المسلمون والعالم
جهود الرافضة في السنغال
بين النجاح والفشل
بقلم: عبد المهيمن كريم
كاتب هذه المقالة داعية سنغالي، كانت له صلة قريبة بنشاط الشيعة في
السنغال، سافر للدراسة في إيران، واطلع على أحوالهم عن قرب.. ثم كانت هذه
المقالة للتعريف بنشاط الشيعة في السنغال.
- البيان -
السنغال دولة تقع في غرب إفريقيا مساحتها 400. 201 كم2، تحدها
موريتانيا شمالاً، وغينيا بيساو وغينيا كوناكري غرباً، وساحل العاج ومالي شرقاً
وجنوباً، ويبلغ عدد سكانها سبعة ملايين نسمة، يشكل المسلمون نسبة 95 % منهم.
ويمكن إرجاع دخول الرافضة في السنغال إلى ما بعد قيام الثورة الإيرانية؛
لأن اللبنانيين الذين يعتنقون المذهب الشيعي مكثوا في البلاد أكثر من أربعين سنة
دون أن يعرف السنغاليون مذهبهم الشيعي فضلاً عن الدخول فيه. أما بعد الثورة
الإيرانية التي حملت شعار تصدير الثورة إلى العالم كما هو معروف بعد ذلك سمعنا
ولأول مرة في تاريخ السنغال الكلام عن الشيعة والتشيع! !
كيف دخل الرافضة في السنغال؟
تزامن قيام الثورة الإيرانية مع تنامي الصحوة الإسلامية في السنغال ودخول
الصحوة في جامعة دكار، وأوساط التلاميذ في الثانويات والمعاهد العربية والفرنسية، وبدأت الصحف والمطبوعات الإيرانية الشيعية تدخل البلاد، وترفع شعار الوحدة
الإسلامية بعناوين كبيرة على أغلفة المطبوعات والصفحات الأولى منها، وفي
داخلها تعالج موضوعات الثورة، وتركز على أن سر نجاحها كامن في العامل
العقائدي المتمثل في نظرية الإمامية الاثني عشرية، لذلك كان أول من تشيّع هم
بعض المثقفين من الطلبة السنغاليين من ضعيفي الثقافة الإسلامية الصحيحة.
دور السفارة الإيرانية في العمل الدعوي:
يرجع دخول التشيع وانتشاره إلى جهود السفارة الإيرانية، فهي التي كانت
ولاتزال تتولى مهمة نشر الصحف والكتب واختيار العناصر المؤيدة لإيران لتقديم
الدعوات إليها لزيارتها في أعياد الثورة! ، ولما تشيعت مجموعة من الناس بواسطة
هذه الدعايات، لعبت السفارة دوراً كبيراً في دعمهم ماديّاً وتقديم المعلومات لهم من
الكتب والصحف، بل ذهب بعض الناس إلى أنهم كانوا يجتمعون في أول الأمر
داخل السفارة، ويتلقون فيها الدروس التكوينية حتى أسسوا أخيراً حركة باسم حلقة
المثقفين.
دور اللبنانيين حجمهم، نشاطهم الاقتصادي، جمعياتهم:
المصادر التي تتكلم عن تاريخ الهجرة اللبنانية تقول: إن هجرتهم إلى إفريقيا
تزامنت مع مجيء الاستعمار [1] ، ولكن اللبنانيين بحكم طبيعتهم وغرابة توجهاتهم
الشيعية، اعتزلوا المجتمع السنغالي ثقافيّاً، وبقوا يمارسون شعائرهم التعبدية في
معابدهم الخاصة، إلى أن ظهر الإمام موسى الصدر بجولاته الإفريقية المشهورة في
سنة 1964م وما بعدها، حاملاً مشروع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان.
وذهب موسى الصدر إلى كل بلد إفريقي فيه وجود لبناني، فجمع الجالية
اللبنانية ونصب لهم إماماً ومرشداً دينيّاً براتب يتحمله المجلس الإسلامي الشيعي
الأعلى، فنصب للجالية اللبنانية في السنغال عبد المنعم الزين، وبنى له بعض
اللبنانيين مركزاً فخماً في دكار قرب وزارة المالية سَمّوه (المركز الاجتماعي
الإسلامي) ، وتمت البناية سنة 1401 هـ في الحادي عشر من شهر رجب الموافق
14/5/1981 م.
والبناية تحتوي على أربعة طوابق:
- الطابق الأرضي نادي الرسول.
- الطابق الأول مسجد الإمام علي المستوصف الإسلامي.
- الطابق الثاني جمعية الهدى الخيرية.
- الطابق الثالث الإدارة العامة.
ويعالج المرضى في المستوصف بأجور زهيدة، وتوجد في المركز مدرسة
تسمى مدرسة الزهراء، حيث يقوم فيها شيخهم عبد المنعم بتدريس بعض الأفارقة،
وإذا وثق بهم يرسلهم إلى لبنان أو إيران ليواصلوا دراستهم، وقد وجدت خلال
وجودي في إيران خمسة سنغاليين مرسلين عن طريقه.
كما أنشأ اللبنانيون تحت إشراف عبد المنعم الزين مسجداً كبيراً في محطة
السيارات أسموه مسجد الدرويش، ونصب له أماماً سنغاليّاً اسمه، كان قد تخرج
على يدي عبد المنعم، وهو يصلي بالناس الجمعة والجماعة تقية، وذلك بالصلاة
كأهل السنة مع إدخال بعض الشعائر الشيعية دون أن يعرفها المأمومون الذين لا
يعرفون من الدين شيئاً!
ولقد كُلّف الإمام من قبل عبد المنعم بتدريس السنغاليين الذين اعتنقوا المذهب
الرافضي، ومن أنشطة عبد المنعم أنه موّل رجلاً في (كيجواي) ، ففتح مدرسة
ابتدائية عربية يدرس فيها الأطفال السنغاليين، ويبث فيهم سموم الشيعة خُفْيَةً، كما
مول رجلاً آخر، ففتح مدرسة في كرمدارو وهي قرية تقع على بعد خمسة عشر
كيلومتراً عن تياس والمدرسة سميت دار القرآن.
واللبنانيون كانوا يسيطرون على الحياة الاقتصادية في البلاد، وبخاصة
التجارية منها، إلا أن دورهم تقلص بسبب التدهور الاقتصادي الذي تعاني منه
البلاد ودخول السنغاليين في الحقل التجاري بشكل كبير، فنزح كثير من اللبنانيين
إلى ساحل العاج أو إلى أوروبا.
وليس للبنانيين جمعيات مختلفة ذات طابع ديني، وإنما التفافهم حول
عبد المنعم الزين، أما بعض ليبرالييهم فقد توزعوا في النوادي الماسونية والرياضية
والمؤسسات الاجتماعية الأخرى.
مجالات عمل الرافضة في السنغال:
الروافض السنغاليون لقلة عددهم ليس لهم إلا مدرسة واحدة قائمة فعلاً، وهي
مشروع مدرسة عربية فرنسية تحتوي على روضة أطفال، ومركز اجتماعي صحي
يشرف عليه إمام جامعة دكار سابقاً، والمدرسة فتحت منذ أكثر من سنة، ولا يعمل
فيها حالياً إلا فصل واحد لعدم تحمس السنغاليين ولشكهم في أمثال هذه المدراس أولاً، أو ربما لحداثتها ثانياً.
ويبدو أن لهم مشاريع لإنشاء الكليات والمعاهد والمكتبات والأنشطة الاجتماعية، ... لكنهم لم يقوموا بأي شيء منها بعد.
أما الصحف والمجلات فيعتمد الروافض السنغاليون على مطبوعات إيران
التي ينشر منها كيهان العربي وهي يومية في إيران أسبوعية خارجها، وكذلك
الوحدة الإسلامية وهي عربية شهرية، صوت الثورة الإسلامية في العراق أسبوعية، بالإضافة إلى الرسالة وهي أسبوعية ناطقة بالفرنسية وتصدر شهريّاً، وتؤخذ كل
هذه المطبوعات من السفارة الإيرانية كما يأخذون منها كتباً مثل:
1- (ثم اهتديت) و (لأكون مع الصادقين) و (فاسألوا أهل الذكر) لالتيجاني
السماوي الصوفي المتشيع [2] .
2- بحث حول الولاية، بحث حول المهدي، في التاريخ، لمحمد باقر
الصدر، عقائد الإمامية، السقيفة، لـ محمد رضا المظفر.
3- الحكومة الإسلامية، كشف الأسرار، لالخميني.
4- المراجعات، النص والاجتهاد، أجوبة مسائل جار الله، للمدعو عبد
الحسين! شرف الدين.
5- معالم المدرستين، خمسمئة صحابي مختلف، لمرتضى العسكري،
والكتب مترجمة إلى الفرنسية والإنكليزية.
6- الجمعيات: لا أعرف للرافضة السنغاليين إلا جمعية واحدة في هذا الوقت
بالذات [3] ، وهي باسم حلقة المثقفين ولها طابع سري لذلك من الصعب أن يعرف
الناس عنها الكثير وبخاصة من هم مثلي لكوني معروفاً لديهم.
زياراتهم إلى مكة المكرمة وإيران:
أما زياراتهم لإيران فهي كثيرة؛ لأنني خلال وجودي في إيران كنت ألتقي
كل سنة مع وفد من السنغال في المناسبات: منهم مؤسس جماعة العمل الإسلامي..
وغيره [4] .
تقويم نشاطات الرافضة في الساحة السنغالية:
في البداية كان النشاط الرافضي مؤثراً تأثيراً سلبيّاً على العمل الإسلامي لما
للرافضة السنغاليين من معرفة بأحوال أهل السنة لأنهم تربوا في محيطهم، إضافة
إلى مطالعاتهم الكثيرة في المذهب الرافضي، ولأن المسألة كانت جديدة على
السنغاليين، لذا: حدث اضطراب عقائدي في أوساط شباب الحركة الإسلامية،
والذين تشيعوا كانوا ضحايا ذلك الاضطراب، ولكن لم يمكث الاضطراب مدة
طويلة، فقد بدأ الشباب يرجعون عن أفكار الرافضة بسبب الجهود التي بذلها العلماء
الأفاضل من أهل السنة، الذين قاموا بإلقاء محاضرات وبحوث توضح حقيقة عقائد
أولئك وخطرهم على الأمة.
مدى تعاون الطرق الصوفية مع الرافضة:
زعماء الطرق الصوفية ليس لهم وعي عقائدي؛ لذلك لا يعرفون مدى الخطر
الذي يمثله الرافضة، فضلاً عن اشتراكهم مع الرافضة في بدع كثيرة، وتكسب
إيران ودهم بتقديم دعوات لمشايخهم لزيارة إيران، إلا أن خوف الشيوخ من
الصحوة الإسلامية التي تُتهم إيران بزعامتها حال دون ذلك، فمثلاً: الشيخ مرتضى
إمباكي نائب الخليفة العام للطائفة المريدية قُدمت إليه دعوات مرات ولكنه كان
يرسل في كل مرة: إما مرتضى إمباكي مدير الأزهر في (تياس) سابقاً أو مصطفى
جترا مفتش الأزهر في (طوبي) .
هل تشيع أحد من أهل السنة، وما السبب؟
تشيع بعض الشباب بسبب الدعايات التي قامت بها إيران في إفريقيا بواسطة
الصحف والمجلات والكتب التي وزعت من قبل سفارتها، والزيارات التي قام بها
الشباب إلى إيران وعددهم لا يبلغ عشرين حسب معرفتي، ومعظمهم يتركزون في
العاصمة دكار، ويعملون على نشر التشيع.
العلاقة السياسية بين إيران والسنغال:
كانت العلاقة بين إيران والسنغال متوترة في البداية لظن الحكومة السنغالية أن
إيران تدعم الحركة الإسلامية، فأغلقت سفارتها واستدعت سفيرها من طهران،
ولما عرفت أن إيران لا تريد دعم الحركة، وإنما تريد دعم التشيع وهو يضعف
الحركة، تصالحت الحكومة السنغالية مع إيران، ففتحت إيران سفارتها من جديد،
وفتحت الحكومة سفارتها في إيران، وجعلت مستشار السفير هناك أحد أبناء
السنغال الذي كنا نترقب له دوراً كبيراً في مستقبل الحركة الإسلامية.
فالعلاقة بين الحكومتين الآن جيدة، وأعتقد أنها ستستمر مادامت الحكومة
السنغالية تؤمن أن إيران تضعف الحركة الإسلامية الرئيسة في السنغال، وذلك
بمحاولة إحداث الانشقاق داخل صف الحركة الإسلامية السنية، وكسب بعض
عناصرها المتشددة إلى التشيع أو تأييد سياساتها.
المستقبل المتوقع لنشاط الرافضة في السنغال:
لا أرى للرافضة مستقبلاً في السنغال -على الرغم من الجهود الكبيرة التي
يقومون بها -، وذلك لسببين:
الأول: زيادة كشف وجه إيران في العالم الإسلامي شيئاً فشيئاً وخيبة أمل
كثيرين من مؤيديها.
الثاني: بروز نجم الحركة الإسلامية السنية في العالم كقوة رئيسة يخشاها
الغرب، وانتشار وسائلها في الساحة السنغالية من صحف ومجلات وكتب ونشرات
ومراكز صحية واجتماعية، وسلامة عقيدتها مع قوة أدلتها ورصانة حجتها.
وختاماً:
فإن قضية الشيعة في السنغال بخاصة وفي إفريقيا بعامة مقلقة، وتتطلب يقظة
وانتباهاً؛ لأن عامة الشعب السنغالي لا يعرفون عنهم شيئاً رغم الجهود التي بذلوها، وعلى العلماء والدعاة مسؤولية كبيرة في بيان الحق ونشر السنة، وتنشيط الدعوة
إلى الكتاب والسنة على منهاج أهل السنة والجماعة.
__________
(1) يُقدر عدد اللبنانيين في السنغال بحوالي خمسة عشر ألفاً، معظمهم من الشيعة ثم الدروز، وفيهم نسبة قليلة من النصارى، ويعمل معظمهم في التجارة، وهم قوة اقتصادية كبيرة في البلد، حيث يملك اللبنانيون حوالي ثمان وأربعين شركة من كبرى الشركات في السنغال، بالإضافة إلى عدد غير قليل من المصانع والفنادق والمحلات التجارية، ولكن بدأ نفوذهم يقل في الآونة الأخيرة، ولعل من أبرز التجار السابقين نبيه بري رئيس حزب أمل اللبناني ورئيس مجلس النواب الحالي في لبنان! ...
- البيان -.
(2) هذا الرجل المشبوه الذي تحول من صوفي قبوري إلى رافضي محترف من أعجب المدلسين والمزورين للحقائق، ومن أعجب ما ألفه أهل السنة والجماعة هم الشيعة انظر لمعرفة حقيقته وتسليط بعض الأضواء عليه: كتاب (الشيعة والسنة) للأستاذ/ سعيد الجنيد ... ... ... - البيان -.
(3) في عام 1985م أسست (منظمة العمل الإسلامي) في العاصمة داكار، وهي ذات توجه شيعي ظاهر، وتتلقى الدعم من السفارة الإيرانية مباشرة، وقد قام مؤسسها بزيارات متكررة إلى إيران، ولكن هذه المنظمة لم تحظَ بقبول لدى عامة الدعاة والمثقفين، والجدير بالذكر أن المنظمة كانت تصدر مجلة للدراسات الإسلامية باللغة الفرنسية ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.
(4) ذكر الكاتب بعض الأسماء التي ترددت إلى إيران، رأينا عدم إثباتها، اعتماداً على قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ... ... ... ... ... - البيان -.(91/62)
المسلمون والعالم
المسلمون في الفلبين وصراع الهوية
بقلم: محمد بن عبد الله
تعيش الأقلية المسلمة في الفلبين في ظل ظروف غاية في الشدة والصعوبة
نتيجة للظلم الفاحش والتمييز العنصري الديني الواقع عليها من قِبَل حكومة البلاد
الصليبية، التي تعمل ليلاً ونهاراً على طمس هويتها الإسلامية وتذويبها في المجتمع
النصراني المحيط بها، ومن جهتهم: يسعى المسلمون جاهدين لمقاومة مؤامرات
الاحتواء، والتصدي لخطط أعدائهم، والدفاع عن دينهم وهويتهم وثقافتهم المستهدفة، مما أدخلهم في صراع طويل ومرير مع تلك الحكومة، الأمر الذي ترك آثاراً
واضحة على ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومن خلال هذا المقال: سنحاول إلقاء الضوء على خلفيات وأبعاد هذا
الصراع، واستشراف مستقبل المسلمين في الفلبين في هذه البقعة من عالمنا
الإسلامي.
الخلفية التاريخية للمسلمين في الفلبين:
من المعروف تاريخيّاً أن المسلمين في الفلبين هم أصحاب البلاد الأصليين،
حيث إن جزر الفلبين كانت قبل أربعة قرون مضت: عبارة عن مجموعة من
الولايات الإسلامية تُحْكَمُ بالإسلام الذي دخلها في نهاية القرن الثامن الهجري على يد
التجار والدعاة العرب، ولم يكن هناك في ذلك الوقت أي أثر للديانة النصرانية أو
معتنقيها، وبقيت كذلك حتى غزاها الأسبان عام 1521م، بهدف القضاء على
الإسلام الذي كان قد فرض سلطانه على تلك المنطقة من العالم، وتحويل أبنائه عن
دينهم، وامتصاص خيراتهم، وكان هذا استكمالاً للدور الذي لعبه الأسبان في تلك
العصور في محاربة الإسلام واضطهاد المسلمين (كما حدث في الأندلس) ، إلا أنهم
في الفلبين لم ينجحوا في تحقيق النتيجة نفسها التي وصلوا إليها في الأندلس؛ نظراً
للمقاومة العنيفة والشرسة التي واجهوها من مسلمي هذه البلاد، بَيْد أنهم تمكنوا من
إخضاع شمال ووسط البلاد (جزيرتي لوزون وبيسايس) لسيطرتهم، وفشلوا على
مدى (377) سنة (هي مدة الاحتلال الأسباني للفلبين) في السيطرة على جنوب
البلاد (جزيرة مينداناو) ، وذلك لتأصل الإسلام في تلك المنطقة منذ زمن بعيد
واستماتة أهلها في الدفاع عنها، وبعد أن احتل الأسبان (جزيرة لوزون) وبها
العاصمة (مانيلا) سارعوا بإرسال حاكم نصراني لها، وتوافدت البعثات التنصيرية
ورجال الدين النصراني على الفلبين لنشر ديانتهم بها، فدخلت في النصرانية أعداد
كبيرة خاصة من الوثنيين الذين كانوا يسكنون هذه المناطق خوفاً من بطش الأسبان
الذين أعملوا القتل والتعذيب في كل من خالف ديانتهم أو لم يستجب لدعوتهم.
بعد رحيل الأسبان احتل الأمريكان جزر الفلبين عام 1899 م فساروا على
نهج أسلافهم في صبغ البلاد بالصبغة النصرانية ومواصلة قتال المسلمين
واضطهادهم للحيولة بينهم وبين دينهم، إلا أنهم واجهوا الفشل نفسه الذي واجهه
الأسبان من قبلهم في القضاء على الإسلام، الذي كان قد آوى إلى جزيرة (مينداناو)
وتترس بها، ومضت حقبة الاحتلال الأمريكي، وقررت أمريكا الانسحاب من
جزر الفلبين ومنح الاستقلال لحكومة وطنية من النصارى الكاثوليك، وكان ذلك في
عام 1946م، فقرر قادة وزعماء المسلمين عدم الانضمام لتلك الدولة الوليدة،
وأعلنوا أن بلادهم ليست جزءاً من دولة الفلبين الكاثوليكية وطالبوا باستقلال ما تبقى
من بلادهم، إلا أنه غُض الطرف عن رغبتهم، ولم يُسمع لصوتهم، وساعدت
أمريكا حكومة الاستقلال على ضم بلاد المسلمين إليها عنوة، واعترفت بحدود
الفلبين متضمنة مناطق المسلمين الجنوبية، ووجد المسلمون أنفسهم بين عشية
وضحاها جزءاً مما يعرف اليوم بجمهورية الفلبين.
واقع المسلمين الحالي:
الواقع أن جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم الفلبين منذ الاستقلال وحتى
الحكومة الحالية لم تتبدل نظرتها للمسلمين، فهي النظرة الاستعمارية القديمة نفسها،
ولا عجب في ذلك؛ فتلك الحكومات ما هي إلا صنيعة الاستعمار ووريثته.
وعلى الرغم من أنه يطيب للحكومة الفلبينية أن تردد دوماً أن بلاد المسلمين
جزء لا يتجزأ من دولتها، إلا أنها لا تتعامل بالنظرة نفسها مع سكانها المسلمين
الذين تعتبرهم مواطنين من الدرجة الثالثة، ليس لهم أي حقوق وعليهم كل
الواجبات، ولا تهتم بمناطقهم وأحيائهم السكنية ومدها بأسباب الحياة من مرافق
وخدمات ومشروعات تنموية كالتي توفرها للمناطق النصرانية، وعلى الرغم من
أن المسلمين في الفلبين يشكلون نسبة (10%) من مجموع السكان إلا أن الزائر
للفلبين لا يكاد يشعر بأي تواجد للمسلمين في هذه الدولة، فهم محرومون بشكل عام
من تولي أية مناصب عليا في الحكومة أو الجيش أو الشرطة، وقد أوصدت في
وجوههم أبواب التوظف سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص الذي يُسيطر
عليه النصارى، وحتى التجارة لا يتمكنون من ممارستها بحرية تامة لتضييق
الحكومة الخناق عليهم في هذا المجال، كل ذلك ضمن خطة مدروسة لتجويع
المسلمين وإضعافهم حتى لا تقوم لهم قائمة أو تقوى لهم شوكة فيفرضوا أنفسهم على
المجتمع النصراني المتعصب المحيط بهم، كما أنهم محرومون تماماً من حرية
التعبير، وليست لهم وسائل إعلام تتحدث باسمهم وتبحث قضاياهم، هذا بعد أن
عمدت الدولة إلى تحريف وتزوير تاريخ البلاد الحقيقي، وأهالت التراب على
بطولات القادة المسلمين التاريخيين؛ في محاولة لغمط أي حق يمكن أن يطالب به
المسلمون في بلادهم المغتصبة، كما سخّرت الحكومة وسائل إعلامها لتشويه
الإسلام والنيل من المسلمين بشكل قد لا يجده المرء في كثير من الدول الأخرى التي
تعيش بها أقليات مسلمة، ولم تتوقف المؤامرة عند هذا الحد، بل اعتمدت الحكومة
النصرانية خطة لتذويب المسلمين ومحوهم من الوجود.
وقد تركزت هذه الخطة على محورين رئيسين، وهما:
1- توطين النصارى في بلاد المسلمين: ويعتمد هذا المحور على تهجير
السكان النصارى من شمال ووسط البلاد وحشدهم في جزيرة (مينداناو) بين
المسلمين، بعد الاستيلاء على أراضيهم وتسكين أولئك المستوطنين فيها، وتهدف
الحكومة من وراء اتباع هذه السياسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
أ- رفع الكثافة السكانية للنصارى في المناطق التي يُشكل المسلمون فيها
أغلبية، حتى يصبحوا مع الوقت أقلية لا قيمة لها، وتزول معالمهم وآثارهم من
هذه المناطق.
ب- اختراق المجتمع المسلم ونشر الفساد فيه، حيث إن السواد الأعظم من
أولئك المستوطنين من العناصر الإرهابية ومرتكبي الجرائم التي تشكل خطراً على
المجتمع النصراني نفسه، وبالفعل فإن هؤلاء المستوطنين لا يتوانون عن إشاعة
الإرهاب في مناطق المسلمين وإعمال القتل والاغتصاب والسرقات وتحريق بيوت
المسلمين وقراهم، بهدف إجبارهم على مغادرتها وهجر أراضيهم ومزارعهم -التي
ورثوها عن أجدادهم - وتركها لأولئك المعتدين، وقامت الدولة بتسليح وحماية
هؤلاء المستوطنين بجيشها وميلشياتها، وتقدم لهم جميع التسهيلات اللازمة، وتقوم
بتسجيل الأراضي التي استولوا عليها بأسمائهم.
ج- قطع الترابط والتلاحم بين قرى المسلمين وتجمعاتهم؛ حيث تقوم الحكومة
بتوطين هؤلاء في مستوطنات تختار أماكنها بدقة بحيث تقع في نقاط اتصال هذه
التجمعات بعضها ببعض.
2- العمل على تنصير المسلمين: تلك السياسة التي لم تتخل عنها يوماً أيّ
من الحكومات التي حكمت الفلبين امتداداً لخطة المستعمر القديم، ولتوضيح أبعاد
هذه السياسة يجدر هنا أن نورد ما صرح به القس الفلبيني السابق الذي اعتنق
الإسلام وكان يعمل في مجال التنصير في (مينداناو) و (نجيب رسول) حيث قال
حول هذه القضية: إن الخطوة التي وضعتها الحكومة الفلبينية، ويشرف عليها
الفاتيكان، وتدعمها كل من الكنيسة الإنجليزية والأمريكية، تقضي بتحويل
(مينداناو) إلى منطقة نصرانية أو ذات أغلبية نصرانية بحلول عام 2000م، لذا:
فإن البعثات التنصيرية تعمل في سباق مع الزمن، ووضعت تلك الجهات المذكورة
بين يديها أموالاً طائلة لتحقيق أهدافها في الزمن المحدد له.. [*] وهذا ما يُفسر
النشاط المحموم لتلك البعثات، والحضور البارز للعنصريين والقساوسة والراهبات
الموفدين من الدول الكاثوليكية المختلفة في مناطق المسلمين في (مينداناو) ،
والانتشار الواسع لمشروعاتهم المتعددة في تلك المناطق حتى القرى النائية منها من: مدارس، ودور أيتام، وخدمات طبية.. وغير ذلك، في محاولة للتأثير على
المسلمين وجذبهم بهذه الطرق، هذا بالإضافة للعديد من البرامج الموجهة بالراديو،
التي تغطي مناطق المسلمين الجنوبية بشكل كامل، وتوزيع النشرات والمطبوعات
المترجمة باللغة المحلية، ولقد أثبت الواقع أن المؤامرات التي تحاك ضد مسلمي
الفلبين، وتستهدف دينهم وهويتهم، لم تنجح في زعزعة الإسلام في نفوسهم بعكس
ما حدث في دول أخرى بل يمكن القول: بأنها قد زادتهم حرصاً على دينهم وتمسكاً
بثقافتهم الإسلامية، ويلاحظ المراقبون أن وجه المجتمع المسلم في الفلبين قد تغير
إلى الأفضل، بشكل كبير عن ذي قبل، وبدت آثار الصحوة الإسلامية التي عمّت
العالم الإسلامي وامتدت لتطول المجتمع المسلم الفلبيني، وقد لعب العلماء والدعاة
دوراً كبيراً في نشر الوعي الإسلامي بين المسلمين، وهو الأمر الذي أزعج
الحكومة بشكل كبير، فبدأت بوصف أولئك الدعاة بالتطرف والإرهاب وتبني أفكار
الجماعات الإسلامية المنتشرة في منطقة (الشرق الأوسط) ! ! .
هذا، وكلما يأست الحكومة الفلبينية من تحقيق أهدافها، وعجزت عن تطبيق
برامجها، واصطدمت بصلابة المسلمين في الذود عن دينهم: لجأت إلى أسلوب
الترهيب، وشن الحروب الغاشمة عليهم، وإعمال القتل والتشريد والتدمير بين
صفوفهم، وعملت على إيقاع الفتن بينهم لإشغالهم بأنفسهم والغفلة عن مواجهة
تآمرها.
وقد شهدت الفترة الأخيرة تصاعداً ملحوظاً على صعيد المواجهات بين
المسلمين وقوات الحكومة العسكرية التي فشلت في حسم المواجهة لصالحها والتمكن
من السيطرة الكاملة على المناطق التي ينتشر فيها المجاهدون المسلمون على الرغم
من الفرق الشاسع بين إمكانات واستعدادات الطرفين وهو الأمر الذي أثر على
هيبتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، فلجأت إلى أسلوب المكر والخداع،
وأعلنت عن استعدادها للدخول في مفاوضات مع (الجبهة القومية العلمانية) ،
لتمنحها بموجبها حكماً إداريّاً في المناطق التي فشلت في إحكام السيطرة عليها، التي
ينتشر بها المجاهدون المسلمون، بهدف توكيل الجبهة العلمانية في المواجهة نيابة
عنها، ولتوفر على نفسها الدماء والأموال التي تستنزف خلال المواجهات التي تقع
بين قواتها والمجاهدين.
وبالفعل عقد الطرفان بعض المباحثات، إلا أنهما لم يتوصلا إلى اتفاق بعد،
ولم تتضح النتيجة النهائية لهذه المفاوضات التي ترفضها أغلبية المسلمين ولا
يعلقون عليها أي آمال.
استشراف مستقبلي:
إن قضية مسلمي الفلبين تمر هذه الأيام بمرحلة من أدق مراحلها، حيث تمثل
المرحلة الحالية مفترق الطرق بالنسبة لخط القضية، لذا: يمكن اعتبار أن ما
ستسفر عنه الأيام القادمة سيساهم بشكل كبير في تحديد معالم مستقبل هذه القضية.
ومن خلال المعطيات المتوفرة إلى الآن، يمكننا استشراف التالي:
أولاً: اتفاقية (الحكم الإداري) الذي قد يمنح للجبهة العلمانية لن تحل مشاكل
المسلمين، ولن تحقق آمالهم في نيل حريتهم وتحكيم دينهم والعيش في أمان، بل
الظاهر أن الدولة تستخدم العلمانيين في محاولة لتصفية المجاهدين أو رصد أنشطتهم
وتحركاتهم على الأقل وهو ما فشلت الحكومة في تحقيقه إلى الآن بكامل أجهزتها،
وربما أدت هذه (الصفقة) إلى انقسام في الصف الإسلامي الذي قد ينخدع جانب منه
بالوعود الزائفة.
ثانياً: ستتميز الصفوف وتتبلور المواقف في المرحلة القادمة بشكل أكثر
وضوحاً، وستلتف جموع الشعب المسلم حول الاتجاه الإسلامي إن شاء الله، مما
سيمكن اعتباره استفتاءً حقيقيّاً صادقاً يعبر عن رغبة الشعب وطموحاته، وهو الأمر
الذي ظهرت بوادره من الآن.
ثالثاً: إن لم تنجح التنظيمات الإسلامية المجاهدة في توحيد صفوفها والعمل
في إطار خطة واحدة مشتركة: فلن تتمكن من تحقيق أهدافها التي تسعى إليها كاملة، ولن توفق في سد الثغرات التي ينفذ منها أعداؤها إلى الصف الإسلامي..
رابعاً: ضرورة توعية الشعب المسلم بحجم وطبيعة المؤامرات التي تستهدفه، وتحذيره من الانخداع بالدعاوى الزائفة التي يروج لها أعداؤه على اختلاف
مشاربهم، وهذه المهمة تقع على عاتق العلماء والدعاة الذين يجب عليهم مواصلة
أداء دورهم بهمة عالية وإخلاص ووعي، لأن المرحلة المقبلة تتطلب عملاً دؤوباً
ومدروساً ومنظماً حتى لا يفلت زمام التوجيه من بين أيديهم ويستلمه العلمانيون
والمنحرفون.
وإن المؤشرات والله أعلم لتوحي بأن مسلمي الفلبين الذين دافعوا جيلاً بعد
جيل عن الإسلام في هذه البلاد على مدى سبعة قرون مضت، وقدموا في سبيل
ذلك التضحيات الجسام: لقادرون بعون الله على مواصلة مسيرتهم في الذود عن
حياض الإسلام والدفاع عن هويتهم، إلى أن يمكن الله (تعالى) لهم، ويتحقق حلمهم
في الاستقلال ببلادهم، وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(*) جاء هذا التصريح في لقاء صحفي أجراه معه كاتب المقال ونشر بمجلة الجهاد، العدد رقم (113) بتاريخ سبتمبر 1994م.(91/70)
المسلمون والعالم
الأصولية الغربية
(2)
المنظمات الإنجيلية وصناعة السياسة الخارجية
بقلم: ياسر قارئ
تحدثت الحلقة الماضية عن نشأة ومضمون المذهب البروتستانتي الذي تدين به
الغالبية الحاكمة في أمريكا، وشرحت آثار ذلك على السياسة وصنّاعها، ثم تطرقت
إلى الحديث عن بدايات العمل السياسي النصراني المنظم، وفي هذا الجزء من
البحث سوف أعرض إلى أهم المنظمات الإنجيلية المعاصرة وأهدافها وعوامل
انتشارها ودورها في صناعة السياسة الخارجية.
يقول إدوارد تيفنن في كتابه (اللوبي) : إن إسرائيل قبل أن توجد كدولة
وجدت كلوبي سياسي أولاً في عواصم أوروبا ثم واشنطن، وهذا التعبير يشخص
حقيقة وجود الكيان الصهيوني وسر بقائه وهيمنته على المنطقة، وكذلك يفسر
السياسة الأمريكية المنحازة فيما يتعلق بقضية المسلمين الأولى في فلسطين السليبة،
ولئن كان دور اللوبي اليهودي في توجيه السياسة الخارجية حقيقة ماثلة للعيان، فإن
هناك جهات أخرى أكبر أثراً لما تملكه من إمكانات روحية ومادية وأقل شهرة تعمل
لمصلحة إسرائيل (أرادت أم لم ترد) ليلاً ونهاراً، متخفية تحت عناوين مضللة،
وقد أصاب أوبرين عندما أشار إلى أن لجان العمل السياسي الثلاثة والثلاثين
المعروفة بتأييدها لإسرائيل لا تحمل في مسمياتها ما يشير إلى إسرائيل أو الشرق
الأوسط أو السياسة الخارجية ولو بصورة غير مباشرة منعاً لإثارة التلميحات إلى
المال اليهودي وشراء السياسيين [1] فيا ترى من يقف وراءها؟ وما هي أهدافها؟
إن البحث عن هوية تلك المنظمات يعيدنا إلى المذهب البروتستانتي والفرق
التي تشعبت عنه بسبب التزامها الحرفي بنصوص العهدين القديم والجديد للكتاب
المقدس، والمؤمنة بالعصمة الحرفية لهما، ولتشددها المفرط في مسائل العقيدة
والأخلاق، واقتناعها بأن الكتاب المقدس يحوي توجيهات ونبوءات سياسية تشير
إلى استعادة إسرائيل وعودة المسيح (عليه السلام) إلى الأرض ثانية، ولقد أطلق
على هذه الفرق مصطلح الأصولية [2] . وبالنظر إلى الكنيسة في أمريكا نجد أن
طائفة البروتستانت الأنجلوسكسن البيض التي تعود في جذورها إلى التطهيريين
الأصوليين تمثل الخط العام، وإليها تنتسب النخبة الحاكمة والطبقة الأولى في
المجتمع، وتضم كذلك: صلب التيار الصهيوني النصراني الأصولي [3]
ويشاركهم في هذا الشعور والحماس الديني بضعة ملايين من الكاثوليك ضاربين
بالموقف البابوي الرسمي من إسرائيل عرض الحائط!
ويستعمل زعماء تلك الكنائس سلطانهم الروحي في جمع الأموال وإقامة
الإمبراطوريات الإعلامية والتعليمية الضخمة من أجل الوصول إلى أكبر عدد ممكن
من الجمهور، ولحشد الرأي العام العالمي وليس المحلي فقط لتأييد إسرائيل،
بالإضافة إلى ذلك فقد استفادوا من قوانين تمويل الانتخابات المرنة جدّاً، ليفرضوا
أنفسهم وعقائدهم على البرامج السياسية للمرشحين بالمال تارة، وبإثارة الناخبين
عن طريق وسائل التأثير المختلفة كالرسائل والنشرات، بل والتهديد بغضب الرب
تارة أخرى، حتى غدى الأصوليون النصارى من أبرز المجموعات السياسية في
العقود الأخيرة وبالذات الثمانينات [4] ، بل إن الإحصاءات الرسمية لمركز البحث
للرأي العام في أمريكا لسنة 1988م تشير إلى أن 34% أي ثلث الشعب الأمريكي
ينتمي إلى مجموعات ذات صلة بالكنيسة وأنشطتها [5] .
وبترجمة هذه الدلائل إلى واقع ملموس: نجد أن سبعاً من أصل أكبر عشر
لجان عمل سياسي (لوبي) نشطة في جمع المال تعمل بدوافع عقائدية، وسوف
يستمر هذا النمط حتى يدرك الشعب مكاسب تلك اللجان، فإذا كانت هذه هي دوافع
اللجان السياسية والتي على رأسها الدعم المطلق لإسرائيل: فإننا نوقن أن العقيدة
المهيمنة على السياسة الأمريكية الخارجية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية هي
الأصولية النصرانية، ولمزيد من الإيضاح حول هذا التسلط الديني على النظام
الجمهوري العلماني فإن الإشارة إلى كيفية صناعة القرار داخل أروقة الكونجرس
ضرورة ملحة.
إن اللجان الفرعية التي تحال إليها الاقتراحات للنظر في جدواها تستفتي
أصحاب الخبرة والشأن وتفسح لهم المجال للإدلاء بآرائهم، وتستغل لجان العمل
السياسي هذه المدلولات لتفرض وجهة نظرها الوحيدة والمنفعية عن طريق تزويد
الشهود والإدارة الحكومية ذات العلاقة بالاقتراح بالمعلومات، وفي المقابل: فإن
اللجان تستخدم عملية تمويل الانتخابات لضمان وصول مؤيديها إلى الكونجرس أولاً، ثم إلى اللجان المرتبطة بمصالحهم ثانياً، وفي حالة الأصوليين فإن لجنة الشؤون
الخارجية هي الهدف الذي يسعون إلى الوصول إليه عن طريق مرشحيهم، وبهذه
الطريقة تصبح لجان العمل السياسي تتحكم في المعلومات والشهود والمقررين،
وينشأ عن ذلك ما يعرف في عالم السياسة الأمريكية بالمثلث الحديدي أو الحكومة
الفرعية، من أجل ذلك: فإنه لا يستغرب أبداً الزيادة الهائلة في تبرعات اللجان
السياسية للمرشحين من 34 مليون دولار في سنة 1978م إلى 134 مليون دولار
في سنة 1985م [6] فإذا علمنا أن المحرك لغالبية اللجان السياسية هو العقيدة، وأن
تبرعاتها المالية للمرشحين في ازدياد مضطرد: فإن أهدافها لا تحتاج إلى كثير بيان.
فمن ذلك: ما صرح به أحد الفقهاء السياسيين! بأن الوقت قد حان ليأخذ
الإنجيليون المبادرة ويحددوا مسار الولايات المتحدة، فإن لديهم الموارد المادية التي
يؤثّرون بها على البلاد، فهذا هو العقد الأخير من هذا القرن، وسيكون عقد أمريكا
كما قال الصوت المألوف بيلي جراهام [7] ، وقد حدد هذا المرشد الروحي هدفين
رئيسين يجب على الإنجيليين تحقيقهما: أولاً: وهو قصير المدى، ويتعلق بتغيير
تفكير السياسيين عن طريق الإلمام والإمداد بالمعلومات لتثقيفهم، أما الثاني: فهو
طويل المدى، ويركز على التخلص من السياسيين أنفسهم بناءً على مواقفهم من
قضايانا المسجلة في أرشيف الكونجرس [8] .
ثم إن الأحداث التاريخية القريبة وبالذات احتلال فلسطين ثم القدس زادت من
قناعة الإنجيليين بالإرهاصات السابقة لظهور المسيح مرة أخرى [9] ، بالإضافة
إلى إشعال الحماس في قلوب الملايين من عامة النصارى بمختلف طوائفهم ولم
يطيقوا كتمان تلك العاطفة الجياشة تجاه موطن المسيح (عليه السلام) فأجبروا مجلس
الشيوخ في سنة 1990م على الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية لدولة
إسرائيل، وما المزايدات الأخيرة في مؤتمر (إيباك) إلا دليل جديد يضاف إلى قائمة
طويلة من البراهين على نفوذ الإنجيليين واختراقهم للمؤسسات الوطنية!
ولم يقف الحماس الديني عند هذا، بل تعداه إلى التصاريح الرسمية والعمل
المنظم لإرضاء شعب اليهود؛ ففي سنة 1972م أعلن المؤتمر الأول للمعمدانيين
الجنوبيين (نخبة أمريكا الدينية والسياسية) أن اللاسامية معادية للنصرانية [10] ،
وبعد ذلك بعقد من الزمان وفي مدينة (استوكهولم) بالسويد: تبرأ الاتحاد العالمي
للوثريين من آراء مارتن لوثر التي أصدرها في آخر حياته بعد أن فشل في
تنصيرهم، وقد تابعه في ذلك مؤتمر رؤساء الكنائس اللوثرية الأمريكية وأنكر
المجتمعون صلتهم بالملاحظات المتطرفة للوثر عن اليهود [11] ، وفي بداية عقد
التسعينات: أصدر المجلس القومي لكنائس المسيح في الولايات المتحدة بيانه حول
سياسة الشرق الأوسط، مطالباً فيه جميع الدول العربية بالاعتراف بإسرائيل
وحدودها الآمنة والاتفاق على ضمانات دولية لحماية إسرائيل، وعلى أن يحدد
مستقبل وضع مدينة القدس حسب التركيبة السكانية لا على اعتبار الأماكن
الدينية [12] ، وهذا التنازل الذي يقدمه النصارى عن كنائسهم العتيقة ومولد المسيح يفسر لنا موقف أمريكا من سياسة الاستيطان التي تمارسها إسرائيل والسرعة المذهلة في تغيير هوية السكان في المدينة المقدسة.
بعد كل هذه المقدمة الطويلة الضرورية في نظري عن أسباب ووسائل نشأة
المنظمات الأصولية وأهدافها، أقدم فيما تبقى من هذا الجزء عرضاً لأهم وأخطر
تلك المنظمات وأثرها الفعال على قرارات الكونجرس والحكومة، ويكفي أن يشهد
أحد هؤلاء القائمين على الأنشطة السياسية الأصولية على أهميتها وجدواها، إذ
يقول روبرت دوجان: إنه بعد فشله في الانتخابات البرلمانية عُين مديراً لمكتب
رابطة الإنجيليين الوطنية للشؤون العامة، وبعد فترة في عمله الجديد: أخبره اثنان
من أعضاء الكونجرس بأن تأثيره على الدولة بواسطة مكتبه أكبر من كونه عضواً
في المجلس نفسه، وقد كان يظن دوجان أنهما يواسيانه بذلك إلا أنه أصبح
يشاركهما الرأي تماماً [13] .
لعل من أبرز الشخصيات التي تولت كبر الدعوة إلى دعم ومساندة إسرائيل
القس جيري فولويل زعيم الأغلبية الأخلاقية ورئيس جامعة الحرية التي يدرس بها
حوالي سبعة آلاف طالب اللاهوت من وجهة النظر اليهودية مكرساً بذلك عقيدة
المهاجرين الأوائل ومؤسسي الجمهورية، كما يشرف على جماعة سياسية نشطة
تضم حوالي ستة ملايين عضو، وله برنامج مشهور يذاع أسبوعيّاً من خلال
تسعمئة محطة إذاعية ومرئية، بالإضافة إلى ذلك الانتشار الشعبي: فإن مجموعته
تصدر تقريراً شهريّاً باسمها يرسل إلى الرئيس وأعضاء الكونجرس وحكام الولايات
وكبار الصحفيين ووكالات الأنباء والمحطات، ولقد ساهمت المنظمة في ترجيح كفة
مرشحين كُثُر، من أشهرهم: السناتور الجمهوري جيسي هلمز (وهو متعصب حاقد
يشغل الآن منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ) . ولقد بلغ مجمل
ما أنفقته المنظمة على الدعاية والانتخابات في حملة سنة 1984م مائة مليون دولار
متفوقة بذلك على المرشحين الرئاسيين مجتمعين، ونظراً لما يتمتع به من نفوذ
وشهرة؛ فقد استعان به رئيس وزراء إسرائيل الهالك بيجنلحشد الرأي العام لمصلحة
بلاده بعد ضربها المفاعل النووي العراقي. والذي حمل فولويل على كل هذا: هو
ما صرح به من أن مصلحة أمريكا تقتضي دعم إسرائيل لأنها تمثل رغبة الرب! ،
وهذا يعني فتح المستودعات العسكرية الأمريكية وبنوك المعلومات والمال لها [14] .
ويعاصر فولويل قسيس آخر يصرح بالعداء للإسلام وأهله ألا وهو بات
روبرتسون المرشح الرئاسي السابق ومدير شبكة الإعلام النصرانية الضخمة
والجامعة التي تحمل الاسم نفسه، ويصدر عنهما مجلات ونشرات دورية وبرامج
إذاعية ومرئية تصل إلى الملايين [15] ، ولشدة نفوذه وكذلك تحمس الساسة لأفكاره: كان يشترك في كل اجتماع يعقد في المكتب البيضاوي بخصوص الشرق الأوسط، فيوجه عملية اتخاذ القرار بما يتناسب مع النبوءات التوراتية والإنجيلية [16] ،
وهذا يفسر لنا سبب حثة المشاهدين على الكتابة للرئيس والنواب كي يشجعوا
إسرائيل في غزوها لجنوب لبنان حسب ما تراه ضروريّاً، وقد رافق نائبَ الرئيس
ريجان في رحلته إلى السودان لإبرام صفقة ترحيل يهود الفلاشا [17] ، وقيل: إن
الرئيس الأمريكي نفسه هو الذي طلب منه الانضمام إلى الوفد [18] ، ويبدو أن
القس روبرتسون متفائل جدّاً بمستقبل دعوته وأنشطته حيث يقول في كتابه الأخير
(الألفية الجديدة) بأن الصراع بين الإيمان والعلمانية في أمريكا سوف ينتهي في هذا
العقد (أي الأخير من القرن العشرين) بالنصر للأول، والسبب في هذا التفاؤل
المفرط هو بالإضافة إلى إرهاصات عودة المسيح المذكورة آنفاً: وجود رجل في
المكتب البيضاوي يعلن ولادته ثانية كنصراني مؤمن، ومساهمة الإنجيليين في
إيصال خليفته الذي يشاركهم اعتقادهم إلى المكتب ذاته [19] .
أما ثالث أهم المجموعات السياسية المؤثرة في العلاقات الخارجية: هي
مؤسسة التراث التي أنشأت سنة 1973م للتأثير على الرأي العام والسماح للفكر
اليميني بالانتشار والسيطرة على السياسة العامة للدولة، وبفضل دعمها للمرشح
الرئاسي سنة 1980م تمكن (36) من أعضائها من تبوّؤ مناصب قيادية في إدارة
الرئيس، واختير رئيسها ديفيد فويلنز ليرأس اللجنة الاستشارية لتقويم الدبلوماسية
الأمريكية، وتجاوز دعم المنظمة المحيط الأطلسي ليشمل إنجلترا ودول غرب
أوروبا، والتعاون مع مئتي مؤسسة ومنظمة ومركز أبحاث ومؤسسات إعلامية
لتطوير برنامج عمل دولي لليمين تحت مسمى الاتحاد الديمقراطي العالمي الذي
يضم رؤساء أحزاب سياسية محافظة من ثلاثين دولة، ولقد ردّت رئيسة وزراء
بريطانيا السابقة الجميل للمؤسسة لدعمها لها بأن عينت أحد أعضائها مستشاراً
سياسيّاً لحكومتها، وهو الذي وضع البرنامج الانتخابي لحزب المحافظين في الوقت
الذي تزود المؤسسة جميع مساعدي أعضاء الكونجرس وحوالي أربعة آلاف صحفي
بملخص لجميع الدراسات الصادرة عنها [20] .
هذه النبذة الموجزة عن أهم المنظمات السياسية الأصولية وأنشطتها تجد لها
تصديقاً في الواقع الفردي، إذ تشير الإحصاءات إلى أن حوالي 40% من
الأمريكيين يحضرون إلى الكنيسة أسبوعيّاً مقابل 14% و12% في كل من بريطانيا
وفرنسا، وأن قرابة 70% يؤمنون بالرب واليوم الآخر والبعث [21] ، كذلك: فإن
المعاهد الكنسية قد زاد عدد طلابها من 18 ألف في سنة 1954م إلى حوالي
مليونين سنة 1980م، وزاد عدد المحطات الإذاعية الدينية من 49 محطة
إلى 1400 محطة للفترة نفسها، وقد بلغ الإنفاق الإعلاني للكنيسة 32 مليون دولار، بينما وصلتها تبرعات تجاوزت الستين مليار دولار لسنة 1982م [22] ، ولنا أن نتخيل ما وصلت إليه الكنيسة ومواردها ومؤسساتها بعد عقد من الزمن! كيف وقد اقترب القرن من نهايته وحملت صناديق الاقتراع منذ الرئيس الهالك نيكسون رؤساء يعلنون على الملأ ولادتهم الثانية بكل فخر رغم علمانية الدولة وانتفاء الصلة بين الاثنين نظريّاً لأن الصوت الديني أصبح بازدياد صوتاً إنجيليّا
خالصاً [23] ، ولعل السبب الرئيس في فشل حملة المرشح الرئاسي مايكل ... دوكاكس سنة 1988م هو غياب (كلمة الرب) من قاموسه السياسي ظنّاً منه أنها لا تتصل بالانتخابات [24] .
بالرغم من كل تلك الجهود التي يبذلها الأصوليون النصارى، إلا أننا نجد أن
قطاعاً كبيراً من اليهود غير راض عن سياستهم لدرجة أن أحد الحاخامات ألّف
رسالة ينذر فيها بخطر منظمة الأغلبية الأخلاقية [25] ، كما علق المدير السابق
للمؤتمر اليهودي الأمريكي على اقتراح رئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ والمرشح
الرئاسي للحزب الجمهوري بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بأن المجتمع اليهودي
يشعر بعدم ارتياح كبير إزاء الجمهوريين الذين يفعلون كل ما في وسعهم للتقرب
إلى الطوائف المحافظة والمتشددة [26] .
ومن ناحية أخرى: نجد أن بنجامين فرانكلين وهو أحد رؤساء ومؤسسي
الجمهورية الأمريكية يحذر قومه من اليهود قائلاً: إنهم في كل أرض حلّوا بها
أطاحوا بالمستوى الأخلاقي وأفسدوا التجارة، من أجل ذلك يجب إبعادهم عن البلاد
وبنص الدستور وإلا سيلعنكم [أي: واضعو الدستور] أحفادُكم في قبوركم، لأن
اليهود سيقضون على مؤسسات الدولة بالطرق الملتوية ويسيطرون على الحكومة
في النهاية، وسوف يدمرون شعبنا ويغيرون شكل الحكم الذي فديناه بأرواحنا
وحرياتنا الفردية، وإنه خلال مئة عام سيعمل أبناؤنا في الحقول لإطعام اليهود في
مكاتبهم وبيوتهم المالية وهم يفركون أيديهم مغتبطين [27] .
ثم إذا أضفنا إلى هذا العداء والنفرة بين اليهود والنصارى مواقف التلمود من
قدْح في نسب عيسى (عليه السلام) وتكذيب تعاليمه ونعتها بالهرطقة والوثنية،
واتهام النصارى بالزنا والفواحش والجنس، والنهي عن التعامل معهم أو إفادتهم،
والحض على الاحتيال عليهم وقتلهم، والسعي إلى تحطيم الدين ذاته.. يتضح من
كل ذلك العرض: أن الأصوليين النصارى في الوقت الذي يقومون فيه بدور
الحمير لليهود، إلا أنهم يسعون لأهدافهم الخاصة بهم التي وضعها لهم القس المصلح
مارتن لوثر، وهي بمثابة الأحلام التي يعيشون عليها، فإنهم وإن كانوا يقدمون
خدمة مجانية لإسرائيل إلا أن المحرك الرئيس لهم هو عقيدة العودة الثانية للمسيح
(عليه السلام) ، وقد صرح كبار الساسة بذلك، فلم يبق عليهم إلا تحقيق تلك النبوءة
على الخريطة السياسية للمنطقة.
__________
(1) لي أوبرين: المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطاتها، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص215.
(2) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص10.
(3) السابق، ص53.
(4) John Harrigan, Polities and Policy in States and Communities, 1998, p 110.
(5) Roger Davidson and Walter Oleszek, Congress and Its Members, 1990, p 282.
(6) The Interest Group Society, p 120.
(7) Winning The New Civil War, p 181.
(8) المرجع السابق، ص88.
(9) الصهيونية المسيحية، ص72.
(10) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص53.
(11) الصيهونية المسيحية، ص30.
(12) المنظمات اليهودية الأمريكية، ص271.
(13) Winning The New Civil War, p 27.
(14) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص100-112 بتصرف.
(15) البعد الديني، ص112.
(16) الصهيونية المسيحية، ص146.
(17) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص115.
(18) الصهيونية المسيحية، ص146.
(19) Pat Robertson, The New Millennium P 93.
(20) Garry Wills, Under God, 1990, p 16.
(21) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص69-71 بتصرف.
(22) Under God, p 20.
(23) المرجع السابق، ص61.
(24) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص286.
(25) جريدة الحياة، 12/12/1415هـ.
(26) شيريب سيريدوفتيش: حكومة العالم الخفية، مترجم، ص29.
(27) برانتس: فضح التلمود، ترجمة زهدي الفاتح، 1412هـ.(91/78)
في دائرة الضوء
البث المباشر والهوية الثقافية
أدبيات القضية ومحاولات التفسير
بقلم: د.نبيل السمالوطي
واجه العالم تطوراً علميّاً هائلاً منذ سنة 1971م يتمثل في توظيف الأقمار
الصناعية في خدمة الإرسال التلفزيوني المباشر [1] ، دون حاجة إلى محطات
أرضية.
وأصبح الإرسال يصل إلى المنازل مباشرة دون إمكان تدخل الأجهزة الرقابية
في الدول، وأصبح هذا التطور يمثل إيجابيات وسلبيات تعاني منها الدول دون
إمكان وقف البث أو السيطرة عليه، وقد استخدمت هذه القنوات من جانب دول
الغرب، سواء من خلال قنواتها المباشرة، أو من خلال إنتاجها الذي يمثل
حوالي 50% من الإنتاج الذي تبثه قنوات العالم الثالث في خدمة تسويق قيمهم وأساليب حياتهم وطرق التفكير والعلاقات السائدة في المجتمعات الغربية، هذا إلي جانب تسويق منتجاتهم الاقتصادية [2] ، والسيطرة على عقول أبناء المجتمعات النامية، وتحقيق ما يطلق عليه: الاختراق الإعلامي للدول، الذي هو مدخل لكل الاختراقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ.
أدبيات القضية:
ويشير استعراض التراث أو أدبيات الاتصال إلى تعدد الآراء والمنظومات
والاستنتاجات والتحليلات، ونستطيع إيجاز أهمها فيما يلي:
أولاً: يرتبط البث المباشر وتزايد القنوات الفضائية بالتقدم الضخم الذي تم
إنجازه في مجال تقنية الاتصالات الفضائية، وبخاصة فيما يتصل بتنامي قوة
الأقمار الصناعية وصغر حجم الهوائيات ورخص ثمنها [3] .
ثانياً: يصعب جدّاً إن لم يكن مستحيلاً السيطرة على هذا البث من خلال
التشويش أو الإلغاء، فضلاً عن تكاليف ذلك التي لا تستطيع الدول النامية تحملها.
ثالثاً: هناك من يرى أن الدول الغربية تحاول توظيف البث المباشر لتحقيق
الهيمنة الاتصالية Media Imperialism? وهي أحد أبعاد الهيمنة الثقافية التي
هي بدورها أحد مظاهر أو مداخل الهيمنة الشاملة على الدول النامية، ويشار بشكل
خاص إلى الإنتاج الإعلامي الأمريكي بوصفه هو الإنتاج الأكثر انتشاراً على
مستوى العالم.
رابعاً: بذلت عدة محاولات خلال عقود الستينات والثمانينات لإيجاد حلول
جادة لمشكلات اختلال نظام الاتصال الدولي، ومنها لجنة شون ماكبرايد [4] ، وقد
باءت هذه المحاولات بالفشل، فبقي القوي قويّاً وازداد الضعيف ضعفاً.
خامساً: هناك مواثيق واتفاقيات ومبادئ دولية صادرة في إطار الأمم المتحدة
واليونسكو واتحادات الإذاعات الإقليمية تنظم استخدام الاتصالات الفضائية والتداول
الحر للأخبار والمعلومات والبرامج، لها قوة ملزمة لجميع الدول، وهي في بعض
جوانبها في غير صالح الدول النامية.
سادساً: ساهم موقع الدول العربية الجغرافي في استقبال المشاهدين العديد من
قنوات البث المباشر من آسيا وأوروبا وأمريكا والدول العربية الأخرى دون حاجة
إلى هوائيات إضافية.
سابعاً: يذهب بعض الباحثين إلى رفض التفسير التآمري للبث المباشر،
ويقولون: إن البث نتيجة منطقية وطبيعية للتقدم العلمي والتقني، ولابد من مواجهة
إشكالياته من خلال التخطيط العلمي [5] ، وتخيل التآمر على الإسلام والمسلمين
ليس في تطوير التقنيات ولكن في توظيف البرامج وما يتم بثه خلال القنوات.
ثامناً: ينظر بعض الدارسين إلى البث المباشر بشكل إيجابي على أنه يسهم
في إثراء المعرفة ونشر الثقافات، وتعزيز التفاهم والتقارب والتفاعل بين الشعوب
والثقافات، وتوسيع نطاق التعليم والوعي، واحترام حقوق الإنسان في نشر
المعلومات والأخبار والحصول عليها [3] ، في حين ينظر بعض الدارسين إلى هذا
البث على أنه هيمنة ثقافية وتسلط على عقول العالم الثالث [6] ، أو على أنه إيدز
العصر [7] ، وأنه أخطر تحدي للأمة المسلمة لا يقتصر على الاختراق السياسي بل
يمتد إلى اختراق عقول الأمة [8] ، فالغرب يحاولون تفريغ شباب المسلمين من
إمكاناتهم وقدراتهم وطاقاتهم من خلال المخدرات والجنس، وإهدار القيم والسلوكيات
من خلال البث المباشر، وبعض الباحثين الغربيين (وبستر) يرى أن البث المباشر
يؤدي إلى إشكالية قيمية تتمثل في سيطرة الدول ذات الأنظمة الاتصالية القوية
والمتمرسة على الدول الجديدة الغضة [9] .
تاسعاً: يذهب بعض الباحثين إلى أن الخطورة والإسفاف تتمثل في بعض
القنوات التجارية التي تتجه للتركيز على العنف والإثارة الجنسية والإباحية، مما
يتصادم مع ثقافة الإسلام وثقافة العديد من دول العالم [3] .
عاشراً: إذا كانت غالبية الدارسين الموضوعيين يرفضون التفسير التآمري
للبث المباشر، فإنهم يؤكدون توظيفه من قبل الدول غير الإسلامية وبخاصة الغربية
لهدم القيم الإسلامية لدى المشاهدين المسلمين، وتشارك في هذا قوى صهيونية
ونصرانية واقتصادية.
حادي عشر: على الرغم من اتجاه دول أوروبا إلى التقارب السياسي
والاقتصادي والإعلامي.. إلا أن كل دولة تبذل جهوداً كبيرة للحفاظ على هويتها
الثقافية المتميزة، وتحاول الوقوف في مواجهة الغزو الثقافي القادم مع البث المباشر
من دول أخرى في القارة نفسها أو من خارجها، هذا ما فعلته اليابان حفاظاً على
ثقافتها وفكر وسلوكيات أبنائها [10] ، وهذا ما فعلته فرنسا وكندا اللتان ضاقتا
بالغزو الثقافي الأمريكي في وسائل الاتصال [11] ، وإذا كان ذلك التخوف وتلك
الإجراءات تتخذ من جانب دول ذات قوة اقتصادية وإعلامية، فالحاجة أشد في دولنا
الإسلامية، وبخاصة وأن التأثير في هذه الحالة الأخيرة أحادي الاتجاه في غيبة
التخطيط العلمي لتحديث الاتصالات الإسلامية.
ثاني عشر: تتمثل المشكلة في تعاظم تأثير التلفزيون في حياة البشر في كل
مكان، لدرجة أطلق عليها بعض الدارسين مصطلح الإدمان التلفزيوني، ويقاس هذا
الأثر بعدد ساعات المشاهدة اليومية بالنسبة للأطفال والشباب والنساء والرجال..
إلخ، ففي دراسة أجريت في الولايات المتحدة واليابان والنمسا وكندا: أكدت أن
الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 9-10 سنوات، يشاهدون التلفزيون بمتوسط 3
ساعات يوميّاً [12] ، ويشاهد الأكبر سنّاً عدداً أكبر من الساعات اليومية، وكما
يشير بعض الدارسين: يقضي الطفل أمام التلفزيون وقتاً يماثل أو يزيد عن الوقت
الذي يقضيه في الفصل الدراسي [15] ، وكشفت دراسة ريبيل ومونتويا 1981
التي أجريت على الطلاب بين 12-16 سنة لمعرفة أثر التلفزيون عليهم مقارناً بأثر
المناهج الدراسية عن: أن هؤلاء الطلبة يقضون 6. 3 ساعة يوميّاً في المتوسط
أمام التلفزيون غير ساعات البرامج التعليمية، وأنهم يفضلون محتويات التلفزيون
التجاري على المناهج والبرامج التعليمية، وأنهم يحسون بالملل أمام البرامج
التعليمية، ولا يحدث ذلك بالنسبة للبرامج التجارية [16] .
محاولات التفسير:
تعددت الآراء والرؤى حول قضية البث المباشر وانتشار البرامج والأفلام
والمسلسلات الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص داخل الدول النامية والدول
الإسلامية، سواء من خلال القنوات الفضائية الأجنبية، أو من خلال القنوات
الوطنية، ولا يقتصر الأمر على انتشار هذه البرامج والمسلسلات والأفلام، وإنما
هناك مصادر صناعة الأخبار وصياغة الأنباء وعرض المعلومات وصناعة
الإعلانات.. إلخ، كل هذه المكونات الاتصالية المؤثرة في صياغة فكر الناس
وقيمهم وتفضيلاتهم وأحكامهم وطموحاتهم وسلوكياتهم ومواقفهم.. كل هذه المكونات
يتم صناعتها وصياغتها في بيوت الخبرة الغربية ومن خلال أحدث التقنيات العالمية
التي تمتلك ناصيتها دول الغرب بعامة، والولايات المتحدة بشكل خاص [9] .
وقد انصبت الآراء والنظريات والأفكار المطروحة حول تأثير هذه البرامج
الغربية واسعة الانتشار على الهوية الثقافية للدول المستقبلة لهذه البرامج، وعلى
مستقبلها الاقتصادي والثقافي والسياسي، وعلى نوعية الاتجاهات والقيم والسلوكيات
والأفكار التي يمكن أن يتبناها الأطفال والشباب في تلك الدول نتيجة لتعرضهم
ساعات طويلة يوميّاً لمشاهدة هذه المواد الاتصالية المصاغة في الغرب، التي
تستهدف ليس فقط ترويج البضاعة والسلع الغربية ومنها السلع الثقافية بما فيها
البرامج والأفلام والمسلسلات والتقنية الاتصالية، وإنما أيضاً تسويق القيم
والاتجاهات والسلوكيات والأخلاقيات الغربية، خاصة الأمريكية. ولم يقتصر
الحوار والجدل والاهتمام بهذه القضايا التي تمس الهوية الاقتصادية والثقافية
والسياسية والفكرية والدينية والوطنية على مثقفي الدول النامية ومنها الدول
الإسلامية والعربية، وإنما دار هذا الحوار والاهتمام أيضاً بين مثقفي الدول
الصناعية الكبرى سواء في الغرب مثل فرنسا وكندا أو خارج الغرب مثل
اليابان [11] .
وكما يشير وبستر فإن البرامج والمادة التلفزيونية تعكس بالضرورة قيم البلاد
التي تنتجها، وحتى عندما لا تكون لهذه البرامج سمات سياسية، فإنها لا تخلو من
قيم اقتصادية أو ثقافية أو دينية أو أخلاقية، ولكل أمة هويتها الثقافية والقيمية، وقد
تتصادم هذه القيم المحملة في برامج الإعلام والاتصال الوافدة مع القيم والهوية
الثقافية للدول المستوردة أو المستقبلة [9] .
وقد طرح على ساحة أدبيات الاتصال العديد من التفسيرات والنظريات لتفسير
ظاهرة سيطرة الغرب بشكل عام وأمريكا بشكل خاص على المادة التلفزيونية،
سواء في شكل أخبار أو معلومات أو إعلانات أو مسلسلات أو أفلام أو برامج
متنوعة..
- اتجاهان لتفسير الظاهرة:
الاتجاه الأول وهو:
الاتجاه الذي يركز على نظرية التبعية Dependency Theory
الاتجاه الثاني وهو:
الاتجاه الذي يركز على نظرية الانتشار Diffusion Theory
أ -الاتجاه الأول لتفسير الظاهرة:
والاتجاه الأول يعود إلى عدة رواد مثل فرانك [13] ، ومن أنصاره المحدثين: ولرشتاين في دراسته عن (النسق العالمي الجديد) [14] .
وتقوم نظرية التبعية بأشكالها المختلفة على تقسيم العالم إلى مراكز وأطراف،
فالقوى والدول الصناعية الكبرى هي المراكز، تتخذ من الدول الفقيرة والنامية
(الأطراف) ميداناً لزيادة ثرائها، وهذا يعني استغلال المراكز للأطراف اقتصاديّاً
وسياسيّاً واجتماعيّاً، وتهيمن دول المركز على الأطراف لإلغاء هويتها، ومن
مظاهر هذه الهيمنة أو السيطرة: الهيمنة الاقتصادية والسياسية والاتصالية أو
الإعلامية، وهنا تصبح الهيمنة الاتصالية أحد أشكال الهيمنة الشاملة، وهي أخطر
هذه الأشكال لأنها تمهد السبيل لكل الأشكال الأخرى من الهيمنة، ولأنها تستهدف
عقول الناس وقيمهم وشخصياتهم، تماماً كما تستهدف ثرواتهم وسياساتهم.
فدول المركز تستهدف في نظر أصحاب نظرية التبعية إلغاء الهوية الثقافية
للدول الطرفية، وتشكيل ثقافة عالمية متجانسة هي الثقافة الاستهلاكية التحررية،
وتوظيف إمكانات الدول الطرفية في خدمة الرأسمالية العالمية، وهذا يعني تحويل
هذه الدول إلى سوق يتم فيه تسويق:
1- المنتجات الثقافية الغربية (القيم والعادات، والسلوكيات، والتفضيلات،
وأساليب الفهم والفكر، والتحليل والتفسير، ورؤية العالم) .
2- المنتجات الاقتصادية الغربية.
3- الانتماء الفكري للغرب بكل نظمه وأيديولوجياته ومبادئه.
وقد أفاض كل من فيجيس وشيلر ونورد نسترونج وفارس وأرجيومندو في
عرض هذا الاتجاه [15] .
وهذا يعني أن الهيمنة الثقافية من خلال وسائل الاتصال تدعم حالة عدم
التوازن وعدم العدالة والانقسام الدولي الراهن إلى دول مركز مسيطرة، ودول تابعة
خاضعة مستنزفة ومستغلة لصالح دول المركز.
والواقع أن السيطرة على المعلومات وعلى التكنولوجيا وعلى البرامج في
مجال الاتصالات، تؤدي إلى تزايد القدرة على السيطرة على أذواق الناس وفكرهم
وسلوكهم الاستهلاكي، والتكنولوجيا المتقدمة تعني مزيداً من القدرة على الوصول
بالرسائل إلى دول أكثر وجمهور أكبر، وبشكل أكثر إغراءً وجاذبية، وبالتالي:
تعني فتح أسواق أوسع أمام القيم وأمام السلع الغربية في آنٍ واحد، وكل هذا يعني
مزيداً من السيطرة الاقتصادية والفكرية والثقافية [1] ، فالغرب هو الذي يسيطر
على الأجهزة والمعدات المتصلة بالاتصالات، وهو المسيطر على صناعة الرسائل
والمواد الاتصالية، وهو الذي يسيطر على صناعة الأخبار وصياغة الأنباء
وتوظيف الأخبار بما يخدم أهدافهم، فأهم وكالات الأنباء المسيطرة على توزيع
الأخبار على تلفزيونات وصحافة العالم هي الوكالات الغربية (الأسوشيتدبرس) ،
و (اليونيتيدبرس) ، و (رويتر) ، ووكالة الصحافة الفرنسية، وكذلك وكالات الأنباء
التلفزيونية المصورة في أنحاء العالم المختلفة [1] .
وأغلب الدول النامية لديها قناتان تلفزيونيتان، تبث خلالهما ساعات إرسال
طويلة على مدى النهار والليل، بينما لا تملك برامج ومواد وطنية تغطي أكثر من
عشر ساعات على الأكثر، ولهذا تضطر للاعتماد على استيراد المواد الاتصالية
وغالبيتها من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد وجد أن أكثر من نصف البرامج
المستوردة التي تبثها الدول الآسيوية هي برامج أمريكية، و25% من البرامج
الإنجليزية، وأغلب دول أمريكا اللاتينية تستورد 50% من البرامج التي تبثها،
وتصل النسبة في بعض الدول أكثر من ذلك، فهي في (أورجواي) 62% وفي
(جواتيمالا) 48% وأغلب هذه البرامج تستورد من الولايات المتحدة الأمريكية،
ويقدر مجموع مبيعات المواد الاتصالية (برامج ومسلسلات وأفلام سينمائية) في
أمريكا سنة 1985 إلى ما يقرب من 290 مليون دولار [1] .
كل هذا يشير إلى الهيمنة الثقافية والاتصالية، وإلى تبعية دول العالم الثالث
أو النامي للدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، ومع تقدم تقنية القنوات
الفضائية: يكون العالم الثالث قد سلّم آخر ما لديه من أسلحة لمقاومة الغزو الفكري، وهو سلاح التحكم أو السيطرة النسبية أو الرقابة، التي ما يزال يستخدمها بقدرٍ ما
من الفاعلية إزاء المطبوعات وإزاء المادة التلفزيونية المستوردة [15] .
كل هذا يثير قضية الهوية الدينية والثقافية والقيمية والوطنية، كما يثير قضية
السلوك الاستهلاكي والتنمية الاقتصادية، ويثير أيضاً قضية السيطرة السياسية
والتنشئة الاجتماعية والسياسية والدينية، ويثير قضية اختراق العقل الوطني، أو
تغريب عقول أبناء الدول النامية.. إلخ داخل الدول التي يطلق عليها الأطراف،
الأمر الذي يتطلب حلولاً فعالة لمواجهة هذه الأزمة، على أن تتسم هذه الحلول
بالحكمة والتخطيط والتعقل، هذا عن الاتجاه الأول، وهو اتجاه نظرية التبعية التي
تتحدث عن الهيمنة الثقافية، التي يعرفها شيلر بأنها: جهود واعية ومنظمة تقوم بها
الاحتكارات الأمريكية في المجالين العسكري والاتصالي للحفاظ على تقدمها،
وبالتالي: على نفوذها في المجالات المختلفة [15] .
ويؤكد شيلر أن هذه الجهود تنبثق عن وزارة الدفاع الأمريكية التي تسهم في
وضع السياسة الأمريكية في مجال الاتصالات، وهذا هو الشكل المباشر للجهود،
كذلك تنبثق عن الشركات الأمريكية الخاصة (RCA-NBA) وهي من أكبر
الشركات المرتبطة بعقود مع الوزارة المذكورة [15] ، وإذا كانت وسائل الاتصال
الأمريكية مرتبطة بالسياسات الاقتصادية والخارجية والدفاعية الأمريكية، فإن هذا
يعني أنها أداة من أدوات الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الأمريكية
على العالم من جهة، وأداة من أدوات استمرار التخلف والتبعية الشاملة للدول
النامية استمراراً للمصالح الغربية والأمريكية من جهة أخرى [15] .
ب - الاتجاه الثاني لتفسير الظاهرة:
وهو تفسير أنصار نظريات الانتشار والتحديث الثقافي [16] ، ويرى أنصار
هذا الاتجاه وجوب عدم إطلاق أحكام فضفاضة مثل (الهيمنة الثقافية) أو (الاستعمار
الاتصالي) ، فهذه أحكام لا أساس لها من الصحة، فانتشار وسائل الإعلام الغربي
والمواد الاتصالية الغربية داخل الدول النامية، سواء من خلال محطات التلفزة
الوطنية أو الأقمار الصناعية: لا يشير إلى أي شكل من الهيمنة أو الاستعمار أو
السيطرة، ولكنها عملية احتكاك ثقافي ضروري من أجل التنمية والانتقال من حالة
التخلف إلى حالة التنمية، وهم يفسرون قضية انتشار الإنتاج الغربي في ضوء
مفاهيم تجارية اقتصادية وهي رغبة الدول الغربية في تحقيق أرباح، كما أنهم
يفسرونها في ضوء حاجات الدول النامية إلى الأخذ بالنظم السائدة في الدول المتقدمة
اقتصاديّاً للانتقال من مرحلة إلى مرحلة حتى تصل إلى المستوى نفسه للدول
الغربية المتقدمة اقتصاديّاً، وإلى جانب هذا: فإن أنصار نظرية الانتشار يميلون
إلى تفسير انتشار المواد والإنتاج الاتصالي الغربي في ضوء طبيعة المنتجات
الغربية (المعلومات، الأخبار، البرامج، الأفلام، الإعلانات، المسلسلات..) من
حيث الجاذبية والتقنية العالية وانخفاض السعر.. إلخ [16] .
ويؤكد أنصار نظرية الانتشار على خطأ إهمال أنصار نظرية التبعية للعوامل
التي تؤثر في حركة انسياب المواد الاتصالية بين الدول المتقدمة والدول النامية،
كما أنهم يخطئون عندما يتجاهلون علاقة التأثير والتأثر المتبادلة في هذا المجال
وذلك نتيجة لتركيزهم على آحادية اتجاه حركة المواد الاتصالية.
وهم يخطئون ثالثا عندما يتجاهلون الآثار الإيجابية للمواد الاتصالية الغربية
داخل الدول النامية.
جوانب الاختلاف بين الاتجاهين:
ويمكن إبراز أهم جوانب الاختلاف بين أنصار نظرية التبعية، وأنصار
نظرية الانتشار والتحديث في ظاهرة عدم التوازن في مجال الاتصال والإعلام
والغزو الثقافي فيما يلي:
أولاً: منطلقات الدراسة: فأنصار الانتشار ينطلقون من عملية التنمية الوطنية
لنظم الاتصال، ومن الدور الذي تلعبه القيم والمعايير الاجتماعية في تنمية هذه
النظم، أما أنصار نظرية التبعية فينطلقون في تحليل ظاهرة الهيمنة الاتصالية من
تحليل علاقات القوى الدولية وتصنيف الدول إلى تابعة أو هامشية، ودول مركز.
ثانياً: النظر إلى حالة التبعية: أنصار نظرية الانتشار ينظرون إليها على
أنها حالة مؤقتة، يمكن زوالها من خلال استيعاب التقنيات والعلوم الغربية
وتطويرها وتوظيفها في خدمة التنمية الوطنية الشاملة، ومن خلال تنمية القدرة على
استنبات آليات وتقنيات وطنية، أما أنصار نظرية التبعية فينظرون إلى الهيمنة
الاتصالية على أنها حالة دائمة ترتبط بسيادة الرأسمالية والنظم العالمية الحالية
(الليبرالية) .
ثالثاً: النظرة إلى الدور الذي يلعبه النظام الاتصالي: فأنصار نظرية التبعية
يرون أن هذا النظام يكرس قوة القوي، وضعف الضعيف وإبقاء (عدم التوازن)
على ما هو عليه، أما أنصار نظرية الانتشار فينظرون إلى النظم الاتصالية على
أنها وسائل تخدم عملية التنمية الوطنية وتنمي حوافز الإنجاز والإنتاج وتسهم في
التنمية البشرية بشكل عام، فالتعرض للمواد الاتصالية التي أفرزتها الدول المتقدمة
صناعيّاً تستثير الدافعية للإنجاز عند أبناء الدول النامية، وتزيد طموحاتهم،
وتطلعهم على أنماط ثقافية جديدة ومعلومات جديدة تفيدهم في النمو.
رابعاً: يسعى أنصار نظرية الانتشار إلى الحفاظ على الوضع العالمي على ما
هو عليه، مع إجراء بعض التعديلات الوظيفية أو غير الجوهرية عليه، أما أنصار
نظرية التبعية فيذهبون إلى ضرورة تغيير النظام العالمي القائم على الرأسمالية
وانعدام التوازن والهيمنة الغربية الشاملة على مقدرات العالم، وهذا يعني إحداث
تغييرات بنائية في النظم الداخلية والدولية على كل المستويات.
خامساً: يرى أنصار نظرية الانتشار أن التغيير يبدأ من الداخل وبجهود
وطنية، وتتسع لتصبح جهوداً إقليمية، وتركز هذه الجهود على التنمية وإزالة
الحاجة إلى دول الغرب، وهم يرون أن مطالبة العالم الغربي بالتخلي عن مصالحه
وإلغاء النظم الرأسمالية، مطلب مستحيل وغير قابل للتحقق، وهذا ما توصلت إليه
لجنة ماكبرايد (رئيس اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الاتصال في العالم) [4] .
هذه هي أهم التوجهات النظرية بشأن تفسير ظاهرة السيطرة أو الهيمنة
الثقافية والإعلامية.
تقويم الاتجاهين إسلاميّاً:
وعند محاولة تقويم هذين الاتجاهين فإن النظرة الإسلامية الموضوعية
والمتوازنة ترفض الأساس أو المنطلقات الراديكالية التي تقف وراء نظرية التبعية،
كما ترفض المنطلقات الليبرالية والمصالح الغربية التي تقف وراء نظرية الانتشار
والتحديث الحضاري، فهناك النموذج والمشروع الحضاري الإسلامي بمنطلقاته
وأسسه وثوابته المستمدة من المنهج الإلهي المبني على وحي السماء، غير أن هذا
الرفض لا يعني الاتفاق مع هاتين النظريتين في بعض الأمور، وفيما يلي بعض
الملحوظات العامة بصدد الظاهرة المدروسة:
أولاً: يكشف الواقع عن ظاهرة التسلط الثقافي الغربي على أجهزة التلفاز
الوطنية والقنوات الفضائية التابعة للدول النامية والمتقدمة صناعيّاً في الوقت نفسه.
ثانياً: أن هذه السيطرة أمر مهدد للهوية الثقافية للدول النامية، ومن بينها
الدول الإسلامية والعربية.
ثالثاً: هناك العديد من المخاطر التي تهدد الدول المستقبلة للبرامج الغربية
للاتصالات، منها مخاطر اقتصادية وسياسية ودينية وثقافية، ومخاطر تتهدد برامج
التنمية داخلها، ولعل أكبر هذه المخاطر هي المخاطر الدينية والثقافية والتربوية
لأنها تؤدي إلى محاولة تغريب العقل العربي وعقول الناس في الدول الإسلامية،
الأمر الذي يفصلهم عن مصدر قوتهم وسموهم ورفعتهم وهو الإسلام وأسس
الشخصية الإسلامية.
رابعاً: توظف الدول الغربية المتقدمة صناعيّاً هذه البرامج بشكل مدروس
لضرب الفكر الإسلامي والشخصية الإسلامية، حفاظاً على الاحتكارات والمصالح
الغربية.
خامساً: لا شك أن العوامل الداخلية التي تحدث عنها أنصار نظرية الانتشار
لها أهميتها الكبرى في تفسير هذه الظاهرة، ولا شك أيضاً أن البث المباشر له
بعض إيجابياته المتصلة بالتفاهم بين الشعوب والاحتكاك الثقافي ونشر المعلومات
ونشر العلوم والتقنية.. لكن سلبيات هذه الظاهرة (سيطرة الغرب على الاتصالات)
تفوق بكثير هذه الإيجابيات، ومن هنا يثار التساؤل حول مدى إمكان الإبقاء على
الإيجابيات والتخطيط لتجنب السلبيات الخطيرة التي تحدثها هذه الظاهرة، أو بقول
آخر: ما الحل أو الحلول المدروسة المخططة التي يجب أن تتبناها الدول الإسلامية
والعربية للقضاء على سلبيات هذه الظاهرة؟ هذا ما يحتاج لدراسات أخرى قادمة
إن شاء الله تعالى.
__________
(1) كرم شلبي: البث المباشر بالأقمار الصناعية، مجلة الدراسات الدبلوماسية العدد (5) ص135، 136، 137.
(2) عبد القادر ياسين: أجهزة الإعلام والغزو الثقافي، جريدة الرأي الأردنية العدد 6717.
(3) تقرير وتوصيات ندوة الإعلام العربي والبث المباشر، المجلة العربية للثقافة 1990م، ص180، 182.
(4) ماكبرايد وآخرون: أصوات متعددة وعالم واحد، ص303.
(5) زين العابدين الركابي: حديث منشور بمجلة (الحرس الوطني) ديسمبر 1991م.
(6) عواطف عبد الرحمن: قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث.
(7) مجدي الواعد: تحقيق عن إيدز العصر، البث المباشر: مجلة (منار الإسلام) إبريل 1994م، ص66.
(8) عبد الصبور مرزوق: بحث حول التحديات الفكرية، مجلة منار الإسلام، إبريل 1990م، ص6.
(9) وبستر: أضواء على عصر الأقمار الصناعية، ترجمة فؤاد صندوق، مجلة الإذاعات العربية، العدد (5) ص39، 42، 49.
(10) محمد عبده يماني: التلفزيون العالمي هل يؤدي إلى نمو الجريمة في العالم الإسلامي، مجلة الأمن والحياة العدد (104) .
(11) عبد الرحمن عسيري: البث المباشر، التحدي الجديد، ص12.
(12) شعبان أبو اليزيد شمسي: ضرورة الإعلام التربوي في ظل المتغيرات الاتصالية الحديثة، ص47، 15، 16.
(13) أندرجانز فرانك: تراكمية التبعية.
(14) والرشتاين: النسق العالمي الجديد.
(15) محمد نجيب الصرايرة: الهيمنة الاتصالية ص130- 135.
(16) التنمية والتحديث الحضاري للكاتب.(91/88)
حوار
مع فضيلة الشيخ محمد هاشم الهدية
حول شؤون الدعوة والدعاة
التحرير
الشيخ محمد هاشم الهدية (رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان)
علم من أعلام الدعوة المبرزين، له سابقة خير وبركة، أسهم مع إخوانه في أنصار
السنة إسهاماً فاعلاً في نشر العقيدة السلفية في السودان.
تجلس معه فتستأنس بحديثه وبهدوئه ورزانته، له تجربة دعوية طويلة متعددة
المجالات. ويسر مجلة البيان أن تجري مع فضيلته هذا الحوار.
شاكرين له تجاوبه معنا..
- البيان -
للدعوة السلفية في السودان عمر طويل مبارك (ولله الحمد) ، فما أبرز
المراحل التي مرت بها هذه الدعوة من وجهة نظركم؟
* بدأت الدعوة بجهود فردية، ثم جماعة صغيرة تركز على الحلقات العلمية،
وتدعو للتوحيد ونبذ الشرك، ولم يكن لها تنظيم محدد ولا رئيس، ثم انتقلت إلى
جماعة منظمة لها رئيس وتنظيم، لكن كان عملها مقتصراً على العاصمة، وكانت
هناك مجموعات أخرى داخل السودان على منهج الدعوة نفسه، ثم انصهرت هذه
المجموعات كلها على مستوى السودان تحت مظلة جماعة أنصار السنة المحمدية،
وأصبح لها تنظيم ورئيس ومركز عام يشرف على إدارة الدعوة، ثم تلتها مراحل
أخرى أبرزها دخول الجماعة في العمل العام؛ كالدعوة إلى تطبيق الدستور
الإسلامي، وتلا ذلك: دخول الجماعة المؤسسات التعليمية والجامعات والدعوة من
خلال المؤسسات الإعلامية المختلفة كالإذاعة والتلفاز وغيرهما، وأخيراً: تولي
ولايات عامة في الدولة بهدف تمكين الدين وإصلاح حال البلاد والعباد، وباختصار
بحمد الله بعد أن كانت الدعوة ضعيفة ومحاربة أصبحت اليوم رائدة وملء السمع
والبصر.
يعد السودان أحد معاقل الحركات الصوفية بطرقها المختلفة، فهل واجهت
الدعوة السلفية عقبات من شيوخ هذه الطرق وعامتهم؟ وكيف تعاملكم معهم؟
* نعم واجهت الدعوة عقبات متعددة وبعضها أكبر من بعض، مثل: السب،
والشتم، والتكفير، والضرب، وقد بلغ هذا العداء أشده حينما كان للصوفية نفوذ
واسع في بعض الحكومات السابقة، حيث استغلوا هذا النفوذ في: سجن مشايخ
الدعوة، وهدم بعض مساجدها، والتضييق عليها حتى لا يتمكن دعاتها من نشر
الدعوة في الأماكن العامة ومجامع الناس، ولكن بتوفيق من الله وفضله أمكن دفع
كل ذلك بشيء من الصبر والعفو والصفح، قال (تعالى) : [خُذِ العَفْوَ وَاًمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] [الأعراف: 199] ، وهذا الابتلاء هو سنة الله (تعالى)
مع الرسل والدعاة، كما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية حين وشى به أهل البدع لدى
ولاة الأمر، وسجن وعذب ومات بالسجن، ولكن دعوته ملأت الآفاق وانتشرت،
وعلا صوتها.
انتشرت الدعوة الإسلامية في مختلف المجالات والآفاق، وأصبحت حدثاً
بارزاً من الأحداث العالمية المعاصرة، فأين يضع فضيلتكم الدعوة السلفية داخل
الصحوة؟ ، وما تقويمكم لمسارها؟
* الدعوة السلفية هي رائدة الصحوة الإسلامية؛ لكونها تبرز الإسلام بمنهجه
الصحيح المتكامل الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقد
قامت بفضل الله (تعالى) ببيان التوحيد واعتقاد السلف الصالح، وتنقية العبادة مما
علق بها من البدع، وتزكية النفوس، وإيضاح الطريقة المثلى لتمكين الدين في
الأرض، قال (تعالى) : [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
بعد تصحيح العقيدة، ما أولويات العمل الدعوي في واقعنا الحاضر من وجهة
نظركم؟ .
* أولويات الدعوة وضحها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث معاذ بن
جبل (رضي الله عنه) حين بعثه إلى اليمن، بأن يدعوهم إلى العقيدة الصحيحة ثم
إقامة شعائر وشرائع الإسلام، والاعتناء بأمر العقيدة يكون مستمرّاً في كل مراحل
الدعوة، كما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته كان يحذر من
اتخاذ القبور مساجد حسماً لمادة الشرك، قال (تعالى) : [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] [الأنعام: 162] والعمل على إيجاد الفرد المسلم
والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، ثم مراقبة هذا المجتمع؛ حتى لا ينحرف عن
العقيدة السليمة، ونشر الوعي الإسلامي الذي يعصم المجتمع من الانحراف بعون
الله.
الاختلاف والتنابذ من الأمراض المنتشرة بين صفوف بعض الدعاة، ويكون
أحياناً بسبب، وأحياناً أخرى بدون سبب، فما أبرز الأسباب؟ وكيف ترون
علاجها؟
* بيّن شيخ الإسلام (رحمة الله عليه) في تفسير قوله (تعالى) : [وَحَمَلَهَا
الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] [الأحزاب: 72] أن سبب الاختلاف والتفرق هو
الظلم واتباع الهوى والجهل، وأعتقد أن أعظم أسباب ذلك الخلاف: الجهل بفقه
الخلاف وفقه الدعوة، وعدم مراعاة أحوال المدعويين، وكذلك: حب الذات،
والأنانية، والغرور، وعدم الشورى والتطاوع، والإصغاء للشائعات ولمروجي
الفتن بدون تثبت وتروّ.
وعلاج ذلك: بإخلاص العمل لله، وتعلم وتعليم الفقه في الدين وحكم الإسلام
في المسائل الخلافية، كل ذلك مع الصبر والعفو والرفق؛ قال (تعالى) : [ادْعُ إلَى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] .
العلم الشرعي ركيزة رئيسة من ركائز الدعوة، فهل ترون أن الصحوة
الإسلامية المعاصرة أخذت منه بنصيب جيد؟ وما الوسائل المناسبة فيما ترون
لتنمية القدرات العلمية لدى أبناء الصحوة ودعاتها؟ .
* لا شك أن العلم الشرعي أساس في استقامة الأعمال الدنيوية والأخروية،
ولا يستفيد من هذا العلم إلا من فَقِهَ وعمل وفق هذا الفقه وهو حقيقة العلم وكيف
يطبق في المجتمع، فإن كثيراً من حملة هذا العلم لا يكادون يهتدون إلى معرفة
كيفية تطبيقه في واقع المجتمع الذي يعيشون فيه، فإن سلف الأمة فقهوا وطبقوا
وعمروا الأرض، وتركوا لنا تراثاً علميّاً ممتازاً أهمه وأعظمه: الموازنات
الشرعية، فقد بسّطها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم تبسيطاً جعلها سهلة
التناول، ثم التدرج في معالجة المشكلات التي تتجدد من جيل إلى جيل.
تواجه الأمة الإسلامية هجمة شرسة متعددة المشارب من الاتجاهات العلمانية
المختلفة، فما هو دور العلماء والدعاة والحركات الإسلامية إزاء ذلك؟ وكيف
تواجه هذه الهجمة؟
* العلمانية نشأت أساساً في أوروبا منذ عهد طغيان الكنيسة وفكرها المنحرف
وعقائدها الخرافية، وتبرماً من هذا نشأت العلمانية، وهي فصل الدين عن الحياة،
أي: عدم التحاكم إليه في أي شأن من شؤون الحياة، ثم انتشرت إلى بقية أنحاء
العالم، ولا يوجد ما يبرر وجود العلمانية في عالمنا الإسلامي، إذ إن الإسلام منهج
متكامل للحياة، ولا يوجد نقص في أي جانب من جوانبه يحتاج منا لتعديل أو
إضافة، إذ هو منهج الله وحكمه [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ]
[المائدة: 50] ، ودور العلماء والدعاة هو تعليم الناس العقيدة الصحيحة التي تكون صماماً لمنع انتشار الأفكار الضالة، وتعليمهم الدين القيم وتنقيته مما علق به من شوائب وخرافات، مع بيان مثالب العلمانية ومنافاتها للدين، أما الدعوات الإسلامية المنظمة فيرجى منها إضافة لما سبق إقامة المجتمعات المسلمة المثالية، حتى تكون واقعاً علميّاً يحتذى به، ومنهجية كل ذلك بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والقدوة الطيبة، وإقامة المجتمع الإسلامي الذي يفهم واقعه ويتعامل معه تعاملاً شرعيّاً، مع تعلم العلوم الدنيوية حتى تقوى الأمة الإسلامية بنفسها وتستغني عن دنيا غيرها من الأمم فضلاً عن دينها، ومن باب إعداد القوة.
يعد السودان البوابة العربية للوصول إلى القارة الإفريقية، فكيف تقومون
النشاط الدعوى بعامة والسلفي بخاصة في هذه القارة؟
* صحيح، السودان هو البوابة العربية للوصول إلى عمق القارة الإفريقية،
والسلفية دخلت السودان عن طريق شيخ إفريقي قدم من موريتانيا سنة 1917م،
وقد قمنا بحمد الله بالمساهمة في إنشاء المركز الإسلامي الإفريقي في الخرطوم،
وسافرنا لشرق إفريقيا وأحضرنا الطلاب، وقد ساهمت مدارس ومعاهد الجماعة في
شرق السودان في تعليم إخواننا الإرتريين العقيدة الصحيحة، ولنا الآن معهد
متخصص في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، طلابه من مختلف الدول
الإفريقية، ولنا مبعوثون يساهمون في نشر الإسلام وتعليم العقيدة الصحيحة ضمن
جهود الجمعيات الخيرية، وتقويمنا هو: أن هذا النشاط الناشيء ما يزال في طور
البداية إذا قورن بعمل الجمعيات التنصيرية والرافضة والبهائية، مما يتطلب تضافر
جهود جمعيات الدعوة والتنسيق بينها للحفاظ على وحدة المسلمين ولمزاحمة
الجمعيات التنصيرية وغيرها، وتقليل شرها.
الأصولية، التطرف، الإرهاب، مصطلحات إعلامية كثر تداولها وانتشارها
في الآونة الأخيرة عند الحديث عن الصحوة، فما هو تقويمكم لهذه المظاهر؟
وكيف ترون التعامل مع وسائل الإعلام العالمية؟ .
* هذه المصطلحات روجها أعداء الإسلام لتشويه صورة الإسلام لدى الناس
وصدهم عنه، خاصة وأن الإسلام أصبح يهدد كيان أعدائه، وللأسف فإن بعض
من ينتسبون إلى الإسلام صاروا أبواقاً تردد هذه المصطلحات الجائرة، محاولين
صد الشباب عن الإسلام وإيقاف عودة وانتشار الإسلام من جديد، وساهم في هذا
أيضاً بعض شباب الصحوة الذين لم يستطيعوا الصبر على الأذى والتعامل معه
بضوابط الشرع، حيث قاموا ببعض الأعمال لتغيير أوضاعهم بالعنف، وحُسب كل
ذلك مع الأسف على الإسلام.
والواجب على علماء الإسلام والدول الإسلامية مقاومة هذه الهجمة الإعلامية
العالمية بالوقوف ضدها ومقاطعة وسائل الإعلام التي تبث هذه الحملات وإيجاد
إعلام إسلامي مضاد للإعلام المُعادي وموجه للصحوة الإسلامية وشبابها بالمنهج
الإسلامي السليم.
العجز والفتور من الأمراض المنتشرة مما قد يوجد بين خاصة الدعاة فضلاً
عن عامتهم، فما أسبابه الرئيسة؟ وكيف ترون علاجها؟
* من أسباب ذلك الفتور: اليأس من استجابة الناس، وهو شعور خاطئ؛ إذ
نحن مأمورون بالتبليغ وبالإخلاص وبذل الوسع والتزام الصراط المستقيم، والنتائج
بيد الله [إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ] [القصص: 56] .
ومن الأسباب أيضاً: تقصير الداعية في بعض الأمور أو وقوعه في بعض
المحظورات؛ فيرى أنه غير أهل للدعوة، أو أنه منافق بذلك، وهذا من تلبيس
إبليس، ومن الأسباب: الابتعاد عن مخالطة الصالحين وأهل الخير، وإهمال
الأمور التي تزيد الإيمان، والعلاج: هو تدبر القرآن ومطالعة سير الأنبياء والرسل
وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته في ذلك، مع الإكثار من فعل
الطاعات.
مشكلة جنوب السودان من المشكلات القديمة التي تزامن ظهورها منذ البداية
الأولى لاستقلال السودان، فما هي في نظركم أسباب هذه المشكلة؟ وهل أحسنت
الحكومات السودانية المتوالية في علاجها؟
* هذه المشكلة أوجدها المحتل البريطاني بنظام المناطق المقفولة الذي عمل
بموجبه على عزل الجنوب عن الشمال لإقامة دولة نصرانية هناك، وذلك لزعزعة
استقرار السودان، وعملوا على منع التداخل بين الجنوب والشمال، مع تشويه
صورة الإسلام والمسلمين والعرب لدى أبناء الجنوب، وعملوا على بث النصرانية
وإقامة الكنائس والمدارس العلمانية، مع منع نشر اللغة العربية والدين الإسلامي
وإقامة المساجد، وكان للتصرفات الخاطئة من بعض تجار الشمال دور في ذلك؛ إذ
استغل المحتل البريطاني تلك التصرفات لإظهار العرب في صورة المستعبد
والمستغل لشعب الجنوب، ولم تحسن الحكومات السابقة حل المشكلة؛ حيث
حُصرت الحلول في الحسم العسكري والحلول السياسية، والعلاج هو: كسر
الحاجز وفك العزلة الاجتماعية وإقامة المساجد والمؤسسات الإسلامية وتعليم اللغة
العربية؛ حتى يتمكن المواطن الجنوبي من معرفة الإسلام الصحيح، ولنا تجربة
عملية في ذلك تمثلت في بناء مركز إسلامي في الجنوب، ساهم في إدخال الكثير
من أبناء الجنوب في دين الله، والحمد لله.
والله نسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يرد كيد الكائدين إلى
نحورهم، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم.(91/100)
منتدى القراء
استراحة مجاهد
بقلم:سالم فرج سعد
أرأيت إلى رجلٍ يستجمع قواه ليطفئ نور الشمس؟
أو يجمع حفنة تراب ليدفن ماء البحر؟ !
كذلك هو حال أعداء هذا الدين: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ
مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] [الصف: 8] .
إنهم وإن كبتوا وكمموا الأفواه، وأسروا الأقلام، فكل ذلك يستثمر لصالح
الدعوة، وهي فرصة الدعاة لحشد الطاقات، واستعلاء الهمم، وإخراج المواهب،
ومواصلة المسير في تؤدة وتأن، واستمرار العمل بجد واتزان..
فهم في استراحة، لكنها استراحة مجاهد الذي نومه ونبهه أجرٌ كله..
لله درّ مجاهدٍ لا يفترْ
يحيي الليالي في الجهاد ويسهرْ
وأعداؤنا هم هم في كل مكان وزمان.. مهما تغيرت أساليبهم، وتنوعت
أشكالهم..
فلا تخدعنا استعطافات الدهاة، ولا ترجفنا أقاويل المبطلين، آخذين من قوله
(تعالى) لنبيه لوط (عليه السلام) : [فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا
يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ] [الحجر: 65] ، شعاراً نهتدي به،
ونبراساً نستنير بنوره، إذا تعالت أصوات المرجفين، وصيحات المخذّلين..
سيلاحِقون ويطارِدون.. لكن إلى متى؟ فإن لكل ظالم نهاية.
فهذه طاقاتهم قد استفرغت، وجهودهم قد نفدت، وأساليبهم قد عُرفت، فهم
في الحقيقة يجازفون بحياتهم وأفكارهم وحتى مناصبهم.
فمهما عربدوا وأزبدوا، وحاربوا وطردوا، واضطهدوا، فإن:
(الدعوة لن تموت..
والشهداء خالدون..
والتاريخ لا يرحم..)
وأحداث الأمم وعظت، وتجارب العاملين للخير نبهت وأيقظت، فلا ندري
متى يكون الاتعاظ؟ ولا متى نصحو من نومنا العميق؟
وكما قال بعض الحكماء:
(كفى بالتجارب تأديباً..
وبتقلب الأيام عظة) .(91/108)
الورقة الأخيرة
هيئة التناقض! !
د. محمد بن ظافر الشهري
هناك من يقف مشدوهاً أمام ممارسات الأمم المتحدة التي تبدو متناقضة لأول
وهلة، فهي تارة تضرب على يد المجرمين بيد من حديد، وقد تعمد في سبيل هذا
الهدف النبيل إلى حصار الشعوب المغلوبة على أمرها، وذلك لأمور، منها: أن
موت بعض الشعوب رحمة، وأن النظام المجرم سيسقط لا محالة إذا مات الشعب
عن بكرة أبيه، وقبل هذا وذاك: يعد هذا العمل الإنساني مبرراً بقاعدة الشر يعم
والخير يخص..!
وتارة أخرى تبدو الأمم المتحدة مطية للمجرمين وسوطاً في أيديهم، فهؤلاء
الصرب يأسرون جنود بطرس، ويسرقون منهم المدفعية والمدرعات! ! ،
ويقتحمون سراييفو في زي الجنود الفرنسيين المسروق بالطبع! ! ، وينهبون
قوافل الإغاثة التي كانت الأمم المتحدة تنوي إيصالها إلى المسلمين.. إلى غير ذلك
من الأعمال التي وصفها المسؤولون في الأمم المتحدة بأنها استفزازية.. وقد تحلت
الأمم المتحدة حيال ذلك كله بضبط نفس لم يعهد له مثيل إلا في مواقفها المشرفة في
فلسطين والشيشان وطاجكستان وكشمير والفلبين و..
إن ما يوهم التناقض في مواقف الأمم المتحدة هو الذي حدا بكثير من البسطاء
إلى اتهام هذه الهيئة بأنها غير ذات مبدأ.. وقد يشط بعضهم فيستشهد بما قيل
للحجاج بن يوسف حين فر من وجه غزالة الخارجية:
أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... أم كان قلبك في جناحي طائر؟!
والحق الذي لا ريب: فيه أن هذه الهيئة ذات مبدأ ثابت منذ تأسيسها، وما
هذه المفارقات في المواقف من جرأة الأسد وقوته إلى جبن الأرنب وضعفه إلا دلائل
على اطراد منهجها ورسوخه.
وإذ كان الدور الذي تمثله الأمم المتحدة على مسرح البوسنة قد وصل إلى حد
الابتذال والإسفاف، فذلك لأنها عرفت حال النظارة وأمنت من قدرتهم على النقد.
ويبدو أن النظارة لن يغيروا ما بأنفسهم قريباً.. ولكن الآمال تتزايد في أن تهتز
خشبة المسرح ذاتها لتجهض هذه المسرحية المسخ.. نسأل الله أن يحقق عاجلاً هذه
الآمال.. إنه سميع مجيب..(91/111)
ربيع الآخر - 1416هـ
سبتمبر - 1995م
(السنة: 10)(92/)
كلمة صغيرة
خمسون عاماً من الغم
هيئة الأمم المتحدة هيئة عالمية، يفترض أن تكون لخدمة السلام العالمي
ونصرة المظلومين وإغاثة الملهوفين، غير أن خمسين عاماً مرت منذ قيامها لم يكن
للمسلمين من خدماتها أي نصيب؛ فقد فشلت في حل المشكلة الفلسطينية، وخذلت
المسلمين في كل القضايا الإسلامية وعلى رأسها (البوسنة والهرسك) و (الشيشان)
و (كشمير) و (بورما) .. وغيرها وغيرها، حيث تتحول تلك القضايا بمباركة أكابرها
إلى (قضايا داخلية) حتى وإن دُكّت المدن، أو شُرّد الأهالي، ومات الناس جوعاً،
بل حتى لو انتهكت ما يسمونه بالمناطق (الآمنة) ، بينما في القضايا الأخرى تعد
العدة للتدخل لحسمها بشكل عجيب، كما حصل في (هايتي) ، و (رواندا) ...
ستبقى هذه الهيئة العتيدة سلبية في مواقفها مع المسلمين وقضاياهم وبخاصة
عندما تولى دفتها «بطرس» الذي يبدو أن (أرثوذكسيته!) تغلبت على
(إنسانيته!) بشكل مقزز يبعث على الغثيان.
إن الهيئة العالمية بدأت في الآونة الأخيرة تبحث في قضايا ثقافية وفكرية
حول السكان والتنمية والمرأة.. وغيرها، وكأنها بصدد مشروع علماني (كبير)
ضد الثوابت الدينية الإسلامية، وليتها واجهت مخازي (التطهير العرقي) وقامت
بمحاكمة (مجرمي الحروب) وناصرت (حق الشعوب في تقرير مصيرها) كما تدعي!
فحتى متى يصبر المسلمون على تواطئها وعدم مبالاتها بقضاياهم؟ أم على
قلوب أقفالها..؟ !(92/1)
افتتاحية العدد
من الأندلس.. إلى البوسنة
سقطت البوسنة الشرقية، وسقطت معها مسلّمات كثيرة، وارتفعت على دماء ...
وأشلاء الضحايا وبقايا (سربنتسا) و (جيبا) لافتات ضخمة، يهون أمامها ذعر عيون
الأطفال وأنهار الدموع المتساقطة من العفيفات المغتصبات وأرواح الشهداء الذين
سقطوا وهم يدافعون عن دينهم وعرضهم ومالهم، وظهورهم مكشوفة، وأجسادهم
عارية، يكفي أن هذه الظهور المكشوفة والسواعد المقاتلة حتى آخر طلقة قد كشفت
للجميع حقائق مهمة:
الأولى: أن المهانة والعجز الذي يلف العالم الإسلامي حيال قضاياه قد أصبح
القاعدة التي لا شذوذ عنها، وصدق الشاعر:
كم حرة صرخت من تحت غاصبها ... فجاءها المنقذان العي والصمم
لقد قبلت الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها عيشة الذلّ والهوان،
ورضيت بالدّنيّة، واستسلمت لجلادها وغاصبها، وركعت تحت قدميه، وكأنّها
تستحثه لمزيد من الاستبداد والتسلط.
قطيع يساق إلى حتفه ... ويمضي ويهتف للسائقين
والثانية: أن ترسانة الغرب الوحشية وجيوشه العابرة للقارات تختار ضحاياها
بعناية فائقة، فهي تصل إلى أقصى البراري، وتتغاضى عن الجار البوسني
(المسلم) القاطن بين ظهرانيها.
والثالثة: أن ثورة الاتصالات الإعلامية والفضائية في قمتها اليوم نجحت في
امتصاص المأساة، وتقديمها لجمهور المشاهدين والقراء كمسلسل شيق يثير الانتباه، ينتصر فيه الشر على الخير دوماً.
وأخيراً: أن حرب التخوم والأطراف التي يشنها الغرب على نقاط التماس مع
العالم الإسلامي مرشحة للتصاعد في ظل تآمر الغرب والشرق، وبمباركة من الأمم
المتحدة التي يأبى البابا «بطرس» إلا أن تكون (فاتيكان!) القرن المقبل حين
يخوض قداسته حرب الصليب القادمة! !
«بطرس غالي» لم يسمع حتماً بـ «بشير إيماموفيش» .. فبشير كهل
بوسني، غادر (جيبا) بعد سقوطها في يد الصرب، ونقل للعالم ما قاله الجنرال
الأرثوذكسي «راتكو ملاديتش» لجموع المسلمين فيها ... لقد قال لهم: «لن
يستطيع الله ... ولا الأمم المتحدة أن ينقذوكم ... إنني أنا ربكم! !» [*] تعالى الله
وتقدست أسماؤه.
أيها الـ «بطرس» ... جدك أرادها مذبحة للأحرار من أبناء الكنانة،
وركب خيل المستعمر الإنجليزي ... وأنت تركب خيل الملاحدة الصرب، الذين
رسمت لهم منظمتك ومبعوثوك خط السير نحو (جيبا) التي أحرقوها، كما هو دأب
البرابرة من أبناء الصليب ...
جدك نال جزاءه ... وأنت، وإن هربت من واجهة الأحداث وخفتت عنك
الأضواء التي تعشقها، فإن دعاء المسلمين في كل مكان سيظل يلاحقك حتى تلاقي
ركاب جدك الخائن، فدعوات المظلومين هي الجند الذي لا يغلب، وليس بينها
وبين الله حجاب!
«بشير إيماموفيش» لن يجد من المسلمين سوى الهمهمات والحوقلة الباردة، فإخوانه غارقون في لهوهم وعبثهم وخلافاتهم الصغيرة ومعاركهم المفتعلة يعيدون
كتابة تاريخ الأندلس، ويساهمون في احتلال الفرنجة ل (سربنتسا) بعد (طليطلة)
و (الحمراء) و (قرطبة) و (غرناطة) ...
عالم من بليون مسلم، وخمسين دولة، وجيوش جرارة، وموارد هائلة..
يعتذر بالعجز، ويتدثر بقلة الحيلة وضعف الهمة، حتى تدق الحملة القادمة أبوابه
في ناحية أخرى ونقطة تماس جديدة ... أي خزي وأي مهانة هذه..؟ !
المعلقون الألمان يربطون بين حرب (البوسنة) ومجزرة (الشيشان) وما يتم
طبخه للمسلمين في (تتارستان) ... ويطلقون عليها حرب التخوم؛ حيث عالم غربي
متفوق ومنتشٍ بانتصاره، أمام مسلمين ضعفاء متخاذلين، يصورهم عدوهم على
أنهم الخطر العالمي الأول ...
نعم.. المناطق الآمنة كانت من صنع الدول الغربية وبرعاية الأمم المتحدة،
والدور القادم على «ملاذات آمنة» أخرى في حالة نجاح الخطة الحالية وهي
ناجحة بكل المقاييس وهنا: لن تكون حرب تخوم وأطراف؛ فالتجربة الصليبية
القديمة والصهيونية الحالية تجعلنا نوقن أنها ستكون موجهة إلى العمق ... !
أيها المجاهدون البوسنيون.. أيها الشيوخ والأطفال.. أيتها النساء
المسلمات.. لا تعلقوا قلوبكم بألف مليون غثاء، ولكن توجهوا إلى من بيده ملكوت السموات والأرض، تقربوا إلى الله شبراً يتقرب إليكم ذراعاً، انصروه ينصركم
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] .
أيها البليون عاجز ... ومتعاجز ... لقد ظللتم أعواماً عديدة تنتظرون الفرج
من عدوكم والنصر المستجلب من البيت الأبيض، فهلا أفقتم على تصريحات قيادته
التي قالت بالصوت العالي: إنها ستصوت «بالفيتو» ضد مشروع حق الضحية
في قتال الجلاد؛ لأن دماء ومدن وحضارات ومساجد البوسنة الشهيدة لا تساوي
شيئاً أمام احتمال تعكير أجواء التحالف الدولي (الصليبي) !
أيها البليون عاجز.. ومتعاجز.. لقد بحّت أصواتكم، وجفّت أقلامكم، من
الشجب والاستنكار في المحافل الدولية.. أفلم تدركوا بعد أنّ القبعات الزرقاء
(الأممية!) التي تستظلون بظلها، وتحتمون بحماها، هي أحد أسباب المأساة، بعد
أن ثبت للجميع خيانتها وتواطؤها مع إخوانهم الصرب..؟ !
لقد عبر رئيس وزراء البوسنة عن خيبة أمله في الدور الذي لعبته الأمم
المتحدة خلال الأزمة، قائلاً: «إنّ منظمة الأمم المتحدة عار على مجتمعنا
العصري.. لقد سلبت منّا الحق الأساسي في الحياة، وحق الدفاع عن أنفسنا..!» .
وصدق الشاعر بقوله:
أبلغ شهاباً وخير القول أصدقه ... إن الكتائب لا يهزمن بالكتب
عندما يصل العجز إلى هذه الدرجة.. لابد للإيمان الصادق من هبّة تمحو
وصمة العار وبصمات الخذلان التي يصنعها بعض المرجفين بأيديهم.. وصدق
الملك الحق حينما قال: [أَمَّنْ هَذَا الَذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ
الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ] [الملك: 20] .
__________
(*) حسب رواية مجلة (نيوزويك) الأمريكية.(92/4)
دراسات شرعية
اتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) في ضوء الوحيين
حقيقته، منزلته، مظاهره، عوائقه
(2)
بقلم: فيصل بن علي البعداني
بدأ الكاتب في الحلقة الأولى مقاله بتعريف الاتباع، ثم تحدث عن علاقة
الاتباع بالزمان والمكان، وثنّى بالحديث عن أفعال النبي من حيث التأسي، ثم بين
قواعد مهمة في الاتباع، وأنهى كلامه ببيان مظاهر الاتباع، ويواصل الكاتب في
هذه الحلقة إيضاح جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
من الوسائل المعينة على الاتباع:
الوسائل المعينة على الاتباع كثيرة، أهمها:
1- تقوى الله (عز وجل) والخوف منه: وذلك لأن من اتقى الله (عز وجل)
وخافه: جعل له فرقاناً يميز به بين الحق والباطل وبين النور والظلمة؛ فكان ذلك
سبب نجاته وسعادته في الدنيا والآخرة؛ قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن
تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ... ] [الأنفال: 29] .
2- الإخلاص لله، والتجرد في طلب الحق: لا يتوقف البحث عن الحق
وتطلبه على الحرص على معرفته وإدراكه فقط، بل لابد مع ذلك من أمر قلبي هو
التجرد، والحرص على سلامة القصد، والسلامة من الجهل والهوى والظلم، ولا
يكون ذلك إلا بالإخلاص لله (تعالى) .
وهذا الأمر له تعلق بتنقية النفوس من الأهواء والشوائب وتزكيتها؛ لأن العبد
كلما سعى في تنقية نفسه وتزكيتها وإلزامها بطاعة الله (تعالى) وترك معصيته
ظاهراً وباطناً، كلما ازداد قبوله للحق وإقباله عليه؛ يقول ابن تيمية: (وكذلك من
أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال
حتى يعمي قلبه عن الحق الواضح، كما قال (تعالى) : [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] [الصف: 5] ..) [1] ، والتجرد والإخلاص
معينان للعبد على الرجوع عن البدع والأخطاء متى وقع فيها، وقد حصل ذلك من
أعيان كبار في علم الكلام والفلسفة وغير ذلك، كأبي الحسن الأشعري، والجويني،
والغزالي، والفخر الرازي ... وغيرهم كثير.
3- اللجوء والتضرع إلى الله (عز وجل) وإظهار الافتقار له: كان رسول الله
كثيراً ما يدعو عند الصلاة من الليل: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر
السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط
مستقيم) [2] .
وكان من دعائه أيضاً: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني،
وزدني علماً) [3] . وأيضاً: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضَل، أو أزل أو
أُزل ... ) [4] .
وقد أمر الله (تعالى) عباده بدعائه والتضرع بين يديه، فقال (عز وجل) :
[وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ] (غافر: 60) وأخبر النبي أن من لم يسأل الله (تعالى) ويظهر الافتقار
والحاجة إليه فإنه يغضب عليه، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة (رضي الله
عنه) قال: (قال رسول الله: من لم يسأل الله يغضب عليه) [5] .
4- تعلم الأحكام الشرعية: وذلك لأن الإسلام دين مبني على الوحي،
والوحي لا يدرك إلا بالتعلم، وبالتالي: فلا وسيلة للعمل بأحكام الإسلام واتباع النبي
إلا عن طريق التعلم، ولذا: قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب العلم قبل
القول والعمل، لقول الله (تعالى) : [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ] ، فبدأ بالعلم) [6] .
وكان أول ما أُنْزِل من القرآن الكريم [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]
[العلق: 1] والقراءة أداة للتعلم.
5- اتباع طريقة السلف في العلم والعمل: بيّن النبي أن خير قرون هذه الأمة
وأفضلها: أقربها إليه، فقال: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم..) [7] وأوضح في حديث الافتراق أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي) [8] .
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) حيث قال: (من كان
مستنّاً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) [9] .
6- الصحبة الصالحة: صحبة أهل السنة والجماعة الملتزمين بما كان عليه
رسول الله وصحابته من أعظم الأسباب التي تعين على الاتباع والاستمساك بالحق؛
قال رسول الله: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) [10] . وسبب
ذلك: أن الخليل يحمل صاحبه على ما هو عليه، فإن كان صاحب سنة واتباع
حمله على ذلك، وإن كان صاحب بدعة وفسوق حمله على ذلك، ولذا: قال رسول
الله: (مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما
أن يُحذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير: إما أن
يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) [11] .
ويقول أبو قلابة: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن
يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون) [12] .
7- تدبّر النصوص الصحيحة: القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة هما
مصدر تلقي الحق والهدى؛ قال الله (تعالى) : [إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] [الإسراء: 9] وقال: (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله
وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) [13] ، ولقد تكفل الله (تعالى) بحفظ
نصوص كتابه من أن يدخلها تحريف أو تبديل؛ قال الله (تعالى) : [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] ، ويتضمن ذلك حفظ سنة النبي التي على
الرغم مما دخلها من أحاديث ضعيفة وموضوعة، إلا أن الله (تعالى) هيأ لها أئمة
نذروا أنفسهم وأعمارهم في خدمتها وتمييز صحيحها من ضعيفها وموضوعها، ولذا: فإنه لابد للحريص على الاتباع الحق للنبي من الحرص على صحة النصوص
التي يعمل بها، والقيام بفهمها وتدبرها، ومن ثم: العمل بموجبها فعلاً وتركاً.
والعائد من تدبر النصوص النبوية الصحيحة كالعائد من تدبر النصوص
القرآنية؛ لأن كلاً منهما مصدر للأحكام وطريق للاعتصام والأمن من الزيغ
والضلال عن الحق.
من عوائق الاتباع:
هناك عوائق كثيرة تمنع العبد من الاتباع الصحيح للنبي، من أبرزها:
1- الجهل: الجهل هو أعظم عوائق الاتباع، بل هو أعظم أسباب الوقوع
في المحرمات جميعها من كفر وبدع ومعاصٍ [14] سواء أكان الجهل جهلاً
بالنصوص بعدم الاطلاع عليها، أو كان جهلاً بمنزلتها في الدين وكون التقدمة لها
وبقية المصادر تبعاً لها، أو كان جهلاً بمقاصد الشريعة وقواعد العلوم وأصولها:
كالمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين [15] ،
ونظراً لخطورة الجهل الكبيرة: نجد القرآن الكريم والسنة الصحيحة حافلين
بالنصوص التي تحذر من الجهل وتبين خطورته، وتحث على العلم وتبين فضله،
ومنها:
قال الله (تعالى) : [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ] [الأعراف: 33] .
وقال (عز وجل) : [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء: 36] يقول سيد قطب: (والعقيدة
الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة، فلا يقوم شيء فيها على الظن أو
الوهم أو الشبهة ... [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] [الإسراء: 36] ولا تتبع ما
لم تعلمه علم اليقين وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال، أو رواية تروى، من
ظاهرة تفسر، أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي، أو قضية اعتقادية) [16] .
عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال: (اُغْدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً،
ولا تكن الرابع فتهلك) [17] وعن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) قال: (لا يزال
الناس بخير ما بقي الأول، حتى يتعلم الآخِر، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر
هلك الناس) [18] .
2- اتباع الهوى: اتباع الهوى وما تشتهيه الأنفس من أعظم عوائق الاتباع
وأسباب الانحراف عن الحق، بل إن جميع البدع والمعاصي إنما تنشأ من تقديم
الهوى على النص الصحيح، وذلك لأن من طبيعة النفس البشرية أنها تميل وترغب
إلى ما تهوى وتحب، ويصعب على صاحبها صرفها عن ذلك وبخاصة إذا كانت قد
تعودت عليه ما لم يقوَ إيمانه ويصلب يقينه، بل إن كل من لم يتابع الرسول
ويستجب له فيما جاء به: فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب واتبع الهوى [19] ؛ ولذا: نجد النصوص قد توافرت في ذم اتباع الهوى والتحذير منه، ومن ذلك:
قال الله (تعالى) : [فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
[القصص: 50] .
وعن معاوية (رضي الله عنه) قال: (قال رسول الله: ... وإنه سيخرج من
أمتي أقوام تَجَارَى بهم تلك الأهواء كما يَتَجَارَى الكَلَبُ لصاحبه، لا يبقى منه عرق
ولا مفصل إلا دخله) [20] .
وليس الأمر في وجود هوى في نفس العبد يدعوه إلى مخالفة الرسول، فإن
ذلك ميدان للاختبار والامتحان، وقد لا يملكه العبد، وإنما الخطورة في اتباع العبد
للهوى وأخذه لما يحب وتركه لما يبغض، وجعل ذلك هو الباعث والدافع إلى القول
والفعل، سواء أوافق ذلك محبوب الله (تعالى) أو خالفه [21] .
وقد يدخل الهوى على من له تعلق بالنصوص وارتباط بها، بحيث لا يدعوه
هواه إلى ترك النصوص بالكلية والإعراض عنها، وإنما يجعله يقرر ما يريده أولاً
ثم يذهب إلى النصوص ليأخذ ما وافق هواه منها.
3- تقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الثابتة: من عوائق
الاتباع الكبرى: تقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الصحيحة؛
يقول الله (تعالى) : [وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أََنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا
مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ]
[المائدة: 104] ، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (أي: إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وترك ما حرمه: قالوا يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك؛ قال الله (تعالى) : [أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً]
[المائدة: 104] أي: لا يفهمون حقّاً، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟ ! لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً) [22] .
وقد وردت آثار كثيرة عن السلف تحذر من ذلك، ومنها:
قول ابن مسعود (رضي الله عنه) : (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن
آمن وإن كفر كفر، فإن كنتم لابد مقتدين فبالميت؛ فإن الحي لا يُؤمَن عليه
الفتنة) [23] ، وفي رواية عنه: (لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر) [24] .
وقال عمر بن عبد العزيز: (لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله) [25] .
وقال الشافعي: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله لم
يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) ، وصح عنه أنه قال: (لا قول لأحد مع سنة
رسول الله) [26] .
ولابن تيمية كلام نفيس حول ذلك، إذ يقول: (فدين الله مبني على اتباع
كتاب الله، وسنة نبيه، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي المعصومة، وما
تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً
يدعو إلى طريقته، يوالي عليها ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه
الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به
بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك السنة ويعادون) [27] .
ويدل على مبلغ الجناية التي يوصل إليها تقديم آراء الرجال أيّاً كانوا على
النص الصحيح قولُ الكرخي (عفا الله عنه) : (كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي
مؤوّلة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فمؤول أو منسوخ) [28] .
قلت: وهذا هو ما عليه كثير من أبناء زماننا الذين قدموا رأي شيوخهم أو
جماعاتهم أو أحزابهم على النصوص الصحيحة الثابتة، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
4- تقديم العقل على النقل الصحيح: كرم الله الإنسان وفضله بالعقل،
وامتدح في كتابه ذوي الألباب والعقول المستنيرة، قال (تعالى) : [إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ] [الرعد: 19] وقال (سبحانه) : [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [ص: 29] ولكن كثيراً من الناس لم يبقوا العقل في المكانة
التي وضعه الله (تعالى) فيها، بل زلوا فيه على صنفين:
* صنف عطله ولم يقم له وزناً.
* وصنف بالغ فيه وجعله مصدراً للتشريع وقدمه على النقل الصحيح، حيث
بنوا لأنفسهم ضلالات يسمونها تارة بالحقائق واليقينيات، وتارة بالمصالح والغايات
التي تهدف النصوص إلى تحقيقها وإن لم تنص عليها، ثم يأخذون النصوص الثابتة
والتي يسمونها بالظنيات، فيعرضونها على تلك الضلالات، فما وافقها قبلوه وما
عارضها ردوه، اعتماداً منهم على قاعدة: اليقين لا يزول بالشك! ! !
ولم يعلم هؤلاء أن للعقول حدوداً تنتهي في الإدراك إليها، وأن الله (تعالى) لم
يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء [29] ، كما لم يعلم أولئك أن الله حافظ دينه،
وعاصم نبيه من الزلل والانحراف في تبليغ دينه، وبالتالي: فما جاء به حق لا
مرية فيه، كما أن ما يسمونه حقائق ويقينيات هي عين الباطل؛ بدليل اختلاف
العقول والأفهام في تعيين الحقائق والمصالح من إنسان لآخر، وبدليل أن الله
(تعالى) أمرنا بالتسليم لحكمه وحكم رسوله، تسليماً مطلقاً، لا بمحاكمة النصوص
إلى العقول قبل التسليم بها، كما في قوله (عز وجل) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً]
[النساء: 65] ، وما أحسن كلام ابن أبي العز الحنفي حين شرح قول الطحاوي:
(ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام) ، فقال: (أي: لا يثبت
إسلام من لم يسلّم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها، ولا
يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه) [30] .
5- التعلق بالشبهات: دين الإسلام قائم على تسليم العبد المطلق بالوحي،
ولكن كثيراً ممن قلّت معرفته بالوحي تعلق بالشبهات وبضروب الخيالات وتوهم
المصالح، ظنّاً منهم أنها طريق معرفة الحق وسبيل الوصول إليه، ولذا: تجد مَن
هذا حاله إذا جاءه من أخبره بالحق الثابت بالنص: تعلق قلبه بما سبق إلى قلبه من
شبهات وضلالات، فلم يؤمن بالحق في ذات نفسه، وأخذ يلبس على الناس الحق
بما في قلبه وذهنه من باطل، فضلّ وأضل، ونتيجة لهذا الأمر الخطير: فقد حذر
النبي أمته من هذا الصنف، فقال فيما ترويه عائشة (رضي الله عنها) : (.. فإذا
رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم) [31] ، وقال:
(سيكون في آخر أمتي ناس يحدثوكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم
وإياهم) [32] ، وتواترت أقاويل أئمة السلف في التحذير من الشبهات وأصحابها، ومن ذلك قول عمر: (إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله) [33] ، وقول أبي قلابة: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون) [34] ، ويقول ابن سيرين محذراً: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) [35] .
6- سكوت العلماء: بسكوت العلماء عن نشر الحق والتحذير من الباطل
يرتفع صوت الباطل، ويضعف صوت الحق، ويظن كثير من الناس أن أصحاب
الباطل نتيجة كثرتهم وفشوهم هم أصحاب الحق؛ بدليل ظهورهم وبروزهم.
حدّث أبو هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله: (من سُئل عن علم
علِمَه ثم كتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) [36] .
7- مجالسة أهل البدع والمعاصي: من أعظم عوائق الاتباع مجالسة العبد
لأهل البدع والمعاصي، حيث يزين أصحاب السوء لجليسهم ما هم عليه من باطل،
فإن لم يستطع أن يقلبوا الحق في ذهنه ويغيروا مفاهيمه: حاولوا إجباره على فعل
باطلهم إما مجاملة لهم، أو خوفاً من استهزائهم ونقدهم فإن لم يستطيعوا ذلك فلا أقل
من أن يداهنهم بترك الإنكار عليهم، أو بعدم القيام بعمل الحق الذي لا يتفق مع
أهوائهم.
ولذا: اشتد نكير السلف وعظم تحذيرهم لأهل السنة من مخالطة جلساء السوء، ففي قصة عمر مع صبيغ: قال أبو عثمان الراوي: (إن عمر كتب إلينا أن لا
تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مئة لتفرقنا عنه) [37] ، وقال ابن عباس
(رضي الله عنهما) : (لا تجالس أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلب) .
8- الاعتماد على النصوص الضعيفة والموضوعة: من أعظم عوائق الاتباع: الاعتماد على النصوص الضعيفة والموضوعة، وإثبات الأحكام بها، والقيام
بمنافحة الحق الثابت بالنصوص الصحيحة من قبل كثير من الناس، سواء أكان ذلك
بسبب جهلهم وعدم قدرتهم على التمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع منها،
أو بسبب الاغترار بمقولة بعض أهل العلم بجواز العمل بالحديث الضعيف في
فضائل الأعمال، متناسين أن لذلك شروطاً، أهمها: ألا يعتقد عند العمل ثبوت
الحديث؛ لئلا ينسب إلى النبي ما لم يقله، وألا يكون الضعف شديداً، وأن يكون
الحكم الذي يثبته الحديث الضعيف مندرج تحت أصل عام، ليخرج بذلك ما لا
أصل له والذي يمتنع تأسيس الأحكام وإثباتها عن طريق ما كان كذلك [38] .
وختاماً: هذه نظرات في حقيقة الاتباع، أهديها لأحبتي في الله (تعالى) ،
لتجريد المتابعة الحقة للحبيب المصطفى، ولتظهر حقيقة أدعياء المحبة من المبتدعة
والطرقيين وغيرهم ومدى انحرافهم عن الجادة [إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ
وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ] [هود: 88] .
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية، ج10، ص10.
(2) مسلم، م2، ص534، ح 770.
(3) ابن ماجة، ج1، ص92، ح 251 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ج1، ص47، ح 203.
(4) أبو داود، ج5، ص327، ح 5094 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود م3، ص959، ح4248.
(5) الترمذي، ج5، ص456، ح 3373 وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ج3، ص138، ح2686.
(6) البخاري مع الفتح، ج1، ص192.
(7) البخاري مع الفتح، ج5، ص306، ح2651.
(8) الترمذي، ج5، ص26، ح2641، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ج2، ص334، ح 2129.
(9) شرح الطحاوية، ج2، ص546.
(10) أبو داود، ج2، ص168، ح 4833، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود م3، ص917، ح 4046.
(11) البخاري مع الفتح، ج9، ص577، ح5534.
(12) السابق، ج2، ص437، ح369.
(13) المستدرك للحاكم، ج1، ص93، وصححه الألباني في صحيح الجامع ج1، ص566، ح2937.
(14) انظر: الفتاوى لابن تيمية، ج14، ص22.
(15) انظر: حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي، ج1، ص177، 178.
(16) في ظلال القرآن، م4، ص2227.
(17) الدارمي، ج1، ص84، ح252.
(18) السابق، ج1، ص84، ح253.
(19) انظر: تفسير السعدي، ج6، ص33.
(20) أبو داود، ج5، ص56، ح 4597، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، م3، ص869، ح383.
(21) انظر: الفتاوى لابن تيمية، ج28، ص131-133.
(22) تفسير القرآن العظيم، ج2، ص108، 109.
(23) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، ج1، ص93، ح130.
(24) إعلام الموقعين، ج2، ص135.
(25) السابق، ج2، ص201.
(26) السابق، ج2، ص201.
(27) الفتاوى لابن تيمية، ج20، ص164.
(28) الرسالة في أصول الحنفية للكرخي، ص169، 170 (مطبوع مع تأسيس النظر للدبوسي) .
(29) انظر: الاعتصام للشاطبي، ج1، ص294_-301.
(30) شرح الطحاوية، ج1، ص231، وانظر: البخاري مع الفتح، ج 13، ص512.
(31) البخاري مع الفتح، ج8، ص57، ح 4547.
(32) مسلم، م1، ص12، ح 6.
(33) الدارمي، ج1، ص53، ح119.
(34) سير أعلام النبلاء، ج4، ص472.
(35) مسلم، م1، ص14.
(36) ابن ماجة، ج1، ص96، ح261، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، ج1، ص49، ح210.
(37) الإبانة الكبرى لابن بطة، ج1، ص414، ح329.
(38) انظر: الاعتصام للشاطبي، ج1، ص287-291.(92/8)
دراسات شرعية
أصول الفقة.. والمنطق الأرسطي
(1)
بقلم: عثمان محمد إدريس
لم يكن لـ (منطق أرسطو) مجال في (علم أصول الفقه) في العصور المتقدمة؛ فقد ألّف الإمام الشافعي (رحمه الله) كتابه الأصولي الموسوم ب (الرسالة) بلسان
عربي مبين خالٍ من لسان أهل (يونان) ..
والمشهور لدى الباحثين [1] أن أول مؤلّف أصولي امتزجت مسائله ببعض
المباحث المنطقية إنما كان في أواخر القرن الخامس الهجري [2] ! !
وفي هذا المقال: يود الباحث تسليط الضوء على أحد المباحث الأصولية التي
اشتهر استعمال بعض الأقيسة المنطقية فيها، وهو: (ترتيب مقدمات الحكم
الشرعي) ملتزماً فيه المنهج العلمي في الاستدلال والمناقشة والترجيح، بعيداً عن
التعصب والتقليد المذمومَين..
- البيان -
الحكم الشرعي لأي فرع فقهي إنما يترتب على مقدمتين فأكثر [3] ؛ تشمل
الأولى: الدليل التفصيلي، وتشمل الأخرى: القاعدة الأصولية.
ولما كانت غاية الأصوليين من وضع القواعد الأصولية هي: التوصل إلى
حكم شرعي صحيح؛ فقد بحثوا أيضاً كيفية استعمالها للتوصل إلى ذلك.
ولكنهم أثناء بحثهم لهذه المسألة اختلفوا في جواز استعمال (القياس المنطقي)
والاستفادة منه في ترتيب تلك المقدمات.
الأقيسة المنطقية المتعلقة بكيفية التخريج:
يذكر بعض الأصوليين [4] وهم الذين يرون جواز استعمال القياس المنطقي
في عملية التخريج استعمال نوعين من الأقيسة المنطقية في هذا المجال، هما:
القياس الاقتراني الحملي، والقياس الاستثنائي المتصل.
أ- القياس الاقتراني الحملي:
وهو ما تَكَوّنَ من قضايا حملية فقط [5] ، ومثاله قولهم:
كل جسم مؤلّف
وكل مؤلف مُحدَث
إذن، كل جسم مُحدَث.
قال صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود (رحمه الله) : (.. مثلاً إذا قلنا: الحج
واجب؛ لأنه مأمور الشارع، وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب.
فالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه، هي: القضايا الكليّة التي تقع (كبرى) ل
(صغرى) سهلة الحصول عند الاستدلال على مسائل الفقه بالشكل الأول، كما في
المثال المذكور، وضم القواعد الكلية إلى (الصغرى) السهلة الحصول، ليخرج
المطلوب الفقهي من القوة إلى الفعل، وهو معنى التوصل بها إلى الفقه) [6] .
ويقول الدكتور يعقوب الباحسين: (أما كيفية استنباط الأحكام الشرعية الفرعية: فإن الفقيه المجتهد يأخذ القاعدة الكلية التي توصل إليها علماء الأصول، فيجعلها
مقدّمة كبرى في القياس الحملي، أو ملازمة في القياس الاستثنائي، بعد أن يقدّم لها
بمقدمة صغرى، موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة، ودليل تفصيلي يعرفه
الفقيه بيسر وسهولة، كالأمر بالصلاة في قوله: [وَأََقِيمُوا الصَّلاةَ] ، فيكون بذلك
قياساً منطقيّاً، هذه كيفيته:
المقدمة الصغرى: (الصلاة مأمور بها) في قوله (تعالى) : [وَأََقِيمُوا
الصَّلاةَ] ، وهذا دليل تفصيلي.
المقدمة الكبرى: و (كل مأمور به واجب) ، وهذه قاعدة أصولية، أو دليل
كلي إجمالي.
النتيجة: (الصلاة واجبة) ؛ وهذه النتيجة حاصلة بإسقاط الحد الأوسط
المكرر) [7] .
ب- القياس الاستثنائي المتصل:
وهو الذي تكون مقدمته الكبرى: قضية شرطية متصلة، مركبة من قضيتين
حمليتين قُرِنَ بهما صيغة شرط.
ومقدمته الصغرى: قضية حمليّة، مذكورة في المقدمة الأولى بعينها أو
نقيضها ويُقرن بها حرف الاستثناء (لكن) .
ونتيجته: قضية حملية تنطوي عليها المقدمة الكبرى [8] .
ومثاله: إذا كانت الشمس طالعة فالكواكب خفية،
لكن الشمس طالعة،
إذن: فالكواكب خفية.
واعلم أن القياس الاسثنائي المتصل لا ينتج إنتاجاً صحيحاً مطّرداً إلا إذا كانت
القضية الشرطية المركب منها لزومية [9] .
يقول سعد الدين التفتازاني (رحمه الله) : (وإذا استدللت على مسائل الفقه
بالملازمات الكلية مع وجود الملزوم، فالملازمات الكلية هي تلك القضايا، كقولنا:
هذا الحكم ثابت؛ لأنه كلما دل القياس على ثبوت هذا الحكم يكون هذا الحكم ثابتاً،
لكن القياس دلّ على ثبوت هذا الحكم، فيكون ثابتاً) [10] .
وإذا طُبق هذا القياس على مثال الأمر بالصلاة، فإنه يقال:
إن كانت الصلاة مأموراً بها، فهي واجبة،
لكن الصلاة مأمور بها،
إذن، فالصلاة واجبة.
كما أنها قد سبقت عبارة الدكتور يعقوب الباحسين في استعمال هذا النوع من
القياس المنطقي [11] .
رابعاً: حكم استعمال الأقيسة المنطقية في كيفية التخريج:
اختلف الأصوليون في حكم استعمال الأقيسة المنطقية (القياس الاقتراني
الحملي، والقياس الاستثنائي المتصل) في عملية ترتيب مقدمات الحكم الشرعي،
على قولين، هما:
القول الأول: جواز استعمال هذين القياسين في عملية ترتيب مقدمات الحكم
الشرعي.
وممن ذهب إلى هذا القول: أبو حامد الغزالي [12] ، وصدر الشريعة [13] ، وسعد الدين التفتازاني [14] ، والبناني [15] ، والعطار [16] ..
القول الثاني: عدم جواز استعمال هذه الأقيسة في عملية ترتيب مقدمات الحكم
الشرعي، وإنما يُقتصر على الأساليب العربية فحسب.
وممن ذهب إلى هذا القول: أبو الوليد الباجي [17] ، وابن الصلاح [18] ،
وابن تيمية [19] ، وابن القيم [20] ، والمازري [21] ، والشاطبي [22] .
* الأدلة:
أدلة القول الأول:
1- أن القياس المنطقي ومنه هذان القسمان آلة قانونية، تعصم مراعاتُها
الذهن أن يزل في فكره [23] ، بمثابة علم الحساب والهندسة ونحوه.. مما لا يُعلم
بها صحة الإسلام ولا فساده، ولا ثبوته ولا انتفاؤه.. فلا مانع من استعمالها والحالة
هذه [24] .
2- أن صحة النظم أو الأسلوب العربي في ترتيب مقدمات الحكم الشرعي
المؤدي إلى صحة الحكم الشرعي إنما تكون ممن يُجيد اللغة العربية، أما وقد أصبح
أكثر المتأخرين لا يجيدونها، فالأَوْلى إلزامهم بهذه الأقيسة المنطقية.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بجملة من الأدلة، أهمها:
1- أن استعمال (علم المنطق) بما فيه هذه الأقيسة المنطقية في المباحث
الشرعية، والاشتغال به، بدعة محدثة في الدين؛ وذلك لأنه علم مستحدث في
الأمة الإسلامية، لم يشتغل به السلف الصالح، وإنما ظهر في القرن الثاني الهجري
أثناء حركة الترجمة [25] .
يعبر عن هذا الإمام ابن الصلاح (رحمه الله) بقوله: (وأما المنطق فهو مدخل
الفلسفة، ومدخل الشرّ شرّ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا
استباحه أحد من الصحابة، والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالحين،
وسائر من يُقتدى به من أعلام الأمة وساداتها) [26] .
وقال أيضاً: (وليس بالأحكام الشرعية والحمد لله افتقار إلى المنطق أصلاً،
وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان [27] فقعاقع [28] ، قد أغنى
الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت
الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق، ولا
فلسفة، ولا فلاسفة) [29] .
ولأن الاشتغال بهذا العلم يؤدي بصاحبه إلى الاضطراب في دينه فيجعله
يكذب بالحق أو يعاند.. مما يؤول به إلى الكفر والزندقة [30] بعد ذلك.
2- أن في استعمال الأساليب، والعبارات، والتركيبات العربية.. غُنْيَة عن
استعمال الأقيسة المنطقية الواردة بلسان أهل (يونان) ، بل إن استعمال هذه الأخيرة
مدعاة للاضطراب والخطأ والاختلاف.
وهذه بعض نصوص أهل العلم في هذا المعنى:
أ- يقول الإمام الشافعي (رحمه الله) : (ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم
لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس..) [31] .
ومراده (رحمه الله) ب (لسان العرب) هو: (مصطلح العرب ومذاهبهم في
المحاورة والمخاطبة والاحتجاج والاستدلال) [32] ، وهو اللسان الذي جرت عليه
نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية [33] .
وكأن الإمام الشافعي (رحمه الله) يريد أن يقول: (إن اللسان العربي المبين
متى استقامت به ألسنة الناس، وعرفوا طرق دلالة الألفاظ على معانيها، وأدركوا
أسرار اللغة العربية، فإن هذا كله يغني عن دراسة المنطق) [34] .
ب- يقول الإمام ابن قتيبة (رحمه الله) : (ولو أن مؤلف (حد المنطق) [35]
بلغ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو، لعد
نفسه من البكم، أو يسمع كلام رسول الله وصحابته (رضي الله عنهم) لأيقن أن
للعرب الحكمة وفصل الخطاب..) [36] .
ج- ويقول الإمام الشاطبي (رحمه الله) : (المسألة السادسة: فنقول: لَمّا انبنى
الدليل على مقدمتين: إحداهما تحقق المناط، والأخرى تحكم عليه ... )
(واعلم أن المراد بالمقدمتين ههنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق
الأشكال المعروفة، ولا على اعتبار التناقض والعكس وغير ذلك، وإن جرى
الأمرعلى وفقها في الحقيقة، فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح؛ لأن المراد
تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون، وعلى وفق ما جاء في
الشريعة، وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير: ما كان بديهياً في الإنتاج، أو ما أشبهه
من اقتراني أو استثنائي، إلا أن المتحري فيه إجراؤه على عادة العرب في
مخاطباتها، ومعهود كلامها؛ إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما
يكون..) [37] .
3- أنه قد تبين بالنظر في القياس المنطقي فساده، وبالتالي: فساد ما يترتب
عليه. كما تبين بالاستقراء والتتبع: عدم تحصيل أي فائدة منه؛ وذلك لعدم التفات
أهل العلوم والصناعات إليه، سواء من المسلمين أو غيرهم، بل من أهله أحياناً.
وسيأتي تفصيل هذا الدليل في الرد على الدليل الأول للقائلين بالجواز [38] .
* مناقشة الأدلة:
أ- مناقشة أدلة القول الأول:
1- مناقشة الدليل الأول:
لا يسلم أصحاب القول الثاني (وهم القائلون بعدم الجواز) بكون المنطق آلة
قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره.
وكلامهم في الرد على هذه الدعوى منصب على جهتين، هما: جهة كون
المنطق بما فيه القياس المنطقي فاسداً في نفسه. والجهة الثانية: على التسليم
بصحته أو بصحة بعض الأقيسة المنطقية، فإنه لا فائدة منه، وإليك بيان هاتين
الجهتين:
الجهة الأولى: كون القياس المنطقي فاسداً في نفسه:
أظهر جملة من العلماء المسلمين ومن غير المسلمين في القديم والحديث فساد
القياس المنطقي، بعد ما نظروا فيه نظرة علمية فاحصة.
وإليك نصوص بعض علماء الإسلام في فساد القياس المنطقي:
أ- قال ابن قتيبة (رحمه الله) لمن يحاول الانتفاع بهذه المصطلحات المنطقية:
(فإذا ما حاول الانتفاع بها؛ وذلك باستعمالها في كلامه، لم تكن إلا وبالاً على لفظه، وقيداً للسانه، وعيّاً في المحافل، وعقلة عند المتناظرين) [39] . ...
ب- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (والكلام في المنطق إنما وقع
لمّا زعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، فاحتجنا أن
ننظر في هذه الآلة، هل هي كما قالوا، أو ليس الأمر كذلك؟) [40] .
ومن كلامه في إبطال هذه الدعوى:
قوله: (الواقع قديماً وحديثاً أنك لا تجد من يُلزم نفسه أن ينظر في علومه به
إلا وهو فاسد النظر والمناظرة، كثير العجز عن تحقيق علم وبيانه) [41] .
وقوله أيضاً: (الذي وجدناه بالاستقراء: أن الخائضين في العلوم من أهل هذه
الصناعة أكثر الناس شكّاً واضطراباً، وأقلهم علماً وتحقيقاً، وأبعدهم عن تحقيق
علم موزون. وإن كان فيهم من قد يحقق شيئاً من العلم: فذلك لصحة المادة والأدلة
التي ينظر فيها، وصحة ذهنه وإدراكه، لا لأجل المنطق) [42] .
بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) أن من أهل المنطق الحُذّاق منهم
خاصة من لا يلتزمونه في كلّ علومهم، فقال: (.. ونفس الحُذّاق منهم لا يلتزمون
قوانينه في كلّ علومهم، بل يعرضون عنها؛ إما لطولها، وإما لعدم فائدتها، وإما
لفسادها، وإما لعدم تميّزها، وما فيها من الإجمال والاشتباه) [43] .
كما استشهد (رحمه الله) في هذا المقام برجوع الكثيرين ممن اشتغلوا به،
وقضوا أغلب أعمارهم في اعتماده، بل ممن أوجبوا تعلمه وحكموا على من يجهله
بعدم الوثوق في علمه عن استعماله والاشتغال به، بعد أن اعترفوا بفساده، وما
يؤدي إليه من الخطأ والضلال.. فقال (رحمه الله) عن أبي حامد الغزالي (رحمه
الله) : (وبيّن في آخر كتبه أن طريقهم [44] فاسدة لا توصل إلى يقين، وذمّها أكثر
مما ذم طريقة المتكلمين.. فهو في آخر أمره يبالغ في ذمهم، ويُبين أن طريقهم
متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريقة المتكلمين،
ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم) [45] .
كما نقل (رحمه الله) عن الفخر الرازي (رحمه الله) قوله: (لقد تأملت الطرق
الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت
أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) [46] .
ج- وقال ابن القيم (رحمه الله) : (وأما المنطق: فلو كان علماً صحيحاً؛ كان
غايته أن يكون كالمساحة والهندسة ونحوها، فكيف وباطله أضعاف حقّه! وفساده،
وتناقض أصوله، واختلاف مبانيه: توجب مراعاتها للذهن أن يزيغ في فكره! ولا
يؤمن بهذا إلا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه للعقل
الصريح) [47] .
وقال في موضع آخر: (وأخبر بعض من كان قد قرأه، وعني به، أنه لم
يزل متعجباً في فساد أصوله وقواعده ومباينته لصريح المعقول، وتضمنها لدعاوٍ
محضة غير مدلولٍ عليها! وتفريقه بين متساويين، وجمعه بين مختلفين؛ فيحكم
على الشيء بحكم، وعلى نظيره بضدّ ذلك الحكم! أو يحكم على الشيء بحكم، ثم
يحكم على مضاده أو مناقضه به) [48] .
وقوله أيضاً: (وقد زعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني، كما أن
العروض ميزان الشعر. وقد بيّن نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه وتعويجه
للعقول، وتخبيطه للأذهان، وصنّفوا في رده وتهافته كثيراً..) [49] .
وقوله (رحمه الله) : (وما دَخَل المنطق على علم إلا أفسده، وغيّر أوضاعه،
وشوش قواعده) [50] .
الجهة الثانية: عدم الفائدة منه:
على التسليم بصحة المنطق بما فيه الأقيسة المنطقية وما يترتب عليه: فإنّ
العلماء ذكروا أنه لا فائدة منه، وأنه يمكن الاستغناء عنه، ومن ذلك قولهم:
أ- قال ابن الصلاح (رحمه الله) : (.. ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض
في بحر الحقائق والدقائق علماؤها؛ حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة) [51] .
ب- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (لا تجد أحداً من أهل الأرض
حقق من العلوم، وصار إماماً فيه مستعيناً بصناعة المنطق؛ لا من العلوم الدينية
ولا غيرها.
فالأطباء والحُسّاب والكُتاب ونحوهم يُحققون ما يُحقّقون من علومهم وصناعتهم
بغير صناعة المنطق.
وقد صُنّف في الإسلام علوم النحو، واللغة، والعروض، والفقه، وأصوله،
والكلام.. وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل
عامتهم كانوا قبل أن يُعرّب هذا المنطق اليوناني.
وأما العلوم الموروثة عن الأنبياء صرفاً وإن كان الفقه وأصوله متصلاً بذلك
فهي أجلّ وأعظم من أن يُظن لأهلها التفاتاً إلى المنطق؛ إذ ليس في القرون الثلاثة
من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وأفضلها القرون الثلاثة من كان
يلتفت إلى المنطق أو يعرّج عليه، مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا
يدرك أحد شأوها، كانوا أعمق الناس علماً، وأقلهم تكلّفاً، وأبرهم قلوباً، ولا يوجد
لغيرهم كلام فيما تكلموا فيه إلا وجدت بين الكلامين من الفرق أعظم ما بين القَدَم
والمِفْرَق [52] , [53] .
وقال (رحمه الله) : (أما بعد، فإني كنتُ دائماً أعلم أن المنطق اليوناني لا
يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد) [54] ..
وقال أيضاً: (ومعلوم أن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
وأئمة المسلمين، عرفوا ما يجب عليهم، وكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يُعرف
منطق اليونان..) [55] .
وقال أيضاً (رحمه الله) : (.. ونفس الحذّاق منهم [56] لا يلتزمون قوانينه
في كلّ علومهم، بل يعرضون عنها؛ إما لطولها، وإما لعدم فائدتها..) [57] .
د- وقال ابن القيم (رحمه الله) : (وهذا الشافعي، وأحمد، وسائر أئمة الإسلام
وتصانيفهم، وسائر أئمة العربية وتصانيفهم، وأئمة التفسير وتصانيفهم، لمن نظر
فيها، هل راعوا فيها حدود المنطق وأوضاعه؟ ولو صح، لهم علمهم بدونه أم لا؟ بل هم كانوا أجلّ قدراً، وأعظم عقولاً من أن يشغلوا أفكارهم بهذيان
المنطقيين) [58] .
2- مناقشة الدليل الثاني:
يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: إنه يُشترط في المستنبِط أن يكون عارفاً بقدر
من اللغة العربية [59] يمكنه من النظر في الأدلة الشرعية، ولا شك أن من توفر
لديه هذا القدر من علوم اللغة العربية فإنه يعتبر مجيداً للغة العربية، وبالتالي: فهو
قادر على استعمال الأساليب والتركيبات اللغوية الصحيحة التي يراها مناسبة
لترتيب مقدمات الحكم الشرعي.
3- مناقشة الدليل الثالث:
يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: إن اعتبار المنطق كالحساب والهندسة
ونحوها مما لا يُعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه، غير مسلّم؛
إذ التحقيق أنه مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوى باطلة كثيرة [60] .
__________
(1) انظر مثلاً: مناهج البحث عند مفكري الإسلام للنشار، ص71 وما بعدها.
(2) على يد أبي حامد الغزالي (ت: 505هـ) وذلك في كتابه: (المستصفى من علم الأصول) .
(3) انظر: الموافقات، ج4، ص247، ط دار الكتب العلمية، أولى سنة 1411هـ.
(4) انظر: المستصفى ج1، ص37، روضة الناظر ج1، ص92، 110، 113، 128، التلويح ج1، ص21، التوضيح ج1، ص20، حاشية البناني على شرح المحلي لجمع الجوامع ج1، ص22، حاشية العطار على شرح المحلي ج1، ص32، أصول الفقه للباحسين، ص 120.
(5) انظر: كشاف اصطلاحات الفنون، م3، ص1193، آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ص62، ضوابط المعرفة للميداني، ص 228، نظرية القياس الأرسطي لمحمد سعيد صباح، ص138.
(6) التلويح، ج1، ص21.
(7) أصول الفقه، ص120.
(8) نظرية القياس الأرسطي، ص150.
(9) انظر: آداب البحث والمناظرة، ص77، ضوابط المعرفة، ص272.
(10) التوضيح، ج1، ص20.
(11) انظر: أصول الفقه، ص120.
(12) انظر: المصدر السابق نفسه، ج1، ص37.
(13) انظر: التلويح، ج1، ص21.
(14) التوضيح، ج1، ص20.
(15) حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع، ج1، ص22.
(16) حاشيته على شرح المحلي، ج1، ص32.
(17) انظر: إحكام الفصول، ص458459.
(18) انظر: فتاوى ابن الصلاح، ص34.
(19) انظر: كتاب الرد على المنطقيين، ج3، ص180، نقض المنطق، ص168169.
(20) انظر: مفتاح دار السعادة ج2، ص89، إغاثة اللهفان ج2، ص 260.
(21) انظر: الموافقات، ج4، ص249250.
(22) انظر: المصدر نفسه، ج4، ص249250.
(23) انظر: الرسالة الشمسية، ص16، الإشارات، ج1، ص117.
(24) انظر: نقض المنطق، ص209.
(25) انظر: نظرية القياس الأرسطي، ص337.
(26) فتاوى ابن الصلاح، ص35.
(27) يُعبّر عن القياس المنطقي بالبرهان.
(28) القعاقع: جمع قعقعة، وهي حكاية صوت السلاح ونحوه، والمراد به هنا الصوت الضخم القوي الذي لا فائدة منه، (انظر: مختار الصحاح، مادة ق، ص545) .
(29) فتاوى ابن الصلاح، ص35.
(30) الزندقة: لفظ فارسي معرّب، ومعناه: عدم التمسك بشريعة، والقول بدوام الدهر، وقيل: إبطان الكفر وإظهار الإسلام (انظر: المصباح المنير، ص 256، معجم لغة الفقهاء، ص234) .
(31) صون المنطق والكلام، ص15.
(32) المصدر نفسه، ص15.
(33) انظر: المصدر نفسه، ص15.
(34) الجانب المنطقي في فلسفة الغزالي، ص345.
(35) هو: أرسطو.
(36) أدب الكاتب، ص5، وانظر: المقابسات، ص71، وإحكام الفصول، ص459460.
(37) الموافقات، ج4، ص249.
(38) سيأتي لاحقاً بعد قليل (49) أدب الكاتب، ص3.
(40) الرد على المنطقيين، ص206.
(41) نقض المنطق، ص155.
(42) المصدر نفسه، ص169.
(43) المصدر نفسه، ص155.
(44) أي: أهل المنطق.
(45) الرد على المنطقيين، ص195.
(46) المصدر السابق نفسه، ص321.
(47) مفتاح دار السعادة، ج2، ص8.
(48) المصدر نفسه، ج2، ص8.
(49) إغاثة اللهفان، ج2، ص260.
(50) مفتاح دار السعادة، ج2، ص9.
(51) فتاوى ابن الصلاح، ص35.
(52) المِفرَق بكسر الراء وفتحها: وسط الرأس، وهو الموضع الذي يُفرق فيه الشعر (انظر: مختار الصحاح، مادة (فرق) ص500) .
(53) نقض المنطق، ص168.
(54) الرد على المنطقيين، ص3.
(55) المصدر نفسه، ص179.
(56) أي: أهل المنطق.
(57) نقض المنطق، ص155.
(58) مفتاح دار السعادة، ج2، ص9.
(59) انظر ما ذُكر سابقاً في هذا البحث، ص22.
(60) انظر: نقض المنطق، ص209.(92/18)
دراسات تربوية قرآنية
لا تحسبوه شراً لكم
(2)
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
في الحلقة الماضية: أوضح الكاتب أهمية فهم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ
شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] ، وبيّن ارتباط هذا الفهم بسنن الله (سبحانه) في التغيير، ثم نوّه بأهمية هذا الموضوع، فكان مما تناوله: علاقة هذه السنة بالعقيدة،
ودورها في علاج اليأس والإحباط، والرضى بقضاء الله ...
وفي هذه الحلقة يوضح الكاتب هذه السنة.
- البيان -
من ثمرات هذه السنة:
إن لتَفَهّم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب، يظهر جليّاً
في المواقف، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء؛ فكان لزاماً على المسلم، وبخاصة
الداعية المجاهد، ألا يغفل عن هذه الثمرات المنبثقة من قوله (تعالى) : [لا
تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] ، وثمار الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة،
أذكر منها ما يلي:
1- حقيق العبودية لله (عز وجل) بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا:
إن الله (عز وجل) لم يعرفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط، وإنما
المقصود الأسنى من معرفة أسمائه (عز وجل) وصفاته: أن ندعوه بها، وأن نتعبد
له (سبحانه) بها؛ قال الله (تعالى) : [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]
[الأعراف: 180] إن في كل اسم من أسمائه (سبحانه) عبودية على العبد، يجب أن تظهر آثارها في القلب، وعلى الجوارح، وفي المواقف.
فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد لله (عز وجل) بها من خلال معرفة هذه السنة: الحكيم، العليم، البر، الرحيم، الودود، اللطيف.. وغيرها. فعندما يؤمن العبد
المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله (عز وجل) في كل أحكامه الكونية
والشرعية، وتضفي على القلب الأنس، وإحسان الظن بالله (عز وجل) ، والرضا
بقضائه، وأنه بر رحيم، لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة، وأن من
لطفه (سبحانه) أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه، وهذا
من معاني اسمه سبحانه (اللطيف) .
يقول الشيخ السعدي (رحمه الله) : (ومن معاني اللطيف: أنّه الذي يلطف
بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من
حيث لا يحتسب، ويرقّيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال،
حتى إنّه يذيقه المكاره، ليوصله إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة) [1] .
إن اليقين بلطف الله (تعالى) ينفي الشعور باليأس والقنوط من مجيء فرج الله
ونصره، وينشيء مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره، كما أنه ينشيء في القلب
الافتقار إلى الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه، وسؤاله (عز وجل) دائماً حُسْنَ
العاقبة والاختيار.
وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخواني طلاب العلم؛
وذلك بأن نحرص أشد الحرص ونحن ندْرس أو نُدَرّس أبواب التوحيد المختلفة على
ألا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط، وإنما نسعى جاهدين في ربطها
بأعمال القلوب، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر
أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات، والله المستعان.
2- الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال:
وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها؛ فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته
ويتعبده بها، فإنها تثمر في القلب ثباتاً، ورباطة جأش، وصبراً أمام الابتلاءات
والمصائب؛ فلا يضعف ولايخور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم، اللطيف الخبير، الودود الغفور: هو الذي قدرها عليه، وأنه لم يقدرها ليعذبه ويشقيه، ولكن
ليرحمه ويرده إليه.. عند ذلك يفوض أمره إلى ربه، ويرضى بما يختار له مولاه
(سبحانه) ، ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة، والصبر وحسن العاقبة. إن
هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد؛ لقوة الرجاء في الله (عز
وجل) ، واليقين بفرجه ونصره، واليقين بحسن العاقبة من الله (عز وجل) فيما أعده
للصابرين؛ قال (تعالى) : [إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ
مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] [النساء: 104] .
وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً
لذنوبه، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه.
فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا، والجنة في
الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة: فإنه بذلك يقوى صبره،
واحتماله، وبذله وتضحيته في سبيل الله (عز وجل) ، مع تفقد النفس من الذنوب،
وتنقية الصف من المنافقين، فذلك من أسباب النصر.
3- سعادة القلب وطمأنينته وسكينته:
عندما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله (عز وجل) هو عين الحكمة
والرحمة، والخير، سواء في العاجل أو الآجل، فإن هذه المعرفة تضفي على
القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة، مهما اشتدت المصائب،
وتوالت المحن؛ وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي
تفتك بكثير من الناس الذين حرموا مثل هذه المعرفة العظيمة بربهم، نعم سوف لا
يخيم على نفسه ما يخيم على النفوس اليائسة، من الشعور بالقلق والاكتئاب
وانكساف البال، تلك الأشياء التي تجر وراءها من مصائب الدنيا والدين ما لا يعلمه
إلا الله (عز وجل) . وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من
كثرة الاختيارات والترددات، التي هي منشأ القلق والهم والغم.
إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله (عز وجل) باب إلى الهم، والغم،
والحزن، وشتات القلب، وسوء الحال، والظن بالله ظن السوء، ولا يدفع ذلك كله
إلا معرفة الرب (عز وجل) بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والتعبد له (سبحانه)
بها، والعمل بمقتضاها، والذي يولد في النفس الرضى بما يختاره الله (عز وجل) ،
وأنه أرحم بعبده من نفسه [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [آل عمران: 66] .
4- سلامة القلب:
عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله (عز وجل) ومعرفته (سبحانه) بأسمائه الحسنى
وصفاته العلا، ويمتلئ باليقين بوعده، والثقة بحكمته، وانتظار رحمته؛ فإن كل
ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسل بها من القلب أمراض كثيرة؛
فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة؛ قال
(تعالى) في وصف إمام الحنفاء (عليه الصلاة والسلام) : [إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]
[الصافات: 84] وقال (تعالى) حكاية لدعاء إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) : [وَلا
تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ] [الشعراء: 87 89] .
ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي:
أ- السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء:
وذلك لأن الذي يوقن بحكمة الله (عز وجل) ورحمته في كل ما يقضيه من
أقضية كونية وشرعية: يعلم علم اليقين أن لله (عز وجل) الحكمة البالغة في إعطاء
من يشاء، ومنع من يشاء، وإعزاز من يشاء، وإذلال من يشاء. وهذا العلم لابد
أن يثمر الرضى بما يقدره الله (عز وجل) ويقضيه على الناس؛ وبذلك تزول
الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله (عز وجل)
والتسخط لها.
ب- لسلامة من أمراض الخوف والطمع:
إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحكمته وبره ولطفه لا تجده إلا قانعاً بما
آتاه الله (عز وجل) ، مطمئناً إلى اختيار الله (سبحانه) له؛ لأنه (عز وجل) أعلم بما
يصلح للعبد من نفسه، وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخطير (داء الطمع
والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها) ؛ لأن القلب الراضي المفوض أمره إلى الله
(عز وجل) قد امتلأ غنى وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله (سبحانه) ؛ فحري بقلب
هذه صفته ألا يكون فيه محل لمحبة غير الله، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة،
منها: عدم الأسى على ما فات، وعدم الفرح بما هو آت؛ قال (تعالى) : [مَا
أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَاًسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] [الحديد: 22، 23] ، والعبد المؤمن لا يدري أين يكون
الخير، أهو في الفائت أم الآتي؟ ولكن الله وحده هو الذي يعلم، وهو علام الغيوب.
كما أنها تثمر أيضاً: الزهد في الدنيا، والحذر منها، فكم فرح بالدنيا أناس
فكانت سبب هلاكهم وشقوتهم؛ قال (تعالى) : [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا
فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] [الشورى: 27] .
وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حكم ربه، وأحسن الظن
به، وفوض أموره إليه. إن الخوف والهلع سواءً أكان على الرزق أو الأجل لا
يكونان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أما لو عرف ربه
(عز وجل) ، وأنه رحيم ودود، وأنّه حكيم عليم، وأنه لطيف خبير.. معرفة
حقيقية يتعبد لربه بها: فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب، وتنفيان كل دواعي
الخوف والوجل من المخاليق الضعفاء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً فضلاً
عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم. ويبقى صاحب هذا القلب مطمئناً إلى حسن
اختيار الله له، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه؛ ولو ظهر
في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر، فمن يدري؟ ! فلعل في طيات المحنة
منحة ونعمة.
ج- السلامة من أمراض الكبر والخيلاء:
إن القلب لا يصدق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما
ذكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء؛ فإن العبد المؤمن متى ما
عرف ربه (عز وجل) وتعبد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله (عز وجل)
سوف تملأ القلب؛ وينتج عن ذلك: التواضع للحق وإيثاره، والتواضع للخلق،
وعدم غمطهم وظلمهم، بل لا ترى مَن هذه صفته إلا محبّاً للخير والإحسان للناس،
ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس؛ لأنه يشهد حكمة الله
(عز وجل) في ابتلائه لعبده بالخير والشر. ولأن أسباب الكبر والتعالي على الناس
لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمة دينية أو دنيوية، وأنه إذا أيقن العبد المؤمن أن
هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر؛ فإن الخوف على النفس من
هذا الابتلاء سيشغله عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم، وكيف يكون ذلك
وهو لا يدري أين يكمن الخير أو الشر؟ ! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له
ومتاع إلى حين، أو أن الذي يفخر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة
مفتوحة من الله (عز وجل) عليه، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر! .
5- محاسبة النفوس والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع:
إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد المؤمن إلى نفسه ويحاسبها على
تفريطها وذنوبها. وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الناس شرّاً ومصيبة؛
حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكفيراً للذنوب، وإيقاظاً له من الغفلة، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات.
ومتى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في
حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها؛ وصدق الله العظيم: [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] .
أما إذا حصل العكس من ذلك والعياذ بالله وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في
مزيد من الغفلة أو التسخط على أقدار الله (تعالى) ؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا
تعتبر خيراً لمن وقعت عليه، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ
والعبرة بحال من وقعت له المصيبة.
6- التعرف على سنن الله (عز وجل) في التغيير، والسير على هداها:
إن إدراك معاني أسماء الله (عز وجل) وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب
المؤمن منافذ عديدة على سننه (عز وجل) التي لا تتبدل ولا تتحول، وبخاصة
إدراك آثار حكمة الله (عز وجل) ورحمته ولطفه وإحسانه، ولقد مرّ بنا كيف أن فقه
قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] يطبع في القلب شعوراً
برحمة الله (عز وجل) وخيره وبره، وأن كل ما يقضيه (عز وجل) هو عين الخير
والمصلحة والحكمة، وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سنن الله
(عز وجل) التي تنبثق من هذه المعرفة، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله (عز
وجل) في التغيير: فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية
ذات اليمين وذات الشمال، وبذلك يسلم من التفسيرات المادية للأحداث، والتي
تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة؛ كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب
مادية، أو تلك التي تفسر العقوبات الربانية كالزلازل والأعاصير بكونها ظواهر
فلكية بحتة، متجاهلين قدر الله وحكمته.
كما أن هذه المعرفة تثمر أيضاً: معرفة الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن
بها الأمور والأحوال والأشياء، وحُقّ لها أن تكون بهذه المثابة؛ لأنها من عند الله
(عز وجل) الحكيم، العليم، الرحيم، الودود، الذي يعلم ما كان وما سيكون،
والذي له الكمال المطلق، وهو الغني الحميد. وهو (سبحانه) يقول الحق، ويقصّ
على عبيده رحمة منه وفضلاً جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذ الناس حذرهم
وليعتبروا ويتعظوا، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن
الربانية والموازين الإلهية، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق.
ولقد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب
العامر بمعرفة الله (عز وجل) وتوحيده، ولكن نخص هنا بعض السنن بشيء من
التفصيل، وذلك فيما يلي:
أ- العاقبة للمتقين: إن وعد الله (عز وجل) لا يتخلف، وكلمته لا تتبدل،
ولقد قال وقوله الحق: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ
المَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] [الصافات: 171- 173] هذا وعد
الله (سبحانه) ، ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير.
ب- ويتعلق بهذه السنة سنة أخرى في معناها، وهي قوله (تعالى) : [وَلَن
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] [النساء: 141] يقول ابن القيم (رحمه
الله تعالى) في معنى الآية: (قيل: بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم، وقيل: هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى،
وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن
الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسول.
وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، لا إشكال فيها بحمد الله؛ فإن الله
(سبحانه) ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فحيث كانت لهم سبيلٌ
ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به، أو ارتكاب بعض ما
نُهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب
تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة
التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم، فدخلوا
منها) [2] .
والحاصل مما سبق: أن معرفة السنة السابقة لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله
(عز وجل) وتوحيده؛ فإنه (سبحانه) لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة، ولو تسلط
الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين؛ وذلك أن المؤمنين
عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله (تعالى) : [لا
تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم؛ فيكون الخير
في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل، وإحداث التوبة والاستغفار،
وترك ما أوجب حلول المصيبة، وهذا خير في حد ذاته لم يكن ليظهر لو استمر
النصر والتمكين مع وجود المعاصي، وضعف الإيمان؛ لأنه والحالة هذه يستمر
الفساد بدون إصلاح.
وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير، ألا وهي قوله (تعالى) :
ج-[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .
ومثلها قوله (تعالى) : [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ
مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: 96] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّاً.
د- قوله (تعالى) : [وَلا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ] [آل عمران: 178] .
هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة
على كرامة الله له ومحبته إياه، ولا يدل على أنه في خير وسعادة، بل الغالب أن
وراء الإملاء والنعم شرّاً وعذاباً، وفي هذا الميزان توجيه للناس إلى حقيقة الابتلاء
بالخير والشر، وألا تكون موازينهم في السعادة والتعاسة هي النظر إلى كثرة النعم
أو قلتها؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب دنياً وأخرى، وكم من أناس صالحين حرموا
في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد، ولكنهم في خير وسعادة دنياً وأخرى. وهذه
المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره، وصدق الله العظيم: [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، أذكر منها قوله
(تعالى) : [فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ] [التوبة: 55] .
7- التؤدة والأناة وعدم الاستعجال:
وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ
خَيْرٌ لَّكُمْ] فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله (سبحانه)
إلا في ضوء ما أعلمه الله (عز وجل) عباده من السنن والثواب، فإنه والحالة هذه
لا ينبغي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في
جوانبها، متجرداً في ذلك لله (عز وجل) ، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي
ذكرها الله (سبحانه) في كتابه، وعلى لسان رسوله، وإذا وُفّق العبد إلى هذا الفضل: فإنه في الغالب يصدر عن الحق، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا (الحلم)
و (الأناة) اللتان يحبهما الله (عز وجل) .. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل
أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشرّاً، وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم
فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها، فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ
ونكدٌ وندمٌ.
ومن صور الاستعجال التي يمكن معالجتها بهذه السنة: ما نراه من تعجل
بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثمرة جهدهم، وتعريض
أنفسهم للابتلاء، وتمنيهم لمواجهة الأعداء ... وينسون أو يغفلون عن قوله: (لا
تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا) [3] . لأن المرء لا يدري ما تؤول إليه
الحال عند مواجهة العدو، ومشاهدة الأهوال. وقد يتمنى العبد حالة معينة
ويستعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور، ولكن الله (عز وجل) برحمته يحول
بينه وبين هذا الأمر لما يعلمه (سبحانه) من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛
فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه، فلما أصبحوا تحت وطأته: ضعفوا
وانتكسوا والعياذ بالله فحريّ بالمسلم أن يسأل ربه الدلالة على ما فيه الخير
والصلاح، وعلى ما فيه مرضاته (عز وجل) ورحمته.
مما سبق يتبين لنا فضل التؤدة والأناة، وأنها من ثمرة العلم بالله (عز وجل)
وتوحيده وأسمائه وصفاته، وأنه (عز وجل) يقدر الوقت المناسب لنصر أوليائه بعد
أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عدته، وأنه (سبحانه) هو العليم الحكيم
والبر الرحيم بعباده، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير
والرحمة، ولكن العبد القاصر والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم.
وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان: [خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ
آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ] [الأنبياء: 37] فطبيعته العجل والتسرع، إلا مَن منّ الله
عليه بتوحيده ومحبته والتسليم له، مع فعله للأسباب الممكنة، فإنه يسلم من الأفكار
المتعبة، والاندفاعات المتهورة، لأنه يفقه قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم]
وصدق الرسول: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) [4] .
__________
(1) تفسير السعدي: ج5، ص279.
(2) بدائع التفسير: ج2، ص85.
(3) متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد، باب (156) ، ج6، ص181 ومسلم في الجهاد، باب: كراهة تمني لقاء العدو، م3، ص1362.
(4) رواه: أبو داود في الأدب، باب: في الرفق، ج5، ص157 وهو في السلسلة الصحيحة للألباني، رقم (1794) .(92/30)
خواطر في الدعوة
تربية قرآنية
(2)
محمد العبدة
ليس أضر على الإنسان من (التقليد) الذي هو الاتباع دون بصيرة أو رويّة،
وكأن الإنسان في هذه الحالة يميل للكسل الفكري حتى لا يتعب نفسه في التجديد
والتأكد من صحة السير.
ومن الأمور البالغة الأهمية التي تحتاج للتأمل الدائم والمراجعة والتفكير
للوصول إلى أحسن الطرق والنتائج: موضوع التربية من خلال منهج يصاغ فيه
الإنسان، فإذا كان المنهج سليماً صحيحاً، وطريقة عرضه وتربية الناس من خلاله
صحيحة متحددة تخدم أغراضه: نجحت العملية التربوية. فإذا أخذنا مناهج التعليم
في المدارس المعاصرة، فإننا نجد المادة العلمية واحدة، ولكن بعض طرق التدريس
قد عفا عليها الزمن وغادرها الناس إلى الأفضل، بل إن كثيراً من المواد في
مدارسنا اليوم وكأنها تُعلّم لكي تُنسى، فلا يُستفاد منها عندما يخرج الطالب إلى
معترك الحياة.
فإذا انتقلنا إلى طرق التثقيف والتربية التي تُمارس لإخراج جيل مسلم: وجدنا
أنفسنا في الموقع نفسه، فالمسلمون يملكون منهجاً ربانيّاً، ولكن قد يأتي الخلل من
طريقة عرض هذا المنهج وتربية الناس به.
لم تكن طريقة القرآن في تربية الصحابة أن ينزل عليهم آيات في موضوع
واحد، ويقال لهم: أقرؤا هذه الآيات واحفظوها وافهموها، بل كانت الآيات تتنزل
وهي تتحدث عن: صفات الله وأسمائه الحسنى، وعن عظمة خلقه والكون المسخر
للإنسان، ودعوة إلى توحيد العبادة، وفي الوقت نفسه تتحدث عن: الحلال
والحرام، وعن الجهاد، وقصص الأنبياء، ومصائر الأمم، ولا ينفصل التذكير
بالآخرة وتقوى الله عن الشرائع والأوامر، كانت الآيات تخاطب النفس الإنسانية
بمجموعها، لا تخاطب الذاكرة وحدها أو العاطفة؛ اقرأ قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ... ]
[المدثر: 1- 5] ، كيف جمع بين التوحيد والأخلاق والبلاغ، واقرأ قوله (تعالى)
في سورة الإسراء: [لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22) وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] [الإسراء: 22، 23] إلى آخر الآيات
التي تتحدث بعد ذلك عن الإنفاق في سبيل الله، والنهي عن التبذير وأكل أموال
الناس بالباطل..، وتأمل في مستهل سورة (المؤمنون) كيف تحدثت الآيات عن
العبادات، ثم عن الخلق والبعث، ثم عن نعم الله على خلقه، ثم عن قصة نوح
(عليه السلام) .. إن هذه الطريقة في المزج بين الموضوعات، وإن كانت من
معجزات القرآن، إلا إنها طريقة تربوية أيضاً، وعندما يُدرس الفقه منفصلاً عن
الوعظ والتذكير بالآخرة: فسيخرج فقهاء قساة القلوب، والسيرة النبوية يجب ألا
تُدرس وكأنها تاريخ، ولا العبادات وكأنها تكاليف.
وإذا كان تقسيم العلوم لابد، وقد جرى على ذلك العلماء، ولكن الارتباط بين
هذه العلوم كان واضحاً عند علماء السلف، والصلة بالقرآن ومواعظه وقوارعه
موجودة.. وفي حياتنا المعاصرة: لابد من ربط هذه العلوم بالواقع، واستلهام
القرآن في مزجها والربط فيما بينها، هذه الطريقة التي زكت نفوس الصحابة؛
فكان أحدهم يقوم الليل بآية واحدة يكررها متدبراً لها، وذكر عن جبير بن مطعم أنه
قال: (سمعت النبي يقرأ في المغرب ب (الطور) فلما بلغ هذه الآية [أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ] [الطور: 35] كاد قلبي أن يطير) . وقد قال (تعالى)
عن القرآن إنه: [هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] [البقرة: 2] .(92/42)
دراسات اقتصادية
وقفات متأنية مع
عمليات التمويل في البنوك الإسلامية
(2)
د.محمد بن عبد الله الشباني
يتم استخدام بيع المرابحة أو ما يطلق عليه بعض الفقهاء المعاصرين (بيع
المرابحة للآمر بالشراء) على نطاق واسع في تمويل احتياجات الأفراد والمؤسسات
التجارية، فعقد المرابحة يمثل أكثر الوسائل استخداماً في استثمار الأموال المتاحة
لدى البنوك الإسلامية.
لقد أُثيرت شبهات كثيرة حول أسلوب وطريقة استخدام هذا النوع من البيوع
الذي استُخدم من قِبَل البنوك الإسلامية كوسيلة لتوفير التمويل قصير الأجل وطويل
الأجل، وأن ما يتم ما هو إلا حيلة لاستحلال الربا باسم (بيع المرابحة) .
إن أهمية هذا الأسلوب من وسائل التمويل المستخدمة من قبل البنوك
الإسلامية تعود إلى أنه أكثر الأساليب استخداماً من ناحية، وإلى ما يثار حوله من
شبهات، مما يستدعي مناقشته، بقصد بناء أسلوب تمويلي بعيد عن الربا وعن أي
شبهة تؤثر على إسلامية العمليات التمويلية.
لقد سبق أن ناقشتُ عقد المرابحة في كتابي (بنوك تجارية بدون ربا) منذ أكثر
من سبع سنوات، وقد أوضحت في تلك الدراسة بعض التحفظات، واقترحت
بعض التعديلات، ولكن بعد مضي هذه الفترة وبحكم ممارستي في الواقع العملي
واطلاعي على بعض العقود التي تجريها بعض الشركات مع البنوك الإسلامية
تكونت لدي قناعة: أن الأسلوب والطريقة المطبقة لا تختلف من حيث الغاية
والهدف عن الوسائل المتبعة في البنوك الربوية؛ فضمان الربح وتجنب المخاطرة
عنصران أساسان في عملية ما يطلق عليه (بيع المرابحة) ، ولهذا: سوف يتم
مناقشة هذا الموضوع من عدة جوانب تتمثل في فهم بيع المرابحة كما هو معروف
في الفقه الإسلامي، وأسلوب بيع المرابحة المتبع من قبل البنوك الإسلامية،
والشبهات المثارة على هذا الأسلوب المستحدث لبيع المرابحة، ومناقشة وجهات
النظر المختلفة المؤيدة والمانعة لهذا الأسلوب، مع إيضاح البدائل المقترحة كأسلوب
للتمويل يبتعد بذاك الأسلوب من التمويل عن شبهة الربا.
بيع المرابحة لدى الفقهاء الأقدمين:
يعرف ابن قدامة في المغني المرابحة بأنها: (البيع برأس المال وربح
معلوم) [1] أو يصورها بقوله: (رأس مالي فيه، أو: هو عَلَيّ بمئة بعتك بها وربح عشرة) [1] ، وصورة المرابحة عند المالكية كما جاء في الموطأ للإمام مالك: (الأمر المجتمع عليه عندنا في البَزّ [*] يشتريه الرجل ببلد، ثم يقدم به بلداً آخر، فيبيعه مرابحة..) [2] .
وتختلف المذاهب الفقهية فيما بينها في نوعية الشروط: فالمذهب الحنبلي:
يشترط لصحة المرابحة معلومية الربح، وثمن الشراء، وعلى البائع تبيان ثمن
شرائه على حدة، وما أنفقه على البيع على حدة [3] . أما المذهب الشافعي: فهو
يتفق مع المذهب الحنبلي في معلومية الربح والثمن، ولكنه لا يلزم فصل ثمن
الشراء والنفقة التي أنفقها، أما الأحناف: فيجيزون بيع المرابحة بثمن الشراء بربح
بشرطين: الأول: أن يكون المبيع عرضاً، فلا يصح بيع النقدين مرابحة،
والثاني: أن يكون الثمن مثليّاً كالريال والدولار ونحوهما [4] .
مما سبق يتضح أن بيع المرابحة كما ورد في كتب علماء الفقه الأقدمين
يشترط: وجود السلعة، ومعلومية الثمن، وتحديد الربح من قِبَل البائع قَبل البيع،
ويقصد بمعلومية الثمن: معلومية ثمن شراء البائع للسلعة التي يريد المرابحة فيها
من قبل راغب الشراء وما أنفقه البائع عليها، وبالتالي: فإن أي شكل من الأشكال
المستخدمة في بيع المرابحة أو ما يطلق عليه: (بيع المرابحة للآمر بالشراء) هو
عقد مستحدث يجب ألا ينسب إلى بيع المرابحة كما أشار إليه الفقهاء، وإنما يجب
أن يدرس بمعزل عن ذلك وفق الظروف التي استُحدث فيها هذا العقد والغاية التي
قصدت منه.
أسلوب بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية:
تتمثل إجراءات بيع المرابحة كما هو متبع من قبل البنوك الإسلامية في
الخطوات التالية [5] :
1- يتقدم طالب التمويل للبنك الإسلامي مبدياً رغبته في شراء أصل رأسمالي
أو مواد خام أو سلعة رأسمالية أو استهلاكية أو سلع بغرض الاتجار فيها، ويقدم
للبنك فاتورة التسعيرة المرسلة من المصدر أو البائع المحلي الذي يمتلك السلعة وقد
حددت في هذه التسعيرة مواصفات السلعة المراد شراؤها.
2- يتفق البنك الإسلامي مع طالب التمويل بقيام البنك بشرائها لصالحه،
ويتم توقيع وعد بالشراء من قِبَله ووعد من البنك بأنه سيقوم ببيعها له بزيادة معينة
تمثل ربح البنك.
3- يتم توقيع عقد بيع مرابحة بعد وصول مستندات البضاعة للبنك، يحدد
في هذا العقد قيمة البيع بما في ذلك ربح البنك، وهذا على أن يتم دفع الثمن مؤجلاً
على شكل أقساط أو كمبيالات.
بتحليل هذه الصورة من التعامل التي يطلق عليها (بيع المرابحة) أو (بيع
المرابحة للآمر بالشراء) نجدها تتصف بالآتي:
1- الهدف والغاية من هذه المبايعة هو قيام البنك بتوفير المال اللازم لطالب
التمويل، فالبنك لا يتعامل بالسلع المراد بيعها، أي: إن مهمته ليست الاتجار،
واتباع هذا الأسلوب هو محاولة للخروج من المحظور الشرعي.
2- الهدف من الوعد بالشراء والوعد بالبيع: توفير حقيقة الالتزام من كلا
الطرفين (البائع والمشتري) ، وبدون هذا الوعد لا يقوم البنك بالالتزام.
3- طالِب التمويل لم يتقدم للبنك الإسلامي بقصد شراء سلعة موجودة ومملوكة
عند البنك، وإنما قصده: توفير المال لشراء هذه السلعة على أن يتم سداد قيمتها
مؤجلاً، فالتأجيل غاية العقد وليس البيع هو الهدف، وبالتالي: فإن ما يُطلق عليه
(العائد الربحي) لا يخالف في الحقيقة ما يمكن أن يعادل (الفائدة) التي يتم تحصيلها
من القروض والتسهيلات البنكية حسب ما يتم فعله من قبل البنوك الربوية، والعبرة
في العقود بمقاصدها لا بألفاظها.
