّنا ضراعةً.. فتنجلي المحنة.. ثم بها نعود نصفع بعضنا
بعضاً؟ .
- لماذا تتضاعف أعداد المهاجرين.. بينما ينقرض الأنصار؟(99/109)
بريد البيان
وفاة عالم جليل
وصلنا من الأخ د. علي بن عبد العزيز بن علي الشبل ترجمة لفضيلة الشيخ
العلامة / (أبو محمد بديع الدين الشاه السندي) مُحَدّث السند ببلاد الباكستان، الذي
وافاه الأجل ليلة الأربعاء 19/8/1416هـ بكراتشي عن عمر يناهز نيفاً وسبعين
عاماً، والعالم الفقيد ممن اعتنوا بالتعليم والدعوة والجهاد في بلاد السند والباكستان،
كما نفع الله به كثيراً من المشائخ وطلاب العلم أثناء إقامته في مكة وتدريسه في
المسجد الحرام لخمس سنين، حيث هاجر إليها عام 1395هـ، عاد الشيخ (رحمه
الله) بعد ذلك إلى وطنه لمتابعة جهوده الدعوية في نشر العلم وترسيخ دعوة التوحيد
والسنة، فأسس جمعية أهل الحديث في السند، وتولى رئاستها حتى وافاه الأجل.
لقي الفقيد (رحمه الله) جماعة من العلماء، فتلقى عنهم واستجازهم: كالشيخ / ثناء
الله الآمرتسري، والشيخ المحدث/ عبد الحق الهاشمي.
خلّف الشيخ وأخوه (رحمهما الله) مكتبتين من أكبر مكتبات الباكستان، حيث
تزخران بقديم المطبوع وحديثه، مع أصول المخطوطات ومصوراتها.
للشيخ (رحمه الله) مؤلفات كثيرة مطبوعة ومخطوطة باللغات العربية والأردية
والسندية، منها: التوحيد الخالص، وفتاوى كثيرة، ومسائل متعددة.
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته.(99/110)
الورقة الأخيرة
مع الشجاعة.. نزلة أخرى
بقلم:د.محمد بن ظافر الشهري
منذ بضع سنوات والعصابات الصليبية المجتمعة في البوسنة تتفنن في ابتداع
ضروب من التعذيب والإبادة؛ دونها ما أثر عن محاكم التفتيش في الأندلس المضاع، ولقد يئست تلكم العصابات وأعوانها وكثير ما هم من استئصال شأفة المسلمين بحد
الحسام؛ فمالت إلى (السلاح/السلام) ! !
ولما كانت الضحكات المتشنجة التي تعالت من (دايتون) إلى (زغرب) ... و (بلغراد) مرورا ب (لندن) و (باريس) تكفينا عناء البحث عن الخاسر الوحيد في
هذه العملية (التاريخية) كما وصفها عرابوها؛ فإننا نكتفي بالوقوف عند البند الذي
شدد كما هو حال جل المؤتمرات الدولية اليوم على ضرورة التصدي لـ
(المتطرفين) الإسلاميين، ووجوب طردهم من تلكم الأرض.
لقد كثرت الألقاب التي تطلق على هؤلاء النفر، فقد كانوا في أفغانستان
المجاهدين الأبطال الذين يحاربون الملحدين الروس، فلما شهدت جروزني على
تحسن سجل الروس في حقوق الإنسان! ! تحول اللقب من (المجاهدين) إلى
(الأفغان العرب) الذين لا هم لهم إلا قلب أنظمة العسكر (الانقلابية المعتدلة) ، ثم
كان الإرهاب خاتم الألقاب..
إن من السفه أن نعاتب الغرب (الصليبي) على مكافأة العصابات من بني دينه
على الجهود المبذولة طيلة السنوات الأربع الخالية، ولكن من الواجب أن نعاتب
(البوسنيين) على الرضى بمعاقبة إخوانهم الذين جاءوا إليهم يحملون الأرواح على
الراح.. ليذبوا عن دماء المسلمين وأعراض المسلمات، ثم يقال لهم وقد بذلوا
أنفسهم رخيصة: اخرجوا وإلا..! !
هب أن (البوسنيين) قالوا لمن أعانهم بالمال من المسلمين: لا أخلف الله عليكم، إذن لاشتد النكير عليهم والتوبيخ لهم، فأين هذا المثال من واقع الحال؟ ! ..
وليس الجود بالمال من الجود بالنفس في شيء، وليس الجحود باللسان بأنكى من
مقابلة الإحسان بحد السنان..
لست أزعم أنني أعلم من (البوسنيين) بواقع حالهم، ولست أجهل أنهم ذاقوا
مرارة العدوان حسّاً وذقتها معنى، وقبل هذا وذاك سأقدم حسن الظن معللاً النفس
بأن الحرب خدعة، وأن ليس كل ما يعلم يقال.. ولا كل ما يقال يفعل.. ولكنني
كلما تعالت الضحكات الآنفة الذكر، وتقاطرت الأمداد تحمل الصلبان؛ راودني
الظن، وأعوذ بالله من سوء الظن أنني أقرأ نسخة منقحة، ومزيدة من (سلام ... الشجعان) ...(99/111)
ذو الحجة - 1416هـ
مايو - 1996م
(السنة: 10)(100/)
كلمة صغيرة
وماذا بعد؟ !
ما فتئ الدعاة إلى الله على بصيرة من التحذير من اللهاث وراء الاستفزاز
العلماني (المنظم وغير المنظم) الذي قد يدفع بعض الشباب الغيورين إلى القيام
بأعمال أقل ما توصف بأنها متهورة، وضررها أكثر من نفعها على جميع الأطراف.
وما فتئ الدعاة أيضاً من دعوة أهل العقل والحكمة من جميع التيارات في
المجتمعات الإسلامية إلى العمل على احترام قيم مجتمعهم ومقدساته والوقوف أمام
العابثين بهذه القيم، إن لم يكن إعلاءً للدين - وهكذا يجب أن يكون لدى كل
المسلمين - فلتجنيب البلاد الوقوع في مستنقع الفوضى، الذي قد يصعب بعد ذلك
الخروج منه والعودة بالمجتمعات سالمة إلى بر الأمن والأمان.
نقول هذا بمناسبة الاقتحام الذي حدث لمقر مؤسسة إعلامية دأبت إصداراتها
على الترويج للعلمانية والإثارة غير الخُلُقية والتشويش الفكري، ثم توجت ذلك
بنشر رسم يحمل السخرية من الذات الإلهية! وكانت جريدة علمانية أخرى سبقتها
إلى هذا التعدي، ثم اعتذرت الصحيفة وقررت (فصل) ! الموظف المسؤول..
قرار إداري لمعاقبة من اعتدى على الذات الإلهية! !
ثم مرة أخرى حدث الاعتداء من الصحيفة المعنية (التي لم تدرك إحراز
السبق! !) وبعد ذلك حدث الاقتحام لمهاجمة مسؤول التحرير كما قيل وقبض ... أحد الموظفين (بشجاعة) على أحد المهاجمين، وكوفئ الموظف بقرار إداري لشجاعته في التصدي لمن أراد التعدي على (الذات التحريرية) .
فهل لو ضرب عقلاء المجتمع عند أول تعدٍ على يد العابثين بما يستحقونه من
جزاء في دين الله، هل كان سيجد المتهجمون مسوغاً لعملهم؟ ! .
وإلى أي مدىً سيأخذنا العلمانيون أو (التنويريون) أو (الحداثيون) ؟ ! ، وأين
يريدون أن يحطوا ببلداننا؟ ، وأين احترامهم لعقيدة الأمة جمعاء؟ ! .. (حسبنا الله
ونعم الوكيل) .(100/1)
افتتاحية العدد
العدد المئوي..
هذه مجلة البيان وهذه أهدافها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله
وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
لا نأتي بجديد إذا أكدنا على أهمية الإعلام من حيث أهدافه وتأثيره في
المجتمعات، وتغييره لكثير من الوقائع والأحداث، إذا استمر في أداء رسالته
المنوطة به، حتى صار من أحدث مسميات منظريه (المتلاعبون بالعقول) ؛ ولذا:
نجد الإعلام في كثير من البلدان يستطيع أن يغير اتجاهات، ويروج لنظريات أو
يهدمها، وأن يصعد بقوى معينة ويهبط بأخرى، وما ذلك إلا لقوة تأثيره على
اتجاهات الناس، وبالتالي: استطاعته تغيير موازين القوى السياسية (الداخلية
والخارجية) .
غير أن الإسلاميين لم يتح لهم توظيفاً مثمراً ومؤثراً للوسائل الإعلامية من
مسموعة ومرئية خدمةً للأهداف الدعوية وإنماءً لوعي الأمة وإصلاحاً لأمرها،
لأسباب داخلية، مثل: ندرة الكوادر المتخصصة، وضيق ذات اليد عن التمويل،
ويسر وسائل: الخطابة، والمحاضرة، والشريط ... فضلاً عن وجود أسباب
خارجية، منها:
1- أن الفئات الإعلامية العلمانية لا ترى في الإعلام رسالة وعقيدة أو أسلوب
دعوة وتوجيه، إنما هو في منظورها دعاية لها ولمنطلقاتها.
2- الأخذ بالمنهج الليبرالي (أحادي التطبيق) الذي يتيح الحرية التامة لكل
التوجهات الفكرية أنّى كانت، عدا التوجهات الإسلامية التي لا يرون فيها ادعاءً
سوى أنها إرهاب وتطرف.
3- الاتجاه الاستهلاكي لكل ما تنتجه الدول من أفلام وبرامج تقوم على
الترفيه المسف وإشاعة الفاحشة (مكر الليل والنهار) .
وتلك الوسائل الإعلامية بأساليبها المختلفة تواصل أداء أدوارها المرسومة
لتضليل الأمة، وإضعاف انتمائها لعقيدتها ومنهجها الإسلامي، والْفت في عضد أي
توجه إسلامي جديد.
ولما قام نفر من المفكرين والدعاة إلى الله بالمطالبة بإعادة النظر في الوسائل
الدعوية وأهمية الارتقاء بأساليبها في الدعوة والتوجيه ... لم يكن أمامهم سوى
أسلوب واحد هو (الإعلام المقروء) عبر الصحف والمجلات، التي ما زالت تؤدي
دورها المحدود، لكن: بتأثير دون تأثير الوسائل الأخرى بدرجات.
فحتى متى لا يتنبه الإسلاميون لرسالة الإعلام الخطيرة، وحتى متى لا
يستغلونه للدعوة الراشدة لمبادئ الإسلام؟ ! ، إن الأمة الإسلامية تملك أعظم منهاج
عرفته البشرية بمختلف مللها ونحلها، فهل نستطيع تبليغ رسالته إلى العالم أجمع؟ ! وهل نحسن استخدام وسائل الإعلام بتقنياته المختلفة لعرض العقيدة الإسلامية
عرضاً مناسباً، يعالج حالة القلق والضياع الذي تعيشه الأمم؟ !
إننا في مجلة (البيان) منذ صدورها عام 1406هـ الموافق 1986م؛ لتكون
صوتاً من أصوات أهل السنة، ولساناً معبراً عن الإسلام باعتباره الرسالة الخاتمة،
ولتخاطب الناس كافة، ولتكون بياناً يتضمن توضيح الأهداف والغايات التي يتطلع
إليها المخلصون من أبناء هذه الأمة، ولتساعد في البحث عن الوسائل المشروعة
التي تخدم العمل الإسلامي، مع الدعوة إلى اجتماع جهود الدعاة إلى الله على المنهج
السلفي الرشيد، والبعد عن الحزبية والإقليمية.. ما زلنا على هذا الدرب،
مستعينين في ذلك بالله، ثم بمشاركات نخبة من العلماء والدعاة والمفكرين المشهود
لهم بسلامة العقيدة، والسابقة في الدعوة، والإلمام بواقع الأمة وما يتناوشها من
مؤامرات، رغبة في ترشيد الدعوة إلى الله لتؤدي رسالتها على الوجه المطلوب.
إننا بهذا العدد نكون قد أنهينا العقد الأول من عمر المجلة، وما كنا نتوقع أن
نصل إلى هذا الإنجاز الذي وصلنا إليه، فعلى الرغم من ضعف الإمكانات، وكثرة
العقبات والمصاعب، وقلة الخبرات، وندرة القدرات الإعلامية، إلا أننا بفضل الله
وتوفيقه استطعنا فيما نحسب أن نشق طريقنا بكل ثبات، مستعينين بالله (تعالى) ،
سائلينه التوفيق والتسديد.
لقد سارت (البيان) بتوفيق الله مؤدية دورها على هدي من كتاب الله وسنة
رسوله، والتمسك بمنهج سلفنا الصالح من أهل السنة والجماعة، وها نحن نصل
بعون الله إلى العدد (المئوي) راجين العون والسداد من الله (تعالى) ، وما زالت
رسائل القراء والمتابعين تغمرنا يوميًّا بالثناء والتقدير والتوجيه والنصح والمتابعة
مما يطالعه القراء الكرام على صفحات هذه المجلة.
وإننا نؤكد كثيراً على أننا في حاجة ماسة للنقد الهادف، والتقويم البنّاء، الذي
يعيننا ويأخذ بأيدينا إلى الصواب، ولدينا طموح كبير، وتطلع وثاب إلى المزيد من
الإنجاز والنجاح، ولن يكون ذلك إلا بتوفيق الله (تعالى) ، ثم بتعاون قرائنا الأعزاء
معنا في أداء هذه الرسالة.
ولا شك أن مهمة العمل الصحفي شاقة، وأداء الدور المطلوب فيه معاناة لا
يعرفها إلا من كابدها؛ لأن الممارسة الكتابية لا سيما الفكرية والدعوية منها من أشق
أنواع الكتابة وأصعبها، وبخاصة مع الظروف التي تحيط بأمتنا وسط أجواء
موبوءة تضخم من أخطاء التيار الإسلامي إن وجدت، وتحاول محاصرته بكل
الوسائل، بغض النظر عن مدى شرعيتها أو زيفها.
لكن أصحاب (رسالة الحق) لن يعدموا بإذن الله الأساليب الصحيحة والطرق
الموضوعية لإيصال ما يؤمنون به من مبادئ إلى أفراد الأمة ممن لم تعد تنطلي
عليهم الحرب المعلنة ضد الإسلام ودعاته ممن يعتبرونهم مصدر البلاء، والفتن! .
وفي الوقت نفسه يتناسون ويغضون الطرف عن الإرهاب المؤسسي
والإرهاب الدولي الذي تعقد له الاجتماعات، وتنظم له المؤتمرات، وتتطرق له
وسائل الإعلام ليل نهار، لكن ذلك كله لن يفلح بإذن الله مهما كانت الوسائل في
تحقيق أهدافهم المشبوهة، بل ستزيد المسلمين بإذن الله إيماناً وتمسكاً بدينهم،
وتجعل الدعاة إلى الله أكثر إيماناً بدعوتهم، وأكثر يقيناً بصدق توجههم الذي
يتقربون إلى الله بأدائه.
إننا في مجلة (البيان) لا ندعي لذواتنا العصمة، ولا نزكي أنفسنا (معاذ الله) ،
لكننا نعمل جاهدين في إيصال رسالة ديننا الحنيف للناس كافة، مع الاتباع لسنة
الهادي الأمين، ووفقاً لمنهج وفهم سلفنا الصالح (رضي الله عنهم أجمعين) ،
ونحرص على أن نسلط الأضواء على واقع أمتنا، وكشف ما يخطط ضدها،
ونعمل جاهدين لتقويم خطوات العمل الدعوي، رغبة في الوصول به إلى شاطئ
الأمان، وتلافي أي أخطاء قد تحصل مما ينعكس سلباً على الدعوة بعامة والدعاة
بخاصة، ومن هذا المنطلق: فقد حاولنا أن يكون هذا العدد (المئوي) متميزاً.
وقد حرصنا أن يحتوي على مشاركات لنفر من الكتاب، بدراسات وأبحاث
ومتابعات تشبع نهم القارئ من كل نافع ومفيد، وسنقدم إن شاء الله ملفات دورية
لمعالجة كثير من الجوانب المعاشة في واقعنا المعاصر، يشارك في عرضها
وتقويمها بعض من الفعاليات العلمية والعملية، ونبدأ في هذا العدد بالملف الأول،
وهو دراسات وتحليلات موسعة لبعض المختصين في حوار حول الصحوة
الإسلامية، وتقويم دورها، الذي نتوقع أن يكون مجالاً خصباً للحوار البناء لكل
المهتمين.
ونأمل أن يتواصل العلماء والمفكرون والدعاة في الإسهام بآرائهم وطروحاتهم
معنا فيما نطرحه للحوار حول مثل هذه المسائل الملحة.
إن الكلمة أمانة، وهي مسؤولية كل مسلم مهما كان موقعه، وتتضخم هذه
المسؤولية بخاصة على العلماء والدعاة والمفكرين وطلاب العلم [رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ] [الأعراف: 89] .(100/4)
دراسات شرعية
آل البيت.. منزلتهم - خصائهم
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
أولاً: التعريف، والمراد بهم:
(الآل) في اللغة: من الأَوْل، وهو: الرجوع. وآلُ الرجل: أهل بيته،
وعياله؛ لأنه إليه مآلهم، وإليهم مآله [1] .
المراد بآل النبي [2] :
اختلف في آل بيت الرسول على قولين:
القول الأول: أنهم الذين حرمت عليهم الصدقة، وهم: بنو هاشم، وبنو
عبد المطلب، أو بنو هاشم خاصة، أو بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب؛ وهذا القول
هو اختيار الأكثرين. ولا شك أن بعضهم أخص بكونه من آل البيت من بعض،
فعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين: أخص من غيرهم. [3]
ومن أدلة هذا القول:
أ- حديث (غدير خمّ) عن زيد بن أرقم أن النبي خطبهم، وفيه: أنه حث
على التمسك بكتاب الله ورغب فيه، ثم قال: (وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل
بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) ، فقال له: حصين:
ومَنْ أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته،
ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل
عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. وفي
رواية: قيل مَنْ أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا، وايم الله، إن المرأة تكون مع
الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته: أصله
وعصبته الذين حرموا الصدقة من بعده) [4] .
ب- حديث عمر بن سلمة قال: نزلت هذه الآية على النبي: [إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] [الأحزاب: 33] في بيت أم
سلمة، فدعى النبي فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء، وعلي خلف ظهره فجلله
بكساء، ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهرهم ... تطهيراً) [5] .
القول الثاني: أنهم ذريته وأزواجه خاصة:
ومن أدلة هذا القول:
أ- قوله (تعالى) : [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَاًتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ....] حتى
قوله: [وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] [الأحزاب: 30-33] فدخلن في آل البيت؛ لأن هذا الخطاب
كله في سياق ذكرهن، فلا يجوز إخراجهن من شيء منه.
ب - ما جاء في روايات حديث الصلاة على النبي بعد التشهد: (اللهم صل
على محمد وآل محمد) ، قالوا: فإنه مفسر بمثل حديث أبي حميد: (اللهم صل على
محمد وعلى أزواجه وذريته) [6] ، فجعل مكان الآل: الأزواج، والذرية؛ مفسراً
له بذلك.
ج - أن الله (تعالى) جعل امرأة إبراهيم من آله، فقال: [رَحْمَتُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ..] [هود: 73] كما جعل امرأة لوط من أهله، فقال: [ ... إنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إلاَّ امْرَأَتَكَ ... ] [العنكبوت: 33] .
وقيل في معنى (الآل) أقوال أخرى لا تصح.
هل أزواج النبي من آله؟ :
يأتي إفراد هذه المسألة من أهميتها؛ فالرافضة ينكرون كون أزواج النبي من
آله، وحجة من ذهب إلى هذا من أهل العلم: حديث زيد، وحديث ابن سلمة.
ويمكن مناقشة الاستدلال بهما كما يلي:
أولاً: حديث زيد، إنما وقع فيه نفيه في الرواية الثانية على أن يكون المراد
بأهل بيته نساؤه فقط دون غيرهن، ولذا: قال في الرواية الأولى: (نساؤه من أهل
بيته) ، فأثبت كونهن من أهل بيته، ونفى كونهن أهل بيته دون غيرهن، ويحتمل
أيضاً: أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث بالآل الذين حرموا الصدقة
استقلالاً، وهم قرابته دون أزواجه، ولكن الاحتمال الأول أرجح؛ جمعاً بين
الروايتين، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة [7] .
ثانياً: وأما استدلالهم بحديث عمر بن سلمة، فمناقشته من أوجه:
1- أن الحديث يحمل على أن النبي ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية،
وجعلهم أهل بيته، كما ألحق المدينة بمكة في حكم الحرَمِيّة، وعليه: فأهل الكساء
جُعلوا من أهل بيته بدعائه، أو بتأويل الآية على محاملها.
2- أن الحديث لا يقتضي حصر آل البيت في أولئك؛ لما جاء في الرواية
الأخرى: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق) [8] ، وهذا غايته أن قرابته
أحق بهذه التسمية، وليس فيه إخراج الأزواج من الآل.
3- أن قصر أهل البيت على المذكورين في الحديث (يقتضي أن تكون الآية
مبتورة عما قبلها وما بعدها) .
4- أن قوله لأم سلمة حين قالت: وأنا معهم يا رسول الله؟ : (أنت على
مكانك، وأنت إلى خير) [9] ليس فيه ما يفيد منعها من ذلك؛ لأن المراد أن ما
سألته من الحاصل، لأن الآية نزلت فيها، وفي ضرائرها، فليست هي بحاجة إلى
إلحاقها به [10] . وبعد هذه المناقشة يتبين أن القول الذي تجتمع به الأدلة هو:
شمول الآل للقرابة والأزواج، وهذا القول هو اختيار كثير من أهل العلم،
وصححه ابن تيمية [11] .
واليوم: فإن نسل البيت الطاهر لم ينقطع، كما دلت أحاديث خروج المهدي
على أنه من نسله، ولكن لا يثبت النسب لكل مدع، إذ لا بد من إثبات النسب،
فإن كان ذاك فلآل بيت رسول الله ما سيأتي ذكره من الخصائص والحقوق ...
والواجبات.
ثانياً: خصائصهم ومناقبهم:
1- خصائصهم:
أ- تحريم أكل الصدقة عليهم قال: (إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد) . [12]
ب- إعطاؤهم خُمُس خمس الغنيمة، وخمس الفيء: قال (تعالى) : ... [واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... ] [الأنفال: 41] ، وقال: [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... ]
[الحشر: 7] ، فإذا حرموا نصيبهم هذا أعطوا من الصدقة.
ج- فضل النسب وطهارة الحسب:
قال: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة،
واصطفاني من بني هاشم) [13] .
2- مناقبهم العامة:
أ- تخصيصهم بالصلاة عليهم: وذلك كما في التشهد في الصلاة عليه وعلى
آله.
ب- وصية الرسول بهم: كما تقدم.
ولا يثبت لآل البيت والله أعلم غير ذلك من الخصائص العامة، فيجب الحذر
من الأحاديث الضعيفة والموضوعة ودسائس المبتدعة.
3- المناقب والفضائل الخاصة ببعض آل البيت:
قد ثبت لكثير من أفراد آل البيت مناقب كثيرة، حفظتها السنة، ففضائل علي
أشهر من أن تذكر، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وخديجة خير النساء، وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام [14] ، وفاطمة
سيدة نساء أهل الجنة، وحمزة سيد الشهداء يوم القيامة ... وهذا غيض من فيض.
ثالثاً: عقيدة أهل السنة والجماعة في آل البيت:
تتلخص عقيدة أهل السنة في آل البيت في أنهم يحبون المؤمنين من آل البيت، ويرون أن المؤمن من آل البيت له حقان عليهم: إيمانه، وقرابته.
ويرون أنهم ما شرفوا إلا لقربهم من الرسول، وليس هو الذي شَرُف بهم،
ويتبرؤون من طريقة الروافض، ومن طريقة النواصب، ويحفظون فيهم وصية
الرسول، ولازم هذه المحبة: توليهم ونصرتهم، وهي من لوازم حفظ الوصية فيهم.
ويرون أنهم مراتب ومنازل، وأنهم وإن تميزوا فلا يعني أن لهم الفضل
المطلق على من فضلهم في العلم والإيمان، فالثلاثة: أبو بكر، وعمر، وعثمان،
أفضل من علي، وإن امتاز عنهم بخصوصيات؛ لأن هناك فرقاً بين الإطلاق
والتقييد [15] .
(وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه (رضي الله عنهن) ، والدعاء لهن،
ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين) [16] .
قال ابن كثير (رحمه الله) : (ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان
إليهم، واحترامهم، وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على
وجه الأرض، فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية
الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته
وذريته، رضي الله عنهم أجمعين) [17] .
ويبين الطحاوي أن البراءة من النفاق لا تكون إلا بسلامة المعتقد في آل البيت فيقول: (ومن أحسنَ القولَ في أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات من كل
دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق) [18] .
ولقد كانت حياة سلف الأمة شاهدة على رعايتهم وصية رسول الله في أهل
بيته، والوقائع كثيرة، هاك شيئاً منها:
-قال أبو بكر (رضي الله عنه) : (ارقبوا محمداً في آل بيته) يخاطب الناس
بذلك ويوصيهم به، يقول: احفظوه فيهم؛ فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم [19] .
وقال (رضي الله عنه) : (والله، لَقرابة رسول الله أحب إليّ من أصل
قرابتي) [20] .
-وقال عمر للعباس (رضي الله عنهما) : (والله، لإسلامك يوم أسلمت كان
أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من
إسلام الخطاب) [21] .
هذه بعض الشواهد، وإلا فإن الأمر أكبر من هذا، كما شملت هذه الرعاية
أزواجَ النبي؛ فإن أهل السنة يعرفون لهن حقّهن، فإنهن أمهات المؤمنين بنص
القرآن، وأفضلهن: خديجة وعائشة (رضي الله عنهن أجمعين) .
وقد كان بقية آل البيت فضلاً عن سائر الصحابة يعرفون مكانتهن؛ فقد قيل
لابن عباس (رضي الله عنهما) بعد صلاة الصبح: ماتت فلانة لبعض أزواج النبي
فسجد، قيل له: أتسجد في هذه الساعة؟ فقال: أليس قال رسول الله (إذا رأيتم آية
فاسجدوا) ، فأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي؟ [22] .
ولما كان صحابة رسول الله يحفظون لآل البيت قدرهم، فقد كان آل البيت
أيضاً يعرفون منزلة إخوانهم من الصحابة، ويقدرون صاحب الفضل منهم (رضي
الله عن الجميع) ويكفي الشاهد التالي: عن ابن عباس قال: (إني لواقف في قوم، فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره إذا رجل من خلفي قد وضع
مرفقه على منكبي فقال: رحمك الله، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛
لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله يقول: كنتُ وأبو بكر وعمر، وفعلتُ وأبو
بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما،
فالتفتّ فإذا علي بن أبي طالب) [23] فهذا هو علي (رضي الله عنه) الذي يرفعه
الرافضة فوق منزلته، ويزعمون ظلم الصحابة له وسلبهم حقوقه، إنه (رضي الله
عنه) يرد عليهم بفعله وقوله. ومن أجمل ما في هذا الباب: رسالة للشوكاني سماها
(إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي) ، ذكر فيها إجماع أهل البيت
على تحريم سب الصحابة، من اثني عشر طريقاً، ثم سردها عن جماعة من
أكابرهم. ثم ذكر طائفة من أقوالهم، تبين معتقدهم في صحابة رسول الله،
والترضي عنهم، وتحريم سبهم، وأن السب إنما هو من فعل الروافض الضلاّل،
ومن تشبه بهم في فعلتهم هلك معهم، وذكر في آخر رسالته أن من لم يقنع بما ذكر
من الأدلة والإجماع فهو: إما جاهل، أو مكابر. وصدق (يرحمه الله) .
رابعاً: معتقد أهل البدع والضلال في آل البيت:
افترق الناس في آل البيت، فهلكوا، ونجا أهل السنة، وهذا بحكم علي
(رضي الله عنه) حيث قال: (يهلك فيّ رجلان: مفرط في حبي، ومفرط في
بغضي) [24] ، وأهل السنة وسط بين طرفين، وقد سلك أهل الزيغ في آل
البيت مسلكين: مفرط في الحب وهم الروافض والصوفية، ومفرط في البغض وهم
النواصب.
المسلك الأول: مسلك الرافضة والصوفية:
معتقد الرافضة في آل البيت:
غلا الرافضة في محبتهم كما غلت النصارى في المسيح [25] ، وقالوا: لا
ولاء إلا ببراء، أي: لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر (رضي
الله عنهما) [26] ، وأطلقوا (النّصْب) على من تولى الشيخين (رضي الله عنهما) ؛
بناءً على أن: (من أحبهما فقد أبغض عليًّا) ، و (من أبغضه فهو ناصبي) ، وهاتان
مقدمتان، أولاهما باطلة [27] . ورفعوهم فوق منزلتهم، وادعوا لهم ما لم يثبت،
بل ما لا تقبله العقول!
وقد تبرأ خيرة آل البيت من تلك المحبة ودعوا إلى الاعتدال فيها، قال علي
بن الحسين (رحمه الله تعالى) : (يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا
حبكم حتى صار علينا عاراً) [28] ، وعن الحسن بن الحسن أنه قال لرجل يغلو
فيهم: (ويحك! أحبونا لله، فإن أطعنا الله فأحبونا، وإن عصينا الله فأبغضونا،
ولو كان الله نافعاً أحداً بقرابة من رسول الله بغير طاعة، لنفع بذلك أباه وأمه،
قولوا فينا الحق فإنه أبلغ فيما تريدون، ونحن نرضى منكم) [29] .
قولهم بإمامة الاثني عشر: [30]
الإمامة عندهم في المرتبة الرابعة من أصول الدين، بعد التوحيد والعدل
والنبوة، فزعموا فيها أن النبي نصّ على إمامتهم نصًّا جليًّا أو خفيًّا. ومن أصول
الرافضة في الإمامة:
أ - أن هؤلاء الأئمة معصومون كعصمة الأنبياء.
ب- أن كل ما يقولونه فقد تلقوه عن النبي.
ج- أن إجماع العترة (وهم الأئمة الاثني عشر) حُجة، وأن كل ما قاله أحدهم
فقد أجمعوا عليه كلهم! .
وبراءة آل البيت من لزوم طاعتهم على ما قرره الرافضة ثابتة: فعن علي بن
الحسين أنه قال: (من زعم منا أهل البيت أو غيره أن طاعته مفترضة على العباد
فقد كذب علينا، ونحن منهم براء، فاحذر ذلك إلا لرسول الله ولأولي الأمر من
بعده) [31] . وعن أبي جعفر محمد بن علي، قال: (يزعمون أني مهدي، وإني
إلى أجلي أدنى مني إلى ما يدعون) [32] .
انحراف الرافضة في أئمتهم:
وقد بلغ مبلغاً عظيماً، ومن صوره:
أولاً: اختلافهم في تعيين الأئمة اختلافاً متبايناً، كلّ يدعي الحق دون حجة
ولا برهان.
ثانياً: مخالفتهم لأئمتهم، حيث فارقوا أهل السنة والجماعة.
ثالثاً: أن الرافضة لا يهتمون بتمييز المنقولات عن الأئمة، ولا خبرة لهم بالأسانيد ومعرفة الثقات.
رابعاً: كذب الرافضة على أئمتهم:
فلم يقفوا عند حدّ القصور في تمييز المنقولات، وقد عظم كذبهم، لا سيما
على جعفر الصادق، فإنه ما كُذب على أحد مثل ما كذب عليه، حتى نسبوا إليه:
كتاب الجَفْر، والبطاقة، والهَفْت، واختلاج الأعضاء، وجدول الهلال، وأحكام
الرعود والبروق ... وغيرها.
خامساً: اتباع الرافضة لشيوخهم لا لأئمتهم:
فقد مات الأئمة من سنين كثيرة، فأين مهديّهم؟ ! والذين يوجهون الرافضة،
ويطيعهم الرافضة، هم الشيوخ، أو كتب صنفها الشيوخ.
سادساً: سخافة قول الرافضة في أئمتهم:
وماذا حصّلوا من انتظارهم إمامهم المزعوم محمد بن الحسن العسكري إلا
العناء وسخرية العقلاء بهم؟ ! .
سابعاً: زعمهم اختصاص آل البيت بشيء من التشريع، لم يعلم به غيرهم:
ومن ذلك: زعمهم اختصاصهم بمصحف فاطمة، ويكفينا هنا رد علي نفسه
لما سئل: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما كان في كتاب الله؟ قال: (لا والذي
فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ... ) ،
ولمسلم: (ما خصنا رسول الله بشيء لم يعم به الناس كافة) [33] .
ثامناً: شرك الرافضة في أئمتهم:
حيث ينسبون إليهم أفعالاً لا تليق إلا بمقام الربوبية، وتأمل هذه القصة: عن
القاسم المطرّز، قال: دخلت على عبّاد الكوفة، وكان يمتحن الطلبة، فقال: من
حفر البحر؟ قلت: الله، قال: هو ذاك، ولكن من حفره؟ قلت: يذكُرُ الشيخ،
قال: حفره علي! ! فمن أجراه؟ قلت: الله، قال: هو كذاك، ولكن من أجراه؟ قلت: يفيدني الشيخ، قال: أجراه الحسين، وكان ضريراً، فرأيت سيفاً وحَجَفَة، فقلت: لمن هذا؟ قال: أعددته لأقاتل به مع المهدي، فلما فرغت من سماع ما
أردت، دخلت عليه، فقال: من حفر البحر؟ قلت: حفره معاوية (رضي الله عنه) ، وأجراه عمرو بن العاص، ثم وثبتُ وعَدَوْتُ فجعل يصيح: أدركوا الفاسق عدوّ
الله، فاقتلوه. [34]
حقيقة مذهب الرافضة:
والحقيقة التي ينبغي أن تُعلم: أن كل ما يدعيه الرافضة لآل البيت، لم يكن
مودة لآل البيت، ولا محبة فيهم! ، فإن القوم قوم بُهت، وأهل كيد وخداع، وإن
وراء الأكمة ما وراءها، ويشهد التاريخ أنهم كادوا للإسلام ويكيدون له؛ فهم قوم
منافقون باطنيون أقصد أهل زماننا من الرافضة،
قال الإمام الدارمي: (حدثنا الزهراني أبو الربيع قال: كان من هؤلاء
الجهمية رجل، وكان الذي يظهر من رأيه الترفض وانتحال حب علي بن أبي
طالب (رضي الله عنه) ، فقال رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه: قد علمت أنكم لا
ترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه، فما الذي حملكم على الترفض وانتحال حب
علي؟ قال: إذن أصدقك أنا، إنْ أظهرنا رأينا الذي نعتقده رُمينا بالكفر والزندقة،
وقد وجدنا أقواماً ينتحلون حب علي ويظهرونه، ثم يقعون بمن شاؤوا، ويعتقدون
ما شاؤوا، ويقولون ما شاؤوا، فنُسبوا إلى التشيع، فلم نر لمذهبنا أمراً ألطف من
انتحال حب هذا الرجل ثم نقول ما شئنا، ونعتقد ما شئنا، ونقع بمن شئنا، فلأن
يقال لنا: رافضة أو شيعة، أحب إلينا من أن يقال زنادقة كفار، وما علي عندنا
أحسن من غيره ممن نقع بهم.
ثم قال: وصدق هذا الرجل فيما عبر عن نفسه ولم يراوغ. وقد استبان ذلك
من بعض كبرائهم وبصرائهم ... ولئن كان أهل الجهل في شك من أمرهم، إن أهل
العلم منهم لعلى يقين) [35] .
معتقد الصوفية في آل البيت:
والصوفية يرون أن آل البيت هم خواص الأمة؛ ومن هنا أتى غلوهم في
الأولياء. وينبغي أن يعلم أن لهم اصطلاحاً في الولاية يخالف اصطلاح أهل السنة، فأهل السنة يعرفون الولي بأنه: كل مؤمن تقي، ليس بنبي.
أما ولي الله عند الصوفية فهو: من اختاره الله وجذبه إليه، ولا يشترط
الصلاح ولا التقوى عندهم، بل هي وَهْب إلهي دون سبب ولا حكمة، وجعلوا
المجاذيب والمجانين والفسقة والظلمة أولياء، وقسموا الأولياء إلى مراتب: الغوث، والأبدال، والنجباء، ولكل منهم تصرف في الكون حسب مرتبته.
والمطلع على حقيقة مذهبي الرافضة والصوفية يجد الأصل واحداً، والغاية
واحدة، كما يجد الاشتراك في كثير من العقائد والشرائع [36] ، وخير مثال على
ذلك ما نحن بصدده، وهو:
1- الإمامة الشيعية والولاية الصوفية:
زعم الرافضة أن أئمتهم مختارون من الله، خُصوا بخصائص دون غيرهم،
ورفعوهم فوق مقامات الأنبياء، وهذا نفسه ما ادعاه الصوفية لأوليائهم، وكما جعل
الرافضة للأئمة مقامات بعد مقام الولاية كالنقباء، وهم وكلاء الإمام ... ، فقد جعل
الصوفية المقام الأعظم للقطب الغوث، ثم الأبدال السبعة، ثم النجباء السبعين ...
2- تقديس القبور وتعظيم المشاهد:
الشيعة أول من بنى المشاهد والمساجد على القبور في الإسلام، وكان ذلك منذ
بداية القرن الثالث الهجري، ولكن بعض خلفاء بني العباس شرعوا يهدمونها ...
ونسج الصوفية على المنوال نفسه؛ فجعلوا أهم مشاعرهم: تعظيم القبور
والأضرحة، والطواف والتبرك بها ...
ولعل من الأمثلة على شدة التقارب بين الفئتين: ما قام به الرافضة في بلد
إسلامي من بناء مسجد عظيم أنفقوا فيه بسخاء على مقام (السيدة زينب) ، وهو من
المقامات التي أنشأها الصوفية، بل صار مزاراً عظيماً للرافضة! ! ويكفي في بيان
التقارب: أن التشيع ما دخل إفريقيا في العصر الحديث إلا عن طريق الصوفية
التي كانت ضاربة أطنابها في إفريقيا ولا زالت، بل إن دولة العبيديين (الفاطميين)
كانت تسعى لنشر التشيع والرفض، وما أراد العبيديون أصلاً بإنشاء الأزهر إلا
ليكون معلماً للرفض، ومركزاً لنشر تلك العقيدة المزيفة، ولكن الله رد كيدهم، ولما
سقطت دولتهم على يد صلاح الدين، الذي أعاد الله به ضياء السنة، بقي دين
الرفض مختبئاً، واتخذ طريق التصوف أسلوباً وسبيلاً لمحاولة بقائه.
المسلك الثاني من مسالك أهل البدع في آل البيت:
سبهم وتكفيرهم، كما يفعلون مع بقية الصحابة (رضي الله عنهم) ، وهذا
مسلك المارقة الخوارج الحرورية.
والأدلة على تحريم سب الصحابة وآل البيت ظاهرة، وأقوال السلف في
حبس سابّهم وعقوبته متكاثرة، قال (تعالى) : [وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً]
[الحجرات: 12] ، وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً، وقال (تعالى) : ... [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ] [الهمزة: 1] ، وقال (تعالى) : [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإثْماً مُّبِيناً] [الأحزاب: 58] ، والله
(تعالى) قد رضي عن الصحابة رضاءً مطلقاً، فقال: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ]
[التوبة: 100] ، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن
التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً.
وقال رسول الله: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي
بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه) [37] . وقد
فصل ابن تيمية في الصارم المسلول حكم ساب الصحابة بعد أن نقل نقولاً كثيرةً
عن العلماء، وهناك جملة من أنواع سب الصحابة مما يعدّ ناقضاً من نواقض
الإيمان [38] ، وهي:
1- أن يسب الصحابة أو جمهورهم، سبًّا يقدح في دينهم وعدالتهم؛ كأن
يرميهم بالكفر، أو الفسق، أو الضلال.
2- أن يسب صحابيًّا تواتر فضله.
3- أن يقذف عائشة، أو غيرها من أمهات المؤمنين.
وواضح أن هذا السب قاسم مشترك بين الروافض والنواصب! ! .
ولماذا كان السب ناقضاً للإيمان ومكفراً؟
لأن في سب الصحابة (رضي الله عنهم) تكذيباً للقرآن الكريم، وإنكاراً لما
تضمنته آيات القرآن من تزكيتهم والثناء عليهم.
لأن سبهم يستلزم نسبة الجهل إلى الله (تعالى) ، أو العبث في تلك النصوص
الكثيرة التي تقرر الثناء على الصحابة.
ولأن فيه تنقصّاً وأذى للرسول؛ فهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم.
ولأن سبهم طعن في الدين، وإبطال للشريعة، وهدم لأصله؛ لأنهم هم نقلة
الدين، فإذا طعن فيهم انعدم النقل المأمون للدين.
ونحن نبرأ إلى الله من فعل الخوارج الذين يناصبون الصحابة وآل البيت
العداء، وقتلوا عليًّا على يد ابن ملجم (عليه من الله ما يستحق) . كما نبرأ من
صنيع الروافض وافترائهم وبهتانهم.
وأخيراً: أما وقد ثبت هذا الفضل لآل البيت، فهل يا ترى يناله كل من كان
منتسباً لهذا النسب الشريف كائناً من كان؟ .
إن أصول الشريعة لتدل دلالة واضحة على أن النسب بحد ذاته لا يمكن أن
يكون كافياً لتحصيل تلك المزية والمنقبة وذلك الفضل، إذ لو كان كافياً لنفع أبا لهب
وأبا طالب، إذ لا بد أن ينضاف إليه الإيمان والعمل الصالح؛ فإن النسب وحده لا
يعني حصول العصمة، ولا سقوط التكاليف.. هذا أمر.
وأمر آخر وهو: أن القرب من النبي كما أنه تشريف، فهو تكليف أيضاً؛
فإن الله (تعالى) ضاعف الأجر لأزواج النبي وهنّ من آله وبيّن لهنّ مضاعفة
العقوبة، وهذا من خصائصهن (رضي الله عنهن) لعظم قدرهن؛ لأن قبح المعصية
تتبع زيادة فضل الآتي بها، قال (تعالى) : [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَاًتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ
مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً] ... [الأحزاب: 30، 31] ، فلما كانت مكانتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظا؛ صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع.
إذن: فالفضل الوارد لآل البيت إنما يستحقه المؤمنون منهم، المتبعون للسنة، وهم الذين ندين لله (تعالى) بحبهم، والاعتراف بفضلهم، وموالاتهم، ومعاداة من
عاداهم.
أما الواقع المشاهد لبعض المنتسبين لآل البيت، من الذين بدلوا وغيروا
وحرفوا، وصاروا دعاة للضلالة، ناصرين للبدعة، محيين للشرك الصراح،
موالين لأهل الكفر، أما هؤلاء فلا حب لهم ولا كرامة، فإنهم لا يعتبرون من آل
البيت، بل حقهم الكراهية والبغض والبراءة والعداوة، كما هو مقرر في باب الولاء
والبراء، فتسري عليهم أحكام الشريعة، كما تسري على غيرهم، في حين أن
الأمر في حقهم أشد وأقبح؛ فهم يسيئون إليه، ويؤذونه وآل بيته (رضي الله عنهم) ، لكن أفعالهم الشنيعة، وأعمالهم البشعة لا تغض من قدر آل البيت شيئاً، بل
قدرهم عند أهل السنة محفوظ، لا يزيله تحريف غالٍ، ولا انتحال مبطل، ولا
تأويل جاهل.
إن كثيراً من أولئك الدجاجلة الأفاكون استغلوا نسبتهم لآل البيت، وصدقوا
معتقد الرافضة وغلاة الصوفية في أئمتهم، فادّعوا العصمة لأنفسهم وصاروا دعاة
على أبواب جنهم، ينشرون البدع والضلال والكفر والشرك الأكبر! .
ألا فليعلم أولئك، والمغترون بهم، والسائرون في ركابهم، أنهم ليسوا على
شيء؛ فإن الله (تعالى) ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب ولا سبب، إلا سبب
الإيمان والعمل الصالح، وإن النبي لا يغني عن أحد شيئاً، ولو كان أقرب قريب،
ولو كان نافعاً أحداً لنفع أباه، وقد قرر ذلك أعظم تقرير وأوضحه، ولكن القوم في
غيهم يعمهون. عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: لما أنزلت هذه الآية: [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] [الشعراء: 214] دعى رسول الله قريشاً، فاجتمعوا،
فعمّ وخصّ، فقال: ( ... يابني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب
أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله
شيئاً ... ) . [39]
__________
(1) لسان العرب، م1 ص171.
(2) انظر جلاء الأفهام، لابن القيم، ص 210 228.
(3) انظر منهاج السنة، ج7 ص75 78.
(4) رواه مسلم، ح/2408.
(5) أخرجه الترمذي، ح/3787، ومسلم بمعناه، ح/2424.
(6) أخرجه مسلم، ح/407.
(7) انظر تفسير ابن كثير، ج3 ص486.
(8) المسند، ج4 ص170.
(9) تفسير الطبري، ج10 ص297، بنحوه.
(10) انظر: تفسير ابن عاشور، ج22 ص16.
(11) منهاج السنة، ج7 ص76، ج4 ص24.
(12) أخرجه مسلم ح/1072 ص6.
(13) أخرجه مسلم ح 2276.
(14) أخرجه مسلم ح 2276.
(15) مسلم، ح/2430 وما بعده 8.
(16) انظر شرح مقدمة التفسير، لابن عثيمين ص108.
(17) عقيدة الإمام الصابوني، ج4 ص113.
(18) تفسير ابن كثير، ج4 ص113.
(19) شرح الطحاوية، م2 ص737.
(20) انظر الفتح ج7، ص98، والأثر في الصحيح.
(21) أخرجه البخاري، ح3712.
(22) تفسير ابن كثير، ج4 ص113.
(23) أخرجه الترمذي، ح3891، وهو صحيح.
(24) أخرجه البخاري، ح3677.
(25) أخرجه اللالكائي، م7ص1397، وإسناده قوي.
(26) شرح الطحاوية، م2ص697.
(27) انظر التدمرية، ص122.
(28) أخرجه اللالكائي، م7 ص1398.
(29) السابق، م7 ص1400.
(30) انظر مجلة البيان، ع93 ص8-19.
(31) أخرجه اللالكائي، م7 ص1398.
(32) السير، ج4 ص407 11.
(33) أخرجه البخاري، ح3047، ح1978 بنحوه.
(34) السير، ج11 ص538، وإسنادها صحيح.
(35) الرد على الجهمية، ص179 180.
(36) انظر: الفكر الصوفي، عبد الرحمن عبد الخالق، ص514 48.
(37) أخرجه مسلم، ح/204.
(38) انظر نواقض الإيمان، د عبد العزيز العبد اللطيف، ص405.
(39) أخرجه مسلم، ح 2540.(100/8)
دراسات شرعية
هذه أحكام الأضحية
بقلم: عبد الله الإسماعيل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
فإن الأضحية من شعائر الله الظاهرة التي أجمع المسلمون على
مشروعيتها [1] ، وداوم النبي -صلى الله عليه وسلم- على فعلها، كما في حديث أنس - رضي الله عنه- (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين، فذبحهما بيده) . [2]
وإليك أيها القارئ الكريم مسائل في الأضحية وأحكامها تحت العناوين الآتية:
أولاً: حكمها:
الأظهر من قولي العلماء أنها سنة مؤكدة للقادر عليها، وهو قول الجمهور،
وليست بواجبة؛ لجملة من الأدلة منها:
1) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحى عمن لم يضحّ من أمته، كما في
حديث جابر -رضي الله عنه [3] .
2) حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال
: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسّ من شعره وبشره شيئاً) [4] ،
فقوله: (وأراد) ظاهر الدلالة في عدم الوجوب [5] .
3) أن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى
بهما [6] .
4) قول أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- (إني لأدع الأضحى وإني
لموسر، مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليّ) . [6]
ثانياً: وقتها:
يبدأ وقت ذبح الأضحية من بعد صلاة العيد؛ لحديث أنس -رضي الله عنه-
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) [7] ، ويمتد وقت الذبح
إلى آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، فتكون أيام الذبح
أربعة، لحديث جبير بن مطعم مرفوعاً: ( ... وفي كل أيام التشريق ذبح) [8] .
والأفضل ذبحها في اليوم الأول بعد الصلاة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-
(إن أوّل ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر) [*] .
ثالثاً: صفة ذبحها:
يسن أن يذبحها بيده، فإن كانت من البقر أو الغنم أضجعها على جنبها الأيسر، موجهة إلى القبلة، ويضع رجله على صفحة العنق، ويقول عند الذبح: بسم الله والله اكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذا عني (أو اللهم تقبل مني) وعن أهل بيتي، أو عن فلان -إذا كانت أضحية موصي -، ويدل على هذه الصفة الأحاديث الآتية:
1- حديث أنس -رضي الله عنه- قال: (ضحى النبي بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما) [9] .
2- حديث جابر السابق.
3- حديث عائشة -رضي الله عنها- (أن رسول الله أمر بكبش أقرن، يطأ
في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد [10] ، فأتي به ليضحي به، فقال
لها: يا عائشة هلمي المدية، ثم قال: اشمذيها بحجر، ففعلتُ، ثم أخذها وأخذ
الكبش فأضجعه، ثم ذبحه ثم قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن
أمّة محمد، ثم ضحى به) [11] .
4- أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يكره أن يأكل ذبيحة ذبحت لغير
القبلة. [12]
- أما جملة: (اللهم هذا منك ولك) فقد جاءت في حديث جابر -رضي الله
عنه - وإسناده صحيح لولا عنعنة أبي إسحاق، إلا أن لها شاهداً يتقوى به [13] .
- وإن كانت الأضحية من الإبل نحرها معقولة يدُها اليُسرى؛ لحديث ابن
عمر -رضي الله عنهما- أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، فقال: (ابعثها
قياماً مقيّدة، سنّة محمد) [14] .
وعن عبد الرحمن بن سابط -رحمه الله-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليُسرى قائمة على ما بقي من قوائهما) . [15]
رابعاً:
ويحرم بيع شيء منها حتى من شعرها وجلدها، ولا يعطى الجزّار بأجرته منها شيئاً؛ لقول علي -رضي الله عنه- (أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقوم على بُدْنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وأن لا
أعطي الجزار منها) [16] (قال: نحن نعطيه من عندنا) . [17]
خامساً: ما يجزئ في الأضحية:
أ- لا تجزئ إلا من الإبل والبقر والغنم؛ لقوله تعالى [لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى
مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] [الحج: 34] وبهيمة الأنعام هي: الإبل، والبقر،
والغنم [18] .
ب- تجزئ الشاة عن الواحد وأهل بيته، لقول أبي أيوب -رضي الله عنه-
لما سئل: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله؟ فقال: (كان الرجل يضحي
بالشاة عنه وعن أهل بيته) [19] .
وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة وأهل بيوتهم؛ لحديث جابر -رضي الله
عنه-، قال: (خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهلين بالحج، فأمرنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في
بدنة) . [20]
ج- أقل ما يجزئ من الضأن ما له نصف سنة، وهو الجذع؛ لقول عقبة بن
عامر -رضي الله عنه- قال: (ضحينا مع رسول الله بجذع من الضأن) [21] .
وأقل ما يجزئ من الإبل والبقر والمعز سنّة؛ وهي من المعز ما له سنة،
ومن البقر ما له سنتان، ومن الإبل ما له خمس سنين [22] ؛ لحديث جابر - رضي
الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تذبحوا إلا سنة، إلا
أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن) . [23]
د- أربع لا تجوز في الأضاحي، كما في حديث البراء بن عازب -رضي
الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (أربع لا تجوز في
الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن
ظلعها [24] ، والكسير [25] ، وفي لفظ: والعجفاء [26] التي لا تنقي [27] [28] .
سادساً: ما يجتنبه المضحي:
إذا دخلت العشر حرم على من أراد أن يضحي أخذ شيء من شعره أو ظفره
أو جلده حتى يذبح أضحيته؛ لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي قال:
(إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) ، وفي
رواية (ولا من أظافره شيئاً حتى يضحي) . [29] ، وهذا النهي خاص بصاحب
الأضحية، أما المضحى عنهم من الزوجة والأولاد فلا يعمهم النهي؛ لأن النبي ذكر
المضحي، ولم يذكر المضحى عنهم. ومن أخذ شيئاً من شعره أو ظفره في العشر
متعمداً فلا يمنعه ذلك من الأضحية، ولا كفارة عليه، ولكن عليه أن يتوب إلى الله
(تعالى) .
سابعاً: الأضحية عن الميت:
أ- تصح الأضحية عن الميت إذا كانت إنفاذاً للوصية.
ب- أما أن يفرد الميت بأضحية تبرعاً، فهذا ليس من السنة، وقد مات عم
النبي حمزة وزوجته خديجة، وثلاث بنات متزوجات، وثلاثة أبناء صغار، ولم
يرد عنه أنه أفردهم أو أحداً منهم بأضحية.
ج-إن ضحى الرجل عنه وعن أهل بيته ونوى بهم الأحياء والأموات شملهم
جميعاً [30] .
__________
(1) انظر: المغني، ج13 ص360.
(2) البخاري: كتاب الأضاحي، ج6 ص234.
(3) أخرجه أحمد، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(4) مسلم: ح/1977.
(5) انظر: المغني، ج13ص361، المجموع، ج8ص356.
(6) أخرجه البيهقي، وصححه الألباني في الإرواء 0.
(7) البخاري: كتاب الاضاحي، ج6ص234.
(8) قال ابن حجر: (أخرجه أحمد، ولكن في سنده انقطاع ووصله الدارقطني ورجاله ثقات) (الفتح، ج10ص10) .
(*) البخاري: كتاب الاضاحي، ج6ص234.
(9) البخاري: كتاب الاضاحي، ج6ص237.
(10) أي: إن أظلافه، ومواضع البروك منه، وما أحاط بعينيه: أسود.
(11) مسلم: ح/1967.
(12) أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح.
(13) أورده الهيثمي في المجمع (ج4 ص350) .
(14) أخرجه البخاري ومسلم.
(15) صحيح سنن أبي داود للألباني، ح/1553.
(16) متفق عليه.
(17) أخرجه مسلم.
(18) المغني: ج13 ص368، ابن كثير، ج5 ص412.
(19) أخرجه الترمذي، ج2 ص90.
(20) أخرجه مسلم.
(21) أخرجه النسائي، ج3 ص915.
(22) المغني، ج13 ص369.
(23) أخرجه مسلم.
(24) أي: عرجها.
(25) أي: المنكسرة.
(26) أي: المهزولة.
(27) أي: لا مخ لها لضعفها وهزالها.
(28) صححه الألباني، انظر: الإرواء، ج4 ص361.
(29) أخرجه مسلم.
(30) انظر: أحكام الأضحية للشيخ ابن عثيمين.(100/20)
خواطر في الدعوة
الأسباب والنتائج
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد العبدة
من الكلمات التي ما فتئ بعض الإسلاميين يرددونها، ولا يملون من تردادها
كلما ووجهوا بنقد أو لوم: (نحن نعمل، والنتائج على الله) ، وهي كلمة حق؛
فالإنسان يبذل الجهد، ويأخذ بالأسباب التي أُمر أن يأخذ بها، ويدع النتائج لمشيئة
الله، فما قضى به (سبحانه) للمؤمن فهو خير ولن مشكلة هذا القول تكمن في نصفه
الأول، والسؤال المتبادر: هل قمنا - حقيقة - بالعمل المطلوب؟ هل أخذنا
بالأسباب الواجبة شرعاً؟ ، وهل بذلنا كل وسعنا، وكل طاقتنا، ثم قلنا: دع
النتائج لله؟
هذه الأسئلة يجب أن نفكر فيها طويلاً، ونعيد النظر في أعمالنا، ونرجع إلى
الماضي القريب، فإن النتائج التي وصلنا إليها، ومحصلة العمل الإسلامي بعد
مرور ما يقارب القرن على بدئه لا تدل على أننا قمنا بالواجب تماماً، ولا تدل على
أننا أخذنا بالأسباب على أحسنها، إنها نتائج ضعيفة إذا قيست بهذه المدة المتطاولة.
ليس هذا إنكاراً للجهود المخلصة، ولا جحوداً لما قام به أهل العلم والفضل
ولكن.. لماذا نظن أن الأمور سائرة على ما ينبغي؟ ولماذا لا نفترض أن هناك
خللاً ما، سواء أكان خللاً في المنهج والتصورات أو في الوسائل وطرق السير؟ .
لقد سرق العلمانيون والمتسلقون جهود المسلمين ... ولا يزالون، فلماذا لا
نبحث مثل هذه القضية؟ ألا يستحق المسلمون أن يكون لهم قيادة علمية يرجعون
إليها، قيادة توجههم وتحميهم من تكالب الأعداء عليهم، وتحميهم من هذه الحرب
الضروس التي يشنها الإعلام العالمي - ومن يسير في ركابهم - على الإسلام
والمسلمين؟
كيف نقول: إننا قمنا بالعمل، وليس للمسلمين منبر إعلامي قوي يذود عنهم،
ويشرح للناس قضيتهم، ويبشر بالإسلام لإنقاذ الناس من الهلاك.
كيف نقول: إننا قمنا بالعمل، ولا نجد خطوات جادة مخلصة لتوحيد الصف
الإسلامي، وإذا بُدئ بهذا الأمر، فإنه يبدأ بخطوات خجولة مترددة.
ليس المقياس أن نرى النتائج فقط، ولكن أن ننظر إلى البدايات، هل أُحكمت
أم لا؟ ، والأخذ بالأسباب لا يعني الأخذ بأضعفها، ومن قصر في هذا فلا يلومنَّ
إلا نفسه، وقد قيل:
لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
ويروى عن الخليفة الأموي (سليمان بن عبد الملك) أنه قال: (ما لمت نفسي على فوت أمر بدأته بحزم ولا حمدتها على درك أمر بدأته بعجز) . ...
إن الخلل في إحكام البدايات، وعدم الوقوف على أرض صلبة، وعدم السير
على منهج واضح: هو الذي أوقع المسلمين في أخطاء كبيرة، جعلهم يتقدمون
خطوة ويتأخرون خطوات، بينما نرى أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قاموا بعده بشؤون الحكم والإدارة، واختلطوا بالأمم، ولكن كل ذلك كان
مشدوداً لقاعدة منهجية واضحة.
إن الأخذ بالأسباب من منهج أهل السنة، ولكن لا يعتمد عليها وحدها فإن هذا
شرك بالله، وكذلك: لا تترك فإن هذا حمق.
لقد كان سلفنا الصالح يتوكلون على الله ويأخذون بالأسباب.(100/24)
من قضايا المنهج
أخطاء في فهم المنهج
محمد بن عبد الله الدويش
يكثر اليوم الحديث عن المنهج وطرح التساؤلات وإثارة النقاش حوله، ويكثر
استخدام هذا المصطلح في الخطاب الدعوي، وتقويم الجهود والأعمال الدعوية.
والحديث عن المنهج مظهر من مظاهر النضج في التفكير وتجاوز الوقوف
عند المسائل الفرعية وتكرارها والجدل فيها على حساب الأصول.
لكن.. ما طبيعة هذا الحديث؟ .
أهو حشد للطاقات والجهود داخل إطار الطائفة الناجية لاستكشاف معالم المنهج، وتحديد الثوابت الدعوية في مثل هذا العصر وظروفه؟ أم أن الجهود اتجهت للتشاجر والتطاحن داخل الصف الإسلامي بل داخل صف أهل السنة؟ !
وما أسطره هنا لا يعدو كونه اجتهاداً فرديًّا، ومحاولة شخصية، آمل من
القارئ الكريم ألا يؤدي به اختلافه معي في قضية أو جزئية إلى رفض ما يوافقني
عليه، وكلّ يؤخذ من كلامه ويرد، إلا المعصوم.
المنهج في اللغة:
قال ابن فارس: (النون والهاء والجيم أصلان متباينان: الأول: النهج، الطريق.. ونهج الأمر: أوضحه.
والآخر: الانقطاع.. وأتانا فلان ينهج، إذا أتى مبهوراً مقطوع النّفَس) [1] .
حين نعود إلى لسان العرب نستطيع أن نستنبط من معاني المنهج ومشتقاته:
1- الوضوح: (طريق نهج: بيّن واضح، وهو النهج.
والمنهاج: الطريق الواضح. واستنهج الطريق: صار نَهْجاً.
2- سلوك الطريق: نهجت الطريق: سلكته، والنهج: الطريق المستقيم.
3- الانقطاع: وهو ليس من هذا الباب، بل من الأصل الثاني. [2]
المنهج في الكتاب والسنة:
ورد المنهج في القرآن في قوله (تعالى) : [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً]
[المائدة: 48] . وفي السنة النبوية: جاء استخدام هذا المصطلح في حديث: (تكون
النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) [3] .
أخطاء في المنهج:
أولاً: اعتبار أقوال الرجال مقياساً للمنهج:
مما لاجدال فيه، ولا يحتاج لاستدلال: أن لأقوال أهل العلم قيمة ومكانة،
ولا أدل على ذلك من أنك لا تقرأ لأحد من المعتبرين في مسألة من المسائل إلا
وتراه يثني على اختياره قولاً من الأقوال، في الإشارة إلى من قال بهذا القول من
أهل العلم. لكن هذا شيء، واعتبار أقوالهم وآرائهم حجة شرعية ومصدراً للتلقي
شيء آخر.
وفي ميدان التقرير النظري: فلن تجد أحداً من أهل السنة يعتقد العصمة
لرجل من الرجال، أو يرى أن قوله حجة ملزمة للأمة كلها، لكنك حين تنتقل إلى
ميدان العمل والتطبيق: فسترى الكثير ممن يتحدث عن قضايا كبرى تتعلق بالمنهج
ينطلق من رأي فلان وفلان من الناس، ويظهر أثر ذلك في جوانب عدة، منها:
1- استفتاء بعض المهتمين أهل العلم في كل ما يجدّ ويحدث، واعتماد هذه
الفتوى أو الرأي حجة دون اعتبار الدليل الشرعي.
2- في مجال تقويم الأعمال الدعوية والجهود والبرامج، أو تقويم بعض
الدعاة: قد يُكتفى بسؤال فلان أو فلان من الناس، واعتبار رأيه حجة قاطعة.
3- الحكم بالانحراف عن المنهج على فرد أو داعية؛ بحجة أنه خالف ما
قرره العالم الفلاني أو الجماعة الفلانية، أو الهيئة العلمية الفلانية.
ومع تأكيدنا لقيمة أقوال أهل العلم وضرورة استفتائهم، إلا أن هذا شيء،
واعتبار أقوال بعضهم حجة على الأمة شيء آخر.
قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (والمقصود أن من نصب إماماً فأوجب طاعته
مطلقاً، اعتقاداً أو حالاً، فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية ...
وكذلك: من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا
استثناء ... وكذلك: من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم فيما قاله وأمر به ونهى
عنه مطلقاً، كالأئمة الأربعة، وكذلك: من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة في
كل ما يأمرون به وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء) [4] .
ومن يقرأ في كتب أهل العلم السابقين واللاحقين فسيجدهم قد تواصوا بالعيب
على التقليد والنعي على أصحابه وذمهم.
وقد يعتذر بعضهم بأنه يسوغ له التقليد، وأن غيره يدرك ما لا يدرك، وأنه
لم يصل إلى مرتبة معرفة الأدلة ومناقشتها، فقد يسوغ له التقليد في ذات نفسه،
لكن.. لم يجعل ذلك معياراً يحكم به على الآخرين، فيضللهم أو يخرجهم عن دائرة
المنهج محتجًّا بأقوال الرجال؟ ، وحين يناقش بالدليل الشرعي يقول: إنه ليس
صاحب علم، وفرضه أن يقلد.
ثانياً: اعتبار واقع المجمتع معياراً للمنهج:
تتفاوت مجتمعات المسلمين اليوم في مدى قربها أو بعدها عن الهدي الشرعي، ... ومدى سلامتها من البدع والمحدثات، وقد يتميز مجتمع منها بأنه أكثر محافظة
وأقل ابتداعاً من غيره، فيشعر أهله بالتوجس والريبة مما يفد إليهم من سائر
المجتمعات، ويعطي الواقع المشاهد بعض المصداقية لهذه النظرة.
لكن قد تتحول القضية إلى اقتناع راسخ بأن أي وافد على هذا المجتمع فذلك
دليل انحرافه، فيرفض هؤلاء الكثير مما لم يألفوه بحجة أنه وافد، أو لم يكن
يعرف من قبل، ولو قالوا: [إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ]
لكانوا أكثر واقعية مع أنفسهم.
نعم، قد يكون هذا الوافد مخالفاً فينبغي أن يرفض؛ لأنه مخالف للشرع لا
لأنه وافد، وقد يكون موافقاً للشرع، فكونه غير معروف لدى مجتمع معين أو طبقة
معينة من الناس مهما علا قدرهم ليس مبرراً لرفضه.
ثالثاً: الخلط في المصطلحات الشرعية:
هناك مصطلحات شرعية رتب الشرع عليها المدح والذم، والوجوب والتحريم
وبعضها مصطلحات عامة تحتاج للفقه في تنزيلها على الوقائع والمواقف، وقد يُتكأ
على مثل هذه المصطلحات، وينطلق منها، ويستثمر أثرها على الناس في تقرير
ما يريده باسم المنهج، ومن ذلك:
1- المصلحة: فالمصالح والمفاسد مصطلح شرعي يكثر الحديث عنه في
كتب الأصول والمقاصد، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى اعتبار أن الدين كله قائم
على مراعاة المصالح والمفاسد، لكن بعض الدعاة قد يقف مواقف ويعمل أعمالاً
دعوية تخالف المنهج الشرعي، وحين يطالَب بالحجة والبرهان لا يجد لنفسه مستنداً
إلا أن المصلحة تقتضي هذا الأمر، وينسى هؤلاء أن المصلحة وصف شرعي لا
بد من تنزيله على مناطه الشرعي فعلاً، وليست لباساً يُلبسه من شاء على ما راق
له من عمل.
وأحياناً قد يوصف الواجب الشرعي كإنكار المنكر بأنه يترتب عليه مفاسد،
وينسى هؤلاء أن المفاسد المعتبرة هي ما اعتبرها الشرع. إن الأصل الشرعي
المستقر: أنه يجب إنكار المنكر، إلا إذا ترتب على إنكاره مفسدة؛ فالقاعدة
والأصل: وجوب الإنكار، وترتب المفسدة استثناء، فتحول الاستثناء عند بعض
هؤلاء إلى قاعدة.
2- الفتنة: والفتنة جاءت نصوص الشرع بذمها وعيب أهلها والداعين إليها
والساعين لإثارتها، لكن قد ينطلق اليوم بعض الذين يسعون لتشويه سير الدعاة إلى
الله (عز وجل) والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، من هذا المعنى المستقر
وهذا الرفض لدى جمهور المسلمين للفتن؛ ينطلقون من ذلك ليحَوِّلوا جهد هؤلاء
وإبلائهم إلى جرم وضلال، وفي ظل هذا الزخم الهائل من التهم بإثارة الفتنة للدعاة
إلى الله (عز وجل) نسي كثير من المسلمين أو جهلوا المعاني الشرعية للفتنة.
فالصد عن سبيل الله، والكفر به، والمسجد الحرام: جرم عظيم، لا يوازيه
القتال في الشهر الحرام؛ [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ] [البقرة: 217] . وإيذاء المؤمنين لصدهم عن دينهم فتنة؛
[إنَّ الَذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الحَرِيقِ] [البروج: 10] . والكفر والشرك بالله فتنة تستوجب الجهاد والقتال
وإراقة الدماء لإزالتها؛ [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] ... [البقرة: 193] .
3- البدعة: وهي مصطلح أطلق في الشرع على كل ما أحدث في دين الله،
واقترن هذا المصطلح بالذم في نصوص الكتاب والسنة، بل كان لا يدع التحذير
منه في خطبة أو مناسبة ( ... وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ، والخطأ هنا
يقع في تنزيل هذا الوصف الشرعي على عمل معين أو شخص معين، فبعض أهل
البدع يقصر هذا الوصف على نوع واحد من البدع، وهي البدع الحقيقية، ويخرج
البدع الإضافية من وصف البدعة. وبعض آخر يغلو فيحكم بالابتداع على من لا
يستحقه، ويصف بذلك كل من أخطأ في مسألة ولو كانت من المسائل الخفية، بل
وربما كانت من مسائل الاجتهاد.
رابعاً: الانطلاق من ردود الفعل:
تترك الأحداث آثارها وتهز النفوس هزًّا قد يفقدها بعض التوازن، فتتجه إلى
طرف آخر، ومن هنا: تساهم ردود الفعل في صرف بعض الناس عن موقف
الاعتدال:
أ- فقد تكون ردة الفعل تجاه موقف أخطأ فيه شخص فعالجه آخر بتطرف
مقابل، ولعل إهمال شأن الحكم بغير ما أنزل الله وتهميش قضية الحاكمية ردة فعل
تجاه طائفة اختزلت مشكلات المسلمين كلها في هذه المشكلة.
ب- وقد تكون ردة الفعل مدرسة في مقابل مدرسة أخرى، فمدرسة أهل
الظاهر ما هي إلا ردة فعل لمدرسة أهل الرأي التي تطرفت في الأخذ بالقياس
وإهمال النص.
ج- وقد تكون من الإنسان نفسه تجاه خطأ اكتشفه في نفسه، أو تقصير في
جانب من الجوانب، فيتحول إلى الطرف المقابل، ويعالج الأمر بالتطرف بعيداً
عن الاعتدال والموضوعية.
د- وقد تكون تجاه حدث أو أزمة مرت بالأمة وتركت آثارها وخلّفت ظلالها
الثقيلة على النفوس، (إن الناموس العام لردود الأفعال هو عدم الاتزان وعدم
الموضوعية، وإن الكسالى والعاجزين والفوضويين سيظلون باستمرار على هامش
الفعل، وفي بؤرة ردود الأفعال تتقاذفهم الأمواج العاتية) [5] .
خامساً: اعتبار النتائج القريبة مقياساً لفشل ونجاح المنهج:
لا شك أن كل عامل يتطلع إلى نجاح عمله، وإلى تحقيق أهدافه ومقاصده، والدعاة إلى الله (عز وجل) شأنهم شأن سائر العاملين يسعون لتحقيق أهدافهم، من:
نشر الخير في المجتمعات، وكف الفساد والشر عنها، وقد يفشل بعض الدعاة في
تحقيق الأهداف التي يتطلعون إليها.
والفشل تحكمه عوامل عدة، منها: خطأ المنهج، لكن قد يكون ناشئاً عن
تقصير في الأخذ بالأسباب، أو الذنوب والتقصير في الطاعة، أو عدم تمام صفاء
النية، فقد يكون لدى المسلم شيء من ذلك، لكنه في الجملة سليم المنهج، فلا
يسوغ أن نرفض طريقته ونحكم بفشلها؛ فالفشل هنا له هو لا للمنهج، لقد هزم
المسلمون في غزوة أحد، وفروا يوم حنين، وأخبر القرآن أن ذلك بما كسبته أيدي
المسلمين، فهل يجرؤ مسلم على اتهام أصحاب النبي بالخلل في منهجهم إذ ذاك؟
إذن: يجب التفريق بين التقصير وإتيان بعض الذنوب التي يتم علاجها بتصفية
النفوس وتزكيتها والخلل في المنهج، الذي يعني المراجعة له.
وقد يكون ذلك ابتلاءً وامتحاناً لرفعة درجة أولياء الله؛ فقد أخبر الله عن أهل
الكتاب أنهم [يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَذِينَ يَاًمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ]
[آل عمران: 21] وأثنى على أصحاب الأخدود الذين حرّقوا جميعاً في النار في
مجزرة جماعية، لم يكن الغلام إذ ذاك هو المسؤول عنها، ولم تكن تلك الدماء ثمناً
لتهوره. وحين جاء النبي بدعوته وجهر بها أوذي نفر من المسلمين، بل منهم من
قتل، وأُخرجوا من ديارهم، أكانت دعوته هي المسؤولة عن هذا الذي أصابهم؟ !
أم أن ذلك كان يعني خللاً في المنهج؟ ! (معاذ الله) .
إننا كثيراً ما نسمع الطعن في بعض المناهج الدعوية بحجة أنها فشلت في
تحقيق أهدافهما، والفشل جزء منه قد يعود للمنهج، لكنه ليس بالضرورة ملازماً له
. أما إذا عتبرنا النتائج بمقياس آخر غير قياس اللحظة الحاضرة، فسنرى أن
الكثير من الجهود الدعوية التي يصمها بعضهم بالفشل قد حققت النجاح، ولو لم
يكن في ذلك إلا القيام بالواجب الشرعي.
سادساً: الخلط في تحرير منهج السلف:
لقد كان من منجزات الدعوة السلفية المعاصرة أن اتفق الرأي العام الإسلامي
على قبول منهج السلف في الجملة، وصار من دلائل ذلك: أن أحداً لا يمكن أن
يجرؤ على التصريح بأنه يرفض منهج السلف، وصار الوصف بالخروج عن منهج
السلف تهمة لدى الجميع، يسعى إلى نفيها ولو كان متصفاً بها في الحقيقة.
وهي قضية إيجابية مهمة، لكن كثر الحديث الآن عن منهج السلف ووصف
عمل من الأعمال بأنه على منهج السلف ووصف آخر بأنه على خلاف منهج السلف، ولا شك أن السعي لتوضيح منهج السلف، والسير عليه، ودعوة الناس إليه:
قضية لا مجال للمناقشة فيها، بل النقاش فيها أمارة على الانحراف والزلل.
ولكن: هل كل ما ادعي أنه منهج السلف هو منهج السلف فعلاً؟ وهل يحق
لكل مدعٍ أن يتهم فلاناً من الناس بأنه على خلاف منهج السلف؟
إن هناك أخطاءً ترتكب في تحديد منهج السلف، ومنها على سبيل المثال:
1- إهمال اعتبار تغير الزمان والمكان:
هناك أمور مستقرة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهناك أمور تختلف
باختلافهما، فقد يقول أحد السلف قولاً ينطبق على عصره ووقته، لكنه لو عاش
إلى عصرنا لربما تغير اجتهاده.
إن اعتبار العصر وظروفه لا يعني بحال نسف آراء السلف وأقوالهم، لكن
البعد الزماني المطلق ليس إلا لنصوص الوحي، بل حتى أقوالهم المرتبطة بزمن
معين أو مكان معين يجب أن نستفيد منها ونُعنى بها، مراعين اختلاف الزمان
والمكان.
2- تعميم اجتهادات آحاد السلف:
قد يقرر أحد رأياً في مسألة من المسائل، ويثني على تقريره بسرد بعض
أقوال من قال بذلك من السلف؛ لينطلق من ذلك إلى أن هذا هو منهج السلف، وقد
يجاريه القارئ في هذه النتيجة لعدم استحضاره لسائر الأقوال والنصوص، ويغيب
عن القارئ أن الكاتب قد تعمد اختيار الأقوال التي توافق ما يذهب إليه، وتجاوَزَ ما
تعارضه، والأمانة العلمية تقتضي بلا شك نقل جميع النصوص، أو بالأصح عدم
الاقتصار على جانب واحد منها.
فلا بد من التفريق بين منهج السلف وآراء آحاد السلف.
3- دعوى اعتبار روح ما عليه السلف:
وهو منهج يسلكه أولئك المتميعون الذين يسيرون وفق ما يحلو لهم، وحين
يناقَشون في ذلك ويطالَبون بسلوك منهج السلف: يحتجون بأن المقصود: اتباع
روح ما عليه السلف، فالأقوال والآراء المبتدعة، والمناهج المنحرفة، والتسيب
الفقهي والعلمي عند هؤلاء: لا يمكن أن يترتب عليه مجاوزة منهج السلف، ما دمنا
متمسكين بروح ما عليه السلف! .
إذن: فقضية اتباع منهج السلف قضية يجب أن تصبح من البدهيات لدى
العاملين للإسلام، لكن الحكم بأن هذا منهج السلف، وأن ذاك خلاف منهج السلف
يجب أن يصدر بموضوعية وعلم، وألا تطلق الأحكام جزافاً.
سابعاً: النظر إلى جانب واحد من النصوص:
إن من العدل في التعامل مع النصوص الشرعية أن ينظر الباحث فيها إليها
جملة، وأن يجمع النصوص الواردة في الباب الواحد، وحين ينظر إلى جانب
واحد منها فقط فسيخرج بنتيجة غير شرعية.
ففي مقابل النصوص التي تتوعد أهل الكبائر بالعقوبة والنكال: هناك
نصوص تفتح أمامهم باب الرجاء، وفي مقابل النصوص التي تأمر بطاعة الولاة
والصبر على جورهم: هناك نصوص تأمر بقول كلمة الحق والصدع بها في
وجوههم، ولو أسخطتهم.
ثامناً: اعتبار المسائل الاجتهادية من المنهج:
هناك مسائل مما يسوغ فيها الاجتهاد والاختلاف، ولا ينبغي أن تكون مجالاً
وميداناً للإنكار والتهارج، فضلاً عن التأثيم والتضليل، لكنك تجد بعض الدعاة
حين يتبنى اجتهاداً في مسألة ينطلق من هذا الاجتهاد ليلزم الأمة به، ويقرر أن هذا
مما لا يسوغ خلافه، وأن المخالفة فيه دليل على انحراف في المنهج.
ألسنا نرى أن بعضهم يتبنى اجتهاداً في مسألة من مسائل الوسائل الدعوية
التي اختلف فيها أهل العلم في هذا العصر فيتبنى رأياً من هذه الآراء، ويحشد
أقوال مؤيديه، ويطوي صفحاً عن الآراء الأخرى في المسألة، وهو يعلم أنها
تخالف رأيه، وهي لعلماء يحترمهم، فيصور للقارئ أن هذه المسألة من المعلوم من
الدين بالضرورة، ومن ثم: فأولئك الذين يخالفونه في اجتهاده منحرفون في منهجهم، بعيدون عما عليه السلف، فاقدون للورع والديانة ... ! !
قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (وأيضاً: فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع:
أن من الخطأ في الدين: ما لا يكفّر مخالفه، بل ولا يفسّق، بل ولا يأثّم، مثل
الخطأ في الفروع العملية) [6] .
تاسعاً: الخلط بين الخلاف في الأصل والخلاف في تحقيق المناط:
هناك فرق في المسائل الخلافية قد لا يتفطن له بعض المختلفين، والغالب في
الخلاف الدائر اليوم بين أهل السنة هو من هذا الباب، ألا وهو: الخلاف في
الأصل أو في تحقيق المناط.
فقد يتفق الجميع على أنه لا يكفر مسلم بكبيرة من الكبائر، ولا يكفر إلا بما
سماه الشرع كفراً، فيجتهد أحدهم ويحكم بالكفر على معين لما ظهر له من خلال
عمل موجب للكفر عند أهل السنة، فإن ذلك لا يجوز للآخر اتهامه بأنه يرى رأي
الخوارج وينتحله.
بل هذا هو الشأن في الخلاف بين الأمة في سائر مسائل الفروع، فهم يتفقون
على اتباع الدليل وسنة النبي في كل مسألة، صغرت أم كبرت، لكن الخلاف قد
ينشأ بينهم في تحديد ما هو مقتضى الدليل وسنة النبي، فلا يسوغ لمن أوصله
اجتهاده أن هذا الأمر سنة أن يصم من خالفه بأنه غير حريص على تطبيق السنة،
إذ المدار هنا: هل هذا الأمر سنة أم لا؟
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، ج5 ص361.
(2) لسان العرب، م6 ص4554.
(3) رواه أحمد، ج4 ص27.
(4) الفتاوى، ج19 ص69 70.
(5) فصول في التفكير الموضوعي، لعبد الكريم بكار، ص270.
(6) الفتاوى، ج12 ص494.(100/26)
دراسات اقتصادية
الربا والأدوات النقدية المعاصرة
(1)
د.محمد بن عبد الله الشباني
يمثل تعدد أنواع وأشكال الأدوات النقدية المستخدمة في سداد الالتزامات
المالية أهم المتغيرات في المجتمع المعاصر فيما يتعلق بموضوع التبادل النقدي،
بجانب اتساع نطاق الاتجار بالعملات الورقية، التي تمثل الأداة النقدية ذات الإلزام
النظامي في سداد الالتزامات الناشئة عن التبادل السلعي والخدمي في المجتمع.
إن دراسة ظاهرة استخدام الأدوات النقدية المتعددة في سداد الالتزامات الناشئة
عن ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة (مثل: الشيكات، وبطاقات الائتمان
المختلفة) كأدوات تحل محل النقود المعدنية أو الورقية، يرجع إلى ما يكتنف هذه
الأساليب من تساؤلات عن مدى شرعية هذه الأدوات من ناحية، ومواطن الربا
التي يمكن أن توجد نتيجة لاستخدام هذه المستجدات من وسائل سداد الالتزامات من
خلال الوحدات المصرفية المختلفة من ناحية أخرى.
يرتبط فهم طبيعة هذه الأدوات ودورها في تحقيق أهم وظائف النقود بفهم
النظرية النقدية، التي تهتم بربط النقود بالمتغيرات الاقتصادية.
إن فهم النظرية النقدية يستدعي تحديد ماهية النقود، وتكوينها، وأشكالها،
وطبيعة العلاقات المرتبطة بتأديتها لوظائفها، وإبراز وجهة النظر الشرعية من
خلال فهم ودراسة النصوص من القرآن والسنة، مع تحديد النظرة الشرعية لمفهوم
النقد (بوصفه معياراً لتفسير التغيرات في أثمان السلع والخدمات) والأدوات
المعاصرة المستخدمة في تحقيق وظيفة النقد الخاصة بتيسير التبادل السلعي والخدمي ... ومواطن الحرمة عند استخدام هذه المستجدات من الأدوات.
وفي هذه المقالة سوف أحاول دراسة الجوانب الشرعية لهذه الأدوات ومواطن
الربا جميعاً، مع محاولة إلقاء الضوء بشكل مختصر على ماهية النقود من وجهة
النظر الإسلامية.
ماهية النقود:
تحاول الدراسات التاريخية للنظام النقدي الإجابة على السؤال التالي:
ماذا يُعنى بالنقود؟ وتأتي الإجابة على أنها: سلعة متميزة تمتاز من بين باقي
السلع للقضاء على المقايضة، ولها وظائف تقليدية وأشكال معينة، وترتبط بهيئات
اقتصادية محددة. [1]
لقد ترتب على النظرة المتعلقة بأن النقد ما هو إلا سلعة مختارة من بين السلع: حصر نطاق التحليل النقدي في الجانب العيني؛ فالظواهر الأساسية في الحياة
الاقتصادية يمكن دراستها من خلال الجانب العيني (سلع وخدمات) ، أما النقود فهي
مجرد غطاء خارجي للأشياء، يجب معرفة ما وراءه، فقيمة المنتجات لا تجد
مقياسها في الأسعار النقدية، وإنما في علاقات المبادلة بين السلع في الأسعار
النسبية بينها، وإن ما يتخذ مظهراً نقديّاً ما هو في الحقيقة إلا عملية توفيق بين
عناصر الإنتاج من: رأس مال، وعمل، ومعرفة فنية، وموارد طبيعية، وأجر
نقدي.
أما الادخار: فهو يمثل الجزء الحقيقي من السلع التي لم تستهلك خلال فترة
معينة، أما أهمية الاستثمار: فلا تعود إلى رأس المال النقدي، وإنما في تحوله إلى
رأس مال طبيعي، أي: إلى أجهزة وآلات ومبانٍ، فالقاعدة العامة إذن هي: أن
حقيقة الظواهر الاقتصادية ما هي إلا ظواهر عينية، وما النقود إلا أداة فنية ليس
لها من وظيفة سوى تسهيل عمليات المبادلة والتراكم الرأسمالي في اقتصاد مبادلة
الإنتاج.
إن هذا الاتجاه التحليلي لماهية النقود، لم يكن حدثاً عارضاً بقدر ما كان نتاج
مجموعة من الظروف التاريخية والفكرية المصاحبة للتغيرات التي حدثت في
الاقتصاديات الأوروبية خلال فترة تراجع الأمة الإسلامية، ودخولها في فترة
الاضمحلال والجمود والانفصام ما بين معطيات ومبادئ الشريعة الإسلامية والركود
الذي أصاب مختلف أوجه الحياة في الأمة الإسلامية، أما بالنسبة للاقتصاديات
الأوروبية، فقد تميزت بتعدد الاضطرابات النقدية والتجارب في تطوير العمل
المصرفي، مع تغير وتبدل الظروف التاريخية، التي أدت إلى تفسير الكثير من
العلاقات النقدية غير المتوازنة والمرتبطة بالإنتاج والأسعار، وفي مواجهة هذا
الاتجاه (الاتجاه العيني) برز اتجاه فكري مضاد له قائم على رفض تجريد الاقتصاد
العيني من كل خصيصة نقدية؛ حيث يرى أن للنقود دوراً وأهمية في تفسير
الظواهر العينية، مما أعطى للتحليل النقدي دوراً على حساب التحليل العيني.
يرتبط دور النقود في أداء مهامها بوصفها ظاهرة اجتماعية ذات أبعاد متعددة
من حيث إنها تمثل وسائل الدفع التي يحتاج إليها الاقتصاد بتطور العلاقات
الاقتصادية (إنتاجاً وتوزيعاً) من مرحلة الإنتاج الذاتي القائم على إشباع الحاجات
الذاتية إلى مرحلة الإنتاج المتخصص المقترن بالحاجة إلى المبادلة، التي بدأت
بالمقايضة وما صاحبها من معوقات بسبب تعدد الأطراف وتعدد السلع، مما أدى
إلى اختيار سلعة معينة كقاعدة للمقارنة، وبها تقاس قيم السلع الأخرى، وما استتبع
ذلك من قبول هذه السلعة، باعتبار أن لها قيمة ذاتية تقبل من الجميع في عمليات
التبادل، مع إمكانية تخزينها وانتقالها من حيث الزمان والمكان.
لقد واجه الإنسان مشكلة اختيار السلعة القابلة لأن تكون وسيطاً للمبادلة،
ومقبولة من الجميع، وتكون مقياساً للسلع الأخرى.
خصائص النقود:
لقد توصل الإنسان من خلال تجاربه إلى ضرورة أن تتصف النقود
بخصائص معينة، حتى تقوم بوظائفها، وهذه الخصائص يمكن إجمالها في الأمور
التالية [2] :
1- أن تكون الوحدات التي تتكون منها السلعة كنقد مقبولة من الجميع، وهذا
القبول يعطيها خاصية الإلزام، وبعد تولي الدولة فرض القبول لوحدات النقد ساعد
ذلك الأمر على أن تصبح النقود الورقية التي يصدرها البنك المركزي ملزمة للجميع
ومبرئة للذمة، وبالتالي: ظهرت النظرية التي تقول: إن النقود ليست لها قيمة في
ذاتها، وإنما تستمد هذه القيمة من سلطة الإجبار، فالدولة هي التي توجِد النقود،
وهي التي تزيل عنها هذه القدرة.
2- أن تكون لها صفة الدوام والثبات، ففقدان النقد لهذه الصفة يضعفها من
القيام وظائفها المتمثلة في أنها مخزن للقيمة، ووسيلة لتسديد الديون، فعدم الثبات
يؤدي إلى الاضطراب في المعاملات.
3- توفر عنصر الندرة، فالندرة عنصر أساس لفرض الاحترام والتناسب مع
حجم المعاملات والمحافظة على القيمة، لقد كان اختيار الذهب والفضة في الماضي
مؤسسًاً على ما يتمتعان به من ندرة نسبية في الوجود الطبيعي، وبعد قيام الدولة
بالإلزام بقبول النقود الورقية، فقد استخدم لتحقيق هذه الخاصية فرض القيود على
الإصدار النقدي الورقي.
4- إمكانية الانقسام، أي: إمكانية تجزئتها إلى وحدات صغيرة نهائية أو لا
نهائية، وهذه القابلية تستلزم القدرة على تجزئة قيمتها، وبالتالي: تجزئة الوحدات
النقدية الموازية على أن يتبع هذا الانقسام التكافؤ أو المساواة بين قيمة مجموع
الأجزاء المقسمة ووحدة النقد الكلية، ولمواجهة الحاجة إلى انقسام الوحدات النقدية
تعمد الدولة في العصر الحديث إلى إصدار ما يسمى بالعملة المساعدة؛ سواء أكان
على أساس معدني أو أوراق نقدية مساعدة تقوم بدور وحدات التجزئة لوحدات النقد
الورقية، والغرض منها: تسهيل المعاملات ومواجهة اختلاف أحجام السلع.
وظائف النقود:
على ضوء ما سبق من مناقشة لماهية النقود والخصائص التي يجب أن تتوفر
في أي سلعة تتخذ نقداً: يتضح أن النقود ليست غاية في ذاتها، بقدر ما هي أداة
لتأدية وظائف معينة يمكن إجمالها في الأمور التالية [3] :
1- قياس قيم السلع والخدمات: فالنقود هي مقياس للقيمة ووحدة للمحاسبة،
فعدد الوحدات النقدية اللازمة للحصول على السلعة، التي تستبدل بها السلعة،
تعتبر ثمناً أو قيمة لهذه السلعة، وحيث إن النقود هي وحدة القياس المشتركة لقيم
جميع السلع، وبالتالي: يمكن المقارنة بين القيم النسبية لمختلف السلع عن طريق
تقدير عدد الوحدات النقدية اللازمة للحصول على كل سلعة.
2- أداة للدفع ووسيط للمبادلة: فالنقود تستخدم كأداة للمدفوعات؛ للحصول
على السلع والخدمات من خلال الشراء والبيع، وتقديم الخدمة، أوالحصول عليها، فعن طريق تقديم كمية من النقود، أو فتح حساب في البنك التجاري: يتم دفع
المعاملات المالية وإشغال الذمة وإبراؤها، فالنقود أداة لتسديد كافة الالتزامات.
3- النقود مخزن للقيمة: وهذه الوظيفة مرتبطة بخاصية الثبات والدوام،
فالنقود بما تمثله من قوة شرائية يمكن أن تكتنز في لحظة معينة، أي: يحتفظ بها
لتنفق في لحظة تالية، وهي بذلك تربط قيمة السلع بالزمن، والنقود بفكرة
المضاربة، والقيام بتحقيق الادخار وتراكم رؤوس الأموال.
وفي الماضي حينما كانت المعادن النفيسة (الذهب والفضة) يتم تداولها نقوداً، فيتمثل التخزين في الاحتفاظ بها، أما بعد أن حلت النقود الورقية محلها، فيتمثل
التخزين في الإيداع في البنوك، وينتج عن الاحتفاظ بها في البنوك: الحصول على
ثمن لهذا الإيداع يتمثل في الفائدة التي تمنح للمودعين.
طبيعة النظام النقدي:
من خلال الاستعراض السابق اتضحت لنا ماهية النقود من حيث خصائصها
ووظائفها، الأمر الذي سيساعدنا على معرفة طبيعة النظام النقدي، وبالتالي: تحديد
التكييف الفقهي كما نراه للنظام النقدي المعاصر، مع توضيح ومناقشة الأبعاد
الشرعية للأدوات المستجدة للدفع في النظام النقدي المعاصر، مع محاولة تحديد
مواطن الربا التي يمكن أن تنشأ من خلال استخدام هذه الأدوات.
النظام النقدي لأي مجتمع من المجتمعات ما هو إلا مجموعة من العلاقات
والتنظيمات التي تحكم الوضع النقدي ضمن فترة زمنية معينة ونطاق مكاني محدد،
وبالتالي: فلا بد من توفر ثلاث خصائص للنظام النقدي [4] ، وهي:
1) قيام النظام على عدد من العناصر، من أهمها: عنصر القاعدة النقدية،
التي يقصد بها المقياس الذي يتخذه المجتمع أساساً لحساب القيمة الاقتصادية،
والغاية منها: المحافظة على القيمة الاقتصادية للنقود (أي: قوتها الشرائية) في
النطاقين الداخلي والخارجي.
تقوم القاعدة النقدية على ظاهرة الندرة للموارد النقدية عندما كان النقد يأخذ
شكلاً ماديًّا متمثلاً في المعادن النفيسة، التي تتمتع بندرة طبيعية، ولكن الأمر
اختلف عندما استندت القاعدة النقدية على القيمة الورقية (قاعدة النقد الورقية) ،
وبالتالي: حل الجانب التنظيمي، الذي يتمثل في مجموعة الشروط والقواعد التي
تضعها السلطات النقدية في الدولة، للتعبير عن تصورها للقيمة النقدية وارتباطها
بالقيم الاقتصادية، وهي شروط تهدف غالباً إلى تحقيق الاستقرار النقدي، أي:
تحقيق التوافق بين حجم وسائل الدفع وقدرات الجهاز الإنتاجي، وبالتالي: فكفاءة
القاعدة النقدية تقاس بقدرتها على التحكم في عرض النقود القانونية، عن طريق
غطاء الإصدار والائتمان، عن طريق التحكم في الودائع وفي رقابة البنك المركزي
على البنوك التجارية، بجانب هذا العنصر الأساس هناك عناصر ثانوية في النظام
النقدي، ومن أهمها: وحدة النقد الرسمية المستخدمة في الحسابات النقدية، فلكل
اقتصاد قومي وحدة نقد رسمية تستخدم في الحسابات النقدية، مثل: الريال،
والجنيه، والدولار ... ترتكز عليها المدفوعات الداخلية الناتجة عن دفع الالتزامات
المالية (البيع، والشراء، والأجور، والأرباح ... إلخ) ، ويلزم لهذه الوحدة
الحسابية صفتان أساسيتان: الأولى: الصفة القانونية، أي: التمتع بقوة إبراء
مطلقة في الوفاء بالالتزامات يُجْبَر الدائن على قبولها وفاءً لدينه، ويعفى المدين من
دينه بمجرد السداد بها، ويقبلها الجميع في المعاملات. الثانية: الصفة الإلزامية
لسعرها، بحيث لا يسمح بتحويلها إلى أي نوع آخر من النقود، ولكن وظائف
وعلاقات النقود الأساسية طغت على دور وأهمية القاعدة النقدية، وهذا ما نشاهده
في أن العلاقة بين وحدات النقد الأساسية (الريال/ الدولار، مثلاً) وأدوات الدفع
الأخرى (نقود ائتمانية، أذون خزانة، أوراق مالية) مرتبطة بموضوع السيولة؛
فالنقود الأساسية بصفتها نقوداً قانونية ونهائية تمثل قيمة السيولة، أما أدوات الدفع
الأخرى: فهي تتمتع بدرجات متفاوتة من السيولة قد تتحول عاجلاً أو آجلاً إلى
نقود أساسية بحسب دورها في النشاط الاقتصادي.
2) النظام النقدي نظام اجتماعي لا يمكن فصله عن البيئة الاجتماعية
والاقتصادية التي يعمل فيها، فهي تعكس بالضرورة الاقتصاد الذي وجد لخدمتها،
فالنظام النقدي في الاقتصاد الرأسمالي الربوي يختلف عن النظام النقدي في اقتصاد
تقوم قيمه على الإسلام، فمثلاً: النظام النقدي الرأسمالي يقوم على الربا، فجميع
أشكال المعاملات في هذا النظام تدور حول تلك الفائدة الربوية، أما النظام النقدي
الإسلامي في حالة قيامه في مجتمع يلتزم بالنظام الاقتصادي الإسلامي: فلن يكون
للفائدة الدور المؤثر والفاعل، بل سيحل مفهوم الربح والخسارة محل مفهوم الفائدة
الربوية.
3) النظام النقدي نظام متغير حسب ما يحدث في النظام الاقتصادي
والاجتماعي الذي ينتمي إليه، فالنظام النقدي يمثل الشكل الخاص لتداول النقود في
اقتصاد المبادلة، فمثلاً: التغيرات التي حدثت في النظام الاقتصادي الرأسمالي
أثرت في تطور النظام النقدي؛ حيث مر هذا النظام من مرحلة قاعدة الذهب إلى
مرحلة قاعدة النقد الورقية، ومرحلة الليبرالية النقدية إلى مرحلة التدخل النقدي،
وهذا التغير كان نتيجة لطبيعة التوافق بين البيئة الاقتصادية والظواهر النقدية؛
بقصد المحافظة على الأهداف الرئيسة للنظام الرأسمالي.
النظام النقدي والنقود الورقية:
يقتضي فهم النظام النقدي المعاصر معرفة العلاقة ودراستها بين خاصية النظام
النقدي (القاعدة النقدية) والنقود الورقية والائتمانية، وهذا يقتضي إلقاء الضوء على
تطور هذه العلاقة في كلّ من النظامين الإنجليزي والفرنسي؛ باعتبار أن هذين
النظامين يمثلان القوتين الرئيستين في النظام الرأسمالي؛ حيث كان لهما الريادة في
ابتكار النظم النقدية وتطويرها في القرن التاسع عشر، ومنهما انتقلت هذه النظم إلى
بقية اقتصاديات العالم.
لقد اعتبر النظامان وحدات النقد الذهبية نقوداً قانونية ونهائية، أي: إنها تمثل
نقود القاعدة النقدية، فوحدة النقد أصبحت تساوي وزناً معيناً من الذهب، وهذا
يعني: أن كمية معينة من هذا المعدن النفيس تعتبر مقياساً للقيم الاقتصادية في
المجتمع، ووحدة الحساب لهذه القيم، وقد أدى التطور الاقتصادي واتساع نطاق
التبادل إلى ظهور أدوات دفع أخرى، بعضها يتمتع بخاصية قوة الإبراء دون
الخاصية النهائية، أي: القدرة على التحول إلى نقود أخرى (النقود الورقية) ، وبعضها الآخر لا يتمتع بالقبول الإجباري ولا بالخاصية النهائية (النقود الائتمانية) ،
وإنما تستخدم في المعاملات على أساس القبول الاختياري وثقة الأفراد في
المؤسسات التي تصدرها، ومن المعروف أن النقود الورقية نمت وتطورت من
خلال تطور النظام النقدي الفرنسي، كما أن النقود الائتمانية نمت وتطورت من
خلال تطور النظام النقدي الإنجليزي.
ومن خلال التجربة التاريخية للفترة من سنة 1797م حتى سنة 1818م
توصل النظامان إلى جعل وحدة النقد تساوي وزناً معيناً من الذهب أو الفضة،
وقصر حق الإصدار للنقود الورقية (المصرفية) على بنك فرنسا وبنك إنجلترا،
وأصبح لهاتين المؤسستين الخيار بالنسبة لغطاء الإصدار، إما بضمان احتياطي
معدني (ذهب أو فضة) أو تغطية الإصدار بالائتمان الذي تمنحه، وبالتالي: تصبح
النقود الورقية أداة ائتمان ووسيلة للإقراض والتمويل لقطاعات التجارة والمعاملات،
فعندما يكون غطاء الإصدار متمثلاً في الائتمان: يتم اتباع أسلوب الخصم وإعادة
الخصم باستخدام الأوراق التجارية، وبصفة خاصة (السند الإذني) و (الكمبيالات) ،
وبالتالي: فإن إصدار النقود الورقية من خلال الضمان يتم تغطيته بالكمبيالات
المخصومة، بحيث يكون غطاءً لها بدون حاجة إلى زيادة الرصيد المعدني،
والنتيجة: أنه يمكن أن يتجاوز حجم النقود المصدرة حجم غطاء الإصدار المعدني،
وتحت نظام الإصدار الورقي بضمان الائتمان: فإن جملة النقود الورقية المعروضة
في التداول كانت مغطاة جزئيّاً بالنقود المعدنية، أما الجزء الآخر فيكون مغطّى
فعليّاً بالائتمان، كما أن النظام الإنجليزي اتبع طريقة فتح الاعتماد وأداتها النقود
الائتمانية (الشيكات) .
على ضوء ما سبق من إيضاح لفكرة تطور النظام النقدي وتحديد طبيعته
وماهيته، يتضح لنا: أن النظام النقدي المعاصر مؤسس على النقود الورقية، التي
تتمتع بصفتي القانونية والنهائية؛ لتساعدها وتكملها في تحقيق وظائفها وحجمها:
النقود الائتمانية، وهما معاً يكونان الرصيد النقدي، أي: مجموع أوراق الدفع
المتاحة لاقتصاد معين في فترة زمنية معينة.
وبهذا برزت قاعدة النقد الورقية، حيث انفصلت القيمة الاقتصادية للنقود عن
أي قيمة اقتصادية لأي سلعة مادية معينة وبصفة خاصة: الذهب فقيمة النقود في
قوتها الشرائية، أي: في قدرتها على التحول إلى سلع وخدمات، وبذلك تصبح
النقود أداة الدفع في اللحظة الحالية وتمثيل للثروة في اللحظة المستقبلية.
إن قاعدة النقد الورقية لا تتجسد في مظهر مادي معين، وإنما هي تتمثل في
مجموعة الشروط والقيود التنظيمية التي تضعها الدولة لإصدار النقود الورقية
القانونية، وهذه القاعدة أدت إلى ظهور أدوات دفع متعددة ومتنوعة، وخاصة بعد
ثورة الاتصالات، التي ساعدت على ظهور وسائل جديدة، يتم بموجبها سداد
الالتزامات بدون استخدام النقود الورقية، مثل: (بطاقات الصرف) ، و (بطاقات
الائتمان) ، و (الشيكات) ؛ مما يستدعي دراسة هذه الأدوات من الناحية الشرعية،
وتحديد مناط الربا فيها.
... ... ... ... ... ... وللحديث صلة
__________
(1) الاقتصاد والنقد المصرفي، د مصطفي رشدي شيحة، ص34.
(2) المرجع السابق، ص70.
(3) المرجع السابق، ص73، 82 د.
(4) المرجع السابق، ص83، 88 د.(100/36)
نص شعري
سراييفو
شعر: مروان كجك
أضيعوها كما كنتم ... أضَعتم قَبْلَها القُدسَا
وضُمّوها لأندلُسٍ ... لعلّ همومَنا تُنْسى
وسيروا في جنازتها ... فقد أتقنتمُ الدرسا
وأصبحتم لقاتِلها ... جنوداً تحفِرُ الرّمْسَا
وأصبحتم لقاتِلها ... نِعالاً تُتْقنُ الدّوْسَا
وصرتم يا لجَهلِكُمُ ... عبيداً بُلّهاً خُرْسَا
لأجلِ المالِ والدنيا ... وعيشٍ يقتلُ الحِسّا
نسيتم مجدَ غابِرِكم ... وأعملتُم بِهِ رَفْسَا
وخرّبتم منازلَكم ... وظُلْمُ الأهلِ ما أقسى!
وأسرفتم بطاعَتِكم ... رجالاً بايعوا النّحْسَا
وأطفأتم منائِركم ... وأوقدتم لهم شَمْسَا
وأغدقَتم على الأعداءِ ... معلوماً ومُنْدَسّا
ومَلّكتم رقابَ الناسِ ... موتوراً ومُعْتَسّا
يُرَى في الليلِ رُوميّاً ... ويُصبحُ يعبُدُ الفُرْسَا
وإن أضحَى فذو ظَرَفِ ... وإن أمسَى فيا بُؤْسَى
يروحُ وفي يديهِ لَظًى ... ويُقْبِلُ صانعاً عُرْسَا
وإن أزْرى به صَنَمٌ ... تَقَلّدَ من دمي تُرْسَا
يقدّمهُ لسيدهِ ... ... ويقبِضُ حظّهُ مَكْسَا
أضيعوها فقد عَقِمَتْ ... وأصبحَ سِنّها يَاًسَا
وعيشوا مثلَ مجنونٍ ... تخبّطَ واكتوى مَسّا
يبيعُ الدينَ بالدنيا ... ويضرسُ أهلَهُ ضَرْسَا
ويخطُبُ وُدّ مَنْ ظلموا ... ولا يلَقَى بِذا بأسَا
ويزعمُ أنهُ النجادُ ... يهرسُ مَنْ بَغَا هَرْسَا
ويهزِمُ كُلّ نازلةٍ ... ويجعل نِمْرَها تَيْسَا
وعندَ البأسِ تعرِفُهُ ... جَباناً رَعْشَناً (بَسّا)
صريحُ الكفرِ في فمه ... ويهمسُ بالهدى هَمْسَا
طويل الباع للأعداء ... ويبخسُ أهلَه بَخْسَا
عفيفٌ عن قراعِ الرومِ ... يَنْهَسُ لَحْمَنا نَهْسَا
ويأمرُنا بمكرُمَةٍ ... ويأتي عامداً عَكْسَا
ويندُبنا لنُصْرَتِهِ ... ويجعلُ حِصْنَنَا حَبْسَا
وإن قُلْنا له مهلاً ... ولا تُرخِصْ لنا نَفْسَا
تَوَعّدَنا بموْعِدَةٍ ... وقَسّمَ فَيْئَنَا خَمْسَا
ونَفّلَنا لسادتهِ ... ... وصيّرَ أمرَنا خَمْسَا
وأفقَرَنا وجَوّعَنا ... وكَنّسَ أرضَنا كَنْسَا
ولم يَتْرُكْ لنا سَيْفاً ... ولا قَلَماً ولا جَرْسَا
فنزّهناهُ عن دَخَلٍ ... ولم نشركْ بهِ رأسَا
وضاعَ العمرُ يا وَلَهي ... ونَدّ الشّطّ والمرسَى
فبيعوها لنَخّاسٍ ... يزيدُ شقاءَها قَرْسَا
ويُسلِمُها لِقَوّادٍ ... ... يُقَوّمُ حُسْنَها شَوْسَا
ونامُوا بعدَها كالعَيْرِ ... واستهدُوا به شَخْسَا
فقد دُفِنَتْ شهامَتُكُم ... وقِيلَ لأمّكُمْ: تَعْسَا(100/46)
ملف العدد
متابعات حول الصحوة الإسلامية
فاتحة الملف
لا تخطئ عين المراقب للظاهرة الإسلامية بعدين رئيسين:
أولهما: الانتشار الضخم، بحيث أصبحت (العودة إلى الإسلام) أوسع بكثير
من أن تدرس من خلال العمل الإسلامي المنظم، السياسي منه، والدعوي،
والاجتماعي، وبحيث تواجه المؤسسات والتنظيمات الإسلامية تحدياً أساساً في
قدرتها على توجيه هذه الظاهرة وترشيدها، وتأميلها للإنجاز الإيجابي الفاعل.
والبعد الآخر: الحصار العام المعلن عالميًّا وإقليميًّا، بحيث أصبحت القضية
الإسلامية في رأس قائمة (الأجندة) الدولية، ونحن على قناعة بأن المرحلة الجديدة
تحتاج إلى مراجعة شاملة للمنجز السابق، ووقفة تأمل عميق من داخل العمل
الإسلامي لشروط المرحلة وأبعادها، ودخول إلى التفاصيل بدلاً من التعميمات.
وحين ارتأينا في مجلة (البيان) أن نفتح ملفاً شاملاً بين آونة وأخرى لتناول
واحدةٍ من القضايا الأساسية، دعوية كانت، أم فكرية، أم سياسية، ومعالجتها من
زوايا مختلفة: كانت قضية المراجعة لمسيرة (الصحوة) الإسلامية في رأينا فاتحةً
مهمة يستدعيها منجز الصحوة المعاصر من جهة، ثم ما يحيط بها من تحديات
إقليميًّا وعالميًّا من جهة أخرى.
ونحن إذ نشكر المشاركين في هذا الملف الذين بادروا بالاستجابة، فإن لنا
عتباً كبيراً على إخوةٍ لنا آخرين، حرصنا أن يكون لرأيهم مساحةً في ثنايا ملفنا هذا، تقديراً لتجربتهم ومعرفتهم معاً، ثم لم يكن منهم ولو خبر اعتذار يحسم الظن
باليقين.
ونحن إذ نقدم هذا الملف فإننا ننوي إبقاءه مفتوحاً لمشاركاتكم وتعليقاتكم التي
نرجو أن تزيد الموضوع خصوبة وعمقاً.(100/49)
متابعات حول نقد الصحوة الإسلامية
حصاد الصحوة..
الانتشار والتأصيل الشرعي
بقلم: د.أحمد محمد العيسى
تمثل الصحوة الإسلامية المعاصرة هاجساً مزمناً للعديد من الجهات والتيارات
الفكرية والسياسية على مستوى العالم العربي والإسلامي وعلى المستوى الدولي على
حد سواء؛ فالذين أحرقهم تسلط الغرب وهيمنته السياسية والاقتصادية، والذين
أشغلهم تغلغل القيم والثقافة الغربية داخل المجتمعات الإسلامية، يرون في الصحوة
أملاً في كبح التسلط والهيمنة الغربية، وفي إيقاظ الشعوب المسلمة من سباتها
العميق؟ لتعيش حالة التحدي التاريخي للحضارة الغربية بكل منطلقاتها العقدية
والثقافية وقدرتها التقنية العالية، أما الآخرون الذين يرون أن الغرب قد وصل إلى
مرحلة (اللاتحدي) من جانب الحضارات الأخرى، وأن ما يقدمه من قيم وثقافات
هي قيم عالمية لا ينبغي لأحد أن يعترض عليها أو يرفضها أو أولئك الذين يخافون
على مصالحهم الذاتية ومكاسبهم الشخصية، فهم يرون في الصحوة خطراً و (بعبعاً) يتهدد مصالحهم ووجودهم.
ولكن هل وصلت الصحوة الإسلامية - بالفعل - إلى مستوى متقدم لكى تشكل
لأولئك المتعاطفين معها هذا الأمل المشرق، أو المعادين لها هذا الهاجس المزمن؟
وهل واقع الصحوة يبرر تلك الحملات المسعورة التي تشنها الحكومات العلمانية في
العالم العربي على مظاهر الصحوة الإسلامية ويجعلها تنتهج سياسات تجفيف المنابع ... أو يبرر لكثير من مفكري الغرب وسياسييه وضعها في مقام العدو الأول للحضارة
الغربية؟ .
إن المتأمل لواقع الصحوة الإسلامية اليوم لن يجد صعوبة تذكر في الإشارة
إلى ضعف إمكانات الصحوة المادية والعسكرية والإعلامية، إضافة إلى عوامل
التفكك والاختلاف الذي يضرب أطنابه في معسكر الصحوة الإسلامية.
إذن: ما هي عوامل القوة والخطورة التي تمتلكها الصحوة والتي جعلت منها
أهم ظاهرة اجتماعية في أواخر القرن العشرين؟ ، إن الجواب على هذا السؤال
المهم يمكن أن يتناول عوامل شتى، ولكن - في رأيي - أن أهم عاملين يدعمان
مكانة الصحوة الإسلامية ويجعلانها تمثل الهاجس الذي أشرنا إليه، هما: سرعة
انتشار الصحوة الإسلامية واستقطابها لشرائح مختلفة في المجتمعات الإسلامية،
والاهتمام بالتأصيل الشرعي للقضايا المعاصرة.
لقد أدى الانتشار السريع للصحوة الإسلامية، واستجابة العديد من شرائح
المجتمعات الإسلامية لنداء الدعاة والعاملين للإسلام للعودة إلى الدين والالتزام
بمبادئه وقيمه وإعادة الاعتبار للهوية الإسلامية، إلى اعتبار الصحوة ظاهرة
تاريخية تسعى إلى تغيير المجتمعات الإسلامية؛ مما جعلها خطراً حقيقياً على الواقع
السائد في هذه المجتمعات، فلم تكن رسالة الصحوة الإسلامية موجهة للنخبة من
المثقفين أو المفكرين، كما هو الحال لبعض التيارات الفكرية الوافدة، مثل: تيار
الحداثة الذي كان ولا يزال يحتقر الجماهير، ويعتبرها لا تعي رسالته وخطابه
الفكري. ولقد أدى وضوح وسهولة شعارات الصحوة الإسلامية المستمد ة من
القرآن والسنة، واعتمادها على تاريخ حضاري عريق يحتوي على معين لا ينضب
من الأفكار والرؤى والقيم، إلى تفاعل الشباب المسلم مع تلك الشعارات، والتزامه
بما تطرحه من رؤى وآمال ومفاهيم، وساعد على انتشار الصحوة الإسلامية:
الإخفاق المذهل على جميع المستويات للتيارات المتغربة التي قادت البلاد العربية
والإسلامية خلال هذا القرن، الأمر الذي جعل من بعض أشد المتحمسين للتيارات
القومية والماركسية والحداثية يعودون إلى الإسلام، ويتحدثون باسمه، ويشيرون
إلى أنه الحل لما تواجهه الأمة من مصائب، ونكبات.
وعلى الرغم من اعتراف الكثيرين من الأعداء والأصدقاء بقدرة الصحوة على
استقطاب أعداد غفيرة من الشباب المسلم، إلا ان بعض المفكرين الإسلاميين يعتبر
أن استقطاب تلك الجموع الغفيرة أدى إلى ضعف مناهج التربية الإسلامية؛ حيث لم
يجد المربون والعلماء الوقت الكافي لتربية تلك الجموع بالعقيدة والمبادئ الأخلاقية
الإسلامية والمنهج السليم في التفكير والتلقي، فكان أن انجرف بعض منهم في
تيارات الغلو، وانشغلت الصحوة كثيراً بالأخذ والرد في قضايا بعيدة عن واقع الأمة
وأولوياتها المعاصرة، وعلى الرغم من صحة هذه الملاحظة - على وجه العموم -
إلا أنه ينبغي التأكيد على أن التأثير والانتشار السريع للصحوة داخل المجتمعات
الإسلامية هو ميزة إيجابية كبرى، إذ إنها اثبتت أن عموم المسلمين يعيشون في
فراغ كبير لا تستطيع ملأه إلا حركة جماهيرية تعتمد على عقيد ة الإسلام الواضحة
لاستعادة موقع الأمة في العالم المعاصر، وتؤكد على أن الشباب يستجيب ويتفاعل
مع رسالة الصحوة الواضحة، مهما كانت الظروف التاريخية والسياسية التي أدت
إلى ابتعاد كثير منهم عن الالتزام الشامل بالعقيدة الإسلامية؛ فعاشوا ردحاً من الزمن
في غربة عن دينهم وهويتهم ولهذا: فإن الفشل في معالجة الانحرافات الناتجة عن
الانطلاقة السريعة لا يعني أن البداية كانت خاطئة، ولكن يعني أن أساليب التربية
لا تزال قاصرة عن معالجة تلك الانحرافات، وغير قادرة على مواكبة التغيرات
الكبيرة التي تحدث على الساحة الإسلامية.
ويأتي الحديث عن العامل الثاني من عوامل نجاح الصحوة الإسلامية، وهو:
قضية التأصيل الشرعي لقضايا المسلمين المعاصرة، وقضية التأصيل الشرعي
أصبحت هماً من هموم الصحوة الإسلامية، بعد أن اصطدم الفكر الإسلامي بمعضلة
التفاوت الكبير بين المبادئ الإسلامية والواقع الراهن، حيث أدت سنوات طويلة من
غياب المسلمين عن مصادر دينهم؛ بسبب الجهل المتراكم عبر سنوات عديدة،
وبسبب الغزو الفكري والثقافي من قبل الحضارة الغربية.. إلى أن تختلط كثير من
أحكام الدين بالعادات المتوارثة، أو بالعادات الوافدة، فنشأت المناهج المشوشة في
كثير من قضايا المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ... فكان لزاماً
على الدعوة أن تبحث في تأصيل تلك القضايا من الناحية الشرعية، وإعطاؤها
الوقت الكافي للدراسة العلمية، بعيداً عن تسطيح تلك القضايا وتمييعها وتلفيق
الحلول لها، وسبب آخر أدى إلى تصاعد الدعوة إلى التأصيل الشرعي للقضايا
المعاصرة، هو: اتساع شقة الخلاف بين بعض تيارات الصحوة، فأصبح كثير من
الدعاة والمفكرين يدركون الحاجة إلى وجود مرجعية ومنهج يحتكم إليه المختلفون
لمعرفة الحق والصواب. وعلى الرغم من أن الإنجاز في هذا الموضوع لا يزال
ضعيفاً ومحدوداً، إلا أن مجرد الاهتمام بهذه القضية الكبرى، وكونه شائعاً في
أوساط الصحوة الإسلامية، يمكن اعتباره إنجازاً مهما للصحوة الإسلامية المعاصرة، ... يضاف إلى الإنجاز الأول الذي أشرنا إليه آنفاً.
ولعل الهجوم الشرس الذي تتعرض له الصحوة الإسلامية اليوم من قبل القوى
العلمانية والشيوعية في العالم الإسلامي أو من الدول الغربية، ليس مرده فقط إلى
سرعة انتشارها واعتبارها القوة الشعبية الأولى في العالم الإسلامي، بل وأيضًا
بسبب الدعوة إلى تأصيل القضايا المعاصرة شرعياً، والدعوة إلى تغيير الحياة من
جميع جوانبها داخل المجتمعات الاسلامية.
إن هذه الدعوة أثبتت للغرب ولأصحاب التيارات التغريبية أن الصحوة، في
الوقت الذي تطالب فيه بتطبيق الشريعة في جميع مناحي الحياة في البلاد الإسلامية، فإنها إنما تدعو إلى قيام نظام شامل للحياة يختلف عن مفاهيم الغرب وقيمه
وأسلوبه في الحياة، ولهذا: كان التركيز شديداً على وصف الصحوة الإسلامية بأنها: قوة (ظلامية) ، وأنها تريد العودة بالمجتمعات إلى القرون الوسطى، وأنها ...
(ماضوية) ، أي: تعيش في الماضي، وتنظر إلى الحاضر على أنه جزء من
الماضي ... إلى آخر المنظومة الفكرية المتداولة في أوساط الثقافة العلمانية.
ولعل في الإشارة إلى هذين العنصرين الإيجابيين الذين يشكلان حصاد
الصحوة خلال السنوات الماضية ما يحفز إلى معرفة السلبيات والإخفاقات التي
تتعثر فيها الصحوة؛ لكي يتم تدارسها وبحثها من قبل العلماء والدعاة والمفكرين
الإسلاميين، الذين يهمهم مستقبل الإسلام وأبنائه في عالم متغير متقلب.
الانتقال إلى مرحلة مختلفة:
إن المتأمل في الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي
يعيشها العالم يشعر بأن هناك متغيرات كبيرة تحدث على أكثر من مستوى،
وبالتالي: تؤثر في جميع الحركات الاجتماعية التي تعمل وتعيش في هذا العالم،
والصحوة الإسلامية المعاصرة - مثل أي حركة اجتماعية أخرى - (بالمعنى
الواسع للكلمة) تتأثر وتؤثر بما يجري حولها من أحداث وتطورات على جميع
الأصعدة.
وكل ظاهرة اجتماعية فاعلة ومتحركة تتطور بفعل محركين أساسين، هما:
العوامل الداخلية التي تعتمل داخل الحركة، والعوامل الخارجية التي تتعامل معها
الحركة وتؤثر فيها. ولو نظرنا إلى الصحوة الإسلامية من هذا المنطلق لوجدنا أنها
قد دخلت - بالفعل - في مرحلة تاريخية جديدة، لها ظروف خاصة، ولها متطلبات
أخرى غير تلك التي كانت سائدة في فترة ماضية ليست بعيدة عن وقتنا الراهن.
ولكن.. هل يمكن معرفة خصائص المرحلة الجديدة قبل ان نعرف: ما هي
خصائص المرحلة السابقة، ومتى انتهت، ولماذا أصبحت المرحلة الحالية مختلفة
عن السابق؟ .
الواقع: أن الباحث في تاريخ الصحوة يجد صعوبة في تحديد بداياتها،
ومراحل تطورها، والتحديات التي أثرت على مسيرتها التاريخية، ولن نجد
صعوبة في الإشارة إلى أن دراستنا للصحوة الإسلامية - بوصفها ظاهرة تاريخية
اجتماعية متغيرة - ضعيفة إلى حد بعيد، ولو أراد الباحث الرجوع إلى المكتبة
للبحث في مصادر تتناول ظاهرة الصحوة بشكل عام، لوجد العديد من الدراسات
والكتب والندوات والمؤتمرات، التي إما أن تكون صادرة عن مراكز البحث العربية
القومية، أو تكون صادرة عن مراكز البحث الغربية، نعم: هناك كثير من الكتب
الإسلامية المتميزة، ولكنها في الغالب تتناول ظواهر جزئية لها علاقة بظاهرة
الصحوة، أو جزءاً من مكوناتها، مثل: التجديد، والغلو والتطرف، وتطبيق
الشريعة، ومظاهر الانحراف عن المنهج الصحيح في العقيدة والأدب والفكر..
وغيرها، ولكن لا تجد الكثير والمفيد من الدراسات التحليلية لتاريخ الصحوة
وواقعها ومستقبلها.
إذن: فإن هذه المحاولة في تحديد ملامح المرحلة الجديدة التي نتوقع أن
الصحوة قد دخلت فيها، ستكون قريبة من الاستقصاء الذي يعتمد على قراءة
للأحداث التي حدثت خلال السنوات الماضية، ولا يمكن اعتبارها دراسة تحليلية
تعتمد على تراكم المعرفة في هذا الموضوع، إذ إن الباحث يحتاج إلى مقدرة كبيرة
في لملمة جوانب الموضوع من مصادر عديدة، قد يكون كل مصدر له ارتباط
بظواهر جزئية من مكونات الصحوة.
لو تأملنا في واقع الصحوة خلال العقدين الماضيين - أي: في السبعينات
والثمانينات الميلادية - لوجدنا أن الصحوة قد اكتسبت انتشاراً واسعاً في جميع بلاد
العالم، وأصبحت شيئاً فشيئاً تستفيد من الإخفاقات المتسارعة للأيديولوجيات القومية
والبعثية والماركسية، التي كانت تجتذب قطاعاً واسعاً من الشباب المسلم، ثم بدأ
الجهاد في أفغانستان بعد الغزو السوفييتي لذلك البلد المسلم في عام 1979م، فأدى
إلى استنفار إسلامي شعبي ضخم مما جعل من هذه القضية محورا أساساً من محاور
خطاب الدعوة؛ حيث بدأت الآمال تراود كثيراً من الشباب بصياغة ملحمة إسلامية
كبرى تحرر المسلمين من نفسية الذل والانكسار، وتغسل العار الذي لحق بالمسلمين
في أماكن أخرى كثيرة، من أهمها: فلسطين. وقد ساند هذا الاتجاه: الظروف
الدولية المواتية التي كانت تنظر إلى الجهاد في أفغانستان على أنه الأمل في تحطيم
الدب الروسي؛ ولذلك: ساندته كثير من الأطراف بالمال والسلاح، وعلى الرغم
من قيام الثورة الإيرانية في تلك الفترة، التي اعتبرها كثير من الحركات الإسلامية
وغير الإسلامية نصراً للفكرة الإسلامية ونذيراً بالخطر على الأيديولوجيات السائدة،
إلا أن كثيراً، من القوى المهيمنة كانت تدرك الحاجز الكبير الذي يفصل الشعوب
الإسلامية عن النموذج الإيراني؛ مما جعلها لا تتحرك بشكل جدي للوقوف في وجه
العمل الإسلامي.
هذا من الناحية السياسية، أما من النواحي الأخرى فقد اتسمت تلك المرحلة
بتأسيس كثير من المشروعات الدعوية والخيرية في كثير من بلاد العالم مما مكن
الصحوة من اكتساب خبرات كثيرة، إضافة إلى تكوين جذور عميقة في العمل
الاجتماعي والإغاثي وبناء المساجد والمدارس، مما أكسبها التفاف الجماهير حولها، وجعل خطابها الدعوي مهيمناً في الأوساط الشعبية في البلاد الإسلامية، كما
انتشرت وسائل جديدة للدعوة لم تكن مستغلة من قبل، مثل: الشريط، والمجلات،
والمؤتمرات الخارجية، وقوافل ومخيمات الدعوة ... وغيرها، وظهرت أيضا فكرة
البنوك الإسلامية وبعض مجالات الاستثمار الإسلامي.. إلى غير ذلك من مظاهر
الصحوة أو العودة إلى الدين، وكل هذه الأنشطة كانت تسير في كثير من بلاد العالم
دون وجود عوائق سياسية أو قانونية كبيرة.
من جهة أخرى، ومع تسارع العمل الإسلامي وتشعبه، وبعد النجاحات
السريعة: بدأ يلوح في الأفق التنافس بين تيارات الصحوة في اجتذاب العائدين إلى
الدين، وبرز كثير من الخلافات حول الأساليب المتبعة في الدعوة، وتعدى ذلك إلى
ظهور اتجاهات الغلو من جهة والتفريط من الجهة المقابلة، بعد أن اصطدم العمل
الإسلامي بالواقع المتخلف للمجتمعات الإسلامية، ونظراً لكون الصحوة لم تجابه في
ذلك الوقت تحدياً خارجياً حقيقياً، فقد أدى ذلك إلى انشغال الصحوة بنفسها حتى ظن
الكثيرون أن الصحوة بدأت تأكل نفسها.
إذن: هل يمكن أن نقول: إن تلك الأحوال قد تبدلت؟ بحيث نستنتج ان
الصحوة قد دخلت مرحلة جديدة؟
إن المتأمل في الأحداث التي وقعت منذ بداية العقد الحالي - أي: منذ خمس
سنوات تقريباً - سواء على ساحة العمل الإسلامي، أو تلك الأحداث التي وقعت
على الساحة الدولية والإقليمية، يدرك أن هناك الكثير من المتغيرات التي بدلت
واقع العمل الإسلامي، وبدلت الظروف المحيطة بالصحوة، وما لم يتم استيعاب
هذه المتغيرات ومعرفة حجمها وتأثيرها فإن الصحوة الإسلامية ستفقد القدرة على
التعامل مع تلك المتغيرات ومواجهتها وتكييفها لمصلحة العمل الإسلامي، وستتطلب
مرحلة استيعاب تلك المتغيرات سعياً متواصلاً لدراسة المتغيرات كما هي في الواقع، وأيضاً بحثاً عميقاً للوسائل الشرعية الصحيحة لكيفية التعامل مع تلك المتغيرات
وعلى الرغم من تداخل تلك المتغيرات بحيث يصعب تقسيمها إلى متغيرات داخلية
أو متغيرات خارجية - حيث إن كل متغير داخلي لابد وأن يكون متأثراً بالعوامل
الخارجية وربما مؤثراً فيها، والعكس صحيح أيضاً- ولكن قد يكون من الضروري
فرز تلك المتغيرات لكي يمكن تصور المرحلة الجديدة بشكل أفضل.
المتغيرات الداخلية:
لقد أدى الانتشار الكبير الذي حققته الصحوة إلى تعدد الاتجاهات الفكرية
والسياسية داخل إطار الصحوة الإسلامية، واختلفت المدارس التي تسعى إلى جذب
أكبر عدد من المناصرين لفكرتها، مما خلق نوعاً من التشرذم والاختلاف والتنافس
غير المنضبط بالضوابط الشرعية.
وإذا أضفنا إلى ذلك ضعف آليات الحوار بين تيارات الصحوة وغياب أجواء
الثقة، فإن صورة تماسك العمل الإسلامي ودعم بعضه البعض تكون أكثر قتامة؛
فقد أصبح العمل الفردي المنغلق على التيار أو الإطار الفكري أو الحزب السياسي
أحد السمات البارزة في العمل الإسلامي، ولعل هذه السمة كانت موجودة في
المراحل السابقة، أي: إنها سمة ليست جديدة على العمل الإسلامي، ولكنها
أصبحت أكثر تجذراً في المرحلة الحالية، كما أن استمرارها مع وجود التحديات
الخارجية المتعاظمة يجعلها تمثل أحد أهم العوائق التي ستؤثر على مستقبل العمل
الإسلامي.
من المتغيرات الأخرى التي أصبحت تميز المرحلة الجديدة: النفسية القلقة،
وتراجع الحماس المندفع، وازدياد الخوف على مستقبل الصحوة الإسلامية عند كثير
من قادة العمل الاسلامي وشباب الصحوة؛ وقد حصل ذلك بعد انهيار الحلم
الإسلامي في أفغانستان نتيجة الحرب الهوجاء بين رفقاء الجهاد، فقد تجاوزت
الآمال حدودها في فترة من فترات الجهاد، ثم عادت الآمال الآن بعدما حدث ما
حدث إلى درجة متدنية، بل ربما غير الكثيرون قناعاتهم بأهداف الصحوة ورسالتها، وقد عزّز هذه الحالة ضعف نتائج مشاركة كثير من تيارات الصحوة الإسلامية في
العمل السياسي في الدول العربية وغير العربية، حيث لم يؤد دخول الإسلاميين إلى
البرلمانات والمجالس التشريعية إلى مكاسب حقيقية للعمل الإسلامي، أو لتحقيق
الهدف المشترك، وهو: تطبيق الشريعة الإسلامية في أنظمة الدول وتشريعاتها.
أما على الصعيد الفكري والعلمي: فقد بدأت بعض التحولات الفكرية من
البروز بقوة خلال المرحلة الجديدة، فقد برز اتجاهان رئيسان في كيفية التعامل مع
الواقع ومع الحضارة الغربية المهيمنة، حيث أدى تحول كثير من الرموز الفكرية
العلمانية والماركسية إلى الفكر الإسلامي، وكذلك ممارسة الحوار الفكري مع
التيارات العلمانية، إلى بروز تيار (الفكر العقلاني) الذي يرى أن الفكر الإسلامي
يجب أن (يتطور لصالح الواقع وتحت ضغطه ضد التعامل المثالي والتاريخي مع
الإسلام) ، و (أن الواقع هو الأصل، والعقل هو الأساس، ولا سلطان إلا للعقل
ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه) ، وفي مقابل ذلك: اتجه كثير من
المفكرين والمنظرين للصحوة إلى الدعوة إلى (فقه الواقع) والتأصيل الشرعي
للمستجدات الحضارية على الساحة الإسلامية، ونتيجة لاختلاف المنطلقات والأسس
التي يرى بها كل طرف الأحداث والمتغيرات الداخلية والخارجية والسبل الصحيحة
للتعامل معها، فقد دخل الاتجاهان في مناطق تجاذب سببت نوعاً من التشويش
الفكري على كثير من شباب الصحوة؛ فقد أدى الاتجاه (العقلاني) إلى خلخلة ...
الثوابت الإسلامية، وإلى تمييع كثير من قضايا المسلمين المصيرية، وفي الوقت
نفسه: لم يحسم الفريق الآخر موقفه من مسألة (فقه الواقع) ، فلا زال الكثيرون
يتساءلون عن ماهيته، ويشكك البعض في أهميته وجدواه.
ومن المتغيرات على الساحة الإسلامية: تقلص العوائد المالية التي كانت
تساهم في دعم مشروعات الصحوة الخيرية والإنسانية والدعوية؛ فقد تأثرت
الصحوة بانخفاض وتدهور الاقتصاد في معظم الدول الاسلامية، إضافة إلى
الظروف الخارجية التي بدأت تحاصر الدعم المالي الشعبي للعمل الإسلامي،
وسيكون لهذا العامل دوراً أساساً في مستقبل الصحوة في المرحلة الجديدة التي بدأت
تعيشها.
المتغيرات الخارجية:
لقد شهد العالم خلال الأعوام الخمسة الماضية أحداثاً متسارعة وعظيمة الأهمية ... فقد سقطت الشيوعية رسمياً خلال هذه الفترة، وبرزت إعادة تشكيل مناطق
التماس الحضاري والأيديولوجي، وانتهت بذلك الحرب الباردة، وصاحب ذلك:
نشوء العديد من الحروب الإقليمية في أوروبا وآسيا الوسطى وغيرها، وحدث في
العالم العربي أهم حدث في تاريخ المنطقة المعاصر، وهو حرب الخليج الثانية،
الذي بدا فيه النظام العربي الذي قادته القومية العربية متصدعاً وغير قادر على
الاستمرار، وبدأت في المنطقة، ما يسمى بعملية (السلام) بين عدو المسلمين
الأول والحكومات العربية. وفي أثناء التحرك الدولي لتنظيم المسرح العالمي بعد
هذه الأحداث لسد الفراغ من سقوط القوة العالمية الثانية واختفاء التنازع الأيديولوجي برزت الصحوة الإسلامية بوصفها قوة اجتماعية وسياسية لها وزنها على الساحة
العربية والدولية، فأصبحت تمثل العائق الأبرز في اتجاه ترتيب النظام العالمي
الجديد، فنتج عن ذلك: الاتجاه إلى تحجيم هذه القوة الجديدة أو احتوائها، فبدأ
العالم الغربي يرى في القوة القادمة من منطقة العالم الاسلامي خطراً يهدد مصالحه
في المنطقة؛ مما جعله يدعو إلى تحالف علماني ضد (الأصولية الإسلامية) ،
ودخلت الصحوة الإسلامية نتيجة لذلك في صراع مكشوف مع معظم الأنظمة
الحاكمة في العالم الإسلامي، واستطاعت بعض القوى الإسلامية أن يكون لها تأثير
في صنع القرار، واتخذت بعض الأنظمة تدابير (احترازية) للحد من تأثير
الصحوة؛ فاعتمدت سياسات أمنية واقتصادية وإعلامية وتربوية لتجفيف منابع
الصحوة.
هذه المتغيرات الخارجية التي حدثت خلال الأعوام القليلة الماضية تؤسس بلا
شك لمرحلة جديدة لم تشهدها الصحوة الإسلامية من قبل؛ حيث تبدل المناخ العام،
وعظمت التحديات وكثر الأعداء، وتغيرت أساليب الصراع والتنافس، وبدت في
خط المواجهة الأمامي أمام هيمنة الغرب حضارياً وسياسياً واقتصادياً، وأصبحت
الصحوة منذ ذلك الحين ظاهرة عالمية تشحذ الهمم لدراستها ورصد اتجاهاتها
وتطورها ومستقبلها.
ومعظم المتغيرات الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها تحدث دون أن يكون
للصحوة دور بارز في صنعها أو التخطيط لها؛ إذ إنها - في الغالب - تحدث في
وقت هي غير مستعدة لمواجهتها أو التعامل معها، بل وربما عدم الوعي بها
والإحاطة بتفاصيلها، فافتقد العاملون للإسلام والدعاة والمفكرون الرؤية
الاستراتيجية البعيدة المدى، وانشغل الكثير منهم بالأحداث اليومية المتسارعة
ومحاولة مواجهتها، وظهر عند الكثيرين التردد أو النكوص عن العمل، وظهرت
الرغبة في العودة إلى الأساليب التي كانت صالحة ومنتجة في الفترات السابقة عندما
كان المناخ مسالماً، والتيار - عالمياً وإقليمياً - يسير في الاتجاه نفسه.
فهل نعي هذه المتغيرات، ونعرف أبعاد المرحلة الجديدة التي دخلنا فيها؟(100/50)
متابعات حول نقد الصحوة الإسلامية
الخطاب السياسي الإسلامي
(رؤية نقدية)
بقلم: د. سعد الدين العثماني
نقد الخطاب السياسي للصحوة الإسلامية ليس انتقاصاً من قدر كسبها السياسي، وليس نكراناً لتأثيرها الإيجابي الكبير في حياة الأمة: إدخالاً لخطاب الدين في
مجالات كانت حكراً على العلمانية، وعودة بشرائح من أبناء المسلمين إلى دينهم
وإلى تَبَنّيه حلاًّ وخلاصاً وحيداً لأمتهم.
لكن ككل عمل بشري، فإن إنتاج الصحوة الإسلامية وكسبها النظري والعملي
في حاجة مستمرة إلى التقويم والمراجعة؛ لاكتشاف جوانب الخلل والقصور،
ومحاولة علاجها، ومعرفة جوانب القوة، والعمل على إثرائها وتعميقها.
ما الخطاب السياسي؟
يطلق لفظ الخطاب السياسي على معانٍ عدة، لكن يهمنا هنا أن نتوقف عند
اثنين منها:
1- مجموعة الأفكار والتصورات المنظمة والمرتبطة منطقيًّا والمتعلقة بتحليل
الواقع السياسي وتحديد طرق معالجته والتأثير فيه، وهذا قريب من التعريف
المتداول لدى المتخصصين في علم السياسة.
2- طرق ووسائل تبليغ منظومة الأفكار والتصورات السياسية، والتعبير عن
الرأي السياسي، وتتعدد هذه الوسائل إلى منطوقة (التصريح، الخطبة..) ،
ومكتوبة، ومصورة ... وغيرها.
وهذا المعنى الثاني هو الذي سنستعمله في هذه المقالة.
ويرتبط الخطاب السياسي ارتباطاً قويّاً بالمبادئ والمفاهيم التي يحملها
الشخص أو تحملها المجموعة التي تنتجه، كما يرتبط بالتصورات التي يقتنعون بها
عن الواقع من حولهم وطرق التأثير فيه. وهكذا: فمن غير الممكن فهم خطاب
سياسي معين دون الغوص في ذلك الجهاز المفاهيمي الذي ينطلق منه، وفي كثير
من الأحيان: فإن علاج نقص الخطاب السياسي يبدأ من علاج الأخطاء العقدية
والتصورية والفكرية التي أنتجته.
ونكتفي بمثال واحد من تاريخنا القديم: فالخطاب السياسي للخوارج، والمتسم
بالتكفير والمناداة بإعطاء الأولوية للخروج على الحكام، بدءاً من علي بن أبي
طالب (رضي الله عنه) ، ناتج عن انحراف في العقيدة، وليس فقط عن خطأ في
تقدير الواقع أو في أسلوب معالجته.
وهذه المكانة المركزية للجهاز المفاهيمي في التأثير في الخطاب السياسي، لا
تمنع من أن بعض جوانب الخلل فيه ناتجة عن أسباب نفسية لصاحب الخطاب، أو
عن سوء تقدير للقوة الذاتية أو للواقع المحيط.. أو عن غيرها من الأسباب.
أصول عامة:
وقد يكون من الضروري التذكير في البداية ببعض الأسس والأصول الشرعية
المهمة، التي يكون الجهل بها بالغ التأثير على أداء الصحوة السياسي:
1- العمل السياسي مجال اجتهاد كما بين ذلك العلماء الذين كتبوا في السياسة
الشرعية، كما أنه مجال مقاصد؛ لدخوله في دائرة المعاملات (التي يسميها علماؤنا: العاديات) ، وهذا من معاني القاعدة الأصولية: (الأصل في العبادات والمقدرات
التعبد، والأصل في العاديّات الحِكَم والمقاصد) [1] .
ومن ذلك: أن إجراءات السياسة الشرعية إجراءات تهدف إلى تحقيق
المصالح ودرء المفاسد وفق الضوابط الشرعية، وإن لم يرد بذلك الإجراء نص،
وعنها ينقل ابن قيم الجوزية قول أبي الوفاء بن عقيل: (السياسة ما كان فعلاً بحيث
يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول ولا
نزل به وحي) [2] .
2- لذلك: فمجال السياسة الشرعية مجال يحتاج إلى حذر شديد؛ لأن الجمود
فيه مثل التسيب سواء بسواء عمل على عكس ما يريده الشرع، لذلك يعيب ابن
القيم على أناس تشددوا هنا (فسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة
الحق والتنفيذ له، مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً أنها حق مطابق للواقع، ظنّاً منهم
منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله، إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما
فهموه هم من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة
الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر) . [3] ...
3- ومن نتائج ما سبق: أن مجال السياسة الشرعية مجال اختلاف
الاجتهادات والآراء، واجب المسلم فيها طاعة الله بحسب الاستطاعة، وتحري
المصلحة قدر الإمكان، وقد يوافق الصواب كما قد لا يوافقه، (لكن لا يكلف الله
نفساً إلا وسعها، فإذا اتقى العبدُ اوَ ما استطاع: آجَرَه الله على ذلك، وغفر له
خطأه، ومن كان هكذا: لم يكون لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ... ) [4] .
وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على
العمل باجتهادهم [5] .
4- يخضع مجال السياسة الشرعية للقاعدة العامة: (فيما إذا تعارضت
المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح
منها) [6] .
ولهذه القاعدة تطبيقات متعددة، أشار إلى بعضها ابن تيمية في أماكن متعددة
من فتاواه [7] .
