أنشطة المنتدى
التقرير السنوي لأنشطة المنتدى الإسلامي
يسرنا في هذا العدد تقديم تقرير شامل لأنشطة المنتدى الإسلامي التي تمت
بعون الله وتوفيقه، ثم بتعاونكم وتشجيعكم، سائلين الله تعالى أن يبارك في جهودكم، وأن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى، ويسعدنا أن نستفيد من
آرائكم واقتراحاتكم، كما أننا لا نستغنى عن مؤازرتكم ووقوفكم معنا.
أولاً: الأنشطة التعليمية:
1- المدارس النظامية: ويقصد بها المدارس التي تلتزم بتدريس العلوم
العصرية المقررة في البلد الذي تقام فيه، بالإضافة إلى تدريس علوم شرعية معدة
من قبل المنتدى، وبهذا يجمع الطالب بين الثقافتين ويستطيع المواصلة في
الجامعات الحكومية في أي تخصص يريد.
وقد بلغ إجمالي عدد المدارس (13) مدرسة ويستفيد منها (3724) طالباً،
وهي موزعة كالتالي:
بريطانيا: مدرسة واحدة ... تشاد: مدرسة واحدة
غانا: تسع مدارس جنوب شرق أسيا: مدرسة واحدة
كينيا: مدرسة واحدة
2- المدارس الشرعية: يهتم المنتدى الإسلامي اهتماماً بالغاً بإنشاء وتشغيل
المدارس الشرعية لنشر العلوم الشرعية ورفع الجهل عن أبناء المسلمين، وقد بلغ
عدد هذه المدارس (37) مدرسة يستفيد منها (7793) طالباً، موزعة كالتالي:
بريطانيا: مدرستان , السنغال: مدرسة واحدة
كينيا: 27 مدرسة , تشاد: مدرسة واحدة
الصومال: مدرسة واحدة , بنجلاديش: مدرسة واحدة
أوغندا: ثلاث مدارس , جنوب شرق آسيا: مدرسة واحدة
3- معاهد إعداد الدعاة: الاهتمام بتنمية الطاقات وإعداد الدعاة له أهمية كبيرة
جداً في إنجاح العمل الدعوي، ولهذا سعى المنتدى الإسلامي لافتتاح ثلاثة معاهد
لإعداد الدعاة، واكتملت كتابة المناهج العلمية الخاصة بها، وهذه المعاهد هي:
(أ) معهد إعداد الدعاة في مالي: وهو جاهز للتشغيل خلال الفصل القادم إن
شاء الله تعالى.
(ب) معهد إعداد الدعاة في غانا: وقد جهزت المباني وسوف يبدأ العمل في
مستهل العام القادم إن شاء تعالى.
(ج) معهد إعداد الدعاة في أثيوبيا: وقد تم بناء وتجهيز المعهد، وسوف يبدأ
العمل به في مستهل العام القادم إن شاء الله تعالى.
4- توزيع المناهج الدراسية: تفتقر كثير من المدارس الإسلامية في إفريقيا
إلى المناهج الدراسية بسبب ضعف إمكاناتها المادية، وهذا يؤدي في الغالب إلى
ضعف المستوى العلمي للطلاب، ولهذا سعى المنتدى في توزيع المناهج الدراسية
على بعض هذه المدارس، حيث بلغ عدد الكتب الموزعة (000ر53كتاب) موزعة
كالتالي:
غانا 40.000 كتاباً دراسياً
كينيا 12.000كتاباً دراسياً
مالي 1.000 كتاباً دراسياً
ثانياً: برامج تعيين الدعاة والأئمة والمدرسين:
قام المنتدى الإسلامي - بفضل الله تعالى - بتعيين: ثمانمائة واثنين وثلاثين
داعية ومدرس، يقومون بالتعليم والدعوة والإمامة في عدد غير قليل من الدول
الإفريقية والآسيوية، مثل: (كينيا، وأوغندا، والصومال، وغانا وبوركينا فاسو،
ومالي، وساحل العاج، وأثيوبيا، والسودان، وتشاد، والنيجر ونيجيريا، وبنين،
والسنغال، وبنجلاديش، وباكستان، والفلبين واندونيسيا.. وغيرها) ؛ ليكون
ذلك - إن شاء الله - إسهاماً في نشر منهج أهل السنة والجماعة، ويخضع تعيين الداعية لشروط عدة من أهمها:
- سلامة المنهج معتقداً وسلوكاً.
- الكفاية العلمية والشرعية.
- الكفاية الدعوية.
وقد وضعت برامج دعوية يومية لكل داعية يسير بناء عليها، وتتم متابعة
الداعية بالوسائل التالية:
- يقوم الداعية بإعداد تقرير شهري يرسل إلى مكتب المنتدى الإسلامي.
- تم تعيين مشرف على الدعاة في كل منطقة لمتابعتهم عن قرب.
- يقوم مسؤولو اللجان العاملة في المنتدى بزيارات دورية إلى مناطق الدعاة حيث يتم مناقشتهم وتوجيههم وإرشادهم.
كما يحرص المنتدى الإسلامي على رفع المستوي العلمي والدعوي لهؤلاء
الدعاة عن طريق توفير المكتبات والكتب، وإقامة الدورات الشرعية، والملتقيات
الدعوية، وغيرها.
ثالثاً: الأنشطة التربوية والدعوية: وتشمل الآتي:
1- الدورات الشرعية: تهدف هذه الدورات إلى تصحيح وترشيد العمل
الإسلامي، ورفع المستوى العلمي والوعي الدعوي لدى الدعاة وتأصيل ذلك تأصيلاً
شرعياً مبنياً على الكتاب والسنة الصحيحة ومنهج السلف الصالح.
وقد قام المنتدى الإسلامي بتنظيم العديد من الدورات الشرعية، بلغ عددها -
ولله الحمد - سبعاً وثلاثين دورة، استفاد منها (2. 064) داعية شارك فيها نخبة
من المتخصصين والأساتذة وطلبة العلم، وقدمت فيها: دروس في العقيدة ومنهج
السلف الصالح، وعلوم القرآن، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله، والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، وحاضر العالم الإسلامي، والآداب الإسلامية، وكانت
الدورات موزعة كالتالي:
لندن: سبع دورات ... ... ... السودان: دورتان
بنجلاديش: خمس دورات (منها 4 دورات كل دورة 4 أشهر) .
كينيا: دورتان ... ... ... تشاد: دورتان
مالي: دورتان ... ... ... ... نيجيريا: ثلاث دورات
الصومال: دورتان. ... ... أثيوبيا: ثلاث دورات
جنوب شرق أسيا: ثمان دورات ... أوغندا: دورة واحدة
2- الملتقيات الدعوية: تهدف هذه الملتقيات إلى معالجة مشكلات الدعوة
والدعاة، وتنمية القدرات الدعوية والعلمية لدى المشاركين.
وقد تم - بحمد الله تعالى - عقد: (22) ملتقى دعوياً، استفاد منها
(156ر 4) داعية في عدد من الدول، موزعة كالتالي:
- بريطانيا: (17) ملتقى دعوياً، كان آخرها: الملتقى السابع عشر في
مدينة ليستريومي 22، 23 صفر 1415 هـ، شارك فيه 300 شخص.
- غانا: ملتقيان دعويان، كان آخرها لمدة ثمانية أيام من 12 إلى 20 ربيع
الأول 1415هـ في مدينة نياكروم، شارك فيه 161 داعية من غانا والدول
المجاورة لها.
- كينيا: ملتقيان دعويان، كان آخرهما لمدة عشرة أيام من 1 إلى 10 ربيع
الأول 1415هـ في مدينة ممباسا، شارك فيه 150 داعية من كينيا والدول
المجاورة لها.
- السنغال: ملتقى واحداً استمر عشرة أيام من 28 صفر إلى 8 ربيع
الأول 1415هـ، شارك فيه 120 داعية من السنغال والدول المجاورة لها.
3- الحلقات والدروس العلمية: يواظب المنتدى الإسلامي منذ إنشائه على
عقد دروس أو محاضرات - يوم السبت من كل اسبوع - في مركزه الرئيسي في
لندن.
بالإضافة إلى أن كل داعية تابع للمنتدى الإسلامي يكلف بالتعليم ويعقد
الدروس العلمية الأسبوعية في المساجد في مختلف العلوم الشرعية.
كما يقوم الدعاة التابعون للمنتدى الإسلامي في مختلف الدول بإلقاء الخطب
والمحاضرات في شتى المعارف الإسلامية في المدارس والمعاهد، والمساجد،
والتجمعات العامة.
4- للمخيمات الشبابية التربوية: يحرص المنتدى الإسلامي على إقامة
المخيمات الشبابية والطلابية لدورها الكبير في إيجاد المحاضن التربوية التي تربي
الشباب، وتنشر الوعي الإسلامي في صفوفهم وقد بلغ عدد المعسكرات والمخيمات
الطلابية التي تم إقامتها: (14) مخيماً استفاد منها: (1. 385) شاباً، وهي
موزعة كالتالي:
- كينيا: 3 مخيمات، آخرها في الفترة من 15 إلى 21 ربيع
الأول 1415هـ، شارك فيه 75 طالباً.
- مالي: 3 مخيمات، اثنان منها كانا في شهر ربيع الأول 1415 هـ،
شارك فيهما 205 شاباً.
- جامبيا: مخيم واحد، أقيم في مدينة بانجول لمدة خمسة أيام، وشارك
فيه 100 شاب.
- جنوب شرق آسيا: أربعة مخيمات، استفاد منها 240 شاباً.
- أثيوبيا: مخيم واحد، أقيم في أديس أبابا في الفترة من 29 ربيع الأول
إلى 7 ربيع الثاني 1415 هـ، استفاد منه 120 شاباً.
- السودان: مخيمان، استفاد منهما 300 شاب.
5- دورات الإدارة المدرسية وطرق التدريس: تهدف هذه الدورات إلى تنظيم
وترشيد العمل التعليمي الإسلامي للارتقاء به نحو الأفضل، حيث أقيمت دورة
واحدة فقط في دولة غانا لمدة أسبوع واحد من 21 إلى 28 ربيع الأول 1415 هـ، شارك فيها مائة معلم وإداري، ولنجاح التجربة وأهميتها ينوي المنتدى الإسلامي
بعون الله تعالى تكرار التجربة في دول أخرى.
رابعاً: تحفيظ القرآن الكريم:
يهتم المنتدى الإسلامي اهتماماً خاصاً بكتاب الله عز وجل حفظاً وتلاوة
ودراسة، ويسعى لتربية النشء المسلم على آدابه وتوجيهاته، وذلك من خلال إقامة
خلوات وحلقات لتحفيظ القرآن الكريم، ويبلغ عدد الحلقات التي يشرف عليها
المنتدى (437) حلقة، ويستفيد منها (933ر12) طالباً وطالبة.
وتتوزع هذه الحلقات في عدد كبير من الدول، منها: كينيا، وأوغندا، وتشاد، ومالي، والسنغال، والصومال، وأثيوبيا، وغانا، وباكستان، وبنجلاديش،
وغيرها.
وقد أعد المنتدى الإسلامي خطة متكاملة للارتقاء بمستوى الحلقات إدارياً
وتربوياً، ووضع منهجاً علمياً رديفاً: في التوحيد، والفقه، والتفسير، والسيرة،
والآداب الإسلامية.
خامساً: القوافل الدعوية:
المناطق الإسلامية مناطق كبيرة، مترامية الأطراف عسيرة المسالك والدروب، وقد انتشر الإسلام - بحمد الله تعالى - في مختلف الأدغال والقرى النائية، ولكن
غلب الجهل على عامة المسلمين في المدن الرئيسة فضلاً عن القرى والهجر النائية، مَّما جعل البدع والشركيات والسحر والكهانة تنتشر في أوساط المسلمين انتشاراً
واسعاً، ومثل هؤلاء الجهلة هم البيئة الخصبة غالباً للنشاط الكنسي حيث أقيمت
المراكز التنصيرية في القرى النائية، واستقر المنصرون للعمل بين المسلمين.
ولصعوبة الانتقال من منطقة إلى أخرى، ولوعورة الطرق وخطورتها في
بعض الأحيان، كلف المنتدى الإسلامي دعاته بإعداد القوافل التي تنطلق إلى
مختلف الأماكن التي ينتشر فيها المسلمون وغيرهم من الوثنيين والنصارى، وذلك
حرصا على الوصول إلى الأماكن البعيدة للدعوة لنشر العقيدة الصحيحة، ومحاربة
البدع والخرافات.
ومن أجل أن يكون تأثير القافلة على المستوى الأمثل، رأى المنتدى الإسلامي
أن يرسل طبيباً مع كل قافلة لعلاج المرضى وتوزيع الأدوية، كما تحمل القافلة
أحياناً بعض الملابس والمواد الغذائية، وبعض الكتب باللغات المحلية، وذلك من
أجل تأليف الناس وتقريبهم إلى الإسلام.
وقد تم - بفضل الله تعالى - تنفيذ (34) قافلة دعوية، موزعة كالتالي:
كينيا: خمس قوافل ... نيجيريا: ست قوافل
الصومال: خمس قوافل أوغندا: ثلاث قوافل
السودان: ثلاث قوافل أثيوبيا: قافلتان
تشاد: قافلتان بنجلاديش: خمس قوافل
جنوب شرق آسيا: ثلاث قوافل
هذا بالإضافة إلى جولات دعوية من دعاة المنتدى في دول أخرى مثل: مالي، والسنغال، وأثمرت هذه القوافل - بحمد الله تعالى - نتائج إيجابية مشجعة للمزيد
من العطاء، حيث أقبل بعض الناس على العلم، وبدؤوا يتعرفون على العقيدة
الصحيحة، والعبادات السليمة، إضافة إلى الوثنيين الذين يسلمون بين أيدي هؤلاء
الدعاة، ومن أمثلة ذلك إسلام أكثر من ستين وثنياً في قرية واحدة من قرى مالي،
فلله الحمد والمنة.
سادساً: بناء المساجد:
قام المنتدى الإسلامي - بحمد الله تعالى - ببناء (181) مسجداً وجامعاً، في
أماكن ودول مختلفة، موزعة كالتالي:
كينيا: 17 الجمهوريات الإسلامية: 5
مالي: 6 نيجيريا: 1
غانا: 19 أوغندا: 8
الصومال: 9 أثيوبيا: 6
السنغال: 2 باكستان: 40
السودان: 5 بنجلاديش: 29
تشاد: 9 جنوب شرق آسيا: 17
أريتريا: 1 الهند: 2
توجو: 2
ويحرص المنتدى الإسلامي على إحياء رسالة المسجد، وتنشيطه دعوياً
بتعيين داعيه مؤهل في كل مسجد يقوم ببنائه، ليتولى إمامة المسلمين، وإقامة
الدروس الشرعية، ووعظ الناس، وتدريس كتاب الله عز وجل.
سابعاً: المكتبات العامة ومكتبة طالب العلم:
العلم الشرعي مطلب أساس من المطالب التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية فهو
الذي ينير الطريق أمامه، فلا يدعو الناس إلا بمقتضى الحجة والبرهان.
وللكتاب الإسلامي دور كبير في نشر الوعي العلمي ونشر العقيدة الإسلامية
الصحيحة بين أبناء المسلمين، ونتيجة لندرة الكتاب الإسلامي وقلة المراجع العلمية
في كثير من دول العالم، سعى المنتدى الإسلامي إلى توفير الكتب والمراجع العلمية
بعدة وسائل، منها:
أ- المكتبات العامة: وهي على نوعين: مكتبة كبيرة: توضع في المدن
الرئيسة، وفي أماكن المجتمعات الكبيرة للدعاة. مكتبة صغيرة: توضع في
المساجد والمدارس.
وتم انتقاء الكتب بناء على الاحتياجات الأساسية للدعاة في كثير من البلاد،
وقد بلغ عدد المكتبات التي تم تجهيزها حتى الآن (34) مكتبة موزعة كالتالي:
كينيا: مكتبة واحدة كبيرة، وخمس مكتبات صغيرة.
مالي: مكتبة واحدة كبيرة.
غانا: مكتبة واحدة كبيرة.
الصومال: ثلاث مكتبات كبيرة، ومكتبة واحدة صغيرة.
السنغال: مكتبة واحدة كبيرة وأخرى صغيرة.
بريطانيا: مكتبة واحدة كبيرة.
بنجلاديش: مكتبتان كبيرتان.
جنوب شرق آسيا: إحدى عشرة مكتبة كبيرة، ومكتبتان صغيرتان.
السودان: مكتبة واحدة كبيرة.
تشاد: مكتبة واحدة كبيرة، وأخرى صغيرة.
أوغندا: مكتبة واحدة كبيرة.
ب - مكتبة طالب العلم: يحرص المنتدى الإسلامي على تنمية قدرات الدعاة
العلمية، ورفع مستوياتهم الشرعية بوسائل متعددة، منها إعداد مكتبة صغيرة لكل
داعية من دعاة المنتدى الإسلامي، ولكي يكون الاختيار أكثر دقة وأبلغ فائدة
وضعت قائمتان:
الأولى: للدعاة الجامعيين. الثانية: للدعاة غير الجامعيين.
وقد بلغ عدد مكتبات طلاب العلم التي وزعها المنتدى الإسلامي 536 مكتبة
موزعة كالتالي:
الصومال: 20 مكتبة كينيا: 105 مكتبة
تشاد: 150 مكتبة غانا: 121 مكتبة
جنوب شرق آسيا: 30 مكتبة مالي: 35 مكتبة
بنجلاديش: 30 مكتبة
ج - توزيع الكتاب والشريط الإسلاميين: يسعى المنتدى الإسلامي لإيصال
الكتاب والشريط الإسلاميين إلى مختلف أبناء المسلمين، مساهمة منه في نشر
منهاج أهل السنة والجماعة ورفع المستوى الشرعي بين المسلمين، وقد بلغ عدد
المصاحف التي تم توزيعها حتى الآن أكثر من (19. 000) مصحف، والكتب
أكثر من (115. 000) كتاب، والأشرطة أكثر من (39. 000) شريط.
ثامناً: مطبوعات المنتدى الإسلامي:
(1) مجلة البيان: بدأ المنتدى الإسلامي بإصدار هذه المجلة في
عام 1406هـ، لتوزع في مختلف أنحاء العالم، وقد اعتمد المنتدى
(4. 500) اشتراكاً شهرياً مجانياً في عدد من الدول، إسهاماً منه في إيصال كلمة الحق والهدى إلى الدعاة وطلاب العلم الذين لا يستطيعون شراء المجلة، بالإضافة إلى عدد كبير من الجمعيات الإسلامية والجامعات والمعاهد.
(2) نشرة المنار (MANAR AL) : وهي نشرة تصدر باللغة الإنجليزية،
وتوزع في جميع أنحاء بريطانيا، كما توزع في أمريكا، وسوف توزع قريباً في
الدول الإفريقية الناطقة بالإنجليزية - إنشاء الله - وتتناول هذه النشرة بعض
البحوث المبسطة في الدين الإسلامي.
(3) كتاب المنتدى: يقوم المنتدى الإسلامي بطباعة الكتب والرسائل المفيدة
مع الحرص على حسن الاختيار والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة ومن هذه
الإصدارات:
- جهاد المسلمين في أفغانستان يمر بأخطر مراحله.
- التجديد في الإسلام.
- الحزن والاكتئاب في ضوء الكتاب والسنة.
- أيعيد التاريخ نفسه.
- رؤية إسلامية للاستشراق.
- الهزيمة النفسية عند المسلمين على ضوء الكتاب والسنة.
- خواطر في الدعوة (جزءان) .
- منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين.
- اعتقاد أهل السنة في الصحابة.
- على من تعرض الصور؟ (مأساة المسلمين في البوسنة) .
- علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام.
- البداوة والحضارة (نصوص مختارة من مقدمة ابن خلدون) .
- الثوابت والمغيرات في مسيرة العمل الإسلامي.
- الدعوة إلى الله بين الواجب والمحظور.
- فن التعامل مع الناس.
- فاعتبروا يا أولي الأبصار.
- مداخل الشيطان على الصالحين.
- تجربة المنتدى الإسلامي في العمل الدعوي.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أصوله وضوابطه.
(4) طباعة الكتب المترجمة: قام المنتدى الإسلامي بطباعة عدد من الكتب
الإسلامية المترجمة إلى عدد من اللغات، وتم توزيعها في عدد من دول العالم،
ومنها:
- الأصول الثلاثة (اللغة الفرنسية) .
- الأصول الثلاثة (بلغة الهوسا) .
- الخطوط العريضة (بلغة الهوسا) .
- رفع الملام عن الأئمة الأعلام (باللغة البنغالية) .
- توجيهات إسلامية لجميل زينو (باللغة البنغالية) .
- عقيدة أهل السنة والجماعة لجميل زينو (باللغة البنغالية) .
- مبادئ الإسلام (باللغة البنغالية) .
- تحفة الأخيار للشيخ عبد العزيز بن باز (باللغة الأندونيسية) .
- إلى ابنتي للشيخ على الطنطاوي (باللغة الأندونيسية) .
- القضاء والقدر للشيخ ابن باز (باللغة الأندونيسية) .
- وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة للشيخ ابن باز (باللغة الإنجليزية)
- وجوب أداء صلاة الجماعة للشيخ ابن باز (باللغة الفرنسية) .
بالإضافة إلى أن المنتدى الإسلامي يسعى لتوفير الكتاب الإسلامي باللغات
المختلفة من الأسواق ويوزعها في دول العالم، وقد بلغ عدد الكتب الإسلامية
المترجمة باللغات الأجنبية التي تم توزيعها (377. 500) كتاباً.
تاسعاً: النشاط الإغاثي، والصحي، والاجتماعي:
يقدم المنتدى الإسلامي أنشطة اجتماعية وصحية متعددة، كما يساهم في إغاثة
المنكوبين وإعانة الملهوفين في عدد من دول العالم الإسلامي، ومن البرامج التي تم
تنفيذها:
1 - المراكز الإغاثية: قام المنتدى الإسلامي بإنشاء (28) مركزاً إغاثياً
استفاد منها أكثر من (15. 000) شخص يومياً موزعة كالتالي:
- كينيا: (23) مركزاً لإغاثة اللاجئين الصوماليين، استمرت لمدة سنتين
تقريباً، استفاد منها (11. 700) شخص يومياً.. وقد أغلق (21) مركزاً منها
لنزوح اللاجئين إلى مواقع أخرى.
- بنجلاديش: يوجد مركز إغاثي استمر لمدة سنتين، ثم تم إغلاقه أخيراً.
- الصومال: يوجد مركزان إغاثيان، يستفيد منهما (500) شخص يومياً.
- أثيوبيا: يوجد مركزان إغاثيان، يستفيد منهما (500) شخص يومياً.
2- الأعمال الإغاثية العامة: وتشمل توزيع المواد الغذائية واللباس والكساء
والدواء، وقد قام المنتدى الإسلامي بأعمال إغاثية متعددة في الصومال، وفي
بنجلاديش، للمتضررين بسبب الفيضانات والأعاصير، والبورماويين بسبب
الحروب، وجيبوتي ومالي، وغيرها.
3- برنامج إفطار صائم: اعتاد المنتدى الإسلامي على تنفيذ البرنامج سنوياً
في عدد من دول العالم، وقد بلغ عدد الوجبات التي تم توزيعها في رمضان ... 1413 هـ (849. 168) وجبة شملت (18) دولة، وأما في رمضان ... 1414 هـ، فقد بلغ عدد الوجبات (326. 677) وجبة شملت 16 دولة، وفي الغالب يصاحب الإفطار دروس وعظية وتربوية وتعليمية يقوم بها دعاة المنتدى الإسلامي مما يكون له أثر مبارك إن شاء الله تعالى.