لقد ثار حول هذا التعامل جدل يتعلق بمدى إسلامية هذه الصورة المستحدثة
من التعامل، وأُثيرت شبهات عدة يمكن حصر بعضها في الأمور التالية:
أولاً: أنها معاملة قُصد منها التحايل على أخذ الربا، وقد جاء الشرع بإبطال
الحيل والتنديد بأصحابها من اليهود ومن حذا حذوهم، وقد استُدل على أن هذا البيع
هو حيلة لاستحلال الربا بما ذكره ابن عبد البر المالكي في (الكافي) [6] من صور
لبيع المرابحة مشابهة للذي تتعامل به البنوك الإسلامية حالياً، يقول: (معناه: أنه
تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل بينهما سلعة محللة، مثال ذلك: أن
يطلب رجل من آخر سلعة يبيعها منه بنسيئة وهو يعلم أنها ليست عنده ويقول له:
اشترها من مالكها هذا بعشرة وهي علي باثني عشر إلى أجل كذا، فهذا لا يجوز) ،
لقد كان الرد على هذه الشبهة من المجيزين لهذه الأسلوب من التعاقد: بأن البنك
الإسلامي يقوم بالشراء حقيقة، ولكنه يشتري ليبيع لغيره، كما أن العميل الذي
طلب أن يقوم البنك بالشراء له يريد شراءها حقيقة، وبالتالي: فلا حيلة في الأمر،
كما أن الادعاء بأن هذه العملية تشبه ما يجري في البنوك الربوية وإنما تغيرت
الصورة فقط قول غير صحيح، فإن تغيير الصورة أحياناً يكون مهمّاً جدّاً، وإن
كانت نتيجة الأمرين واحدة في الظاهر؛ فالمهر للزوجة وما تعطاه البغيّ يجتمع في
الظاهر في أنه مقابل الاستمتاع، لكن النية مختلفة، ويندرج هذا في المقارنة بين ما
يُدفع مقابل الاستقراض من ربا، وما يُدفع ربحاً مقابل البيع، وأن الفرق بينهما أن
ما يتم في البنوك الإسلامية هو بيع يترتب عليه ضمان البائع (البنك) للسلعة حتى
يتم استلامها من قبل المشتري، فإذا هلك المبيع فهو على ضمان البائع، ويتحمل
تبعة الرد بالعيب إذا ظهر فيه عيب، كما أنه إذا تأخر في توفية الثمن في الأجل
المحدد لعذر مقبول لم تفرض عليه أية زيادة كما يفعل البنك الربوي [7] .
إن حقيقة الشبه تقوم على أساس النية، التي هي مدار الأمر وأصل من
الأصول التي يرجع إليها في التأكد من سلامة القول والفعل، ولا شك أن النية لا
يمكن قياسها ولا يمكن التأكد منها، ولكن الأمر راجع إلى قلب وفؤاد الشخص،
وبهذا: فإن الصورة الظاهرة لهذا العقد يجب ربطها بالنتيجة؛ فالبنك الإسلامي لا
يُتاجر في العروض وإنما يُتاجر في الدراهم، فهو لا يقوم بالشراء لصالحه بقصد
البيع بعد أن يتملك السلع وبدون اتفاق مبدئي، بل إنه لا يلتزم بالشراء إلا بعد التأكد
من وجود العميل الراغب في الشراء وأخذ الضمانات لحفظ حقوقه، كما أن السلعة
لا يتم شراؤها إلا وفق ما يرغبه المشتري من مواصفات، وبالتالي: فإنه لا نية
للتجارة لدى البنك كما يظهر من التعامل، والقاعدة الشرعية المتفق عليها: أن
العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
ثانياً: أن هذا الأسلوب من المرابحة لم يقل به أحد من فقهاء الأمة الأقدمين،
بل وُجد من قال بحرمته، واستدل من قال بهذا القول بما روي عن الإمام مالك في
الموطأ تحت باب النهي عن بيعتين في بيعة: (أنه بلغه أن رجلاً قال لرجل: ابتع
لي هذا البعير بنقد حتى ابتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر،
فكرهه ونهى عنه) [8] .
إن واقع الأمر في البنوك الإسلامية أن العميل هو الذي يبيّن للبنك: السلعة
المطلوبة، ومن توجد لديه، وسعرها، ومواصفاتها، بحيث يقتصر دور البنك على
شرائها وسداد قيمتها لمن توجد عنده، ويبيعها إلى أجل للعميل، وقد ذكر ابن جزي
في (القوانين الفقهية) صورة من صور بيع العينة، وهي: (أن يقول رجل لآخر
اشتر لي سلعة بعشرة وأعطيك خمسة عشر إلى أجل، فهذا ربا محرم) [9] ، لقد رُد
على ذلك من قبل المجيزين لهذا الأسلوب بأنه: ليس من الضروري في المعاملات
المستجدة أن نجد مِنَ الأئمة السابقين مَن قال بحلها، وليس من اللازم رد كل مسألة
إلى صورة من صور المعاملات القديمة لتُخَرّجَ عليها وتأخذ حكمها، بالإضافة إلى
ذلك: فقد أشار المجيزون إلى قول الإمام الشافعي في كتابه (الأم) : (وإذا أرى
الرجلُ الرجلَ السلعة، فقال: اشترِ هذه وأُربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل،
فالشراء جائز، والذي قال أربحك فيها: بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً وإن شاء
تركه) ، لقد اعترض على هذا بأنه: حتى ولو قُبل هذا القول، فإن نص الشافعي
(رحمه الله) خلا من ذكر الأجل، كما أن الإلزام غير جائز في المرابحة، بعكس ما
هو معمول في البنوك الإسلامية من ضرورة توقيع الالتزام.
ثالثاً: ومن الشبهات المثارة: شبهة أنه بيع من بيوع العينة (بيوع العينة
محرمة) ، أما وإنها من بيوع العينة؛ فقد ذكر المالكية في كتبهم هذه الصورة ضمن
بيوع العينة، وعدوها من الصور الممنوعة، وهي أن يقول: اشترِ لي سلعة كذا
بعشرة نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، وهذا هو جوهر (بيع المرابحة)
الذي تجريه البنوك الإسلامية، يرد المجيزون لهذا البيع بأن: المالكية توسعوا
كثيراً في إدخال صور من البيوع في دائرة الحظر بحجة سد الذرائع، وأن إدخال
هذه الصور من البيوع الممنوعة لم يجئ به كتاب ولا سنة، بل هو عمل اجتهادي
محض، فقد اختلفوا في وجه منع بيوع الآجال، فمنهم من قال: إنها أكثر معاملات
أهل الربا، ومنهم من قال: إنها سد لذرائع الربا، كما أن بيع المرابحة الذي تجريه
البنوك الإسلامية لا يدخل ضمن مفهوم بيع العينة؛ فالجوزجاني يقول: إن العينة
إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والوَرِق؛ فيشتري السلعة ويبيعها
بالعين التي احتاج إليها، وليست به إلى السلعة حاجة، وصورة بيع العينة كما جاء
في (نيل الأوطار) للشوكاني: أن يبيع شيئاً إلى غيره بثمن معين (مئة وعشرين
مثلاً) إلى أجل (سنة مثلاً) ويتسلمه المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل
من ذلك القدر (مئة مثلاً) يدفعه نقداً، فالنتيجة: أنه سلمه مئة ليتسلمها عند الأجل
مئة وعشرين، وعليه: فإن بيع المرابحة الذي تجريه البنوك لا يدخل ضمن صور
بيع العينة؛ لأن طالب السلعة يرغب فيها، فهو يحدد مواصفات السلعة، ويحدد
مصادر صنعها أو بيعها، والبنك يشتريها بالفعل ويُساوم عليها، ثم يبيعها للعميل
الذي طلب الشراء ووعد به، كما يفعل أي تاجر، فإن التاجر يشتري ليبيع لغيره
وقد يشتري سلعاً معينة بناء على طلب بعض عملائه [10] .
رابعاً: أن أسلوب هذا التمويل بواسطة بيع المرابحة يدخل تحت النهي عن
بيعتين في بيعة أو حقيقتين في حقيقة، وقد ورد الحديث الذي رواه أبو داود في
سننه عن أبي هريرة مرفوعاً (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) [11]
ويقول المجيزون لبيع المرابحة: إن تفسير هذا الحديث لا يماثل واقع بيع المرابحة
الذي تجريه البنوك الإسلامية؛ فقد ذكر ابن القيم في (تهذيب سنن أبي داود) تعليقاً
على هذا الحديث: أن للعلماء في تفسيره قولين: أحدهما: أن يقول بعتك بعشرة
نقداً أو عشرين نسيئة، وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك، ففسره في حديث ابن
مسعود قال: (نهى رسول الله عن صفقتين في صفقة واحدة ... ، قال سماك:
الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنساءٍ بكذا وكذا، وبنقد بكذا وكذا.) [12] والتفسير
الثاني: أن يقول: أبيعكها بمئة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالاً، وهذا
معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله: (فله أوكسهما أو
الربا) ..) وعلى ضوء هذا: فإنه لا يوجد ثمنان معروضان (نقداً بكذا ونسيئة بكذا) في بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية، وإنما هو بثمن واحد محدد معلوم، وبالتالي: فإنها مواعدة على بيعة حقيقية واحدة، ثم عقد بيع واحد بعد امتلاك البنك للسلعة [13] .
خامساً: من الأمور المثارة من المعترضين على هذا الأسلوب من التمويل:
أنه يدخل في بيع ما لا يملك أو بيع ما ليس عند البائع، وهو ما يسمى أيضاً بيع
المعدوم، وهو بيع منهي عنه، والبنك الإسلامي يبيع العميل ما لا يملكه، فالسلع
التي يُطلب منه شراؤها من الداخل أو استيرادها من الخارج لم تدخل في حوزته
بملك حقيقي، فهو لا يشتري السلعة إلا إذا ضمن المشتري وتواعد معه. يرد
المجيزون لهذا الأسلوب على هذه الشبهة بأن: معنى ما وردت به السنة من النهي
عن بيع ما ليس عندك هو كما ذكر الخطابي في (معالم السنن) أنه يراد به: بيع
العَيْنِ دون بيع الصفة، وبيع الرجل مال غيره موقوفاً على إجازة المالك، لأنه بيع
ما ليس عنده ولا في ملكه؛ وهو غرر، كما أشاروا إلى ما ذكره ابن تيمية تفسيراً
لهذا الحديث في الفتاوى بأنه: يراد به بيع عين معينة، فيكون قد باع مال الغير
قبل أن يشتريه، وفيه نظر، وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان
في الذّمة، وهذا أشبه فيمن يكون ضمن له شيئاً لا يدري هل سيحصل أو لا يحصل. وأن ما يُعمل به من قِبَل البنك الإسلامي هو أن ما يتم قبل إجراء عقد البيع إنما
هو مواعدة بينهما وليس بيعاً وشراء، وإنما يتم البيع وفق الصيغة المتبعة من قبل
البنك الإسلامي إذا تم تملك السلعة بالفعل، أي ورود مستندات الشحن ووصول
البضاعة إلى الميناء.
على ضوء ما سبق من مناقشة لأسلوب المرابحة أو المرابحة للآمر بالشراء
كما يتم اتباعه من قِبَل البنوك الإسلامية وما طُرح حول هذا الأسلوب من شبهات
تمت مناقشتها، فإن ما يظهر من حقيقة هذا الأسلوب هو: أنه أسلوب أقرب للربا
منه للبيع، وحتى يتضح الأمر عن مدى قُرب وبُعد هذا الأسلوب المتبع من الربا
لابد من معرفة طبيعة الربا والاختلاف بينه وبين الربح الناتج عن البيع.
إن المعنى اللغوي المجرد للفظ الربا هو: الزيادة في ذات الشيء سواء أكانت
هذه الزيادة حسية أم معنوية، وسواء أكانت من جنس الشيء نفسه أم خارجة عنه،
وسواء أكانت في متحدي الجنس أم غير متحدي الجنس [14] ، أما المعنى
الاصطلاحي: فقد قيدها في الزيادة في أشياء مخصوصة [15] ، ويقصد بهذه
الزيادة المخصوصة أنها: زيادة أحد البديلين المتجانسين من غير أن يُقابل هذه
الزيادة عوض، أما إذا قيل: إن الربا يطلق في الشرع على المبادلات والبيوع
المنهي عنها؛ فيعود ذلك إلى أن كل بيع محرم يشتمل على زيادة غير مشروعة،
سواء أكان أحد العوضين ليس مالاً مباحاً مثل الخمر، أو أن الزيادة لأجل الجنس،
فيكون بذل العوض فيه في غير مقابلة، أو أنه غير متكافئ لأن فرق الزيادة في
غير مقابلة عوض مشروع، وعلى ضوء هذا: فما هو الفرق بين البيع والربا؟ .
الفرق بين البيع والربا يمكن إجماله في الأمور التالية [16] :
1- يقتضى البيع من التاجر جهداً سواء أكان جسميّاً أو فكريّاً، فيحصل على
الربح الذي يقابل ذلك، فهو يشتري السلعة إما من السوق المحلية أو يستوردها من
أماكن أخرى، ويقوم بشحنها ونقلها وتجزئتها والإعلان عنها وترويجها، وهذه
أعمال يستفيد منها أفراد آخرون سواء من يستهلك السلعة أو من يناولها لتصل ليد
المستهلك، أما المرابي: فهو لا يمارس عملاً من هذه الأعمال، وإنما يستفيد هو
وحده من توفر هذه الأموال لديه وحاجة الناس إليها.
2- التاجر يخضع للربح والخسارة، وهذا مبدأ مهم في التجارة، فإن السلعة
لا تكون دائماً مربحة، فقد يخسر التاجر فيها وقد يربح، أما المرابي: فحصوله
على الفوائد دون عمل أو تَعَرّض للخسارة، لأن موضوع تجارته نقد متوفر لديه.
3- أن البيع يتم بين ثمن ومثمن، فكان من المعقول أن يجري فيه الكسب،
أما الربا: فهو مقابل الأجل والإمهال، وهذا ليس عوضاً.
إن فهم الطبيعة الربوية للعمليات التمويلية يقتضي تحديد الإطار الذي يمكن
من خلاله تمييز الأعمال الربوية عن غيرها. يتمثل الإطار الذي على ضوئه معرفة
العمليات التي يدخل فيها الربا والعمليات التي لا تدخل ضمن نطاق الربا المحرم في: أن المكونات الأساسية للعمليات الربوية تتكون من ثلاثة جوانب [17] .
1- الزيادة على رأس المال، أي: الزيادة المضافة على مقدار التمويل
المطلوب الذي يرغب فيه المقترض أو المحتاج للمال.
2- ارتباط نسبة الزيادة بالمدة، أي: إن مقدار الزيادة على مقدار المال
الممنوح لراغب التمويل تتناسب طرديّاً مع فترة السداد، وبالتالي: فالزمن هو
المتحكم في مقدار الزيادة وفي نسبتها.
3- الزيادة في المال عما تم تمويله شرط في أي تعامل يتم بين المتعاملين.
إن وظيفة البنوك الأساسية في المجتمعات المعاصرة بما في ذلك البنوك
الإسلامية تقوم على أساس توفير المال للمقترض، وتخضع هذه البنوك لأحكام
مراقبة البنوك المركزية التي تقوم وظيفتها على أساس التأكد من أن هذه البنوك
تتاجر في النقود اقتراضاً وإقراضاً، وبالتالي: لا يحق لها الخروج عن هذا الإطار، وبحكم أن البنوك الإسلامية تخضع لإشراف البنوك المركزية فهي ملزمة بالبحث
عن وسائل تتفق والطبيعة الإقراضية للبنوك، وعلى ضوء هذه الحقيقة: فللنظر
إلى طبيعة (بيع المرابحة للآمر بالشراء) مقارنةً بالمكونات الأساسية لمفهوم الربا،
نجد أن المرابحة التي تجريها البنوك الإسلامية وكما سبق أن أوضحنا تتكون من
ثلاثة أطراف (بائع، ومشترٍ، وبنك وسيط) ، فالبنك لا يمارس عملية البيع، فهو
وسيط بين البائع والمشتري، والغرض من وجود البنك في العملية: توفير ثمن
السلعة نقداً وقبض قيمتها من المشتري لها الذي لا يجد المال الكافي لذلك على أساس
أن يقوم بالدفع للبنك في زمن لاحق، ويأخذ البنك مقابل هذا التأجيل زيادة في ثمن
السلعة المشتراة تزداد بزيادة الزمن الذي سوف يتم فيه سداد الثمن، ولا شك أن
الزيادة في ثمن السلعة عن الثمن الحال جائز عند جمهور الفقهاء إذا كان التأجيل من
البائع للمشتري للسلعة، أي: إذا كانت العلاقة ثنائية بين بائع ومشترٍ لعوض،
ولكن عند تدخل وسيط مالي (وهو البنك) ، وأَخْذ فرق في السعر، واعتبار ذلك
تجارة وإطلاق لفظ (بيع المرابحة) عليه لا يغير من الحقيقة شيء، فهذا الأسلوب
يشبه الحسم المصرفي الذي تقوم به البنوك الربوية عند دفع قيمة الكمبيالة المسحوبة
لصالح أحد التجار على فرد آخر، فيقوم البنك مقام المسحوب له الكمبيالة، ويأخذ
مقابل ذلك: خصماً على قيمة الكمبيالة محسوبة على أساس الزمن الذي بين تاريخ
الحسم وتاريخ استحقاق الكمبيالة، فالمرابحة التي تجريها البنوك الإسلامية تشبه
حسم الكمبيالات من حيث الغاية والهدف، وإن اختلف الأسلوب؛ فالأسلوب المتبع
من قبل البنوك الربوية من حيث العلاقة الثلاثية هو: أن التمويل في (الحسم) يمنح
إلى البائع، وفي (بيع المرابحة) إلى المشتري، ودور الوسيط (البنك) : توفير
المال لأي طرف من الطرفين.
وعلى ضوء ما سبق: فإن (بيع المرابحة) أو (بيع المرابحة للآمر بالشراء)
كما يتم في البنوك الإسلامية يعتبر من البيوع التي ينبغي تجنبها؛ لما فيها من شبهة
الربا، ولابد من البحث عن أساليب التمويل التي لا لبس فيها ولا شبهة، وبدون
محاولة للبحث عن حيل شرعية لخداع النفس، بل إن من الواجب إعادة النظر في
إجراءات وطرق العمل في البنوك الإسلامية بدون تأثر بالطرق المتبعة في النظام
البنكي الربوي.
والبديل الذي يمكن اقتراحه كوسيلة لتمويل احتياجات الراغبين في التمويل
يرتبط بأمر ضروري يجب وضعه في عين الاعتبار، وهو: ضرورة إعادة هيكلية
تنظيم البنك الإسلامي بحيث لا يخضع لأساليب الرقابة المركزية للنظام البنكي
الربوي، بل يجب إيجاد وسائل وإجراءات ذات استقلالية تعالج العلاقات التنظيمية
بين البنك المركزي وما يمكن أن يمارسه من رقابة على السياسة النقدية وما يمكن
أن يطرحه من وسائل لتنفيذ السياسة المالية التي ترغب الأجهزة المشرفة على
الأنشطة الاقتصادية في المجتمع في تنفيذها.
إن الإطار الذي يجب أن يمارس فيه البنك نشاطه التمويلي يرتكز على
ركيزتين: الأولى: المشاركة، والثانية: المضاربة [18] .
إن عمليات التمويل التي يحتاج إليها النشاط الاقتصادي تتمثل في تمويل
أربعة أنواع، هي:
1- تمويل أصول رأسمالية.
2- تمويل شراء مواد أولية لمصنع.
3- تمويل شراء سلع لغرض الاتجار بها.
4- تمويل مالي للصرف على الأعمال التشغيلية قبل تحقيق الإيراد.
ويمكن اتباع أسلوب المشاركة فيما يتعلق بتمويل الأصول الرأسمالية، بحيث
يكون للبنك نسبة من الأرباح التي يحققها المستفيد من هذا الأصل، أو استخدام
أسلوب التأجير لهذه الأصول تحت ضمان المستأجر لهذا الأصل، بحيث يكون
هناك عائد إيجاري، ولابد في هذه الحالة أن يتم وضع سياسة استثمارية للبنك،
بحيث لا يؤثر تمويل هذا القطاع على نسبة السيولة لدى البنك.
أما بالنسبة لتمويل شراء مواد أولية: فيمكن اتباع أسلوب بيع السّلَم، بحيث
يقوم البنك بشراء جزء من المنتج النهائي بسعر يتفق عليه وفق شروط بيع السلم،
أما بالنسبة لتمويل شراء السلع لغرض الاتجار بها، وكذلك تمويل الاحتياجات
التشغيلية لمختلف الأعمال الخدمية: فيمكن اتباع عقود المضاربة، بحيث يقوم
البنك بتمويل التاجر باعتباره مضارباً أو باعتباره شريكاً في شركة عنان، بشرط
أن يتوفر لدى البنك الجهاز الإداري والمحاسبي والفني لمتابعة نشاطات المضاربات
مع الآخرين، ويمكن قيام بنوك متخصصة لتمويل عمليات المضاربة وفق الأنشطة
الاقتصادية المختلفة.
__________
(1) المغني، ج4، ص199.
(*) البَزّ: الثياب، أو متاع البيت من الثياب ونحوها ... ... ... ... ... - البيان -.
(2) موطأ الإمام مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثي، بعناية: محمد فؤاد عبد الباقي، م2، ص668.
(3) المغني، ج4، ص199.
(4) الفقه على المذاهب الأربعة، للجزيري.
(5) بيع المرابحة للآمر بالشراء، د يوسف القرضاوي، ص24.
(6) الكافي، لابن عبد البر، ج2، ص572.
(7) بيع المرابحة للآمر بالشراء، للقرضاوي، ص27-31.
(8) الموطأ، م2، ص663.
(9) القوانين الفقهية، ص284.
(10) بيع المرابحة للآمر بالشراء، ص40-47.
(11) أخرجه أبو داود وابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، م2، ص662، ح2955 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.
(12) أخرجه الإمام أحمد، ج1، ص398، وصححه أحمد شاكر؛ ج5، ص295 - البيان -.
(13) بيع المرابحة للآمر بالشراء، ص39-49.
(14) الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، د عمر بن عبد العزيز المترك.
(15) المغني لابن قدامة، ج4، ص3.
(16) الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، ص49، 50.
(17) الربا لأبي الأعلى المودودي، ص82-84.
(18) لمزيد من معرفة هيكلية التنظيم للبنك التجاري غير الربوي، يراجع كتابنا: بنوك تجارية بدون ربا، الفصل الرابع من الباب الثاني.(92/44)
مقال
الكتابة بين الغموض والبيان
بقلم: محمد عبد الأعلى
النقلة من (التراب) ، أو (الطين) ، أو (الماء المهين) ، ... إلى البشر الكريم
ذي العينين واللسان والشفتين مظهر نعمة (الوجود من العدم) التي منّ الله (سبحانه)
على الإنسان بها، وإخراج الإنسان من عالم العجمة إلى عالم البيان: نعمة أخرى
حققت وجوده المعنوي، مثلما تحقق وجوده المادي بالنعمة الأولى، وتآزرت
النعمتان متواكبتين لتكونا ركيزة أهلية الإنسان للتلقي والفهم والبلاغ عن الله
[الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ القُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ] [الرحمن: 1- 4] .
نورانية المنهج:
والبيان وضوحاً وعمقاً، صفاء وقوة: من سمات التعبير والتفكير التي
تتأصل وتترسخ لدى المتأمل لوصف الكتاب والرسول والمنهج بالنور، [قَدْ جَاءَكُم
مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ] [المائدة: 15] ، [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ]
[الصف: 8] ، فالنور معنى تتآخى فيه وتنبثق عنه معاني الوضوح، والشمول،
والاستقامة، والدلالة، والبيان، فالنور كاشف لغيره وهو في نفسه لائح واضح،
وأشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة، تحدد المسار، وتهدي من أقرب نقطة،
وكذلك تنتشر فتكشف وتشمل.
والرسول [لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ] وهو مبين، والقرآن [غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ] ، وهو مبين، والمؤمن الذي [هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] استقامة في
الفعل وصدقاً في القول يكتسب النور سمة لإسلاميته [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] [الأنعام: 122] ، أما أولئك الذين سلكوها
عوجاً وأرادوها ضلالة [وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ
قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ] [البقرة: 14] هؤلاء [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ
يُبْصِرُونَ] [البقرة: 17] .
إسلامية النص:
الوضوح حُلة يكتسيها النص إذا قويت صلة صاحبه بمنهج القرآن، واقترب
من هدي النبي، وأحسب أن كل طرائق التعبير وأساليب الكتابة يجب أن تكتسي
الحلة ذاتها، وإلا عرت من صفة النفع الذي أوقف الرسول ضمن ما أوقف المثوبة
عليه (أو علم ينتفع به) .
ولا أعني بالوضوح: أن يكون النص خالياً من العمق، تتحد نتائج قراءته
لجميع من يقرأ، مهما تباينت مداركهم وتفاوتت مستويات فهمهم، فقط أريد أن
أُبرئ العمق من كل صلة تربطه بالغموض والإيغال في الرمزية.
ورد في القرآن الكريم قول الله (تعالى) : [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن
نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ] [البقرة: 266] ، وقد يكون المعنى الظاهر لهذه الآية: إن حدائق
النخيل والأعناب نعمة من الله يمنحها من يشاء من عباده، ولكنه (سبحانه) قد يرسل
عليها الأعاصير بسبب معاصي أصحابها، فتهلك الثمار والأشجار جزاءً للمعاصي.
ولكن ابن عباس (رضي الله عنهما) كانت له قراءة أخرى لتلك الآية، لما
سأل الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) النّاسَ عنها، قال ابن عباس
(رضي الله عنهما) : (ضربت مثلاً بعمل، فقال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس:
لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى
أغرق أعماله) ، قال ابن كثير: (وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية وتبيين
ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً، ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدّل
الحسنات بالسيئات عياذاً بالله من ذلك فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من
الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل منه شيء..
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ضرب الله مثلاً حسناً وكل أمثاله حسن
قال: [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ..] ... وكذلك الكافر: يكون يوم القيامة إذا
رد إلى الله (عز وجل) ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل
بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره
عند فقر ما كان إليه كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كبره
وضعف ذريته.) [1] .
فهناك عدة مستويات للفهم في تلك الآية يحتملها النص حينما يكون هناك مجال
للاحتمال.
ولكنها محكومة بالنسبة للقرآن بمنهجية وضوابط، ويظل القرآن ثريّاً معطاءً، وفي الوقت ذاته غير ذي غموض [قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]
[الزمر: 28] .
المطبوعة الإسلامية:
المطبوعة الإسلامية مجال من مجالات البيان الإسلامي، وهي وسيلة بلاغ
تنعكس فيها معالم المنهج الإسلامي فكرةً ومنهاجاً مهما تنوعت (الزوايا) وتعددت
(الأبواب) وتباينت (الملفات) ، وهي قناة توصيل أحسبها ذات ثلاث شعب: انتفاع، استمتاع، توعية.
فهي تعرض تأصيلاً لقواعد المنهج الإسلامي في شتى المناحي العقدية والعملية؛ بياناً لمعالم المنهج، وتبصيراً بعور المنهاج الأخرى، كما تضرب المثل من
الواقع تطبيقاً على تلك القواعد، وترشد وتنصح؛ إظهاراً للحق، وقياماً بواجب
البلاغ.. وتلك شعبة الانتفاع.
وهي نافذة المسلم إلى عالمه الإسلامي والعالم الخارجي، يتعرف من خلالها
أحوال المسلمين على رحابة البسيطة: يتعرف واقعه الذي يعيشه، وقضاياه التي
يجب أن ينفعل لها ويساهم في نصرتها، ومعالم مخطط المكر العالمي وخباياه،
وموقفه من أحداث الساعة وما تلده الأيام.. وتلك شعبة التوعية.
وهي لا تنعزل عن بستان الأدب الذي تكون الجولة فيه رحلة ممتعة مع وعاء
الإسلام؛ بحثاً عن معطيات الإعجاز والثراء، وفتحاً لنوافذ التعبير عن الخلجات
والمشاعر الإسلامية، مقارعة لأبواق الباطل وكشفاً لتهافتها، يتفيء فيها المسلم
ظلال الحكمة ويتذوق إسلامية المعاني.. وتلك شعبة الاستمتاع.
وليست المطبوعة الإسلامية صالوناً للفكر (الأرستقراطي) أو الأدب (العاجي) ، إنما هي قناة توصيل وتواصل مع المسلمين، فهي قناة توصل الخطاب من الكاتب
إلى القارئ، فالقارئ هو محور جهدها وغاية مسعاها، ولقد أولى القرآن الكريم
أهمية قصوى لمسألة التواصل والتوصيل، وركز على قضية اللغة باعتبارها ركيزة
لكل خطاب؛ فالمتلقي هو المحل القابل وهو العامل المحدد ليس للأسلوب بل لنوع
اللغة، فلا يعقل أن يخاطب الناس بلغة لا يفهمونها ولا يفقهون فحواها؛ ومن ثم:
كان كل رسول يبعث بلغة قومه لكي تنجلي القضايا وتستبان المحجة [وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] [ابراهيم: 4] .
بيت القصيد:
فلا يستقيم أن يذهب الكاتب على صفحات المطبوعة الإسلامية بالقارئ في
دهاليز الغموض والرمزية، لا يستطيع أن يتقدم خطوة في فهم ما يقرأ، يدعه
حائراً يعتصر الكلمات، مجهداً فكره؛ فلا يقبض سوى الريح، تكوم أمام ناظريه أو
تنثر الألفاظ، تستر فيها المعاني عزيزة إلا في (بطن الشاعر) ، هل وجب على
القارئ أن يرجم بالغيب ليستكنه مرادات لم تُرد أو يتأول للكاتب تأويلات قد لا ترد
له على بال.. ماذا ينفع ذلك القارئ أو يمتعه أو يزيد في وعيه وقد وقف مشدوهاً
أمام العمق السحيق الذي لا يصل نظره إليه، ماذا يفيده؟ ! والهدف أن تجند نفسه،
ويصقل قلبه، ويتسع أفقه (وقد تداعى الأكلة إلى قصعتها) .
وقد يكون للغموض أسباب سياسية أو اجتماعية تدفع الكاتب أن يتخذ الرمز
جُنّة يستتر وراءه للتعبير عن فكرته، وقد يكون هناك أسباب أخرى، ولعل من
أسباب الغموض قصور الرؤية لدى الكاتب، وعجز أدواته الفنية، وقد يكون هناك
سبب نفسي آخر هو: (نزوعه إلى تجارب لا يشاركه فيها عدد كبير من
الناس) [2] .
ولكن الكاتب الإسلامي الذي يتواصل مع أمته لا يمكن أن تأسره تلك النزغات، فهو الدال على الخير، وهو (يقول خيراً أو يصمت) ، فلا يعالج آهات الأمّة
وأساها بمزيد من الآداب المضطربة المبهمة ومزيد من الحيرة والإرباك، إذ إن
الصورة الغامضة قد تورث لدى المتلقي اضطراباً، فلا يتبنى موقفاً ولا تتحرك له
عاطفة.
وهل أتاكم نبأ القوم: إنهم قد ضاقوا بأهل الغموض ذرعاً: (إنه لحدث
تاريخي جلل أن يترجم الشعر العربي إلى لغات أجنبية، ولكن الخطوة الذكية
المتصفة بالواقعية تقتضي بأن يترجم الشعر العربي إلى اللغة العربية أولاً؛ لأن ما
ينشر على أنه شعر حديث هو مجرد كلمات يعجز ناظمها عن تأويلها) [2] ، (إنه
نوع من التعقيد الناجم عن زيغان الدلالة الناجم بدوره عن زيغان الدال، ناجم عن
افتقاد لحظة التجلي الشعرية التي يصير فيها الغموض وضوحاً) [3] ، (وهناك من
يقول وبنوع من الإجحاف بأن على القارئ أن يكون أحد المشاركين في مخاض
القصيدة وكتابتها كاملة، ولا ندري ما المانع من كتابتها كاملة غير منقوصة ليشاركه
القارئ في مطالعتها وارتياد مغاليقها وتذوقها واستيعابها مثبتاً جدارة موهبته في
إيصال ما في نفسه إليه) [4] ، (إن غياب المقاييس والضوابط في هذه الأيام قد
سهل على الكثيرين اقتراف جريمة الشعر) [5] .
أرأيتم؟ ! تلك مقولات بعض النقاد وهم المشتغلون بالأدب المنشغلون به،
وحتى من خلال منظارهم فليس الغموض اتجاهاً رائداً ولا أسلوباً سديداً ولا ضرورة
عصرية، وإنما هو تقليعة بالغ المقلد في إظهار غرابتها.
ولست أريد أن ينعزل الأديب المسلم عن عصره.. لِيَنْزِلْ ساحة القوم..
لينازِلْهم ويبارزْهم بمصطلحهم، ويناظرْهم بلسانهم، ولكن.. لتكن المطبوعة
الإسلامية ساحته الخضراء التي يتواصل فيها مع قارئه نصيحة من نور المعصوم
تستلهم، وفكرة من ثمر الشجرة الباسقة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
(فالأديب هو واحد من المدعوين للمارسة الخطيرة بفنه القادر على التأثير
والتحصين، بل إنه مدعو إلى أكثر من هذا؛ إلى دعوة المجتمعات الإسلامية
لاستعادة ممارستها الأصيلة وقيمها المفقودة وتكاملها الضائع، وإحساسها المتوحد،
وصبغتها الإيمانية التي أبهتتها رياح التشريق والتغريب) [6] ، وهل يكون ذلك إلا
بأسلوب ودود لا يدغدغ مشاعر القارئ، ويرفع من درجة فوران الدم في عروقه،
فالقضية قضية التزام وهو (التزام مضمون وفكرة، وهو يقتضي بداهةً الحرص
على اللغة العربية والصلة الوثيقة بين المضمون وما يتطلبه من شكل مناسب،
فالتجديد في مجال الأشكال باقٍ ما بقيت الحياة، والالتزام ليس أبداً نقيضاً للحرية
بمعناها الأصيل.. فالالتزام الأمثل انبثاق تلقائي من قلب الأديب وفكره، وهو ليس
تصوراً كلاميّا، أو شعوراً عامّاً، لكنها حقيقة واقعة تقوّم الأحكام والآداب) [7] .
وقلب الكاتب الإسلامي هو القلب الذي تلألأت فيه معالم المنهج الإسلامي،
وتبلورت فيه رغبة هداية البشر، وامتزجت مع أمل إصلاح الأمة والمساهمة في
نصرة دين الله.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير: ج1، ص319.
(2) الناقد إحسان عباس، مجلة الفيصل، العدد (207) .
(3) الناقد زكريا تامر، مجلة الفيصل، العدد (207) .
(4) الالتزام يرفض الغموض ولا يقتل الإبداع، مجلة الفيصل، العدد (207) .
(5) الناقد غسان مطر، مجلة الفيصل، العدد (207) .
(6) الكاتب الإسلامي د عماد الدين خليل، مجلة الفيصل، العدد (207) .
(7) نجيب الكيلاني: مدخل إلى الأدب الإسلامي، ص23.(92/56)
سباعيات
كابل.. إلى أين؟ !
شعر: د.محمد ظافر الشهري
حريّ بكابل أن تُرحما ... وقد غرقت في بحار الدّما
شكت أمسِ مغتصباً كافرا ... فأصبح غاصبُها مسلما
دعونا (الفئات) إلى خطةٍ ... تُحَكّمُ قرآننا المُحْكَما
فمالوا إلى (هيئةٍ) دأبها ... وإن عُلم الحقّ أن تَظْلِما
رفضتم (نجيبَ) ولكنكمْ ... رضيتم لـ (بطرس) أن يَحْكُما
فكنتم لعمري كمستبدلٍ ... فَبُدّل بالصّبرِ العلقما
وكابل باتت كزنزانةٍ ... يُوَرّثُها المجرمُ المجرما(92/63)
نص شعري
الليث الجريح
صالح بن عيضة صالح الزهري
سِرْبُ القَطَا.. بُكريّةُ الأسْرابِ ... سَلَبتْ هَوَاكِ وقَطّعتْ أنْسَابي
سِرْبُ القَطَا.. في مُقْلَتيّ رواحلٌ ... ذكَرتْ نَوَاكِ فَغَرّقتْ أهْدابِي
سِرْبُ القَطَا هَمسَتْ إليّ قطَاتُهُ ... شَغَفاً إلى أُسْطُورَةِ الكُتّابِ
قالت: بنُو اللّيثِ الجريحِ أأنتُمُ؟ ... فَكأنّهُ.. طَعْنُ الحشَا بِحِرابِ
وعرفْتُ أنّ العُرْبَ ليثٌ مُجْرَحٌ ... كان القَوِيّ فَعَادَ قِطّ الغَابِ
وأراهُ عِملاَقَ الأسىَ ولَرٌبّما ... غَلَبَتْ عَليْهِ.. أصاغِرُ الألقَابِ
إنّي أراكَ مُكبّلاً وأَرىَ الفَضَا ... بَرْقاً يُلوّحُ بينَ سُودِ سَحَابِ
وأرىَ أعاصيراً بأفْقِكِ بَعْثَرَتْ ... ما جمّع الإسلامُ مِنْ أنْسَابِ
وأراكَ تَنْزِفُ والجُرُوحُ تَفَاقَمَتْ ... وأراكَ تُرْمى مِنْ يَدِ الأعْرابِ
ولَقَدْ لَفَظْتَ مَعَ الأنينِ مَقَالةً ... القُدْسُ فِيهَا (مَوطِنُ الأغْرابِ)
ما القُدْسُ إلا قِطْعَةٌ مِنْ أمّةٍ ... خُلِقَتْ (بِإقْرَأ) فِي حِمى الأنْصَابِ
ما القُدْسُ إلا قِصّةٌ دَمَوِيّةٌ ... عُزِفَتْ عَلَى ... قِيْثَارَةِ الإرْْهَابِ
وَعَلَتْ عَنَانَ العُرْبِ حَتّى جَمّعَتْ ... كُلّ العُرُوبَةِ فيِ جَنَاحِ ذُبَابِ
ما القُدْسُ إلا مَوْطِنٌ طُرِدَتْ بِهِ ... أُسْدُ الرّجَالِ وَبُدّلَتْ بِكِلاَب! !
وتغيّرت فِيِه الوُجُوهُ فَماَ تَرَى ... إلا خَنَازِيراً عَلَى الأبْوابِ
والعُرْبُ مَا قدِرُوَا سِوَى إنْكَارِهِ ... والعُرْبُ مَا قَدِرُوا سِوَى الإضْرَابِ
وَيلُ اليَهُودِ إذَا تَكَاتَفَ شَعْبُنَا ... وَتَدَاخَلَ الأحْزَابُ في الأحْزَابِ
فَإذَا تَكَامَلتِ الصّفُوفُ وَزَمْجَرَتْ ... فَلْيَرْتَقُوا هَرَباً.. إلى الأسْبَابِ
وَتَعلّقَتْ بِذُرَا السّمَاءِ قُلُوبُنَا ... وتَجمّعتْ أَشْتَاتُنا ... بِكِتَابِ
وتَفَجّرَ البُرْكَانُ مِنّا وانْتَهَتْ ... آجَالُنَا وتَخَضّبتْ بِخِضَابِ
وَتَدَاعَتِ الدّنْيَا عَلَيْنَا واعْتَلَتْ ... أَسْيَافُنَا مِنْ فَوْقِ كُلّ رِقَابِ
وَتَهَاوَتِ الأنْوَاءُ في سَاحَاتِنَا ... وَرَأى اليهُودُ المَوْتَ ذا الأنْيَابِ
واسْتُبْدِلَتْ رَايَاتُ هُوذا بِالّذِي ... أذِنَتْ عَلَيِهِ قُصُورُهَا بِخَرَابِ
واستُبْدِلَتْ رَايَاتُ كِسْرَى بِالّذِي ... وَثَبَتْ لِنُصْرَتِهِ خُطَى الوَثّابِ
وتَخَاذَلُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَجَرّبُوا ... مِنْ أُمّةِ الإسْلاَم سَوْطَ عَذَابِ
فَهُنَالِكَ ابْتُلِيَ الرّجَالُ وَزُلْزِلُوا ... حَتّى تَبِينَ معادنُ الأقْطَابِ
فَمنِ ارْتَضَى عَيْشَ الكَرِيمِ مُوَشّحاً ... بِالعِزّ وَالإكرامِ والإعْجَابِ
فَلْيَقْتَحِمْ قمِمَ البُطُولَةِ إنّنِي ... للْمَجْدِ أبْذُلُ قُوّتِي وَشَبَابي
فاسْتَيقِظي يَا أيّهَا الهمَمُ الّتي ... مَاتَتْ وَعُمّرَ فَوْقَهَا بقبَابِ
ولعلّ هَذَا الغَيْمُ يَطْوِي خَلْفَهُ ... نَصْراً يَشُقّ لَفَائِفَ الأنْقَابِ
وَلَنَا مِنَ القَوْلِ الخُلاَصَةِ عَلّهَا ... تُغْنِي عَن الإطْنَابِ والإسْهَابِ
كَمْ آيَةٍ مَرّتْ وَمَرّ وَعيدُهَاَ ... أَفَلاَ تَدَبّرَهَا أولو الألْبَابِ؟ !(92/64)
نص شعري
إصلاح الذات قبل الذوات
شعر: علي العيسي
المرء إن لبس الحياة بساطةً ... ونزاهةً لم يَعْتَرضْهُ المَحْرَجُ
من سار في بُطءٍ تعثّر سيرُه ... ولقد يجاوز حدّه من يدلجُ
كم من بطيء أو سريع حاصد ... عنتاً، وكان يظنها لا تُفْرَجُ
فإذا استقر مع التوسط سَيْرُه ... فوق التباطؤ، دون ركضٍ يَفْلَجُ
فبذا يحقق ما الذي يسعى له ... بين الرقاد، وبين طيشٍ يُزْعِجُ
فالعدل، والعقل المفكر، والهدى ... والرأي، والودّ النقيّ: المَنْهَجُ
من أتقن النهج القويم مع التقى ... خلف النبي فخصمه لا يُبهَجُ
من يسبق الأحداث تكبو خيله ... ومن استقر مع الجليد يُثَلّجُ
إن الجمود أو الجحود تخلفٌ ... أو رقدة لم ينتظرها المُسرجُ
***
هذي مجالسنا تَضُوعُ [*] حماسة ... لكن يعزّ حقيقة ما يُنْتَجُ
ما أعظم الأفكار تملك ألسُناً ... لكنّ ترجمة الحديث تخدّجُ
حلو الكلام يمر من أفواهنا ... يسمو إلى عالي الأمور ويَعْرُجُ
لكننا في الفعل.. نخجل فعلنا ... فيظل في دَمِ عِزّنا يِتَفَرّجُ
قد شابت الألفاظ فوق شِفَاهِنا ... أما الوعود.. فنطفة تترجَرجُ
***
يا من يطالب غيره بفضائل ... وهو الذي يبدو إليها أَحْوَجُ
ما فاز في نشر الفضيلة مرشد ... وخيوله تشكو الهزال وتَعْرُجُ
لو أنصف الإنسان في أقواله ... وفعاله لبدا الضيا والمخرَجُ
لو أصلح الإنسان بدءاً نفسه ... عمّ الرضا، والحق حق أبلجُ
__________
(*) في القاموس المحيط: تضوع المسك: فاح وانتشرت رائحته.(92/66)
قصة قصيرة
نهاية طريق
بقلم: خالد أبو الفتوح
ما إن انتهى (سالم فرحات) من إنزال آخر راكب حتى انتحى بسيارته جانباً
وانكب يعدد حصيلة ليلة من العمل الشاق.. انفرجت أسارير (سالم) مع بلوغ العد
نهايته واطمئنانه على وفرة دخله الليلة.. (الآن أستطيع إحضار ما تبتغيه سهاد) ..
قالها وهو يمد رجليه أمامه ويلف ذراعه حول مسند الكرسي المجاور له.. وبعد
هنيهة من الشرود.. اعتدل في جلسته، أخرج من جواره زجاجة مشروب.. صب
بعضه واحتساه عسى أن يعينه على مواصلة المسير.
أدار محرك السيارة وواصل السير راضياً ومنتشياً.. بعد قليل، ظهر أمامه
بائع الفاكهة الذي اعتاد المرور عليه..
(أُحضر بعض الفاكهة للأولاد؟)
(ولكن.. قد يؤثر ذلك على طلبات (سهاد) .. لا أريد أن أخسر رضاها)
واصل سيره بسرعة وكأن هناك من يلاحقه أو أن هناك غاية يريد أن يطوي
الأرض طيّاً حتى يدركها.. وبعد أحد المنعطفات ظهر على جانب الطريق ثلاثة
أشخاص يشيرون له..
(زبائن! ! يبدو أنها ليلة سعادة وأنس من أولها لآخرها.. لا بأس من زيادة)
أوقف السيارة عندهم، ومال بجذعه تجاههم..
(إلى أين وجهتكم؟)
(حتى نهاية الطريق ... ) قالوها وهم يهمون بالركوب.
لم يهتم (سالم) بمساومتهم على الأجرة كعادته مع كل زبون؛ فأي شيء
يدفعونه سيكون دخلاً إضافيّاً إلى الحصيلة التي اطمأن على وفرتها، كما أنه لن
يتكلف شيئاً لتوصيلهم إلى (نهاية الطريق) .
(ما اسم صاحبنا، ومن أي البلاد؟) .. قالها أحد الثلاثة بادئاً حديثاً يقطع به
طول الطريق وسكون الليل..
(سالم فرحات.. من الصبراوية.. من تل منيب في الصبراوية.. من عائلة
الع..
(كفى.. هذا هو طلبنا) .. قالها آخر بحدة من خلفه وهو يلصق أداة حادة في
رقبته! ! .
انتصب (سالم) في جلسته.. شخصت عيناه.. بدا وكأنه تمثال من شمع....
(لابد أن هذه هي العصابة التي طالما حذرني منها شريكي (عرفان شهيد) .. كيف لم
ألحظ الياقات الزرقاء التي يرتدونها؟ ! .. يا لغبائي.. يا لنكستي! ! ..) .. لم
يتنبه (سالم) إلا على صوت أحدهم يوجه الحديث إلى زميل له:
(هل أقود السيارة بدلاً منه؟) .
(لا.. لا.. حتى لا نلفت الانتباه إلينا، ولكن وجهه حتى نصل إلى (نهاية
الطريق) ..)
لم يملك (سالم) إلا الاستسلام لتوجيهات الجالس جواره.. وبعد سلوك بعض
الطرق والدروب بدا أمامه مبنى تحيط به الصحراء من كل جانب.. كان عجيباً أن
يكون في هذا المكان مبنى بمثل هذه الفخامة.. لم تخفف هيئة المبنى من إحساس
(سالم) بالوحشة والانقباض الذي كان يزداد كلما دنا من المبنى.
أمام المبنى أوقفوه، نزع أحدهم مفتاح التشغيل من مكانه، بينما نزل آخر
ووقف في مواجهة باب السائق..
(أخرج ما معك يا سالم) .. قالها الثالث من خلفه.
(عَرقي.. قوت أولادي ... لم يكمل (سالم) كلامه.. أَحسّ بالدونية عندما
لكمه أحدهم قائلاً له:
(أي أولاد يا ضائع.. نفّذ يا خسيس!)
أخرج (سالم) حصيلة الليلة من أسفل كرسيه، وأعطاها لهم.
(وبقية ما تخبئه، وكل ما في جيوبك)
استسلم (سالم) تماماً، وبدا على وجهه الإرهاق ممتزجاً بالقهر.. سلّمهم كل ما
طلبوه.
جذبه الواقف بجواره خارج السيارة، وساقه دفعاً نحو المبنى.. أجلَسوه أرضاً، وتحلقوا حوله..
(سالم.. طبعاً لا تنكر علاقتك بسهاد.. ولعلك لا تعرف أنها صديقتنا..)
انعقد لسان (سالم) ، ومن فرط دهشته لم ينبس ببنت شفة.
(تحت أيدينا صور لك معها وتسجيلات بصوتك.. أتحب أن تطلع عليها؟)
(الله أمر بالستر)
(نعم.. ونحن نستر عليك.. إذا وقّعت على هذه الورقة!)
أمسك (سالم) بالورقة.. تفحصها.. تردد قليلاً، ثم قال:
(وهل إذا تنازلت لكم عنها أطلقتم سراحي ولم تفضحوني؟)
(نعم.. وقد نكافئك أيضاً..)
تناول (سالم) القلم منهم، ووقّع وهو يتمتم: (هكذا انغلق الباب الذي كنت
أرتزق منه)
تركوه يمضي.. خرج وهو مطأطئ الرأس مثقل الخطى.. وعندما وصل
إلى السيارة نظر إليها بحسرة، وعاود النظر إلى المبنى ومن به.. ثم مضى وهو
يجر رجليه.. (سالم.. قف مكانك..) .. صوت حاد مصدره المبنى.. تسمّر
(سالم) على إثره..
(ارجع بظهرك إلى الخلف!)
رجع بظهره حتى وصل إلى المبنى.. أدخلوه مرة أخرى.. جردوه من
ثيابه.. بدا وكأنهم يضمرون شيئاً آخر..
في هذه الأثناء لمح (سالم) شبح شخصين خارج المبنى.. تجدد أمله في
النجاة..
(هل يعملان على إنقاذي..؟ !)
ولكن لم يطل أمل (سالم) ، حيث خرج أحد الثلاثة وتهامس مع الشخصين..
ثم دخل..
(أبشر يا (سالم) .. لقد قررنا محاكمتك.. محاكمة عادلة) .. ثم دفعه إلى أحد
الأركان!
وبينما ينهار (سالم) ، قام أحدهم ممثلاً للادعاء، فترافع طالباً الإعدام لهذا
المجرم الوضيع..
ثم قام آخر ودافع عن (سالم) طالباً إطلاق سراحه؛ فقد أدى ما عليه ونفذ ما
طُلب منه.. ثم جاء وقت النطق بالحكم..
وقف (سالم) مشدوهاً يترقب مصيره.. لا يرفع بصره عن وجه الحكَم! ! ..
(نظراً لحاجتنا لجهود (سالم) .. ونظراً لاستجابته وتفهمه.. فقد قررنا أن
يعمل (سالم) على السيارة لحسابنا، مقابل إطعامه وجبتين يوميّاً.. مع النظر في
أمر تزويجه من صديقتنا سهاد) ..
لم يصدق (سالم) ما سمعه.. قفز من مكانه هاتفاً: (يحيا العدل.. يحيا
العدل.. يحيا العدل) .. أخذ يقبلهم ويعانقهم بانفعال.. لم يكترثوا باحتفاله الهستيري، كان واضحاً اشمئزازهم منه..
دفعوا إليه مفاتيح السيارة.. أدارها.. غاب عن أنظارهم.. كان أول ما فعله
أن ذهب إلى بيت (سهاد) .. قضى معها ما تبقى من ليل.. وعند استيقاظه نزل
ليعمل حسب الاتفاق..
ولكن.. كانت مفاجأة..!
لم يجد السيارة! !
قالوا له: (لقد حضر (عرفان شهيد) ومعه أكبر أولادك، وقادوها إلى وجهة
غير معلومة..!)
ثار (سالم) ..
(عملوها.. سرقوها.. سرقوا حق الأسياد.. سرقوا حق الأسياد....)
.. هكذا صاح (سالم فرحات) .(92/68)
دراسات أدبية
نجيب الكيلاني..
رائد القصة الإسلامية المعاصرة
(1)
بقلم: محمد حسن بريغش
مات الدكتور نجيب الكيلاني (رحمه الله) بعد أن ترك تراثاً أدبيّاً ضخماً،
وظل على مدى أكثر من أربعين عاماً يواصل عطاءه الأدبي حتى بلغت قصصه
أكثر من أربعين قصة، وبلغت دراساته النقدية والأدبية والاجتماعية، وأبحاثه
الطبية، ودواوينه الشعرية هذا العدد أيضاً [1] .
لقد عرف الناس (نجيب الكيلاني) أديباً روائيّاً أكثر مما عرفوه طبيباً يتابع
أمراض الناس، ويشترك في البرامج الصحية الوقائية، فضلاً عن المداواة.
وكانت رحلته في عالم الأدب رحلة غنية مثيرة، تستحق من الدارسين والنقاد
وقفات متأنية، ودراسات متنوعة جادة، لتوضح صورة النتاج الأدبي الذي تركه
للأجيال من بعده.
أما رحلته في عالم الأدب الإسلامي، فقد تركت له بصمات واضحة في
الدراسات والإبداع، مما يجعل أي دارس للأدب الإسلامي المعاصر مضطرّاً
للوقوف أمام تراثه الأدبي، ليستخلص من تجربته وآرائه كثيراً من السمات التي
تميز بها الأدب الإسلامي المعاصر.
لقد كان من أوائل الذين كتبوا عن الأدب الإسلامي، وحاولوا وضع القواعد
والسمات المميزة له، إما عن طريق الدراسات الأدبية، أو عن طريق كتابة الشعر
والقصة، ولذا: نرى أن من أوائل كتبه التي نشرها: كتاب (الإسلامية والمذاهب
الأدبية) ، وكتاب (شوقي.. في ركب الخالدين) ، وكتاب (إقبال.. الشاعر الثائر) .
ولذلك: فإن الدراسة الشاملة لأدبه، ولا سيما لقصصه ودواوينه الشعرية
ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أنه منذ البداية كان أديباً مسلماً، يتبنى فكرة، وينتسب
إلى جماعة إسلامية أخذت على عاتقها الدعوة لتحكيم شرع الله (عز وجل) ، بل إنه
دخل السجن وهو لا يزال طالباً في الجامعة.
وما دامت هذه وقائع حياته المبكرة، فلا يمكن أن ننظر إلى جميع إنتاجه إلا
من المنظور الإسلامي، ولا يمكن أن نقبل تبرير أي عمل من أعماله باسم المراحل
والظروف والأجواء [2] . إنه أمر بدهي أن يقع الإنسان في الخطأ حين يجتهد،
كما أنه من المعروف أن العمل الأدبي لا يكتمل دفعة واحدة، وإذا جعلنا مقياسنا في
تقويم إنتاجه: المقياس الإسلامي للأدب؛ فهذا يعني أننا نعترف به أديباً إسلاميّاً منذ
بواكير إنتاجه، وهي ميزة مهمة له، وصفة تزيد من قدْرِهِ مهما كانت الأخطاء التي
وقع فيها.
لقد أشار (الكيلاني) (رحمه الله) إلى مثل هذا عندما نقل حديثاً دار بينه وبين
الأستاذ (محمد عبد الحليم عبد الله) الأديب المعروف، إذ قال له وهو يستلم الجائزة
الأولى في القصة القصيرة:
(أشعر أنك تكتب أحياناً وأنت موثوق اليدين ... انطلق يا رجل)
فأجابه الكيلاني: (إنها ليست قيوداً ... ولكني أحاول أن ألتزم بمبادئى
وقيمي) [3] .
ويزيد الأمر وضوحاً عندما عقّب في إحدى الندوات على الدكتور (رشاد
رشدي) عن موقف الأديب عند كتابة القصة، وضرورة حياديته، فقال الكيلاني
(رحمه الله) : (إن الأديب متحيز.. متحيز لفكرة، لموقف، لمبدأ، وهذا لا يتنافى
مع الموضوعية، إذ إن الأديب مقتنع بادئ ذي بدء بمعتقده وبإيجابيته) [4] .
وفي وقفتنا للتحدث عن الكيلاني في هذه المناسبة: لن أستطيع الإحاطة
بإنتاجه، ولا ببعضه، ولن أستطيع الوفاء بحقه، أو الوقوف على صورة شاملة
لأدبه، لأن ذلك يحتاج إلى جهد واستقراء لإنتاجه كله، وتتبع لكثير من الظواهر
الفنية والموضوعية في أدبه، ولكنني سأكتفي في هذا الموضوع بوقفات عند بعض
المميزات والنقاط التي أضحت في نظري علامات واضحة في مسيرته الأدبية،
وهي ذات فائدة في تناول أدبه بالدراسة الشاملة إن شاء الله (تعالى) [5] .
إن استعراض آثار الكيلاني تشير إلى إنتاج شعري كبير، حيث ترك سبعة
دواوين شعرية هي: (أغاني الغرباء) و (عصر الشهداء) و (كيف ألقاك) و (مدينة
الكبائر) و (مهاجر) و (أغنيات الليل الطويل) و (نحو العلا) ، وهي متفاوته في
ميزاتها الفنية، ولكنها جميعاً تتسم بالأسلوب الواضح العذب، الذي ينبض بالصدق، ويتميز بالعفوية، ويمتلئ بمعاني العزة والقيم الإنسانية الأصيلة، إنها تعبر عن
الصورة الإنسانية الكريمة التي تنفض عنها آثار الزيف والظلم، وتأبى الاستسلام
للقهر والجهل والعبودية، وتنهض لاستجلاء الصورة التي كرم الله بها هذا المخلوق، يقول في إحدى قصائده:
أنا يا زهرتي الفيحاء سارٍٍ ... لى جمر التوجس والعناءِ
أصارع حمأة الأحزان ليثًا ... وأقهر كل أوهام الفناءِ
ولا أعنو لطاغية تولَّى ... يمزق شمل أحلام الهناء
ولم أسكر بمال أو نفوذ ... ولا اعتَكَرَتْ بمأثمهم سمائي
وأسقيت الجهاد رحيق عمري ... على شوق إلى يوم النداءِ
فحب الله في قلبي ربيع ... تألق بالطهارة والصفاءِ
لذات الله قد سجدت جبيني ... فكيف لغيره يرقى انتمائي
أرى في كنفه ألقَ التسامي ... وأسبح في بحار من نقاءِ
أهيم مُحَرَّرًا من كل قيد ... يبارك مقصدي حلو النداءِ
فلا دنيا لتوهن من شموخي ... ولا طمع يزلزل كبريائي [6]
إن اهتمامه بالشعر سبق اهتمامه بالقصة [7] وغيرها، وكانت قراءاته
الشعرية مبكرة، فلقد كان منذ صغره يحلو له أن يكون شاعر الحفل في المناسبات
الشائعة في مصر، ولذلك اهتم بقراءة كثير من الدواوين الشعرية، وحفظ الكثير
من الشعر، وإن كانت هذه القراءات تنصب في أكثرها على دواوين الشعراء
الحديثين، أمثال: البارودي، وعلي الجارم، وشوقي، وحافظ إبراهيم،
وإسماعيل صبري، والبوصيري.. وغيرهم [8] ، ولعل هذه القراءات التي كان
أكثرها من الشعر المعاصر هي التي جعلت شعره يتسم بالسهولة والوضوح
والبساطة، وقلما نجد في شعره صورة معقدة، أو لفظاً بعيداً عن الوضوح
والمألوف، وبالإجمال: فإن ما تركه من شعر يدل على موهبته الشعرية، ويدفع
للوقوف عند هذه الدواوين السبعة.
أما في ميدان القصة التي أخذت فيما بعد جلّ اهتمامه: فلقد ترك لنا تراثاً
ضخماً، ما بين قصة قصيرة جمعها في مجموعات [9] ، وقصة طويلة جاوزت
الأربعين كتاباً، وكانت متنوعة في موضوعاتها وأزمانها، فمنها القصة التاريخية،
ومنها القصة الاجتماعية، ومنها القصة الواقعية السياسية، ومنها القصة التي تُعنى
بقضايا الشعوب الإسلامية.
ولعل الكيلاني قد فتح باباً، وكان يخط طريقاً جديداً في عالم القصة، عندما
كتب عن مشكلات الشعوب الإسلامية بأسلوب قصصي ممتع ومحكم، وطرح
قضايا هذه الشعوب، أو لفت الأنظار إليها، في وقت كانت تهيمن على المجتمع
أفكار الاشتراكية، والشيوعية، والمعسكرات السياسية الممثلة لها، وكانت القضايا
الإسلامية ومشكلات الشعوب الإسلامية غائبة عن مسرح الأحداث [10] ، حينها
كتب هذه القصص التي كان لها وقعها ولا سيما عند الشباب المسلمين: (ليالي
تركستان، وعذراء جاكرتا، وعمالقة الشمال، ثم: الظل الأسود) ، وكان الكاتب
موفقاً عندما اختار موضوعات قصصه بحيث تواكب الخط الممتد من الشمال
الشرقي إلى الجنوب الغربي، ومن الشرق إلى الغرب، فكأنه أراد أن يرمز بهذه
القصص لحاضر العالم الإسلامي ومشكلاته وامتداده، وتعالج قضية الإنسان المسلم
الذي يقف أمام الطغيان ليدافع عن حريته وكرامته ووجوده، ويحمي عقيدته التي
تمثل القيم الإنسانية كلها [11] .
وكانت أهمية هذه القصص تأتي من كونها تمثل مرحلة من مراحل التطور
التاريخي والفني للدكتور الكيلاني، فقبل هذه القصص كان متردداً في كتابة القصة
الإسلامية إلا بصورتها التاريخية: (نور الله) ، (قاتل حمزة) ، ولكنه خرج عن هذا
التردد بصورة من الصور، حين اختار قضايا معاصرة بعيدة عن العالم العربي
(روسيا، إندونيسيا، نيجيريا، الحبشة) فكتب عنها، محققاً هدفين: أولهما:
إسهامه في مجال القصة الإسلامية، وتقديم تجربة جديدة في هذا التوجه، وثانيهما:
عدم إثارة من يهيمن على دفة السياسة والفكر والأدب في بلاده.
وهذا يؤكد بأن الكيلاني كان في بداياته القصصية مَعْنيّاً بترسيخ قدميه،
وتقديم نفسه ككاتب قصة مصري عربي يجيد كتابة الرواية، ويقف مع كتاب القصة
الآخرين: (نجيب محفوظ، وباكثير، والسحار، وعبد الحليم عبد الله، والشرقاوي، ويوسف إدريس.. وغيرهم) .
ولهذا: لم تكن قصصه الأولى تختلف عن قصص غيره إلا في نسبة مشاركة
المرأة والجنس في القصة، أو في طريقة اختيار الموضوع والشخصيات، وتناول
المشكلات، دون أن يتميز عن الآخرين بتصوره، ولكنه ظل مثل غيره يهتم
بقضايا الاستغلال، والظلم، وانعدام تكافؤ الفرص في المجتمع، واختار
موضوعاته من الريف بشكل خاص وألح على مسألة استغلال المُلاك للفلاحين،
وإبراز الفروق الطبقية بين الفلاحين وأصحاب الأراضي، وكذلك تحدث عن
مشكلات الريف الصحية، وما يرافقها من بؤس ومشكلات أخلاقية واجتماعية..
إلخ.
وتحدث عن الفقر وما يرافقه في المجتمع المصري بعامة، وفي الريف بشكل
خاص.
هذه القضايا التي عرضها الكيلاني في رواياته كانت مشتركة بينه وبين جميع
كتاب القصة، وإن كانت طريقته تختلف قليلاً أو كثيراً عن هؤلاء الكتاب، لقد ظل
متمسكاً بتقاليد القصة السائدة آنذاك، ومتردداً في الوقت نفسه في حجم التقيد بهذه
التقاليد في قصصه، ويبدو ذلك واضحاً في قصصه، مثل: (الطريق الطويل،
ليالي السهاد، رأس الشيطان، الربيع العاصف، الذين يحترقون..) [12] .
ومع هذا: فإن المسيرة الطويلة للدكتور الكيلاني في عالم القصة بشكل عام
والقصة الإسلامية بشكل خاص تجعله رائداً للقصة الإسلامية بحق، ولا يؤثر في
هذه الريادة كونه مرّ بمراحل مختلفة، وتأرجح بين الرضوخ لتقاليد القصة الغربية، أو الالتزام بالتصور الإسلامي للقصة: في عرضه للموضوعات، وطريقة تناولها، ورسم شخصياتها، لأنه ظل مستمراً ودؤوباً في طريقه، مدافعاً عن القصة
الإسلامية، مبرراً لتقصيره، أو عدم تقديمه للنموذج الإسلامي: (ولم يكن من
المنطقي أن نثب فجأة إلى منطقة الكمال بين عشية وضحاها، إن الأديب ينمو
ويتدرج ببطء عبر التجارب والأحداث، تنضجه رويداً رويداً، وإلا احترق،
واحترق قلمه) [13] هكذا اعتذر عن عدم التزامه الواضح بالتصور الإسلامي.
وكانت مسيرته هذه وسط عالم يعج بالطغيان السياسي والفكري، وهيمنة
لأصحاب الاتجاهات العلمانية وأحياناً الإلحادية على وسائل الثقافة والإعلام، ولم
يكن بمقدور الكيلاني كما يقول أن ينفذ من خلال ذلك بالصورة التي يتمناها، ولا
سيما أن الكُتّاب حينذاك كانوا يتهيّبون من كلمة (إسلام) ، وكان يسيطر على قافلة
النقد حشد من الشيوعيين، ولم يكن هناك وجود للنقد الإسلامي [14] .
ويمكننا أن نضيف بعض العوامل الأخرى التي منعته من تقديم القصة
الإسلامية آنذاك، مثل عوامل: النشأة، ومؤثرات البيئة، والمجتمع، والثقافة التي
تلقاها في صغره (الحكايات والقصص الشعبية، وقصص ألف ليلة وليلة، وروايات
التاريخ الإسلامي لجورجي زيدان، وكليلة ودمنة، وكتب طه حسين، وتيمور،
والحكيم، والمازني، والعقاد، والرافعي، والزيات، والجارم، والمنفلوطي) [15] .
هذه القراءات تغذي الناشيء بلون محدد من الأدب، وبتصور جديد في الحياة، يبتعد كثيراً أو قليلاً عن التصور الإسلامي، ولكنها لا تكوّن لديه التصور
الصحيح، إنه كان يفتقد التصور الصحيح المنبثق عن المصدرين الأساسيين
للإسلام: كتاب الله وسنة رسوله، ولا يكفي التوجه العاطفي والنفسي والفكري
للشاب نحو الإسلام، ولا تكفي النية الطيبة إن لم يأخذ هذا التوجه مضمونه الحقيقي
من المصادر الأساسية والدراسات الشرعية.
ولعل هذا الأمر يثير لدينا قضية مهمة، تبدو عامة عند كثير من الأدباء
والكتاب المسلمين، الذين يتحدثون عن الأدب الإسلامي، أو القضايا الاجتماعية
والفكرية، أو يمارسون النقد، أو الإبداع، أو (التنظير) .
إن كثيراً من هؤلاء يبدو فقيراً في زاده الشرعي، لأنه يتعامل مع هذا الأمر
من منطلق الاختصاص، ويخضع في ذلك للتقسيم المتعسّف الذي يتبناه الاتجاه
العلماني المهيمن على الفكر والأدب والتربية، حيث حصروا الأمور الشرعية كلها
ضمن عملية التخصص، مثلها مثل دراسة الفن، أو الاقتصاد، أو الرياضة، أو
الفيزياء، بمعنى أنها لا تخص إلا من يود دراستها باختياره من أجل التخصص،
وزادوا إمعاناً في الاستهانة بالعلوم الشرعية عندما أطلقوا عليها مصطلحات جديدة
عامة مثل (التربية الإسلامية) لطمس حقيقة هذه العلوم، ولإخراجها من دائرة العلم
إلى دائرة التهذيب النفسي، والمحاولات التربوية، وبذلك لم يعد هناك مجال للقول
بعلم التفسير، أو الحديث، أو الفقه، أو التجويد، أو ... كلها نوع من التربية،
تقف بإزاء (التربية الفنية) أي: الموسيقى، والرسم، والنحت، والرقص، و ...
و (التربية الرياضية) و (التربية الاجتماعية) .. إلخ.
وكذلك فهذا يعني أن التربية الإسلامية جزئية بسيطة تهم جانباً أو بعض جانب
من الإنسان، فضلاً عن إقصاء هذا المصطلح عن أن يشمل الرؤية الإسلامية لتربية
الإنسان تلك التربية الشاملة.
نعم، إن هذه المشكلة عامة عند كثير من الكتاب والأدباء الإسلاميين، وأعني
بها ضآلة الفهم الشرعي، بل الجهل بفقه الإسلام في الأمور التي يتخصص كل
كاتب فيها، ولذلك نجده يردد الآراء الغربية بعد طلائها بمسحة إسلامية، ومقياسه
في ذلك نظره الفكري، لا دليله الشرعي [16] ، وينتج عن هذا: اتجاهات وآراء
بعيدة عن الإسلام، وفي الوقت نفسه تصبح عالة عليه، وقد تؤدي إلى انحرافات
خطيرة على الأجيال المقبلة.
ولذلك لا نستغرب أن تكون الصورة غير واضحة عند الدكتور الكيلاني وهو
يكتب القصة مادامت ثقافته وقراءته من هذه المنابع التي ذكرناها، ولم يكن بينها
ثقافة شرعية أصيلة تحوطه، وتشكل له سوراً يحمية من الانزلاق إلى مواقع
الشبهات والخطأ.
ولقد كان الكيلاني واضحاً في هذا حين قال: (وبعد أن رسخت قدمي لحدّ ما
على طريق الأدب فكرت في تنفيذ ما تحمست إليه أي الأدب الإسلامي وكتبت عنه، لم يكن الموضوع بالسهولة التي يظنها البعض) [17] .
ولا يعني هذا أن الكيلاني لم يكن في هذه المرحلة في قصصه إلى جانب
الأخلاق ونزعات الخير، والتماس المناسبات لكي يشير إلى صورة من صور
الإسلام في الشخصية أو السلوك.
__________
(1) لقد ترك حوالي أربعين كتاباً ما بين قصة طويلة أو مجموعة قصصية، وسبعة دواوين شعرية، وله عدة كتب في الدراسات الأدبية، وكان قد اشترك في كتابة كثير من البرامج الصحية التي قدمت في محطات التلفزيون الخليجية باسم (سلامتك) انظر رواية (أهل الحميدية) قائمة كتب المؤلف.
(2) انظر: كتابه (رحلتي مع الأدب الأسلامي) ص46-57.
(3) السابق: ص56.
(4) السابق.
(5) لقد كتبت في وقت مبكر عن الدكتور الكيلاني قبل أن يعرفه الكثيرون ممن يتحدث عنه اليوم، ونشرت ذلك في عدد من المجلات، ثم ضممته إلى موضوعات كتابي (في الأدب الإسلامي المعاصر) الذي صدر في 1402هـ1982م، ثم صدر كتاب (في القصة الإسلامية المعاصرة) وفيه فصل عن الكيلاني، ثم صدر كتاب (دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة) وكله عرض ودراسة عن الكيلاني.
(6) ديوان مهاجر، قصيدة (الانتماء) .
(7) انظر: كتابه (تجربتي الذاتية في القصة الإسلامية) ص16، 17.
(8) رحلتي مع الأدب الإسلامي، ص13.
(9) مثل: (عند الرحيل، العالم الضيق، موعدنا غداً، الكابوس، فارس هوازن، دموع الأمير، حكايات طبيب) .
(10) تجربتي الذاتية، ص47.
(11) في الأدب الإسلامي المعاصر، للكاتب، ص213.
(12) انظر: (نجيب الكيلاني والقصة الإسلامية الحديثة) في كتاب (دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة) للكاتب.
(13) رحلتي مع الأدب الإسلامي، للكيلاني، ص28.
(14) المصدر السابق.
(15) تجربتي الذاتية، للكيلاني، ص11-16.
(16) انظر: كتاب (الأدب الإسلامي أصوله وسماته) للكاتب، ص10-16، وكذلك ص50-79، وانظر: فصل (الدكتور الكيلاني بين القصة والمسرح) ص 147، في كتاب (دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة) للكاتب.
(17) رحلتي مع الأدب الإسلامي، للكيلاني، ص38.(92/72)
مقال
دعوة للتعقل الإعلامي
بقلم: د. محمد البشر
الغلو الإعلامي ظاهرة يلحظها المتابع للوسائل الإعلامية في الوطن العربي
بكل أنواعها المقروءة والمسموعة والمرئية، والتعبير بكلمة (الغلو (لم يأت جزافاً أو
رديفاً أو قياساً على مظاهر الغلو في الدين، بل هو حقيقة يدركها كل من وهبه الله
قلباً عَقولاً يميز به بين الوهم والحقيقة، وبين الزيف والواقع، إن هذا الإعلام الذي
نقل إلينا مصطلحات (الغلو) و (التطرف) و (الأصولية) ، وألبسها لبوساً خاصّاً
مفصلاً على القضايا والمشكلات التي تعاني منها المجتمعات العربية، وروّج لها
لإقناع الجماهير بالمعنى المراد بها، والمفهوم الذي اختير لها، كان هو أول من
وقع في فخ المغالاة من حيث التعبير عنها أو العمل بها.
فالغلو ليس في الدين فقط، وليس في الفكر فقط، بل يكون أيضاً في الإعلام، حيث يتجلى هذا الغلو في أوضح صوره وأشكاله.
وفي صور هذا (الغلو الإعلامي) تحريف النصوص التي ينقلها هذا الإعلام
على لسان العلماء والدعاة والمصلحين في الوطن العربي، وغاية هذا التحريف
المتعمد أن ينسجم مع السياسة العامة لتلك المؤسسة الإعلامية، أو لا يتعارض مع
السياسة التي تملى عليها، ومنهج تحريف النصوص يكون بتحوير المعنى الأصلي
لها، أو بتر أجزاء منها حتى تتفق مع السياق العام المراد لها، وهذا النوع من الغلو
يكثر بشكل ملحوظ في الصفحات المخصصة للتحليل الإخباري ذي الصبغة
السياسية في الصحافة المقروءة بطريقة تبعث على النفور والتقزز.
ومن صور هذا الغلو: (التصفيق الإعلامي) في المحافل والمناسبات السياسية، ذلك التصفيق المثقل بكل معاني التزلف والمراء والمداهنة الذي يجيده فئام من
الإعلاميين حملوا على عواتقهم بزعمهم القضاء على الغلو بكل مظاهره في
المجتمعات العربية، الذي يأتي غالباً في سياق حديثهم عن الغلو في الدين وحربهم
له، وكأن الغلو لا يكون إلا في الدين فقط، ولسنا نرى بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً بين
من يغالي في حب شيخه وتقديسه والتمسح بجبته، وبين من يتزلف إلى (الزعيم)
ويعلق صورته على صدره أو يتسول على بلاطه ويستعطي عند بابه.
ومن صور هذا الغلو: التهميش المقصود للمشكلات التي تعاني منها الأمة
العربية، وتجاهل القضايا الكبرى الموغلة في جذور المعاناة، والاشتغال بقضايا
فرعية تأتي في ذيل اهتمامات المجتمع.
ومن صور هذا الغلو الإعلامي أيضاً: المبالغة في تحليل الخبر ووصفه
والتعليق عليه إذا وافق هوى في نفس صاحبه، واستغلال ما يصدر من الجهات
المختصة من قرارات وبيانات في الترويج لفكرة مكبوتة وضميمة موبوءة تبحث
عن متنفس لها يبرر نشرها والتصفيق لها، فتجعل من هذه القرارات والبيانات
الرسمية مطية لها يتصدر تعليق صاحبها عليها الصفحات الأولى لتزويقها وتضليل
العامة بها، وهذا منهج تقليدي قد حذقه أقوام وجدوا أنفسهم فجأة يتسنمون منابر
الإعلام ومنافذ الفكر بعد أن كانوا مرتكسين في حمأة الفن أو الرياضة، وإذا بنا
نراهم يمثلون طلائع الصفوة والنخبة التي فرضت على المجتمعات العربية فكراً
عقيماً أجوف لا يعرف ثابتاً ولا يفقه متغيراً.
إنها دعوة للتعقل الإعلامي في مجتمعاتنا العربية للقضاء على مظاهر الغلو في
أجهزته بكل صورها وأشكالها، دعوة تنادي بترميم شامل للواجهات الإعلامية التي
عفى عليها الزمن، والتي سودتها الشعارات، وطمست معالمها التيارات التي
عصفت بالأمة العربية سنين عدداً، وما الروائح المنبعثة من هذه الوسائل إلا دليل
على امتزاج قيء أصحابها بمداد أقلامهم.
إن لوازم العقل، ودواعي الفطرة، ومتطلبات المرحلة، ومنطق الحاجة،
واستقراء الواقع ... كل ذلك يحتم استئصال الفكر الأجوف الذي عشش وفرّخ في
أجهزة الإعلام العربي، واستبداله بفكر متجذر في عقيدة الأمة، يحمل الهم ويدرك
الغاية، يستجيب للواقع ويتفاعل مع الحقيقة، ليسمو بالمجتمع ويحرر العقل العربي
من أوشاب الزيف وأدران الجاهلية.
هذه مقتضيات الدعوة إلى التعقل الإعلامي الذي تفرضه ظروف المرحلة
الراهنة، ونقيضها يجعل من هذا الإعلام اليوم وغداً ومستقبلاً عبئاً على المجتمعات
العربية وعالة على شعوبها.(92/81)
المسلمون والعالم
السلطة الوطنية
المسافة بين ضم السين وفتحها!
بقلم: د.عبد لله عمر سلطان
هناك مثل أمريكي يقول: (أحسن اختيار كلماتك؛ فإنك لا تدري متى تضطر
إلى بلعها) ، ومادام أن هناك غراماً متبادلاً بين السلطة الوطنية الفلسطينية وكل ما
هو أمريكي فإن من الحكمة أن يتأمل رأس السلطة هذه المقولة علّه يستفيد شيئاً من
هذه العلاقة الخطرة التي تشبه علاقة الصداقة المفاجئة بين الذئب المفترس والحمل
الغبي..، ومناسبة لفت النظر هذا يرجع بالدرجة الأولى إلى تلك التصريحات
العنترية التي لا زالت رموز السلطة الوطنية تطلقها بين الحين والآخر على الرغم
من أن القاصي والداني عرف حجم هذه القيادات، كما أن الشعب الفلسطيني بكل
قطاعاته يدفع يوميّاً ثمن مسلسل الأخطاء الفادحة لقيادة أصبحت تتقن دوماً اختيار
الأسوء وممارسة الفاحشة السياسية في وضح النهار..
لقد ذكر الشاعر الفلسطيني المسؤول عن جهاز الثقافة في منظمة التحرير
الفلسطينية (محمود درويش) في محاضرة له بعمّان قبل أسابيع أن البعض: (يريد
من الفلسطينيين أن يتخلوا عن ذاكرتهم التاريخية خلال عملية المفاوضات) ، ولا
شك أن درويش وهو شيوعي سابقاً، ليبرالي لاحقاً يعبر عن حالة من (القرف)
تنتاب حتى الذين لا يؤمنون بثوابت الأمة وقد يشاركون السلطة الحالية بعضاً من
المسؤولية التي آل إليها الحال بعد اتفاق أوسلو..
لقد أعلن في يوليو 1995 عن توصل الطرفين الصهيوني والفلسطيني إلى
اتفاق تنسحب بموجبه قوات الاحتلال الإسرائيلية عن بعض المدن الآهلة بالسكان
في الضفة الغربية المحتلة حسب اتفاق (أوسلو) ، مما يمهد السبيل لإجراء انتخابات
(لم تحدد هويتها أو عدد المشاركين من ناخبين أو مرشحين، حيث لازالت إسرائيل
تفكر في كل هذه التفاصيل) بعد شهور من الانسحاب، وعلى الرغم من أن انسحاب
إسرائيل من أجزاء من الضفة الغربية المحتلة يشكل حدثاً أكبر بكثير من انسحاباتها
الاستعراضية السابقة من غزة أو أريحا، إلا أن الإعلان لم يُصاحَب هذه المرة بتلك
الحملة البهلوانية عبر أجهزة الإعلام العربي، حيث إن كذبة (أوسلو) لا تزال عالقة
بالأذهان، كما أن الحشد العاطفي والكلام الرخيص المنمق الذي وعد به (مسوقو
التطبيع) يترجم حالياً إلى مأساة جديدة يدفع الفلسطينيون ثمنها..
وعلى الرغم من وجاهة المثل الأمريكي السابق، إلا أن عرفات أصر على أن
يدشن الاتفاق بتصريح فولكلوري يذكر بأيام المد الثوري والتصريحات النارية؛
فبعد يومين من الإعلان عن الاتفاق صرح عرفات في جنيف: أن الانتخابات
الفلسطينية لن تجرى قبل انسحاب إسرائيل من كل مدن وبلدان وقرى ومخيمات
الضفة الغربية، وعلى الرغم من أن عرفات سيبتلع هذه الكلمات لاحقاً كما ابتلع ما
هو أكبر منها في السابق، إلا أن النخب السياسية التي يمثلها تعرف حتماً أنه حتى
تلك التصريحات التي لا زالت الطبقة الحاكمة ترى أنها للاستهلاك المحلي لم تعد
تحظى حتى بقبول المستهلكين اللذين يحيون بالإذلال والدونية من تصريحات
رغوية كهذه، في الوقت الذي يكرس الجانب الإسرائيلي مطالبه على أرض الواقع
بدعم كامل من الولايات المتحدة، وبانهزام متعدد الجبهات على الساحة العربية.
لماذا لم يحتفلوا بالانسحاب الجديد؟
عندما زار الكاتب الفلسطيني (إدوارد سعيد) لندن وألقى محاضرة فيها، طالب
السلطة الوطنية الفلسطينية أن تبادر بشجاعة وتعلن على الملأ عجزها عن مواصلة
الطريق المظلم الذي قادت إليه شعبها، وأن تبادر إلى احترام شعبها وتنشيء حواراً
داخليّاً للخروج من مأزق الحل الهزيل الذي أصبح وصمة عار في مسيرة القضية
الفلسطينية، تتم تصفيتها بكل سهولة وبمباركة (سلطة وطنية) (بضم السين وليس
بفتحها وإن كان الفتح يلائم (فتح) هذه الأيام) فالبطالة في عهد عرفات زادت عن
الستين بالمئة وأحلام (سنغافورة الشرق الأوسط) ثبت أنها أحلام ثقيلة الظل،
ووزير الإعلام في سلطة الحكم الذاتي يمنع من الدخول إلى مناطق محتلة ويظل
ينتظر في سيارته أربع ساعات ثم يضطر إلى العودة من حيث أتى، هذا فضلاً عن
رفض إسرائيل حتى لحاشية عرفات بالدخول، ورفضها انتقاله شخصيّاً دون إذن
ولي الأمر الإسرائيلي، أما المشروع الوطني القائم على الاحتفاظ بالأرض
والصلاحيات والسيادة: فقد ذهب أدراج الريح؛ فسلطة عرفات لا تتمتع من مظاهر
السيادة سوى بفرش السجاد الأحمر للضيوف وتقديم عصير البرتقال الفلسطيني بدلاً
من ذلك المصنوع في حيفا! !
لقد أفرزت مرحلة ما بعد اتفاق (أوسلو) حقائق صارخة تجعل من الاحتفال
بهذا الانسحاب لو تم كابوساً آخر تسعى إسرائيل لتجريعه لكل الفلسطينيين، لا سيما
أولئك الذين رضوا بالدنية وساروا وراءها لاهثين.
ولن نستطيع أن نعدد المكاسب والمواقع التي أنجزتها دولة الصهاينة منذ
(مدريد) ، لكن يكفي التذكير ببعض المعالم المهمة.
ظلت (القدس) مربط الفرس والنقطة الأصعب في المفاوضات، ومنذ إعلان
(أوسلو) وحتى الآن، استطاعت إسرائيل أن تغرس مخالبها وأنيابها في محيط
الأقصى، وتوج ذلك بقرار مصادرة 53 هكتاراً من الأراضي المحتلة لبناء
مستوطنات جديدة، واليوم فإن إسرائيل تفتخر وتعلن أن القدس مدينة يهودية؛
فسكانها اليهود يمثلون 75% من مجموع السكان في ظل سياسة مزدوجة بتهجير
سكانها المسلمين عبر جعل الحياة المعيشية لا تطاق (50 ألف غادروها خلال
السنوات الماضية) ، أو عبر إعطائهم الجنسية الإسرائيلية وبعض المميزات التي
تكفل ولاء هؤلاء لدولة صهيون.
إسرائيل تعلن بكل وقاحة على لسان (بنيامين بن العازر) وزير الإسكان:
(بأنها ستصادر 120 هكتاراً لبناء ثلاثين ألف وحدة سكنية، لأن الأمر يتعلق
بالصراع على مستقبل القدس ولا يمكن لأي شخص أن يملي على إسرائيل موقفاً
حيال تصرفها على أراضيها التي تقع تحت سيادتها في القدس) .
ومقابل التنفيذ الفعلي لسلب القدس وسرقتها وتهويدها: لا تجد التيارات
الفلسطينية من رد فعل سوى جعجعة مؤتمر قمة سرابي سرعان ما تبخر بعد أن
أعلنت إسرائيل (تجميد) قرارها، فقرر الأشاوس (تجميد) مشاعر الأمة وإلهاءها
بصراعات جانبية تساهم في تخفيف درجة حرارة الشعوب الملتهبة! !
لقد انتهجت الصهيونية سياسة ثابتة تجاه مدينة القدس منذ عام 1948م حيث
صادروا في البداية ثلث مساحة المدينة، وبعد عام 1967م صادروا ما
يقارب 80 % من مساحتها، ومنذ اتفاق (أوسلو) حتى الآن استمرت إسرائيل في المصادرة والسرقة بمعدل 1081 دونماً شهريّاً بعد أن وصل إلى 232 دونماً أيام مؤتمر مدريد.
لقد أعلن (فريح أبو مدين) في 12/5/1995م (أن السلطة الفلسطينية تشعر
بعجز اتفاق (أوسلو) وقصوره ولا سيما بالنسبة لقضيتي الأسرى والقدس) ومبارك
علينا هذا النبأ السار بأن هناك (شعوراً) لا يزال يسري في أوصال السلطة الوطنية
مقابل المخطط الصهيوني المستمر! !
استمر الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ الاتفاق حتى الآن، ولابد أن نذكر
أن بعض سماسرة السلام ونخاسته كانوا يطلّون علينا صباح مساء حاثين العرب
على السلام مع إسرائيل قبل أن ينتهي البرنامج الاستيطاني اليهودي وتختفي
الأرض التي تخضع للتفاوض والانسحاب.
وصدق البعض النخاسة، وردد أركان معسكر التطبيع هذه الشعارات، لكن
(رابين) أصر على أن يلطمهم لطمة أخرى حين استمر في برنامج الاستيطان دون
اعتبار أو احترام لاتفاق (أوسلو) ، وهي بشهادة مراقب محايد: عملية استمرت
بنفس الوتيرة رغم التصريحات الوثيرة! (فقد تحولت المستعمرات اليهودية في عهد
(رابين) إلى وحدة واحدة، تلك الأَمنية وأختها السكانية، وهو قد وعد بأن تبقى
المستوطنات الأمنية فقط! ! بل إنه طوّر سياسته لتصبح القدس ومحيطها أكبر
مستوطنة، بحيث تمتد المدينة المقدسة إلى الشرق حتى البحر الميت، وإلى الغرب
مروراً بمستوطنة (متسبيه يريحو) ، وشمالاً إلى رام الله عبر مستوطنة (بيت إيل)
وإلى الخليل جنوباً، مما يعني اقتطاع أهم المناطق وعزل (الهر) العرفاتي وقطع
أوصال الضفة الغربية إلى جزئين: مهم، ومقدس، يمثل معظم مناطق الضفة
المحيطة بالقدس، وأخرى تتركز فيها كثافة سكانية عربية يتولى عرفات وزبانيته
سومها بالحديد والنار، ومما يدفع إلى هذا: أن إشارات من عرفات بدأت تبرز
مؤخراً تدلل على قبوله برام الله مقراً دائماً لسلطته الخنفشارية..!
استمر الإذلال المعيشي للشعب الفلسطيني، ووصلت الأوضاع الاقتصادية إلى
أسوأ مستوى لها مقارنة بوضع الفلسطينيين حتى أيام الاحتلال.
الأرقام تقول إن معدلات البطالة فاقت نسبة 60%، وأن دخل الفرد وصل
إلى مستوى أنجولا وبنغلاديش، وأن رجال عرفات من أفراد السلطة وجيشها
منهمكون في عمليات إتجار غير مشروعة في كل شيء من العقار وحتى تجارة
( ... ) ، وقبل أسابيع ألقي القبض على رجل شرطة قتل زميلاً له ليبيع سلاحه من
أجل أن يأكل ... هذا حال السلطة المحظوظة، فما حال الشعب؟ حاله لا يسر،
لكن المأزق كبير، ويكفي أن عرفات لم يجد ما يدفعه لأفراد سلطته وجيشه إلا بعد
أن وصله شيء من المساعدة التي وعدته بها الدول المانحة والتي أحجمت عن ضخ
مزيد من الدعم، خصوصاً بعد أن تبين لها أن الفساد يزكم الأنوف، وأنه في الوقت
الذي تعيش فيه غالبية الفلسطينيين فقراً مدقعاً: تتمتع قمة الهرم بترف وثراء غير
مشروعين، وقد نقل مراسل محطة التلفزيون الأمريكية () حنق الشارع في غزة
من تصريحات (سها عرفات) بأنها لا تثق بالخدمات الصحية في غزة، ولذا: فإنها
وضعت مولودتها في إحدى أرقى مستشفيات باريس! ! وكأن فرنسا وحدها دون
سائر البلاد العربية والغربية هي التي تملك خدمات صحية يوثق بها! ، أم إن الثقة
المفقودة هي في الجنسية الفلسطينية، لذا: لزم ضمان جنسية أخرى (يُعتز بها!)
للمولودة الجديدة، وذلك بولادتها على الأرض الفرنسية (حق الأرض، حسب
القانون الفرنسي) ؟
ظهر الانحياز الأمريكي في أبشع صوره خلال الفترة الماضية، فأمريكا
تخلت عن باقي مظاهر الحياد و (المكياج) الخادع، وأعلنتها صريحة أنها تساوي
إسرائيل، وأن إسرائيل تساوي أمريكا، وقد قامت أمريكا بدور مكشوف وقح في
دعمها لإسرائيل في مصادرة أراضٍ مقدسة، وصوتت وحدها في مجلس الأمن
لصالح اليهود، وأصبح زعماء الديمقراطيين والجمهوريين يتنافسون في كسب ود
الصهاينة، ولم يصل الحال إلى درجة أن يزايد الأمريكيون حتى على الإسرائيليين
أنفسهم إلا في هذه المرحلة؛ ففي السابق: كان الصهاينة يطرحون طلباتهم، فتلبي
أمريكا الطلب بطيب خاطر، أما الآن: فإن (روبرت دول) مرشح الحزب
الجمهوري يطالب بنقل السفارة الأمريكية للقدس فيتمنى عليه (رابين) التمهل
والانتظار.. (لقد ثبت الآن بعد تصريحات كلنتون في مؤتمر (إيباك) أن الأمريكان
أكثر تطرفاً من (رابين) وأنهم صهيونيون أكثر من الصهاينة) كما قال (ماكلرم
رديتش) المعلق البريطاني.
ماذا بعد؟
في يوم واحد صدرت عدة تصريحات، وبثت تقارير تستحق الإشارة إليها،
خصوصاً أنها صدرت في ساعات قليلة بعد يوم واحد من الإعلان الأخير.
فقد أعلنت قيادة حزب ليكود أن الاتفاق الهزيل مع عرفات يمكن إلغاؤه، فقال
زعيم الحزب (نيتانياهو (: إن الأمن في المناطق الفلسطينية يجب أنه يظل في
أيدي اليهود، وإن قواته لن تؤمر بغزو غزة وأريحا (قوات عرفات أكثر كفاءة في
قمع الفلسطينيين) وأشار إلى أن عرفات سيبقى مسؤولاً عن جزيرتين مكتظتين
بالسكان دون دعم فعلي من إسرائيل.
وأعلن (ياسر عبد ربه) مدير الإعلام العرفاتي: أن محادثات نقل السلطات
إلى الفلسطينيين لم تحرز تقدماً، وأن الجانب الآخر يدفع بنا إلى الانسحاب من هذه
المفاوضات الجهنمية.
وزير العدل الإسرائيلي يقترح ضم قسم من الضفة الغربية، وأشار تقرير
لصحيفة (ها آرتس) أن برنامج حزب العمل سيسمح لسلطة عرفات في النهاية
بالإشراف على 18% من مساحة الضفة الغربية فقط!
في الساعة نفسها: بثت وكالة الأنباء أن مستوطنة يهودية جديدة قد بوشر في
بنائها بين (القدس) و (تل أبيب) .
بعدها بساعتين: أنباء عن فشل اللجنة الرباعية الخاصة ببحث عودة نازحي
عام 1967م ... أما نازحو 1948م فليسوا على قائمة البحث.
تقارير من (تل أبيب) و (لندن) عن بدء نشاط جديد بين سلطة عرفات وجهاز
المخابرات الإسرائيلي (شين بيت) والذي اتفق عليه قبل ثلاثة أشهر في (روما)
مهمته الأولى: إسكات الصوت الإسلامي المعارض للهزيمة، والركوع تحت اللافتة
المكررة (محاربة الأصولية) ...
هذه الأصولية هي الصوت الباقي، الصوت الضعيف المطارد الذي يدافع
بأسلحته العتيقة وإيمانه الوقاد كل هذا الباطل المتبجح المغرور وتلك العمالة التي
يأبى الله إلا أن يفضحها مع مطلع كل يوم يشرق بنور العودة إلى الله، فتظهر على
حقيقتها: تجعجع بكونها سُلطة، بينما تثبت الأيام أنها أوراق وزعامات ومكونات
جمعت في طبق يذكر بسَلطة لا تثير الشهية أو الرغبة في المضي قدماً لتناول وجبة
الاستسلام السامة!(92/84)
المسلمون والعالم
المعادلة الدولية في البوسنة
وسياسة الترويض على الذل..!
بقلم: عبد العزيز كامل
جسد وزير الإعلام الصربي حقيقة الصراع في البوسنة عندما قال: (إن
الصرب في معاركهم في البوسنة، إنما يمثلون طليعة الحرب الصليبية الأخيرة
لاستئصال شأفة الإسلام) !
فهل حقّاً بدأت الحرب الصليبية (الأخيرة) ؟ !
إن هذا ما تنطوي عليه دعوات عديدة تنطلق من أبواق الدعاية الإنجيلية
المتنامية النفوذ في الآلة الإعلامية الغربية، هي بدأت أو على وشك البدء ليس في
البوسنة فقط، بل في أماكن متفرقة من العالم.
الساسة يصادقون على حتمية بدء هذا الصراع، فقد سبق للرئيس الأمريكي
الأسبق (ريتشارد نيكسون) ، ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة (مارجريت تاتشر) ، و (هارفارد صمويل هانتجتون) أن دعوا إلى مواجهة خطر الإسلام تحت مسمى
(الأصولية) .
والعسكريون يضربون على الوتر نفسه، ويحذرون من الخطر ذاته.. حتى
إن أكبر مؤسسة عسكرية للغرب تتحدث عن ذلك بلسان فصيح؛ يعبر عنه المستر
(ويلي كلايس) الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عندما قال: (إن حركات
الإسلام السياسي، باتت تشكل خطراً على الأمن الأوروبي بعد انتهاء الاتحاد
السوفيتي، لأنها تتخذ من أوروبا والحضارة الغربية العدو رقم واحد، كما أنها
تعتمد العنف والتطرف منهاجاً مفضلاً في تعاملها مع الآخرين!) وأضاف: (إنه
لابد من مواجهة هذا الخطر القادم بما يناسبه من الاستعداد) ، ثم اقترح خطة من
شقين لمواجهة خطر الجماعات الإسلامية:
أولهما: أن يقدم الحلف للحكومات التي تعاني من هذا الخطر فوق أراضيها
كل المساعدات العسكرية اللازمة لتمكينها مباشرة وبشكل فاعل من التعامل معه
والقضاء عليه.
والثاني: يتمثل في تشكيل حلف دفاعي (أوروبي أمريكي) بالاشتراك مع
الدول المعرّضة للخطر الأصولي، بحيث يكون الحلف مستعدّاً للتدخل العسكري
المباشر في أي بلد قد تنجح حركات الإسلام السياسي في الاستيلاء على الحكم فيه) ، وهذه التصريحات مشهورة، وقد نشرت في الجرائد في حينها في 18/4/1995.
إن مثل هذه التصريحات سواء على لسان الإعلاميين، أو السياسيين، أو
العسكريين الغربيين، لترُدّ في مفهومها ومنطوقها على تهمتي (التهييج السياسي)
و (التسطيح الإعلامي) التي طالما يُعمَز بهما المحذّرون من الأخطار المحدقة بالأمة.
وكما أن للقوى النصرانية المهيمنة على الغرب هذا الموقف المبدئي والثابت
من الإسلام، الذي أطلقوا عليه اسم (الأصولية!) ، فإن لبقايا القوى الشيوعية
موقفاً مشابهاً من الإسلام، الذي كانوا يطلقون عليه وصف (الرجعية!) .
ونعود للبوسنة..
الحكومة البوسنية حكومة أصولية في نظر الغرب والشرق، وإن قالت إنها
(ديمقراطية) ، ورئيسها (علي عزت بيجوفيتش) أصولي مهما تحدث عن انتمائه
الأوروبي وإيمانه بالتعددية، ولو تحدث عن غير ذلك حاكموه إلى كتابه (البيان
الإسلامي) الذي أُدخل من أجله السجن سنين طويلة.
والأوروبيون لا يحبون كما قال (ميتران) الرئيس السابق لفرنسا أن يروا دولة
إسلامية في قلب أوروبا، فما الحال إذا كانت تنتظرهم (دولة أصولية!) ؟ كأنهم لا
يريدون تعكير (الصفاء الروحي) و (الانسجام التاريخي) بين الطوائف المسيحية
الثلاث (الكاثوليكية، الأرثوذكسية، والبروتستانتية) التي لم يكن الإسلام سبباً في
نشوب المعارك الطاحنة التي دارت بينها عبر التاريخ، أما زرع دويلة يهودية أو
نصرانية صغيرة وسط طوفان من الشعوب الإسلامية الكبيرة لتكون بؤرة توتر
وعامل صراع ونزاع، فإن هذا لا يقلق الضمير المسيحي الحي!
الدعاية الصربية تركز على هذه الخلفية للصراع، وتسعى لتثبيت قناعة
الغرب، بأنها تقاتل نيابة عنهم لمنع قيام قوة أصولية في أوروبا، وأمريكا لا تريد
أيضاً أن تكون مثل هذه الدولة في جوار حلفها الاستراتيجي.
والغربيون كما علمتنا الأحداث يتعاملون دائماً مع الخطر المتوقع قبل أن
يتحول إلى خطر واقع، وهذه الخلفية الدينية للصراع تتداخل معها خلفيات تاريخية
لها علاقة بمطامع ومطامح معاصرة للدول المعنية بذلك الصراع في البلقان؛
فالموقف الغربي الذي تمثله الآن إنجلترا وفرنسا وأمريكا وألمانيا يرتكز على
المعطيات التالية:
1- الغرب ساعد في سقوط وتفكيك الاتحاد اليوغسلافي السابق، الذي كان
رأس حربه يستعملها الشيوعيون في أوروبا الشرقية ضد بقية الغرب؛ فسقوط هذا
الاتحاد مصلحة للغرب.
2- سيكون من مصلحة الغرب بصفة أشمل، لو قام على أنقاض الكيان
الشيوعي السابق كيان ليبرالي ديمقراطي، تحت مسمى آخر، وليكن الاتحاد
الصربي، أو صربيا الكبرى، وهذه هي الصورة التي تطرحها الحكومة الصربية
نفسها فعلاً، ولا بأس بأن يقوم بجوارها (الاتحاد الكرواتي) أو (كرواتيا الكبرى) ،
الليبرالية الديمقراطية.
3- إن قيام دولة إسلامية في هذا الموقع من أوروبا يمكن أن يهدد هذا الهدف
في المستقبل.
هذا ما يجمع بين مواقف الدول الغربية بصفة عامة، أما بخصوص فرنسا
وإنجلترا: فيضاف إلى ذلك أنه من الناحية التاريخية كان الصرب دائماً الحلفاء
التقليديين لكل منهما أيام ماضيهما الاستعماري القديم، وقد آن الأوان لكي يفوا
بالجميل، ويقفوا مع الصرب في حاضرهم الاستعماري الحديث، والصرب أيضاً
كانوا حلفاء لهما في الحرب العالمية الثانية، أما ألمانيا: فقد عانت من موقف
الصرب المعادي لها أثناء تلك الحرب، ولهذا اختارت الوقوف بشكل جوهري مع
الكروات، وبشكل مظهري مع المسلمين.
أما الروس: فإن موقفهم يرتكز أيضاً على معطيات، من أهمها:
1- سقوط يوغسلافيا السابقة كان نذير شؤم لهم وللقوى الشيوعية كلها؛ لأنها
كانت تمثل رديفهم العسكري وسوقهم الاقتصادي في أوروبا.
2- إذا كانت الرابطة الشيوعية قد انحلت بسقوط الاتحادين السوفيتي
واليوغسلافي، فلا بأس بالرابطة الأرثوذكسية بين الاتحاد الروسي والاتحاد
الصربي، وأن تستخدم المطرقة والمنجل الشيوعيان في الطرق على الناقوس
النصراني في كل من (موسكو) و (بلجراد) .
3- وعليه: فإن قيام كيان قوي جديد على أنقاض يوغسلافيا السابقة، له
علاقات متينة مع الروس، سيكون تعويضاً لهم عما افتقدوه بسقوط الكيان السابق.
وتأتي مواقف الأمم المتحدة لتتفرع عن هذه المرتكزات الغربية والروسية في
سياساتها تجاه البوسنة، خاصة وأن (الأمين جدّاً) فيها: أرثوذكسي.
وعلى هذا: فإن كلاً من الأطراف المعنية بالصراع، تريد أن يظل الكيان
النصراني القوي رابضاً بجوار العدوة القديمة المشتركة: الأمة التركية المسلمة
المنوّمة، ليحول دون يقظتها، التي قد تستيقظ بها الأمجاد الإسلامية، لا في أوروبا
وحدها، بل في العالم أجمع.
لعل هذه أصول القضية وخلفياتها الأساسية، وبعد معرفتها.. فإن الباقي كله
تفاصيل.. تفاصيل مرحلية للوصول إلى الأهداف النهائية؛ فما نشاهده، وما
نسمعه، وما نلمسه حولنا.. كله من التفاصيل.
وحتى لا نغيّب في التفاصيل كما هو حالنا في الغالب ينبغي أن نضعها في
سياقها، ولا ننسى الأصول أو الخطوط العريضة المتفق عليها، وهذا لا يمنع
بطبيعة الحال من وجود الاختلافات والنزاعات بين الأطراف المتواطئة.
ولا بأس أن نذكر بأبرز التفاصيل التي تبدو الآن في سياقها، من كل أطراف
(اللعبة) الدولية:
* تبدأ صربيا الحرب في كل يوغسلافيا بهدف إعلان جمهورية (صربيا
الكبرى) ، وتدعم العرقيات الصربية، وتساعدها على الانفصال عن بقية
الجمهوريات، ويحتل صرب البوسنة (70%) من أراضي البوسنة، ويحتل صرب
كرواتيا (30%) من أراضي (كرواتيا) المعارضة لقيام صربيا الكبرى.
* الأمم المتحدة تُصْدر ما يزيد عن 60 قراراً، يدوس الصرب عليها كلها،
وتقرر الأمم المتحدة حظر تصدير السلاح إلى الأطراف المتحاربة، ثم لا يطبق ذلك
الحظر إلا على البوسنة، بحجة أن رفع الحظر عنها سيطيل من الحرب. وتعلن
لكل الأمم حمايتها لست مناطق في البوسنة وتعتبرها (ملاذات آمنة) وهي
(سربرينيتسا، وجوراجدي، وبيهاتش، وتوزلا، وسراييفو) ثم تنزع سلاحها، مع
بقاء خمسة منها تحت حصار شامل من الصرب، ثم تحاول إقناع العالم بأن حماية
تلك المناطق عسكريّاً من الصرب سيحتاج إلى ربع مليون جندي.
* وتدور الكثير من أحداث مأساة البوسنة في الصراع مع الحصار الجائر من
الصرب، والحظر الظالم من (الأسرة الدولية) ، ويستمر الحصار أكثر من ثلاث
سنوات نتج عنها نزوح مليونين وثلاثمئة ألف بوسني أي نصف السكان
وتشريد 800 ألف بوسني، وتوزيعهم على أكثر من 30 دولة، واغتصاب ما يقدّر بعشرين ألف امرأة بوسنية معظمهن من القصر، وفقْد 12 ألف رجل مسلم معظمهم دون الشباب، مع الاعتقاد بأن أكثرهم قتل في عمليات إعدام جماعية. وعبر عمليات (التطهير العرقي) يطول البلاء الصربي 400 قرية، و22 مدينة، تمت تسويتها بالأرض بواسطة الجرارات بعد عمليات النزوح.
* وتتدفق المعلومات والحقائق والبيانات عن المأساة بين يدي دعاة حقوق
الإنسان، بل إن لدى مراقب حقوق الإنسان ومبعوث الأمم المتحدة في يوغسلافيا
السابقة ما يزيد على مليون وثيقة رسمية تشمل آلاف الشكاوى الشخصية من
الضحايا البوسنية، ومع هذا لا تتحرك إرادة (الأسرة) الدولية لتمكين المعتدى عليه
من الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يدافعوا عنه.
* ينسق حلف الأطلسي مع الأمم المتحدة مسرحية الضربات الجوية ضد
القوات الصربية إذا هُددت الملاذات الآمنة، ويقوم فعلاً ببعض الغارات (السينمائية)
بعد أن تعطي الأمم المتحدة الصرب المعلومات المسبقة عن زمان ومكان القصف
لتخلي الأرض من تحته؛ فلا تحدث خسائر في الأرواح الصربية الغالية! ، ولا
العتاد الصربي النفيس! ، ومع ذلك تنفذ تمثيلية (الرهائن) لتجسد هيبة الصرب
وخيبة الأمم المتحدة، وبقاء سلطان روسيا التي أطلقت الرهائن من جنود الأمم
المتحدة.
* يحاول البوسنيون تشكيل قوة عسكرية بجهودهم الذاتية رغم الحصار
والحظر لفك قبضة الصرب من حول عنق (سراييفو) ولكن مبعوث الأمم المتحدة
(يوسي أكاشي) يحذر، و (بطرس) يحذر ... كل هذا من التفاصيل.
* ومن التفاصيل أيضاً: مواقف الدول العربية والإسلامية وقراراتها وإداناتها
وشجبها ومشاعرها الرقيقة..! ثم تقع كارثة سقوط (سربرينيتسا) في يد الصرب،
ثم تتلاحق وقائع سقوط (كرايينا) في يد الكروات، فهل تختلف الواقعتان رغم
كونهما من التفاصيل عن السياق الأصلي لمجمل الحدث البوسني؟ أبداً..!
أولاً: سقوط (سربرينيتسا) وما يعنيه بالنسبة للملاذات الآمنة الأخرى: عندما
هاجم الصرب مدينة (سربرينيتسا) أول مرة عام 1993م، وطلبت الأمم المتحدة
وقف القتال، اشترط الصرب نزع سلاح البوسنيين هناك، ووافقت الأمم المتحدة،
وأعلنتها منطقة آمنة تحت حمايتها في أواخر شهر إبريل 1993م، مما دفع الآلاف
من سكان المناطق المجاورة (غير الآمنة) إلى أن تلوذ بها، فزاد عدد سكانها من
(370. 211) نسمة إلى حوالي خمسين ألف نسمة، وبعد أن جُردت المدينة من
السلاح، واستلمته قوات الأمم المتحدة، ورحلت المدافعين عنها، انسحبت تلك
القوات تاركة قوة هولندية للدفاع عنها، حتى إذا جاء يوم الهجوم الصربي على
الملاذ (الآمن) ، هربت القوة الهولندية لتتركها فريسة سهلة لجيش همجي مدجج
بالسلاح، معبأ بالحقد والشر، وسقطت (سربرينيتسا) في 11/7/1995م، أو
بالأحرى: سلمتها الأمم المتحدة للصرب الذين قاموا بعد اجتياحها الأهوج بتصفية
المسلمين الذكور الذين تجاوزوا الحادية عشرة، واغتصاب الفتيات، وتشريد
الأمهات بطردهن خارج المدينة المنكوبة.
وأُتبعت هذه المأساة البوسنية، بملهاة دولية، وبدأ المجتمع الدولي في تبادر
الأدوار (الهزلية) على خشبة المسرح العالمي:
فقد قال (جاك شيراك) بعد سقوط (سربرينيتسا) : (على الحلفاء أن يعملوا
لاستعادة (سربرينيتسا) من أيدي الصرب) ثم عاد فقال: (على الأمم المتحدة [بعد
ضياع المدينة] أن تركز على حماية المناطق الآمنة الخمس الباقية) . يعني: دعونا
مما مضى..!
أما بريطانيا: فإنها قد أعلنت مع بدء الهجوم الصربي أنها لن تسمح بسقوط
المدينة، وبعد أن سقطت دعت إلى (الواقعية) في التعامل مع الأمر، وعابت على
فرنسا دعوتها الأولى للتحرك العسكري لإعادة المدينة، وقال وزير خارجيتها
(مالكولم ريفكند) (اليهودي) : (إذا كان الفرنسيون يريدون عملاً عسكريّاً، فليتفضلوا
بجنودهم، أما نحن فندخر جنودنا لما هو أكثر أهمية) ! ! ثم دعت بريطانيا بعد ذلك
إلى الاهتمام بحماية الملاذات الأربعة (وليس الخمسة) من المناطق الآمنة
الباقية..! ! أي: إنها صدّقت مقدماً على ابتلاع الصرب للمنطقة المرشحة بعد (سربرينيتسا) .
والرئيس الأمريكي دعا أيضاً إلى استعادة (سربرينيتسا) بعد أن سقطت،
ولكن أحد مستشاريه صرح بعد ذلك بأن الرئيس ربما أخطأ في التعبير بسبب
الارتباك! ، والولايات المتحدة لا يمكن أن تدعو إلى شيء لا تستطيع المشاركة فيه
عمليّاً.! ثم يصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً برفع الحظر عن السلاح
للبوسنة ... ولكن الرئيس الأمريكي بعد أيام يقول: (إنه سيعارض القرار) .
وفي نهاية المطاف: ينعقد (مؤتمر لندن) بدعوة من بريطانيا، لتجتمع فيه
الأطراف وتستمع بإيضاح إلى (أندريه كوزيريف) وهو يبرر ويعلل وجهة النظر
(البريئة) للصرب في اقتحامهم ل (سربرينيتسا) ، وتهديدهم لكل من (جيبا)
و (جوراجدي) بعدها.
ويبدو أن المؤتمرين صادقوا ببراءة أيضاً على هذا التبرير، فانفض المؤتمر
بعد إسدال الستار دون إصدار أي قرار.
ومع كل هذا تسأل عن رد فعل على مستوى الأمة قوي عملي واحد، فلا
تسمع، ولا تحسب، ولا تدري، فهل أثمرت سياسة الترويض؟ !
ثانياً: سقوط (كرايينا) في أيدي الكروات: في الوقت الذي ظهر فيه أثر
حظر السلاح على البوسنيين المسلمين بسقوط (سربرينيتسا) ، ظهرت أيضاً آثار
السماح للكروات الكاثوليكيين باستيراد وشراء السلاح، فالعملية التي قامت بها
حكومة زغرب لاسترداد أراضيها التي كانت قد استولى عليها الصرب، لابد وأنها
كانت تحتاج إلى فترة كافية من البناء العسكري القوي، والذي دلت عليه بوضوح
قدرات الكروات العسكرية الفائقة التي استطاعوا بها أن يحققوا انتصارات سريعة
أدهشت العالم، ليس لأن الكروات شجعان والمسلمون جبناء، ولكن لأن الكروات
سُلّحوا والمسلمين جُرّدوا، على الرغم من أن كلاً منهما يُطبق عليه (دوليّاً) الحظر
الدولي لاستيراد السلاح، فمن أين إذن سلحت كرواتيا نفسها..؟
حتى عام 1991م لم يكن لدى كرواتيا جيش نظامي، ولم تكن لدى الميلشيا
المقاتلة في ظل الحظر إلا بعض الأسلحة الخفيفة، وقد ظهر ضعف قواتها في
المواجهات السابقة.
ومنذ ذلك الحين، بدأت كرواتيا الاستعداد لمعركة تحرر فيها (30%) من
أراضيها التي احتلها الانفصاليون الصرب.
وبعد ثلاث سنوات نسمع عن أن كرواتيا أعدت جيشاً من مئة ألف مقاتل
مسلحين بمختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة لاقتحام (كرايينا) ، بما في ذلك الدبابات
والمدافع الثقيلة والطائرات، وظهر أن كرواتيا حصلت خلال العامين الماضيين
على الألغام الأرضية والدبابات والطائرات من دول مختلفة من بينها فرنسا، وأقيم
عرض عسكري في زغرب قبل المعارك الأخيرة لإظهار متانة بناء الجيش
الكرواتي، ويكشف رئيس الوزراء الكرواتي السر، فيصف شراء السلاح من
الدول الغربية بأنه كان من (سوق مفتوح) !
ولهذا استطاع الكروات السيطرة على مدينة (كنين) بعد 30 ساعة من بدء
الهجوم على كرايينا، وفر الصرب الكروات من الأرض التي كانوا يعدونها رمز
الكبرياء الصربي عبر التاريخ، ويتحقق أول انتصار على الصرب الذين أهانوا
المسلمين، ولكن بغير أيدي المسلمين حتى لا يعيد فيهم الروح، وحتى لا يملكوا
توظيفه فيما بعد.
ويبقى الزمام على كل حال بيد الغرب الذين يبدو أنهم أعطوا الضوء الأخضر
للكروات لكي يسووا مشكلتهم.
وتبقى (سراييفو) وأخواتها وحدهم خاضعين للحظر الدولي الصارم على شراء
السلاح، محرومين من الانتصار لكرامتهم أو الدفاع عن مجرد بقائهم.
وبما أن أبعاد اللعبة وتفاصيلها باتت ظاهرة بوضوح مفضوح، فعلينا أن
نتذكر أن في الجريمة التي لم تتم فصولاً لم تبدأ، في كل من (ألبانيا) و (كوسوفو)
و (الجبل الأسود) و (مقدونيا) ، وربما تنشأ مؤامرات مشابهة في أماكن مختلفة من
العالم ضد المسلمين، قد يحتاج الأعداء فيها إلى ترويض أمتنا على الذل وتدريبها
على الخنوع وتعويدها على اليأس، لتظل ساكنة أثناء التفرد بالضحية تلو الضحية.
إن المشوار طويل أمام من يريدون الحيلولة بين الأمة وبين استمرار هذا
الترويض، ومع طول الطريق، فهناك من يُلقون الأحجار على جادته، وعلى
هؤلاء نخشى أن يكونوا أطرافاً في (اللعبة) الدولية، لا ضد الدولة البوسنية فحسب، بل ضد الأمة الإسلامية.
والانتصار على الصرب، بل على الغرب، ليس مستحيلاً مع أمة تلتجئ إلى
الله (تعالى) وحده، وتسعى بجد في موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، أمة يخاطبها
ربها من فوق سبع سماوات بقوله: [وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً
وَلَعِباً مِّنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]
[المائدة: 56، 57] .(92/92)
في دائرة الضوء
وقفة مع التنويريين الجدد
بقلم: د. أحمد إبراهيم خضر
1- الاشتباك والرّشد:
مصطلحان استخدمهما التنويريون الجدد في منطقتنا العربية، ويقصدون بهما على وجه التحديد ما يلي:
أولاً: التعرض للأساس الذي يقوم عليه المجتمع المسلم (القرآن والسنة)
والتشريعات المنبثقة منهما، وللتاريخ الإسلامي، وللثقافة العربية الإسلامية
بالدراسة والتحليل والنقد؛ بغرض إلغاء أو تطوير أو تعديل هذا الأساس إلى
الصورة التي تحرك الكيان الثقافي والاجتماعي للمجتمع المسلم في اتجاه تصوراتهم
الفكرية.
ثانياً: الاستفادة من التصورات الفكرية والمنهجية القديمة والمعاصرة
(والغربية منها على وجه الخصوص) ، والتيارات النقدية في داخل البلاد وخارجها، وجهود الغرب في تحسين أدوات الاستقراء والاستنباط والتفكير المنطقي المنظم
للمعلومات، واختبار الفرضيات، واستخلاص النتائج في تحقيق الهدف السابق.
ثالثاً: الجرأة في النقد والتحليل، والجرأة في الإضافة إلى هذا الأساس وهذا
الكيان والحذف منهما بما يتفق مع منطلقاتهم الفكرية.
2- استمد التنويريون الجدد هذه الاستراتيجية
من مصدرين أساسين:
أولهما: المحاولات التي قام بها من أسموهم بالمفكرين الأصلاء من الأئمة
الدينيين وأساتذة التاريخ والقانون والاقتصاد والحضارة العربية الإسلامية،
بالاشتباك مع أساس المجتمع المسلم وكيانه الثقافي الاجتماعي (على غرار ما فعله
كبار فلاسفة التنوير في الغرب في القرن السابع عشر) فخرجوا على الإسلام باسم
كسر جموده، وباسم التسهيل على الأمة والمصلحة والتجديد، مستخدمين سلاح
(الرّشد) أو (العقلانية) بالمفهوم الغربي الذي يعني: الاحتكام إلى معيار العقل وحده
في الحكم على الأشياء، وأسبقية العقل في فهم الحقائق الجوهرية عن العالم عما
سواه، علماً بأن روح عصر التنوير النقدية العقلانية أعلت من قيمة العقل ليقف في
مواجهة الإيمان والحقائق المنزلة والسلطة التقليدية والمسائل الروحية.
هذا وقد نجحت محاولات هؤلاء الأساتذة (! !) في تحقيق ما يلي:
أ- الجرأة على التغيير والتجديد في المسائل المرتبطة بالعقيدة الإسلامية الثابتة
بالكتاب والسنة.
ب- وضع جميع كتب الحديث والسيرة وجميع ما فيها من الأحاديث المنسوبة
إلى النبي تحت شبهة الكذب.
ج- حققت ما سمي بالنهضة الإصلاحية، التي زعزعت أكبر معقل ديني في
العالم الإسلامي عن تمسكه بالدين، وقربت كثيراً من شيوخ هذا المعقل إلى
اللادينيين خطوات، ولم تقرب اللادينيين إلى الدين خطوة.
د- أدخلت الماسونية إلى هذا المعقل.
هـ- شجعت على ترويج السفور.
وجعلت الزندقة مقابلة لحكم العقل ونظام المنطق، وجعلت الإلحاد قرين
الاجتهاد، والإيمان قرين الجمود.
ز- صرفت الناس عن التفكير في الدين، وشجعتهم على قراءة كتب الغرب
لالتماس الحقيقة فيها، وإقناعهم بأنهم لن يجدوها في كتب الإسلام!
ثانيهما: التيارات النقدية المعاصرة في العالم الغربي: يقول التنويريون الجدد: (وتلك رؤية التنوير، لم تكن متاحة أمام فكرنا القومي! إلا حدسا من قبل، ولكنها
رؤية تطورت بفضل تفاعل (خلاق) وإيجابي جرى على عدة محاور:
كان أولها: محور التفاعل بين التطبيقات العملية لتيار التحديث في الغرب
والأفكار النقدية القوية التي أنتجها الفكر الغربي نفسه وأدبه وفنونه ذات التوجهات
الإنسانية والأخلاقية والجمالية والاجتماعية، وكان المحور الثاني هو: التفاعل بين
الفكر الغربي النقدي هذا وبين أقرانه من تيارات الفكر النقدي الإيجابي التي أنتجناها
نحن مع شعوب الثقافات الأخرى القديمة والجديدة في العالم الإسلامي العربي وفي
أمريكا اللاتينية ... وكان المحور الثالث هو: التفاعل بين الفكر النظري في مختلف
العلوم الاجتماعية والطبيعية وفقاً لمختلف المناهج الفكرية الحديثة غالباً (الوظيفية،
والبنائية، والهيكلية، والتركيبية، والتاريخية الحديثة.. وغيرها) وبين التطبيق
العملي الذي أصبح يزداد اقتناعاً بضرورة الاهتداء بمنجزات تلك العلوم
وتصوراتها) .
3- أقر التنويريون الجدد بالحقائق الآتية:
أولاً: أن تصوراتهم الفكرية عن الواقع الإسلامي للمجتمع لم تكن ناضجة قبل
الثمانينات، أي: في الفترة التي بدأت فيها الصحوة الإسلامية تترك بصماتها
بوضوح على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية.
ثانياً: أنهم كانوا يتخبطون في مساراتهم بسبب انبهارهم بالنموذج الغربي أو
النماذج الغربية المتناقضة ومغرياته وهيمنته ومنجزاته.. بين هذا النموذج وما
انبثق منه من فكر وتطبيق ماركسي.
ثالثاً: أن الواقع الإسلامي للمجتمع يمثل كياناً ثقافيّاً واجتماعيّاً خاصّاً ومتميزاً، وله تاريخه الخاص والمتميز.
وهذه الحقائق التي أقر بها التنويريون الجدد وعلى رأسها: إقرارهم
بخصوصية المجتمع المسلم لم تفدهم في شيء؛ فهم لازالوا يتخبطون في مساراتهم
بين منجزات الفكر الغربي؛ بدليل اعترافهم بافتتانهم بالتيارات النقدية الغربية،
وإن أضافوا إليها بما اعتقدوا أنه منجزاتهم النقدية الخاصة ومنجزات شعوب
الثقافات الأخرى، ومن ثم: تظل تصوراتهم الفكرية عن الواقع الإسلامي للمجتمع
غير ناضجة، خاصة وأنها محاطة بسياج عدائي مسلح يمتلك كل سبل الضبط
والتأثير، وسياج عدائي آخر يمثله التنويريون أنفسهم الذين يرون في هذا الواقع
تهديداً لوجودهم وكيانهم ومراكزهم ومصالحهم وشهواتهم.
4- إن ادعاء التنويريين الجدد بأنهم استفادوا من تفاعلهم بما يصفونه بـ
(الإيجابي والخلاق) ! مع محور الفكر النظري والبناء المنهجي للعلوم الاجتماعية
وللتيارات الفكرية النقدية في الغرب: ادعاء يفتقد إلى الصحة؛ فالتيار النقدي
الغربي أثبت أن العلوم الاجتماعية علوم أوروبية الصنع عجزت في بلادها عن
إثارة القضايا المتصلة بصميم وجود الإنسان، وأنها ليست أكثر من مجرد أفكار
فلسفية وقيم ومواقف أخلاقية تخص أصحابها ومجتمعاتهم، وأنها نادراً ما تعطي
تفسيراً صحيحاً للقضية التي تتعرض لها، وحتى هذا التفسير أو التناول متعدد
الألوان أكثر منه تفسيراً تحليليّاً، وفي أحد المؤتمرات التي عقدها العلماء
الاجتماعيون الغربيون قالوا ما نصه: (إن المشتغلين بهذه العلوم لم تكن لديهم القدرة
على متابعة الأحداث المهمة لا في مجتمعاتهم ولا عبر العالم، كما أن قلة العائد
الملموس من هذه العلوم لم يُمكن أصحابها من تدعيم مراكزهم أو إقناع حكوماتهم
بجدوى بحوثهم التي يشوبها الجدل والافتراضات والتعميمات الفضفاضة التي لا
تستند إلى أساس متين من الواقع، وقد أدى الشك في هذه العلوم إلى زيادة حدة
السخرية والتهكم اللاذع عليها باتهام علمائها بأنهم يقضون ربع قرن من حياتهم
للبرهنة على حقائق يعرفها الناس من أجل إعطائهم الصبغة العلمية) .
ومن ثم نقول: إن اقتناع التنويريين الجدد بضرورة الاهتداء بمنجزات هذه
العلوم أو حتى بتصوراتها يكشف عن قصور أو عدم فهم للتيارات النقدية الغربية
التي يدعون أنهم يتحاورون معها، أو أنه اقتناع كاذب يحركه فقط موقفهم العدائي
من منجزات الصحوة الإسلامية من ناحية، أو إدراكهم للدور الذي حدده أتباع (سان
سيمون) (أوجست كونت، وبازار، وإنفانتان) لهذه العلوم بأن تزيح الدين لتقبع هي
على قمته.
5- وأهم من كل ما سبق، الآتي:
أولاً: إن المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها التنويريون العرب القدامى
والجدد، وإن كانت تحمل معرفة معينة، فإنها إذا جردت من أغطيتها الفنية،
وطبقاتها اللفظية التي تحتمي بها فلن تكون أكثر من مجموعة فارغة من الألفاظ
الكاذبة ذات الرطانات الغامضة التي لا تخدم أي قضية، ولا تفيد في أي تحليل.
ثانياً: ببساطة تامة ودون الدخول في ترسانات المصطلحات الغامضة التي
يحتمي بها هؤلاء التنويريون نجدهم يسعون إلى ما يلي:
أ- الاستمرار في جهود ضرب الصحوة الإسلامية، والعمل على الحيلولة من
أن تجد لها عمقاً في القرى والمدن البعيدة عن العاصمة، أو مراكز التنوير! التي
يسيطرون عليها.
ب- الاستمرار في الجهود التي تسمح لهم بوجود المناخ الذي يعطي لهم
الشجاعة والحرية في التعرض للقرآن والسنة والتشريعات المنبثقة منهما، إما
بالهجوم أو النقد مع القدرة على الحذف والتعديل والإضافة، وإما في الأساس الذي
يستند إليه المجتمع المسلم، أو في الكيان الثقافي والاجتماعي لهذا المجتمع، انطلاقاً
من نجاحات الأئمة والأساتذة الذين أشرنا إليهم.
ج- أن تكون لهم دائماً اليد العليا في توجيه حياة الناس وحركة المجتمع وفق
تصوراتهم الفكرية، وأن تكون عقولهم هي الحَكَم النهائي حتى في المسائل التي
حسمها الشرع.
د- الارتكاز في تحقيق هذه الأهداف على التحالف مع الفكر والمناهج الغربية
والفكر الناهض في دول أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص، وكذلك مختلف
الجهود والأنشطة المناوئة للإسلام بالداخل والخارج المحمية جميعها بالقوة المسلحة.
6- بقي أن نقول: إن التنويريين الجدد لم يقدموا أي جديد، ولو قدموا جديداً
لما كان هناك إقدام على إعادة طبع ونشر جهود التنويريين القدامى لمواجهة الصحوة
الإسلامية، إنه الدور نفسه لإمامهم الكبير (رفاعة الطهطاوي!) الذي حدده (بي.
جي. فاتكيوتس) بوضوح في قوله: (لقد كان الطهطاوي أول من قدم بطريقة
منظمة وذكية المبادئ العامة للمؤسسات السياسية الأوروبية، قدم الطهطاوي أفكار
عصر التنوير والثورة الفرنسية وهما عماد هذه المؤسسات، كان الطهطاوي معجباً
بعقلية التنوير الأوروبي، ولهذا: فقد فتح الطريق لتابعيه للهجوم المكثف على كل
ما هو تقليدي ... أدخل الطهطاوي إلى قرائه وهو يصف الدستور الفرنسي
والمؤسسات السياسية الفرنسية فكرة (السلطة العلمانية) ومفهوم (القانون الوضعي)
المشتق من مصادر أخرى غير (المصادر الإلهية) .(92/102)
متابعات
المرأة اليهودية
التحرير
كتب الأستاذ صالح السالم تعليقاً على مقالة نشرت في العدد (88) بعنوان:
(نكون أو لا نكون) وذكر أن الكاتب معجب بالعجوز اليهودية، وصبرها وتضحيتها
وبذلها، واستنكر ذلك جدّاً. وقال: (سبحان الله! هذه كتابة مسلم يرى في اليهود
عدوه اللدود، ومع ذلك: ينقل ذلك الثناء والإطراء للعجوز اليهودية ويعجب به ولا
يرد عليه، مع أن ترك الرد عليه يجعل لصاحبه القبول في النفس، ويؤدي إلى
عدم أخذ الحذر منه، وإلى تليين العواطف نحوه، أو إلى تعظيمه واحترامه، وهو
خلاف ما بيننا وبين اليهود، ثم: ما الداعي إلى أن نأخذ دروسنا من تصرفات هذه
اليهودية..؟ ! أليس في التاريخ الإسلامي وفي سلف الأمة من الدروس ما يربو
ويغطي على تصرفات هذه العجوز التي هي أشد الناس عداوة لنا؟ !
ثم: هل ضاقت الأدلة على ضرورة الإيمان بالهدف إلا قول هذه العجوز
وتصرفاتها، كأنه ليس في شرع محمد ما يدل على ذلك، سبحان الله! كأن الكاتب
لم يقرأ الآيات التي تنادي منذ أنزل القرآن بضرورة الإيمان بالله واليوم الآخر الذي
هو هدف كل مسلم، حتى إنه لم يجد إلا كلام هذه العجوز..! ..) .
وهيئة التحرير في المجلة تشكر الأستاذ على تواصله مع المجلة، وعلى
غيرته، وحرصه على النصح والتسديد.
ولكن يبدو أن الأمر التبس عليه؛ فكاتب المقالة ليس معجباً باليهودية، ولم
يرد الثناء والإطراء عليها، لكنه أراد أن يبيّن أن إسرائيل لم تقم على الشعارات
الثورية أو الحرب الكلامية، كما هو الحال عند الأحزاب العلمانية والقومية في
البلاد العربية، وأن اليهود على الرغم من ضلالهم وباطلهم بذلوا لدينهم، وحرصوا
على تحقيق آمالهم، وتحملوا المشاق من أجل الوصول إلى وطن قومي لهم،
واستغلوا تخلف المسلمين وتفرقهم وبعدهم عن دينهم وعبث الشعارات الثورية في
ديارهم.. ولهذا: ختم مقالته بقول الله (تعالى) : [إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ
كَمَا تَاًلَمُونَ] [النساء: 104] .
وكأن الكاتب يريد أن يقول للمسلمين: هؤلاء هم أهل الباطل، ومع ذلك:
يفعلون ما يفعلون، فأين دعاة العروبة والوطنية..؟ ! بل أين دعاة الحق؟ ولِمَ لا
يتقون الله ويصبرون ويبذلون لدينهم وعقيدتهم، وأن دين الله (تعالى) لا ينتصر
بالأحلام والأماني، ولا بالعواطف الباردة، بل بعظيم الصدق والإخلاص والتضحية
في سبيل الله (تعالى) .. وقديماً قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : (اللهم إني
أعوذ بك من جَلَد الفاجر وعجز التقي..) .
نرجو أن نكون قد وضحنا مراد الكاتب وأزلنا اللبس.. ونتمنى من الأخ إعادة
التأمل في المقالة، شاكرين له التواصل والتعاون على البر والتقوى.. وفق الله
الجميع لما يحبه ويرضاه.(92/108)
الورقة الأخيرة
انتحار العلمانية
د. أحمد بن محمد العيسى
كيف يمكن تفسير ظاهرة (نصر حامد أبو زيد) الذي حكمت إحدى محاكم
القاهرة بردته عن الإسلام وتفريقه عن زوجته؟ .
(أبو زيد) الذي يدرّس القرآن الكريم والسنة النبوية (! !) في كلية الآداب
بجامعة القاهرة، يعتبر أن ما ورد في كتبه من أفكار إلحادية اجتهاداً يؤجر عليه! ،
وذلك مثل قوله: إن ما جاء في القرآن الكريم عن الله (عز وجل) ، وعن الملائكة،
والعرش، والشياطين، ومشاهد يوم القيامة: هي من الأساطير التي يجب أن
تتجاوزها أفهامنا في العصر الحديث لأنها بزعمه نزلت في عصر يحتاج إلى مثل
هذا السياق اللغوي لكي يفهمه الناس.
هناك فرضيتان لتفسير هذه الظاهرة:
الأولى: أن نعتبر هذه الحالة ظاهرة إلحادية فردية كان باعثها حب الظهور
وغرام الشهرة، كما هو الحال عند (سلمان رشدي) و (تسليمه نسرين) ..
الثانية: أن نعتبرها مرحلة متطورة للعلمانية في العالم العربي، ابتدأت منذ
عهد الرواد أمثال: (طه حسين) ، و (لطفي السيد) ، و (سلامة موسى) .. وغيرهم، ووصلت عبر مراحل ومراحل إلى (فرج فودة) ، و (غالي شكري) ، و (نصر
حامد أبو زيد) .. وغيرهم.. فتكون بذرة الشك التي بذرها (طه حسين) في كتابه
(في الشعر الجاهلي) الذي أعيد طبعه مؤخراً قد ترعرعت ووصلت إلى الحال التي
نقرؤها عند علمانيي عصرنا..
وهكذا أصبحت حالة (أبو زيد) مؤشراً على تطور جديد للعلمانية، بعد أن
أزاحت عن وجهها حجاب المصطلحات الفضفاضة، ليظهر وجه الإلحاد البشع..!
هاتان الفرضيتان تحتاجان إلى تأمل.. ولكن، لعل ردود الفعل العلمانية على
حكم المحكمة تدل على أن الفرضية الثانية تعبر بشكل أكبر عن الواقع، ومن ذلك
قول قائلهم: (إن الفضيلة الأصولية تدفع الجميع إلى الأقاصي، وتجنباً لكارثة لن
تكون أقل من كارثة الاجتياح المغولي لكنها تأتي هذه المرة من الداخل تُستحسن
المسارعة في مراجعة كل شيء، والاستعداد للتجرؤ على الينابيع التي يشرب
الأصوليون ماءهم منها..) ! !
فهل يكون هذا شاهداً على انتحار العلمانية؟ ! !(92/111)
جمادى الأولى - 1416هـ
أكتوبر - 1995م
(السنة: 10)(93/)
كلمة صغيرة
الأقصى ينادي
مرت ذكرى (إحراق المسجد الأقصى) ! التي دبرها يهود بواسطة أحدهم،
وزعموا حينها أنه (مجنون) ، والحقيقة أنه ليس كذلك، وإلا لأحرق معبداً يهوديّاً أو
كنيسة نصرانية أو حتى معلماً من معالم يهود مادام غير عاقل، لكنه المخطط
الموضوع لهدم المسجد الأقصى، الذي يذكر بارتباط ذلك المسجد بالبيت العتيق
[سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ... ] وهذا
ما وضحه الأستاذ (عبد العزيز مصطفى) في كتابه الوثائقي (قبل أن يهدم الأقصى)
والذي بيّن فيه أن المراد هدم المسجد وليس حرقه، وبين الصلات التي تربط
الصهيونية اليهودية بالنصارى الصهاينة، وأن (إخوان القردة والخنازير) قد حفروا
تحت المسجد بمساحته ويزيد حفريات كبيرة، بدعوى البحث عن هيكلهم المزعوم
والذي لم يعثر له على أي أثر.. لم يبق لسقوط ذلك المسجد سوى أمد.. نسأل الله
ألا يتحقق.
فهل عمل المسلمون كل ما يستطيعون لإيقاف تلك المؤامرة، أم حينما تقع
الواقعة (لا قدر الله) سيكتفى بالمؤتمرات والمظاهرات وغرر القصائد الرثائية،
وتضاف مناسبة أخرى للمناسبات البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان يحتفى
بذكراها فقط، ثم يقال: كان هناك (مسجد أقصى) كما حصل ل (مسجد البابري)
مثلاً.
أيها المسلمون: الأقصى يناديكم.. أنقذوني من كيد وغدر (يهود) .
وحتى متى تتداعون لخطب ودهم وهم أعدى أعاديكم..
فيالله للمسلمين ويالله للمسجد الأقصى ...(93/1)
افتتاحية العدد
العودة إلى المنابع لا لتجفيفها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..
أما بعد..
فمن المظاهر الكبرى لديننا الإسلامي الحنيف: أنه دين إنساني عالمي، تكفل
الله ببقائه وحفظه؛ وجاء رسولنا الخاتم رحمة للبشرية جمعاء [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 107] ، ومن فضل الله (تعالى) على الأمة: أن انتشر
الإسلام في الأرجاء، ودخل الناس فيه أفواجاً.
وحينما بعدت الأمة عن مشكاة هذا الدين لأسباب شتى: تداعت الأمم عليها
كتداعي الأكلة على قصعتها، كما أخبر بذلك الرسول، وعلى الرغم مما عاناه
الإسلام وأهله من عداوات ومحن وشدائد؛ إلا أن ذلك يؤذن دائماً ولله الحمد بمزيد
من العودة إلى الله، والرجوع إليه، والتمسك بأهداب دينه، والدعوة إليه، والموت
في سبيله، هذه الخاصية العجيبة لهذا الدين هي مصدر قوته وكماله ومصداقيته
وصلاحه لكل زمان ومكان، لكونه الرسالة الأخيرة التي ارتضاها الله (جل وعلا)
للأمة الإسلامية بقوله (تعالى) : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] ، وتؤكد السنة الصحيحة على هذا المعنى
في كثير من مبشراتها، ومنها قول النبي: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على
الناس) [1] .
وهذا ما فطن له الصحابي الجليل (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) حينما
قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله) .
وهذا ما يشق على أعداء هذا الدين عبر العصور ويفسر مخططاتهم لمحاربة
الإسلام وأهله، وسعيهم الحثيث لإبعاد الأمة بعامة والشباب منهم بخاصة عن
الالتزام بهذا الدين والعض عليه بالنواجذ.
ولذلك: كانت الصحوة الإسلامية المعاصرة التي تولى رعايتها والدعوة إليها
نخبة من صفوة الأمة وعلمائها هي ما أقض مضاجع الأعداء، وأفسد ما كانوا
يسعون إليه من تضليل الأمة الإسلامية؛ ولقد عجزت الأقلام المشبوهة من أذناب
اليسار وغلاة العلمانيين عن إقناع الأمة وبخاصة شبابها بوسائلهم المعتادة، فلجؤوا
إلى الاستعانة بأدعياء التنوير الهالكين، وأعادوا مطبوعاتهم التي كانت محل النقد
والازدراء والمقت، لسطحيتها وانحرافها عن جادة الصواب، ومع ذلك فما زالوا
مستمرين في سياساتهم المشبوهة تلك، مع العمل وفقاً للخطوات التالية:
1- المطالبة بتنحية الشريعة الإسلامية، بدعوى انتهاء زمانها، وأنهم بحاجة
إلى المجتمع المدني الذي تضيع فيه الهوية الإسلامية.
2- عزل الأمّة عن علمائها الأخيار، ودعاتها الأبرار، والسعي بشتى
الوسائل للتقليل من شأنهم، وتشويه سمعتهم.
3- اصطناع فئات مشبوهة الاتجاه تقوم مقام الغرب وتؤدي رسالته في
تغريب الأمة وإبعادها عن دينها، ليكونوا رموزاً يقتفى أثرهم.
4- التربص بكل توجه إسلامي مخلص، وضربه ومصادرته بدعوى أنه
(إرهاب وتطرف!) .
5- اصطناع سياسات (تجفيف المنابع) التي يشارك فيها ذوو الاتجاهات
العلمانية بمختلف رؤاهم الفكرية، للوقوف معاً ضد الصحوة الإسلامية، والعمل
المتواصل للقضاء عليها بتلك السياسة، التي تعني: قطع الصلة العقدية في المجتمع
الإسلامي بين حاضره وماضيه، للوصول إلى عزل الأمة جمعاء عن دينها الحق
وفهمه الصحيح بمنهاج سلفنا الصالح، والذي يجمع بالفعل بين الأصالة والمعاصرة، وذلك هو العائق الوحيد الذي يعرقل كل سياسات الانهزامية والتبعية.
ولكي تنجح تلك السياسة الخبيثة، اتخذت الخطوات التالية:
أ) مصادرة كل توجه إسلامي صادق في المجتمع، ومحاصرته وإخراجه من
إطار ديمقراطياتهم (المزعومة) بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، بينما المجال
مفتوح لكل اتجاه ساقط، حتى ولو كان شيوعيّاً بائداً.
ب) العمل المتواصل لتغريب المجتمعات المسلمة، بإشاعة الإعلام الفاسد
بشتى صوره المرئية والمسموعة والمقروءة، ومحاولة إبعاد تأثير الدين في نفوس
أبنائه بتلك الوسائل.
ج) تغيير مناهج التربية والتعليم، وقطع صلتها بدين الأمة وتاريخها، بحجة
تطويرها وتحديثها، لتخالف كل مسلمات الأمة، ولتتناسب مع (اتجاهات التطبيع)
مع العدو الصهيوني.
وهناك دراسات علمية موثقة لهذا التوجه رصدت هذه الظاهرة بصورة كاملة،
توضح إلى أي مدى تسير الأمة في طريقها للهاوية، إن لم تتداركها رحمة الله
[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] .
ومع كل ذلك، فمما يبشر الأمة ويجعل الدعاة إلى الله (تعالى) على ثقة بفشل
تلك الاتجاهات المشبوهة: أن الله بالغ أمره [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] [الصف: 8، 9] .
إننا نعيد ونؤكد: إن كل المحاولات التغريبية التي تسعى لقطع الأمة من
جذورها، مصيرها إلى الزوال بإذن الله (تعالى) ، وهي إن نجحت في بلد ما من
البلدان، أو في وقت ما من الأوقات، فإنّه نجاح مؤقت، مؤذن بحول الله (تعالى)
وقوته إلى العودة الصادقة إلى دين الإسلام.
إن هذا الدين هو قدر الله ورحمته في هذه الأرض، وظاهرة العودة إلى
المنابع الأصيلة هي إحدى مظاهر السنن الربانية الكريمة التي لا تتبدل ولا تتغير،
وحينما يحال بين الصحوة الإسلامية وهذا السبيل بالوسائل المعيقة لأداء دورها:
ستكون النتائج محزنة جدّاً، كما هو الحال في كثير من البلدان الإسلامية، لكنها
ستؤول بإذن الله إلى نصر مبين لأوليائه.
إنّ القافلة تسير، لا يضرها من خذلها أو خالفها، تحدوها عناية العزيز القدير، واللهَ نسأل أن نكون من روادها والسائرين في ركابها على بصيرة، مع الذين أنعم
الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين، وأن يقر عيوننا بعز الإسلام، وذل
أعدائه.. وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(1) حديث متواتر، رواه جمع من الصحابة بألفاظ متقاربة، واللفظ لمسلم من حديث معاوية ابن أبي سفيان (رضي الله عنه) ، ج3، ص1524، رقم (1037) .(93/4)
دراسات شرعية
عصمة الأئمة بين أهل السنة والشيعة
من خلال (منهاج السنة النبوية)
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من الكتب الجليلة التي ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (منهاج
السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) ، ردّ فيه على كتاب: (منهاج الكرامة
في إثبات الإمامة) لابن المُطَهّر الحلي الرافضي، وقد طبع أخيراً بعناية الدكتور
محمد رشاد سالم (رحمه الله) [*] ، وتأتي أهمية هذا السفر الجليل لعدة أسباب،
أذكر منها:
1- أنّ الشيعة من أقدم الفرق ظهوراً في التاريخ الإسلامي، ومن أكثرها
انتشاراً في العصر الحاضر.
2- أن ابن تيمية اهتم بالردّ عليهم معتمداً على النقل الدقيق من أكثر كتبهم
رواجاً وانتشاراً في عصره.
3- أن ابن المطهر الحلي الذي ردّ عليه ابن تيمية كان يُعدّ عند الإمامية
أفضلهم في زمانه، بل يقول بعضهم: ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس
العلوم مطلقاً [1] .
4- يُعدّ كتاب (منهاج السنة النبوية) من أوسع كتب أهل السنة وأجمعها في
الرد على الشيعة الإمامية خاصة، وقد استوعب ابن تيمية فيه الرد على كثير من
شبهاتهم وافتراءاتهم التي كانوا وما زالوا يرددونها، ويكتبون فيها الرسائل
والمدونات.
5- وحيث إن مذهب الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة فإنّهم جهمية في
الصفات، قدرية على مذهب المعتزلة، رافضة في الصحابة [2] فإن ابن تيمية
استطرد استطرادات نفيسة للرد على الجهمية والمعتزلة والفلاسفة.. وغيرهم من
طوائف المبتدعة ورؤوس الضلال.
وقد ناقش ابن تيمية في هذا الكتاب مسائل متعددة أثارها ابن المطهر في
أبواب مختلفة، ولعلّ من أهم هذه المسائل وأجمعها:
أولاً: منزلة الصحابة (رضي الله عنهم أجمعين) ، ومواقفهم بعد وفاة النبي،
والرد على المطاعن والأكاذيب التي ذكرها ابن المطهر.
ثانياً: الإمامة والعصمة.
ثالثاً: منهج أهل السنة في الصفات والقدر، ومقارنته بمنهج الرافضة
وأشياخهم المعتزلة، والرد على أكاذيبهم ومخازيهم.
وسوف أقتصر في هذه المقالة على مقارنة مختصرة بين منهجي أهل السنة
والرافضة في عصمة الأئمة من خلال هذا السفر الجليل.
عصمة الأئمة عند الشيعة:
لعل موضوع الإمامة هو الموضوع الرئيس الذي يدور حوله كتاب ابن
المطهر: (منهاج الكرامة في إثبات الإمامة) ، ولذا: فإنه أبرز الموضوعات التي
تكلم عنها فيما بعد شيخ الإسلام ابن تيمية في: (منهاج السنة النبوية) ، وسوف
أشير في هذا المبحث إلى منهج الرافضة في التلقي عن أئمتهم، ثم أختمه ببيان
منهج أهل السنة في العصمة.
* أقسام الأئمة الاثني عشر:
ذكر ابن تيمية أن: (أصول الدين عند الإمامية أربعة: التوحيد، والعدل،
والنبوة، والإمامة، فالإمامة هي آخرالمراتب، والتوحيد والعدل والنبوة قبل
ذلك) [3] .
ويقسم ابن تيمية الأئمة الاثني عشر أربعة أقسام:
القسم الأول: علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين (رضي الله عنهم)
وهم صحابة أجلاء، لا يُشَكّ في فضلهم وإمامتهم، ولكن شَرِكَهُم في فضل الصحبة
خلق كثير، وفي الصحابة من هو أفضل منهم [4] بأدلة صحيحة عن النبي.
القسم الثاني: علي بن الحسين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد
الصادق، وموسى بن جعفر [5] ، وهؤلاء من العلماء الثقات المعتد بهم، وقد أشار
ابن تيمية في مواضع عديدة إلى تقديرهم ومحبتهم، وجواز تقليدهم لمن عجز عن
الاستدلال، حالهم في ذلك كحال بقية علماء الأمة [6] .
القسم الثالث: علي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي بن موسى الجواد،
وعلي بن محمد بن علي العسكري، والحسن بن علي بن محمد العسكري.
وقد أثنى ابن تيمية على الأئمة الثلاثة: علي بن الحسين، وابنه أبي جعفر،
وجعفر بن محمد، ثم قال: (وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين، فهؤلاء لم يظهر
عليهم علمٌ تستفيده الأمة، ولا كان لهم يدٌ تستعين بها الأمة، بل كانوا كأمثالهم من
الهاشميين، لهم حرمة ومكانة، وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين
ما في أمثالهم، وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين، وأما ما يختص به أهل
العلم، فهذا لم يُعرف عنهم، ولهذا: لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك
الثلاثة، ولو وجدوا ما يُستفاد لأخذوا، ولكن طالب العلم يعرف مقصوده) [7] .
القسم الرابع: محمد بن الحسن العسكري المنتظر.
وهذا من غرائب الشيعة، حيث لم يُرَ له عينٌ ولا أثر، ولا سُمع له حسّ ولا
خبر.
والشيعة يجعلون له مشاهد ينتظرونه عندها، كمشهد سامراء [8] .!
أصول الشرعيات عند الرافضة وغلوهم في الأئمة:
ذكر ابن تيمية في عدة مواضع: أن الرافضة الإمامية أصّلوا لهم أصولاً
اعتمدوها في كلّ ما يُنقل عن أئمة البيت، وهذه الأصول هي:
الأصل الأول: أن هؤلاء الأئمة معصومون كعصمة النبي -صلى الله عليه
وسلم-.
الأصل الثاني: أن كل ما يقوله هؤلاء الأئمة منقولٌ عن النبي -صلى الله
عليه وسلم-.
الأصل الثالث: أن إجماع العترة حجة، ثم يدّعون أن العترة هم الاثنا عشر،
ويدعون أن ما يُنقل عن أحدهم فقد أجمعوا كلهم عليه [9] .
قال ابن تيمية بعد أن ذكر هذه الأصول: (فهذه أصول الشرعيات عندهم،
وهي أصول فاسدة كما سنبين ذلك في موضعه، لا يعتمدون على القرآن ولا على
الحديث ولا على الإجماع، إلا لكون المعصوم منهم، ولا على القياس وإن كان
واضحاً جليّاً) [10] .
فالرافضة إذن بالغوا في أئمتهم، وجعلوا: (الإمامة أهم المطالب في أحكام
الدين، وأشرف مسائل المسلمين) [11] ، بل إنهم جعلوا الإمامة: (أحد أركان
الإيمان) [12] .
ومن غلوّ الرافضة في الأئمة: اعتقادهم أن (كل واحد من هؤلاء قد بلغ الغاية
في الكمال) [13] .
والرافضة: (تجعل الأئمة الاثني عشر أفضل من السابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار، وغلاتهم يقولون: إنهم أفضل من الأنبياء، لأنهم يعتقدون
فيهم الإلهية كما اعتقدتها النصارى في المسيح) [14] .
(وكذلك الرافضة غلوا في الرسل، بل في الأئمة، حتى اتخذوهم أرباباً من
دون الله، فتركوا عبادة الله وحده لا شريك له التي أمرهم بها الرسل، وكذّبوا
الرسول فيما أخبر به من توبة الأنبياء واستغفارهم) [15] .
ولهذا: فإن الغلو لا يوجد في (طائفة أكثر مما يوجد فيهم، ومنهم من ادعى
إلهية البشر، وادعى النبوة في غير النبي -صلى الله عليه وسلم- وادعى العصمة
في الأئمة، ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف) [16] .
وتزعم الرافضة أن (كل ما أفتى به الواحد من هؤلاء فهو منقول عنده عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-) [17] .
ثم ترتب على هذا الغلو أن (الرافضة تزعم أن الدين مُسَلّم إلى الأئمة،
فالحلال ما حللوه، والحرام ما حرموه، والدين ما شرعوه) [18] .
وحقيقة قول الرافضة: أنهم (يُريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو
قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع المؤمنين، بمنزلة القرآن والمتواتر من
السنة) [19] .
ومن عجائب بعضهم: ترجيحهم للقول الذي لا يُعرف قائله؛ لأنّ المنتظر
المعصوم يقول به. فكان دينهم مبنيّاً على مجهول ومعدوم..! [20]
انحراف الرافضة في الأئمة:
مع ذلك الغلو والتعظيم الشديد للأئمة، فإن الرافضة وقعوا في الأمور التالية:
الأمر الأول: اختلافهم في تعيين الأئمة:
اختلفت الرافضة في تعيين أولئك الأئمةاختلافاً متبايناً، وكل فرقة من فرقهم
تدعي أنها هي التي على الحق، بدون حجة أو برهان [21] .
الأمر الثاني: مخالفتهم لأئمتهم:
مع أن الرافضة يغلون في الأئمة وتعظيمهم، إلا أنهم لم يأخذوا بأقوالهم، ولم
يقتدوا بهم؛ ولهذا قال ابن تيمية: (لا نُسلّم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل
البيت: لا الاثنا عشرية ولا غيرهم، بل هم مخالفون لعلي (رضي الله عنه) وأئمة
أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة ... والنقل بذلك
مستفيضٌ في كتب أهل العلم، بحيث إن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل
البيت يوجب علماً ضروريّاً بأن الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم) [22] .
الأمر الثالث: أن الرافضة لا يهتمون بتمييز المنقولات عن الأئمة، ولا خبرة لهم بالأسانيد ومعرفة الثقات:
قال ابن تيمية: (وعمدتهم في الشرعيات ما نُقل لهم عن بعض أهل البيت،
وذلك النقل منه ما هو صدق، ومنه ما هو كذب عمداً أو خطأً وليسوا أهل معرفة
بصحيح المنقول وضعيفه كأهل المعرفة بالحديث) [23] .
الأمر الرابع: كذب الرافضة على أئمتهم:
لم يقف الرافضة مع أئمتهم عند حد القصور في تمييز المنقولات عنهم، بل
تعدوه إلى الكذب والافتراء؛ قال ابن تيمية: (الكذب على هؤلاء [يعني: الأئمة
الاثني عشر] في الرافضة أعظم الأمور، لا سيما على جعفر بن محمد الصادق،
فإنه ما كُذب على أحدٍ ما كُذب عليه، حتى نسبوا إليه: كتاب الجَفْر والبطاقة،
والهفت.
وفي الجملة: فمن جرّب الرافضة في كتابهم وخطابهم علم أنهم من أكذب خلق
الله، فكيف يثق القلب بنقلِ من كثر منهم الكذب قبل أن يعرف صدق
الناقل؟) [24] .
الأمر الخامس: اتباع الرافضة لشيوخهم لا لأئمتهم:
قال ابن تيمية: (إن الأئمة الذين يُدّعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة، والمنتظر له غائب أكثر من أربعمئة وخمسين سنة، وعند آخرين هو معدوم لم
يوجد، والذين يُطاعون شيوخٌ من شيوخ الرافضة، أو كتب صنفها بعض شيوخ
الرافضة، وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين، وهؤلاء الشيوخ
المصنفون ليسوا معصومين بالاتفاق، ولا مقطوعاً لهم بالنجاة.
فإذن: الرافضة لا يتبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم، فلم
يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ولا بنجاة أئمتهم الذين يُباشرونهم بالأمر والنهي، وهم
أئمتهم حقّاً، وإنهم في انتسابهم إلى أولئك بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين
ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة، ولا يدرون بماذا أمر، ولا عن ماذا نهى، بل
له أتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدّون عن سبيل الله، يأمرونهم بالغلو في ذلك
الشيخ وفي خلفائه وأن يتخذوهم أرباباً) [25] .
الأمر السادس: سخافة قول الرافضة في أئمتهم:
مع أن الإمامة عند الرافضة من أهم مطالب الدين، وأشرف مسائل المسلمين، إلا أنهم: (قد قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين) [26] . ...
وقال ابن تيمية أيضاً: (ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه يعني: المنتظر، لم يظفر بشيء من مطلوبه، ولا وصل إليه شيء من تعليمه وإرشاده، ولا أمره
ولا نهيه، ولا حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة أصلاً، إلا إذهاب نفسه وماله، وقطع الأسفار، وطول الانتظار بالليل والنهار، ومعاداة الجمهور لداخل في
سرداب، ليس له عمل ولا خطاب، ولو كان موجوداً بيقين لما حصل به منفعة
لهؤلاء المساكين، فكيف وعقلاء الناس يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس، وأن
الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يُعقب، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري، وعبد الباقي بن قانع، وغيرهما من أهل العلم بالنسب؟ ! ..) [27] .
الأمر السابع: شرك الرافضة في أئمتهم:
من غلوّ الرافضة في الأئمة: أنهم حوّلوا حبهم لهم إلى شرك وعبادة لغير الله
(تعالى) ، قال ابن تيمية: (.. وكذلك الرافضة غلوا في الرسل، بل في الأئمة،
حتى اتخذوهم أرباباً من دون الله، فتركوا عبادة الله وحده لا شريك له التي أمرهم
بها الرسل، وكذّبوا الرسول فيما أخبر به من توبة الأنبياء واستغفارهم، فتجدهم
يُعطلون المساجد التي أمر الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، فلا يصلون فيها جمعة
ولا جماعة، وليس لها عندهم كبير حُرمة، وإن صلوا فيها صلوا وحداناً،
ويُعظمون المشاهد المبنية على القبور، فيعكفون عليها مشابهة للمشركين، ويحجون
إليها كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، ومنهم من يجعل الحج إليها أعظم من الحج
إلى الكعبة، وقد ثبت في الصحاح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
(لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا) ..) [28] .
(وقد صنف شيخهم ابن النعمان، المعروف عندهم بالمفيد وهو شيخ
الموسوي والطوسي كتاباً سماه: (مناسك المشاهد) ، جعل قبور المخلوقين تُحج كما
تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس، وهو أول بيت وضع للناس
فلا يُطاف إلا به، ولا يُصلى إلا إليه، ولم يأمر الله إلا بحجه.
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد، ولا شرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء
والصالحين، بل هذا من دين المشركين) [29] .
منهج أهل السنة في العصمة:
بعد هذا العرض لمنهج الرافضة في التلقي عن أئمتهم وأشياخهم، أنتقل إلى
عرض منهج أهل السنة في هذا الباب:
أولاً: الطاعة المطلقة لا تكون لمخلوق إلا للرسل (صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين) :
قال ابن تيمية: (والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المبلغ عن الله أمره
ونهيه، فلا يُطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو، فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله
يُدعى مع مغيبه وبعد موته، ويستغاث به، ويطلب منه الحوائج والطاعة إنما هي
لشخص حاضر يأمر بما يُريد وينهى عما يُريد كان الميت مُشبّهاً بالله (تعالى) والحي
مشبّها برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي
أصله شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله) [30] .
وقال أيضاً: (المعصوم تجب طاعته مطلقاً بلا قيد، ومخالفه يستحق الوعيد،
والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة؛ قال (تعالى) : [وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً] [الجن: 23] ، فدل القرآن في غير
موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة، ولم يشترط في ذلك طاعة
معصوم آخر، ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد، وإن قُدّر أنه أطاع من
ظن أنه معصوم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي فرق به بين أهل
الجنة وأهل النار، وبين الأبرار والفجار، وبين الحق والباطل، وبين الغي والرشد، والهدى والضلال، وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقي وسعيد، فمن
اتبعه فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقي، وليست هذه المرتبة لغيره.
ولهذا اتفق أهل العلم (أهل الكتاب والسنة) على أن كل شخص سوى
الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه
يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، فإنه المعصوم الذي لا
ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة، كما قال (تعالى) : [فَلَنَسْئَلَنَّ الَذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المُرْسَلِينَ]
[الأعراف: 6] ..) [31] .
ثانياً: أهل السنة لا ينتصرون إلا لقول الرسول:
قال ابن تيمية: (فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه
في الرافضة، كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر
منه في أهل الحديث والسنة المحضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، فإنهم خاصته، وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيره، إلا إذا اتبع قوله، ومقصودهم نصر الله ورسوله) [32] .
ثالثاً: ليس أحدٌ من البشر واسطة بين الله وخلقه في الخلق والرزق:
قال ابن تيمية: (ليس أحد من البشر واسطة بين الله وخلقه في رزقه وخلقه،
وهداه ونصره، وإنما الرسل وسائط في تبليغ رسالاته، لا سبيل لأحد إلى السعادة
إلا بطاعة الرسل. وأما خلقه ورزقه، وهداه ونصره، فلا يقدرعليه إلا الله (تعالى) ، فهذا لا يتوقف على حياة الرسل وبقائهم، بل ولا يتوقف نصر الخلق ورزقهم
على وجود الرسل أصلاً، بل قد يخلق الله ذلك بما شاء من الأسباب بواسطة
الملائكة أو غيرهم، وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو معروف
في البشر، وأما كون ذلك لا يكون إلا بواسطة البشر، أو أن أحداً من البشر يتولى
ذلك كله، ونحو ذلك، فهذا كله باطل) [33] .
رابعاً: الردّ عند التنازع لا يكون إلا لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-:
ذكر ابن تيمية قول الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاًوِيلاً] [النساء: 59] ، ثم قال:
(فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، ولو كان للناس معصوم
غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمرهم بالرد إليه، فدل القرآن على أنه لا
معصوم إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم-) [34] . وقال في موضع آخر: (فلم
يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، فمن أثبت شخصاً معصوماً غير
الرسول-صلى الله عليه وسلم-، أوجب ردّ ما تنازعوا فيه إليه، لأنه لا يقول عنده
إلا الحق كالرسول-صلى الله عليه وسلم-، وهذا خلاف القرآن) [35] .
خامساً: مقالة أهل السنة في العصمة:
ذكر ابن تيمية بأن أهل السنة: (متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما
يبلغونه عن الله (تعالى) ، وهذا هو مقصود الرسالة، فإن الرسول هو الذي يبلغ عن
الله أمره ونهيه وخبره، وهم معصومون في تبليغ الرسالة باتفاق المسلمين، بحيث
لا يجوز أن يستقرّ في ذلك شيء من الخطأ) [36] .
ولهذا فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (معصومٌ في التبليغ بالاتفاق،
والعصمة المتفق عليها: أنه لا يُقر على خطأ في التبليغ بالإجماع) [37] .
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المعصوم: (الذي لا ريب في عصمته،
وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله بالهدى ودين الحق بشيراً
ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، الذي أخرج به الناس من الظلمات
إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد، الذي فرق بين الحق والباطل،
والهدى والضلال، والغي والرشاد، والنور والظلمة، وأهل السعادة وأهل ...
الشقاوة..) [38] . ...
من أجل ذلك فإن أهل الحديث: (جعلوا الرسول الذي بعثه الله إلى الخلق هو
إمامهم المعصوم، عنه يأخذون دينهم، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه،
والدين ما شرعه، وكل قول يخالف قوله فهو مردود عندهم وإن كان الذي قاله من
خيار المسلمين وأعلمهم وهو مأجور فيه على اجتهاده، لكنهم لا يُعارضون قول الله
وقول رسوله بشيء أصلاً: لا نقل نُقل عن غيره، ولا رأي رآه غيره.
ومن سواه من أهل العلم فإنما هم وسائط في التبليغ عنه: إما للفظ حديثه،
وإما لمعناه، فقوم بلغوا ما سمعوا منه من قرآن وحديث، وقوم تفقهوا في ذلك
وعرفوا معناه، وما تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول) [39] .
سادساً: لا عصمة لأحدٍ بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
قال ابن تيمية: (والقاعدة الكلية في هذا ألا نعتقد أن أحداً معصوم بعد النبي -
صلى الله عليه وسلم-، بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ) [40] .
سابعاً: العصمة لمجموع الأمة:
قال ابن تيمية: (والله (تعالى) قد ضمن العصمة للأمة، فمن تمام العصمة أن
يجعل عدداً من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه،
حتى لا يضيع الحق، ولهذا: لما كان في قول بعضهم من الخطأ في مسائل،
كبعض المسائل التي أوردها، كان الصواب في قول الآخر، فلم يتفق أهل السنة
على ضلالة أصلاً) [41] .
وقال أيضاً: (.. فلهذا لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله في كلمة
واحدة، والحق لا يخرج عنهم قط، وكل ما اجتمعوا عليه فهو مما جاء به الرسول، وكل من خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغيرهم من أهل البدع،
فإنما يُخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل من خالف مذاهبهم في الشرائع
العملية كان مخالفاً للسنة الثابتة..) [42] .
وقال أيضاً في بيان الواجب على المسلم: (ويعلم أن أفضل الخلق بعد
الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عاماً، إلا لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، ولا لطائفة انتصاراً مطلقاًعاماً، إلا للصحابة (رضي الله
عنهم أجمعين) ؛ فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون
أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يُجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب
عالم من العلماء، فإنهم قد يجمعون على خطأ، بل كل قولٍ قالوه ولم يقله غيرهم
من الأمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مُسلّماً إلى عالم
واحدٍ وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيراً لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم..) [43] .
ثامناً: طاعة الأئمة والولاة في المعروف لا في المعاصي:
قال ابن تيمية: (.. النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بطاعة الأئمة
الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة
معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً، كما أمر
النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف،
ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقاً، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته، وهذا
يُبيّن أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين..) [44] .
وذكر أيضاً أن أهل السنة: (لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل
لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يُجوّزون طاعته في
معصية الله وإن كان إماماً عادلاً، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه مثل: أن يأمرهم
بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصدق، والعدل، والحج، والجهاد في سبيل الله
فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم
طاعة الله، ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم
يَجُز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق، فأهل السنة لا
يُطيعون ولاة الأمور مطلقاً، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول - صلى الله
عليه وسلم -، كما قال (تعالى) : [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ]
[النساء: 59] فأمر بطاعة الله مطلقاً، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا
بطاعة الله: [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] [النساء: 80] ، وجعل طاعة
أولي الأمر داخلة في ذلك، فقال: [وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] ، ولم يذكر لهم طاعة
ثالثة، لأن ولي الأمر لا يُطاع طاعة مطلقة، إنما يُطاع في المعروف) [45] .
__________
(*) طبع طبعة علمية محققة، مراجعة على ثلاثة عشر مصدراً خطيّاً، بالإضافة إلى مراجعته على طبعة بولاق، وعلى كتاب (منهاج الكرامة) لابن المطهر، المطبوع في إيران عام 1880م، وظهرت هذه الطبعة في تسعة مجلدات كبار، خصص التاسع منها للفهارس، ونشرته جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض.
(1) (4/127) و (5/461) .
(2) انظر: (4/131) و (8/10) .
(3) (1/99) وانظر: (3/484) .
(4) انظر: (1/169) .
(5) موسى بن جعفر قد يُلحق بالقسم الثالث.
(6) انظر: (2/243، 244) .
(7) (6/387) .
(8) انظر: (1/113، 114) و (1/44-46) .
(9) انظر: (1/69) و (5/164، 165) .
(10) (1/69) .
(11) (1/74) .
(12) (1/106) .
(13) (4/104) .
(14) (1/481، 482) .
(15) (1/474) .
(16) (2/34) .
(17) (2/462) و (5/164) .
(18) (1/482) و (5/176) .
(19) (5/165) .
(20) انظر (1/89، 90) و (6/442) .
(21) انظر: (3/369-484) و (4/17، 18) .
(22) (4/16، 17) .
(23) (1/69) .
(24) (2/464-467) وانظر: (4/54، 55) .
(25) (3/488، 489) .
(26) (1/100) .
(27) (1/121، 122) .
(28) أخرجه: البخاري (1/91) (2/88 و102، 103) ، ومسلم (1/ 376، 377) .
(29) (1/474-476) .
(30) (3/490) .
(31) (6/190، 191) ، وانظر: (4/182) .
(32) (6/368) .
(33) (1/97) .
(34) (3/381) .
(35) (6/190) .
(36) (1/470، 471) ، وانظر: (2/396) .
(37) (2/410) .
(38) (6/417) ، وانظر: (6/384) .
(39) (5/165، 166) .
(40) (6/196) ، وانظر: (4/310) .
(41) (3/408، 409) .
(42) (5/166، 167) .
(43) (5/262) ، وانظر: (6/409 و461) .
(44) (1/115، 116) .
(45) (3/387) ، وانظر: (1/82 و84، 85) .(93/8)
دراسات شرعية
أصول الفقه.. والمنطق الأرسطي
(2)
بقلم: عثمان محمد إدريس
في الحلقة الماضية: أوضح الكاتب مفهوم الأقيسة المنطقية المتعلقة بكيفية ...
تخريج الأحكام في أصول الفقه، وذكر أنها نوعان: قياس اقتراني حملي، وقياس
استثنائي متصل، ثم ذكر اختلاف العلماء في جواز استعمال هذه الأقيسة،
مستحضراً أدلة كل فريق، وبدأ في مناقشة أدلة كلّ منهم، فناقش أدلة الفريق
الأول.. وفي هذه الحلقة يواصل الكاتب مناقشته لجوانب أخرى..
- البيان -
ب- مناقشة أدلة القول الثاني:
1- مناقشة الدليل الأول:
يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: إنّ ترك الصحابة (رضي الله عنهم)
بالاشتغال بالمنطق، وعدم مراعاتهم إياه في القضايا الشرعية: لا لكونه محرماً،
وإنما لاستغنائهم عنه بما حباهم الله (تعالى) به من صفاء الذهن، وسلامة اللغة،
وكثرة العلم، وجودة القريحة، ومعايشتهم النبي.
الجواب عن هذه المناقشة:
يمكن الإجابة عن هذه المناقشة بالقول: ما قولكم في فتاوى التابعين والأئمة
المجتهدين الذين جاؤوا بعد الصحابة ولم يعرفوا المنطق، ولم يشتغلوا به..؟
أصحيحة فتاواهم أم باطلة؟ .
وإذا أقروا بصحتها مع عدم اشتغال أصحابها بالمنطق، وهو الذي يسعهم دون
غيره، فإنهم يكونون قد سلّموا بصحة الأحكام المستنبطة من غير استعمال للمنطق
وأقيسته، فتبطل دعواهم.
2- مناقشة الدليل الثاني:
يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: إنّ الاستغناء بالأساليب العربية في ترتيب
مقدمات الحكم عن الأقيسة المنطقية، إنما يكون ممن يجيد اللغة العربية ويحسنها،
وأمثال هؤلاء قليلون في هذه العصور المتأخرة، وحتى لا يقع الكثير في الخطأ
والاضطراب: فإن عليهم الالتزام بهذه الأقيسة.
الجواب عن هذه المناقشة:
يمكن الإجابة عن هذه المناقشة بالقول: لقد سبق الرّدّ على هذه الشبهة، وهو
أنه يُشترط فيمن يقوم بعملية الاستنباط أن يكون ملمّاً بقدر كافٍ من علوم اللغة
العربية، بحيث يتمكن من النظر في الأدلة لاستنباط الأحكام منها تخريجاً على
القواعد الأصولية، ولا شك أن من توفر لديه هذا القدر من علوم اللغة العربية،
فإنه قادر على استعمال الأساليب العربية الصحيحة في ترتيب مقدمات الحكم
الشرعي.
3- مناقشة الدليل الثالث:
يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: لو سُلّم بفساد المنطق عامة، فإنه لا يُسلّم
بكون القسمان المذكوران منه وهما: القياس الاقتراني الحملي، والقياس الاستثنائي
المتصل فاسدين؛ وذلك لسببين:
السبب الأول:
أن من العلماء الذين نهوا عن الاشتغال بالمنطق عامة من أقرّ بصحة القسمين
المذكورين من القياس المنطقي، وبالتالي: صحة ما يترتب عليهما من نتائج
وأحكام، ومن ذلك:
1- قول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (.. فإن كون القياس المُؤلّف
من مقدّمتين مفيد النتيجة هو أمر صحيح في نفسه..) [1] .
2- قوله أيضاً: (.. كنتُ أحسبُ أن قضاياه صادقة لما رأيتُ من صدق
كثير منها! ثم تبيّن لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه، وكتبتُ في ذلك شيئاً) [2] .
3- قول الإمام الشاطبي (رحمه الله) : (.. لأن المراد تقريب الطريق
الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون، وعلى وفق ما جاء في الشريعة،
وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير: ما كان بديهيّاً في الإنتاج أو ما أشبهه من اقتراني
أو استثنائي) [3] .
السبب الثاني:
أن هذين القياسين إنما يرجعان في حقيقتهما إلى مبدأ (اللزوم) [4] في عملية
الاستدلال.
وقد أقر المانعون من استعمال هذه الأقيسة بأن مبدأ (اللزوم) من أهم المبادئ
التي ينبغي الأخذ بها في العملية الاستدلالية.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (الحقيقة المعتبرة في كل
برهان ودليل في العالم هي (اللزوم) ؛ فمن عرف أن هذا لازم لهذا، استدلّ
بالملزوم [5] على اللازم [6] .. كما يُعرف أن كل ما في الوجود فهو آية لله، فإنه
مفتقر إليه، محتاج إليه، لابد له منه، فيلزم من وجوده وجود الصانع) [7] .
ويقول أيضاً: (كلّ ما كان مستلزماً لغيره، بحيث يكون ملزوماً له، فإنه
يكون دليلا عليه، برهاناً له.. فأبداً الدليل ملزوم للمدلول عليه، والمدلول لازم
للدليل) [8] .
وعند تعريفه ل (القياس الاقتراني) قياس الشمول قال: (انتقال الذهن من
المُعيّن إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم
المشترك الكلي؛ بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول، وهو
المُعيّن) [9] .
ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (رحمه الله) : (.. وإنما يعتريه ...
الخللُ [10] من جهة الناظر فيه، فيغلط، فيظن هذا الأمر لازماً لهذا مثلاً، فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم، مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر البتة) [11] .
الجواب عن هذه المناقشة:
يمكن الجواب عن هذه المناقشة بالقول: إن هذين السببين لا يصلحان دليلاً
على جواز استعمال هذه الأقيسة في المباحث الشرعية؛ لأنه لا يلزم من إقرار
هؤلاء العلماء بصحة إنتاج هذين القياسين، وبصحة مبدأ (اللزوم) الذي يرجعان
إليه، جواز استعمالهما في المباحث الشرعية، بل إن إقرارهم بذلك مع عدم
تجويزهم استعمالهما فيها يؤكد القول بالمنع؛ إذ كأنهم يقولون: مع علمنا بصحة
إنتاج هذين القسمين من القياس المنطقي، إلا إننا لا نجوز استعمالهما في المباحث
الشرعية..
ذلك أن القول بالمنع ليس مبنيّاً على كونهما صحيحي الإنتاج أو لا، وإنما
لاعتبارات أخرى نصوا عليها في أدلتهم المذكورة آنفاً؛ بيّنها شيخ الإسلام ابن تيمية
(رحمه الله) في جملة من أقواله، منها:
1- قوله: (فإن كون القياس المؤلف من مقدمتين يفيد النتيجة، هو أمر
صحيح في نفسه، لكن الذي بيّنه نُظّار المسلمين في كلامهم على هذا (المنطق
اليوناني) المنسوب إلى أرسطو صاحب التعاليم أن ما ذكروه من صور القياس
ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية، بل كلّ ما يمكن علمه ب
(قياسهم المنطقي) يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي، وما لا يمكن علمه بدون
قياسهم لا يمكن علمه بقياسهم، فلم يكن في قياسهم لا تحصيل العلم بالمجهول الذي
لا يُعلم بدونه، ولا حاجة به إلى ما يمكن العلم به بدونه، فصار عديم التأثير في
العلم وجوداً وعدماً، ولكن فيه تطويل كثير متعب. فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه
إتعاب الأذهان وتضييع الزمان وكثرة الهذيان) [12] .
2- وقوله: (صورة القياس المذكورة فطرية لا تحتاج إلى تعلم؛ بل هي عند
الناس بمنزلة الحساب، ولكن هؤلاء يُطولون العبارات ويغربونها.. والأمور
الفطرية متى جُعل لها طرق غير فطرية كانت تعذيباً للنفوس بلا منفعة لها) [13] .
3- وقوله: (كما لو قيل لرجل: اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية،
فإن هذا ممكن بلا كلفة، فلو قال له قائل: اصبر؛ فإنه لا يمكنك القسمة حتى
تعرف حدّها، وتميز بينها وبين الضرب، فإن القسمة عكس الضرب؛ فإن
الضرب هو تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، والقسمة توزيع آحاد أحد
العددين على آحاد العدد الآخر.. فهذا، وإن كان كلاماً صحيحاً، لكن من المعلوم
أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه
حتى يتصور هذا كله، كان هذا تعذيباً له بلا فائدة، وقد يفهم هذا الكلام، وقد
يعرض له فيه إشكالات) [14] .
4- وقوله أيضاً (رحمه الله) : (المطلوب هو العلم، والطريق إليه هو الدليل؛ فمن عرف دليل مطلوبه عرف مطلوبه، سواء نظّمه بقياسهم أم لا، ومن لم
يعرف دليله لم ينفعه قياسهم! ولا يقال: إن قياسهم يُعرّف صحيح الأدلة من فاسدها، فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم..) [15] .
5- وقوله كذلك: (إن احتياج المُستَدِل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال
الناس؛ فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة؛ لعلمه بما سوى ذلك..
ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين.. وأكثر) [16] .
ثم يمثل (رحمه الله) إلى من يحتاج إلى مقدمتين بقوله: (كمن لم يعلم أن
(النبيذ المُسْكِر المتنازع فيه محرم) ، ولم يعلم أن (هذا المعيّن مُسْكِر) ، فهو لا يعلم
أنه محرم حتى يعلم (أنه مُسْكِر) ويعلم أن (كل مُسْكِر حرام [] 17 [.
(وإلى من يحتاج إلى مقدمات كثيرة، وهو يعلم أن (النبيذ مُسْكِر محرم) ،
ولم يعلم أن (هذا المعيّن مُسْكِر) ، ولا أن (هذا خمر) ، ولكنه كان يعلم أن (محمداً قد
حرّم الخمر) مع جهله بأنه رسول الله، وأيضاً أنه حرمه تحريماً عامّاً؛ فهو يقول:
(فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريماً عامّاً، إلا أن يعلم أنه
مسكر، وأنه خمر، وأن النبي حرّم الخمر.. وأنه رسول الله حقّاً، فما حرّمه فقد
حرّمه الله، وأنه حرّمه تحريماً عامّاً، لم يُبحه للتداوي ولا للتلذذ) ] 18 [.
وعلى هذا: (فإن إلزام من لا يحتاج في استدلاله إلا لمقدمة واحدة تنقصه،
بأن يأتي بمقدمتين، فيه تكرار غير مرغوب، وتطويل غير مطلوب!
كما أن إلزام من يحتاج في استدلاله إلى مقدمات كثيرة بأن يقتصر على
مقدمتين فقط، فيه اختصار مخل قد يُعَسّر الفهم ويُضيع الفكرة.. بل الأولى من هذا
الإلزام بالاقتصار على مقدمتين فقط أن يُشترط من المقدمات ما يوصل إلى
المطلوب بأخصر طريق وأقصره وأيسره؛ وذلك بأن يُذكر ما يحصل به البيان
والدلالة، سواء كان مقدمة أو مقدمتين أو أكثر، فهو الأقرب للمعقول والأنسب
للواقع) ] 19 [.
أما فيما يتعلق بمبدأ (اللزوم) : فليس الخلاف في كونه مبدءاً صحيحاً في
الاستدلال أو لا، وإنما الخلاف في كيفية التعبير عنه؛ فأنتم ترون التعبير عنه من
خلال هذه الأقيسة المنطقية، ونحن نرى التعبير عنه بأي أسلوب عربي صحيح.
والخلاصة التي يمكن ملاحظتها من مجموع كلام القائلين بمنع استعمال
الأقيسة المنطقية في المباحث الشرعية على التسليم بصحتها في نفسها ترجع إلى
الأمور التالية:
أولاً: أن هذه الأقيسة من جملة علم المنطق الذي حكم علماء الإسلام بأن
استعماله في المباحث الشرعية بدعة في الدين.
ثانياً: أن هذه الأقيسة، وإن كان إنتاجها صحيحاً في غير المباحث الشرعية،
فهي كثيراً ما تكون غير ذلك في المباحث الشرعية] 20 [.
ثالثاً: أن التمادي في استعمال هذه الأقيسة قد يؤدي بصاحبه إلى حسن الظن
بعلم المنطق لما يجد فيه من بعض القضايا الصادقة؛ حيث يجره ذلك إلى الاشتغال
به، فيقع بغير قصد غالباً في أغاليطه، وضلالاته الكفرية الكثيرة] 21 [.
رابعاً: أن في استعمال هذه الأقيسة تطويلاً للكلام من غير فائدة، وأنه
يحصل بغيرها ما يحصل بها.
* الترجيح:
من خلال عرض الأقوال في هذه المسألة، والأدلة والمناقشات.. تبين لي أن
سبب الخلاف بين الفريقين ليس في كون هذين القياسين صحيحي الإنتاج أو لا،
وإنما سببه النظر في اعتبارات أخرى.
والذي ترجح لدي بعد هذا كله الرأيُ القائل بالمنع؛ وذلك لقوة أدلتهم،
ووجاهة الاعتبارات التي أخذوا بها.
ومما يؤكد هذا الترجيح أيضاً، أن الناظر في كتب (الفقه) و (التخريج) يدرك
توافقه لما سار عليه المُخرّجون على مدى العصور الماضية؛ من استعمالهم
للأساليب العربية الموصلة إلى المطلوب بأسهل عبارة، وأخصر طريق، وعدم
استعمالهم لتلك الأقيسة المنطقية.
غير أنه يحسن التنبيه في هذا المقام إلى أن القول بعدم جواز استعمال تلك
الأقيسة المنطقية لا يلزم منه الحكم على أي حُكْم استُعملت فيه تلك الأقيسة بالفساد،
وإنما يلزم منه أن يلحق بمن يستعملها ما يترتب على تلك الاعتبارات التي ذكرها
المانعون من أحكام، والله أعلم.
__________
(1) الرد على المنطقيين، ص247.
(2) المصدر نفسه، ص3.
(3) الموافقات، ج4، ص249.
(4) قال في كشاف اصطلاحات الفنون (ج3، ص1304) : (اللزوم عند أهل المناظرة ويسمى بالملازمة والتلازم والاستلزام أيضاً: كون الحكم مقتضياً لحكم آخر؛ بأن يكون إذا وجد المقتضي وجد المقتضى وقت وجوده والحكم الثاني المقتضى على صيغة اسم المفعول يسمى لازماً وقد يكون الاستلزام من الجانبين: فأي (الجانبين) يتصور مقتضياً يسمى ملزوماً، وأي (الجانبين) يتصور مقتضى يسمى لازماً وعند المنطقيين: عبارة عن امتناع الانفكاك عن الشيء، وما يمنع انفكاكه عن الشيء يسمى لازماً، وذلك الشيء ملزوماً، والتلازم عبارة عن عدم انفكاك من الجانبين، والاستلزام عن عدمه من جانب واحد، وعدم الاستلزام من الجانبين عبارة عن الانفكاك بينهما) (وانظر: التعريفات: ص190، الإيضاح لقوانين الاصطلاح: ص39، الكليات: ص795.