مهمة البلاغ المبين:
ويأتي تحديد الهدف البعيد المتوخى من الخطاب السياسي الإسلامي عاملاً آخر يؤثر على طبيعة الخطاب السياسي وعلى خصائصه.
وفي رأينا: فإن هذا الهدف البعيد المدى هو: تحقيق البلاغ المبين لمبادئ
الدين؛ لأنه الهدف الذي ابتعث الله (سبحانه) من أجله الرسول؛ يقول (تعالى) : ... [ ... وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] [العنكبوت: 18] والبلاغ المبين هو الواضح البيّن، الذي يوصل المعاني المطلوبة إلى من يتوجه إليه الخطاب، فقد يكون الخطاب واضحاً عند صاحبه، لكنه غير واضح عند سامعه ومتلقيه، وهذا بعض ما تشير إليه الآية الكريمة: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] [ابراهيم: 4] .
وهكذا: فإن الخطاب السياسي الإسلامي يجب أن يهدف إلى أن يبلغ الكفاية
في الوضوح وتقديم الحجة، ويتجنب كل العوائق التي تحول دون ذلك، وإلا فليس
مبيناً، كما أن على هذا الخطاب ألا يكون عائقاً أمام التبليغ والدعوة وإيصال الفكرة
والموقف الإسلاميين.
وكل جوانب النقص والخلل التي سنتحدث عنها هي في حقيقتها من العوائق
أمام (البلاغ المبين) ، ومن المشوشات على الدعوة في فهمه للدعوة ومبادئها.
بين العاطفية والموضوعية:
لعل من أول سمات الخطاب السياسي الإسلامي التي كثر الحديث عنها، هو
كونه في غالب الأحيان خطاباً انفعاليًّا عاطفيّاً، يُؤْثر الخطابة على التحليل
الموضوعي، ويطغى فيه الحماس على المنطق العقلي.
ورغم أهمية إلهاب الحماس في كل عمل سياسي، وأهمية تقوية العواطف
الإيمانية في كل عمل إسلامي إلا أن الضروري أن يكون التفكير العميق هو الموجه
للعاطفة، وأن تعرض القضية الإسلامية عرضاً مبنيّاً على الإقناع لا التأثير النفسي
والإثارة الوجدانية.
والفرق بين الأمرين كبير من وجوه متعددة:
فغلبة الحماس والعاطفة يمنع من التفكير في العواقب واحتساب النتائج؛ لأنه
يسهل الانسياق وراء شعارات حماسية تضبب الرؤية، وتمنع من استخلاص النتائج
الموضوعية، وقد يؤدي كل هذا إلى صدام غير مبرر ولا محسوب مع طرف
سياسي في الساحة، كما يؤدي إلى أن تخوض الحركة الإسلامية معارك سياسية قبل
أوانها وأكبر من قدراتها، ولا يبعد أن يتم بعض ذلك بفعل إثارات استدراجية دبرت
من خارج الصف الإسلامي.
وغلبة الحماس والعاطفة يؤدي إلى استعجال النتائج، ويحاول أن يحرض
لذلك ويستجيش، بينما التوجيه العقلي والفكري يحاول إيصال المبادئ والأفكار،
والتأثير بالتالي على مهل وفي رفق وهدوء.
وطغيان الانفعال والعاطفة يؤدي أيضاً إلى النظر إلى الأشخاص والهيئات
والأحداث نظرة مجافية للواقع، مبنية إما على المبالغة والتهويل، أو الاحتقار
والتهوين، أو على التشويه، فهناك مثلاً من لا يتصور صدور أمر أو موقف من
جهة معينة، فيرفض تصديق أي معلومات تثبت عكس ما كان يتوقعه، وهناك من
يسارع إلى إعلان العداء نحو جهة من الجهات وقد تكون إسلامية، تتبنى المبادئ
والأهداف نفسها لبادرة بدرت أو كلمة صدرت، لم يتحر صاحبنا ليعرف تأويلها
الصحيح، ولم يتجشم عناء المرور بمراحل التبين والتثبت، والتماس العذر،
والمراجعة ... ، وكلها أمور ضرورية شرعاً في مثل تلك المواقف قبل الانجرار
وراء الحماس بإلقاء اللوم وتوجيه التهم.
ويؤدي طغيان الانفعال والعاطفة أخيراً -وليس آخراً- إلى غياب العمق
الفكري والتحليلي في الخطاب السياسي الإسلامي، ويدخل في ذلك: التبسيط إلى
حد التسطيح للصراع الفكري والسياسي الدائر مع الآخرين، ولطبيعة عرض
القضية الإسلامية، فتحليل المشكلات المطروحة لا يتم بدراسة متأنية لأسبابها
وجذورها وعوامل تطورها، ولتأثيرها في الواقع والحلول الممكنة لعلاجها، ثم
اختيار الحل الأوفق للشرع وللواقع ولتأثيرها في الواقع عن وعي وإدراك، لكن يتم
ذلك في انفعال وإلقاء للحلول المرتجلة والأحكام الجاهزة.
إن كثرة ما جر طغيان الخطاب العاطفي على الممارسة السياسية للحركة
الإسلامية من مشكلات يستوجب في رأينا الإسراع بأمور ثلاثة:
1- إعطاء الأهمية داخل الحركة الإسلامية للتربية على مبادئ الشرع القاضية
بعدم قبول الأخبار إلا بعد روية وتمحيص وتثبت، وطلب الحجة والبرهان في كل
أمر، والتورع عن الاتهام والتجريح، والبعد عن السباب وفحش القول، والتزام
الهدوء والتأني في الخطاب ... ويبدو أن التركيز على مثل هذه الأمور غير كافٍ
لحد الساعة في البرامج التربوية للحركات الإسلامية، وفي توجيهها لأبنائها.
2- إعطاء الأهمية في المناهج التربوية داخل الصف الإسلامي للتربية
المنهجية الفكرية، ولبناء عقليات قادرة على الموازنة والنقد، ولإكساب وتنمية
المهارات المناسبة لذلك.
3- وكل هذا لن يتأتى إلا بإعطاء الريادة والقيادة لأصحاب العلم والفكر بدل
أهل الخطابة والوعظ، ليس انتقاصاً من شأن هذين، ولكن إنزالاً لهما مكانهما
الصحيح، حتى يلجما بلجام العقول، وهي النتيجة التي انتهى إليها (د. عبد الله بن
فهد النفيسي) بعد تحليل مماثل، يقول: (إن حاجة الحركة الإسلامية لصف من
الموجهين الفكريين أكثر إلحاحاً من هذا الكم الهائل من الخطباء، مطلوب الاهتمام
بإعداد الموجه الفكري؛ لأنه الحارس الأمين للجبهة (الأيديولوجية) التي تتحصن بها
الحركة) [8] .
وقد نستدل على ذلك بأسبقية العلم على العمل شرعاً وعقلاً، كما قال البخاري
في صحيحه: (باب، العلم قبل العمل، لقول الله (تعالى) : [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ
اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ] ) [9] .
بين الفعل ورد الفعل:
لقد كان من أبرز نتائج طغيان العاطفية والانفعالية على الخطاب السياسي
الإسلامي، سقوطه في ردود الأفعال، وقصوره عن الفعل الموضوعي المبادِر، إن
ما نراه في كثير من الأحيان هو انتظار الأطراف الأخرى حتى تتخذ موقفاً ليتخذ
الإسلامي الموقف المناقض، أو لينسج على منواله، أو الاستيقاظ على وقع حدث،
فيسارع الخطاب الإسلامي لملاحقته، وهكذا يأتي هذا الخطاب في أحايين كثيرة
مطبوعاً بالآنية والظرفية، لاهثاً وراء المواقف والأحداث الجزئية المتلاحقة، مما
يفقده في الغالب الحضور المستمر والمتوازن في قلب الأحداث السياسية، بله
صنعها أو التأثير فيها.
ولا نعني بالفعل المبادر الإعلان المستمر (للحرب) على مختلف الأطراف،
مما قد يعتبر أقصى ما يقدر عليه مع الأسف الشديد بعض الدعاة، بل الفعل المبادر
هو المسارع إلى الخيرات، المبشر قولاً وعملاً بمبادئ الدين والرحمة والهداية ...
وطغيان خطاب ردود الأفعال ينتج عنه عدة مفاسد، منها:
طغيان المتابعة الآنية للأحداث اليومية التي تقع في الساحة السياسية،
فيصبح الخطاب الإسلامي خطاباً تابعاً، يجيب عن تساؤلات الآخرين، ويعلق على
مواقفهم وتصريحاتهم، بدل أن ينشغلوا هم بتساؤلاته ومواقفه وتصريحاته،
ويستغرقه التصدي للأحوال الطارئة بدل التحرك نحو أهداف ذاتية محددة سلفاً.
غياب التحليل الاستراتيجي الذي يأخذ بعين الاعتبار التغيرات والمستجدات،
وليس التشبث بتحليلات ثابتة جامدة، لا تتحرك بتحرك الواقع ومعطياته.
غياب الرؤية الشاملة المتكاملة، فيواجه كل حدث معزولاً عن سياقه
والمنظومة التي ينتمي إليها، وهذا يؤدي إلى عشوائية تجعل الحركة الإسلامية
تواجه كل حدث بطريقة خاصة، كأنها تنتج له خطاباً خاصًّا، وهذا يوقع في
التخبط والتناقض، وهذان أساس الفشل في كل عمل سياسي.
وكل هذه النقائص إنما تعني في الحقيقة: غياب الرؤية التخطيطية،
والتفكير ذى المدى البعيد، الذي يقرأ العواقب وينظر إلى المآلات.
خطابٌ مستغنٍ:
ينطلق جزء كبير من الخطاب السياسي الإسلامي من منطلق الاستعلاء على
الآخر والاستغناء عنه؛ فهو يخاطب غيره من فوق، على أساس أنه يملك الحقيقة
المطلقة، ويتعامل مع الآخر من منطلق الاكتفاء بقدراته وطاقاته، ويتحرك كأنه
وحده سيحقق أهداف الأمة كلها دون حاجة إلى التعاون مع الآخرين.
وهذه السمة مبنية على أخطاء في العلم والتقدير عميقة، منها:
1- رفع الاجتهادات السياسية إلى مستوى الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب
والسنة، فيعتبر الرأي المخالف فيها باطلاً مجافياً للحق، بل قد يتخذه مناط الولاء
والعداء، وقد ينسب المخالف في الاجتهاد السياسي إلى البدعة والفسوق، إن لم يكن
إلى الكفر، وهذا كله مخالف للكتاب والسنة ولما عليه سلف الأمة في هذا الباب.
2- الانطلاق من تزكية النفس وتنزيه الذات، في مقابل الحط من الآخر
وتضخيم عيوبه، ولسان حاله يقول: أنا الأعلم بالشرع، والآخر لا يدري شيئاً،
وأنا الأتبع للشرع، والآخر حائد عنه، ولا حاجة إلى التأكيد على مخالفة ذلك
للنصوص الصريحة، ومن ذلك قوله (تعالى) : [فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ
اتَّقَى] [النجم: 32] .
3- يعتبر الخطاب المستغني نفسه كاملاً، مكتفياً بذاته، لا يحتاج إلى من
ينبهه إلى خطأ، أو يعرفه بنقص، كما لا يحتاج إلى الاستفادة من الغير، ومن ثم:
فهو يخوض تجربته السياسية وحده، ويصوغ أحكامه (أو اجتهاداته) وحده، ولا
يأخذ بعين الاعتبار ما يقوله غيره ولو كان من العلماء المعتبرين أو المجربين
المحنكين.
4- تنتهي هذه السمات المتسلسلة إلى أن ينظر الخطاب المستغني إلى الأفكار
والأشخاص نظرة تتسم بالمطلقية، فهي إما خير محض وإما شر محض،
والآخرون إما أصدقاء وإما أعداء، ولا حل وسط، ولا مجال لأي تطبيق جزئي
أو أن أي تدرج. وهذا يناقض بدهيات العقول، كما يناقض ما كرره علماء السلف
من أن أي شخص أو طائفة قد يكون عندها بعض الحق أو بعض الصواب الذي
يجب أن يعرف لها. والاختيار في مجال السياسة الشرعية يتم على أساس
(الأرضى من الموجود) و (الغالب أنه لا يوجد كامل، فيُفعل خير الخيرين، ويدفع
شر الشرين؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، وقد كان النبي وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس،
وكلاهما كافر، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام، وأنزل الله في ذلك (سورة
الروم) لما اقتتلت الروم وفارس، والقصة مشهورة، وكذلك يوسف: كان نائباً
لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم
إلى الإيمان بحسب الإمكان) [10] .
إن هذه المقدمات أنتجت خطاباً سياسيًّا ذا سلبيات بالغة الأثر، منها:
- أنه خطاب يفقد خاصيتي الرفق واليسر، ويشكل بذلك مصدر توجس
وخوف، وربما مصدر خوف وفزع، قد يؤدي إلى فقد الأصدقاء وتكثير الأعداء،
وفتح جبهات لا مبرر لها. والأصل أن يكون الخطاب السياسي خطاباً مطمئناً،
رفيقاً، ميسراً، متلطفاً، متودداً ... [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] ، [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا
الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] [فصلت: 34] ، (المؤمن يألف، ولا خير
فيمن لا يألف ولا يؤلف) [11] .
وفي الخطاب السياسي للدعوة من الخلل والنقص، وفي تأثيره من المفاسد،
على قدر نقص تمثله لتلك المعاني.
أنه خطاب يلغي من حسابه الآخر وظروفه وردود فعله، وينطلق كأن
صاحبه هو الطرف السياسي الوحيد في الساحة.
كما يلغي من حسابه ذوي الفضل والعلم، وذوي الخبرة والسابقة، كأن عهد
صاحبه يشكل قطيعة مع سابقيه، فهو الفاتح لما أغلق، الآتي بما لم تستطعه
الأوائل، وهو بذلك يلغي تجاربهم وينتقص الاستفادة منها، ويكرر أخطاءهم
باستمرار.
أنه خطاب مستعلٍ، لا يطرح نفسه بوصفه اجتهاداً، أو رأياً، أو اقتراحاً
فيه ما في اجتهادات البشر من القصور والمحدودية، بل يضفي على نفسه مطلقية
الوحي وكماله، وعصمة من نزل عليه، وكل هذا يجر إلى إصدار الأحكام
والاستنتاجات المطلقة بدل فتح باب الاحتمالات، وأخذ الأمور فهماً ومواجهة، من
منطلق النسبية والأولويات والفرص المتاحة والإمكانات الذاتية.
أنه خطاب قادح جارح، ينتقل من مناقشة وانتقاد، إلى اتهام الأشخاص
والهيئات، ونبش النوايا والخلفيات. وأصول الشرع تقضي باستئثار الله (تعالى)
بعلم النوايا، والتقحم فيها بالتالي رمي بالظن وكلام بغير دليل، وفي المقابل: يجب
العمل على فهم عقلية الآخر ومنهج تفكيره، كما يمكن الانطلاق من مواقفه
وتصريحاته المعلنة، واعتبار الاتفاق أو الاختلاف معها أمر اجتهاديًّا مبنيًّا على
آراء وترجيحات، وهذا ما يجنب التصنيفات والاتهامات المجانية التي لا رصيد لها.
خطاب غير واقعي وغير اجتماعي:
ولسنا نعني بالواقعية مجاراة الواقع وإقرار ما هو عليه من محرمات ومفاسد،
بل الواقعية مراعاة للواقع، ومحاولة الارتفاع به إلى الدعوة في تدرج، وعلى قدر
الوسع والاستطاعة، ودون هزة عنيفة؛ لأن العالِم (تارة يأمر، وتارة ينهى،
وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة) وهو (قد يؤخر البيان إلى
وقت التمكن، كما أخر الله (سبحانه) إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها) ، (فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء
أو الأمراء أو مجموعهما، كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان
الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يُبَلّغ إلا ما أمكن علمه
والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فاًمر بما
يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته: لا يبلغ إلا ما أمكن عمله والعمل
به ... ) [12] .
ويدخل في الواقعية: عدم الاكتفاء بتسطير المبادئ العامة، بل وضع الحلول
العملية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ... المعيشة، فلقد بقي ما
يطرحه الخطاب السياسي الإسلامي ذا طابع عام مجرد، إلا في القليل النادر، لم
يهتم كثير من الدعاة بالظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، لم يحتل تحرير الإنسان
من الاستضعاف وتمتيعه بحقوقه وكرامته المكانة اللائقة به، كما لم يهتم الخطاب
الإسلامي في الغالب بملاحقة مظاهر هذا الحيف في الواقع، نقداً وتقويماً وإصلاحاً.
وبعد:
فليس ما ذُكر إلا بعض ما استدرك على الخطاب السياسي الإسلامي، وكله
كما قلنا لا يلغي إيجابياته في حياة الأمة، وعسى أن نستدرك ما فات، ونصلح
النقص، وندرأ الخلل، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
__________
(1) أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات، ج2ص300- 307، والاعتصام، ج 2 ص129- 132.
(2) إعلام الموقعين، ج4ص372، والطرق الحكمية، ص13.
(3) الطرق الحكمية، ص13.
(4) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج35ص367، وابن حجر العسقلاني: فتح الباري، ج1ص529.
(5) مجموع الفتاوى، ج19ص122.
(6) المصدر نفسه، ج28ص129.
(7) انظر مثلاً: ج20ص48 61 وج28ص68، وابن القيم: الطرق الحكمية، ص12 وما بعدها.
(8) الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، ص29.
(9) الجامع الصحيح، كتاب العلم.
(10) مجموع الفتاوى، ج28ص68.
(11) أخرجه أحمد في المسند، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير، ج6ص7.
(12) مجموع الفتاوى، ج20 ص59، 60.(100/62)
ملف العدد
(متابعات حول نقد الصحوة الإسلامية)
إعلام الصحوة والدور المفقود
بقلم: د. أحمد محمد
لكل حركة حضارية وسائلها الإعلامية التي تسعى من خلالها إلى إيصال
رسالتها إلى الجماهير، وكلما تنوعت تلك الوسائل وتكاملت كلما كان التأثير أبعد
أثراً وأكثر انتشاراً، ولقد حققت الدعوات الكبرى إنجازاتها على مر التاريخ
الإنساني بفضل عوامل متعددة، كان من أهمها: الوسائل التي تستخدمها في نشر
رسالتها، وقدرتها على التأثير في قطاعات كبيرة من الناس، ومع التقدم التقني
المتسارع في العصر الحديث وخاصة في وسائل الاتصال أصبح الإعلام نظاماً
متكاملاً توضع له القوانين ويدرسه الدارسون، وتسعى الدول والمجتمعات وكل
صاحب رسالة حضارية إلى استخدامه واستغلاله بما يخدم رسالته ويحقق مصالحه،
وقد أدركت الدولة في المجتمعات المعاصرة أهمية الإعلام وقدرته التأثيرية؛ فعمدت
إلى تأطير وتنظيم هذا العمل ووضع السياسات الإعلامية التي تمكنها من التحكم فيه
وتوجيهه بما يخدم مصالحها.
وقد حققت الصحوة الإسلامية المعاصرة نجاحاً باهراً في الوصول إلى فئات
بشرية متعددة داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها، بفضل عدة عوامل، من أهمها: الوسائل الإعلامية التي استخدمها الدعاة والمربون والعاملون للإسلام، ولو تتبعنا
الوسائل التي كانت لها أكبر الأثر في تلك النجاحات، لرأينا أن الصحوة قد
استخدمت وسائل إعلام متنوعة ومتعددة، كان أقلها أثراً واستخداماً وسائل الإعلام
الجماهيرية الحديثة: من صحافة، وإذاعة، وتلفاز، في حين كانت أكثر الوسائل
تأثيراً في أوساط الصحوة: الشريط الإسلامي، والكتاب، والتجمعات الجماهيرية،
مثل: المؤتمرات، والمحاضرات، والمخيمات ... وغيرها. ولو تأملنا في هذه
الحقيقة وحاولنا معرفة أسباب ضعف استخدام الفئة الأولى من وسائل الإعلام ونجاح
استخدام الفئة الثانية، لأشرنا إلى بعض الأسباب، منها:
1- تعتمد وسائل الإعلام الحديثة، من: إذاعة، وتلفزيون، وصحافة على
العمل الجماعي المنظم، وهذا يحتاج إلى مؤسسات تضم في جنباتها مجموعة من
المختصين في أكثر من مجال، بينما تعتمد وسائل الفئة الثانية من الإعلام وهو
الذي تستخدمه الصحوة بشكل ناجح على العمل الفردي المبدع. وإذا كانت الصحوة
تفتقر عموماً إلى العمل المؤسساتي الضخم في جميع أنشطتها، وتضعف عندها
القدرة التنظيمية، الناتجة عن التخطيط الدقيق، والإحصاءات الصحيحة، ودراسة
التوقعات المستقبلية، والقدرة على قراءة المتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية: فإن النتيجة هي اتجاه الصحوة إلى الفئة الثانية من وسائل الإعلام.
2- يتطلب تأسيس وإدارة المؤسسات الإعلامية الحديثة إمكانات مادية وبشرية
ضخمة، بينما تقل التكاليف بشكل كبير في استخدام وسائل الإعلام الخفيفة، مثل:
الشريط، والكتاب، وتنظيم المحاضرات والمخيمات ... وغيرها؛ لذلك: كان
تأسيس المؤسسات الإعلامية والإنفاق عليها يعتبر ترفاً في نظر كثير من العاملين
للإسلام والداعمين للنشاط الإسلامي، وذلك في ظل الحاجة المتزايدة للإنفاق على
المشروعات الدعوية الأخرى وتقديم خدمات الإغاثة للمسلمين في بقاع كثيرة من
المعمورة.
3- يغلب على الرسالة الإعلامية التي تقدمها وسائل الإعلام الحديثة الخطاب
الإعلامي غير المباشر، حيث يقدم: التحليل الصحفي أو الإخباري، والصورة،
والرسوم (الكاريكاتيرية) ، إضافة إلى المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية والبرامج
المتنوعة، رسالة إعلامية غير مباشرة يكون تأثيرها عظيماً على نفسية الإنسان
وسلوكه وتصوراته، بينما تقدم الفئة الثانية من وسائل الإعلام خطاباً إعلاميًّا مباشراً
بعيداً عن التعقيد، ولذا: نجح كثير من العلماء والدعاة في الوصول والتأثير على
القطاعات البشرية الأقل تأثراً بوسائل الإعلام الحديثة، بينما نجد أولئك الذين
يتعرضون للرسالة الإعلامية الحديثة لا يتجاوبون بشكل كبير مع الخطاب الإسلامي
المباشر، الذي تقدمه وسائل الإعلام المستخدمة حالياً في أوساط الصحوة.
4- ومن الأسباب التي أدت إلى ضعف استخدام وسائل الإعلام الحديثة في
أوساط الصحوة الإسلامية: وجود القوانين والأنظمة الصارمة التي تسنها الأنظمة
الحاكمة في العالم الإسلامي للتحكم والتوجيه في وسائل الإعلام؛ فإصدار صحيفة أو
مجلة أو إنشاء قناة تلفزيونية أو إذاعية يتطلب إجراءات قانونية صارمة، هذا إذا
كانت ملكية كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا تعود مباشرة إلى
الدولة.
وإذا كنا ذكرنا بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف استخدام الصحوة لوسائل
الإعلام الحديثة والاتجاه إلى استخدام وسائل إعلام لها خصوصية تتلائم مع واقع
الصحوة، فإن هذا لا يعني أن تيارات الصحوة لم يكن لها تجربة متميزة في هذا
المجال تستحق أن نقف عندها ونحاول تقويمها ونقدها.
لقد قامت محاولات عديدة ومنذ وقت مبكر لاستخدام وسائل الإعلام الحديثة من
قبل تيارات الصحوة الإسلامية، وقد تفاوتت درجة نجاح أو فشل تلك المحاولات
بناءً على الظروف الزمانية والمكانية التي قامت فيها تلك المحاولات، كما تأثرت
بالأسباب التي أشرنا إليها آنفاً، ونظراً لصعوبة الوقوف بالتفصيل على ظروف تلك
المحاولات لتقويم أسباب نجاحها أو فشلها، فإن من الممكن الإشارة إلى بعض
خصائص إعلام الصحوة، وبعض ملامح الإخفاق في تلك المحاولات، وعندما
نقول (إعلام الصحوة) فنقصد به وسائل الإعلام الحديثة، وليست الوسائل التي
أشرنا إلى أن الصحوة قد نجحت في استخدامها، كما أننا لا نقصد أيضاً الإعلام
الإسلامي عامة، فإن هناك نوعاً آخر يعبر بشكل أو بآخر عن بعض المفاهيم
الإسلامية، ويتبنى بعض الأطروحات الإسلامية، ولكنه يصدر مباشرة أو بتوجيه
من بعض الحكومات في العالم الإسلامي، وهذا الإعلام له خصائص مختلفة ليس
هذا مجال بحثها.
من خصائص إعلام الصحوة:
أنه يتركز في جانب الصحافة والنشر، وفي فئة محدودة منه؛ فمن الواضح
أن الصحوة لا تملك حالياً تجارب إذاعية أو تلفزيونية، كما أنها لا تملك صحفاً
يومية واسعة الانتشار، بل يتركز إعلام الصحوة على المجلات والصحف
الأسبوعية والشهرية، ومن المعلوم أن خصائص المجلات الأسبوعية والشهرية
تختلف عن خصائص الصحف اليومية أو الإذاعة والتلفزيون، كما أن تأثيرها
يختلف، فهي أبعد عن الحضور خلال الأحداث والأزمات اليومية، فتبتعد بذلك عن
تشكيل الجانب النفسي والصدمة الأولى للأحداث، وإذا أضفنا إلى ذلك: اختلاف
المجلات الأسبوعية والشهرية عن تقديم رسالة إعلامية كما تقدمها الإذاعة أو
التلفزيون من خلال البرامج المختلفة الإخبارية أو الاجتماعية، فإن النتيجة المنطقية
هي ابتعاد الصحوة عن استخدام جميع إمكانات الإعلام وقدراته التأثيرية، ومن ثم:
فقد تركت الساحة لمختلف التيارات والاتجاهات والأيديولوجيات المحلية والعالمية
لملء الفراغ الكبير.
ومن خصائص إعلام الصحوة: أنه انطلق في بداية تاريخه ليعبر عن تيار
حزبي أو فكري في ساحة الصحوة، فنشأت المجلات الأسبوعية أو الشهرية من
داخل تنظيم الحزب أو الجماعة، وطغى عليه الخطاب الحزبي المنغلق، فأصبح
يعبر عن رأي الحزب، وينشر البيانات والمقابلات مع زعماء الحزب أو الجماعة،
واستعراض نشاطات الحزب الدعوية وغيرها، وأصبح يتوجه برسالته إلى جمهور
الحزب، أو التيار الفكري أوالمذهبي، ولم يخاطب ذلك الإعلام جميع جمهور
الصحوة، عوضاً عن أن يخاطب المسلمين كلهم المتعاطفين مع الصحوة الإسلامية، أو الذين يعادونها عن جهل أو سوء قصد، وأدى ذلك إلى انغلاق ذلك الإعلام
على جمهور محدود وتضاؤل تأثيره المعنوي، ونتيجة لذلك: انغلق الخطاب
الإعلامي على قضايا محدودة، أغلبها قضايا سياسية إذا كان الحزب أو الجماعة
تعمل في مجال السياسة أو قضايا فكرية وفقهية إذا كانت الجماعة ممن ينادون
باعتزال السياسة ومشاكلها، وقليلاً ما تجد مشاركة إعلام الصحوة في قضايا
اجتماعية واقتصادية وتربوية وتقنية مما لها علاقة بواقع العالم الإسلامي ومشاكل
التنمية فيه، وعلاقته بالعالم الخارجي وغيرها.
ومن خصائص ذلك الإعلام:
ضعف استخدام وسائل التأثير المتعدد، فهو يعتمد في الدرجة الأولى على
خطاب إعلامي مباشر يغلب عليه الاحتجاج والعاطفة ورد الفعل والتعليق على
الأحداث السياسية والفكرية، وهو بهذا الأسلوب لا يختلف كثيراً عن أسلوب
المحاضرة أو الخطبة الذي استخدمته الصحوة بشكل مؤثر عن طريق الشريط
الإسلامي أو الإلقاء المباشر، وبذلك فَقَدَ إعلام الصحوة أهم وسائل اجتذاب الجمهور؛ فالقارئ لا يعرف من خلال ذلك الإعلام ما يستجد من أحداث في البيئة المحيطة
أو في المجتمع والعالم بشكل عام؛ بسبب ظروف إصداره الأسبوعي أو الشهري،
كما أنه لا يجد التحليل الموضوعي على تلك الأحداث، ولا يقدم له مادة تعليمية
متميزة، كما أنه لا يضيف إليه متعة ثقافية أو أدبية، أو يقدم له وسيلة للتسلية
والاسترخاء، إلى غير ذلك من الوسائل التي تجذب القراء إلى التفاعل مع وسائل
الإعلام.
ومن الخصائص أيضاً:
قلة الكوادر الإعلامية المتخصصة وضعف تدريبها، حيث تعتمد المجلات
والصحف الإسلامية في الغالب على الهواة والمتحمسين للعمل الإسلامي، وقد يكون
تأهيلهم الإعلامي ضعيفاً، فنادراً ما تجد في إعلام الصحوة مراسلين صحفيين
يجوبون أقطار العالم للبحث عن المادة الإعلامية المتميزة، وقليلاً ما يكون للمجلة
الإسلامية محللون سياسيون واقتصاديون على مستوى علمي رفيع، وإذا أضفنا إلى
ذلك: ضعف الكوادر الفنية للإخراج والتصوير والرسم والإنتاج ... إلخ، وضعف
استخدام التقنيات الحديثة في مجال الاتصال، فإن الناتج سيكون تأخر إعلام
الصحوة، وابتعاده عن المنافسة الحقيقية مع الإعلام المسيطر على الساحة الإسلامية
والعالمية.
ومن خصائص إعلام الصحوة:
عدم اعتماده على التمويل المادي الذاتي، وإغفال اعتباره أحد وسائل
الاستثمار وتحقيق الربح المادي، فقد ظن الكثيرون أن هدف الاستثمار يتعارض مع
طبيعة هذا الإعلام، الذي يهدف إلى الدعوة وإيصال رسالة الإسلام إلى جماهير
الأمة، وإذا أضفنا إلى ذلك: ضعف التوزيع، وقلة الإعلانات، فإنه يمكن الإشارة
إلى أن إعلام الصحوة يكلف هيئاتها ومنظماتها وجمعياتها عبئاً ماديًّا، مع ما تواجهه
تلك الهيئات من متطلبات مادية هائلة؛ ولذلك: أصبح إعلام الصحوة رهينة
للعوامل الخارجية، التي قد تتغير بصورة سريعة، فأثّر ذلك على استمراره
وتطويره ومنافسته للإعلام الآخر.
هذه بعض خصائص إعلام الصحوة، نسردها بطرح عمومي ينال السمة
البارزة لهذا الإعلام، على الرغم من أن هناك تجارب واعدة تظهر في أماكن
متفرقة من العالم الإسلامي، أو تصدر في الغرب؛ حيث يستفيد الإعلام من حرية
النشر والتعبير التي توفرها تلك المجتمعات، ووجود الإمكانات الفنية والتقنية،
ولكن في انتظار نضوج كثير من تلك المحاولات الواعدة، وظهور نماذج أخرى
أكثر انفتاحاً على متطلبات العمل الإسلامي، وأكثر قدرة على تسخير إمكانات
الإعلام في خدمة الإسلام، فإن إعلام الصحوة لا يزال يمثل الحلقة المفقودة في
العمل الإسلامي، وخاصة بعد التطورات المذهلة في تقنية الاتصالات والإعلام،
التي أدت إلى سقوط الحدود الجغرافية والسياسية، وأصبحت الحواجز الإعلامية
أكثر هشاشة مما مضى، مما جعل كثيراً من أهل الملل والنحل وأصحاب
التيارات الأيديولوجية المختلفة تتسابق في ميدان الإعلام؛ لكسب مساحة أكبر في
التأثير، فتتمكن من الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم.(100/74)
ملف العدد
(متابعات حول نقد الصحوة الإسلامية)
نقد أدب الصحوة.... مقدمة نظرية
بقلم: د. مصطفى السيد
الأدب كتيبة من كتائب الدعوة، والأدباء فصيل طليعي في مشروع التأهيل
الثقافي الإسلامي، والصحوة إذ تطرح رؤيتها الإسلامية، فهي لا تفعل ذلك في
مناخ رخاء واسترخاء، وغياب المنافس الذي يريد من خلال خطابه الأدبي أن يخلو
له وجه القراء، ليكونوا ويكوّنوا بنياناً مرصوصاً، ومنصة حضارية لما يطلق من
أفكار، ويباشر من تطلعات.
فالمنافسة قائمة على قدم وساق، محتدمة بين أطراف مختلفة، وبوسائل
مشروعة وغير مشروعة، موظّفة كل ما امتلكت من منابر وأجادت من أشكال
القول الأدبي وأنواعه، من: مسرح، ورواية، ومقال، وقصيدة.. موظفة ذلك
كله ليكون خط الدفاع الفكري عن معركتها للنهوض بالأمة والرقي بها إلى المستوى
اللائق بها، ولقد سبق خطاب الصحوة الشرعي والفكري والسياسي، سبق خطابها
الأدبي زماناً واهتماماً، كما سبقه كمًّا وكيفاً، ولذلك أسبابه التاريخية والموضوعية
المتعلقة بطبيعة الصحوة بوصفها اتجاهاً يعمل للبعث الإسلامي والتجديد الإيماني،
كما أن الأدب في العالم الإسلامي عامة والبلاد العربية بخاصة لم تكن قد تبلورت
في العصر الحديث أهميته الفكرية والجمالية بصورة واضحة، ولم يتمظهر الدور
الذي ينهض به في إعادة تشكيل عقل القارئ ومعتقده ومعارفه، وتفجيره لآبار
الوعي الذاتي والجمعي في الأمة، وإن كان الشعر قد قارب ستة عشر قرناً من
الحضور في وجدان العربي فأَلِفَ كل منهما صاحبه، فإن الأمر بالنسبة للقصة لم
يكن كذلك؛ فالدكتور (محمد حسين هيكل) عندما كتب أولى قصصه، لم يتجرأ أن
يضع اسمه على صفحة الغلاف، و (محمود تيمور) كان يوقع قصصه بـ (موبسان
المصري) ، نسبة إلى (جي دي موبسان) القاص الفرنسي؛ وإذا كان التخوف قد
لازم هؤلاء العلمانيين فما بالك الإسلاميين، الذين سيتأخر الفن القصصي عندهم
والمسرحي أيضاً إلى وقت لاحق، حيث استطاع القاص والكاتب الإسلامي (على
أحمد باكثير) (1328- 1389هـ 1910- 1969م) إنجاز إبداعات أكثر من رائعة
في مجالي القصة والمسرحية، جعلته و (توفيق الحكيم) الذي كان سابقاً عمراً وفنًّا
فرسي رهان وقرني ميدان، وربما لو امتد به العمر لطاول (نجيب محفوظ) أيضاً.
لقد كان (باكثير) (رحمه الله تعالى) رائداً ومؤسساً للأدباء الإسلاميين الذين فيما
أحسب وأعلم لم يتمكنوا أن يتابعوا بناءه بالقوة نفسها التي ميزت (باكثير) .
ويوماً بعد يوم شرع الخطاب الأدبي يحرز مكاسب جديدة وجيدة، ويتقدم إلى
مواقع لم يقف عليها من قبل.
واشتعلت معركة التجديد التي انتقل معها الخطاب الأدبي ولا سيما الشعر من
خطاب الأذن إلى خطاب العقل، ومن سيطرة الصوت، إلى سطوة الصورة ليستقر
أخيراً عند تخوم (الرؤيا) [*] ، كما انتقل من التعبير المباشر إلى التراكيب التي
حُفت بالإيهام والغموض، عاكساً الثقافة والهموم للشاعر المثقف الذي غادر
السطحية والارتجال، بادئاً صياغة قصيدته صياغة تدخل القارئ في حوار مع
القصيدة، ينتهي بموقف جديد أو ميلاد جديد للقارئ.
وإذا كان أكثر الشعراء متفقين على أن التشكيل الموسيقي (القيم الصوتية،
والعروض، والإيقاع) عنصر مائز للفن، فإنهم لم يتفقوا على أن العروض الخليلي
هو نهاية المطاف، وأن الخليل جمع ومنع، إنهم مع تقديرهم لهذا العالم الفذ، فإنهم
يرون أن موسيقا الشعر أكبر من أن يُتوصل فيها إلى تشكيل نهائي مستقر.
ولقد جعل كثير من الإسلاميين قضية التشكيل الموسيقي قضية حياة أو موت
بالنسبة للقصيدة، وقاتلوا مع غيرهم في معركة انجلت عن ثبات التيار الجديد في
الساحة الأدبية.
وإذا كنت أعتقد أن دعاة التجديد أكبر أو أكثر من أن تظلهم راية واحدة، وأن
عناصر التجديد ليست محل اتفاق، وأن بعض المجددين كانوا مجترين، وبعضهم
الآخر كانوا مجترئين على لساننا وديننا، فإن بعض الإسلاميين قد دخل غمار
معركة التجديد غير مستكمل لأدواتها وآلياتها، مفتقراً إلى الإلمام بخلفية عميقة
تؤهله للاستفادة من الاتجاه الجديد في الشعر عموماً، وفي الشكل خصوصاً.
فبعضهم يحسب أن مجرد حشر التفاعيل حسب عروض الشكل الجديد دون أن
يتغير ثقافة واهتماماً وذائقة أدبية يجعله في عداد المجددين.
فأكثر الإسلاميين يعرف تراث الأسلاف في الشعر، ولكنه لا يعرف ما يجب
أن يفعل ليكون امتداداً واعياً وواعداً للسلف، ولا يدرك كثير من الإسلاميين أن
التغير يجب أن يتناول شبكة العلاقات مع اللغة والأشخاص والأشياء، فلا تجديد
بعلاقات قديمة لا تتواصل مع ضفيرة العلاقات المعاصرة.
لم تتمكن الإبداعات الأدبية للإسلاميين إلا نادراً من التحليق في الفضاءات
الواسعة، لا سيما أدب الأنين والنشيج، فكانت بكائيات راعفة نازفة، بخلاف
العلمانيين واليساريين، الذين أدى اصطدامهم بالسلطة التي لم يتناقضوا معها من
حيث المبادئ التي قامت عليها، بل من حيث الوسائل والمناهج التي اتبعتها في
أدائها وحضورها أدى هذا الاصطدام غالباً إلى ثورة أدبية وثروة شعرية وقصصية
ومسرحية.
ولقد قُسمت الحرية بين الأديب المسلم والأديب العلماني واليساري قسمة
ضيزى، ففي حين أعطي الأول هامشاً محدوداً تجاه القضايا المطروحة، مُلّك
اليساري فضاءً أوسع من الحرية إزاء السلطة والتراث والعرب والعصر، فاستثمر
ذلك استثماراً مدروساً، مكنه من السيطرة على المنابر الأدبية في الجامعات
والإعلام والندوات والمنتديات، وظهر ذلك جليًّا في المكتبة الأدبية، حيث نجد
النتاج الأدبي للحداثيين واليساريين والعلمانيين في شمال إفريقيا والشام والعراق
والجزيرة العربية يتقدم كمًّا وكيفاً غالباً كتابات الإسلاميين التي أخذت هي الأخرى
تتقدم ولو ببطء ولكن بثبات وثقة لتنتج إبداعات ناضجة وواعدة إن شاء الله.
وليست السلطة هي المسؤولة وحدها عن غياب الحرية وتغييبها وعما يترتب
على ذلك من خنق الإبداع جنيناً، وجني الثمار المرة، لإبعاد الإسلاميين عن أن
يكونوا شركاء أساس في صياغة مشروع الغد، بل شارك السلطة في المسؤولية
غياب التدريس الجاد والعميق في بعض الأوساط الإسلامية للأدب، فتغيرت أسماء
الكليات والأقسام والعنوانات وكأن المشكلة في الأسماء وبقيت الثقافات إياها تدرس
أدباً وتدرسه بأساليب تجاوزها الزمان. توقفت القراءة الواعية لعبد القاهر
الجرجاني وحازم القرطاجني، كما تعثرت الجهود لاستكمال عمل هذين الناقدين
العبقريين في الأوساط الإسلامية أكثرها التي تعد أخلاقيّاً وموضوعيًّا المسؤولة عن
حمل أمانة هذا العلم درساً وتدريساً، فحصاً وتقويماً.
حصل ذلك في الوقت الذي هيمنت بلاغيات النص السكّاكية نسبة إلى السكّاكي
(رحمه الله تعالى) على تأويل الإبداع وتحليله وتعليله، ولتكون أحياناً أشبه بحصار
على الدارس والمدروس في دوائرنا نحن الإسلاميين، ويحصل ذلك أيضاً في
الوقت الذي صارت البلاغة السكّاكية جزءاً محدوداً في الدرس النقدي الحديث الذي
يحاكم فيه النّاص والنّص بمعطيات الألسنية والأسلوبية والبنائية والدراسات المقارنة التي يعاني أكثر الكتاب الإسلاميين فيها من نقص مذهل، لا يتهدد معه دورهم
الأدبي فحسب، بل ووجودهم أيضاً في هذا الميدان، وذلك لأن النقد المقارِن (بكسر
الراء، وهو الاسم الأدق من الأدب المقارَن) يوفر للأدب المحلي عن طريق
الاحتكاك بالآداب الأخرى فرصة ذهبية لاستكمال مواطن النقص في الخطاب الأدبي
المحلي، ولولا هذا الاحتكاك لغرقت الآداب المحلية في محليتها، كما تمنح الدراسة
المقارنة دعاة الإسلام وخطابه الدعوي فرصة أفضل لبث رسالتهم كلما توفرت لهم
عبر القراءات الأدبية المقارنة معلومات أشمل وأدق عن الأمم الأخرى، والدراسة
المقارنة هي التي تكشف الجوهر البنائي للعمل الأدبي، وموارد النص (والتناص
الذي هو تداخل النصوص) كما تؤدي إلى بلورة فلسفة عامة للفنون والآداب، وإذا
كانت أي لغة وحدها لا تحوي منفردة على ميراث الحكمة الإنسانية وموروثها، فإن
الحاجة إلى المقارنة تبدو (لما سيق وسبق من فوائد) ليست كمالاً أدبيًّا ولا ترفاً
معرفيًّا، بل هي ضرورة فكرية وثقافية، بل وسياسية، حتى يكون خيارنا
واختيارنا ومواقفنا نتاج رؤية شاملة واستنطاق تيارات متعددة، بحيث تتحرر من
استيراد الرؤية الفردية واختزال المعرفة الإنسانية.
فلعله يتضح مدى الخسارة التي لحقت بأدب الإسلاميين جراء غياب النقد
المقارن عن دوائرهم الفكرية والجامعية؛ مما جعل الخطاب الإسلامي الأدبي يعاني
غالباً فقراً مزمناً، لافتقاده معطيات المقارنة دارساً ومدروساً، كاتباً ومكتوباً.
ولقد اختلط الأمر على كثير من الإسلاميين في العلاقة مع الغرب، فتداخل
الشعري في الشرعي، والقاعدي في العقدي، وتحامى أكثرهم ولوج محارم الغرب
الأدبية، حفاظاً على الهوية، وتحصيناً للشخصية الإسلامية من أن تجتاح أو تباح
من قبل الأدب الغربي، إن الحفاظ على الهوية المستقلة والشخصية المتميزة، لا
يكون مرادفاً للعزلة والتقوقع والانغلاق والانسحاب من المعترك الثقافي والإبداعي،
إن المحافظة على الهوية يكون بالانفتاح الواعي على الثقافات والحضارات في
تفاعل إبداعي أساسه الثقه بالله، ثم بالنفس، والقدرة على الاستفادة من كل خيّر
ومفيد.
وإذا كان المسلم يشعر بالاكتفاء والامتلاء في أموره الشرعية، فقد لا يكون
عليه ضير أن يحضر في الساحة الأدبية العالمية شريكاً كاملاً آخذاً ومعطياً، عاملاً
على أن يجعل القول الأدبي لا سيما القصة والمسرحية جسراً للحوار الداخلي
للتواصل مع القراء المسلمين بمختلف شرائحهم الاجتماعية وإمكاناتهم الفكرية، ثم
الطيران إلى مطارات العالم حاملاً عبر الكلمة مُؤَدْلَجَةً بالفكر الإسلامي، مدججةً
بمقومات تحميها من السقوط في مدافن الآنية وحُفَر الذاتية، وتتجافى عن السكوت
عن كل صور الانتهاك للدين والعقل والثروات الإسلامية في الإنسان والمال العام
والبيئة.
ولقد تُرجم الكثير من أدب العلمانيين واليساريين والحداثيين العرب إلى القارئ
الغربي، في حين ظل أكثر الكتاب الإسلاميين مقروئين في لغاتهم المحلية وفي
أوساطهم المحلية أيضاً، وهذا الأمر حرم الخطاب الأدبي الإسلامي من مهمة الحوار
التي ينهض بها الخطاب بين جميع القراء، بغض الطرف عن أوطانهم واتجاهاتهم
العقدية والسياسية والفكرية، فـ (شكسبير) كتب بالإنجليزية ولكن قُرِئ في كل
اللغات الحية تقريباً، وكذلك (ديكنز) ، و (موليير) ، و (هوجو) ، و (جوته) ، ...
و (همنجواي) ، و (دوستوفسكي) ، و (تولستوي) ، و (ماركيز) الكولمومبي الذي
ينتمي إلى بلاد هي أكثر تأخراً من البلاد العربية، وكذلك (أكتوبات) المكسيكي
الحائز على جائزة نوبل 1993م.
ولقد افتقر أدب الإسلاميين أكثرهم إلى مقومات بنائية وفنية حالت بين خطابهم
الأدبي ونماذج النخبة من القراء، كما أفقد ذلك الدعوة الإسلامية التغلغل عبر
الخطاب الأدبي إلى مختلف العقول والقلوب، لتكون جزءاً من النسج الوجداني
والفكري لأكبر عدد من المتلقين، ومن هذه المقومات التي افتقر إليها أدبنا:
ثقافة إسلامية عميقة:
لا سيما تاريخ الإسلام وسير أبطاله، بوصف التاريخ من المنابع المهمة التي
تمد العمل الأدبي بكنز لا ينفد من الموضوعات (ولا بد من التوكيد على المصادر
الغضة كالقرآن الكريم) وقد حفظه (باكثير) (رحمه الله) في وقت مبكر، والحديث
الشريف، وألاّ يتلقى الأديب هذه الثقافة من مصادر آسنة مشوبة بكدرة الاستشراق،
أو من موارد ملفقة كنتاجات المهزومين والتلفيقيين.
ثقافة أجنبية:
وحبذا لو كانت أداتها إحدى اللغات الأوروبية الحية، وذلك كي يتمكن من
الإبحار في محيطات روائع الأدب العالمي (بادر (باكثير) بوصفه نموذجاً يتيماً
للأدباء المسلمين إلى الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة، كي تسلم
ثقافته الأدبية من جهل مزر بالخطاب الأدبي العالمي) أو من الادعاء بإحاطة كاذبة
بمكونات هذا الخطاب، أو الرفض المطلق له، عبر نفيه وتجاهله سدًّا لذرائع
السلبيات المتوقعة من الاطلاع عليه.
رؤيا متكاملة:
تجسد مثل خريطة ضوئية ورسوم بيانية مواطن الضعف والقوة في الجسد
الإسلامي، وذلك حماية للإبداع من تكرار ممجوج، وسطحية ممرورة، وليكون
إضافة تشبع ذائقة المتلقي وتترعها، وتمده بما يضاعف رصيده الجمالي ويعمق
لذاذته الوجدانية، ويسلحه بمعرفة يتصدى بها بعد عون الله (سبحانه وتعالى) لكل
محاولات إفقاره معرفيًّا، وإفلاسه ثقافيًّا، ويواجه الحملات الشرسة على قيمه
الإسلامية التي تتمنهج بالعنف طوراً، وبالتحيل والمكر مراراً وأطواراً.
التمكن المقتدر الجسور من التعامل مع الأداة التعبيرية:
(اللغة) التي تجسد تلاحم الأفكار والمشاعر، والشكل والمضمون، والذات
والموضوع، بحيث تتوزع خلالها عناصر (الأدبية) توزعاً دقيقاً، عاكساً موهبة
الكاتب وخبرته وثقافته انعكاساً رُؤيًّا لا عوج فيه ولا أمتى، فلا إسراف في خدمة
الشكل، ولا إجحاف في حق المضمون.
طموح الكاتب المسلم إلى تجاوز ما قبله ومن قبله:
فلا ينظر إلى الماضي والحاضر كسقف ليس ممنوعاً تجاوزه فقط، بل
ومستحيلاً أيضاً، بل عليه وإن استوقفه الماضى والحاضر ألا يوقفاه ويُثْبِتَاهُ في
أبهائهما وتخومها، وأن يعتقد أن الفن معطاء ولود إذا وفق في استدراجه إلى البوح
بأسراره، وتمكن من فتح مغاليقه التي تتأبى على دعاة الفن الرخيص والأدب الفج
والرؤيا المهلهلة.
إذا نظرنا إلى ما كان عليه أدب الإسلاميين قبل ثلث قرن، وما بلغه الآن
بفضل الله، ثم بفضل بعض الأقلام الجادة، إذا فعلنا ذلك فسنجد أننا قد تجاوزنا
الكثير من السطحية، وحزنا حزماً من الوعي، وامتلكنا مقومات طيبة، وبدأ
إبداعنا يتألق ويتألق، وإني لأبصر شباباً يكتبون على صفحات (البيان) وشقيقاتها
العربيات الإسلاميات، يكتبون أدباً مبشراً وواعداً إن شاء الله.
وإذا كان خطاب الصحوة الفكري قد انتزع مكانته المميزة في ساحة كادت أن
تكون محجوزة للخطاب المنشق عن تجربة الأمة ومسيرتها، فإن خطاب الصحوة
الأدبي مطلوب منه بإلحاح أن يساير شقيقه الفكري، ابتغاء حضور (إسلامية)
متكاملة في سوح الصراع المتلاطمة التي تموج بالأفكار وتزدحم بالطروحات.
والله المستعان، وعليه التكلان.
__________
(*) يرى البعض أن (الرؤيا) للحلم والخيال، و (الرؤية) للفكر.(100/82)
ملف العدد
(متابعات حول نقد الدعوة الإسلامية)
ملاحظات أولية على الدعوة إلى نقد الصحوة الإسلامية
بقلم: جمال سلطان
كنت ولا أزال أشعر بقلق كبير من ترداد الحديث عن (النقد الذاتي) أو نقد
الصحوة الإسلامية، سواءً أكان هذا الحديث نابعاً من أبناء الصحوة أنفسهم أو من
خصومها، على الرغم من اختلاف الوجهة والقصد والمنهج، وليس ذلك بطبيعة
الحال عن قناعة بأن هذه الصحوة مبرأة من العيوب والأخطاء، وحتى الانحرافات
في بعض أطرافها، وأنما يعود إلى عدد من الاعتبارات الواقعية التي لاحظتها من
خلال تتبع هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة على وجه الخصوص.
الاعتبار الأول:
هو شيوع هذه الموجة بشكل واضح، وهي بلا شك من جراء التأثر ببعض
حاجات المناخ الثقافي العام، الذي استهوته قصة النقد الذاتي، إضافة إلى أن
الضغوط المتوالية من الصحافة العلمانية والدوائر الثقافية العلمانية بشكل عام يبدو
أنها أزعجت قطاعاً من الإسلاميين وألجأتهم إلى اعتراف قهري بالذنب، وضرورة
(التكفير عنه) ثقافيّاً بتشريح الصحوة على الملأ.
وموطن الخطر في هذا الجانب: أن زيادة الشيء عن حدّه، وتضخيمه،
والإلحاح عليه: لا يؤدي عادة إلى علاج الحالة، بقدر ما يؤدي إلى انحراف مضاد، قد يتمثل في مثل حالتنا في إشاعة أجواء من الإحباط والكآبة والشعور المَرَضي
بالذنب والعجز.
الاعتبار الثاني:
أن عملية المراجعة والتقويم والنقد، ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي
مقصودة لتحقيق أهداف معينة، مثل ترشيد المسيرة، وبث روح جديدة تدفع بالعمل
الإسلامي خطوات على الطريق القويم ... ونحو ذلك، وهذا كله يلفت نظرنا إلى
أن المكان والزمان اللذين يرد فيهما (النقد الذاتي) حاسمان وفاعلان في تحقق النتائج
المرجوة أو تحقيق عكسها تماماً، فإذا كنت في واقع محبط، أو محاصر، أو شديدة
جراحه، أو مستعرة أجواؤه بالعداء والحرب: فإن توجيه النقد إلى أبناء هذه
الأجواء يكون عملاً مدمراً وغير مسؤول؛ لأن نتيجته المباشرة هي: تقريب المسلم
خطوات جديدة إلى إعلان الهزيمة: نفسيًّا، وواقعيًّا، ودع عنك موجات الفتنة التي
تمور وتطحن الصف المسلم بعضه في بعض، ولعله لذلك المعنى، كان من هدي
النبي الامتناع عن إقامة الحدود في الحرب.
وكانت قناعتي: أن الأجواء التي تعيشها الصحوة الإسلامية الآن لا تناسب
التوسع في مثل هذا الجانب النقدي، مهما كانت المبررات الثقافية جميلة وجذابة.
الاعتبار الثالث:
أن الأجواء الثقافية مشوشة للغاية، والهجوم العلماني، وغير العلماني، من
جهات ذات مصالح في تشويه الصحوة الإسلامية قد بلغ مداه، وهذا ما يحول دون
عرض قضية النقد الذاتي للصحوة على الملأ بصورة عاقلة وعملية ومأمونة؛ لأن
المتربصين يأخذون الكلام على أنه اعترافات إسلامية بالخطيئة، مما يسبب تضليلاً
كبيراً لدى العوام، وإذا ما حاولت الدفاع أو كشف المغالطات وجدت نفسك وسط
معركة فكرية مضنية ومهدرة لجهدك، وقد كنت في غنى عنها.
إن ممارسة النقد الذاتي تحتاج إلى مناخ اجتماعي وفكري قائم على الاتزان
والهدوء والتعقل والحوار البناء، إلا في حالات الضرورة القصوى، وهي حالات
جزئية على كل حال، ولا تتسم بالشمول أو الإطلاق.
الاعتبار الرابع:
أن فكرة (النقد) رغم أنها تعني تشريح القوى الذاتية والإمكانات، وجلاء
إيجابياتها وسلبياتها، إلا أن مصطلح (النقد) قد انتهى في الممارسة العملية والثقافية
في العالم العربي إلى معنى (مناقشة السلبيات وتصحيحها) ، وأصبح شائعاً أن تقول
: فلان لا يطيق النقد، بمعنى: أنه ينزعج من مناقشة أخطائه أو سلبياته، وهذا
المعنى هو الذي استقر في معظم الكتابات عن (نقد الصحوة) ، وفي هذا المناخ غاب
الحديث تماماً عن (إيجابيات الصحوة) حتى أنه يكون عسيراً على أحد الشباب
الإسلامي أن يعدد لك إيجابيات الصحوة إذا سألته عنها، في حين أنه يقدم لك لائحة
بالسلبيات إذا سألته، وذلك لأنه تعود الاستماع إلى الكلام في الثانية دون الأولى،
فأَلِفَها، ولذلك: فقد تصورت أن الحديث عن (إيجابيات الصحوة) ، والكشف عن
مكامن القوة فيها، هو الأولى بالإبراز هذه الأيام، لتحقيق الموازنة النفسية
والتصوريّة لدى الشباب بين سلبيات الصحوة وإيجابياتها؛ وكذلك لبلورة معنى هذه
الإيجابيات، وتفسير أسبابها، وحشد الطاقات لتنميتها والبناء عليها، إضافة إلى أن
ذلك سبيل عملي للرد على العلمانيين والمشوشين، ممن يرون لكل شيء في الوجود
سلبيات وإيجابيات، إلا الصحوة الإسلامية، فهي الظاهرة الوحيدة التي لا يجدون
لها إيجابيات أبداً، أو لا يذكرون أن لها إيجابيات.
لكل هذه الاعتبارات وجدتني متحفظاً تجاه كثرة الحديث عن (نقد الصحوة) ،
وإن كانت الحاجة تبقى ماسة إلى البحث عن (آلية) مناسبة لتصحيح المسار، ورتق
الخروق، وسد الثغرات التي تهدر طاقات النهوض والتقدم، وفي تصوري: أن
الإعلام الإسلامي يمكنه رغم كل التحفظات السابقة أن يساهم بشكل فعال في هذا
التصحيح والترشيد، من خلال الكلمة والدراسة والحوار والتحقيق والندوات..
ونحو ذلك، وهي ممارسات قائمة بالفعل، ولا يخلو أحد منّا مِنْ جهد ساهم به في
ذلك، على أن يكون ذلك الجهد وفق صياغة متزنة، ومعالجة رصينة وحانية،
وذكاء كبير في العرض، ووفق توازن نفسي وفكري يمنع الآثار السلبية الخطرة
التي قد تنتج عن هذه المعالجات وعرضها.
ثم إن هناك جانباً من جوانب الصحوة، لا يخضع للاعتبارات السابقة، ولا
يجوز إخفاء عواره أو تأخير بيان فساده، إلا وهو الجانب الفكري، ولا سيما ما
يتصل بالعقيدة وأصول الديانة؛ فالبدعة، والغلو، والانحراف الفكري: ظواهر
خطرة، لا يمكن السكوت عنها، بل إن تجاهلها والسكوت عنها يكون أخطر بكثير
من عرضها للنقد والبيان والترشيد، وتبقى من وراء ذلك كله الضرورة القصوى
لإشاعة مناخ الرحمة والتغافر بين الإسلاميين، وتعميق الشعور بالحاجة إلى الرفق
والتريث والاتزان في معالجة مختلف قضايا الصحوة الإسلامية، سلوكاً وفكراً.(100/92)
المسلمون والعالم
قمة شرم (الإرهاب)
بقلم: د. عبد الله عمر سلطان
(شرم الشيخ) .. ذلك المنتجع الوديع في سيناء اختير مكاناً لانعقاد (قمة
صانعي السلام) ! والمفارقة أن هذه القمة ما كانت لتنعقد لولا أن سلام وأمن الدولة
الصهيونية تعرض للخطر، وهذه الدولة المشروع ما كانت لتقوم لولا أنها رائدة
الإرهاب في العالم، وأكثر دول الأرض ممارسة له ... وما (شرم الشيخ) إلا أرض
لوثها الإرهاب الصهيوني دهراً قبل أن ترجع إلى أصحابها.
مواطن فلسطيني ذكر لمحطة (CNN) : أن هذه القمة هي قمة الإرهاب لا
قمة السلام؛ لأنها تترجم فعليًّا الإشارة المعنوية لدولة اليهود أن تمارس ما تشاء من
إرهاب ضد مواطني الضفة والقطاع، بمباركة السلطة الوطنية (الفلسطسرائيلية) !
ومواطن أمريكي اتصل بالمحطة نفسها حين كانت تذيع برنامجاً عن إرهاب
(حماس) متسائلاً: لماذا نستغرب أن يلجأ الفلسطيني للإرهاب والعنف وقد رأى
عدوه الإسرائيلي يستخدم العنف ضده لعقود خلت، ويحقق نجاحات ما كانت لتتم
لولا اللجوء إلى الإرهاب المدعوم دوليّاً ... ؟ ، مراسل محطة هيئة الإذاعة
البريطانية وصف القمة بأنها: أثارت من الأسئلة والاختلافات أكثر مما حشدت من
مواقف ورؤى موحدة، بل إنه اعتبرها قمة (البنادق الصوتية) و (المفرقعات
الكلامية) ...
القمة طرحت تساؤلات حول الفرق بين الإرهاب والجهاد المشروع، وحول
تاريخ العنف المنظم في المنطقة، ومن بدأ به؟ وحول مفهوم كل دولة حضرت
لمعنى كلمة (إرهاب) وما يعنيه لها، مجلة (الإيكونومست) الواسعة الانتشار طرحت
الموضوع من زاوية المؤسسة اليمينية الحاكمة في أوروبا وأمريكا ... لم تخف
المجلة أن الإرهاب في أصله صناعة غربية، لم يعرف إلا في عصر تفوق الرجل
الأبيض واستعرضت أبرز محطاته:
(في يونيو عام 1914م تقدم شاب صربي متعصب نحو عربة كانت تمر في
(سراييفو) وأطلق النار على من فيها، فأردى الأرشيدوق (فرديناند) ولي عهد النمسا، وفي غضون أسابيع بدأت الحرب العالمية الأولى. وفي عام 1940م كانت ...
المقاومة الفرنسية تقتل المحتلين الألمان متى رأتهم، وأينما وجدتهم، وعام 1944م
شنت قوات (إس. إس) الألمانية عملية ثأرية في وسط فرنسا، فذبحت (642)
قرويًّا، وفي أغسطس 1945م أسقطت القوات الجوية الأميركية أول قنبلة نووية
على مدينة (هيروشيما) اليابانية، فقتلت نحو (190) ألف ياباني، كان جميعهم
مدنيين تقريباً، وفي غضون أيام انتهت الحرب العالمية الثانية. لكن هل يمكن أن
تلجأ الجيوش ذات الديمقراطيات العريقة إلى الإرهاب أيضاً؟ فقبل قرن، كان
يمكن أن يسمي العالم الغني الهجوم على المدنيين عملاً محظوراً، لكن العالم الحديث
كان يفكر بطريقة أخرى، فقد كان قصف الحلفاء لألمانيا في الحرب العالمية الثانية
موجهاً لترويع المدنيين أملاً في تحطيم المعنويات، أي: إرهابهم باختصار! ،
وكان قصف (طوكيو) وضرب (هيروشيما) و (ناجازاكي) بالسلاح النووي موجهين
لترويع الحكومة اليابانية وليس لتخويف المدنيين.. لكن الضحايا لم يلحظوا الفرق.
لكن: ما الفائدة من وضع تعريف واسع إلى حد يشمل (ستالين) والقوات الجوية
الأميركية، كما قد يسأل أحدهم على ذلك؟ هناك جوابان:
ففي المقام الأول: يشير هذا التعريف إلى أن الإرهاب كان من الناحية
التاريخية القوي لا الضعيف، فإبّان النضال الهندي من أجل الاستقلال، كانت
مجزرة (أمربتسار) أسوأ مثال على الإرهاب، عندما عمدت القوات البريطانية عام
1919م إلى إطلاق النار على اجتماع سياسي، واستمرت في ذلك حتى آخر طلقة،
وكانت الحصيلة (379) قتيلاً، وقد فعل الإرهاب فعله، فقد ساد النظام في ولاية
البنجاب المتمردة.
عموماً، ظهر الإرهاب الحقيقي العشوائي في الثلاثين سنة الأخيرة، كما في
مجزرة محطة بولونيا، وهجمات غاز السارين في مترو أنفاق طوكيو بأيدي طائفة
دينية، أو في تفجير مدينة أوكلاهوما، فالجرائم الثلاث كانت تضرب أيًّا كان، ولا
هدف محدداً لها، وكل من يراها غير ذلك يكون بلا عقل صحيح. وفي هذه السنين
نفسها، كان معظم عمليات الجيش الجمهوري الأيرلندي، وليس كلها، موجهاً نحو
أهداف محددة، مثل رجال الشرطة والجنود والمزارعين البروتستانت في المناطق
الحدودية، وكان العنف الذي تمارسة منظمة (إيتا) الانفصالية في إسبانيا على هذا
النحو) .
الإرهاب إذن أو ما يعرف بـ (التيرورزم) (Terrorism) بدأ مع الثورة
الفرنسية، ولم يتفجر تاريخيّاً في رحم العالم الإسلامي المطارد.... عواصم
الإرهاب الفظيعة خلال هذا القرن كانت: برلين النازية، وروما الفاشية، ... وموسكو الشيوعية، وطوكيو المحورية ... كانت هناك مآسٍ لا يمكن وصفها بقيادة
بريطانيا وأمريكا، واسألوا (برلين) المجروحة و (هيروشيما) المحروقة بجحيم
القنابل النووية ... المنصفون لا يجادلون أن الغرب استعمل القوة والعنف بشكل
منظم، وتصميم مندفع لمعاقبة المدنيين، وسمى ذلك الإرهاب: (حروب تحرير)
وعمليات أمنية، وإسرائيل وعصاباتها طرحت من رحم التجربة الغربية ... واستوعبتها جيداً، ثم طبقتها على أرض فلسطين، ولا يمكن أن نتجاوز هذا المدخل
دون التأكيد على أن كل قادة الدولة الصهيونية متورطون شخصيًّا في عمليات
إرهابية قذرة، لا يمكن أن تمر في ظل أوضاع عادلة دون عقاب..! اسمعوا
(إسحاق شامير) يتباهى بتسخير الإرهاب في سبيل تحقيق حلمه اليهودي: ففي
حوار جرى عام 1977م بين رئيس وزراء إسرائيل والمؤرخ البريطاني (نيكولاس
بيسيل) ، سئل عن اغتيال اللورد (موين) ، وعن تأثير هذه العملية على نجاح الحلم
الصهيوني! .
ورد (شامير) عليه قائلاً: (بدون أدنى شك أثرت تلك العملية في موقف
الحكومة البريطانية، وساعدت على تحسين فرص النصر، تماماً كما تستفيد
القضية الفلسطينية من هذه الأساليب (!) ؛ منذ عشر سنوات لم يكن الرأي العام
يسمع بحقوق الشعب الفلسطيني أو بالدولة الفلسطينية، الآن هناك شبه إجماع في
الولايات المتحدة والدول الأوروبية حول الحركة الفلسطينية، المطالبة بحق تقرير
المصير والاستقلال، ماذا حدث من عام 1967م حتى عام 1977م؟ إن الحكومات
في رأيي لا تعطي هذه المسائل الاهتمام الكافي إلا اذا استخدمت ضدها الأسلحة
الماضية، ومن هنا: أرى أن اغتيال اللورد (موين) خدم قضية اليهود، إن إرهابنا
(!) كان منظماً وموجهاً ضد الحكومات والعاملين في المواقع الرسمية، بينما
انحصر الإرهاب الفلسطيني في الأهداف المدنية) ! .
واعترض المؤرخ (بيسيل) على هذا التفسير، وقال إن التجاوزات لامست
بالأذى المدنيين أيضاً، بدليل ما فعلته منظمة (أرجون) التي أعلنت مسؤوليتها عن
نسف فندق الملك داود (حزيران/يونيو1946م) .
وقال (شامير) : إن الفندق كان يضم مقر القيادة العامة للقوات البريطانية في
فلسطين.
أجابه (بيسيل) : ولكن حصيلة الضحايا من المدنيين كانت مروعة جدًّا؛ الأمر
الذي اضطر عصابة (الهاجانا) للانسحاب من حركة المقاومة الموحدة!
واستمرت هذه المناظرة وقتاً طويلاً؛ لتبين في نهاية الأمر: أنه من الصعب
جدًّا رسم خط فاصل بين الإرهاب والمقاومة الوطنية ... بين استهداف العسكريين
والمسؤولين وبين ضرورة المحافظة على سلامة المدنيين العزل والأبرياء، كما
تبين أيضاً من سياق الأحداث التاريخية: أن الإرهاب السياسي المنظم كان أمضى
أسلحة العنف التي استخدمتها الصهيونية لإخراج الفلسطينيين من بلادهم.(100/96)
المسلمون والعالم
المسلمون في أوغندا..
تاريخ وتحديات
(2)
بقلم: زياد صالح لوبانغا
تمهيد:
تطرق الكاتب في العدد الماضي إلى التعريف بجغرافية أوغندا واستعمارها
واستقلالها ودخول الإسلام فيها عن طريق محورين، ثم تحدث عن مراحل انتشار
الثقافة الإسلامية فيها وبعض التحديات التي واجهها المسلمون، وتناول المرحلة الأولى التي بدأت من دخول الإسلام سنة (1260هـ - 1842م) إلى (1391هـ - 1971م) .
وفي هذه الحلقة -وهي الأخيرة- يتابع الكاتب ذكر مراحل وتحديات أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... - البيان - الثقافة الإسلامية وتحدياتها في المرحلة الثانية: من سنة (1391هـ-1971م) إلى (1399هـ -1979م)
على الرغم من قصر هذه المرحلة من تاريخ الثقافة الإسلامية في أوغندا، إلا أنها ذات أهمية بالغة، ونقطة تحول من الركود والجمود، إلى الحركة والنهوض، فهي الفترة الوحيدة التي ترأس فيها قائد مسلم دولة أوغندا بعد استقلالها، وهذا الرئيس هو (عيدي أمين) ، ويعتبر عهده من أفضل العهود انتعاشاً للحركة الإسلامية في أوغندا، فقد كان المسلمون يعيشون حياة تشتت وتمزق، وكانوا شيعاً وأحزاباً، يتنازعون في (المسائل الكبرى والصغرى) ، وقد اشتهر من تلك الأحزاب خمسة: ...
1- جمعية (بوكتو) ، وكانت أشد تمسكاً بالتقويم الشهري في صيام رمضان
والعيدين، سواء أوافق رؤية الهلال أم خالفها.
2- جمعية (الجمعة مع الظهر) ، وهذه أصرت على الجمع بين صلاة الجمعة
والظهر في آن واحد.
3- جمعية (اتحاد مسلمي أوغندا) ، وكانت ترى تقديم الأسن أو الأسبق إلى
الإسلام للسلطة الدينية.
4- جمعية (نَعَمْ) وكانت ترى تقديم المتعلم والمثقف للسلطة الدينية.
5- جمعية (كلجاتا) ، وكانت ترى معارضة البدع التي وقع فيها المسلمون في
أوغندا [1] .
عمل هذا الرئيس على توحيد تلك الجمعيات المتصارعة، وإزالة الشقاق
والنزاع بينها، فكان من ثمرات جهوده ما يلي:
أ- توحيد الشعائر الإسلامية، التي امتد إليها الخلاف والنزاع، وكان كل
حزب بما لديهم فرحون، فهؤلاء يصومون شهر رمضان بالرؤية، وأولئك
يصومونه بالحساب والتقويم، فتم توحيدهم جميعاً على دخول رمضان في يوم واحد، وكذا خروجه، وكان يُعلَن في الوسائل الإعلامية بدخول الشهر وخروجه، وبداية
الحج ونهايته، وعليه جرت العادة إلى يومنا هذا.
ب- إنشاء المجلس الأعلى الإسلامي، الذي يجمع كل المسلمين في البلاد كافة، ووكل هذا المجلس بتنظيم شؤون المسلمين الدينية، ونشر الدعوة والإرشاد،
وتوظيف الدعاة، ورعاية الأيتام والمعاقين، وتدبير الأحوال المدنية: من زواج
وطلاق وفسخ وظهار وخلع ... ونحو ذلك، كما أنه كان موكلاً برعاية الزكاة
والصدقات والأوقاف، والإشراف على المناهج والتعليم في المدارس الإسلامية
الأهلية.
ج- طرد المذاهب والفرق المنشقة عن الإسلام: كالقاديانية، والإسماعيلية،
وعدم السماح لها بالتسجيل كفرقة أو جمعية مستقلة.
د- الاهتمام بإنشاء المساجد والجوامع، والمعاهد، وتشجيع المؤسسات
والهيئات الإسلامية بمزاولة نشاطاتها الخيرية والثقافية والإنمائية، وكذلك: فتح
أبواب المنح لالتحاق الطلاب بالجامعات الإسلامية في الخارج، لينهلوا منها العلوم
الشرعية الصحيحة، التي يحتاجها المسلمون في أوغندا، لاسيما وأن هذا الرئيس
سعى -بجهوده الخاصة- في تسجيل دولته ضمن الدول الإسلامية، رغم قلة النسبة
المئوية للمسلمين فيها، وربما كان يفكر في تطبيق شريعة الله مستقبلاً! وهذا ما
جعله يطرح في مؤتمرات الدول الإسلامية فكرة إنشاء جامعة إسلامية في أوغندا،
تزود الدولة بالبحوث والدراسات الأساسية في هذا المشروع الكبير. [2]
تحديات المرحلة الثانية:
أخذت التحديات في هذه المرحلة أيضاً شكلين بارزين:
التحديات الداخلية: لقد ظل أكثر المسلمين رغم تزايد عددهم في هذا العهد
جهالاً في أمور دينهم وعقيدتهم، حيث إن البدع التي خلفها العهد السابق كانت باقية
في عقبهم، فقد كانت البدع الدينية منتشرة، ومنها: الموالد النبوية التي تقام هنا
وهناك بإشراف المجلس الأعلى الإسلامي، وعلى نفقات الدولة نفسها، كما أن
علماء السحر والتنجيم ارتقوا المناصب العليا في المجلس الأعلى الإسلامي، وفي
التوعية الدينية العامة، سواء على مستوى الضباط في الجيش، أو الإداريين، أو
عامة الناس، فهؤلاء لم يستطيعوا أن يعطوا للثقافة الإسلامية صورتها الحقيقية،
كما يأملها كل مسلم، ويشهد لفضلها كل عدو منصف.
التحديات الخارجية: وأعني بها نشاط المسيحيين بالدرجة الأولى، سواء
المواطنين أو الأجانب الذين كانوا يدعمون التنصير والتبشير، وهذا التحدي كان قد
قوي في المرحلة الأولى، وتكاملت عدته في عهد الاحتلال البريطاني، الذي مكنه
من جميع وسائل الحياة، ليضمن له السيطرة على مقاليد البلاد والعباد، بل إن
الدستور الذي وضعه المستعمرون تنص مواده على أن يكون رئيس الوزراء،
ووزراء الخزانة والمالية، والعدل، من المسيحيين [3] .
وبالفعل فإن أصحاب هذه المناصب في تلك المرحلة، سرعان ما انقلبوا على
الحاكم، وضحوا بجاههم ومناصبهم لإسقاطه، وهو ما حدث بالفعل في سنة
(1399هـ 1979م) . وهكذا انتهت هذه الفترة بتحالف النصارى في الداخل
والخارج ضد (عيدي أمين) ، وأصبح المسلمون هدفَهم الأول، يفعلون بهم كل ما
بدى لهم، لأن رقابهم وبلادهم أصبحت تركة سهلة في أيديهم.
الثقافة الإسلامية في أوغندا في المرحلة الثالثة: (1979م 1996م) والتحديات المواجهة لها:
تعتبر هذه المرحلة سلسلة من الانقلابات الحكومية، التي لم يعد للمسلمين فيها
دورهم القيادي، وهي على كثرتها ترمي إلى إبعادهم عن مراكز النفوذ والريادة؛
فمنذ أن أطيح بالرئيس السابق (عيدي أمين) ، كان الهدف الأساس هو القضاء على
الإسلام، وإبادة أكبر عدد ممكن من أبنائه، فقد راح ضحية الحروب الأهلية أعداد
غفيرة من المسلمين في مدينة أميرارا، وفي العاصمة كمبالا، وغيرها من الأماكن، كما شردت أعداد أخرى منهم إلى السودان وزائير، ثم تداول عدد من الرؤساء
السلطة حتى استقر في النهاية لآخر رؤساء أوغندا بعد عدة انقلابات، وهو (يويري
موسوفيني) الذي جاء بانقلاب عسكري سنة 1986م.
أما الثقافة الإسلامية في هذه المرحلة، فإن تلك التغيرات السياسية التي مرت
بأوغندا، لم تستطع القضاء عليها، لأنها أصبحت تستعصي على الاضمحلال
والذوبان، ولكنها أثرت عليها، بأن قللت من حركتها ونشاطاتها، وأقصت عدداً
كبيراً من أعضائها عن مناصبهم، أمثال:
1- عباس موانا (مدير عام البنك الأهلي التجاري الأوغندي) .
2- عيسى خليفة لكواغو (نائب المدير العام للبنك الوطني الأوغندي) .
3- السيد/ جَمَادى لوزيندا (السكرتير الدائم لوزارة التربية والتعليم) .
4- رمضان وسيكي (السكرتير الدائم لوزارة التجارة) .
5- أحمد انسريكو (السكرتير العام لإدارة جامعة ماكريري) .
وغيرهم كثير مما لا يتسع المقام لذكرهم [4] .
وبما أن هذه المرحلة بمثابة إصلاح ما دمرته الحرب، وإعادة تنظيم من
شتتته من أبناء الأمة الإسلامية، وبناء هيكلهم الديني والثقافي والاجتماعي
والاقتصادي ونحوه، فثمة جهود مشتركة بين المسلمين المواطنين وغيرهم تبذل في
عملية البناء، ولا سيما أن هذه المرحلة تفيض بالكوادر العلمية والثقافية، التي
نهلت العلوم الإسلامية والعصرية في مختلف الجامعات، ورجعت لتبلغ رسالتها،
وتؤدي واجبها نحو دينها وشعوبها، وقد نظمت جهودها في صورة هيئات وجمعيات، يمكن تصنيفها كالآتي:
1- الجمعيات المحلية: وهي التي تكونت داخل أوغندا، وسجلت نفسها
رسميًّا بموافقة الحكومة، وبتوصية المجلس الأعلى الإسلامي الذي يعد مظلة وارفة
لسائر الجمعيات المحلية، ومن بين تلك الجمعيات ما يلي:
أ - جمعية الدعوة السلفية
ب- جمعية الثقافة الإسلامية.
ج- جمعية التوحيد الإسلامية.
د - ندوة الشباب الإسلامي الأوغندي.
هـ - جمعية اتحاد طلبة جامعة ماكريري. وجمعية النساء المسلمات في
أوغندا.
هذا، وللمسلمين في وعيهم الثقافي إلمامٌ بالإنجيل، إذ أسلم عدد كبير عن
طريق معرفة هذا الكتاب، ولذلك كونوا ثلاث جمعيات:
أ - جمعية الدعوة للشباب المسلم، ويرأسها عبد الله كييصوا.
ب- جمعية الدعوة لمسلمي أوغندا، ويرأسها هلال سعيد.
ج - جمعية اتحاد الشباب المسلم، ويرأسها إدريس كزغو.
إضافة إلى أن هناك جمعيات أخرى غير مسجلة، أو لم نتذكرها إبان إعداد
هذه المقالة.
2- الهيئات الخارجية: وهي التي أتت من خارج أوغندا، وفتحت مكاتبها
فيها، لتساهم في نشر الثقافة والمعرفة، وتدعم الدعاة، وترعى الأيتام، وتشيد
المساجد، وتبني المدارس والمستشفيات، وتحفر الآبار، وتساعد ذوي الحاجات
والمساكين، وغير ذلك من أعمالها الخيرية، نسأل الله أن يبارك في جهودها،
وهذه الهيئات هي:
أ - رابطة العالم الإسلامي.
ب- هيئة الإغاثة العالمية، وهي تابعة للأولى.
ج - لجنة مسلمي إفريقيا.
د - جمعية الدعوة الإسلامية العالمية.
هـ - الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية.
و المنتدى الإسلامي.
ز - منظمة الدعوة الإسلامية.
ح - لجنة إفريقيا.
ط - الجامعة الإسلامية في أوغندا، التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي [5] ...
وغير ذلك من الهيئات الخارجية التي لها مساهمة ونشاط خيري ملحوظ، وإن لم
يكن لها مكتب في أوغندا.
تحديات المرحلة الثالثة:
وهي أيضاً اتخذت نمطين:
1- الصراع على السلطة الدينية: وهذا الصراع ظهر في المرحلة الأولى،
واختفى في المرحلة الثانية، وعاد من جديد في المرحلة الثالثة، وذلك بتأثير
عاملين أساسين:
أ - تنازع المسلمين أنفسهم، واختلافهم فيمن يرونه أهلاً للزعامة الدينية،
أيقدمون لها من هو أكثرهم علماً، أم أشدهم ورعاً، أم أقدمهم سنًّا، أم أقواهم جاهاً
وشرفاً! ؟
وعلى أي حال، فإن للاختلاف القبلي دوراً في هذا الصراع، إذ كل قبيلة
تريد الوصول إليها، لتكون صاحبة الكلمة والنفوذ.
وساعد على ذلك: تدخل الحكومات المحلية في ذلك الصراع، لا بنية حسمه
وإنهائه، ولكن لتعميقه وترسيخه، حتى لا تكون للمسلمين قوة اتحادية، تقدر على
زعزعة الحكومة، أو تقوم بأي مواجهة ضدها، وهذا ما شهدته السنوات الخمس
الأولى من بداية هذه المرحلة، حيث كان هناك مجلسان إسلاميان معروفان لدى
الحكومة، أولهما برئاسة الشيخ / عبده عبيد كامليغيا، والآخر برئاسة الشيخ/ قاسم
مولومبا [6] ، وقد سعت رابطة العالم الإسلامي في عام 1986م لإنهاء الصراع بين
المجلسين، وإدماج بعضهما في بعض، ثم رجعت الكرة من جديد، حين سعت
الحكومة الحالية سنة 1990م لإيجاد مجلسين إسلاميين، أولهما برئاسة الشيخ/ سعد
إبراهيم لويمبا، والثاني برئاسة الشيخ/ حسين رجب كاكوزا، ولا زالا قائمين حتى
الآن، وقد انشق عنهما مجلس ثالث بتدبير من الحكومة نفسها، أوهمت به
المسلمين أنها تريد بذلك توحيد المجلسين، حتى يكون المسلمون تحت مجلس واحد، ولكن لم تلغ المجلسين السابقين حتى تتم لها الموافقة بين ما تقول وما تفعل، هذا
وقد انسحب المجلس الذي يرأسه الشيخ/ حسين رجب كاكوزا، وبقي الأول الذي
يرأسه الشيخ/ سعد إبراهيم لويمبا، والجديد الذي يرأسه الشيخ/ أحمد جمعة موكاسا، وبينهما خلاف شديد، لكسب الأتباع والمؤيدين.. والله المستعان.
ب- الجهل وقلة العلم: هذا على الرغم من انتشار المعاهد والمدارس
الإسلامية، وفتح جامعة إسلامية في أوغندا، إلا أن الجهل بالإسلام وثقافته لم يزل
متفشياً في كثير من أبناء المسلمين، ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها:
كون التعليم بالرسوم، سواء في المدارس الأهلية التي يملكها المسلمون، أو
الحكومية التي تملكها الدولة، وهذا الأمر وقف حاجزاً دون تعليم المسلمين من قبل،
لأن الذي يقدر على دفع الرسوم في هذا العام، قد يعجز عنه في العام القادم، لعدم
وجود المال عنده، وهذه الرسوم في تضاعف وازدياد مستمر، فمن كان هذا شأنه:
فسوف يكون خطراً على الثقافة الإسلامية، إذ يظل جاهلاً حتى بأبسط أمور دينه،
بل كيف يؤدي العبادات دون معرفتها وفهم روحها وحقيقتها، وتصور معناها
ومقصدها، وقد شاهدنا الكثير منهم لا يصوم رمضان كله أو بعضه، بحجة أنه لا
يجد طعاماً جيداً يفطر به، أو أن له أولاداً وذرية، إذا صاموا يغنيه صيامهم عن
نفسه.
انحصار التعليم في منطقة دون أخرى، صحيح أن المدارس الإسلامية اليوم
تربو على مئة مدرسة بما فيها المعاهد [7] ولكن بعضها محصور في منطقة دون
أخرى، أو في العاصمة وما جاورها، مع أن المسلمين الموجودين في المناطق
الأخرى أعدادهم هائلة، وهذا الأمر ينبغي أن تفطن له الجمعيات والهيئات العاملة
في أوغندا، التي عزمت أن تنشر الثقافة في البلاد، لأن هذه الأعداد لا يمكن أن
تنتقل كلها إلى المناطق التي يوجد فيها تلك المدارس، ونلفت النظر إلى أن البنات
المسلمات في أوغندا يفقدن التعليم الإسلامي، إذ لا يوجد لهن مدارس خاصة بهن،
وحتى اللاتي يجتمعن مع البنين في مدرسة واحدة، أقل بكثير ممن يبقين في بيوت
آبائهن، وتلك مشكلة تتطلب حلاّ سريعاً، ينقذهن من شر الأمية [8] التي بقين فيها
سنين عدداً.
البدع والخرافات التي أشرنا إليها في المرحلة الأولى، سواء التي وقعت في
الاعتقاد أو في العمل، وهي إن كانت اليوم محصورة في الشيوخ الكبار في السن،
ولكنها تتنافى مع الدين وثقافته، وما هؤلاء الشيوخ إلا جزءٌ من المسلمين، الذين
لهم تأثير ملحوظ في الأجيال القادمة، بحكم مكانتهم وتجاربهم في الحياة.
2- التحديات الخارجية: وهذه سأوجزها في تيارين:
أ - المذاهب الهدامة المنشقة عن الإسلام، ويمثلها مذهبان:
- المذهب القادياني: وقد رجع إلى الساحة الأوغندية، فور سقوط الرئيس
(عيدي أمين) سنة 1399هـ - 1979م أو التي تليها، وله توغل كبير في بعض
الشباب الذين تعلموا في الخارج -لا سيما في الغرب- وبعض حاملي الشهادات
الحكومية المحلية.
- المذهب الشيعي: وقد رجع هذا سنة 1403هـ - 1983م تقريباً، وقد
اكتسح محافظة بأكملها في منطقة (إيغانغا) ، ولا يزال في انتشار مستمر بحكم
إمكاناته المادية الهائلة، وقد أسس مركزاً كبيراً في قرية (كافولي) لم يسبق له مثيل
في أوغندا، لينفث فيه منهجه وآراءه المخالفه للإسلام وثقافته وحضارته، ومع
الأسف الشديد تجد الناس الجهال، يأتون إليه مذعنين، لحاجتهم إلى المال.
ب- التنصير المسيحي: لا يزال التنصير في أوغندا، وفي كل بلد إفريقي،
على رأس التحديات للإسلام وثقافته في الوقت الحاضر، ذلك أنه منذ عهد الاحتلال
مُكّنَ من وسائل العيش والحياة؛ للوقوف ضد الإسلام والمسلمين.
هذا وقد ذكرت هذه التحديات ليس من باب تثبيط همة المسلمين، أو بث
الرعب في قلوبهم، وإنما لإحاطتهم بطبيعة التحديات التي يواجهونها، وإطلاعهم
على حجم الداء، حتى يبحثوا عن الدواء المناسب، وما عليهم إلا أن يضاعفوا
الجهود في محاربة تلك التيارات ومواجهتها؛ لما في ذلك من قتل لأطماعهم،
وكفاية الناس من شرها، حيث إن غايتها صراع مع القيم الإنسانية، وهدم لكل
ثقافة نافعة، وحضارة راقية.
وهنا أقترح بعضاً من الأمور:
1- العناية بنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة، والمستقاة من الكتاب والسنة،
ومن سيرة الصحابة (رضوان الله عليهم) ؛ لأن هذه الأمة بأسرها، لا نصيب لها
في الحياة بدونها.
2- الاهتمام بالأسر المسلمة في تكوينها، والمحافظة عليها، كأساس وركيزة
للمجتمع الإسلامي المنشود، وذلك عن طريق العناية بالثقافة والتربية الصالحة،
والقدوة الحسنة في كل شؤون الحياة، داخل المنزل وخارجه.
3- تكوين كوادر مسلمة، كفريق عمل من المتخصصين في علوم التربية
والتعليم، لإيجاد منهج موحد للتعليم والتثقيف الإسلامي في أوغندا، ويتم ذلك
بالتعاون مع الجامعات الإسلامية والمؤسسات العلمية الأخرى ذات التجربة والخبرة
الطويلة في هذا المجال، وذلك للحفاظ على الهوية الإسلامية، وعصمتها من
هجمات التشويه والتشنيع.
4- التنسيق فيما بين الجمعيات والهيئات الإسلامية (المحلية والدولية)
لمواجهة الأخطار المشتركة، وسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها الأعداء
والحاقدون.
5- نشر الكتب، وتوزيع النشرات بلغات مختلفة سائدة بين أبناء الشعب
الأوغندي حتى يتمكنوا من فهم الإسلام فهماً صحيحاً جيداً، وإدراك مفاهيمه
وتعاليمه البناءة.
6- ضرورة تبني الدعاة والمعلمين، وتزويدهم بكافة وسائل النشر والتأليف
الممكنة، وتبسيط مفاهيم مؤلفاتهم، وجعلها في كتيبات ونشرات مسلسلة، بعناوين
مختصرة.
7- إيجاد دراسات ميدانية عن الحركات والتيارات المناوئة للإسلام، وتزويد
العاملين في الحقل الثقافي والتربوي والدعوي بها ليتمكنوا من صد هجماتها،
وإبطال كيدها ومكرها، وإفشال خططها وتدابيرها.
__________
(1) مظاهر الانحراف في توحيد العبادة، رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ص14 4.
(2) انظر: التقرير الخاص بإنشاء الجامعة الإسلامية في أوغندا، ص1، فقد نص التقرير على أن فكرة إنشاء هذه الجامعة تمخضت عن مؤتمر رؤساء وقادة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في لاهور - باكستان - سنة 1974م، وكان الرئيس عضواً فيه، وإن لم يذكر اسمه في التقرير لأنه أعد بعد خروجه من السلطة.
(3) انظر: مواطن الشعوب الإسلامية في إفريقيا، ص24.
(4) انظر: مجلة الأمة، العدد الثاني عشر، السنة الأولى، ذي الحجة 1401 هـ 1981م، ص78.
(5) أنشئت هذه الجامعة سنة 1408هـ - 1988م، وكان من بين أهدافها: أ - توفير فرص التعليم للأقليات المسلمة في إفريقيا ب - إعطاء اهتمام خاص للدراسات والبحوث، وتعليم اللغة العربية، ونشر الثقافة الإسلامية في البلدان الإفريقية ج - تمكين الدول من اقتناء العلوم والتقنية، واكتساب المعرفة والمهارة اللازمة لاستخدامها لصالح الدول والشعوب د - تدريب أيدي عاملة كافية، واقتناء الطرق والوسائل للتعليم العالي، والبحوث العلمية، والدراسات المتقدمة في شتى ميادين العلم والتعليم انظر: التقرير عن إنشاء الجامعة الإسلامية في أوغندا، ص2.
(6) انظر: مجلة الأمة، في عددها السابق، ص47 - 48.
(7) انظر: مجلة الدعوة، العدد 1304 في 12/2/1412هـ، ص25.
(8) انظر: الأقليات المسلمة في العالم ظروفها وآلامها وآمالها، ج2 ص984.(100/108)
في دائرة الضوء
محاور علمنة الإسلام..
نظرات في الأساليب الجديدة لغزو الإسلام
بقلم: د. محمد يحيى
من الأساليب التي اتبعت في الفترة الأخيرة لمحاربة الإسلام من الناحية
الفكرية، ما يمكن أن يسمى بعلمنة الإسلام، أي: تجريده من الطابع (المقدس) -
كما يطلق عليه العلمانيون- ونزع أي روابط تصله بالوحي الإلهي المنزل ثابت
الصياغة والتحقق، وقد راجت في السنوات الأخيرة في بعض الدوائر الفكرية
العلمانية مقولة تزعم أن (الإسلام دين علماني بالطبع) ، وتبرر هذه المقولة أمام
الجمهور المسلم بأنها تعني: أن الإسلام دين يتناول شؤون الحياة ويغطيها، ولا
ينعزل عنها، وهو تصور ينسجم مع المفهوم العام حول الإسلام، ولكن تختلف
الصورة عندما يبدأ الكتاب العلمانيون في شرح وتوضيح أبعاد هذه المقولة؛ وهنا
تتجلى ظاهرة علمنة الإسلام في إحدى أهم صورها، فالمعنى المتضمن في مقولة:
(إن الإسلام دين علماني) هو: أن الإسلام غير محدد الملامح والقسمات، وأنه قابل
للتغير والتشكل وفق الظروف والأحوال الجغرافية والتاريخية، وأنه في الواقع
يترك مساحات واسعة من الشؤون الحياتية مفتوحة لكل اجتهاد ورأي أيًّا كان طالما
أنه يحقق (المصلحة) ، وهي بدورها فكرة مبهمة، وإن تحددت أبعادها في الفكر
العلماني بشكل مادي واضح، يقصرها على النواحي الاقتصادية أو القيمية المشابهة
لقيم الغرب، وهكذا فإن المقولة التي تبدو في ظاهرها وكأنها تتوافق مع الأصل
الإسلامي الذي يربط بين الدين والدنيا، فإنها في الواقع ترمي لتأسيس فصل الدين
عن الحياة من خلال تمييع الإسلام نفسه، وتقليص مساحته، ورده إلى مجرد كيان
هلامي شفاف أقرب إلى العدم، يتشكل مع كل ظرف وحال حتى لا يكاد يكون له
وجود مستقل أو مميز أو هوية، وهذه المقولة تصل إلى علمنة الإسلام، أي:
تجريده من القداسة والصلة بالوحي الإلهي من خلال هذا الرد والانكماش والميوعة
التي تفرض عليه.
والحق أن أصحاب مقولة: (إن الإسلام دين علماني) يكشفون مراميهم مهما
حاولوا خداع القارئ بأنهم: إنما يطورون المبدأ القائل: بأن الإسلام دين ودولة، أو
دين وحياة، وأول ما يكشفهم هو ذلك الاستخدام الشاذ الذي يلحّون عليه لكلمة
(علماني) ، إن هذا المصطلح أصبح يحمل الآن دلالات ومعاني مستقرة تفيد: فصل
الدين عن شؤون الحياة، أو تشير إلى شؤون الحياة وقد فصلت وعزلت عن أي
تأثير ديني؛ لذا: فإن الإصرار على استخدام هذه الكلمة في هذا السياق بالذات
لِتَعْني: مجرد الحياة، يحمل تناقضاً صارخاً؛ لأن المقولة تجمع في طرفيها بين
الدين (الإسلام) وضد الدين (أي: العلمانية) ، ولا بد في هذه الحالة أن يلغي أحدهما
الآخر. ويتساءل المرء: لماذا لم يُستَخْدم لفظ (الحياة) -بمثلاً- بدل (العلماني) لو
كانت النوايا حسنة؟ ! فكيف يكون الإسلام دين علماني إذا كانت العلمانية تعني
فصل الدين عن الحياة أو تسيير شؤونها، ولا تعني مجرد (الحياة) كما قد توحي
المقولة في ظاهرها؟ وكيف يمكن أن يوصف الإسلام بأنه دين علماني دون أن
يعني ذلك بالضرورة القول: إن الإسلام دين يلغي نفسه بنفسه؟ ، ولا داعي
للاستمرار في توضيح التناقضات الكامنة في هذه المقولة؛ لأنها في النهاية مجرد
شعار براق يلفت النظر بالجمع بين الإسلام والعلمانية، بحجة أنه يلغي التناقض
المعروف بينهما، لكنه في الحقيقة والفعل وبعد توضيح مضامينه يؤكد على هذا
التناقض ويثبته؛ حيث يجعل علمانية الإسلام المزعومة تتلخص في أن الإسلام
ليس له قوام أو كيان أو هوية مميزة تفرض على الحياة وتسيرها، بل هو خاضع
للتشكل إلى حد أن يلغي ويعزل وجوده، وهذه هي العلمانية في جوهرها. إن مقولة
الإسلام بوصفه ديناً علمانيًّا لا تفيد تكريم الإسلام وتوكيده كما قد يُظن، بل على
العكس: تلغيه لصالح تأكيد العلمانية.
وهذه المقولة تفيد مع ذلك في تحديد ملامح عملية علمنة الإسلام التي أشرنا
إليها؛ فجوهر هذه العملية الفكرية المعقدة هو إفراغ منتظم لكل المبادئ والقيم
والمفاهيم الإسلامية من مضامينها الثابتة والمستقرة (بحجة محاربة الجمود ... و (الثبوتية) كما يطلقون عليها) ، ثم إعادة ملئها بمضامين علمانية متغربة تناقض
معناها، أو تركها خاوية مائعة لتتخذ بعد ذلك شتى المضامين.
هذا هو جوهر هذه العملية التي اتخذت من مقولة (الإسلام دين علماني) أحد
شعاراتها، ونجد مظاهر هذه العملية المتنوعة في تحركات وطروحات فكرية مختلفة
يُروّج لها على الساحة؛ فمفهوم الاجتهاد مثلاً تحول عن معناه الإسلامي ليصبح في
الكتابات العلمانية أداة لتطويع أحكام الإسلام الشرعية لتتناسب وتتوافق مع
التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الغربية العلمانية الطابع.
وهكذا سمعنا الفتاوى تترى من هنا وهناك؛ لتقدم (اجتهادات) وصفت
بالإسلامية، تحلل زواج المسلمة بالمسيحي واليهودي، وتحرم تعدد الزوجات
والطلاق، وتبارك مصادرة أراضي وأملاك الأوقاف الإسلامية.. وغير ذلك، أما
مفهوم صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، فقد تحول إلى القول بميوعة
وهلامية الأحكام الإسلامية ومحدوديتها إلى حد أنها قابلة للتواؤم مع كل وضع
وظرف؛ فالإسلام صالح لكل مكان وزمان وبيئة، ليس كما يفهم المسلمون (لأن
أحكامه تناسب الفطرة البشرية، ولا تقيدها بقيود تخالف طبيعتها) ، بل لأن هذه
الأحكام كمادة الأثير الأسطورية التي كانت حسب التصور توجد في كل مكان ولا
توجد في مكان؛ فإنها شفافة لا يتبين وجودها.
وقائمة المفاهيم والمبادئ الإسلامية التي خضعت لعملية العلمنة طويلة، ويكفي
أن نذكر مثلاً: أن مقولة (تغير الفتوى بتغير الظروف) التي تعني ببساطة أن
المتصدي للإفتاء ينبغي أن يحسن تبين جوانب المسألة المعروضة عليه مع ثبات
الحكم الذي يتنزل عليها، بحيث تتغير هذه الفتوى (وليس الحكم الشرعي) إذا تغير
أحد أو بعض جوانب الظروف والملابسات المحيطة بالمسألة مما ينقلها من الوقوع
تحت حكم معين إلى الوقوع تحت حكم آخر، تحولت هذه المقولة الفقهية المعروفة
عند الكتاب العلمانيين لتعني تغير الأحكام الشرعية نفسها وتبدلها وتحورها مع تبدل
الأزمنة والأوضاع، بحيث تصبح الشريعة تابعاً وليس قائداً لمجريات الأحداث
والزمن، ومن هذا المدخل جرى تبرير مبدأ (التاريخية) و (النسبية) الذي يطبقه نفر
من الكتاب العلمانيين الآن على قضايا الشريعة، بل والعقيدة الإسلامية ذاتها؛ فهم
يذهبون إلى أن الأحكام الشرعية والقضايا العقدية ليست سوى أوضاع بشرية المنشأ، يجب أن تتغير بعد زوال الأحوال والظروف التاريخية التي وضعت فيها، وأنها
لا تنطبق إلا على هذه الأوضاع الأصلية، ولا تصلح إلا لها، بحيث لا يمكن
إجراؤها في الظروف القائمة، وهي جد مختلفة وبعيدة عن الأصل الغابر! كل
هذه الأفكار يخرجون بها ويبررونها ويتأولونها من مقولة: (تغير الفتوى بتغير
الظرف) بعد أن يجروا عليها عملية العلمنة.
وإذا كانت هذه المظاهر من العلمنة دقيقة ومتسمة بالطابع الفكري العميق أو
الذي يبدو كذلك: فإن هناك مظاهر أخرى أكثر وضوحاً، ومنها: تذويب معالم
الإسلام في قسمات الأديان والتآلف بين الأيديولوجيات والأفكار المختلفة.. إن هذه
الدعاوى تتردد الآن من منابر دولية متعددة سواء أكانت هيئات ووكالات الأمم
المتحدة، أو المنظمات الكنسية العالمية، أو وسائل الإعلام عابرة القارات، وظاهر
هذه الدعوات هو نشر السلام والمحبة والوئام، ونزع أسباب الحروب والصراعات، ومحاربة دعاوى التعصب والتطرف.. لكن جوهرها الحقيقي هو التمييع والإذابة
والتداخل إلى حد الإلغاء، وعملية التذويب هذه المروّج لها تحت اسم (التعددية) لن
تطال الثقافات القوية (ونقصد بالقوية تلك التي تسندها دول قوية الجيوش ومدعمة
بالمال) ، بل ستطال وتؤثر على الثقافات الضعيفة التي لا تساندها دول قوية ولا
اقتصاد قوي؛ لذا: فإن دعوى (التعددية) تخفي وراء مظهر التسامح والرحابة
الفكرية البراق دعوةً عنصرية لفرض ثقافات وقيم وتوجهات الغرب على الثقافات
الأخرى، وبالذات على الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة وثقافة.
وبجانب ذلك: فإن دعوة (التعددية) تسوي بين جميع الأطراف الداخلة فيها،
فلا يصبح هناك حق وباطل، أو جيد ورديء، أو أعلى وأدنى، بل الكل سواء
طالما أنه دخل في سياق (التعددية) ، فلا يوجد فرق بين بوذي، وهندوسي،
وشنتوي، وبهائي، وقادياني، ويهودي، ومسيحي، وزرادشتي ... ومسلم؛ لأن
الجميع أديان وعقائد داخلة في (التعددية) ، فليس لأحد منها فضل على الآخر أو
الحق في القول: بأنه دين الحق.
والمحصلة النهائية مرة أخرى هي علمنة الإسلام، أي: نزع القداسة والمنزلة
الإلهية عنه، وتحويله إلى نِحلة بشرية الوضع تضاف إلى النّحَل البشرية الوضع
أو (العلمانية) !
إن الأسلوب القديم الذي اتبعته التيارات العلمانية المتغربة في مواجهة الإسلام
لم يعد يجدي في ظل الصحوة الإسلامية التي عرفتها السنوات والعقود الأخيرة، لذا: تحتم تغيير زاوية الاقتراب إلى الهجوم، فبدلاً من تنحية الإسلام وإبعاده قسراً عن
كل شؤون الحياة من سياسية واجتماعية واقتصادية (وهو مع ذلك مدخل ما يزال
متبعاً في بلدان عديدة) بدأ التوجه إلى غزو الإسلام من داخله والإبقاء على الهيكل
الخارجي العام مع تفريغه وتخريبه من الداخل، ثم إعادة الملء حيثما أمكن بالقيم
العلمانية بعد عملية واسعة من إعادة التفسير والتأويل -كما تسمى-، ولقد عُرفت
هذه العملية في بداياتها بأسماء عدة: كالتحديث، والعصرية (الغربية) ... وما أشبه
ذلك من المصطلحات الخداعة. وفي الفترة الأخيرة جاء شعار: (الإسلام دين
علماني) ، وتبعته مقولات إعادة قراءة التراث وإعادة تأويله وتفسيره، ثم دعاوى
تاريخية الإسلام، و (نسبية الشريعة) ، وعلى الرغم من الاختلاف بين هذه
المسميات والمصطلحات (وهو اختلاف قد يكون كبيراً وذا مغزى في بعض
الأحيان) ، إلا أنها تشترك في أنها أدوات متعددة لخدمة العملية الأكبر، وهي:
عملية علمنة الإسلام.
والواقع أن فرض العلمنة على العقائد والأديان هي عملية عرفتها المسيحية في
الغرب بدءاً من القرن الثامن عشر الميلادي، كما عرفتها اليهودية فيما يُزعم من
القرن التاسع عشر الميلادي، ولكن هناك فارقاً واضحاً بين هذه الأديان والإسلام؛
فليس في المسيحية بوضعها المعروف شريعة تذكر، وقد تشكلت عقائدها الكبرى
من التثليث والحلول والصلب على مدى تاريخي طويل؛ بما سمح بإعادة تفسيرها
أو تحويرها في العديد من المذاهب النصرانية المعاصرة؛ لأنها على أي حال كانت
وضعاً بشريًّا بحتاً كما يقر الجميع، مما لا تضار معه من فرض المداخل التأويلية
والتاريخية العلمانية عليها، أما بالنسبة لليهودية: فإن العلمنة التي فرضت على
شريعتها جرت في الواقع لمصلحة الدعوة الصهيونية القومية المتعصبة الجامحة،
بحيث كان التخفف من بعض قيود الشريعة عندهم بالعلمنة حافزاً قويًّا لبعض
الاتجاهات اليهودية في الغرب أن تنضم لحركة اليهودية الصهيونية العالمية وتقويها، ومن هنا: كانت العلمنة مصدر قوة، وليست مصدر ضعف، لا سيما وأن العلمنة
التي فرضت على الشريعة اليهودية لم تفرض إلا على أقسام محددة منها، كما أنها
لم تفرض على جميع اليهود، بل على قطاعات معينة ومحددة كذلك في أوروبا،
وبالمثل: لم تضر العلمنة المسيحية؛ لأنها لم يكن لديها أصلاً شيء تخسره للعلمانية.
كذلك الحال يختلف بالنسبة للإسلام؛ لأن العلمنة تُفرض عليه بالكامل، وعلى
نطاق واسع يشمل الشريعة والعقيدة والقيم، كما أنها تفرض على نطاق الأمة
بأسرها وعلى كل قطاعات المجتمع المسلم، وفوق ذلك: فإن هناك فارقاً جوهريًّا
خطيراً، فالعلمنة عندما زُوجت بالمسيحية واليهودية كان مقصوداً منها أن تقوي هذه
الأديان وتجعلها تصمد في وجه التطورات الفكرية والاجتماعية الحديثة في أوروبا
منذ القرن الثامن عشر الميلادي، لا سيما وأن هذين الدينين يتقبلان تماماً دخول
العلمانية عليهما بالكيفية التي أشرنا إليها، أما في حالة الإسلام: فإن إدخال العلمنة
وعلى عكس الشعارات المرفوعة كان يهدف وبوضوح وسفور إلى ضرب الإسلام،
وتذويب هويته، وتمييع قوامه، وزعزعة عقيدته وشريعته، بل وإلى إفراغه من
محتواه، وتحويل الهيكل الهش الباقي إلى نصير وحليف ومبرر للعلمانية، بعد أن
تملأ قسماته مبادئها وروحها.
إن عملية علمنة الإسلام من العمليات التي تستحق أن تدرس بشكل واسع
ومفصل في إطار ملامحها التي رسمناها بشكل عام في هذا المقال.(100/118)
الورقة الأخيرة
الصراحة مع النفس
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
اعتاد بعض الناس على التغاضي عن أخطائهم، والحرص الشديد على
تسويغها، والْتماس المعاذير لدفنها والسكوت عنها.. بل قد يتجرأ بعضهم في الدفاع
عنها وتحويلها إلى مكاسب وحسنات، كما اعتاد بعضهم النظر إلى الناقد -أيًّا كان
هدفه أو أسلوبه- بعين الريبة والشك، ومن ثم: التهميش والإهمال..!
ربما يكون سبب ذلك: ضعف في التربية والتكوين النفسي للفرد؛ مما يجعله
يخاف من الاعتراف بالخطأ، وربما يظن أن اعترافه بالخطأ يسقط من قدره
ومكانته، وربما يكون سبب ذلك: التعصب والتحزب الذي يقود إلى الهوى الذي
يعمي ويصم، وربما تكون هناك أسباب أخرى، تختلف باختلاف الناس، والأحوال ... !
وتزداد هذه الظاهرة بروزاً عندما يكون الخطأ منسوباً لأحد الأشياخ المتبوعين أو لإحدى التجمعات الدعوية؛ فيظن بعض الأتباع أن نقد الشيخ أو التجمع قدح
وذم في إمامهم أو تجمعهم، ولهذا يكون الدفاع عنه أكثر تشنجاً وتعسفاً، وإلى هذا
يشير (المعلمي) بقوله: (من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل: ومن أمضى
أسلحته: أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل
ومعاداتهم) . [1]
هكذا اعتاد بعض الناس، ولكن القرآن الكريم يربينا على منهج آخر، إنه
منهج المراجعة والمحاسبة وتدارس الأعمال بكل صدق وتجرد، ومن ثم:
المصارحة والمكاشفة التي تتلمس مواضع النقص والعيب، لا لتضخيمها وازدراء
النفس من أجلها، ولكن من أجل تدارك الحال وتقويمه.
انظر إلى الصحابة (رضي الله عنهم) في غزوة أحد بعد أن أصابهم ما أصابهم
من اللأواء، والعنت والمشقة، يتنزل عليهم قول الله (تعالى) واضحاً جليّاً: ... ... [إنَّ الَذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] [آل عمران: 155] ، ثم قال الله (تعالى) لهم: ... [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] [آل عمران: 165] . وفي غزوة حنين يعاتب الله (تعالى) المؤمنين بقوله: ... [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] [التوبة: 25] .
بل إن الله (تعالى) يعاتب نبيه محمداً وهو سيد ولد آدم في غير آية، قال الله
(تعالى) : [عَبَسَ وَتَولَّى (1) أَن جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ
يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى] [عبس:
1-10] ، وقال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ
أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [التحريم: 1] ، وقال (تعالى) : [عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ
أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينََ] [التوبة: 43] .
غاية في الوضوح والصراحة التي تبني الثقة في نفس الإنسان، وتجعله
يستثمر هفواته وأخطاءه في تقويم النفس وتزكيتها، وإعادة بنائها، وأما المجاملة
والمداورة والمهادنة، فكما أنها ترسخ من الخطأ وتنميه وتسقي جذوره حتى يظهر
أثره في الأجيال اللاحقة، فهي أيضاً تنفخ في الذات الإنسانية حتى تظن أنها قد
بلغت الكمال أو قاربت..! !
والمصارحة في بيان الأخطاء تعني: التناصح وتسديد المعايب بمحبة ورحمة
وإشفاق، ولا تعني: التفاضح، والتراشق بالتهم للتشفي والانتقام، وتتبع الهفوات
للتقليل من أقدار الناس وإسقاطهم. وبين الحالين خيط رفيع لا يحسنه إلا من هداه
الله (تعالى) إلى نور الحكمة وزكاة النفس.
والإنصاف من الأخلاق النبيلة العزيزة..!
__________
(1) التنكيل، ج 1 ص6.(100/127)
المحرم - 1417هـ
يونيو - 1996م
(السنة: 11)(101/)
كلمة صغيرة
العدو الصهيوني
كما عرفناه - من منطلقات ديننا الحنيف - شعب ملعون وغادر وناكث
بالعهود ومتوحش في عدوانه، فهم قتلة الأنبياء ولما لديهم من وزن اقتصادي
وإعلامي، فإنهم يستغلون الأحداث لصالحهم ولكن لا يصنعونها: لقد اغتصبوا
الأرض المقدسة في فلسطين بتواطؤ دولي معروف، وساموا الشعب الفلسطيني
المسلم سوء العذاب بمذابح ومآسٍ. والآن يمر الصراع معهم بمرحلة (الصلح
الذليل) ، وقد ظهر إلى أي مدى كانت العلاقة الوثيقة بين بعض العرب ويهود من
وراء الكواليس، وأن العداء المزعوم إنما كان ضحكاً على الذقون ... لقد تداعى
القوم لولوج سلام الشرق الأوسط الذي سموه بغير اسمه (سلام الشجعان) والحقيقة
أنه العار والشنار والتنازل عن المقدسات، بل وصل الأمر للسقوط في أحبال يهود.
وفي هذا الخضم يعربد الصهاينة بحصار ما يسمى بسلطة الحكم الذاتي، وبذل
الشعب الفلسطيني، ويأتي العدوان الأخير على لبنان الذي هو تكرار لما حدث عام
82، وتسقط الضحايا، وتدمر البنية التحتية، وتضرب العاصمة بيروت،
والعرب لا يملكون أن يقدموا سوى الشجب والتنديد، ويرفض مجلس الأمن حتى
مجرد إدانة للعدو؛ لمكانة العرب المعروفة! ! !
أيها العرب هل تبقّى لكم بعد هذا الذل مكان؟ هل تستطيعون حتى مجرد
التلويح بإلقاء هذا السلام، هل تجرؤون على جمع كلمتكم. إن منطلقاتكم ليست
واحدة والطريق الذي يرهبه العدو عطلتموه وحاربتموه معاً، إن عدونا الصهيوني
لايرهبه سوى أتباع الذي أخبر: (يا عبد الله يا مسلم هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله)
-صلى الله عليه وسلم-.(101/1)
افتتاحية العدد
نحو ترشيد للصحوة الإسلامية.. بالحوار حولها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد.
مرت الدعوة الإسلامية المعاصرة في عقودها الأخيرة بتجارب مختلفة - وهي
كجهد بشري - لها سلبياتها وإيجابياتها؛ نتيجة مدى قربها أو بعدها من مشكاة النبوة؛ مما جعل الغيورين على هذه الدعوة يطالبون بضرورة المراجعة والحوار لحل
الإشكاليات التي أدت إلى سلبيات لا تخفى على الجميع، فما الهدف - إذن - من
نقد الصحوة الإسلامية..؟ !
هل هو: النقد من أجل النقد، وملء صفحات المجلة بلون من ألون الترف
المعرفي؟ !
هل هو سبيل لتزكية الذات وإلقاء التبعة على الآخرين؟ !
أم هو وقفة تقويميه تلائم المفترق الذي تمر به الصحوة الإسلامية؟ !
كانت تلك الأسئلة تراودنا كثيراً عند إعدادنا لملف (متابعات حول نقد الصحوة
الإسلامية) المنشور في العدد السابق، وكنا نقدّم رجلاً ونؤخر ثانية، ولكننا أخيراً
... رأينا أن نستعين بالله (تعالى) وننشر ما وَصَلنا من مشاركات الكُتّاب، ونرجو
أن يكون القراء قد وجدوا فيها ما يستحق العناية والتقدير ... وثمّة ملحوظات مهمّة
أردنا أن نؤكد عليها في فاتحة هذا العدد:
أولاً: الذين يخافون من النقد لهم بعض الحق في ذلك؛ فالصحوة الإسلامية
المعاصرة أصبحت مادة عذبة وفاكهة شهية للأقلام الحاقدة الحاسدة، التي صوبت
سهامها لمحاربة كل أو بعض أبواب التدين، وسعت بكل إمكاناتها وقدراتها لتجفيف
منابعه وسدّ أبوابه، وأجلبت بخيلها ورجلها لحرب علمائه ودعاته ... ! !
وكذلك فبعض الناقدين يتحدثون بصورة الاستعلاء والفوقية وتحقير الخصوم،
وينظرون إلى الناس نظرة ازدراء واستهانة؛ فترى شغلهم الشاغل وهمهم الغالب
هو: افتعال الخلاف، وتصيد العثرات وتضخيمها بصورة تطغي على رؤيتهم؛
فتحجب عليهم منافذ الرؤية والرأي..! !
ولكننا في الوقت ذاته لا نرى أنّ الأقلام الشانئة الحاقدة، أو الجاهلة المتنطعة، تحجبنا عن البحث عن الحقيقة، أو سلوك السبيل القويم.
ونحسب أنّ النقد العلمي البناء من المحب المشفق، الصادق، نعمة عظيمة ثمرتها: معرفة النقص أو القصور لعلاجها وتداركها، وبالتالي: الترقي في درجات النضج والكمال.
إنّ التناصح باب عظيم من أبواب التعاون على البر والتقوى، حثّ عليه
الشرع، وتواترت به النصوص، ولأن يأتي هذا التناصح من داخل البيت الواحد
بصوت مشفق حنون مخلص، خير من أن يأتي من خارجه وقد علته الغبرة،
ودفعه الهوى أو البغض والعياذ بالله (تعالى) .
وعندما فتحنا ذلك الملف، كنا نستحضر المكتسبات العظيمة، والمنجزات
الكبيرة التي قدمتها الصحوة الإسلامية عبر تاريخها المعاصر في شتى المجالات
(الدعوية والعلمية والاجتماعية والسياسية.. ونحوها) . والنقد الذي نطمح إليه هو
وسيلة من وسائل حفظ تلك المكتسبات، بل تنميتها وتطويرها وتسديدها لتحقيق
أكبر قدر ممكن من النجاح إن شاء الله (تعالى) .
ثانياً: أنّ الصحوة الإسلامية المعاصرة بتاريخها الطويل، ومكتسباتها العديدة، وامتدادها الرحب الواسع الذي ملأ الآفاق، لا يتيسر نقدها نقداً شاملاً وعميقاً
بمقالة عابرة أو بسلسلة مقالات مهما بلغت جودتها، ولا يتيسر تقويمها تقويماً
متكاملاً من شخص واحد أو عدة أشخاص اختزلت تجربتهم الدعوية والفكرية في
نطاق محدود، وإنما يحتاج تقويم الصحوة إلى جهود كثيرة تتضافر، ومراكز بحثية
متخصصة تنتج أفكاراً تتلاقح؛ لينضج بعضها بعضاً، ولكن حَسْبُنا في ذلك الملف: أننا أسهمنا في تجديد هواءٍ ساكن، وتحريك ماءٍ راكد، ولعل هذا يستحث أهل
العلم والكفاءة للمساهمة معنا بتعليقاتهم واجتهاداتهم.
ثالثاً: احتوى ملف (متابعات حول نقد الصحوة الإسلامية) على مسائل عديدة، وناقشها من زوايا وأبعاد مختلفة، ممّا يعطيه صبغة الشمول النسبي.
ولكن افتقد الملف محاور مهمة جداّ، كنا نتمني أن تتم معالجتها وتدارسها،
ولم يتيسر ذلك.
ومن أبرز هذه المحاور:
المحور الأول: التقويم الشرعي والفكري لمسيرة الصحوة الإسلامية:
لا يخفى على كلّ متابع أن هناك مدارس مختلفة في فهم النص الشرعي
ومنهج تلقيه والتعامل معه؛ ممّا جعل هناك تبايناً واضحاً في طرائق الاستدلال
والمعرفة، وأساليب التفكير والتربية، وبالتالي: أدى ذلك إلى الاختلاف في
توصيف الواقع وتحديد مشكلاته وخصائصه؛ ولهذا نرى أطروحات مختلفة في
مناهج التغيير والدعوة والفكر والبناء، تصل إلى حدّ الغلو والإفراط أحياناً، وتنزل
إلى حدّ الإرجاء والتمييع أحياناً أخرى، وبين هذين البعدين مدارس أخرى كثيرة
تقرب وتبعد من المنهج الحق.
ونحسب أنّ التقويم المعرفي والفكري، ونقد الخطاب الدعوي، وما يتبع ذلك
من دراسة مناهج التغيير: جانب في غاية الضرورة والأهمية؛ لأنه السبيل لمعرفة
منهاج الفرقة الناجية السالمة من الشبهات والشهوات التي وصف الله (تعالى) طريقها
بقوله: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ
وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108]
المحور الثاني: التصدع الداخلي في بعض صفوف أهل الصحوة الإسلامية:
على الرغم من الخير الكثير الذي قدمته الصحوة، وعلى الرغم من الانتشار
الواسع الذي انتظم شريحة كبيرة من أبناء المسلمين، إلا أنه ممّا تضيق به صدور
المخلصين من العلماء والدعاة والمصلحين: وجود ذلك التنازع والتقاطع بين أبناء
البيت الواحد، بل التهارش والتدابر، بل البغي والظلم (! !) الذي أنهك الطاقات
وأعجزها، حتى أصبحت الحزبية بمعالمها المختلفة شرخاً غائراً يسيطر على بعض
الصفوف، ويعوقها عن العمل الجاد والمثمر، وأصبح والعياذ بالله معيار الولاء
والمحبة عند بعضهم مقدار قربهم أو بعدهم من الحزب..! !
لقد استعرت نيران الحزبية عند بعضهم بصورة محزنة جداّ، حتى استطاع
الأعداء أن ينفذوا من خلالها لتفريق الصفوف وضرب بعضها ببعض، وصدق
الحق (تعالى) بقوله: [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] .
المحور الثالث: الضعف الإداري والفني:
الضعف الإداري والفني سمة مميزة لمعظم أبناء ومؤسسات المنطقة الإسلامية بسبب الظروف السياسية والاجتماعية التي مرت بها الأمة، وأبناء الصحوة
الإسلامية جزء لايتجزأ من هذا النسيج الواسع، حيث أصابها ما أصابهم من عدوى
الضعف وأحياناً التخلف الإداري والفني، وظهرت علامات ذلك عند بعضهم ضعف
الخطط والبرامج الآنية والمرحلية والدراسات المستقبلية، وقصور في تحديد
الأولويات، وعجز ظاهر في توظيف الطاقات والإمكانات المتوفرة، وتخبط في
ردود الأفعال، وأصبح بعض أبناء الصحوة الإسلامية يجترون تجارب سابقة،
ويستنسخونها بآلية ساذجة، وبدون وعي بالمتغيرات الإقليمية والدولية! !
تلك إذن: محاور جديدة مقترحة لمزيد من الحوار وتبادل الرأى، نتمني أن
يتحفنا بدراستها وعلاجها أولو الرأي والحكمة والخبرة، وأبواب المجلة مشرعة إن
شاء الله (تعالى) لكل رأى جاد مخلص.
ونؤكد ختاماً أنّ الهدف من هذا الحوار كله هو: التناصح والتواصي بالحق بعيداً عن الهمز أو اللمز أو التعالي والتشفي، يحدونا في ذلك قول الله (تعالى) : ... [وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] [هود: 85] وقول النبي-صلى الله عليه وسلم-:
(ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) .
اللهم أرنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.(101/4)
دراسات شرعية
تعظيم الله (تعالى) وشعائره
بقلم: عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فإن تعظيم الله (تعالى) وتعظيم ما يستلزم ذلك من شعائر الله (تعالى) وحدوده
من أجلّ العبادات القلبية وأهم أعمال القلوب، التي يتعين تحقيقها والقيام بها،
وتربية الناس عليها، وبالذات في هذا الزمان الذي ظهر فيه ما يخالف تعظيم الله
(تعالى) : من الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله (تعالى) ، والتسفيه والازدراء لدين
الله (تعالى) وأهله.
إنّ الإيمان بالله (تعالى) مبني على التعظيم والإجلال له (عزّ وجل) [1] ، قال
الله (تعالى) : [تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ] [مريم: 90] .
قال الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية: (يتشققن من عظمة الله (عز
وجل [] 2 [.
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية أهمية تعظيم الله (سبحانه) وإجلاله فيقول:
(فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله (سبحانه وتعالى) ، والرسالة لعبده ورسوله،
ثم لم يُتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب يظهر
أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل،
كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه
من المنفعة والصلاح) .] 3 [
ومما قاله ابن القيّم عن منزلة التعظيم: (هذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر
المعرفة يكون تعظيم الربّ (تعالى) في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمّاً
وإجلالاً، وقد ذم الله (تعالى) من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته،
ولا وصفه حق صفته، قال (تعالى) :] مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [] نوح: 13 [، قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا
تعظمون الله حق عظمته، وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت..) ] 4 [.
وتعظيم الله وإجلاله لا يتحقق إلا بإثبات الصفات لله (تعالى) ، كما يليق به
(سبحانه) ، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون
بعض صفاته (تعالى) ، ما قدروا الله (عز وجل) حق قدره، وما عرفوه حق معرفته] 5 [، ولما كان من أسماء الله (تعالى) الحسنى: (المجيد) و (الكبير) ... ... و (العظيم) فإن (معنى هذه الأسماء: أن الله (عز وجل) هو الموصوف بصفات المجد والكبرياء والعظمة والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجلّ وأعلى، وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه) ] 6 [.
ويقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي في هذا المقام: (إن الإنسان إذا سمع
وصفاً وصف به خالق السموات والأرض نفسه، أو وصفه به رسوله، فليملأ
صدره من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال
والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين،
فيكون القلب منزهاً معظماً له (جلّ وعلا) ، غير متنجّس بأقذار التشبيه ... ) ] 7 [.
ومما يوجب تعظيم الله (تعالى) وإجلاله: أن نتعّرف على نعم الله (تعالى) ،
ونتذكرّ آلاء الله (عزّ وجلّ) ، ومما قاله أبو الوفاء ابن عقيل في ذلك: (لقد عظم الله
(سبحانه) الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه وخوف
الضرر على نفسه، فقال:] إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ [] النحل: 106 [: من قدّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامى عن نفسك بذكره، بما لا ينبغي له (سبحانه) ، لحقيق أن تعظم شعائره، وتوقر أوامره وزواجره،
وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط
شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأباحك الميتة سدّاً لرمقك، وحفظاً لصحتك، وزجرك
عن مضارك بحد عاجل، ووعيد آجل، وخَرقَ العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك، أيحسن بك مع هذا الإكرام أن تُرى على ما نهاك منهمكاً، وعما أمرك متنكبّاً،
وعن داعيه معرضاً، ولسنته هاجراً، ولداعي عدوك فيه مطيعاً؟ .
يعظمك وهُوَ هُوَ، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حطّ رتب عباده لأجلك،
وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.
ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكة
السماء سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد
ساجداً لصورة في حجر، أو لشمس أو لقمر، أو لشجرة من الشجر، ما أوحش
زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والحور بعد الكور) .] 8 [
ولقد كان نبينا محمد يربي أمته على وجوب تعظيم الله (تعالى) ، ففي حديث
ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- فقال: يا محمد، إنّا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع،
والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على
إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي-صلى الله
عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ] وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ... [] الزمر: 67 [.
وما في الآية يدل على أن عظمة الله (تعالى) أعظم مما وصف ذلك الحبر،
ففي الآية الكريمة تقرير لعظمة الله (تعالى) نفسه، وما يستحقه من الصفات، وأن
لله (عز وجل) قدراً عظيماً، فيجب على كل مؤمن أن يقدر الله حق قدره] 9 [.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عند هذه الآية الكريمة:
ما ذكر الله (تبارك وتعالى) من عظمته وجلاله أنه يوم القيامة يفعل هذا،
وهذا قَدْر ما تحتمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل ...
فَمَن هذا بعض عظمته وجلاله كيف يُجعل في رتبته مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا
ضرًّا؟) ] 10 [.
ولما قال الأعرابي لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (فإنا نستشفع بالله
عليك، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: سبحان الله، سبحان الله! فما زال
يسبّح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟ إن
شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) ] 11 [.
وقد اقتفى الصحابة (رضي الله عنهم) ومن تبعهم بإحسان هذا المسلك،
فعظّموا الله حق تعظيمه، وعُمرت قلوبهم بإجلال الله (تعالى) وتوقيره: فهذا ابن
عباس (رضي الله عنهما) يقول لبعض أصحاب المراء والجدل: (أما علمتم أن لله
عباداً أصمتهم خشية الله (تعالى) من غير عيّ ولا بكم، وإنهم لَهُمُ العلماء العصماء
النبلاء الطلقاء، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله (تعالى) انكسرت قلوبهم، وانقطعت
ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك، تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية، فأين أنتم
منهم؟) .] 12 [
وكان أهل العلم يعظمون ربهم، ويقدرونه (عزّ وجل) حق قدره، حتى قال
عون بن عبد الله: (ليعظم أحدكم ربه، أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول:
أخزى الله الكلب، وفعل الله به كذا) ] 13 [.
ويقول الخطابي: (وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قلّ ما يذكر اسم الله
(تعالى) إلا فيما يتصل بطاعة) ] 14 [.
(وكان أبو بكر الشاشي يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم في الله (تعالى) ، إجلالاً لاسمه (تعالى) ، ويقول: (هؤلاء يتمندلون] 15 [بالله (عزّ وجلّ) ] 16 [.
ومن أروع الأمثلة التي دوّنها التاريخ عن سلفنا الصالح، وتعظيمهم لله (عزّ
وجلّ) ، ما وقع لإمام دار الهجرة مالك بن أنس (رحمه الله تعالى) ، لما سأله أحدهم
عن قوله (تعالى) :] الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [] طه: 5 [كيف استوى؟ .
فما كان موقف الإمام مالك إزاء هذا السؤال؟ يقول الرواي: (فما رأيته وجد
(غضب) من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء (العرق) ، وأطرق القوم،
فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه، ثم سُرّي عن مالك، فقال: الكيف غير معلوم،
والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإنى لأخاف أن
تكون ضالاًّ، ثم أُمر به فأُخرج) .] 17 [
فتأمّل (رحمك الله) ما أصاب الإمام مالك (رحمه الله) من شدة الغضب
وتصبب العرق إجلالاً وتعظيماً لله (تعالى) وإنكاراً لهذا السؤال عن كيفية استواء
الربّ (تعالى) .
ومن الأمثلة في هذا الباب ما جرى للإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى) ،
لما مر مع ابنه (عبد الله) على قاص يقص حديث النزول فيقول: إذا كان ليلة
النصف من شعبان ينزل الله (عزّ وجلّ) إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا
تغير حال، يقول عبد الله: فارتعد أبي، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى
سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرص، فلما حاذاه قال: يا هذا رسول الله
أغير على ربه (عزّ وجلّ) منك، قل كما قال رسول الله) ] 18 [.
ومن تعظيم الله (تعالى) : تعظيم كلامه، وتحقيق النصيحة لكتابه تلاوة وتدبراً
وعملاً، وقد حقق سلفنا الصالح الواجب نحو كتاب الله (تعالى) من التعظيم
والإجلال، حتى إن بعض السلف كانوا يكرهون أن يصغروا المصحف.] 19 [
وقال بعضهم: والله ما نمت في بيت فيه كتاب الله، أو حديث رسول الله
احتراماً لهما] 20 [.
ومما يجب تعظيمه وتوقيره: تعظيم رسول الله وتوقيره، وتعظيم سنته
وحديثه، يقول (ابن تيمية) في تقرير وجوب توقيره وإجلاله: (إن الله أمر بتعزيره
وتوقيره، فقال:] وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [] الفتح: 9 [والتعزير اسم جامع لنصره
وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من
الإجلال والإكرام وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما
يخرجه عن حد الوقار.
ومن ذلك: أنه خصّه في المخاطبة بما يليق به، فقال:] لا تَجْعَلُوا دُعَاء
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً [] النور: 63 [، فنهى أن يقولوا: يا محمد،
أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يانبي الله، وكيف لا
يخاطبونه بذلك والله (سبحانه وتعالى) أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً
من الأنبياء، فلم يَدْعُه باسمه في القرآن قط ...
ومن ذلك: أنه حرّم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذَن، وحرم رفع الصوت
فوق صوته، وأن يُجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل ...
ومن ذلك: أن الله رفع له ذكره، فلا يُذكر الله (سبحانه) إلا ذكر معه،
وأوجب ذكره في الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار
الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين ... ) .] 21 [
ومما يجدر التنبيه عليه: أن التعظيم المشروع لرسول الله هو تعظيمه بما
يحبه المعظّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، وأما تعظيمه بما يكرهه ويبغضه
ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو منافٍ للتعظيم.] 22 [
وعقد الدرامي في سننه باباً بعنوان: باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي
حديث فلم يعظمه، ولم يوقره] 23 [، وأورد الدرامي جملة من الآثار التي تضمنت
عقوبات ومثلات في حق من لم يعظّم حديث رسول الله.
وقد عني السلف الصالح بتعظيم السنة النبوية وإجلال رسول الله، ومن ذلك:
ما قاله عبد الله بن المبارك عن الإمام مالك بن أنس: (كنت عند مالك وهو يحدثنا
حديث رسول الله فلدغته عقرب ست عشرة مرة، ومالك يتغير لونه ويصفر، ولا
يقطع حديث رسول الله، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس، قلت: يا أبا عبد الله، لقد رأيت منك عجباً! فقال: (نعم إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-) ] 24 [.
وقال الشافعي (رحمه الله تعالى) : (يكره للرجل أن يقول: قال رسول الله،
ولكن يقول: رسول الله؛ تعظيماً لرسول الله) .] 25 [
وممن يجب تعظيمهم وإجلالهم: صحابة رسول الله، فيتعين احترامهم
وتوقيرهم، وتقديرهم حق قدرهم، والقيام بحقوقهم (رضي الله عنهم) .
وقد خرج جرير بن عبد الله البجلي، وعدي بن حاتم، وحنظلة الكاتب
(رضي الله عنهم) من الكوفة حتى نزلوا قرقيساء وقالوا لا نقيم ببلدة يشتم فيها
عثمان بن عفان.] 26 [
وباعد محمد عبد العزيز التيمي داره وقال: لا أقيم ببلدة يشتم فيها أصحاب
رسول الله.] 27 [
ولما أظهر ابن الصاحُب الرفضَ ببغداد (سنة 583 هـ) جاء الطالقاني إلى صديق فودّعه، وذكر أنه متوجه إلى بلاد قزوين.
فقال صديقه: إنك ههنا طيّب، وتنفع الناس.
فقال الطالقاني: معاذ الله أن أقيم ببلدة يجهر فيها بسبّ أصحاب رسول الله،
ثم خرج من بغداد إلى قزوين، وأقام بها إلى أن توفي بها.] 28 [
وبالجملة يجب تعظيم شعائر الله (تعالى) جميعها، كما قال (تعالى) :] ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ [] الحج: 32 [.
ويلحظ الناظر في حال المسلمين أن ثمة مخالفات تنافي تعظيم الله (تعالى)
وشعائره كالاستهزاء، أو الاستخفاف، أو الازدراء، أو الانتقاص لدين الله (تعالى)
وشعائره.
وتظهر هذه المخالفات عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومن خلال منابر ثقافية
ومؤسسات علمية مشبوهة وغيرها.
ويمكن أن نشير في خاتمة هذه المقالة إلى أهم أسباب وقوع تلك المخالفات
المنافية للتعظيم، ومنها:
الجهل بدين الله (تعالى) ، وقلة العلم الشرعي، وضعف التفقه في هذا الأصل
الكبير، ومنها: غلبة نزعة الإرجاء في هذا الزمان، فمرجئة هذا الزمان الذين
يقررون أن الإيمان تصديق فقط، ويهملون العبادات القلبية، كانوا سبباً رئيساً في
ظهور وجود هذه المخالفات ... فيمكن أن يكون الرجل عندهم مؤمناً ما دام مصدقاً،
وإن استخف بالله (تعالى) ، أو استهزأ برسوله أو دينه! ! ومن أسباب هذه الظاهرة: وجود علم الكلام قديماً، الذي لا يزال أثره باقياً إلى هذا العصر، فأهل الكلام
يخوضون في الله (تعالى) وصفاته، مما أورثهم سوء أدب مع الله.
وأخيراً: فإن من أسباب ذلك: كثرة الترخص والمداهنات والتنازلات من
علماء السوء الذين أُشربوا حب الدنيا والرياسة، فجعلوا الدين ألعوبة يأخذون منه
ويدعون.
ورحم الله ابن القيّم حيث يقول: (كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها،
فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه؛ لأن أحكام الرب (سبحانه)
كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس ... ) .] 29 [
__________
(1) انظر تفسير السعدي: 3/259.
(2) العظمة لأبي الشيخ: 1/341.
(3) الصارم المسلوم.
(4) مدارج السالكين: 2/495.
(5) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية: 13/60.
(6) تفسير السعدي: 5/622.
(7) منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: ص36.
(8) الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/153.
(9) انظر: فتاوى ابن تيمية، مجلد 13/160162.
(10) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب: 4/346.
(11) سنن أبي داود: كتاب السنة، ح/4726.
(12) أخرجه الهروي في ذم الكلام ص184.
(13) شأن الدعاء للخطابي ص18، ووردت هذه المقالة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، كما في الحلية لأبي نعيم 2/209، وذم الكلام للهروي ص190.
(14) شأن الدعاء ص 18، 19.
(15) من المنديل، يريد الامتهان والابتذال.
(16) الشفا للقاضي عياض 2/1096.
(17) أخرجه الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص17، 18.
(18) (أورد هذه القصة عبد الغني المقدسي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) ص 110.
(19) انظر الحلية لأبي نعيم 4/230.
(20) انظر طبقات السبكي 6/82.
(21) الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول ص422- 424 باختصار.
(22) انظر تفصيل ذلك في الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي ص385.
(23) انظر سنن الدارمي 1/116 فما بعدها.
(24) الديباج المذهب لابن فرحون 1/104.
(25) أخرجه الهروي في ذم الكلام ص225.
(26) انظر الإبانة الصغرى لابن بطة ص164.
(27) انظر الإبانة الصغرى لابن بطة ص164.
(28) طبقات السبكي 6/11.
(29) الفوائد ص93.(101/8)
دراسات قرآنية
مصادر التفسير
(3)
تفسير الصحابة للقرآن
-الحلقة الثالثة-
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
بعد أن أنهى الكاتب الحديث عن التفسير بالقرآن والتفسير بالسنة، تطرق في
الحلقتين الماضيتين إلى الحديث عن تفسير الصحابة باعتباره مصدراً ثالثاً للتفسير،
فذكر أهمية تفسيرهم، ثم بدأ يفصّل مصادرهم في التفسير، وأن له مرجعين:
أولاً: ما يرجع إلى النقل، فأورد تفصيل ذلك.
وفي هذه الحلقة يتحدث الكاتب عن المرجع الثاني وتفاصيل أخرى من
الموضوع.
ثانياً: ما يتعلق بالفهم والاجتهاد (الاستدلال) :
يكون معتمد المفسّر في هذا القسم العقل، ولا خلاف في أن الصحابة قد
اجتهدوا في بيان القرآن، وقد نبّه ابن الأثير إلى ذلك في شرحه لحديث: (من قال
في كتاب الله (عز وجل) برأيه ... ) [1] حيث قال: (وباطل أن يكون المراد به: أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة (رضي الله عنهم) قد
فسّروا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوهٍ، وليس كل ما قالوه سمعوه من
النبي، وإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس، فقال: (اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل) [2] ، فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك؟) [3] .
ويشتمل هذا القسم على أربعة أنواع، هي:
1- تفسير القرآن بالقرآن:
قد سبق الحديث عن أن تفسير القرآن بالقرآن مرجعه إلى الرأي، وذلك أن
ربط الصحابي بين آية وأخرى كان معتمداً على العقل، ولو كان عنده سندٌ إلى
رسول الله لذكره، مثل ما مرّ ذكره في تفسير قوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ] [الأنعام: 82] حيث أُسند إلى الرسول.
ومن الأمثلة الواردة عنهم في تفسير القرآن بالقرآن ما يلي:
عن عمر بن الخطاب في تفسير قوله (تعالى) : [وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ]
[التكوير: 7] قال: تزويجها: أن يؤلف كل قوم إلى شبههم، وقال: [احْشُرُوا
الَذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ] [الصافات: 22] [4] .
ومما يحسن بحثه في هذا الموضوع: كيفية استفادة الصحابة من القرآن في
تفسيرهم.
2- تفسير القرآن بأقوال الرسول مما لم ينص فيها على التفسير:
سبق الحديث عن هذا القسم، وأن معتمد المفسر هاهنا العقل، وذلك لأن
الصحابي يجتهد في ربط الحديث بمعنى الآية.
ومن أمثلته: ما رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) ، عن النبي
قال: (فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع
ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح) يقول أبو هريرة: (اقرؤوا إن شئتم:
[وَقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً] ) [5] .
فنلاحظ أن أبا هريرة نزّل الحديث على معنى الآية، فجعل اجتماع الملائكة
هو الشهود الذي يحصل في صلاة الفجر.
3- التفسير اللغوي (المحتملات اللغوية) :
نزل القرآن بلغة الصحابة (رضي الله عنهم) ، ولذا: فهم أئمة التفسير اللغوي، وإذا روي عن أحدهم تفسير لغوي، فإن محلّه القبول.
وبالنظر إلى الألفاظ اللغوية المفسّرة تجد أنها على قسمين:
الأول: ألاّ يحتمل اللفظ إلا معنى واحداً، وهذا ما لا يقع فيه خلاف، وهو
أشبه بأن يجعل من القسم الذي طريقه السماع لا الاجتهاد، لعدم الحاجة لإعمال
الرأي في مثل هذا.
الثاني: ما يحتمل أكثر من معنى، والسياق محتمل لها جميعها، ففي مثل هذا
يكون التّميّزُ وإعمال الرأي اعتماداً على المعنى اللغوي، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره
الطبري في تفسير قوله (تعالى) : [خِتَامُهُ مِسْكٌ] [المطففين: 26] أن فيه ثلاثة
أقوال، اثنين منها عن صحابيين:
القول الأول: بمعنى خِلْطُهُ، وهذا قول ابن مسعود، قال: (أما إنه ليس
بالخاتم الذي يختم، أما سمعتم المرأة من نسائكم تقول: طيب كذا وكذا خلطه مسك) .