4- برنامج الأضاحي: يقوم المغتدى الإسلامي سنوياً بذبح الأضاحي في عدد
من دول العالم، وذلك لتوزيعها على فقراء المسلمين، وقد بلغ عدد الأضاحي حتى
عام 1414 هـ أكثر من (19. 000) أضحية، بالإضافة إلى ذبح العقائق
والكفارات والنذور لتوزيعها على المحتاجين.
5- كفالة الأيتام: يكفل المنتدى الإسلامي (591) يتيماً كفالة تامة تشمل
الغذاء والكساء والتعليم.
6- حفر الآبار: نتيجة لموسم الجفاف والقحط الذي ساد القارة الإفريقية،
وحاجة المسلمين إلى مصادر المياه النقية، عمل المنتدى الإسلامي - ولازال يعمل
- على سد حاجة المسلمين في هذه المناطق وغيرها بالمياه الصالحة للشرب، وقد
حفر المنتدى الإسلامي حتى الآن (105) آبار في عدد من البلدان الإفريقية
والآسيوية، موزعة كالتالي:
غانا: 25 بئراً باكستان: 12 بئراً
أثيوبيا: 8 آبار أوغندا: بئران
الصومال: 10 آبار مالي: بئران
بنجلاديش: 18 بئراً كينيا: 5 آبار
بنين: 6 آبار توجو: 6 آبار
جنوب شرق آسيا: 5 آبار تشاد: 4 آبار
بالإضافة إلى بئر ارتوازي في كينيا وبئر ارتوازي يعمل بالطاقة الشمسية في
تشاد.
7- مشروع مكافحة العمى: أقام مركز السند الإسلامي بالباكستان بإشراف
المنتدى الإسلامي وتنظيمه، تسعة مخيمات طبية لعلاج أمراض العيون، وإجراء
العمليات الجراحية لإزالة الماء الأبيض، استفاد منها (41. 000) مريض، وهي
موزعة كالتالي:
السنغال: مخيم واحد استفاد منه حوالي 4. 000 مريض
السودان: مخيمان استفاد منهما 9. 000 مريض
تشاد: مخيمان استفاد منهما 1. 000 مريض
جنوب شرق آسيا: 3 مخيمات استفاد منهما 14. 000 مريض
مالي: مخيم واحد استفاد منه حوالي 4. 000 مريض
8- مراكز الخياطة: تهدف هذه المراكز لإعانة نساء المسلمين وتدريبهن على
مهنة تنفعهن في حياتهم، للاستغناء على سؤال الناس، بالإضافة إلى الاستفادة من
هذه المراكز في التعليم والإرشاد، وبلغ عدد هذه المراكز: أربعة مراكز، موزعة
في كل من: كينيا، مالي، السودان، وجنوب شرق آسيا.
عاشراً: الأنشطة الاستثمارية (الأوقاف) :
للعمل الاستثماري أهمية كبيرة في استمرار الأنشطة وثباتها، ولهذا حرص
المنتدى الإسلامي حرصاً كبيراً على إيجاد أوقاف ومشاريع استثمارية، وقد تمكن
المنتدى - بحمد الله تعالى - من شراء مجمع سكني في شمال بريطانيا يحتوي على
ست وعشرين شقة، ويبلغ عائد هذا المشروع (155. 000 دولار) في السنة،
كما تيسر ولله الحمد شراء أرض في مدينة ليدز في بريطانيا قرب الجامعة، وسوف
يقام عليها 100 وحدة سكنية طلابية، وتقدر تكلفة هذا المشروع حوالي ... ... ... (1. 120. 000دولاراً) ويقدر عائد هذا المشروع بحوالي 13% في السنة.
وبإتمام هذا المشروع - إن شاء الله تعالى - سوف تفتح قناة مباركة لاستمرار
كثير من أعمال البر والخير، ونحن واثقون أنكم معنا، وسوف تشاركوننا في،
إنجاح هذا الوقف بدعمكم ودعائكم.
وأخيراً: قارئنا الكريم بعد إطلاعك على ما قام به المنتدى الإسلامي من
مشاريع وأنشطة، والتي قامت بفضل الله تعالى ثم بدعم ومؤازرة أهل الخير من
أمثالك، نفيدك بأن في جعبتنا الكثير والكثير من المشاريع والأنشطة التي نعزم
تقديمها للمسلمين المحتاجين، ولكن لن نتمكن من ذلك إلا باستمرار تواصلك معنا
ودعائك، وهذا ما نأمله منك، ونظنه بك.
وفق الله الجميع للخيرات(84/107)
الورقة الأخيرة
رسالة القلم
حسن قطامش
جال بخاطري أن أنظر فيما أوحى به قلم الرافعي من بديع الأسلوب وجميل
الحكم، فرددت بصري فيه ثم توقفت عند هذه الكلمات: إن الحقائق الكبرى
كالإيمان والجمال والحب والخير والحق ستبقى محتاجة إلى كتابة جديدة من أذهان
جديدة. تفكرت فيها، ثم أرجعت البصر في عرض هذه الحقائق اليوم وما نصيبها
من واقعنا، فإذا هي بين أيدي مرتزقة أكالين يدنسونها بمزاعم أوهام التقدم والرقي، وبين حابسين لها في نفوس ملؤها الخوف والتردد من صوغها في قالب الصدق
والموضوعية ولازالت الحاجة قائمة لسبرغور تلك الحقائق والتي تملأ حياة
الإنسان.. في نفسه وأهله ويومه وغده.
إن الإنسان بحاجة إلى أقلام صادقة توجهها عقول ناضجة تدرك حاجاته
النفسية والاجتماعية والثقافية والتربوية، أقلام تحمل همّ هذه الأمة التي تتجاوز
التيارات التائهة في دروب الهوى، أقلام تعرف للكلمة حقها وقوتها وسطوتها
وتعرف لها مكانها وزمانها.
وكم تآذت مسامعنا من أقلام ارتكست في رديء التصورات، وسيء المعاني،
مما أضعف في نفوس الكثير من الناس الأدب، وسار ركب الأقلام الآسنة يستقى
من مداد الرذيلة، ويلون الصفحات بزائف الكلم، ويقدمون الإيمان والجمال والحب
والخير والحق وغيرها من تلكم المعاني الكبار في ثوب زور لُطخ بآسن الأفكار
وزبالة الأذهان.. فأي ضحك على الإنسان.
إن هذه الأقلام العرجاء مهما بدا من حُسن مظهرها واستمراريتها لن تعدم
أصحاب نظر ثاقب يكشفون مرضها وعللها المزمنة.
أما بعض الأقلام الصالحة المنكسرة فلابد لها يوماً أن يستقيم عودها، وذلك
حين تتحرر من وهم الخوف والتردد، لتصبح أذهاناً جديدة لصياغة حقائقنا الكبيرة.(84/127)
رمضان - 1415هـ
فبراير - 1995م
(السنة: 9)(85/)
كلمة صغيرة
. الحذر الحذر.
منذ سنوات يوم وقف مجاهدوا إريتريا يصارعون (الجبهة الشعبية النصرانية)
حينئذ دعا كاتب مشهور الإريتريين قائلاً: (الاستقلال قبل الإسلام) مما فت في
عضد الكثيرين - في الوقت الذي قام الغرب بدعم النصارى - فتشتت شمل
المسلمين شذر مذر.. واليوم يقول الكاتب نفسه حيال حرب الشيشان: (الدعوة إلى
الإسلام أهم بكثير من دولة الإسلام) ، ونحن لا نشكك في نوايا الرجل، لكن
الأمور الأساسية لا مساومة عليها، وإقامة دولة الإسلام هدف كما أن الدعوة إليه
هدف ولا منافاة بينهما، ثم من يحمي الدعوة إذا لم يكن لها دولة؟ ! ولماذا لا يعمل
لكلا الهدفين معاً، لا سيما إذا عرفنا أن هناك فئات معارضة مشبوهة الاتجاه تدعم
من روسيا وتريد الارتباط بها؟ !
فلنحذر مثل تلك الآراء المتعجلة التي ربما أدت إلى المهالك، وأعداؤنا مهما
جاملناهم فلن يتغير موقفهم من عقيدتنا، ومواقفهم من مفكري الإسلام ودعاته
واضحة كالشمس بغضاً وكرهاً ومصادرة.
فنأخذ الإسلام كما جاء، وليس كما يريده بعضهم أجزاء وأبعاضاً
والله المستعان..(85/1)
الافتتاحية
أمتنا ومرحلة الغثائية!
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله
وصحبه أجمعين.. ... أما بعد،،
نتساءل -بكل براءة- ويتساءل معنا كل مسلم مخلص هل وصلت أمتنا
العربية المسلمة إلى المرحلة الغثائية التي حذر منها الرسول الكريم -صلى الله عليه
وسلم- بقوله: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تتداعى الأكلة إلى
قصعتها، قيل: يا رسول الله، فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء
السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب أعدائكم لحبكم الدنيا
وكراهيتكم الموت) [1] .
نعم إن كثيراً من بني قومنا يخطبون اليوم ود (يهود) ، ويطالبون على أصعدة
كثيرة بإعادة العلاقات معهم وتطبيعها والدعوة -بكل حماس- إلى إلغاء مقاطعتهم في
سبيل إنشاء ما يسمى بـ (السوق الشرق أوسطية) ، وليست المسألة مجرد تنشيط
الواقع الاقتصادي المتردي في كثير من البلدان، فلوازم التطبيع أكبر من ذلك بكثير؛ فهناك التطبيع الثقافي الفكري ومن ثم إبعاد كل ما يعكر هذا التوجه ... ألم نسمع
بسياسات تجفيف المنابع التي بدأت فيها بعض الدول العربية فغيرت المناهج
وحذفت كل ما له علاقة بالتحذير من أعداء الإسلام، وحذفت آيات الجهاد وتراجم
الأبطال، ولا ندري هل تصل محاولات الحذف إلى آيات القرآن والحديث، الله
أعلم! ! .
والأعجب في هذه المرحلة أن يُوقَفَ - بكل صفاقة - ضد كل المعارضين
لذلك التوجه ووصمهم بالتطرف والإرهاب، وهذا ما وضحت بوادره في أكثر من
بلد عربي، فإلى الله المشتكى.
ويتواصل المد الغثائي في الأمة بمواقفها السلبية من كثير من قضايا المسلمين
المغلوبين على أمرهم وبخاصة في البوسنة والهرسك، نعم هناك إعلام يعمل ليل
نهار لكشف خلفيات تلك المؤامرة القذرة التي يقوم بها الغرب والشرق ضد هذه
القضية، وهناك جهود إغاثية لمد المسلمين هناك بالدعم والمساعدة، ولكن أين
الموقف الشجاع ضد الصرب (الأرثوذكس المتعصبين) ؟ هل قام المسلمون جميعهم
بتهديد الصرب - ولو بمجرد الكلام - أو بقطع العلاقات الدبلوماسية معهم وقطع
العلاقات الاقتصادية أيضاً؟ إن ذلك مع الأسف لم يحدث! ، والأعجب أن تقوم
الدول الغربية بمؤامراتها المكشوفة ضد مسلمي البوسنة والهرسك وتتواطأ معهم
(هيئة الأمم) ومندوبوها المدنيون والعسكريون، وحينما يتحدى الصرب كل جهودهم
الهزيلة ويعرضون جنودهم للقتل غيلة، لا يحركون ساكناً، بل يقومون بذبح
القضية بمخططات مشبوهة يقصد منها إرضاء الصرب وإعطاؤهم ما يريدونه على
حساب هذه الدولة المسلمة، ولا شك أن ذلك له خلفياته العقدية التي ترفض قيام
كيان إسلامي في أوروبا.
ووجدنا (روسيا) الأرثوذكسية الحاقدة تقف، مواقفها المكشوفة في البوسنة،
تقف ضد أي قرار لتأديب الصرب وفي الوقت نفسه تدعمهم بكل الطرق الممكنة
خارقة بذلك الحصار الدولي الهش على الصرب، وحينما كان التهاون هو موقف
المسلمين بعامة حيال تلك الأعمال: لم تتردد روسيا في التدخل الدموي لإجهاض
استقلال دولة الشيشان بأساليب همجية، ولقد وقف مجاهدو الشيشان ضدها بكل
بسالة وشجاعة؛ مما أدى إلى الفشل الذريع الذي مني به الجيش الروسي والخسائر
الفادحة التي تكبدها، واستيقاظ الغرب مؤخراً على مخالفات (حقوق الإنسان) بدك
(جروزني) بالصواريخ والقنابل المحرمة دولياً.
إن غثائية أمتنا تمثلت حينما عُقد (المؤتمر الإسلامي) وانتهى بغير أن يتطرق
إلى هذه القضية لا من قريب ولا من بعيد! ! وكأن لسان حالهم - ما هو رأي
الغربيين - أن قضية الشيشان مسألة داخلية، وهذا خطأ شنيع ارتكبه الغرب وتُوبع
عليه، مع أن حق الشعوب في تقرير مصيرها مسألة محسومة حسب مواثيقهم
الدولية، أكدتها مواثيق هيئة الأم المتحدة في الفقرة (2) من المادة [1] ، وكذلك
المادة (55) ، ثم جاءت البروتوكولات الخاصة بحقوق الإنسان لتؤكد أهمية ذلك.
والعجيب أن الغربيين قبل 20 عاماً -عند التوقيع على ميثاق (هلسنكي) -
أصروا على أهمية حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي التي كانت تعتبر شأناً داخلياً، لكن الغرب رفض ذلك الاعتبار بالإجماع، وفي نهاية الحرب الباردة كانت أمريكا
هي القائد أيضاً في مجال تأكيد تلك الالتزامات من خلال (ميثاق أوروبا الجديدة)
الذي تم التوقيع عليه في مؤتمر قمة باريس عام 1990، وقد رفض الميثاق - كما
فعل إعلان هلسنكي - اللجوء إلى القوة في حل النزاعات.
وروسيا - باعتبارها وريثة (الاتحاد السوفيتي البائد) - ملزمة بهذه القوانين
الدولية التي تدوسها اليوم وتضرب بها عرض الحائط على مرأى ومسمع من
الجميع.
إن حجة الغرب بأن أحداث الشيشان مسألة داخلية مغالطة وادعاء بلا دليل،
فقد سبق للغرب أن تدخل في شؤون (الاتحاد السوفيتي) السابق في مسألة مواقفه
غير الإنسانية من الكتاب السوفيت المعارضين الذين ما إن يتحدث أحدهم بمعارضة
الدولة حتى يضغط عليها ليخرج بسلام، بل ويعطى جائزة نوبل، وتدخل في
شؤونه أيضاً يوم منع هجرة اليهود لفلسطين المحتلة، وتدخلت أمريكا في الصومال، ومؤخراً في (هايتي) ، وتدخلت فرنسا في (رواندا) ، وحتى يبقى الأمر مقبولاً
تحول ببساطة إلى تدخل دولي! !
أين إنسانية الغرب اليوم مما حدث في البوسنة وما يحدث اليوم في الشيشان؟! لماذا يقال إنها مسألة (داخلية) ، وفي قضايا أخرى يتم التدخل ويحول إلى تدخل
دولي بأساليب مكشوفة؟ ! .
لماذا ضغط الغرب على الاتحاد السوفيتي حتى يمرر استقلال دول البلطيق،
ثم يسكت ويصاب بالصمم والعمى عن أحداث همجية تحدث في بلاد أخرى؟ ! ،
المسألة مسألة عقيدة ونعرات صليبية مهما استبعدها أدعياء التنوير.
وعليهم أن يعوا ما قاله صاحب (الفرصة السانحة) : (إن المصالح وليست
المثاليات هي التي تدفع الدول إلى التعاون) .
إننا - وبكل صراحة - ندعو بني قومنا ساسة ومفكرين وإعلاميين وغيرهم
إلى مراجعة سريعة لحال الأمة، وأهمية الوقوف بكل شجاعة وتَبَنِّي الموقف
الإسلامي وبكل جسارة مع الغرب والشرق، وبخاصة في الموقف من القضايا
الإسلامية ومحاسبتهم بدقة حيال الاستهتار الحاصل إزاءها، وضرورة احترام
الشعوب الإسلامية المغلوبة على أمرها وأهمية إعطائها حق تقرير مصيرها كغيرها.
ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم الذي هو شهر عزة وكرامة وشهر جهاد وقوة
جدير بنا أن نجعل منه منطلقاً لتصحيح أوضاعنا ولمحاسبة أنفسنا على ما فرطنا في
جنب الله من أخطاء وخطايا جعلتنا إلى الغثائية أقرب.
إن هذا الشهر المبارك جدير بأن يشعل في أنفسنا روح الجهاد، وأن يثير في
جوانحنا فعل الخيرات وترك المنكرات وتكفير السيئات.
واللهَ نسأل - كما بلغنا هذا الشهر- أن يوفقنا لصيامه وقيامه، وأن ينصر دينه
ويعلي كلمته، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
__________
(1) المسند للامام أحمد ج 5 ص 278، وأبو داود ج 4 ص 483، وصححه الألباني: صحيح سنن أبي داود ح / 3610.(85/4)
دراسات دعوية
الترف.. وخطره على الدعوة والدعاة
[1]
فيصل البعداني
إن زينة الحياة الدنيا وشهواتها أخذت بألباب وعقول أفراد من الأمة حتى
عبدوها وأصبحوا يرون في تعاليم الإسلام وأحكامه ما يفسد عليهم متعتهم بها
فصاروا يحاربون تعاليم الإسلام والداعين إليه، ويقفون في وجه كل دعوة جادة إلى
الإسلام تريد إعادة الأمر إلى نصابه، وتقوم ببيان خطر الاغترار بالدنيا، منبهة
إياهم إلى ما أحدثه من آثار سلبية كثيرة على دينهم ودنياهم.
وشباب الصحوة الإسلامية بعامة والدعاة إلى الله (سبحانه) بخاصة، جزءٌ من
أفراد المجتمع الإسلامي يصيب بعضهم - سواء أكان ذلك في حياتهم الشخصية
والاجتماعية أو في البيئة الدعوية التي يعملون من خلالها - ما يوجد في مجتمعاتهم
من أمراض وأدواء، ومن ذلك وجود ظاهرة الترف والرفاهية الزائدة في حياة
بعضهم، وانشغالهم بذلك عن تربية أنفسهم والقيام بواجبهم تجاه دينهم وأمتهم، بل
إن الأمر لدى أولئك تجاوز حد التشاغل إلى مرحلة التساقط عن الطريق وترك
الطاعة ومبارزة الله (تعالى) بالمعاصي.
وهذه محاولة لمعالجة تلك الظاهرة ببيان حقيقتها، وإيضاح موقف الشرع منها، وإبراز مظاهرها، وتحليل أسبابها وبيان خطورتها وآثارها، مع محاولة تقديم
وصف لعلاجها، عَلَّ الله (سبحانه وتعالى) أن يوفقنا إلى تلافيها وتجاوز آثارها.
حقيقة الترف:
جاء في القاموس: التُّرفة: النعمة والطعام الطيب، والشيء الظريف تخص
به صاحبك، والمترف كمكرمَ: المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع، والمُتَنَعَّمُ لا يمنع
من تنعمه [1] .
والمراد بالترف في هذا المقال: مجاوزة حد الاعتدال بنعمة أو الإكثار من
النعم التي يحصل بها الترف [2] ، وعليه فإن المترفين هم: الذين أبطرتهم النعمة
وسعة العيش، الحريصون على الزيادة في أحوالهم وعوائدهم، الساعون إلى بلوغ
الغاية في حاجات الذات الحسية من مأكل ومشرب ومسكن ومركب.. الخ، ومع أن
الترف قائم على الغنى ومبني عليه إلا أنه ليس بلازم له، فكم من غني وهو بخيل، يعيش هو وأهله عيشة البؤساء والمعوزين، وكم من فقير حرص على توفير النعم
وتحصيل ملذات الحياة وشهواتها من أي سبيل! !
موقف الإسلام من الترف:
ورد ذكر الترف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع كلها في موضع الذم له
والتحذير منه، كما ورد العديد من الأحاديث النبوية التي ينهى بعضها عن الترف
جملة وتحذر من تعلُّق القلب به، وغلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وبعضها الآخر ينهى عن مظهر من مظاهر الترف، ويحث على تركه
والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين.
فمن الآيات: قوله (تعالى) : [وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] الإسراء: 16 [، وقوله (تعالى) :] حَتَّى
إذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُونَ [] المؤمنون: 64 [، وقوله (سبحانه) :
] وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [] الزخرف: 23 [.
ومن الأحاديث ما رواه عمرو بن عوف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال
(فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على
من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) ] 3 [، وما رواه عبد الله
بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا
ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة) ] 4 [.
ودعوة الإسلام إلى ترك الترف، ومحاربته له، لا تعني ترك النعم والملذات، وإنما المراد الاقتصاد في الإنفاق وعدم تعلق القلب بها والركون إليها، وإلا فإن
النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي حذر من الترف وأحوال المترفين قد قال: (إن
الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس
والتباؤس) ] 5 [وقال -صلى الله عليه وسلم- لوالد أبي الأحوص: (فإذا آتاك الله
مالاً فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته) ] 6 [، وقد كان من دعائه -صلى الله عليه
وسلم-: (اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها
معادي) ] 7 [.
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه عندما ذكروا عنده الدنيا: (ألا
تسمعون، ألا تسمعون: إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان!) ] 8 [،
فالمراد به: التواضع في اللباس وترك التبجح به] 9 [، وعدم غلو الشخص في
الاهتمام بمظهره حتى يشار إليه بالبنان.
مظاهرات الترف:
للترف مظاهر كثير، من أبرزها ما يلي:
* الإفراط في تناول الطعام والشراب وتوفير متطلبات النفس مما لذ وطاب،
مما جعل الجم الغفير من الناس - دعاة وغيرهم - يعانون بسبب ذلك من السمنة
وكثيرٍ من الأمراض الناشئة عن التخمة.
* جعل المال في الملابس الراقية، والاكتفاء بلبس الجديد والفاخر، حتى
كثرت بسبب ذلك الملابس غير المستخدمة في المنازل، وتكدست مع وجود تنوع
في الاستعمال حسب تعدد فصول العام، واختلاف أوقات اليوم، ويبرز الترف في
هذا الجانب لدى النساء.
* صرف الأموال الكثيرة في السيارات والحرص على ضخامتها وتعددها
حسب أحجامها وأنواعها، وتسليم بعضها لمراهقين يستخدمونها - غالباً - في غير
ما وضعت له.
* صرف الأموال الضخمة في بناء المنازل والدور، والتباهي في إعدادها
وتصاميمها البديعة في الشكل الخارجي والداخلي، مع الحرص على تعدد مواقعها
فبعضها للشتاء والآخر للصيف، وبعضها للسكن وبعضها للنزهة، ومع الحرص
على سعتها وكثرة غرفها ووجود ملحقات لها ووفرة وسائل الترفيه فيها مع أن الذي
يكفي الإنسان من ذلك الشيء القليل.
* نعومة الأجساد وطراوتها وترهل الأطراف ونعومتها والتهاون أثناء أداء
الأعمال مما أدى إلى أمراض حديثة ولدتها هذه الظواهر.
* الاستكثار من وسائل الزينة والاعتناء الزائد بالنفس، والإفراط في التدهن
والتطيب والترجيل للشعر، ونحو ذلك من أمور الناس حتى إن بعضهم ليزيد إنفاقه
على زينته وبعض مظاهر الترف الأخرى على دخله، مما يضطره إلى الاقتراض
أو إلى تعاطي أمور أخرى لا تحمد عقباها.
* جعل المال في الفرش الوثيرة والأواني الفاخرة والمتاع الراقي، أو الإكثار
من ذلك - وإن لم يكن الشيء غالي الثمن - كثرة تقصر معها أيام العمر وتأبى أن
تتسع للعبد لكي ينتفع بها ويستخدمها.