(5) المراد به هنا: المقدّمة أو المقدّمات.
(6) المراد به هنا: النتيجة.
(7) الرد على المنطقيين، ص252.
(8) المصدر نفسه، ص250.
(9) المصدر نفسه، ص119.
(10) أي: القياس المنطقي.
(11) آداب البحث والمناظرة، ص5.
(12) الرد على المنطقيين، ص247.
(13) نقض المنطق، ص201.
(14) الرد على المنطقيين، ص249.
(15) المصدر نفسه، ص252.
(16) المصدر نفسه، ص168.
(17) المصدر نفسه، ص169.
(18) المصدر نفسه، ص169.
(19) نظرية القياس الأرسطي، ص229.
(20) انظر: الموافقات، ج4، ص249.
(21) انظر: الرد على المنطقيين: ص195-198، 321، نقض المنطق: ص209.(93/20)
رسائل جامعية
أهل الذمة والولايات العامة
في الفقه الإسلامي
عبد العزيز بن محمد الحويطان
(أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي) [1] هو عنوان للرسالة التي
رأيت مناسبة عرضها، والتي فرضت جودتها وحسن تبويبها: الوقوف عندها هذه
الوقفات العاجلة، ولعل أهمية هذه الرسالة تتضح من عنوانها؛ فأهل الذمة في بلاد
المسلمين موجودون قديماً وحديثاً، وربما ازداد عددهم في هذه الأزمنة نتيجة تقدم
وسائل النقل، واختلاط الشعوب، وانتقال الأيدي العاملة للبحث عن مصادر الرزق، مما يجعل دراسة الموضوع أكثر إلحاحاً وأهمية، وأكثر مساساً بواقع بعض
المسلمين الذي امتزج به الجهل والفقر والتخلف، إلا من رحم الله، والذي يفرض
طَرق مثل هذه الأبحاث والتأكيد عليها، وزاد الرسالة قوة: ذلك العرض والتقسيم
البديع الذي صاحب فصولها، وسأتطرق بحول الله (تعالى) إلى مميزات الرسالة،
وما عليها، بعد العرض السريع لها.
قسّم الباحث الرسالة بابين: الباب الأول جعله مدخلاً للرسالة في الولاية وما
يتعلق بها، وقسمه ثلاثة فصول: تعريف الولاية، وأقسامها، وشروطها. والباب
الثاني: (في الذمة والولايات العامة) .
ففي تعريف الولاية في الاصطلاح: وبعد أن أورد أقوال الفقهاء: خلص إلى
أنها: (سلطة شرعية لشخص في إدارة شأن من الشؤون، وتنفيذ إرادته فيه على
الغير من فرد أو جماعة) (ص27) .
وقد ثبتت مشروعيتها من الكتاب والسنة والإجماع.
وفي مبحث أقسام الولاية: ذكر أنها تنقسم إلى ولاية عامة وخاصة (وهذا
تقسيم الفقهاء) ، فالولاية الخاصة يمكن حصرها في: ولاية الحضانة، والولاية
على النفس، والولاية على المال.
أما الولاية العامة فإنها تتمثل فيما يقوم به الإمام أو نائبه من التصرفات،
وتنبثق عنها ولايات عامة متعددة، وعلى هذا تكون أنواع الولاية العامة هي:
1- الإمامة العظمى.
2- الوزارة (سواء أكانت وزارة تفويض أو تنفيذ) .
3- الإمارة على البلدان (بنوعيها: العام، والخاص) .
4- الإمارة على الجهاد (إمارة على سياسة الجيش والجند، أو إمارة على
جميع أحكام الجهاد) .
5- الولاية على حروب المصالح (قتال أهل الردة والبغي والمحاربين) .
6- ولاية القضاء.
7- ولاية المظالم.
8- ولاية النقابة على ذوي الأنساب.
9- الولاية على إمامة الصلوات.
10- الولاية على الحج.
11- ولاية الصدقات.
12- ولاية الفيء.
13- ولاية الجزية والخراج.
14- ولاية الحسبة. (ص53-57) .
وهذه الأنواع لم يذكر الباحث من أين استقاها، ولعله استقرأها من كتب الفقه، والسؤال هنا: ألا توجد مناصب جديدة في هذا الوقت تختلف عن السابق؟ ثم:
ألا يمكن وضع ضوابط عامة لهذه الولاية العامة بدلاً من تفصيلها؟ .
ثم أورد الباحث في الفصل الثالث شروط الولاية العامة والخاصة كلّ على
حدة باختصار.
أما الباب الثاني فهو: (في الذمي والولاية العامة) : فقد قسمه أربعة فصول:
الذمي وعقده، وواجبات أهل الذمة في الفقه الإسلامي وحقوقهم، وحكم تولي الذمي
المناصب العامة، وأخيراً: أهل الذمة والشورى.
أما الذمي فقد عرفه الباحث في الاصطلاح قائلاً: (كل من يُقَر من الكفار في
دار الإسلام على التأبيد آمناً، بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة فيما يتعلق بهم)
(ص74) .
قلت: وتبقى المسألة، فيمن تقبل منه الجزية ويقر ببذلها؟ وقد أجاب الباحث
عن هذا التساؤل قائلاً: وهذا فيه خلاف بين الفقهاء بعد اتفاقهم على دخول اليهود
والنصارى فيهم، وبعد أن أورد الباحث أقوال أئمة المذاهب خلص إلى أن (الجزية
تقبل من كل كافر، فيدعى للإسلام أولا، فإن أبى فالجزية، فإن بذلها قبلت منه) .
ثم ساق الأدلة فيما يلي:
1- آية الجزية: [قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] .
2- حديث بريدة (رضي الله عنه) الطويل المشهور: (كان رسول الله إذا أمّر
أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه ... فإن هم أَبَوْ فسلهم الجزية،
فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم..) أخرجه مسلم والترمذي، وهو على
عمومه في أهل الكتاب وغيرهم.
3- كما استدلوا بقبول الجزية من المجوس وهم ليسوا أهل كتاب بقوله:
(سنوا بهم سنة أهل الكتاب) رواه مالك في الموطأ [2] .
أما عقد الذمة، فقال الباحث: (هو التزام الإمام أو نائبه بإقرار بعض الكفار
بالإقامة الدائمة في دار الإسلام، على أن يبذلوا الجزية ويلتزموا أحكام الملة فيما
يتعلق بهم) (ص97) والمقصود بأحكام الملة أي: الأحكام الظاهرة، كمنعهم من
إظهار الخمر والخنزير.
ثم تطرق الباحث إلى شروط العقد وآثاره، وذكر من آثاره:
1- عصمة النفس.
2- عصمة الأموال والأعراض لأنها تبع للنفوس.
3- إنهاء الحرب بين المسلمين وأهل الذمة.
4- هذا العقد ملزم للمسلمين، فلا يستطيعون نقضه.
5- التزام كل طرف بحقوق وواجبات الطرف الآخر.
وذكر الحقوق الواجبة عليهم ما أورده الماوردي (رحمه الله) حيث قال:
1- ألا يذكروا كتاب الله بطعن ولا تحريف.
2- ألا يذكروا رسول الله بتكذيب له ولا ازدراء.
3- ألا يذكروا دين الإسلام بذم أو قدح.
4- ألا يصيبوا مسلمة بزنى ولا باسم نكاح.
5- ألا يفتنوا مسلماً عن دينه.
6- ألا يعينوا أهل الحرب، ولا يودوا أغنياءهم. (ص103) .
ثم تسائل الباحث قائلاً: متى ينتقض العقد؟ فأجاب بقوله: ينتقض العقد
بمخالفة النظام الشرعي في ناحية جوهرية، كقتال الذمي للمسلمين والتحاقه بدار
الحرب، وامتناعه عن الجزية لغير عذر كفقر، وامتناعه التزام أحكام المسلمين،
كذلك ينتقض بالشروط الستة التي ذكرها الماوردي، (ص107) .
أما الفصل الثاني (واجبات أهل الذمة في الفقه الإسلامي) : فقسمه الباحث
قسمين: واجبات أهل الذمة، وحقوقهم.
تطرق في المبحث الأول إلى الواجبات المترتبة عليهم، وهي ثلاثة:
أولاً: الجزية، وهي واجبة عليهم بالاتفاق، ومقدارها زهيد، يجب مرة
واحدة في السنة، ويرجع تقديرها للإمام، كما اجتهد عمر (رضي الله عنه) في
تقديرها) ؛ لأن القيمة الشرائية للدرهم تتغير بتغير الأحوال والأزمان.
ثانياً: الخراج وهو ما وضع على رقاب الأرض المفتوحة عنوة أو صلحاً من
حقوق تؤدى عنها، ودليل مشروعيته: فعل عمر وموافقة الصحابة له؛ فيكون
إجماعاً، وأما تقديره فهو راجع أيضاً للإمام، فيراعي مصلحة الطرفين وحال
الأرض والزرع.
ثالثاً: العشور، وقد ثبتت بعمل الصحابة (رضوان الله عليهم) ، حيث ثبت
عن عمر (رضي الله عنه) أنه أخذ من أهل الذمة نصف العشر ومن أهل الحرب
العشر، وقد عمل بها الصحابة من غير نكير؛ فيكون إجماعاً، ويشترط أن يكون
في التجارة مما ينتقل بها صاحبها في دار الإسلام، وألا يؤخذ إلا مرة واحدة في
العام، وأن يبلغ نصاباً (اشترطه الأحناف والحنابلة) .
هذا عن الواجبات اللازمة عليهم، أما المستحبة التي لا تجب عليهم إلا إذا
ذكرت في العقد، كما أنها لا تنقض العقد لكن يؤاخذون بها إجباراً ويؤدبون عليها
زجراً: فقد سردها الماوردي (رحمه الله) قائلاً: (أما المستحبة فستة أشياء:
1- تغيير هيئاتهم بلباس الغيار وشد الزنار.
2- ألا يعلوا المسلمين في الأبنية.
3- ألا يسمعوهم أصوات نواقيسهم أو تلاوة كتبهم.
4- ألا يجاهروهم بشرب خمورهم، ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم.
5- أن يخفوا دفن موتاهم، ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة.
6- أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقاً وهجاناً. (ص124) .
قلت: وما ورد من الشروط العمرية شبيه بهذا، إلا أن أهل الذمة شرطوها
على أنفسهم في خلافته فيجب أن ينفذوها، لكن السؤال: هل ثبتت الشروط العمرية
تفصيلاً؟ وهل هي لازمة لأهل الذمة على الدوام؟ هذا ما لم يتطرق إليه الباحث.
أما ثبوت الشروط العمرية فقد ثبتت جملة بالإجماع، قال ابن القيم: (إن
شهرتها تغني عن إسنادها) ، ونقل ابن تيمية الإجماع على ثبوتها جملة، أما تفصيلاً: فهذا راجع لأسانيدها، وقد أجاد الباحث في رده على من أنكرها من أمثال الشيخ
محمد الغزالي وغيره [3] .
أما المبحث الثاني في الفصل الثاني: فعن (حقوق أهل الذمة) ، وهذا من
المباحث المهمة في الرسالة التي كان من المفترض أن يتوسع فيها الباحث بدل
اختصارها واكتفائه منها بالعموميات، فقد تطرق لحقوقهم بعد أن فند القاعدة التي
يذكرها بعض الفقهاء (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وبيّن أنها خاطئة بإطلاق، وقد
أجاد.
وذكر من حقوقهم حرية المعتقد دون إظهار للشعائر، أما بخصوص معابدهم
فرجح أن ما أسلم عليه أهل مصر أو مصّره المسلمون فلا يجوز لهم فيه إحداث
بيعة أو كنيسة؛ قال ابن القيم: (وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع) ، وأما
ما فتح عنوة ففيه خلاف، والراجح: إن شرطوا الإحداث في عقد الجزية يوف لهم
بالشرط، وكذا: إن شرطوه فيما فتح صلحاً. (ص133) .
ومن حقوقهم: حرمة الدماء والأبدان، وحق الحماية داخليّاً وخارجيّاً، وحق
الأمن ويقصد به حرمة المسكن فله أن يسكن فيما شاء إلا في جزيرة العرب، وقيل: الحجاز خاصة على خلاف والأول هو الصواب، قلت: ويلزم أن يقيّد بألا يكون فيه إضرار للمسلمين، أما بخصوص حرية التنقل وحرية الفكر والكتابة والاجتماع
في المناسبات: فقد أجازها الباحث بإطلاق، وفيه نظر، إذ إن بعضها يلزم منه
إظهار لدينهم ورأيهم. (ص141) .
وذكر من حقهم: حق التمتع بمرافق الدولة وخدماتها، قلت: وهذا يقيد بعدم
الإضرار أو التضييق بالمسلمين، ولهم حق الحرية في شؤونهم الخاصة كالحقوق
الشخصية، ونظام الأسرة، والطلاق، والزواج، والإرث.. وغيرها. (ص144) .
وتطرق الباحث أخيراً إلى حق تولي وظائف الدولة، وأوضح أن الوظائف
الرئيسة في الدولة والوظائف ذات الصبغة الدينية لا يجوز للذمي شغلها، ثم فصّل
القول بتقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1- استعمالهم في الحرب، وذكر الخلاف في ذلك.
2- استعمالهم في غير الحرب، ورجح جوازه بشروط، هي:
أن يحصل الوثوق به، ألا يكون في عمله ولاية على مسلم، ألا تكون
الوظيفة ذات صبغة دينية، قلت: ويلزم أن يزاد شرط: ألا يوجد من هو أولى لها
من المسلمين، تمشياً مع قول عمر لأبي موسى الأشعري.
3- استعمالهم في الوظائف العامة، وهذا ما سيذكره في الفصل الثالث.
أما الفصل الثالث (حكم تولي الذمي المناصب العامة) : فهو لب الرسالة
وموضوعها، قسمه الباحث ثمانية مباحث، كل منها يمثل منصباً من المناصب
العامة، وطريقته هنا: أن يورد المنصب، ثم يعرفه، ويذكر مشروعيته،
وضوابطه، وشروطه، بشكل بديع قلما يوجد في غير هذه الرسالة، ثم يعرج على
حكم تولي الذمي لهذا المنصب.
بدأ بمبحث رئاسة الدولة أو الخلافة، ذكر فيه: تعريف الخلافة، وأدلة
مشروعيتها، وشروط الخليفة، وواجباته، وحقوقه، ثم عرج على تولي الذمي
للخلافة، وذكر أن لا مدخل له في هذا المنصب بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول؛ فأما الكتاب: فهناك آيات كثيرة، منها قوله (تعالى) : [وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] [النساء: 141] وأما السنة: فمنها قوله: (من أطاعني فقد
أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن
عصى أميري فقد عصاني) أخرجه البخاري، ووجهه: أن طاعة الأمير واجبة،
وهو الأمير الذي أمّره رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤمر كافراً على
مسلم، وأما الإجماع: فقد نقله غير واحد كالقاضي عياض وابن حجر والجويني،
قال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تعقد لكافر، وعلى أنه لو
طرأ عليه الكفر انعزل) (ص180) . ثم ذكر موانع ذلك من المعقول، منها: أن
حفظ الدين لا يقوم به الكافر، وأن غير المسلم لا يضحي من أجل المسلمين، وأن
أسرار المسلمين وثغراتهم يجب ألا تكون عند الكافر. (ص184) .
أما في مبحث الذمي والوزارة: فبعد تعريف الوزارة لغة واصطلاحاً، ذكر
مشروعيتها من الكتاب والسنة وفعل الصحابة والمعقول، ثم ذكر أنواع الوزارة،
وهي نوعان: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ، ففي وزارة التفويض: عرفها
الماوردي بقوله: (وهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه
وإمضاءها على اجتهاده) وأعمال وزير التفويض تكاد تكون هي أعمال الخليفة،
وشروطه شروطه مع اختلاف يسير، أما تقليد الذمي لوزارة التفويض فلا مدخل له
فيها، لأن وزير التفويض كالخليفة فيما يقوم به من تدبير للأمور وتعيين للولاة
وعزلهم.
أما وزارة التنفيذ: فقال الماوردي عنها: (وهذا الوزير وسط بين الإمام وبين
الرعايا والولاة، يؤدي عنه ما أمره، وينفذ عنه ما ذكره، فهو معين في تنفيذ
الأمور وليس بوالٍ عليها) . (ص197) ، وبخصوص حكم تولي الذمي لهذا
المنصب: فقد أجازه الماوردي (رحمه الله) دون ذكر دليل على ذلك من كتاب أو
سنة، وهذا خلاف ما عليه عامة الفقهاء، فقد نقل أحمد والجويني وابن جماعة
وغيرهم عدم جواز ذلك، بل قال الجويني في مقولة الماوردي هذه: (وهذه عثرة
ليس لها مقيل، فهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن التحصيل) والصواب الذي
رجحه المؤلف: عدم جواز ذلك لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة،
كأدلة النهي عن اتخاذ بطانة من دون المسلمين وغيرها. (ص207) .
وقد أجاد الباحث في تقصيه لأصل هذا التقسيم للوزارة (وزارة تفويض
ووزارة تنفيذ) وذكر بطلانه، لأن الإمام هو الذي يباشر الأمور بنفسه، وإذا
فوضت جميع الأعمال إلى الوزير: فما دور الإمام إذن؟ وهذا التقسيم لم يكن
معروفاً قبل عصرالماوردي والفراء، فهما أول من ذكره، وما خرج هذا التقسيم إلا
في عهد بني بويه، وكان الخليفة العباسي آنذاك منزوع السلطة، وقد وصل من
تعدي بني بويه على الخليفة أن اعتقلوا المستكفي وسملوا عينيه وحبس في دار
الخلافة إلى أن توفي. (ص197) .
ثم عقد المؤلف مقارنة بين الوزارة في السابق وبينها في العصر الحاضر؛
ليثبت أن الوزير سابقاً ولاحقاً له ولاية وسلطة على المسلمين، فلا يجوز للذمي
تولية هذا المنصب (وليت هذه المقارنة استمرت في جميع مباحث الرسالة) .
وفي المبحث الثالث (الذمي والإمارة) : قسم الإمارة قسمين: عامة وخاصة،
فالإمارة العامة: (هي أن يفوض إليه الخليفة إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع
أهله، فيصير عام النظر فيما كان محدوداً من عمل ومعهوداً من نظر) أما الإمارة
الخاصة، فهي: (أن يكون الأمير مقصور الإمارة على تدبير الجيش وسياسة
الرعية وحماية البيضة والذب عن الحريم، لكن لا يتولى القضاء والأحكام وجباية
الصدقات والخراج) .
أما تولي الذمي للإمارة العامة: فلا مدخل له فيها؛ لأن الكافر لا تكون له
ولاية على المسلمين، ولم يعرف أنه بعث أميراً ذميّاً أو كافراً، والأمير نائب عن
الخليفة، والنائب كالأصيل في حالة غيابه، فلا يستحق هذه النيابة كافر، أما
الإمارة الخاصة: فإن الأمير له سبيل على المسلمين ولا سبيل لكافر على مسلم،
ولا يجوز أن يسند هذا المنصب لغير المسلم. (ص228) .
وفي المبحث الرابع (الذمي والقضاء) : بعد تعريفه للقضاء أورد شروط
القاضي، وهي: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والذكورة، والعدالة (وقد
أجاز الأحناف تولية الفاسق) ، وسلامة السمع والبصر والنطق (والمالكية يعدون ذلك
شرط دوام وليس شرط انعقاد) ، وأخيراً: العلم بالأحكام الشرعية، حيث اشترط
الحنابلة والشافعية وابن حزم الاجتهاد، على خلاف المالكية والأحناف، والراجح
أن يحصل القاضي من الوسائل ما يوصله إلى الحكم الشرعي في حدود ما ولي له.
(ص239) .
أما ولاية الذمي للقضاء: فلا مدخل له فيها؛ لأن من شروطها الإسلام
بالاتفاق، كما أن القاضي من أولي الأمر [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] [النساء: 59] فلا يجوز طاعة الكافر.
وأهل الذمة يطبق عليهم في دار الإسلام الشرع الإسلامي، ورجح الباحث
استثناء شربهم للخمر وأكلهم الخنزير وشعائرهم التعبدية ما لم يظهروها في أمصار
المسلمين وقوانين الأسرة كالنكاح، وإذا ترافعوا إلينا يجب على القاضي أن يحكم
فيهم بحكم الإسلام، ولا يشترط ترافع الاثنين بل يكفي واحد، وإذا اختلف المسلم
والذمي فيجب الحكم بينهما حماية للمسلم وحفاظاً على الذمي، وأما إذا اختلفت ملة
المتحاكمين كيهودي ونصراني فيجب الحكم بينهم عند الشافعية وهو الصواب.
(ص 252) .
أما المبحث الخامس (الذمي وولاية الحسبة) : فذكر أنه لا مدخل له فيها لاتفاق
الفقهاء على اشتراط الإسلام في المحتسب، كما أن المحتسب وما بيده يدل على
العز والسلطان وهذا لا يتمتع به الذمي لأنه ينافي النص الذي ورد بصغارهم
[حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] .
وما يقال عن الذمي وولاية الحسبة يقال عن الذمي وولاية المظالم.
(ص 284) .
أما المبحث السابع (الذمي وإمارة الجيش) : فلا مدخل له فيها؛ لأن ولاية
الجيش شبيهة بالإمارة العامة والخاصة والتي شروطها هي شروط الإمامة (في
الغالب) ، كما أنه لم يعرف عنه أنه أمّر كافراً على سرية من المؤمنين، إضافة إلى
القدوة في هذا المنصب والاطلاع على الأسرار التي لا يجوز أن يطلع عليها كافر.
(ص290) .
أما في المبحث الثامن (أهل الذمة والولايات الأخرى) : فقسمه إلى عدة
مطالب، هي: الفيء والغنيمة، والصدقة، والخراج، والجزية، أما الفيء (كل
مال وصل إلى المسلمين من غير مباشرة القتال) : فليس للذمي مدخل في ولايته،
وأجاز الماوردي والفراء للذمي أن يُستعمل في عمل لا يستدعي الاستنابة وكان ما
يجبيه متعلقاً بأهل الذمة، كالجزية وعشور أهل الذمة، والراجح خلافه، أما ولاية
الغنيمة: فلا مدخل للذمي فيها، وكذلك الصدقة، إلا أن الماوردي والفراء أجازا
تولي قبض نوع من أنواع الزكاة، والراجح عدم الجواز؛ لأنه شاهد على رب
المال ولا تجوز شهادة غير المسلم على المسلم، أما ولاية الخراج: فلا يجوز
توليتها للذمي إلا إذا كان جباية دون تقسيم على مال محدد يؤخذ من أهل الذمة،
ويشترط أن يتصف الذمي بالصدق والأمانة، أما ولاية الجزية: فلا مدخل له
فيها. (327) .
أما الفصل الرابع (آخر فصول الرسالة) فعن أهل الذمة والشورى: عرف
الباحث الشورى اصطلاحاً بقوله: (هي استعراض الآراء المطروحة من أهل الرأي
في المسألة، واختبارها، ثم اختيار أصوبها، أما تولية الذمي للشورى: فقد اتفق
العلماء على اشتراط الإسلام في أهل الحل والعقد، وليس للمتقدمين قول بجواز
تولية ذلك للذمي، نقله الماوردي والفراء والجويني وابن جماعة وابن خلدون، قال
الإمام الجويني: (ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة، فخروج هؤلاء عن
منصب الحل والعقد ليس به خفاء) ، وذكر الباحث قولاً لبعض المحدثين بجوازه
بشرط ألا ينظر في الأمور التشريعية، وألا يشارك في انتخاب الخليفة، وأن تكون
استشارته مقصورة على قضايا أهل الذمة والأمور الفنية البحتة، ومال الباحث إلى
استحسان هذا، قلت: وهذا خلاف ما عليه الكتاب والسنة والإجماع. (ص340) .
ثم ختم الباحث رسالته بذكر مبحث وضّح فيه عدل المسلمين مع أهل الذمة
مقارنة بما فعله ويفعله اليهود والنصارى قديماً وحديثاً مع الأقليات المسلمة بينهم،
فهذا (جوستاف لوبون) يصف فظاعة الصليبيين: (وكانوا يذبحون الأولاد والشبان
والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا لا يستبقون إنساناً، وكانوا يشنقون أُناساً
كثيرين بحبل واحد بغية السرعة) ويقول أيضاً: (كان قومنا يقبضون على كل شيء
يجدونه، فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طريق المدينة (القدس) المغطاة بالجثث) ، ومدينة
(معرة النعمان) شاهدة على ما فعله الصليبيون عندما قتلوا مئة ألف لاجئ مسلم
صبراً في الجوامع والطرقات والسراديب.
بل ما نشهده هذه الأيام من وقوع مجازر في البوسنة والهرسك بالرغم من أنهم
أغلبية في بلادهم، فليتأمل لأكبر دليل على هضم حقوق المسلمين في البلدان
الغربية (المتحضرة) ! ، أما موقف المسلمين من أهل الذمة: فهذه كتب الفقهاء
ومقولات عمر (رضي الله عنه) تنطق بذلك (.. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم،
ولكنائسهم وصلبانهم ... ) .
هذا عرض سريع لأبواب وفصول هذه الرسالة، أردت منه إعطاء فكرة ولو
ميسرة عنها.
ومما تميزت به هذه الرسالة ما يلي:
1- إجادة الباحث لجمع مادته العلمية بخصوص الموضوع، واستقصائه
لأقوال الأئمة ومناقشتها في مباحث الرسالة، فجاءت أحكامه الفقهية في الغالب
متزنة وموافقة للدليل الصحيح، وإن كان يؤخذ عليه إغفاله لأقوال بعض المتأخرين
الذين أشبعوا الموضوع مناقشة ودراسة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
2- الدراسة التي قام بها المؤلف في أوائل مباحث الرسالة عن بعض
المناصب الإسلامية (الخلافة القضاء الشورى الحسبة الإمارة) تعتبر دراسة فريدة؛
نظراً لتقصيه في تعريف هذه الولايات وشروطها وأحكامها، وحقّها أن تخرج في
كتاب منفصل.
وكل عمل لا يسلم من الملاحظات (أبى الله أن يتم إلا كتابه) وقد قيل (من ألّف
فقد استهدف) ... وألخص ملاحظاتي على الرسالة في النقاط التالية:
1- كان من المفترض إفراد فصل عن معاملة الإسلام للذمي، تورد فيه
أحاديث المصطفى-صلى الله عليه وسلم-، وفعله معهم، وفعل الخلفاء الراشدين،
والدول الإسلامية بعدهم (وقد أورد لمحة عن ذلك في الخاتمة لكنها في نظري لا
تكفي) .
2- أشرت في عرض الرسالة إلى أهمية وضع ضوابط للولاية العامة، بدلاً
من إيرادها هكذا مفصلة، فلو أن الباحث قام بوضع ضوابط لها، وقام بدراسة هذه
الضوابط، وجعلها أصل الرسالة لكان أفضل، وإن أشار إلى جزء من هذه
الضوابط في مبحث الذمي ووظائف الدولة.
3- كان من المفترض أن تربط المناصب المذكورة عند الفقهاء بالمناصب
الموجودة الآن في عصرنا الحاضر، وتعقد مقارنة بينها في الماضي والحاضر لتتم
الفائدة من الموضوع.
4- يلاحظ القارئ عدم تمحيص بعض الأحاديث صحة وضعفاً، فما يسكت
عنه أبو داود لا يحتج به إطلاقاً، كما أن تصحيح الحاكم لا يؤخذ به بإطلاق،
إضافة إلى كثرة الاستدلال بفعل عمر (رضي الله عنه) (خاصة فيما ينقله عن كتاب
الخراج لأبي يوسف) ، وهذا النقل يحتمل الصحة والضعف، فلا يحتج به هكذا
بدون تحقيق صحته.
5- يُلحظ في مواضع قليلة: الاحتجاج بأقوال بعض الطوائف المخالفة لنا في
أصولها وأصلها.
6- تعتبر الشروط العمرية مع أهل الذمة أصلاً في التعامل معهم، ومنهجاً
لمن بعده في تحري الحقوق التي لهم والواجبات التي عليهم، لكن الباحث لم يتطرق
لهذه الشروط ولا لأسانيدها، وكان بودي لو عرج على هذه الأسانيد ونقحها واعتمد
عليها في كتابه هذا لمعرفة مالهم وما عليهم، ورسالة في هذا الموضوع خليق بها
ألا تغفلها، وأن تقف عندها وقفات طويلة، وقد تطرق إليها ابن القيم في كتابه
(أحكام أهل الذمة) وكذلك ابن تيمية في كتابه الرائع (اقتضاء الصراط المستقيم
لمخالفة أصحاب الجحيم) .
وفي العموم: فإن هذا لا يقدح في هذه الرسالة المتميزة عرضاً ومحتوًى
وعنواناً، وقد أجاد في طبعها، نسأل الله (سبحانه وتعالى) أن ينفع بها المسلمين
جميعاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تعريف بالرسالة: -إعداد: نمر محمد الخليل النمر -إشراف: الدكتور محمد أبو فارس -قدمت إلى كلية الشريعة في الجامعة الأردنية استكمالاً لمتطلبات الماجستير في قسم الفقه والتشريع -عدد الصفحات: 415 صفحة، بما فيها الفهارس -الطبعة الأولى: 1409هـ المكتبة الإسلامية.
(2) إسناده ضعيف، انظر: إرواء الغليل، رقم (1248) .
(3) وبخصوص لزومها لمن بعده فقد ذكر الدكتور ناصر العقل أنها غير لازمة بحذافيرها (بدليل تغيير عمر بن عبد العزيز لبعض منها) إلا ما تلقته الأمة بالقبول وأجمعوا عليه؛ كثبوت مبدأ المغايرة والتميز في عامة الهدي، وعدم إظهار شيء مما يختصون به، وترك إكرامهم، وإلزامهم الصغار، فهذا لازم لهم بالإجماع، قلت: وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (ج1، ص 320 ومابعدها) فليراجعه من أراد مزيد تفصيل.(93/28)
خواطر في الدعوة
بين الإدارة والفكر
محمد العبدة
إذا لم يكن صاحب الفكر إداريّاً، أو صاحب الإدارة مفكراً، فالحل الواقعي
المناسب أن يقع التعاون والمشاركة، فهذا هو الأجدى والأجدر لمن رُزق الإخلاص
والصواب، والبشر متفاوتون في الطاقات والإمكانات، وقلما يتيسر اجتماع مواهب
كثيرة في شخص واحد، وإذا كان أهل الإدارة في واجهة العمل، فإن من وراء ذلك
أهل العلم والتخطيط، كما أن الغدد الداخلية في الجسم هي التي تمده بالطاقة وتنسق
أعماله الظاهرية، ولذلك تلجأ المؤسسات بل والدول للجمع بين هذين الصنفين.
يرى شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في الأمور العامة والكبيرة: أن (دين
الإسلام: أن يكون السيف تابعاً للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان
السيف تابعاً لذلك: كان أمر الإسلام قائماً..) [1] ، وقد استنبط هذا من قوله
(تعالى) : [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] [الحديد: 25] ، ويقصد
بالسيف أهل الإدارة والتنفيذ.
ولا مانع أن نستعير هذه القاعدة لتكون في المؤسسات العلمية أو الدعوية،
حتى لا ينفرد الإداري الذي ليس له باع في العلم أو القضايا الفكرية بقرار لمؤسسة
علمية أو دعوية، وما لم يتم اللقاء والمشاركة بين هذين الصنفين فستبقى أمورنا
عرجاء شوهاء، وسيأتي أناس يرتجلون ويتخبطون في الإدارة.
إن ابتعاد أهل الفكر والعلم عن القرار والحل والعقد هو الذي جعل بعض
الناس يعتادون على عدم المشاركة، وربما يعتبر هذا نقصاً في شخصيته، وربما
يكون جاهلاً فلا يحب أن يطلع على جهله أحد، وقد يعتبر بعضهم وجود أهل الفكر
والعلم من باب الزينة، فلا بأس بوجودهم ليقال أن عندنا أناساً من أهل العلم،
ولكن ليس لهم يد في القرار.
لقد ابتعد المسلمون عن هذا الذي يذكره ابن تيمية، ونسوا مع طول الزمن
أهمية العلم والعلماء، بينما نجد أن المؤسسات الكبرى والدول في الغرب تعتمد
اعتماداً كبيراً على النخبة المثقفة، وعلى المتخصصين من أهل الفكر في دراسة
واتخاذ القرار، وعلى التخطيط بعيد المدى لسياساتهم وكافة القضايا الاجتماعية
والاقتصادية، هؤلاء المفكرين لا يسمع بهم أحد لأنهم ليسوا في الواجهة، ولكن
بحوثهم ودراساتهم هي التي تساعد على اتخاذ القرارات.
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج20، ص393.(93/40)
دراسات تربوية قرآنية
لا تحسبوه شراً لكم
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مفهوم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً
لَّكُم] [النور: 11] وأهمية ذلك المفهوم ضمن سياق سنن الله في التغيير، وبيّن
ثمرات هذه السنة، التي كان منها: تحقيق العبودية لله (عز وجل) ، وسلامة القلب
من الكثير من أمراضه، والصبر على البلايا والمصائب، ومحاسبة النفوس،
والتؤدة وعدم الاستعجال.. ويواصل الكاتب وقفاته حول معنى هذه الآية..
- البيان -
في هذا المبحث سأتعرض إن شاء الله (تعالى) لبعض المواقف من السيرة
المطهرة وغيرها، والتي ظهرت فيها حكمة الله (عز وجل) ورحمته، وأن ما
اختاره الله (عز وجل) لعباده خير مما اختاروه لأنفسهم.
من السيرة المطهرة:
الموقف الأول: غزوة بدر الكبرى: وهي أشهر من أن تذكر؛ فلقد كانت
فرقاناً بين الحق والباطل، ولكن المراد من الاستشهاد بها هنا: هو ما ظهر في هذه
الغزوة العظيمة من الفرق بين ما أراده المسلمون قبل الغزوة، وكراهيتهم للقاء
عدوهم، ورغبتهم في أن تكون في العير، وبين ما اختاره الله لهم من أن تكون في
النفير وفي ذات الشوكة؛ يقول الله (عز وجل) : [وَإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ
وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ]
[الأنفال: 7، 8] .
فأين الخير الذي علمه الله (عز وجل) وغاب عن المسلمين آنذاك فأرادوا غيره؟ إن الجواب في الآية نفسها؛ يعلق الأستاذ سيد قطب (رحمه الله تعالى) على هذه
الآية فيقول: (لقد أراد الله وله الفضل والمنة أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون
موقعة بين الحق والباطل؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد أن
يقطع دابر الكافرين؛ فيُقتل منهم من يقتل، ويُؤسر منهم من يؤسر، وتذل
كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكّن الله
للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض،
وتحطيم طاغوت الطواغيت، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن
جزاف تعالى الله عن الجزاف وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم
الواقع وفي ميدان القتال..
... وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته
العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها، بين ما حسبته خيراً لها وما قدره
الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين
يتضررون مما يريده الله لهم، مما قد يعرضهم لبعض الخطر، أو يصيبهم بشيء
من الأذى، بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال! .
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي لو
كانت لهم غير ذات الشوكة قصة غنيمة، قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما
بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة، قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق
والباطل، قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح، المزودين بكل زاد،
والحق في قلة من العدد وضعف في الزاد والراحلة) [1] .
الموقف الثاني: غزوة أحد: وهذه الغزوة أيضاً من أشهر غزوات الرسول،
ومن أشدها على المسلمين؛ حيث استشهد سبعون صحابيّاً، وشُجّ وجه النبي الكريم، ومع ذلك كان فيها خير للمسلمين ورحمة؛ يدل على ذلك قوله (تعالى) : [وَمَا
أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمََ المُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَذِينَ نَافَقُوا
وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] [آل عمران: 166، 167] .
ولقد أحسن الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في ذكره لبعض الحِكَم والغايات
المحمودة التي كانت في وقعة أحد، أقتطف منها قوله:
1- فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية، والفشل، والتنازع، وأن الذي
أصابهم إنما هو بشؤم ذلك؛ كما قال (تعالى) : [وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم
بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم
مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ
ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] [آل عمران: 152] .
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم وتنازعهم وفشلهم: كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة
وتحرزاً من أسباب الخذلان.
2- ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب؛ فإن المسلمين لما
أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت: دخل معهم في الإسلام
ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله (عز وجل) أن سبّب لعباده
محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة،
وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر،
ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم؛ قال الله (تعالى) : [مَا
كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ] [ال عمران: 179] .
أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى
يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو (سبحانه)
يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً.
3- ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما
يحبون وما يكرهون، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم
عبيده حقّاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.
4- ومنها: أنه (سبحانه) لو نصرهم دائماً؛ لطغت نفوسهم، وشمخت،
وارتفعت؛ فلو بسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط
لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض
والبسط.
5- ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً
وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار
الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته: قيّض لها من الابتلاء
والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك
البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ولو تركه لغلبته الأدواء
حتى يكون فيها هلاكه.
6- ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، وهو (سبحانه) يحب
أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه
ومحابه على أنفسهم. ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية
إليها من تسليط العدو.
7- ومنها: أن الله (سبحانه) إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم
الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم: بغيهم،
وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم؛
فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم
وهلاكهم. وقد ذكر (سبحانه وتعالى) ذلك في قوله: [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا
وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] [ال عمران: 141] [2] .
مواقف من السلف:
1- الموقف الأول: محنة الإمام أحمد ابن حنبل (رحمه الله تعالى) :
وما أظن أحداً من المسلمين يجهل المحنة التي تعرض لها أبو عبد الله أحمد
بن حنبل (رحمه الله تعالى) ؛ وذلك فيما يعرف بفتنة القول بخلق القرآن، وقد
تعرض هذا الإمام الجليل لمحنة وبلاء عظيم؛ تلك المحنة كانت مؤذية له (رحمه
الله) ، ومؤذية للمسلمين معه، ولكن الله (عز وجل) ثبّته في هذه المحنة العظيمة،
وحمى به عقيدة أهل السنة من الانحراف أو الاندثار، ولقد كانت هذه البليَّة لإمام
السنة خيراً له فيما بعد؛ فما كان لينال هذا الخير لولا هذا الابتلاء وما من الله به
عليه من الثبات والتضحية.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه:
وكذلك لا أظن أحداً من أهل العلم يجهل هذا الرجل العظيم، وما ضحى به
في سبيل الله (عز وجل) بعلمه وجهاده وصبره وما لاقى في ذلك من السجن والإبعاد، ولكن كان في ذلك الابتلاء خير له ورفعة، كما يقول ذلك هو عن نفسه عندما
ورد المرسوم السلطاني بسجنه في قلعة دمشق: (أنا كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه
خير عظيم) [3] .
وقال: (لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة) .
كما كان في الابتلاء الذي تعرض له خير للمسلمين في عصره وما تلاه من
العصور؛ وذلك بانتشار دعوته وعلمه؛ يقول (رحمه الله) : (ومن سنة الله: أنه إذا
أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل
فيدمغه فإذا هو زاهق ... ) [4] .
احتراس وتنبيه:
وفي هذا المبحث أود التنبيه على قضية يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن
الرضا بقدر الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر
إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله (عز وجل) ، والذي قد يؤدي
إلى التواكل، والعجز، والرضا بالفساد، والذلة، والمهانة، وترك الأخذ بالأسباب
والدعوة والجهاد؛ فنكون قد عالجنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر. من أجل ذلك
سأخص هذا المبحث بالحديث عن هذه القضية، وذلك احتراساً من الفهم الخاطئ
الذي قد ينشأ لو لم يحصل هذا التنبيه، فأقول وبالله التوفيق:
إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان: الفهم الصحيح لعقيدة القضاء
والقدر، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله (عز وجل) الحسنى وصفاته العلا،
والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء، وهذا (والحمد لله) هو سمة معتقد أهل
السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة، ومن ذلك: عقيدة القضاء والقدر، وتوحيد
الأسماء والصفات. ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس: فمنهم من
أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان، وتنقص المؤمنين به، ومنهم
من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل، وكلا الموقفين منحرف
ومجانب للصواب؛ فالإيمان بقضاء الله (عز وجل) وبعلمه وتقديره للأمور قبل
وقوعها، ثم مشيئته، وخلقه لها، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره،
وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده.. كل ذلك مما يجب الإيمان
به في باب القضاء والقدر، كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه (سبحانه) وصفاته،
ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة
والهوان وانتشار الفساد، كلا، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في
التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف
المطمئن عند حد الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخرها الله (سبحانه) ،
ومدافعة أقدار الله (عز وجل) بأقداره، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة؛ قال (تعالى) : [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
العَالَمِينَ] [البقرة: 251] فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان:
فالواجب: الصبر والاستسلام لقضاء الله (عز وجل) ، واليقين بأن من وراء ذلك
خيراً ومصلحة ورحمة، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد
من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها؛ قال (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .
ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) فيقول:
(ودفع القدر بالقدر نوعان:
أحدهما: دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ولمّا يقع بأسباب أخرى من القدر
تقابله، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.
الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر
المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر
الإحسان، فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة
والحيلة؛ فإنه عجز، والله (تعالى) يلوم على العجز. فإذا غُلب العبد، وضاقت به
الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي
الغاسل، يقلبه كيف يشاء) [5] .
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه
قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير.
احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني
فعلت كان كذا وكذا.. الحديث) [6] ، ويشرح الإمام النووي الحديث، فيقول:
(والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا
الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه،
وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل
ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله (تعالى) ، وأرغب في الصلاة، والصوم،
والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك.. وقوله-
صلى الله عليه وسلم- (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) معناه:
احرص على طاعة الله (تعالى) ، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله
(تعالى) على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب
الإعانة) [7] .
ويتحدث الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) عن الفرق بين العجز والتوكل،
فيقول:
(والفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته: اعتماداً
على الله، وثقة به، والتجاءً إليه، وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه
بكفايته (سبحانه) ، وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور
بها، واجتهاده في تحصيلها؛ فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين، وكان يلبس
لأَمَتَه ودرعه، بل ظاهر يوم أحد بين درعين، واختفى في الغار ثلاثاً؛ فكان
متوكلاً في السبب لا على السبب.
وأما العجز: فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما: فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل! ولعمر الله إنه لعجز وتفريط، وإما أن يقوم بالسبب ناظراً
إليه، معتمداً عليه، غافلاً عن المسبّب، معرضاً عنه، وإن خطر بباله لم يثبت
معه ذلك الخاطر، ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً، بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع
السبب. فهذا توكله عجز، وعجزه توكل) [8] .
ويقول الدكتور علي العلياني (وفقه الله تعالى) في حديثه عن أهل التصوف
وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله: إن من صفاتهم:
(الرضا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب، فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم،
زعماً منهم أن دفعها ينافي الرضا بالقدر، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون؛ لأن الله أراد ذلك! .. ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها: أن الفرنسيين
إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون معارضة شديدة من الناس؛ فتفاهم الفرنسيون
مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً
رأسه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه
قال لهم: لقد رأيت الخضر وسيدي أبا العباس الشاذلي وهما قابضان بحصان
جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس، يا جماعة هذا أمر الله، فما العمل؟
فقالوا له: إذا كان سيدي أبو العباس راضياً، ونحن نحارب في سبيله، فلا داعي
للحرب! ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة) إلى أن يقول: ( ... إن
عقيدة الصوفية المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر: جعلت نفوسهم راضية مطمئنة
ولو وطئ الكفار على رقابهم؛ فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضا
معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين، وسبي
ذراريهم. وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر! وغير متوكل على الله! فالذي
يسافر في البراري الخالية بغير زاد، هل يتصور منه أن يلبس لأَمَة الحرب ودروع
القتال؟ وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً! ! .. ولكن ما له
ولفرقعة السلاح، ولخرير الدماء؛ وحلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله
منزلة الصديقين على زعمه، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأي
فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا) [9] .
__________
(1) في ظلال القرآن، م3، ص1481.
(2) زاد المعاد، ج3، ص218-222 باختصار.
(3) العقود الدرية، ص329.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج28، ص57.
(5) مدارج السالكين، ج1، ص20.
(6) رواه مسلم: كتاب القدر، ح2664.
(7) شرح صحيح مسلم للنووي، ج16، ص215.
(8) الروح، ص344.
(9) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، باختصار، ص288.(93/42)
دراسات اقتصادية
وقفات متأنية مع
عمليات التمويل في البنوك الإسلامية
(3)
التمويل عن طريق الاستصناع
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقتين الماضيتين ذكر الكاتب أهمية البنوك الإسلامية والدور المفترض
أن تقوم به، ثم ذكر بعض المآخذ على حلولها المطروحة للخروج من دائرة الربا، مبيناً مفهومه اللغوي والشرعي، والفرق بينه وبين المعاملات الشرعية الأخرى. ... وفي هذه الحلقة يطرح الكاتب أحد الحلول البديلة الأخرى عن الربا. ...
- البيان -
يتم استخدام عقد الاستصناع على نطاق طُبّق من قِبَل بعض البنوك الإسلامية
لتمويل الاحتياجات المالية الكبيرة طويلة الأجل، ولكون هذا النوع من عقود البيع
غير شائع الاستعمال كوسيلة للتمويل في البنوك الإسلامية، كما أن مفهوم عقد
الاستصناع قد يستشكل على عدد كبير من الناس لكون الممارسة البنكية لهذا النوع
من العقود يشوبها شائبة الربا، وبالتالي: فإن من الضروري مناقشة هذا العقد من
زوايا عدة، تتمثل في: معرفة طبيعة عقد الاستصناع كما ورد في كتب الفقه،
وكيفية استخدامه من قِبَل من يستخدمه من البنوك الإسلامية، والشبهات التي ترد
على هذا الاستخدام، ومناقشة كيفية استخدامه كوسيلة لتوفير الاحتياجات التمويلية
للأنشطة الاقتصادية الصناعية.
طبيعة الاستصناع:
الأصل اللغوي للفظ الاستصناع كما جاء في لسان العرب: (صنعه، يصنعه، صنعاً، فهو مَصْنوع وصَنيعٌ: عمله، ومن ذلك قوله (تعالى) : [ ... صُنْعَ اللَّهِ
الَذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ... ] [النمل: 88] ..
واستصنع الشيء: دعا إلى صنعه، والصناعة: ما تستصنع من أمر) [1] .
ومن هنا: فإن مفهوم الاستصناع في اللغة هو: طلب عمل الصنعة من
الصانع فيما يصنعه، أما الاستصناع عند الفقهاء فهو يأخذ اتجاهين، هما [2] :
الأول: ويأخذ به معظم الأحناف، حيث يعتبرونه عقداً مستقلاً، وجاء
تعريف الاستصناع:
إما بذكر صورته، فمن ذلك ما قاله الكاساني في (البدائع) : (لو قال إنسان
لصانع من خَفّاف أو حفّار أو غيرهما: اعمل لي خفّاً أو آنية من أديم أو نحاس من
عندك بثمن كذا، أو يبين نوع ما يعمل وقدره وصفته، فيقول الصانع: نعم) .
وإما بتعريف لفظي، فمن ذلك ما ذكره العيني في (رمز الحقائق) :
(الاستصناع هو: أن يطلب من الصانع أن يصنع له شيئاً بثمن معلوم) .
كما عرفه ابن عابدين في حاشيته: بأنه بيع عين موصوفة في الذمة لا بيع
عمل. وبالتالي: فهو عقد، وقد أكد ذلك الكاساني في (البدائع) بقوله: (عقد بيع
في الذمة) . ولقد توصل البدران إلى تعريف للاستصناع بعد استعراضه لمختلف
الأقوال في المذهب الحنفي بقوله: (عقد على مبيع في الذمة يشترط فيه العمل على
وجه مخصوص) [3] .
وعلى ضوء مفهوم عقد الاستصناع في المذهب الحنفي: فإن عقد الاستصناع
يقوم على مستصنِع، وصانع، ومال مصنوع، وثمن، فالمستصنع هو: طالب
الصنعة إذا باشره بنفسه أو بوساطة، وقد يكون فرداً أو مؤسسة. والصانع هو:
من يقوم بتحضير المادة الخام ويقوم بالعمل، ويكون الصانع المتعاقد مسؤولاً عن
كل شيء. والمال المصنوع هو: محل العقد، ويتمثل في تحويل المادة الخام إلى
شيء آخر متفق عليه، يسمى هذا المحول: بالمال المصنوع أو المستصنَع أو
المستصنَع منه. والثمن هو: المال الذي يدفعه المستصنِع نظير المطلوب صنعه،
وهو قيمة المادة الخام مع عمل الصانع.
أما الاتجاه الثاني: وهو الذي يقول به المالكية والشافعية والحنابلة، فهو عدم
الاعتراف بالاستصناع كعقد مستقل مسمى باسمه كما جاء في المذهب الحنفي، بل
أدمجت مسائله في عقد السّلَم أو في البيع بالصفة.
فالمذهب المالكي اعتبره سَلَماً بالصناعات، وقد أوضح ابن رشد في كتابه (المقدمات) أن السّلَم في الصناعات ينقسم أربعة أقسام:
أحدهم: ألا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل
منه، فهذا سلم على حكم السلم، لا يجوز إلا بوصف العمل، وضرب الأجل،
وتقديم رأس المال.
وثانيهم: أن يشترط عمله، ويعين ما يعمل منه، فهذا ليس بسَلَم، وإنما هو
من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع.
ثالثهم: ألا يشترط عمله، ويعين ما يعمل منه؛ فهو من باب البيع والأجرة
في المبيع.
رابعهم: أن يشترط عمله، ولا يعين ما يعمل منه، فهذا لا يجوز؛ لأنه
يحتوي على أصلان متناقضان: لزوم النقد، وامتناعه؛ لاشتراط عمل المستعمل
بعينه.
وعليه: فإن عقد الاستصناع هو نوع من سَلَم، حكمه حكم السلم، لا يجوز
إلا بوصف العمل، وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.
أما الإمام الشافعي، فهو يرى أن السلم بالصناعات ينقسم قسمين:
الأول: ما كان من مادة خام واحدة ما عدا المادة المُزينة فهذا سلف في
الصناعات، ويجوز فيه السلم لإمكانية الضبط، ومعرفة ما وضع، وكميته، أو
وزنه.
والثاني: ما كان من مادتي خام واحدة فأكثر عدا المادة المزينة فهو لا يرى
جوازه؛ لعدم تميز المواد بعضها عن بعض؛ حيث لا يُعلم كم قيض من مواد الخام، فهذا سلم مجهول.
أما المذهب الحنبلي، فهو يرى المنع على أساس أنه بيع ما ليس عنده على
غير وجه السلم، وقد ورد هذا المنع عند الحديث عن البيع بالصفة.
على ضوء ما سبق: فإن حكم عقد الاستصناع لدى الأحناف: الجواز، وهذا
الجواز مبني على مفهوم الاستحسان، الذي يُعرف بالقياس الخفي، ودليله الذي
أوردوه: ما جاء عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله: (ما رأى
المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء) [4] . وقد
ورد الإجماع العملي على قبول الاستصناع؛ حيث تعامل الناس بالاستصناع
وتعارفوا على عدم تحريمه، كما وردت أحاديث دلت على مشروعية الاستصناع،
فمن ذلك: ما ورد في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير [ج3، ص56] : أن:
(النبي اصطنع خاتماً من ذهب ... ) [5] وقال ابن الأثير: (أي: أمر أن يُصنع له، كما تقول: اكتتب، أي: أمر أن يُكتب له، والطاء بدل تاء الافتعال لأجل
الصاد) .
أما بالنسبة للمالكية: فقد شبهوا مسائل الاستصناع بمسائل السلم، وأعطوه
حكم السلم، أما الشافعية: فقد أجازوه إذا ضُبطت صفات المستصنع من جميع
الوجوه، أما الحنابلة: فقد منعوه، ولكنهم أجازوا السلم بالصناعات.
والنتيجة: أن السلم في الصناعات جائز عند المذاهب الثلاثة (المالكية
والشافعية والحنابلة) ، وأدلتهم في ذلك هي أدلة إجازة بيع السلم، وعليه: فلابد من
توافر شروط بيع السلم في (السلم في الصناعات) ، والشروط المتفق عليها في بيع
السلم عند الفقهاء هي:
1- أن يكون السلم والمسلّم فيه مما يجوز فيه النسأ.
2- أن يكون المسلّم فيه موجوداً عند حلول الأجل، أي: أن يكون عام
الوجود في محله.
3- أن يكون الثمن غير مؤجل أجلاً بعيداً.
4- أن يكون المسلم فيه مقدراً بالكيل أو بالوزن أو بالعدد.
أما التكييف الفقهي لعقد الاستصناع لمن يراه عقداً مستقلاً، وأنه عقد بيع،
لكنه عقد بيع فقَدَ بعض مستلزمات البيع وأخذ شبهاً بالإجارة: فهو بيع المطلوب
صنعه عند رؤيته بعد إتمام صنعه. كما كيّفه بعضهم بأنه: عقد إجارة محضة ابتداءً، وبيع انتهاءً، وقد رجح البدران في كتابه عقد الاستصناع [6] : بأنه نوع بيع،
إلا أنه فقد مستلزمات البيع المطلق، التي كان من الواجب أن توجد إن اعتبرت
بيعاً مطلقاً، وهذه المستلزمات هي: إثبات خيار الرؤية، واشتراط العمل على
الصانع، وعدم وجوب تعجيل الثمن، وبالتالي: فقد توصل إلى أن الاستصناع عقد
مستقل بمسماه، فهو عقد بيع اسمه: عقد الاستصناع، كما أن السلم عقد بيع اسمه: عقد السّلم.
أسلوب بيع الاستصناع كما تجريه بعض
البنوك الإسلامية:
إن عقد الاستصناع قليل الاستخدام من قبل البنوك الإسلامية، وفي حالات
نادرة، وعند استخدامه، فلا يستخدم وفق ما هو معروف في الفقه الإسلامي، وإنما
يُطلق الاستصناع على عملية التمويل طويلة الأجل، من أجل تمويل أصول
رأسمالية ثابتة، كمشاريع المباني، أو متحركة لتمويل شراء الطائرات أو السفن..
أما كيفية استخدام عقد الاستصناع في التمويل من حيث صورة العقد وتكييفها
الشرعي من قبل الرقابة الشرعية: فلم أتمكن من الاطلاع على ذلك؛ حيث لم يتم
نشر صفتها، وما أمكنني الاطلاع عليه هو ما نشر في بعض وسائل الإعلام عن
صفقات تمت بين بعض الخطوط الجوية في منطقة الخليج العربي بتمويل شراء
طائرات، أُطلق على عملية تمويلها عقد الاستصناع، أو ما نشر عن قيام بعض
البنوك الإسلامية بتمويل إنشاء مبانٍ مدرسية حكومية، تتولى هذه البنوك الصرف
على ما ينجز من قِبَل المقاولين لصالح الجهات الحكومية.
وعلى ضوء هذا: فإن الأسلوب التمويلي يتم من خلال قيام الجهة الطالبة
لتمويل شراء أصل رأسمالي ثابت، أو تكوين أصل رأسمالي ثابت، بالاتصال
بالبنك الإسلامي الذي يتولى الدفع للصانع الذي يقوم بتصنيع الأصل الرأسمالي
الثابت، أو للمقاول الذي يتولى البناء للأصل الرأسمالي الثابت، ويكون هناك اتفاق
بين البنك والجهة المحتاجة لتمويل هذا الأصل، حيث يتولى البنك تمويل ذلك
بالدفع للصانع أو المقاول، على أن يتم سداد ما دفعه البنك مع الربح المتفق عليه
على أقساط.
بتحليل هذا الأسلوب من التمويل والذي يُطلق عليه (بيع الاستصناع) نجده
يتصف بالآتي:
1- أن هدف البنك من استخدام بيع الاستصناع، إنما هو استخدامه كوسيلة
لإقراض الجهات المحتاجة إلى تمويل شراء أصول رأسمالية، فالبنك ليس صانعاً
ومنتجاً ولا مقاولاً يتولى البناء، وإنما هو ممول يمتلك النقود، فاستخدام هذا العقد
ما هو إلا محاولة للخروج من المحظور الشرعي.
2- طالب التمويل لم يتقدم للبنك الإسلامي بقصد تكليفه بصنع هذه السلعة
التي يرغب في شرائها، وإنما قصده أن يتولى توفير السيولة اللازمة لسداد قيمة ما
يرغب في شرائه من الصانع ومن يقوم بتنفيذ البناء، والعقد الذي يتم بين الصانع
والبنك ما هو إلا جريرة لاستحلال الربا الذي سوف يناله من المستصنع (المشتري
للسلعة الرأسمالية) والذي يُطلق البنك عليه العائد الربحي، والذي لا يخالف في
الحقيقة ما يمكن أن يعادل الفائدة، التي يتم تحصيلها من القروض الربوية التي
تجريها البنوك الربوية؛ فالعبرة بالمقاصد لا بالألفاظ.
إن الشبهات التي يمكن إثارتها حول استخدام عقد الاستصناع كوسيلة للتمويل
طويل الأجل يمكن تحديدها في الأمور التالية:
أولاً: أنها معاملة قُصد منها التحايل على أخذ الربا، وقد جاء الشرع بإبطال
الحيل، والتنديد بأصحابها من اليهود ومن حذا حذوهم، وتتمثل هذه الحيلة في أنه
تحيّل في بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل، بينهما عقد صوري أُطلق عليه: (عقد
الاستصناع) ؛ لأن البنك لا يقوم بالتصنيع ولا يملك الوسائل لذلك، وإنما يقوم
بالاتفاق بعد موافقة المشتري وطلبه، واتفاقه مع الصانع بأن يكون عقد الاستصناع
معه على أن يقوم ببيع ما تم استصناعه لصالح المشتري (المقترض) بعد إضافة
هامش الربا الذي يسمى الربح، وإطلاق مسمى عقد الاستصناع على هذا الأسلوب
إنما هو لتحليل أخذ الفائدة على المال المقتَرض لشراء الأصل الرأسمالي.
والحقيقة الفعلية لواقع التعامل توضح: أن الأمر يقوم على أساس نية التمويل، وليس نية التصنيع أو البناء، والأحكام الشرعية تُعطي للنية دوراً مهمّاً في تأكيد
سلامة القول والفعل، من حيث مناط الحِلّ والحرمة، وفي الحديث (استفت قلبك
وإن أفتاك الناس) [7] ، فالبنك لا يتولى عملية التصنيع وليس من أعماله ذلك،
وإنما يُتاجر في النقود، وبالتالي: لابد أن يكون منطلق الاتجار بالنقود قائِماً على
سلامة القصد، بالبعد عن مواطن الشبهات.
ثانياً: طبيعة عقد الاستصناع كعقد جديد كما في المذهب الحنفي أو كبيع سلم
في الصناعات كما في بقية المذاهب الثلاثة، تتمثل طبيعة العلاقة بين طرفين:
المستصنع له، والصانع. أما طبيعة عقد الاستصناع الذي يراد تطبيقه كما يُعلن
عنه ممن يستخدمه من البنوك الإسلامية، فهو ثلاثي الأطراف: صانع، ومستصنع
له، وبنك وسيط، فالبنك لا يمارس عملية التصنيع ولا عملية المقاولات، فهو
وسيط بين الصانع أو المقاول والمستصنع له (المشتري) ، ووجود البنك في العملية
إنما قصد منه: توفير ثمن الصناعة للصانع نقداً عند إنجاز عملية التصنيع، أو
خلال عملية التصنيع، وثمن المقاولة في حالة البناء، وقيام المستصنع له
(المشتري) بدفع قيمة ما دفعه البنك مع ما أُضيف إليه من ربح (فائدة ربوية) خلال
فترة لاحقة، بعد استلام السلعة الرأسمالية المصنعة من الصانع، أو المنفذة من
المقاول، على أن يتم الدفع على أقساط مع ربحها (فائدتها) الذي يضاف على قيمة
ما يُدفع للصانع لهذه السلعة أو المقاول، يزاد زيادة تتناسب مع فترة السداد.
عقد الاستصناع والتمويل النقدي:
يمكن الاستفادة من عقد الاستصناع وفق الصيغة التي أوضحها الفقه الحنفي
في تمويل احتياجات قطاع الصناعة من السيولة النقدية ضمن إطار القواعد الشرعية، والذي يمكن طرحه بشكل مختصر على النحو التالي [8] :
1- يمكن استخدام صيغة عقد الاستصناع لتمويل حاجة المصانع للسيولة
النقدية التشغيلية وفق الضوابط التالية:
أ) أن يكون المعقود عليه (السلعة المصنعة) معلوماً ببيان الجنس، والنوع،
والقدر، وفق المواصفات المطلوبة والمتفق عليها بين الصانع والمستصنع، والتي
يقوم الصانع بإنتاجها وتسويقها.
ب) أن يكون الاستصناع مما يجري التعامل به، ولا يتنافى مع الشريعة من
حيث الحل والحرمة.
ج) أن تكون المواد الداخلة في التصنيع والعمل من الصانع.
2- يقوم البنك بشراء السلع المصنعة التي ينتجها الصانع، على أن يتم
تسليمها لاحقاً، ويتم دفع قيمتها مقدماً، ويحدد سعرها ومواصفاتها.
3- الغاية من استخدام هذا العقد توفير السيولة النقدية للصانع بدون تقاضي
فوائد ربوية، على أن يتم تحديد سعر الشراء الذي يقبله البنك على أساس احتساب
تكاليف التصنيع بدون ربح للمصنع، وهو بيع يُعرف في الفقه الإسلامي ببيع
التولية، أي: إن البنك لا يدفع للمصنع إلا التكاليف فقط، حتى يتمكن البنك من
تحقيق ربح عند قيامه بالبيع، بحيث لا يحصل منافسة من الصانع؛ لأنه لن يبيع
بسعر التكلفة، أو أن يتفق البنك مع الصانع بشراء وحدات معينة بسعر أقل من
سعر التكلفة وفق ما يعرف في الشريعة ببيع المواصفة.
إن هذا الأسلوب المقترح لعقد الاستصناع سوف يؤدي إلى أن يقوم البنك
الإسلامي بدور فاعل في توفير السيولة النقدية للصانع، وفي الوقت نفسه: سوف
يحقق للبنك من خلال بيع مشترياته من المنتجات الصناعية ربحاً مجزياً، كما
سيؤدي إلى تفعيل النشاط الاقتصادي من خلال إيجاد شركات تسويقية لبيع
وتصريف المنتجات الصناعية التي امتلكها البنك من خلال عقود الاستصناع، كما
سيفتح المجال للبنك بأن يتولى توفير المواد الأولية لبعض المصانع التي سوف يقوم
ببيع ما قام بشرائه من مصانع على اعتبار أنها منتج نهائي لها، ومواد أولية لهذه
المصانع، فالبنك الإسلامي باستخدامه عقد الاستصناع سوف يلعب دوراً مهمّاً في
تفعيل الاقتصاد الصناعي، وتوجيه المدخرات لدى الأفراد لتمويل هذا القطاع من
خلال صندوق المشاركة بتمويل القطاع الصناعي، والذي يتولى إدارته نيابة عن
المودعين لديه، كما أن ذلك سوف يقلل من تكلفة المنتج النهائي للسلع الاستهلاكية
من خلال عدم إضافة تكاليف الفوائد الربوية على تكاليف الإنتاج، كما هو واقع من
خلال التمويل الربوي الذي تمارسه البنوك الإسلامية.
__________
(1) لسان العرب، مادة: صنع.
(2) انظر: عقد الاستصناع في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة، كاسب عبد الكريم البدران، ص54.
(3) المرجع السابق، ص59.
(4) صححه أحمد شاكر موقوفاً، انظر: المسند، رقم (3600) ، وقال الألباني: (لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود) ، الضعيفة، رقم (533) البيان.
(5) أخرجه البخاري: ح/5876، الفتح ج10، ص338.
(6) انظر: عقد الاستصناع، ص133.
(7) أخرجه: أحمد، ج4، ص228، وأبو يعلى: ج3، ص161 وحسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم (948) البيان.
(8) لمزيد من الاطلاع على كيفية استخدام عقد الاستصناع لتمويل قطاع الصناعة، يرجع إلى كتابنا: (بنوك تجارية بدون ربا) ، ص221-232.(93/50)
نص شعري
أنّةُ شوق..
شعرمحمد إدريس
رُبّمَا الصمتُ مُناجاةُ غريبٍ وحبيبٍ لحبيبْ
أخْرَسَالبَيْنُ [1] صداها، فتوارتْفي الفُؤَادْ
رُبّمَا الشوقُ جِرَاحاتٌ تَنَزّى في الحنايا
أوْهتِ الروحَ، فراحتْ تَتَلظّى في البِقادْ
لا تَلُمْني يا خليّ البَالِ تَلْهُو سَادِراً
إن بَدَت مني دموعٌ، وشُرودٌ في ازْدِيادْ
يَا حَمَاكَ اللهُ من وَطْءِ النوَى يا هانئا
أنت لم تُكوَ بظُلْمٍ واغترابٍ واضطهادْ
كلما الدّيْجورُ [2] أرخى ذَيْلَه عَبْر َالمدَى
وَدَرَارِيه [3] تهاوتْ نالها طول السّهادْ
لم أجدْ في غُرْبَتِي من غير ربّى مُؤنساً
فاتخذتُ لذّكر َخِلاّ وسَمِيراً في العِبَادْ
رُبّ آيٍ مِن كَلامِ اللهِ تَسْرِي بَلْسماً
في ثَنَايَا خَلَجاتٍ هَدّهَا الياًسُ صَوَادٍْ
بَعَثَت فيها انْعِتاقاً ورَبِيا أمَلاً
كالْحيَا بالخَيْرِ يُهْمي [4] مُتْرِعا غُبْرَالوِهَاد [5]
فانْتَشَتْ مِن بَعْدِ هَمّ وقنوطٍ هَزّهَا
وانْثَنَتْ تَهْزَأُ بالضُرّ وَجَذْلَى [6] ، في اعْتِدَادْ
__________
(1) البَيْن: الفرقة.
(2) الدّيْجور: الظلمة، يقال: ليلٌ ديجور، وليلة ديجور.
(3) الدَراري: جمع (دُرِيّ) ، وهو الكوكب المتلألئ الضوء.
(4) هَمِيَ الدمع والماء ونحوهما: سال.
(5) الوهاد: جمع (وَهْدَة) ، وهي الأرض المنخفضة.
(6) جَذَلَ الشيء يجذُل جُذُولاً: انتصب وثبت.(93/58)
المسلمون والعالم
أخيراً..
تدخلت أمريكا لإنقاذ البوسنة! !
بقلم: د. عبد الله عمر سلطان
بالإمكان اعتبار صيف هذا العام أكثر المراحل خطورة وأصعبها بالنسبة
لمستقبل البوسنة، فتتابع الأحداث، وتوالي الفواجع، وتفجر المفاجآت شرقاً وغرباً
أدى إلى بروز وقائع ومعطيات جديدة، كل منها بحاجة إلى دراسة وافية ومنفصلة،
وإن كانت الأحداث ساخنة بهذه الدرجة: فإن درجة الحرارة لا يمكن أن تخفي معالم
الخريطة النهائية التي يحملها فريق المفاوضات الأمريكي المتجول بين مراكز القرار
وأطراف الصراع..
هذه الخرائط التي وصفها دبلوماسي أمريكي كبير لمجلة (الإيكونمست) بأنها
كارثة أخرى تحيق بالمسلمين في البوسنة، تعتبر المحصلة الطبيعية لمجازر
(سربنيتسا) و (جيبا) والتفوق الكرواتي المدعوم في (كاريينا) ..، وإن كان الفريق
الأمريكي قد فقد أبرز عناصره في حادث سيارة (روبرت فريزر) فإن أمريكا
وخطتها الجديدة وتحركها مع كرواتيا قد أكد حقائق مهمة يجب أن تلغي بعض
الأوهام والنتائج المشوشة التي ظلت تردد عن الصراع في البوسنة..
العم سام قرر أن يتدخل! :
ظل المسلمون يُذبحون أربعين شهراً، وشهد العالم بالصوت والصورة طرقاً
جديدة في البربرية والوحشية والطغيان، وظلت أمريكا تنفرد عن العالم الغربي
بموقف دعائي وإعلامي (يدّعي!) التعاطف مع الضحية المسلمة، ولم يكن أمام
صانعي القرار من بُدّ، فالرأي العام الذي شهد الجريمة بكافة تفاصيلها ظل يبحث
عن مبادئ الحرية والعدالة اللتين ظلتا مخدراً ومبرراً أمريكيّاً تلاحق به الشعوب
والأنظمة التي تمس مصالح (سيدة النظام العالمي الجديد!) ، ولم يكن موقف
(بوش) يختلف عن موقف (كلينتون) ... ولم يترجم الكونجرس تعاطفه الخطابي إلى
قرار ملزم برفع العدوان عن الضحية، والسماح له باستخدام السلاح لحماية دينه
وعرضه وماله.
الدور الأمريكي الحقيقي هو الذي أُنضج على أجساد العزل (المسحولين) في
(جيبا) والذي رأى النور بعد اكتشاف مقابر ملعب كرة القدم الجماعية لشهداء
(سربنيتسا) ، لقد أظهرت الأحداث أن أمريكا قادرة على الحركة، وبقوة رهيبة؛
فحليفها الجديد الجنرال الشيوعي السابق (توجمان) الذي يحكم (كرواتيا) هو الذي
حرك الأحداث غرباً بعد أن فجرها (سلوبودان ميلوسوفتش) شرقاً ...
الصحافة الألمانية تتحدث بشيء من الحذر عن المساعدات الهائلة التي مكنت
الكروات من الاستيلاء على جيب (كرايينا) خلال أقل من أربعة أيام، في حرب
خاطفة ذكّرت مراسل الـ (سي إن إن) بعاصفة الصحراء؛ فالطريقة التي أُديرت
بها المعركة أعادت إلى الأذهان التفكير الاستراتيجي الأمريكي، والتنفيذ الذي أعاد
إلى الأذهان صورة (شوارتزكوف) .
من جهتها: سربت الصحافة الفرنسية تفاصيل التنسيق (الأمريكي الكرواتي)
الذي ربما لن يُكشف عنه إلا بعد عقود، نظراً لحساسية الدور الأمريكي في التحرك
العسكري الكرواتي، والذي يشمل من ضمن ما يشمل (تزويد الكروات بأسلحة
متقدمة ومستشارين عسكريين، وبأهم من ذلك: معلومات وصور دقيقة لمراكز
الوجود العسكري الصربي) ... وإذا أضفنا التحرك الدبلوماسي الذي حيّد الصرب
وأعطى الجزار من طراز (ميلوسوفتش) أو (كراديتش) ضبط النفس وتلقي هزيمة
من هذا الطراز بكل روح رياضية، فإن (الإنزيم) الأمريكي الذي أضيف إلى
التفاعل يصبح مفضوحاً جدّاً..، أو كما تقول (الإيكونمست) البريطانية: (تحول
بسرعة فاضحة من الدبابة إلى حقائب الدبلوماسيين) .. وما أدراك ما في حقائب
مبعوثي (كلينتون) ؟ ! .
الخطة الأمريكية: وأد البوسنة إلى الأبد:
مايثير الفزع هو هذا اللهاث وراء طبيعة وعطف وحيادية أمريكا تجاه مسلمي
البوسنة، لقد ظلت تلك الأوهام تدير رؤوس العجزة وقتاً طويلاً وكلما تمادى
الممقوت (اللورد أوين) في مؤامراته أو كشف (بطرس غالي) عن لؤمه وخسته،
تلفّتَ الأيتام إلى مائدة الأمريكان اللئام باحثين عن المنقذ، وطالبين النجدة في صيحة
هستيرية تقول: (واأمريكاه! !) .. وجاءت أمريكا بجحافلها الدبلوماسية لتقدم خطة
(سلام) جديدة هي الأسوأ في تاريخ البوسنة، فإن كانت حكومة البوسنة قد وافقت
في السابق على خطة مجموعة الاتصال الدولية التي تقسم البوسنة إلى كيانين:
أحدهما صربي، والآخر كرواتي مسلم، مع الاحتفاظ بالبوسنة الشرقية، والتناوب
على رئاسة الدولة بين الأعراق الثلاثة، ورغم ما كتب عن بشاعة الخطة بحق
الضحية المسلم، وفرض الذل على المسلمين الذين سينتهي وجودهم ضمن كيان
مستقل، إلا أن هذه التحفظات تتلاشى اليوم أمام الخطة الأمريكية التي وصفتها
(النيويورك تايمز) بأنها: (قبر مفصل جيداً) .
والخطة الأمريكية الجديدة تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسة:
* إنهاء البوسنة ككيان مستقل من خلال إعطاء كانتونات الصرب والكروات
حق الالتحاق بالكيانين الصليبيين المجاورين.
* إنهاء حلم قيام وحدة إسلامية في البلقان من خلال تسليم (سربنيتسا)
و (جيبا) إلى الصرب، وانتزاع (غوراجدا) الممر الإسلامي الوحيد بين البوسنة
والبوشناق.
* إعادة تأهيل نظامي (صربيا) و (كرواتيا) المجرمين من جديد،
وتصويرهما كقوى معتدلة رغم حجم الجرائم التي ارتكبت من قِبَل قادة الكيانين ضد
المسلمين.
لقد تأكد خبث الخطة الأمريكية من خلال الضغط الهائل الذي مارسته إدارة
كلنتون على حليفها (توجمان) بُعَيْد استعادته لإقليم (كرايينا) ، حيث منعته من
مواصلة الحرب ضد الصرب في البوسنة؛ لأن هذا بشهادة الجميع يعيد بعض
الأراضي المغتصبة إلى المسلمين، وهذا ماتعارضه (واشنطن) وتسعى إلى منعه،
فالمطلوب: دولة تسمى (البوسنة) ، ولاتملك من أمرها شيئاً، بل هي مرتبطة ب
(كرواتيا) ، تماماً كارتباط دويلة لبنان الجنوبي بإسرائيل، حيث يصبح رئيس
البوسنة في منزلة (سعد حداد) أو (أنطوان لحد) ! !
كرواتيا تأكل الثمرة والبوسنة تبتلع الشوك! :
هذا الحليف الكرواتي الذي مزق كل المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينه وبين
المسلمين يعود اليوم (كأخ وصديق) للبوسنة؛ فقد استعاد معظم الأراضي التي سلبت
منه، وترك 150 ألف صربي يرحلون إلى البوسنة، لكي يهربوا بسلاحهم وحقدهم
وبربريتهم ويساهموا في تغيير وجه الخريطة السكانية التي وُضعت الخطة
الأمريكية على أساسها، فقد (حسبت الخطة الأمريكية التي أُعدت منذ شهور عدد
اللاجئين الصرب قبل إجلائهم، مما يدل على (براءة) العم سام) .
الكروات سبق أن هاجموا المسلمين، وذبحوهم من الوريد إلى الوريد..
و (موستار) تشهد على بربريتهم وحقدهم، أما ما ظهر أخيراً من خطط معدة بين
الصرب والكروات لاقتسام البوسنة، فقد أصبح (واقعاً) أكثر من مجرد أحلام، إنها
ألغام تفاجئنا كل صباح وتؤكد لنا الإجرام النصراني المكشوف دون مرعاة لأدنى
المشاعر.
لقد حرصت الصحافة البريطانية على نقل الصورة التي بدأت (كرواتيا) في
ممارستها منذ اليوم الأول لانتصارها في (البوسنة) ، فبدأت في ابتزاز الحكومة سرّاً
للقبول بالخطة الأمريكية، وأخذت وحداتها العسكرية في إعطاء الأوامر للجيش
البوسني بأسلوب التابع والمتبوع.
أما سياسيّاً: فقد كشف مصير المنشق الخائن (فكرت عبديتش) عن أن
(كرواتيا) تسعى لدعم المنشقين والعابثين بمصير المسلمين، حتى لو كان محارباً لها
بالأمس، ورفضت (كرواتيا) المدعومة أمريكيّاً طلباً للحكومة البوسنية تسليم المجرم
الخائن (عبديتش) ، بل وأعطته جنسيتها، ووفرت له حماية وملجأً ووظيفة جديدة،
ربما كانت قيادة الجيب البوسني الذي ترسم تفاصيله اليوم.. ويتآمر العالم لإخراجه
لنا في الغد..!
هل من المصادفة أن تمر على العالم الذكرى الخمسين لإسقاط قنبلة هيروشيما، في الوقت الذي كان الغرب يمارس فيه بربريته ووحشيته مرة أخرى على أجساد
الضحايا وما سيؤول إليه مصير الأبرياء.. في بقعة أخرى تسمى البوسنة؟
إن أحرقت قنابل أمريكا الأطفال وشوهتهم لإثبات جبروتها في اليابان، فإن
صيحات الضحايا في البوسنة تتحدث عن وحشية حضارة الغاب، التي ورثت من
الوثنية الرومانية: عبادتها للقوة، وتقديسها للسحق، وإنتشاءها بالخراب هنا.. أو
هناك!(93/60)
المسلمون والعالم
مسلمو بورما
بين اضطهاد النظام البوذي وصمت هيئة الأمم
بقلم: د. محمد يونس [*]
ما يزال النظام الحاكم في بورما بممارساته الوحشية ضد مسلمي بورما
(الروهنجا) بخاصة، والشعب البورمي بعامة: يقدم أسوأ سجل (لحقوق الإنسان) ؛
إذ بسحق انتفاضة عام 1988م المؤيدة للديمقراطية والمعارضة لسياساته لم يبق
هناك أدنى شك في مدى الظلم الذي بلغه ذلك النظام، وفاق فيه كل نظام حكم بلا
رحمة ضد شعبه.
وعلى الرغم من المظاهر والصيحات المنتشرة والإدانة التي لم يسبق لها مثيل، إلا أن (قانون الدولة) و (مجلس الحفاظ على النظام) مستمر في همجيته بإصرار،
وقد خَفّت نداءات الغرب لفرض حظر السلاح والعقوبات الاقتصادية على النظام في
لمح البصر.
ويبدو أن النظام الحاكم خارج قائمة الأنظمة الحاكمة المنبوذة دوليّاً وغير
خاضع لأي ضغط فِعْليّ من أي جهة، وعلى العكس: فإن جيران بورما وبخاصة
الدول الآسيوية أعطوه الشرعية بدعوة المجلس الحاكم إلى مؤتمراتهم الإقليمية،
والتعاون معه بشتى الأشكال، على الرغم من المخالفات القانونية والإنسانية التي
يقوم بها ضد شعبه على رؤوس الأشهاد.
ومع ذلك: تصر تلك الدول وتجادل بأن (المشاركة البناءة) ! مع النظام الحاكم
في بورما هي الطريق الحقيقي الأوحد لإنهاء معاناة الشعب البورمي، وأيضاً: فإن
الأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة تبدو كذلك تصدق هذه النظرية، وبالتالي: فهي
تقدم مختلف أنواع الدعم للنظام الحاكم الذي ليس فقط يساعد في إطالة أمد حكمه
الرديء، بل أيضاً يزيد من تعاسة وشقاء الشعب البورمي المغلوب على أمره، لا
سيما المسلمين منهم الذين يعانون سوء العذاب.
وبعد فترة حكم استمرت سبع سنوات تقريباً، هل رأى المجتمع الدولي أي
تحسن في سجلات حقوق الإنسان لذلك النظام الحاكم؟ ! هذا ما لم يحدث، بل قد
أشارت التقارير التي نشرت مؤخراً (بواسطة منظمة العفو الدولية، ولجنة اللاجئين
الأمريكية، وجماعات مراقبة حقوق الإنسان الأخرى ذائعة الصيت) بوضوح: إلى
أن سجلات حقوق الإنسان في بورما تظل من بين النظم الأسوأ عالميّاً، حتى أن
مسؤولي الأمم المتحدة قد أقروا بذلك في مقابلة أذيعت مؤخراً في إذاعة (بي بي
سي) ، وعلى الرغم من الشواهد الفاضحة للمظالم الجماعية لحقوق الإنسان ونكران
الشرعية لإجمالي الشعب البورمي، فإن جيران بورما مستمرين في تجاهل معاناة
هذا الشعب المضطهد، والأمم المتحدة تلعب دور المتفرج.
هل في اعتقاد هذه الدول بأن بورما باعتبارها بلداً آسيويّاً بثقافة آسيوية ليس
باستطاعتها تلبية مستويات حقوق الإنسان طبقاً للنظرية الغربية، وبالتالي: غير
خاضعة لنقدهم؟ فإذا كان الأمر كذلك، فإن سجل حقوق الإنسان لبورما يجب ألا
يتخلف عن بقية الدول الآسيوية الأخرى مثل ماليزيا وتايلند وإندونيسيا وبنجلاديش
وباكستان إلخ ... التي تتعرض لنقد الغرب، ومع ذلك: فإن هناك هوة شاسعة من
الاختلاف بين احترام قيم الإنسان وحقوق الإنسان من قبل النظام الحاكم في بورما
وتلك الدول في آسيا، وفي الحقيقة: إن النظام الحاكم في بورما الذي يحاول دائماً
خداع المجتمع الدولي بالاختباء تحت عباءة النظرية الآسيوية لحقوق الإنسان، قد
استطاع أن يفلت من النقد الدولي، ولعل ذلك راجع إلى أن الفاقدين حقوقهم مع
الأسف هم المسلمون وليس غيرهم، فإلى الله المشتكى.
وهناك حقيقة أخرى مهمة: أن حقوق الإنسان منتهكة بصفة عامة ضد شعب
بورما، إلا أن (الروهنجا) في (أراكان) وغيرها من بقاع بورما الأخرى هم الأسوأ
معاناة، وما يحدث الآن في (أراكان) ليس فحسب نتيجةً للسياسة العامة للنظام
الحاكم للبقاء في الحكم؛ فإن للنظام الحاكم وأسلافهم برنامجاً خفيّاً لأراكان، حيث
إنهم يرغبون في تحويل (أراكان) إلى دولة بوذية محضة.
ومتابعة لما ذكرته: فإن النظام الحاكم يقوم بحملة إبادة شعبية نظامية ضد
(مسلمي الروهنجا) ، ولهذا السبب حدثت أربع هجرات جماعية واسعة النطاق
للاجئين من (أراكان) منذ حصول بورما على استقلالها
(في عام 1948م، 1958م، 1978م، 1991م) لملايين من (الروهنجا) ، ومازال نزوح الشعب مستمرّاً حتى يومنا هذا.
ومن ناحية ثانية: فإن سحق ومعاناة حقوق الإنسان المسلم قد تحولت تحولاً
دراماتيكيّاً بعد استيلاء النظام العسكري على الحكم عام 1962م، وبلغ الذروة منذ
مباشرة (قانون الدولة) و (مجلس الحفاظ على النظام) للحكم عام 1988م، والآن:
فإن نصف تعداد السكان من (الروهنجا) تقريباً يعيشون خارج (أراكان) منتشرين في
بنجلاديش، وبعض بلدان الشرق الأوسط في الغرب، وتايلاند، وماليزيا.. إلخ.
إن الجرائم التي تُرتكب ضد (الروهنجا) مختلفة اختلافاً كبيراً عن انتهاكات
حقوق الإنسان العامة في الأماكن الأخرى من بورما، وبصورة أكثر وضوحاً: فإن
(الروهنجا) يحبسون في أماكن مخصصة كأنهم في سجن كبير، ويحظر عليهم
التحرك والتنقل حتى من قرية إلى أخرى، فضلاً عن السماح بالانتقال إلى أجزاء
أخرى من البلاد مثل بقية الشعب البورمي، وإن إجراءات مصادرة الأراضي،
والضرائب على المنتجات الزراعية، وإنشاء مستوطنات بوذية على الأراضي
المصادرة، ترتكب ضد (الروهنجا) فقط؛ فالآلاف منهم يقتلعون من جذورهم
ويساقون إلى جهات غير معروفة.
إن الإخلاء العرقي هو السياسة الراسخة للنظام الحاكم الموجهة ضد
(الروهنجا) في (أراكان) ، بالإضافة إلى ارتكاب أغرب جرائم القتل والتعذيب
والاغتصاب تحت إمرة ونظر السياسة الرسمية للنظام الحاكم؛ لإرهاب وتخويف
(الروهنجا) وطردهم.
قُتل المئات من شباب الروهنجا أبشع القتل من عام 1994م وأوائل 1995م
وحده، بدون أي تحقيقات أو محاكم نظامية، حتى إن العمل القسري يعتبر من
السياسة الرسمية للمجلس الحاكم في أنحاء بورما، وهو من الظواهر المعتادة في
منطقة (الروهنجا) .
إن ضغط العمل القسري على الجالية المسلمة قاسٍ إلى حد بعيد، بحيث
يتركون في معيشتهم القاسية في حد الكفاف أو نصف جوعى، وفي وضع مهين،
وظروف غير إنسانية، من يوم لآخر.
إن الحياة لديهم في (أراكان) باختصار كمن يعيش في قِدْرٍ ينصهر؛ فإن
الإجابة على مشكلتهم هو التحرك إلى العمق، ومنذ العام السابق: استطاعت
(منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان) وفيما بعد: بعض من الهيئات غير الحكومية
(NGO) الدخول إلى (أراكان) (لمراقبة) وضع اللاجئين العائدين من معسكرات
بنجلاديش، ومع ذلك: فإن الوحشية ضد (الروهنجا) مازالت مستمرة أمام أعين
مبعوثي الأمم المتحدة.
***
* صور انتهاكات حقوق الإنسان في بورما:
كتب الأستاذ / محمد علي [**] :
إن طبيعة انتهاك حقوق الإنسان ضد (مسلمي الروهنجا) الأقلية لا يوجد له
مثيل في العالم، وباعتبار السلطة في بورما تعتنق ديانة أخرى مختلفة عن ديانة
(الروهنجا) وبدافع سياسي محسوب جيداً: فإنهم يعرضون (الروهنجا) لصنوف من
التعذيب غير الإنساني، دعنا نلخص انتهاكات حقوق الإنسان بواسطة النظام
البورمي من كافة النواحي:
1- حق الحياة: ليس هناك أمان لحياة (الروهنجا) المسلمين في (أراكان) ؛
حيث يقتل المواطن من (الروهنجا) في أي وقت، وبشكل اعتباطي، إما بواسطة
العسكريين البورميين، أو المليشيات، أو عملاء آخرين منفذين للقانون دون
محاكمته، يقتل المئات من المسلمين كل عام دون اللجوء للقانون.
2- حقوق الملكية: الأراضي، وسدود الروبيان، والماشية، والمنشآت
التجارية المملوكة للمسلمين صودرت بصورة غير قانونية، وتم اقتلاع جذور
مستوطنات المسلمين، وإنشاء قرى جديدة للبوذيين من قِبَل النظام الحاكم.
3- حقوق حماية الشرف: ليس هناك أمن لحماية شرف المسلمين في
(أراكان) ، ولا يهم مدى مكانة ووضع المسلم وتأثير تعليمه وشخصيته وتديّنه؛..
إلخ، فإن شرفه وكرامته تحت رحمة السلطات البورمية، حيث يُضرب الأفراد
بأساليب وحشية، وينقلون في جماعات إلى مواقع عمل السُخرة، وتحرق لحى
علماء الدين وتنتهك أعراضهم.
4- حقوق الخصوصية: في أي وقت سواء في وضح النهار، أو في ساعات
الليل تُداهم القوات البورمية مساكن المسلمين بنوايا سيئة، من سرقة، وعدم مراعاة
لشرف وحرمات النساء، واقتياد أصحاب المنزل للاستجواب.
5- حقوق حماية الحريات الشخصية: يتعرض الآلاف من (الروهنجا)
للاعتقال الاعتباطي كل عام بدون إبداء أي سبب أو تهم رسمية، وهناك أشخاص
تم اعتقالهم منذ عشرات السنوات مضت دون محاكمات، وما زالوا في السجون
حتى الآن، بالإضافة إلى ذلك: يتعرض (الروهنجا) لأسوأ أنواع السخرة غير
المعروفة في عالمنا الحديث؛ حيث يُجمّع الأشخاص خارج منازلهم ويكرهون على
العمل لأيام، بدون حصولهم على الأجر والطعام، وعدم السماح لهم بإحضار طعام
من منازلهم، علاوة على ذلك: فإنهم يُجبرون على توفير المواد الغذائية ومواد
البناء لقوات الأمن.
6- حق الاحتجاج ضد الظلم: لا توجد محكمة يمكن لشخص ما الاحتجاج
أمامها ضد الظلم وانتهاك العدالة، وإن عملاء تنفيذ القانون موجهين بصفة خاصة
لممارسة التفرقة العنصرية وظلم المسلمين، إن المسلم المظلوم عندما يقدم شكوى
في مخفر الشرطة يتعرض هناك للضرب المبرح لتجرئه على اتخاذ مثل هذه
الخطوة، وقد تسند إليه أي تهمة زوراً وبهتاناً.
7- حق حرية التعبير: يمنع مسلمو (الروهنجا) في (أراكان) تماماً من
التجمع أو التعبير عن رأيهم، كما لا يسمح لهم بالنشر، ولا يمكنهم التعبير عن
أوضاعهم لوسائل الأخبار العالمية، فضلاً عن أنها ممنوعة تماماً من دخول
(أراكان) .
8- حق ممارسة الدين: يحرم (الروهنجا) المسلمون من ممارسة أبسط
واجبات دينهم؛ حيث يمنعوا من أداء فريضة الحج، ويحظر عليهم ذبح الأضاحي، كما يحظر إلقاء المواعظ الدينية، كما أن العاملين بالحكومة يكرهون على الانحناء
لعلم الدولة، وهو ما يناقض الدين، وإذا لم يذعن أحد منهم لهذا الإجراء: يفصل
من العمل فوراً.
وقد هُدمت المئات من المساجد، وأُغلقت المدارس الدينية، وحولت إلى
ثكنات للجيش، وتُلقى القاذورات والحجارة على المساجد والمصلين أثناء أداء
الصلاة، وتلقى القمامة على أبواب المساجد، وصودرت ممتلكات الوقف الخاصة
بالمساجد والمدارس الدينية ثم وزعت على البوذيين، ويدخل الجنود المساجد
بأحذيتهم ويشربون فيها الخمر، ويُضرب رجال الدين أصحاب المقام الرفيع
بصورة شاذة وغريبة الأطوار، ويساقون للعمل بالسُخرة وتحلق وتُحرق لحاهم.
9- حق تنظيم الاتحادات والجمعيات: منذ عام 1962م تم حظر المنظمات
الاجتماعية والثقافية والسياسية (للروهنجا) ، حيث لا يمكنهم حتى تشكيل منظماتهم
الدينية، ويُرفض السماح لهم بتشكيل مثل هذه المنظمات.
10- حق حرية التنقل: منذ عام 1962م يحظر على مسلمي (أراكان) التنقل
داخل البلاد، فقلة فقط من الناس يمكنهم التحرك من مكان إلى آخر نظراً لحاجتهم
إلى تصريح من السلطات، ولكن بعد عام 1988م استولى العسكريون على الحكم
فأصبح لا يسمح لمسلم من (أراكان) السفر إلى (رانجون) أو أجزاء أخرى من
الوطن، ولا تباع تذاكر السفر بالطائرة للمسلمين، ويجبر مسلمو (أراكان) الذين
يقيمون في أجزاء أخرى من الوطن على العودة إلى (أراكان) .
11- حق المساواة: على الرغم من أن الحكومة البورمية ليس لها سياسة
معلنة للتمييز العنصري إلا أنها أعطت تعليمات واضحة للسلطات بعدم معاملة
(مسلمي الروهنجا) بشكل متساوٍ، وأنهم غير متساوين أمام القانون، ويعاملون أسوأ
من الرقيق.
12- الحقوق أمام العدالة: جرائم مثل الاغتيال والسرقة ترتكب بكل حرية
في حق المسلمين دون مثول مرتكبها أمام القضاء، وسياسة النظام الرسمية تنص
بعدم منح (الروهنجا) الحقوق أمام القضاء.
13- حق توفير الضروريات الأساسية للعيش: يحرم مسلمو الروهنجا ب
(أراكان) عمداً من توفير الضروريات الأساسية من أجل الحياة، مثل: الغذاء،
واللباس، والرعاية الصحية، والتعليم.. إلخ، حيث يتعرضون لتفرقة عنصرية
خطيرة.
إن وضع حقوق الإنسان في (أراكان) وصل إلى حد مزرٍ، بحيث لم يتوفر
للروهنجا هناك الأمن للحياة، والتملك، والشرف، والكرامة، علاوة على أن
الحياة أصبحت تعيسة؛ بسبب سياسة تجويع السكان؛ لإجبارهم على مغادرة
(أراكان) ، وهو الهدف الذي يصير إليه النظام البورمي الحاكم، ونتيجة هذا الظلم
أُجبر أكثر من مليون نسمة من الشعب لمغادرة (أراكان) منذ عام 1948م.
فحتى متى تظل هيئة الأمم متجاهلة معاناة هؤلاء المسلمين؟ وإلى متى تبقى
الزمرة الحاكمة تدوس على حقوق المسلمين ليعيشوا في مستويات متدنية من الحياة؟ وحتى متى يبقى (بطرس غالي) صامّاً أذنية عن نداءات هؤلاء المسلمين؟ وأين
منظمات حقوق الإنسان الغربية من تلك المعاناة لألوف المسلمين؟ بل أين أدعياء
حقوق الحيوان من لفت النظر لتلك المهازل التي تقوم بها الزمرة الحاكمة في
(رانجون) ؟ فإذا كان أولئك نائمين عن حقوق المسلمين ولا يهمهم ما يعانونه من ذل
وعذاب، فأين إخواننا المسلمون من نجدة إخوانهم مسلمي بورما؟ وحتى متى لا
يتنادون في مؤتمرٍ لإغاثة أولئك المغلوبين على أمرهم، وهل استدعت حكومات
المسلمين سفراء (بورما) واحتجت على سوء العذاب الذي يعانيه مسلموها؟ وهل
يهددون في علاقاتهم السياسية والاقتصادية حتى مجرد تهديد؟ .
إن الأمل كبير في التفاتة إلى هؤلاء المسلمين المنسيين، إننا نذكر، والذكرى
تنفع المؤمنين: [وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] [الأنفال: 72] .
__________
(*) بتصرف عن بيان (منظمة تضامن الروهنجا الإسلامية) .
(**) بتصرف عن بيان (هيئة إغاثة مسلمي بورما) بالشارقة.(93/66)
المسلمون والعالم
مستقبل اللغة الروسية في آسيا الوسطى والقوقاز
وارتباطه بالمصلحة الإسلامية
د. محمد حرب
يبدو أن هيئات الإغاثة الإسلامية العاملة في العالم التركي (وهو عالم يمتد من
الصين إلى البلقان، ويشمل آسيا الوسطى والقوقاز) تتركز توجهاتها الثقافية والدينية
في هذه المنطقة عبر الاهتمام باللغة الروسية فقط. إن النية الطيبة مطلوبة، ولكن
هذه الجهود ناقصة ومهدرة لأموال المحسنين المسلمين، إذا افتقدت التخطيط العلمي.
قد يكون هناك امتداد مستقبلي للغة الروسية في (تاتارستان) مع أنها جزء
أساسي في العالم التركي، وقد يكون لها مثل ذلك داخل بعض الولايات المقهورة
داخل (روسيا الاتحادية) ، لكن الأمر جد مختلف في الجمهوريات الإسلامية المستقلة: (أوزبكستان، تركمانستان، قيرقيزستان، أذربيجان، وطاجيكستان) ، ومن أجل
هذه البلدان قامت إحدى المنظمات الإسلامية الخيرية وبدون سند علمي بتخصيص
مبلغ ضخم من المال لترجمة (معاني) القرآن الكريم إلى اللغة الروسية، ظنّاً منها
دوام الحال للغة الروسية، فعهدت إلى ناشر عربي بهذا الأمر، فاعتمد هذا على
ترجمة (ج، س، سابلوكوف) لمعاني القرآن الكريم في اللغة الروسية، ثم وجد
المتخصصون أن هذه الترجمة لا تروي ظمأ أحد، ولما كثر انتقادها توقفت هذه
المنظمة عن مواصلة طبعها، والمشكلة هنا: أن المترجم الروسي (كَنَسِيّّ) قدم في
نشرة مطبوعة على أنه مسلم حسن الإسلام، لكن هناك ترجمة يمتدحها
المتخصصون صدرت حديثاً في موسكو، قامت بها (فاليري بوروهوفا) في تسع
سنوات، وطبع من هذه الترجمة لمعاني القرآن الكريم (000ر30) نسخة.
والمترجمة عضو بالمركز الإسلامي الروسي في موسكو، لكنها كانت واعية؛ إذ
وجهت هذه الترجمة لمسلمي روسيا الاتحادية على اعتبار أنهم تحت السيطرة
الثقافية الروسية.
ومع ذلك: فإن الاكتفاء بترجمة معاني القرآن الكريم دون توضيح لم تَعُدْ هي
التوجه الأسمى في خدمة القرآن الكريم، وأُقدّم مثالاً على ذلك بالترجمة الأيغورية
للقرآن؛ لقد أحدثت الترجمة الأولى للقرآن إلى اللغة التركية بلهجتها الأيغورية
(لهجة مسلمي تركستان الشرقية) رد فعل غريب لدى المثقف التركستاني، الذي ما
إن اطلع على الترجمة حتى قال لم نكن نتصور أن القرآن هكذا، ولم يكن هذا
إعجاباً، بل العكس! ! ؛ فقد كانت ترجمة حرفية، ويبدو أن هذا ما حدا بالمجلس
الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر بترجمة (المنتخب) وهو تفسير لطيف سهل
للقرآن الكريم إلى اللغة الروسية؛ ليستفيد منه الناطقون بالروسية، وكان هذا عملاً
رائعاً، فقد بدأ بالتخطيط ودراسة الاحتياج إليه، وتولته الأدوات المصرية بالتنفيذ،
وكنت أرجو أن يأذن لي المجلس الموقر بأن أضع بين يديه وأيدي المهتمين: هذا
الحديث عن مستقبل اللغة الروسية في الجمهوريات الإسلامية المستقلة حديثاً عن
الاتحاد السوفييتي، وأبدأ بهذا السؤال: تُرى، هل ستظل اللغة الروسية لغة
مشتركة بين المسلمين في بلدان آسيا الوسطى والقوقاز؟
لننظر أولاً إلى هذه المعلومات عن المتحدثين بالروسية في بلدان العالم التركي، بما فيه منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، وهي منطقة حية من مناطق هذا العالم
التركي.
* المتحدثون بالروسية في آسيا الوسطى والقوقاز يمثلون جزءاً مهماً من أهل
الحضر في القطاع الحديث من اقتصاديات المنطقة حتى الآن.
* المتحدثون بالروسية في آسيا الوسطى والقوقاز يشكلون 10% فقط من
سكان المنطقة.
* المتحدثون بالروسية هناك يقترب عددهم من عدد السكان الآسيويين
الأصليين في (قازاقستان) ، وقد بدأ عدد منهم بالفعل في الهجرة إلى (روسيا)
و (أوكرانيا) .
* المتحدثون بالروسية هناك قد استعداهم صعود الإسلام السياسي، فانزوى
بعضهم، وواكب بعضهم الصحوة الإسلامية هناك، وهي صحوة تنتشر في المنطقة، وتتخذ شعارها: معاداة الروس وثقافة ولغة الروس.
* وأخيراً: فالمتحدثون بالروسية في العالم (260) مليون نسمة منهم (60)
مليون مسلم داخل إطار روسيا الاتحادية.
وتواجه اللغة الروسية في آسيا الوسطى والقوقاز عداءً ثقافيّاً من شعوب
المنطقة: في (أوزبكستان) مثلاً يكوّن الأوزبك رابع مجموعة عددية من سكان
الاتحاد السوفييتي غير الروس، وأكبر مجموعة إسلامية داخل حدوده قبل الانهيار،
والقومية التركية مشتعلة في (أوزبكستان) متحدة مع الإسلام في مفهوم عقائدي واحد
هو (تورك إسلام) ، والموجة القومية الإسلامية الصاعدة جعلت الأوزبك يتخذون
لغتهم التركية بلهجتهم الأوزبكية لغة رسمية للدولة بدلاً من الروسية، كما أخذت
المدارس تتخلص من الروسية هناك، بل وصل الأمر بأوزبكستان أن أسرعت في
محاولة تدمير الحروف السكيولية (الروسية) واستبدالها بحروف لاتينية! ، وبدأ
النشء هناك يتعلم اللغة القومية، ورويداً رويداً تأخذ المدارس والجامعات الأوزبكية
في التترك، وترك لغة المستعمر السابق، وهي الروسية.
وهذا المثال ينطبق بحذافيره على (قازاقستان) ؛ فالشعب القازاقي يعتز
اعتزازاً شديداً بقازاقيته وبلغته التركية في لهجتها القازاقية، وينفر من الروسية،
بل أخذت الروسية في التراجع ثقافيّاً.
وينطبق هذا المثال أيضاً على (أذربيجان) كبرى الدول القوقازية، من حيث
اعتزازها بلغتها التركية في لهجتها الأذرية، والمثال ينطبق على (تركمانستان) ،
و (قيرقيزستا) ، وحتى على (طاجيكستان) ذات الثقافة غير التركية.
وأخيراً: فيزيد قتامة مستقبل اللغة الروسية في آسيا الوسطى والقوقاز: ما
تعرضت له شعوب المنطقة من الاضطهاد الروسي، ومن عداء الروس للإسلام،
ومن إلغاء الروس للحروف العربية التي كانت المنطقة تكتب بها لغتها قبل الاحتلال
الروسي، إذن: فليس أمام التوجه الدعوي لآسيا الوسطى والقوقاز إلا أن يضع في
تخطيطه أن اللغة الروسية مؤقتة الأهمية، وتضعف أهميتها رويداً حتى تنتهي في
عام 2016م، عام تتريك لغة المدارس والجامعات ودواوين الحكومة، ومن
المعروف أن عام 2000م، هو عام تتريك أبجدية المنطقة والتخلص من الحروف
الروسية، ومن ثم: اللغة الروسية والثقافة الروسية. وعلى التوجه العربي أن
يتعامل بواقعية مع اللغة التركية بلهجاتها المحلية في المنطقة، ومن ثم: يبدأ تنمية
العلاقات العربية ببلدان العالم التركي، خاصة دول آسيا الوسطى والقوقاز منه،
والذي يحلو لي وصف شعوبها بأنهم: (فقراء اليوم، أثرياء الغد) .(93/74)
المسلمون والعالم
الأصولية الغربية
المنظمات الأصولية وصناديق الاقتراع
(3)
بقلم: ياسر قارئ
تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين منشأ الأصولية الغربية في أوروبا، ثم انتقال مركزها إلى أمريكا؛ فكشف عن جذورها التاريخية والمعتقدات المحركة لها، ثم وضح أثر هذه المنظمات الإنجيلية في الحياة العامة وبخاصة في صناعة السياسة الخارجية.. وفي هذه الحلقة يواصل الكاتب بيان دور المنظمات الأصولية.
-البيان-
في هذا الجزء الأخير من البحث سيكون الحديث عن الساسة الأمريكيين
المعاصرين، ومواقفهم وتبنيهم لآراء وأفكار الأصوليين، على الرغم من الفصل
التاريخي بين الكنيسة والدولة الذي رسخه الدستور، ثم أختم الحديث بذكر آراء ثلة
من النخبة المثقفة في أمريكا حول الدين والدولة.
إن المطلع على واقع المجتمعات الديمقراطية وبالأخص المجتمع الأمريكي
ليدرك أن اتخاذ القرار ليس بمنأى عن المؤثرات الخارجية التي تشكل لجان العمل
السياسي (أو اللوبي) قطب الرحى فيها؛ لذلك فإنه يصدق على هذا الوضع
تشخيص بعض المحللين السياسيين بأن اللوبي أو التأثير على السياسة هو جزء من
صناعة القانون أو السياسة الأمريكية، حتى إنه يمكن القول بأن تاريخه يقترب من
أن يكون هو تاريخ التشريع الأمريكي [1] ، ولقد مر معنا في الحلقة السابقة ذكر
أنشطة المنظمات الأصولية وبالذات السياسية منها لذلك: فليس من قبيل المفاجأة أن
يعلن المرشحون الرئاسيون الثلاثة في سنة 1980م عن أنفسهم بأنهم إنجيليون
أصوليون، وأن لدى كل واحد منهم من الرصيد الإيماني ما يثبت حقيقة
ادعائه [2] .. والحقيقة التي يعرفها الجميع الآن هي: أن ظاهرة الأصوليين السياسيين لم تتوقف عند تلك الحقبة الزمنية، بل استمرت حتى الانتخابات الأخيرة سنة 1992م، ولا يعني فشل مرشح اليمين الأصولي والرئيس السابق انتهاء فاعلية الأصوليين السياسية؛ إذ إننا نفاجأ وبعد عامين من تلك الهزيمة بعودة قوية للأصوليين، وذلك عقب اكتساح الحزب الجمهوري لمقاعد مجلسي الكونجرس والنتائج المباشرة التي تمخضت عن ذلك كالبرنامج السياسي الذي طرحه الجمهوريون تحت مسمى (العقد مع أمريكا) وما تحويه من نَفَس أصولي عميق، وإثارة لمسألة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس قبل نهاية الألف الثانية!
لعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن نشاط الأصوليين لم يتوقف في يوم من الأيام، وإنما يمر بفترات صعود وهبوط بحسب الظروف والإمكانات، لكن وبحكم الفترة
الزمنية التي يعالجها هذا الجزء من البحث، فإنه منذ فضيحة (ووترجيت) التي
أطاحت بالرئيس الهالك نيكسون: والأصوليون يجدون أبواب البيت الأبيض
مشرّعة أمام أهدافهم وطموحاتهم، ولئن كانت فترة حكم خليفته قصيرة إلا أنه كان
النواة الأولى لعلاقة قوية وحميمة مع المكتب البيضاوي استمرت لمدة ستة عشر
عاماً متتالية.
ولكن لسوء حظه: ظهر على المسرح السياسي مرشح أكثر إيماناً وأقرب لحناً
إلى الأصوليين وهو حاكم ولاية (جورجيا) السابق والمرشح عن (الحزب
الديمقراطي) لانتخابات عام 1976م، فقد حملته سمعته الطيبة ومحافظته الأخلاقية
وتدينه العميق! لكسب تأييد منظمات العمل السياسي الأصولي، ولعل من الأدلة
على ما أقول هو إصداره إعلان من رئاسة الدولة ينفي فيه اتهام اليهود بقتل المسيح
(عليه السلام) [حسب معتقدات النصارى] وتشكيله للجنة رئاسية تتابع موضوع
حرق اليهود في العهد النازي، تلك الأكذوبة التاريخية التي يروجها اليهود
لاستنزاف أموال ومشاعر النصارى في العالم! [3] .
ولعل السبب في تحول المنظمات الأصولية عنه في الانتخابات التالية
سنة 1980م هو صراحته المتناهية التي تثير شكوك الأعداء، فقد بلغ به الهيام بالنصوص والنبوءات الدينية إلى التصريح الرسمي من على منبر الكنيست الإسرائيلي في سنة 1979م بأن (سبعة رؤساء قبله قد آمنوا وجسدوا هذا الإيمان بإقامة علاقات فريدة مع إسرائيل؛ لأنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي، لأنهما (أي الشعبين) يتقاسمان تراث التوراة) [4] ... وهذا التراث هو الذي أشرت إليه سابقاً من الاعتقاد الجازم بحرفية النص المقدس في العهدين القديم والجديد، وبصدق التوجيهات والنبوءات السياسية التي
يحتويانها! ، فكيف وقد صرح هو شخصيّاً أثناء حملته الانتخابية بأن تأسيس إسرائيل المعاصرة هو تحقيق للنبوءة التوراتية [5] .
ثم خلفه رئيس هو أشد إيماناً بالكتاب المقدس، فاستبشر الأصوليون به خيراً، وطفقوا يدعمونه ويروجونه لجماهيرهم، وحيث إن فترة حكمه قد امتدت لثمان
سنوات متتالية فيها الكثير من التصريحات والقرارات المؤيدة لتوجهات الأصوليين
ونظراً لحساسية بعضها، أجدني مضطرّاً إلى الاقتصار على شيء منها يكفي
للتدليل على عمق العلاقة بين الرئاسة والأصوليين دون خلل بالمقصود من الدراسة؛ فمنذ اللحظات الأولى لتوليه منصب حاكم ولاية (كاليفورنيا) [*] يعلن بأن اعتماده
على الله هو جزء أساس من حياة الولاية والدولة، وسيظل كذلك طالما بقي هو
الحاكم، وقد قام بالتعريف بالقس (بيلي جراهام) في حفل صلاة الإفطار عقب فوزه
سنة 1972م، موضحاً أن الحل والجواب لجميع مشاكل وتخبط المجتمع هو في
كلمات المسيح (عليه السلام) [6] .
فليس بدعاً إذن أن يضع يده على إنجيل والدته عند مبايعته بالرئاسة ويفتحه
على الآية التي تقول: (لو أن شعبي تواضعوا ودعوني وسألوني وابتعدوا عن
طريق الضلال؛ فسوف أجيبهم وأغفر لهم وأصلح أرضهم) [7] . وبالطبع، فهذه
ليست هي المرة الأولى في حياته التي يخلط فيها بين الدين والدولة في الاحتفالات
العامة؛ إذ إنه في صبيحة إعادة انتخابه حضر حفل صلاة إفطار، وأكد خلال
خطابه بعدم الفصل بين الدين والدولة في الولايات المتحدة [8] ، ولعل الذي دفعه
إلى هذا القول بالإضافة إلى قناعته الشخصية هو التأييد الذي حصل عليه من قِبَل
النخبة الثرية والأصولية في الانتخابات، فقد أشارت محطة (CBS) في استبيان
لها إلى أن 78% من الأصوليين البيض ساعدوا المرشح الرئاسي ليحقق خامس
أكبر نسبة للأصوات في التاريخ الأمريكي [9] .
ولقد ملك على الرئيس إيمانه بالنصرانية ومشاعره التي ترجمت ذلك إلى
قرارات سياسية، فنجده يطالب بوجوب تدريس نظرية الإنجيل عن الخليقة في
المدارس الحكومية أسوة بنظرية (دارون) مقحماً بذلك الدين في المناهج الحكومية
العلمانية [10] ، وفيما يتعلق بالجانب العسكري: يعبر الرئيس بمصطلحات إنجيلية
عن الحرب مع الروس؛ إذ يصف الوقت الفاصل بين إطلاق الصواريخ الأمريكية
النووية على الروس والإيذان ببدء معركة (هرمجدون) بحوالي ست دقائق، تلك
الحرب التي يؤمن بها الأصوليون وينتظرون حدوثها ليأتي (أمير السلام) فيقضي
على الكفار ويرفع المؤمنين النصارى [11] .
وتغلبت على الرئيس عاطفته الإيمانية فيخاطب الحضور في مؤتمر المذيعين
الدينيين الوطني سنة 1983م قائلاً: إننا جميعاً كيهود وبروتستانت وكاثوليك
مسؤولون عما يجري لإخواننا المؤمنين المعذبين في العالم، وإنه وللمرة الأولى
قامت إذاعة صوت أمريكا [خاضعة لوزارة الخارجية] ببث صلاة عيد الميلاد من
الكنيسة في واشنطن، وإن الحكومات التي لا تحب سماع أصواتكم لن تضيرنا في
شيء على الرغم من مصادرتها للكنائس وحرقها للأناجيل، لأن النهاية سوف تكون
لمصلحة المؤمنين؛ وذلك لأن أعظم قوى الأرض العسكرية لا تستطيع الوقوف في
وجه (أمير السلام) صاحب القلب الرحيم الذي يشفي همومنا وجراحنا ويزكي
قلوبنا [12] .
ويستغل الرئيس منصبه ليصدر تفسيراً جديداً للدستور فيما يتعلق بالفصل بين
الدين والدولة؛ فيخبر الحضور في مؤتمر العمل السياسي للمحافظين سنة 1983م
بأن المؤسسين لم يتعمدوا إقامة جدار فاصل بين الدين والدولة، والأدلة على ذلك
كثيرة، منها: ذكر الكائن العظيم أربع مرات في إعلان الاستقلال، وشعار الدولة
الذي يثبت الإيمان بالرب، فضلاً عن أن المحكمة العليا والكونجرس يفتتحون
أعمالهم بدعاء أو صلاة [13] ، وتوج هذا التلازم بإعلانه في الشهر نفسه الذي عقد
فيه هذا المؤتمر: السنة الرسمية للإنجيل، وأقره على ذلك الكونجرس [14] .
ولم يقف تشخيصه ودعمه لمطالب الأصوليين عند ذلك، بل إنه في لقائه في
البيت الأبيض بموفَدِي المنظمات الأصولية عبّر عن سعادته برؤيتهم في ذلك المكان
الذي لم يدخلوه منذ أمد بعيد لأسباب معينة، لكنهم، طالما ظل هو ساكن هذا البيت، فإنهم وكل من يساند القيم اليهودية النصرانية سيلقون كل ترحيب؛ لأنهم
يستحقون ذلك [15] ، وهذا الترحيب الحار يفسر لنا دعوة البيت الأبيض في
سنة 1984م لرئيس مؤسسة جبل المعبد بحجة كسب دعمه وتأييده لبرنامج الإدارة الأمريكية الداخلي والخارجي [16] .
ولا يختلف مساعدو الرئيس السابق في توجهاتهم كثيراً، فنجد شخصيات
بارزة مثل (وولتر إنينبزج) ممول حملات الرئيس وصديقه القديم، و (أودين ميس)
المدعي العام في إدارته ورفيق دربه منذ أيام (كاليفورنيا) ، و (جيمس ووت) وزير
الشؤون الداخلية، (وهيرب إلينجورت) المستشار الخاص للرئيس: يعلنون
انتماءهم إلى منظمة المائدة المستديرة التي تأسست عام 1979م لتنظيم اللقاءات بين
القيادات السياسية والأصوليين، ولقد قدم مستشار الرئيس في إحدى هذه اللقاءات
والحفلات الخاصة هدية شخصية من الرئيس، عبارة عن نسخة من التوراة تحمل
توقيعه إلى السيدة (هروماس) إحدى الأصوليات الناشطات [17] ، وفي ظل هذه
الصلة القوية بين الساسة والأصوليين لا يستغرب حضور (أودين ميس) والسفير
الأمريكي لدى منظمة دول أمريكا اللاتينية ومساعد الرئيس الخاص (مارشال برجر)
حفلة صلاة إفطار لمصلحة إسرائيل سنة 1984م [18] .
وعلى الرغم من أن المجتمع الأمريكي عموماً يعتبر التدخل في قضية الدين
شأناً شخصيّاً جدّاً، إلا أن الرئيس لم يهدأ له بال وهو يرى والد زوجته وبعد أن
كبر وأصابه الوسواس بعيداً عن التمسك بتعاليم النصرانية، فكتب له رسالتين
مطولتين يشرح له فيهما الراحة الشاملة التي سوف يشعر بها إذا ما وضع نفسه في
يد الرب [19] ، وهذا يبين مدى حرصه على نشر دعوته وتخليص الناس حسب ما
يعتقده!
وعلى الرغم من انتهاء فترة رئاسته الطويلة، إلا أن الأصوليين قد وجدوا في
نائبه ضالتهم، فدعموه وسوّقوه للناخبين على الرغم من وجود مرشحين من
القساوسة في تلك الحملة الرئاسية، والعجيب أن هذا النائب المغمور لفترة ثمان
سنوات قد فاق رئيسه وسلفه في الاستحواذ على أصوات الأصوليين؛ إذ حصل
على 82% من أصوات الإنجيليين البيض في انتخابات 1988م، وكان قد أجرى
لقاءات قبل وبعد ترشيحه من قِبَل الحزب الجمهوري ليؤكد للإنجيليين ولاءه
لمعتقداتهم، بل واقتبس في خطاب قبوله الترشيح رسميّاً بعضاً من قناعات
الأصوليين [20] ، وكان الحزب قد دعى رابطة الإنجيليين الوطنية للإدلاء برأيها؛
حتى يتسنى تضمينه في إعلان الحزب [21] ، ولقد علق أحد المحللين السياسيين
على انتصار المرشح الجمهوري قائلاً: إن تركيزه على الخطاب الديني هو سر
فوزه على منافسه الديمقراطي الذي لم يتوقع اهتمام الناخبين الكبير به في عصر
التنوير [22] .
أما أحد أقرب مساعدي الرئيس والذي أصاب شهرة عالمية بسبب فضيحة
(إيران جيت) ، فإنه يعلن في مذكراته تَدَيّنَه الشديد ومحافظته وأسرته على درس
الأحد الأسبوعي منذ أن كان في مدينة (نيويورك) قبل أن ينضم إلى مجلس الأمن
القومي [23] ، لذلك: فليس غريباً أن يصطحب إنجيله الخاص معه في جميع
سفراته، بل ويدعو مسؤولين حكوميين إليه كما فعل في صفقته الشهيرة [24] ،
ولعل سر ولعه بالإنجيل هو عمله في طفولته كخادم للقسيس، فكان يتوجب عليه
حفظ الطقوس والترنيمات القدسية (باللاتينية) ، وتعلمها بعد تخرجه من الكلية
الحربية باللغة الإنجليزية [25] .
ليس هذا هو الاستثناء الوحيد في الخليط الديني العلماني في المؤسسة الحاكمة
في أمريكا؛ إذ استطاع الأصوليون التغلغل إلى مناصب كبيرة أخرى كالمحكمة
العليا التي لا تناقَش قراراتها، ولعل في تصريحات بعض قضاتها ما يؤكد التناغم
بينهم وبين مبادئ الأصوليين؛ فعلى سبيل المثال نجد أن القاضية (ساندرا أوكونر)
التي رشحها الرئيس (ريجان) لهذا المنصب تعلن على الملأ: أن أمريكا دولة
نصرانية، على الرغم من كونها تشغل منصباً رسميّاً حساساً يجيز لها إعادة تفسير
الدستور الذي ينفي هذه المزاعم [26] ، ولقد وافقها في ذلك رئيس المحكمة القاضي
(وليام رينكوست) مؤكداً أن الجدار الفاصل بين الدين والدولة هو بمثابة استعارة
(لغوية) نتجت عن سوء الفهم، ويجب طرحها جانباً؛ إذ ليس هناك ما يمنع
دستوريّاً من تأثير الدين على الحكومة [27] .
ويضرب الإيمان بالأصولية النصرانية بجذوره في مبنى الكونجرس حيث
السلطة التشريعية، فهناك سناتور يصرح بأن ولاءه السياسي هو للرب أولاً فالأسرة
فالناخبين، ويدعو المرشحين الآخرين لاقتفاء أثره [28] ، وآخَر يقدم اقتراحاً إلى
الكونجرس في سنة 1983م لجعلها سنة الإنجيل، ولم يتوان المجلس بأغلبيته عن
الموافقة على الاقتراح وتصديق الرئيس عليه كما أشرنا سابقاً [29] ، وفي المقابل:
فإن هناك نواباً لم يستطيعوا كتم مشاعرهم الفياضة نحو معتقدات الأصوليين التي
تمجد الشعب اليهودي؛ فها هو ذا السناتور (روجر جيسون) يعلن بأن سبب الخير
والبركة اللتان تنعم بهما أمريكا هو إكرام اليهود الذين لجؤوا إليها [30] ، ونائب
آخر خلع برقع الحياء أو الحصافة فأرسل إلى المتبرعين المتوقعين لحملته شيكلات
(عملة إسرائيل) ليحضهم على دعمه ومذكرهم بالمصاعب الاقتصادية التي تمر بها
إسرائيل، والتي سوف يساهم هو في حلها عند فوزه في الانتخابات [31] ، فلا
غرو إذن في ظل هذا الانحياز والتعصب الديني أن ينضم أكثر من خمسين نائباً إلى
رابطة الصداقة الإسرائيلية الأمريكية، من أبرزهم المرشحة السابقة لمنصب نائب
الرئيس (جيرالدين فيرارو (والمرشح الرئاسي السابق (جاك كمب) على الرغم من
خلافهما الأيديولوجي؛ فالأولى ديمقراطية، بينما الثاني جمهوري [32] .
بعد هذا العرض الموجز لظاهرة الأصولية النصرانية وأثرها على السياسة
الأمريكية: نستطيع القول بأن الدين يلعب دوراً قويّاً في حياة السياسيين قبل
قراراتهم، وهذا هو سر الدعم الذي تلقاه إسرائيل بغض النظر عن المزايدات
الانتخابية، فالإيمان بعودة المسيح إلى موطنه واقتراب الألف الثانية من نهايتها:
يدفعان الساسة والأصوليين في أحضان بعضهم البعض، ولقد أكد هذه الحقيقة
الدبلوماسي الماكر (كيسنجر) قبل عشرين عاماً وأمام نفر من الزعماء اليهود، حيث
قال: إن الهدف من حاجة إسرائيل إلى أن تكون قوية هو أن تحافظ على بقائها لا
لصد الشيوعية؛ لأن لبقائها أهمية عاطفية بحتة بالنسبة للولايات المتحدة
الأمريكية [33] .
وهذه العاطفة ليست مقصورة على القسس والمتعصبين النصارى، بل تتعدى
إلى النخبة المثقفة التي تبكي على خُبُوّ وهج الدين من الحياة العامة؛ فالصحفي
المشهور (وليام بكلي الثاني) يرفض العلمانية تماماً، ويدعو إلى التمسك بالعقيدة
النصرانية لحفظ كيان الدولة الأمريكية [34] ، أما الصحفي الكبير (جورج ول) فإنه
يهاجم (جان جاك روسو (متهماً إياه بتخريب الثقافة الغربية، وينتقد الرأسمالية
لكونها سبباً مباشراً في تغيير البنية الاجتماعية، وبالتالي: إضعاف الدين والأخلاق، ويتمنى يوم أن تحل الكنائس الإنجيلية مكان ناطحات السحاب في مركز
المدينة [35] .
ويشارك (ول) في موقفه من الرأسمالية صحفي آخر هو (إيرفنق كريستل)
الذي أسس معهد المغامرة الأمريكية، ويتحسر على الفساد الخلقي الذي أصاب
المجتمع، ويعد فقدان الإيمان بأنه أكبر خسارة في القرن الماضي؛ لأن الناس
يحتاجون إلى الدين الذي يحل مشاكلهم اليومية، وأن استمرار الدولة في التأثر
بالنظريات السياسية والاجتماعية (العلمانية) سوف يودي بها إلى الهاوية [36] .
أما (روبرت نزبت) الأستاذ السابق في جامعة كولمبيا: فإنه يختصر مبادئ
اليمين الأصولي في تركيز اهتمامه بالدين في الدرجة الأولى؛ فالكنيسة تعطي
الإنسان الضائع في مغالطات المجتمع المعاصر نوعاً من الأمان والاستمرارية،
ولابد من ربط الحرية والسلطة بالأسرة والكنيسة [37] ، ثم إن الصحفي والمحاضر
بجامعات (هارفرد) ثم (ستانفورد) ف (سيراكيوز) (ميشيل نوفاك) يصف دور
الأنجلوساكسون الأصوليين بالصابون الذي يطهر العالم من الذنب والإثم والشر،
وأن الغربة التي تعاني منها الحرية والديمقراطية والكاثوليكية الرومانية هي بمثابة
كارثة بالنسبة للغرب لأن كلاً منهما يحتاج إلى الآخر [38] .
وأخيراً: فبعد أن وضعت بين يديك أيها القارئ الكريم خلاصة ما توصلت
إليه وما سمحت الظروف به حول هذه القضية المعاصرة، فإني أطرح عليك سؤالاً
جوهريّاً، أرجو أن تكون قد وفقت في العثور على إجابته من خلال ما تقدم،
والسؤال هو: من يتحكم في السياسة الخارجية والمتعلقة بالشرق الأوسط في بلد
الحرية والديمقراطية العلمانية ومعقل الانحلال الخلقي في العالم؟ أتراهم السياسيين
العلمانيين المنتخبين؟ أم الأصوليين الإنجيليين؟ أم إن العاطفة الدينية الكامنة لدى
الفريق الأول تثيرها تحركات وأنشطة الطرف الآخر، فيلتقي الاثنان على موجة
واحدة هي بمثابة نقطة التقاطع بينهما؟ فالمعروف أن الحملات الانتخابية وروادها
لا يتشرف المرء بذكر تاريخهم؛ لما يحتويه من إسفاف وانحطاط أخلاقي لأبعد
الحدود، وإذا سلمنا بثوب النصرانية الفضفاض الذي يسع مثل تلك الانحرافات التي
لا يغفرها غلاة الأصوليين: يصبح المخرج الوحيد لهذه الجاذبية غير المتوقعة هو
كما صرح أحدهم فيما ذكرت بأن الهدف الأسمى للمنظمات الأصولية هو تغيير
الساسة أنفسهم.
__________
(1) Congress and Its Members, P 301.
(2) Winning the New Civil War, P 129.
(3) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص77.
(4) المرجع السابق، ص75.
(5) المرجع السابق، ص83.
(*) تنافس هذه الولاية الغنية والكبيرة ولاية نيويورك على المركز الأول في عدد الأصوات الانتخابية الرسمية، وقلما فاز مرشح بها وخسر الرئاسة (6) In God I Trust David Shepherd, 1984, p 18.
(7) An American Life, Ronald Reagan, 1990, p 226.
(8) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص154.
(9) Winning the New Civil War, P 120.
(10) Under God, p 120.
(11) An American Lefe, Ronald Reagan, 1990, p 257.
(12) In God I Trust, p 34.
(13) المرجع السابق، ص133.
(14) المرجع السابق، ص87.
(15) المرجع السابق، ص41.
(16) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص138.
(17) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص145.
(18) المرجع السابق، ص137.
(19) Winning the New Civil War, p 135.
(20) المرجع السابق، ص118.
(21) المرجع السابق، ص242.
(22) Under God, p 93.
(23) Oliver Norh, Under Fire, 1991, p 168.
(24 (المرجع السابق، ص41 (25) المرجع السابق، ص68.
(26) Under God, p 381.
(27) Winning the New Civil War, p 79.
(28) المرجع السابق، ص18.
(29) المرجع السابق، ص137.
(30) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص76.
(31) صنع السياسة الأمريكية والعرب، ص205.
(32) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص148.
(33) اللوبي، ص195.
(34) David Hoeveler, Jr, Watch on the Right, 1991, p 36.
(35) المرجع السابق، ص60-79، بتصرف.
(36) المرجع السابق، ص85-113، بتصرف.
(37) المرجع السابق، ص178-201، بتصرف.
(38) المرجع السابق، ص233-267، بتصرف.(93/78)
نص شعري
القدرة والصبر
ثامر العنزي
قلمي ولى وأدبر
والضحايا بأخاديد اللظى
تُرمى تُسعّر
وبِحار الحزن في البُوسنة
والقُدس تُفجّر
كُلما حاولت أن أُبدي وأُخبر
قلمي وَلّى وأدبَر
وتَجهّم ثم كشّر
كيف أرضى أن أموت اليوم صبراً
ثم أُقبر؟
فكؤوس الذل
في أرض النّبواتِ تُحضّر
***
فإذا غنى مغنٍ وتبختر
رقص القوم وقالوا
نحن نهوى من يُزمّر
وإذا صاح منادٍ ثم حذّر
غضب القوم وقالوا
أنت يا هذا أُصولي فأقْصِر
***
وضمير العالم اليوم
على بوابة القُدس تَسَمّر
وفؤاد الأمة الحيرى
بأغلال الهوى يُمسي ويُسفر
وعلى الباطل يَسمُر
وقلوب الصّربِ
بالأحقاد تقطُر
ووراء القوم صليبٌ
قد حوى المكر فثرثر
فأفيقوا يا بني قومي
فآلاف الضحايا
بسِهامِ الحقد تُنحر
ثم عودوا لكتاب الله
والنهج المسطّر
فبإذن الله سننصر
***
وأنا أرفع رِجلاً وأؤَخّر
وأنا أزعم أني لست أقدر
وعلى الباغي سأصبر
وعلى صبري سأؤجر
في زمان جُعل المعروف مُنكَر(93/90)
في دائرة الضوء
تدشين الأممية النسوية العلمانية
قراءة في خلفيات مؤتمر المرأة ببكين
(الحقائق والأهداف)
بقلم: د.محمد يحيى
اكتسب المؤتمر الدولي الذي عقد في بكين [*] ، تحت رعاية وإعدادالأمم
المتحدة، شكلاً يشبه إلى حد بعيد تلك المؤتمرات التي يعقدها المجلس العالمي
للكنائس الكاثوليكية كل بضع سنوات؛ للخروج بنظريات جديدة في عقيدتهم، أو
لوضع سياسات تنصيرية للدعاية والترويج.
ويأتي هذا المؤتمر تتويجاً لسلسلة من المؤتمرات والاجتماعات التي رعتها
الأمم المتحدة، بدءاً من عام المرأة (1975م) ، الذي أعقبه عَقْد المرأة، ثم عام
الطفل، ثم عام الأسرة، وعقد الأسرة، وسارت معه بالتوازي في السنوات ذاتها
مؤتمرات السكان المشهورة، التي عُقد آخرها منذ عام في القاهرة، حيث تلاقت
أهداف وثيقته مع وثيقة وأهداف مؤتمر بكين، فهي حلقات متتابعة ينظمها الهدف
الرئيس لهذه المؤتمرات، لذا: جاء مؤتمر بكين في جوهره تدشيناً لحركة ممتدة
تعود إلى ما يزيد عن ربع قرن، وتتويجاً لها كعقيدة عالمية جديدة: هي الاتجاه
النسوي المعروف ب (الفمنزم) [**] ، وهكذا شهد العالم مولد (كنيسة) جديدة،
وعقيدة وضعية تَخْلف الدين العلماني الساقط (الماركسية) وتجدد شباب الأطروحات
العلمانية الغربية.
وفي عالمنا الإسلامي مازالت الصورة غير واضحة، لا يبصرها إلا القليل
ممن رحم الله، وقد تشابكت في الأذهان عدة عناصر:
أ- البعض وهم الكثرة مازال يرى في أمثال هذه التحركات المحمومة بزعم
الاهتمام بالمرأة استمراراً للخط القديم الذي عرف باسم (حركة المطالبة بحقوق
المرأة) ، التي عرفها الشرق المسلم في مطلع القرن العشرين، وكان لها أبطالها
وقديسوها، التي سارت في ركاب الحركات القومية العلمانية والمتغربة.
ولكن حركات المطالبة بحقوق المرأة تَعُدّ شيئاً مختلفاً بالنوع عن التوجه
النسوي الجديد وإن كان مُهّدَ له ويلتقي معه في بعض الجذور الفكرية الغربية
الأصل؛ ذلك لأن دعوة حقوق المرأة كانت على الأقل في الظاهر تدعي في العالم
الإسلامي أنها تعمل في إطار القيم والأوضاع الاجتماعية القائمة؛ لتطالب بحقوقٍ
للمرأة موجودة في صلب هذه القيم والتقاليد، لكنها نُسيت أو سُلبت. وفي الغرب
كان الشيء نفسه؛ حيث جرت المطالبة بحقوق المرأة في التعليم والعمل والتصويت
في إطار الأوضاع القائمة (أي: المجتمع البورجوازي الرأسمالي الصناعي) .
ومن الصحيح أن هذه الحركات تطورت فيما بعد لتطالب بحقوق مزعومة
ليس لها أساس في تراث مجتمعاتها، أو أنها اتخذت أشكالاً ثورية وفوضوية في
التعبير والعمل، مما مهد بأثر غير منكور في ظهور اتجاه (الفمنزم) ، لكنها كانت
مختلفة عن هذا الاتجاه.
أ- أما البعض الآخر وهم القلة فما زالوا يرون في عباب هذه الاجتماعات
والتحضيرات والوثائق.. إلخ، امتداداً لما عُرف بحركة تحرير المرأة في أوائل
وأواسط القرن العشرين، التي كان لها كذلك وجود وقديسون! في عالمنا الإسلامي، ولكن هنا أيضاً توجد اختلافات عن حركة (الفمنزم) المعاصرة، بعضها نوعي،
والآخر مجرد اختلاف في الدرجة والتركيز، صحيح أن حركة تحرير المرأة كانت
السلف المباشر للحركة النسوية العلمانية، وصحيح أنها اشتركت معها في الجذور
اللادينية الصريحة، والعداء للأديان (وبالذات الإسلام في منطقتنا) ، وصحيح أنها
اشتركت معها في تجاوز الأوضاع الاجتماعية والثقافية القائمة مع رفضها،
وصحيح كذلك أنها اشتركت معها في المطالبة، ليس بحقوق معينة للمرأة، وإنما
في الدعوة إلى وضع مختلف لها تماماً داخل المجتمع، مع تغيير هذا المجتمع نفسه
ليتواءم مع الوضع المرتجى والمطلوب للمرأة، وصحيح أخيراً أنها اشتركت معها
في رفض أنظمة الزواج والأسرة والقيم والتعاليم والتقاليد التي تحكمها سواء في
الغرب، أم في الشرق داعية إلى إسقاطها، وإحلال الحب الحر وغير ذلك من
أشكال التحلل من القيم محلها.
كل هذا صحيح، لكن حركة تحرير المرأة كانت تختلف عن عقيدة (الفمنزم)
في جوانب أساسية وحاسمة؛ فلم تكن لها فلسفة فكرية تؤصل نشاطها وتسنده، كما
أنها لم ترتبط بحركة عالمية تقف وراءها وتدافع عنها وتروج لها، على الرغم من
أنها حاولت في وقت من الأوقات الارتباط بالشيوعية، ولا سيما في أوائل عهدها،
ولأن (الفمنزم) أوجدت لنفسها فلسفة وعقيدة، ولأنها تحولت إلى حركة عالمية تتخذ
من أدوات النظام العالمي أسلحة لها في حربها، فإنها قد تجاوزت إلى حد بعيد أبعاد
حركة تحرير المرأة رغم أوجه الشبه والقرابة الواضحة بينهما.
وهذه النقطة لا يدركها معظم إن لم يكن كل من يتعرضون بالتحليل لظاهرة
مؤتمرات الأمم المتحدة، وما يحيط بها من خضم للنشاطات التي تدور حول المرأة، إذ ما زال الكثيرون سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين ممن يتصدون بالكتابة لهذه
الظاهرة يضعونها في سياق حركة المطالبة بحقوق المرأة، أو يعتبرونها في سياق
حركة تحرير المرأة، والحركة النسوية العلمانية ليست بهذه أو بتلك، فنحن أمام
عقيدة شمولية تُطرح لكي تُفرض وتسود العالم كله، وتحل محل العقائد والأديان
والمذاهب (وضعية أم غير وضعية) . ولهذا شبهنا مؤتمر المرأة باجتماعات الكنائس
الكبرى؛ ليس فقط لشمولية الموضوعات التي يتعرض لها، وإنما أيضاً لذلك الجو
من التبجيل الذي أحاط بهذا المؤتمر؛ مما جعله تدشيناً لدين جديد أُعد على مدى
ربع قرن، وهذا التشبيه يدل على مفتاح أساسي من مفاتيح فهم وتحليل هذه الظاهرة، يعني: على تجاوز جوانبها السطحية والنفاذ إلى أعماقها.
إن جوهر (الفمنزم) يكمن في الظاهرة العامة التي عرفها تاريخ الفكر
والممارسة الغربية على مدى القرنين الماضيين، ألا وهي: ظاهرة وضع أديان
وعقائد بشرية وضعية لتجنب الدين الموحى به، وسواء اعتقدنا أن هناك مؤامرة
يهودية ماسونية علمانية وراء هذه الظاهرة، أم لا، فإننا لا نملك إلا أن نرصدها،
بدءاً من العوالم والمدن المثالية التي حفل بها تاريخ الفكر الأوروبي في القرن
السادس عشر وما بعده، إلى عقيدة التنوير في القرن الثامن عشر، وعقيدة أو دين
(عبادة العقل) في آخر هذا القرن، ودين (عبادة المرأة) الذي ألّفه العالِم (العلماني)
(أوجست كومن) في أوائل القرن التاسع عشر. ثم هناك الأديان العلمانية المشهورة: كنظام (هيجل) الفلسفي، ثم نظريات (ماركس) التي أنجبت الشيوعية
والاشتراكيات المختلفة من مثالية إلى علمية، وأخيراً: فلسفات الغرب الكبرى في
القرنين التاسع عشر والعشرين؛ من الوضعية، إلى الليبرالية، إلى النزعة العلمية
وفلسفة العلوم، والنفعية (البراجماتية) ، إلى الوجودية، والظواهرية.
والدين الوضعي العلماني هو مذهب فكري يدعي أنه يحل محل الأديان الغابرة
في الغرب (كالنصرانية واليهودية) ، ويفسر كل جوانب الحياة بفعل مبادئ عامة
يرسيها، كما يوجه بفعل نفس المبادئ إلى سبل الحياة السعيدة. وهذه العقائد
العلمانية تشترك في رفض الوحي المنزل، بل ورفض وجود الإله ذاته، وتجعل
من الإنسان أو من المبادئ التي تبتدعها وحياً منزلاً لا يناقش ولا يُرد، وهي تتوسل
في دعاويها بادعاء أنها علمية الطابع والمنهج؛ نظراً للقداسة التي أصبح العلم
التجريبي يحظى بها باعتباره مصدراً للحق واليقين بديلاً عن الأديان الساقطة. غير
أن الأديان العلمانية ذاتها أخذت تتعرض للسقوط واحداً تلو الآخر؛ بفعل النقد الذي
وجّه لها من داخلها أو من خارجها.
ومع ذلك السقوط المتتالي للأديان العلمانية، نشأت مشكلة في مجمل الوضع
العلماني الذي أصبح محور وجود وفكر المجتمعات الغربية، ذلك لأن الأديان
الوضعية أصبحت تؤدي وظائف مهمة على مدى القرنين الماضيين داخل هذا
الوضع العلماني؛ فهى التي تزوده بالسند الفكري و (الروحي) إن جاز التعبير،
وترسم رؤيته للحياة، وتحدد الأهداف والمثل التي توضع للمجتمعات لتحقيقها، كما
أن هذه الأديان الوضعية هي التي تضمن للغرب إحساسه بالتفوق على الآخرين
بحكم امتلاك (الحق) و (العلم) و (اليقين) ، فضلاً عن أنها هي التي ضمنت للغرب
إضفاء غطاء فكري على حركة الاستعمار، ثم الاستعمار الجديد، ثم النظام
الرأسمالي الدولي، وأخيراً النظام العالمي الجديد، وكلها موجهة ضد ما يسمى
بالعالم الثالث، وهو في الحقيقة العالم الإسلامي، فالغرب وهو يحتل ويستغل
وينهب موارد العالم الإسلامي: يفعل ذلك تحت شعار هذه المبادئ والعقائد العلمانية
(النبيلة!) و (السامية!) ، والأهم من ذلك: أن الوضع العلماني المسيطر في
الغرب أدرك أنه لضمان استمرارية النهب والسيطرة فلابد من إلغاء الدين، الذي
يبعث في نفوس المحتلين الثورة والرفض، وإحلال المذاهب العلمانية نفسها محله
كأديان جديدة، تضمن أن الأجيال الناشئة والطبقات الحاكمة في ذلك (العالم الثالث)
ستكون تابعة للغرب؛ لأنها تشاركه أفكارها، بل وتعتبرها المنقذ الوحيد لها،
وتفرضها على شعوبها بالحديد والنار.
لهذه الوظائف الحيوية التي تلعبها المذاهب العلمانية داخل الغرب وخارجه في
ظل سيطرة الوضع العلماني: كان لابد كهدف اجتماعي حيوي من تجديدها كلما
شاخت، أو اختراع بديل كلما سقط دين منها، وأصبحت هذه المهمة ملحة في الربع
قرن الماضي بعد جلاء فشل الماركسية والليبرالية (وهي آخر الأديان الوضعية
الكبرى) وسيادة أفكار الشك والريبة والنسبية المطلقة ورفض الثوابت، في فترةِ ما
أصبح يعرف بعهد ما بعد الحداثة.
وفي هذا السياق العام بالضبط تأتي حركة (الفمنزم) النسوية العلمانية كدين
جديد، لكنه دين أخطر من الأديان الوضعية السابقة؛ فإذا كانت الماركسية مثلاً قد
حاولت إحداث صراع بين قلة وكثرة وعلى أرضية اقتصادية بحتة، فإن (الفمنزم)
تحدث انشقاقاً في وسط المجتمع، وعلى أسس شاملة تمس أدق جوانب حياة الإنسان؛ لتعيد صياغتها وفق النهج العلماني الراسخ في الغرب.
ولكن: ما المبادئ العامة التي تطرحها الحركة النسوية العلمانية وتجعلها محل
الدين، والتي تتستر وراء كل هذه المظاهرات الصاخبة من مؤتمرات، وضجيج
إعلامي، وسياسات تنفذ بالقوة وبخاصة في المجتمعات المسلمة؟ .
إنها ليست مجرد المطالبة بحقوق للمرأة أيّاً كانت، وأيّاً بلغت درجتها من
المعقولية، أو الشطط، بل هي الدعوة إلى تغيير شامل وجذري، وقلب لكل
المفاهيم بدون استثناء التي ظلت البشرية تنظر بها إلى المرأة، وبخاصة المفاهيم
الدينية، فبالاستناد إلى شذرات مقتطفة من الماركسية والليبرالية وعلوم
الأنثروبولوجيا، تعمد (الفمنزم) إلى تصوير التاريخ البشري وكأنه دراما كبرى قام
فيها الرجال ومنذ عهد مبكر بقلب الأوضاع التي كانت المرأة فيها صاحبة السيادة
والطّوْل (المجتمع (النسوي) ، ليقيموا محلها المجتمع (الرجالي) الذي تبشر
(الفمنزم) بسقوطه، لكن المستهدف ليس مجرد عكس للأوضاع بشكل مبسط ليعود
للنساء الحكم والسيطرة، ويرجع الرجال إلى عهد العبودية القديمة المزعوم.
إن المطلوب عبر سلسلة طويلة من الخطط والإجراءات: هو إلغاء الجنس
ذاته، أي: جنس الرجال والنساء معاً، بكل ما ينطوي عليه من مفاهيم و (أدوار)
ثابتة تكرسها الأديان المنزلة، وإحلال الجنس بمفهوم (النوع) ، الذي يعني: أن
يكون المخلوق البشري مادة خاماً محايدة تخلو من الملامح والقسمات التي درجت
البشرية على التمييز من خلالها بين النساء والرجال كجنسين مختلفين لكل منهما
أوضاع وأدوار محددة، يقوم بها داخل المجتمع والأسرة، وتدور حول تحليل
مفاهيم (العلمانية) .
ولا يوجد مانع داخل إطار هذا المفهوم الجديد، أن يقوم أفراد هذا النوع
المحايد العام ولفترات محدودة فقط بانتحال بعض الأدوار التي كانت في (الماضي
الغابر) تنسب للرجال أو النساء، شريطة أن يقوم الرجال بأداء أدوار النساء
التقليدية والعكس، ومن المهم هنا أن نذكر أن هذا المفهوم الذي تروج له (الفمنزم)
يمثل في الوقت نفسه الأساس (الفكري) لحركات الشذوذ الجنسي التي أصبحت في
السنوات الأخيرة ذات نفوذ واسع في دوائر الثقافة والإعلام والمجتمع بل والسياسة
في الدول الغربية، والتي لن تصبح (شاذة) بعد تطبيق مفهوم (النوع المحايد) ، بل
ستصبح هي أكثر الأوضاع طبيعية واعتيادية.
هذا هو الهدف العام وراء غابة النشاطات والمؤتمرات التي تخلقها الحركة
النسوية العلمانية من خلال مؤسساتها الدولية والمحلية، إنه الغاية الكبرى وراء كل
الشعارات التي يجري عليها الإلحاح بشكل محموم حول (تمكين المرأة) ، وإكسابها
النفوذ الاقتصادي والسياسي، و (إلغاء التقاليد) المعوقة لتقدمها، ونشر (التعليم)
الجنسي، وإدماج كل أشكال الانحراف (من الزنا إلى الشذوذ) لتصبح أوضاعاً
طبيعية.
نحن إذن أمام حركة تسعى إلى إلغاء جنس المرأة نفسه، وكل ذلك تحت شعار
الدفاع عن المرأة وضمان تقدمها، لكنه التقدم الذي يؤدي إلى إلغاء الجنس ذاته مع
جنس الرجال، ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أصبحت هذه الحركة عالمية
الطابع؟ ولماذا أصبح لمؤتمر بكين كل هؤلاء المدافعين والأنصار في عالمنا
الإسلامي؟ !
الإجابة على السؤال الأول هي: إن هذه الحركة تسد فراغاً عقديّاً في مجتمع
وصل به الخواء حد اعتبار الحملة ضد التدخين بمثابة أهم الأعمال الأخلاقية، كما
أنها حركة تضمن لذلك المجتمع (الغربي) إسقاط ذاته وبسطها على المجتمعات
التابعة (الإسلامية والنامية) .
أما الإجابة على السؤال الثاني فهي في نوعية الجهات التي تحتضن هذه
الحركة في عالمنا العربي الإسلامي، إنها النخب العلمانية ذات الهيمنة على
مجريات شؤون مجتمعاتنا، وهي، وإن كانت محدودة العدد، إلا أن سيطرتها على
مفاتيح مؤسسات الإعلام والتعليم والثقافة بل والسياسة تعطي لها نفوذاً يفوق حجمها
بكثير.
ونعود إلى مؤتمر بكين، وهو كما قلنا التتويج العملي لحركة (الفمنزم) ، أو
كما صرح عضو مجلس الشيوخ الأمريكي البارز السناتور (هيلمز) في 27 يوليو
الماضي من أن المؤتمر: تديره وتحدد أفكاره جماعة محدودة من النساء اليساريات
(وهذا اللفظ من الاصطلاح الأمريكي يتضمن معاني العلمانية الملحدة) اللواتي يعملن
لهدم قيم الأسرة وسائر التعاليم الأخلاقية.
لقد اتخذ مسار تبرير توصيات ووثائق وبرامج هذا المؤتمر في العالم
الإسلامي خطين أساسيين:
الخط الأول: بناه أنصار الحركة النسوية العلمانية ممن هم في مواقع السلطة
الرسمية، أو الناطقين باسمها (كبعض المفتين الرسميين) ، وقد اعتمد هذا الخط
على تجاهل كل مخططات المؤتمر والتركيز في الدعاية الإعلامية على رسالة غير
معقدة تقول: إن هذا المؤتمر يبحث في حقوق المرأة؛ وإن الإسلام يحض على
حقوق المرأة؛ لذا: فإن المشاركة في المؤتمر وتبني توصياته وسياساته في هذا
الإطار عمل لا غبار عليه إن لم يكن من صميم الإسلام (!) ، لكن أصحاب هذا
الخط يتجاهلون أن حقوق المرأة في الإسلام غير حقوق المرأة التي تدعو إليها
الحركة الواقفة وراء مؤتمر بكين، فليس من هذه الحقوق حق الزنا، والحمل
السفاح، والشذوذ، وهي حقوق رتبها هؤلاء في زعمهم كعلامات للتقدم، وليس من
حقوق المرأة في الإسلام أن ترفض الدين بحجة أنه متخلف ومعادٍ للمرأة لمجرد أن
اليساريات الأمريكيات يقلن ذلك، ثم إن حقوق المرأة في الإسلام تقترن بواجبات
معينة أهدرها أصحاب مؤتمر بكين: كواجبات الأمومة، ورعاية الأسرة.. وحقوق
المرأة في الإسلام تؤخذ وتمارس في سياق الإيمان المشترك، وفي سياق الأمة
الواحدة المتكاتفة، أما الحقوق المزعومة التي يرتبها مؤتمر بكين: فتدار من خلال
عملية حادة تشق صفوف المجتمع، ولا تؤخذ إلا على جثة حقوق الرجال، أو حتى
وجودهم كجنس متميز، وهي تمارس في سياق مجتمع يعادي الإيمان بالله وينشيء
دعائم الإلحاد تحت شعارات العلمانية.. ليس الأمر إذن سوى حركة خداع ساذجة!!.
أما الخط الثاني الأساس الذي يتخذه مسار تبرير توصيات المؤتمر فهو لا
يخلو كذلك من الخداع، ويمثل هذا الخط الدوائر العلمانية التي لا ترتبط مباشرة
بالسلطة مما قد يكون عاملاً يفرض عليها حرجاً في التعبير عن التوجهات والآراء
والمشاعر. يقوم هذا الخط على أن قرارات مؤتمر بكين هي في حقيقتها مواصلة
لحركة تحرير المرأة، وأن الإسلام يدعو لتحرير المرأة، فالمؤتمر على هذا الوجه
يحقق هدف الإسلام، ولكن الإسلام (التقدمي العلماني) ، وليس الإسلام (الرجعي)
(الظلامي) في زعمهم الذي يسود الدنيا الآن! ! .
إن الإسلام حرر المرأة كما حرر الرجل من الجاهلية والضلال، ولكن أنصار
مؤتمر بكين يريدون تحرير المرأة من الإسلام نفسه، أو من الإيمان به وقيمه
وتعاليمه وشريعته، وشتان ما بين النوعين من التحرير. وتحرير المرأة الإسلامي
يتم في إطار شامل لكل المجتمع، لكن تحرير مؤتمر بكين يتم على أشلاء المجتمع
وبعد صراع مرير يتم فيه إلغاء جنس الرجال، ثم جنس النساء نفسه، وصولاً إلى
(النوع) البشري الذي يصلح لكل أدوار الأجناس: الخشن، والناعم، والثالث، إنه
تحرير يتم عبر التدمير، وليس تحريراً يتم عبر البناء والتعمير؛ تدمير الأسرة،
وتدمير كل القيم الإنسانية، بحجة أنها كانت مجرد مواضعات نسبية زال أوانها منذ
عصور سحيقة.
هذه هي المحاور التي يدور حولها تبرير قرارات مؤتمر بكين، والترويج لها، والدفاع عنها، وهي محاور كما رأينا تعتمد أساساً على تجاهل الأبعاد الحقيقية
لهذا المؤتمر، كما لاحظناها فيما سبق، وتصور نتائجه في إطار محدود ومستأنس
فيما يبدو كمجرد دفاع عن حقوق للمرأة وتحرير لها من أوضاع ظالمة، لكن أحداً لا
يخوض جهلاً أو خبثاً في حقيقة الحركة النسوية العلمانية التي توجت جهودها
بمؤتمر بكين.
لكن ما يهمنا حقيقة من المؤتمر: أن القرارات والتوصيات التي تصدر عنه
وعن أمثاله من المؤتمرات تتحول على الفور إلى أوامر وسياسات، تلتزم جميع
الأجهزة الحكومية وغير الحكومية في البلدان الإسلامية بتنفيذها، وكأن هناك
حكومة عالمية تقوم على هذه التوصيات، ولا تهدأ حتى تراها مطبقة على واقع
الحياة. وإذا كانت المظاهر الواضحة لهذه الحكومة العالمية تتمثل في الأمم المتحدة
ووكالاتها في أخطبوط الإعلام الدولي الممتد والمسيطر بأقماره الصناعية، وفي
شبكة ما يسمى المعونات الأجنبية، التي هي أداة التدخل والتأثير في الدول
الإسلامية في العصر الحديث.. فإن هناك مظاهر أخرى غير واضحة لهذه الحكومة
العالمية أو ما يسمى بالنظام الدولي الجديد أبرزها على الساحة الإسلامية العربية:
تلك التجمعات للنخب العلمانية في أندية ومحافل ومنابر وروابط يطلق عليها الآن
وصف (المنظمات غير الحكومية) : وتزعم النشاط في مجالات حقوق الإنسان،
والبحث العلمي والفكري، والخدمات الاجتماعية، وبالطبع حقوق الإنسان وأوضاع
المرأة، وعلى الرغم من وصف (غير الحكومية) الملحق بهذه التجمعات إلا أنها في
الواقع تمارس نفوذاً قويّاً على الحكومات المحلية بمستوياتها المختلفة من أعلى إلى
أسفل، بل إنها تمارس نفوذاً يفوق نفوذ هذه الحكومات، وذلك بفضل اندماجها في
الشبكة العالمية لهذه المنظمات، وبالفعل: فقد أصبحت هذه (المنظمات غير
الحكومية) الذراع الأساس للحكومة العالمية في فرض وإعمال كل السياسات
الموضوعة في مؤتمرات المرأة والسكان، وآخرها مؤتمر بكين، وقبله مؤتمر
القاهرة، إن هذه المنظمات التي تضم نخباً نسوية علمانية منعزلة عن مجتمعاتها
الإسلامية أصبحت تستمد قوة كبيرة بفضل الدعم المالي والمعنوي الذي تتلقاه من
شبكاتها الخارجية، بل إنها أصبحت أكثر ارتباطاً بالوضع العلماني الغربي من
ارتباطها أو حتى صلتها بمجتمعاتها المحلية، وتحولت إلى مجرد فروع للحركة
العالمية للمنظمات غير الحكومية العاملة في مجالي المرأة والسكان.
إن المنظمات غير الحكومية المنعزلة عن مجتمعاتها، والتي لا توجد لها
جذور في أرض المجتمعات الإسلامية تمارس نفوذاً لا تناسب بينه وبين الحجم
الحقيقي لأفرادها ووزنهم الفكري، ويعود ذلك إلى الاندماج في النظام الدولي الجديد
والارتباط به لأداء دور الفروع من خلال شتى أنواع الدعم، كما يعود إلى
الالتصاق بالسلطات السياسية والتنفيذية القائمة من خلال اختراقها والنفاذ إلى القمة
فيها ولا سيما زوجات الرؤساء ذوات الميول المتغربة.
إذن: نحن نواجَه حقيقةً، ليس بحركة فكرية (في مجال (الفمنزم) أو الحركة
النسوية العلمانية) تسعى إلى نشر أفكارها بوسائل الإقناع والحجة وما أشبه ذلك،
بل بحركة تآمرية الطابع تتوسل إلى أغراضها بأسلوب التآمر الخفي، وإجبار
المجتمعات الإسلامية على تنفيذ وإطاعة سياسات لا توجد لها أية جذور في الأرضية
الإسلامية.
وهكذا.. فرغم أننا نبدو بعيدين عن مؤتمر بكين وأمثاله والقرارات الصادرة
عنه، ورغم أننا نبدو بعيدين عن شطحات أفكار ومبادئ (الفمنزم) ، إلا إننا نجد ولا
أقول نفاجأ بأن هذه الأفكار تطبق في بلادنا الإسلامية كسياسات فعلية تنفذ بقوة
القانون دون أن يكون قد سبق حتى التبشير بها، أو كسبت الأنصار لها، واللجوء
إلى هذا الأسلوب المشبوه في الفرض والإجبار يدل على أن مروجي هذه الأفكار
والسياسات واثقون من أنه لو طرحت على حقيقتها فإنها لن تجد أي صدى مهما
كانت درجة لمعان الشعارات التي تحيط بها.
هذا هو الأسلوب الذي تُفرض به علينا مخططات نرفضها، ونقدم الحجة
ضدها، ونقول: إنها تخالف عقيدتنا وتاريخنا وتراثنا وشريعتنا، لكننا مع ذلك
نجدها مطبقة ومنفذة بشكل يبدو سحري الطابع، لكنه يعود في الحقيقة إلى أسلوب
التآمر غير الشريف الذي ألمحنا فيما سبق إلى بعض جوانبه وآلياته.
هذه هي الحقائق وراء كل الضجيج والصخب والبريق الذي أحاط بمؤتمر
بكين.
__________
(*) عقد المؤتمر في بداية الأسبوع الأول من شهر سبتمبر الحالي، وينقسم المؤتمر من حيث اللقاءات إلى محورين: لقاءات وفود الدول الرسمية، ولقاءات المنظمات الدولية المتخصصة، وحضره ما يزيد عن سبعين ألف مشارك ومشاركة، بالإضافة إلى الوفود الحكومية ومما تجدر الإشارة إليه: أن (التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية) شارك في هذا المؤتمر في خطوة رائدة مشكورة، وهو المنظمة الإسلامية الوحيدة المشاركة فيما نعلم ويمثل التجمع في هذا المؤتمر وفد مكون من عدد من طلبة العلم والأساتذة المتخصصين، وألقوا بلغات مختلفة عدداً من المحاضرات لبيان الصورة الحقيقية للمرأة في الإسلام، كما أصدر التجمع عدة كتب وأبحاث وزعت في المؤتمر، منها: كتاب: (شبهات حول المرأة المسلمة) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، بسبع لغات حية، وكتاب: (مكانة المرأة في الإسلام) للشيخ علي التميمي، باللغة الإنجليزية ... ... ... ... - البيان -.
(**) الفمنزم (Feminsm) هي: نظرية المساواة بين الجنسين سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً ومن المفيد الرجوع إلى مقال: (الحركة النسوية إطار للفهم) ، للدكتور محمد يحيى، المنشور في العدد (83) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.(93/92)
متابعات
وجهة نظر
حول اكتشاف الطاقات الكامنة
بقلم:نبيل بن جعفر الفيصل
هذه تلبية للدعوة المقدمة في العدد (90) بعنوان (دعوة إلى اكتشاف الطاقات
الكامنة) :
إن بداية الحل هو معرفة المشكلة، وما هي أسبابها وأعراضها وآثارها
الجانبية، وكما ذكر صاحب المقال: فإن المشكلة تتلخص بنقص كبير في الكوادر
العلمية والعملية في ساحة العمل الإسلامي المعاصر، والتي نتج عنها:
1- عدم صلاحية بعض الأشخاص في المكان الذي يشغلونه، وذلك للحاجة
الشديدة التي تستدعي أي شخص لشغل هذه الأماكن الشاغرة.
2- إنتاجية عدد كبير من الدعاة تصبح دون المستوى المطلوب، نظراً
لوجودهم في غير الأماكن المناسبة لقدراتهم.
لكن المشكلة في الواقع أكثر من ذلك بكثير، وذلك لغياب التخطيط
الاستراتيجي (الإحكامي) في النموذج التربوي الدعوي، فغياب تحديد النتائج
المرجوة تحدث هذه الفجوة، ونلمس سلبياتها في واقعنا، وأقول: خير لنا أن نبدأ
متأخرين بدلاً من عدمه) ويكون استدراك هذه المشكلة بالتالي:
أولاً: على جميع الدعاة والمصلحين توسيع دائرة ثقافتهم العلمية والعملية
بكثرة الاطلاع على المستجدات من علوم وأحداث، خاصة العلوم الإدارية التي لا
غنى عنها للمدير أو الطبيب أو المهندس على السواء، والتي من خلالها تكون نقطة
الانطلاق.
ثانياً: إن تعلم التخطيط ومراحله هو منهج واضح يسير عليه المخططون
بجميع مستوياتهم، وعلى اختلاف مواقعهم في المجتمع، فعلى الدعاة خاصة بعد
معرفة هذه المشكلة: التخطيط المسبق في تحديد أولوياتهم والتنبؤ بالظروف البيئية
(الخارجية والداخلية) المحيطة بأهدافهم وخططهم، وجمع المعلومات والبيانات
المتعلقة بتلك الخطط، والاستفادة من تجارب وأبحاث الآخرين، من أجل تكوين
قاعدة متينة يتم من خلالها استغلال الكوادر المتاحة على اختلاف مستوياتها. وكذلك
تحديد خطط بديلة متناسقة تكون مرنة بقدر كافٍ لمواجهة الظروف المتغيرة بحيث
تكون قابلة للتعديل، ومن ثم: الاستمرارية وتصحيح المسار دون تأثير كبير على
فعالية الخطة الأم.
ثالثاً: التركيز الدعوي وتدريب الأشخاص الذين يشغلون الأماكن (لشغرها
وليس لكفاءتهم) وذلك للارتقاء بمستواهم وزيادة إنتاجيتهم واستغلال طاقاتهم
القصوى، وذلك من خلال التدريب المباشر (على رأس العمل) أو غير المباشر؛
كتزويدهم بالرسائل التثقيفية المتخصصة لصقل مواهبهم وتكييفها بحسب الأماكن
التي يشغلونها.
رابعاً: حتى لو أننا أوجدنا مديرين جيدين يشغلون هذه الأماكن، إلا إننا
لازلنا بحاجة للقياديين الذين سيوجهون هؤلاء المديرين، لذا: فإيجاد قيادي واحد
ينسق (يشرف) أو يوجه مجموعة من هؤلاء الأشخاص وهكذا مع مجموعة أخرى
وأخرى: سيكون له الأثر الكبير في تمكين الأفراد الحاليين من القيام بالمهام
المطلوبة، ولو بنسبة جدارة لا تزيد عن 70%.
خامساً: يجب العمل على استقطاب ذوي الخبرات والقدرات المطلوبة
وتوظيفهم في صالح العمل الإسلامي؛ فالكثير من المسلمين لديهم النزعة والغيرة
على الدين ولكنها بحاجة لمن يوقد فتيلها، ولا أرى مانعاً من استغلال تلك الطاقات، ولو بصورة غير مباشرة أو حتى كعمل جزئي، وذلك بدعوتهم للمشاركة في هذا
الإطار.
سادساً: أحد الحلول هو: تجزئة العمل التخصصي، بحيث يقوم بالمهمة
المطلوبة أكثر من فرد غير متخصص، بمجموعهم يشكلون الشخص المطلوب،
صحيح أن هذا الحل له مساوئه، وهو الإكثار من العمالة، وبالتالي المصاريف،
ولكن محاسنه ستفوق مساوئه خاصة على المدى البعيد، بحيث يمكن (تدوير) أو
إحلال الفرد مكان الآخر لفترة كافية لاستيعاب المهام الجديدة المطلوبة منه والانتقال
لمهمة أخرى، وهكذا حتى يصبح لدينا العديد من المتخصصين.(93/104)
منتدى القراء
الهوى وخطره
بقلم:عبد الله بن محمد السويلم
إن من أخطر ما يصاب به العقل البشري لوثة الهوى وعدم التجرد، فَتُحكّمَ
العاطفة وتهب العاصفة حتى تختل الموازين وتنعدم الرؤية، ولقد حذر ربنا الكريم
المنان من الهوى، وبين خطره الذي قد يصل إلى حد العبودية [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إلَهَهُ هَوَاهُ] [الجاثية: 23] ، وقد أثر عن أحد السلف أنه قال: (والله الذي لا إله
غيره، ما تحت أديم السماء أخطر من هوى متبع) ، وقال أبو الدرداء (رضي الله
عنه) : (إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعلمه وعمله، فإن كان عمله تبعاً لهواه
فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعاً لعلمه فيومه يوم صالح) ، وكثيراً ما تظهر
الأهواء عند هبوب رياح الفتن فيأخذ العقل إجازة، وتُبعد مقاييس الشرع إلا من
رحم ربك، ولذا: سمى علماء السلف هؤلاء الذين يندفعون وراء العواطف بدون
مقياس من نقل أو عقل: أهل الأهواء.
ولخطورة الهوى على العقل البشري والعلم الشرعي جاءت النصوص من
الوحيين ببيان ذلك؛ قال الله (تعالى) : [فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ] [القصص: 50] .
ومن الملحوظ اقتران الضلال باتباع الهوى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ] [الجاثية: 23] ، وفي الآية السابقة: [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ
اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ] ، ولذا: فمن أعظم مطالب المؤمنين الهداية إلى
صراط الذين أنعم الله عليهم، والنجاة من طريق المغضوب عليهم المتبعين لأهوائهم
والضالين عن الحق.
سئل أحد الحكماء عن الهوى، فقال: هوانٌ سُرقت نونه. فأخذ ذلك شاعر
فصاغه بقوله:
نون الهَوَانِ من الهوى مَسْرُوقة ... فإذا هَوَيْتَ فقد لقيت هَوَانا
ويقول سهل بن عبد الله التستري: (هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك) .
وقال وهب: (إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما، فانظر أبعدهما من
هواك فأته) .
ما أحوج المسلم الداعية في هذا الزمن إلى التجرد من الهوى، والاحتكام إلى
ميزان الكتاب والسنة؛ ففيهما الهدى والنور، والفلاح والسعادة، وأن يتسلح بسلاح
الإيمان والعلم، مبتعداً عن الهوى والتعصب، متمثلاً بهذه الأبيات لابن القيم (رحمه
الله تعالى) :
وتَعَرّ مِنْ ثَوْبَينِ مَنْ يَلْبَسْهُما ... يَلقَ الرّدَى بِمذَلّة وهَوانِ
ثَوبٌ مِنَ الجهلِ المرَكّبِ فَوْقَهُ ... ثَوبُ التّعَصبِ بئستْ الثَوبَانِ
وتَحلّ بِالإنْصَافِ أفخرَ حُلّةٍ ... زِينَت بها الأعْطَافُ والكَتِفَانِ(93/106)
مقال
ركائز في القراءة
صالح بن محمد الأسمري
القراءة فن سامق، ومركب ذلول لمريد المعرفة، إلا أن جمهرة من المثقفين
بله غيرهم افتأتوا عن ركائز تحكُمُه، وثوابت تضبطه، حتى أصبح مُنْتَجَعاً قليل
الكلأ، والِجُهُ لصيق الهُزَال العلمي!
لذا: فهذا رسم لشيء من تلك الركائز، بُغْيَة الإصلاح.
الركيزة الأولى: أن الإيغال في بطون الكتب، والإمعان في فهم مقاصد
أصحابها، معقودة زمائمه بالبِنْية العلمية للناظر قوةً وضعفاً، وهي مُحَصّلة التّلقي
عن الأشياخ، أو ما هو آيب إليه، ومن ثم: نسطيع (تفسير) إفادة شخص من
كتاب أكثر من آخر، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي (رحمه الله) في (موافقاته) :
(وإذا ثبت أنه لابد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان:
* أحدهما: المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما، ...
* الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين، ومدوني الدواوين. وهو أيضاً
نافع في بابه بشرطين:
الشرط الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة
اصطلاحات أهله: ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول من
مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه؛ وهو معنى قول من قال: (كان العلم في
صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال) .
والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئاً، دون فتح العلماء، وهو مشاهد
معتاد.
الشرط الثاني: أن يتحرّى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به
من غيرهم من المتأخرين) [1] .
لذا: نجد العلماء والعارفين يحثون المتعلم على تلقف العلوم من أفواه ذوي
الذّكر، حتى تتكون عنده النواة العلمية المطلوبة، والحصانة المانعة من ولوج حُثالة
الأفكار، وزُبالة الأسفار، إلى مسارب النفس، بل إذا وردت عليه ردّها حرسُ
العلم وجيشه مغلولة مغلوبة [2] .
الركيزة الثانية: مما لا ريب فيه أن الأسلاف الأول أرسخ في العلم قدماً،
وأَسَدّ فهماً ممن أتى بعدهم، هذا في العلوم المشتركة بين السابق واللاحق، وأصل
ذلك: التجربة والخبر.
أما التجربة، فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ
في علمٍ ما ما بلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمال
المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في
التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون
ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم رأى العجب في هذا
المعنى.
وأما الخبر، ففي الحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم) ، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك [3] .
فابقِ الأولوية لكتب الأوائل الأقدمين؛ قراءةً وفهماً وحفظاً، ولا يُغْتَر بما
يُرى للمتأخرين من كثرة كلام في كراريسهم ومكتوبهم؛ حيث فتن كثير من
المتأخرين بهذا، فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين، فهو
أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض.
وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم؛ كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن
مسعود وزيد بن ثابت، كيف كانوا؟ ، كلامهم أقل من كلام ابن عباس، وهم أعلم
منه، وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم، وكذلك
تابعو التابعين: كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم، فليس العلم
بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب، يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة
للمقاصد [4] .
ومع هذا التفضيل الإجمالي للأولين فإن الثّقِف مَن يُفِيد من رُقُم الآخِرين، في
توضيح مسألة، وإلحاق فرع بأصل، ونحوهما.
الركيزة الثالثة: إن فَلْي الكتب، وتأرّض مكانها؛ جادةٌ مطروقةٌ، لكن بقصد
تحقيق البصيرة عند العمل، ومعرفة السبيل الأقوم عند الواقعة، لأن العامل (لا
يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه) [5] .
فالنظر الجالب للعمل المفيد هو العلم النافع؛ لأن العلم الحق (هو العلم الباعث
على العمل) [6] ، (والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به،
ففاته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقَدِمَ مفلساً مع قوة الحجة عليه!) [7] .
هذا، والله الموفق والمعين.
__________
(1) الموافقات: ج1، ص96-97.
(2) مفتاح دار السعادة لابن القيم: ج1، ص140.
(3) الموافقات: ج1، ص97.
(4) فضل علم السلف على الخلف لابن رجب: ص92-94، تحقيق: مروان العطية.
(5) رسالة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية: ص48-49.
(6) الموافقات: ج1، ص69.
(7) صيد الخاطر لأبي الفرج ابن الجوزي: ص144.(93/108)
الورقة الأخيرة
تهافت الفراش! ! !
بقلم:جمال الحوشبي
تشتد الفتن عندما تشتد الغربة.. ومع اشتدادهما يمحّص الله الذين آمنوا
ويمحق الكافرين، كما يحذر المؤمنين من الوقوع في الفتن عند اضطرامها، وترى
الذين في قلوبهم مرض يتقاذفون فيها تقاذف الفراش! .
إن المؤمنين الصادقين ليخرجون من الفتنة أنقى من الذهب الأحمر، وتتفحم
بالسواد وجوه (الجاهلين) بعد أن تطيش عقولهم.. فلا يكادون يخرجون منها إلا
قليلا! .
ولذا: كان حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) يقول: (إياكم والفتن، لا
يشخص إليها أحد، فوالله ما شَخَص فيها أحد إلا نسفته، كما ينسف السيل الدّمن) ،
قال -صلى الله عليه وسلم- مصوراً حال الفتن حين تتراكم على القلوب: (تُعرض
الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء،
وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل
الصفا؛ فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض، والآخر مُربادًّاً؛ كالكوز مجَخّياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه) [*] .
كم من جاهل تزينت له الفتنة بلبوسها.. فهو واقع فيها، ولا يعلم أنه مفتون!!.
وكم من سليم أنار الله بصيرته، فأبصر زيف ردائها.. فهو يخاف على نفسه
من الوقوع فيها! .. وبين الفريقين سور له باب.
لله در الصابرين حين يراد بهم أن يفتنوا في دينهم.. إنهم يخرجون من الفتنة
أصلب عوداً، وأشرح صدوراً، وأطيب ريحاً، وأعلى رأساً.. كم يخلد بين الناس
ذكرهم، وكم تُرفع عند الله درجاتهم، وتبيض صفحاتهم لتنير الطريق لمن بعدهم!!.
أما أولئك المفتونون ... فإن التاريخ ينساهم على مدار أحداثه ورجالاته،
لأنهم أصغر من أن يتكلف مداده إظهار ذكرهم! ! .
وليس للصادقين لسان حين يبصرون تهافت (الفراش) على الفتنة بلبوسها
الزائف مغرورين بتزيينها للباطل إلا ما كان أبو قتادة (رحمه الله) يردده بعد انكشاف
الفتن وانبلاج الحق وذهاب الباطل: (لقد رأينا والله أقواماً يسرعون إلى الفتن
وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت إذا الذين
أمسكوا أطيب نفساً، وأثلج صدوراً، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها
وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها، وايم الله! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل
من الناس كثير) .
__________
(*) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً.(93/111)
جمادى الآخرة - 1416هـ
نوفمبر - 1995م
(السنة: 10)(94/)
كلمة صغيرة
هذا هو الحل
في كل دول العالم للإعلام رسالة في التوعية والبناء، وله كذلك خطوط
حمراء لا يتجاوزها، يعرفها رجال الإعلام ربما حفاظاً على منجزات وضعية
ابتكرها البشر بضعفهم ونقصهم غير أنه بدعوى الحرية المزعومة قد تتعرض
المسلمات الشرعية وربما (الذات الإلهية) للسخرية؛ كما حصل على سبيل المثال
مؤخراً في (كاريكاتير) في إحدى الصحف الخليجية.. وهذه الخطيئة في نظرنا
حلقة من سلسلة طويلة تتكشف معالمها يوماً بعد يوم، وهي تعني أمرين:
1- إما أن تلك الصحف تسيرها «شلل» مشبوهة لارقيب عليها والمسؤول
آخر من يعلم.
2- وإما أنهم جميعاً مستهترون بقيم الأمة ومسلماتها، ومن أمن العقوبة أساء
الأدب.
إن موقفاً خطيراً كهذا لايكفي فيه نقد في زاوية من صحيفة أو مجلة، أو حتى
الفصل للمجترئ، وجعله كبش فداء، بل لابد من عقاب صارم لكل من خطه وأقره
ليكون في ذلك كل العبرة لمن يعتبر، وما زلنا نقول: إن العلمانية منهاج يبدأ
بفصل الدين عن الحياة وينتهي بمثل تلك التوجهات التي لاتقيم لكل مقدس قيمة.
لقد قرر علماء الإسلام أن عقوبة من سب الإله أو الرسل هو القتل، كما بسط
ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول على شاتم الرسول) فحينما يطبق
ذلك الحكم هل يجترئ زنديق أو ملحد بشيء من ذلك..؟ !(94/1)
افتتاحية العدد
ديموقراطية الجزائر.. إلى أين..؟
هل ستعود الديموقراطية حقّاً إلى الجزائر بعد عودة الانتخابات الرئاسية
المزمع إقامتها قريباً ... ؟ !
وهل ستخرج الجزائر من المأزق الكبير الذي تمرّ به ... ؟ !
أم إنها فصل جديد من فصول المسرحية، وانتخابات صورية تهدف إلى
إضفاء ما يسمى بـ «الشرعية الدستورية» ! على النظام العسكري الانقلابي،
وتقلل من حرج الأنظمة التي لا تخفي تعاطفها، بل ودعمها ومساندتها
للعسكريين..؟ !
لقد وئدت الديموقراطية (المزعومة) خوفاً على الديموقراطية كما يقولون،
وصودر خيار الشعب، وسحقت كلمته تحت جنازير الدبابات وأقدام العسكر،
وامتلأت السجون والمعتقلات حتى ضاقت برجالها، ودخلت الجزائر في دوامة من
الصراعات والاضطرابات، ثمرتها آلاف القتلى والجرحى.. وما زالت البلاد
مهيأة لمزيد من الفوضى والعبث.
والعجيب أنّ وسائل الإعلام الغربية فضلاً عن العربية تنحي باللائمة كلها
على من يسمونهم بـ (الأصوليين والمتطرفين) ، ولاتتحدث إلا عن التفجيرات
وقتل الرعايا الأجانب، ولا تلقي بالاً للتطرف والإرهاب الرسمي الذي يفتك بكل
وحشية وعنف ولا يرقب في مؤمن إلاّ ولا ذمّة.
وبعد هذا كله: ها هو ذا الشعار يعود ثانية تحت عنوان الديموقراطية
أيضاً ... ! !
ثم تتسابق القنوات الإعلامية ودهاقنة الصحافة العربية المهترئة إلى التطبيل
والتزمير، فقد عادت المياه إلى مجاريها، ورجع الحق إلى نصابه بعد أن قتل من
الأصوليين أعداء الديموقراطية من قتل، وسجن منهم من سجن، وعادت الجزائر
تبني طريقها إلى الحرية والمشاركة الشعبية، حتى زعم أحدهم: أنّ عيد
الديموقراطية أشرق من جديد بعد أن استجاب العسكريون لنداء العقل والمنطق..!
ربما يكون ذلك صحيحاً، فقد علمتنا الأنظمة العسكرية والأحزاب العلمانية أن
للديموقراطية معنى آخر يتقلب بتغير الأحوال.. بل يجب أن يكون ذلك صحيحاً..
وإلا فأوصاف التطرف والإرهاب والأصولية، معدة سلفاً..!
والشعوب المستغفلة، المغلوبة على أمرها، المثقلة بهمومها وجراحاتها،
مستعدة أومضطرة للتصديق، بل والتصفيق، شاءت أم أبت، فماذا تستطيع أن
تفعل بعد أن صودرت عقولها كما صودرت كلمتها..؟ ! وماذا تملك أمام ذلك
الاستبداد العسكري والحصار الاقتصادي والإعلامي..؟ !
إنّ سقوط الديموقراطية في الجزائر ليست تجربة محلية فحسب، بل إنها
أنموذج صارخ لفشل جميع الديموقراطيات الزائفة المهلهلة، التي تستنبت في أرض
سبخة، تحت مظلة الاستبداد العسكري، ورعاية الديكتاتوريات العنترية، التي
تجيد بكل جدارة واقتدار فن التلفيق والتزوير، والفارق البارز الذي يميز
ديموقراطية الجزائر أنها سقطت بشكل مفاجئ أذهلهم وأفقدهم اتزانهم وكشف الأقنعة
عن وجوههم الكالحة، وتبع ذلك ضجيج وصخب هائل..! وبهذا السقوط سقطت
مسلمات كثيرة كانت تلقن للشعوب صباحاً ومساءً ... !
لقد علمتنا أحداث الجزائر المتتالية أنّ الغرب يتعامل مع المسلمين خاصة
بطريقة متميزة لا نظير لها، والعقلية الاستعمارية (الميكيافيلية!) مازالت هي التي
تحكم علاقاته بدول المنطقة الإسلامية، والغرب يدور مع مصالحه حيث دارت،
والشعارات الجميلة البراقة (الديموقراطية.. الحرية.. حقوق الإنسان..) تحظى
بعناية فائقة ما دامت تخدم مصالحهم الاستراتيجية، أما إذا تعارضت معها: فهي
شعارات جوفاء، مفرغة من أي معنى نبيل، والشعوب الإسلامية (البربرية
المتخلفة! !) لاتستحق كل هذا التكريم. وصدق المولى الحق (تبارك وتعالى) :
[وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] [البقرة: 120] .
وما أحداث الجزائر إلا حلقة واحدة ضمن سلسلة طويلة تنتظم فيها معظم
القضايا الإسلامية: (فلسطين.. أفغانستان ... البوسنة والهرسك ... الشيشان ...
كشمير..) وتبرز فيها بوضوح المنهجية الغربية النفعية، التي تعتمد على سياسة
التطفيف والكيل بمكيالين.. بل السرقة المكشوفة والخداع الواضح..! !
لقد علمتنا أحداث الجزائر أن الهياكل العلمانية النخرة التي صنعها الغرب على
عينة أشدّ خطراً علينا من الكفار الأصليين؛ لأنها لاتملك أي مقوم من مقومات البقاء، ولا تقوى على مواجهة الحقائق.. ولذا: فهي تتكئ بعجز ومهانة على أسيادها،
وتركع تحت أقدامهم تلتمس القوة والتمكين، وقد وصفهم الله (تعالى) بقوله: [وَإذَا
رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] [المنافقون: 4] .
ولقدعلمتنا أحداث الجزائر أن النفاق السياسي ليس له حدود؛ فهناك من يدعي
أن الانتخابات الرئاسية سيكون لها مردود إيجابي على الأوضاع، وبالتالي:
المساهمة في حل الأزمة، والسؤال البدهي هو: ما هو الفرق بالنسبة للشعب
الجزائري بين زروال رئيساً معيناً من قبل الزمره الحاكمة أو رئيساً منتخباً من
خلال انتخابات مسرحية تقوم فيها النخبة نفسها بالإنتاج والإخراج بالاشتراك مع
الجامعة العربية، بل إن الرئيس المعين يخاطب الشعب ويطلب منه ممارسة حقه
في الانتخاب لإحساسه بعدم ثقة الشعب به، لذا يعد الناس بتحقيق رغباتهم،
والواقع يشهد أن الحرية الوحيدة التي يتمتع بها الشعب هي في الواقع حرية اختيار
الرئيس الذي تبناه حماة الشعب والدستور! أما ما عدا ذلك فلا وألف لا.
ولقد علمتنا أحداث الجزائر أن هناك شعاراً جديداً يرفعه النظام المستبد وهو
(نحن أو الدمار) أي: إما بقاء النظام وما يلزم منه: من الحكم بغير ما أنزل الله
ومن ممارسة مختلف المظالم، أو إدخال البلد في حالة من الاضطراب السياسي
والأمني تدمر فيه البلاد كل مقدراتها ويذل فيه العباد حتى يتمنى الناس العودة إلى ما
كانوا عليه.
لقد علمتنا الأحداث أيضاً أن الشعوب المستغفلة الذليلة لا يمكن أن تستمر على
غفلتها وذلتها، وأنها حينما تعرف الطريق إلى ربها وتعود عوداً صادقاً إلى دينها،
فإنها تستعصي على الترويض والتدجين، ولا ترضى الدنية في دينها.. خاصة إذا
وجدت علماءها الصادقين في مقدمة الصفوف يستحثونها بثباتهم وأفعالهم المخلصة
إلى المضي في هذا الطريق المبارك مهما كثرت التضحيات وعظمت الجراحات..