القول الثاني: بمعنى: آخر شرابهم، وهذا قول ابن عباس، قال: (طيّب
الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها حتى تختم بالمسك) [6] .
4- ما يرجع إلى احتمال النص القرآني أكثر من معنى:
قد تحتمل الآية أكثر من معنى، فيذكر صحابي أحد هذه المعاني، ثم يذكر
الآخر معنًى غيره من المعاني المحتملة لهذا الخطاب القرآني، وقد يعتمد في
اختياره على ما سبق من الأقسام الثلاثة فيما يتعلق بالاجتهاد.
ومن أمثلة ذلك: تفسيرهم قوله (تعالى) : [لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ]
[الانشقاق: 19] ، ورد في قوله [لَتَرْكَبُنَّ] قراءات، منها: فتح التاء والباء،
وقد اختلف في: من وجّه إليه الخطاب؟ ، على قولين:
الأول: أن الخطاب موجّه للرسول، واختلف في معنى [طَبَقاً عَن طَبَقٍ]
على هذا القول على معنيين:
1- لتركبن يا محمد حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر من الشدائد، وهذا مروي
عن ابن عباس من طريق مجاهد والعوفي.
2- لتركبن يا محمد سماءً بعد سماءٍ، وهذا مروي عن ابن مسعود من رواية
علقمة.
الثاني: أن الخطاب موجّه للسماء، والمعنى: أنها تتغيّر ضروباً من التغيّر:
تتشقق بالغمام مرّة، وتَحْمَر أخرى، فتصير وردة كالدهان، وتكون أخرى كالمهل،
وهذا مروي عن ابن مسعود من رواية مرة الهمذاني وإبراهيم النخعي [7] .
في هذا المثال تجد لابن مسعود قولين في تحديد من وجّه له الخطاب، وفي
الأول يوافقه ابن عباس في هذه الجزئية، ثم يخالفه في معنى الركوب طبقاً عن
طبق.
وما كان ذلك الاختلاف إلا لاحتمال هذا النص هذه المعاني المذكورة، فأبدى
كل واحد منهما أحد هذه المحتملات.
مسألة: في اجتهاد الصحابة في حياة الرسول:
تُظهر بعض النصوص أن الصحابة كان لهم اجتهادات في فهم الخطاب
القرآني وتفسيره في عصر الرسول، وكان لاجتهادهم حالتان:
الحالة الأولى: أن يُقِرّ الرسول اجتهادهم، ومن ذلك: الأثر المروي عن
عمرو بن العاص، قال: بعثني رسول الله عام (ذات السلاسل) ، فاحتلمت في ليلة
باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثم صليت
بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال:
(ياعمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت
في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله: ... [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] [النساء: 29] فتيممت، ثم صليت، فضحك، ولم يقل ... شيئاً) [8] .
ومنه: ما رواه الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: (تلا رسول الله
يوماً [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: 24] ، فقال شاب من
أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله (عز وجل) يفتحها أو يفرجها، فما
زال الشاب في نفس عمر (رضي الله عنه) حتى وُلّيَ فاستعان به) [9] .
الحالة الثانية: أن يُصَحّح الرسول فهمهم للآية:
ومثاله: تفسيرهم الظلم، في قوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم
بِظُلْمٍ] [الأنعام: 82] ، فقد فهم الصحابة أن الظلم عام يشمل جميع أنواعه، وذلك
بقولهم: (وأينا لم يظلم نفسه) ، فأخبرهم الرسول بالمراد بالظلم في الآية، وأنه
الشرك [10] .
ومنه حديث عدي بن حاتم، في قوله (تعالى) : [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ] [البقرة: 187] حيث عمد (رضي
الله عنه) إلى عقالين: أبيض وأسود، ثم جعلهما تحت وسادة، ثم جعل ينظر إليهما
في بعض الليل، فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول بفعله، فأرشده الرسول إلى
أن المراد بهما سواد الليل وبياض النهار [11] .
ففي هذين المثالين تلاحظ أن الصحابة فهموا الآية على معنى محتمل، لكنه
غير المراد، فأرشدهم الرسول إلى المعنى المراد بالآية، ولم ينههم عن تفهّمِ القرآن
إلا بالرجوع إليه.
حكم تفسير الصحابي:
لا يصلح إطلاق الحكم على تفسير الصحابي جملة من حيث الاحتجاج به أو
عدمه، بل لابدّ من التفصيل في تفسير الصحابي.
لقد سبق ذكر أن الصحابة يجتهدون في التفسير، وهذا الاجتهاد عرضة للخطأ؛ لأن الواحد منهم غير معصوم حتى يقبل منه كل قوله.
ثم إن هذا الاجتهاد مدعاة لوقوع الاختلاف في التفسير، وبهذا لا يكون قول
أحدهم حجة؛ لأن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم حجة على بعضٍ.
ويمكن تنزيل الحكم مقسّماً على مصادرهم: النقلية والاستدلالية.
أولاً: المصادر النقلية:
يشمل الحكم على المصادر النقلية ما يلي:
أسباب النزول، وأحوال من نزل فيهم القرآن، والأمور الغيبية.
ويمكن القول بأن هذه الأمور الثلاثة لها حكم الرفع؛ لأن الصحابي ليس له
في هذه الأمور إلا النقل، وإن نُسب إليه التفسير، فإنما هو على سبيل التوسع في
إطلاق التفسير له، ولأنه هو الناقل له.
ويحترز في هذا الحكم مما يكون من قبيل الاجتهاد في (أسباب النزول) ، إذ قد
تُطلق عبارة النزول ويراد بها أن المذكور في النزول داخل في حكم الآية، وكثيراً
ما تصدّر بقولهم: نزلت هذه الآية في كذا وكذا.
ولذا: قد يرد عنهم أقوال كثيرة في سبب النزول، وهي غير صريحة في
السببية، وإنما تكون داخلة في حكم الآية، وهذا إنما قاله من قاله اجتهاداً منه.
ويلحق بهذا: أحوال من نزل فيهم الخطاب، إذ قد يقع الاجتهاد في حمل
معنى الآية على حالٍ من الأحوال.
وقد يرد في الآية سببان صحيحان صريحان، فتحمل الآية عليهما، ومن ذلك
ما يلي:
ما ورد في سبب نزول قوله (تعالى) : [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ] [البقرة: 223]
روى أبو داود عن ابن عباس، قال: (إن ابن عمر (والله يغفر له) أوهم؛
إنما كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثنٍ مع هذا الحي من يهود وهم أهل
كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان
من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم.
وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذذون منهن
مقبلات مدبرات ومستلقيات.
فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب
يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنّا نُؤتى على حرفٍ، فاصنع ذلك وإلا
فاجتنبني، حتى شَرِيَ (انتشر) أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله (عز
وجلّ) : [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ] [البقرة: 223] أي: مقبلات
ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك: موضع الولد) . [12]
وروى البخاري عن جابر في نزول هذه الآية ما يلي: (كانت اليهود تقول:
إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ] ) [13] .
ففي هذين السببن ترى ما يلي:
1- أنها تحكي حالاً من أحوال من نزل فيهم القرآن، وقد سبق أن السبب قد
يكون في ذكر حالٍ من أحوال العرب.
2- أن ابن عباس ذكر السبب في قضية طريقة الجماع في خبر الرجل
القرشي والأنصارية.
3- أن جابر ذكر السبب في نتيجة إحدى طرق الجماع.
وقد أنزل الله هذه الآية لإبطال هذين الحالين اللذين كان يعمل بهما اليهود
والأنصار.
هذا، وقد أخبر الحاكم أن سبب النزول له حكم الرفع؛ فقد قال بعد حديث
جابر السابق: (هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن
الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا
وكذا، فإنه حديث مسند) . [14]
* كما يحترز في المغيبات من أن تكون من مرويات بني إسرائيل، فإذا
سلمت من ذلك فإن لها حكم المرفوع؛ لأن الأمور الغيبية لا يمكن القول فيها
بالاجتهاد.
ومن أمثلته: ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) في تفسير (الكرسي)
بأنه (موضع قدمي الرحمن) .
فهذا المثال يتعلق بصفات الله (عز وجل) ولا سبيل للوصول إليها إلا بالنقل،
ولا مجال للاستنباط فيها.
فإن قيل: إن ابن عباس قد اشتهر عنه الأخذ من مرويات بني إسرائيل،
وعليه: فإن هذا التفسير يحتمل أن يكون مما تلقّاه عنهم؟ .
فالجواب: أنه لا يُظنّ بابن عباس أنه يرجع إليهم في معرفة صفات الله،
وهم من أهل التعطيل لها، فمثل هذه المسائل المتعلقة بالله لا تؤخذ إلا من المعصوم
في خبره، وهو الرسول.
ثم إن ابن عباس لم ينفرد بهذا التفسير، بل قد صحّ عن أبي موسى [15] ...
مثل قول ابن عباس، وهذا مما يُعزّز قول ابن عباس، ويدل على تلقيه من
الرسول، والله أعلم.
أما ما يثبت من هذه المغيبات أنه من الإسرائيليات فإنه ينظر إليه:
إن كان موافقاً لما في الكتاب والسنة قُبِلَ، وإن كان مخالفاً لهما رُدّ وترك،
وإن لم تظهر فيه موافقة ولا مخالفة فالحكم فيه: التوقف، والله أعلم.
ثانياً: المصادر الاستدلالية (الاجتهاد) :
سبق تقسيم هذه المصادر إلى أربعة أقسام، وسيكون الحديث هنا عامّاً عنها.
والتفسير إما أن يكون بياناً عن لفظٍ، وإما أن يكون بياناً عن معنىً.
فإذا لم يحتمل اللفظ أو المعنى المراد إلا تفسيراً واحداً لا غير، فإن هذا مما لا
مجال للاجتهاد فيه، وحكم هذا التفسير: القبول؛ لعدم احتمال غيره.
أما إذا وقع الاحتمال في الآية، فإن هذا مجال الاجتهاد والرأي، وإذا كانت
الآية محتملة لأكثر من قول، فإن هذا الاجتهاد يحتمل أمرين:
الأول: أن يكون مما توافق عليه اجتهاد الصحابة (أو كان في حكمه؛
كالإجماع السكوتي) فإن هذا حجة يجب قبوله عنهم.
الثاني: أن يقع بينهم خلاف مُحقّق، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بحجيّة
هذه الأقوال، ولا بأحدها على الآخر؛ لأن قول أحدهم لا يكون حجة على الآخر،
فلا يقال: معنى الآية كذا لأنه قول ابن عباس، مع وجود مخالفٍ له من الصحابة.
وإنما يكون عمل من بعدهم في مثل هذه الحالة الترجيح بدليل صالح للترجيح، ومحلّ هذا البحث موضع آخر، وهو قواعد الترجيح؛ لأن المراد هنا بيان ما
يكون حجة وما لا يكون من أقوال الصحابة.. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ح/790 البيان.
(2) أخرجه أحمد، ج1ص266، وصحح إسناده أحمد شاكر، ح/2397، ح/2881 البيان.
(3) جامع الأصول، ج2ص4.
(4) انظر: الدر المنثور، ج 8 ص430.
(5) انظر: فتح الباري، ج 8 ص251.
(6) انظر أقوالهم في تفسير الطبري، ج30 ص106، 107.
(7) انظر مروياتهم في تفسير الطبري، ج30 ص122، 124.
(8) أخرجه أحمد وأبو داود.
(9) تفسير الطبري، ج 26 ص58.
(10) انظر رواية ذلك في صحيح البخاري (فتح الباري، ج 1 ص110، ج 6 ص448) .
(11) انظر روايته في صحيح البخاري (فتح الباري، ج 8 ص231) .
(12) انظر: عون المعبود، ج 6 ص204، 205.
(13) انظر: فتح الباري، ج 8 ص37.
(14) معرفة علوم الحديث، ص20.
(15) أشار إلى روايتهما ابن حجر في الفتح (ج 8ص47) ، وقد صحح إسناد أبي موسى.(101/16)
دراسات سياسية
القانون الدولي الإسلامي (علم السير) ..
مفهومه تدوينه خصائصه
بقلم:عثمان جمعة ضميرية
تمهيد:
من طبيعة الفقه الإسلامي وخصائصه: أنه يلبي مصالح الناس، ويحيط
بالوقائع والحوادث المستجدة، وفي مصادره من الخصوبة والمرونة، وفي ضوابطه
وقواعده من العموم والشمول ما يكفل مواجهة تطور الناس واحتياجاتهم، فإن كل ما
يحدث للناس من وقائع في هذه الحياة لها في الشريعة أحكام: نصّاً أو دلالة، على
ما قاله الإمام الشافعي (رحمه الله) : (إذ ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا
وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها) [1] (كل ما نزل بمسلم: ففيه حكم
لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم:
اتّباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه: طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد ... )
والأصل في هذا آيات كثيرة، كقوله (تعالى) : [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] [إبراهيم: 1] ،
وقوله (تعالى) : [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]
[النحل: 44] وقد أوفى الإمام الشافعي (رحمه الله) على الغاية في هذا المعنى؛
حيث قرر: أن جماع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تعبدهم به لما مضى من
حكمه (جل ثناؤه) ، من وجوه: فمنها ما أبانه نصّاً، مثل جمل فرائضه في: أن
عليهم صلاة وزكاة وحجّاً وصوماً ... ومنها: ما أحكم فرضه بكتابه، وبيّن كيف
هو على لسان نبيه، مثل: عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك ... ومنها:
ما سن رسول الله، مما ليس لله فيه نصّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة
رسوله والانتهاء إلى حكمه ... ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه،
وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.. فإنه
يقول: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] [محمد:
31] .
وقد اهتم فقهاء الإسلام (رحمهم الله تعالى) اهتماماً بالغاً بالقضايا والوقائع
المستجدة وأفردوها بالتأليف، عنايةً بها وإعلاءً لمكانتها وموضوعها، وهذا ما نجده
في جانب الجهاد والسير، وهو موضوع (القانون الدولي العام) بالمفهوم المعاصر [2] (ومما لا شك فيه أن مصطلح (القانون الدولي) من المصطلحات الحديثة التي لم يستخدمها الفقه الإسلامي، ومع ذلك، فليس من نتائج عدم استخدام المصطلح: أن هذا الفقه لم يعرف الأحكام القانونية الدولية، فقد عرفها ولكن في إطار آخر حيث تناول الفقه الإسلامي علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى في أبواب الجهاد، وفيما كتبه الفقهاء عن السير والمغازي، وفي بعض المؤلفات عن الخراج والسياسة الشرعية كذلك) [3] .
وقد سميت هذه الأحكام بالسّيَر (جمع سيرة) ؛ لأنها طريقة معاملة المسلمين
لغيرهم، فلا نكون مغالين إذا قلنا: إن أئمة الإسلام وفقهاءه عُنُوا منذ البدء بوضع
أسس القانون الدولي، وإن كانت هذه الأسس تخص أحكام أو قانون الحرب في
أكثرها، وقد وجد الإسلام منذ نزوله أعداء مناوئين، فحارب من حاربه وسالم من
سالمه، ووضع الحدود والقواعد لحربه وسلمه وما يعرض له فيهما من المسائل
الكثيرة التي تتعلق بالمحاربين والمسالمين وأشباه ذلك، مما أحله الفقه الإسلامي
أسنى مكان، حتى إنه ليمكن أن يقال: إنه عني بما تقدم من القواعد واتسع لها
صدره أكثر من غيرها من الأحكام السياسية؛ لأنها نشأت مع الإسلام ونمت بنموه،
وكانت نتيجة لازمة للجهاد والفتوحات الإسلامية العظيمة [4] .
وهذا يدعونا لتعريف علم (السير والمغازي) وموضوعه ونشأته، لنتعرف من
خلاله على علم العلاقات الدولية والقانون الدولي الإسلامي بوضوح ... وموضوع
السيرة والمغازي هو: عرض حياة الرسول، بذكر الأخبار التي تروى عنه
بالروايات المسنَدَة مرتبة على السنين، بحسب وقوع الحوادث التي تشير إليها
الأحاديث والأخبار [5] . فهي إذن: تبحث في حياة الرسول منذ إرهاصات مولده
حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وتبحث في حياة صحابته الذين جاهدوا معه،
وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وفي تاريخ انتشار الإسلام الذي ابتدأ بنزول الوحي
على النبي إلى أن دانت الجزيرة العربية به، ودخل الناس في دين الله أفواجاً [6] .
ولئن استعملت كلمة (السيرة) وعرفت قبل أن يجعلها ابن هشام عَلَماً على كتابه،
الذي اختصر فيه سيرة ابن إسحاق كما نجدها في بعض الكتابات التاريخية، فإنها
بعد نشأة التدوين للعلوم الإسلامية واستقلالها بالتأليف أصبحت (إذا جاء لفظها مفرداً
معرفاً قصد به تخصيصاً: (السيرة النبوية) ، أي: تاريخ حياة الرسول من مولده
إلى وفاته مع ذكر آبائه وأهل بيته وصحابته، فضلاً عن ذكر خصاله وأحواله
وعاداته، ثم الأحداث المرتبطة بالدعوة، كالوحي والهجرة والغزوات والوفود) [7] ، وإن كان بعض العلماء يرون أن مصطلح (السيرة) في عرف الشرع متى أطلق
يراد به طريقة رسول الله في مغازيه على الخصوص.
وأما كلمة (المغازي) ، فإنها كانت تعني من حيث وضعها اللغوي: (الحروب
والغزوات) ، ثم تخصص معناها فصارات تعني الحروب التي اشترك فيها الرسول
وصحابته.. ولكن هذا الاسم تدرج في الزمن فاتسع معناه وشمل تاريخ حياة النبي.
ونعلم مما تقدم أن اللفظتين (السيرة) و (المغازي) مستعملتان بمعنى واحد، لا يُفرق
بينهما؛ فقد ذكر الحافظ ابن كثير (سيرة ابن إسحاق) وقال: (قال ابن إسحاق في
المغازي) [8] .
بقي أن نقول كلمة عن منهج هؤلاء المؤرخين والمحدثين في كتبهم عن
(السير) : وهو أنه يتكون من أخبار دقيقة مضبوطة متفرعة من علم الحديث،
ولذلك نالها ما ناله من نقد وتمحيص، وكانت هذه السيرة تتألف من القصص
الصحيحة والخيالية التي أحاطت بشخص الرسول؛ بسبب إجلال المسلمين له،
وأخذ المؤرخون يجمعون هذه القصص ويركبونها ويربطون بينها، مستعينين
بالآيات القرآنية الكريمة، إلا أن منهج المحدثين الدقيق في الرواية كان له الغلبة
على منهج المؤرخين، بما له من صبغة علمية دقيقة، وكان غالباً في المدينة أكثر
منها في أي موطن آخر؛ لارتباط المؤرخين فيها بالأحاديث الصحيحة أكثر من
المؤرخين الآخرين، ففي المدينة ولد منهج تاريخ (السير والمغازي) المتفرع من
الحديث والمتأثر به في بادئ الأمر، حيث ظهر الإسناد عند أول كاتبين فيه، وهما: (أبان بن عثمان) و (عروة بن الزبير) ، وإن لم يصر ضربة لازب، وأخذت
السير والمغازي تتطور سريعاً، فنجد الزهري يخطو بالتاريخ خطوة إلى الأمام، إذ
يحاول أن يربط بين الأحاديث ... ويتوّج هذا التطور بمحمد بن إسحاق الذي يمثل
تطور الكتابة في السير، فتتمثل في (سيرته) كل التيارات التاريخية الموجودة في
عصره [9] .
وقد عرض العلماء والكتاب المعاصرون لتعريف علم السير، فقال الشيخ
محمد أبو زهرة: (يراد بالسير: أحكام الجهاد والحرب، وما يجوز فيها وما لا
يجوز، وأحكام الصلح والموادعات، وأحكام الأمان وممن يجوز، ثم أحكام الغنائم
والفدية والاسترقاق، وغير ذلك مما يكون في الحروب وأعقابها ... ) [10] ،
ويقول أستاذنا (د. مصطفى كمال وصفي) : (ويسمى العلم الذي يبحث في علاقات
المسلمين بالأمم الأخرى باسم: (علم السير) ، أي: سيرة المسلمين في غيرهم من
الأمم من حربيين ومعاهدين ومستأمنين وأهل ذمة) [11] ، ثم يوازن بينه وبين
القانون الدولي العام، فيقول: (وهو يختلف في موضوعه عن القانون الدولي العام
الحديث في أن الأصل فيه: أنه يبحث في التزام المسلمين نحو غير المسلمين، ولو كانوا أفراداً يسكنون دار الإسلام، فهو ليس مخصصاً لبحث العلاقات الدولية فقط) [12] .
ونخلص إلى تعريف علم السير، بأنه: (العلم الذي يبحث في تنظيم العلاقة
بين المسلمين وغير المسلمين في حال السلم والحرب) .
القانون الدولي الإسلامي:
لم يستخدم فقهاء الشريعة مصطلح (القانون الدولي) ؛ لأنه من المصطلحات
الحديثة، وقد استخدم علماء الإسلام كلمة (القانون) بصيغة المفرد عنواناً على
مؤلفات في فنون مختلفة كاللغة والتوحيد والفقه منذ قرون، فكان هذا مؤشراً على
جواز ذلك، وأنه لا محذور فيه ما لم يتعد التسمية إلى التأثر بمضمون أجنبي عن
الإسلام، ومن الأمثلة على ذلك: كتاب (قوانين الوزارة) للماوردي، في السياسة
الشرعية، و (قانون التأويل) للقاضي أبي بكر بن العربي، وهو يتناول القواعد
المنهجية لطلاب العلوم الشرعية [13] .
وفي العصر الحديث درج كثير من الكتاب والمؤلفين في الفقه الإسلامي على
استخدام كلمة القانون في فروع كثيرة من الفقه، مثل: (قانون الأحوال الشخصية)
و (القانون الجنائي) و (القانون الدستوري) و (القانون الإداري) و (القانون الدولي)
مضافة إلى الإسلام أو الشريعة، ولعل ذلك كان نتيجة الدراسة المقارنة بين الشريعة
والقانون، ورغبة في تقريب أحكام الفقه الإسلامي إلى الدارسين غير المتخصصين
من دراسي القانون الوضعي، ولأسباب أخرى غير ذلك.
ولذلك حاول بعض الباحثين والكتاب تعريف القانون الدولي الإسلامي، ومن
هذه التعريفات:
عرفه د. محمد حميد الله الحيدرآبادي بأنه: (ذلك القسم من قواعد القانون
والعرف في الدولة، ومن الالتزامات التي تضمنتها المعاهدات التي ترعاها الدولة
الإسلامية القائمة فعلاً، أو قانوناً في تعاملها مع الدول الأخرى القائمة فعلاً، أو
قانوناً) [14] ، بينما لا يعتقد أستاذنا د. جعفر عبد السلام أن وضع تعريف للقانون الدولي في الشريعة الإسلامية من المسائل الدقيقة، خاصة وأن المحاولات التي بذلت للقيام بهذه المهمة حديثاً لم تتفق على هذا المدلول، ويعتقد أن الأفضل في مجال دراسة الشريعة: الإبقاء على المصطلحات الأساسية لها، وعدم تعريف المصطلحات الأجنبية وفقاً لأحكام الشريعة حتى تظل المقارنة في إطارها الصحيح [15] .
إن اهتمام فقهاء الإسلام بهذا الجانب من الفقه جعلهم يفردونه بالتأليف؛ تمهيداً
لقواعده، وبسطاً لأحكامه، وبياناً لآثاره؛ ولذلك سنُلمع هنا إلى التطور التاريخي
لتدوين (علم السير) عند الفقهاء، مع أثارة من منهجهم الذي يقوم على سرد الوقائع
والحوادث ضمن ما اتخذوه من منهج علمي دقيق في الرواية يقوم على الإسناد.
فقد كان الفقهاء المتقدمون من الصدر الأول يتناولون موضوع السير إما في
(باب الجهاد) أو في أبواب أخرى: كالمغازي، والغنائم، والردة، وعهد الأمان،
والجزية، وتفاوتت عنايتهم واهتمامهم بهذا الجانب، تأليفاً، وتدريساً، وكان من
أوائل الفقهاء الذين أولوا هذا الجانب عناية: الإمام الشعبي، والأوزاعي، ... والثوري، والفزاري، إلا أن أبا حنيفة وتلاميذه كان لهم القدح المعلى في ذلك.
وأول من صُنف في (السير) واتخذ هذا المصطلح للدلالة على ما نسميه اليوم
القانون الدولي الإسلامي هو: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وهذا ما يميل إليه
الباحثون في هذا العلم، فقد قال أبو الوفا الأفغاني: (إن من أقدم ما صنف في السير (كتاب السير) للإمام أبي حنيفة النعمان، أملاه على أصحابه: أبي يوسف، وزفر، وأسد بن عمرو، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحفص بن غياث النخعي، ومحمد
بن الحسن الشيباني، وعافية بن يزيد، وحماد ابنه.. وأضرابهم من الأئمة الكبار،
فرووه عنه، وزادوا فيه، ورتبوه، وهذبوه، حتى نسب إليهم، نحو كتاب (السير)
للحسن بن زياد، و (السير الصغير) للإمام محمد بن الحسن) [16] .
وأما الذي كان له عناية خاصة بعلم السير، وأفرده بالتأليف، واستقصى
أحكامه وما يتعلق به، فهو الإمام محمد بن الحسن الشيباني؛ يقول د. محمد حميد
الله: (لعل اتخاذ هذا المصطلح (السير) للدلالة على القانون الدولي الإسلامي كان
في القرن الثاني الهجري، فقد عُرف عن أبي حنيفة أنه أول من استعمل مصطلح
(سيرة) لتمييز مجموعة من دروسه التي كان يلقيها عن قوانين الإسلام في الحرب
والسلم، وقد نشرت هذه الدروس منقحة على أيدي عدد من تلاميذه، وصل إلينا
منها بصورة من الصور كتابا (السير الصغير) و (السير الكبير) للشيباني، وقد نقد
فقيهَ العراق أبا حنيفة فقيهٌ معاصر له، هو إمام الشام الأوزاعي، ولم يصلنا ماكتبه
الأوزاعي، ولكن وصلنا ما نشره ردّاً عليه تلميذ أبي حنيفة الشهير (أبو يوسف)
باسم (الرد على سير الأوزاعي) ، ويشير الشافعي كذلك إلى سير الأوزاعي في
كتاب (الأم) ، كما يشير إلى سير الواقدي، ومن ثم: يبدو أن الكلمة قد صارت
مصطلحاً فنيًّا يشيع استعماله بين الفقهاء في مختلف العصور) [17] .
وبعد هذه الإلمامة في علم السير نلاحظ أن هذه النشأة كانت في القرن الثاني
الهجري، ثم اتسعت الكتابة فيما بعد وتنوعت، وأن فقهاء السنة كان لهم فضل
السبق في ذلك، ولكن بعض الباحثين يذكر كتاباً للإمام زيد بن علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقد كان فقيهاً ومحدثاً وقد دون أحد تلاميذه
كتابين، هما: (مجموع الحديث) و (مجموع الفقه) ، ويسمى كلاهما: (المجموع
الكبير) ، وتلميذه هذا هو (أبو خالد الواسطي) ، ونجد في هذا (المجموع الكبير)
للإمام زيد ترتيباً لكتبه وأبوابه كترتيب كتب الفقه، ومنها كتاب (السير) ، وأول
باب فيه: (باب الغزو والسير) ، ثم تتابعت الأبواب في فضل الجهاد والشهادة،
وقسمة الغنائم، والعهد والذمة ...
وقد اختلف العلماء حوله في أمرين: أولهما: قبول راوي المجموع، حيث
جرحه علماء السنة واتهموه بالوضع ووثقه علماء الزيدية وقبلوا روايته واعتمدوها، ... وثانيهما: كيفية تدوين المجموع؛ هل دونه الإمام زيد (رضي الله عنه) بقلمه
ونقله عنه أبو خالد، أم أنه أملاه على تلميذه، أم روى عنه تلميذه (مجموع
الأحاديث) و (مجموع الفقه) ثم دونهما ورتبهما؟ ، وانتهى الشيخ أبو زهرة بعد
مناقشة ما قيل في هاتين المسألتين إلى أن العلماء تلقوا (المجموع) في كل الأجيال
بالقبول.
ولكن الدراسة المتأنية للمجموع تصل إلى نتيجة مخالفة لهذا القول، تجعلنا لا
نطمئن إلى نسبة هذا الكتاب للإمام زيد (رضي الله عنه) ، فإذا رجعنا إلى أقوال
جهابذة علماء الجرح والتعديل من أهل السنة: فإننا لن نرتضي قبول رواية (أبي
خالد الواسطي) الذي انفرد برواية (المجموع) عن الإمام زيد؛ لأنه كذّاب وضاع،
كما أنه تفرد بروايته عن أبي خالد: إبراهيم ابن الزبرقان، هذا فضلاً عن عدم ذكر
رجل كابن النديم هذا الكتاب في (فهرسته) [18] مع عنايته الشديدة بذكر الفقهاء من
الشيعة بصفة عامة [*] .
... وللحديث بقية.
__________
(1) الرسالة للشافعي ص 20 ت: أحمد شاكر.
(2) ولا يعني هذا تطابقاً بينهما، انظر المشروعية في النظام الإسلامي، د مصطفى كمال وصفي ص50 تعليق (1) .
(3) عن قواعد العلاقات الدولية في القانون الدولي والشريعة، د جعفر عبد السلام.
(4) الشرع الدولي في الإسلام د نجيب الأرمنازي ص44، 45.
(5) حدائق الأنوار في سيرة النبي المختار لا بن الدبيع الشيباني ص3 (طبعة قطر) .
(6) فقه السيرة النبوية، منير الغضبان ص93 (طبعة جامعة أم القرى، بمكة) .
(7) القاموس الإسلامي، لأحمد عطية: 3/595، وسيرة ابن هشام: 1/3 مقدمة المحقق.
(8) البداية والنهاية لابن كثير: 3/242.
(9) نشأة التدوين عند العرب د حسين نصار ص67 -70.
(10) من تقديم أبي زهره للسير الكبير بشرح السرخسي ص33.
(11) المشروعية في النظام الإسلامي د وصفي ص280.
(12) المرجع نفسه ص49.
(13) طُبِعَ بتحقيق الأستاذ / محمد السليماني دار القبلة بجده.
(14) (دولة الإسلام والعالم) ص14 ترجمة د فتحي عثمان.
(15) قواعد العلاقات الدولية: ص31، 32.
(16) الرد على سير الأوزاعي: مقدمة المحقق ص1.
(17) دولة الإسلام والعالم، د حميد الله، ص 23 - 24 والسير للشيباني: ص 53 مقدمة المحقق.
(18) عصر نشأة المذاهب: د محمد يوسف موسى ص74.
(*) عن بحث بالعنوان نفسه للكاتب لم يطبع بعد.(101/24)
خواطر في الدعوة
قاتل الله ردود الأفعال
محمد العبدة
تربى الصحابة في مكة تربية قرآنية، فلم تكن أقوالهم وأفعالهم ردوداً على
تصرفات الآخرين، ولم نسمع أنهم اسُتجروا لمعركة لا يريدونها، أو شُغلوا عن
طريقهم الذي سّنه لهم رسول الله، ولم تستفزهم تحديات قريش وسفاهة بعض
رجالها لقتال ينال الأسرة الواحدة أو العشيرة الواحدة، وعندما أرادوا في المدينة
مخالفة اليهود في مسألة معينة، وأخذوا الأمر إلى أقصى الطرف الآخر، استغرب
الرسول هذا الفهم، وردهم إلى الطريق الأعدل.
هذا الاعتدال في الشخصية، يجب أن يكون ديدن العلماء والدعاة (الذين هم
ورثة الأنبياء) في إرجاع الناس إلى الحق وإنقاذهم من براثن الشيطان. ...
وإن الشخصية التي يستفزها الحدث وتقابله برد فعل قوي، وتذهب بعيداً إلى
الطرف الآخر، وتتمادى في ذلك، وتؤكد على موقفها، وتصوّبه، وتحاول الإتيان
بالأدلة والبراهين، وتغالط نفسها في ذلك، هذه الشخصية ليست قدوة صالحة
للعاملين في حقل الدعوة؛ فإن ردود الأفعال أصابت المسلمين بمقاتل خلال تاريخهم
الطويل، وإن المتتبع لتاريخ فرقة المرجئة سيتضح له أن فكرة الإرجاء، وإن
كانت تتقبلها بعض النفوس (لجهل أو لهوى) ، ولكنها كانت تقوى وتتبلور وتنتشر
بعد أحداث معينة، وكان الذي غذاها في بداية أمرها الرد على الخوارج وآرائهم
المتشددة المبتدعة، ثم زاد الإرجاء وتأكد بعد فشل عبد الله بن الزبير (رضى الله
عنه) في محاولته لاسترجاع الخلافة من بني أمية، وبعد مقتل الحسين (رضى الله
عنه) في خروجه على يزيد، وفي مثل هذه الأجواء تبدأ المحاولات لتطويع
النصوص وتأويلها لتتناسب مع الفكرة المعتنقة، ومع البعد عن الشؤون العامة،
ولتؤكد الانكماش والتقوقع.
وإن أوضح ما تكون هذه الظاهرة في المماحكات التي وقعت بين الفرق التي
تتبنى وجهات نظر مختلفة في العقائد، يقول العلامة ابن المرتضى: (وعندما غلا
المعتزلة في إثبات الحكمة، وأوجبوا معرفة العقول للحكمة بعينها على جهة
التفصيل، فجاؤوا بأشياء ركيكة، رد عليهم الأشعرية وغلوا في الرد، واستلزم ذلك
نفي الحكمة ... ) [1] .
ويقول ابن تيمية ناقداً لهذه الظاهرة: (كما قد يصير بعض جهال المتسننة ... في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت، إذا رأى أهل البدعة يغلون ... فيها) [2] .
ولا يخلو عصرنا من هذه الخصلة الذميمة، فبعد فشل ثورة أحمد عرابي في
مصر وقد ساهم فيها الشيخ محمد عبده، ونفي على إثرها إلى بلاد الشام، وعاش
في بيروت كانت ردة الفعل عند الشيخ أن قال كلمته المشهورة: (لعن الله السياسة،
وساس، ويسوس ... ) .
ولكن ردود الأفعال فيما يدور حول الدعوة والعمل الإسلامي المعاصر كانت
أعنف من هذا وأكثر إيلاماً للنفس؛ فقد أصيب بعض الناس بحساسية بالغة إزاء
مخالفيهم، فلا يحبون أن تذكر محاسنهم، بل لا يحبون أن يذكروا أبداً، وذهبوا
بعيداً في التشنيع عليهم، وإلصاق التهم الظالمة بهم، وتحميل أقوالهم ما لا تحتمل،
وإن المسلم الذي يراقب هذه الأحوال ليتعجب من أمثال هؤلاء، ويقول في نفسه:
هل هؤلاء الأشخاص أسوياء؟ وهل يتقون الله حقّاً؟ !
والله نسأل التقوى في القول والعمل.
__________
(1) إيثار الحق على الخلق، ص 194.
(2) فتاوى ابن تيمية، ج 6 ص 26.(101/32)
دراسات اقتصادية
الربا والأدوات النقدية المعاصرة
(2)
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقة الأولى من هذه الدراسة تمت مناقشة ماهية النقود ووظائفها،
وطبيعة النظام النقدي والنقود الورقية. وفي هذه الحلقة: سوف تتم مناقشة ماهية
النقود في الإسلام، والتخريج الفقهي الخاص بالعملات الورقية والمواطن الربوية
فيها.
ماهية النقود في الإسلام:
يرتكز الأصل الشرعي فيما يتعلق بطبيعة النقود: على أساس أن النقد هو
الأداة التي تقيّم بها الأشياء، وليس على أساس أن النقد سلعة بحد ذاتها، ولكنه أداة
للتبادل، ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله (تعالى) : [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ] [يوسف: 20] ففي هذه الآية تفريق بين الثمن وبين أداة
الثمن، وألحقت بالثمن صفة ملازمة له وهي التفسير؛ حيث وصف ثمن بيع
يوسف (عليه السلام) بالبخس، أي: بالقلة، قاله مجاهد والشعبي [1] . لقد أشارت
الآية إلى أمرين: الأول: أن قيمة وثمن يوسف (عليه السلام) كان قليلاً لا يتفق مع
حقيقة قيمته، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام ابن العربي في كتابه أحكام القرآن
عند تفسيره لهذه الآية بقوله: (وقيل في (بخس) أنه بمعنى حرام، ولا وجه له،
وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه، فلم
يكن قصدهم ما يستفيدون من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه
أبيهم عنه) [2] .
الأمر الثاني: أن الإشارة إلى الدراهم بعد إيراد لفظ الثمن ما هو إلا إشعار
بأنها أداة لتحديد القيمة، وبالتالي: يمكن أن تكون الأداة المستحدثة في الثمن تتفاوت
وتتعقد أشكالها وأنواعها حسب ظروف الناس وطبيعة المجتمعات.
لقد فهم فقهاء المسلمين وعلماؤهم طبيعة النقد وعلاقته بالعمليات التبادلية، فقد
أشار ابن قدامة في كتابه القيم (المغني) إلى حقيقة النقد وطبيعته عندما تحدث عن
الزكاة، فقام بالتفرقة بين زكاة الزروع والثمار، وزكاة المعدن المستخرج من
الأرض، وأشار إلى الفرق بينهما مع أن مصدرهما واحد، وهو الأرض، يقول
(رحمه الله) : (أما الزروع والثمار فهي نماء في نفسها، تتكامل عند إخراج الزكاة
منها، فتؤخذ الزكاة منها حينئذ، ثم تعود في النقص لا في النماء، فلا تجب فيها
زكاة ثانية؛ لعدم إرصادها للنماء، والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض
بمنزلة الزرع والثمر، إلا أنه إن كان من جنس الأثمان ففيه الزكاة عند كل حول؛
لأنه مظنة للنماء من حيث إن الأثمان قيم الأموال ورأس مال التجارات، وبهذا
تحصل المضاربة والشركة؛ وهي مخلوقة لذلك: فكانت بأصلها وخلقتها كمال
التجارة المعد لها) [3] .
فقد ربط ابن قدامة بين قيم الأموال والأثمان، حيث يتم تحديد قيم الأموال من
خلال تحديد الأثمان؛ ولهذا: عندما تحدث في (باب الربا والصرف) عرّف
الصرف بأنه: بيع الأثمان بعضها ببعض [4] ، وقد أوضح هذا المفهوم المتمثل في
أن طبيعة النقد تتمثل في أنها الوسيلة لتحديد قيم مختلف الأشياء، حيث أكد ذلك
عند مناقشة زكاة الذهب والفضة الصحيحة والمكسرة، حيث رأى جواز الإخراج
عن الذهب والفضة الصحيحتين أكثر من المكسرة؛ معللاً ذلك بأن (الفرق بينهما
(أي: الصحيحة والمكسرة) : أن القصد من الأثمان القيمة لا غير، فإذا تساوى
الواجب والمخرج في القيمة والقدر جاز، وسائر الأموال يقصد الانتفاع بعينها، فلا
يلزم من التساوي في الأمرين الإجزاء؛ لجواز أن يفوت بعض المقصود) [5] .
ويوافق ابنُ عابدين ابنَ قدامة في هذا المفهوم، حيث يقول: (رأينا الدراهم
والدنانير ثمناً للأشياء، ولا تكون الأشياء ثمناً لها ... فليست النقود مقصودة لذاتها،
بل وسيلة إلى المقصود) [6] .
ويتولى ابن القيم (رحمه الله) في كتابه (إعلام الموقعين) إيضاح طبيعة النقود
ودورها بشكل جلي، وبمنطق اقتصادي سليم، عند تحديد علة الربا بالنسبة للذهب
والفضة باعتبار أنهما الوسيلتان المستخدمتان في التبادل، يقول: ( ... العلة فيهما
(الدراهم والدنانير) : الثمنية، وهذا: قول الشافعي، ومالك، وأحمد في الرواية
الأخرى، وهذا هو الصحيح، بل الصواب ... فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة،
فهو طرد محض، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات،
والثمن هو المعيار، به يُعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا
يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع، لم يكن لنا ثمن
نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات
حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة؛ وذلك لا يكون إلا
بثمن تقوّم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوّم هو بغيره؛ إذ يصير
سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخُلف ويشتد الضرر ... فلو
أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل: أن يعطى صحاحاً ويأخذ مكسرة، أو
خفافاً ويأخذ ثقالاً أكثر منها: لصارت متجراً، أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا
بد، فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في
أنفسها سلعاً لأعيانها: فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى
إلى سائر الموزونات) [7] .
من خلال هذه المناقشة التي أوردها ابن القيم (رحمه الله) يتضح دور النقود؛
حيث يجب أن يقتصر على أن تكون أداة لتحديد قيم الأشياء؛ وبالتالي: فلا يجوز
أن تستخدم النقود سلعاً يتجر بها، وبهذا: فإن ما يتم من مضاربات في سوق
العملات يجعل النقود سلعاً تُعد للربح، حيث نتج عن ذلك أضرار كبيرة كما هو
مشاهد في الواقع المعاصر، فيما يتعلق بتذبذب أسعار العملات، واتجاه كثير من
فوائض الأموال إلى الاتجار فيها بدلاًً من الاستثمار في المشروعات الإنتاجية.
على ضوء ما سبق يمكن القول: إن الشرع الإسلامي لا يشترط شكلاً معيناً،
أو مادة معينة للأداة النقدية؛ فقد تكون مسكوكات ذهبية، أو فضية، أو نحاسية،
أو أي نوع من المعادن، أو ورقية، وتعتبر نقوداً إذا توفرت فيها العناصر التي
أشار إليها ابن القيم، وهي:
1- اعتبار النقد أداة للدفع ووسيلة للتبادل للسلع والمنافع.
2- اعتباره أداة لتقييم الأشياء ومعرفة أثمان المبيعات.
3- ثبات قيمة الوسيلة التي تستخدم لتقييم الأشياء وثبات معيارها، بحيث لا
ترتفع ولا تنخفض.
4- عدم الاتجار بها، أي: عدم اعتبارها سلعة يتجر بها.
ووفقاً لهذه الضوابط: فإن النظرية النقدية كما توصل إليها ابن القيم تتفق في
بعض جوانبها مع ما تم التوصل إليه في هذا العصر في ظل ما عرف بقاعدة النقد
الورقية، حيث انفصلت القيمة الاقتصادية للنقود عن أي قيمة اقتصادية لأي سلعة
مادية معينة، وبالتالي: فإن هذه القاعدة تتمثل في مجموعة الشروط والقيود
التنظيمية التي تضعها الدول لإصدار النقود الورقية وما تطور من وسائل في
التداول النقدي، وهو ما عرف بالنقود الائتمانية، ومن هذا يتضح: أن وجهه نظر
ابن القيم تختلف عما هو متعارف عليه في العصر الحاضر؛ فابن القيم يرى عدم
جواز الاتجار في النقود؛ بخلاف النظام النقدي المعاصر الذي يقوم على اعتبار
النقود سلعة مثل باقي السلع لها قيمة ذاتية تتمثل في قيمة الزمن، الذي يقوم على
فكرة الربا؛ حيث إن العلة في التذبذب في أسعار العملات في السوق المالية العالمية
يعود فيما أظنه إلى نقص الضوابط الخاصة بالنقود حسب ما أشار إليها ابن القيم،
ومنها منع الاتجار بالنقود.
على ضوء ما سبق من تحديد لمفهوم النقد عند ابن القيم وغيره من فقهاء
المسلمين: فما هو الموقف تجاه النقود الورقية من حيث شرعيتها ومدى جريان
الحكم الشرعي للذهب والفضة عليها، بعد أن أصبح التعامل بالذهب والفضة
مستحيلاً؛ لاتساع وكبر حجم التبادل السلعي والخدمي بين أفراد المجتمع؟ .
إن الإجابة على هذا التساؤل ترتبط وفق ما سبق مناقشته بأن استخدام معدني
الذهب والفضة وسيلةً للتبادل وإبراء الذمة، وارتباط علة الربا بالنسبة للذهب
والفضة بالثمنية، وأن قيام الأوراق النقدية مقام الذهب والفضة يؤدي إلى سريان
العلة عليها، وبالتالي: سريان الأحكام المترتبة على الذهب والفضة عليها، باعتبار
أن العملات هي أجناس؛ حيث إن الذهب جنس والفضة جنس، وأن العلة الجامعة
بين الذهب والفضة في أحكام الصرف هي الثمنية، وبالتالي: سريان هذه العلة
على النقود الورقية لاعتبارين:
1- اجتماع طبيعة الجانب المادي من حيث إن المادة للعملات الورقية هي
الورق، بينما الجامع للذهب والفضة مادة المعدن.
2- اجتماع علة الثمنية بعين الذهب والفضة، وهذا يسري على العملات
الورقية المختلفة لمختلف الدول.
على ضوء هذا: تصبح العملات الورقية أجناس بتعدد جهات إصدارها،
فالنقد الأمريكي مثلاً جنس، والنقد السعودي جنس ... وهكذا، وقد أفتت هيئة كبار
العلماء في السعودية بأن العملات الورقية أجناس [8] .
حيث نص على جريان الربا بنوعيه (الفضل والنساء) في العملات الورقية،
كما يجري الربا بنوعيه في النقود المسبوكة من الذهب والفضة وغيرها من المعادن
كالفلوس، وقد أيد المجمع الفقهي الإسلامي هذه الفتوى [9] .
على ضوء هذا: فإن عمليات الصرف الحاضر بين العملات المختلفة جائزة
عند توفر شرطي الحلول والتقابض، أي: جواز شراء الدولار الأمريكي بسعر
ثلاثة ريالات ونصف أو أكثر أو أقل، بشرط التقابض بسعر اليوم، استناداً إلى
حديث ابن عمر الذي جاء فيه: (كنت أبيع الإبل بالبقيع؛ فأبيع بالدنانير وآخذ
الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه،
فأتيت رسول الله في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله: رويدك، أسألك: إنى أبيع
الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ
هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها؛ ما لم تفترقا وبينكما شيء) [10] فالواضح من هذا الحديث: أن التصارف
الجاري فيه تقابض بمظهره الشكلي على أساس الحق القائم بهيئة دنانير في الذمة
بتسديده بما يساويه من دراهم بسعر ذلك اليوم.
وعليه: فما هو حكم التعامل العملي الذي يحدث في البنوك من حيث أسلوب
التصارف؟ فمن المعروف أن عملية الصرف: إما أن تكون من خلال الصندوق، أو بالقيد على حساب العميل، وما يرتبط بذلك أيضاً من عملية البيع والشراء
بالعملات من خلال أسواق العملات العالمية. فما هي مواطن الربا على ضوء هذا
الواقع؟
أما بالنسبة للدفع والأخذ من البنك مباشرة بتبادل عملة ورقية مقابل شراء
عملة أخرى: فلا إشكال فيه من ناحية توافر شرط التقابض؛ حيث يسلم الراغب
في الشراء النقود المحلية، ويتسلم العملة الأخرى، فهذا تقابض حال ومنجز، أما
إذا كان دفع العملة من حساب الشخص في البنك نفسه بخصم قيمة العملة المشتراة
من حساب المشتري لدى البنك، وحيث إن البنك يتعامل مع الحساب المفتوح لديه
من قبل المشتري على أساس أنه وكيل له الحق بالدفع والإضافة عند ورود تعميد
من صاحب الحساب، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه يتوفر في هذا الأسلوب أساس
التقابض؛ حيث إن البنك يتسلم ما يقابل قيمة العملة المشتراة من حسابه المودع لدى
البنك، وهذا المال هو وديعة محفوظة لديه وهو مفوض بالتصرف فيها مع ضمانها
للمودع.
المواطن الربوية في عمليات تبادل العملات الورقية:
أصبح التعامل بالعملات شراءً وبيعاً أسلوباً من أساليب الحصول على الأرباح وبالتالي: ظهرت صناديق خاصة في البنوك تتولى التعامل بها في سوق العملات
في أوروبا وأمريكا، وتحولت النقود إلى سلع يتم الاتجار بها، واعتبر الاتجار فيها
من الأمور التي تزاولها بعض البنوك الإسلامية كوسيلة لتحقيق الأرباح لعملائها
المودعين لديها بدلاً من أخذ الفائدة الربوية.
يأخذ أسلوب الاتجار بالعملات صوراً متعددة، وقبل مناقشة مواطن الربا في
هذه الصور والتعامل لا بد من مناقشة المبدأ الأساس، وهو: هل يجوز الاتجار
بالعملات شراءً وبيعاً؟ ... تختلف الآراء حول ذلك: فمن مجيز للاتجار فيها إذا
تحقق التقابض في مجلس العقد، وذلك بالخصم من حسابات المتاجرة بالعملات لدى
السمسار الذي يتولى إجراء عمليات البيع والشراء نيابة عن المُتاجِر (قد يكون
السمسار بنكاً أو مؤسسة أو فرداً يقوم بهذا العمل) وفق شروط وقواعد تحدد من يقوم
باتخاذ قرار البيع والشراء سواء أكان السمسار باعتباره وكيلاً مفوضاً من قبل
المتاجر في العملات، أو تلقي التعليمات الخاصة بإنفاذ البيع والشراء من قبل
المتاجر وفق إجراءات معينة.
يقوم السمسار بعمليات الاتصال بمندوبيه في أسواق العملات العالمية بإنفاذ
التعليمات الخاصة بالشراء أو البيع لصالح عملائه، وقيدها بالإضافة أو الخصم
على حسابه لدى مندوبيه في تلك الأسواق، ويتحقق شرط التقابض من خلال القيد
على الحسابات المختلفة باعتبار أن قيد الإضافة والخصم يماثل عمليات التقابض
المادي للعملات؛ لهذا: فإن بعض البنوك الإسلامية تزاول نشاط الاتجار في بيع
وشراء العملات وفق هذا الأسلوب، باعتبار أنه أسلوب من الأساليب الجائزة لتحقق
شرط التقابض، وبالتالي: انتفاء الربا من هذا الأسلوب واعتباره قناة من قنوات
استغلال المدخرات واستثمارها.
إن الحرمة لهذا التعامل كما أراها لا تقوم على أساس تغير وسيلة التقابض في
مجلس العقد، حيث تبدل أسلوب التقابض وطبيعة مجلس العقد؛ فقد أصبح مجلس
العقد يتم من خلال وسائل الاتصال الحديثة التي سهلت ووسعت نطاق مجلس العقد
من خلال التخاطب بالتهاتف والفاكس والحاسب الآلي، أي: أصبحت الأسواق
متقاربة وكأنها في مكان واحد، وأصبح حلول القيد على الحسابات المختلفة، بديلاً
عن التقابض المادي والحصول على التفويض والالتزام بذلك باستخدام هذه الوسائل
الحديثة.
إن الحرمة تأخذ جانباً آخر، وهو: تغير طبيعة وظيفة النقود، فالنقود ليست
سلعة يتجر فيها مثل بقية السلع، وخاصة النقود الورقية التي لا يمكن تحويلها إلى
سلعة اقتصادية مثل الذهب والفضة اللذين يمكن شراؤهما كسلع لاستخدامهما موادّاً
أولية لصناعات مختلفة، وبالتالي: الخروج بالنقود عن طبيعتها التي جعلت لها،
والتي من أجلها تم قبولها، وهي: أنها أداة للدفع ووسيلة للتبادل، وقد سبق أن
أوضحنا وجهة نظر الإمام ابن القيم واستشهادنا بقوله.
إن التحليل والمنطقية التي وصل إليها ابن القيم (رحمه الله) فيما يتعلق بالنقود، والتي حددت مشكلة النظرية النقدية المعاصرة في أن الاتجار في العملات هو
العلة في اضطراب أسواق النقد العالمية؛ حيث إن الاتجار بالعملات قد أفسد عملية
التبادل التجاري، وألحق الضرر بالتبادل من خلال اضطراب أسعار السلع العالمية، فأصبحت العملات تخضع لتقلبات قانون العرض والطلب؛ مما أثر على أسعار
السلع؛ فالتاجر الذي يرغب في شراء أي عملة بقصد الاستيراد لسلعة معينة من أي
بلد سيتأثر بالتذبذب في أسعار العملات التي يود الاستيراد بواسطتها من خلال
عمليات المضاربة في العملات، حيث إن العرض والطلب على العملات غير
حقيقي، حيث تتم المضاربة فيها والاتجار فيها بيعاً وشراءً، ليس بقصد شرائها
لذاتها لتحقيق الوظيفة الأساسية للنقود ... وهذا يؤدي إلى مفسدة وإضرار بالناس،
كما قال ابن القيم، حيث قال: (وسر المسألة: أنهم مُنعوا من التجارة في الأثمان
بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات
بجنسها، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع
التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها؛ فهو بمنزلة الدراهم التي
قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: (تبرها وعينها سواء) فظهرت حكمة
تحريم ربا النَّساء في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد) [11]
وفي موضع آخر أورد (رحمه الله) مناقشة لطيفة خاصة عن استعمال المادة
المضروبة منها العملة المعدنية لأغراض أخرى غير غرض النقد، تدل على مدى
عمق فهمه لمفهوم النقد ودوره في الحياة الاقتصادية، مع معالجته لازدواجية
استخدام معدن الذهب لأغراض صناعية وكأداة للنقد، يقول (رحمه الله) : (إن
الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس
الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا
يجري بين الأثمان وسائر السلع وإن كانت من غير جنسها؛ فإن هذه بالصناعة قد
خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها ولا
يدخلها (إما أن تقضي، وإما أن تربي) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت
بالثمن المؤجل) [12] ، ومن هذا النص ندرك: أنه يجوز شراء الحلي المصنوعة
من مادة العملة المعدنية، ولو تفاضلت من حيث اختلاف الوزن ما بين وزن الحلي
ووزن العملة المعدنية، إذا تم التقابض يداً بيد في مجلس العقد مثل بيع الذهب
بالفضة.
وعلى ضوء ما سبق: فإن الاتجار في العملات بيعاً وشراءً بقصد الربح،
وليس بقصد استخدامها من أجل تمويل الاستيراد والتجارة في السلع: مكروه، وقد
يصل إلى الحرمة؛ للأمور التالية:
1- التوسع في البيع والشراء في أسواق العملات العالمية أدى إلى هروب
أموال المسلمين إلى الدول الكافرة، وهذا الاتجار لا يهدف إلى الحصول على سلع
وخدمات يحتاجها المسلمون، ولكنه بقصد المضاربة لتحقيق الربح؛ مما أدى إلى
ضياع فرصة الاستفادة من هذه المدخرات التي يتم استخدامها في الاتجار في
العملات الأجنبية، والقاعدة الشرعية تقول: عند اجتماع المصالح مع المفاسد، فإذا
كانت المفسدة أعظم من المصلحة: درأنا المفسدة، ولو تأتى ذلك بفوات المصلحة،
والمصلحة الفائتة هي ما يمكن أن يحققه المتاجر في العملات في أسواق العملات
الأجنبية من أرباح، لكن مفسدة تسرب أموال المسلمين من بلاد المسلمين وعدم
استغلالها فيما فيه منفعة ومصلحة للاقتصاد يحقق مفسدة أكبر من المصلحة التي قد
يحققها المتاجر في العملات، يقول (تعالى) : [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] [البقرة: 219] فحرمهما لأن
مفسدتهما أكبر من منفعتهما.
2- أن خروج الأموال من بلاد المسلمين بقصد الاتجار بالعملات الأجنبية
للدول الكافرة يحدث أضراراً بميزان المدفوعات للبلاد الإسلامية؛ حيث إن هذا
الخروج لا يقابله سلع ولا خدمات تفيد اقتصاد الدول الإسلامية، بل إن ذلك يمثل
تهريباً لفائض الإنتاج المحلي وضخه لصالح القوى الأجنبية، وفي هذا تعاون على
الإثم بإضعاف اقتصاديات الدول الإسلامية وحرمانها من الأموال التي يمكن لو تم
استثمارها في مجالات إنتاجية أن تزيد الناتج القومي وتسهم في تشغيل القوى العاملة
العاطلة.
3- يرتبط الاتجار في العملات بشبهات أخرى تؤكد الحرمة، ومن ذلك: ما
يعرف ببيع وشراء الخيارات، حيث لا يتم الشراء والبيع في محل العقد، وإنما يتم
إعطاء خيار لمشتري العملة بإتمام الصفقة أو عدمها خلال فترة زمنية معينة، ويتم
دفع مبلغ معين من قيمة الصفقة خلال فترة الخيار، يحق للمشتري أو البائع فيها
إمضاء البيع والشراء، ويتم الاتجار في هذه الخيارات أيضاً، وإذا انتهت فترة
الخيار ولم يقم المشتري بالتصرف بهذا الخيار بإتمام الصفقة أو بيع الخيار بسعر
أعلى مما اشتراه به: يخسر ما دفعه، وهذا الأسلوب يقوم على التوقعات
والمضاربة، فهو شراء وبيع غير ناجز، وبالتالي: حصل المحذور الشرعي بعدم
التقابض الحسابي.
تتم ممارسة الاتجار بالعملات من قبل بعض البنوك الإسلامية، وقد أوجدت
لها صناديق استثمارية، وأجيز شراء وبيع العملات بهدف تحقيق الربح نتيجة
للتذبذب في أسعار العملات، ولذا: فإن الواجب الامتناع عن ذلك، أما شراء
العملات من المصارف بقصد تمويل عمليات الاستيراد، وليس بقصد تحقيق الربح
من خلال الاتجار فيها: فهذا أمر جائز؛ لأن ذلك بقصد تحقيق التبادل السلعي
والخدمي، وهي الوظيفة الأساسية التي من أجلها جعلت النقود، ويدل على ذلك
حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) الذي رواه أبو داود والنسائي، جاء فيه: (أتيت
رسول الله وهو في بيت حفصة، قلت: يا رسول الله: رويدك، أسألك، إني أبيع
بالبقيع؛ فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من
هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله: لابأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم
تفترقا وبينكما شيء) [13] ، فهذا الحديث يوضح دور التصارف وتبادل النقود
بعضها ببعض من أجل تيسير التجارة؛ حيث إن القصد من ذلك: إتمام عمليات
التبادل السلعي، وبالتالي: فإن شراء العملة الأجنبية بسعر يومها عند فتح الاعتماد
أو سداد قيمة السلعة الواردة عند وصول البضاعة بسعر فتح الاعتماد وبسعر سداد
قيمة الاعتماد: هو ما يمكن أن يقاس على حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) .
أما الصورالأخرى للتعامل بالعملات، التي يمكن أن يشوبها الربا، فهي
الصور التالية:
1- بيع وشراء العملات على أساس السعر الآجل ولو كان القصد من ذلك
تثبيت قيمة السلع المستوردة، وقصد هذا التعامل هو: التعاقد على شراء العملة
حالياً، ولكن تنفيذها أو قيدها لصالح المشتري وخصمها من رصيد البائع لا يتم إلا
بعد مدة مؤجلة متفق عليها: شهر، أو ثلاثة أشهر ... ، والسعر إما أن يكون
مساوياً للسعر الحاضر، أو أعلى منه، أو أقل منه، والاختلاف في السعر يعود
إلى توقع ارتفاع الفائدة أو انخفاضها بين مراكز بيع العملات العالمية.
وربوية هذا التعامل تتمثل في عدم تنفيذ التعاقد في مجلس العقد، وهو مخالف
للمنع الوارد في الأحاديث النبوية المحرمة لربا النِّساء والتفاضل.
2- الشراء والبيع الآجل للعملات، وهو ما يعرف في سوق العملات باسم
سواحب، حيث يتم شراء عملة مؤجلة التسلم، وفي الوقت نفسه: يتم بيعها بعملة
أخرى مؤجلة؛ فمثلاً: يتم شراء دولارات مقابل جنيهات إسترلينية حاضراً أو
مؤجلاً، ثم بيع ما اشتراه نفسه بريالات مؤجلة، أي: يتم التسليم على ما تعاقد
عليه عند حلول الأجل.
إن التصارف على هذا الأساس باعتبار أن العملات أجناس أثمان يتوفر فيها
علة الثمنية عند من اعتبر أن العلة هي الثمنية.. هذا التعامل من الصرف يعتبر
تعاملاً ربويًّا لحديث عبادة بن الصامت عن عبد الله ( ... سمعت رسول الله ينهى
عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر
والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً بعين. فمن زاد أو ازداد فقد أربى ... ) . [14]
__________
(1) النكت والعيون: تفسير الإمام أبي الحسن الماوردي ج 3 ص.
(2) أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي ج 3 ص1067.
(3) المغني ج 2 ص 625.
(4) المغني ج 4 ص 59.
(5) المرجع السابق، ج 3 ص 10.
(6) مجموعة رسائل ابن عابدين، ص 57.
(7) إعلام الموقعين، لابن القيم، ج 2 ص 137.
(8) القرار رقم 2 الصادر في الدورة الثالثة المنعقده فيما بين 1/4/1393هـ إلى 17/4/1393هـ.
(9) القرار رقم 6 الدورة الخامسة المنعقدة برابطة العالم الإسلامي فيما بين 8 16/4/1402هـ.
(10) أخرجه النسائي: كتاب البيوع، ج 7 ص283.
(11) إعلام الموقعين،، ج 2 ص 140.
(12) السابق، ج 2 ص 141.
(13) سبق تخريجه.
(14) مسلم، باب المساقاة، ح/1587.(101/34)
دراسات دعوية
لماذا الدعوة العائلية؟
نحو برنامج عملي للدعوة بين الأقارب
بقلم: حجاج بن عبد الله العريني
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: أنه لما نزل قول الله (تعالى) : ... [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] [الشعراء: 214] أتى النبي الصفا، فصعد، ثم نادى: (يا صباحاه!) فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجيء إليه، ورجل يبعث رسوله،
فقال رسول الله: (يا بني عبد المطلب! يا بني فهر! يا بني لؤي! أرأيتم لو
أخبرتكم أن خيلاً بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟) قالوا: نعم. قال:
(فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) [1] . فها هو محمد المبعوث للناس كافة،
يوجه نداء خاصّاً إلى الأهل والقرابة والعشيرة استجابة لأمر الله (جل وعلا) .
ودعوة الأقارب والأهل والأرحام من الصلة والبر، بل إن الدلالة على الخير
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أبر البر والإحسان، والدعاة في جانب
الدعوة العائلية على ثلاثة أحوال إلا من رحم الله:
1- رجل أغلق على نفسه مع مجموعة من الأقارب، انتقاهم بعناية على
أساس التوافق والانسجام أو الاستجابة، وترك البقية بحجة عدم الاستجابة؛ حيث
حاول دعوتهم مرة أو مرتين، وظن أنه معذور بذلك، وهذا ليس أسلوب أهل الجهد
والجهاد في الدعوة.
2- رجل مشغول بأمور دعوية خارج نطاق العائلة، وقد حصل له كثير من
البرود في مواقفه وعلاقته مع الأقارب من الناحية الدعوية، وهذا نسي حقّاً مهمّاً من
حقوق أرحامه عليه، وقصّر كثيراً في دعوتهم.
3- رجل له نشاط دعوي في عائلته، ولكنه نشاط يتم بطريقة عشوائية،
بدون أن يكون هناك تخطيط ومتابعة، ولا شك أن العمل المدروس أكثر ثمرة من
العمل غير المنظم.
مميزات الدعوة العائلية:
إن للدعوة العائلية سمات تتميز بها عن الدعوة العامة، وهذه المميزات تختلف
من عائلة إلى أخرى، ولكنها تجتمع في كونها عوناً للدعاة للقيام بهذا العمل
واستمراره، ومن هذه المميزات:
1- أن عدد الأفراد الذين يتم الاحتكاك بهم في الدعوة العائلية يعتبر عدداً
كبيراً مهما صغرت العائلة التي ينتمي إليها الداعية؛ فإذا نظرنا إلى أي شخص نجد
أن لديه مجموعة كبيرة من الأقارب، يتواصل معهم وتربطه بهم روابط المودة
والرحمة.
2- سهولة الاحتكاك بأولئك الأقارب والوصول إليهم: يزورهم ويزورونه،
ويقابلهم في المناسبات، بل قد يشترك معهم في السكن.
3- الدعوة العائلية تعتبر وسيلة دعوية، يمكن أن تستمر ولا تنقطع لأي
سبب إذا طبقت بطريقة جيدة.
4- الدعوة العائلية إذا أديرت بشكل جيد، فإنها تفيد في شحذ الهمم وتحريك
الطاقات الخاملة عند بعض الصالحين في الأسرة، وتدفعهم للدعوة، وتكون وسيلة
ناجحة بإذن الله للتأثير عليهم.
5- إن الدعوة العائلية تؤدي إلى استقامة الأقارب، والتخلص من المنكرات؛
مما يكون له مردود إيجابي على بيت الداعية وأطفاله.
6- تُيسر الدعوة العائلية التأثير على النساء في المجتمع، وخاصة أن النساء
أقل احتكاكاً بالدعوة ووسائلها، وأيضاً: توفر هذه الدعوة الاحتكاك والتأثير على
الأطفال.
7- من خلال الدعوة العائلية يتم الوصول إلى جميع أفراد المجتمع، حيث إن
المجتمع هو مجموع هذه الأسر.
من الوسائل الدعوية العائلية:
وسائل الدعوة العائلية كثيرة ومتنوعة، وسنشير هنا إلى نماذج منها فقط، ولا
بد أن لكل عائلة ما يناسبها، ثم إن البدء والاستمرار في هذه الدعوة ينتج أفكاراً
وبرامج جديدة ومؤثرة.
1- أهم وسيلة أو خطوة في الدعوة العائلية، هي: التنسيق، والتخطيط،
وتحديد الأهداف المرحلية، مع بيان الوسائل والطرق، ويبدأ ذلك بالتنسيق بين
مجموعة من الأخيار في العائلة، وإقناعهم بفكرة الدعوة العائلية، ومن ثم: تنظيم
الأفكار ووضع الخطط الدعوية، ويتبع ذلك: التقييم الدوري المستمر لجميع
الأنشطة والبرامج الدعوية لتصحيح الأداء واكتساب مزيد من الخبرة، ولا بد من
التكاتف والتعاون في هذا المجال؛ فاليد الواحدة لا تصفق! .
2- تمثيل القدوة الحسنة في أمور الدنيا والدين؛ فلن يتقبل الناس الدعوة من
شخص فاشل في حياته العملية أو العلمية، أو من شخص لديه قصور ظاهر في
التزامه الشرعي. ولكي يكون الداعية قدوة حسنة مؤثرة: عليه أن يتخذ من
الرسول قدوة له [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] [الأحزاب: 21] .
3- توثيق الصلة مع الأقارب، وكسب مودتهم، وإتقان فن التعامل معهم،
حتى يشعر كل فرد بأن له علاقة خاصة بالداعية، وهذا لا يعني النفاق والابتذال،
ولكن علاقة صادقة، ومودة خالصة، ومبادئ ثابتة.
4- إقامة لقاء دوري للعائلة (شهريّاً مثلاً) ، وذلك لزيادة الألفة والمحبة،
وتوطيد أواصر المودة، وتحقيق صلة الرحم، كما أن مثل هذه اللقاءات توفر وقت
الداعية، حيث يمكنه القيام بواجب صلة الرحم والدعوة في وقت واحد.
5- الاستفادة من التجمعات العائلية، سواء اللقاء الدوري أو المناسبات
الطارئة مع الحذر من المبالغة المنفرة.
ويكون ذلك بعدد من الوسائل، منها:
أ - مساعدة صاحب المناسبة بالسعي في إجراءات ترتيب اللقاء، ودعوة
الضيوف، وكل ما يمكن القيام به من خدمة.
ب- توزيع أي جهد دعوي صالح وموثق، سواء أكان شريطاً، أو كتيباً، أو
ورقة مفيدة، أو فتوى مهمة ... أثناء اللقاء، والحرص على ذلك، والاستمرار
عليه في كل مناسبة.
ج - دعوة بعض العلماء أو طلبة العلم في المناسبات العائلية؛ لإفادة
الحاضرين فيما يهمهم في أمور دينهم ودنياهم [2] ، ويتم التركيز على المواضيع
التي تهم عموم الأسرة.
د - إعداد المسابقات الثقافية المناسبة لجميع فئات العائلة؛ لاستغلال الوقت
بالنافع والمفيد لرفع المستوى الثقافي لأفراد العائلة.
هـ- الحديث عن أحوال المسلمين وأخبار العالم الإسلامي، كما يمكن عرض
بعض أفلام الفيديو التي تظهر هذا الواقع؛ لزرع الإحساس بمآسي المسلمين وحثهم
على دعمهم والدعاء لهم.
و التذكير والحث على مجالات الخير المنتشرة (والحمد لله) : كالمحاضرات، والخطب، والندوات.. والإعلان عنها، والتعريف بالأشرطة الجيدة وأماكن
وجودها.
ز- طبع أسماء وهواتف أفراد العائلة بشكل جذاب وتوزيعها؛ للمساهمة في
صلة الرحم.
ح- استخدام القصص والحكايات الواقعية المؤثرة للدعوة، وقد لوحظ أن هذا
الأسلوب من أقوى أساليب التأثير على الناس وأيسرها، ويمكن الاستفادة من بعض
الكتب التي تحكي هذه القصص، ومن ثم: سردها في هذه اللقاءات.
ط- توقير الكبار وأصحاب الوجاهة في العائلة، وبيان الثمار التي تجنى من
خلال تلك اللقاءات؛ لكسب تأييدهم لمشاريع الدعوة العائلية من بدايتها، وذلك لكي
يُستفاد من مكانتهم في تقوية الدعوة العائلية، أو على الأقل حتى لا يكونوا ...
معارضين لها.
6- الإحسان إلى أفراد العائلة، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم،
ومساعدتهم فيما يحتاجون إليه، وإحياء معالم التكافل الأسري، ويجب على الداعية
أن يُعرَف بالمواقف المشرفة وعلاج الأزمات، وليس فقط بالوعظ والإرشاد،
ويحسن أن يقوم الداعية بتلمس احتياجات أفراد العائلة، والمبادرة بمساعدتهم قبل
أن يُطلب منه ذلك، مع الحذر من التطفل عليهم في أمورهم الخاصة.
7- حصر المخالفات الشرعية الموجودة في العائلة، وذلك للتركيز عليها
وإصلاحها تدريجيّاً بالحكمة والأساليب المناسبة، ويحسن هنا محاولة معرفة أسباب
الانحراف ليسهل العلاج.
8- الاهتمام بالأطفال والمراهقين، فقد قال أحد الحكماء: (أكرم صغارهم؛
يكرمك كبارهم، وينشأ على محبتك صغارهم) ، ويكون ذلك بإعداد أنشطة خاصة
بالصغار والمراهقين، يُراعى فيها سنهم وميولهم، ويمكن القيام بالرحلات وتنظيم
ذلك للخروج بأكبر فائدة.
9- الزيارات المنزلية لأفراد العائلة، وذلك لما فيها من محبة ورفع الكلفة
وتعميق الروابط؛ وهذا مما يغفل عنه كثير من الدعاة لكثرة الأشغال وعدم التفرغ،
مما ينتج عنه وجود حاجز بين الداعية وأفراد عائلته.
10- تقديم الهدايا لأفراد العائلة والتودد إليهم، لما للهدية من أثر عجيب؛
فهي تقرب البعيد، وتؤلف القلوب، وتروض النفوس المستعصية، وتحبب الداعية
إلى الناس، يقول الرسول: (.. وتهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء) [3] .
11- الاستفادة من بعض العادات والتقاليد الموروثة غير المخالفة للشرع لدى
بعض الأسر واستثمارها في المجال الدعوي، نحو ما ينتشر بين النساء خاصة من
قيامهن بزيارة المرأة التي رزقت بمولود، أو المتزوجة حديثاً، أو القادمة من سفر
بعيد ... أو غير ذلك، وتقدم هدية عينية لهذه المرأة، فحبذا لو أضيف لهذه الهدية
المادية مجموعة من الأشرطة والكتيبات والنشرات الدعوية الصالحة ... وغيرها
مما ينفع المهدى إليه في دينه [4] .
12- الاهتمام بتأمين الدعم المادي لإنجاح المشروع الدعوي العائلي، فبدون
ذلك لا يمكن الاستمرار في إيجاد الحوافز: كالهدايا، وجوائز المسابقات، والتوزيع
الدوري للأشرطة والكتيبات، وهذا الدعم المادي يجب أن يكون مستمرًّا وغير
منقطع طوال العام.
13- شكر كل من أسهم في التواصل في العائلة، أو ساعد في الدعوة تشجيعاً
له للمواصلة وبذل المزيد، وحثًّا لغيره للقيام بدوره.
14- الحرص على إيجاد صندوق للتكافل العائلي، يكون الاشتراك فيه ضمن
أسس متفق عليها، وتكون مهمة القائمين على هذا الصندوق متابعة أوضاع العائلة
واحتياجاتها، مثل:
أ - الشاب الذي يريد الزواج، ومساعدته.
ب - الفقراء في العائلة أو من تحمّل ديناً، ومساعدته بأسلوب يحفظ له
كرامته.
15- الدعاء والتوجه إلى الله وطلب عونه (جل وعلا) ، والدعاء لأفراد
العائلة بالصلاح والهدى، يقول: (دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند
رأسه ملك موكل، كلما دعا بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل) [5] .
أسباب نجاح واستمرار الدعوة العائلية:
هناك بعض الأسباب المؤثرة على تطبيق برنامج الدعوة، يجب أن يأخذ بها
كل من يتصدى للدعوة العائلية، ونورد هنا بعض الأسباب العامة التي يجب أن
يضعها الداعية ضمن خطته الدعوية:
1- الإخلاص لله (تعالى) ، وإيمان الداعية بما يدعو إليه؛ فالدعوة النابعة عن
إخلاص مع القوة والعزيمة والإيمان والاعتماد على الله: لا بد أن تؤثر وتؤتي أكلها، فالإخلاص أمرٌ مهمّ لنجاح الدعوة واستمرارها.
2- أن يعمل الداعية بما يدعو إليه، ويبتعد عما ينهى عنه، فليس معقولاً أن
يؤثر في الناس من يقول ولا يفعل، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] [الصف: 2، 3] وقد
ورد في الصحيحين أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (يجاء بالرجل يوم القيامة
فيلقى في النار فتندلق أقتابه (يعني أمعاءه) في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ ! أليس كنت تأمرنا
بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن
المنكر وآتيه) [6] .
3- دراسة أي نشاط مقترح للتطبيق على الدعوة العائلية دراسة مستفيضة
لمعرفة إمكانية تنفيذ هذا النشاط؛ إذ لا يكفي أن تكون الفكرة ممتازة وهادفة، بل لا
بد من معرفة إمكانية تنفيذها واستمرارها، عملاً بقوله حينما سُئل: أي الأعمال
أحب إلى الله؟ فقال: (أدومها وإن قلّ) [7] لأن التذبذب وبدء النشاط ثم إيقافه، أو
عدم إخراجه إخراجاً جيداً ومشوقاً: يقلل من استجابة المدعوين إن لم يفقدهم الثقة
والاحترام للبرنامج الدعوي.
4- عدم اليأس أو استعجال النتائج، وضرورة التأني وبعد النظر، وهذا
الأمر يغفل عنه كثير من الدعاة؛ فنجد أحدهم يتعجل النتائج، ويستغرب بطء
استجابة الناس، وينسى قول الله (تعالى) : [وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى
مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] [الإسراء: 106] فيجب على الداعية أن يكون حكيماً، ولا
يغفل عما أحدثته وسائل الهدم في عقول الناس وأفكارهم، وأن ذلك قد استغرق وقتاً
طويلاً، فلا نستغرب أن نحتاج إلى وقت مناسب لإعادتهم إلى طريق الهداية.
5- الانتباه إلى أن الانفتاح مع العائلة ودعوتها يجب ألا يؤدي إلى مداهنة
الداعية، فيشارك أو يحضر بعض المنكرات التي لا يجوز حضورها، أو يسكت
عن بعض المنكرات التي لا ينبغي له التأخر في إنكارها.
6- أن يعلم الداعية حال من يدعوهم؛ لأن الناس يختلفون في مدى تقبلهم
للدعوة، فمنهم من يرضى بها، ويقبل عليها، ويتفاعل معها، ومنهم من يغلق قلبه
أمامها، ويصم أذنيه عن سماعها، ويرفض أن يتفاعل معها. وكل واحد من هؤلاء
يحتاج إلى معاملة خاصة. وأيضاً: يجب أن يعلم الداعية أن النفس البشرية
لشخص واحد تختلف من وقت إلى آخر، فيجب مراعاة ذلك.
7- أن يعلم الداعية حال المتعاونين معه من الأخيار في العائلة، وأن يكون
خبيراً بهم وبقدراتهم، فيضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأن يوجه كل
شخص إلى ما يمكن أن يبدع فيه.
8- التركيز على بناء العقيدة وتثبيت الإيمان، لأنها الأساس والأهم،
والخطوة الأولى في الدعوة، وذلك عن طريق التركيز على:
أ - مواضيع العقيدة والإيمان، مثل: تعليم التوحيد، ومعنى (لا إله إلا الله
محمد رسول الله) ، والتحذير مما يضاد ذلك، ومثل: اليوم الآخر، والجنة والنار، والخوف من الله، ومحبته، وترسيخ التوحيد بمعانيه الشاملة.
ب - بناء الحصانات الفكرية ضد الشبهات الموجهة للإسلام وبناء الحصانة
ضد الفرق الضالة.
ج - تصحيح المفاهيم في القضايا التي شوهها أعداء الإسلام، وطرح
المفاهيم الغائبة التي يحتاج إليها المسلم.
9- العناية بجانب الوعظ والرقائق، والترغيب والترهيب، وتعظيم الله في
القلوب، وربط المدعوين بالقدوات الصالحة من السلف، وبيان محاسن الإسلام
وجوانب الإعجاز في تشريعه.
10- عدم التعالي أو الظهور بمظهر العالم أو الأستاذ، لكي لا يثير المدعوين، وخصوصاً كبار السن منهم، وليحرص الداعية دائماً على عدم إثارة غيرة
الآخرين منه.
11- الحرص على المظهر الحسن، فليس من الدين في شيء أن يكون
الداعية رث الثياب، بل إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يُرى أثر نعمته
على عبده، كما قال: (إن الله يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده) [8] .
12- استخدام التوجيه غير المباشر، وعدم المواجهة بالعتاب، بحيث يقوم
الداعية بالتوجيه دون أن يعلم المدعوون من هو المقصود بهذا التوجيه، وهذا منهج
نبوي، حيث كان حين ينكر على أصحابه بعض الأعمال يقول: ما بال أقوام
يفعلون كذا وكذا. وبهذا الأسلوب يتفادى الداعية التصادم أو إثارة الرفض
والاستعلاء لدى المدعو.
13- الصبر وسعة الصدر واحتمال الأذى؛ لأن من يتصدى للدعوة إلى الله
لا بد أن يناله أذى وابتلاء من الله (سبحانه وتعالى) ، وهذا هو طريق الأنبياء
والرسل وكل من قام بهذه المهمة العظيمة، يقول الله (تعالى) : [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ]
[الأنعام: 34] فيجب على الداعية أن يستوعب ذلك، ويصبر، ويتسم بطول النفس
وبعد النظر، حتى تتحقق له الغاية المنشودة.
14- الانتباه إلى وسائل الهدم في العائلة، سواء أكانت هذه الوسائل أشخاصاً
أو أجهزة أو غير ذلك، ومن ثم: مقاومتها بالحكمة؛ لأنه بغير ذلك نجد أن ما يبنيه
الداعية في وقت طويل يهدم في لحظات (وليس الذي يبني كمن هو يهدم) .
كلمة أخيرة:
وصية مهمة لك أيها الأخ المبارك حين تختار من يعينك على هذا المشروع
من الأخيار الصالحين في عائلتك، فعليك بمن تتوسم فيهم الشجاعة والكرم، فلا
يستطيع أن يقوم بهذا المشروع إلا من كان لديه إقدام وشجاعة، ولا يستطيع أن
يستمر في هذا المشروع إلا من يكون كريماً، ليس في بذل أمواله فقط في سبيل
الدعوة، ولكن في بذل الأوقات، وهذا قد يكون أهم من الأموال التي يمكن
الحصول عليها من مصادر أخرى، فالبخيل بوقته لا يمكن أن يقوم بعمل قوي ولا
بنشاط دائم مستمر، وهما أصل هذا المشروع الدعوي.
وفي الختام: اعلم أنك من خلال هذا المشروع الدعوي العائلي المبارك لن
تخسر شيئاً قط، بل سوف تستمتع بذلك، وسوف تجد السرور والطمأنينة في قلبك، وهما عاجل بشرى المؤمن، وسوف يهبك الله (تعالى) من السعادة والتوفيق -
حتى في أمورك الدنيوية- ما لا تحتسب، ومع ذلك: فإنه يجب عليك أن تعلم أن
الدنيا ليست هي دار الجزاء، وإنما هي دار الكد، والكدح، والعمل، أما جزاؤك:
فتنتظره في الدار الآخرة عند الله.
ولا يعني هذا أن المهمة سهلة، وأن الطريق معبدة.. لا؛ فإن المهمة صعبة، والطريق وعرة شائكة، والمعركة على أشدها في زمن سادت فيه الشهوات،
وانحرفت الأخلاق، وسيطر على الناس حب الدنيا حتى شغلتهم عن الآخرة وأنستهم
إياها. ولكن مما يشد العزم ويقوي الهمة للقيام بهذا المشروع: استحضارنا لمعية
الله الخاصة بعباده المؤمنين [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] [العنكبوت: 69] ، وإيماننا أن الثواب على قدر المشقة، وكلما كان الجهد أكبر، كان الثواب أعظم،
أضف إلى ذلك: ما يحصله الإنسان من سعادة حين يشعر أنه قد تخطى الصعاب
والعقبات وكان له سهم في خدمة هذا الدين.
أسأل الله (تعالى) أن يجعلنا من المصلحين العاملين الموفقين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير 6/16، 17 ومسلم في كتاب الإيمان ح/355.
(2) 92 وسيلة دعوية، إبراهيم الفارس.
(3) مالك في الموطأ، ص 1642.
(4) 92 وسيلة دعوية، إبراهيم الفارس.
(5) أخرجه مسلم:؛ كتاب الذكر والدعاء، ح/2733.
(6) البخاري: كتاب بدء الخلق، ج 4 ص 90، ومسلم في كتاب الزهد، ح/ 2989.
(7) البخاري: كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل.
(8) سنن الترمذي، ح/2820، وسنده حسن.(101/46)
نص شعري
الجنرال.. والوطنُ المنفى
شعر:د.حسين علي محمد
تَحْت جِدارِ الوطنِ المَنْفَى
كنتُ أمُدّ عروق دمائي
أتهيّأُ للدّفنِ
وحيداً
في الصحراءْ
يظهُر جِنْرَالُ الزّهْوِ فَتِيّاً
يأكلُ صَحْنَ بلاغتِه
الجوعى
والفقراءْ!
وردةُ جمجمتي
لن تُورق في زَبَدِ الصّمْتِ صباحا
لن تُزهر داخل أسوار حنيني
ذاتَ مساءْ!
لن أُبْرئكَ من الجَمْهرةِ بسوحي
الممتلئةِ بالرّعبِ
وبالأقذاءْ
وببحر دماءْ..
يتفجّرُ من ظِلّ الجنْرالِ الضّخْم
لن أُبرئكَ من الوهْم
في خِسّةِ ليلٍ يتمدّدْ
يبتلعُ العصفورَ الأخْضَرَ والغَيْمْ
في ساح الشّهَدَاءْ!
لنْ أخْلَعَ رأسي في مشهدِ عُرْيِ الرّاهنِ
في استخذاءْ
أرفعُ عينيّ مليا
في مشهدِ هذا الخزيِ المجنونِ
وهَرْولةِ (الرّ فقاءْ) !
إني أرقبُك وحيداً، تبدُو
كالمفتونِ
بأرضِ الغرباءْ!
ماذا تَفْعَلُ
تحت غيومِ الوَطَنِ المُثْقَلِ بالفَقْدِ
وأوْحالِ الدّاءْ؟
خُضْتَ بحارَ سقوطِك حتىّ الرّقَبَهْ
هل كان المْوتُ يُسابِقُ حُلْمَكْ
يسري في نبضِ دماءْ
تعلنُ عن ليلٍ يتخفّى
تحت الأضلاعِ الستة للنجمةِ
في الأنحاءْ!
نمشي فوق مناكبِ قتلانا الشهداءْ
كلّ مساءْ
تصفعُنا ذكراهُمْ
ليلاً
فجراً
ظهراً
عصراً
صيفاً
وشتاءْ
فلِماذا تُمسك مرآةَ الأيّامِ السوداءْ
وتحّدق في الأفْق المجدولِ بعاركْ
في خُيلاءْ؟ ! !
تَحْلُمُ بالشّعْرِ
وبالمَاءْ
والخضرةِ، والنخلِ،
وترنيمِ الشعراءْ
لكنْ..
خفقةُ نعلِ الجنرالِ الكاسِرِ
تذبحُ صدقك
لا تستأذنُ أُفقي، أفقك
كيْ تعبث فيهْ
شهْقةُ صمتي صمتِكْ
تنبئُ عن موتي، موتِكْ
ورحيل العُمْر غباراً
في هذا التّيهْ(101/56)
دراسة نقدية
الإسلامية عند نجيب الكيلاني..
(رأس الشيطان) نموذجاً
بقلم:إبراهيم بن منصور التركي
تورط أحد الباحثين فألف كتاباً بعنوان: (الإسلامية والروحية في أدب نجيب
محفوظ) [1] ، وذهب إلى أن محفوظ كاتبٌ أَلْهبَ رواياته بالحديث عن القيم
الإسلامية والروحية! ! ! ولا يخفى ما في هذا الفهم من سذاجة، كان أول من
استغربها واستنكرها الروائي (نجيب محفوظ) نفسه. على أن كاتباً آخر كان أكثر
حذقاً وبراعة وقدرة على التشقيق والتمحل وهو يستعرض موقف (نجيب محفوظ)
من الدين في كتابه (الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية) [2] ، حتى كان (محفوظ)
أول المصفّقين لهذا الفهم الدقيق الذي توصّل إليه هذا الباحث! ! ، إذ إنه يبرّئ في
ذلك الكتاب ساحة (نجيب محفوظ) من الاستخفاف بالرسالة السماوية، ليجعله داعية
إلى نبذ التصادم بين الدين والعلم، ومطالباً بتعاونهما في سبيل انتشال الواقع من
وهدته.
لا أريد بعنوان هذا المقال أن أتورّط كما تورط الكاتبان السابقان في التبرئة أو
التجريم؛ لذا: فإن ما تطمح إليه هذه الورقات هو تفكيك واحدة من روايات
(الكيلاني) إلى عناصرها الموضوعية، وبيان الكيفية التي تناول بها (الكيلاني) كلّ
عنصر، ومقارنة ذلك بما تقتضيه أصول الحسّ الإسلامي.
وقد كان الاختيار عشوائياً لواحدة من رواياته التي لم يسبق لي قراءتها وهي رواية: (رأس الشيطان) [3] وهذا يعني أن ما سيقال هنا لا يمكن أن يعمم على كل رواياته، بل هو خاص بهذه الرواية فقط؛ وذلك حتى لا يُظلم الرجل ويكون الحكم أكثر دقة وموضوعية وإنصافاً لهذا العَلَم الذي كان واحداً من المتحمسين للطرح الإسلامي في الأدب.
أولاً: فكرة الرواية:
من الصعب جدًّا تلخيص عمل روائي في بضعة أسطر، ولذا: لا يمكن هنا
إلا تسجيل الخط العريض الذي سارت فيه الرواية، فهي تتحدث عن كفاح الشعب
المصري أيام الوجود الإنجليزي، كما تشير إلى الفساد الإداري في الحكومة
المصرية آنذاك، فتُصوّر حالة وزير المواصلات (عثمان باشا) يوالي الإنجليز،
كما يعبث بإحدى القرى الصغيرة التي له فيها مزارع وبساتين، حتى يضطر أهل
القرية إزاء تعسف وظلم ناظر مزرعته إلى إحراقها وقتل ناظرها.
تسهم جريدة (النهضة العربية) بقيادة نائب رئيس تحريرها (ضياء الدين)
بالوقوف مع الفلاحين والكفاح ضد الوجود الأجنبي وأذنابه، وتتطور الأحداث حتى
يتم إقفال الجريدة واعتقال محرريها، كما تتشوه سمعة وزير المواصلات فيُعزل من
منصبه، ثم يصاب بشلل نصفي بعدما وجد نفسه مجرداً من كل شيء: المنصب،
والزوجة، والأبناء، وتنتهي الرواية بالإفراج عن المسجونين.
لا شك أن هذا الاختصار قد غيّب كثيراً من معالم الرواية، ولعل الاستعراض
الجزئي لبعض عناصرها يكشف عن أجزاء أخر من الرواية لم يمكن تناولها فيما
سبق. لكن يهم هنا النظر إلى لب الفكرة التي تقوم عليها الرواية، والنظر في مدى
إسلامية هذه الفكرة ...
من الصعب جدًّا القولُ بأن رفض الوجود الأجنبي وعملائه في أي قطر هو
فكرة إسلامية دون النظر في أسباب الرفض؛ فهي فكرة قد تكون وطنية، وقد تكون
قومية، فيستوي فيها المسلمون وغير المسلمين؛ فالدعوة إلى نبذ التدخل الأجنبي
في شؤون أي بلد، والدعوة إلى حكم وطني ذاتي: إنما هي من الدعوات التي
تطالب بها كل الشعوب مسلمها وكافرها، وبذا يمكن القول بأن هذه الفكرة التي
حوتها الرواية ليست فكرة إسلامية صرفة، بل هي فكرة ملتزمة بالمعني النقدي
للالتزام، وليس كل ملتزم إسلاميًّا. وقد كان يمكن للكيلاني أن (يؤسلم) هذه الأفكار
بتحوير بسيط، ولكن بالصورة التي جاءت عليها الرواية فما كتبه الكيلاني يمثل
أدباً ملتزماً لا أكثر.
2- الشخصيات الإسلامية:
لا يظهر في الرواية غير شخصية إسلامية واحدة، وهو أحد مشايخ القرية هو
(الشيخ الشاذلي) ، وهو أحد المتصوفة الذي يتحولق حوله رجال القرية، فيؤدون
الابتهالات والأناشيد الصوفية، وتبدو الشخصيات الإسلامية في غالب روايات
الكيلاني على هذه الشاكلة، فغالبهم متصوفة ومن شيوخ الطريقة.
هذه الصورة للشخصية الإسلامية عند الكيلاني لا تكاد تختلف عنها في
روايات نجيب محفوظ، مع فارق يسير وجوهري، وهو أنها في روايات محفوظ
تأتي شخصيات سلبية منعزلة عن واقع الناس ومشاكلهم، أما هي عند الكيلاني كما
في هذه الرواية فذات حضور فاعل، إذ تلتقي حولها الأفئدة، وتجتمع بها الكلمة،
وتصبح ذات مركز قيادي يخوّلها توجيه الناس وحفز هممهم، ولذا: لما أراد عثمان
باشا (وزير المواصلات) امتصاص غضب أهل القرية لم يجد من يعتذر إليه سوى
(الشيخ الشاذلي) ، الذي سيصفح عن أخطاء ناظر عزبته، ويطلب من أهل القرية
إعادة المياه لمجاريها.
ولئن كان إعطاء الشخصية الإسلامية هذا الدور الريادي أمراً يستحق الإشارة، فإن جعلها ذات مظهر صوفي يقوم على الأناشيد والابتهالات وجمع الناس حولها،
أمر يستحق العتَبَ؛ فالإسلام ليس ترانيم وأناشيد وطقوساً غنائية، كما أن كَوْن هذه
الشخصية الإسلامية بعيدة عن نبض الحياة اليومي، بزهدها الزائد والمبالغ فيه،
وبعدها عن الحاجات اليومية للإنسان، هذه الصورة، وإن كانت في ذاتها ليست مما
يرفض، لكن حصْر الشخصية الإسلامية في هذا المظهر أمر يسلُب الشخصية
الإسلامية امتدادها المفترض، حيث يمكن للشخصية الإسلامية أن توجد في أي
مكان وأي عمل، مع احتفاظها بكامل مبادئها وقيمها الإسلامية النبيلة، وهو ما لم
يظهر مع الأسف في هذه الرواية.
3- الأبطال:
في هذه الرواية برز بطلان اثنان، وهما نائب رئيس تحرير الجريدة (ضياء
الدين) ، وإحدى المحررات وهي (صفاء) . ولا بد من التوقف مع الدور البطولي
لهاتين الشخصيتين: فأما (ضياء) فهو أحد الناقمين على الوضع السيء الذي تعجّ به
البلاد، ولذا: فهو يكتب مقالاته الغاضبة على هذا الوضع، إما بشكل علني أو
بشكل غير مباشر، وهو كما تخبر الرواية عضو في تنظيم يسعى إلى محاربة
الوجود الإنجليزي في البلد، والقيام بأعمال لزعزعة ذلك الوجود، ونظراً لثقته
بالمحررة (صفاء) فقد دعاها لتكون عضواً في ذلك التنظيم؛ لحاجتهم إلى العنصر
النسائي في بعض الأعمال، ولأن دور (ضياء) لا يقتصر على محاربة الوجود
الإنجليزي فحسب، بل وعملائه كذلك؛ فقد ظلّ على خلافٍ دائم مع الوزير
(عثمان باشا) ؛ للفساد والتلاعب بحقوق المواطنين وتقديم المصالح الشخصية
أولاً، ولأن الوزير ثانياً عضو في حكومة لا تكتسب شرعيتها من مواطنيها،
بل من المندوب السامي الإنجليزي.
ويمكن إدراك بقية الأعمال التي يقوم بها الأستاذ (ضياء) بتسليط الضوء على
طبيعة الدور الذي طلب من (صفاء) القيام به، فهو يعطيها قنبلة، ويطلب منها أن
تدخل بها إلى إحدى أماكن تجمعات الجنود الإنجليز، فتتركها وتذهب، ثم تنفجر
القنبلة ليذهب من ضحاياها مجموعة من الجنود والضباط الإنجليز، كما أنه يطلب
منها أن تأخذ كامل زينتها لتحاول إغراء أحد الجنود الإنجليز واستدراجه إلى
الشاطئ، ومن ثم: يقدم رفاقها ليغرقوا هذا الجندي في مياه البحر.
إن هذا الدور الذي يقوم به البطلان هو دور نضالي، وكفاح شعبي من أجل
التحرر من ربقة المستعمر، وبغض النظر عن مشروعية مثل هذه الأعمال، فإن
مثل هذه الأعمال النضالية لم يربطها (الكيلاني) بدوافع إسلامية، بل كان وراءها
أهداف وطنية تهدف إلى تحرير التراب وإعادته إلى أصحابه. وبذا: فالأبطال في
هذه الرواية هم أناس وطنيون لا أكثر، مما يجعل مثل هذا الموضوع همّاً مشتركاً
بين جمع أدباء ذلك القطر، ولذا: كتب عنه أكثر من أديب وتناوله أكثر من روائي، وطريقة عرض (الكيلاني) لا تكشف عن خصوصية إسلامية، أو إشارة إلى
الحرص على السبيل الإسلامي، مما يؤكد ما سبق قوله.
4- العلاقة بين الرجل والمرأة:
تبدو في كثير من الروايات المعاصرة حتمية الاتصال بين الرجل والمرأة
سواء أكان اتصالاً بدافع الحب (البريء! !) -كما يُسمى-، أو كان بدافع الشهوة
والاستمتاع. وهذه الرواية لا تخلو من هذين النوعين: فمن النوع الأول ما يكون
بين (صفاء) و (ضياء) من الاقتران والتواؤم النفسي والفكري، مما ينشأ عنه علاقة
حب (بريئة! !) لا تخلو من الخلوة بين المحبّيْن، وتبادل الكلام والآراء، بل
وتبادل عبارات الغزل الرقيق الذي قد يصل إلى حد التغني بالجمال الظاهر. مثل
هذه العلاقة التي لا ينشأ عنها أي صلات آثمة! ، تبدو -في نظر الكيلاني- علاقة
عادية توطّئ غالباً للاقتران المشروع بين العاشقين (الزواج) ، ولذا: جاءت مثل
هذه العلاقة في كثير من روايات الكيلاني. ولا أحد يستطيع الجزم بأن خروج
العاشقين وتلاقيهما بعيداً عن الأعين، وتبادل الكلمات والعبارات في أي موضوع
كان لا أحد يستطيع الجزم بأن هذا هو ما أباحه الشرع من جواز رؤية المخطوبة
والتعرف عليها، بل إن فتح المجال أمام مثل هذه العلاقات في أي مجتمع مؤذن
بفساد كبير، ولعلنا نلتمس للكيلاني العذر بأنه كان يتحدث عن بيئة كانت تلك
عاداتهم الاجتماعية، ولكن ذلك لا يعني أن تورَد مثل هذه الصلات في معرض
الاستحسان والقبول.
كانت هذه هي العلاقة الوحيدة (النظيفة) في تلك الرواية، أما العلاقات الآثمة: فمنها ما كان بين زوجة الوزير (عثمان باشا) ومدير مكتبه (بركات) ، وقد سلّط
الكيلاني الضوء على هذه العلاقة في عدد من المواطن، ورسم صورة الخيانة
الزوجية التي ارتكبتها الزوجة مع (بركات) حتى اكتشف الوزير الأمر لحظة كانت
زوجته بين يدي (بركات) . تصوير هذه العلاقة الآثمة أخذ أكثر مما يجب وكان
يمكن الاقتصاد في الحديث عن ذلك، ومع ذلك: يحمد للكيلاني أنه لم يُسِفّ (كثيراً)
في هذا الجانب.
العلاقة الأخرى كانت بين (سلطان) ناظر عزبة (عثمان باشا) وإحدى فتيات
القرية المخدوعات (نجية عبد السلام) ، وقد ظلت هذه الفتاة محلّ عبث (سلطان)
وهي مخدوعة بوهم الزواج المنتظر، إلى أن طردها (سلطان) ، فما كان منها بعد
هذا العار إلا أن صعدت إلى النخلة وألقت بنفسها منتحرة! ! ! (هنا لا بد من
تساؤل: أما كان يمكن للكيلاني إيجاد الحلّ الإسلامي لمثل مأزق هذه الفتاة غير
الانتحار؟ !) .
الارتباط الزوجي بين (عثمان باشا) وزوجته قد أفرط الكيلاني في وصف
تفاصيله وهو يصور حالات تبذل المرأة لزوجها، مما لم يكن له داعٍ، ولم تكن
الرواية بحاجة إليه، ومثل ذلك يقال عن التعبير عن محاولات الاعتداء والإغراء
والمضايقة التي تعرضت لها وقامت بها (صفاء) ؛ فمرة كاد رئيس التحرير يعتدي
عليها وهو مخمور لولا أن سقط مغمى عليه بسبب سوء حالته الصحية، ومرة
تذهب لطلب عمل بعد إقفال الجريدة، فيساومها ويغازلها مدير الشركة حتى تخرج
إلى غير رجعة، ومن ذلك: ما قامت به من إغراء (بدافع وطني! !) ، حينما
تهتكت في ثيابها وملابسها لتغري جنديًّا إنجليزيًّا، ظلّت تشاغله عن تحقيق مأربه
(الدنيء) حتى جاء رفاقها فقتلوه ضرباً.
كل هذا التصوير لهذه العلاقات يوشك أن يسلب هذه الرواية القدرة على
تصوير الفضيلة في أبهى صورها؛ فالعلاقة المثلى كما جاءت في الرواية هي
مزيج من الهيام والغرام المشبع بالمحاذير الشرعية.
ويلحظ فيما سبق أن الكيلاني قد لجأ إلى إقحام الرجل والمرأة وهو ما قد يفعله
أحياناً حتى ولو لم تكن الرواية تستدعيه، لكونه عنصراً ضروريّاً لقيام العمل
الروائي عنده، وإذا تم الاتفاق على هذا المبدأ، فإن الاختلاف يكمن في الكيفية التي
يمكن أن يعبّر بها الروائي عن هذه العلاقة.
أخيراً:
يقتضي الإنصاف القول بأن الجنس في روايات الكيلاني أقل منه عند أي
روائي آخر، كما أنه في الغالب يأتي لدوافع تقتضيها الرواية (وهذا لا يعني بطبيعة
الحال الموافقة على التفصيلات التي قد يفرط فيها الكيلاني) .
لا شك أن هذه السطور عاجزة عن رسم تصور كلي عن كتابات الكيلاني،
(وهو ما أحذر القارئ من الوقوع فيه) . لذا: يمكن الإحالة في هذه الخصوص إلى
كتاب: (الاتجاه الإسلامي في روايات الكيلاني) [4] ؛ فمؤلفه ممن عرفوا بسلامة
الاتجاه والمنهج، وكتابه: عبارة عن أطروحة علمية أشرف عليها الدكتور/
عبد الرحمن رأفت الباشا (رحمه الله) ، وفي الكتاب غنية لولا تقدّم زمن تأليفه، مما
فوت فرصة الحكم على الروايات الأخيرة للكيلاني [*] .
__________
(1) الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ، من تأليف: د محمد حسن عبد الله.
(2) الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، من تأليف: جورج طرابيشي.
(3) رأس الشيطان نجيب الكيلاني (رواية) ، مؤسسة الرسالة 1414هـ 1993م.
(4) الكتاب من تأليف د عبد الله العريني، مطبوعات المهرجان الوطني للتراث والثقافة.
(*) للاستاذ محمد حسن بريغش دراسة مستوعبه لاعمال د نجيب الكيلاني القصصية في كتابه (دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة) ومن ضمنها (رأس الشيطان) بتحليل ودراسة موضوعية.(101/59)
نص شعري
الأمل
شعر: عبد الله بن عبد الكريم الخميس
أمل يخاطب خلسةً وجداني والطير يثق كاهل الأغصان ...
أمل أحس به إذا انهار الظلام وقام صرح الصبح كالبنيان ...
وأحسه والطفل يبتدئ الخطى يهوي فينهض واهن الأركان ...
والنمل يطلب رزقه متجلداً والنحل ينعش روضة البستان ...
وأُحسه والعشب يخترق الحصى ويقيم دولته على الكثبان ...
والزهر يخلف غيره ببهائه والماء يخرس ألسن النيران ...
أُحسه في الكون في حركاته وأُحسه في لوحة الفنان ...
أملٌ يراودني وإن قيدت بالأغلال أو عذبت بالإحسان ...
أملٌ يروادني وإن أُلجمت قلة حيلتي فَكتمت سحر بياني ...
ويظل يحدوني على رغم الجراح تفتني وتغوص في وجداني ...
أملٌ يحدثني بعودة عِزّتي وكرامتي وجحافلِ الإيمان ...
شمّاء لا تحني الرؤوس لغاصب كلا ولا تخشى سوى الرحمن ...
تنفض من غفواتها مشحونةً بالثأر يدفعها إلى الميدان ...
ترمي العدو بحارقٍ من نارها وتعود تحمل راية السلطان ...
حُلُمٌ أُرهُ حقيقةً تغزو الوجود وتستخف بسطوة الأحزان ...(101/68)
نص شعري
رُدّوها علي
شعر: محمد عبد القادر الفقي
ودعِ العتابْ
لن يسمعوكَ فقد أصاخوا السمعَ للطاغوتِ
ها هم سادرون وراء (سالومي) يشقّون العبابْ
وتدور أعينهم إذا اهتزت مفاتنها وطير النور غابْ
فاربأ بنفسكَ واستقمْ
لا اللومُ يُزْهرُ أقحوان الفجرِ أو يُذْكي أعاصيرَ الشبابْ!
لو كان يُجدي كنتَ أشعلت الحرائق في الرسائل والحروفْ
لكنْ شرار العشب قد طالت أظافرها
و (سالومي) تساوم:
(أين أرضُكَ)
لا جنود ... ولا سبيلَ ... ولا صواب!
***
ظمآن بين سواحلي
والماءُ في أعلى القبابْ
أستمطر الأوغادَ، تلفظني الحدودُ
يميتني هذا الجمودُ
وعين سالومي (تصوّر) كل بابْ
وتسد فُرْجةَ كل باب! !
***
ضاعت جهاتُ الحيّ، والفجواتُ في السيف العُضابْ
وتراكمت أنات (ليلى) والخيولِ الخضرِ، وانتُهِك الكتابْ
فاصدع بصوتكَ
واغتسل بالنور والإخلاص حتى تمسح الأدرانَ من جسدٍ
تبرقش أو ترقّش بالسياط وبالسبابْ! !
واشدُدْ، وحاذرْ، واستمع فصل الخطابْ!
***
واصبر على جهل الغثاء فكم قرونٍ قد خلتْ
مذ هُدْهُدِ الأنباء غابْ!
***
واترك سراة الطين
في المرآةِ صورتهم غبارٌ أو غرابْ! !
***
واترك سراة الطين
في المرآة صورتهم غبارٌ أو غراب! !
واحذرْ
فسالومي هي السّلَبوتُ
والجبروتُ
في العصر العجابْ!
لا المزن تهمي في صحارى روحها
ابداً ... ولا (الإشعاع) سوف يطهر القلب الخرابْ!
***
فاركضْ برجلك كي يطيب لك التنفسُ والشرابْ
وانظر مليًّا قبل أن تطئ الحصى والبرزخينِ
فإن أفعى الليل لاذتْ بالفرار من الجرابْ! !
هي ذي تسيل إلى ديارك تشتهي دفئا
وثمة بارقاتٌ في الثنايا والثيابْ
سمٌّ نقيعٌ في رضاها والرضابْ!
***
وتقول سالومي: (طريقي وحده يفضي إلى تاج الصدارةِ
والعداةُ لهم مغارات الذّئابْ) ! !
وحذامِ تصرخ في رمال التبرِ:
(من يستأصل الأشواكَ؟
من يستنصل (الهالوكَ) ؟
من سيردّ لي شمسي ويحملني على الخيل العِرابْ؟ !
***
خزّرْ عيونَكَ، إن (سالومي) تراوغُ
في الظلامِ تمدّ كفّيها إلى السكينِ
ترقصُ بعدما تدمي كُلانا والنواصيَ والكِعابْ!
ستلوكُ في دلّ دماك وتنتشي
وتفوزُ بالصفراءِ والبيضاء والثوب المعصفرِ والدّوابْ!
***
كم أرعنِ الخطوات خرّ وتاه في حجراتها
وعدتْ عليه النائباتُ وما أنابْ!
كم من غريقٍ قد تعلّقها ...
تعلّق في خيوطٍ من سرابْ
وبنى على ثبج التمني ألف قصرٍ
ما تدبّر حينما ألقتْ عليه رموشَها ووحوشها
وأرتْه ألوان الخضابْ
حتى إذا (الرغبوت) زاد على النّصَابْ
قدّتْ قميص حيائها، ومضتْ تعانقهُ عناق الدبّ
حتى خار وانسحقتْ مفاصلُهُ
وجاءته الكواسرُ والمناسرُ والكلابْ!
***
وإذا أطلّ الفجر وانزاح الحجابْ
جاءت إليك، دموعها تنسابُ ساخنةً على الخدينِ
أو تنثال ما بين الوِطابْ
وتظل ترقص في رداء الضعفِ
والأفعى تطلّ
وقد تضمَخ عودها بِنِشاءِ حمقكَ
ثمّ
تهجمُ
بعدما امتزجت بعطر الاقترابْ!
***
احفظ حروفكَ طاهراتٍ، لا تحاورْ ... لن تُثابْ!
السابقون تبددوا، واللاحقون تمددوا
هدأت فرائصهم، ونبض الصوت غابْ!
***
وإلام نُخفي بؤسنا، ونغلّف الألفاظ بالحلوى
وبالإيقاعِ
والأمل المذاب؟ !
وإلام نرحل في دوائرنا ونزدرد التعلاّتِ الكِذابْ؟
ونصيحُ في صَخَبٍ: (ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا)
ثم
يغزونا الذبابْ
***
__________
مقاطع من قصيدة طويلة للشاعر منع طولها من نشرها كاملة.(101/70)
نص شعري
أصداء من سيرة الضوء والظل
شعر: د. صابر عبد الدايم
شهدْتُهُ في الظلالِ يَحْتَجبُ ... وللسّحبِ الثّقالِ يَنْتسبُ
تضيء وجْه الدروب طَلْعَتُهُ ... وعَنْ مرايا الضياء يَغْتَربُ! ! !
في كل حقلٍ ثمارُ راحتِه ... وحقلهُ المُسْتطاب يُنتَهبُ! ! !
تغدو إليه الطيور مسغبةً ... كيف غداً مِنْ يديه تنسربُ؟ ! !
وهل تروح الخماصُ طاويةً ... وغرسُه للحصاد مُرْتَقَبُ؟ ! !
من كل فجّ.. سناهُ تقصده ... قوافلٌ في مَدَاهُ تنسكبُ
يمدّ راح النوال في ثقةٍ ... وفي حماهُ العُفاةُ تحْتربُ! !
أبْصرتُ في خَطْوه سكينتَه ... وكل نجمٍ إليه يَنْجَذِبُ
وكان.. ما كان.. في توهجه ... وَمنْ مدار الشموس يقتربُ
لكنّما في الظلال دَوْرَتهُ ... وفي رُؤاهُ العَطَاءُ ... والغَلَبُ
أحدّق الآن في مَنَابعه ... وليس إلا الجفافُ.. والعطبُ! !
وأرحل الآن في سنابله ... وليس إلا الهجيرُ.. والسّغَبُ! !
وأسبح الآن في دفاتره ... وليس إلا السطور تنتحبُ! ! !
وأبزغ اليوم من مشارقه ... وليس إلا الرعود.. والسحبُ! ! !
* * *
أيرحل العِطْرُ عَنْ حدائقه ... وفي الرحيل الهوانُ والوصبُ؟ ! !
أيهْجُر الماءُ البحْرَ في زمنٍ ... كل البشارات فيه تكتئبُ؟ ! !
وهل تجفّ الحُروفُ في زمنٍ ... تجفّ فيه الرؤى.. وتُسْتلَبُ؟ ! !
هل انطفاءُ النهار تشعلهُ ... شَمْسٌ.. ضياها كأنّه الذهبُ؟
وهل تعود الخيولُ صاهلةً ... فتنجلي النائباتُ.. والكربُ؟
وهل يعيدُ الزمانُ قصّتَهُ ... وتكشفُ الآنَ وجْههَا الحُجُبُ؟ ! !
وهل تعيدُ الحروفُ فارسها ... فتصطفيه الصّدورُ والكتُبُ؟
وهلْ.. وهلْ.. قصّةٌ مهلهلةُ ... فهل تعودُ البروقُ والشّهُبُ؟ ! !
* * *
شهدتُهُ في الظّلال يَحْتَجِبُ ... وَللسّحابِ الثّقالِ يَنْتَسِبُ! !
وكان ما كانَ في توهجه ... مُتوّجٌ بالحَيا ومُنْتقِبُ
أَثْمارُه: طلْعُها يُتوّجنا ... والتّاجُ فِيه الفَخَارُ والحَسبُ
وفي حماهُ المظلّ عاشقَهُ ... ترْحَلُ عنّا الظّنوُنُ والرّيَبُ
مِنْ أفُقِ المكْرُماتِ مَطْلَعُهُ ... لِغَيْرِ هَامِ الإباء.. لا يثبُ
وقلْبُه في اليقينِ رحْلتُهُ ... بغير ضوء الرّجاءِ.. لا يَجِبُ
وفي مدار العَبيرِ سيرتهُ ... سابحةٌ ... والحُروفُ تلتهبُ
أبْصَرْتُ في خَطْوه سكينتَهُ ... وكل نَجْمٍ إليه ... يَنْجذبُ
تضيء وجْهَ الدّرُوب طَلْعتهُ ... وعَنْ مرايا الضّياءِ ... يَغْتَرِبُ(101/74)
المسلمون والعالم
نحو معالجة أعمق للوضع في اليمن
بقلم:أيمن بن سعيد
رفعت الحكومة اليمنية في الآونة الأخيرة شعار محاربة الفساد والقضاء عليه،
ومع أنه شعار جميل براق لايسع مخلص رفضه، إلا أن تحليلات المتابعين للساحة
اليمنية اختلفت في تحديد الدوافع الحقيقية التي حدت بالحكومة اليمنية إلى رفعه:
فطائفة ترى أنه مجرد محاولة امتصاص لغضبة الشعب نتيجة المعاناة الكبيرة
التي لحقته من جراء تردي قيمة الريال اليمني وإنخفاض معدل دخل الفرد بصورة
مفزعة.
وطائفة ترى أنه مجرد تحسين للصورة ونكاية بـ (التجمع اليمني للإصلاح)
الشريك الثاني في الحكم الذي انسحب وزراؤه من جلسة مجلس الوزراء التي أقرت
فيها الحكومة تنفيذ المرحلة الثانية من ما يدعى بـ (عملية الإصلاح الاقتصادي) ،
وأصدر مجلس شورى الإصلاح بياناً اعتبر تنفيذ الحكومة للمرحلة الثانية من
الإصلاحات الاقتصادية مجرد إجراءات تنحصر فقط في جباية الأموال؛ مما يثقل
كاهل المواطن ويشغله بلقمة عيشه وذويه، فضلاً على أن الإصلاحات لاتأتي ضمن
برنامج للإصلاحات جاد وشامل.
وطائفة ثالثة ترى أن صناع القرار الغربي قد أغاظهم توجه الجماهير اليمنية
القوي نحو الإسلام، وما يوجد في التركيبة القبلية اليمنية من عزة ونخوة وخلال
حميدة؛ فأوحوا إلى رموز (التيار الليبرالي) داخل الحكومة اليمنية بالقيام بتنفيذ
مخططاتها لإذلال أهل اليمن وتركيعهم والحط من كرامتهم؛ تحت ستار تنفيذ شروط
صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمتطلبات الدولية للمرحلة الراهنة، وبالتالي:
قاموا برفع هذا الشعار (محاربة الفساد) لتحسين صورتهم أمام العامة وتعليق نفوس
الأمة بذلك؛ بغرض إلهائها عن المخطط الذي يقومون بتنفيذه نيابة عن صناع
القرار في تلك العواصم التي تسوءها التركيبة الاجتماعية للشعب اليمني والتوجه
الإسلامي لديه.
وترى طائفة رابعة أن عملية رفع شعار محاربة الفساد جزء من حملة
انتخابية مبكرة يقوم بها المؤتمر الشعبي العام، وذلك باعتبار أن قضية الفساد وسبل
القضاء عليه ستكون محوراً مهمّاً من محاور الحملات الانتخابية للأحزاب اليمنية
عام 1997م، الذي من المتوقع أن يكشف كثيراً من غسيل الحكومة الراهنة، التي
يعتبر المؤتمر الشعبي الحاكم الفعلي داخلها وصاحب النفوذ الحقيقي فيها؛ مما يعني
إلصاق تهمة الفساد به وتعرية كوادره، ففي رفعه المبكر لهذا الشعار قبل طرحه من
قبل الأحزاب الأخرى تبرئة له ومبادرة منه في كسب عواطف كثير من عامة
الشعب اليمني قبل غيره، وإذا صاحب ذلك تغيير للحكومة اليمنية الحالية، وإيكال
إدارة دفة البلاد إلى حكومة جديدة، فإن ذلك يعني إفشالاً للدعايات الانتخابية لكثير
من الأحزاب اليمينة؛ نظراً لكون التهمة بتعاطي الفساد وحمايته ستوجه الى حكومة
منحلة.
ومع هذا التشكيك القوي من قبل المتابعين للساحة اليمنية في مصداقية طرح
محاربة الفساد والقضاء عليه، إلا أنه لايسعنا إلا تأييد هذا الشعار والمطالبة الجادة
بتنفيذه؛ باعتبار أن من رسالة علماء الصحوة الإسلامية وأبنائها محاربة الفساد
والعمل على استئصاله؛ ولذا: فسأحاول في هذه المقالة -مستعيناً بالله (تعالى) -
العمل على تحديد طبيعة ذلك الفساد المستشري ذاكراً بعض صوره ومجالاته البارزة، التي في ظني لو استوعبتها الحكومة اليمنية واتخذت خطوات جادة وكافية
لمحاربتها: فإن مواجتها للفساد ستكون أعمق وأبعد عن المهاترات الحزبية والتسابق
الانتخابي على رجل الشارع اليمني لجذبه وكسب صوته.
تحديد طبيعة الفساد وصوره:
الفساد هو الخروج عن الاستقامة وتغير الشيء عما كان عليه من الصلاح،
ونظراً لاختلاف الأفراد والدول والمجتمعات في تحديد الضوابط التي يُتعرّف
بواسطتها على صلاح الأشياء من فسادها؛ نتيجة الاختلاف في القيم والمبادئ التي
يُسار عليها، فإن الحكومة اليمنية وهي في بلاد الإيمان والحكمة، وفي دولة تعلن
في دستورها أن دينها الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريعات التي
تسير عليها مطالبة بأن تجعل النصوص الشرعية الصحيحة والأدلة الشرعية التي
اعتبرتها هي المعيار التي تتعرف به على صلاح الأشياء في اليمن من فسادها.
وحين يتم تطبيق هذا المعيار على الوضع في اليمن وقضاياه سنجد صوراً
ومجالات كثيرة للفساد ولعل من أوضحها وأضخمها:
1- الانحراف العقدي:
ويأخذ هذا الانحراف في اليمن اتجاهين:
أ- غيبة المفاهيم والقيم الإسلامية الصحيحة لدي كثير من أبناء الشعب اليمني
المسلم، ابتداءً بمفهوم (لا إله إلا الله) الذي تلقاه المسلمون الأولون على أنه مفهوم
يبلغ من الضخامة أن يزيل واقعاً بشرياً فاسداً بأكمله من حياة الأفراد والمجتمعات،
وينشيء بدلاً منه واقعاً جديداً مختلفاً عنه كل الاختلاف في كافة جوانب الحياة لايند
منها شيء ... إلى أن صار ذلك المفهوم العظيم في عصرنا مجرد كلمة ينطقها
بعضهم بلسانه دون فهم لمعناها، فكيف بالعمل بمقتضاها: من التسليم بما جاء من
عند الله (تعالى) ، والعمل بقدر الطاقة بمقتضي ما أنزل سبحانه، ومروراً بمفهوم
العبادة، الذي قصره بعضهم على شعائر تعبدية يؤدونها بشكل خال من التدبر
والخشوع بعد أن أخرجوا منه الأخلاق والأعمال.
ومروراً بمفهوم الولاء والبراء الذي حوله كثيرون من حب لعباد الله المتقين،
مهما نأت ديارهم واختلفت ألسنتهم وأنسابهم، إلى حب على أساس العرق والأرض
والحزب.
ومروراً بمفهوم القضاء والقدر، الذي كان يعني التوكل على الله (عز وجل)
مع الأخذ بالأسباب إلى أن صار في حياة كثيرين تواكلاً وإهمالاً للأخذ بمسببات
القوة والطرق المؤدية للنجاح.
وغاب استيعاب كثير من الأفراد والتجمعات لرسالتهم في الحياة من خضوع
وانقياد لله (تعالى) ، ودعوة للخلق إلى ذلك، وصار الهمّ الأعظم والجهد الأكبر
متجهاً نحو تحقيق شهوات البطن والفرج.
كما غاب ذلك التوازن الجميل بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة؛ الذي كان فيه
عمل الدنيا جزء من عمل الآخرة، وكان الفرد فيه مطالب بأن يعمل لآخرته كأنه
يموت غداً، ومطالب بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، وصار الحال إلى مجرد
تعلق بالملذات أو ارتباط بالخرافات بشكل أهملت فيه عمارة الأرض وطلب العلم
والأخذ بأسباب النهوض والقوة.
ب- تفشي العديد من المنكرات العقدية الضخمة ابتداء بشرك الجاهلية الأولى: من طواف حول القبور، والذبح، والنذر، والدعاء لها، إلى وجود طوائف
وأحزاب ومؤسسات تقوم على مبادئ وأسس مناقضة للإسلام، وتسعى بجد وعزم
إلى نشرها.
2- الخلل الاقتصادي:
ويتمثل ذلك في جوانب متعددة من أبرزها:
أ- قيام اقتصاد الدولة على الربا إذ البنوك الربوية هي الركيزة، والمعاملات
الربوية داخلة في أكثر معاملات الدولة المالية الداخلية والخارجية، والحكومة تحث
الناس وتشجعهم بمارسة ذلك مع ما فيه من محاربة الله (تعالى) .
ب- اعتماد الدولة في توفير قوت شعبها على الاستيراد، مع أن اليمن بلد
زراعي بالدرجة الأولى تتوافر فيه كافة المناخات، ويملك ساحلاً بحرياً يزيد على
2000كم.
وبإمكان اليمن -لو صدقت النوايا- وتم الأخذ بأسباب النجاح أن تكتفي في
هذا الجانب محلياً، بل وتقوم بالتصدير خارجياً.
ج- احتكار الاستيراد وسيطرة حفنة لاتتجاوز أصابع اليدين على أقوات الناس
ومصالحهم.
د- العبث بالمال العام واختلاس بعضهم لجزء كبير منه قبل أن يدخل في
خزينة الدولة وبعد دخوله بطرق كثيرة مباشرة وغير مباشرة.
هـ- إسناد إدارة دفة الاقتصاد في اليمن غالباً الى حفنة متهمة من قبل قطاع
عريض من الشعب بالضلوع في الفساد وحمايته وإقصاء المخلصين ومضايقتهم عن
الإسهام في إدارته بطرق جلية وملتوية تضطرهم للاستقاله.
3- خلل مؤسسات التربية والتوجيه:
لا تقوم مؤسسات التربية والتوجية في اليمن بدورها المنشود في إعداد الإنسان
الصالح وتكوينه، فمثلاً:
في القطاع التعليمي نجد:
أ- المناهج التعليمية باستثناء مناهج المعاهد العلمية جلها غير مؤهلة بشكل
جيد للإسهام في تنشئة الإنسان الصالح القوي إيمانياً وفكرياً ومادياً، وهي مع ذلك
غير ميسرة في أيدي الطلبة في مناطق كثيرة من اليمن.
ب- الكوادر القائمة على العملية التعليمية تدريساً وإدارة وإشرافاً غير مؤهلة
في كثير من المدارس والمعاهد والكليات اليمنية للقيام بالدور المنوط بها، بالإضافة
إلى أن كثيراً منهم لديه توجهات فكرية منحرفة وسلوكيات سيئة.
ج - تنتشر في القطاع التعليمي اليمني ظاهرة بيع الشهادات بشكل يجعلها
تتجاوز حد الظاهرة ويوصلها الى مرحلة المشكلة مما يلزم المعالجة العاجلة.
د- كثير من المباني المدرسية غير صالحة وجل الوسائل التعليمية غير
متوفرة.
وفي القطاع الإعلامي نجد:
أن مؤسسات الدولة الإعلامية والكثرة الكاثرة من المؤسسات الإعلامية الحزبية
والأهلية، لا تتبنى، ولا تعمل على نشر قيم الشعب اليمني ومبادئه الإسلامية، ولا
تقوم بالدفاع عنها؛ بل نجدها منشغلة في متابعة ذهاب وإياب وتصريحات رجالات
الدولة والمعارضة والثناء أو الذم لأقوالهم وتصرفاتهم.
بالإضافة الى تبني كثير منها للفساد الفكري والأخلاقي المنافي لأصل الإسلام
أو القادح في كماله، هذا مع ندرة البرامج والكتابات الجادة التي تسعي للبناء
والمعالجة حتى ولو من منطلقات قومية أو وطنية فكيف بالبرامج والكتابات
المنضبطة بالضوابط والمعايير الشرعية.
4- الخلل الإداري:
وله صور عديدة منها:
أ- قوانين الدولة وأنظمتها قديمة عفا عليها الزمن، ولم يدخلها التحديث، فهي: إما إرث من قوانين ما كان يدعى (الجمهورية العربية اليمنية) والمأخوذة بدورها
من القوانين المصرية المستوردة من القوانين الفرنسية والإنجليزية، وإما إرث من
القوانين الاشتراكية فيما كان يدعى بـ (جمهورية اليمن الديمقراطية) .
ب- المركزية العقيمة في وزارات الدولة المختلفة، التي تجعل المواطن في
جل معاملاته الحكومية المهمة محتاجاً لمراجعة العاصمة صنعاء لإنهائها.
ج- الأثر القبلي والحزبي والمناطقي الملموس في التوظيف والتعيين والترقية
في المؤسسات العسكرية والمدنية وغياب مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان
المناسب؛ مما جعل كثيراً من مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية تقوم في الغالب
على تكتلات قبلية أو حزبية أو مناطقية.
د- ما استفاض من العبث في سجلات الدولة بحيث تصرف بعض المرتبات
لأموات أو لشخصيات وهمية أو يقوم الفرد الواحد بشغل الكثير من الوظائف بأسماء
وبطاقات شخصية متعددة.
هـ الوضع المتردي في مؤسسات الدولة الرقابية: إما نتيجة لوجود أشخاص
غير مؤهلين على رأسها، أو لعدم توفر الإمكانات اللازمة للقيام بالدور الرقابي على
مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية على الأقل بشكل مقبول، وقد نتج عن ذلك:
عدم التزام جل موظفي الدولة بالدوام الرسمي بحيث لا تكاد مدة عمل أحدهم
يومياً في جل مؤسسات الدولة تتجاوز ثلاث ساعات.
تلاعب الموظفين في إنجاز معاملات المراجعين والعنت الكبير الذي يلاقية
عامة الشعب من جراء ذلك.
تفشي ظاهرة الرشوة في أوساط بعض الموظفين صغاراً وكباراً الى حد جعل
منها مشكلة كبيرة، وما تنتجه من ثمار نكدة من ظلم للعباد وأكل لأموال الناس
بالباطل.
5- صور أخرى للخلل:
أ- تفلت جل تعاملات الدولة الخارجية وعلاقاتها الدولية من أحكام الشريعة
الإسلامية.
ب- ما تقوم به بعض الجهات من أندية رياضية ومؤسسات فنية من إبعاد
شباب الأمة ذكوراً وإناثاً عن الواجب الشرعي الملقى على عواتقهم في التربية
والبناء.
ج- التفلت الأمني وارتفاع معدلات الجريمة بصورة ملحوظة وتكون عصابات
جماعية لممارسة السرقة والنهب ... إلخ.
د- تسخير موارد الدولة وإمكاناتها المختلفة لخدمة رموز وكوادر الحزب
الأقوى في الحكومة، والعمل من خلالها على زيادة المنتسبين والمؤيدين له من
العامة عن طريق الإغراء تارة والتهديد تارة أخرى تمهيداً كما يبدو للانتخابات
القادمة.
هـ- المنكرات والمعاصي المتفشية داخل قطاع كبير من المجتمع اليمني:
كإضاعة الصلاة وعدم إخراج الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والظلم للخلق، وأكل أموالهم بالباطل؛ مما يثير الأحقاد والضغائن بين الناس.
وليس الهدف هنا استقصاء صور الفساد الموجودة، وإنما لفت أنظار
الصادقين الى جزء منها للعمل العاجل لعلاجها.
كيف تصلح الأوضاع؟
إذا كان الواقع بهذا الشكل المخيف فإن المعالجة الجادة له لابد أن تكون عميقة
بعيدة عن السطحية والارتجال والتعامل الجزئى. بحيث يبحث عن الأسباب
الحقيقية التي أدت الى تلك المشكلة الضخمة من إعراض عن تعلم الشرع الصحيح
وتطبيقه في جل جوانب الحياة وقصره على قضايا الأحوال الشخصية كناحية
تطبيقة، أو جعله دستورياً دين الدولة ومصدر تشريعاتها كناحية دعائية.
ومن فشو الجهل والأمية الكتابية والفكرية، ومن الركون إلى الذين ظلموا
وإيساد للأمر (تخطيطاً وتنفيذاً ومتابعة) في جل المواقع الى غير أهله.
ومن ذنوب ومعاصٍ كبيرة وصغيرة يحارب بها الله (عز وجل) على مستوى
المؤسسات الحكومية والأهلية وعلى مستوى الأفراد.
نعم: لابد من دراسات توصيفية تأصيلية لقضية الفساد (طبيعة، وأسباباً،
وآثاراً، ومعالجة) بحيث تكون محاربته جزءاً من مشروع نهضوي متكامل، يعالج
فيه فساد الفرد، كما يعالج فيه فساد المؤسسات والمجتمعات، ويعالج فيه فساد
الحكومة، كما يعالج فيه الفساد الموجود لدى كثير من طوائف وطبقات الشعب.
ويحرص فيه على تصحيح الفساد العقدي والأخلاقي والتربوي، كالحرص
على تصحيح الفساد الاقتصادي والإداري والمالي أو أشد.
وإذا بان ذلك عزيزي القارئ ظهر لك أن شعار الفساد يصبح شهاراً أجوفاً إذا
كانت المعالجه تتم بطرق جزئية وسطحية: كفصل مرتشٍ صغير، أو سجن
مختلس ضعيف لا حماية حزبية أو قبلية له، أو نقل موظف من موقع الى آخر،
وحيث لم يتم بعد وضع العلاج الناجع والبدأ في الطريق الصحيح لمحاربة الفساد
ومعالجته؛ فإني أدعو كافة أهل اليمن الى عقد مؤتمر شعبي عام يشارك فيه علماء
اليمن الأخيار في كافة التخصصات ودعاتها الأبرار ورجالاتها المخلصون من كافة
شرائح المجتمع اليمني ومناطقه مهمته: توصيف قضية الفساد ومجالاته وتحديد
أسبابه وآثاره السيئة والطرق الصحيحة لمحاربته والقضاء عليه.
على أن يهيأ لمثل هذا المؤتمر رسمياً وشعبياً كافة سبل النجاح البشرية
والإدارية والمالية والإعلامية؛ ليكون خطوة تتبعه خطوات عملية مدروسة لمحاربة
الفساد والقضاء عليه.
وختاماً: فإن هذه السطور لا تعني القول بإطباق الفساد في اليمن كله فالخير
فيه كثير ولله الحمد. فهو بلد الإيمان والفقه والحكمة وموطن تنتشر فيه العادات
الحسنة والأخلاق والخلال الكريمة.
ولا يمكن لمتابع منصف أن يغض الطرف عن الجهود المبذولة في هذا السبيل
من قبل علماء اليمن ودعاتها والنخب المثقفة الغيورة على دينها وبعض رجال المال
والأعمال وشيوخ القبائل داخل التجمع اليمني للإصلاح وخارجه والجمعيات الخيرية
بفروعها المنتشرة في كافة محافظات الجمهورية، كما أن للحكومة جهد ملحوظ في
التنمية والتطوير لا يمكن تجاهله. وندعو الله أن تتضافر الجهود المخلصة
والأعمال الصادقة في كشف حقيقة الفساد ومحاربته فعلياً من قبل كافة أبناء اليمن:
علماء، ودعاة، وعامة.
كما أسأله أن يصون اليمن ويحميه ويحفظ عليه دينه النقي الخالص من
شوائب الشرك والخرافة، وأن يجنبه المخططات العلمانية الخارجية والداخلية التي
تطمح الى صرف الناس عن دينهم وإبعادهم عن شريعتهم وإلهائهم عن رسالتهم التي
خلقهم الله (تعالى) من أجلها عن طريق اتباع سياسة التجويع، وبالتالي: الإذلال
تارة وسياسة الإغراق في الفتن والشهوات تارة أخري.
... ... ... ... والله العاصم والهادي الى سواء السبيل،،(101/76)
المسلمون والعالم
الأوضاع المعيشية في قطاع غزة..
بين الأمس واليوم
بقلم:عصام يوسف
يبلغ عدد سكان قطاع غزة قرابة مليون نسمة، معظمهم من اللاجئين الذين
هاجروا من ديارهم نتيجة لحرب عام 1948م، حيث نسبة اللاجئين حوالي 75%
من إجمالي عدد السكان، ويعيش معظم سكان القطاع في ظروف اجتماعية
واقتصادية بالغة القسوة، لدرجة أن بعض الخبراء الأجانب الذين زاروا القطاع
أثناء فترة الانتفاضة يصرحون: بأن قطاع غزة هو أفقر منطقة في العالم.
ومنذ عام 1967م (وهو تاريخ الاحتلال الاسرائيلي) عانى قطاع غزة من
ويلات الاحتلال ونكباته على جميع الأصعدة والمستويات، بما في ذلك المستوى
الاجتماعي والاقتصادي، ولكن أبناء القطاع الذين أغلبهم من اللاجئين والذين لا
يملكون الأرض أو الأموال، وجدوا في العمل في الأراضي المحتلة عام 1948م
فرصة لكسب قوت يومهم وإعالة أسرهم، حيث بلغ عدد العمال من أبناء قطاع غزة
الذين يعملون لدى (مشغلين اسرائيليين) قبل قيام الانتفاضة حوالي ثمانين ألف عامل، وقد كان هؤلاء العمال يعملون في الأعمال الشاقة التي لا يقوم بها اليهود، (خاصة
أعمال البناء والزراعة) ، ولكن الحاجة إلى كسب لقمة العيش دعت هؤلاء العمال
إلى تحمل كل المصاعب في سبيل الحصول على فرصة عمل يرتزقون منها.
ومع قيام الانتفاضة الفلسطينية، وتكرار مرات حظر التجول لفترات طويلة
واعتقال الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني: بدأ عدد هؤلاء العمال يقل تدريجيًّا،
حيث انخفض عددهم بشكل كبير جدًّا بعدما بدأت (إسرائيل) في تطبيق سياسة
إغلاق الأراضي المحتلة واشتراطها الحصول على عدد من التصاريح كي تسمح
للعامل بالدخول إليها؛ مما أدى إلى رفع نسبة البطالة بشكل كبير جدًّا، حتى إنها
بلغت في قطاع غزة في عام 1992م حوالي 50% من مجموع قوة العمل.
وبعد توقيع اتفاق السلام بين (إسرائيل) ومنظمة التحرير استبشر الكثير من
السكان بالخير وبقرب حل مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية وعلى رأسها مشكلة
البطالة وانخفاض مستوى الدخل، وادعى بعضهم أن هذا الحل السلمي هو في
الأساس حل اقتصادي، سوف ينتعش الناس معه اقتصاديًّا وأن البطالة سوف تختفي
من قطاع غزة.
وقد قام بعض الاقتصاديين الذين يناصرون الاتفاق السلمي بإجراء بحوث على
حجم العمالة العاطلة عن العمل وتوزيعها على قطاعات العمل التي سيتم البدء بها
فور استلام السلطة الفلسطينية لمقاليد الحكم في قطاع غزة، ولكن مع استلام السلطة
الفلسطينية مقاليد الحكم تبددت أحلام الكثيرين ممن كانوا يحلمون بالحصول على
أعمال، ويأملون في القضاء على البطالة في قطاع غزة: فعلى أرض الواقع جاءت
النتائج مخالفة لمعظم التوقعات، وكان أول أمر قامت به (إسرائيل) هو: تخفيض
عدد العمال العرب من قطاع غزة بشكل كبير؛ حيث لا يوجد الآن سوى قرابة
عشرين ألف عامل فقط يعملون داخل الخط الأخضر؛ مما رفع نسبة البطالة إلى
75%، وقد أدى ذلك إلى زيادة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لسكان قطاع
غزة، وأصبح الكثير من أبناء القطاع يعيشون تحت خط الفقر، وأصبح أكثر
العائلات بلا مصدر رزق، سوى القليل الذي تتلقاه من الجمعيات والمؤسسات
الخيرية.
وقد استلمت السلطة الفلسطينية قطاع غزة وبنيته التحتية مدمرة، وليس فيه
مشاريع استثمارية سوى القليل جدًّا، وبحجم صغير لا يؤثر في اقتصاديات القطاع، ولم تقم السلطة بأي مشروع استثماري من شأنه التخفيف من معاناة أبناء القطاع،
حتى مشروع ميناء غزة الذي تغنى به الكثيرون وبآثاره الاقتصادية، لم يخرج عن
كونه حبراً على ورق حتى الآن.
ومع قدوم آلاف الأسر من الخارج واستقرارها في قطاع غزة ذي الإمكانات
المحدودة: ارتفعت الأسعار بشكل قياسي؛ نظراً لقلة الموارد وضعفها؛ مما زاد من
حدة المشكلة الاقتصادية ومن معاناة سكان القطاع، حتى إنه أصبح ظاهرة مألوفة:
أن ترى الأطفال يبحثون في مجمعات القمامة عما يأكلونه!
وقد قامت السلطة الفلسطينية بتشغيل حوالي خمسة آلاف مواطن في دوائر
السلطة المختلفة بخاصة في جهاز الشرطة والأمن الوطني، ولكن هذا الرقم نظراً
لضآلته (إذ لا يتعدى 3% من حجم القوى العاملة في القطاع) لم يخفف من نسبة
البطالة التي ارتفعت بشكل ملحوظ، بجانب عودة الآلاف من أبناء القطاع من دول
الخليج بعد الاستغناء عن خدماتهم؛ الأمر الذي ساهم في زيادة نسبة البطالة، ولا
زال أبناء القطاع يعودون من دول الخليج ودول المغرب العربي، مما يعني فقدان
القطاع لمصدر من مصادر الدخل، حيث إن الكثير من عائلات القطاع تعتمد على
تحويلات أبنائها العاملين في الخارج، أما الآن فقد اصبحوا عاطلين عن العمل،
وأصبح من الطبيعي أن يتدفق الآلاف من أبناء القطاع على أبواب مكاتب الشؤون
الاجتماعية التابعة لوكالة الغوث الدولية، ولكن الوكالة التي تُقَلّص خدماتها
باستمرار لا توفر إلا بعض المساعدات المتفرقة والمحدودة وللحالات البالغة
الصعوبة فقط.
كل هذا بالاضافة إلى آلاف الأسر التي فقدت عائلها بسبب القتل أو الإصابة
بشكل بالغ يعجزه عن العمل، مما يجعل هذه الأسر ليس فقط تحت خط الفقر، بل
ليس لديها من مقومات الحياة إلا ما تقدمه لها بعض الجمعيات والمؤسسات الخيرية
من صدقات ومساعدات لا تأخذ طابع الاستمرار.
وببساطة يمكن القول بأن الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها سكان قطاع غزة
هي أوضاع مأساوية بكل المقاييس والمعايير، وليس من المتوقع في القريب العاجل
أن تتغير هذه الأوضاع، إن لم تزدد سوءاً.
وفيما يلي بعض الإحصاءات عن البطالة ومستوى الدخل في قطاع غزة خلال
السنوات الماضية.
لقد خرجت قوات الإحتلال وقطاع غزة تحت حكم ذاتي بإدارة سلطة وطنية
فلسطينية، ولكن اقتصاده لا يزال مرهوناً بأسرائيل فلا يستطيع أحد أن يغادر
القطاع إلا بموافقة إسرائيل، ولا تزال الضرائب الجنونية مفروضة مما يترتب
على ذلك انخفاض حاد في مستوى المعيشة وزيادة نسبة الفقر والبؤس والمعاناة
ويظهر ذلك في المظاهر التالية:
1- ارتفاع حاد في الأسعار وتدني الأجور حتى أصبحت الأسعار عندنا أغلى
منطقة في العالم ومثال ذلك، كيلو لحمة الخروف عندنا (11) دولاراً ولذلك لا يأكله
غالبية الناس إلا في عيد الأضحى، ويأكل الناس لحوم الأبقار حيث إن سعرها ... ... (5 ر 7) دولاراً، سعر الكيلو من السكر (7 ر2) دولاراً، سعر الكيلو من الفاصوليا (2) دولار، سعر شوال الدقيق وزن (60) كيلو (26) دولاراً.