* عدم قيام الإنسان بحاجاته الذاتية والاجتماعية التي يتمكن من القيام بها
والمجيء بالخدم رجالاً ونساء، لكي يقوموا بذلك من غير حاجة وإنما رغبة منه في
ترفيه نفسه وتقديم الراحة لأهله وأولاده، وحباً منه في التفاخر والتباهي والظهور
بمظهر المتميز أمام بقية أفراد المجتمع.
* كثرة استخدام وسائل الترويح عن النفس من مزاح وألعاب ونزهة وزيارات
كثيرة تخرج بالترويح عن الأمر الذي شرع له، وتصبح في حياة كثير من الناس
كأنها هي الأصل والجد هو الفرع.
* ضياع الأوقات وانتشار البطالة في حياة بعض من الدعاة والمصلحين،
حيث تكثر ساعات نومهم ويتتابع فناء أعمارهم دون أن يقضوا شيئاً منها في أمر
ينفعهم في دينهم أو دنياهم.
* التعلق بالتوافه، وضعف التفكير، وغياب القدرة على النقد البناء،
وانتشار التقليد، والتسرع في الحكم على الأشياء بناءً على ظواهرها، وإمكانية
التلاعب بالشخص واستدراجه إلى ما يراد من قبل الآخرين بيسر وسهولة وبدون
عناء أو مشقة.
* عدم الحرص على الطاعة، والتواني عن القيام بما يقِّرب في الآخرة سواء
أكان ذلك فيما يتعلق بذات الشخص كصلاة النفل وصيام التطوع، أو فيما يتعلق
بشؤون الدعوة، إذ تكثر عند التنفيذ المشاغل وتتعدد المبررات للتقاعس عن العمل
أو التأخر في أدائه، وفي المقابل توجد - لدى ذلك الصنف - عجله في تحصيل
وسائل الترف، وسرعة في تحقيق مطلوبات النفس وشهواتها.
* تتبع أقوال أهل العلم للأخذ بالأيسر منها، ويرجع ذلك إلى أن كثرة النعم
تقود إلى الدعة والراحة، وتلك تقود إلى اقتحام سبيل الشهوات والانغماس في
الملذات، التي قد لا يجد العبد متنفساً له فيما أحل الله فيقرر الأخذ بما يراه حراماً،
ولكن لكي يزيل الحرج عن نفسه، ويدفع عنه لوم الآخرين - إن وجد - يقوم بتتبع
أقوال أهل العلم في الأمر الذي قرر إتيانه إلى أن يجد له عالماً في القديم أو الحديث
يقول بجواز فعله، فيفرح به ويبدأ بإعلانه ونشره لا اعتقاداً بصحة ذلك القول
والرغبة في إذاعته، ولكن حباً في رفع الحرج عن النفس نظراً لموافقة ذلك القول
لما قد عزمت نفسه على فعله.
أسباب الترف:
لانشغال بعض المنتسبين إلى الدعوة بالترف أسباب عديدة، منها:
1- طول الأمل ونسيان الموت:
الانشغال بمتاع الدنيا وشهواتها ناتج عن طول الأمل ونسيان الإنسان كونه في
رحلة إلى الدار الآخرة تكتمل بنزول ملك الموت لقبض الروح، ونظراً لخطورة
تلك الغفلة عن ذلك المصير وما تنتجه من ضعف الخوف من الله (تعالى) وقلة
الخشية له، وبالتالي عدم المحاسبة للنفس والمراقبة لعملها، قال (عز رجل) محذراً
من ذلك:] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [] الحجر: 3 [،
وقال -صلى الله عليه وسلم- موصياً ابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو
عابر سبيل) ] 10 [، (وذلك لأن الغريب لا تعلق له ببلد الغربة، ولا تشاغل لديه
بملذاتها وملهياتها، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه) ] 11 [ (والمسافر لا هم له
في الاستكثار من متاع الدنيا أثناء قطعه لمنازل السفر، وإنما يكتفي بتحصيل زاد
السفر له ولراحلته لا غير) ] 12 [.
2- عدم موازنة الإنسان بين جوانبه المختلفة:
الانغماس في زهرة الحياة وبهارجها ناتج عن تغليب الإنسان لمتطلبات،
جسده من مأكل ومشرب وملبس ومركب ومسكن ووسائل ترويح … الخ وإغفاله
لمتطلبات مهمة أخرى من عقل وروح، وعدم قيامه بالأخذ بالهدي النبوي الرشيد
الداعي إلى الموازنة بين تلك الجوانب المختلفة، روى البخاري أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن عمرو حين -علم بمغالاته في العبادة: (ألم أخبر
أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل صم
وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك
عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً) ] 13 [.
وروى البخاري أيضاً (أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-
سألوا عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله
عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي
الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء
فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أنتم الذين قلتم كذا
وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد،
وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ] 14 [.
3- حب التقليد أو التأثر بضغوط الواقع:
يرغب بعض الدعاة في أن يكون ابن بيئته - كما يقولون - فيرى أنه لابد له
من الظهور بالمظهر اللائق به مطعماً ومشرباً ومركباً ومسكناً وخدماً وترفيهاً
فيضطر لكي يصل إلى ذلك الهدف إلى تقليد المترفين في بيئته ممن لا خلاق لهم
مباهاةً وتفاخراً وحباً في مساواتهم في أحوالهم ومعاشهم، إن لم يصل به الأمر إلى
حد الرغبة في التفوق عليهم وتجاوز ما هم فيه من ترف.
وهذا مرض داخلي يوجد لدى بعض الدعاة، وقد يكون الأمر على العكس من
ذلك فلا يوجد لدى ذلك الداعية رغبة ذاتية في الترف، لكن أفراد مجتمعه الذي
يعيش فيه من أقارب وأصحاب - ممن رفعوا شأن زخرف الحياة وصارت شهوات
الدنيا وملذاتها في نظرهم قيمة يقاس الإنسان نجها؛ فبمقدار ضخامة منزل الشخص
وكثرة خدمه وعدد مراكبه وبذخه في مأكله ومشربه وملبسه: تكون مكانته
ومنزلته - يدفعونه إلى ذلك دفعاً من خلال المطالبة بإلحاح شديد من قِبَلِ الأهل والأقارب بتوفير وسائل الترف، أو من خلال النقد الجارح واللوم اللاَذعَ من الأصحاب على ما يسمونه بحرمان النفس من خيرات الله (تعالى) ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، بل إن المطالبة واللوم قد يصحبهما سوق العديد من المبررات التي يجدها الداعية تحت ضغط الواقع الشديد مقنعة نوعاً ما فتتغير نظرته شيئاً فشيئاً إلى أن تزول قناعاته السابقة فتتبدل حاله، ويصبح في غالب أمره كسائر أفراد مجتمعه.
4- ضعف التربية:
من أبرز أسباب الترف ضعف التربية وضعف التوجيه الجاد والمناسب
للشباب من قبل بعض المربين في كيفية التعامل مع فتنة الحياة الدنيا وزخرفها وما
نتج عن ذلك من عدم تربية النشء على الجَلَدَ والخشونة بذريعة الخوف من انفراط
اجتماع الطلاب حول المربي والخشية من انصرافهم عنه بالكلية!
5- كثرة المال ووفرة النعم:
زيادة المال ووجود النعم ووفرتها تكون أحياناً من أكبر دواعي الترف وأسبابه، وذلك لأن المال يعمي ويصم، ويدعو إلى الركون والمتعة والراحة ويدفع صاحبه
إلى البذخ والإنفاق في غير حاجة، وقد أوضح الله (تعالى) في كتابه هذه الحقيقة في
آيات، منها قوله (تعالى) :] كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [] العلق:
6-7 [، ومن أجلى صور الطغيان وأوضحها البطر بالنعمة والإنفاق في غير حاجة
ترفاً ومباهاة وحباً للظهور.
يقول (سبحانه) على لسان المترفين الذين أبطرتهم النعمة:] وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ
أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [] سبأ: 35 [، فكثرة الأموال قادتهم إلى الترف
والبطر والكبر، وتلك الأمور جرتهم إلى تكذيب الحق، ورفض قبوله والإذعان له.
ويزداد تأثير كثرة المال ووفرة النعم على الإنسان وجره إلى الترف وغاية
الرفاهية حين يكون مولوداً في النعم، لم تمر به حالات بؤس، ولم يعرف شدة
البلاء ومعاناة الفقر، بل جاءه المال وتوفرت لديه النعم بسهولة ويسر من دون ما
كسب أو بذل جهد.
6- حب النفس للشهوات:
حبب الله (تعالى) للبشر زينة الحياة الدنيا وزخرفها، فقال (سبحانه) :] زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ
والْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والْحَرْثِ … [] آل عمران: 14 [، وليست المشكلة في
ذلك الحب الذي وضعه الله (تعالى) في القلوب، بل إنه فطري وضروري لاستمرار
الحياة والقيام بواجب الخلافة في الأرض، ولكنها تكمن في تقديم حب تلك الأشياء
على محبوبات الله (تعالى) ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما ينتج عن ذلك من
التشاغل بها والركون إليها حتى يصير الإنسان كأنه مسترق لها لا يستطيع عمل ما
يخالفها وإن كانت في ذلك سعادته ونجاحه، وقد حذر الله (عز وجل) في كتابه عباده
من تقديم حبهم لشهواتهم وملذاتهم على حبه (سبحانه) وحب رسوله -صلى الله عليه
وسلم- والعمل لدينه، فقال (سبحانه) :] قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ [إلى قوله (تعالى) :
] وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ
ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِي [] التوبة: 24 [.
7- الإغراء بالوقوع في الشهوات:
يسعى أعداء الدين من يهود ونصارى وأذنابهم في أوساط المسلمين إلى إلهاء
الأمة - وبخاصة شباب الصحوة المنتسبين منهم إلى الدعوة - بالشهوات وغمسها
بالملذات لتلهو وتعبث حتى لا تفيق على ما يفعلون بها من محاولة طمس عقيدتها،
وعدم استعادتها لمكانتها وكرامتها، حيث أغرقوا أسواق المسلمين بوسائل الترف
وفنون الملذات، وزينوا ذلك في نفوسهم وبثوا لها الدعايات وأقنعوا الكثيرين بأنها
دليل من أدلة الحضارة وعنوان من عناوين التقدم والتميز والرقي في المجتمع.
ولقد أفصح أولئك الأشرار عن نواياهم الخبيثة؛ ومن ذلك ما جاء في
البروتوكول السادس من (بروتوكولات حكماء صهيون) : ( ... سنشجع حب الترف
المطلق ... ) ] 15 [، وما جاء في البروتوكول الثالث عشر: ( ... سنلهيها - أي:
الجماهير - أيضاً بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومزجيات للفراغ والمجامع
العامة وهلم جرا …) ] 16 [.
هذه آثار الترف:
لتوجه بعض الدعاة إلى معيشة الترف آثار عامة وآثار خاصة بمسيرة الدعوة، سأتحدث أولاً عن آثار الترف العامة، ثم أتبعها ثانياً بآثار الترف الخاصة وآثارها
السيئة على مسيرة الدعوة.
من آثار الترف العامة:
* قلة العبادة والتكاسل عن الطاعة ونسيان الآخرة، وذلك لأن القلب له حد لا
يستطيع تجاوزه، فمتى ملىء بشيء حتى فاض استحال ملؤه بغيره حتى يلقي
صاحبه ما فيه أو ينقص منه، والمترف قد ملأ قلبه أو كاد بِهَمّ الدنيا وتحصيل متعها
وشهواتها، فلم تجد العبادة وتذكر الآخرة المكان الكافي لهما في قلبه، مما اضطر
غالبها إلى الرحيل، قال أبو حازم -رحمه الله-: (يسير الدنيا يشغل عن كثير
الآخرة) ] 17 [، فإذا كان هذا حال اليسير من الدنيا فكيف بحال الكثير؟ ! .
* جعل الإنسان نفسه عرضة لعبودية الهوى والشهوات، ورد الحق والتكذيب
به، وقد أبان الله (تعالى) في كتابه أن الترف سبب لذلك في آيات عديدة، منها:
قوله (تعالى) :] واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ [] هود: 116 [، وقوله (عز وجل) :] وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم
بِهِ كَافِرُونَ [] سبأ: 34 [، وقوله (سبحانه) :] وذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ
ومَهِّلْهُمْ قَلِيلاً [] المزمل: 11 [
* ضياع ساعات عمر الإنسان وأيامه في أمور إن لم تكن مع سيئاته فلن
تكون مع حسناته بحال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محذراً من ذلك:
(ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة) ] 18 [،
ومما استحسن من كلام الحجاج قوله على المنبر: (إن امرءاً ذهب من عمره ساعة
في غير ما خلق له لخليق أن تتطاول عليه حسراته) ] 19 [.
* ضعف استشعار مراقبة الله (تعالى) للعبد وندرة محاسبته لنفسه ومراجعتها
فيما تعمل ليعرف المرء ما له وما عليه فيتزود من الخيرات ويترك اقتراف ما لا
يُقَرِّبُه من الله (تعالى) من آثام أو مباحات.
* زيغ بعض الناس وانحرافهم وخروجهم من عداد الصالحين نتيجة الإكثار
من الملذات والشهوات المباحة أولاً، ثم التوسع فيها حتى يخرجوا عن دائرة المباح
إلى دائرة المشتبه فيه، ومع الزمن يقعون في المحرمات قليلاً قليلاً حتى يصلوا إلى
مرحلة الهلكة وزيغان القلب، وخروجه إلى دائرة الفسق إن لم يتجاوزها، نسأل الله
السلامة.
* العُجْب بالنفس والتكبر على الآخرين، وهاتان الصفتان موجودتان لدى
بعض الدعاة نتيجة عيشهم في أوساط النعيم، ولكنهم لا يتمكنون - في الغالب - من
الشعور بها إلا من أدام منهم النظر في حاله أو نبهه عليها آخر ممن وفقهم ربهم
وصانهم من الوقوع فيها، وذلك راجع إلى كونهما تبدءان في النفوس كخيط رفيع
جداً لا يُرى ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يبين ويتضح، ويكون الداعية عند ذلك قد غفل
وخف مبدأ محاسبته لنفسه.
* كسر قلوب الضعفاء وذوي الفقر والحاجة في المجتمع من جهة، وتكون
الحقد لديهم على ذوي اليسار والترف من جهة أخرى، نتيجة ما يلاحظونه من
وجود فوارق كبيرة في العيش والإنفاق بين طبقات المجتمع المختلفة، وذلك من
خلال المقارنة بين حال المترفين العابثين بالأموال اللاهين بالنعم، الذين لا يعرفون
فضل الخيرات وقيمتها ممن لا يقدمون معروفاً لمستحقيه، وبين أحوالهم حين يرون
أنفسهم لا يستطيعون الحصول على ضروريات الحياة وحاجياتها.
* عدم القدرة على تحمل المشقة والتجلد للشدائد والتأهب لمجيء الفتن وتقلب
الأيام، وذلك نتيجة عجز الإنسان وعدم تهيئته لنفسه وترويضه إياها على تحمل
ذلك لو نزل به.
* ضياع الأموال والعبث بها في الترهات مما أدى إلى عجز بعض الناس عن
القيام بالواجبات، فكيف بالمستحبات؟ بل إن الأمر قد وصل بأناس إلى الاقتراض
للإنفاق على الملذات وما تشتهيه الأنفس.
* نجاح مخططات الكفار في إلهاء المسلمين بالترف والبذخ وما صاحب ذلك
النجاح من ازدهار صناعاتهم لوسائل الترف التى يرسلونها إلى أوساط المسلمين
ليلهوا بها ويترفهوا، وينشغلوا عن قضاياهم الكبرى، وهذا ملموس.
* قساوة القلب وغلظة الحس وثقل البدن مما يؤدي إلى نسيان العلم وزوال
الفطنة والحرمان من متعة، التطلع إلى ما وراء اللذة الآنية بالإضافة إلى الحرمان
للنفس من متعه الاهتمامات الكبرى اللائقة بالدور العظيم للمسلم في هذه الحياة مع
انشغال القلب عن التبصر بما يدور حوله للعبرة والعظة من ذلك نتيجة غرقه في
لجة اللذائذ والشهوات] 20 [، قال الشوكاني -رحمه الله- عند قوله (تعالى) :] إلاَّ
قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [: (وخصص
المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر) ] 21 [.
* انتشار البطالة وظهور العجز والكسل وشيوع التواني عن أداء الأعمال
النافعة بحيث يقوم بعضهم بإنجاز عمل يوم في أسبوع، وإنجاز عمل أسبوع في
شهر، ... وهكذا، ولخطورة هذا الأثر في حياة المسلم كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ... ) ] 22 [.
* ظهور السمنة لدى كثير من الناس وانتشار كثير من الأمراض الناتجة عن
التخمة وقلة السعي والحركة.
وللحديث بقية..
* * *
قطوف رمضانية
قال -صلى الله عليه وسلم-: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها
إلى سبعمائة ضعف؛ يقول الله (عز وجل) إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به؛ ترك
شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند
لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) أخرجه البخاري
ومسلم.
__________
(1) القاموس المحيط ص 1026.
(2) الترف للأستاذ / ناصر بن عمار، ص 7.
(3) مسلم 4/2274، ح 2961.
(4) ابن ماجة 2/1192، ح 3605، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2 /830، ح 4505.
(5) صححه الألباني في صحيح الجامع 1/359 ح 1742، وعزاه للبيهقي في الشعب عن أبي سعيد.
(6) أبو داود 4/3331 ح 4063 وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 284 ح 1333.
(7) مسلم 4/2087 ح 2720.
(8) أبو داود 4/392 ح 4161 وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/ 784 ح 3507.
(9) جامع الأصول 4 / 680.
(10) البخاري مع الفتح 11/237 ح 6416.
(11) جامع العلوم والحكم 2/378.
(12) السابق 2/381.
(13) البخاري مع الفتح 4/256 ح 1975.
(14) السابق 59 ح 5063.
(15) الخطر اليهود للتونسي 126.
(16) السابق 151.
(17) ذم الدنيا لابن أبي الدنيا 135.
(18) حلية الأولياء 5/361 وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2/997 ح 5720.
(19) نصيحة الملوك للماوردي 17.
(20) انظر الظلال 1/373.
(21) فتح القدير 4/773.
(22) مسلم 4/2079 ح 2706.(85/8)
دراسات شرعية
الصلة بين الأخلاق والعقيدة
د. جلال الدين محمد صالح
ترتبط الأخلاق بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً يفوق حد التلاحم والتمازج ويستحيل معه
تصور انفكاك إحداهما عن الأخرى بحيث يمتنع تخيل أخلاق مجردة عن العقيدة،
أو عقيدة مجردة عن الأخلاق، مما يجعلنا نوقن أن كل الخصائص الأخلاقية
المنحرفة هي - لا محالة - إفراز عقائد منحرفة، بينما الأخلاق النبيلة تظل دليلاً
ساطعاً على انبثاقها وانبعاثها من وحي عقيدة نقية نائية عن التحريف وإيحاءات
القصور البشري، وفي الوقت ذاته: توقن أن الأخلاق المنحرفة برهان على وجود
الأخلاق المستقيمة كالنقود المزيفة تكون دليلاً على وجود النقود الصحيحة.
والسرد القرآني للقيم الأخلاقية يُعَضِّدُ هذه الرؤية، ويبين بداهتها ونصاعتها
لكل متأمل يتلو آيات القرآن بتدبر وتفكر، حيث نجد نعوت الكمال الإنساني
وخصال أخلاقه الحميدة محاطة بصفاء العقيدة ونقاء التصور ووضوح العبودية لله
رب العالمين، بينما تأتي مفردات الأخلاق الذميمة وموبقاتها مقرونة بالانحراف
العقدي والتشوش الفكري والارتكاس في مفاهيم الشرك؛ حيث: تقديس الأحجار
والأشجار والأبقار والطواغيت، والانحدار دوماً إلى ما دون المكانة الإنسانية،
فالشرك في حد ذاته صفة أخلاقية تستجمع كل الشرور، وتتولد عنها كل الأخلاقيات
الهابطة، وكل السلوكيات المنحرفة، لأنه منهج استكباري يستنكف صاحبه أن
يكون عبداً لله، وقد كان أول سلوك من هذا القبيل ما جاهر به إبليس أمام الله
(سبحانه) [وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الكَافِرِينَ] [البقرة: 34] .
وهكذا أضحى الاستكبار على الله، ومن ثم التعالي على عبادة قريناً للشرك
ورديفاً له، والذي تجلى في موقف إبليس مع الله (عز وجل) يتجلى لنا أيضاً في
السلوكيات التي أبداها قوم نوح (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) معه حين جعلوا
أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا، وبهذا النهج
الأخلاقي بات المنحرفون يتواصون حتى صار من دأبهم توارث الاستكبار على الله
والاستخفاف بالعباد وإرادة العلو والإفساد في الأرض، وهو دأب تعرضه علينا
آيات القرآن كلما صورت لنا واقعاً عقدياً منحرفاً تنعته بالطغيان تارة، والاستكبار
والعلو في الأرض تارة أخرى [اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى] [النازعات: 17]
[إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً] [القصص: من آية 4] ،
[قَال الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ] [الأعراف: 76] .
وكل هذه النعوت صفات أخلاقية مقيتة لا يمكن أن تكون إلا مع الانحراف
العقدي والارتداد عن عبادة الله (سبحانه وتعالى) ، تتكاثر عنها كل الشناعات
الأخلاقية من: قتل، وهتك، ونهب، وظلم، وإشاعة الفاحشة بين العباد، ففي
مجتمعات الكفر وأنظمة الشرك تسود الطبقية، وتوطأ إنسانية الضعفاء، وتسخر
طاقاتهم لخدمة الطغيان واستكبار الملأ، وفي مجتمعات الكفر والشرك تستشري
الفاحشة بين الأفراد وتجد الحماية والرعاية، فما فعل قوم لوط سوى ممارسة غير
أخلاقية ساقطة ظهرت ونمت في ظل الانحراف العقدي حيث كان قوم لوط أول
مجتمع كافر مارس هذه الفعلة القبيحة، ونافح عنها وتعامل معها وكأنها خلق إنساني
رفيع لا تستهجنه النفس البشرية ولا تأباه الفطرة السوية، وفي مجتمعات الجاهلية
استساغ الناس وأد البنات، واضطهاد الضعفاء، وإكراه الإماء على البغاء،
وتعاطي الربا والقمار والتآزر على الباطل حتى قال شاعرهم: (من لا يظلم الناس
يظلم) ، وشعارهم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) (بالمعنى الجاهلي) *
السلوك الأخلاقي عند أهل الكتاب:
وأهل الكتاب - الذين كان الأجدر بهم أن يكون لهم فضل الإصلاح الأخلاقي
بما استحفظوا من كتاب الله - فقدوا هذه الخاصية بما كسبت أيديهم من تحريف لما
أوحي إليهم ونسيان لما ذكروا به، فصاروا هم أشد ضلالاً وأعظم انحرافاً وأكثر من
يسعى في الأرض فساداً.
فالتزييف اليهودي للتوراة كان وراء تشبع الروح اليهودية بسفاسف الأخلاق
التي نالت من قداسة الأنبياء وطهارتهم حين رمتهم بسلوكيات لا تليق بهم، متهمة
نوحاً (عليه السلام) بالسكر ومضاجعة بناته، ومتهمة داود (عليه السلام) بالافتتان
بزوجة أحد قواده والتآمر عليه، والتحريف اليهودي للتوراة كان وراء العقلية
اليهودية في تأصيل أخلاقيات التزوير، وطمس الحقائق، وكتمانها [الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ]
[البقرة: 146] .