والله غالب على أمره.. وصلى الله على محمد وآله وسلم.(94/4)
دراسات شرعية
الآثار السلوكية لتوحيد العبادة
بقلم: د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
المهمة التي خلق الله البشر من أجلها هي عبادته وحده لا شريك له، قال الله
(تعالى) : [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: 56] لكن الله (جل
وعلا) مستغن عن الخلق كلهم، ولا حاجة له (تبارك وتعالى) لعبادتهم كما جاء في
الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل
واحد منكم مازاد ذلك في ملكي شيئاً) [1] ، وقد قال الله (تبارك وتعالى) : [لَن
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ] [الحج: 37] لكن نفع العبادة حاصل لنا أولاً
وأخيراً، ولهذا قال العلماء: إن مبنى الشريعة على تحصيل مصالح العباد في الدنيا
والآخرة.
فعبادة الله (جل وعلا) هي المنهج الذي يحفظ لهذا الكون انتظامه وسيره دونما
تخبط في أي ناحية من نواحي الحياة، وعلى أي مستوى من المستويات، وإن
اختلال هذه العبادة اختلال لنظام هذا الكون، وبالتالي دخوله في دهاليز الضلال
والانحطاط والفساد، على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، قال الله
(تعالى) : [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَاًتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ] [الرعد: 41] .
فأداء العبادة كما أمر الله بها هو سبيل سعادة هذه البشرية بأكملها.
فالعبادة هي الزمام الذي يكبح جماح النفس البشرية، أن تلغ في شهواتها،
وهي السبيل الذي يحجز البشرية عن التمرد على شرع الله (تعالى) .
فالخلل في أداء العبادة مؤذن بالخلل في الكون.
فأعظم مقاصد العبادة حصول التقوى التي هي الحاجز عن وقوع الإنسان في
المعاصي، وهي كذلك المحرك الفعال لهذه النفس حتى تنطلق من قيود الأرض،
فترفرف في علياء السماء، وتنطلق في أفعال الخير بشتى صوره.
فإذا كان مردود العبادة من التقوى والخشوع لله (عز وجل) ضعيفاً أو ميتاً،
فإن الهدف الذي شرعت من أجله العبادة لم يتحقق وبالتالي: تكون العبادة وكأنها لم
تؤدّ.
ولنتأمل هذه النصوص القرآنية والنبوية:
[فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أََوْ إثْماً فَأََصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ] [البقرة: 182]
[.. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ..]
[العنكبوت: 45] .
ويقول الرسول: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه) [2] .
فليس المقصود من العبادة مجرد الحركات الظاهرة التي تمارسها الجوارح
دون أن تؤثر في الباطن، وإنما المقصود مع ذلك: عمل القلب، من الإخبات
والتذلل والخضوع بين يدي الله (عز وجل) ، وذلك روح العبادة ولبها.
إن الذي يؤدي العبادة أي عبادة كانت ولم يقم في قلبه أثناء ذلك مقام العبودية
لله (عز وجل) ، فكأنه ما أدى تلك العبادة وبمعنى آخر فقد أدى صورة العبادة لا
حقيقتها.
فشرود القلب في مواطن العبادة هو من أعظم الآفات التي تعرض للإنسان في
سيره لله (عز وجل) ، لأن العبادة بقلب شارد غافل لاه، لاتترك الأثر المطلوب
على النفس الإنسانية، فلا يحصل الإنسان بها على الأجر المطلوب.
ولذلك يقول الرسول: (إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته،
تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها) [3] .
ومع استمرار الغفلة، وشرود القلب في مواطن العبادة تصبح العبادة مجرد
حركات ظاهرة، ليس لها أي أثر على قلب صاحبها، ومن ثم: ليس لها أي أثر
على تصرفاته، فتصبح العبادة عادة.
وهذا ما يفسر لنا مانراه من سلوك بعض الناس المخالف لشرع الله في
المعاملة وفي الخُلُق مع أنهم من المصلين ومن رواد المساجد، بل ربما من قارئي
القرآن ومن صائمي هواجر الأيام، لذلك يلاحظ الفرق الكبير بين من يصلي ثم
ينصرف من صلاته كما دخل فيها، وبين من إذا وقف استشعر أنه واقف بين يدي
الله، فاستحضر نية التقرب إلى الله (عز وجل) عند شروعه في الصلاة، وقام وفي
قلبه مقام العبودية لله (عز وجل) ، وشعر بالانكسار بين يدي العزيز الجبار، ثم إذا
قرأ القرآن أو تلاه أو ذكر الأذكار واطأ قلبه لسانه، فإذا قال مثلاً: [اهدنا الصراط
المستقيم] ، فهو قد سأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، وهكذا حتى ينصرف من
صلاته، انظر إلى حال هذا الرجل وحال من دخل في صلاته وقلبه في مكان آخر، فالقرآن والأذكار تتردد على لسانه، دون أن تتجاوزه إلى عقله أو فكره.
وانظر إلى من إذا انصرف من صلاته قال: (استغفر الله) ثلاث مرات،
وقلبه يطلب العفو والمغفرة من الله على ما حصل من تقصيره في هذه العبادة،
وانشغال قلبه بغير الله فيها.
ولايقتصر الأمر على الصلاة، بل إنه عام في جميع العبادات أو أغلبها،
انظر إلى الصيام.. تلك العبادة العظيمة التي يقول الله (عز وجل) فيها: (كل عمل
ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) [4] .
أن كثيراً من الناس لايشعرون بأثر للصيام على نفوسهم، مع أن الرسول -
صلى الله عليه وسلم- يقول: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن
وحر الصدر) [5] أي: غله وحقده، فالصوم يقطع أسباب التعبد لغير الله، ويورث
الحرية من الرق للمشتبهات؛ لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء ولا تملكه [6] ، هل يفعل الصيام بنا هذا؟ ! ، بل إن الله (عز وجل) قال: [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ] لأجل ّ [لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ]
[البقرة: 183] فإذا لم يحدث الصيام للإنسان تلك التقوى، فإنه لم يحقق الغرض الذي شرعه الله من أجله، ولكن.. ما السبب في عدم إحداثه للتقوى في النفوس؟
الأسباب كثيرة، أعظمها: أن الصيام وهو عبادة من العبادات أصبح عند
كثير من الناس مجرد عادة، يدخل الإنسان فيه دون أن يستحضر نية التقرب لله
(عز وجل) بهذه العبادة، وفي أثناء الصوم ترى قلبه غافلاً لاهياً عن التذكر والتفكر
في هذه العبادة العظيمة.
وفي المقابل: انظر إلى ذلك الرجل الذي قام من أجل السحور، تذكر أنه
يأكل هذه الأكلة من أجل أن يتقوى على الصيام الذي يتقرب به إلى الله (عز وجل)
، وفي أثناء صومه وكلما تذكر الطعام أو الشراب أو غيرهما من المحظورات،
حدث نفسه وعالج قلبه بأنه إنما يفعل ذلك حبّا وتقرباً إلى الله، حتى يأتي يوم
القيامة وقد وضع في ميزان أعماله صيام ذلك اليوم، ثم إذا أفطر فرح بهذا الإفطار
وانتظر فرحه الآخر بهذا الصوم حين يلقى ربه (جل وعلا) ، فقلبه أثناء الصوم أو
في أغلبه منشغل بالتعبد لله (عز وجل) ، فهذا هو الصيام الذي رتب الله عليه ذلك
الأجر العظيم، وهذا هو الصيام الذي يعالج النفس والقلب من أمراضها وأدرانها.
ولنضرب مثالاً أخيراً، لنتفكر في عبادة الذكر، ذكر الله (عز وجل) ، ثم
لننظر إلى عظيم الجزاء والأجر الذي أعده الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات،
ويكفي في التمثيل بهذا الأجر حديث أبي الدرداء عند الحاكم: (ألا أنبئكم بخير
أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب
والوَرِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ... ) .
هذه هي قيمة الذكر الصادق والجزاء الكبير من الله (تعالى) للذاكرين، وليس
الذكر هو الدعاوى الفارغة التي يؤديها المتصوفة من المكاء والتصدية والرقص
ويزعمون أنها ذكر.
إذن: لابد أن الأمر ليس بهذه السهولة أو البساطة، لابد من أن تُحقّقَ معاني
العبودية لله (عز وجل) في عبادة الذكر ربما أكثر منه في تلك العبادات الأخرى،
ولايمكن أن يكون الذكر مجرد حركات سهلة باللسان ليس لها أي أثر على القلب
ومن ثم على كيان صاحبها وواقعه.
إن الذي يقول (لا إله إلا الله) يرددها لسانه وقلبه مستحضراً للمعنى المراد من
هذه الكلمة وهو الاقرار بالعبودية الخالصة لله وحده، الذي يقولها بهذه الصورة
يحدث في قلبه وكيانه انخلاع من عبودية ما سوى الله، ثم تنجذب روحه إلى السماء
، إلى الله (تبارك وتعالى) محبة واتباعاً.
هل يتصور أن من يحدث له ذلك يطيع ما سوى الله في صغيرة أو كبيرة، أم
يتبع هواه أو شهوته، أم يقع في قلبه خوف أو وجل من تلك الآلهة المزعومة، أو
أي حب لها، وهل يتصور أن من تتوق روحه إلى الله، فيملأ حب الله شغاف قلبه
ويتغلغل في جوانحه، هل له أن يعصيه، أو يتوانى في طاعته والتقرب إليه
والتذلل بين يديه، لايتُصور ذلك قطعا، فلأجل هذا كانت هذه الكلمة نجاة لصاحبها
، إذا لم تصدر منه باللسان فقط بل صَاحَبَها حضور القلب وانقياد النفس، وذلك
لايكون إلا بمعرفة معناها، ومن ثم تأتي شروطها الباقية، ومن هنا أيضا: كان من
حقق كلمة التوحيد تحقيقاً كاملاً، يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، لأن من
حققها بتلك الصورة، فإنه ولاريب يطيع ربه (جل وعلا) طاعة لا يمكن معها أن
تتجاوز سيئاته حسناته، فمن ثم يدخل الجنة بتلك الصورة المذكورة في الحديث.
وتأمل قول الله (عز وجل) : [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ] مَنْ أولئك؟ [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلََى
جُنُوبِهِمْ] فلهذا كان من صفاتهم [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] فتكون
النتيجة أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء وهو من أعلى وأجل صور العبادة، وقد ملأ
خوف الله قلوبهم فشعروا بحاجتهم إلى مغفرة خالقهم وعفوه، فقالوا: [رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] [آل عمران: 190-191] .
فالذكر يكون بالقلب قبل أن يكون مجرد نطق باللسان، وذكر القلب هذا يحدث
في القلب والنفس والعقل من أسرار العبودية وأحوالها ما يجعل القلب مراقباً لله (عز
وجل) طيلة ذكره لله، وتلك أعلى مراتب العبودية، إنها مرتبة الإحسان، أي: أن
تعبد الله كأنك تراه، والمحسن: المراقب لله في كل حين ووقت، في كل خاطرة
وسانحة يبحث عن مرضاة الله في كل فعلة وقولة، بل في كل إرادة أو التفاتة
تحدث من قلبه.
وبعد: فخلاصة ما تقدم بعبارة سريعة مختصرة: أن حقيقة الإيمان التي أُمرنا
بها أن تتواطأ عبادة القلب مع عبادة الجوارح، فتتحقق عبودية القلب مع عبودية
الجوارح، فنحسن العبادة باطناً كما نحسنها ظاهراً.
إذا تبينت أهمية ما تقدم، فلسائل أن يسأل ما هي الوسائل التي تقود إلى
إحسان العبادة باطناً، أو بعبارة أخرى: كيف نبعث الروح في عبادتنا، ونجنبها
الموت؟
الوسائل كثيرة ومتنوعة، ولكن حسبي أن أشير إلى بعضها:
1- حضور القلب قبل أو عند البدء بالعبادة: والفقهاء يتحدثون عن النية قبل
الشروع في العمل ويعنون بها النية التي تميز العمل نفسه، كصلاة الظهر عن
صلاة العصر، وصوم النافلة عن صوم الفرض.. وما إلى ذلك، ويتحدث أرباب
التوحيد وأهل السلوك عن النية التي تميز المعمول له، وهو المقصود بهذه العبادة.
2- تحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله (عز وجل) : سواء أكان ذلك خارج
العبادة أو حتى في أثنائها إن أمكن، وليس هذا مجال الحديث عن عبودية القلب لله
رب العالمين، وكثير من الناس بل ومن بعض طلاب العلم وغيرهم من أهل الخير
يغفلون عن هذا كثيراً، وهذا التحديث والتذكير نهر يمد القلب باللين والرقة
والخشوع، فإذا شح ماؤه جف القلب ويبس ثم قسا، نعوذ بالله من ذلك.
3- التهيؤ للعبادة والاستعداد لها: والمثال الذي يوضح هذا وأثره: التبكير
إلى المساجد لأداء الصلاة، وهذا التهيؤ المادي الجسدي يصاحبه ولا شك تهيؤ
نفسي وروحي وقلبي، وفي حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التبكير
إلى المساجد خير دليل على ذلك، والأحاديث كثيرة مشهورة.
ومن هنا نفهم كثرة ما ورد عن السلف الصالح في هذا الشأن، فهذا إبراهيم
بن يزيد الفقيه عابد الكوفة يقول: (إذا رأيت الرجل يتهاون في على التكبير الأولى
فاغسل يدك منه) [7] .
والتهيؤ يكون بحسب كل عبادة وما شرع فيها.
والحج كذلك له تهيؤ؛ فرد الأمانات والمظالم، والتخلص من الحقوق قبل
الشروع في السفر كلها صور للاستعداد لهذه العبادة العظيمة، وكذلك تهيئة الزاد
والراحلة والرفقة الصالحة.
والمتأمل في ذلك يجد الفرق شاسعاً بين من يؤدي العبادة دون استعداد بدني
يصحبه تهيؤ قلبي ومن يأتي الصلاة مسرعاً حتى يدرك الركعة فيدخل في الصلاة
ولم يسكن جسده من ذلك السعي، ولعل في نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم-
عن السعي بعد الإقامة إشارة إلى ذلك، وإلى أن يتفاعل الإنسان روحيّاً ونفسيّاً مع
هذه العبادة تكون الصلاة أوشكت على النهاية.
4- الابتعاد عما يشوش القلب أثناء العبادة: ففي الصلاة مثلاً: نهى الرسول
-صلى الله عليه وسلم- المصلي أن يصلي إلى مايشغله أثناء الصلاة (فإنه لا ينبغي
أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي) (8) .
ولهذا جاء النهي عن أن يصلي الإنسان في حضرة طعام أو وهو يدافع
الأخبثين، كل هذا من أجل أن ينخلع القلب من علائق الدنيا وينجذب إلى حقيقة
العبادة ويجتمع في قلب العبد وفكره ووجدانه الاتجاه إلى الله (تعالى) ، ومثل هذه
الأمور يمكن فعلها في عبادات أخرى. ليكون أدعى لانشغاله وتفرغه للعبادة، مما
يؤدي لتفرغ قلب الإنسان للتوجه وللعبودية لله (عز وجل) أثناء الصوم.
5- المشاهد أن كثيراً من الناس يؤدي بعض العبادات بصورة تلقائية أقرب
إلى الحركة الميكانيكية، فمثلا في الصلاة: ترى كثيراً منهم يدخل في صلاة النافلة
فيقرأ دعاء الاستفتاح الذي يجري على لسانه، ومن ثم سورة الفاتحة، ثم تجري
على لسانه إحدى السور الصغار التي يحفظها على ظهر القلب، وربما إذا سألته بعد
صلاته ماذا قرأ، فإنه لا يذكر.
ولا تفكر الأغلبية العظمى من الناس مثلا في قراءة صيغة أخرى لدعاء
الاستفتاح، أو في قراءة آيات أو سور من غير تلك السور التي تجري على ألسنتهم
دون أن يتفكروا فيها أو يشعروا بها، مع أن السنة وردت بالتنويع في هذه الأذكار،
فهناك عدة صيغ لدعاء الاستفتاح، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ من
القرآن كله في تطوعه.
وهكذا في أذكار الصباح والمساء وغيرها من الأذكار والعبادات الدورية التي
وردت السنة بهيئات وصيغ متعددة لها.
إن التنويع في صفات العبادة بما يوافق السنة الصحيحة له أثر في طرد ما قد
يطرأ على العبادة من صفة العادة والرتابة التي تضعف تأثير العبادة على القلب.
هذا والوسائل كثيرة ومتنوعة، لكن حسب الإنسان أن يضع هذه القضية
نصب عينيه هدفاً منشوداً، وأن يحاسب نفسه فيما يتعلق بها، فكلما عمد إلى عبادة
من العبادات عليه أن ينأى بعبادته أن تكون ميتة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يوفقنا للإخلاص في القول والعمل،
ويرزقنا اتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، إنه سميع مجيب.
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) البخاري، كتاب الصوم.
(3) انظر صحيح الجامع، ح1622.
(4) أخرجه البخاري.
(5) أخرجه البزار وأحمد بن حنبل، ج5ص363، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: ج1ص429 البيان.
(6) انظر: فيض القدير ج4ص211.
(7) انظر: سير أعلام النبلاء 8 انظر: صحيح الجامع، ح2500.(94/8)
دراسات شرعية
العبادة بين الصورة والحقيقة
بقلم: هيثم الحداد
المهمة التي خلق الله البشر من أجلها هي عبادته وحده لاشريك له، قال الله
(تعالى) : [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: 56] لكن الله (جل
وعلا) مستغن عن الخلق كلهم، ولاحاجة له (تبارك وتعالى) لعبادتهم كما جاء في
الحديث القدسي: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل
واحد منكم مازاد ذلك في ملكي شيئاً» [1] ، وقد قال الله (تبارك وتعالى) : [لَن
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ] [الحج: 37] لكن نفع العبادة حاصل لنا أولاً
وأخيراً، ولهذا قال العلماء: إن مبنى الشريعة على تحصيل مصالح العباد في الدنيا
والآخرة.
فعبادة الله (جل وعلا) هي المنهج الذي يحفظ لهذا الكون انتظامه وسيره دونما
تخبط في أي ناحية من نواحي الحياة، وعلى أي مستوى من المستويات، وإن
اختلال هذه العبادة اختلال لنظام هذا الكون، وبالتالي دخوله في دهاليز الضلال
والانحطاط والفساد، على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، قال الله
(تعالى) : [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ] [الرعد: 41] .
فأداء العبادة كما أمر الله بها هو سبيل سعادة هذه البشرية بأكملها.
فالعبادة هي الزمام الذي يكبح جماح النفس البشرية، أن تلغ في شهواتها،
وهي السبيل الذي يحجز البشرية عن التمرد على شرع الله (تعالى) ، فالخلل في
أداء العبادة مؤذن بالخلل في الكون.
فأعظم مقاصد العبادة حصول التقوى التي هي الحاجز عن وقوع الإنسان في
المعاصي، وهي كذلك المحرك الفعال لهذه النفس حتى تنطلق من قيود الأرض،
فترفرف في علياء السماء، وتنطلق في أفعال الخير بشتى صوره.
فإذا كان مردود العبادة من التقوى والخشوع لله (عز وجل) ضعيفاً أو ميتاً،
فإن الهدف الذي شرعت من أجله العبادة لم يتحقق وبالتالي: تكون العبادة وكأنها لم
تؤدّ.
ولنتأمل هذه النصوص القرآنية والنبوية:
[فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ] [البقرة: 182]
[.. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ..]
[العنكبوت: 45] .
ويقول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: «من لم يدع قول الزور والعمل به
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [2] .
فليس المقصود من العبادة مجرد الحركات الظاهرة التي تمارسها الجوارح
دون أن تؤثر في الباطن، وإنما المقصود مع ذلك: عمل القلب، من الإخبات
والتذلل والخضوع بين يدي الله (عز وجل) ، وذلك روح العبادة ولبها.
إن الذي يؤدي العبادة أي عبادة كانت ولم يقم في قلبه أثناء ذلك مقام العبودية
لله (عز وجل) ، فكأنه ما أدى تلك العبادة وبمعنى آخر فقد أدى صورة العبادة لا
حقيقتها.
فشرود القلب في مواطن العبادة هو من أعظم الآفات التي تعرض للإنسان في
سيره لله (عز وجل) ، لأن العبادة بقلب شارد غافل لاه، لاتترك الأثر المطلوب
على النفس الإنسانية، فلا يحصل الإنسان بها على الأجر المطلوب.
ولذلك يقول الرسول: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته،
تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» [3] .
ومع استمرار الغفلة، وشرود القلب في مواطن العبادة تصبح العبادة مجرد
حركات ظاهرة، ليس لها أي أثر على قلب صاحبها، ومن ثم: ليس لها أي أثر
على تصرفاته، فتصبح العبادة عادة.
وهذا ما يفسر لنا مانراه من سلوك بعض الناس المخالف لشرع الله في
المعاملة وفي الخُلُق مع أنهم من المصلين ومن رواد المساجد، بل ربما من قارئي
القرآن ومن صائمي هواجر الأيام، لذلك يلاحظ الفرق الكبير بين من يصلي ثم
ينصرف من صلاته كما دخل فيها، وبين من إذا وقف استشعر أنه واقف بين يدي
الله، فاستحضر نية التقرب إلى الله (عز وجل) عند شروعه في الصلاة، وقام وفي
قلبه مقام العبودية لله (عز وجل) ، وشعر بالانكسار بين يدي العزيز الجبار، ثم إذا
قرأ القرآن أو تلاه أو ذكر الأذكار واطأ قلبه لسانه، فإذا قال مثلاً: [اهدنا الصراط
المستقيم] ، فهو قد سأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، وهكذا حتى ينصرف من
صلاته، انظر إلى حال هذا الرجل وحال من دخل في صلاته وقلبه في مكان آخر، فالقرآن والأذكار تتردد على لسانه، دون أن تتجاوزه إلى عقله أو فكره.
وانظر إلى من إذا انصرف من صلاته قال: «استغفر الله» ثلاث مرات،
وقلبه يطلب العفو والمغفرة من الله على ما حصل من تقصيره في هذه العبادة،
وانشغال قلبه بغير الله فيها.
ولايقتصر الأمر على الصلاة، بل إنه عام في جميع العبادات أو أغلبها،
انظر إلى الصيام.. تلك العبادة العظيمة التي يقول الله (عز وجل) فيها: «كل
عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» [4] .
إن كثيراً من الناس لايشعرون بأثر للصيام على نفوسهم، مع أن الرسول -
صلى الله عليه وسلم- يقول: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن
وحر الصدر» [5] أي: غله وحقده، فالصوم يقطع أسباب التعبد لغير الله،
ويورث الحرية من الرق للمشتبهات؛ لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء ولا
تملكه [6] ، هل يفعل الصيام بنا هذا؟ ! ، بل إن الله (عز وجل) قال: [يَا أََيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ] لأجل [لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [البقرة: 183] فإذا لم يحدث الصيام للإنسان تلك التقوى، فإنه لم يحقق الغرض
الذي شرعه الله من أجله، ولكن.. ما السبب في عدم إحداثه للتقوى في النفوس؟
الأسباب كثيرة، أعظمها: أن الصيام وهو عبادة من العبادات أصبح عند
كثير من الناس مجرد عادة، يدخل الإنسان فيه دون أن يستحضر نية التقرب لله
(عز وجل) بهذه العبادة، وفي أثناء الصوم ترى قلبه غافلاً لاهياً عن التذكر والتفكر
في هذه العبادة العظيمة.
وفي المقابل: انظر إلى ذلك الرجل الذي قام من أجل السحور، تذكر أنه
يأكل هذه الأكلة من أجل أن يتقوى على الصيام الذي يتقرب به إلى الله (عز وجل) ، وفي أثناء صومه وكلما تذكر الطعام أو الشراب أو غيرهما من المحظورات،
حدث نفسه وعالج قلبه بأنه إنما يفعل ذلك حبّا وتقرباً إلى الله، حتى يأتي يوم
القيامة وقد وضع في ميزان أعماله صيام ذلك اليوم، ثم إذا أفطر فرح بهذا الإفطار
وانتظر فرحه الآخر بهذا الصوم حين يلقى ربه (جل وعلا) ، فقلبه أثناء الصوم أو
في أغلبه منشغل بالتعبد لله (عز وجل) ، فهذا هو الصيام الذي رتب الله عليه ذلك
الأجر العظيم، وهذا هو الصيام الذي يعالج النفس والقلب من أمراضها وأدرانها.
ولنضرب مثالاً أخيراً، لنتفكر في عبادة الذكر، ذكر الله (عز وجل) ، ثم
لننظر إلى عظيم الجزاء والأجر الذي أعده الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات،
ويكفي في التمثيل بهذا الأجر حديث أبي الدرداء عند الحاكم: «ألا أنبئكم بخير
أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب
والوَرِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ... » .
هذه هي قيمة الذكر الصادق والجزاء الكبير من الله (تعالى) للذاكرين، وليس
الذكر هو الدعاوى الفارغة التي يؤديها المتصوفة من المكاء والتصدية والرقص
ويزعمون أنها ذكر.
إذن: لابد أن الأمر ليس بهذه السهولة أو البساطة، لابد من أن تُحقّقَ معاني
العبودية لله (عز وجل) في عبادة الذكر ربما أكثر منه في تلك العبادات الأخرى،
ولايمكن أن يكون الذكر مجرد حركات سهلة باللسان ليس لها أي أثر على القلب
ومن ثم على كيان صاحبها وواقعه.
إن الذي يقول «لا إله إلا الله» يرددها لسانه وقلبه مستحضراً للمعنى المراد
من هذه الكلمة وهو الاقرار بالعبودية الخالصة لله وحده، الذي يقولها بهذه الصورة
يحدث في قلبه وكيانه انخلاع من عبودية ما سوى الله، ثم تنجذب روحه إلى السماء، إلى الله (تبارك وتعالى) محبة واتباعاً.
هل يتصور أن من يحدث له ذلك يطيع ما سوى الله في صغيرة أو كبيرة، أم
يتبع هواه أو شهوته، أم يقع في قلبه خوف أو وجل من تلك الآلهة المزعومة، أو
أي حب لها، وهل يتصور أن من تتوق روحه إلى الله، فيملأ حب الله شغاف قلبه
ويتغلغل في جوانحه، هل له أن يعصيه، أو يتوانى في طاعته والتقرب إليه
والتذلل بين يديه، لايتُصور ذلك قطعا، فلأجل هذا كانت هذه الكلمة نجاة لصاحبها، إذا لم تصدر منه باللسان فقط بل صَاحَبَها حضور القلب وانقياد النفس، وذلك
لايكون إلا بمعرفة معناها، ومن ثم تأتي شروطها الباقية، ومن هنا أيضا: كان من
حقق كلمة التوحيد تحقيقاً كاملاً، يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، لأن من
حققها بتلك الصورة، فإنه ولاريب يطيع ربه (جل وعلا) طاعة لا يمكن معها أن
تتجاوز سيئاته حسناته، فمن ثم يدخل الجنة بتلك الصورة المذكورة في الحديث.
وتأمل قول الله (عز وجل) : [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ] مَنْ أولئك؟ [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلََى
جُنُوبِهِمْ] فلهذا كان من صفاتهم [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] فتكون
النتيجة أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء وهو من أعلى وأجل صور العبادة، وقد ملأ
خوف الله قلوبهم فشعروا بحاجتهم إلى مغفرة خالقهم وعفوه، فقالوا: [رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] [آل عمران: 190، 191] .
فالذكر يكون بالقلب قبل أن يكون مجرد نطق باللسان، وذكر القلب هذا يحدث
في القلب والنفس والعقل من أسرار العبودية وأحوالها ما يجعل القلب مراقباً لله (عز
وجل) طيلة ذكره لله، وتلك أعلى مراتب العبودية، إنها مرتبة الإحسان، أي: أن
تعبد الله كأنك تراه، والمحسن: المراقب لله في كل حين ووقت، في كل خاطرة
وسانحة يبحث عن مرضاة الله في كل فعلة وقولة، بل في كل إرادة أو التفاتة
تحدث من قلبه.
وبعد: فخلاصة ما تقدم بعبارة سريعة مختصرة: أن حقيقة الإيمان التي أُمرنا
بها أن تتواطأ عبادة القلب مع عبادة الجوارح، فتتحقق عبودية القلب مع عبودية
الجوارح، فنحسن العبادة باطناً كما نحسنها ظاهراً.
إذا تبينت أهمية ما تقدم، فلسائل أن يسأل ما هي الوسائل التي تقود إلى
إحسان العبادة باطناً، أو بعبارة أخرى: كيف نبعث الروح في عبادتنا، ونجنبها
الموت؟
الوسائل كثيرة ومتنوعة، ولكن حسبي أن أشير إلى بعضها:
1- حضور القلب قبل أو عند البدء بالعبادة: والفقهاء يتحدثون عن النية قبل
الشروع في العمل ويعنون بها النية التي تميز العمل نفسه، كصلاة الظهر عن
صلاة العصر، وصوم النافلة عن صوم الفرض.. وما إلى ذلك، ويتحدث أرباب
التوحيد وأهل السلوك عن النية التي تميز المعمول له، وهو المقصود بهذه العبادة.
2- تحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله (عز وجل) : سواء أكان ذلك خارج
العبادة أو حتى في أثنائها إن أمكن، وليس هذا مجال الحديث عن عبودية القلب لله
رب العالمين، وكثير من الناس بل ومن بعض طلاب العلم وغيرهم من أهل الخير
يغفلون عن هذا كثيراً، وهذا التحديث والتذكير نهر يمد القلب باللين والرقة
والخشوع، فإذا شح ماؤه جف القلب ويبس ثم قسا، نعوذ بالله من ذلك.
3- التهيؤ للعبادة والاستعداد لها: والمثال الذي يوضح هذا وأثره: التبكير
إلى المساجد لأداء الصلاة، وهذا التهيؤ المادي الجسدي يصاحبه ولا شك تهيؤ
نفسي وروحي وقلبي، وفي حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التبكير
إلى المساجد خير دليل على ذلك، والأحاديث كثيرة مشهورة.
ومن هنا نفهم كثرة ما ورد عن السلف الصالح في هذا الشأن، فهذا إبراهيم
بن يزيد الفقيه عابد الكوفة يقول: «إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى
فاغسل يدك منه» [7] .
والتهيؤ يكون بحسب كل عبادة وما شرع فيها.
والحج كذلك له تهيؤ؛ فرد الأمانات والمظالم، والتخلص من الحقوق قبل
الشروع في السفر كلها صور للاستعداد لهذه العبادة العظيمة، وكذلك تهيئة الزاد
والراحلة والرفقة الصالحة.
والمتأمل في ذلك يجد الفرق شاسعاً بين من يؤدي العبادة دون استعداد بدني
يصحبه تهيؤ قلبي ومن يأتي الصلاة مسرعاً حتى يدرك الركعة فيدخل في الصلاة
ولم يسكن جسده من ذلك السعي، ولعل في نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم-
عن السعي بعد الإقامة إشارة إلى ذلك، وإلى أن يتفاعل الإنسان روحيّاً ونفسيّاً مع
هذه العبادة تكون الصلاة أوشكت على النهاية.
4- الابتعاد عما يشوش القلب أثناء العبادة: ففي الصلاة مثلاً: نهى الرسول
-صلى الله عليه وسلم- المصلي أن يصلي إلى ما يشغله أثناء الصلاة «فإنه لا
ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي» [8] .
ولهذا جاء النهي عن أن يصلي الإنسان في حضرة طعام أو وهو يدافع
الأخبثين، كل هذا من أجل أن ينخلع القلب من علائق الدنيا وينجذب إلى حقيقة
العبادة ويجتمع في قلب العبد وفكره ووجدانه الاتجاه إلى الله (تعالى) ، ومثل هذه
الأمور يمكن فعلها في عبادات أخرى. ليكون أدعى لانشغاله وتفرغه للعبادة، مما
يؤدي لتفرغ قلب الإنسان للتوجه وللعبودية لله (عز وجل) أثناء الصوم.
5- المشاهد أن كثيراً من الناس يؤدي بعض العبادات بصورة تلقائية أقرب
إلى الحركة الميكانيكية، فمثلا في الصلاة: ترى كثيراً منهم يدخل في صلاة النافلة
فيقرأ دعاء الاستفتاح الذي يجري على لسانه، ومن ثم سورة الفاتحة، ثم تجري
على لسانه إحدى السور الصغار التي يحفظها على ظهر القلب، وربما إذا سألته بعد
صلاته ماذا قرأ، فإنه لا يذكر.
ولاتفكر الأغلبية العظمى من الناس مثلا في قراءة صيغة أخرى لدعاء
الاستفتاح، أو في قراءة آيات أو سور من غير تلك السور التي تجري على ألسنتهم
دون أن يتفكروا فيها أو يشعروا بها، مع أن السنة وردت بالتنويع في هذه الأذكار،
فهناك عدة صيغ لدعاء الاستفتاح، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ من
القرآن كله في تطوعه.
وهكذا في أذكار الصباح والمساء وغيرها من الأذكار والعبادات الدورية التي
وردت السنة بهيئات وصيغ متعددة لها.
إن التنويع في صفات العبادة بما يوافق السنة الصحيحة له أثر في طرد ما قد
يطرأ على العبادة من صفة العادة والرتابة التي تضعف تأثير العبادة على القلب.
هذا والوسائل كثيرة ومتنوعة، لكن حسب الإنسان أن يضع هذه القضية
نصب عينيه هدفاً منشوداً، وأن يحاسب نفسه فيما يتعلق بها، فكلما عمد إلى عبادة
من العبادات عليه أن ينأى بعبادته أن تكون ميتة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يوفقنا للإخلاص في القول والعمل،
ويرزقنا اتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، إنه سميع مجيب.
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) البخاري، كتاب الصوم.
(3) انظر صحيح الجامع، ح1622.
(4) أخرجه البخاري.
(5) أخرجه البزار وأحمد بن حنبل، ج5ص363، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: ج1ص429 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.
(6) انظر: فيض القدير ج4ص211.
(7) انظر: سير أعلام النبلاء.
(8) انظر: صحيح الجامع، ح2500.(94/18)
في إشراقة آية
[ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً]
بقلم: د. عبد الكريم بكار
يقول الله (جل وعلا) : [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [البقرة: 269] .
وردت كلمة (حكمة) في مواضع عديدة من الكتاب العزيز، وذهب المفسرون
إلى تفسير معناها في كل موضع بحسب السياق الذي وردت فيه، فتارة تُفسر
بالسنة، وتارة بالموعظة، وتارة بالقرآن ...
أما في هذا الموضع الذي نحن بصدده، فإن للعلماء في تفسيرها أقوالاً كثيرة، منها: النبوة، والفقه في القرآن، والمعرفة بدين الله، والفقه فيه، والاتباع له،
والخشية، والورع [1] ...
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال في (الحكمة) : إنها المعرفة بالدين، والفقه
في التأويل، والفهم الذي هو سجية، ونور من الله (تعالى) [2] .
ولعل هذا القول هو أقرب الأقوال السابقة إلى الصواب. والذي يبدو لي: أن
الحكمة تتجاوز المعلومات الجزئية إلى المفاهيم الكلية مع نوع من التطابق بين
معارف الحكيم والمواقف العملية له؛ ومن ثم قيل إن الحكمة تعني: وضع الشيء
في موضعه؛ وإن كنا نرى أن ذلك أحد تجليات الحكمة، وليس جزءاً منها، لكنهم
لمحوا أن المواقف الصحيحة الملائمة هي التي تكشف عن حكمة الحكماء.
ولعلنا نحاول الحوم حول حمى الحكمة، وحول بعض تجلياتها وتجسيداتها في
المفردات التالية:
1- إن تاريخ الإنسان هو مكافحة (العماء) و (اللاتكوّن) في داخل نفسه وفي
خارجها؛ فهو يحاول أبداً صياغة المفهومات والرؤى التي تمكّنه من فهم مركزه في
هذا الكون، ومعرفة المحيط الذي يعيش فيه بغية فهم الموقف الصحيح والخطوة
المناسبة.
ومهما بذل الإنسان من جهود في سبيل الوصول إلى ذلك فإن نجاحه يظل
نسبيّاً، كما أن تقدير الناس لذلك النجاح سوف يظل متفاوتاً؛ حيث إن مبادئ
الإنسان ومعارفه تتحكم دائماً في بلورة رؤيته للأشياء؛ ومن ثم: فإن موقفاً ما قد
يكون في نظر واحد منا حكيماً، على حين ينظر إليه آخرون على أنه طائش
وخائب؛ إلا أن الأيام بما تجلّيه من عواقب ونتائج وبما تركمه من نماذج تساعدنا
على نوع من توحيد الرؤية والفهم.
2- إذا كنا نختلف حول تعريف الحكمة فإنه سيظل بالإمكان تحليلها إلى
العناصر المكوّنة لها، وهي على ما يبدو لي ثلاثة: الذكاء، والمعرفة، والإرادة؛
فالذكاء اللماح، والمعرفة الواسعة، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً: (الحكمة) ، وعلى
مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها.
الذكاء بمفرده لا يجعل الإنسان حكيماً؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة
من العلم والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة (شكلية) ، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل
استفادة صاحبها منها محدودة، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل، دون التمكن
من غربلة المعرفة أو الإضافة إليها. والأهم من هذا وذاك: أن المعرفة دون ذكاء
تؤخر ولادة الموقف الحكيم، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب ضعف
البداهة.
ولا يكفي الذكاء اللمّاح، ولا الخبرة الواسعة في جعل الإنسان حكيماً ما لم
يمتلك قوة الإرادة؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي تجعلنا ننصاع لأمر الخبرة،
وهي التي تنتج سلوكاً يختفي فيه الفارق بين النظرية والتطبيق.
الذكاء موهبة من الله (تبارك وتعالى) ، والمعرفة الواسعة كسب شخصي،
والإرادة القوية هدية المجتمع الناجح لأبنائه البررة؛ فهو الذي يحدّد العتبة والسقف
المطلوبين للعيش فيه بكرامة على مستوى الإرادة، وعلى مستوى القدرة، وهو لا
يمنح القدرة، لكنه يمنح أفراده إرادة الفعل والكف من خلال نماذجه الراقية، ومن
خلال المراتبية الاجتماعية التي يصوغها تأسيساً على الاستجابة لأوامره.
3- إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ،
ومن ثم: فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم، فقد يكون المرء قمة في تخصص من
التخصصات، لكنه لا يُعدّ حكيماً، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً متبحراً في أي
علم من العلوم.
العلم يفكك المعرفة من أجل استيعابها، فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على مساقات
كثيرة، أما الحكيم: فيقوم بتركيب المعرفة النظرية مع الخبرة العملية من أجل بناء
وتشكيل المفهومات العامة في سبيل الوصول إلى رؤية شاملة تندغم فيها معطيات
الماضي والحاضر والمستقبل.
العلم يمكننا من صنع الدواء، وصنع السلاح، لكن الحكمة تجعلنا نعرف متى
نداوي، ومتى نحارب.
العلماء كثر، والحكماء نادرون؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها،
والعمل الدعوي اليوم ليس فقيراً في الاختصاصيين، لكنه محتاج حاجة ماسّة إلى
الحكماء العظام الذين يمزجون بين العلوم والثقافات المختلفة، ويخلصون منها إلى
محكات نهائية في الإصلاح والنهضة ومداواة العلل المستعصية ...
إن الحكمة أُم الوسائل والأساليب، لكنها أكبر من أن تحصر في أي منهج من
المناهج، إنها معرفة تتأبى على التنظيم، فهي دائماً مرفرفة، على حين أن العلم
معرفة منظّمة، وكل العلوم يبدأ تفتحها على أنها حكمة، وتنتهي إلى أن تكون فنّاً،
أي: إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد أن يتم سجنها في قوالب جاهزة، وتصبح
بحاجة ماسّة إلى أن ترفرف من جديد، أي: أن تطعّم بالحكمة. ومن ثم: فإن
الحكمة تتأبى على الاستنفاذ، ولذا: فإنها الخير الكثير الفياض المتجدد الذي يهيئه
الله (تعالى) لمن شاء من عباده.
4- جفل الوعي الإسلامي قديماً من (الفلسفة) ؛ لأن أكثر فلاسفة المسلمين
أخرجوا الفلسفة من إطار الوحي وإطار النصوص والمعطيات الشرعية العامة،
فصارت المفاهيم الفلسفية غريبة عن البنية الثقافية الإسلامية، بل مصادمة لها.
وفي العصر الحديث: لم تنشأ لدينا مدارس فلسفية، وإنما اتباع لفلاسفة الغرب،
ومروّجون لفلسفة مادية أجنبية محورها الأساس: هدم عقيدة الألوهية وتدعيم
الإلحاد ... فاستمر الجفاء بين الاختصاصيين (العلماء) وبين ذوي النظر الكلي والرؤية العامة.
إن الناظر في الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة (الحكمة) : يجد أنها ما
اقترنت بذكر (الكتاب) إلا كانت تالية له، وكأن في ذلك إشارة إلى أن الحكمة بما
هي مفاهيم ونظر كلي لا يصح أبداً أن تتشكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته
الكبرى؛ إنه القيّم والمهيمن عليها، وليس في ذلك حد من عطاء الحكمة وانطلاقها، ولكنه إمساك بها كي لا تفقد اتجاهها ومحورها؛ فالعقل البشري على سعة إمكاناته
لا يستطيع أن يعمل بكفاءة إلا من خلال إطار توجيهي يمنحه شيئاً من الثوابت
وصلابة اليقين.
وقد آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد
منها جميعاً: في تنسيق الواقع في ضوء المثال، وفي إدراك العلاقات الخطية
والجدلية التي تربط بين الأشياء، وفي معرفة سنن الله (تعالى) في الخلق ...
آن الأوان لترك التقدم العلمي لأهل التخصصات يغوصون على مفردات
العلوم، ويضيفون إلى فروع المعرفة كل يوم جديداً، والسعي إلى تكوين جيل جديد
من الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية، الذين يستخدمون
المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضية الشاملة.
وفي اعتقادي أن الحاجة إلى (الحكماء) سوف تزداد؛ إذ إن المعرفة البشرية
على وشك إكمال دورتها، وعصر ثورة المعلومات الذي بزغ فجره سوف يكون
أقصر العصور الحضارية، ثم يأتي زمان الأسئلة الكبرى: أسئلة الهوية، وعلل
الوجود، والمصير، وطبيعة الكينونة البشرية وحدودها، وحقوقها.. أي: إن
الفلسفة قد تستعيد مجدها القديم، لكن ضمن معطيات ومساقات جديدة، وبلغة شديدة
التعقيد، وعلينا منذ الآن أن نحضّر أولئك، الذين يستطيعون فهم أسئلة العصر
القادم، ويحسنون الجواب عليها.
5- الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات (الحكمة) كما ذكرنا وهي
(الإكسير) الذي يحيل المعرفة النظرية إلى نماذج متحققة في الواقع المحسوس، إن
الحكمة نور داخلي يشكل مفهومات كثيرة متباينة، ويدمجها في نظم أشمل، فتبدو
منسجمة متناسقة، لكن الحكيم لا يبدو كذلك، فهو طراز فريد، ونموذج خاص،
يصعب تقنين عطاءاته وتوجهاته ومواقفه؛ لأن طبيعة الحكمة تتأبى على التحقق
الكامل، ومن ثم: فإنها تلوح في بعض المواقف والسلوكات لتدل على فضل الله
(تعالى) على أصحابها وتوفيقه لهم. وتلك المواقف تفوق الحصر والعد، لكن نذكر
بعضها من أجل التقريب:
أ- الحكمة نمو دائم، فالمزج الفاعل بين الذكاء والخبرة والإرادة يجعل
مفهومات الحكيم في نوع من الحركة الدائبة، مفهوم يكبر، وآخر يضمر، ونقط
تزداد تفصيلاً، وأخرى تزداد تركيزاً، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة،
وأفكار قديمة تنبعث حية لتخط خطّاً جديداً ...
هذه الوضعية تجعل الحكيم في حالة من التألق الدائم، وهذا التألق قد يفسّر
لدى الكثيرين على أنه تناقض واضطراب، على حين أنه نوع من الاستجابة
الناجحة للمرونة الذهنية العالية، والروافد الثقافية الثرية، والإرادة الحرة الصُلبة،
لكن كل ذلك يأخذ سمة التغيّر لا التبدّل.
ب- إيثار الآجل على العاجل، والدائم على الآني، وما يمليه ذلك من مواقف
والتزامات: أكبر سمة من سمات (الحكيم) ، والشرائع السماوية كلها جاءت توجّه
الناس نحو هذه الفضيلة، لكن إغراءات المنافع والملذات العاجلة صرفت جلّ الناس
عن الاستجابة [كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ] [القيامة: 20، 21] .
وعدم تحقق هذه الفضيلة في حياة كثير من الناس، سببه: ضعف في الخبرة، أو
ضعف في الإرادة، أو فيهما معاً، والحكمة تجعل الحكيم في منأى عنهما.
وموقف الحكيم هنا يثير لدى الناس الدهشة؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما
يتقاتلون عليه، وربما اتهموه بالعجز أو الكسل أو القصور، وهو في الوقت نفسه
يضحك في داخله من جهادهم في غير عدو ومحاولات قبضهم على السراب! ! .
ج- داخل الحكيم ساحة مَوّارة بالحركة والنشاط، فهو لا يكفّ أبداً عن
عمليات المقارنة، والموازنة، والتحليل، والتركيب، والاستنتاج، والتشذيب،
والإضافة، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط، أما السطح فإنه هادئ تعلوه
السكينة والوقار.
إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة، وإطلاق الأحكام، وسرعة تشكيل
المواقف، لكن الحكيم طراز آخر من الناس، فهو بطيء في تكوين معتقداته،
وصياغة مقولاته، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل أشكال المعرفة والخبرة
في بعضها بعضاً، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً، لكنها منها جميعاً!
ويفسّر بعض الناس ذلك بالعي والحَصَر، لكن الأيام تثبت أن مقولات الحكماء هي
بنات عواصف فكرية وشعورية هائلة، لكنها غير منظورة! .
د - من أهم تجليات الحكمة: إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح؛
فالحكيم يرى الأشياء الكبيرة كبيرة، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي،
وتقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على
مدار التاريخ، وهل دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس
تافهة، فإذا هي عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمرّ عليه! .
الحكيم: رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة، ويستشرف ما بعدها، وهو لا
يرى نسقاً أو نظاماً من التداعيات الترابطية، لكنه يرى أنساقاً ونظماً تتوازى،
وتتقاطع، وتتصادم، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها، فيحذر قومه وينذرهم. كلنا
نرى القضايا بحجمها الحقيقي، لكن بعد فوات الأوان! ، وبعد أن نكتوي بنارها،
وتفوتنا فرصها الذهبية، لكن الحكيم يأتي في الوقت المناسب، كما قال سفيان
الثوري: «إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم» ! .
العالم (الحكيم) الذي وصفناه، أما أهل الاختصاص، الذين أذهبوا العمر في
تفتيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر، أو حول (لا شيء) : فهؤلاء جنود التقدم
العلمي، لكن حظوظهم من إشراقات الحكماء محدودة للغاية! .
هـ ترتفع درجة المرارة في داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة؛ والنزق والبَرَم
الذي نبديه حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب والجذور والسنن وطبائع
الأشياء ومنطق سيرورتها. أما الحكيم: فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث
وفواجعها، وإنما من غفلة الناس واستخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم، ونبهتهم
إلى النهايات المحتومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير لفداحة الخطب
الذي سيواجهونه. إن الآلام التي نشعر بها عند ظهور بعض النتائج تكون مكافئة
في العادة للمسرات التي عشناها يوم كانت (عقولنا مستريحة) ومشاعرنا غارقة في
عالم الملذات والأوهام! .
ما ذكرناه من أنوار الحكمة وفضائلها غيض من فيض، ولا يشف عن
محاسنها قول كقول الله (تبارك وتعالى) : [وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: 269] .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن: ج3، ص330.
(2) السابق: ج2، ص131.(94/26)
خواطر في الدعوة
اللهم إني أشكو إليك عُجري وبجري
محمد العبدة
شكوى يجأر بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لما عاناه
من الأقربين قبل الأبعدين، فكم عانى من المشاغبين في صفوفه الذين جرعوه
الغصص، وحملوه الهموم والأحزان، وشوشوا عليه رأيه، وذلك لكثرة اختلافهم
عليه، وكثرة آرائهم واقتراحاتهم، وكم كان موفقاً مَنْ أشار عليه بألا يترك المدينة
النبوية حيث القاعدة الصلبة التي شكلت المجتمع الإسلامي الأول.
إن هذه الدعوة لايقوى على حملها أصحاب النفوس المريضة والأساليب
الملتوية، الذين ألفوا الجدل وحب المخالفة، واستهوتهم الزعامة ولكنها متسترة باسم
المخالفات الاجتهادية وباسم الحرص على نجاح الدعوة.
وإننا في هذه الأيام أجدر من أمير المؤمنين بالشكوى، لما نعانيه من شباب
لمّا يذوقوا طعم العلم، وراحوا يفتون ويتصدرون، فلا تأدبوا بآداب العلم ولا تخلقوا
بأخلاق العلماء. ومن شباب ضاق ذرعاً بواقع المسلمين الأليم، فاستفزه الواقع في
تعجل الحل، وعندما أعيته الأمور، ووقع في مشكلات صعبة ليس من السهل
الخروج منها، راح يبرر فعلته بنصوص مقطوعة من هنا وهناك، وأبى الاعتراف
بالخطأ والرجوع للحق.
ومن شباب فيهم خير كثير، وفيهم ذكاء وعلم، ولكنهم وضعوا كل إمكاناتهم
في خدمة (مستقبلهم المعيشي) ، فهم خائفون مضطربون لاينتهي أحدهم من درجة
علمية حتى يطلب غيرها (ولو لم تكن في اختصاصه) ويتقن أمور دنياه التي توصله
إلى مايريد، ولكنه لم يتقن أمور دينه بالدرجة نفسها. ومن شباب لايظهر قدرة الله
فيه، ولاينطلق إلى آفاق أوسع، فآماله قصيرة وآلامه قليلة، وهمته ضعيفة.
ونشكو من شيوخ قد أقعدتهم المحن المتوالية والفشل المتراكم عن الاستمرار
في الدعوة والمطاولة والمصابرة، فانزووا على أنفسهم يتذكرون الماضي وما
أصابهم من الصديق قبل العدو، فأورثهم ذلك عُقداً مستعصية، وإذا كلمته في شأن
من شؤون الدعوة نظر إليك بابتسامة ساخرة، وكأنة يقول: ليس ثَمّة فائدة.
ومن شيوخ يريدون من الشباب أن يسيروا بسيرهم ويفكروا بتفكيرهم،
ولايراعون ظروفاً جديدة ولا تغيرات طرأت، ولاتحولات فكرية، ولم يتابعوا
الأحداث وما ولدت، فكأنهم يعيشون الخمسينات أو الستينات، وهذا مما يجعل
الشباب محنقاً ثائراً، لايستفيد من تجربة ولايسمع إلى قول، ويبدأ من حيث انتهى
الآخرون، وربما أدى ذلك إلى الطيش والتهور.
هل هذا يأس؟ !
كلا، بل الخير في الأمة الإسلامية كثير، ويحتاج إلى من يملك مفاتيح هذا
الخير، ويقدر على فتح الأبواب المغلقة.(94/32)
دراسات اقتصادية
وقفات متأنية مع
عمليات التمويل في البنوك الإسلامية
(4)
المشاركة المنتهية بالتمليك
د. محمد بن عبد الله الشباني
من الأساليب التي تتبعها بعض البنوك الإسلامية في تمويل الاحتياجات
الاستثمارية ما يعرف بالمشاركة المنتهية بالتمليك، ويطلق أحياناً على هذا النوع من
التمويل المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك، أو المشاركة التنازلية [1] .
والكيفية التي يتم بها هذا النوع من التمويل تقوم على أساس عقد مكتوب يتم
بمقتضاه تأسيس علاقة تعاقدية بين البنك كشريك ممول بجزء من المال والعميل
كشريك ممول بالجزء الآخر من المال، بجانب تقديمه الجهد والعمل اللازم لإدارة
النشاط الاقتصادي، بموجب هذا العقد يتناقص حق البنك كشريك بشكل تدريجي
يتناسب تناسباً طرديّاً مع ما يقوم العميل بسداده للبنك من قيمة التمويل المقدم،
وبالتالي: كلما قام العميل بشراء جزء من نصيب البنك في التحويل كلما تناقصت
نسبة البنك في المشاركة، وهكذا حتى يصبح نصيب البنك من المشاركة صفراً،
وتتحول ملكية المشاركة للعميل بالكامل في نهاية فتره المشاركة المنصوص عليها
في العقد.
تأخذ صيغة التعامل بهذا النوع من التحويل
عدة أشكال، أهمها ما يلي: [2]
الصيغة الأولى: يتم إحلال العميل محل البنك بعقد مستقل، وبعد إتمام عملية
التعاقد الخاص بعملية المشاركة الأصلية، وتعطي هذه الصيغة الحرية الكاملة لكلا
الطرفين في التصرف ببيع حصته من رأس مال الشراكة إلى الطرف الآخر أو إلى
غيره.
الصيغة الثانية: يتم بموجبها الاتفاق بين البنك وعميله المشارك على حصول
البنك على حصة نسبية من صافي الدخل أو العائد المتحقق فعلاً في إطار مبلغ يتفق
عليه، ليكون ذلك الجزء مخصصاً لسداد أصل ما قدمه البنك من تمويل، أي: إنه
يتم تقسيم الإيراد المتحقق إلى ثلاثة: الأول: حصة البنك كعائد للتمويل، والثاني:
حصة الشريك كعائد لعمله، والثالث: حصة البنك لسداد أصل مبلغ التمويل
المشارك في رأسمال المشاركة.
الصيغة الثالثة: يتم بموجبها الاتفاق بين البنك وعميله المشارك على تحديد
نصيب لكل منهما في شكل أسهم محدده القيمة يمثل مجموعها إجمالي قيمة المشروع
أو العملية موضوع المشاركة، ويحصل كل شريك على حصة من الإيراد المتحقق
فعلاً ما دامت الشراكة قائمة وتعمل، ويحق للعميل المشارك إذا ما رأى ذلك مناسباً، أو وفقاً لرغبته أن يشتري من البنك بعض الأسهم المملوكة للبنك في نهاية كل
فترة أو سنة مالية، بحيث تتناقص أسهم البنك بشكل تدريجي بمقدار ما يشتري
العميل المشارك من أسهم البنك، وتزداد حصة العميل المشارك إلى أن يمتلك
الأسهم كلها؛ فيصبح المشروع ملكه بالكامل.
الصورة التطبيقة لهذا النوع من التمويل تتمثل في قيام البنك بتمويل بناء
أرض مملوكة للعميل، أو شراء أصل، مثل سيارة، يتولى العميل العمل عليها،
على أن يأخذ البنك نسبة من الدخل الصافي، والباقي من صافي الدخل يتم تقسيمه
إلى ثلاثة أقسام: قسم للعميل مقابل إدارته وتشغيله للأصل، وقسم للبنك كعائد
لاستثماره، وقسم يتم خصمه من قيمة الأصل بحيث يتم تناقص قيمة تمويل الأصل
إلى أن تنتهي قيمة الأصل وتعود ملكيته إلى العميل.
طبيعة العلاقة ما بين البنك والعميل قائمة على أن البنك يتولى التمويل وينال
نسبة من العائد لقاء تمويله، ويقوم العميل بالسداد من الدخل الناتج عن هذه
المشاركة إلى أن يتم سداد كامل ما قام البنك بدفعه لتمويل هذه المشاركة مع ربح
يضاف إلى قيمة البيع، فمثلاً: لو أن البنك قام بشراء سيارة بقيمة عشرة آلاف
ريال، يقوم ببيعها في نهاية مدة ثلاث سنوات باثني عشر ألف ريال، يتم سدادها
من صافي الدخل بعد خصم نسبة من هذا الدخل للبنك، ونسبة لسائق السيارة
(المالك لها مستقبلاً) ، والباقي يمثل القسط السنوي، فلو فرض أن صافي دخل
السيارة ستة آلاف ريال واتفق أن للبنك 10% من صافي الدخل (أي: ستمئة ريال)
كعائد لاستثماره، والباقى (أي: خمسة آلاف وأربعمئة) يأخذ السائق (العميل) منها
ثلاثة آلاف لقاء قيامه على إدارتها وتشغيلها والباقي (مقداره: ألفان وأربعمئة) تمثل
القسط السنوي، وبعد اكتمال مبلغ عشرة آلاف ريال الممثل لقيمة السيارة تنتقل
ملكية السيارة إلى السائق (العميل) .
والصيغ الثلاث يمكن تطبيقها على الحالة المشار إليها، إما على أساس عقدين
منفصلين (عقد مشاركة بين البنك والعميل (السائق) وعقد بيع للسيارة بسعر اثني
عشر ألف ريال) على أن يتم سداد هذه القيمة من الإيراد، وإما يكون ضمن صيغة
عقد واحد يوجب عند الانتهاء من سداد التمويل انتقال الملكية في نهاية المدة المحددة
للمشاركة إلى العميل (السائق «، وإما أن يتم تحديد المشاركة بصيغة أسهم قيمتها
عشرة آلاف ريال يقوم العميل (السائق) بشراء عدد منها على أن يحق له شراء
أسهم البنك أو جزءٍ منها في نهاية كل سنة مالية بحيث تنتهي المشاركة بتمليك
العميل جميع نصيب البنك من الأسهم.
الشبهات التي تثار ضد هذا النوع من التمويل تأخذ جانبين:
الجانب الأول: أن المشاركة ليست الهدف من عملية التمويل؛ فالمشاركة ما
بين العميل والبنك ليست الغاية من عملية التمويل، وإنما الهدف هو توفير المال
للعميل، وهذا النوع من المشاركات يمارس من قبل بعض البنوك الإسلامية بقصد
توفير المال اللازم للمشروعات العقارية، حيث يحتاج صاحب العقار إلى تمويل
لإكمال مشروعه العقاري، فالقصد من عملية التمويل ليست المشاركة والحصول
على العائد من هذه المشاركة، وإنما القصد الحصول على عائد للمال الذي قام البنك
بتوفيره للعميل.
الجانب الثاني: أن هذا الأسلوب اشتمل على شبهة قرض جر نفعاً على
أساس شرط عقد في عقد؛ فهناك عقد مشاركة وعقد بيع، فهو في حقيقته قرض
يأخذ شكل المشاركة، فالمشاركة مربوطة بنسبة من الربح للبنك لقاء التمويل وحجز
جزء من نصيب العميل من هذا العائد لقاء سداد التمويل.
إن هذا النوع من التمويل يثير شبهتين: شبهة قرض جر نفعاً، وشبهة شرط
عقد في عقد، فهو عقد مشاركة وعقد بيع في آن واحد، وقد ذكر ابن قدامة في
(المغني) منع هذا النوع من التعامل، فقال ما نصه:» وإن شرط في القرض أن
يؤجر داره، أو يبيعه شيئاً، أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى.. لم يجز؛ لأن
النبي نهى عن بيع وسلف، ولأنه شرط عقد في عقد، فلم يجز؛ كما لو باعه داره
بشرط أن يبيعه الآخر داره، وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها، أو على
أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها، أو أن يهدي له هدية ويعمل له عملاً..
كان أبلغ في التحريم « [3] . فالبنك يشترط أخذ نسبة من الدخل كما أنه يقتطع
جزءاً من الدخل، حتى يستوفي ما قام بتمويله، فالغرض هو تمويل العقار أو شراء
السيارة أو أي أصل من الأصول التي تُدر دخلاً، فليس الغرض من عملية
المشاركة الحصول على عائد المشاركة بشكل مستمر، وعند الرغبة في إنهاء
المشاركة يتم البيع للعميل عند الرغبة، بحيث لا يقتصر البيع عليه فقط، وإنما
يكون البيع متاحاً للغير، ويتحمل البنك ما ينتج عن ذلك من خسارة أو ربح، أي:
إن البنك يدخل في الغنم والغرم.
وهذا هو ما يشار إليه في العقود، ولكن ما يتم في الواقع هو أن العميل هو
الذي يقوم بعملية الشراء.. وعليه: فإن العبرة في العقود بالمقاصد وليس بشكلياتها
أو صيغها، ولولا ضمان العميل بأن البيع سيتم له لما قبل هذه المشاركة، وعليه:
فهذا الأسلوب من التعامل يخفي خلفه الربا المبطن.
إن اشتراط أن يتم بيع نصيب البنك من المشاركة كجزء من عملية التعامل
سواء أتم البيع بعقدين منفصلين أو بعقد واحد أو بوعد بالبيع من قبل البنك ووعد
بالشراء من قبل العميل (طالب التمويل) ، فهذا الشرط باطل والبيع فاسد؛ والعلة
في فساد البيع: ما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) :» نهى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عن بيعتين في بيعة « [4] ومارواه عبد الله بن عمرو عن النبي -
صلى الله عليه وسلم- أنه قال:» لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما
ليس عندك « [5] وقد حدد ابن قدامة مفهوم بيعتين في بيعة بقوله:» مثل أن يقول
بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو
على أن أُؤجرك، أو على أن تؤجرني كذا، أو على أن تزوجني ابنتك، أو على
أن أزوجك ابنتي.. ونحو هذا، فهذا كله لايصح؛ قال ابن مسعود: «الصفقتان
في صفقة ربا» وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه
مالك « [6] وقد علل فساد هذا العقد بقوله:» إن النهي يقتضي الفساد، ولأن العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط، فيفسد العقد؛ لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط، فإذا فات فات الرضا به، ولأنه شرط عقداً في عقد لم يصح، كنكاح الشغار « [7] .
ووجه المقارنة بين عقود المشاركة المنتهية بالتمليك بهذا النوع من البيوع
الفاسدة هو أن عقد الشراكة مرتبط بعقد البيع؛ فطالب التمويل لا يقبل بمشاركة
البنك إلا إذا التزم بأن يقوم البنك ببيع نصيبه من المشاركة خلال فترة زمنية محددة، ويقتطع هذا السداد من نصيب العميل من الدخل، كما أن البنك لا يقبل بالقيام
بالتمويل إلا إذا حصل على نسبة من الإيراد مقابل التمويل، وقد ضمن بيع
مشاركته للعميل في نهاية فترة سداد التمويل.
ومن أجل توضيح ما أوردوه أطرح المثال التالي لتقريب الصورة للقارئ:
فلو أن شخصاً يمتلك أرضاً ويرغب في بنائها من أجل الحصول على عائد من
تأجيرها، وتقدم للبنك بطلب التمويل على أن يتم سداد قيمة التمويل من الإيراد
المتوقع من تأجير العقار بعد البناء، على أن يكون للبنك لقاء التمويل 15% من
الإيراد، والباقي لصاحب الأرض، على أن يتم سداد التمويل من الإيراد، المتحقق
من هذا العقار، ويأخذ شكل التعامل صيغة المشاركة المنتهية بالتمليك، بحيث يتم
في نهاية فترة زمنية استرداد التمويل كاملاً وتؤول ملكية العقار إلى صاحب الأرض
(العميل) ، وهذا التمويل وإن أطلق عليه مشاركة أشبه بالقرض الذي جر نفعاً،
حيث يتحصل البنك على نسبة من الإيراد لقاء مشاركته في التمويل خلال فترة سداد
التمويل، بجانب ذلك: فإن اشتراط البنك استرداد تمويله من خلال اقتطاع ذلك من
الإيراد أدى إلى انتفاء مفهوم المشاركة حسب المفهوم الشرعى لعقود المشاركات.
والخروج من هذه الشبهة يتمثل في اتباع مفهوم الشراكة السليم: بأن تكون
عملية المشاركة بين البنك وطالب التمويل شراكة فِعْليّة، يتحقق فيها مفهوم
المشاركة في الغنم والغرم، ولا يكون البيع لأحد طرفي العقد شرطاً أو وعداً ملزماً
أوغير ملزم ضمن شروط توفير التمويل، بل إن الشراكة تقوم على نية العمل على
تحقيق العائد على ما تم استثماره من مال من قِبَل البنك، ومال وجهد من قبل طالب
التمويل.
__________
(1) البنوك الإسلامية، د محسن أحمد الخضيري ص132، الفتاوى الشرعية للبنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار نشرة إعلامية رقم (4) عام 1984م ص73.
(2) البنوك الإسلامية، د محسن أحمد الخضيري ص132، 133.
(3) المغني لابن قدامة ج4 ص355.
(4) أخرجه الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ج2 ص8.
(5) أخرجه الترمذي، كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عنده، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي ج2 ص9: حديث حسن صحيح.
(6) المغني لابن قدامة ج4 ص258.
(7) السابق.(94/34)
مقال
نظرات في قضية
ترجمة معاني القرآن الكريم
(1)
بقلم: د. فهد بن محمد المالك
منذ عدة قرون كانت قضية ترجمة القرآن الكريم وعلى الأصح ترجمة معاني
القرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى واحدة من القضايا التي طرحت
نفسها وبشكل كبير على الساحة الإسلامية، ولكن مع مرور الزمن لم يعد الإقدام
على مثل هذا العمل حدث الأحداث في الإسلام، ولم تعد المعارضة الحادة مجدية
في قضية أصبحت واقعاً حيّاً لا مجال لإنكاره.
وحيث إنني من المتخصصين في دراسة هذا المجال مجال ترجمة القرآن
الكريم إلى اللغات الأخرى، فسأحاول بتوفيق الله (عز وجل) في هذا المقال إعطاء
القارئ العزيز بعض المعلومات الأساسية حول هذه القضية التي أشغلت بال وفكر
الكثيرين من المسلمين، وخصوصاً من يعملون في حقل دعوة غير العرب إلى
الإسلام.
وهدفي من كل هذا: تنبيه أهل الإسلام إلى ما يجري وما يدور حول نقل
«الكتاب العزيز» إلى مختلف الألسنة، فيسارعون بذلك إلى معالجة الضعف والوهن والخلل المتراكم في تلك الترجمات.
وليس الهدف هنا أن أثير الخلاف من جديد حول جواز الترجمة لمعاني القرآن
الكريم أو عدم جوازها، فهذا قد أجاب عليه علماؤنا منذ العصور الأولى، وليس
المقصود هو ترجيح رأي على آخر، فهذا إنما يجدي ويثمر إذا كان ما يدور الجدل
حوله ما يزال فكرة، وتحققها أو عدم تحققها يترتب على ما يرجح من رأي، فليس
الأمر من هذا القبيل، وليس من المبالغة إذا قلنا: إنه ما من لغة مكتوبة اليوم إلا
وقد ترجم إليها القرآن الكريم، ومن هذا المنطلق لم تعد القضية: هل نجيز الترجمة
أم نمنعها؟ إذ ليس في الإمكان منعها لو أردنا ذلك، فلقد غُمرت الأسواق
بالترجمات، وزاد عددها عما كان متخيلاً، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن،
وقد طرحه عليّ العديد من المهتمين:
أي الترجمات المتوفرة في الأسواق في لغة معينة أصح من غيرها وتنصحون
بها؟
والحقيقة: إن الإجابة على هذا السؤال بما تطمئن إليه النفس، غالباً ما تكون
عسيرة وصعبة، لأن ذلك يتطلب فاحصاً من نوع خاص، فاحصاً يجيد اللغة
العربية وفنونها وبلاغتها، ويجيد كذلك اللغة المترجم إليها، وتكون عنده من الثقافة
الإسلامية الأصيلة ما يمكنه من الحكم على ما تؤديه الترجمة من معنى يتفق مع
المعايير الإسلامية الصحيحة في اللغة المترجم إليها، وحتى نكون أكثر واقعية،
فإنه مهما كانت كفاءة وقوة الترجمة، فإننا لا نتوقع أن يستطيع ويتمكن المترجم من
نقل وترجمة جميع الإبداعات والمعاني البلاغية الموجودة في النص العربي، وما
ذلك إلا لقوة اللغة العربية، ويكفي في ذلك دليلاً ما ذكره أحد المتخصصين في علم
الترجمة: «لا توجد ترجمة مهما كانت مصداقيتها يمكن القول إنها ناجحة تماماً» .
لذلك: فقد وجد المترجمون الذين قاموا بترجمة معاني القرآن الكريم من اللغة
العربية مباشرة صعوبة ترجمة ونقل نفس ما هو موجود في النص العربي.
وأكبر دليل على ذلك: ما نجده في أن كثيراً من الذين قاموا بترجمة معاني
القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية مثلاً قد حاولوا الهروب من تسمية أعمالهم
«ترجمة» ، وسموا محاولاتهم أسماء أخرى، فعلى سبيل المثال: أطلق ...
«محمد مرمادوك» على عمله اسم: «معاني القرآن الكريم» ، وأطلق محمد أسد على عمله: «رسالة القرآن» ، كما أطلق الإنجليزي «آدري» على عمله
اسم: «القرآن مفسراً» .
الغرض من ترجمة معاني القرآن الكريم:
إن المقصود بترجمة القرآن الكريم هو: نقل نصوصه من اللغة العربية إلى
اللغات الأخرى، وذلك حتى يتسنى لمن لا يتقن اللغة العربية أن يتفهم ولو شيئاً
يسيراً مما في هذا الكتاب العزيز.
ولقد اختلفت أغراض المترجمين بحسب توجهاتهم الدينية ومذاهبهم الفكرية،
ويمكن تقسيم هذه الأغراض إلى نوعين من المحاولات:
أ) محاولات منصفة ومخلصة، قام بها مسلمون كان غرضهم الأساس هو
إيصال وتوضيح رسالة القرآن الكريم لمن لا يتقن اللغة العربية.
ب) محاولات غير منصفة، قام بها أُناس حاقدون على الدين الإسلامي،
وكان غرض بعضهم هو طمس معالم الدين الإسلامي الصافية والتشكيك في رسالة
الإسلام.
ومن ذلك: ما قام به بعض المترجمين المستشرقين من محاولات التشكيك في
نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان غرض بعضهم الآخر هو خدمة ونشر
الأفكار والمفاهيم الباطلة التي يعتنقها: مثل ما قام به بعض أدعياء الإسلام من
المترجمين الذين بثوا سموم ضلالاتهم، وانحرافاتهم في ترجماتهم، فالقادياني مثلاً:
يصوغ ترجمته بما يخدم العقيدة القاديانية، وقل مثل ذلك في المترجم الشيعي
والمترجم الصوفي.
ولعله من بدهي القول أن الترجمة هي: نقل الكلام من لغة إلى أخرى،
وتكون بإحدى طريقتين:
أ) عملية توصيل ونقل معاني القرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغات
الأخرى، وهذا النوع كان متبعاً حتى في زمن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-،
وليس هناك خلاف بين علماء الإسلام حول جواز هذا النوع من الترجمة.
ب) عملية تقديم النص القرآني حرفيّاً بلغة أخرى غير العربية، وبالتالي:
تحل هذه الترجمة محل النص القرآني العربي، وحول هذا النوع يكاد يكون هناك
شبه إجماع بين علماء الإسلام المعتبرين على استحالة وعدم جواز مثل هذا النوع
من الترجمة. ويمكن عزو ذلك إلى أسباب، منها:
1- أن المرادفات الأجنبية لا تستطيع نقل الظلال التي تحملها الكلمات
والمفردات العربية.
2- تضييق معاني القرآن الكريم إلى معانٍ ومفاهيم محددة باللغة الأخرى
سيؤدي (لا محالة) إلى فقدان واستبعاد معانٍ أساسية ومهمة.
3- سيؤدي إبراز النص القرآني بلغة أخرى حرفيّاً إلى عدم الوضوح وإلى
نوعٍ من الغموض.
لمحة تاريخية عن تطور ترجمات معاني القرآن الكريم:
على الرغم من أنه توجد الأعداد المتوافرة من المجلدات التي تبحث وتدرس
قضايا مختلفة في علوم القرآن، إلا أنه وحتى الآن لا يوجد عمل موسع ومتخصص
في دراسة العدد الهائل والكم الوافر من ترجمات القرآن الكريم، سواء الإنجليزية
منها أو غيرها.
ولقد كان للموسوعة التي أصدرها مركز الدراسات والبحوث الإسلامية في
إسطانبول عام 1986م دور كبير في توضيح بعض المعلومات عن ترجمة القرآن
الكريم، وعن عدد اللغات التي ترجم إليها القرآن الكريم، وعدد الترجمات في كل
لغة، وحسبما تشير إليه الموسوعة: فإن القرآن الكريم وحتى عام 1980م ترجم
إلى 65 لغة، وكانت اللغة الأوردية هي أكثر اللغات المترجم إليها؛ حيث بلغ عدد
الترجمات الأوردية (770) ترجمة مستقلة، يلي ذلك اللغة الإنجليزية (426)
ترجمة، ثم اللغة التركية (304) ترجمات.
وفي الأسطر التالية سأحاول أن أعرض مسحاً تاريخيّاً لمراحل تطور ترجمة
القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية بحكم أن تخصصي يدور حول ترجمة القرآن
الكريم إلى اللغة الإنجليزية.
بدايات الترجمة كانت مشبوهة المقصد:
تشير بعض الدراسات إلى أنه لا يعرف بالتحديد من هو أول من ترجم معاني
القرآن الكريم؟ ومتى؟ وأين كان ذلك؟ وتتعذر الإجابة الأكيدة على مثل هذه
التساؤلات، على أن الشيء المؤكد هو أنه قد ظهرت محاولات ربما تكون كثيرة
لنقل القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية، وذلك بعد فتح المسلمين لبلاد الأندلس،
فمنذ ذلك الحين والرهبان الغربيون بوجه خاص يقبلون على القيام بهذا العمل بدوافع
دينية لدراسة الإسلام، والوقوف على حقيقة الكتاب الرئيس في الدين الوافد عليهم،
وذلك محاولة منهم لإيجاد ثغرات في كتاب الإسلام المجيد، أملاً منهم في الحد من
انتشاره السريع بين ذويهم.
بينما تشير بعض الدراسات الأخرى إلى أن أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم
بلغة غربية كانت باللغة اللاتينية عام 1143م، وقد قام بهذه الترجمة اثنان، وهما:
«روبرت تشستر - Rebeert of Chester» و «هرمان الدلماطي
Hermann Alemanus» ? وقد استعانا باثنين من العرب واستغرق زمن
الترجمة مدة سنتين.
وقد امتلأت هذه الترجمة بالتزييف والتحريف، وخلت تماماً من الأمانة
العلمية، وكثرت فيها الأخطاء، حتى وصفها أحد الإنجليز بأنها: «غير ناجحة
وغير مرضية؛ لأنها قدمت الأفكار اللاتينية باستخدام عبارات وكلمات تناسب
المجتمع النصراني ولا تناسب المجتمع الإسلامي» ، كما قال عنها شخص آخر:
«إنها لم تكن بوجه من الوجوه ترجمة أمينة وكاملة النص» .
هذا، وقد ظلت هذه الترجمة عدة قرون تصنف وتختصر إلى أن انتشرت
المطابع في أوروبا فقام «تيودور بلياندر Theeodor Biliander» من
(زيورخ) بطبعها في مدينة (بال) في سويسرا عام 1543م.
وقد أبرز نشر هذه الترجمة، وبروزها للساحة دوافع كبيرة لتقديم معاني
القرآن الكريم باللغات الغربية، لذا ونتيجة لذلك فقد توالت الترجمات إلى اللغات
الأخرى في الظهور والانتشار، فظهرت ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة
الإيطالية عام 1547م، والألمانية 1616م، والفرنسية 1647م.
ففي عام 1647م قام القنصل الفرنسي في مصر بعمل ترجمة لمعاني القرآن
الكريم إلى اللغة الفرنسية، إلا أن هذه الترجمة وكما وصفها «جورج سيل -
Goorge Sale» : «مليئة بالأخطاء والإضافات» ، ولقيت هذه الترجمة
كسابقتها رواجاً كبيراً وشهرة واسعة.
ولم يعرف أهل اللغة الإنجليزية القرآن الكريم إلا من خلال هذه الترجمات
اللاتينية والفرنسية حتى قام «الكسندر روس Alexander Ros» بعمل ترجمة
لمعاني الكريم باللغة الإنجليزية مأخوذة من ترجمة القنصل الفرنسي سابق الذكر
عام 1649م، وتم طباعة هذه الترجمة الإنجليزية خمس مرات في بريطانيا ومرة واحدة
في أمريكا.
ولقد كانت هذه الترجمة مثل سابقتها اللاتينية والفرنسية ملفقة مبتورة الصلة
بالأصل الصحيح للقرآن الكريم، وكان واضحاً أن الغرض منها هو تحريف القرآن
الكريم، والحكم بتزييفه في كل صفحة من الصفحات، وكذلك تشويه صورة النبي
محمد -صلى الله عليه وسلم- أمام أعين الغربيين.
وفي عام 1698م ظهرت في إيطاليا الترجمة اللاتينية الثانية لمعاني القرآن
الكريم ومعها النص العربي، وكان قد أعدها «الأب لويس ماراكسي Father
Louis marracci» وقد ارتكزت هذه الترجمة كغيرها على دعوى أن محمداً -
صلى الله عليه وسلم- هو واضع القرآن! وأن هدفه هو إخضاع الناس له بالسيف، وتعتبر هذه الترجمة من أهم الترجمات التي اعتمدت عليها أغلب الترجمات
الإنجليزية بعد ذلك.
وفي عام 1734م قام «جورج سيل Goorge Sale» بإخراج أشهر
ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية حتى اليوم، وسماها «قرآن
محمد» ، وقد قُدّر لهذه الترجمة أن تسود العالم الأوروبي والأمريكي قرابة قرنين من الزمن، وكان مصدره الأصيل في ترجمته هو: ترجمة «Marracci» اللاتينية سالفة الذكر؛ إلا أن هذه الترجمة مثلها مثل ترجمة «Marracci» اتسمت بالجحود والإنكار للقرآن، وكانت ترجمة متعصبة ممقوتة، تقف ضد القرآن في طولها وعرضها، وقد تم طباعة هذه الترجمة ما يزيد عن ثلاثين مرة، وتم ترجمتها من الإنجليزية إلى اللغة الدانماركية عام 1742م، وإلى اللغة الفرنسية عام 1750م، وإلى اللغة الألمانية عام 1764م، وإلى اللغة الروسية عام 1792م، وإلى اللغة السويدية عام 1814م، وإلى اللغة البلغارية عام 1902م.
وتبعاً لذلك، فقد توالت محاولات ترجمة عديدة قام بها مترجمون إنجليز
اعتمدوا أساساً على ترجمة «Sale» المذكورة آنفاً أو على ترجمات أخرى،
ومن هذه الترجمات: ترجمة «رودويل -Rodwel» عام 1861م، وترجمة
«بالمر Balmer» عام 1880م، وترجمة «بل- Bell» عام 1939م، وترجمة «داود» عام 1956م، وترجمة «آدبري» عام 1955م، كما تتابعت أيضاً محاولات ترجمة قام بها عددٌ من المسلمين غير العرب، ومن ذلك ترجمة «عبد الكريم خان» عام 1905م، وترجمة «مرزا عبد العزيز
» عام 1911م، وترجمة «محمد علي» عام 1916م، وترجمة «عبد الله يوسف علي» المشهورة عام 1938م، كما برزت ترجمات قام بها أشخاص غربيون دخلوا في الإسلام، ومن ذلك ترجمة «محمد مرمادوك باكثال»
عام 1930م، وترجمة «محمد أسد» عام 1980م.
وبعد:
فهذه بعض اللمحات حول قضية ترجمة معاني القرآن الكريم، أرجو أن أكون
قد وفقت في توضيحها لك أخي القارئ، وأعدك بحلقات أخرى قادمة إن شاء الله
تعالى أسلط الضوء فيها على بعض التنبيهات والقواعد الأساسية في ترجمة معاني
القرآن الكريم، وعلى بعض الملاحظات على بعض الترجمات المشهورة والمتداولة
في الأسواق، بغية الإرشاد إلى ما فيه خير ومنفعة الإسلام والمسلمين.(94/40)
مقال
المرأة.. وتخرصات التحريريين
بقلم: علي التمني
القراءة الواعية لكثير مما تنشره بعض الصحف والمجلات تكشف حملة
الأكاذيب التي تشنها هذه الأيام بعض أقلام السوء والهزيمة والتبعية في شأن المرأة
وشجونها، وذلك من قبل بعض المنابر الإعلامية التي آلت على نفسها إلا أن تكون
حرباً لا هوادة فيها على القيم الإسلامية بعامة وعلى ما يعني المرأة منه بخاصة،
لقد كان الإسلام وسيظل كريماً مع المرأة والرجل على حدّ سواء، لأنه الدين الذي
ارتضاه الخالق (عز وجل) ليقود البشرية إلى الرفعة والسعادة والطمأنينة، خلاف
كل المبادئ الوضعية التي أغرقت الإنسان في الضياع والرذيلة والعبثية؛ الأمر
الذي أدى إلى فقدان الإنسان المعاصر على وجه التحديد لقيمة الغاية والهدف في هذه
الحياة، فأصبح الإنسان غير المؤمن بالإسلام ضائعا تائهاً بين مبادئ وأفكار
ونظريات كلها يصب في بوتقة الحسية والمادية والشهوانية بكل صورها وأبعادها،
أقول هذا لأنني والعقلاء في كل زمان ومكان على إدراك بأن الحياة لاتقوم في فهمها
على مبدأ الاختزال، اختزال المبادئ في نظرية أو مقولة كمقولة (تحرير المرأة)
على سبيل المثال والتضحية بكل معاني الحياة وجوانبها الأخرى. إن الداعين إلى
تحرير المرأة على الطريقة العلمانية (اللادينية) والداعيات إلى ذلك التوجه في
الوطن الإسلامي كذلك، إنما ينشدون محالاً من الأمر، فهم وهنّ في شقاء مستمر
في سبيل الوصول إلى مركب يجتمع فيه الخير والشر في آن، وكما قلت: فذلك
من المحال؛ إن الإسلام الذي جاء شاملاً وكاملاً من عند الله لا يمكن أن يكون
ألعوبة في أيدي هؤلاء العابثين المخربين دعاة وداعيات التحرير المزعوم، فالمرء
مخير بين أمرين لاثالث لهما: إما الإسلام كله، أو التبعية للجاهلية المعاصرة كلها، ولاخيار ثالث لهما، فليعِ هذا من أراد مناطحة الجبال.
لقد ظهرت الدعوة إلى تحرير المرأة في أوائل القرن العشرين (الميلادي «في
صور مختلفة وأساليب متعددة وإن كانت الغاية واحدة في كل الأحوال لجميع الدعاة
إلى هذا الأمر الغريب العجيب:
فهناك الوضوح السافر في الدعوة إلى تحرير المرأة وخروجها على تعاليم
ربها (سبحانه وتعالى) ومن خلال الكتب المنشورة على أوسع نطاق ككتابَي قاسم
أمين:» تحرير المرأة «و» المرأة الجديدة «.
وهناك الدعوات المستترة المترددة التي تخشى رد فعل المسلم الغيور على دين
الله القويم، وكتابات بعض كاتبات هذه الأيام في بعض المجتمعات الإسلامية التي
وقفت بكل صلابة في وجه دعاة التغريب والذوبان في الآخر غير المسلم وهي التي
تعرف بالمجتمعات المحافظة لدى بعض كتاب التغريب في تناولهم لهذه المجتمعات
المسلمة المخلصة لدينها، أقول: تبدو دعوات التحرر المستترة الخائفة المترددة تلك
في كتابات بعض كاتبات تلك المجتمعات تارة بتسفيه نص من القرآن أو من السنة؛
كتسفيه إحدى الكاتبات للحديث الصحيح حول خلق المرأة من ضلع أعوج في
مجموعة قصصية لها بعنوان (والضلع حين استوى» ! ، أو الكاتبة التي تسخر من
الحديث الصحيح «وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» في
قصة لها عنوانها (تمرد) .
ومن تلك الكتابات الداعية إلى تحرير المرأة المسلمة بل تخديرها وصولاً إلى
الهدف المنشود، وهو: إقصاء الإسلام من الحياة، تلك التي تعتمد الكذب والبهتان
بمناسبة وغير مناسبة.. التأكيد على أن الكثير من الأحكام المتعلقة بالمرأة مثل:
الحجاب الشرعي المتضمن حجب الوجه عن الأجانب والميراث، والقرار في البيت، وعدم الخروج إلا لحاجة وفق الضوابط المشروعة، وكذا الشهادة ... وغيرها من
الأمور المتعلقة بالمرأة المسلمة، هذه الأحكام عند هؤلاء ليست من الدين في شيء
رغم قناعتها بأنها من الدين وهي تحاول جاهدة وبكل ما تملك من قدرة على الإقناع
أن تغرس هذه الأغاليط والأكاذيب في عقول وأفئدة القراء، وهي في أكاذبيها تلك
إنما تحاول الإيهام بأنها ليست ضد الدين (الصحيح) ، بل ضد ما تزعم أنه ليس من
الدين في شيء، مدعية أنها بعملها ذاك إنما تخدم الدين وتذود عنه الجهلة الذين
يشوهون وجهه المشرق (سبحانك هذا بهتان عظيم) [وَلَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا
يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] [النور: 16] .
ومن صور الهجوم على المرأة المسلمة والدعوة إلى تحريرها في كتابات
أدعياء التحرير والتنوير: القول بأن ما ورد في القرآن والسنة حول المرأة أحكاماً
وآداباً ملزمة للأمة من قبيل ما تقدم في الفقرة السابقة إنما هو قشور وفروع لا قيمة
لها، ولن يترتب على تخطيها أدنى ضرر، بل إن إيقاع العصر في زعمهم يتطلب
هذا التخطي والاستبعاد لهذه الأحكام التي لم تعد صالحة لعصر الصعود إلى القمر
ودخول سباق الفضاء وعالم الحاسوب وغير ذلك، وكأن التقدم العلمي والتقني لن
يتحقق إلا على أنقاض الفضيلة والإيمان والالتزام بأحكام وقيم الإسلام الخالدة، التي
هي في الواقع لمن لم تطمس فطرته النقية ولم تذهب معالم الإيمان من نفسه هي
خير معين على العطاء والعمل والابتكار بما ينفع الناس، إنها الهزيمة النفسية
والمعنوية، حينما تحل في امرئ فإنها تفقده القدرة على التمييز بين الحق والباطل،
فيرى الحق باطلاً والباطل حقّاً، والله المستعان.
إن الهجوم على المرأة المسلمة إنما هو هجوم على قيم الإسلام، ذلك أن
الدعوة إلى تحرير المرأة إنما هو تسفيه لدينها الذي هو عصمة أمرها وهو اختيارها
ووجودها عبر أكثر من أربعمئة وألف من الأعوام، وهو الذي أخرجها من ذل
وأسر الجاهلية إلى عز الإسلام، فالدعوة التحريرية دعوة في الواقع إلى إرجاعها
إلى الذل والأسر من جديد، ودعوة إلى تحويلها إلى دمية لمجرد المتعة على
الطريقة التي يعرفها دعاة التحرير في «كان» و «هوليود» و ... حيث مسارح
الرذيلة وملاهي الخنا.
لقد ملت هذه الدعوات هناك الكثيرات من عاقلات الغرب الذي يسير دعاة
وداعيات إلى الإسلام بكل سعادة وسرور نافضات عن كواهلهن ميراث الكفر الذي
أورثهن الذل والضياع في الدنيا رغم دعاوى التحرر والمساواة التي يتشدق بها دعاة
الرذيلة الذين لا همّ لهم إلا معاقرة الخنا والجريمة عن طريق الإيقاع بالمرأة
واستدراجها بعيداً عن قلعة العفة؛ لتكون لعبة الرجل المفضلة كما يريدها أصحاب
الفجور الذين لا خلاق لهم، إن المرأة التي تنطلي عليها هذه المؤامرة واحدة من
اثنتين: جاهلة لاعلم لها بشيء على الإطلاق، لا بما يحاك ضدها ولا بأمور دينها، أو عالمة بما يدور حولها وبنتائج هذه الدعوة الخبيثة، فتكون في هذه الحالة جزءاً
من المخطط الجهنمي الذي يدبر بليل ونهار، ليس للإيقاع بالمرأة فحسب، ولكن
لتقويض الكيان الإسلامي من أساساته، ولن يتم ذلك لدعاة الهدم والتخريب بإذن الله
ثم بيقظة المخلصين، فليتدبر كل منا أمره؛ فالخطب جسيم، والهجمة شرسة،
والطريق طويل وشاق، والله المستعان.(94/48)
دراسات تربوية
افتقار العمل التربوي
إلى الضوابط الشرعية
محمد بن عبد الله الدويش
إن العمل التربوي على اختلاف مستوياته ضرورة لا تستغني عنها الأمة
الإسلامية، فهو الوسيلة لنقل الأحكام الشرعية من الحيز النظري إلى العمل
والتطبيق، ولقد وصف الله (سبحانه وتعالى) نبيه بأنه مربّ فقال: [هُوَ الَذِي بَعَثَ
فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا
مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [الجمعة: 2] .
والتربية واجب الأب والمعلم والأستاذ، وواجب كل من ولاه الله مسؤولية أحد
من الناس، وواجب على مستوى الأمة جمعاء.
ولعل من منجزات الصحوة المباركة إيجاد المحاضن التربوية التي أخذت
بأيدي شباب الصحوة وناشئتها، وساهمت في حمايتهم من أبواب الشر والفساد.
وثمة اعتبارات عدة تؤكد على ضرورة إحاطة الجهود
التربوية بسياج ضوابط الشرع، منها:
أولاً: أن التربية عمل شرعي، وعبادة لله (عز وجل) ، فلابد لها أن تحاط
بسياج الشريعة، وتضبط بضوابطها، وإن سلامة المقصد، وحسن النية، ونبل
العمل ليست مسوغاً أو مبرراً لتسور السياج الشرعي وتجاوز الضوابط.
ثانياً: التربية شأنها شأن سائر الوظائف الشرعية الأخرى (الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، الحكم بين الناس، الجهاد..) ، وهذه الوظائف لا يجادل
مجادل أنها لابد أن تضبط بالضوابط الشرعية.
ثالثاً: التربية قدوة قبل أن تكون توجيهاً، وعملاً قبل أن تكون قولاً،
والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله، فحين يجاوز حدود الشرع
فكيف سيربي المُرَبّي على الورع والتقوى ورعاية حدود الله؟ وهو يرى المخالفة
الشرعية ممن يربيه ويقتدي به.
بل إنه من خلال عمله هذا يربي من وراءه على الاستهانة بالضوابط الشرعية، ويغرس لديهم الجرأة على ارتكاب المحرمات وتجاوز الحدود.
رابعاً: وكما أن المربي ينظر إليه بعين القدوة، فهناك عيون أخرى ترقبه
وتنظر إليه، فينظر إليه من الخارج بوصفه واحداً ممن يعمل للإسلام وعمله يمثل
السمت والهدي الشرعي، وربما ينظر إليه بعين تبحث عن الخطأ وتفرح به؛ وذلك
كله يدعو المربي إلى أن يتقي الله ويتحرى الضوابط الشرعية فيما يأتي ويذر.
خامساً: أن التوفيق والنجاح ليس مرده إلى الجهد البشري وحده، بل قبل ذلك
كله إلى توفيق الله وعونه وتأييده؛ وهذا التوفيق له أسباب، من أعظمها وأهمها:
رعاية العبد لحرمات الله، وما أحرى أولئك الذين يتجاوزون الحدود الشرعية بالبعد
عن توفيقه (سبحانه) وتأييده.
والمتأمل في الساحة الإسلامية يرى أن هناك تجاوزات عدة في ميدان العمل
التربوي للضوابط الشرعية تستوجب الوقوف والمراجعة.
ولعل أسباب هذه التجاوزات ما يلي:
أولاً: ضعف العلم الشرعي وقلة العناية به، فكثير من العاملين في الساحة
الإسلامية يأخذ الجانب العلمي الشرعي مرتبة متأخرة ضمن برامجهم، ولعلنا
نتساءل: ماذا قدمت فصائل العمل الإسلامي لأتباعها في ميدان البناء العلمي
الشرعي؟ بل إن الأمر تجاوز مجرد إهمال العناية بالعلم الشرعي إلى تهميش دوره
والتقليل من شأنه؛ فهو في نظر هؤلاء يشغل عن الدعوة إلى الله وهموها، أو هو
شأن الخاصة والمهتمين، أو أن العناية (باستراتيجيات) الدعوة وقضاياها الفكرية
الساخنة أولى وأصدق دلالة على عمق صاحبها! ... هذه حجج يواجه بها من يدعو
بعض العاملين للإسلام لكي يعطوا العلم الشرعي دوره اللائق به ضمن برامجهم
الدعوية.
ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو أيضاً إلى أن يكون الجانب العلمي هو وحده الهم
الأوحد للدعاة، وأن يهمل ما سواه، ولا إلى أن يكون الدعاة فقهاء ومحدثين
ومجتهدين فحسب.
ثانياً: الغلو والمبالغة في دور المربي وواجباته وتعظيم ذلك، وهذا يؤدي إلى
نقل كثير من المناهي الشرعية إلى دائرة الضرورة؛ إذ لا تتم التربية إلا بذلك،
فهو بحاجة لمعرفة معلومات دقيقة عمن يربيه، والاطلاع على كوامن نفسه، وإلى
عدم الوقوف عند حدود الظاهر..
وحين يعطى هذا الجانب أكثر من حقه فسيشعر المربي أن الضوابط الشرعية
ستقف عائقاً دون تأدية أدوار كثيرة فيضطر لتجاوزها.
ثالثاً: ضعف الورع والانضباط الشرعي، وهو باب بُلي به كثير من الناس
في هذا الزمان، ومن يضعف ورعه ويرق دينه ربما تجرأ على ما يعلم علم اليقين
أنه محرم، أو تهاون فيما يستريب منه، أو يغلبه هواه.
رابعاً: الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص لله
(سبحانه وتعالى) ، واستحضار النية، والشعور بأن العمل عبادة لله وحده.
ولا نعني أن يهمل الدعاة إلى الله الأخذ بهذه الأسباب، فهي مما لابد منه،
لكن ينبغي ألا ينسينا ذلك استحضار النية والعبادة في هذا العمل.
من صور الإخلال بالضوابط الشرعية:
أولاً: الاتكاء والاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة دون النظر
للنصوص الخاصة في المسألة , والشريعة باب واحد لا يمكن أن تتناقض أو تضطرب، والقواعد العامة للشرع إنما تفهم في إطار سائر النصوص، وتسليط الأفهام البشرية عليها يؤدي إلى فوضى واستهانة بحدود الله.
ومن أهم هذه القواعد مراعاة المصلحة، إذ كثيرٌ من المخالفات العظام في
الساحة الإسلامية تجرأ عليها أصحابها، وللأسف باسم المصلحة، وهو المنهج نفسه
الذي يسلكه بعض علماء السوء وأهل الأهواء في تبرير مواقف بعض الطواغيت.
إن جلب المصلحة ودرء المفسدة قاعدة شرعية عظيمة لا جدال فيها ولا نقاش، لكنها يجب أن تكون ضمن ضوابط، من أهمها: ألا تخالف نصّاً أو حكماً شرعيّاً، وإلا كانت مصلحة ملغاة، ومما قد يمارسه بعض المربين باسم المصلحة:
التجسس، والاستماع لحديث الآخرين دون علمهم، والاطلاع على ما يخصهم دون
إذنهم ... كل هذه الأمور محرمة شرعاً، لا تبيح المصلحة والتربية تجاوز هذه
الحقوق إلا في أحوال خاصة.
فتجرؤ بعض المربين على تجاوز هذه الحدود الشرعية باسم المصلحة
وضرورة التربية داخل في عموم قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً
مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ] [الحجرات: 12] ،
وقوله: «من تحلم بحلم لم يره كُلّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن
استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة» [1] .
ثانياً: عدم وضوح قضية الظاهر والباطن:
من القواعد الشرعية أخذ الناس بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك، وما
سبق من النهي عن التجسس والتطلع داخل ضمن هذه القاعدة، ولهذا قال: «إني
لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس» [2] ، وقال أيضاً: «يا معشر من آمن بلسانه
ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع
عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته» [3] .
وقال أيضاً لمعاوية: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت
تفسدهم» [4] .
وينهى -صلى الله عليه وسلم- الرجل أن يطرق أهله ليلاً، معللاً ذلك بقوله:
«يتخونهم أو يلتمس عثراتهم» [5] .
وتدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى التطلع ومحاولة معرفة ما وراء
الظاهر، والدافع لذلك كله حسن ولا شك؛ فهو يسعى للتربية والإصلاح، ويخشى
أن يغتر بالمظاهر، فيريد قياس نتاج تربيته، لكن ذلك كله لا يجوز أو يسوغ أن
يكون على حساب الضوابط الشرعية.
ومما يعين المربي على الاقتناع بهذا المسلك، وتجاوز التطلع: علمه أنه غير
مكلف شرعاً بسوى ما يظهر له، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه كان يقول: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بالحجة من بعض فأقضي له بنحو
ما أسمع» [6] .
إن المربي ينبغي أن يحرص على إصلاح القلوب ومخاطبة الباطن والدعوة
لتنقية السرائر، لكنه بعد ذلك يبقى يتعامل مع الظاهر لا مع السرائر.
ثالثاً: التهاون بحجة مسائل الاجتهاد:
ثمة قضايا كثيرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية اختلف فيها أهل العلم حلاّ
وحرمة، ولكل منهم مأخذه ودليله، فهي دائرة ضمن مسائل الاجتهاد.
والأمر في مسائل الاجتهاد واسع، ولا يسوغ في ذلك الإنكار والإغلاط
والتهارج، لكن ذلك قد يشعر بعض المربين أن هذه المسائل ما دامت ضمن مسائل
الاجتهاد فالأمر فيها مفتوح على مصراعيه دون ضوابط، فيسلك فيها ما يتناسب
معه دون أي اعتبار لأمر آخر.
ولا شك أن كون المسألة من مسائل الاجتهاد لا يسوغ أن يتبع فيها المرء ما
يحلو له، بل لابد أن يتحرى ويجتهد في اتباع ما يؤدي إليه الدليل الشرعي وليس
هذا مقام بسط هذه المسألة.
رابعاً: إهمال الورع الشرعي الواجب:
ومن صور ذلك:
التوسع في الوقوع في الأعراض، فقد تدعو طبيعة العمل التربوي إلى
الحديث عن قضايا خاصة للمتربين وانتقادهم، وقد يتحدث بعض الأساتذة عن
طالب معين بما يكرهه، والأصل في ذلك كله هو المنع والتحريم إذ هو داخل تحت
النصوص التي تحرم الغيبة وتشدد فيها، بل تجعل حرمة أعراض المسلمين كحرمة
الشهر الحرام والبلد الحرام إلا ما كان له حاجة ومصلحة شرعية واضحة.
ومن أخطر هذه الأبواب ما يتعلق بقضايا الأعراض، إذ قد يصارح تلميذ
أستاذه ومربيه بمشكلة تتعلق بهذا الباب فيتجرأ هذا المربي على الحديث عنها لغيره
بما لا ضرورة له، ولا يسوغ أن تكون المحاضن التربوية ميداناً تلاك فيه
الأعراض، وتنتهك فيه الحرمات.
وبعد:
ونحن إذ نتحدث عن مثل هذه الأخطاء والتجاوزات فيجب أن نعتدل ونتوسط، فلا يسوغ أن تكون مجالاً للتندر وانتقاص العاملين لله، أو أن تحول إلى معول
هدم للصروح التربوية وسعي إلى القضاء عليها بحجة الانضباط الشرعي.
وندرك أيضاً أن الكثير ممن يقع في مثل هذه التجاوزات إنما أُتي من باب
الغفلة والذهول عن مراعاتها، لا من قبل رقة الدين، بل أكثرهم خير وأتقى لله من
كثيرين منا.
كما ندرك أيضاً المنجزات الرائعة التي قدمها هؤلاء المربون، نسأل الله أن
يجعل ذلك في موازين حسناتهم، وأن يبارك في جهودهم، ويكلل أعمالهم بالتأييد
والنجاح والتوفيق.
__________
(1) البخاري، كتاب التعبير، باب من كذب في حلمه، انظر البخاري مع الفتح: ج12، ص446.
(2) البخاري، كتاب المغازي، انظر البخاري مع الفتح: ج5، ص110.
(3) أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، انظر صحيح سنن أبي داود، ح 4083.
(4) أبو داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس، انظر صحيح سنن أبي داود، ح/4088.
(5) البخاري، كتاب النكاح، انظر البخاري مع الفتح: ج 9، ص251.
(6) البخاري، كتاب الأحكام، انظر البخاري مع الفتح: ج13، ص 168.(94/52)
نص شعري
المخاض
شعر: تركي المالكي
أمُورٌ على (نَطَعِ) الأسئلة!
وأكسِرُ صمتي.. ومن أَسْدَلَهْ
وأخزِنُ في مقلتي المُشعَلة..
(أطايبَ) للغيمة المثقلة! ! ..
سماءً لخصب الرؤى المقبلة..
بأجمل غيثٍ له جلجلة!
وإن كان دفقُ دمي أولَه! !
ومن مهجتي أُوقِدُ الشعرَ لَهْ
وأَرقبُ دوري إلى المقصلة! !
ولكن جمري الذي مازجتْهُ المواجعُ..
إذ أسرجتْه (البصائرُ) ..
يوماً سيَحْصُدُ من كَبّلهْ!(94/59)
نص شعري
يا دار
شعر: مروان كجك
يَا دَارُ حُبّكِ عِلّتي ودَوائي ... وإسَارُ قَلْبي واضطّرامُ رَجائي
وتَوَسّلي باللهِ للهِ الذي ... يقضي بـ (كُنْ) ويُقِيلُ من عَثْراءِ
دَاري ملاذُ العِزّ إِنْ ضاقتْ به ... أرضٌ وصارَ غَرِيضةَ السّفَهَاءِ
هِي مَنْبَعُ الْعِرفَانِ مَهْدُ رُجُولَةٍ ... وفَخَارُ أجيالٍ مِنَ العُرَفاءِ
قادُوا الشعوبَ إلى محجّةِ ربهم ... وتسابَقُوا في البَذْلِ والإعْطاءِ
جَابُوا قِفَارَ الأرضِ واتخذُوا الذّرَى ... لأذَانِهِمْ وتهيؤوا لِمضَاءِ
يا دارُ ما اغتَصبَ الأمانةَ ظالمٌ ... إلاّ أحالَ الأمرَ للعُسَفاءِ
يتنازعونَ الأمرَ فيما بينهم: ... مَنْ يُتْقِنُ الإيقاعَ بالشّرَفاءِ
مَنْ يغتدي فِرعَوْنَ أهلِ زمانِهِ ... ويصيرُ شيطاناً بكلّ فِناءِ
ويُذِيقُ أهلَ الأرضِ مُرّ عجائبٍ ... مِنْ ضَارِياتِ الحِقْدِ والإيذاءِ
يا دارُ لا واللهِ، ما ذاقَ الهدى ... يوْماً سليلُ عمايةٍ وبِغاءِ
وَرِثَ النجاسة صاغِراً عَنْ صاغرٍ ... وقَفَا سبيلَ عصابةٍ دَهْيَاءِ
يَرْبو بها حِقْدٌ ويكسُو وجهَهَا ... فِسْقٌ بغيرِ تَحَرّجٍ وحَياءِ
مَكَثَتْ دُهُوراً في الظلامِ تَحُوكُهُ ... كَيْ لا تَبِتنَ مَغَازِلُ الأرْزَاءِ
ظَلّتْ تسيرُ مَعَ الرياحِ وتَعتَلِي ... هَبّاتِها وتَغُورُ في الأَحْياءِ
حتّى إذا غَدَتِ الشعوبُ قريرةً ... واستعبَدتْها حَمْأَةُ الأَهواءِ
وتَوَسّلَتْ بالذلّ كَيْ تطأَ العُلى ... وَهْماً، وأعْشَتْ أعينُ الجبناءِ
نَجَمَ النفاقُ وصارَ في أرضِ الهُدَى ... سَيْفاً، سَلِيطَ الحدّ للفُضَلاءِ
يَفْرِي فِرَى أهْلِ الحُقُودِ إذا هُمُ ... مَلَكُوا رِقابَ الدّهْمِ والحُكَمَاءِ
لَمْ يَبْقَ مِن أهلي سِوَى رَسْمٍ وَلَمْ ... تَبْرَأْ يَدٌ مِنْ مِحْنَةٍ وَبَلاءِ
عَمّ الجميعَ مصائبٌ ونوازلٌ ... خافُوا هبوبَ الريحِ في استرخاءِ
هَذاَ أَخٌ يخشَى أخاهُ ويتّقِي ... هَلَعاً لِقا الأَصْهارِ والأحْمَاءِ
خَبَتَ الجميعُ وقَدْ غَدَتْ أوْصَالُهُمْ ... شَلاّءَ تَحسدُ أهلَ كلّ بلاءِ
غَابَتْ مَغَاوِيرُ الرجالِ وأطْنَبَتْ ... في الأرضِ خيمةُ طُغْمَةٍ جَهْلاءِ
قَطَعَتْ سبيلَ الحقّ وازْدَرَتِ الهُدَى ... وتَقَاسَمَتْ أرضِي وظِلّ سَمَائِي
عَبَثَتْ وَمَا وَجَدَتْ لها مِنْ مُنْذِرٍ ... أو ناصحٍ مُسْتَرْشَدٍ لِدَوَاءِ
فَالكُلّ يخطبُ حَظّهُ مِنْ حَظّهَا ... ويدورُ في فَلَكٍ بِلا اسْتحْياءِ
خَوْفاً وجُبْناً أو تَقِيّةَ ماجدٍ ... يَخْشَى الأَذى وشَمَاتَةَ الأعداءِ
يَا دارُ مَجْدُكِ لَنْ يَمُوتَ وَلَوْ سَعَى ... دَهْراً جنودُ الشرّ بالبُرَآءِ
أنتِ التي رُوّيتِ بالدّمِ طاهِراً ... وسَلَكْتِ دَرْبَ بُطُولَة وفِداءِ
أنتِ التي شَاغَلْتِ أعداءَ الهدَى ... حتّى ارْتقى البُنْيانُ للجَوْزاءِ
يا دارُ مَجدُكِ لَنْ يَضيعَ فَأَمّلِي ... خَيراً ولا تَسْتَرْسِلِي ببُكاءِ
فَالحاقدُون سَيُغْلَبُونَ وإنْ هُمُ ... حَشَدوا جُيُوشَ البَغْيِ والإفناءِ
أو ألّبوا قَوْماً على قَومٍ وَلَمْ ... يَدَعُوا سَبِيلَ الْمَيْنِ والإلْهَاءِ
فَلْتصْبِري الصّبْرَ الجميلَ فإنّهُ ... تاجُ اليَقِينِ وحِلْيَةُ العُظَماء(94/60)
دراسات أدبية
«نجيب الكيلاني»
رائد القصة الإسلامية المعاصر
بقلم: محمد حسن بريغش
د. نجيب الكيلاني من الأدباء الإسلاميين البارزين لاسيما في مجال
القصة وقد تناول الكاتب رحلته معها ومعالم نموه الفكري وتطوره الأدبي والفني
عبر ملامح من سيرته ونماذج من أعماله الشعرية والقصصية.
وهاك أخي القارئ الجزء الثاني والأخير من المقال يتابع فيه الكاتب إيضاح
جوانب أخرى.
- البيان -
في مرحلة تالية، بعد أن ابتعد الكيلاني عن مصر، وشعر بزوال كثير من
الضغوط: النفسية، والفكرية، والاجتماعية، والفنية، والسياسية عنه، تنبه أكثر
إلى ضرورة الالتزام بالأدب الإسلامي، ولكنه مع ذلك كانت هناك مؤثرات مختلفة
تتنازعه وتضغط عليه، وأهمها: المؤثرات الفنية التقليدية للقصة، لقد كان عازماً
ومقتنعاً بضرورة توجهه للأدب الإسلامي، ولكنه كان يحس بالوجل والصعاب من
ذلك.
«إن للقصة مواصفات وقواعد، كما أن فيها بعض (التوابل) الضرورية
لجذب القارئ وإقناعه، أستطيع أن أقول بوضوح: إن الفن القصصي لا بد له من
بعض المغريات الضرورية في خضم تلك السوق الهائلة التي تتداول مئات الألوف،
بل ملايين النسخ التي يروج لها الإعلان والإعلام والدعاية بشتى ألوانها. وشباب
اليوم نشأ في ظل مواضعات وظروف صعبة غلابة، ويحتاج للكثير من الحكمة
والحيلة على بداية الطريق الصحيح، بعد أن تلوث فكره وسلوكه بالكثير من
الانحرافات ... وكانت القصة تعني: الحب، والجنس، والمغامرات، والتسلية،
وكانت المسرحية ملاذاً للتسرية عن النفس والإضحاك وتزجية الفراغ..» [1] .
بكل وضوح بيّن ما كان يدور في نفسه، وما كان يتنازعه، ولذلك: كان في
هذه المرحلة يتأرجح بين القصة الإسلامية التي يطمح لكتابتها والقصة التقليدية
الغربية السائدة في المجتمع.
ولعل رواية (عمر يظهر في القدس) تمثل نقطة تحول مهمة في مسيرته
الطويلة [2] ، لأنه لأول مرة يستعرض أحداثاً سياسية، واجتماعية، وفكرية
معاصرة من خلال رؤية إسلامية واضحة.
وفي نظري: إن هذه الرواية التي تتحدث عن احتلال القدس، تمثل الرؤية
الإسلامية لما يحدث في عالمنا المعاصر تجاه مقدساتنا، فالقدس ليست مدينة واحدة
بالرغم مما لها من مكانة وقدسية وما نزل فيها من نصوص ولكنها تمثل كل المدن
الإسلامية التي تستباح بشكل أو بآخر من قِبَل أعداء الإسلام.
فهي صورة بارزة للعالم العربي الإسلامي، والشخصيات التي ظهرت في
القصة تعد نماذج من مجتمعنا الذي هزمته الوقائع والمدنية المادية والهوى والأفكار
الدخيلة؛ فسقط صريعاً أو مُحْتلاً أمام الغزو اليهودي بصور كثيرة قبل أن تسقط
مدينته المقدسة.
هناك شخصيات مختلفة في الرواية تمثل نماذج حية في مجتمعنا المعاصر،
وهناك شخصية المسلم الحقيقي: بوضوحه، واستقامته، وإشراقه، بإيمانه القوي،
وإسلامه الواضح المميز، ووعيه وإدراكه، وإخلاصه وصفائه، ويقينه وقوته،
وشجاعته واستقامته.. [3] .
ولهذا: فهي نقطة تحول، أو بداية مرحلة في مسيرة الكيلاني القصصية،
وإذا كانت هناك روايات للكاتب بعد هذه الرواية ظلت تتأرجح بين النموذج
الإسلامي وغيره، فإنها بقيت مَعْلَماً على رؤية جديدة بدأت تتوضح عند الكيلاني،
وتزداد عمقاً وواقعية.
لقد كان الدكتور الكيلاني يتلقى كثيراً من الملاحظات والنقد على بعض
رواياته بعدما أصبح تيار الأدب الإسلامي واضحاً، وكان (رحمه الله) بدماثته
وطيب خلقه يصغي لكل نقد، ويتقبل النصح، ويناقش بهدوء كل فكرة، وكان لهذه
الملاحظات أثرها في نضوج كثير من الآراء والنظرات لديه، حتى بات بحق
يعيش قضية الأدب الإسلامي، ويعيش قضية القصة الإسلامية، ويهمه أن يعرف
الشكل الصحيح الذي ينبغي أن يكون عليه هذا الفن الذي أحبه، ولم يعد يخاف من
أعداء (الإسلامية) من النقاد والأدباء، فقد ترسخت قدمه في الفن، وأصبح عَلَماً في
مجال القصة، مما ساعده على أن يخطو خطوة أخرى لإبداع النموذج الصحيح
الذي لا يتنافى مع التصور الإسلامي، ويمتلك مميزات هذا الفن.
ولقد كانت رواياته الأخيرة تمثل هذه الخطوة، أعني روايات: ملكة العنب،
وأهل الحميدية، وقضية أبو الفتوح الشرقاوي، وامرأة عبد المتجلي، ومملكة
البلعوطي، إضافة إلى مجموعة الكابوس، وغيرها.
وفي رواية (ملكة العنب) وغيرها، كأن الكاتب ودع التردد الذي كان ينتابه
ويجعله وسطاً بين منحى الأدب الإسلامي ومنحى المذاهب الأخرى [4] .
وختم الكاتب حياته الفنية بكتابة روايته (مملكة البلعوطي) التي استقاها من
حياة جده إبراهيم الذي كان «شخصية مميزة قوية بمعايير القوة الشائعة في ذلك
العصر كان مرهوب الجانب، مطاع الكلمة على الرغم من عدم ثرائه» [5] ،
وعُرف جده أيضاً بالاستقامة والصدق، والرجولة والعفة، واشتُهر أمره في بلدته
وما حولها، وجرت أحداث كان هو قطبها، وأصبحت له مكانة مميزة بين الناس
والمسؤولين، وحين مات جده بكته القرية وما حولها [6] ؛ لأنه كان شهماً كريماً،
يحرص على إخراج زكاة المحصول، ويغدق ما أمكن على الفقراء، ويصل الرحم، ولهذا جعله موضوع قصته (مملكة البلعوطي) .
إن الدكتور نجيب الكيلاني عبر رحلته هذه كان يخوض تجربة قاسية صعبة
في ظروف تحول دون ظهور أي مبدع إن لم يكن موافقاً للتيار العلماني المهيمن،
ولكنه استطاع أن يثبّت قدميه في مجال الفن أولاً، ثم يجلي صورة الأدب الإسلامي
والقصة الإسلامية.
وإذا كان للدارسين من ملاحظات على مسيرته الأدبية فإنه من العدل أن نأخذ
في الاعتبار الظروف التي أحاطت به، وثباته على الطريق الموصل إلى الأدب
الإسلامي رغم هذه الظروف.
إنه كان يجتهد، ويبدع، ويضع لشداةِ هذا الفن النماذج؛ فيتعرّفوا من خلال
هذه النماذج إلى أمثلة تطبيقية واقعية، ويتلمّسوا سبل الوصول إلى الصورة المبتغاة، ولو لم تكن لديهم مثل هذه النماذج الإبداعية لما استطاعوا أن يتعرفوا إلى صورة
القصة التي نريدها، أو التحدث عنها كواقع مبدع.
إن الكتابة عن شروط القصة، ووصف عناصرها لا يبدع لنا فنّاً. الفن
يحتاج إلى فنان موهوب مبدع، فنان يمتلك القدرة على العطاء، وعلى تحويل
الفكرة إلى واقع وأثر فني.
والأدب الإسلامي، والقصة الإسلامية المعاصرة: مدينةٌ للكيلاني في هذا،
ولا يمكن دراسة القصة الإسلامية المعاصرة بدون التوقف عند الدكتور الكيلاني رائد
القصة الإسلامية المعاصرة.
وأيّاً كانت الملاحظات التي تؤخذ عليه، فإنه يبقى في المكانة الأولى التي
استحقها بجدارة من خلال إنتاج كثير، وأصيل، يمثل مراحل تطوره، ومكافحته
للوصول إلى نموذج القصة الإسلامية المعاصرة، دون أن يخل بقواعد هذا الفن..
ولقد تحقق له ذلك.
إن عالم القصة عند الكيلاني مليء بالموضوعات التي تستحق أن يتوقف
عندها الدارس؛ فهي تشير إلى كثير من القضايا الفكرية والثقافية والاجتماعية
والسياسية التي مرت بها البلاد العربية على مدى قرن أو أكثر.
فضلاً عن ذلك: فإن الكيلاني اهتم بقضايا الإنسان كإنسان، وكانت صورته
واضحة، تُسْتَقى من التصور الإسلامي الذي ينظر للإنسان كما أراده الله مخلوقاً
مكرماً، له حقوقه، ومكانته، وحرمته، وأبدع في تصوير قضايا الإنسان أيّما
إبداع، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يتعاطف معه، ويؤمن بأن حقوق الإنسان لا
تصان إلا إذا التزم الإنسان بشرع الله، واحتكم إلى كتابه.
وكذلك اهتم الكيلاني بمشكلات الريف، وصوّره بأجمل الصور وأدقها، وكان
وفيّاً لبلدته ومنطقته، وللريف عامة الذي عاش فيه، ولهذا استقى منه كثيراً من
الحوادث والشخصيات، وجعله رمزاً للإنسان، والقيم، والوطن، والأمة كلها،
وتعاطف مع أبنائه، وتحدث عن مشكلاتهم، وصوّر مآسيهم وأبرز صفاتهم. إن
هذا الجانب جدير بدراسة متعمقة تلتفت إلى الكليات، والجزئيات، والأفكار،
والشخصيات التي أبدعها خلال قصصه، وإلى الصور والمشكلات التي عالجها من
خلال الريف.
وكذلك كان للكيلاني مجال آخر أبدع فيه، وأكثر من تصويره، وهو:
السجون بما فيها من سجناء، وسجّان، ومظالم، ولمحات إنسانية، وصور القهر
والتعذيب، وانقلاب الإنسان إلى وحش أو أدنى درجة من الوحش حين يتخلى عن
إنسانيته، أعني حين يتنكبّ عن طريق الهدى، ويمعن في الضلال.
إن موضوع السجن بكل ما فيه من حوادث، وشخصيات، وصور نفسية
وإنسانية، ومشكلات فكرية واجتماعية وسياسية: كان من الموضوعات التي
استأثرت باهتمام الكاتب، وهو جدير أيضاً بالدراسة والمتابعة [7] .
لقد مات الكيلاني (رحمه الله) بعد أن ترك تراثاً أدبيّاً من الدراسات الأدبية
والنقدية، والإبداعات الشعرية والقصصية والمسرحية، وكانت إسهاماته هذه أكثر
قدرة على خدمة الأدب الإسلامي من التصريحات، والخطب.. والتنظير، وهو
يستحق من محبي الأدب الإسلامي الاهتمام والدراسة؛ لما في ذلك من فوائد وآثار
على مسيرة الأدب الإسلامي الحديث.
__________
(1) رحلتي مع الأدب الإسلامي، نجيب الكيلاني، ص 38.
(2) إن بعضهم يعترض على هذه القصة؛ لأن الكاتب يتمثل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب من خلال الحلم يشهد وقائع احتلال القدس من قبل يهود، وبالتجاوز عن هذه النقطة التي تتعلق بحكم جواز مثل ذلك أو عدمه، نتحدث عن الرواية.
(3) انظر: كتاب (في الأدب الإسلامي المعاصر) ، ص197-209.
(4) دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة، ص123-146.
(5) لمحات من حياتي، ج1، ص23.
(6) من الأمور التي تستحق الوقوف والعبرة: أن جده مات بالمرض الذي كان سبب وفاة الدكتور نجيب أيضاً! .
(7) سوف أقوم إن شاء الله بدراسة وافية للدكتور الكيلاني، تشمل هذه الجوانب وغيرها.(94/62)
دراسات نقدية
قراءة غير نقدية
د. حسن بن فهد الهويمل
(1- 1) ربما يكون الانطباع والتذوق أكسيرا النقد، وهما بلا شك بدايته الأولى، يكاد يتفق على ذلك مؤرخو الأدب ونقده المعروف والمعروف لايعرف على لغة المجاملين أن النقد الحديث في إطار تطوره أو تذبذبه تجتاحه رغبة «العلمية» في سياق وثنية العلم والتجريب، وكل هذه التحولات جزء من هذه الحضارة المادية المُخَرّفَةِ «للميتافيزيقا» المؤلهة للمادة وجدلية التاريخ.
ومع أنني أختلف تماماً مع ما يذهب إليه «مصطفى محمود» من تأويل
جريء لحقيقة المسيح الدجال، إلا أنني أتفق معه في احتمال حضارة العصر لهذا
التوصيف مع استبعاد قضية المسيح الدجال؛ فالحضارة المادية تبصر بعين واحدة،
بحيث لاتفكر فيما وراء المادة، وإذ يتورط النقد في «العلمية» و «القواعدية»
و «المعيارية» يأفل الذوق ويختفي الانطباع؛ فالناقد على ضوء ذلك التحول
مطالب بتطبيق تلك القواعد واستخدام تلك الآلات، وفي إطار معطياتها يحكم على
النص، إذ ليس له أدنى حق في القبول أو الرفض الذاتي.
بالطبع لم تكن «علمية النقد» معطى معاصراً، لقد كان لبعض النقاد القدامى
رأيهم في العلمية، فالنحو والصرف والبلاغة هي الأخرى (تَمَعْيَرَتْ) إن صح هذا
التعبير، ولم يكن بمقدور أحد أن يخلصها من هذه المعيارية الصارمة، ومن حسن
الحظ وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت أن كثيراً من النقاد المتعلمنين لايعرجون
على تلك الآليات، لا
استخفافاً بها ولكن جهلاً وعجزاً، وشر البلية أن تعايش هذه الأنواع العائلة
المستكبرة، والاستكبار هنا مضاعف؛ إذ يجمع بين التعالي والادعاء وهما آفتان
معيبتان، ولأجل هذا مقت الله العائل المستكبر، فعلمية النقد المعاصر لاتضع في
اعتبارها آلات تفكيك النص
المعتبرة نحويّاً أو بلاغيّا أو صرفيّاً، وادعاء العلمية في هذا الإطار أكبر من
حجم المنجز
وآلياته، ومع أنني احترم علمية النقد، وأرى قيمة للذوق والانطباع، فإنني
أجد نفسي قادراً على حل التداخل بين العلمية والذوقية والانطباعية، ولا أحس
بتعارض أو تضاد هذه المصدريات الثلاث، بل ربما أصل إلى حد الادعاء: بأنه
لا اختلاف بين تلك المصادر والآليات، فقط أن يكون الناقد ناقداً بالفطرة والدربة
والمعرفة ... النقد عندي موهبة واكتساب، هذه الموهبة يصقلها العلم والدربة
والمعايشة المستمرة، ومن ثم: فإن العالم بآليات النقد لايكون ناقداً ربما يكون
مصححاً للنص تماماً كأستاذ الإملاء، والمتذوق الانطباعي لايكون ناقداً هو الآخر
دون المعرفة التامة بمكونات النص ومادته وما يكشف عن مواءمته أو مغايرته
لشرط البناء اللغوي والجمالي، إن هناك شرطاً للبناء اللغوي لايكشفه إلا النحاة،
وشرطاً للبناء الجمالي لايكشفه إلا البلاغيون، وهناك معيار جمالي لاينفك عن
التحول من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل، وتلك هي إشكالية النقد
ومعضلته التي لم تحل بعد.
(1- 2) أحسب أنني استطردت أكثر مما يلزم، وتلك عادة أشعر بها ولا أستطيع التخلص منها، فأنا مسكون بإشكاليات العصر التي صنعناها بأيدينا، ولم نحسن التخلص منها أو معايشتها؛ فنحن أبداً في قلق وانفعال ونبرة خطابية عالية.
لقد شُغِلْتُ زمناً بمعالجة قضايا تنظيرية، وصراعات مذهبية استنزفت الجهد
والوقت، والدراسات التطبيقية هي الأهم وهي الأجدى ولكنها في الوقت نفسه
الأشق، ففيها امتحان للقدرة، وفيها استدعاء لكم هائل من الوسائل والأدوات
والآلات والمناهج، والركض في شرايين النصوص يحتاج إلى طاقات وإلى
إمكانيات، وإلى تصورات متعددة لفضاءات النص وظروف تشكله، ونوع لغته
وطريقة بنائه، ومقاصد رموزه وإشاراته ومجازاته وإيحاءاته، وهذا الكم الهائل من
الخصائص الكامنة في النص المتميز قد لا تتأتي لدارس مثلي ليست له معرفة تامة
بأصحاب النصوص، ولم يكن قارئاً لهم ولا راصداً لتحولاتهم ونوع همومهم، ربما
كان آخر دراسة تطبيقية نهضت بها كانت لأعمال أدبية لمجموعة من الكتاب عن
طريق التحكيم، وكانت أيضاً لديوان شعر ذي طابع إسلامي صوفي (مع الله)
للأميري، وهي دراسة لغوية ألقيت في أحدى جامعات مصر ونشرت فيما بعد.
ومر عام أو أكثر لم تتح لي ممارسة الدراسات التطبيقية، وأحسب أنني
بحاجة إلى مزيد جهد واستذكار لدخول عالم نصوص متباينة لشعراء متباينين، فأنا
لا أدرس ديواناً واحداً، كما لا أدرس مجموعة من المبدعين من خلال مجموعة من
النصوص، ولست متأكداً من توفر هذا الجهد واستحضار ما ندعي من الآليات
بالاستذكار والأعمال الشعرية المفردة لمجموعة من الشعراء تتطلب جهداً استثنائيّاً
لايتصور حجمه إلا الذين مارسوه.
ومجلة (البيان «التي أقحمتني ولم ترأف بظروفي ستتحمل كامل المسؤولية
إزاء مايعتري هذه القراءة (غير النقدية) من هنات لست متواضعاً حين أعترف بها.
قبل البدء أقول، لا في إزاء هذه النصوص بالذات، وإنما بإزاء فيض من
الإبداعات والخطابات: إننا بحاجة إلى أن نتجاوز بكائياتنا وجلد ذواتنا وممارسة
الإسقاط للتخلص من المعاناة وتأنيب الضمير، إننا أمام واقع لم يكن من صنع أيدينا، واقع أفرزته تراكمات عبر قرون من الزمن، واقع لم يكن حدثاً آنيّاً، ومواجهة
هذا الواقع لا يكون بالنبرة الحادة ولا بمحاكمة الرموز ولا بالمراهنة على تصفيته
بالخطاب البلاغي.
إن خطاب النخبة ونشيد المبدعين رهان خاسر وأحصنة تركض في حلبة
دائرية، ووعود لا يعول عليها، إنها مجرد جرعات لتسكين الصداع والغيبة عن ألم
الواقع المرير.
إن علينا أن نكظم غيظنا، وأن نواجه قدرنا بصمت محتشم وفعل ممنهج
طويل الأجل، يبدأ بصنع الإنسان عبر التربة الراشدة والتنقية الواعية، الأمة
بحاجة إلى الوعي الذي أرشد إليه رسول الهدى:» فربّ مُبَلّغٍ أوعى من سامع «.
نحن نطلب هذا الوعي: وعي (الأنا) ، ووعي (الآخر) ، ووعي الإمكانات،
ووعي الواقع الأوسع من الإقليمية والعربية والإسلامية، والتحرك على هدي من
هذا الوعي، وإشكاليات الواقع ليست عربية فضلاً عن أن تكون إقليمية، وليست
عصرية فضلاً عن أن تكون آنية.
لقد مرت الأمة ومرت نخبها بخطابات تناسخية، لا يتعظ اللاحق بالسابق،
ولايمارس اللاحق أدنى حد من نقد الذات ومحاسبة النفس ولا يمتلك ذاكرة تعيد له
بعض الإخفاقات وأسبابها ليكون موعوظاً بغيره، بل لا يمتلك ذاكرة تعظه بنفسه..
تهالك على خطاب الإثارة وإدانة الذات وعزوف عن نداء العقل وتحذير الخبرة.
ومضاربة خاسرة تكاد تبيع ماتبقى من مساحات حرة لصوت العقل، ولست مبالغاً
ولامتجنيّاً ولامجازفاً لو قطعت أو أكدت بأن: الشعر، والقصة، والرواية، وسائر
الأنواع الكلامية تدور في هذا الفلك، فهي إما سخرية مرة ونقد لاذع للواقع وتحقير
موجع للأمة وتيئيس مفجع وانتهاك سافر لكل شروط الجدل الراشد.. أو رهان
جريء على البديل الأمثل، وكأن (عصى موسى) مجموعة من العصي الموزعة
على كل من يذعن لهذا الخطاب ويدخل في عباءته دون وعي أو تساؤل.. أو تبعية
أمعية لا تؤمن إلا بالشاهد المادي، متجهة صوب الحضارة المادية مستهلكة لا
منتجة، متأسية بالسلوك لا بالعمل، مجترة النفاية.
وكل الفئات الثلاث تتقاطع أصواتها ويتداخل لغطها ويرتفع ضجيجها، ولكنها
في دروب التيه والضياع، ولكي لا أحبط وأسقط، وأكون جزءاً من هذه الشرائح:
أستدرك أصواتاً مليئة بالحكمة والعقل والتروي والمراجعة، وكلها أصوات يخنقها
تكاثر المرجفين، ويضيعها صخب الخليين الذين يمتطون الأمواج حتى إذا تكسرت
على حافات الشواطئ خفوا لاستقبال أمواج أخرى، أطمئن نفسي ومن هم على
شاكلتي بحديث الذي لا ينطق عن الهوى:» لا تزال طائفة من أمتي على الحق «،
فالحق والشر لا يغيبان ولكنهما في جولات وصولات [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ] ، فإذا غلب الحق انزوى الشر في أضيق نطاق، وإذا غلب الشر كمن
الحق في قلوب المؤمنين تحرّفاً لجولةأخرى تعلي كلمة الله، والناس بين امتحان في
السراء والضراء [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً] [وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات]
[وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] .
(1- 3) وبعد: لقد جاء المقطعان بمثابة مدخل ومقدمة، ولم يبق للمتن إلا اليسير، الأمر الذي سيحملني مكرها على قراءة قصيدة واحدة فقط، لا لأنها
الأفضل، ولكن لأنها الأكثر إثارة.
القصيدة للشاعر الدكتور صالح سعيد الزهراني (جغرافيا الرقاب» ص 48
العدد 90، والأعمال الأخرى لها نكهتها الخاصة وتصورها الذاتي، وهي في
مجملها تعبير استفزته ترديات الواقع الإسلامي، وبكائيات مرة ألحقناها في كل
الطرح الإبداعي، عنوان النص يقرئك النص، يكاد يحرقه، أو قل هو المتن
والنص هامش مركز، فيه حذر، وفيه استدراج ذكي للقارئ.
العنوان: خبر، ومضاف إليه. وكلمة (جغرافيا) مصطلح يتسع لأكثر من
دلالة، قد تكون جغرافيا فكرية، أو بشرية، أو إقليمية، أو خلقية ... أو ما شئت،
والرقاب: جمع رقبة، وهي الأخرى مصطلح يتسع لأكثر من دلالة، ولكنها
الأقرب تعبيراً عن العبودية، وفي التنزيل: (فك رقبة) (وفي الرقاب) ، (تحرير
رقبة) ، (فضرب الرقاب) ، وهنا نقترب من أجواء النص، ولكننا لن نتعجل في
تحديد الدلالة العامة، وسنكتفي بإثارة التساؤلات ليظل النص مفتوحاً لأكثر من
قراءة ولأكثر من إسقاط، وسوف أتحامى الوقوع في مصيدة النص فأكشف همي
ومعاناتي الذاتية، ومن ثم: أزيح الشاعر لأكون أنا المتحدث وأنا المعرف،
(جغرافيا الرقاب) هل تعني عالم العبيد والمستضعفين وهل المسُتْرِق (بالبناء للفاعل)
هم صناع الحياة والمُسْتَرَقّ (بالبناء للمفعول) الأغبياء، وما دواعي الرق، وما
مقاصد الثنائية المتناقضة إلى حد صارخ، ولماذا وجهت الرسالة لمتناقضين
متضادين؟ ، كيف يكون شكل التلقي؟ ، هنا يكون الشاعر بين أمرين، إما أن
يكون متورطاً، أو ساعياً للتوريط، وعلى الحالين فإن القارئ يجب أن يكون حذراً
ويقظاً لكي لا يقع في لعبة الكشف عن القارئ لا الكشف عن القائل.. هي رسالة
إلى فئتين تمثلان التناقض في أقصى درجاته صيغة مبالغة، وتأكيد (صناع، جدّاً) .
الإشكالية في صيغة التلقي وأسلوب الاستثمار والتوظيف. وثمة إشكالية ثانية: من يكون هؤلاء وأولئك، إن تفكيك النص يبرز تعادلية مجحفة وثنائية متدابرة
وليست متآزرة أو متوازية على الأقل، ليست الفكرة بحد ذاتها غائبة، إنها
مطروحة في الطريق الجديد في تشكيل الفكرة وأسلوب تناولها واستدعاء كم هائل
من الرموز التراثية لتكون أوعية للطارئ، ومن ثم فالقصيدة تذكرني بقصيدة
البردوني (غزو من الداخل) .
والشاعر هنا يتحدث من منطقة الحلم، فهناك مخيلة وذاكرة المخيلة تلعب بين
قطبين: قطب الصور المسترجعة، وقطب الصور المتخيلة، والذاكرة تركض
داخل أغلفة التراث تمتطي الإضاءات والعتمات: السليك بن السلكة، ابن ماجد،
الكميت الأسدي، وتركض داخل أغلفة الآخر: (دي جاما) (ماجلان) (رأس
السندباد) .
والذاكرة والمخيلة كقوتين فاعلتين في صناعة النص تتآزران بعيداً عن
المكاشفة الناصعة. إن هناك آتياً يحمل مهمة التحرير، قد لا يكون تحرير الأرض
ولكنه تحرير الأفهام والمدارك والتصورات، ومجيئه لن يكون ذاتيّاً، إنه عبر
رسائله المادية: (الزجاج) (الملابس) (المبيدات) (المأكولات) .
الشوط الأول يمدك ببعض الخيوط، يضيء مواقع قدميك، حتى إذا
استشرفت الآتيَ تفلت منك ممعناً في الهروب والتمويه والمغالطة، ولكن هذا الوعد
الذي يرويه الشاعر ليس إلا لوناً من السخرية بسذاجة وغباء المتلقي.
(باسم تحرير مواليك) لمن يكون الخطاب؟ ، ومن الآتي؟ ، ولماذا يأتي؟ ،
إن هناك مجيئاً ماديّاً، مجيئاً فكريّاً، وكلاهما خطر، ذاك يُضْعِف، وهذا يفسد،
والإضعاف والإفساد هدفان للعدو، فعن أي المجيئين تحدثنا القصيدة التحذيرية أو
التهكمية؟ .
لن أمضي وراء التخمين فأُحَجّم الدلالة وأحرم القارئ من احتمالاتها وأصادر
فضاءات القصيدة.. ولن أقف حائراً أمام التعددية الدلالية.. إن لي قراءتي
وفرضيتي، وليكن لغيري ما يشاء من القراءات والتأويلات، والشاعر الذي هرب
من التسطح وأحادية الدلالة له حقه، فالشعر الخالد هو الذي يتجاوز زمنه وقضاياه
ليكون في انتظار الآتي.
والشاعر لم يكن أسير أقليميته لقد احتوى الآخر فكانت فضاءات الدلالة أكثر
عمقاً واحتمالات التأويل المتعدد واردة. الشعر رسالة مفتوحة، ومن الجميل جدّاً أن
يتوقع الحاضر والآتي أنها تخاطبه، ترسم له طريق الخلاص، تقدم له رؤية
نخبوية، وعندما تتأطر الرسالة يتطامن الشعر ويتقزم الشاعر، ومقياس الانفتاح
والانغلاق: هذا الكم الهائل من الشعر، وهذا الجم الغفير من الشعراء الذين طواهم
النسيان ولم تتسع لهم صفحات التاريخ.
إن هناك حشداً من الرموز وحشداً من المناجاة وحشداً من الوعود يكتظ بها
النص في أضيق نطاق كلامي.
هذا التكثيف وهذه التداعيات، تضع القارئ أمام تكاثر لا يدري معه ما يصيد، وقد يؤدي ذلك إلى خروجه بدون أدنى قدر من الاستيعاب.
بقي أن أتساءل عن تكافؤ الفرص بين: تكثيف الدلالات وتوفير الجماليات
الصوتية والتصويرية، والنص ينطوي على قدر من كل ذلك، ولكنه يفقد التعادلية
بسبب لهاثه وراء الإشارات والرموز والجمل القصيرة والقفزات المتلاحقة التي
تقطع التراسل والتواصل.
والقصيدة بجملتها تأنيبية تتعمد الإدانة لإنسان العصر، وقد تنطوي على شيء
من التحذير، والرموز تمثل السفر، أو قل: تمثل الإبحار مبارحة الأرض، أو قل: تمثل مغامرة من أجل الاكتشاف، هذا الحشد من السفر والصعلكة يوحي بالهروب
والاغتراب، هروب الذات واغتراب النفس، وهي ظاهرة دلالية في الشعر الحديث
تكاد تكون مألوفة.(94/68)
المسلمون والعالم
القضية البوسنية..
(دروس وعبر)
بقلم: عبد العزيز بن عبد الله
لقد بلغت الفواجع التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك من الهول
والفظاعة الشيء العظيم الذي سمع به القاصي والداني، ولم يعد خافياً على أحد من
المسلمين أو من أعدائهم مدى ما يعانيه إخوانهم في البوسنة والهرسك من استهتار
بحقوقهم الإنسانية، ورفض لحقهم في تقرير مصيرهم كغيرهم من الشعوب.. كل
ذلك على ضوء تعاليم هيئة الأمم المتحدة أو بمباركة من النظام العالمي الجديد الذي
فتح المجال للحرب العنصرية القائمة على ما يسمى بالتطهير العرقي وما أدت إليه
من مآس كبرى من الصرب (الأرثوذكسي) ، تلك التي سماها (بطرس الأصغر)
حرب الأغنياء، والشيء من معدنه لا يستغرب، فهو (أرثوذكسي) يحدب على بني
ملته ولو على حساب مهمته الإنسانية! .
ولقائل أن يقول: ماذا عسى أن يكون في هذه الأحداث المؤلمة من الخير
والرحمة، وما رأينا إلا سفك الدماء وهتك الأعراض وتشريد الأسر وسلب
الأموال؟ ! إن الجواب على هذا السؤال سهل وميسر إن شاء الله.
ولن يقدر مثل هذا الكلام إلا المؤمن بالله (عز وجل) الواثق بحكمته، المدرك
لمعاني أسمائه (عز وجل) وصفاته ولآثارها الكريمة الجليلة.
وهذا لا يعني التواكل وترك الدفع، كلا.. بل يجب إعانة المسلمين هناك بكل
ما يمكن لجهاد عدوهم، والدفاع عن الديار والأنفس والأعراض، لكننا يجب أن
نستثمر الدروس والعبر من هذه الأحداث لكي تكون رصيداً ورافداً من روافد الدعوة
إلى الله (عز وجل) ، وذلك بتوظيفها في معرفة الأعداء وشحذ العزائم، واستنهاض
الهمم، ووحدة الصف، وغير ذلك من الآثار الإيجابية.
وما سيقال هنا من الحِكَم والغايات المحمودة في أحداث البوسنة يسري أيضاً
على مآسي المسلمين الأخرى في مشارق الأرض ومغاربها.
ويمكن إجمال الدروس والعبر المحمودة
في هذه الأحداث فيما يلي:
أولاً: رجوع الناس في تلك البلاد إلى الإسلام، حيث برز من بينهم من
يفهمه فهماً صحيحاً بعد أن كان إسلاماً صوريّاً بالهوية فقط، وما نتج عن ذلك من
التمايز عن الكفار بعد أن كانوا في حالة من الانصهار والذوبان معهم دون علم
بحقيقة الإسلام وحقيقة الكفر، لكن ما إن اشتعلت الأحداث حتى عرف المسلمون
هناك أعداءهم، وبدأ التمايز، ووضح أنه لا التقاء بين الإسلام والشرك والكفر،
وبخاصة بعد انتشار الدعوة بينهم، وما ساهم به المسلمون في كل مكان من جهود
في الدعوة والتعليم والإغاثة، فأحس الناس هنالك برابطة العقيدة بإخوانهم المسلمين، فعرفت عقيدة الولاء والبراء، وظهرت الشعائر الإسلامية، حيث عمرت المساجد
بالصلاة، وبرزت ظاهرة الحجاب بين المسلمات بعد أن كن هن والكافرات سواء.
كل ذلك من الخير الذي ظهر بعد هذه الأحداث، ولو لم يقدر الله هذه الأحداث
المؤلمة لبقي الوضع والله أعلم على ما هو عليه قبل الأحداث من الجهل والفساد
ومسخ الإسلام في النفوس وعلى أرض الواقع، ولكن الله لطيف خبير، بر رحيم،
عليم حكيم، وهذا الخير الذي حصل من آثار لطف الله ورحمته حيث لم يتركهم
(سبحانه) في انحدارهم الشديد إلى الجهل والفساد والكفر، بل أيقظهم (سبحانه) بهذه
الأحداث المؤلمة التي كانت سبباً في انتباههم من نومهم العميق، وسبباً في شعورهم
ببعدهم عن الإسلام، وانحرافهم الشديد عن عقيدته النقية، وماذا تساوي كل
التضحيات إذا كانت نتيجتها النجاة من عذاب الهوان والذل في الدنيا، والنجاة من
عذاب النار يوم القيامة؟ إنها تصبح ضئيلة بجانب تحصيل هذه المصالح العظيمة،
وفي ذلك عبرة للمجتمعات الآمنة في أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وإلا
أصابهم ما أصاب غيرهم؛ قال (تعالى) : [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى
وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] [الأحقاف: 27] .
ثانياً: شعور المسلمين في كل مكان بعداوة الكفار وحقدهم الشديد على الإسلام
والمسلمين مهما اختلفت مللهم وأوطانهم شرقاً كانوا أو غرباً؛ فالكفر ملة واحدة،
والحرب التي يشعلونها حرب عقدية مهما أظهروا من دوافع مزورة يغطون بها
كيدهم ومكرهم. وهذا والحمد لله معروف من كتاب الله (عز وجل) ، وما فيه من
فضح للكفار والتحذير من الاغترار بكلامهم والركون إليهم، لكن هناك من المسلمين
من بَعُد عن كتاب الله (عز وجل) ، واغتر بالكفار وبمعسول كلامهم، فجاءت هذه
الأحداث المؤلمة لتؤكد للمسلمين في كل مكان، حتى لمن عشي بصره: أن الكفر
ملة واحدة على المسلمين ودينهم، وقد حذر الله (سبحانه) المسلمين من هذا الكيد منذ
أربعة عشر قرناً من الزمان؛ قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً
مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ
مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [آل عمران 118 120] .
كما ظهر من خلال هذه الأحداث كذب الكفار، وافتضاح أمرهم وغدرهم
وظلمهم حيث ظهرت المعايير المزدوجة، والموازين الجاهلية، وهذا الأمر والحمد
لله يفهمه المسلم من عقيدته قبل هذه الأحداث وذلك من الآية الآنفة الذكر وغيرها،
ولكن كما أسلفت هناك من الناس الذين بعدوا عن فهم العقيدة الصحيحة، من لا ينفع
معه الكلام، ولايقتنع إلا بالأحداث، وما أكثر هذا الصنف من الناس الذي لايستيقظ
من نومه إلا بضربات عنيفة تفتح عينيه وتنبهه من نومه العميق، فجاءت هذه
الأحداث لتؤكد لكل من عنده أدنى مسكة من دين أو عقل تهافت الشعارات التي
ترفعها هيئة الأمم ومجلس الأمن.. من مثل: رفع الظلم عن المظلومين، وردع
الطرف المعتدي، والقضاء على أسلحة الدمار الشامل.. إلخ.
لقد ثبت من خلال هذه الأحداث أن تلك الشعارات ذات معيارين، فإن كان
الخطر من المسلمين ولو بالهوية طبقت، وإن كان الخطر عليهم ضاعت الشعارات
وتلاشت، وترك المعتدي يقتل ويهتك ويدمر على مرأى منهم ومسمع، وهذه
المواقف على كل حال لاتستغرب منهم، ولكن المستغرب هو أن ينخدع بكلامهم
ووعودهم من يدعي أنه يفهم شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فلعل
هذه الأحداث توقظ هذا الصنف من الناس وتساعدهم في الرجوع إلى عقيدتهم،
واعترافهم بالجهل الذي كانوا عليه من دينهم، وفي ذلكم خير.
ثالثاً: إحياء شعيرة الجهاد بين المسلمين؛ هذه الشعيرة التي غابت ردحاً من
الزمن حتى وصل الأمر في وقت من الأوقات إلى التهيب من الخوض في موضوع
الجهاد، والحديث حوله، أما الآن فأصبح هو حديث المسلمين الجادين في كل مكان، وقد ساهم الجهاد الأفغاني على علاته وسلبياته في ذلك مساهمة فعالة، وكذلك ما
تزامن معه وما تلاه من حركات جهادية في العالم، هذا، وإن كان هناك بعض
التحفظ على بعض هذه الحركات الجهادية لحاجتها إلى مزيد من التأصيل الشرعي،
إلا أنه وبشكل عام كان لرفع علم الجهاد أثر عظيم في ارتفاع المعنويات والأمل في
عودة الإسلام عودة صادقة شاملة.
ولقد أحست ملل الكفر جميعها بخطر الجهاد وأثره في إحياء النفوس
واستنهاض الهمم، فوجهت حربها على هذه التيارات الجهادية في شخص من
أسمتهم بالأصوليين، وصدق الله العظيم: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن
رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ
وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ] [الأنفال: 60] .
وهذه النتائج الطيبة أفرزها التحدي السافر، والصراع المرير، والكيد العظيم
من الكفار للمسلمين في كل مكان، وفي ذلك خير إن شاء الله تعالى إن أُحسِن
استثماره، ووجه التوجيه الصحيح، وتعاون المسلمون جميعاً تحت راية الجهاد ضد
أعدائهم، ونبذوا الفرقة التي بينهم، وهذه الثمرة قد وضحت بجلاء في جهاد
المسلمين في البوسنة أمام أعدائهم الصرب الكافرين، وجهاد نفر من المسلمين في
فلسطين أمام اليهود الكافرين المغتصبين.
رابعاً: أظهرت هذه الأحداث طرفاً من خيرية هذه الأمة، وأن الشعوب رغم
ما دهاها في دينها فلا تزال فيها بقية من خير وحب للإسلام، وذلك فيما ظهر من
التعاطف الشديد من المسلمين بعامة مع إخوانهم المنكوبين، حيث برزت أمثلة
رائعة في البذل والتضحية والدعوة إلى الله والتعليم والجهاد، وذلك بما وقفه بعض
دعاتها وخطبائها وأغنيائها ومجاهديها من المواقف النبيلة التي تعكس الهم الإسلامي
في النفوس.
وهذا الخير الموجود في هذه الأمة يعد رصيداً مهمّاً للعودة الشاملة للإسلام إن
استغل ووظف في مكانه المناسب.
خامساً: أن الاتكال على الله ثم الأخذ بالأسباب المشروعة هما طريق النصر
المؤزر إن شاء الله ولاشك أن المواجهة التي تحصل هناك على الرغم من كل
المؤامرات الدولية وعلى الرغم من قلة العدد والعدة.. كل ذلك جعل المسلمين
ينتصرون في كثير من المواقع ويستولون على سلاح العدو ويقاومونه بكل بسالة،
وأن جمع الكلمة ووحدة الصف والانطلاق من المنطلقات الإسلامية الحقة بإذن الله
كفيل بتعجيل النصر، وما ذلك على الله بعزيز.
سادساً: إن التوجهات التي تلوح في الأفق بالتهاون في إقامة الدولة الإسلامية
بدعوى أن الغرب والشرق سيقفون ضدها وبدء ظهور اتجاهات مشبوهة بإقامة دولة
مدنية (علمانية) إنما هو طريق الهلاك والخسار وتضييع للإمانة التي وضعها الشعب
المسلم بل والأمة الإسلامية في أعناق المسؤولين بهذه الدولة، بل وفي ذلك شق
للصف ونكوص عن الأهداف التي رسمها العلماء والمفكرون لإقامة هذه الدولة، بل
وخيانة للدين، وقد علمتنا الأحداث بأن الحرب القائمة حرب عقيدة، ومهما تساهل
بعضهم فيها وتخاذل في أدائها فهم في نظر أعدائهم مسلمون، فلابد الحذر من
التساهل في ذلك الهدف الإسلامي العظيم الذي قامت الدولة باسمه حتى لا يبوء
المسلمون بخزي الدنيا والآخرة.
سابعاً: الحذر كل الحذر يا أهل البوسنة والهرسك من أولئكم الذين لا يحملون
من الإسلام إلا اسمه، ولا سيما المنضوين تحت مظلة الشيوعية البائدة وذوي
الأهداف المادية والذين يركبون الأمواج لتحقيق أهدافهم الرخيصة ولا يشعرون
بشعور العقيدة الحقة التي يجب أن ينطلق من أصولها كل عمل مهما كان وبخاصة
في مثل هذه الظروف الحرجة.
فالمسؤولون عن هذا الجهاد في بحر من الأمواج المعادية لهم، وقد عرفوا
أمثال هذه الفئات (كعبديتش) وإخوانه ممن اشترى دنياه بدينه واستعان بقوى أجنبية
ضد إخوانه المسلمين، ومازال سادراً في غيه، فهؤلاء الأشخاص وأمثالهم يجب
الحذر كل الحذر منهم والضرب بيد من حديد على كل توجه انهزامي ومصلحي؛ إذ
سيكون في ذلك عبرة لكل معتبِر.
والله أسأل أن يعلي كلمته وأن يعز جنده وينصر حزبه وأن يرينا في أعدائنا
جميعاً يومااًسوداً.. إن الله على كل شي قدير وبالإجابة جدير، والله المستعان.(94/76)
المسلمون والعالم
خطر.. على أرض الكنانة!
بقلم: أحمد العويمر
شَرُفَتْ مصر بالإسلام حينما فتحها الصحابي الجليل عمرو بن العاص (رضي
الله عنه) فدخل أهلها في دين الله أفواجاً، وانتقل إليها الكثير من العرب المسلمين،
فتعرب لسانها وصارت إحدى المراكز والمنطلقات التي دخل الإسلام عن طريقها
إلى إفريقيا كلها، وبقيت مصر وفيّة لرسالتها الإسلامية على مر العصور.. ويوم
أصاب حكامها داء الأمم في التفكك والخلافات والصراعات فيما بينهم دخلها
العبيديون (الذين تسموا بالفاطميين) وخططوا لتحويلها إلى دولة رافضية، فأقاموا
لذلك المذابح لكل من وقف في طريقهم ولا سيما من العلماء والمصلحين، وحينما
تساءل المصريون عن مدى حقيقة انتساب هؤلاء العبيديين لآل البيت كما يزعمون
أخرج أحد حكامهم سيفه وقال: هذا نسبي، ونثر النقود والدرر وقال: هذا حَسَبي،
ثم أقاموا (الجامع الأزهر) لينقلوا مركز التعليم والتوجيه من مسجد عمرو بن العاص، وليكون جامعة دينية تنشر عقيدتهم وتغري بمنطلقاتهم ومبادئهم، وبما أن الباطل
لا يدوم؛ فبعد قرنين من الزمان سقطت دولة العبيديين على يد الفاتح والقائد المسلم
صلاح الدين الأيوبي الذي أعاد الله به ضياء السنة، ورفع به أعلامها وبقي دين
الرفض مختبئاً، واتخذ طريق التصوف أسلوباً وسبيلاً لمحاولة بقائه حتى أكد كثير
من الباحثين أن شيخاً صوفيّاً مشهوراً مثل «أحمد البدوي» لم يختر (طنطا) إلا
لتوسطها بين القاهرة والإسكندرية؛ ليعمل على إعادة دولة العبيديين البائدة، وفي
القرن العاشر جاء من إيران إلى مصر أحد دعاة الرفض وحاول بث سمومه بين
المصريين؛ مما جعل العلامة «السيوطي» (رحمه الله) يقف فاضحاً دعوته في
كتابه المعروف (مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة) ، وفي عصور الانحطاط قامت
الطرق الصوفية ببث أفكارها القريبة من التشيع ولا سيما الطريقة الرفاعية
المعروفة بمصر. والصلة بين التصوف والتشيع وثيقة جدّاً أكدتها الدراسات العلمية
المقارنة، مثل: (الصلة بين التصوف والتشيع/ د. كامل الشيبي) ، وله دراسة
أخرى هي: (الفكر الصوفي والنزعات الشيعية) ، وقد بين هذه الصلة بجلاء
وإيجاز الشيخ «عبد الرحمن عبد الخالق» في كتابه القيم (الفكر الصوفي في ضوء
الكتاب والسنة) الطبعة الثالثة وما بعدها.
التشابه بين التشيع والتصوف:
وتتجلى أبرز صور تشابه هذين التوجهين فيما يلي:
1- ادعاء كل من النزعتين بوجود علوم خاصة لدى رموز كلّ منهما لم تعط
لغيرهم، وهذا طعن في إكمال الدين.
2- ما زعمه الشيعة في أئمتهم هو ما زعمته الصوفية في رجالها ممن
يسمونهم بالأولياء والأقطاب والأوتاد: من ادعاء اختيارهم من قبل الله (تعالى)
لقيادة الأمة بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والنص على ذلك.
3- الادعاء بأن للدين ظاهراً للعوام وباطناً للخواص! !
4- تقديسهم للأضرحة والقبور وشد الرحال إليها.
وأبرز الفِرَق الصوفية توافقاً وانسجاماً مع أهداف الشيعة فرقتان، هما:
1- الرفاعية:
وهذه الطريقة إحدى الطرق المشهورة بمصر، وأتباعها يعتقدون بإمامة
(الأئمة الاثني عشر) كالجعفرية، ويجعلون شيخهم «أحمد الرفاعي» الإمام الثالث
عشر بعدهم، وهم يؤمنون معاً بكتاب خرافي، مملوء بالطلاسم والشعوذات يسمى
(الجفر) ، وهؤلاء الرفاعية ينتشر بينهم النصب والشعوذة والدجل أسلوباً لترويج
طريقتهم، وقد كشف شيخ الإسلام ابن تيمية أباطيلهم تلك وأفحم زعماءهم في
محاورته معهم وفي رسالة معروفة ومشهورة بعنوان (الرد على الرفاعية البطائحية) .
2- الطريقة البكتاشية:
وهي طريقة تجمع بين التصوف والتشيع، نشأت في تركيا وانتقلت إلى
مصر عام 800 هـ، وبقيت بمصر حتى عام 1224م حين ألغيت الانكشارية
وأعطيت أملاكهم للطريقة القادرية ثم عادت لمصر على يد «علي الساعاتي»
وصارت مصر مقرها الرئيس عام 1949م، وفي عام 1957 أخليت تكيتهم في
المقطم فانتقلوا إلى المعادي.
جهود الرافضة المنظمة لنشر التشيع بمصر:
وتتمثل جهودهم العملية لنشر مذهبهم في الوسائل التالية:
1- جماعة الأخوة الإسلامية: أسسها الباطني الهندي «محمد حسن الأعظمي» عام 1937م، وجعل مركزها قبة الغوري بمصر، ويبدو أنها فشلت في أداء ما
تهدف إليه فنقلت إلى كراتشي عام 1948م.
2- دار التقريب بين المذاهب الإسلامية: أسسها أحد الرافضة الإيرانيين
وهو المدعو «محمد تقي القمي» عام 1364هـ، وقد انخدع بدعوته للتقارب مع
السنة نفر من علماء مصر، وأصدرت الدار مجلة (رسالة الإسلام) لخدمة أغراضها، وبعد أربع سنوات من إنشائها ارتاب أحد أعضائها في أهداف هذه الدار (وهو
الشيخ «عبد اللطيف السبكي» ) ونشر رأيه بمجلة الأزهر (ج 24/286) وتساءل
عن موارد هذه الدار وعلى حساب من إنفاقاتها السخية، وفي النهاية أُغلقت الدار،
وتبع «السبكي» في التبرؤ من هذه الدار الشيخ «محمد عرفة» والشيخ «طه
الساكت» .
3- ولم ييأس الرافضة؛ فبعد توقف الدار أرسلوا مندوباً آخر هو «طالب
الرفاعي الحسيني» ، ويلقب نفسه بإمام الشيعة بمصر، ولم يرفع المذكور شعارهم
السابق (التقريب) بعد الشك في أهدافهم، وإنما رفع شعاراً يتقنون التسلل لقلوب
المصريين عبره وهو (محبة آل البيت) ، فأنشأ (دار آل البيت) لتقوم بنشر كتب
الرافضة وإحياء مواسمهم والتبشير بمبادئهم حتى أنهم أنشؤوا بالمعادي مركزاً
للدعوة بمنطلقاتهم بين أهل السنة، وقد حُلت هذه الجمعية مؤخراً بعدما ظهر للعيان
دورهم في نشر الفكر الشيعي بين الناس.
4- دور الثورة الخمينية في الخداع بأهدافها:
لقد ظن الكثير من الناس بهذه الثورة عند قيامها ورفعها اسم الإسلام خيراً،
والحقيقة أنها ثورة طائفية عنصرية، ونحن لا نتهمها بما هي براء منه؛ فبالإمكان
الرجوع إلى (دستورها المعتمد) لترى تلك النزعات بجلاء.
وموقفها من الفئات السنية في إيران أسوأ موقف تقفه دولة تدعي الإسلام،
وبيان ذلك يطول، وقد كُتِبَتْ في إيضاحه دراسات وكتب (معروفه) توضح العداء
المستحكم والظلم الواضح لأهل السنة من الحكومة القائمة في إيران، بينما يُخص
اليهود والنصارى والمجوس بأحسن رعاية! ! !
أثر الثورة الإيرانية في نشر مذهبها:
استطاعت هذه الثورة في كثير من الدول تجنيد مجموعات من الأفراد عن
طريق أتباعها بأسباب متعددة، من أهمها:
1- الشعارات البراقة التي يرفعها النظام: كالعدالة الاجتماعية، والدعوة إلى
الحريات، ونصرة المستضعفين.
2- استغلال الجهل الذي يرزح تحته كثير من الشعوب الإسلامية لا سيما من
غير الناطقين بالعربية، وخداع هذه الشعوب بنصرة الإسلام ومحبة آل البيت
والانتصار لهم.
3- الإمكانات المادية، فقد سخرت الحكومة الإيرانية ميزانية ضخمة للدعوة
إلى مذهبها في الخارج، ومنها: منح دراسية، وتذاكر سفر للمؤيدين لها الذين
يرجى تحويلهم لمذهبها.
نتائج جهودهم الدعوية:
ولقد أثمرت هذه الجهود ثماراً ملموسة ونتائج تتمثل فيما يأتي:
أولاً: انخداع نفر من الكتاب والصحفيين وبعض المفكرين بدعاوى الرافضة
تلك، فقاموا بكل جهد بالدعوة إلى التقارب معهم ومؤازرتهم وفتح المجال لهم للدعوة
لمذهبهم، ومن هذه العينة كتابان صدرا في الموضوع نفسه لمؤلفين معروفين هما:
1- علي عبد الواحد وافي في كتابه: (بين الشيعة وأهل السنة) .
2- سالم البهنساوي في كتابه: (السنة المفترى عليها) .
وهما بحثان غير عميقين يقومان على العاطفة البحتة وتنقصهما الدراسة
العلمية المتأنية، فضلاً عن فقدانهما للرجوع للمصادر والمراجع المعتمدة عند القوم، ولذلك: جاءا يفصحان عن العاطفة أكثر من العلم الحقيقي.
وقد تصدى لهما وكشف عوارهما وأبان أخطاءهما الشيخ العلامة «إحسان
إلهي ظهير» (رحمه الله) في كتابه القيم (بين الشيعة والسنة) ، ومثل ذلك الكتابين
قد يسهمان في تضليل العوام وأنصاف المثقفين، ويكونان مع الأسف وسيلتين
للدعاية لدين الرافضة بينما موقفهم من أهل السنة وأصولهم معروف.
ثانياً: وجود جماعات مشبوهة تتبنى الاتجاه الرافضي بعد انخداعها بدعاوى
الثورة الإيرانية في كثير من الدول ولا سيما في دول الخليج العربي، وبعض الدول
الإفريقية وعلى رأسها (مصر) حيث وجدت بعض الجماعات تتبنى التشيع تحت
إغراء التأثير الإعلامي والدعم المالي، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وهو يحذر من فتنة المال: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» **.
وقد كشفت السنوات الأخيرة عدداً من تلك الجماعات الشيعية، ومنها:
أ- العصبة الهاشمية: وزعيمها هو المسمى «الشيخ العربي» الذي يدعي
أنه يتصل بالرسول مباشرة، ولها مبادئ يظهر فيها الغلو والرفض الشيعي.
ب- وهناك مايسمى ب: (تنظيم الطلائع الشيعي) .
ج- مايسمى بالتنظيم الشيعي الإيراني: وبغض النظر عما يؤخذ من واقع
التحقيقات التي تمت مع المنتسبين لهذه التجمعات وما نسب إليهم من السفر لإيران
ودعمهم المادي، إلا أن هذه الجهود أثرت تأثيراً ملموساً لدى بعض العوام وأنصاف
المثقفين، ففي حي المعادي بالقاهرة كان لهم تجمع يصدع ببدعهم، وفي الزقازيق
لهم وجود معروف، وكذلك في المنصورة (قرية ميت زنقر) وزعيمهم طبيب
معروف، وقد أنشأت الجمعية الهاشمية في إحدى قرى أسوان «حسينية» لهم،
وأعضاؤها يرفعون صور الخميني ويلبسون السواد في (عاشوراء) .
أبرز الشخصيات المتشيعة بمصر:
1- صالح الورداني: وهو تاجر وصحفي وكاتب، من أنشط هذه الفئة، وله
العديد من المؤلفات، ويعتبر منظرّا للشيعة هناك، ومع ذلك فهو مطلق الحركة! ،
ويبدو أنه مستاء من علماء السنة الذين يفضحون الشيعة ومذهبهم وقد ألف كتباً في
الدعاية لمذهبه الجديد، وهي ترديد لترهات وادعاءات الرافضة الذين يستغلون
جهل العامة وأنصاف المثقفين بحقيقة مذهبهم، مع دس السم في الدسم، وهي
منتشرة في كثير من المكتبات ومع باعة الأرصفة.
وجل العلماء هناك عنها غافلون، ولم أر أي كشف لذلك الزحف الرافضي
سوى رسالة صغيرة ذات ردود مختصرة تحت عنوان (نماذج من سموم الغزو
الشيعي لمصر والأمصار الإسلامية) للأستاذ «رجائي محمد المصري» ، لكنه لم
يذكر أن صاحب تلك الدعاوى الشيعية التي نبه مشكوراً لخطرها إنما هو المدعو
«صالح الورداني» .
2- الزحف (الباطني) : وهذا النوع له دعاته بمصر يسرحون ويمرحون وقد
بدؤوا منذ عام 1980م، حينما افتتح الرئيس السابق «السادات» جامع (الأنور)
الذي رممته طائفة البهرة الباطنية، وقد بدؤوا في السنين المتأخرة يفدون لمصر
أفواجاً، وأقام بعض تجارهم بمصر إقامة دائمة، ولهم شركات ومصانع
واستثمارات في مجالات متعددة، ولهم دار ملاصقة للمسجد يستقبلون فيها الضيوف
ويقيمون فيها الولائم والاحتفالات، ولهم دار أخرى (بالمهندسين) ويقومون بترميم
مسجد (الأقمر) ، وقد قاموا ببناء مقصورتين ذهبيتين لكل من الضريح المنسوب
للحسين (رضي الله عنه) والضريح المنسوب للسيدة زينب (رضي الله عنها) ، وهم
يعملون بكل جهد لترميم الآثار العبيدية، ولهم مدير مكتب دائم (لسلطان البهرة)
والقائم بأعمال هذه الطائفة. ولمريد المزيد يرجع لكتاب (الإسماعلية) للعلامة «
إحسان إلهي» (رحمه الله) وهو من أشمل المراجع التي عرضت هذا المذهب على
ضوء مراجعه ومصادره المعتمدة.
* أين أنتم يا علماء؟ ؟
فطن للخطر الرافضي على مصر عدد من علماء الإسلام الأعلام في القديم
والحديث، ومن أشهرهم: العلامة أحمد شاكر، والشيخ محمد حسنين مخلوف،
ومحب الدين الخطيب (رحمهم الله) ولهم جهود في التحذير من الخطر الرافضي.
أما المفكرون المصريون المعاصرون فقد فطن كثير منهم لهذا الخطر الداهم،
ومن أشهرهم: د. محمد المسير أستاذ العقيدة بالأزهر، والدكتور عبد الجليل شلبي
أحد علماء الأزهر. وغيرهم.
خطة عمل لإيقاف الزحف الرافضي:
يجب ألا يتساهل علماء مصر ومفكروها تجاه مخطط الرافضة في الزحف
على أرض الكنانة، ويجب وضع خطة علمية لإيقاف هذا المد وكشف مخططاته
وأهدافه، وأرجو أن تكون تلك الجهود على النحو التالي أو قريب منه:
1- إشاعة العقيدة الصحيحة التي تنافي الاتجاهات المنحرفة من تصوف أو
باطنية أو اعتزال أو عقلانية منحرفة بطرح الدراسات العلمية المختصرة للرد على
تلك الاتجاهات المنحرفة.
2- إيضاح وجهة نظر أهل السنة من الترضي على آل البيت وبيان محبتهم
لهم، وأن ذلك لايعني الغلو فيهم أو تقديسهم على ضوء ما أرشدنا إليه نبينا محمد -
صلى الله عليه وسلم-، وإظهار ذلك في رسائل صغيرة ومحققة ونشرها بين العامة
والخاصة.
3- مناقشة رموز الرفض في مصر أمام العلماء والمفكرين المختصين وإسقاط
دعاويهم وبيان تهافت منطلقاتهم؛ حتى تسقط أوراقهم أمام الرأي العام ويظهرون
على حقيقتهم: إما جهلة بدينهم، أو أصحاب أهداف مشبوهة.
4- ملاحقة تلك الجمعيات والتجمعات الرافضية وعدم السماح لها ببناء معابد
وحسينيات، ومتابعة أي مطبوعات تروج لفكرهم كما هو الحال في إيران، إذ لا
يسمحون لأهل السنة بالدعوة ولا يعترفون بهم.
5- ترويج الكتب والرسائل التي تناقش المذهب الشيعي بموضوعية وبعيداً
عن التعصب والتشنج، ومن ذلك كتب (صورتان متضادتان) للندوي، ونقض
كتاب المراجعات، وبروتكولات آيات قم، و (رسالة إلى كل شيعي) للشيخ أبي بكر
الجزائري.
6- نشر بعض كتب الشيعة المعتدلين نوعاً ما أمثال (موسى الموسوي)
وبخاصة كتابيه (تصحيح التشيع) و (يا شيعة العالم استيقظوا) وطبعها بكل اللغات
الحية لأنها تساهم في خلخلة البناء العقدي الشيعي من أحد علمائهم، ومع ما عليها
من ملاحظات إلا أنها من أهم الكتب التي تسقط التوجه الشيعي وتكشف عواره لكل
قارئ ولكل باحث عن الحقيقة.
7- إيضاح حقيقة التصوف وما فيه من انحراف عقدي وسلوكي وبخاصة
الرسائل الصغيرة ومنها: (فضائح الصوفية) لعبد الرحمن عبد الخالق، و (إلى
التصوف ياعباد الله) لأبي بكر الجزائري، و (كنت قبورياً) لعبد المنعم الجداوي..
فإنها رسائل صغيرة الحجم جمة الفائدة وبأسلوب ميسر الفهم للقارئ العادي.
8- عند مناقشة الشيعة والمتصوفة يجب الانطلاق من منهج يحتكم إليه، وإلا
كان الحوار دائراً في حلقة مفرغة، وكتاب (الفكر الصوفي) للشيخ عبد الرحمن عبد
الخالق من أشمل الدراسات التي بينت حقيقة التصوف والتشيع والعلاقة بينهما
بدراسة علمية شاملة سهلة التناول.
9- التنبه لحقيقة مشاريع التقريب مع الرافضة لأنها لصالحهم وهم
المستفيدون منها، كما حصل في مصر، وقد تم توقفها بعد تنبه علماء مصر
لأهدافها المشبوهة، لكنها عادت من جديد تحت مسميات أخرى كما أسلفت.. حفظ
الله مصر وأهلها من كل سوء.
مصادر مهمة:
1- مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة، د. ناصر القفاري.
2- الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.
3- مجلة المجتمع: العددان (582، 585) .
4- نماذج سموم الغزو الشيعي لمصر، لرجائي محمد المصري.
* انظر دستور إيران الإسلامية! (المادة 12 من الدستور) والمادة (15)
والمادة (115) ، ولمزيد البيان: انظر (النظرية السياسية المعاصرة للشيعة الإمامية
الاثني عشرية) للأستاذ/محمد عبد الكريم عتوم.
** أخرجه الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال، وصححه الألباني؛ صحيح سنن الترمذي، ج2 ص273.(94/82)
المسلمون والعالم
أبعاد القضية الكشميرية
(عرض موجز)
بقلم سعيد البتاكوشي
المؤامرة الهندوسية ضد كشمير تؤازرها مؤامرة دولية كبرى تتمثل في تجاهل
المأساة وعدم الوقوف مع حقوق شعب كشمير في تقرير مصيره، كما أن القوى
الدولية المؤثرة لا تعير أي اهتمام لكافة الانتهاكات الهندوسية لحقوق الإنسان المسلم
هناك، وذلك لسبب واحد وهو أنهم مسلمون [1] .
لا يكاد يمر يوم واحد دون أن تنتهك الهند بكل شراسة حقوق المسلمين في
ذلك البلد الصامد، دون أن تتعرض لأي ضغط دولي، حتى ولو بوضعها على
قائمة الإرهاب؛ فالنظام العالمي الجديد في صف كل من يقف ضد الإسلام ويشوه
صورته، إلا أننا وجدنا أمريكا تحذر باكستان مراراً وتكراراً من مغبة وضعها على
قائمة الإرهاب لو استمرت في تأييد المجاهدين من أهل كشمير [2] .
أما روسيا: فهي تقف دائماً إلى جانب معارضة تدويل القضية، وذلك على
إثر طرحها من قبل الرئيس الأمريكي «بل كلنتون» مما جعل الهند تقبل على
مضض بالتدويل الذي أصبح حقيقة واقعة يرددها القادة الأمريكيون والأوروبيون
وجماعات حقوق الإنسان و (54) دولة عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي وطرحها
للنقاش في مجلس الأمن.
موقف الإدارة الأمريكية:
تتسم حقيقة موقفها بالميوعة والأهواء الشخصية والنفعية (حسب المصالح) ،
وإن كان الموقف بالنسبة لكشمير يبدو للاستهلاك الإعلامي فقط، إلا في موقف
واحدكان في يوليو 1992م حيث وافق الكونجرس الأمريكي على مشروع قرار
قدمه السناتور الجمهوري (دان بيرثون) يقضي باقتطاع (24) مليون دولار من
المساعدات الأمريكية للهند احتجاجاً على انتهاكات وممارسات القمع الهندي في
كشمير، وقد تم إقرار هذا المشروع بموافقة (219) صوتاً ومعارضة (200)
صوت، رغم أن هذا المشروع كان قد رفض من قبل عام 1991م.
التحرك الأمريكي الجديد يسير في اتجاه كشمير المحتلة التي لا تربطها صلة
بباكستان، وهذا سيسهم في تأكيد الدور الأمريكي في المنطقة عن طريق اتجاه
كشميري موالٍ لها مثل جماعة «أمان الله خان» العلمانية [3] ، وعلى الجانب
الآخر هدد «كلينتون» بوضع باكستان على قائمة الإرهاب إذا ظلت على موقفها
بالنسبة لكشمير.
الموقف الباكستاني:
رفضت باكستان ضم الهند الإجباري لكشمير؛ لأن ذلك عكس إرادة الشعب
الكشميري، وأيضاً لوجود اتفاق سابق أوجد حاجزاً قانونيّاً أمام قدرة الحاكم المحلي
على تغيير الوضع الموجود من جانب واحد، والنقطة الثالثة أن الحاكم نفسه قد
هرب من الولاية عند الانضمام، وأن حكومة من الشعب تحت اسم أزاد قامت
بالسيطرة على جزء كبير من أراضي الولاية، وتشهد ثاني برقية لنهرو إلى رئيس
وزراء باكستان تأكيده له فيها سحب جيوش بلاده عند استتباب الأمن في كشمير،
وقال: «إننا سنترك تقرير مصير الإمارة إلى شعبها، ولا نقطع هذا العهد معكم
فقط، بل ونقطعه مع شعب كشمير أيضاً» .
باكستان وقرارات الأمم المتحدة:
على الرغم من زيف ادعاء الهند حقها في كشمير كما ثبت ذلك حتى بشهادة
المؤرخ البريطاني الشهير «ألاستر لامب» إلا أن باكستان وافقت على جميع هذه
القرارات االدولية الخاصة بكشمير موافقة حقيقية وفعلية، بينما رفضت الهند
القرارات، ولم يبق أمام باكستان إلا العودة إلى مجلس الأمن الدولي ليبحث عن حل!، فتقدمت (إسلام أباد) بشكوى في 2 يناير 1957م، وتقدم ممثلو أستراليا وكوبا
وبريطانيا والولايات المتحدة بمشروع قرار مشترك يطالب باستخدام قوات الأمم
المتحدة في المنطقة المتنازع عليها، وكان القبول بالقرارات على أساس الإيضاحات
التالية:
أ- تسريح قوات كشمير الحرة وتجريدها من السلاح خلال مرحلة الاستفتاء،
وذلك بعد استكمال العمليات المنصوص عليها في المادتين أولاً وثانياً من قرار 13
أغسطس 1948م.
ب- سحب الجيش الباكستاني في وقت واحد مع انسحاب الجيش الهندي.
ج- عدم المساس بسيادة ولاية كشمير ووحدتها.
د- عدم السماح بدخول عسكريين أو مدنيين تابعين لحكومة الإمارة الباكستانية
أو الحكومة الهندية.
هـ- يستمد المشرف على الاستفتاء سلطته من السلطات المعينة على جانب خط الهدنة.
و لايسمح بإنشاء مراكز لحاميات هندية في تلك المناطق.
اندلاع حرب 1965م:
كانت النتيجة لفشل كافة المساعي الدولية في حل أزمة كشمير هو زيادة التوتر
بين الهند وباكستان، وزاد من هذا التوتر الإعلان الذي أعلنه وزير داخلية الهند في
1 /1/ 1965م بأن كشمير جزء لا يتجزأ من الهند، كما أعلن وزير الدفاع الهندي
أن القوات الهندية التي كانت تعبر خط وقف إطلاق النار في الماضي سوف تفعل
ذلك مرات أخرى إذا دعتها الضرورة إلى هذا الفعل، وتوترت العلاقات أكثر عندما
أعلن رئيس وزراء الهند آنذاك «شاستري» تصميمه على اعتبار كشمير جزءاً لا
يتجزأ من الهند وعلى أثر ذلك اندلعت الحرب بين البلدين في 5/8 1965م،
واستمرت الحرب 17 يوما.
ولما اشتدت الحرب شعر مجلس الأمن الدولي بخطورة الحالة، فعقد جلسة
طارئة في 22 /9/ 1965م، وأصدر قراره رقم 211 بوقف إطلاق النار بين
البلدين وسحب القوات إلى المواقع التي كانت تحتلها قبل 5 /8/ 1965م في فترة لا
تتعدى 25/2، ولكن المجلس وعد باتخاذ ما يمكن اتخاذه من إجراءات لتسوية
المشكلات السياسية التي ينطوي عليها النزاع الهندي الباكستاني دون أن يذكر
القضية الكشميرية صراحة! !
اتفاقية طشقند:
عمل الاتحاد السوفيتيي السابق على إنهاء الأزمة بين الهند وباكستان وحلها
حلاً سلميّاً بعد اشتعال الحرب بين البلدين مباشرة، فقد تسلم الرئيس الباكستاني
محمد أيوب خان دعوة من موسكو يوم 4 /9/ 1965م لعقد لقاء مع «لال بهادر
شاستري» رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي وقتها، وتمخض الاجتماع عن توقيع
اتفاقية عرفت باتفاقية طشقند، وقد نصت الاتفاقية على ما يلي:
علاقات حسن الجوار بين باكستان والهند وفقاً لميثاق الأمم المتحدة،
وانسحاب جميع القوات المسلحة التابعة للبلدين إلى المواقع التي كانت ترابط فيها
قبل 5/8/1965م، وأن تلتزم البلدان بشروط وقف إطلاق النار عند وقف القتال،
كذلك عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل من البلدين، وعدم تشجيع أي دعاية
موجهة ضد البلد الآخر، وأن يشجعا الدعاية الرامية إلى تنمية العلاقات الودية
بينهما، وأن تعود البعثتان الدبلوماسيتان في كلا البلدين إلى عملهما الطبيعي،
وعلى الحكومتين أن تلتزما بميثاق (فيينا) سنة 1961م بصدد العلاقات الدبلوماسية، وإعادة العلاقات الاقتصادية والتجارية والمواصلات إلى ما كانت عليه، وكذلك
إعادة التبادل الثقافي بينهما، وإطلاق سراح أسرى الحرب وإعادتهم إلى بلادهم،
وإيجاد الظروف التي تحول دون هجرة السكان، كما اتفقا على أن يبحثا في إعادة
الأملاك والأموال التي استولى عليها كلّ من الطرفين نتيجة النزاع، وكالعادة كانت
باكستان بقيادة محمد أيوب خان تعمل على تنفيذ الاتفاقية بعكس الهند.
لم تشهد قضية (جامو وكشمير) أحداثاً أو تطورات يمكن رصدها في الفترة
ما بين يناير 1966م حتى عام 1971م سوى قيام الحرب بين الهند وباكستان أواخر
عام 1971م بسبب الحركة الانفصالية في شرق باكستان التي أدت إلى قيام دولة
بنجلاديش فيما بعد.
ولم يستطع مجلس الأمن الدولي في 4/12/1971 م من التوصل إلى قرار
بشأن الحرب الهندية الباكستانية، مما جعله يحيل المسألة إلى الجمعية العامة التي
دعت البلدين في 7/12/1971م إلى وقف الحرب بناءً على القرار الذي أصدرته
برقم (307) بوقف إطلاق النار فوراً وسحب القوات المسلحة للبلدين، وتم وقف
إطلاق النار رسميّاً وفعليّاً يوم 17/12/1971م.
اتفاقية (سملا) 1972م:
في يوليو 1972م اجتمع الرئيس الباكستاني آنذاك «ذو الفقار علي بوتو»
برئيسة وزراء الهند «أنديرا غاندي» في مدينة (سملا) بالهند، وتم التوصل إلى
اتفاقية بين البلدين عرفت باسم (اتفاقية سملا) تتكون من جزأين أساسين: الأول:
ما يتعلق بنتائج الحرب التي نشبت بين البلدين عام 1971م، والجزء الثاني قضية
كشمير التي لا تزال بدون حل حتى الآن.
هذا وقد أثارت (اتفاقية سملا) كثيراً من اللغط وسوء الفهم لدى الكثيرين من
المهتمين بقضية كشمير المسلمة، إضافة إلى أن الهند ذهبت إلى تفسيرات بعيدة كل
البعد عن مضمون وروح الاتفاقية خاصة الجزء الثاني المتعلق بالقضية الكشميرية.
الجهاد الكشميري المعاصر والهند:
في أواخر عام 1991م نقلت الحكومة الهندية «علي الجيلاني» وبعض قادة
الجهاد الإسلامي إلى (نيودلهي) وأخبرتهم أنها ستعطي الشعب الكشميري حريته
شريطة أن تكون السيطرة المباشرة والقوانين العامة في يد الهندوس، ورفض قادة
الجهاد ذلك.
والمعروف أن الجهاد الكشميري لم يكن متوقفاً قبل تاريخ يناير 1990م،
ولكنه كان موجوداً ومستمرّاً بصور عديدة منذ عام 1947 م، ولكنه لم يأخذ شكله
العملي المنظم إلا في ذلك التاريخ بعد أن تأكد للجميع أن الحل السلمي لن يجدي
شيئاً، وأن المحادثات والاعتماد على الأمم المتحدة لن يعطي الكشميريين حريتهم.
ولقد أدرك شعب كشمير المسلم أن الجهاد المسلح في الداخل ضد الاحتلال
الهندي لا بد وأن يكون له جانب سياسي وإعلامي يعمل على إيصال القضية إلى
المحافل الإقليمية والدولية، الشعبية منها والرسمية، فتقرر إنشاء (حركة تحرير
كشمير العالمية «في يوم 7/6/ 1990م، أي: بعد قيام الانتفاضة المسلحة بحوالي
نصف عام لملء ذلك الفراغ السياسي على المستوى الدولي.
وتتمثل الأهداف الرئيسة لحركة تحرير كشمير العالمية في:
1- السعي على المستوى الدولي لتمكين الشعب الكشميري من ممارسة حقه
في تقرير مصيره.
2- توفير الدعم والتأييد السياسي وتعاطف الرأي العام للنضال في كشمير.
3- حماية ومساندة حقوق الإنسان لشعب كشمير.
4- تزويد الضحايا الكشميريين بالمساعدات الإغاثية عن طريق منظمة
الإغاثة الكشميرية.
5- تطوير الدراسات الأكاديمية حول قضية كشمير.
6- تشجيع أنشطة منظمة حقوق الإنسان عن طريق المعهد العالي للدراسات
الكشميرية.
7- حشد التعاطف الدولي من خلال وسائل الإعلام والمنظمة العالمية للإعلام
الكشميري.