2- ارتفاع نسبة البطالة وتعادل 50% حيث كان يعمل في اسرائيل ... ... 000ر 100 (مائة الف) عامل لا يسمح الآن بالعمل إلا لـ (000ر35)
عامل، واستوعبت السلطة الفلسطينية (000ر15) عامل، ويبقى (000ر50) عامل بدون عمل، ولا توجد عندنا مصادر للعمل.
3- ضرب الاقتصاد الزراعي حيث كان يعتمد المزارع على تصدير
المنتجات الزراعية وبذلك يوفر فرص العمل، ولكن اسرائيل منعت التصدير؛ مما
ترتب على ذلك خسائر فادحة للمزارعين، مما اضطر المزارع إلى عدم زراعة
أرضه حتى لا يخسر.
4- لا توجد في قطاع غزة أي مصادر طبيعية للدخل، والصناعة عبارة:
عن صناعات بسيطة بالكاد تكاد تستوعب المئات من العمال، والإقتصاد الزراعي
محطم.
5- نسبة 60% من السكان لاجئون أي: إنهم لا يملكون إلا البيت أو الكوخ
الذي يعيشون فيه، فإذا وجد الواحد منهم عملاً أطعم أبناءه، وإذا لم يجد عمل،
عاش على الصدقات والمساعدات وإن كان شاباً في الثلاثين من عمره.
سياسة الاغلاق وتأثيرها على الضفة والقطاع
إن استمرار مسلسل الإغلاق حسب أهواء وأمزجة القيادة في اسرائيل الذي
يتحكم في قوت وعيش مئات الألوف من الفلسطينين، مما يؤثر على العديد من
المجالات الحيوية وبالدرجة الأولى الاقتصادية، حيث إن الاقتصاد الفلسطيني
مرتبط ارتباطاً شبه كامل بالاقتصاد الاسرائيلي. وإن سياسة الإغلاق المتكرر التي
تعلنها السلطان الإسرائيلية بمنع العمال الفلسطينيين البالغ عددهم حوالي 50 ألف
عامل من الضفة الغربية و20 ألف عامل من قطاع غزة من مزاولة أعمالهم في
اسرائيل مما يؤدي إلى انخفاض الدخل القومي الفلسطيني بشكل عام في المنطقة
وبشكل خاص وواضح بالنسبة للعمال أنفسهم وأسرهم؛ مما يشكل خسائر اقتصادية
كبيرة للضفة والقطاع تبلغ حوالي 100 مليون دولار سنوياً في مختلف المجالات.
ومن ناحية أخرى فإن تجار وصناع الضفة الغربية والقطاع يعتمدون بشكل
كامل على اسرائيل في شراء المواد الأساسية والخامات الأولية اللازمة للصناعة،
وإن استمرار سياسة الإغلاق يؤثر على الحركة الصناعية والتجارية؛ مما يؤدي
إلى عواقب وأضرار اقتصادية فادحة.
وللتعليم حصة من الأضرار الكبيرة التي يسببها الإغلاق، تتمثل في وجود
المئات من طلبة قطاع غزة يمنعهم استمرار الطوق الأمني من التحاقهم بكلياتهم
وجامعاتهم الموجودة في الضفة والقدس، حيث يفوت عليهم الكثير من التحصيل
العلمي أو تأخير سنوات التخرج بالنسبة لهم لعدم تمكنهم من مواصلة تعليمهم في
الفترة المقررة لدراستهم.
كما أن العديد من المدارس التابعة لوكالة الغوث وغيرها في القدس يتهددها
خطر التخلف الدراسي بسبب عدم تمكن المدرسين والطلبة من الوصول لأماكن
الدراسة لأن غالبية المدرسين هم من سكان الضفة الغربية الذين يحول الأغلاق دون
وصولهم لأماكن عملهم، الأمر الذي يهدد المؤسسات التعليمية بالقدس.
ومن التأثيرات الخطيرة التي أوجدها الإغلاق وتستدعي اهتماماً مميزاً:
ظروف المرضى، حيث يوجد في قطاع غزة والضفة الغربية العديد من الحالات
المرضية التي تدهورت أوضاعها الصحية لعدم إمكانية الدخول إلى مستشفيات
القدس الطبية وغرف العمليات المتطورة؛ فإنه لا سبيل إلا في المستشفيات
الإسرائيلية الأمر الذي يهدد حياة الكثير من المرضى، مما يتطلب من السلطات
إعادة النظر في شأنهم واستثناءهم من تلك القرارات المتكررة بالإغلاق.
وأخيراً فلا بد من الإشارة إلى التأثيرات الخطيرة على السكان الفلسطينيين في
الضفة والقطاع وهي: ظاهرة ارتفاع الأسعار بشكل حاد وعلى سبيل المثال ما
وصلت إليه أسعار الخضروات والفواكه من ارتفاع شديد بشكل يصعب معه على
أصحاب الدخل المحدود كالموظفين والعمال تحملها، والأمر أصبح لا يطاق لعدم
توافر الإمكانات المادية لدى هذه الشريحة من المجمتع، خاصة أنه كلما ازدادت أيام
الطوق الأمني ازدادت الأسعار ارتفاعاً تبعاً لذلك.
لقد كان ذلك الاستعراض لحلقة من حلقات معاناة ذلك الشعب، الذي طالت
معاناته نوعاً من التجاوب ومقتضى من مقتضيات الولاء الذي ندعو الله أن يكون له
صدى في نفس كل مسلم.
ومما يجب أن يلفت النظر إليه أن المقال يصور واقع حال شعب قطاع غزة
والعوامل التي تؤثر وتزيد في معاناته وليس معنى ذلك أنه يُرغّب في التجاوب مع
الضغوط الإسرائلية التي تمارس ضد هذا الشعب فور كل عملية مقاومة تحدث في
فلسطين، حيث إن الشعوب لا تحصل على حريتها وعزتها إلا بدفع الثمن الغالي
والمسلمون تأسيساً وانطلاقاً من تعاليم دينهم يتفهمون ويقدرون البذل والتضحية
والصبر في سبيل الله، (والصبر ليس له جزاء إلا الجنة) .
فهل من التفاتة نحو هذا الشعب في معاناته ومحنه المتوالية؟ وإلى متى
السكوت والتخاذل عن نصرتهم والاهتمام بشؤونهم ومدّ يد العون لهم؟ .(101/86)
المسلمون والعالم
أوضاع اللاجئين الشيشان
مشاهد مأساوية من الداخل
تقرير ميداني [*]
تمهيد:
انطلاقاً من المقولة المأثورة (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) فقد تابعت (البيان) تاريخ وواقع وجهاد الشعب الشيشاني في كثير من المقالات، وما زلنا نرى أن هذا الشعب المسلم من الشعوب الإسلامية التي نالت الإهمال والتعتيم على ما أصابها من الهمجية الروسية التي ما زالت تسوم هذا الشعب سوء العذاب، وتحاول إيجاد أذناب لها ممن ينتسبون لهذا الشعب المجاهد، ولكن المجاهدين الشيشان لقنوا الجيش الروسي ضربات موجعة جعلت الروس يتنازلون عن كبريائهم بطلب المفاوضات معهم.
وهذا المقال تصوير لواقع ذلك الشعب من نواح متعددة رأى العين لعلها توقظ
وتنبه كثيراً من المسلمين الذين ما زالوا يعتقدون أن الحرب في الشيشان مسألة داخلية، كما يزعم الروس الذين ضربوا بحقوق الإنسان عرض الحائط في تعاملهم الهمجي، الذي يندى له الجبين مع صمت الغرب المطبق، لا لشيء إلا لأنهم مسلمون، والله المستعان.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
في البداية نتساءل:
من هو الإنسان؟ نعم من هو الإنسان ... قد يبدو هذا السؤال غريباً! لكن
الأحداث المتتاليه التي نعيشها تجعل هذا السؤال يقفز إلى الواجهة؛ بسبب أن العالم
الغربي كثيراً ما يرفع هذا الشعار (حقوق الإنسان) والتصدي للإرهارب في ...
مناسبات، ويدوس على هذا الشعار في مناسبات أخرى يُنتهك فيها حق الإنسان
بصوره أكثر بشاعة، فمن ناحيه يرفع بقوة شعار محاربة الإرهاب عندما تقتل
مجموعة من اليهود، حتى ولو كانوا عسكريين، ويساند قيام اليهود بقتل المئات من
المدنيين من النساء والأطفال ... ، وبينما توفر الحماية لأكراد العراق ضد عنف
وظلم النظام البعثي، فإن الغرب يساند محاولة تركيا القضاء على ضرب حزب
العمال الكردستاني، مع العلم أن ممارسات الجيش التركي تشبه إلى حد كبير
ممارسات الجيش العراقي السابقة.
وفي حين تضخم قضية قمع الجيش الصيني للطلاب في بكين أو إعدام
نيجيريا لمجموعة من المعارضين المحسوبين على الغرب، فإننا لم نسمع عن
حقوق الإنسان المنتهكه في كشمير أو في الشيشان أو في جنوب الفلبين.
والذي يبدو أن الإنسان في عرف الغرب هو:
أولاً: اليهودي، ثم النصراني الغربي، ثم نصارى العالم الثالث، وأخيراً
عملاء الغرب في الدول الأخرى. أما المسلم فيبدو أنه لا يدخل ضمن تعريف
الإنسان وخير شاهد على ذلك ما جرى ويجري للشعب الشيشاني المسلم في عملية
إباده وتصفيه جسديه مع تدمير منظم للمدن والقرى.
- الأوضاع الأمنية:
الحقيقية: أن المرء يعجز عن تصوير المآسي التي أحدثتها القوات الروسية
المعتدية، فالطائرات تحلق على ارتفاعات منخفضة جدّاً، فلا ترى شيئاً إلا دمّرته، حتى لم يعُد هناك أي صورة تُذكر من صور الحياة الطبيعية، فقد هدمت محطات
الكهرباء والمياه والغاز، ووسائل الاتصالات كافة، حتى أصبحت هذه البلاد
مقطوعة عن العالم. وأصبح المسلمون في الشيشان يعيشون في هذه الحالة القاسية؛
فما أن تسير شبراً حتى تتابع أمامك المآسي والجراح، فالبيوت كلها تحوّلت إلى
أنقاض، والشوارع عجت بأشلاء البشر المتناثرة في كل ركن، فهنا يد طفل بريء
ملقاة على صخرة، وجمجمة شيخ مُسن ألقتها قذيفة هناك، أمّا الطرقات فقد تلطخت
بدماء عشرات القتلى، وكأن كل شيء أصبح في ديارهم أحمر اللون.
ومع ذلك فالشيشانيون في حالة استنفار دائم، كل شاب وشيخ حمل ما حصل
عليه من السلاح، وتوجّه إلى المراكز، ومن ثمّ: إلى حيث توجد القوات الروسية
للانتقام.. هذه صورة أقل من مختصرة عن واقع الحال داخل الشيشان.
- أوضاع السكان بالداخل:
أما أحوال الشيشان المعيشية فلست أدري كيف أصفها أو أقربها، فالحروب
التي تهز ميزانيات دول عظمى تكوي اليوم شعباً فقيراً محاصراً من كل مكان،
فالأهالي ما زالوا يعتمدون بعد الله في معيشتهم على ما كانوا يدخرونه من قبل، ولا
يوجد غيره، أما الجو: فمع أن الثلوج قليلة لكن البرد شديد جدّاً، لا يكاد يحتمل،
ومصادر التدفئة أصبحت الحطب، ومن يستطيع جلبه في ظل هذه الحرب العدوانية؟
- أوضاع اللاجئين الشيشان:
وضع المهاجرين في الشيشان على حالتين:
المهاجرون خارج الشيشان: فهناك مهاجرون في داغستان، وقد توزعوا على
منطقتين حدوديتين مع الشيشان:
1 - منطقة (خساريون) وعدد المهاجرين في هذه المنطقة (000ر50) مهاجر يعيش معظمهم في البيوت، (بنسبة 95%) مع الأسر الشيشانية هناك، ويلاقون
ضيافة كريمة من إخوانهم المسلمين هناك، والباقون يسكنون في المدارس.
2 - منطقة (كزليار) وعدد المهاجرين في هذه المنطقة (20. 000) مهاجر،
علماً بأن 80% من المهاجرين، في هاتين المنطقتين من الأطفال (40% منهم
رضع) .
وهناك مهاجرون في الجمهورية الصغيرة المجاورة (أنقوشيا) ، ويقدر عددهم
بـ (130. 000) مهاجر، وهذه إحصائيات تقريبية؛ لأن جميع وسائل
الاتصالات والمواصلات مقطوعة مع هذه الجمهورية.
- الأوضاع الصحية:
أما بالنسبة لأحوال المستشفيات فمعظمها يعمل في مداواة الجرحى والمصابين، أما مستشفيات الأمراض الأخرى: فلم يعد في هذه الظروف يتذكرها أحد؛ فمئات
الجرحى يَرِدون يوميّاً على مستشفيات الشيشان، وهذا أمر مكلف جدّاً. ولا يوجد
في المستشفيات حتى أقل الإمكانات الطبية، فالفرش قد كسيت بالدماء، إذ لا وقت
لعمليات التطهير والتعقيم والتغيير، وينام المرضى على أسرة مكسرة وممزقة
الفرش، أما أدوات الجراحة والعمليات، فلا يتوفر منها سوى القليل من المخزون
القديم، وكذلك الأدوات الطبية الضرورية كالشاش والقطن.
- أوضاع الدعوة:
أما حال الإسلام والدعوة في الشيشان اليوم، كحال أي بلد مسلم حكمته
الشيوعية الحمراء زهاء سبعين سنة من الظلم والجبروت والإذلال؛ فالناس بعامة
في غفلة عن الإسلام وعن تعلم شرائعه السمحة، شأنهم في ذلك شأن كثير من
البلدان الإسلامية.
ومعظم الشباب قد أبعدتهم الشيوعية الحمراء عن تعاليم دينهم الصحيحة، وفي
الوقت نفسه نشطت الصوفية البعيدة عن تعاليم الإسلام الصحيحة في الشيشان،
وانتشرت بواسطتها البدع.
ولكن هناك بعض الطلاب سواء من العرب أو من الشيشان المهاجرين قديماً
إلى البلاد العربية لهم جهود طيبة في الدعوة، وقد أنشئ مركز إسلامي في
(جروزني) ، وقد لمس كاتب هذه السطور من إخواننا الشيشانين رغبتهم الشديدة في
العودة إلى الإسلام، وحرصهم في البحث عن مسائل العقيدة، وهناك مسائل فقهية
كثيرة يستفسرون عن حكمها.
وهذه فرصة عظيمة، وبوابة مفتوحة للدعوة. ومن العوامل المساعدة لعودتهم
إلى الله كثرة مشاهدة الجنائز والقتلى، وتذكر المصير الحتمي، فهم الآن بحاجة
ماسة إلى دعم دعوي شديد؛ لتأصيل العقيدة الصحيحة في النفوس من خلال
الكتيبات والأشرطة وما شابه ذلك، وعندهم الاستعداد للتقبل، فهم إذا سمعوا بسنة
يعملون بها، والمرأة عندما تعرف ما يجب من الحجاب تطلب الحجاب الكامل، هم
يتلهفون على المصاحف بكل شوق ... وهذه صورة مختصرة في هذا المجال
الدعوي.
- بعض المشاهد داخل الشيشان:
امرأة تحكي ما رأت في (جروزني) ، وأنها شاهدت بنفسها طفلا لايتعدى
العاشرة من عمره ممدداً على الأرض بعد أن قطع الجنود الروس أطرافه الأربعة.
قصفت الطائرات الروسية قسم الولادة في مستشفى المدينة، مما أدى إلى
مقتل غالبية الأطفال حديثي الولادة الذين كان يضمهم المستشفى.
عشرات من الفتيات والنساء يتعرضن للاغتصاب من الجنود الروس.
رجل مقتول يدعي (أيوب) يبلغ من العمر (42) عاماً: تعرض للاغتصاب!
من قبل الجنود الروس أمام أبنائه، ثم قُتل بعد الجريمة.
دخلت مجموعة من الجنود على بيت فيه عجوز وشيخ وأبناؤهما، ثم أمروا
الشيخ والشيخة أن يخلعا ملابسهما ويمارسا الجماع أمام الجميع وعندما رفضا:
اغتصبوا الشيخ، وقتلوا الجميع.
بعد هذا الاستعراض السريع لأحوال المسلمين في الشيشان، والأحوال التي
رأيتها وعايشتها في أرض الواقع، وبعد أن عرضنا جزءاً يسيراً من حالة المسلمين
في تلك الديار، ذلك الحال الذي يتعسر على الكلمات وصفه! بقي السؤال: ماذا
عسانا أن نفعل بعد هذا البيان؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
- أحسن الله عزاءكم وعزاءنا يا أهل الشيشان.
والمجلة ماثله للطبع وردت الأخبار مؤكدة ما أشيع عن العملية الدنيئة باغتيال
الرئيس (جوهر داوديف) ولقد سبق للبيان أن تطرقت في العدد (84) لحياة الفقيد
ومواقفه وإصراره على تحرير بلاده من الاحتلال الروسي، ولماذا حاول الروس
إسقاطه واستراتجيتهم التي نفذوها في ذلك، ووقفة مع حماسه الإسلامي وآماله
الكبيره بحكم الإسلام بعد عقود من الحكم الروسي البغيض، والبيان ترجو أن يكون
في هذا الحدث الجلل ما يجمع الشمل ويوحد الصف ويجدد العزم على تحقيق آمال
هذا الشعب إن شاء الله.
... ... رحم الله الفقيد وعفا عنا وعنه وغفر لنا وله.
__________
(*) مندوب لجنة شباب الجمهوريات الإسلامية وروسيا الاتحادية بالندوة العالمية للشباب الإسلامي ونرغب من الأخوة في الندوة العالمية مواصلة المجلة بمثل هذه التقارير الميدانية المهمة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-(101/94)
في دائرة الضوء
الدين والعلم على أعتاب قرن جديد
بقلم: خميس بن عاشور
نعيش اليوم في أواخر القرن العشرين، والعالم كله يستعد للدخول في القرن
الواحد والعشرين، والعالم الغربي المتقدم مشغول كثيراً بهذا الحدث، فهو يعمل
جاهداً على نشر أفكاره وهيمنته على أطراف العالم، بل صار يتطلع إلى أقطار
السموات والأرض مستكشفاً لبطاح جديدة يرسو عليها بسفائنه ويحط فيها بمراكبه
الفضائية. وأما الدول والأنظمة المتخلفة: فإنها تحاول أن تتظاهر بالاهتمام المزيف
والمبالغ فيه، لأنها ربما لا تعلم أنها لا تزال تعيش من حيث التقدم المادي مع بداية
القرن العشرين، ولكن العالم الغربي يهوى كثيراً أن يتندر ويضحك على وقع
شحطات هؤلاء الذين يرومون دخول القرن القادم على متن عربة بخارية حاملين
في أيديهم بندقية بارود ذات طلقة واحدة.! ! إن هذا المشهد لا ريب يدل على أزمة
حضارية حقيقية وأزمة إنسانية نعيشها في عرصات هذا العالم المضطرب بأفكاره
وفلسفته ومنهجيته، فهذه التكنولوجيا المعقدة لم تعد منذ عهد قريب سرًّا من الأسرار
التي تعلل قوة مجتمع من المجتمعات، ولا سيما عندما أصبحنا نشاهد هذه
التكنولوجيا في صورة ألعاب يلهو بها الأطفال في كل مكان، لقد أصبحت
التكنولوجيا ملكاً للإنسانية جمعاء، ولا يسعها أن تكون سرّاً مكنوناً، بل لا يمكنها
أن تكون كذلك ولو أرادت؛ فبعدما كان الاختراع العلمي يحتاج إلى زمن طويل
نسبيًّا لكي يصير تطبيقيًّا على نطاق واسع، تقلصت هذه المدة إلى درجة كبيرة
بعدما تمكن الإنسان من أصول وقواعد العلوم وجعلها أسيرة أهوائه ورغباته، وحتى
الاختراعات المذهلة في ميادين الأسلحة النووية والكيماوية فإن الكثير من الدول
أصبحت مالكة للخبرة العلمية التي تمكنها من صناعتها وتطويرها، غير أنه يمنعها
من ذلك قلة الأموال من ناحية، والضغوط الدولية لمحاصرة إنتاج هذه الأسلحة
الفتاكة من ناحية أخرى. إن الأخطار الكبيرة التي أصبحت تتهدد الإنسانية جراء
بعض المخترعات العلمية جعلت العالم بأسره يتورط في مشكلة أخلاقية نجمت من
اعتداء العلم المادي على الطبيعة وعلى إنسانية الإنسان الذي أصبح يعامل معاملة
الأشياء والآلات. لقد تطور العلم المادي تطوراً كبيراً، في حين بقيت بعض العلوم
متأخرة، العلوم التي تعالج قضايا الإنسان من حيث هو إنسان. إن العالم اليوم في
حاجة إلى المسلمين، وأما المسلمون فحاجتهم مع بداية القرن القادم، ليست هي
العُدد المادية فحسب، ولكن الأهم من ذلك هو تلك العُدد المعنوية الكبيرة، وهل
العالم الإسلامي اليوم في مستوى هذه المسؤولية؟ ، أو بالأحرى: هل هو سائر
على الطريق القويم لتحقيق هذه القوة الحقيقية، قوة المستقبل؟ .
إن كل المؤشرات والأدلة تتجه نحو إثبات تلكم الحاجات الملحة للإنسان
المعاصر من أجل معرفة ذاته، وهذا ما قد يفسر الاندفاع نحو العودة إلى إنسانية
الإنسان، وعودة الدين إلى مكانته في نفوس الأفراد والمجتمعات. وكثير من
المحللين يغضون الطرف عن حقيقة هذا التوجه العالمي نحو إعادة الاعتبار إلى
الدين، وخاصة من لدن أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم كذباً وزوراً مثقفين، فهم
يعتبرون المتديّن خارجاً من دائرة الثقافة، واصطلحوا على أن المثقف لا بد من أن
يكون (لائيكيًّا) أي: جاعلاً الدين وراءه ظهرياً، مع أن الثقافة في لغة المعاجم تقوم
على أركان، من أهمها: العلم، والدين، والفن ... ولذلك فإنه بإمكاننا أن نحكم
على الثقافة بالمفهوم الحالي أنها في أزمة قاتلة.
لقد حاول هؤلاء المثقفون جهدهم إنشاء تلك الفرقة والقطيعة بين العلم الطبيعي والدين، غير أن علماء الطبيعة أنفسهم كذبوا هذه العلاقة وبينوا أن ميادين الفكر التي لا تزال تبحث عن موضوع لها لا يمكن اعتبار نتائجها إلا وهماً وسراباً، وذلك عندما تكون هذه النتائج تتصادم مع حقائق العلوم الموضوعية، ولنا أن نقدم بعض الشهادات لأكبر علماء الطبيعة في هذا العصر هديةً إلى أولئك المثقفين الذين لم يأخذوا من الثقافة الغربية غير الكفر الذي يسمونه (لائيكية) وتنويراً: يقول الفيزيائي والفلكي الإنجليزي (آرثور ستانلي أربجتون) : (إن الفيزياء الحديثة تقودنا بالضرورة إلى الله، ولا تبعدنا عنه، ولم يكن أي مخترع للإلحاد عالماً طبيعيّاً، بل كانوا جميعاً فلاسفة أنصاف معتدلين جدًّا) [1] ويقول الإنجليزي (أرنست روثر فورد) (1871م1936م) الحائز على جائزة نوبل سنة 1901م: ( ... وأيضاً العالم النزيه الذي كشف بعضاً من جوانب الوجود، لا ينبغي أن يكون مرتاباً في الله، إنه لتفسير خاطئ في الأوساط المتخصصة، أي: إن العالم الذي يعرف عن الوجود أكثر من غيره يتوجب عليه أن يكون بلا رب، العكس هو الصحيح تماماً ... ) [2] ويقول الفيزيائي الأمريكي (أرثور هـ كومبتون) (1892م1962م) الحائز على جائزة نوبل سنة 1927م: ( ... بعيداً عن هذا جدًّا أن تكون في نزاع مع الدين، فقد تحول العلم إلى حليف للدين، فمن خلال فهم أفضل للطبيعة نتعرف بشكل أفضل أيضاً إلى الله، وإلى الدور الذي يجب أن نلعبه في مسرحية (!) الكون) [3] .
إن هذه الحضارة المعاصرة لها جذور دينية من غير شك رغم إنكار هؤلاء
المثقفين لهذه الحقيقة الدامغة، سواء أنظرنا إليها مظاهر وصوراً، أو أصولاً
وقواعد فكرية؛ فمن حيث المظاهر لنأخذ ثلاثة أمثلة: من آسيا نأخذ اليابان، ومن
أوروبا بريطانيا والدول الاسكندنافية، ومن أمريكا الولايات المتحدة، وهذه الدول
هي الأكبر والأكثر تقدماً ومدنية، فسنجد أن اليابان دولة متديّنة وأن اليابانيين الذين
بزوا غيرهم في العلوم الإلكترونية المعقدة يتدينون بالخرافات، ومنها: اعتقادهم أن
الإمبراطور هو من أبناء وسلالة الآلهة، إضافة إلى أن الراية اليابانية ترمز إلى
تلك الخرافات الدينية البدائية. وأما بريطانيا فإن الصليب هو شعار رايتها وكذلك
الدول الاسكندنافية كلها، ولا تزال الملكة في بريطانيا تركب العربة التي تجرها
الأحصنة، ولم نسمع بأحد من المثقفين يقول بأن الملكة متخلفة. وأما الولايات
المتحدة فيكفي للدلالة على توجهها الديني الرسمي ما هو مكتوب على ورقة المئة
دولار من عبارة (نثق بالله in god we trust) بالإضافة إلى اعتراف
(البراجماتية) وهي فلسفة المجمتع الأمريكي بالدين ورعايته والدعوة إلى التمسك به، ورؤساء الولايات المتحدة يحرصون دائماً على ارتياد الصلوات في الكنائس
الأمريكية. وأما عندما ندرس أصول هذه الحضارة الغربية فإننا نجدها مرتكزة على
أسس دينية، وهذا عكس ما هو متداول عند بعض المثقفين المسلمين وغيرهم،
وبإمكاننا الاستشهاد على ذلك بكتاب لأحد علماء الاجتماع الألمان (ماكس فيبر)
(1864م1920م) وعنوان كتابه هو: (الأخلاق البروتستانتية والفكر الرأسمالي)
وقد واجه في هذا الكتاب ادعاءات الماركسية من أن الاقتصاد هو الذي يؤثر في
الفكر وليس العكس، وبيّن أن الدين هو الذي قام عليه الفكر الرأسمالي، ومعروف
أن العقيدة البروتستانتية تحث على الإخلاص في العمل والحث على الإتقان فيه [4]
حتى صارت الصناعة الغربية آية في الإتقان والجودة، والجميع يعلم أن الثورة
الصناعية قامت في بريطانيا حيث غالبية السكان على العقيدة البروتستانتية.
وأما المسلمون بوضعهم الحالي: فإنه ليس لديهم ما يدخلون به إلى القرن
القادم، ولا يملكون من الأشياء المادية والنظريات العلمية ما يجعلهم يساهمون في
صياغة الاستراتيجية القادمة، إلا أنهم في الحقيقة يمتلكون شيئاً هو أسمى من كل
هذه الماديات والتقنيات المذهلة، إنهم يملكون هذا الدين الإسلامي العظيم الذي تفتقر
إليه المدنية الغربية، وبعبارة أخرى: إنهم يمتلكون دواءً خطيراً من شأنه أن يعالج
مشاكل الإنسان التي تقوده إلى الشقاء والانتحار والبؤس المعنوي، إنهم باختصار
يمتلكون قوة المستقبل.
ولنتساءل هل حققت المدنية الغربية بوضعها الراهن سعادة الإنسان؟ .
إننا نشعر دائماً بأن العلم وتطبيقاته قد انحرف عن وظيفته الإنسانية المتمثلة
في خدمة قضايا الإنسان من حيث هو إنسان، بل إننا نجد شياطين الفكر الغربي
وفلسفته قد وضعوا للناس مُسَلّمة، هي: أن العلم والدين ضدان لا يلتقيان، فإما أن
نأخذ بتلابيب الدين ونتمسك به، فنبقى في تخلف دائم، وإما أن نترك الدين لكي
نرقى في سلم المجد والرقي المادي والتقنية؛ لنصل إلى درجة من الرفاهية تمكننا
من تلبية رغباتنا وشهواتنا إلى أبعد الحدود، ولكن النتيجة والثمرة التي وعد بها
هؤلاء الشياطين تخلفت، بل كانت وبالاً وخسراناً، ففي غياب من الدين تسبب
العلم والاستغلال المتوحش للتكنولوجيا في تلويث الطبيعة، وصار الإنسان في
بعض المناطق من كوكب الأرض لا يجد الهواء النقي لكي يتنفسه، وفي غياب من
الدين ظهر الظلم في أبشع صوره متمثلاً في استعمار شعب بغرض نهب ثرواته،
وبعيداً عن توجيهات الدين صارت المرأة مفتولة العضلات كالرجل، وفقد الإنسان
بالتالي إنسانيته وهو أغلى ما يمتلكه، وليس غريباً إذن بعد هذه الكارثة أن يتوجه
الإنسان بتساؤلات عن قيمة هذا الوجود الذي طغت عليه المادة والفكر المادي،
وعن الغاية التي يمكن أن يصل إليها بعد هذا البعد عن قضايا الإنسان الأساسية،
وبعبارة إسلامية: البعد عن الفطرة التي فُطر الناس عليها، وبعد هذه الصدمة أدرك
الإنسان المعاصر أن الدين هو الدواء الوحيد الذي لا مناص من استعماله لعلاج هذه
الأمراض التي تفتك بالروح والجسد معاً.
إن هذا التوجه العالمي نحو الدين جعل بعض الملاحظين يرون في ذلك
مؤشراً لرجوع الحروب الصليبية (الدينية) ، وهذا الحكم قد يكون صحيحاً، ولكن
بالإمكان تفاديه واجتنابه عن طريق الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، وأما اللجوء
إلى الحروب، فإن تجارب الإنسانية في هذا الميدان تجعلها ربما تفكر في طرق
أخرى، سيما وأن الساحة العالمية اليوم تدندن على وتري الحوار والسلام العالميين، ونؤمن نحن المسلمين بوسيلة الدعوة إلى الله، كما أننا نؤمن إيماناً قويًّا بأن
الإنسانية ستستجيب إلى داعي الله الذي يدعوها بإخلاص إلى التوبة والرجوع إلى
طريق الله وطريق الإسلام، وذلك كلما ألفينا السبيل منشرحاً بدون وجود عوائق
نحو قلوب التائهين والتائهات في هذا العالم المريض بأفكاره وحضارته.
__________
(1) العقيدة والمعرفة، زغريد هونكه، ص242.
(2) المرجع السابق، ص243.
(3) المرجع السابق، ص243.
(4) وهذا كما نلاحظ عقيدة إسلامية، ولعلها مما تبقى من آثار النصرانية الصحيحة.(101/100)
مذكرات قارئ
كارتر.. من الرئاسة إلى التنصير
بقلم: محمد حامد الأحمري
عندما تنتهي فترة رئيس أمريكي في الحكم، فإنه وأنصاره يبحثون عن
مشروع يخلد ذكراه ويقدم به نفعاً للأمة من بعده، وقد اكتسبت أغلب مشاريع
الزعماء السابقين شهرة كبيرة، وخدمت المجتمع، وقد اتخذت في غالبها طابع
المؤسسة الثقافية والعلمية مثل: مركز هوفر، ومركز كيندي، ومكتبة ريجان،
ومركز روزفلت، وجامعة إيزنهاور ... وأمثالها.
وأما كارتر، الرئيس الذي جاء به إلى الرئاسة التوابون! (المولودون من
جديد) في المسيحية، فقد أنشأ مع زوجته روزالين مركز كارتر في مدينة أطلنطا،
وبدعم من كنيسته، وهذا المركز أظهر للناس اهتمامه بالقضايا الإنسانية والسياسية، والبحث عن السلام في العالم، أو كما يقول كارتر: (إنهم يقومون بفتح صدورهم
وقلوبهم للناس، ونشر كلمة الله) ، وقد قام المركز بأعمال مهمة وبارزة في العالم،
من اليابان شرقاً إلى المساعدات الطبية للنساء في جورجيا، وبناء المساكن للفقراء
في فلوريدا، ومروراً بإفريقيا، حيث يقومون بأنشطة في أكثر من ثلاثين دولة
إفريقية، وساهم المركز في تجنب وقوع حرب بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، ونزع فتيل الحرب من هاييتي، وساهم في المصالحة البوسنية الصربية السابقة،
وتدخل في السودان، وكانت لقاءات متعددة ما بين روزالين كارتر والبشير، وقد
عبرت عن انزعاجها من تعامل البشير معهم، ومن مشكلة المواعيد التي كانت
تعطى لهم، وتحدث كارتر عن اهتمامه بالسودان، وبخاصة الجنوب السوداني.
وعند المركز ما يسمى بمشروع القرن، وهذا المشروع في إثيوبيا، وهو
مشروع دعم زراعي وديني لمئة وعشرة آلاف عائلة إثيوبية، حيث يوفر المركز
حقلاً صغيراً وخدمة وإشرافاً ومتابعة لكل أسرة يتم تنصيرها، إذ يرى كارتر أن
تطوير إفريقيا يجب أن يتم روحيًّا! وماديًّا.
وبعد خروجه من الرئاسة لم يقر له قرار، ويرى أن عمله (منصراً) هو عمل
أرقى من الرئاسة، وهو الذي يليق به وبقدراته، يعمل ذلك في راوندا، وبورندى، وكينيا، وهاييتي، واليابان، وغينيا، وغانا، وزيمبابوي، ويقابل السكان في
نيجيريا يقدم لهم النصرانية، وينصبونه زعيماً للقبيلة، ويعطونه الراية، وأرضاً
يبني عليها قصره، ويبني لهم الكنائس، ويوزع الإنجيل والذرة!
ثم يرجع إلى أمريكا يتحدث عن قصصه مع المزارعين والفلاحات في أدغال
إفريقيا، ولا ينسى أن يذكر للشباب النصارى ولداعمي المشاريع هناك كيف أن
عدداً من الأفارقة يمنعونه من مساعدتهم في المزارع، ويقولون له: لا تشارك
فتتسخ ملابسك، ولكنه يقول: (إني ألبس ملابس العمل والزراعة) .. ويذكر أيضاً
من مشكلات العمل في إفريقيا: أن الوزراء في الحكومات الإفريقية لا يستطيعون
كتابة خطط للتنمية؛ لذا: يقوم المركز بكتابة خطط التنمية لهذه الدول، ولأن
مقياس الوزارة في حكومات إفريقيا ليس القدرة ولا المعرفة، بل هو غالباً روابط
قبلية وقرابة وصداقة.
ومما هو جدير بالملاحظة: أن هذا المركز التنصيري استطاع إقناع الحكومة
الأمريكية والبنك الدولي ومؤسسات عالمية أخرى أن يتم تنفيذ مساعداتهم لإفريقيا
عبر ذلك المركز وبالاشتراك معه، بحيث أصبح عدد من المشاريع الدولية يدار من
قبل الكنائس مباشرة، تحت أسماء ومؤسسات عالمية، ومما أكسب هذه المشروعات
نجاحها أن كارتر يشرف مباشرة على العديد منها، وإلى جانب هذا: فإنه مستمر
في مواعظ الأحد في الكنيسة، وسوف تصدر مواعظه مطبوعة في كتاب، كما أنها
توزع مسجلة بصوته، ولعل القارئ لا ينسى أنه هو الذي أقام الصلاة في الكنيسة
في يوم الأحد الذي سبق توقيع اتفاقية السلام الأولى في واشنطن، وهو صاحب
كتاب (دم إبراهيم) الذي كتبه بعد توقيع السادات للصلح، و (دم إبراهيم) يقصد به
دم العرب واليهود أبناء إبراهيم كما هو مشهور عندهم في الكنيسة.
بقي أن نعلم أن هذا المتقاعد النشط كان مسؤولاً عن أقوى حكومة علمانية لا
تخلط الدين بالسياسة! ! وقد كان يحرص في القضايا السياسية العامة أن يبعد عن
نفسه وعن سياق كلامه الطابع الديني قدر طاقته، ويخفي حقيقة جهوده.
وقد سمعت أحد الزعماء يصفه بعد مقابلة معه بقوله: كارتر هذا (قدّيس) ! !
من شدة ما رأى منه من انصراف روحي كامل لمناصرة الكنيسة، لقد كان وما زال
كارتر زعيماً عمليًّا ومنصراً جادًّا، يثير نشاطه أسئلة كثيرة.(101/106)
بريد البيان
وفاة عالم فاضل
وصلت المجلة لمحة وفاء وتعريف بالعالم الجليل فضيلة الشيخ (زيد بن عبد
العزيز بن فياض) (رحمه الله) الذي وافاه الأجل يوم 21/11/1416هـ من تلميذه
(عبد الله بن علي بن عامر) وفيما يلي تلخيص لما كتب:
ولد فضيلة الشيخ في روضة سدير المشهورة سنة 1350هـ، وحفظ القرآن
وهو ابن اثنتي عشرة سنة، أتم دراسته الجامعية وتخرج في كلية الشريعة عام
1376هـ، وقد عين فور تخرجه عضواً في دار الإفتاء، كما مارس التدريس
بكلية الشريعة، وكان من مؤسي مجلة الدعوة ومن أساتذته العلامة الشيخ (محمد بن
إبراهيم) مفتي عام المملكة العربية السعودية الأسبق (رحمه الله) .
كان الفقيد (رحمه الله) : واسع العلم، حسن الخلق، يصدع بكلمة الحق، وقد
وتمتع بقوة ذاكرة، وتواضع جم.
من مؤلفاته: الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، وهو من أوسع شروحها
وختاماً ... يدعو تلميذ الشيخ طلبة العلم إلى دراسة هذه الشخصية؛ لتتعرف
الأجيال عليها، ويقتدوا بها. رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جناته.(101/110)
الورقة الأخيرة
(نخبة) البيوت المحميّة
بقلم: د. محمد البشر
طلائع النخبة التي تحمل أعلى المؤهلات العلمية وتنتسب إلى أجلّ الوظائف الإنسانية في بلداننا العربية تصاب بداء عضال ومرض اجتماعي يسلبها مكانتها
وتأثيرها في الأوساط التي تعيش فيها.. وبخاصة تلك النوعية من النّخب التي
درست وعاشت في الأجواء الطبيعية للإنسان.. ومارست كل طرائق التعبير الحر
عن إنسانيتها وهويتها.
مجرد أن تطأ أقدامها الأراضي العربية وتبتلعها أمعاء المجتمع، نجد أن أفراد
هذه النخبة يصابون بازدواج في الشخصية، يفقدهم سمات تلك الهوية التي طالما
عبروا عنها وكافحوا من أجل الحفاظ عليها.. بل ناضلوا بالقلم واللسان والفعل من
أجل أن تصل معانيها السامية إلى الآخرين.. شفقة عليهم.. ورحمةً بهم.. وإنقاذاً
لهم من المُزلات والمُضِلاّت. ما أن تعود هذه النخبة إلى أوطانها وتلبث هنية من
الزمن حتى تتكيف مع أساليب العيش في البيوت المحمية.. وتتعرف على فن
التعامل مع الرموز.. وتفكيك الطلاسم.. وتأخذ دورها (غير) الطبيعي على
المسرح، الذي لا يسمح بالخروج عن النص.. ويؤكد على ضرورة أن تكون
الشخصيات مستعارة على الأقل أثناء حركتها على خشبة المسرح وما عدا ذلك فهو
شأن خاص. وفي هذا الاستثناء تمارس النخبة دورها الطبيعي.. وعوضاً عن أن
تكون فترة الاستثناء وقتاً لاجتلاء الصدأ الذي علق بعقلها وإزالة ركام الزيف الذي
ملأ مساحات فكرها، نجد أن هذه النخبة تمارس نوعاً من الحنين إلى ما مضى من
أيامها.. والقراءة المتأنية لتاريخها.. و (قد؟ !) يساورها شعور بالذنب وتأنيب
الضمير إذا ما أحست بالفارق بين أمسها ويومها.. ومع ذلك كله فهي عاجزة عن
أن تحدث تغييراً.. ليحس لأن المصلحة تقتضي الانتظار والتريث.. وليس لأن
ذلك من لوازم العقل والاتزان والاعتدال والتسديد والمقارنة وغير ذلك من معاني
الحكمة.. بل لأنها أَلِفَت الدور واستكانت له.. فهي أضعف من أن تُسفر عن
مبدأ.. أو تعلن عن شخصية.. أو تناضل عن هوية.
إنها نخبة البيوت المحمية.. تتغذى بتربة غير التربة.. وتستنشق هواءً غير
الهواء.. وتنتج ثمراً غير الثمر.
إنها نخبة البيوت المحمية.. التي تتبسم في العلن.. وتتمعر في الخفاء..(101/111)
صفر - 1417هـ
يوليو - 1996م
(السنة: 11)(102/)
كلمة صغيرة
المنهج والوسيلة
أجمع علماء السلف الصالح على أن اتباع الرسول-صلى الله عليه وسلم- لا
يتم إلا باقتفاء آثاره في كل شأن، ومنه اتباع سبيله في الدعوة إلى الله: [قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] .
ولا شك أن التهور والعنف ليس وسيلة لإصلاح المجتمعات وتقويمها، كما أن
الغلو في التكفير غير المنضبط بالضوابط والأصول الشرعية المتفق عليها عند
سلف الأمة مزلق غير محمود العواقب.
أما جهاده-صلى الله عليه وسلم- فقد كان له صفات مذكورة، ومعايير
مضبوطة، وأهداف محددة، مبثوثة في كتب أهل العلم الأثبات.
إننا بحاجة إلى بيان واتباع منهج الرسول-صلى الله عليه وسلم- في العلم
والعمل، وفي الدعوة والإصلاح. وبحاجة أيضاً إلى البحث في أسباب انحراف
بعض الشباب عن الوسيلة الدعوية الصحيحة. وهذا يتطلب بلا شك تصدّر العلماء، وقيامهم بواجب التعليم والدعوة.
والله نسأل للجميع العلم النافع والعمل الصالح.(102/1)
افتتاحية العدد
الأصولية بين الاتهام والحقيقة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى
يوم الدين.. وبعد:
ما زلنا وسنستمر بإذن الله دائبين انطلاقاً من رسالتنا الدعوية في الذب عن
ديننا الحنيف، وكشف كل ما يراد به من نوايا باطنة ومشكوفة للإساءة إليه ولدعاته
وعلمائه وللمنتمين إليه، وقد تطرقنا في افتتاحيات (البيان) وكثير من مقالاتها إلى
هذا الاتجاه وفضحه.
وبادئ ذي بدء: فالإسلام دين رباني يقوم على الكتاب والسنة وإجماع الأمة
بفهم سلفنا الصالح ... هذا ما ندين به، وما عداه من المنطلقات القديمة والجديدة مما
يخالف ذلك الفهم فهي منبوذة في نظرنا ولا قيمة لها البتة.
والأصولية المقصودة في رأي كثير من وسائل الإعلام الأجنبية وصداها في
عالمنا الإسلامي والعربي هي نهج فئات من النصارى ممن يَدْعُون إلى العودة
لجذورهم وأصولهم المعتبرة عندهم، وقد سبق لنا في هذه المجلة إيضاح حقيقة تلك
الأصولية، والمراد منها، والأخطاء المقصودة وغير المقصودة من إلصاق هذا
الفهم بالإسلام والمنتسبين إليه بحق، وأن الهدف النهائي الذي يدندنون حوله هو
إلصاق تهمتي (التطرف والإرهاب) بالإسلام ودعاته، مع العلم أن ما يحصل من
ذلك القبيل منسوباً لفئات إسلامية لا تمثل الإسلام الصحيح، وقد يكون سبب ذلك
انتشار الفساد في بعض المجتمعات في ظل سيطرة التطرف العلماني ...
وما نريد الوصول إليه: أن نبين للقارئ الكريم أن تهمة الأصولية إياها تأخذ
منحًى عجيباً ومفترى، يراد من ورائه إلحاق الأذى بالإسلام ودعاته، مع غض
النظر عن كل التوجهات الأصولية الأخرى في بلدان العالم التي أصبح لها حق
الوجود والعمل في وضح النهار، بما في ذلك حق الدخول في الانتخابات والمنافسة
للوصول إلى سدة الحكم، وعلى سبيل المثال لا الحصر (حزب الليكود الصهيوني) ، الذي نافس حزب العمل الحاكم في دولة يهود ووصل للحكم مرات وآخرها في
الانتخابات الأخيرة حيث أعطاه الشعب اليهودي خياره، مع العلم أن الحزبين في
نظرنا وجهان لعملة واحدة.. صحيح أن حزب (الليكود) - وهو تكتل أحزاب دينية
أصولية متطرفة - وحزب العمل ينطلقان من أسس توراتية وتلمودية معروفة (لا
تفريط في الأرض، ولا في بناء المستعمرات أو إخلاء القائم منها) و (لا تنازل عن
القدس عاصمة لهم) فضلاً عن (التحجيم لكيان الحكم الذاتي ورفض عودة فلسطينيي
الشتات) ، ومع ذلك: تقول الإدارة الأمريكية بعد فوز الليكود: على العرب ألا
يتعجلوا الحكم على حكومة (نتنياهو) .. هكذا بكل بساطة؛ لأن المسألة مراعاة
لليهود لكسب أصواتهم ذات الفعالية، أما العرب فهم آخر من يُفَكّرُ فيه.
وفي الهند وجدنا حزب (بهارتا جاناتا) الهندوسي الأصولي المتطرف له حق
الوجود، بل حرية العمل حتى وصل إلى المرتبة الأولى في الانتخابات الأخيرة،
وقد نحى (حزب المؤتمر) العتيد، وكُلِّف رئيسه بالوزراة فعلاً، ولولا منافسة
الأحزاب الهندية الأخرى واجتماعها ضده لوصل إلى الحكم؛ فذلك الحزب
المتطرف له مواقفه العنصرية ضد أكبر أقلية في العالم وهم (المسلمون في الهند) ؛
حيث قَتَلَ الآلاف منهم وهدم المساجد، ومن أشهرها (مسجد البابري) ، وبعد فوز
الحزب أعلن رئيسه أن كشمير كلها هندية، وأنه سيعيد بناء المعبد الهندوسي على
أنقاض مسجد (أيوديا) .
هذان مثالان على التسامح الدولي مع الأصوليين غير المسلمين..
ولم تنل تلك الأحزاب المتطرفة من الإعلام الغربي بخاصة وتابعيه في
الإعلام العربي ولا (1%) من حقد وعدواة وتهويل مما وجه إلى الإسلاميين بمجرد
الإعلان عن دخولهم الانتخابات، بل وجدنا الشعار الديمقراطي جاهزاً: ضرورة
احترام اختيار الناخب (غير المسلم بالطبع!) .
وإن كان الموقف الغربي من دولة يهود معروف - وهو الانحياز الكامل لها -
لأسباب معروفة، إلا أن الهند لم يوجه إليها أي هجوم أوتحذير من خطر تمكين
الأصوليين فيها، أو التلويح لها بالمقاطعة، أو التهديد بالاجتياح إن استلم الحزب
الأصولي السلطة كما فعل (ميتران الهالك) حينما أوشك (االإنقاذيون) في الجزائر
على الوصول إلى الحكم، بل إن أمريكا أبدت استعدادها للاعتراف بالحكومة الهندية
مهما كان توجهها.
إننا نتساءل بكل صدق: أين الخوف المزعوم من الأصولية؟ ! وأين الرعب
المدّعى من خطر إمساكها بزمام الحكم؟ ! ، أم أن ذلك لا يكون إلا حينما يكون
الأمر في ديار الإسلام؟ .
وإن كان للعدو الصهيوني مكانته لدى الغرب بعامة وأمريكا بخاصة؛ وذلك
بالدفاع عنه بالتحالفات الاستراتيجية وإعطائه كل ما يريده من أسلحة الدمار الشامل، وتمكينه من صنع القنابل النووية وأسلحة الدمار الشامل في الوقت الذي يحال دون
الدول الإسلامية واستيراد الأسلحة المتقدمة وتثار الزوابع ضد أي بلد مسلم يشاع
عنه محاولة اقتناء تلك الأسلحة، بل والتهديد بضربة لمجرد الاشتباه في ذلك وهذا
ما حصل بالفعل، فما معنى ذلك؟ إن المسألة هي محاربة الإسلام والمسلمين
ومحاصرتهم ووضعهم تحت سيطرة أعدائهم، بينما يعطى لعباد البقر في الهند حق
اقتناء السلاح النووي، وامتلاك ما يشاؤون؛ نكاية بجارتهم باكستان.. وإن كانت
حكومتها ذات منهج علماني، لكنها في الأخير بلد مسلم! .
الحقيقة أن الموقف الأمريكي لا يُستَغْرَب، فأمريكا وإن كانت تتبنى الاتجاه
العلماني بموجب دستورها إلا أن زعماءها يخلطون بين الدين والسياسة في علاقتها
مع دولة يهود، يقول أحد الباحثين [*] في هذا المجال: إن الموقف الأمريكي من
إسرائيل هو نموذج للخلط بين الدين والسياسة ... ، وهو الذي جعل كثيراً من
رؤساء أمريكا ابتداءً من (ولسن) ينطلقون في سياساتهم حيال (إسرائيل) من رؤى
توراتية، وهذا التناقض المكشوف لا تسلط عليه الأضواء ولا يكشف للناس؛
ليعرفوا الموقف الحقيقي لأولئك من الإسلام، وإلا.. فلماذا التسامح مع غير
المسلمين، بل دعوتهم واستقبالهم وخطب ودهم، كما فعل مع زعيم (الشين فين)
الأيرلندي الممثل لـ (منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي) صاحبة الأعمال
الإرهابية (الحضارية) الشهيرة!
إن الحرب ضد الأصولية بعامة هي في الأساس موجهة ضد الإسلام؛
لمحاولة إيقاف مده، ومنع انتشاره، ورفض أي تفوق باسمه، حتى ولو كان عن
طريق الديمقراطية (المزعومة) ، بل إنهم أوعزوا إلى أصدقائهم في بعض الدول
العربية لتقنين منع الاتجاهات الإسلامية من العمل مهما كان وزنها بدعاوى سخيفة
ما أنزل الله بها من سلطان، وليس وراءها إلا ما عرفنا، ثم الخوف والخوف وحده
من انتصار الإسلام، الذي طالما حاربوه مما ساعد على نشوء التطرف في الفكر
والغلو في الفهم، وأدى بالتالي إلي مواقف متشنجة وتصرفات متهورة رد فعلٍ لتلك
الأساليب الرديئة في الحكم، مما عاشت معه تلك البلدان واقعاً مأساوياّ معروفاً،
وكان بإمكانها تجاوز واقعها الكئيب لو عادت إلى حكم ربها وتحكيم شريعته وفتح
باب الحوار الذي يغلق كلما أراد عقلاء الأمة فتحه.
إن أسباب تلك الحرب الضروس ضد الإسلام أو ما يسمونه مكراً بـ
(الأصولية الإسلامية) راجعة لكراهية أعداء هذا الدين له، كما قال (تعالى) : [وّلّن
تّرًضّى عّنكّ الًيّهٍودٍ وّلاّ النَّصّرّى حّتَّى تّتَّبٌعّ مٌلَّتّهٍمً] لكن.. ما مبرر هذه الحرب من
أناس يحملون هويات مسلمة؟ ، لا شك أنه الانحراف والضلال وكراهية انتصار
هذا الدين، وإن سموا ذلك بالعلمانية أو العقلانية أو الحداثة، ومع أن كل الظروف
تعمل في ظاهرها ضد الإسلام والاتجاهات الإسلامية الصحيحة، ولكن النتائج
ستكون بإذن الله بعكس ما يريدون، وستتسع العودة الصحيحة إلى الإسلام، وما
حلت محنة بالأمة عبر تاريخها إلا وكانت سبباً في الرجوع إلى الله.
[وّيّمكرونّ وّيًمكر الله وّالله خّير الًماكرينّ] .
__________
(*) البعد الديني في السياسة الأمريكية، د يوسف الحسن.(102/4)
دراسات شرعية
ضوابط الضرورة.. في الشريعة الإسلامية
بقلم: د. عبد الله التهامي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد ... فإن لموضوع
الضرورة أهمية بالغة جدًّا؛ إذ كثر غلط الناس في تلك المسألة، وذلك من عدة
جهات:
أولاً: من جهة تنزيلها؛ فقد تساهل كثير من الناس في ارتكاب محرمات
ومحظورات شرعية بحجة أن ذلك من قبيل الضرورة الشرعية، مرددين:
(الضرورات تبيح المحظورات) .
ثانياً: من جهة ضبط هذه الحالة بضوابطها الشرعية؛ فلئن صدق على بعض
الحالات أنها من باب الضرورة إلا أن كثيراً من أهل الضرورات تجاوزوا حد
الضرورة، وتوسعوا في استباحة المحرمات وفعل المحظورات.
وثالثاً: من جهة الرضا بالواقع، فقد استسلم معظم الناس إلى نعمة الترخص، ورغبوا في استبقاء هذه النعمة وعدم زوالها، مع أن مسألة الترخص تعتبر من
الأمور العارضة والقضايا الطارئة، إلا أنها صارت في كثير من الأحيان عند بعض
الناس ذريعة إلى التخلص والتفلت من الالتزام بقيود هذه الشريعة، والأخذ بعزائم
أحكامها.
ومن الأمثلة على ذلك: التساهل في ممارسة بعض أنواع المعاملات المالية
المحرمة، واستقدام من لا يجوز استقدامه من الأيدي العاملة وغيرها، والسفر إلى
مواطن الفتنة وأماكن الرذيلة والفساد، ودخول المرأة بلا محرم على الطبيب
بصورة مألوفة معتادة، والخلوة المحرمة بين الرجال والنساء، والكذب في الحديث.
هذه صور من الواقع تشهد بتفريط كبير وإهمال غير يسير في مناحٍ شتى من
حياة الأمة، وهو انحراف واضح عن جادة السبيل.
ثم: إن أهل الزيغ والهوى كثيراً ما يتعلقون بستار الضرورة في تحقيق
مآربهم ونيل أغراضهم، فيحمّلون هذه الشريعة باطل صنيعهم وسوء مكرهم، بل
وربما ينسلخون من الدين كله باسم الضرورة أو الحكمة أو المصلحة.
تلك بعض الأسباب الداعية إلى بيان معنى الضرورة، وتحديد ضوابطها في
هذه الشريعة، وقد جعلت الكلام مرتّباً في ست مسائل:
1- تعريف الضرورة لغة واصطلاحاً والفرق بينها وبين الحاجة.
2- مدخل لفهم الضرورة الشرعية.
3- أقسام الضرورة الشرعية.
4- حكم العمل بالضرورة الشرعية.
5- ضوابط الضرورة الشرعية.
6- ضوابط العمل بالضرورة الشرعية.
المسألة الأولى: تعريف الضرورة لغة واصطلاحاً والفرق بينها وبين الحاجة:
1- الضرورة في اللغة [1] : الحاجة والشدة لا مدفع لها، والمشقة، والجمع: ضرورات، وهي اسم لمصدر الاضطرار.
والاضطرار: الاحتياج إلى الشيء، واضطره إليه: أحوجه وألجأه فاضطر.
وأصل مادة (ضر) خلاف النفع.
2- الضرورة في الاصطلاح:
أ - عند العروضيين في الشعر، تطلق الضرورة على الحالة الداعية إلى أن
يرتكب فيها ما لا يرتكب في النثر [2] .
ب- عند أهل الكلام: هي ما لا يفتقر إلى نظر واستدلال، حيث تعلمه العامة؛ يقال: هذا معلوم بالضرورة، أي: بالبديهة [3] .
ج- عند أهل الشريعة من الفقهاء والأصوليين:
المراد بحالة الضرورة عند علماء الشريعة في مثل قولهم: يجوز كذا عند
الضرورة أو لأجل الضرورة: تلك الحالة التي يتعرض فيها الإنسان إلى الخطر في
دينه أو نفسه أو عقله أو عرضه أو ماله فيلجأ (لكي يخلص نفسه من هذا الخطر)
إلى مخالفة الدليل الشرعي الثابت [4] ، وذلك كمن يغص بلقمة طعام، ولا يجد
سوى كأس من الخمر يزيل هذه الغصة.
وقد تواترت الأدلة على أن هذه الشريعة جاءت لحفظ الضروريّات الخمس:
الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
والمراد بالضروريّات: الأمور التي لا بد من المحافظة عليها حتى تستقيم
مصالح الدنيا والآخرة على نهج صحيح دون اختلال، وإنما يكون ذلك بالمحافظة
على هذه الأمور الخمسة، لذا تسمى الضرورات (أو الضروريّات) الخمس،
وتسمى بالكليات الخمس أيضاً؛ لكونها جامعة لجميع الأحكام والتكاليف الشرعية،
فهي كلية تندرج تحتها جميع جزئيات الشريعة، وتسمى أيضاً بمقاصد الشرعية؛
لما ثبت بالاستقراء التام لهذه الشريعة دقيقها وجليلها: كون المحافظة على هذه
الأمور الخمسة أمراً مقصوداً للشارع [5] .
لذلك: صح عند العلماء جعل المحافظة على الأمر الضروري أصلاً ثابتاً لا
يتغير أبداً، وأساساً قائماً لا يتعرض للخدش بوجه من الوجوه، وتسمى المحافظة
على هذا الأمر الضروري حالة ضرورة إن ترتبت عليه مخالفة لحكم شرعي ثابت.
وقد يقول قائل: ألا يعد العمل بالضرورة نقضاً وهدماً لأدلة الشرع؛ إذ فيه
مخالفة واضحة للدليل الشرعي الثابت؟ فالجواب: إن العمل بالضرورة وفق
ضوابطها الشرعية لا يعد هدماً لأدلة الشرع، بل هو عمل بالدليل الشرعي، إذ
الضرورة ثابتة به، ثم إن العمل بالضرورة مقيد بضوابط تحفظ مقاصد الشريعة
وتحققها، فالعمل بالضرورة مشروع في حدود مقاصد الشرع ومراميه النبيلة.
بل إن العمل بالضرورة من الأمور التي تؤكد شمول هذه الشريعة لشتى
الوقائع والحوادث، وتقرر صلاحها لكل زمان ومكان، ومواكبتها للأحوال
والمتغيرات، كما أن في العمل بالضرورة تيسيراً ورحمة بالعباد ورعاية لمصالحهم، ودرءاً للمفاسد عنهم.
2- الفرق بين الضرورة والحاجة [6] :
الضرورة حالة تستدعي إنقاذاً، أما الحاجة فهي حالة تستدعي تيسيراً وتسهيلاً، فهي مرتبة دون الضرورة؛ إذ يترتب على الضرورة ضرر عظيم في إحدى
الكليات الخمس، ويترتب على الحاجة مشقة وحرج، لكنه دون الضرر المترتب
على الضرورة، وقد تنزل الحاجة منزلة الضرورة: فيما إذا ورد نص بذلك أو
تعامل أو كان له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به؛ كتجويز الإجارة وعقد ...
الاستصناع، وأجرة الحمام.
المسألة الثانية: مدخل لفهم الضرورة الشرعية:
في هذا المدخل ذكر لبعض القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالضرورة،
ولا بد عند ذكر هذه القواعد من ربطها بموضوع الضرورة كثمرة لهذا المدخل.
1- قاعدة المشقة تجلب التيسير [7] :
معنى هذه القاعدة: أن الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها جاءت بما يقع
تحت قدرة المكلف وإن ترتب على فعله مشقة كالجهاد والصوم والحج، وقد تخرج
المشقة على وجه الاعتياد فتسبب حرجاً كبيراً لسبب من الأسباب؛ فها هنا تصبح
هذه المشقة سبباً للتيسير والتخفيف، والتخفيفات في الشرع على نوعين:
أ - نوع شرع من أصله للتيسير، وهو عموم التكاليف الشرعية في الأحوال
العادية.
ب - نوع شرع لما يوجد من الأعذار والعوارض، وهو المسمى بالرخصة،
وهو المقصود بقاعدة " المشقة تجلب التيسير" فالقاعدة إذن مجالها: الرخص
والعوارض، والضرورات؛ كأكل الميتة.
وعلى هذا: فالضرورة من المشقة التي تجلب التيسير والتخفيف.
2- قاعدة الرخص:
الرخصة في الشريعة هي: (الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر) [8] .
وتنقسم الرخصة باعتبار سببها إلى أقسام [9] منها:
أ - رخصة بسبب السفر.
ب - رخصة بسبب المرض.
ج - رخصة بسبب الاضطرار، فالضرورة إذن من أسباب الترخص.
3- قاعدة الاستحسان:
الاستحسان في الشرع: (العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها
إلى خلافه لوجه هو أقوى منه) [10] فهو إذن: قطع المسألة عن نظائرها على
عكس القياس الذي هو إلحاق المسألة نظائرها، وهذا الوجه القوي الذي أوجب قطع
المسألة عن نظائرها قد يكون نصًّا أو إجماعاً أو قياساً خفيًّا أو ضرورة، فيعمل
بالدليل الأقوى وهو أمر مستحسن، ولهذا سمي استحساناً [11] ، وذلك مثل النظر
إلى الأجنبية: لا يجوز لأحد أبداً لكنه جاز للطبيب ضرورة، فالاستحسان قد يستند
إلى النص أو الإجماع أو الضرورة، فالضرورة إذن تصلح مستنداً للاستحسان.
4- قاعدة المصالح المرسلة [12] :
المصلحة عموماً قد تكون شرعية إن جاء بطلبها دليل خاص من الشرع، وقد
تكون ملغاة إن جاءت على خلاف نصوص الشريعة ومقاصدها، وقد تخلو عن
الدليل الطالب والمانع فتكون مرسلة.
وتنقسم المصلحة المرسلة باعتبار قوتها إلى ثلاثة أقسام:
فأقواها المصلحة الضرورية، ثم الحاجية، ثم التحسينية.
والمراد بالمصلحة المرسلة الضرورية: المحافظة على الأمور الضرورية
التي لم يدل على اعتبارها دليل خاص، وهذه المحافظة بينة ظاهرة في حالة كون
الضرورة ثابتة بطريق الاجتهاد، فالضرورة إذن قد تكون من قبيل المصالح
المرسلة.
5- قاعدة الضرر يزال [13] :
هذه القاعدة من القواعد الفقهية الكبرى، وهي تشمل أصلين مهمين:
أ - النهي عن إيقاع الضرر ابتداءً، باتباع شتى وسائل الوقاية والحماية لئلا
يقع الضرر.
ب - وجوب رفع الضرر إن وقع باتباع أفضل السبل العلاجية.
وقول الرسول: (لا ضرر ولا ضرار) [14] يشمل هذين الأصلين، وفي
الأخذ بالضرورة تحقيق لهذه القاعدة.
وخلاصة ما تقدم أن يقال: إن وقوع الضرورة لون من ألوان المشقة التي
تستدعي تيسيراً وتسهيلاً في هذا الدين، وذلك أيضاً سبب من أسباب الترخص،
فتدخل الضرورة لذلك في باب الرخص، وبالنظر في الدليل المحرّم نجد أن
الضرورة حالة استثناء توجب العدول عن العمل وفق هذا الدليل، وهذا هو
الاستحسان، وإذا نظرنا إلى جدوى العمل بالضرورة أدركنا أنها ولا شك تحقق
مصلحة راجحة، فهي داخلة في باب المصالح، كما أنها تدرأ ضرراً ومفسدة، فهي
بهذا تندرج تحت قاعدة (الضرر يزال) .
المسألة الثالثة: أقسام الضرورة:
تنقسم الضرورة باعتبارات متعددة إلى أقسام كثيرة، وذلك على النحو الآتي:
أ - أقسام الضرورة باعتبار متعلقها:
1- ضرورة تتعلق بحفظ الدين، مثل: قتل الشيوخ والنساء والأطفال في
الجهاد إذا تحصن بهم العدو، حفظاً للدين.
2- ضرورة تتعلق بحفظ النفس، مثل: أكل الميتة حفظاً للنفس.
3- ضرورة تتعلق بحفظ العقل، مثل: أكل الميتة؛ حفظاً للعقل.
4- ضرورة تتعلق بحفظ النسل، مثل: دفع المال للعدو الكافر؛ حفظاً
لعرض امرأة مسلمة.
5- ضرورة تتعلق بحفظ المال، مثل: إفساد قليل المال حفظاً لأكثره.
ب - أقسام الضرورة باعتبار الشمول:
1- ضرورة عامة: كوقوع الأُمّة في قحط عميم.
2- ضرورة خاصة: كوقوع رجل في مخمصة.
ج - أقسام الضرورة باعتبار الدليل الدال عليها:
1- ضرورة أثبتها النص: كالأكل من الميتة للمضطر [فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [المائدة: 3] .
2- ضرورة تثبت بالاجتهاد: كما في باب المصالح المرسلة إن كانت
ضرورية.
المسألة الرابعة: حكم العمل بالضرورة الشرعية:
وفي هذه المسألة ثلاثة أمور:
أولاً: الأدلة على مشروعية العمل بالضرورة من حيث الجملة:
1- من القرآن: [إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [البقرة:
173] [وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَاًكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إلَيْه] [الأنعام: 119] .
2- من السنة: عن أبي واقد الليثي قال: قلت يا رسول الله: إنا بأرض
تصيبنا مخمصة فما يحل لنا من الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم
تحتفئوا بها بقلاً، فشأنكم بها [15] .
3- الأدلة الكثيرة والشواهد المتعاضدة الدالة على أن هذه الشريعة مبنية على
التيسير والتخفيف [16] مثل: [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] [الحج: 78] [يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ
ضَعِيفاً] [النساء: 28] [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [البقرة: 185] (بعثت بالحنيفية
السمحة) [17] .
4- الأدلة الكثيرة والشواهد المتعددة الدالة على رعاية هذه الشريعة لمصالح
العباد من جهة ودرء المفاسد عنهم من جهة أخرى [18] .
ثانياً: حكم العمل بالضرورة الشرعية:
العمل بالضرورة الشرعية واجب وليس جائزاً، والدليل على ذلك:
1- قاعدة الواجب لا يترك إلا لواجب [19] : - مثل قطع اليد فإنه محرم،
وحفظ هذا العضو من الإنسان أمر واجب، لكن هذا الواجب يترك عند السرقة،
فتقطع اليد، ولو لم يكن القطع واجباً بالنسبة للسارق لكان هذا الفعل حراماً، فتُرك
الواجب وهو حفظ العضو لواجب أهم منه وهو إقامة حدود الله.
2- قاعدة للوسائل حكم المقاصد: [20] فأكل الميتة للمضطر واجب، لأن
حفظ النفس واجب، وهو لا يتم إلا بوسيلة، هي الأكل من الميتة، وهذه هي قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
ومن الخطأ أن يقال: إن هذا الفعل يجوز للضرورة [21] ، بل الصحيح أن يقال: يجب أن يشرع عند الضرورة.
أما قول العلماء (الضرورات تبيح المحظورات) ، فهو بالنظر إلى أثر الضرورة في تغيير حكم الفعل ونقله من الحظر والمنع إلى الإذن والإباحة، وأما الأخذ بالضرورة فإنه واجب.
ولعل هذا يتضح إذا علمنا أن للضرورة أحوالاً، وإليك بيان ذلك:
ثالثاً: أحوال الضرورة باعتبار تغييرها لحكم الفعل [22] :
1- ما يفيد إباحة المرخص به حال قيام الضرورة، فالفعل ها هنا يصبح
مباحاً، بل واجباً كالاضطرار لأكل الميتة.
2- ما يفيد جواز الإقدام على المرخص به حال الضرورة، مع بقاء الحرمة،
كإجراء كلمة الكفر على اللسان.
3- ما لا يباح أصلاً ولو للضرورة كقتل المسلم، وذلك فيما إذا كان الفعل
منهيًّا عنه لذاته.
المسألة الخامسة: ضوابط الضرورة الشرعية:
هناك شروط وقيود لا بد من حصولها في حالةٍ ما؛ ليسوغ تسميتها ضرورة
شرعية، ولا يمكن أن تكون تلك الحالة ضرورة شرعية مع تخلف شيء من هذه
الضوابط، وإليك بيان هذه الضوابط مع الاستدلال لها:
1- قيام الدليل المحرّم ورجحان العمل به: كأكل الميتة؛ فإن الدليل على
تحريم الميتة قائم، والعمل به راجح؛ فلا يجوز أكل الميتة، إلا أنه جاز للمضطر
مخالفة هذا الدليل والعمل على خلافه، ويحترز بذلك عما إذا كان الدليل مبيحاً أو
موجباً، كمن يضطر، لكنه يجد شيئاً من الماء يسد به رمقه، فلا ضرورة ها هنا،
لعدم وجود المخالفة المترتبة على قيام الدليل المحرّم [23] .
ومن هنا: عُلِمَ أن حالة الضرورة مبنية على مخالفة ما يعتقد رجحان تحريمه، كمن يرى حرمة اللحوم المستوردة، فإن أكله منها لإنقاذ نفسه من الموت يعتبر ضرورة، وليس من الضرورة بالنسبة لمن يرى جواز تناول هذه اللحوم.
2- أن يترتب على الامتثال للدليل الراجح المحرّم ضرر متعلق بإحدى
الكليات الخمس: كأن تتعرض نفسه للهلاك إن لم يأكل من الميتة ويحترز بهذا عن
انتفاء الضرر: كأن يوجد الدليل المحرّم لكنه لا يضطر إلى مخالفته بأكل الميتة،
فيما إذا كان في الأحوال العادية، فلا ضرورة ها هنا؛ لعدم الحاجة الشديدة إلى
المخالفة؛ إذ إن الضرر لا وجود له.
ووجه هذا الضابط ودليله: القاعدة المعروفة (الضرر يزال) فلتراجع مع
أدلتها.
3- أن يكون حصول الضرر أمراً قاطعاً أو ظنًّا غالباً، ولا يلتفت إلى الوهم
والظن البعيد، كأن يكون المضطر في حالة تسمح له بانتظار الطعام الحلال الطيب، فلا يقدم على تناول الميتة والحالة كذلك حتى يجزم بوقوع الضرر على نفسه
فيجوز حينها تناول الميتة، ودليل ذلك: ما علم في الشريعة من أن الأحكام تناط
باليقين، والظنون الغالبة، وأنه لا التفات فيها إلى الأوهام، والظنون المرجوحة البعيدة [24] ، وقد تقدم في حديث أبي واقد قوله: (إذا لم تصطبحوا ... ) ما يدل بوضوح على أن الإقدام على المخالفة لا يتم إلا بعد التيقن والجزم بحصول الضرر.
4- ألاّ يمكن دفع هذا الضرر إلا بالمخالفة وعدم الامتثال للدليل المحرّم، فإن
أمكن المضطر أن يدفع هذا الضرر بأمرين أحدهما جائز والآخر ممنوع، حرم عليه
ارتكاب المخالفة للدليل المحرم، ووجب عليه دفع الضرر بالأمر الجائز، كأن
يغص بلقمة وأمامه كأسان من الماء والخمر، ووجه هذا القيد ما ورد في ذلك من
قواعد مثل: (إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق) (الضرر يدفع قدر الإمكان)
لتراجع مع أدلتها.
5- ألا يعارض هذه الضرورة عند ارتكابها ما هو أعظم منها أو مثلها، كأن
يأكل المضطر طعام مضطر آخر، ووجه ذلك ما ورد من قواعد مثل: (الضرر لا
يزال بمثله) و (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) و (يرتكب أخف
الضررين لدفع أعظمهما) و (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
وكذلك: فإن الضرورة تسقط ولا يلتفت إليها إن ترتب على الأخذ بها إخلال
بمبادئ الدين ومقاصد الشريعة: كقتل المسلم، والزنا، فهذه لا ضرورة تحلها؛ لأن
تحريمها جاء على سبيل القصد والتعيين، لا على سبيل الذريعة والتكميل، كتحريم
النظر إلى الأجنبية، فإنه ذريعة للزنا؛ لذلك: يترك العمل به عند الضرورة [25] ، ووجه ذلك قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات، بشرط عدم نقصانها ... عنها) [26] .
من يقدر الضرورة؟
إذا كانت الضرورة عامة للأمة أو لكثير منها فإن تطبيقها على الوقائع
وتنزيلها على الحوادث لا يتأتى إلا ممن له علم بالواقع، وعنده تمام الدراية
بملابسات الأمور وأبعادها؛ ذلك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ويكفي
أولي العلم قولُ من يوثق بدينه وعلمه من أهل المعرفة في كل واقعة.
أما إن كانت الضرورة خاصة بإنسان ما: فإن تطبيقها يختص به كمن؛ وقع
في مفازة ووجد ميتة. والواجب على الجميع تقوى الله قدر المستطاع والتثبت من
الأحوال والوقائع، ثم الأخذ بهذه الضرورة وفق ضوابطها وقيودها المذكورة دون
بغي ولا اعتداء، كما قال سبحانه: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [البقرة: 173] .
وصفوة هذه الضوابط مجموعة في الأسئلة التالية:
1- هل الدليل المحرّم قائم ومتجه والعمل به راجح؟ ... إن كان الجواب:
نعم ...
2- فهل يترتب على الامتثال بهذا الدليل ضرر يتعلق بالكليات الخمس؟ ..
إن كان الجواب نعم ...
3- فهل حصول هذا الضرر محقق مقطوع به أو ظن غالب؟ .. إن كان
الجواب: أنه كذلك مقطوع به أو ظن غالب وليس وهماً ولا ظنًّا بعيداً ...
4- فهل يمكن دفع هذا الضرر المؤكد بطريق آخر دون حصول مخالفة للدليل
المحرّم؟ .. إن كان الجواب: أن ذلك لا يمكن إلا بمخالفة الدليل المحرّم ...
5- فهل يترتب على مخالفة الدليل المحرّم عند العمل بالضرورة حصول
ضرر أكبر أو مماثل؟ إذ لا يصح العمل بالضرورة فيما لا يباح الترخص فيه،
وذلك إذا كان الفعل منهياً عنه لذاته، ثم إن العمل بالضرورة لا بد فيه من مراعاة ما
يأتي في ضوابط العمل بالضرورة:
المسألة السادسة: ضوابط العمل بالضرورة الشرعية:
إذا اجتمعت الضوابط السابقة في حالة ما، صح أن تعد هذه الحالة ضرورة
شرعية يؤخذ بها ويستند إليها، لكن العمل بالضرورة مع كونه واجباً لا بد فيه من
ضابطين، هذا بيانهما:
الضابط الأول: أن تقدر هذه الضرورة بقدرها، من حيث الزمان والمكان
والكم والكيف، فلا بد من تحديد المقدار الذي يدفع الضرر ويحقق المصلحة، إذ
تجويز الأخذ بالضرورة مقصور على هذا المقدار، وما زاد على ذلك يبقى في حيز
التحريم، فلا يأكل المضطر من الميتة إلا بالقدر الذي يسد رمقه، وما زاد فهو
حرام [27] .
الضابط الثاني: أن العمل بالضرورة مرتبط بقيام الضرر وتوقعه، فإن زال
فلا ضرورة؛ لأن الأخذ بالضرورة استثناء وبدل كالتيمم لا يجوز مع وجود الماء؛
إذ الماء أصل والتيمم بدل، والعمل بالبدل لا يجوز مع وجود الأصل، فبمجرد
زوال العذر وارتفاع الضرر أو اختلال أحد الضوابط يبطل العمل بالضرورة،
ووجه هذا الضابط: القاعدة التي تقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله) [28] .
ومن هنا يتبين وجوب السعي الجاد لإزالة هذه الضرورة وبذل الجهد في سبيل
رفعها، وإنما يكون ذلك بالأخذ بأسباب النجاة والاحتياط في مواجهة الأزمات قبل
وقوع الخطر بتوقعه واتقائه قدر الإمكان، وعند وقوعه بمقاومته ومحاولة رفعه أو
تخفيف ضرره ومفاسده، وعدم الركون له والاستسلام والخنوع، وبعد وقوعه بمنع
تَكْرَارِه، والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين.
إن القيام بفروض الكفاية المعطلة في هذه الأمة كفيل برفع حالات الاضطرار
التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، كواجب إعداد القوة، وإيجاد الهيبة، ودفع
الباغي، وسد الخلة، ونصر المظلوم، وكفالة الفقير، وإعالة العاجز، وتعليم
الجاهل، وقصر الآثم.
اللهم هيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً، واهدها إليك صراطاً قيّما مستقيماً،
وصلّ الله على خير البرية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر القاموس المحيط: 2/77، لسان العرب: 4/483، ومعجم مقاييس اللغة: 3/360، والمعجم الوسيط: 1/538.
(2) انظر المعجم الوسيط: 1/538.
(3) قواعد الفقه للبركتي، 358.
(4) انظر الموافقات للشاطبي: 2/8 وما بعدها.
(5) انظر نظرية الضرورة الشرعية: ص 246.
(6) الموافقات: 2/10، شرح القواعد للزرقاء 155- 157.
(7) انظر الوجيز لبورنو: 157 وما بعدها.
(8) المنهاج للبيضاوي: 1/120.
(9) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص77.
(10) الإحكام للآمدي: 4/158.
(11) انظر المدخل الفقهي: 1/81، أصول الفقه لزكي شعبان: 149.
(12) انظر روضة الناظر: 1/411، مذكرة الشنقيطي ص168.
(13) الأشباه والنظائر للسيوطي ص83، الوجيز لبرونو ص192.
(14) رواه ابن ماجه: ح/2341.
(15) رواه أحمد في المسند، والدارمي في السنن: ح/1912 ومعنى: لم تحتفئوا بها بقلاً: لم تجدوا ما يقتلع فيؤكل.
(16) انظر: قاعدة المشقة تجلب التيسير في الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 76، ولابن نجيم، ص75.
(17) رواه أحمد في المسند، ح/21260.
(18) الإحكام للآمدي: 1/132.
(19) الأشباه والنظائر للسيوطي ص148.
(20) انظر إعلام الموقعين لابن القيم: 3/135.
(21) إلا أن يراد بذلك مطلق الإذن لا الإذن المطلق.
(22) انظر الوجيز لبورنو، ص176.
(23) انظر الإحكام للآمدي: 1/132.
(24) انظر قاعدة (اليقين لا يزال بالشك) ، وما يتنوع عنها في الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 50 ولابن نجيم ص 56.
(25) انظر الوجيز لبورنو، ص 177- 179.
(26) انظر شرح القواعد للزرقاء ص135.
(27) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص84، ولابن نجيم ص86.
(28) انظر شرح القواعد للزرقاء، ص135.(102/8)
دراسات دعوية
ثلاث كلمات إلى ثلاث فئات
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد-صلى الله عليه وسلم-
وبعد، فلقد سبق في أعداد ماضية الحديث عن اليقين باليوم الآخر وثمراته، وفي
هذه الحلقة بمناسبة الحديث عن هذا الأمر العظيم سأتوجه بهذه الكلمات إلى ثلاث
فئات من الناس، هي التي تتألف منها مجتمعات المسلمين اليوم، ولا يكاد يخرج
فرد من الأفراد عنها، وهذه الفئات هي:
أولاً: الفئة المصلحة الداعية إلى الخير:
وهؤلاء هم أشراف المجتمع وأحسنهم قولاً وأثراً في الناس، وأنبلهم غاية
وأسماهم هدفاً، وهؤلاء هم الذين عناهم الله (عز وجل) بقوله: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً
مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) ، وقوله
(تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 104) ، وهم الذين عناهم الرسول-
صلى الله عليه وسلم- بقوله: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا
يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله (تبارك وتعالى) [1] وإلى إخواني هؤلاء
أوجه هذه الكلمات:
اعلموا أنكم سادة المجتمعات وأشرافها بحق، وكيف لا ... وأنتم تحملون
أعظم رسالة وأنبل غاية، ألا وهي تعبيد الناس لرب العالمين وإخراجهم بإذن الله
(تعالى) من الظلمات إلى النور، كيف لا ... وأنتم تضحون بأوقاتكم وأموالكم
وراحتكم في سبيل إنقاذ أنفسكم وإنقاذ الناس من عذاب الله (تعالى) في الدنيا وعذابه
الأليم في الآخرة ... أيُّ غاية أشرف وأنبل من هذه الغاية؟ .
ولما كان هذا العمل بهذه المنزلة، فالله الله أن يضيع سدى أو يصير هباءً
بنزغة شيطان أو هوى نفس يلوثان العمل برياء أو إرادة دنيا فانية، أو ابتداع في
الدين بما لم يأذن به الله (سبحانه) ، إن صدور هذه الأمراض ممتنع من عبد أيقن
باليوم الآخر، وأيقن بيوم الحسرة التي يتحسر فيها العبد على كل عمل لم يخلص
فيه لله (عز وجل) ، ولم يتابع فيه الرسول. وإن ذلك - والله - لكائن في يوم التناد
[وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ] [القصص: 65] ، ويا سعد من كان
جوابه: أجبناهم بالاتباع والانقياد وعدم الابتداع، وياخيبة وخسارة من كان حاله
كما قال (تعالى) : [فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ] [القصص: 66] .
وإن مما يحافظ على شرف الغاية في الدنيا وعظم الجزاء في الآخرة: سلامة
الصدور ووحدة الكلمة ونبذ الفرقة والاختلاف! لأن مما يضعف أثر أهل الخير
على الناس: تفرقهم ومنابذة بعضهم لبعض، لأنهم بذلك ينشغلون بأنفسهم عن دعوة
الناس؛ كما أن الناس تضعف ثقتهم بأهل الخير إذا رأوا ما بينهم من الأحقاد
والإحن، فالله الله في دعوة الله (عز وجل) ، والله الله في العمل الصالح أن يضيع
هباءً منثوراً في يوم الفاقة والحاجة، يوم يكون العبد في أمسّ الحاجة إلى حسنة
واحدة يثقل بها ميزانه، إنه لا يمكن لمن أيقن بيوم الجزاء والحساب والوقوف بين
يدي الديان (عز وجل) أن ينفق العمر القصير في قيل وقال وأحقاد وأضغان
وافتراق على أمور يجوز الاختلاف عليها، وبقدر ما يكون من هذه الأمراض في
النفوس بقدر ما تؤخر عجلة الدعوة، ويفتح المجال للفئة المفسدة لتبث سمومها في
الناس، وتجرهم إلى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة (نسأل الله السلامة) .
وإن من أخطر ما تفرزه الفرقة والاختلاف بين أهل الخير: الظلم والعدوان
والانتصار للنفس وحظوظها بتأويل، وأحياناً بدون تأويل. وينبغي لمن أيقن بيوم
الفصل، وأيقن بيوم التلاق يوم أن يلتقي الظالم بالمظلوم والجائر بالمجار عليه..
أن يحسب لهذا المقام حسابه، وألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يراعي حرمة مال
المسلم وعرضه وجميع حقوقه، قبل أن يأتي يوم القصاص [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً] ... [آل عمران: 30] .
إن اليقين باليوم الآخر وأهواله واليقين بالتبعة الفردية المذكورة في قوله
(تعالى) : [وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً] [مريم: 95] ، إن ذلك كله يفرض على
الفئة المصلحة أن يكون الحق رائد كل فرد فيها، وهذا بدوره يخلّص من الحزبية
المقيتة ولوثاتها، وما فيها من التعصب للأشخاص أو الهيئات، فكل هؤلاء لا
ينفعون عند الله (عز وجل) إذا لم يكن الحق هو الرائد والموجه للجميع، وهذا يؤكد
على الفئة المصلحة والداعية إلى الخير أن تربط الناس والأتباع بالدليل الصحيح من
الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح لا بآراء الرجال وعقولهم، وهذا لا يعني
التنقص من أهل العلم والدعوة وعدم تقديرهم، كلا ... فلهم التقدير والمحبة
والإجلال، ولكن فرق بين التقدير والتقديس.
بما أن من سنة الله (عز وجل) ابتلاء أوليائه بأعدائه؛ ليبلي المؤمن بلاء
حسنا، فإن مما يثبت به الله عباده المؤمنين ودعاته الصادقين أن يرزقهم الإنابة إلى
دار الخلود رجاء ثواب الله (عز وجل) ، وأن الله (تعالى) ليس بغافل عن الظالمين،
فهناك يوم القصاص الأعظم، وذكر هذا اليوم مما يصبّر به الله (سبحانه) دعاته
المصلحين، وكلما كان ذكر هذا اليوم العظيم في قلوب الدعاة أكثر، كلما كان
صبرهم وتضحيتهم أعظم وأكبر، وهذا يقود إلى مسألة أخرى، وهي: أن ينتبه
أهل الخير والإصلاح إلى دور اليوم الآخر والتذكير به دائماً في تربية النفوس
وتهذيبها، وأن يعنوا به عناية كبيرة في البرامج التعليمية والمناهج الدعوية، بل
ينبغي أن تربط جميع المناهج على اختلافها باليوم الآخر وأعمال القلوب حتى يكون
للمناهج أثرها العملي والتعبدي والأخلاقي، وينبغي ألا يلتفت إلى من يقلل من شأن
الحديث في اليوم الآخر والوعظ بأيامه وأهواله بحجة أنه كلام وعظي أو عاطفي أو
إنشائي؛ فهذا غلط كبير وتفريط عظيم في رافد عظيم من روافد التربية والتزكية.
هذا وإن كان قصد ذلك المقلل الإشارة إلى أهمية العلم والتأصيل والاستدلال
وليس هو التهوين من ذلك اليوم العظيم، إلا أنه ينبغي التنبيه على أن العلم
والتأصيل والاستدلال ينبغي أن يربط ذلك كله بتعظيم الله (عز وجل) وعبادته
والاستعداد بالعلم والعمل للدار الآخرة، وهذا لا يتأتى إلا أن يقوم أهل العلم
والتوجيه والإرشاد إلى صبغ دروسهم وحلقات تعليمهم بهذا الأمر سواء أكان العلم
في العقيدة، أو في الفقه وأصوله، أو الحديث ومصطلحه، أو السيرة والتاريخ..
إلخ.
ثانياً: الفئة المفسدة الداعية إلى الشر والصادة عن الخير:
وهؤلاء هم سفلة المجتمع، وهم أراذل الناس؛ لأنهم خانوا ربهم، وخانوا
أمتهم، وظلموها، وعرّضوا الناس للشقاء والنكد في الدنيا والعذاب الأليم في
الآخرة، وهؤلاء هم الذين عناهم الله (عز وجل) في كتابه الكريم بقوله: [وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] [الأنعام: 123] يقول الشيخ السعدي - (رحمه الله تعالى) - عند هذه الآية: ... [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا] أي: الرؤساء الذين قد كبر جرمهم،
واشتد طغيانهم [لِيَمْكُرُوا فِيهَا] بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان، ومحاربة
الرسل وأتباعهم، بالقول والفعل، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم؛ لأنهم
يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين.
وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم يناضلون هؤلاء المجرمين،
ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله، ويسلكون بذلك السبل الموصلة
إلى ذلك، ويعينهم الله، ويسدد رأيهم، ويثبت أقدامهم، ويداول الأيام بينهم وبين
أعدائهم، حتى يدول الأمر في عاقبته، بنصرهم وظهورهم، والعاقبة للمتقين) [2]
وبهذه المناسبة أوجه الكلمات التالية لأهل هذه الفئة لعل الله (عز وجل) أن ينفعهم
بها:
أذكركم بموعظة الله (تعالى) إذ يقول: [قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] [سبأ: 46] ، فماذا عليكم لو قام كل فرد منكم مع نفسه
أو مع صاحبه، ثم فكرتم فيما أنتم عليه من فساد وصد عن سبيل الله (عز وجل) .
هل أنتم مقتنعون بما تفعلون، وبما تتسببون به لأمتكم من الشرور؟ وهل هذا
يرضي الله (تعالى) ويجلب النعيم لكم في الآخرة؟ إنكم إن قمتم لله (عز وجل)
متجردين مثنى أو فرادى، وفكرتم في ذلك فإن الجواب البدهي هو أن الفساد
والإفساد لا يحبه الله (عز وجل) ، بل يمقته ويمقت أهله، وسيأتي اليوم الذي يمقت
فيه أهلُ الفساد أنفسَهم، ويتحسرون على ما فرطوا وضيعوا وأفسدوا وذلك في يوم
الحسرة، حيث لا ينفع التحسر ولا التندم.
إن الذي يكره الخير وأهله، وينشر الفساد، ويصد عن سبيل الله (تعالى) إنما
هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وما الحياة
عنده إلا هذه الدنيا، فهو يسعى ليجمع فيها ويظلم ويبطش؛ لأنه لا يرجو اليوم
الآخر ولا يخافه، فهذا كافر مرتد، وإن كان يخفي هذا الكفر فهو منافق زنديق، أو
أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، لكن الدنيا وزخرفها ومناصبها أسكرت عقله ولبه؛
فأصبح في غفلة شديدة عن الآخرة ونعيمها وعذابها حتى استمرأ الفساد، وصارت
الدنيا أكبر همه يلهث وراءها، ويجمع حطامها ولو كان عن طريق الفساد والإفساد، ومثل هذا الذي يؤمن بالآخرة ولكنه في غفلة شديدة عنها، مثل هذا لا عقل له،
كما أن الأول لا إيمان له، وقد يخسر إيمانه في النهاية، والحاصل أن تتداركوا ما
بقي من عمركم في التوبة إلى الله (عز وجل) قبل حلول الأجل، حيث لا ينفع الندم، واعتبروا بمن ذهب ممن هو على شاكلتكم بدون توبة، وماذا بقي له من الذكر في
هذه الحياة الدنيا.
قارنوا من مات من أهل الخير والصلاح كشيخ الإسلام ابن تيمية، وقبله:
الإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وبعدهم الإمام محمد بن عبد الوهاب
(رحم الله الجميع) . لقد بقي ذكرهم عند الناس كأنهم لم يموتوا، مع ما نرجوه لهم
من الأجر العظيم في الآخرة، قارنوا هؤلاء بمن مات من أهل الشر والإفساد الذين
لم يبق لهم ذكر البتة، لا.. بل بقي الذكر السيئ ولعنات الأمة تلاحقهم عند ذكرهم، مع ما يُخشى عليهم من عذاب الله (سبحانه) يوم يقوم الناس لرب العالمين، فأي
الفريقين أشرف مكانةً وأهدى سبيلاً؟
نذكركم بيوم الحسرة والندامة، يوم يتبرأ منكم الأتباع، وتتبرؤون من الأتباع، ولكن حين لا ينفع الاستعتاب ولا التنصل ولا التبرؤ، بل كما قال (تعالى) :
[إذْ تَبَرَّأََ الَذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأََوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأََسْبَابُ] ... [البقرة: 166] نذكركم بالأثقال العظيمة التي ستحملونها يوم القيامة من أوزاركم وأوزار الذين تضلونهم بغير علم إن لم تتوبوا، قال (تعالى) : [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ... [النحل: 25] .
لما كان الظلم قرين الفساد والإفساد، فإنه جدير بالظالمين الذين يظلمون
الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أن يتذكروا يوم الفصل والحساب [يَوْمَ لا
يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] [غافر: 52] ليتذكر الظالمون
هذا اليوم المشهود الذي يقتص فيه الحكم العدل من الظالمين للمظلومين، ليتذكروا
هذا اليوم العظيم إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ما داموا في دار الدنيا دار
التوبة والاستعتاب، فوالله إن للظالم ليوماً ينكشف فيه الغطاء ويعض فيه على يديه
من الخزي والحسرة، وإن في كتاب الله (عز وجل) لغُنية عن أي كلام وكفاية عن
أي موعظة قال (جل وعلا) : [وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ
طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ] [ابراهيم: 42-43] وإن الظالمين جميعهم تابعيهم
ومتبوعيهم لهم يوم مشهود وعصيب، يوم يلعن بعضهم بعضاً، ويحيل التبعة
بعضهم على بعض، ولكن حين لا يجلب لهم ذلك إلا الخزي والبوار.
إن لم يجد واعظ الله (سبحانه) والدار الآخرة فيكم شيئاً فلا أقل من أن يوجد
عندكم بقية مروءة وحياء تمنعكم من إفساد أخلاق الأمة والوقوف في وجه المصلحين
الداعين إلى معالي الأمور والأخلاق، فالمتأمل لحال المفسدين في الأرض اليوم
ليأخذه العجب والحيرة من أمرهم ... فما لهم وللمرأة الحيية التي تقر في منزلها،
توفر السكن لزوجها وترعى أولادها، ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن
الحصين تؤدي دورها الذي يناسب أنوثتها وطبيعتها، ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد
المسلمين يتربون على الخير والدين والخصال الكريمة؟ ماذا يريدون من إفسادهم
وتسليط برامج الإفساد المختلفة عليهم؟ هل يريدون ... جيلاً منحلاّ يكون وبالاً
على مجتمعه، ذليلاً لأعدائه، عبداً لشهواته؟ ! إن تلك هي النتيجة، وإن من
يسعى إلى تلك النتيجة الوخيمة التي تتجه إليها أكثر الأسر المسلمة اليوم، لهو من
أشد الناس خيانة لمجتمعه وأمته وتاريخه، فيا من وصلوا إلى هذا المستوى من
الهبوط والانتكاس: توبوا إلى ربكم، وفكروا في غايتكم ومصيركم، واعلموا أن
وراءكم أنباء عظيمة، وأهوالاً جسيمة تشيب لها الولدان، وتشخص فيها الأبصار،
فإن كنتم تؤمنون بهذه: فاستيقظوا من غفلتكم وراجعوا أنفسكم، والله (جل وعلا)
يغفر الذنوب جميعاً، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فراجعوا دينكم، وادخلوا في السلم
كافة قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون.
نذكّر المنافقين من هذه الفئة بأن الله (سبحانه) يعلم سرهم ونجواهم، ويعرّف
المؤمنين بسيماهم مهما أظهروا الإسلام في الدنيا، وفي الآخرة يخزيهم ويفضحهم
بين الأشهاد [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ] [الحاقة: 18] فتوبوا إلى الله
علام الغيوب ما دمتم في زمن التوبة، وصححوا بواطنكم قبل أن يبعثر ما في
القبور، ويحصل ما في الصدور.
ثالثاً: فئة الأتباع وعامة الناس:
وهم الذين لم يصلوا في أخلاقهم وأهدافهم إلى مستوى الفئة الشريفة المصلحة، ولم يهبطوا إلى مستوى الفئة المفسدة الوضيعة الخائنة.
وإنما هم فئة بين الفئتين ولديهم الاستعداد للخير الذي تدعو إليه الأولى، كما
أن لديهم الاستعداد لتلقي الشر والإفساد الذي تسعى إليه الفئة الثانية [3] ، وهذا يؤكد
أهمية الدعوة، وقطع الطريق على الفئة المفسدة؛ حتى لا ينحرف الناس عن
الصراط المستقيم. والملاحظ في هذه الفئة أنها السواد الأعظم، بينما يغلب على
الفئة الأولى والثانية أنهما قلة، والدفع بين الفئة المصلحة والمفسدة من سنن الله
(عز وجل) حيث الصراع بين الحق والباطل، قال (تعالى) : [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] ... [البقرة: 251] .
وإلى هذه الفئة من الناس أتوجه بهذه الكلمات:
* إن تذكر اليوم الآخر ومشاهده العظيمة من أهم الأسباب التي تقي من شر
المفسدين المستكبرين في الدنيا وفي يوم التناد ويوم تخاصم أهل النار، فإذا أيقن
العبد بهذه المشاهد وأن الله (سبحانه) ينادي عباده [مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ] عندئذ
يحذر العبد أن يتبع كل ناعق ملبس، وإنما يتبع المرسلين وأتباعهم، كما أن
تخاصم أهل النار وما فيه من تبرؤ المتبوعين من الأتباع يجعل العبد يحسب لهذا
المشهد حسابه، حتى لا يعض على يديه حسرة وندامة، وهذا الشعور المخيف
يجعل الإنسان في حذر من أهل الشر والإفساد الذين يزينون له الباطل في الدنيا،
ويوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ التابع من المتبوع والمتبوع من التابع، فكفى
بتذكر تلك المشاهد العظيمة واعظاً ورادعاً لكل من يحب لنفسه الخير حتى يحذر من
أهل الشر والفساد، ويلتصق بأهل الخير والإصلاح الذين يسعون لإنقاذ الناس بإذن
ربهم (سبحانه) من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، ويعض عليهم ويبذل لهم المودة
والنصرة والدعاء، حيث إنهم أرحم الخلق بالخلق، وهم صمام الأمان لمجتمعاتهم،
فجدير بمن هذه صفاته أن يُحَبّ ويُوالى وينصر.
لقد أنعم الله (سبحانه) على عباده بالعقول وإرسال الرسل وإنزال الكتب حتى
تَبْيّنَ الرشد من الغي، ولن ينفع التابعين الذين أعطوا قيادهم لدعاة الشر وألغوا
عقولهم، لن ينفعهم يوم القيامة إلقاء التبعة على المتبوعين من المفسدين، ولقد
قامت حجة الله (سبحانه) على عباده ... نعم لن يجدي عن الأتباع الذين فتحوا
أفكارهم وبيوتهم لأهل الشر ليفسدوا فيها ويمكروا فيها إذا قامت الخصومات بين
يدي الحكم العدل، إنهم بذلك يتحولون إلى فئة المفسدين، شعروا أم لم يشعروا.
وأخيراً لنسمع إلى تحذير الله (عز وجل) لعباده من طاعة الشيطان وحزبه
وبراءته من أتباعه يوم القيامة، قال (تعالى) : [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلاَّ أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ
إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [إبراهيم: 22] .
__________
(1) مسلم: 3/170، - (1523) .
(2) تفسير السعدي، عند الآية (123) من سورة الأنعام.
(3) ولذلك يوجد في هذه الفئة: الصالحون والفاسدون حسب نشاط أهل الخير وأهل الشر، وقد يوجد من بينهم أهل العزلة والساكتون.(102/20)
خواطر في الدعوة
التوحيد أولاً وأخيراً
محمد العبدة
إن أساس الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص لله (تعالى) ، فهو الذي
يرتقي بالإنسان المكان اللائق به، وهو الذي ينقذه من رق العبودية لغير الله،
ويحرره من استعباد الإنسان، ومن استعباد الخرافة والأهواء، وهو الذي ينقذه من
المحتالين الدجالين أحبار السوء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، وإذا لم يتعبد
الإنسان لله (تعالى) فسوف يقع في الوثنية - لا محالة - بشتى صورها وأشكالها؛
فإن الإنسان كما جاء في الحديث (حارثٌ وهمّام) ، فلا بد أن يمتلئ بشيء، فإذا لم
تكن العبودية لله فهي لغيره مهما تظاهر بأنه حر، فالعبودية هي عبودية القلب كما
يقول ابن تيمية (رحمه الله) ، فمن ركض وراء الشهوات فهو الأسير المملوك، ولو
كان حاكماً يستعبد الناس.
التوحيد الخالص لله (تعالى) هو الذي يجعل المسلم شخصية تستعصي على
الطغيان، ولا تخضع للملأ أو المال، كما استعصى الصحابي الجليل بلال بن رباح
حين قالها لملأ قريش: أحد أحد، والتوحيد هو الذي يحفظ الإنسان من الانفلات بلا
قيد أو ضابط، كما حُفظت الأفلاك بالجاذبية.
التوحيد الخالص لله (تعالى) هو الذي أنقذ العرب من وهدة النسيان والخمول،
وجعلهم أمة تحمل رسالة وتشعر بالمسؤولية، وتحول العربي إلى إنسان لا تأسره
الأوهام والتقاليد، ولا القبيلة والعشيرة، ولا الإقليمية والقومية.
إن من أصعب الأشياء على الإنسان الذي يحب الفساد في الأرض أن يسمع
كلمة التوحيد [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] [ص: 5] وكأنهم
يقولون: كيف يكون إله واحد ينظر في أمر الجميع؟ [وَإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ... ] [الزمر: 45] وقد خشي فرعون ... من هذا التوحيد الذي جاء به موسى (عليه السلام) فقال: [إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ... ] [غافر: 26] والدين هنا يعني الحكم، وكأنه يقول: إن هذا النبي الذي جاء بالتوحيد خطير جدّاً؛ لأنه سيذهب بملككم وسيادتكم وطريقتكم في العيش. فلا مانع عند الطغاة أن يكون الدين حركة ثقافية أو حضارية تتكلم عن الزخرفة الإسلامية أو العمارة الإسلامية، وتذكر ما أنتجه العلماء القدامى في الطب، والهندسة، وعلم الفلك، ولا مانع من تشجيع الطرق الصوفية التي تربط الفرد بالشيخ والولي والأقطاب والأوتاد وما هنالك من خيالات وخرافات.
ومن المؤسف أن بعض الذين يوسمون أنفسهم بأنهم (مثقفون) ، أو بعض من
دخلت في قلوبهم شبه (علم الكلام) يأنفون من هذا التوحيد، فلا يدرسونه ولا
يُدرّسونه؛ لأن هذا عندهم أقرب أن يكون للعوام! ، أما هم فلا بد أن يخوضوا في
الذات الإلهية، وكيف ولماذا؟ ... ولا بد أن يذكروا أقوال الفلاسفة القدامى
والمعاصرين؛ فتراهم يلوكون الكلمات التي لا تقيم حقًّا ولا تهدم باطلاً، والتي هي
كلحم جمل غَثّ على رأس جبل وعر، ولا يكتفون بهذا، بل يُنفّرون الناس عن
هذا التوحيد باللمز والغمز لأهله الذين يقومون به ويعلمونه الناس.
إذا أردنا النهوض فلا بد أن نرتفع بمستوى الأمة كي تفهم وتمارس التوحيد
الخالص، وحتى لا تكون قطيعاً يُنادى من مكان بعيد، وتكون أمة تقوم بواجباتها
وتحمل الرسالة.(102/30)
مقال
غيبة الهدف.. من حياتنا العلمية
بقلم: محبة الدين سماء
أننا لنعجب من طائر صغير غادر عشه مع انبلاج فجر يوم جديد، نراه وقد
فرد جناحيه على بساط النسيم، رافعاً رأسه الصغير، ورافعاً معه همته لأعلى بكل
عزيمة البِشْر، ينطلق، ينشرها أغاريد عذبة تعطّر الأجواء، ونراه يطير عند
الأصيل أو في جو الهجير، نراه يسير يلتقط الحَبّ بمنقاره الصغير، وقد يغدر به
حيوان جارح أو طائر كاسر، أو يستعذب في رحلته لفح السموم باحثاً عن لقمة
عيش لصغاره، أو منقباً عن أعواد صغيرة لعشه، يقطع آلاف الأمتار مستميتاً في
الوصول إلى ما يريد، ثم لا تنظر.. إلا وقد عاد إلى بيته الصغير عند الغروب
راضياً مسروراً.
لم يكن بإمكان تلك الروح أن تهدأ ساعة قبل أن تصل إلى الهدف المنشود
الذي تحيا لأجله، هكذا يهدي الله المخلوقات إلى فلكها الذي تدور فيه وفق سنن
محكمة.
لكل إنسان هدف:
إنّ الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي: أنّ لكل إنسان هدفاً رسمه في
حياته حتى يبلغه، ويسعد بنواله.
لذا: كان من البدهي أن يسعى المرء ويجتهد في حياته للوصول لما يصبو
إليه، فالهدف إذن ضرورة لا بد منها في هذه الحياة، وإلاّ لتخبّط الإنسان وسار
سير الأعمى، فالهدف هو بمثابة البوصلة التي تهديه لسلك الطرق الصحيحة،
والسفينة بدون بوصلة في عرض البحر تكون معرضة للهلاك.
إن الله (سبحانه وتعالى) أراد لهذه الإنسانية الارتقاء والعلو، لذلك حدّد لها
الهدف الذي من أجله خلقت، وبيّن لها أن الخير كل الخير في السير على هذا
الطريق الذي يصل إلى الغاية الكبرى، وصدق الله إذ يقول: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: 56]
أثر الخطأ في تحديد الهدف:
ولعدم تحديد الهدف من الحياة الناشئ عن خطأ في أصل التصور الصحيح
للحياة؛ نشأت مشكلات عديدة ما زالت البشرية - التي تنأى عن روح الإسلام إلى
اليوم - تجترّ آلامها، وعلى رأسها المشكلات النفسية الناشئة من انعدام التصور
الصحيح لهذه الحياة وعدم معرفة سبب وجودنا فيها ومهمتنا الموكولة إلينا في هذا
الوجود، ومصيرنا ومصير الكون، والغاية من هذا التنظيم الرائع للكون، ومن
هذا الإبداع العجيب الدقيق المحكم للإنسان ولسائر الأحياء والكائنات، لماذا وُجد كل
ذلك بهذه الدقة والإحكام؟ ! .
لذلك: كان الإسلام يربّي أبناءه دائماً على أن يكونوا ذوي بصيرة، لأنهم
فهموا الغاية الكبرى ووعوا دورهم في الوصول إليها (فجاءت التربية الإسلامية
تربّي الناشئ على: أن ينظر إلى كل ساعات الحياة ولحظاتها على أنها أمانة في
عنقه، عليه أن يستغلها في الخير، وتربيه على أن يجد لذة نفسية عظيمة كلما
ساهم وسابق في عمل الخير، أو دفع الشر عن نفسه وأمته؛ فكل لحظة من حياته
يتقرب فيها بإرضاء ربه هي متعة جديدة تشعره بالمزيد من قيمته عند الله، الذي
أوجده ليبلوه في هذه الحياة، ثم يجزيه الجزاء الأوفى، كما تشعره بأثره في
المجتمع، وفي البيئة، وفي الكون والإنسانية [الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ] [الملك: 2] [1] .
والواقع الملموس يؤكد أن هذه الحقيقة لم تتجاوز حدود الإقرار والاعتراف
اللساني؛ فنظرة قريبة من بيوتنا ومقارّ أعمالنا تشير إلى حقيقة تقع فيها فئات من
الناس، ولعلها - مع استمرار إغفال دراستها وآثار أبعادها - ستتحوّل إلى طابع
عام للعاملين في مجالات عديدة، وهي: عدم رسم الهدف الكبير وجعله بمثابة
ضابط لخط الحياة، والتحليق في الأفق الواسع بدلاً من النظر إلى الأفق القريب أو
نصب أهداف زائلة ببلوغ الأجل المسمى، إنْ لم تكون هذه الأهداف قصيرة الأمد،
خسيسة في موضوعها، حقيرة في مضمونها، ذاتية في روحها وشكلها، ويلاحظ
أن هذه الظاهرة موجودة بين اليافعين والراشدين الناضجين ومن فوقهم، ولعل من
أسباب انتشار هذه الظاهرة: عدم تنشئة الفرد بيئيّاً على أن يحيا لغاية.
ولا أدري ما سبب غياب هذه المسألة لدى أكثرنا، هل هو زيف الحضارة
المدنية الذي أبعدنا عن نقطة البداية الصحيحة؟ ، أم هو التفريغ الثقافي من عقولنا
وأرواحنا الذي سبّب الابتعاد التدريجي عن القرآن بوصفه دستور حياة؟ أم كل هذه
الأمور مجتمعة؟ !
وإن كانت الأسرة هي المسؤول الأول فهي ليست الأخيرة؛ فهناك المؤسسات
الإعلامية بشتى صورها، يعيش في وسطها الفرد ويتفاعل معها وتتفاعل معه، قد
يربّى عليها وقد ينهل منها الآداب والعلوم، بل أصبحت لا تقل تأثيراً عن الأسرة
في صياغة المفاهيم وتكوين الاتجاهات، فهي بذاتها كافية لأن تكون محضناً مهمًا
وعاملاً مؤثراً في إيجاد مثل هذه الغاية وأبعادها.
صور غياب هذه الفكرة في حياتنا:
وصور كثيرة من يومياتنا تشير إلى غياب هذه الفكرة من حياتنا، مثلاً:
عدم صدق بعض الممتهنين للعملية التربوية في تحقيق الأهداف التربوية
الإجرائية.
إننا بحاجة إلى فهم: أنّ الهدف العلمي ضرورة للوصول لغاية كبرى؛ من
أجلها خلقنا، والتأكيد على هذه الفكرة يأتي من عدة أوجه:
العلم يهدي إلى الإيمان، وقد رأينا كثيراً من العلماء الراسخين المنصفين
هداهم علمهم إلى أن وراء هذا الكون ذا قوة عليا يدبره، وينظمه، ويرعى كل
شيء فيه، وبميزان وحساب ومقدار، ذلك أن العالم أقدر من غيره على استبانة ما
في هذا الكون من ترابط وتناسق وإحكام.
بعد ذلك: ما حجم هذه الفكرة في عقل المسلم أو المسلمة خصوصاً.
إن التاريخ الإسلامي لا يبخل علينا بنماذج وشواهد تؤكّد على اهتمام أهله
بمثل هذا الفهم، فهم يسعون للعلم حتى الرمق الأخير من حياتهم.
(فلنوازن بين ذوي تلك الغايات وأضدادهم من طلاب وطالبات جامعاتنا اليوم، الذين يدرسون فيها أربع سنوات، فبعضهم يدرسون دراسة ضعيفة فرديّة، لا
حضور ولا استماع ولا مناقشة ولا اقتناع، ولا تطاعم في الأخلاق، ولا تأسّي،
ولا تصحيح للأخطاء، ولا تصويب ولا تشذيب للمسلك، وَيَتَسَقّطُون المباحث
المظنونة السؤال من مقرراتهم المختصرة، ثم يسعون إلى تلخيص تلك المقررات،
ثم يسعون إلى إسقاط البحوث غير المهمة من المقررات، بتلطفهم وتملقهم لبعض
الأساتذة، فيجدون لدى بعضهم ما يسرّهم وإن كان يضرهم، وبذلك يفرحون) [2] .
ما رأي الفتاة المسلمة؟ :
وأتساءل الآن: أين هي الفتاة المسلمة؟ .. إنّ ما تهتم به الفتاة اليوم بعيد جدّاً
عن مثل هذه الأمور! .
هل الخلل يعود إلى فهمها لطبيعة الهدف؟ ! ! أم الخلل في ضعف إيمانها
بضرورة هدف تحيا لأجله؟ أم لعدم إدراكها أبعاد تلك الفكرة؟ أم لسطحية ثقافتها
التي أصبحت شكلاً من الأشكال غير المستهجنة اجتماعيًّا؟ أم إنه المجتمع الذي
يطالبها بأن تنصرف لاهتمامات ضيّقة؟ أم لعدم عناية المناهج الدراسية بهذه الفكرة
والتركيز عليها؟ أم لفقداننا رعاية الفتاة المتعلمة ثقافيّاً واجتماعيًّا على المستويات
الرسمية والمؤسسات التربوية والتثقيفية؟ أم لعدم بناء والديها لها بناءً يقوم على
تصور صحيح لدورها في هذا المجتمع؟ .
إنّ هذه الأسباب مجتمعة تؤدي إلى ما نعاني منه الآن، نعم هناك معاناة
نسائية غير مرئية الأسباب نرى آثارها من جرّاء غياب هذا الوعي على أصعدة
عدة؛ على صعيد الأمة الإسلامية عموماً: على صعيد الزوج، الطفل، محيطها
الاجتماعي، وظائفها التعليمية التربوية خصوصاً.
نعم.. إنها مسألة محسوسة برياضيات العلم ومعادلاته.
فإنسان دون غايات كبرى، قوية، صحيحة الجذور، سليمة التصورات،
مفهومة الأبعاد، هو إنسان خامل عقليّاً؛ نتيجة ضمور الهدف العلمي لديه، الأمر
الذي يترتب عليه انصرافه عن أمور جليلة إلى اهتمامات ضعيفة ... وبعد أن
تصبح المرأة ذات مسؤولية: لا نملك إلا أن نعظم لها المسميّات ونضخم
المصطلحات اللصيقة بطبيعة وظيفتها داخل البيت.. فهي المربية، والمعلمة، وإن
لم تأخذ منهما سوى مسمياتهما، وهي صاحبة الرسالة، وصانعة الأجيال، والله
أعلم بتكوينها ومستوى تركيبها الروحي والفكري ... وإن أصبنا كبد الحقيقة، فهي
منصرفة بما يشبه الكلية عن خصائص لصيقة بالتربية وشؤون قريبة من التوجيه
والبناء. وهذا الحكم لم يتأتّ من فراغ؛ فمن يطالع ما يقدم للمرأة شكلاً ومضموناً
من أدب وفكر.. يستطيع إصدار حكم واضح عادل ليس بعيداً عما ذكرت.
نعم هناك صور مشرقة من نساء يصنعن أولادهن بأعينهن، ويحرصن على
تعلّم ما هو مفيد لجيل واعد مسلم، ومع ذلك: يظل جانب من حياتها لم تُضأ
مصابيحه بعد.. وهو تكوّن قناعات لديها بضرورة التنشيط العقلي والسعي العلمي،
وربط هذه الخدمات بغاية عظمى، إننا نجمّد طاقات مدخرة، ونحوّل طاقات من
حالتها الحركية إلى حالتها الكامنة.. عندما نجعل من هذه الحقيقة الغائبة أمراً تكميليًا
أو ثانويّاً بالنسبة للمرأة، فالآذان ما زالت تسمع من يقول: جميل أن تتعلم المرأة،
لا بأس من تفوّق للمرأة، أمر حسن أن تحصل على درجة علميّة ...
إنّ من الضرورة بمكان أن تستغل المرأة طاقاتها العقلية، وتوظّفها بما يخدم
نفسها وأمتها حتى تزكّي عما وُهبت إيّاه من عقل وفطنة وذكاء، وحتى تحصّن
مجتمعها من خطر محدق به فيما لو لم تزاول دورها بشكل صحيح.
إنّ ضمور عقل الفتاة الفكري أو العلمي لن يعود على مجتمعاتنا بالخير،
والنتائج التي يتمخض عنها هذا الضمور لا تعد ولا تحصى، يكفي أن أذكر منها:
اختلال كفتي ميزان المجتمع ثقافيّا وعلميّاً (فوارق فكرية كبيرة بين الجنسين
المتزوجين) .
خلل في البناء الداخلي للأجيال القادمة.
وأخيراً: فإن صرح الحضارة الإسلامية الجديد ما زال بحاجة إليه وإليها؛
لكي يقفا على خط التجنيد لكل ما فيه خدمة الأمة جمعاء؛ ليواجها معاً، ويدافعا معاً.
إنه بحاجة إلى الجيل المتعلم بفرعيه، فثمّة برامج علميّة كبيرة تنتظرهم وهي
في مسيس الحاجة إلى تآزر وجهود النوعين حتى يعمروا ويشيدوا، وعلى نعم ربهم
يشكروه.
وصدق الله العظيم القائل: [وَاللَّهُ أََخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأََبْصَارَ وَالأََفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [النحل: 78]
__________
(1) التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة، إعداد / عبد الرحمن نحلاوي.
(2) إسلامية المعرفة، د عماد الدين خليل.(102/32)
دراسات تربوية
معالم في طريق السعادة الزوجية
بقلم: أيمن أسعد عبده
بعد أن انتهت مراسم حفل الزفاف الذي كان متميزاً في كل شيء: متميزاً في
بساطته وبعده عن التكلف والإسراف، وفي خلوه من منكرات الأفراح، اختلى
العروسان في غرفتهما الخاصة، وما هي سوى لحظات حتى مد الشاب يده
ووضعها على رأس عروسه، ثم دعى بالدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك من
خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) [1] ، ثم
توضأ وصلى بها ركعتين، وبعدها رفعا أيديهما بالابتهال إلى الله (تعالى) أن يوفقهما
في حياتهما الجديدة، وأن يحفظ بيتهما الصغير من كل شر، وأن يجمع بينهما في
خير.
بعدها جلسا يحددان الأسس التي سوف يقوم عليها بناء حياتهما الزوجية،
والمعالم التي سوف يستضيء بها زورقهما الصغير وهو يسلك طريقه عبر الأمواج
إلى بر الأمان. فكان مما اتفقا عليه:
أولاً: سلامة النية: فالنية هي أساس الأمر ولبه، وهي التي تتفاضل بها
الأعمال، وبصلاحها يتحول العمل من عادة إلى عبادة، يأجر الله عباده عليها.
فاتفقا على أن يعقدا قلبيهما على نية صالحة في زواجهما؛ بأن ينطلقا في حياتهما
الزوجيه من المنطلقات التالية:
الاستجابة لأمر النبي-صلى الله عليه وسلم- لشباب أمته بالمبادرة إلى الزواج
في مثل قوله: (يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج..) [2] .
احتساب إحصان الفرج وغض البصر وإعفاف النفس، وبهذه النية يحصل
الزوجان على عهد من الله (تعالى) بالعون والتوفيق، قال: (ثلاثة حق على الله
(تعالى) عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي
يريد العفاف) [3] ، ومن أوفى بعهده من الله! .
احتساب أجر إقامة البيت المسلم وفق منهج الله (تعالى) .
احتساب إنجاب الذرية الصالحة التي توحد الله؛ وتكثّر سواد الأمة التي يباهي
بها النبي-صلى الله عليه وسلم- الأمم يوم القيامة، واحتساب تربيتهم التربية
الإسلامية؛ لعل الله أن يخرج منهم من يحمل همّ هذا الدين، ويقوده إلى النصر
والتمكين، أو لعل الله يوفق بعضهم ليكونوا علماءً أفذاذاً أو مجاهدين أبطالاً.
احتساب أجر النفقة على الزوجة والعيال، قال: (إذا أنفق الرجل على أهله
نفقة يحتسبها فهي له صدقة) [4] .
فإذا عقد الزوجان قلبيهما على هذه النية: صارت كل لحظة من حياتهما
الزوجية عبادة يؤجران عليها، فيا لها من أجور عظيمة.
ثانياً: التعاون على الطاعة: بأن يحض كل منهما الآخر على عمل الخير
ويشجعه عليه، قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت،
فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي فأيقظت
زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) [5] ، فإن لم يكن التشجيع على
الطاعة فلا أقل من عدم الوقوف عقبة في سبيلها، فكم من زوجة وقفت في طريق
زوجها للعبادة أو طلب العلم أو الجهاد أو الدعوة بكثرة طلباتها وعدم استعدادها
للتضحية بشيء يسير من حقوقها، والعكس صحيح، قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الخَاسِرُونَ] [المنافقون: 9] ، والأسوة الحسنة في ذلك هن أمهات المؤمنين
والصحابيات (رضي الله عنهن) اللاتي كن يقلن لأزواجهن في الصباح حين
يودعنهم على الباب: يا فلان اتق الله فينا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على
الحرام!
ثالثاً: إقامة البيت المسلم والأسرة المسلمة وفق شرع الله وسنة نبيه-صلى الله
عليه وسلم-، فلا يقْدِمان على خطوة إلا بعد أن يعلما حكم الله ورسوله فيها، فإن
علماه لم يُقَدّما عليه شيئاً أبداً: عرفاً، أو عادة، أو هوى، ويستعليان بعقيدتهما،
ويقفان بصلابة أمام التيار المضاد، يضربان المثل والقدوة فيما ينبغي أن تكون
عليه الأسرة المسلمة والبيت المسلم بقدر استطاعتهم، فياله حينذاك - من بيت
مبارك تعبق أنحاؤه بآيات الذكر الحكيم، ويفوح من جنباته أريج سنة خير المرسلين.
رابعاً: بناء حياتهما على المحبة والرحمة والمودة والعشرة الحسنة، امتثالاً
لأمر الله ورسوله، فالميثاق غليظ عقده الله (عز وجل) ورتب عليه الثواب والعقاب، ولا يمكن - في التصور الإسلامي - أن يكون بين الزوجين حقد أو بغضاء أو
حسد، كيف وقد أفضى بعضهم إلى بعض، يقول سيد قطب (رحمه الله) في تفسير
قوله (تعالى) : [وَكَيْفَ تَاًخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً
غَلِيظاً] [النساء: 21] : (لا يقف لفظ (أفضى) عند حدود الجسد وإفضاءاته، بل
يشمل المشاعر والعواطف والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم، يدع اللفظ
يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات
الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان، وفي اختلاجة حب إفضاء،
وفي نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل
إفضاء ... ) [6] .
والأحاديث الصحيحة تكاد لا تحصى في الحض على حسن العشرة بين
الزوجين، كما أن السيرة العطرة مليئة بالنماذج العملية من حياة النبي-صلى الله
عليه وسلم- على الحياة الزوجية الهانئة الجميلة في البيت النبوي الكريم.
خامساً: لا تمنع المحبة والعشرة بالمعروف بين الزوجين من أن يكونا
حازمين مع بعضهما في التربية والتوجيه وخاصة من ناحية الزوج، فمحارم الله
(عز وجل) لا مداهنة فيها، والتقصير في الأمور الشرعية لا يمكن السكوت عنه،
فها هو النبي-صلى الله عليه وسلم- يدلل زوجاته أرق الدلال، فكان يدلل عائشة
(رضي الله عنها) بقوله: (يا عائش) [7] ، (يا حميراء) ، وكانت تشرب من الإناء
وهي حائض، فيأخذه النبي-صلى الله عليه وسلم- فيضع فاه على موضع فيها [8] ، وكان يقبّل نساءه وهو صائم [9] ، ولكنه مع هذا كله لم يقم لغضبه شيء إذا
انتهكت حرمات الله، قالت عائشة (رضي الله عنها) : (حشوت وسادة النبي-صلى
الله عليه وسلم- فيها تماثيل كأنها نمرقة، فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه،
فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: ما بال هذه الوسادة؟ قالت: وسادة جعلتها لك
لتضطجع عليها، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ... ) [10]
.. وغير ذلك كثير.
سادساً: أن يكونا لبعضهما كما كان أبو الدرداء وأم الدرداء (رضي الله عنهما) : كانت إذا غضب سكتت واسترضته، وإذا غضبت سكت واسترضاها، وكان هذا منهجاً انتهجاه من يوم زواجهما، وياله من منهج حكيم، فكم من البيوت هدمت، وكم من الأسر انهارت بسبب غضب الزوجين معاً وعدم تحمل أحدهما للآخر.
سابعاً: الزوجان بشر: ومن طبيعة البشر الخطأ والنقص، فإن وقع الخطأ
والتقصير من أحد الزوجين في حق الطرف الآخر - إذا كان من الأمور الدنيوية -
فعلى الطرف الآخر الصفح والعفو، فلا ينسى حسنات دهر أمام زلة يوم، وعليهما
أن يغضا الطرف عن الهفوات الصغيرة مع التنبيه بأسلوب لطيف ليس فيه جرح
للكرامة أو إهانة، ولهذا نهى النبي-صلى الله عليه وسلم- أن يطرق الرجل أهله
ليلاً، وأن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم [11] ، وكان هذا أسلوب النبي-صلى الله
عليه وسلم-، فعن أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) : أنها أتت بطعام في
صحفة لها إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فجاءت عائشة مئتزرة
بكساء، ومعها فِهْر [12] ، ففلقت به الصحفة، فجمع النبي-صلى الله عليه وسلم-
بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا، غارت أمكم) مرتين [13] . فيا له من معلم
حكيم صبر على هذا الخطأ العظيم من عائشة، وعالجه بالصفح والحلم والتماس
العذر.
ثامناً: المشكلات والعيوب والنقائص تبقى بين الزوجين فلا يطلع عليها الأهل
والأقارب، لأن هذه الحياة حياة سرية ولا بد أن تبقى بين الزوجين، فالغالب على
هذه المشاكل أنها إذا خرجت عن نطاق الزوجين فإنها تتطور وتتعقد، إلا إن وجد
الزوجان أن الحياة بينهما أضحت مستحيلة، فإن لهما أن يشركا بعض المقربين من
ذوي الدين والعقل للمساعدة في حل هذه المشكلات.
تاسعاً: أن يوضح كل منهما للآخر من أول يوم أهدافه في الحياة على المدى
البعيد والقريب والوسائل التي يستخدمها للوصول إلى هذه الأهداف، فيكون لهما
أهداف مشتركة يتعاونان عليها، كما يكون لكل منهما أهداف خاصة به، ولا بأس
من أن يطلع زوجه عليها لكي يساعده عليها؛ ولا يقف حائلاً بينه وبين تحقيقها.
إذا وضع الزوجان المباركان هذه الأسس نصب أعينهما، وسجلاها في ورقة
يكون مع كل واحد منهما نسخة منها، بحيث تكون ميثاقاً بينهما يراجعانه بين الحين
والحين، واتفقا بألا تكون هذه الأسس والمعالم حبراً على ورق، بل تتحول إلى
واقع يحاولان تطبيقه قدر المستطاع، ويذكر أحدهما الآخر بأن المسألة صعبة
تحتاج إلى مجاهدة وصبر وتربية، وتعاهدا على المحاولة الجادة لتنفيذها.. فهذه
معالم مباركات لكل زوجين وكل شاب وشابة مقبلان على الزواج، ينشدان السعادة
الزوجية.. والله الموفق.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، وحسنه الألباني.
(4) متفق عليه.
(5) رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح.
(6) في ظلال القرآن لسيد قطب.
(7) كما في صحيح البخاري.
(8) كما في صحيح مسلم.
(9) كما في صحيح مسلم.
(10) أخرجه البخاري.
(11) رواه البخاري.
(12) الفهر: حجر ناعم صلب.
(13) رواه النسائي في عشرة النساء.(102/38)
نص شعري
شاطئ النجاة
شعر: محمد بن أحمد الزهراني
توّقفَ وانزوى جَزِعاً مُراعاً ... فسوطُ الريحِ يقتلعُ الشّراعَا
وَفي الأمواج إعصارٌ غضوبٌ ... به الأفواهُ تزداد اتساعَا
وَشَاهَدَ ذلك البحّارُ جيشاً ... من الغِربانِ يندفِعُ اندفاعَا
فأين النورسُ الجوّال يهدي ... عُيونَ سفينةٍ فقدتْ دِفاعَا
فأَلْيَلَتْ الدّنى في مُقلتيهِ ... وَأَمْسَكَ رأسَهُ وبكى التياعا
وفي خَطَراتِهِ بحثٌ وسَعْيٌ ... ويُشْعِلُ في دواخِلهِ صِراعا
فلمْ يرمُقْ بها سُرُجاً لحلّ ... علىَ حْملِ الأمانةِ ما استطاعا
لِمَ الإسلام شرّدَهُ بنُوهُ ... فأُغْطِشَ صُبْحُهمْ وسَعَوا جِياعا
فنادى الذئبُ: إنّ لكمْ نعيماً ... لَديّ فأقبَلوا هَمَجاً تداعى
فأسقاهُمْ كُؤوسَ الفحش شِرْباً ... وأمّوا نادياً للطهْرِ باعا
وُخدّر عَقلُهُمْ والخيطُ رَثّ ... تكاثر حولَهُ العُميُ انْصَياعا
مجانينُ وَعكْسٌ في نِظامٍ ... ففئرانُ الرّدى سجنَتْ سِبَاعا
وذاك (حَنِيفُنَا) كأبٍ تعيسٍ ... رماهُ بنُوهُ واتّبعوا سُواعا
فيا بحّارَ مركبِ كُلّ خيرٍ ... مصابيحُ الهدُى لَحِقَتْ ضياعا
فرّتل آية من نور رّبي ... لِتُبْصِرَ بعد داجيةٍ شُعاعا
وكبّرْ وانطِلقْ وأقِمْ صلاةً ... وقل للرّقدةِ السُكرى: وَدَاعا
لِتَنْقَشِعَ الغيومُ غيومُ زيفٍ ... ونهِدمُ للغوى فينا قِلاعَا
حبالَ الرّشدٍ فالزمها وسِرْ في ... سبيل الحقّ لا تخشَ انقطاعا(102/44)
هموم ثقافية
تجديد الإسلام في غابة فرنسية..
وقفة مع فكر هشام جعيط [*]
بقلم: د.أحمد إبراهيم خضر
1- فكرة طارئة قفزت إلى عقل المفكر! التونسي (هشام جعيط) وهو يراقب
الثلوج في إحدى الغابات الفرنسية؛ فكتب ما اعتقد أنه تجديد وإصلاح للإسلام.
توهم (المفكر التونسي) ! أن فكرته الطارئة هذه ستحول ضعف أمتنا إلى قوة، وستكون مؤشراً للتطور الأصيل، بدلاً مما يسميه (تأخرنا في التطور) ، إنه يرى
أن مجتمعنا العربي! قد تطور في اتجاه العلمانية بخطوات عملاقة! : فالدولة تعمل
مستقلة عن الدين، والتصورات العقلانية نفذت إلى ميدان التربية، والشباب لم يعد
يبالي بالممارسات الدينية، لهذا فهو يرفع الطابع الإسلامي (ولكن) بطريقة تختلف
عما هي عليه الآن. [1]
2- شعر (المفكر التونسي) بعد أن ألهمته مقولات (فرويد) في كتابه (مستقبل
وهم) بهذا الحنان العميق الذي لا يجتث نحو هذا الدين الذي أثار طفولته، وكان
أول دليل له على الخير والشر المطلق، فنجده يتحدث عن معجزة الدين الذي
يخاطب أبسط كائن وأكثره سذاجة، كما يتجه إلى أسمى فكر وأكثره رفعة.. تجده
يتحدث عن الرسول-صلى الله عليه وسلم- الذي يرى فيه كتلة هائلة من المُثُل
والحب والوفاء، الذي يزن ويوزن كل تلك الدموع والاندفاعات، الرسول الذي
نادى باسمه كثير من الناس ممن كانوا في النزع الأخير، تجده يقرّ بأن الدين روح
العالم والإسلام روح الأمة الإسلامية، وأنه لا يزال قوة حية ملموسة ملتصقة
التصاقاً حميماً بالمجتمع الإسلامي تخترقه من طرف لآخر.
3- انطلاقاً من هذا الحنين لهذا الوهم الفرويدي (لمفهوم الدين) يطرح علينا
المفكر المذكور عدة مقدمات لا تثريب عليها - في مجملها - من حيث المبدأ، يقول
فيها:
أ - ينبغي ألا نرفض الإسلام، بل يجب أن نمتثل لروحه وجوهره، الذي
يعني التفتح على الخارج، ثم العودة إلى الذات.
ب - لا شيء يبتر الإسلام من اعتباره ثورة اجتماعية خانتها الظروف.
ج - يجب على الإسلام البقاء ديناً للدولة تعترف به تاريخيًّا، وتهبه حمايتها،
ولا تتلاعب به لأسباب سياسية، ولا تدخل عليه إصلاحات من عندها.
د - إن التشريع الإسلامي استهدف بصورة عميقة خير الناس، وساهم في
توحيد بشرية مشتتة بواسطة الولاء ذاته للشريعة، وهي القانون الذي نظم كافة
مظاهر الحياة.
هـ - إنه ضد أي محاولة للتشريعية العلمانية التي تستهدف الرجوع إلى تأكيد
ما نصت عليه الشريعة من حيث المبادئ، وتحويرها على صعيد النتيجة العملية
لبلوغ غايات التحديث.
و أنه لا يجاري فكرة الانحطاط عند (جيب) التي أرجع فيها جمود المجتمع
الإسلامي إلى الفكر الديني أو الفقه.
ز - أنه ضد النظرة التي تدافع عن الإسلام من منطلق اتهام الفقهاء القدامى
بـ (خيانة الإسلام وتشويهه) ! بل إنه يعترف بعظمة العمل الذي أنجزه هؤلاء
الفقهاء، ولكنه يرى ضرورة المراجعة التقويمية لاجتهاداتهم.
ح - أنه ضد محاولة إيجاد التطابق بين روح الفقه الإسلامي والفكر الحديث
لصالح الأخير باستخدام أسلوب الحيل الفقهية، أي إنه - بصفة عامة - ضد منطق
أنصار التحديث الديني الذي يقوم - غالباً - على تزوير الحقيقة الدينية، فهم
يميلون إلى اقتراح إصلاحات ضد الشرع في اتجاه القيم التي رضي بها العالم
الحديث؛ لكي يعرضوها على أنها من التشريع الإسلامي ذاته، بحجة أنهم يريدون
أن يعيدوا إلى هذا التشريع سالف صفاته، في حين أن جهدهم تحكمه قمة سوء النية
والنظرة الذاتية.
ط - والقرآن عنده لا يقبل الترجمة؛ لأن ترجمة معانيه تفرغه من حقيقته
ومضمونه والوزن الروحي الذي شحنت به الكلمات، وتجرده من هذا المحيط
الروحي الأخاذ.
إن أغلب الترجمات المعروفة لمعانيه تافهة من وجهة نظره، وإن بعضها قد
حاول نقل الأسلوب القرآني المؤثر لكنها محشوة بالتناقض والمعاني الخاطئة، بل
حتى المقلوبة.
وأخيراً يأتي (المفكر التونسي) فيعلن:
أنه ضد العلمانيين الذين يدّعون اليوم حق التلاعب بالإسلام، مستترين بقناع
الإصلاح والرقي، في حين أنهم يتمنون خراب الإسلام.
4- عند هذه النقطه يكاد (المفكر التونسي) أن يدفعنا إلى أن نخرجه من عباءة
(العلمانيين التقليديين) ، إذ إنه يحاول إقناعنا بأنه يريد أن يجدد الإسلام والرؤية إلى
الإيمان، فالقضية عنده قضية إصلاح، وإعادة تقييم، وإعادة بناء فقط، لكننا ما
نلبث أن ندرك أن (الرجل) يريد أن يجدد في أسس الإسلام، وأن يسهم برؤية
شخصيه في تحوير العقيدة والإيمان أو في المعاش الديني ودلالة التشريع على الأقل، بواسطة الدين وبما هو خارج عنه، وهذا هو الإصلاح عنده!
5- خرج علينا (الرجل) بفكرة جديدة أسماها: (العلمانية المفتوحة) ، علمانية
يراها غير معادية للإسلام لا تستمد دافعها من شعور (لا إسلامي) ، بل علمانية
يتوهم أنها يمكن أن تحافظ على جوهر العقيدة، وحقيقة الأمر أنها لا تختلف مطلقاً
عن العلمانية التقليدية، إنها - كما يقول بنفسه - تتسق مع الهدف العلماني العام:
الفصل أو التحرير.
6- يفاجئنا (الرجل) بضربات سريعة ومتلاحقة لجوهر العقيدة والإيمان،
عبر عبارات صريحة لا تحتمل التأويل: الإسلام مغامرة تاريخية كبرى - الرسول
بدأ بمغامرة رهيبة - الله فكرة! - الله يتواطأ مع الإنسان - ليس الله بأثبت
الكائنات يقينية، بل إنه لغز! - القرآن عمل عبقري ذو لغة أسطورية - العمل
الأسطوري له نوعيته في القرآن - القرآن يعتمد أسطورة سفر التكوين، ثم يثريها
- الدين يتضمن جانباً من التمويه، وعناصره التي تضمنها لا يقبلها العقل إطلاقاً
ولا الفكر ولا ذهنية الإنسان الحديث - التقليدية الدينية سلبية - الضحالة قائمة في
كل حياة وفكر يخضعان إلى اعتباطية الدين والتقاليد، ثم يقول بالحرف الواحد:
(من حسن الحظ أن الإنسان خالف باستمرار الدين، وأن الدين بقي مثلاً لم يطبق
أبداً، وإلا لسحقت الحياة) ! :
ماذا يريد جعيط بالضبط؟ !
يخلع (الرجل) أقنعته الخادعة، ثم يحدد أهدافه بجلاء وبجرأة، وذلك على
النحو التالي:
أ - النظرة إلى الدين على أنه مجرد وديعة مقدسة لا ينبغي الخضوع لها:
(الأَولى بنا أن نتجه إلى الولاء التاريخي مع الشعور الأسمى بالحفاظ على وديعة
مقدسة دون الخضوع لها) .
ب - على الدولة أن تعمل مستقلة عن الدين، وأن تسير وفق قوانين السياسة
والمصلحة الاجتماعية: (يجب على الدولة أن تتطور في نطاق عملها العادي داخل
دائرة مستقلة طبق القوانين المجردة للسياسة والمصلحة الاجتماعية وخارج كل حنين
سلفي) .
ج - النظرة إلى القرآن على أنه كلام مقدس شرع في ظروف تاريخية
واجتماعية معينة، وأنه يحوي عناصر توراتية يهودية نصرانية:
(من الأفضل هنا أن يقبل المرء فكرة أن القرآن كلام مقدس، وأنه شرع في
ظروف تاريخية واجتماعية معينة، وهو ما يبعث في الوقت نفسه على رفع كل
اتهام بالرجعية عن القرآن ... نجد في القرآن تصوراً معيناً للجنين البشري قد لا
يقبله العلم، ونظرة الكون المادي قابلة للتأويل بحيث لا تتضارب مبدئيًّا مع العلم،
لكنه تتداخل فيها عناصر توراتية هي بدورها متأثرة (بالتصورات) البابلية القديمة
... إن الإسلام - ككل دين غيره - نشأ (!) في بيئة ذهنية معينة، وفي جو فكري
معين، وفي عصر بشري سيطر فيه المظهر العجيب، على أفق الإنسان، وهو
ورث - فضلاً على ذلك - أغلب التقاليد اليهودية النصرانية!) .
د - تحرير المجتمع والدولة من الدين، والبحث عن روحانيات أخرى في
غير الإسلام، وتحرير المجمتع كذلك من أن يعمل في ضوء الإيمان بالآخرة على
أنها الحياة الحق: (على المجتمع والدولة التحرر من (ما ورائية دينية) تعتبر حقيقة
وحدها، أي: التحرر من كل عسف أيديولوجي ديني، فإذا كانت مهمة الدولة
تجسيم الروحانيات فإن هذه الروحانيات منشورة متنوعة متعددة، وهي ليست
بالضرورة تلك التي حددها الإسلام ... على المجمتع أن ينمو طبق مقاييسه الخاصة
في المرحلة الراهنة من مصيره، لا عملاً برؤية مسبقة لآخرة تكون هي الحياة
الحق) .
هـ - النظرة إلى الاعتقاد في وجود الملائكة والجن والشياطين على أنه من
قبيل الخرافة:
(يتضمن القرآن الملائكة ورؤساءهم وإبليس وجيشه من الشياطين والجن،
ويظهر أن هؤلاء اقتبسوا من الخرافات المحلية!)
و إنكار العذاب الأبدي لغير المؤمنين، وإنكار الحساب في الآخرة، واعتبار
الله (تعالى) ظالماً متخفياً لاعباً! ! :
(كيف يقبل العقل الناقد العذاب الأبدي - فضلاً عن كونه جسديًّا - بالنسبة
لغير المؤمنين؟ ، وكيف للنزعة الإنسانية الكونية لعصرنا أن تسمح بذلك؟ ، أين
يكمن الحل للتناقض بين الحرية ومسؤولية الإنسان التي يتضمنها مفهوم الحساب،
ومن قدرة الله وظلمه (! !) أو يكاد التي يترجم عنها القضاء والقدر؟ هذا الإله
ذاته الشخصي والمتعالي.. أي لعبة يلعب؟ لماذا كان متخفياً؟ أَوَ لا ينكشف مرة
واحدة وبوضوح للإنسان؟) تعالى الله عما يقول.
ز - التقدم نحو العقلانية خارج كل سيطرة للدين:
(إنّ ما هو عقلاني يتابع سيره، ويجب أن يتابعه خارج كل سيطرة للعامل
الديني وكل تبرير بواسطة الدين، وهكذا: فليس للعلم والعقلانية السياسية أن يبحثا
عن أسس ممارستهما في القرآن حتى ولو كان القرآن ثريًّا فريداً فكريًّا فيما يخص
مصير الكون) .
ح - السماح بالخروج عن الإسلام وإظهار عدم الإيمان:
(لتسمح الدولة وتضمن الخروج عن المعتقد خروجاً حرًّا، فليتظاهر عدم
الإيمان، وليبرز، وليؤكد ذاته؛ فليس للدولة أن تمنعه، بل يجب عليها أن تضمن
خلافاً لذلك هذه الإمكانية) .
ط - تعطيل الحدود الشرعية:
(ينبغي على البلدان المتخلفة اللحاق في ميدان التشريع بالبلدان المتطورة،
وأن يتوقف العمل بالتشريع غير الملائم القاسي المعروف بإقامة الحدود ... وعلى
القضاء الجنائي أن يعمل حيثما كان بالمبادئ العالمية لعصرنا) .