والتحريف اليهودي للتوراة كان وراء استباحة اليهود لأموال غيرهم وشعورهم
بالتميز العرقي على الآخرين تأسيساً على اعتقاد كاذب، يزعم أنهم أبناء الله
وأحباؤه، وأن كل من سواهم حمير خلقوا لخدمتهم، من هنا صار اليهود رسل
الفساد يسيحون في الأرض بنظرياتهم السلوكية المدمرة، التي تدعو علناً إلى
الانسلاخ من كل ما له صلة بأخلاقيات الطهر والعفاف، وساهمت أقلامهم وأدمغتهم
في ابتداع وسائل غير أخلاقية شريرة، فأوجدوا أندية العراة، وشواطئ الانحلال
والتفسخ الأخلاقي، وبنوك النهب والاستغلال، وساندوا نمو الدعوات الساعية إلى
خنق كل سلوك أخلاقي يصون كرامة الإنسان ويعصمه من المنحدر الحيواني،
وأخذوا على أنفسهم أينما وجدوا ألا يدخروا وسعاً في تفريغ الذات البشرية من كل
إيمان يُعمق في أحشائها أخلاقيات التزكي والتطهر، إدراكاً منهم أن الانحراف
العقدي والفراغ الديني أفضل مناخ مناسب لتزايد الانحراف الأخلاقي، لهذه الغاية
كان اندساس اليهود في الكيان النصراني، وإعمال يد التحريف في العقيدة
النصرانية على يد شاؤول المعروف عند النصارى (ببولس الرسول) مما نجم عنه
تحول المجتمعات النصرانية إلى مجتمعات الضلال الأخلاقي حيث تعفنت أديرة
الرهبان وكهوفهم بكل القاذورات الأخلاقية، وبهذا: لم يعد مجتمع النصارى صالحاً
لأن يكون مصدر إشعاع أخلاقي يتحقق به خلاص النفس الإنسانية وسعادتها،
فالإنجيل المحرف بما تضمنه من معتقدات ساذجة وباطلة دفع معتنقيه إلى نبذه
وإدارة الظهر له، والانطلاق في الحياة بلا قيود أخلاقية، والاستعاضة عنه بأخلاق
وضعية هي أخلاق الرأسمالية الأوربية والاشتراكية الماركسية.
الرأسمالية والأخلاق:
والأخلاق الرأسمالية هي نتاج طبيعي للواقع العقدي المنحرف، ولذا جاءت
هذه الأخلاق أشد فتكاً بالإنسان وأكثر تهديداً له، وإنها مهما بدت ملاذاً آمناً فلن
تكون حلاً للمعضلة الأخلاقية التي تلوي اليوم عنق أوروبا، لأنها هي في حد ذاتها
جزء من المشكلة التي جاءت لحلها، ولأنها تسير على النهج الانحرافي نفسه؛
يروي الأستاذ (محمد قطب) عن شقيقه (سيد) (رحمه الله) أنه أثناء زيارته لأمريكا
كان ذات مرة جالساً في حديقة فاقترب منه رجل أبيض، وسأله: من أين أنت؟
فأجاب سيد (رحمه الله) : من مصر، فرد عليه قائلاً: إذن أنت مسلم، قال: نعم،
قال: إذن حدثني عن الإسلام، فأخذ سيد (رحمه الله) يحدثه عن الإسلام، والرجل
منصت باهتمام حتى أنهى سيد حديثه، عندها قال الرجل: جميل ما قُلته ولكن
الدولار هو الإله الوحيد الذي أعرفه! ! .
هكذا حولت الرأسمالية الإنسان إلى عبادة إله جديد هو الدولار، فزادته تعاسة
على تعاسة، قال: -صلى الله عليه وسلم- (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار..) ، ولقد ديست كل المكارم الأخلاقية فاختفت عن الوجود الفعلي بقايا الأخلاق
الربانية المتناثرة في صفحات الإنجيل المحرف مغمورة بما يعرف (بأخلاق النتائج)
وأصبح الرأسمالي لا يرى حرجاً من إبادة شعوب وأمم بأكملها كما فعل بالهنود
الحمر بحثاً عن الذهب الأصفر، وكما فعل مع سكان مستعمراته في إفريقيا حيث
اقتاد منهم الألوف - بعد أن نهب خيرات أوطانهم - مكبلين بالأغلال في الأعناق
والأيدي والأقدام استغلالاً لسواعدهم وقوة أجسامهم في استثمار اقتصادي لا يعود
نفعه إلا إلى الرأسمالي ذاته، ثم من وحي أخلاقه الرأسمالية اعتمد معيار اللون
والثراء في التفاضل؛ فالنازية في ألمانيا، جعلت العرق الآري أفضل من وجد على
الأرض، والرجل الأبيض عموماً في أوروبا وأمريكا وأفريقيا مارس أخلاقيات
التفريق العنصري، واصطفى ذاته لتكون في القمة، واضطهد السود -لمجرد أنهم
سود - في أمريكا، وحتى وقت قريب في جنوب إفريقيا، ولم تنعتق هذه الشعوب
من قبضته واضطهاداته إلا عبر تضحيات باهظة التكاليف ونضالات عنيدة
ومتواصلة حتى انتزعت من بين فكيه شيئاً من حقوقها، ثم في تناقض صارخ كثيراً
ما نسمع ضجيجه عن حقوق الإنسان، مصاغة وفق اختياراته واستحساناته،
منطلقة من جذور عقائد محرفة، وأهواء قاصرة، وأخلاقيات نفعية، تساير الظلم
وتسانده إذا ما رأت فيه مبتغاها.
إن مفردات العدالة والحرية والإنسانية، تعدم محتواها الأخلاقي الرباني عندما
تُحشى بمحتويات المفاهيم الرأسمالية المتمخضة عن مصالح الرجل الأبيض،
والهائمة وراء عبادة الدولار! الذي أوحى إلى عابديه إباحة كل الشناعات الأخلاقية
قرباناً له، فلا حرج في وحي ذلك الإله المزعوم أن يعبد في محراب القمار وبنوك
الربا وأسواق الاستغلال ومواخير الفساد والانحلال الخلقي، ولا بأس من أن يتقرب
إليه عابدوه بأخلاقيات الظلم والغش والاحتكار، والعبث بإنسانية الإنسان بسن
تشريعات لا أخلاقية بهيمية تعقد لها المؤتمرات وتنفق عليها الأموال كالمؤتمر
السكاني الأخير، ليقر بنود وثيقة تقدمت بها هيئة الأمم المتحدة وتضمنت أقبح
الفظائع الأخلاقية، ومن أبرز ما فيها: -
1- إباحة الإجهاض لكل الأعمار.
2- الحرية الجنسية للمراهقين والأطفال حرية مطلقة.
3- حق المراهقين في أن تكون لهم حياة خاصة ومعلومات سرية لا تنتهك
حتى من الوالدين..
4- يعاون المراهقون والأطفال على احترام الحقوق السابقة من الحكومات
ومن المؤسسات الأخرى، وعلى الوالدين احترام حقوق هؤلاء.
وهذا غاية الإفساد في الأرض الذي يتم بدعم من القوى الرأسمالية وهيمنتها
التي يراد من البشرية أن تَرِد معاطنه وترتوي من مستنقعاته الآسنة، وهو شقاء
أخلاقي سبق أن سلب الإنسان الأوربي سعادته وألجأه إلى نمط أخلاقي آخر هو نمط
الأخلاق الاشتراكية، نمط نكد لا يخرج إلا ما كان نكداً، يستمد كل تنظيراته
الأخلاقية في شتى جوانبه الحياتية من أصوله الإلحادية، ويقرر أن سعادة الإنسان
تكمن في أخلاقيات الصراع الطبقي التي تدفع به - حسب زعمهم - إلى حياة الرفاة
والرغد في مجتمع شيوعي تغيب عنه الدولة وتختفي فيه شارات الشرطة ويحكمه
قانون (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته) ، وهو نهج يرفض في نظمه
الأخلاقية كل سلوك يعيق تقدمه أياً كان مصدره وينعته بالأخلاق البرجوازية، وقبح
الشيء وحسنه يتحدد فقط بالنظر إلى مردوده على طبقة البروليتاريا على حد
تعبيرهم.
وانطلاقاً من هذه النظرة سلك القادة الشيوعيون كل شعاب السلوكيات المتردية
فأشاعوا حالة الخوف الدائم، وأفسدوا بالمرتبات الكبيرة والامتيازات رجال الجيش
والبوليس والأجهزة السياسية والأفراد المطيعيين من طبقة المثقفين، وأسكتوا قمعاً
كل صوت مقاوم.
وفي كتاب مدرسي عن الأخلاق الماركسية معد للمدارس الثانوية في المجر
سنة 1978 م، يقول: (إن الطفل ابناً كان أو بنتاً لا يصح بحال أن يُقدم على قتل
أمه إلا إذا أصبحت خائنة للطبقة العاملة..) [1] .
وخيانة الطبقة العاملة هي إبداء النقد لسلوكيات الفكر الاشتراكي وأئمته أو
التعامل معه بشيء من الحذر والحيطة، والأمانة الأخلاقية في زعمهم هي الفناء في
شخصية القيادة الماركسية، والدينونة لمقولاتها، وتكريس عبادتها، ولعلنا لاحظنا
جميعاً كيف أن الشعب الكوري الشمالي أحتشد حول صنم الزعيم الكوري غداة
هلاكه ساجداً راكعاً، بل إن من الحجارة من اكتسب شيئاً من القداسة في كوريا
لكونه حظى بجلسة من رائد الفكر الاشتراكي الكوري؛ ففي تابوت زجاجي بساحات
أحد المصانع بكوريا الشمالية عرض حجر بداخله، ومكتوب عليه هذه العبارة:
(الحجر الذي جلس عليه الرفيق الحبيب المبجل عندما كان يتحدث) [2] ، ومن
البداهة أن تعلن هذه المعتقدات كسادها، وتترك اللاهثين خلفها في العراء حيارى
وقد خلت أفئدتهم من كل معتقد صحيح وخلق رفيع، ذلك ما كان من النمط
الاشتراكي البديل للنمط الرأسمالي على يد (جورباتشوف) في أطروحته المعروفة
(بالبيرسترويكا) ، ولم يكن هذا الإعلان انتصاراً للنقيض الرأسمالي بقدر ما كان
تأكيداً لتخبط أهل الكتاب، وعجزهم عن انتشال البشرية من ورطتها وتخليصها من
مأزقها بتقديم أخلاقيات وضعية يزعمون أنها تسعد حياتها وتعظم إنسانيتها.
إنه انتصار فقط للعقيدة الإلهية الداعية إلى عبادة الله وحده [قُلْ يَا أَهْلَ
الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]
[آل عمران: 64] .
الأخلاقيات في الإسلام:
إنه انتصار للإسلام الذي ينطلق في إصلاحاته الأخلاقية من حقيقة العبودية لله
(عز وجل) ، فطرة الله التي فطر الناس عليها - وهي حقيقة لا يضارعه فيها أحد،
وقد تميز بها عن غيره - فيثير في النفس الإنسانية مكامن التدين ويوقظ فيها مواطن
الفطرة، ومعاقل الإيمان ويعتقها من الخضوع لغير الله حتى إذا ما تخلصت من
الشرك وشوائبه، وأيقنت أن الوحيين هما مصدر التلقي وهما مصدر التحليل
والتحريم، انساقت دونما تلعثم أو تعثر لأخلاقيات الدين، فيضبط مسار حياتها،
ويوجه حركاتها وسكناتها.
وهذا النهج نراه في دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونراه في
دعوة من قبله من الأنبياء، فقد كان الإصلاح النبوي في الرسالات السماوية يتوجه
قبل كل شيء إلى تمكين مفاهيم العقيدة الصحيحة وتصويبها أولاً ليعقبها بعد ذلك
تلقائياً تلقي أخلاقيات الإسلام والانصياع لها بنفس ملؤها الرضى والاطمئنان كما
كان ذلك من جيل الصحابة (رضوان الله عليهم) لحظة تحريم الخمر، فالنهي عن
كل خلق مشين لا يمكن أن يؤتي ثماره مالم يُسْبَق سلفاً بتعميق العبودية لله (تعالى)
وتثبيتها في الوجدان، لذا، نلاحظ التوجيه الرباني في القرآن الكريم يجعل مسألة
تصحيح الانحراف العقدي والبراءة من الشرك في مستهل الأخلاقيات الضرورية
التي يلزم التعهد بالتزامها عند إرادة الانضمام إلى مجتمع الإسلام [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا
جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا
يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ولا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [الممتحنة: 12] .
ولا يفصل الإسلام تقريراته الأخلاقية عن قضية العبودية لله رب العالمين،
لتنال عظمتها وقدسيتها من عظمة هذه القضية [وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ
وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] [الإسراء: 23] .
فالخصائص الأخلاقية الحميدة التي تضمنتها سورة الإسراء من: طاعة
الأبوين، وإقامة المكيال والميزان بالقسط، والبعد عن: الإسراف والتقتير، والقتل، والزنا، وأكل مال اليتيم، والتقول على الناس، والسير خيلاءً ومرحاً، وما
أمرت به من الوفاء بالعهد، هي نموذج لكثير من الآيات القرآنية التي تعالج قضايا
الأخلاق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في إطار العقيدة، وهي خصائص
تتعرى عن قيمتها الأخلاقية إذا أقصيت عن محيطها العقدي، أو طرحت في قوالب
عادية، أو قدمت ضمن توجيهات دين محرف، وتضعف هذه المعاني الأخلاقية في
النفس تبعاً للوهن الذي يعتري العقيدة (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) .
ولهذا كان من أخلاقيات النفاق - كما ورد في السنة -: الكذب في الحديث،
والإخلاف في الوعد، والخيانة في الأمانة، والغدر في العهد، والفجور في
الخصومة، كما أن الفِرَق المبتدعة التي انحرفت عن مسار أهل السنة والجماعة
تنفرج عندها زاوية الانحراف الأخلاقي بقدر انحرافها عن منهج العقيدة الصحيحة،
ففي التصوف المنحرف نجد الوله بالمردان، والافتراء على الله ورسوله، وفي
منهج الرفض يتضخم التدين بازدراء الصحابة، ويتبوأ التخلق بأخلاقيات الكذب
باسم التقية مكاناً علياً، كما أن كل أموال الناس - بزعم استحقاق الخمس - يعد من
صميم المعتقد الرافضي، وعلى قسط من هذه الأخلاقيات ينطوي التوجه الخارجي
القائم على قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان.
وفقه الأخلاق ينبغي أن يكون على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة، حيث
يثير في النفس مكامن الدين ويوقظ فيها مواطن الفطرة ويجعل خضوعها لله وحده،
وذلك كله ضروري لنجاح مسيرتنا الدعوية، وأهدافنا الإصلاحية، وإن أي توجه
دعوي لا يعي هذه الحقائق ولا يوليها اهتماماته حري به أن يعيد النظر في مفاهيمه.
والله الموفق ...
__________
(1) انظر علي عزت بيكفوتش: الإسلام بين الشرق والغرب / 206 بتصرف.
(2) انظر علي عزت بيكفوتش: الإسلام بين الشرق والغرب / 207 * أخرج البخاري عن أنس (رضي الله عنه) : قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله أنصره اذا كان مظلوماً أفرأيت إذا كان ظالماً، كيف أنصره؟ ، قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره) البخاري كتاب الإكراه، ج 8، ص 59
- البيان -.(85/22)
مقال
السلم والقتال في الإسلام
قراءة دلالية وشرعية واصطلاحية
كمال السعيد حبيب
المدخل اللغوي:
لا تمثل اللغة مجرد قالب شكلي تصب فيه الألفاظ، ولكنها تعبير حضاري
للتفاهم بين أفراد أمة، ولذا: فإن للألفاظ ومعانيها دلالات حضارية تعكس رؤية
الحضارة التي أنتجت هذه الكلمات للكون وللذات وللآخر، ولذا: فإن التحليل
اللغوي يمثل أحد المداخل الهامة لمعرفة موقف حضارة (ما) من بعض القضايا
وكيف تصورتها وفكرت فيها وعبرت عنها، والأداة الرئيسة لمعرفة ذلك ستكون
(القواميس اللغوية) كما يمكن تتبع التطور اللغوي للمصطلح إذ قد تتطور دلالته
اللغوية إلى تعبيرات أخرى تتجاوز مجرد الوضع الأول له، وهو ما يعرف بـ
(الدلالة العرفية) ، وحتى تتكامل الرؤية فإن مصدراً آخر يجب على الباحث تعقبه
حتى تكتمل الصورة لديه، ذلكم هو كيف تم التعبير عن هذه الكلمة في القرآن
الكريم والسنة المطهرة وهو ما يعرف باسم (الدلالة الشرعية) ، ونحن سنقتصر
في هذه الدراسة على البحث اللغوي في القواميس والبحث الشرعي في القرآن
الكريم، والبحث الاصطلاحي.
أولاً: الدلالات اللغوية لكلمة (السلم) :
بمراجعة لسان العرب فإننا نجد أن المعاني ودلالتها لكلمة السلم تتمحور حول
الآتي:
1- علامة المسالمة - أي ظهور بوادر لغياب الحرب أو توقفها - فالجنود لا
يزالون في الميدان، والقادة مقبلون على ترتيبات السلام التي قد لا تصل إلى نهايتها
صُلْحاً فتبقى حالة الحرب قائمة.
2- الصلح بين جماعتين ففي كتابه -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين
والأنصار حين مقدمه المدينة نص على: (وإن سلْم المؤمنين واحد لا يسالم مؤمن
دون مؤمن) [*] أي لا يصالح واحد دون أصحابه، وانما يقع الصلح بينهم وبين
عدوهم باجتماع مَلَئهم على ذلك.
3- الحياد بمعنى عدم وجود تعامل أو علاقة بين طرفين كما في قوله (تعالى)
[وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً] [الفرقان: 63] أي: لا خير بيننا وبينكم ولا
شر، وليس السلام هنا هُو المستعمل في التحية.
4- الاستسلام وإظهار الخضوع والانقياد والرضا بالأحكام، وتلك هي حالة
الهزيمة التي يفرضها الغالب على المغلوب.
أي: إن مدلول السلم في اللغة يتضمن أربعة مستويات تبدأ بما يطلق عليه في
العلاقات الدولية (الإشارات والرموز) التي يتبادلها أطراف الصراع التي تعكس
تطور إدراكهم بعدم جدوى الاستمرار في الحرب، وتنتهي بحالة الاستسلام
والهزيمة التي لا إرادة للمغلوب فيها مع الغالب، ويبقى موقف الحياد الذي يعني
عدم التعامل، والصلح الذي يعني انخراط طرفي الصراع في ترتيبات تحقق
مصلحة الطرفين؛ لا يختفي في هذه الترتيبات التنازع ومحاولة كل طرف أن يحقق
أكبر قدر من المكاسب، وهو ما يطلق عليه في العلاقات الدولية (الصراع
التفاوضي) ؛ واذا كان (كلاوزنتر) قد قال: (إن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى)
فإن الصلح والتفاوض هما الحرب بوسائل أخرى، ففي رحلة الصلح ورغم توقف
القتال والأعمال العسكرية إلا أن الصراع لم ينته بعد، ومن الواضح في حالة
الصلح وجود إرادتين متساويتين تتنازعان للحصول على أكبر قدر من المكاسب؛
ولذا: فإن وثيقة المدينة التي صاغها النبي بين المهاجرين والأنصار وبينهم وبين
اليهود أكدت على أنه لا يجوز لجماعة أو فئة أن تقرر السلم والصلح دون بقية الأمة، فقرار السلم قرار جماعي ليكون مُتَأكَداً أنه في صالح الأمة، ولكي يكون مسؤولية
كل أفراد الأمة فهو حالة مصيرية كحالة الحرب تماماً لا يجوز لفئة أن تنفرد به دون
بقية المسلمين*.
ثانياً: الدلالة الشرعية لكلمة السلم:
وردت كلمة (السلم) في القرآن الكريم في مواضع متعددة وبمعان متعددة:
1- الاستسلام، كما في قوله (تعالى) : [قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ
إلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ] [الفتح: 16] أي: يدخلون في
الإسلام ويلتزمون أحكام شريعته.
2- الهدنة وعدم الرغبة في القتال، كما في قوله (تعالى) : [فَلا تَهِنُوا
وتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ واللَّهُ مَعَكُمْ ولَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] [محمد: 35] فهنا
قطاع من المؤمنين يرغبون في السلام والمهادنة مع الأعداء؛ لأن القتال يهدر
الدماء أو لأنهم جبناء، كما وردت عن الهدنة من جانب الأعداء، كما في قوله
(تعالى) : [وإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] [الأنفال: 61] .
3- ووردت أيضاً بمعنى الكف والصلح، كما في قوله (تعالى) : [فَإنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]
[النساء: 90] فهؤلاء لم يتعرضوا لحركة المسلمين بالدعوة في الجزيرة العربية وتركوهم يتحركون دون أن يتعرضوا لهم، فهنا لا ينبغي للمسلمين أن يتعرضوا لهم لأن السلم قاعدة لكي يبقى الجهاد ماضياً.
4- ووردت بمعنى كونها قرينة على الإسلام في قوله (تعالى) : [ولا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً] [النساء: 94] أي: قال السلام عليكم، وهو
يدل على إسلامه ظاهراً.
وفي الاصطلاح الشرعي فإن السلم يعني مصالحة المسلمين للكافرين على
تأخير الجهاد إلى أمد معين لضرورة أو مصلحة (ويطلق عليها المسالمة والموادعة) .
أي إن السلم في التصور الفقهي الشرعي هو حالة استثنائية لا يتوقف فيها
الاستعداد للجهاد؛ وإنما فقط للضرورة، أي لأن المسلمين ليس لهم قوة أو لأن
للمسلمين مصلحة في ذلك كتحييد بعض القوى، وهذا التصور مبني على أن العالم
ينقسم إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب، وأن دار الحرب مقصودة دائماً
بالقتال من جانب المسلمين حتى تدخل في الإسلام أو حتى تقبل نظامه وتلتزم أحكام
ملته، فالأصل في هذا التصور هو أن العلاقة بين الدولة الإسلامية والعالم هي
علاقة حرب دائمة ما لم توجد مصلحة أو ضرورة.
ثالثاً: الدلالات اللغوية لكلمة القتال:
1- هي الحرب بين طرفين أو قوتين.
2- الدعاء باللعن والخروج من رحمة الله على الأعداء، كما في قوله (تعالى) : [قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ] [عبس: 17] ، أي: لُعِن، وقوله -صلى الله عليه
وسلم-: (قاتل الله اليهود) أي لعنهم وعاداهم، أي: إن الدعاء على العدو هو
ممارسة قتالية إذ لم يكن بالوسع مواجهته في الميدان إما لعدم الاستعداد العسكري أو
لعدم القدرة إلى النفاذ إليه لأن الحواجز تحول دون ذلك، كمنع المشاركة في
المعارك ضد المسلمين بالبوسنة وفلسطين، فالدعاء يعني استحضار حالة القتال في
النفس دائماً.
3- الاستبعاد والإهمال كما في الحديث (من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من
المسلمين فاقتلوه) أي اجعلوه كمن قتل أو مات بأن لا تقبلوا له قولاً ولا تقيموا له
دعوة؛ فالإهمال والمقاطعة والاستبعاد كممارسة جماعية لمن يريد أن يضر
بالمسلمين داخلياً أو خارجياً هو تعبير قتالي يميت العدو وينفيه من الحضور في
واقع المسلمين وفي أنفسهم، أي: إن هناك بعداً معنوياً ونفسياً في القتال، فحياة
العدو تتمثل في قبوله وحضوره على المستوى النفسي، وموته يتمثل في لفظه
وعداوته واهماله واستبعاده.