هذا، وقد نجحت حركة تحرير كشمير العالمية في تحقيق كثير من
الإنجازات، منها:
1- إدخال القضية الكشميرية في البرامج الانتخابية للحزبين الرئيسين في
بريطانيا للمرة الأولى في تاريخ القضية.
2- رغبة الحكومة البريطانية في بدء الحوار حول قضية كشمير في قمه دول
الكومنولث.
3- إدخال مشروع قرار (حرية كشمير) في الكونجرس الأمريكي، وتقليص
حجم المساعدات الأمريكية للهند بمقدار 24 مليون دولار.
4- توقيع أكثر من 150 عضواً برلمانيّاً على مشروع قرار يطالب البرلمان
البريطاني بإصدار قرار عاجل بشأن قضية كشمير.
5- قرار البرلمان الأوروبي الذي أدان انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها
الهند في كشمير المحتلة، ومناشدتهم للأمم المتحدة العمل على إيجاد حل عاجل
للمسألة الكشميرية.
6- مشاركة وفد كشمير للمرة الأولى في مؤتمر وزراء منظمة المؤتمر
الإسلامي في إستانبول بتركيا، وتبني المؤتمر قراراً بدعم القضية الكشميرية
والتنديد بالجرائم الهندية.
هدف الهند من الحل السلمي:
يريد الهندوس كسب مزيد من الوقت لاحتواء الحركة الجهادية في كشمير
المحتلة، وحصر القضية الكشميرية في الإطار الثنائي دون تصعيدها دوليّاً في
المنظمات المختلفة، وإراحة الهند من قضية باتت تؤرق الاقتصاد الهندي، ونقل
قواتها الجبلية إلى وادي كشمير، ومن ثم: إيهام المجتمع الدولي أن الهند جادة في
حل القضية الكشميرية بدليل استعدادها للتباحث مع باكستان حول كشمير.
لكن هل ستختلف هذه المحادثات عن سابقتها، أو أنها ستضيف شيئاً جديداً؟
هذا ما لا نتوقعه!
ولهذا فقد أعلن الشعب الكشميري المسلم عن رفضه واستنكاره لهذه المحادثات، كما أعلن عن قراره لمواصلة الجهاد ضد المحتل الهندوسي حتى يتمكن من إنقاذ
كل شبر من أراضيه من براثن ذلك المستعمر بعون الله وتوفيقه [4] .
الهدف الذي تريد الهند أن تحققه من وراء دعوتها للمباحثات مع باكستان هو
الهدف نفسه الذي سبق وسَعَت لتحقيقه أعوام 1948م، 1962م، 1972م، يناير
1994م، وهو: كسب مزيد من الوقت للقضاء على الحركة الجهادية التي بدأت
قبل أربع سنوات، والحيلولة دون تمرير أي قرار بإدانة الهند في الأمم المتحدة،
فقد جرت ست جولات من قبل لكنها لم تفض إلى أي نتيجة [5] .
فالهدف الرئيس الذي تريد الهند تحقيقه من المحادثات الثنائية مع باكستان ليس
حل قضية كشمير بل، تضليل الرأي العالمي [6] .
الحلول المطروحة:
سحبت باكستان للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر قرارها الخاص بإدانة
الانتهاكات الهندية للشعب الكشميري، بعد أن بدا للوفد الباكستاني في جينف عزوف
الدول الأعضاء في منظمة حقوق الإنسان عن تأييد الموقف الباكستاني، وسحب
القرار أثار ردود أفعال واسعة في الأوساط الباكستانية والكشميرية والهندية على
السواء، فبينما اعتبرت الحكومة الباكستانية سحب القرار انتصارا تكتيكيّاً، إلا أن
الهند قالت: إن باكستان فشلت في كسب التأييد الدولي لإدانة الهند، ولكن الشعب
الكشميري على العكس من هذا صرف اهتمامه نحو تصعيد العمل العسكري في
الداخل، ولم يكترث بأبعاد القرار قبل وبعد سحبه.
ويرى الدبلوماسيون الهنود أن ثمه خيار لحل قضية كشمير تحت رعاية
مؤتمر العالم الإسلامي سيكون لصالح باكستان، وأن أي جهد في هذا الاتجاه سيؤدي
إلى تدويل القضية، وفي الوقت نفسه أوضحت الحكومة الباكستانية أن منظمة
مؤتمر العالم الإسلامي قررت بنفسها عدم طرح قضية كشمير على الجمعية العامة
للأمم المتحدة أثناء اجتماعها الأخير، واعترفت باكستان أن فشلها في طرح القضية
على الجمعية العامة كان سببه عدم رغبة الدول الغربية الكبرى في اتخاذ خطوة
جريئة لصالح القضية، ومن ناحية أخرى: أوضحت باكستان أن تأجيل عرض
قضية كشمير على الجمعية العامة قد جاء استجابة لطلب مجموعة الاتصال الخاصة
بمنظمة المؤتمر الإسلامي، ويهدف هذا التأجيل إلى إحالة مناقشة القضية إلى
مؤتمر قمة دول منظمة المؤتمر الإسلامي المقرر عقده في الدار البيضاء في شهر
ديسمبر 1995م [7] ويقول د. أمين طاهر:» أعتقد أننا على المستوى العربي
والإسلامي لم نقم بالدور المطلوب سياسياً ودبلوماسيّاً ومعنويّاً واقتصاديّاً على الأقل، واعتقد أن مزيداً من الدعم العربي والإسلامي خاصة إذا حدث وخف التوتر في
الشرق الأوسط ممكن أن يستمر في كشمير «.
وأخيراً: فإن الجهاد الكشميري استطاع أن يرغم العالم الغربي بالالتفات إليه
ومعرفة معاناة شعبه مؤخراً، كما حصل من مواقف كانت محل متابعة الإعلام
الغربي، فهل يُنصف هذا الشعب ويعطى حقه في تقرير المصير كغيره من الشعوب؟ أم تبقى عقدة الغرب ضد كل اتجاه إسلامي، وضد كل حق شعب مسلم في تقرير
مصيره، كما هو حاصل في كثير من قضايا العالم الإسلامي؟ .. هذا ما ستوضحه
الأيام، وإن غداً لناظره قريب.
__________
(1) كشمير تستنجد، ص3.
(2) كشمير المسلمة، العدد 20.
(3) كشمير المسلمة، العدد 20.
(4) كشمير المسلمة، العدد 23.
(5) كشمير المسلمة، العدد 23.
(6) كشمير المسلمة، العدد 24.
(7) نشرة الندوة العالمية للشباب الإسلامي.(94/92)
المسلمون والعالم
مسلمو مورو.. وخطر التمزق
بقلم: محمد أمين [*]
إن كثيراً من الإخوة في الدين لا يعرفون إلا معلومات سطحية عن قضية ...
إخوانهم المسلمين في منطقة مورو بجنوب الفلبين، يقولون: إن مشكلة مسلمي
«مورو» الحقيقية هي التفرق والتمزق بسبب وجود جمعيات كثيرة وتنظيمات تختلف اتجاهاتها، وبعضهم يتوقعون أن يحدث بين مسلمي مورو ما حدث بين إخواننا المجاهدين الأحباء في أفغانستان وما يجري اليوم في دولة أفغانستان الإسلامية الفتية.
وليس في نيتنا أن ندافع عن قضيتنا؛ لأننا لا نعتبر الأقوال والتوقعات
المذكورة هجوماً يحتاج إلى الدفاع، ولكن نعتبرها تعاطفا وتحسراً وحزناً وخوفاً من
الوقوع فيما وقع فيه غيرنا؛ لذلك لابد من بيان الواقع وجلاء الحقائق وتوضيح
الأمر الواقع.
وأما فيما يتعلق بموضوع التفرق والتمزق: فيسعدنا أن نعلن على الإخوة في
الدين أن مسلمي مورو في جنوب الفلبين غير متفرقين وغير متمزقين، بل هم
متحدون ومتضامنون ومتعاونون على مواجهة عدوهم الذي كان وما زال يحاول
القضاء عليهم، ويكفينا برهاناً وحجة على وحدتهم وتضامنهم وتعاونهم أن مراكز
جبهة تحرير مورو الإسلامية ومعسكراتها المنتشرة في أنحاء البلاد تستقبل كل شهر
آلاف مؤلفة من المسلمين الذين يأتون إليها جماعات وفرادى للاشتراك في الأنشطة
الدعوية والجهادية والتربوية، وأن الجماهير المسلمة في هذه البلاد يقفون اليوم إلى
جانب جبهة تحرير مورو الإسلامية، بإمكاناتهم المادية والمعنوية والفكرية، ولم
تمنعهم جمعياتهم وتنظيماتهم من الوقوف صفّاً واحداً مع مجاهدي جبهة تحرير مورو
الإسلامية، علماً بأن الجمعيات والتنظيمات المتعددة ليست جهادية، وليس لديها
برنامج جهادي في الساحة.
وإذا كان هناك من لا يقفون إلى جانب الجماهير المسلمة المجاهدة والصف
الإسلامي الجهادي فهؤلاء من الشواذ والنادرين القليلين جداً، وليس لهم وزن في
مجتمع مورو المسلم، وعدم وقوفهم مع الجماهير المسلمة المجاهدة لا يؤثر على
القضية والجهاد، ولا يصح أن يوصف هذا بالتفرق؛ لأن التخلف عن الجهاد أمر
واقع حتى في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يقل أحد أن أصحاب
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا متفرقين ومتمزقين بسبب تخلف أناس
قليلين عن الجهاد، ونقصد بالتخلف عن الجهاد بالنسبة لمسلمي مرور: عدم
الانضمام إلى صف الجماهير المسلمة المجاهدة التي تعد العدة وتتدرب على فنون
القتال استعداداً لملاقاة العدو، وقد قال (سبحانه وتعالى) في شأن المتخلفين عن
الجهاد: [وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ
اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ] [التوبة: 46] .
أما الجمعيات والتنظيمات المتعددة في منطقة مورو: فمعظمها تهتم بتدريس
الدين الإسلامي واللغة العربية وقراءة القرآن الكريم وتجويده وحفظه، وبعضها يهتم
بشؤون الطلاب المسلمين: كاتحادات الطلبة المسلمين، وبعضها يهتم بشؤون
الموظفين والمهنيين. وجبهة تحرير مورو الإسلامية وأعضاؤها يقفون مع الجماهير
المسلمة المجاهدة ويتعاطفون معها.
أما جبهات مورو الثورية وهي التعبير الصحيح لبعض الجبهات فهي أربع
منظمات فقط:
الأولى: منظمة تحرير بالجسا مورو (BMLO) وكان يرأسها «رشيد
لقمان» ، وبعد وفاته تولى زمامها قريبه «يوسف لقمان» ، وهذه الجبهة لم تتمكن من إقامة تنظيم ثوري وجناح عسكري، وظل الأمر حبرْا على ورق إلى أن ذهبت أدراج الرياح، والآن ليس لها وجود. والثانية: جبهة تحرير مورو الوطنية الإصلاحية (MNLF REFORMEST) وكان رئيسها «ديماس ... بونداتو» ، وقد استسلم هو وأعوانه للعدو، وأصبحوا الآن موظفين للحكومة، وانحلت الجبهة المذكورة، والوحدات القتالية التابعة لها انضمت إلى جبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة أمير المجاهدين الشيخ «سلامات هاشم» . والثالثة: جبهة تحرير مورو الوطنية بقيادة مسواري، وهذه الجبهة لم تهتم بالتنظيم الشعبي الجهادي وتقوية جناحها العسكري، وإنما اهتمت بالدعايات الخارجية لكسب التأييد السياسي واعتراف الدول الإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي بها، وقد حققت بعض ما أرادت، كما اهتمت بالتفاوض مع حكومة الفلبين وانشغلت بذلك لمدة عشرين عامْا (من عام 1975م إلى الوقت الحاضر 1995م) . والرابعة: جبهة تحرير مورو الإسلامية: بقيادة أمير المجاهدين الشيخ «سلامات هاشم» ، وقد اهتمت بالدعوة إلى الله وتربية أعضائها طبقا للمنهج الإلهي، وسلكت طريق السلف، وتعتنق عقيدة أهل السنة والجماعة، وتدعو إليها وتحارب البدع والخرافات، كما اهتمت بتقوية قاعدتها الشعبية وتنظيمها الجهادي والسياسي، ووضعت برنامجْا شاملاْ أساسه التحول الإسلامي، أي: العودة إلى الإسلام، كما كان عليه النبي وأصحابه (رضي الله عنهم) ، والاكتفاء الذاتي، ورفع المستوى التنظيمي، وإنشاء قوات إسلامية مسلحة.. والبرنامج يسير بعون الله تعالى حسب الخطة.
أما التوقعات بأن يحدث في منطقة مورو ما حدث في أفغانستان الشقيقة وأن
تتقاتل الجبهات القتالية كما تقاتلت الجبهات هناك فهي توقعات غير منطقية ولايقبلها
الأمر الواقع، والفرق بين جهاد الإخوة الأحباء في أفغانستان وجهاد مورو كبير؛
ففي أفغانستان الشقيقة تكونت جبهات عديدة متساوية تقريبْا في التنظيم الشعبي
والقوة العسكرية والنفوذ السياسي والدعم الخارجي، الأمر الذي مهد الطريق للفتنة؛
فكل واحدة من الجبهات قادرة على مواجهة الأخرى بالقوة، وأما في منطقة مورو:
فلا توجد فيها جبهة مسلحة قادرة بعون الله تعالى على القتال سوى جبهة تحرير
مورو الإسلامية والجماعة المقاتلة التي تدعى «أبو سيف» ، وهذه الجماعة لا
تتقاتل (بحمد الله تعالى) مع جبهة تحرير مورو الإسلامية.
لذلك نقول: إن التوقعات المذكورة لاتقوم على أساس المنطق السليم والأمر
الواقع، علمْا بأن أسباب التقاتل وعوامله غير موجودة في الساحة (بحمد الله تعالى) .
وللبيان كلمة..
ونحن إذ نقدر ماذكره أمين لجنة الإعلام الخارجي الشيخ «محمد أمين» ،
نتمنى أن يجنب الله إخواننا في الفلبين الفتنة التي وقع فيها غيرهم وألا يتحول
الجهاد إلى نزعات قومية أو مصالح شخصية، ونأمل أن تتآزر الجهود ويتعاون
الإخوة هناك لما فيه مصلحة بلادهم وشعبهم وأمتهم، وأن يتعاونوا على البر
والتقوى وأن يتجنبوا الإثم والعدوان، وأن يحذروا مايخططه العدو من أحابيل لا
تخفى، وقع فيها غيرهم.
والله نسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(*) بتصرف عن بيان جبهة تحرير مورو الإسلامية، رقم 73.(94/102)
متابعات
الخصخصة رأي وتعقيب
طه عبد الغني
كنا قد نشرنا في العدد (89) موضوعْا عن (الخصخصة من المنظور
الإسلامي) وقد وصلنا تعقيب من القارئ الكريم / طه عبد الغني يعقب فيه على
المقال، وخلاصة وجهة نظره كما يلي:
بعد ثناء على أفكار المقال الجيدة والجديدة أبدى الملحوظات الآتية:
1- خلص الكاتب إلى أنه لا يجوز تمليك فرد أو جماعة من الأفراد منتجْا
خدميًّا أو سلعيًّا إلا ضمن شروط تمنع الاستغلال وتحفظ الحقوق.
وتعليقْا على ذلك قال:
هناك فرق بين التملك الذي يكون منحة من الحاكم المسلم، وغيره الذي يكون
نتيجة لكد الأفراد أو الجماعات واستثمارْا لأموالهم، فلا يجوز للحاكم أن يأخذ
المشروعات الكبيرة أو ذات النفع العام التي حصل عليها الأفراد بكسبهم، وأّخًذٍها
يعد ظلمْا يندرج به الآخذ تحت وعيد النصوص التي تحرم الظلم؛ لأن الأصل
جواز التملك وليس للحاكم إلا أن يراقب تصرفات تلك المؤسسات بما يعرف بنظام
الحسبة.
2- استدل الكاتب بما رواه البخاري مرسلا عن قيس عن أبي جعفر، قال:
«ما بالمدينة أهل بيت هجرة..» (الحديث) ، والحديث يدل على جواز المزارعة
وجواز الملكية الخاصة التي تؤثر على الناس سلباً وإيجاباً، وليس على الحاكم إلا
أن يمنع تأثيراتها السلبية، لا أن يتحكم في أصلها.
3- الانشغال بالجهاد كان سبب إعطاء اليهود أرض خيبر، والقاعدة: أن
الإمام مخير في الأرض التي أخذت غنما بين قسمتها بين الفاتحين، أو وقفها على
المجاهدين، أو قسمة بعضها ووقف بعضها.
4- ليس هناك ما يمنع من تطوير نظام الحسبة، بحيث يصبح القائمون عليه
متخصصين يراقبون المؤسسات وأنشطتها ومراحل الإنتاج، ولا بأس عند ظهور ما
يعرف بـ (استغلال النفوذ «أو الانحرافات الشديدة التي لا تجدي معها العقوبات
الأقل أن يتدخل الحاكم في إدارة بعض تلك المؤسسات.
5 -الأصل عدم التسعير ولا يتدخل الحاكم بالتسعير إلا في حالة المغالاة في
السعر أو احتكار السلع.
تعقيب الكاتب:
وقد عرضت (البيان) النص الكامل لمتابعة الأستاذ طه عبد الغني للمقال على
الدكتور محمد بن عبد الله الشباني، فأفاد بما يلي:
أشكر للأخ متابعته للموضوع، وأحب أن أعلق عليه بما يلي:
أشار الأخ» طه «إلى بعض النقاط الواردة في المقال على النحو التالي:
النقطة الأولى: فيما يتعلق بالاستدلال بحديث أبيض بن حمال وحديث ابن
عباس:» المسلمون شركاء في ثلاثة «، من أن هذه الأحاديث تضع قاعدة عامة
فيما يتعلق بتصرفات الدولة حول منح الامتياز في تملك منتج خدمي أو سلعي يحتاج
إليه عامة الناس.. فقد علق الأخ على ذلك بأن هناك فرقْا بين تمليك الحاكم الأفراد
أو الجماعات لأي منتج بحيث يتضرر من تصرفه عامة الناس.. ومن يجتهد
ويسعى ويستثمر جهده وطاقته ووقته وماله، وإذا قام الحاكم بأخذ هذا المنتج الذي
تحصَّل عليه هذا الفرد، فهذا العمل ظلم.
إن المقالة لم تتطرق إلى موضوع المصادرات والتأميم لأموال الناس؛
فالموضوع متعلق بحماية المجتمع بأكمله من السماح لفئة باحتكار وتملك منتجات
خدمية أو سلع يحتاج إليها الناس وهي مملوكة للدولة، ثم تقوم الدولة بمنح الامتياز
لمن يقوم بإنتاج هذه السلع أو استخراجها، فالقارئ الكريم فهم من الموضوع أمرْا
آخر غير ما طرح للبحث (والذي يتعلق بتمليك المنافع العامة، مثل الكهرباء،
والماء، وطرق السكك الحديدية، واستغلال الموارد الطبيعية مثل الغاز، والبترول، والمعادن.. وغير ذلك من السلع والخدمات التي يحتاج إليها الناس) ، ففي حالة
تمليك الأفراد أو الجماعات لهذه الموارد أو السماح بمنح الامتياز لتوفير هذه
الخدمات التي يحتاج إليها الناس، فلابد من وضع قواعد وشروط تحفظ للناس
حقوقهم وتمنع عنهم الاستغلال كما أشرت إلى ذلك: سواء بوضع جهاز للرقابة
يتمثل في جهاز للحسبة، والذي كان معمولاْ به في الدولة الإسلامية الأولى، أو
بوضع أنظمة رقابية متعددة لحماية مصالح الناس مع توفير المرونة والمبادأة
بقدرات الأفراد بالعمل والابتعاد عن بيروقراطية الدولة.
النقطة الثانية: التي أشار إليها الأخ الكريم القارئ هي: فهمه لحديث قيس
بن مسلم الذي رواه البخاري، حيث فهم منه الأخ: أن دلالة الحديث مقتصرة على
جواز المزارعة وجواز الملكيات الخاصة، ولم يدرك القصد من إيراد هذا الحديث
في هذه المقالة؛ فإن الاستشهاد به تعدى ما فهمه إلى مدلول آخر ورد في آخر
الحديث؛ حيث جاء ما نصه:» وعامل عمر الناس على: إن جاء عمر بالبذرمن
عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا «، وفي سنن البيهقي جاء نص
الحديث:» فأعطى البياض على إن كان البذر والبقر والحديد من عمر فلعمر
الثلثان ولهم الثلث، وإن كان منهم فلهم الشطر، وأعطى النخل والعنب على أن
لعمر الثلثين ولهم الثلث «.. لم يقصد بالاستشهاد بهذا الحديث جواز المزارعة أو
المساقاة ولا جواز التملك العام للدولة وحرية العمل وتملك الأفراد لناتج عملهم،
وإنما تم الاستدلال بهذا الحديث بأحقية الدولة في استغلال الموارد الطبيعية
بالمشاركة برأس المال أو بالمورد الطبيعي وتفويض الاستغلال للأفراد، فمناط
الاستشهاد والاستدلال بهذا الحديث أن على الدولة واجب استثمار واستغلال الموارد
المتاحة لها: وما أورده من قيام عثمان (رضي الله عنهما) بشراء بئر معونة ثم
إيقافها على المسلمين استشهاد لا صلة له بالموضوع؛ وإنما هو دليل على تشجيع
الإسلام لمعتنقيه ببذل الإنفاق في سبيل الله وإيقاف الأصول الثابتة بقصد نفع جماعة
المسلمين.
النقطة الثالثة التي أثارها الأخ القارئ هي: حديث ابن عمر (رضي الله
عنهما) فيما يتعلق بفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع يهود خيبر، فقد علل
فعل الرسول بأنه (عليه الصلاة والسلام) : كان مشغولاْ بالجهاد، وهو تعليل غير
سليم لايسلم به؛ للقارئ؛ فالصحابة (رضوان الله عليهم) من الأنصار أصحاب
زروع، فلم يتفرغوا جميعهم للجهاد ويتركوا مزارعهم، بل إنهم كانوا يجاهدون
ويعملون في الأرض وفق توجيه الله في سورة المزمل في قوله (تعالى) : [عَلِمَ أَن
سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] [المزمل: 20] . ففعله (عليه الصلاة والسلام) مع اليهود
تشريع يحدد جواز التعامل مع أهل الذمة في الأنشطة الاقتصادية، وعلى الحاكم
المسلم استغلال الموارد الطبيعية والأصول الثابتة لما فيه منفعة للمسلمين بالمشاركة
باسم الأمة مع أفرادها بما في ذلك أهل الذمة.(94/106)
الورقة الأخيرة
وقفة محاسبة
بقلم:أحمد بن عبد الرحمن الصويان
قال الله (تعالى) : [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ] [الزمر: 23] .
منزلة عظيمة من منازل المؤمنين: تسمو فيها النفس وتعلو على أهواء البشر، يقف الإنسان بين يدي ربه خالياً يتدبر آيات الله (عز وجل) بسكينة ووقار،
فتلامس الآيات قلبه، وترتجف جوانحه، فيطأطئ رأسه ذلا، ويعفر وجهه
بالأرض عبودية وإخباتاً، ويناجي ربه بتضرع يطلب منه العون والغفران..
فتنحدر الدموع من بين عينيه إنابة وخضوعاً.
يقرأ الآية من كتاب الله فتعمر قلبه، وتزكيّ نفسه، وتغير من طبيعته وسلوكه، وتدفعه إلى المزيد من الطاعات والإقبال على الله. قال الله (تعالى) : [إنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] [الأنفال: 2] .
تحيط به الشهوات من كل مكان، وتُجْلَبُ عليه الفتن بخيلها ورجلها.. ولكنها
تتساقط وتتناثر تحت قدميه، فينظر إليها باستعلاء وثبات، ويمضي لا يلتفت إليها، مرطباً لسانه بحمد الله والثناء عليه، فمناجاته لربه تكسبه القوة والعزيمة، وقلبه
أبيض كالصفا، لا تضره فتنة مادامت السموات والأرض.
قال رسول الله: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ذكر منهم:
ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من الدمع» [1] وقال: «عينان لا تمسهما
النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» [2] .
سبحان الله! ما أعلاها من منزلة.. وما أكرمها من صفة. حيث يتجلى عمق
الإيمان وصفاؤه في القلب.
إن رقة القلب وسكينته وإخباته لربه وتذلله بين يديه تعظيماً وإجلالاً، منزلة
سامقة من منازل المؤمنين، تتقاصر أمامها نفوس الضعفاء، وهم العجزة.
بهذه القلوب الحية الصادقة العامرة بنور العلم والإيمان انطلق الصحابة
(رضي الله عنهم) بتيجانهم الشمّاء، يدكون الحصون، مقبلين غير مدبرين،
يفتحون الآفاق، ويرفعون راية التوحيد، حتى تهاوت على أيديهم عروش كسرى
وقيصر.
فما أحوج الأمة إلى العالم الرباني الذي إذا سمع الآية تتلى بين يديه وجل قلبه، وفاضت عيناه بالدمع، ووقف عند حدودها وعض عليها بالنواجذ، ولم يتجاوزها
إلى غيرها لهوى في نفسه أو ضعف في ثباته..
ما أحوج الأمة إلى الداعية الذي يجتهد في التعليم والتبليغ والتربية، حتى إذا
جن عليه الليل وهدأت العيون، نشط لمناجاة ربه والوقوف بين يديه رافعاً أكف
الضراعة والإخبات، يسأل الله (تعالى) العون والتأييد بعين باكية ونشيج عذب..!
ما أحوجنا إلى الدموع المخلصة التي تترجم صدق الإيمان وثباته واستعلاءه
على أهواء البشر.. فإلى الله (تعالى) نشكو عجزنا وضعفنا وقسوة قلوبنا..!
قال رسول الله: «لو تعلمون ما أعلم: لبكيتم كثيراً، ولضحكتم قليلاً» [3] .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب من جلس ينتظر الصلاة، ج2 ص143، ح رقم 660، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة ج2 ص715 ح رقم 1031.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد، باب ماجاء في فضل الحرس ج 4 ص 175 ح رقم 1639.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب قول النبي لوتعلمون ماأعلم ج11ص319، ح رقم 6485.(94/111)
رجب - 1416هـ
ديسمبر - 1995م
(السنة: 10)(95/)
كلمة صغيرة
الشيء من معدنه لا يستغرب
الهجمة الشرسة التي يقوم بها التجمع العلماني بشتى فئاته اليسارية الموتورة
والليبرالية العميلة ضد الإسلاميين في أكثر البلاد الإسلامية لم تعد مجهولة لأحد؛
فالتحزب ضد كل توجه إسلامي، والعمل المتواصل لتشويه منابعه، وإثارة
الشبهات ضد كل العاملين للإسلام، واستعداء الكل ضدهم عبر صحفهم العلمانية
التافهة، وبالتالي: تجيير كل عمل إرهابي بأنه من صنعهم، حتى وإن كان زوًرا
وبهتاناً، مثل: تلك الأساليب الخسيسة التي تنم عن مكر وعداء مستحكم للإسلام
وأهله، معروفة أهدافها القريبة والبعيدة: وهي الاستماتة في منع المد الإسلامي،
والعمل المتواصل لتشويه طروحاته الحيوية، والمحاولات الجنونية للحيلولة دون
تأثر الشارع الإسلامي بدعوته، ومن ثم منعه من الوصول إلى مراكز التأثير
ولوعبر ديمقراطياتهم الزائفة.
إن اختلاف الحيل والدعاوى التي أصبحت مكرورة وممجوجة ضد دعاة
الإسلام لم تعد تنطلي إلا على السذح والبسطاء ...
فالإسلام قادم رغم السدود والقيود بعز عزيز أو بذل ذليل.(95/1)
افتتاحية العدد
سيهزم الجمع ويولون الدبر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي -صلى الله عليه وسلم- بعده، أما بعد:
يحزن كل مسلم مخلص غيور ويغتم، عندما يرى تداعي الأمم الكافرة من كل
صوب على القصعة الإسلامية الحافلة الآن بصنوف المذابح التي تنتهك فيها
الحرمات والأعراض، ويداس فيها على كرامة أمة غفلت عن وعيها.
فالتجمعات السياسية والتحالفات العسكرية والدعاية العالمية تتفق جميعها على
هدف واحد: هو القضاء على المد الإسلامي المتصاعد في جميع أرجاء الأرض،
وذلك تحت مسمى القضاء على الأصولية والتطرف والإرهاب.. يتفقون على ذلك
الهدف وإن اختلفت مللهم ومناهجهم ومصالحهم ... يتفقون على ذلك الهدف وإن
اختلفت نظرتهم وخططهم في الاستئصال والاجتثاث أو التذويب والاحتواء والمسخ.
ولكن المؤمن الواثق بربه، العالم بدينه، الواعي بسننه، يرى في الغيوم غيثاً
واصباً، ويسمع في صراخ المخاض صيحات الوليد، ويدرك أنه ما أتى فجر إلا
بعدما احلولكت الظلمة.
وهذا ما علمنا إياه قرآننا الذي يخشون فهمه وتدبره:
فيوسف (عليه الصلاة والسلام «بدأ التمكين له عندما كان يباع ويشترى،
وحيداً شريداً ضعيفاً؛ [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ
* وَقَالَ الَذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 20، 21] .
ولوط (عليه الصلاة والسلام» جاءته النجاة عندما كان قومه يتأهبون للتخلص
منه بسبب طهره، [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ
إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغَابِرِينَ]
[النمل: 56، 57] .
وأصحاب موسى (عليه الصلاة والسلام) : بدأ التمكين لهم وهم في أشد حالات
الاستضعاف: يُذبحُ أبناؤهم وتُسْتَحْيَا نساؤهم، وكان فرعون في أعلى حالات
الجبروت والإفساد: [إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ
عَلَى الَذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي
الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ]
[القصص: 4، 6] .
هكذا نتعلم من كتاب ربنا: أن أقصى نقطة استضعاف هي أول نقطة تمكين
بشرط أن تكون حالة الفئة المستضعفة في أعلى نقطة إخلاص وارتباط بالله ولجوء
إليه، وبعد ذلك تظهر الأسباب التي ينبغي على الطائفة المؤمنة السعي إليها
واستغلالها ... وهذا ما وعاه المؤمنون من أصحاب طالوت بعد سنوات التيه الذي
كان بسبب ذنوب ومعاصي وتمرد بني إسرائيل على أوامر الله: [.. قَالَ الَذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ
المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة 249251] .
وفي ضوء هذا، نستطيع أن ننظر نظرة مختلفة إلى الأحداث الجارية بعد أن
نعيها ونعي مراميها، ونستطيع أيضاً إدراك أن لكل منا دوراً في الذب عن دين الله: للعالم والجاهل، والكبير والصغير، والقوي والضعيف، والغني والفقير.
لقد ساعدت الهجمة الأممية الشرسة المتواصلة وما صاحبها من بغض وضغينة
ظاهرين على العالم الإسلامي على القيام بدور الصدمات الكهربية اللازمة لإفاقة هذا
العالم من غيبوبته الطويلة، فأخذ يتململ من سباته، رغم الجهود الإعلامية الحثيثة
لتخفيف أثر هذه الصدمات، أو مصاحبتها بمسكنات للألم، أو إفراغ أثرها في
مجرى تغييب الأمة عن رسالتها الحقة.
فالوحشية الصربية والمؤامرة الدولية الماكرة المصاحبة لها نبهتنا أنه ما زال
لنا عرق ينبض في قلب أوروبا، والاجتياح الروسي لأرض الشيشان وما أعقبة من
دك همجي ذكّر المسلمين من أهلها الذين ولدوا في عنفوان الحقبة الماركسية الطاغية
بأن لهم أصولاً إسلامية وتاريخاً إسلاميّاً ينبغي الاعتزاز به والعودة إليه ومحاربة
أعدائه، وهدم المساجد في الهند أرانا أن لهذه المساجد حماة يذودون عنها بأجسادهم
النحيلة العارية.
إننا نعود ونؤكد أن من السذاجة أن ننتظر من أعدائنا أن يحنوا علينا ويرفقوا
بنا، وأن مكرهم وتحالفهم وتكالبهم لا يقلق المؤمن الواعي [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ
الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَاناً
وَتَسْلِيماً] [الأحزاب: 22] ، [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ] [آل عمران: 173] .
ولكن الذي يقلق حقّاً هو تردي حالنا؛ بالانقطاع عن الله، والغثائية، وتمكن
حب الدنيا والوهن من قلوبنا، وتفشي السلبية والعجز بيننا، وسيطرة الإحباط
واليأس على نفوسنا؛ فالضعف الداخلي هو أول خطوات الانهيار.
وإذا كانت قوى الكفر تملك مقدرات البطش العسكري، والهيمنة السياسية،
والتقدم التقني، والتأثير الإعلامي، فإنها تحمل أيضاً عوامل ضعف وتحلل في
مجتمعاتها، وهي لا تملك إرادتنا وعزيمتنا على التغيير والإصلاح، ولا تملك قدر
الله وإرادته النافذة في ملكه وملكوته.
يوم بدر، بعد أن أحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أمكنه من أسباب
مادية للنصر، وبعد أن جهز الفئة المؤمنة القليلة: بات ليلته يتضرع إلى الله «فما
زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه» .. «فأخذ أبو بكر بيده، فقال:
حسبك يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ألححت على ربك وهو يثب في
الدرع فخرج وهو يقول: [سيهزم الجمع ويولون الدبر] .
وهزم الجمع وولوا الدبر.
هذا وعد الله ... ولكن هل نستحق نصره؟
[وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
[النور: 55] .(95/4)
دراسات شرعية
المنهج العلمي للاستدلال
(1)
بقلم:أحمد بن عبد الرحمن الصويان
يعتمد المنهج العلمي للاستدلال عند أهل السنة والجماعة على كتاب الله
(تعالى) ، وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإجماع السلف الصالح (رضي
الله عنهم) .
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا] [النساء: 59] .
وقال الله تعالى: [وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ] [الشورى:
10] .
وقال الله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
[الحشر: 7] .
والاعتماد على الأصول الثلاثة المعصومة هو أساس دين الإسلام، ويرتكز
على القواعد التالية:
القاعدة الأولى: تعظيم النصوص الشرعية والانقياد لها.
القاعدة الثانية: الاعتماد على الأحاديث الصحيحة.
القاعدة الثالثة: صحة فهم النصوص.
وفي هذه المقالة سأتحدث عن هذه القواعد الثلاث بشيء من الإيجاز، مبيناً
منهاج أهل السنة في الاستدلال، وفي الحلقة التالية سأتحدث عن منهج المبتدعة في
الاستدلال، وقواعدهم في التلقي.
القاعدة الأولى: تعظيم النصوص الشرعية:
إن أصل دين الإسلام الذي ارتضاه الله (تعالى) لعباده المؤمنين الاستسلام
والخضوع والانقياد، قال الله (تعالى) : [وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ] [الزمر: 54] .
وحقيقة الاستسلام: تعظيم أمر الله (سبحانه وتعالى) ونهيه، والوقوف عند
حدود ما أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال الله (تعالى) : [ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ] [الحج: 32] . فكل ما أمر به
الشارع أو نهى عنه، فحقه التعظيم والإجلال والامتثال، قال الله (تعالى) : [إنَّمَا
كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [النور: 51]
فإذا جاء الأمر من الله فلا مجال للاختيار أو التردد، قال الله (تعالى) : [وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
[الأحزاب: 36] . وقد نفى الله (عز وجل) الإيمان بالكلية عمّن أعرض عن حكم
النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرض به، أو وجد في نفسه حرجاً من ذلك، قال
الله (تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
وقد توعد الله سبحانه وتعالى المخالفين لأوامره بقوله: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابِ أليم] [النور: 63] .
منهج السلف الصالح في تعظيم النصوص:
سطر السلف الصالح (رضي الله عنهم) أروع الأمثلة وأصدق الصفات في
الالتزام بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه، والوقوف عند حدوده بدون
زيادة أونقصان، ومن أمثلة ذلك:
* عن أبي قتادة قال: كنا عند عمران بن حصين في رهط منا، وفينا بُشير
بن كعب فحدّثنا عمران يومئذ فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «
الحياءُ خير كله» أو قال: «الحياء كله خير» ، قال بشير: إنّا لنجد في بعض
الكتب أو الحكمة: أنّ منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعفٌ! قال: فغضب عمران
حتى احمرتا عيناه، وقال أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وتعارض فيه؟ ! قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير، فغضب عمران. قال: فمازلنا نقول فيه: إنّه منّا يا أبا نجيد، إنّه لا بأس به! ! [1] يعني: أنه
ليس متهماً بالنفاق! ! .
* وعن عبد الله بن مُغَفّل (رضي الله عنه) : أنه رأى رجلاً من أصحابه
يخذف. فقال له: لا تخذف، فإنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكره أو
قال ينهى عن الخذف؛ فإنه لايُصطاد به الصيد، ولا ينكأ به العدو، ولكنه يكسر
السن ويفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف! فقال له: أخبرك أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- كان يكره أو ينهى عن الخذف، ثم أراك تخذف، لا أكلمك كذا
وكذا..! [2] .
* عن قبيصة الشامي: أن عبادة بن الصامت خرج مع رجل إلى أرض
الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسرة الذهب بالدنانير، وكسرة الفضة
بالدراهم، فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: «لا تَبايعوا الذهب إلا مثلاً بمثلٍ لا زيادة بينهما ولا نَظِرة» .
فقال رجل: لا أرى الربا يكون في هذا إلا ما كان من نظرة! فقال عبادة: أحدثك
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحدّثني عن رأيك؟ ! لئن أخرجني الله لا
أُساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة، فلمّا قفل لحق بالمدينة، فقال له عمر: ما أقدمك
يا أبا الوليد؟ ! فقص عليه القصة، فقال: ارجع إلى أرضك وبلدك لا إمرة له
عليك، فقبّح الله أرضاً لست فيها وأمثالك [3] .
* وحدّث أبو معاوية الضرير عند هارون الرشيد بحديث أبي هريرة: «
احتج آدم وموسى» ، فقال أحد الحاضرين: كيف هذا، وبين آدم وموسى ما
بينهما؟ ! قال: فوثب هارون، وقال: يُحدّثك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعارض بكيف؟ ! فما زال يقول حتى سكت عنه [4] .
* وقال رجلٌ للزهري: يا أبا بكر: حديث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «ليس منّا من لطم الخدود، وليس منا من لم يوقر كبيرنا» ، وما أشبه
هذا الحديث؟ ! فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: «من الله (عز وجل)
العلم، وعلى الرسول-صلى الله عليه وسلم- البلاغ، وعلينا التسليم» [5] .
* من أجل ذلك كله كان السلف الصالح (رضي الله عنهم) في أشد التثبت
والتحري والتوقي في فعل السنة، فلا يفعلون شيئاً إلا بعلم صحيح، فها هو ذا
رجلٌ يعطس إلى جنب عبد الله بن عمر، فيقول: الحمد لله، والسلام على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له عبد الله بن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله
والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
علمنا أن نقول: الحمد لله على كلّ حال» [6] .
* ونظير هذا أن سعيد بن المسيب رأى رجلاً يُصلي بعد طلوع الفجر أكثر
من ركعتين، يُكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه، فقال: يا أبا محمد، يعذبني الله
على الصلاة؟ ! فقال: «لا.. ولكن يُعذبك على خلاف السنة» [7] .
وأمثلة هذا الباب كثيرة جداً، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله لبيان المقصود.
وبهذا يتبيّن أن الكتاب والسنة هما أصل الاستدلال، وهما المعيار الذي توزن به
الآراء والاجتهادات، ولايستقيم إيمان المرء إلا بتعظيمهما وامتثال ما دلا عليه من
القول والفعل والاعتقاد، ويُلخّص الطحاوي منهج أهل السنة بقوله: «ولاتثبت قدم
الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم
يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح
الإيمان» [8] .
وقال البربهاريّ: «إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو
يريد غير الآثار: فاتهمه على الإسلام، ولاتشك أنّه صاحب هوى مبتدع» [9] .
وقال ابن تيمية: «وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم يعني أهل السنة
اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين
لهم بإحسان: أنه لايقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولاذوقه، ولامعقوله
ولاقياسه، ولاوَجْدِهِ، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات: أنّ
الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم» [10] .
وقال أيضاً: «فمن بنى الكلام في العلم (الأصول والفروع) على الكتاب
والسنة والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى
الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال
القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد وأصحابه
فقد أصاب طريقة النبوة، وهذه طريقة أئمة الهدى ... » [11] .
القاعدة الثانية: الاعتماد على السنة الصحيحة:
أمرالله (سبحانه وتعالى) بطاعة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في آيات
كثيرة، منها قوله (تعالى) : [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
[الحشر: 7] ، وقوله تعالى: [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله] [النساء: 80] .
وثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إني أوتيتُ القرآن ومثله
معه» [12] ، فكل ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو حق وصدق
لاريب فيه، قال الله (تعالى) : [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] [النجم: 3، 4] .
وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي الموضحة والمبينة لكتاب الله (عز
وجل) ، كما قال سبحانه وتعالى: [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ]
[النحل: 44] .
وقد ذمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقواماً يتركون ماجاء في سنته،
فقال: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكىء على أريكته، فيقول:
بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله» [13] .
ومن بدائع مواقف الصحابة (رضي الله عنهم) : أن عمران بن حصين كان
جالساً ومعه أصحابه، فقال رجلٌ من القوم: لاتحدثونا إلا بالقرآن، فقال له: ادْنه، فدنا، فقال: أرأيت لو وُكلْتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة
الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين؟ ! أرأيت لو
وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف
بالصفا والمروة؟ ! ثم قال: أي قوم، خذوا عنا، فإنكم والله إلاّ تفعلوا
لتضِلّنّ « [14] .
ولهذا قال ابن تيمية:» البيان التام هو ما بينه الرسول؛ فإنه أعلم الخلق
بالحق، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق في بيان الحق، فما بيّنه من أسماء
الله وصفاته وعلوّه ورؤيته، هو الغاية في هذا الباب « [15] .
وقال أيضاً:» الثواب على ما جاء به الرسول، والنّصرة لمن نصره،
والسعادة لمن اتبعه، وصلوات الله وملائكته على المؤمنين به، والمعلمين للناس
دينه، والحق يدور معه حيثما دار، وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له: أعلمهم بسنّته
وأتبعهم له، وكل قول خالف قوله فهو إما دين منسوخ، وإما دين مبدّل لم يُشرع
قط « [16] .
وبسبب هذه المنزلة العظيمة لسنّة النبي -صلى الله عليه وسلم- اهتمّ بها أهل
السنّة اهتماماً عظيماً، علماً وعملاً، وحرصوا على حفظها ونقلها، وقاموا بتحقيقها
وتنقيحها، وتمييز صدقها من كذبها، خاصة بعد ظهور الفتن وانتشار المبتدعة
وفشو الكذب. ولهذا قال عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) :» إنّا كنا مرة إذا
سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابتدرته أبصارنا
وأصغينا إليه بآذاننا، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول؛ لم نأخذ من الناس إلا ما
نعرف « [17] .
وقال التابعي الجليل محمد بن سيرين:» لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما
وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم، وينظر
إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم « [18] .
وقال الإمام مالك بن أنس:» إن هذا العلم هو لحمك ودمك وعنه تسأل يوم
القيامة، فانظر عمّن تأخذه « [19] .
ويشرح ابن تيمية الداعي لتنقيح السنة النبوية فيقول:» وبيننا وبين
الرسولمئون من السنين، ونحن نعلم بالضرورة أنّ فيما ينقل الناس عنه وعن غيره
صدقاً وكذباً، وقد روي عنه أنّه قال: «سيُكذب عليّ» ، فإن كان هذا الحديث
صدقاً، فلابد أن يكذب عليه، وإن كان كذباً فقد كذب، وإن كان كذلك لم يجز لأحد
أن يحتج في مسألة فرعية بحديث حتى يُبيّن ما به يثبت « [20] .
وقد رسم أئمة الحديث منهجاً علمياً متميزاً في ضبط أصول الرواية وتقعيد
قواعدها، فحفظوها بفضل الله تعالى من العبث والتزييف، فهم المرجع الذي يُرجع
إليه في معرفة الصحيح من الضعيف، قال ابن تيمية:» المنقولات فيها كثير من
الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحوغير العرب، ونرجع إلى
علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير
ذلك، فلكل علم رجالٌ يعرفون به، والعلماء بالحديث أجلّ هؤلاء قدراً، وأعظمهم
صدقاً، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم ديناً، وهم من أعظم الناس صدقاً وأمانة وعلماً
وخبرة فيما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك وشعبة وسفيان ... « [21] .
من أجل ذلك كله: يتبيّن أن الاستدلال العلمي الصحيح يعتمد على الأحاديث
الصحيحة والحسنة، وأمّا الأحاديث الموضوعة والضعيفة فلا يجوز الاستدلال بها،
ويجب الحذر منها. ولهذا قال ابن تيمية:» فالواجب أن يفرق بين الحديث
الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث
الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عموماً ولمن يدعي
السنة خصوصاً « [22] .
وقال أيضاً:» الاستدلال بما لاتُعلم صحته لايجوز بالاتفاق، فإنه قول بلا
علم، وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع « [23] .
وقال أيضاً:» ولايجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي
ليست صحيحة ولا حسنة « [24] .
القاعدة الثالثة: صحة فهم النصوص:
إن صحة فهم النصوص الشرعية ركيزة رئيسة لصحة الاستدلال، ولايستطيع
المرء أن يعرف مراد الله (عز وجل) ، ومراد رسوله إلا حينما يستقيم فهمه لدلائل
الكتاب والسنة. وكثير من البدع والضلالات إنما حدثت بسبب قلة العلم وسوء الفهم.
أصول مهمة يعتمد عليها:
ومن الأصول العلمية التي يجب الاعتماد عليها في فهم النصوص الشرعية
ودراستها:
أولا: الاعتماد على منهج الصحابة (رضي الله عنهم) :
للصحابة (رضي الله عنهم) منزلة جليلة، فقد شرفهم الله (تعالى) ، وأعلى
منزلتهم، ورفع أقدارهم ودرجاتهم، وعدلهم من فوق سبع سموات، فقال (تعالى) :
[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ] [التوبة: 100] . وقال (تعالى) : [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً]
[الفتح: 29] .
قال عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) :» من كان منكم متأسياً فليتأس
بأصحاب محمد-صلى الله عليه وسلم-، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها
علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة
نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى
المستقيم « [25] .
وقال أبو محمد بن حزم:» فمن أخبرنا الله (عز وجل «أنه علم ما في
قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف عن أمرهم أو
الشك فيهم البتة» [26] .
من أجل هذا؛ فإن فهم دلائل الكتاب والسنة إنما يؤخذ من الصحابة (رضي
الله عنهم) ففيهم تكلم الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وعليهم نزل الكتاب، فهم
أعلم الناس بمراد الله (تعالى) ومراد رسوله-صلى الله عليه وسلم-، خاصة بعد أن
كثرت البدع، وقل العلم، وفسدت الفهوم،، وهجرت السنّة، وقد صح عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، قوله: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً،
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم
ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة» [27] .
قال ابن تيمية: «يحتاج المسلمون في العقيدة إلى شيئين: أحدهما: معرفة
ما أراد الله ورسوله بألفاظ الكتاب والسنة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي نزل بها،
وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك
الألفاظ؛ فإنّ الرسول لمّا خاطبهم بالكتاب والسنة عرّفهم ما أراد بتلك الألفاظ،
وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلّغوا تلك
المعاني إلى التابعين أعظم ممّا بلغوا حروفه..» [28] .
وقال الشاطبي: «.. ولهذا فإن السلف الصالح (من الصحابة والتابعين ومن
يليهم» كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه.. « [29] .
وقال ابن أبي العز الحنفي:» وكيف يتكلم في أصول الدين من لايتلقاه من
الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان؟ ! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله
لايتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولاينظر فيها، ولا فيما قاله
الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات النقلة، الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون
القرآن كما يتعلم الصبيان، بل يتعلمونه بمعانيه، ومن لايسلك سبيلهم فإنما يتكلم
برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن
أصاب « [30] .
ثانياً: معرفة اللغة العربية:
لكي تفهم دلائل الكتاب والسنة على الوجه الصحيح لابد من معرفة لغة العرب
التي نزل بها القرآن الكريم، والتي خاطب بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أصحابه. ولهذا تواتر اعتناء علماء الأمة وأئمتها بلغة القرآن حتى يوضع خطاب
الشارع في موضعه اللائق به شرعاً.
قال الإمام الشافعي:» .. وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان
العرب دون غيره، لأنه لايعلم من إيضاح جمع علم الكتاب أحدٌ جِهل سعة لسان
العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي
دخلت على من جهل لسانها « [31] .
وقال ابن عبد البر:» ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون
على كتاب الله (عز وجل) : وهو العلم بلسان العرب ومواقع كلامها، وسعة لغتها،
وأشعارها، ومجازها، وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصه، وسائر مذاهبها لمن قدر، فهو شيء لايُستغنى عنه، وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يكتب إلى
الآفاق: أن يتعلموا السنّة والفرائض واللحن يعني النحو كما يتعلم القرآن « [32] .
وقال ابن تيمية:» ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف مايدل
على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي
خوطبنا بها ممّا يُعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة
الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا
يحملون كلام الله ورسوله على ما يدّعون أنه دال عليه، ولايكون الأمر
كذلك.. « [33] .
وقال الشاطبي:» المقصود هنا: أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة،
فطلب فهمه إنما يكون في هذا الطريق خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: [إنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآناً عَرَبِياً] [يوسف: 2] . وقال: [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ] [الشعراء: 195] .
وقال: [لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ] [النحل: 103] . إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي ولا بلسان
العجم، فمن أراد فهمه، فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلّب فهمه
من غير هذه الجهة « [34] .
__________
(1) أخرجه: مسلم في الإيمان، ج1 ص64، ح37.
(2) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح ج3 ص1547، ح1954.
(3) أخرجه: ابن بطة في الإبانة، ج 1 ص257، وأخرج نحوه عن أبي الدرداء وأبي سعيد الخدري، وأفاد المحقق أن أسانيدها جياد.
(4) عقيدة السلف ص 117.
(5) السنة للخلال ج 3 ص 579.
(6) أخرجه: الترمذي في الأدب ج5 ص 81، ح2738، والحاكم في الأدب ج4 ص265: 266 وإسناده جيد.
(7) أخرجه: عبد الرزاق في الصلاة ج3 ص52 ح 4755، والبيهقي في السنن الكبرى ج2 ص 466 وإسناده صحيح.
(8) شرح العقيدة الطحاوية ص 219: 221.
(9) شرح السنة للبربهاري ص51.
(10) مجموع الفتاوى ج 13 ص 28.
(11) المرجع السابق ج 10 ص 363.
(12) أخرجه: أحمد ج6 ص8 وأبوداود ح4604، والترمذي 2660.
(13) أخرجه: أبوداود ح 3605، والترمذي ح2663، وابن ماجه ح 12.
(14) أخرجه: الخطيب البغدادي في الكفاية ص15.
(15) منهاج السنة النبوية ج3 ص352.
(16) المرجع السابق ج5 ص 233.
(17) أخرجه: مسلم في مقدمة صحيحه ج1 ص 12: 13.
(18) المرجع السابق ج1 ص 15.
(19) المحدث الفاصل ص 416، والكفاية ص21.
(20) منهاج السنة النبوية ج7 ص 61.
(21) المرجع السابق ج7 ص 34: 35.
(22) مجموع الفتاوى ج 3 ص 380.
(23) منهاج السنة النبوية ج 7 ص 167: 168.
(24) مجموع الفتاوى ج1 ص 250.
(25) جامع بيان العلم وفضله ج2 ص 947، ح1810.
(26) الفِصَل في الملل والنحل ج4 ص 148.
(27) أخرجه: أحمد ج4 ص126: 127، وأبوداود ح 4607، والترمذي ح 2676.
(28) الفتاوى ج17 ص353.
(29) الموافقات ج2 ص79.
(30) شرح العقيدة الطحاوية ص 212.
(31) الرسالة ص 50.
(32) جامع بيان العلم وفضله ج2 ص1132.
(33) الفتاوى ج7 ص 116 وانظر: ج7 ص 118: 119 و138 و 169 و286.
(34) الموافقات ج2 ص64.(95/8)
دراسات قرآنية
مصادر التفسير:
تفسير القرآن بالقرآن
(1)
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
يراد: بمصادر التفسير: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره
لكتاب الله، وهذه المصادر هي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال
التابعين وتابعيهم، واللغة، والرأي والاجتهاد. وإنما قيل: «المراجع الأولية» ؛
لئلا تدخل كتب التفسير؛ لأنها تعتبر مصادر، ولكن الحديث هنا ليس عنها.
وقد اصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) على تسميتها ب (طرق
التفسير) ، ذكر منها أربعة، وهي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال
التابعين في التفسير [1] .
وجعلها بدر الدين الزركشي (ت: 794هـ) مآخذ التفسير، وذكر أمهاتها،
وهي أربع: النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الأخذ بقول الصحابة، ثم الأخذ بمطلق اللغة، ثم التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة
الشرع [2] . وسيكون الحديث عن هذه المصادر متتابعاً إن شاء الله تعالى.
تفسير القرآن بالقرآن:
يعتبر القرآن أول مصدر لبيان تفسيره؛ لأن المتكلم به هو أولى من يوضّح
مراده بكلامه؛ فإذا تبيّن مراده به منه، فإنه لا يُعدل عنه إلى غيره.
ولذا عدّه بعض العلماء أول طريق من طرق تفسير القرآن [3] ، وقال آخر:
إنه من أبلغ التفاسير [4] ، وإنما يُرْجَع إلى القرآن لبيان القرآن؛ لأنه قد يَرِدُ
إجمال في آية تبيّنه آية أخرى، وإبهام في آية توضّحه آية أخرى، وهكذا.
وسأطرح في هذا الموضوع قضيتين:
الأولى: بيان المصطلح.
الثانية: طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن.
بيان المصطلح:
التفسير: كشفٌ وبيانٌ لأمر يحتاج إلى الإيضاح، والمفَسّر حينما يُجْري
عملية التفسير، فإنه يبيّن المعنى المراد ويوضّحه.
فتفسير المفسر لمعنى «عُطّلت» في قوله (تعالى) : [وَإذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ]
[التكوير: 4] بأنها: أُهمِلت، هو بيان وتوضيح لمعنى هذه اللفظة القرآنية.
وفي هذا المثال يُقَال: تفسير القرآن بقول فلان؛ لأنه هو الذي قام ببيان
معنى اللفظة في الآية.
ومن هنا، فهل كل ما قيل فيه: (تفسير القرآن بالقرآن) يعني أن البيان عن
شيء في الآية وقع بآية أخرى فسّرتها، أم أن هذا المصطلح أوسع من البيان؟
ولكي يتضح المراد بهذا الاستفسار استعرض معي هذه الأمثلة:
المثال الأول: عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: لما نزلت [الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] .
قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس
كما تقولون، [لم يلبسوا إيمانهم بظلم] : بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان
لابنه: [يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13] « [5] .
المثال الثاني: قال الشيخ الشنقيطي (ت: 1393هـ) :» ومن أنواع البيان
المذكورة أن يكون الله خلق شيئاً لحِكَمٍ متعددة، فيذكر بعضها في موضع، فإننا نُبيّن
البقية المذكورة في المواضع الأُخر.
ومثاله: قوله تعالى: [وَهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا]
[الأنعام: 97] .
فإن من حِكَمِ خلق النجوم تزيين السماء الدنيا، ورجم الشياطين أيضاً، كما
بينّه (تعالى) بقوله: [وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ] [الملك: 5] وقوله: [إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ
شَيْطَانٍ مَّارِدٍ] [الصافات: 6، 7] [6] .
المثال الثالث: قال الشيخ محمد حسين الذهبي: «ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتَوهم أنه مختلف؛ كخلق آدم من تراب في بعضٍ، ومن طينٍ في
غيرها، ومن حمأ مسنون، ومن صلصالٍ، فإن هذا ذِكْرٌ للأطوار التي مرّ بها آدم
من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه» [7] .
نقد الأمثلة:
إذا فحصت هذه الأمثلة فإنه سيظهر لك من خلال الفحص ما يلي:
ستجد أن المثال الأول وقع فيه البيان عن المراد بالظلم بآية أخرى، أي: إن
القرآن وضّح القرآن.
لكنك هل تجد في المثالين الآخرين وقوع بيان عن آية بآية أخرى؟
ففي المثال الثاني: تجد أن المفَسّر جمع عدة آيات يربطها موضوع واحد،
وهو حكمة خلق النجوم، فهل وقع بيان لآية بآية أخرى في هذا الجمع؟
لاشك أنه لم يقع هذا البيان، لأن الأية الأولى التي جمع المفسر معها ما
يوافقها في الموضوع لم يكن فيها ما يحتاج إلى بيان قرآني آخر.
وفي المثال الثالث: تجد أن المفَسّر جمع بين عدّة آيات تُوهم بالاختلاف،
لكن هل وقع في جمع هذه الآيات تفسير بعضها ببعض؟ أم أن تفسيرها جاء من
مصدر آخر خارج عن الآيات؟
الذي يبدو أن جمع هذه الآيات أثار الإشكال؛ إذ التراب لا يُُفسّّر بالطين، ولا
بالحمأ المسنون ... إلخ، كما أن كل واحدٍ من الآخرين لا يُفسّر بالآخر؛ لأنه
مختلف عنه. ولما كان الخبر عن خلق آدم والإخبار عنه مختلف احتاج المفسر إلى
الربط بين الآيات ومحاولة حلّ الإشكال الوارد فيها، ولكن الحلّ لم يكن بآية أخرى
تزيل هذا الإشكال، بل كان حلّه بالنظر العقلي المعتمد على دلالة هذه المتغايرات
وترتيبها في الوجود، مما جعل المفسر لهذه الآيات ينتهي إلى أنها مراحل خلق آدم
عليه السلام، وأن كل آية تتحدث عن مرحلة من هذه المراحل، حيث كان آدم
تراباً، ثم طيناً، ثم ... إلخ.
وبهذا يظهر جليّاً أنّ جمع الآيات لم يكن فيه بيان آية بآية أخرى، وإن كان
في هذا الجمع إفادة في التفسير.
وبعد.. فإن النتيجة التي تظهر من هذه الأمثلة: أن كل ما قيل فيه: إنه
تفسير قرآن بقرآن، إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى،
فإنه ليس تعبيراً مطابقاً لهذا المصطلح، بل هو من التوسع الذي يكون في تطبيقات
المصطلح.
تفسير القرآن بالقرآن عند المفسرين:
ظهر مما سبق أن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) قد استُعمل بتوسع في
تطبيقاته، ويبرز هذا من استقراء تفاسير المفسرين، خاصة من نصّ على هذا
المصطلح أو إشار إليه في تفسيره؛ كابن كثير (ت: 774هـ) ، والأمير الصنعاني
(ت: 1182هـ) ، والشنقيطي (ت: 1393هـ) .
ويبدو أن كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون
داخلاً ضمن تفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الصنعاني في تفسير قوله تعالى: [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ
أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] [الشعراء: 3] حيث قال: «أي قاتلها لعدم إيمان قومك.
» تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: [وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ]
[الحجر: 88] وفي الكهف: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً] [الكهف: 6] . وفي فاطر: [فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ] [فاطر: 8] .
ونحوه: [إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ] [النحل: 37] .
ونحو ذلك مما هو دليل على شفقته على الأمة، ومحبته لإسلامهم، وشدة حرصه
على هدايتهم مع تصريح الله له بأنه ليس عليه إلا البلاغ « [8] .
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط المصطلح المتوسع بحيث يمكن
أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن، وهذا لا يدخل فيه؛ ولذا يمكن
اعتبار كتب (متشابه القرآن) [9] ، وكتب (الوجوه والنظائر) من كتب تفسير القرآن
بالقرآن بسبب التوسع في المصطلح.
فكتب (متشابه القرآن) توازن بين آيتين متشابهتين أو أكثر، وقد يقع الخلاف
بينهما في حرف أو كلمة، فيبين المفسر سبب ذلك الاختلاف.
وكتب (الوجوه والنظائر) تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات، وتذكر وجه الفرق
فيها في كل موضع.
* المفسرون المعتنون بهذا المصدر:
إن مراجعة روايات التفسير المروية عن السلف تدل على أن عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم (ت: 182هـ) كان من أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما رواه عنه الطبري (ت: 310هـ) بسنده في تفسير قوله تعالى: [وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ] [الطور: 6] قال:» الموقَد، وقرأ قول الله تعالى: [وَإذَا
البِحَارُ سُجِّرَتْ] [التكوير: 6] قال: أُوقِدَتْ « [10] .
أما كتب التفسير، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
(1) الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) في كتابه (تفسير القرآن العظيم) .
(2) الأمير الصنعاني (ت: 1182هـ) في كتابه: (مفاتح الرضوان في تفسير
الذكر بالآثار والقرآن) .
(3) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت1393هـ) في كتابه: (أضواء البيان في
إيضاح القرآن بالقرآن) [11] .
* بيان بعض الأمثلة التي تدخل في المصطلَحَين:
سبق البيان عن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) ، وأنه ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يعتمد على البيان، والمراد أن وقوع البيان عن آية بآية أخرى يُعَدّ
تعبيراً دقيقاً عن هذا المصطلح.
الثاني: ما لم يكن فيه بيان عن آية بآية أخرى، وهو بهذا مصطلح مفتوح،
يشمل أمثلة كثيرة.
وقد مضى أن هذا التوسع هو الموجود في كتب التفسير، وأنها قد سارت
عليه، وفي هذه الفِقْرة سأطرح محاولة اجتهادية لفرز بعض أمثلة هذا المصطلح.
أولاً: الأمثلة التي يَصْدُقُ إدخالها في المصطلح المطابق:
يمكن أن يدخل في هذا المصطلح ما يلي:
1- الآية المخصصة لآية عامة:
ورد لفظ الظلم عاماً في قوله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ
أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] . وقد خصّه الرسول صلى الله عليه
وسلم بالشرك، واستدل له بقوله تعالى: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13] .
وفي قوله تعالى: [وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا] [الإسراء: 24] . عموم يشمل كل
أبٍ: مسلم وكافر، وهو مخصوص بقوله تعالى: [مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى] [التوبة: 113] . فخرج بهذا الاستغفار
للأبوين الكافرين، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان [12] .
2- الآية المبيّنة لآية مجملة:
أجمل الله القدر الذي ينبغي إنْفَاقُهُ في قوله تعالى: [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]
[البقرة: 3] ، وبين في مواضع أخر: أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن
الحاجة وسدّ حاجة الخَلّة التي لابد منها، وذلك كقوله: [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
العَفْوَ] [البقرة: 219] والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابدّ منها،
على أصحّ التفسيرات، وهو مذهب الجمهور ... [13] .
وفي قوله تعالى: [أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ] [المائدة: 1] ، إجمال في المتلو، وقد بيّنه قوله تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ] [المائدة: 3] .
3- الآية المقيدة لآية مطلقة:
أطلق الله استغفار الملائكة لمن في الأرض، كما في قوله تعالى:
[وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ] [الشورى: 5] ، وقد قيّد هذا الإطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى: [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا]
[غافر: 7] .
وفي قوله تعالى: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ] [آل عمران: 90] ، إطلاق في عدم قبول التوبة، وهو مقيّد في قول
بعض العلماء بأنه إذا أخّروا التوبة إلى حضور الموت، ودليل التقييد قوله تعالى:
[وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ
الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ] [النساء: 14] .
4- تفسير لفظة غريبة في آية بلفظة أشهر منها في آية أخرى:
ورد لفظ» سِجّيل «في قوله تعالى: [وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
مَّنضُودٍ] [هود: 82] ، والممطر عليهم هم قوم لوط (عليه الصلاة والسلام) ، وقد
وردت القصة في الذاريات وبان أن المراد بالسجيل: الطين، في قوله تعالى:
[قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ]
[الذاريات: 32، 33] [15] . ...
5- تفسير معنى آية بآية أخرى:
التسوية في قوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى
بِهِمُ الأَرْضُ] [النساء: 42] ، يراد بها: أن يكونوا كالتراب، والمعنى: يودّون
لو جُعِلوا والأرض سواءً، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: [وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا
لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً] [النبأ: 40] [16] .
ثانياً: أمثلة للمصطلح المتوسع:
يمكن أن يدخل في هذا النوع كل آية قرنت بأخرى على سبيل التفسير، وإن
لم يكن في الآية ما يشكل فتُبَيّنُهُ الآية الأخرى، ومن أمثلته ما يلي:
1- الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف:
سبق مثال في ذلك، وهو: مراحل خلق آدم [17] ، ومن أمثلته عصا موسى
(عليه الصلاة والسلام) ؛ حيث وصفها مرة بأنها [حَيَّةٌ تَسْعَى] [طه: 20] ، ومرة
بأنها [تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانّ] [النمل: 10] ، ومرة بأنها [ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ]
[الأعراف: 107] ، فاختلف الوصف والحدث واحد، وقد جمع المفسرون بين هذه الآيات: أن الله (سبحانه) جعل عصا موسى كالحية في سعيها، وكالثعبان في
عِظَمها، وكالجان (وهو: صغار الحيّات) في خِفّتِها [18] .
2- تتميم أحداث القصة:
إذا تكرر عرض قصة ما في القرآن فإنها لا تتكرر بنفس أحداثها، بل قد يزاد
فيها أو ينقص في الموضع الآخر، ويَعْمَدُ بعض المفسرين إلى ذكر أحداث القصة
متكاملة كما عرضها القرآن في المواضع المختلفة، ومثال ذلك:
قوله (تعالى) : [إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ] [طه: 40] ، حيث ورد في سورة القصص ثلاثة أمور غير واردة في هذه الآية، وهي:
1- أنها مرسلة من قبل أمها.
2- أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
3- أن الله حرّم عليه المراضع.
وذلك في قوله (تعالى) : [وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] [القصص: 11، 12] [19] .
3- جمع الآيات المتشابهة في موضوعها:
قال الشنقيطي في قوله (تعالى) : [قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ]
[الأنعام: 33] .
قال:» صرح (تعالى) في هذه الآية الكريمة بأنه يعلم أن رسوله يَحْزُنُه ما
يقوله الكفار في تكذيبه، وقد نهاه عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخرى كقوله:
[فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات] [فاطر: 8] ، وقوله: [فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ ...
الكَافِرِينَ] [المائدة: 68] ، وقوله: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا
بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً] [الكهف: 6] ، وقوله: [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] [الشعراء: 3] .
والباخع: المهلك نفسه ... إلخ [20] .
4- جمع موارد اللفظة القرآنية:
قد يورد المفَسّر «وصفاً» وُصف به شيء، ثم يذكر الأشياء الأخرى التي
وصفت به، أو يعمد إلى لفظة فيذكر أماكن ورودها، ومن أمثلة الأول:
* قال: الأمير الصنعاني «والبقعة مباركة (لما) [21] وصفها الله لما أفاض
(تعالى) (فيه) [22] من بركة الوحي وكلام الكليم فيها.
كما وصف أرض الشام بالبركة، حيث قال: [وَنَجَّيْنَاهُ] أي: إبراهيم
[وَلُوطاً إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 71]
ووصف بيته العتيق بالبركة في قوله: [إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ] [ال عمران: 96] .
ووصف شجرة الزيت بالبركة في قوله: [شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ]
[النور: 35] [23] .
* ومن أمثلة الثاني قوله:» وسمّى الله كتابه هدى في آيات: [ذَلِكَ الكِتَابُ
لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] [البقرة: 2] ، [إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]
[الإسراء: 9] ، [قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ] [فصلت: 44] ، وفي لقمان: [هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ] [لقمان: 3] ، وفي النحل: [تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] [النحل: 89] ، فهو هدى وبشرى للمسلمين والمحسنين، وفي يونس: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] [يونس: 57] [24] . ...
طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن:
التفسير إما أن يكون طريقه النقل، وإما أن يكون طريقه الاستدلال، والأول: يطلق عليه (التفسير المأثور) ، والثاني: يطلق عليه (التفسير بالرأي) .
ومن هنا فإن تصنيف (تفسير القرآن بالقرآن) ، في أحدهما يكون بالنظر إلى
القائل به أولاً، لا إلى طريقة وصوله إلى ما بعد القائل؛ لأن ذلك طريقهُ الأثر.
وتفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى الذي فسّر به، فالمفَسّر هو الذي عَمَدَ
اجتهاداً منه إلى الربط بين آية وآية، وجعل إحداهما تفسر الآخرى.
وبهذا فإن طريق الوصول إليه هو الرأي والاستنباط، وعليه فإنه لا يلزم
قبول كل قول يرى أن هذه الآية تفسر هذه الآية؛ لأن هذا الاجتهاد قد يكون غير
صواب.
كما أنه إذا ورد تفسير القرآن بالقرآن عن مفسر مشهور معتمد عليه فإنه يدلّ
على علو ذلك الاجتهاد؛ لأنه من ذلك المفسر.
فورود التفسير به عن عمر بن الخطاب أقوى من وروده عن من بعده من
التابعين وغيرهم، وهكذا.
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيحاً، فإنه يكون أبلغ التفاسير، ولذا: فإن
ورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من وروده عن
غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَحَلّهُ القبول.
بيد أن قبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن، بل لأن المفسّر به هو النبي -
صلى الله عليه وسلم-.
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: «مفاتح الغيب [25] خمسٌ، [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [لقمان: 34] [26] .
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد المفسر،
والاجتهاد معرض للخطأ.
وبهذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلقاً، بحيث يجب قبوله
ممن هو دون النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو مقيد بأن يكون ضمن الأنواع
التي يجب الأخذ بها في التفسير [27] .
هذا.. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان
المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وأخيراً:
فإن كون تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالرأي، لا يعني صعوبة الوصول
إليه في كل حالٍ، بل قد يوجد من الآيات ما تفسّر غيرها ولا يكاد يختلف في
تفسيرها اثنان، مثل تفسير» الطارق «في قوله (تعالى) : [وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ]
[الطارق: 1] بأنه يُفسر بقوله (تعالى) : [النَّجْمُ الثَّاقِبُ] [الطارق: 3] ، ومثل
هذا كثيرٌ في القرآن، والله أعلم.
__________
(1) مقدمة في أصول التفسير، (ت: د عدنان زرزور) ، ص93 وما بعدها.
(2) انظر: البرهان في علوم القرآن، ج2، ص156-164.
(3) شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في (أصول التفسير) ، (ت: عدنان زرزور) ، ص93.
(4) ابن القيم في (التبيان في أقسام القرآن) ، (ت: طه شاهين) ، ص116.
(5) رواه الإمام البخاري، انظر: فتح الباري (ط: الريان) ، ج6، ص 448، ح3360.
(6) أضواء البيان، ج1، ص87.
(7) التفسير والمفسرون، ج1، ص42.
(8) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، للأمير الصنعاني، تحقيق عبد الله بن سوفان الزهراني (رسالة ماجستير، على الآلة الكاتبة) ص71، 72، وانظر: الأمثلة التي سبق نقلها عن الشنقيطي ومحمد حسين الذهبي.
(9) تنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين: الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهها، وهذه الكتب تخص القراء الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة، وهذا المقصود هنا، ككتاب (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني وغيره.
(10) تفسير الطبري، ج27، ص19، وانظر له في الجزء نفسه ص22، 37، 38، 61، 69، 74، 76، 92، 113، 120، وفي الجزء نفسه عن علي ص18، وابن عباس، ص55، 72، وعكرمة، ص72.
(11) يمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة، وهي كالتالي: 1- جمع مرويات السلف في (تفسير القرآن بالقرآن) ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك 2- دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
(12) انظر: تفسير الطبري، ج15، ص6768، والتحرير والتنوير، ج 15، ص72.
(13) انظر: أضواء البيان، ج1، ص107، 108 أضواء البيان ج1 ص 343.
(14) انظر: أضواء البيان، ج1، ص343.
(15) انظر: أضواء البيان، ج1، ص86.
(16) انظر: تفسير الطبري، ج5، ص93، والحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي، ج1، ص246.
(17) انظر: ص4 من المجلة نفسها.
(18) انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل، للرازي ص327، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني، ص282، 283، وتيجان البيان في مشكلات القرآن، للخطيب العمري، ص173.
(19) انظر: أضواء البيان، ج4، ص408.
(20) أضواء البيان، ج2، ص189، وانظر: مفاتح الرضوان للأمير الصنعاني، ص71، 72.
(21) كذا في الأصل وانظر: حاشية 2، ص194 من التحقيق، حيث قال المحقق: والصواب (كما) .
(22) الصواب (فيها) انظر: حاشية 7، ص194، من التحقيق.
(23) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، ص194.
(24) المصدر السابق، ص188، 189.
(25) وردت في قوله (تعالى) : [وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ] [الأنعام: 59] .
(26) رواه البخاري، انظر: فتح الباري، ج8، ص141.
(27) سبق أن طرحتها في مجلة البيان، ع76، ص15.(95/20)
دراسات تربوية
تأملات في معاني كلمات الأذان
بقلم: د. محمد عز الدين توفيق
ليس: المقصود من هذا المقال تفصيل أحكام الأذان وبيان شروطه وسننه
وآدابه، فذلك مذكور في مواضعه من كتب الحديث والفقه، ولكنه نظرات في
كلماته الجامعة، وتأملات في معانيه الكبيرة، بقصد الوقوف على الحقائق الدينية
التي تقررها تلك الكلمات، وتسعى إلى ترسيخها في نفوس المسلمين، بل في
نفوس الناس كافة.
مَنْ منا لم يسمع الأذان؟ ومن منا لم تطرق كلماته المتميزة أذنيه؟ إن كلمات
الأذان بحمد الله (تعالى) تتردد في كل بلد مسلم، وترتفع كل يوم خمس مرات من
آلاف المآذن والمساجد المنتشرة في المدن والقرى، بحيث يمكن القول: إن عدد
المرات التي يسمع فيها المسلم الأذان في حياته يفوق أي كلمات أخرى تتكرر على
سمعه.
الأذان هو ذلك النداء الذي يعرفه كل مسلم، ويحفظ كلماته منذ طفولته وصباه، فهو شعار من شعائر الدين المشهورة، لكن هذه الشهرة التي يتمتع بها الأذان بين
المسلمين لا تعني بالضرورة أن المعاني والحقائق التي ينادي بها معروفة لكل الناس، فشهرة الكلمات تقابلها غربة المعاني والمضامين.
إن معظم المسلمين يعرفون الأذان بوصفه أداة تجمعهم على الصلوات في
المساجد، وقد يعرف بعضهم المعنى اللغوي لكلماته وألفاظه، ولكنهم يتفاوتون في
معرفة المعاني الشرعية التي تحملها تلك الكلمات؛ مما يجعل لهذا الموضوع أهمية
كبيرة، لأنه يحاول إحياء هذه المعاني والإشارة إلى هذه الحقائق حتى إذا سمع
المسلم الأذان حضرت في قلبه وذكرها في نفسه، وهي حقائق لا يجوز أن تغيب
عنه، فيتولى الأذان تذكيره بها بصفة مستمرة.
وقد شُرع الأذان في السنة الأولى بعد الهجرة، بينما فرضت الصلاة قبلها بعدة
شهور في ليلة الإسراء والمعراج، ويبدو أن تشريع الأذان تأخر إلى ما بعد الهجرة؛ لأنه لم يكن للمسلمين بمكة مسجد يجتمعون للصلاة فيه، فلما هاجروا إلى المدينة
وبنوا المسجد احتاجوا إلى أداة تجمعهم في وقت واحد لإقامة الصلوات المكتوبة في
جماعة.
وكانت الأدوات التي يُدْعَى الناس بها إلى الصلوات والطقوس الدينية هي:
النفخ في البوق كما عند اليهود، والضرب على الناقوس كما عند النصارى،
وإشعال النار كما عند المجوس، فأبدل الله هذه الأمة بذلك كله: كلمات الأذان،
والملاحظ أن الفرق بين هذه الطرق الثلاث وبين رفع الأذان هو أن هذا الأخير
كلماته مركبة في جمل لها معنى يرددها إنسان ويرفع بها صوته؛ فيفهمها من له
معرفة باللغة العربية أو من تُرجمت له معانيها ونقلت إليه باللغة التي يتكلمها، بينما
النفخ في البوق أو الضرب على الناقوس لا ينشىء كلاماً له معنى، وإنما يحدث
أصواتاً صماء غاية ما تدل عليه هو الهدف الديني الذي وضعت له، لكنها لا تحمل
إلى السامع معاني أخرى عبر الصوت الذي يصل إلى مسامعه، وهذا الذي ذكرناه
عن النفخ في البوق والضرب على الجرس ينطبق على إشعال النيران أيضاً.
فلا يمكن أن يكون العدول عن هذه الطرق الثلاث إلى كلمات الأذان لمجرد
مخالفة المشركين وأهل الكتاب، ومع أن القصد إلى مخالفتهم واضح في تشريع
الأذان؛ لأنه شعار من شعائر الدين، لكن القصد إلى المخالفة والتميز لا يمنع من
إثبات قصد آخر، هو: تركيز معاني الإسلام وحقائقه الكبرى في كلمات هذا الأذان
ليؤدي مهمة مزدوجة، ويجتمع للمسلمين في أداتهم ما لم يجتمع لمن قبلهم.
إننا نلاحظ لدعم هذا المعنى الأمور الآتية:
أولاً: الأذان كلمات مختارة ومرتبة بعناية، وهذا الاختيار والترتيب مقصود
لأمر يتجاوز مجرد الإعلام بدخول وقت الصلاة.
ثانياً: السنة في الأذان أن يجهر به المؤذن، ويمد الصوت بألفاظه حتى يصل
إلى أطول مسافة وأكبر عدد من الناس.
ثالثاً: تكراره مع دخول وقت كل صلاة وعددها في اليوم خمس، فيتكرر
خمس مرات في كل يوم صبحاً وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً.
رابعاً: النهي عن خلط أي كلمات أخرى به سواء في أوله أو في آخره حتى ...
تتميز كلماته عن غيرها من الكلام الذي قد يزيده الناس، وقد حفظت كلمات الأذان
بالتواتر على مر العصور، تبدأ بكلمة (الله أكبر) ، وتنتهي بـ (لا إله إلا الله) .
خامساً: ليس كل من يسمع الأذان بالضرورة من المصلين، بل ليس كل من
يسمع الأذان مسلم، فلا شك أن للأذان رسالة إلى هؤلاء.
سادساً: اختيار المؤذن الأندى صوتاً، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال
للصحابي الذي رأى في منامه من يعلمه الأذان: «قم فلقنه بلالاً فإنه أندى صوتاً
منك» [1] . والصوت الندي هو: الصوت القوي الواضح الجميل الذي تجتمع في
صاحبه الموهبة والدربة، فلا يكون الصوت حسناً بالأذان إلا إذا كان النطق به وفق
قواعد اللغة العربية ومخارج حروفها، وهذا بالتأكيد من أجل أن يفهم الناس عن
المؤذن ما يقول، فإذا كان الصوت منفّراً أثر في هذه الغاية وأضعفها.
سابعاً: الترغيب في المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجراً وتفضيله على الذي
يأخذ؛ ليمتزج إخلاص قلبه مع كلمات لسانه، ولذلك أثره في نفس السامع.
سبب مشروعية الأذان:
لقد كان سبب مشروعية الأذان رؤيا رآها الصحابي الجليل عبد الله بن زيد بن
عبد ربه، قال: «لما أمر رسول الله بالناقوس لِيَضْرب به الناس في الجمع
للصلاة وفي رواية: وهو كاره لموافقته للنصارى طاف بي وأنا نائم رجل يحمل
ناقوساً في يده، فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: ما تصنع به؟ قال:
فقلت ندعو به إلى الصلاة؟ قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: فقلت
بلى، قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا
الله ... [2] ، فلما أصبحت أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بما
رأيت، فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن
به، فإنه أندى صوتاً منك، قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع بذلك عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد
رأيت مثل الذي رأى، قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فلله الحمد» .
لم يكن الأذان إذن اقتراحاً من بعض الصحابة أو اتفاقاً بينهم، وإنما كان رؤيا
رآها أحدهم، وقال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنها رؤيا حق.
ما يقوله المسلم عقب الأذان عنوان فهمه معناه:
ومما يؤكد أيضاً أن الأذان يتجاوز في مقاصده مجرد الإعلام بدخول وقت
الصلاة إلى ما يقوله المسلم عندما يسمعه، فقد ندب الإسلام المسلم إذا سمع المؤذن
أن يقول مثل ما يقول ووعده على ذلك بالجنة [3] ، وهذا يقتضي أن يُقْبِل على
الأذان فكلما سمع منه جملة رددها بلسانه، فتتاح لقلبه فرصتان لتدبر معناها:
الأولى: عندما يسمعها، والثانية: عندما يقولها، ومعلوم أن الإسلام إذا أمر المسلم
أن ينصت إلى كلام أو يردده فإنه يقصد استماع القلب لا استماع الأذن فحسب.
إن توقف اللسان عن الاستمرار في الكلام الذي كان يقوله وانصرافه إلى
متابعة كلمات الأذان من غير أن يسابق المؤذن بها، ومن غير أن يتأخر عنه،
دليل آخر يؤكد أن الأذان للإعلام بدخول الوقت، وهو أيضاً تذكير بحقائق معينة
لابد أن الناس مسلمهم وكافرهم بحاجة إلى التذكير بها.
فإذا فرغ المؤذن من أذانه يسن للسامع أن يقول بعد الصلاة على رسول الله:
«اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة،
وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته» .
عن عبد الله بن عمرو، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ؛ فإنه من صلى علي صلاة
صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي
إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له
الشفاعة» [3] .
وإذا تأملنا هذا الدعاء الذي يقال بعد الأذان، نجد فيه «اللهم رب هذه الدعوة
التامة والصلاة القائمة» فيكون الأذان تلخيصاً لدعوة الإسلام، ثم إعلاماً بدخول
وقت الصلاة.
فإذا أجاب المسلم المؤذن وحضر إلى الصلاة، فقد صدّق بالحق وامتثل للأمر
فجمع شَرطي الفلاح.
وإنما كان الأذان تلخيصاً لدعوة الإسلام؛ لأنه متضمن للشهادتين، والإسلام
كله قام على أساسين عظيمين: أن يُعبد الله وحده، وتلك شهادة «أن لا إله إلا
الله» ، وأن يُعبد بما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتلك شهادة «أن ... محمداً رسول الله» ، فالإسلام بناء يقوم على أركان خمسة أولها الشهادتان.
وكما في الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ففيه:
حي على الصلاة، حي على الفلاح، والصلاة من أولها إلى آخرها تصديق عملي
بالشهادتين؛ ففيها يقول المسلم في الفاتحة [إياك نعبد وإياك نستعين] وتلك شهادة
«أن لا إله إلا الله» ، وفيها يقول: [اهدنا الصراط المستقيم] ، وتلك شهادة
«أن محمداً رسول الله» .
أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله:
لقد كان الإسلام في بدايته كلمة يقولها الرجل فيصير مسلماً أو يعرض عنها
فيكون كافراً، ولا يمكن لكلمة أن تكون فيصلاً بين الإسلام والكفر إلا إذا كان
الإسلام نفسه مجموعاً في هذه الكلمة، وما سينزل فيما بعد من أحكام تفصيلاً لما
أجمل فيها.
لقد كانت البداية التي بدأت بها الدعوة إلى الإسلام وهي «قولوا لا إله إلا الله
تفلحوا» دليلاً على ما لهاتين الشهادتين من معنى كبير وخطير، يترتب على العلم
به والعمل بمقتضاه فلاح الدنيا والآخرة.
والسؤال الذي يعد مدخلاً هنا هو: ماذا فهم العرب عندما خوطبوا بهذه الكلمة
ودُعوا إليها؟ وهل كان الرفض الذي واجهوا به هذه الكلمة لمجرد التلفظ بجملتين،
أم لما يترتب على ذلك النطق من التزامات علمية وعملية؟
لقد كان المتلفظ بالشهادتين في عصر الرسالة يعرف أنه يجتاز عالماً بأكمله
ويدخل إلى عالم جديد، يجتاز عالم الجاهلية بمبادئه وأخلاقه وعاداته ويَعْبر إلى
عالم الإسلام.
إن الرجل العربي أيام البعثة كان يفهم من مدلولات لغته ولذلك حضرت في
ذهنه كل المعاني التي يستعمل لها لفظ (الإله) عندما قيل له: «قل لا إله إلا الله»
وكان على بينة من أمره أيضاً.
وإن أخطر ما يصاب به هذا الركن الاعتقادي هو: أن يبقى في الناس لفظه
ويضيع معناه أو جزء منه، فيتشوه الباقي وتختلف الأمة فيه، وهذا ما حصل
بالفعل عندما ابتعد المسلمون عن اللغة العربية وابتعدوا عن الكتاب والسنة،
فصاروا ينطقون الشهادتين ويرددونهما في الأذان والإقامة والتشهد وغيرها، وهم
على جهل بمعناها الصحيح؛ فيشهدون دون أن يتبينوا على أي شيء يشهدون؟
إن الشهادتين ثلاثة أقسام: الأول: فعل «أشهد» ، الثاني «لا إله إلا
الله» ، والثالث: «محمد رسول الله» .
أولاً: أشهد:
هذا الفعل يأتي في اللغة بمعانٍ ثلاثة أولها: أرى وأشاهد، ومنه قوله (تعالى) : [يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ] [المطففين: 21] .
الثاني: الشهادة، وهي القول بما تعلم ومنه قوله (تعالى) : [وَأََشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِّنكُمْ] [الطلاق: 2] . وثالثها: الحلف، ومنه الحديث: «على مثل الشمس
فاشهد أو ذر» [4] .
فيكون معنى «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله» ، أنني شاهدت
بقلبي، وشهدت بلساني، وأيقنت يقين الحالف أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله.
ثانياً: لا إله إلا الله:
لقد كان العرب يعتقدون أن آلهتهم التي يشركونها مع الله (تعالى) أو من دونه
تحميهم وتنصرهم وتجيرهم وتقضي حاجاتهم؛ ولذلك عبدوها دون أن ينكروا وجود
الله (تعالى) ، أو ينكروا أنه الخالق والرازق، فلم يكن نزاع النبي -صلى الله عليه
وسلم- معهم حول وجود الله (تعالى) وربوبيته، وإنما كان حول التسليم بالوحدانية
والألوهية لله وحده.
إن المشركين العرب الذين خوطبوا بـ «لا إله إلا الله» كانوا يعتقدون أن
آلهتهم المزعومة لها قداسة وبها استحقت العبادة، فالقرآن الكريم عَمَدَ إلى هذا
الاعتقاد الأصلي فأبطله؛ ليبطل به كل شرك موجود أو متوقع، فبين بياناً حاسماً:
أنه لا سلطة لأحد في الكون مع الله (عز وجل) ، ووضع خطّاً فاصلاً بين الألوهية
والعبودية، وأنزل كلاّ منزلته.
إن «لا إله إلا الله» تعني أن كل ما كان يصف به العرب آلهتهم من صفات
الألوهية لله وحده، فهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله.
لقد قال القرآن الكريم لهؤلاء المشركين: إن مَنْ خلق الكون ويملك السلطة فيه
هو الإله المستحق للعبادة، فهذا الأمر غير قابل للتجزئة، إذ لا يكون الخلق في يد
إله، والرزق في يد آخر، والحكم في يد ثالث.
ثالثاً: محمد رسول الله:
هذا الشطر الثاني من الشهادتين يعني ثلاثة أمور: الأول، أن محمداً رسول
الله حقّاً، فهو من جهة ليس إلها، وليست فيه أي صفة من صفات الألوهية، ومن
جهة ثانية: ليس كذاباً ولاساحِراً ولاكاهناً ولامجنوناً ولاسامر ا، فالذي يشترك فيه
مع الناس هو البشرية، والذي يتميز به عنهم هو الوحي والنبوة، كما قال (سبحانه) : [قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ] [فصلت: 6] .
وقد قامت على صدق نبوته دلائل كثيرة: فمنها صفاته، ومنها معجزاته،
ومنها نبوءاته، ومنها البشارات به في الكتب السابقة، ومنها ثمرات دعوته في
الأرض ... إلا أن أعظم آية تشهد له بالنبوة هي القرآن الكريم، قال الله (تعالى) :
[تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ] [الحاقة: 43] .
الرسول في اللغة هو المبعوث، وإضافته إلى الله يعني أنه مبعوث الله إلى
الناس، فالرسول رجل بعثه الله ليبلغ الناس، وأيده بالآيات الدالة على صدقه.
أما المعنى الثاني لشهادة أن محمداً رسول الله فهو: أن ما أخبر به من أمور
الغيب حق يجب تصديقه فيه، وهذا الغيب يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وتصديقه في دعوى النبوة والرسالة يفضي إلى التسليم له بهذا العلم الذي أخبر
به؛ لأنه ليس من عنده، بل من عند الله (تعالى) عالم الغيب والشهادة.
والمعنى الثالث: أن ما أمر به من أمور الشرع عدل وخير يجب اتباعه فيه،
وقد أمر بشرع فيه صلاح الأفراد والأسر والمجتمعات، فاتباعه فيه بغير قيد ولا
شرط من تمام الشهادة له بالنبوة والرسالة.
هذه المعاني الثلاثة مترابطة؛ فالطاعة تتفرع عن المحبة، والمحبة تتفرع
عن المعرفة؛ إذ لا يمكن أن تطيع شخصاً لا تعرفه أو تتبع شخصاً لا تحبه.
إن «لا إله إلا الله محمد رسول الله» اختيار في الحياة، يحدد التصور الذي
يعيش به المرء والسلوك الذي يتصرف به، والنطق بهما يعني تحولاً على المستوى
الفكري والواقعي، فبهما يتحدد مصدر التلقي، وبهما تتحدد الغاية والهدف، وتلك
الربانية: ربانية المصدر وربانية الغاية، فيعيش العبد بعلم الله (تعالى) المنزل
يصوغ تصوراته كما يصوغ تصرفاته.
حي على الصلاة، حي على الفلاح:
وهاتان الجملتان تعقبان الشهادتين في الأذان، وذكر الصلاة عقب الشهادتين
يوافق الترتيب الذي رتبت به أركان الإسلام في الأحاديث التي عدّدَتْها.
وحيث إن الإنسان مجبول على تقديم العاجلة على الآجلة، وتفضيل النقد على
النسيئة، وبما أن الدنيا عَرَض حاضر، والآخرة وعد صادق، فالدنيا يراها
والآخرة يسمع عنها، فالذي يحدث غالباً هو انشغال الإنسان بما يرى عما يسمع،
والإقبال على العرض الحاضر والغفلة عن الوعد الصادق، فيأتي في الأذان «حي
على الصلاة، حي على الفلاح» لينادي على الناس في أسواقهم يبيعون ويشترون، أو في أعمالهم يصنعون ويعملون، أو في بيوتهم يأكلون ويشربون، أن يوازنوا
في حياتهم بين الدنيا والآخرة، كما أمرهم الله، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الجمعة: 9] . وقال (سبحانه) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ]
[المنافقون: 9] . وقال عز وجل: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ] [النور: 36، 37] .
فقد أثنى عليهم، ليس لكونهم تفرغوا للصلاة ولازموا المساجد لا يبرحونها،
بل لكونهم أصحاب تجارات وأعمال لا تلهيهم عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة.
إن نداء المؤذن: «حي على الصلاة، حي على الفلاح» على رأس وقت
كل صلاة إعلان عن وسطية الإسلام وجمعه بين الدين والدنيا، فالمسلم في عبادة
قبل الحضور إلى المسجد، وهو في عبادة عندما يحضر بعد سماع الأذان، وهو في
عبادة عندما ينصرف بعد الصلاة إلى أشغاله وأعماله.
وإن مما يحبب الناس في دين الله أن يعرفوا وسطيته هذه، وأن الاستعداد
للموت والتزين للقاء الله ليس مشروطاً بهجر الدنيا ورميها جانباً، بل لكل وقت
عمله، والحياة مجموعة من الأولويات، تبرز كل أولوية في وقتها المناسب.
ثم إن النداء بـ «حي علي الصلاة، حي على الفلاح» إيذان بانطلاق جولة
جديدة من معركة الإنسان مع الشيطان، فهذا العدو سيسعى جهده ليصده عن ذكر الله
وعن الصلاة وإجابة النداء والذهاب إلى المسجد معناه كسب هذه الجولة الجديدة
وتحقيق الانتصار فيها، فالأذان يصل إلى الجميع، ولكن الناس يختلفون: فمنهم
منتصر ومنهم منهزم، فواحد يسمعه فيدع ما كان فيه ويجيب النداء، وآخر يصلي
في بيته في الوقت، وثالث يؤخرها عن وقتها، ورابع يتركها ولا يصليها، وبهذا
يستخرج الأذان ما في القلوب من إيمان، أو كفر ونفاق، ويكشف لكل عبد درجة
إيمانه؛ فإن الإيمان يعرف عند الطاعات [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الَذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خاشعون] [المؤمنون: 1] [وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ] [المؤمنون: 9] .
والناس عندما يسمعون «حي على الصلاة حي على الفلاح» تحضرهم
صور مختلفة لهذه الصلاة التي يُدْعَون إليها، فكل واحد تحضره صورة معينة قد
تكون موافقة لصورتها في دين الله، وقد يكون بين الصورتين تباعد وتنافر.
والصلاة في دين الإسلام هي الركن الثاني الذي لا يصح إسلام المسلم إلا بها، وهي توبة متجددة، وطهارة ظاهرة وباطنة وقوة روحية وبدنية ومناجاة بين العبد
وربه، وهي كفارة للذنوب، وتذكرة بلقاء الله يوم القيامة، وشرط من شروط النجاة
والفلاح في ذلك اليوم.
فمن وافقت صورة الصلاة في نفسه صورتها في دين الله، فإنه يُعَظّمُ قدرها
ولايسهو عن وقتها: [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ]
[الماعون: 4، 5] .
الله أكبر الله أكبر:
هذا النداء الذي افتتح به الأذان واختتم به، فيه تكبير الله (عز وجل) ، فهو
(سبحانه) [عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ] [الرعد: 9] وحيث إن الصلاة
دعوة منه (سبحانه) ينقلها المؤذن عبر الأذان؛ ناسب افتتاحها بالتكبير ليعلم الناس
أن الله (تعالى) أكبر من كل شيء يَصدّهم عن دعوته، أو يشغلهم عن إجابة ندائه
[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ]
[الجمعة: 1] .
الأذان معانٍ ومواقف:
وكما يشدنا الأذان إلى كلماته، يشدنا إلى تاريخه، فتاريخه هو تاريخ الإسلام
في الأرض، وهو تاريخ التوحيد في صراعه مع الشرك.
لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وطهر البيت من الأصنام
التي فيه وفيما حوله، دعا مؤذنه بلالاً، وأمره أن يصعد على الكعبة ويؤذن،
فارتقى (رضي الله عنه) ، ورفع صوته بالأذان، فكان هذا الأذان أبلغ رسالة
لقريش تخبرها بمواصفات العهد الجديد.
ولقد قال أحد المشركين وهو يسمع الأذان ويرى بلالاً يجهر به فوق الكعبة:
«أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟» وقال آخر: «الحمد لله الذي
قبض أبي قبل أن يرى هذا اليوم» فكانت كلمات هذين المشركين تلخيصاً لما
دافعت عنه قريش مدة عشرين عاماً، ولكن الحق إذا جاء زهق الباطل، ولقد كانت
تلك الأصنام قبل قليل آلهة تعبد، أما الآن فالله أكبر ولا إله إلا الله.
وارتبط الأذان في فترة النبوة باسم بلال وإن كان لرسول الله مؤذنون آخرون، ولما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع بلال عن الأذان ولحق بالشام
مجاهداً ومرابطاً في سبيل الله، فلما فتح المسلمون مدينة دمشق وذهب عمر (رضي
الله عنه) يزورها، توسل رؤساء القوم إلى بلال وكان حاضراً أن يؤذن فأذن إكراماً
لمقدم أمير المؤمنين، فما رؤي أحد إلا وهو يبكي؛ لأن صوته الذي انقطع عنهم
أكثر من اثني عشر عاماً ذكرهم بأيام عزيزة عندما كان يؤمهم سيد الخلق (عليه
الصلاة والسلام) ، فقد كان المسلمون إذا فتحوا بلداً بنوا به المساجد، ورفعوا فيها
الأذان، وأقاموا فيها الصلاة، وجلسوا بها لتعليم العلم.
وصار سماع الأذان في قرية علامة على إسلام أهلها؛ فإذا سمعه المسلمون
كفّوا عنها، وميزوها عن غيرها من القرى الكافرة، وكان لصيحة (الله أكبر) وهي
من كلمات الأذان هيبتها عبر التاريخ الإسلامي، فقد كانت تزلزل قلوب الأعداء،
وتلقي الرعب في قلوب الكفار، فهي كلمة الثبات وكلمة النصر، فإذا غزا
المسلمون قالوا: «الله أكبر» ، وإذا فتح الله عليهم ونصرهم أذنوا فقالوا: «الله
أكبر» .
ولقد استغل التتار أيام هجومهم على بلاد الإسلام دور الأذان في جمع
المسلمين عند ساعة المحنة، فكانوا إذا خربوا مدينة من مدن الإسلام يرفعون الآذان
في بعض مآذنها بعد يوم أو يومين، فكل من كان مختبئاً يخرج معتقداً أن العدو زال
عن المدينة، فكانوا يغرون بهم ويقتلونهم، وبقي الأذان والمئذنة رمزين في صراع
المسلمين وأعدائهم، وكانت أحقاد اليهود والنصارى والمشركين تتجه أول ما تتجه
إلى المآذن والمؤذنين، وكلنا يتابع ما يفعله الصرب في البوسنة وما يفعله الصهاينة
في فلسطين والهندوس في الهند والروس في الشيشان، ومايفعله غيرهم في بلاد
مختلفة من العالم، مما يبين أن الأذان والمئذنة رمز لأمة، وشعار لدين، فهما
مستهدفان كما يستهدف اللواء في المعارك والحروب.
الأذان والدعوة إلى الإسلام:
الأذان كلمات لا إكراه فيها، بل فيها دعوة إلى الإيمان بالحق والعمل بمقتضاه، ولعل إدراك الغرب النصراني أن الأذان سينتصر على الناقوس سببٌ في أنهم
لايزالون يمنعون رفعه في المساجد الموجودة ببلادهم، ولكن عندما تكون أغلبية
السكان بهذه البلاد مسلمين سيرفع الأذان فوق المساجد، ولبلوغ هذه الغاية فإن
هؤلاء السكان بحاجة إلى من يشرح لهم كلمات الأذان، ومن يترجم لهم ما يقوله
المؤذن، فالأذان ليس للمسلمين وحدهم ولكنه نداء عالمي كما أن الإسلام دعوة
عالمية.
إن عدداً من السياح الأجانب عندما زار بلاد المسلمين تساءلوا عندما سمعوا
الأذان عما يقوله هؤلاء المؤذنون، ودفعهم ذلك إلى التساؤل عن الإسلام.
خاتمة:
إن من أسوء ما يبتلى به المسلمون، أن تجرد شعائر دينهم من معناها،
وتفرغ رموز دينهم من دلالتها، فتتحول إلى رسوم وأسماء، والواجب أن نقول ذلك
بقوة لتبقى لهذه الرموز دلالتها، تستعيد ما كان لها من معنى يوم شرعت أول مرة،
وهذا يفرض علينا إحياء طريقة السلف في تلقين أحكام الدين حتى لا تقصر على
جانب واحد، فإذا تناولنا أحكام الأذان على سبيل المثال لا نقتصر على بيان ألفاظه
والأدعية التي تكون بعده ومايشترط في المؤذن، بل نجمع إلى ذلك ما ذكرناه في
هذا الموضوع، ونفعل مثل هذا في دراسة الصلاة والزكاة والحج والصيام.. وسائر
شعائر الإسلام.
__________
(1) رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة، وقال الترمذي: حسن صحيح وانظر: صحيح سنن أبي داود، ج1 ص98 ح469، وصحيح ابن ماجه، ج1 ص118 ح706.
(2) وفي الحديث: أنه علمه في الرؤيا ألفاظ الإقامة أيضاً.
(3) مسلم: كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن ج1 ص 288.
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك (ج4 ص 98) عن ابن عباس بلفظ: لا تشهد إلا على ما يضيء لك كضياء الشمس ولكن تعقبه الذهبي، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (ج8 ص282)
- البيان -.(95/32)
خواطر في الدعوة
لا يذهب العرف بين الله والناس
محمد العبدة
قال: محدثي: لم أكن أهتم بمجلة البيان، كنت أمر على المكتبات، ولا
أعيرها اهتماماً، ولا ألتفت إليها، وليس ذلك لأني سمعت دعاية منفرة منها، ولكن
هكذا وقر في ذهني: أنه ما عساها أن تقدم لنا مثل هذه المجلة؟ وماذا سيكون فيها
من جديد؟ ولم يشجعني أحد على اقتنائها، أو يذكر ما فيها من موضوعات، إلى
أن لفت نظري عرض مغرٍ لبيع الأعداد القديمة منها، فاشتريتها، وبدأت أتصفحها، ووجدت نفسي منجذباً إليها، فكنت لا أترك العدد حتى أقرأه كله ... كانت
موضوعات مفيدة، لا تبلى مع مرور الزمن، وهكذا وضعت برنامجاً لنفسي: أن
أقرأ كل الأعداد السابقة.
لم يكن هذا الكلام غريباً عليّ، ولكنه ذكرنا بالحقائق التالية:
1- إن الجهد العلمي الأصيل لا يذهب هدراً، وإذا لم تتم الاستفادة منه في
الحاضر، فإنه يستفاد منه مستقبلاً «لايذهب العرف بين الله والناس» ، وما زال
الناس يكبرون الجهود العلمية النافعة الصادقة الموفقة من الله (سبحانه وتعالى)
لحسن النية، فكم من كتب في تراثنا الإسلامي ما تزال حاضرة معنا، نفهم من
خلالها نصوص الوحيين، وكأنها كتبت لتعالج مشكلات عصرنا، ولم يُذهب
رُواءَها ووهجها العلمي تقادمُ السنين والدهور، ونظرة إلى اهتمام المسلمين اليوم
بكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية تنبئك عن هذا الذي نقول، ذلك لأنهم وجدوا فيها
حلولاً لمشكلات عصرهم.
2- تقصير أهل الحق أحياناً في الدعوة لحقهم، فلا يسمع الناس بهم،
ولايتعرفون على جهودهم، وربما ظن هؤلاء أن الناس هم المكلفون بالسعي إليهم
لمعرفة الحق وأهله، أو ربما ظنوا أن الحق وحده كفيل بأن يصل إلى مسامع الناس
دون دعاية أو اتصال أو تنبيه، ولكن الناس ليسوا دائماً على هذا المستوى، وإذا لم
تعرض عليهم الحق، وبأساليب مناسبة، وتكرر ذلك ولا تمل دون تنازل عن المبدأ
فلا يلتفتون إليك، ولايسمعون بك، ومع الأسف فإننا نجد أهل الباطل يتقنون فنون
الدعاية لباطلهم، ولهم في ذلك جلبة وضجيج وصولة وجولة: يخدعون الناس
بأسماء طنانة وألقاب خادعة، يزينون باطلهم بشتى الألوان والأشكال، فإن لم
يؤثروا تأثيراً كاملاً، فلا بد أن يتركوا ندوباً هنا وجروحاً هناك.
3- يخجل بعض الناس من ذكر كتاب معين، أو مجلة إسلامية، ليبين ما
فيها من علم، ولا يذكر ذلك أمام زملائه أو من يعرفهم من المسلمين، حتى لا يقال: إنه يروج لبضاعته (وهي ليست بضاعته) ، فهذا كله وهم وخطأ، فالذي عنده
خير يجب أن يقدمه للناس، ولا يتوهم أن كل الناس سيقولون مثل هذا الكلام، بل
ربما كانوا له من الشاكرين، وهل يخجل المسلم مثلاً من عرض الإسلام على غير
المؤمنين به ويزين ذلك لهم، ويأتيهم بشتى الأساليب المقنعة؟ ! ، فكذلك المسلمين: إنهم بحاجة لمن يدلهم على الصواب، ويعلمهم الخير، وخاصة أن بعض الناس
لا يدري ماذا يقرأ، وماذا يدع؛ لما يرى من كثرة المطبوع والمسموع.(95/44)
مقال
نظرات في قضية ترجمة معاني القرآن الكريم
(2)
بقلم: د.فهد بن محمد المالك
عرض الكاتب في صدر الحلقة الأولى تلخيصاً لهدفه مننظراته حول
ترجمته (معاني القرآن) ، ثم استعرض تاريخ محاولات الترجمة، مبيناً هدف
المغرضين من المترجمين بمختلف نزعاتهم، واستصعب الإجابة الشافية
عن: «أي الترجمات المتوفرة في الأسواق في لغة معينة أصح من غيرها وينصح بها؟» . وحلقتنا هذه هي الثانية في نظرات الكاتب (وفقه الله) .
- البيان -
بعد أن تطرقنا في الحلقة الماضية إلى بعض القضايا المتعلقة بترجمة معاني
القرآن الكريم، وبعد أن أعطينا لمحة تاريخية عن المراحل التي مرت بها ترجمة
معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية عموماً وإلى اللغة الإنجليزية خصوصاً،
لعلنا في هذه الحلقة نلقي الضوء على بعض القواعد والتوجيهات حول هذه القضية،
إضافة إلى بعض الملحوظات المرتبطة بهذا الموضوع.
إذا كان من الصعب جدّاً الجزم بأن تفسيراً من تفاسير القرآن الكريم يمكن
اعتباره التفسير الكامل الشامل؛ وذلك بسبب الإعجاز القرآني الذي لايمكن أن
يشمله تفسير واحد، وإذا كان كل ما بوسعنا حيال ذلك هو القول: بأن هذا التفسير
تميز بكذا وكذا، وذلك التفسير من خصائصه أنه كذا وكذا.. إلخ، فكذلك الحال
عند النظر إلى ترجمات القرآن الكريم مع فارق النسبة، فكل ما بإمكاننا قوله حول
الترجمات: إن هذه الترجمة تميزت بقوتها اللغوية، وتلكم الترجمة امتازت
بالتعليقات الهامشية، والثالثة تميزت بسهولة ألفاظها ووضوحها لكل قارئ، على
أن العامل المشترك بين جميع الترجمات هو: أنها لاتمثل إلا جزءاً يسيراً من
المدلولات البلاغية والإعجازية المتوفرة في النص القرآني العربي.
أنواع الترجمات:
إلحاقاً لما سبق ذكره في العدد الماضي حول المقصود بالترجمة، وإجابةً
لبعض الاستفسارات التي طرأت أو قد تطرأ على بعض القراء، أود أن أبين أن
هناك نوعين من أنواع الترجمة هما:
(أ) الترجمة الحرفية:
وهي الترجمة الحرفية المساوية لألفاظ القرآن الكريم كلمة بكلمة وجملةً بجملة. وهذه الترجمة عادة ما تكون قاصرة وناقصة، وتُشَوّهُ المعنى، ولاتحقق الغرض
الأساس من الترجمة، بل إنها أحياناً تكون أبعد ما تكون عن المعنى الصحيح
لمدلول الآية، وهذا النوع من الترجمة محرم قطعاً؛ لما يسببه من عدم الدقة في
نقل معاني ألفاظ القرآن الكريم.
ولعل في الأمثلة الآتية؛ التي اقتطفتها من بعض الترجمات المتوفرة في
الأسواق، ما يوضح صدق هذا الكلام:
(1) قوله تعالى [لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ *
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] [الروم: 4، 5]
All matters, Past and Future, are predestined by God; then the Faithfull shall be delighted by Gad's vectory
(2) قوله تعالى: [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] [الحديد: 3] .
He (God) is the first and the Last; He is the Vesible and the Inveseble; He Is the Omniscient
انظر هنا مثلاً: هذا الخلل العقدي الكبير في ترجمة [الظاهر والباطن]
على أنها the visibile and the invisibile وهو خلل قد يؤدي بمعتقده إلى سوء العاقبة؛ حيث إن الترجمة
توحي بأن الله سبحانه وتعالى في الدنيا مرئيٌ، ويمكن رؤيته، تعالى الله عن ذلك
علواً كبيراً.
(ب) الترجمة التفسيرية «بالمعنى» :
وهو بيان معنى الكلام بلغة أخرى من غير تقيد بترتيب كلمات الأصل، أو
مراعاة نظمه، وهنا يقوم المترجم بالإتيان بعبارات وجمل حسب قواعد اللغة
المترجم إليها؛ فالترجمة هنا ليست لفظية مساوية للأصل، وإنما هي ترجمة
تفسيرية وتوضيحية. وهي لاتنقل كلمات القرآن الكريم حرفياً لأن ذلك مستحيل
عملياً وإنما تقوم ببيان المراد من الآيات بلغة أخرى. وهذا هو النوع المطلوب الذي
يجب على المسلمين القيام به والتصدي له، ويشفع لذلك ما قاله علماء الإسلام كابن
تيمية (رحمه الله) ، حينما قال في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: «
ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها عن اللسان
العربي باتفاق المسلمين، ولكن جُوّز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير
العربي» [1] ، وكما قال الشيخ محمد حسنين مخلوف في رسالة له حول حكم
ترجمة القرآن: «الترجمة الحرفية المثلية للقرآن الكريم بأية لغة غير معقولة ولا
ممكنة، والترجمة التفسيرية جائزة قطعاً، وهي ترجمة للتفسير لا للقرآن» [2] أما
الشيخ محمود شاكر (رحمه الله) فيقول في كتابه (القول الفصل في ترجمة القرآن
إلى اللغات الأجنبية «:» أجمع فقهاء الإسلام وأئمة الدين المجتهدون على جواز
تفسير القرآن باللغة العربية وبأية لغة أخرى من اللغات الأعجمية « [3] .
وقد حاول بعض المسلمين أن يقدموا عملاً وسطاً بين الترجمة الحرفية
والترجمة التفسيرية، فاختاروا ما يسمى بترجمة معاني القرآن الكريم هروباً من
الحرج الشرعي دون تحديد للكم من المعاني اللازم لإخراج الترجمة عن كونها
ترجمة حرفية للقرآن الكريم حتى تصبح ترجمة معانٍ، ولو ألقينا نظرة على
الموجود في الساحة الآن، لوجدنا الكثير من الترجمات التي كتب عليها أنها
ترجمات معاٍن بلغة كذا عند دراستها أنها تكاد تكون ترجمة حرفية للقرآن الكريم،
إلا ما يضطر إليه المترجم من عدم التطابق لطبيعة اختلاف اللغة.
وتتأرجح ترجمة المعاني دون أي انضباط بين الترجمة الحرفية والترجمة
التفسيرية، وتختلف طولاً وقصراً دون مقياس معروف؛ لذا نجد بعض العلماء قد
قسم هذا النوع من الترجمات (أي ترجمات المعاني) إلى العديد من الأقسام مثل:
ترجمة معنوية، وترجمة تفسيرية، وترجمة مساوية، وترجمة شبه مساوية،
وترجمة غير مساوية [*] .
ومن المعلوم أن من شروط المفسر التي ذكرها علماء الأصول أن يكون
المفسر مسلماً صحيح الاعتقاد، مجرداً عن الهوى، وأن يطلب أولاً تفسير القرآن
بالقرآن، ثم يطلبه بالسنة النبوية المطهرة، فإن لم يجد رجع إلى أقوال الصحابة
(رضوان الله عليهم) ، ثم إلى أقوال التابعين، ثم يكون بعد ذلك كله عالماً باللغة
العربية وفروعها: كالنحو، والصرف، وعلم الاشتقاق، وعلوم المعاني، والبديع، والبيان وعلم القراءات، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والآثار المبينة
لتفصيل المجمل، وتوضيح المبهم، وغير ذلك من صفات المفسرين التي ذكرها
العلماء.
وفي مقابل ذلك فإن صفات الغالبية العظمى من المترجمين لكتاب الله العزيز
هي: عدم الإيمان بكتاب رب العالمين، والشرك بالله والتثليث وعدم معرفة اللغة
العربية (أو معرفتها بقدر يسير جداً) ، وبغض الإسلام وأهله، واعتبار القرآن كتاباً
من تأليف محمد فيسمونه كما ذكرت سابقاً» قرآن محمد «، كما أن نسبة كبيرة
منهم هم قساوسة أو رهبان أو مستشرقون أو كهنة أو يهود أو منصرون أو قاديانيون
مارقون.
فعلى سبيل المثال: فإن آخر لغة أوروبية ترجم القرآن الكريم إليها هي اللغة
النرويجية عام 1980م واسم المترجم (إيناربرج» وهو مدرس زراعة مدمن
للكحول من «أوسلو» .
وهناك قلة قليلة من المسلمين تعد على الأصابع قامت بترجمات إلى اللغة
الإنجليزية والفرنسية وغيرها، إلا أن غالبية هذه القلة لم تسلم من الشوائب
والانحرافات العقدية. وقد أصبحت هذه الترجمات وهؤلاء المترجمون محسوبين
على الإسلام وأهله وهم ليسوا كذلك، وهذا مصداق ما ذكرته في الحلقة الماضية من
أن المترجم البدعي يترجم على حسب فكره ومنهجه ومعتقده الباطل، خذ على سبيل
المثال: ترجمة محمد علي، وترجمة محمد ظفر خان، وانظر ما حوته هاتان
الترجمتان من الأفكار القاديانية التي تتعارض أساساً مع أبسط أصول الإسلام
الصحيح، على أن هاتين الترجمتين لهما رواج كبير وشهرة واسعة في بعض
الأوساط الغربية وفي بلاد الهند والباكستان.
أهم خطوات الترجمة التفسيرية المقبولة:
بعد أن عرفنا أن الترجمة الحرفية للقرآن الكريم مستحيلة قطعاً ومحرمة شرعاً، وبعد أن عرفنا أن الترجمة الصحيحة المقبولة هي تلك التي تنقل المعاني المفسّرة
للآيات القرآنية من العربية إلى لغة أجنبية، لعلنا فيما يلي نذكر بعض الشروط
والقواعد في مثل هذه الترجمة التفسيرية، ولعل في قرار الأزهر الشريف حسماً
للموضوع وحلاً أمثل؛ حيث رأى علماؤه أن يوضع تفسير موجز للكتاب الكريم
باللغةالعربية، ثم يترجم هذا التفسير إلى اللغات المختلفة، لذا فقد وضعوا قواعد
عامة لهذا التفسير [4] ، كما أن الدكتورمحمد أحمد إبراهيم أبو فراخ [5] ذكر بعض
الأمور والخطوات للإقدام على مثل هذا العمل. وفيما يلي بعض من هذه القواعد
والخطوات:
1- من الضروري جداً أن تشير الترجمة إلى طبيعتها، وأنها ترجمة تفسيرية
تفصل معاني القرآن الكريم وآياته، وليس ألفاظه ونظمه المعجز، فذلك مستحيل
كما أوضحنا ذلك من قبل.
2- أن تكون الترجمة والتفسير خاليين بقدر الإمكان من المصطلحات
والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية.
3- ذكر الأدلة من القرآن أو من السنة أو من الشواهد اللغوية التي تساعد
القارئ على فهم الآيات.
4- أن يكون التفسير وترجمته ميّسرَين تيسيراً واضحاً بعيداً عن الخلافات
المذهبية، وأن تُنتقى الآراء التي اتفق عليها جمهور المفسرين.
5- قد يحتاج المترجم إلى إضافة هوامش في ترجمته التفسيرية، يوضح فيها
مزيداً من المعاني والألفاظ، أو المراجع المهمة، وهذا من الأمور المحبذة للمترجم
شريطة أن يكون ذلك مختصراً وبعيداً عن الإسهاب الممل.
ولعلنا في الحلقة القادمة نلقي الضوء على بعض الترجمات المشهورة المنتشرة
في الأسواق، ونعطي بعض الملحوظات عليها، تنبيهاً وتحذيراً للإخوة القراء.
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج2 ص 11، شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) رسالة في حكم ترجمة القرآن ص 11، الشيخ محمد حسنين مخلوف.
(3) القول الفصل في ترجمة القرآن إلى اللغة الأجنبية، الشيخ محمود شاكر ص 33.
(4) الهيئة العالمية للقرآن الكريم ضرورة للدعوة والتبليغ، د حسين المعايرجي.
(5) تراجم القرآن الأجنبية في الميزان، مجلة كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود د محمد أحمد إبراهيم أبو فراخ.
(*) للمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتور حسن المعايرجي (الهيئة العالمية للقرآن الكريم ضرورة للدعوة والتبليغ) .(95/46)
مقال
الحلقة الأخيرة
بقلم:فاطمة بنت عبد الله البطاح
هذا الموضوع أجيز من هيئة التحرير لسببين: لأنه يطرح قضية حيوية مهمة
يجب أن تكون محل اهتمام الكثير من الدعاة إلى الله، ولأنه بقلم كاتبة وليس كاتباً
فهي تكتب عن معاناة حقيقية ليست بالضرورة شخصية بقدر ما هي حالة معاشة في
مجتمعاتنا المسلمة جسدتها الكاتبة في هذه السطو ر، ولعل الموضوع يكون مجالاً
للحوار بين من يعنيهم الأمر.
وسينشر كل تعقيب ينطلق من رؤية شرعية مع الالتزام بآداب الحوار.
- البيان -
أحيانا: تسمع عن فتاة صالحة مصلحة، كانت شعلةً من نشاط، يجري حب
العمل لدين الله في عروقها، ويمتلىء فؤادها الغض حباً ورغبةً للدعوة إلى ربها،
تتحرق لمصائب الأمة وتهتم بالإصلاح وتفكر فيه وتنشغل به.
ولكن ...
حينما تضرب الدفوف معلنةً زواج هذه الفتاة، لابد وأن تُعلن معها نهاية
الحلقة الأخيرة من سلسلة نشاط هذه الفتاة وحماسها وهمتها في غالب الأحيان.
فينتهي مع زواجها كل شيء يتعلق بماضيها الطيب ودعوتها الخيّرة، وكأن
تراب النسيان قد أُهيل على دعوتها ووعيها، فأصبح ماضياً لا يخطر على بالها منه
شيء، اللهم إلا ذكريات حلوة! ترددها بين حين وآخر ... كنت وكنت! ! .
أما لماذا تبدل الحال وأصبح زواجها من (الصالح الخيّر) ! حلقة أخيرة في
سلسلة نشاطها وهمتها؟ !
فذاك سؤال تطول الإجابة عليه، بيد أني على أي حال سوف أختصر الحديث
في نقطتين أحسبهما داءً يحتاج منا إلى دواء، ولا أزعم مع هذا، أني سأوفيهما
حقهما من الإيضاح، لكن عسى أن تكون هذه الأسطر إشارة ضوء لمن يستطيع
المعالجة.
قعيدة البيت! !
ثمة رجال، لا يرون المرأة إلا قعيدة بيت ينبغي ألا يرقى تفكيرها عن شؤون
المنزل، ولاتخرج همتها وهمومها عن دائرة تلميع الحذاء، وكي الثوب! ! .
وربما عاب «هؤلاء» ونقدوا كل من أعطى زوجته من وقته، فحدثها عن
قضايا تتعلق بحال الأمة ومآسيها ومصائبها ومكر أعدائها، ويحسب هؤلاء أن
إدخال المرأة في مثل هذه الأمور ضرباً من ضروب تضييع الوقت، وتشتيت
الجهود!
متى يُدرك هؤلاء أن المرأة وإن كانت «قعيدة البيت» جسمياً! فليس
ضروريّاً أن تكون قعيدته فكراً وحسّاً؟ ! .
وهي المرأة التي كرمها ربها بالعقل، وأعزها بالدين، وأنقذها من براثن
الجاهلية وذلها! .
ووالله إنه ليحزنك ويحز في نفسك، عندما تتحدث إحدى زوجات بعض
الصالحين الأخيار عن قضايا مهمة علقت على حبالها رقاب أبناء الأمة! وأُهدرت
بذلك عزتها قبل ثرواتها، تكتشف بمرارة! أن هذه المرأة لا تعي شيئاً من ذلك
فضلاً عن أن تعي أبعاد هذه الأمور ومسبباتها.
لا أدري لماذا يسعى هؤلاء إلى إبعاد المرأة عن عالمهم؟ ! ولماذا لا يحاولون
تعليمها، وزرع حب الدين في قلبها، وإنماء فكرها ووعيها؟ !
قال (عليه الصلاة السلام) في حديث صحيح: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو
عهد بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل منه الناس وباب يخرجون
منه» [1] .
ترى ما صلة عائشة وهي امرأة جليلة قعيدة بيت بالتغيير الذي هم الرسول
بإحداثه في الكعبة؟ !
إذ لو كان الأمر بيتيّاً أو على الأقل نسائياً لما تعجبت!
لكن أن يتحدث نبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمة ومصباح الدجى فيها
ومرشدها وإمامها وعالمها مع امرأة في أمر قد يظن بعضهم أنه لا صلة لها به، فإن
هذا والله هو التربية!
وهذا والله هو المربي الذي يريد أن يرتفع بهموم نسائه وهمتهن؛ لتناطح
السحاب بسموها علواً ورفعة! !
ولن نعجب بعد هذا إذا علمنا أن هذه (المرأة «قد أصبحت بعد وفاة زوجها
ومعلمها عالمةً يرجع إليها الصحابة فيما أشكل عليهم؛ قال أبو موسى (رضي الله
عنه» : «ما أُشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً» ! .
وكانت (رضي الله عنها) تمارس لوناً من النقد والرد على بعض اجتهادات
الصحابة علانية؛ مما جعل الإمام الزركشي يجمع انتقاداتها لبعض فتاوى الصحابة
في كتاب أسماه: (الإجابة في إيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) [*] .
أما أن يترك الرجل الصالح زوجته في واد، ويبقي هو وهمومه ونشاطه
ودعوته في وادٍ آخر! فلتترحم الأمة على إحدى فتياتها المتوفيات! !
ضيق الخِناق:
ثمة رجال أخيار يعنيهم أمر الأمة وصلاح نسائها، وقد تجد أحدهم جادّاً في
تربية زوجته وإعانتها على أمور دينها، وزرع الحماس في قلبها للعمل الخيّر
والدعوة بين صفوف النساء!
لكنك مع ذلك تراه وقد ضيق الخِناق الدعوي على زوجته، فيرى مثلاً أنه لا
داعي لخروجها مع قدرتها وتوفر إمكاناتها لإقامة درس أو إلقاء موعظة، أو حتى
الاشتغال بإعداد موضوع مفيد أو كتابة مقالٍ هادف!
أما لماذا؟ ! فذاك أحسبه راجع لسببين:
(أ) إما عدم وجود رغبه لديه للتضحية والإيثار بالذات، مع علمنا أن
اشتغال المرأة بالدعوة والتحصيل والطلب ربما تعارض مع بعض شؤونها البيتية!
وهنا لا بد لهذه المعضلة (عدم التوافق) من حلول يشترك في صناعتها الطرفان:
الرجل والمرأة مع يقيني أن في حديث الرسول (عليه الصلاة السلام) الذي رواه
البخاري «سددوا وقاربوا» نور لمن أراد أن يستضيء به!
(ب) وإما مراعاة منه أو تماشياً مع بعض العادات الاجتماعية التي نشأ عليها؛ إذ يخاف مثلاً أن يُعاب عليه نشاط زوجته الدعوي، أو ذكر اسمها في المجالس،
أو ترديد بعض كلامها المنشور أو المسموع.
ولو تأمل لوجد أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) صدع ببعض المبادىء
على ما فيها من مخالفة لمألوف قومه ومعهودهم! ؛ فلم يكتف الرسول (عليه الصلاة
والسلام) مثلاً بوضع ابنته الصغيرة في حجره، إنما تعدى ذلك إلى أن يحمل بنات
الناس، فما أن تولد البنت إلا ويهرع بها أهلها إليه، ليضعها في حجره. ويدعو لها
بالبركة! [2] .
يفعل ذلك أمام جمع غفير من الناس، متحدياً ومخالفاً تقاليد البيئة التي يستحي
الإنسان فيها أن يُرزق أنثى! فضلاً عن النطق باسمها أو التلطف معها والتودد إليها!.
وكم يأخذك العجب إذا رأيت بعضاً من ناشطات زوجات أو بنات أولئك الذين
يتحدون نقاء المجتمع، فيرفعون بقولهم أو فعلهم رايات التخريب والعلمنة والفساد
في الأرض! فكم تحمّل هذا أو تلك تبعات مجاهرة ابنته أو زوجتهِ بفسادها وخُبث
طويتها على صفحات الجرائد والمجلات.
أتظنون المرأة التي خرجت من بين صفوف نسائنا، لتعلن على الملأ أن
الحجاب من مخلفات عهد التخلف والظلام! أتظنون هذه تسير وحدها، ولايوجد
خلف ظهرها وليّ: أب، أو زوج يسندها ويقوي عزيمتها! !
قبل النهاية:
أحسب والله أعلم أنه أصبح وجود المرأة الداعية من متطلبات هذه المرحلة
التي تعيشها الأمة وتمر بها! ، كما أحسب أيضاً أن المرأة الداعية هي أحوج الناس
إلى التربية الجادة والمستمرة!
وإلا فستفتح عينيها يوما لتكتشف أنها أصبحت متداعية لا داعية! .
__________
(1) أرجوا ألا يشم بعضهم من هذه الأسطر رائحة هجوم على مكوث المرأة في بيتها! إذ إني للإشارة فقط ما زلت أحفظ وأعي قول الله (تعالى) : [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] [الأحزاب: 33] ! .
(2) أخرجه: البخاري في كتاب الحج، فضل مكة وبنيانها، وكذلك مسلم في كتاب الحج، باب جدر الكعبة وبابها.
(*) هذا الكتاب مطبوع بعناية وتحقيق الشيخ سعيد الأفغاني.(95/52)
مقال
وقفة مع
دعوة المرأة في غرب إفريقيا
مندوب البيان في غانا
إن من يسير في شوارع مدن غرب إفريقيا، ويتجول في أسواقها يدرك الحالة
السيئة التي تردت إليها المرأة الإفريقية وماوصلت إليه حتى تحولت إلى امرأة
غربية، وفتنت بتقليدها والسير وراءها، فصرت لا تفرق في الغالب بين المرأة
الإفريقية والغربية إلا في لون البشرة.
ياترى هل يظل الدعاة صامتين أمام هذه التحديات المعاصرة، وأمام هذا
الغزو الذي يوجه للمرأة المسلمة؟ أم لابد من التكاتف والسعي في النهوض بالمرأة
استجابة لقوله (تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] .
إن المرأة هي الزوج، وهي الأم، وهي مربية الأجيال، بل هي شريان
المجتمع وقلبه النابض، فكيف يسوّغ الدعاة لأنفسهم أن يهملوها؟ !
وهذه السطور هي خلاصة مركزة لبعض البحوث التي قدمها بعض الدعاة
المشاركين في الملتقى الدعوي الثالث الذي أقامه المنتدى الإسلامي في «لومي»
عاصمة «جمهورية التوجو» في الفترة (310/3/1416هـ «.
أمور لا بد منها في دعوة المرأة:
أولاً: إن الله (سبحانه وتعالى) بحكمته قد فضل الرجال على النساء وأعلى
درجتهم، كما قال: [وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى] [آل عمران: 36] وقال: [وَلا
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً]
[النساء: 32] ، ولذا كان الرجال لهم القوامة على النساء [وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] [البقرة: 228] .
ثانياً: إن الدعوة الموجهة للمرأة لا ينبغى أن تكون مدعاة لإخراجها عن
فطرتها وعن أنوثتها؛ فالأصل في المرأة أن تقرّ في البيت [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] [الأحزاب: 33] وقال:» المرأة عورة، فإذا
خرجت من بيتها استشرفها الشيطان حتى ترجع « [1] .
ثالثاً: للمرأة أحكام خاصة لا بد من مراعاتها في أي نشاط دعوي يوجه إليها، ومن ذلك:
أ- تحريم سفرها دون محرم كما قال:» لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي
محرم « [2] .
ب- تحريم خلوة المرأة بالرجال الأجانب، كما قال:» لا يخلون رجل
بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان « [3] .
ج- تحريم اختلاطها بالرجال الأجانب، فقد قال للنساء:» استأخرن؛ فما
يكون لكُنّ أن تَحْقُقنَ الطريق « [4] أي تركبن وسطها.. إلى غير ذلك من
الضوابط الشرعية التي لا يجوز الإخلال بها.
رابعاً: يضرب كثير من أعداء الإسلام على هذا الوتر الحساس، ويتهمون
الإسلام بأنه أهان المرأة وانتقص كرامتها وعدّها مخلوقاً ناقصاً، وهذا الأمر تأثر به
بعضٌ من دعاة الإسلام؛ فدعَوا إلى التخفف والتفلت من كثير من الضوابط الشرعية، فصاروا لاينكرون أن تجتمع المرأة مع غير محارمها، وتخالطهم وتبقى معهم
الساعات الطوال، وربما سافرت معهم؛ مما يلزم معه التأكيد على دعاة أهل السنة: ضرورة الانضباط الشرعي في ذلك، وعدم الرضوخ لضغوط المجتمع وأهوائه.
خامساً: الأصل في الدعوة والتصدر للميادين العامة أنها للرجال؛ وهكذا كان
الأمر في عصر الرسول، وصدر الإسلام، وسائر قرون الأمة، نعم يروي التاريخ
لنا عن نماذج فذة من النساء المؤمنات، لكن لا تقارن هذه النماذج بحال بما يرويه
لنا ويحفظه عن الرجال، وهذا مصداق قوله» كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل
من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على
النساء كفضل الثريد على سائر الطعام « [5] .
سادساً: وذلك كله لا يدعو إلى إلغاء دور المرأة وتهميشه، والسعي إلى
تحجيمه وإهماله، فيبقى لها دور لا ينكر، وشأن له أهميته لكن مع التأكيد على ما
سبق من الضوابط الشرعية.
تأهيل المرأة المسلمة الداعية ضرورة شرعية للأسباب الآتية:
أولاً: أن المرأة أقدر من الرجل على البيان فيما يخص الوسط النسائي.
ثانياً: أن المرأة أكثر تأثراً بأختها في القول والعمل والسلوك.
ثالثاً: أن المرأة أكثر إدراكاً لخصوصيات الوسط النسائي ومشكلاته.
رابعاً: أن المرأة أكثر قدرة وحرية في الاتصال بالنساء؛ سواء بصفة فردية
أو من خلال المجامع النسائية العامة.
خامساً: أن الكثير من المسلمات اللاتي يحتجن إلى الدعوة والتوجيه يفتقرن
إلى وجود المحرم الذي يمكن أن يقوم بدعوتهن.
هذه الجوانب تتفوق فيها المرأة ... ونؤكد على أنه مع قيام الرجال بالعبء
الأكبر في قضية الدعوة ومنها الدعوة الموجهة إلى المرأة فلا بد أن تُسهم المرأة في
ذلك.
إن الرجل يمكنه أن يؤدي دوراً مُهِمّاً في دعوة المرأة من خلال الكتابة،
والحديث المسجل، أو من وراء حجاب، ومن خلال توجيه زوجته ومحارمه، لكن
تبقى ميادين أخرى بعد ذلك لابد أن تسهم فيها المرأة في الدعوة لبنات جنسها؛ إذ
هي أقدر من غيرها على أدائه.
واقع المرأة في إفريقيا:
يمكن أن تقسم المرأة المسلمة في غرب إفريقيا إلى الأصناف الآتية:
الصنف الأول: النساء اللاتي لم يتلقين أي قسط من التعليم والتدريس، وهذا
الصنف هو الغالب على المرأة المسلمة في غرب إفريقيا: في المنزل، أو الحقل،
أو السوق، وهنّ يقلدن أولياءهن وأزواجهن، ويتأثرن في الغالب بالأعراف
والعادات الاجتماعية السائدة.
الصنف الثاني: النساء اللاتي تلقين قسطاً من التعليم الشرعي؛ سواء على
منهج سليم أو منحرف، وهذه النسبة هي الأقل.
الصنف الثالث: النساء اللاتي تلقين التعليم في المدارس الحكومية العلمانية،
وعدد من هؤلاء النسوة يعملن في الوظائف العامة في المؤسسات الرسمية، ويسيطر
النمط الغربي على حياة هذا الصنف وتفكيره ومظهره، ولاتكاد تميز المرأة منهن
عن المرأة الغربية إلا في لون بشرتها.
وينتشر السفور والتبرج واللباس الفاضح في شوارع وأسواق مدن غرب
إفريقيا بشكل يذكرك مع الأسف الشديد بما تراه في مدن الغرب ومجامعه.
وتتمثل صور التبرج والسفور لدى المرأة الإفريقية فيما يلي:
أ- اللباس القصير الذي كثيراً ما يصل إلى فوق الركبة، وإبراز الرأس
وأجزاء من أعالى الجسم.
ب- اللباس الضيق جدّاً الذي يصل إلى مضايقة المرأة في مشيتها.
ج- اللباس الشفاف الذي يكشف ما تحته.
د- التشبه أحياناً بالرجال، ويكون خاصة في النساء اللائي يعملن في ميدان
الشرطة والمرور ونحوهما.
هـ- وقد تعمد بعض الفتيات إلى الرقص في الشوارع مُقَلّدَاتٍ بذلك رقصات الغرب.
إنه واقع كما ترى أخي الكريم ينفطر منه الفؤاد، ويذوب له قلب من يحمل
أدنى غيرة على مجتمعات المسلمين، ولاشك أن هذه المظاهر تخفي وراءها صوراً
من الانحراف والفساد، وتنذر بانهيار في مثل هذه المجتمعات إن لم يبادر
المصلحون إلى إنقاذها.
مقترحات لدعوة المرأة:
أولاً: عناية الدعاة إلى الله (عز وجل) بتربية بيوتهم، وتنشئتها التنشئة
الإسلامية العفيفة، وإعطاء هذا الأمر أولوية في برامجهم، وحين يعتني كل داعية
بزوجته وبناته ويربيهن؛ فإنا بمعادلة بسيطة نستطيع أن نحصل على عدد من
الداعيات والفتيات الملتزمات بالإسلام اللاتي يحملن مشعل الهداية للأخريات بقدر
عدد ما نملك من الدعاة، استجابة لأمر الله (تبارك وتعالى) في قوله: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ
شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] [التحريم: 6] ولأمر النبي -
صلى الله عليه وسلم- في قوله» كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.... والرجل
راع في بيته ومسؤول عن رعيته « [6] .
ثانياً: العناية بتعليم المرأة التعليم الشرعي الذي تحتاج إليه؛ لتعرف مايجب
عليها أن تعتقده، ولتعبد الله (سبحانه وتعالى) كما شرع، فهو سبيل لصحة الاعتقاد
والعمل، وسبيل لحماية المرأة من الغزو والإفساد الذي تواجهه من المنصرين ودعاة
التحرر والفساد.
والتعليم الموجه للفتاة والمرأة ينبغي أن يكون له هدفان: هدف موجه لعامة
نساء المسلمين يسعى لمحو الأمية الدينية عنهن، وحمايتهن من دعوات التغريب،
وهدف موجه للمتميزات منهن ممن يراد لهن أن يقمن ببعض الأعمال العلمية
والجهود الدعوية في الوسط النسائي.
ثالثاً: السعي لفتح مدارس ومعاهد خاصة للفتيات في المدن والقرى، تسهم
في نشر التعليم الشرعي، وتؤدي دورها في التربية وحماية الفتاة من موجة
التغريب وبراثن الفساد.
رابعاً: تنظيم برامج ودورات خاصة لبعض النساء اللائي يؤمل أن يقمن
بدور دعوي وتعليمي في أوساط النساء؛ لرفع كفاءتهن وزيادة قدرتهن، مع مراعاة
الانضباط الشرعي، وألا يترتب على ذلك سفر لهن دون محرم أو اختلاط بالرجال.
ويمكن أن يستفاد من لقاءات الدعاة وبرامجهم ليقام ضمن ذلك برامج لزوجات
المشاركين ممن هن من المؤهلات لهذا العمل.
خامساً: إنشاء مراكز مهنية لتعليم الفتيات والنساء بعض الحرف المهنية التي
تلائم طبائعهن، لتعينهن على الاستغناء عما في أيدى الناس، وهي خطوة تقطع
الطريق على الكثير من الخطوات التي يسلكها المنصرون ودعاة التغريب؛ إذ هم
يجعلون هذه من الفرص للتأثير على الناس ودعوتهم.
سادساً: إقامة محاضرات خاصة ودروس موجهة للنساء، ويمكن أن يقوم
بذلك الرجال من وراء حجاب إذا لم يوجد من النساء من يقمن بذلك، وأن يكون
هناك مكان مخصص للنساء في المحاضرات والدروس العامة.
سابعاً: ترجمة الكتيبات والرسائل الموجهة للمرأة، التي تعالج ما تحتاجه
عامة النساء باللغات المحلية والسعي لتوزيعها، وتوفيرها في المكتبات العامة
والمساجد والمجامع التي يرتادها النساء.
ثامناً: تسجيل أشرطة صوتية من الرجال باللغات المحلية تعالج أهم القضايا
التي تحتاجها النساء في الاعتقاد، والعبادة، والسلوك، والعمل. وتسهم هذه
الوسيلة في مخاطبة النساء الأميات اللاتي لا يعرفن القراءة والكتابة.
__________
(1) الترمذي: ج3 ص467، ح1173، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ج1 ص343، ح936.
(2) البخاري: ج2 ص35، كتاب تقصير الصلاة.
(3) الترمذي: ج3 ص465، ح 1171.
(4) البخاري: كتاب الأنبياء، ج4 ص 131: 132.
(5) أبوداود: ج5 ص422، ح5272.
(6) البخاري: كتاب الجمعة، ج1 ص215.(95/56)
نص شعري
لم تبكي؟ !
شعر: عبد الوهاب الزميلي
لِمَ تبكي؟ .. وبكتْ!
إنّ لفح اللهبِ
ضجّ في أحداقهِِ
صاعداً من قلبه المتّقدِ
وصمتْ!
هي أبكاها بكاهْ!
هي تهتزّ أمامه
تتلوّى.. ترتمي بين يديهْ
«لِمَ تبكي؟» وصمتْ! !
هي ترتدّ قليلاً للوراءْ
تغمض العين بحزن.. كي تراهْ!
هي تبكي لبكاهْ
هو في أعماقه الآهُ..
وفي شطآنه الآهُُ..
وفي الأحباب آهْ
هو بالآهاتِ.. يستفّ الحياةْ
هو من يبكي بكاهْ؟ !
«لِمَ تبكي؟ لِمَ تبكي؟»
وصمتْ..!
«أيْ حنانيكَ بقلبي.. أنت قلبي..
كيف لا أسمع نبض القلب قربي؟ !
وهْو قلبي! !»
«أيْ حنانيكَ.. حنانيكَ تكلّمْ
أوقد الأحرف بالدمْ
لا عليكْ..
فوقها الأشلاء والآهاتُ والموت المكتّمْ
لا عليكْ..
لا عليكْ..
إنّما.. لا تجعل الصمت جداراً
قاسياً.. بين يديكْ! !
آه يا ورد الطريقْ..
آه يا إشراقة الصبح..
ويا فوح النداءْ!
آه يا دفء الشتاءْ!
آه يا قلبي.. وهل أملك شيئاً
غير صمتٍ وبكاءْ؟ !
والأحاديثُ عن الأشلاءِ..
.. والموتِ المكتّمْ..
لم تعدْ تُطفىء في قلبي السؤالْ:
لم أبكانا وأدمانا الشمالْ؟ !
ولماذا حكمُه.. ينداح في وجه الرمالْ؟ !
وكتابُ اللهِ..! !
والكلّ ترنّم..!
فلماذا لم يحكّمْ؟ !
آه يا قلبي الحزينْ..
خَجِلٌ صمتي.. فَقَوْمِي
تحت ظل» الهيكلِ «!
خَجِلٌ صمتي.. وأطوي..
.. فِيّ بركانًاً توارى..
في ثنايا العزّلِ!
آه يا قلبي الحزينْ..
هل رأيتِ الدمعةَ الحيرى..
على خدّ منارة؟ !
أم رأيتِ الذّل يختالُ على تلك البيوتْ؟ !
آه ما أقسى الكلامْ!
فاصمتي.. ناسجةً بين الدماءْ
راية الفجر اللهبْ
واجعلي النارَ.. خيوط المغزلِ!(95/62)
المسلمون والعالم
من اتفاق طابا إلى نقل السفارة
الأساطير والحقائق وحمامات السونا!
بقلم: د. عبد الله عمر سلطان
ماذا بعد قرار الكونجرس الأمريكي القاضي بنقل سفارة بلاده من تلأبيب
إلى القدس؟ سؤال يتردد في صدر كل عربي ومسلم منكسر، يرى إرهاب النظام
العالمي الجديد، يقبض بكلتا يديه على قدسه الشريف وأقصاه السليب.
صدر القرار حينما كانت أمريكا تستضيف عشرات المسؤولين العرب، الذين
تقاطروا عليها بعد أن شهدوا احتفالات الأمم المتحدة، بمناسبة مرور خمسين عاماً
من الزور والغبن الدوليين. كان القرار رسالة موجهة إلى السائرين في ركاب الحل
الأمريكي/الإسرائيلي، وصفعة قوية لمقاولي السلام الشجاع، وجرعة أخرى من
المهانة إلى الذين وقعوا تلك الأرتال من الاتفاقات والوعود غير المقدسة.
كانت الصفعات تتوالى، والذل يتشكل في أكثر من قالب، والإهانة تتجلى
على مستويات القيادات اللاهثة والشعوب المصمّتة..
هل يمكن الربط بين حادث «شخصي جدّاً» وقرار خطر إلى أبعد حد
حصلا في يوم واحد؟ .. في يوم صدور القرار كان «الزعيم» عرفات يمضي
وقتاً طيباً في نيويورك التي فتحت أبوابها له بعد أن دفع الثمن من دم الضحايا
واتفاقات الذل وتسليم السيادة، كان سيادة الرئيس يحضر احتفالات منظمة «
البطرس» في نيويورك، وعرفات طالما صَوّرته وسائل الإعلام الأمريكية على
أنه زعيم إرهابي وثائر أقرب إلى الهمجية، أما اليوم فإنها تُبرز وجهه الإنساني،
وتتغنى بمآثره ولباقته التي قالت عنها صحيفة بريطانية: «إنها ربما تفتحت بعد
قِرانه بسيدة مسيحية متحضرة! !» .
عرفات أراد أن يثبت أنه متحضر بما فيه الكفاية، فقرر حضور حفلة
الاستقبال التي جرت في مركز (لنكولن) ، حيث ستُعْزَفُ مقطوعات موسيقية غربية
على شرف الحضور! لم يأل الزعيم جهداً في إظهار اهتمامه بموسيقى القوم، فقرر
أن يحضر رغم ازدحام جدول أعماله! لكنه كما نقلت وكالات الأنباء فوجئ حسب
قول دبلوماسيين أمريكيين بأحد مساعدي عمدة مدينة نيويورك (رودولف جولياني)
يربت على كتفه طالباً منه المغادرة، بالرغم من أن الزعيم لم «يتمتع» إلا بسماع
الحركتين الأولى والثانية لسمفونية بتهوفن التاسعة. هذا ماروته وكالات الأنباء.
لم تجدِ تصريحات الرئيس عرفات في جامعة هارفارد بكونه «شريكاً
للصهاينة» ، وأنه يحب اليهود وقد تربى في حي كل أطفاله من اليهود.
كانت صفعة الطرد الشخصية قد تكاملت مع محاولة الكونجرس الأمريكي
طرد «القدس» من ذاكرة ووجدان كل مسلم.. الفرق الوحيد: أن الإهانة لعرفات
دليل رخص هذه القيادة التي جرأت الصهاينة الأمريكان على الاعتراف بالقدس
عاصمة ليهود، ضاربين بعرض الحائط كل القوانين والمشاعر والأعراف!
لماذا هذا الإذلال؟
هناك ملاحظات مهمة يطرحها القرار الأمريكي الظالم أمام مرأى الأمة
الإسلامية، التي تعودت في هذه الفترة الحالكة أن تكتفي بالمزيد من الفواجع
والنكبات، فبعد اتفاق واشنطن ظهر للعيان أن هذا الاتفاق لايحقق (حتى باعتراف
مرتكبيه «أُولى المطالب الفلسطينية، لكن المزعج حقاً أن هؤلاء المستسلمين
لعدوهم المنفذين لمخططاته أصبحوا أقوياء على شعوبهم فقط، شجعاناً في تحطيم
بذرة المقاومة والتضيحة لا غير.. هنا أدركت الشعوب ما يعنيه مصطلح» سلام
الشجعان! «الذي طالما رددته قيادات العجز.. إنها شجاعة خنق الشعوب وتمرير
المشروع الصهيوني الفاجر على أجسادها..
ولم يكتف مقاولو سلام الشجعان باتفاقهم المخزي، بل طافوا بقاع الأرض
مزهوّين بفعلتهم تلك، مروجين لمصطلح الشرق أوسطية الصهيونية، مشيدين
بمناقب أولاد العم الأطهار! منددين بالإسلام وأهله! من الإرهابين الأشرار، نظر
المواطن المنكسر إلى هذه الحالة وقال: الغرب اكتشف فجأة براءة السلطة التي
طالما رماها بالهمجية والتخلف.. وكلما خنق هؤلاء الإرهابيون القدامى شعوبهم
ومارسوا همجيتهم تجاه أبناء الإسلام أصبحوا» متحضرين «و» عقلاء «،
وكلما أخرجوا من جيب شعبهم شبراً وموطئاً غدوا» شركاء مسؤولين «وأصحاب
نظرة صائبة وسلوك متحضر.
» ليت هؤلاء قد عاملوا عدوهم كما عامل زعماء الحركات الوطنية في العالم
عدوهم «، قالها طالب في جامعة غزة لمراسل محطة فضائية أوروبية ... الطالب
لم يقل ليتهم كانوا في شموخ عمر بن الخطاب أو بسالة صلاح الدين؛ لأن هؤلاء
هم القمم التي تحتفظ بها شعوبنا في ذاكرتها.. ومالم يقله الطالب قالته الكاتبة
الإنجليزية (هيلينا كوبان) مخاطبة عرفات قائلة:» الإسرائيليون وأصدقاؤهم
الأمريكيون شعروا بسعادة غامرة عندما رأوا ووصفوا بكثير من التفصيل مدى
التقارب الشخصي بين المفاوضين ونظرائهم الإسرائيلين خلال مفاوضات طابا،
عندما كانوا يروحون ويأتون سوية معاً، هل ياترى ستحاول التقرب من شعبك
بالشكل نفسه؟ أم أصبحت معزولاً عنه ... ربما من المناسب أن تطلب من أحد
مساعديك الأذكياء قراءة سيرة (لوكاس مانغولي) الذي عين رئيساً لحكومة «دولة»
بوتسوانا «المستقلة» في عام 1977م، هل تعرف بوتسوانا؟ لابد أنه كان مغرماً
مثل أصحابك بحمامات السونا، لكن كل تلك الحمامات إضافة إلى أجهزة القمع التي
وفرها له أصدقاؤه من الأقلية البيضاء الحاكمة في جنوب إفريقيا آنذاك لم تستطع
إنقاذه من تطلعات شعبه إلى العدالة.. عليك بعد ذلك أن تقرأ سيرة (نيلسون مانديلا)
و (هوشي منه) لترى مقدارالانضباط الذاتي الذي أبدياه في علاقاتهما على كل
الأصعدة مع عدوٍ أقوى منهما عسكرياً، سواء داخل قاعة المفاوضات أم خارجها،
وانظر كيف أنهما حرصا على إدامة علاقات قوية مع شعبيهما جواباً أفضل بل
وحيداً على عدم التوازن في القوة العسكرية، إذا كان لك ولفريقك التفاوضي العودة
إلى الشعب، وإذا كان للشعب أن يعود إلى تنظيم نفسه فإن هذا سيقوي موقفك في
المفاوضات مع إسرائيل أكثر مما يقويه الاستحمام مع الإسرائيليين ألف مرة! ! «.
ويبدو أن الزعيم المفتون بحمامات السونا، وسمفونيات بتهوفن، ورِقّة اليهود
لايحب سماع الكلمات الجارحة التي بدت بغيضة منذ أن وَجّهَتْ السلطة بُوصْلَتَهَا
نحو الكنيست والبيت الأبيض.
أساطير تتهاوى:
أصبح من نافلة القول: إن القوى الإسلامية في الشارع الفلسطيني أصبحت
هدفاً أولَ للاتفاقات والمفاوضات والصفقات العرفاتية/ الإسرائيلية، وطال هذا حتى
الجماعات العلمانية التي تقول: (لا) لمفاوضات وتنازلات» حمامات السونا «!
أصبح إدوارد سعيد الوجه العلماني /الليبرالي للمنظمة بدون مقدمات راديكالياً،
واكتشفت السلطات اليقظة: أن محمود درويش شاعر الماركسية الفلسطينية ورمزها
ليس أكثر من صوت للفتنة وهو كذلك وغَدَا كل من يشكك في خطوات الخنق
الإسرائيلي التدريجي حليفاً للإرهاب! .
بالرغم من كل هذا الضجيج، فهناك أساطير صنعها الإعلام الغربي تتهاوى
بفعل الخداع الإسرائيلي والدعم الأمريكي.
لايمكن لعرفات مهما دعمه حلفاؤه الجدد أن ينكر أن منظمته فتح قد أصبحت
جسداً بلا روح، بعد أن أصبح الزعيم هو المنظمة، وصارت اجتماعاتها معدة
(للبصم) على كل اتفاق تذبح فيه فلسطين، أو تقطع على أعتابه كرامتها أو
أشلاؤها ... آخر اجتماعات اللجنة التنفيذية في تونس، لم يكمل حتى النصاب المطلوب لتمرير اتفاق خطير مثل اتفاق طابا، وبالرغم من ذلك فقد مرت خطوات القيادة الفلسطينية الخارجة حتى عن أبسط القواعد الجماعية بسلام، فليس من مصلحة إسرائيل وجوقتها في الداخل والخارج أن يسلط الضوء على ممارسات عرفات الديكتاتورية في هذه المرحلة؛ طالما أن المطلوب من السلطة الوطنية يتم وفق» روح الشراكة «بين اليهود وعرفات.
كما لايمكن لعرفات والقوى المتواطئة معه أن ترفع شعارها الإرهابي التقليدي: أن الذي توصلت إليه مع حكومة رابين هو أفضل الممكن، وأنه ليس أمامها سوى
الاستسلام لابتزاز أمريكا وإسرائيل.. لقد رفض عرفات قبل أن يندمج في شراكته
السرية في أوسلو عرضاً مقدماً من حكومة إسحاق شامير في الجولة السابقة
لمفاوضات واشنطن لمنح الفلسطينيين ما مساحته 63% من أراضي الضفة، وتقاسم
30% من هذه الأراضي، وضم إسرائيل للباقي (7%) من المساحة، بينما قبل
عرفات في اتفاقه الأخير (سيء الذكر) أقل من ذلك بكثير حيث لاتسيطر السلطة
العرفاتية إلا على 27% من مساحة الضفة، إضافة إلى تنازل السلطة عن حقوق
المياه التي ستصل إلى 26% من مياه الضفة، والباقي يذهب للمستوطنات التي
تحتاج إلى كميات تعادل ثلاثين مرة ما يحتاجه مواطنو الضفة! ! ونلاحظ هنا: أن
رفض عرفات للعرض الشاميري كان حراماً من منطلق أنه يتم عبر وفد المفاوضات
برئاسة (حيدر عبد الشافي) ، بينما التخفيضات الهائلة التي أعطاها عرفات لرابين
الهالك وبيريز المتحفز، فهي حلال؛ لأنها تمت عبر المحتل الفلسطيني الذي يصفه
بعض الفلسطينين» التيس المستعار «الذي يَعْقِدُ على المرأة من أجل التحايل على
ضرورة زواجها ببعل جديد.. نعم شراكة حتى في أساليب اليهود وحيلهم (السبتية)
التي يحسبون أنهم بها أذكياء، وقد خابوا وخاب شريكهم! ولايمكن للزعيم وطغمته
وآلته الإعلامية الناطقة بالزور أن تخفي أن الضفة المحتلة قد أصبحت جزراً
ومحميات» هنود حمر «فعلاً؛ فقد قسمت المناطق إلى أ، ب، ج، وقامت
إسرائيل ببناء طرق التفافية حول هذه المناطق، ويتطلب التنقل بين هذه المحميات
العرفاتية إلى تصريح خاص من» السادة الصهاينة «، لاسيما وأن عرفات نفسه
حتى الآن لايستطيع أن يتنقل بين الأراضي المحررة إلا بعد الحصول على تصريح
إسرائيلي. ولابد أن نذكر هنا أن قائد الشرطة الفلسطينية في أريحا (الرجوب) قد
مُنع من الانتقال خارج أريحا خلال اشتراكه في المباحثات بالرغم من بلائه المشهود
في محاربة معارضي الاتفاق وتعذيبهم حتى الموت (كما حصل لمواطن فلسطنيي
الأصل حاصل على الجنسية الأمريكية» .. إن إسرائيل تحب أن تذكر عملاءها
الجدد أنهم تحت قدم جيش الدفاع وجنرالاته!
وأخيراً فإن من المؤكد أن الشعب الفلسطيني بعد هذا الاتفاق يمر بأسوأ مراحل
التشرذم والانشقاق فبعد أن كانت المنظمة تفاخر بكونها الممثل الشرعي والوحيد
للشعب الفلسطيني، نجد اليوم هذا الشعب وهو منقسم بفعل تحركات المنظمة العابثة
وتفريطها في حقه حتى تكرست القطيعة بين فلسطينيي الشتات والداخل، لاسيما
وأن الاتفاقات المتعددة لم تناقش موضوع أربعة ملايين فلسطيني خارج الضفة
والقطاع مما جعلهم فريسة لنزوات القيادات العربية مثل القذافي وتجلياته، أو
تصريحات الوزير اللبناني (نقولا فتوش) الذي وصفهم بأنهم «زبالات بشرية» ! ! هكذا! ! .
هل كان لأمثال العقيد المحدود العقل والمتناهي المفاجآت، أو هذا «الفتوش» المنتفش بحقده النصراني أن يسوم هذا الشعب المطحون مزيداً من العذاب لو كان
لديه قيادة تحترم نفسها أو تكنّ لشعبها شيئاً من الاحترام؟ .
ليس هناك من أسطورة تروج هذه الأيام سوى المقولة السمجة: إن هذا وضع
مؤقت، وإن الاتفاقات النهائية هي التي ستحل القضايا الرئيسة: كموضوع القدس
والمستوطنات، ومصير فلسطينيي الشتات.. إنها أسطورة أخرى، بل الأسطورة
الأخيرة في صندوق الأكاذيب والوعود المتلاشية التي ترفع أمام كل من يستغرب
من هذا الانحدار والاستسلام والركوع لعجل صهيون، لقد أشارت مجلة
(الإيكونمست) النافذة والواسعة الانتشار إلى أن فشل رابين أو على الأصح فشل
حزب العمل في الانتخابات المقبلة ووصول (ناتنياهو) للسلطة يهدد وضع الاتفاق
النهائي بجعل الاتفاق الحالي هو الحد الوحيد الملزم للطرفين، وهو احتمال كبير في
حالة فشل الطرفين في التوصل إلى حل نهائي عام 1999م، وهو أمر متوقع في
ظل نكث يهود بعهودها؛ مما يعني أن هذا الاتفاق الظالم سيكون اتفاقاً نهائياً.
وهنا يجب أن ندخل قرار الكونجرس في هذا الإطار.
إن اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل وضرورة نقل السفارة قبل تاريخ
مايو 1999م، يعني أن الاتفاق المؤقت يترجم عن طريق القوة الأمريكية والتنسيق
الصهيوني إلى واقع قائم على الأرض.. وتصريح الرئيس الأمريكي عَبْرَ ناطقه
وبعد يوم واحد جعل الموقف الأمريكي واضحاً كل الوضوح «إن الرئيس الذي عبر
عن رأيه في ضرورة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خلال حملة الرئاسة عام
1992م، لم يغير رأيه الشخصي في الموضوع وأن اعتراضه يكمن في توقيت
النقل» .
وهذا ما دفع منظمة النداء الصهيوني الموحد لإعطاء جائزتها السنوية لكلينتون
بعد يوم واحد من هذا التصريح.
هنا نكتفي بتصريح الرئيس الفلسطيني عرفات الذي أعرب عن استغرابه من
صدور قرار الكونجرس الأمريكي لتعارضه مع تعهدات كان قد حصل عليها بأن
هذا الموضوع سيبحث في المرحلة النهائية للمفاوضات.
إذا كان استغراب عرفات صحيحاً.. وإن كنا نشك في ذلك فإننا نستغرب نحن
مرتين؛ مرة لتصديقه أن هناك مرحلة نهائية تشكل آخر الأوراق التي تستر عورة
الاتفاق الشنيع، ومرة أخرى حين يصر هذا الزعيم على اختيار الخيارات الخاسرة
مرة تلو أخرى ... وها هو يختار أن يكون (لوكاس مانغولي) آخر!(95/66)
المسلمون والعالم
مؤتمر التنمية الاقتصادية
والوهم العربي
بقلم: د.محمد عبد الله الشباني
خلال الفترة ما بين 5 حتى 7 جمادى الآخرة لعام 1416هـ، عُقد في عمان
مؤتمر التنمية الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ضمن مسلسل التسوية
والتطبيع مع العدو اليهودي تحت الرعاية الأمريكية. وهذا المؤتمر امتداد لمؤتمر
الدار البيضاء الذي عُقد في العام الماضي، ويهدف هذاالمؤتمر حسب ما أعلن عنه
إلى توفير الآلية المالية والتنظيمية لإيجاد منظومة اقتصادية إقليمية يكون لدولة
اليهود في فلسطين المحتلة الدور البارز والمؤثر فيها، تتمثل هذه الآلية في إنشاء
بنك إقليمي للتنمية إلى جانب إنشاء مجالس إقليمية أخرى، كما أشار إلى ذلك وزير
خارجية الولايات المتحدة (كريستوفر) ؛ حيث أشار في كلمته عند افتتاح هذه القمة
إلى أن «القمة الحالية ستعمل على تأسيس هيئة إقليمية للسياحة والسفر، كما أنها
ستعمل على تأسيس مجلس إقليمي للتعريف بالاستثمارات الاقتصادية في المنطقة،
وتحقيق التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص، والتعاون بين رجال الأعمال في
العالم» .
إن القمة الاقتصادية التي عقدت في عمان إنما هي مدخل للاستيلاء على
مصادر الثروة في العالم العربي، وجعل هذه المنطقة مرتهنة للمرابين اليهود؛ من
خلال قيام المؤسسات البنكية اليهودية العالمية في أمريكا وأوروبا بإقراض هذا البنك
الإقليمي الجديد الذي يتولى بدوره إقراض حكومات العالم العربي التي ترزح تحت
ثقل الديون.
إن من أبرز ما أظهرته هذه القمة من العمل على تحقيق ذلك الهدف: ما تم
الإعلان عنه من توقيع اتفاق بين وزير الطاقة الإسرائيلي ورئيس مجلس إدارة
شركة أترون الأمريكية «ريكا مارك» التي هي صاحبة امتياز استخراج الغاز في
قطر، وقد أشارت المصادر أن قيمة الصفقة تبلغ ثلاثة مليارات دولار، تدفع منها
إسرائيل فقط ثلاثمائة مليون دولار أما الباقي فلم يُشَرْ إلى: كيفية سسداده، ولكن
يظهر أن التسديد سيتم خلال بيع منتجات إسرائيلية لدولة قطر، كما أن مدة هذه
الاتفاقية عشرين عاماً، ويحق لإسرائيل توقيع صفقات لتزويدها الغاز لدول أخرى، كما أشارت إلى ذلك صحيفة أحرونوت العبرية) [1] .
إن القراءة المتأنية للمشروعات المطروحة من جانب دولة اليهود في فلسطين
المحتلة تجعل المتابع يدرك مدى الخبث اليهودي من ناحية والغفلة العربية من ناحية
أخرى، فقد ذكرت الصحافة الأمريكية أن ممثلي حكومة اليهود في فلسطين المحتلة
أحضروا معهم 218 اقتراحاً لمشاريع اقتصادية، بلغت قيمتها 8، 24 مليون دولار، ومن ضمن هذه المشروعات المقترحة كما ذكرت الصحافة الإسرائيلية مشاريع
قطاعات السياحة التي لها النصيب الأكبر، وبلغ عددها 31 مشروعاً، تتضمن
إقامة: مشروع سياحي على شاطئ البحر الميت، وآخرعلى شاطئ العقبة وآخر
على البحر الأبيض المتوسط تحت اسم ريفييرا البحر الأبيض [2] ، كما أشارت
مصادر صحفية إسرائيلية إلى أن رجال الأعمال الإسرائيليين سيسعون من خلال
أعمال قمة عمان إلى إبرام عقود مع جهات أردنية لتنفيذ سلسلة من المشاريع
الاستثمارية المشتركة، ومن بين هذه المشاريع مشروع إقامة شبكة من مراكز
التسويق في الأردن، وغير ذلك من المشاريع التي تخدم الاقتصاد الإسرائيلي من
حيث إمكانية غزو السوق الكبير في العالم العربي، واستخدام الموارد الطبيعية
والطاقة البشرية لخدمة اليهود من خلال السيطرة المالية والاقتصادية على مختلف
القطاعات الإنتاجية في العالم العربي.
إن قمة عمان الاقتصادية سيكون لها تأثير في جعل العالم العربي فريسة
للهيمنة الأمريكية (النصرانية اليهودية «؛ من خلال تحويل الأردن إلى معبر
لتوسيع هيمنة الاقتصاد الإسرائيلي في المنطقة، وجعل العلاقات المشتركة الأردنية
والإسرائيلية والفلسطينية نواة لتكتل اقتصادي شرق أوسطي جديد، يكون لدولة
اليهود المركز القيادي في عمليات التخطيط التنموي، حيث يتم فرض نمط إنتاجي
محدد على كل دولة عربية ترغب في الانضواء تحت مظلة الشرق الأوسط الجديد
ومجالسه الإقليمية، كما أن من أهداف هذه القمةدعوى إعادة توزيع الثروة العربية
بين العرب وإسرائيل؛ بحيث تحصل إسرائيل على القسم الأكبر من هذه الثروة،
من خلال تقديم المال العربي المودع في البنوك اليهودية العالمية كقروض لمختلف
المشاريع وقيام الشركات اليهودية بها، سواء ما كانت منها منتميةً لدولة اليهود، أو
ما كانت منتسبةً لدول أوروبا وأمريكا، بجانب هذا الهدف فإن من الأهداف الأخرى
التي تسعى إليها هذه القمة؛ تحقيق حلم دولة اليهود الكبرى وهو: تفتيت مؤسسات
العمل العربي المشترك القائمة حالياً، التي مع ضعفها تمثل نوعاً من التكتل العربي
تجاه التكتلات الإقليمية العالمية.
وستكون نتائج هذه القمة سرطان يسري في جسم الأمة العربية ومن ثم
الإسلامية؛ لينتشر فيها الفساد والضعف والتبعية.
والعزاء في قوله تعالى: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]
[الأنفال: 36] . وقوله تعالى: [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ]
[الأنفال: 30] .
__________
(1) نشرة قدس برس التي تصدر من لندن.
(2) الحياة عدد 11940 يوم 31/10/1995م.(95/74)
المسلمون والعالم
الانتخابات الجزائرية
حل.. أم.. تأزيم؟ !
بقلم: د.يوسف الصغير
في غمرة الزفة التي أعدت لإجراء الانتخابات الجزائرية بالرغم من مقاطعة
جل الأحزاب المعترف بها رسمياً لها ... هناك سؤال مهم تنبغي الإجابة عليه ...
لماذا حرص الأمين زروال على إجراء الانتخابات الرئاسية؛ وما هي المناورات
التي حصلت حتى الآن؟ .. إن مما لاشك فيه هو أن آخر شيء يفكر فيه النظام
الجزائري هو معرفة رأي الشعب، أو النزول عند رغبته، فما تعيشه البلاد الآن
هو من آثار رفض اختيار الشعب، بل والتركيز في القمع على من اختارهم
الناس ... فيا عجبي كيف أصبح من كان غير ناضجٍ في اختيار ممثليه ناضجاً في اختيار الرئيس؟ ! .
ومن الواضح أن هذه المناورة يقصد بها حل مشكلة داخل النظام، ولاتمثل أي
تحسن بالنسبة لما يعيشه البلد، بل إن القمع الأمني قد تصاعد بصورة كبيرة بدعوى
تهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات بشفافية!
إن النظام يعاني في تعاطيه مع الوضع الحالي من عقدتين:
الأولى: عقدة عدم الشرعية: فهذا النظام يفتقر إليها؛ فهو نظام انقلابي؛
حينما قام ضباط (الفرانكفونية) في الجيش بانقلابهم عن طريق عزل الرئيس
الشاذلي بن جديد؛ والمشكلة ليست هنا، فأكثر الانقلابات التي يحل فيها طاغية
مكان آخر قد لاتجد من الناس رد فعل إلا الفرح بالتخلص من الطاغية الحالي، مع
ظنهم أن الجديد لايختلف عن سلفه، ولكن المشكلة أن الانقلاب ليس موجهًاً ضد
الحاكم بل ضد اختيار الشعب نفسه، أي إن الانقلاب ضد رغبته التي أبداها؛ ولهذا
فبدلاً من اعتقال الرئيس السابق وأتباعه، ومحاكمتهم، وتنفيذ الأحكام المناسبة بهم، فإن هذه الإجراءات وجهت ضد الناس، فقامت قوات النظام الجديد كما هو
معروف بحملة اعتقالات وتعذيب وإعدامات ضد من يُعْتَقَدُ أن الشعب اختارهم،
ولهذا فقد كانت المواجهة قاسية؛ حيث لم يتركوا للشباب فرصة حتى للتفكير، فهم
إما بين يدي الجلاد، أو في المعتقل، أو في المنزل ينتظرون الاعتقال، أو
معتصمين بالجبال. وإذا كانت جبهة الإنقاذ ترفع شعار إعادة المسار الانتخابي حلاً
للمشكلة من وجهة نظرها، فما هو الشعار الذي يمكن أن يرفعه النظام الحالي؟ !
إنهم لم يجدوا شعاراً لهم إلا من قبيل ادعاء الحفاظ على هيبة الدولة، أو
مكتسبات الشعب! وحماية الدستور، ومما هو معروف أن الذين يحكمون حاليّاً هم
الذين داسوا على هيبة الدولة بعزل رئيس الدولة، وهم الذين لعبوا بالدستور، حيث
إن البلد يحكم بقانون الحصار (الطوارىء) ، أما الشعب المسكين فما هي مكتسباته
التي يريدون الحفاظ عليها، هل هي نسبة البطالة التي تعدت 42%، أم هي شبابه
المثقف الذين ملئت بهم المعتقلات الصحراوية أم....، أم.... .، نعم إنهم يريدون
أن تكون هناك انتخابات معتنى بطبخها حتى يواصل النظام حربه ضد الإسلاميين
رافعاً شعار: حماية اختيار الشعب!
الثانية: عقدة الضعف: فالرئيس زروال كان لواءً متقاعداً، ثم أصبح رئيساً
للدولة عن طريق التعيين من قبل المجلس الأعلى للأمن، أو بصورة أخرى عن
طريق اللواء خالد نزار. وكما هي العادة فهو في البداية يستند إلى من عينوه وينفذ
رغباتهم، ولكنه مع الزمن صدّق أنه رئيس، وبالتالي فهو يحاول أن يستقل عمن
جاؤوا به، ويبحث عن غطاء آخر، فمن بداية رئاسته كان يلحظ في خطابه الدعوة
إلى الحوار والمصالحة، بينما الواقع هو أن وتيرة القمع من قبل النظام كانت ترتفع
بصورة طردية مع خطابه التصالحي، مما جعل الكل يتحدث عنه: أنه محدود
الصلاحيات، وأنه يمثل أحد الأطراف فحسب.
مظاهر تلميع الانتخابات:
لهذا فإن الرئيس يحرص على أن تجرى عملية انتخابات: يتم فيها انتخابه
بأكثرية مطلقة: وبهذا يكسب شيئاً من الشرعية خارجياً، وشيئاً من القوة داخليا أمام
أطراف النظام الأخرى، حينما يكون الرئيس المنتخب وليس المعين.
أما من ناحية عملية الانتخابات الرئاسية التي من الممكن تسميتها عملية إعادة
تسمية زروال، فإنه يلاحظ فيها الحرص الشديد على ضبط نتائجها، وذلك من
خلال الآتي:
1- تهوين الصعوبات العملية مثل الأوضاع الأمنية المتدهورة، وتلف كثير
من القوائم الانتخابية، وحرص جميع أطراف المعارضة على إفشال خطة الحكومة، بل ويصر على قدرته على إجراء انتخابات حرة في هذه الظروف المتفجرة!
2- الحرص على مشاركة بعض الشخصيات لإضفاء شيء من المصداقية؛
إذ بلغ عدد المتقدمين حوالي 40 شخصاً، وقد اغتيل أحدهم ولم يلتفت له أحد،
وقام زروال بمناورة مكشوفة حينما أظهر التردد في ترشيح نفسه إلى آخر لحظة،
مع العلم أن الأحزاب الكبيرة لم تشارك، بل قاطعت هذه الانتخابات، ولهذا فإن
بعض الشخصيات اشترط من أجل أن يرشح نفسه أن يعطيه النظام عدداً من
الأصوات يبيض بها ماء وجهه.
3-كما هي العادة المتبعة في بلاد المسلمين التي تدعي الديمقراطية، فإن كل
حزب حاكم يقوم بتفصيل النظام الانتخابي بما يلائم وضعه، وأحياناً يكون النظام
مفصلا من أجل محاربة أحد الأحزاب، وحيث إنه في الجزائر لايوجد أحزاب
يخشى منها، وترغب في المشاركة، فإن النظام الانتخابي المعدل تم تفصيله من
أجل إبعاد أشخاص بعينهم، ومن التعديلات:
أ- اشتراط الحصول على 75 ألف توقيع من 25 ولاية مع العلم أنه في
الانتخابات البرلمانية السابقة كان يشترط 500 توقيع فقط.
ب- ألا يكون متزوجاً من غير جزائرية من إجل إبعاد بعض الشخصيات التي
لها شعبية مثل الطالب الإبراهيمي حيث إنه متزوج من لبنانية.
4- محاولة الحصول على تزكية للانتخابات من بعض الجهات الخارجية.
ومن أجل ذلك فقد دبت الحياة في الأموات مثل الجامعة العربية التي امتدح
أمينها العام هدوء الأوضاع في الجزائر، وسيطرة النظام، ووعد بإرسال من 40
إلى 50 مندوباً للتحقق من نزاهة الانتخابات!
نعم 40 إلى 50 مندوباً لمراقبة أكثر من ثلاثين ألف لجنة انتخابية وكما يقول
(الشيخ جاب الله) زعيم حزب النهضة! إنهم سيقومون بعملهم من الفنادق ذات
الخمس نجوم، أما الميت الآخر فهو منظمة الوحدة الإفريقية التي هي الأخرى أبدت
استعدادها لوضع تجربتها، أما الأمم المتحدة فلم تقرر بعد مشاركتها. أما فرنسا
فإنها تلمح باعترافها بنتائج الانتخابات، مع إقرارها أنها لن تكون في مستوى
الانتخابات في فرنسا أو بريطانيا. أقول وعلى أي حال فإن انتخابات الجزائر
أفضل شكلاً من انتخابات الدول الديمقراطية الأخرى في العالم العربي؛ فمثلاً في
تونس لايسمح لغير الرئيس بالترشيح ولكن كما حصل فعلا فإن منافس الرئيس
يتعرض للاعتقال، أما في دولة أخرى فإنه يسمح بالمنافسة ولكن لم يجرؤ أحد على
خوض التجربة، وفي بقية الدول فإنه يكتفى بالتنافس على مقعد واحد، والمرشح
الوحيد هو الرئيس. ولهذا نجد أن الصحافة العلمانية تأخذ على النظام الجزائري أنه
موغل في الديمقراطية أكثر مما يجب، حيث يكررون بلا خجل القول بخطورة
التجربة الجزائرية مع نجاح التجارب الأخرى، وبخاصة التونسية والمصرية.
هؤلاء هم المرشحون:
وأخيرًاً أعلن النظام أسماء الفائزين والذين يحق لهم التنافس على منصب
الرئيس وهم:
الأمين زروال الرئيس الحالي.
الشيخ محفوظ نحناح رئيس حركة المجتمع الإسلامي (حماس) .
سعيد سعدي رئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (حزب البربر
الفرنكفوني) .
نور الدين بوكروح رئيس حزب التجديد الجزائري.
أما مرشح السلطة الثاني وهو رضا مالك رئيس الوزراء السابق، والمحسوب
على التيار الاستئصالي، فقد أسقط اسمه على الرغم من احتجاجه بدعوى حصوله
على أكثر من76 ألف صوت، أما المرشحون الثاني والثالث والرابع فإنهم تجاوزوا
سقف ال75 ألف صوت بقليل، والذي يبدو لي أن الرئيس يخاف حتى من
الفزاعات التي وضعها بنفسه، فهو لم يسمح بدخول رضا مالك؛ لأنه يعرف أن له
تأييداً في داخل النظام ولايمكن السماح بمرشحين للنظام؛ لأن هذا يمكن أن يؤدي
إلى انشقاقات وصراعات عنيفة، وثانياً: أنه أعطى لنفسه أكثر من مليون ومئتي
ألف صوت، أي حوالي عشرين ضعف مما أعطى كل واحد من الصور الثلاث،
وهذا الرقم الكبير يدل على حرص الرئيس على ضمان الفوز، وأيضاً يدل على
مقدار مدى نزاهة الانتخابات! ! .
وفي الختام:
لايفوتني أن أنبه إخواني على أن الموقف الفرنسي الذي يثني على النظام،
ويسعى إلى الحيلولة بين المسلمين وإقامة شرع الله في بلادهم لم يتغير، بل إن في
تصريحات الرئيس الفرنسي (شيراك) الأخيرة: أنه لايفرق بين المرشحين الأربعة، وأن المساعدة المعتادة التي تبلغ سنوياً 5 إلى 6 بليون فرنك التي تقدم إلى نظام
الجزائر القائم ستربط بحصول تقدم في المسار الديمقراطي؛ مما يعني الاعتراف
بشرعية الانتخابات وبنتيجتها، وأن فرنسا ستستمر في الدعم ولكن بمسوغ أقوى
وهو دعم التحسن في حال الديمقراطية في الجزائر، واللعبة واضحة؛ فإن تراجع
فرنسا عن لقاء شيراك/ زروال تم بدعوى عدم التأثير على الانتخابات بدعم مرشح
دون آخر؛ وفي الوقت نفسه كان الإلغاء عن طريق صنيعتهم زروال، بطريقة
يرجون فيها أن ترتفع أسهمه الديمقراطية قبل إعلان زروال الانتخابات. إنها
محاولات للتغطية على المأساة التي يعيشها الشعب المسلم في الجزائر الواقع تحت
نير السلطة الحاكمة بأمرها.
وكلمة أخيرة للإخوة في الجزائر: لاتستعجلوا الحكم بأن فرنسا قد غيرت
موقفها، ولكنها قد تكون غيرت تكتيكاتها تحت ضغط مايجري داخل فرنسا،
وخوفاً من تفاقم الوضع بين الفرنسيين والجالية الجزائرية هناك، حيث إن التمييز
الذي يتصاعد الآن، يؤدي إلى بروز تيار مؤيد لتحرير الجزائر مما تبقى من النفوذ
الفرنسي الذي يحرك الدمى في مسرح الوضع الجزائري من وراء الكواليس.
لك الله يا جزائر المليون شهيد، وفك الله أسرك من أعدائك أعداء دينك.(95/78)
المسلمون والعالم
الأمم المتحدة.. والأمم غير المتحدة! !
(1)
بقلم: عبد العزيز كامل
جاء في ديباجة ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي تلخص أبرز مبادئها وأهدافها:
«نحن شعوب الأمم المتحدة قد قطعنا على أنفسنا عهداً أن نجنب الأجيال القادمة
ويلات الحرب، وأن نعمل على إيجاد تعاون اقتصادي واجتماعي بين دول العالم،
بأسلوب يرتفع بمستويات الحياة الكريمة للجميع، ويحفظ السلم للجميع، ويفضّ
المنازعات بالوسائل السلمية» .
وبعد خمسين عاماً، أين هي الأمم المتحدة من هذا العهد الذي قطعته على
نفسها؟ وأين الدول الكبرى التي شكلت هذه المنظمة؛ لتقود بها العالم بعد انتصارها
في الحرب العالمية الثانية، التي كبدت البشرية أكثر من عشرين مليونًاً من القتلى؟
إنه بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية، وتحديداً من عام 1945م إلى 1989م
نشبت 138حرباً نتج عنها خسائر بشرية قدرت بنحو 23 مليون نسمة، واستهلكت
في الفترة من سنة 1970م وحتى 1989م أسلحة تقليدية قدرت بنحو 388 مليار
دولار، والأمم المتحدة تقف عاجزة أحياناً ومتعاجزة أحياناً أخرى في مواجهة
الخراب الدولي، الذي استخدم فيه الفيتو نحو 79 مرة في مجلس الأمن.
الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية صاغت بنود ونظم المنظمة
الدولية لكي تحفظ بها مكاسبها التي خرجت بها من الحرب، حيث قَسَمَتْه إلى
مناطق نفوذ، وإقطاعيات احتكار واستغلال، أطلق عليه أولاً (الاستعمار) ، ثم تغير
الاسم إلى (الاستقلال) .
الدول التي سلمت نفسها بنفسها زمام ولاية أمر العالم، وأعطت لنفسها حق
الاعتراض والنقض لأي قرار وأي إرادة للشعوب منفردة أو مجتمعة، هذه الدول
وعدت أيضاً في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة برفع مستويات الحياة الكريمة للجميع،
فماذا عن هذا البند بعد خمسين عاماً من إنشاء هيئة الأمم المتحدة؟
إن التقارير تشير إلى أن عدد الفقراء في الدول النامية قد زاد في العشرين
عاماً الماضية بنسبة40%، وذلك يعد مؤشراً على فشل معظم برامج الإصلاحات
والمساعدات التي تبنتها هيئة الأمم المتحدة من خلال أجهزتها الاقتصادية المحكومة
بتوجهات الدولة الغنية، ويشير تقرير الأمم المتحدة نفسها: أن أكثر من نصف
سكان 114 دولة نامية يبلغ عددهم 4مليارات نسمة يعيشون في مناطق فقيرة، وأن
ملياراً منهم يعيشون تحت خط الفقر، وأن مابين 15 20 مليون نسمة يموتون كل
عام بسبب المجاعات وسوء التغذية.
إن هذه الأمم الضعيفة والفقيرة لم توضع في هذا المأزق، لأن هذا قدرها
فحسب، أو لأن هذه مقدراتها وكفى، ولكن لأن هناك أمم أخرى قوية وغنية تريد
لها أن تظل هكذا في الفقر والضعف، إضافة إلى التخلف والتفرق؛ لكي يظلّ
القوي قوياً وغنياً، ويزداد غنىً وقوة.
إن الأمم القوية (المتحدة) قد رسمت فيما يبدو خطوطاً عريضة لمناطق نفوذها
التقريبية، وتركت بقية الأمم الضعيفة لتلقى مصيرها حسب نظرية (البقاء للأصلح) ، لقد عبّر (أمين) الأمم المتحدة عن هذا المعنى أكثر من مرة في اعتراف صريح،
وقال في إحدى رحلاته إلى إفريقيا: «إن العالم المتطور انسحب إلى مواقعه
مستكيناً إلى شعور بالقرف، تاركاً بقية دول العالم النامي تواجه قدرها» .
وكثيراً ماشكا إعياء الدول المانحة، وتبرمها بالنفقات على الدول الفقيرة!
ولكن هذه الشكوى تصاغ في أحيان أخرى على لسان بطرس بمعنىً مناقض، ففي
مقابلة بمكتبة في الدور الثامن والثلاثين بمبنى الأمم المتحدة، قال: إن الأمم المتحدة
تستدين الأموال من الدول الفقيرة؛ لأن الدول الغنية لاتدفع حصصها، وأضاف أنه
حاول جاهداً الحصول على مساعدات ذات أمد قصير مثل: إصدار صكوك التأمين
دون طائل!
أين إذن تذهب ثروات الأرض؟ إن عدد الدول التي تعاني من أزمة الديون
في العالم يبلغ نحو 123دولة، من ضمن 180 دولة عضو في الأمم المتحدة،
ويتعدى مجمل الديون الخارجية لتلك الدول المدينة نحو 1500 مليار دولار في سنة
1994م.
وتتهم الدول المدينة المؤسسات المالية التابعة للأمم المتحدة بالتسبب في تكبيل
اقتصادها بفوائد الديون العالية.