ي - المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وإبطال تعدد الزوجات،
وتحرير الزواج والجنس من القيود الشرعية:
(ينبغي أن يركز الجهد على ميدان قانون الأحوال الشخصية الشاسع، والذي
ما زال خاضعاً (لصيغة عتيقة وتنصيعات قرآنية) فينبغي تخليص ما يعرف بقوانين
الميراث وتشريع الزواج وحتى (التشريع الجنسي) من عبء الفقه، وإخضاعه
لمقولات العقل العالمي، وأن تضمن (للمرأة) المساواة في حقوق الإرث، وأن يقع
العدول عن تعدد الزوجات، ويرتبط بهذه الأمور تدخل العقلنة في تشريع المواريث) .
ك - تحرير الأخلاق من الدين:
(لا بد من الوصول إلى تحرير الأخلاق الملموسة من وطأة الأخلاق الدينية
من حيث ضيقها وتشددها، ولأنها تحدد تفتح كل رؤية حديثة عقلانية للعلائق
البشرية، ... إن علمنة الأخلاق الملموسة هي بداية علمنة أسسها ... ليست الديانة
سوى عنصر من عبء وقمع واعتباط) .
ل- ضرب الفضيلة والشرف:
(إن فكرة الفضيلة ذاتها سلبية إلى حد كبير، ومبنية على قمع الاندفاع
الحيوي؛ فينبغي مراجعتها.. هذا ولم نتحدث عن كل الأخلاقية للشرف التي تستقر
في قلب الإنسان الساذج آمرة إياه بالأسى والانتقام والموت ... ) .
م - زرع قيم جديدة والتخلي عن القيم الدينية التي تجاوزها العصر الحديث:
(يمكن حصول زرع مناسب لقيم جديدة كان أهملها الإسلام في أطراف
الضمير الأخلاقي، حيث تتعدد سلسلة الممكنات، لذلك يمكن التخلي عن الرؤى
التي تجاوزتها التجربة الحديثة للإنسانية بفضل تغير مُثُلها) .
أصياغة للدين أم هدم له؟ ! :
الحقيقة: إن هذا (المفكر التونسي) يريد مثل الذين سبقوه من دعاة التنوير أن
يعيد صياغة العقيدة الإسلامية صياغة حديثة تستخدم ما يسميه بلغة (الفكر الحالي
الراقي) إنه يرفض لغة علماء الدين والفقه والشريعة الذين يسميهم (بالطبقة التحتية
الماورائية) التي يجب عليها أن تتخلى لهم عن احتكار الحقيقة - على حد قوله - إن
هذا هو عين ما قاله (زكي مبارك) منذ أكثر من نصف قرن مضى: (نزعنا راية
الإسلام من أيدي الجهلة (علماء الدين) وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول
الدين) .
ونضرب هنا مثالاً واحداً نوضح به كيف عبر (المفكر التونسي) عن الله (عز
وجل) بلغة ما يسميه (بالفكر الراقي) حينما اعتبر قلمه مرجعاً في شرح أصول الدين، إنه يقول: (إن الله هو الأنا المطلق تحديداً.. الأنا المحايث الذي يحرك ويدعم
الكل، أما الطبيعة والعالم المادي فلا تكون سوى طبع الله أو عادته، والأحسن من
ذلك: أنه الكشف الذاتي لـ.. أنا الأكبر) .
إن التبعية في لغة التعبير - كما يقول (جلال أمين) : (وثيقة الصلة بالتبعية
في مضمون الفكر، تؤدي كل منهما إلى الأخرى وتقويها، ومن كان تابعاً لفكر
غيره استسهل التضحية بلغته، والاستسهال بالتضحية في اللغة يؤدي إلى التورط
أكبر وأكبر في قبول ما لا يتعين قبوله من الفكر الأجنبي، لأن اللغة نفسها تعكس
في كثير من الأحيان مواقف قيمية وتفضيلات خاصة، وهي لا تتمتع بدرجة الحياد
التي تُزعم لها) .
هذا هو ما حدث (لمفكرنا التونسي) : تورط مع (فرويد) في (وهم الدين)
وتورط مع (إميل دوركايم) في (نزع الدين من الأخلاق) ، وتورط مع (مارلو
بونتى) - الذي يعترف بأنه يشعر نحوه بقرب كبير في الاعتقاد - (بوجود إلهين) :
أحدهما داخلي والآخر خارجي، وتورط مع (هيجل) عندما حلل الإسلام في ضوء
كتابه (روح المسيحية ومصيرها) فاعتبر أن الله ليس بحقيقة، وأن الرسول-صلى
الله عليه وسلم- كان يشعر بالنقص أمام التكبر اليهودي، وأن اكتساحه لهم في
المدينة نتج عن حقد شخصي عليهم، وتورط مع (هاردر) في مقولته: (إن الدين
روح لبشرية ما زالت في الطفولة، وأن على العقل أن يتحرر من الدين بدخول
العصر الحديث) .
أقر (مفكرنا التونسي) بنفسه - وهذا ينطبق عليه - بأن المفكرين المسلمين
الذين احتكوا بالحداثة ينزعون إلى التخلي عن الدين، الذي بدا لهم بناءً منخوراً
ونسيجاً من المحالات، وظهر لهم مرتبطاً بذهنية ساذجة أو غير حديثة. كما أقر
أيضاً بأن العقل النقدي الموحد المسوي لكل الأديان يسبب دواراً حقّاً، وأن فهم
الإسلام في ضوء الطريقة التاريخية أمر خطير على الدين، قد يصل إلى هدم
الإيمان، شأنه شأن التحليل النفسي، وهذا هو ما وقع فيه حينما احتك بالحداثة وفهم
الإسلام في ضوء (التاريخانية) .
إن موقف (المفكر التونسي) - كما اعترف بنفسه -: ممزق، مبهم،
متضارب، تلاعب بالإسلام متستراً بقناع الإصلاح والرقي، ظنّاً منه أن (علمانيته
المفتوحة) ستخرجه من عباءتهم.
وبعد أن أعمل فكره وبذل جهده في تدمير العقيدة والإيمان نجده يقول عن
الرسول: (في هذه الغابة الفرنسية، حيث أكتب هذه السطور أمام الثلج، بعيداً جدّاً
في الزمان والمكان عن ذلك العالم الذي عاش فيه (الرسول) ، إني أحس نفسي
أقرب إليه من شخص عاش في القرن الثاني الهجري، وأشعر أني قريب جدًّا من إدراك حقيقته) (! !) .
__________
(1) انظر: هشام جعيط، الإصلاح والتجديد في الإسلام، مجلة (الاجتهاد) ، بيروت، العدد الرابع عشر 1992م.
(*) هشام جعيط: مفكر تونسي معروف، ولد في تونس عام 1935م من عائله متدينة، درس في الصادقية بتونس، وتابع دراسته بباريس، وأقام فيها فتره طويلة، ثم أنجز بحثيه المشهورين (الشخصية والصورة العربية الإسلامية) و (أوروبا والإسلام) وله أطروحة أكاديمية بعنوان (الكوفة في القرن الأول الهجري) ، ودراساته كلها من منظور علماني بحت، تلمس مظاهره فيما طرق الكاتب من أفكار تصادم الإسلام الصحيح كطروحاته المضطربة في هذا المقال.
... ... - البيان -.(102/46)
المسلمون والعالم
الشرعية الدولية.. هل لها شرعية إسلامية
بقلم: عبد العزيز كامل
كثير أولئك الذين تحدثوا عن حكم الإسلام في التحاكم إلى القوانين والأنظمة
الوضعية التي ابتليت بها أكثر البلاد الإسلامية، وكذلك عن التحاكم إلى الأعراف
والعادات والتقاليد القبلية؛ حيث بينوا: أن هذا التحاكم محرم بنصوص الوحي
المحكم، وأن من فعله عن علم ورضا وقصد، فإنه يخرج بذلك عن ملة ... الإسلام [*] .
ولكن الحاجة ماسة إلى البحث عن حكم التحاكم إلى القوانين والأعراف الدولية، تلك التي اختار لها الداعون إليها اسماً يصرح بمرادهم منها، فأسموها: (الشرعية) الدولية، فهي إذن: (شرع) يحكم علاقات الدول والأمم.
فهل هذا التشريع المحدث مقبول كله، أم مردود كله، أم بين هذا وذاك؟ وما
هو الموقف العقدي للأمة منها؟ .
قد لا يتنبه كثير من الناس إلى خطورة تلك العبارات التي أصبحت تتردد على
أسماعنا كل حين عن: (ضرورة احترام الشرعية الدولية) ، و (وجوب الشرعية
الدولية) و (تحريم الخروج على الشرعية الدولية) ! !
إن الأمر لا يعنينا إذا دارت تلك العبارات على ألسنة الساسة في دول
الديمقراطية الغربية النصرانية، أو الاشتراكية الشرقية الإلحادية، ولكن الأمر
يختلف حينما يكون له تعلق بأمتنا الإسلامية، فمن ذا الذي يملك سلطة جعلها أمة
متحاكمة إلى (شرعية) أو (شريعة) غير شريعتها ... ولو في بعض الأحكام؟ !
نعم، إن تلك التشريعات لم توضع خصيصاً لأمتنا الإسلامية، ولكنها من
الناحية الواقعية تشملها وتفرض عليها، وللأسف: فإن الآلة الإعلامية الرسمية في
عالمنا الإسلامي اليوم، لا تكف عن الضجيج حول ترسيخ هذا المفهوم: (احترام
الشرعية الدولية) ، فهل هذه (الشرعية) هي فعلاً واجبة الاحترام، ملزمة في
الاحتكام، عادلة على الدوام؟
أليست الشرعية الدولية هي تلك القوانين والنظم التي صاغتها الدول المتكبرة
المنشئة لما سمي بـ (منظمة الأمم المتحدة) ؟ وأليست تلك المنظمة هي الجهاز
الحاكم والقائم على أكتاف الدول الثلاث الكبرى التي تحالفت وانتصرت في الحرب
العالمية الثانية (أمريكا - بريطانيا - روسيا) ؟ إن تلك الدول تعاقدت وتعاهدت -
ومعها بعد ذلك (فرنسا والصين) - على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، حيث أطلقت
على نفسها منذ ذلك العهد: (الأمم المتحدة) ، وهو الاسم الذي اختير بعد ذلك
للمنظمة الحاكمة والمشرعة لصالحها.
لقد صاغت تلك الدول بمفردها ما أطلق عليه: (ميثاق الأمم المتحدة) ؛ لتكون
له المرجعية الكبرى في كل قضية من قضايا العالم، حيث تستمد (الشرعية) الدولية
منه الأحكام والنظم، وتستند إليه في الإجراءات والتحركات.
إن ميثاق (الأمم المتحدة) ليس مجرد وثيقة منشئة لمنظمة دولية، ومحددة
لقواعد العمل بها، وإنما هو أكثر من ذلك بكثير، إن الخبراء في القانون الدولي -
الذين يُطلَق عليهم وصف (الفقهاء) - يعلنون في وضوح وصراحة: أن الميثاق هو
أعلى مراتب المعاهدات الدولية، وأكثر قواعد القانون الدولي سموّاً ومكانة! ولذلك: لم يكن من المستغرب أن تنص المادة (103) من هذا الميثاق نفسه على أنه: (إذا
تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق
مع أي التزام دولي يرتبطون به، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق) ؛
ومعنى ذلك: أنه لا يجوز لأي دولة أن تبرم أي اتفاق دولي تتعارض أحكامه مع
القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة! ، بعبارة أخرى يمكن القول: إن
أي سلوك أو فعل لأي دولة في العالم يتناقض صراحة، أو يشكل خرقاً لميثاق الأمم
المتحدة، يصبح بالضرورة: فعلاً أو سلوكاً منافياً للقانون الدولي وللشرعية الدولية! وخروجاً عليها.
ويمكنك أن تتصور عشرات الصور لتصرفات يمكن أن تكون من وجهة
النظر الإسلامية واجبة التنفيذ، ولكنها تكون من وجهة نظر (الشرعية الدولية)
محرّمة ومجرّمة، وتشكل خروجاً على شريعة الدول الكبرى! .
فلو أن مارقة من المرتدين، أو خارجة من الخارجين انشقوا على دولة مسلمة، وقاموا بحركة انفصالية انشطارية، فاقتطعوا أرضاً، وأعلنوا فيها دولة، وشاءت
الدول الكبرى أو بعضها أن تعترف بتلك الدولة المنشقة حتى صارت عضواً في
المنظمة الدولية، لما كان بمستطاع تلك الدولة الإسلامية أن تنصب في وجه أولئك
الخوارج أو المرتدين سيف قتل البغاة! ! ، ولو أن طائفة من اليهود أو النصارى أو
الملحدين احتلوا أرضاً إسلامية وأعلنوا فيها دولة لهم، ثم أرادت مشيئة الدول
الكبرى أو بعضها أن تعترف لهم بهذا الاغتصاب - كما حدث كثيراً - لما كان
بإمكان المسلمين - كلهم أو بعضهم - أن يعيدوا هذه الأرض المغتصبة التي
أصبحت بحكم (الشرعية الدولية) ! دولة مستقلة ذات سيادة، ولشعبها الحق في
تقرير المصير! ! ، وهكذا تتشكل وتتطور خريطة العالم الإسلامي على حسب ما
يتقرر في أروقة هيئة الأمم المتحدة.
وأيضاً.. لو صدر قرار، أو اتخذ من الأمم المتحدة ضد أي دولة إسلامية أو
عربية، فإن من واجب جميع الدول الباقية أن تلتزم به، مهما كان ظالماً ومظلماً،
لأنها ينبغي أن تتأدب بأدب العضوية في المنظمة الدولية.
هكذا، وهكذا ... قس على ذلك الكثير مما تسمعه أذنك، وتبصره عينك،
وتزكم برائحته أنفك، مما يدور في عالمنا العربي والإسلامي.
ثم تُدعى بعد ذلك شعوب المسلمين إلى (احترام) الشرعية الدولية للمنظمة
العالمية ... ليت الأمر يقتصر على ذلك، وتكتفي هيئة الأمم بالهيمنة السياسية على
العالم، ولكن الواضح أن الدور المرسوم للأمم المتحدة هو: أن تتحول تدريجيّاً من
مجرد منظمة دولية عامة، إلى تنظيم عالمي شامل؛ من خلال إقامة شبكة كثيفة من
التفاعلات الدولية والإقليمية العامة والمتخصصة، الحكومية وغير الحكومية، وقد
احتوى الميثاق بالفعل على النصوص التي تمكن الأمم المتحدة من أن تتحول إلى
نواة لمنظومة عالمية، تعكس الإطار المؤسسي للنظام الدولي كله، تكون لها أهلية
التوجيه والتخطيط - وربما الإلزام - فيما يختص بالنواحي الاقتصادية والتعليمية
والبيئية والاجتماعية، وكذلك الأسرية لدى شعوب العالم.
ويبدو أن أوضاع العالم قد أوشكت على التكيف لتصبح صالحة لأن تتعامل
معها الدول الكبرى كعجينة تقبل التشكيل وفق أهوائها ومصالحها، ويزداد الأمر
خطورة بتحول العالم إلى القطبية الواحدة التي تمثلها أمريكا ... التي يسيطر عليها
اليهود.
والمؤتمرات الدولية التي انعقدت وستنعقد تحت مظلة الأمم المتحدة تشهد على
ذلك التحول والتطور للمنظومة الدولية، بما يمهد لتمكينها في النهاية أن تكون
(حكومة عالمية) ، وما المؤتمرات مثل: مؤتمر (الأرض) في (ريو دي جانيرو) ،
ومؤتمر (السكان) بالقاهرة، ومؤتمر (المرأة) ببكين ... إلا علامات دالة على
التحول في دور المنظمة الدولية، فاليوم توصيات.. وغداً قرارات ... وبعد غد
تشريعات.
إن الأمم المتحدة قد حشرت أنفها - وبخاصة في المؤتمرين الأخيرين - في
أمور من أخص خصائص التشريع، فهل يراد أن يكون لهذا التشريع (شرعية) ،
وهل يصلح أن ينادى وقتها بضرورة احترام هذا التشريع الوضعي أو ذاك،
وتحريم الخروج عليه باعتباره (شرعية دولية) ؟ ! .
قد يكون لضغط الواقع تأثيره في (تطبيع) مشاعر الأمة، لكي ترضى بهذا
المنكر العريض على المستوى السياسي، فتقبل للدول الكافرة الكبرى بمنصب
(الولاية) على العالم، ولكن ما هو العذر في ترويضها كي تقبل مع الزمن الالتزام
بتشريعات الكفار وتصوراتهم المريضة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية
والأسرية؟ .
وحتى على المستوى السياسي: من يقول بمشروعية إخضاع العالم الإسلامي
كله لولاية فوقية غير إسلامية يطلق عليها (شرعية دولية) ! ويطلب لها التوقير
والاحترام؟ ! .
إن مسؤولية إحقاق الحق وإبطال الباطل تقتضي من أهل الدعوة ألا يمرروا
هذا الواقع الاضطراري على أنه أمر مشروع، ففرق كبير بين أن تضطر إلى أكل
لحم الخنزير، وأن تستحل أكله وتعتبره مباحاً، حتى ولو لم تذقه.
إننا في حاجة إلى استبانة خصائص ومقومات وآثار تلك (الشرعية) ! التي
يُراد منا أن نحترمها، ونحن في حاجة كذلك إلى قراءة جديدة لنصوص الوحي،
فيما يتعلق بقضية التحاكم إلى أي شرعية غير الشرعية الإسلامية، ولو كانت هذه
الشرعية هي (الشرعية الدولية) !
__________
(*) انظر: رسالة مفتي الديار السعودية العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم (رحمه الله) حول (تحكيم القوانين الوضعية) نشر دار المسلم بالرياض، وانظر أيضاً رسالة (تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن) ، للشيخ أبي هبة الله الأزهري.(102/54)
المسلمون والعالم
السودان المغضوب عليه.. لماذا؟
بقلم: د. يوسف الصغير
في وقت لم تجف فيه بعد دماء الضحايا الأبرياء في (قانا) ووقوف الولايات
المتحدة الأمريكية في وجه أي قرار يدين إسرائيل بتعمد استهداف اللاجئين لقاعدة
الأمم المتحدة وقتل المدنيين فيها، نجد أن الولايات المتحدة تستخدم نفوذها وسطوتها
في اتجاه معاكس مع دولة مسلمة عربية هي (السودان) ؛ حيث تضغط، ليس فقط
من أجل توجيه لوم أو عتاب، ولا من أجل مناشدة لتطبيق قرارات مجلس الأمن،
بل في سبيل فرض عقوبات بموجب (الفصل السابع) ، وإذا رجعنا إلى القضية نجد
أنها أقرب إلى التلفيق وبصورة تعوزها البراعة، ولكن بالرجوع إلى تعامل الأمم
المتحدة ومن يحركها نجد أن هناك جهوداً وجلداً في أمرين مهمين وهما: التغاضي
والتعامي عن أدلة الإدانة لغير المسلمين ومحاولة تمييعها مثل أدلة المجازر الوحشية
للصرب ضد المسلمين في البوسنة حتى بلغت بهم الوقاحة حد التركيز في محاكمة
مجرمي الحرب على اتهام أحد المسلمين بارتكاب جرائم حرب؛ مما يوحي بتساوي
الجانبين في ناحية التجاوزات والممارسات غير الإنسانية، أما إسرائيل فهي دولة
اليهود، ومن يجرؤ في هذا العصر على نقدهم أو حتى مناقشة القضايا التاريخية
التي تمسهم؟ ! ، وإذا كانت رواية اليهود عما يسمى بأفران الغاز أو معسكرات
الإبادة (التي يزعمون فيها قتل ستة ملايين منهم) لا يجوز نقدها، ومن تعرض لهذه
الأسطورة، تعرض للإذلال والمحاربة، ويقدم للمحاكمة، بل ومن المضحكات المبكيات: أن أحد رجال الأعمال الإيطاليين قدم للمحاكمة للموضوع نفسه واتهم بـ (اللاسامية) ؛ لأنه أظهر فرحه بمقتل رابين، وحُكِمَ عليه بقراءة مجموعة من الكتب عن اليهود؛ لتصحيح مفاهيمه، على أن يقوم بعرضها أمام المحكمة، وقد فرح جدّاً لهذا الحكم، وتعهد بتقديم عرض مطول لهذه الكتب أمام المحكمة.
نعم إن التعامل مع دولة (يهود) ليس فقط في التغاضي عن جرائمها، بل وتوفير الغطاء والحماية لها، فإن مجلس الأمن لا يجرؤ على مطالبتها بتطبيق قرار مجلس الأمن الذي ينص على انسحابها من جنوب لبنان، ولا أن يشجب جريمة بشعة لم تفضحها الأقمار الصناعية، ولا مخابرات الدول الكبرى، بل كاميرات الهواة من الصحافيين وجنود الأمم المتحدة.
أما الأمر الثاني: فهو التغاضي والتعامي أيضاً عن أدلة البراءة من الاتهامات
للمسلمين، وإصرار بعض الدول الكبرى على تجريم المتهم، ومن أوضح الأمثلة
على ذلك: إدانة مجلس الأمن للسودان، بل وفرض العقوبات عليه بموجب (الفصل
السابع) الذي يعطي الأمم المتحدة (الولايات المتحدة) الحق في استعمال القوة من
أجل تنفيذ القرار.
وإذا كان القرار يقتصر على عقوبات دبلوماسية حالياً، فإن القرار ينص على
مراجعة الملف كل شهرين، ويُنْظَر فيما إذا كان ينبغي اتخاذ تدابير إضافية ضد
السودان لضمان امتثاله للمطالب الواردة في القرار، ويطالب القرار بأن يمتثل
السودان لمطلبين أساسين، هما:
أولاً: اتخاذ إجراءات فورية لكي يسلم إلى إثيوبيا الأشخاص الثلاثة المشتبه
في اختبائهم في السودان لمحاكمتهم، وهم مطلوبون فيما يتعلق بمحاولة اغتيال
رئيس جمهورية مصر العربية في أديس أبابا في 26 حزيران (يونيو) 1995م.
ثانياً: دعوى الكف عن القيام بأنشطة مساعدة ودعم وتيسير الأعمال ... الإرهابية، وعن توفير الملجأ والملاذ للعناصر الإرهابية، إلى جانب التصرف من الآن فصاعداً في علاقتها مع جاراتها ومع الآخرين بما يتماشى تماماً مع ميثاق الأمم المتحدة وميثاق منظمة الوحدة الإفريقية.
ما المطلوب من السودان بالضبط؟
وعند التمعن في القرار نجد أنه: إذا كانت الفقرة الأولى محددة، فإن الثانية
عامة بحيث تتصرف أمريكا مع السودان بصورة غريبة.
فيا ترى ما هي المطالب الحقيقية التي يجب على السودان تلبيتها حتى يخرج
من دائرة الاستهداف؟ .. هذا ما سأحاول الإجابة عليه:
في أول يناير 1956م أعلن استقلال السودان، وقامت أول حكومة سودانية
برئاسة الأزهري، وكان جو التنافس بين الأحزاب شديداً؛ نتيجة التنافس بين
طائفتي الأنصار (المهدية) والختمية (المرغنية) ، وظلت الأمور في اضطراب إلى
أن وقع انقلاب الفريق (إبراهيم عبود) في 17 نوفمبر 1958م، ليحل البرلمان،
ويلغي الأحزاب.. واستمر في الحكم حتى سقط بسبب ثورة شعبية، وعادت الحياة
الحزبية ولكن في ظل فوضى واضطرابات وانقسامات حتى وقع انقلاب (النميري)
في 25 مايو 1968م الذي استمر في الحكم حتى أُطيح به في ثورة شعبية، وجاءت
حكومة انتقالية ثم حكومة أحزاب في فترة تردت فيها الأوضاع، حتى قام انقلاب
ثورة الإنقاذ في يونيو 1989م.
ثورة الإنقاذ:
في أواخر حكم الأحزاب كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في
غاية السوء؛ بسبب التنافس على السلطة بين رئيس مجلس السيادة (الاتحادي)
ورئيس الوزراء (الصادق المهدي) ، ولم يكن هناك مجال للاتفاق على سياسات،
بل دخلت الدولة في دوامة من التخبط، وكان الجميع يتوقع انقلاباً عسكريًّا؛ من
أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث تفلت الأمن حتى في العاصمة التي بدأ يهددها
التمرد النصراني في الجنوب؛ مما اضطر رئيس الجمهورية الاتحادي إلى توقيع
اتفاقية سلام مهينة مع (قرنق) ، ويبدو أن هناك أكثر من مجموعة في الجيش كانت
تفكر في التحرك؛ ولذلك: لما قامت الحركة الانقلابية كانت توجهاتها غامضة؛
فالأسماء غير مشهورة، وبينهم ضباط من الجنوب، ولذلك سارعت بعض الدول
المحيطة بالترحيب بالانقلاب بعد وقوعه.
وكان أول تصرف للانقلابيين اعتقال زعماء الأحزاب، وكان (الترابي) من
بينهم، وبقدر ما كان الانقلاب حريصاً على حصوله على الدعم من أي جهة كانت
من أجل إنقاذ البلد، كان أيضاً حريصاً على عدم إبراز حقيقة التوجه الإسلامي له،
ولكن مع الوقت برزت الصفة الإسلامية له من ناحية التزام الرئيس ونائبه بالشعائر
الظاهرة، أو من ناحية الزهد في المظاهر، ومع الوقت تبين أن أكثر الفئات دعماً
للنظام هي الجبهة القومية الإسلامية، على الرغم من دعوة النظام للجميع للتعاون
معه، ومع خروج زعماء الأحزاب ظهر أن للترابي وجاهة عند النظام، ومع
الوقت برزت قضية: هل البشير من الجبهة، وبالتالي فالانقلاب انقلاب الجبهة،
أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تحالفاً قائماً على التوجهات والمصالح المشتركة، وهذا
هو الذي يغلبه كثير من المراقبين.
مع مرور الوقت برزت التوجهات والشعارات الإسلامية للنظام، ومعها بدأت
المضايقات من دول الجوار والغرب.
مظاهر الضغط على السودان:
لقد كانت المواجهة مع السودان على أكثر من جبهة:
أولاً: مقاطعة اقتصادية: تمثلت في مضايقات البنك الدولي، وتخفيض حجم
التبادل الاقتصادي مع دول الجوار، وانقطاع إمدادات النفط بعد المبالغة في تصوير
موقف السودان في حرب الخليج الذي يشابه موقف تونس، ولا يقاس بموقف
الأردن مثلاً!
ثانياً: دعم المعارضة السودانية الشمالية واحتضانها على الرغم من عدم
فاعليتها واختلافها فيما بين رموزها.
ثالثاً: تبني التمرد في الجنوب حتى وصل الأمر إلى أن يقوم مسئولون
رسميون غربيون - بالإضافة إلى شخصيات دينية غربية (أسقف كانتبري) -
بزيارات إلى الجنوب عن طريق الدول المجاورة، متجاوزين في ذلك سلطة
الحكومة السودانية، وقد أدى ذلك إلى طلب سحب السفير البريطاني من الخرطوم
كما هو معروف.
رابعاً: التركيز على منع محاولة النظام أسلمة الجنوب، وقد عقدت مؤتمرات
في أمريكا لقادة التمرد، وقام بابا الفاتيكان بزيارة الخرطوم، بالإضافة إلى زيارة
أسقف (كانتبري) إلى الجنوب.
خامساً: الضغط على دول الجوار الإفريقية لدعم التمرد في الجنوب بصورة
مباشرة مع ما يمثل هذا من خطورة على الأنظمة، حيث إن كل بلد يوجد فيه
معارضة يمكن احتضانها وهذه اللعبة مستمرة في المنطقة.
ومع ذلك فقد انقلبت مواقف إريتريا والحبشة رأساً على عقب نتيجة الضغط
الغربي؛ فمن علاقات حسنة مع السودان انقلب الأمر إلى تدخل سافر، تمثل في
تسليم مبنى السفارة السودانية في أسمرة إلى المعارضة، وفتح معسكرات لتدريب
المعارضة مما يعتبر (حسب المعايير الدولية) دعماً للإرهاب وتدخلاً في الشؤون
الداخلية للدول، بل إن (أسياسي أفورقي) صرح: أن إريتريا تهدف إلى إسقاط
نظام الخرطوم، ولا يخفى أن إريتريا تمثل مخلب قط لإسرائيل وأمريكا في المنطقة، ويراد لها أن تلعب دوراً جديداً؛ من أجل استكمال حلقة الحصار حول العالم
العربي.
أما أوغندا فقد قامت قواتها بهجوم مشترك مع قوات قرنق انطلاقاً من الحدود
الأوغندية.
سادساً: كثر الحديث أثناء التدخل في الصومال عن إمكانية إقامة منطقة حظر
جوي في جنوب السودان من أجل دعم التمرد، وقد سقط هذا الخيار بانسحاب
القوات الأمريكية من الصومال.
سابعاً: محاولة جمع أطراف المعارضة، وقد عقد مؤتمر (أسمرة) بحضور
مندوبين عن أمريكا وإسرائيل، وتم الجمع بين الأحزاب التي كانت تحكم السودان،
وتشكل المعارضة حالياً مع قرنق، وقد واجه التجمع مشكلة عويصة، وهي: أن
المعارضة الشمالية سياسية، بينما الذراع العسكرية هي قوات قرنق، وهذا وضع
غير مقبول شعبيًّا، وبالتالي: ظهرت أخيراً بوادر محاولة إنشاء معارضة عسكرية
شمالية تقوم كل شهر تقريباً بعملية صغيرة على الحدود مع إريتريا أو الحبشة، ولا
تعدو هذه العمليات أن تكون أكثر من محاولة إثبات وجود معارضة عسكرية شمالية
للنظام.
ثامناً: إثارة موضوع مثلث حلايب المتنازع عليه مع مصر، وقد حاول كلا
النظامين الاستفادة من النزاع في رفع شعبيته، مع أن الثمن هو زيادة الهوة بين
الشعبين في مصر والسودان، ويبدو أن المستفيد الوحيد من هذه المشكلة هم أهل
(حلايب) ، فهم يحظون الآن باهتمام مصطنع وغير عادي.
وبالطبع لم تنجح كل هذه الأساليب في إسقاط النظام؛ مما اضطر الغرب إلى
استعمال آخر سهم في جعبته، وهو التمهيد لعدوان مباشر، وكانت محاولة اغتيال
الرئيس المصري الفرصة السانحة في المحاولة عندما عقد مؤتمراً صحفيًّا للحديث
عن المحاولة وإثبات سلامته، وقد بادره أحد الصحفيين بالسؤال عن دور السودان،
وبالطبع فالرئيس في تلك اللحظة لا يعلم عن المحاولة إلا حقيقة تعرضه للهجوم فقط، وقد أجاب الرئيس إجابة عامة، فالعلاقة مع السودان متوترة بسبب حلايب،
وتوجه النظام بالتالي لا يجزم بتبرئته، وهو كذلك لا يجزم بضلوعه، ولكن
أساطين النفاق في الأمن والصحافة تلقفوا هذه التصريحات، فبدأت الصحف تنسج
الأكاذيب الواضحة عن دور السودان، وأصبح دور الأمن إثبات ضلوع السودان في
العملية، فبدأ الإعلان عن عمليات قبض على متسللين من السوادن، بل تمت
محاكمة مجموعة باسم مجموعة العائدين من السودان، وكان موقف إثيوبيا سلبيًّا؛
فقد انتقدت أسلوب البعثة الأمنية المصرية، ولكن لأمر ما انقلب موقف إثيوبيا
وتقدمت مشتركة مع مصر بشكوى إلى مجلس الأمن لمطالبة السودان تسليم ثلاثة
متهمين مصريين بدعوى دخولهم السودان، وقد قبل مجلس الأمن الشكوى مع عدم
تقديم إثيوبيا إثباتات على دعواها بمبرر عدم الكشف عن مصدر المعلومات،
ويسارع مجلس الأمن، ليس فقط بقبول شكوى بدون سند، بل إلى إقرار أمور
ليست ضمن الشكوى، ومنها طلب احترام حقوق الإنسان!
والغريب أن أصل القرار مبني على طلب تسليم أشخاص محددين بدعوى
دخولهم السودان، وهو طلب تعجيزي حيث إن دخولهم إثيوبيا ثم خروجهم منها
يشابه إمكانية دخول السودان والخروج منه، بل الأدهى والأمر: أن أحد المطلوبين
تبين أنه في افغانستان، وصرح ببراءة السودان، وأنه دخل إثيوبيا وخرج منها
بجواز عربي، وهنا سؤال يبرز وهو: هل أصبح السودان بديلاً عن (الإنتربول
الدولي) ، ولماذا لم تطالب باكستان بهذا المطلب، ولكن الواضح أن سقوط الطلب
الأول لم يسقط القرار الدولي، بل ولم يغير فيه حرف حيث إن القرار النهائي هو:
تسليم الأشخاص الذين لا يوجدون في السودان، أو أن يتعرض السودان لعقوبات
قابلة أن تصل إلى الحل العسكري، والمؤكد أن القرار ليس حرصاً على حياة
الرئيس المصري، ولا على حقوق الإنسان، بل هو موقف ضد السودان بسبب
توجهاته الإسلامية وحرصه على استقلالية مواقفه وقرارته.
رسالة إلى ثورة الإنقاذ:
لقد قامت الثورة في البداية بتأكيد مبدأ الاستقلال والاعتماد على الذات، وهذا
أمر مطلوب وعزيز، وله دور في بعض ما يتعرض له السوادن من أجل إعادته
للدوران في الفلك إياه، ولكن هذا لا يمنع من توجيه كلمة، لما أرى أنه أخطاء
ارتكبت بقصد أو بدون قصد، ومنها:
1- لم تنجح الثورة في الحصول على التأييد الكافي من الإسلاميين، وبخاصة
بعض فصائل أنصار السنة والإخوان، ولا أدري هل هذا بسبب الحساسيات القائمة
مع الجبهة التي سبقت إلى مراكز التوجيه في النظام أو بسبب موقف تأصيلي مع
النظام.
2- ضعف السياسة الاقتصادية، مما أدى إلى فتور الحماسة في الدخول في
مشاريع اقتصادية، بل والإحجام عن ذلك أحياناً، مع تركيز الدولة - أخيراً - على
محاولة جباية أكبر قدر من المال من المغتربين لسد الخلل في الميزانية، وهذا
سيكون له آثار سيئة في المستقبل.
3- أخطاء استراتيجية وشرعية من ناحية سياسة دعم المعارضة في الدول
المجاورة؛ حيث كان الدعم الأقوى - مع التضحية بقوى إسلامية - لمثل الجبهة
الشعبية الإريترية مع مضايقة حركة الجهاد الإريتري، وقد تبينت خطورة هذه
السياسة مع تشتت الجهاد في إريتريا وظهور الجبهة بوجهها الجديد، والذي ينبغي
هو: عدم تكرار الخطأ نفسه في أوغندا.
4- أن الحق والعدل في هذا الزمان هو آخر ما تقوم عليه العلاقات بين الدول، ولذلك فلا نتوقع موقف للدول الصديقة بدافع الحق فقط، ولذلك فإن الصين ...
تصرح بأن القرار جائر وغير منطقي، ولكن لم تستخدم حق النقض؛ لأن هناك
مضايقات مع أمريكا في تايوان، وفي مجال الصناعة، أما روسيا فلا تعدو - في
الوقت الحاضر - أن تكون تابعاً ذليلاً لأمريكا، وقد تتبدل الأمور بعد يلتسن فمن
الضروري عدم المبالغة في المراهنة على مواقف غيرنا، مع وضع كافة
الاحتمالات في الحسبان.
5- محاولة تحسين العلاقة مع مصر وتجنب الخضوع لبعض الاستفزازات
واستغلال الرأي العام المعارض لتقسيم السودان، حيث إن هدف أمريكا النهائي هو
تقسيم السودان.
وفي الختام: نرجو من الله (سبحانه وتعالى) أن يقي المسلمين في السودان
وغيره أعداءهم وشر الشيطان وأنفسهم، وأن تكون الأحداث في السودان عاملاً في
تعميق الثقة وإصلاح ذات البين بين البلاد الإسلامية والعودة إلى تحكيم شريعة الله
في كل خلاف بدلاً من الرجوع لأعدائه الذين لا يزيدون الخلاف إلا اتساعاً.(102/60)
المسلمون والعالم
الأكراد قبل فوات الأوان..
وقفة مع مأساة الشعب الكردي المسلم
بقلم: جابان الكردي
الأكراد شعب عريق له تاريخ موغل في القدم، فهو من أقدم الشعوب التي
وجدت في (الشرق الأوسط) ، وقد أسهم بدور فاعل ومهم مع شعوب المنطقة في
بناء الحضارة البشرية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وقد دخل الإسلام بلادهم
سنة 18هـ، على يد الصحابي الجليل عياض بن غنم (رضي الله عنه) ، ويذكر
التاريخ أنه الشعب الوحيد الذي دخل في الإسلام طواعية.
ولقد وهب هذا الشعب نفسه لخدمة الدين وإعلاء كلمة الله وقد أنجب هذا
الشعب العديد من العظماء أمثال: صلاح الدين الأيوبي، وبنو الأثير، وابن خلكان، وابن تيمية، وابن حجر، وبديع الزمان النورسي ... وغيرهم، ولن يعجز الكرد
أن يأتوا بغيرهم متى ما توفرت لهم الظروف المناسبة.
اشترك الأكراد في كافة الفتوحات الإسلامية وكانوا دوماً في المقدمة.
بلادهم تسمى كردستان (Kurdstan) ? وتعني (وطن الكرد) ، ويقدر عددهم
بـ (35) مليون نسمة.
أغلب الأكراد سنيون شافعيون، وهناك نسبة قليلة من النصارى، والأكراد
يميلون إلى التدين ويتمسكون بالشريعة الإسلامية، وللشعب الكردي لغته التي تنتمي
إلى فصيلة اللغات الهندوأوربية، وهي اللغة الأم لهذه الفصيلة.
لمحة عن البنية الأخلاقية لهذا الشعب:
يمتاز هذا الشعب بحبه للإسلام وتفانيه في الدفاع عنه، ويتسم أيضاً بالكرم،
يقول سعد الدين أستاذ السلطان: مراد خان في تاريخه واصفاً الأكراد: (إن كل
واحد منهم يفضل الحياة الحرة المستقلة في قمم الجبال وأعماق الوهاد، لا تجمعهم
سوى رابطة العقيدة الإسلامية) ، وهم يثورون لأتفه الأسباب ويتصفون بالشجاعة
والإقدام، فلقد علمت الحياة الكردي أن العالم ملك الشّجَاع: (أشد من الأسود إذا
غضبوا وأخف من البروق إذا وثبوا) ، ويطلق على الأكراد (قريش العجم) تعظيماً
لهم، وأطلق المؤلفون الغربيون على بلادهم (بلاد الشجعان) وأطلق عليهم أحد
الكتاب المسلمين (يتامى المسلمين) .
بداية المشكلة الكردية:
بدأت مأساة الكرد عشية التقسيم الاستعماري للشرق، المعروف باتفاقية
(سايكس - بيكو) ، حيث لم ينس العالم الصليبي أن (صلاح الدين) الذي أذاق ملوك
أوروبا مرارة الهزيمة، وحرر من براثنهم المسجد الأقصى، وطردهم من ديار
المسلمين بعد أن دخلوها: كان من الأكراد (رأس حربة الإسلام) ، نعم لم ينس
الصليبيون - إبان الحرب الكونية الأولى - الأكراد أبداً، عندما رفس (جورو)
الفرنسي قبر صلاح الدين بقدمه وهو يقول: (ها قد عدنا يا صلاح الدين) .
لقد أخذوا بثأرهم تماماً، فقد قسموا بلاد الكرد إلى خمسة أقسام ملحقة بكل من: إيران، والعراق، وتركيا، وروسيا التي هي بدورها قسمتهم بين أرمينيا
المسيحية، وأذربيجان المسلمة، ولم يكتفوا بذلك الحد من تلك المؤامرة الدنيئة، بل
أوكلوهم إلى حكام محليين هدفهم محاربة الإسلام وأهله، إما علناً كأتاتورك، وإما
سرًّا كدعاة القومية العربية.
ولقد فعل هؤلاء الحكام بالأكراد ما يندى له جبين البشرية؛ من أعمال مخزية
تنفطر لها القلوب، فأذاقوهم سوء العذاب، ففي مجزرة واحدة فقط قتلت قوات
طاغية العراق (صدام حسين) (5000) إنسان بالغازات السامة، وتجاوز عدد
الجرحى (25) ألفاً: إنها مأساة (حلبجة) الحزينة، التي سويت بالأرض، وأبيد
المواطنون فيها عن بكرة أبيهم، ومن استطاع الهرب لم ينج من تشوه وجهه وجلده، إن ما حصل أصعب من أن يوصف ويدركه الخيال، بل ما يفوق كل وصف
وتعبير.
وقد دمر النظام الحاكم في بغداد ما يقارب (6500) قرية تدميراً كاملاً، وقد
دفن (147) شخصاً كرديًّا وهم أحياء، وقتل (531) جريحاً ومريضاً كرديًّا داخل
مستشفى السليمانية، وقد اعتقل (300) طفل في محافظة السليمانية وحدها،
وعذبوا، وقيل: إن بعضهم قلعت عيونهم وتعرضوا لاعتداءات وحشية بالصدمات
الكهربائية، وبقي مصيرهم مجهولاً.
هناك الكثير جدًا مما يعجز القلم عن كتابته، وقد تهون عنده جرائم الصهاينة
والصرب! ! !
وفي تركيا: المزيد من القتل وإهدار الدماء البريئة، فلم تدخر الحكومة
الطورانية الفاشية العلمانية التركية جهداً في سبيل إبادة هذا الشعب المسلم وإسكات
صوت الحق فيه: انتهكت أبسط حقوق الإنسان على الوجود، أنكرت عليهم مجرد
الاسم فضلاً عن اللغة، أسمتهم أتراك الجبال، قتلت منهم آلاف المدنيين، وأحرقت
(3000) ، قرية حيث دمرت البنية الاقتصادية والثقافية للشعب الكردي، حاولت
بكل الأساليب صهر الأكراد ودمجهم في المجتمع التركي، وما زال مسلسل الأحداث
لإذلال الشعب الكردي مستمرًّا، فحسبنا الله ونعم والوكيل.
إنها مأساة تفوق مأساة أي شعب على هذه الأرض، إنها من أكبر جراحات
العالم الإسلامي وأشدها استنزافاً حتى الآن، وأشدها حساسية وتجاهلاً؛ فلقد عوملت
هذه القضية العادلة بسياسة التجاهل والقمع فوق ذلك: بالمعالجة المشوهة على
مستوى الإعلام السلطوي الذي ينطلق من واقع التجزئة الاستعمارية، وعلى مستوى
الحوار الأجوف غير المجدي من قِبَل الحكام العلمانيين.
إن اللوم الأكبر - على هذا التجاهل - يقع على عاتق المسلمين الذين وقفوا
إزاء هذه المأساة وتلك المعاناة بصمت مريب أشبه بصمت أهل القبور، ولا معنى
لذلك سوى الخنوع والاستسلام للسياسات البعيدة عن شرع الله.
بل يعطي الإسلاميون اهتماماً كبيراً لمشكلات المسلمين في كل من الفلبين،
وبورما، ويتناسون إخوانهم الأكراد الأقرب موطناً من غيرهم.
إنه لم يعد الصمت ممكناً يا أخوة الإسلام، فالسكوت عن قضية الأكراد سكوت
عن الحق والعدل الذي هو جوهر الإسلام [وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى]
[الأنعام: 152] وإني لمستيقن كل اليقين، ولا يخالجني أدنى شك: أنه لولا
الأحداث الأخيرة وما أحدثته من منعطفات في سياسة بعض دول المنطقة، لما التُفِتَ
إلى الأكراد أبداً، ولظلوا يتعاملون مع القضية بتجاهل مريب وصمت عجيب
غريب، ومع ذلك: يبقى المسلمون مقصرين مهملين للقضية الكردية حتى الآن؛
ففي حين آوت أوروبا النصرانية الأكراد، وقدمت لهم المساعدات الإنسانية
والإعانات والمنح الدراسية، ظل المسلمون متمسكين بموقف المتفرج، اللهم إلا
بعض المساعدات القليلة التي تكاد لا تذكر.
ولذلك: فإن الشعب الكردي المسلم في هذ الأوقات بأمس الحاجة إلى دعم
إخوانة المسلمين - من منطلق الأخوة الإسلامية - بخاصة العاملين باسم الإسلام
للتدخل السريع في قضيتهم بشكل عملي أكبر وأكثر جدية، وبخطوات سريعة، قبل
أن يفوت الأوان ونضرب أكف الندم حيث لا ينفع الندم.
يجب أن نتحمل مسئوليتنا بجدية، ونقف بحزم أمام مسلسل الخزي والعار
الذي يعاني منه الشعب الكردي المسلم.
حل المشكلة الكردية:
القضية الكردية من أعقد القضايا في الشرق الأوسط، وهي قضية شائكة جدًّا
وحساسة، ولكن ما لا بد منه هو معالجتها بكل جدية ووضوح ... ومحاولات دفنها
وتجاهلها يزيد الأمر تعقيداً وتفاقماً.
ولقد طرح بعض قادة الأكراد الحكم الذاتي باعتباره حلاًّ مؤقتاً لمأساة هذا
الشعب، وكأنهم ليس لهم الحق في حياة حرة كريمة مستقلة عن غيرهم.
وأجزم بأن أي أمة عزيزة الجانب ترفض ما يسمى بـ (الحكم الذاتي) ، الذي
هو في حقيقته عبودية وذل، ولكن بأسلوب حضاري ... إنه استعمار جديد تنعدم
فيه المساواة بين أبناء الحكم الذاتي مع أبناء الدولة المسيطرة.
والحكم الذاتي غير كفيل بإنهاء هذه المعاناة، والحل الآخر هو استقلال
كردستان، وهو أصعب من أن ينال؛ فكردستان تحتوي على 70% من بترول
المنطقة، كما أن منابع الأنهار من أرضها، ومن يسيطر على نبع النهر يسيطر
على مصبه، ناهيك عما فيها من خيرات زراعية ومعادن نفيسة.
وتنازل الدول عن كردستان يعني نهاية أكثر الدول المحتلة لكردستان، ولا
أتوقع أبداً أن تجعل تلك الدول نفسها تحت رحمة الأكراد.
ولهذه الأسباب تصبح استقلالية كردستان أمراً صعباً جدًّا، وغير وارد على
المدى القريب، ولو بحث هذا الشعب عن الحل لقضيته والمنفذ لخروجه من هذه
المأساة، فسيرى أن كل حل لقضيته بعيداً عن الإسلام لا يجدي، إذن: الحل يكمن
في عودة جذرية للإسلام، طليعتها ورأس رمحها وأساسها هم أبناء كردستان،
بالتعاون مع العلماء والدعاة ... ومن هنا: فبإمكاننا القول: بأن المستقبل - بإذن
الله - لهذا الشعب لن يكون إلا بذلك الأسلوب، لا سيما وقد جرب الأكراد
الاتجاهات العلمانية في الساحة، التي لم تفد قضية الأكراد شيئاً، بل عرضتها
للدمار والخلاف الحزبي البغيض.
حل القضية حلاًّ نهائيًا مرتبط بمفاجأة عظيمة: ألا وهي خلافة إسلامية عالمية
يشارك فيها أحفاد صلاح الدين وابن تيمية، ولكن ذلك - فيما يبدو - بعيد على
الأقل في المستقبل المنظور إلا أن يشاء الله؛ لتشرذم الأمة وغلبة القوميات عليها،
وتغلب الأحزاب العلمانية على مقدّراتها، ولكن لو تبنى الأكراد فكرة أسلمة القضية
الكردية، فإنهم سيصلون إلى حريتهم وخلاصهم بإذن الله.
وهنا ندرك بأن الحل لمعاناة الأكراد، لا يمكن أن يكون في بلاد الصليب
وعقد المؤتمرات واللجوء إليهم واستدرار عطفهم والبحث في الأمم المتحدة عن حل، الحل يكمن في العودة إلى الإسلام الذي ما تمسك قوم به إلا أعزهم الله ونصرهم،
وما تركه قوم إلا أذلهم الله وأخزاهم.
أهمية منطقة كردستان مستقبلاً:
مما لا جدال فيه أن المنطقة الكردية لها أهمية قصوى في المرحلة المستقبلية
وستكون هي محور الأحداث في الفترات القادمة، وسيكون لها النصيب الأوفر في
دهاليز السياسة وأروقة الدول العظمى؛ ويَرجع ذلك إلى أهمية المنطقة.
وقد كان المؤرخون الغربيون الذي درسوا تاريخ هذا الشعب ولمسوا سماته قد
أشاروا إلى أن المنطقة ستحمل الكثير من التيارات والمفاجآت المستقبلية؛ ولأجل
هذا، فقد أسرع الصليبيون - وبخطوات عملية كعادتهم - إلى استغلال الوضع
لصالحهم، فيما بات المسلمون في سبات عميق، غير مدركين خطورة الأمر إلا في
آخر المطاف؛ فليس الوجود الأجنبي في تلك المنطقة إلا نتيجة خطط مدروسة
مدبرة مسبقاً وبأسلوب خبيث ماكر دنيء تحت الزعم خداعاً بحماية الشعب الكردي
المسلم من خطر الطاغية صدام، مع العلم أنهم هم الذين نفخوا فيه، وسكتوا عن
ظلمه للأكراد، وهكذا استطاعوا الدخول بين هذا الشعب بصورة المنقذ، وما هم إلا
غزاة طامعون.
فلقد غزوا المنطقة عن طريق: بعثات التنصير، والمستشفيات والأطباء،
وتوزيع الأغذية، وتوفير المنح الدراسية للشباب لإعداده من جديد على منهجهم؛
لكي يقوم بدوره المستقبلي الذي سيسندونه إليهم.
وهكذا.. لم يتركوا وسيلة إلا واستخدموها لإبعاد هذا الشعب المسلم عن دينه
وتعريته عن أخلاقه، نعم.. لقد أدركوا جانب الشجاعة في الشخصية الكردية
والوضع الراهن له؛ فأرادوا استغلال هذا الوضع لصالحهم وهذه الشجاعة في خدمة
مبادئهم وأهدافهم.
لقد بينوا للأكراد بأن أحفاد الصليبيين الذين قتلهم صلاح الدين وشردهم
وطردهم وأذاقهم مرارة الهزيمة جاؤوا ليمدوا لهم يد العون، ولم يفعل ذلك العرب
والترك والفرس، الذين دافع عنهم صلاح الدين، وهم الآن يقتلونهم ويظلمونهم ...
بهذه الأفكار الخبيثة دخلت أمريكا بين الأكراد، حيث عجزت إسرائيل عن الدخول
واستمالة الشعب الكردي معها ضد العرب كجبهة خلفية (نسأل الله أن يخيب
مساعيهم) .
ومن هنا: تظهر حاجة الأكراد الماسة إلى جهود كل إخوانهم المسلمين
لاجتياز محنتهم بسلام. وواجب الإسلاميين المحتّم عليهم مع القضية: التعامل معها
بكل وضوح وصراحة وبدون انسياق مع الإثارة التي ستجلبها لدول المنطقة
وحكوماتها؛ لأن الحق لا يعرف الهوادة ولا حياء فيه، فهو واضح وضوح الشمس
في رابعة النهار.
والجدير بالاهتمام والذكر: أن الأكراد - الآن - مهيؤون لامتطاء جواد النعرة
القومية مما يحقق مآرب الغرب، وذلك رد فعل لما ذاقوه من القوميين العرب،
والطورانيين الأتراك، والمتعصبين الفرس على حد سواء: من ويلات ومآس،
وذلك ينتشر لدى كثير من شبابهم الذين ليس لديهم خلفية شرعية صحيحة، ممن
تربوا على أدبيات الحزبين الكرديين العلمانيين، حزب (الطالباني) وحزب (مسعود
البرزاني) .
فيجب على المسلمين إدراك الوضع مع العمل العاجل لدعم ومساندة إخوانهم
الأكراد، لئلا يخسروا شعباً كان رأس حربة الإسلام في جل فتوحاته - إن لم يكن
كلها - نتيجة تقاعسهم عن نصرته، أو سكوتهم عن الحق.
والله من وراء القصد.(102/70)
نص شعري
أيكون الصمت أبلغ؟ !
شعر: علي بن محمد سفر
لا صهيل
فالجياد الورقية
لم تكن تملك في الأصل صهيلا
ومداد البوق شحّ
فبراميل الهواء
لم تجد للبوق حيلة
لم تعد تملك للنفخ وسيلة
لا صهيل
فالجياد الورقية
أبد الدهر ستبقى ورقية
ولهذا يصبح التمزيق سهلا
والجياد الخشبية
أشبعتها أرجل الصبية ركلاً
ألبستها في غمار اللهو وحلاً
فإذا ما أنشأت جيش غبار
وبدا ضيق الكبار
أصبحت للنار زاد!
وغدت منها رماد!
فبكى الطفل فأهدوه من (الأثل) جيادا
لا صهيل ... فالجياد العربية
سكرت حتى الثمالة
فامتطاها في زمان السكر أبناء ثعاله
وثعاله ...
رسمت آثارها في أظهر الخيل نعاله
وتمادى في احتىاله
حينما ألزمها حب القرود
وسقاها نخبها حتى الثمالة
لا صهيل
فالأصيلة لم تزل خلف التخوم
لم يزل يهصرها قيد الهموم
لم تزل تخشى
إذا ضجت أهازيج القدوم
أن أرتال الجياد
لم تكن إلا جياداً ورقية
لا صليل
فسيوف المسرحية
فقدت ألوانها من عرق المستبسلين
فضحتها قهقهات الخاسرين لا.. الأنين
لا صليل
فالحروب العنتريه لم تعد تطلب سيفاً
لم تعد تثمر حتفا
لم تعد تحتاج إلاّ
ثلة تحمل في ساح الوغى للحرب دُفّا
لا صليل
شُنق السيف بخيط العنكبوت
حينما أسلمه الغمد الأمين
لنسيج العنكبوت
لا صهيل لا صليل
فمتى نسمع صوت(102/78)
قراءة في كتاب
الصحافة النسائية في الوطن العربي
تأليف: د. إسماعيل إبراهيم
عرض: د. مالك الأحمد
المرأة صانعة حضارة، دورها على مر العصور يسجله التاريخ بحروف من
نور، فهي أم الأنبياء والرسل، ومربية الأجيال، تدين لها البشرية بالفضل الكبير، عرف لها الإسلام هذه المكانة.. فكرمها القرآن الكريم، وأنزلها منزلة رفيعة ...
كما شهدت عصور الإسلام الزاهرة نساء خالدات رائدات في سائر ميادين العلم
والمعرفة) .
هكذا بدأ الكاتب مقدمة كتابه الذي صدرت منه الطبعة الأولى عن الدار الدولية
للنشر والتوزيع (مصر) عام (1416هـ) / (1996م) ، ويعتبر الكتاب أول دراسة
شاملة عن الصحافة النسائية في الوطن العربي، حاصرةً للمجلات النسائية منذ بدء
ظهورها عام 1892م حتى نهاية 1994م.
وقد قسم المؤلف كتابه إلى بابين رئيسين: الأول بعنوان: مجلات المرأة
والأسرة في الوطن العربي - نشأتها وتطورها، والباب الثاني: فن التحرير
الصحفي في مجلات المرأة والأسرة العربية، ويتضح من هذا التقسيم: أن الكتاب
يتناول جانبين رئيسين: الأول - سرد تاريخي وحصر لأشهر المجلات النسائية
بدءاً من تاريخ نشوئها، والجانب الثاني: تحليل صحفي فني.
وفي كلا البابين: صنف المؤلف المجلات تحت الدراسة حسب المناطق
الجغرافية؛ ففي الفصل الأول تحدث عن مجلات المرأة والأسرة في وادي النيل:
(مصر والسودان) ، وفي الفصل الثاني تحدث عن المجلات في المشرق العربي:
(لبنان، سوريا، الأردن، فلسطين، العراق) ، وغطى في الفصل الثالث بلدان
المغرب العربي: (تونس، ليبيا، الجزائر، المغرب، موريتانيا) ، وفي الفصل
الأخير: تحدث عن صحافة الخليج والجزيرة العربية.
ما الجديد في الكتاب؟
لا شك أن الكتاب دراسة موضوعية في بابه، ولئن اقتصرت بعض الفصول
فيه على جوانب محددة في الصحافة الاجتماعية أو على بلد معين أو على فترة
زمنية معينة، فإن الكتاب يغطي مساحة زمنية كبيرة، ومساحة جغرافية واسعة،
محللاً ودارساً لأغلب المطبوعات في هذا الجانب، لقد غطى الباحث (مئة وثمانين)
مطبوعة منها (أربعون) ما تزال تصدر.
والكتاب تفرد بجمعه جانبين قلما يتاح للباحثين جمعهما في دراسة واحدة وهما: السرد التاريخي والتحليلي لما صدر سابقاً، والتحليل الصحفي الفني للمعاصرة
منها.
موجز تاريخي للصحافة النسائية:
تعتبر مجلة (الفتاة) التي أصدرتها اللبنانية (هند نوفل) عام 1892م في
الإسكندرية أول مجلة نسائية عربية في الوطن العربي، ثم توالت المجلات النسائية
في مصر، ثم تبعتها لبنان، وكانت أول مجلة: (الحسناء) أصدرها جرجي نقولا
عام (1909م) ، ثم سوريا، حيث أصدرت ماري عبده عام (1910م) مجلة
(العروس) ، ثم العراق، حيث أصدرت يولينا صون مجلة (ليلى) عام 1923م، ثم
صدرت مجلة (ليلى) في تونس عام 1936م، ثم السودان حيث أصدرت (تاكوي
سركسيان) مجلة (بنت الوادي) عام 1946م، ثم توالى صدور الصحافة النسائية
تباعاً في بقية البلدان العربية، وتأخرت قليلاً في الخليج والجزيرة.
ملامح الصحافة النسائية حتى عام 1940م:
نظراً لأهمية مصر في تاريخ الصحافة النسائية وكثرة المجلات الصادرة فيها
في تلك الفترة؛ فيمكن الإشارة إلى أهم الملحوظات على الصحافة النسائية من خلال
نظرة على الصحافة النسائية هناك:
- أغلب الصحافة النسائية الصادرة في تلك الفترة كانت تركز على: حقوق
المرأة، خصوصاً التعليم والعمل، ثم دعوى السفور، وتحديد سن الزواج، وتقييد
الطلاق، وتعدد الزوجات.
- ظهرت بعض المجلات المتعاونة مع الاستعمار البريطاني مثل: (فتاة
النيل) ، وكذلك (العروسة) ؛ حيث كانت سجلاً لأخبار الراقصات والباحثين عن
المتعة المحرمة.
- صدر الكثير من المجلات النسائية: إما عن نساء أو جمعيات نسائية.
- كتب كثير من الرجال بأسماء نساء؛ لتشجيع النساء على المشاركة.
- شارك النصارى، وبعض اليهود بقوة في إصدار المجلات النسائية.
وكانت الفترة اللاحقة (فترة الحرب وما تلاها) فترة ركود إلى حد ما، ثم
جاءت الثورة المصرية حيث تغيرت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ولعل أهم
الإصدارات في هذه الفترة مجلة (حواء) عام 1955م، التي تمثل نقلة في نوعية
الخطاب الصحفي، ورئيسة تحريرها الصحافية أمينة السعيد (وهي من دعاة تحرير
المرأة! ، وقد استطاعت أداء دورها بشكل كامل في تدمير فكر المرأة بزعم
تحريرها) لمدة 26 سنة (1981) ، ومن المعلوم أن حواء صدرت عن دار الهلال
المعروفة سابقاً بمواقفها تجاه الإسلام وقضاياه، ومن أخبث المجلات النسائية التي
صدرت لاحقاً، واستطاعت الانتشار الواسع في مصر خصوصاً، وبقية البلدان العربية: مجلة (نصف الدنيا) ، التي تميزت بالفنون الصحفية الحديثة والورق والطباعة الفاخرة.
المجلات النسائية في لبنان:
تعتبر لبنان من البلدان العربية الرائدة في العمل الصحفي عموماً، ومنه
الصحافة النسائية، وتتميز صحافتها في مرحلتها الأولى بالتردد بين الدعوة للتفرنج
والمحافظة على العادات، وغلب على صاحباتها أنهن خريجات إرساليات نصرانية
أجنبية.
أما في المرحلة المتوسطة (1943م - 1975م) ، فقد تطورت وتنوعت
الصحافة النسائية، وأصبحت حرفة الصحافة بارزة فيها، ودخل عامل الربح،
وارتفعت الأصوات بالحديث عن القضايا الجنسية والحرص على الأزياء والموضة.
ومن أشهر المجلات المعاصرة مجلة (فيروز) ، (زينة) ، (جمالك) ، (نور) ، ... وغيرها، وغلب على المجلات المعاصرة: الجانب التجاري المتمثل في كثرة
الإعلانات التجارية ومحاولة كسب رضا القارئ أو على الأصح (دغدغة مشاعره) ،
فضلاً عن حرصها على كسب رضا الحكومات لتحسين التوزيع بغض النظر عن
المحتوى ومستواه الثقافي، وظهرت مجلات هي عبارة عن ترجمة لمجلات أجنبية
بمحتواها الثقافي الأجنبي (جمالك) و (نور) وغلب موضوع الفنانات والأزياء
والجمال على موضوعاتها.
وفيما عدا مصر ولبنان فإن المجلات النسائية العربية تميزت بقلتها وعدم
انتظام صدورها وإقليميتها.
كذلك تميزت بعض الصحف التي تصدر في البلدان العربية الثورية (سوريا،
العراق، تونس، ليبيا، الجزائر) في فترات الثورات بأنها أشبه ما تكون بنشرات
حزبية، تعكس وجهة نظر الحكومة تجاه القضايا الاجتماعية، وتربط المرأة على
وجه الخصوص بتوجهات الحزب الحاكم التي هي غالباً ثورية يسارية. ... ... ...
مجلات المرأة والأسرة في الخليج والجزيرة:
رغم تأخر صدور المجلات النسائية في الخليج إلا أنها تميزت بالقوة (في
الجانب التحريري الصحفي) ، وكذلك بالتميز في الطباعة والورق الفاخر، ولعل
(أسرتي) أقدم مجلة نسائية في الخليج حيث صدرت عام 1965م.
وفي الإمارات: صدرت (زهرة الخليج) عام 1979م، وفي عُمان: (الأسرة)
عام 1974م، وفي قطر: صدرت (الجوهرة) 1979م، أما في السعودية فقد
صدرت مجلة (الضياء) عام 1977، عن جمعية النهضة النسائية بالرياض، وهي
محدودة الانتشار وغير منتظمة في الصدور، لكن انتشرت في السعودية المجلات
المهاجرة، وهي مجلات أصحابها سعوديون سواء أكانوا أفراداً أو شركات، وأشهر
هذه المجلات (الشرقية) التي صدرت في بيروت 1974م وكانت (ترويسة) المجلة: (مجلة نسائية سعودية) وهي لا تمت حقيقة للمجتمع السعودي بصلة.
ونافست (الشرقية) في سنواتها الأولى المجلات العربية الأخرى، لكنها تدنت
في الانتشار فيما بعد، ثم صدرت مجلة (سيدتي) عن الشركة السعودية للأبحاث
والتسويق من لندن عام 1981، ثم صدرت (عالم حواء) عام 1991م، ثم توالت
المجلات من قبرص ولندن وبيروت.
مجلات المرأة والأسرة ذات الطابع الإسلامي:
أشار الباحث إلى بعض المجلات النسائية ذات الطابع الإسلامي وذكر منها:
1 - مجلة (أسماء) : صدرت عام 1987م عن الاتحاد الثقافي في فرنسا،
لكنها تطبع في بيروت وتوزع في الدول العربية، ولقد توقفت عام 1989م بعد
صدور أربعة أعداد فقط، وتميزت أعدادها القليلة بالطباعة الجيدة، والورق الفاخر، والتنوع في موضوعاتها، والسمت الإسلامي البارز فيها.
2 - مجلة (هاجر) : صدرت في مصر عام 1990م ملحقاً شهريًّا لمجلة
(المختار الإسلامي) ، وتميزت المجلة بطرحها الإسلامي الجيد ومعالجاتها
الموضوعية لقضايا المرأة، خصوصاً في مصر، لكنها كانت ضعيفة في الجانب
الفني والإخراج والطباعة، وتوقفت عن الصدور بعد فترة قصيرة من صدورها.
3 - مجلة (عفاف) : وهي مجلة نسائية اجتماعية متخصصة صدرت في
بيروت عام 1985، ورغم إمكانات المجلة التحريرية والإخراجية المتواضعة إلا
أنها أدت دوراً جيداً في العمل على إيجاد حلول إسلامية للمشكلات الاجتماعية
والحياتية للأسرة من منظور إسلامي.
ورغم حرص المؤلف فيما يظهر على الاستقصاء، فإنه غفل عن مجلات
أسرية مهمة صدرت في الفترة نفسها التي غطاها المؤلف، وهي كالتالي:
1 - (الشقائق) : وهي مجلة نسائية إسلامية، تصدر عن جمعية النجاة
الاجتماعية في بيروت ابتداء من عام 1992م، والمجلة إسلامية الطابع، وتعالج
قضايا الأسرة من منطلق إسلامي، وتفتقد المجلة إلى الفنون الصحفية المعاصرة،
وتصدر شهريًّا بلون واحد وورق عادي، وتعاني من قلة الإمكانات المادية وضعف
الانتشار.
2 - مجلة (الأسرة) [*] وتصدر عن مؤسسة الوقف الإسلامي في هولندا.
صدر العدد الأول منها في محرم 1413هـ 1993م، واستمرت في الصدور
شهرياً، وتميزت المجلة منذ بدء صدورها: بالاعتدال، والتنوع، والبعد عن
الإقليمية، واستقطاب عدد كبير من الكتاب المتميزين، والإخراج الفني الراقي.
ولقد صدر أخيراً بعد صدور الكتاب مطبوعة نسائية جديدة، وهي مجلة
(الشقائق) ، وترأس تحريرها د. سارة بنت عبد الرحمن من، وهي مجلة إسلامية
خاصة بالمرأة صدر منها أربعة أعداد، وتتميز بالطباعة الجيدة والإخراج والورق
الفاخر، وتتخصص في قضايا المرأة من منطلق إسلامي، وهي جيدة في بابها.
ملحوظات عامة على الكتاب:
- رغم الجهد الكبير الذي بذله الكاتب إلا أن الكتاب شابه بعض أوجه القصور، ... لعل أهمها:
- غياب الاستقصاء الكامل للمطبوعات النسائية والاجتماعية خصوصاً
المعاصرة منها، ويظهر أن المؤلف لم يكلف نفسه عناء الذهاب إلى الأسواق، لتفقد
كافة المجلات النسائية المتاحة، وإن كان هناك استقصاء فيما صدر قديماً، فإنه من
غير المقبول إغفال مجلات موجودة في الأسواق.
- الباب الثاني من الكتاب وهو تحليل الفنون الصحفية لبعض المجلات
المعاصرة غير مناسب، وهو موجه أساساً للمتخصصين من رجال الإعلام، ويغلب
عليه الجانب الأكاديمي البحت، بينما الكتاب في الأصل لجميع القراء.
- الرصد التاريخي قاصر، فنجد تحليلاً جيداً للفترات الأولى من ظهور
الصحافة النسائية، خصوصاً في مصر، لكنه مُفتَقَد في الفترات اللاحقة وخصوصاً
المعاصرة وكذلك غياب التحليل عن المطبوعات الصادرة في بعض البلدان العربية
الأخرى.
- التحليل الموضوعي للمجلات قاصر؛ فهو يعتمد في كثير من الأحيان على
النقل عن مصادر أخرى، وجهد المؤلف في هذا المجال محدود.
- التحليل المنهجي لمحتويات المجلات النسائية لا يعتمد النهج الإسلامي في
القبول والرد والاعتراض والنقد، لكن يغلب عليه السطحية والبعد عن التأصيل
الإسلامي لواقع هذه المجلات ومدى قربها أو بعدها عن حقيقة الإسلام الصحيح.
- غاب عن المؤلف ذكر دور النصارى واليهود في الصحافة العربية عموماً
والنسائية خصوصاً، سواء في فترة نشوئها أو تطورها لاحقاً، وكذلك دور
الإرساليات الأجنبية في توجيه القائمين عليها.
- لم ينتقد الكاتب الحكومات الثورية اليسارية ودورها في وأد المجلات
النسائية، وذلك بتوجيهها لخدمة أغراض الحزب الحاكم، بعيداً عن حاجات
المجتمع والأسرة على وجه الخصوص.
- لم يبرز المؤلف دور المجلات النسائية الإسلامية، وإنما اكتفى بذكرها
حفاظاً على الجانب الموضوعي في البحث، ونقل فقرات من بعض افتتاحياتها.
وأخيراً: فإن الكتاب أنسب ما يكون للباحثين والمتابعين والإعلاميين، وهو
مصدر غني بالمعلومات في هذا المجال، وقد قدمت دراسات عديدة في هذا المجال، لكن أغلبها أكاديمي الطابع وأغلبها لم ينشر، ومنها رسالة الدكتوراة الخاصة
بالباحث (أسامة مشعل) حول المجلات النسائية، وقد ركز في بحثه على عينات
منها، وقدم حولها دراسة تحليلة كاملة من منطلق إسلامي، ونال الباحث على
رسالته التي أشرف عليها د. عبد القادر طاش الدكتوراة من قسم الإعلام جامعة
الإمام محمد بن سعود عام 1416هـ.
__________
(*) مجلة الأسرة، يرأس تحريرها د مالك الأحمد، ورغم قصر عمر هذه المجلة إلا أنها وجدت قبولاً لدى كثير من القراء.(102/80)
مقال
فرعون باشا.. نموذج للحاكم المستنير!
بقلم: ياسر قارئ
اقتنعت أوروبا منذ قرون خلت بحتمية تغيير وسيلة المواجهة مع المارد
الإسلامي، ونجحت إلى حد كبير في انتزاع الإسلام من صدور الرجال فضلاً عن
الأراضي، ولولا وجود القابلية لدى بعضهم للتبعية المطلقة ورهن أنفسهم للرجل
الأبيض لكان خراج الأمريكتين وأستراليا يأتي كل عام إلى دار الخلافة في استنبول، ولكن الأمة التي شقيت بنماذج من السفهاء والدخلاء هوت من علوّها ودخلت في
نفق مظلم من السياسات الخرقاء والعلاقات المشبوهة مع عواصم دول ما وراء
البحار؛ فالمستشارون أوربيون، والتعليم على النمط الغربي، والاقتصاد موجه
للتصدير الخارجي، والإصلاحات تصب في مصلحة كل أحد سوى المواطن!
وعلى الرغم من كل هذا: تظل هناك شريحة في المجتمع تملك وقف هذه المهزلة
الحضارية، فلا تفعل؛ لأنه ملبّس عليها، فلا ترى إلا من خلال نظّّارة النظام،
ولقد أنكر العلماء والأهالي على نابليون أفعاله في مصر، التي لا تختلف عما ذكرته
آنفاً، بل وجزموا بكفره على الرغم من إعلانه اعتناق الإسلام قبل أن يطأ الديار
المصرية، ثم إن هذه النخبة الاجتماعية رضخت، وأيدت في كثير من الأحيان
سياسة خلفه الأوروبي المولد والمنشأ مؤسس مصر الحديثة (محمد علي باشا) التي
جرّت على الأمة بأسرها ويلات كثيرة، ليس يغفرها له أحد من المسلمين
المستضعفين الذين تعرضوا للذل والهوان والقهر عقب زوال الدولة العثمانية، تلك
المأساة الفاجعة التي حمل الباشا على عاتقه تحصيلها إرضاءً لأصدقائه وجلسائه
الأوروبيين وعمّاله من أصحاب الديانتين النصرانية واليهودية.
ونظراً لطول الموضوع وتشعبه: فقد قسمته إلى أربعة أجزاء متتالية:
أتحدث أولاً عن سيرته ونشأته، ثم: كيفية توليه السلطة وعلاقة ذلك بالماسونية،
أما الجزء الثالث: فأتطرق فيه إلى سياسته الاقتصادية وآثارها على الوطن
والمواطن، ثم أختم بالحديث عن حروبه ومؤامراته في شبه الجزيرة العربية
والسودان واليونان وبلاد الشام، ومحاربته للسلطان، وفتح الباب أمام الأطماع
الأوروبية لتخرج إلى حيز التنفيذ.
أولاً: سيرته ونشأته:
ولد محمد علي في مدينة: (قولة) أو (قونية) من بلاد مقدونيا سنة ... (1182هـ /1769م) ، وتوفي بالقاهرة سنة (1265هـ /1849م) ، وقد تولى عمّه تربيته، ثم اشتغل بالتجارة في الدخان، وربح منها كثيراً، ولم يتلق أي تعليم حتى قدومه إلى مصر فضلاً عن أن يجيد اللغة العربية [1] ، وكان قد أرسل ضمن الحملة التي أتت لإنقاذ مصر من الفرنسيين، وأصبح رئيساً لإحدى السرايا بعد فرار ابن عمه الذي كان يقودها، فقام بتنظيم الجيش وإصلاحه على الطريقة الأوروبية، واستعان في ذلك بالكولونيل الفرنسي (سيف) الذي غير اسمه إلى سليمان باشا [2] ، كما أنشأ ترعة عظيمة لإصلاح الري، وأقام الجسور على النيل، وأقام المدارس والورش الصناعية واستغنى عن الاستيراد من الخارج، فأصبحت مصر تصنع الطربوش والمراكب والبندقية والمدفع [3] ، كما قام بتجريد أراضي الأوقاف وزراعة منتجات التصدير بناءً على مشورة الفرنسي (وميل) ، وأرسل البعثات إلى فرنسا وعلى رأسها رفاعة الطهطاوي، كما استعان بالأطباء والفنيين والعسكريين الفرنسيين [4] ، ولقد علقّ أحد أحفاده على حبه للعلم قائلاً: (هذا الرجل الذي لا يك تب! كان له فهم عظيم بواجباته كأمير، فكان يحب العلماء ويعرف عدم إمكانية الاستغناء عنهم من أجل تطوير الشعب، وأنشأ في باريس مشتلاً من العلماء الشباب المصريين، وصبر على طول مدة دراستهم، ليحصلوا على الحقائق الغربية. [5]
وفي المقابل: فإن المؤرخ الجبرتي المعاصر للباشا يصفه بأنه: حسود شَرِه
طمّاع، دائم التطلع لما في أيدي الناس أو أرزاقهم، ولم يسلم من ذلك حتى خدمة
(الضربخانة) و (أفنديتها) ، فسعى إلى مصادرة أموالهم [6] . بالإضافة إلى ذلك:
فإن أحد المؤرخين تتبع وصف (الجبرتي) للباشا فخلص إلى أنه: مخادع كذاب
يحلف الأيمان الكاذبة، ظالم لا عهد له ولا ذمة، يضمر السوء ويستخدم العنف
والجور في الوقت الذي يعد فيه بالقول، ولا تنفع لديه شفاعة شيخ، اعتاد أن يحيط
نفسه بالنصارى واليهود، ويمتلك من الحِيَل ما لم يخطر لميكافيللي على بال [7] ،
وفي المقابل: نجد أن أحد المستشرقين يصف الباشا بأنه: أعظم الشخصيات التي
عرفها الإسلام الحديث شأناً، والسبب في ذلك: أنه أبدى إعجاباً شديداً بنعم
الحضارة الأوروبية وبركاتها، فأنشأ مدرسة لتعليم الرياضيات باللغة الإنجليزية،
فيما اعتمد اللغة الفرنسية في العلوم الأخرى [8] ، ولا عجب من هذا التناقض في
تقييم الرجل؛ لأن الباشا هو مصدر هذا الاختلاف بين المؤرخين بسبب سياسته
النفعية والمناهضة للإسلام وأهله.
ثانياً: توليه السلطة:
منذ أن عين قائداً لفرقة في الجيش الذي قدم إلى مصر، أخذ محمد علي في
استمالة الجند إليه وصعّد من خلافه مع (خسرو (باشا الذي تولى حكم مصر حتى
طرده الأهالي، ثم وقع الاختيار على أحمد باشا العثماني فأخرجه منها، وسلّط
الأرناؤوط (الألبان) على الانكشارية، ثم سعى إلى التفريق بين (البرديسي)
(والألفي) اللذين يتنافسان على السلطة، واستطاع تهييج الأهالي عليهما، فأسند
الأهالي والأعيان إليه الولاية، وكتبوا بذلك إلى السلطان الذي أمر بنقله إلى
سالونيك بناءً على وشاية الإنجليز به، نظراً لمعارضته لمشاريعهم، لكن ضغط
وإلحاح العلماء والأعيان والأهالي مكن الباشا من الاستمرار في ولاية مصر، وكان
ذلك في سنة 1221هـ/ 1806م [9] لكن المؤرخ التركي (يلماظ أوزتونا) يرى أن
(محمد علي) قد ساوم السلطان محمود الثاني على المنصب بعرضه الذهاب إلى
الجزيرة العربية والقضاء على الوهابية إذا منح رتبة البكلربك (أي: الوالي) وقد تم
له ذلك [10] والسؤال الذي يبرز هنا هو: كيف استطاع رجل غريب التلاعب
بالبلاد وعلمائها خاصة، في ظل التنازع على حكم مصر بين المستعمرين
الأوروبيين الذين لم يكونوا ليرضوا عن وضع مريب كهذا لولا أن لهم مصلحة فيما
يجري؟ لقد أجاب على هذا التساؤل أحد المؤرخين قائلاً: بأنّ هناك جوانب كثيرة
يكتنفها الغموض في صعود محمد علي إلى هرم السلطة، خاصة وأنه لم يكن يصلح
للولاية، وليس من الوزراء ولا من الأمراء، ولا من أكابر الدولة (على حد قوله) ،
هذا بالإضافة إلى افتعال الثورات بسبب رواتب الجند، ثم تمكنه من تسديدها، لكن
صلة محمد علي بالشيخ حسن العطار الذي انضم إلى المحفل الماسوني الذي أسسه
الفرنسيون تفسر لنا شيئاً من هذا الغموض [11] .
ثالثاً: سياسته الاقتصادية:
يعلل بعض المؤرخين أسباب غزو محمد علي لبلاد الشام بغرض إرجاع
الأهالي الجهلة المغرر بهم الذين فروا إلى هناك، وذلك لأن الضرائب وأعمال
السخرة التي شرعها الباشا لتغطية نفقات الإصلاحات قد جهل كنهها الناس؛ ففروا
منه [12] ، وسوف نتحدث بشكل موسع عن حروب الباشا في الحلقة القادمة، لكن
يكفينا هنا أن نعرض لسياسته الاقتصادية ونماذج منها؛ لنتعرف على مخططات
الباشا أو الدور الذي أُعدّ له لينفذه!
لقد اتسمت فترة حكم محمد علي بقرارات اقتصادية مجحفة بالرعية، تراوحت
بين أخذ الأراضي والأملاك بالقوة، والتلاعب بالأسعار والعملة، إلى احتكار
البضائع، وبخس الأسعار، وفرض المكوس والرسوم وأعمال السخرة (العمل بلا
أجر) ، وهذه نماذج من ذلك:
كانت الضريبة على بضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم اثنان
ونصف بالمئة (5، 2%) ، بينما كان يؤخذ على بضائع المسلمين عشرة بالمئة
(10%) ، في الوقت الذي كان يتولى ديوان المكس (الجمرك) شخص نصراني
رومي [13] ، كما أن الباشا منع المزارعين من بيع الغلال على المتسببين؛ ليبيعها
هو بدوره على الإفرنج، حتى قل وجود الخبز، بل امتنع، واشتكى الفقراء إلى
الباشا [14] ، ثم زاد في الخراج لمساعدته على حروبه في الجزيرة العربية في سنة
1233هـ، وصادف أن فاض النيل في تلك السنة حتى هلك الزرع وانهدمت
البيوت [15] ، وفي السنة التالية أمر بجمع الفلاحين للعمل في ترعة الأشرفية
بالأسكندرية بلا أجر، فغلّوا بالسلاسل، ورُدم على بعضهم الحفر وهم أحياء
لامتناعهم، وفي الوقت الذي مُنع الفلاحون من الزراعة قام الباشا بزيادة الخراج
عليهم بعد عودتهم [16] ، ثم قام الباشا في سنة 1235هـ بفرض رسوم جديدة على
البهائم، وبخس الفلاحين ثمن البلح والليف وجريد النخل والخوص، فيما أجبرهم
على دفع نسبة خمسة في المئة (5%) من قيمة المحاصيل مقدماً ولمدة عامين لمشايخ
البلاد تحت نظام الالتزام [17] ، كما فرض على المزارعين نقل الغلال على
حسابهم إلى الإسكندرية؛ لبيعها على الإفرنج وليشتري بثمنها البضائع الإفرنجية،
بالإضافة إلى ذلك: قام الباشا ببخس المكيال وامتنع عن دفع ثمن الغلال [18] ،
كما تلاعب الباشا في صرف العملة ونَقّص وزنها وعيارها، وعين خاله ناظراً
للضّرب، وقرر له في كل شهر خمسمئة كيس، بينما كان الناظر السابق يقبض
خمسين كيساً فقط [19] ، وفي إحدى المرات أخذ الباشا جميع الغلال بما في ذلك ما
يدخره الناس لقوتهم وباعه على الإفرنج [20] ، كما حجر على الأُجَرَاء والمعمرين
والمستعملين في الأبنية والعمائر، وألزمهم العمل في عمائر الدولة بمصر أو افتداء
أنفسهم أو إقامة بديل عنهم مع دفع أجرته [21] ، كما ابتدع تحرير الموازين،
وأبطل موازين الباعة وألزمهم شراء موازين الدولة، وهو باب يتجمع منه أكياس
كثيرة [22] ، وقام بإطلاق جماعة من المهندسين والمباشرين للكشف على الدور
والمساكن، فإن وجدوا بها أو ببعضها خللاً أمروا صاحبها بهدمها وتعميرها، فإن
كان يعجز عن ذلك أخرجوه منها، وأعادوا بناءها وتصبح من حقوق الدولة [23] ،
ولم يكتفِ بكل هذا، بل أمر بالمناداة في الناس بتحديد الربا على القروض التي
يحصل عليها الناس من العسكر، وذلك لشدة الضيق والحاجة، وهذا من غرائب
الأحكام! ، حيث ينادى على الربا جهاراً وفي الأسواق من غير حياء ولا مبالاة،
لأنهم لا يرون ذلك عيباً في عقيدتهم [24] ، ولقد أوجز المؤرخ الجبرتي (رحمه
الله) أسباب الخراب في الدولة، فذكر زيادة الخراج واختلال المعاملة والمكوس
واحتكار جميع الأصناف والاستيلاء على أرزاق الناس، فلا تجد مرزوقاً إلا من
كان له خدمة الدولة متولياً على نوع من أنواع المكوس أو مباشراً أو كاتباً أو صانعاً
في الصنائع المحدثة، ولا يحاسب على ذلك إذا كان من غير العرب، أما الباشا فقد
وضّح طريقة تعامله مع من يرفض الانصياع إلى تلك السياسات الظالمة؛ فقد قال
في معرض لومه للعلماء الذين انتقدوه علانية في اجتماعاتهم بالأزهر: (إن حصل
من الرعية أمرٌ ما فليس لهم عندي إلا السيف والانتقام) [25] لذا: فلم يجد
الفلاحون مخرجاً من هذا الجحيم سوى ترك البلاد والهجرة إلى الشام؛ ليكونوا
بمنأى عن ذراع الباشا، وذلك بسبب خصومته مع والي الشام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... وللحديث صلة
__________
(1) محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص390، تاريخ الدولة العثمانية: يلماظ أرزتونا، 1/654.
(2) المصدر نفسه، - ص 410.
(3) المصدر نفسه، ص 448.
(4) تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة بشير السباعي، 2/48.
(5) انظر: مذكرات عباس حلمي الثاني، ترجمة جلال يحيى.
(6) عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي، 4/210.
(7) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، زكريا سليمان بيومي، ص159.
(8) تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه فارس ص 542/545 بتصرف.
(9) تاريخ الدولة العليه العثمانية، ص390 2.
(10) المصدر نفسه، ص654.
(11) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 169.
(12) تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص448.
(13) عجائب الآثار، 4/225.
(14) تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 448.
(15) المصدر السابق: 4/388.
(16) المصدر السابق: 4/417.
(17) المصدر السابق: 4/432.
(18) عجائب الآثار: 4/178.
(19) المصدر نفسه: 4/198.
(20) المصدر نفسه: 4/218.
(21) المصدر نفسه: 4/227.
(22) المصدر نفسه: 4/247.
(23) المصدر نفسه: 4/360.
(24) المصدر نفسه: 4/119 2.
(25) المصدر نفسه: 4/138.(102/88)
في دائرة الضوء
العولمة الاقتصادية.. ومؤتمر الإيواء البشري
بقلم: محمد عبد الله الشباني
عقد خلال الفترة من الثالث حتى الرابع عشر من شهر يونيو لعام 1996م في
استنبول مؤتمر الإيواء البشري تحت مظلة الأمم المتحدة، وهذا المؤتمر حلقة من
حلقات المؤتمرات التي دأبت الأمم المتحدة على عقدها وفق دعايتها بتحسين أوضاع
العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والسياسية والاجتماعية، - لكن حقيقة الأمر
بخلاف ذلك، بل إن هذه المؤتمرات أداة تستخدمها الرأسمالية اليهودية للسيطرة
على العالم اقتصاديّاً وفكريّاً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي والسياسي ليوافق
الفكر العلماني الذي تقوم عليه الرأسمالية اليهودية المعاصرة.
إن الإطار الفكري الذي تقوم عليه فكرة المؤتمر وما طرح في وثيقته من أفكار
وأساليب مطلوب من الدول المشتركة في هذا المؤتمر تبنيها لحل مشكلة تؤرق
السياسيين في مختلف أقطار العالم وهي (مشكلة الإيواء وتوفير الأماكن الكافية
لاستيعاب ملايين البشر (، هذا الإطار ما هو إلا غطاء للتسلل لاحتواء موارد
الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية والمالكين لها من دهاقنة اليهود
والمتهودين فكراً وسلوكاً، ونشر الأنماط السلوكية التي أفرزتها الفلسفة الجدلية
المادية، التي من مقتضياتها الانفلات السلوكي: سواء ما كان له ارتباط بالمنهجية
الاقتصادية، وما يرتبط بذلك من حرية مطلقة في استلاب الآخرين، وتحقيق
المنفعة الفردية على حساب المنفعة الجماعية مع استبعاد الجوانب الأخلاقية في
السلوك الاقتصادي، أو ما كان له ارتباط بأنماط السلوكيات الاجتماعية لسيطرة
الرأسمالية اليهودية ممثلة في الولايات المتحدة بوصفها قوة وحيدة بتمكين هذه القوة
الجديدة من الاستحواذ على العالم؛ ليكون القرن الحادي والعشرين قرن أمريكا.
أهداف المؤتمر:
إن أهداف المؤتمر الذي حددتها مسودته (جدول أعماله) تلبس الحق بالباطل؛
حيث تعلن مفاهيم عامة وتمنيات تُدغدغ بها رغبات الحكومات الفقيرة التي ترزح
تحت وطأة الفقر والحاجة والتخلف، ولكنها في الواقع سراب يُنْفَذُ من خلاله إلى
الهدف الحقيقي المغلف بهذا السراب.
فمن الأهداف المشار إليها في وثيقة المؤتمر التي هي مدخل للأهداف الحقيقية
الأمور التالية:
1- المساواة والعدالة لجميع الأفراد، للحصول على الإيواء وتوفير البنية
التحتىة المكملة للمسكن الملائم.
2- استئصال الفقر، من خلال توفير المأوى للفئات ذات الدخل المنخفض مع
حق اختيار العمل والحصول عليه.
أما الأهداف الحقيقية للمؤتمر فيمكن فهمها من خلال ما رسم من إجراءات
تنفيذية لتحقيق الأهداف الفضفاضة، وما امتزج ضمنها من مفاهيم أدرجت لتخدم
الغرض الحقيقي للمؤتمر، ويمكن تحديدها على النحو التالي:
1- العمل على تغيير مفهوم الأسرة القائم عل الأسس الدينية والقيم الاجتماعية
الفطرية، وتوسيع هذا المفهوم ليشمل أنماطاً من الأشكال التي تم تبنيها في المجتمع
الغربي بوجه عام، وفي الولايات المتحدة بوجه خاص؛ من خلال تغيير معالم
ومكونات الأسرة كما عرفتها الإنسانية، حيث أشار البند (18) من الوثيقة إلى
شمول الإيواء لمختلف أشكال الأسر، والمقصود من ذلك: منح الشاذين جنسيّاً
الذين يكونون فيما بينهم أُسَراً، وتلك الأشكال من العلاقات بين الرجال والنساء
الذين لا يرتبطون بعلاقات شرعية، مساكن للإيواء.
2- توسيع النظام الربوي، وتمكين المؤسسات المالية الربوية من السيطرة
على المقدرات المالية لدول العالم الثالث، من خلال عمل شبكة من البنوك
ومؤسسات الإقراض، وربط تمويل توفير المباني والبنية التحتىة لمشاريع الإيواء
بالإقراض الخارجي، البند (30) .
الالتزامات المطلوب تنفيذها لتحقيق الأهداف:
من أهم الالتزامات المطلوب تبنيها من قبل المشاركين في هذا المؤتمر
والموقعين على وثيقته الأمور التالية:
1- تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية،
وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزالة جميع
العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري (البند 56 من الوثيقة) .
2- تغيير وتعديل الأنظمة لتسهيل حركة الأموال وربط تمويل الإسكان
بالنظام المالي العام للدولة وتعديل السياسة النقدية والمالية لتوفير روح المنافسة،
لتتحرك الأموال من أجل توفير القروض للفقراء، مع توفير الإمكانية لأنظمة
الإقراض لتحقيق استعادة القروض من خلال توفير القوانين والأنظمة لذلك، وإقرار
برامج رهن المساكن لمؤسسات الإقراض المتعددة (البند: 61) .
3- ربط اقتصاديات الدول المتخلفة باقتصاديات الدول الرأسمالية ضمن
المفهوم الذي تبشر به الوثيقة، وهو الاقتصاد الدولي، كما أشارت إليه البنود
(140، 147، 150) ، من الوثيقة، حيث تم التأكيد على ربط السلطات المحلية
بالسوق المالي الدولي ومؤسسات الإقراض الخاصة بالشؤون البلدية، مع العمل
على توفير البنية التي تسمح للاقتصاد الدولي في النمو، والمساهمة في بناء البنية
التحتىة لمشاريع الإيواء وتكوين المراكز الحضرية.
إن تبني الأهداف وقبول الالتزامات التي حددتها الوثيقة التي تم التوقيع عليها
في مؤتمر استنبول يعني التمكين لما يعرف في مجال الدراسات الاقتصادية (بعولمة
الاقتصاد) تحت قيادة صندوق النقد الدولي والمؤسسات التابعة له.
وظاهرة (العولمة) التي أخذت في الازدياد في الفترة الأخيرة لها خطورتها
على النمو الاقتصادي والحضاري والثقافي للمجتمعات المتخلفة، وبخاصة
المجتمعات الإسلامية؛ حيث يتوفر في بلاد المسلمين مصادر الثروات الطبيعية؛
مما يدفع إلى الاستحواذ عليها من قبل الرأسمالية اليهودية العلمانية.
إن أهم مظاهر عولمة الاقتصاد هي: زيادة نمو الشركات المتعددة الجنسية،
ومؤسسات الإنتاج الدولية الطابع والعالمية النشاط، وقد أدى هذا الأمر إلى التشابك
بين مؤسسات الإنتاج على الصعيد القطري والإقليمي، واتجاه الشركات القطرية
إلى توسيع رقعة أنشطتها لتخرج به خارج الحدود الوطنية أو القومية وصولا إلى
المستوى الكوني، والشكل الذي تأخذه العولمة هو قيام المؤسسات الضخمة بمد
نشاطها خارج حدودها الوطنية وإنشاء فروع شبه مستقلة ولكنها تابعة لها في بلدان
الدول المتخلفة، أو تحويل الكيانات القائمة للشركات القومية؛ لتُكوّن فروعاً لها
وتوابع لنشاطها.
لتتضح أبعاد ظاهرة العولمة الاقتصادية أو ما يمكن تسميته بظاهرة الرأسمالية
متعددة الجنسية التي تجمع لديها عناصر القوة الاقتصادية، وما يمكن أن توظفه من
قوة سياسية أو تمارسه من ضغوط على الدول المتخلفة غير القادرة على التعامل
بندية مع هذه الكيانات العملاقة، فالإحصاءات توضح مدى خطورة هذا التمركز
الرأسمالي ... فإذا عرفنا أن إيرادات أكبر خمسمئة شركة في العالم بلغ في عام
1994م نحو عشرة تريليون ومئتين وأربع وخمسين بليون دولار، وإذا تم مقارنة
ذلك بمجموع الناتج المحلي الاجمالي لدول العالم في سنة 1993م (الذي كان أكثر
قليلاً من ثلاثة وعشرين تريليون دولار) ، أدركنا مدى خطورة تركز الأموال لدى
الرأسمالية العالمية.
إن السؤال الذي يبرز هنا هو: لماذا تتجه الرأسمالية اليهودية في نقل وتركيز
بعض عمليات الإنتاج في الدول المتخلفة؟ .. وإن الهدف الحقيقي هو البحث عن
أعلى معدلات للربح، وهو هدف سهل يمكن تحقيقه بعد أن قامت الرأسمالية
اليهودية بالدفع إلى تبني السياسات الليبرالية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وفشل
الفكر الاشتراكي في تحقيق النمو الاقتصادي للدول التي تبنته.
ومن هنا: نجد أن القوى الرأسمالية من خلال مؤسسات الأمم المتحدة المالية
(البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتوابعهما) وبعد أن تزعمت الولايات المتحدة
العالم؛ أخذت بالدعوة إلى تبني أساليبها الاقتصادية، حيث أصبح تبني هذه السياسة
بدون نظر لمحاذيرها هو التوجه لدى دول العالم المتخلف وبخاصة دول العالم
الإسلامي، فقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة بإجبار دول العالم
الإسلامي إلى إعادة هيكلة اقتصادياتها على ضوء هذه السياسة الليبرالية، فاتجهت
لخارج دولها لجذب رأس المال الأجنبي، وتبني مفهوم القطاع الخاص من خلال
استخدام آليات السوق وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح في الملكية العامة، وتدخل
الدولة في النشاط الاقتصادي، وهذا ما تتبناه وثيقة استنبول لحل مشكلة الإيواء.
إن عولمة الاقتصاد الذي تُطالب به الأمم المتحدة برئاسة الولايات المتحدة
حيث يحل مشروع أممية رأس المال بدلاً من أممية البروليتاريا، فما يحصل الآن
من أساليب إجرائية متعددة الأشكال لحل مشاكل اجتماعية واقتصادية هو تمكين
لمراكز النظام الرأسمالي من إعادة احتواء دول العالم المتخلفة وإعادة امتصاص
قواها، طبقاً لمنطق تراكم رأس المال في تلك المراكز.
إن آليات السوق الذي تقوم عليه الفكرة الأساس للرأسمالية: أن من لا
يستطيع كسب قوته يجب أن يموت، فهناك في الغرب فلاسفة ممن يقول: إن
المليار من فقراء العالم الثالث، بل وفقراء الدول الصناعية كانوا زائدين عن الحاجة، وبالتالي: فلا مبرر لوجودهم ولا حاجة إليهم، ضمن مفهوم فلسفة البقاء للأصلح! ، ولذا: تجد الدعوة المستمرة لتغيير مفهوم الأسرة، والدعوة إلى الإجهاض وقتل
العجزة.. وغير ذلك من الدعوات غير الأخلاقية وغير الإنسانية، وما هي إلا
نتيجة العبثية الرأسمالية العلمانية.
إن المخرج من هذا الفخ الذي نصبته الرأسمالية اليهودية هو قدره العالم
الإسلامي في اتخاذ قراره السياسي المستقل، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا طرح
الفكر العلماني ونبذه من مناهجه وتوجهاته، وتبنى الفكر العقائدي الإسلامي وما
يحتويه من سلوكيات وقيم ونظم وتشريعات لتحقيق سعادة الانسان الدنيوية
والأخروية [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: 96] . [*]
__________
(*) تأجلت الحلقة الثالثة من دراسة الكاتب الكريم د/ محمد الشباني عن (الربا والأدوات النقدية المعاصرة) وذلك لتواكب المجلة المؤتمر مدار البحث، وموعدنا مع الحلقة المؤجلة في العدد القادم إن شاء الله - البيان -.(102/96)
سياسة شرعية
القانون الدولي الإسلامي.. (علم السير) ..
مفهومه - تدوينه - خصائصه
بقلم: عثمان جمعة ضميرية
بعد مقدمة عن شمول الشريعة الإسلامية لكافة مناحي الحياة ومرونتها في استيعاب القضايا الجديدة أخذ الكاتب في الحلقة الماضية في تعريف (القانون الدولي الإسلامي) (علم السير) شارحاً ومحللاً لعدة تعريفات، ومتطرقاً لبعض المسائل العلمية حول الموضوع، وفي هذه الحلقة يعالج بعض خصائص القانون الدولي الإسلامي.
- البيان -
تتميز أحكام القانون الدولي الإسلامي (علم السير) بمجموعة من الخصائص
التي تميزها عن غيرها من الأنظمة القانونية؛ فأحكام القانون الدولي في الإسلام
ليست قواعد وضعية يمكن أن تتناول أصولها يد البشر بالتعديل والتبديل كلما عنّ
لهم ذلك، بل هي أحكام شرعية تكون جزءاً لا يتجزأ من الشريعة السمحة، - التي
تنظم كل جوانب الحياة مستقاة من آيات الله البينات وسنة رسوله؛ فأول مصادرها
الكتاب الكريم ثم السنة المطهرة، دون أن نغفل أهمية المصادر الأخرى:
كالمعاهدات التي عقدها الخلفاء، والأوامر والوصايا التي كانوا يبعثون بها إلى
أمراء الجيوش، وكذلك إجماع الفقهاء، بوصفها كلها مصادر مكملة أو تابعة.
وتضفي طبيعة الدعوة الإسلامية صبغة خاصة على القانون الدولي الإسلامي؛
بحيث يبتعد مفهومه بعض الشيء عن القانون الدولي بمعناه المألوف؛ فالقانون
الدولي كما عرّفه رجال القانون هو: مجموعة القواعد التي تنظم العلاقة بين
مجموعة من الدول في الحرب وفي السلم، بين مجموعة من الدول المستقلة المكتملة
السيادة التي تترابط عرفاً أو اتفاقاً على قدم المساواة، وعلى أساس التبادل المطلق،
وهو يقوم على مبدأ الإقليمية، فينبسط سلطان الدولة بحسب الأصل على أرضها
وما فوقها وما تحتها دون أن يمتد إلى ما وراء ذلك.
هذا المفهوم لا تعرفه الشريعة الإسلامية، إذ إن الدعوة الإسلامية بطبيعتها
دعوة عالمية، تقوم على اعتبار شخصي إنساني وليس على اعتبار إقليمي، إذ لا
يتصور بالنسبة لها: أن تكون الحدود الإقليمية عامل تفرقة بين المسلمين [1] .
وعلى هذا: يمكن أن نبرز بإيجاز أهم الخصائص التي تتميز بها أحكام
القانون الدولي والعلاقات الدولية في الإسلام فيما يلي:
1- أحكام القانون الدولي في الإسلام ترجع في أسسها العامة إلى الوحي:
وهذه الخاصية هي أهم الخصائص، ومنها تنبثق سائر الخصائص؛ فالإسلام
دين رباني كامل، ينظم الحياة ويَحكم كافة جوانبها، وبما أن القانون الدولي
الإسلامي (علم السير) جزء من الفقه الإسلامي الذي يقوم على الشريعة كتاباً وسنة
فإنه يقوم على الوحي الإلهي، وكل فقيه مقيد في استنباطه للأحكام بنصوص هذين
المصدرين أو الأصلين الأساسين عندما تسعفه النصوص بذلك، وإلا فهو مقيد
باتباع قواعد الشريعة ومرعاة مقاصدها وأصولها [2] [حالة الاجتهاد فيما لا نص
فيه] .
وإلى هذا المعنى يشير (ابن خلدون) بقوله عن أحكام الله (تعالى) في المكلفين: (وهي: متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا
استخرجت الأحكام من الأدلة قيل لها: فقه) [3] .
وينص الله (تعالى) في كتابه الكريم على أن هذا الدين كله وحي منه (سبحانه)
لهداية البشرية، ورحمة منه لها، فقال (سبحانه) : [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ
أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [الشورى: 52] ، ومهمة الرسول (عليه
الصلاة والسلام) ووظيفته هي البلاغ والبيان: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ
مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
القَوْمَ الكَافِرِينَ] [المائدة: 67] .
وتأسيساً على هذه الخاصية في رجوع الأحكام إلى الوحي واستنادها إليه
ليكون تشريعاً إلهيًّا ربانيًّا، فإنه لا مساغ لتقسيم التشريع الإسلامي إلى تشريع إلهي
وتشريع وضعي، كما ذهب إليه بعض الكتّاب في النظام الدستوري الإسلامي [4] .
وكما ذهب إليه بعضهم من تقسيم التشريع إلى نوعين: ابتداء وهو خالص
حق الله، وابتناء وهو يمكن أن يكون للبشر [5] ؛ فإن للبشر حق الاجتهاد
بضوابطه الشرعية، وليس لهم حق التشريع.
وهذه الخاصية تميز أحكام العلاقات الدولية في الإسلام عن سائر الأنظمة
والقوانين الوضعية التي وضعها الناس لأنفسهم في القديم والحديث والتي لا نجد لها
من الهيبة والاحترام كما نجده للتشريع الإلهي.
وهي كذلك ضمانة لتوحيد كلمة الأمة كلها على منهج واحد ونظام واحد عندما
تلتقي على هذا الوحي بما فيه من موازين لا تضطرب ولا تتأرجح، ولا تتأثر
بالهوى والعصبية والدوافع الذاتية.
2- ارتباط أحكام العلاقات الدولية بالعقيدة والأخلاق:
وهذه الخاصية منبثقة عما قبلها، ومظهر من مظاهرها، فقد عني القرآن
الكريم كما عنيت السنة النبوية بالعقيدة التي تقوم على أساس الإيمان بالله (تعالى)
ربًّا متفرداً بالخلق، وإلهاً متفرّداً بالأمر والنهي، فلا عبودية إلا له؛ وبذلك يتحرر
الإنسان من كل عبودية لغير الله [6] .
فمن الأصول المقررة في الإسلام: أنه يشمل جانبين رئيسين هما: العقيدة
والشريعة، والعقيدة هي التي يعبر عنها القرآن الكريم بالإيمان، والشريعة هي
النظم التي شرعها الله (تعالى) أو شرع أصولها ليأخذ المسلم بها نفسه في علاقته
بأخيه المسلم، وعلاقته بالإنسان، وعلاقته بالكون وبالحياة من حوله، والعقيدة هي
الأصل الذي تنبثق عنه الشريعة وتقوم عليه، والإسلام حتّم الترابط بينهما؛ ولذلك: فمن آمن بالعقيدة وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وألغى العقيدة لا يكون مسلماً
ولا سالكاً في حكم الإسلام سبيل النجاة [7] .
ومن هنا: كانت أحكام العلاقات الدولية كغيرها من جوانب الفقه الإسلامي
ذات اعتبارين: قضائي ودياني، فالقضائي يحاكم العمل بحسب الظاهر، أما الديانة: فإنما تحكم بحسب الحقيقة والواقع، فالأمر (أو العمل) الواحد قد يختلف حكمه في
القضاء عنه في الديانة [8] ؛ ولذلك: نجد الفقهاء يميزون بين ما ينفذ من الأحكام
ظاهراً وباطناً وبين ما ينفذ ظاهراً: تأسيساً على هذا [9] .
ومن هنا قالوا: من ادعى خلاف الظاهر لا يصدق قضاءً، إلا إذا كانت
دعواه على نفسه، لأنه غير متهم في حق نفسه، ويصدق فيما بينه وبين الله
(تعالى) ، وقد أرشد النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المعنى فيما روته أم
المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) ، عن رسول الله: (أنه سمع خصومة بباب
حجرته، فخرج إليهم فقال: إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن
بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً
فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها) [10] .
وهذه العقيدة تمتزج بالأخلاق، فتهذب النفس وتربي الوازع الذاتي، فتجعل
منه محكمة داخلية في نفس المسلم، ينتصف من نفسه قبل أن ينتصف هو من
الآخرين [11] .
ومن الواضح أن القانون الإسلامي يعلق أهمية غير قليلة على القيم الأخلاقية، لقد كان هناك علم وحيد يشغل المسلمين في أول ذلك الأمر هو تعاليم دينهم،
وسرعان ما تولدت عن ذلك علوم شتى ... وعندما نالت فروع الفقه الإسلامي ومنها
القانون الدولي مركزها، علوماً مستقلة بذاتها، فإنها ظلت تحتفظ بقيمها الأخلاقية،
وكان على أحكام هذه القوانين أن ترتكز في قوة إلزامها إلى القرآن الكريم والسنة
النبوية وهدي السلف الصالح، ولم ينشأ علم إسلامي لذاته مستقلاً عن غيره ودون
نظر إلى ما سواه، وإنما أخضعت كل العلوم للشريعة من أجل الإسهام في خير
الإنسان في الدنيا والآخرة، وبغير الإيمان بالبعث والحساب يكون الإنسان شرًّا من
الشيطان نفسه، وبغير الإفادة من نعم الله التي خلقها لعباده لا يكون الإنسان إنساناً
على الإطلاق، وقاعدة الإسلام هي: خير الأمور الوسط، وتصدق هذه القاعدة
حتى بالنسبة لعلم يعمل في نطاق مادي تماماً كالقانون الدولي الإسلامي، وعلى
الرغم من أن هذا القانون قد انفصل عن القانون العام وعن علم السياسة إلا أنه لم
يكن في قيامه مؤسساً على المنطق الإنساني، ومن ثم: تسوقه الظروف المتباينة
للمناسبات، وإنما كان يحتفظ بأساسه الأخلاقي الثابت؛ إذ يرتكز إلى مصدرين
ثابتين هما القرآن والسنة [12] .
وهناك آيات قرآنية كريمة توجب الالتزام بقانون الأخلاق الإسلامية في
العلاقات الدولية، تماماً كما هي ملزمة في العلاقات الفردية، وقد جاءت السنة
النبوية وأعمال الخلفاء الراشدين وسيرتهم في الجهاد والعلاقات الدولية تطبيقاً عمليّاً
لذلك، ثم بنى الفقهاء كثيراً من أحكامهم في العلاقات الدولية والجهاد على هذا
الأصل العظيم، ومن ذلك: وجوب الوفاء بالعهد، والتحرز عن الغدر حتى ولو
غدر الأعداء بالمسلمين، وتحريم المثلة بالأعداء في الجهاد، وتحريم قتل غير
المقاتِلين، وتحريم استعمال آلات وأدوات يعم ضررها.
وقد أدرك بعض الكاتبين في القانون الدولي قيمة هذه الخاصية ومكانتها،
حيث يرى الدكتور مجيد خدوري: أن الإسلام بوصفه منهجاً للحياة، فإنه يشدد
على أهمية المبادئ الخلقية في العلاقات الدولية، بصرف النظر عن العقيدة الدينية، وأن العقيدة الإسلامية بوصفها أساساً للأخلاق دفعت المسلمين لاتخاذ موقف رائع
من التسامح نحو غير المسلمين، والتحلي بمبادئ إنسانية عكسها لنا مضمون
الأحكام التي استنبطوها لحالة الحرب ولسير المعارك مع الأعداء.
والواقع التاريخي الإسلامي، وهذا يصدق على البشر أجمعين يظهر لنا أن أي نظام اجتماعي، على الصعيد الدولي، يفقد معناه إذا خلا كلياً من المبادئ الأخلاقية [13] .
وهذه الخاصية أفاضت على الأحكام هيبة واحتراماً في عقول المخاطبين
بالشرع، وأورثتها سلطاناً على النفوس، كان به الفقه الإسلامي شريعة مدنية
ووازعاً أخلاقيًّا معاً؛ لما فيه من قدسية المصدر القرآني الآمر، ومن الزاجر الديني
الباطن إلى جانب القضاء الظاهر، فلا يحتاج الإنسان إلى قوة مسلطة عليه دائماً
لتلزمه الخضوع لإيجابه، ولا يجد في الإفلات من سلطان حكمه غنيمة إن استطاع
الإفلات سواء أكان عظيماً أو ضعيفاً.
كما ترتب على هذه الخاصية أيضاً: أن يكون لمخالفة الحكم الشرعي جزاء
يتحمله المخالف، وهو يشمل: الثواب عند الطاعة، والعقاب أو الضمان عند
المخالفة.
والجزاء قد يكون دنيويّاً يتولاه الحاكم، أو السلطة العامة في الدولة، كما
يكون جزاءً أخرويّاً عند الله (تعالى) يوم القيامة، ولكن للتوبة أثراً في سقوط العقاب
عند الله (تعالى) ولها أثر في سقوط بعض العقوبات في الدنيا [14] .
__________
(1) انظر ميثاق الأمم والشعوب، ص605، وقواعد العلاقات الدولية، ص 35.
(2) انظر التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي د محمد يوسف موسى، ص60 - 61، والأموال والنظرية النقدية، له أيضاً، ص136.
(3) انظر مقدمة ابن خلدون: 2/798.
(4) ذهب إلى ذلك د/عبد الحميد متولي في كتاب (الإسلام ومبادئ نظام الحكم) ص11، وراجع أيضاً د/عابد السفياني لما أبداه بعضهم عن الفقه بأنه تشريع وضعي في كتابه (الثبات والشمول في الشريعة) ، ص96 - 99.
(5) ذهب إلى ذلك الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه (السلطات الثلاث في الإسلام) ص35 - 80.
(6) (العبودية) لابن تيمية تحقيق: أ/ عبد الرحمن الباني.
(7) انظر أحكام القانون الدولي في الإسلام، ص179، 180، مدخل لدراسة العقيدة، لضميرية، ص27 - 36.
(8) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء، ج1 ص58، 59.
(9) انظر حاشية ابن عابدين: ج5 ص405، ص406.
(10) أخرجه البخاري في الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، 13/ 157، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر، 3/1337.
(11) انظر: دراسات إسلامية، د: محمد عبد الله دراز، ص66 167، والنظم الإسلامية، د: محمد العربي، ص25.
(12) انظر دولة الإسلام والعالم: د: حميد الله، ص108، 109.
(13) انظر القانون الدولي الإسلامي، كتاب السير للشيباني، ص86 - 87 من مقدمة المحقق.
(14) انظر (بدائع الصنائع للكاساني) : 9/4295، 4296، والأم للإمام الشافعي: 4/133، 134، والمغني لابن قدامة: 10/308311.(102/102)
منتدى القراء
الكلمة الحية
بقلم: عبد الهادي أحمد الحسيني
ثمة صنف من الناس، تجلس لأحدهم تحدثه ويحادثك فإذا بكلماته لا تقع من
قلبك موقعاً، بل تتجاوزه إلى السويداء؛ لتستكن فيها، والعجب في الأمر: أن
أولئك قد لا يكونون قد أوتوا فصاحة لسان أو غزارة بيان! وقد يقول الكلام نفسه
غيرهم، لكنه لا يقع في نفسك الموقع نفسه! ولا يؤثر التأثير نفسه! فبحثت عن السبب فوجدته في ذي المحادثة المعبرّة، حيث قال ذر لأبيه عمر بن ذر: (يا أبت: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد، فإذا تكلمت - يا أبتي - سمعت البكاء
من ها هنا وها هنا؟ فقال: يا بني: ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى) ،
إنها الكلمات.. إذا ما اقتاتت من قلب صاحبها: نمت وكبرت، فتخرج من لسانه
متوثّبة، فتية، مشعّة، بما شابها من صدق وإخلاص، فيكسبها ذاك حرارة،
فلكأنها قد خرجت من بركان! حروفها من نار تلذع أكباد سامعيها! قد ذابت كلماتها
في معانيها، ثم استحالت معانيها إلى الإيمان يتغلغل في أفئدة مُتلقيها.. فهي قد
خرجت من قلب حيّ عاش بحمية الإيمان، وحماسة الشرف، واقتات من إرث
الجدود، وتضلّعت من تركتهم سواءً أكانت: صلاة، أو ذكراً، أو إحساناً، أو
خشوعاً، أو إخلاصاً وصدقاً..
إمّا ذاك.. وإلاّ فتخرج الكلمات كسيحة، مشلولة، باهتة، باردة، تخرج
تحبو حتى تصل لأذن سامعيها، هذا إن هي وصلت! .
فلا تموت الكلمات إلاّ حينما تموت وتكفّن القلوب بكفن الغفلة والفتور! وفرق
شاسع بين من يقذف بالحمم، ومن يقذف بالثلج والبَرَد! وبون عظيم بين من يحمل
سيفاً صقيلاً ومن يحمل سيفاً خشبيّاً! فواشوقاه للكلمات الحية، وسحقاً وبؤساً
للكلمات الميتة! .
وما أشد حاجة الأمة إلى (الوعّاظ الصادقين) الذين ينفخون الحياة في قلوب
الغافلين والفاترين! .
ورحم الله القائل: (إن الكلمات والمبادئ والأفكار، بلا عقيدة دافعة: مجرد
كلمات خاوية والذي يمنحها الحياة حرارة الإيمان المشعة من القلب) .(102/108)
المدينة الفاضلة
بقلم: منصور الريس
حديث خرافة! ولن يعدو أن يكون حلماً فلسفيًّا أولع به عقلاء الحكماء
والفلاسفة، وتغنى به الشعراء. لا وجود له إلا مع أحلام النفوس وآمالها وتخيلاتها.
فإن الله (سبحانه) قد جبل النفوس على طبائع وغرائز مختلفة، ولئن كان
الظلم والجهل والهوى قاسماً مشتركاً بين النفوس مشاعاً بينها، فإنها متفاوتة في
رتب الفضيلة، وحب الحقيقة والخير والجمال، متباينة في دركات الظلم وحب
الشر.
فكان ما يضطلع به المصلحون في كل أمة أمراً شاقاً للغاية، مضنياً لا ينهض
به إلا العظماء ذوو الهمم الصادقة والعزائم الثابتة في كل أمة، فهم يطمحون
للحيلولة بين الورى وشهواتهم، والحد من غي نفوسهم، وهم يعلمون علم اليقين أن
سلب الأجسام أرواحها أقرب منالاً من سلب النفوس غرائزها وميولها، ولذا لا يكاد
أن يجد الواحد منهم الراحة والدعة، وهذا الأمر هو هاجسه ومقصده، فإنه:
إذا كانت النفوس كبارا ًتعبت في مرادها الأجسام
أفلم ييأس الحالمون بعد أن لو وجدت هذه المدينة، فلن تكون خالصة من
شوائب الكَبَد والمعاناة، إن الواحد ليعيش مع نفسه صراعاً مجهداً، مع شهواتها
وغيها وأدوائها، ومع ذا: فقلما تطاوعه على أمر من الحق وتسلمه قيادها، وهذا
ما عاناه الصالحون قبلنا، ويعانيه الصادقون في حاضرنا، فإن القلب قلب. فأنى
لك بمجتمع أخلاطه وأوشابه أن تجده متجاوباً معك وفق ما يقتضيه سبيل الفضيلة
والفطرة الصحيحة والقلب السليم، أرأيت عظم الأمر؟ ! فما أبعد هذا! .
أليس من الجور أن يطالب المرء الآخرين بما يضن هو به عليهم: يذم
الزمان وأهله، ويندب الأخوة الصادقة، ويبكي المروءة الغائبة، وهو نفسه عيب
الزمان وآفة الإخوان، وعناء ذوي المروءات.
وكأين من صادق في المحبة خالص في الود قاسَى من مفارقات الزمان
وأضنته الآلام ... كان عزاؤه في دنياه أخاً يبثه هموم نفسه وأحزان قلبه، يعده
مستودع سره، فأعياه ذلك فما ظفر ببغيته؛ فنأى بنفسه وانطوى عليها: يجتر
آلامه، ويكتم زفراته حتى قضى غير مأسوف عليه:
فعاش وما واساه في العيش واحد ومات ولم يحفل به غير واحد
تموت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها(102/109)
لماذا التقاطع؟ !
حفيظ بن عجب آل حفيظ
قال الله (تعالى) : [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا
حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [آل عمران:
103] بينما كنت أراجع كتاب ربي متأملاً في آياته، متفكراً في معانيه السامية
العظيمة التي بلغت غاية الروعة والجمال في معناها ومبناها، استوقفتني هذه الآية
طويلاً، فما استطعت تجاوزها كما كنت أتجاوز الآيات قبلها على عجل وبقدر قليل
من التأمل والتفكر، لقد انعقد لساني عن كل شيء إلا هذه الآية العجيبة التي ملكت
علي كل أحاسيسي، ومشاعري، وخواطري، فأصبحت أكررها صباحاً ومساءً
كأني لا أرى غيرها أمامي ولا عن يميني ولا شمالي، فتعجبت أشد العجب لذلك،
فبادرت أسأل نفسي لماذا لا تقرئين غيرها؟ ولماذا لا تتأملين في سواها؟
عجبي ... كأنه لا آية إلا سناها ولا هدى إلا هداها؟ ! ! أجيبي يا نفس، فقد أثقلني حملها، وزاد على كاهلي عناها.
فقالت النفس، والهم قد عناها، والكلمات قد تعثرت خطاها: وما عساي أقول
عن حال أمة أضاعت أمجادها ومفاخرها، وسعت وراء التفاخر بأحسابها وأنسابها،
كأنها لا ترى المجد إلا في تناحرها وتفرقها؛ فأحدهم يقول: أنا فلان ابن فلان،
من ذا يعادلني في نسبي وشرفي، وآخر يقول: أنا من سأسود الناس وأسوسهم
وأسيطر عليهم.
ثم سكتت النفس برهة وتنهدت وقالت: أتريد أن أقول لك ما الذي جعلك تقف
عند هذه الآية ولا تتجاوزها؟ .. إنه حال المسلمين في تشرذمهم، وتفرقهم،
وتقاطعهم، وتدابرهم.. كأنهم ليسوا إخواناً، وكأن الإسلام ما ألف بين قلوبهم،
وكأنهم بنعمة الله ما أصبحوا إخواناً.. فلماذا التفرق وقد جمعنا الله، والتشرذم وقد
وحد الله صفوفنا؟ ! ، ولماذا لا نعود أمة واحدة كما أراد الله (تعالى) ؟ ! .
إني أقول يا متأملاً في كتاب ربه: ما تأملت حق التأمل! ، ويا ناظراً في
كتاب الله: ما نظرت حق النظر! ، فلو كنت نظرت حق النظر وتأملت حق التأمل
ما تجاوزت هذه الآية أبداً؛ لأنها تتحدث عن واقعنا وتحكي عما نحن فيه، فكأنها
أنزلت لزماننا هذا الذي انقلبت فيه المفاهيم والأفكار، فبدل أن نعتصم بحبل الله
فنجتمع: تفرقنا، وبدل أن نذكر نعمة الله علينا بتأليف قلوبنا بعد أن كنا أعداء:
تنافرت القلوب وتباعدت، فلا إلف ولا محبة، وبدل أن نكون أخواناً: كُنا أعداء،
وبدل أن نسأله الهداية: غفلنا عن سؤاله (سبحانه وتعالى) ، فما وجدنا من ذلك إلا
الهزيمة والتأخر والضعف والهوان، فكان حالنا كما قال العبد الفقر إلى الله.
وتأخرت عن درب كل فضيلة ... سفن الهداية تندب الأعرابا(102/110)
الورقة الأخيرة
ما أحوجنا إلى الإخلاص
بقلم: همّام بن عبد الحكيم
طلب مني أخ لي أن أبحث له عن نسخة لمخطوط يريد تقديمه في أطروحة
علمية، فبحثت له في المكتبات العامة، والمراكز والمؤسسات العلمية، فعثرت
على نسخة منه - بخط المؤلف - في حوزة باحث يعمل في مؤسسة علمية، لم
يسبق لي به لقاء من قبل، فطلبت منه أن أنظر فيها فأبدى استعداده على الفور،
وقال: سأحضرها لك لتأخذ نسخة منها، وأعطاني بعض المعلومات المهمة المتصلة
بالمخطوط، أخذت النسخة ولا أكاد أصدق؛ لشدة فرحي أولاً بالحصول عليها،
ولعجبي ثانياً من كون ذلك بلا مقابل، على كثرة ما أسمع من متاجرة الكثيرين
بالمخطوطات، وما يتصل بها.
ولا تسل عن فرحة الباحث بما أرسلت إليه، وقد سألني عما إذا كان صاحب
المخطوط يريد مقابلاً ماليًّا - أيا كان - فقلت: لا أظن ذلك؛ فلم ألمس منه تشوفاً
لذلك، ويكفي أنه تكلف إحضارها فور طلبي لها - رغم أنه لا يعرفني -، وكان
يكفيه نفي وجودها في المكتبة. قال صاحبي: حاول تلمس رغبته في ذلك لعله
يريد شيئاً؛ فقد قدم لنا خدمة عظيمة.
عدت إلى صاحب المخطوط، وعرفته بنفسي - حيث قد نسيني -
وعرضت عليه الأمر، وليتني لم أفعل! لقد غدا جسمي يشتعل حرارة - والجو
بارد - وذلك مما لحقني من حرج بالغ. لقد وجدت نفساً سامية، وهمّاً ... ... فوق ظني.
لقد طأطأ صاحبنا رأسه منزعجاً خَجِلاً على استحياء، قائلاً: (لا أريد أن
أقول لك كما قلت لرجل قبلك قال لي مثل قولك فأسمعته كلاماً جارحاً) ... فكان وقع
كلامه هذا علي أشد من الكلام الجارح، وحاولت الاعتذار، بيد أنه لم يدع لي
فرصة، لقد التفت إليّ قائلاً: (إلى متى يا أخي نطلب الدنيا بعمل الآخرة؟ ! .. لقد
كان الأولى بك أن تعرض عن مثل هذا الكلام، لا سيما وأنني لم ألمح لك من قريب
ولا بعيد بما عرضت، ويكفيك أني لم أعرفك لأول وهلة لما أتيتني الآن، مما يبين
لك أني نسيت الموضوع أصلاً، ولا أكتمك أني كنت مهتمًا بخدمة المخطوط
وتحقيقه، لكني تركت ذلك مؤثراً هذا الأخ الباحث) ! ! فارتفع في عيني.
وقال: (أنا أعلم أن دأب الكثيرين أنه لا يبذل لك في قليل ولا كثير حتى
يحقق له ذلك ربحاً ماديًا، لذا: فلا تعجب من قلة البركة في كلامنا وكتاباتنا، لقد
كان كلام السلف قليلاً لكن الله بارك فيه ببركة إخلاصهم لله (تعالى) .
قلت: يا أخي هون عليك، فوالله إن في نفسي لمثل الذي في نفسك ... وإني
لأغتم مما أرى في واقعنا، ولا تعجب إذا رأيت ما تقذف به المطابع كل يوم ...
لكن النافع منه قليل، ولا غرو فالتجارة في الكتب مربحة، وليس هذا اتهاماً للنيات
- معاذ الله - فإن الأمة فيها مخلصون، لا يبتغون بعلمهم قليلاً ولا كثيراً، وليس
ببعيد عنا من كان يطبع كتبه (النافعة) على نفقته ويوزعها مجاناً! ومن يرفض أخذ
نسخة واحدة من كتاب له، فضلاً عن استلامه مبلغاً من المال.
وذكرني ذلك بما كتبه علماء الأمة الأوائل، وخلفوه في قراطيس متواضعة،
فهيأ الله من يقوم لها: يحققها وينشرها ليعم نفعها، وصار طلاب العلم عالة عليها،
وأبقى الله لها الذكر الحسن، وفاقت في شهرتها ونفعها كثيراً مما كتب في بابها،
أمثال: رياض الصالحين، وتفسير ابن كثير، والعقيدة الطحاوية، والأربعين
النووية، وفتح الباري ... وكذا علوم الأئمة الأربعة واجتهاداتهم، [فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] [الرعد: 17] فما أحوجنا إلى
إخلاص النية، وتجريد القصد.(102/111)
ربيع الأول - 1417هـ
أغسطس - 1996م
(السنة: 11)(103/)
كلمة صغيرة
إسرائيليات جديدة
حرّق (بيريز) لبنان بعناقيد حقده، واحترقت قلوب الثكالى واليتامى بحصده
الأطفال والنساء والشيوخ، وقدم ذلك كله قُرْباناً للناخب الصهيوني؛ عله يمنحه
بقاءً لفترة أخرى على كرسي الوزارة، بيد أن (بني صهيون) رفعوا أيديهم في
وجهه، وقالوا: عفواً (مستر بيريز) لم تكن إرهابيّاً بالقدر الكافي، (نتنياهو) وعد
بأكثر، فهو جدير بتحقيق وحشية أكبر لأهدافنا التوراتية في (إسرائيل الكبرى) .
عفواً ... قتلت الآلاف، نريد من يقتل الملايين، دمرت قرى، نريد من يدمر
كل القرى والمدن، وعدتهم بسلام ذليل نريد لهم ذلاّ بدون سلام، وسحقاً بدون
مباحثات ... وجاء (نتنياهو) لكي يرفع الصوت بالحقد المكنون في النفس اليهودية،
ويعلنه باستكبار: الذل والصغار لكل (الجيويم) ! .
ولعل ذلك رسالة إلى كل من يعقل، وكل منخدع بوهم السلام المزعوم،
وهيهات أن نقتنع: أن الذئب قد تحول إلى حمل وديع، يريد أن يعيش مع الحملان
(الشرق أوسطية) في سلام حالم، يسعد فيه الحملان برغد العيش وهناءة الحياة!
(والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) ... ولا مرات.(103/1)
افتتاحية العدد
قالها اليهود
نعم للتوراة ... لا للشرق أوسطية
(كان سعيداً تلك الليلة، يطلق النكات هنا وهناك، ويمازح المراسلين
والمراسلات بصورة غير معهودة ... وحينما انتصف الليل تلقى مكالمة (كهربت)
الجو وانقلب ذلك المرِح إلى مخلوق كئيب وحزين جدّاً) .
هكذا وصف مراسل محطة التلفزيون الفرنسي الثانية مشاعر رئيس السلطة
الفلسطينية عرفات، وتقبله لخبر صعود نتنياهو، إلى سدة السلطة في الكيان الصهيوني ... وفي تلك الليلة التاريخية اختارت يهود أن ترجع إلى نفسها، وأن تعبر عن ذاتها، فأتت بهذه القائمة المجرمة من شذاد الصهاينة إلى موقع ... السلطة ... نعم، لقد اختارت يهود، ولم يختر العرب سوى أسلوب ردود الأفعال بعد أن تلطخت أيدٍ واسودت وجوه.
هذا المستوى من الانحدار والصغار لخصته الحقيقة الفجة العارية: أن مصير
طابور التطبيع والاستسلام قد أصبح في يد عدوهم.. مهاجر روسي من أصقاع
سيبيريا، أو (فلاشا) أثيوبي أصبح يكتب مصير هذا الطابور البئيس من المراهنين
على الحصان الخاسر (بيريز) .
ماذا نتصور من زعامات وضعت مصيرها في يد عدوها.. وكيف كانت
النتيجة ستختلف بعد أن رهن هؤلاء ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم في أيدي
الحاخامات، وقبّلوا أيديهم وفتحوا لهم قلوبهم وقصورهم وعقولهم.
كانت ظاهرة وربما تستمر في هذا الزمن المتصهين أن يستقبل رموز (سلام
الشجعان) حاخامات يهود، بقبعاتهم السوداء، ومعاطفهم الصوفية، ووجوههم
الشائهة ... يستضيفونهم، ويسمعون منهم، ويصغون لمواعظهم ... بينما شعوبهم
ودعاتها ونبضها الصافي لا يعرف سوى عنواناً وحيداً يسهل الوصول إليه:
المحاكمات العسكرية ثم الإعدامات.
كانت الانتخابات حافلة بالضجيج والتحضر والإثارة.. كانت من الإثارة حتى
إن شعوب المنطقة العربية سهرت حتى الصباح تتابع، كيف يمكن أن تجري
انتخابات حقيقية يتقدم فيها مرشح في بداية المساء ... وما أن ينشر الفجر خيوطه
حتى يتبدل المنتصر إلى خاسر وينقلب الخاسر منتصراً، وكأن لسان حال أبطال
(الخمس تسعات العربية) : أن هاكم انتخابات تشاهدونها إذا لم نذقكم طعم الاختيار
الحر.. هكذا أكدت الدويلة الصهيونية مبدأ أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة في
بحر الديكتاتوريات المحمية.. كما يقول الكاتب الفلسطيني (إدوارد سعيد) حينما
تطرق إلى أسلوب الطرفين الحاكمين في التعامل مع شعوبهما، فضرب لحادثة
اعتقال الدكتور (إياد السراج) رئيس رابطة حقوق الإنسان الفلسطينية، الذي تحدث
عن الانتهاكات المتعمدة من قبل عرفات ورجاله ضد العزل من شعبه، فما كان
مصيره إلا الاعتقال.. قارن الكاتب بين هذه الحادثة المتزامنة مع إعلان نتائج
الانتخابات اليهودية، فقال: (نظام الحكم النموذجي وفقاً لعرفات هو النظام الذي
يعتمد على القسر والمنفعة الشخصية.. ما لا يرغب فيه، أو يعتقد أنه مناوئ له: يجب أن يزول ويختفي، أو يوضع وراء القضبان على الأقل ... فالتاريخ يعلمنا
أن قوة الفكر الإنساني وإبداعه بلا حدود، وأن اعتقال (إياد السراج) بسبب شجاعته، يستنهض الهمم أكثر، ويؤدي إلى المزيد من الاحتجاج والمقاومة وسط
الفلسطينيين، وليس العكس مثلما يعتقد عرفات.
وها هي إسرائيل، بعد أقل من شهرين على هجماتها الوحشية على لبنان،
تعود إلى مركز الأحداث عن طريق انتخاباتها التي استحوذت على اهتمام العالم
(إلى حد كبير بفضل شبكة (سي. إن. إن) التلفزيونية) ، بل ها هو (نتنياهو)
يصبح رجل الساعة بمجرد إعلان فوزه في الانتخابات.
إن قدرة (إسرائيل) على كسب القبول هي القضية الأساسية هنا، وبغض
النظر عن فوز (نتنياهو) من عدمه، فإن أسلوب (السلام) كان وسيظل مفروضاً من
جانب (إسرائيل) ، التي تستطيع أن تملي كل شروطها على العرب، خصوصاً
الفلسطينيين الضعفاء، ومأساتنا الحقيقية هي أننا لم نتحرر بعد من التصور البدائي
للقوة، وأننا لم ندرك بعد أن المعرفة والمعلومات والقبول أهم من القوة الغاشمة
والشرطة. والطريقة الوحيدة لإحداث التغيير الضروري هي: أن نشرع في العمل، على غرار ما فعل الدكتور (إياد السراج) وأمثاله، أي نعمل على نقل ميدان
المعركة إلى حيز الذهن، وليس الشارع فقط، علينا أن نجهر بأفكارنا، وأن نصر
على الحقيقة، ونرفض الوصفات الجاهزة والتخيلات الأيديولوجية، وأن نتفحص
بعناية الهراء الذي يفيض من وسائل الإعلام) .
نعم.. هنا يكمن الفرق بين أمة صغيرة تملك خياراً حتى لو كان شريراً
وأخرى ترهن نفسها حين تسلب منها الإرادة الحرة ... وهذا درس بليغ..
تنبع من هذه النقطة قضية مهمة، هي حقيقة الصراع: إن تاريخ الصراع مع
صهيون منذ قرن شهد ثباتاً في نظرة الطرفين حياله.. فاليهود ظلوا دوماً متدرعين
بالحلم التوراتي أساساً، واختلفوا حول أسلوب تحقيق الحلم وحصد أكبر قدر من
الغنائم له.. ظلت المواجهة تحكمها نظرة شمولية تختلف في جزئيات دقيقة وتلتقي
في قواسم مشتركة ضخمة ... ما انتزع بالقوة المباشرة أو بالدهاء والتدجين السياسي
صب في تأكيد حلم إقامة الكيان أولاً، ثم توسعه وجعله حقيقة واقعة حتى المرحلة
الأخيرة، حيث أصبحت هذه الدويلة الصغيرة مركز استقطاب إقليمي ودولي،
وتسابق المهرولون المتاجرون بدماء شعوبهم إلى كسب ودها، ثم تقديمها إلى
شعوبهم على أنها النموذج الفذّ الذي يجب الاقتداء به! .
ومع شراسة الصهاينة ووضوح هدفهم البعيد: ظلت القيادات العربية تتعامل
بفنون من التحرك السياسي الساخر والعبثي، تماماً كما يفعل أبطال (مسرحيات
اللامعقول) أو العبث في وقت الكارثة ... واستمر الخطاب السياسي العربي يجتر
شخصيات شعراء الهجاء والقدح والعنتريات الفارغة لعقود.. وحصر نفسه في
دائرة رد الفعل والمتاجرة بالصراع لتحقيق مطامع هزيلة وصغيرة، وافتقد الرؤية
العقدية التي ظلت باستمرار درع عدوه.. وانتهى المطاف بنا إلى (شرم الشيخ)
حيث تحول الهجاء إلى مديح، والقدح إلى ثناء جماعي، يشيد بدم يهود المسفوك
على تراب فلسطين المغتصب.. تحولت عبارات منتفشة ضخمة إلى كلمات تثير
السخرية: السليبة، المحتلة، المغتصبة.. والسخرية الأعظم أن الشفاه نفسها هي
التي تتغنى بالسلام، والشرق أوسطية، والتطبيع، والويل والثبور من (الأصولية)
الإسلامية.
هذا الدرس الذي يتكرر وهو مرشح للاستمرار طالما افتقدت شعوب المنطقة
أمرين: رؤية شاملة للصراع، وخيار حر، وهذه الرؤية هي التي تحارب اليوم
باسم القضاء على الإرهاب ... والتطرف.
وفي روسيا: المفكرون الغربيون علقوا على تودد (يلتسين) للكنيسة،
وحرصه على أن يختتم برنامجه الانتخابي بالظهور مع رموز وبطاركة الكنيسة
الأرثوذكسية: بأنه زمن الأصوليات التي يمكن أن ترتكب مجازر بشعة كتلك التي
جرت في البوسنة طالما أن الكنيسة تباركها.
زمن صعود الليكود حطم خرافة أخرى عزف عليها إعلام التطبيع و (البيريزيون) العرب، وهي: أن الشعوب في وقت الخيار تنحاز إلى أولئك الذين
يعدونها بالرخاء والاستقرار وجني الثمار الاقتصادية، كما وعد (بيريز) ناخبيه،
وأنجر ذلك عبر الاستثمارات الهائلة التي تدفقت على اليهود بعد جهوده الضخمة في
هذا المجال.
في تلك الأمسية التي تلقى فيها (حزب بيريز) العربي الضربة القاضية:
صوت اليهود مرة أخرى لمشروعهم الصهيوني؛ ليثبتوا خيارهم الحر ورفعهم
لأصولية يهودية مغضوب عليها، وليزيحوا وهم الشرق أوسطية، ويؤكدوا واقع
(إسرائيل الكبرى) ، حتى ولو شحب وجه أنصار التطبيع، أو أصيبوا بقارعة
مزلزلة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
__________
(*) لسنا في مجال تقويم منهج كل من د إدوارد سعيد أو د إياد السراج حينما نستشهد بمواقفهم، إنما من باب الاستئناس بالأحداث، ومن باب (وشهد شاهد من أهلها) .
- البيان -(103/4)
دراسات شرعية
حقيقة الإيمان
بقلم: د. محمد أمحزون
إن من أهم الأسباب التي دعت إلى الكتابة في هذا الموضوع: النظرة الغالبة
على بعض الدعاة والعلماء، بل وبعض الجماعات الإسلامية التي تعتقد أن الإيمان
هو التصديق القلبي وقول اللسان المجرد من عمل القلب وعمل الجوارح، وبنت ...
على إثر ذلك لوازم وأحكاماً، أهونها تخطئة السلف في إجماعهم على أن الإيمان
قول وعمل، واتخاذ مواقف متساهلة في قضايا تحكيم الشريعة والولاء والبراء..
وغيرها.
ولذلك: فإن الغرض من هذه الدراسة هو تعريف حقيقة الإيمان الشرعي،
وذلك بعد استقراء النصوص الواردة في القرآن الكريم وفي الصحيحين عن مسألة
الإيمان.
كما أن هذه الدراسة ستبحث في دلالة الإيمان في السياق القرآني والحديثي،
وفي أركان الإيمان، وعراه، ومراتبه.. في إطار منهج أهل السنة والجماعة،
سائلاً المولى (سبحانه وتعالى) أن ينفع بها، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم.
1- الإيمان في اللغة:
قال ابن فارس في مادة (أم ن) : (الهمزة، والميم، والنون: أصلان
متقاربان، أحدهما: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر: التصديق، وأما التصديق: فقول الله (تعالى) : [وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا] ... [يوسف: 17] ) [1] .
وقال ابن منظور: الإيمان: التصديق [2] (يعني في اللغة) ، أما في
الاصطلاح الشرعي فذكر كلاماً آخر.
ويطلق الإيمان لغة على: الأمن ضد الخوف.
2- الإيمان على مستوى الدلالة في سياق القرآن والحديث:
أ- دلالة لفظ الإيمان ولفظ الإسلام على أصل الدين عند الإفراد:
تتنوع دلالات لفظ الإيمان بتنوع السياق كغيره من ألفاظ القرآن الكريم،
فدلالته على أصل الدين كدلالة لفظ الإسلام عندما يأتي كلا اللفظين في السياق
منفرداً، كقوله (تعالى) : [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينََ] [آل عمران: 85] ، وقوله (تعالى) : [وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] [المائدة: 5] ، وقوله (تعالى) : ... [وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَءَأَسْلَمْتُمْ فَإنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا
عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] [آل عمران: 20] ، وقوله (تعالى) : [فَإنْ
آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا] [البقرة: 137] .. فحكم (جل ذكره) بأن من
أسلم فقد اهتدى، ومن آمن فقد اهتدى، وسوى بينهما [3] .
ومنه: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس: (هل تدرون ما
الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم
رمضان ... ) (الحديث) [4] ، وقوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت،
وصوم رمضان ... ) [5] ، وقوله: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق..) (الحديث) [6] .
فالإيمان أو الإسلام هنا اسم شامل وجامع لكل الطاعات قولاً وعملاً، إذ لابد
أن يقترن فيه بالعلم في الباطن (المعرفة والتصديق (مقتضاه من العمل القلبي:
(المحبة، والتعظيم، والرضا.. وغير ذلك من أعمال القلوب) ، كما أنه لا بد أن
يقترن فيه بالخبر (قول اللسان) مقتضاه من الاستسلام والانقياد بالطاعة (عمل
الجوارح) [7] .
وهكذا.. إذا ذكر الإيمان مجرداً: دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة، وإذا
ذكر الإسلام مجرداً دخل فيه الإيمان والأعمال الصالحة، على أنهما اسمان لمعنى
واحد عند الإطلاق أو التجريد.
ب- دلالة لفظ الإيمان على الإيمان الباطن، ولفظ الإسلام على الأعمال
الظاهرة عند الاقتران:
عندما يذكر الإيمان مع الإسلام في السياق القرآني والحديثي: فإن الإيمان يدل
على الاعتقاد الباطني والإسلام يدل على الأعمال الظاهرة، كقوله (تعالى) : [قُلْ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ] [آل عمران: 84] ، وقوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا
مُسْلِمِينَ] [الزخرف: 69] ، وقوله (تعالى) : [عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ
أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ] [التحريم: 5] .