4- تحقق أمنية للنفس طال انتظارها، فنقول (قتل غليله أي سقاه فزال
غليله بالرِّي) أي: إن التعلق بالأهداف الإسلامية للأمة ومحاولة بعثها وإحيائها هو
ممارسة قتالية، فإذا لم يكن لدى المسلمين قوة تحقيقها في عالم الشهود الخارجي فلا
أقل من تمثلها في عالم الاستبعاد الداخلي، فدوام تمثلها واستحضارها هو مرحلة
نحو تحويلها إلى حقيقة واقعة..
5- الخبرة والتجربة والممارسة والسياسة فنقول رَجُل مُقِّتل أي مجرِّب
للأمور ويُقال ناقة مُقتِّلة، أي: مذللة لعمل من الأعمال فقد روِّضت على ذلك
واعتادت عليه، وهذا هو الجانب التربوي للقتال فإن تحطيم أهواء النفس وفسادها
وامتناعها حتى تستحيل خلفاً صالحاً قابلاً للطاعة والخضوع، وتَقَبُّل ما تكره
والرضا به، وسرعة التلبية والطاعة حتى فيما تكره النفس وهذا هو ما يمكن أن
نطلق عليه (روح الجندية) .
أي: إن مدلول القتال في اللغة يتضمن مستويات عدة: تبدأ باستحضار
أمنيات الأمة في النفس، وتنتهي بالانخراط في قتال عضوي ضد العدو في ميدان
الحرب، ويتوسط ذلك مستويات عدة من الممارسات تجاه النفس وتجاه العدو، ولا
يمكن لأمة أن تنتصر في معركة حربية مع العدو وهي لم تمارس مستويات القتال
الأخرى على المستوى النفسي والتربوي؛ لذا فإن ظهور ما يسمى بالحرب النفسية
التي توجه في الأساس إلى إدراك الخصم وعقله ونفسه له ما يبرره، وتستطيع
القول بأن الهزيمة النفسية لا يمكن أن تقود إلى نصر عسكري مهما كانت الأمة
متسلحة بالعتاد، فالجانب النفسي الإدراكي في القتال كما يقول ابن خلدون: هو
أساس النصر أو الهزيمة.
رابعاً: الدلالات الشرعية لكلمة القتال:
لقد ورد مصطلح القتال في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وبأشكال متعددة،
فقد قال (تعالى) : [كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ] [البقرة: من 216] أي:
فُرِض، كما ورد في قوله (تعالى) : [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ] [البقرة: من الآية 217] كما ورد في قوله (تعالى) : [وإذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] [آل عمران: من الآية 121] م وقوله (تعالى) : [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
وقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ] [النساء: من الآية
77] وقوله (تعالى) : [ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلَى فِئَةٍ
فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ] [الأنفال: من الآية 16] وقوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ] [الأنفال: من الآية 65] وقوله (تعالى) : [فَإذَا
أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إلَيْكَ
نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ] [محمد: من الآية 20] ، ونجد الفقهاء يربطون
ربطاً محكماً بين مفهوم الجهاد ومفهوم القتال، ففي تعريفهم للجهاد قالوا: هو دعوة
الكفار إلى الدين الحق وقتالهم إن لم يقبلوا.
ويقول بعضهم: الجهاد هُو: (قتال الكفار لنصرة الإسلام) ، فالقتال هو أداة
الدولة الإسلامية في نشر سلطانها لإعلاء دين الله ولتكون كلمة الله هي العليا.
ويمكن القول: إن مصطلح الجهاد يتبادل مع مصطلح القتال دلالته بحيث
يمكن لأي منهما أن يعبر عما يدل عليه الآخر إذا أطلق أي منهما، لكن إذا اجتمعا
معاً فإن مصطلح الجهاد يبدو أوسع من مجرد القتال؛ إذ فيه جوانب دعوية وتربوية
وإعدادية، بينما يعبر القتال عن الحرب في الميدان، لكن لا يطلق الجهاد أبداً
وينزع منه التعبيرات التالية له إما بالاستعداد للقتال أو الانخراط الفعلي فيه، أي:
إن الجهاد من أجل معاش الأولاد مثلاً أو من أجل الحصول على رسالة علمية أو
من أجل بناء عمارة.. الخ، لا يعبر عن المعنى الشرعي للجهاد.
ومصطلح الجهاد أسبق من مصطلح القتال فهو مصطلح مكي بينما مصطلح
القتال هو مصطلح مدني، فهو التعبير المؤسس لحركة دولة، أما قبل الدولة فإن
مصطلح الجهاد هو إعداد نفسي وتربوي ودعوي للقتال باعتبار أن القتال هو أسمى
صورة للجهاد وهو أكثرها خطراً على النفس، ففي المعركة يتعرض الإنسان لزلزلة
الإقدام على الموت وهي فتنة تحتاج إلى تربية وجهاد.
خامساً: رؤية القدماء والمحدثين للسلم والقتال:
هناك إجماع بين الفقهاء القدامى على أن القتال هو أداة الدولة الإسلامية
الحركية لتحطيم القوى التي تقف في وجه نشر سلطان الإسلام على العالم، فالعلاقة
بين دار الإسلام والعالم هي علاقة قتالية تتقدمها الدعوة، ولكن بعض المعاصرين
وتحت تأثير انتشار الأفكار الحديثة عن العلاقات الدولية رأوا أن السلم هو أساس
علاقة الدولة الإسلامية (دار الإسلام) بالعالم، والفقهاء الأقدمون نظروا إلى الجانب
القتالي على أنه ينسخ الأحكام المرحلية التي أجازت السلم، بينما رأى المعاصرون
أن أحكام السلم محكمة وتمسكوا بها وأسسوا علاقة العالم الإسلامي (دار الإسلام)
بالآخر على أنها: علاقة ود ومحبة وعدم اعتداء، وبدون الدخول في الجدل الفقهي- فلذلك موضع آخر- فإننا نحاول من خلال التتبع للدلالة اللغوية والشرعية لكلمتي
السلم والقتال أن نؤسس تصوراً جديداً.
سادساً: بناء تصور جديد لعلاقة دار الإسلام بالعالم
من خلال المدخل اللغوي:
الدلالة اللغوية لكلمة السلم كما أوضحناها لا تنفي وجود تعارض في المصالح
والأفكار والأهداف بين دولة وأخرى، لذا: عكسنا قولة (كلاوزنتر) فقلنا: إن
السلم هو الحرب بوسائل أخرى، فليس معنى أن تكون علاقة الدولة الإسلامية
بالآخرين هي علاقة سلم أن ينتفي الصراع بينهما ولكنه يبقى قائماً واحتمالاته
مفتوحة، فقد يكون التعارض لأسباب سياسية أو اقتصادية أو استراتيجية ولكل حالة
منها أسلوب في إدارة الصراع مع العالم.
أما الدلالة اللغوية لكلمة القتال فإنها لا تعني الانخراط في حرب عفوية بشكل
دائم مع العالم، ولكن هناك مستويات دون القتال تجعل الأمة على أهبة الاستعداد
والاستنفار لمواجهة العدو لأي سبب من الأسباب، فعلاقة القتال في جوانبها الأهم
تتمثل في الاستعداد النفسي من قبل لحالة الحرب، ويمكن تصور أن معنى حالة
السلم بمعنى الصلح متداخل ومتقاطع مع معاني القتال ودلالته التي تركز على
الجانب التربوي بحيث لا يتحول السلم الذي تقيمه الأمة إلى ركون للدنيا وكراهية
للموت، وإنما هو سلم واعٍ ومستعد إذا حاولت الأطراف الأخرى أن تنقض اتفاقها
مع الدولة الإسلامية أو بدا للدولة الإسلامية أن حالة الضرورة أو المصلحة غير
متوافرة، فهو لذلك سلم له طابع مرن ومتغير وليس سلماً مؤثراً، ولا توجد في
العلاقات الدولية المعاصرة حالة سلم دائم أو حالة حرب دائمة، وإنما هي حالة
صراع دائم لا يتوقف، وكلمة السلم والقتال تتضمنان حالة الصراع أكثر من معاني
الاستسلام أو الحياد. إن الاستعداد الدائم للحرب سواء أكان ذلك في حالة السلم أو
ما قبل القتال هو الردع الذي يمنع الخصم من أن يضر بمصالحك أو أن يعتدي
عليها، واستراتيجية الردع المتبادل الآن ليست سوى تملك أدوات القتال والتهديد
بالاستعداد لاستخدامها دون الاستخدام الفعلي لها، وهي استراتيجية تتداخل فيها
تعبيرات السلم والصراعية وتعبيرات القتال السلمية التي تحقق أهداف الحرب دون
استخدامها.
قطوف رمضانية
قال -صلى الله عليه وسلم-: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله
حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري
__________
(*) هو بند من بنود الاتفاقية التي كانت بين المهاجرين والأنصار عند مقدم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، شرح الزرقاني على المواهب اللدنية ج 4 / 168، السيرة النبوية الصحيحة، د إكرام العمري ج 1/297
- البيان -.(85/32)
خواطر في الدعوة
وإخوانهم يمدونهم في الغي
محمد العبدة
ليس غريباً أن يلجأ العلمانيون في معرض التشغيب على الإسلاميين إلى
التهمة المكررة المعتادة (أنتم تريدون الحكم، وتستخدمون الدين وسيلة لهذا الهدف) ،
وليس غريباً أن يعيدوا الكلام البارد الغث عن (الإسلام السياسي) و (الأصولية) مما
يجترُّونه وينقلونه عن الكتابات الغربية، ويظنون أنهم بهذا التهويش الإعلامي إنما
يضعون الإسلاميين في الزاوية الحرجة.
إن هذه التهمة ليست جديدة على مسامع الدعاة إلى الله، فإن للمعاصرين من
العلمانيين سلفاً في ذلك [وإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ]
[الأعراف: 202] ، إنهم ملأ فرعون حيث يذكر القرآن هذا الحوار بينهم وبين موسى (عليه السلام) [قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ] [يونس: 77-78] ، قال في تفسير المنار:
(هذا استفهام وتوريط وتقرير، فحواه: أتقر وتعترف بأنك جئتنا لتصرفنا
عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من الدين القومي الوطني، لنتبع دينك، وتكون لك
ولأخيك كبرياء الرئاسة الدينية وما يتبعها من كبرياء العظمة والملك الدنيوية في
أرض مصر كلها، يعنون: أنه لا غرض لك من دعوتك إلا هذا وإن لم تعترف به
اعترافاً) [1] .
أليست هذه مقولة علمانيينا حذو القذة بالقذة؟ ترى ما الذي أعطى لهؤلاء الحق
في الحكم ومنعه عن الإسلاميين؟ ! ولماذا السياسة حلال لهم وحرام على غيرهم؟! وما هي مؤهلاتهم لسياسة الخلق لما فيه مصلحتهم؟ وماذا قدموا لهذه الأمة طوال
عقود من السنين تربعوا فيها على سدة الحكم قي أكثر أنحاء العالم الإسلامي، إلا أن
تركوا الديار قاعاً صفصفاً، فقد ضعف العلم وانحسرت التنمية، وظهرت طبقات
طفيلية امتصت خيرات المجتمع، وقننت الرشوة والظلم.. وقبل كل هذا فقدت
الأمة أثمن ما تملك: هويتها وانتماءها.
ما أكثر جرأة هؤلاء الذين ملؤوا الدنيا جعجعة بالشعارات الوطنية، هؤلاء
الجاحدون لثقافتهم، المتنكرون لأمتهم، فإن علمانيي أوروبا لم يتنكروا لماضيهم
التاريخي كما فعل هؤلاء، ولم يخجلوا من انتمائهم الحضاري السابق كما يخجل
هؤلاء، ولقد أعلن أخيراً عن فوز الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية
وخاصة الجناح المحافظ المتدين، والذي يقود هذا التيار أستاذ جامعي تذاع
محاضراته ذات الطابع المتدين في جميع الكليات، ولم نسمع أن هناك من يقيم
الدنيا ولا يقعدها، ويدعو بالويل والثبور لانتصار هذا الجناح أو لانتصار
النصرانية (السياسية) ، فلا أدري أي صنف من البشر علمانيونا هؤلاء؟ ! !
إن هذه الأرض لله، والله لا يحب الفساد والظلم [لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]
[البقرة: 124] والمسلم مأمور بالعدل والإنصاف والرحمة للخلق، وقد قام بمهمة
الحكم وسياسة الناس لما فيه مصلحتهم في معاشهم ومعادهم سيد الخلق محمد رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، وقام بها بعده أفضل الناس بعد الأنبياء أمثال أبى بكر
وعمر، ولم يستنكفوا عنها، ولم يزهدوا فيها، ولم يفصلوا بين الدين والحياة،
وبين الدين والسياسة، وامتلأت الأرض عدلاً ورحمة وعمراناً.
واذا جادل هؤلاء بما يقع من أخطاء في جهات إسلامية، فما وقع منهم
أضعاف هذا، ويبقى المسلمون أكثر رحمة وعدلاً وهم المستقلون عن الارتباط
بأعداء الأمة.
__________
(1) تفسير المنار: 11/466.(85/41)
دراسات اقتصادية
السكان والتنمية من المنظور الإسلامي
(2)
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقة الأولى تم تحديد واستجلاء الإطار الفكري الذي قام عليه المؤتمر
العالمي للسكان الذي انعقد في القاهرة خلال شهر سبتمبر لعام 1994 م، كما تمت
مناقشة موقف الإسلام من مفهوم التنمية وعلاقة ذلك بالسكان، وفي هذه الحلقة
سوف يتم مناقشة موقف الإسلام ومعالجته لموضوع السكان ضمن إطار عملية
التنمية وفقاً للمفهوم الذي سبقت مناقشته في الحلقة السابقة.
يمتلك الإسلام أسساً وأطراً توضح العلاقة بين مجموعة أفراد البشر (السكان)
وبين عملية التنمية من حيث إنها وسيلة من وسائل معالجة وجود البشر كثرةً وقلةً،
فكثرة البشر وقله الموارد حقيقة من حقائق وجود الإنسان على هذه الأرض، وهي
جزء من سنة الله الكونية في وجود النقص في الموارد بحيث تتحقق سنة الله في
الابتلاء والامتحان للبشر فيما أعطوا وفيما منعوا؛ يقول الله (سبحانه) : [ولَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ ولَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] [الشورى: 27] .
إن الإسلام يضع ضوابط وقواعد تعالج الخلل عند نقص الموارد، كما تعالج
أسلوب تنمية الموارد الطبيعية بتحسين قدرات الإنسان بحيث تعمل على زيادة
الإنتاج القومي وتحقيق التوزيع العادل بين الأفراد لهذا الإنتاج.
والحقيقة الشرعية حول وجود الناس زيادة ونقصاً تتمثل في أن الله قد حدد
عددهم وأحصاهم ولا يمكن أن يولد إنسان ما لم يكن قد أراد الله ولادته؛ يقول
تعالى: [ولَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ ولَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَأْخِرِينَ] [الحجر: 24] وقد
جاءت هذه الآية لتبين حقيقة أن البشر قد تم إحصاؤهم في الأزل، وأنه لن يكون
هناك نفس مخلوقة أتت إلى الوجود أو تأتي في المستقبل إلا وهي معلومة له
(سبحانه وتعالى) ، فإن الله قد وفر لهذه النفوس احتياجاتها، ولهذا جاء في نفس
السورة وفي هذه الآية تحديد مصدر الأشياء وأن ما يوجد على وجه الأرض معلوم
مقدر؛ يقول تعالى - موضحاً لجميع البشر أن مصدر الرزق وغيره مملوك لله
وتحت تصرفه -: [وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ومَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ]
[الحجر: 21] وفي آية أخرى تصف حقيقة تعلق الرزق وأن جميع المخلوقات
مضمون رزقها وأن أنكار هذه الحقيقة هو مخالف لحقيقة الإيمان بالرب الخالق؛
يقول (تعالى) : [ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا] [هود: 6] .
إن محاربة الزيادة السكانية من خلال منعها - سواءً أكان ذلك بفرض وسائل
منع الحمل أو بالإجهاض - باعتقاد أن الموارد لا تكفي الزيادة السكانية وأن مصلحة
البشر تقتضي الإقلال من زيادة نموهم، إن ذلك إعلان لإنكار ربوبية الله للخلق.
إن الإسلام لا يعارض استخدام وسائل تأجيل الحمل لظروف معينة فردية،
فقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أنه قال: (كنا نعزل
والقرآن ينزل) [1] ، كما روى البخاري أيضاً عن ابن محَيْريز أنه قال: (دخلت
المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد:
خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بني المصطلق فاصبنا سبياً
من سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء فأردنا أن نعزل، فقلنا نعزل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه
عن ذلك، فقال: (ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا
وهي كائنة) [2] .
من خلال هذين الحديثين ندرك أن عملية تنظيم الحمل لأغراض معينة كتأجيل
الحمل للحاجة إلى المرأة أو لمرض المرأة أو غير ذلك من الأسباب الموجبة لتأخير
الحمل أمر جائز، لكن مع إدراك أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال القضاء على
الحمل تخلصاً منه، وأن جميع وسائل الحمل المعروفة لا تضمن منع الحمل ولا
تمنع وقوعه مهما كانت هذه الوسائل، وهذا مصداق قول الرسول -صلى الله عليه
وسلم- (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة) ، لهذا قامت الدعوة في
مؤتمر السكان الأخير بالسماح بتقنين الإجهاض والسماح به قانوناً باعتباره هو
الوسيلة المضمونة لمنع المواليد، وهو وأد الجاهلية المعاصرة.
الإسلام يعتبر الإنسان عنصراً مهماً من عناصر التنمية، وبالتالي فإن العناية
بالسكان من حيث الكم والكيف أمر مهم لمسار التنمية الاقتصادية، مع الأخذ في
الاعتبار أن هناك تفاوت في هذه القدرة على المساهمة في العملية الإنتاجية من فرد
إلى فرد.
إن الأفراد متفاوتون في القدرة على المساهمة؛ فمنهم من يمتلك القدرات
الجسمية والعضلية ومنهم من لا يمتلك ذلك، ولذلك فقد وضع الإسلام قواعد لمعالجة
هذه الاختلالات، سواء أكان ذلك من ناحية تنمية قدرات الأفراد وقيام الدولة
المسلمة بتنمية ذلك، أو من خلال إلزام الأفراد القادرين على مساعدة غير القادرين
من خلال التشريعات المالية التي وضعها الإسلام.
والعناية المهنية بالفرد هي إحدى السمات البارزة في عملية التنمية السكانية
من وجهة النظر الإسلامية، تتمثل هذه العناية بتوجيه الأفراد نحو تأكيد أهمية
الممارسة المهنية من خلال إعطاء قيمة للإنسان العامل المنتج المهني؛ فقد روى
أحمد بسنده عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة بن نيار، قال: سئل النبي -
صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الكسب، فقال: (بيع مبرور، وعمل الرجل
بيده) [3] .
ففي الحديث السابق توضيح وتوجيه إلى أهمية الفرد في التنمية وأنه هو
مصدر التنمية سواء أكان ذلك فيما يخصه أو ما يخص بيئته المحيطة به، وبالتالي: فإن من الواجب العمل على زيادة القدرة لدى أفراد الأمة على المساهمة في زيادة
الإنتاج، باعتبار أن الإنسان هو أهم عنصر من عناصر الإنتاج القومي.
إن من أهم مقومات التنمية السكانية إيجاد الأفراد المدركين لدورهم في
المجتمع، وأن كل فرد من أفراد المجتمع يتحمل المسؤولية تجاه استقرار ونماء
مجتمعه، بحيث يكون له دور فعال ومؤثر مهما كان مركزه في هذا المجتمع؛ لهذا
فإن من مرتكزات التنمية السكانية تنمية هذا الوعي، والذي يتمثل في أمرين:
الأمر الأول: إيجاد الإحساس لدى كل فرد من أفراد المجتمع بأهميته في
الواقع الاجتماعي، على أن يغرس هذا الأمر في النفوس من نعومة الأظافر،
ويرشد إلى ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر (رضي الله عنه) عن النبي -
صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير
الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو
مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد
راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته) [4] .
الأمر الثاني: المساهمة الفعلية في تنمية قدرات الآخرين ومساعدتهم ليكونوا
فاعلين ومنتجين، ويوضح ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه)
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كل سلامي من الناس عليه صدقة،
كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته يحامله
عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى
الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة) [5] ويكمل مدلول هذا الحديث ما رواه ابن
حبان والحاكم في مسنده عن ابن كثير السحمي عن أبيه، قال: سألت أبا ذر، قلت: دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة، قال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: يؤمن بالله، قال: فقلت: يا رسول الله إن مع الإيمان
عملاً! ، قال: يرضخ في رزقه لله، قلت: وإن كان معروفاً لا شيء له، قال:
يقول معروفاً بلسانه، قلت: فإن كان عَيينا لا يبلغ عن لسانه، قال: فيعن مغلوباً،
قلت: فإن كان ضعيفاً لا قدرة له، قال: فليضع لأخرق، قلت: وإن كان أخرق،
قال: فالتفت إلي، وقال: ما تريد أن ترع في صاحبك شيئاً من الخير؟ فليدع
الناس من أذاه) ففي هذا الحديث توضيح لمنهج الإسلام في كيفية توجيه الفرد
للمساهمة في تنمية مجتمعه من خلال المساهمة قي توفير الظروف المساعدة لتحسين
ظروف الآخرين سواءً أكان ذلك بالفعل المادي أو بالقول.
إن التنمية السكانية التي يسعى إليها الإسلام هي رفع كفاءة الأفراد النوعية
باعتبار أن الفرد عنصر فعال في العملية الإنتاجية للمجتمع، وبالتالي فإن اضمحلال
قدرة الفرد وكفاءته سوف يؤدي إلى أن يكون عنصر العمل ضعيفاً غير منتج كلا
على الآخرين.
إن دور الدولة المسلمة في تحقيق هذه التوجيهات لتنمية الطاقة السكانية تتمثل
في اتباع المنهج الإسلامي في تطبيق قواعد الصرف من الأموال العامة، التي منها
الأمور التالية [6] :
1- زيادة الدخل القومي بزيادة الثروة الفردية من خلال توجيه الإنفاق سواءً
أكان ذلك فيما يتعلق بكيفية توزيع الزكاة أو بالقيام بالإنفاق على البيئة الأساسية
للاقتصاد، وذلك بقصد إخراج الفئات الفقيرة غير المنتجة إلى فئات منتجة، ويؤيد
ذلك ما رواه الترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: (قدم علينا مصدِّق
النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا - وكنت
غلاماً - يتيماً فأعطاني منها قلوصاً) [7] ، فإعطاؤه القلوص إنما قُصد منه أغناؤه
بتمكينه من زيادة الدخل من خلال إعطائه رأس المال القادر على توفير فرصة
استغنائه عن بيت مال المسلمين.
2- تنمية قدرات الأفراد العلمية والعملية بتوفير البيئة الاجتماعية الحانية من
خلال اهتمام الدولة بأفرادها ورعايتها لهم من خلال الإنفاق عليهم من بيت المال،
فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن المقدام بن معد يكرب الكندي عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال: (من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو ضيعة فإليّ،
وأنا وليّ له، أفك عنه وأرث ماله، والخال وليّ من لا وليّ له، يفك عنه ويرث
ماله) [8] .