فماذا تفعل الأمم الضعيفة والفقيرة، مع تلك الأمم الغنية و (المتحدة) ؟ ! إن
الأمم الضعيفة تشكل أربعة أخماس سكان الأرض تقريباً، ولكنها تستهلك خمس
الاستهلاك العالمي تقريباً، أما خمس سكان العالم من دول الشمال، فإنه يحوز
أربعة أخماس الإنتاج والاستهلاك العالمي! ولتفرح الأمم الضعيفة بعد ذلك بوهم
(الاستقلال) تحت راية (الأمم المتحدة) ولِتَقُمّ شعوبها الموائد على بساطها الأزرق،
وسط عزف الأناشيد القومية الحماسية وخفق البيارق الملونة، والاستعراضات
العسكرية.
صحيح أن هناك بعض النجاحات للأمم المتحدة، حققتها على الصعيد الدولي
لكن أكثرها يصب في المصلحة المباشرة للدول الكبرى والقوية والغنية، وهناك
بعض نجاحات في العالم النامي، من قبيل: إجراء انتخابات ديمقراطية في
موزمبيق، أو إرساء قواعد مرحلة انتقالية في ناميبيا، أو إجراء عملية بناء لمجتمع
مدني سياسي في السلفادور، أو تجميد الصراع بين اليونان وتركيا، أو إعادة بناء
كمبوديا، أو إنهاء الحرب الأهلية في أنجولا، أو وقف انتشار النزاع في رواندا ...
إلخ المشكلات التي كان ينبغي التخلص منها؛ لأنها تسبب نوعاً من الصراع
المؤرق إعلامياً لمشاعر المنظمة الدولية.
إن هناك حقيقة كبيرة أبرزتها الأعوام الخمسون الماضية من عمر المنظمة
الدولية وهي: أن هناك (عالم حر) يتحكم ويستعبد عالماً (غيره) ، وهناك (أمم
متحدة) تتحكم في مصائر أمم (غير متحدة) !
إن العالم الحر يتحد، في صيغ كثيرة من صيغ الاتحاد السياسي أو
الاقتصادي أو العسكري، لأن الاتحاد يزيده قوة إلى قوته، بينما على العالم غير
الحر أن يظل في تفرق واختلاف وتنازع حتى يظل ضعيفاً، بل ليزداد ضعفاً على
مرّ الأيام..
العالم الحر.. يتفرغ للتقدم والبناء والعمران ورفاهية شعوبه، بينما على
العالم غير الحر أن ينهمك في حل المشكلات والأزمات والعقبات السياسية أو
الاقتصادية أو العسكرية أو الحدودية التي تلقى إليه، أو يلقاها في حين.
إن على العالم الحر أن ينعم بالحرية والديمقراطية، بينما على العالم غير
الحر أن يتعثر دائماً في شباك الديكتاتورية والقمع والتسلط من الأنظمة المستعبدة
عادة للعالم الحر.
هذا هو الواقع الذي انحسر عنه طوفان الحرب العالمية الثانية. وعلى الأمم
غير المتحدة أو النائمة عفواً النامية أن تتنازل دائماً وعن رضاً عن جُل ثرواتها
ومقدراتها إن وجدت مقابل ثمن بخس دولارات معدودة.
نعم.. إنه الواقع الذي انحسر عنه طوفان الحرب العالمية الثانية، التي ولدت
هيئة الأمم المتحدة، فهي نتيجة من نتائج الحرب التي انتهت واقعياً بانتصار
الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى؛ حيث كان العقل الأمريكي الاحتكاري
منهمكاً في ترتيب أوضاع العالم لمرحلة مابعد الحرب، ولم تكن هيئة الأمم المتحدة
إلا واحدة من ترتيباته الكبرى، كانت الحرب في حقيقتها صراعاً مسلحاً شاملاً بين
أطراف رأس المال الدولي، وكانت أمم المستعمرات التي تشكل الأكثرية الساحقة
من سكان العالم متعطشة للتحرر من جيوش الاستعمار القديم، وقد رأى أقطاب
(العالم الحر) وعلى رأسهم (أمريكا) في ذلك الاندفاع الأممي نحو الاستقلال والتحرر
فرصة مناسبة لتعميم أسلوبها الجديد في الاستعمار الحديث القائم على النهب والسلب
والاستعباد، ليس بواسطة الجيوش والاحتلال المباشر، ولكن وعلى الطريقة
اليهودية بواسطة المصارف والقروض والفوائد، وبواسطة المستشارين، وبواسطة
الاستخبارات وأيضاً بواسطة القوى المحلية العسكرية أو المدنية في البلدان
المستهدفة ذاتها.. كانت للولايات المتحدة مصلحة في كنس المستعمرين الأوروبيين
من المستعمرات، لأنها تعيق انتشار أسلوبها الجديد الذي يقوم على إيهام
المستعمرات البائسة أنها مستقلة.
ولا بأس بعد ذلك من تنظيم العلاقات بين أطراف رأس المال الدولي
المنتصرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما تفسره لنا حكاية حق النقض
(الفيتو) التي تتميز بها حكومات الاحتكارات الدولية الرئيسية أما الدول الأخرى أو
الحكومات الأخرى في الأمم غير المتحدة، فهي محكومة بعلاقات دولية ظالمة
ومحكمة، حيث لاتستطيع تغيير أوضاعها البائسة إلا برضاً من المنظومة الدولية
الحاكمة المتحكمة.
فهناك خطوط ممنوع عليها تجاوزها، وإلا وقعت تحت طائلة أقسى العقوبات، خطوط سياسية واقتصادية وجغرافية وتقنية بل.. وثقافية، خطوط تتحكم في
جميع مكونات حياتها، ومع هذا أعطوها حق العضوية في هيئة (الأمم المتحدة) ؛
في حين أن هذه العضوية مجرد (هيئة) لأمم هي في حقيقتها أمم مستذلة وليست
مستقلة لأنها غير متحدة.
والمشكلة الكبرى: أن الأغلبية العظمى من الأمم (غير المتحدة) لايشكلها إلا
العالم النامي، الذي يضم في عضويته شبه الدائمة أقطار العالم الإسلامي! والذين
يقع العرب منهم موقع القلب في الجسد في أدق مواضع العالم حساسية، في حوض
البحر الأبيض المتوسط.
فالعرب كتلة بشرية ضخمة، تفوق في ضخامتها وفي تجانسها جميع الكتل
البشرية الأخرى في هذا الحوض، بما في ذلك الإنجيليون البروستانت الذين
يحكمون الولايات المتحدة فعلياً، والذين لايتجاوز تعدادهم ثمانين مليوناً، والعرب
يفوقون تعداد الروس الذين لايتجاوزن مئة وعشرين مليوناً، هؤلاء العرب الذين
سيصل تعدادهم إلى نصف مليار نسمة خلال العقدين القادمين إن شاء الله وسط أمة
من المسلمين تبلغ ربع سكان العالم! !
ماذا فعلت (الأمم المتحدة) الغربية مع الأمم (غير المتحدة) خاصة العربية منها
والإسلامية؟
إن لهذه المسألة تفصيلات وتفريعات.. ولهذا فإن للحديث بقية.. والله
المستعان.(95/86)
نص شعري
يقظة الانحدار
شعر:مشبب بن أحمد نبت
رِحْلةُ العُمْرِ تَرَدّ وشَجَنْ ... هَانَتِ النفْسُ وَمَنْ يَرضى يُهَنْ
تَرْسُم الأَيّامُ مِنّي لَوْحَةً ... يسْألُ التّاريخُ ما هذي؟ لمِنْ؟
خُطِفَتْ عَيْني وَسَمْعِي مُقْفَلٌ ... وَلسَاني شُلّ عَنذِكّْ رِ الوَطنْ
ليس من حُسْنٍ ولكن مُجْبَرُ ... أنْ أرَى كُلّ قَبِيحٍ لي حَسَنْ
يَدخلُ المُجْرِمُ بيتي ضَاحكاً ... أفقدتُ الوعي أم عقليَ جُن؟
ثُرتُ في لحْظةِ حِرْمَاني وَفي ... لمحةِ الطّرِفِ أُغَنّي ألفَ فَنْ
كُنت جسماً مِلء كفيّه غِنَى ... مُزّقتْ أشلاؤهُ بين المحنْ
مَنْ يَرى حَالي وتَاريخي يَرى ... يَمَنِي في الشام شَامِي في اليَمَنْ
دَوّختني مُعصِراتُ العَصْر لَمْ ... أبْتَني سَهْلاَ ولمْ أطوي حَزَنْ
زَمَنِي قَلّبَ في قَلْبي الأسَى ... والمُنَى تَبْرُقُ لي وسْطَ الزّمَنْ
آهِ مِنْ حَاليِ وَمِنْ آهٍ ألا ... تُشرقُ الشمّسُ فَلَيْلي مَا سَكَنْ
كَيْفَ تُبْنى مِن عِظَامي قَلعَةٌ ... كُلّ مَا أَمْلِكُ قَبْراً وَكَفَنْ
صَفْحةُ الذّلّ بَدَتْ في زمنٍ ... بيعَ فيه المجدُ من دون ثمن
وَانبرى صوْتٌ لَهُ رَجْعُ السّما ... أيْقَظَ الغَافيْ ونَادى بالسّنَنْ
طَوَتِ الأيامُ أياماً بهَا ... صَفْعَةُ التأريخ فِي وَجْه العَفَنْ
تَمْتَماتُ الدّهْرِ في أعْطَافِهِ ... ثَوْرَةُ الحَقّ إذا مَا الليّل جَنْ
زُمْرَةٌ مَا أطْرقَتْ لَهْواً وَمَا ... غَرّد القُمْري لَها لَحناً وَرَنْ(95/92)
في دائرة الضوء
فقه الصحابة (رضي الله عنهم)
في الرد على المخالف
بقلم:عبد العزيز آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا
محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فالرد على المخالف والذب عن دين الله (تعالى) من أفضل الجهاد في
سبيل الله، ففي هذا الجهاد إظهار الحق ودحض المفتريات وكشف الشبهات، كما
أن فيه النصح للمسلمين والإشفاق عليهم.
ولما قيل للإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف
أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه،
وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل [1] .
وقال يحيى بن يحيى النيسابوري (رحمه الله) : الذبّ عن السنة أفضل من
الجهاد في سبيل الله « [2] .
ولما كان الصحابة (رضي الله عنهم) أعمق هذه الأمة علماً، وأكمل معرفة
بالخير والشر، وأتم الناس فقهاً لمراتب الأعمال الصالحة، فلقد كانت لهم الجهود
المباركة والمساعي المحمودة في مجاهدة المبتدعة والدفاع عن السنة، يقول شيخ
الإسلام ابن تيمية:» كان الصحابة (رضي الله عنهم) أعظم إيماناً وجهاداً ممن
بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر؛ لما
علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي «إلى أن قال:» وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور، ثم بين الله له الحق
وتاب عليه توبةً نصوحاً، ورزقه الجهاد في سبيل الله، فقد يكون بيانه لحالهم،
وهجره لمساويهم وجهاده لهم أعظم من غيره، قال نعيم بن حماد الخزاعي وكان
شديداً على الجهمية: «أنا شديد عليهم؛ لأني كنت منهم..» [3] .
ومن جهودهم الظاهرة في هذا المجال ما فعله الفاروق عمر (رضي الله عنه)
تجاه صبيغ لمّا خاض في المتشابه حيث ضربه ونفاه.. وحرّق علي (رضي الله
عنه) الغلاة القائلين بإلهيته، وجلد من فضّله على الشيخين أبي بكر وعمر (رضي
الله عنهما) حد المفتري، وردّ عبد الله بن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله
(رضي الله عنهم) على الخوارج والقدرية.. كما حذر عمومُ الصحابة من الابتداع
والإحداث في دين الله (تعالى) .
ومن خلال نظرات يسيرة في تلك الجهود نلمس جملة أمور، منها:
تمام الاتباع وكمال التأسي برسول الله في الردّ على المخالف، ودليل ذلك
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه «» أن رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- خرج ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، فكأنما تفقأ في وجهه حب
الرمان من الغضب، فقال: مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من
كان قبلكم، يقول ابن عمرو: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- لم أشهده بما غبطت بذلك المجلس أني لم أشهده « [4] . تأسى عبد الله
بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فلما بلغه حال أولئك القدرية النفاة، غضب أشد الغضب، حتى قال الراوي:
حتى وددت أني لم أكن سألته [5] .
ولما أُخبر ابن عباس (رضي الله عنهما) عن رجل يكذب بالقدر، قال:
دلوني عليه وهو يومئذ أعمى فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال:» والذي نفسي بيده
لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدُقنّها « [6] .
أن الصحابة رضي الله عنهم يَجْمَعُون في ردهم على المخالف بين العلم بالحق
والعمل به، وبين الرحمة بالخلق والإشفاق عليهم، والرد على المخالف لايكون
عملاً صالحًاً مقبولاً إلا إذا أُريد به بيان الحق وإظهاره، ورحمة الخلق وهدايتهم.
فهذا أبو أمامة الباهلي (رضي الله عنه) يقول الحق ويرحم الخلق: فإنه لما
رأي سبعين رأساً من الخوارج وقد جزت تلك الرؤوس ونصبت على درج دمشق،
فقال (رضي الله عنه) إعلاماً بالحق: سبحان الله، ما يصنع الشيطان ببني آدم!
كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء.
ثم قال أبو أمامة لصاحبه: إنك بأرض هم بها كثير، فأعاذك الله منهم، ثم
بكى قائلا: بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام [7] .
يتجلى من خلال ردّ الصحابة على المخالف وحدة العقيدة، فقولهم في هذا
الباب قول واحد لفظاً ومعنى، فلا ترى بينهم اختلافاً، وخير مثال على ذلك مارواه
ابن الديلمي قائلا: أتيت أُبَيّ بن كعب، فقلت: أبا المنذر، فإنه وقع في قلبي شيء
من هذا القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه عني، فقال: إن الله (عز وجل) لو
عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته
خيراً لهم من أعمالهم، لوكان لك مثل جبل أحد ذهباً أنفقته في سبيل الله، ما قبله
الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم
يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولاعليك أن تأتي عبد الله
بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) فسألته، فقال مثل
ذلك، ثم قال ابن مسعود: ولا عليك أن تأتي أخي حذيفة بن اليمان فتسأله، فأتيت
حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) فسألته، فقال مثل ذلك، قال: فَأْتِ زيد بن ثابت، فأتيت زيد بن ثابت، فقال مثل ذلك [8] .
يظهر في ردود الصحابة (رضي الله عنهم) على المخالفين عمق علم الصحابة، فيقول الصحابي الكلمة أو الكلمتين التي تتضمن أنواعاً من الفوائد والعلوم، وترى
في ردهم شمولية واعتدالاً في الرد فعندما يقول الفاروق عمر (رضي الله عنه) عن
النصارى:» أهينوهم، ولاتظلموهم؛ فلقد سبوا الله مسبة ما سّبه إياها أحد من
البشر « [9] .
فقول عمر:» أهينوهم «: من مقتضى البراءة من الكافرين، كما قال
(تعالى) : [يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء] [المائدة: 51]
فحق الكفار العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده، وأن نُهِينَهُم حيث أهانهم الله
تعالى، ومن يهن الله فماله من مكرم، ولذا قال عمر (رضي الله عنه) لا أكرمهم إذ
أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدْنِيهِم إذ أقصاهم الله [10] .
وأما قول عمر: ولا تظلموهم، فهذا مقتضى العدل والإقساط معهم، كما قال
(سبحانه) : [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ
أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] [الممتحنة: 8] .
ففرّق عمر (رضي الله عنه) بين حسن المعاملة مع الكفار وبغض الكفار
والبراءة منهم، فلا يصح الخلط بين الأمرين، فَيُجْعَلََ العَدْلُ والإقساط مع الكفار
محبة وموالاة للكفار، كما لا يصح أن يُجْعَلَ بغضهم وعداوتهم ظلماً وتعدياً [11] .
يتبين في ردود الصحابة على المخالفين: حدة أذهانهم ودقة أفهامهم، ومما
يوضح ذلك أن عطاء بن يسار لمّا سأل أبا سعيد الخدري (رضي الله عنه) عن
الحرورية، فقال عطاء: هل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرهم،
فقال أبو سعيد: لا أدري مَنْ الحرورية، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول: يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها قوم تحقرون صلاتكم مع
صلاتهم ... الحديث [12] .
» قال المازري: هذا من أول الدلائل على سعة علم الصحابة (رضي الله
عنهم) ودقيق نظرهم، وتحريرهم الألفاظ، وفرقهم بين مدلولاتها الخفية؛ لأن لفظة
«مِنْ» تقتضي كونهم من الأمة لا كفاراً، بخلاف «في..» [13] .
يقرر الصحابة (رضي الله عنهم) في ردهم على المخالفين والمبتدعين صلة
هذه البدع بالملل والديانات السابقة، مما يدل على سعة علمهم، وغزارة معرفتهم،
وبُعْد أُفُقِهم، ومن ذلك: مقالة ابن عباس (رضي الله عنهما) : «اتقوا هذا الإرجاء، فإنه شعبة من النصرانية» [14] . ولاغرابة في ارتباط تلك البدع بالملل الأخرى، فإن الأفكار لا تموت، ولكل قوم وارث، وأما توجيه هذا الارتباط بين النصرانية
والإرجاء، الذي أشارت إليه مقالة ابن عباس فيبدو والله أعلم أن من القواسم
المشتركة بين الطائفتين أن النصارى زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، كما ادعى
المرجئة لأنفسهم وكذا جميع الفساق والعصاة أنهم مؤمنون كاملو الإيمان، كما يغلب
على النصارى التفريط والتقصير، فلايرون شيئاً حراماً ولانجساً، ويأكلون
الخبائث [15] ، وشابههم المرجئة في هذا التفريط فضيعوا الواجبات وانتهكوا
المحرمات.
وقد ورث سعيد بن جبير (رحمه الله) هذا العمق وسعة الأفق من شيخه ابن
عباس رضي الله عنهما، فقال سعيد: «المرجئة مثل الصابئة..» [16] .
وقد حفلت مرويات الصحابة (رضي الله عنهم) وسيرهم بأنواع من الحوارات
الهادفة والردود القوية تجاه المخالفين، نكتفي بمثال واحد مع التعليق عليه:
عن عمرو بن سلمة الهمداني، قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود
(رضي الله عنه) قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو
موسى الأشعري، فقال: أَخَرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا
حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن،
إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو، قال: إن عشت ستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون
الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مئة، فيكبرون مئة، فيقول: هللوا مئة، فيهللون مئة، ويقول: سبحوا مئة، فيسبحون مئة، قال:
فماذا قلت لهم؟ ، قال: ما قلت لهم شيئاً انتظاراً لرأيك، قال: أفلا تأمرهم أن
يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلْقة من تلك الحِلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نَعُدّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا
سيئاتكم؛ فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكم يا أمة محمد! ماأسرع
هلكتَكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تكسر،
والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟ ! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن
يصيبه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا: أن قوماً يقرؤون القرآن
لايجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وأيم الله لعل
أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أولئك الِحلق يطاعوننا يوم النهروان مع
الخوارج [17] .
لقد تضمن هذا الأثر فوائد عديدة ودروساً مفيدة، فنذكر بعضاً
منها [18] :
1- ضرورة الرجوع إلى فهم الصحابة (رضي الله عنهم) للنصوص الشرعية، والاستعانة بتفسير الصحابة للسنة النبوية.
فالصحابة (رضي الله عنهم) شهدوا تنزيل القرآن، وعرفوا خاصّه وعامّه،
وهم أعلم الأمة بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته ومقاصده [19] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومعلوم أن كل من سلك إلى الله (عز وجل)
علماً وعملاً بطريق ليست مشروعة موافقة للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة
وأئمتها، فلا بد أن يقع في بدعة قولية أو عملية، فإن السائر إذا سار على غير
الطريق المَهْيَع فلا بد أن يسلك بنيات الطريق» [20] .
2- أن الإعراض عن فقه الصحابة لنصوص الوحيين من أسباب الزيغ
والضلال، وهذا ما أشار إليه ابن مسعود (رضي الله عنه) بقوله: «والذي نفسي
بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أَوَ مفتتحو باب ضلالة؟ !» ،
وصدق ابن مسعود (رضي الله عنه) ، وصحت فراسته، فقد آل الأمر بهؤلاء: إلى
أن سلكوا طريق الخوارج الضالين، قال (تعالى) : [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ
أَعْمَالاً * الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً]
[الكهف: 103، 104] .
3- أن البدع والانحرافات تبدأ شيئاً فشيئاً،، فأول ما تكون شبراً ثم تصير
ذراعاً، ثم تؤول إلى أميال وفراسخ، فبداية هؤلاء: الإعراض عن سنة التسبيح
بالأنامل، والاشتغال بالذكر بطريقة مبتدعة.. إلى أن انتهى بهم الأمر إلى الخروج
عن جماعة المسلمين وقتال أهل الإسلام.
وقد أشار الإمام مجاهد (رحمه الله) إلى تدرج البدع، وأنها طريق إلى الشرك، فقال: «يبدؤون جهمية، ثم يكونون قدرية، ثم يصيرون مجوساً [21] » .
ويقول ابن تيمية في هذا المقام:
«ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً،
ثم يصير مُفَضّلاً، ثم يصير سبّاباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً
معطّلا [22] » .
4- أن النية الحسنة وإرادة الخير لاتكفي وحدها، كما قال ابن مسعود: «
وكم من مريد للخير لن يصيبه» ، فيتعين الاتباع للسنة وموافقة الصواب، فليس
العبرة بالإكثار من العبادة دون اتباع وسنة، ولذا قال ابن مسعود أيضاً: «اقتصاد
في سنة خير من اجتهاد في بدعة» [23] .
5- أن ثمة تلازم بين مخالفة الحق ووقوع العداوة والبغضاء، فإن الخوارج
وكذا أهل الأهواء عموماً لما أعرضوا عن السنة وفقه الصحابة فهموا القرآن حسب
أهوائهم وقد أدى بهم ذلك إلى أن جعلوا القرآن عضين، فآمنوا ببعض الكتاب،
وكفروا ببعضه، مما أوجب العداوة والبغضاء فيما بينهم، وفي المقابل؛ فإنه لمّا
آمن الصحابة ومن تبعهم بإحسان بجميع النصوص الشرعية: أورثهم ذلك اجتماعاً
واتفاقاً؛ قال (تعالى) : [وَمِنَ الَذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ] [المائدة: 14] .
يقول ابن تيمية في بيان معنى هذه الآية: «فأخبر أن نسيانهم حظًّاً مما ذكروا
به وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به كان سبباً لإغراء العداوة والبغضاء بينهم،
وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها
وكثير من فروعه» [24] .
وفي ختام هذه المقالة: أسأل الله (تعالى) أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن
يحشرنا في زمرة النبيين والصديقين، وبالله التوفيق.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج28 ص231.
(2) سير أعلام النبلاء، ج10 ص 518.
(3) مجموع الفتاوى ج10 ص 301: 303 باختصار، وانظر الفوائد لابن القيم ص101.
(4) أخرجه أحمد ج2ص178، وابن ماجه 85، وانظر أصول اللالكائي ج 3 ص 627، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم، ج1 ص 138: 141.
(5) أصول اللالكائي، ج3 ص588.
(6) أصول اللالكائي ج3 ص625، وانظر ج3 ص669، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد ج2 ص416.
(7) انظر مرويات هذه القصة في: الفتح الرباني للساعاتي، ج23 ص 160، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد ج2 ص644، وانظر: الاعتصام للشاطبي ج71: 73 ص1، والآداب الشرعية لابن مفلح ج2 ص24.
(8) أخرجه، أحمد، ج5 ص182، وأبو داود ح4699، وانظر: السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، ج2 ص388، وأصول اللالكائي ج3 ص612: 673.
(9) انظر إغاثة اللهفان لابن القيم ت محمد عفيفي ج2 ص 398.
(10) انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم ت: صبحي الصالح، ج 1 ص211.
(11) انظر الفرق بين الإحسان لأهل الذمة والعداوة لهم في كتاب الفروق للقرافي، ج3 ص 1، 15
(12) أخرجه مسلم.
(13) صحيح مسلم بالنووي، ج7 ص 164.
(14) أخرجه اللالكائي، ج3 ص631.
(15) انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج1 ص31، ج2 ص 52.
(16) أخرجه: عبد الله بن الإمام أحمد في السنة، ج1 ص324، وابن بطة في الإبانة الكبرى، ج2 ص888.
(17) أخرجه الدارمي ج1ص79، وانظر الصحيحة للألباني ح 2005.
(18) أورد الكاتب أحمد سلام بعض المعالم المهمة والمستفادة من هذا الأثر في كتابه ما أنا عليه وأصحابي ص 47 51.
(19) انظر مجموع الفتاوى، ج4 ص 158، ج 7 ص390 0.
(20) شرح الأصفهانية، ص 129.
(21) أخرجه اللالكائي في أصول أهل السنة، ج3 ص645.
(22) مجموع الفتاوى، ج4 ص428.
(23) أخرجه اللالكائي في أصول أهل السنة، ج1 ص55.
(24) مجموع الفتاوى، ج1 ص 14.(95/94)
مذكرات قارئ
كتاب الوسادة
بقلم:محمد بن حامد الأحمري
قرأت في مقالة لطه حسين: أنه كان يتخذ كتاباً سهلاً يسيراً، يقرأ فيه قبيل
النوم على طريقة المثقفين فيما يسمونه كتاب الوسادة، وأعجبتني الفكرة، فتناولت
كتاباً قبيل النوم بقصد أن يجلب لي النوم، وبعد ليلة أو ليلتين ثبت لي جدوى الفكرة
وسرعة تَأَتّي النوم، وما هي سوى بضعة أيام حتى وجدتني أسقط نائماً بعد أسطر
من قراءة أي كتاب في أي وقت، قبل النوم أو بعده، مساءً أو صباحاً، وأصبح
الكتاب عقاراً منوماً أقوى من أي منوّم، وتذكرت صديقي الذي طالما كنت أسخر
من تنويم الأسطر له، فقد كان تلازم الكتب والنوم عنده مثار النكته والسخرية،
وكان خفيف الظل خلوقاً مبتلى بالنوم أول ماتقع عيناه على الأسطر، وقد كان
بعض زملائه (العيارين) يرقبه عندما يضع بين يديه «فتح القدير» بطبعته
الضخمة الصفراء، وماهي إلا دقائق حتى يميل المجلد الضخم، ويسقط أخونا فوقه
نائماً، ويعود زميله للحديث عن المشهد مساءً.
استحضرت ذلك المشهد مشهد زميلي ساقطاً فوق الكتب (وكان ينجح إذا نجح
على حافة النجاح) وقد عرفته من خير الناس خلقاً وديًنا ورجولة (وفاءً بحقه قلت
هذا) وهو خير مما قلت عنه، وأعلم أنه لن يقرأ هذه الأسطر فهي في وسط
المقال! ! ، وصاحبي لو حاول القراءة فما أراه يصل إلى هنا إلا وقد نام، فلا أظنه يقرأ مدحي له.
فتملكني الخوف من هذه الطريقة الفاشلة في القراءة، وشككت في فكرة كتاب
الوسادة حين أصبح كل كتاب كتاباً للوسادة، وعزمت على ترك رأي طه حسين
آسفاً له أنه لم يناسبني، ومرت أيام فإذا بي أجد أن مارون عبود كان يجعل القرآن
كما زعم كتاباً للوسادة يقرأه قبيل النوم رغم مارونيته وقد زعموا حفظه له، وقد
وجدت من كتبه العديدة حسن استحضاره للآيات، فتيّقنت أنه كان حسن الصلة به،
والله الهادي، لكني لا أعلم أن (أبا محمد) ! ! قد أسلم، وقد كان أولى به هذا، وأن
يتبع سابقه أحمد فارس لشدياق، وكان معجباً به وقد كتب عنه كتاباً.
ومر زمن حتى وجدتني أقرأ للإمام الغزالي نصيحته لطالب العلم بالجد
والعزيمة في القراءة، وألا يستسلم للنوم حتى يقهره ولايجد منه ملجأً، وفرحت
بقول أبى حامد؛ لأنه ناسب هوى في نفسي، وقد كنا جرينا على الاستسلام لكلام
الآخرين وعدم معرفة مناسبة أقوالهم لأحوالنا، وهذا داء دوي للمثقفين في كل مكان
وعصر، إذ هم قطعان هائمة تلحق مقدمها وهو منها كاتب أوشاعر أو مفكر أو
روائي تهيم وراءه بلا عقل، فإياك إياك وأخلاق المثقفين هذه، فإن عقولهم أحياناً
أصغر جدّاً من ثقافتهم، ومعارفهم وقراءاتهم الواسعة هشيم حَصَادهُ للآخرين، أو هم
في سبيل حصاده، أو تلقى فيه شرارة وعي تلتهمه فتتغذى به؛ لأن الثقافة غالباً
مادة لشيء آخر أو هي لاتثمر في فراغ، فلا بد لها من سياق يحتويها أو عمل
تسعى له أو قضية تخدمها، فهي وقود لشيء غيرها، ولا تظهر دون خدمة هدف،
ثم سهرت ليالي مع أبي حامد وغيره كانت أنفع لي من كتاب الوسادة، ومن بعد:
تذكرت [خذ الكتاب بقوة] ، وإنه وإن كان الكتاب في الآية غير الكتاب هنا،
ولكن مبدأ الجد والفاعلية والتجاوب والأخذ والعطاء مع النص هو ماكُتب له الكتاب، وكل كتاب يكتبه الجادون من الناس، والذي غاب عني وقتها أنني كنت قبل
العشرين وكان طه قد نيف على السبعين، وكان لايطيق النوم ولايجد له سبيلاً،
فيتحايل عليه بالقراءة المنومة، وكسل الصبا ونومه كان يدعوني من كل باب للنوم، وشتان شتان بين الحالين، وقراءة الشباب غير قراءة الشيوخ.
ذاك ما كان من حديث كتاب الوسادة، وكان الأولى لي: (خذ الكتاب بقوة)
وخذ ما يناسبك من الحالين أو غيرهما، ولا تلتزم قولي؛ فإن الخلاصة أن لكل
قارىء طريقه، ولي عودة إلى قوة القراءة.(95/102)
ثمرات المنتدى
الأنشطة الثقافية الصيفية
للمنتدى الإسلامي
يحرص المنتدى الإسلامي على ترشيد العمل الإسلامي وتنشيطه، وذلك بنشر
العلم الشرعي الصحيح والتربية الإسلامية المتوازنة في أوساط المسلمين عموماً،
وفي أوساط الدعاة وطلبة العلم خصوصاً، وقد كان صيف هذا العام ولله الحمد
والمنة حافلاً بالعديد من الأنشطة الدعوية والبرامج التربوية، وسوف نعرض عدداً
منها في هذا التقرير المختصر.
أولاً: الملتقيات الدعوية
1- الملتقى الدعوي التاسع عشر في بريطانيا:
عقد الملتقى في مدينة «لستر» في يومي التاسع والعاشر من شهر ربيع
الأول من عام 1416هـ، وكان عنوان الملتقى «الابتلاء.. طريق التمكين» ،
ومن أبرز المحاضرات التي ألقيت:
(أ) دور التربية في التمكين.
(ب) المسلمون في الغرب وسنة الابتلاء.
(ج) من صور الابتلاء في حياة الدعاة.
(د) تمكين الدين بين الجموح والجحود.
(هـ) المرأة وابتلاءات الدعوة.
2- الملتقى الدعوي الثالث في غرب إفريقيا:
عقد هذا الملتقى في مدينة «لومي» في جمهورية التوجو، واستمر لمدة
ثمانية أيام من 3 إلى 10 ربيع الأول من عام 1416هـ، وشارك فيه 150 داعية
من ثمان دول، وهي: بنين، والتوجو، وغانا، ونيجيريا، ومالي، والنيجر،
والسنغال، وبوركينافاسو.
ومن أبرز المحاضرات التي ألقيت:
(أ) التربية الجادة ضرورة.
(ب) الإيجابية في حياة الداعية.
(ج) اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- حقيقته ومظاهره.
(د) كيف تعد خطبة الجمعة؟
بالإضافة إلى البحوث والندوات التي قدمتها الوفود المشاركة، ومنها:
(أ) نظرات في دعوة المرأة في غرب إفريقيا. (في هذا العدد تلخيص يجمع
البحوث المقدمة في هذا الموضوع) .
(ب) المنهج الشرعي في التعامل الصحيح مع أصحاب الطرق الصوفية.
كما تميز هذا الملتقى بإعداد دورتين متخصصتين هما:
(أ) دورة في الإدارة وأساليب التخطيط والتنظيم.
(ب) دورة في تنظيم الدورات والأنشطة العلمية والتربوية.
3- الملتقى الدعوي الثالث في شرق إفريقيا:
عقد هذا الملتقى في مدينة «ممباسا» في كينيا، واستمر ثمانية أيام من 3
إلى 10 ربيع الأول من عام 1416هـ، وشارك فيه 100 داعية قدموا من عدة
دول، منها: كينيا وتنزانيا والصومال وأوغندا.
وقد قسمت أيام الملتقى قسمين:
الفترة الصباحية: وتقدم فيها الدروس العلمية المتخصصة مثل:
(أ) شرح العقيدة الواسطية.
(ب) دروس منتخبة من بلوغ المرام.
(ج) دروس في علم التفسير وأصوله.
الفترة المسائية: وتقدم فيها المحاضرات والأنشطة العامة، ومن أبرز
المحاضرات:
(أ) حيلة التقريب بين السنة والشيعة.
(ب) مقاصد التشريع الإسلامي.
(ج) الهجر الممنوع والهجر المشروع.
(د) العلمانية وآثارها في العالم الإسلامي.
(هـ) الحزبية: معالمها وآثارها وأخطارها.
كما قام الشيوخ المشاركون في الملتقى بإلقاء الدروس والمحاضرات في مساجد
المنطقة وبعض مدارسها، مما كان له الأثر الكبير على عامة المسلمين ولله الحمد.
ثانياً: الدورات الشرعية:
1- الدورة الشرعية الثامنة للدعاة في بريطانيا:
عقدت الدورة في مبنى المنتدى الإسلامي في لندن لمدة أسبوعين من 11 إلى
23 ربيع الأول من عام 1416هـ، حضرها 44 طالباً، ووزع فيها الدارسون
على التخصصات التالية: العقيدة والحديث والفقه، وقام المشاركون في الدورة
برحلة جماعية.
وعلى هامش الدورة أقيم عدد من المحاضرات العامة، منها:
(أ) الغلو في الدين أسبابه وأثره على وحدة المسلمين.
(ب) المصلحة الشرعية: ضوابط ومقاييس.
2- الدورة الشرعية الثانية للناطقين بالإنجليزية في بريطانيا:
عقدت الدورة في مبنى المنتدى الإسلامي في (لندن) ، وشارك فيها عشرة
طلاب فقط.
3- الدورة الشرعية لإعداد الدعاة في نيجيريا:
عقدت الدورة في مدينة «كانو» في شمال نيجيريا، واستمرت لمدة أسبوع
من 20 إلى 26 ربيع الأول من عام 1416م هـ، وشارك فيها 120 داعية من
13 ولاية من ولايات نيجيريا.
وقد قسم الدارسون قسمين، وألقي عليهم عدد من الدروس المتخصصة في
العقيدة والتفسير والسيرة النبوية، بالإضافة إلى عدد من المحاضرات والندوات
العامة.
ولله الحمد، فقد قام الشيوخ المشاركون في الملتقى بزيارة المراكز الإسلامية
والمساجد مما كان له الأثر البالغ في المنطقة.
4- الدورة الثالثة لمدرسي المدارس العربية والإسلامية في نيجيريا:
عقدت الدورة في مدينة «جوس» في نيجيريا، وشارك فيها 350 مدرساً
من مدرسي المدارس العربية والإسلامية المنتشرة في جوس وضواحيها. واستمرت
الدورة لمدة أسبوعين كاملين.
وقد قسم المشاركون في الدورة ثلاثة أقسام حسب مستوى تحصيلهم العلمي.
ومن أهم موضوعات هذه الدورة:
(أ) وجوب التزام منهج السلف الصالح في العقيدة والسلوك.
(ب) عقيدة أهل السنة والجماعة وضوابط التكفير.
(ج) البدعة أسبابها وعلاجها.
(د) واجب المسلم نحو الصحابة (رضي الله عنهم) .
5- الدورة الثانية لإعداد الأئمة والدعاة في أوغندا:
عقدت الدورة في مدينة «كمبالا» في أوغندا، لمدة عشرة أيام من 13 إلى
23 ربيع الثاني 1416هـ شارك فيها ثلاثون إماماً وداعية من أئمة ودعاة 14
محافظة أوغندية، وقد قُسم الدارسون قسمين، وقدمت لهم دروسٌ في العلوم التالية:
* التلاوة والتجويد. * العقيدة. * التفسير. * الفقه.
* الحديث. * السيرة النبوية. * اللغة العربية * الخطابة.
بالإضافة إلى عدد من المحاضرات والأنشطة التربوية الأخرى، وكان من
أبرز المحاضرات:
(أ) خطورة الشرك، وبيان أنواعه عند قبيلة الباقندا (أكبر قبيلة في أوغندا) .
(ب) دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام.
(ج) من أخلاق الدعاة والأئمة.
6- دورة شرعية لمدرسي حلقات القرآن الكريم في التوجو:
عقدت الدورة في مدينة «لومي» لمدة أسبوع من 10 إلى 14 ربيع الأول
من عام 1416هـ، وتهدف إلى نشر العقيدة الإسلامية الصحيحة بين المدرسين،
ومن ثم تربية النشء عليها، كما تهدف أيضاً إلى تحسين الأداء العلمي والإداري
للمدرسين، وقد بلغ عدد المشاركين (103) مدرسين، (39مدرساً منهم من مدرسي
حلقات المنتدى الإسلامي، و64مدرساً من غير هم) .
7- دورة شرعية لمدرسي حلقات القرآن الكريم في غانا:
عقدة الدورة في مدينة «أكرا» لمدة أسبوع من 19 إلى 25 ربيع الأول من
عام 1416هـ، وقد بلغ عدد المشاركين (105) مدرساً، (80 مدرساً من مدرسي
حلقات المنتدى الإسلامي، و 25 مدرساً من غير مدرسي حلقات المنتدى) .
8- دورة شرعية لتأهيل الدعاة في بنجلاديش:
عقدت الدورة في مدينة «دكا» واستمرت لمدة عشرين يوماً، وكانت دورة
مكثفة من 15 صفر إلى 5ربيع الأول من عام 1416هـ، وشارك فيها (50)
داعية وإماماً جامعياً.
9- الملتقى التربوي العلمي الأول في جيبوتي:
عقد الملتقى في جيبوتي لمدة تسعة أيام من 20 جمادى الثانية إلى الأول من
رجب من عام 1416هـ، وشارك فيه خمسون داعية.
10- الدورة الشرعية النسائية الأولى في كينيا:
عقدت الدورة في مدينة «نيروبي» لمدة خمسة أيام من 18 إلى 23 ربيع
الأول من عام 1416هـ، وشاركت فيها (61) طالبة تتراوح أعمارهن مابين 14
18سنة.
وقد قدمت فيها دروس في العقيدة والتجويد وأحكام الصلاة وأحكام النساء
ونوقشت بعض المشكلات السائدة في بلاد المسلمين كالتبرج والاختلاط ونحوهما.
وكان لهذه الدورة أثر طيب يشجع على المزيد من هذه الدورات النسائية بحول
الله وقوته.
ثالثاً: المخيمات الدعوية الشبابية:
تهدف هذه المخيمات الشبابية إلى احتضان الشباب المسلم وتربيته تربية
إسلامية ناضجة، وتقديم البديل الإسلامي المتميز لاحتواء الشباب وصقل قدراتهم
وتنمية إمكاناتهم.
ومن أبرز المخيمات التي أقامها المنتدى الإسلامي في صيف هذا العام:
1- المخيم الطلابي في مالي:
أقيم هذا المخيم في مدينة «سيكاسو» في مالي، وشارك فيه (200) طالب،
تم ترشيحهم من المدارس العربية والفرنسية من (12) مدينة وقرية، واستمر المخيم
أُسبوعاً كاملاً من 18 إلى 23 ربيع الأول من عام 1416هـ.
ومن أبرز المحاضرات التي ألقيت في المخيم:
(أ) نواقض الإسلام.
(ب) الصلاة ومكانتها في الإسلام.
(ج) دورالشباب المسلم.
(د) مرض الإيدز أسبابه وأخطاره.
2- المخيم الطلابي الثاني في كينيا:
أقيم هذا المخيم في مدينة «مرتي» في كينيا، وقد قسم المخيم قسمين
منفصلين تماماً:
الأول: للشباب، والثاني: للشابات.
وكان مجموع المشاركين (200) شاب وشابة، واستمر المخيم لمدة عشرة أيام، كانت حافلة بالعديد من الأنشطة والبرامج الدعوية والتربوية.
3- مخيم الطلبة الجامعيين الأول في غانا:
أقيم هذا المخيم في مجمع الصديق التعليمي التابع للمنتدى الإسلامي في مدينة
يناكروم، واستمر لمدة أسبوع، شارك فيه (118) طالباً انتخبوا من الطلاب
المتميزين من جامعات غانا الأربع، مما ساعد في إنجاح برامج المخيم وإثرائها
بالعديد من المشاركات الناضجة.
وختاماً: فهذه بعض أنشطة المنتدى الإسلامي الثقافية التي أقيمت في صيف
هذا العام، ونسأل الله (عز وجل) بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يوفقنا للمزيد
من الصالحات وأن يبارك في جهودنا ويجعلها لوجهه خالصة.. وصلى الله على
محمد وآله وصحبه وسلم.(95/104)
الورقة الأخيرة
اللهم لا شماتة
بقلم: أحمد عبد العزيز
الموت حقيقة يعرفها الجميع، وهو نهاية كل حي، ولايصح بحال أن يشمت
أحد بميت حتى ولو كان كافراً، وبالأمس تبجح رئيس وزراء العدو الهالك (إسحاق
رابين) وهو في ذروة السلطة بأنه أمر باغتيال زعيم فلسطيني في مالطة، وسبق
للسلطات الصهيونية أن قالت في أكثر من مناسبة: إن يدها طويلة تصل إلى أي
فرد أو دولة تهدد كيانها، ولم تمض ساعات حتى خر رابين صريعاً متشحطاً بدمائه، وقامت قيامة يهود ولم تقعد؛ خوفاً وهلعاً من أن تكون يد فلسطينية نفذت ما هددت
به من الدعوة لاستئصاله في أقرب فرصة، لكن القوم صدموا بأن الذي ارتكب هذه
الفعلة هو شاب صهيوني متدين غارق في صهيونيته، أخذ على رابين اندفاعه لما
يسمى بالسلام وتفريطه فيما سماه بأرض إسرائيل، وأنه ليس نادماً على ما فعل،
وقالت وسائل الإعلام: إن الشاب متطرف إسرائيلي وأن التطرف خطر على
التوجه نحو السلام ونسوا أو تناسوا ومعهم بعض الصحف العربية المشبوهة.
(المتطرفة علمانياً «أن دولة يهود قامت على أسس دينية، بل على منطلقات
تلمودية متطرفة، وأنها غرست بذرة التطرف في أجيالها، وسمحت لأحزاب دينية
بالعمل في وضح النهار، بل إن بإمكانهم لو شاركوا في إحدى الوزارات سحب
ثقتهم منها، وبالتالي سقوطها لو أرادوا.
هذا التطرف لم تسلط الأضواء لكشفه والتحذير منه؛ لأن فعل ذلك يعني: أن
العدو الصهيوني عينه يكشف نفسه بنفسه، ويفضح اتجاهاته (إياها) الغارقة في
أحلام صهيون الزاعمة أن أرضهم من الفرات إلى النيل، وهذا ما تتجاهله الصحافة
العلمانية.
إن حزب العمل اليساري أو الليكود اليميني وجهان لعملة واحدة، وسواءً أحكم
(بيريز أو ناتان ياهو) ؛ فالعقلية الصهيونية واحدة في العداء لأمتنا ولديننا وهم وإن
تظاهروا بالحدب على السلام إنما لكونه سيعطيهم الأمان في بحر من الأعداء يحيط
بهم؛ لاغتصابهم أرضه ومقدساته.
وفي الوقت نفسه ستتيح لهم (الشرق أوسطية الجديدة) فتح أسواق عربية
لاستهلاك معطيات اقتصادهم؛ فضلاً عن التوجه السياحي الذي سيغرق فيه فئات
من الناس، ستتداعى عليهم كتداعي الذباب على الشراب أمام مغريات يهود في نشر
الفاحشة والتفنن في عرضها.
إن مصرع رابين عظة وعبرة لكل ظالم ومفترٍ، وبخاصةٍ من يسومون الناس
سوء العذاب ويصادرون خيارهم، ويعملون على تهميش فئات معينة؛ وما ذاك إلا
خوفاً من أن تسحب البسط من تحت أرجلهم فنذكرهم بقوله تعالى [وَلا يَحِيقُ المَكْرُ
السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ] [فاطر: 43] والعاقل من اتعظ بغيره.
والله من وراء القصد،،،(95/111)
شعبان - 1416هـ
يناير - 1996م
(السنة: 10)(96/)
كلمة صغيرة
قف وتأمل
يكاد المتابع لجهود المنصرين لا يصدق ما تقدمه مؤسساتهم من أعمال ضخمة: في بناء الكنائس والمدارس والمستشفيات والملاجئ، وطبع الأناجيل والترجمة
لمنشوراتهم الدينية بملايين الطبعات وبمختلف اللغات، وكذلك جهود آلاف من
المتطوعين لأداء تلك الأعمال في شتى التخصصات منذ سنوات طويلة. بل إن
المنصرين استطاعوا اختراق ما يسمى بالمنظمات الإنسانية الدولية والتستر وراءها
لتنفيذ برامجهم ونشر دعوتهم. وقد رفع بابا الفاتيكان لواء التنصير معلناً شعاره
المحفز للإرساليات التنصيرية (إفريقيا نصرانية عام 2000م) ، وتتوالى رحلاته
المكوكية في إفريقيا وآسيا ليشرف بنفسه على بناء القواعد وترسيخ الأقدام، وليس
غريباً أن تقابل زياراته بالاحتفاء الرسمي والإعلامي، ولكن الغريب كل الغرابة أن
يحظى استقباله بحشود هائلة من عوام المسلمين؛ ففي السنغال مثلاً (حيث نسبتهم
95%) لم يجدوا مكاناً يستوعب المستقبلين للبابا إلا الملعب الرياضي! ! وهؤلاء
المسلمون بجهلهم وفقرهم هم الأرضية الخصبة التي يتحرك فيها المنصرون.
وليس هدفنا من هذا إشاعة الإحباط والتخذيل، أو التقليل من جهود الجمعيات
الإسلامية، لكننا نتساءل وبصدق أين جل المسلمين عن حمل لواء دينهم؟ ولماذا
يترك عوام المسلمين وفقراؤهم ضحايا للتنصير؟ !(96/1)
افتتاحية العدد
يا دعاة الإسلام
هذا هو الطريق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا وقائدنا وقدوتنا محمد وعلى
آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
الدعوة إلى الله همّ كل مسلم مخلص يؤمن باستمرارية هذا الدين، وضرورة
إيصاله إلى الناس كافة. ويحز في قلوبنا جميعاً ماتتعرض له الدعوة إلى الله من
سوء فهم أو مضايقة أو مصادرة.
وإيماناً من المسؤولين في (مجلة البيان) بمواصلة رسالتهم في الدعوة والتوجيه
انطلاقاً من قوله (تعالى) : [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] لإثراء ثقافة القارئ بكل ماتتطلبه من بيان صحة
المعتقد الثابت عن سلفنا الصالح (رضي الله عنهم) من الصحابة والتابعين ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والاهتمام بتزكية النفس وربطها بالنبع الأخلاقي
السليم، ومتابعة واقع إخواننا المسلمين في شتى البقاع، ونقل شؤونهم وشجونهم،
ومحاولة كشف كل مايخطط ضدهم من أعداء الإسلام داخلياً وخارجياً. ومع
ضخامة هذه المسؤولية وماتتطلبه من جهد ومتابعة، بل ومن حرج أحياناً، إلا أننا
في الوقت نفسه لاننسى حال الدعوة الإسلامية المعاصرة: واقعها ومشكلاتها،
ومحاولة استشراف مستقبلها، والعمل الجدي المخلص لعلاج مايعتَوِرها من سلبيات، وتصويب ما قد يحدث فيها من أخطاء، وذلك إيماناً منا بوجوب التعاون على البر
والتقوى، وضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب التناصح بين
المسلمين، ومع الاهتمام بالنقد الذاتي الهادف بين العاملين في حقل الدعوة، وهذا
مانحرص عليه ولله الحمد في كثير من مواد هذه المجلة؛ رغبة في جمع الكلمة
ووحدة الصف على السنة، ونبذ الاتجاهات البدعية، والرفض للتوجهات التجديدية
المشبوهة.
إن بعض الدعاة والباحثين في حقل الدعوة عند مناقشة مثل هذا الموضوع
ينادون بأهمية البحث في إيجابيات الدعوة ونشرها، وغض النظر عن سلبياتها؛
بحجة عدم المساهمة من حيث لانشعر في العمل جنباً إلى جنب مع المناوئين للدعوة
والشانئين لها والعاملين ليل نهار ضدها بوضع الأحجار في طريقها، ومحاولة
الإساءة لرموزها لأسباب لاتخفى على أي متابع.
ومع تقديرنا لنبل هدف أولئك الإخوة وحسن مقصدهم فيما نحسبهم إلا أن
الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن ذهن أي مسلم: أن المعول عليه في مثل هذه
الأمور حينما توضع على بساط البحث: ألا ننظر لرأي دون رأي، لاسيما وأن
بعض العلماء والدعاة المعروفين قد ناقشوا هذه المسألة وتحدثوا عنها بكل صدق
وإخلاص؛ ماحضين النصح وباذلين الجهد، داعين إلى أهمية سير الدعوة على
الأسس الشرعية؛ ليتسنى لها أداء رسالتها كما يجب، مع الدعوة بصراحة إلى
التوقف طويلاً أمام تجربة الكثير من الدعوات الإسلامية المعاصرة بعد عقود متتابعة، والتساؤل مع ما قدمت تلك (الدعوات) من نتائج ما مدى مشرعية ما أحدثته من
سلبيات على أفرادها من ناحية، وعلى الدعوة من نواحٍ أخرى؟ . مع الأخذ في
الاعتبار ماقدمته تلك الدعوات على وجه العموم من جهود طيبة وأعمال جليلة،
وماساهمت به من دور كبير في الصحوة الإسلامية في ديار الإسلام مما لاينكره إلا
جاهل أو متجاهل، غير أن ذلك لايمنع من أن نتساءل مع كل مخلص: لماذا لا
يقوم الدعاة بالتركيز على أعمالٍ مهمة يفترض قيامهم بها لاسيما في ترشيد أساليب
الدعوة وتفعيل الحوار فيما بينهم؟ أين الدعاة من الأخذ بالهدي النبوي والتحذير من
البدع المخترعة التي أصبحت سمة كثير من المجتمعات المسلمة؟ لماذا التساهل في
إصلاح عقيدة العامة ممن لايزالون غرقى في دركات الشرك، تحت تأثير بعض
فرق الضلال كالأحباش وأضرابهم مثل: شد الرحال للأضرحة والمقامات،
والاستغاثة بالأولياء والأموات مما يطعن في أصل التوحيد أو كماله؟
ثم ماذا استفادت الصحوة من شيوع النزعة الحزبية التي اتسم بها كثير من
الجماعات الإسلامية حتى أدى الأمر للموالاة والمعاداة بسببها، مما أنشأ صراعاً
داخليا بين الإسلاميين أنفسهم تجاوز الحدود بشكل مأساوي ولّد سوء الظن وتصيد
الأخطاء والتجريح بلا مسوغ [وتحسبونه هينْا وهو عند الله عظيم] (النور: 15) .
ثم هناك ما يُسمى بـ «الاتجاهات التجديدية المحدَثة» التي خرج بها
بعضهم عن أصول الإسلام وثوابته؛ فأصبح لايقيم وزناً للأدلة الشرعية المعتبرة،
ولاينظر في إجماع الأمة، حتى صار الإسلام في نهجهم تابعاً لامتبوعاً؛ بدعاوى
تافهة ماأنزل الله بها من سلطان!
وهذه التوجهات نتجت من الاهتمام بالنواحي الفكرية البحتة على حساب العلم
الشرعي والتخصص فيه، وبالتالي فقدان التأصيل الشرعي في المواقف العلمية
والعملية، والترفع عن استفتاء العلماء العدول المشهود لهم بالعلم والعمل الصالح،
مما أدى إلى السقوط في غمرة الفتاوى المستعجلة التي أدت إلى الوقوع في مآسٍ
كبرى، نتج عنها مشكلات فردية وجماعية انعكست بالسوء على واقع الدعوة أفراداً
وجماعات، كما هو ملموس في بعض البلدان والله المستعان.
إننا بعرضنا لتلك المآخذ من واقع بعض الحركات الإسلامية لانقصد الإساءة
لأحد ولانغمط أحداً حقه، بل ندعو للجميع بالتوفيق والسداد. ومعاذ الله أن نكون
عوناً للمعادين للدعوة، إنما نهدف إلى إصلاح الأحوال والتنبيه على كثير من
الأخطاء الشائعة في الواقع الدعوي، ونعتقد جازمين أن (الدعوة إلى الله) عبادة
يجب انطلاقها من أصول ديننا الحنيف: كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه
وسلم- بفهم سلفنا الصالح، ومن ثم التوقف عن الأساليب المتعجلة والطرق الملتوية
والمناهج البدعية.
كم نحن بحاجة إلى وقفة جادة وشجاعة بالتمسك بالسبب الذي نُصِر به الرعيل
الأول، وهو ماوصاهم به النبي -صلى الله عليه وسلم- القائد محمد «تركت فيكم
أمرين لن تضلوا ما مَسَكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه» [1] وردّ كل خلاف إليهما. دعونا نعود للمنهج النبوي القائم على تحقيق الإخلاص لله وحده، وأهمية أن تكون
العقيدة أولا؛ بتحقيق توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وتوحيد الاتباع
بجعل الحاكمية لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يواكب ذلك تجريد
المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- والانطلاق في ذلك من فهم سلفنا الصالح
(رضي الله عنهم) .
ولنَرْمِ وراءنا الغلو القائم على النزعات الانعزالية، والتشدد الممقوت،
والتكفير بلا مسوغ صحيح، ولنحذر من الحزبية وما أحدثته من نزاع وشقاق،
ونترك الاتجاهات البدعية قديمها وحديثها، ولانستعجل قطف الثمار، فيكفي الدعوة
ما آل إليه حالها في كثير من البلدان نتيجة لما مر من سلبيات، ولنثق أن طريق
الدعوة غير مفروش بالورود، ولابد من مواجهة الشدائد، وليكن شعارنا
[ولنصبرن على ما آذيتمونا] (إبراهيم: 12) ، ولنهتم بتصويب أخطائنا ولا نقع فيما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه» [2] ، ولنعمل على إصلاح أساليبنا في الحوار والمناصحة للوصول إلى الحق، ولنتجاوز عما يسعه الخلاف مما وسع سلفنا. وحينها سنرى غِبّ ذلك خيراً كثيراً. [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: 33] .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (2/899) ، والحاكم (1/93) ، وانظر التمهيد (24/331) والسلسلة الصحيحة للعلامة الألباني/1761.
(2) أخرجه ابن حبان ح (5761) ، وأبو نعيم في الحلية (4/99) وانظر السلسلة الصحيحةح/33.(96/4)
دراسات شرعية
المنهج العلمي للاستدلال
بين أهل السنة وأهل البدعة
(2)
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن المنهج العلمي للاستدلال، وبين أنه يعتمد
على (الكتاب والسنة والإجماع) . ثم بين أن الاستدلال بهما يعتمد على ثلاث قواعد، الأولى: تعظيم النصوص، الثانية: الاعتماد على السنة الصحيحة، الثالثة:
صحة الفهم. ثم فصّل في القاعدة الثالثة، وذكر المسائل التي تعين على صحة الفهم، ومنها: الاعتماد على منهج الصحابة، ومعرفة اللغة العربية. ويواصل ذكر هذه
المسائل، ثم يتحدث عن منهج الاستدلال عند المبتدعة مبيناً فساده.
- البيان -
ثالثاً: جمع النصوص الواردة في الباب الواحد:
تمثل النصوص الشرعية وحدة واحدة يكمّل بعضها بعضاً، فكلها خرجت من
مشكاة واحدة، فلا يمكن أن يرد التناقض أو الاختلاف بينها، فقد وصف الله كتابه
العزيز بقوله: [وَإنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] [فصلت: 41، 42] .
وإذا تقرر هذا: فإنّه لايجوز أن يؤخذ نص ويترك نص آخر في الباب نفسه، فهذا سيؤدي إلى تقطيع النصوص وبترها، قال الله (تعالى) : [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] [البقرة: 85] .
وفي هذا الباب يقول ابن تيمية: «إذا ميّز العالم بين ما قاله الرسول -صلى
الله عليه وسلم- وما لم يقله، فإنه يحتاج أن يفهم مراده ويفقه ما قاله، ويجمع بين
الأحاديث ويضم كل شكل إلى شكله، فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله، ويُفرق
بين ما فرق الله بينه ورسوله؛ فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون، ويجب تلقيه
وقبوله، وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم (رضي الله عنهم أجمعين) » [1] .
وقال الشاطبي: «ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد:
وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة
عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما
ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصّها، ومطلقها
المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بِبَيّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، فإذا
حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذي نظمت به حين
استنبطت ... » .
ثم يذكر القاعدة الإجمالية فيقول: «فشأن الراسخين: تصور الشريعة صورة
واحدة، يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة» [2] .
وبعد هذا التقرير العلمي المتين يتبين: أنه لابد من جمع النصوص الواردة
في الباب الواحد، ووضع كل نص في موضعه. ولكن أحياناً قد يظهر التعارض
في ذهن الدارس لهذه النصوص، ولهذا وضع أئمة العلم قواعد علمية لدرء
التعارض، وهي:
1- الجمع بين النصوص بطريقة من طرق الجمع المعتد بها عند علماء
الأصول، مثل:
(أ) ردّ العام على الخاص.
(ب) ردّ المطلق على المقيد.
(ج) رد المجمل على المبين.
(د) رد المتشابه إلى المحكم.
(هـ) معرفة الناسخ والمنسوخ.. ونحو ذلك من الطرق.
2- الترجيح بين النصوص بطريقة من طرق الترجيح التي ذكرها علماء
الأصول، ويلجأ إلى هذه الحالة عند تعذر الجمع بينها.
3- وإذا لم يستطع الدارس الجمع أو الترجيح فإنه يتوقف حتى يتبين له الأمر.
رابعاً: معرفة مقاصد التشريع الإسلامي:
من فضل الله ورحمته على هذه الأمة أن شرع جميع الأحكام لمقاصد وغايات
عظيمة مبنية كلها على مصالح العباد في دنياهم وأخراهم، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ]
[يونس: 57] .
قال ابن تيمية: «الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل
المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدم
عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين» [3] .
وقال ابن القيم: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في
المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها،
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن
المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت
فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله أتم دلالة وأصدقها» [4] .
إن معرفة مقاصد التشريع وغايات الأحكام تعين المجتهد في تصورالأحكام
تصوراً متكاملاً، ومن ثم يستطيع تقدير المصالح والموازنة بينها، والاجتهاد في
النوازل، ووضع الأمور في مواضعها اللائقة بها شرعاً وعقلاً؛ ولهذا فصّل العلماء
في دراسة الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ووضعوا قواعد لرفع الحرج
ودفع الضرر، وقواعد لسد الذرائع والمصالح المرسلة.. ونحو ذلك من المسائل،
لكي تعين المجتهد في تنزيل النصوص منازلها، وأخذها بمقاصدها، ولكي يعصم
الاجتهاد من الزيغ والانحراف.
منهج المبتدعة في التعامل مع النصوص الشرعية:
وبعد أن بينت المنهج العدل لأهل السنة في الاستدلال، أذكر فيما يلي منهج
المبتدعة، حيث تميّز المبتدعة على اختلاف فرقهم بالتقديم بين يدي الله ورسوله -
صلى الله عليه وسلم-، وعدم تعظيم ما جاء في الكتاب والسنة. وسأذكر في هذه
المقالة أصولاً عامة لمنهج المبتدعة في الاستدلال، وهي:
الأصل الأول: رد النصوص الثابتة والجرأة في الاعتراض عليها.
الأصل الثاني: العبث في الأصول الشرعية للاستدلال وتشويهها.
الأصل الثالث: إحداث أصول بدعية جديدة للاستدلال والتلقي.
وليس بالضرورة أن تأخذ كل فرقة من فرق المبتدعة بتفريعات هذه الأصول، فهم متفاوتون في بدعهم إفراطاً وتفريطاً، وينبغي التأكيد هنا أنني لا أتحدث عن
تاريخ مضى وانتهى، بل إن الفرق المتقدمة والمناهج المبتدعة لها امتدادات واسعة
في عصرنا الحاضر، بل زادت الانحرافات والضلالات مع زيادة الغفلة وتتابع
الجهل وقلّة العلماء. وقديماً قال ابن تيمية: «فالبدع في أولها شبراً، ثم تكثر في
الأتباع حتى تصير أذرعاً وأميالاً وفراسخ» [5] .
الأصل الأول: ردّ النصوص الثابتة والجرأة
في الاعتراض عليها:
لعلّ من أوضح الأمثلة على هذا الأصل ما قاله عمرو بن عبيد إمام المعتزلة
وذكر حديث الصادق المصدوق: «لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو
سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، ولو سمعت ابن مسعود يقول هذا لما قبلته،
ولو سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا لرددته، ولو سمعتُ الله
يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا! !» [6] .
وقال عمرو بن عبيد أيضاً: «لو كانت (تبت يدا أبي لهب» في اللوح
المحفوظ لم يكن لله على العباد حجّة! « [7] .
وهذان مثالان جليان في جرأة المبتدعة على رد النصوص الثابتة المحكمة
والاعتراض عليها، وهي علامة من علامات الزندقة والفجور؛ ولهذا يصف ابن
تيمية غلاة الصوفية بقوله:» .. ولهذا يوجد في هؤلاء وأتباعهم من ينفرون عن
القرآن والشرع كما تنفر الحمر المستنفرة التي تفرّ من الرماة ومن الأسد، ولهذا
يوصفون بأنهم إذا قيل لهم: قال المصطفى، نفروا.. « [8] .
وقال أيضاً:» فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى نبذ القرآن وراء
ظهره، واتبع ما تتلوا الشياطين، فلا يُُعظم أمر القرآن ونهيه، ولا يوالي من أمر
القرآن بموالاته، ولايعادي من أمر القرآن بمعاداته « [9] .
ونظير هؤلاء: زنادقة العصر الحديث من العلمانيين وأشباههم الذين بلغت
جرأتهم في رد النصوص والاعتراض عليها حداً عظيماً والعياذ بالله، حتى بلغ
الحال عند بعضهم زَعْمَ أنّ الدين تراث مقدس، لكنه ليس صالحاً لهذا الزمان!
ولهذا طالبوا بفصله عن جميع شؤون الحياة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
والإعلامية.. ونحوها.
الأصل الثاني: العبث في الأصول الشرعية
للاستدلال وتشويهها:
إن العبث في الأصول الشرعية للاستدلال سمة بارزة من سمات المبتدعة،
وهو باب من أبواب الحرب على الدين بتكدير منابعه وتشويه أصوله، ويأخذ هذا
العبث صوراً وأشكالاً متعددة تختلف باختلاف المبتدعة ومناهجهم، ومن أبرز معالم
هذا العبث:
أولاً: اتهام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالكذب وتجهيله:
بلغ من انحراف بعض غلاة المبتدعة اتهامهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-
بالكذب والجهل، وذلك مثل قول غلاة الجهمية والفلاسفة، قال ابن تيمية عن
متأخري الصابئة:» .. ثم إن هؤلاء فيما تقوله الأنبياء حيارى متهوّكون، فإنه
بهرهم نور النبوة، ولم تقع على أصولهم الفاسدة، فصاروا على أنحاء، منهم: من
لايؤمن بكثير مما تقوله الأنبياء والمرسلون، بل يعرض عنه أو يشك فيه أو يُكذب
به، ومنهم من يقول: يجوز الكذب لمصلحة راجحة، والأنبياء فعلوا ذلك، ومنهم
من يقول: يجوز هذا لصالح العامة دون الخاصة، وأمثلهم من يقول: بل هذه
تخيلات وأمثال مضروبة لتقريب الحقائق إلى قلوب العامة، وهذه طريقة الفارابي
وابن سينا، لكن ابن سينا أقرب إلى الإيمان من بعض الوجوه وإن لم يكن مؤمناً.
فمن أدركته رسالة محمد وبهرته براهينها وأنوارها، ورأى ما فيها من
أصناف العلوم النافعة والأعمال الصالحة.. فلابد أن يتأول نصوص الكتاب والسنة
على عادة إخوانه في تحريف الكلم عن مواضعه، فيحرفون ما أخبرت به الرسل
عن كلام الله تحريفاً يصيرون به كفاراً ببعض تأويل في بعض صفات تنزيله.. «.
إلى أن قال في وصف منهجهم:» فهؤلاء جعلوا القرآن عضين، وضربوا
له الأمثال، مثل ما فعل المشركون قبلهم، كما فعلوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن هؤلاء منهم من يفضل الولي الكامل والفيلسوف الكامل على النبي -صلى الله
عليه وسلم-، ومنهم من يفضل بعض الأولياء على زعمه، أو بعض الفلاسفة مثل: نفسه أو شيخه أو متبوعه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وربما قالوا: هو
أفضل من وجه والنبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من وجه، فلهم من الإلحاد
والافتراء في رسل الله نظير مالهم من الإلحاد والافتراء في رسالات الله، فيقيسون
الكلام الذي بلّغته الرسل عن الله بكلامهم، ويقيسون رسل الله بأنفسهم « [10] .
ثانياً: كتم النصوص:
ذكر الله (تعالى) أن أهل الكتاب كانوا يكتمون الحق، ولايظهرون منه إلا ما
تهواه نفوسهم، فقال (تعالى) : [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] [آل عمران: 71] .
وقد اقتدى المبتدعة بأهل الكتاب، وأخذوا بنصيب وافر من هذه الصفة
الذميمة، ولهذا قال وكيع بن الجراح» أهل العلم يكتبون مالهم وما عليهم، وأهل
الأهواء لايكتبون إلا مالهم « [11] .
وقال ابن تيمية:» ومن المعلوم أنك لاتجد أحداً ممّن يَرُدّ نصوص الكتاب
والسنة بقوله، إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت،
وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط ذلك من المصحف لفعله. قال بعض
السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه، وقيل عن بعض
رؤوس الجهمية إما بشر المريسي أوغيره أنه قال: ليس شيء أنَقْصَ لقولنا من
القرآن، فأَقِرّوا به في الظاهر، ثم صرّفوه بالتأويل. ويقال إنه قال: إذا احتجوا
عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل؛ ولهذا
تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية، بل قد يختار كتمان ذلك
والنهي عن إشاعته وتبليغه، خلافاً لما أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
من التبليغ عنه « [12] .
ثالثاً: تحريف النصوص:
تحريف النصوص ظاهرة خطيرة جداً وقع فيها كثير من المبتدعة بدرجات
متفاوتة، وسلفهم في هذا اليهود، فقد وصفهم الله بقوله: [أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا
لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] [البقرة: 75] .
وثمرة التحريف: تشويه النصوص وتكدير المنابع، حتى يتسنّى للمبتدعة
العبث في دين الله (تعالى) ، وهو ثلاثة أنواع بعضها أخفى من بعض:
النوع الأول: تحريف اللفظ.
النوع الثاني: تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ما هو عليه.
النوع الثالث: تحريف الأدلة عن مواضعها.
وسأتحدث عن هذه الأنواع الثلاثة باختصار شديد.
النوع الأول: تحريف اللفظ:
وصف الله (تعالى) اليهود بقوله: [وَإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا
حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ
المُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَذِي قِيلَ لَهُمْ فَأََنزَلْنَا عَلَى الَذِينَ ظَلَمُوا
رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] [البقرة: 58، 59] .
وأخرج البخاري: عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-:» قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حِطة، فدخلوا يزحفون
على أستاههم، فبدّلوا: وقالوا: حطة حبّ في شعرة « [13] .
وتحريف اللفظ يؤدي إلى تحريف المعنى، ولهذا حرص عليه أئمة المبتدعة،
ومن أمثلة ذلك ما رواه عاصم الأحول قال:» رأيت عمرو بن عيد يحك آية من
المصحف، فقلت له: سبحان الله! قال: «إني سأعيدها. قلت: أعِدْها. قال: لا
أستطيع!» [14] .
وقد كان المعتزلة يحرفون كثيراً من النصوص، من ذلك قول الله (تعالى) :
[وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] [النساء: 164] ، حيث يقرؤون لفظ الجلالة بالنصب
لكي يوافق مذهبهم الباطل في نفي صفة الكلام لله (عز وجل) .
النوع الثاني: تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ماهو عليه:
والمقصود به: صرف اللفظ عن ظاهره، وما يفهمه كل عربي من معناه،
وهو الذي يسميه بعضهم بالتأويل، وهو أكثرخفاء من النوع الأول، وباب التأويل
باب عريض دخل منه الزنادقة لهدم الإسلام، حيث حرفوا النصوص وصرفوها
عن ظواهرها، وحمّلوها من المعاني ما يشتهون، وقد تقدم قول بشر المريسي: «
ليس شيء أنقص لقولنا من القرآن، فأقروا به في الظاهر ثم صرفوه بالتأويل!» .
قال ابن أبي العز الحنفي: «وبهذا تسلط المحرفون على النصوص، وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف: تأويلاً، تزيينا له وزخرفة ليُقبل،
وقد ذمّ الله الذين زخرفوا الباطل، قال الله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً
شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً]
[الأنعام: 112] .
والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل أقيم على دليل مزخرف عورض به
دليل الحق» [15] .
ومن أمثلة التحريف: تأويل المبتدعة لآيات الصفات، أو تأويل الشفاعة
والصراط والميزان وعذاب القبر.. ونحوها، وأسرف بعض القرامطة والباطنية
ومن نحى نحوهم حينما جعلوا للقرآن ظاهراً وباطناً، فجعلوا الظاهر: قرآن العامة، والباطن: قرآن الخاصة.
قال ابن تيمية: «التأويل المذموم الباطل هو: تأويل أهل التحريف والبدع
الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله
بغير دليل يوجب ذلك» [16] .
النوع الثالث: تحريف الأدلة عن مواضعها:
قال الإمام الشاطبي في شرح هذا النوع من التحريف: «يرد الدليل على
مناط فيُصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد؛ وهو من
خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله..» .
ثم قال: «وبيان ذلك: أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما
يتعلق بالعبادات مثلاً فأتى به المكلف في الجملة، كذكر الله والدعاء والنوافل
المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة، كان الدليل عاضداً لعلمه
من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به، فإن أتى المكلف
في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص، أو مكان مخصوص، أو
مقارناً لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية، أو الزمان،
أو المكان، مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه كان الدليل بمعزل عن ذلك
المعنى المستدل عليه» .
ثم يذكر مثالاً على ذلك فيقول: «فإذا ندب الشرع مثلاً إلى ذكر الله فالتزم
قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت، أو في وقت معلوم مخصوص عن
سائر الأوقات، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم، بل
فيه ما يدل على خلافه، لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعاً شأنها أن تفهم
التشريع، وخصوصاً مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد. فإنها إذا ظهرت
هذا الإظهار، ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في المساجد، وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء
والكسوف فُهم منها بلاشك أنها سنن، إذا لم تُفهم منها الفرضية، فأحرى أن
لايتناولها الدليل المستدل به، فصارت من هذه الجهة بدعاً محدثة بذلك» [17] .
رابعاً: التصديق بالقرآن دون السنة:
تقدم في الحلقة الأولى بيان منزلة السنة النبوية، وتحذير النبي -صلى الله
عليه وسلم- من أولئك القوم الذين لا يأخذون إلا بما جاء في القرآن الكريم،
ويردون ما جاء في سنته، وقد وقع الخوارج وأشباههم في هذه الضلالة التي حذر
منها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يأخذوا إلا بما جاء في القرآن الكريم،
وقد كان هذا سبباً من أسباب ضلالهم وانحرافهم.
قال ابن تيمية: «وقد حكى أرباب المقالات عن الخوارج أنّهم يُجّوزون على
الأنبياء الكبائر، ولهذا لايلتفتون إلى السنة المخالفة في رأيهم لظاهر القرآن وإن
كانت متواترة، فلا يرجمون الزاني، ويقطعون يد السارق فيما قل وكثر، زعماً
منهم على ما قيل أن لاحجة إلا القرآن، وأن السنة الصادرة عن الرسول -صلى
الله عليه وسلم- ليست حجة بناء على ذلك الأصل الفاسد» [18] .
وعلى هذا المذهب بعض غلاة المعتزلة، فقدحكى عبد القاهر البغدادي عن
النظامية قولهم: «يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ، فإن الأخبار المتواترة لاحجة
فيها لأنها يجوز أن يكون وقوعها كذباً» [19] .
وظهر في أوائل القرن الماضي في شبه القارة الهندية فرقة منحرفة يقولون
بهذا القول وسموا أنفسهم بأهل القرآن، وحقيقة مذهبهم رد الكتاب والسنة [20] .
خامساً: الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه:
تقدم أن منهج أهل السنة جمع النصوص الواردة في الباب الواحد، ووضع
كل نص في موضعه اللائق به شرعاً، فلايجوز أن يؤخذ نص ويترك آخر ورد في
الباب نفسه، فإن كثيراً من البدع والضلالات في القديم والحديث إنما ظهرت بسبب
إهمال هذه القاعدة الجليلة؛ فبعض المبتدعة وجهلة المتفقهة والمقلدة يأخذ نصاً
ويترك نصوصاً أخرى قد تكون مخصصة أو مقيدة أو مبينة أو ناسخة.. أو نحو
ذلك. فينظر إليها من زاوية ويترك زوايا أخرى، ممّا يؤدي إلى كثير من الخلط
والاضطراب. وإليك هذين المثالين:
المثال الأول: منهج الخوارج:
أخذ الخوارج بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، ففهموها على غير
مرادها وغلّبوا جانب العقوبة، وراحوا يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم
وأموالهم، بغير حجة ولابرهان.
المثال الثاني: منهج المرجئة:
أخذ المرجئة نصوص الوعد، وتركوا نصوص الوعيد، ففهموها على غير
مرادها وغلّبوا جانب الرجاء، وقالوا: لايضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع
الكفر طاعة.
وإزاء هذا التفريط والإفراط توسط أهل السنة، وأخذوا بجميع النصوص
الواردة، وألفوا بينها تأليفاً يزيل الإشكال ويدفع الخلط والاضطراب.
قال ابن تيمية مبيناً سبب ظهور البدع: «.. ومن هنا تتبيّن الضلالات
المبتدعة في هذه الأمة، حيث هي من الإيمان ببعض ما جاء به الرسول -صلى الله
عليه وسلم- دون بعض، وإما ببعض صفات التكليم والرسالة والنبوة دون بعض،
وكلاهما إما في التنزيل وإما في التأويل» [21] .
سادساً: استدلالهم بالنصوص للاعتضاد لا للاعتماد:
كثير من المبتدعة لا يُعظمون النصوص الشرعية، ولا يحرصون على تتبعها، ولايبنون عليها اعتقاداتهم واجتهاداتهم، ولايستدلون بها إلا إذا رأوا منها شيئاً
يوافق أهواءهم، فالنصوص عندهم تابعة للهوى، ويشير ابن تيمية إلى ذلك بقوله:
«إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان. فلما حدث في الأمة ما حدث من
التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعاً. صار هؤلاء عمدتهم في
الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها
يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم-
وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه، فلهذا
تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتها، ولم يستقصوا ما في
القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك. والآيات
التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده
أن يفهم مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج
بها» [22] .
وقال ابن أبي العز: «كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على
بدعته، وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به، وما خالفه
قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تفويضاً، أو حرفه، وسمى تحريفه تأويلاً،
فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم» [23] .
سابعاً: الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عدم الاعتناء بتنقيح
السنة:
ينقسم المبتدعة في روايتهم للسنة النبوية فريقين:
الفريق الأول: الذين يتعمدون الكذب والتزوير في حديث النبي -صلى الله
عليه وسلم-، وعامة هؤلاء من الزنادقة والباطنيين أهل الأهواء، كالرافضة
والجهمية؛ ولهذا قال الإمام الشافعي: «لم أر من أهل الأهواء أشهد بالزور من
الرافضة» [24] .
وقال ابن تيمية: «وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن
الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون
امتيازهم بكثرة الكذب» [25] .
الفريق الثاني: الذين لايكذبون ولكنهم قد يروون الكذب إما مع علمهم بأنه
كذب، وإما جهلا منهم به والأحاديث الضعيفة، ولايعتنون بدراسة المنقولات
وتحرير صحيحها من ضعيفها، وعلى هذا عامة المبتدعة، بل بعض جهلة أهل
السنة والمقلدة. وقد جرّ هذا التساهل والتفريط على الأمة بلاء وشراً كبيراً.
قال ابن تيمية: «.. ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين
لمضمونها هم أبعد عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتباعه من هؤلاء، هذا أمر
محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله وأحواله وبواطن
أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيراً من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لايميزون
بين ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما لم يقله، بل قد لايفرقون بين
حديث متواتر عنه وحديث مكذوب موضوع عليه، وإنما يعتمدون في موافقته على
مايوافق قولهم سواء كان موضوعاً أو غير موضوع، فيعدلون إلى أحاديث يعلم
خاصة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالضرورة اليقينية أنها قوله، وهم لايعلمون
مراده، بل غالب هؤلاء لايعلمون معاني القرآن فضلاً عن الحديث، بل كثير منهم
لايحفظون القرآن أصلاً، فمن لايحفظ القرآن، ولا يعرف معانيه، ولايعرف
الحديث ولامعانيه، فمن أين يكون عارفاً بالحقائق المأخوذة عن
الرسول؟ !» [26] .
وقال الشاطبي في بيان مآخذ أهل البدع في الاستدلال «منها: اعتمادهم على
الأحاديث الواهية الضعيفة، والمكذوب فيها على الرسول -صلى الله عليه وسلم-
والتي لايقبلها أهل صناعة الحديث كحديث الاكتحال يوم عشوراء وإكرام الديك
الأبيض وأكل الباذنجان بنية، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تواجد واهتز عند
السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه وما أشبه ذلك» [27] .
__________
(1) مجموع الفتاوى ج27 ص 316317.
(2) الموافقات ج1 ص245246.
(3) منهاج السنة النبوية ج6 ص 118.
(4) إعلام الموقعين ج3 ص 14.
(5) الفتاوى ج 28، ص425.
(6) ميزان الاعتدال ج3، ص278 وسير أعلام النبلاء ج6، ص104.
(7) المرجعان السابقان ج3، ص276 وج6، ص104.
(8) الفتاوى ج13، ص224.
(9) المرجع السابق ج14، ص227 وانظر ج14، ص59360.
(10) المرجع السابق ج12، ص2224 وقسم ابن تيمية في مواضع أخرى أقسام المبتدعة كالتالي: الأول: أهل الوهم والتخييل، الذين يرون أن الأنبياء خاطبوا الناس بما تخيلوه وتوهموه، وإن كان الأمر ليس كذلك، لأن هذا من مصلحة الجمهور وإن كان هذا كذباً فهو كذب لمصلحة الجمهور الثاني: أهل التجهيل، الذين يرون أن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون، لايعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء الثالث: أهل التحريف والتأويل، الذين يرون أن الأنبياء لم يقصدوا بأقوالهم إلا ماهو الحق في نفس الأمر، وأن الحق في نفس الأمر هو ما علموه بعقولهم، ثم يجتهدون في تأويل النصوص إلى ما يوافق رأيهم انظر: درء التعارض ج1، ص812، والفتاوى ج 7، ص588 589 وج 12، ص236239 وج4، ص66.
(11) سنن الدارقطني ج1، ص26.
(12) درء التعارض ج5، ص217218.
(13) البخاري: كتاب التفسير ج8، ص164، ح (4479) .
(14) ميزان الاعتدال ج3، ص 273.
(15) شرح العقيدة الطحاوية، ص 232.
(16) الفتاوى ج3، ص67.
(17) الاعتصام، ج1، ص249.
(18) الصارم المسلول، ص 184.
(19) أصول الدين، ص11.
(20) انظر الدراسة التفصيلية التي أعدها خادم بخش بعنوان: (القرآنيون وشبهاتهم حول السنة) .
(21) الفتاوى ج12، ص15.
(22) المرجع السابق ج13، ص58 59.
(23) شرح العقيدة الطحاوية، ص399.
(24) الكفاية، ص167.
(25) منهاج السنة النبوية ج1، ص59.
(26) الفتاوى ج4، ص9596.
(27) الاعتصام ج1، ص224225.(96/8)
دراسات قرآنية
مصادر التفسير:
(2)
التفسير بالسنة
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
إن الله سبحانه قد أَوكل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهمة البيان،
فقال: [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]
[النحل: 44] .
ولذا كان الرجوع إلى بيان الرسول مهماً -صلى الله عليه وسلم- في فهم
القرآن وتفسيره، ولما كان الأمر كذلك، فإنه لا أحد أعلم بمراد الله منه -صلى الله
عليه وسلم-.
ثم إن ما يرد عنه من تفسير فإنه وحي؛ لقوله تعالى: [إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى] [النجم: 4] وهذا يدل على عظيم منزلة تفسيره -صلى الله عليه وسلم-.
موضوعات البحث:
وسيكون في هذا البحث الموضوعات التالية:
* تحرير مصطلح التفسير بالسنة.
* تحرير مصطلح التفسير النبوي.
* أنواع التفسير النبوي وأمثلته.
* أنواع التفسير بالسنة وأمثلته.
تحرير مصطلح التفسير بالسنة:
يرد في هذا الموضوع مصطلحان: (التفسير بالسنة) ، (التفسير النبوي) ،
وهذان المصطلحان يحتاجان إلى تحرير.
إن السنة تشمل كل قول أو فعل أو تقرير للرسول -صلى الله عليه وسلم-،
فهل كل السنة تفسير للقرآن؟
إن بعض من بحث هذا الموضوع لم يبّين نوع السنة التي تكون تفسيراً للقرآن، بل إن بعضهم أدرج تحت هذا الموضوع زيادة السنة على القرآن [1] ، مع أنه لا
علاقة لذلك بالبيان عن القرآن، ويمكن القول بأن كل إفادة يستفيدها المفسر من
السنة في بيان القرآن وتفسيره فإنها من التفسير بالسنة، وهذه الإفادة من عمل
المفسر واجتهاده في الغالب.
أما التفسير النبوي، فيلحظ فيه إضافته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-،
ويمكن أن يقال: هو كل قولٍ أو فعلٍ صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
صريحاً في إرادة التفسير.
وبهذا يظهر أن مصطلح (التفسير بالسنة) أعم وأشمل من مصطلح (التفسير
النبوي) [2] ولكل مصطلح من هذين أنواع تندرج تحته، وهي كما يلي:
* أولاً: أنواع التفسير النبوي:
مرّ أن التفسير النبوي: كل قول أو فعل صدر عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- صريحاً في إرادة التفسير.
ويمكن حصر أنواعه في ثلاثة:
1- أن يبتدر الصحابة بتفسير آية.
2- أن يسأله الصحابة عن المعنى المراد فيجيبهم.
هذان من التفسير القولي.
3- أن يتأول أمراً أو نهياً في القرآن.
وهذا هو التفسير الفعلي.
* أمثلة النوع الأول:
1- أن يبتدر الصحابة بتفسير آية:
وفي هذا قد يذكر -صلى الله عليه وسلم- الآية، ثم يفسرها أو العكس، ومن
أمثلة ذكر الآية ثم تفسيرها، مارواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (رضي الله
عنه) ، قال: «إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قيل لبني إسرائيل
[ادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ] [البقرة: 58] فدخلوا يزحفون
على أستاههم: (أدبارهم) وقالوا:» حبة في شعرة « [3] .
ومن أمثلة ذكر معنى الآية ثم ذكر الآية، ما رواه البخاري ومسلم عن أبي
موسى الأشعري (رضي الله عنه) : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:» إن
الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] [هود: 102] « [4] .
2- أن يسأله الصحابة عن المعنى المراد فيجيبهم:
ومن أمثلته، ما رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء في
سؤالهما عن البشرى في قوله تعالى [لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا
تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] [يونس: 64] جاء في حديث أبي الدرداء: أن رجلاً من مصر سأله عن هذه الآية، فقال له أبو الدرداء: ما سألني عنها أحد
منذ سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما سألني عنها أحد غيرك منذ
أنزلت، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له» [5] .
3- أن يتأوّل أمراً أو نهياً في القرآن:
التأوّل: ما يقوم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أفعالٍ تكون مفسرة
للخطاب القرآني، وموضحة للمراد منه.
إن إدخال الأفعال النبوية في (التفسير النبوي) يحتاج إلى تحرير، إذ يقع
سؤال مهم في هذا الباب، وهو كالتالي:
إلى أي مدى يفسّر الفعلُ النبوي القرآنَ؟
فمثلاً.. قوله تعالى [أقيموا الصلاة] أمر بإقامة الصلاة، فما التأوّل النبوي
لهذا الأمر القرآني؟
هل يدخل في تفسير هذا الأمر تفاصيل الصلاة؟
الظاهر في هذه المسألة أن ما يفهم به الخطاب القرآني من أفعال النبي -صلى
الله عليه وسلم- فإنه من التفسير النبوي.
أما دخول تفاصيل الأفعال فمحلّ نظر [6] . والله أعلم.
* ومن أمثلة التأوّل النبوي مايلي:
1- عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: «لما نزلت [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الأَقْرَبِينَ] [الشعراء: 214] صَعِد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا فجعل
ينادي: يابني فهر، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم
يستطع أن يخرج أرسل رسولاً ينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال:
أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟
قالوا: نعم، ماجربنا عليك إلا صدقا.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟
فنزلت [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ]
[المسد: 1، 2] » [7] .
2- وعن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى النبي -صلى
الله عليه وسلم- صلاةً بعد أن نزلت عليه [إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]
[النصر: 1] إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
وفي رواية أخرى عنه عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا
وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأوّل القرآن « [8] .
* ثانياً: أنواع التفسير بالسنة:
مر أن التفسير بالسنة يشمل كل إفادة يستفيدها المفسر من السنة في تفسير
القرآن، ولذا فإن هذه الإفادة لايمكن حصرها، وإنما أضرب لذلك نوعين، وأذكر
أمثلة لهما.
1- أن يرد في كلامه مايصلح أن يكون تفسيراً لآية:
قد يذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كلامه ما يصلح أن يكون تفسيراً
لآية غير أنه لم يورده مورد التفسير، فيعمد المفسر إلى مثل هذا الكلام النبوي
فيجعله تفسيراً لآية.
والمفسر حين يقوم بهذا العمل يكون مجتهداً في الربط والتوفيق بين معنى
الآية ومعنى الحديث الذي يراه مفسراً لها.
وقد ورد ربطُ معنى حديث بآية يفسرها عن الصحابة والتابعين، ومن أمثلة
ذلك عندهم مايلي:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول:» مامن بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً
من مس الشيطان، غير مريم وابنها «ثم يقول أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم:
[وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] [آل عمران: 36] » [9] .
2- في تفسير قوله (تعالى) : [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ] [النجم: 32] روى الطبري عن ابن عباس أنه قال: «ما رأيت شيئاً أشبه
باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:» إن الله كتب على
ابن آدم حظه من الزنى، أدركه ذلك لامحالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان
المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه « [10] .
3- وروى الطبري عن سعيد عن قتادة، في قوله (تعالى) : [وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً
عَلِياً] [مريم: 57] قال: حدثنا أنس بن مالك أن -صلى الله عليه وسلم- الله حدث
أنه عرج به إلى السماء، قال:» أتيت إدريس في السماء الرابعة « [11] .
ففي هذه الأمثلة تجد أن الصحابي أو التابعي ذكر قولاً نبوياً مفسراً للآية.
__________
(1) انظر: الوجه الثالث من أوجه بيان السنة للقرآن (بيان أحكام زائدة على ماجاء في القرآن في التفسير والمفسرون، للذهبي 1/58.
(2) يلاحظ أن من بحث المقدار الذي فسره الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يحرر هذه المسألة؛ لأنه إذا أدخل كل تفسير بالسنة فإن التفسير كثير، أما إذا خصّه بالتفسير النبوي الصريح فلاشك أنه قليل.
(3) رواه البخاري (فتح الباري 8/154) وغيره.
(4) رواه البخاري (فتح الباري 8/205) .
(5) رواه الترمذي 5/286، برقم 3106، وانظر جامع الأصول ج 2، برقم الأحاديث التالية: (653، 665، 666، 714، 749، 772، 786، 883، 884) .
(6) هذه المسألة تحتاج إلى بحث وتحرير ومما يلاحظ أن من بحث في المقدار الذي فسره الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يتعرض لهذه المسألة، مع أهميتها في تحديد الأكثر والأقل في تفسيره.
(7) رواه البخاري (فتح الباري 8/360) .
(8) رواه البخاري (فتح الباري 8/605) .
(9) رواه البخاري (فتح الباري 8/60) .
(10) تفسير الطبري (ط: الحلبي 27/6566.
(11) تفسير الطبري (ط: الحلبي 16/97 وانظر سنن الترمذي 5/ 316 برقم 3157.(96/20)
خواطر في الدعوة
شبكة العلاقات الاجتماعية
محمد العبدة
ليس أمر العلاقات الاجتماعية بالأمر الذي يُتساهل فيه، ولا بالأمر الذي يترك
لتأتي له بحلول مع تطاول الزمن، ذلك لأنه يمس العلاقات الأخوية بين المسلمين،
وهذه العلاقات هي الركن الأساس في بناء الصف الإسلامي وتماسكه، وما تحريم
الغيبة والنميمة، وما ذِكر الأحاديث التي تنهى عن هجر المسلم إلا لصيانة هذه
العلاقات وحمايتها من التدهور، ولأهميتها يقول (سبحانه وتعالى) للمسلمين الذين
يطيلون المكث في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي
النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ..] [الأحزاب: 53] ، وقد
استأذن أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وهو مضطجع على فراشه، فأذن لهما وقضى حاجتهما، وعندما أذن لعثمان
(رضي الله عنه) جلس وترك الاضطجاع، وعندما سألته عائشة عن ذلك قال: إن
عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لايُبلغ إليّ في
حاجته. وفي الحديث الذي أخرجه البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) والذي
جاء فيه التماس علي (رضي الله عنه) مصالحة أبي بكر ومبايعته بعد وفاة فاطمة
(رضي الله عنها) ، في هذا الحديث تتجلى الأخلاق العالية، والنفوس الكبيرة التي
تكره الخصام وجفاء العلاقات بين المسلمين، وكيف أن المعاتبة قد تؤدي إلى عودة
الصفاء إلى القلوب، وعودة الأمور إلى طبيعتها.
جاء في الحديث أن علياً أرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك،
فدخل عليهم أبو بكر، فتشهد علي فقال: إنا قد عرفنا فضلك، وما أعطاك الله ولم
ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا
من رسول نصيباً حتى فاضت عين أبي بكر، ثم قال علي لأبي بكر: موعدك
العشية (بعد الزوال «للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر رقِيَ على المنبر وتشهد،
وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعَذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر، وتشهد
عليّ فعظّم حق أبي بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر
ولا إنكاراً للذي فضّله الله عليه، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبدّ بنا
فوجدنا في أنفسنا، فسُر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت ... » [1] .
قال شارح الحديث: لم ننفس عليك خيراً: أي لم نحسدك على الخلافة،
ولعل علياً أشار إلى أن أبا بكر استبد عليه بأمور عظام كان مثله عليه أن يحضره
فيها ويشاوره مثل عقد الخلافة. والعذر لأبي بكر أنه خشي من التأخر عن البيعة
الاختلاف، قال القرطبي: «من تأمل مادار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن
الاعتذار، وما تضمن ذلك من الإنصاف، عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل
الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد
يغلب أحياناً ولكن الديانة ترد ذلك» [2] .
أراد علي (رضي الله عنه) أن يزيل الجفاء الذي وقع، وقد فرح المسلمون
بذلك، والدعاة اليوم أحوج ما يكون إلى مثل هذا التحرج والتأثم في بقاء الجفاء،
والبعد عن العلاقات الودية، وأن عليهم إزالة ما تعتكر به النفوس، وقطع دابر
ماينقله النمامون، ولعلّ ذلك يفرح المسلمين ويزيد ثقتهم بهم، ويأملون خيراً للدعوة.
__________
(1) فتح الباري 7/493.
(2) فتح الباري 7/493.(96/26)
مقال
نظرات في قضية ترجمة معاني
القرآن الكريم
(3)
بقلم: د. فهد بن محمد المالك
عرضنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة نبذة تاريخية عن المراحل التي
مرت بها ترجمة معاني القرآن الكريم، كما عرضنا في الحلقة الثانية بعض القضايا
والقواعد والتوجيهات حول هذه القضية، وقلنا هناك: إن كل مايمكننا قوله عن
الترجمات: إن هذه الترجمة امتازت بكذا، وتلك الترجمة بكذا. وفي هذه الحلقة
سأحاول إعطاء بعض المعلومات عن بعض الترجمات المشهورة والمنتشرة ونبذاً
عن مترجميها.
والترجمات التي سأعرضها هي: ترجمة عبد الله يوسف علي، وترجمة
محمد أسد، وترجمة محمد مرمادوك بكثال، وترجمة داود، وترجمة محمد ظفر الله
خان، وترجمة آربري، وسأقتصر على هذه الترجمات فقط؛ وذلك خشية الإطالة،
وإلا فإن جميع الترجمات وبلا استثناء تحوي بين دفاتها أخطاء كثيرةً: إما من
الناحية العقدية، أو من الناحية البلاغية، أو من الناحية اللغوية؛ لهذا فإنني أعتقد
جازماً أن الأمر خطير جداً على الإسلام وأهله إن لم يتدارك المسلمون أنفسهم،
ويتنبهوا لما يجري على كتاب ربهم من محاولات للنيل منه ومن الدين الإسلامي.
ومن هذا المنطلق وبحكم أنني متخصص في دراسة هذا الموضوع، فإني
أرى أن الحل المناسب والأمثل حيال هذه القضية هو: أن تنشأ هيئة أو مؤسسة
إسلامية عالمية تقوم على رعاية كل ما يتعلق بالقرآن الكريم، وتبليغ دعوته
وتعاليمه: إلى المسلمين أولاً، وإلى العالم كله ثانياً بلغاته المختلفة، وتكون من
أولويات هذه المؤسسة القرآنية العناية التامة، والإشراف الكامل على ترجمة القرآن
الكريم إلى اللغات الأخرى، والتأكد من سلامة هذه الترجمات واعتمادها كما هو
الحال فيما يقوم به النصارى؛ حيث توجد هناك هيئة منبثقة من الفاتيكان تتولى
مسؤولية متابعة ترجمة الإنجيل إلى لغات العالم، ولعلى هنا أضم رأيي إلى رأي
الدكتور الشيخ الفاضل «يوسف القرضاوي» والدكتور «حسن المعايرجي»
اللذان يريان أن تكون هذه المؤسسة نابعة من منظمة المؤتمر الإسلامي التي انبثق
عنها أجهزة ومنظمات كثيرة في شتى أنشطة العمل الإسلامي، ويمكن إيجاز أهم
أهداف هذه المؤسسة فيما يلي:
1-العناية بتفسير القرآن الكريم لغير المسلمين: كل أمة بلسانها، وتبليغ
المعاني الصحيحة لهذا الكتاب العظيم إليها.
2- تكليف مجموعة من العلماء المشهود لهم بالدين والعلم بالقيام بتفسير
القرآن الكريم بلغات العالم المختلفة تفسيراً حديثاً وصحيحاً.
3- رصد كامل لكل الترجمات المنتشرة في العالم في جميع اللغات والتحذير
من الترجمات الفاسدة ومتابعة الناشرين لها قضائيّا.
4- إصدار نشرة دورية ينشر فيها كل ما جد من جديد في حقل ترجمة القرآن
الكريم، وكل ماصدر من ترجمات جديدة.
5- طبع التفاسير وترجماتها واعتمادها للتداول بين الناس. لمحات عن بعض الترجمات ومترجميها:
1- ترجمة عبد الله يوسف علي. .Yusuf Ali. A
اسم الترجمة The Glorious Qur' an
ولد عبد الله يوسف عام 1870م في بومباي في الهند، ونشأ وترعرع في بيئة
دينية حيث كان والده حريصا على تعليمه علوم القرآن واللغة العربية، وبعد أن
أكمل دراسته سافر إلى العديد من الدول الأوروبية، وعمل محاضراً في جامعة لندن، وهناك تعمق في دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها، ويبدو أن لهذا التعمق أثراً على
أسلوبه في الترجمة. أمضى عبد الله يوسف علي قرابة 40 سنة في دراسة وتجميع
المعلومات المتعلقة بترجمة معاني القرآن الكريم، وفي عام 1937م صدرت أول
طبعة من ترجمته، وقد طبعت حتى الآن ما يزيد على 40 طبعة، وتعتبر هذه
الترجمة من أوسع الترجمات انتشاراً وأكثرها رواجاً لدرجة أنه أصبح من النادر
جداً أن يخلو بيت من بيوت المسلمين غير العرب من نسخة من هذه الترجمة.
تمتاز ترجمة عبد الله يوسف علي بأنها مكتوبة بأسلوب أدبي بليغ، كما تمتاز
بالتعليقات الهامشية التي وصل عددها إلى قرابة (6310) تعليقاً أوضح فيها عبد الله
يوسف كثيراً من الأمور والقضايا، وقد ذكر المؤلف أنه حاول أن يجعل التعليقات
أقصر مايمكن، ولكن بالقدر الذي يمكن القارئ عامياً كان أو عالماً أن يلم إلمامة
يسيرة بالموضوع، ولعل من أسباب رواج هذه الترجمة هي هذه التعليقات الهامشية.
قامت رئاسة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية
(وبناءً على طلب من مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف) بتصحيح بعض
الأخطاء والانحرافات العقدية التي وقع فيها عبد الله يوسف علي، ومن ثم قام
المجمع بطباعة النسخة المصححة، إلا أن هذه الطبعة أيضاً تحتاج لمزيد من
الدراسة والبحث والعناية.
كما اتسمت ترجمة عبد الله يوسف علي باستخدامه لكلمات تُعَدّ بالمفهوم
العصري الحديث من اللغة الإنجليزية (الكلاسيكية) القديمة التي يصعب على كثير
من القراء المعاصرين فهمها واستيعابها.
2 -ترجمة محمد أسد. ... ... ... .Asad 0M
اسم الترجمة ... ... The Message Of the Qur'an
ولد محمد أسد في بولندا عام 1900م من أبوين يهوديين، كان والده حريصاً
على أن يكون ابنه حاخاماً من حاخامات اليهود، ولكن الابن عمل مراسلاً صحفيّا
لإحدى كبريات الصحف الأوروبي، وزار عدداً من الدول العربية والإفريقية مما
جعله يتأثر بالإسلام وأهله، وقد أعلن إسلامه عام 1926م، وغيّر اسمه من ليوبولد
فايس إلى محمد أسد، وقد بقي في السعودية لمدة خمس سنوات، ثم انتقل إلى الهند، وقابل هناك الشاعر الإسلامي محمد إقبال (رحمه الله) حيث ألح عليه إقبال في
القيام بترجمة صحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية، ثم تنقل محمد أسد بين الدول
الإسلامية إلى أن استقر في سويسرا، حيث ركز جهوده ودراسته على ترجمة
معاني القرآن الكريم لمدة 20 سنة. كان محمد أسد يجيد عدداً من اللغات هي:
اللغة العربية، واللغة الإنجليزية، واللغة العبرية، واللغة الفرنسية، واللغة الألمانية
بالإضافة إلى لغته البولندية، وقد توفي (رحمه الله) في المغرب عام 1992م، ومن
أشهر مؤلفاته: الطريق إلى مكة.
صدرت أول طبعة من ترجمته عام 1980م وقد امتازت هذه الترجمة ببعض
التعليقات المبسطة والمركزة حول بعض القضايا والموضوعات، كما حوت هذه
الترجمة نبذة ميسرة عن «المقطعات» وليلة «الإسراء المعراج» و «الجن»
وغير ذلك، وقد ذكر في مقدمة ترجمته: أن عمله هذا هو محاولة لنقل النص
القرآني العربي المعجز ولو شيئاً منه إلى اللغة الإنجليزية، وبيّن عجزه وعجز كل
من حاول ترجمة القرآن الكريم عن الإتيان بترجمة مطابقة للنص القرآني العربي،
وقد حاول في ترجمته استخدام لغة إنجليزية بسيطة، وقلل كثيراً من استخدام اللغة
الكلاسيكية الإنجليزية.
3 -ترجمة محمد مرمادوك بكثال ... ... Pickthall. M. M
اسم الترجمة ... The Meaning of the Glorious Qur'an
ولد محمد مرمادوك عام 1975م في انجلترا، أي إنه كان إنجليزي الأصل
والمنشأ، وأمضى فترة من عمره في بعض بلدان الشرق الأوسط؛ مما أدى به إلى
تعلم اللغة العربية وحبه لشعوب تلك المنطقة، ومن ثم حب دينهم، فاعتنق الإسلام
عام 1914م، وقد عين إماماً لمسجد في إحدى ضواحي لندن، وعندما كان يخطب
الجمعة بالمصلين كان يستشهد فيها بآيات، يقوم هو بنفسه بترجمتها إلى اللغة
الإنجليزية، وقد لاقت ترجمته لهذه الآيات قبولاً عند المصلين، وكانوا دائماً
يسألونه عن المصدر لتلك الترجمة وعندها شعر بالحاجة الماسة إلى أن يقوم بترجمة
معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وقد وجد تشجيعاً على ذلك من حكومة
حيدر أباد، حيث أعطته تفرغاً لمدة سنتين ليقوم بهذا العمل وتكفلت هي بمصاريفه، كان محمد مرمادوك أديباً متمكنا من اللغة العربية، وتوفي (رحمه الله) عام 1936 م.
صدرت أول طبعة من هذه الترجمة عام 1930م، وتعتبر ترجمته من أوسع
الترجمات انتشاراً وأكثرها رواجاً في بريطانيا، حتى إنها طبعت أكثر من50 مرة،
ويعزى السبب في ذلك إلى أنها أول ترجمة يقوم بها مسلم من أصل إنجليزي.
وامتازت الترجمة بسهولة أسلوبها والتزامه الحرفي في الترجمة، الذي قد يضطره
في كثير من الأحيان إلى التوضيح ببعض التعليقات المختصرة، إلا أنه أكثر من
استخدام اللغة الإنجليزية الكلاسيكية القديمة، وقد يكون هذا من العوائق التي تعيق
فهم الترجمة بالنسبة للقارئ العصري العادي.
4 -ترجمة داود ... ... ... ... ... Dawood. J. N
اسم الترجمة ... ... ... ... ... ... Koran The
ولد داود في بغداد وهو يهودي عربي استقر في بريطانيا عام 1945م،
وهناك تقلد عدة مناصب في الجامعات الإنجليزية، كما قام بترجمة عدد من
النصوص العربية: كمقدمة ابن خلدون وغيرها، ويُعَدّ داود هو اليهودي الوحيد
الذي قام بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية.
صدرت أول طبعة من ترجمته عام 1956م، وقد طبعت أكثر من 15 طبعة
وهي من أكثر الترجمات تداولاً بين الإنجليز غير المسلمين، وذلك لأنه حاول في
ترجمته أن يستخدم اللغة الإنجليزية الحديثة، وابتعد تماماً عن استخدام اللغة
الكلاسيكية القديمة، كما أنه في ترجمته أطلق لنفسه العنان فلم يتقيد بالنص.
وقد حاول داود في ترجمته أن يعمل ترتيبا خاصاً به لسور القرآن الكريم، فلم
يسلك الترتيب المعروف في المصحف الشريف، كما أنه لم يتبع الترتيب الذي
سلكه بعض المستشرقين وهو ترتيب سور القرآن الكريم على حسب النزول،
فيبدؤون أولاً بالعلق، ثم المدثر ... وهكذا، ولكنه اعتمد ترتيب السور على حسب
طول وقصر السور وعلى حسب الأكثر شاعرية كما يرى! فيبدأ بالسورة القصيرة
والأكثر شاعرية! في زعمه ثم الأطول فالأطول، وقد ذكر في مقدمته أن سبب
اعتماده على هذا الترتيب حتى لايصطدم القارئ مباشرة بالسور الطويلة كالبقرة
والنساء، إنما يكون الأمر بالتدرج، غير أن داود في إحدى الطبعات المتأخرة من
ترجمته (1990م) تراجع عن هذا الترتيب ورتب السور على حسب ترتيب
المصحف الشريف، وذكر في مقدمة هذه الطبعة: أنه على غير قناعة بترتيب
السور حسب المصحف الشريف، ولكنه وجد نفسه مضطراً لأن يتحول عن رأيه.
5 -ترجمة محمد ظفر الله خان ... ... ... Zafrullah Khan 0 M
اسم الترجمة ... ... ... ... ... ... The Qur 'an
محمد ظفر الله خان باكستاني الأصل والمنشأ، وقد شغل منصب وزير
الخارجية في بلاده فيما بين 1947 1957، ثم عمل قاضياً في المحكمة الدولية،
صدرت أول طبعة من ترجمته عام 1971م، ونظراً لكونه قادياني المذهب والمعتقد
فقد حرص أن يبث في ترجمته سموم الفكر القادياني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ وهذا ماساعد على انتشار ترجمته ورواجها بين الباكستانيين والهنود.
وفي ترجمته، ابتدع محمد ظفر الله خان ابتداعاً جديداً، حيث إنه لم يفصل
بين الآية والأخرى، بل تجده يسرد العشر آيات مع بعضها دون فواصل أو
علامات تشير إلى نهاية الآية وبداية التي تليها، وسأعرض فيما بعد نموذجاً من تلك
النماذج وكيف حاول دس الفكر القادياني في ترجمته.
6 -ترجمة آربري ... ... ... ... ... ..Arberry.J. A
اسم الترجمة ... ... ... ... ... The Koran Interpreted
ولد أربري عام 1905م في انجلترا، وقد شغل خلال حياته عدداً من
المناصب الأكاديمية في عدد من الجامعات الإنجليزية وقد ركز اهتمامه على
الدراسات العربية والفارسية حتى صار أستاذاً (بروفوسوراً) في اللغة الفارسية في
جامعة لندن عام 1944م وأستاذا في اللغة العربية عام 1946م في الجامعة نفسها.
ركز آربري كثيراً على دراسة القرآن، لذلك كان حريصا في ترجمته على
اختيار أفضل المترادفات في اللغة الإنجليزية، كما اهتم في ترجمته كثيرا بالقوافي، وحاول صياغة ترجمته بأسلوب أدبي رفيع، وقد سلك مسلك كتاب القصائد
الإنجليزية القدماء في كتابتهم للقصائد المعروفة باسم (Sunnet) التي يتكون كل
مقطع فيها من خمسة أو ستة أسطر.
صدرت أول طبعة من ترجمة أربري عام 1955م، وقد طبعت أكثر من 15
مرة، ولاتزال حتى هذا اليوم تطبع بالآلاف.
وأخيراً، فإن هناك الكثير من الترجمات التي صدرت في الآونة الأخيرة
تحتاج إلى مزيد من العناية والبحث، ولم أعرض لها في هذا المقال خشية الإطالة:
كالعمل الذي قام به العالمان الجليلان «محمد تقي الدين الهلالي» والدكتور محمد
خان «حيث صدر أول مرة في تسعة أجزاء، وهو عبارة عن مختصر لتفسير ابن
كثير وتفسير الطبري مدعوماً بالتعليقات المستنبطة من صحيح الإمام البخاري واسم
ترجمتهما Qur'an Noble The
وقد صدر هذا التفسير مؤخراً عام (1993م) ولكن في مجلد واحد فقط ويمتاز
هذا التفسير بأن المترجمين كليهما صاحبا عقيدة سلفية صافية من الشوائب
والانحرافات، كما تمتاز ترجمتهما بسهولة الأسلوب ووضوح العبارة، كما أن هناك
ترجمات لايتسع المقام لعرضها كالترجمة التي قام بها أحد العلماء المصريين وهو»
محمد الخطيب «وقد صدرت ترجمته عام 1980م وغيرها كثير.
وأختم كلامي هنا: بأن هناك العديد من الترجمات التي تحتاج إلى مزيد من
العناية والبحث، سواء أكانت ترجمات إلى الإنجليزية أو إلى اللغات الأخرى.
ولعلنا في الحلقة القادمة والأخيرة إن شاء الله (تعالى) نستعرض نماذج من
الأخطاء التي ارتكبها أولئك المترجمون في ترجماتهم؛ لنرى خطورة الأمر والحاجة
الشديدة إلى علاجه.(96/28)
دراسات دعوية
أهمية مبادئ الإدارة في الدعوة
بقلم: نبيل بن جعفر الفيصل
إن الدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى) هي الأساس الذي قامت عليه هذه الأمة
ونهضت به، وإذا نظرنا في تاريخ الدعوة منذ بعثته وجدنا أنها كانت تسير ضمن
عملية إدارية محكمة، بلغت في تخطيطها وتنظيمها وتربيتها للسلوك الإنساني
ذروتها.
وكما أن حركة الدعوة الإسلامية مطالبة بدراسة التجارب التي مرت بها عبر
القرون للاستفادة منها بحكمة بعد تقييمها وعرضها على الكتاب والسنة وإجماع
السلف فكذلك هي مطالبة أيضاً بالاستفادة بكل مايعينها لتحقيق هدفها.
ونستعرض هنا بإيجاز العملية الإدارية من منظورها النظري، وكيفية ملاءمة
هذه العملية بوصفها أداة تعين في النهوض بالدعوة. ومع العلم، فإن نجاح تطبيق
وظائف الإدارة المختلفة في مجالات الدعوة مرهون بتصور واستيعاب القارئ
لتطبيق هذه الوظائف في حياته الدعوية: فمثلاً عندما نتحدث عن إدارة الوقت من
الناحية النظرية، فإنا نقوم خلالها بتحديد الأعمال المطلوبة وترتيبها في قائمة حسب
الأولوية والأهمية، وتحديد وقت لكل مهمة ومراجعة وتحديث القائمة باستمرار، ثم
تقييم ماتم إنجازه حسب الوقت المخصص لكل مهمة ودقة الإنجاز وعمل التعديل
اللازم.. إلى غير ذلك من التوجيهات الخاصة بإدارة وتنظيم الوقت.
وإذا تصورنا هذه التوجيهات من الناحية العملية، نجد أننا فعلاً نقوم بمثل هذا
التخطيط للوقت بصورة غير مباشرة، فتجد أنك تلقائياً وقبل شروعك في إنجاز
مهمة ما تفكر ذهنياً وبسرعة متى يجب عليك الانطلاق، وكيف؟ ومع من؟ وأي
طريق ستسلك؟ ، وأثناء الطريق ستفكر ماذا ستفعل عند وصولك وإلى أين ستذهب
بعد ذلك.. إلخ.
هذا ما نقصده بالتصور التطبيقي للعملية الإدارية: أي أن ننقلها من الوضع
النظري إلى الواقع العملي.
ماهي العملية الإدارية؟
إن الإدارة بحد ذاتها هي: عملية دمج وتنسيق الموارد المادية (كالمعدات
والأدوات) ، والبشرية (الأفراد) في منشأة من خلال التخطيط لها وتنظيمها وتوجيهها
ومراقبة إنتاجها؛ لتحقق بالتالي أهداف المنشأة.
كل جهاز دعوي على اختلاف مستوياته لابد له من الاستفادة من علم التخطيط
والتنظيم والتوجيه والمراقبة، أو مايسمى بالوظائف، وبالتالي شرح هذه الوظائف
وكيفية الاستفادة منه، خاصة إذا استحضر الإداري المسلم في قلبه وكيانه أنه في
إدارته مدفوع بذاتية ربانية ونبوية المنهج، تقوده للتفكير السليم القويم كسمة يتميز
بها عن غيره.
أولاً: التخطيط:
هو «ضرورة لكل المنشآت؛ لأنها تعمل في ظروف متغيرة، ومن ثم فإن
محاولة التخفيف من مفاجآت هذه الظروف هو الدافع وراء عملية التخطيط، كما أنه
عملية مستمرة تدعو لاختيار بديل من عدة بدائل لتطبيقه في المستقبل» [1] ونحدد
من خلاله مانريد أن نعمله، وما الذي يجب عمله، وأين؟ وكيف؟ ومتى؟ وعن
طريق مَنْ؟
والتخطيط للدعوة يبدأ من المنطلق الاستراتيجي (الإحكامي) البعيد المدى عن
طريق القياديين ومفكري الأمة: مثل ماحصل في خطة صلح الحديبية ذات النظرة
البعيدة الذي يعده بعض المؤرخين بداية الفتح الإسلامي الفعلي، «ثم على الخطة
أن تتسم بالواقعية والمرونة والشمولية وكذلك تناسق الخطط فيما بينها لضمان
استمراريتها» [2] .
ثانياً: التنظيم:
يأتي دور التنظيم لضمان تنفيذ الخطط بالشكل المطلوب، أو بمعنى آخر
تنظيم التنفيذ دون الارتباك في توزيع العمل، والتنظيم مهم لتحديد مهام وواجبات
كل الأفراد أعضاء المنشأة وكذلك تحديد وبيان علاقة كل فرد وأين موقعه من
الجماعة، وتوزيع السلطات والصلاحيات لمستويات الأفراد المختلفة؛ كل ذلك من
أجل إيجاد تنسيق بشري يساهم فيه كل فرد لإنجاح مسيرة العمل الإسلامي، ولنا
من الهجرة النبوية إلى المدينة درس يمثل غاية التنظيم والتنسيق لإحكام خطة
الهجرة، وتوزيع العمل والمسؤوليات على الأفراد حسب تخصصهم دون فوضى،
وعمل الاحتياطات اللازمة لكل حادث قد يصادف تلك الرحلة. وبالإخلاص وتظافر
الجهود تتحقق الأهداف المنشودة بإذن الله.
ومن السابق يمكن تعريف التنظيم بأنه: عملية بناء العلاقات بين أجزاء العمل، ومواقع العمل، والأفراد من خلال سلطة فعالة بهدف تحقيق الالتحام والترابط
وأداء العمل بطريقة جماعية منظمة وفعالة [3] .
ثالثاً: التوجيه والقيادة:
إن للتوجيه الإداري ارتباطاً وثيقاً بمهارات القياديين؛ لذا هو: «فن وقدرة
المدير على السير الصحيح بمن تحت إمرته وهدايتهم وتوجيهم مع إشاعة روح الود
والحب والرضا والتفاني والانتماء في العمل حتى يتحقق الهدف المطلوب» [4] .
ولنجاح عملية التوجيه ينبغي مراعاة الاتصال الفعال الذي يربط قنوات النظام
الداخلي والخارجي مع وضوح أهداف النظام الكلية والأهداف المطلوب تحقيقها من
كل فرد يعمل لهذا النظام على اختلاف مستواه.
أضف إلى ذلك رفع الروح المعنوية للأفراد العاملين في مجال الدعوة من
تقديم التشجيع والثناء والمزيد من الحرية والتصرف، ناهيك عن الدافع الديني
الذاتي لدى كل من يفهم معنى الدعوة وحجم الاستثمار فيها، ولايفوتنا الإشارة
للتوجيه الرباني لكل من القائد وأتباعه [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] [الفتح: 29] .
رابعاً: الرقابة:
والرقابة بمفهومها العام تعني التأكد من أن المبادئ الآنفة الذكر التخطيط،
التنظيم، التوجيه تسير في الاتجاه الصحيح نحو الأهداف المرسومة، ويكون ذلك
بقياس الأداء ومقارنة النتائج بالأهداف ضمن معايير موضوعة سلفاً لتصحيح
وتعديل أي انحراف في الأداء ضماناً لفاعلية وكفاءة التنفيذ.
ولعل أبرز مايتسم به الإداري المسلم الرقابة الذاتية على نفسه، فهي تشمل
كافة شئون الحياة الفردية والجماعية، حيث يعلم أنه خلق لعبادة الله وحده، وبالتالي
فإن جميع أفعاله إدارية أو دعوية مقياس لمدى طاعته لأوامر الله، ثم محاسبة نفسه
قبل أن يحاسبه خالقه، يقول تعالى: [إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] [النساء: 1] .
والمسلم كذلك مطالب برقابة أخيه المسلم بالتناصح والتوجيه يقول (تعالى)
[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ] [التوبة: 71] .
وإن كان ترتيب الرقابة في النظرية الإدارية في النهاية، إلا أني أعتقد أن
عنصر الرقابة هو العنصر الأول والملازم للعملية من بداية التخطيط وأثناء التنظيم
والتوجيه وانتهاء بالتأكد من تحقيق الهدف المطلوب.. وبذلك يعي الإداري المسلم
مدى نجاح دعوته المستمدة من الكتاب والسنة بتوفيق الله كسمة يجب أن يتميز فيها
عن غيره.
__________
(1) الإدارة دراسة تحليلة للوظائف والقرارات الإدارية د مدني عبد القادر علاقي، مطبوعات تهامة، جدة، الطبعة الرابعة، 1410هـ ص 85.
(2) الخطة والتخطيط، لماذا وكيف، نبيل بن جعفر الفيصل، مطابع التسهيلات، الخبر، 1413هـ ص 17: 20.
(3) مرجع سابق، رقم (1) ص 156.
(4) الإدارة في الإسلام، الفكر والتطبيق، د عبد الرحمن إبراهيم الضحيان، دار الشروق، جدة، الطبعة الأولى، 1407هـ ص 166.(96/36)
حقيقة (عميان العصر)
نظرات في الاتجاه العلماني وموقفه من الإسلام
بقلم: د. أحمد إبراهيم خضر
بعد سياحة في المعاجم العربية توصل (المثقف التقدمي المستنير) إلى أنه
لايجب على زملائه التقدميين والطليعيين والمستنيرين والليبراليين والعلمانيين (كما
عددهم بنفسه) أن يغفلوا عن (خطاب عن العميان) عنوان مبحث مهم للمفكر
الفرنسي المادي (بريتون ديدرو) سطره عام 1749م ويمثل (ديدرو) عصر التنوير
في قمة جنوحه نحو مايعرف (بالمذهب التأليهي) الذي يروج له التنويريون في
بلادنا مؤخراً. ظهر هذا المذهب في أوروبا في أواخر القرن السابع عشر، ثم شاع
في القرن الثامن عشر، بسبب نزوع هذا القرن إلى (العقلانية) وتركيزه على العلم
وإعمال العقل. يدعو هذا المذهب إلى الإيمان بالله وينبذ الإلحاد والوثنية، لكنه
أصبح بمضيّ الوقت سبباً في تقويض الدين من أساسه. يزعم أصحاب هذا المذهب
بوجود كائن أسمى أو خالق للكون يتسم بالخير والحكمة والصلاح يطلقون عليه
(المهندس الأعظم أو عالم الرياضيات الأعظم) الذي استطاع أن يخلق آلة في منتهى
الدقة والروعة هي آلة الكون، لكنهم ينكرون الدين المنزل أو الدين الموحى به،
ويزعمون أن الله كف عن التدخل في شؤون الكون بمجرد أن انتهى من خلقه وتركه
يسير بمقتضى مجموعة من القوانين التي لاتتبدل ولاتتغير، ويردد التأليهيون أفكاراً
تناصب الدين العداء ويدّعون أن الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) جماعة من
المحتالين والنصابين الجشعين الذين اخترعوا الجنة والنار بهدف إحكام سيطرتهم
على العباد، ويرون أن الروح تفنى كالجسد، ويرفضون الأخلاق القائمة على الدين، ويعتقد بعضهم أن الإنسان ليس سوى قرد ارتفع في مدارج الرقي والتثقف.
وتوجد إرهاصات المذهب التأليهي عند أتباع الفيلسوف العربي (ابن رشد) ، كما
تقول دائرة المعارف البريطانية [1] . والتأليهيون يستخدمون مصطلح (الخطاب
الديني) عند تعاملهم مع (خصومهم) الإسلاميين وإن استبدلوه بمصطلح (اللسان
الديني) ؛ لأن المصطلح الأول يضفي على اللسان الديني مايفتقر إليه من تناسق
وترابط وصدق ومنطقية. و (الخطاب) كما استخرج معناه من المعاجم العربية هو:
كلام في شأنٍ ذي درجة ملحوظة من الأهمية ويتسم بالتنسيق والمعاودة والتحبير،
وفيه قياس ويحتوي على مقدمات ونتائج، وما يلقيه (الآخر) ويقصد به (الخصم
الإسلامي) يفتقر في خطابه إلى ذلك كله. أما سبب استبدال (الخطاب) باللسان فلأنه
كما يتصور يتفق مع ما (يهدر) ! به هؤلاء الإسلاميون الذين يميلون إلى التغلب
على خصومهم بالحق وبالباطل وهم كثيرو الكلام، لايكفون عنه ويعدونه البديل أو
المعادل للفعل، ومعظم كلامهم تقوّل وأخبار، وأقله منطق وعقلانية، كما أنهم
يقولون مالايفعلون، ولايأتمرون بما يأمرون الناس به، ولاينتهون عما ينهون
غيرهم عنه، ولاهمّ له كما يقول بالنص إلا (الهمز والغمز والعض والقرص
والخمش واللدغ) وقد اكتشف في القاموس المحيط (لسَنَت العقرب أي لدغت) .
سمات الخطاب الإسلامي في زعمهم:
بعد هذا القدح في الإسلاميين وخطابهم أو لسانهم كما يرى هذا المثقف
التقدمي المستنير نجده يصف هذا اللسان بمايلي:
أولا: أنه صاحب فاعلية قوية لدى العامة ومؤخراً لدى المتعلمين، ويعني بهم
حملة الشهادات العليا حتى الدكتوراه، بل لدى قطاع واسع من الأكاديميين وأساتذة
الجامعة وليس (المثقفين) من أقرانه فحسب.
ثانياً: أنه يمتلك القابلية الثبوتية أو اليقينية لدى المتلقي التي لايجاريه فيها أي
خطاب غيره (!) ، فمن يستقبله لا يطالب مَنْ (يُلاسنه) بأي برهان أو حجة بل
على الفور يسلم ويذعن وتنشر في عقله وذهنه ووجدانه أمارات الاقتناع والرضى
والقبول المطلق غير المشروط، ولاتخطر على باله مجرد خاطرة ولو ضعيفة أن
يطالب من يلقيه عليه بأقل القليل من قرينة، بل من أدلة ثبوت.
عاب (المثقف التقدمي المستنير) على أقرانه من أصحاب الخطاب التقدمي
ردود فعلهم للخطاب أو (اللسان) الإسلامي ووصفها بأنها: زاعقة، صارخة إنشائية، خطابية، تتهم الإسلاميين بالظلامية والعودة للقرون الوسطى ومحاكم التفتيش
وشق الصدور، والقلوب، وخرق المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، وإعلان (ليما)
عن حرية البحث العلمي، وتذكر بما جرى (لجاليليو (و) كوبرنيكس) ، وإهدار
كرامة النساء، والتدخل في الخصومات واقتحام العلاقات الحميمة، فقدموا بذلك
على طبق من ذهب إبريزٍ خالص لخصومهم الإسلاميين دليل الثبوت على صحة
مايقال عنهم بالنفور من الإسلام ومعاداتهم إياه وكل مايمت إليه بأدنى صلة) .
إن المقارنة بين الخطابين بنص ماوصفهما به (المثقف التقدمي) تطرح عدة
تساؤلات:
أولاً: كيف لخطاب أو حتى للسان يفتقد إلى التناسق والترابط والصدق
والمنطقية أن يكون له مثل هذا التأثير الذي اعترف به للخطاب الإسلامي حتى على
خصومه من المثقفين المستنيرين؟ !
ثانياً: كيف لأصحاب (لسان) يمتلك كل هذه الفاعلية وكل هذا التأثير أن
يكونوا أصحاب ادعاء زائف يخفون تحته الدفاع عن مصالحهم ومنافعهم ومكاسبهم
وطموحاتهم وأحلامهم؟ ! وكيف لا يطالب المستمع إلى هذا (اللسان) بأي دليل أو
حجة ويذعن ويسلم على الفور، ثم يتهم صاحبه بأنه يقدم تفسيراً مزوراً للإسلام
يعلن بكل جرأة أنه الحق؟ وإذا انخدع بذلك العوام فكيف ينخدع به المتعلمون
والأكاديميون وأساتذة الجامعات، بل المثقفون التقدميون المستنيرون؟ !
ثالثاً: كيف لايملك الخطاب التقدمي ولو بعض هذا التأثير الذي يمتلكه
الخطاب الإسلامي، إذا سلمنا جدلاً بتناسقه وصدقه ومنطقيته؟ وكيف يكون التناسق
والصدق والترابط والمنطقية في خطاب وصفه صاحبه بنفسه بأنه زاعق صارخ
إنشائي خطابي؟ .
أصاب المثقف المستنير حينما نبه أقرانه من الطليعيين والتقدميين والعلمانيين
إلى الحقائق المهمة التالية:
أولا: أن الثقافة الإسلامية:
أ - مكون رئيس في بنية الثقافة العامة في المنطقة العربية.
ب - أنها طرف فاعل فيما يسميه بمعركة الأصالة والحداثة.
ج - أنها غدت في السنوات الأخيرة تحتل حيزاً واسعاً أكبر مما كان متوقعاً
في الفضاء الثقافي.
د - أنها ملك للجميع وليست حكراً على أحد ولاتقل أهمية عن الثقافات
الأخرى.
هـ أنها ثرية عميقة خصبة متعددة النواحي تثري الفكر والعقل والوجدان.
وأن أي مشروع ثقافي أو فكري أو حضاري يتجاهل الإسلام سيسقط سقوطاً
مدويا.
ثانيا: أن المثقف العربي عموما:
أ - مهما بلغ قدره فإنه يتجاهل الثقافة الإسلامية ويعرض عنها بل ويزدريها
وأن هجر هذه الثقافة (أو احتقارها) أصبح سمة مميزة لأغلب المثقفين الليبراليين.
ب - أن هذا المثقف يتعبد في محراب الثقافات الأخرى، ويعتقد أنها غاية
المراد من رب العباد ونهاية المطاف على حد تعبيره.
ثالثا: أقر المثقف المستنير بنص عباراته (بالفقر المدقع في الثقافة الإسلامية
لدى التقدميين والطليعيين والمستنيرين) .
رغم كل ما اعترف به (المثقف المستنير) من خصائص ومزايا الثقافة
الإسلامية واللسان الإسلامي، فإنه يصر على الدخول في معركة مع (خصمه)
الإسلامي يسميها (بمعركة الاستنارة) ويصفها بأنها معركة تحتاج إلى نفس طويل
وصبر جميل، ويعترف بأنها ستكون سجالاً أي هزائم وانتصارات سيتسلح فيها بما
يسميه (الإيمان بالقضية التي يناضل من أجلها وعدم اليأس مهما حدث) فالخصم
الإسلامي كما وصفه المثقف المستنير خصم شرس وعنيد ويمتلك إمكانيات بالغة
الضخامة.
يطلق المثقف المستنير على أسلوب المعركة مع (الخصم) الإسلامي المواجهة
من الداخل، ويقول في ذلك: (إن رأينا أن نشهر في وجهه السلاح ذاته الذي يدعي
أنه يمسك به، وهو الثقافة الإسلامية.. إن حجاج الآخر لايتأتى إلا من داخل
الثقافة الإسلامية التي يتفاخر أنه من حملتها.. إن تسعين في المائة مما يطرحه
الخصم كحجة مسلمة لايأتيها الباطل من أي مكان هي مجرد مقولة عليها خلاف
شديد) ، قيل للمثقف التقدمي: (إننا بذلك نلعب على ملعبهم وهم أقدر منا على
الفوز) ، فرد قائلا: (هذه حجة داحضة تقطع بأن قائلها يدخل في زمرة المبهورين
بذلك اللسان، فالثقافة الإسلامية ليست وقفاً عليهم، بل هي ملك لنا جميعاً
ولايجرؤون على إنكار ذلك، ومن يرفع هذا الاعتراض يقدم الدليل على عجزه عن
اقتحام مجالات الثقافة الإسلامية) .
ثم قيل له اعتراضاً: (إنك إذا أتيت بأدلة قوية فإنهم سيأتونك بأدلة أقوى أو
على الأقل لاتقل قوة) فكان رده: (نكون إذن قد كسبنا كثيراً. إن مايميز الآخر هو
طرحه لمقولاته بثقة مفرطة تصل إلى حد الغرور، لأنها في نظره يقينية ثابتة
راسخة لايدنو الشك منها أدنى دنو، فإذا صادمناها بمقولات مناقضة مستقاة من
مصادر لايستطيع أن ينبس إزاءها إلا بالإذعان والتسليم والخضوع اهتزت ثبوتية
أقواله وارتعش رسوخها، وتخلخلت يقينيتها، وتهاوت صلابتها، وأدرك المتلقي
لها أنها ليست فصل الخطاب ولاهي عين اليقين بل (فيها قولان) وعليها اختلاف،
وهي محل نظر وبشأنها أخذ ورد وشد وجذب.. إلخ وهذا كسب في غاية الأهمية إذ
بذلك ستغدو طروحات الآخر مثل غيرها قابلة للنقاش والجدال والحوار والنقد
والتوهين، بعد أن فككنا عنها القداسات الزائفة التي طالما أضفوها عليها، إننا
بسلوكنا هذا الطريق لوحققنا ذلك وحده لكان في تقديرنا انتصاراً في شطر كبير من
معركتنا الضارية مع (الآخر) ، وتبقى بعده العوامل الأخرى التي لاننفيها أو
نعترض عليها أو حتى نقلل من شأنها، بل على العكس من ذلك نقدرها حق قدرها
وندرك مدى تأثيرها وفاعليتها، ولكن الذي نشدد عليه هو: أن نبدأ البداية
الصحيحة وهي: المواجهة من الداخل [2] .
يأخذ (المثقف المستنير) جانب أقرانه من الطليعيين والعلمانيين رغم
اعترافه بفاعلية وتأثير الخطاب الديني وقوة وثراء الثقافة الإسلامية التي يستند إليها
أصحاب هذا الخطاب وفقر وعداء أقرانه لهذه الثقافة ثم يقودهم إلى معركة مع
الإسلاميين مرشداً إياهم إلى سلاح (المواجهة من الداخل) ، ويقصد به: الاستناد إلى
اختلاف الفقهاء في القضية موضع النزاع، وتبني القول المخالف للقول الذي رجحه
الإسلاميون إذا كان موافقاً لهوى العلمانيين والطليعيين والمستنيريين.. إلخ.
يقول الإمام الشاطبي في (الموافقات) رداً على مثل ذلك:
أولاً: الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها، وإن كثر الخلاف،
كما أنها في أصولها كذلك، ولايصلح فيها غير ذلك.
ثانياً: إن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين
القولين نقص لذلك الأصل.
ثالثا: متى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق
لهم مرجع إلا اتباع الشهوات، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة.. وعلى هذا
ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف.
رابعا: إن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة
ناجون وأن أهل الأوثان هالكون، ولتعصم هؤلاء، وتريق دم هؤلاء على الإطلاق
فيهما والعموم، فإذا كان النظر في الشريعة مؤدياً إلى مضادة هذا القصد صار
صاحبه هادما لقواعدها وصادًاً عن سبيلها.
__________
(1) انظر: رمسيس عوض، عصر العقل ونهاية المسيحية، مجلة (القاهرة (، العدد (152) يوليو 1995 ص 170 211.
(2) انظر: خليل عبد الكريم، المواجهة من الداخل مجلة (القاهرة) العدد 152 يوليو 1995 ص 120 124.(96/40)
نص شعري
لن تستباح مآذني
شعر:أسامة أنور عيسى
لمن العلا بن الورى يا سيدُ؟ ... والنارُ ي قلبِ العقيدةِ تُوقَدُ
والشمسُ أعماها الدخانُ بقسوةٍ ... فغدتْ بهيماً لا يزولُ وينفدُ
وغدا النهارُ طلاسماً وغياهباً ... لم تقتربْ منا الشموعُ وفرقدُ
جارٌ وعارٌ وانحدارٌ يحتسي ... طهرَ الصبيّةِ والعدالةُ تُوأَدُ
سربُ الرصاصِ معششٌ بوسادتي ... وبرأسِ شيخٍ ساجدٍ يتعبدُ
هذا الكتابُ تلونت صفحاتُه ... بدمائهم وبكى عليهم مسجدُ
أطفالنا شربوا الجراح تدمرتْ ... أحلامهم وسطا عليها الملحدُ
ومآذني صارت ركاماً يُشتهى ... وبقلبها وقف الصليبُ يغردُ
ومزارعي ومصانعي ومنازلي ... ومدارسي شَرَعَ العدو يبددُ
هذا وإخوانُ الحضارةِ كُبّلوا ... ما هاجَ صوتٌ أو تحركتِ اليدُ
وتشاغلوا وتقاعسوا وتناوموا ... وتلاوموا فتناحروا وتجمدوا
ماذا ترى؟ هل لم تصلْ صرخاتنا ... أم داسها القلبُ الظلومُ الجلمدُ
أم تاهتِ الخيل العِرابُ ببيدها ... وإلى السبيل المرتجى لم يهتدوا
أم أن هذا اليومَ خُلّدَ في الدّنا ... ماتَ الصباحُ لذا فلم يأتِ الغدُ
والمجلسُ الأمنيّ هبّ مزمجراً ... ومضت حروفُ أمينه تتوعدُ
ويفوح معسولُ الكلام فنشتهي ... بعضَ الوعودِ بواقعٍ يتجسدُ
لكنها الأحلامُ أوهامٌ فلا ... ترجُ المعونةَ من ظلومٍ يجحدُ
لا لن تبوحَ جراحُنا ودماؤنا ... فاللهُ أكبر منَ قويٍ يُقْصَدُ
لن ننثني، لن تستباحَ مآذني ... قد نام زيدٌ والجوادُ الأجردُ
ولينصرن الله كل عبادهِ ... عند الترابط والخطا تتوحدُ(96/46)
المسلمون والعالم
الأمم المتحدة.. علينا! !
(2)
نظرات في مواقف المنظمة الدولية
والمتنفذين فيها تجاه الأمة الإسلامية
بقلم:عبد العزيز كامل
إذا أراد المرء أن يبحث لحضارة الغرب (بشقيها الرأسمالي والشيوعي) عن
مرآة تعكس مواقفها وحساباتها الجماعية في منطقتنا العربية والإسلامية، فلن يجد
مرآة أصدق وصفاً، ولا أصفى شفاً وكشفاً من (الأمم المتحدة (؛ فإنها كانت ولا
تزال المعبّر عن مواقف وحسابات الدول الكبرى فيما يتعلق بقضايا الأمة الإسلامية، وسواء أكانت العلاقة بين تلك الدول الكبرى هي علاقة التحالف والانسجام، كما
كان الأمر بعد خروجها منتصرة في الحرب العالمية الثانية، أو كانت علاقة تنافس
وصدام؛ كما حدث طوال حقبة الحرب الباردة؛ فإن لمواقفها جميعاً أوصافاً متشابهة
وقواسم مشتركة تجمعها العداوات القديمة والحديثة ضد دول وشعوب العالم الإسلامي، فالأمم المتحدة ممثلة في قادتها الخمس الكبار، لاينتظر ولايتوقع منها غير ذلك،
فروسيا والصين (الشيوعيتان) وانجلترا وفرنسا (الاستعماريتان) وأمريكا الطامحة
في ميراث الجميع.. ماذا ينتظر منهم حيال قضايا وهموم وآمال العالم الإسلامي،
الذي تناوبوا جميعاً عبر عقود طويلة خلت على استغلال ثرواته واحتلال أراضيه،
وإذا كان الواقع هو أفصح الأدلة في إظهار الحقائق، فإن واقع الإجماع الأُممي
بقيادة تلك الدول على إضعاف العالم الإسلامي يبدو الحقيقة الأبرز مثولاً والأكثر
بروزاً في واقعنا المعاصر. وإلا، فبالله كيف نفسر بقاء العالم الإسلامي المكون من
أكثر من ثمانين دولة (جُلها أعضاء في الأمم المتحدة (محروماً تحت مظلتها من أي
وزن أو ثقل عالمي مؤثر: سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً.. أو حتى إعلامياً..!
هذا العالم الذي يضم أكثر من ربع سكان الأرض، ويتحكم في أغنى وأهم وأخطر
مناطق الدنيا، والذي يشغل مساحات واسعة تزيد على أربعين مليون كيلو متر مربع، ممثلاً بذلك أكثر من ربع اليابسة..، هذا العالم المؤهل للسيطرة على أهم مراكز
النشاط والاتصال بين القارات الثلاث المهمة: آسيا وأوروبا وإفريقيا؛ لإشرافه
على طرق الملاحة المهمة فيها. هذا العالم الإسلامي المتمتع بشتى المناخات
والبيئات، والحاوي في جوفه من كنوز الأرض ما يصل إلى ثلاثة أرباع احتياطي
النفط في العالم، وأكثر من ثلث احتياطي الغاز الطبيعي.. إضافة إلى ثرائه وتراثه
البشري الضخم المتعدد الإمكانات والكفاءات.. إن هذا العالم الإسلامي اليوم على
اتساعه من أقصاه إلى أقصاه؛ ليست فيه دولة واحدة متقدمة بالمعنى الحديث للتقدم
ولم يُمكّنْ من أن تكون فيه دولة واحدة كبرى، أو تكون فيه دولة واحدة ضمن دول
النادي النووي المتملك لسلاح الردع الأول في هذا العصر، وليست فيه دولة واحدة
تستطيع الاعتماد على نفسها؛ بفعل الحصار التقني في تصنيع السلاح التقليدي،
بل ويا للأسف فإن هذه الدول الثمانين (من ضمن 180 دولة عضواً في الأمم
المتحدة) لا تمثل مجتمعة في عالم اليوم وهي تزيد بسكانها على المليار نسمة القوة
الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو.. حتى الخامسة بل كلها في عداد ما يسمى (العالم
الثالث) أو (العالم النامي) وهو اصطلاح مهذب يقصد به أصلاً: (العالم المتخلف) !
الذي نصطلح الآن على تسميته: الأمم غير المتحدة..
إننا نرى كذلك حصاراً اقتصادياً رهيباً على العالم الإسلامي، لايقل ضراوة
عن الحصار السياسي أو العسكري، يدل عليه أبلغ دلالة أنه ليست في هذا (العالم
الثمانيني) دولة واحدة تدخل في عداد الدول الصناعية السبع، أو التسع، أو العشر، تلك التي تنتج صناعات ثقيلة أو تتميز في ابتكار وإنتاج الصناعات الإلكترونية
الخفيفة! بل إن أكثر دول العالم الإسلامي تعتمد على غيرها في توفير ما تحتاجه
من دقيق الخبز، أو تستجدي المعونات من غيرها بعد أن تدفعها أقساطاً من
استقلالها وكرامة شعوبها.
فإن قال قائل: هذا الواقع الذي تتحدث عنه صحيح، ولكن مسؤوليته لا تقع
على دول التآمر الخارجي فحسب، بل على التخاذل والتخلف الداخلي في جلّ بلاد
المسلمين كذلك، قلنا: نعم، ولكن ... من الذي أنشأ وطور وحافظ على تلك
الأوضاع الداخلية الشائنة والضامنة لمصالح قوى الاستعباد الكبرى؟ ، من الذي
زرع الوهن وغرس التبعية وجند الأتباع وبث الفرقة عبر سنين من الاستعمار
العسكري المباشر، وسنين أخرى من الانتداب ثم الوصاية ثم الحماية ... ثم أخيراً
(الشرعية (الدولية والأمم المتحدة؟ ! صحيح، ما أصدق قول الله [َإنَّ الكَافِرِينَ
كَانُوا لَكُمْ عَدُواً مُّبِيناً] [النساء: 101] .
وقفات مع مسائل مهمة:
وبعيداً عما يمكن أن يعد إجمالاً أو تعميماً، تعالوا نتأمل عدداً من المسائل
المهمة ذات العلاقة بأمة الإسلام، وطريقة تعاطي الدول الكبرى ممثلة في الأمم
المتحدة معها، مثل: موقفها من مسألة الاستعمار، والتسلح، وكذا مواقفها أثناء
وبعد الأزمات الرئيسة التي تعرضت لها بعض الشعوب الإسلامية خلال الأعوام
الخمسين الماضية.
أولاً: موقف الأمم المتحدة من المسألة الاستعمارية:
لم تتطرق مواد ميثاق الأمم المتحدة إلى الحديث عن الاستعمار، إلا في تسع
عشرة مادة من إجمالي مواد الميثاق البالغة (111) مادة، بالرغم من أن الحركة
الاستعمارية كانت لاتزال طاغية في وقت صدور هذا الميثاق.
مما يدل دلالة واضحة على أن تلك المنظمة الدولية لم تتخذ موقفا جاداً تجاه
المسألة الاستعمارية منذ البداية.
والواقع يدل على أن دور (عصبة الأمم) لم يختلف عن دور وريثتها (هيئة
الأمم) في موقفيهما من الاستعمار (على الأقل في الفترة التي سبقت احتدام الحرب
الباردة) فعصبة الأمم كانت قد ابتدعت نظام (الانتداب) لمعالجة: الأوضاع القانونية
للمستعمرات التي كانت خاضعة للدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى (خاصة
تركيا وما كان يتبعها من بلاد الإسلام) ، ثم أدخلت الأمم المتحدة بعض التعديلات
على نظام الانتداب وأسمته نظام (الوصاية) ، وقررت أن يسري هذا النظام على
المستعمرات التي كانت خاضعة للدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية. ورجح
ميثاقها كفة المصالح الاستعمارية على كفة الشعوب المستعمرة، وتمثل ذلك عملياً
في تمكين القوى الاستعمارية من استغلال الفرصة كاملة في تثبيت أقدامها وضمان
مصالحها في المناطق المستعمرة تحت زعم تهيئة الشعوب وإعدادها لتكون قادرة
على حكم نفسها بنفسها، وكانت هذه فرصة ذهبية للدول الاستعمارية، استغلتها
أبشع الاستغلال؛ حيث أثبت الواقع بعد ذلك أن تلك الدول لم تغادر تلك المناطق إلا
بعساكرها تاركة الشعوب المستعمرة في حالة من التبعية الذليلة، أو الفوضى
المستمرة التي تسمح بالتدخل كلما لاحت فرصة، وساعد على هذا الموقف أن
بريطانيا (زعيمة الاستعمار القديم (كانت لاتزال قوية، بل كانت شريكة للولايات
المتحدة وروسيا في تحقيق انتصار الحلفاء الذي تُوّج بإنشاء الأمم المتحدة، وقد أدت
عوامل كثيرة بعد ذلك ليس منها (ميثاق المنظمة) إلى تحول في شكل الاستعمار
ومضمونه، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية عزمت على وراثة وتحديث
الاستعمار القديم الذي كانت تقوم عليه دول عدة، منها: انجلترا وفرنسا وأسبانيا
والبرتغال وبلجيكا وجنوب أفريقيا، ونجحت أمريكا في إلهاب المشاعر ضد
الاستعمار القديم، وعمل الاتحاد السوفييتي (سابقا) في المجال نفسه، وسار على
الضرب ذاته كجزء من استراتيجية لإضعاف المعسكر الأوروبي الغربي وتفتيته
وحرمانه من عمقه الاستراتيجي والاقتصادي، وكذلك أراد أن يخطب ود الشعوب
المستعمرة؛ على أمل أن تصبح جسراً لبناء النفوذ خارج منطقة (حلف وارسو (،
ثم ألقت كلا القوتين: الاتحاد السوفييتي (السابق) وأمريكا بثقلهما في الأمم المتحدة
لتشجيع حركة التحرر من الاستعمار القديم؛ لتقتسم القوتان بعد ذلك العالم كله
وتقسمه إلى معسكرين متقابلين: المعسكر الشيوعي الشرقي، والمعسكر الرأسمالي
الغربي، ثم ها هو الزمان يدور دورته ويسقط أحد المعسكرين الحديثين، وتنفرد
الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم: بقيادة الأمم المتحدة والأمم غير المتحدة.
ثانياً: موقف الأمم المتحدة من مسألة التسلح:
اهتمت الفقرات التي تناولت الحديث عن نزع السلاح في ميثاق الأمم المتحدة
بالكلام عن تنظيم التسلح بين الدول الكبرى ... كان هذا أمراً طبيعياً؛ لأن للدول
المبرمة للميثاق أوثق الصلات بالسلاح وبقوة السلاح وجاء في المادة الحادية عشر
للميثاق: إن للجمعية العامة أن تنظر في التعاون لحفظ السلم والأمن الدوليين فيما
يتعلق بنزع السلاح وتنظيم التسليح. وبعد التوقيع بالأحرف الأولى على هذا
الميثاق، وبعد أقل من شهرين على إبرامه قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء
قنبلتين ذريتين: إحداهما على مدينة هيروشيما اليابانية في 6أغسطس1945م،
والثانية على مدينة (نجازاكي) في 9أغسطس 1945م، ويبدو أن الولايات المتحدة
أرادت بذلك أن تطبق عمليا ما فهمته من دعوى الأمم المتحدة إلى نشر السلم والأمن
الدوليين! وبعد عام أي في سنة 1946م شكلت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة
تابعة لها أطلقت عليها (لجنة الطاقة النووية) تدعو إلى ضمان استخدام الطاقة
النووية في الأغراض السلمية، ولكن: بعد دخول بقية الدول الكبرى النادي النووي
لم تطبق دعوة الأمم المتحدة بحزم إلا على الدول غير الكبرى وبخاصة الدول
الإسلامية، بل إن العديد من الدول غير الكبرى سمح لها بتملك السلاح النووي؛
لأنها غير إسلامية مثل الهند وجنوب إفريقيا ... وإسرائيل!
إنك إذا أردت أن تبحث عن سبب للسماح (لعباد البقر) بتملك السلاح النووي
في الوقت الذي لايسمح فيه بذلك أبداً لجارتها المسلمة (باكستان) ، أو أردت أن
تبحث عن سبب للسماح لدولة واحدة غير إسلامية في القارة شبه الإسلامية (إفريقيا) ، إذا أردت البحث عن ذلك فلن تجد إلا سببا واحداً هو: الإصرار الدولي تحت
مظلة الأمم المتحدة على إبقاء المسلمين بمجموعهم رهن الإذلال النووي في قارات
العالم، مرة من عبّاد البقر، ومرات من النصارى، ومرة أخيرة من اليهود.
والويل ثم الويل لمن أقدم أو أعلن أو نوى السعي إلى تملك هذا السلاح من
القادة المسلمين، أو حتى المتسمين منهم بأسماء المسلمين.. إن الأمم المتحدة
ستكون له بالمرصاد. ولنعط لمحة موجزة عن أقرب التهديدات النووية إلينا: إنه
التهديد اليهودي الذي نما وترعرع تحت سمع وبصر (الشرعية الدولية (! وقد بدأت
إسرائيل وفرنسا في زمن متقارب (في أوائل الخمسينات) مساعيهما نحو برنامج
للتسلح النووي، هذه بالتجسس وسرقة الأسرار، وتلك بالتقنية ورصد الأموال.
وكان شمعون بيريز (صقر السلام) ! في طليعة المؤيدين لهذا المشروع،
وكان فريق الفيزيائيين والعسكريين، يعملون فيه تحت إشرافه، وبلغ التعاون بين
فرنسا وإسرائيل ذروته قبل حرب السويس عام 1956م بأسابيع معدودة، ولما
حدثت الحرب واحتل اليهود أجزاء من سيناء، أرادت الأمم المتحدة التدخل بإرسال
قوات تشرف على الانسحاب بعد وقف القتال، فاشترط (بن جوريون (رئيس
وزراء إسرائيل في ذلك الوقت أن يسمح لإسرائيل ببناء مفاعل نووي في أراضيها، وبالفعل استمر التعاون بين فرنسا وإسرائيل بعلم الولايات المتحدة، ومن ثم
بإقرار ضمني من الأمم المتحدة، ثم جاءت الثمرة: مفاعل نووي إسرائيلي في
(ديمونة) بمنطقة النقب، هو كالتوأم للمفاعل النووي الفرنسي، بل إن فرنسا
أظهرت امتنانها لإسرائيل أكثر حتى قال (جيمومولييه) رئيس فرنسا في ذلك الوقت
أثناء مقابلة مع شمعون بيريز وجولدا مائير: (إنني مدين لكم بالقنبلة.. إنني مدين
لكم بالقنبلة) ثم انتقل بعد ذلك التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى إن (بن
جوريون) طلب منها أن تمد مظلتها النووية فوق إسرائيل، ولم يأت عام 73 الذي
حدثت فيه حرب أكتوبر إلا والمفاعل النووي الإسرائيلي قد أنتج أكثر من عشرين
قنبلة نووية، ومن المعروف أن هذه الحرب لم تنته إلا بعد أن هددت (جولدا مائير)
باستخدام القنابل النووية، موجهة الإنذار إلى العرب وأمريكا إذا لم تسارع بإقامة
جسر جوي لإمداد إسرائيل بالأسلحة والذخائر التي تحتاج إليها لخوض حرب شاملة
طويلة المدى، وعندها فقط أوقفت الحرب واكتشف العرب أنهم يحاربون أمريكا لا
إسرائيل وحدها كما قال السادات ولم ينتصف عقد الثمانينات إلا وقد تمكن اليهود من
صنع مئات الرؤس الحربية النيترونية القادرة على إهلاك أكبر الأعداد من البشر
في مقابل أقل دمار في الممتلكات.
وفي سبتمبر 1988م، أطلقت إسرائيل أول قمر صناعي لها إلى المدار
الجوي، فخطت بذلك ختطوة واسعة نحو استخدام الصواريخ العابرة للقارات مما
شجعها على تهديد باكستان علناً إذا أصرّت على المضي في السعي لإنتاج (القنبلة
الإسلامية) كما سماها الغرب. وفي عام 1992، وعندما استخدم صدام حسين
صواريخ (سكود) ضد إسرائيل في مظاهرة دعائية نصبت إسرائيل على الفور
منصات صواريخ متحركة مزودة بأسلحة نووية ومصوبة نحو العراق ظناً من
إسرائيل بأن صواريخ صدام قد تكون مزودة بأسلحة كيمائية سامة وأعطى شامير
أوامره حسب ماذكر (سيمور هرش) في كتابه (الخيار شمشون) باستخدام السلاح
النووي إذا دعت الضرورة. ولما انتهت الحرب ووضعت أوزارها في مدريد لم
ينس شامير أن يصطحب في جعبته ورقة التهديد النووي ضد العرب ... وإلا ...
إن اليهود لايزالون يواصلون أبحاثهم المكثفة لإنتاج أجيال جديدة من القنابل
النووية التي تعمل بأشعة الليزر، والتي تمثل قفزة نوعية أخرى في مجال الإرهاب
الرسمي على مستوى الدول.
هل لاتزال الأمم المتحدة ووسيطها النشيط (أوكيس) بجولاته المكوكية إلى
بغداد لا تعرف شيئاً عن ترسانة اليهود النووية والكيميائية التي لم تشر إليها في
جمعيتها أو مجلسها أو محكمتها ولو بقرار شجب أو إدانة أو حتى مشاعر
قلق؟ ! ...... وللحديث بقية.(96/48)
المسلمون والعالم
في اليمن:
هل يستوعب الدعاة طبيعة المرحلة؟ !
بقلم: أيمن بن سعيد
مرت اليمن في السنوات الأخيرة في دوامة من الصراعات بين الرئيس اليمني
وقيادات الحزب الاشتراكي انتهت بحرب السبعين يوماً الأخيرة، ولقد اضطرت
تلك الحرب بإرهاصاتها الكثيرة طرفي الصراع إلى التحالف مع مختلف القوى
الموجودة في الساحة اليمنية، وقد كان من أبرزها التحالف بين التجمع اليمني
للإصلاح وبين الرئيس اليمني، الذي تمكن الإسلاميون بواسطته من الوصول إلى
بعض مراكز النفوذ والمسؤولية، وتحقيق بعض المكتسبات، والمحافظة على بعض
الجوانب الإيجابية في الساحة اليمنية، ويبدو أن ذلك التحالف لم يكن هدفاً
استراتيجياً عند الرئيس اليمني، وإنما كان خطوة مرحلية اقتضتها ضرورة الموقف؛ إلا أن ذلك لم يعجب صناع القرار في العواصم الغربية والاتجاهات العلمانية
العربية في الداخل والخارج، ولذا تتابع ضغطها على الحكومة اليمنية للإسراع في
فك ذلك التحالف، فبدأت الحكومة بعد أن استقرت الأحوال لها نسبياً؛ بهزيمة
الحزب الاشتراكي، وحصول نوع من الانتعاش في علاقاتها الدولية بمحاولة سحب
البساط من تحت أقدام الإسلاميين، وذلك بالسعي الجاد لتشويه صورتهم، وتهميشهم
تمهيداً كما يبدو للبدء في ممارسة سياسة تجفيف المنابع في مرحلة لاحقة قد تكون
قريبة أسوة بمن سبقها من بعض دول عالمنا الإسلامي.
وفي ظني أن الإسلامين في اليمن من خلال هذا الدور الذي تقوم به الحكومة
سيدخلون مرحلة جديدة.
وسأحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على أبرز ملامح تلك المرحلة:
أولاً: صنع أصحاب النفوذ والسلطة بعض الأحداث المتهورة عن طريق
بعض المندسين من كوادرهم داخل شباب الحركة الإسلامية.
ثانياً: قيام بعض أحزاب المعارضة التي عملت أيام الحرب اليمينة الأخيرة
لصالح بعض الجهات الخارجية والتي أخذت على عاتقها مواجهة الصحوة الإسلامية
تمويلاً وتنفيذاً ببعض الحوادث غير المنضبطة بالضوابط الشرعية عن طريق
الشباب العامل لصالحها داخل الحركة الإسلامية.
ثالثاً: الاستفادة من بعض الحوادث الجنائية التي تحصل في المجتمع اليمني
ويكون بعض أطرافها من شباب الحركة الإسلامية (التجمع اليمني للإصلاح أو
التيار السلفي) .
رابعاً: الاستفادة من بعض الحوادث والمواقف المتشنجة لبعض الشباب المسلم
الذين لاتوجد لديهم مرجعية علمية أو دعوية يشاورونها وينطلقون وفق توجيهها،
وقد توجد لدى بعضهم مرجعية علمية ودعوية لكنها غير مدركة لطبيعة المرحلة التي
تمر بها الحركة الإسلامية إدراكاً جيداً.
خامساً: القيام بإلصاق جل تلك الحوادث بحزب الإصلاح، وماتبقى يلصق
بالتيارات السلفية التي توصم بالتشدد، رغبة في تحقيق الأمور التالية:
1- تشويه سمعة الإسلاميين الحسنة في أوساط الشعب اليمني بعد الحرب
الأخيرة وإلصاق تهمة التشدد والتكفير والتبديع لطبقات كثيرة من المجتمع اليمني
بهم.
2- التفريق بين التيار القبلي والتيار الإسلامي داخل التجمع اليمني للإصلاح، وإلصاق صفة الاعتدال والواقعية بالتيار القبلي، وقد يتم إلحاق بعض العناصر
الإسلامية من التيار العقلاني بالتيار القبلي وإلصاق تهمة التشدد واللجوء إلى العنف
تخطيطاً وتمويلاً إن لم يصل الأمر إلى حد الاتهام بالتنفيذ للتيار الذي يوصم بالتشدد
داخل الإصلاح وعلى رأسه بعض العلماء والدعاة الذين يبدو أنهم مستهدفون من
خلال الحملة الإعلامية المحلية والخارجية بدرجة كبيرة.
3- القيام بغرس خطورة التيار الإسلامي في أذهان الشعب اليمني، وأنه لابد
من مواجهتهم قبل أن يستفحل أمرهم، ويصل أمر البلاد في ظل نفوذ بعضهم إلى
ماوصلت إليه في عهد النفوذ الاشتراكي! !
4- المتوقع أن يبدأ أصحاب السلطة والنفوذ في ظل ضغط خارجي في عملية
تجفيف المنابع الإسلامية، وأن يستمروا في ممارسة التضييق على المكتسبات
والمواقع الإسلامية، ولتلك الممارسات مجالات أبرزها ما يلي:
أ- المعاهد العلمية الإسلامية ومحاولة إلغائها.
ب- المناهج الدراسية في التعليم العام وبالأخص مواد التربية الإسلامية
والمواد الاجتماعية.
ج- الوصاية على المساجد وتقييد حرية الخطابة والكلمة والتدريس فيها،
ويبدو أن الحملة في هذا الجانب ستصل الذروة في مرحلة الإعداد للانتخابات المقبلة.
د- التخلص من بعض الإسلاميين والمتعاطفين معهم داخل المؤسسات
العسكرية والأمنية أو السعي إلى تهميشهم.
هـ- التخلص من الإسلاميين والمتعاطفين معهم والمتواجدين في المراكز القيادية داخل مؤسسات الدولة، وبخاصة بعد الانتخابات القادمة والتي يبدو والله أعلم أن صناع القرار اليمني يهيئون لإخراج أولئك وأمثالهم من الذين ينعتونهم بالتشدد من الحكومة القادمة.
و التضييق على مصادر الدعم للأنشطة الإسلامية وبخاصة في ظل تنسيق
مع أعداء الصحوة.
ز- ضبط التدريس غير النظامي وإغلاق المراكز العلمية غير المحتواة من
قبل الدولة.
ح- الإيذاء بالسجن والتشويه وغير ذلك لبعض الشخصيات والجهات المؤثرة
التي من الممكن أن تقف عقبة أمام مضايقات أهل السلطة والنفوذ.
5- عمل أصحاب السلطة والنفوذ الاجتماعي على توظيف واستغلال حالة
الفرقة والتشرذم بين فصائل الحركة الإسلامية (الإصلاح السلفيين) ، وكذلك العمل
على زيادة الفجوة فيما بينهم عن طريق إيصال نقد كل منهم للآخر، وإبراز
وتضخيم بعض التضييق الذي يمارسه بعض الإسلاميين تجاه بعضهم بعضاً،
ومحاولة احتواء بعضهم، أما من لايمكن احتواؤه من أبناء الحركة الإسلامية سواء
أكان من الإصلاح أو التيارات السلفية فإنهم سيكونون مستهدفين في هذه الحملة على
حدٍ سواء.
6- تقليل نسبة الإسلاميين في البرلمان القادم لإخراجهم من الحكومة
بمسوغات مقبولة أمام الرأي العام، والمتوقع أن يبذل أصحاب السلطة والنفوذ
قصارى جهدهم لتحقيق ذلك مستخدمين وسائل شتى من أهمها وأبرزها:
* إظهار بعض أخطاء الوزارات والمؤسسات التي يقف على رأسها بعض
المنتسبين إلى التجمع اليمني للإصلاح، وإغفال محاسنها والخطوات التي قامت بها
في المعالجة والتصحيح رغم المضايقات والعوائق الكثيرة أمامهم.
* قد يُستغل موقف كثير من رموز التيار السلفي من دخول الإسلاميين في
البرلمان والمجالس المحلية.. إلخ.
وهو موقف يبدو أنه لن يؤثر على غير الإخوة في التجمع اليمني للإصلاح
الذين يعتمدون على أصوات أبناء الحركة الإسلامية والمتعاطفين معها، وبالتأكيد
فإن خسارتهم لأصوات التيار السلفي تعد خسارة كبيرة.
7- الموقف المتشنج لبعض رموز التيار القبلي والعقلاني داخل التجمع اليمني
للإصلاح من التيار السلفي بعامة دونما تفريق بين الأفراد المتهورين والرموز غير
المنضبطة في مواقفها وآرائها بالضوابط الشرعية وبين أغلب كوادر الدعوة السلفية.
وفي نظري: أن المطلوب من الإخوة في الحركة الإسلامية في اليمن عموماً
هو التأمل العميق في الموقف الشرعي الصحيح حيال التعامل مع هذه المرحلة
الحرجة التي تمر بها الدعوة الإسلامية في اليمن، والمقترح لذلك:
1- أن يبادر الإسلاميون جميعاً إلى تشكيل لجنة تنسيق في المواقف تضم
مجموعة من العلماء والدعاة من الطرفين؛ على أن لا يكون هدفها هو توحيد جميع
المواقف والآراء واحتواء كل فصيل للآخر، بل هدفها توحيد المواقف العملية التي
تتطلبها المرحلة في القضايا والأحداث المتفق بشأنها، وتحرير محل النزاع في
المواقف المختلف فيها، ونصيحة كل فصيل للآخر بما يرى أنه الحق الذي يدين الله
(تعالى) به في ذلك، بشرط أن لايؤدي هذا الأمر إلى القطيعة والتباعد بين الفصائل، مع تفهم الجميع أن الاجتماع لايعني عدم التصارح والوضوح في الطرح والانتقاد
البناء.
2- أن يبادر الجميع إلى تشكيل لجنة مهمتها رصد الحملات الإعلامية
والمواقف العملية التي يتخذها المعادون للحركة الإسلامية وكتابة ردود مناسبة عليها، وتشجيع بعض الرموز العلمية والدعوية على كتابة ردود علمية موضوعية متأنية
منضبطة بالشرع الحنيف عليها، ويفضل مدافعة كل فصيل عن الآخر بالحق،
وإثبات أنه لاعلاقة للتيارات العلمانية والبدعية بالخلافات داخل الحركة الإسلامية
لاختلاف مقاصد النقاش، وكشف دور التيارات العلمانية وما ترمي إليه من تعميق
الخلاف واستثماره لتحقيق أهداف ومصالح خاصة بها، بينما هدف فصائل الحركة
الإسلامية الوصول إلى الحق وتعبد الله (تعالى) به.
3- أن يقوم الجميع بالتخطيط للقيام بحملة موجهة عن طريق الخطب
والمحاضرات والكتيبات والمقالات؛ لاستجاشة روح شباب الصحوة ممن يتسمون
بالفردية في المواقف، وعدم وجود مرجعية علمية مدركة لطبيعة المرحلة عندهم،
وفي نظري أن هذا الشق يتأكد في حق علماء ودعاة التجمعات السلفية، باعتبار أن
توجيههم لهم أقرب إلى القبول والتأثير من غيرهم، مع أهمية أن يكون ذلك بالرفق
واللين والمجادلة بالتي هي أحسن، والتذكير بالله (تعالى) واليوم الآخر، ومتى تم
التأثير على مثل هؤلاء وأُقنعوا بأهمية الرجوع إلى بعض طلبة العلم والدعاة
المعتبرين؛ ممن يحيط بظروف المرحلة، وأبعاد الأحداث الجارية ليصدروا في
المواقف العملية عن رأيهم فإن في ذلك خيراً كثيراً إن شاء الله.
4- أن يقوم الجميع بمناصحة ومصارحة الرموز العلمية والدعوية الذين
يقعون في أخطاء منهجية وتجاوزات كبيرة للضوابط الشرعية: سواء في تناولهم
للأحداث والقضايا الموجودة في الساحة، أو في مواقفهم تجاه إخوانهم العلماء
والدعاة العاملين في الجمعيات الخيرية والتجمعات الدعوية، ومن الممكن
مصارحتهم بالهفوات والزلات التي يقعون فيها والقيام ببيان الآثار السيئة لتلك
الأخطاء والتجاوزات على مستقبل الدعوة الإسلامية في اليمن، وتحميلهم المسؤولية
في ذلك أثناء الوقوف بين يدي الله (عز وجل) ، ومطالبتهم بمواقف عملية تساعد
على جمع الشمل وتوحيد الكلمة، وتهدي شباب الصحوة الذين يصدرون عن آرائهم، وتخفف من التهور الموجود لدى بعضهم، ويفضل أن يكون ذلك ابتداء في السر،
فإن لم يجدِ ذلك فلا بد من الدفاع عن المنهج الحق والذود عنه؛ لأن المسلم الحق
مهما عظمت مكانة الرجال لديه إلا أن الحق أحب إليه منهم، وما أعظم رسول الذي
كان الحق أحب إليه من الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه مع أنه من الإيمان
بمكان عالٍ، حيث قال له عندما عيّر بلالاً رضي الله عنه بابن السوداء: (أعيرته
بأمه؟ ! إنك امرؤ فيك جاهلية) [1] .
5- مع أهمية الدور الذي يقوم به حزب الإصلاح والمتمثل في محاولة حماية
الصحوة ومكتسابتها من داخل مجلس النواب ومؤسسات الدولة التنفيذية والدور الذي
تقوم به التجمعات السلفية في التعليم والتربية في محيطها الذي تعمل فيه إلا أن
الواجب أن لايَقْصُر أحد منهم دوره على ذلك إذ إن أمامهم ميداناً فسيحاً ومضماراً
رئيساً وهو دعوة ستة عشر مليون مسلم يمثلون الشعب اليمني بسائر فئاته، وأنه
لايسوغ قصر الخطاب الدعوي على الشباب القريب من الدعاة والمتعاطف مع
الإسلام بطبعه. وبخاصة أن جل فصائل العمل الدعوي معتمدة بدرجة كبيرة على
رموزها الكبيرة وتعاني من نقص ملحوظ في القيادات المتوسطة المؤهلة للقيام
بواجب الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعلم وبصيرة.
6- الاتفاق على موقف موحد من بعض المحسوبين على الحركة الإسلامية
وأحسب أنهم معروفون لدى الجميع! والذين يعملون على اختراق الصف الإسلامي
وضرب مسيرة الصحوة وجر شبابها إلى مواقف تكون مبرراً لضربها وقصقصة
أجنحتها والتأثير سلبياً على كثير من منجزاتها.
7- أن يعمل الإخوة العلماء والدعاة المنتمون إلى التجمع اليمني للإصلاح
على تحسين النظرة السيئة للمنتمين إلى التجمعات السلفية والتي قد تصل إلى حد
العداء لدى كثير من كوادرهم، ولدى قيادة الجناح القبلي منهم بخاصة، وبعض
رموز التيار العقلاني بوجه أخص داخل التجمع، وأن يقوموا على تفريق القيادات
القبلية بين فصائل التيار السلفي، وبمطالبة التيار العقلاني داخل التجمع بالانضباط
أكثر بالضوابط الشرعية في مواقفه وآرائه حتى تتقارب وجهات النظر ما أمكن
ويبدو أن مسؤولية حماية الصحوة ومنجزاتها وتحسين صورتها تقع على الإخوة في
التجمع اليمني للإصلاح أكثر من غيرهم؛ نظراً لموقعهم داخل الائتلاف الحكومي
وانتشارهم الجماهيري.. إلخ
7- أن يعيد الإخوة العلماء والدعاة داخل التيار السلفي دراسة موقفهم من
الانتخابات النيابية سواء أكان من جهة الدخول في البرلمان أو على الأقل إعطاء
الأصوات للإخوة الصالحين الداخلين فيه، ومع أنني من أكثر الناس إيماناً بعدم
إمكانية التغيير عن طريق اللعبة البرلمانية وفي تجربة الجزائر خير شاهد إلا أنها
في مثل هذه المرحلة التي يمر بها إسلاميو اليمن قد تخفف بعض المفاسد وتقلل من
بعض الآثار السيئة، ونحن لانطالب التجمعات السلفية بالدخول في اللعبة البرلمانية
ولكن نطالبهم بإعادة الدارسة للموقف دراسة متأنية في ظل تغيير الدستور، والتأمل
العميق في المصالح والمفاسد المترتبة على كلا الموقفين.
إن الذي نطالب به فقط هو الدراسة الجادة المنضبطة بالضوابط الشرعية
والمتحررة من التأثر بالقناعات والمواقف السابقة، أو من قوة النقد الموجه من
بعض أصحاب الآراء المعارضة حيال هذه القضايا داخل التيار السلفي.
وفي حال وصولهم إلى موقف شرعي يمنعهم من الدخول في البرلمان القادم،
أو التصويت لمن يرى من الإسلاميين جواز الدخول فإنهم مطالبون حينها بالوقوف
بقوة للآراء التي ترى الحكم في هذه المسألة قطعياً لا اجتهادياً، وأن يخافوا الله في
ذلك، وأن يكون الحق رائدهم انطلاقاً ودفاعاً.
إن الواجب على الإخوة في الإصلاح أن يتفهموا الموقف الشرعي الذي يمنع
إخوانهم من الدخول في اللعبة البرلمانية مادام أن هذه قناعتهم الشرعية، وأنه
لايسعهم شرعاً الوقوف بجانبهم والتقرب إلى الله تعالى بأمر يرون فيه مخالفة
ومعصية له سبحانه، وأن يكفوا عن التشنيع عليهم واتهامهم بالقعود والتخلف
والوقوف في جانب الأحزاب العلمانية بسبب موقفهم ذلك.
9- أن يتم تشكيل لجان من العلماء والقضاة والدعاة والوجهاء من داخل
التجمع اليمني للإصلاح، والتيارات السلفية ومن خارجها لإثناء أصحاب السلطة
والنفوذ عن مواقفهم المعادية للتيار الإسلامي ومكتسباته، وتذكيرهم بأن دينهم
وبلدهم وأبناء جلدتهم أنفع لهم وأبقى من اتباع القوى المختلفة المعادية للتوجهات
الإسلامية في اليمن، والضاغطة على أصحاب السلطة والنفوذ لتحجيم دورهم وأن
التوجه المعادي للإسلام الذي يريد أن يوقع بالتيار الإسلامي في هذا البلد إنما هدفه
ضرب إخوة أشقاء لهم، وإشاعة التنافر والشقاق بين أفراد المجتمع اليمني المسلم
لصالح توجهات دولية معادية للإسلام، يسوؤها إسلامية المجتمع اليمني وتعاون
أبنائه ليكونوا يداً واحدة على من سواهم من أعداء أمتنا المسلمة.
10- على العلماء والدعاة في اليمن أن يستوعبوا التغيير النوعي الذي حصل
في حزب المؤتمر الشعبي العام بعد عقده لمؤتمره الخامس؛ والمتمثل بخروج التيار
الميثاقي القريب في طروحاته من الحركة الإسلامية من قيادة المؤتمر وتفرد التيار
الليبرالي بها، وسيطرة كثير من كوادر الحزب الاشتراكي سابقاً سواء من أنصار
الرئيس علي ناصر محمد، أو ممن ترك الحزب بعد الحرب الأخيرة على كثير من
مقاعد اللجنة الدائمة للمؤتمر، وإيكال قيادة فروع المؤتمر في المحافظات الجنوبية
والشرقية إليها، وهو تغيير أحسب أنه بالإمكانات الضخمة المتوفرة له إمكانات دولة
مؤهل لتحول المؤتمر من مجرد كونه مظلة يجلس تحتها تيارات متباينة إلى حزب
بدأ يخطو خطوات ملحوظة في سبيل ذلك، وبخاصة أنه يملك أمانة عامة محيطة
بطبيعة المرحلة التي تمر بالمنطقة، ولها صلة بصناع القرار في العواصم الدولية
مع كونها مدركة لطبيعة اليمن الاجتماعية بما فيها الحركة الاسلامية بجميع فصائلها
ومتسمة ببعد النظر والدهاء؛ مما يوجب على أبناء الصحوة الاسلامية أخذ الحيطة
والحذر.
11- إن مايخطط له من تلك المؤامرة التي بدأت بوادرها في الأفق إنما هي
في الحقيقة ثورة ضد الإسلام وضد دعاته ورموزه وهذا يعني التنكر لأصالة
المجتمع اليمني المسلم المتمثلة في عقيدته الإسلامية، وتنكر لتاريخه وتقاليده
المستمدة من الإسلام وحينما يحصل ذلك سواء بمكر الأحزاب العلمانية أو بضغوط
دولية؛ فإنما يعني ذلك في النهاية الثورة على الإسلام وهو منذر شر سيؤدي ولاشك
إلى غضب الله ومقته الذي يعم كما جاء في الحديث: (يا رسول الله! أنهلك وفينا
الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) [2] .
12- لقد جربت أمتنا الإسلامية في جل أقطارها أن المنطلقات الوضعية
والتوجهات العلمانية لن تكون ثمارها سوى الصاب والعلقم، والخير كل الخير في
العودة إلى الإسلام والحكم بشريعته وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، ومازلنا
نرى في واقعنا في كثير من دول العالم العربي والإسلامي أنهم ما صبوا جام حقدهم
على دعاة الإسلام وأذاقوهم سوء العذاب إلا وكان عاقبة ذلك الجزاء الوفاق من
الحروب الأهلية وسوء الأوضاع الاقتصادية وتسلط أعداء الله عليهم [فليحذر الذين
يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم] (النور: 93) .
13- الحذر من الوقوع في مصيدة العنف والمواجهة فإن ذلك بعيد كل البعد
عن الحكمة وعن وضع الأمور في نصابها ولم تجن بعض الجماعات من العنف
المسلح سوى الحرب الضروس، والمصادرة لمكانتها، وتجييش الرأي العام ضدها، بما لامبرر له.
وأخيراً لايسعنا إلا أن نذكر إخواننا العلماء والدعاة في اليمن من سائر
الفصائل الإسلامية أن المكاسب التي تحققت في بلادهم ليست حكراً على الإخوة في
التجمع للإصلاح وإن كان لهم النصيب الأوفى، وبالتالي فإن مسؤولية تعزيز تلك
المكاسب وتصاعد مدها ليست مسؤوليتهم وحدهم، وعلى العقلاء من العلماء والدعاة
والمصلحين من أي اتجاه إسلامي كان أن يحافظوا عليها لأن القضية ليست قضية
حزب أو فصيل دعوي بعينه، وإنما هي في النهاية إما الإسلام وإما العلمانية.
__________
(1) البخاري مع الفتح 1/ 106ح30.
(2) مسلم ح (2880) .(96/56)
المسلمون والعالم
دور الاقتصاد والسياسة
في خدمة أهداف التنصير
بقلم:ياسر قارئ
منذ خمسة عشر قرناً والنصارى يكيدون للإسلام وأهله بوسائل متنوعة
وأساليب مختلفة، ولم تثن التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية القوم عن
الاستمرار في مكرهم وخططهم الشيطانية للقضاء على المسلمين إذا لم ينجح
تطويعهم، فليس غريباً إذن أن يستغل المنصرون إنجازات الثورتين: الفرنسية
التي أجهزت على عصور البابوية، والصناعية التي قلبت المعايير الاجتماعية
والأخلاقية في أوروبا على حد سواء، ولعله من نافلة القول التذكير بأن النظام
الرأسمالي المنبثق عن الثورتين يقوم على أساس من الحرية السياسية والفكرية؛
فهما متلازمتان نظرياً وعملياً إلى حد كبير في أوربا وأمريكا، بينما توجد أنظمة
رأسمالية عرجاء في بقية القارات، وذلك له أسبابه ومبرراته التي ستتضح من بين
ثنايا المقال.
لقد وجد المنصرون في الآلة والصناعة عموماً وسائل تمكنهم دولاً وشعوباً من
فرض الهيمنة المطلقة على مقدرات وحاضر ومستقبل العالم الإسلامي المتناحر،
فكانوا أعواناً للاحتلال العسكري الأوروبي (الاستعمار) [*] متدثرين بلباس العلم
والطب والتجارة وماتخفي صدورهم وماتنطوي عليه دخائلهم من الحقد والبغضاء
مما لايطاق، ومع ذلك تظاهروا بالحب والإخلاص ليجدوا ثَم موضع قدم في قلوب
الناس قبل أن يعلنوا الحماية والسيادة على البلاد والعباد، وفي هذه القراءة لدور
الاقتصاد والسياسة في خدمة أهداف المنصرين ماسيكشف جزءاً من المؤامرة
الكبرى التي تسللت إلى الوريد، وتوشك أن تصل إلى النخاع، وهي على كل حال
محاولة لإلقاء الضوء على علاقة حميمة ورابطة متينة بين المؤسسات الاقتصادية
والسياسية وقراراتها وبرامجها من جهة، وبين الإرساليات النصرانية الداعية إلى
تكفير المسلمين؛ لينتبه الغافل، ويستيقظ النائم، وينتهي الغاوي، ويتحرك الذين
أوتوا الكتاب.
إن استغلال المنصرين لاحتياجات الناس ليس أمراً جديداً، ولايعني ذلك
التقليل من خطره، فالطب والتعليم والرعاية والخدمات الأساسية والمساعدة لتوفير
الحياة الكريمة للمحتاجين أسلحة ماضية برز فيها النصارى وغلبوا المسلمين إلى
حين، لكن السبب الرئيس لظهور هذا العجز الفاضح وهو ماينبغي معالجته: هو
الاقتصاد وبرامجه، وفي هذا دلالة على أن العلمانية لم تفلح في إيجاد الحلول
للمشاكل الاجتماعية في العالم الإسلامي بالرغم من حربها الضروس على الدين
وأهله؛ فلا أرضاً قطعت ولاظهراً أبقت. وسأبين الدور الاقتصادي والسياسي
للمنصرين وأثرهما في إيصال رسالتهم للناس على النحو التالي:
أولاً: الجانب الاقتصادي:
في هذا الجزء سنعرض أمثلة من القديم والحديث على استفادة المنصرين، بل
وتجيير البرامج الاقتصادية لمصلحتهم التنصيرية والمالية أيضاً، فبعد فشل جهودهم
مع المسلمين في إفريقيا (إبان الاحتلال العسكري) عدلوا إلى فرض القيود على بناء
المساجد والتعليم العربي والجمعيات الإسلامية وحركة قوافل التجارة [1] ، وفي
الوقت الذي أعاقوا النهضة الاقتصادية والحضارية اتجهوا كذلك إلى زيادة المعاناة؛
برفع الرسوم الطبية على المسلمين، بينما قدموها مجاناً للنصارى كما حدث في
باكستان! [2] ومن الطبيعي جداً أن يستفحل المرض ويفسد الاقتصاد في ظل
الجهل والفقر.
ثم إن المنصرين انتقوا المواقع الحيوية والشعبية في البلاد لإقامة مراكزهم
ومنشآتهم [3] ، الأمر الذي يجعل العقارات الثمينة والمحلات التجارية الكبرى تحت
وصايتهم سواء أكانوا وافدين أو مقيمين. ولعلنا نذكر فقط بأن إلغاء نظام الإقطاع
في أوروبا سمح للكنسية بالاحتفاظ بعقاراتها؛ فكانت ولاتزال أكبر مالك للأراضي
في العالم، وبخاصة المراكز التجارية الضخمة. وتعدت تلك النزعة الانتقامية إلى
الاستشارات التنموية والوصفات الاقتصادية التي تحول دون أي نهضة شاملة
ومستقلة، فقد بث المنصرون بين الناس أن الصناعة والاختراع يزرعان الغرور
في الإنسان؛ مما يجعله يتكبر ويستنكف عن العبادة، فعليه إذن بالزراعة فقط إذ
هي المكان الذي يجد فيه المخلوق خالقه [4] ، والعجيب أن هذا الكيان الحيوي قد تم
تدميره؛ وبنصائح الخبراء الغربيين في بلاد غنية بالموارد الزراعية؛ لتصبح عالة
اقتصادية ورهينة سياسية للدول الصناعية، ولعل الصورة تتضح أكثر إذا عرفنا
بأن بعض الخطط الاقتصادية كانت تهدف إلى تنفير الناس من النظام الشيوعي
بسبب مردودها المالي الطويل الأمد، فتؤدي الحاجة الملحة إلى اعتناق الرأسمالية!!.
ويزداد المرء حيرة عندما يكتشف أن بعض الخطط الاقتصادية المجدية يسعى
النصارى لتطويعها لمصالحهم، كما صرح بذلك صموئيل زويمر (المؤسس
للتنصير المنظم في الشرق الأوسط في أوائل هذا القرن) قائلاً: إن القطار الذي
يربط الشام بالحجاز سوف يسهل أعمال المنصريين كثيراً، وقريباً من ذلك قال
(هرتزل) عن ربط مصر ببلاد الكاب في إفريقيا [5] ، وليس الحل هو رفض
المشروع النافع، وإنما المطلوب هو عدم التساهل والتفريط في المصالح العليا للأمة، ولو اضطر الأمر إلى تقديم التضحيات بدل التنازلات، كيف لايكون ذلك وقد
اتفق المؤتمرون في ألمانيا في تلك الحقبة على دور المنصرين الفعال في تثبيت
الاستعمار الاقتصادي، إذ به يتم القضاء على الإسلام عدو المستعمرين الأول [6] ؟ !