ومن الحديث: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الإسلام علانية والإيمان
في القلب) [8] وقوله في دعائه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت..) (الحديث) [9] .
وهكذا عند الاقتران، فالإيمان قسيم الإسلام، حيث فسر النبي -صلى الله
عليه وسلم- في حديث جبريل (عليه السلام (الإيمان بإيمان القلب وخضوعه، وهو
الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره،
وفسر الإسلام بأعمال الجوارح، وهي مباني أو أركان الإسلام الخمسة [10] ،
ودلالتهما جميعاً عند الاقتران تساوي معنى الدين، ولذلك: قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم) [11] .
ج - تجاذب الإيمان والإسلام مفهومَ الإيمان المجمل والإيمان الواجب على
مستوى الدلالة عند الاقتران:
الذي ينبغي تبيانه ها هنا هو: أن دلالة الإيمان ودلالة الإسلام قد تشتركان
على مستوى المفهوم، إذ إن الإيمان يرد في القرآن الكريم في سياق يراد به الإيمان
المجمل، كقوله (تعالى) : [إن تُسْمِعُ إلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ] ... [النمل: 81] ، وفي سياق آخر: نجد الإيمان يراد به الإيمان الواجب والكامل، كقوله (تعالى) : [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا] ... [الحجرات: 14] .
وما قيل في الإيمان يقال في الإسلام، حيث ترد لفظة الإسلام فتعني الإيمان
المجمل، كما في قوله (تعالى) : [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا
أَسْلَمْنَا] [الحجرات: 14] ، وفي سياق آخر نجدها تعني الإيمان الواجب، كما في
قوله (تعالى) : [إن تُسْمِعُ إلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ] [النمل: 81] .
وبذلك: يكون لفظ الإيمان والإسلام يتجاذبان هذين المفهومين على مستوى
الدلالة، وهو ما يدفع إلى القول بأن مفهومي المصطلحين يخضعان إلى السياق من
القرآن الكريم.
3- الإيمان في اصطلاح الكتاب والسنة:
أ- الإيمان في القرآن الكريم:
ورد لفظ الإيمان ومشتقاته في (811) موضعاً من القرآن الكريم، وفي هذا
دلالة على أهمية هذا الأصل العظيم، لقوله (تعالى) : [وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] [المائدة: 5] .
وقد جاء هذا اللفظ في السياق القرآني في صور ومعانٍ متعددة، يمكن
حصرها في خمس حالات، هي:
الحالة الأولى: ورد فيها الإيمان في (781) موضعاً: أنه قول وعمل، وهو
الإيمان الشرعي [12] .
الحالة الثانية: ذكر فيها الإيمان بمعنى الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض
الآخر، وهذا حال أهل الكتاب، وخاصة اليهود، جاء ذلك في (11) موضعاً، كما
في قوله (تعالى) : [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ
ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ] [13]
[البقرة: 85] [14] .
الحالة الثالثة: ورد فيها الإيمان بمعنى ادعاء الإيمان باللسان مع عدم ثبوته
في القلب، وهذا حال المنافقين، جاء ذلك في (10) مواضع، كما في قوله (تعالى) : [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ] [15] ... ... [البقرة: 8] .
الحالة الرابعة: ذكر فيها الإيمان بمعنى التشريك في الإيمان بالله (جل ذكره)
باتخاذ الأنداد معه، وهذا حال المشركين، جاء ذلك في (6) مواضع، كما في قوله
(تعالى) : [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] [يوسف: 106] [16] .
الحالة الخامسة: ورد فيها الإيمان بمعنى التصديق الخبري، وذلك في (3)
مواضع، كما في قوله (تعالى) : [وَمِنْهُمُ الَذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ
أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
رسول الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [التوبة: 61] ، يؤمن للمؤمنين، أي: يصدقهم [17] .
وهكذا.. فما عدا الحالة الأولى، فإن الإيمان في الحالات الثانية والثالثة
والرابعة ذكر في القرآن على وجه الذم؛ لأنه ليس الإيمان الشرعي المطلوب، بل
هو مجرد ادعاء، أو اتباع الهوى وتحريف الكلم عن مواضعه، أو اتخاذ الأنداد
والشركاء مع الله (جل ذكره) .
أما الحالة الخامسة: فلا علاقة لها بمفهوم الإيمان الشرعي الذي هو نقيض
الكفر والشرك والنفاق، حيث ورد فيها لفظ الإيمان بمعنى التصديق الخبري.
ب- الإيمان في السنة:
أما الإيمان في السنة: فهو قول وعمل؛ ولهذا استهل الإمام البخاري (رحمه
الله) كتاب الإيمان بقوله: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بني ... الإسلام [18] على خمس) ، وهو قول وفعل، يزيد وينقص [19] .
على أن جميع الأحاديث النبوية الواردة في الصحيحين تتحدث عن علم القلب
وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، وهي الأجزاء المكونة للإيمان الشرعي [20] . وهذه بعض الأمثلة:
فمن الأحاديث: ما يشمل شُعَب الإيمان كلها، كحديث: (الإيمان بضع
وستون شعبة، فأفضلها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) [21] ، وحديث جبريل (عليه السلام) عن الإسلام، والإيمان والإحسان [22] ، وحديث ...
سفيان بن عبد الله الثقفي (رضي الله عنه) قال: قلت يا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: (قل آمنت بالله
فاستقم) [23] .
ومن الحديث النبوي ما يخبر عن علم القلب، كقوله: (انتدب الله لمن خرج
في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي: أن أرجعه بما نال من أجر أو
غنيمة أو أدخله الجنة ... ) الحديث [24] .
ومن الحديث ما ينبئ عن عمل القلب، كقوله: (........ فإن الحياء من ... الإيمان ... ) الحديث [25] وقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) [26] .
ومنه من ينبئ عن قول اللسان، كقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ... ) الحديث [27] ، وقوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ... ) الحديث [28] .
ومنه ما أورد عمل الجوارح من فعل الطاعات وترك المعاصي، كقوله لوفد
عبد القيس: ( ... هل تدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمساً من المغنم، ونهاهم عن الدّبّاء، والحَنْتَم، والمُزَفّت) [29] ، وقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن،
ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن) [30] .
وخلاصة القول: بعد استقراء جملة من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة
الواردة في الإيمان تبين أن الإيمان: اعتقاد، وقول، وعمل، وأنه التزام وتنفيذ،
وإقرار وامتثال، وطاعة باللسان والقلب والجوارح، وأنه يزيد بالطاعات وينقص
بالمعاصي.
ولهذا: عرّفه السلف تعريفاً جامعاً بقولهم: الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وثبت إجماعمهم على ذلك [31] .
والقصد من قولهم: (قول وعمل) أي: أرادوا قول القلب [32] واللسان
وعمل القلب والجوارح [33] .
4- ركنا الإيمان: القول والعمل، والعلاقة بين أجزائهما:
إن العلاقة بين علم القلب وقول اللسان وأعمال القلب وأعمال الجوارح علاقة
لا انفكاك عنها، ومن سوء فهمها دخل على كثير من المسلمين قديماً وحديثاً الوهم
والانحراف، حيث ظنوا أنه يمكن أن يكون إنسان كامل الإيمان في القلب مع عدم
عمل الجوارح مطلقاً، كما ظنوا أن تماثل الناس في أعمال الجوارح يقتضي تماثل
إيمانهم وأجورهم، ولم يدركوا أنه حسب علاقة عمل الجارحة بعمل القلب يكون
الحكم على العمل والثواب عليه، إذ قد يتفق العملان في المظهر والآداء، وبينهما
مثل ما بين السماء والأرض في الدرجة والأجر، فشتان بين صلاة يقترن بها
الخشوع وحضور القلب وحسن الآداء، وصلاة يتشعب فيها البال في أودية الدنيا
منقورة كنقر الغراب.
ولفهم هذه القضية ينبغي معرفة ركني الإيمان: القول والعمل، وحقيقة
الترابط بين أجزائهما على ضوء مذهب السلف:
يقول ابن تيمية (رحمه الله) : (أجمع السلف: أن الإيمان قول وعمل، يزيد
وينقص، ومعنى ذلك: أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل
الجوارح.
فأما قول القلب: فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول.
وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو: حب الله ورسوله -صلى الله عليه
وسلم-، وتعظيم الله ورسوله، وتعزير الرسول وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه، والإخلاص له والتوكل عليه.. إلى غير ذلك من الأحوال.
فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يستلزمها ويوجبها التصديق
والاعتقاد، ويتبع الاعتقاد: قول اللسان، ويتبع عمل القلب: عمل الجوارح، من: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج.. ونحو ذلك) [34] .
ويمكننا إيضاح هذا المفهوم في الشكل الآتي:
القول: إقرار القلب وتصديقه , إقرار اللسان وتصديقه (شهادة أن لا إله إلا الله) .
العمل: انقياد القلب وإذعانه انقياد الجوارح وامتثالها (تحقيق أعمال القلوب) ... (فعل الأوامر وترك النواهي) .
ومن هذين الركنين (القول والعمل) والأجزاء المتفرقة عنهما تتركب حقيقة
الإيمان الشرعي [35] .
ويمكن توضيح العلاقة بين هذه الأجزاء بمثال الصلاة؛ فالصلاة وهي من
أعمال الجوارح ورد تسميتها في القرآن الكريم إيماناً في قوله (تعالى) : [وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ] [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس (1) ، فهي
تشمل ركني الإيمان بمكوناته الأربعة: علم القلب، وعمله، وقول اللسان، وعمل
الجوارح.
أما علم القلب فهو: إقراره وتصديقه بوجوبها، وعمل القلب هو: الانقياد
والإذعان والخضوع بأدائها، وقول اللسان هو: القراءة والأذكار الواردة فيها،
وعمل الجوارح هو: القيام والركوع والسجود [36] .
علاقة علم القلب وعمله بقول اللسان وعمل الجوارح:
إن علم القلب يتعلق بالتوحيد الخبري الاعتقادي؛ لأن الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر يتضمن توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وتصديق الرسول في كل ما أخبر به عن ربه من الكتب وما فيها، والملائكة
وأعمالهم وصفاتهم، والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة ومقادير
الخلق، إيماناً مفصلاً ومجملاً.
وعمل القلب يتضمن التوحيد الطلبي الإرادي، وهو توحيد الله (عز وجل)
بعبادته وحده حبّاً، وخوفاً، ورجاءً، ورغبةً، ورهبةً، وإنابةً، وتوكلاً، وخشوعاً، واستعانةً، ودعاءً، وإجلالاً، وتعظيماً، وانقياداً، وتسليماً لأمره الكوني وأمره
الشرعي، ورضاً بحكمه القدري الشرعي.
وشهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) التي هي رأس الأعمال
الظاهرة وأول فريضة على العبد إنما هي إنشاء للالتزام بنوعي التوحيد الخبري
الاعتقادي والطلبي الإرادي، ومن ثم: سميت كلمة التوحيد، ومن هنا: كان أجهل
الناس بها من ظن أن المطلوب شرعاً هو التلفظ بها باللسان فقط [37] غير مدرك
العلاقة العضوية بين علم القلب وقول اللسان من ناحية، وبين عمل القلب وعمل
الجوارح من ناحية ثانية، فكل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة على لسانه أو
جوارحه لابد أن يكون تعبيراً لإراداته، وإلاّ كان صاحبه منافقاً.
ومن هنا: فالقلب موضع الإيمان الأصلي ومستودعه، وإيمانه أهم أجزاء
الإيمان. ولذلك: كان علمه وعمله خاصة هو أصل الإيمان الذي لايوجد بدونه مهما
أقر اللسان وعملت الجوارح من الإيمان، ولذا: لم يسم المنافق مؤمناً، وإن نطق
بكلمة التوحيد وكثر عمل جوارحه بالصلاة والجهاد.. بل حتى المؤمن إذا نوى
بعمله وجهاده وصدقته طلب الدنيا أو الرياء حبط عمله وتبدلت المثوبة في حقه
عقوبة وعذاباً [38] .
وهذا مما يدل على جلالة وعظم علم القلب وعمله وأهميتهما القصوى، إذ هما
مصدر توجيه اللسان والجوارح ومنبع عملها وأساس خيرها وشرها، لقوله (تعالى) : [لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ] ... [البقرة: 225] .
على أن ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلب كالصدق، والإخلاص واليقين ... والمحبة، والرضا أمر محسوس يدل على ارتباط أجزاء الحقيقة الإيمانية ارتباط
العلة بالمعلول، فعلى محك هذه الأعمال القلبية بطلت أكثر دعاوى المتعبدين،
وهلك كثير من الخلق؛ فالصدق: يخرج كل من ادعى الإيمان وأظهره وهو يبطن
خلافه من المنافقين، والإخلاص: يخرج كل من عبد مع الله غيره من المشركين،
واليقين: يخرج من زعزعته الشبهات واعتراه الشك في أمر الله من الزنادقة
والفلاسفة المتشككين، والمحبة: تخرج من لم يحقق متابعة الرسول من المبتدعة
الضالين، والرضا: يخرج من اعترض على شرع الله وأمره ونهيه، أو اعترض
على أفعاله وقضائه وقدره، أو كره بعض ما أنزل الله من أصحاب الرأي والأقيسة
العقلية والأعراف السياسية [39] .
ولما كان القلب هو مركز الإرادة والعقل والتوجيهات: ورد ذكره في (132)
موضعاً من القرآن الكريم، كما استأثر في السنة بحيز كبير (1) ، وهذه بعض
الأمثلة من نصوص الكتاب والسنة:
قال (تعالى) : [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا] ... [الحج: 46] ، وقال (جل ذكره) في حق من حقق الولاء والبراء: [أُوْلَئِكَ ... كَتَب فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ] [المجادلة: 22] ، وقال (تعالى) : ... [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ] [الأنفال: 2] ، وقال (تعالى) : [وَإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ] [الزمر: 45] ، وقال (تعالى) : [وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ] [التوبة: 45] .
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (ألا إن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [40]
وقوله: (التقوى ها هنا) ثم أشار بيده إلى صدره ثلاث مرات [41] ، وقوله:
(الإسلام علانية، والإيمان في القلب) [42] وقوله: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي
على دينك) [43] .
ومع الأسف، لقد ترتب على إهمال أعمال القلوب وإغفالها من الآثار المدمرة
في حياة الأمة الشيء الكثير، ومن أخطر ذلك: انحسار مفهوم العبادة الذي أصبح
قاصراً على شعائر الصلاة والزكاة والحج، ووقوع كثير من الناس في الشرك
الأكبر بتحكيم القوانين الوضعية والتحاكم إليها وإحلالها محلّ الشريعة، بل هناك
من دعاة العلمانية في الدوائر الرسمية والثقافية من يرفع عقيرته معترضاً على كثير
مما أنزل الله، خاصة في مجال الحجاب والولاء والبراء والجهاد والسياسة الشرعية
والمعاملات المالية ... وغير ذلك من أحكام الشريعة.
- البيان -
__________
(1) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، انظر مادة: أم ن.
(2) ابن منظور: لسان العرب، انظر مادة: أم ن.
(3) ابن منده: كتاب الإيمان، ج 1، ص 322.
(4) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 188.
(5) المصدر نفسه، كتاب الإيمان، ج1، ص 177.
(6) المصدر نفسه، كتاب الإيمان، ج2، ص 6 5) ابن تيمية: الإيمان، ص 176.
(7) أخرجه أحمد في المسند (بترتيب الشيخ عبد الرحمن الساعاتي) ، ج1، ص 66.
(8) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب التهجد، ج2، ص 41.
(9) ابن تيمية: الإيمان، ص 250.
(10) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 18.
(11) انظر تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) ، وقد بيّن أبو جعفر الطبري معنى الإيمان عند تفسيره لقوله (تعالى) في أول سورة البقرة: [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] [البقرة: 3] ، قال: (ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق، فيُدعى المصدِّق بالشيء قولاً مؤمناً به، ويُدعى المصدِّق قوله بفعله مؤمناً والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل وإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً) وهو النهج الذي سار عليه في تفسيره كله.
(12) وكذلك في الآيات: 88، 91، 93 من البقرة، 73 من آل عمران، 46، 51، 136، 150، 155 من النساء.
(13) وقال أبو جعفر في تفسير قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَذِي نَزَّلَ] [النساء: 136] : (فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه، وقد سماهم مؤمنين؟ قيل: إنه (جل ثناؤه) لم يسمهم مؤمنين، وإنما وصفهم بأنهم آمنوا، وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق؛ وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدقين بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد (صلوات الله عليهما) ، وصنف أهل إنجيل، وهم مصدقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذبون بمحمد والفرقان، فقال (جل ثناؤه (لهم: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا] ، يعني بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل، [آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ] محمد) المصدر نفسه، الآية 136 من النساء.
(14) وكذا: الآيات 14، 76 من البقرة، 72، 119 من آل عمران، 60 من النساء، 41 من المائدة، 47 من النور، 61 من المائدة، 10 من العنكبوت.
(15) وكذا: الآيات 72 من النحل، 67 من العنكبوت، 41 من سبأ، 12 من غافر.
(16) وكذا: 94 من التوبة، و17 من يوسف.
(17) للتنبيه: فإن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد عند الإفراد أو الإطلاق، كما سبق بيانه في مبحث: الإيمان على مستوى الدلالة في السياقين القرآني والحديثي.
(18) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 7 16.
(19) انظر الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الإيمان، ج1، من ص 7 إلى ص 20، والجامع الصحيح لمسلم (بشرح النووي) ، كتاب الإيمان، ج1، من ص 145 إلى ص 244، وج2، من ص 2 إلى ص 233.
(20) سبق تخريجه.
(21) (أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 18.
(22) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج2، ص 9.
(23) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 14.
(24) المصدر نفسه، ج1، ص 11 5) المصدر نفسه، ج1، ص 9.
(25) المصدر نفسه، ج1، ص 8 9.
(26) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 206.
(27) سبق تخريجه.
(28) المصدر نفسه، ج2، ص 41 42.
(29) نقل إجماع السلف: أن الإيمان قول وعمل كثير من العلماء، منهم: البخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو عمرو الطلمنكي، والقاسم بن سلام، والبغوي، وابن عبد البر القرطبي، وابن تيمية انظر: البغوي: شرح السنة، ج1، ص 38، واللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ج1، ص 173، 176، وابن عبد البر: التمهيد، ج 9، ص 238، وابن تيمية: الإيمان، ص 292 293، وابن حجر: الفتح، ج1، ص 47.
(30) أي: علم القلب وتصديقه.
(31) ابن تيمية: الإيمان، ص 162 163.
(32) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 7، ص 672.
(33) د سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، ص 372.
(34) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 15.
(35) ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، ص 374 375.
(36) المرجع نفسه، ص 382.
(37) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، ج 13، ص 50.
(38) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، ج3، ص 69، وظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، ص421 436 (بتصرف) .
(39) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص 549 551، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ج5، ص 454 460.
(40) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 19.
(41) أخرجه أحمد في المسند (بترتيب الشيخ الساعاتي (، ج1، ص 66.
(42) سبق تخريجه.
(43) أخرجه الترمذي في سننه، انظر: جامع الأصول لابن الأثير، كتاب الدعاء، ج4، ص 342.(103/8)
دراسات تربوية
تعليمنا والعلم المفقود
بقلم: محمد بن عبد الله الدويش
إن المتأمل في التعليم السائد اليوم سواءً أكان على مقاعد الدراسة، أو حتى
في حلق العلم ودروس المساجد يرى أن هناك إهمالاً عند الكثيرين في العناية بتعليم
الرقائق والأدب والسلوك، وأنهم شغلوا كثيراً بتعليم المسائل والخلافيات وآراء
الرجال، وصار الحديث في هذه القضايا غالباً من اختصاص الوعاظ القصاصين
وحدهم، لذا: غلبت علينا قسوة القلب، وفعلت الأهواء بنا ما فعلت إلا من رحم
ربك.
وهذه إشارات عاجلة تؤكد أهمية العناية بهذا الجانب من العلم، وضرورة
تقريره ضمن منهاج التعليم، إن كنا نريد أن تُخرِج لنا هذه البرامج علماء ربانيين.
إن هذا المطلب الملح تدفع إليه الحقائق الآتية:
أولاً: طالب العلم داعية ومعلم بفعله قبل قوله:
إن طالب العلم وهو يسعى لنشر الخير والعلم لدى الناس، لا يقف دوره على
مجرد تبليغ المسائل بقوله، بل يجب أن يرى الناس ذلك من خلال سلوكه وسمته.
لهذا قال أبو العالية: (كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه: نظرنا إلى صلاته، فإن
أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه) [1] .
بل كان السلف يعدون تعلم هدي العالم وسمته مطلباً أعلى من تعلم المسائل،
قال إبراهيم: (كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله) [2] .
وقال ابن سيرين: (كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم) [3] .
وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن: (نحن إلى كثير من الأدب أحوج
منا إلى كثير من حديث) [4] .
وأوصى حبيب الشهيد (وهو من الفقهاء) ابنه، فقال: (يا بني: اصحب
الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إليّ من كثير من الحديث) [5] .
فكم يترك طالب العلم أثراً على تلامذته، وعلى عامة الناس من خلال هديه
وسمته، وسلوكه وعمله، بل وكم يمحو الخلل في سلوكه الكثير الكثير مما يدعو
الناس إليه بقوله.
ثانياً: عوائق في وجه طالب العلم:
يتعرض طالب العلم لمزالق خطيرة وعوائق تعرض له كما تعرض لسائر
الناس، بل ربما كانت في حقه أخطر، ومنها:
1- الإعجاب بالنفس: وهذا (عافنا الله منه) عنوان الضلالة وبداية الشطط
والانحراف، وليس أدل على ذلك من أن الشيطان إنما طرد من رحمة الله، وكتبت
عليه اللعنة إلى يوم الدين بسب العجب والغرور الذي قاده للاستكبار عن أمر الله.
قال الغزالي: (والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم، ومحل
استقرارهم، والصفات الرديئة مثل: الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر
والعجب وأخواتها، كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب) [6] .
2- الحسد، وهو خصلة ذميمة، وصفة قبيحة، يسعى الشيطان إلى إهلاك
الصالحين بأن يقذفها في قلوبهم.
3- الهوى، وحين يستحكم بصاحبه يريه الحق باطلاً، والباطل حقّاً،
والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
4- لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، ولهذا: أخذ الله المواثيق على الذين
آتاهم العلم [وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ]
[آل عمران: 187] ، وتوعد الذين يكتمون العلم فقال: [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أََنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون] [البقرة: 159] ولم يقبل (تبارك وتعالى) توبة هؤلاء إلا بشرط البيان، فقال: [إلاَّ الَذِينَ تَابُوا وَأََصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أََتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأََنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم]
[البقرة: 160] .
5- التوصل بالعلم للأغراض والمكاسب الشخصية، ولهذا توعد الله (تبارك
وتعالى) أمثال هؤلاء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أََنزَلَ
اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًً أُوْلَئِكَ مَا يَاًكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلاَّ النَّارَ وَلا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أََلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أََصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] [البقرة: 174، 175] .
ولله در الجرجاني (رحمه الله) حين قال:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى النّاسَ من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سُلّما
إذا قيل هذا مورد قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لا قيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
وليس المقصود هنا تعداد الآفات التي يمكن أن يقع فيها طالب العلم، فهذه
أمثلة تدل على ما سواها، ونماذج تذكر بأخواتها، فما السبيل لتجاوز هذه الآفات؟
وما الطريق لاجتنابها؟ وهل نحن نعلِّم طالب العلم ما يكون له وسيلة لتجاوزها؟ أم
أننا نعنى بإعطائه الأداة، ونهمل بناء النفس التي تحمله؟
ثالثاً: صفات أهل العلم في القرآن:
إن التعلم يهدف إلى الرقي بالمرء إلى منازل أهل العلم، فما صفاتهم في كتاب
الله (عز وجل) ؟ :
أ- هم يسجدون لله ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته [قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا
تُؤْمِنُوا إنَّ الَذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً] [الإسراء: 107- 109] إنه ليس هدياً خاصّاً بهذه الأمة؛ بل
هو سنة فيمن كان قبلنا.
وقال عبد الأعلى التيمي: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا ... يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله (تعالى) نعت العلماء، ثم قرأ القرآن [إنَّ الَذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ... ] ... ... ... [الإسراء: 107 - 109] [7] .
ب- والعلماء هم أهل الخشية لله (سبحانه وتعالى) [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
العُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] [فاطر: 28] .
ج- والذين يعلمون يقنتون لله سجداً وقياماً، يحذرون عذابه ويرجون رحمته
[أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [الزمر: 9] .
أليس من واجب طالب العلم أن يتصف بهذه الصفات، وأن يتطلع إلى هذه
المنازل؟ فهل في تعليمنا ما يحققها لديه ويغرسها في نفسه؟ ونعوذ بالله إن كان فيه
ما يمحو بقية أثرها ويزيله؛ فهذا عنوان البوار والهلاك.
رابعاً: العناية به في عصر النبوة:
ويصور لنا ذلك أحد شبان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنهم
كانوا يعنون بتعلمه، فعن جندب بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: كنا مع النبي -
صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن،
ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً [8] .
فهو يذكر لنا (رضي الله عنه) جانباً مهمّاً من جوانب التعلم التي قد غفل عنها
كثير من طلبة العلم اليوم، فأهملوا تعلم الإيمان ومسائله، وشعروا أن العلم إنما
يتمثل في تعلم مسائل الأحكام وحدها، والعناية بجمع آراء الرجال واختلافهم حول
مثل هذه المسائل، ونسي أولئك أصل الأصول وأساس الأسس، لذا: فلا نعجب
حين ندرك هذا الخلل أن نرى عدم التوافق بين ما يحمله بعض الناس من العلم وبين
سلوكه وسمته.
وعن أبي الدرداء (رضي الله عنه) قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: (هذا أوان يُخْتَلَسُ العلم من الناس،
حتى لا يقدروا منه على شيء) ، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، وكيف يُخْتَلَسُ منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئه
نساءنا وأبناءنا، فقال: (ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟) قال جبير:
فلقيت عبادة بن الصامت، قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء،
فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من
الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً [9] .
وانظر (رحمك الله) كيف عد عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) الخشوع
علماً، وأنه أول علم يرفع.
ويحكي لنا حنظلة (رضي الله عنه) صورة من مجالسهم مع النبي -صلى الله
عليه وسلم- في هذا الحديث، إذ يقول: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا
خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج، والأولاد
والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا ... وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله: (وما ذاك؟) قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من
عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر،
لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث
مرات [10] .
والشاهد من الحديث: أن تلك المجالس التي كانوا يجلسون فيها مع النبي -
صلى الله عليه وسلم- كانت تبلغ بهم إلى هذه الحال.
خامساً: عناية السلف به:
ولقد كان السلف (رضوان الله عليهم) يعنون بذلك، فها هو ابن مسعود
(رضي الله عنه (يقول: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله) [11] .
ومالك (رحمه الله) يقول: (العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس
بكثرة المسائل) [12] .
وقال أيضاً: (إن حقّاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية،
وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله) [13] .
وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه [14] .
ولعل من صور عناية السلف به: أنك لا تكاد تجد كتاب حديث يخلو من
أبواب الزهد والأدب والرقاق، بل وصنفوا مصنفات خاصة في ذلك، مثل:
الجامح لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب، والمحدث الفاصل للرامهرمزي،
وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وأخلاق العلماء، وأخلاق أهل القرآن
كلاهما للآجري.
فهل نعيد الاعتبار لهذا العلم المفقود؟ .
__________
(1) رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل، ص409.
(2) جامع بيان العلم وفضله، 1/127.
(3) جامع بيان العلم وفضله، 1/127.
(4) جامع بيان العلم وفضله، 1/127.
(5) جامع بيان العلم وفضله، 1/127.
(6) إحياء علوم الدين، 1/49.
(7) (أخرجه الدارمي، ح/ 296.
(8) رواه ابن ماجة، ح /61.
(9) رواه الدارمي، ح/293.
(10) رواه مسلم، ح/2750.
(11) جامع بيان العلم وفضله، 2/52.
(12) جامع بيان العلم وفضله، 2/52.
(13) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/156، وانظر آداب طالب العلم لمحمد رسلان.
(14) أخرجه الدارمي، ح/300.(103/20)
خواطر في الدعوة
تجار قريش
محمد العبدة
من الأشياء الملفتة للنظر والمثيرة للإعجاب في تاريخ البعثة النبوية والحديث
عن مكة، أنه رغم اشتغال قريش بالتجارة لم يعترهم ما يعتري التجار من شدة
الحرص والخوف على المال والسعي لحمايته، فكانوا من أكرم الناس وفادة ورفادة، كما لم يعترهم الجبن والضعف رغم بعدهم عن الغزو والسلب كما كانت تفعل
سائر العرب، فكانوا من أشجع الناس، بل كانوا كالأسود على براثنها، وعندما
جاء الإسلام كان من الذين استجابوا له وانقادوا إليه أبو بكر الصديق، وعبد
الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان.. وهم من تجار قريش، وقد قدموا أموالهم
دعماً للدعوة الناشئة ودعماً للدولة الناشئة في ساعة العسرة، وكان مال أبي بكر
خير مواساة للرسول في بداية الدعوة.
إن المال خير وبركة إذا سُخِّر لتقوية الدعوة ونشرها، وهو وسيلة ناجعة من
وسائل الإعداد، والدعوة بحاجة للمال في كل عصر، ولكن لا يعني هذا أن يكون
له الدور الأكبر، وأن يكون لصاحب المال الدور القيادي وإن كان ينقصه العلم
والفقه في الدعوة، كما ينقصه الحزم والعزم، إن ما يقدمه المسلم في هذا المجال
يبتغي به وجه الله، فله الأجر والثواب عند الله، وله الشكر والدعوات الصالحة من
الناس، أما أن يقدم صاحب المال لتكون له اليد الطولى في الأمور، فهذا سفه في
الرأي، وفشل في مسيرة الدعوة، ووضع للأمور في غير مواضعها، ونحن لا
نتكلم عن النيات، فذلك بين العبد وربه، ولكننا نتكلم عن ظاهر الأمر، كما إننا لا
نتكلم هنا من باب الاحتراس والتنظير للمسلمين، بل نتكلم عن واقع قد بلوناه
وعانينا منه في أكثر من قطر إسلامي، وهو موجود في واقع الدعوة المعاصرة (ولا
حاجة هنا طبعاً لذكر الأسماء (، ولكن هذا شيء يتعجب منه المرء، كيف يُبعد
أصحاب العلم والفكر والخبرة، ليتصدر أناس خليّون من كل هذا.
وإن هذه النظرة للأمور ما كانت لتحدث في الجاهلية قبل الإسلام، فقد شَرُف
أبو طالب ولم يكن غنيّاً، وكذلك والده عبد المطلب، وقد يَشْرُف الغني ولكن إذا
كان صاحب عقل ورئاسة، وشجاعة وكرم.
كما لا نجد هذا الخطل في الرأي عند أحزاب المناهج الوضعية، فلم نسمع أن
رجلاً أصبح زعيماً لغناه فقط، ولا يتمتع بمميزات القيادة، فلا ندري ماذا أصاب
المسلمين حتى خسروا الميزان، وإذا أرادوا التمثل بعثمان (رضي الله عنه) ، فإنما
اختاره ذلك الجيل لصفات عظيمة فيه، لا لشيء آخر.(103/26)
دراسات اقتصادية
الربا والأدوات النقدية المعاصرة
(3)
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقة السابقة من هذه الدراسة تمت مناقشة ماهية النقود في الإسلام،
والمواطن الربوية في عمليات العملات الورقية، وفي هذه الحلقة سيتم مناقشة
أدوات الدفع من غير النقود الورقية، ومواطن الربا في هذه الأدوات.
لقد تعددت أدوات الدفع المستخدمة في النظام النقدي المعاصر، كما تعددت
أشكال الوسائل المستخدمة في دفع الالتزامات، وبخاصة بعد ثورة الاتصالات
الإلكترونية، بحيث أصبح العالم مرتبط بعضه ببعض حيث تتم المبادلات التجارية، وسداد الالتزامات في وقت حدوث عمليات التبادل، مهما تباعدت الأقاليم وتعددت
أمكنة السداد، فأصبح من الممكن استخدام بطاقات الصرف الإلكتروني لسداد
الالتزامات في أي مكان في العالم.
أساليب سداد الالتزامات الجديدة:
لا بد من إلقاء الضوء على تلك الوسائل المستخدمة في سداد الالتزامات بدون
استخدام النقود الورقية وتحديد مواطن الربا فيها، وتتمثل هذه الأدوات في الأشكال
التالية:
الشيكات:
تنقسم الشيكات التي يتم تبادلها لسداد الالتزامات إلى نوعين:
النوع الأول: شيكات يصدرها الأفراد على البنوك التي يوجد لديها حسابات
خاصة بهم ويتم الإيداع فيها، و (الشيك) بهذه الصفة هو أمر مكتوب وفق أوضاع
شكلية استقر عليها الصرف، تتضمن أمراً صادراً من شخص (هو الساحب) إلى
شخص آخر (هو المسحوب عليه البنك) : بأن يدفع لشخص ثالث أو لأمره أو
لحامله (المستفيد) مبلغاً معيناً بمجرد الاطلاع [1] ، والشيك إذا كان لأمر ساحبه فهو
ورقة ثلاثية الأطراف، ويشبه عندئذ السّفْتَجَة [2] مع اختلاف بين السفتجة والشيك، من حيث: إن سحب الشيك بدون وجود رصيد للساحب لدى المسحوب عليه يفي
به، يُعتبر جريمة يستحق عليها الساحب العقوبة، وهي عقوبة مقصورة على
ساحب الشيك، والشيك بهذا الاعتبار: هو ورقة تجارية، والتكييف الفقهي للشيك
يرتبط بأن الإيداع في البنك المسحوب عليه من الساحب ليس إيداعاً حقيقة، وإنما
هو صورة من صور الإقراض يترتب عليها انتقال ملكية النقود إلى البنك المودع
لديه، وبهذا يكون السحب على الحساب الجاري في البنك من قبيل تقاضي دين أو
جزء منه، وهذا حق للمقرض: يباشره بنفسه إن شاء، أو بمن ينوب عنه؛ حيث
يتم تظهير الشيك تظهيراً ناقلاً للملكية، أو تظهير توكيل، والذي يقصد منه تمكين
المظهّر إليه من تحصيل قيمة الشيك لحساب المظهِر.
على ضوء ذلك: فإن الشيك يمثل نوعاً جديداً من أساليب سداد الالتزامات
واعتباره صورة من صور وسائل إيجاد النقود الائتمانية من خلال توسيع نطاق نقل
الأموال حسابيّاً بين مختلف الحسابات سواء في البنك الواحد أو فروعه أو بين
مختلف البنوك الأخرى وفروعها.
الشيك وفق أسلوب التعامل به الجاري عرفاً بوصفه أداة للتحويل على مدينه
(البنك) بسداد ما عليه من التزام من وديعته التي لدى البنك جائز شرعاً؛ على
أساس القاعدة الشرعية: الأصل في الأمور الإباحة إلا ما جاء دليل بحرمتها، ولا
يدخل الربا في الشيك نفسه بوصفه وسيلة من وسائل دفع الالتزامات المستحدثة،
أي: إنها تقوم بدور النقود من حيث سداد الالتزام عند شراء سلعة من السلع ... ...
وإذا كانت السلعة ذهباً أو فضة مصنعة، فهل يجوز دفع قيمة هذه السلع المصنعة من
الذهب أو الفضة بالشيك، بحكم أن أساس النقود الورقية مرتبط بالذهب من حيث ما
يعرف بالتغطية عند إصدار النقود الورقية أو عملة ورقية أخرى مغطاة جزئيّاً أو
كليّاً بالذهب، أو مربوطة سوقيّاً من حيث التأثير في قيمتها بالذهب مثل الدولار؟
إن الشبه تثار على أساس أن الشيك حوالة على البنك، وبالتالي: فقدان
شرط التقابض في المجلس، وعليه: فلا يجوز شراء الذهب أو الفضة؛ باعتبار
أن هذين المعدنين هما أصل النقدين، وأن النقود الورقية أجناس، والذهب جنس،
والفضة جنس، والعلة الجامعة بينهما هي الثمنية، وبالتالي: فلا بد من التقابض
في مجلس العقد، وعليه: فلا يجوز استخدام الشيك بدلاً عن النقد عن شراء هذين
المعدنين، أما الرأي الآخر: فيرى جواز ذلك؛ حيث إن الذهب والفضة المصنعة
أو التبر لا يعتبرون نقوداً، وبالتالي: فقدوا شرط الثمنية، وإنما يعتبرون سلعة من
السلع، يجوز شراؤها وسداد قيمتها بالشيك الذي يمثل وسيلة من وسائل الدفع
باعتباره حوالة، حيث يجوز أن يحيل المدين على دائنه وهو البنك الذي قام المحُيل
بوضع نقود لديه وديعة مسموحاً للبنك بالتصرف فيها، مع شرط إعادتها أو جزء
منها حسب طلب المودع أو بموجب أمر منه، وهذا الرأي يقوم على ما يراه ابن
القيم (رحمه الله) : بأن النقود هي وسيلة لتقويم السلع، وأن الذهب أو الفضة سواء
أكانا حلية أو سبائك هما سلع خرجت عن طبيعة النقود، وهو رأي سبقت الإشارة
إليه في الحلقات الماضية، ونحن نميل إلى الأخذ به، وعليه: فلا بأس من سداد
قيمة المصوغات والتبر والسبائك من الذهب أو الفضة بالشيكات التي يصدرها
المشتري على البنك الذي أودع لديه ماله.
النوع الثاني: (الشيك السياحي) وهو أسلوب من أساليب السداد الخاصة
بالمسافرين تمكنهم من سداد التزاماتهم المالية التي نشأت خلال قيامهم بالسفر خارج
بلدانهم، ويُعرّف (الشيك السياحي) بعدة تعاريف، منها (3) : (أنه شيك مسحوب
على مراسل البنك المصدر له) ، ومنها: (أنه الشكل المعدل لخطاب الاعتماد
السياحي، ويتميز بقابليته للوفاء لدى البنوك على المستوى العالمي) ، ومنها: (أنه
أحد أنواع الشيكات التي استحدثت لتمكين السياح من الحصول على ما يلزمهم من
نقود دون حاجة إلى حملها معهم والتعرض لمخاطر السرقة والضياع) .
بوجه عام، فإن الشيك السياحي هو: عبارة عن شكل من تلك الصكوك التي
يستخدمها المسافرون أداةً للوفاء، وتتميز بالسهولة من ناحية، حيث تكون مقبولة
في الوفاء، ليس فقط لدى فروع البنك المصدر لها أو لدى مراسليه، وإنما لدى
الأفراد أيضاً، ويقبل هؤلاء تسوية حقوقهم عن طريقها.
فالشيك السياحي هو: صك يحمل اسم شيك لكنه سند محرر في شكل تعهد
بالوفاء.
يأخذ الشيك السياحي المواصفات والشروط نفسها للشيك العادي الذي يصدره
الأفراد، إلا أنه يختلف عنه في أن من يقوم بإصدار الشيك السياحي يجمع بين
صفة الساحب والمسحوب عليه في الوقت نفسه، وبهذا يأخذ شكل الأوراق النقدية؛
حيث له خصائص أوراق النقد نفسها التي تتميز عن غيرها من الصكوك في: أنها
تصدر في مجموعات، كما تنقسم إلى قطع ذات قيم متساوية، كما أنها تصدر بدون
تحديد مدة معينة لتقادمها، ولكنها تختلف عن الأوراق النقدية من حيث إنها تعتبر
تعهداً بالدفع من جانب البنك المصدر لها مقابل إيداع بعض أوراق النقد، كما إنها
من ناحية التداول تتم على أساس التظهير، أما النقود فهي صكوك للحامل تنتقل من
يد إلى أخرى عن طريق التسليم المادي [4] ، وبالتالي: فإن الشيك السياحي هو
نوع من أنواع النقود الائتمانية يمكن عن طريقه تسوية الالتزامات دون حاجة إلى
الالتجاء إلى الأوراق النقدية.
تتمثل العلاقة في الشيك السياحي في أن لها ثلاثة أطراف: فالطرف الأول:
البنك أو الشركة المُصْدِرة للشيك السياحي، والطرف الثاني: المراسل أو البائع
الذي يتولى بيع هذه الشيكات للجمهور، حيث يعتبر وكيلاً عن المُصْدِر للشيك،
فالمراسل هو وكيل عن الشركة المصدرة لهذا الشيك، فالشيك لديه بمثابة وديعة،
وهو غير ملزم برد الثمن إلا بعد صرفها على المشتري، ويتقاضى البنك المراسل
عمولة لقاء مصارفته لهذه الشيكات، أما الطرف الثالث: فهو المشتري لهذا الشيك، حيث يقوم بدفع مبلغ معين من النقود، إما بالعملة نفسها المصدر بها الشيك أو
بعملة أخرى؛ فالعلاقة بين الشركة المصدرة للشيك السياحي والمشتري علاقة
تصارف، تمت من خلال المراسل الوكيل للبنك المصدر وفق عقد الإصدار الذي
يوقع عليه المشتري لهذه الشيكات، فيما يعرف بطلب الشراء، حيث حددت
التزامات المشتري التي من ضمنها التوقيع على الشيكات المشتراة في المكان
المخصص لحظة الشراء، والالتزام بالتوقيع مرة ثانية عند قبض قيمة الشيك أو
عند تظهيره لشخص آخر لقاء حصوله على سلع أو خدمات، وتنتهي دورة الشيك
السياحي بقيام المصدر الأول بسداد قيمتها لمن يقوم بالمطالبة بالسداد سواء المشتري
الأصلي أو من ظُهِّر له الشيك [5] .
من خلال الاستعراض السابق لطبيعة الشيك السياحي، فإن مجال الخوف من
تحقق الربا هو عند الشراء وعند البيع لهذا الشيك، فمن ناحية: شراء الشيكات
السياحية بقيمة دولارية تدفع عنها ريالات مثلاً؛ ففي هذه الحالة يعتبر الأمر
مصارفة ولا يتم التقابض النقدي، حيث يتم شراء صك ذمة بقيمة عدد من
الدولارات مقابل دفع ريالات وبموجب هذا في أي مكان من الأمكنة لدى مراسليه
(وكلائه) مع قابليته للتظهير، فهو سند دين، وبهذا: فهو لا يعتبر نقداً، ولكنه
بديل عن النقد، وعلى هذا الأساس: يمكن اعتبار تسليم الشيك مقابل العملة التي تم
شراؤه بها: تقابضاً ماديّاً، وعليه: فإذا تم إصدار الشيك بالعملة نفسها، وتم شراؤه
بالعملة المصدر بها، فلا يجوز الزيادة في قيمة الشيك، وما يتم دفعه يمكن تخريجه
على أساس السّفْتَجَة. والسفتجة تعرف: بأنها إعطاء مال لآخر مع اشتراط القضاء
في بلد آخر، والقصد منها: ضمان السلامة من خطر الطريق، فهو يدفع قيمة
الشيك السياحي على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة [6] ، لكن في حالة قيام
المشتري بشراء الشيك السياحي بنقد مخالف للنقد الذي صدر به الشيك؛ فلو كان
الشيك مصدراً بالدولارات، وتم دفع قيمة هذا الشيك بالريالات فيمكن تخريج الشيك
على أنه مصارفة، يتم التبادل فيها بين الشيك السياحي والعملة المشتراة به بسعر
صرف العملة الواردة في الشيك السياحي مع العملة المشترى بها، أي: إنه يجب
توافر شرط التقابض في مجلس العقد، أي قبض قيمة الشيك بالعملة المشتراة بها؛
سواء أكان القبض نقداً أو بتسجيل على الحساب مع تسليم الشيك السياحي للمشتري، باعتبار أن الشيك السياحي يتصف ببعض صفات النقود الورقية.
إن موطن الربا في الشيك السياحي هو: إذا تم شراء الشيك السياحي بالعملة
نفسها المصدر بها الشيك السياحي، وتفاوتت القيمة بين الشيك وما تم دفعة، أما إذا
اختلف نوع العملة المشترى بها الشيك مع العملة المصدر بها، فتنطبق أحكام
الصرف من حيث ضرورة توافر شرط التقابض، وكذلك ينطبق الأمر في حالة بيع
الشيك السياحي أو تظهيره.
بطاقات الائتمان:
بدأ استعمال بطاقة الائتمان بعد الحرب العالمية الثانية، وتقوم فكرة بطاقة
الائتمان على فكرة الشراء على الحساب؛ حيث كان يستعملها أصحاب المتاجر مع
فئة معروفة من عملائهم؛ حيث يسمح لهم بالشراء حاضراً، ثم الدفع في نهاية
الشهر أو بداية الشهر الذي يليه، ثم تطورت الفكرة لدى بعض المتاجر الكبيرة ذات
الفروع المتعددة، فأصدرت بطاقات بلاستيكية تحمل اسم الزبون ورقم حسابه مع
المتجر، ويسمح له أن يشتري على الحساب على أن يتم الدفع بعد إرسال الفاتورة
له، أو يقوم بدفع المستحق عليه على أقساط شهرية، بالإضافة إلى رسوم تحدد
على البطاقة، حيث يتم الاتفاق مع البنوك بإعطائهم ائتماناً على المبالغ المستحقة
لهم لدى الزبائن الممنوح لهم هذه البطاقات، حتى أصبح كل متجر يصدر مثل هذه
البطاقات، فأصبح يتعين على الزبون حمل عدة بطاقات، لكل متجر من المتاجر
التي يتعامل معها بطاقة، لأنه لا يستطيع استعمال بطاقة متجر في متجر آخر،
وهذا أدى إلى ظهور بطاقة واحدة على المستوى القومي تغطي كافة حدود الدولة،
وتقبل في جميع المتاجر في داخل الدولة الواحدة، وبالعمله المحلية، ثم تطور الأمر
بضمان حصولهم على قيمة مبيعاتهم وحسب السعر السائد لعملة كل دولة، بحيث لا
يتحمل التاجر أي مخاطر من تغيير سعر صرف العملة، ويحصل على مستحقاته
بسرعة وبعملته المحلية بدون الدخول في متاهات أسعار الصرف بين مختلف
العملات في دول العالم. [7]
كيفية عمل بطاقات الائتمان:
إن أسلوب عملية التعامل ببطاقات الائتمان يتمثل في تقديم بطاقة الائتمان التي
يتم الحصول عليها، إما مباشرة من المصدِر لها، أو عن طريق البنك الذي يتعامل
معه حامل البطاقة، فعند شرائه لسلعة من السلع أو صرف مبلغ من المبالغ من
خلال أجهزة الصرف الآلي لا يحتاج الأمر إلا إلى إدخال البطاقة في الجهاز الذي
يتولى جميع الإجراءات الخاصة بالسحب وإعطائه إشعاراً بما تم خصمه ودفعه إليه، أو قيام البائع الذي يتولى استلام بطاقة الائتمان الخاصة بالمشتري التي تحمل
اسمه ورقم حسابه وتوقيعه، حيث يتم إدخال البطاقة في جهاز خاص وكتابة المبلغ
المحدد في نموذج ورقي يقوم المشتري حامل البطاقة بالتوقيع عليه، بما يماثل
التوقيع الذي يوجد على البطاقة، وفي بعض الأحيان: يقوم البائع بالاتصال برقم
معين، ليتأكد من وجود رصيد كافٍ في حساب حامل البطاقة، وبعد إتمام العملية
يسلم البائع المشتريات التي وقع عليها المشتري، ويحتفظ بنسخة منها لديه،
ونسخة ثانية ترسل إلى الجهة المصدرة للبطاقة للقيام بسداد المستحق للبائع، وفي
نهاية الشهر تُرسل فاتورة بها كشف الحساب بجميع المشتريات والمسحوبات النقدية
على عنوان حامل البطاقة حيث يقوم بدفع كامل المبلغ أو دفعه على أقساط شهرية،
ويتم الدفع: إما نقداً، أو بشيك، أو خصماً من الحساب لدى البنك الوسيط في منح
صاحب الحساب لديه هذه البطاقة.
أنواع البطاقات:
تتعدد أنواع البطاقات، ويمكن تقسيمها إلى نوعين:
النوع الأول: بطاقات المتجر التي يمكن استعمالها فقط في تلك المتاجر أو
فروعها المنتشرة في أنحاء البلاد.
أما النوع الثاني: وهو أكثر شيوعاً: فهو البطاقات الشاملة التي لها طبيعة
دولية، مثل بطاقات (أمريكان اكسبرس) و (ميروا) (وماستر كارد) ... إلخ.
كما تنقسم تلك البطاقات من حيث الدفع إلى نوعين:
النوع الأول: يعرف ببطاقة السحب، وهي التي تسمح لحاملها بإمكانية
السحب النقدي من حساب حامل البطاقة، شريطة توفر ما يغطي المبلغ المسحوب
من الحساب وتسديد قيمة المشتريات من البضائع والخدمات لدى نقاط البيع المتوفر
لديها أجهزة الاتصال، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: قسم خاص بالسحب وتسديد
المشتريات داخل الدولة الواحدة، وقسم يتم السحب فيه خارج الدولة من خلال شبكة
الاتصال العالمية، ويتم القيد على حساب العميل مباشرة، وبعض بطاقات السحب
الدولية التي تصدرها بعض البنوك لا تشترط في حالة السحب من أجهزتها تسجيل
أي عمولة، ولكن في حالة السحب من أجهزة بنوك أخرى يتم تسجيل عمولة سحب
على حساب حامل البطاقة، ولا تستفيد الجهات المصدِرة لهذا النوع من البطاقات
التي لا تحتسب فائدة على السحب عند شراء البطاقة من مراكز البيع في خارج
الدولة أو داخلها من حساب حامل البطاقة، ولكنها تأخذ عمولة على مقدار المباع بما
يعادل أحياناً ما بين 2% إلى 7% من قيمة ما قام حامل البطاقة بشرائه.
النوع الثاني: ما يعرف ببطاقة الائتمان، حيث يمكن لحامل البطاقة السحب
أو الشراء وسداد ما قام بسحبه أو ما قام بشرائه من نقاط البيع على دفعات حسب
رغبته وضمن أقساط شهرية بحد أدنى تحدده الجهة المصدرة للبطاقة، وفي هذه
الحالة: فإن الجهة المصدرة للبطاقة تتقاضى فائدة على الرصيد المتبقي على حامل
البطاقة تتراوح بين 18% إلى 24% سنويّاً.
التكييف الفقهي لبطاقات الائتمان، ومواطن الربا فيها:
على ضوء ما سبق من تحديد لماهية بطاقات الائتمان: فإن هذه البطاقات
تمثل نوعاً جديداً من أساليب سداد الالتزامات وصورة من صور وسائل إيجاد النقود
الائتمانية من خلال توسيع نطاق نقل الأموال حسابيّاً بين مختلف الحسابات للبنك
الواحد أو البنوك المختلفة.
والسداد والسحب من حساب الشخص الذي يجري التعامل به باستخدام بطاقات
السحب الائتمانية جائز شرعاً على أساس القاعدة الشرعية: الأصل في الأمور
الإباحة إلا ما جاء دليل بحرمته، وهو يمثل سحباً وسداداً من وديعته التي لدى البنك، ولا يدخل الربا إلا فيما يعرف ببطاقات الائتمان؛ حيث يتم تسديد ما تم سحبه،
وما تم سداده من قبل البنك المصدر للبطاقة، واحتساب الفوائد على الرصيد غير
المسدد، فهذا يعتبر إقراضاً لمن يحمل هذا النوع من البطاقات الائتمانية، وكذلك ما
يتم تحميله على حساب حامل البطاقة الذي يقوم بالسحب النقدي بموجب بطاقات
الائتمان، كما أن هناك صورة أخرى للتعامل الربوي بالنسبة لمن يحمل بطاقة
الائتمان، حيث يقوم باستخدامها لسداد مشترياته، ويتم القيد الفوري على حسابه،
ولكن مُصدِر البطاقة الذي يقوم بالسداد للبائع نيابة عنه يأخذ نسبة من قيمة ما تم
شراؤه من البائع ما بين 2% إلى 7% من قيمة فاتورة البيع، فإن ما يأخذه البنك
يعتبر رباً؛ لأن ما يتم يشبه الخصم؛ فالبائع يقدم للبنك المصدر للبطاقة فاتورة
الشراء لخصمها لديه، وهو يقبل ذلك من أجل تنمية مبيعاته.
كلمة لمستخدم هذه البطاقات:
ولهذا: فإن مستخدم بطاقات الائتمان، ولو كان لا يدفع هو فائدة على ما يقوم
بشرائه لكفاية رصيده، فإنه يكون متعاوناً على الإثم، من خلال تشجيعه للبنوك
باشتراكه في هذه البطاقات، بجانب ما تسببه هذه البطاقات من محاذير، منها:
1- الإسراف في الاستهلاك؛ فوجود هذه البطاقات يؤدي إلى سهولة الشراء
الفوري والدفع المؤجل، مما يدفع بعض الأفراد إلى الإنفاق بدون حساب؛ حيث لا
يشعر المرء بتلك المدفوعات إلا عندما يتسلم كشف الحساب الشهري ويستحق عليه
الدفع، وهذا قد يقع تحت النهي الذي جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن عبد الله
بن مسعود: (أن رسول الله نهى عن التعقر في المال والأهل) ، كما قد يضطره إلى
دفع فوائد ربوية لعدم كفاية الرصيد عند المطالبة بالسداد.
2- رسوم الاشتراك لبعض بطاقات الائتمان تتراوح حسب نوعية البطاقة:
عادية، فضية، ذهبية من ثلاثمئة ريال سعودي إلى ألف ريال سعودي، بجانب أن
هناك رسوم تجديد سنوية تتراوح ما بين ثلاثمئة إلى سبعمئة ريال، وهذه الرسوم
التي تؤخذ نوع من أكل الأموال بالباطل من قبل مُصْدِري هذه البطاقات.
3- هناك بعض البنوك التي تحاول أن تمارس العمل على ضوء الشريعة،
ولكنها فيما يتعلق ببطاقات الائتمان تتساهل في الممارسة؛ بحكم أنها تقوم بعمل
الوكالة للشركات المصدرة لهذه البطاقات، فتقوم بإشعار عملائها بأن من يستخدم
أجهزة سحبها لا تأخذ عليه عمولة للسحب النقدي، وإذا تم السحب من أجهزة خاصة
ببنوك أخرى، فإنها تأخذ رسماً خاصّاً بالسحب النقدي، أما بالنسبة للشراء من نقاط
البيع: فهذه البنوك لا تأخذ من العميل شيئاً، حتى لو تجاوز ما تم دفعه رصيد
حسابه، لكنها تأخذ من البائع نسبة معينة لقاء سدادها للمشتريات التي تم استخدام
البطاقة المصدرة من قبلها، ولا شك أن ما تأخذه من البائع هو نوع من الخصم
الربوي، لا يجوز أن تمارسه تلك البنوك، وخاصة أنها تحاول أبراز الصورة
الإسلامية للتعامل.
4- العمولات (الربا) على الرصيد الذي لا يستطيع العميل أن يسدده عند
استلامه لكشف الحساب الوارد له من البنك مما يؤدي إلى تراكم الفوائد على الرصيد
حيث تصل نسبة الربا إلى ما بين 18% إلى 24% سنويّاً.
هل لاستخدام هذه البطاقات فوائد؟ :
حقق التعامل ببطاقات الائتمان بعض الفوائد، من أهمها:
1- الأمان: فالشخص لا يحتاج إلى حمل مبالغ نقدية كبيرة معه في كل
الأوقات، سواء أكان في داخل حدود بلده أو كان مسافراً في البلاد الأخرى؛ وبذلك
يقل تعرضه للسرقة، أو فقدان ما يحمله من نقود.
2- سهولة إجراء التعاملات التجارية ودفع فواتير الفنادق وإيجار السيارات
وغيرها.
وتحقيق هذه الفوائد وتجنب المحاذير الشرعية من استخدام بطاقات الائتمان
يمكن أن يتحقق إذا اقتصر الفرد على بطاقات السحب فقط، حيث إن هذه البطاقات
تماثل الشيكات من حيث اعتبارها وسيلة لسداد الالتزامات أو للسحب من مال حامل
البطاقة لدى البنك.
سؤال مهم:
والتساؤل الذي يمكن أن يثار فيما لو أخذ البنك عمولة لقاء استخدام بطاقات
السحب سواء على كل عملية سحب أو استفسار، أو عمولة مقطوعة سنوية لقاء
منح حامل البطاقة خدمة استخدام أجهزة الصرف الآلي.
ولا شك أن هناك مصاريف يتحملها البنك لقاء توفير هذه الخدمة سواء ما
يتعلق بقيمة الجهاز أو تكاليف الخطوط الهاتفية المستخدمة من قِبَل هذه الأجهزة،
فهل يجوز أخذ هذه العمولة؟ .
إن الإجابة على ذلك يحددها واقع السوق من ناحية، وواقع أعمال البنوك،
فإذا كانت البنوك تلتزم في أعمالها أحكام الشريعة، وكان توفير هذه الخدمة سوف
يؤدي إلى خسائر يتحملها البنك المصدر لهذه البطاقة، فلا بأس بأخذ عمولة
مقطوعة كأجرة لتوفير هذه الخدمة لمستخدم هذه البطاقة، بشرط عدم ربط هذه
العمولة بالزمن أو بالمبلغ المسحوب، وإنما هي أجرة تدفع للبنك لقاء توفيره لهذه
الخدمة، على أساس أن هذه الخدمة تؤدي إلى تحمل البنك نفقات إضافية، أما
بالنسبة لأخذ عمولة على نقاط البيع التي تستخدم أجهزة الصرف، فهذا لا يجوز
أخذه، لسببين:
الأول: أن البنك لم يتحمل أي خسارة، فالمبلغ تم خصمه من حساب حامل
البطاقة؛ وبالتالي: فأخذ أي عمولة يعتبر أخذاً لأموال الناس بالباطل.
الثاني: أن أخذ عمولة لقاء سداد قيمة ما اشتراه حامل البطاقة من البائع؛
سواء أكانت البطاقة بطاقة ائتمان أو بطاقة سحب دولية، فإن فاتورة البيع التي يتم
الخصم عليها تشبه (الكمبيالة) ، ومن الأمور المتفق عليها: أن ما يؤخذ من خصم
لقاء سداد قيمة الكمبيالة من تاريخ استحقاقها يعتبر ربا، ويسري هذا الحكم على ما
يؤخذ من البائعين؛ حيث يقوم مُصْدِر البطاقة بسداد قيمة ما اشتراه حاملو البطاقات
مقابل الخصم الذي يحصل عليه هو، أي: مُصْدِر البطاقة وليس حامل البطاقة،
وأن ما يعطيه البائع للمُصْدِر هو بمثابة خصم ... فلو لم يقم البائع بهذا الخصم، لما
قام مصدر البطاقة بسداد قيمة ما قام حامل البطاقة بشرائه، فالبائع إنما خضع لذلك
رغبة في زيادة مبيعاته، حيث إن معظم حاملي البطاقات قد لا يكون لديهم الرصيد
الكافي لتغطية مشترياتهم، وبالتالي: فإن عملية البيع التي تتم بين حامل البطاقة
والبائع هي بيع بالأجل، وضمان مصدر البطاقة الائتمانية وقيامه بالسداد بعد خصم
النسبة المقررة مسبقاً لقبول السداد للبائع، ثم مطالبة الحامل بالسداد، سواء بالكامل
أو بالتقسيط لمصدر البطاقة: هو نوع من أنواع بيع الدين بالدين.
__________
(1) بنوك تجارية بدون ربا، ص76، لكاتب الدراسة.
(2) حوالة صادرة من دائن، يُكَلّفُ فيها مدينه دفع مبلغ معين لإذن شخص ثالث أو لإذن نفسه، أو لإذن الحامل للحوالة، المعجم الوجيز، ص312 - البيان -.
(3) الشيكات السياحية: طبيعتها ونظامها القانوني، د أميرة صدقي، ص 21 22.
(4) المرجع السابق، ص 73 79.
(5) المرجع السابق، ص 112 128.
(6) الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، د عمر بن عبد العزيز المترك، ص279.
(7) بطاقة الائتمان: عيوبها ومحاسنها، د وديع أحمد فاضل كابلي، مجلة (أهلاً وسهلاً) ، 18 مارس 94م.(103/28)
دراسات تاريخية
فرعون باشا
نموذج للحاكم المستنير! !
(2)
بقلم:ياسر القارئ
بعد مقدمة عن ملامح المخطط الأوروبي لمواجهة الإسلام وتغريب الأمة بأيد
تنتمي إليها، استعرض الكاتب في الحلقة الماضية سيرة (محمد علي) ونشأته،
والعوامل الداخلية والمحلية والشخصية التي مكنته من اعتلاء هرم السلطة في مصر،
ثم ختم بسياساته الاقتصادية، ويستكمل في هذه الحلقة معالجة بقية الموضوع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
رابعاً: حروب محمد علي ومؤامراته:
لقد خاض محمد علي باشا حروباً مختلفة في الجزيرة العربية والشام،
والسودان، واليونان، مرة لحسابه الشخصي، ومرات عديدة لمصلحة قوى خارجية
استطاعت أن تجعل منه رجل الأمن في المنطقة بأسرها، ولكن قبل الخوض في
ذلك: ينبغي التساؤل عن الأسباب أو الأخطار المحتملة التي دفعت الباشا لتكوين
جيش قوي منظم بعد توليه السلطة مباشرة، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة
التي كانت تمر بها بلاد الإسلام بصفة عامة، خاصة أن العرب والمماليك
والعثمانيين وهم جيران الباشا القريبون أضعف من أن يقاتلوه، أما بالنسبة لصده
لقوى أوروبا المتربصة فهو في حكم المستحيل؛ إذ عجزت دار الخلافة بكل
مواردها عن فعل ذلك [1] .
إن السبب الرئيس لغزو محمد علي للسودان هو تأمين حدود دولته، وجلب
(الرقيق) ليكونوا نواة لجيشه الجديد؛ حتى يكون ولاء الجنود له وحده، وما ذاك إلا
لكون الباشا غريباً بذاته عن الشعب المصري، الذي أصبح يكن له كل البغض
والكراهية؛ بسبب سياساته الغاشمة، هذا بالإضافة إلى رغبة الباشا في إبعاد
الشعور الوطني عن الجيش، واستعباد الشعب المصري لخدمة مصالح بريطانيا،
ولضرب القوى الناهضة، كما سيحدث في الجزيرة العربية واليونان والشام [2] ،
بينما نجد أن بريطانيا التي أرهقها وأقلقها تنامي قوة الدولة السعودية الأولى التي
باتت تشكل خطراً على طريق التجارة بين الهند وأوروبا، ولعدم وجود عامل
مشترك لتكوين علاقة بينهما: لجأت إلى الاعتماد على عناصر محلية يمكن الوثوق
بها للقضاء عليها، فكان محمد علي باشا هو ذراعها في المنطقة [3] ، ومما يؤكد
هذه الحقيقة: أنّ تكليف السلطان للباشا اقتصر على تخليص الحجاز فقط، وليس
تعقب (الوهابيين) ، بيد أن الباشا وضع شروطاً تعجيزية للصلح، مما يعني
استمرار القتال، ولذا: فهي حملة صليبية في ثوب إسلامي [4] ، ونجد أن
بريطانيا قد أوفدت (فورستر سادلير) إلى الجزيرة العربية لتهنئة إبراهيم باشا
بقضائه على الوهابية! ، وبحث استعداده للتعاون في القضاء على القرصنة في
الخليج العربي التي تهدد الرعايا العثمانيين! ! ، والملاحظ هنا: أن مقاومة الغزو
البريطاني لسواحل الخليج، الذي كانت تتزعمه الدولة السعودية الأولى وحلفاؤها
سمته بريطانيا قرصنة بحرية، في الوقت الذي كانت تدعي فيه الحرص فيه على
رعايا الدولة العثمانية في المنطقة! تلكم هي بريطانيا التي قتلت المسلمين في الهند، والتي ترفض التدخل الأجنبي في المنطقة.
يقول محمد فريد بك: رأى السلطان محمود الثاني قمع الوهابية خشية امتداد
دعوتهم، وبالتالي: تفريق كلمة الإسلام! ، مما يخدم أوروبا المتربصة، فكلّف
محمد علي بتلك المهمة في سنة 1222هـ/ 1807م الذي عهد بدوره إلى ابنه طوسون برئاسة الحملة الأولى، ثم إبراهيم لقيادة الحملة الثانية سنة 1231هـ/ 1816م [5] ، وقد أشرت فيما سبق إلى عرض الباشا التوجه إلى الحجاز مقابل منصب والي مصر، لكن محمد فريد بك متحامل على السعوديين؛ كونه من عمّال حفيد محمد علي باشا الخديوي عباس حلمي الثاني! ، ثم كيف يمكن لـ (دعوة هدامة!) تهدف إلى تفريق المسلمين بالانتشار في أرجاء الجزيرة كلها وحتى العراق والشام لو لم تكن على الحق؟ !
ثم إن إبراهيم باشا استعان بالقادة العسكريين الفرنسيين مثل (ميير) إبان حملته
سنة 1235هـ[6] في الوقت الذي يقول الجبرتي عن معسكر إبراهيم بأنه: لا تقام
فيه صلاة، وأكثر عساكره على غير الملة، وبصحبتهم صناديق المسكرات، وقد
كشفوا عن كثير من قتلى عسكره فوجدوهم غلفاً غير مختونين [7] .
وبهزيمته للسعوديين قضى الباشا على محاولة جادة لقيام وحدة إسلامية من
الخليج إلى البحر الأحمر، ومن الأناضول إلى بحر العرب؛ بسبب عمالته لصالح
الأوربيين وضد شعوب المنطقة [8] .
لماذا اتجه الباشا إلى اليونان؟ :
بعد ذلك توجه الباشا بأمر السلطان إلى اليونان لمحاربة الثوار الذين تدعمهم
روسيا القيصرية، واضطر إلى الإذعان لأمر الباشا؛ لأن قوته الحربية ما كانت
تساعده على العصيان [9] ، وفي هذا دلالة على ما يخفيه الباشا في جعبته للسلطان
في المستقبل القريب كما سيأتي معنا، بينما نجد أن الشعراء في أوروبا مثل (فكتور
هوجو) و (اللورد بايرون) والرسامين والصحفيين بكوا على نجاح إبراهيم باشا في
إخماد الثورة، ووضعوا مؤلفات محزنة، ونسجوا حكايات خيالية حول وحشية
الأتراك في أوروبا [10] .. أين منها الحداثيون المعاصرون الذين ابتليت بهم الأمة، وأين مواقفهم بالنسبة للصومال والبوسنة وكشمير والفلبين والأكراد وفلسطين
الحبيبة! .
وبسبب الدعم الأوروبي والتبرعات التي انهالت على الثورة التي تولى كبرها
الشعراء المثقفون انتفض اليونانيون في جزر المورة، فعهد السلطان إلى والي
مصر ثانية، وأسند إليه حكم المنطقة إن هو أخضعها لسيطرته، لكن روسيا
وبريطانيا وفرنسا لم تكن لترضى عن استقلال سائر بلاد اليونان بديلاً، فافتعلوا
الأحداث وضربوا أسطول الدولة العثمانية في ميناء نافارين سنة 1827م/1242هـ
واعتذرت أوروبا عن خطئها! ، لكنها لم تلتزم بدفع أي تعويضات للسلطان، وقد
وصفت صحف أوروبا تلك المهزلة بـ (لطخة عار) ، لكن المهمة قد تحققت، وهي
القضاء على أسطول السلطان فقط [11] ، في الوقت الذي سمح الباشا لرعاياه
اليونانيين بالمشاركة في ثورة جزر (المورة) ، وقام بتحرير مماليكه اليونانيين الذين
أُهْدُوا إليه لذلك الغرض؛ ليعبر للأوروبيين عن تعاطفه مع كل ما هو أوروبي
ونصراني [12] ، بالإضافة إلى ذلك: فإن الباشا اتفق سراً مع الأميرال الإنجليزي
(كودرنجتون) على سحب الأسطول المصري من المورة [13] .
لقد فتحت هزيمة وتدمير أسطول الدولة العثمانية في حرب (المورة) الباب
أمام روسيا المتربصة؛ إذ إن السلطان محمود الثاني كان قد ألغى طائفة الانكشارية، فأصبحت الدولة بلا جيش ولا أسطول يدافع عنها، فأعلنت روسيا الحرب،
واستولت على سواحل البحر الأسود الشرقية (كان بحيرة عثمانية قبل ذلك)
ورومانيا و (أدرنة) ، وتقدمت حتى الأناضول، حيث عقدت معاهدة ضمنت
بموجبها النفاذ إلى سواحل البحر الأسود وإرغام السلطان على دفع التعويضات عن
الحرب بقيمة (11. 5) مليون قطعة ذهبية، وذلك لوضع العراقيل المالية أمام
إصلاحات محمود الثاني [14] ، ومرة ثانية: امتنع الباشا عن إرسال قوة لمواجهة
روسيا، في الوقت الذي كان يتصور المجيء إلى استانبول ليتبوأ مقام الصدارة
العظمى وإدخال السلطان تحت نفوذه [15] .
في هذه الأثناء حاول المستشار النمساوي (مترنخ) إقناع الباشا بالإجهاز على
الثورة في اليونان، ونصحه بأن هذا يخدم مصالحه التجارية، وأنّ الإنجليز لا
يمكن أن يؤيدوه ليصبح قويّاً مهما بدت نصائحهم مفيدة، فإنهم لا يريدون مصر إلا
ضعيفة، فكان جوابه: (إذا كانت بريطانيا لا تريدني أن أفعل ذلك، فماذا بوسعي
أن أفعل؟) ، وقد طلب الباشا من القنصل البريطاني أن يظهر الأسطول الإنجليزي
أمام سواحل الإسكندرية، وأن تحاصر الدول الثلاث القسم الآخر من أسطوله في
المياه اليونانية، والعجيب: أن إبراهيم باشا لم يكن موجوداً أثناء إطلاق النار
العفوي الذي استغل لضرب أسطول السلطان [16] ، وعلى الرغم من أن بريطانيا
ظنت أنها سوف تبعد شبح الروس عن المنطقة بتصرفاتها تلك: إلا أنّ الذي حصل
هو عقد السلطان المعاهدة المجحفة التي سبق ذكرها.
بعد أن تأكد الباشا أو بالأحرى القوى الخفية التي تحركه من ضعف السلطان،
أتت المهمة الأخيرة لوالي مصر، لكي يوجه ضربته القوية لدار الخلافة ذاتها بحجة
استرداد رعاياه الهاربين إلى الشام، فقد أعد الباشا حملة جديدة، وأسند قيادتها إلى
إبراهيم ابنه الذي حقق انتصارات متتالية حتى فدى يهود الأستانة، الأمر الذي دفع
الروس لإنزال 15 ألف جندي في استانبول للدفاع عنها، مما حدى ببريطانيا
وفرنسا للتدخل وتوقيع معاهدة (كوتاهيه) (سنة 1833م/ 1248هـ) ، التي تحفظ للباشا حكم مصر وعكا وحلب ودمشق وطرابلس وجزيرة كريت مدة حياته فقط، بينما وقعت روسيا حلفاً دفاعيّاً مع السلطان عرف باسم معاهدة (خونكاراسكله سي) في الفترة نفسها لحماية العاصمة لو هاجمها المصريون أو غيرهم [17] .
ثم إن الإنجليز سعوا إلى تحريض السلطان على التحرش بالجيش المصري
في الشام وإرغامه على خوض الحرب مجدداً [18] ، في الوقت الذي حاول اللورد
(بالمرستون) زعزعة حكومة الباشا في الشام، بتحريضه على الاستمرار في تجنيد
أهل الشام، قاصداً من ذلك إثارتهم عليه وإعاقة طموحات الباشا [19] .
في المقابل: ألغى إبراهيم باشا كافة القيود المفروضة على النصارى واليهود
في كل بلد سيطر عليه بدعوى المساواة والحرية، وهي أمور تشير إلى تأثير
المحفل الماسوني عليه، كما فتح المجال أمام الإرساليات النصرانية الفرنسية
والأمريكية، وتم نقل المطابع؛ من مالطا، وتأسيس مدرسة للبنات، بالإضافة إلى
تزويد الأديرة بالمطابع ليسيطروا على الفكر والثقافة في المنطقة [20] .
إن الهدنة التي توصل إليها السلطان مع الباشا كانت مؤقتة لتربص كل منهما
بالآخر، فالأول قَبِل بها بسبب تمزق جيشه وسعيه إلى عدم الاعتماد على الروس،
بينما الثاني دعاه خوفه من التخلي عن كل البلاد التي انتزعها مع كونه عازماً على
الاستقلال التام عن الدولة عند سنوح الفرصة [21] . وبسبب إصرار الباشا على
إبقاء جبال طوروس تحت يده، وكما ذكرت آنفاً تحريض الإنجليز للطرفين على
القتال: اندلعت الحرب مجدداً، فكانت موقعة (نصيبين) أو (نزيب) سنة 1255 هـ/ 1839م، التي انتهت بالقضاء على جيش السلطان (محمود الثاني) الذي وافاه الأجل قبل أن تصله أخبار المعركة، ثم إنّ القائد العام للبحرية العثمانية انسحب بأسطول الدولة إلى مصر؛ وذلك بسبب خوفه على حد زعمه من وقوع الأسطول تحت أيدي الروس، بينما الوقائع تشير إلى حلقة جديدة من الخيانة كون الصدر الأعظم الجديد هو (خسرو باشا) الذي نفاه محمد علي من مصر وتولى السلطة مكانه.
فزعت أوروبا مما آل إليه أمر الدولة العلية، فسعت بريطانيا والنمسا لعقد
صلح جديد بين الطرفين في الوقت الذي عارضت فرنسا إرجاع بلاد الشام للسلطان
كشرط لعقد الصلح، وأيدتها روسيا التي كانت ترغب في تقليص نفوذ الباشا في
حديقتها الخلفية، في الوقت الذي لم تمانع ببقائه في مصر لكي يظل عصاً يضرب
بها السلطان متى شاءت دول أوروبا، وقد رأى الساسة الروس أن الدولة العثمانية
سوف تتوجه نحو روسيا في حالة إخراج محمد علي من مصر [22] ، وبعد
مداولات كثيرة توصلت دول أوروبا إلى عقد مؤتمر لندن سنة (1256هـ / 1840 م) الذي يقضي بانسحاب الباشا من الشام، وحق إنجلترا والنمسا في حماية الأهالي الذين يرغبون في الانضمام إلى السلطان؛ كالدروز والموارنة والنصيرية، وفي حالة رفض الباشا فإنه يُخلع من كل ولاياته [23] .
وبالفعل نفذ الحلفاء بنود الاتفاقية، وقاموا بمحاربة جيش إبراهيم باشا، وتم
إخراجه من الشام، لكن (الكومودور نابير) عرض على محمد علي وساطة الحكومة
الإنجليزية لدى الباب العالي في إعطاء مصر له ولورثته لو تنازل عن الشام وردّ
الأسطول العثماني، فقبل هذه الشروط لحفظ مصر لذريته، وتم ذلك في سنة
1256هـ/1841م [24] واشترطوا عليه تخفيض الجيش، وعدم بناء سفن حربية إلا
بإذن السلطان، ويبدو لي أن مهمة الباشا العسكرية قد انتهت تماماً، فلم يسجل
التاريخ أي مغامرات أخرى للباشا وأولاده! ، وبدأت مرحلة الحصاد بالنسبة
لأوروبا.
قامت روسيا التي لم تفلح في الاتفاق مع نابليون على تقسيم الدولة، بسبب
اختلافهما على تبعية مدينة (استنبول) بمحاربة الدولة العثمانية مجدداً فيما يعرف
بحرب (القرم) ، بينما احتلت فرنسا بلاد الشام بحجة قمع الفتنة الطائفية (التي
أوجدها الأوروبيون أنفسهم) ، وبحجة عجز الجيش العثماني عن إعادة هذه المنطقة! وظلت هناك لمدة ثلاث سنوات أوهمت الأهالي النصارى خلالها بحمايتهم من
تعدي المسلمين المتعصبين المتوحشين عليهم! ! [25] .
المطالبة بالدستور المشبوه:
كذلك: فإن الحلفاء ضغطوا على السلطان عبد المجيد الثاني لإصدار دستور
للبلاد يساوي فيه بين الرعايا جميعاً، وتم استقدام قانوني فرنسي لتلك المهمة، ومن
المفارقات أن المستشار النمساوي (مترنخ) حذّر الدولة العثمانية من الخطر الكامن
وراء اقتفاء أثر أوروبا وتنظيماتها التي لا تجاري منطق النظام العثماني، ولقد فتح
الدستور البلاد أمام جحافل التنصير من كل حدب وصوب [26] ، في الوقت الذي
أغدقت فيه الصحافة الأوروبية المديح على وزير الخارجية رشيد باشا، إثر قيامه
بضربته المسرحية (إعلان الدستور) ، كما مدحها السفير الروسي في الأستانة [27] ، وقد كان هذا الوزير سفيراً فوق العادة في لندن وأعجب بنظام الحكم البرلماني.
ثم إن حروب الباشا للدولة العلية قد عرقل في مسيرة الإصلاح فيها، وبغض
النظر عن أسلوب العلاج الذي اتبعه السلطان محمود الثاني، فإن واقع الحال يشهد
بأن أوروبا كانت متخوفة من نهضة إسلامية جديدة، فالسفير الروسي بباريس
(بوتزودي بورجو (صرح بأن القوات الروسية لاقت من الجيش العثماني الجديد ما
لم تلاقه من قبل من طائفة الانكشارية، ولو تأخرت روسيا في إشهار الحرب على
الباب العالي سنة واحدة لما أمكنها أن تتحصل على النتائج نفسها [28] ، أما
القنصل البريطاني في مصر (هودجز) فقد أرسل لوزير خارجيته (بالمرستون)
يخبره أن السلطان محمود الثاني لو استمر به العمر أكثر لاستطاع التغلب على كل
أعدائه بمن فيهم تابعه القوي محمد علي باشا [29] ، ومما يؤيد هذا القول: أن
السفير الروسي في الأستانة (دبيتر) كتب لبلاده في سنة 1784م محذراً من أن
الروس لا يلبثون أن يأخذوا تركيا في مدة عشر سنوات، وكذلك توقع نابليون من
قبله [30] ، وذلك قبل أن يتولى السلطان محمود الثاني الحكم ويضع برنامجه
الإصلاحي!
احتلال الجزائر والحادثة المفتعلة:
ساهمت حروب الباشا كذلك في احتلال فرنسا للجزائر سنة1830م، إذ تعذر
على السلطان (في فترة تكوين جيش جديد ومواجهة خصوم أشداء، وبالذات الروس
والباشا) إرسال جيش لإنقاذ البلاد، ولقد افتعلت فرنسا حادثة ضرب (الباي حسين)
للقنصل الفرنسي (بمنشّة) كانت بيده؛ لخروجه عن الأدب ولمطالبة تجار جزائريين
لديونهم المستحقة على فرنسيين، مما اعتبره مجلس الوزراء الفرنسي إهانة، فقرر
وجوب الاستيلاء على الإقليم [31] ، ولقد سبق لفرنسا أن عرضت على الباشا
احتلال الجزائر وتونس وليبيا سوية، على أن تدعمه ماليّاً وعسكريّاً بشرط أن يقيم
حكومة تمنح فرنسا مزايا تجارية واقتصادية فيها، لكنه رفض بسبب اعتراض
بريطانيا، وليس لأي اعتبارات دينية أو وطنية أو غيرها، فكتب يقول: (وثقوا أن
قراري لا ينبع من عاطفة دينية، فأنتم تعرفون وتعلمون أنني متحرر من هذه
الاعتبارات التي يتقيد بها قومي، قد تقولون: إن مواطني حمير وثيران، هذه
حقيقة أعلمها) [32] .
استطاع محمد علي أن يقوم بما لم يستطع الاستعمار الغربي أن يقوم به بشكل
مباشر في العمل على تحطيم الهوية الإسلامية التي كانت أساساً في صمود الشرق
الإسلامي ضد الموجات المعادية، وهيأ المناخ لقيام مؤسسات ماسونية ونصرانية
وقومية، بينما رهن الاقتصاد الإقليمي للغرب [33] ، ولقد قال عنه (أرنولد
توينبي) : (إنه ديكتاتور تمكن من تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعالة في
مصر) [34] ، بل وفي المشرق الإسلامي بأسره! .
وجد الإنجليز في شخص محمد علي رجلاً قويّاً يستطيع حماية خط التجارة
إلى المشرق، وبالتالي: المصالح البريطانية، على أن يراعي المشاعر الدينية،
وألا يعارض مصالح إنجلترا، ولو تظاهر بعكس ذلك [35] ، ولقد صرّح الباشا
بتلك العلاقة الوطيدة بقوله: (بدون أصدقائي الإنجليز لا أستطيع أن أعمل شيئاً،
لقد أدركت منذ زمن طويل أنني لا أستطيع أن أحقق أي شيء عظيم بدون إذن
بريطانيا) [36] ، ولإظهار غيرته الدينية (!) : أعلن الباشا خلال حروب الشام
أنه سيخلّص الدولة العثمانية من السلطان الفاسد الذي قضى على التقاليد الإسلامية
واتبع أساليب الغرب [37] ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك (وضمن مزيد من التناقض
في شخصيته) ، إذ أخبر القناصل الأوربيين بأنه مستعد لمساعدة إخوانه في الأستانة
فيما لو زحف الروس إليها للدفاع عن أراضي المسلمين وديارهم [38] ، (ونقول:
إذا لم تستح فاصنع ما شئت!) ولقد سار على نهجه حفيده الخديوي الأخير لمصر، إذ يقول: إن جده الباشا محمد علي خضع خضوعاً كاملاً للسلطان، وساعده،
وقدم له خدمات، منها إخماد ثورة اليونان [39] ، ونسي خيانة حرب جزر المورة
وحروب الشام وموقعة نصيبين! .
إن بريطانيا لم تكن راغبة في إسقاط الباشا نهائيّاً، فصفاته الشخصية ونظام
حكمه تتلاءم مع متطلبات سياستها في مصر، كما أن نهجه المعادي للإسلام
باعتباره أيديولوجية سياسية ومفهوماً حضاريّاً، وتعلقه بالمظاهر والمفاهيم الغربية
في الحكم والإدارة والمؤسسات الثقافية والاجتماعية يكفل إضعاف روابط مصر
بتراثها وعلاقتها بأمتها، وبالتالي: يفقدها هويتها الحقيقية، ويجعلها تدور في حلقة
مفرغة تبحث عن هويتها [40] في الوقت الذي فتح الباشا الطريق أمام التغلغل
الاستعماري الغربي، إذ زاد اعتماد مصر على الأسواق الأجنبية ورؤوس الأموال
الأوروبية، بينما قوّض قوى المعارضة الرئيسة، وهم العلماء، وأشاع الفرقة بينهم، وضرب بعضهم ببعض، وذلك بسبب اشتغالهم بالدنيا، والتحاسد عليها، والتطلع
إلى الدعوات والولائم [41] بينما تكفل الإنجليز بصنعه بطلاً قوميّاً (حرر مصر من
الأجانب هكذا زعموا بعد جلائهم عن الإسكندرية) [42] تماماً مثل ما فعل الحلفاء
مع مصطفى كمال أتاتورك في حربه مع اليونان!
تلكم هي سيرة فرعون مصر في مطلع القرن الثالث عشر الهجري، الذي
يوازي عصر النهضة والتنوير في القارة الأوروبية، وقد ظهرت من خلالها
السمات العامة والمؤهلات المطلوبة من الغرب في ساسة الشرق الإسلامي.
والعجيب: أنه ليس هناك كبير خلاف بين الماضي والحاضر فيما يتعلق بالمنطقة
وأحداثها وشخصياتها، وهذا في حد ذاته يشبه الروايات العالمية الشهيرة التي يُعاد
تمثيلها باستخدام وسائل عصرية ومتطورة دون المساس بالنص الأصلي أو
الشخصيات الرئيسة، إن هذه السيرة تذكرنا أو تعلمنا أن الغرب مهما بدا متحضراً
ولطيفاً ومتعاطفاً، فإن ذلك مردّه إلى وجود من يقوم عنه بتنفيذ رغباته وأهدافه
دونما حاجة إلى بذل الجهد؛ لذا: اقتضت الأخلاق الأوروبية الرفيعة والتقاليد
العريقة معاملة الآخر بكل تحضّر ومدنيّة!
كذلك: فإن البرلمانات الغربية ووكالات الأنباء العالمية تبنت هي الأخرى لغة
لطيفة ومتعاطفة في الماضي والحاضر مع المصلحين المستنيرين! من أبناء الأمة،
وقدمتهم على أنهم حملة الإسلام الصحيح، ولا عجب في ذلك؛ فالأرواح جنود
مجندة! لكن تبادل الأدوار أو تغيير العبارات والألفاظ لم يعد يجدي في ظل تكشف
الحقائق وتصحيح المسار لدى الأجيال الجديدة، ولربما تكون هذه هي المرحلة
الأخيرة التي يسجل فيها التاريخ بعض النماذج المتكررة للفرعون المستنير؛ لأن
المسرحية قد أوشكت على الانتهاء، وسوف يسدل الستار، وحينئذ سنعلم حقّاً عدد
الباشوات منذ فرعون العصر الحديث.
__________
(1) سليمان الغنّام: سياسة محمد علي باشا التوسعية، ص 61.
(2) السابق، ص 63.
(3) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 158.
(4) السابق، ص 186.
(5) تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 406.
(6) السابق، ص 409.
(7) عجائب الآثار، 4/200.
(8) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 198.
(9) تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 414.
(10) تاريخ الدولة العثمانية، أوزتونا،.
(11) السابق، 2/10 11.
(12) سياسة محمد علي باشا التوسعية، ص 29.
(13) عمر عمر، تاريخ المشرق العربي، ص 314.
(14) أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، 2/12 13.
(15) السابق، 2/15.
(16) سياسة محمد علي باشا التوسعية، ص 72.
(17) تاريخ الدولة العثمانية، ص 451.
(18) عبد العزيز نوار، الشعوب الإسلامية، ص 183.
(19) عايض الروقي، حروب محمد علي في الشام وأثرها في شبه الجزيرة العربية، ص 123.
(20) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 195 198، بتصرف.
(21) تاريخ الدولة العلية العثمانية، 2/37.
(22) أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، 2/37.
(23) تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 465.
(24) السابق، ص 469.
(25) السابق، ص 528.
(26) حروب محمد علي في الشام وأثرها في شبه الجزيرة العربية، ص 408 410، بتصرف.
(27) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 562 4.
(28) تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 432.
(29) حروب محمد علي في الشام وأثرها، ص 399.
(30) تعليق على التعصب الأوروبي أم التعصب الإسلامي، مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية، تعليق محمد العبدة، ص 192.
(31) تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 447.
(32) سياسة محمد علي باشا التوسعية، ص 82 84، بتصرف، وينبغي ملاحظة أن رفض بريطانيا كان بسبب ادخار جيشه وقوته لمهمة أكبر، ألا وهي محاربة السلطان نفسه (قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 190) .
(33) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 199.
(34) السابق، ص 182.
(35) سياسة محمد علي باشا التوسعية، ص 17.
(36) السابق، ص 63.
(37) تاريخ المشرق العربي، ص 317.
(38) حروب محمد علي في الشام وأثرها، ص 389.
(39) مذكرات عباس حلمي، ص 49.
(40) سياسة محمد علي باشا التوسعية، ص 117.
(41) تاريخ المشرق العربي، ص 323.
(42) علي حسون، تاريخ الدولة العثمانية، ص 158.(103/40)
نص شعري
ذكرى الخليل
شعر:د. عبد الرحمن بارود
أَلهبتْ لوعَةَ القلوبِ الخليلُ ... فهي نارٌ من المآقِي تَسيلُ
يومُ (باروخَ) والسّجاجيدُ غرقى ... في دمِ السّاجدينَ يومٌ مَهُولُ
عُجْ على مسجدٍ حناياهُ تَدْمَى ... وأصِخْ للوجودِ ماذا يقولُ: [1]
في جبالِ الخليلِ للنّورِ بَحْرٌ ... فيهِ تَشْفى الأرواحُ وهو عليلُ
أمْرَضَتْهُ أفعى من الصّمِّ صِلّ [2] ... ثمّ ألفٌ من الرؤوسِ ذيولُ
***
سَحَرتْ كلّ ساحرٍ في البرايا ... البغيّ التي اسمُها راشيلُ
لَبِسَتْ جِلْدَ دَيَنَصُورٍ وشَبّتْ ... فعلى نفسِها الحُواةُ تَبولُ
***
آهِ يا مسجدَ الخليلِ ومن حُمْ ... ر النّوافيرِ فيكَ تَجري سُيولُ
شَقّ جنكيزُ في لُحومِ المصلِي ... نَ طريقاً.. لكيْ يَمُرّ المغولُ
صُوّمٌ.. قُوّمٌ.. ضُيوفُ مليكٍ ... بيتُه للمسافرِينَ سبيلُ
ما تَهَنّوْا برشفةٍ مِنْ رَحيقٍ ... كلّ مالِ الوجودِ فيها قليلُ
إذ تَِفّ [3] الأرواحُ فجراً.. وكالأم ... واجِ في الرِّيحِ يَهْدِرُ التنزيلُ
جنّةٌ حُوِّلتْ بنيرونَ ناراً ... وحياةٌ فيها المنايا تجولُ
أطلقتْها صُهيونُ مجزرةً حَمْ ... راء يَعْلُو صُراخُها والعويلُ
تَعْصِفُ الرِّيحُ والقلوبُ طيورٌ ... نحو أوطانِها دعاها الرّحيلُ
تركبُ البِيدَ كلّما جَنّ ليلٌ ... ولها من (بناتِ نعشٍ) [4] دليلُ
ثمّ بينَ الزيتونِ تهوي.. تِباعاً ... والأحبّاءُ في الترابِ نزولُ
فهي بينَ القبورِ تمشِي الهُوَيْنَى ... ولها كالمطوّقاتِ [5] هَدِيلُ
***
دَرَّ دُرُّ الخليل لو وزنوها ... بالجبالِ الشّمِّ الرواسي تَميلُ
تطرحُ النومَ خَلْفَها وبَريقُ ال ... فجرِ لمّا تنشقّ عنه السّدولُ [6]
عندما تصْدَح المآذن يَسْري ... في شرايينها الحُداءُ الجميلُ
وبِالرَوْحِ الجِنان يَنْسابُ فيها ... مِنْ بَساتينها النسيمُ العليلُ
تشْحَذُ السيف في انتظار (صلاح) ... ولخيلِ الفتوحِ فيها صهيلِ
أنّ بينَ البحرينِ أرضاً حراماً ... وطيوراً أحجارُها سِجّيلُ
في قِسِيِّ [7] الأقدارِ منّا سِهامٌ ... من تُسَدّدْ إليهِ فهو قتيلُ
ولِسرْبِ النّسورِ فوق الثريّا ... شَرَفٌ باذخٌ ومجْدٌ أثيِلُ
من طِراز الفتى (عمادِ بن عقلٍ) ... الردّى تَحْتَهُ جوادٌ أصيلُ
طار ليلاً فَحَطّ نَسْرُ (ابْنِ عَيّا ... شٍ) .. فطارتْ من اليهودِ العقولُ
في سويداءِ قَلْبِها أنْزَلَتْهُمْ ... أمّةٌ أَطبقتْ عليها المُحولُ [8]
كبّرتْ والسّماءُ تهطلُ في القُدْ ... سِ وقالتْ: الآنَ يَشْفى الغليلُ
ولنُمروذنا الغَشومِ ادّرَعْنا: ... [حَسْبُنا الله وهو نِعمَ الوكيلُ]
كم مَصَصَتَ الدِّماءَ.. كالعَلَقِ الأسْ ... ودِ.. جسمُ العملاقِ منه هزيلُ
وهتكْتَ الأعراضَ.. كلباً عقوراً ... غابَ عنه التحريمُ والتحليلُ
وعجنتَ الترابَ بالناسِ عجناً ... وضحايا (قانا) شهودٌ عُدولُ
أصبحَ ابْنُ المِرِّيخِ مِنْ أهلِ يافا ... وابْنُ يافا هو الغريبُ الدّخيلُ
وجعلتَ الأذنابَ فينا رؤوساً ... فعلى رأسِ كلِّ حُرٍّ عميلُ
أوَ هذا هو السّلامُ المرجّى؟ ... أيّ شيءٍ إذنْ هو المستحيلُ؟
سوفَ يهوي بكَ الجنونُ قريباً ... في رحًي وَطْؤُها عليكَ ثقيلُ
***
في فلسطينَ.. يا فتى.. كلّ شِبْرٍ ... بدماءٍ زكيةٍ مجبولُ
ولزيتونِها المباركِ.. في الأع ... ماقِ.. عِرْقٌ بزمزمٍ موصولُ
ما إخالُ الحدودَ إلا سيوفاً ... كلّها مِنْ قِرابِهِ مسلولُ
هلْ جبالُ الشامِ إلا ليوثٌ ... رابضاتٌ.. بها تَحُفّ الشّبولُ؟
هل رأيتَ الجليلَ؟ كمْ أنتَ خَلا ... ب -! ! وكمْ أنتَ شامخٌ يا جليلُ! !
يا خليلي ... سَقْياً لحيفا ويافا ... ولمرجِ ابن عامرٍ، يا خليلُ
يَنْثُرْ الدّرّ.. حيث شاءَ.. مَليكٌ ... عَزّ.. في مُلكِهِ الذي لا يزولُ
وأنا ابنٌ لغزةٍ كم غَذَانِي ... ونَمَاني.. لِبانُها المعسولُ [9] ! !
رَمْلُها يُنْبِتُ البطولةَ إنْ يَسْ ... قُطْ رعيلٌ في الساحِ يَبْرُزْ رَعيلُ
نحنُ رحّالةٌ ... قَصَدْنا مَليكاً ... عَرْشُه فوقَ مُلْكِهِ محمولُ
اشترانا.. مِنّا.. فقلْنا: رَبِحْنا ... لا نُقيلُ المولى ولا نستقيلُ [10]
وبهِ.. لا بِنا ... نقارعُ جِنّاً ... بَعْدَ إنسٍ لنا عليهمْ ذُحولُ [11]
نحن غُرّ محجلونَ غُزاةٌ ... خَلْفَ غَازٍ لَهُ الجِهادُ سبيلُ
في ظِلالِ السيوفِ عَدْنٌ ورزقي ... ها هُنا ... تحت ظِلِّ رُمْحي يَقيلُ
***
جاء نُمروذُ راكباً.. فوق فِيل ٍ ليسَ تحميكَ يا جبانُ الفُيولُ
إنّ (عزّاً) يُحيلُ فِيلَكَ كَوْماً ... من رمادٍ فعزّ.... عِزْرائيلُ
وإذا شَنّتِ الجماجمُ حرباً ... فبماذا يُخَوّفُ المقتولُ؟ !
والذي خَطّهُ لكمْ ربّ موسى ... في الكتابينِ ما له تبديلُ
__________
(1) عُجْ: مِلْ أَصِخْ: استمع جيِداً.
(2) الصِّلّ: حيّة من أخبث الحيات.
(3) تَرِفّ: تُرفْرفُ.
(4) بنات نعش: سبعة نجوم معروفة في السماء.
(5) المطوّقات: الحَمَام.
(6) السّدول: السّتَائر.
(7) قَسِي: جمع قوس، وهو ما يرمى به.
(8) المُحُول: جمع مَحْل، وهو القحط والشِّدّة.
(9) اللِّبانُ: حليب الأم، المعْسُولُ: الممزوج بالعسل.
(10) لا نَقِيل ولا نستقيل: لا نوافق على فسخ العقد، ولا نطلب نحن فسخه، الكلمتان من كلمات الأنصار في بيعة العقبة.
(11) ذُحُولُ: جمع ذَحْل، وهو الثأر.(103/52)
(أروى) على مشارف الرؤية..!
شعر: عبد الوهاب الزميلي
1- (بهجة حلم)
وجئتِ فما أطيب الغربتين ... وما أعذب الألم المنتظرْ!
وما أعذب الموج في مقلتيك ... تراوده نغمات المطرْ!
وما أعذب الشدْو بين الجفون ... يلملم في غربتي ما انتثر!
وما أجمل الأحرف الهائمات ... وألوانها خلف موج الحُوَر!
وهُدْبُكِ يحضن في مقلتيكِ ... طيوراً من النور بعد السهر!
فإذْ تغمضين أرى لوحةً ... من الماء فيها ارتعاش الزهر
فتبسم أجفانك الهاجعات ... فتضحك بين الحروف الفِكَر
أنمتِ..؟ أفي حلم تركضي؟ ... أفي خمره توقدين السمر؟ !
أتملأُ من جنة نومها ... وتهدي أباها صباح الثمر؟ ! !
وفي الصّحو تعزف أنغامها ... و (بابا) هي النغم المبتدر
عليها من الحُلم رقص الدّنان ... وفوح الورود ... وغيم الحذر
فينبلج الحسن في صورة ... تماوج فيها ألوف الصورْ
وألتحف الصمت في هيبة ... فينثال من خافقي ما استعر
يطوف لهيباً يذيب الغمامَ ... ليقطر فوق الثغور القمر!
ويلثمها ضمئاً حانياً ... فتسقيه بسمةً في خفر
فيهطل عزف الفؤاد ضياءً ... و (أروى) الشّذا والهوى والوتر
2- (دمعة..!)
فهل وردة اللب تدري به..؟ ... فلا غدر للرد فيمن غدرْ
3- (ركام جرح)
لَكَمْ جَرَحَ القلبَ في صمته ... حضورُ الحياة وغيبُ القدر
ووخز سؤال بأشواكه ... ينقّب عن دربها والسفر
وعن أفق قادمٍ تنتهي ... إليه تمدّد بين الحفر
وعن قومها خلف أجفانهم ... تواروا..! ! فهل يشفق المنحدر؟ !
يجرّهم حلم ضاحك ... نزولاً.. إلى كالح محتقر
: (صعوداً لتقطف عبدانُنا ... وجوه النجوم فأين النظر؟ !)
وتصبغ أحلامهم أوجهاً ... لتبرق في الصدف المبتكَر
4- (على جفاف الرؤية)
فيا وردة القلب هل تشهدين ... سقوط الغبار وموت التتر
أيكبر أحبابنا بعدنا..؟ ... ويوفون عن كاذب ما نذر
أتَنْبت في دربنا الشامخاتُ ... لتخلع درباً ذليل الشجر
إذن فاشهدي أنني لم أهن ... وأنّي أَبيْتُ.. الدروبَ الأُخرْ(103/56)
قصة قصيرة
موت مدينة
بقلم:محمد علي البدوي
رائحة الموت تفوح في أطراف المدينة، الصمت شبه مطلق يلتحف المكان،
وأصوات الرصاص تخترق حاجز الصمت، الأبنية المهدمة وبقايا الشظايا
المتطايرة قد رُسِمَتْ بوضوح على الجدران المتهالكة، الجثث متناثرة في كل مكان، تنبعث منها روائح مقززة.
على أطراف المدينة المنكوبة وقف (آدم) طالب الجامعة يعانق بناظريه بقايا
مدينته المحتضرة، وحديث هامس في داخله: (ما الذي جرى لك يا مدينتي؟ جرح
الأمس لم يندمل حتى يحدث فيك بنوك جرحاً آخر؟ إلى من توجه هذه الأسلحة؟
ولمصلحة من تسيل كل هذه الدماء؟) .
كانت الأسئلة المدببة تطنّ في رأسه بقوة، وأفكار حزينة تعصف به وهو
يتخطى الجثث الملقاة على قارعة الطريق (كل هذه الوجوه أعرف أصحابها! إنهم
أبناء مدينة واحدة، بل أبناء عمومة، ما الذي أصابهم؟ ! هم أنفسهم يدفعون ثمن
هذه الحروب الملعونة) .. وأمام ما بقي من أطلال منزله وقف طويلاً، لم يستطع
أن يتقدم أكثر من ذلك، صور الماضي الجميل تتراقص أمام عينيه وبقايا الأمس
المنصرم تنداح في ذاكراته، ومن بعيد كانت أصوات القنابل ودوي القذائف حبلى
بالقلق، محملة بالخوف من المجهول، بينما المدينة ما تزال تحترق، وهم
يتراقصون في نشوة، فيزداد وقع المأساة في نفسه، ويعاود الحديث في داخله:
(إنهم يرقصون فرحاً بالانتصار! وأي انتصار هذا وفيهم القاتل والمقتول؟ ! وبأي
شيء انتصروا؟ رباه ... رباه أي عقول هذه) .
أقدامه المترهلة تعجز عن حمله، وجسمه النحيل لم يعد يقوى على حمله،
وقد أعياه المسير وأضناه التعب، فوقف أمام معسكر للقوات الأجنبية، كانت
القبعات الزرقاء تنتشر بكثرة، وعيونهم المشوبة بالزرقة تبعث في نفسه مزيداً من
التقزز، صدى ضحكاتهم العالية يطنّ في أذنيه، وهو يشاهد الكؤوس المترعة تفوح
منها رائحة الجريمة، وفتاة مستلبة ترقص في خجل رقصة النصر! ، لم يتمالك
نفسه، قام على الفور يتهاوى في مشيته كالمخمور، بينما شريط المأساة أخذ يتجلى
أما عينيه في وضوح لم تحجبه دموعه الغزيرة التي أخذت تتساقط في حرقة وألم،
غاب في بقايا المدينة المنكوبة، وصور كثيرة أخذت تلاحقه (المدينة التي ما زالت
تحترق، الجثث الملقاة على قارعة الطريق، الفتاة إياها ترقص في خجل، القبعات
الزرقاء، الدم المستباح يجري في غزارة) .(103/58)
نص شعري
العناقيد! !
شعر:جمال فضل
بينا تدمر عناقيد الحقد [*] (قانا) ، كانت الحمائم تجتمع لتزيل من بنود ميثاقها
نصوص تدمير الصقور! !
سلام على أدعياء السلام ... ومن ليس تنفعه باصرة
يريدون أن تستحيل الذئاب ... حماة لذمتنا الخافرة [1]
أتعجب أن يستحيل البغاث ... نسوراً على الأمة الهاذرة [2]
وأن تلعق الحَجْل باقي الفتات ... وأشداق أسيادها فاغرة [3]
نسينا بأن اليهود قطيع ... مع الوحش تجمعها آصرة [4]
لهم في صياغة تلك العهود ... وفي نقضها صنعة ماهرة
أما كان بين الرسول الكريم ... عهود مع الطغمة الفاجرة
فخانوا المواثيق وقت الشتات ... فكيف وهم دولة ظاهرة
رويدك إن البعيد يعود ... وللغيب أفلاكه السائرة
وهذي بشائر عهد السلام ... يجدد أوله آخره
***
على جرح (قانا) تثور القروح ... ومن كل جرح لنا ذاكره
نعم.. إنهم يقتلون الصغار ... وللثُكل لوعته الحائرة
وراياتهم نحو صنع السلام ... عوالٍ ولكنها فاقرة
عناقيدهم تلك لن تستكين ... لأغصان همتنا الخائرة
عناقيدهم من صميم الكفاح ... سرابيل بطشتها سافرة
لها همة أن تبيد الجميع ... فنحن لنا الهمة القاصرة
***
يحيف بنا من يريد الشعوب ... عبيداً لقوته القاهرة [5] !
ويهدي البغاة سلاح الدمار ... لتُخمد جذوتنا الثائرة
يفرق وحدتنا والجهود ... لتصبح تلك الخطا عاثرة
ويرفع راياته للسلام ... وآثام أنجاله سافرة
لحا الله من يستجيز الركوع ... لأعداء أمته الطاهرة
ويرضى بأمن الجوار اللئيم ... على رَمَض العيشة الصاغرة
ألا إن نصر الإله العزيز ... يراوح في الآية العاطرة
نكشّفهم لك كي (تستبين) ... فصفك أخلاطه ظاهرة [6]
دماء الضحايا ستحيي الجموع ... وأشلاؤهم جذوة ثائرة
وتلك الذرى سوف لن تستكين ... فأنجمها في الهدى سائرة
__________
(*) عناقيد الحقد هي الترجمة الحقيقية للعملية العسكرية البشعة التي قامت بها إسرائيل.
(1) خافرة: بمعنى مخفورة.
(2) البغاث: الهزيل من صغار الطير الهاذرة: من الهَذَر، وهو الكلام الكثير بلا فائدة.
(3) الحَجْل: جمع حَجَلة، وهو نوع من الطير تشبيهاً لها بحمام السلام.
(4) الآصرة: القرابة.
(5) الحيف: هو الجور في التعامل والقوة القاهرة: مقارنة بقوى البشر لا القهر المطلق الذي هو لله وحده.
(6) من قوله (تعالى) : [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] [الأنعام: 55] .(103/60)
نص شعري
الشهيد والسلام الذبيح
شعر: د. صابر عبد الدايم
صعوداً ... صعوداً.. إلى سدرة المنتهى
فإن السلام الذي يزعمونَ ... انتهى! ! !
دماؤك طوفان عزمٍ ومدٍّ ... وملحمة الثأر أشعلتَها
وكفاكَ للشمس مرفوعتان ... وراياتك الخُضْرُ أعْلنْتَها
وأشعلت فينا.. فتيل الجهاد ... وكل المخاوف ... مَزّقْتَها
دم القدْس يجري.. بأصلابنا ... ومن دمكِ الحرِّ روّيْتَها
وما قتلوك.. وما صلبوك ... وإن الأمانةَ ... ما خنْتَها
رفعت الجهادَ.. لنا رايةً ... بوشْم فلسطينَ شَكّلْتَها
نقشت عليها حروف الكفاح ... وعمركَ ... ملحمة صُغْتَها
صعوداً ... صعوداً ... إلى سدرة المنتهى
فإن السلام الذي يزعمونَ ... انتهى! ! !
وصهيون يسْرق تاريخنا ... ويقتلُ فينا رؤًى عِشْتَها
نهرْول.. نعدو.. إلى غاصبٍ ... يرانا دُمًى ... أدْمَنَتْ صمْتها
وتصْهل خيل الجدود ضحًى ... ولكنهم ... مَزّقوا صَوْتها
بمرج الزهور.. دماء العصور ... تفورُ ... وترْشقهم مَقْتها
فلسطينُ قصة أمجادنا ... ولكنهم أعلنوا موْتها
فيا ليت كانتْ.. ويا ليت كنّا ... ... وهل تنفع الآن ... ياليتها؟
دفنّا.... تواريخنا جَهْرة ... وفي دمك الحرِّ كفّنْتَها
وما قتلوك ... وما صلبوك ... وإن القضيّة ... ما خُنْتَها
فهل تطلق الآن أسرارها؟ ... وكل السراديب فتّشْتَها! ! !
وهل تجمع الآن أشلاءها؟ ... وكل الملفاتِ فجّرْتها! ! !
رفضْت زمان الهزيمة فابدأ ... حياتك.. إذْ أنْت حرّرْتها
وعش في صدور الألى.. يرفضون ... حياة الهوان التي عفْتَها
وعش في الحقول جذور إباء ... بأرض القداسات ألقيْتَها
وسرْ في الشرايين.. نهْر حياةٍ ... من التيه والوهم ... أيقظتَها
وفي الأفْق.. ألمح أنشودة ... وكم أنْت للقدْس غنيتَها
(أخي جاوز الظالمون المدى) [1] .. ... وإن السلام الذبيح انتهى!
فأطلقْ خيولك من أسرْها ... وأنقذ مرابع ... شيّدْتَها
(وجدِّد حسامك من غمده) [2] ... لتُحييَ أرضاً.. محَوْا سَمْتَها
إليها (محمّد) أسرى ... ومنْها ... عروجا.. إلى سدْرة المنتَهى
وبورك فيها.. وما حولها ... وسُرّاقُها.. شوّهُوا ذاتها! ! !
(وجاسوا خلال الديار ببأس) ... وهم يعلنون ... لنا موتها! !
أنتركهم يغصبون السلام ... ... وأرْضاً ... يعدون تابوتَها؟ !
فقم يا شهيد السلام ... وأسْرجْ ... خيولاً.... إلى القدْس وجّهْتها!
تُغير صباحاً ... وتعدو ضباحاً ... وأنْتَ إلى الفتْح.. قدْ قُدْتَها
فما قتلوك.. وما صلبوكَ ... وإن القضيّةَ ... ما خُنْتَها
فعشْ في الحقول جذور إباءٍ ... بأرض القداساتِ ألقيْتَها
وسرْ في الشرايين نهْر حياةٍ ... من التيه والوهم أيقظْتَها
دم القدْس يجرْى بأصلابنا ... ومن دمك الحُرِّ رَوّيْتَها
__________
(1) هذا الشطر مقتبس من قصيدة (أنشودة فلسطين) للشاعر علي محمود طه.
(2) هذا الشطر مقتبس من قصيدة (أنشودة فلسطين) للشاعر علي محمود طه.(103/62)
المسلمون والعالم
الحكومة العالمية
بقلم: عبد العزيز كامل
كثيراً ما ينظر إلى الأمم المتحدة على أنها إطار مؤسسي لنظام متكامل يهدف
إلى السيطرة على العالم، وكثيراً ما يطلق على أجهزتها وفعالياتها أنها: (حكومة
عالمية) .
إن هذا الوصف بالضبط؛ هو ما اختاره الأمين القبطي للمنظمة الدولية عندما
ألف عنها كتاباً سماه: (الحكومة العالمية) [*] .
فهل الأمم المتحدة حقّاً حكومة عالمية؟ !
وهل لهذه الحكومة ما للحكومات من أركان: حاكم، ومحكوم، ونظام حكم؟
إن المتأمل سيرى أن لهذه الحكومة حاكم، أو بالأحرى مجلس قيادة، يتمثل في الدول دائمة العضوية، وفيها محكوم هو الدول الصغرى والمتوسطة، وأما نظام الحكم فيها: فهو الميثاق والمقررات والمرئيات لدى الدول الكبرى، المبرمة في نصوص وفصول ومواد وضعتها في الأساس دول الكبر الدولي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فلها الدور الأساس في صياغة هذا البرنامج التسلطي الدولي (الحكومة العالمية) ؛ فأمريكا ظلت ترقب أوضاع العالم أثناء الحرب العالمية الثانية التي لم تدخلها إلا متأخرة بعد عامين من اندلاعها فضلاً عن أن أراضيها لم تشهد أي معارك، وأتاح لها ذلك كله فرصة التأمل الهادئ من أجل التخطيط لعالم ما بعد الحرب، وقد شهدت الولايات المتحدة وحتى قبل أن تشارك رسميّاً في الحرب ظهور عشرات المنظمات والهيئات التي ركزت كل جهودها لبحث سبل إرساء نظام جديد للعالم، في وقت كانت فيه أوروبا مشغولة حتى النخاع ببحث سبل وآليات كسب الحرب؛ ولذلك: لم يكن غريباً أن تصبح الصياغات الأولى لمشروع ميثاق الأمم المتحدة في مراحله الأولى كلها صياغات أمريكية بالأساس.
ولذلك: لم يكن محض مصادفة أن يسمى إعلان الأمم المتحدة: (إعلان
واشنطن) ، ويصدر في تلك العاصمة الأمريكية في يناير 1942م، وأن تعقد أهم
مراحل المفاوضات التمهيدية الخاصة بإنشاء المنظمة في مدينة (دامبرتون أوكس)
إحدى ضواحي واشنطن عام 1944م، وأن يعقد المؤتمر التأسيسي المنشئ للأمم
المتحدة في (سان فرانسيسكو) عام 1945م، وأن تصبح (نيويورك) هي المقر الدائم
لتلك الحكومة العالمية، بعد الإعلان عن قيامها في 24 أكتوبر 1945م.
إن تلك الحكومة أو هذه المنظمة هي أمريكية الوجهة، نصرانية المصدر..
فهي أمريكية الوجهة؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبتها، ومنشئتها،
ونصرانية المصدر؛ لأن النصرانية هي ديانة أمريكا والديانة الأصلية للحضارة
الغربية بأكملها، بشقيها الغربي والشرقي؛ ولم يكن ظل النصرانية غائباً عن
صياغة بنود ذلك الميثاق الأممي، ويدل على ذلك دلالة صارخة: أن ما يعرف بـ
(مجلس اتحاد كنائس المسيح) كان أحد أهم جهتين وكلتا بتشكيل اللجان لصياغة
الأفكار الأمريكية الرسمية حول فلسفة المنظمة وملامح مبادئها، وقد ترأس تلك
اللجنة الكنسية (فوستر دالاس) الذي أصبح فيما بعد وزيراً للخارجية الأمريكية، وقد
شارك في اللجنة كذلك عدد من رموز اليهودية والكاثوليكية.
هل هي مصادفة ألا يوجد في قائمة أسماء أمناء المنظمة الدولية طوال تاريخها
اسم مسلم، على الرغم من أن الدول الإسلامية الأعضاء فيها تبلغ الثمانين؟ وهل
هي مصادفة أنه عندما تقرر اختيار رجل من العرب أميناً، أن يكون هذا (الأمين)
نصرانيّاً؟ ! إن ميثاق المنظمة بعد بلورته لم يعرض على جهة قبل مجلس الشيوخ
الأمريكي، فللأمريكيين قبل غيرهم حق النظر في الكيفية التي سينتهي إليها نظام
العالم، ولهذا: لم يكن أمام مجلس الشيوخ إلا أن أقره بأغلبية (89) صوتاً ضد
صوتين، ووافق أن تكون الولايات المتحدة هي أول دولة تودع وثائق تصديقها لدى
المنظمة الدولية الجديدة، وأصبحت أمريكا بعد ذلك المستودع الرئيس للأفكار
الخاصة، ليس فقط بإنشاء منظمة الأمم المتحدة، ولكن أيضاً بإنشاء العديد من
الوكالات الدولية المتخصصة والتابعة لها.
أما اليهود: فلا تسل عن ضلوعهم في تهيئة الأوضاع لنشوء تلك المنظمة،
ويكفي دليلاً على ذلك: أن باكورة إنتاج الأمم المتحدة بعد قيامها، كان: إقامة دولة
اليهود.. (إسرائيل) !
كيف إذن تدير هذه الحكومة سلطاتها على (الرعية) من دول العالم الصغرى
والوسطى؟ لقد أجاب على ذلك المؤتمرون في (يالتا) عندما اتفقوا على اقتسام
مناطق النفوذ في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.. حينها تطرق بحث زعماء
إنجلترا وروسيا وأمريكا (تشرشل ستالين روزفلت) إلى كيفية تكريس واقع ما بعد
الحرب لصالحهم، وفي (يالتا) تم الاتفاق على أن يكون للدول الكبرى حق النقض
(الفيتو) دون أن يكون لبقية الدول ولو حق النقد لهذا الحق، وقد وصل الأمر بعد
استقرار هذا التقليد، إلى حد أن السناتور الأمريكي (كوناللي) قام بتمزيق نسخة من
طلب قدمته بعض الدول لتعديل نظام التصويت، وصاح قائلاً: (إنه من دون الفيتو، لن يكون هناك ميثاق أصلاً..) ! !
وهكذا ... بالقوة.. أراد أساطين الشرعية الدولية فرض شريعتهم الديكتاتورية
على الجموع البشرية.
إن ربع هذه الجموع تمثله أمة الإسلام، التي تقترب دولها من نصف أعضاء
المنظمة (80 من 180) ! ولهذا: يحق لنا ونحن نتساءل عن مدى شرعية
(الشرعية الدولية) أن نطرح هذه الأسئلة:
هل كان هناك لأمة الإسلام دور في صياغة هذا (الدستور) الذي يطبق على
دولها في شؤونها الدولية؟ وهل استشير الإسلام في وضع مبادئه؟ ، أو كان
مصدراً من مصادر استلهامه؟ ، وهل روعيت مصلحة الشعوب الإسلامية في أثناء
وضع أهدافه؟ ، وهل تملك تلك الشعوب والدول، مجتمعة أو منفردة أن تخرج عن
إطار الهيمنة التي أدخلت نفسها بنفسها تحت سلطتها؟ وهل يملك أحد ولو كانت
الدول الإسلامية كلها، أو الدنيا بأسرها أن تغير حقائق وأهداف وقيم الدين الخاتم،
وسلب أحقيته ولو نظريّاً في قيادة البشرية وتوجيهها بمقتضى رسالة الله الأخيرة إلى
البشر؟
لقد كنت أظن أن برنامج الأمم المتحدة لحكم العالم قد صيغ لضمان سيطرة
الغرب النصراني مع صنوه اليهودي على العالم فقط، ولكن تأكد لي بعد التفحص
في بنود هذا البرنامج: أنه قد أحكمت خطته ليحول دون قيام أي منافسة لهم على
زعامة العالم، وخاصة إذا كانت من العالم الإسلامي، الذي قامت زعامتهم على
أنقاض خلافته الضائعة.
إن هذا البرنامج بعبارة أخرى يراد منه أن يمكِّن للدول الكبرى النصرانية أن
تظل قائدة إلى الأبد، وفي القمة إلى الأبد، ويراد منه في الوقت نفسه: أن تظل
الدول الصغرى التي يمثل المسلمون غالبيتها مقودة إلى الأبد، وفي القاع إلى الأبد،
فهل هذه شرعية؟ ! !
إننا ونحن نناقش مدى شرعية (الشرعية الدولية) ينبغي أن نستحضر الثوابت
الإسلامية، ونستظهر المعاني القرآنية، بعيداً عن ضغط الواقع الذي يدفع بعضنا
إلى الخروج من جلده والتكلم بغير لسانه ...
وهنا: لابد من استظهار الحقائق التالية، قبل استعراض ماهية ونوعية بنود
الميثاق الدولي لحكم العالم:
-أن الفرضية التي انطلق منها الغرب وهو يؤسس لحكومته العالمية، وهي
بقاء أمم العالم الثالث (وأكثرها من العالم الإسلامي) مستضعفة، هذه الفرضية
لاينبغي أن تغير من قناعة الأمة الإسلامية في أحقيتها الأصلية في أخذ الزمام وتسلم
الدفة.
-أن الإصرار على وصف هذا الوضع الشاذ المتمثل في تسلط الأعداء بـ
(الشرعية) ، والإمعان في إضفاء الاحترام والتبجيل لهم، يساعد على ترسيخ مفهوم
التبعية لدى شعوب المسلمين.
-أنه لا معنى للاستتار بحقائق الدين خلف جدران الوهن، وترديد مقولة
المهزومين بأنه لا مخرج عن تلك الولاية الدولية القسرية، ولا مناص بالتالي من
النزول على شرعيتها؛ فإن هذه إن وقعت قدراً، فليس معناها أن تسوغ شرعاً.
-أن النزول على كل أحكام تلك الشرعية الدولية، سيعني التسليم لولاتها
الدوليين بحقوق ليست لهم، ولا هي مقبولة منهم، مثل: إلغاء الجهاد الإسلامي
لنشر الدين الحق أو حتى حمايته، إنْ طلباً أو دفعاً، وإلغاء القسمة الإسلامية لدول
الأرض إلى ديار إسلام وديار كفر، واستبدال ذلك بدول مستقلة أو غير مستقلة
بحسب ارتضاء الغرب عنها.
- بل سيعني هذا النزول على أحكام الشرعية الدولية: التنازل عن التقسيم
الإلهي للبشر إلى مؤمن وكافر من الناحية العملية، مما يترتب عليه التنازل عن
عقيدة الولاء والبراء.
- أن أصحاب شريعة الإسلام الإلهية التي لم تلق شرعية أو احتراماً من
أصحاب الشرعية الدولية حين أصلوا لها، لاينبغي أن يكافئوا تلك (الشرعية
الوضعية) بإضفاء الشرعية الإسلامية عليها.
- أن شريعة الإسلام الشاملة الكاملة تأبى أن تكون حاكمة في داخل بلاد
المسلمين ومحكومة خارجها، وترفض أن يُتحاكم إليها في السياسة الداخلية، ثم
يتحاكم إلى غيرها في السياسة الخارجية.
-أن ما تهدف إليه المنظمة الدولية لا يتعلق بأمر ثانوي بالنسبة لأمة الإسلام، بل يتعلق بأصل كيانها ووظيفتها التي أنيطت بها في حاضرها ومستقبلها.
-أن الاضطرار إلى أكل جزء من الميتة لا يجعل لحمها من الطيبات،
واللجوء إلى استبقاء النفس بجرعة خمر؛ لا يجعل الخمر من المباحات، فكذلك
الوقوع تحت حكم الكفار اضطراراً؛ لايجعلهم من الأخيار الذين نتسابق إلى
تحكيمهم في رقاب الأمة ودمائها وأموالها.
- سواء أكانت المعاهدات الدولية عقوداً أو عهوداً، فإن العقود والعهود تحل
أو تحرم بحسب المعقود عليه، ولا يتصور حِل التعاقد على إهانة أمة الإسلام على
يد الظالمين، أو التعاهد على تسليم الكافرين زمام أمر العالمين.
وأخيراً:
- قد يثور تساؤل حول مدى صدقية القول باستهداف الأمة الإسلامية من
خلال فرض همينة الدول النصرانية، فقد يقول قائل: وهل الدول الإسلامية فقط
من ضمن دول العالم الثالث هي المقصودة بالعداء وفرض الهيمنة، أم أن ذلك أمر
مشترك مع كل الأمم الضعيفة والمتخلفة بسبب ضعفها وتخلفها؟ والجواب على ذلك
ينبع من استقراء ممارسات الدول الكبرى والفَرق بين تعاطيها مع القضايا الإسلامية
كما سبق التفصيل في مقال سابق وتعاملها مع القوى الناهضة الأخرى، ولننظر
على سبيل المثال في نموذج (الهند وباكستان) : كيف سمح لهذه الهندوسية بتملك
القنبلة النووية، ولم يسمح لتلك المسلمة بتملكها؟ ، وهناك مثال أظهر يوضح
التحيز السافر، وهو نموذج (الدولة العبرية) مع الدول العربية، بل مع كل الدول
الإسلامية، ليس في المجال النووي فقط، بل في كل المجالات ... وليس آخر
الأمثلة ما يحدث مع كل من البوسنة وألبانيا وكوسوفو من جهة وما يحدث مع
الصرب والكروات من جهة أخرى.
إن الممارسات نعم الممارسات هي التي تفصح عن الشعارات، فتفضحها أو
تمدحها، وقد لا يتفطن كثير من الناس لخفايا وخبايا الشعارات؛ لدقة حبكتها أو
التواء صياغتها أو استتار غايتها، ولكن سرعان ما يكشف الظاهرُ الباطن. وقد
تبنت الأمم المتحدة منذ أبرم ميثاقها سبعة مبادئ، حوتها المادة الثانية منه،
فلنستعرض تلك المبادئ، ولنقرأ ما بين سطورها غير مخدوعين بظواهرها،
ولنسأل الأيام والليالي ... لأي شيء وضعت؟ .
المبدأ الأول: المساواة السيادية بين الدول، فتنص الفقرة الأولى من المادة
الثانية على أن (الأمم المتحدة تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها، سيادة قانونية في الحقوق والواجبات) ، وقد نقضت المنظمة واقعيّاً هذا المبدأ الذي
خطته نظريّاً، فلم تتردد في هدمه بإعطاء الدول الكبرى وحدها مزايا خاصة،
أهمها الحق في مقعد دائم في مجلس الأمن الذي يبت في القضايا الدولية، وكذلك
أعطت الدول الكبرى لنفسها حق النقض الذي يمكّن كل دولة كبرى عمليّاً من
الحيلولة دون صدور أي قرارات تتعلق بمسائل موضوعية إذا كانت لا ترغب في
صدورها!
المبدأ الثاني: وقد قررته الفقرة الثانية من المادة الثانية، إذ يشترط لكي يكفل
للأعضاء جميع الحقوق والمزايا المترتبة على صفة العضوية بأن يقوموا بتنفيذ
الالتزامات التي تعهدوا بها على أنفسهم (بحسن نية) ، وهي التزامات قد تكون مادية
أو في شكل تسهيلات لتمكين الأمم المتحدة من الدفاع أو الهجوم في العمليات التي
تدور في فلك المصالح العليا للقوى العظمى. و (حسن النية) المشترط لكسب مزايا
العضوية، قد ضربت الدول الكبرى فيه (أروغ) الأمثلة، وبخاصة في القضايا
الإسلامية كما سبق إيضاحه.
وأما إذا لم يتوفر (حسن النية) من الضحية صاحبة العضوية، فلا حقوق ولا
مزايا ولا مكافآت، ولا مناص من العقوبات.
المبدأ الثالث: فرضت الفقرة الثالثة من المادة الثانية على الدول الأعضاء
الالتزام بمبدأ (إنهاء المنازعات بالطرق السلمية، على نحو لا يجعل السلم والأمن
والعدل الدولي عرضة للخطر) وهذا بالطبع من باب التوجيه والنصحية من الدول
الكبرى لأخواتها الصغرى بأن تحل النزاعات بالطرق السلمية، لا بالقنبلة الذرية
كما فعلت أمريكا في (هيروشيما) ، ولا بالغزو المباشر كما فعلت بريطانيا في
(جرينادا) ، ولا بالاجتياح السافر كما فعلت روسيا في (أفغانستان) و (الشيشان) ،
ولا بإبادة الآلاف من الثوار كما فعلت فرنسا في الجزائر! !
المبدأ الرابع: في الفقرة الرابعة من المادة الثانية، وهو يلزم الأعضاء
(بتحريم التهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلاً ضد سلامة الأراضي والاستقلال
السياسي على وجه لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة) .
ولكن ماذا لو اتفق مع مقاصد الأمم المتحدة ومن هم وراء الأمم المتحدة؟ ، إن
الأمر وقتها يختلف، ودولة اليهود مثال على ذلك، فهي تمرغ هذا المبدأ في التراب
كل ساعة وكل دقيقة وثانية، بعدد ما في ترساناتها من أسلحة نووية وكيماوية
وجرثومية، وبعدد الأشبار والأمتار التي استولت عليها بالقوة العسكرية، كل هذا
تحت مظلة الشرعية الدولية.
المبدأ الخامس: تلتزم جميع الدول بموجب الفقرة الخامسة من المادة الثانية
من الميثاق بتقديم (كل ما في وسعها من عون إلى الأمم المتحدة في أي عمل تتخذه
وفق هذا الميثاق) .
وأيضاً: (تلتزم بالامتناع عن مساعدة أي دولة تتخذ الأمم المتحدة إزاءها أي
عمل من أعمال الردع) ليس هذا فحسب، بل فرض الميثاق على الدول الأعضاء
بموجب المادة (43) بأن (يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن ما يلزم من القوات
المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية، ومنها حق المرور) إذا تطلب الأمر!
إن كل دول الإسلام مثلاً لا تملك إسعاف شعب مسلم ولو مات أطفاله جوعاً أو
هلكوا مرضاً؛ لأن الأمم المتحدة قررت فرض حصار عليه، لخلافات سياسية
حقيقية أو وهمية مع قادته، ودول العالم الإسلامي كلها لا تستطيع أن تخرج على
الشرعية الدولية؛ فتهب لنجدة شعب مستضعف يستأصل على مرأى ومسمع من
العالم كما في البوسنة أو الشيشان، لأن الأمر لابد أن يترك لعدالة الأمم المتحدة
والقانون الدولي، إن هذا البند بالذات يفسر لنا حالة الموات التي تصيب العالم
الإسلامي ودوله في تعاملها مع القضايا الدولية الإسلامية.
المبدأ السادس: يوجب الميثاق حتى على الدول غير الأعضاء أن تلتزم قسراً
بمبادئ وقرارات الأمم المتحدة، وأسند الميثاق لها بموجب الفقرة السادسة من المادة
الثانية أن (تعمل على أن تسير الدول غير الأعضاء على هدي المبادئ الواردة في
الميثاق) ، وأكدت في هذا الصدد أن (الأمن الدولي لا يتجرأ) ، والمعنى: اشتركوا
في العضوية أو لا تشتركوا، فسوف تشملكم مظلتنا.. ومعنى هذا أيضاً: أن
الصورة التي يراها الكبار للعالم ينبغي ألا تتغير، ومواضع النفوذ غير قابلة
للمناقشة، وأن من يخرج عن الخط الأحمر، فلابد من تجييش العالم ضده.
المبدأ السابع: ليست للمنظمة الدولية مسؤولية تجاه الشؤون الداخلية في الدول، ومع هذا قُيد هذا الإطلاق بشرط، هو: (على أن هذا المبدأ لا يحول دون تطبيق تدابير الردع الواردة في الميثاق) ، ولم يتضمن الميثاق تعريفاً أو حصراً للمسائل التي تقع تحت طائلة تحمل المسؤولية أو عدم تحملها، فالأمر متروك لـ (ذكاء) و (نزاهة) القائمين على المنظمة الدولية، لتقدير من يستحق العقوبة والردع لانحرافاته الداخلية ومن لا يستحق.
إن هذه المبادئ وغيرها من تفصيلات (الميثاق الدولي) تجسد حقيقة اعتبار
الأمم المتحدة نفسها حكومة عالمية، وسواء أَسَلّمَت لها شعوب الأرض بذلك أو لم
تسلم، فإنها تتعامل على أساس أنها حكومة فوق كل حكومة، حتى إن المادة (104)
منها تنص على أن الأمم المتحدة: (تتمتع في بلاد كل عضو من أعضائها بالأهلية
القانونية التي يتطلبها قيامها بأعبائها وتحقيق مقاصدها) ، أي: أعباء ومقاصد الدول
الكبرى وعلى رأسها أمريكا بالطبع.
إن تحكم الدول دائمة العضوية حال دون أي مساس بمكتسبات ومصالح تلك
الدول المستمرة باستمرار قيام المنظمة الدولية، حتى إنها حالت دون إدخال أي
تعديلات جوهرية على الميثاق طوال نصف القرن الماضي.. إن هذا الثبات بل
الجمود على التمسك ببقاء كل شيء على ما هو عليه، يرشح المنظمة في الاستمرار
في إدارة شؤون العالم على النحو المرسوم لها، ولكن.. لحساب من؟ ... لحساب
الدولة الكبرى أولاً، ثم لصاحباتها الدائمات ثانياً.. والواضح أن الولايات المتحدة
تستدرج بقية شركائها الواحدة تلو الأخرى مع الزمن؛ لتخرجهم من حلبة المنافسة
على السيطرة على العالم كما فعلت مع الاتحاد السوفييتي لتنفرد هي بعد ذلك بهذا
العالم، وتصبح الدنيا في قبضة أولئك النصارى المتهودين، أو قل: اليهود
المتنصرين: البروتستانت، الذين يؤمنون بـ (الكتاب المقدس) التوراة والإنجيل
معاً.
ونقرر هنا الحقيقة المرة، وهي: أن بين البروتستانت واليهود صلات
وصلات، منها ما نعرفها، ومنها ما لا نعرفها، فإلى متى يضع المسلمون رءوسهم
في الرمال ويقللون من شأن (العلو الكبير (الذي بلغه اليهود في هذا الزمان؟ ..
ونسأل سؤالاً: أليس من الممكن أن يستغل اليهود هذه الأوضاع فيقفزوا فوق
ظهر المنظمة الأممية بصورة علنية (بدلاً من الحكومة الخفية) ليتسلموا قيادة العالم
عن طريق الأمم المتحدة بعد تطويرها وتحويرها..؟ لِمَ لا ... وهل يمكن لليهود
أن يجدوا صيغة أسهل وأنسب من هذه الصيغة لتحقيق حلمهم القديم ... (الحكومة
العالمية) ؟ !
__________
(*) أعيد طبع الكتاب مؤخراً عن طريق دار المعارف بمصر.(103/64)
المسلمون والعالم
(بورنا) المنسية وواجبنا نحوها
بقلم: مندوب المجلة المتجول
بورنا قبيلة وثنية يبلغ تعدادها نحو ثلاثة ملايين نسمة، لم تصل الدعوة
الإسلامية إلى أغلبهم حتى الآن، مع أنهم يعيشون بالقرب من قبائل إسلامية، وهم
يعيشون بين دولتي إثيوبيا وكينيا، وقليل منهم دخل الإسلام قريباً، وأتوقع أن يسلم
أكثرهم إذا وفق الله (تعالى) الدعاة للقيام بواجب الدعوة إلى الله (تعالى) في هذه
المنطقة المنسية، وذلك بوضع خطة مدروسة يتعاون في تنفيذها الدعاة مع أهل
الخير؛ لتأهيلهم وإمدادهم بما يستحقونه من دعم.
معلومات أولية عن المنطقة:
أولاً: الموقع:
تبعد منطقة (بورنا) عن العاصمة (أديس أبابا) 475كم على الخط الجنوبي
المؤدي مباشرة إلى (كينيا) ، و330كم عرضاً على الخط نفسه المؤدي إلى مدينة
(مويلي) ، التي هي إحدى مدن بورنا، وهي مدينة يقع نصفها في إثيوبيا ونصفها
الآخر في كينيا، وهذه القبيلة تمتد داخل كينيا 400كم2 تقريباً.
ثانياً: المناخ:
ويمتاز جَو (بورنا) بالاعتدال، وإن كان يميل في الطرف الجنوبي إلى
الحرارة صيفاً، كما أن أراضيها صحراوية، بينما الطرف الشمالي الذي يلي إثيوبيا
بارد وجبلي ذو أشجار وأنهار.
ثالثاً: الثروة الحيوانية والزراعية:
المنطقة غنية بالثروة الحيوانية وبخاصة الأبقار، ويبلغ متوسط ما يملكه
الرجل حوالي (100) بقرة، وتعتبر في مرتبة متقدمة في إنتاج الأبقار والجمال،
ومن أجود أنواعهما ذوات اللون الأبيض ... وهناك أغنام كثيرة أيضاً، ويباع
الحليب بأرخص من الماء في بعض المناطق، وتوجد الزراعة بالقدر الكافي لأهالي
المنطقة، فلا يحتاجون إلى غيرها؛ لأن هناك واحات في عدة أماكن في المنطقة.
رابعاً: العادات والتقاليد:
أهل بورنا وثنيون؛ وعاداتهم جاهلية وتقاليدهم كذلك، وهم من أشد الناس
تمسكاً بعاداتهم وتقاليدهم، وقد بقوا حتى الآن متمسكين بها، ولم تؤثر عليهم المدنية
والثقافات الغربية أو الشرقية، ومن العجب: أن هؤلاء القوم قد نظموا حياتهم
تنظيماً عجيباً؛ حيث إن لهم رئيساً يدير أمورهم، تجب طاعته طاعة مطلقة،
بحيث لا يحركون ساكناً إلا بأمره وإشارته، حتى ولو أدى ذلك إلى ضررهم.
وحسب تنظيمم: يعتبرون كدولة، ويتكون تنظيمهم من: مجلس للشورى،
ورؤساء للقبائل، ورئيس عام، وموجهين مرتّبِين حسب مكانتهم، فإذا اعتدى
عليهم الأعداء لا يحاربونهم إلا بأمر من الرئيس، وإذا أمر أو وجه إلى ذلك فطاعته
واجبة، وتنفيذ ما يأمر به ضروري.
خامساً: شخصيتهم الفطرية:
وهم قوم يتسمون بالقوة، والثقة بالنفس، والثبات في الملمات، والذكاء
الفطري، ويتسمون بالفصاحة وطلاقة اللسان، وقد استمعنا إلى طالب صغير يحفظ
القرآن، فقرأ علينا آيات، دهشنا من حفظه، وطلاقة لسانه، وفصاحته.. وهم
بدو رحل ينتقلون من مكان إلى مكان مع دوابهم.
سادساً: أهم المدن والقرى:
(1) نعيلي: وهي عاصمتهم الرسمية وأغلبية سكانها مسلمون، وأكثرهم من
اللاجئين العائدين من الصومال، وبها نشاط إسلامي لا بأس به.
(2) ميغا: وهي على بعد (665) كم من العاصمة، وهي مدينة تقع في
وسط بورنا، وهي إحدى مديريات المنطقة: جوها معتدل طيب، في موقع
استراتيجي مهم، تكتنفها الجبال وكأنها قلعة من القلاع، كما أن هناك قلعة قديمة
على مدخل المدينة منذ عهد (هيلاسلاسي) ، ولعلها تكون بإذن الله قلعة إسلامية
ومنطلقاً للدعوة لنشر العقيدة الصحيحة والمنهج السليم، ومما تختص به هذه المدينة
ما يلي:
وجود الماء وقربه، فلو حفر بئر يخرج الماء من أقرب مكان.
اعتدال جوها.
توسط موقعها؛ مما يسهل نشر الدعوة منها إلى مختلف الجهات.
وجود الدعاة من: شباب، وشيوخ من أهل البلد، يعتمد عليهم بعد الله
(تعالى) في الدعوة.
هي منطقة مُرَكّزٌ عليها من قبل المنصرين.
يملك المسلمون فيها مساحات كبيرة من الأراضي.
هي منطقة زراعية، غنية بالمواشي من: الأبقار والجمال والأغنام، مما
يسهل المعيشة فيها.
يسيطر المسلمون على مقاليد الأمور فيها.
(3) مويل: وهي مقسمة بين إثيوبيا وكينيا، وأغلب سكانها من المسلمين
(ومن القوميات الوافدة إلى المنطقة لغرض التجارة) ، والنشاط الإسلامي فيها جيد
(حيث توجد عدة مساجد ومدارس إسلامية أهلية) وهي مدينة استراتيجية ذات أهمية
دعوية، وبخاصة قسمها الكيني.
(4) يابلو: وهي على بعد (565كم) من العاصمة أديس أبابا، وهي أيضا
مديرية المنطقة، ومساحتها كبيرة، والمسلمون فيها نحو 50%.
والنشاط الإسلامي فيها جيد؛ لنزول عدد من المسلمين اللاجئين العائدين من
الصومال بها، وفيهم دعاة محليون جيدون، ويقومون بنشاط ملموس، ويوجد في
المدينة مسجدان: أحدهما كان منزلاً حَوّلَه أحد المحسنين إلى مسجد لأهل السنة بدلاً
من مسجد طردوا منه، وقد أخذ أهل السنة أرضاً واسعة لبناء مسجد، ويمكن إقامة
مركز إسلامي على تلك الأرض إذا وجد من يتبناه (فأين أهل الخير؟ !) .
(5) فنطاوي: وهي مدينة تقع على بعد (495كم) وهي تابعة لمديرية (يابلو) ، والمسلمون فيها نحو 50%، وفيها مسجد وخلوة لتحفيظ القرآن الكريم، وفيها
نشاط إسلامي محدود، وتحتاج إلى داعية وموجه إلى المنهج الصحيح؛ لأن
المسلمين في المنطقة ليس لديهم فهم صحيح عن الإسلام؛ بسبب الجهل وكثرة
المشعوذين.
وهناك مدن أخرى مثل (دبلق) و (هريرو) و (أدرا) و (غنالي) و (أغرمارم)
و (كبرمنغست) .
النشاط الإسلامي في بورنا:
ويمكننا القول: إن النشاط الإسلامي في المنطقة ليس كما ينبغي، وخاصة أن
الدعوة الصحيحة لم تدخل المنطقة بعد، ولا يوجد من يتبنى المنهج الصحيح الخالي
من البدع والخرافات، ومن هنا: يوجه الذين أسلموا منهم وبخاصة الدعاة
المصلحين عتاباً ولوماً شديداً للمسلمين، وقد قال واحد منهم: نحن نحاجّكم عند الله
يوم القيامة، فقيل له: لماذا؟ فقال: إن دعاة التنصير يسعون ليل نهار لالتقاط
أبنائنا، وتكثيف جهودهم عندنا بمختلف الوسائل، وأنتم لم تتقدموا إلينا بدعوة
إسلامية صحيحة، اعلموا أنه لو وجهت الدعوة الإسلامية الصحيحة إلينا لكنا أسبق
إلى الإسلام؛ لأن الإسلام دين الفطرة، ونحن على الفطرة وعاداتنا وتقاليدنا تتفق
غالباً مع التوجيهات الإسلامية.