ولقد فهم هذا الحديث ومارسه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رضي الله
عنه) فقد كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق، وقال له: أن أخرج للناس
أعطياتهم (أي رواتبهم ومخصصاتهم الدورية) ، فكتب إليه: إني قد أخرجت للناس
أعطياتهم وقد بقى في بيت المال مال (فائض في الخزانة) ، فكتب إليه: أن انظر
كل من عليه دين في غير سعة ولا سرف فاقض عنه، فكتب إليه: إني قد قضيت
عنهم وبقى في بيت المال مال، فكتب إليه: انظر إلى كل بكر (أي: أعزب) ليس
له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من
وجدت وقد بقى في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر من كانت عليه
جزية فضعفت عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام
ولا عامين. وقد روى ابن كثير في البداية والنهاية خبراً عن عمر بن عبد العزيز
بأنه كان يأمر من ينادى في الناس كل يوم: أين المساكين؟ أين الغارمون؟ أين
الناكحون (أين الذين يريدون الزواج) ؟ أين اليتامى؟ وقد سبق بتطبيق هذا المنهج
الخليفة الرائد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ، وقد روى أبو عبيد القاسم بن
سلام عن إبراهيم بن سعد عن أبيه سعد بن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب (رضي
الله عنه) كتب إلى بعض عماله أن اعط الناس على تعلم القرآن. وتعلم القرآن يمثل
الأساس الثقافي الذي بدون وجوده تتعطل قدرات أفراد المجتمع الفاعلة، ويقاس
على ذلك: جميع أنواع التدرب والتعليم لرفع كفاءة وقدرات أفراد المجتمع.
إن معالجة الإسلام لمشكلة التزايد السكاني إنما تقوم على أساس أن البشر
يمثلون طرف المعادلة المهم في التنمية الاقتصادية، وأن الإخلال بهذا الطرف
سوف يؤثر على التنمية الاقتصادية بمجملها، ولهذا فإن المعالجة لا تكون بتقليص
الأعداد البشرية المخلوقة وإنما بزيادة قدراتهم الإنتاجية مع توفير البيئة الاجتماعية
الرحيمة التي تأخذ بيد الفقير والعاجز والكبير.
__________
(1) البخاري، كتاب النكاح، باب العزل، ج9 ص 305.
(2) البخاري، كتاب النكاح، باب العزل ج9 ص 305، كتاب البيوع، باب بيع الرقيق ج 4 ص 421.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج 3 ص 466.
(4) البخاري، كتاب الأحكام، باب قوله (تعالى) : [وأَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ح 7138، ومسلم في كتاب الإمارة.
(5) البخاري، كتاب الصلح، باب الإصلاح بين الناس ح 2889، ح 2891.
(6) لمزيد من الاطلاع على نظرية الإسلام في كيفية تطبيق الشريعة في مجال تمويل الدولة ومناهج صرف الأموال العامة، يراجع كتابنا: مالية الدولة على ضوء الشريعة الإسلامية.
(7) أخرجه الترمذي، باب ما جاء أن الصدقة تؤخذ من الأغنياء فترد على الفقراء، وحسنه، وضعفه الألباني ح 99 ضعيف الترمذي ص 72 و (القَلوص) من الإبل الفتيِّة المجتمعة الخَلْق، وذلك من حين تركب إلى التاسعة من عمرها.
(8) المسند ج 4 ص 133.(85/43)
نصوص شعرية
رمضان عذراً إن عصى الشعر
محمد عبد القادر الفقي
أيا رمضان الخيرِ عذراً، عصى الشعرُ ... فلم يترنم مثلما يوجب الأمرُ
وكيف لشعري أن يسيل عذوبةً ... بمدحك والأرزاء في أبحري كُثْرُ
وكيف القوافي فيك أزجي عصيَّها ... وأحوالنا تُزري، وأفعالنا نكْرُ؟! وأين الخيال الحر؟ أنَّى لنا بهِ وفي القلب همٌّ لا يرام لهُ حسْرُ
تهبُّ الرياح الذارياْتُ بداخلي ... فتترك نفسي بلقعاً ما بهِ زهْرُ
تراوحني في كل حين فجاءةٍ ... كأني فلاة ليس في رملها سدرُ
فيا خير شهرٍ لا تلمني لأنني ... أعاني جروحاً لا يعالجها الصبرُ!
أتيتَ إلينا والكراماتُ قد خَبَتْ ... ومن أين تأتينا وقد أورق الشرُّ؟
نصلي؟ نعم! لكن صلاة بلا تقى ... ونأمر بالفحشاء إذ وجب الطهر!
نصوم؟ نعم! لكن صياماً عن القِرى ... ولذاتنا تمتد إذ يطلع الفجرُ!
وفي الأرض إخوان لنا كلُّ حلمهم ... بقايا إدامٍ يستقيم بها الظَّهْرُ!
كأن مجاعات الدنا كلها قوَتْ ... بدورهمُ.. أو حلّ مِصْرَهمُ الفقرُ
نحجُّ؟ نعم! لكن لمجلس عصبةٍ ... ونطلب منه الأمن إن يُهتكُ الستُر
فلا عصبة (الفيتو) أعادت أماننا ... ولا الدبُّ واسانا، ولا الأقرعُ لنسر!
أتيت إلينا، صُبْحُنا مثل ليلنا ... فأجواؤنا سودٌ وأجفاننا جمرُ
فيا رمضان العتق ذلّت رقابُنا ... إلى اللهِ نشكو: ربَّنا مسنا الضرُ!
تداعتُ علينا أمّةٌ بعد أمّةٍ ... وعشش فينا اليأس والضَّعْف والذُّعْرُ
وليس لأهلينا سراةٌ وإنما ... بُلينا بجندهم علينا المُدى الحُمْرُ
إذا المرء صلى الفجر قالوا: مُخَرِّبٌ! ... وإن عاقر الصهباء قالوا: فتى حُرُّ!
وإن رتل القرآن قالوا: مضللٌ! ... وإن حالف الشيطان قالوا: له الشكرُ!
همُ قد أضاعوا (قدسنا) بل كياننا ... فوا ذلّ شعبِ عمرُهُ كلّهُ قهر!
أتيت إلينا، والمصائب جَمَّةٌ ... فآلامنا مَدٌّ وآمالنا جَزْرُ!
وأوراقنا صُفْرٌ بلون جلودنا ... وأشرارنا كُثْرٌ، وإنجازنا صفر!
فواعجباً إن فارق الخيرُ أرضنا ... وواعجباً إن عربد الشركُ والكفر
وواعجباً أن يهدم البغيُ مسجداً ... وأن يصبح الهندوس هرُّهم نمْرُ
وواعجباً أن ندمن العار والخنا ... وواعجباً أن يكْثرَ الفرُّ لا الكر
وواعجباً أن يسحق الصِّرْبُ قومنا ... وواعجباً أن يكْثُرَ البقرُ والجزْرُ
نُذبَّح مثل الشاة في كل موضع ... ونُسلَخُ أحياءً وتغلي بنا القدرُ!
وتُرمى إلى الخنزير عمداً لحومُنا ويأكل منها الكلبُ والذئب والنسر!
فيا رمضان القدر قد ضاع قدرُنا ... وأظلمت الدنيا، ونهتف: يا بدر؟
ولا بدرَ، لا حطين، لا أيَّ بارقٍ ... لنصرٍ، تُرى من أين يأتي لنا لنصر؟
إذا نحن لم نغسلْ من الرجس أنفساً ... فخير مكانٍ يرتضينا هو القَبْرُ!(85/50)
مقال
هل يموت المجتمع؟
د/ خالص جلبي
أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد رآه واقعاً، بل إن حقيقة الموت لنا
كأفراد لا تفارقنا يوماً واحداً، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو
استشارة، كما أننا سنودع هذه الحياة بمثل ذلك، ولكننا لا نستطيع أن نهضم أو
نستوعب موت مجتمع ما، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي
يموت به الفرد، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد لا يموت؟ أو أنه كائن من نوع
غير (بيولوجي) إلا أنه يموت ككل الكائنات التي تولد فتموت؟ وإذا كانت (سنة أو
قانون) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذى نسميه (المجتمع) وتشكل مصيره،
فقدبات علينا معرفة هذا (البعد الجديد) في الحياة الإنسانية، أي: تشكل المجتمع،
ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكيف يتم ذلك؟ وبأي آلية؟ وفي
أي ظرف؟ وتحت أية شروط؟ [ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ] .
حوار حول الموضوع:
اعتدل الدكتور (ماجد) في جلسته، ثم حدق فيّ النظر مليّا وقال - وفي وجهه
علامات اليأس والألم -: إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع
العربي: أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو في حكم الميت، وفي
قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي في القرن القادم.
صدمت وبعمق، فهذا الإنذار المرعب (PROGNOSIS) [1] ، يشكل
حالةً متقدمة حتى عن وضع السرطان، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء
منه، ومع هذا يبقى المريض مريضاً، أي أنه مازال حياً يرزق، ولو أنه محكوم
عليه بالإعدام.
لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد، واعتَبَرَ أن المجتمع في
حكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لأفراده! ! فمن أين جاء بتحليله هذا يا
ترى؟ ؟ إنه - وهو الباحث في العلوم الإنسانية والتربوية - عنده عددٌ من
المشعرات (INDEX) والمؤشرات إلى وضع المجتمع، ولادة أو موتاً، عافية أو
اعتلالاً، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص، (DIAGNOSIS) فاعتبر الجسد
الاجتماعي (جثة) .
قلت له - معقباً ومتسائلاً في الوقت نفسه -: إننا معشر الأطباء عندنا من
المؤشرات ما فيه الكفاية على موت الفرد (عضوياً) : من انعدام النبض، وتوقف
ضربات القلب، وغياب التنفس، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد، أو توقف النشاط
الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة،
فتكون أولاً حارِّة لتصبح بعد ذلك باردة، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة
الخشب المتيبسة (الصمل الجيفي) ، ثم تبدأ في التعفن والتحلل، ويصبح القبر خيرُ
سترٍ لهذا الجسم المتهتك.
- نظر إليّ صديقي الدكتور متأملا ثم أجاب: بهذه الدقة من التحديد ليس
عندي جواب؟ -ومع هذا-، لنضع، لكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى
صموده وصلابته أمام التحليل؟ !
لا يمكن أن نفهم (موت المجتمع) ما لم نفهم ما هو (المجتمع) تأصيلاً؟ فإذا
استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن (النوعي) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته،
وموته من حياته، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد، بل هو (شبكة علاقات) ، تنظم
نشاط الأفراد [2] ، فإذا أردنا تصور (الشبكة الاجتماعية) أو (النسيج الاجتماعي)
أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط
الشبكة، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل ما بين
هذه العقد، وتعطينا (البيولوجيا) مثالاً ممتازاً لهذا الوضع، حيث يترابط ما يزيد
عن مائة مليار خلية عصبية (النورونات -NEURONS) في، الدماغ من خلال
نسيج عصبي كثيف، كل خلية مزودة بحوالي ألف ارتباط، بحيث يشكل الدماغ
الذي يحمله كل فرد منا في رأسه؛ شبكة أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا،
وتتعاون هذه (النورونات) من خلال (نظام التحام) بين كل خلية وأخرى، تسري
فيها سيالة عصبية، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تحيل الدماغ في
النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة، والنسيج الاجتماعي -أي شبكة
العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد - تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها،
ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود، النشيط أو الخامل، يتعلق بالأفراد
الذين يحفظون هذه العلاقات أو يدمرونها. وينبني على هذه الفكرة أمران هامان:
1- الأمر الأول: أن قوة الشبكة الاجتماعية وإحكامها هي من قوة الأفراد
لأنها من صناعتهم.
2- الأمر الثاني: أن الأفراد قد يمزقون هذه الشبكة، فيما لو شُد الخيط أو
توتر بشكل زائد لمصلحة إحدى العُقَد، وهي (الظاهرة الورمية) ، حيث يؤدي
ضخامة الفرد (العقدة في الشَبكة الاجتماعية) ، إلى قطع الأوتار الاجتماعية،
وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وتضخمهم بظاهرة (السرطان) ، فالسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص، غير عابئة بما يحصل للجسم، ولكن السرطان - كما عَلمنا في مثل القرد سيئ
الذكر في (كليلة ودمنة) الذي نشر غصن الشجرة القاعد فوقه - عندما يقضي على
البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية، يقضي على وجوده ذاته.
يقول مالك بن نبي: (بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسوراً نامياً، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى
هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على وجوده يتمثل
فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح
الفردية، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح
العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً) [3] .
تركيبة المجتمعات:
كان اكتشاف حلقة البنزين في الكيمياء العضوية شيئاً مثيراً للغاية، فالسكر
السداسي (الجلوكوز) الذي يستخدم للطاقة في جسمنا، مكون من ذرات من الفحم
الأسود (الكربون) ، كما أن الألماس اللامع الرائع الصلد، مكون من ذرات من
(الكربون الأسود) المضغوط بشكل جبار، والذي منح اللمعان للذرات السوداء
القبيحة، هو طبيعة (التركيب الداخلي) لذرات الكربون، فأصبحت شديدة اللمعان
والمجتمع بدوره هو (طبيعة تراص) خاصة بين أفراده، فإذا بقي ذرات كان سخاماً
اسوداً قاتماً، فإذا تراصت ذراته تحول إما إلى إعصار طاقة، أو لمعان تفوق عبر
التاريخ.
فالذي منح ذرة السكر الحلاوة المنعشة والطاقة الرائعة، وأعطى ذرة الألماس
الصلابة المخيفة، والتألق المدهش الفذ، هو طبيعة التركيب الداخلي، مع أن
ذرات الكربون في الأصل سواد وقتام، وهشاشة وضعف بين العناصر المعدنية،
بل يعتبر الفحم (شبه معدن) وليس معدناً، فهو ليس في صلابة الحديد، أو ندرة
الذهب، أو ثقل الزئبق، أو إشعاع اليورانيوم، فالذي يعطي التركيب القوة
الضاربة، أو النوعية الممتازة، أو التميز والتفوق، هو كيفية (اجتماع) عناصره
الأولية، فالذي يَسِمُ المجتمع بالقوة أو الضعف، بالتميز أو السطحية، بالتفوق أو
الانحطاط، هو نوعية علاقة ذراته (أشخاصه) الداخلية، وبذلك تفوق المجتمع
الياباني وتأخر المجتمع العربي، مع أن النقطة الزمنية لاحتكاك كلا المجتمعين
بالمجتمع الغربي كانت متقاربة، فارتفع المجتمع الياباني وحلق، في حين أن
المجتمع العربي مازال يجرجر أقدامه المتعبة المريضة، ويعجز عن السيطرة على
حل مشاكله، وبين عامي 1960 - 1990م حقق المجتمع (الكوري) قفزة نوعية
وبقى المجتمع (الغاني) يتجرع غصص التخلف، مع أن مستوى دخل الفرد كان
واحداً في نقطة البدء! ! [4] .
إذاً فالمجتمع هو تركيب (STRUCTURE) تماماً كما في التراكيب
الكيمياوية العضوية، وهو بالتالي ليس (مجموعة ذرات) و (كومة أشخاص) ونحن
نعلم من الكيمياء العضوية أن تغيير فاعلية مركب من وضع إلى وضع، يتم من
خلال السيطرة على تغيير نوعية العلاقات الكيمياوية الداخلية، ويبقى (الكم الذري)
كما هو بدون نقص أو زيادة، فينقلب المركب الخامل إلى فعّال وبالعكس، والدواء
إلى سم زعاف، والسم إلى ترياق، كما حصل مع باول ايلريش (PAUL
EHRLICH) بعد (606) مرات من المحاولات؛ لقلب التركيب الكيمياوي لبعض
الأصبغة، فتحول المركب السام في النهاية إلى ترياق وعقار، لمعالجة داء فتك
بالجنس البشري كثر من (400) عاماً (الافرنجي - SUPHILIS) [5] .
المجتمع مرضه وموته:
كيف يمرض المجتمع إذاً؟ بل كيف يموت؟ . كل ذلك يحدث بالآلية نفسها
(تغير طبيعة العلاقات الداخلية بين العناصر الأولية) ، فإذا تورم الأفراد وتحولوا
إلى (قوارض اجتماعية) تلتهم الشبكة الاجتماعية، انحدر المجتمع صوب الفناء
والموت، وبالآلية نفسها التي يموت بها الأفراد، ولكن علينا أن نتأمل هذه الظاهرة
جيداً، فما الذي يحدث عند موت الفرد؟
دعنا نتأمل ظاهرة (الفك والتركيب) في أي موجود تحت أيدينا من مثل
الكرسي أو الطاولة أو السيارة.
كيف نسمي الطاولة (طاولة) ؟ أو السيارة (سيارة) ؟ إن هذا يرجع ليس إلى
(القطع أو الأجزاء) التي تشترك في تركيب الطاولة فضلاً عن السيارة! ! فلو
أمسكنا بالكرسي و (فككنا) الأجزاء عن بعضها، لم تعد الطاولة (طاولة) ولا السيارة
(سيارة) ؟ ! والسبب هو أن السيارة تأخذ (وظيفتها) و (شكلها) الذى يمنحها الاسم،
من (اتصال القطع) و (تلاحم الأجزاء) فتقوم السيارة بوظيفة محددة من مثل الحركة
لنقل الركاب والأمتعة، كذلك الحال في الكرسي الذي نجلس عليه، فإذا التأمت
قطعه، وتضافرت عناصره الأولية، لتؤدي وظيفة (الجلوس) عليه، استحال إلى
كرسي، أما قطعه الأولية فليس لها اسم، وأجسادنا هي تركيبٌ من هذا النوع معقد
للغاية، والذي يحدث في الموت، شبيه بما يحدث للكرسي عندما تتناثر قطعه،
وتعود إلى سيرتها الأولى، أو للسيارة عندما تُفكك وترجع إلى وحداتها الأولية،
وأشار القرآن إلى هذه الحقيقة عندما قال [قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ]
[ق: 4] .
فالجسد الذي يتحلل إلى عناصره الأولية لا ينقص منه شيء، وبدننا في
الواقع مكون من برميل ماء، ومقدار من الحديد يكفي لصناعة مسمار صغير،
وقبضة من الكلس، وكمية من الكبريت تكفي لرأس عود ثقاب، وحفنة من
الفوسفور، وآثارة من اليود والنحاس، وبقية تافهة من الفوسفور المتقد، وكمية من
الغازات التائهة! !
فنحن باعتبارنا (مواداً أولية) في (ثمننا) لا نساوي شيئاً مذكوراً، ولكننا في
تركيبنا الإنساني لا يصل إلينا (سعر) ، لذا فالذي يبيع نفسه بالذهب يعتبر تاجراً في
منتهى الغباء! ! وعندما يموت الفرد بيولوجياً فإن البدن يتحلل بعد فترة ليرجع إلى
دورة الطبيعة.
إن العنصر الواحد مثل حديد الدم، أو فوسفور المخ، أو يود الدرق، أو كلس
العظام؛ مصيره في النهاية إلى التراب، إلي دورة الطبيعة، ليعاد تشكيله
واستخدامه من جديد، في غاية جديدة، ونشأة مستأنفة وعالم محدث وخلق مبتكر،
قد يدخل في بشر من جديد، أو أنسجة حيوان، أو محتويات خلية نباتية، فأجسادنا
الزائلة خلقها الله من التراب، وهي تيمم شطرها مرة أخرى إلى التراب [مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وفِيهَا نُعِيدُكُمْ ومِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] [طه: 55] ، والذي حصل مع
الموت اتسم في الواقع بصفتين جوهريتين، سبقت إحداهما الأخرى، فأما الخلل
الأول بعد الموت والذي يطرأ على الإنسان فهو (توقف الوظيفة) فيتحول الإنسان
إلى صورة جامدة، لا يبكي ولا يضحك، لا يتألم ولا يحس، لا يتكلم ولا يسمع،
فإذا استقرت هذه الحالة انتقل إلى الحالة الثانية وهي (تحلل الشكل) فالميت مثل
النائم، يبقى في الفترة الأولى محافظاً على شكله، بل يبقى اللحم حاراً ولساعات
بعد الوفاة، كما تبقى بعض الخلايا حية، بل قد تنمو الأظافر شيئاً ما، ثم يسيطر
الموت فتبدأ (علاقات) الأنسجة بالتفكك و (ارتباطات) الخلايا بالتمزق النهائي، كي
يتفكك الجسم تماماً إلى وحداته الأولية.
والمجتمع عندما يبدأ في الانهيار في مرحلة الموت يمر بما يشبه هذه المراحل
من (شلل الوظيفة) لينتقل بعدها إلى مرحلة (اندثار الشكل ودماره الكامل) .. ليتحول
إلى (كومة) من الأناسي و (خردة) من البشر لا يجمعها رابط أو يضمها مثل أعلى
أو يحدوها قيم عليا أو ينظمها تنسيق مشترك، فيعيش كل فرد لنفسه، أو يتحول
الإنسان من (الشخص) إلى (الفرد) فيخسر ذلك (البعد) الذي منحه إياه المجتمع،
حينما أضاف إلى معادلته البيولوجية (المعادلة الاجتماعية) [6] ، ومن الملفت للنظر
أن القرآن أشار إلى المَيْتَتَين، فذكر موت (الفرد) [وجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ]
كما أشار إلى موت الأمم والمجتمعات [ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ] [7] ، فالأجل هنا جماعي
وليس فردي، فالآجال إذاً نوعان: منها ما هو خاص بالفرد وما هو خاص
بالمجتمعات، كل من نوعية متباينة، وهذا يعني بعبارة أخرى أن الأمم تموت،
والدول تنتهي [8] والشعوب تفنى [9] والحضارات تباد وتنهار [10] .
إن المجتمع الفرعوني حينما اندثر وطواه التاريخ، وبقيت الأهرامات تشهد
على حيوية شعب أصبحت في ذمة التاريخ، لم يمت أفراد ذلك المجتمع (بيولوجيا) ، ولم تغب عناصره الأولية في التراب، ومازال الإنسان الفرعوني (المصري)
يعيش، ولكن باعتباره عنصراً أولياً شارك في حضارات مختلفة، فعندما مات
المجتمع الفرعوني تحول أفراده إلى عناصر أولية و (طوب) أو (لبنات) امتصها
مجتمع زاحف نام متفوق، كون بها نفسه من (لبنات) المجتمع الميت، الذي يلفظ
أنفاسه الأخيرة، وهكذا تحول المجتمع (الفرعوني) إلى مجتمع (روماني) ، ثم مات
بدوره ليتحول إلي مجتمع (إسلامي) وهكذا طوى التاريخ بين جنبيه مجتمعات تترى، ضمها قبر التاريخ وضريح الحضارات [ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً
آخَرِينَ] [11] مثل المجتمع اليوناني والقرطاجني والأزتيك والإنكا والوبيخ والفرعوني.. إلخ، [هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً]
[مريم: 98] .
السلسلة الذهبية. ما هي؟
ومن خلال البانوراما التي استعرضناها من القرآن والتاريخ وعلم الاجتماع
والكيمياء العضوية والبيولوجيا بل وحتى علم الأدوية، نتوجه لتسليط الضوء على
فكرة (السلسلة الذهبية) كي نفهم في ضوئها معنى الموت الاجتماعي، وتقطع شبكة
الربط الحضارية! !
ما معنى أن (معاملة) ما في أي قطاع اجتماعي لا تمشي إلا بطريقة (الدفع،
المتتابع المستمر) مع شيء من المقبلات من (الوساطة) ؟ ! إن هذا المرض خطير
للغاية، وهو مؤشر لأزمة اجتماعية، فالعملية الاجتماعية أياً كانت هي -إن شئنا أم
أبينا، وحتى تنجز- تتكون من سلسلة من الأفعال الاجتماعية، يقودها الأفراد
الاجتماعيون، من خلال معادلة (حق - واجب) أي: إن الواجب الذي يؤديه فرد
في سلسلة (أ) سيكون له حقاً في سلسلة (ب) مثل العلاقة بين (علاج طبي لمريض)
و (استخراج رخصة قيادة سيارة في مصلحة المرور) و (نقل رسالة بريدية) فالعملة
أي (الخدمة الاجتماعية) هي عملة ذات وجهين (حق - واجب) فما كان حقاً لفرد هو
واجب للتأدية في ذمة آخر.