من أجل ذلك لايفاجأ المرء حين يعلم أن الرئيس الأمريكي (تاقت) افتتح في
سنة 1911م المعرض العام لإرساليات التنصير الذي يقدم نماذج من محاصيل البلاد
التي يرتادها المنصرون [7] والظن أنهم يريدون إغراء المغامرين ورعاة البقر
بالسياحة في تلك المناطق للاستيلاء على خيراتها، وحتى لايظن بنا سوءاً فقد
اعترف بعض هؤلاء المنصرين باستغلال الدين لتحقيق طموحاتهم الاقتصادية
الشخصية [8] أو الاستعانة بمشرك (يعنى بكلمة مشرك: المسلم!) وهذه
التصرفات غير الإنسانية في مجتمع اليوم، لاتصدر إلا عن أصحاب العقائد
الراسخة حتى وإن كانت فاسدة!
وعلى الرغم من رحيل المحتلين المادي إلا أن أثرهم المعنوي لايزال يقوم
بدوره في صناعة المجتمعات، ولقد برزت في أعقاب الحرب العالمية الثانية
مؤسسات دولية تهدف إلى اقتلاع جذور الحرب عن طريق الإصلاحات الاقتصادية، وبمرور الوقت غدت تلك المنظمات تتحكم في العالم بأسره، وفي هذا الصدد
يقول بابا الفاتيكان، مقرراً بأن نظام الدولة المستقلة هو في طور الاضمحلال إذ
ستخلفه الحكومة العالمية [9] ، كما تنبأ بذلك مستشار الرئيس (كارتر) ، إذ يقول
(أزبيجينو بريجنسكي) : إن دور المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وصندوق النقد
الدولي سيزداد بسبب التداخل والتعقيد الاقتصادي السياسي للدول [10] .
ولنا أن نسأل عن ماهية الدور الذي تلعبه تلك المنظمات؟ فالصندوق على
سبيل المثال يدعم حوالي (60) مشروعاً للتنظيم العائلي، أو الحد من النسل في
(43) دولة بهدف تحسين الاقتصاد! ! [11] ، فانظر تلاقي هذه البرامج الإنسانية
مع دعوة أحد القسس إلى منع المسلمين من القدوم إلى الحياة ابتداءً بعد أن فشل في
تنصيرهم [12] وحجة عدم توفر الغذاء الكافي للأعداد البشرية المتزايدة داحضة؛
لأن الإنتاج الزراعي يفيض سنويا ويحتفظ بالضروري منه مثل الحبوب كمخزون
استراتيجي لممارسة المزيد من الضغط على الدول النامية.
بالإضافة إلى ذلك فقد ساهم المدير السابق للبنك الدولي (روبرت مكمنارا)
(وزير الدفاع الأمريكي أثناء حرب فيتنام) في إغراق الدول النامية بالديون بزعم
القضاء على الفقر، الأمر الذي انعكس سلباً على الاقتصاد الوطني لكثير من الدول
التي لم تتحمل خدمة القروض (الربا) مع وجود اختلاسات وتلاعب إداري كبير،
فاضطر البنك إلى العودة إلى المبادئ الأساسية للقروض ومن ضمنها إلغاء الحواجز
التجارية والمالية وتطوير الصادرات وتقليص الإنفاق الحكومي [13] وتحت مظلة
حرية التجارة دخلت وسوقت كتب التنصير وبرامجه ومؤسساته وبسبب الخصخصة
الاقتصادية ازداد الفقر والعوز، وانتشر المرض والوباء، فأسرعت الإرساليات
لاغتنام الفرصة.
وتمشياً مع الخطط والبرامج الدولية لجأت الدول النامية إلى الاستعانة بالخبراء
والفنيين من أوروبا وأمريكا؛ فوجدت الإرساليات السرية والعلنية فرصة أخرى
لبسط نفوذها عن طريق تجنيد الألوف من الناس لخدمة الكنيسة اقتداءً بصانعي
الخيام [14] وبالتالي يتم إخضاع العالم الإسلامي والعربي للاستعمار الغربي،
وإعداد شخصيات تستسلم ولاتقاوم النفوذ الأجنبي في البلاد [15] . ومما يؤكد هذه
الصله الوثيقة والعلاقة الحميمة ماذكره أحد الباحثين في رسالة ماجستير تقدم بها إلى
جامعة هارفرد الأمريكية جاء فيها: إن المنصرين استفادوا من التغيير الهائل في
الحياة العامة في الدول المصدرة للنفط، وظهور معالم الحضارة المدنية الغربية
الأمر الذي اعتبروه نصراً للمجتمع النصراني، وبالتالي فإن طغيان المادة سيؤدي
إلى تواري الإسلام [16] خابوا وخسروا.
وختاماً فإن هناك أموراً كثيرة يطول المقام بذكرها وتحتاج إلى أبحاث مستقلة
مثل قيام البنوك العالمية باستنزاف المال العام عن طريق العقود الربوية، والتلاعب
بأسعار العملات واحتكار الشركات الكبرى للصناعات [17] كذلك قضية نقل التقنية
الحديثة وتوطينها، إذ إن الحاصل الآن هو تصدير تلك التقنية فقط مما يجعل
الهيمنة الغربية قائمة، ودور ومسؤوليات الشركات المتعددة الجنسيات والتزاماتها
المالية والأخلاقية تجاه الدول المضيفة، وأخيراً منظمة التجارة والتعرفة العامة
وآثارها المستقبلية على اقتصاديات الدول النامية.
ثانياً: الجانب السياسي:
يمثل الاستقرار السياسي الناتج عن مشاركة جميع القوى والأحزاب في
المجتمع في نظام الحكم قطب الرحى للنظام الرأسمالي، وهذه الحرية تعني أيضا
عدم تدخل الدولة في السوق التجارية (الاقتصاد) نظرياً وعملياً، وبنظرة خاطفة
على الدول النامية نلحظ أنها تشكل مهد الاضطرابات والقلاقل في العالم، وغياب
المشاركة الشعبية، وهذا الوضع غير صحي لقيام النظام الرأسمالي، وحتى إن قام
فإنه يعتمد على أقلية اجتماعية لاتعبر عن الرأي العام، وبالتالي تسعى إلى تحقيق
مصالحها الذاتية على حساب الدولة والأمة، بل والأدهى من ذلك أن نجد أن
الصراعات في العالم النامي تؤجج، بينما مثيلاتها في أوربا وأمريكا توأد في المهد.
نعود للبابا البولندي ثانية، فبعد مدة وجيزة من اعتلائه عرش البابوية في
روما سنة 1979م يبذل جاهه لدى حكومتي الأرجنتين وتشيلي المتنازعتين على
بعض الجزر [18] وفي هذه الوساطة دلالة واضحة على أن الحرب فيما بين
الكاثوليك مرفوضة تماما؛ لما يترتب عليها من تبعات مالية واقتصادية وإنسانية
تفسح المجال أمام جيش الإنقاذ الرأسمالي الأمريكي البروتستاني المذهب، بل ذهب
(البابا) إلى بذل حياته في تلك السنة مقابل نزع فتيل الصراع الداخلي في بولندا
مسقط رأسه في ظل أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين، وبالمناسبة فإن الزيارة
قد تم الاتفاق عليها في لقاء دام ساعتين بين رأس النصرانية البابا يوحنا، وبين
ذراع الإلحاد وزير الخارجية الروسي الهالك اندريه جروميكو [19] .
وأما العالم الإسلامي فأمره عجب إذ نجد أن السودان مثلاً: تحاك المؤامرات
ضده بكرة وعشياً؛ لعزل جنوبه الوثني النصراني حتى يتمكن النصارى من التحكم
في مياه النيل وجعلها تحت أيدي أمينة! ! متعاونة للقيام بالخطوة التالية نحو الثقل
الإسلامي في الشمال [20] وماأدري أين تنتهي حدود الشمال الموعود! بل إن
رئيس أساقفة كنتربري في بريطانيا يحشد الدعم للمتمردين، ويزور مواقعهم وهي
أراضٍ متنازع عليها، إن لم تكن مغتصبة من قبل الخارجين على الدولة: مخالفا
بذلك كل الأعراف الدولية والقوانين المدنية.
ليس هناك أمر غريب فيما يحدث في السودان وغيرها من إثارة النعرات
العرقية والدينية؛ فقد قامت روسيا وإنجلترا وفرنسا والنمسا بذلك فيما مضى في
البلقان والقرم واليونان وبلاد الشام [21] وإن كانت تلك المؤمرات قد انكشفت عقب
زوال الدولة العثمانية وانقضاء المدة الدستورية لإخفاء المعلومات، فإن مؤامرات
معاصرة من هذا القبيل تحاك اليوم تفضحها التقارير الدورية لمراكز الأبحاث عن
الحرب والسلام، ومن ذلك ماذكره التقرير السنوي للمعهد الدولي: إن العالم قد شهد
العام المنصرم واحداً وثلاثين نزاعاً مسلحاً، فيما زادت دول الاتحاد الأوروبي من
الأسلحة التقليدية لتبلغ حوالي 30%، بينما احتفظت الولايات المتحدة بنصيب
الأسد الذي بلغ 55% من إجمالي الصادرات [22] .
وبتحليل تلك الأرقام المرعبة يتضح لكل ذي بصيرة أن العالم الصناعي يجني
ثمار الحروب مرتين أو ثلاثة! فتارة يصدر السلاح ويتاجر به، وأخرى يقدم
القروض لإصلاح الأضرار الناجمة عن الحروب، وثالثة: وتلك التي نحن
بصددها يُغيّر التركيبة الاجتماعية بكل أبعادها الدينية والثقافية وفرض النمط الغربي
على المؤسسات الرسمية والخاصة من جهة، وعلى السكان المحليين من جهة
أخرى بواسطة صانعي الخيام، وقد ألمح إلى جزء من هذا الخطر الداهم أحد
المفكرين الغربيين في معرض انتقاده لأطروحة (صامويل هنتجنتون) حول (صراع
الحضارات) واصفاً إياها بدعوى تحريضية هدفها استعمار بلاد الإسلام، خاصة
وأن الساسة يعتمدون على مثل هذه الأبحاث العلمية لدعم مواقف بلادهم تجاه أعدائها
فهي (أي الأبحاث) بمثابة الضوء الأخضر الثقافي للاستعمار كما فعلت فرنسا في
إفريقيا حيث كانت تعطي وجودها السياسي والاقتصادي طابعاً ثقافيا تسميه بعثة
حضارية [23] ، إلا أن الناقد قد فاته أن يذكر أن رجال الانتداب بعد أن منحوا
الحكومات المحلية بعض السلطات أوجدوا نظام البيروقراطية المعقد لإلهاء الموظفين
بمعاملات طويلة تشغلهم عن الالتفات إلى الأمور الجوهرية، بالإضافة إلى تحكمهم
بطريقة مركزية في المعاملات [24] فأي نمو أو تطور يرجى في ظل هذه القيود
المتينة والمتشعبة؟ !
ليس في الصحراء ولا المناطق القريبة من خط الاستواء ثمة حوافز وإغراء
إلا أن يكون المرء صاحب رسالة أو مهمة يبذل من أجلها الغالي والرخيص، وقد
تواترت الأدلة على قيام المنصرين بتضحيات من هذا القبيل، إلا أن المتغيرات
الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، والناجمة عن مصدر الوحي والإلهام لأرباب
المال الحرام، قبلة المصرفيين ومزار المرابين: النظام الرأسمالي العقيم ترسخ قدم
أولئك القوم وتكثر سوادهم، فتؤدي مرارة الغربة وثوب النصرانية الفضفاض إلى
زواج المتعة الحرام بين المنصرين وصانعي الخيام، ومن ثم ترسم الخطط وتوضع
البرامج لإطالة بقاء الطابور الخامس من أجل إحكام القبضة النصرانية على الأمة
الإسلامية، وهنا ندرك الحكمة الإلهية والوصية النبوية والسياسة العمرية في عدم
اتحاذ أولئك القوم واستعمالهم، كيف وقد بدى لنا بعض أهدافهم وخفيت علينا
أضغانهم فلنا في أبنائنا ذخر وفي علمهم فخر وعز ونصر. فالإسلام لايحرم العلم
الدنيوي وإنما يسخره لمصلحة البشرية وسعادة الإنسانية.
__________
(1) عبد الودود شلبي، حقائق ووثائق، دراسة ميدانية عن الحركات التنصيرية في العالم الإسلامي، ط 1، 1409هـ.
(2) المصدر السابق: ص 35.
(3) سعد الدين السيد صالح، احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام، ط2، 1413هـ ص122.
(4) محمد الطهطاوي، التبشير والاستشراق، ط 1، 1411هـ ص 97.
(5) التبشير والاستشراق، ص 130.
(6) عبد الجليل شلبي، معركة التبشير والإسلام ط 1409هـ، ص295.
(7) الغارة على العالم الإسلامي، شاتليه، ترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، ص 87.
(8) مصطفى الخالدي وعمر فرّوخ، التبشيرو الاستعمار في البلاد العربية، ط: 3، 1986، ص 35.
(9) The Keys of this Blood,Martin, 1990, P 18.
(10) جريدة الحياة عدد 11076، 21/12/1413هـ.
(11) جريدة الحياة: عدد 11179، 6/4/1414هـ.
(12) مصطفى غزال: الحيل والأساليب في الدعوة إلى التبشير، ص 74.
(13) جريدة الحياة، عدد 11632، 21/7/1415.
(14) كرم شلبي: الإذاعات التنصيرية الموجهة للعرب والمسلمين، ط1، 1412هـ، ص48،.
(15) منصور الخريجي، الغزو الثقافي للأمة الإسلامية ط1: 1413، ص 75.
(16) كونوي زيقلر، أصول التنصير في الخليج ط1: 1410هـ ص 85.
(17) عبد الرحمن الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، ط7، 1414 هـ ص 219.
(18) The Keys of thes Blood, P 69.
(19) المصدر السابق، ص 93.
(20) حقائق ووثائق، ص 125.
(21) التبشير والاستشراق، ص 83.
(22) جريدة الحياة عدد 11803، 18/1/1416هـ.
(23) مقال لأدوارد سعيد في جريدة الحياة عدد 11686، 18/9/1415هـ.
(24) التبشير والاستعمار، ص 85 نقلا عن كتاب تقارير عن أحوال المعارف في سورية سنة 1945م لساطع الحصري.
(*) بعض الإخوة الأحبة والباحثين يعتبون على تسمية المحتل الأجنبي بالمستعمر، ويفضلون أن يسموا (بالمستَخْرِب!) أو (المستَحْمِر!) وإن كان هذان اللفظان مناسبين عند بعضهم، لكنهما غير مناسبين لغوياً ولابأس في نظرنا ببقاء الاسم لشيوعه؛ ليكون من الألفاظ المتضادة المعروفة في اللغة العربية من قبيل تسمية اللديغ (سليماً) والصحراء (مفازة)
- البيان -.(96/68)
المسلمون والعالم
هل ينجح الصهاينة
في اختراق دول آسيا المسلمة؟ ! !
بقلم:محمد بن عبد الله السرحان
شهدت الآونة الأخيرة بعد مؤتمر مدريد بين الكيان الصهيوني ومنظمة
التحرير ودول المنطقة تحركات واسعة ونشاطاً محموماً من جانب الكيان الصهيوني
على صعيد انتزاع الاعتراف بوجوده وشرعية احتلاله للأراضي الإسلامية في
فلسطين، مع العمل على فتح باب العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع
أكبر عدد من دول العالم، كما تضمن هذا التحرك التأكيد على علاقاته واتصالاته
السابقة مع بعض الدول التي كانت قد اتسمت بالسرية والتكتم خلال الفترات
الماضية وتطويرها بحيث تأخذ الشكل العلني.
وقد ركز يهود بشكل ملحوظ على الدول الآسيوية المسلمة التي ظلت طوال
الفترة الماضية تنأى بنفسها عن السقوط في مستنقع الاعتراف بكيانهم أو الاتصال
بمسؤوليه، وذلك في محاولة من جانب الصهاينة لاختراق هذا التجمع الإسلامي
الكبير وإنفاذ الخطط والمؤامرات بين أبنائه.
واليوم، وبعد أن نجح الصهاينة في إسقاط (منظمة عرفات) وبعض الأنظمة
الأخرى في حبائلهم ... هل يمكن أن يكون ذلك مبرراً لتحقيق مايصبون إليه
ويتمكنون من ولوج بوابة آسيا المسلمة واختراق دولها؟
وهل يمكن أن يصبح ذلك الأمر مسوغاً مقبولاً من جانب هذه الدول الإسلامية
لفتح أبوابها أمام الاجتياح الصهيوني؟ !
هل انتهى الصراع الإسلامي الصهيوني؟ !
من المعروف أن الصراع الإسلامي/الصهيوني الذي يمتد بطول تاريخ الإسلام، والذي اتضح بجلاء منذ عام 1948م، والحروب التي دارت بين الطرفين خلال
هذه الفترة الزمنية قد أثرت على علاقة الكيان الصهيوني بالعديد من دول العالم
بشكل عام، وأغلقت في وجهه أبواب الدول الإسلامية بشكل خاص؛ حيث كان
ينظر إلى إقامة أي علاقات أو اتصالات من أي نوع وعلى أي مستوى من جانب
تلك الدول على أنها خيانة عظمى للقضية الإسلامية وذنب لايُغتفر، حتى قام
(السادات) بزيارته الشهيرة للقدس التي دفع حياته ثمناً لها بعد ذلك وما أعقبها من
توقيع اتفاق (كامب ديفيد) ، ثم تطبيع العلاقات المصرية / الصهونية، ومن هنا
أخذت الحجب والحواجز تتداعى حتى سقطت أخيراً بسقوط (المنظمة العرفاتية)
بُعيد المؤتمر المسمى بـ (مؤتمر مدريد) الذي باركته الدول العربية، وتوقيع
الاتفاقية التي يطلق عليها (غزة أريحا أولاً) وبذلك ظن الصهاينة حاولوا إيهام
الآخرين بأنه لم يعد هناك مبرر لأي من الدول العربية والإسلامية لمواصلة
مقاطعتها لهم بعد أن اعترف الطرف (الفلسطيني) بالأمر الواقع، ورضي بما منحوه
إياه من حكم ذاتي منقوص.
وقد يصدق هذا الظن أو تنطلي تلك الحيلة على الدول الإسلامية إذا ما كانت
قد لجأت إلى هذه المقاطعة من قبيل المجاملة للشعب الفلسطيني الذي اغتصبت
أرضه وشرد من بلاده، أما إذا كانت هذه الدول تنظر للقضية بالمنظور الإسلامي
الصحيح، وتعي الدور المناط بها في العمل على استرداد الأراضي الإسلامية
المحتلة حتى آخر شبر منها، وتخليص الأقصى (الأسير) فتلك قضية أخرى لايؤثر
فيها رضا عرفات وزمرته أو عدمه، بل ولارضا أحدٍ كائناً من كان، ومن هنا فلا
يمكن اعتبار الصلح الصهيوني / العرفاتي مبرراً بحال من الأحوال لأي دولة من
دول العالم الإسلامي للاعتراف للمعتدي الغاصب بما غصبه من أراضٍ إسلامية
وتشريد شعب مسلم وانتهاك حرماته ليل نهار، وتدنيس المقدسات الإسلامية.
آسيا المسلمة.. اهتمام خاص:
وعلى ضوء الخطة الصهيونية إياها بدأ يهود تحركهم باتجاه الدول المسلمة في
آسيا؛ نظراً لأهمية هذه الدول في تلك المنطقة من العالم وماتحوزه من إمكانات
اقتصادية وبشرية كبيرة؛ ولكونها من أعضاء (منظمة المؤتمر الإسلامي) فهذا في
حد ذاته يمثل نوعية خاصة في نظر الصهاينة، هذا بالإضافة إلى تراجع النفوذ
الصهيوني في آسيا بشكل عام إذا ماقارناه بنفوذهم في إفريقيا التي كانوا قد
اخترقوها منذ زمن بعيد، وأقاموا علاقات قوية مع العديد من دولها، ونجحوا في
التغلغل خلالها بأشكال شتى، وبسطوا نفوذهم الاقتصادي والأمني والعسكري فيها
بشكل كبير، بالإضافة لدول أوربا وأمريكا التي دانت لهم غالبيتها منذ عصور
طويلة مضت، بل والتي تعد منشأهم الحقيقي، ولم يبق الدور إلا على آسيا بدولها
الإسلامية العديدة، فلم يجد الصهاينة فرصة أنسب من هذا التوقيت لبدء تحركهم
الجديد في هذا الاتجاه، وقد حفزهم ذلك إلى أن وصلوا إلى إقامة علاقات مع
(146) دولة من دول العالم حتى الآن، (55) منها أقامت هذه العلاقات بعد انعقاد
(مؤتمر مدريد) و (20) دولة أخرى بعد التوقيع على اتفاقية (غزة أريحا) قبل
عامين.
آلية التحرك الصهيوني:
ولقد أثر عن الطريقة الصهيونية في مجال إقامة العلاقات مع الدول الأخرى
خاصة التي تمنعها ظروفها من إقامة علاقات مباشرة أو علنية أن يتم التمهيد بداية
باتصالات غير رسمية مع مسؤولين في هذه الدول، وتبادل عدد من الزيارات قد
تأخذ الطابع التعليمي أو الأكاديمي، أو من خلال مجالات التعاون الاقتصادي
والاستثماري، كما قد يحدث وجود لبعض الشركات الخاصة في البلد المعني، أو
تأسيس مايسمى بمجموعات الصداقة، أو فتح المجال لتبادل زيارات الوفود
السياسية، التي قد تأخذ شكلاً آخر أكثر تطوراً بإقامة اتصالات مباشرة بين
المسؤولين الحكوميين في البلدين، أو تبادل الرسائل بين قمة السلطة في الكيان
الصهيوني والبلد المستهدف، ثم يتبلور كل ذلك بعد حين إلى علاقات رسمية تنتهي
بالاعتراف والتمثيل الدبلوماسي الكامل وتبادل السفراء.
وتشير بعض المصادر الإسرائيلية إلى أن الكيان الصهيوني قد نجح في إقامة
علاقات واتصالات من هذا النوع وعلى مستويات مختلفة مع معظم الدول الآسيوية
فيما عدا باكستان.
خطوات على الطريق:
وسيراً على هذه الآلية فقد حقق الصهاينة خطوات مهمة مع عدد من دول آسيا
المسلمة يمكن حصر التالي منها:
دول آسيا الوسطى:
أَوْلى الصهاينة الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى اهتماماً مبكراً؛ وذلك
نظراً لأن هذه الجمهوريات منذ أن استقلت عن الاتحاد السوفيتي وإلى الآن لم
تتبلور توجهاتها الأيديولوجية بشكل واضح يمكن أن يحدد هويتها بشكل نهائي،
وعلى الرغم من أن بعض هذه الدول قد انضمت لعضوية (منظمة المؤتمر
الإسلامي) إلا أن عزلها مدة سبعين عاماً (فترة الاحتلال الشيوعي) عن الإسلام
والعالم الإسلامي قد قضى على الروح الإسلامية فيها إلا القليل مع مراعاة أن معظم
قادة وحكام هذه الدول حتى اليوم هم من بقايا الحكم الشيوعي السابق، وبيئة كتلك
أنسب ماتكون لبسط الصهاينة نفوذهم فيها؛ حيث لن تجد لذلك أي مقاومة تذكر
سواء على الصعيد السياسي أو الشعبي، ويبرهن ذلك نسبة النجاح الكبيرة
والسريعة التي حققها الصهاينة في محيط هذه الدول، وقد تأكد ذلك من خلال
الزيارة التي قام بها (إسحاق رابين) شخصياً لاثنتين من هذه الدول والترحيب الذي
لاقاه من المسؤولين فيهما، والمباحاثات (الإسرائيلية الكازاخية) في جمهورية
كازاخستان والاستفادة من الخبرات الكازاخية في المجال النووي، واستقبال طلاب
كازاخ للدراسة في (الكيان الصهيوني) ، كما أن هناك العديد من رجال الأعمال
الصهاينة قد توغلوا خلال هذه الدول الست مستعينين بخبرات رجال (الموساد) في
أنشطتهم الاقتصادية وتحركاتهم السياسية، ثم كان أن نجح الصهاينة في اقناع
جمهورية (قيرغيزستان) بفتح سفارة في القدس المحتلة.
إندونيسيا:
لما كانت أندونيسيا هي أكبر الدول الإسلامية من حيث الكثافة السكانية، ولها
اعتبار كبير في منطقة شرق آسيا، وهي عضو مهم في (منظمة المؤتمر الإسلامي)
فقد دفع ذلك الكيان الصهيوني للإقدام على طرق أبوابها التي فتحت بدورها لزيارة
رئيس الوزراء (رابين) الذي أجرى محادثات مع الرئيس (سوهارتو) وأعقب ذلك
تعميق العلاقات بين البلدين (على المستوى غير الرسمي حتى الآن) .
ماليزيا:
قام الأمير (عبد الله عبد الرحمن) شقيق ملك ماليزيا ومدير أكبر الشركات
الاستثمارية هناك بزيارة لتل أبيب في سابقة هي الأولى من نوعها، وعلى الرغم
من أن الزيارة قد أخذت مبررات تجارية إلا أنه قد التقى خلالها بكل من إسحاق
رابين ووزير الخارجية شامير، الأمر الذي اعتبره المراقبون خطوة واسعة على
طريق العلاقات بين البلدين، وقد تزامنت هذه الزيارة مع توقيت رسالة بعث بها
رابين إلى رئيس الوزراء الماليزي (مهاتير محمد) التي تُعد الرسالة الثالثة بين
رئيسي وزراء البلدين، كما أوردت بعض التقارير استعداد الحكومة الماليزية
استيراد تقنية إسرائيلية متقدمة بأسعار أرخص مما تعرضه الدول الأخرى! !
تركيا:
قامت رئيسة وزراء تركيا (تانسو تشللر) بزيارة للكيان الصهيوني والتقت
بالمسؤولين فيه وذلك بعد مباحاثات طويلة جرت بين الطرفين تتعلق بتصدير مياه
من تركيا للكيان الصهيوني، والعديد من التصريحات لمسؤولين صهاينة بضرورة
تعاون الطرفين في مجال مكافحة مايسمونه بخطر (الأصولية الإسلامية) ! !
الملاديف:
وهي من الدول الأعضاء في (منظمة المؤتمر الإسلامي) ومع ذلك فقد سمحت
لأول مرة لحاملي الجنسية الإسرائيلية بالدخول إلى أراضيها وزيارة المناطق
السياحة المطلة على المحيط الهندي فيها.
بنجلاديش:
قام عضوان في (البرلمان) البنجلاديشي بزيارة للكيان الصهيوني التقيا خلالها
بمسؤولين كبار في وزارة الخارجية وهي الزيارة الأولى لمسؤولين من بنجلاديش
وفاتحة لم تسبقها أي خطوات على هذا الطريق.
أوجه أخرى للاختراق:
هذا ويجدر أن نشير إلى أن محاولات الصهاينة لاختراق دول آسيا المسلمة
والسيطرة على المسلمين في هذا الجزء المهم من العالم لم تقتصر على محاولات
الدخول من الأبواب وإقامة العلاقات مع حكوماتها فحسب، بل أخذ أشكالاً مختلفة
عن ذلك في مواقع أخرى ليشمل: إذكاء الفتن بين المسلمين، ومحاولة حصار
العمل الإسلامي المتنامي، وإجهاض تحركات الإسلاميين في بعض الدول الآسيوية.
ففي (أفغانستان) التي غدت تعوم على بحيرة من دماء أبنائها؛ نتيجة لتأجج
الصراع على السلطة بين زعمائها، يسعى الصهاينة من خلال جهاز استخباراتهم
(الموساد) وعملائه إلى بث المزيد من الفتن وإطالة أمد التناحر بينهم؛ لإراقة أكبر
قدر ممكن من الدماء المسلمة، والتخلص من أكداس الأسلحة المتوفرة على أراضيها
وعدم التمكين لقيام حكومة إسلامية فيها قد تشكل خطراً يوماً ما على وجودهم، أو
نشر الفكر الجهادي بين المسلمين، وهو ماكشفه (الجنرال حميد جل) رئيس جهاز
المخابرات الباكستاني السابق في حديثه لإحدى المجلات العربية.
وفي (الفلبين) التي يشكل مسلموها (12%) من سكانها، ويتجمعون في
جزيرة واحدة من جزرها الثلاث، ويحملون السلاح في وجه حكومتها الصليبية
الحاقدة على الإسلام، لتخليص بلادهم من احتلالها وفرض هيمنتها عليها وهي
تشهد هذه الآونة تنامياً إسلامياً كبيراً ونشاطاً جهادياً، قام وزير (دفاع!) الكيان
الصهيوني مؤخراً بزيارة لـ (مانيلا) التقى خلالها مع كبار المسؤولين في الحكومة
الفلبينية، وتمخضت المباحاثات بين الجانبين على أن يتعاونا فيما بينهم لمواجهة
المجاهدين المسلمين الثائرين، والتصدي للمد الإسلامي هناك، وتزويد الحكومة
الصليبية بأسلحة ومعدات وخبرات عسكرية وأمنية لهذا الغرض.
قبل السقوط!
وأخيراً وقبل أن تسقط دول آسيا المسلمة وغيرها من الدول الإسلامية الأخرى
السقطة الأولى والأخيرة في مستنقع العلاقات مع بني صهيون، والوقوع في
مخططات وحبائل أحفاد القردة والخنازير، نذكر هذه الدول بأن الصراع بين
المسلمين والصهاينة لم ينته بعد، ولم يتغير من مقوماته شيء، فلا زالت حتى هذه
اللحظة الأراضي الإسلامية في فلسطين المحتلة وغيرها تئن من وطأة بني صهيون، ولازال الأقصى (أولى القبلتين ومسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)
أسيراً بأيديهم النجسة، ولا يزالون يسومون مسلمي فلسطين سوء العذاب.
وفضلاً عن ذلك فلنسمع لتحذير رب العالمين القائل في محكم كتابه [لتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا..] [المائدة: 82] .
كما نذكر هذه الدول بأن يراجعوا آثار الصلح مع الصهاينة على تلك الدول
التي قطعت شوطاً في هذا المضمار ومادفعوه ثمناً لتطبيع العلاقات من انتشار
الجواسيس، ورجال الاستخبارات الصهاينة، ومافي ذلك من تعريض أمن وسلامة
هذه الدول وشعوبها للخطر، ونشر الأوبئة الفتاكة التي تصدر جراثيمها عمداً عبر
شحنات المنتجات الغذائية لهذه الدول في إطار مايطلق عليه التبادل التجاري، إلى
نشر المخدرات والعملات النقدية المزيفة والفساد الخلقي والأمراض الجنسية المهلكة
بين الشباب المسلم الذي يعول عليه بالعودة للأمة إلى سابق مجدها.
إن تلك الخطوات المتلاحقة للسقوط لدى بعض الدول الإسلامية لتحمل في
طياتها خطراً عظيماً وشراً مستطيراً على الإسلام والمسلمين، وقد بات من
الضروري أن تراجع هذه الدول موقفها قبل أن يصيبها الندم في وقت لاينفع فيه
الندم.(96/78)
نص شعري
وطني فلسطين
شعر شوقي محمود أبو ناجي
أنا ما سلوتك يا ترابَ بادي ... مهما تمادى اغدر في إبعادي
أنا ما هجرتكَ.. كيف أهجر بَضْعَةً ... منى ويهدأ بعد ذاك رقادي!
همْ حاولوا نزعي فما نزعوا سوى ... جسدٍ سَقَوْهُ مرارةَ الأحقادِ!
جسدٍ له في الصبر عنك عزيمةٌ ... خوارةٌ.. لم تستجب لمنادِ
أَوَمَا ترى روحي بكلّ ثنيةٍ ... بين التلال وفي سهول الوادي
لأظلّ في أرضي.. أبثّ ترابَها ... شوقي.. ولاعجَ حرقتي وودادي
لتعيش يا وطني الحبيبُ بخافقي ... يقظانَ في نومي، وعند سهادي
وإذا عَرَتْكَ من الكآبة مسحةٌ ... ولبْستَ بعد الفرْح ثوب حدادِ
َوخَزَ الأسى قلبي وأشعلَ جمرَهُ ... فأُحسّ لذْعَ سياطِهِ بفؤادي
فتؤجّ في وجه المخالب صرخةٌ ... يخشى صداها أفجَرُ القوّادِ
وطني فلسطينٌ، وحبّ ترابِها ... لم تَخْبُ جذوته لدى إبعادي
والقدسُ.. صوت القدس بين جوانحي ... شجنٌ.. يقطّع في نياط فؤادي!
أَوَلَيْسَ مسرى المصطفى؟ ! أحجَارُهُ ... أصغت إلى نجوى الحبيب الهادي
والأنبياءُ يضيءُ همسُ دعائهم ... خلفَ الرسول على مدى الآبادِ!
وترابُ غزةَ.. حضنُه كم ضمني ... وتخذُتُ منه حصيرتي ووسادي!
ونشقتُهُ فسرى العبيرُ بأضلعي ... ليكون في المحن المريرة زادي
ولبانه نفخ الكرامة في دمى ... يُذكي لهيبَ عزيمتي وعنادي
والأمنياتُ تخطّ فوق صحائفي ... وَهَجاً يعيد نضارةَ الأمجاد!(96/86)
في دائرة الضوء
الفكر طبيعته وأهميته
بقلم: د. عبد الكريم بكار
كلمة (الفكر) والتفكير والأفكار من الكلمات الشائعة جداً على ألسنة
العامةوالخاصة اليوم؛ وعند عودتنا إلى معاجم اللغة نجد أنها تعرف الفكر بأنه:
(إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول) .
ويقولون: فكّر في مشكلة: أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها [1] .
ولعلنا نعرف التفكير بأنه (إعمال الإنسان لإمكاناته العقلية في المحصول
الثقافي المتوفر لديه بغية إيجاد بدائل أو حل مشكلات أو كشف العلاقات والنسب
بين الأشياء) [2] .
ومن خلال هذا التعريف ندرك أن الفكر ليس شيئاً مطابقاً للأحكام والمبادئ،
ولا مطابقاً للثقافة أو العقل أو العلم، وإنما هو استخدام نشط لكل ذلك بغية الوصول
إلى المزيد من الصور الذهنية عما يحيط بنا من أشياء وأحداث ومعطيات حاضرة
وماضية وتوسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل.
وبناء على هذا فإن العالم غير المفكر، فقد يكون المرء عالماً ولايكون مفكراً. وقد يكون مفكراً ولايكون عالماً، وذلك لأن الميدان الأساس للعلم هو الإلمام
بالجزئيات؛ أما ميدان الفكر فهو إبصار (الكليات) والاشتغال عليها؛ وقليل أولئك
الذين يسمح لهم الاشتغال بالجزئيات بالتوجه إلى النظر الكلي، كما أن طبيعة
الاشتغال بالقضايا الكبرى (تزهد) المفكرين في الاهتمام بالمسائل الجزئية، حيث
يرون أنها مندرجة في أنظمة أشمل تتحكم فيها.
ومع افتراق الطبيعتين إلا أن هناك خطوطاً عريضة تجمع بينهما أهمها:
أن كلاً من المعطيات الفكرية العامة والجزئيات العلمية الصغيرة يميل إلى
الظن والتخمين والبعد عن اليقين؛ وذلك بسبب أن الجزئيات هي مناط الاجتهاد،
ونتائج الاجتهاد تكون في الغالب ظنية، كما أن وفرة العناصر والمعطيات التي
تساعد في تكوين الرؤى الكلية تجعلها بعيدة أيضاً عن الصلابة والجزم؛ لكن
(الإحالات الثقافية) والخبرات المتراكمة تنقلها إلى حيز اليقين أو الرفض أو التعديل
بعد مدة زمنية معينة.
لكن هذا لايهوّن أبداً من شأن المعطيات الفكرية؛ فقد أثبتت التجربة التاريخية
أنه (لاشيء يضيع) ؛ فالفكرة مهما كانت، تترك انطباعا معيناً سلبياً أو ايجابياً؛ فقد
تشكك في مسلمة من المُسلّمات، وقد تعزز ظناً من الظنون، وقد تنبه إلى شيء
منسي، وقد تنقذ أمة من كارثة محققة! !
وكثيراً ما يحدث أن تأتي الفكرة قبل أوانها أو في غير محيطها؛ فلا تحدث
اضطراباً في الواقع العملي، وهي أيضاً لا تضيع لأنها ستشكل الخميرة التي سوف
تنبت يوماً ما أفكاراً أو حلولاً حين تجد المناخ المناسب [3] .
وهناك إلى جانب هذا سمة أخرى أساسية للأفكار، وهي أن الأفكار التي
نستخدمها في حركتنا الاجتماعية تكون في العادة ملائمة للظروف والأحوال المحيطة
بها، ومهمة الأفكار إحداث تغيير ناجح في تلك الظروف نحو الأفضل والأسمى،
وهذا التغيير الذي يحدث يوجب علينا تغيير الأفكار التي نحجت كما تغير الأفكار
التي أخفقت، وذلك لأن تغيير الأفكار للظروف يوجدها في ظروف جديدة غير
ملائمة لها، وهذا مشاهد في الأعمال الإصلاحية الكثيرة التي حدثت في العالم؛
فحين تطرح أفكار وأساليب لتحقيق النظافة العامة مثلاً فإن تلك الأفكار تفقد وظيفتها
وأهميتها حين تصبح النظافة عادة للناس، ويصبح الحث عليها غير ذي معنى،
وحين تبلور أفكار في ضرورة إرسال الأولاد إلى التعليم الجامعي، ثم تنجح تلك في
تحقيق مقصدها يصبح الحديث عن تلك الضرورة غير مفهوم وهكذا.. وهذا يعني
أن كثيراً من الأفكار تنتهي صلاحيته ليس في حالة إخفاقه فقط وإنما في حالة نجاحه
أيضا.. وهذا مغاير بالطبع لحقيقة المبادئ والقيم العليا التي تتأبى على التحقق
الكامل، ويظل بينها وبين التمثل الواقعي هوة دائمة مما يصونه من الاستنفاد،
ويجعل الحاجة إليها مستمرة، ويكمن مقتل النهضة الفكرية في كثير من الأحيان في
التشبت بأفكار حققت غايتها، وفقدت وظيفتها، والزهادة في مبادئ توجب طبيعتها
الخاصة وجوب المحافظة عليها؛ لأنها تمثل محور الحياة الفكرية التي لاقوام لها
بدونه.
أهمية الفكر:
صدّ تأكيد كثير من مفكري المسلمين على أهمية الفكر كثيراً من الشيوخ
والشباب عن الاهتمام بمناهج الفكر وقضاياه ظناً منهم أن ذلك الاهتمام سيكون على
حساب العمل والتربيةوالأخلاق والسلوك.. وسبب هذا الظن أننا حين نتبني توجهاً
معيناً في الإصلاح نلح عليه إلحاحاً يوهم الأخرين بأننا لانرى سواه.، وأننا نهمل
ماعداه؛ ومن ثم فإنني أبادر إلى القول: إن استقامة الفكر ونقاءه ليس بديلاً عن
التربية ولا الأخلاق ولا أعمال الخير ولا الحركة الدعوية، ولكنه الشرط الأساس
لصوابها ورشدها، فمهمة الفكر رسم مخطط الحركة وجعلها اقتصادية، بحيث
تتكافأ نتائجها مع الجهد والوقت المبذول فيها، كما أنه يحيّد كل الوسائل والأساليب
التي ثبت قصورها ويكثف الخبرات والتجارب المكتسبة في بعض المقولات
والمحكات النهائية، ويساعد على طرح البدائل والخيارات في كل حقل من حقول
العمل، وهذا كله لايتأتى عن غير طريق الفكر. ويمكننا إلى جانب هذا أن نستجلي
مسوغات أخرى للاهتمام بالفكر في المفردات التالية:
1- إن الحضارة الغربية ذات منظومات متكاملة في المجالات الثقافية
والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولها تصورها الخاص في جميع شؤون الحياة، وهي (الآخر) بالنسبة لنا، وملاحظاتنا على أنساقها المختلفة ستظل محدودة
الأهمية مالم نبلور البديل الأصلح والأنفع والأكمل في تلك المجالات كافة من
منظورنا الخاص لنا [4] ، ولاسيما أنه الأجهر صوتاً والأكثر عتاداً وعدة، وإذا كنا
نملك قوة الحق فإنهم يمتلكون حق القوة، ويطالبون بدفع استحقاقاتها.
وبإمكاننا أن نكون محنة وتحدياً حقيقياً لهم في حالة واحدة، هي أن نستطيع
تقديم رؤيتنا الكونية بشكل واضح، وأن نطرح بعض الحلول الجذرية المتميزة
لبعض الاختناقات الحضارية التي يعاني منها بنو البشر اليوم، وهذا لايتم إلا من
خلال فيض من الخطط والدراسات والنماذج المتقنة؛ وهذا كله سبيله الرؤية الفكرية
الناضحة والشاملة.
2- من الممكن لكل الأنشطة الحضارية أن تمضي في سبيلها إلى حد معين؛
فالاقتصاد في أسرة، والنشاط الزراعي في حقل، ومساعدة ضعيف في مجتمع،
كل ذلك من الأنشطة التي يتيسر القيام بها دون الحاجة إلى عناء التفكير، لكن
عندما يصل الأمر إلي تنشيط اقتصاد دولة أو التخطيط لمجتمع كبير أو حل أزمات
حركة أو جماعة في ظروف حاسمة، فإن التفكير المركز والمعقد يكون هو الآلية
التي ينبغي استخدامها.
وإني أعتقد أن معاناة الأمة من بعض المشكلات لمدد تصل إلى قرون كانت
بسبب إهمالها للفكر والنقد والمتابعة والمراجعة باعتبارها مبادئ أساسية في التغيير
والإصلاح والارتقاء.
إن من المؤسف حقاً أن بعض الإسلاميين ينعت الحديث عن الفكر بالحديث
البارد؛ حتى إذا طرحت مشكلة وطلبت حلاً لها لم تجد إلا الوجوم أو الهروب! !
3- إن العالم الإسلامي لايعاني من نقص في الإمكانات ولا الوسائل، فما هو
متوفر لديه إن لم يكن أكثر مما عند كثيرين لم يكن أقل، لكن مشكلته تكمن في أن
فاعلية وسائله ونجاعتها مرتكزة على الأساليب والطرق التي تستخدم تلك الوسائل؛
والأساليب تظل محدودة الكفاءة مالم تستند إلى قاعدة فكرية صحيحة، ترسم خطة
واضحة للعلاج والاستطباب من خلال تشخيص الداء وتعيين الأسلوب الأمثل
ومقدار التداخل الجراحي المطلوب إلى جانب تحديد أولويات العلاج وتكاليفه
وإفرازاته، وفي هذا المقام نجد أن الأراضي التي تكفي لإشباع قارة لاتشبع بلداً،
وأن وفي الطاقة البشرية الهائلة صارت عبئا بدل أن تكون ميزة تماماً كجيش ضخم
لم يلق التدريب، ولم يجد السلاح، ولا الخطة القتالية الناجعة فهو أكوام من الكتل
البشرية المستهدفة للعدو!
إن قليلا من الإمكانات والوسائل مع كثير من الفكر والتخطيط والفاعلية
التنظيمية والحركية أعود على الأمة بالخير والنفع من أكداس الأشياء الضائعة
والمهملة.
4- عصرنا هذا هو عصر الاكتشاف، وقد اكتشف الإنسان من الحتميات
والسنن مالم يكتشفه في أي زمن من الأزمنة، ولكنه إلى جانب ذلك اكتشف من
الفرص والخيارات الشيء الكثير، وإن كثيراً مما كان يفرض فرضا صار اليوم
موضع خيار، وإن وجود حتميات وضغوط وخيارات كثيرة يلزمنا باللجوء إلى
التفكير الفعال؛ حتى لانصل إلى طرق مسدودة، وحتى لا نضيّع فرصاً متاحة، إذ
إن كل فرصة بحاجة إلى قرار، وصاحب ذلك ضعفُ وضمورُ ماكان يستخدم في
الأصل بديلاً عن التفكير مثل العادات والتقاليد والمذاهب التي توفر في العادة
استخدام العقل [5] .
5- الاستقرار النسبي كان سيد الموقف في العصور الماضية، وبما أن
الأشياء لا تتغير كثيراً فإن التكرار كان البديل الصالح عن التفكير، كما أن قلة قليلة
من الصفوة كانت تملك اتخاذ القرارات، وكانت تقوم بالتفكير عن الباقين، وكان
صنع القرارات الشخصية ميسوراً ومحدوداً لكن المجتمع اليوم لاينعم بالاستقرار
بسبب معدل التغيير الذي تغذيه (التكنولوجيا (والطموحات الاجتماعية [6] .
6- حينما تصاب أمة بدمار شديد أو زلزال ماحق فإنه يبقى لها بعد انهيار
بنيانها شيئان: مبادئها السامية الكامنة في شخصيتها الاجتماعية، وأفكارها
وخبراتها التاريخية والحضارية، وهي تستطيع من خلالهما استعادة كل ما فقدته
عندما تتوفر إرادة تجاوز المحنة، فقد دمرت الحرب كل شيء في ألمانيا، ولم يبق
لديها إلا مخزون الأفكار وعزيمة الانتصار، فتمكنت من إعادة بناء مصانعها على
ضوء الشموع بعد اندحار الهتلرية [7] وهكذا فإن أمة كأمتنا تستطيع بتوفيق الله أن
تنجز الكثير، وتستعيد الكثير إذا ما استطاعت صياغة أفكارها من جديد، وتلمس
سبل النجاة والفلاح.
وهكذا نستطيع القول بعد كل ما مضى: إن توسيع آفاق الفكر لدى المسلم
سوف يؤدي إلى توسيع مجاله الحيوي، ويقلل من ضرورات حركته [*] .
__________
(1) المعجم الوسيط، مادة فكر.
(2) انظر تعريفا آخر في: الأزمة الفكرية المعاصرة: 27.
(3) كثير من أفكار ابن تيمية وابن خلدون جاء في غير أوانه وفي غير محيطه، وقد وجد الآن كثيرا مما افتقده، وأصبح يؤتي أكله أشكالاً وألواناً.
(4) ماتصادمت حضارتان إلا كانت كل منهما محنة للأخرى.
(5) انظر تعليم التفكير: 28.
(6) السابق: 28.
(7) مشكلة الثقافة: 61.
(*) هذا الموضوع للكاتب الكريم هو جزء من كتاب جديد تحت الطبع، بعنوان: (مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي) ، وهو جزء من السلسلة التي أصدرها الكاتب تحت عنوان: (المسلمون بين التحدي والمواجهة) ، والتي صدر منها: (نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي) ، و (من أجل انطلاقه حضارية شاملة) البيان.(96/88)
-------------------------------------------------
الدولة ... ... عدد الدورات ... ... الدولة ... ... عدد الدروات
-------------------------------------------------
لندن ... ... ... 9 ... ... ... نيجيريا ... ... 7
السودان ... ... 2 ... ... ... بنجلاديش ... ... 6
كينيا ... ... ... 4 ... ... ... أثيوبيا ... ... 2
تشاد ... ... ... 4 ... ... ... مالي ... ... ... 2
غانا ... ... ... 3 ... ... ... الصومال ... ... 4
ص 97
-------------------------------------------------
الدولة ... ... عدد المخيمات ... ... ... ملاحظات
-------------------------------------------------
كينيا ... ... ... 5 ... ... ... آخرها: مخيم (مرتي) صيف ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... هذا العام
مالي ... ... ... 4 ... ... ... آخرها: مخيم (سيكاسو) صيف
... ... ... ... ... ... ... ... ... هذا العام
أثيوبيا ... ... ... 1 ... ... ... أقيم في العاصمة أديس أبابا
السودان ... ... ... 2 ... ... ... ... ... ـ
جامبيا ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ـ
غانا ... ... ... 1 ... ... ... طلاب الجامعات العالية في
... ... ... ... ... ... ... ... (نياكروم)
السنغال ... ... ... 1 ... ... ... ... لطلاب جامعة دكار
بريطانيا ... ... ... 7 ... ... ... آخرها: مخيم للأشبال صيف
... ... ... ... ... ... ... ... ... هذا العام
نيجيريا ... ... ... 1 ... ... ... ... للطلاب الجامعيين
تشاد ... ... ... ... 3 ... ... ... منها مخيم واحد للأشبال.
ص 98
------------------------------------
الدولة ... ... ... ... ... عدد المدارس
------------------------------------
بريطانيا ... ... ... ... ... 1
كينيا ... ... ... ... ... 1
غانا ... ... ... ... ... ... 9
تشاد ... ... ... ... ... ... 1
ص99
-------------------------------------------------
الدولة ... ... عدد المدراس ... ... ... ... ملاحظات
-------------------------------------------------
بريطانيا ... ... 1 ...
كينيا ... ... 27 ... ... أغلق منها (14) خاصة باللاجئين
... ... ... ... ... ... ... ... الصوماليين.
بنجلاديش ... ... 2 ...
أوغندا ... ... 3 ... ... ... للمرحلتين الابتدائية والمتوسط.
الحبشة ... ... 7 ... ... واحدة للمرحلتين: الابتدائية والمتوسطة،
... ... ... ... ... وواحدة للمراحل الثلاث، وبقيتها ابتدائية.
تشاد ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ـ
نيجيريا ... ... 1 ... ... ... ... للمرحلة الثانوية.
ص 100
------------------------------------
الدولة ... ... ... ... عدد الكتب
------------------------------------
غانا ... ... ... ... 100000
كينيا ... ... ... ... 20000
مالي ... ... ... ... 12000
السنغال ... ... ... 2500
أوغندا ... ... ... ... 1000
ص 101
-----------------------------------
الدولة ... ... ... ... ... عدد القوافل
-----------------------------------
كينيا ... ... ... ... ... 12
غانا ... ... ... ... ... ... 5
الصومال وجيبوتي ... ... ... 6
مالي ... ... ... ... ... 7
السودان ... ... ... ... ... 3
تشاد ... ... ... ... ... ... 2
أوغندا ... ... ... ... ... 3
إثيوبيا ... ... ... ... ... 2
بنجلاديش ... ... ... ... ... 5
نيجريا ... ... ... ... ... 8
ص 102
-------------------------------------------------
الدولة ... ... عدد المساجد ... ... ... ... ... ملاحظات
-------------------------------------------------
كينيا ... ... ... 19 ... ... ... ... ... 4 تحت التنفيذ
غانا ... ... 30 ... ... ... ... ... 14 تحت التنفيذ
مالي ... ... ... 7 ... ... ... ... ... 3 تحت التنفيذ
الصومال ... ... 15 ... ... ... ... ... 1 تحت التنفيذ
أفغانستان ... ... 1 ... ... ... ... ... ... ـ ...
داغستان ... ... 1 ... ... ... ... ... 1 تحت التنفيذ
جيبوتي ... ... 1 ... ... ... ... ... 1 تحت التنفيذ
السنغال ... ... 3 ... ... ... ... ... 1 تحت التنفيذ
السودان ... ... 11 ... ... ... ... ... 4 تحت التنفيذ
تشاد ... ... ... 16 ... ... ... ... ... 7 تحت التنفيذ
الحبشة ... ... ... 3 ... ... ... ... ... 1 تحت التنفيذ
نيجيريا ... ... ... 6 ... ... ... ... ... 3 تحت التنفيذ
بنجلاديش ... ... 48 ... ... ... ... ... 2 تحت التنفيذ
أوزبكستان ... ... 4 ... ... ... ... 4 تحت التنفيذ
الفلبين ... ... ... 4 ... ... ... ... 1 تحت التنفيذ
أوغندا ... ... ... 8 ... ... ... ... ... ... ـ ...
أثيوبيا ... ... ... 12 ... ... ... ... 6 تحت التنفيذ
بنين ... ... ... 3 ... ... ... ... ... ... ـ
باكستان ... ... ... 45 ... ... ... ... 1 تحت التنفيذ
إندونيسيا ... ... 11 ... ... ... ... 2 تحت التنفيذ
الهند ... ... ... 4 ... ... ... ... 3 تحت التنفيذ
النيجر ... ... ... 2 ... ... ... ... ... ـ
ص 103
-------------------------------------------------
الدولة ... عدد المكتبات الكبيرة ... ... ... عدد المكتبات الصغيرة
-------------------------------------------------
بريطانيا ... ... 1 ... ... ... ... ... ... ... ـ
كينيا ... ... 1 ... ... ... ... ... ... ... 5
مالي ... ... 1 ... ... ... ... ... ... ... 4
غانا ... ... ... 2 ... ... ... ... ... ... ... ـ ...
الصومال ... ... 3 ... ... ... ... ... ... ... 1
السنغال ... ... 1 ... ... ... ... ... ... ... 1
بنجلاديش ... ... 2 ... ... ... ... ... ... ـ
السودان ... ... 1 ... ... ... ... ... ... ... ـ ...
تشاد ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ... ... 1
أوغندا ... ... 1 ... ... ... ... ... ... ... ـ
الحبشة ... ... ـ ... ... ... ... ... ... 5,5سمعية
ص 104
---------------------------------------
الدولة ... ... ... عدد المكتبات
---------------------------------------
كينيا ... ... ... ... 150
غانا ... ... ... ... 121
مالي ... ... ... ... 35
بنجلاديش ... ... ... 30
تشاد ... ... ... ... 150
الصومال ... ... ... 20
أوغندا ... ... ... ... 25
ص 108
-------------------------------------------------
الدولة ... ... عدد الآبار ... ... ... ... ملاحظات
-------------------------------------------------
غانا ... ... ... 25 ... ... ... ... ... ـ
مالي ... ... ... 3 ... ... ... ... ... ـ
أثيوبيا ... ... ... 9 ... ... ... ... ... ـ
كينيا ... ... ... 8 ... ... ... ... منها بئر ارتوازي واحد.
الصومال ... ... 10 ... ... ... ... ... ـ
توجو ... ... ... 6 ... ... ... ... ... ـ
بنجلاديش ... ... 11 ... ... ... ... ... ـ
تشاد ... ... ... 9 ... ... ... ... منها بئر بالطاقة الشمسية
بنين ... ... ... 6 ... ... ... ... ... ـ
باكتسان ... ... 12 ... ... ... ... ... ـ
أوغندا ... ... ... 2 ... ... ... ... ... ـ
جنوب شرق آسيا ... 5 ... ... ... ... ... ـ
السنغال ... ... 1 ... ... ... ... ... ـ
نيجيريا ... ... 5 ... ... ... ... ... ـ
__________
...(96/94)
من ثمرات المنتدى
التقرير السنوي لأنشطة
المنتدى الإسلامي
أنشيء المنتدى الإسلامي في بريطانيا عام 1406هـ؛ ليكون بعون الله
(تعالى) منارة من منارات الهدى، ومؤسسة من مؤسسات أهل السنة والجماعة،
تسير على منهاجهم وتدعو إلى أصولهم، وتذكر بطريقتهم الخالية من الغلو
والانحراف.
بدأ المنتدى الإسلامي عمله في بريطانيا، ثم بدأ يمتد ويتنامي بفضل الله حتى
شمل عدداً كبيراً من الدول الإسلامية، ومع تطور العمل موضوعياً وجغرافياً رأت
إدارة المنتدى افتتاح مكاتب فرعية للإشراف على الأنشطة ميدانيّاً، حيث بلغ عدد
المكاتب الفرعية للمنتدى الإسلامي ومجلة البيان: أربعة عشر مكتباً، وقد حددت
الأهداف والوسائل، ورسمت خطة العمل، وكونت لجان للمتابعة والتقويم، وذلك
من أجل أن يكون العمل دقيقا ومتقناً قدر الطاقة، بعيداً عن الارتجال والعفوية.
ويسرنا في هذا التقرير أن نقدم تعريفا شاملا ومختصرا لأنشطة المنتدى
الإسلامي في مختلف مواقع العمل، سائلين الله (تعالى) أن يبارك في جهودنا،
ويجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
أولا: برامج تعيين الدعاة والأئمة والمدرسين:
يعد برنامج تعيين الدعاة والأئمة والمدرسين من أبرز البرامج العملية التي
يقوم بها المنتدى الإسلامي حيث ثم تعيين (624) داعية ومدرساً، يقومون بالتعليم
والدعوة والإمامة، وفي عدد غير قليل من الدول، مثل: (كينيا، وأوغندا،
والصومال، وجيبوتي، ومالي، ونيجيريا، وغانا، وبنين، وتوجو، وبنجلاديش، وأثيوبيا، والنيجر، ... وغيرها (ويخضع تعيين الدعاة لشروط عدة منها:
1- سلامة المنهج معتقداً وسلوكا.
2- الكفاية العلمية والشرعية.
3- الكفاية الدعوية.
وقد وضعت برامج دعوية يومية وموسمية لكل داعية، تختلف باختلاف
المناطق والقدرات، وتتم متابعة الداعية بالوسائل التالية:
1- تم تعيين مشرف على الدعاة في كل منطقة يتابعهم عن قرب، ويرشد من
برامجهم وطرائقهم الدعوية.
2- يقوم الداعية بكتابة تقرير شهري يرسل إلى مكتب المنتدى الإسلامي.
3- يقوم مسؤولو اللجان العاملة في المنتدى بالزيارات الميدانية الدورية
للإشراف والمتابعة لبرامج الدعاة، كما يحرص المنتدى الإسلامي على رفع مستوى
الدعاة العلمي والدعوي بتوفير المكتبات العامة والخاصة وإقامة الدورات الشرعية
والدعوية.. ونحوها.
ثانياً: الأنشطة الدعوية والتربوية:
يقوم المنتدى بأنشطة دعوية وتربوية متعددة منها:
1- الدورات الشرعية:
تهدف هذه الدورات إلى تصحيح وترشيد العمل الإسلامي، ورفع المستوى
العلمي، والوعي الدعوي، لدى الدعاة، وتأصيل ذلك تأصيلا شرعياً مبيناً على
الكتاب والسنة الصحيحة ومنهج السلف الصالح.
وقد بلغ عدد الدورات الشرعية (45) دورة، شارك فيها نخبة من
المتخصصين والأساتذة وطلبة العلم، وقدمت فيها دورس متخصصة في: العقيدة
والتفسير والفقه وأصوله والحديث وأصوله وفقه الدعوة والسيرة النبوية والتاريخ
الإسلامي ... وكانت الدورات موزعة كالتالي:
وقد كان لهذه الدورات آثار علمية ودعوية كبيرة ولله الحمد والمنة.
2- الملتقيات الدعوية:
تهدف هذه الملتقيات إلى معالجة مشكلات الدعوة والدعاة، وتنمية القدرات
العلمية والدعوية لدى المشاركين.
وقد تم بحمد الله (تعالى) عقد (26) ملتقى دعوياً، في عدد من الدول،
موزعة كالتالي:
بريطانيا: (20) ملتقى دَعَويّا، يعقد الملتقى الأخير إن شاء الله في الفترة
من 8 إلى 9 شعبان من عام 1416هـ تحت شعار: (الدعوة والدعاة.. نحو بناء متين) .
غانا: ملتقيان دعويان.
كينيا: ثلاثة ملتقيات دعوية.
السنغال: ملتقى دعوي.
توجو: ملتقى دعوي.
3- المخيمات الشبابية التربوية:
يحرص المنتدى الإسلامي على إقامة المخيمات الشبابية والطلابية لدورها
الكبير في إيجاد المحاضن التربوية التي تربي الشباب، وتنشر الوعي الإسلامي في
صفوفهم. وقد بلغ عدد المخيمات التربوية التي أقيمت: (27) مخيما. وهي
موزعة كالتالي:
4- الدورات الإدارية:
تهدف هذه الدورات إلى تنظيم العمل وضبطه، والارتقاء به نحو الأفضل،
درءًاً للفوضوية والارتجال، وقد أقيمت ثلاث دورات متخصصة في هذا المجال،
بالإضافة إلى عدد من الدروس والمحاضرات في أكثر مكاتب المنتدى، وهذه
الدورات هي:
1- دورة في الإدارة المدرسية وطرق التدريس، أقيمت في غانا.
2- دورة في الإدارة وأساليب التخطيط والتنظيم، أقيمت على هامش الملتقى
الثالث في توجو.
3- دورة في طرق تنظيم الدورات والأنشطة العلمية والتربوية في توجو.
5- المحاضرات والدروس العلمية:
يواظب المنتدى الإسلامي منذ إنشائه على عقد الدروس الشرعية
والمحاضرات العلمية في مركزه الرئيس في لندن، ومن هذه الدروس الأسبوعية
المنتظمة:
أ - دروس في العقيدة من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
ب- دروس في علم الحديث من كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري.
ج- دروس في الفقه من كتاب: سبل السلام (خاصة بالنساء) .
د- دروس في التفسير. يعقبها محاضرة أسبوعية.
هـ- دروس مختارة للناطقين بالإنجليزية.
هذا بالإضافة إلى أن كل داعية تابع للمنتدى في جميع المكاتب يكلف بالتعليم
وعقد الدروس العلمية في المساجد، كما يقوم الدعاة بإلقاء الخطب والمحاضرات في
شتى المعارف الإسلامية في المدارس والمعاهد والمساجد والتجمعات العامة، فدعاة
مكتب مالي على سبيل المثال يلقون (816) درساً علميا في المساجد شهريا، و116
محاضرة عامة شهريا.
ثالثا: الأنشطة التعليمية:
1- المدارس النظامية: ويقصد بها المدارس التي تلتزم بتدريس العلوم
العصرية المقررة في البلد الذي تقام فيها، بالإضافة إلى تدريس العلوم الشرعية
المعدة من قبل المنتدى، وبهذا يجمع الطالب بين الثقافتين، ويستطيع المواصلة في
الجامعات الحكومية في أي تخصص يريد، وبذلك نضمن وجود مسلمين أكفاء في
مختلف القطاعات الحكومية.
وقد بلغ إجمالي عدد المدارس: (12) مدرسة، وهي موزعة كالتالي:
2- المدارس الشرعية: يهتم المنتدى، اهتماماً بالغاً بإنشاء وتشغيل المدارس
الشرعية، لنشر العلم الصحيح، ورفع الجهل عن أبناء المسلمين، وقد بلغ عدد
هذه المدارس: (28) مدرسة، موزعة كالتالي:
3- معاهد إعداد الدعاة: الاهتمام بتنمية الطاقات وإعداد الدعاة له أهمية
كبيرةجداً في إنجاح العمل الدعوي، ولهذا سعى المنتدى الإسلامي لافتتاح عدد من
المعاهد العليا لإعداد الدعاة، واكتمل إعداد المناهج العلمية، والخطط الدراسية،
ولكن تأخر افتتاحها بسبب بعض الإشكالات النظامية في الدول المعنية، ومن أهم
هذه المعاهد:
معهد إعداد الدعاة في غانا: حيث جهزت المباني، وذللت العقبات النظامية
وسوف يبدأ العمل في بداية العام القادم إن شاء الله.
4- توزيع المناهج الدراسية: تفتقر كثير من المدارس الإسلامية في إفريقيا
إلى المناهج الدراسية بسبب ضعف إمكاناتها المادية فهذا يؤدي في الغالب إلى
ضعف المستوى العلمي للطلاب؛ ولهذا سعى المنتدى الإسلامي إلى توزيع المناهج
الدراسية على بعض هذه المدارس، حيث بلغ عدد الكتب الموزعة تقريبا:
(135500) كتاب، موزعة كالتالي:
رابعاً: تحفيظ القرآن الكريم:
يهتم المنتدى الإسلامي اهتماماً خاصاً بكتاب الله (عز وجل) حفظاً وتلاوة
ودراسة، ويسعى لتربية النشيء المسلم على آدابه وتوجيهاته، وذلك من خلال
إقامة خلوات وحلقات لتحفيظ القرآن الكريم، ويبلغ عدد الحلقات التي يشرف عليها
المنتدى (324) حلقة تتوزع في عدد كبير من الدول بالإضافة إلى أربعة مراكز
لتحفيظ القرآن في مخيمات اللاجئين الإرتيريين في شرق السودان.
وقد أعد المنتدى الإسلامي خطه متكاملة للارتقاء بمستوى الحلقات إداريا
وتربويا وفنيا، ووضع منهجا علميا رديفا في العلوم الشرعية: التوحيد، والفقه،
والتفسير، والسيرة، والآداب الإسلامية، كما يحرص المنتدى الإسلامي على الرفع
من قدرات المشرفين على الحلقات والمدرسين فيها، وذلك بعقد الدورات العلمية لهم، ومنها:
1- دورة شرعية لمدرسي حلقات تحفيظ القرآن الكريم في توجو.
2- دورة شرعية لمدرسي حلقات تحفيظ القرآن الكريم في غانا.
3- دورتان تدريبيتان لمدرسي حلقات تحفيظ القرآن الكريم في مالي.
وقد وزعت مكاتب المنتدى أعداداً كبيرة جداً من المصاحف، بالإضافة إلى
توزيع ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية والفرنسية والصومالية.
خامساً: القوافل الدعوية:
المناطق الإسلامية مناطق واسعة مترامية الأطراف، وقد انتشر الإسلام بحمد
الله في مختلف الأدغال والقرى النائية، ولكن غلب الجهل في عامة المسلمين في
المدن الرئيسة فضلا عن القرى والهجر النائية، مما جعل البدع والشركيات والسحر
تنتشر في أوساط الجهلة من المسلمين.
ولتعسر تعيين الدعاة في كل المناطق المحتاجة، ولصعوبة الانتقال من منطقة
إلى أخرى، كلف المنتدى الإسلامي دعاته بإعداد القوافل الدعوية للوصول إلى
المسلمين وغيرهم، ونشر العقيدة الصحيحة بينهم، ومحاربة البدع والخرافات.
ومن أجل أن يكون تأثير القافلة على المستوى الأمثل، رأى المنتدى الإسلامي
أن يُرْسِل مع بعض القوافل طيبياً لعلاج المرضى، كما تحمل القافلة أحيانا بعض
الملابس والمواد الغذائية لتأليف الناس، وبعض الكتب باللغات المحلية.
وقد نفّدت ولله الحمد (53) قافلة دعوية موزعة كالتالي:
وقد كان لهذه القوافل أثر محمود، ونتائج إيجابية كبيرة، لعل من أبرزها
إسلام (62) وثنيا، في قافلة واحدة قام بتنفيذها مكتب مالي.
هذا بالإضافة إلى بعض الجولات الدعوية الدورية للدعاة في مختلف المناطق
والقرى.
سادساً: بناء المساجد:
قام المنتدى ببناء (201) مساجداً وجامعاً في دول مختلفة، منها (64) مسجداً
تحت التنفيذ وهي كالتالي:
ويحرص المنتدى الإسلامي على الاختيار الأمثل لموقع المسجد، وتسجيل
ملكيته رسمياً، كما يسعى كذلك لإحياء رسالة المسجد، وتنشيطه دعوياً بتعيين
داعية مؤهل في كل مسجد يقوم المنتدى ببنائه، ليتولى إمامة المسلمين، وإقامة
الدروس الشرعية، والمواعظ، وحلقات تحفيظ القرآن.
سابعاً: المكتبات العامة ومكتبة طالب العلم:
للكتاب الإسلامي دور كبير في نشر العلم، ونشر العقيدة الإسلامية الصحيحة. وبسبب ندرة الكتاب الإسلامي وقلة المراجع العلمية في كثير من الدول، سعى
المنتدى الإسلامي إلى توفير الكتب والمراجع العلمية بعدة وسائل، منها:
1- المكتبات العامة: وهي نوعان:
مكتبة كبيرة: توضع في المدن الرئيسة، وفي أماكن التجمعات الكبيرة للدعاة.
مكتبة صغيرة: توضع في المساجد والمدارس ونحوها.
وتم انتقاء الكتب بناء على الاحتياجات الأساسية للدعاة في كثير من البلاد.
وبلغ عدد المكتبات التي جهزت حتى الآن: (36) مكتبة، موزعة كالتالي:
2- مكتبة طالب العلم: يحرص المنتدى الإسلامي على تنمية قدرات الدعاة
العلمية، ورفع مستوياتهم الشرعية، وذلك بتوفير مكتبة صغيرة لكل داعية،
تحتوي على الأصول العلمية المهمة، ولكي يكون الاختيار متلائماً مع قدرات الدعاة
وضعت قائمتان:
الأولى: للدعاة الجامعيين.
الثانية: للدعاة غير الجامعيين.
وقد بلغ عدد مكتبات طالب العلم التي وزعت: (531) مكتبة، موزعة
كالتالي:
الدولة ... ... ... عدد المكتبات
كينيا 150
غانا 121
مالي 35
بنجلاديش 30
تشاد 150
الصومال 20
أوغندا 25
3- توزيع الكتاب والشريط الإسلاميين: ...
* عدد المصاحف الموزعة: 000ر24 مصحفاً.
* عددالكتب الإسلامية: 000ر132كتاباً.
* عدد الأشرطة: 000ر62 شريطاً.
ثامنا: مطبوعات المنتدى الإسلامي:
1- مجلة البيان: بدأ المنتدى الإسلامي بإصدارها في عام 1406هـ،
لتوزع في مختلف أنحاء العالم. وقد اعتمد المنتدى (4500) اشتراكاً شهرياً مجانياً
في عدد من الدول، إسهاماً منه في إيصال كلمة الحق والهدى إلى الدعاة وطلاب
العلم الذين لايستطيعون شراء المجلة، بالإضافة إلى العديد من الجمعيات الإسلامية
والمعاهد والمراكز.
2- نشرة المنار: وهي نشرة صغيرة تصدر باللغة الإنجليزية وتوزع في
بريطانيا وأمريكا، ومكاتب المنتدى في إفريقيا في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية،
وتتناول هذه النشرة بعض البحوث الميسرة في العلوم الإسلامية.
3- مجلة النصيحة: وهي مجلة جديدة تصدر باللغة الإنجليزية والسواحلية
في كينيا، بدأ إصدارها من شهر رمضان الماضي، ولنجاح هذه المجلة سوف
تطور وتوزع إن شاء الله في الدول الإفريقية الناطقة بالإنجليزية.
4- كتاب المنتدى:
يقوم المنتدى الإسلامي بطباعة الكتب والرسائل المفيدة مع الحرص على
حسن الاختيار والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة، ومن هذه الإصدارات:
* التجديد في الإسلام.
* رؤية إسلامية للاستشراق.
* اعتقاد أهل السنة في الصحابة.
* علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام.
* الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي.
* البداوة والحضارة.
* خواطر في الدعوة ج1، 2.
* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أصوله وضوابطه.
* تجربة المنتدى الإسلامي في العمل الدعوي.
* أيعيد التاريخ نفسه؟ !
* على من تعرض الصور؟ !
* فن التعامل مع الناس.. وغيرها.
وسوف يصدر قريبا إن شاء الله تحقيق علمي لكتاب: (حجة الله البالغة) لولي
الله الدهلوي.
5- طباعة الكتب المترجمة:
قام المنتدى الإسلامي بطباعة عدد من الكتب الإسلامية المترجمة إلى عدد من
اللغات، ووزعت في عدد من دول العالم، ومنها:
* الأصول الثلاثة: (باللغة الفرنسية) .
* الأصول الثلاثة: (بلغة الهوسا) .
* الخطوط العريضة: (بلغة الهوسا) .
* وجوب لزوم السنة والحذر من المبدعة، للشيخ ابن باز (بالإنجليزية) .
* وجوب أداء الصلاة جماعة، لابن باز (بالفرنسية) .
* رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية (بالبنغالية) .
* عقيدة أهل السنة والجماعة، لجميل زينو (بالبنغالية) .
* صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجوب صلاة الجماعة، لابن
باز (بالسواحلية) .
* الطهارة والصلاة، لابن عثيمين (بالسواحلية) .
* الدروس المهمة لعامة الأمة، لابن باز (بالسواحلية) .
* توجيهات إسلامية، لجميل زينو (بالبنغالية) .
بالإضافة إلى أن المنتدى الإسلامي يسعى لتوفير الكتاب الإسلامي باللغات
المختلفة من الأسواق، ويوزعها في دول العالم، وقد بلغ عدد الكتب الإسلامية
المترجمة التي وزعت (000ر450) كتاباً.
تاسعاً: النشاط الإغاثي والاجتماعي:
المنتدى الإسلامي مؤسسة دعوية في الأصل، ولكنه يقدم أنشطة اجتماعية
وصحية متعددة، كما يساهم في إغاثة المنكوبين وإعانة الملهوفين من المسلمين.
ومن البرامج التي تم تنفيذها:
1- المراكز الإغاثية:
قام المنتدى الإسلامي بإنشاء (28) مركزاً إغاثياً، استفاد منها ( ... 15)
شخص يوميا، موزعة كالتالي:
أ - كينيا: (23 (مركزاً إغاثيا للاجئين الصوماليين، واستمرت لمدة سنتين،
استفاد منها: (.. 7، 11) شخص يومياً. وقد أغلق منها (20) مركزاً؛ لنزوح
اللاجئين إلى مواقع أخرى وبقي (3) مراكز يستفيد منها (650) شخصاً يومياً.
ب- بنجلاديش: أقيم مركز إغاثي استمر لمدة سنتين، وتم إغلاقه لانقضاء
حاجته.
ج- الصومال: مركزان إغاثيان، ثم إغلاقهما أخيراً.
د- أثيوبيا: مركزان إغاثيان، تم إغلاقهما أخيراً.
2- الأعمال الإغاثية العامة:
وتشمل توزيع المواد الغذائية واللباس والكساء والدواء، حيث قام المنتدى
الإسلامي بأعمال إغاثية متعددة في الصومال، وبنجلاديش للمتضررين من
الفيضانات والأعاصير، والبورماويين بسبب الحروب، وجبيوتي، ومالي..
وغيرها.
ويصاحب هذه الأنشطة برامج دعوية مكثفة من دعاة المنتدى الإسلامي.
3- برنامج إفطار صائم:
اعتاد المنتدى الإسلامي على تنفيذ البرنامج سنويا في عدد من دول العالم.
وقد بلغ عدد الوجبات التي تم توزيعها في رمضان 1413هـ (168، 849) وجبة
شملت (18) دولة. وأما في رمضان 1414هـ فقد بلغ عدد الوجبات (677،
326) وجبة، شملت (16) دولة. وفي رمضان 1415هـ بلغ عدد الوجبات
(700، 784) وجبة شملت (16) دولة.
وفي الغالب يصاحب الإفطار دروس وعظية وعلمية وتربوية يعدها دعاة
المنتدى الإسلامي مما يكون له أثر مبارك ولله الحمد والشكر.
4- برنامج الأضاحي:
يقوم المنتدى الإسلامي سنويا بتنفيذ برنامج الأضاحي في عدد من دول العالم،
وذلك لتوزيعها على فقراء المسلمين، وقد بلغ عدد الأضاحي حتى نهاية عام 1415
هـ ( ... 22) أضحية، بالإضافة إلى ذبح العقائق والكفارات والنذور لتوزيعها
على المحتاجين.
5- حفر الآبار:
بسبب تتابع الجفاف ومواسم القحط التي سادت أجزاء من القارة الإفريقية،
وزيادة حاجة المسلمين إلى مصادر نقية للمياه، عمل المنتدى ولازال يعمل على سد
حاجة المسلمين في بعض المناطق من المياه الصالحة للشرب، وقد حفر المنتدى
الإسلامي حتى الآن: (118) بئراً في عدد من الدول موزعة كالتالي:
----------------------------------------
الدولة عدد الآبار ملاحظات
----------------------------------------
غانا 25 00
مالي 3 00
أثيوبيا 9 00
كينيا 8 منها بئر ارتوازي واحدز
الصومال 10 00
توجو 6 00
بنجلاديش 11 00
تشاد 9 منها بئر بالطاقة الشمسية.
بنين 6 00
باكستان 12 00
أوغندا 2 00
جنوب شرق آسيا 5 00
السنغال 1 00
نيجيريا 5 00
------------------------------------------
وقد بدأ المنتدى بمشروع جديد لحفر الآبار في السودان باسم: (عيون الحياة
(وجهز المشروع بمختلف التجهيزات الفنية والآلية اللازمة، وبناء على الخطة
المرسومة فسوف يحفر (12) بئرا سنويا إن شاء الله (تعالى) ، تم تنفيذ (6) آبار
منها حتى الآن، ولله الحمد.
6- كفالة الأيتام:
يكفل المنتدى الإسلامي (258) يتيماً كفالة تامة تشمل الغذاء والكساء والتعليم.
والله نسأل أن يبارك في هذه الجهود الخيرية، وأن يخلص النيات، وأن
يتقبلها بواسع فضله، وأن يوفقنا لإكمال هذه المسيرة على الوجه الذي يرضيه،
وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى وصلى الله على محمد وآله وصحبه
وسلم.(96/94)
الورقة الأخيرة
درس لايُنسى..!
بقلم: أحمد بن محمد الصالح
كنت في رحلة إلى مدينة (وجير) في الشمال الشرقي لجمهورية كينيا، وبعد
تجوال طويل بين القرى المختلفة، توقفت بجوار مجموعة من الصبيان تحلقوا
لقراءة القرآن الكريم بين يدي شيخهم تحت ظل شجرة، هرباً من لهيب الشمس
المحرق، رأيتهم يكتبون القرآن الكريم بالفحم على ألواح خشبية بطريقة بدائية،
ويرددون مقطعاً من سورة: (ق) بصوت متخشّع يأسر القلوب.
ورأيتُ شيخهم يُمسك نسخة قديمة ممزقة الأوراق من كتاب: (الأصول
الثلاثة) باللغة السواحلية، ذكر أنه استعارها من صاحب له، فسألته عن طلابه
وحرصهم على الدرس والحفظ؟ ! فطأطأ رأسه قليلاً، ثم تنهد بعمق.. وقال:
جاءت إلينا إحدى الإرساليات الكنسية العريقة منذ أكثر من عشرين عاماً، وها هي
ذي الآن تتعاهد أبناءنا بالقصص المصورة الموجهة بلغتهم المحلية، فتشدّهم بألوانها
البراقة وأساليبها الجذابة، كما توزع الإنجيل والكتب والمجلات التنصيرية، وتقيم
الاحتفالات والبرامج الشبابية المتعددة لاحتواء المسلمين وفتنتهم..
ثم نظر إليّ نظرة ملؤها الأسى والعتب، وقال لي بحياء: أين
المسلمون؟ ! ... حتى أنت تصافح الصبية بحرج حتى لاتتسخ يدك.! ولكن دع النصارى يفعلون ما يريدون فنحن على ثقة من ديننا، حتى ولو كنا تحت شجرة ولم نجد إلا ألواح الخشب..! !
غادرت المنطقة وقد اغرورقت عيناي بالدموع، وأنا أحمد الله (تعالى) ، حمداً
كثيراً طيباً مباركاً فيه، الذي حفظ كتابه العزيز وحفظ دينه الكريم، فعلى الرغم من
الفقر والمرض والجهل، وعلى الرغم من العزلة والانقطاع، والبعد في تلك
المناطق النائية والأدغال الوعرة، إلا أنك تجد هؤلاء الصبية يتحلقون لتلاوة كتاب
الله (تعالى) بكل اطمئنان وثقة.
لقد تعلمتُ في التربية درساً لايُنسى.. فالبذل لهذا الدين والتضحية من أجله
ليست شعاراً يرفع أو دعوى يُتشدق بها، وإنما هي وليدة عقيدة راسخة في القلب
تثمر الصدق والفاعلية.
لقد تعلمتُ في التربية درساً لا ينسى.. فكم هي الأموال التي ننفقها في
الإسراف والبذخ والتوسع في المباحات، فضلاً عن الملاهي والمحرمات..؟ !
ولم أعجب من جهود المنصرين وأنا أقرأ قول الله (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] [الأنفال: 36] .
ولكنني عجبت أشد العجب من تقصيرنا وتفريطنا نحن المسلمين فكتاب الله
(عز وجل) لم نستطع إيصاله لعموم المسلمين، فضلاً عن ترجمة معانيه وتفسيره..
فضلاً عن تقريب السنة النبوية وترجمتها، وتيسير العقيدة الصحيحة المبرأة من
الشركيات والبدع..! !
ما أعظمها من أمانة..!
وما أجلها من مسؤولية..!(96/111)
رمضان - 1416هـ
فبراير - 1996م
(السنة: 10)(97/)
كلمة صغيرة
بدون عنوان
مبدأ جديد، تحاول بعض الدول المغرمة شكلاً لا حقيقة بما يسمى
بالديمقراطية الإمساك به، وهو في الحقيقة ما نسميه بـ (الديموخراطية) التي تعني
الحكم بالحديد والنار مع فتح المجال لأحزاب هزيلة لا رصيد لها من الواقع الشعبي
ولا من تبني قيم الأمة ومسلماتها الشرعية؛ لذلك تدعو تلك الدول لانتخابات
صورية معروفة نتيجتها سلفاً، ولو توقعت تلك الدول أن تلك الأحزاب والجماعات
أو حتى المستقلين لهم وزن يسحبون به البساط من الحزب الحاكم المسيطر،
لعرضتهم للضرب، والسجن، والاعتقال، ولو أصدر قضاؤهم حكماً ببطلان تلك
الانتخابات، فلن يعار اهتماماً؛ بدعوى أن المعارضين مشاغبين.
والعجيب أن الذي يدافع عن ذلك التوجه ليس الصحف الرسمية فقط وإنما
أيضاً صحف ومجلات مشبوهة متغيرة الاتجاه تميل مع الريح أنى تميل، تؤيد تلك
الانتخابات المزيفة، وتعتبر المضارين منها حاقدين ومفلسين، ومادروا أن العالم
كله يعرف حقيقة تلك الانتخابات التي ينتقدها أبناء البلاد أنفسهم وأعلام الفكر
والرأي فيها.
والعجيب أن يسقط رئيس دولة ويتحول النظام الحاكم إلى المرتبة الثالثة في
بعض الدول الأجنبية، بينما في دولنا (الديموخراطية) فالنتيجة معروفة: أغلبية
مطلقة. هذه هي (ديموقراطيتهم) عفواً ديموخراطيتهم. وفي العدد مقالة مستفيضة
حول الموضوع.(97/1)
افتتاحية العدد
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
انتكست الأمة الإسلامية في القرون الأخيرة، وتصدّعت أركانها، وتسلط
عليها أعداؤها، واستبدل الله (سبحانه وتعالى) قوتها بضعف، وعزتها بذلة،
واجتماعها بفرقة وشتات، أصبحت مستباحة الحمى، مهيضة الجناح، يعبث بها
العابثون، ويفسد فيها المفسدون، تنتهك حرماتها، وتسرق مقدراتها، ويُسْتوْلَى
على أرضها، وتُشَتت شعوبها، وهي لاتملك حولاً ولاطولاً ... ! !
في كل أرض لها مأساة، وفي كل بلد لها محنة.. أبناؤها يشردون، ودعاتها
يُقَتّلون، نساؤها ترمّل، وأطفالها تُيتم..!
فما الذي جرى لها حتى وهنت، ووصلت إلى هذا المآل..؟ !
مالذي جرى حتى تغيب هذا الغياب المذهل الذي أفقدها اتزانها ووجودها....؟!
تدبر قول الله (سبحانه وتعالى) في محكم التنزيل: [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمَّا يَاًتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى *
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ
لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ
تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى]
[طه: 123-127] .
إذاً هذا هو السر ... وهذا هو موضع الداء..!
أعرضت الأمة عن شرع الله (تعالى) ، وهجرت كتاب الله (عز وجل) علماً
وعملاً، وأدبرت عن سنة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، واستبدلتها
بقوانين وضعية، واجتهادات بشرية ملفقة من الشرق والغرب.. فكانت النتيجة
الملموسة التي تجنيها الأجيال: التخبط والشقاء الذي نرى آثاره تزداد يوماً بعد يوم..
كم ذاقت الأمة من البلاء، وأصابها من الشدة، بسبب إدبارها وإعراضها عن
شرع الله ووحيه المنزل؟ ! وكم تقلبت في ألوان وألوان من الذل والهوان..؟ !
تأمل حال الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها، وسوف تجد حالةً من القلق،
وعدم الاتزان تسيطر على كثير من أجزائها، وصدق المولى (جل وعلا) إذ يقول:
[أَفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ]
[الملك: 22] .
إن السعادة كل السعادة، والطمأنينة كل الطمأنينة، إنما هي في تعظيم شرع
الله (تعالى) واتباعه والاهتداء بهديه. والشقاوة، والتخبط كل التخبط، إنما هو في
الإعراض عن شرع الله (تعالى) والاستهانة به وهجره. قال الله (تعالى) : [الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] [الرعد: 28] . ولعل
شهر مضان المبارك يذكر الأمة الإسلامية بضرورة العودة الصادقة إلى كتاب الله
العظيم، فقد شرف الله (تعالى) هذا الشهر بنزول القرآن، فقال: [شَهْرُ رَمَضَانَ
الَذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ] [البقرة: 185] .
فالله (سبحانه وتعالى) أنزل كتابه العزيز ليهتدي به الناس ويعتصموا به، فهو
مصدر القوة والعزة، وأساس التمكين والرفعة، فيه الهدى والنور، من آمن به حق
الإيمان، وصدق به أخلص التصديق، فقد هداه الله وآتاه من فضله، وأعانه على
كل خير، قال الله (تعالى) : -[الم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ]
[البقرة: 1-2] . ومن هجره وأعرض عنه علماً وعملاً، ولم يؤمن بمتشابهه
ويعمل بمحكمه، فقد أضله الله، وختم على قلبه وبصره، قال الله (تعالى) [وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ]
[الأعراف: 175-177] وصدق رسول الله إذ يقول: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) [1] .
إن القرآن الكريم ليس آيات تهتز لها الرؤوس، وتتمايل بها العمائم، ويطرب
لها الدراويش في الموالد والمآتم والاحتفالات، وليس آيات تُهَذُ هَذّ الشعر، أو تنثر
نثر الدقل، بل هو آيات بينات تتنزل على قلوب المؤمنين فتغمرها بالسكينة
والطمأنينة، وتملؤها بالثقة والثبات. وتدبرُ آيات الله (عز وجل) ومعرفة مقاصدها
ومراميها، والوقوف عند عظاتها وعبرها، والتفكر في معانيها وفقهها وأسرارها:
نعمة عظيمة من أجل النعم التي يوفق إليها العبد المسلم. قال الله (تعالى) : -
[إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] [الأنفال: 2] ولهذا وصف أبو عبد الرحمن السلمي الصحابة
(رضي الله عنهم) بقوله: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان
وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه
وسلم- عشر آيات، لم يجاوزوها حتى يتعلموا مافيها من العلم والعمل، قالوا:
فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً) [2] . وقال عبد الله بن عباس (رضي الله
عنهما) : (لأن أقرأ البقرة في ليلة فأَدّبّرها وأرتلها، أحب إلي من أن أقرأ القرآن
أجمعَ هذرمة) [3] .
وإذا طغى الران على القلب، وانتكس الإنسان بعبثه ولهوه حجبه الله (تعالى)
عن نور القرآن، وحال بينه وبين الهدى والحق، قال الله (تعالى) : [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ
القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: 24] وقال الله (تعالى) : [وإذَا قَرَاًتَ القُرْآنَ
جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ
نُفُوراً] [الإسراء: 45، 46] وتوعد الله (تعالى) المعرضين عن كتابه العزيز
بقوله (عز وجل) : [أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ
لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [الزمر: 22] .
وأما أهل الإيمان فقد وصفهم الله بقوله (تعالى) : [وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ
نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى
مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ
إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً] [الإسراء: 105-109] .
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين يعظمونه حق التعظيم، فيؤمنون بمتشابهه،
ويعملون بمحكمه ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويحكمونه في جميع
أمورهم.. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
(1) أخرجه: مسلم، في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها ح 1، ص 559، ح 817.
(2) سير أعلام النبلاء: 4/269.
(3) فضائل القرآن، ابن كثير: ص 75.(97/4)
دراسات شرعية
المنهج العلمي للاستدلال
(منهج المبتدعة في التعامل مع النصوص الشرعية)
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن منهج الاستدلال عند أهل السنة، ثم
تحدث في الحلقة الثانية عن منهج المبتدعة، وذكر أنه يعتمد على ثلاثة أصول؛
الأول: ردّ النصوص الثابتة والاعتراض عليها، والثاني: العبث في الأصول
الشرعية للاستدلال وتشويهها، وذكر تحت هذا الأصل سبع مسائل، وفي هذه
الحلقة الأخيرة: يتمم هذه المسائل، ويذكر الأصل الثالث في منهج المبتدعة مبيناً
فساده.
- البيان -
ثامناً: رد حديث الآحاد:
لعل أول من رد حديث الآحاد جملة في العقائد والأحكام هم: الخوارج، ثم
تبعهم المعتزلة، بحجة أنها أحاديث ظنية الثبوت لا تفيد العلم اليقيني! .
ثم تبنى هذا المذهب جمع من المتكلمين الذين اعتمدوا حديث الآحاد في
الأحكام وردوها في العقائد، وانتشر هذا المذهب انتشاراً واسعاً عند المتأخرين حتى
ظنه من لاتحقيق عنده من المعاصرين: أنه مذهب الأئمة الأربعة وجمهور
العلماء [1] .
وبسبب هذا رُدّت عقائد كثيرة جداً ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في
أحاديث صحيحة.
واستغل هذا المذهب قوم من أهل الأهواء والزنادقة في رد كثير من دلائل
النصوص الشرعية المحكمة؛ بحجة أنها لم ترد وروداً قطعياً، بل إن بعضهم رد
الأحاديث المتواترة القطعية بحجة أن تواترها لم يثبت عنده، حتى أصبح ذلك سلماً
للزنادقة والعابثين.
وقد رد هذه الفرية في وقت مبكر جمع من أهل العلم وأئمة السنة، وبينوا
مخالفتها للدلالة الشرعية والعقلية وإجماع الأمة. ولعل من أوائل من بسط الرد على
المبتدعة في هذا الباب: الإمام الشافعي في كتابه الجليل: (الرسالة) ، ثم تبعه جمع
من الأئمة على رأسهم الإمام البخاري حيث أفرد كتاباً مستقلاً في صحيحه سماه:
(أخبار الآحاد) ، ذكر فيه عدداً من الأحاديث التي تدل على وجوب العمل بحديث
الآحاد في العقائد والأحكام، وجعله بين يدي كتاب: (الاعتصام بالكتاب والسنة) ،
ثم تتابع العلماء في تفصيل هذه المسألة، ويلخص ابن عبد البر القرطبي مذهب
الأئمة أهل الفقه والأثر بقوله: (وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات،
ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، وعلى ذلك جماعة أهل
السنة) [2] .
تاسعاً: القدح في الصحابة (رضي الله عنهم) :
تقدم في الحلقة الأولى بيان عظيم منزلة الصحابة (رضي الله عنهم) ، وأن فهم
دلائل الكتاب والسنة إنما يؤخذ عنهم، فهم أعلم الناس بمراد الله (تعالى) ، ومراد
رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكل علم من علوم الشرع يؤخذ من غير طريقهم،
أو بخلاف منهجهم فهو ضلال وانحراف، وصدق عمران بن حصين (رضي الله
عنه) إذ يقول: (ياقوم: خذوا عنا، فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلّنّ) [3] .
وأكثر المبتدعة انحرفوا في شأن الصحابة انحرافاً واضحاً، ولم يعتمدوا
منهجهم ولم يسيروا سيرهم، ومنهم من قدح فيهم وكذبهم وافترى عليهم، ومنهم من
كفرهم واتهمهم بالنفاق والعياذ بالله! !
وأول من وقع في هذا الانحراف هم الخوارج والرافضة، ثم تبعهم المعتزلة
والجهمية، وسائر المبتدعة؛ ولهذا قال أبو حاتم الرازي: (علامة أهل البدع:
الوقيعة في أهل الأثر) [4] .
ومن أمثلة جرأة المبتدعة ووقوعهم في الصحابة:
قال عمرو بن عبيد: (لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان، على
شراك نعل ما أجزتُ شهادتهم! !) [5] .
ولما قال له يحيى: كيف حديث الحسن عن سمرة في السكتتين؟ فقال:
(ماتصنع بسمرة؟ قبح الله سمرة! !) [6] .
وتتبع مخازي المبتدعة في هذا الباب أمر يطول ذكره، وأشدهم غلواً فيه
الرافضة، قال ابن تيمية: (ثم إن الرافضة أو أكثرهم لفرط جهلهم وضلالهم يقولون: إنهم يعني: أبا بكر وعمر ومن اتبعهم كانوا كفاراً مرتدين، وإن اليهود
والنصارى خير منهم؛ لأن الكافر الأصلي خير من المرتد! وقد رأيت هذا في عدة
من كتبهم، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراءً على أولياء الله المتقين، وحزب
الله المفلحين، وجند الله الغالبين) [7] .
وقد بين السلف أن حقيقة الطعن في الصحابة هي: الطعن في الدين، ولهذا
قال أبو زرعة: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم أنه
زنديق؛ وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق، والقرآن حق، وإنما
أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) [8] .
وقال ابن تيمية: (أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقاً وعلماً، وعملاً
وتبليغاً، فالطعن فيهم طعن في الدين، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين،
وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده: الصد عن سبيل
الله، وإبطال ماجاءت به الرسل عن الله) [9] .
وهجر منهج الصحابة رضي الله عنهم وعدم الاهتداء بهديهم أدى إلى تخبط
المبتدعة تخبطاً شديداً، وكلما ابتعد المرء عن منهج الصحابة علماً وعملاً ازداد
انحرافه وجهله، وكثر ضلاله وبعده عن منهاج النبوة. ألم تر إلى الخوارج حينما
ضلوا وحاربوا المسلمين، ذهب إليهم عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما)
وناظرهم، ورد على شبهاتهم، رجع معه أكثر القوم وعصمهم الله من الفتنة، ومن
أعرض عنه، ولم يسمع مشورته ضل وانتكس، والعياذ بالله..؟ ! فالخير كل
الخير إنما هو في تتبع آثارهم والاقتداء بسننهم، فهم أعلم منا بكل صلاح.
عاشراً: اتباع المتشابهات:
وصف الله تعالى المبتدعة أهل الزيغ في قوله: -[هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ
الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ ... ] [آل عمران: 7] .
روت عائشة (رضي الله عنها) : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا
هذه الآية، ثم قال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ماتشابه منه، فأولئك الذين سمى الله،
فاحذروهم) [10] .
وقال الطبري: (هذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من
أهل الشرك، فإنه معنيّ بها كل مبتدع في دين الله بدعة، فمال قلبه إليها، تأويلاً
منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاج به وجادل به أهل الحق، وعدل عن
الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادة منه بذلك: اللبس على أهل الحق من
المؤمنين، وطلباً لعلم تأويل ماتشابه عليه من ذلك كائناً من كان، وأي أصناف
البدعة كان، من أهل النصرانية كان، أو اليهودية، أو المجوسية، أو كان سبئياً،
أو حرورياً، أو قدرياً، أو جهمياً) [11] .
وقال في تفسير المتشابه: (ماتشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه
التأويلات، ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ماهم عليه من الضلالة
والزيغ عن محجة الحق، تلبيساً منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل
ذلك، وتصاريف معانيه) [12] .
وقال السعدي: (فالذين في قلوبهم مرض وزيغ، وانحراف لسوء قصدهم:
يتبعون المتشابه منه؛ فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة طلباً
للفتنة، وتحريفاً لكتابه، وتأويلاً له على مشاربهم ومذاهبهم ليَضلوا ويُضلوا. وأما
أهل العلم الراسخون فيه الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم؛ فأثمر لهم العمل
والمعارف، فيعلمون أن القرآن كله من عند الله، وأنه كله حق محكمه ومتشابهه،
وأن الحق لايتناقض ولايختلف، فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة
والبيان يردون إليها المشتبه الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم وناقص المعرفة،
فيردون المتشابه إلى المحكم فيعود كله محكماً) [13] .
ولهذا كان المبتدعة يضربون النصوص بعضها ببعض، وزعموا أنها قد
تتعارض وتتخالف، وذكروا أمثلة كثيرة في هذا الباب. ولكن علماء السنة الأثبات
ردوا باطلهم وبينوا جهلهم وتناقضهم [14] ؛ وقد قال رسول الله: (إن هذا القرآن لم
ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وماتشابه فآمنوا به) [15] .
حادي عشر: جهلهم باللغة العربية:
تقدم في الحلقة الأولى بيان أهمية اللغة العربية، وأنها الأداة التي تفهم بها
دلائل الكتاب والسنة، وقد قصر المبتدعة في ذلك وأهملوا لغة القرآن، وغلبت
عليهم العجمة، فتأولوا القرآن على غير تأويله.
قال الشاطبي في بيان مأخذ المبتدعة في الاستدلال: (ومنها: تخرصهم على
الكلام في القرآن والسنة العربيين، مع العزوف عن علم العربية الذي يفهم به عن
الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا، ويدينون به ويخالفون الراسخين
في العلم، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم، واعتقادهم أنهم من
أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك) .
ثم ذكر بعض الأمثلة التي تدل على فرط جهلهم بالعربية، فقال: (كما حكي
عن بعضهم أنه سئل عن قول الله (تعالى) : [رِيحٍ فِيهَا صِرّ]
[آل عمران: 117] ، فقال: هذا الصرصر، يعني صرار الليل. وعن النظام أنه كان يقول: إذا آلى المرء بغير اسم الله لم يكن مولياً، قال: لأن الإيلاء مشتق من اسم الله. وقال بعضهم في قوله (تعالى) : -[َوَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى]
[طه: 121] لكثرة أكله من الشجرة، يذهبون إلى قول العرب غوى الفصيل: إذا أكثر من اللبن حتى بشم، ولايقال فيه غوى، وإنما غوى من الغي ... ) [16] .
والعجيب أن من كان عالماً باللغة من المبتدعة فإنه قد يحرف قواعد اللغة
وماتعارف عليه العرب، من أجل أن يوافق مذهبه الباطل، وإليك هذين المثالين:
المثال الأول: إنكار رؤية الله تعالى في الجنة:
في تفسير قول الله تعالى: [َولَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إلَى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي] [الأعراف: 143] ، زعم المعتزلة أن (لن) تفيد نفي المستقبل (بمعنى
المؤبد) [17] ، يعني: لن تراني في الدنيا ولن تراني في الآخرة! وهذا مخالف لقواعد اللغة، فلن لاتفيد النفي المؤبد، ودليل ذلك قول الله تعالى: [فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَاًذَنَ لِي أَبِي] [يوسف: 80] . وقوله تعالى: [إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِياً] [مريم: 26] . ولهذا قال ابن مالك:
ومن رأى النفي بلن مؤبداً ... فقوله اردد وسواه فاعضدا [18] .
المثال الثاني: تأويل الاستواء بالاستيلاء:
في تفسير قول الله (تعالى) : [الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى] [طه: 5] زعم
بعض المبتدعة: أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وأولوا النصوص المتواترة في
إثبات علو الله تعالى على خلقه، وردوا إجماع الأمة، قال القاضي عبد الجبار:
(الاستواء ههنا بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة، وذلك مشهور في اللغة، قال
الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق) [19] .
وقد رد أهل السنة هذا الافتراء وبينوا بطلانه ومخالفته لقواعد الشرع وقواعد
اللغة، وهو من قول شاعر ليس من العصور المحتج بها في اللغة، فضلاً عن كونه
نصرانياً [20] .
الأصل الثالث: إحداث أصول بدعية
جديدة للاستدلال والتلقي:
بعد أن تجرأ المبتدعة في رد النصوص، وعبثوا في الأصول الشرعية
للاستدلال: وضعوا أصولاً بدعية جديدة للاستدلال، إما بديلة عن الأصول
الشرعية، وإما مزاحمة لها، ومن هذه الأصول:
أولاً: تقليد الأئمة والشيوخ:
تعظيم الآباء والشيوخ آفة قديمة اعترض بها المشركون على النبي -صلى الله
عليه وسلم- وزعموا أن أشياخهم وعظماءهم أولى بالوحي من النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال الله (تعالى) : [وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ] [الزخرف: 31] . ولما عرض عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحق
بالحجة القاطعة والبرهان الساطع، اعترضوا عليه بآبائهم: [وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم
مُّقْتَدُونَ] [الزخرف: 23] . فكان تعظيمهم لآبائهم مانعاً لهم من معرفة الحق ووزن
البراهين بالموازين المستقيمة.
وقد اقتبس المبتدعة من المشركين هذه الصفة في تعظيم الشيوخ، وغلا فيهم
بعضهم غلواً شديداً أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم، ومن أبرز من انحرف في
هذا الباب:
أ- الرافضة الإمامية:
الذين زعموا لأئمتهم العصمة المطلقة كعصمة النبي، ولهذا فهم: (لايعتمدون
على القرآن ولاعلى الحديث ولاعلى الإجماع إلا لكون المعصوم منهم، ولاعلى
القياس وإن كان واضحاً جلياً) [21] . و (صاروا لذلك لاينظرون في دليل
ولاتعليل) [22] .
ب - الصوفية الباطنية:
الذين عظموا الأولياء والأقطاب، وسلموا لهم بكل مايقولون، بل زعم بعضهم
أن الأولياء أفضل من الرسل، وقال قائلهم:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي! !
ج - الفلاسفة الباطنية:
الذين عظموا فلاسفة اليونان كأرسطو وأمثاله، وقلدوهم في منطقهم،
وعارضوا الكتاب والسنة بأقوالهم، والعجيب أنهم ينهون العامة عن تقليد الرسل،
ومع ذلك فهم يقلدون رؤوسهم [23] .
د - جهلة مقلدة الأئمة الأربعة:
الذين عظموا الأئمة المتبوعين، وجعلوا أقوالهم هي المعيار في القبول والرد، وقدموها على الكتاب والسنة، حتى قال الكرخي: (كل آية تخالف ماعليه
أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فمؤول أو منسوخ) [24] .
وقد نهى السلف وأئمة السنة عن التقليد الأعمى مطلقاً، وذموا المقلدة الذين
يهجرون النصوص الشرعية، ويعارضونها بأقوال أئمتهم، ولهذا قال الشافعي:
(أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم
يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) [25] . وشدد ابن تيمية على هذا بقوله:
(معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين
للرسل، بل هو جماع كل كفر) [26] .
ثانياً: الكشف والإلهام:
زعم غلاة المتصوفة أن الأئمة يكشف لهم من معاني القرآن والسنة أمور
لايعلمها علماء الشريعة الذين سموهم بعلماء الظاهر! . وقد أصّل هذه العقيدة أبو
حامد الغزالي في عدد من كتبه، وأفرط فيها ابن عربي وغيره من أئمة التصوف.
قال الغزالي: (فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم
النور، لابالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبرّي من
علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها ... ) ثم يصف طريق ذلك فيقول: (أولاً:
بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها ... ثم يخلو بنفسه في زاوية مع
الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب، مجموع الهمّ، ولايفرق
فكره بقراءة القرآن، ولابالتأمل في تفسير، ولايكتب حديثاً ولاغيره (! !) ، بل
يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله (تعالى) ، فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة،
قائلاً بلسانه: الله.. الله.. على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة
يترك اللسان، ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه ... وليس له اختيار في
استجلاب رحمة الله (تعالى) ، بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله،
فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء
بهذه الطريقة..) [27] .
ويقول في موضع آخر: (الخلوة لاتكون إلا في بيت مظلم، فإن لم يكن له
مكان مظلم فليق رأسه بجيبه، أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع
نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة النبوية!) [28] .
وازداد غلو بعض أهل الرياضة والتصوف حتى زعموا أن الله يخاطبهم كما
خاطب موسى بن عمران (عليه الصلاة والسلام) وهؤلاء ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: زعموا أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به موسى، فهم
يدعون أنهم أعلى من الأنبياء!
الصنف الثاني: زعموا أن الله يكلمهم مثل كلام موسى، ويقولون: إن النبوة
مكتسبة!
الصنف الثالث: زعموا أن صاحب الرياضة قد يسمع الخطاب الذي سمعه
موسى، ولكن موسى مقصود بالتكليم دون هذا ... [29] .
وقد رد أئمة الإسلام هذا الضلال، وبينوا بطلانه وزيغه، ومن ذلك: قول
ابن تيمية رداً على الغزالي الذي زعم أن ميزان قبول السمعيات موافقتها للكشف
والمشاهدة: (هذا الكلام مضمونه: أنه لايستفاد من خبر الرسول -صلى الله عليه
وسلم- شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من
المشاهدة والنور والمكاشفة، وهذان أصلان للإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة إن لم
يزنها بالكتاب والسنة، وإلا دخل في الضلالات..) [30] .
ومنتهى هؤلاء القوم اتباع الظن وما تهوى الأنفس، بغير علم ولاهدى ولا
بصيرة، ولهذا عبثت فيهم الخرافة، وسيطر عليهم الدجالون.
ثالثاً: تعظيم العقل:
للعقل منزلة جليلة في دين الإسلام، فقد جعله الله (تعالى) أداة للفهم، ومناطاً
للتكليف، وأمر بحفظه ورعايته، وحرم كل ما يفسده أو يؤثر عليه، وحث الناس
على التدبر والتفكر والتعقل في آيات كثيرة جداً، كما ذم الله (تعالى) المشركين
الذين عطلوا حواسهم وعقولهم بقوله: [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ]
[البقرة: 171] . ولهذا دل القرآن على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وكان الخطاب القرآني خطاباً برهانياً، وبين مايدل على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل مايقوله؛ ليظهر الحق بأدلته السمعية والعقلية، والرسول يخبر بالحق، ويقيم عليه الأدلة العقلية البرهانية الموصلة إلى معرفته [31] .
ومع هذه المنزلة الجليلة للعقل، إلا أن طريق النجاة من العذاب الأليم:
(الرواية والنقل، إذ لايكفي من ذلك مجرد العقل، بل كما أن نور العين لايرى إلا
مع ظهور نور قدامه، فكذلك نور العقل لايهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس
الرسالة) [32] . وقيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، (ولاتحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين) [33] . (ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش
والمعاد) [34] .
وقد انحرف عن هذا السبيل الوسط فريقان من الناس:
الفريق الأول: المتصوفة الجهال، الذين ألغوا عقولهم، وقدسوا المجانين
والمجاذيب، و (كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم
أعظم) [35] . وكانوا يقولون: (من أراد التحقيق: فليترك العقل ...
والشرع!) [36] .
الفريق الثاني: المتكلمون والجهمية ومن ذهب مذهبهم، الذين قدسوا العقل
وجعلوه حاكماً على الشرع ومقدماً عليه، و (يجعلون العقل وحده أصل علمهم،
ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له) [37] .
وهؤلاء المعظمون للعقل ينقسمون قسمين:
القسم الأول: المخالفون للنصوص النبوية، الذين يقولون: إن الأنبياء لم
يعرفوا الحق الذي عرفناه، أو يقولون عرفوه، ولم يبينوه للخلق كما بيناه، بل
تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم! ! .
القسم الثاني: المدعون للسنة والشريعة الذين يقولون: إن الأنبياء والسلف
الذين اتبعوا الأنبياء، لم يعرفوا معاني هذه النصوص التي قالوها والتي بلغوها عن
الأنبياء، أو أن الأنبياء عرفوا معانيها ولم يبينوا مرادهم للناس. وقد يقولون: نحن
عرفنا الحق بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على مايوافق مدلول
العقل..! [38] .
ولهذا زعم هؤلاء القوم أن العقل قد يخالف النقل، وصالوا على النصوص
صولة المحاربين، وردوا الأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم،
ويدعون أنها مخالفة للمعقول، كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان،
ورؤية الله في الآخرة، وحديث الذباب وقتله، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر
دواء، وماأشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول [39] .
واقتدى بهم: أفراخهم من المعاصرين الذين يسمون أنفسهم: بالعقلانيين،
وبزّوهم في الجرأة على النصوص بالتحريف والاعتراض والرد، فكما أن أؤلئك
انبهروا بالفكر اليوناني وراحوا يقلدونه، فقد انبهر هؤلاء بالفكر الغربي، وضعفوا
أمامه، وراحوا يلهثون في ركابه! !
وكم جرّ هذا المذهب من بلاء وشر على الأمة، حيث أصبح طريقاً للعبث في
النصوص، وسُلّماً للزنادقة والعلمانيين؟ !
وخلاصة اعتقاد أهل السنة في هذا الباب أن: (الأحوال الحاصلة مع عدم
العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن
دركه، لم تأت بما يعلم العقل امتناعه) [40] . كما أن: (الأدلة العقلية الصريحة
توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لايناقض صحيح المنقول، وإنما
يقع التناقض بين ما يُدخل في السمع وليس منه، ومايدخل في العقل وليس
منه) [41] .
وختاماً: أسأل الله (عز وجل) أن يثبتنا على السنة، وأن يعيذنا من نزغات
الفتن.
__________
(1) انظر مثلاً: الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت (ص74 76) ، وأصول الفقه لبدران أبو العينين (ص 87) .
(2) التمهيد: ج 1، ص 8.
(3) الكفاية في علم الرواية: ص 15.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: ج1، ص 179.
(5) الاعتصام: ج 1، ص 119.
(6) المرجع السابق.
(7) منهاج السنة النبوية: ج 7، ص 475.
(8) الكفاية في علم الرواية: ص 97.
(9) منهاج السنة النبوية: ج 1، ص 18.
(10) أخرجه: البخاري في التفسير: ج 8، ص 209، ح (4547) ومسلم في العلم: ج 4، ص 2053، ح (2665) .
(11) تفسير الطبري: ج 3، ص 181.
(12) المرجع السابق: ج 3، ص 176.
(13) تفسير السعدي: ج 1، ص 357.
(14) انظر: كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص 59 ومابعدها.
(15) عزاه ابن كثير لابن مردويه، وقال الوادعي: حسن تفسير القرآن العظيم: ج 2، ص 14.
(16) الاعتصام: ج 1، ص 237.
(17) انظر: الكشاف للزمخشري: ج 2، ص 133.
(18) انظر: شرح الطحاوية: ص 207 208.
(19) شرح الأصول الخمسة: ص 226.
(20) انظر مثلاً: مختصر الصواعق المرسلة: ص315 328.
(21) منهاج السنة النبوية: ج 1، ص 69.
(22) المرجع السابق: ج 6، ص 381.
(23) الفتاوى: ج 5، ص 289.
(24) الرسالة في أصول الحنفية: ص 169 170.
(25) إعلام الموقعين: ج 2، ص 201.
(26) درء التعارض: ج 5، ص 204.
(27) إحياء علوم الدين: ج 3، ص 19 20.
(28) المرجع السابق: ج 2، ص 66.
(29) انظر: الفتاوى: ج 11، ص 606 607، وج 2، ص 399.
(30) درء التعارض: ج 5، ص 348.
(31) انظر: درء التعارض: ج 1، ص 199 وج 3، ص 305 والفتاوى: ج 2، ص 46 47 وج 16، ص 469.
(32) مجموع الفتاوى: ج1، ص 6.
(33) الصارم المسلول: ص 249.
(34) الفتاوى: ج 19، ص 100.
(35) المرجع السابق: ج 2، ص 174.
(36) المرجع السابق: ج 11، ص 243.
(37) المرجع السابق: ج 3، ص 338 339.
(38) انظر: درء التعارض: ج 1، ص 19.
(39) انظر: الاعتصام: ج 1، ص 231 232.
(40) الفتاوى: ج 3، ص 338 339.
(41) درء التعارض: ج 2، ص 364.(97/8)
دراسات شرعية
مصادر التفسير
(2)
التفسير بالسنة
-الحلقة الثانية-
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
في الحلقة الماضية تحدث الكاتب عن التفسير بالسنة من حيث: تحرير
مصطلح التفسير بالسنة، وتحرير مصطلح التفسير النبوي، وأنواع كل منهما،
وأمثلة من كل نوع، ويتابع في هذه الحلقة استكمال عناصر هذا الموضوع.
- البيان -
ثلاث مسائل متممة للحديث عن التفسير بالسنة:
المسألة الأولى: التفسير بالسنة عند المحدّثين:
يورد المحدثون التفسير النبوي والتفسير بالسنة في كتبهم تحت كتاب يعنونونه
بـ (كتاب التفسير) .
وممن كتب في هذا الباب: الإمام البخاري في صحيحه، والنسائي في سننه
الكبرى، والترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه [1] .
وما أريد إبرازه هنا أمران:
الأول: أن استعمالهم للتفسير بالسنة كثير.
الثاني: أن ربطهم معنى الحديث بالآية وذكر ذلك تحت آية من الآيات التي
يعنونون بها الأبواب هو اجتهاد خاص بهم، مما يعني أنهم شاركوا في هذا الجانب
من التفسير.
وقد كان هؤلاء المحدّثون يحرصون على إيراد مايصلح من كلام النبي -صلى
الله عليه وسلم- تفسيراً لآية، ولو من طرف خفي.
بل كانوا يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يوردون مايتعلق بالآية من
الأحاديث لأي سبب كان؛ كذكر بعض لفظ الآية في الحديث أو ذكر قراءة الرسول
-صلى الله عليه وسلم- لتلك الآية في زمن مخصوص، أو غير ذلك من الأسباب،
وهذا يدل على مدى حرصهم واهتمامهم بربط الآية بما يتعلق بها من الحديث النبوي، وإن لم يكن جائياً في مساق التفسير، وقد أشار إلى هذا بعض شراح صحيح
الإمام البخاري، ومنهم:
1- أبو مسعود الكنهكوهي (ت: 1323) ، قال: ثم الذي ينبغي التنبه له:
أن التفسير عند هؤلاء الكرام أعمّ من أن يكون شرح كلمة، أو بيان مايُقرأ بعد تمام
سورة، ولا أقّل من أن يكون لفظ القرآن وارداً في الحديث.
وكون الأمور المتقدمة من التفسير ظاهر [2] ، وإنما الخفاء في هذا الأخير
والنكتة فيه: أن لفظ الحديث يفسر لفظ القرآن بحيث يُعلم منه أن المراد في
الموضعين واحد، وكثيرا مايُكشف معنى اللفظ بوقوعه في قصة وكلام لايتضح
مراده لو وقع هذا اللفظ في غير تلك القصة؛ فإذا لاحظ الرجل الآية والرواية معا
كانت له مُكنة على تحصيل المعنى [3] .
2- وقال (صاحب الفيض) : (ثم اعلم أن تفسير المصنف (أي: البخاري)
ليس على شاكلة تفسير المتأخرين في كشف المغلقات، وتقرير المسائل، بل قصد
فيه إخراج حديث مناسب متعلق به ولو بوجه) [4] .
وبهذا يتلخص أن المحدّثين يوردون من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-
ما يصلح أن يكون تفسيرا، كما يوردون ما يتعلق بالآية من كلامه أوفعله لأدنى
سبب.
ومن أمثلة الأول (ما يصلح من كلامه تفسيرا) :
1- ترجم البخاري في باب: ذكر إدريس (عليه السلام) بقوله (تعالى) :
[ورفعناه مكانْا عليا] [مريم: 57] ثم روى تحت هذا الباب حديث المعراج، وفيه
أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجد في السموات إدريس وموسى وعيسى....)
2- وذكر النسائي تحت قوله (تعالى) : [فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ] [النساء: 140] حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ويلٌ للذي يحدث القوم فيكذب، فيضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له) [6] .
3- وذكر الترمذي في تفسير قوله (تعالى) : [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن
قُرَّةِ أَعْيُنٍ] [السجدة: 17] حديث المغيرة بن شعبة، يرفعه إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، يقول: (إن موسى عليه السلام سأل ربه، فقال: أي رب، أي
أهل الجنة أدنى منزلة؟ قال: رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له:
أدخل الجنة.
فيقول: كيف أدخل الجنة وقد نزلوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، قال: فيقال
له: أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا؟
فيقول: نعم، أي ربّ، قد رضيت. فيقال له: فإن لك هذا، ومثله، فيقول
رضيت أَيْ ربّ.
فيقال له: فإن لك هذا، وعشرة أمثاله. فيقول: رضيت أي ربّ، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك، ولذت عينك) [7] .
ومن أمثلة الثاني (مايكون لأدنى سبب) :
1- ماذكره البخاري تحت باب [وهو ألد الخصام] [البقرة: 204] ، من
حديث عائشة (رضي الله عنها) ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
(أبغضُ الرجال إلى الله الألد الخَصِم) [8] .
2- وتحت تفسير قوله (تعالى) : [قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا مُسْلِمُونَ] [المائدة:
111] أورد النسائي أثر ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما إلى قوله: [قولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ
إلَيْنَا] [البقرة: 136] إلى آخر الآية، وفي الأخرى [قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا
مُسْلِمُونَ] [المائدة: 111] [9] .
المسألة الثانية: نظرة وصفية لأمثلة التفسير النبوي:
من خلال إلقاء نظرة سريعة على الوارد من التفسير النبوي يمكن فهرسة
الأمثلة تحت عناوين كالتالي:
1- بيان معنى لفظة:
إن المتأمل في ما نقله الصحابة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلاحظ
أنهم لم يوردوا عنه تفسيراً للألفاظ، ويظهر والله أعلم أن ذلك بسبب معرفتهم
المعاني اللغوية؛ لأنهم عرب يفهمون معاني الخطاب، ولو ورد لهم استشكال في
فهم ألفاظه أو مدلولاته اللغوية لسألوا عنها، ومما يدل على ذلك حديث ابن مسعود
في نزول آية: [الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ] [الأنعام: 82] فهم فهموا
الظلم بمعناه العام في لغتهم (أي أنهم استشكلوا مدلول لفظة: الظلم) فشق عليهم هذا
الخطاب حتى بينه لهم رسول الله.
إذن.. لم يكن الصحابة بحاجة إلى بيان المفردات اللغوية، ولذا لم يرد في
التفسير النبوي إلا نادراً، ومنه ماجاء عن أبي سعيد الخدري من تفسير الرسول -
صلى الله عليه وسلم- للفظة (وسطاً) من قوله (تعالى) : -[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً] [البقرة: 143] قال (والوسط العدل) [10] .
2- بيان حكم فقهي في الآية:
قد يرد الحكم في آية مطلقا فيذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مزيد بيان
له، وذلك إما بتحديد مقدار الحكم الفقهي، أو تخصيص اللفظ العام أو غير ذلك.
ومن تحديد المقدار: مارواه البخاري في تفسير قوله (تعالى) : [فَمَن كَانَ
مِنكُم مَّرِيضاً أََوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاًسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أََوْ نُسُكٍ]
[البقرة: 196] عن كعب بن عجرة قال: حملت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ماكنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاه؟
قلت: لا
قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من
طعام واحلق رأسك) فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة [11] .
فأنت ترى أن البيان القرآني لم يحدد المقدار في الفدية، فلما فسر الرسول -
صلى الله عليه وسلم- فسرها بالمقدار، وأنت تعلم أن هذا أحد أنواع بيان السنة
للقرآن.
ومن تخصيص العام في الحكم الفقهي، مارواه مسلم عن أنس قال: كانت
اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب
النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله (عز وجل) [َيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ
هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ] [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال
رسول الله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) [12] .
فلو أُخذ بظاهر العموم في قوله (فاعتزلوا) لفهم أن اعتزال المرأة عام: في
مؤاكلتها ومشاربتها ومخالطتها ومجامعتها، فكان هذا البيان النبوي مخصصا لذلك
العموم القرآني.
3- بيان المشكل:
إنما يعرف المشكل بسؤال الصحابة عنه؛ لأن السؤال لايقع إلا بعد استشكال
في الغالب ومن أمثلة ماسأل عنه الصحابة: حياة الشهداء.
قال مسروق: سألنا عبد الله عن هذه الآية: [َولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] [آل عمران: 169] فقال: أما إنا
قد سألنا عن ذلك، فأخبرنا أن أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلقة
بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل..)
الحديث [13] .
وعن المغيرة بن شعبة (رضى الله عنه) قال: لما قدمتُ نجران سألوني: إنكم
تقرؤون: [يا أخت هارون] [مريم: 28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا.
فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألته عن ذلك فقال: إنهم
كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم) [14] .
4- ذكر مصداق كلامه من القرآن:
ورد في تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة يذكر فيها مصداق
كلامه من القرآن، وتأتي عبارات: (ثم قرأ) (اقرؤا إن شئتم) (مصداق ذلك من
كتاب الله) ، ومن ذلك مارواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-: (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه
غضبان، وقال عبد الله: ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصداق ذلك
من كتاب الله جل ذكره: [إنَّ الَذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا
خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ..] [آل عمران: 77] [15] .
5- بيان مبهم:
القاعدة الغالبة أن ما أبهمه القرآن فلا فائدة عملية تنال من ذكره، ومع ذلك
فإنه ورد سؤال الصحابة عن ذلك، إلا أنه نادر، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، قال:
قلت له: كيف سمعت أباك يذكر المسجد الذي أسس على التقوى؟ .
قال: قال أبي: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت
بعض نسائه، فقلت: يارسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟
قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا؛
لمسجد المدينة.
قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره) [16] .
أخيراً..
هذه بعض الأمثلة للتفسير النبوي، والموضوع يحتاج إلى جمع وتأمل لتحديد
نوع المثال، مما يفيد في معرفة ماكان يحتاجه الصحابة من البيان النبوي للقرآن،
ولعل أقرب ما يذكر هنا هو ندرة ماورد عنه من بيان معنى غريب القرآن؛ مما
يترتب عليه أن فهم عربيته كان موكولا للصحابة (رضي الله عنهم) ، والله أعلم.
المسألة الثالثة: ما يستفاد من التفسير
النبوي في أصول التفسير:
إن النظر في التفسير النبوي، واستنطاق الأمثلة التفسيرية فيه يفيد في
جوانب عدة، ومما يفيده هنا أن طريقة التفسير النبوي أصل معتمد في التفسير،
فإذا ورد عنه تعميم للفظ، أو تفسير بمثاٍل، أو غير ذلك، حُكِم بصحة هذه
الأساليب التفسيرية في التفسير، وأنها في المجال الذي يمكن الاقتداء به ولاقياس
عليه.
كما أنه يفيد في بيان صحة بعض الأساليب التي اعتمدها المفسرون من السلف.
ثم إن هذا يفيد في تصحيح بعض مرويات السلف التي جاءت مخالفة للعبارة
النبوية في التفسير، ذلك أن تحرير هذه الأساليب في التفسير النبوي يبين مدى
احتمال النص لغير عبارة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيما أظن حسب علمي
أن (فِقهَ النصّ التفسيري) من التفسير النبوي لم يلق عناية من هذا الجانب، ولذا
قمت بهذه المحاولة الاجتهادية لبيان هذه الفكرة من خلال أمثلة توضح ذلك.
إن مثل هذه الدراسة السريعة لا تكفي في تأصيل قضية كهذه، ولكنه جهد
المقل، وبذرة ألقيها لتجد طريقها إلى النماء إن شاء الله وإليك أخي القارئ عرض
الأمثلة:
* المثال الأول:
عن عقبة بن عامر (رضي الله عنه) قال: (سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةُ]
[الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة
الرمي) [17] .
وجاء عن جمع من السلف ما يلي:
1- لقوة: الرمي من القوة (مكحول) .
2- لقوة: الرمي والسيوف والسلاح (ابن عباس)
3- مرهم بإعداد الخيل (عبّاد بن عبد الله ابن الزبير)
4- لقوة: ذكور الخيل (عكرمة ومجاهد) .
5- لقوة: الفرس إلى السهم ومادونه (سعيد بن المسيب) [18] .
لقد فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- القوة بالرمي، فهل يُطّرح ماورد
عن السلف من عبارات مخالفة لما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: مادام
النص قد ثبت طاح ما دونه.
أم يقال: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يشير إلى القوة التي
هي أنكى أنواع القوة، وأشدها تأثيراً في الحرب؟ .
الذي يظهر والله أعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد هذا، وقد أشار
إلى ذلك الإمام الطبري فقال: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر
المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب، ومايتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من
المشركين من السلاح والرمي، وغير ذلك، ورباط الخيل.
ولا وجه لأن يقال: عنى بالقوة معنى من معاني القوة، وقد عمّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بين أن ذلك مراداً
به الخصوص؛ بقوله: (ألا إن القوة الرمي) . قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء
بذلك، فليس في الخبر مايدل على أنه مراد به الرمي خاصة دون سائر معاني القوة
عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة؛ لأنه إنما قيل في الخبر: (ألا إن القوة الرمي)
ولم يقل: دون غيرها.
ومن القوة أيضا: السيف والرمح والحربة، وكل ماكان معونة على قتال
المشركين، كمعونة الرمي، أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع
وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله) [19] .
وبهذا يمكن القول أنه لما لم يكن في تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم-
مايدل على التخصيص، دل ذلك على أن مراده التمثيل، ولما مثل للقوة ذكر أعلى
القوة وأشدها.
وإذا كان ذلك كذلك فإن روايات السلف لاتكون معارضة للتفسير النبوي، ولذا
يصح قبولها والتفسير بها؛ لأنها تدخل في عموم القوة.
ونتيجة القول: أن التفسير بالمثال أسلوب صحيح في التفسير؛ لأنه وارد عن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا الحديث، والله أعلم
* المثال الثاني:
عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
مفاتح الغيب خمس: [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [لقمان: 34] [20] .
في هذا المثال تجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسر (مفاتح الغيب)
في قوله تعالى: [َوَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ ... ] [الأنعام: 59] بآية
لقمان: [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ] [لقمان: 34] .
ويمكن القول: إن تفسير القرآن بالقرآن مسلك صحيح من مسالك التفسير بناء
على هذا المثال.
ولعلك تقول: إن هذا المسلك واضح ومعروف مشهور.
فأقول لك: إن المراد هنا تأصيله بوروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-،
إذ في وروده عنه ماينبه إلى استعمال هذا المسلك.
ومما يدل على ذلك أن الصحابة لما استشكلوا قوله (تعالى) : [الذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] قال لهم: إنه
ليس بذاك ألا تسمعُ إلى قول لقمان لابنه: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]
[لقمان: 13] [21] .
فكأنه -صلى الله عليه وسلم- يرشدهم إلى هذا المسلك بقوله: (ألا تسمع) ،
وكان يمكن إجابتهم وحل إشكالهم بدون الإشارة إلى الآية والله أعلم.
وأخيراً..
إذا كان يمكن استنباط بعض الأساليب التفسيرية في التفسير النبوي والقياس
عليها، فإن هناك مالايقاس عليه، ومنه:
أولاً: أن يكون التفسير في بيان حكم شرعي:
عن أنس بن مالك قال: (كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها،
ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل
الله عز وجل [ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ]
[البقرة: 222] .
فقال رسول الله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) [22] .
إن قول الله (تعالى) : [فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ] لفظ عام، ويمكن أن
يفهم منه اعتزال النساء في المؤاكلة والمنام والبيوت، فذكر الرسول -صلى الله
عليه وسلم- ما يدل على تخصيص الاعتزال بالمجامعة دون غيرها من المعاشرة.
ثانيا: أن يكون التفسير لبيان أمر غيبي:
عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذا الآية [َولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] [ال عمران: 169] . فقال:
أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل
معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل) [23] .
إن صفة حياة هؤلاء الشهداء لايمكن إدراكها إلا عن سماع من النبي -صلى
الله عليه وسلم-، ولذا سأل الصحابة عن هذه الحياة الخاصة بالشهداء.
إنه في مثل هذين المثالين لايمكن استنباط (أسلوب تفسيري (لأن المجال في
هذا ليس مفتوحا بحيث يمكن الاستنباط منه، بل هو محدد لبيان حكم شرعي أو أمر
غيبي، ولذا يقف المفسر عند النص ولايمكنه تجاوزه، ليستفيد منه في نص آخر
يقيسه عليه.
__________
(1) كان ابن كثير من أكثر المفسرين تأثرا بهذا المنهج الذي عند المحدثين.
(2) ماذكره من قوله: (بيان مايقرأ بعد تمام سورة) ظاهر أنه ليس من التفسير، فتأمل.
(3) لامع الدراري: 9/45.
(4) انظر: لامع الدراري: 9/4 (حاشية رقم (1)) .
(5) انظر: فتح الباري 6/431.
(6) السنن الكبرى 6/ 329.
(7) سنن الترمذي 5/347.
(8) انظر: فتح الباري 8/36 ومثله النسائي في السنن الكبرى 1/301.
(9) السنن الكبرى للنسائي 6/339.
(10) رواه البخاري (فتح الباري 8/21) .
(11) رواه البخاري (فتح الباري 8/34) .
(12) رواه مسلم ح/رقم 302.
(13) أخرجه مسلم ح/ 1887.
(14) رواه مسلم ح/2135.
(15) رواه البخاري.
(16) رواه مسلم ح/1398.
(17) رواه الإمام مسلم ح/1917.
(18) انظر: الدر المنثور: 4/83 ومابعدها.
(19) تفسير الطبري (ط: شاكر (14/37 وما ذكر الطبري من وهاء السند؛ لأنه رواه من طريق ابن لهيعة (14/3) ولذا ضعفه فيما يظهر ولم يكن عنده له إسناد آخر، والحديث كما علمت رواه مسلم وغيره، فلا شك في صحته.
(20) رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/141 (ومن الطريف في تفسير القرآن بالقرآن عند النبي أنه فسر آيتين من سورة الأنعام بآيتين من سورة لقمان.
(21) رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/372) .
(22) رواه مسلم برقم 302.
(23) رواه مسلم برقم 1887.(97/20)
دراسات تربوية
رمضان بين الواقع والواجب
بقلم: فيصل بن علي البعداني
رمضان من مواسم الخيرات التي امتن الله (تعالى) بها على عباده، ليقوى
إيمانهم، وتزداد فيه تقواهم، وتتعمق صلتهم بربهم، قال (تعالى) : [يَا أََيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]
[البقرة: 183] . والمتأمل في النصوص الشرعية الواردة في الصيام، التي تتحدث عن حِكَم الصيام وغاياته في الشريعة وفي واقعنا معاشر المسلمين يجد بوناً كبيراً لدى أكثر عامة الأمة وكثير من شباب الصحوة بين الواقع والواجب.
وسأحاول بإذن الله (تعالى) أن أتلمس أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التباين، معرجاً على شيء مما ييسر الله (تعالى) له من طرق العلاج.
أولاً: الأسباب:
هناك أسباب كثيرة من أبرزها:
1- الجهل بأهداف وحِكَم الصيام وغاياته:
يعد الجهل بأهداف وحكم الصيام وغاياته في الشريعة لدى كثير من المسلمين، وقيامهم بالتطبيق تقليداً ومسايرة للمجتمع من دون التأمل والدراسة من أبرز
أسباب هذا التباين، يقول الشيخ الدوسري: (فإن لم يكن البشر واعين لحكمة
التشريع الإلهي وثمراته في الدنيا قبل الآخرة، فإنهم لن يطبقوه على تمامه، أو
على الوجه الصحيح) [1] ، ويمكن إيجاز أهم تلك الحكم فيما يلي:
* تحقيق التقوى:
تعد التقوى من أبرز حكم الصيام.
يقول الرازي: (إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع
الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها،
وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين،
وخفت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوناً
عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى..) [2] .
* التربية على الصبر وقوة الإرادة:
التربية على الصبر من أبرز مرامي الصيام حتى سمى النبي -صلى الله عليه
وسلم- شهر الصيام: بشهر الصبر إذ في الصوم (تربية لقوة الإرادة على كبح
جماح الشهوات وأنانية النفوس، ليقوى صاحبها على ترك مألوفاته أكلاً أوشرباً أو
متاعاً، فيكون قوي الإرادة في الإقدام على أوامر الله، -صلى الله عليه وسلم- التي
من أعظمها حمل الرسالة المحمدية والدفع بها إلى الأمام، ساخراً بما أمامه من كل
مشقة وصعوبة.. والصوم يمثل ضرباً من ضروب الصبر، الذي هو الثبات في
القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة) [3] إذ يصبر فيه الإنسان نفسه على
طاعة الله (تعالى) بالوقوف عند حدوده فعلاً وتركاً، قال تعالى بعد أن ذكر شيئاً من
أحكام الصيام [تلك حدود الله فلا تقربوها] [البقرة: 187] ، كما يضبطها ويمنعها
عن لذاتها طواعية وامتثالاً لأمر الله (تعالى) وطلباً لثوابه، وفي ذلك من التربية
على قوة العزيمة والإرادة ما يجعل الإنسان متحكماً في أهوائه وشهواته.
* التربية على الاستسلام والخضوع لله (تعالى) :
يربي الصيامُ المسلم على ضبط نفسه الأمارة بالسوء، ويمكنه من السيطرة
عليها والإمساك بزمامها، بحيث لايكون مستسلماً لها بل مستسلماً لأوامر ربه
خاضعاً منقاداً لنواهيه، مؤثراً لمحابه سبحانه، مقدماً لها على رغائب الجسد
وشهواته.
* إنشاء الخوف من الله (تعالى) ومراقبته:
الصيام عبادة خالصة بين العبد وربه، ولذا فإنه يربي في المسلم الخوف من
الله (تعالى) ومراقبته والتطلع لثوابه، إذ بإمكانه أن يُظهر الصيام أمام الخلق وهو
غير صائم أصلاً، سواء أكان عن طريق تناول شيء من المفطرات، أو بمجرد
فقدان النية، وإن أمسك عنها طوال النهار، وفي ذلك من ظهور صدق الإيمان
وكمال العبودية وقوة المحبة لله (تعالى) ورجاء ماعنده ماجعل جزاء الصيام عند الله
(تعالى) أعظم من جزاء جل العبادات، قال الله (تعالى) في الحديث القدسي: (كل
عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ماشاء الله
عزوجلّ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من
أجلي..) [4] . قال ابن القيم: (والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لايطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم) [5] .
* لمّ شعث القلب، والتفكر في ملكوت الله (تعالى) :
لما كان فضول الطعام والشراب والكلام والمنام ومخالطة الأنام مما يزيد القلب
شعثاً ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله (تعالى) ، أو يضعفه أو يعوقه
ويوقفه، اقتضت رحمة الله (تعالى) بعباده أن شرع لهم من الصوم مايذهب فضول
الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات وشرع لهم من العبادات
أثناءه من اعتكاف وقيام ودعاء وتلاوة قرآن مايذهب فضول الكلام والمنام ومخالطة
الأنام. ولذا صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الصوم جنة وحصن
حصين من النار) [6] بل عده حصناً للمؤمن، وذلك لكونه:
كاسراً للشهوة ومضعفاً لها، قال: (خصاء أمتي الصيام) [7] ، وقال:
(يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم
فإنه له وجاء) [8] .
ومضيقاً على الشيطان مجاريه بتضييق مجاري الطعام والشراب قال: (إن
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) [9] ، فتسكن بذلك وساوس الشيطان.
كما أن القلب في حال الصيام يتفرغ للتفكر في آيات الله (تعالى) وملكوته،
لأن الإفراط في تناول الشهوات يستوجب الغفلة، وربما يقسي القلب ويعمي عن
الحق، قال ابن رجب: (وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب
رقته ويزيل قسوته ويخليه للذكر والفكر) [10] .
* معرفة العباد لما هم فيه من نعم، وتذكر
الأغنياء لحال إخوانهم الفقراء:
يحصل للأغنياء نتيجة امتناعهم عن الطعام والشراب في نهار الصيام مشقة،
فيوجب ذلك لهم معرفة قدر نعمة الله (تعالى) عليهم بالغنى؛ حيث مكنهم من تلك
النعم طوال العام مع ابتلاء عبادٍ له آخرين بالحرمان؛ مما يستوجب الشكر لله
(تعالى) على ذلك.
كما أن الفقراء ينظرون في العطايا التي يعطاها العباد خلال هذا الشهر من
خلو الذهن للتفكر والعبادة والذكر نتيجة الجوع وخلو البطن، ويرون أن حالهم
مقاربة لذلك في غالب العام، وأنهم مؤهلون لاستغلال تلك النعم طوال الوقت مما
يستدعي شكرها. كما أن الصيام يجعل الأغنياء يتذكرون حال من حولهم من
إخوانهم الفقراء، ويدعوهم إلى رحمة المحتاجين ومواساتهم بما يمكن من ذلك.
* قوة الأجساد وصحتها:
الأصل في مشروعية الصيام أنه يقوي الإيمان ويكسب العبد التقوى التي
تحجزه عن المعاصي والآثام إلا أن له حكماً وفوائد أخر، من أبرزها: ما اتضح
في عصرنا من تقويته للأجساد وأثره في صحتها بالوقاية من العلل والأمراض
الجسمية والنفسية.
2- تعليق الصيام بالتروك فقط:
يعتقد كثير من الناس أن الصيام جملة من التروك فقط، متناسين أن الله
(تعالى) شرع الصيام وشرع معه جملة من الأعمال التي تتظافر لتحقيق غايات
الصوم وآثاره المرجوة منه، ولعل من أبرز تلك الأعمال التي دلت عليها النصوص:
* قيام الليل، قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من
ذنبه) [11] .
* العمرة، قال: (عمرة في رمضان كحجة معي) [12] .
* تفطير الصائمين، قال: (من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه
لاينقص من أجر الصائم شيئاً) [13] .
* قراءة القرآن وختمه: قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة،
يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته
النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان) [14] ، وثبت أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- كان يلقاه جبريل في كل سنة في رمضان، فيعرض عليه النبي -صلى الله
عليه وسلم- القرآن.
* الصدقة: عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير، وكان أجود مايكون في شهر رمضان) [15]
قال الشافعي: (أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء بالرسول -صلى
الله عليه وسلم-؛ لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم
والصلاة عن مكاسبهم) .
* الاعتكاف: عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: (كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان) [16] . قال الزهري: (عجباً
للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ماتركه منذ قدم
المدينة حتى قبضه الله عز وجل) .
* الدعاء: حيث ذكر الله (تعالى) في ثنايا آيات الصيام قوله: [وَإذَا سَأََلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ] [البقرة: 186] ليرغب
الصائم في كثرة الدعاء، وقال: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة
المظلوم، ودعوة المسافر) [17] .
* التوبة: رمضان موسم التوبة والعودة إلى الله (عز وجل) وذلك لعظيم جوده
(تعالى) وفضله في كل وقت، وفي هذا الشهر خاصة، حيث تصفد الشياطين [18] ، وله سبحانه في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار بالإضافة إلى تهيؤ الإنسان
بالصوم وسائر العبادات لذلك، ولذا قال: (رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم
انسلخ قبل أن يغفر له) .
* الاجتهاد في العمل مطلقاً في العشر الأواخر: عن عائشة (رضي الله عنها)
قالت: (كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله وجد
وشد المئزر) [19] وقالت (رضي الله عنها) أيضاً (كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يجتهد في العشر الأواخر مالايجتهد في غيره) [20] .
والأفعال المشروعة في رمضان كثيرة، فالمفترض في حق المسلم أن يحرص
على شغل وقته بما يعود عليه بالنفع أكثر عند لقاء الله (عز وجل) .
3- عدم استشعار أثر المعاصي على الصيام:
الذنوب سبب حرمان الله للعبد من الاستفادة من الصيام وتحقيقه التقوى فيه،
قال تعالى: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]
[الشورى: 30] ولذا فإن: (الصوم ينقص ثوابه بالمعاصي وإن لم يبطل بها، فقد
لايحصل الصائم على ثواب مع تحمله التعب بالجوع والعطش لأنه لم يصم الصيام
المطلوب) .
وقد وردت عدة أحاديث تبين ذلك المعنى وتجليه منها قوله: (رب صائم ليس
له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) [21] وقال:
(ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد،
أو جهل عليك، فقل: إني صائم) [22] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- (من لم يدع ...
قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه [23] ...
4- أخطاء بعض الصائمين:
يقع بعض الصائمين في أخطاء منها:
* الإسراف في الإنفاق: الأصل في الصيام أنه مدرسة عملية للاقتصاد
وتعويد النفس الجلد وقوة التحمل عند الأزمات، وضبط النوازع والرغبات، ولكن
الذي يحصل في واقع الكثير من المسلمين في وقتنا الحاضر العكس، حيث تزداد
النفقات وتتجاوز حد الاعتدال إلى التبذير والإسراف.
* التوسع في تناول الأطمعة والأشربة وسائر الملذات: صار موسم الصيام
في حياة أناسٍ موسماً لتنويع المآكل والمشارب وتناول الملذات، ولايخفى مافي ذلك
من منافاة لغرض الصيام ومراميه.
* السهر في الليل والنوم في النهار: ينقلب الحال في رمضان في حياة
الكثيرين، فيصبح الليل نهاراً والنهار ليلاً؛ بحيث يصبح الليل وقتاً للاجتماع
والسهر، والنهار وقتاً للنوم والكسل، هذا إذا لم يصاحب ذلك اجتماع على محرمات
وتضييع للواجبات، وعدم القيام بالعبادات كما يجب.
* التعلق بالدنيا وعدم الاهتمام بشأن الآخرة: مع دخول رمضان يزداد انشغال
كثيرين بتجاراتهم وبيعهم وشرائهم، ويأخذ ذلك منهم جل الليل والنهار، ومع أن
البيع والشراء حلالان في الإسلام، إلا أن المذموم من ذلك، هو تعلق القلب بمتاع
الدنيا، وإعطاء كل جهدِه ووقته لذلك مع إغفال المرء لحظ نفسه في الآخرة
وحاجتها إلى أعمال صالحة تهذبها، وتزيل عنها درنها وشوائبها.
* مخالطة البطالين: وهم مضيعوا أوقات العباد فيما لايعود عليهم بنفع ديني
أو دنيوي وليس من شرطهم الإفساد والانحراف عن جادة الحق الصواب ومخالطة
العبد لهم وإكثاره من ذلك يعود عليه بالندم والحسرة في كل وقت فكيف في مواسم
الخيرات؟ !
* أخطاء في أداء بعض العبادات:
يحرص بعض الموفقين للخيرات على القيام ببعض العبادات، ولكن يعتري
تطبيقهم بعض الأخطاء، ومن ذلك:
أ- التأخر عن الصلاة: وذلك للتأخر في الخروج من المنزل لصلاة العشاء
والتراويح والذهاب إلى مسجد بعيد ليصلي مع إمام يجيد القراءة، وقد يؤدي ذلك
التأخر إلى فوات صلاة الجماعة أو بعضها، مع أن صلاة الجماعة واجبة على
الأرجح، وصلاة التراويح نافلة.
ب- تشدد بعض الحريصين على الاتباع في تحديد عدد صلاة التراويح، مما
يؤدي ببعضهم إلى أن لايصلي مع إمامه حتى ينصرف إذا كان يزيد على الحد
المعروف عنده، وأحسب أن هذا اجتهاد مأجور إن شاء الله، لكن أخشى أن يفوته
أجر قيام ليلة مع مايصاحب ذلك عند بعضهم من البغضاء والشحناء بين المختلفين
في العدد.
ج- حرص بعض المسلمين على ختم القرآن في رمضان مرة أو أكثر:
ولاإشكال في ذلك لثبوت مشروعيته، ولكن الإشكال في كيفية تلاوتهم إذ يهذّ بعض
القراء في التراويح وغيرها القرآن هذّاً كهذّ الشعر بدون تدبر لمعانيه وتفهم لأحكامه، وقد قال الله (تعالى) : [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ] [ص: 29] . صحيح أنه ثبت عن بعض السلف أنه كان يختم القرآن في
رمضان كل ليلة، حتى قال الزهري: (إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن
وإطعام الطعام (ولكن خير الهدي هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال:
(لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) .
د- يحرص بعض المسلمين على الاعتكاف، ولكن قد يعتكفون جماعات،
فيحلو بينهم الحديث وتتسع أبوابه، ويكون الاعتكاف موضع عشرة ومجلبة
للزائرين، يقول ابن القيم بعد ذكره لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في
الاعتكاف: (كل هذا تحصيل لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس مايفعله الجهال من
اتخاذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم،
فهذا لون والاعتكاف النبوي لون) .
هـ- تتفتح أبواب الخير وطرقه على الصالحين في رمضان بشكل لايمكن العبد الإحاطة بها جميعاً، مما يتطلب منه المفاضلة بين الأعمال واختيار ما يكون أصلح لقلبه وأكثر نفعاً لأهله ومجتمعه، والملاحظ في واقع كثير من الصالحين أنه يريد الإحاطة بكل خير يمكنه القيام به فلا يقوم بشيء منها، أويقوم بأعمال خيرة يمكنه أن يقوم بأفضل منها، أو يوكل القيام بها إلى شخص حوله لايمكن أن يقوم بشيء منها بدون ذلك ويقوم هو بغيرها.
5- الوسائل الإعلامية والعلاقات الاجتماعية:
لوسائل الإعلام سواء أكانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة دور كبير في
تشتيت أذهان كثير من الصائمين وبالأخص الشباب والنساء، وبالتالي إشغالهم عن
استيعاب غايات الصيام ومراميه، والاستفادة منها في إصلاح النفوس والمجتمعات
بالشكل المطلوب وذلك من خلال المواد التي تقدمها تلك الوسائل والتي تصب غالباً
في الجانب الترويحي، وماتبقى من مجالات تكون في الغالب سطحية مع اشتمال
كثير منها على جوانب محرمة.
كما أن للتوسع في العلاقات الاجتماعية بين الأسر والأصدقاء دوراً ملحوظاً
في إضاعة الأوقات، ولذا فإني أرى أن الخير للمسلم أن يقلل من علاقاته تلك في
هذا الشهر ما أمكن، وأن يجعلها مقصورة على الصلة أو المواساة والدعوة إلى الله
(تعالى) ، وتدارس أحكام الإسلام وتعاليمه.
ثانياً: العلاج:
كانت تلك أبرز الأسباب لتلك الظاهرة، ولعل من أبرز وسائل علاجها
بالإضافة إلى معالجة مسببات تلك الأسباب وآثارها، مايلي:
1- أن يقوم العلماء والدعاة بدورهم في التربية والتوجيه للأمة، سواء عن
طريق الاختلاط بالناس لتعليمهم، أو تقديم القدوات الحسنة لهم، عن طريق السلوك
والممارسات المنضبطة بالشرع.
2- أن يستوعب المسلم حقيقة وظيفته في الحياة، وأهمية الوقت بالنسبة إليه؛ ليكون ذلك دافعاً له للجدية في حياته، والموازنة بين مايمكن أن يقوم به من أفعال، ولكي يستفيد من نعمة الوقت بشكل أفضل، بعيداً عن الإغراق في المباحات
والمستحبات على حساب الفرائض والواجبات، كما عليه أن يقوم بترويض نفسه
على القيام بالأعمال الصالحة، كالتبكير للصلاة، والجلوس بعد الفجر في المسجد
إلى طلوع الفجر.. ونحوها، ليتعود على ممارستها والاستمرار عليها بعد رمضان.
3- أن يعمل الجميع على تعميق روح الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم-
والتأسي به في سائر شؤون الحياة عموماً وفي شهر الصيام خصوصاً، وهذا يتطلب
تعلم فقه الصيام وآدابه، واستيعاب حِكَم الصيام وغاياته، وتقريب الوسائل التي
تتيح لسائر فئات الأمة الاستفادة من الصيام في تهذيب النفوس، ونشر الخير
والفضيلة ومحاربة الشر والرذيلة، بشكل أفضل.
4- أن تقوم مؤسسات التوجيه سواء أكانت إعلامية أو تعليمية أو تربوية أو
تروحية بدورها التوجيهي المنطلق من ديننا والمدرك لطبيعة التحديات التي تمر بها
أمتنا عن طريق نشر الجدية، والاستمساك بالدين بقوة في سائر حياة الأمة عموماً،
والشباب منهم على وجه الخصوص.
5- أن يعيد الدعاة أفراداً ومؤسسات تقويم برامجهم الدعوية سواء من حيث
الكم أو الكيف حتى تساعد بشكل أفضل على معالجة هذا التباين، وتعمل على إزالة
وتصحيح آثاره حتى تتحقق تقوانا ويقوى إيماننا بإذن الله (تعالى) . والله نسأل أن
يجعلنا من المقبولين.
__________
(1) صفوة الآثار والمفاهيم 3/82.
(2) مفاتيح الغيب 5/70.
(3) تفسير المنار 2/45.
(4) مسلم 2/807، ح/ 1151.
(5) زاد المعاد 2/29.
(6) أحمد 2/402 وحسنه الألباني انظر صحيح الجامع، ح/ 3880.
(7) أحمد 2/173وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/3228.
(8) مسلم 2/1018، ح/1400.
(9) مسلم 2/1712، ح/2175.
(10) لطائف المعارف ص 290.
(11) مسلم 1/523، ح/ 759.
(12) الحاكم 1/483 وصححه الألباني في الإرواء ح 1587.
(13) أحمد 2/174وصححه الألباني في الإرواء ح/6415.
(14) أحمد وصححه الألباني في الإرواء ح/3882.
(15) مسلم 4/1803، ح/2308.
(16) مسلم 2/830، ح/ 1171.
(17) صحيح الجامع، ح/ 3030.
(18) انظر مسلم ك2/875، ح/1079.
(19) مسلم 2/832، ح/1174.
(20) مسلم 2/832، ح/1175.
(21) أحمد 2/373، وانظر صحيح الجامع، ح/3488.
(22) الحاكم 1/420، صحيح الجامع، ح/5376.
(23) البخاري مع الفتح 4/116، ح/1903.(97/30)
مقال
نظرات
في قضية ترجمة معاني القرآن الكريم
(4)
بقلم: د. فهد بن محمد المالك
بعد أن استعرضنا في الحلقات الثلاث الماضية من هذه السلسلة التي أسأل الله
العظيم أن أكون قد قدمت فيها للقارئ العزيز معلومات مفيدة قضية ترجمة معاني
القرآن الكريم وما يدور حولها من توجيهات وقواعد، وبعد أن ذكرنا أن جميع
الترجمات وبدون استثناء تحتاج للمزيد من الدراسة والبحث لما تحويه تلكم
الترجمات من أخطاء، ولما يكتنفها من قصور وخلل، لعلنا في هذه
الحلقة الأخيرة نسلط الضوء على نماذج من بعض الأخطاء التي وقع فيها أولئك
المترجمون، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه النماذج من الأخطاء هي غيض من
فيض مما هو موجود في الترجمات المتداولة، ولو أردنا الإسهاب في سردها لطال
بنا المقام ولَكَلّ منا البنان.
ونظراً لطول الموضوع وتشعبه، فقد آثرت أن أقتصر على سرد نماذج من
الأخطاء العَقَدِيّة والأخطاء الفنية دون التوسع فيها، وهدفي من ذلك: حفز همم
المسلمين عموماً، والمهتمين بكتاب الله (عز وجل) خصوصاً إلى مزيد من بذل
الجهد في مواجهة هذا الطوفان الذي أصاب أغلى وأثمن كتاب على وجه الأرض،
وهدفي الآخر هو تبصير أهل الإسلام بخطورة الأمر، وأنه جدير بالعناية والتركيز.
أولا: نماذج من الأخطاء العقدية:
إن فكر المترجم وعقيدته ومنحى حياته لهو من الأمور التي سبق أن أشرت
إلى أن لها تأثيراً كبير اعلى الترجمة وعلى أسلوبها، وكما قيل: (كل إناء بما فيه
ينضح) .
ولعل الأمثلة الآتية تبين صدق ذلك:
المثال الأول:
تعتبر ترجمة محمد أسد (رحمه الله) التي أعطيت فكرة مبسطة عنها في الحلقة
الماضية من الترجمات القوية من الناحية اللغوية ومن الناحية الفنية، ومحمد أسد
معروف لدى الكثير من القراء من خلال كتابه الشهير (الطريق إلى مكة) ، إلا أنه
(رحمه الله) حَكّم عقله كثيراً في ترجمته على حساب النص الصريح؛ مما أدى به
إلى الوقوع في شطحات كبيرة، خالف بها مذهب أهل السنة والجماعة، ومن هذه
الشطحات:
أ - أنه يَشكّ في حقيقة: أن إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) قد وقع في النار
حقيقة عندما قذفه فيها النمرود، وأنه (عليه الصلاة والسلام) قد بقي حياً وهو في
النار، ويرى محمد أسد أن ذلك لا يقبله العقل بتاتاً، فيقول في تعليقه على الآية:
[قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ] [الأنبياء: 69]
Nowhere does the Qura'n state that Abraham was actually, bodily thrown into the Fire and miracoulously kept alive in
it [1] .
وترجمة ذلك:
(لم يرد في أي موضع من القرآن أن إبراهيم) عليه الصلاة والسلام (قد
قُذِفَ في النار بجسمه حقيقة، وأنه (عليه الصلاة والسلام) بقي حياً فيها بمعجزة
إلهية) .
بل إن محمد أسد تجاوز ذلك إلى القول: إن هذه القصة والواقعة أي قصة
قذف النمرود لإبراهيم (عليه الصلاة والسلام) في النار من المعتقدات التلمودية التي
يجب تجاهلها.
ب - يَشُكّ محمد أسد (رحمه الله) مصداقية أن عيسى عليه الصلاة والسلام قد
تكلم في المهد، ويرى أن تكلم الطفل وهو في المهد من الأمور التي لا يقبلها العقل
البشري، يقول في تعليقه على الآية:
[فَأَشَارَتْ إلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِياً (29) قَالَ إنِّي عَبْدُ
اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِياً] [مريم: 29، 30] .
Since it is not conceivable that anyone could be granted divine revelation and made a prophet before attaining to full maturity of intellect and experience, … However, the whole of this passage (verses 30- 33) may also be understood as having been uttered by Jesus at a much time aftar he had reached maturity and been actually entrusted with his prophetic mission [2] .
وترجمة ما قاله هي:
(بما أنه لا يمكن تصور نزول الوحي على شخص وتكليفه بالنبوة قبل
بلوغه الكامل مرحلة الرشد والإدراك ... ؛ لذلك فإن هذا المقطع من
الآيات (30 33) من الممكن فهمه على أنه كان حديثاً وكلاماً من عيسى (عليه الصلاة والسلام) في وقت متأخر من حياته بعد بلوغه وتكليفه الفعلي بمهمة النبوة) .
ج - ينكر محمد أسد (رحمه الله) مبدأ النسخ في كتاب الله (عز وجل) ، ويرى
أن هذا المبدأ مرفوض نهائياً في حق كتاب الله سبحانه، وأننا لو قلنا بذلك، فإننا
نعطي كتاب الله الكريم صبغة بشرية.
انظر إلى ما قاله عند تعليقه على الآية: [مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاًتِ
بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... ] [البقرة: 106]
بل إنه ذهب إلى القول بأننا لو ربطنا الآية بالتي قبلها لاتضح لنا أن الشيء
المقصود بالنسخ: هو ما قالته اليهود والنصارى في حق كتبهم المقدسة، وأن معنى
هذه الآية لا يعني القرآن بذاته [3] .
المثال الثاني:
من الشطحات التي شطح بها عبد الله يوسف علي (رحمه الله (تعليقه على
الخضر حيث قال في تعليقه على الآية:
[فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا ... ] [الكهف: 65] .
He is a mysterious being [4]
وترجمة ذلك (أنه أي الخِضْر: شخصية غامضة) وقد بدا واضحاً في التعليق
شدة تأثر عبد الله يوسف علي بالأدب الإنجليزي فقد شبه الخضر بشخصية
أسطورية موجودة في الأدب والتاريخ اليوناني تعرف باسم Melchizedeck.
أما لقمان فقد شبهه عبد الله يوسف علي في تعليقه بشخصية يونانية تعرف باسم
Aesop [5] .
أما محمد أسد (رحمه الله (فله رأي أشد خطراً من ذلك: حيث يرى أن
الشخصيات المذكورة في القرآن كالخضر، ولقمان، وذي القرنين هي شخصيات
أسطورية خرافية، وليست واقعية حقيقية؛ فهو يصفهم بأنهم (Figures Mythical) [6] وهذه تعني (شخصيات أسطورية) .
المثال الثالث:
في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة ذكرنا أن محمد ظفر خان صاحب فكر
ومعتقد قادياني؛ لذلك يتوقع منه ومن أمثاله أن يحاولوا نشر فكرهم، وبث معتقدهم
داخل ترجماتهم، وكما هو معلوم لدى القارئ العزيز أن من أصول الفكر القادياني:
الاعتقاد بأن غلام أحمد مرزا هو آخر الأنبياء بعد نبينا محمد -صلى الله عليه
وسلم-؛ لذلك فقد حاول محمد ظفر خان التلاعب بالآيات في ترجمته حتى تخدم
فكرته القاديانية، وكمثال على ذلك فقد ترجم الآيات:
[هُوَ الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ]
[الجمعة: 2-4] .
He it is Who has raised among the unlettered people, and will raise among others from tem who have not yet joined them, a Messenger from among themselves who recites unto them His sings, and purifies tem [7]
وهنا يتضح أن محمد ظفر خان قد دمج الآيتين 3، 4 معاً بطريقة خبيثة حتى
تخدم فكره ومعتقده، وترجمته لهذه الآيات يمكن أن تترجم إلى العربية كما يلي:
(هو الذي بعث في الأميين، وسيبعث في آخرين لما يلحقوا بهم رسولاً من
أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويطهرهم....)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العطف في [وآخرين منهم] يعود على الأميين
كما قال ذلك الزمخشري: [ (وآخرين] مجرور عُطِفَ على الأميين، يعني: أنه
بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد،
وسيلحقون بهم؛ وهم الذين بعد الصحابة (رضي الله عنهم) [8] . وقال مجاهد
وغيره: [وآخرين منهم ... ] هم الأعاجم وكل من صدق النبي -صلى الله عليه
وسلم- من غير العرب، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه (قال: كنا جلوس عند
النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت عليه [وآخرين منهم ... ] قالوا: من هم
يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي فوضع النبي -
صلى الله عليه وسلم- يده على سلمان، ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله
رجال أو رجل من هؤلاء) رواه مسلم والترمذي والنسائي [9] .
ومن هنا يتضح خطأ محمد ظفر خان الذي عطف (وآخرين) على (بعث) .
المثال الرابع:
تعتبر ترجمة الإنجليزي آربري من الترجمات الجيدة نوعاً ما، إلا أنها لم
تخل كذلك من سموم في داخلها لتضليل الناس عن طريق الصواب. انظر إليه وهو
يترجم الآية:
[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ] [الأعراف: 157] .
Those who follow the Messenger, the prophet of the common folk [10]
وهذه الترجمة من آربري يمكن ترجمتها بالعربية إلى: (الذين يتبعون الرسول
نبي العوام (العامة [.
وفي هذه الترجمة ما فيها من تحريف وتغيير للمعنى الأساس في الآية. وفيها
ما فيها من تلاعب بالألفاظ والكلمات، وإلا فإن الفرق كبير بين (النبي الأمي)
و (نبي العوام (العامة] .
كما أن داود قد سلك مسلكاً مشابهاً في التحريف والتغيير لما فعله آربري
فيترجم داود الآية:
[والفتنة أشد من القتل] [البقرة: 191] . إلى:
[11] Idolatery is worse than carnage ...
وهذه الترجمة تعني: (الوثنية أسوأ من المذبحة) .
ثانياً: نماذج من الأخطاء الفنية:
المقصود بالأخطاء الفنية هي تلك الأخطاء التي خرج بها المترجم عن قواعد
وأصول فَن الترجمة، وأطلق لنفسه العنان أن يتصرف كيفما شاء دون مراعاة
لضوابط وقواعد علم الترجمة. والأمثلة الآتية هي نقطة من بحر تلك الأخطاء
الفنية التي ملأت صفحات الترجمات:
(1) أخطأ محمد ظفر خان كثيراً في ترجمته للآيات التي فيها قسم من الله
(عز وجل) ، فهو يستخدم الصيغتين التاليتين للدلالة على القسم:
We cite in evidence….
We call to witness …. [12]
وهاتان الصيغتان تبعدان كل البعد عن الدلالة على معنى القسم.
(2) من المسلمات الأساسية في فن الترجمة: أن المترجم الناجح عليه أن
يسير على وتيرة واحدة في ترجمته، فإذا ترجم الكلمة في موضع ما إلى مرادف لها
في اللغة المقابلة، عليه أن يستخدم المرادف نفسه إذا جاءت الكلمة نفسها في موضع
آخر. إلا أن أغلب المترجمين لم يراعوا ذلك في ترجماتهم، والأمثلة الآتية دليل
على ذلك:
أ - هناك ست سور في القرآن الكريم تبدأ بـ[آلم] وقد ترجمها عبد الله
يوسف علي إلى A. L. M (مع تحفظي الشديد على هذه الطريقة في ترجمة
المقطعات) إلا أنه لم يسلك نفس المسلك في بقية المقطعات وفواتح السور: فتجده
يترجم بعض المقطعات خلافاً لطريقته الأولى كالتالي:
المص:.Alif , Lam, Mim, Sad.
حم:. Ha, Mim.
كهيعص:. Kaf , Ha , ya, Ain, Sad.
ب - الآية: [.. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبْا ... ] .
تكررت في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم (سورة الأنعام 52، وسورة
الأعراف 37، وسورة هود 18) ، ومع ذلك فقد ترجمها عبد الله يوسف علي إلى
ثلاث صيغ مختلفة هي:
Who can be more wicked than one inventeth a lie against God.
Who is more unjust than inventeth a lie against God.
Who doth more wrong than inventeth a lie against God.
ج - كذلك وقع آربري في الخطأ نفسه؛ وذلك بعدم استخدامه لمرادف واحد
للكلمة نفسها، ففي المثال التالي يترجم آربري كلمة (آية) إلى معنيين مختلفين.
ففي قوله تعالى:
[.. يتلوا عليكم آياتنا ... ] [البقرة: 151] .
يترجمها آربري إلى:
To recite Our signs to you … [13] .
ويترجم آربري الآية:
[وإذا بدلنا آية مكان آية..] [النحل: 101] .
And when we exchange averse in the place of
another verse [14] .
وهنا على الرغم من أن كلمة (آية) و (آيات) لهما المعنى نفسه، إلا أن
المترجم ترجمهما إلى معنيين مختلفين.
(3) أخطأ آربري في تسميته لسورتي (المؤمنون) و (غافر) فقد أعطى لكلا
السورتين الاسم نفسه بصيغة المفرد The Believer (سورة غافر يسميها
بعض العلماء سورة المؤمن) . وترجمة آربري بهذه الطريقة تسبب خلطاً وإشكالاً
لدى القارئ لمثل هذه الترجمة.
كما أن آربري وقع في خطأ كبير؛ وذلك بتسميته سورة الروم في ترجمته
باسم The Greeks. وهذه التسمية تعني الإغريق أو اليونانيين، وهذا خطأ
تاريخي فادح فضلاً عن تشويه المراد وتحريف المقصود بكلام رب العالمين؛ وليت
الأمر اقتصر على خطأ التسمية فقط، بل إن آربري ارتكب الخطأ نفسه في ثنايا
السورة فهو يترجم الآية:
[غُلِبَتِ الرُّومُ] [الروم: 2] . إلى:
The Greeks have benn vanquished. [15]
(4) من أصول الترجمة ألا يضيف المترجم من عنده شيئاً لم يكن موجوداً
في الأصل، إلا أن داود في ترجمته لم يتقيد بذلك إطلاقاً، فهو كما ذكرنا في الحلقة
الثالثة يطلق لنفسه العنان في إضافة وحذف ما يشاء، كما في ترجمته للآية:
[قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِياً]
[مريم: 10] .
your sign is that of. Three days and three nights, He replied you shall be bereft of speech [16] .
وهنا أضاف داود كلمة (ثلاثة أيام) وهي لم تكن موجودة في الأصل.
ختاماً: -أود التنبه لعدة أمور:
1- من الأخطاء التي يقع فيها كثير من الإخوة عندما يلقي خطاباً أو محاضرة
أو خطبة بلغة غير العربية، ويريد ذلك المتحدث الاستشهاد بشيء من القرآن الكريم، تجده يقول: إن الله (سبحانه وتعالى) قال في كتابه العزيز، ثم يقرأ الترجمة التي
عنده، ومكمن الخطأ هو أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتابه بلسان عربي مبين،
لذا فإنه بإمكان المتحدث في مثل هذه الحالة أن يشير إلى أن الذي بين يديه هو
ترجمة لمعنى ما قاله الله (سبحانه) ، وليس هو نص ما قاله.
2- عندما يطلب أحد منك أيها القارئ العزيز ترجمة لمعاني القرآن الكريم
عليك أن تحرص على اختيار أفضل الترجمات وسؤال أهل الاختصاص عن ذلك؛ وذلك حتى لاتوقع من طلب منك في متاهة وضلال، وتكون أنت السبب في ذلك.
3- ضرورة التنبيه على ما في الترجمات من انحرافات وشطحات والتحذير
من ذلك. وإيضاح الصواب والحق للناس أجمعين.
والآن لعلك أيها القاريء العزيز أدركت مدى أهمية هذا الموضوع وهذه
القضية ولعلك أدركت أنه لابد من تضافر الجهود وتآزر الهمم؛ وذلك للوقوف أمام
هذا الطوفان الجارف الذي يمس أنفس كتاب عرفته الخليقة. ولعلك كذلك أدركت
مدى الحاجة إلى إنشاء هيئة إسلامية عالمية تتولى شؤون ترجمة معاني القرآن
الكريم إلى لغات العالم.
__________
(1) ترجمة محمد أسد طبعة 1981م ص 495.
(2) ترجمة محمد أسد طبعة 1981، 460.
(3) ترجمة محمد أسد، طبعة 1981م، 23.
(4) ترجمة عبد الله يوسف علي، طبعة دار الفكر، ص 748.
(5) ترجمة عبد الله يوسف علي، طبعة دار الفكر، ص 1082.
(6) ترجمة محمد أسد، طبعة 1981م، ص 628، 452، 453.
(7) ترجمة محمد ظفر خان، طبعة 1991م، ص 562.
(8) الزمخشري الكشاف، ج 4، ص 367.
(9) محمد نسيب الرفاعي تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير ج 4، ص361.
(10) ترجمة آربري، طبعة 1991، ص 161.
(11) ترجمة داود، طبعة 1990م، ص 29.
(12) ترجمة محمد ظفر خان، طبعة 1991م، ص 624، 916.
(13) ترجمة آربري، طبعة 1991م، ص 19.
(14) ترجمة آربري، طبعة 1991م، ص 270.
(15) ترجمة آربري، طبعة 1991م، ص 411.
(16) ترجمة داود، طبعة 1990م، ص 214.(97/40)
خواطر في الدعوة
الثقة بالنفس
محمد العبدة
إن من أخطر الأشياء على الإنسان أن يفقد الثقة بنفسه، فلا يرى أنه أهل
للقيام بالأعمال الكبيرة، أو أن عنده القدرة على التغيير، وبعض الناس قد يسير
خطوات صحيحة وقوية، ثم يتوقف فلا يتابع الطريق، خوفاً من النتائج أو خوفاً
من المستقبل، فهو يشعر أنه حُمّل أكثر مما يقدر على حمله، ويرى الطريق شاقاً
فينكص للوراء عائداً إلى موقعه الأول، آمناً في سربه، وفي الغالب، فإن هذا
الخوف وهم من الأوهام وليس حقيقة، كما قال الشاعر:
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى ... وما الأمن إلا مارآه الفتى أمنا
ومثل هذا إذا واجه صعوبات أو مشكلات فإنه يواجهها بعزيمة مسترخية وهمة
مستخذية، بل هو أقرب إلى أن يقول: [إن بيوتنا عورة] وقد قص علينا القرآن
قصة يوسف (عليه الصلاة والسلام) ، وكان بإمكانه أن يستريح بعد السجن من
العناء، ولكنه قال: [اجعلني على خزائن الأرض] ؛ لأنه يريد أن يقدم خدمة
للدعوة.
وهذه الحالة كما أنها تعتري الفرد، فإنها تعتري الهيئات أيضاً ففي حديثه عن
جمعية علماء المسلمين في الجزائر، قال المفكر الجزائري مالك بن نبي: لقد
وصلوا إلى القمة عام 1936م، ولكنهم كانوا كمن ينظر في هذه القمة إلى أسفل
الوادي؛ فأصابهم (الدوار) ؛ ووقعوا في الفخ الذي نصبه لهم أهل السياسة عندما
شاركوهم في الانتخابات والمفاوضات. إنهم كما قيل ينهزمون وهم في قمة النصر!.
إن من أكبر أسباب هذا الخوف التربية التي يتلقاها الإنسان في طفولته ونشأته؛ تربية أدخلت في روعه القبول بالقليل والبعد عن الأخطاء، وحب الاطمئنان،
تربية لم تعلمه المغامرة المدروسة أو اقتحام الأهوال، وأدخلت في روعه أنه رجل
(النصف (فهو نصف متعلم، ونصف متحضر ونصف (حامل رسالة (وهو دائماً
معلّق، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، قد تكون هذه التربية من والديه، أو من المدرسة، وبشكل عام فهي من البيئة التي غذته بهذا الشعور، ولم يتلق أبداً تربية تضع
أمامه (المثال (والقدوة والنظر إلى زعماء التجديد والإصلاح، وأن أعظم مهمة يقوم
بها المسلم هي دعوة الخلق إلى الله، وإرجاع المجتمع إلى حظيرة الإسلام، ولا
أعتقد أنه من السهل إصلاح مثل هؤلاء (المترددين (فالأمل فيهم ضعيف، لأن
المهام العظيمة تحتاج إلى رجال (الفطرة (وليس إلى رجال (القلة) (والذي اعتاد أن
يشعر في مضمار العمل بالخوف والتهيب، والذي يصعب عليه جداً الإقدام على
أمر عظيم، ذاك إنسان قد تعود أسوأ العادات، وقيد بأردأ القيود التي تحول بينه
وبين الاستفادة مما وهبه الله من قوى وطاقات) [1] .
__________
(1) د محمد أمين المصري: المسؤولية ص 30.(97/50)
دراسات نقدية
المخاض.. وأنة شوق
قراءة في نصيين شعريين
بقلم: د.حسين علي محمد
قبل أن أبدأ في قراءة العددين (93) و (94) من مجلة (البيان) الزاهرة، عن
شهري جمادى الأولى، وجمادى الآخرة 1416هـ أحيى القائمين على أمر المجلة
وملفها الأدبي وأدعو لهم بالصمود والاستمرار على ثغر من ثغور الإسلام، لينشروا
لنا الإبداع الأدبي (النظيف) الذي لايسمم آبار الوجدان، بل يرقى بالنفس ويدفعها
إلى التسامى عن أوضار كثيرة ينشرها في الناس أدب يناهض وجدان الأمة ويقف
بالنشء على شفا هاوية لامنجاة منها إلا بالاعتصام بالله، ثم نشر الإبداع الإسلامي
الجاد رؤية وأداءً.
بعد هذه المقدمة أقول إنني سأكتفي بالوقوف أمام نصين هما: (المخاض)
للشاعر تركي المالكي، و (أنّة شوق) للشاعر محمد إدريس؛ لأن الوقفة قد تطول
مع النصين، فلا تتسع صفحات (الملحق الأدبي) للتناول النقدي لمواد (البيان) .
ونشير هنا بالتقدير إلى دراسة الأستاذ محمد حسن بريغش عن (نجيب الكيلاني)
رائد القصة الإسلامية المعاصرة) التي استمتعت بقراءتها، و (قراءة) الدكتور حسن
بن فهد الهويمل، وما أشد حاجة الساحة النقدية للأدب الإسلامي إلى نقد الأستاذين
الفاضلين، فبارك الله في جهدهما، وفي جهادهما في هذا المجال.
المخاض: لتركي المالكي:
(المخاض) هو وجع الولادة، وهو الطلق المبشّر بالميلاد. وهل هو ميلاد
جديد، أم ميلاد مثخن بالجراح؟ يقول تركي المالكي في مطلع نصّه:
أَمُورُ على نطع الأسئلهْ [1]
من البداية نرى أننا أمام شاعر تعذبه أسئلته وأطروحاته، ونعرف أنه يتعذب
من استخدامه لكلمتي (أَمِوُر) و (نطع) ففي (المنجد) : (مار يمور موراً البحر: إذا
ماج واضطرب، ومارَ الدم على الأرض: جرى فتردّد عرضا، ومار الشيء:
تحرك كثيراًً وبسرعة من جهة إلى أخرى، ومن هذه إلى تلك كالسهم إذا انتشب في
الشجرة) [2] و (النطع) جمع أنطاع ونطوع: بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم
عليه بالعذاب أو بقطع الرأس) [3] .
فما الذي يجعل شاعرنا يتعذب، ويضطرب؟ هل هي أسئلته التي يشير إليها، أو بتعبير آخر (خطابه الشعري) أو أطروحاته المغايرة للسائد؟
لو رجعنا إلى بعض مانشره في (البيان) من قَبْل (فهو ليس له ديوان مطبوع
حتى الآن) لوجدنا بعضاً من طرحه الشعري المغاير؛ فقد نشر قبل خمسة وعشرين
شهراً قصيدة بعنوان (نجمة الاعتصام) نرى فيها شاعراً غاضباً، يستعير قناع
(حكيم القبيلة) أو (حادي القافلة) ويسخر من المشهد المحيط بنا [4] ، إنه يرى مشهد
قومه فيتأمله:
رَقَص الحبْلُ بالراقصين
بعد دبكتهمْ نصَف قرٍن علَيهْ
فانهمرْ ياسَلاَم
(عارضٌ ممطرٌ)
وانتثر ياشَرَرْ
ياسعادتهم بالمطرْ [5]
لاتتعجب، فهذا الذي يرقصون عليه ليس سُلّما! وإنما هو (حَبْل) الحبل
مراوغ، والسلم أكثر ثباتاً منه! وهذا (السلام) الذي سينهمر كالمطر، هو في رؤية
شاعرنا (سلام مراوغ) كرقصة (الدبْكة) فوق الحبال! هو لو يعلمون شرر لنيران
تتأجج، وستحرق ولن تبقي ولن تَذَرْ.
ولاينسى الشاعر أنه سليل الفاتحين العظام الذين ينتمون للطهر، والورود،
والجمر، وشمس النهار، وأفق الحياة، فيزرع فينا الأمل ويبعد عنا اليأس:
.. إني أرى رغم هذا الظلام!
في عروقي دَمَ الفاتحينْ
يتدفقّ بالطهر كالورد، كالجمرِ..
يَسْقي جذوعَ الكَلِمْ!
هو مابينها يضطرمْ!
وهي تمنحه نبضها
وتُهمّشُ فيه العدمْ
ثم تزرعُ من لونه الأرجوانيّ شمسَ النهارِ
وأفْقَ الحياة وشوقَ القممْ [6]
ويجأر إلى الله في نهاية القصيدة أن يرزقه الشهادة، وأن يكون لظى تحرق
تاريخ فاقدي الوعي، المُدَجّنين، الذين يمدون يد الصداقة نحو ذابحيهم [7] .
وفي النص الجديد (المخاض) نرى امتداداً لنص (نجمة الاعتصام) وكأنه
إكمال شعري له، إنه (يمور على نطع الأسئلة، يعذبه خطابه الشعري المخالف
للسائد. فهل تورده أسئلتُه موارد التهلكة؟ !
إنه لايتوقف أمام مايتهدده من عذاب، وإنما يكسر الصمت ومَنْ أسدله. من
(الكسر) نعرف عمق رغبته في التخطي والتجاوز، ومن (أسدله) نكتشف كيف كان
الصمت كاسراً، وكيف جرؤ النص على الكسر / لا التحطيم وها هو يحلم بـ
(أطايب الغيمة المثقلة) بالوعود الخضر، وسماء الرؤى المقبلة.. ويرى أن دمه هو
الذي يفتح أول الطريق.
وكأن نهاية القصيدة هنا تُكمل نهاية قصيدة (نجمة الاعتصام) وتُثْريها، فهو
هنا يقول:
ومن مهجتي أُوقد الشعرَ لَهْ
وأرقب دوري إلى المقصلةْ
ولكنّ جمرى الذي مَازَجَتْهُ المواجع..
إذْ أسرجتْهُ (البصائرُ) ..
يوماً سيحصُدُ من كَبّلَهْ [8]
فقد تحدد الدرب أمام السالك، وأصبح المأمول حقيقة. فقد كان مطلبه في
نهاية (نجمة الاعتصام) :
فيارب لاتجعل حياتي مهينةً ... ولاميتتي بين النساء النوائحِ
ولكن شهيداً تدرجُ الطيرُ حوله ... وتأكلُ غربانُ الفلا من جوانحي
وياربّ لاتجعلْ من القيد معصماً ... أَجُرّ به خزيي! وتُطوى مطامحي!
ولكنْ لظىً يغلي ليدفنَ تحتهُ ... تواريخَ مَنْ مدّوا يداً نحوَ ذابحي [9]
لقد تَحددّ الطلب، وأصبح المطلب الفردي رغبةً جماعية يُسرجها أهلُ
(البصائر) في هذا الظلام الدامس.
وهذه القصيدة (المخاض) أقرب إلى الرؤى الفكرية، التي تمور بالفكر، فهي
أقرب إلى الومضة الشعرية، أو الدفقة الشعرية الحارة التي تخاطب العقل كما كان
يخاطبه الكلاسيكيون وشعراء مدرسة (الديوان) بينما كانت قصيدته (نجمة
الاعتصام) متوهجة بالشعر الوجداني الخالص، الذي يكشف أغوار النفس،
ويضيء زواياها المعتمة، وقد أصاب الترهلُ والسقوطُ (الواقِعَ) باليأس من الجهاد
(إنه في القصيدة رقص وليس جهاداً) فهم هرولوا نحو العدو.
وعلى أية حال، فتجربة تركي المالكي من التجارب الثرية في الشعر
الإسلامي المعاصر، وتحتاج إلى المتابعة والنقد.
أَنّهُُ شوق: لمحمد إدريس:
قصيدة محمد إدريس (أنّةُ شوق) تطلعنا على شاعر مكتمل الأدوات، ينتظره
مستقبل في عالم الشعر، ومن مطلع قصيدته التي تقع في تسعة أبيات نعرف أن
شاعرنا مجدد يخوض تجربة جديدة في العروض العربي:
ربما الّصّمْتُ مناجاةُ غريبٍ وحبيبٍ لحبيبْ
أخرس البْيْنُ صداها، فتوارتْ في الفؤاد [10]
فهذا النص يتخذ من (بحر الرمل) إطاراً موسيقياً، لكنه يزيد تفعليةفمن
المعروف أن (بحر الرمل) ست تفعيلات.
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ... فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
لكن شاعرنا هنا يزيد تفعيلة كاملة، فيصير الوزن عنده:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
ويصيب التفعيلة الأخيرة في الضرب والقافية بعض التغيرات.
كأن تصير فَعِلاتُ، أو فاعِلن، أو فَعِلن. هذا معروف في موسيقي بحر
الرمل [11] لكن ما يؤخذ على شاعرنا محمد إدريس أن أعاريض [12] أبياته
لاتسير على وزن واحد فإذا أخذنا الأبيات الثلاثة نموذجاً وهي تقول:
ربما الصمتُ مناجاة حبيبٍ لحبيبْ ...
... ... ... ... أخرس البَينُ صداها، فتوارتْ في الفؤاد
رُبّما الشوقُ جراحات تنزّى في الحنايا
... ... ... ... أوهتِ الروح، فراحتْ تَتَلظّى في البعاد
لا تلمني ياخلي البال تلهو سادراً ...
... ... ... ... إن بدت مني دموع، وشرود في ازدياد
فأعاريض الأبيات الثلاثة تأتي على أوزان (فَعِلانْ فاعلاتن فاعلن (أما أضْرُبُهُ
فتسير على وزن (فاعلاتن) (ولا أدري لماذا لم يكسر الدال، فكل القصيدة تنتهي
بالدال المكسورة)
وهذه القصيدة تجربة تجديدية جيدة تحسب للشاعر، وترينا أن إمكانات
الموسيقى في الشعر العربي وافرة، وهي تنتظر من يكتشفها من خلال تجاربه
الشعورية والوجدانية ليُثري بها ديوان الشعر العربي.
والله من وراء القصد.
__________
(1) تركي المالكي: المخاض، مجلة (البيان) العدد (94) ، جمادى الآخرة 1416هـ، ص 59.
(2) المنجد، ط 33، دار المشرق، بيروت 1992، ص 779.
(3) السابق، ص 816.
(4) السخرية نادرة في الشعرالعربي، فهل يقبض تركي على هذه الجمرة؟ وهل يتحمل القبض على الجمرتين: الشعر، والسخرية معا؟ .
(5) تركي المالكي: نجمة الاعتصام، مجلة (البيان) العدد (69) جمادى الأولى 1414هـ، ص 38.
(6) السابق، ص 41.
(7) لنا دراسة نتناول فيها (نجمة الاعتصام) لما تنشر بعد.
(8) تركي المالكي: المخاض، مصدر سابق، ص 59.
(9) تركي المالكي: نجمة الاعتصام، مصدر سابق.
(10) محمد إدريس: أنّة شوق، مجلة (البيان) العدد (93) جمادى الأولى 1416هـ، ص 58.
(11) انظر مثلا كتاب د محمد علي الهاشمي: (العروض الواضح وعلم القافية) ط1، دار العلم دمشق 2! 14هـ 1991، ص 89فما بعدها.
(12) العروض: آخر تفعيلة من الصدر.(97/52)
نص شعري
الطريق إلى روما
شعر: طاهر محمد العتباني
دمي يتسرّبُ في الأرضِ..