وفي الحقيقة: إن كلام هذا الشخص يتفق مع ما قاله شيخ الإسلام (ابن تيمية) : (ما عرض الإسلام على قوم وثنيين مع ملة أخرى إلا اختاروه) ، وإذا كان الأمر
كذلك فَتَحَتّمَ علينا أن نقوم بأداء هذا الواجب الخطير قبل المحاجة أمام الله (سبحانه
وتعالى) ... فهل يستجاب لهم؟ ، (عسى ولعل) .
أهمية نشر الدعوة في أهل (بورنا) :
هذه مهمة عظيمة، نسأل الله (تعالى) أن يكتب لنا شرف القيام بها مع إخلاص
النية؛ حتى يبقى لنا الثواب إلى قيام الساعة؛ لقوله: (من دعا إلى هدى كان له من
الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيئاً) ، ولقوله: (من سن سنة
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
فأجور هؤلاء الذين يسلمون، ثم أجور ذرياتهم تكتب لنا إذا أخلصنا النية إلى
قيام الساعة، وهذه درجة عظيمة ينبغي أن نهتم بتحصيلها، ونتحمل المشاق
والصعاب لبلوغها، ونسهر الليالي والأيام لإداركها، فسبحان الله! ما أعظمها من
درجة! وما أغلاه من ثواب! ، فهذه المنزلة ينبغي أن يشمر إليها الصالحون،
ويتنافس فيها العلماء العاملون، ويتسابق إليها الدعاة المصلحون، فيا لها من منزلة
تأخرت عدة قرون لحِكَمٍ يعلمها الله (تعالى) ، ولعل منها أن الله (تعالى) كتب لأهل
عصرنا من الدعاة والعلماء أن يشاركوا فيها؛ إذ من العجب العجاب: أن قوماً
يقدرون بعدة ملايين على قرب من المسلمين: يتجاورون معهم في السكن، وتحيط
بهم عدة قبائل من المسلمين، بل تخالطهم وتساكنهم وتتجر معهم أحياناً، وتتقاتل
وتتناحر معهم أحياناً، وتتصالح أحياناً أخرى، وتتفاهم بلغتهم وتشاركهم في كثير
من العادات والتقاليد، ومع توافر هذه الأسباب الميسرة لدعوتهم وإدخالهم في دين
الله (تعالى) فلا يزالون على وثنيتهم ... حكى لنا الشيخ حسن بن علي (وهو من
أهل بورنا) : أن زميله الذي أسلم من البورنيين تناقش مع أحد عقلائهم، فجرى
في المناقشة أن الوثني قال له: ماذا تسموننا؟ ، فقال المسلم: كفاراً، فقال: ما
معنى كفار؟ قال: الكافر المعاند، فقال: هل دعوتمونا فعاندنا؟ ، فقال: كيف
ندعوكم وأنتم تقتلون الناس من غيركم؟ ، فقال: أناشدك بالله أن تريني في مناطق
بورنا كلها قبر رجل رباني يدعو إلى الله، قتله البورنيون! ! !
وهذه المحاورة وقعت قريباً وأصحابها أحياء معروفون، وهي توضح حقيقة
واقعية: أن الدعاة إلى الله على بصيرة وبمنهج صحيح لم يتجهوا إلى دعوة هؤلاء
القوم، بل حصلت بعض المعوقات بسبب بعض العادات الناتجة من بعض المسلمين
المجاورين لهؤلاء؛ إذ يشترطون شروطاً ما أنزل الله بها من سلطان إذا تقدم أحد
من البورنيين للدخول في الإسلام، ومن ذلك:
1- يشترطون عليه الخروج من قبيلته، والانتساب إلى قبيلة الداعية،
وتغيير اسم أبيه إلى اسم الداعية! !
2- مقاطعة آبائه وإخوانه وقبيلته، بل والهجرة إلى قبيلة الداعي المتناحرة
مع قبيلته.
3- دفع واحدة أو عدة مواشٍ إذا أراد الدخول في الإسلام كأجرة!
4- إذا دفع عدة أبقار أو جمال: يمكن إدخال والده المتوفى في الإسلام!
5- وجوب عقيقة على أولاده، يأكل منها الداعي!
وقد يأتي رجل فيطلب الإسلام، فيقال له: لا نجد لك الآن اسماً، أو: لا
يوجد مكان للتسجيل! ، ومما سمعناه: أن أحدهم طلب من هؤلاء أن يسلم،
فاعتذروا إليه بعدم وجود المكان، ثم توفي شخص من هؤلاء المسلمين، فذهب
إليهم، فقال لهم: أريد أن تسجلوني في مكان المتوفى! ! !
وقد أدت هذه التعقيدات والعقبات إلى نفور هؤلاء القوم من المسلمين
المجاورين لهم، بل إلى قتالهم والإغارة عليهم، فكانت النتيجة: أن تأصلت العداوة
بين الطائفتين المتناحرتين، ومع هذا: فهؤلاء الوثنيون هم أقرب إلى الإسلام من
غيرهم من الملل، وعندهم ميل فطري إلى الإسلام، فهو دين الفطرة ودين السماحة، فانظر كيف تحول في عرف أولئك بسبب جهل بعض المسلمين إلى غل وحائل
عن الولوج فيه!
ومن الأسباب الميسرة لدخولهم في الإسلام:
1- أنه دين الفطرة الذي لا تعقيد فيه.
2- أن البورنيين يحبون الإسلام بفطرتهم ويفضلونه على غيره من الملل
والنحل، ويوضح هذا: ما يتناقلونه فيما بينهم من أن صالحهم أو كاهنهم أوصاهم
قديماً بالدخول في الإسلام، وعدم الدخول في غيره، وأنهم يتناقلون تلك الوصية
جيلاً عن جيل.
3- وقد يكون الإسلام قد دخلهم قديماً، ثم كثر فيهم الجهل حتى رجعوا إلى
الوثنية، ويشهد لهذا أمور، منها:
أ- أن أحد زعمائهم وهو الحاج غويو ذكر لنا أنهم كانوا على الإسلام قبل
(600) سنة.
ب- تقاليدهم وعاداتهم فيها بقايا من دين الإسلام، ويوضح هذا ما سيأتي عن
حياتهم الاجتماعية.
ج- نظام الزواج؛ فالرجل يتزوج من الواحدة إلى الرابعة (وهذا هو الأغلب)
لا يتجاوز ذلك إلا نادراً.
د- أن قبائلهم تقسم على مسميات تشعر أن هذه القبائل كانت مسلمة، من ذلك: القبائل المسماة بالقَالوّ، وهم في لغتهم: العلماء الربانيون، وهي قبائل محترمة
لديهم.
4- حالتهم الاجتماعية وعاداتهم وتقاليدهم قريبة إلى الإسلام منها إلى أي ملة
أخرى، فمن ذلك:
أ- اللباس: فمن عاداتهم في اللباس أن الرجل إذا بلغ سنوات معينة يلبس
نوعا من العمامة، وأن أنثاهم لا تكشف العورة، فالعري قبيح جدّاً لديهم، بخلاف
القبائل الوثنية المتأصلة.
ب- السواك يلازمهم نساءً ورجالاً، فالسواك لا يفارقهم.
ج- الزنا من أشد العظائم لديهم.
د- الكذب والخيانة أقبح الأمور عندهم.
هـ- فضيلة أداء الأمانات والصدق والوفاء بالعهود عندهم.
5- أنهم قوم بدو رحل يشبهون عرب الجاهلية في أمور كثيرة، مثل: العفة، والذكاء، وسلامة الفطرة، وصفاء الذهن.
وفي الحقيقة: عندما تحدثنا إليهم وظهرت لنا نجابتهم وطلاقة ألسنتهم
وفصاحتهم وبلاغتهم؛ تذكرنا ما كان يعرف عن عرب الجاهلية في الفصاحة،
والبلاغة، والذكاء، والعفة، وأداء الأمانات، وعدم الكذب، والصراحة الصارمة، كما أنهم من ناحية أخرى يشبهون عرب الجاهلية في تتبع مواقع القطر في الحل
والترحال مع مواشيهم وإبلهم، كما أنهم يشبهونهم في الأخذ بالثأر والإغارة على
القبائل المجاورة المخاصمة، وكذلك يشبهونهم في الشجاعة والبطولة والإقدام.
صراعاتهم مع المنصرين:
بذل المنصرون جهوداً كبيرة لتنصيرهم، وقد باءت أغلبها بالفشل، ومن تلك
الجهود:
أ - أن الأمبراطور الهالك (هيلاسلاسي) عرض على زعيمهم الروحي
تنصيرهم، فتشاور هذا الزعيم مع قومه، واتفقوا على أن دين النصارى لا يناسبهم؛ لأنه لا يتناسب مع عاداتهم وتقاليدهم.
وقد رد زعيمهم على هيلاسلاسي بالرفض لتنصرهم قائلاً: إن عاداتنا
وتقاليدنا لا يمكن أن نتنازل عنها بأي حال من الأحوال، ومن يريد تنصير قومي،
فإنه لا يمكنه ذلك إلا بعد قطع رقبتي، وبهذا الجواب يئس هيلاسلاسي من
تنصيرهم بواسطة زعيمهم الأعلى، ثم قام بمحاولة أخرى: حيث نصر أحد
المثقفين منهم وولاه إحدى المديريات، وأرغم هذا الوالي نحو 500 من الفلاحين
بتخويفهم بالطرد من مزارعهم إن لم يتنصروا، فأطاعوه خوفاً، ثم أحضر لهم
قسيساً يعلمهم، وأراد بناء كنيسة لهم، وبعد أن مكث معهم القسيس نحو ثلاثة أشهر
اكتشف أن أحدهم دخل في الإسلام؛ حيث إن ذلك المسلم قال بحضرته بدون تفكر:
لا إله إلا الله، فسأله عن ذلك فقال: أسلمت قريباً، فقال القسيس: عجباً! إني
أعلمكم كلمات في النصرانية منذ ثلاثة أشهر ولا تستطيعون نطقها إلى الآن، وكيف
تستطيع نطق هذه الكلمة التي تعلمتها قريباً؟ فقال: إني دخلت الإسلام عن رغبة،
ودخلت في النصرانية كرها وخوفاً، فقال القسيس للحاضرين: هل أنتم كذلك؟
فقالوا كلهم: نحن كذلك مكرهون، فكتب تقريرا إلى (هيلاسلاسي) أنه لا فائدة في
هؤلاء، ولا في بناء الكنائس لهم، وانتقل القسيس من ذلك المكان يجر أذيال الخيبة.
ومع هذا: لم يتركهم (هيلاسلاسي) حيث نقل إلى مدنهم النصارى من
الموظفين الإداريين، فبنوا الكنائس في المدن الاستيطانية، غير أنه لا يُرى أثر
للنصارى في القرى والأرياف.
ب - وبعد هلاك (هيلاسلاسي) ، ودخول البلاد في الشيوعية، لم يحاول أحد
تنصيرهم من جهة الدولة بالطريقة الرسمية، ولكن جاء إليهم المنصرون الغربيون، وهم أشد خبثاً وأقوى حيلة، وأساليبهم متنوعة وطرقهم متعددة، ففي الآونة
الأخيرة نزل هؤلاء بقراهم ومدنهم يحملون في يدٍ المساعدات، وفي الأخرى
التنصير؛ لتخريب الأخلاق وبقايا عاداتهم الحسنة والفطرية.
وقد تنصر بعض شبابهم وبعض الضعفاء منهم على أيدي هؤلاء، ولا زالت
الكثرة الباقية على الوثنية تقاوم التنصير، وتعاديه، وتكرهه، ... ومما وقع قريباً
في هذه السنة: أن منصراً أوروبيّاً ذهب مع مجموعته إلى بواديهم فجمعهم من عدة
قرى فوعظهم وطالبهم بأمرين:
1) الإيمان بابن الله المسيح.
2) والصلاة له وعبادته يوم الأحد.
فسألوه: هل للمسيح الذي تدعونا للإيمان به أب؟ فقال المنصر: نعم، فقالوا: مستحيل أن نؤمن بالابن والأب موجود! ! ! لأن عادتهم تقتضي احترام الأب
وتقديمه على الابن في كل شيء، ثم قالوا له: إنك تأمرنا بعبادته في الأسبوع يوماً
واحداً، ونحن نعبده وندعوه ليل نهار صباح مساء، لا يوماً واحداً في الأسبوع،
فبهت هذا المنصر ورجع عنهم خائباً، وهذه الواقعة حدثت قريباً في قرية قريبة من
مدينة (ميغا) .
وهي تدل على مقاومتهم للتنصير بفطرهم السليمة التي تأبى مثل دعاوى
المنصرين الباطلة التي تخالف العقول النقية والفطر السليمة.
فأين أنتم يا مسلمون(103/74)
المسلمون والعالم
في الشيشان:
بعد خراب البلاد.. هل ننقذ العباد؟ !
بقلم: جمال الحوشبي
يفرض الواقع المأساوي في الشيشان بعد ما يقرب من خمسة عشر شهراً
متواصلة من القتال والتشريد والدمار على المسلمين أن يفكروا جديّاً في تحرّك
واقعي وملموس للتخفيف من هذه الكارثة على إخوانهم المسلمين، وأن يبادروا
لنجدتهم بدلاً من الانتظار المعتاد للمبادرة الصورية لدول الغرب الصليبي، ولعل
المجال الدعوي الذي به حياة القلوب وسلامة الأديان، والمجال الإغاثي الذي به
إغاثة الأنفس ونماء العمران: من أهم المجالات التي يحتاجها المسلمون المنكوبون
في الشيشان.
أولاً: الجانب الدعوي:
مما يسهّل الأمر كثيراً على الدعاة في الشيشان: سرعة تقبّل الشعب هناك
للحق، وانصياعهم له إذا عُرض عليهم عرضاً سليماً خالياً من الجفاء، وصحيحاً
من البدع، وتعتبر البرامج الدعوية من أهم الأولويات التي يجب أن يشرع فيها كل
من أراد الإعمار سواء من الأفراد أو من الهيئات والمنظمات الإغاثية.
وتعد المناطق الجبلية الآن بعد انسحاب الروس منها مؤخراً أماكن خصبة
للدّعوة، يمكن أن يتفرّغ فيها الدعاة لتوعية الأهالي وتعليمهم أمور دينهم.
ومما ينبغي الإشارة إليه بمداد الإكبار: قيام بعض المجاهدين الوافدين لنصرة
إخوانهم الشيشان من الجمهوريات المجاورة بعمل حلقات لتدريس القرآن الكريم
وتعليمهم اللغة العربية في القرى، وقد توافد على هذه الحلقات عدد هائل من أهالي
تلك القرى وما جاورها، بل لقد كانوا يتفاعلون جدّاً مع تلك الجهود الدعوية
المتواضعة تفاعلاً عجيباً، ويذكر بعض الإخوة الدعاة هناك كيف تم الإلحاح عليهم
لبقائهم معهم يعلّمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين.
ويشيد بعض من قام بهذا العمل الدعوي بين المسلمين الشيشان بمقدار التغيّر
الحادث بين الأهالي، وبتلهفهم على توجيهات الدعاة، وبتجاوبهم مع دروسهم، مما
يؤكد أن الغالب هناك هو انتشار الجهل الذي أدّى إلى شيوع مظاهر من الخرافات
والبدع، ومما ينبغي على القائمين بالدعوة إلى الله في مناطق الشيشان أن يعرفوه
أموراً مهمة، منها:
الانتشار الواضح للفكر الصوفي وتعدد طرقه بين المسلمين هناك، حيث يتبع
غالبية شعب الشيشان طريقتين واسعتي الانتشار، هما: الطريقة القادرية،
والطريقة النقشبندية، وذلك ناجم عن تمسك الشعب جيلاً بعد جيل بموروثات
الأجداد القدامى منذ أيام الإمام (منصور أو شورما الشيشاني) ، ثم من جاء بعده من
الأعلام الذين برزوا خلال الحروب المتوالية ضد الصليبيين الروس ممن تعلموا
على أيدي شيوخ تلك الطرق الذين كانت مدارس التعليم تمتلئ بهم في ذلك الوقت.
وبتتبع بعض أخبار المسلمين هناك وسؤال بعض طلبة العلم ممن بدؤوا بتعلم
أصول أهل السنة في بعض الجامعات الإسلامية: يمكننا أن نحكم بصدق المقولة
التي ذكرها أحد الدعاة المطلعين على الوضع في الجمهوريات الإسلامية: من أن
الصوفي هناك لا يدري معني التصوف، وأن الشيعي لا يعرف معنى التشيّع، وقلة
هم الذين ينحرفون عن علم وعقيدة راسخة؛ لأن الفكر الشيوعي كان هو السائد!
والتحلل الذي مارسه بين المسلمين في ترسيخ الثقافات والعادات والسلوكيات
الشيوعية أخرج مزيجاً يصعب تصنيفه.
إذن: لابد من إعادة الدعوة لمنهج أهل السنة من جديد بالحكمة والموعظة
الحسنة، وسوف يُقبل الناس بإذن الله أفواجاً، متى كانت الدعوة إلى الله صادقة في
أهدافها وثوابتها، بعيدة عن التحريف أو الخرافة، ومتجرّدة عن التحزب أو
المطامع الدنيوية والمكاسب المادية.
كما ينبغي على الدعاة مراعاة التركيبة الطبقية للشعب الشيشاني الذي يميل
إلى القبلية، وقد كانت هذه التركيبة أظهر في السابق، عندما كان هناك مجلس
مهمته البت في شؤون الشعب، يتم تعيينه عن طريق اختيار أفراد من العشائر
والقبائل، وغالباً ما يكونون من كبار السن، ويدخل من ضمن صلاحيات هذا
المجلس: اختيار زعيم البلاد متى دعت الضرورة للفصل في القضايا التي تعترض
البلاد، ثم بعد انتهائها يعود فرداً من أفراد الشعب كما كان، له ما لهم وعليه ما
عليهم. وقد وصف عالم الأجناس الفرنسي (آرنست شانتر) عندما زار بلاد الشيشان
عام 1887م المجتمع الشيشاني بقوله: ( ... تسود المساواة والتعاون بين الشيشان،
والسلطات التي يخلعونها على مجلس كبرائهم محدودة من حيث الزمن والمدى،
ومن حيث الصلاحيات ... ) . ويوجد في الشيشان (14) محافظة، وأكثر من
(400) مدينة وقرية.
والشيشان قوم يعتزون جدّاً بأرومتهم، ويتمسكون بثقافاتهم وعاداتهم التي
تميزهم عن غيرهم، وقد أدّى هذا الاعتزاز بالعِرق والجنس إلى شيوع نوع من
التعصب الذميم بقومية الشيشاني وعراقته، حتى إن بعضهم ربما افتخر بمآثر
الأجداد الوثنيين، ونسي أن ذلك من التصرفات التي لا يقرّها الإسلام، وهذا كما
أشرتُ سابقاً من أثر الجهل السائد وغياب الدعاة المصلحين هناك.
ومما أفرزته هذه العصبية القومية عند بعضهم: الاعتزاز بثقافة وتركيبة
الشيشان بمعزل عن تأثير الثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، ولم يسلم من هذه
النعرة حتى بعض المثقفين، فتراهم عند حديثهم عن تاريخ دخول الإسلام للشيشان
يغفلون أن الإسلام دخل بلاد داغستان التي كانت الشيشان جزءاً منها قديماً،
ويغفلون عن ذكر كثير من الحقائق التي تؤكد أن دخول الإسلام إلى (الشيشان) ... و (شروان) وأجزاء من شمال (أذربيجان) وهي المنطقة التي كانت تسمّى قديماً ببلاد
الداغستان قد كان أيام الفتوحات الإسلامية المتقدمة في القرن الهجري الأول أيام
عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) . أما بلاد الأنجوش التي فُصلت عن الشيشان
مؤخراً، واعتبرت في عام 1936م مقاطعة مستقلة تابعة للاتحاد السوفييتي؛ زيادة
في تفرقة الأمة الواحدة فقد تأخّر دخول الإسلام فيها وفي مناطق أخرى محيطة
بالشيشان عندما استعصت على الفتوحات الإسلامية؛ لأسباب عدة ليس هذا مقام
ذكرها [1] .
إن مما يجب على الدعاة إلى الله أن يكثروا منه: بث روح الأخوة في الله،
التي تجمع بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وبلدانهم، وتجلية عقيدة
الولاء والبراء بوضوح، والتحذير من سياسة الأعداء في المناطق الإسلامية،
وتوعية المسلمين بسياسة العدو المحتل الذي يقوم بترسيخ سياسة (فرق تسد) عبر
رسمه للحدود المعروفة اليوم، التي ما هي إلا ميراث أليم من تركة الأعداء
الحاقدين، كما يجب إظهار معايير التفوق والتمايز الحقيقية، وأنها ليست بأي حال
من الأحوال عائدة إلى الجنس أو العرق، وأن معيار التفاضل في الإسلام إنما هو
التقوى والعمل الصالح [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] .
(إن التاريخ الإسلامي يشهد للشيشان بالفخر؛ لصمودهم الطويل في وجه
الكفرة من الروس القياصرة ثم البلاشفة، وتمسكهم الصادق بالإسلام؛ إذ لم يستطع
المسيحيون تنصيرهم، ولا الشيوعيون نجحوا في إبعادهم عن دينهم، ولما عمد
الشيوعيون إلى منعهم من الصلاة في المساجد أو ممارسة الشعائر الإسلامية الظاهرة
اضطُر الشيشاني المسلم أن يجعل من بيته مسجداً ومدرسة معاً!) .
إن الدعوة في الشيشان كغيرها في أي مكان آخر تحتاج إلى معايشة للأهالي
والقيام بخدمتهم ومساعدتهم وتلمّس احتياجاتهم، والحذر من فرض الدعوة عليهم
بالقوة أو إثارة الحزبية والمذهبية بينهم باسم الإسلام. ويمكن الحصول على نتائج
طيبة في الدعوة إذا تبنّت الهيئات والمنظمات الإغاثية إنشاء مراكز ثابتة أو متنقلة
للدعوة في المدن والقرى داخل الشيشان أو خارجها، وكذا: القيام بحلقات لتحفيظ
القرآن الكريم والسنة النبوية وتعليم اللغة العربية، يقوم عليها مدرسون من ذوي
الخبرة والعقيدة الصحيحة.
ومما ينبغي أن يحرص عليه الدعاة هناك: تنشئة الصغار وتعهّد الشباب
بالتربية على المنهج الصحيح، ودعوة العوام واللقاء بهم في منتدياتهم وأماكن
تجمعهم، مع التذكير الدائم بالحديث عن أصالة شعب الشيشان وتمسكه بدينه وحبه
لرسول الله وسائر الصحابة وسلف الأمة.
كما تجدر الإشارة إلى أن أكثر الشعب الشيشاني قد فقد الثقة بعلماء السوء في
بلده ممن انحاز إلى الحكومة العميلة التي نصّبها الروس في الشيشان وقاموا بتأييدها، ولهذا بقيت الساحة الدعوية هناك صالحة للعمل ولا تحتاج إلا إلى تظافر الجهود
وتنسيق العمل الدعوي الذي لا يقل أهمية عن العمل العسكري أو الإغاثي في البلاد.
ومن أخصب الجمهوريات التي يمكن أن تقام فيها مراكز للدعوة الإسلامية:
(داغستان) و (أنجوشيا (و (قراتشاي) ، حيث يوجد بها تجمعات كبيرة من
المهاجرين الشيشان مع الحرص بالإضافة إلى تدريب الدعاة لهذا الغرض على
تزويدهم بالوسائل الدعوية المهمة، كالأشرطة والكتيبات الإسلامية المترجمة باللغة
الروسية التي يفهمها الجميع تقريباً.
ولعل من المفيد هنا: أن أكرر التذكير بضرورة الاستعانة بعدد من العلماء
والدعاة وطلبة العلم الموثوق بهم في كل من طاجيكستان وداغستان وغيرهما، ممن
يحملون منهج أهل السنة وذوي الأمانة والعقيدة السليمة، وإعانتهم بما يلزم من أجل
القيام بمهمة الدعوة في أوساط الشيشانيين في الداخل أو الخارج، بدلاً من التفكير
بإرسال دعاة من الدول العربية يتكلف إرسالهم وتأمين السكن لهم مبالغ طائلة مقارنة
باحتياجات أولئك الدعاة من تلك الجمهوريات الإسلامية، إضافة إلى ما يتطلبه
الوضع هناك من تأمين وسائل خاصة لتنقلاتهم وتجنيد أفراد قادرين على عملية
الترجمة اللازمة في هذا المجال، وعند القيام بإعانة أولئك الدعاة من تلك
الجمهوريات الإسلامية وتأمين احتياجاتهم: فإننا نقوم بالإضافة إلى نشر العقيدة
الصحيحة وتعليم الناس أمور دينهم بمساعدتهم كذلك وتأمين القوت الذي يحتاجونه،
خاصة وأن معظم طلبة العلم والدعاة هناك فقراء وبحاجة هم كذلك إلى الدعم
والمساعدة، كما أن تأمين مكتبة إسلامية متكاملة يعتمد عليها الدعاة وطلبة العلم
هناك وإقامة منتدى يلتقون فيه لتبادل الخبرات والاهتمامات يعد من الأمور المهمة
التي يجب أن تأخذ مزيداً من الاهتمام.
أضف إلى ذلك: كون هؤلاء الدعاة أعلم من غيرهم بالتركيبة الاجتماعية
والبيئية في الشيشان؛ مما يسهل عليهم التخاطب معهم بعلم وحكمة، ومن ثمّ:
التأثير عليهم عبر تلمس احتياجاتهم.
وهناك برامج دعوية عملية أخري يمكننا عن طريقها المساهمة بجهد فعّال
لتصحيح الواقع الذي يعاني منه المسلمون هناك.
ثانياً: الجانب الإغاثي:
تزامن استمرار الحرب في الشيشان مع حلول فصل الشتاء القارس جدّاً [2] ،
ومع اتساع مدى الحرب، وانتقال لهيبها إلى مدن وقرى أخرى في الشيشان يضطر
المئات يوميّاً إلى النزوح عن منازلهم، قاطعين مئات الأميال سيراً على الأقدام
للبحث عن مكان آمن داخل الشيشان أو خارجها [*] .
لهذا: كان المجال الطبي أول ما يجب التفكير فيه لإغاثة المسلمين هناك،
سواء في داخل الشيشان أو في خارجها.
ومن المؤسف: أنه لا توجد حتى الآن أي مؤسسة إسلامية تعمل في الجانب
الإغاثي والطبي، اللهم إلا بعض الجهود الفردية التي يقوم بها الإخوة العاملون في
مكاتب هيئة الإغاثة في كلٍّ من موسكو والتشيك. ولم ينفرد بالساحة كالعادة إلا
المؤسسات التنصيرية التي لم تتوانَ في ظل هذه الظروف العصيبة عن تقديم
خدماتها ومساعداتها الطبية للمنكوبين، تمهيداً لتقديم الصليب لهم بعد ذلك، غير
عابئين بوابل النيران أو بقساوة شتاء الشيشان.
وتعد منظمة (أطباء بلا حدود) و (الصليب الأحمر) من أبرز المنظمات
الصليبية العاملة في الجانب الطبي والإغاثي على الساحة، وما فتئت المنظمتان
تقدمان خدماتهما حتى للمقاتلين أنفسهم، وفي إحدى العمليات الهجومية من قبل
مقاتلي الشيشان: جُرح ما يزيد على ثلاثة عشر مقاتلاً، فلم يجد إخوانهم ما
يعالجونهم به، وذكر أحدهم كيف تقدمت إليهم منظمة (أطباء بلا حدود) بعرض
مساعداتها الطبية لأكثر من ثلاث مرات، لم يُقابلوا في كلٍّ منها إلا بالرفض القاطع.
ومما ينبغي مراعاته كذلك في المجال الإغاثي: ضرورة الاهتمام بالإمداد
للمقيمين داخل الشيشان، بالإضافة إلى إغاثة اللاجئين خارجها، هذا وإن كانت
هناك صعوبة في التنقل بين هؤلاء النازحين أو الدخول إلى المناطق التي لجؤوا
إليها، مما يجعل إغاثة المدنيين في الداخل تعد بحق عملية شاقة ومضنية. ونقل
المواد الطبية والإغاثية صعبة وشاقة؛ للأسباب الآتية:
1- صعوبة نقل المساعدات العينية بعد تكثيف الروس لنقاط التفتيش على
الحدود بين جمهورية الشيشان وما يحيط بها من الجمهوريات الإسلامية في أعقاب
الهجمات الشيشانية الأخيرة من داغستان، وظروف مقتل الرئيس (جوهر دوداييف) وتوقع عمليات هجومية ثأرية.
2- صعوبة التنقّل الشخصي أو نقل المواد الإغاثية إلى داخل الشيشان،
وربما كلّف نقل شاحنة واحدة مليئة بالمواد الغذائية من جمهورية مجاورة ومن ثم:
إيصالها إلى المنكوبين في الداخل أضعاف قيمتها؛ بسبب الضرائب والرّشا التي
يتعاطاها الروس قبل السماح لهذه الشاحنة بالمرور.
3- احتمالات حجز هذه المساعدات من قِبَل الجنود الروس ومنع دخولها، أو
توزيعها على بقية الجنود الروس أنفسهم الذين يعانون من نقص الإمدادات الواردة
من موسكو، وضعف الروح المعنوية والنفسية كلما استمرت الحرب، حتى أصبح
الواحد منهم مستعدّاً لبيع عتاده العسكري في مقابل بعض النقود.
أضف إلى ذلك: شراسة الحرب الدائرة في الداخل، التي لا تهدأ مرة حتى
تعود مرات؛ ولذلك: فإن الحل الأسلم في ظل هذه الظروف هو إيصال الدعم
المادي إلى بعض الموثوق بهم في الداخل؛ لشراء ما يحتاجه المقاتلون من السلاح
وشراء ما يتوفر مع المزارعين من مواد غذائية حتى تخفّ القبضة الروسية على
الحدود.
ومما ينبغي عدم إغفاله كذلك: أهمية إعمار المرافق الحيوية في الداخل كما
كانت، فلقد هُدمت المساجد والمستشفيات والمدارس ومحطات الكهرباء والوقود،
ويستحيل أن تعود لوظائفها كما كانت إلا بعد إعمار جديد؛ لقد استطاعت الهمجية
الروسية تدمير معظم المرافق الحيوية والإنسانية بالكامل، حتى إنك لن تستطيع
وصف مدينة جروزني في أعقاب الدمار الذي حَلّ بها، إذ من الصعب وجود بناية
واحدة سليمة، فالدمار وآثار الحريق في كل مكان، حيث إن جروزني وحدها الآن
تحتاج إلى (مدينة جديدة) بكل مرافقها من شبكات طرق وخدمات عامة وغيرها.
إن العجيب حقّاً في هذه الأزمة هو هذا التباطؤ من قِبَل المسلمين في إغاثة
إخوانهم المنكوبين في الشيشان، متجاهلين أدنى حقوق الأخوة الإسلامية، التي
شبهها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجسد الواحد عندما يتداعى كل عضو
منه بالحمى والسهر إذا اشتكى منه عضو واحد، وهذا التباطؤ ظهر واضحاً جليّاً
طوال ست سنوات عجاف بدأت منذ استقلال جمهورية الشيشان عام 1991م
واستمرت حتى الآن، ولم تشهد الساحة الشيشانية على ثراها طوال هذه المدة أي
عمل إسلامي يُذكر، سواء في مجال الدعوة وتفقيه الناس بأمور دينهم وعقيدتهم،
أو في مجال الإغاثة والمساعدة المادية.
وبينما كانت وكالات الأنباء العالمية تقوم بتقصّي أخبار الحرب وآثارها
المدمرة، ونقل تلك الأخبار أولاً بأول، فإن وسائل إعلامنا كان يرهقها نقل الغثاء
الذي زاد من فجوة التفرق والضياع.
أما على الصعيد السياسي: فإن الساحة السياسية لم تشهد تحركاً فعّالاً من قِبَل
المسلمين للمطالبة بفك الحصار عن المدن والقرى الشيشانية، أو التنديدالفعّال ضد
القصف بالقذائف والصواريخ واستخدام الأسلحة المحرمة دوليّاً، وقتل الأبرياء،
وتشريد السكان، وإهلاك الحرث والنسل، كما لم تقم حتى الآن أي جهة إسلامية
بأقل القليل الواجب من إرسال المستلزمات الإغاثية إلى داخل الشيشان، أو حتى
لأماكن تجمع اللاجئين في الجمهوريات المجاورة، وتعيين مندوبين لتوزيعها على
المشردين الموجودين في تلك المناطق.
إن روابط الدين والتاريخ والمصير المشترك تتطلب منا خطوات جادة في
نصرة إخواننا المنكوبين في أقطار الأرض، بدلاً من أن تكون مواقفنا المتأخرة
مجرّد رجع صدى لمواقف الدول الصليبية في الشرق أو الغرب! .
__________
(1) تطرقت إلى طرف من ذلك في كتاب مستقل حول جمهورية الشيشان في مبحث: (الشيشان في ظل الإسلام) .
(2) مناخ جمهورية الشيشان بارد جدّاً شتاءً، حتى إن مياه الأنهار قد تتجمّد فيه، وهو معتدل في بقية الفصول.
(*) انظر تفاصيل ذلك في: (أوضاع اللاجئين الشيشان) ، العدد 101 من (البيان) ، ص 94 96.(103/84)
في دائرة الضوء
قضية الهوية.. صراع الهويات وحقيقته
بقلم: د. محمد يحيى
يُبْرِزُ المسلم تحديداً هويته بأنه: مسلم، فإنه يواجه في المناخ الراهن من قبل
التوجهات (اللادينية) بعدة طروحات مضادة، تبدأ بمواجهة الهوية الإسلامية بعدة
هويات أخرى، وتنتهي برفض قضية الهوية والذاتية نفسها؛ باعتبارها تنتمي في
زعمهم إلى عهد غابر من الفكر.
والهويات المضادة التي تطرح في مواجهة الهوية الإسلامية ورفضاً لها
تتراوح بين الانتماء الجغرافي (إفريقي آسيوي، شرق أوسطي، بحر متوسطي،
أوروبي) ، والانتماء العرقي (عربي، تركي، إيراني، زنجي، أبيض) ، والانتماء
الزماني: إلى الحاضر (في دعاوى العصرية) ، وإلى الماضي في دعاوى
(كالفرعونية، والفينيقية، والبابلية، والطورانية ... وغيرها) ، وقبل كل شيء:
الانتماء الثقافي (اللاديني) (كاتخاذ المذاهب الفلسفية والوضعية المختلفة ذات الأصل
الغربي مثل: الماركسية، والليبرالية، والعلمانية محكّاً للهوية) .
وفي الواقع تزدحم الساحة في البلاد الإسلامية والعربية بدعوات إلى هويات
مضادة للهوية الإسلامية، تتخذ شتى الأشكال والمظاهر نفسها، لكنها تتفنن في أنها
تزعم لنفسها الأولوية على الهوية الإسلامية، إن لم تنفها وتلغها كلية، وعلى هذا
المستوى تزعم هذه الدعوات لنفسها أنها: هي الأصل الذي يسبق الإسلام في
الزمان والمكان واللغة والثقافة، والذي يتسع لجوانب شاملة من الخبرة الإنسانية
يضيق عنها الإسلام، وبجانب مزاعم الأسبقية في الأصل والسعة في الانطباق
توجد مزاعم بأن الهوية الإسلامية هي هوية طفيلية مفروضة على هويات أصلية،
وأنها على أفضل الأحوال لا تعدو أن تكون هوية ثانوية هامشية لها مجال محدود
جدّاً تنطبق فيه، وهو مجال لا يتعدى ما يسمى بعلاقة الفرد بربه.
إن قسماً كبيراً من الصراع والمحاجّة الفكرية الدائرين الآن على الساحة
العربية الإسلامية يدور حول محور القضية التي نحن بصددها؛ حيث تتخذ
التيارات المضادة للإسلام من الهويات المضادة سلاحاً تحارب به الهوية والذاتية
الإسلامية؛ وأصبح من المألوف الآن أن يسمع المرء صيحات من نوعية (إننا
مصريون، أو عرب، أو أوروبيون.. قبل أن نكون مسلمين) أو (الديموقراطية،
والاشتراكية، والحرية، قبل الإسلام) أو (نعم للحضارة العالمية، ولا للانغلاق
الإسلامي) !
وكل هذه التطورات مألوفة على مر السنوات أو حتى العقود الماضية، لكن
الجديد في الأمر في الفترة القريبة هو نفي قضية الهوية عندما تطرح من الوجهة
الإسلامية في مواجهة الطروحات المتغربة العلمانية، والحجة التي تتكرر كثيراً في
كتابات من يطلق عليهم الآن ممثلو النخبة الثقافية والفكرية العربية هي: أن قضية
الهوية والذاتية والانتماء الديني قد أصبحت جزءاً من ماضٍ بائد، وأن التمسك بهذه
المفاهيم والتأكيد عليها لا محل ولا معنى له في عالم تسيطر عليه مفاهيم العالمية
الثقافية والاندماج الدولي والتعددية الثقافية والحضارية والتقرب من (الآخر)
واحترامه.
وفي إطار هذه المفاهيم يصبح الحديث عن الهوية والذاتية (لاسيما الإسلامية) : نوعاً من الأنانية والتقوقع والعزلة، بل وضرباً من التخلف المتعمد عن مواكبة
العصر، ونوعاً من إعلان الحرب العدوانية غير المبررة على (العالم) .
والواقع: أن هذه الصيحات لا تسمع إلا عندما يرفع شعار الهوية الإسلامية
وحده، ولكن عندما ترفع الدعوة إلى تأكيد هويات أخرى دينية وعرقية وثقافية:
فإننا نسمع صيحات الترحيب والتحبيذ والدفاع؛ فعندما يتحدث بعضهم عن هوية
مسيحية أصلية لبعض الأقليات في بلدان عربية، أو عن هوية عرقية لزنوج في
بعض البلدان العربية الإفريقية: نجد أصوات النخب العلمانية نفسها التي تهاجم
شعار الهوية الإسلامية بضراوة تدافع بالضراوة نفسها عن تلك الهويات الأخرى
حتى المستندة منها إلى مزاعم دينية غير إسلامية، والغريب أن الهجوم في الحالة
الأولى والدفاع في الحالة الثانية يجريان وفق حجة واحدة، هي مثلاً: مناصرة
حقوق الإنسان؛ فرفع لواء الهوية الإسلامية في البلدان ذات الغالبية المسلمة يوصف
عند أهل النخبة العلمانية بأنه انتهاك لحقوق غير المسلمين وافتئات عليها، أما رفع
شعار الهويات المسيحية أو البهائية أو الآشورية أو الزنجية ... إلى آخره،
فيوصف بأنه تحقيق وتجسيد لمبادئ حقوق الإنسان، حتى وإن صاحبته دعاوى
انفصالية أو لجوء إلى العنف والإرهاب. فلماذا التناقض؟ !
إن سبب هذا التناقض الذي لا يكاد يلاحظه أحد في طروحات الفكر الثقافي
اللاديني الراهن هو أن الرغبة الحقيقية التي تحرك هذا الفكر لا تكمن في إلغاء
مفهوم الهوية ذاته كما يزعمون الآن لصالح مفاهيم العالمية والاندماج الحضاري،
وإنما تكمن في إلغاء مفهوم الهوية الإسلامية وحده، وتأكيد سائر الهويات والذاتيات
على حساب هذه الهوية الإسلامية، المطلوب الحقيقي كان ولا يزال إلغاء التمسك
بالهوية الإسلامية وحدها، مع تأكيد الهويات الدينية والثقافية الأخرى المخالفة لها
ورفعها في وجهها، لكن الذي حدث هو أن أصحاب الدعوة (اللادينية) الآن، وفي
مواجهة الصحوة الإسلامية في بلدان عدة، لا يستطيعون طرح هذا الأمر بشكل
مباشر وواضح؛ لذا: فقد لجؤوا كحيلة في المحاججة إلى نفي واستبعاد مفهوم
الذاتية والهوية كله وفي حد ذاته، وذلك على المستوى الإعلامي الظاهري؛ حتى
يخدعوا جمهور القراء والمتابعين من المسلمين بتصوير الأمر لهم: وكأن هذا
المفهوم قد انتهت صلاحيته أو (موضته) على الساحة الفكرية، وأن السائد أو
العصري الآن هو مفاهيم العالمية وتمازج وذوبان الحضارات والتفاعل مع الآخر
... إلى آخره، ولكن حينما يتصور المخدوعون أن قضية الهوية قد أصبحت بالفعل
من التراث الغابر يأتي أهل النخبة اللادينية ومن باب خلفي بطروحات جديدة أو
متسربلة بأقنعة مختلفة، تبرر تأكيد الهويات الدينية والثقافية غير الإسلامية،
ويكتشف بعض المخدوعين أنه في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات بنبذ مفاهيم
الهوية والذاتية الإسلامية وحدها، بحجة الاندماج في العالمية الثقافية والتعددية
الحضارية، فإن الهويات (اللاإسلامية) دينية كانت أم ثقافية تطرح بشدة، وتجد
(لا دينيين) مستميتين في الدفاع عنها، ليس تحت شعار الذاتية والهوية وحده، ولكن
(على سبيل التعمية) تحت شعارات حقوق الإنسان (التعددية والديموقراطية) ، وهي
الشعارات نفسها التي يجري رفض الهوية الإسلامية بالاستناد إليها.
ويلاحظ المتتبع لمجريات الأمور أن هذه الخدعة العلمانية قد نجحت إلى حد
كبير في دهاليز سياسات بعض المؤسسات الدينية في عالمنا الإسلامي، فالندوات
والمؤتمرات يكثر عقدها هذه الأيام من جانب هذه المؤسسات والمرتبطين بها حول
(الحوار الحضاري) و (تقارب الأديان) و (لقاء الثقافات) .. وغير ذلك، ويخفت في
الوقت نفسه الحديث عند أهل هذه المؤسسات عن الهوية والذاتية الإسلامية؛ بحجة
أن ترديد هذا الحديث أصبح ضرباً من التطرف والمغالاة والتعصب واحتقار مشاعر
الغير، بل وتحقيرهم، ولكن بينما نجد من أصحاب الفكر الإسلامي (أو من يفترض
أنهم كذلك) من ينساق وراء هذا التصور ويلفظ الحديث عن الهوية الإسلامية، نجد
في المقابل بل وفي المؤتمرات نفسها والتجمعات ذاتها من يرفعون شعار الهويات
والذاتيات المضادة أو المخالفة، بل ويتهمون المسلمين بأنهم إن تكلموا عن هويتهم
فهم عدوانيون متسلطون.
إن الموضوع برمته لا يعدو أن يكون حيلة بارعة من حيل الحجاج الفكري،
وأصحاب هذه الحيلة يرفعون في وجه المنادين بالهوية الإسلامية دعوة (تذويب
(اختفاء الهويات الخاصة في الهوية العالمية الحضارية الجديدة (في زعمهم) ، التي
تتشكل من تفاعل وتمازج وتغير الهويات الخاصة، ولكن عندما يقبل المرء على
التعرف على هذه الهوية العالمية الجديدة يجد بالتحليل أنها ليست سوى الهويات
الغربية المعروفة من دينية (مسيحية يهودية) وثقافية (وثنية) وفكرية (علمانية
المذاهب المتعددة) ، وقد ضخمت وحولت إلى (عالمية) تفرض وتطبق على الجميع.
إن الهوية العالمية الجديدة التي يقال إنها قد نسخت كل الهويات الخاصة
(وبالتحديد الهوية الإسلامية) ليست في الواقع سوى هوية خاصة (غربية علمانية
مسيحية) اتخذت لها قناع التمويه والتدليس لكي تفرض على الجميع وتبرر سحق
الهوية الإسلامية التي ينكرون عليه الاتساع والشمولية، ويحولونها إلى مجرد (هوية
خاصة) أو (ذاتية محدودة) ، ولكن هذا الموضوع يتصل بما يسمى (السياسات
الثقافية) ، وله مجال آخر في البلاد الإسلامية والعربية.(103/94)
سياسة شرعية
القانون الدولي الإسلامي.. (علم السير)
مفهومه تدوينه خصائصه
بقلم: عثمان جمعة ضميرية
أخذ الكاتب في الحلقة الأولى في تعريف (القانون الدولي الإسلامي) (علم
السير) شارحاً ومحللاً، ومتطرقاً لبعض المسائل العلمية، وفي الحلقة الثانية عالج
بعض خصائص القانون الدولي الإسلامي، ويواصل في هذه الحلقة معالجة بعضها
الآخر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
أحكام السير والعلاقات الدولية في الإسلام تخاطب الفرد والدولة:
إن الشريعة الإسلامية خطاب عام للمكلفين، أفراداً وجماعات، وهم محل
للتكليف بوصفهم أفراداً وبوصفهم جماعات، وقد قال الله (تعالى) : [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياً وَلا
نَصِيراً] [النساء: 123] .
وفي كثير من الآيات القرآنية الكريمة يتوجه الخطاب مباشرة إلى الإنسان
الفرد، كما يتوجه إلى الجماعة والأمة، وهذا أمر واضح في القرآن الكريم: ... [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ... [المائدة: 67] ، فالخطاب هنا موجه للفرد، ثم يتوجه إلى الجماعة بمثل قوله (تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] .
وينبني على ذلك: أنه إذا أخذنا الخطاب المباشر معياراً للشخصية القانونية
وجب علينا أن نرت،، ب على ذلك نتيجة حتمية، وهي: أن الإنسان بوصفه
إنساناً هو محل التكليف في الشريعة الإسلامية؛ لأن النصوص الشرعية تخاطبه
خطاباً مباشراً، فتلزمه بالتكليف، وتكسبه الحقوق، وتبشره بالثواب، وتوقع عليه
الجزاء بطريق مباشر [1] . فليست أحكام العلاقات الدولية قاصرة على الدول، بل
هي مفتوحة عامة شاملة، تقوم أصلاً على الكيان الفردي، سواء أكان الفرد منفرداً، أو في جماعة، أو في تشكيل سياسي باسم (دولة) .
يقول الدكتور محمد طلعت الغنيمي: (وهكذا نجد أن النظرية الإسلامية أكثر
تقبلاً للفرد كشخص من أشخاص القانون الدولي، بيد أنها لا تحصر الشخصية
القانونية الدولية فيه، وإنما تقر إلى جانب ذلك بالشخصية القانونية الدولية للدولة.
ومن ثم: فإن الرأي المعاصر الذي يعترف لكل من الدولة والفرد بالشخصية
القانونية الدولية إنما يتفق مع النظرية الإسلامية في تحديد أشخاص القانون ... الدولي) [2] .
ولذلك: يصح مثلاً أن يعقد مسلم معاهدة أمان لغير مسلم [3] ، ولا يشترط أن
يكون ذلك من خلال كيان الدولة، وبهذا: أصبح للفرد شخصية دولية معترف بها،
فعقد الأمان الذي عقده المسلم للأجنبي ملزم للدولة كما تلزم المعاهدة بين دار الإسلام
ودار الحرب كدولتين مستقلتين، ولا يقدح في ذلك أن هناك أحكاماً تتطلب أن
يمارسها الإمام (رئيس الدولة) أو تتطلب إذنه [4] ، فإن هذا توزيع للاختصاص؛
لأن للمسلم الفرد أحوالاً يمثل فيها المجتمع الإسلامي كله، ولا تعني هذه
الاختصاصات الخاصة للإمام الإذن بالجهاد، وعقد الذمة ... ونحوها أن الشكل
الرسمي للدولة حجاب دون الأصل السابق ذكره، وهو أن الجماعة الدولية جماعة
أفراد، وأن الكيان الرسمي أمر غير لازم ولا مشترط في كثير من الأحيان، وأن
اشتراطه هو استثناء من الأصل [5] .
بينما يثير مركز الفرد في القانون الدولي الوضعي جدلاً كبيراً، حيث يصر
الشراح التقليديون على أن القانون الدولي هو قانون الدول فحسب، ولايرتبون للفرد
حقوقاً أو واجبات دولية بصفة مباشرة، وإنما اعتبروه مجرد محل لهذه القواعد، أما
الإسلام فقد اعترف للفرد بالشخصية القانونية الدولية منذ خمسة عشر قرناً، دون
تفريق بين الرجال والنساء، ودون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الإقليم [6] .
ومن هنا: فإن الرأي المعاصر الذي يعترف لكل من الدولة والفرد بالشخصية
القانونية، إنما يتفق مع الأحكام الإسلامية في تحديد أشخاص القانون الدولي.
والشريعة ليست نظاماً قانونيّاً داخليّاً فحسب أدمجت فيه الأحكام والقواعد
الدولية، وليست نظاماً دوليّاً فحسب أدمجت فيه الأحكام والقواعد القانونية الداخلية.
وإنما هي نظام وشريعة عالمية تنتظم العلاقات الداخلية والدولية معاً، ويسري الفرع
الداخلي منها في النطاق الإقليمي للدولة الإسلامية العالمية، بينما تسري أحكام الفرع
الدولي منها على العلاقات ما بين الدولة الإسلامية، وغيرها من الدول الأخرى [7] .
ويذهب الدكتور حسني جابر إلي أن الشريعة الإسلامية قد قررت قاعدة: أن القانون الدولي له الأولوية على القانون الداخلي عند التعارض، والأصل في ذلك قوله (تعالى) : [وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] [الأنفال: 72] ، فمناصرة الأقليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية إذا تعرضوا لاضطهاد ديني هو واجب، بناء على تشريع داخلي إسلامي يندرج في عموميات الجهاد، إلا أن ذلك يمتنع إذا كان بين الدولة الإسلامية وبين إحدى تلك الدول معاهدة لا تمكن المسلمين من تلك المناصرة، كمعاهدة عدم اعتداء أو نحوها [8] .
إلا أننا نلاحظ: أنه حتى في هذه الحالة، فإن ذلك لا يعني أولوية في قانون
ثنائي، وإنما هو سريان لحكم شرعي في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم
في الفرع الدولي من القانون أو الفقه الإسلامي.
وهذه الوحدة في النظام القانوني الإسلامي ليست مماثلة تماماً لنظرية وحدة
القانون عند الغربيين؛ لأنهم لا يكتفون بأن النظم القانونية المختلفة يربطها رباط
الوحدة، بل يبحثون بعد ذلك عن القاعدة الأساسية في البناء القانوني، وعن مكان
وجودها، وذلك لكي يعترفوا للفرع القانوني الذي توجد فيه بالصدارة أو التفوق
القانوني لأحكامه على سائر الأحكام في الفروع الأخرى. أما الأحكام في الشريعة
الإسلامية: فهي كلها متساوية ما دام أن مصدرها واحد، فالأحكام الواردة في القرآن
الكريم كلها متساوية من حيث طبيعتها القانونية، وكذلك الأحكام الواردة في السنة
النبوية، غير أن الاختلاف في القوة القانونية قائم على أساس التدرج في قوة
المصدر، كما جاء ذلك في حديث معاذ (رضي الله عنه) [9] من ترتيب المصادر،
بحيث يكون القرآن أولاً، ثم السنة، ثم الاجتهاد [10] .
كما أن النظر إلى مقاصد الشريعة الإسلامية من حيث قصد الشارع في وضع
الشريعة ابتداءً إنما يقوم على حفظ مقاصدها، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون
تحسينية، والمقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية.
فالضروريات أهم هذه المقاصد؛ لأنه يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة،
وشيوع الفوضى بين الناس، وضياع مصالحهم، وتليها الحاجيات؛ لأنه يترتب
على فقدها وقوع الناس في الحرج والعسر، واحتمال المشقات، وتليها التحسينيات؛ لأنه لا يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة ولا الوقوع في الحرج، ولكن
يترتب على فقدها خروج الناس عن مقتضى الكمال الإنساني والمروءة وما
تستحسنه العقول.
وعلى هذا: فالأحكام التي شرعت لحفظ الضروريات أهم الأحكام وأحقها
بالمراعاة، ثم الأحكام التي شرعت لتتوفير الحاجيات، ثم الأحكام التي شرعت
للتحسينيات، فهي مرتبة من الأعلى إلى الأدنى [11] .
وتأسيساً على هذه الخاصية؛ فإن أحكام العلاقات الدولية في الإسلام تستمد من
مصادر التشريع الإسلامي كأي فرع من فروع الفقه، وهي المصادر الأصلية:
(الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس) ، ثم المصادر التبعية الأخرى [12] .
ففي القرآن الكريم نجد: أصول العلاقات الدولية في حالي السلم والحرب،
وطريقة معاملة المسلمين لغير المسلمين في دار الإسلام وفي دار الحرب، فكل ما
يتعلق بأصل العلاقات وطبيعتها والمعاهدات والوفاء بها، والجهاد وما يترتب عليه
من آثار ... كل هذا نجد قواعده في كليّ الشريعة وعمدة الملة، وهو القرآن الكريم، ثم تأتي السنة النبوية القولية والعملية والتقريرية، فتبين هذه القواعد والأصول
خير بيان، وترسي قواعد وأصولاً جديدة، وقد ألمعنا فيما سبق إلى أبواب الجهاد
والسير والمغازي والأمان والجزية في كتب الحديث والسنة، بل إن (علم السير) ،
إنما سمي بهذا الاسم أخذاً من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في معاملاته
للآخرين.
وأما الإجماع والقياس: فإنهما يستندان إلى المصدرين السابقين، فالإجماع
لا بد أن يكون مستنداً إلى دليل شرعي من الكتاب أو السنة يسمى (مستند ... الإجماع) [13] ، وإذا لم يكن في الواقعة نص فاجتهادهم لايتعدى استنباط حكمه بواسطة قياسه على ما فيه نص أو تطبيق قواعدالشريعة ومبادئها العامة أو بالاستدلال بما أقامته الشريعة من دلائل، كالاستحسان والاستصحاب أو مراعاة العرف والاستصلاح أو المصالح المرسلة [14] .
فإذا استعملنا التعبيرات التي يعرفها القانون المعاصر، أمكننا أن نقول: إن
مصادر القانون الدولي في الإسلام هي:
أولاً: سلطة، ونقصد بها سلطة العقيدة باعتبارها مصدر الالتزام بالأحكام
التي وردت في الكتاب والسنة.
ثانياً: المعاهدات والمواثيق التي تبرم بين الدولة الإسلامية وبين غيرها من
الدول، ثم: الفقه، ويندرج تحته الفتاوى والتعليقات والآراء المستنبطة بالاجتهاد
أو القياس.
وأخيراً: العرف، وهو في القانون الدولي الوضعي من أكبر المصادر
وأغزرها، مع أنه في الإسلام مصدر ثانوي، إلا أن له أهميته وقيمته [15] .
والأحكام الإسلامية في ذلك تتلافى الخلاف القائم بين القانونيين في طبيعة
القواعد القانونية الدولية والمذاهب التي تفرقت وتعددت في تحديد الصلة بين القانون
الدولي والقانون الداخلي، وما يترتب على ذلك من آثار ومشكلات، وإن كان
يجمعها مدرستان اثنتان: مدرسة ثنائية القانون، ومدرسة وحدة القانون، وإن كان
ما جرى عليه العمل في علاقات الدول لا يؤدي إلى اعتماد نظرية منهما وكلتاهما
تعرضت لنقد شديد واعتراضات [16] .
أساس الإلزام في القانون الدولي الإسلامي:
يقوم النظام الإسلامي على الالتزام الذاتي بقواعد العلاقات الدولية كجزء من
قانونها الداخلي، أي ولو بدون معاهدة أو عرف دولي، وبصرف النظر عن قوة
الدولة الإسلامية وسيادتها وقدرتها على الدول الأخرى، فالقانون الدولي الإسلامي
يستند إلى إرادة الدولة الإسلامية، شأنه في ذلك شأن أي قانون إسلامي آخر في
البلاد، وحتى الالتزامات المفروضة بمقتضى معاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف
(دولية) فإن لها الأساس نفسه، وهي ما لم تنل التصديق والنشر من جانب الدولة
الإسلامية فإنها تغدو غير ملزمة، فهو التزام ذاتي سببه التكليف الشرعي، باعتبار
أن أحكام الشريعة الإسلامية خطاب ملزم للمسلم في ذاته، فهو يطبق أحكام وقواعد
السِّيَر في مجالها، كما تطبق أي قاعدة شرعية أخرى في مجالها، وكلها على وجه
الالتزام، وعلى وجه حكمها الشرعي من الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة
أو التحريم؛ فإنه على سبيل المثال إذا طلب العدو الأمان أو الهدنة أو الذمة، فيجب
إجابته إلى ذلك فرضاً بنص القرآن الكريم على ذلك [وَإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَاًمَنَهُ] [التوبة: 6] .
وفي الحديث الصحيح عن سليمان بن بريدة عن أبيه في الدعوة إلى الإسلام
قبل القتال: (.. فإن هم أبوا الإسلام) فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم
وكفّ عنهم) [17] ؛ وكذلك: اعتبار عقد الأمن ملزم لنا وحدنا دون من يعقد معهم
من المشركين، وكذلك: ولا ننتهز فرصة ضعف للإجهاز عليه، ولا يجوز
للمسلمين قتل الصبي أو المرأة في الحرب إلا في أحوال خاصة كما سيأتي ولا
يجوز الغدر بهم حتى ولو غدروا هم [18] .
وهذا الالتزام الخاص منشؤه: أننا مخاطبون بأحكام الشريعة دونهم، وهم
ليسوا مخاطبين بفروعها ولايلتزمونها [19] ، فالتزامنا بها التزام أصيل وناشيء
عن خضوعنا لله (تعالى) في كل أعمالنا، وقد كانت الدولة الإسلامية في أوج قوتها
وعنفوان سيادتها تلزم نفسها بنفسها بأدق آداب الإسلام في القتال والمعاهدات [20] ، ولو لم يلتزمها من تحاربهم، إلا إذا ساغ في الشرع رد العدوان بمثله [21] .
وأساس الإلزام بهذه الأحكام وسائر الأحكام أنها أوامر الله (سبحانه وتعالى)
لعباده، فهو وحده الحاكم الآمر الواجب الطاعة، وهذا مقتضى الإيمان بالله وتوحيده
وعبادته؛ ولذلك: اتفق العلماء على أن الحاكم هو الله (سبحانه وتعالى) ، وأنه لا
أحد يستحق أن ينفذ حكمه على الخلق إلا من كان له الخلق والأمر (سبحانه وتعالى) .
وقد أوسع العز بن عبد السلام (رحمه الله) هذا المعنى شرحاً في كتابه (قواعد
الأحكام في مصالح الأنام) حيث قال في قاعدة: من تجب طاعته، ومن تجوز ومن
لا تجوز طاعته: (لا طاعة لأحد من المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته،
كالرسل، والعلماء، والأئمة، والقضاة، والولاة، والآباء، والأمهات، والسادات، والأزواج، والمستأجرين على الأعمال والصناعات، ولا طاعة لأحد في معصية
الله (عز وجل) لما فيها من المفسدة الموبقة في الدارين أو في إحداهما، فمن أمر
بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنساناً على أمر يبيحه الإكراه، فلا إثم
على مطيعه) [22] .
وعلى هذا: فما يوجد عند الدول الأخرى من قواعد في العلاقات الدولية لا
يلزم الدولة الإسلامية، ولا يعتبر من قواعد قانونها الدولي إلا إذا أرادته ورضيته
صراحة كما في المعاهدات، أو ضمناً كما في العرف. ومن البدهي: أن إرادتها
مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية، فلا تملك الخروج عليها، فإذا اختارت ورضيت
بما هو خارج عن هذه الحدود كان رضاها باطلاً لا يلزمها بشيء، حتى لو كان ما
رضيت به مشروطاً عليها في معاهدة هي طرف فيها، وعلى هذا: فلو عقدت
معاهدة بين المسلمين والكفار على ما لا يجوز كمنع فك أسرى المسلمين وردّ مسلم
أسروه وأفلت منهم، وترك ما لنا عندهم من مسلم أو غيره، وعقد ذمة لهم بدون
جزية، أو أن يقيموا ببلاد الحجاز، أو يظهروا الخمر بدار الإسلام ... : فسد
الشرط؛ لأنه أحل حراماً، وفسد العقد؛ لاقترانه بشرط مفسد [23] .
قال الإمام محمد بن الحسن: (وما يتعذر الوفاء به شرعاً لا يجوز إعطاء
العهد عليه، فإن فعلوا ذلك فلينقضوا هذا العهد ... لأن هذا شرط مخالف لحكم
الشرع، وقد قال: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة
شرط) ..) [24] .
أما في القانون الدولي فقد نشأت مدارس متعددة لتفسير طبيعة القانون الدولي
ومصادره وأساس الإلزام بقواعده، (ويمكن أن تجمع النظريات المختلفة في إطار
مدرستين رئيستين؛ المدرسة الأولى هي: المدرسة الإرادية، أو الوضعية،
والمدرسة الثانية هي: المدرسة الموضوعية) [25] .
وبالمقارنة بين الأحكام الإسلامية والقانون الوضعي في ذلك نلمح شبهاً بين
أفكار نظرية القانون الطبيعي التي تنتمي إلى المدرسة الموضوعية والأصول التي
تقوم عليها الشريعة الإسلامية، فهناك إطار ثابت من القواعد الشرعية، هو الذي
وردت فيه النصوص القطعية أو المحكمة [26] ، وهو ما يتفق مع فكرة وجود
قواعد أبدية سرمدية ثابتة وخالدة مع الزمن التي يقوم عليها القانون الطبيعي.
يبقى خلاف جوهري بين أفكار شرّاح القانون الطبيعي في جملتهم والشريعة،
تصل بمصدر هذه القواعد؛ ففي الشريعة: المصدر هو إرادة الله (تعالى) ، أما في
القانون الطبيعي: فهو طبيعة الأشياء، أو مقتضيات العقل، إلى غير ذلك من
الأفكار [27] ، وهذا الشبه بين القانون والشريعة إنما جاء نتيجة التأثير الإسلامي
على أصحاب هذا الاتجاه، الذين درسوا الثقافة الإسلامية وعلوم الإسلام، وكانت
فكرة القانون الطبيعي قد ملكت أفئدة رجال الدين والفلسفة والقانون في أوروبا
العصور الوسطى، وكلهم نشؤوا في بيئة إسلامية الثقافة، ودرسوا الثقافة الإسلامية، وكان رائدهم الأول (توما الإكويني) ، ثم أمثال: (سوارز) و (إيالا) و (فتيوريا) ،
ويكفي للكشف عن ثقافتهم الإسلامية أنهم ما بين علماء في الفلسفة والتاريخ والقانون، وأنهم من بيئة إسلامية الثقافة من أسبانيا، إحدى مراكز الإشعاع الإسلامي.
ثم جاء من هولندا عالمها الشهير (جروسيوس) الذي تأثر بكتابات المسلمين،
وعلى الأخص الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وإن كانوا يخفون مصادر تأثرهم
خشية الإرهاب الديني الذي كانت تعيشه أوروبا في تلك العصور [28] .
__________
(1) (أحكام القانون الدولي في الشريعة) ، د حامد سلطان، ص 180 181.
(2) (قانون السلام في الإسلام) ، د محمد طلعت الغنيمي، ص 318.
(3) انظر: (شرح السير الكبير) ، 1/252، وما بعدها، 2/576 577.
(4) وذلك أن بعض الفقهاء يميزون بين تصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقضاء وتصرفه بالفتوى وهي التلبيغ وتصرفه بالإمامة فما كان من هذا النوع الأخير لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به (عليه الصلاة والسلام) ، ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك انظر بالتفصيل: (الفروق) للقرافي: 1/205 209، ثم خص هذا بكتاب كامل اسمه (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) .
(5) انظر: (مصنفة النظم الإسلامية) د مصطفى وصفي، ص 180 183، 293.
(6) انظر: (القانون الدولي العام) د حامد سلطان، ص 65 66.
(7) (أحكام القانون الدولي في الشريعة) ، د حامد سلطان، ص 182 183، وانظر أيضاً: (الشخصية الدولية) د كامل ياقوت، ص 238 وما بعدها.
(8) انظر: (القانون الدولي) ، د حسني جابر، ص 39.
(9) عن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن قال: (كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء،؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في كتاب الله (تعالى) ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله) أخرجه أبو داود في الأقضية: 5/212 213، والترمذي في الأحكام: 4/556 557، والإمام أحمد: 5/230، وصححه عدد من العلماء، وتلقوه بالقبول، انظر بالتفصيل: (المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر) للزركشي: ص 63 65، (تلخيص الحبير) لابن حجر: 4/182 183.
(10) انظر: (أحكام القانون الدولي) ، ص183.
(11) انظر: (الموافقات) للشاطبي: 2/8 25.
(12) في الشريعة الإسلامية علم قائم بذاته تدرس فيه مصادر التشريع ومناهج الاستنباط، وهوعلم أصول الفقه، مما تضاهي به الشريعة الإسلامية؛ لما فيه من دقة ومنهجية وقواعد، ولذلك لا نرى محلاً هنا لدراسة مصادر القانون الدولي بالتفصيل، لأنها هي نفسها مصادر التشريع الإسلامي التي أومأت إليها.
(13) انظر: (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي: 1/236 238، (أصول الفقه) للشيخ محمد أبو زهرة، ص 208 211.
(14) هذه المصادر التشريعية خصص لها الشيخ عبد الوهاب خلاف (رحمه الله) كتاباً قائماً بذاته فصل فيه القول في مدى حجيتها وهو (مصادر التشريع فيما لا نص فيه) ، وللدكتور عبد العزيز الربيعة كتاب (دلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها) .
(15) (ميثاق الأمم والشعوب) ، ص5، وانظر: (دولة الإسلام والعالم) د حميد الله، ص 42 61، وجدير بالملاحظة: أن بعض الكتاب قابل مصادر القانون الدولي الإسلامي بمصادر القانون الدولي الحديث، ولحظ تشابهاً بين النصوص كمصدر للقانون الدولي الحديث ومصادر التشريع الإسلامي الأصلية وهي القرآن والسنة وجعل بعضهم السنة النبوية مرادفة للأعراف العربية والعادات القبلية، وهذا منهج خطير وخلط كبير؛ حيث جعلوا السنة والنصوص الشرعية بمستوى العادات وأقوال البشر وأحكامهم ومواثيقهم الدولية، وقدسبق آنفاً في الكلام على خصائص مصادر الأحكام الدولية في الإسلام ما يرد على ذلك وانظر: (الحرب والسلم في شرعة الإسلام) د مجيد خدوري، ص 72.
(16) انظر: (القانون الدولي) د حامد سلطان، ص 19 23.
(17) أخرجه الإمام محمد بن الحسن الشيباني في (السير) من كتاب الأصل، ص 93، وفي (السير الكبير) : 1/38 39 بشرح السرخسي، والحديث أخرجه الإمام مسلم في الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم.
(18) لحديث (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) أخرجه أبو داود في البيوع، باب الرجل يأخذ حقه: 5/185، والترمذي في البيوع، وانظر: (سلسلة الأحاديث الصحيحة) للألباني: 1/708 709.
(19) أجمع العلماء على أن الكفار مخاطبون بالإيمان وأصول الدين، واختلفوا في تكليفهم بالفروع على مذاهب.
(20) انظر: حكم القاضي (جُميع بن حاضر) بخروج الجيش المسلم من (سمرقند) ؛ لأنه فاجأ أهل البلدة وفتحها دون إنذار ودعوة في (فتوح البلدان) للبلاذري: 3/519، (تاريخ الطبري) : 6/567 568، (الكامل في التاريخ) لابن الأثير: 4/126 163.
(21) انظر: (مصنفة النظم الإسلامية) ، ص 282 321.
(22) قواعد الأحكام، 2/157 158.
(23) (مجموعة بحوث فقهية) ، ص 19، (حاشية الشرقاوي على التحرير) : 2/468، وانظر: (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) للقرافي، ص 36 337.
(24) أخرجه البخاري في الشروط، باب الشروط في الولاء: 8/326 وفي مواضع أخرى، وانظر: (شرح السير الكبير) ، 3/788.
(25) (قواعد العلاقات الدولية) د جعفر عبد السلام، ص 91.
(26) المحكم في اصطلاح الأصوليين: هو ما أحكم المراد به قطعاً، فلا يحتمل إلا وجهاً واحداً، أو هو ما دل على معناه الذي لا يقبل إبطالاً ولا تبديلاً بنفسه دلالة واضحة لايبقي معه احتمالاً للتأويل؛ كالآيات الدالة على وجود الخالق (سبحانه) ، وكقوله: (الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة) (أخرجه أبو داود في الجهاد 3/ 380) ، انظر: (الفصول في الأصول) للجصاص 3/73، و (أصول السرخسي) 1/165.
(27) (قواعد العلاقات الدولية) ، ص 130.
(28) انظر: (الشخصية الدولية) د محمد كامل ياقوت، ص 271 273، وراجع (القانون بين الأمم) فان دوجلان: 1/45، وما بعدها.(103/100)
بريد البيان
وفاة (داعية) جليل:
أبو بكر بن عبده بن أبي بكر
لسان الصدق للدعاة الصالحين هو من علامات حسن الخاتمة، والشيخ ... محمد بن عمر أحمد العمودي الذي توفي في 12 من رجب 1416هـ من الدعاة الذين كانت خاتمتهم بمذهب السلف الصالح، فقد كان في بداياته صوفيّاً لكنه اهتدى إلى المنهج الحق بعد قراءته لرسالة (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) . درس (الشيخ) القرآن على معلمه أحمد المخزومي، والعلوم الشرعية على الشيخ محمد بن أمين العبيدي، وخلفه في التدريس، بالإضافة إلى الإمامة وإلقاء المواعظ.
كان يركز في تدريسه للأطفال على اللغة والنحو، وألف رسالتين، هما:
1- دليل الصبيان إلى التعبير بلغة القرآن.
2- قارب نقل الركاب إلى سفن الإعراب.
كما كان من آثاره:
1- مدرسة الهدى في (شيلا) .
2- مدرسة التوحيد في (متوندوفي) .
كما أوصى ببناء مركز لأهل السنة والجماعة على المنهج السلفي في (لامو)
بكينيا.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.(103/110)
الورقة الأخيرة
أدوات النفي.... لم تعد نافية! !
بقلم: حسن قطامش
أدوات النفي.. للنفي، وهذا معلوم في لغة العرب، لغة الذكر المبين، وما
علمنا شكّاً أو يقيناً أن أدوات النفي تثبت ما تنفيه في الوقت ذاته.
لكن في بعض قواميس العرب الآن تتبدل اللغة حسب تقلب متحدثيها، الذين
يظهرون ما لا يبطنون، ويبطنون غير الذي يظهرون، فإذا انقلب حال المتحدث
فلا حرج من (انقلاب) الحديث.
ولعل أبرز القواميس (المنقلبة) تلك: القاموس السياسي، وفيه يظهر الخطاب
المنقلب جليّاً، ويصير النفي للإثبات، والإثبات يضحى نفياً.
ولقد برز ذلك واتضحت معالمه، وظهرت رؤاه في التعامل مع يهود، وإن
كان ظاهراً في سواه كثيراً، ولكنه هنا أظهر وأبين.
كانت مفردات الخطاب الثوري إثر الاحتلال اليهودي لفلسطين: (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) (وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة) .
وظلت تلك الشعارات الرنانة تخترق الأسماع عبر أبواق (الصمود والتصدي) من مرئي ومسموع ومقروء، ثم ما لبثت الأيام تمضي حتى أخذ حملة تلك
الشعارات يؤبنونها، ثم ما لبثوا كذلك أن تقاطروا زرافات ووحداناً يلهثون وراء
(سلام الشجعان) ، فمن (أرض السلام البارد) إلى (مملكة السلام الدافئ) إلى (سلام
أبناء العمومة) ثم (سلام الأُسود) ، والبقية ... آتية، والأيام حبالى بكل عجيب.
وكأن كل هذه (الإثباتات) من عداوة وبغضاء واحتلال ديار وانتهاك حرمات.. إلى غير ذلك: صار (واقعاً) ولا وجود له.
ولعلنا نستعرض بعض التصريحات في الآونة الأخيرة، التي ظهرت فيها
أدوات النفي، لغير النفي! ! :
يرتع اليهود في (أرض الكنانة) بأفكارهم وبذورهم على أنهم خبراء ... زراعيون، ولا يخفى على أحد ما أصاب الزراعة من (خبراتهم) ! ! وإذا ... بوزير الزراعة يخرج علينا ليقول: (لم نستورد بذوراً من إسرائيل! !) .
ويجيء وزير الخارجية، ويقول: (لن نوقع على معاهدة منع الانتشار
النووي إلا إذا وقعت (إسرائيل) ويومها قيل: ليخفف من حدة خطابه حفظاً لماء
الوجه، لأنه موقع لا محالة، وهو ما حدث بالفعل دون أن توقع إسرائيل.
ويأتي وزير الاقتصاد ليقول: (لا نخشى من دخول إسرائيل اقتصاديّاً إلى
المنطقة، ولا للهيمنة الاقتصادية، نعم للمساواة) وإذا به مع آخرين يقومون بجولة
من (التطبيع الساخن) لإسرائيل لعقد اتفاقيات، ومشاريع اقتصادية! !
ونعرج على لبنان ليصرح لنا أحد وزرائها بأن: (إسرائيل غير قادرة على
سرقة مياه الليطاني) ، وإذا بأحد رؤسائها السابقين يؤكد أنها تسرق وتسرق، ولديه
الأدلة، ونقول: لقد سرقت إسرائيل كميات إضافية من المياه المتفق عليها من وادي
عربة في الأردن! ! ، فالذي يسرق من المتفق عليه، أليس بالأحرى أن يسرق ما
لا اتفاق عليه؟ !
ثم هل نشكك في كلام وزير خارجية الجزائر حين قال: (الجزائر لن تحذو
حذو الساعين للتطبيع مع إسرائيل) ؛ إذ إننا تعلمنا أن قاموس النفاق السياسي نفيه
إثبات، وإثباته نفي.
... وحسبنا الله ونعم الوكيل.(103/111)
ربيع الآخر - 1417هـ
سبتمبر - 1996م
(السنة: 11)(104/)
كلمة صغيرة
مفارقة عجيبة
زعماء الدين النصارى في لبنان كيان كبير، له وزنه الرسمي، من احترام
الدولة لهم، ومراعاة توجههم في كل مناسبة، تقديراً لثقلهم في الساحة، ولذلك:
حينما طلب هؤلاء الزعماء من الرموز النصرانية عدم المشاركة في انتخابات
1992م؛ أحجم كثيرٌ من هؤلاء عن المشاركة، استجابة لهم، ولما رأوا أن ذلك
عاد عليهم بالخيبة، ووصول رموز جدد لا سيما من الإسلاميين؛ عادوا ليعطوا
الضوء الأخضر لنوابهم بالمشاركة النيابية، مع تحفظهم المعلن عن الانتخابات
المقبلة.
غريب جدّاً دور (رجال الدين) النصارى في لبنان، وتدخلهم في العمل
السياسي، وهم الذين جاء في كتابهم المقدس «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» .
والأعجب أن يحجم كثير من علماء دين الإسلام ودعاته وهو دين يشمل الحياة
جميعها؛ والحكم فيه لله [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ] عن المشاركة الفعالة في الحياة العامة، ويُضرب على يد دعاته في كثير من البلاد الإسلامية، وتصدر قوانين تحرم
الدخول في (اللعبة الانتخابية) للإسلاميين، بدعوى أنه لا يصح أن يدخل فيها ذوو
الانتماء الديني عموماً، مع اعتقادنا الجازم أن نصرة هذا الدين لن تأتي عن طريق
تلك الأساليب المحدودة الأثر.
إلا أن المقارنة بين المنهجين مثيرة للعجب والتساؤل، وتنبئ عن واقع أليم
للأمة؛ لاضطراب موازينها ... والله المستعان.(104/1)
الافتتاحية
يا دعاة الإسلام: لنتجرد ولنصدق
التحرير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله
وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فالدعوة الصادقة إلى الله هي سبيل كل داعية مخلص لتبليغ هذا الدين وتبصير
الناس بأخلاقه وآدابه وأحكامه [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
والدعوة إلى المنهاج الصالح الصحيح هي رسالة الأنبياء ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ
المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) .
فكلما كانت الدعوة منطلقة من تجريد الإخلاص لله (تعالى) وتجريد المتابعة
للرسول كلما كانت آثارها إيجابية ونتائجها موفقة.
وفي ظل الإحباطات التي تعيشها الدعوة في بعض البلدان؛ نتيجة لنقص العلم
الشرعي، ولفقدان التأصيل الصحيح لمسائل الخلاف: تشتد حاجتنا إلى الرجوع
لمنهج الأنبياء (عليهم السلام) في الدعوة: من البدء بالعقيدة، وتحقيق العبودية لله
(تعالى) ، وتجريد القصد والمتابعة للرسول، والعض على ذلك بالنواجذ.
فكثيراً ما نشاهد في الواقع الدعوي من الأخطاء والتجاوزات ما يمكن إرجاعه
إلى النقص في تلك المؤهلات الآنفة الذكر؛ مما قد يتسبب في فقد تأثير الدعوة في
بعض المجتمعات، وربما أدى إلى تعطيلها.
فقد نشاهد أحياناً من يظن أنّه قد بلغ الآفاق بقوله وفعله، بعبادته ودعوته،
وينتفش بكبرياء واستعلاء، ويتكلم بعجب وأستاذية، حتى يظن أنّ النّاس، كل
النّاس يشيرون إليه بالبنان.
إذا شارك بكلمة أو درس أو خطبة، تسلل العجب إلى قلبه، وشعر أنه
الداعية النشيط، والمجاهد المبارك، والعامل المنتج.. ويقول لنفسه بقوة: نعم،
ولم لا أكون كذلك..؟ ! ، ألم أتحرك حينما تقاعس الناس، وأتكلّم حينما سكت
الناس، وأنتج حينما عجز الناس..؟ ! عملي لا يُلحق شأوه، ودعوتي لايُشقّ لها
غبار.. نظراتي مسددة، وأعمالي موفقة ...
وتلك هي الهاوية..! ! إن الكبر والعجب يقودان في الغالب إلى الأمن من
مكر الله، وهذا داءٌ خطير مقعد، يحطم همة الإنسان، ويقعده عن التضحية والبناء، ويجعله يتآكل من الداخل.. وكيف يصح ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: (إنّ قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبِ واحدٍ
يصرفه حيث يشاء) ، وها هو ذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في
دعائه: «اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك» (رواه مسلم) .
يقول ذلك وهو سيد ولد آدم، الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. بل
يصلي حتى تتورم قدماه، ويقول: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟ !» [رواه ... البخاري] .
تربية تزكي النفس، وتدفعها إلى الاعتصام بالله، ولا تجعلها تركن إلى نفسها، فتعلق القلب لا يكون إلا بالله (سبحانه وتعالى) .
ولهذا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه بذلك، فهو يقول
مثلاً لمعاذ بن جبل: «إني لأحبك يا معاذ، فلا تدع أن تقول في دبر كلِّ صلاة:
اللهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (أخرجه أبو داود) .
إن الخوف من الله، والانكسار بين يديه، والثقة به وحده، هو الذي يهذب
النفس الإنسانية ويروضها، ويطامن من كبريائها، ويحد من غرورها وعجبها،
فالمرء ينشط ويدعو، ويضحي بنفسه وماله، ويبذل قصارى جهده لخدمة هذا الدين.. ومع ذلك: فهو يلح في الدعاء، ويتضرع إلى الله بقلب مخبت منيب، يسأله القبول والرضا، ويشعر بضعفه وحاجته إلى عون ربه (عزّ وجل) ، ولهذا: قالت عائشة (رضي الله عنها) لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قول الله (عز وجل) : [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] [المؤمنون: 60] : أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ فقال: «لا يا بنت الصديق، هم الذين يصلون ويصومون، ويتصدقون، يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة] .. هكذا ربى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه.
فها هو ذا أبو بكر الصديق يأتيه قائلاً: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي،
فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت،
فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» (رواه البخاري) .
أبو بكر.. خير هذه الأمة بعد نبيها يقول: «رب إني ظلمت نفسي ظلماً
كثيراً» ، فكيف إذن يقول غيره..؟ ! كيف نقول نحن..؟ !
أما أبو بكر فيقول: «ودِدْتُ أني شجرة تعضد!» .
وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ذلك الرجل الجبار القوي في دين الله، الذي أعز الله به الإسلام، وقوّى به المسلمين، الذي إذا سلك فجّاً سلك الشيطان
فجّاً آخر.. حينما علم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علّم حذيفة بن اليمان
(رضي الله عنه) أسماء المنافقين، ذهب إليه وألح عليه في السؤال: هل سماني لك
رسول الله..؟ ! .
شيء عجيب جدّاً.. عمر الفاروق لا يأمن على نفسه النفاق..! ! فكيف يأمن
من كان دونه بمراحل..؟ ! .
وتأتي ثمرة هذه التربية العجيبة حينما طُعن (رضي الله عنه) وهو خليفة،
وجعل يألم، فقال له ابن عباس مواسياً: «يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد
صحبتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك
راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم
صحبت صحبَتَهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون» ،
ما الظن بعمر بعد كل هذا الثناء..؟ ! .
هل أحس بالعجب والخيلاء والأمن..؟ ! هل أحس بالانتفاش وتعاظم في
نفسه..؟ ! أم أنّه أسند ذلك إلى فضل الله ومنته؟ .
قال عمر لابن عباس: «أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ورضاه: فإنما ذاك منّ من الله (تعالى) منّ به عليّ، وأما ما ذكرت من
صحبة أبي بكر ورضاه: فإنّما ذاك منّ من الله (جلّ ذكره) منّ به عليّ، وأما ما
ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أنّ لي طلاع الأرض
ذهباً لافتديتُ به من عذاب الله (عز وجل) قبل أن أراه» ! (أخرجه البخاري) .
الله أكبر! بهذه النفوس الحية الزكية التي تظهر الحاجة والافتقار لله (تعالى) ،
وتلتجئ إليه بصدق ويقين: تنجح الدعوة وتؤتي ثمارها، وبذلك أيضاً يثبت الرجال
على تحمل أعباء الدعوة وتكاليفها، ويشدون على لوائها وإن أصابهم ما أصابهم من
اللأواء والعنت.
ما أحوج الدعاة إلى التجرّد والصدق، والبعد عن حظوظ النفس وشهواتها،
فكم من الطاقات تهدر وتتآكل بسب التعالي والإعجاب بالنفس، وصدق الرسول
بقوله: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال
والشرف لدينه» (أخرجه أحمد والترمذي) .
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين.(104/4)
دراسات شرعية
حقيقة الإيمان
(الحلقة الأخيرة)
بقلم: د.محمد أمحزون
قدم الكاتب الحلقة الأولى من الموضوع بالأسباب التي دعته إلى الكتابة فيه،
ثم الغرض من كتابته، ثم شرع في بيان مصطلح «الإيمان» في اللغة، وعلى
مستوى الدلالة في سياق القرآن والحديث، وكذلك مفهومه في الكتاب والسنة، ثم
تحدث عن ركني الإيمان: القول والعمل، ويفصل في هذه الحلقة الحديث عن
جوانب أخرى من الموضوع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
من عرى الإيمان:
أ - إفراد الله بالحكم:
إن إفراد الله (عز وجل) بالحكم، أو تحكيم شريعته في شؤون الحياة كلها:
عروة من عرى الإيمان وأصل من أصول الاعتقاد، فقد جاءت الآيات القرآنية
مؤكدة أن الحكم بما أنزل الله من صفات المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير شرع الله
من صفات المنافقين.
وإذا كان جوهر الإيمان هو الانقياد والخضوع والطاعة، فلا يتحقق ذلك إلا
بقبول أحكام الشرع والإذعان لحكم المخبر.
ولقد جاءت الآيات المحكمات الدالة على اتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها
مذيلة بوصف الفلاح والخير لمن امتثل أمر الله وأطاع رسوله.
قال (تعالى) : [وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ
مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ] إلى قوله (تعالى) : [إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] ... ... [النور: 47- 51] .
ففي الآية الأولى نفى الله (جل ثناؤه) الإيمان عمّن تولّى عن الطاعة والامتثال
وإن كان قد أتى بالقول، وفي الآية الثانية جعل (جل ذكره) تحكيم الشريعة شرط
الإيمان الذي لايتحقق إلا به.
وقال (تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
يقول أبو جعفر الطبري في تفسير هذه الآية: «يعني (جل ثناؤه) بقوله:
فليس الأمر كما يزعمون أن يؤمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت،
ويصدوا عنك إذا دُعُوا إليك يا محمد، واستأنف القسم (جل ذكره) فقال: [وَرَبِّكَ]
يا محمد [لا يُؤْمِنُونَ] أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك [فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ] حتى يجعلوك حكماً بينهم فيما اختلط بينهم
من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه ... ثم يفسر نفي الحرج بنفي الشك في طاعته
وأن الذي قضى بينهم حق لا يجوز خلافه» [1] .
وقال (تعالى) : [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً]
[الأحزاب: 36] .
يقول النسفي في تفسير هذه الآية: ( ... وإن كان العصيان عصيان رد،
وامتناع عن القبول فهو ضلال وكفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر
واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق) [2] .
ويستخلص مما سبق: أن تحكيم الشريعة في حياة الناس أصل من أصول
الاعتقاد؛ فمن ردّ الأمور إلى شرع الله (تعالى) فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن
لم يرض بتحكيم ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصول الدين وفروعه
فهو معترض على دين الله، ولا يكون مؤمناً وإن زعم ذلك كما قال (تعالى) : [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاًً بَعِيداً] [النساء: 60] .
كما أن الذي لا ينقاد ويخضع لشرع الله وإن كان مصدقاً به فهو كافر؛ لأن
الكفر لا يختص بالتكذيب فقط، بل هو أنواع، منه: كفر إباء واستكبار، وكفر
استهزاء، وكفر إعراض، وكفر شك ونفاق [3] .
يقول الحافظ ابن عبد البر في هذا الصدد: «قد أجمع العلماء ... أن من دفع
شيئاً أنزله الله ... وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله: أنه كافر» [4] .
لكن إذا كان الحاكم يقرّ بالشريعة وينزل عند أحكامها، ثم حكم في قضية
بعينها بغير حكم الله، إما عن جهل بها أو حكم فيها هوى ومعصية، فهذا ذنب،
وهو الذي عناه ابن عباس (رضي الله عنهما) بقوله: كفر دون كفر [5] ، ويدل
عليه قول الرسول: «لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة
تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهنّ الصلاة» [6] .
أما من يعتقد أفضلية القانون الوضعي على شرع الله أو مساواته له، أو
ينتقص أحكام الشريعة بقوله: إنما نزلت لزمان غير زماننا ولعلل وأسباب انقضت
فسقطت أحكامها، أو أنها لا تفي بمتطلبات العصر المستجدة، أو شرع ما لم يأذن
به الله؛ فأحل حراماً أو حرّم حلالاً، فهذا كافر مرتد لا إيمان له، وإن صام وصلى
وزعم أنه مسلم.
ب- إفراد الله بالولاء:
إن الولاء والبراء هو أوثق عرى الإيمان، ولازم من لوازم التوحيد، وهو
بهذا جزء مهم من العقيدة التي تعدّ معرفتها والعمل بها أمراً ضروريّاً بالنسبة للمسلم؛ ليكون ولاؤه، وبراؤه بحسبها، إذ من المحال أن يكون صحيحاً بدون تحقيق
الموالاة والمعاداة الشرعية.
والنصوص الشرعية التي تدل على أهمية هذا الأصل كثيرة، منها:
قول الله (جل ذكره) : [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ
فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ] [المجادلة: 22] .
وقال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ
اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [التوبة: 23] .
وقال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
[المائدة: 51] .
وقال (تعالى) : [وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ
أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: 81] .
أما الأحاديث النبوية الواردة في الولاء والبراء، فمنها قول النبي -صلى الله
عليه وسلم-: «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله» [7] ،
وقوله: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله،
والبغض في الله» [8] ، وقوله: «من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله: فقد استكمل إيمانه» [9] .
وفي العموم: إن الولاء للمسلمين بمحبتهم، ونصرتهم، والاهتمام بشؤونهم،
والنصح لهم، والدعاء لهم، ومواساتهم: من مقتضيات تحقيق الإيمان الشرعي،
كما أن البراءة من الكافرين والمنافقين ببغضهم، والحذر من التشبه بهم، ومخالفة
مناهجهم: من لوازم تحقيق الإيمان.
فالتميز والمفاصلة أمران ضروريان للمسلمين في هذا العصر، فليس هناك
أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق مع أَعْداء الدين من اليهود،
والنصارى، ومن سار على دربهم من المنافقين.. إنما هو الاستمساك بالدين
الخالص في كل نواحي الحياة، والثبات على منهج الدعوة الأول، وإلا فهي البراءة
الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح: (لكم دينكم ولي دين) [10] .
التلازم بين الحكم بما أنزل الله والولاء والبراء في القرآن الكريم:
عندما تؤمن الأمة إيماناً كاملاً بأن الشريعة الإسلامية هي هويتها ودستور
حياتها، وأن مبادئها وقيمها هي منهاج تعاملها فيما بينها ومع الآخرين: فإنها
ستحرص على تطبيقها؛ لأنها مصدر عزتها وقوتها وكرامتها، ومن ثم: ستحافظ
عليها، وتعادي وتوالي من أجلها، وستعتبر أي مساس لسلطانها وسيادتها خيانة في
حق هذا الدين.
أما عندما يغيب التحاكم إلى شرع الله من حياة المسلمين، فإن الفراغ الرهيب
في حياتهم ستملؤه النظم والقوانين والمناهج المستوردة التي تعمل على صنع أجيال
متمردة على حكم الله بالسياسات الإعلامية والتعليمية والثقافية، ومن ثم: تذوب
الفواصل بينهم وبين أعدائهم، فيتشبهون بهم في وسائل العيش وطرق الحياة
المختلفة، لأن المغلوب لا يزال مقلداً للغالب في كل شيء.
ولهذا أمر الله (جل ثناؤه) في كتابه الكريم بعدم تتبع أهواء الذين كفروا من
أهل الكتاب والاحتكام إلى نظمهم الجاهلية، بما يقتضي عدم موالاتهم والبراءة منهم، وذلك في موضعين من القرآن الكريم، قال (تعالى) : [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ]
[المائدة: 49] ، وقال (جل ذكره) : [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] [الجاثية: 18] .
ج - إفراد الله بالنسك:
لم يجعل الله (سبحانه وتعالى) لأحد من المخلوقين سواءً أكان نبيّاً أو مَلَكاً أن
يستعان به، أو ينذر له، أو يستغاث به، أو يرغب إليه، أو يذبح له، أو يقسم ... به...... فلا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلاً عن غيرهم من الصالحين [11] .
فالله (سبحانه) هو المعبود بحق، فلا يُحلف إلا به، ولا ينذر إلا له،
ولايدعى إلا إياه، ولا يستغاث ويستعان إلا به، ولا يذبح إلا باسمه، قال (تعالى) :
[فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ] [الأنعام: 118] .
وقد كان المشركون يخوِّفون إبراهيم الخليل (صلوات الله وسلامه عليه)
بمعبوداتهم، فردّ عليهم بقوله: [وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]
[الأنعام: 81] .
وفي الصحيح عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: لما نزلت [الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ] قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيّنا لم
يظلم؟ فأنزل الله: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [12] [لقمان: 13] .
وقال (تعالى) : [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ
(162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] .
والمقصود بالإسلام هنا: الإيمان بالله، وعبادته وحده لاشريك له.
ولما كان النسك من أعظم العبادات وأجلها كما قال ابن تيمية (رحمه الله) فإن
خرم هذا الأصل من أصول الاعتقاد من ثلاثة أوجه يعد شركاً ونفياً للإيمان:
أن يتقرب إلى المخلوق بأنواع العبادات والقربات ليقربه إلى الله زلفى.
أن يتخذ عند الله شفعاء عنده بغير إذنه.
أن يدعو الموتى ويتوجه إليهم مباشرة بالدعاء والاستعانة والاستغاثة [13] .
مراتب الإيمان:
أ - الإيمان المجمل:
هو الإقرار بما جاء به الرسول جملةً، وتصديقه في كل ما أخبر به عن ربه
من: الكتب، والملائكة، والنبيين، ومقادير الخلق، وأحوال الآخرة.. إجمالاً؛
لقوله (تعالى) : [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ] [البقرة: 285] .
وهو أصل الإيمان؛ لقوله (تعالى) : [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَا وَمَا
أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأََسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أََحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] [البقرة:
136] ، فذكر (جل ثناؤه) الإيمان المجمل المتعلق بأصل الدين؛ وذلك لأن الإيمان
الواجب يستثنى فيه ولا يقطع به، والله أمرنا هنا بالقطع.
وكذلك: فهو الإقرار بالشهادتين (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ؛ لأن أول
واجب على المكلف هو التلفظ بهما إيماناً مجملاً بألا يعبد إلا الله، وأن يعبد بما
شرع على لسان رسوله.
ويعرّف ابن تيمية (رحمه الله) المجمل: «بما لا يكفي وحده في العمل وإن
كان ظاهره حقّاً» [14] .
ويدخل في الإيمان المجمل: الظالم لنفسه، كما في قوله (تعالى) : ... [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32) .
فالذين اصطفى الله (عز وجل) هم المسلمون بمراتبهم الثلاث: الظالم لنفسه
وهو من تحقق فيه الإيمان المجمل، والمقتصد من أهل الإيمان الواجب، والسابق
بالخيرات من المحسنين.
فعصاة أهل التوحيد يدخلون في دائرة الإيمان المجمل؛ لقول النبي -صلى الله
عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن» [15] فهذه
المعاصي تخرج فاعلها من دائرة الإيمان الواجب إلى دائرة الإيمان المجمل.
يقول ابن تيمية (رحمه الله) : «والخطاب بالإيمان [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا]
يدخل فيه الذين أسلموا ولم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن جزءاً من الإيمان
والإسلام يثابون عليه (الإيمان المجمل) ، لكن يعاقبون على ترك المفروضات
(الإيمان الواجب) ، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية (من سورة الحجرات)
وغيرهم، فإنهم قالوا: [آمنا] من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً، فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل الله، وقد كان دعاهم ... النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى الجهاد، وقد يكونون من أهل الكبائر المعرّضين للوعيد، كالذين يصلون ويتركون، ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون (يقصد الإيمان المجمل) .
فدل هذا كله على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك
الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض عليهم من الجهاد،
وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم: لم يكونوا من الصادقين الذين
وصفهم [16] ، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام ...
فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار: أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام
الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإسلام المؤلفة
قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نجد. وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان المنافقين
الذين هم في الدرك الأسفل من النار، بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في
قلوبهم تكذيب ومعاداة الرسول (الإيمان المجمل) ، ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان
ولا استبصروا به (الإيمان الواجب) » [17] .
وهناك قضية رئيسة ينبغي التنبيه عليها، وهي: أن الإيمان المجمل ليس
وحده طوق النجاة في الآخرة، بل هو الخطوة الأولى للدخول في الدين، إذ لا بد
من فعل الأمر وترك النهي لتحقيق الإيمان الواجب، فأهل السنة يقررون أن ترك
العمل بالكلية هو ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به؛ لأن الإيمان قول وعمل،
والعمل الصالح هو مناط النجاة في الآخرة.
أخرج أبو نعيم في «الحلية» بإسناده إلى عمرو بن عثمان الرّقي قال: ... «قيل لابن عيينة: إن قوماً يقولون الإيمان كلام، فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأمر الناس أن يقولوا (لا إله إلا الله) ، فلما علم صدقهم أمرهم بالصلاة ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار» فذكر الأركان، إلى أن قال: ... «فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ... [المائدة: 3] ، فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً أو مجوناً أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحداً كان كافراً» [18] .
ويقول ابن تيمية: «ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه،
بأنّ الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله
سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي الزكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع،
ولا يصدر هذا إلا مع نفاق وزندقة، لا مع إيمان صحيح» [19] .
ب- الإيمان الواجب:
هو ما زاد عن الإيمان المجمل بفعل الواجبات وترك المحرمات [20] ، كما
في قوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ] [الزخرف: 69] وقوله
(تعالى) : [فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] [الحج: 50] وقوله (عز من قائل) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] [البقرة:
208] ، يدعوهم باسم الإيمان المجمل ليحققوا الإيمان الواجب بالأخذ «بجميع
عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره» [21] ،
وقوله (جل ذكره) : [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا]
[الحجرات: 14] فهنا نفى الله (عز وجل) عنهم الإيمان الواجب، وأثبت لهم
الإيمان المجمل أو الإسلام العام، كما أن الإيمان المراد في الآية هو الإيمان
المستحب، وهو أعلى درجة من الإسلام.
وبيّن الله (تعالى) الإيمان الواجب بعد ذلك في السورة نفسها بقوله (جل ثناؤه) : [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] [الحجرات: 15] ، كما بيّنه في سورة الأنفال: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً] [الأنفال: 2- 4] .
والإيمان الواجب يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإذا
ذهب بعضه بقي بعضه، خلافاً لرأي أهل البدع من الخوارج والمرجئة في ... المسألة [22] ، ومن خرج منه بترك بعض الفرائض أو ارتكاب بعض المحرمات انتقل إلى دائرة الإيمان المجمل أو مطلق الإيمان.
ويعدّ الإيمان أعلى درجة من الإسلام عند الاقتران؛ ففي حديث أبي هريرة
(رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المسلم من سلم
المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» [23] .
ففسر «المسلم» بأمر ظاهر، وهو سلامة الناس منه، وفسر «المؤمن»
بأمر باطن، وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم، وهذه الصفة أعلى من تلك؛ فإن
من كان مأموناً سلم الناس منه، وليس كل من سلموا منه يكون مأموناً، فقد يترك
أذاهم وهم لا يأمنون إليه ويثقون به؛ خوفاً أن يكون ترك أذاهم لا لإيمان في قلبه،
بل لرغبة أو لرهبة في نفسه [24] .
وكذلك حديث عمرو بن عَبَسة مرفوعاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رجلاً قال له: ما الإسلام؟ قال: (إطعام الطعام، ولين الكلام) ، قال:
فما الإيمان؟ قال: (السماحة، والصبر) [25] .
فإطعام الطعام ولين الكلام عملان ظاهران يفعلهما الإنسان لمقاصد متعددة،
وأما السماحة والصبر فخلقان في النفس، وهذا أعلى من ذاك [26] .
فالمؤمن لا يرتاب في المحنة أو الفتنة التي تزلزل الإيمان في القلب: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاًتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: 214] .
وبما أن الريب ضد اليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً فإن الإنسان لو كان
عالماً بالحق، لكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعاً: لم يكن صاحب يقين، ففي
مواطن الابتلاء والشدة تظهر حقيقة الإيمان بالصبر والثبات على المبدأ، والموفق
من وفقه الله عز وجل.
ج- كمال الإيمان (الإيمان المستحب) :
هو ما زاد عن الإيمان الواجب من الأعمال المستحبة والمندوبة، وهي
المرتبة التي ينال بها المسلم علو الدرجة والمنزلة العالية.
وكمال الإيمان يجمع كمال الإخلاص لله والإتيان بالفعل الحسن على الوجه
الذي يحبه الله (عز وجل) ويرضاه، لقوله (تعالى) : [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] [البقرة: 112] ،
وقال (تعالى) : [لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ] [يونس: 26]
ومن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: «أكمل المؤمنين إيماناً
أحسنهم خلقاً» [27] . وسئل (عليه الصلاة والسلام) : أي الإسلام خير؟ قال: ... «تطعم الطعام، وتَقْرَأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» [28] ، وفي حديث
جبريل (عليه السلام) جعل مرتبة الإحسان أخص من مرتبة الإيمان [29] .
وصح عن عمار بن ياسر (رضي الله عنهما) أنه قال: (ثلاث من كن فيه
فقد استكمل الإيمان وفي رواية: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف
من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم «) [30] .
والوسيلة لبلوغ درجة الكمال: أن الإيمان كلما ازداد وقوي زاد معه العمل
الصالح، ولذلك: كان ابن مسعود (رضي الله عنه) يقول في دعائه:» اللهم زدنا
إيماناً ويقيناً وفقهاً « [31] ، وقال مالك بن دينار:» الإيمان يبدو في القلب
ضعيفاً ضئيلاً كالبقلة، فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة
وأماط عنه الدَغَل وما يضعفه ويوهنه أوشك أن ينمو ويزداد، ويصير له أصل
وفروع، وثمرة وظل، إلى ما لا يتناهى، حتى يصير أمثال الجبال، وإن صاحبه
أهمله ولم يتعاهده، جاءه عنز فنتفتها، أو صبي فذهب بها، أو أكثر عليها الدغل،
فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها، كذلك الإيمان « [32] .
إذن: فحقيقة الإيمان الشرعية التي تقرر نصوص الكتاب والسنة بأنها مركبة
من ركني القول والعمل تشهد بالترابط بين مراتب الإيمان الثلاثة، كالترابط
الحاصل بين حلقات السلسلة، يشد بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً.
بل إن التلازم حتمي بين المرتبة الأولى والثانية في أن العمل لا ينفك عن
الإيمان الباطن، وأن كليهما مناط النجاة في الدنيا بعصمة الدم والمال واستحقاق
الأخوة من المؤمنين، وفي الآخرة بالنجاة من سخط الله وعذابه.
ويظل المعيار الحقيقي للحكم على حقيقة الإيمان هو معيار الصدر الأول
وواقع السلف الصالح قبل اختلاف الأمة، بل في حياة النبي -صلى الله عليه
وسلم- حين اكتمل الإيمان في واقع الجيل القدوة ونفوسهم قولاً وعملاً، فأنزل الله
(تعالى) في حجة الوداع في يوم الجمعة في عرفة قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [33] [المائدة: 3] .
__________
(1) تفسير الطبري، الآية 65 من سورة النساء.
(2) تفسير النسفي، الآية 36 من سورة الأحزاب.
(3) حافظ بن أحمد حكمي: 200 سؤال وجواب في العقيدة، ص 96.
(4) ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ج 4، ص 226.
(5) القاسم بن سلام: كتاب الإيمان، ص 45.
(6) أخرجه أحمد في المسند (بترتيب الساعاتي) ، ج 1، ص 117.
(7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الإيمان، ج 11، ص 41، وأحمد في المسند، ج 4، ص 286 وقال محقق كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (الألباني) : أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً، وهو حسن، ص 45.
(8) ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ج 1، ص 69 وقال الألباني في صحيح الجامع الصغير: حديث حسن، ج 2، ص 343.
(9) أخرجه الترمذي في السنن، وقال حديث حسن، انظر: جامع الأصول، ج 1، ص 240.
(10) سيد قطب: في ظلال القرآن، م 6، ص 3993 (بتصرف) .
(11) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج1، ص 291295.
(12) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج 1، ص 14.
(13) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج1، ص 123، 124، 155، 158، ج3، ص105 106، ج 16، ص532.
(14) ابن تيمية: الإيمان، ص 375.
(15) أخرجه مسلم، ح/100، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان.
(16) وصفهم في آية لاحقة من السورة: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا] [الحجرات: 15] .
(17) ابن تيمية: الإيمان، ص 228، 238.
(18) نقلاً عن الحافظ في الفتح، ج1، ص 103.
(19) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج7، 611.
(20) يعبر عنه ابن تيمية تارة بالإيمان الواجب، ص 350، 394، وتارة بالإيمان المطلق، ص 209، 228.
(21) تفسير ابن كثير، الآية (208) من سورة البقرة.
(22) ابن تيمية: الإيمان، ص 210، 211.
(23) أخرجه النسائي في السنن، ج 8، ص 104.
(24) ابن تيمية: الإيمان، ص 250.
(25) رواه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الإيمان، ج11، ص 33، وأحمد في المسند، ج 4، ص 385، ج5، ص 243، 319.
(26) ابن تيمية: الإيمان، ص 251.
(27) أخرجه أحمد في المسند، ج2، ص 250، وأبو داود والترمذي، انظر جامع الأصول لابن الأثير، كتاب الخلق، ج4، ص 5.
(28) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 9.
(29) سبق تخريجه.
(30) أخرجه البخاري معلقاً في صحيحه: كتاب الإيمان، ج1، ص 12، وانظر: الإيمان لابن تيمية، ص 212.
(31) ابن تيمية: الإيمان، ص 212.
(32) المصدر نفسه، ص 213.
(33) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 16.(104/8)
دراسات تربوية
المفهوم الصحيح للعبادة ومظاهر انحرافه وضعفه
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
يواصل الأخ الكاتب وفقه الله وقفاته الإيمانية التربوية عند بعض الآيات
القرآنية في دراساته (وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم) ، وهذه وقفته العاشرة
عند آية [إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ] حيث تطرق لمعاني هذه الآية الكريمة وما
ورد فيها من أحاديث، مع لمحات علمية وتوجيهات دعوية، سنختار بعضاً منها؛
لما انطوت عليه من دراسة وتحقيق وإيضاح لمفاهيم انحرف معناها في حس الكثير
من المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان - ... ما العبادة؟
اختلفت أقوال العلماء في مفهوم العبادة وتعريفها، وهذا الاختلاف هو من
اختلاف التنوع لا التضاد، أي: إن هذه التعريفات يكمل بعضها بعضاً، والإلمام
بكل هذه الأقوال ينتج عنه المفهوم الصحيح للعبادة، ومن هذه الأقوال:
قول ابن القيم (رحمه الله تعالى) :
(أصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله،
فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته
وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من
دون الله أنداداً يحبونهم كحبه، وإذا كانت المحبة له حقيقة عبوديته وسرها: فهي
إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه) [1] .
وقوله في موطن آخر:
(العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع) [2] .
ويعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) فيقول: (العبادة: اسم
جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) [3] .
وعلى ضوء ذلك: لا يكون العبد متحققاً بوصف العبودية إلا بأصلين عظيمين:
1- الإخلاص لله (جل وعلا) .
2- متابعة الرسول.
ومما سبق بيانه من النقولات وغيرها يتضح لنا جليّاً معنى العبادة الحقة التي
أمرنا الله (عز وجل) أن نتعبد له بها، ويمكن تلخيص هذا المعنى العظيم وتلك
الحقيقة الضخمة فيما يلي:
* العبادة الحقة تعني تمام المحبة مع تمام الخضوع والتذلل لله (عز وجل)
الذي يعني طاعته (سبحانه) والانقياد لأمره، ومحبة ما يحب، وبغض ما يكره،
واتباع رسوله -صلى الله علييه وسلم- فيما أمر ونهى وما سن وما شرع، من غير
زيادة ولا نقصان؛ وإلا.. فما قيمة محبة وخضوع لايثمران طاعة واتباعاً وقبولاً
والتزاماً؟
* العبادة الحقة تفرض على العبد أن يكون في كل أوقاته وتحركاته وسكناته
مصبوغاً بصبغة العبودية، لا يخرج عنها في أي لحظة من اللحظات.
* ومن صرف شيئاً من العبادة لغير الله (تعالى) فهو مشرك تجب البراءة منه
ومن شركه، ولا تصح العبادة إلا بهذه البراءة.
بعض مظاهر الضعف والانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها:
بعد أن اتضح لنا مفهوم العبادة الحقة كما عرضناها من فهم العلماء الربانيين
للكتاب والسنة: فلابد بعد ذلك من عرض هذه المفاهيم العظيمة والحقائق الضخمة
على واقعنا نحن المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة، وهل هذا الفهم الصحيح للعبادة
هو السائد اليوم بين المسلمين؟ أم أن هذا الفهم قد اعتراه من الضعف والانحراف
الشيء الكثير؟
إن المتأمل في حال المسلمين الأليم، والغربة التي يعيشها أهل الإسلام اليوم:
ليجد كثيراً من المفاهيم العقدية قد انحرفت عند كثير من عامة المسلمين إلا من رحم
الله (عز وجل) ، فهناك انحراف في معنى التوحيد والعبادة، وانحراف في عقيدة
اليوم الآخر، وانحراف في عقيدة القضاء والقدر، وانحراف.. وانحراف.. ولقد
ساهم في هذه الانحرافات غزو أعداء المسلمين لديار المسلمين بثقافاتهم الكافرة
وأفكارهم المنحرفة، وقابل هذا الغزو من الأفكار جهلٌ عند كثير من الأجيال
المسلمة بدينها وعقيدتها، وعجز عند أكثر علماء الأمة عن تعليم الناس والوقوف
في وجه هذا الغزو، (فوافق الغزو قلباً خالياً فتمكنا) .
من هنا سيتوجه التركيز على بعض مظاهر الانحراف والضعف في مفهوم
العبادة، فمن ذلك ما يلي:
1- الانحراف في تطبيق شرطي العبادة:
من مظاهر الانحراف في العبادة فهماً وتطبيقاً ما هو منتشر بين أهل البدع
والخرافة في القديم والحديث من ترك لأحد شرطي العبادة أو كليهما واللذين لا تصح
العبادة إلا بهما، ألا وهما: الإخلاص والمتابعة ... المراد هنا: إيضاح الانحراف
الذي يترتب على ترك هذين الشرطين أو أحدهما؛ فترك الإخلاص في العبادة نتج
عنه صرف العبادة التي هي لله وحده إلى غيره من الخلق ولو كانوا أنبياء أو ملائكة
أو أولياء وهذا صرف للعبادة عن مستحقها، وحجتهم الداحضة عند ربهم: أنهم
يؤمنون بأن الله الخالق الرازق بيده الضر والنفع، ولكنهم يتوسلون بالصالحين
ليقربوهم إلى الله زلفى؛ وهذا هو الشرك الأكبر الذي من أجله أنزلت الكتب
وأرسلت الرسل، فترى هؤلاء يصرفون العبادة بأنواعها المختلفة من ذبح، ونذر،
وخوف، ورغبة ... وغير ذلك من أصناف العبادة إلى غير الله (عز وجل) ، وهذا
من أشد مظاهر الانحراف في العبادة؛ لأنه شرك أكبر يضاد الإخلاص لله (عز
وجل) ، الذي هو شرط من شروط كلمة التوحيد وقبول العبادة.. ومحل الكلام عن
هذا الشرك وأنواعه مبسوط في كتب التوحيد والعقائد [4] .
أما ترك الشرط الثاني لصحة العبادة (وهو المتابعة) فينتج عنه انحرافات
كثيرة في العبادة وتطبيقاتها، حيث ظهرت ألوان وصور من العبادات التي لم يأذن
بها الله (عز وجل) ، ولم يشرعها الرسول لأمته، وبخاصة بين المتصوفة الذين
يعطون لمشائخهم حق التشريع، وبعتبرون أقوالهم وأفعالهم مصدراً من مصادر
الاستدلال، فظهرت بذلك هيئات وصور متعددة للعبادة والأوراد والأذكار، كلها
مبتدعة، سواء أكان ذلك في كيفيتها، أو كمها، أو هيئتها، أو طريقة أدائها، أو
زمانها، أو مكانها، وهذه كلها مردودة على أصحابها، لأنها تشريع لم يأذن به الله، قال (تعالى) : [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ
الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [الشورى: 21] ، ولقوله: (من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [5] .
2- الانحراف في مفهوم العبادة:
وهو النظر إلى العبادة على أنها أداء للشعائر التعبدية من: صلاة، وصيام،
وحج، وذبح، وقراءة قرآن ... فحسب، وأن ما سوى ذلك من معاملات،
وأخلاقيات، ومباحات.. وغيرها، كل ذلك لايدخل في العبادة.
نعم إن هذا المفهوم هو السائد عند بعض المسلمين، سواء أقالوه بلسان مقالهم
أم بلسان حالهم وأعمالهم، ولا أدل على ذلك من أننا قد نجد ذاك العبد المصلي،
الصائم، القارئ للقرآن، بعد فراغه من هذه الشعائر التعبدية لا يتورع أن يغشّ،
أو يرابي، أو يظلم، أو يملأ بيته من آلات اللهو ووسائل الإفساد ما الله به عليم،
وكذلك قد نرى المرأة المصلية الصائمة لا تتورع عن التصرف في نفسها بما يخالف
الشرع، من سفور، أو زينة محرمة، أو اختلاط.. أو غيره. وإذا نصح مثل
هؤلاء الناس، قالوا: إنهم من المصلين العابدين، وقد انتهى وقت العبادة! وهكذا
تنحرف الغايات، وتنشأ اللوثات، وتفسد النيات، وذلك كمن يفصل أمر تعليمه
وتعليم أولاده عن غاية العبادة لله (عز وجل) ، ويربط ذلك بالشهادة والمال والوظيفة، بل يستخدم أي وسيلة توصله إلى ذلك.
إن العبادة بهذا المفهوم المنحرف تجعل المسلم في انفصال وانفصام بين حياته
في مسجده وخارج مسجده، لأنه لو كان مفهوم العبادة التي يريدها الله (عز وجل)
كما فهمها هذا الصنف من الناس لكانت عبثاً، ولبقي أكثر الأوقات غير معمور
بعبادة الله (عز وجل) ، وهذا لا يرضاه الباري (جل وعلا) ؛ ذلك لأن أوقات
الصلوات لا تتعدى ساعتين أو ثلاث في اليوم والليلة، فماذا يكون شأن الساعات
الباقية؟ هل تنفق في غير عبادة؟ ! كلا.. فإن الله (سبحانه) لا يرضى لعباده هذه
الحال.
إذن: فالواجب على كل مسلم أن يعلم أنه ما خلق إلا للعبادة، وأن وقته يجب
أن يكون في عبادة؛ سواء ما كان منه في الشعائر التعبدية، أو ما كان منه في
المعاملات، أو ما كان منه في المباحات، كل ذلك يجب أن يمارسه العبد وشعور
العبادة لله (عز وجل) يصاحبه، فيراقب ربه في كل أعماله، وينوي بها التقرب
إليه (عز وجل) والاستعانة بها على طاعته.
إن هذا الشعور وهذه النية تجعل العبد في كل أعماله حتى في مباحاته ولذاته
عبداً لله، مسلماً وجهه لربه (عز وجل) [6] ، [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ]
[الأنعام: 162، 163] .
3- الانحراف في التطبيق:
وقد ترتب على ذلك الانحراف في مفهوم العبادة انحراف آخر في تطبيق
العبادة، فحتى الشعائر التعبدية التي حُصرت العبادة فيها بحسب، هي الأخرى نالها
ما نالها من الضعف والميل بها عن حقيقتها وغايتها، وهذه نتيجة متوقعة وبدهية
معروفة؛ فالانحراف في الفهم لابد أن ينتج عنه انحراف في التطبيق، ويوضح
الأستاذ محمد قطب (وفقه الله) هذا الانحراف، فيقول:
(حين صار المطلوب كله هو أداء الشعيرة، وانحصرت (العبادة) كلها في
هذا الأمر، كان حريّاً بهذا اللون من العبادة أن ينحسر أكثر فأكثر، حتى يصبح
المطلوب هو أداء الشعيرة بأي صورة كانت.. ولو كان أداءً آليا بغير روح، أو
أداء تقليديّاً يحركه الحرص على التقاليد أكثر مما يحركه الدافع إلى عبادة الله.
وتلك هي الصورة التي انتهت إليها العبادة في الجيل الذي شهد الانهيار) .
4- الانحراف في مصدر التلقي:
ترتب على الانحراف السابق في مفهوم العبادة انحراف أشد خطراً وأسوأ أثراً، حيث كان الانحراف السابق ذكره منحصراً على مستوى الفرد، بينما هذا
الانحراف الذي نحن بصدده يتمثل في النظم التي تحكم في أكثر بلدان المسلمين
اليوم، والتي يسعى أربابها إلى عزل الدين عن الحياة وتوجيهها وتنظيمها،
وحصره بين جدران المسجد وأداء الشعائر التعبدية، ولسان مقالهم أو حالهم يردد
تلك المقولة الجاهلية، والتي قالها أصحاب مدين لنبيهم شعيب (عليه الصلاة
والسلام) ويقولها العلمانيون في زماننا:
ما للدين وحجاب المرأة وعملها؟ ما للدين والسياسة وموالاة الكفار ومحبتهم؟ ما للدين والاقتصاد؟ ما للدين والإعلام والتعليم؟ ... !! إلخ، الدين: أن تعبد الله في المسجد، وتقرأ القرآن، وتذكر الله ... هكذا يزعمون! ! أما الحياة فلها نظمها التي تتناسب مع تطورها.. إلى آخر هذا الهذيان والانحراف والفجور.
إن هذا الفهم الأعوج هو ما قاله أهل مدين لنبيهم شعيب بعد أن دعاهم إلى
التوحيد وترك البخس والنقص في المكيال والميزان، قال الله (عز وجل) : [قَالُوا
يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّكَ
لأَنتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ] [هود: 87] . إنهم يقولون: يا شعيب: ما دخل عبادتك
وصلاتك في حياتنا الاقتصادية، وفي اتباعنا لآبائنا وطاعتهم فيما كانوا يعبدون..
سبحان الله! ما أشبه قلوبهم بقلوب الجاهلين في زماننا هذا، وما أشبه مقولتهم
بمقولة العلمانيين المنافقين [7] .
والحاصل مما سبق: إذا حصرت العبادة في الشعائر التعبدية فحسب، فما
معنى قوله (تعالى) : [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] [التوبة:
31] ، وما معنى قوله (تعالى) : [وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] [الأنعام: 121] ، وقد علق العلامة الشنقيطي (رحمه الله) على هذه الآية، فيقول:
(فهي فتوى سماوية من الخالق (جل وعلا) صرح فيها بأن متبع الشيطان
المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله) [8] .
إذن: فإن من أخص خصائص العبادة: الطاعة، والاتباع، والخضوع،
والانقياد، فكما أن العبادة تأتي بمعنى الدعاء والنسك، فهي تأتي أيضاً بمعنى
الطاعة والاتباع، ولكن الجاهلين أو المتجاهلين يريدون حصرها فقط في الشعائر
التعبدية والعبادات الخاصة، ثم لا دخل بعد ذلك للعبادة في شؤون الحياة وتسيير
دفتها.
وإن الذين يرون هذا الفصل المشين والفصام النكد بين الدين والحياة على
قسمين:
* إما أن يكونوا جهلة بحقيقة الدين وحقيقة العبادة في الإسلام، إذ لم يكن لهم
حظ من العلم الشرعي ينير بصائرهم، وإنما غاية ما عندهم ثقافات مشوهة من
الغرب أوالشرق تسربت إلى قلوبهم على حين غفلة وخواء، فتمكنت منها، وهؤلاء
وأمثالهم من الذين انحرفوا بمفهوم العبادة عن معناها الصحيح بسبب جهلهم، وقد
نرى بعضهم من المصلين، الصائمين، التالين للقرآن الكريم!
وعلاج هذا الصنف من الناس يكون بالعلم الشرعي، والرفق بهم حتى يفقهوا
هذا الدين بمعناه الصحيح.
* والأخطر من أولئك هم الذين يفهمون حقيقة العبادة وحقيقة دين الإسلام،
ولكنهم يستكبرون عن الانقياد لهذا الفهم، وينطلقون بخبث وغرض سيء لإثارة
الشبهات، وصرف المسلمين عن دينهم، وتشويه هذه المفاهيم في نفوسهم، وهؤلاء
إن صلوا أو قاموا ببعض الشعائر فهو نفاق وزندقة. والحذر من هؤلاء يجب أن
يكون على أشده، كما أن فضح أفكارهم وخططهم هو المتعين، فهم من المنافقين
الذين جاء الأمر الإلهي بمجاهدتهم، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] [التحريم: 9] .
5- الانحراف في المفهوم والتطبيق:
ومن مظاهر الانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها ما عرف عن بعض غلاة
المتصوفة وزنادقتهم من أن أداء العبادات والطاعات مرتبط بحصول اليقين المطلق
هكذا زعموا فإذا وصل العبد إلى هذا المستوى سقط عنه التكليف ولم يعد في حاجة
إلى العبادة التي هي من منازل العامة! ، أما الخاصة، ومن يسمونهم بالأبدال
والأقطاب: فقد بلغوا درجة اليقين التي ترفع عنهم التكاليف والعبادات (نعوذ بالله
من هذه الحال) ، ونبرأ إلى الله (عز وجل) من أهل الزندقة والإلحاد [9] .
هذا ... ومن شطحات الصوفية في مفهوم العبادة أيضاً: المقالة المشهورة عن
بعضهم من أنهم (لا يعبدون الله خوفاً من ناره، ولاطمعاً في جنته، وإنما حبّاً له
وشوقاً إليه) .
وواضح ما في هذا الكلام من تكلف وانحراف عن طريق الأنبياء (عليهم
الصلاة والسلام) ، وسؤالهم الله (عز وجل) جنته وتعوذهم به من النار، يقول شيخ
الإسلام (رحمه الله تعالى) في معرض رده على هذه المقالة:
(كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض
أصحابه عما يقول في صلاته، قال: إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار، أما
إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال: (حولها ندندن) [10] [11] .
وقال من قال من السلف: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده
بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري (أي خارجي) ؛
ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد) .
إذن: فالعبادة الحقة هي التي تجمع بين المحبة والخوف والرجاء والذلة
والخضوع، كماسبق ذلك في تعريف العبادة وحقيقتها.
__________
(1) مدارج السالكين، لابن القيم، 1/91.
(2) مدارج السالكين، لابن القيم، 1/77.
(3) العبودية لابن تيمية، ص4، ت: بشير عيون.
(4) مثل: كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) ، وشروحه المعروفة، ومن أشهرها: (فتح المجيد) و (تيسير العزيز الحميد) .
(5) رواه البخاري من حديث عائشة (رضي الله عنها (، ك/ الصلح، ح/ 2697، ومسلم، ك/ الأقضية، ح/ 1343.
(6) وقد تحدث الأستاذ محمد قطب حول هذا الموضوع حديثا مستفيضاً وفق فيه، عند حديثه عن مفهوم العبادة، انظر كتابه (مفاهيم ينبغي أن تصحح) .
(7) تحدث الأستاذ سيد قطب عن قوله (تعالى) : [أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ] الآية حديثاً قيماً، فضح فيه منطلقات العلمانيين من الدين وتعاليمه ومحاولاتهم الدائبة لفصل الدين عن الحياة بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، انظر الظلال (آية 87 من سورة هود) .
(8) أضواء البيان، 7/170.
(9) وقد فضح الإمام ابن القيم هؤلاء المتصوفة الزنادقة في (مدارج السالكين) ، 1/103، 104.
(10) ابن ماجة في الإقامة (910) ، والدعاء (3847) ، وأبو داود في الصلاة (792) ، وفي صحيح ابن ماجة (748) .
(11) تفسير [لا إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ] [الأنبياء: 87] لابن تيمية، تحقيق: عبد العلي حامد، ص13.(104/20)
رسائل جامعية
الانحرافات العقدية والعلمية
في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين
وآثارها في حياة الأمة
عرض: خالد أبو الفتوح
الأمة الواعية هي التي تراجع نفسها من حين لآخر، تتأمل ماضيها بعين
البصير، وتنقد حاضرها بعين الرقيب، وتستشرف مستقبلها بعين الناصح الأمين.
والعلماء (ورثة الأنبياء) يضطلعون بالدور الأكبر في هذه المراجعة، دور
الطبيب الحاذق الخبير، الذي يتفحص الأعراض والظواهر؛ ليقف على حقيقة
العلة والداء، ثم يصف بناءً على ذلك مسترشداً بالنور وشفاء الصدور علاج هذا
الداء وطريقة استئصاله، ليعمل أهل الخير وطائفة الحق منطلقين من أرضية ثابتة، معلومة الأبعاد لتصحيح ما فسد، وإقامة ما اعوج.
والرسالة التي نحن بصددها هي من هذا النوع المُعِين على الوقوف على حال
الأمة وواقعها بعد عهود من انفراج خط الانحراف، حتى وصل إلى مرحلة يصعب
فيها إلا على من وفقه الله (عز وجل) إبصار الصراط المستقيم، وسط تشويش
الداعين إلى أبواب الضلال.
وهذه الرسالة من الأهمية بمكان في هذا المجال، حتى قال عنها مقدمها
والمشرف عليها الشيخ محمد قطب (وفقه الله) في تقدير بالغ ممزوج بتواضع جم:
(.. ولكني أشهد أن رؤيتي لهذه القضية كانت رؤية الخطوط العريضة فحسب، أما
الباحث: فقد حاول وبنجاح أن يقرأ الخطوط الدقيقة، وقد فوجئت وأنا الذي وجهته
ووجهت طلابي إلى هذه النقطة بأن واقع الأمة الذي أحدثهم عنه كان أسوأ بكثير مما
حدثتهم عنه، وأسوأ بكثير مما كنت أعرف منه..) .
(ولقد وضع يده على أخبار وحوادث لم أكن على علم بها، وهذه شهادة مني
له، شهادة تقدير للعمل الذي قام به) .
وموضوع الرسالة: (الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر
والرابع عشر الهجريين وآثارها في حياة الأمة) [*] .
وهي رسالة علمية تقدم بها مؤلفها الباحث (علي بن بخيت الزهراني) إلى قسم
الدراسات العليا الشرعية، فرع العقيدة، بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ونال
عنها درجة الماجستير في الشريعة الإسلامية فرع العقيدة، بتقدير ممتاز، مع
التوصية بطبع الرسالة وتبادلها، وخرجت الرسالة بعد طبعها فيما يزيد عن ألف
صفحة، من القطع العادي (17سم) .
وقد قسم الباحث أطروحته التي أمضى خمس سنوات لإتمامها إلى:
مقدمة، وتمهيد، وأربعة أبواب، وخاتمة:
اشتملت المقدمة على بيان الموضوع، وأهميته، والأسباب التي دعت إلى
اختياره، وبعض ما اعترضه من عقبات، وعرض خطة البحث.
أما التمهيد: فتناول فيه باختصار: أحوال الأمة الإسلامية قبل القرنين محل
الدراسة، وركز فيه على أهمية العقيدة في حياة الأمة، مع بيان حال الصدر الأول
من الصحابة، وأثر العقيدة فيهم، ثم عرّج على ظهور الفِرَق وبذور الانحرافات
قبل القرنين المقصودين بالدراسة.
وكان موضوع الباب الأول: الأحوال العقدية والعلمية عند المسلمين في
القرنين الماضيين، ويعتبر هذا الباب عمدة الرسالة وأساسها، وقد حوى تسعة
فصول:
ناقش في الأول: انحصار مفهوم العبادة، والآثار السيئة التي ترتبت على
ظن كثير من الناس أن العبادة هي مجرد أداء الشعائر التعبدية فقط.
وعرض في الثاني: الفكر الإرجائي الذي يخرج العمل من الإيمان، وخطورة
هذا الانحراف الذي هيمن على ساحة الفكر الإسلامي.. حتى قال عنه الأزهري:
(ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء) .
وكان الفصل الثالث عن: ضعف عقيدة الولاء والبراء، التي تحولت إلى
عقيدة عمياء عند أبناء المسلمين، وأوضح الأدوار التي أسهمت في إضعافها، بدءاً
من دور السلطان العثماني (محمود الثاني) الذي قال: (إنني لا أريد ابتداءً من الآن
أن يميز المسلمون إلا في المسجد، والمسيحيون إلا في الكنيسة، واليهود إلا في
المعبد، إني أريد ما دام يتوجه الجميع نحوي بالتحية (!) أن يتمتع الجميع
بالمساواة في الحقوق، وبحمايتي الأبوية..) .
ثم عرض الباحث لأدوار أخرى أضعفت هذه العقيدة.
وفي الفصل الرابع: بيّن غربة العقيدة الصحيحة ومقاومتها، والافتراءات
الكاذبة والتهم الباطلة التي حوربت بها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه
الله) .
ثم أوضح في الفصل الخامس: هيمنة الفلسفة وعلم الكلام على علماء العقيدة
ومؤلفاتها، بدءاً من العصر العباسي، وكيف انتهت دراسة العقيدة إلى مجرد
دراسات لعلم الكلام في الكليات الشرعية في الجامعات الإسلامية المشهورة.
وأما الفصل السادس: فقد أطنب في بيان انتشار مظاهر الشرك والبدع
والخرافات، وقسمه إلى قسمين: أولاً: انتشار مظاهر الشرك، ثانياً: انتشار
البدع والخرافات.
فتحدث في القسم الأول: عن بناء المساجد على الأضرحة والقبور، ...
والاستغاثة والاستعانة بأصحاب هذه الأضرحة، والذبح والنذر لها، ... وغير ذلك
من مظاهر الشرك الأكبر والأصغر التي هيمنت على حياة الناس، الذين وصل
الغلو ببعضهم إلى القول (بإسقاط فريضة الحج عمن يشد الرحال إلى بعض ...
الأضرحة التي يعظمونها ويعبدونها من دون الله (عز وجل [، وأصبح عندما
(يداهم الأمة عدو أو ينزل بها خطب فلا تستعد كما يجب إن هي استعدت أصلاً؛
لأن عندها من (الأرباب) ما لم يخل منهم قُطر ولا مصر، فإذا دهمهم خطر
فسرعان ما يهرع كل أهل بلد إلى مربوبهم! (مقبورهم) ... فيلوذون به ويستغيثون
بجنابه ... ) ! نعوذ بالله من الخذلان.
وفي القسم الثاني: تحدث عن انتشار البدع والخرافات، ومنها الموالد
والاحتفالات.
ثم كان طبيعيّاً أن يكون الحديث في الفصل السابع عن: الصوفية في هذين
القرنين: نشأتها، وأسباب انتشارها، ونفوذ أربابها في العالم الإسلامي، ونظرتهم
إلى العلم والحياة، ودعائم نظامهم التربوي وعقائدهم المنحرفة.
ثم تحدث في الفصل الثامن عن: ازدياد نشاط الفرق المنحرفة وحربها
للمسلمين في هذين القرنين، من رافضة، ونصيريّة، ودروز، وإسماعيلية.
وبهائية، وقاديانية ...
وكان الفصل التاسع والأخير من أهم فصول هذا الباب، حيث تحدث عن:
موقف العلماء، وأنه لم يكن على المستوى المطلوب، فقد تجافى كثير منهم عن
المشاركة في الحياة العامة والتأثير في الأحداث، كما شارك كثير منهم في الابتداع
في الدين، مما جعل الإسلام أشبه ما يكون بالديانات المحرفة؛ لكثرة ما ابتُدِعَ فيه،
كما انغمس كثير منهم في متاع الحياة الدنيا، فكانت النتيجة: عدم قيامهم بالأمانة
التي حمّلهم الله (عز وجل) إياها، (بينما البقية الصالحة منهم قد قبعت في بيوتها،
أو انزوت في الدرس والكتاب، تحسب أن مهمتها قد انتهت إذا لقنت الناس العلم) .
وبذلك انتهى الباب الأول الذي استغرق حوالي نصف الرسالة، إذ هو كما
يقول الباحث: (المقصود الأعظم من البحث) .
أما الباب الثاني: فقد كان موضوعه: الانحرافات العلمية في القرنين الثالث
عشر والرابع عشر الهجريين، وقد فصله إلى فصول ثلاثة:
تحدث في الفصل الأول عن: المستوى التعليمي ومناهج التعليم، حيث
(حدث تقلص ضخم (في مناهج التعليم) أبعد بالتدريج كل العلوم (الدنيوية) من معاهد
العلم، في ذات الوقت الذي اقتصرت فيه العلوم الشرعية على فكر القرن الخامس
على أكثر تقدير..) وبدون أي تغيير، فكان المستوى التعليمي مقيداً بالمختصرات
والشروح والحواشي والتقريرات، مع عدم اهتمام العلماء بعلم الحديث.
وفي الفصل الثاني: تناول: التعصب المذهبي وآثاره السيئة على الحياة
العلمية في هذين القرنين.
وختم هذا الباب بالحديث في الفصل الثالث عن رفض إعادة فتح باب الاجتهاد
الذي أغلق منذ القرن الخامس الهجري؛ لعدم الحاجة إليه آنذاك! ! ، وقد أشار
الكاتب إلى الأسباب التي دعت إلى إعلان غلق باب الاجتهاد، ونوّه بجهود الإمام
الشوكاني في مقاومة تلك المشكلة، وذَكَر الآثار المترتبة على رفض إعادة فتح باب
الاجتهاد، التي كان من أهمها: تجميد حياة الأمة وتوقفها عن النمو، لأنها محكومة
بقوالب لم تعد تلائمها، ثم خروج هذه الحياة عن هذه القوالب، في الوقت الذي
تخرج فيه من ظل الشريعة، فكان استيراد المبادئ والنظم الأوروبية بديلاً عن
مرونة الاجتهاد الذي أُغلق بابه.
وكان الباب الثالث: نتيجة حتمية للبابين السابقين، حيث تحدث عن الآثار
المترتبة على الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين محل الدراسة، فتحدث بعد
التمهيد في الفصل الأول عن: الآثار الداخلية (تفشي الضعف في الأمة) ، فتناول:
الضعف السياسي والحربي، الذي كانت ذروته: سقوط الدولة العثمانية، وتفكك
ولاياتها، وما سبق ذلك من امتيازات أجنبية، وما وقع من ضعف حربي عسكري، كان سبباً مباشراً في هزائم المسلمين.
وتناول أيضاً: الضعف الاقتصادي الذي أحاط بالعالم الإسلامي في تلك الفترة، وأسباب حدوثه.
ثم أوضح ثالثاً: الضعف العلمي، حيث التخلف في كل المجالات، ومن ذلك: الأمية التي ما زالت نسبتها مرتفعة جدّاً، ووصل الضعف في هذا المجال إلى حد
دراسة الدين واللغة والتاريخ في جامعات الغرب.
ثم تحدث أخيراً عن: الضعف الأخلاقي والاجتماعي، وسقوط كثير من القيم
الأخلاقية والاجتماعية، بعد أن تحولت إلى مجرد تقاليد خاوية وعادات جوفاء لا
رصيد لها من الدين.
أما الفصل الثاني، فكان عن: الآثار الخارجية، واشتمل على ثلاث نقاط:
أولاً: الاستعمار الذي بسط سيطرته إثر قابلية العالم الإسلامي له؛ نتيجة
الانحرافات المشار إليها سابقاً، ولم يكن رحيله إلا ظاهريّاً في أكثر الأحيان.
ثانياً: الغزو الفكري واستيراد المبادئ والنظم من الغرب، وقد كان الواقع
العقدي المنحرف مدعاة للتغريبيين أن يقودوا الأمة حيث يريدون، حيث ركزوا
على تنحية الشريعة الإسلامية، وفصل الدين عن الحياة (العلمانية) ، وقضية تحرير
المرأة، وقضية التطور ونبذ الدين، وقضية القومية والوطنية ... وقضايا أخرى
كثيرة حاولوا استغلالها لتهميش الإسلام والطعن فيه.
ثم كان المبحث الثالث في هذا الفصل عن: النشاط التنصيري في العالم
الإسلامي: حيث استفحل هذا النشاط، مستغلاً الظروف الاجتماعية السيئة من فقر
وجهل ومرض وتخلف ... ولئن أخفق هذا النشاط في تنصير أحد من المسلمين إلا
في النادر إلا إنه نجح في زعزعة إيمانهم، وخلخلة عقيدتهم، وبث سمومه الفكرية
والأخلاقية فيهم، ونزع الثقة من نفوسهم، حتى تمكن من هزيمة أرواحهم وأسر
عقولهم.
وكان الباب الرابع والأخير عن: الصحوة الإسلامية وآفاق المستقبل،
وقسمه إلى فصلين: تحدث في الأول عن: أثر حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
في العالم الإسلامي، وقد اهتم فيه ببيان زيف ادعاء تأثر بعض الحركات
والشخصيات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) ، أكثر من اهتمامه
بمن تأثر بدعوته حقيقة، وبيّن أن الأثر الأكبر لدعوة الشيخ كان في تبوؤ المنهج
السلفي مكانة مرموقة في فكر شباب الصحوة الملتزمين بذلك المنهج.
أما الفصل الثاني فكان عن: الصحوة الإسلامية في العصر الحاضر، فتناول
أولاً: العقبات في طريق الصحوة، وأهمها: استمرار الانحرافات العقدية، وما يقع
من تفرق وتشاحن بين الفصائل داخل الصحوة، بالإضافة إلى تواطؤ أعداء الإسلام
من منافقين ومشركين ويهود ونصارى على ضرب الصحوة، وحربها، والعمل
على إجهاضها.
ثم تناول ثانياً: المبشرات في طريق الصحوة وآفاق المستقبل، حيث ذكر
بعض المبشرات الواقعية: كاتساع القاعدة الجماهيرية، وإفلاس المذاهب المعادية
للدين، ثم تحدث عن آفاق المستقبل في ضوء النصوص الشرعية.
وأخيراً: أنهى الكاتب بحثه بخاتمة موجزة حوت سبع عشرة خلاصة، هي
أهم النتائج التي توصل إليها.
***
وبعد: فإننا لا نستطيع إلا أن نشيد بهذا الجهد، الذي ندعو الله (عز وجل) أن
ينفع به، وأن يكون ذخراً لكاتبه وكل من أسهم فيه.
وإن كانت هناك بعض الملاحظات (التكميلية) للرقي بهذا العمل إلى أقصى
درجات النفع (من وجهة نظري الشخصية) ، ومن ذلك:
1- طول البحث وكثرة استطراداته ووفرة شواهده، وهذا إن كان ميزة في
أطروحة علمية كما هو أصل الكتاب إلا أنه كان ينبغي إعادة النظر في ذلك عند
نشره كمطبوعة يتم تداولها بين المخاطبين بالكتاب، وذلك حتى تتسع دائرة
المستفيدين منه؛ لكي (لا ينشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية) ، ولعل الله (عز
وجل) ييسر اختصاره أو تهذيبه؛ لتعم الفائدة منه.
2- عدم اعتنائه بذكر ودراسة الشخصيات والحركات التي حاولت مقاومة تلك
الانحرافات، مكتفياً بالتنويه بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقط، فمع أهمية
جهود حركة الشيخ (رحمه الله) ، إلا أنه كان ينبغي عدم إغفال الجهود الأخرى
لهؤلاء، حتى لو كان هناك على بعض هذه الشخصيات والحركات بعض المآخد
والملاحظات، فكان لا ينبغي إهمال جهودهم في تصحيح انحرافات عديدة (شرك
القبور العلمانية الولاء والبراء التعصب المذهبي والجمود الفقهي ... ) ، ومن هؤلاء
على سبيل المثال: الصنعاني الشوكاني القاسمي مصطفى صبري عبد الحميد بن
باديس وجمعية العلماء بالجزائر سيد قطب محمد رشيد رضا جماعة أنصار السنة
المودودي والجماعة الإسلامية بباكستان ...
كما كان ينبغي دراسة مدى نجاح أو فشل جهودهم، وأسباب ذلك، فمن وجهة
نظري: كان ينبغي إفراد باب لهذه الجهود، وعدم الاكتفاء بذكرها عرضاً كما فعل
الباحث، مع الاعتراف بأن هذه النقطة تبعد قليلاً عن عنوان البحث، ولكنها مهمة.
وفي هذا الباب: كان سيبدو الفصل الرابع من الباب الأول والفصل الأول من
الباب الرابع في مكانهما الصحيح؛ حيث بدا الفصل الرابع (غربة العقيدة الصحيحة
] التي حملتها حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب [ومقاومتها (غريباً موضوعيّاً عن
فصول الباب الأخرى، كما بدا الفصل الأول من الباب الرابع (أثر حركة الشيخ
محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي) غير وافٍ لموضوع الباب (الصحوة
الإسلامية وآفاق المستقبل) .
3- ومما يتعلق بما سبق، فقد كان تناوله لأثر حركة الشيخ محمد بن عبد
الوهاب يشوبه بعض العاطفية وعدم العمق، وكنا ننتظر اتباع الباحث المنهج
العلمي الرصين، الذي اتبعه في بقية الرسالة، خاصة مع حركة بثقل وتأثير حركة
الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) .
4- كما كان يحسن بالباحث (تكميلاً لجهوده) بحث طرق ووسائل علاج
الانحرافات المذكورة؛ لتكمل إنارة الطريق لشباب الصحوة المباركة.