هذه العملية الاجتماعية مهمة في كل (حلقات السلسلة) بما فيهم الفرّاش وحامل
الأوراق، لأنه يكفي أن (تنام) المعاملة في (درج) موظف، حتى تضطرب السلسلة
كلها وتحل الكارثة! ! وهذه الحقيقة القاسية والمؤسفة هي لب العملية الاجتماعية،
فإذا كانت (السلسلة الاجتماعية) مكونة من عشر حلقات بين الرئيس، ومساعده،
والسكرتير، والموظف المتلقي، وحامل الأوراق، والمدقق، والناسخ، والضارب
على الآلة الكاتبة، وصاحب الكمبيوتر، والجالس خلف سنترال التلفون، يكفي أن
تضطرب (حلقة واحدة) - حلقة واحدة فقط لاغير- من هذا السلسلة كي يختل العمل
بأكمله، وهذه المشكلة هي أس الأسس في التركيب الاجتماعي، فعندما يكون
الموظف متسللاً بدون إذن [13] ، والساعي مهملاً، والمدقق نعساناً، والناسخ
فوضوياً، والجالس على الكمبيوتر جاهلاً، والقاعد خلف السنترال نائماً يكفي الخلل
في (حلقة مفردة يتيمة) - ولو كانت كل (السلسلة) من الذهب الخالص
(24 قيراط) - أن تحل الكارثة وتقع المصيبة، وتتوقف السلسلة أن تمر بها (السيالة الكهربية) الاجتماعية، وبذا ينطفئ الضوء الاجتماعي، ويذهب نوره، ويبدأ المجتمع في التحول إلى مجتمع (نفسي نفسي) .
إن النزول إلى ساحة العمل الاجتماعي مرهق إلى أبعد الحدود، مزعج إلى
حد المرض، مضيعة للوقت بدون مبرر (لأننا ملوك الزمان) بل ويأكل الكرامة
الإنسانية أحياناً، فلا موظف يبقى خلف طاولته، ولا عامل يبقى مرتبطاً بعمله،
والدخول إلى الطرقات هو النزول إلى ساحة الحرب يحمد الفرد فيها الله في نهاية
المطاف على السلامة، وملاحقة المعاملات جولة في بلاد (أليس للعجائب)
و (عبقر) للجن، وإنجازها كأنه إزاحة جبل، والسر في هذا هو تقطع (نقط الاتصال
والالتحام الاجتماعية) بين (حلقات) السلسلة الذهبية التي أشرنا إليها، فلا تعود
ذهبية بل تتحول إلى سلسلة تنك، وحديد صدأ، والصدأ على كل حال يعني التفكك
والعودة إلى حال (الخام الطبيعي) ، فإذا اضطربت (السيالة الكهربية) الاجتماعية،
وتقطعت حلقاتٌ متعددة من سلاسل شتى، كان ذلك مؤشراً خطيراً لتدمير النسيج
الاجتماعي، وكان معناه أن المجتمع بَعُدَ أن يكون مجتمعاً، بل بدأ يتحول إلى
(مُجمِّع هزيل) و (مافيات اجتماعية) وحوضٍ مرعبٍ لسمك القرش وقنافذ البحر
والأخطبوط الاجتماعي، وهذا المرض لن يقف عند هذا الحد بل سيقضي في
النهاية حتى على تلك الجزر الطافية هنا وهناك في الأوقيانوس (المحيط) غير
الاجتماعي المتخبط، كما كانت حالة الامبراطورية الرومانية في العصور الوسطى، وفي النهاية يصبح المجتمع أمام طريق مغلق، وعليه أن يولد من جديد، إما
بحزمة قيم جديدة بالولادة الروحية الجديدة كما فعل الإسلام مع (البشر الخام) في
الجاهلية، حيث لم يكن يهم (طرفة بن العبد) إلا قدحٌ من الخمر، وقتالات
وممارسات طائشة [14] ، أو الذوبان والاختفاء الكامل في مجتمعات قوية متفوقة،
واندثار ثقافة المجتمع [وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]
[محمد: 38] وقد حدث هذا في التاريخ ومازال يحدث.
أنواع المجتمعات:
ما الفرق بين مجتمع ومجتمع آخر؟ ؟ هناك ثلاثة أنواع من المجتمعات فيما
لو أردنا استخدام المصطلحات العصرية! ! مجتمع (مضخة الماء) والمجتمع
(الكهربائي) والمجتمع (الإلكتروني) ، فعندما لا تمشي المعاملات إلا بطريقة (الدفع
المتتابع المستمر) ! ! فهي تعود إلى مجتمعات (مضخة الماء) فالماء يتدفق طالما
بقيت اليد ملتصقة بالذراع الحديدي، فاذا توقفت عن (الدفع) انقطع الماء وتوقف
الخير! ! وهكذا فالمعاملة التي تقف مباشرة قبل هدفها بمليمتر واحد؛ لا تصل إلى
هدفها بدون (الدفعة الأخيرة) ويعتبر كل جهد سابق وكأنه لا شيء، فلا تولد أو ترى
النور بدون الحقنة الأخيرة! ! أما المجتمع (الكهربي) فهو الذي يتحرك بكبس
الأزرار، فتمشي المعاملة وحدها بدون متابعة إلى مقرها الأخير، بسبب قوة كل
حلقة من (السلسلة الذهبية) وهكذا تولد كل معاملة وصاحبها مطمئن إليها طالما
حركَّها، وهو الذي لمسناه في الماكينة الاجتماعية الغربية أثناء العيش بينهم، وهي
من أسرار تفوقهم وقوتهم، فلا تحتاج أي معاملة إلى متابعة أو ملاحقة، فضلاً عن
نشوء مؤسسات خاصة في المجتمع لمثل هذه الوظائف الطفيلية (تخليص
المعاملات - متابعة الجوازات - تحصيل الديون الفوري!) أما المجتمعات المستقبلية مجتمعات (النبض الإلكتروني) فهي تلك التي تتربع على عرش الإلكترونيات، ويفتح لها القرن الواحد والعشرين ذراعيه للاحتضان، من مثل المجتمع الياباني [15] ، وحتى يمكن نقل المجتمع من عصر (مضخة الماء) إلى (الفعل الكهربي) فضلاً عن (التوهج الإلكتروني) فإن ذلك يتوقف على اتصال عناصر العملية الاجتماعية، فإذا أدى أحد (حلقات) السلسلة عمله بفعل (جذبي بانتكاس داخلي) قعد المجتمع وشُل، وإذا تحول إلى روح (الواجب وضمن المراقبة المتقابلة المزدوجة وبآلية النقد الذاتي) تحول إلى مجتمع (حركة الكهرباء) فإذا قفز إلى روح (المبادرة) أصبح بسرعة الومض الإلكتروني ... ولله في خلقه شؤون! !.
مع تمزق شبكة المجتمع تدفع كل عناصر المجتمع الثمن مع كل فوائده
المركبة، حتى من هم في قمة الهرم الاجتماعي، والسبب بسيط هو أن (الماكينة
الاجتماعية) لا تعمل، حتى الأوامر التي تأتي من فوق تفقد حرارتها كلما نزلت إلى
أسفل، فتتباطأ ويتوقف الإنتاج، وكأنها مثل القانون الثاني في الديناميكيا الحرارية، فهي تبرد مع الوقت، والتحرك باتجاه المحيط، أي: إن الفعل الاجتماعي يتحول
من فعل (واعٍ إرادي) إلى عمل (فيزيائي) وشتان بين الإرادة والمعدن، والحي
والجماد، والفعل والانفعال، والطبيعة والإنسان، في حين أن المحافظة على
الشبكة الاجتماعية تجعل الحياة سهلة لكل واحد فيها، ممتعة لكل فرد، حلوة لكل
من يشارك في نشاطها، ولعل هذا هو الذي قصده القرآن حين ربط بين مفهوم
(الاستقامة) والفائض في الحياة الاجتماعية (غدقاً) [وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً] [الجن: 16] .
يقول المثل الإنجليزي: إن هناك قصة طريفة جرت لأربعة أشخاص
أسماؤهم: (كل واحد) و (أي واحد) و (لا أحد) والرابع كان اسمه (بعض الناس) ،
وكان هناك أمر مهم يجب أن ينجز، فسُئل (كل واحد) كي ينجزه، إلا أن (كل
واحد) كان يتوقع من زميله (بعض الناس) أن يقوم به، إلا أن (بعض الناس)
غضب لأن المهمة كانت مهمة الزميل (كل واحد) ، إلا أن (كل واحد) فكر أن (أي
واحد) يمكن أن يؤديها، ولكن الزميل (لا أحد) تحقق أن (أي واحد) يمكن أن يفعلها، وبذلك كانت المحصلة أن (كل واحد) لام (بعض الناس) لأن (لا أحد) فعل ما كان
يجب أن يفعله (أي واحد) ! !
وتحكي القصة أن ملكاً أراد اختبار محبة شعبه له، بأن نصب في الميدان
الطعام للبلد حوضاً كبيراً، وطلب من كل فرد عربوناً لحبه قدحاً صغيراً من العسل، وفي اليوم التالي كان الحوض فارغاً، لأن كل واحد فكر بنفس الطريقة: (وما
الذي سيؤثر في الوعاء الكبير أن ينقص منه قدحي الصغير؟ ! !) [*] .
من الأحاديث الضعيفة الواردة في رمضان
حديث: (نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله مضاعف، ودعاؤه
مستجاب وذنبه مغفور) وهو ضعيف رواه البيهقي والديلمي وابن النجار..
حديث: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من
صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانت نورا بين عينيه يوم القيامة) وهو ضعيف؛
أخرجه البيهقي والطبراني والدارقطني.
حديث: (صوموا تصحوا) وهو ضعيف، رواه الطبراني في معجمه، ورواه
ابن عدي في الكامل ...
حديث: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان) وهو ضعيف،
رواه البزار ...
(عن كتاب مخالفات رمضان للشيخ عبد العزيز السدحان بتصرف)
__________
(1) الإنذار مصطلح طبي عن توقع حالة المرض للمستقبل.
(2) جاء في كتاب (ميلاد مجتمع) لمالك بن نبي -ترجمة عبد الصبور شاهين- إصدار ندوة مالك بن نبي -ص 15: (المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني، يتم طبقاً لنظام معين، وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ما تقدم على عناصر ثلاثة) .
(3) كتاب ميلاد مجتمع -المصدر السابق - ص40 (فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية) .
(4) يراجع كتاب (التحضير للقرن الواحد والعشرين) تأليف باول كندي - النسخة الانجليزية- ص 193، ويذكر المؤرخ أن دخل الفرد كأن في البلدين عام 1960م 230 دولار في السنة ليصبح اثني عشر ضعفاً للكوري ويبقى الغاني على حاله.
(5) يراجع قصة الميكروب تأليف (بول دي كرويف) -ترجمة أحمد زكي- بحث الرصاصة المسحورة ص339.
(6) يراجع في هذا التحليل القيم لأوسفالد شبنجلر في أفول الغرب: عن مفهوم كم البشر الذي يضمه خليط المدن العالمية الكبرى بدون أي رباط قيم.
(7) راجع الآية رقم 49 من سورة: يونس، والآية رقم 19 من سورة: ق.
(8) أشار ابن خلدون في مقدمته أن الهِرَم إذا نزل بدولة فلا يرتفع، لأن لها أجلاً طبيعياً راجع المقدمة ص 293 - 294.
(9) راجع القصة المروعة لفناء شعب الوبيخ في شمال قفقاسا من خلال القصة الدرامية (آخر الراحلين) .
(10) راجع مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني (توينبي) عن انقراض 23 حضارة من أصل 28 حضارة مرت على ظهر البسيطة.
(11) مالك بن نبي، المصدر السابق ص 100.
(12) ميلاد مجتمع - ص 8: ولقد تكون الاستعارة في صورة أخرى عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت، ومن أمثلة ذلك: أن المجتمع الروماني امتص في سبيل بنائه كثيراً من المجتمعات التي اختفت. هامش غير مشار إليه (ماس) .
(13) تأمل الآية رقم 62 - 63 من سورة النور [وإذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ] الآية.
(14) يراجع في هذا معلقة طرفة بن العبد، ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى.
(15) يراجع في هذا كتاب آفاق المستقبل - جاك أتالي - عن تحول القلب الصناعي في المحيط الهادي باتجاه طوكيو، وكذلك كتاب (اليابان الذي يستطيع أن يقول لأمريكا لا) تأليف عضو الدايت الياباني (شينتارو إيشيهارا) .
(*) الأخ الكريم كاتب المقال طبيب استشاري (جراحة أوعية دموية) ، له اهتمامات وأعمال فكرية منشورة، ومن أشهرها: (الطب محراب الإيمان) و (في النقد الذاتي) وقد لا نتفق معه في بعض طروحاته الفكرية، إلا أن بعض كتاباته متميزة، ومنها هذا المقال الذي ربما يثير حواراً مفيداً
- البيان -.(85/53)
المسلمون والعالم
الجزائر
حزب فرنسا.. حرب فرنسا!
د/ عبد الله عمر سلطان
الحديث عن الجزائر ونزفها المستمر يدخل تحت تصنيف (السهل الممتنع) ؛
سهل؛ لأن توالي الأحداث وتفاصيل الأخبار لازال يؤكد حقيقة هامة صارخة وهي
أن استئصال التيار الإسلامي من الأرض الجزائرية بحجة محاربة الإرهاب قد
جرت البلاد إلى حرب أهلية بمعنى الكلمة، وأن الطرف الذي اختار هذا الطريق
الملغوم قد كشف بعد عام من مسرحية صعود القيادة الجديدة أن الرصاص والبطش
خياره وحسب! !
أما الصعوبة فهي أن الحدث بالرغم من بساطة مكوناته قد أحاطت به أكوام
من المعالجات الإعلامية والفكرية التي تحاول أن تعالج النتيجة ولا تقرب السبب
وأن توجد إجابات للأسئلة الملحة دون النظر إلى الحقيقة التي أنجبت هذا المولود
البائس المسمى بالحالة الجزائرية.
بعض المعطيات أصبحت في حكم القناعات التي لا تقبل الجدل والنقاش،
وكثير من التضليل تم مزجه بقليل من الحقيقة حتى يذر الرماد في العيون وينشغل
المتابع في جزئيات وفرضيات دون المساس بالجوهر أو التطرق إلى أصل الداء
والعلة..
ولعلنا هنا نطرح ثلاثة أسئلة مهمة لفهم الواقع الجزائري - بعد مرور أكثر
من عام على تولي الحكومة الجزائرية للسلطة - وهذه الأسئلة كفيلة بأن تنقلنا
لاستعراض أهم العناصر التي تشارك في صنع المأساة الحالية.
- أول هذه الأسئلة المهمة والملحة تقول: حينما قبلت الحركة الإسلامية -
ممثلة في جبهة الإنقاذ - أن تشارك في الانتخابات النيابية وفازت بها ... هل كانت
نتيجة الفوز المحتمل تساوي الواقع المأساوي الذي دمر البلاد وأهلك الحرث
والنسل؟ ؟
- هل كان القادة العسكريون يظنون أن الشعب الجزائري سيرضى بأن يسرق
خياره ثم يصمت؟ أم كان متوقعاً أن يكون هناك نوع من المقاومة المحدودة التي
يتكفل الكلاشنكوف بإسكاتها؟ ؟
... ثم، مع تشعب الأزمة واستفحالها، هل كان التدخل الدولي محتملاً؟ .
وهل أصبح اتهام الأطراف المتقاتلة بالارتباط الخارجي تهمة وإشاعة أم حقيقة واقعة
يستفيد منها طرف في النزاع دون الأطراف الأخرى..؟
وبما أن المشهد الجزائري ملتهب بما فيه الكفاية فربما اكتفينا بهذه المحاور
الثلاثة التي تشكل الأسئلة والمنطلقات الرئيسة التي تطل برأسها مع تصاعد
الأحداث وتشابك عناصر الأزمة.
الصمود الذي فاق التوقع:
كان قادة (ما يعرف الآن بالفريق الاستئصالي) يدركون حتماً ما كانوا يقدمون
عليه حينماً قرروا إلغاء الجولة الثانية من انتخابات 1991م وما رافق هذا القرار
من إجبار لرئيس الدولة (الشاذلي بن جديد) على الاستقالة بصورة فيها الكثير من
الإهانة والذل لرمز من رموز (حرب التحرير) وزعيم البلاد (الدستوري) ..، كان
الإتيان بـ (محمد بو ضياف) ليلعب دور (التيس المستعار) الذي يتحرك من ورائه
قادة الانقلاب يمثل في الحقيقة احتراق آخر أوراق الشرعية التحريرية التي تتكئ
على تجربة الاستقلال عن فرنسا وبدء مرحلة جديدة تتسم بالارتباط المباشر
بالفرانكفونية والعداء الشديد للإسلام والعروبة، كان (الحركيون الجدد) يملؤون
الفضاء الإعلامي وينحشرون في كل خلايا أجهزة الدولة المتهرئة، وكما كان
(الحركي) السابق مرتبطاً بالمستعمر الفرنسي ومحارباً في صفوف جيشه ومخابراته
خلال حرب الاستقلال السابقة فإن (الحركي) الجديد كان يحارب أهله وشعبه معتقداً
أن الانحياز لثقافة وفكر العلمنة المتفرنس سيضمن له البقاء في السلطة والتمتع
بخيرات البلاد ومواردها.
يقول (ستيفن أندرسون) : (لم يكن أحد يتوقع - بعد إلغاء الانتخابات - أن
تتسع دائرة الحرب إلى هذا المستوى، وأن تبلغ هذه المرحلة من التصعيد الكثيف،
لقد أخطأ القادة العسكريون وحلفاؤهم في الخارج التقدير، فخلال ثلاث سنوات من
الحكم البوليسي برزت ظاهرة الفرز الجماعي الحالي، وأصبح الشارع الجزائري
منقسماً إلى تيارين: أقلية مرتبطة بالفّرْنَسَة والعلمنة تحكم وترفض أنصاف الحلول، وغالبية متعاطفة مع العروبة والإسلام تقذف كل يوم بفلذات أكبادها لرفض
أنصاف الحلول الأخرى ... ) .
(أحمد بن بله) الرئيس الجزائري السابق الذي لا يمكن وصفه (بالأصولية)
يلقي بتفسير لهذا التعاطف الذي أدى إلى أن يقف سواد الجزائريين خلف المشروع
الإسلامي بقوله: (هناك أوساط غربية تخشى ما يسمى بالتيار الإسلامي، وهناك
تفسير خاطئ للصحوة الإسلامية نفسها، إنهم يعتقدون أنها ظاهرة سببها الفقر
واليأس، قد يكون البؤس جانباً من هذه الظاهرة، ولكن الحقيقة هي نظرة المسلمين
المختلفة إلى المجتمع الاستهلاكي المادي ومظاهر البعد عن الله، وجبهة الإنقاذ
قدمت مشروعاً يحترم قيم المجتمع ويحاول إيجاد الحلول لمشاكله، ومع أن الجبهة
منغلقة على نفسها لكنهم في نظر الجزائري وفي نظري أناس أوفياء شرفاء يضحون
من أجل مبادئهم، إن عناصر الإنسان (الثوري) الشريف موجودة فيهم ... (عباسي
مدني) كان جندياً في الجيش الجزائري أيام حرب التحرير، وكذلك كان عدد كبير
من قادة جيش الإنقاذ ... إنهم مناضلون.. والمشكلة الكبرى أن الأرض الجزائرية
قد تحررت لكن بقي الاستعمار حياً في تشريعات الدولة ومناحي الحياة الثقافية
المرتبطة بفرنسا، اليوم -باختصار- تنظر فرنسا إلى الجزائر وكأنها مستعمرة،
ولذا: فالشعب بالأمس واليوم ضد الغاصب ومع المناضل من أجل إعادة هويته) .
أما مراسل التلفزيون الإيطالي فقد علق على ظاهرة الصلابة في الصمود بأنه: (نابع من معطيات الشارع ونبضه؛ فالإسلاميون أصبحوا القوة (الظاهرة) الوحيدة
التي لم تلكها الألسن في قضايا الفساد أو شراء الذمم، وهم الطرف الأقوى سياسياً
وعسكرياً، وعندما دعا (علي بلحاج) أركان النظام الجزائري إلى مناظرة تلفزيونية، يكون للشعب الجزائري الرأي الأخير في الحكم على الطرفين، فإنه كان يعلن
بكل وضوح بأن الشعب معنا وأن التدليس والدجل الإعلامي لا يتحمل مجرد مناظرة
من عدة دقائق..!)
هذه المعطيات دعت إلى التساؤل عن قدرة الحل العسكري على الاستمرار؛
فبالرغم من أن النظام ظل يعلن أن حملته التي بدأت في التصعيد قبل ثلاثة أشهر
للقضاء على كل الجماعات المسلحة التي يزيد عدد أفرادها عن خمسين شخصاً إلا
أن فشله كان واضحاً، مما دفع أحد المراقبين إلى التعليق بسخرية قائلاً: (لا شك
أن خبراء الأجهزة الأمنية سيكونون مدينين للسلطات الجزائرية إن هي أمدتهم
بالطريقة السحرية التي اعتمدتها في القضاء على هذه المجموعات التي عادت لتوجه
صفعة قوية باختطافها الطائرة الفرنسية في أكثر المواقع الحيوية في الجزائر،
ولتثبت للجميع الإعلام العالمي الغربي والجزائري قد أصبح مخنوقاً بدرجة فظيعة،
إن هذه الدولة - التي لم تعد تملك سوى ميلشيات ومجموعة ضئيلة من المؤيدين
أصحاب السمعة السيئة والوزراء المتخبطين - تشكل في النهاية عامل ترجيح
للجماعات التي حوصر قادتها في السجون فانطلق الشباب في هياج يحرق الأرض
ويدمر ما أمامه …)
الكلاشنكوف في النهاية ولد كلاشنكوفات كثيرة في أيدي الشعب ولم ينجح في
حل الأزمة!
الواقع القائم وتسويق خطر الأصولية:
يمكن القول اليوم أن قادة التيار الاستئصالي من العسكر قد فهموا قواعد اللعبة
الدولية باكراً عندما صرحوا بعد إلغاء الانتخابات بأنهم الورقة الوحيدة القادرة على
الوقوف أمام (الخطر الأصولي) ! ، وفي خضم تسويق هذا الخطر وقعت الدول
الكبرى في شَرَك التناقض الذي يمتد من البوسنة إلى الشيشان، والذي يترجم إلى
حرب شرسة على الأجساد المسلمة فضلاً عن الحرب على الأفكار الداعية إلى
تحكيم الإسلام وشرائعه..، وسيقف المؤرخون يوماً (قد لا يكون بعيداً) لكي يتأملوا
كم كان الزيف والنفعية والنظرة القاصرة والعجلى قد انتهت لصالح المشروع
الإسلامي عندما كشف الغرب عن حقده وانحيازه، وكيف داس على مُثُل
الديموقراطية (التي يدعي حمايتها) وساند تياراً استئصالياً نزقاً دون مراعاة للشعوب
التي لا يزال فيها بقية من أنفة..
كان الفرانكفونيون والعسكر واللصوص يعلنون بأعلى صوت (المد الأصولي
قادم) ثم لا تلبث فرنسا وحليفاتها أن يهرعوا ويهرولوا ليدعموا بأي وسيلة تصفية
ذلك (الشبح) دون التحقق أو التمعن في مضمون الملف الجزائري فضلاً عن
المجاملة لشعب اختار - لأول مرة - من ينطق بأحلامه ورؤاه.
دَغدَغ التيار الاستئصالي القوم وضرب على الوتر الحساس، فكانت ثلاث
سنين من الرعب والدم والقهر، وجر البلاد إلى دوامة الدمار وخراب الديار..