يُعْلِن عشق الورودْ
وزينبُ تعرفني حين يهطل هذا الدمُ ...
المستهام الفريدْ
دمي يتسرّبُ في الأرضِ ...
يغذو عناقيدها، ويزفّ القصيدْ
(وزينبُ) تبصرني
حين مرّ الشهيدُ على جَفْنها ...
في صلاة التهجّد عندالسّجودْ
دمي يتسرّب في الأرضِ ...
يكتب بعض الحروف التي ...
سوف يطلع مِنها الربيع الوليدْ
وزينبُ تهتفُ بي أنْ: تقدّمْ
دِماؤك عنقودُ ضَوْءٍ ...
وذكرى صلاةٍ، وخفقُ سجودْ
دماؤكَ ...
لايعرف الخانعونَ بأن الذي ...
أهْرقوهُ سيطلع من كل صوبٍ ... ،
ويزهِرُ في كل عيدْ
دماؤكَ ...
لايعرف الميّتون بأن الحياة..
التي غرسوا حينما قتلوكَ! ..
ستقتلهمْ
وترصّ الأزاِهرَ من فوقِ شاهدةِ القبْرِ..
قبْرِكَ هذا الذي فيه نَفْحةُ مِسْكٍ ... ،
وريّا شَهِيدْ!
وزينبُ تهتفُ بي أن: هلمّ ... ،
على ساحةِ النور للحق خطوٌ ...
وللفَجْرِ أَنشودةٌ تُستعادْ! ..
وأنت الذي سيعيدْ
وأنت الذي سيعيدُ إلى الأرض فَرحتها
حينما يلتقي ذا الشجى بالشجى
والغريبُ المصفّدُ في قيدهِ ...
بانفساحِ الوجودْ!
جناحاكَ طِرْ بهما حيث شئتَ ...
ورَفْرِفْ كماشئتَ ...
ها أنتَ حُرٌ وهاهم عبيدْ! !
وزينبُ تهتف بي: إن روما التي عشقتْكْ
تظلّ على لهف الانتظارِ ...
فتطفِرُ في مقلتيْها الدموعُ..
ويصْهَلُ في وجْنتيها النشيدْ!
وروما التي عَشِقَتْكْ ...
ترفْرِفُ في شفتيْها النبوءَةُ ...
تعرف أنّك فارسُها المُرْتَجى،
وفتاها المجيدْ
وروما التي عشِقَتْكْ ...
على صَدْرها ... يتوهّجُ عِطْرٌ ...
أعدّتهُ من زَمنٍ، خبّأتْهُ بصندوقها
للحبيب الوحيْد!
__________
(*) ننشر هنا مقطعاً من قصيدة طويلة بهذا العنوان، منع من نشرها كاملة ضيقُ المساحة، والرغبةُ في إتاحة الفرصة لأكثر من نص شعري، مع اعتذارنا للشاعر الكريم، وتمنياتنا لنصوصه الجميلة أن يجمعها ديوانه المنتظر
- التحرير الأدبي -.(97/58)
قصة قصيرة
خيوط الفجر
محمد علي البدوي
جسر قديم ممتد بين (جوارزدي) و (سربنيتشا) ، أعمدة إنارة تحتضر على
جانبي الجسر، الشفق يؤذن باقتراب الليل، والليل يبدأ الزحف الصامت على
الكون، والسماء تلبس ثوب الحداد، نهر صغير يجري تحت الجسر، رائحة
الجثث الملقاة في النهر تزكم الأنوف، وقع أقدام مترهلة، شبح قادم، أنفاس متتابعة، كان رجلٌ شاحب الوجه، رث الثياب، حافي القدمين، قادماً من أتون الحرب
المستعرة، وكان يتمتم:
اللعنة عليهم.. قتلة.. كلاب شوارع ضالة.
وتوقف أخيراً، وهدأت أنفاسه المضطربة، كان (محمد لاتيش) يلقي النظرة
الأخيرة على أنقاض قريته التي تحتضر بعد أن اجتاحتها علوج الصرب، يعانق
بناظريه أطلال القرية المنكوبة، الدموع تنهمر من عينيه بغزارة، وقد تسمر على
ذلك الجسر المتهالك يسترجع شريط ذكرياته المرة.
القرية الصغيرة الوادعة القابعة خلف التلال البعيدة، الطرق الضيقة، الأبنية
المتلاصقة القابعة خلف التلال الخضراء والمروج الغنية بالعشب الجبلي، الرجال
في الحقول، والنساء في البيوت و (محمد لاتيش) إمام المسجد، الشاب المحبوب
الذي عاد مؤخراً من الأزهر، وعين إماماً لمسجد القرية، الجميع هنا يحترمونه
ويقدرونه فهو الشيخ (لاتيش) مدرس القرآن في المدرسة الوحيدة في القرية، وشيخ
حلقات القرآن في المسجد، وهو أب لطفله الصغير (علي) وقد أسماه تيمّناً باسم
رئيس الجمهورية، فالجميع هنا يحب الرئيس، ويلقبونه بالشيخ، ويدينون له
بالولاء والطاعة.. سحب السعادة تعبر سماء القرية، والشمس الساطعة تمنحهم
دفء الأخوة..
الدموع تنهمر من عينيه بغزارة، وهو يتقدم على الجسر خطوات، والليل
يشق سواده، وأصوات هدير الرصاص، ودويّ المدافع يشق صمت المكان،
والذكريات المرة تتجمع في ذاكرته، والأفكار تنداح في مخيلته، كما ينداح حجر
الرحى، وهو يحدق في بقايا القرية، يستعيد الذكريات:
(سماء القرية ملبدة بالغيوم، حبلى بالقلق والمجهول، ريح عاتية تنذر
بالعاصفة القادمة، والأخبار تفيد: أن العاصمة (سراييفو (محاصرة، فالحرب التي
بدأت منذ شهور، أصبحت حديث القرية، و (محمد لاتيش) يدعو الناس إلى
التماسك وتوحيد الجهود، ويدعوهم إلى الجهاد والدفاع عن البلاد، ويرغبهم في
الموت من أجل الله، وهو يشرف على حملات التطوع، ويقيم مراكز التدريب،
ويردد آيات الأنفال.. وفي ذات يوم! ! وقبل غروب الشمس، خلف الجبال
الصامتة، وعندما كان الناس في طريق العودة إلى منازلهم، بدأت هدايا الصرب
تنهال على القرية من كل مكان، والمدافع تنفث سمها الملتهب على الجميع،
فالصرب قد هاجموا القرية، وبدأت الأشلاء تتناثر، وسالت الدماء تروي أرض
القرية، وتنبت شجرة الكرامة، والرجال يقاومون وقوافل الشهداء تسير، ولكن
الطوفان كان قوياً فاجتاح القرية..
رياح خفيفة تحرك الجسر، وصور المأساة لم تفارق ذاكرته بعد.. زوجته
وابنه عندما انهدم عليهما البيت.. أطفال القرية وهم يستنجدون.. الرجال وهم
صرعى مجندلون على ثرى القرية، كل ذلك كان (لاتيش) يشاهده من تحت أنقاض
المسجد بعد أن انهدم عليه وهو يخطب في القوم ويحدوهم إلى الله، وظن الجميع أن
(لاتيش) قد مات..
أصوات أهالي القرية لاتزال عالقةً بذاكرته، وهو يغادر الجسر، والليل يشتد
سواده، والفجر ينسج خيوطه على الكون (ولا تيش) يرقب طلوع الفجر باهتمام،
وابتسامة ترتسم على ثغره برغم فصول المأساة، وبزغ الفجر أخيراً، كان (محمد
لاتيش) قد توارى بعيداً ولم يزل صوته مسموعاً، وصداه يملأ المكان:
صبراً (سراييفوا) إن بعد الليل فجراً
صبراً (سراييفوا) إن بعد العسر يسراً(97/60)
نص شعري
الحضارة الظالمة
شعر: عبد الرزاق بن حمود الزهراني
فتنٌ تمضي وتأتي فتنُ ... والبرايا مزّقتها المحنُ
وحديث الإفك ما أعظمهُ! ... ماتت الروح وتاه البدنُ
و (حماةُ الحق) ما أعجبهم ... يدّعون الصدق! ! ما أكذبهم
يقتلون الطهر في مضجعه ... ويوارون به أدمعَهم!
يدعون العدل ما بين الأنامْ ... جثث القتلى من الظلم ركامْ
يدعمون الظلم بالليل وإنْ ... أشرق الصبح تنادوا للسلام! !
هامت الأرواحُ في وادي العذاب ... نبتُهُ شوكٌ.. ونارٌ.. وحرابْ
وسعيد الحظ في عالمهم ... من بنى منزلَه تحت الترابْ! !
يا حضارات الريا والكذبِ ... يا حضارات العنا والنّصبِ
يُقْتَلُ الأحرارُ فيها غيلةً ... عجبي من ظلمها واعجبي..! !
إيه يا قنديلُ أضنتك الرياحْ ... وحمانا للبرايا مستباحْ
وإذا هم بقولٍ منصفٌ ... ماجت الأرضُ صياحاً.. ونباحْ! !
أنجب التاريخُ عصراً أحمقا ... شرّه منتشرٌ ... لا يُتقى
قُتل الإنسانُ في أحشائه ... وسَما الشيطان فيه وارتقى
ليس لليأس إلى قلبي سبيلْ ... وأرى الكون وإن ضلّ جميلْ
وأرى الناس على أحقادهم ... يطلبون العدلَ للظلمِ بديلْ
أملي في الله رب العالمين ... خالق الإنسان من ماءٍ وطينْ
أن نرى الإسلام في فتح جديد ... يغمر العالم نوراً ويقينْ..(97/62)
المسلمون والعالم
اتفاق دايتون
أي سلم هذا الذي ينشدونه؟
عبد الله عمر سلطان
بينما غطت احتفالات اتفاق دايتون الأفق، كانت الولايات المتحدة ترسل
رسالة واضحة إلى العالم عن طبيعة هذاالاتفاق وظروف ولادته ... لقد اصطفت
طاولات العشاء الذي أُجري في مرآب للطائرات في قاعدة دايتون الجوية، وكان
على الضيوف أن يحتفلوا في قارب حشرت فيه طائرات من نوع إف 15، وإف
16 وطائرات (الشبح) وغيرها من صواريخ جو/أرض، وجو/جو في رسالة
واضحة لايمكن أن تفوت على لبيب.
لقد كان مضمون الاتفاق سيئاً بما فيه الكفاية، وبالرغم من الضغط الأمريكي
القوي (على الجانب البوسني بالخصوص) وقرقعة السلاح وإغراء المساعدات، فإن
المراقبين على شتى اتجاهاتهم لم يعتبروه أكثر من مجرد هدنة مؤقتة أو شريط
إعلاني لتلميع رئاسة كلنتون وتصويره على أنه صانع السلام.
جمهورية (سقط المتاع) :
مجلة النيوزويك الأمريكية اختارت هذا الاسم لجمهورية البوسنة (الورقية)
التي شهدت ولادتها في دايتون، يقول المحلل البريطاني نويل مالكوم الذي سخر من
تعليق أحد أعضاء الوفد الأمريكي على الاتفاق بأنه ولّد أعظم وأعقد دستور في
العالم لدولة حديثة: (هل تظل هذه الدولة دولة فعلاً؟ [ويضيف] سوف تتكون
البوسنة والهرسك من كيانين هما: جمهورية الصرب والاتحاد المسلم/الكرواتي،
وسوف يكون لكل منهما حكومته وبرلمانه وشرطته وجيشه، وسيكون كل منهما
مسؤولاً ضمن أراضيه عن القوانين المتعلقة بمسائل مثل: أجهزة الإعلام والتعليم،
وسيكون لكل منهما الحق في إقامة (علاقات موازية) مع الدول المجاورة، وسيكون
لكل منهما الحق في فرض الضرائب، وسيتمتع كل من الكيانين بالسلطات المنوطة
بحكومات الدول الفعلية باستثناء قائمة قصيرة من المسائل التي أنيطت بالحكومة
المركزية.
حيث سيكون هناك برلمان بوسني ومجلس للوزراء ورئاسة من ثلاثة أشخاص.
وإذا ما أزلنا المهام العملية العادية مثل إدارة الحركة الجوية من القائمة، فلن
يتبقى سوى قائمة مختصرة جداً تحتوي على السياسة الخارجية والسياسة النقدية
والجمارك والهجرة، فهل تكفي هذه السلطات في غياب كل السلطات الأخرى التي
تمارسها الدول الحقيقية للإبقاء على البوسنة حية؟ !
ولكن المشكلات تذهب إلى أبعد من ذلك؛ فعلى الرغم من أن المؤسسات
المركزية للدولة البوسنية قد تملك الحق وفق اتفاقية دايتون في معالجة هذه المسائل
القليلة، إلا أنها قد تفتقر إلى القدرة على ذلك؛ ولهذا السبب تم إدخال كثير من
العوائق والضمانات في هذه الآلية، بحيث يسهل على أي فئة أن تجمد العملية
برمتها.
إذن لماذا حرصت أمريكا على تمرير الاتفاق والمخاطرة بحياة عشرين ألف
جندي أمريكي من أصحاب الدماء الزرقاء؟ ؟
الجواب يتشكل من جزأين: جزء يتعلق بالنتائج السريعة المتمثلة في مصلحة
الإدارة الأمريكية لتصوير نفسها على أنها صاحبة السلام وصانعته لاسيما في عز
الموسم الانتخابي، كما يؤكد على حقيقة الدورالأمريكي وأهميته في حل المشكلات
الدولية وأنها صاحبة الشأن في تسيير الملفات الساخنة في الوقت الذي تبدو فيه
أوروبا عملاقاً اقتصادياً وقزماً سياسياً، ويتأكد ذلك حينما نتأمل الاتفاق ونخرج منه
بنتائج حاسمة ومنطقية تقول: إنه أقل إنصافاً للمسلمين من الحلول الأوروبية
السابقة التي طالما رفضتها أمريكا بحجة أنها تكافئ المعتدي وتظلم الضحية! !
فاتفاق دايتون هو محصلة لخطط كارينجتون وأوين وإخوانهما من دهاقنة
السياسة الأوروبيين.
أما في الجانب الاستراتيجي فيأتي تدخل أوروبا لسببين مهمين: أحدهما
متوسط المدى، ويتمثل في إنقاذ حلف الأطلنطي وبعث الحياة فيه لاسيما في
المواجهات المقبلة مع العدو الإسلامي، كما صار واضحاً ... فالحلف يمثل التزاماً
بالأمن الجماعي أمام الأخطار الشرقية (الشيوعية سابقاً) أو الجنوبية (دول العالم
الإسلامي) فالحلف أثبت أنه الأداة المثلى للحفاظ على الأمن الأمريكي المرتبط
بالاستقرار في أوروبا، كما اتضح خلال الحربين العالميتين، ولاشك أن ضياع
هيبة الحلف يمثل ضياعاً لاستثمار أمني وسياسي عمره يزيد عن النصف قرن..
أما العامل الثاني فهو استثمار القيادة الأمريكية للحلف على المدى البعيد،
حيث إن أمريكا ترى في دولة يحكمها المسلمون في أوروبا ذريعة وفرصة لاستمرار
نفوذها في القارة القديمة من خلال الناتو، في الوقت الذي تتوجس فيه أوروبا على
تناقضاتها القومية من احتمال نمو تيار إسلامي في البلقان، يمكن أن يمتد لا عن
طريق الحرب هذه المرة، وإنما ثقافياً وحضارياً إلى أوروبا الغربية، المسيحية.
فالبوسنة حسب الاتفاق، دولة علمانية أوروبية ديمقراطية غربية الطابع،
والمسلمون فيها على الرغم من كونهم الأكثرية المطلقة 50% يملكون ولايحكمون.
فالاتفاق ينص على دستورية مبدأ الفيدرالية بين المسلمين والكروات في
نصف الجمهورية المحاذي لكرواتيا! ! ! ومبدأ الكونفدرالية بين هؤلاء والصرب
في النصف الآخر من البلاد المحاذي لصربيا، فأين هو الوجود الإسلامي في هذه
الدولة؟ وأين هو حق الأكثرية المسلمة في النظام الديمقراطي؟
أما العاصمة (سراييفو (فقد تركها الاتفاق موحدة إرضاءً للمسلمين، ولكنه
بالفعل قسمها إلى تسعة قطاعات منسجمة قومياً، كل قطاع له لغته الرسمية،
ونطاقه التعليمي، ومناسباته الخاصة، حيث ينتخب سكان كل قطاع ممثليهم في
المجلس البلدي للمدينة، الذي ينتخب بدوره عمدة للمدينة وثلاثة نواب له (مسلم
وكرواتي وصربي) ، ليرأس كل منهم المجلس لمدة سنة بالتناوب.
وإذا كان موضوع إبقاء سراييفو موحدة نزولاً عند رغبة المسلمين، فأين هو
التأثير الإسلامي في العاصمة ذات الأكثرية المسلمة الساحقة؟
واتفاق دايتون وإن أوقف حمامات الدم في البلقان لبضع سنوات أو أقل فإنه قد
أعاد البريق للزعامة الأمريكية وأعطاها نفوذاً متجدداً في القارة القديمة وحوض
المتوسط، ولن يغير مؤتمر برشلونة لدول المتوسط من ذلك شيء مهما كانت درجة
نجاحه) .
مستقبل الاتفاق:
بين مستقبل الاتفاق يطل ماضي التطهير العرقي الذي تتضح صورته يوماً
بعد يوم، ويظهر العالم عارياً من كل المشاعر الإنسانية حيث نرى تواطؤ القوى
الدولية مع الصرب والكروات في ارتكاب جرائمهم ... لقد أشعل المسؤولون
العسكريون لحلف الناتو بما فيهم رئيس الأركان الأمريكي الرأي العام بالحديث عن
خطورة (المجاهدين) في البوسنة وضرورة ترحيلهم بالرغم من عدم ثبوت ارتكابهم
لجريمة واحدة، بينما يظل المجرمون الحقيقيون يمارسون أدوارهم القذرة بالرغم
من إدانتهم من قبل المحاكم والحكومات الغربية بارتكاب أبشع المجازر البشرية..
والسؤال: هل كان التركيز على المجاهدين ستاراً لإخفاء العلاقة المشبوهة بين
عرابيّي دايتون وجزاري صربيا..؟
سؤال يحاول هذا التقرير الإجابة عليه ... (تقول مختلف الروايات التي
أوردتها وسائل الإعلام الدولية نقلاً عن شهادات (الخوذ الزرقاء) الهولنديين، إن
(راتكو ملاديتش) (القائد العام لقوات صرب البوسنة) قد استدعى عشية 11 يوليو
1995، ضباط الفيلق الهولندي المكلفين بحماية سربرينتشا، وذلك في قاعة أحد
الفنادق الواقع في محيط المدينة المحاصرة منذ أكثر من سنتين، ووضعهم داخل
إحدى القاعات التي علق فيها خنزير من أرجله الخلفية، وأمر أحد الجنود فذبحه
أمام الملأ، فنفرت الدماء من رقبة الخنزير الذبيح في جميع الاتجاهات، وهنا
استدار ملاديتش إلى (ضيوفه) المشدوهين من (حفاوة) هذا الاستقبال، وقال لهم
بالحرف: (بهذه الطريقة سنعامل كل أولئك الذين سيضعون أنفسهم تحت حماية
جنود (الخوذات الزرقاء!) .
وراح (ملاديتش) يستكمل بسادية متوحشة في سربرينتشا ما بدأه في مقاطعات
بوسنية أخرى طيلة السنوات الثلاث الماضية من عمليات (تطهير عرقي) وديني
رهيبة، أصاب فيها البشر والحجر، ومس المقدسات وداس المحرمات، لكن هذه
المرة بشكل شامل، كبير المدى والاتساع، لقد وضع بين يديه حياة مايفوق أربعين
ألف بوسني بالإضافة إلى ما قام به مجرمو الصرب من مذابح وما عمل من أخاديد
دفن فيها ألوف من المسلمين العزل.
إن المعلومات الاستخباراتية الأمريكية سربت هذه المعلومات وقت المحادثات
وهي تثبت التورط الحقيقي لذلك الجنرال الفاشي الصربي راتكو ملاديتش وزعيمه
السياسي رادوفان كاراديتش، إنما كان بقصد الضغط غير المباشر على زعيم بلغراد، الذي لا يقل فاشية عن صنيعته، أي سلوبودان ميلوسيفتش، وذلك حتى تلين
قناته في محادثات دايتون التي تمت تحت الرعاية الأمريكية، ومن جهة أخرى يبدو
أن أمريكا كانت متخوفة من أن تتهم بإخفاء معلومات في قضية مذابح سربرينتشا،
لاسيما وأن عملية (استجواب) ضباط الفيلق الهولندي العامل في سربرينتشا تحت
المظلة الأممية، وهو الذي عاش أفراده مختلف الوقائع الفظيعة لعملية التصفية
العرقية التي مارسها الجنرال ملاديتش، ستعلن على الملأ.
والتساؤل الذي بات يطرحه مختلف المهتمين بالقضية البوسنية اليوم، هو:
لماذا تخلفت أمريكا في تقديم كل الوثائق المورطة لملاديتش وزبانيته كل هذه المدة؟
الظاهر هو: أن واشنطن لم ترد أن تنفجر في وجهها قضية مذابح سربرينتشا
ضد المسلمين، ومذابح كرايينا ضد السكان الصرب العزل، في الوقت الذي تقوم
فيه برعاية محادثات سلام تعتبر مصيرية بالنسبة لمستقبل منطقة البلقان كلها:
ولذلك قامت إدارة البيت الأبيض بتفريغ جعبة المعلومات الخطيرة التي تمتلكها على
دفعات صغيرة، وذلك لتخفيف الصدمة من جهة، وحتى لاتعطي الكونغرس
الأمريكي مبرراً قوياً يدفع به إلى الموافقة على رفع حظر السلاح المضروب على
البوسنة وأطراف الصراع الأخرى في البلقان، ومن جهة أخرى يعتقد أن تخلف
أمريكا عن الإعلان عما تملكه من وثائق بخصوص مذابح سربرينتشا، كان مع
زعيم كرواتيا فرانيو توجمان لمشروع الهجوم الخاطف على إقليم كرايينا الكرواتي،
ولهذا انتظرت أمريكا المدة الكافية حتى يتسنى لها ولحليفها توجمان تنفيذ ذلك
المخطط، وبعدها أصبح بالإمكان تسليم وثائق إدانة قادة صرب البوسنة إلى محكمة
الجنايات الدولية. ومن جهة أخرى يبدو أن تسليم هذه الوثائق في هذا الوقت بالذات، إنما قصد به الضغط على سلوبودان ميلوسيفتش، الزعيم الصربي المفاوض في
دايتون، وذلك حتى يجبر على قبول أهم شروط مسودة السلام البلقانية تلك، أي
منع قادة صرب البوسنة من تسلم أي مناصب سياسية في جمهورية البوسنة التي
شرع في وضع ملامحها الأولى في دايتون.
حسابات الغرب الباردة:
إن كل هذه المبررات لايمكن أن تقنع أي أحد، وبالتالي فالتساؤلات ستبقى
حول مسؤولية العالم الغربي وأمريكا بالذات عن مذابح شرق البوسنة التي راح
ضحيتها عدة آلاف من المسلمين، حيث تركت السفاح الرهيب ملاديتش وجنوده
يرتكبون المجازر ولم تتحرك لنجدتهم، وذلك عن سوء قصد وطوية، ومن أجل
حسابات استراتيجية وتكتيكية باتت اليوم واضحة وبينة، لكن السؤال الذي سيبقى
معلقاً هو: لماذا لم تحاول تلك الدول الكبرى الضغط على بلغراد وقيادة صرب
البوسنة السياسية في باليه حتى يمكن إجلاء سكان منطقة سربرينتشا وجيب (جيبا)
المُسْلِمَين الموضُوعَين تحت الحماية الأممية، والأخطر من كل هذا: لماذا تم
السكوت على تلك المجازر الرهيبة التي ذهب ضحيتها آلاف من مسلمي البوسنة؟
.. هذا هو ما في الاتفاق.. وتلك هي القواعد التي بني عليها. أما المستقبل
فهو إفراز لهذا الماضي الكريه.. دعونا نستشهد بنوبل مالكوم مرة أخرى حيث
يقول: ونحن نتطلع إلى رجالات دولنا وهم يرتشفون أنخابهم في جلسة التوقيع على
المعاهدة في باريس يتعين علينا أن نسأل: أهذه هي الحصيلة التي يريدونها حقاً؟
والجواب الصحيح عن ذلك هو: أجل.
وبقي هذا الهدف السياسي الرئيس، وكانت المشكلة في كيفية تحقيقه مع
المحافظة على الالتزام العلني بصيانة وحدة الدولة البوسنية.
وجاء الحل في اتفاق دايتون: إطار يضمن من الناحية النظرية المحافظة على
البوسنة، ولكنه يؤدي خطوة خطوة، من الناحية العملية إلى تفكيكها. إنها دولة
جرى تصميمها لكي تدمر نفسها، في تقسيم بالحركة البطيئة، وهو أقصى ما
توصلت إليه النظرية التفكيكية في علم السياسة.
نعم ... إن البوسنة مقبلة على (حفلة دم مريعة طالما أن السادة في عواصم
رعاية التطهير العرقي ماضون في خطتهم الشريرة، وطالما أن المسلمين مشتغلون
في إزالة أثار همجية المجاهدين! وطالما إعلامهم يلاحق الجمعيات الخيرية ورجال
العطاء القلائل الذين يرفضون أن تتحول البوسنة ومسلموها إلى (خنازير) تذبح من
الوريد إلى الوريد.
وحسبنا الله ونعم الوكيل،،(97/64)
المسلمون والعالم
زيارة البابا المتكررة لإفريقيا.. لماذا؟
بقلم: التحرير
إن طبيعة التنصير في إفريقيا مختلفة عن طبيعة التنصير في المناطق الأخرى
من العالم؛ وذلك لأن هذه القارة وبخاصة جنوب الصحراء منها من وجهة نظر
الفاتيكان بمثابة مناطق خالصة للنصارى وحدهم، انطلاقاً من عوامل سيطرتهم على
الحياة السياسية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية في كثير من البلدان هناك؛
وذلك لقدرتهم على تغيير ما يرونه غير متفق مع مصالحهم ومتعارض مع سياساتهم، ولاستطاعتهم وضع الخطط البديلة في الوقت المناسب، وذلك ما دعاهم إلى
إطلاق شعار (تنصير إفريقيا عام ألفين) ، ورصد لهذا الشعار أموالاً قدرت بخمسة
مليارات تقريباً.
مهرجان الاستقبال:
في السابع عشر من شهر سبتمبر عام 1995م كانت الاستعدادات لاستقبال بابا
الفاتيكان قد اكتملت، ومنها بناء منصة كبيرة في ساحة الاستقلال (إحدى الساحات
المشهورة في مدينة نيروبي عاصمة كينيا التي تعقد فيها الاجتماعات العامة
والمهرجانات الوطنية) ، كما تم تجهيز فريق صحفي يتكون من صحفيين ومراسلين
محليين ودوليين؛ للقيام بالتغطية الشاملة لزيارة (بابا الفاتيكان (التي استغرقت ثلاثة
أيام، وقد وعدت الحكومة بالحفاظ على أمن البابا وسلامته، فانطلق الفريق الأمني
من قوات الشرطة وعناصر سلاح الطيران المقدر عددهم بستة عشر جندياً ليأخذوا
مواقعهم، أما شرطة المرور فقد أغلقت جميع الشوارع المؤدية إلى ساحة الاستقلال، ولم يسمح بمرور السيارات إلا السيارات الخاصة التابعة لموكب (البابا) التي
وضعت عليها إشارات خاصة.
وبدأ الشعب من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وكذلك من المذاهب الأخرى
يتوافدون إلى العاصمة فرادى وجماعات، وانتعشت الحركة الاقتصادية في نيروبي؛ حيث امتلأت الفنادق والمطاعم، وأقامت بعض شركات المواد الغذائية
والمرطبات مراكزَ لها في ساحة الاستقلال، وقد قدرت تكاليف هذه الاستعدادات
بحوالي عشرين مليون شلن (حوالي نصف مليون دولار) من قبل السكرتارية
الكاثوليكية، أما الحكومة فلا يعرف بالتحديد كم تكلفت، وقد قدر عدد الحاضرين
في مراسم الطقوس الخاصة التي أقيمت في ساحة الاستقلال بحوالي مليون شخص
من أتباع الكنيسة الكاثوليكية وأتباع المذاهب الأخرى من البروتستانت والكنيسة
الإفريقية، وكذلك من أتباع الديانة الهندوسية؛ علماً بأن عدد أتباع الكنيسة
الكاثوليكية في كينيا يقدر بحوالي سبعة ملايين حسب مصادرهم.
وفي صباح يوم الاثنين 18/9/1995م كان الرئيس الكيني (دانيال أراب
موي) في مقدمة مستقبلي بابا الفاتيكان في مطار كينياتا الدولي ومعه مجموعة كبيرة
من الوزراء ونوابهم وأعضاء البرلمان، وكذلك زعماء الأحزاب المعارضة، وكبار
التجار، ورجال الأعمال، وسفراء الدول الأوروبية والإفريقية، وكذلك بعض
سفراء الدول الإسلامية، وأيضاً كان في استقباله كبار رجالات الدين الكاثوليك
والمذاهب الأخرى من كينيا وشرق إفريقيا، وكانت الهيلوكبترات والطائرات
الحربية تحلق في سماء نيروبي مستعدة لاستقباله، وكان الآلاف من الشعب
الكاثوليكي قد اصطفوا في الشارع من المطار إلى القصر الجمهوري، وبقية الشعب
كان يتابع أحداث الاستقبال في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، حيث كانت
الأحداث تنقل على الهواء مباشرة وفي حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر أعلن عن
هبوط طائرة البوينغ التابعة للخطوط الجوية لجنوب إفريقية القادمة من جوهانسبرج، حيث كان (البابا) قد أتم زيارته لجنوب إفريقيا التي استغرقت ثلاثة أيام، ويذكر
أن هذه الزيارة هي الحادية عشرة من نوعها لإفريقيا، والثالثة لكينيا.
أفرقة الكنيسة حتى لاتتلاشى النصرانية:
كانت الأولى في كينيا في مايو عام 1980م والثانية في أغسطس 1985م،
وهذه الرحلة الأخيرة قد شملت ثلاث محطات من الدول الإفريقية وهي الكاميرون
في غرب القارة الإفريقية، وجنوب إفريقيا في جنوبها، ثم كينيا في شرق القارة.
وكان هدف هذه الرحلة المعلن في هذه المحطات هو إعلان مذكرة تعاليم
الكنيسة الجديدة الملائمة للعادات الإفريقية، علماً أن هذه التعاليم الجديدة كانت قد
تمت المناقشة حولها في شهر إبريل من عام 1994م في روما بحضور مجموعة من
القساوسة الأفارقة من الدول الإفريقية الذين اقترحوا على البابا أن يعدل تعاليم
الكنيسة الكاثوليكية، إن هو أراد أن يحافظ على أتباع هذه الطائفة، ويكسب مزيداً
من الأتباع، واقترحوا أن تكون هذه التعاليم الجديدة ملائمة ومناسبة للعادات
الإفريقية! !
جاء (البابا) مرتدياً لباس إحدى القبائل الكينية كأول خطوة لإخضاع الكنيسة
للتقاليد الإفريقية، وهذه أول خطة جديدة لجذب قلوب الأفارقة للنصرانية بعد ماتعذر
عليهم اعتناقها خوفاً من التجرد من تقاليدهم التي تأصلت فيهم.
بعد ذلك انطلق الموكب البابوي تحت الحراسة المشددة من المطار إلى القصر
الجمهوري، حيث عقد مع الرئيس (موي) جلسة مغلقة لمدة نصف ساعة، لاتعرف
تفاصيل مادار بينهما فيها، بعدها وقع على دفتر كبار الزوار.
وفي المطار صافح (البابا) مستقبليه من الوزراء والسفراء وبعض رجال الدين، بعد أن رحب به الرئيس، ثم ألقى كلمة شكر لمستقبليه وأعلن أنه قد جاء لمهمة
(بعث الرجاء) ! .
وفي صبيحة الثلاثاء 19/9/1995م كان يوم الميعاد قد بدأ، فقد اجتمع في
ساحة الاستقلال حوالي مليون شخص ينتظرون قدوم البابا لأداء طقوس العبادة،
وقد وصل الساحة حوالي الساعة التاسعة والنصف، ثم في تمام العاشرة وصل
موكب القساوسة والأساقفة، بعدها مباشرة بدأت طقوس العبادة رسمياً، واستمرت
هذه الطقوس لمدة ثلاث ساعات، ثم في الساعة الرابعة بعد الظهر تحركت الجموع
إلى ساحة البعث الواقعة خارج المدينة، حيث وصل البابا هناك في الساعة الخامسة، حيث أعلن رسمياً عن مذكرة تعاليم الكنيسة الجديدة التي تتناسب مع العادات
الإفريقية تعرف هذه المذكرة بـ r ? وقد اشتملت هذه المذكرة على خمس نقاط
رئيسة:
1- تنصير القارة الإفريقية.
2- تعديل التعاليم المسيحية لتلائم العادات الإفريقية.
3- الحوار الديني مع بقية المذاهب والديانات الأخرى.
4- نشر العدل والأمن.
5- توظيف وسائل الإعلام لخدمة أغراض وأهداف التنصير.
وصدق الله العظيم: [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ
عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ] ...
[البقرة: 79] .
إغراءات التنصير:
ثم ألقى بابا الفاتيكان كلمة تركزت حول المشكلات التي تعاني منها القارة
الإفريقية: من الحروب الأهلية، والجهل، والفقر، والفساد في الأنظمة،
وضرورة العمل الجاد للتخلص من هذه المشكلات.
وقد تلخصت نظرته لحل هذه المشكلات فيما يأتي:
1- ضرورة اعتناق القادة الأفارقة المسيحية الكاثوليكية، لأنها الضمان من
الفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي.
2- يجب على الدول الأوروبية الغنية الدائنة أن تعيد جدولة ديونها، وأن
تعفو عن مديونياتها.
3- يجب على الدول الصناعية أن تقلل من صفقات الأسلحة إلى دول إفريقيا، وبدلاً منها تعمل على مساعدة الدول الإفريقية في النمو الصناعي.
ثم عقد البابا بعد ذلك لقاء مع القساوسة والأساقفة الذين حضروا من تنزانيا
وأوغندا وأثيوبيا وإرتريا والسودان وزامبيا وموريشيوش إضافة إلى أساقفة
وقساوسة كينيا وأوصاهم بضرورة التلاحم فيما بينهم والعمل الجاد لتنفيذ بنود
المذكرة، كما اجتمع أيضاً مع زعماء الكنيسة الأنجيليكانية والكنيسة الإفريقية
المستقلة، وكذلك مع زعماء الطائفة الهندوسية.
وقال البابا: لقد كان بودي أن أجتمع مع جميع زعماء المذاهب والديانات
الأخرى. ومما يذكر أن المسلمين قد قاطعوا زيارة البابا وأعلنوا أن حضورهم
لمراسم الطقوس أو مراسم إعلان المذكرة كان منافياً لمعتقداتهم، من جهة أخرى
ذكر أحد المسلمين الذي نصب نفسه ناطقاً رسمياً باسم المسلمين! ! أن المسلمين لم
يحضروا تلك المراسيم؛ لأنهم لم يتلقوا دعوة رسمية بذلك ولو دعوا لأجابوا! أما
رئيس القضاة فقد امتنع عن التعليق! ولكنه قال: لايجوز لأحد أن يجعل نفسه
متحدثاً باسم المسلمين، وأنه شخصياً لو دعى لأجاب!
ثم في صباح يوم الأربعاء 20/9/1995م انطلق البابا والوفد الكاثوليكي
المرافق له إلى المطار معلناً بذلك نهاية زيارته لكينيا التي استغرقت ثلاثة أيام، وقد
ذهب لوداعه في المطار الرئيس (موي) ووزراؤه وأعضاء البرلمان، وأعضاء
السلك الدبلوماسي، كما شاركت الطائرات في حفلة وداعه، وفي الساعة الحادية
عشرة صباحاً أقلعت طائرة الأيرباص التابعة للخطوط الجوية الكينية حاملة (البابا) ،
والوفد المرافق له متوجهة إلى روما، وهكذا انتهت زيارة البابا إلى كينيا.
ومن المعروف أن كينيا تعتبر قلعة الفاتيكان في إفريقيا، وأن روما تعقد
الآمال في أن تكون كينيا هي المنفذة لأحلام الفاتيكان في تنصير إفريقيا مع نهاية
القرن الحالي؛ لذلك تهتم الدول الأوروبية وأمريكا بهذه الدولة أيما اهتمام، ويقدمون
لها أنواعاً من المساعدات المادية والأدبية، كما يهتم بها البابا شخصياً؛ وذلك
بتخصيصه ثلاث زيارات من إحدى عشرة زيارة له لإفريقيا، كما أن للفاتيكان
سفارة كاملة في كينيا للتنسيق في جهود التنصير، وقد كثرت المنظمات التنصيرية
المحلية والدولية بشكل رهيب (تعد هذه المنظمات بالآلاف) ولها جهود في جميع
مناطق المسلمين وخاصة المناطق الفقيرة: يقدمون المساعدات الإنسانية، ولهم
شبكة للتنسيق في أعمالهم تتمثل في مجلس الكنائس الوطني الكيني.
هل لهذه الزيارة من آثار؟
ويتوقع من آثار هذه الزيارة أن تشدد الحكومة من قبضتها على المسلمين؛
لأن البابا قد حذر الحكومة مما زعمه: خطر تنامي الأصولية الإسلامية التي تجد
الدعم من الدول الإسلامية.
وخلال أسبوع من مغادرة البابا أعلن عميد الشرطة الكينية بأن أي جندي من
قوته لايعرف المسيح فهو جندي فاشل، وأنه لايريد العناصر الفاشلة في قوته، ثم
أعلن وزير التربية رفضه تسجيل كليتي المعلمين وهما الكليتان الوحيدتان للمسلمين، علماً أن المسيحيين يمتلكون 12 كلية للمعلمين وثلاث جامعات، وهم الآن في
الاستعدادات لبناء جامعة جديدة، وقد حضر الرئيس موي في 15 ديسمبر 1995م
حملة لجمع تبرعات لبناء هذه الجامعة الجديدة للمسيحيين.
والمسلمون الآن قلقون من تطورات الأحداث حيث أصبح انحياز الحكومة
الكينية للمسيحيين جلياً، وتشددها مع المسلمين واضحاً. والكارثة الأخرى أن
السياسيين المسلمين والأغنياء منهم لا يزالون متمسكين بحبل الرئيس والحكومة.
فحتى متى يتغافل المسلمون هناك عن الخطر المحدق بهم وبإخوانهم
ولايكونون يداً واحدة على من سواهم للتخفيف من الانحياز؛ ضدهم وذلك بالطرق
الشرعية، فالمسلمون جزء من ذلك الشعب. أما أن يهمشوا ويضطهدوا، فهذا ما لا
يقبل، ثم أين (منظمة المؤتمر الإسلامي) ، و (رابطة العالم الإسلامي) ، و (المجلس
العالمي للمساجد) ؟ ! بل أين كل دولة مسلمة؟ لماذا لايكون لهؤلاء مواقف قوية
ستكون لها آثارها بإذن الله. وحين يكون الموقف سلبياً من تهميش المسلمين
ومحاولات إضعافهم فستتوالى الضغوط والاضطهادات عليهم كما هو حاصل الآن.
إن علينا مد يد العون لإخواننا ودعمهم كما يفعل غيرنا مع بني ملتهم؛ حينها
ستتلاشى أحلام (البابا) بجعل إفريقيا نصرانية عام (2000) ، وهذا سوف يحدث
بإذن الله، وصدق الله العظيم: [ودَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا
يُضِلُّونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] [آل عمران: 69] .
[وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ
أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [البقرة: 109] .(97/72)
المسلمون والعالم
الحروب الصليبية
بعد 900 عام ... هل انتهت؟
بقلم: عبد العزيز كامل
اختارت الدول الأوروبية الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط يوم
27 نوفمبر من عام 1995م، لكي يكون موعداً لانعقاد مؤتمر موسع في برشلونة
بأسبانيا يضم 15 دولة أوربية و12 دولة متوسطية من بينهما 8 دول عربية إضافة
إلى تركيا وقبرص ومالطة و ... ودولة العدو الصهيوني، فهل جاء هذا الموعد في
زمانه ومكانه محض مصادفة؟ ! كلا.. إن هذا الموعد يوافق بالتمام والكمال ذكرى
مرور 900 عام على بدء الحروب الصليبية، ففي مثل ذلك اليوم من ذلك الشهر
في عام 1095 للميلاد، أطلق بابا النصارى (أوربان الثاني) دعوته لبدء الحملات
الصليبية على البلدان الإسلامية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط بغرض
الاستيلاء على بيت المقدس.
منذ سنوات قليلة خلت، اختار الأوروبيون ذكرى أخرى لاتخلو من الدلالات
التاريخية، ليعقدوا فيها في إسبانيا أيضاً مؤتمر مدريد، وكان في ذكرى مرور
خمسئة عام على سقوط الأندلس! ومعلوم أن هذا المؤتمر قد دشنت فيه المرحلة
الحاسمة لإسقاط المزيد من شقيقات الأندلس بأنواع أخرى من السقوط. أما
(برشلونة) فإن مؤتمرها المعقود بين الفرقاء التاريخيين لم يعقد من أجل تعاون
اقتصادي، أو سياسي أو عسكري بالدرجة الأولى، بل لم يكن من همومه حل
ماتبقى من مشكلة الشرق الأوسط أو المغرب العربي، بل كان الهم الأول المسيطر
عليه فيما ظهر: إقحام جسم يراد إقحامه في المنطقة العربية بوسائل مباشرة وغير
مباشرة، فقد اتجه المؤتمر إلى تعزيز جهود دول عديدة تتحرى إدخال إسرائيل في
صميم نسيج المنطقة العربية والشرق أوسطية، تمهيداً للتعاقد على إقامة تحالف بين
دول المنطقة، يضمن توزيع المنافع فيها، ويعمل على احتواء ظاهرة الخوف التي
أصبحت الدول في شمال المتوسط تكثر الشكوى منها.
إن أوروبا تريد باختصار أن تحفظ أمن حدودها الجنوبية بأي ثمن، ولكن
ممن؟ ! هل هناك دولة أو نظام واحد في شمال إفريقيا يصرح أو يلمح بتهديد
الجيران الشماليين؟ كلا. ولكن الخوف كل الخوف من انتفاضة الشعوب الإسلامية
التي طالما استعبدها واستذلها الأوروبيون في التاريخ الحديث، وذلك ليس أول
مؤتمر يعقد لهذا الهدف، فقد عقد في إشبيلية بأسبانيا أيضاً مؤتمر في سبتمبر سنة
1994م، للغرض نفسه، وبدعوى ضرورة مواجهة المد الإسلامي الذي يهدد
استقرار حوض البحر الأبيض المتوسط. الغريب أن ثلاث دول كاثوليكية تقف
كرأس حربة في حشد التأييد لهذا التوجه، وبالذات فرنسا التي أصرت من دون
دول أوروبا كلها على عدم خفض ميزانيتها الدفاعية، بدعوى تضاعف الأزمات في
حوض البحر الأبيض المتوسط، فليس البروتستانت الإنجليز والأمريكان أو
الصرب الأرثوذكس وحدهم هم الذين يعانون من حمى (الأصولية الإسلامية) ! .
لقد عقد قبل ذلك بشهور، وفي 9، 10 يونيو عام 1994م مؤتمر مشابه،
وكان هذه المرة في مدينة اسطنبول التركية، التي كانت عاصمة للخلافة الإسلامية، وشارك في المؤتمر أربعون وزيراً للخارجية والدفاع بالدول الغربية في اجتماعيين
منفصلين، ضم الأول مجلس وزراء حلف الأطلسي، وضم الثاني مجلس تعاون
شمال الأطلسي، الذي يضم كافة الدول الأوروبية الشرقية، والغربية، وشاركت
فيه روسيا أيضاً، وكان محور الاجتماع يدورحول وضع خطة لمواجهة الخطر
القادم الذي يمكن أن يواجه العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وتكررت جلسات
الاجتماع بين الوزراء أعضاء المؤتمر، ثم كُلف أمين عام الحلف (سابقا) (ويلي
كلاوس) بشكل رسمي بإعداد ورقة عمل للحلف تتضمن كيفية مواجهة المد الإسلامي
أو (الأصولية الإسلامية) .
وخلص (ويلي كلاوس) (فيما يبدو) إلى أن (الأصولية) هي أكبر خطر يواجه
الحضارة الغربية، حتى إنه قال لمجلة (زيتونج) الألمانية الصادرة في 2 فبراير
1994م: (إن الأصولية خطيرة كما كانت الشيوعية، ونرجوكم ألاتقللوا من شأن
هذا الخطر) وأضاف: (إن حلف الأطلسي هو أكثر من تحالف عسكري، فقد أخذ
على نفسه أن يدافع عن المبادئ الأساسية للحضارة الغربية) ! وقال في حديث آخر
نشرته مجلة (الإيندبندنت) البريطانية: (إن الخطر الأصولي الإسلامي هو من أهم
التحديات التي تواجه الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية) وقال:
(من واجبنا أن نتعاون مع الدول التي تواجه ذلك النوع من الصعوبات) .
هل هو إذن تحضير لحروب صليبية جديدة؟ ! ألم تنته الحروب الصليبية بعد؟!
ألم يقل القائد (اللنبي) بعد استيلاء الإنجليز على القدس في الحرب العالمية
الثانية وهو واقف على قبر صلاح الدين: (الآن انتهت الحروب الصليبية) ! هل
كان مخطئاً؟ ! يبدو ذلك.
ويبدو أن أوروبا لم تشبع بعد من دماء المسلمين، ولم تكفها سبع أو ثمان
حملات في القرون الوسطى لإشفاء غليلها من المسلمين الموحدين، ولم تشفها
الحملات المعاصرة قبل وبعد الحربيين الكونيتين في النصف الأول من هذا القرن.
بدليل أن صيحاتهم باتت تصم الآذان مبشرة ومنذرة بقيام المزيد من الحروب
الصليبية بين العالم الإسلامي والعالم النصراني.
إن القائد (اللنبي) قال: إن الحروب الصليبية انتهت باستيلاء النصارى على
القدس في القرن العشرين، ولكن جاء الصرب وافتتحوا حملات جديدة، حتى قال
وزير إعلامهم بالحرف الواحد في إعلان شهير له: (إن الصرب في معاركهم في
البلقان، إنما يمثلون طليعة الحرب الصليبية الأخيرة لاستئصال شأفة الإسلام) . إن
العالم قد رأى بعينيه الصلبان تحفر على صدور ورقاب المسلمين في البوسنة، فهل
تستحق هذه الحرب وصفاً آخر غير (الحرب الصليبية) ؟ !
لقد فرغ النصارى من أمر أكثر الدول والأنظمة في العالم الإسلامي تقريباً،
وأقبلوا على الشعوب المسلمة ذاتها، ليناصبوا كل من بقي على الوفاء للدين العداء، و (الأصولية) التي نصبوها عدواً بديلاً بعد سقوط الشيوعية، ماهي إلا تعبير عن
رغبة قطاعات عريضة من الشعوب الإسلامية في العودة لأصول الدين. هذه
الأصولية بهذا المعنى، هي المستهدفة بالحرب الشعواء التي بشر الغرب بقيامها،
ثم باشر البدء فيها فعلاً، أحياناً بالقوة العسكرية، وأحياناً بالمحاصرة الاقتصادية،
وفي أحايين أخرى بالتسلط الدولي (القانوني) المسمى (الشرعية الدولية (ومهما
حاول الصليبيون الجدد ستر أغراضهم وأحقادهم الدينية بالأقنعة السياسية أو
الاقتصادية أو الثقافية، فإن تلك الأقنعة تسقط، ويظهر الوجه الحقيقي للصراع..
الدين.. [ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا] [ودوا لو
تكفرون كما كفروا فتكونون سواء] ، [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى
حتى تتبع ملتهم] ، [إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم
بالسوء، وودوا لو تكفرون] .
إن القرآن لم يحدثنا عن الأطماع الاقتصادية، أو الأهداف السياسية
والعسكرية أو الحضارية للنصارى واليهود، ولكنه ركز على الأغراض الدينية لهم، أما الأغراض الأخرى فتأتي بالتبع، لقد كانت هتافات الجنود النصارى الزاحفين
على بيت القدس أيام الحروب الأولى (أمر الله ... أمر الله ... إنها إرادة الله)
ولاندري أي واحد من الثلاثة يقصدون! !
وباسم هذا الإله المُدّعى، ذبح النصارى المسلمين العزل وقت دخولهم القدس
في الحملة الصليبية الأولى، حتى بلغ عدد القتلى من المسلمين في ساحات الأقصى
وطرقات المدينة نحو سبعين ألفاً. وتخبرنا الروايات الصليبية نفسها بأطراف من
المأساة، فيروي شاهد العيان (ريمون داجيل) في رواية موثقة لدى أدعياء
(المسيحية السمحة) طرفاً من الحدث، يقول: (وقعنا على مشاهد لم يسبق لها مثيل، فقد قتل عدد كبير من أبناء المدينة، فكانوا يُرمون بالنبال، أو يجبرون على القفز
جماعات من فوق الأسوار، كما عذب بعضهم قبل أن يرموا في النار، شوارع
المدينة كانت مليئة بالرؤوس والأيدي والأرجل، وكان الجنود في كل مكان يسيرون
فوق الجثث، لقد كانت مجزرة رهيبة بعدها كنا نسير في بحيرات من الدم، لقد
نهب الصليبيون حتى ارتووا) ! ورصد التاريخ الإسلامي الحدث ذاته بكثير من
التفصيل والدقة، سردها ابن الأثير في كتابه (الكامل) (ج1 ص 194) ، وذكر أن
المذبحة استمرت طوال يوم الدخول وليلته، واقتحم النصارى المسجد الأقصى في
صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا فيه، وصبغت ساحات المسجد بدماء
العباد والزهاد الركع السجود، وتوجه قائد الحملة (ريموند) في الضحى لدخول
ساحة المسجد، متلمساً طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته، وكان النظر
لايقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيدي والأقدام المقطعة في الطرقات والساحات،
نهب النصارى جميع الأمتعة وخربوا أثاث المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ونهبوا
القناديل التي بلغت نيفاً وأربعين قنديلاً، كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا نيفاً وعشرين قنديلاً من ذهب) .
هذا ما حفظته ذاكرة التاريخ عن اليوم الذي أرادوا أن يكون عيداً يحتفل به
المسلمون مع النصارى.. على أنقاض أرض الأندلس الضائعة، بل ليتهم أرادوا
الاحتفال بالذكرى فحسب، بل أرادوا أن يجعلوها بداية انطلاق بالتعاون مع بعض
الخائنين من بني جلدتنا لبدء رحلة جديدة من الحروب الصليبية.. وقبل ذلك
بالتعاون مع العدو القديم اليهود الذين أصبحوا اليوم أصدق أصدقاء النصارى
الصليبيين، وأخلص معاونيهم، حتى إن الغرب النصراني كله قد أجمع على
تحويل الأرض المقدسة إلى ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية والكيمائية
والجرثومية الموجهة إلى صدور كل شعوب المنطقة الإسلامية، وإن دولة اليهود
(إسرائيل) هي (حصان طروادة) جديد، حشوه اليهود، ولكن يعتليه النصارى
ويوجهونه، واليهود يعرفون دورهم هذا تماماً، وهم يعلمون أن النصارى يدخرونهم
ليوم معلوم قد يحاول المسلمون فيه استعادة كرامتهم ومقدساتهم.
ولهذا فإن المراقب المسلم لايمكنه أن يتجاهل الدور اليهودي في التبشير
بالصراع القادم ودق الطبول للحرب المرتقبة، وتصريحاتهم القديمة في ذلك كثيرة
ومتواترة، ولايزال قادتهم يرددون وبقوة أشد التحذيرات والصيحات والنذر من
خطورة عودة الروح إلى الإسلامية على يد دعاة (الأصولية) . قال حاييم هيرتزوج
الرئيس الإسرائيلي السابق أثناء زيارة قام بها لبريطانيا عام 1993م (إن الأصولية
الإسلامية هي الخطر الأكبر على العالم الحر) . وكان الهالك إسحاق رابين قد كرس
جهده لمحاربة المد الإسلامي في المنطقة وكانت محور اهتمامه في داخل الكيان
الصهيوني وخارجه، وقد قال في مؤتمر لاتحاد المنظمات اليهود في الولايات
المتحدة (إيباك) في إبريل 1993م (إننا نريد التأكد من أن الرئيس كلينتون وفريقه
يدركان تماما خطر الأصولية الإسلامية والدور الحاسم الإسرائيلي في محاربتها)
واستطرد قائلاً: (إن مقاومتنا ضد الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها أيضاً
إيقاظ العالم الذي يرقد في سبات عميق، على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد
السلام العالمي، والآن نقف نحن الإسرائيليين في خط النار الأول ضد الإسلام
الأصولي، ونحن نطالب كل الدول وكل الشعوب أن يكرسوا انتباههم إلى الخطر
الضخم الكامن في الأصولية الإسلامية) .
وتترجم هذه الصيحات اليهودية إلى برامج عملية، فبعد سيطرة الأغلبية
اليهودية الأمريكية على الكونجرس الأمريكي، برزت تلك السياسة أكثر فأكثر وقدم
(بنوت جنجريتش) رئيس مجلس النواب الأمريكي عرضاً شاملاً للسياسة المقترحة
لمواجهة الأصولية في العالم، في جلسة عقدت في واشنطن، وضمت مايزيد على
400 من كبار الخبراء في الشؤون الأمنية والعسكرية وقدم خطة من أربع بنود
تحول في مجملها دون نجاح أي محاولة للنهوض الإسلامي، وبخاصة في منطقة
الشرق الأوسط.
وقال بالحرف الواحد أمام هذا المؤتمر: الأصولية تعني إعلان الحرب على
الحضارة الحالية للعالم، وعلينا التعامل مع هذا الموقف على أنه حرب معلنة) ! !
إذن يا (جينجرتش) فالحرب الصليبية على الإسلام الأصولي أصبحت بشكل
رسمي معلنة، وأنتم في الغرب تديرون معركتها، فمن يدير معركتنا..؟ ! ! .(97/80)
هموم ثقافية
إشكالية زاوية النظر للديمقراطية
(1)
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
إن منبع هذه الإشكالية يتصل باختلاف زاوية النظر للديمقراطية، مما
يؤدي إلى تعدد وجهات تفسير مضامينها في النظام السياسي الواحد والمجتمع الواحد، فكيف إذا تعددت الأنظمة السياسية وتضاعفت المجتمعات! ، لا شك أن ذلك
سيؤدي إلى مزيد من انفراج زاوية الخلاف في تفسير الديمقراطية. ومكمن ذلك
يعود إلى أنها من نتاج العقل البشري الذي يخضع لتأثيرات شتى كل منها له دوره
في انفعالاته ويترك بصماته على تكييف خياله وتوصيف أوامره.
ولنُخْضعْ الآن هذه الإشكالية لزوايا نظر متعددة.
منظور الحكام:
إن الحكام في العالم الثالث لا يعتبرون الديمقراطية وسيلة من وسائل المشاركة
الشعبية في الحكم، بل هي من وجهة نظرهم تكأة يتكئون عليها لإضفاء رونق
جماهيري على حكمهم، ولذلك فإن الانتخابات وما ينتج عنها من مجالس نيابية
ينبغي أن يضع لها الحكام برنامج إخراج عملي يحقق هذه الغاية، ويوصل إلى هذا
الهدف، فإذا ما اختلت المعادلة عند التطبيق لصالح ازدياد نفوذ المجلس النيابي بما
لايؤدي إلى تحقيق رغبات الحكام، فإنهم لا يتورعون عن استخدام الجيش لقمع
آثار اختلال تلك المعادلة، كما حدث في تركيا وباكستان والجزائر وروسيا والقرم
وغيرها.
إن هؤلاء الحكام يطلبون من المجلس النيابي أن يقوم بدوره المناط به لتشريع
القوانين التي ترسم للناس طريقة حياتهم على المنحى الذي يخدم أهداف الحكام
ويحقق أطماعهم، ولن يستطيع المجلس النيابي أن يضطلع بهذا الدور المبرمج له
إلا إذا كان أداة طيعة في يد الزعيم، يستمع لرأيه ويأتمر بأمره، ومن قبل قال
فرعون لملئه (الذين هم أعضاء مجلسه) : [مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ
سَبِيلَ الرَّشَادِ] [غافر: 29] وقد كان فرعون سبّاقاً في استعمال مجلسه واجهة
لتحقيق مآربه وأهدافه الطاغوتية، فأراد استخلاص قرار من ذلك المجلس بقتل نبي
الله (موسى عليه الصلاة والسلام) خوفاً من أن يفلح موسى (عليه الصلاة والسلام)
في تبديل عقيدة الجماهير الحاشدة من حالها الشركي إلى دين التوحيد، أو أن يردها
إلى الصلاح الذي هو في عرف فرعون فساد، قال (تعالى) : [وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ
الفَسَادَ] [غافر: 26] ، وكأنما ليس ثمة فساد في الجماهير التي يحكمها فرعون؛
فهي في مفهومه قد استكملت أركان الصلاح بعبادتها له وطاعتها أوامره فهي والحال
هذه ليس فيها من الفساد مايذكر! .
لقد كانت خشيته ظاهرة من أن يدب فيها الصلاح بانتشار دعوة التوحيد فيها
بعد أن كانت في حالة فساد حقيقي تمثل في استسلام الجماهير له وتأليههم لشخصه؛
اقتنع فرعون بالنتيجة التي وصل إليها [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] [النازعات: 24] .
إن الديمقراطية في العالم الثالث (كما يسمونه) ينبغي أن تحقّق من منظور
الحكام هذه الغاية وإلافلا داعيَ لها.
ومن هذا المنظور، فإنهم ينظرون إلى هذه الديمقراطية باعتبارها واجهة
تضفي على حكمهم طابع المشاركة الشعبية، وتنفي عنهم تهمة الطاغوتية
(الديكتاتورية) فضلاً عن كونها مسرباً يمررون من خلاله رغباتهم في إطار قانوني، والواقع أنهم لا يجدون في ذلك صعوبة تذكر، ذلك أن المجلس النيابي واستمرار
بقائه مناط بهذا الدور الموكل إليه.
منظور الأحزاب:
إن الديمقراطية من وجهة نظر الأحزاب هي وسيلة للوصول إلى الديكتاتورية
الحزبية، أي فرض رأي حزب ما على جميع الأمة من خلال المجلس النيابي.
وقد يتحقق ذلك لحزب من الأحزاب: من خلال حصوله على الأغلبية
البرلمانية؛ إما بقوة حضوره الجماهيري، من خلال حسن تنظيمه وكثافة إعلامه
وتبنيه لقضايا الناس ولو نظرياً، وإما من خلال فرض سيطرته وهيمنته الحزبية
عن طريق الجيش (كما هو الحال في حزب البعث الحاكم في بعض الدول العربية) .
إن هذه الأحزاب وهي في حُمّى الاندفاع للحصول على أكبر عدد من كراسي
المجلس، تضحي بقيم خلقية، وتمارس أبشع الأفعال الردِيّة، من رشوة ومحسوبية، دون أن يرمش لها جفن أو أن ترتجف في يدها إصبع؛ ولذلك تراها تتقاتل
بالسلاح للحصول على أصوات الناخبين، بنفس القوة التي توزع فيها الرشوة،
سواء أكانت أموالاً أم وعوداً بمناصب، وهي في كل ذلك لاتتورع عن ممارسة
الكذب والدجل لتحقيق أغراضها والوصول إلى مراميها.
ونظراً لانحطاط المستوى الثقافي لدى كثير من الجماهير؛ فإنها سرعان ماتقع
في فخاخ هذه الأحزاب، لتكون لها صيداً سهلاً، لكنه ثمين! ! .
كما أن هذه الأحزا ب يتربص بعضها ببعض كل التربص باسم الديمقراطية،
وليس ثمة ضحية لهذا الصراع إلا مصالح الشعوب المستضعفة التي لاتجد ما يسد
جوعها، ويكسي عريها، ويوفر مأواها.
ومن سخريات الواقع أن معظم هذه الأحزاب ترفع شعارات براقة مضمونها
واحد وعباراتها شتى، فجميعها لم توجد إلا لخدمة مصالح الكادحين والعمال
والفلاحين، ولرفع الظلم عن المظلومين، وللنهوض بمستوى المعيشة، وتحقيق
الكفاية والعدل وتشييد دعائم النهضة، وهلم جرا.
إن معظم هذه الأحزاب قد نشأت محادة لله ورسوله، وهي ألعوبة في أيدي
أعداء الأمة، بل هي رماحها التي تخرق، وسيوفها التي تقطع، ولقد اتخذت من
الديمقراطية لباساً تختفي تحت مخططاتها وتحيك مؤامراتها، ففرقت الأمة، وشتت
كلمتها وبعثرت جهدها، بعد أن صدتها عن دينها، وماكان ينبغي لهذه الأمة أن
تستسلم لهذه الأحزاب وقادتها بعد أن غشيتها رحمة ربها بهذا الدين العظيم الذي
ارتضاه لها، قال (تعالى) : [وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ
حَتَّى حِينٍ] [المؤمنون: 52 54] .
وكم فعلت هذه الأحزاب من أفعال شائنة بعد أن استلمت السلطة، وتبرقعت
بلبوس الديمقراطية، فسامت شعوبها سوء العذاب، فقتلت الشرفاء وحولت الصلحاء
إلى المحاكم العسكرية وعاثت في الأرض فساداً، وصدق فيها قوله (تعالى) :
[وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ
الخِصَامِ (204) وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ
لا يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ
المِهَادُ] [البقرة: 204- 206] .
المنظور القبلي:
إن التنافس بين القبائل لاحتلال مراكز التوجيه ومواقع السيطرة واستلام زمام
القيادة كان من قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعندما جاء الإسلام أزاح
عصبية الجاهلية الأولى، وعَقَدَ التفاوتَ والتمايزَ على علم التقوى، قال (تعالى)
[.. إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..] [الحجرات: 13] ثم لما خبا الحس الإسلامي في
نفوس المسلمين في أزمنتنا الحاضرة هذه، نبا إلى السطح من جديد حس الانتماء
القبلي، وطغت النعرة العشائرية، وقد وجدت القبائل في الديمقراطية بغيتها التي
تحقق من خلالها بروزها على غيرها بأسلوب حديث وحضاري! !
فمن أجل هذا تؤيد القبائل الديمقراطية وتشارك فيها؛ فتتضافر جهود القبيلة
على دعم مرشحيها بكل الوسائل المادية والمعنوية المتاحة، ولا تشترط القبيلة
غالباً فيمن يمثلها حرصه على الدعوة إلى الإسلام وتحكيم شريعة الله المنزلة على
خير الأنام، بقدر ماتشترط قدرته على التعبير عن مطالبها، وتمكنه من إبراز
مناقبها، ورفع اسمها، ولوكان مرشحها ملحداً أو صوفياً حلولياً.
ويتنافس نواب القبائل في المجلس على استصدار القوانين التي تعزز بروز
قبائلهم، ويتسابقون في تقديم الخدمات لمناطقهم، فترى نائب القبيلة في البرلمان لا
يمثل شعبه إنما يمثل قبيلته فحسب.
ولعل بعض القبائل لو خيرت بين النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي
لاختارت الأخير إن شعرت أنها ستكون أكثر بروزاً وأوفى حضوراً في رحابه؛
حيث إنها لا تستطيع أن تحقق ذلك في النظام الإسلامي الذي يسمو فوق كل الشرائح
الطبقية والانتماءات القبلية.
فلما صار للقبائل هذا الثقل في الكفة الديمقراطية تسابقت الأحزاب على كسب
رضاها، وخَطْب ودها؛ أملاً في توظيف أصوات المنتمين إليها لصالح دعم تلك
الأحزاب، ولما رأت تلك القبائل تدافع الأحزاب نحوها وتنافسها على حيازة
أصواتها، وجدت في ذلك ضالتها، وهي الاستفادة من تلك الأحزاب وإمكاناتها
الكبيرة في تسخيرها لصالح مرشحيها، وهكذا حصل الانقضاض التداخلي
والامتزاج التفاعلي بين الأحزاب والقبائل، كل منهما منصرف الذهن إلى توظيف
الآخر لصالح أهدافه.
إن القبائل ترى في الديمقراطية محضناً لتفريخ الأحزاب ووسيلة ممتازة
للبروز السياسي من خلال انضمام أفراد القبيلة إلى الأحزاب المختلفة التي من
خلالها يتسلقون سلم الأضواء السياسية، والتي بدورها توفر الفرص الاقتصادية
وتوسع وترفع مكانتها الاجتماعية.
فالديمقراطية من خلال هذا التحليل تكرس وتعزز وتعمق الحس القبلي
والانتماء العائلي على حساب الرسوخ العقدي والامتثال الدعوي؛ وهذا يعني أنها
تنأى بتلك القبائل عن مفهوم قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أتقاكم..]
[الحجرات: 13] .
وهذا معناه: من الناحية العملية افتراق الكلمة، وبث بذور العداوة وتنمية
روح البغضاء، وتوسيع التنابز بالألقاب؛ بما يؤدي إلى تفتيت الوحدة الحقيقية
واستهلاك الطاقات الشعبية فيما يضر ولاينفع، مما يوهن الكيان الإسلامي ويضعف
تماسكه، ثم يؤدي به في نهاية المطاف إلى أن يكون لقمة سائغة في فم أعداء الأمة
ومبغضيها.
إن القبائل هي مادة سواد المسلمين، ويلاحظ قصور كبير لدى الإسلاميين في
قيامهم بمهام الدعوة على منهاج أهل السنة والجماعة في تلك القبائل الكثيرة المبثوثة
في طول العالم الإسلامي وعرضه، مما جعل ساحتها فارغة، فاقتنص العلمانيون
هذه الفرصة ليملؤوها بغثاء أفكارهم الهابطة وآرائهم الهدامة.
ولاشك أن جنوح القبائل نحو المشاركات الديمقراطية فيه مؤشر كاف للتدليل
على نجاح العلمانيين في اقتحام حصون الإسلام، من خلال التأثير على زعماء
القبائل ورواد توجيهها، وإننا نأمل أن يولي الإسلاميون القبائل والعشائر ماتستحق
من الاهتمام وبذل الجهد؛ لتسلك السبيل القويم والمنهاج الصحيح، فتكون رافداً
غزيراً للعمل الإسلامي الدعوي التغييري المنضبط بالنصوص الشرعية والواعي
لساحة الواقع، وما فيها من دهاليز وماتكتنفها من مؤثرات.
منظور العامة:
أقصد بالعامة: أغلبية الناس، وهم العوام الذين يشكلون في العالم الثالث
الطبقة الكبرى، وهؤلاء يقسمون إلى شرائح: فمنهم أميون، ومنهم مثقفون ثقافة
محدودة، وأغلبهم عمال وفلاحون ومهنيون، ومعظمهم غير منتمين إلى الأحزاب،
فيستفاد من ضوضائهم وصراخهم في الهتافات والمظاهرات وإحداث الضجة وتعميم
الصخب.
إن هذه الطبقة غالباً ماتكون في ضنك من العيش ومكابدة للحياة، فهي في كدّ
لا ينقطع، تسعى ليل نهار لتحصيل قوت يومها وسد جوعة أبنائها، وإن كثيراً
منهم لايفلح في الوصول إلى خط الكفاف، فهم بمثابة الغريق، يفتش عما يمكن أن
ينقذه وإن كانت قشة، ولما كانت الأحزاب ترفع شعار الدفاع عن الفقير والمسكين
وعن المكفوف والملهوف، وأنها من خلال الديمقراطية ومعارك المجالس النيابية
ستعيد للمظلوم حقوقه وتدفع عنه أسباب الفاقة والعوز، لذلك نظر العامة إليها أي
الأحزاب المنادية بالديمقراطية على أنها طريق لحل أزماتهم وتحصيل حاجاتهم،
فهي وسيلة مشروعة، من وجهة نظرهم، للحصول على مكاسب معيشية، بل
رفاهية حياتية، فتدافع العامة للانتساب إليها (تنظيماً حزبياً وشعاراً ديمقراطياً) ، فتم
سوقهم في أنفاق الديمقراطية، ثم انساحوا في دروبها ومسالكها، وصاروا لها داعين
وللاحتكام إليها مطالبين! !
ورغم أن جميع هؤلاء من المسلمين أقصد في البلاد الإسلامية فإنهم لم يفطنوا
إلى أن ما يرومونه من حل لمشكلاتهم وإشكالاتهم لايتحصل لهم إلا في دوحة
الإسلام وظلالها الوارفة، وماسبب ذلك إلا جهلهم به لطول عهدهم بهجره؛
ولتقصير كثير من علمائه في القيام بحقه، فالإسلام لدى أغلب العوام عادة موروثة
تنحصر في (سجادة الصلاة وسبحة ألفية) ! وعلاقة بين العبد وربه لاشأن لها بأي
منحى من نواحي الحياة.
ولذلك تعلق العوام بالديمقراطية، بعد أن قدمها لهم الإعلام على أنها المنقذ من
مهاوي الجهل والفقر، وباعتبارها أيضاً طريقاً مفتوحًاً أمامهم يغريهم بالمشاركة في
الحكم وصنع القرار السياسي، دون أن يدركوا أن هذا الطريق المنفسح مد
أبصارهم نظرياً لايستطيعون سلوكه عملياً لانعدام حصولهم على مقومات ولوجه،
فضلاً عن اقتحام قلاعه واجتياح حصونه، إن العوام في هذا البحر الخضم كالسمك
الذي هجر قاعه المكتنز بأصناف الغذاء ولاذ بالسباحة قرب السطح يفتش عن فتات
خبز يلقيه إليه صياد، فما يكاد يزدرده حتى يحس بوخز رأس السنارة وهي تنغرز
في جوفه، وليست إلا لحظات، فإذا به هامد الحركة في سلة صائده!
فعجباً لمن يَدَعُون غذاء الإسلام ويجرون وراء فتات خبز الديمقراطية
فتصطادهم سنارة العلمانية لتلقي بهم في سلة أعداء الإسلام، وربما فقدوا حياتهم
الإيمانية التي لا استمرار حقيقياً لوجودها إلا باتباعهم دين الله المنزل من السماء،
ولقد مرت على العالم الإسلامي عهود، ولاتزال تسلط فيها الطواغيت، وصادروا
الحريات ونكلوا بالمعارضين؛ فأصبح الناس لايتكلمون إلا همساً، ولايذكرون
مطالبهم إلا تورية، ولا يعبرون عن مشاعرهم إلا في مسارب أوردة أفئدتهم،
فتراهم يعدون على أنفسهم أنفاسهم؛ ويحصون على ألسنتهم ألفاظهم، فعندما بلغت
القلوب الحناجر، وتجاوز السيل الزبى، قيل لهم: ها هي أبواب الديمقراطية قد
أشرعت، وأقداحها قد أترعت، فادخلوها آمنين، وارتووا من كؤوسها هانئين! !
فازدحموا على فجاجها أفواجاً أفواجاً، وتلاطموا على حيازة كراسي نيابتها أمواجاً،
ولسان حالهم يقول: هذه دار حريتنا ومُبوّأ استرداد كرامتنا!
إن الديمقراطية بمعناها الشامل المتضمن انعتاق الحرية عن كل انضباط
شرعي أتاحت للطغام من العوام من العلمانيين وأمثالهم، أن يتخذوا منها مظلة
لانحراف أخلاقهم وإظهار خلاعتهم وكشف عوراتهم نساءً ورجالاً باسم الحرية
الشخصية، بل أتاحت لهم أن يوظفوا أقلامهم، وينفثوا حقدهم الأسود على كل
مايمت للإسلام والمسلمين بصلة، وقد وجد هؤلاء العوام في الديمقراطية ملاذاً، في
ظله يمارسون المنكر باسم الحب، ويعاقرون الخمر باسم المشروبات الروحية،
ويبتلعون أموال الناس ربوياً باسم الفائدة، فلهذا السبب يأله هؤلاء الطغام
الديمقراطية، ويكرهون الإسلام، إن الديمقراطية تتيح لهم فرصة نشر فسادهم في
عامة الناس، حتى يصبح ذلك بينهم عادة، ومن يخرج عليه يستحق الإبادة! ! .
وأما الأحزاب، فإنهم يرون في هؤلاء العوام مادة خاماً يكثرون بها سوادهم،
ويستفيدون من أصواتهم الانتخابية، بل يستخدمونهم في تنفيذ أهدافهم ونشر
دعاياتهم والدفع بهم في نحور خصومهم! !
وإن من العجب حقاً، أن هؤلاء المستضعفين، رغم سوء حال معيشتهم
ومحدودية دخولهم، فإنهم يقعون ضحية للديمقراطيين الذين يدفعونهم للتبرع بأموالهم، على حساب اللقمة التي يقتطعونها من أفواه أطفالهم، عن طريق التأثير على
مشاعرهم واستمطار عواطفهم، رافعين الشعارات البراقة، وباذلين الوعود
المهراقة! !
وأما العوام، بل وغير العوام من أصحاب الديانات الأخرى، فإنهم يعتبرون
الديمقراطية مكسباً؛ لأنها تبعد المسلمين عن الإمساك بزمام السلطة، فضلاً عن
كونها مظلة قانونية تتيح لهم نشر أباطيلهم وترهاتهم! ! (للحديث بقية)(97/86)
في دائرة الضوء
فقه مراتب الأعمال
بقلم: د.سعد الدين العثماني
الفقه استنباط للمعاني:
اتفقت نصوص الكتاب والسنة على أهمية الفقه بالنسبة للمسلم، وحثت على
طلبه وإعلاء شأنه، ففي الصحيحين عن معاوية أنه سمع النبي -صلى الله عليه
وسلم- يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) [1] ، والفقه: الفهم؛ فهم
معاني الكلام ومراميه وإنزاله منازله.
وثبت في نصوص أخرى أن الفقه ليس هو حفظ النصوص واستعراضها،
وإدراك ظواهر ألفاظها، فعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أَرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب
أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، شربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها
أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولاتنبت كلأً، فذلك مثل من فَقُه في دين الله
ونفعه الله به فَعلم وعَلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي
أرسلت به) [2] .
فالمستجيبون لما بعث الله به رسوله صنفان: صنف أول: تلقى الهدى والعلم
فأنبت منه (الكلأ والعشب الكثير) علما وعملاً، إذ فَجّر من ذلك علماً وفقهاً كثيراً
نفع الله به، وصنف ثان: نقل الهدى والعلم كما تلقاه، فهو بمثابة الأرض التي
يستقر فيها الماء فينفع به الناس.. فالأولون فقهاء والأخيرون حفظة، ولكلٍ دوره
ومكانته.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال: (نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها،
ثم بلّغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه
منه) [3] ، وهذا التأكيد نفسه على أن حمل النصوص وحفظها لايصنف وحده الإنسان في دائرة الفقهاء، بل هو في حاجة إلى شروط زائدة: فطرية ومكتسبة. ...
ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم كلهم في مستوى واحد من الفقه أو
الحفظ، بل كان منهم فقهاء عرفوا بعمق الاستنباط ودقة الفهم والقدرة على الغوص
في عمق التشريع، من أمثال الخلفاء الراشدين وعبد الله بن عباس، وكان منهم
قراء حفظوا القرآن وأتقنوا حروفه، وأحكموا آياته من أمثال زيد بن ثابت، وكان
منهم محدثون انصرفت همتهم إلى حفظ الحديث وإتقانه مثل أبي هريرة وكان لكل
منهم حظ معين في التخصصات الثلاثة كلها، إلا أن همته كانت مصروفة أكثر إلى
الفقه أو القراءة أو حفظ الحديث. وهناك من اشتهر في الفقه والحفظ كليهما مثل
عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنهم جميعاً) .
وعندما دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم فقهه
في الدين) [4] لم يكن المقصود أن يكثر حفظه للنصوص أو أن يدرك ظواهر
ألفاظها فقط، بل المقصود من الدعاء: أن يبارك في فهمه واستنباطه، حتى
يستخرج من النصوص كنوزها، ويدرك من الكلام معانيه ومراميه؛ لذلك كانت
أرضه من أطيب الأراضي وأخصبها، قبلت الهدى والعلم النبويين، فأنبتت من كل
زوج كريم.
يقول ابن تيمية وهو يعقد المقارنة بين حفظ أبي هريرة وفقه ابن عباس:
(وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ !
وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق: يؤدي الحديث كما سمعه
ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ماحفظه كما سمعه،
وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار
منها، واستخراج كنوزها) [5] .
وهكذا فإن على شباب الصحوة الإسلامية أن يدركوا أن مجرد قراءة
النصوص وحفظها ليس فقهاً، بل الفقه شيء زائد عن مجرد الألفاظ، وهذا أمر
ورد واضحاً في قوله (تعالى) : [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] [النساء: 82] : قال ابن كثير في تفسير الآية:
(يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه) ، فالكلام أن معنى يستنبط يستخرج، يقول: (ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقه الاستنباط،
إذ إن موضوعات الألفاظ لاتنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه
والنظائر ومقاصد المتكلم، والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه،
وحمد من استنبط، من أولي العلم حقيقته ومعناه) .
لذلك فإن معرفة فنون العلم والفقه الواردين في الشرع، وتتبع تقريرات علماء
السلف في ذلك هو وحده العاصم من الخروج عن مراد الشرع نظراً وعملا، وهو
الهادي للسداد والتوفيق ولخيري الدنيا والآخرة.
المقصود بفقه مراتب الأعمال:
هو من أنواع الفقه التي يجب أن يتعلمها المسلم ويهتم بها، وهو يعني: العلم
بفاضل الأعمال ومفضولها، وأرجحها ومرجوحها، فإن كانت الأعمال طاعة علم
أيّها أحب إلى الله وأكثرها أجراً وثواباً، وإن كانت معصية علم أيّها أبغض إلى الله
وأكثرها وزراً وعقوبة، وإن كانت الأعمال وسيلة إلى أهداف معينة (المقاصد
الشرعية مثلاً) علم أيّها أقدر على تحقيق هذه الأهداف، وأيّها أولى بذلك، وإن كان
الإنسان أمام بدائل متعددة من خير أو شر، علم خير الخيرين وشر الشرين، وإذا
جهل المسلم أي الأعمال أفضل وأولى لاشك أن ينفق وقته وجهده وماله في أجر أقل
ويفوت ماهو أجل وأعظم، وأنه اختلطت لديه مراتب الأعمال واختل لديه توازنها
قد يصل إلى عكس مقصود الشرع؛ فيأثم من حيث يريد أن يغنم، أو إلى عكس
مقصوده في الواقع؛ فيفسد من حيث يريد أن يصلح.
القرآن الكريم ومراتب الأعمال:
وقد وردت آيات عديدة في كتاب الله (عز وجل) تبين أن الأعمال ليست كلها
في درجة واحدة، بل تختلف درجاتها في الخير، كما تختلف دركاتها في الشر.
ومن ذلك قوله (تعالى) : [إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]
[البقرة: 271] . قال ابن كثير: (فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها) [*] .
ومن ذلك أيضا قوله (تعالى) : [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ
كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [التوبة: 19] ففاضلت الآية بين أمرين كلاهما طاعة وقربة،
وبينت أنهما لايستويان عند الله (تعالى) .
وفي قوله (تعالى) : [لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ] [القدر: 3] دليل على
أن عبادة وقيام ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر.
كما بين القرآن الكريم في آيات أخرى: أن المحرمات منها الكبائر والصغائر، فقال (تعالى) : [إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم
مُّدْخَلاً كَرِيماً] [النساء: 31] ، وقال سبحانه مادحاً عباده المحسنين: [الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ] [النجم: 32] . فدلت الآيتان على أن
المنهيات قسمان: كبائر، وأخرى دونها سميت في الآية الأولى سيئات، وفي
الثانية لمَماً. قال ابن كثير (لأن اللمَمَ من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال) .
السنة النبوية ومراتب الأعمال:
والسنة النبوية زاخرة بالنماذج والأمثلة لتفاضل الأعمال والتكاليف الشرعية
التي يجب على المسلم مراعاتها في عبادته وحركته في الحياة، وربما يكون أجمع
حديث في ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(الإيمان بضع وسبعون أوبضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها
إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) [6] .
وقد سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراراً عن: أي الإسلام أفضل، أو
أيه خير فأجاب، وإنما المقصود أي أعمال المسلم أفضل أو أخير؛ ولذلك بوب
الإمام النووي لأحاديث رواها مسلم في صحيحه من ذلك النوع، فقال: (باب بيان
تفاضل الإسلام، أو أي أموره أفضل) [7] .
وفي المقابل بينت أحاديث عديدة كون الذنوب أنواعاً ومراتب، فعن أبي بكرة
عن أبيه قال: قال رسول الله: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يارسول الله.
قال ثلاثاً: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) وكان متكئاً فجلس فقال: (ألا وقول
الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور) [8] . وعن عبد الله بن
مسعود قال: قلت يارسول الله: أي الذنوب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو
خلقك) ، قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك) [9] .
أصول الفقه يضع القواعد:
وانطلاقاً مما مر، فقد اتفقت الأمة على أن الأحكام الشرعية التي كلف بها
المسلم أنواع ومراتب، وليست على ميزان واحد، كما اتفق جمهور العلماء على
انقسام مأمورات الشرع إلى واجبات ومستحبات، وانقسام منهياته إلى مكروهات
ومحرمات. يقول مجد الدين ابن تيمية في المسودة: (اتفق الفقهاء والمتكلمون على
أن أحكام الشرع تنقسم إلى: واجب، ومندوب، ومحرم ومكروه ومباح) [10] .
ولأن الواجب على المسلم أن يضع كل أمر شرعي موضعه، ولايخلط بين
أنواع الأحكام أو يتعامل معها كيفما اتفق، فقد بين العلماء والأصوليون منهم
بالخصوص تعريف كل نوع من الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة، ووضعوا قواعد
لكيفية استنباطها وأساليب التفريق بينها، كما قرروا أنه لذلك لايجوز أن يُسوّى بين
الواجب والمندوب (لافي القول ولا في الفعل ولافي الاعتقاد) [11] ، ولايسوى بين
الحرام والمكروه [12] ، ولا بين المباح وبين المندوب والمكروه [13] ، يقول
الشاطبي: (الواجبات لاتستقر واجبات إلا إذا لم يُسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام، فلا تُترك ولايُسامح في تركها البتة، كما أن المحرمات لاتستقر كذلك إلا إذا لم
يسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام فلاتفعل، ولايسامح في فعلها) [11] .
والمصالح الشرعية مقسمة إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات،
وهي مرتبة هذا الترتيب، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضروية كما يقول الشاطبي: (ليست كالأوامر الشرعية المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور
المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل
الضروريات ليست في الطلب على وزان واحد، كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس
في التأكيد كالنفس، ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات، والحاجيات
كذلك..) [14] .
إذاً لايكفي المسلم أن يعلم ما أَمَر به الشرع أو مانهى عنه، بل عليه أن يعلم
أيضا درجة الأمر أو النهي، وأن ينزل كل ذلك مرتبته دون إفراط ولاتفريط.
فقه مراتب الأعمال خاصةُ العلماء بهذا الدين:
وقد وصف الإمام ابن تيمية فقه مراتب الأعمال بأنه حقيقة الدين، وحقيقة
العمل بما جاءت به الرسل، وبأنه خاصة العلماء بهذا الدين. يقول: (فتفطن
لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد،
بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند
المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس
المعروف وجنس المنكر، وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً. فأما مراتب
المنكر ومراتب الدليل، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه،
وتنكر أنكر المنكرين: وترجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا
الدين) [15] .
أما تلميذه ابن القيم فقد اعتبر انشغال الإنسان بالأعمال المفضولة عن الفاضلة
من عقبات الشيطان التي لايتجاوزها المسلم إلا بفقه في الأعمال ومراتبها، إن
الشيطان في هذه العقبة يأمر الإنسان ويُحَسّن له الأعمال المرجوحة المفضولة من
الطاعات، ويريه مافيها من الفضل والربح؛ ليشغله بها عما هو أفضل وأعظم كسبا
وربحاً، (لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح،
وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له) ، ثم قال ابن القيم:
(فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة
مقاديرها، والتمييز بين عاليها، وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها
ومرؤوسها، وسيدها ومسودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا، ورئيساً
ومرؤوسا، وذروة وما دونها ... ولايقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من
أولي العلم، السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل
ذي حق حقه) [16] .
غياب حس الأولويات:
لقد كان لعدم الاهتمام بتعليم المسلم هذا الفقه الجليل آثار قد تكون بعيدة المدى
وشديدة الضرر دنيا، وأخرى. ومن تلك النتائج:
1- ضياع الأجر: فالجاهل بمراتب الأعمال يهتم بالعمل قليل الأجر على
حساب كثير الأجر، ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسنات قليلة وتروي لنا
السنة من ذلك أمثلة كثيرة فعن أنس قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في
السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار أكثرنا ظلاً
صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام وقام المفطرون،
فضربوا الأبنية وسقوا الرّكَاب، فقال رسول الله (ذهب المفطرون اليوم
بالأجر) [17] .
وقد يصل الأمر إلى حد تضييع أصل الأجر نفسه، فعن أبي هريرة قال: قال
رجل: يارسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي
جيرانها بلسانها قال: (هي في النار) قال: يارسول الله فإن فلانة ... يذكر من قلة
صيامها، وصدقتها وصلاتها، وأنها تصدق بالأثوار من الأقط (أي بالقطع من اللبن
المجفف) ولاتؤذي جيرانها، قال: (هي في الجنة) [18] .
كما أن ابن الجوزي قد ذكر أمثلة متعددة لدى العبّاد بالخصوص، كلها ناتج
عن قلة الفقه بمراتب الأعمال، قال مثلا: (وقد لبّس إبليس على جماعة من
المتعبدين، فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيام الليل وصلاة
الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض، ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة، أو
يقوم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة أو يصبح كسلاناً فلا يقدر على الكسب لعائلته) [19] .
2- سوء فهم الشريعة: إن الجهل بمراتب الأعمال عندما يكون عاماً، يؤدي
إلى فوضى فكرية عارمة، تشوه الشريعة وتخل بتوازنها، لقد أرسى الشرع بين
المأمورات والمنهيات توازنا لايجوز الإخلال به، تماما كَنِسَب الدواء الواحد، قد
يؤدي تغييرها إلى إفساده وإلغاء خصائصه، إن لم ينقلب إلى سم قاتل، ومن ذلك
أن المسلم اليوم مثلا قد أضحى عنده ترتيب جديد لأوامر الشرع، يجعل الشعائر
التعبدية (فرائض ومستحبات) أعلى مرتبة من سائر الواجبات والفرائض الأخرى،
وأوكد من ترك منهيات الشرع (محرمات ومكروهات) .
3- غياب حس الأولويات في الدعوة: فسوء فهم الشريعة واختلاط مراتب
أحكامها يؤدي إلى عجز الدعاة عن البدء بما يجب البدء به. فإذا كان في أحكام
الدين واجب ومستحب، وفاضل ومفضول، فإن الدعوة إلى الواجب والفاضل مقدم
على الدعوة إلى مادونها، لكننا نرى من بين شباب الصحوة الإسلامية ودعاتها من
ينشغل بالمسائل المرجوحة والأحكام الخلافية، وتُبدد الجهود والطاقات فيها،
والأولى البدء بالدعوة إلى أصول العقيدة والشريعة، وبذل الجهد في معالجة القضايا
المصيرية الكبرى للأمة. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد من اعتبار
درجة المعروف ودرجة المنكر، حتى لايُفسد الإنسان بدل أن يصلح، وحتى لاينفّر
بدل أن يبشر، ولذلك اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه: (إذا كان الشخص أو
الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لايفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما
جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر بل
ينظر، فإن كان المعروف أكثر، أُمر به، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر ولم
ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب
الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه، وإن استلزم ماهو دونه من المعروف، ويكون
الأمر بذلك المعروف المستلزِم للمنكر الزائد عليه، أمراً بمنكر وسعياً في معصية
الله ورسوله) [20] إن هذا النص تطبيق رائع لفقه مراتب الأعمال وتقديم الراجح
منها، وقد صاغ الأصوليون ذلك في قواعد تشريعية هادية مثل: دفع أشد المفسدتين
بأخفهما. والإتيان بأعظم المصلحتين وتفويت أدناهما، وتقديم المصلحة الراجحة
على المفسدة الخفيفة، وعدم ترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة..
ولايستقيم عمل دعوي إلا بفقه هذه الأصول والقواعد والالتزام بها، فعسى أن
يوفق أبناء الصحوة الإسلامية وشبابها إلى ذلك، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) البخاري كتاب العلم باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ومسلم كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة.
(2) البخاري كتاب العلم باب فضل من علم وعلم، ومسلم كتاب الفضائل باب بيان مثل مابعث النبي -صلى الله عليه وسلم- من الهدى والعلم.
(3) ابن ماجه في سننه في المقدمة باب من بلغ علماً، وأحمد في المسند وورد بروايات عدة متقاربة عن زيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهما، انظر الألباني صحيح الجامع الصغير (1/225) .
(4) البخاري كتاب الوضوء باب وضع الماء عند الخلاء، وهو في مسند أحمد باللفظ نفسه وروي في االصحيحين وفي السنن بألفاظ مختلفة، انظر: فتح الباري (1/204، 205) .
(5) مجموع الفتاوى (4/93، 94) .
(6) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، انظر صحيح الجامع الصغير للألباني (2/417) .
(7) شرح النووي على مسلم (2/9) .
(8) البخاري كتاب الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر، وأخرجه أيضا مسلم وأحمد والترمذي.
(9) البخاري كتاب الأدب باب قتل الولد خشية أن يأكل معه.
(10) المسودة في أصول الفقه (ص: 65) ، وانظر باب الحكم الشرعي في كتب أصول الفقه.
(11) الموافقات (3/321) و (3/336) .
(12) نفسه (3/331) .
(13) نفسه (3/326) .
(14) نفسه (3/206) .
(15) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 28) .
(16) مدارج السالكين (1/221) .
(17) البخاري كتاب الجهاد باب فضل الخدمة في الغزو ومسلم كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، والنسائي كتاب الصيام فضل الإفطار في الصيام، واللفظ هنا لمسلم، الرّكاب: الرواحل وهي الإبل التي يسار عليها (البيان) .
(18) أخرجه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد كذا في الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني (19/219) .
(19) تلبيس إبليس (ص 141) .
(20) الحسبة (ص 38 39) .
(*) لكلام ابن كثير تتمة، معرفتها مهمة، وهي قوله: (لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية.(97/94)
متابعات
نقطة فوق الفاصلة
بقلم: محمود عبد العزيز
طالعت بمزيد من الإعجاب التوضيح الذي جاء في العدد (90) تحت عنوان
(فاصلة أدبية) والذي ذُكرت فيه وجهة نظر التحرير تجاه الشعر الحر المنشور
بالمجلة.
وإذا كنت أُعجبت بالفاصلة كمقطوعة أدبية راقية الأداء رشيقة التعبير إلا أنني
أختلف معكم حول ما ترمي إليه، واختلاف المسلمين لا يفسد لودهم قضية، بل
أرى أن هذا الأداء الأدبي الراقي استعمل لتمرير وجهة النظر المؤيدة للشعر الحر
بطريقة ناعمة ممتعة.
وإذا سمحتم أن تسمعوا لأحد المتطفلين على مائدتكم الثقافية العامرة، فإني
أحب أن أذكر وجهة نظر أخرى، وقد عودتمونا على تقبل عرض آراء متنوعة
انطلاقاً من ممارسة واعية للنقد الذاتي.
فالناظر في التوضيح الذي جاء في الفاصلة يَخْلُص إلى أن المراد توضيحه
نقطتان:
أولاً: الشكل الشعري لبعض قصائد الشعر المنشورة، التي أُطلق عليها
تجاوزاً (شعر التفعيلة) .
ثانياً: الغموض الشعري في بعض القصائد المنشورة.
والناظر في القصائد المنشورة بالبيان الأدبي يلحظ امتزاج النقطتين غالباً،
وكأن هناك علاقة عضوية بين الغموض والشعر الحر.
ففي الشكل ذكرتم ما خلاصته: أن الالتزام يكون بالفصحى وعدم العبثية
والشكلية المحضة مع قبول أشكال أدبية جديدة لا يعترضها (نص شرعي صريح،
أو رأي فقهي صحيح) .
ولنراجع مقاطع بعض النصوص الشعرية على ضوء (معبر) شعر التفعيلة
الذي ذكر في صدر (الفاصلة) ، ولن نذهب بعيداً، بل سنطوي صفحة واحدة بعد
نهاية (الفاصلة) لنقرأ:
(باسم كشف السر عن خارطة الأموات (دي جاما ... ) .
ثم: (يرسم: المدخل والمخرج، والأبعاد، هبوب الريح، هزات المدارات،
المضيقات ... ) .
على أي تفعيلة هذا الشعر؟ ! بل ما الفرق بينه وبين النثر غير أنه متقطع
السطور؟ ! ولنبحث في القصيدة نفسها عن الفصحى في مثل: (في علبة
ديتولٍ) ... (لم ينس التنوين) و (خلطة كيك!) (دوزن ناظريك) ، فهكذا يشمل التفلت من الفصحى المفردات اللاتينية والمولّدات الفارسية.
وإذا كنا ننزهكم عن العبثية في المعنى، فإن العبثية في الشكل تجاوزت
التغاضي عن ذريعة (التفعيلة) لتصل إلى (العدمية) ، ومن يريد التأكد فليراجع
قصيدة (معالم) في العدد (84) ، حيث نلاحظ الشعر النقطي! :
(يدعم الأكبر (قيصر) ! ! .........) (هكذا)
وفي العدد (86) قصيدة (أهازيج دماء اليقظة) للشاعر نفسه:
(صوت 4.... . سْ) (هكذا: سين مفردة ساكنة بعد حشد نقطي) .
ولكن في العدد (89) التطويري: تطورت الأبيات النقطية عدداً فبلغت ثلاثة
أبيات! ! .
وبالطبع فلن نسأل عن التفعيلة ولا عن الفصحى لعدم وجود ألفاظ أصلاً،
وهذه المرة الأولى التي أشاهد فيها حسب اطلاعي المحدود شعراً يقرأ بل يُنظر ولا
يُلقى ولا يُسمع! ! ، وبالطبع فإن المعنى مدفون في أغور بطن الشاعر، والاجتهاد
في الوصول إليه مسؤولية كل منقّب!
وقد تمت هذه التجاوزات في نظري تحت دعوى مطلقة، هي: قبول أشكال
أدبية جديدة، في حين اعتبرتم أن الضابط لها: ألا يعترض هذه الأشكال نص
شرعي صريح أو رأي فقهي صحيح.
وإذ كنت أعتبر أن التجديد والمرونة ضروريان لانتعاش الإبداع الأدبي وعدم
خنقه، إلا أنه من غير المقبول إطلاق هذه الدعوى لتهدم وتبني الأشكال الأدبية
بزعم عدم معارضتها لنص شرعي أو رأي فقهي، فإذا كنا نقبل هذا الضابط في
الحكم على المعاني التي ترمي إليها الأهداف والغايات الموضوعية للإبداع الأدبي
إلا أنه لا يصلح وحده معياراً للحكم على الشكل الأدبي، بل نستطيع القول: إن هذا
يعتبر مدخلاً لدعاة تكريس العامية بدل الفصحى، ولدعاة كتابة العربية بأحرف
لاتينية، فالتعامل الجاف المتعسف مع النصوص الشرعية والآراء الفقهية لا يمنع
ذلك إذا كانت وحدها هي المعيار في قبول أو رفض الشكل الأدبي! ! .
والمسألة أكبر من مجموعة كلمات تفتقد إلى قافية وبحر شعري، فهي تعود
إلى هوية أمة تفقد شخصيتها بسقوط مشخصاتها تباعاً لتذوب في شخصية حضارة
أخرى، واللغة واللباس من أهم عناصر شخصية أي أمة، لذا: رأينا أتاتورك
حريصاً على تحويل ومسخ مظاهر هذه العناصر أثناء أَوْرَبة المجتمع التركي،
ورأينا أيضاً وعي بقية من علماء الدولة العثمانية بأبعاد هذا التحول فيما عرف
بمعركة القبعة والطربوش، فالمسألة ليست مجرد فتوى في غطاء رأس لم يأت فيه
نص شرعي (لاحظ أن الطربوش أيضاً ليس فيه نص شرعي صريح ولا رأي فقهي
صحيح! ! (ولكنها مسألة أمة يراد القضاء عليها حضاريّاً عبر هدم مشخصاتها.
ومن هنا أرى شخصيّاً أن هناك فرقاً بين قبول أشكال أدبية جديدة لم تكن
معروفة في الأدب العربي من قبل كالمسرحية والرواية والقصة والمقال وتغيير شكل
القصيدة الشعرية العربية ليوافق شكل القصيدة الأوروبية؛ فالشعر العربي لم نكتشفه
الآن حتى نحدد أو لا نحدد ملامح شكل بنائه، بل تطور عبر مراحل طويلة
استغرقت سنوات عديدة ليصل إلى كمال تجاوبه مع الذوق العربي ونغم العربية،
كما رأيناه في أول قصيدة جاهلية وصلتنا وحتى اليوم، وليس من المعقول الاستغناء
عن قواعد هذا البناء لمجرد أن الشعر الحر جديد ومستحدث، فجدته وحداثته وحتى
قبوله ورواجه عند الآخرين ليست مبررات لقبوله بدون تحقيق أو تمحيص شكلاً
مزاحماً لبناء القصيدة العربية التي حافظت على شكلها عبر آلاف السنين، ولم
يتغير هذا الشكل إلا بالتزام مزيد من الضوابط كما في الموشحات الأندلسية إثباتاً
لتفوق شعراء الأندلس والمغرب العربي على شعراء المشرق العربي وقتها.
فما الذي حدث حتى يحدث الانقلاب على القصيدة العربية؟ .
الذي حدث هو الهزيمة النفسية المريعة التي خيمت على عالمنا الإسلامي في
العصور المتأخرة:
فالشعر (الحر) لم يحدث إلا بعد الانبهار بحضارة العالم (الحر) المتمدين! ! .
والشعر (الحر) ارتبطت نشأته بأدباء مشبوهي التوجهات، مشبوهي الانتماء.
والشعر (الحر) استخدم فيه مبرر هدم قيم أخرى للأمة (الحرية (، فالزندقة
والإلحاد كانا باسم: (حرية الفكر والعقيدة) ، والانحلال وهدم الأسرة كانا باسم
(تحرير المرأة) ، والربا والاحتكار كانا باسم (تحرير الاقتصاد) و (السوق الحرة) .
فالهزيمة النفسية الأدبية جعلت الشعر الأوروبي معياراً للقصيدة، فلماذا لم
نحاكم الشعر الأوروبي إلى وزن وقافية القصيدة العربية؟ ! ! ولماذا لم تظهر
دعوات بهذا المعنى بين أدباء أوروبا؟ ! لأنهم يدركون اختلاف الذوق الأوروبي
والنغم اللاتيني عن الذوق العربي ونغم العربية، ولأنهم (تراثيون تقليديون) ؛ فشكل
قصيدتهم باقٍ كما هو لم يتغير، ولم يتغير إلا البناء الموضوعي، وهذا ما حدث
أيضاً في الشعر العربي الذي كان من تقاليده في القصيدة الجاهلية البدء بالمطلع
الغزلي، ثم الانتقال إلى أغراض شعرية أخرى، فتطور هذا البناء الموضوعي إلى
الوحدة الموضوعية للقصيدة.
حقّاً إن (الأديب يجب أن يكون حرّاً طليقّاً، إلا أنه لا بد من أن تكون هناك
مناطق تحريم ومناطق إباحة.. وأنه لا يكون فن ما لم تكن هناك أطر فضفاضة
ترعى، وضوابط وحدود تحمي (الفن) من أن تنتهك حرماته، فيختلط الفن بغير
الفن، والادعاء والشعبذة بالصدق والأصالة، فلا ضوابط تميز وتفرق بين هذا
وذاك.
الفن هو الاقتدار على الضبط، والبراعة في إحسان التحرك، وإجادة
التصرف والحركة في أضيق المساحات والمجالات وأدق الأطر، دون المساس بها
أو خدشها وتشويهها أو المروق عليها) [*] .
أما عن الغموض الشعري فإننا نطالبكم فقط بما جاء في (الفاصلة) : أن يتحلى
أدبنا بقدر من الوضوح، يجعله (امتداداً لنبل حسان (رضي الله عنه)) لا أن نكتفي
بكونه صالحاً للدرس في قاعات المحاضرات، وتحليل النقاد على صفحات الكتب
والصحف والمجلات، نطالبكم بالأدب الذي ينسل من بين دفات الكتب ويخترق
جدران القاعات ليخالط شغاف قلوب الجماهير المسلمة ليصنعوا منه أنشودة الأمل
الموعود، ويرموا بها قراصنة الأمم، بل قراصنة الفكر.
تعقيب
الأخ الكريم محمود عبد العزيز.. ها نحن نشرنا رأيك كاملا، احتفاءً منا
بالاستقبال المنتج الفاعل، الذي ننتظره من قرائنا تجاوباً وحواراً مع كل ما ننشره
على صدر المجلة، وسنعلق على عدد من النقاط التي أثرتها، مع تقديرنا لوجهة
نظرك وإن اختلفنا معها:
* لازلنا عند الضابط الذي حددناه في قبول الأشكال الأدبية، وهو (أن
لايعترضها نص شرعي صريح، أو رأيٌ فقهي صحيح) إذ إن أحكام الأوزان
الخليلية والنقد الجمالي في تراثنا ليس من الثابت المعصوم، بل هو كسب نسبي من
المتجدد الطامح إلى الأكمل والأجمل. فهو عطاء بشري، وليس وحياً شرعياً منزلاً
ملزماً، كما أن الذوق الجمالي ليس قيمة مطلقة، يمتلكها جيل دون جيل، أو أمة
دون أخرى، ومثلما أن إحلال الحرام بغير نص شرعي صريح، أو رأي فقهي
صحيح قولٌ على الله بغير علم، فإن تحريم الحلال مثله في الإثم، وإنما يختلف
الناس بأذواقهم، بناءً على بيئاتهم، وتجاربهم، ومعارفهم؛ ولذا فإننا نقدم ما
يرضي الذوق الخليلي، كما نرضي ذوق المحب للجديد من الأشكال الأدبية بتقنياتها
الجمالية المعاصرة، والنص المستكملُ لأدواته الفنية والجمالية على مستوى الشكل،
المنتظم في إطار الرؤية الإسلامية من جهة الدلالة مقدّمٌ على غيره عند النشر،
سواءٌ أكان عمودياً أو من شعر التفعيلة. وليس نشرنا للأخير مجرد حب للتجديد مع
أن حب التجدد نعمة في ذاتها ولكنه ضرورة تستحثنا كي نكون متفوقين، وحتى
نكون إشعاعاً لاظلاً! نمتلكُ أصول الأشكال الجمالية والفنية، ونواجهُ بها مضامين
الشعر العلماني الحديثة الخائبة.
وتكريسُ العامية بديلاً من الفصحى أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية
مرفوضٌ بالرأي الفقهي الصحيح، المستقرئ للنص الشرعي من الكتاب والسنة، لا
بأمور أخرى كما يظن الكاتب الكريم.
* نهمس في أُذن أخينا حتى لايتعجل في الحكم، فنحن بالفعل إلى هذا العدد
لم ننشر إلا القصيدة العمودية أو شعر التفعيلة، وحتى النماذج التي ذكرها الأخ
الكريم، ليست من الشعر المنثور في شيء فما اجتزأه من قصيدة (جغرافيا الرقاب)
مثلاً يهيمن على إيقاعه تفعيلة (فاعلاتن (بتنوعاتها المذكورة في علم العروض، ولو
كتبنا الكلمات بلغة العروض الإشارية فسيكون (باسم كشف السر عن خارطه
الأموات دي جاما) .. هكذا: (/5//5/5 /5//5/5 ///5/5 /5//5/5 /5) وكذا
البقية؛ فهي ليست مجرد نثر متقطع السطور كما ذكرت. ثم إننا لانرفض النقد
الأدبي الواعي، لما ننشره من نصوص بل نبحث عنه، ونلح على ذوي الموهبة
المصقولة بالمعرفة أن يمارسوه على صفحات المجلة، غير أن النقد المنهجي للنص
الأدبي مشروط بالانطلاق من رؤية متكاملة له، لأن النص كائن حي، كل جزء
منه تتحدّد قيمته ووظيفته من خلال صلته ببقية الأجزاء، في شبكة من العلاقات
التي تُنتج بمجموعها تأثيرَ النص في وعي القارئ وعاطفته، كما تنتج دلالات
النص وإيحاءاته، أما اجتزاءُ سطر من نص شعري والنظر إليه معزولاً عن شبكة
العلاقات التي تجسده، وعن وظيفته الدلالية داخل النص باعتباره امتداداً لما سبقه،
وجسراً إلى مابعده، فإنه تمزيق للنص يشبه عمل من يقطع اليد من الجسد، ثم
يلوح بها متسائلا: ماقيمة هذه القطعة الميتة؟ مع أن النص المكتوب يستفيد من
إمكانات الرؤية البصرية في التعويض بالإشارات الكتابية عن الدلالات التي تقدمها
اللغة المنطوقة، ومايصحبها من تلوينات في الأداء، كدلالات النبر والتنغيم، مما
لايظهر في اللغة المكتوبة، وهي قدرات أفاد منها الإنسان كثيرا بانتشار الطباعة،
وحقق بها وظائف نفعية وجمالية عديدة.
أخيرا فإن تبادل التأثّر والتأثير بين الآداب أمر قديم مشهود، والتغيرات في
أجناس الكتابة الأدبية، وأشكالها، وتوصيفاتها الجمالية والفنية أمرٌ مشهود ومشترك
بين آداب الأمم المختلفة، والأمة الفاعلة الراغبة في التأثير يغيظها أن يكون على
الأرض ملمح من حق أو خير أو جمال ثم لاتمتلكه! .
التحرير الأدبي
__________
(*) صالح آدم بيلو: من قضايا الأدب الإسلامي، ص 118.(97/104)
بريد البيان
وفاة عالم صومالي:
وصلنا من الأخ: محمد حسين معلم مقالة تعرف بفضيلة الشيخ نور الدين
على الصومالي، أحد المؤسسين الأوائل للدعوة السلفية في الصومال، الذي توفي
في 4/6/1416 عن عمر يناهز (81) سنة، وهو من الشمال الشرقي في الصومال، تلقى العلم عن كثير من العلماء ودرس في دار الحديث المكية والأزهر وعاد
داعية في بلاده للعقيدة السلفية، عانى كثيرا من مضايقات المبتدعين وسجن عدة
مرات في عهد (بري) ، ثم اضطر للهجرة إلى كينيا وأوغندا حيث واصل دعوته في
معهد (بلال الإسلامي) بكينيا، ومعهد (كيسوا) في ممباسا، وتخرج على يديه العديد
من الدعاة، وله كثير من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة في (هداية المستفيد من
علم التوحيد) و (التعظيم المشروع للرسول الكريم والتعظيم المبتدع) رحم الله الفقيد
وأسكنه فسيح جناته. وسيصدر للكاتب دراسة موسعة عن الشيخ ضمن دراسة عن
علماء الصومال وجهودهم في الدعوة الإسلامية.
عادل بن محمد أمين مقيم
ملاحظاتك واقتراحاتك محل العناية والتقدير، شاكرين لك حرصك واهتمامك. وفقنا الله لما يحبه ويرضاه.
الأخ / محمود أبو فروة
نشكر لك مراسلتك المجلة، أما مقالك الحواري فهو مناسب للزوايا الخفيفة في
المجلات الأسبوعية، فنعتذر عن نشره، ومرحباً بك في مشاركات أخرى
عبد الله الدخيل
ستصلك رسالة خاصة بخصوص طلبك إن شاء الله.
فيصل اليوسف
نشكرك على اهتمامك بنفع القراء، ونعتذر عن نشر قصيدتيك (لضعفهما فنياً) ، ونحن في انتظار مشاركات أخرى.
سعيد غرم الله الغامدي
نشكرك على ثنائك على المجلة، ومتابعتك لها. نسأل الله (عز وجل) أن
نكون من المتحابين فيه.
مسلم عبد الوهاب
نشكرك على مشاركتك، والموضوع عام، وشواهده من غير مجتمعاتنا في
الغالب فضلاً عن كونه مصوراً ولاحكم للإسلام فيه، لذا نعتذر عن نشره.
عبد الله البسيمي
ما أرسلته من ثناء نشكرك عليه، أما ملاحظاتك فهي موضع الاهتمام من
أسرة التحرير، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياك من المتعاونين على البر
والتقوى.
صابر إبراهيم
كلامك عن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- صحيح لاغبار عليه، نسأل
الله أن يوفقنا للاقتداء به.
محمد عايض القحطاني
نشكرك على ثنائك على التطوير للمجلة، وما كتبته من اقتراحات وجيهة هي
محل اهتمامنا، ولعلها ترى النور قريباً إن شاء الله.(97/108)
الورقة الأخيرة
ما وراء الوهن
بقلم: د. محمد بن ظافر الشهري
في بلد من بلاد المسلمين التي تحتضن ألواناً شتى من البدع، التقيت بأحد
أئمة المساجد ودار بيننا حوار قصير، انتهى بإقرار الرجل بأن ما يفعله أدبار
المكتوبات، إنما هو من البدع المحدثة، ووعد بالعمل على التخلص من تلكم البدعة
بالطريقة المناسبة.
وتمضي الأيام، وأعود للصلاة خلف ذلك الإمام، فإذا به يمارس البدعة ذاتها
التي تحاورنا بشأنها، ويبرر عكوفه عليها: بأن الناس لم يوافقوا على تركها! ! ؛
لقد كان يريد أن يقول بوضوح: دعني آكل (لقمة عيشي) .
لقد كان ذلك البلد فقيراً، ولكن المشكلة لا تخص بلداً بعينه، فالمرض منتشر
بين المسلمين، ولكن حجم (اللقمة) قد يختلف، كما أن الأعراض تختلف من بلد
إلى آخر، فتارة تتمثل في تمرير البدع، وتارة تكون غير ذلك..، وربما خفيت
الأعراض أحياناً.
إن مصيبتنا اليوم لم تقف عند حد (حب الدنيا وكراهية الموت) ، بل وصلت
بنا إلى حد (حب الترف وكراهية الشظف) ، وبذل كل شيء في سبيل هذا الحب
(العذري) الذي قلما يلام عليه العشاق.
وهكذا فلم تعد الضرورات الدنيوية -بل ولا الحاجيات- هي مناط الرخصة
في ارتكاب بعض المحظورات؛ ولكن نوافل التحسينيات اليوم تعد كافية عند فئام
من الناس لتبرير الذنوب.. وربما الموبقات.
كم هو مؤلم أن تفقد حدود الله هيبتها في القلوب إلى الحد الذي توضع فيه
الشريعة الغراء في كفة وتوضع الخميلة والخميصة في الكفة الأخرى، والأدهى
والأمرّ أن ترجح كفة العرض الدنيوي عند كثير من الناس.
لقد رجعت إلى القرآن العظيم فكان جلاءً لما أصابني من حزن، فحمدت الله
(تعالى) وطفقت أتلو قوله (عز وجل) : [مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ]
[الشورى: 20] .(97/111)
شوال - 1416هـ
مارس - 1996م
(السنة: 10)(98/)
كلمة صغيرة
مفارقة عجيبة
يعرف كل دارس للإسلام أن هذا الدين شامل للحياة كلها، وقد قامت دولة
الإسلام منذ بدايتها في المدينة النبوية على هدي الكتاب والسنة، واستمرت
وتواصل مداها حتى بلغ المشرقين، ولم يكن لها دستور سوى شريعة الله، ولم
يجرؤ مسلم على تبديلها حتى جاء الانقلاب الماسوني على يد (أتاتورك) عام 1924
م، حيث قرر فصل الدين عن الدولة، وقامت تركيا العلمانية بقوانينها المحادة لله،
في محاولة لإبعاد الإسلام عن التأثير في واقع أمتنا، وقامت فيما بعد لهذا الهدف
دول وأحزاب في شتى ديار الإسلام، لا هم لهم سوى إبعاد الإسلام عن الحياة،
لتجد الأفكار الملحدة والنظم المستوردة والأحزاب الكافرة قدماً لها في الديار
الإسلامية، وسُنت قوانين جائرة بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان لمنع هذا الدين
من العودة للحكم.
والعجيب أن يكون دين كهنوتي كالنصرانية يظلل الحياة في بعض الدول
كألمانيا وإيطاليا بالحزب المسيحي الديمقراطي، ولهذا الدين دولة معروفة تحكم
باسمه هي الفاتيكان لها سفاراتها حتى في كثير من ديار الإسلام، ولهم اجتماعات
تتدخل في شؤون بعض الدول، كما حصل في اجتماع كهنة (السنودس) الذي أشار
على الأحزاب اللبنانية بضرورة المشاركة في الانتخابات القادمة، أما في بلاد
الإسلام الديمقراطية! فويل، ثم ويل لأي جهة إسلامية أو عالم مسلم يتحدث عن
مثل هذه الأمور، لأنها لا تعنيه في زعمهم هكذا حياة المسلمين في زمن
(اللامعقول) ! .
والله المستعان(98/1)
افتتاحية العدد
وعد الله.. الإسلام قادم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن
اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد:
مرت على أمتنا الإسلامية في العقود الأخيرة أحداث جسام في شتى أقطارها،
وقد عانى بعض المسلمين من تلك الأحداث الكثير من الأذى والاضطهاد والتشريد
والقتل والحصار، مما يعرفه القاصي والداني.
ويقف أعداء الإسلام في الشرق والغرب حيال تلك الجرائم موقف المستهتر،
ولو أضير واحد من مواطنيهم لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها بصخب إعلامي كثيف،
فبينما يعاني المسلمون في البوسنة وفلسطين وكشمير وبورما والفلبين والشيشان من
القتل الجماعي، والتطهير العرقي، وتدمير القرى والمدن، نجد أولئك لا تعوزهم
الأعذار الباردة والحجج التافهة؛ بدعوى أن تلك الجرائم شؤون داخلية، أو أن
وراءها نفر من المتطرفين الإسلاميين، أو أن إنقاذ المعتدى عليهم سيرجح كفة
الصراع لمصلحة جهة دون أخرى! أما هيئة الأمم وبطرسها الأرثوذكسي، فهي
تزيد الطين بلة بقرارات مشبوهة وحلول جائرة، يكون المسلمون فيها غنيمة
للمعتدين، وما سلام (دايتون) عنا ببعيد.
إن هناك محاولات قائمة لإجهاض عودة الإسلام، ولكنها بإذن الله ستبوء
بالفشل.
إن أعداء الإسلام يقفون بكل وقاحة دون قيام أي توجه إسلامي يعمل للخروج
على الهيمنة الأجنبية، أو يحاول الاستقلالية وبناء القوة الذاتية للأمة، فيعملون
جاهدين على الإساءة إليه والتخويف من آثار توجهه بصورة فجة.
وحينما نتأمل في قضية (المجاهدين المسلمين) نجد تجسيداً للصورة السابقة،
فحين كان هؤلاء الشباب يَقُضّون مضاجع الجيش السوفييتي، ويخلخلون صفوفه،
ويذيقون قادته الأمرّين، كانوا هم الأبطال، بل الثوار - في عرفهم -! بل كانوا
يُمَدّون بالدعم، ويشجعون على مواصلة المقاومة للجيش الأحمر، الذي كان يقف
بكل غطرسة يتحدى الغرب وجيوشه، ويقف منهم موقف الند، ثم صار ذلك
الجيش أضحوكة العالم، وما لبث أن تداعت أركانه، فخرج يجر أذيال الخيبة
والهزيمة من أفغانستان. نعم، نحن لا نقول: إن المجاهدين الأفغان وحدهم هم
الذين أسقطوا الإمبراطورية السوفييتية؛ لأنها كانت تحمل عوامل فنائها بانحراف
أيديولوجيتها ودكتاتورية قادتها.
وبعد أن أدى المجاهدون دورهم في أفغانستان أصبحوا مغضوباً عليهم،
ومحلاً للاعتقال والقتل بدعوى كونهم إرهابيين ومتطرفين؛ مما أدى إلى ردود
أفعال مأساوية، وكان الأولى تلافيها بالأساليب (الحضارية) التي يدعي هؤلاء تبنيها، وهم الضاربون بها عرض الحائط.
ويتكرر الموقف مع مجاهدي البوسنة، وهم الذين حز في نفوسهم أن يقف
إخوانهم مسلمو البوسنة محرومين من السلاح، يتعرضون للعدوان الصربي
الأرثوذكسي الحاقد في ظل عدم المبالاة الدولية، فتداعى أولئك الشباب لنجدة
إخوانهم، ووقفوا ببسالة للدفاع معهم عن بيضة الإسلام وأعراض المسلمين
وممتلكاتهم، وقدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، فيما نحسبهم، ولا نزكي على
الله أحداً.
فماذا يضير الغرب من هؤلاء الفتية، الذين يؤدون واجب الجهاد وواجب
الأخوة الإسلامية [.. وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ..]
[الأنفال: 72] ، ماذا يضير الغرب من وجود أولئك النفر لولا أنه يخشى أن تعود للمسلمين دولتهم في قلب أوروبا التي ظن الغربيون أنهم أجهضوها (بمؤامرة دايتون) . ولاشك أن خوفهم من الجهاد والمجاهدين لخشيتهم من سريان هذه الروح في نفوس المسلمين بالفريضة الكبرى التي وصفها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنها ذروة سنام الإسلام، وحينها فلن يقدم أحد على محاولات إذلال المسلمين ومؤامرات القضاء على قوتهم وجعلهم شعوباً متفرقين لا تجمعهم رابطة العقيدة والعقيدة وحدها.
وبخلاف ذلك ستكون روابطهم قومية ومنطلقاتهم أيديولوجيات منحرفة، فهذا
ولا شك سيؤدي إلى السبات والتبعية والذلة، هذا الموقف لا يخفى على كل مسلم
أنار الله بصيرته بفهم هذا الدين من مصادره الأصيلة (كتاب الله وسنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم- بفهم سلف الأمة الصالحين) ومعرفة الواقع على حقيقته.
لكن ما يعجب له كل مسلم أن يقوم بذلك الدور في الإساءة إلى الإسلام ودعاته
ولمجاهديه نفر من أمتنا، هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، لكنهم يعملون بوحي من
أعداء الإسلام والمنضوين تحت لوائهم من رموز العلمانية المعروفين.
إن هؤلاء الشانئين يُعرفون بسيماهم، ويعرفون بلحن القول، ومن عملهم
المتواصل في الإساءة إلى الإسلام ودعاته بمناسبة وبغير مناسبة، وهم الذين يجب
أن يسموا بـ (منافقي العصر) سواء أكانوا من اليسار أو اليمين، ونلمس آثار ذلك
العداء القابع في صدورهم مما يسودون به صحفهم ومجلاتهم من حرب مستمرة ضد
الإسلام والمسلمين، تتمثل فيما يلي:
* دعواتهم المستمرة لمصادرة الرأي الإسلامي ومضايقة دعاته ورميهم كذباً
وزوراً بأنهم متطرفون وإرهابيون.
* التخويف المستمر من كل توجه إسلامي بدعوى أنه ظلامية وانحراف عن
الصواب! بينما يؤيدون كل ناعق من دعاة الباطل.
* العمل المتواصل والتشجيع المستمر لتغريب المجتمعات الإسلامية والدعوة
إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وادعاء أن أي دعوة لتحكيم الشريعة الإسلامية
في الحياة إنما هي في زعمهم تخلف ورجعية.
* حينما عرف الناس حقيقة دعاة الإسلام وكانوا محل ثقتهم وتأييدهم سمح
أولئك المشبوهون لنفرٍ من بني جلدتهم بالحديث باسم الإسلام لهدمه من الداخل.
* الغضب والحزن لفوز أي اتجاه إسلامي، سواءً أكان ذلك في انتخابات
عامة أو نقابية أو حتى تفوق أفراده، وإظهار البغض والحقد الكامن ضدهم بشكل
واضح.
إن الإسلام قادم بإذن الله وبوعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهما
حيكت المؤامرات من الأعداء، والتي ستفشل إن شاء الله؛ فحينما سقطت آخر
خلافة إسلامية يوم انحرفت عن الطريق الصحيح للعقيدة، فأسقطت ببساطة بمؤامرة
محبوكة الأطراف على يد الماسوني (أتاتورك) ، لكن الإسلام يعود اليوم من جديد
لتركيا ويفوز حزب الرفاه الإسلامي الاتجاه بالمركز الأول رغم الحرب الشعواء
ضده.
ورغم تحالف العلمانيين الذين كشروا عن أنيابهم وأبانوا موقفهم العدائي
المكشوف من الإسلام، إلا أن هذا الفوز ولا شك مؤشر على اتجاه وخطوة على
طريق طويل. وتحقيقاً لوعد الله فسيعود الإسلام، ليس إلى تركيا فقط، وإنما إلى
كل ديار الإسلام التي نُحيت فيها الشريعة الإسلامية..
سيعود الإسلام رغم أنف كل (منافقي العصر) من أدعياء العلمانية.
[وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
[النور: 55] .(98/4)
دراسات شرعية
فن الوعظ
أهميته وضوابطه
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
مدخل:
في لسان العرب: الموعِظة: النصح والتذكير بالعواقب [1] .
والوعظ هو: ذلك الأسلوب الذي يستخدمه الداعية إلى الله إذا أراد نصح
الناس وتذكيرهم بالعواقب، فيرغبهم في الحسنة وثوابها، ويرهبهم من السيئة
وعقابها، على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل.
ولا غنى للداعية عن استخدام أسلوب الوعظ في دعوته للناس وتربيته لهم،
فقد أمر الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، فقال (عز وجل) : [ادْعُ
إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..]
[النحل: 125] ، وقال (سبحانه وتعالى) : [.. وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً] [النساء: 63] ، كما أمر (تعالى) به رسله من قبل، فكان نهجهم في دعوتهم، قال (تعالى) : [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] [طه: 44] ، فالموعظة وسيلة الذكرى، وسبيل الخشية، والقرآن كله موعظة: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين]
[يونس: 57] .
فالوعظ أسلوب دعوي له أهمية بالغة في إصلاح القلوب، وتهذيب النفوس؛
ذلك أنه متعلق بطب الأرواح وعلاجها من أمراضها الفتاكة القاتلة، وإذا صلح
القلب صلح الجسد كله، فانبعثت الأعضاء بالأعمال الصالحة مصداقاً على الإيمان.
وكم يكون لكلمة الواعظ من الأثر البالغ في نفوس سامعيها، خاصة إذا نظرنا
لما تيسر في هذه الأزمان من وسائل وأدوات، تمكّن الواعظ المربي من إيصال
كلمته إلى الآلاف المؤلفة ممن لا تتهيأ لهم رؤيته ولا لقاؤه.
ظهور الوعاظ:
نظراً لأهمية الوعظ فقد حرص عليه النبي، وكان يتخول أصحابه بالموعظة، ثم حرص عليه الصحابة (رضي الله عنهم) عند تفرقهم في الأمصار، وكثرة
الداخلين في الإسلام، ثم شاع ذلك في عصر التابعين، وبرز منهم: الحسن
البصري (رحمه الله) ، فكان له مجلس يعظ الناس فيه.
ومع ظهور التأليف وُجد من اهتم بهذا الجانب وكتب فيه، كالإمام أحمد الذي
ألف كتاباً في الزهد، ومثله ابن المبارك وهناد ابن السري وغيرهما، وخصص
الإمام البخاري كتاباً في صحيحه أسماه: (الرقاق) ، ومثله الإمام مسلم الذي ضَمّن
صحيحه كتاباً بعنوان: (الزهد والرقائق) .
واهتم به من المتأخرين جمّ من العلماء كابن الجوزي، وابن القيم، وابن
رجب، وغيرهم كثير.
وفي أواخر عصر التابعين ظهر القصاص والوعاظ، ثم كثروا، وقلت
عنايتهم بالسنة، واختلط الحابل بالنابل، وصار بعض الوعاظ كحاطب ليل لا
يدري ما يقول، أصحيح أم باطل، صدق أم كذب؟ ! . كما ذكر ابن الجوزي:
(أن الوعاظ كانوا في قديم الزمان علماء فقهاء ... ثم خسّت هذه الصناعة، فتعرض
لها الجهال، فبَعُد عن الحضور عندهم المميزون من الناس، وتعلق بهم العوام
والنساء، فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص، وما يعجب الجهلة، وتنوعت
البدع في هذا الفن) [2] .
المخاطبون بالوعظ:
يحتاج الناس كلهم إلى المواعظ والتذكير، صغيرهم وكبيرهم، جاهلهم
وعالمهم، فاجرهم وتقيهم، ولو كان أحد في غنية عنها لكان أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتعهدهم بالمواعظ،
ويهذب نفوسهم بما يرقق قلوبهم، والشواهد من السنة متوافرة.
ولكن ينبغي أن يكون خطاب الناس على قدر عقولهم ومداركهم وعلومهم، فلا
يكون الخطاب واحداً لكل أحد؛ وذلك لسببين:
الأول: تفاوت الناس في الدرجات، وبالتالي في الواجبات؛ فقد يجب على
العالم ما لا يجب على الجاهل، ويجب على الغني ما لا يجب على الفقير، ويجب
على القادر القوي ما لا يجب على العاجز الضعيف، وهكذا..
الثاني: أن بعض الحديث يكون فتنة إذا كان مما يُساء فهمه، ولذا قال علي
(رضي الله عنه) : (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله
ورسوله؟ !) [3] ، أي: بما يفهمون، وفي بعض رواياته: (ودعوا ما ينكرون) ... أي: يشتبه عليهم فهمه، وقال ابن مسعود: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) [4] .
أساليب الوعظ:
لا تظن أن الوعظ لا يكون إلا بخطب رنانة، أو كلام مطوّل يُجمع له الناس، ويتهيؤون له، ثم تُطَأطأ الرؤوس ويبدأ الواعظ بسرد موعظته! ! فكل هذا غير
لازم؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعظ أصحابه بالخطبة، وقد يعظهم بما
يناسب الحال، فيذكرهم بحقارة الدنيا حين يرى جَدْياً أَسَكّ، ويذكرهم بنعيم الجنة
حين يعجب أصحابه من حلة حرير، ويذكرهم برحمة الله حين يرى امرأة تبحث
عن صبيّها في السبي، ثم تضمه وترضعه.
وهكذا ... فقد تكون الموعظة قصة تُسرد، أو مثلاً يُضرب، أو جملة تقال،
أو فعلاً يحتذى به، بدون تكلف أو تقعر.
ضوابط الوعظ:
في هذا العصر كثر في الوعاظ الاعتماد على الأحاديث الضعيفة أو
الموضوعة التي تُذْكَر بصيغة الجزم، وكذا: الاعتماد على القصص المحكية التي
لا زمام لها ولا خطام، كما نجد من يعتمد الوعظ أسلوباً وحيداً في الدعوة لا ثاني له، أو يُكثر من وَعْظ الناس كثرةً تملّهم ...
فلهذه الأمور ونحوها تبرز الحاجة الملحة للتنبيه على بعض الضوابط التي
ترد الأمر إلى نصابه، وتجعل الوعظ في صورته الشرعية البهيّة المؤثرة النافعة.
ومن هذه الضوابط ما يلي:
أولاً: الاعتماد على الكتاب والسنة:
يجب أن يكون اعتماد الواعظ في وعظه على كتاب الله (تعالى) ، وسنة
رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهما أصل كل موعظة، عن النواس بن سمعان
(رضي الله عنه) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (ضرب الله مثلاً
صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى
الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا
الصراط جميعاً ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح
شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، والصراط:
الإسلام، والسوران: حدود الله (تعالى) ، والأبواب المفتحة: محارم الله (تعالى) ،
وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله (عز وجل) ، والداعي فوق الصراط:
واعظ الله في قلب كل مسلم) [5] . والواعظ حين يحث الناس على أمر ويُحذّرهم
من آخر ينبغي أن يبين لهم الدليل، ولا يجعل حديثه مجرد أوامر ونواهٍ مجردة عن
الدليل، وعن ذكر المنافع أو المضار للشيء المأمور به أو المنهي عنه، وكل ذلك
مُتضمن في الكتاب والسنة، بالتأمل والتدبر لنصوصهما. فإذا ما أراد الواعظ أن
يُثري موعظته ويُبلغ كلامه فإن أمامه مواعظ يعجز الفصحاء عن مجاراتها،
وينقطع الحكماء دون محاكاتها، وأين كلام الله من كلام البشر، وأين كلام من لا
ينطق عن الهوى من كلام عامة البشر؟ !
وقد يعطي الله (تعالى) بعض خلقه لساناً فصيحاً وبياناً بليغاً، لكن الموعظة
منه لا تكمل دون الاستشهاد بالكتاب والسنة؛ فإن لهما أثراً وهيمنة على القلوب.
ثانياً: في الصحيح غنية عن الضعيف:
وعند اعتماد الواعظ الكتاب والسنة، فإنه سيجد في تفسير القرآن كثيراً من
الروايات الضعيفة، والإسرائيليات الموضوعة، وسيجد في كتب الحديث كثيراً من
الأحاديث التي لا تثبت، وحينئذ: فإن عليه الحيطة والحذر بمراجعة كلام أهل العلم
فيها، وهذا التحري دليل على صدق الواعظ؛ ففي حديث مسلم: (كفى بالمرء كذباً
أن يحدث بكل ما سمع) [6] . وقد كان حال الوعاظ في هذا الباب عجباً، فقد قلّ
فيهم العلم، وصدق في بعضهم قول ابن مسعود (رضي الله عنه) : (إنكم في زمان
كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وإن بعدكم زماناً كثير خطباؤه، والعلماء فيه
قليل) [7] ، وصار كثير منهم لا يهتمون بتمييز القصص والحكايات، فهمّهم الإتيان بالغريب من الأخبار، والعجيب من القصص؛ التي قد ينشدّ لها العوام والجهلة، وبلغ ببعضهم الحال إلى أن اقترن ذكره بالوضع في الحديث والكذب فيه؛ حسبة للأجر والثواب! ، أو تكسباً واسترزاقاً، وعدّهم أهل الحديث في جملة الوضاعين [8] .
وقد طفحت كتب المواعظ بالقصص المنكرة، والعجائب المختلقة، ولهذا حذر
الأئمة من أخبار القصاص ورواياتهم، فألف ابن تيمية كتاباً سماه: (أحاديث
القصاص) ، وألف السيوطي كتاباً سماه: (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص) ،
ولابن الجوزي: (القصاص والمذكرين) [*] ونحوها كثير.
ومن كتب الوعظ التي ينبغي الحذر منها، حيث كثر فيها الغث:
(الروض الفائق في المواعظ والرقائق) لأبي مدين الحريفيش، (وروض
الرياحين في حكايات الصالحين) لأبي السعادات اليافعي، و (قرة العيون ومفرح
القلب المحزون، وبستان العارفين، وتنبيه الغافلين) كلها لأبي الليث السمرقندي،
و (إحياء علوم الدين (لأبي حامد الغزالي [**] .
ولئن أجاز بعض السلف ذكر الحديث الضعيف في أبواب الفضائل، فإن هذا
ليس على إطلاقه؛ فقد شرطوا له شروطاً ثلاثة:
1- ألا يكون الضعف شديداً.
2- أن يكون الحديث مندرجاً تحت أصل عام.
3- ألا يعتقد عند العمل به ثبوته [9] .
ولا يخفى أن هناك فرقاً بين ذكر الحديث الضعيف والاحتجاج به؛ فإن ذكره
لا يعني إثبات حكم شرعي به [10] .
ثالثاً: تعهد الناس بالموعظة:
النفس تمل وتسأم فيضعف أثر التذكير فيها؛ وربما كرهته فلم يُنتفع به حينئذ؛ لذا: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لخبرته بالنفوس يتعهد أصحابه بالنصح
والتذكير، أياماً وأياماً، ولا يُكثِر عليهم؛ لئلاّ يملوا، وكذا كان صحابته الذين
تربوا على يديه يمتثلون ذلك، بل ويوصون به:
فعن عكرمة عن ابن عباس قال: (حدّث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت
فمرتين، فإن أبيت فثلاث مرات، ولا تُملّ الناس هذا القرآن، ولا ألْفينّك تأتي
القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه..) الحديث [11] .
وعن أبي وائل، قال: كان عبد الله يعني ابن مسعود يذكرّ الناس في كل
خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن: لوددت أنك ذكّرتنا كل يوم، قال:
(أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان
النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها؛ مخافة السآمة علينا) [12] .
فعلى الواعظ أن يتفرس في حال الموعوظين، ويتحيّّن نشاطهم ليقبلوا بقلوبهم، فينتفعوا بإذن الله (تعالى) . ولينظر الداعية في مدى تطبيقه لهذا المبدأ التربوي
العظيم، الذي تُحفظ به الأوقات، والجهود، ويُؤْمَنُ به من نفرة الناس وضجرهم،
وله في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير أسوة، فقد كان كما قال جابر بن
سمرة: (لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات) [13] ، وقالت
عائشة (رضي الله عنها) : (إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحدث حديثاً لو
عدّه العادّ لأحصاه) [14] .
رابعاً: الحذر من المبالغة، والتهويل، وتقنيط الناس:
اجتهاداً في محبة الخير للناس والخوف عليهم يقوم الواعظ أحياناً بتضخيم
جزاء السيئة، وعقوبة المعصية، فيزيد على الوارد فيها أحياناً، ويهول ويعظم
أخرى، حتى يخيل لسامعه أن عذاب الله نازل به لا محالة، وأنه لا توبة له، وأن
عمله الصالح لن ينفعه، وأنه لا حيلة له! ! .
وقد يحدث العكس أحياناً عند بعض الوعاظ، فيُهَوّنون من المعصية ويقللون
من شأنها! ! والمنهج الشرعي الوسط: الموازنة بين الترغيب والترهيب،
والخوف والرجاء، قال الله (تعالى) : [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ] [الحجر: 49، 50] .
ولهذا أثنى الله على عباده المؤمنين بجمعهم بين هاتين الصفتين الكريمتين،
فقال: [.. وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ..] [الإسراء: 57] ، وقالت
عائشة (رضي الله عنها (لعبيد بن عمير: (إياك وإملال الناس وتقنيطهم) [15] .
خامساً: البلاغة بلا تكلف:
كانت مواعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- بليغة غير متكلفة، فقد جاء في
حديث العرباض (رضي الله عنه) : (وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب ... ) [16] ، قال ابن
رجب: (والبلاغة في الموعظة مستحبة؛ لأنها أقرب إلى القلوب واستجلابها،
والبلاغة: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين
بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، وأوقعها في
القلوب، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقصر خطبتها، ولا يطيلها، بل كان يبلغ
ويوجز) [17] . وفي ظل اهتمام المتحدث ببلاغته في خطبته قد يجنح فيقع في
التكلف، يظنه بلاغة! .
ومن صور التكلف:
أ- التقوّل لما لا يعلم:
عن مسروق قال: (دخلنا على عبد الله بن مسعود، قال: يا أيها الناس من
علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، قال الله (عز وجل) لنبيه: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
المُتَكَلِّفِينَ] [18] .
ب - السجع:
في قول ابن عباس المتقدم: ( ... فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر
السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) ، قال الغزالي: (المكروه من السجع هو
المتكلف، لأنه لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية
لكنها غير متكلفة) [19] .
والحال في الموعظة بالنسبة للسجع كالحال في الدعاء، فإن فيه في الغالب
تكلفاً مُذْهِباً لرونق الموعظة وخشوعها، إلا الحسن منه، وهو: ما خلا من التكلف
والتكرار، وكانت الألفاظ المسجوعة حلوة المذاق.
ج - الثرثرة والتشدق والإطناب لغير حاجة:
الثرثرة تعني: كثرة الكلام تكلفاً وخروجاً عن الحق [20] ، عن جابر (رضي
الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن من أحبكم إليّ وأقربكم
مجلساً مني يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني يوم
القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون ... ) الحديث [21] .
فينبغي للواعظ أن يراعي في وعظه الحال من جهة الإيجاز والإطناب، وإن
كان الأصل: أن المواعظ تكون أميل إلى الإيجاز بعيداً عن التشدق والثرثرة،
واقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي نهى عن ذلك، وأخذاً بمنهج السلف في
ذلك، وقد تكون للإطناب حاجة من ضعف فهم السامعين، أو ظن الواعظ صعوبة
فهم ما ألقاه عليهم.
سادساً: استغلال المناسبات والأحداث:
كان -صلى الله عليه وسلم- يستغل المناسبة أو الحدث ولو كان يسيراً قد لا
يوقف عنده، ولا يؤبه به وينطلق من خلاله مربياً واعظاً، والشواهد كثيرة، منها:
قوله لما دخلت العشر: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه
العشر..) [22] .
قوله يوم النحر: (أي شهر هذا؟ ... فأي بلد هذا؟ ... فأي يوم هذا؟ ..) . ثم قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا؛ في
بلدكم هذا، في شهركم هذا ... ) [23] .
أُهديت له -صلى الله عليه وسلم- حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها،
ويعجبون من لينها، فقال: (أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ خير
منها ... ) [24] .
وهكذا ينبغي للواعظ؛ فلا يحدث الناس عن الزهد في الدنيا أو الموت وهو
في مناسبة زواج! ! أو يحدثهم عن فضل الفقير الصابر وهم أغنياء في زمن
سعة ... ونحو ذلك كثير.
وكم يخسر الواعظ حين تمر به مناسبة أو حدث، ويكون قد هيأ في نفسه
كلاماً من قَبْل ليعظ به الناس، فيلقي ذلك الكلام ويعرض عن استغلال تلك المناسبة! إنه يفوّت بذلك رصيداً من الفهم عند السامعين كان يمكنه تحصيله لو استغل تلك
المناسبة أو ذلك الحدث.
ويتحقق ذلك في أبهى صوره عندما يجمع الواعظ بين العلم والحكمة، فيقدر
لكل أمر قدره، ويعطيه ما يستحقه.
سابعاً: الهيمنة بالتأثير الوعظي على المخاطبين:
عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً
بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال
رجل: إن هذه موعظة مودع، فبماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: (أوصيكم
بتقوى الله، والسمع والطاعة ... ) الحديث.
وعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية ذات يوم
على المنبر: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] ورسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول هكذا بيده، ويحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا
الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله -
صلى الله عليه وسلم- المنبر حتى قلنا: ليخرّن به! !) [26] .
(ولا يتصف الواعظ الداعية بهذه الهيمنة والتأثير إلا أن يكون مخلص النية،
رقيق القلب، خاشع النفس ... وإلا فالمسؤولية كبيرة عند رب العالمين:
روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: قال رسول الله: (ما من عبد يخطب
خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة، ما أردت بها؟) قال: فكان مالك إذا حدثني
بهذا بكى، ثم يقول: أتحسبون أن عيني تقرّ بكلامي هذا عليكم، وأنا أعلم أن الله
سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به؟ ! ، أنت الشهيد على قلبي، لو أعلم أنه أحب
إليك، لم أقرأ على اثنين أبداً) [27] .
وفرق كبير بين داعية يتكلم بلسانه، وهو متصنع للكلام ليسبي به قلوب
الرجال، وبين داعية مخلص مكلوم القلب على الإسلام يتكلم بنبضات قلبه،
ولواعج حزنه وأساه) [28] .
قال ذرّ لأبيه عمر بن ذر: يا أبت: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد،
فإذا تكلمت يا أبتي سمعت البكاء من هاهنا وهاهنا؟ فقال: يا بني: ليست النائحة
المستأجرة كالنائحة الثكلى [29] . إن الموعظة المخلصة، إذا وجدت لها نفساً
صافية، وقلباً متفتحاً متدبراً، فإنها أسرع للاستجابة، وأبلغ في التأثير، وهذا
المعنى قد أكده القرآن في آيات كثيرة، كقوله (تعالى) : [إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن
كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] [ق: 37] وقال: [تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ
عَبْدٍ مُّنِيبٍ] [ق: 8] .
ثامناً: الاستشهاد بالقصة الصحيحة المؤثرة:
ينبغي للواعظ استخدام القصص الهادفة المؤثرة، فهي تشدّ السامع، وتقرّب
له الهدف، وهذا هو منهج القرآن، قال الله (تعالى) : [نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأِ مُوسَى
وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [القصص: 3] ، وهذه طريقة النبي -صلى الله
عليه وسلم-، والسيرة مليئة بقصص من كانوا قبلنا مما حكاه النبي -صلى الله عليه
وسلم- لأصحابه، كقصة الذين تكلموا في المهد، والثلاثة الذين أطبق عليهم الغار،
وقصة أصحاب الأخدود، وغيرها كثير.
ومن المسلّمات التربوية: أن التربية بالقدوة لها أثر عظيم، بل إنها تفوق
الكلام النظري بكثير، والقدوة قد تكون حاضرة مشاهدة، وقد تكون محكيّة
بالقصص، فلا عجب أن تكثر القصص كثرة كاثرة في كتاب الله (تعالى) وسنة نبيه.
ولكن لا بد من انتباه الواعظ إلى أمرين:
الأول: أن عليه كما سبق ذكره أن يتحرى الصحيح منها، ولا يذكر القصة
لذيوعها وانتشارها بين الناس، بل لثبوتها.
الثاني: أن عليه ألا يقف عند جزئيات الحوادث التاريخية وتفاصيلها، ويهمل
الدروس والعبر المستفادة منها، فإنها هي المقصودة من القصص، قال (تعالى) :
[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ..] [يوسف: 111] . ولكن ينبغي أن تكون الاستفادة
باستنباط الدروس والعبر بلا مبالغة ولا تهويل، بحيث لا يستنبط منها غير ما تنبئ
عنه، وبذلك توضع القصة في موضعها الصحيح.
تاسعاً: الوعظ في موضعه الصحيح:
ركز بعض الناس على التربية بالوعظ تركيزاً شديداً، وظنّ أنّ الوعظ هو
الوسيلة الوحيدة للبناء والتربية، والصحيح أن الوعظ باب مهم من أبواب التربية،
ولكنه ليس الباب الوحيد، فأبواب الدين كثيرة ولله الحمد، كالعلم والتعليم، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.. ونحوها. وهذه الأبواب
تكوّن بمجموعها وحدة واحدة متآلفة، ويجب إعطاء كل باب حقه الشرعي، في
وقته الشرعي دون إفراط أو تفريط.
كما أن الوعظ لا يعد نهاية المطاف، بل إن الهدف من الوعظ هو إعداد
النفس وتزكيتها، لتَحَمّل تكاليف هذا الدين، وتَعلّمِ أحكامه، وحَمْلِ رسالته.
__________
(1) لسان العرب، م6 ص4874.
(2) انظر: تلبيس إبليس، ص 123.
(3) البخاري، كتاب العلم، باب 49.
(4) مسلم، المقدمة، ص 11.
(5) رواه أحمد، ج4 ص182، وانظر صحيح الجامع، ح 4887.
(6) مسلم، ح 5، وعند أبي داود ح 4992: (كفى بالمرء إثماً) .
(7) أخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم، ص 109.
(8) انظر شرح الألفية للسخاوي، ج1، ص283.
(9) السابق: ج1ص313.
(10) انظر الفتاوى، ج18 ص 66.
(11) رواه البخاري، ح 6337.
(12) رواه البخاري، ح 70.
(13) رواه أبو داود، ح 1107، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح 979.
(14) البخاري، ح 3567.
(15) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، ج2 ص 128.
(16) صحيح سنن الترمذي، ح 1257.
(17) جامع العلوم والحكم، ج2 ص 111.
(18) رواه البخاري، ح 4809.
(19) الفتح، ج11 ص 143.
(20) لسان العرب، م1 ص 477.
(21) صحيح سنن الترمذي، ح 1642.
(22) رواه الترمذي، ح 757.
(23) رواه مسلم، ح 679.
(24) رواه البخاري عن البراء، ح 3802.
(25) رواه مسلم، ح 2957.
(26) وصحح أحمد شاكر إسناده، ح 5414.
(27) أخرجه في الصمت وآداب اللسان، ص295، رقم 514، وقال المنذري في الترغيب، ج1 ص 125: بإسناد جيد أهـ، والمرفوع في ضعيف الجامع، ح2502.
(28) تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، ج2 ص 715.
(29) الحلية، لأبي نعيم، ج5 ص 110.
(*) وقد شحن ابن الجوزي كتبه الوعظية بالأحاديث الموضوعة، والقصص الباطلة، كما ذكر ذلك السخاوي (شرح الألفية، ج1 ص277) ومن هذه الكتب: المدهش، وذم الهوى، والمواعظ والمجالس.
(**) ذكر ابن تيمية كتاب (الإحياء) فأنصفه، كما هو منهج أهل السنة، فذكر أن فيه فوائد في أعمال القلوب والأدب، لكن فيه مواد مذمومة فاسدة: من كلام الفلاسفة وأغاليط الصوفية، وفيه أحاديث موضوعة كثيرة، ويمكن الاستفادة بالكتاب مع تخريج الحافظ العراقي، ولكن ينبغي ألا يشتغل به إلا ذوو القدم الراسخ في العلم الشرعي.(98/8)
دراسات قرآنية
مصادر التفسير:
(3)
تفسير الصحابة للقرآن
- الحلقة الأولى -
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
بدأ الكاتب هذه السلسلة بالحديث عن مصادر التفسير، وبين المقصود بها، ثم
تحدث عن تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، محرّراً المصطلحات وذاكراً نماذج
من النصوص المندرجة تحتها، وحديثه في هذه الحلقة وما بعدها عن تفسير
الصحابة (رضي الله عنهم) .
- البيان -
الصحابة (رضوان الله عليهم) خِيَرَةُ الله (سبحانه) لرسوله -صلى الله عليه
وسلم-، جعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، وهم أرقّّ
الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأبعدهم عن التكلف، حفظ الله بهم الدين، ونشره بهم
في العالمين، وكانوا في علمه بين مُكْثرٍ ومُقلّ.
قال مسروق: (لقد جالست أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجدتهم
كالإخاذ (الغدير) ، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي
العشرة، والإخاذ يروي المئة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت
عبد الله ابن مسعود من ذلك الإخاذ) [1] .
ولِما كان لهم من الصحبة والقرب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ومعرفة أحواله، فإن لأقوالهم تقدّماً على غيرها عند أهل العلم، فتجدهم يعتمدون
عليها في بيان الدين، ويتخيّرُونَ من أقوالهم إذا اختلفوا، غير خارجين عنها إلى
غيرها [2] .
هذا، وقد تميّزت أقوالهم بالعمق من غير تكلّف، ومن نظر في تفسيراتهم
ووازنها بأقوال المتأخرين عَرَفَ صدق هذا القول.
ولقد كان من أبرز مَنْ أظهر هذه الفكرة، وبيّن ما للصحابة من مزيّة في
عباراتهم التفسيرية الإمامُ ابن القيم في كتبه، ومن ذلك قوله: ( ... فعاد الصواب
إلى قول الصحابة، وهم أعلم الأمّة بكتاب الله ومُراده) [3] .
أهمية تفسير الصحابة:
وقد ذكر العلماء أسباباً تدلّ على أهمية الرجوع إلى تفسيرهم، وهذه الأسباب
كالتالي:
1- أنهم شهدوا التنزيل، وعرفوا أحواله:
لقد كان لمشاهدتهم التنزيل، ومعرفة أحواله أكبر الأثر في علوّ تفسيرهم
وصحته، إذ الشاهد يدرك من الفهم ما لا يدركه الغائب.
وفي حجيّةِ بيان الصحابة للقرآن، فيما لو اختلفوا، قال الشاطبي: (وأما
الثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنّة، فهم أقْعَدُ في
فَهْمِ القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب
ذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
فمتى جاء عنهم تقييدُ بعض المطلَقات، أو تخصيص بعض العمومات،
فالعمل عليه على الصواب، وهذا إن لم ينقل عن أحدهم خلاف في المسألة، فإن
خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية) [4] .
ومعرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن؛ لأن الجهل بأسباب
النزول مُوقِعٌ في الشّبَه والإشكالات، ومُورِدٌ للنصوص الظاهرة مَورِدَ الإجمال حتى
يقع الاختلاف.
وإنما يقع ذلك؛ لأن معرفة أسباب النزول بمنزلة مقتضيات الأحوال التي يُفْهَمُ
بها الخطاب، وإذا فات نقل بعض القرائن الدّالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيءٍ
منه.
ومعرفة أسباب النزول رافعة لكل مشكلٍ في هذا النمط، فهي من المهمات في
فهم الكتاب بلا بدّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى مقتضى الحال [5] .
إن ممّا يدلّ على ما سبق من الكلام: ما رواه أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (أُتيَ برجلٍ من المهاجرين الأولين وقد
شرب الخمر فأمر به عمر أن يُجلد، فقال: لِمَ تجلدني؟ ! بيني وبينك كتاب الله،
قال: وفي أيّ كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ .
قال: فإن الله (تعالى) يقول في كتابه: [لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا..] [المائدة: 93] ، فأنا من الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله: بدراً، وأحداً، والخندق،
والمشاهد.
فقال عمر: ألا تَرُودّن عليه؟
فقال ابن عباس: هؤلاء الآيات نزلت عذراً للماضين، وحجّة على الباقين،
عذراً للماضين؛ لأنهم لَقُوا الله قبل أن حرّم الله عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛
لأن الله يقول: [.. إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ..] [المائدة: 90]
[المائدة: 90] . حتى بلغ الآية الأخرى) [6] .
فانظر كيف خفي على هذا البدريّ (رضي الله عنه) حكم هذه الآية لمّا لم يكن
يعلم سبب نزولها؟ وكيف لم تكن مشكَلة عند من علم سبب نزولها؟ فنزلها منزلتها، وبيّن معناها.
2- أنهم عرفوا أحوال من نزل فيهم القرآن:
يقول الشاطبي في بيان أهمية معرفة الأحوال في التفسير: (ومن ذلك:
معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم
يكن ثَمّ سبب خاص، لا بدّ لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في
الشّبه والإشكالات التي يتعذّر الخروج منها إلا بهذه المعرفة) [7] .
أ -ومن الأمثلة التي تدلّ على أهمية معرفة أحوالهم في التفسير: ما رواه
البخاري في تفسير قوله (تعالى) : [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..] [البقرة: 198] عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كانت عُكاظٌ ومجنّةٌ
وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثّموا أن يَتّجِروا في المواسم، فنزلت [لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..] في مواسم الحج) [8] .
أ- ومثله ما رواه البخاري عن عائشة (رضي الله عنهما) قالت: (كانت
قريش ومن دَانَ دينها يقفون المزدلفة، وكانوا يسمّون الحُمْسُ، وكان سائر العرب
يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي
عرفات، ثُمّ يقفَ بها، ثُمّ يُفِيِضَ منها، فذلك قوله (تعالى) : [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ النَّاسُ..] [البقرة: 199] [9] .
أ- ومثله ما رواه البخاري عن ابن المنكدر، قال: (سمعت جابراً (رضي الله
عنه) قال: كانت اليهود تقول: (إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت
[نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..] ) [10] .
3- أنهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن:
لما كان القرآن نزل بلغتهم، فإنهم أعرف به من غيرهم، وهم في مرتبة
الفصاحة العربية، فلم تتغيّر ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا في الفصاحة،
ولذا فَهُم أعرف من غيرهم في فهم الكتاب والسنة، فإذا جاء عنهم قول أو عمل
واقع موقع البيان صحّ اعتماده من هذه الجهة [11] .
كما أن ما نقل عنهم من كلام أو تفسير فإنه حجّة في اللغة، وفيه بيان لصحّة
الإطلاق في لغة العرب، قال ابن حجر: (استشكل ابن التين قوله [12] : (ناساً
من الجن) من حيث إن الناس ضدّ الجنّ.
وأجيب بأنه على قول من قال: إنه من نَاسَ: إذا تحرك، أو ذُكر للتقابل،
حيث قال: (ناس من الناس) ، (وناساً من الجن) ويا ليت شعري، على من
يعترض؟ !) [13] .
4- حسن فهمهم:
إن من نَظَرَ في أقوال الصحابة في التفسير متدبراً لهذه الأقوال، ومتفهماً
لمراميها، وعلاقتها بتفسير الآية، فإنه سيتبيّن له ما آتاهم الله من حسن البيان عن
معاني القرآن، من غير تكلّفٍ في البيان، ولا تعمّق في تجنيس الكلام، بل تراهم
يُلْقون الألفاظ بداهة على المعنى، فتصيب منه المراد.
وكان مما عزّز لهم حسن الفهم: ما سبق ذكره من الأسباب التي دعت إلى
الرجوع إلى تفسيرهم من: مشاهدة التنزيل، ومعرفة أحوال من نزل فيهم القرآن،
وكونهم أصحاب اللسان الذي نزل به القرآن، مع ما لهم من معرفة بأحوال صاحب
الشريعة -صلى الله عليه وسلم-، مما كان يعينهم على فهم المراد وحسن الاستنباط، قال ابن القيم: (قال الحاكم أبو عبد الله، في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم
طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، عند الشيخين
حديث مسند) [14] .
وقال في موضع آخر من كتابه: (هو عندنا في حكم المرفوع) [15] .
وهذا وإن كان فيه نظرٌ، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم،
فهم أعلم الأمة بمراد الله (عز وجل) من كتابه؛ فعليهم نزل، وهم أول من خوطب
به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول -صلى الله عليه وسلم- علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يُعدَلُ عن تفسيرهم ما وجد إليه
سبيل) [16] .
إن هذه المزيّة تُوجِبُ على دارسِ التفسير أن يرجع إلى أقوالهم، وأن يَفْهَم
تفسيراتِهم، ليَعْتَمِد عليها في التفسير، ويبنيَ عليها مسائل الآيات وفوائدها.
غير إن كثيراً ممن يَدْرُسُ التفسير أو يُدَرّسُه لا يهتم بإيراد أقوال
الصحابة [17] ، وكثيراً ما تراه يكتفي بأن ينسب التفسير إلى المتأخرين من المفسرين كالزجاج والزمخشري وابن عطية والقرطبي وأبي حيان وابن كثير ... وغيرهم.
إن في هذا المسلك ما يقطعُ على طالب العلم شرف الوصول إلى علوم هؤلاء
الصحابة وأفهامهم، بل قد يجعله ينظر إلى أقوالهم نظر المقلّلِ من شأنها، ويرى أن
تفسيراتهم سطحيّة، لا عمق فيها، ولا تقرير! ! .
وهذا خطأ مَحْضٌ، ومجانبة الصواب، وإنما كان سبيل أهل العلم الراسخين
فيه أنهم (يتكثّرون بموافقة الصحابة) ، وانظر كم الفرق بين أن يُقال: هذا قول ابن
عباس في الآية، أو يقال: هذا قول الزجاج أو ابن عطية أوغيرهم في الآية.
فانظر إلى ما ستميل إليه نفسك؟ ، وأي قول سيطمئن له قلبك؟ .
5- سلامة قصدهم:
لم يقع بين الصحابة خلافٌ يُؤَثّر في علمهم، بحيث يوجّه آراءهم العلمية إلى
ما يعتقدونه، وإن كان مخالفاً للحق، بل كان شأن الخلاف بينهم إظهار الحق، لا
الانتصار للنفس أو المذهب الذي ذُهِبَ إليه.
لقد ظهر خلاف أمرهم في الخلاف فيمن بعدهم من أصحاب العقائد الباطلة؛
كالخوارج، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، فظهر في أقوالهم مجانبةُ
الحق، وكثر الخلاف بسبب كثرة الآراء الباطلة، مما جعل القرآنَ عُرضةً
للتحريف والتأويل، إذ كلّ يصرفه إلى مذهب، وهذا مما سلم منه جيل الصحابة،
فلم يتلوّث بمثل هذه الخلافات.
ولهذا جاء تفسيرهم بعيداً عن إشكالات التأويل، وصرف اللفظ القرآني إلى ما
يناسب المذهب، أو غيرها من الانحرافات في التفسير.
__________
(1) المدخل إلى السنن الكبرى، ص 16.
(2) انظر: المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، ص109 110.
(3) انظر: بدائع التفسير، ج2 ص216، وج3 ص313، 402، 404، وشفاء العليل، ص54.
(4) انظر: الموافقات بتحقيق محيي الدين عبد الحميد، ج3 ص 218 219.
(5) الموافقات، ج3 ص 225 (بتصرف) .
(6) الدرر المنثور، ج3 ص 161، وانظر: المستدرك.
(7) الموافقات، ج3 ص 229، وقد أحال في هذه المسألة على النوع الثاني من المقاصد (ج2ص44) ، والموافقات، ج3 ص 227.
(8) انظر: فتح الباري، ج8 ص34.
(9) انظر: فتح الباري، ج8 ص 35.
(10) انظر: فتح الباري، ج8 ص 37.
(11) انظر: الموافقات، ج3 ص 218.
(12) يعني ابن مسعود (رضي الله عنه) .
(13) فتح الباري، ج8 ص249.
(14) المستدرك، ج2 ص258.
(15) المستدرك.
(16) بدائع التفسير، ج3 ص404.
(17) وأيضاً التابعين وأتباعهم ممن لهم عناية بالتفسير.(98/20)
مقال
مسألة القدر المشترك
من خلال كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية
وأثرها في الإيمان بالغيب
بقلم: سامي السويلم
مما فطر الله عليه الخلق: القدرة علي الجمع بين المتشابهات، والتفريق بين
المتغايرات؛ فالطفل مثلاً: يدرك أن أباه (رجل) ، كما أن عمه كذلك، وإمام
المسجد كذلك،.. وهكذا، لكنه يدرك أيضاً إن أباه ليس عمه، وليس إمام الحي،
أي إن الأب والعم والإمام يشتركون في بعض الخصائص، كالرجولة، لكنهم
يختلفون في أشياء كثيرة. ولفظ (رجل) يقتصر على معنى يشترك فيه هؤلاء، أي: على (قدر مشترك) بينهم.
ومن زار مكة وطيبة والرباط يجد قواسم مشتركة بين هذه المدن، وبموجب
هذا الاشتراك نطلق على كل منها لفظ (مدينة) ، فهذه مدينة الرباط، ومدينة مكة،
ومدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مع أننا ندرك جيداً الاختلاف الكبير بين
هذه المدن؛ فلفظ (مدينة) إذن يشير إلى معنى موجود في كل من هذه المدن الثلاث، وإن اختلفت فيما بينها، حتى في درجة المدنية وتطورها.
ونحن نرى الثلج فنجده أبيض، ونرى السحاب والبيض، فنجد كل واحد
منهما أبيض، مع أن بياض الثلج يختلف عن بياض السحاب، عن بياض
البيض،.. وهكذا. أي إن لفظ (أبيض) يدل على معنى مشترك بين صفة البياض في هذه الأشياء، وإن تفاوت مقدار هذا المعنى من شيء إلى آخر.
من الأمثلة المتقدمة نستنتج أن الله (تعالى) وهب العقل البشري قدرة فذة على
إدراك أوجه الشبه بين أشياء متغايرة ومتباينة، كما ألهمه استعمال ألفاظ تسمى:
(الألفاظ المتواطئة) تشير إلى المعاني المشتركة، دون أن يستلزم ذلك انتفاء المغايرة
أو التفاوت بين ما تطلق عليه هذه الألفاظ، فهذه المعاني المشتركة هي ما يسمى:
(القدر المشترك) ، ويسمى التفاوت الحاصل: (القدر المميّز) ، وهذه القدرة، التي
تبدو لنا بدهية، هي في نظري خاصة بديعة، تشهد لخالقها بالعظمة والجلال.
إن هذه المقدمة البدهية، التي قد لا يجد القارئ لأول وهلة جديداً فيها، تمثل
أساساً مهمّاً تصاغ من خلاله عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد العلم والقول،
وكون القارئ لا يجد فيها جديداً يؤكد انفراد عقيدة أهل السنة والجماعة بالجمع بين
اليسر والعمق.
توظيف القدر المشترك في إدراك الغيب:
فالإنسان يستطيع أن يستخدم هذه الخاصية في إدراك أشياء لم يرها قط، ولم
يعاينها من ذي قبل: فإذا سمع الطفل مثلاً عن (رجل) ينظم سير السيارات يسمى
(رجل المرور) ، أدرك شيئاً من صفاته، وإن لم يكن قد رآه من قبل، وإن لم
يستوعب صفته كما يستوعب صفة أبيه وعمه وإمام المسجد؛ فهو يدرك أن رجل
المرور فيه شبه من أبيه وعمه وإمام الحي، وهذا الشبه استنتجه الذهن من لفظ
(رجل) الذي يطلق أيضاً على هؤلاء.
وهكذا: إذا سمعنا عن مدينة لم نرها من قبل (طنجة مثلاً (فستتكون لدينا
صورة عن هذه المدينة، استطعنا أن نرسم هذه الصورة من معرفتنا للفظ (مدينة) ،
فهذا اللفظ نعلم أنه يدل على معانٍ مشتركة توجد في مكة وطيبة والرباط. لكن
الصورة تظل عامة لأننا ندرك أنه كما اختلفت الرباط عن مكة عن طيبة، فقد
تختلف طنجة عن هذه المدن، وتتميز عنها بما لا يوجد في المدن الأخرى.
إذن، فالعقل البشري يدرك أوجه الشبه بين الأشياء التي يراها ويخبرها،
ويطلق على هذه الأوجه والمعاني المشتركة ألفاظاً مطلقة، فإذا سمع هذا اللفظ
مضافاً إلى شيء لم يره من قبل أدرك ثبوت القدر المشترك لذلك الشيء الغائب،
دون أن يستلزم ذلك نفس ما قد يوجد من أوجه الاختلاف أو التفاضل بينه وبين ما
رآه من قبل.
أثر المسألة في الإيمان بالغيب:
ويدخل في ذلك ما أخبرنا به الله (تعالى (ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مما
لم نشاهده وذلك مثل: - الصفات الإلهية، والجنة والنار، والصراط، والحوض،
والميزان، والملائكة والروح، ... ونحوها، فكيف يمكن أن يدرك العقل البشري
صفةَ ما غاب عنه، وهو لم يره قط؟ ! .
الجواب يتلخص في تلك الخاصية الفذة التي وهبها الله (تعالى) للعقل البشري؛ فنحن نفهم معنى (أجنحة) في قول الله (تعالى) : [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ..] [فاطر: 1]
مما تكون لدينا من معنى عام للفظ (جناح) في إطلاقاته المألوفة لدينا: فهناك جناح
النسر، وجناح الحدأة، وجناح الحمام، وجناح العصفور، وجناح الذباب، وجناح
البعوض.
فمن هذه الاستعمالات المختلفة للفظ (جناح) يستنتج الذهن معنًى عامّاً، هو
القدر المشترك بين مدلوله في تلك الأشياء المختلفة التي رأيناها وعرفناها، فإذا
أخبرنا الله (تعالى) أن للملكِ جناحاً، استنتج الذهن مفهوماً عامّاً مطلقاً عن جناح
الملك من خلال إثبات ذلك القدر المشترك الذي استخلصناه من استعمالات هذا اللفظ
فيما نشاهده، لكن المفهوم يظل مطلقاً لأننا ندرك أن طبيعة الملك تختلف عن طبيعة
الطيور والإنسان وسائر ما قد يستعمل له لفظ (جناح) فيما نشاهده من مخلوقات،
تماماً كما تختلف هذه المخلوقات التي نشاهدها فيما بينها، مع ثبوت القدر المشترك
للفظ فيها جميعاً، وكلما كان الإنسان أكثر إحاطة بهذا الاختلاف في المشهودات،
مع ثبوت القدر المشترك بينها، كان أكثر قدرة على إدراك الاختلاف بينها وبين ما
غاب عنه مما وصف باللفظ نفسه.
وكذلك القول في سائر أوصاف الملائكة، كالصعود والنزول والكلام وغيرها، بل وفي سائر أمور الغيب.
ولأدع الحديث لشيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) حول هذه النقطة:
(وتمام الكلام في هذا الباب أنك تعلم: أنا لا نعلم ما غاب عنا إلا بمعرفة ما
شهدناه، فنحن نعرف أشياءً بحسّنا الظاهر أو الباطن [1] وتلك معرفة معينة
مخصوصة، ثم إنا بعقولنا نعتبر الغائب بالشاهد، فيبقى في أذهاننا قضايا عامة
كلية، ثم إذا خوطبنا بوصف ما غاب عنا لم نفهم ما قيل لنا إلا بمعرفة المشهود لنا، فلولا أنا نشهد من أنفسنا جوعاً وعطشاً وشبعاً وريّاً، وحبّاً وبغضاً، ولذةً وألماً،
رضًى وسخطاً، لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا ذلك وأخبرنا به عن
غيرنا، وكذلك لو لم نعلم ما في الشاهد: حياةً، وقدرةً، وعلماً، وكلاماً، لم نفهم
ما نخاطب به إذا وصف الغائب عنا بذلك، وكذلك لو لم نشهد موجوداً لم نعرف
غائباً) .
(فلا بد فيما شهدناه وما غاب عنا من قدر مشترك هو مسمى اللفظ المتواطئ، فبهذه الموافقة والمشاركة والمشابهة والمواطأة نفهم الغائب ونثبته، وهذا خاصة
العقل، ولولا ذلك لم نعلم إلا ما نحسه، ولم نعلم أموراً عامة ولا أموراً غائبة عن
أحاسيسنا الظاهرة والباطنة، ولهذا من لم يحس الشيء ولا نظيره لم يعرف حقيقته) .
(ثم إن الله (تعالى) أخبرنا بما وعدنا به في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح ويفرش وغير ذلك، فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك
في الدنيا لم نفهم ما وعدنا الله به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست مثل
هذه حتى قال ابن عباس (رضي الله عنه) : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وهذا تفسير قوله: [.. وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً..] [البقرة: 25] على أحد الأقوال.. فبين هذه الموجودات في الدنيا وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة من
بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد وأحببناه ورغبنا فيه، أو أبغضناه ونفرنا عنه.
وبينهما مباينة ومفاضلة لا يُقدّر قدرُها في الدنيا ... ) .
(فإذا كان هذا في هذين المخلوقين، فالأمر بين الخالق والمخلوق أعظم،
فإن مباينة الله لخلقه وعظمته وكبريائه وفضله: أعظم وأكبر مما بين مخلوق
ومخلوق، فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق،
بينهما من التفاضل والتباين ما لا نعلمه في الدنيا ... فصفات الخالق (عز وجل)
أولى أن يكون بينها وبين صفات المخلوق من التباين والتفاضل ما لا يعلمه إلا الله
(تبارك وتعالى) ... [و] قد علمنا بطريق خبر الله (عز وجل) عن نفسه ... أن الله
يوصف بصفات الكمال، موصوف بالحياة والعلم والقدرة ... ولولا أن هذه الأسماء
والصفات تدل على معنى مشترك كلي، يقتضي من الموافقة والمشابهة ما به تُفهم
وتُثبت هذه المعاني لله: لم نكن قد عرفنا عن الله شيئاً. ولا صار في قلوبنا إيمان
به، ولا علم ولا معرفة ولا محبة، ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله ومحبته
وتعظيمه؛ فإن جميع الأمور لا تكون إلا مع العلم، ولا يمكن العلم إلا بإثبات تلك
المعاني التي فيها من الموافقة والمواطأة ما به حصل لنا ما حصل من العلم لما غاب
عن شهودنا) .
(ومن فهم هذه الحقائق الشريفة والقواعد الجليلة النافعة حصل له من العلم
والمعرفة والتوحيد والإيمان، وانجاب عنه من الشبه والضلال والحيرة ما يصير به
في هذا الباب من الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ومن
سادة أهل الإيمان ... ) إلى آخر كلامه (رحمه الله) ، وهو نفيس للغاية [2] .
أدلة الكتاب والسنة على إثبات القدر المشترك:
ليس المقصود هنا الاستدلال على إثبات قدرة العقل على استخلاص القدر
المشترك، فهذه خاصة بدهية، إنما المقصود الاستدلال على أن الله (تعالى) أثبت
في القرآن وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- القدر المشترك بين الصفات
الإلهية وصفات المخلوقين، كما أثبت القدر المميّز بينهما، وقد جاءت الأدلة على
أنواع:
1- أول هذه الأنواع: ما ذكره الأئمة مما وقفت عليه كابن خزيمة في
التوحيد [3] ، وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على المريسي [4] ، وابن ت يمية في مواضع متعددة من كتبه، كالرسالة التدمرية وغيرها، قال (رحمه الله) : (فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بأسماء، وليس المسمى كالمسمى، فسمى نفسه حيّاً عليماً قديراً، ورؤوفاً رحيماً، عزيزاً حكيماً، سميعاً بصيراً ... كقوله: [اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ] ، وقوله: [إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] .
وقال: -[وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ، وقال: [وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] .
وقد سمى بعض عباده حيّاً فقال: -[يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ
مِنَ الحَيِ] ، وبعضهم عليماً بقوله: [وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ] ، وبعضهم حليماً
بقوله: [فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ] ، وبعضهم رؤوفاً رحيماً بقوله: [بالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] ، وبعضهم سميعاً بصيراً بقوله: [فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً] .
ومعلوم أنه لا يماثل الحيّ الحيّ، ولا العليمُ العليمَ، ولا العزيز العزيزَ، ولا
الرؤوف الرؤوفَ، ولا الرحيمُ الرحيمَ) [5] .
2- عطف الخلق على الرب (تعالى) في مقام الفاعل. وذلك في مثل قول الله
(تعالى) : [شهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ] ، وقوله: [وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاً صَفاً] ، وقوله: [هلْ يَنظُرُونَ إلاَّ أَن يَاًتِيَهُمُ اللَّهُ فِي
ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ] ، وقوله: [كَبُرَ
مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] ونحوها.
فعطف الخلق على الرب (تعالى) في مقام الفاعل دليل على اشتراكهما في
أصل الفعل، وإلا لما صح العطف، فلا يصح أن يقال: شهد زيد وعمرو، أو:
جاء زيد وعمرو، وزيد لم يشهد أو لم يجئ، بل لا بد من أن يكون الجميع قد شهد
وجاء، وإن كانت شهادةُ أحدهما أو مجيئُه قد تفضل شهادةَ الآخر ومجيئَه، ومما
يوضح ذلك: أن الله (تعالى) عطف أولي العلم على الملائكة في قوله: [شهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ] فدل على اشتراكهما في أصل الشهادة،
مع أن شهادة أولي العلم ليست مماثلة لشهادة الملائكة، فكذلك شهادة هذين لا تماثل
شهادة الرب (تعالى) ، وإن اشتركوا في أصل المعنى.
3- الجزاء من جنس العمل، مثل قوله (تعالى) : -[هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ
الإحْسَانُ] ، وقوله: [وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ] ، وقوله: [وَإن تَعُودُوا نَعُدْ] وقوله: [وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ] ، وقوله: [يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ] ، وقوله: -[كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى] ، وقوله:
[نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ] ، وقوله: [وَقِيلَ اليَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا] ،
وقوله: [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ] ، وقوله: [وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا
مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]
وفي صحيح البخاري قوله (عليه الصلاة والسلام) : (لا توعي فيوعي الله عليكِ) ،
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو
(رضي الله عنهما) أن النبي قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في
الأرض يرحمكم من في السماء) ، ونحوها.
إثبات القدر المشترك ليس تمثيلاً:
قد يتبادر للذهن أن في إثبات قدر مشترك بين صفات الرب (جل وعلا)
وصفات المخلوقين تشبيه أو تمثيل لصفات الله (تعالى) بصفات خلقه، ويخلط كثير
من الناس في هذا المقام بين مفهوم (التمثيل) ومفهوم (التشبيه) . فالأول هو الذي
نفته النصوص الشرعية، كقوله (تعالى) : [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] . بخلاف لفظ (التشبيه) فإنه لفظ مجمل، قد يراد به التمثيل، وقد يراد به ما
ليس تمثيلاً، وقد فرّق (تعالى) بينهما في قوله: [وَقَالَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا
اللَّهُ أَوْ تَاًتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ] . قال شيخ
الإسلام: (فوصفَ القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل، فإن القلوب وإن
اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي: (الحلال بيّن والحرام
بيّن وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس) ، فدل على أنه يعلمها بعض
الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة بل بعضها حرام وبعضها حلال) [6] .
فالتشابه، إذا أطلق، يتضمن الموافقة من بعض الوجوه دون بعض، أما
المماثلة فهي الموافقة من جميع الوجوه، بحيث يستوي الشيء ومثله في كل جانب
ويجوز ويمتنع على أحدهما من الخصائص واللوازم. فالمحذور شرعاً هو التمثيل،
أما (التشبيه) فإن أريد به التمثيل فهو ممتنع، وإن أريد به الموافقة من بعض
الوجوه دون بعض فليس في ذلك محذور، وذلك أن (جماهير العقلاء يعلمون أنه ما
من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفس ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل
والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذي قام الدليل
على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله (سبحانه وتعالى) إذ هو
(سبحانه) ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله) [7] .
(وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا
يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع. وإذا قيل هذا حي
عليم قدير، وهذا حي عليم قدير، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير، لم
يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلاً لهذا المسمى من كل وجه، بل هنا ثلاثة
أشياء:
أحدها: القدر المشترك الذي تشابها فيه، وهو معنى كلي لا يختص به
أحدهما، ولا يوجد كليّاً عامّاً إلا في علم العالم [8] .
الثاني: ما يختص به هذا، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم
والقدرة.
الثالث: ما يختص به ذاك، كما يختص به العبد، من الحياة والعلم والقدرة،
فما اختص به الرب (عز وجل) لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من
النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب،
ولا يستحق شيئاً من صفات الكمال التي يختص بها الرب (عز وجل) . وأما القدر
المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان، فهذا لا يستلزم خصائص الخالق
ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه لا محذور فيه) [9] .
(والقدر المشترك المطلق، كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك، لا يلزمه
شيء من صفات النقص الممتنعة على الله (تعالى) ، فما وجب للقدر المشترك لا
نقص فيه ولا عيب. وما نُفي عنه فلا كمال فيه، وما جاز له فلا محذور في جوازه. وأما ما يتقدس الرب (تعالى) ويتنزه عنه من النقائص والآفات، فهي ليست من
لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلاً، بل هي من خصائص المخلوقات
الناقصة، والله (تعالى) منزه عن كل نقص وعيب، وهذه معانٍ شريفة بُسطت في
غير هذا الموضع) [10] .
نفي القدر المشترك يستلزم الإلحاد [*] :
ومما يوضح ذلك أنه (ما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور، ولو
أنه في كونهما موجودين، وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل
منهما) [11] ، فلو نفى أحدٌ القدر المشترك بين صفات الرب (تعالى) وصفات الخلق، ظنّاً منه أن ذلك من التمثيل أو التشبيه المحظور، لزمه نفي وجود الرب (تعالى) بالكلية، (فإن من نفى بعض ما وصف الله به نفسه، كالرضا والغضب والمحبة والبغض ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم، قيل له: أنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تُثبته ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما أثبتَّه مثل قولك فيما نفيته وأثبتَهَ الله ورسوله، إذ لا فرق بينهما.
فإن قال: أنا لا أثبتُ شيئاً من الصفات.
قيل له: فأنت تثبتُ له الأسماء الحسنى، مثل: حي وعليم وقدير، والعبد
يتسمى بهذه الأسماء، وليس ما تثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما تُثبت للعبد،
فقل في صفاته نظير قولك في أسمائه.
فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول: هي مجاز، أو هي
أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة.
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه،
وليس هو مماثلاً) [12] .
فليس له بعد ذلك إلا أن يقول: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الرب
(تعالى) ، وإلا كان متناقضاً، وهذا هو الإلحاد، ولو قال ذلك (قيل له: فمن المعلوم
بالمشاهدة والعقل وجودُ موجودات، ومن المعلوم أيضاً أن منها ما هو حادث بعد أن
لم يكن، كما نعلم أنا حادثون بعد عدَمِنا، وأن السحاب حادث، والمطر والنبات
حادث ... ومن المعلوم بالضرورة أن الحادث بعد عدمه لا بد له من مُحدِث، وهذه
قضية ضرورية معلومة بالفطرة ... ولهذا قال (تعالى) : [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ] ... والمحدَث لا بد له من قديم ... والممكن لا بد له من
واجب ... فقد لزم أن الوجود فيه موجود قديم واجب بنفسه، وموجود ممكن محدَث كائن بعد أن لم يكن، وهذان قد اشتركا في مسمى الوجود) [13] .
(فعُلم بهذه البراهين البينة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه، فمن نفى ما
اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً للباطل،
والله أعلم) [14] .
تطبيقات المسألة في العصر الحاضر:
غني عن القول أن أهمية موضوع المقال تنبع من أهمية فهم العقيدة الإسلامية
واستيعابها، لكن من المفيد أيضاً أن ننظر كيف يمكن الاستفادة من منهج أهل السنة
والجماعة في هذا الباب في العصر الحاضر.. هناك مجالات متعددة، لكني
سأقتصر على واحد من هذه المجالات، وهو مجال الإعجاز العلمي في القرآن
والسنة.
إن الفكرة الأساسية في مشروع الإعجاز العلمي هي النظر في بعض
النصوص الشرعية التي تناولت المظاهر الكونية في ضوء الاكتشافات الحديثة،
ولكي يسير المشروع في طريقه الصحيح، دون الوقوع في خطأ تحميل النص ما لا
يحتمل، فلا بد من فهم النص في ضوء قواعد التفسير وأصوله التي سلكها السلف
الصالح (رضي الله عنهم) ، والنصوص التي تناولت المظاهر الكونية قبل أن يعلم
الإنسان حقيقة هذه المظاهر وماهيتها تدخل في دائرة نصوص الغيب، ومن هنا:
فإن الحاجة إلى اتباع منهج السلف في هذا الباب ملحة لكي يأمن الباحث في هذا
المجال من ليّ النصوص أو تأويلها لكي توافق الاكتشافات العلمية المعاصرة، ومتى
أحسن تطبيق هذا المنهج، ستكون النتيجة نصراً مضاعفاً؛ فالاكتشاف العلمي
سيكون دليلاً جديداً على إعجاز القرآن، وفي الوقت نفسه دليلاً على سداد منهج
أهل السنة والجماعة.
مثالٌ على ذلك أذكر قوله (تعالى) : [بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ] ، فهذا البرزخ
كان غيباً لمن نزل عليهم القرآن، ومقتضى منهج السلف أن يُثبت لهذا البرزخ
القدرُ المشترك للفظ (برزخ) المعلوم مما نشهده مما يطلق عليه اللفظ، مع الامتناع
عن الجزم بمماثلته لشيء من ذلك، ثم تبين لنا الآن طبيعة هذا البرزخ، وشهد
الجميع فعلاً ثبوت القدر المشترك للفظ فيه، مع مغايرته لكل ما عرفناه سابقاً.
إن هذه النتيجة لم يكن الوصول إليها ممكناً لو سلكنا سبل الفرق الإسلامية
التي اعتمدت التأويل منهجاً لها كلما وجدت ظاهر النص مخالفاً لما تقرر عندها من
مسلمات باطلة في كثير من الأحيان، ومن جهة أخرى: فإن منهج السلف في هذا
الباب يضمن حماية النص من أي خطأ في تنزيله على الاكتشافات العلمية الحديثة،
فغاية ما هنالك حينئذ أن الباحث أخطأ في تحديد (كيفية) النص، أو (القدر المميز)
الذي تضمنه، أما (المعنى) أو (القدر المشترك) فهو باق لم يطرأ عليه شيء. إن
مثل هذا المنهج هو الأسلوب الوحيد، في نظري، للجمع بين الحفاظ على تعظيم
القرآن (وما يتبع ذلك من احترام خير القرون وما أثر عنهم في تفسيره) واقتحام
ميادين جديدة للبحث عن إعجاز القرآن العظيم.
__________
(1) الحس الظاهر كالجوع والعطش، والباطن كالحب والبغض، كما يذكر ذلك بعد أسطر.
(2) شرح حديث النزول، الفتاوى: ج 5، ص 346 351، وانظر: درء التعارض ج 6، ص 123 125.
(3) التوحيد: ج 1، ص 59 81.
(4) الرد على المريسي: ص 400 401.
(5) منهاج السنة: ج 2، ص 112 113.
(6) الجواب الصحيح، ج 3 ص 446.
(7) درء التعارض، ج 5 ص 227.
(8) أي في الذهن وليس في الخارج (10) منهاج السنة.
(11) درء التعارض، ج5 ص 183.
(12) منهاج السنة، ج2 ص 115116.
(13) الفتاوى، ج5 ص 357 359.
(14) منهاج السنة، ج2 ص 117.
(*) المراد بالإلحاد هنا: الإلحاد في أسماء الله وصفاته بمعنى الميل بها والعدول عن الحق الثابت له - تعالى -.(98/26)