والرسالة على العموم جهد طيب وعمل مشكور جدير بالاطلاع عليه..
وملاحظاتي هذه لا تغض من أهمية الرسالة وقيمتها العلمية.
__________
(*) نشر هذا البحث عن طريق دار الرسالة للنشر والتوزيع بمكة المكرمة.(104/28)
مقال
اليسار العربي وصلته بالنص القرآني
بقلم: عبد اللطيف بو عبد اللوي
كان عصرنا الراهن عصر التدافع العقدي، وكان وطننا الإسلامي مسرحاً لهذا
التدافع، لكنه لم يكن تدافعاً أصيلاً منبعثاً من خصوصيات الأمة الحضارية والعقدية ناتجاً عن تطورات طبيعية وسط مجتمعاتها، بل لم تكن الأصوات التي كانت
تتعالى عندنا تنادي بهذا المذهب أو ذاك سوى أصداء وأبواق تردد ما يلقى إليها من
الخارج.
وأبرز المذاهب التي صُدّرت إلينا في هذا العصر، ووجدت لها أنصاراً،
وتشكلت على أساسها أحزاب ومنظمات، كان هو المذهب الاشتراكي، وهو لم يكن
كغيره مذهباً أصيلاً، منسجماً مع تاريخ الأمة، ومنبعثاً من طبيعة تكوينها
الحضاري؛ لذلك: فقد اصطدم بواقع يتناقض مع أطروحاته الفكرية ورؤاه
التغييرية.
إذ كيف يمكن لأمة أقيمت على أساس ديني، وتشكلت علاقتها وبنياتها
المختلفة انطلاقاً من مقتضيات دينها (الإسلام) ، وما تزال وفيّة لدينها مستمسكة به،
رغم كل الحملات المتوالية التي استهدفت إبعادها عنه، كيف يمكن لأمة من هذا
الطراز أن تتقبل مذهباً يؤمن بأن المادة هي أساس الوجود، وأن تحولاتها هي
المتحكمة في مختلف التحولات الأخرى، والغيب عنده لا مكان له في هذا التحول،
والدين لا يعدو أن يكون ظاهرة تاريخية، وإفرازاً لأوضاع معينة تحددها
الصراعات الطبقية؟ .
لذلك: فقد كان منتظراً أن طرحاً وفيّاً للمذهب الاشتراكي وأسسه الفكرية، لن
يجد له أنصاراً داخل الشعوب الإسلامية المتدينة بطبيعة تكوينها.
وحتى يُمكِنّ هذا الاتجاه لنفسه: كان عليه أن يلجأ إلى أسلوب المداراة
والمراوغة الفكرية حتى يجد لِذَاته حيزاً وسط الأمة، ونلحظ هذا الأسلوب من خلال
كتابات زعماء اليسار داخل وطننا الإسلامي.
يقول باحث يساري: (إن التدين من العناصر الأصيلة في تكويننا الحضاري، والتدين أحد الأسلحة الخطيرة في أيدي اليمين؛ ولهذا كان المنتمي إلى اليسار في
موقف رد الفعل من الدين والمتدين معاً بصفة عامة، إنه يجد نفسه وجهاً لوجه أمام
نقطة شائكة، وهي: أن أدوات التغيير ليست صناعة محلية، إنه في مأزق لم
يعرفه الثوري في الغرب، وهو مأزق نفسي مرير، فبينما يتسلح الأوروبي
بالماركسية وهي صناعة أوروبية في وجه الدين المسيحي وهو بضاعة مستوردة
يفاجأ الثوري في الشرق بأنه يقف في الطرف المقابل، يستورد الفكر ونظريات
التغيير من أوروبا، ليواجه حضارة متدينة من آلاف السنين؛ لهذا: يكون موقف
المنتمي إلى اليسار في بلادنا هو رد فعل لجوهر هذه الحضارة، وردود الفعل تتسم
بالتضخم والانفعال والمبالغة، ومن ثم: يصبح الموقف من الدين هو نقطة البدء
عند اليساري العربي، وليس كذلك موقف اليميني من الدين؛ لأنه يرى فيه منذ
البداية مسنداً مريحاً للكسل العقلي، وعاملاً خطيراً في توطيد مصالحه الاجتماعية،
فأغلبية الجماهير الشعبية متدينة وجاهلة، وبالتالي: يمكن الاعتماد عليها من هذه
الزاوية، خاصة إذا كانت هي الهدف في الاستغلال الاجتماعي) [1] .
لا يخفى ما في هذا الكلام من تعامل (مكيافيلي) مع الدين، فقد كان يتمنى
الكاتب لو لم توجد هذه العقبة في وجه اليساري العربي، حتى يجد الطريق ممهداً
لبسط مقولاته، كما فعل رفيقه في الغرب، ولكن ما دام الواقع غير ما يتمنى فعليه
أن يكيِّف مقولاته مع هذا الواقع، وذلك حتى يوجه مؤسسة الدين لخدمة توجهه،
وانتزاعها من قبضة اليمين (فإن الدين كان وما يزال مؤسسة قوية من مؤسسات
اليمين) ! [2] يتخذه تُكأة لتزكية الأوضاع القائمة والمحافظة عليها.
وجب إذن تفسير النصوص الدينية تفسيراً ثوريّاً تقدميّاً، بدل التفسير الرجعي
المتخلف الذي يعكس الاختيارات اليمينية المحافظة، يقول يساري آخر: (إن العِلم
الاشتراكي علم عصري جدّاً، وأجنبي بالنسبة إلينا، وهذا سبب من الأسباب
الجوهرية في أن الاشتراكية ما زالت غير واضحة بالنسبة لجماهير الشعب ...
والحقيقة: أن الدين الإسلامي وهو دين الغالبية عندنا قد فسر تفسيرات رجعية
كثيرة (!) .. وما تزال هذه الأفكار والتفسيرات الرجعية (!) متغلغلة في واقعنا
حتى اليوم، فالدين الإسلامي لا يتناقض أبداً مع جوهر الاشتراكية (!) ، فهو دين
قائم على التكافل، وليس المطلوب أن نعود إلى تطبيق أنظمة قديمة ونتجاهل النظم
الحديثة، وهي نظم علمية تم تجريبها وثبت نجاحها! ، وإنما المطلوب أن نوضح
أن الخطوط العامة في الإسلام لا تتعارض مع الاشتراكية؛ وبذلك: نستطيع أن
نستميل (!) الجماهير إلى الاشتراكية) [3] .
فالغرض إذن: ليس هو الاسلام، بل التمكين للاشتراكية في الواقع الإسلامي
من خلال استغلال مَصْلحي للدين.
إن هذه الأقوال تُصَيّر الدين لعبة بين قطبي اليمين واليسار، وأداة لتوجيه
الجماهير في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو عندهم لا حقيقة له مستقلة تُميّزُه، فلا
يُتصور أن تقوم جماعة بحمل رسالة هذا الدين دون أن تخضع لهذا التصنيف
الثنائي (يمين أو يسار) ، وهذا منطق يعكس نظرتهم الابتدائية للدين، كما يجدون
ذلك مكتوباً في أدبياتهم ومنطلقاتهم الفكرية.
وانطلاقاً من هذه النظرة: فقد امتدت أقلامهم إلى نصوص القرآن، يؤولونها
تأويلات تتفق مع خطهم الفكري، وكان لهم في ذلك اعتداء بيِّن، واعتساف سافر
على أصالة النص القرآني، وظهر جليّاً كيف يُصيّر القرآن تابعاً لا متبوعاً، وكيف
تفعل النزعات المذهبية بأصحابها.
نموذجان للانحراف الفكري:
وأُورِدُ فيما يلي نموذجين يصوّران هذا المسخ الفكري:
النموذج الأول: يتعرض (عباس صالح) للحديث عن الأبعاد (الثورية) لقوله
(تعالى) : [عَبَسَ وَتَولَّى (1) أَن جَاءَهُ الأَعْمَى ... ] [عبس: 1، 2] ، فيقول:
( ... فالإسلام في حاجة إلى تأييد القوي، وليس في حاجة إلى تأييد الضعفاء، إلا
أن هذا الموقف كان مخطئاً، فالدين الجديد يحمل بذور الثورة الاجتماعية، ورجاله
الحقيقيون هم هؤلاء الضعفاء، ولذلك: سرعان ما نزل القرآن يعتب على النبي -
صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف، حتى يصبح صحابته المقربون هم: صهيب،
وبلال، وياسر، وعمار، وسلمان، وأبو ذر.. وغيرهم من العبيد والضعفاء،
الذين كانوا يكوّنون بطانته الحقيقية ... ) [4] . وهذا التحليل السخيف يصادم
حقائق تاريخية تثبت أن من المسلمين الأوائل أغنياء استجابوا للدعوة وبذلوا في
سبيلها الأموال والأنفس، وما نالهم من الأذى ليس بأقل مما نال إخوانهم من الفقراء.
وكأن الكاتب بمثل هذا القول يريد أن يرسي قاعدة جديدة، هي قاعدة:
(الفقراء بعضهم أولياء بعض) يستبدلها بقاعدة: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] [التوبة: 71] .
إنه يريد إيهامنا بوجود حاجز بين أبي بكر وعثمان ومن إليهما من الأغنياء،
وبلال وصهيب وسلمان ومن خلفهم من الضعفاء، والواقع التاريخي يثبت أن
الإسلام صهر هؤلاء جميعاً في بوتقة إيمانية واحدة شعارها: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] .
ولكن لا يليق في التحليل المادي أن نتحدث عن الإيمان والتقوى، فهو حديث
رجعي متجاوَز! .
النموذج الثاني: يتعلق بتعليل مادي قدمه الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي لحكم
تحريم الخمر والميسر؛ وذلك ضمن كتابه: (محمد رسول الحرية) .
يقول متحدثاً عن الوضع النفسي المتأزم الذي آل إليه المسلمون عقب هزيمة
(أحد) :
(روّع محمداً مناظر الرجال البواسل الذين ناضلوا معه في بدر وأحد، وهم
ينحدرون في يأس هائل، فما يفيق الواحد منهم من الخمر، وما يغادر أماكن القمار
إلا ليستمتع بإحدى المغنيات أو الراقصات اليهوديات ... وأخيراً.. أطلق (يعني:
محمداً) منادياً يدعو الناس إلى ترك الخمر؛ فقد حرمت، فلا يقربونها، وعليهم ألا
يقربوا الميسر ولحم الخنزير) [5] .
والتحريم عند الكاتب كان لغرض اجتماعي بحت، يقول معللاً حكم التحريم:
(.. ليدفعوا أموالهم لأسر الشهداء، بدلاً من تبديدها في الخمر والقمار ولحم
الخنزير) [6] .
والكاتب لا يُخالَف في كون الإسلام اعتنى بمسألة التكافل الاجتماعي، وشرع
من الأحكام ما يكفل تحقيق هذا الأمر والنهوض به، ولكنّ القرآن يُقَرّر صَرَاحة أن
عِلة تحريم الخمر كانت شيئاً آخر، مخالفاً تماماً لما ذكره (الشرقاوي) ، فقد قال
(تعالى) : [إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] [المائدة: 91] .
وهذا التعليل القرآني ورد مباشرة عقب حكم التحريم، ولكن الكاتب تعامى
عنه وراح يسوق تعليلاً ماديّاً بعيداً.
بمثل هذه التأويلات الفاسدة حاول اليساريون العرب تضليل العامة، وإيهامهم
أن الدين الإسلامي لا يتناقض مع الاشتراكية، بل هي صميمه وجوهره، ولكنهم
مع ذلك لم ينالوا من حقائقه شيئاً، بل الذي وقع: أن تلك الدعوات أفلست في
منشئها وتبرأ منها أصحابها، وتساقطت تبعاً لذلك تلك التأويلات (التقدمية)
(الثورية) .
كناطح صخرة يوماً لِيُوهِنَها ... فَلَمْ يضِرْها وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِل
وبقي كتاب الله كما كان.
وكذلك الزمان كفيل بكشف زيف وسخف كل الاتجاهات التغريبية التي
تستهدف إخراج النص القرآني عن إطاره الشرعي وسياقه التاريخي، وإخضاعه
للمناهج الغربية البعيدة عنه كل البعد.
__________
(1) كلام للدكتور غالي شكري، انظر: لعبة اليمين واليسار، د عماد الدين خليل، ص 59 60.
(2) عن (عباس صالح) ، المصدر نفسه، ص 67.
(3) التاريخ الإسلامي والتفسير المادي للتاريخ، د فتحي عثمان، ص 316.
(4) التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير، د فتحي عثمان، ص 113.
(5) محمد رسول الحرية، ص 233.
(6) المصدر نفسه، ص 234.(104/36)
هموم ثقافية
إشكالية مفهوم الديمقراطية
من خلال مدارسها [*]
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
ليس هناك مفهوم موحد للديمقراطية، بل هو مبدأ تتعدد مفاهيمه بحسب
المدارس الفكرية، ولعلي أشير هنا إلى المدارس التالية:
الليبرالية. الاشتراكية.
الدكتاتورية. المصلحية.
الجبرية. الإسلامية! .
المدرسة الليبرالية:
وهي المدرسة الديمقراطية بالمفهوم الرأسمالي التقليدي، وتقوم على أسس:
الانتخابات. مجلس نيابي.
حكومة تنفيذية.
وتتضمن هذه المدرسة:
تعدد الأحزاب.
فصل السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
استقلال القضاء.
وجود ظاهرة الأغلبية والمعارضة في داخل المجلس النيابي.
وسبق أن ناقشت أهم أفكار هذه الإشكالية عند الحديث عن إشكالية مبادئ
الديمقراطية.
سمات هذه المدرسة:
إن أهم ما يميز هذه المدرسة ما يلي:
1- أن انتخاباتها وإن كانت حرة في الغالب، إلا أن نتائج الانتخابات لا تعبر
عن الرأي الحقيقي للناخبين، بسبب خضوعهم للزخم الإعلامي الذي يدخلهم فيما
يشبه التنويم المغناطيسي.
2- أن كثيراً ممن يحق لهم ممارسة الانتخاب لا يحضرون الانتخابات، إما
بسبب أعذار يعتذرون بها، أو بغير أعذار أصلاً، أو لعدم اقتناعهم بالمرشحين، أو
لعدم اقتناعهم بالديمقراطية مطلقاً، أو لشعورهم أن الديمقراطية تفوّت مصالح لهم،
أو غير ذلك من الأعذار.
3- لو نظرنا إلى الناخبين في هذه المدرسة لوجدنا أن شرائحهم في الأغلب لا
تتجاوز:
طلبة الجامعات والدراسات العليا.
الموجّهين التربويين في مختلف المراحل التعليمية.
العمال. الفلاحين. المهنيين. الموظفين. التجار.
القادة السياسيين.
المفكرين، والعلماء، والباحثين.
إن الإشكالية هنا ناشئة من ممارسة عملية محددة المعالم رغم الاختلافات
الهائلة بين مستويات الذين يمارسونها، فالقائد السياسي المحنّك له في العملية
الانتخابية صوت واحد مكافئ لصوت الطالب الجامعي في سنته الأولى، فيمكن
لستة طلاب أن يدفعوا بمرشح إلى الفوز بكرسي المجلس، مقابل منافس له من
القادة السياسيين لم يحظ إلا بخمسة أصوات! ! ! .
ومثل ذلك يقال عند المقارنة بين تأثير الأصوات للمفكرين والعلماء والباحثين
بالعمال أو الفلاحين.. وهكذا.
4- أن طبيعة الوسط الانتخابي، أو بيئته، تترك آثاراً اضحة على العملية
الانتخابية، فالبيئة البدوية أو الزراعية لها إفرازات انتخابية تختص بها مغايرة لتلك
التي تختص بالبيئة المدنية أو الحضرية.
5- أن التزوير يكاد يكون الميزة الملتصقة بالانتخابات النيابية باستمرار،
وله أشكال شتى، فإما أن يقع بشراء الأصوات، أو عند فرزها، أو من خلال
التلاعب بصناديق الاقتراع، وإما أن يتم بإجبار الناخب على إعطاء صوته لمرشح
بعينه، أو بحجب من يحق له الإدلاء بصوته من المشاركة في الانتخابات، أو
بطرق أخرى غير ذلك، محصلتها النهائية: أنها لون من ألوان التزوير.
6- قلّما تنتهي انتخابات نيابية دون أن تترك وراءها آثاراً سلبية من العداوات
والبغضاء والشقاق الذي يقع بين الأحزاب والطوائف والقبائل والأفراد، فالانتخابات
بحدّ ذاتها تعتبر واحدة من أدوات التفتيت الاجتماعي، والضعف السياسي، والتبديد
الاقتصادي، والدجل الإعلامي! ! .
7- أن المرشح في الديمقراطية الليبرالية لا بد أن يكون غنيّاً رأسماليّاً قادراً
على تمويل حملته الانتخابية، أو أن يكون مدعوماً ماليّاً من جهات حزبية أو من
جهات أخرى لها مصلحة من إيصاله لكرسي المجلس النيابي، وهنا يتضح دور
اليهود في استفادتهم من هذا اللون الديمقراطي، حيث إن مكانتهم المالية توظف
بشكل مركز لإيصال المرشحين الذي يحقّقون مآربهم إلى قاعات المجالس النيابية.
8- لا يشترط في المرشح في الديمقراطية الليبرالية أي مواصفات أخلاقية
تتعلق بحسن السيرة الذاتية، فشرب الخمر، والزنا، والشذوذ الجنسي، لا يعتبر
قدحاً في المرشح، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه الموبقات أصبحت من
العادات المباحة لدى كثير من أفراد الشعوب الديمقراطية الليبرالية في أمريكا وبلاد
الغرب عموماً.
9- المكانة العلمية والمستوى الثقافي لهما أثرهما في نجاح المرشح؛ حيث إن
ذلك يترك صداه المميز في الوجاهة الاجتماعية.
10- الاستعلاء الشخصي، وإبراز المميزات، وتزكية الذات، والحط من
قيمة المرشحين الآخرين، وتسفيه آرائهم وذكر مثالبهم.. من أهم سمات مرشحي
الديمقراطية الليبرالية.
11- أن أكثر الفائزين بكراسي المجالس النيابية يتنكرون لوعودهم لناخبيهم،
ويخالفون ما ذكروه في شعاراتهم الانتخابية بمجرد أن يستدفئوا بحرارة كراسي
المجلس.
12- في الديمقراطية الليبرالية: فإن نبض المجلس النيابي بمناقشاته
وقراراته لا يعبر دائماً عن النبض الشعبي وتوجهاته، فهو في حالات كثيرة يعبّر
عن مصالح النواب الشخصية، وأحياناً أخرى يتوافق نبضه مع نبض الحكومة،
خاصة إذا شعر بقرب رفع سيف الحلّ على رأسه! ! ! [1] .
13- أن المجلس النيابي في الديمقراطية الليبرالية يتمتع بصلاحيات مطلقة،
وله الحرية التامة غير المقيدة في اتخاذ أي قرار مهما كان منافياً للدين أو القيم
الإنسانية المعتبرة عرفاً؛ ولذلك: فإن بعض المجالس النيابية الغربية أباحت
ممارسة الشذوذ الجنسي (فعل قوم لوط) ، كما أباحت زاوج المرأة بالمرأة والرجل
بالرجل.
14- أن الليبرالية الديمقراطية الغربية هي نتاج طبيعي لغياب احتكام الشعوب
الغربية لمنهاج رباني، لذا: فإنها إفراز حتمي للشعور البشري بحاجته لتنظيمات
وترتيبات يقيم عليها شؤون حياته وطريقة صياغة نظم تحصيل مصلحته؛ فهي
اجتهاد بشري محض لإيجاد وسيلة تشريعية ملزمة للجميع؛ ولذلك: يجب أن
يشترك الجميع في صياغتها الدستورية، ولو بشكل نظري له إيقاع عملي يتم من
خلال المجلس، والمجلس هو الذي عبر بطريقته الخاصة عن ذلك الإيقاع، آخذاً
بعين الاعتبار وبشكل خاص ومحدد تحقيق مصالح أعضائه أولاً.
15- أن قرارات الحرب والسلام وميزانية الدولة والسياسات المختلفة لا تأخذ
مجراها في الديمقراطية الليبرالية إلا عن طريق موافقة المجلس النيابي عليها،
وبالتالي: فإن القرارات الكبرى هي بيد المجلس النيابي أكثر مما هي بيد رئيس
الدولة.
وأخيراً أقول: إن الليبرالية الديمقراطية قد مدت بساط نفوذها وتنفيذها في
كثير من دول العالم الثالث وخاصة الدول الإسلامية، وهي تغذ السير ضاغطة بشدة
على دفة المسار الديمقراطي في دول الاتحاد السوفييتي السابق؛ لتحذو حذوها
وتختط مسارها.
المدرسة الاشتراكية:
إن المدرسة الاشتراكية تمثل وجهاً من وجوه الحكم الشمولي [2] ، وبالتالي:
فإن إلحاق الوصف الديمقراطي بهذه المدرسة بحاجة إلى موائمة تبريرية، فبقدر ما
يبرز الإيقاع الفردي في الديمقراطية الليبرالية، يختفي هذا الإيقاع في الديمقراطية
الاشتراكية؛ ذلك أن المدرسة الاشتراكية تعتمد على التعبير الجماعي عن الحس
الجماهيري، وذلك من خلال تحالف المفردات الإنتاجية في أطر تنظيمية بإشراف
الدولة تحت شعار: (لا إله، والحياة مادة) ، ولذلك: فإنني بعد هذه المقدمة سأوضح
المفهوم الديمقراطي في المدرسة الاشتراكية في النقاط التالية:
1- تقوم الدول الاشتراكية على الأحادية الحزبية، فلا مكان لتعدد الأحزاب؛
فالحزب الحاكم وهو الحزب الوحيد هو الذي يضع قانون الانتخابات، وهو الذي
يحدد طريقة الأداء الانتخابي، كما أنه هو الذي يحدد المساحة النيابية التي يشغلها
المستقلون.
2- إن المستقلين لا يمثلون في مجلس الشعب الاشتراكي موقع المعارضة،
فالأنظمة الحاكمة في الدول الاشتراكية لا تتسع صدورها لأي شكل من أشكال
المعارضة، فالمستقلون النيابيون يمثلون حالة الانتماء فقط.
3- إن تقسيمة مجلس الشعب الاشتراكي تعتمد بشكل أساس على التوزيع
المعدّ مسبقاً للمساحات النيابية التي تحدد لكل مرفق عامل، أو كما يسمّونه هم:
مرفق منتج أو إنتاجي، وهم العمال والفلاحون بشكل أغلب.
4- إن مجلس الشعب الاشتراكي يمثل صيغة تحالفية للقوى المنتجة، فهو
تعبير عن تحالف قوى الشعب العاملة، التي تتشكل قاعدتها ممن يسمون
بالبروليتاريا.
5- لا ينفرز انتخابيّاً في مجلس الشعب الاشتراكي إلا الحزبيون الذين
يتسنمون مواقع حزبية قيادية.
6- إن قيادات القوات المسلحة لها مداخلات معينة تؤثر على قرارات مجلس
الشعب الاشتراكي.
7- إن مجلس الشعب الاشتراكي يجب أن يكون في خدمة السياسة العامة
للحزب الحاكم، وفي حال تسرب عناصر لها اجتهادات مخالفة لتوجهات الحزب
الحاكم: فإن المجلس يُحَلّ، وفي حال تمرده على الحل: يقمع بالقوة.
8- باستثناء العدد القليل من المستقلين، فإن مجلس الشعب الاشتراكي لا
يمثل الشعب بأي حال من الأحوال، بل يمثل القوى الحزبية، ولذلك: فإن قراراته
لا تصب في مصلحة الشعب، بل تصب في مصلحة الحزب، وبتعبير أدق:
تصب في مصلحة المتنفذين الحزبيين، وهي في كل الأحوال منعتقة عن التقيد أو
الاسترشاد بأي شرعة ربانية حقة: كالإسلام، أو محرفة: كاليهودية أو النصرانية.
9- وبناء على ما ذكرت: فإن الديمقراطية الاشتراكية هي تعبير اصطلاحي
أكثر مما هي تعبير واقعي عن المفهوم اللغوي للكلمة أو المفهوم الغربي التطبيقي لها، فهي مبنية على الولاء الحزبي وعلى المرتبة القيادية لدى الذي يشغل كرسي
مجلس الشعب، أما المقاييس الأخلاقية: فلا مكان لها في القاموس الاشتراكي، كما
أن الوجاهة الاجتماعية ليست معتبرة لدى المرشحين لشغل كراسي المجلس.
10- إن القياديين الحزبيين يشكلون مراكز قوى ابتزازية وانتهازية غير
منظورة، إذ إنهم يستفيدون ماديّاً من مواقعهم الحزبية، من خلال سيطرتهم على
مرافق الإنتاج؛ ولذلك: فإنهم يشكلون طبقة رأسمالية ترتدي قلنسوة اشتراكية.
إن هذه الطبقة هي التي يتشكل منها مجلس الشعب الاشتراكي، فإذا كانت
قرارات المجلس تكرّس المصلحة الحزبية في العموم، فإنها تكرّس بوصف أدق
مصلحة أولئك القياديين الحزبيين.
11- إن ديمقراطية الاشتراكيين، نظراً لكونها معبرة عن تطلعات الحزبيين،
فإنها تحظى بمعارضة شعبية واسعة، تلك المعارضة التي لا تستطيع الشعوب أن
تعبر عن مكنونها، حتى ولو بطريقة إظهار مجرد الامتعاض، خشية من شدة بطش
القمع الاشتراكي الديمقراطي، إن المكوّنات الجنينية للثورة الشعبية المضادة إنما
تترعرع في رحم ذلك الامتعاض، حيث تتنامي شيئاً فشيئاً، إلى أن تصل إلى
مرحلة التعبير عن الذات عبر ولادة قيصرية تصاحبها آلام مبرحة، تنتهي بالإطاحة
بهذه الديمقراطية الاشتراكية المستغلة، وقد يحدث هذا من خلال تضحيات قليلة كما
حصل في الاتحاد السوفييتي أو من خلال تضحيات جسيمة كما حصل في رومانيا
والله وحده يعلم ما هي التضحيات التي ستصاحب الإطاحة الشعبية بالاشتراكية
الصينية.
المدرسة الديكتاتورية [3] :
هل للديكتاتورية مدرسة ديمقراطية؟ ! :
نعم، إنها ديمقراطية اللهيب والنار، ديمقراطية القمع والبطش، ديمقراطية
السجون والتعذيب.
إن حديثنا عن مفهوم الديمقراطية الديكتاتورية يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
1- إن رواد الأنظمة الديكتاتورية لا يؤمنون بالديمقراطية إطلاقاً، لكنهم
يتوشحون بها لتلميع صورهم البشعة، ويفعلون ذلك من خلال اصطناع مجلس
نيابي.
2- إن هذا المجلس لا يعبر عن الإرادة الشعبية، ولا يمثل طبقات الشعب،
ولا يتشكل من خلال انتخابات حرة نزيهة، بل من خلال انتخابات موجهة محسوبة
سلفاً، ومحسومة مسبقاً لصالح النظام الديكتاتوري الحاكم، ذلك النظام الذي ربما
كان حزباً متسلطاً أو فرداً طاغياً أو مجموعة أفراد متجبرين.
3- وبناءً عليه، فإن تركيبة المجلس تكون معدّة سلفاً من قِبَل النظام الحاكم،
ولا يصل إلى المجلس النيابي إلا من وافق النظام الديكتاتوري على وصوله.
4- ولذلك: فإن أعضاء المجلس النيابي في ذلك النظام الديكتاتوري ليس لهم
وظيفة إلا التسبيح بحمد النظام الحاكم، وسنّ القوانين التشريعية التي توطد هيمنته، وتعزّز مصالح أفراده.
5- وبناء عليه: فإنه لا يشترط في أعضاء ذلك المجلس أي مستوى ثقافي
رفيع أو وجاهة اجتماعية معتبرة أو مقدرة مالية ظاهرة، إلا بقدر ما يكون في ذلك
من خدمة للنظام (الديكتاتوري) الحاكم، ولذلك: ما أكثر ما يتاجر أولئك الأوغاد
النيابيون بالرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، وما أكثر ما يسيطرون على
الشركات والمؤسسات، ويفرضون عليهم الإتاوات السرية، مستغلّين نفوذهم
ومستفيدين من عضويتهم المجلسية، وهم في كل ذلك يسابقون الزمن انتهازاً
للفرصة قبل أن يأتي أوان انقضائها! !
6- ولذلك: فإن هذه المجالس النيابية في ظل الأنظمة (الديكتاتورية) لا تتمتع
بأدنى درجة من درجات المصداقية أمام شعوبها، فالعلاقة بين تلك المجالس النيابية
وشعوبها مبنية على عدم الثقة، وعلى التشكيك في النوايا، وعلى استشراء
التوجّسات والتربص بالمواقف.
7- ورغم كل ذلك: فإن تلك المجالس النيابية تبذل جهوداً جبارة؛ لاطناع
الوجه الحسن للنظام (يكتاتوري) الحاكم لتجميل (كتاتوريته أمام الشعوب المنكوبة
بتلك الأنظمة، ولتلميع صورته أمام العالم، إنها مهمة شعبية ودولية! فيا لهم من
منافقين، كم لهم من الوجوه؟ ! ! .
8- إن مراكز القوى في الأنظمة الديكتاتورية الطاغوتية الحاكمة تتحكم في
قرارات تلك المجالس النيابية بطريقة التحكم بالآلة عن بُعد (ريموت كونترول) ،
فتصدر تلك المجالس النيابية قراراتها بإشارة من النظام الحاكم، وتلحسها بإشارة
أخرى! ! .
9- ومن ذا الذي يجرؤ من أعضاء تلك المجالس النيابية على أن يفعل أو أن
ينفعل بخلاف ذلك؟ ! فلو فعل، فسرعان ما تسحب الحصانة المجلسية منه.
10- وإذا كان ذلك جائزاً على عضو المجلس، فهو جائز على أعضائه
أجمعين، ففي لحظة يقوم بإصدار أمره المتعالي بحل المجلس النيابي، وإحالة
أعضائه إلى القضاء الجائر لمحاكمتهم.
11- وعندما يتأكد النظام الديكتاتوري الطاغوتي من حسن التزام المجلس
النيابي بتوجيهاته وأوامره؛ فإنه يتخذ منه وسيلة لقمع شعبه بتشريع القوانين التي
تعطيه صلاحيات واسعة، وأحياناً مطلقة، للأجهزة الأمنية لتدلي بدلوها القذر في
اعتقال الأبرياء وسجن المستضعفين وتعذيب المعتقلين وإعدام المعارضين.
وأخيراً: لا بد من لفت الانتباه إلى أن الأنظمة الديكتاتورية هي تلك الأنظمة
التي يسيطر على دفة قيادتها العسكريون في الأغلب.
المدرسة المصلحية:
تمتاز هذه المدرسة بأن روادها ليسوا ليبراليين ولا اشتراكيين ولا ديكتاتوريين
ولا إسلاميين، ولا يمثلون أي انتماء آخر.
إن روادها هم المصلحيون (الوصوليون) ، تلك الفئة التي رأت أن مكاسبها
تزداد وجيوبها تنتفخ وتجارتها تزدهر إذا سلكت مسلك الديمقراطية.
إن إشكاليتها ليست في تأصيل الفكر العقدي والنظري، بل في تأصيل الفكر
النفعي والمصلحي؛ فأفكارها لا تتجاوز هذه الدائرة، إن هؤلاء النفعيين
والمصلحيين قد يرتدون لباس الليبرالية وليسوا بليبراليين، وقد يرتدون لباس
الاشتراكية وليسوا باشتراكيين، وقد يلبسون لباس الإسلام وليسوا بإسلاميين، إنهم
يدورون مع مصلحتهم حيث دارت، فإذا اقتضت المصلحة خلع لباس الليبرالية
وارتداء لباس الإسلاميين فعلوا ذلك، غير هيّابين ولا وجلين، بل ولا مستحين،
وإذا اقتضت المصلحة خلع لباس الإسلاميين وارتداء لباس الاشتراكيين أو
الليبراليين أو القوميين أو الوطنيين فعلوا ذلك، ظاهرين غير مستترين.
فما هي معالم ديمقراطية هؤلاء القوم؟ !
يمكننا رصد تلك المعالم بما يلي:
1- أن الهيكل العام الأغلب لهذه الديمقراطية ليبرالي؛ لذا: فإنه ينطبق عليها
كثير من الأوصاف التي ذكرتها حول المدرسة الليبرالية.
2- من خلال الممارسة قد تتطعم ببعض مواصفات المدرسة الاشتراكية
والديكتاتورية.
3- يمارس المرشحون خلال فترة الانتخابات جميع الوسائل المشروعة وغير
المشروعة للتأثير على الناخبين لاجتذاب أصواتهم، فربما اشتروا الأصوات،
وربما دخلوا في تحالفات انتخابية، وعيونهم خلال كل ذلك منصبّة على حجم
المكاسب ومقدار المنافع وعدد المصالح التي سيجنونها إذا أفلحوا في الوصول إلى
المجلس النيابي، وفي سبيل ذلك: يكيلون الوعود الكاذبة لناخبيهم، وليس في نيّتهم
إلا الخداع والغش والدجل.
4- يعتبر النواب المصلحيون نجاحهم في احتلال كراسي المجلس النيابي
فرصة ينبغي استغلالها حتى الثمالة، إنها فرصة العمر لتحقيق أوسع المصالح
الذاتية في أقصر المُدَد الزمنية.
5- لذلك: تراهم منهمكين في استصدار القوانين التشريعية التي تكرس
مصالحهم، وإن كانت على حساب المال العام للأمة.
6- ما إن يحتل هؤلاء المرشحون كراسي المجلس حتى يبادروا بتأسيس
الشركات، وافتتاح المؤسسات في كافة الخدمات، ولجميع أنواع التخصصات
بأسماء أسرهم وأقربائهم، مستفيدين من مواقعهم الجديدة التي تنفتح أمامها جميع
الأبواب وتذلل كافة الصعوبات وتزال جميع العقبات.
7-وإذا ما اقترب المجلس من نهاية مدته المقررة سارع النواب المصلحيون
إلى المزايدة على شعوبهم، من خلال طرح بعض المشاريع التي تدغدغ عواطف
الناس، لعلهم يحظون منهم بجميل إعادة انتخابهم للمجلس النيابي الجديد.
8- أن كثيراً من النواب المصلحيين لا يجدون في تصرفاتهم غضاضة، ولا
يستشعرون في قلوبهم أي حرج إذا أقروا ووافقوا على الصلح مع اليهود مثلاً،
طالما في ذلك تدعيماً لمصالحهم واستبقاءً لكراسيهم، وقد يوافقون الحكومة على
توقيع المعاهدات التي تسوّد بياض البلاد وتكبل حرية العباد.
9- أن دستور المدرسة الديمقراطية المصلحية قابل للتنقيح في أي لحظة
يراها أصحاب تلك المدرسة، مما يعزز مصالحهم، ولكنه في البلاد الإسلامية غير
قابل للتنقيح إذا كان ذلك لمصلحة الإسلام! ! ! فتأمل! !
المدرسة الجبرية [4] :
إنها ديمقراطية الالتقاء الجبري، إنها ديمقراطية التعايش الحرج ...
إنها الخيار الأوحد عند أصحابها.. فإما هي وإما الكارثة! ! هكذا يقولون! ! .
إنها ديمقراطية الطوائف والأديان قبل أن تكون ديمقراطية الجماعات
والأحزاب.
إن خير مثال للمدرسة الجبرية هو لبنان.
ذلك البلد الذي فيه من ينتسبون إلى الإسلام (حقّاً أو باطلاً) وهم طوائف عدة:
السنة، والشيعة، والدروز.
ومنهم من ينتمي إلى النصرانية، وهم أيضاً طوائف، من أشهرها المارونية.
وأما الأحزاب فحدث ولا حرج ...
إن أهم ما يميز هذه المدرسة هو:
1- أن الانتخابات في إطارها الواقعي وليس القانوني تتم في الأطر الدينية ثم
الطائفية.
2- أن توزيع الرئاسات يتم في الإطار العرفي المتفق عليه، ففي لبنان مثلاً:
رئيس الجمهورية نصراني ماروني، ورئيس الحكومة مسلم سني، ورئيس المجلس
النيابي شيعي.
3- أن المصالح الطائفية مقدمة على المصالح الوطنية.
4- تسود أعمال المجلس النيابي روح التربص أكثر من روح التعاون.
5- أن الخلافات في داخل المجلس النيابي تستمد خلفيتها من الصراع
الطائفي، وليس من اختلاف وجهات النطر المتعلقة بالمصلحة البحتة.
6- أن استمرار بقاء الديمقراطية الجبرية متعلق باستمرار وجود حالة التوازن
في التمثيل الطائفي.
7- أن البديل للديمقراطية الجبرية هو التقسيم الجغرافي على أسس طائفية،
ذلك التقسيم الذي لا يمكن أن يحصل إلا عبر حرب أهلية، وعندما تعجز كافة
الأطراف عن تحقيق مكاسب على الساحة الجغرافية يعود الجميع قسراً وجبراً إلى
التعايش الحرج في إطار الديمقراطية الجبرية.
8- أن تمرير أي طائفة من الطوائف لقرار من القرارات من خلال المجلس
النيابي يعتمد بالإضافة إلى عدد الأصوات الداعمة له على القوى المختلفة التي
تدعمه من خارج المجلس، وخاصة القوى العسكرية والقوى السياسية المحلية
والوافدة.
9- إن حلّ المجلس النيابي في دول الديمقراطية الجبرية يعتبر من أصعب
القرارات السياسية؛ بسبب ما يمكن أن يؤدي ذلك إلى اندلاع الحرب الأهلية
وسقوط البلاد في حمامات من الدماء.
10- حتى القرارات الوطنية البحتة والمتعلقة بأمن البلاد واستقرارها
وتحريرها من القوات الأجنبية الغازية، يمكن أن تكون محل خلاف ولا تتفق
الأطراف الطائفية في المجلس على إقرارها، مما يكرّس السيطرة الأجنبية ويساعد
على إبْقائها.
المدرسة الإسلامية:
لا توجد في الإسلام ديمقراطية أصلاً [**] ، وإنما أقحمت الديمقراطية على
المسلمين إقحاماً، وبالتالي: عندما سنناقش هذا الموضوع لاحقاً تحت عنوان
(إشكالية الإسلاميين في فهم الديمقراطية) فإننا لن نناقشه من باب صحة هذا الإقحام، بل من باب ما تورط فيه الإسلاميون من انزلاقهم في هذا المنحدر الخطر، وعلى
هذا الأساس أقول: لا توجد مدرسة إسلامية ديمقراطية، بل توجد مدرسة
ديمقراطية للإسلاميين الديمقراطيين فحسب.
إن خصائص هذه المدرسة وإفرازاتها التي تمثل ورطة حقيقية للمسلمين
ستكون محل بيان وتوضيح عند مناقشتنا للإشكالية المتعلقة بهذا الموضوع، التي
نوهت عنها قبل أسطر.
الملامح المشتركة لمدارس مفهوم الديمقراطية:
من خلال تطواف سريع بالمدارس الديمقراطية التي ذكرتها، يمكننا الإشارة
إلى الملامح المشتركة لها كما يلي:
1- جميع تلك المدارس تشترك في كونها نتاج البشر، متحررة تماماً من أي
استدلال رباني.
2- أنها تستمد شرعيتها الحقيقية من مراكز القوى الحاكمة، سواء أكانت
طبقة، أو حزباً، أو عسكراً، أو عائلة، أو طائفة.. ومع ذلك: فإنها جميعاً تدعي
استمداد شرعيتها الحقيقة من الشعب! .
3- أن المجالس النيابية، رغم كون دورها تشريعيّاً ورقابيّاً، فإنها لا تمارس
هذه الصلاحيات بشكل مستقل، بل بحسب ما يوده النظام الحاكم.
4- إن النظام الحاكم يستطيع شراء عدد غير قليل من ذمم النواب بما يغدقه
عليهم من الأعْطية والامتيازات، بما يجعلهم في النهاية موظفين لصالح خدمة
مصالحه.
5- من خلال المجالس النيابية يصادَر أي تحرك شعبي، حيث إن حجة
النظام الحاكم جاهزة: ممثلوكم في المجلس، فعلام هذا التحرك؟ ! ! .
6-الأخلاقيات والسلوكيات تهدر قيمها الحقيقية في جميع المدارس
الديمقراطية.
7- فيما يخص العالم الثالث: فإن المجالس النيابية كالخاتم في يد النظام
الحاكم يلبسه متى يشاء، ويخلعه متى يشاء.
تلك هي أهم القواسم المشتركة في المدارس الديمقراطية، وإن كل قاسم منها
هو كارثة حقيقية في ذاته! ! .
[فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأََلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [المائدة: 100] .
__________
(*) تناول الكاتب في مقالتين سابقتين بالعددين 97، 98 من البيان إشكالية زاوية النظر الديمقراطية.
(1) إن ذلك قلّما يحدث في البلاد الغربية، لكنه كثير الحدوث في بلاد ما يسمى بالعالم الثالث ذات نظام الحكم الديمقراطي.
(2) لقد تقلصت المدرسة الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تقلصاً كبيراً، ولم يبق لها إلا بعض الرموز كالصين وكوبا وبعض المخلفات في العالم الثالث.
(3) لفظة (الديكتاتورية) ليست لفظة عربية، بل هي لفظة أجنبية دخلت الاستعمال العربي اصطلاحيّاً؛ للتعبير عن (حالة) معينة، هي واحدة من الحالات الكثيرة التي يشملها اللفظ القرآني: (الطاغوت) .
(4) لا نقصد بهذا التعبير الاصطلاح المعروف عن مفهوم طائفة الجبرية في العقيدة.
(**) قد يتعجب القارئ من هذا القول، ولكنه في نظرنا له وجهه، وقد بحث الموضوع باستفاضة في العديد من الدراسات، من أشملها (نظام الحكم في الإسلام) د/محمود الخالدي، وقد تطرق لبيان هذا الموضوع الشيخ الصادق عرجون (رحمه الله) في كتابه (موسوعة سماحة الإسلام) في فصل (أسطورة الديمقراطية) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.(104/42)
نص شعري
رَبَّة القهر
شعر: مروان كُجُك
يَا رَبّةَ الْقَهْرِ والطّغْيَانِ وَالصّلَفِ ... أَرْخِي الْعِنَانَ لأَفّاكٍ وَمُنْحَرِفِ
وَاسْتَعْجِمي الخَلْقَ وَاغْتَالِي مَقَادِسَهُمْ ... عِيثِي فَسَاداً بِهَذَا الْكَوْنِ وَاعْتَسِفِي
فَالأَرْضُ أَضْحَتْ لِذاتِ الشّؤْمِ جَاثِيةً ... وَاللّؤْمُ عَرْبَدَ فِي الْجُدْرَانِ والسّقُفِ
وَاللّيْلُ صَارَتْ لَهُ فِي أَرْضِنَا زُمَرٌ ... وَالْفَجْرُ غَادَرَنَا حُزْناً وَلَمْ يَقِفِ
كَأَنّنَا لَمْ يَكُنْ مِنْ رَهْطِنَا عُمَرٌ ... أَوْ طَارِقٌ أَوْ ذَوُو الإقْدَامِ وَالنّصَفِ
كَأَنّنَا لَمْ نُقِمْ فِي الْقُدْسِ مَلْحَمَةً ... بِالْعَدْلِ وَالْعِزّ وَالإنْعَامِ وَالشّرَفِ
لَمْ نَخْرُمِ الْعَهْدَ يَوْماً، لَمْ نُبِحْ حَرَماً ... لَمْ نَسْرُقِ النّوْمَ مِنْ أَجْفَانِ مُلْتَحِفِ
كَأَنّنَا لَمْ يَكُنْ مِنّا أُسُودُ وغًى ... أَوْ سَيْفُ عَدْلٍ طَهُورُ الْقَصْدِ والطّرَفِ
كَأَنّنَا لَمْ نَزِنْ فَتْحاً بِمَرْحَمَةٍ ... وَلا جَنَحْنَا لِسِلْمٍ صَادِقِ الْهَدَفِ
وَلا رَفَعْنَا لِنَشْرِ الْعَدْلِ أَلْوِيَةً ... وَلا طَمِعْنَا بِغَيْرِ الْفَوْزِ بِالْغُرَفِ
نُجَاهِدُ الْقَهْرَ، لا نَبْغِي مُنَازَلَةً، ... إلاّ غَدَاةَ يَسِيرُ الأَمْرُ لِلْجَنَفِ
أَوْ يَبْزُغُ الشَرّ فِي بَيْدَاءَ ظَامِئَةٍ ... لِجُرْعَةِ الْمَاءِ لا لِلْخَمْرِ وَالزّيَفِ
أَوْ يُصْبِحُ الأَمْرُ فِي أَيْدٍ مُلَطّخَةٍ ... بِمَا جَنَتْهُ عَلَى الأَسْلافِ وَالْخَلَفِ
* * *
يَا رَبّةَ الْحِقْدِ لَنْ يُجْدِيكِ كُلّ لَظًى ... وَلَوْ حَشَدْتِ لَهُ مَا شِئْتِ مِنْ طُرَفِ
فالأَمْرُ أصْبَحَ مَفْضُوحاً وَإنْ سَتَرَتْ ... مَا تَبْتَغِيهِ حَمَاقَاتٌ مِنَ التّرَفِ
* * *
هَيّا اسْتَعِدّوا بَنِي قَوْمِي لِنَازلَةٍ ... تَنَالُ آخِرَكُمْ فِي الْبِيدِ وَالْكُنُفِ [1]
لا تَسْتَبِيحُ بَنِي غَطْفَانَ إنْ عَصَفَتْ ... وَتَتْرُكُ الرّاًسَ فِي دَوّامَةِ الْخَرَفِ
سَتَنْهَشُ الْكُلّ إنْ شَاؤُوا وَإنْ رَفَضُوا ... وَتَزْرَعُ الطّيْشَ فِي الأَعراسِ وَالنّطَفِ
وَتَعْزِلُ الْجَمْعَ عَنْ قُرْبَى ومَرْحَمَةٍ ... وَتَنْسفُ الْوَصْلَ فِي دَرْبٍ وَمُنْعَطَفِ
وَتَجْعَلُ الأَمْرَ لِلشّذّاذِ تَجْمَعُهُمْ ... مِنْ كُلّ أَرْضٍ وَتُلْقِيهِمْ عَلَى كَتِفِي
بِالله عُودُوا لِمَا قَدْ عَزّ غَابِرَكُمْ ... وَوَحّدُوهَا عَلَى الإسلامِ والشّرَفِ
فَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مِنْ عِزّ يُعِزّكُمُ ... غَيْرُ التّجَلّدِ عِنْدَ الْمَاًزِمِ الْوَكِفِ [2]
وَاسْتَنْزِلُوا النّصْرَ بِالتّوْحِيدِ وَانْتَظِرُوا ... فَتْحاً قَرِيباً وَقَهْرَ الْهَائِجِ الصّلِفِ
__________
(1) الكنف: جمع كنيف وهو كل ساتر من بيت وغيره.
(2) الوكف: الذي يسيل بشدة وغزارة واستمرار.(104/54)
حوار
الشيخ عبد المجيد الريمي في حوار صريح
عن هموم الدعوة وواقعها في اليمن
التحرير
فضيلة الشيخ عبد المجيد الريمي علم بارز من أعلام العلم والدعوة في اليمن،
له جهود مشكورة في تأصيل العلم الشرعي ونشر منهج السلف الصالح، ويسرنا في
هذا العدد أن نجلس إليه، نستأنس بعلمه وفضله، وقد أراد الشيخ عبد المجيد
(حفظه الله) أن يبدأ هذا الحوار قائلاً:
أشكر الإخوة القائمين على مجلة البيان، وأسأل الله لهم التوفيق والنجاح في
رسالتهم المهمة، وهي: توعية الأمة، وإزالة الغثائية الفكرية والسطحية المعرفية،
وتأصيل المسائل، وتقرير الدلائل، والجواب على المشكلات الدعوية والعقبات
التي تواجه العاملين بأسلوب علمي هادئ، وأعترف هنا بأننا نستفيد كثيراً من
بحوث هذه المجلة العظيمة في مسائل دعوية وتربوية ووعظية وعلمية وتاريخية..
وغير ذلك، فجزى الله الكاتبين والعاملين فيها خير الجزاء.
الشيخ عبد المجيد الريمي من أبناء الدعوة السلفية في اليمن وأحد رموزها
البارزين، فما تقويمه لمسيرة هذه الدعوة؟ وما الطرح الذي يراه لمعالجة التشرذم
الواقع بين أبنائها؟ .
- لا شك أن الدعوة السلفية في اليمن قد حقق الله بها خيراً كثيراً في مجال
العقيدة والتعليم والدعوة والاتباع، حيث واجهت هذه الدعوة كثيراً من العقائد
الصوفية والشيعية بقوة الحجة والأدلة ووضوح المعتقد السلفي، فأحدثت تجديداً
ملحوظاً في عقائد الناس وتصوراتهم، وقللت نسبة الخرافة، وكثر المناصرون لها
من أهل التوحيد، وأصبحت هذه الدعوة في كل المدن والقرى في اليمن بفضل الله، وكذلك: كثرت المراكز العلمية التي تعنى بالعلم الشرعي وتفقيه الناس بدينهم،
وتجوب أنحاء اليمن قوافل من الخطباء والوعاظ والدعاة من مختلف هذه المراكز
العلمية المباركة، وظهر حرص كثير من الشباب على اتباع السنة قولاً وعملاً،
فلله الحمد.. وعلى كل حال: ففي حَمَلة هذه الدعوة ما في غيرهم من منافذ لتسلل
الخطأ إلى فرد أو مجموعة، لأن العصمة للمنهج السلفي وليست لأفرادٍ أو مجموعة
من حملة هذا المنهج، ولكن كما قال (تعالى) : [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاًوِيلاً] [النساء
: 59] فبذلك يحاصر الخطأ ويبقى المنهج العام والخط الواضح هو اتباع الدليل من
قرآن وسنة، وأما معالجة التشرذم: فيكون بتحقيق أصول أهل السنة وجعلها مناط
الاجتماع والافتراق وفصلها [أي: هذه الأصول] عن مسائل الاجتهاد التي تختلف
فيها الأنظار والاجتهادات، فلا يشنع على المخالف فيها ويفارق من أجلها.
تموج اليمن دعويّاً بخليط من التوجهات المتباينة، فيجد المتأمل مثلاً:
إعراض فريق عن النص الصحيح تحت مبرر ما يسمى بالمصلحة، ويجد فريقاً
آخر ذا نزعة ظاهرية مفرطة في تعامله مع النصوص وأخذه لها بشكل يجعله بعيداً
عن اتباع منهج السلف في فهمها الذي يراعي القواعد الأصولية: من حمل للمطلق
على المقيد، والعام على الخاص، ورد المتشابه إلى المحكم.. ونحوها، فهل
ترون من خطورة حقيقية كبيرة على مسيرة الدعوة الإسلامية في اليمن من هذا
التباين، وما الطريق الأمثل من وجهة نظركم لمعالجته؟ .
- الواقع الدعوي في اليمن كما ذكرت فيه من الدعاة من يغلب جانب الواقع
المفروض، فيرى ضرورة التفهم للمتغيرات التي حدثت وتحدث، بحيث تتطور
الدعوة بتطور المتغيرات، وربما يحتج بالمصلحة إذا واجَهْتَه بالدليل، وليس النزاع
في تقرير كون المصلحة مطلباً شرعيّاً ودليلاً علميّاً؛ لأن هذا أمر مسلم به؛ لأن
الشريعة مبناها على المصالح والمفاسد: فَتُقَدِّم خير الخيرين بتفويت أدناهما،
وتُفَوِّت شر الشرين بارتكاب أدناهما، ولهذا الأمر أدلته الكلية والجزئية المبثوثة في
الكتاب والسنة، وإنما النزاع في: هل ما يرتكب من مخالفات فيما نراه ينطبق عليه
هذا الأصل، بمعنى: هل المصلحة الشرعية المعتبرة شرعاً متحققة بحيث قد
ترجحت لديه المصلحة، أم إن المستدل بهذا الأصل ربما غفل عن جوانب متعددة
من المفاسد؟ ، وبعض هذه المفاسد لا ينطبق عليها هذا الأصل المتقدم، أي: إن
المصلحة الشرعية إنما هي في اجتناب تلك المخالفات باسم المصلحة لا ارتكابها
باسم المصلحة، وذلك مثل الاعتراف بالمبدأ الديمقراطي وتحكيم الأكثرية في مسائل
عقدية في التحليل والتحريم والولاء والبراء، ومثل الاعتراف بالأحزاب العلمانية
وحقها في الوجود وممارسة سياسة الأمة وحكمها بمبادئها العلمانية المعروفة، ومن
المعلوم شرعاً أن مسائل العقيدة لا تخضع للإلغاء والتسامح مع المخالفين بحجة
المصلحة، وخاصة أن المطلوب التنازل عنه يصبح مبدأً ومنهجاً بالتدريج، فأول
ما يستدل به المتنازلون هو أن الوقت حرج، والضرورة مفروضة، ثم مع مرور
الأيام يرتفع هذا الأسلوب ويصبح التعبير عنه: بأنه الحل الأسلم، والخيار الأفضل، وأنه خير من العنف، ثم يصبح هو الحل الواجب والوحيد، وقد ذكرنا سابقاً أن
المصلحة في مسائل العقيدة تكون في التزامها والتمسك بها والبراءة مما يخالفها [ ... فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ]
[يونس: 41] [قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا
وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ] [الأعراف: 89] ، وقال: (ثلاث من
كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن
يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في
النار) (متفق عليه) ، فأنت ترى أن المصلحة هنا هي أن يقذف في النار، وليس
بالتنازل من أجل مصلحة البقاء على حياته، وفي الحديث المذكور في كتاب
التوحيد (دخل رجل النار في ذباب ودخل رجل الجنة في ذباب) (على ما قيل في
سند الحديث) .. فالتنازل بذباب أوجب دخول النار، والثبات والتمسك بالعقيدة
والامتناع عن التنازل ولو بذباب يتقرب به إلى الطاغوت أوجب دخول الجنة، وقد
قال (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الأَمْرِ] [محمد: 25، 26] ، ومن المعلوم أن العلمانيين يكرهون ما نزّل الله
قطعاً، ولم يأتوا بهذه الحلول المستوردة إلا للتخلص من هيمنة الشريعة عقيدة
وحكماً، فطاعتهم وموافقتهم على هذه الحلول تحقق لهم هذا الغرض الخبيث، ولم
يبق إلا أن يقول الدعاة السالكون هذا المسلك: نحن لا نعترف بمفهوم الديمقراطية
الغربية، فيقال لهم: لكن خصومكم من العلمانيين يريدونها بهذا المفهوم، وهم أقوى
وأنتم أضعف، فكلما رجعتم إلى الضوابط الشرعية قالوا أنتم غير مؤمنين ولا
معترفين بالديمقراطية في الحقيقة، فيلزمونكم بالجدية بالالتزام بها، فيبدأ النزاع في
صفوف العاملين في هذا المسلك بين المحافظ والمتساهل؛ فيؤدي ذلك إلى انشقاقات
وتكتلات تضعف الدعوة والدعاة، ويتسلل الخصم إلى الشخصيات الأقرب إلى
التفاهم معه، فيحدث من سوء الظن والكيد وعدم الثقة ما هو معروف، ثم إن
المصلحة المرجوة قد تبددت بوضع العراقيل وعدم التمكين وعدم القدرة على ... الحركة؛ سبب القيود المفروضة والقوانين واللوائح التي لا يجوز الخروج عنها؛ لأنها ثوابت، وظهرت مفاسد عظيمة، منها: دعوى عدم قدرة الدعاة على الإصلاح، ومنها: فصل الشعب عن الحركة الإسلامية وتحجيمها في حزب، ومنها: إحراق الشعبية؛ لعدم تحقق الوعود.. وعندما يصل الأمر إلى منتهاه تقع الضربة القاصمة (لا سمح الله) وقد وصل الخصم إلى بغيته، من تضييق إطار الحركة الإسلامية وفصلها عن الشعب، ليضربها وهو آمن من غضب الشعب، وقد شوه أهدافها بأنها لا تختلف عن الأهداف التي يحملها الآخرون، وهي حطام الدنيا.
وفي المقابل يأتي الفريق الآخر من الدعاة فيطرح نفسه بأنه البديل، فإذا هو
يطرح أطروحات ويأتي بحلول يُعلم سلفاً أنها لن تؤدي إلى تحقيق أهداف الدعوة
الإسلامية، مثل: حصر الإسلام ودعوته في طلب العلم ويقصد بالعلم علماً معيناً،
والمنع من التكتل والاجتماع على الأهداف والوسائل التي يرجى بها تحقيق غايات
الدعوة الإسلامية، ومعاداة تلك التكتلات، والتحذير منها، والسعي لتفكيك اجتماعها، وتبديد جهودها، والتشكيك في أهدافها، بل وينصح المسلمين بألا يتعاونوا معها،
ويرفع شعار الولاء للأنظمة الفاسدة، وتأصيل ذلك بأن ذلك هو معتقد السلف..
وليس الخلاف حول صحة هذا الأصل وهو الطاعة للحاكم المسلم في طاعة الله،
وإنما الخلاف حول تحقيق مناط تطبيق هذا الأصل، ثم يأتي بحلول نظرية غير
واقعية، إذ لا يملك منهجاً واضحاً شاملاً للتغيير وتطبيق شرع الله، فلا هو تبنى
الدعوة بشمولها وخاطب الأمة وحركها بمنهج يستوعب جميع طاقاتها، ولا هو
أفسح المجال لمن يسعى إلى ذلك وتعاون على البر والتقوى، وياليت الاختلاف
منشؤه في اعتبار المرحلية، لهان الأمر، ولكن الأسس المهمة في عملية التغيير
الشامل، وأهمها: قيام جماعة الدعوة بنظامها الذي يحقق معنى الجماعة يعتبر بدعة
عند هذا الفريق، فمتى ستصبح البدعة سنة! ... فيجمد على مسائل فرعية يتبناها
ويرتب عليها الولاء والبراء والسنة والبدعة، ويشن حرباً لا هوادة فيها على
مخالفيه في هذه الفروع، ويجعل ذلك أولى أولويات دعوته، ويُحَوِّل المعركة إليهم، وكان ينبغي أن تتوحد الجهود على أصول أهل السنة والجماعة لمواجهات طرق
الكفر والبدع المشهورة التي هي ظاهرة للعيان، وليس مواجهتها محل خلاف،
والذي ينبغي على هذا الفريق هو فقه الأولويات، ومواجهة الأفسد فالفاسد فما دونه، ومراعاة فقه المصالح وأحكام الضرورات، وتبني الأصول العقدية والاجتماع
عليها، والسعي لجمع شتات الأمة على منهج واضح، والسير بها نحو تغيير الواقع، لا تخذيلها وتثبيطها، وعدم الاستغناء عن العاملين للإسلام أو محاولة إلغائهم
وتجاوز جهودهم وأعمالهم، وفتح باب التشاور والمدارسة العلمية لما تحتاجه الدعوة
بين جميع الفصائل المنطوية تحت شعار أهل السنة والجماعة، وتربية النشء
تربية صحيحة متكاملة، ومن أهمها: أن يفقه الهدف والغاية من التعليم والدعوة،
وهو: إقامة شرع الله في جميع مجالات الحياة، وإعطاؤه تصوراً واضحاً لكيفية
التغيير في جميع المجالات السياسية والتعليمية والاقتصادية والإعلامية.. وغير
ذلك، وتحديد موقف واضح من مقالة (ما لقيصر لقيصر وما لله لله) أو من مبدأ
(ليس في الإمكان أحسن مما كان) .
وعلى الفريق الأول صدق الالتزام بأصول أهل السنة، فإن واقعه يتنافى مع
تلك الأصول أو بعضها، والسعي لنشر تلك الأصول وتعليمها، وتربية الشباب
على ضوئها، وتحديد الموقف من المخالف فيها ومن أهل البدع المشهورة، والسعي
لتوحيد العمل الإسلامي انطلاقاً من تلك الأصول، وعدم التعجل في قطف الثمار
قبل أوانها؛ فمن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
تَصَدّر الأحداثُ للدعوة والفتوى، وعدم ترتيب الأولويات، وعدم التربية على
العمل بالعلم والتحلي بآدابه، وعدم مراعاة منهج السلف في النقد للآخرين والتعامل
معهم، وضعف فقه إنكار المنكر، وعدم إنزال الناس منازلهم.. ونحو ذلك:
مخاطر حقيقة داخلية تواجه مع عدم قولنا بالتعميم التيار السلفي في اليمن، فما
تعليقكم؟ وهل من كلمة موجزة توجهونها لأبناء التيار السلفي عامة في هذا الصدد؟
- ما ذكرته في سؤالك من تصدر الأحداث للدعوة والفتوى، وكذلك للجرح
والتعديل.. إلخ: هذه مصيبة عظيمة، وخطورة كبيرة، وتقع المسؤولية في ذلك
على العلماء المتصدرين للتعليم والفتوى والتربية، فكل عالم عليه مسؤولية توجيه
طلبته التوجيه السليم، وإلا فإثمهم عليه؛ لأنه لم يمنعهم من الوقوع في الأخطاء،
لأنهم غير مؤهلين، بل (ترك لهم الحبل على الغارب) ، وعلى أبناء الدعوة السلفية
الإقبال على إصلاح أنفسهم، وتكميل تربيتهم على الحق والعدل والرحمة، والتأسي
بمنهج الرسول في اللين والحكمة والعلم والعدل والإنصاف واحترام أهل العلم؛ قال
(عليه الصلاة والسلام) ما معناه: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا
ويعرف لعالمنا حقه) (1) وكذلك: من الخطأ أن يتصدى للدعوة من لا يفقه مراتب
المصالح والمفاسد، ولا يعرف كيف يتعامل مع المصالح والمفاسد عند التزاحم،
فربما أنكر منكراً بطريقة تؤدي إلى منكر أكبر، وربما والى وعادى على مسألة
فترتب على ذلك فساد أعظم، وربما تشدد في مسألة وتساهل فيما هو أعظم..
وأمثال ذلك من الأمور التي يفتقد كثير من هؤلاء حيالها ميزان العلم والعدل والتقوى
وفقه خير الخيرين وشر الشرين، والمسؤولية تقع اليوم على المربين والعلماء
لتدارك مثل هذا الانحراف، وإلا فالمخاطر عظيمة، والله أعلم.
ما المخاطر التي تواجه الدعوة الإسلامية في اليمن من خارج أبنائها؟ نأمل
ذكرها مرتبة حسب الأهمية من وجهة نظركم.
- المخاطر التي تواجه الدعوة الإسلامية في اليمن من خارج الصف الإسلامي
كثيرة وخطيرة، من أهمها في نظري:
1- الأحزاب العلمانية بكافة أشكالها من اشتراكيين وقوميين بعثيين وناصريين وغيرهم، وكذلك: دعاة وأنصار الديمقراطية الغربية بمفاهيمها السياسية
والفكرية والأدبية.. وغيرها، وخاصة أنهم استطاعوا أن يجرّوا فصيلاً كبيراً من
الدعاة إلى الله إلى المعارك التي يكون المهاجم فيها هو الفريق العلماني، حيث يثير
الشبهات ويشكك في قدرة الإسلاميين على فهم واقعهم والقبول بمتغيراته، فيدافع
ذلك الفصيل من مواقع الانهزام، وأنه لا معارضة بين الإسلام وكذا وكذا، وأن
الإسلام يقبل كذا وكذا، وكل يوم يزداد الضغط فيزداد الضعف والانصهار في بوتقة
الحلول المستوردة، فينتج عن ذلك مخاطر، منها: عدم إيصالنا إلى الأحزاب
العلمانية مفهومنا الإسلامي الواضح للمسائل والمفاهيم السياسية ومقارعتهم بالدلائل
القرآنية والأحاديث النبوية، ومنها: أن العلمانيين يشعرون بالتفوق عندما يحسون
منا موافقة على حلولهم المستوردة وانبهارنا بما استوردوه، تماماً مثل انبهارنا
بالتقنية الصناعية الوافدة إلينا، ومنها: حصول انشقاقات في الصف الإسلامي بين
موافق ومخالف ومتهم بالتشدد وعدم الواقعية ومتهم بالتميع والمؤامرة، بل وربما
(بيع الآجل بالعاجل) وغير ذلك من المخاطر.
2- الحكومات والأنظمة المشبوهة التي تعمل على تفكيك الصف الإسلامي
وإثارة نزاعاته وخلافاته القديمة والحديثة وتأجيج نيران العدوان والشقاق، نظراً
لعدم الوعي السياسي لدى كثير من أبناء الصف الإسلامي، وعدم تفطنهم للاستخدام
المباشر وغير المباشر لهم من قِبلَ تلك الأنظمة في ضرب إخوانهم، وفي ضرب
بعضهم بعضاً، بحجة: هذا متساهل، وهذا متميع، مما يؤدي إلى القضاء على
الجميع.
3- الأحزاب البدعية، مثل: الباطنية والرافضة وغلاة الصوفية، فإنها خطر
محقق؛ نظراً لمواقفهم التاريخية دائماً مع أعداء الإسلام والتآمر على الإسلام
الصحيح وحملته، وبثهم مفاهيمهم المنحرفة باسم الإسلام، وفي ثياب الإسلام
وشعاراته ومواقعه.
4- العقلانيون التجديديون واليسار الإسلامي كما يسمونه وغيره من دعاة
النزعة العقلية ومعارضة الشرع بالعقل، أو تسليط العقل على الشرع ليمسخه
بمفاهيمه التي تخالف ما استقر من المفاهيم التي مضى عليها سلفنا الصالح.
تلك في نظري أبرز وأهم المخاطر، والله أعلم.
ما أبرز احتياجات اليمن دعويّاً؟ وما واجب العلماء والدعاة أفراد ومؤسسات
تجاه ذلك؟ .
- أبرز احتياجات اليمن دعويّاً هي المؤسسات التعليمية والتربوية القائمة على
أصول ومنهج أهل السنة وعلى الفهم الشامل للإسلام فهماً صحيحاً ومتوازناً في
الاهتمام بالقضايا التي تهم الأمة، ويأتي بعد ذلك الشعور بالمسؤولية والانطلاقة
الدعوية بجد واجتهاد لشرح قضايا الإسلام للأمة، وإعلامهم بواجبهم أمام دينهم
وأمتهم، ويأتي بعد ذلك: الاهتمام بهموم الناس ومشاكلهم والمشاركة في حلها
بحسب الطاقة.. ويقوم على ذلك كله علماء مربون وفاهمون لما تحتاجه الأمة،
ومدركون للمخاطر التي تواجه الدعوة، وعلى المؤسسات الدعوية والعلماء السعي
لتحقيق ذلك بكل أمر ممكن شرعاً.
الأحزاب العلمانية، التشيع المنحرف، التصوف الضال، الفرقة الإسماعيلية، الفكر الاعتزالي، الفكر الخارجي: انحرافات عقدية لها وجود ملحوظ في اليمن،
فما الطرق المثلى من وجهة نظركم لوقاية الشارع اليمني وتحصينه من مخاطرها؟
- الطريق المثلى من وجهة نظري هي: نشر العلم النافع، ونشر عقيدة أهل
السنة والجماعة، وتحذير الأمة من المفاهيم الدخيلة على الإسلام، والسعي الجاد
لاحتواء شباب الأمة في الأطر الدعوية التي تحمي شباب الأمة من الوقوع في شباك
هذه الفرق الضالة.
عدم مراعاة منهج أهل السنة والجماعة مع المخالفين من أبرز سمات تيار
عريض من أبناء الدعوة السلفية في اليمن، فما أبرز مقومات ذلك المنهج لدى سلفنا
الصالح من وجهة نظركم؟
- أبرز مقومات ذلك المنهج السلفي العظيم في التعامل مع المخالف:
1- الرسوخ في العلم، فأنصاف المتعلمين يفسدون أكثر مما يصلحون.
2- تحرير محل النزاع والابتعاد عن الإجمال والإبهام والتهويش على
المخالف.
3- العدل في الحكم على المخالف، ولو جار عليك وظلمك، قال (تعالى) : ... [وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ] [الشورى: 15] هذا مع أهل الملل، فما بالك مع الفصائل
الإسلامية الدعوية.
4- حسن الظن بالداعية المسلم وحمل كلامه على ما أراد، لا على ما تريد
أنت من التشنيع عليه وتحميل كلامه ما لايحتمل، نظراً لما نعلمه من مقصده
الحسن وسابقته في الإسلام والدعوة.
5- الحرص على أن يكون القصد من الحوار جمع كلمة المسلمين وتوحيد
صفوفهم، لا أن يكون تشقيق العمل الإسلامي وتقسيمه هدفاً مقصوداً من الحوار
والردود.
6- المحافظة على بقاء الولاء والمناصرة، وألا تجعل الردود على المخالف
وسيلة للقضاء على هذا الأصل العظيم: [إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ] [الأنفال: 73] .
7- الشهادة والاعتراف بما أحسن فيه المخالف وأجاد ووافق فيه الحق، لقوله
(تعالى) : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس] [البقرة: 143] ، ولا نتعامل مع بعضنا بالمبدأ اليهودي والنصراني الذي حكاه القرآن الكريم: ... [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيء ٍ
وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ] [البقرة: 113] .
هذا ما استحضره في أصول المنهج السلفي في الرد على المخالف.
يشاع بأن فئة عريضة داخل التيار السلفي في اليمن تتبنى مفاهيم خاطئة
وتصورات مغلوطة نتج عنها بلبلة داخل التيار السلفي ... نأمل إيضاح حقيقة الأمر، وذكر أبرز تلك المفاهيم إن وجدت.
- هناك بعض المفاهيم الغريبة لبعض المنتسبين للمنهج السلفي في اليمن لا بد
من تحذير شباب الدعوة السلفية منها، وبيان أنها دخيلة على منهج السلف، منها:
1- زعمهم أن الإنصاف مع المخالف والموازنة بين حسناته وسيئاته ليس
مشروعاً، ويكفي في الرد على هؤلاء مراجعة أي كتاب من كتب الرجال، ومواقف
السلف من مختلف الاتجاهات التي حملت الحديث ونقلتْهُ، وكيف تعامل أئمة
الحديث معهم.. ثم إنهم متناقضون؛ فهم يطبقون مبدأ الموازنة إلى حد الميوعة
المفرطة بل والتغافل التام عن مساوئ الأنظمة الحاكمة بأمرها، ويفتشون عن
عيوب حملة الدعوة ويشيعونه، بل ويلفقون التهم، ويمنعون الحديث عن عيوب
تلك الأنظمة ويطوونه ولايروونه، بل يجعلون من تحدث عنه من أهل البدع! .
2- من المفاهيم الغريبة جدّاً: زعم بعضهم أن التشريع والتقنين الذي يُحلل
فيه الحرام ويُحرم فيه الحلال ليس كفراً أكبر، وإنما هو كفر عملي أصغر،
وبعضهم يقول: حتى يعتقد، ولا يعرف اعتقاده حتى يصرح ويستحل باللفظ! أما
الكتابة عندهم فليست تصريحاً، مع أنه من الناحية الشرعية: الحكم المترتب على
التلفظ لا يختلف عن الحكم المترتب على الكتابة.
3- ومن ذلك: التبديع والتفسيق للمخالف في مسائل اجتهادية، وإخراج من
يخالفهم من إطار أهل السنة، فمثلاً: نسمع كثيراً من الأسئلة في المحاضرات
والدروس: هل الإخوان المسلمون من أهل السنة والجماعة؟ هل جمعية الحكمة
والقائمون عليها من أهل السنة والجماعة؟ فهذا يقول هم من أهل السنة في بعض
الأمور، وذاك يتوقف، وكأن الحكم بأن هذا سني وهذا بدعي راجع إلى اجتهادهم،
وليست المسألة محسومة بأصول أهل السنة المعروفة وأن من التزم بها فهو سني
شئنا أم أبينا، فالدين دين الله، والجنة بيد الله، وليس عندنا صكوك غفران ولا
صكوك حرمان من رحمة الله.
4- ومن ذلك: رمي المخالف بالألفاظ المجملة وبأسماء لا تعتبر في منهج
أهل السنة والجماعة من ألفاظ المدح والذم بالإطلاق، مثلاً: يقولون: فلان حزبي، وفلان ليس بحزبي، فإذا قلت لهم: ماذا تعنون بالحزبي؟ أهو الرجل المتعصب
لجماعته أو لشيخه أو لقبيلته بالباطل؟ فهذا مذموم، ولكن هذا المرض يوجد فيكم
بكثرة يجعل نقدكم لهذا المعنى لا معنى له.. أم تريدون التحزب والتجمع على الحق
والتعاون على الدعوة تحزباً مذموماً؟ فإن أردتم ذلك فهذا ليس عيباً شرعيّاً.. إن
هي إلا أسماء سميتموها، ما أنزل الله بها من سلطان.
5- ومن ذلك: تصوير الجماعات الإسلامية وكأنها العدو الأول والخطر
الأكبر، وجعل محاربتها أولى الأولويات، بل عندنا شيخ كبير يُرجع إليه بالفتوى
يجعل الجماعات الإسلامية دسيسة من دسائس اليهود والنصارى! ! وأنها كما يقول
أنشئت لتحطيم الدين.. نعوذ بالله من هذا الحكم العجيب والفهم الغريب! ! .
6 - ومن ذلك: هجر المخالف في مسائل الاجتهاد، ومقاطعته، والتقليل من
مكانته، وهضمه حقه، ونبزه بالألقاب، واعتباره أنه ليس بعالم، وأن العالم فلان.
7- ومن ذلك: قبولهم في الجرح والتعديل والتفسير والتبديع لمجرد أن الشيخ
الفلاني قال فلان مبتدع والجماعة الفلانية مبتدعة، وبعبارة أخرى: وقعوا في
التقليد في الأصول مع زعمهم أنهم من المحاربين للتقليد في الفروع.
8- ومن ذلك وهو أخطر هذه المفاهيم: كلها أنهم لا يحملون منهجاً تغييريّاً
واقعيّاً متحركاً، فالجماعات بدعة، والعمل الجماعي المنظم بدعة، فإذا قلت لهم:
سلّمنا أن الجماعات كلها بدعة، وأنكم أهل الحق، فما هو منهجكم في التغيير؛
حيث إن هناك أنظمة علمانية، تحكم بالعلمانية والاشتراكية والديمقراطية، وتقر
الأحزاب العلمانية، وتسمح لها بالدعوة إلى الردة، وتبيح المحرمات.. كيف
ستواجهون هذه الأمور؟ فيقولون: نُعَلِّم، فيقال: ثم ماذا إذا عَلّمْتُم؟ ! ، وهل
بالتعليم وحده يزول كل هذا الفساد؟ ، وبعبارة أخرى: اشرحوا لنا كيفية المنازعة
التي أشار إليها الرسول عند ظهور الكفر البواح، فلا نجد جواباً، وقد صرح
بعضهم من حملة هذا الفكر في خارج اليمن والعياذ بالله بأن مقولة (دع ما لقيصر
لقيصر وما لله لله) كلمة حكيمة تصلح لواقعنا اليوم! .. نعوذ بالله من الخذلان.
__________
(1) انظر: صحيح الجامع، رقم 5443.(104/56)
المسلمون والعالم
يا أهل اليمن.. الحكمة يمانية
بقلم: أيمن بن سعيد
يكاد يجمع المتابعون للساحة اليمنية على أن (أمانة المؤتمر الشعبي العام) هي
صانعة السياسة اليمنية الخارجية، والمسؤولة بالدرجة الأولى بواسطة عناصرها
داخل الحكومة عن إحداث التغيير المطلوب، لا سيما من القوى الدولية، في
الخارطة السياسية اليمنية والجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والمرء
ينظر إلى ما يحدث الآن من إرهاصات ومقدمات تلوح في الأفق، مثل:
محاولة الوقيعة بين التجمع اليمني للإصلاح والمؤتمر الشعبي، وإثارة
الإشكالات بينهما حول بعض المسائل الداخلية والخارجية، ومضايقة بعض رموز
الإصلاح، مما يضطرهم للاستقالة، والإعلام العلماني في الداخل والخارج يعمل
على ترسيخ هذا التوجه بدعاوى لم تعد مجهولة، مثل دعاوى اتهام الإصلاحيين
بالتطرف والأصولية..
ممارسة سياسة تجفيف منابع الصحوة الإسلامية: كإلغاء المعاهد العلمية
ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، والتضييق على الخطابة والدعوة داخل المساجد..
ونحو ذلك، وفي المقابل: إفساح المجال أمام أصحاب المذاهب الفكرية الهدامة
والفرق البدعية التي تتلقى دعماً ماليّاً ومعنويّاً كبيراً من قِبَل بعض الدول والجهات
الخارجية وبعض الرموز الرسمية وقيادات المعارضة ذات التوجه العلماني أو
البدعي في الداخل؛ لنشر الأفكار (اللادينية) الهدامة والمعتقدات البدعية المنحرفة،
عن طريق المؤسسات التعليمية التي تملكها الدولة، وعن طريق افتتاح جامعات
وكليات ومعاهد عليا وكثير من المعاهد والمدارس الخاصة التي تحمل هذه التوجهات
وتدعو إليها.
تشويه سمعة المؤسسات الخيرية والشخصيات الإسلامية، والعمل على
تطويعها، وفي المقابل: العمل على إبراز جهات وشخصيات تقبل ذلك التطويع،
أو بينها وبين مؤسسات الصحوة الإسلامية عداء أو نفرة: كالمنتسبين إلى الطرق
الصوفية، وحركات الرفض والتشيع، وبعض الطامعين في متع الحياة.. ونحو
ذلك، وإبرازهم واجهات دينية وخيرية بشكل فردي أو مؤسسي.
محاولة احتواء أكبر عدد ممكن من الشخصيات السياسية والاجتماعية داخل
حزب المؤتمر الشعبي العام بكل وسيلة، والعمل على إضعاف العلاقة بين رموز
الشعب الاجتماعية والسياسية والتجمع اليمني للإصلاح.
العمل على تقليص نسبة الإسلاميين والمتعاطفين معهم داخل مجلس النواب
اليمني القادم.
تجويع الشعب وإذلاله ونزع سلاحه، تحت شعار ما يسمى بالإصلاحات
الاقتصادية والمحافظة على الأمن ومحاربة الفساد، وفي المقابل: منع الأفراد أو
الجهات التي يمكن أن يكون لها دور في تخفيف المعاناة داخل الحكومة أو خارجها
من أداء الدور المرجو منهم بكفاءة وفاعلية.
إطلاق يد بعض الذين ثبت عبثهم في مقدرات الدولة المالية والإدارية
والأمنية الذين ينتمون لحزب المؤتمر الشعبي العام داخل الحكومة وخارجها، وفي
المقابل: كف يد بعض الذين ثبتت كفاءتهم في هذه المجالات ممن لهم انتماء أو
تعاطف مع الحركة الإسلامية.
ومن باب التعاون على البر والتقوى، وقياماً بواجب النصح والتذكير بالله،
وحرصاً على أرض يمن الخير وأرض الحكمة: فسأوجه مقالتي هذه إلى أمانة
المؤتمر الشعبي العام، توضيحاً لهم وتذكيراً؛ علها أن تجد قبولاً لديهم، وبخاصة
أن رأسها عرف بالذكاء والحنكة في التعامل مع الأحداث والمواقف، وطلباً للإيجاز
والوضوح فسأجعل كلماتي في النقاط التالية:
أولاً: أهمية تذكر الله والدار الآخرة:
إن واجب الجميع أن يتذكروا الله والدار الآخرة؛ فالموت حق، والجنة حق،
والنار حق، ولن ينفع العبد بين يدي ربه إلا ما قدم من عملٍ صالحٍ مرادٍ به وجهه
(تعالى) ، فإن كان في خدمة الدين ونفع المسلمين: فليبشر صاحبه بالخير، وإن
كان خلاف ذلك فلا يلومن إلا نفسه، قال الله (عز وجل) : [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص:
83] ، وقال (سبحانه) : [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ
يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى (124 (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125 (قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى] [طه: 124 - 126] .
ثانياً: أهمية تذكر نعمة الله عليهم في إبقائهم وإزالة عدوهم:
على القوم أن يتذكروا نعمة الله عليهم إذ أبقاهم في مواقع المسؤولية وأزال من
كان يعمل على إزالتهم، فليس من شكر الله محاربة دينه والكيد لأوليائه؛ فإن الأيام
دول، والحياة عِبَر، فكم من رئيس صار مرؤوساً، وكم من غني صار فقيراً،
وكم من عزيز صار ذليلاً، ولله في خلقه شؤون؛ فالملك ملكه، والأمر أمره، وهو
يمهل ولا يهمل؛ قال (عز وجل) : [قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ
وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ] [ال عمران: 26] .
ثالثاً: خطأ الاعتذار عن تعطيل العمل بالشريعة بدعوى هيمنة الغرب:
يتذرع بعض القوم عن عدم تبنيهم لخدمة الدين، وترك تطبيقهم للشريعة،
والعمل لنفع البلاد والعباد، بأن ذلك إرادة القوى الدولية التي لا يمكن مخالفتها
وتجاهلها بحال، والحقيقة أن ذلك ليس بعذر، ويكفي دليلاً على ذلك: أن الإرادة
الدولية كانت مع دعاة الانفصال من قادة الحزب الاشتراكي، وكانت تسعى لإيكال
الأمر إليهم بدلاً من القيادة الحالية، أو على الأقل الإبقاء على شيء من قوتهم التي
كانوا عليها، ومع هذا: فما وقع شيء من ذلك، وكان للقوم دور في مواجهة تلك
الإرادة وتحويلها إلى واقع مخالف لها، فلماذا التذرع بدعوى الهيمنة في قضية دين
الأمة وهويتها، ورد ذلك ومقاومته في قضية المنصب والمجد الشخصي.
وأخشى أن يكون الخوف من تلك الدعوى قد وصل لدى بعضهم إلى درجة ما
يطلق عليه أهل العلم بالشرع: (شرك خوف السر) .
ومع هذا: فالواجب على القوم أن يدركوا أن الغرب مهما بلغت إمكاناتهم فهم
بشر ذوو قدرات إنسانية قاصرة ومحدودة، ويمكن مواجهة مكرهم بمكر وكيدهم
بكيد، وعلى افتراض عدم قدرتنا على ذلك على التمام، فإن خوف العبد من الله
(تعالى) يجب أن يكون أعظم من خوف غيره، ويجب عليه أن يضحي بدنياه لتبقى
له أخراه، أما خلاف ذلك فإنه دليل انتكاس الإنسان وسوء مصيره إن لم يتداركه الله
برحمته.
رابعاً: المستقبل للإسلام:
عاد كثير من الناس في العقود الأخيرة إلى الإسلام الخالص النقي، بعد أن
عشّشَتْ الأفكار الدخيلة في عقولهم، وأثرت النظرة المادية للحياة على أكثرهم،
وصار الشعار الذي تطلب غالبية الأمة من العلماء والدعاة رفعه: (الإسلام) ،
متجاوزين الشعارات التي كانت تجعل الإسلام في خندق التبعية والانهزامية، حتى
رفع بعضهم حين ذاك (اشتراكية الإسلام) ومتجاوزين أيضاً حتى شعار (ديمقراطية
الإسلام) ، مع قلة في الجهود وضعف ومحدودية في الإمكانات تفوق بكثير النتائج
التي حققتها الأمة في طريق عودتها إلى الله (عز وجل) ، فخير لمن يعادي الإسلام
ويحارب دعاته ألا يفعل ذلك.. خير له دنيا؛ لأن الإسلام هو قدر هذه المنطقة بل
هذه الأمة، والعمليات المتواصلة من التيار العلماني ومن يقف وراءه من خارج
المنطقة لإفراغ عقل الأمة من هويتها الإسلامية ومنعها من العمل على تحويلها إلى
واقع فعال على الأرض عن طريق الإلهاء بشتى صوره سيتم تجاوزها لمصلحة
الأمة وهويتها، وستبقى هذه الجزيرة وما جاورها بإذن الله كما كانت هي موطن
الإسلام وأبناؤها هم حملة رسالته.
وخير له أخرى؛ لأن الإسلام طريق النجاة يوم لاينفع مال ولا بنون، إلا من
أتى الله بقلب سليم من لوثات الشرك والأفكار الهدامة.
خامساً: المؤتمر الشعبي العام والميثاق:
رفع المؤتمر الشعبي العام في أول تكوينه شعار الإسلام، وأصدر ما سمي
بالميثاق، الذي أكد فيه انطلاقه من الإسلام عقيدة وشريعة.
ومع إدراكي للدور المشكور لعلماء اليمن في صياغة الميثاق، وحاجة أركان
النظام في ذلك الوقت إلى شباب الصحوة لمساعدتهم في مواجهتهم المسلحة ضد
النظام الاشتراكي في الجنوب وفرعه فيما كان يعرف باليمن الشمالي (الجبهة
الوطنية) ، إلا أنه كان بوسع التيار العلماني داخل المؤتمر الشعبي العام وهو
صاحب النفوذ والقرار ألا يوافق على ذلك، وأن يرفع شعاراً (لادينيّاً) في وقت
كانت فيه سوق الشعارات عامرة، غير أنهم كانوا أذكى من ذلك! ! .
أما اليوم: فقد سقطت الماركسية، وتلتها القومية وأحزابها البعثية والناصرية
.. وسارت على خطاها الدعوة إلى الوطنية، والتي تحولت إلى دعوات مناطقية في
كل قطر على حدة، بينما بقيت الدعوات الليبرالية التي تنادى بفصل الدين عن
الدولة أو عن الحياة على اختلاف بينها دعوات نخبوية، إذ لم تقم لها قاعدة أصلاً
في الأوساط الشعبية، حتى في تلك الدول التي عانت شعوبها من العيش في سجن
كبير داخل أراضيها.
إننا في زمن سقطت فيه الشعارات (اللادينية) ، وصارت جل شعوب العالم
تعود إلى عقائدها وأصولها، وما التنامي في شعبية الأحزاب والشخصيات الدينية
وفوز أحزاب ما يسمى (اليمين) في كثير من البلدان والمواقع إلا خير شاهد على
ذلك، فلماذا لا يكون الأمر في اليمن بأقل من عودة صادقة إلى ديننا؟ ! وبدلاً من
أن نعود جميعاً إلى ديننا الحق وبخاصة بعد أن جربنا تبني وتطبيق الأفكار المنحرفة
ولم نجد فيها سوى الخسار والدمار نجد بعضهم يسبح ضد التيار ويريد تجريد البلاد
والعباد من عقائدهم وتقاليدهم الحميدة، ليضمن الحفاظ على موقعه؛ وليتسنى له
العبث بمقدرات الأمة وإمكاناتها كيفما يشاء.
ولست أدري ما الفكر الذي سيتبوؤونه، وما الشعار الذي سيرفعونه، وهل
سيلغون الميثاق تحت شعار ما يسمى بالتطوير، أما سيجعلونها علمانية إسلامية كما
ظهر مؤخراً في بعض البلدان، وهي توجهات فاشلة لا محالة؛ لأن الزمن تغير،
ووعي الناس ارتقى، وأصبح قطاع كبير من الشعب يدرك الصحيح من الزائف،
وخير للقوم أن يصدقوا مع أنفسهم وأن يقرنوا الشعار بالتطبيق والقول بالعمل.
مع أني لا أقول هذا الكلام للقوم إلا على سبيل التنزل، وإلا فلو أطبقت
البشرية على الكفر لوجب على المسلمين أفراد ومجتمعات الاستمساك بدينهم والعض
بالنواجذ عليه.
مع أني أجزم بأن مصيرهم إن تمادوا في طغيانهم سيكون بإذن الله (تعالى)
مصير أسلافهم، وما ذاك على الله بعزيز، إلا إني أدعوهم وأذكرهم بقول الرسول
الكريم: (الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية) [متفق عليه] .
سادساً: ليحافظ الجميع على الأمن والاستقرار الاجتماعي:
استقرار الأوضاع واستتباب الأمن مطلب الجميع ... وفي ظني: أن محاولة
التهميش والإقصاء المتعمد الذي بُدئ في ممارسته من قِبَل التيار الليبرالي المتنفذ
داخل المؤتمر الشعبي العام للصحوة الإسلامية (كوادر وأنشطة (يتنافى مع ذلك،
وأخشى أن يكون ذلك افتعالاً لحدوث انفجار قريباً في الأوضاع الأمنية والاجتماعية؛ نتيجة ذلك الكبت والتضييق، وخاصة في بلد كاليمن ذي التركيبة الاجتماعية
الخاصة.
لأن النتيجة الطبيعية لكبت الأنشطة الإسلامية والتضييق على العلماء والدعاة
الموثوقين لدى عامة الشعب هي: توقفهم عن القيام بدورهم في التوعية والتوجيه
من جهة، ووجود المبرر للقيام بأعمال ربما تتنافى مع الأمن والاستقرار من قبل
بعض الشباب الذين يملكون عاطفة جياشة للدين وحماساً مندفعاً، قد تؤدي إلى
أعمال لا تحمد عقباها نتيجة ذلك الكبت.
ولا شك أن أصحاب الشأن يعلمون أن العبث بهذه المسألة لعب بالنار، التي
لن تقضي على العابثين فقط، وإنما قد تؤذي غيرهم؛ لأنه ليس في وسع كل من
انتسب إلى العلم الشرعي التحكم في هؤلاء والقدرة على إقناعهم بعد انفلات الزمام
وانفراط العقد، فكيف بمن نُسِب إلى العلم الشرعي وليس من أهله.
ومهما كانت قوة الأجهزة الأمنية في اليمن، فإنها لن تستطيع التوصل إلى كل
فرد من هؤلاء إلا بعد قيامه بما لايريده الجميع، فهل يعي العقلاء ذلك؟ .
وهل يعي أصحاب النفوذ والقرار أن البلاد غير مهيأة لأن تعاني أكثر مما
عانت من محن ومآسٍ نتيجة حرب مثل حرب السبعين يوماً الأخيرة والمكائد الدولية
المتواصلة.
وهل يعي أصحاب النفوذ وأهل القرار أيضاً أن البلاد يكفيها ما هي فيه من
تمزق مناطقي وقبلي وطائفي، وأن الاستمرار في تنفيذ تلك المخططات وممارسة
تلك السياسات لا يخدمهم بوصفهم أشخاصاً ذوي سلطة ونفوذ، ولا يخدم البلد وطناً، ولا الشعب أفراداً.
وأود التذكير أن من الحكمة التي عرف بها أهل اليمن: أن يكونوا مع دينهم
ومع ما يدعو إليه من المحبة والتعاون والإصلاح ونبذ كل ما يخالفه أو يناقضه من
الاتجاهات العلمانية والفرق البدعية والطائفية البغيضة.
وأن يقفوا مع علمائهم ودعاتهم بقوة، معينين لهم، ومدافعين عنهم أثناء أدائهم
لرسالتهم في بيان الإسلام، وإقامة المجتمع المسلم، والمحافظة على هوية الأمة من
أن تمس بأذى عن طريق المناوئين في الداخل والمناصرين لهم في الخارج،
ونهمس في آذان شباب الصحوة بخاصة بالحذر من التخلي عن علمائهم وما ينتج
عن ذلك من فوضى قد تكون مخططاً لها من أعدائهم، والحذر الحذر من الانسياق
وراء ردود الأفعال التي قد يسعى إليها أعداء الدعوة؛ فإن المناخ مهيأ أكثر من أي
وقت مضى لتصيد الأخطاء وتضخيمها واستغلالها في محاصرة ومواجهة الصحوة
وشبابها، والإساءة إلى سمعتهم وتنفير الشارع اليمني عن دعوتهم.
كما أن علماء اليمن ودعاته مطالبون بالاستمساك بدين الله، والاعتصام به،
ورص الصفوف، والمحافظة على حقوق الأخوة الإسلامية، ونبذ أسباب الفرقة
والتشرذم، وترتيب الأولويات، وإدراك طبيعة المرحلة؛ حتى لا تُمَس دعوتنا
بأذى ونكون سبباً في وقوع ما لا يحمد.
نسأل الله (عز وجل) أن يجنب اليمن الويلات والمحن وأن يحفظ عليها
إسلامها وعلماءها والمخلصين من أبنائها وأن يبقي لها أمنها واستقرارها.
والله من وراء القصد(104/68)
المسلمون والعالم
المسلمون البلغاريون بين ناري الشيوعية والصليبية
بقلم:عبد الله بن إبراهيم المسفر
بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى عانى المسلمون البلغار من
الاضطهاد، وزاد الطين بلة وصول الشيوعيين إلى الحكم بعد الحرب العالمية
الثانية عام 1944م.
والمسلمون في بلغاريا: من الترك، ومن البلغار الذين أسلموا ويعرفون بـ
(البوماك) ، ومن الغجر (البدو الرحل) .
ويغلب على المسلمين الفقر والتخلف والحرمان، ويمنعون من الهجرة إلى
الخارج، مضايقة واضطهاداً لهم.
وقد حاولت بلغاريا قبل أن تصبح شيوعية تنصير المسلمين، إلا أن مقاومة
هؤلاء أفشلت مخططاتهم، وقد سقط تحت سياط هؤلاء البلغار النصارى الألوف.
ثم زاد الاضطهاد والتضييق عند اجتياح الشيوعية البلاد، حتى منعت
السلطات الشيوعية الحاكمة المسلمين من تأدية الحج. والمسلمون ليس لهم مدارس
خاصة بهم، كما كانت بلغاريا تضم أكثر من 1200 مسجد، وقد أجبرت السلطات
المسلمين على الدفن بمقابر واحدة مع سائر السكان، وحظرت النحر يوم عيد
الأضحى، وأجبرت النساء على السفور، وفي الآونة الأخيرة: أجبرت السلطات
الحاكمة المسلمين على إسقاط التمايز القومي والديني، وألزمتهم بتغيير أسمائهم
بالقوة إلى أسماء نصرانية أو بلغارية، وقد أثار هذا الأمر المسلمين البلغار،
فعارضوا؛ فوقعت مجازر، وهرب بعضهم إلى تركيا التي احتجت رسميّاً، ووجه
رئيسها خطاب تذمر إلى رئيس بلغاريا، وقال رئيس حكومة تركيا على منبر الأمم
المتحدة في 1985م: (إن حقوق هذه الأقلية المسلمة تنتهك، فأين هي حرية الفكر
والدين وحقها في الحفاظ على شخصيتها؟) ، وقد تجاوز عدد المهاجرين إلى تركيا
أكثر من ثلاثمئة ألف، نزحوا عن بلغاريا في عام 1989م، ومتحف صوفيا في
العاصمة أصله مسجد هدمت مئذنته، ولا يوجد فيها اليوم إلا مسجد واحد! ! .
ولعل أبرز أحداث بلغاريا: التطورات التي جرت أواخر عام 1989م وبداية
عام 1990م، حيث جرت تغييرات مهمة على صعيد الحزب والحكومة، وأُبعد
المسؤولون القدامى، وأُتيحت حريات التعبير والحريات الشخصية الأخرى، ووقع
في 12/1/1990م اتفاق بين الحكومة والمعارضة وممثلين عن المسلمين، جرى
فيه إقرار حريات المسلمين الدينية والثقافية، وأعيدت إليهم حرية اختيار الأسماء
الإسلامية شريطة ألا يقيموا أو يطالبوا بحكم ذاتي! ! ، الأمر الذي يعتبر تقدماً في
الواقع المرير الذي فرضه الحزب الشيوعي السابق [1] .
إلا أن المسلمين هناك ما زالوا يعانون الأمرين في واقعهم وفي الضغط على
رموزهم (العلماء المختارين بترشيح منهم) ومن ذلك: الحكم مؤخراً على أحد
العلماء بالسجن لعدة سنوات لمجرد أنه رشح خلافاً لما تراه الحكومة، التي تريد
شخصاً مشبوهاً بعينه، كما سنرى.
واقع المسلمين الآن:
بعض المغرضين لخص الوضع الذي تمر به الدولة الآن وما حل بقطاعاتها
نتيجة إخفاقات الحكومة الاشتراكية بأنه (ذنب المسلمين) ، فما المقصود من هذا؟ .
في الواقع: فإن الحكومة الاشتراكية بذكاء أو غباء، وهذا ما ستسفر عنه
الأيام بدأت حياتها الدستورية أو الحكمية بالاصطدام مع المسلمين في أعز وأهم
المواقع، وهو دار الإفتاء العام ...
إذ بتصرف مبيّت قام نائب رئيس الوزراء (شيفاروف) وبمخالفة صريحة
للدستور بالتصديق على إعادة تعيين (نديم غينتشيف) المفتي السابق، وعلى هذا
الأساس: صادق أيضاً عليه (خ. منتانوف) رئيس دائرة الأديان، ليجد بذلك (نديم
غينتشيف) فرصة سانحة ليداهم دار الإفتاء ويطرد منها المفتي المرشح من المسلمين
(فكري صالح حسن) والعاملين معه، فيما لم يلق المفتي (فكري صالح) أي اهتمام
من قبل رئيس دائرة الأديان، على الرغم من مصادقته السابقة من جانب ثلاث
حكومات متعاقبة على اعتباره مفتياً عامّاً رسميّاً للمسلمين، هذه كانت البداية غير
الموفقة على حد قول بعض المراقبين للحكومة الاشتراكية.
لكنّ آخرين يرون أنها حركة ذكية تحقق من ورائها عدة أهداف:
1- إشغال المسلمين فيما بينهم، وتحويل أنظارهم عما يعد لهم خلف الكواليس.
2- شل حركة دار الإفتاء عن القيام بأي عمل فعال لصالح المسلمين خلال
فترة حكمها.
3- عزل دار الإفتاء عن المعركة السياسية، وخطف ورقة قوية من يد حركة
الحقوق والحريات كانت تعتمد عليها بين وقت آخر.
4- استغلال دار الإفتاء في تنفيذ ما لا تستطيع تنفيذه أو تحقيقه، بحجة
قانونيتها، وابتعاداً عن الواجهة.
حال المسلمين في ظل المفتي المعين:
وكان من نتيجة ذلك: أن باب الفتنة أعيد كسره، وأصبح مفتوحاً على
مصراعيه؛ فلا (غينتشيف) يستطيع تثبيت أركانه بين المسلمين، لعدم الرغبة فيه، رغم مساعدة الشرطة ومدعي عموم المناطق في تثبيت أعوانه في دور الإفتاء
هناك، ولا (فكري صالح) ومن معه يستطيعون عمل شيء.
وقد وجد (نديم غينتشيف) ضالته في هذه الفرصة، حيث بدأها بالهجوم على
الجمعيات الإسلامية وبعض العاملين فيها، وتناول الجميع بالدس والتحريض والتهم
الرخيصة وإثارة مشاعر الحكومة ضدهم، بل طالبها مباشرة بطردهم من البلاد كما
هو نهج الحكومة المقدونية على حد تعبيره ... كما باشر بتحريض مفتيي المناطق
في التصدي لكل ما هو عربي داعية كان أو موظفاً في جمعية؛ لمنعه من الاختلاط
بالمسلمين، أو أخذ حريته في العمل أو الحركة.. وبذلك: أخذ (غينتشيف) حريته، وتصرف بما هو مملى عليه في كل ما هو واقع تحت يده، وأكثر ما يخيف
المطلعين والعارفين بطبيعة الرجل: وجود مادة في الدستور المُقَر والمرخص من
الدولة ودائرة الأديان، تخوله بالتصرف في أوقاف المسلمين الغنية، وهو يردد
الآن: أنه قد خطى خطوات في هذا الاتجاه، لكنها لم تتأكد بعد، رغم تواتر الخبر
بشكل مؤكد، وهذا إن ثبت فستكون طامة كبرى.. والله المستعان..
مختصر القول: إن الوضع الدعوي والتربوي وعموم العمل الإسلامي تضرر
من ذلك المشبوه، أضف إلى ذلك: أن كثيراً من الجمعيات الخيرية التي كانت تعد
على الأصابع أصلاً، إما أنها أغلقت مكاتبها، أو قلصت من حجمها المتواضع،
أما ما بقي منها فيعيش في الظل، فلا خطة معدة، ولا رؤية مستقبلية واضحة؛ مما
ترتب على هذا: توقف الدعم عن الحلقات والأئمة المميزين أو تقلص أعمالهم،
فضلاً عن دخول بعض الشباب المتحمس دائرة الإحباط.
إننا موضوعيّاً لا نستطيع القول: إن هذا كله نتيجة عودة (نديم غينتشيف)
لدار الإفتاء فقط، بل هناك عوامل خارجية وأخرى داخلية من داخل الجمعيات
القائمة أدت لهذه النتيجة ... لكن على كل حال: مهما كان السبب، فإن المحصلة
النهائية تشير إلى أن (2. 5) مليون مسلم ما زالوا لا يلقون ذلك الاهتمام اللازم
واللائق من المسلمين الذي يلقاه إخوانهم المسلمون في ألبانيا على سبيل المثال لا
الحصر؛ رغم أن المسلمين البلغار يتقدمون خطوات واسعة على إخوانهم الألبان في
معرفتهم للإسلام وتقبل قطاع كبير منهم له.
المسلمون البلغار والوضع السياسي:
ومن الناحية السياسية: فالأوضاع الداخلية البلغارية التي يحكمها تصارع كافة
الفئات على منصب الرئاسة الآن، وخارجيّاً: اهتمام الدول الأوروبية بمن يفوز،
قد دفع من جديد (الورقة المسلمة) إلى دائرة الاهتمام، حيث يؤكد الجميع قاطبة أن
المرشح مهما كانت انتماءاته عليه أن يحصل على أصوات المسلمين (المرجِّحة)
حتى يصل إلى سدة الحكم، وذلك كما حصل عام 1992م عندما فاز بفضل تلك
الأصوات الرئيس الحالي على منافسه الاشتراكي، بل حتى المعارضة الديمقراطية
تعرف أن كلا مرشحيها (ستويانوف أو جيلف) في حاجة ماسة لأصوات المسلمين
في الانتخابات الأولية.. مما أعطى قيمة للصوت المسلم وقدم ورقة تفاوضية قوية
لـ (حركة الحقوق والحريات) التي عاد إليها بريقها ولمعانها السياسي في هذه
الأجواء.
محصلة القول: إن المسلمين إن أحسنوا التصرف في توجيه الأصوات لمن
يقدم لهم الضمانات الأكثر والأكبر لنيل كافة حقوقهم: فإنهم بلا شك سيفتحون باباً
جديداً والله أعلم على مستقبل أفضل وحقوق وحريات أكبر؛ لأنهم سيقصون
الشريط في بدء إقصاء الحزب الاشتراكي عن الحكم أو السلطة بمعنى أصح..
ولكن إن تقاذفتهم الأهواء، وشغلتهم المصالح، وتناوشتهم السلبية وعدم المبالاة:
فإنهم سيفتحون على أنفسهم باباً من الشر عظيم، حيث لن ينسى لهم الحزب
الاشتراكي موقفهم ومحاولتهم القضاء عليه وإقصاءه عن الحلبة ...
المسلمون والموقف الصعب:
إذن: المسلمون في موقف صعب وحرج، لا تراجعهم أو سلبيتهم ستحميهم،
أو تعفيهم، أو حتى ستعزلهم عن نتائج المعركة.. ولا مشاركتهم ستكون بلا نتائج
أو أثمان تدفع، وأغرب ما في الأمر: أن التهديد قد طال الحركة المذكورة حتى من
جهة المعارضة، وبالتحديد: من طرف اتحاد القوى الديمقراطية، الذي أعلن أنه
لن يغفر للحركة أبداً إذا ما خسر مرشحه (ستويانوف) الانتخابات الأولية؛ لوقوف
المسلمين خلف الرئيس الحالي ... إذن: المسلمون كمن يسير على الحبال لن يسلم
إذا وقف، ولن يسلم إذا وقع.. لكن أخف الضررين إن لم يكن الرأي الأصوب:
يكمن في اتخاذ الرأي المناسب والموقف الحكيم الذي يحقق المصلحة الراجحة
والواضحة والغالبة والعامة، وبعض الشر أهون من بعض، والله (تعالى) أعلم.
ووضع المسلمين باعتبارهم ورقة مهمة اليوم، وغداً ستصبح أهم مع النتائج
المذكورة سابقاً من تراجع العنصر البلغاري، لن يروق للكائدين لهذا الدين وأعدائه
المتربصين، فقوة المسلمين قوة لتركيا، وعلى الأقل شوكة في خاصرة البلقان
المتأزم أصلاً، والكل يحسب للخط المخيف الذي يربط تركيا بمسلمي بلغاريا
ومسلمي اليونان فمقدونيا فألبانيا فالبوسنة والهرسك.. كضلعي مثلث، ضلعه الآخر
في الجمهوريات الإسلامية؛ مما يجب أن يحسب له ألف حساب.. فالمتابع
للأحداث يتأكد لديه أن الحكومة الاشتراكية ليست في غفلة عن هذا، وما سعيها
الحثيث لتقليم أظافر الحركة (رغم علمانيتها) ، والتضييق على المسلمين في كافة
المجالات بدءاً من دار الإفتاء وانتهاءً بالبلديات، وغضها الطرف عن التنصير
الجاري على قدم وساق بين المسلمين ... إلا شواهد على ما نقول.. والمسلمون
بالأمس وقبل هذه الاحتكاكات المتتالية كانوا كما يبدو قد نسوا الحقبة الشيوعية،
فعادوا لسباتهم من جديد، لكن هذه الضربات أيقظت من أيقظت منهم، ولفتت
انتباههم إلى ما يدبر ويعد لهم، ولعل (حركة الحقوق والحريات) قد فهمت مغزى
هذه التحرشات وما يرمى من ورائها، فسارعت لاتخاذ مواقف وإجراءات مضادة،
لوحت من خلالها للعدو والصديق بالإمكانات التي تملكها، والقاعدة العريضة التي
تقف من ورائها، وقدرتها على استخدامها عند الضرورة..
تحرك السلطة البلغارية على هذا المحور، ليس في معزل عن التوجه العام
في منطقة البلقان لإضعاف الأقليات المسلمة، وفرض السيطرة عليها، والمخيف
هنا: أن أمريكا تتخذ هذه الأقليات ذريعة في مماحكاتها السياسية ضد الدول
المستعصية والرافضة للانصياع للعصا أو الجزرة الأمريكية، لكن طبيعة تقلب
الأوضاع وتغير الحكومات يبقي كافة أبواب الاحتمالات خيرها وشرها مفتوحة..
لكن رغم هذا: فإنه يحدونا في الله أمل كبير أن العاقبة للإسلام وللمسلمين ... وما
ذلك على الله بعزيز.
إخفاقات الحكومة تفضحها:
العجيب المضحك في الأمر: أن الإخفاق لازم الحكومة، حتى فيما يخص
المسلمين (ولله الفضل والمنة) ؛ فهذا (راسم موسى) رئيس بلدية (كرجلي) المنتخب، أعادته المحكمة العليا إلى منصبه، لاغية قرار المحكمة المحلية بفصله، وذلك
بعد شهور خلت من الشد والجذب بين الحركة والحكومة، ومن ورائها الحزب
الاشتراكي، وبعد أن رمى الحزب ومعه (29) حزباً آخرين ثقلهم أول مرة في
الانتخابات البلدية في هذه المدينة، لكنهم لم ينجحوا مرة ثانية في رفع القضية
للمحكمة المحلية التي قضت حينها ببطلان الانتخابات، ووجوب إعادتها، فقد جاء
قرار المحكمة العليا صفعة مؤلمة للحزب الاشتراكي وحكومته، واعتبرها المحللون
رسالة توددية من قبل الرئيس (جيليف) للحركة والأتراك وتركيا، لكون رئيس
المحكمة يعين مباشرة من قبل رئيس الدولة، كما رأت فيها بعض التحليلات خطوة
ذكية من (جيليف) في كسر القيد والشرط الذي طوق به اتحاد القوى الديمقراطية
عنق الحركة، حيث تعهد للحركة بالتصويت لـ (راسم موسى) في الانتخابات
البلدية عند إعادتها، إذا ما دعت الحركة أنصارها ومؤيديها للتصويت لـ
(ستويانوف) في الانتخابات الأولية، ثم الرئاسية.. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من
اقتناع جميع القوى بأهمية الورقة المسلمة.
وتلى هذا الإخفاق إخفاقٌ لم تتضح معالمه بعد، أو بمعنى أصح: لم تكتمل
بواعثه، إذ انقلب عدة أفراد من داخل مجلس الشورى، على (نديم غينتشيف)
ساعين للإطاحة به، مستندين في ذلك إلى بعض مواد دستوره الذي أشرف بنفسه
على إعداده، وقد أفلحوا في عزل مفتي منطقة (بلوفديف) ، ويتحركون الآن بهمة
ونشاط في باقي المدن، وقيل: إنهم سيرفعون قضية ضده بتهمة الاختلاس
واستغلال أموال الأوقاف..
عن ماذا ستسفر الأحداث؟ ، وماذا ستلد أيامنا الحبلى؟ ، وكيف ستجري
الوقائع؟ ،.. هذا ما سنتناوله في حديث لاحق.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
__________
(1) الأقليات الإسلامية في العالم، د محمد علي قناوي.(104/76)
المسلمون والعالم
مسلمو الروهنجيا يواجهون الإبادة..
فهل نفعل شيئاً؟
بقلم: د. محمد يونس [*]
أراكان كانت واحدة من الممالك المسلمة المزدهرة في جنوب شرق آسيا،
الكائنة على طول الساحل الشرقي لخليج البنجال، وقد فقدت استقلالها منذ حوالي
قرنين من الزمان، وكانت قد احتلتها القوات البورمية الغازية ... ثم انتقلت أراكان
إلى أيدي البريطانيين، وانتهى بها المطاف مجدداً إلى قبضة البورميين.
يعرف مسلمو أراكان بـ (الروهنجيا) ، وقد تعرضوا لاضطهاد وحشي هائل
على أيدي القوات البورمية المحتلة؛ حتى نتج عن ذلك خمس هجرات جماعية على
نطاق واسع، شملت مئات الآلاف من البشر في كل مرة منذ أن نالت بورما
استقلالها في عام 1948م.
الخلفية التاريخية لمسلمي أراكان:
كان العرب المسلمون أول من وصل وأدخل الإسلام في أراكان خلال قرن من
ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، تبعهم الفارسيون والبربر والمغول والباتان
والبنجاليون الذين جاؤوا إلى أراكان دعاة وتجاراً في أوقات مختلفة.
بعد أن دخل الإسلام البنجال في عام 1203م تنامى المد الإسلامي في أراكان
، وقامت دولة إسلامية بمساعدة سلاطين البنجال في عام 1430م، وقد دامت أكثر
من ثلاثة قرون قبل احتلالها من قبل البوذيين البورميين في عام 1784م، وبعد
فترة وجيزة تحت حكمهم احتلت بريطانيا أراكان مع أجزاء أخرى من بورما، وتم
ضمها إلى الهند البريطانية، وفي عام 1937م: تم فصلها من الهند البريطانية
وأصبحت جزءاً من بورما المستقلة في عام 1948م.
حملة الإبادة ضد مسلمي الروهنجيا:
بعد أن ضم البورميون أراكان عام 1948م: جرت حملة إبادة جماعية مجردة
من الرحمة ضد المسلمين، كانت سبباً في حدوث هجرات جماعية للاجئين على
نطاق واسع بين وقت وآخر، ولقد كُثِّفَ اضطهاد الروهنجيا المسلمين خلال الحكم
العسكري الاشتراكي الذي بدأ عام 1962م واستمر قرابة ثلاثة عقود، جرى فيها
تصفية الروهنجيا سياسيّاً، وإفقارهم اقتصاديّاً، وشلهم اجتماعيّاً، ولقد تم تنزيلهم
إلى مرتبة العبيد، دون التمتع بأيّ حقوق للإنسان تساويهم بغيرهم وتعتبرهم ... بشراً.... تولى بعد ذلك نظام عسكري جديد يعرف بمجلس حفظ النظام والقانون (SLORC) مقاليد الحكم في عام 1988م بعد حدوث انتفاضة سريعة واسعة الانتشار ضد حكم الحزب الاشتراكي الحاكم.
مع ذلك: بدا النظام الجديد أكثر استبداداً وقسوة ضد الروهنجيا؛ حيث قام
بإطلاق العنان لعهد الإرهاب في شمال أراكان ذي الأكثرية المسلمة، حيث قتل
المسلمون، واقتلعت قراهم، واغتصبت النساء، وطردوا في جماعات؛ مما نتج
عنه هجرة جماعية أخرى بدأت منذ أواخر عام 1991م، وهؤلاء الذين ما زالوا في
أراكان يعدون أيامهم، وهم في بؤس شديد وخوف ومعاناة.
مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان:
إن الاضطهاد والمضايقات وانتهاكات حقوق الإنسان ضد الروهنجيا ليست لها
ما يعادلها؛ سواء بالنسبة لمظاهر انتهاكات حقوق الإنسان في الأجزاء الأخرى من
بورما أو بالنسبة للأقليات التي تقطن الأجزاء المتفرقة من العالم، وفوق كل ذلك
(وهو ما يعتبر غاية الظلم) : إلغاء مواطنتهم، والإعلان بأنهم (سكان غير شرعيين)
في وطنهم، ويمكن ذكر بعض من الجرائم الشائنة التي يرتكبها النظام البوذي ضد
مسلمي أراكان:
- فَقَدَ جميع الروهنجيا مواطنتهم بعد أن قام (مجلس حفظ النظام والقانون)
بالإعلان بأن (الروهنجيا) أجانب غير شرعيين؛ حيث تم إصدار شهادات جنسية
لكافة مواطني بورما عدا الروهنجيا.
- حُدِّدَتْ حركة الروهنجيا إلى درجة عدم السماح لهم بالانتقال من قرية إلى
أخرى دون تصريح مسبق، هذا الحظر في الحركة والتنقل أوجد واقعاً مريراً،
فأصبح المسلمون وكأنهم في سجن كبير.
- الاعتقالات الاعتباطية وتعذيب المسلمين بدون أي أسس قانونية.
- الإعدامات المتعجلة والقتل بناءً على الأحكام العرفية للروهنجيا على يد
العسكر وأفراد الأمن الآخرين، دون خوف مرتكب الجريمة من مواجهة أي
عقوبات أو محاكمة.
- إكراه الرجال والنساء والأطفال المسلمين على العمل بالسخرة تحت ظروف
إذلالية، وغالباً ما يتعرضون للاغتصاب والضرب والإيذاء الجسدي وحتى القتل.
- اقتلاع القرى المسلمة قسراً، ويُجبر سكانها على إخلائها وهجر منازلهم،
ويطردون إما عبر الحدود أو يعاد ترحيلهم إلى مناطق أخرى.
- يجري إنشاء مستوطنات جديدة للبوذيين في أراضي المسلمين التي يتم
إخلاؤها، كما يُستخدم المسلمون عمالاً لبناء مساكن هؤلاء المستوطنين البوذيين،
ويتم تسخيرهم للعمل بحصاد المحاصيل الزراعية لهم دون مقابل.
- فرض ضرائب على المنتجات الخاصة بالمسلمين، إلى درجة أن أحوالهم
تدنت عن حد الكفاف.
- مصادرة الأراضي والعقارات والمشاريع التجارية التي يملكها المسلمون
بدون أسباب.
- تدنيس الأماكن الدينية، مثل: المساجد، والمدارس الدينية، والمقابر،
حيث يدخلها رجال الأمن بأحذيتهم ويحتسون فيها الخمر.
- لا يحق للطلبة المسلمين مواصلة تعليمهم العالي، حيث لا يعتبرونهم
مواطنين، ويجبرون على إحناء الرأس أمام علم بورما، وإلا فسوف يواجهون
الطرد.
وبإصرار الأنظمة البورمية على إنكار الحقوق الشرعية للمسلمين الروهنجيا
طوال العقود الخمسة الأخيرة، وعملهم المستمر لتنفيذ مخططهم الشرير، وهو
(التدمير الكامل لشعب الروهنجيا) : فقد أصبح لزاماً على المجتمع الدولي والأمة
الإسلامية على وجه الخصوص التدخل حتى باسم الإنسانية لإنقاذ 3. 5 مليون
نفس من التصفية الكاملة.
وبالنظر لما سبق ذكره فإن مسلمي بورما يناشدون العالم الإسلامي بالنظر في:
تقديم الدعم والمساعدة الكاملة سياسيّاً ومعنويّاً وماديّاً للنضال القائم للروهنجيا
حتى ينالوا حقوقهم المشروعة.
منح المساعدات الخاصة لتنمية البرامج التعليمية للروهنجيا.
منح المساعدة الخاصة لمشاريع التنمية الاقتصادية للروهنجيا.
تقديم المساعدة الضرورية للحفاظ على المعاهد الدينية والأنشطة الدعوية.
إثارة موضوع الروهنجيا في المحافل الدولية والإقليمية؛ لاتخاذ الحلول
اللازمة حول إنصاف المسلمين وإعطائهم حقوقهم.
هذا وبالله التوفيق، فهو الموفق والمعين ...
__________
(*) رئيس منظمة تضامن الروهنجيا (أراكان: بورما) .(104/84)
في دائرة الضوء
من يملك الحقيقة المطلقة؟
بقلم: د.محمد يحيى
شاعت في الخطاب العلماني في الآونة الأخيرة مقولة تذهب إلى أن الحوار
مع من يسمون عادة بـ (الأصوليين المسلمين) مرفوض؛ لأن هؤلاء الإسلاميين!
يدّعون أنهم وحدهم يملكون الحقيقة المطلقة، بينما لا يملك خصومهم إلا الضلال..
الحق أن هذه الحجة هي واحدة فقط من عدة مقولات تُروّج لتبرير عدم الحوار
مع الإسلاميين، تارة بحجة أنهم معادون للديمقراطية وسوف ينقلبون عليها بمجرد
وصولهم إلى الحكم، وتارة أخرى بحجة أنهم ليسوا على المستوى الفكري الذي
يؤهلهم للدخول في حوار مع العلمانيين الذين يتسمون بالعقلانية والاستنارة، بينما
يتسم الإسلاميون بالجهل والتخلف! ! .
لكن هذه الحجة الأخيرة تسلط الضوء الفاضح لمقولة ادعاء الإسلاميين بامتلاك
الحقيقة المطلقة، ذلك لأن هذه المقولة، إن جاز أن توجه على الإطلاق، فإنما
يجب أن توجه في المقام الأول إلى الاتجاه العلماني دون غيره على اختلاف وتنوع
مذاهبه وتياراته.
إن التوجه العلماني الفكري الذي بدأ في الغرب مع عصر النهضة (نهاية
العصور الوسيطة في التقويم الميلادي) مع ما يسمى بالنزعة الإنسانية (أي: إعلاء
شأن (الإنسان) ، باعتباره القيمة الأسمى والمعيار الأوحد والمرجع الأخير) هو الذي
ادّعى لنفسه ملكية الحقيقة المطلقة.
لقد مر هذا التوجه بتحولات وتطورات عدة، من إحياء النزعات المادية
الوثنية القديمة، إلى ما وصف بالتيار العقلاني المستنير في القرن السابع عشر
والثامن عشر الميلاديين، وإلى الفلسفات المثالية، ثم المادية (الجدلية والعلمية) في
القرنين التاسع عشر والعشرين، وأخيراً: بفلسفات وتيارات حديثة عدة:
كالبراجماتية، والوجودية ... وغيرها.
ولكن في كل هذه التحولات كان التوجه العلماني الذي نُقل إلينا وفرض علينا
في البلاد العربية والإسلامية في أشكال ساذجة وسطحية، ولكنها متطرفة هو الذي
يدّعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة في وجه خصمه الرئيس، وهو الدين (المسيحية في
أوروبا، ثم الإسلام في عالمنا العربي) .
وعلى الرغم من أن هذا التوجه جاء على أيدي مفكرين وكتاب وفلاسفة لا
يزعم أحدهم أنه يوحى إليه من السماء بل يؤكدون بشريتهم إلا أنهم زعموا لفكرهم
هذا أنه الحقيقة المطلقة، في الوقت الذي أضفوا فيه النسبية على الأفكار الدينية،
التي هي بطبعها مطلقة، على الأقل لانتسابها إلى الله خالقاً متعالياً يغيِّر ولا يتغير.
دأب التوجه العلماني بأشكاله إذن على أن ينسب لنفسه وحده امتلاك الحقيقة
المطلقة في كل مجالات القيم والمبادئ الخلقية والاجتماعية والتاريخية والعلمية،
فالعقل الذي يزعم هذا التوجه أنه هو أداته الأساسية مطلق أبدي، لا نسبية فيه ولا
تغير، وهو الذي يُنَصّب حاكماً، تعرض عليه شتى العقائد، والأفكار، والمذاهب، فيخطئها، أو يصدقها ويقرها.
وأمام العقل أو بالأصح: أمام التوجه العلماني فالكل نسبي متغير، وجزئي
غير مكتمل، فالأديان ليست إلا مواضعات تاريخية جاءت لأسباب مادية، ثم زال
أثرها، أو زالت مصداقيتها وصلاحيتها مع زوال هذه الأسباب، والقيم والمبادئ
في الأخلاق والاجتماع والفنون.. غير ثابتة، بل هي الأخرى متغيرة بتغير البيئات
والظروف التي أنتجتها، بل إن معاني اللغة واصطلاحاتها ليست هي الأخرى
بمعزل عن عوامل النسبية والتغير، فالنص يعني غداً ما لا يعنيه اليوم، والعكس
صحيح.
الوحيد الذي يتعالى على كل هذا التغير والسيولة وعدم الثبات والنسبية
والجزئية هو: العقل العلماني! ، وهو ضمان اليقين المطلق، وراعيه، وفارضه
على الأشياء والأفكار.
بهذه البساطة يذهب التوجه العلماني إلى أنه هو مالك الحقيقة المطلقة، وأن
كل ما عداه باطل وضلال، أو هو على الأصح: نسبي، وناقص، وغير دائم.
إذن: هم يرمون الإسلام والإسلاميين بالنقيصة والتهمة التي تتجلى أوضح ما
تتجلى فيهم هم، والزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة إذن ليس بجريمة ولا عيب؛ لأن
العلمانيين بشتى مذاهبهم هم أول من ينادي به لأنفسهم، لكن هناك جانباً آخر للقصة:
فالعلمانيون عندما يتهمون الإسلاميين بادعاء امتلاكهم للحقيقة المطلقة يوحون
ويلمحون (بل يصرحون في أحيان كثيرة) إلى أن هؤلاء يقولون أن كل ما يزعمونه
هو الصواب المطلق، حتى لو كان رأياً في الشؤون الزراعية، أو التجارية، أو
طريقة من طرق التدريس، أو تنظيماً لحركة المرور، أو حلاّ لمشكلات الصناعة
والتقنية، أو وسيلة من وسائل مد المرافق الأساسية أو البنية التحتية.. وهذا ما لم
يفعله أحد من الإسلاميين، حتى من يحاول منهم أن يؤصل بعضاً من هذه الأمور
بإرجاع حلولها أو التعامل معها إلى مبادئ الشريعة الإسلامية.
إن الزعم العلماني بغير ذلك يرمي إلى تشويه صورة مخالفيهم، ويعتمد على
حيلة منطقية أو جدلية سخيفة، تقول: بأن ينسب للمرء أبعد الآراء وأكثرها غرابة
مما لم يقله في مجال كان له فيه رأي قريب إلى العقل والصواب.
ويرمي العلمانيون من وراء هذه الحملة إلى أن يقوضوا كل ما يقول به
الإسلاميون، ليس في مجال الشؤون الحياتية التقنية، بل في مجال العقيدة والقيم
العليا؛ من ذا الذي سيثق فيما يقوله أشخاص زعموا أنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة
المطلقة في ميادين الري، والصرف، والمجاري، والحاسبات، وتعبئة البضائع..
وكلها أمور نسبية متغيرة مفتوحة لاجتهادات وإضافات الباحثين من المسلمين وغير
المسلمين على حد سواء؟
لكن الحقيقة المطلقة التي قال الإسلاميون فعلاً أنهم يمتلكونها لا تقع أبداً في
هذه المجالات، هذا ما يدركه جيداً العلمانيون، وإنما تقع في مجال آخر أعلى
وأسمى، هو نفسه المجال الذي ادعى العلمانيون لأنفسهم امتلاك الحقيقة المطلقة فيه، ألا وهو مجال العقيدة العليا في مسائل الألوهية، والخلق، والبعث والنشور،
والهداية، والشريعة، فهنا يؤكد الإسلاميون بل كل المسلمين أن إلههم واحد أحد،
وأنه هو الذي بعث الأنبياء والرسل، وأن القرآن وحيه المنزّل، والعلمانيون كذلك
لهم حقيقتهم المطلقة في هذا المجال، فالذين يؤمنون بالدين منهم حسبما يقولون
يفترض أنهم يتفقون مع المسلمين في الإيمان بهذه الحقيقة أو الحقائق المطلقة، أما
الذين لا يؤمنون بالإسلام: فلهم حقيقتهم المطلقة الخاصة بهم، وهي كما أسلفنا:
مفهوم العقل، الذي يحولونه من حقيقته النسبية الجزئية المحدودة إلى كيان مطلق.
إن كل الجعجعة والطنطنة حول رفض الحوار مع الإسلاميين وإقصائهم
وإبعادهم بل واضطهادهم عن ساحات الفكر، والثقافة، والعمل الاجتماعي،
والسياسي، التي يهيمن عليها ويحتكرها العلمانيون.. ليست سوى حجج جوفاء
تغطي على الحقيقة المطلقة التي تحكم سلوك التوجه العلماني منذ أن عرفناه، وهذه
الحقيقة المطلقة هي: السيطرة التامة على كل مفاتيح الحياة والفكر والحركة،
وإبعاد كل المخالفين عنها، إلى حد التصفية الشاملة، واستغلال هذا الاحتكار
الأحادي لتشويه صورة الخصوم، والإيهام والتمويه بأن كل العيوب قد اجتمعت فيهم.
ولو كان العلمانيون من المؤمنين حقّاً في سلوكهم وفكرهم بالمبدأ النسبي في
طرح الأمور كلها، لجاز لهم أن ينتقدوا الإسلاميين، إلا أنهم كما رأينا لا يؤمنون
بهذا المبدأ؛ لسبب بسيط ووجيه، هو: أن أحداً لا يستطيع مهما ادعى أن يؤمن به
أو يطبقه؛ لأن الفكر (أي فكر) لا بد له من ثوابت منطقية أو بدهية؛ حتى يستطيع
مجرد الوجود والقيام.
أما دعاوى النسبية والتميع وعدم الثبات التي تروج: فالمستهدف فيها
المسلمون في المقام الأول؛ لإضعاف عقيدتهم وزعزعتها في النفوس، بينما تبقى
عقائد العلمانيين ومعها عقائد أخرى صليبية وصهيونية ثابتة، راسخة، مطلقة،
تقام على أسسها وبها الدول والأنظمة، وتستباح في سبيلها كل حرمات المسلمين.(104/88)
مقال
بين الجاهلية القديمة والمعاصرة
بقلم: عبد الرحمن بن الحارث البناني
صحيح أنه مرّ بالعالم الإسلامي أزمات بل نكبات كثيرة من قبل، كان
المسلمون يفقدون فيها تمكنهم في الأرض، أو يفقدون أمنهم وطمأنينتهم، أو يفقدون
ديارهم وأموالهم ... ولكنهم مع ذلك لم يخوضوا تجربة أقسى ولا أمر من تجربتهم
المعاصرة في تاريخهم كله؛ فاليوم نحن نعايش في كثير من الديار الجاهلية
المعاصرة التي تشابه الجاهلية الأولى في كثير من الأوجه.
حقيقة الجاهلية:
إن الجاهلية ليست منحصرة فيما كان قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بل قد توجد في مصر من الأمصار، أو توجد في شخص من الأشخاص ولو بعد
البعثة، يقول ابن تيمية (رحمه الله) في بيان (الجاهلية) : (الناس قبل مبعث النبي
-صلى الله عليه وسلم- كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا
عليه من الأقوال والأعمال، إنما أحدثه لهم جهال، وإنما يفعله جاهل، وكذلك كل
ما يخالف ما جاء به المرسلون: من يهودية ونصرانية فهي جاهلية، وتلك كانت
الجاهلية العامة.
فأما بعد ما بعث الله الرسول: فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون
مصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل
أن يسلم، فإنه يكون في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام.
فأما في زمان مطلق: فلا جاهلية بعد مبعث محمد، فإنه لا تزال من أمته
طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة.
والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من المسلمين،
كما قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية ... ) [1] ... ) [2] .
بعض أوجه التشابه بين الجاهلية الأولى والجاهلية المعاصرة:
أولاً: أن الدساتير التي تحكم في الجاهلية المعاصرة، مشابهة للدساتير التي
تحكم في الجاهلية الأولى، فكلتا الجاهليتين تحكم بغير ما أنزل الله (عز وجل) .
ففي الجاهلية الأولى تحكم القبيلة بدستور العادات والتقاليد والأعراف الموروثة
عن الآباء والأجداد، يحيا الرجل منهم من أجلها، ويموت من أجلها، ويوالي من
أجلها، ويعادي من أجلها، دون أن ينظر: هل هذه العادات والتقاليد صحيحة أم
بخلاف ذلك؟ ! ! .
يقول أحدهم:
وما أنا إلا من غزية إن غَوَتْ ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
أما في الجاهلية المعاصرة فيتحقق المعنى في كل دولة تحكم بدستور مستمد
من قوانين الشرق والغرب (اللهم إلا في بعض الأمور المسماة بالأحوال الشخصية،
كالأحكام الخاصة بالنكاح والطلاق، أو غير ذلك من أحكام، لتدّعي بذلك أنها دولة
إسلامية) على تباين بين هذه الدول في الأخذ ببعض الأحكام الشرعية، فمقلة
ومكثرة.
ثانياً: لقد اتخذ أهل الجاهلية الأولى أصناماً وأوثاناً يعبدونها، ويعظمونها،
ويذبحون لها من دون الله (عز وجل) ، وقد جعلوا لها سدنة وخدماً يقومون بخدمتها، وهم الكهنة والعرافون، فعظموهم وبجلوهم، فأحلوا ما أحلوا من المحرمات،
وحرموا ما حرموا من المباحات، وتلك هي عبادتهم، وكذلك الشأن في اليهود
والنصارى مع أحبارهم ورهبانهم: حيث أحلوا ما أحلوا من المحرمات، وحرموا
ما حرموا من المباحات، كما يدل على ذلك قوله (تعالى) : [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ.. الآية] [التوبة: 31] ، وفسره
النبي -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم (رضي الله عنه) بأنهم: (أحلوا لهم
الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم) [3] .
أما في الجاهلية المعاصرة فشرك المشركين فيها أعظم من شرك أهل الجاهلية
الأولى؛ لأن أهل الجاهلية الأولى إذا اشتد فيهم الخطب دعوا الله مخلصين له الدين، أما مشركو زماننا إذا اشتد فيهم الخطب دعوا أصنامهم وأوثانهم من دون الله،
ففي زماننا عبدة الأوثان والأصنام والقبور، وإن لم يكن الأحبار والرهبان، فهناك
الطغاة والمتجبرون، ومع ذلك: فتوجد أصنام وأوثان مصنوعة في الجملة، منها:
السلطة، والرئاسة، والجاه، والمال، والعادات، والتقاليد، والأعراف التي
تخالف ما شرع الله (عز وجل) ، والوطنية، والقومية، والاشتراكية، والقومية،
والعلمانية، والوجودية..
فإذا كان حب السلطة والرئاسة و ... إلخ، مدعاة للعبودية لها، والتضحية
بالدين في سبيلها كما هو حال كثير من المسلمين في العالم الإسلامي فهي عندئذ
(وثنية) بلا قناع.
ولكن منها ما هو شرك مخرج من الملة، ومنها ما هو شرك غير مخرج من
الملة، فهو شرك دون شرك؛ على حسب حب واعتقاد صاحبها لها، حقّاً: ... [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] [يوسف: 106] .
ثالثاً: لقد كان الربا في الجاهلية الأولى قائماً ومنتشراً فيهم، فقد كان المال
والتجارة في أيدي قلة قليلة، وكانوا يتعاملون بالربا؛ فيضاعفون تجارتهم وأموالهم، وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع.
وقد كان للربا صورتان رئيستان: ربا النسيئة، وربا الفضل.
فأما ربا النسيئة: فقد قال عنه قتادة: إنه ربا أهل الجاهلية، يبيع الرجل
البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء: زاده وأخر عنه، وقال أبو بكر الجصاص: (أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضاً مؤجلاً
بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل، فأبطله الله (تعالى) .
وأما ربا الفضل: فهو أن يبيع الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة؛ كبيع
الذهب بالذهب، والدراهم بالدراهم، والقمح بالقمح، والشعير بالشعير ... وهكذا،
وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به.
وأما في الجاهلية المعاصرة: فيتمثل الربا في الديون المؤجلة بفوائد ربوية،
أو في بعض المبيعات المثلية بتفاضل.
وهناك بعض البنوك والمصارف الربوية المحلية في بلاد المسلمين تأخذ ... نسبة من أموال المسلمين المودعة عندهم، فترسلها إلى البنوك والمصارف العالمية؛ لتقوم باستثمارها، ومن ثم: إرجاعها إلى البنوك والمصارف المحلية مع نسبة من الفوائد الربوية، والباقي لهم، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَاًذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] [البقرة: 278، 279] (ياللهول! حرب مع الله ورسوله ... حرب تواجهها النفس البشرية، حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة؟ .. فأين الإنسان الضعيف الفاني من ذي القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟ ! !) .
وهنا سؤال يفرض نفسه: ما هي الاستثمارات التي تقوم بها البنوك
والمصارف العالمية؟ ! ! .
الجواب: تستثمرها غالباً في أعمال غير مشروعة مثل: الأفلام الهابطة،
والصحافة المسفة، والمراقص، والملاهي، والرقيق الأبيض، وسائر الحرف
والاتجاهات التي تحطم الأخلاق.
وكذلك: تستثمرها في زراعة الأراضي والمصانع بشتى أشكالها من مصانع
أسلحة لتدمير الأمم، أو مصانع سيارات، أو مصانع ... ، ومن ثم: تباع هذه
الأسلحة وهذه السيارات وغير ذلك من المنتجات الاستهلاكية إلى البلاد الإسلامية
بأسعار باهظة.
أي: إنهم يأخذون أموالنا ويستثمرونها، ونتاج أموالنا يبيعونه لنا بأغلى
الأسعار؟ ! ! .
نعم هذه هي الحقيقة المرة.
والأمرّ من ذلك: أن جميع البنوك التي تذهب أموالنا إليها والمؤسسات في
أوروبا وأمريكا تستقطع جزءاً من أموالنا للتنصير، وأغرب وأمرّ من هذا كله: أن
عدداً من مبالغ طائلة من أموال أغنياء المسلمين التي وضعوها في البنوك الربوية
تذهب لمساعدة مجلس الكنائس العالمي.. سبحان الله العظيم! ! .
أفبأموال المسلمين يُنْصَرُ أعداؤهم؟ ! ! .
رابعاً: لقد كانت الخمر والميسر في الجاهلية الأولى من تقاليد المجمتع الفاشية، ومن مفاخره كذلك، يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته.. كالذي يقوله
طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربه وما زل تشرابي ... كميت متى ما تفل بالماء تزبد
ومازال تشرابي الخمور ولذتي ... وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
وكانت الدعارة في صور شتى كذلك من معالم هذا المجتمع شأنه شأن كل
مجتمع جاهلي قديم أو حديث كالذي روته عائشة (رضي الله عنها) أن: (النكاح في
الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى
الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها، والنكاح الآخر: كان الرجل يقول لامرأته
إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها
أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها
زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح
الاستبضاع ... ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة،
كلهم يصيبها، فاذا حملت ووضعت، ومرّ ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم
فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي
كان من أمركم وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به
ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل ... والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير
فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن
رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها
جُمِعُوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، ودعي ابنه،
لا يمتنع من ذلك..) [4] .
وأما في الجاهلية المعاصرة فقد تغيرت المسميات فقط، فتوجد وللأسف الشديد
في بعض البلاد الإسلامية دور تُدعى البارات والمراقص، توجد فيها المومسات
والخمور والقمار، ولهذه الدور موظفون وعمال يعملون فيها، وحُرّاس لحمايتها،
وتوضع لها المستشفيات الخاصة للكشف على المومسات لحمايتهن وحماية المجمتع
من الأمراض الجنسية! ! .
كل هذا الاهتمام بهذه الدور لإفساد الشباب من ذكور وإناث، ولأن هذه الدور
من أهم الموارد الاقتصادية! ! فالدولة تأخذ عليها ضرائب، وتأخذ كذلك على
المومسات ضرائب إذا كن يعملن لحسابهن الخاص.
وكذلك من أسباب اهتمام هذه المجتمعات بهذه الدور، اعتقادها أنها من أهم
الأسباب لجلب السياح والمصطافين، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
خامساً: كان لدى أهل الجاهلية الأولى تخلف عقدي، وعدم تصور صحيح
لبعض مفاهيم الإسلام، وذلك ناشئ عن عدم تصديقهم برسالة النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وعدم إيمانهم به إيماناً وتصديقاً يؤديان إلى العمل. وأما في المجمتع
الجاهلي المعاصر: فأصبح لدى بعض المسلمين انحراف شديد عن حقيقة الإسلام،
لا في السلوك وحده، ولكن في العقائد كذلك، فأصبح عندهم انحراف عقدي، فهناك
انحراف في مفهوم (لا إله الا الله) أساس الإسلام كله حتى تحولت الشهادتين إلى
مجرد كلمة باللسان، لا علاقة لهما بالواقع، ولا مقتضى لهما في حياة بعض
المسلمين أكثر من أن ينطقوا بها بضع مرات يوميّاً.
والعجب: أن كفار قريش أعرف من بعض المسلمين لبعض مفاهيم الإسلام؛
فهم قد عرفوا معنى (لا إله الا الله) ، وهو: الإيمان بنفي الألوهية عما سوى الله،
ومعنى الإيمان بالرسالة وباليوم والآخر هو: الانقياد التام والتفويض المطلق،
بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم وأموالهم، فضلاً عن غيرهم.
ومعنى ذلك: إلغاء سيادتهم وكبريائهم على العرب، فقد كان إلغاء السيادة
بالصفة الدينية: امتناعهم عن تنفيذ مرضاتهم أمام مرضاة الله ورسوله -صلى الله
علييه وسلم-، وامتناعهم عن المظالم التي كانوا يفترونها على غيرهم، وعن
السيئات التي كانوا يجترحونها صباح مساء.. عرفوا هذا المعنى فكانت نفوسهم
تأبى عن قبول هذا الوضع، لا لكرامة وخير [بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ]
[القيامة: 5] .
وعندهم تخلف في مفهوم الدنيا والآخرة الذي يربط الدنيا بالآخرة، ويجعل
الدنيا مزرعة الآخرة حتى تحول إلى فصل كامل بين الدنيا والآخرة، يجعلها موضع
التقابل الكامل وموضع التضاد، فمن أراد الدنيا ترك الآخرة، ومن أراد الآخرة
ترك الدنيا، واكتفى منها بالكفاف.
ويجيء الفكر الإرجائي فيواكب هذا الانحراف العقدي المهلك عند بعض
المسلمين، ويتسع تدريجيّاً مع كل تخلف جديد، على أساس قاعدته العظمى (أنه لا
يضر مع الإيمان معصية) والعجيب: أنه قد يكون من هذه المعاصي ما هو كفر وأن
الإيمان هو التصديق، أو هو الإقرار والتصديق، وأن العمل خارج من مسمى
الإيمان!
سادساً: لما ظهر الإسلام في الجاهلية الأولى جوبه بتحديات، وكذلك جوبهت
الصحوة الإسلامية أو قل: اليقظة الإسلامية عند ظهورها في العقود الأخيرة، وهذا
وجه شبه يلمسه كل منصف. والله المستعان
__________
(1) رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري، كتاب الجنائز، ح/934.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 78، 79.
(3) انظر: السابق، ص 9.
(4) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب 36.(104/94)