مراسل هيئة الإذاعة البريطانية زار مناطق من الجزائر تسيطر عليها الجماعات
المسلحة التي خرجت من رحم الأزمة وتزودت من المعين نفسه الذي غرف منه قادة
الانقلاب ... العسكر كانوا ينادون بالاستئصال والضرب في السويداء، والشباب
الذين غُيب قادتهم في المعتقلات لجأوا إلى الجهاد ... يقول المراسل: (من الصعب
أن تقارن بين حماس الشباب المسلح وحكمة الشيوخ المعتقلين، ومن الصعب
التفاهم اليوم مع شباب أخذوا حقهم بأيديهم وتمتعوا في مناطق واسعة بنفوذ وشعبية
لوقوفهم ضد النخبة الحاكمة المقطوعة عن الشعب وقواعده، كان بالإمكان أن تجنب
البلاد خطر هذا العنف الدموي - وبالإمكان تجنيبها مزيداً من الخراب - لو أن
الشارع الجزائري مارس خياره الأصولي ... وهذا ما يقوله كثيرون من الذين
قابلناهم وهم يرددون: بالله عليكم (حكم قال الله قال الرسول) أم هذا الانتحار
الجماعي والتدمير الذي لم يترك مجالاً من مجالات الحياة إلا مَسَّه) .
لقد فطن المجتمعون في روما من قادة الأحزاب المؤثرة هذا المنطق وإن
جاءت القناعة متأخرة، فالتخويف من الإسلاميين الذي شارك فيه بعض هذه
الأحزاب قد أدى إلى تلاشي أي نشاط سياسي أو مبادرة لانتشال البلاد من الحرب
الأهلية، وأصبح دورهم بمثابة القنطرة التي تعبر عليها جنازير الدبابات العسكرية
التي تصر على لغة الحديد والنار ... أحد قادة حزب التحرير قال خلال وجوده في
روما: (الحقيقة مغيبة عن العالم تماماً؛ هناك دولتان في الجزائر، واحدة في المدن
والمعسكرات والقواعد العسكرية ترتبط بالبلاد عبر جهاز القمع الذي يسمى (الننجا) ، وآخر يسيطر على الأرياف ومحيط المدن والمدن ذاتها بعيد الظلام ليلاً..)
والحكومة غاضبة أشد الغضب لأن بعض وسائل الإعلام نقلت شيئاً من هذا الواقع؛
لأن المطلوب عزل الجزائر عن الرأي العام نهائيا حتى يتم تنفيذ حلم فئة العسكر
المحدودة العدد والشعبية، إن الإجابة على هذا المحور لن تنتهي قريباً كما يبدو،
فطالما أن هناك شبحاً تزداد السهام الموجهة إليه، فإن ازدياد القمع والقتل سيكون
مبرراً في العواصم الكبرى طالما أن سوق (الخطر الأصولي) تلقى مزيداً من
المضاربين في بورصة السياسة الدولية.
حرب فرنسا:
مقابل اتهام الإسلاميين من قبل النظام بارتباطات خارجية، كانت الشهور
الماضية تشهد أكثر من اتهام الإسلاميين لخصومهم بأنهم حزب فرنسا.. كانت تشهد
تحولاً من (حرب حزب فرنسا) ... إلي شطب الكلمة الوسطى لتصبح المرحلة
معنونة (بحرب فرنسا) ، والاتهام لا يطلقه الإسلاميون فقط بل إن بعض الساسة
الفرنسيين أخذوا يحذرون من الوقوع في حبال (المصيدة الجزائرية) كما صرح
الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان، الذي طالب حكومته بالتفريق بين النضال
ضد الإرهاب - وهذا الذي يجب أن يكون قائماً وبلا تحفظ - وبين الدعم غير
المشروط وغير المحدد الذي يقدم للسلطات الجزائرية، وهو قريب من موقف قائد
الاتحاد الديموقراطي الفرنسي (جان دونيو) الذي طالب حكومته بالحياد في هذا
النزاع.
لكن التمني والمطالبة شيء والواقع شيء آخر، فقد أبرز اختطاف الطائرة
الفرنسية للعيان كم هي ضالعة - فرنسا - في الحدث الجزائري، ويكفي هنا أن
نذكر ما نقلته الصحافة العالمية عن رئيس الوزراء الفرنسي (إدوارد بلادور) الذي
طلب من الحكومة الجزائرية أن تسمح للطائرة بالتوجه إلى فرنسا، وحينما تردد
(مقداد سيفي) رئيس الحكومة كان الطلب الفرنسي يحمل صيغة الأمر (Exiger)
مما أدى إلى توتر في العلاقة بين العاصمتين وانتشار روح التذمر في الشارع
الجزائري من هذا التدخل الفرنسي المباشر في الأحداث والمساس بالسيادة! !
ويمكن تلمس هذه المشاركة الفرنسية المباشرة من خلال الدعم الاقتصادي
المباشر للحكومة العسكرية المتمثل في إعادة جدولة الديون وممارسة ضغط على
المجموعة الأوربية للتخفيف من حدة الأزمة الناتجة عن ديون خارجية تتجاوز
70 مليار فرنك فرنسي، كما قامت فرنسا بفتح اعتماد جديد للحكومة الجزائرية يتجاوز المليار دولار لتمكينها من شراء المواد الأساسية، ولولا هذا الدعم المباشر لانهار نظام الحكم في ظل الفساد وتراجع العائدات النفطية، أما في مجال الدعم العسكري فإن الصحافة الفرنسية والعربية قامت بنشر تفاصيل الصفقة التي تضم آليات جديدة وطائرات (مروحية) وأجهزة قتال ليلية والإشراف على تدريب عناصر الجيش الجزائري في البلدين، كما أن البصمات الأمنية الفرنسية أصبحت معروفة حيث ترفض فرنسا أن يقوم الجيش الجزائري بحماية المصالح الفرنسية في البلاد، وتقوم قوات أمنية فرنسية بهذه المهمة! ! وأخيراً يبرز الغطاء السياسي المباشر الذي يقوم به الحكم الفرنسي لصالح الحكم العسكري حيث أصبح من أشد أنصاره، ويكفي أن يشار هنا إلى الانتقادات الفرنسية المتكررة لدول التحالف الغربي لعدم حماسها لمشروع الدولة العسكرية الاستئصالية في الجزائر، الذي تتردد بريطانيا وألمانيا وأمريكا في دعمه علناً.
المشهد الحاضر يجعل من حرب فرنسا مهمة صعبة، لأنها جربت قبل عقود
قليلة أن تمارس سياسة العصا الغليظة تجاه شعب الجزائر، فكانت الكارثة، ومع
مرور الأيام - المليئة بالدمار والهلع - انْزَلَقَتْ فرنسا مرة أخرى في المستنقع
الجزائري بعد أن أثبت (الحركيون الجدد) أنهم لا يستطيعون أن يديروا رحى
الصراع مع الشعب المنكوب.
يقولون: (التاريخ يكرر نفسه) .. لكن، من يصدق أنه يفعل ذلك بهذه
السرعة؟ ! .
قطوف رمضانية
الصوم مناط لتحقيق العبودية، وهي الوصف الذي نُعت به كل من اصْطُفي
من الخلق، قال الله (تعالى) : [واذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ أُوْلِي
الأَيْدِي والأَبْصَارِ * إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ
المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ]
(رسالة العبودية لابن تيمية ص 85)(85/68)
المسلمون والعالم
العلاقات السودانية الإرترية
ودوافع التعكير
د/بلال محمد
لقد كان المتوقع من إرتريا الحديثة تعزيز علاقاتها بالسودان، وتنمية علاقاتها
معها، - على الأقل - مع أولويات مرحلة ما بعد الاستقلال، ودفعاً لمعوقات
خطواتها التنموية، ولكن يبدو أن قلق الرئيس النصراني (إسياس أفورقي) من المد
الإسلامي في القرن الإفريقي بعامة وإرتريا بخاصة، أبعده عن اتخاذ القرارات
الصائبة في حل متاعبه الداخلية، وترتيب علاقاته، وتذليل تعرجات المسيرة بالتي
هي أحسن، فآثر الجنوح إلى المصادمة مع الحركة الإسلامية الإرترية بدل المسالمة، وانشرح صدره لسياسات الكبت والقهر، وتكميم أفواه شعبه، وانساق لروح
الكراهية والتعصب المقيت ضد جاره المسلم تآلفا وتضامناً مع الاتجاهات المعادية
للتوجه الحضاري الإسلامي - رغم أن السودان بنظامه الحالي كان عضده الأيمن
في دعم أهداف الاستقلال، والمبادر الأول إلى تقديم العون المادي والسياسي -إذ
أسكت صوت المعارضة دون تفريق بين الإسلاميين وغيرهم! ! . بيد أن ذلك لم
يشبع نهمة (إسياس) ولم يجعله يكف عن شروره، بل راح يكيل للسودان التهم
ويحمله - استجداءً للغرب، وصرفاً للأنظار عن مشكلاته الداخلية - نمو الحركة
الإسلامية الإرترية وتصاعد أنشطتها السياسية والعسكرية، هذا بعد أن كان من قبل
يعزو وجودها -تنفيراً وتشويهاً- إلى الدعم الإثيوبي في عهد منجستو، ثم عزاها
بعد الاستقلال إلى ما زعمه من دعم خارجي! ثم ادعى القضاء على الحركة
الجهادية الإسلامية وإنكار وجودها، ثم أخيراً العودة إلى عزو تناميها - في الآونة
الأخيرة - إلى دعم الحكومة السودانية، وهكذا بقي (إسياس أفورقي) حائراً
مضطرباً في تصريحاته بشأن تزايد ثقل الحركة الإسلامية الإرترية، والوقوف من
كل معارضيه السياسيين مواقف متطرفة دائماً، متثاقلاً عن الحوار بتصعيد حملات
الاعتقال والاختطاف والاغتيال - حتى مع شركاء النضال والتحرر - تحت ذريعة
تطهير الجيش من العناصر المشاغبة والانقلابية [1] ، حيث صفّت أجهزته القمعية
في سبتمبر 1994م عدداً كبيراً من معاقي حرب التحرير الذين خرجوا من
معسكراتهم قرب العاصمة (أسمرا) تعبيراً عن معاناتهم الإنسانية، وتظلماً من
تقاعس النظام وعجزه عن رعايتهم.
والإسلاميون في إرتريا توقعوا من قبل هذه المواقف العدائية من (إسياس)
وحذروا مراراً من خطورة توجهاته الشعوبية، ولذا لم يفاجؤوا بسياساته الاستعدائية، فمن الأهمية بمكان لـ (أفورقي) أن يرى المشروع الإسلامي في السودان وقد
قُوض، وعندها تتحقق أطماع (إسياس) السياسية والثقافية بمنع المسلمين في إرتريا
من سند المقاومة والممانعة، من هنا اندفع (إسياس) نحو الارتباط (بإسرائيل)
واقتفاء أثرها في مكافحة المد الإسلامي الذي يراه خطراً على أمن المنطقة [2] .
وطبقاً لهذا الإحساس، وانطلاقاً من هذا الشعور كان (إسياس) أكثر رؤساء
(إيقاد) [3] ، تفاعلاً مع مشروعها المطروح لحل مشكلة جنوب السودان، والقاضي
بإلغاء النظام الحاكم في السودان وإقامة نظام علماني بدلاً منه شرطاً أساساً
للاستقرار [4] .
وقد حظي هذا المشروع بتأييد ومناصرة منظمة التضامن المسيحي العالمي في
بون ومنظمة الإخاء المسيحية الهولندية [5] ، وتبنته أحزاب العلمنة السودانية،
وسبق أن طرح الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر) نظيره عام 1989م أثناء
وساطته بين الحكومة وقيادة حركة (جون جرنج) في لقاء نيروبي [6] .
لكن إصرار الحكومة السودانية على الرفض حمل (إسياس) على الخروج من
طور ادعاء الإصلاح إلى طور العداء المعلن، معتقداً أن ذلك سيحقق له كسباً
سياسياً وثقافياً واقتصادياً، بما يبرهن للقوى الصهيونية على إخلاصه في أداء دور
التخريب المتعمد ضد السودان من بوابته الشرقية، وكان فعلاً قد سبق ذلك بفتح
معسكرات تدريب لعناصر الجنوب المتمردة، وقدم السودان شكواه إلى منظمة
الوحدة الإفريقية متهماً إرتريا بالتعاون مع إسرائيل في تدريب عدد من المتمردين
الجنوبيين [7] .
وبات من المؤكد لدى السودان حسبما نقلته جريدة الحياة عن مصادر سودانية
مطلعة (أن القوات الجوية الإسرائيلية تبني الآن قاعدة قرب مدينة (أومال) في غرب
إرتريا في مكان لا يبعد كثيراً عن الأراضي السودانية، وأنه رصدت حركة
لطائرات هليوكبتر، ولوجود مهندسين وعسكريين من إسرائيل يشرفون على
الإنشاءات المدنية للمشروع) [8] .
هدف أفورقي من هذا الإجراء:
وتهدف هذه الإجراءات إلى عزل الشعب الإرتري عن خلفيته الاستراتيجية،
وإيجاد عداءات لا مبرر لها بينه وبين الشعب السوداني، ووضع حواجز بين
الشعبين للحيلولة دون تعميق الثقافة الإسلامية ولغتها العربية في المحيط الإرتري،
لأن حالة التواصل بين الشعبين ستؤدي حتماً إلى تغلب الثقافة الإسلامية على
سياسات (التجزئة) و (العلمنة ذات الاتجاه الصليبي) لاسيما أن (إسياس) يعزو ذيوع
اللغة العربية في إرتريا إلى جهود معلمين سودانيين في عهد الاستعمار
البريطاني [9] ، ويخشى أيضاً من أن يكون لهم هذا الدور نفسه في بث الوعي الإسلامي حالياً، ولذا: لم يكن غريباً منه أن يصدر قراراً بإبعاد السودانيين المقيمين في إرتريا عقب قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق الحدود.
وتَعَمِّد (إسياس) إحداث هذه الوقيعة والقطيعة بين إرتريا والسودان لأسباب
مفتعلة، وبجانب ما يعكسه لنا من استعداده للعمل في معسكر العداء الإسلامي يكشف
لنا من ناحية أخرى لجوءه إلى استخدام وسائل الحرب النفسية لسلب الذات
الإسلامية الإرترية اطمئنانها النفسي، وذلك من خلال التأكيد لها أن بمقدوره
الانقضاض على خلفيتها الإسلامية في السودان كما تغلَّب من قبل وقهر في مرحلة
ما قبل الاستقلال كياناتها العسكرية والسياسية بالتحالف مع (تجراي) امتداده الديني
والثقافي مستغلاً خلافاتها السياسية وانحرافاتها الفكرية، كما أنه على المدى البعيد
يرمي إلى بناء قوة (تجراي تجرنيا) المكونة من إرتريا وإقليم (تجراي) الاثيوبي
والمدعومة من إسرائيل، يكون المسلمون فيها أقلية مقهورة ومعزولة، لاسيما أن
ثمة تقارير سياسية تشير إلى أن إثيوبيا مقبلة على مرحلة من التمزق والتفتت
القومي بما يمنحه الدستور من حق لكل قومية في الانفصال والاستقلال [10] .
وقد كان هذا الهدف مطلباً مطروحاً في الخمسينات في فترة تقرير المصير من
الأب الروحي لنظام (إسياس) : (ولدآب ولدماريام) .
وهذا يتطلب ضرورة إيجاد مناخ مناسب وملائم، ومن ثم لا عجب أن يعكر
(إسياس) صفو علاقات إرتريا مع السودان بتوجهه الإسلامي، ويمتِّن في الوقت
ذاته صلاته بإسرائيل الصهيونية، ويشارك في قمع الإسلاميين بأوجادين، ويؤكد
أهمية ما أقدم عليه من إبرام عقد الكنفدرالية مع إثيوبيا مصرحاً أنها: (إحدى الصيغ
المطروحة للاندماج مع هذا البند..) [11] . دون أن يقول لنا من الذي طرحها،
ومتى.
وعلى كل حال، فإن ما يجري ما هو في نظرنا إلا شرٌ بيِّت بلندن عام
1991م عند البت في المسألة الإرترية عقب سقوط (منجستو) بين الثلاثي المنتصر
(إسياس أفورقي، وملس زناوي، وكوهين اليهودي) .
فاللهم فرق صفوف الأعداء واجعل بأسهم بينهم، وأخرج إخواننا المسلمين
منهم سالمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فرص رمضانية
* كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما
كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً.
(أخرجه البخاري)
* قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (عمرة في رمضان تعدل حجة)
أخرجه البخاري ومسلم.
* (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)
أخرجه البخاري ومسلم
__________
(1) نجا القيادي البارز في الجبهة الشعبية ومسؤول هندسة المتفجرات (سليمان هندي) من محاولة اغتيال في بور سودان دبرها له جهاز استخبارات الجبهة الشعبية لمجرد اختلافه مع (إسياس أفورقي) ، وتمت تصفية (إبراهيم عافة) أحد رفاق (إسياس) داخل الميدان وأشيع أنه قتل في معركة مدينة (بارنتو) ، كما جرت عام 1992م في كسلا محاولة اغتيال (آدم مجاوراي) أحد عناصر حركة الجهاد الإسلامي الإرتري، ووفقاً لما نشرته الحياة 16 ديسمبر 1992م نقلاً عن مصدر سوداني أن إرتريا أرسلت عناصر من الاستخبارات إلى داخل الأراضي السودانية لاغتيال أشخاص سودانيين وإرتريين وكلما أراد النظام التخلص من معارضيه في داخل أجهزته الإدارية والعسكرية اتهم العنصر المستهدف بعد تصفيته بالإدمان والانتحار؛ كما فعل مع (عبد الله داود) أحد الكوادر الإدارية العالية، أو سعى إلى طمس معالم الجريمة واكتفى بتقييدها ضد مجهول كما كان الشأن مع موت.
(عمار المذيع) ، أو تبرأ منها باختلاق حادث مروري كما علل موت القائد العسكري.
(داني) .
(2) انظر تصريحه في واشنطن بوست 14 / 10 / 1991 م، ومقابلة المفوض العام لإرتريا في فرنسا (دانيال يوهنس) في مجلة الوسط 15/ 2/ 1993م.
(3) (إيقاد) هو اختصار لاسم: (الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف) ، وتتألف من الرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) والإثيوبي (ملس زناوي) والأوغندي.
(موسفيني) والكيني (دانيال آراب موى) ، وكلهم نصارى.
(4) انظر مقابلة في وزير خارجية إرتريا (بطرس سلمون) في جريدة إرتريا الحديثة 10 / 8 / 1994م.
(5) انظر الحياة 30/ 6/ 1994م.
(6) انظر مقابلة (صلاح محمد إبراهيم) عضو وفد الحكومة في مفاوضات نيروبي، جريدة الشرق الأوسط تاريخ 30/2/1989م، وجريدة الحياة 18/12/ 1994م.
(7) انظر مجلة (الأمان) ، البيروتية عدد (105) بتاريخ 20/5/1994م.
(8) الحياة 16 / 12 /1994 م.
(9) انظر مقابلة (إسيلس أفورقي) في جريدة (ألوان) السودانية 25/ 6/ 1988م.
(10) انظر تقرير النائب الديغولي الفرنسي (أكزابيو دينو) عن دول القرن الإفريقي إلى أعضاء مجلس النواب الفرنسي، نشرت فقرات منه في الحياة 17/10 /1994م.
(11) انظر تصريح (إسياس) في الحياة 25/4/1994م.(85/77)
المسلمون والعالم
نظرات في واقع المسلمين في الفلبين
-بحث ميداني-
الحافظ يوسف موسى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد..
فإن المتابع لمسيرة الدعوة الإسلامية بين النصارى الوافدين لدول الخليج
العربي منذ عام 1405 هـ حتى اليوم يلحظ أن الفلبينين هم أكثر النصارى اعتناقاً
للإسلام، حيث كانت نسبتهم من بين كل المعتنقين للإسلام في 76%، ولكن لا
معنى لفرحنا بذلك ما لم نهتم بهؤلاء الإخوة المهتدين اهتماماً خاصاً يليق بدخولهم في
الإسلام وبقربهم منه؛ ولهذه الأسباب قمت بزيارة للفليبين لدراسة أحوالهم عن كثب، فوجدتهم بهذا الإقبال نفسه وأكثر منه في بلادهم، لعوامل كثيرة متوفرة هناك.
ومن الطرافة أنني وجدت نصارى الريف لا يزالون يحافظون على بعض
القيم الإسلامية، وذلك لأن الفلبين كان بلداً مسلماً، وقد بدأ التنصير فيه قبل قرنين
بعد وصول البرتغاليين بقيادة ماجلان الذي وضع أول كنيسة في منطقة (سيبو) وقد
قتله سلطان من قادة المسلمين من أبناء الفلبين اسمه (لابو لابو) كما يشهد بذلك
تاريخ الفلبين الحديث.
وبلاد شرق آسيا لم تزل في معظمها بلاداً إسلامية مثل ماليزيا وأندونيسيا
وجاراتها، ماعدا جزر الفلبين التي تقلص المسلمون فيها إلى أقلية، وذلك لأنها
كانت ومازالت محط أنظار النصارى، لموقعها الاستراتيجي الذي جعل الأمريكان
يضعون بها قواعدهم العسكرية؛ لتكون لهم مركزاً عسكرياً وثقافياً وتجارياً.
ولما كانت الفلبين بهذه الأهمية فإنه يجدر بنا أن نتحدث في البداية عن أهم
قضايا الدعوة هناك، وسأبدأ بقضية المسلمين حديثي العهد بالإسلام من النصارى
وغيرهم، وذلك لأنهم أهم الفئات في تلك المنطقة.
أولاً: النصارى المعتنقون للإسلام، وهم أهم الفئات للأسباب الآتية:
إن معظم النصارى في الفلبين متعلمون، وهم من الطبقة المثقفة، مقارنة
بالمسلمين الفلبينيين بالميلاد، الأمر الذي جعلهم ملمين بتعاليم أناجيلهم المحرفة،
مما سهل دعوتهم للإسلام عندما يقارن الواحد منهم بين ما يعتقده من أباطيل وما
يجده في القرآن من حق، ولذلك تجد المعتنق للإسلام يكون جاداً ومستقيماً وشغوفاً
بمعرفة المزيد عن الإسلام أكثر من المسلم بالميلاد، فضلاً عن وضعهم الاجتماعي
والاقتصادي الذي جعلهم أكثر رفعة وتعففاً من المسلم بالميلاد الذي -أحياناً - لا يجد
حرجاً في تسول الناس باسم الأخوة في الإسلام.
وهذا الوضع جعل المعتنقين للإسلام - حديثاً - أوسع فهماً ومعرفة بالأمور
الشرعية وأكثر نشاطاً في الدعوة من أقرانهم من المسلمين بالوراثة.
ومن العوامل التي تساعد الشعب الفلبيني على اعتناق الإسلام تركيبتهم
الطبقية من حيث الوضع الاقتصادي لأن الدولة كلها عبارة عن قطاع خاص،
ولاسيما الزراعة التي وصلت قمة النظام الإقطاعي الذي عرف في القرون الوسطى، الأمر الذي جعل الفارق كبيراً بين الفقراء والأغنياء، مما دفع مثقفيهم إلى كراهية
هذا الوضع الاحتكاري البغيض.
والمسلمون المعتنقون للإسلام - حديثاً - لهم مشكلات
تتلخص في الآتي:
1- أن مسلمي الميلاد يعتبرون المعتنقين للإسلام من الدرجة الثانية، ويظنون
أن الإسلام يخصهم وحدهم، ويظهر ذلك في علامات عدم الترحيب بالقادم لإعلان
إسلامه، ويزيد اليقين عندي في هذا الأمر إجماع كل الإخوة العرب على هذا الرأي، بيد أنني لاحظت عدم نشاط مسلمي الميلاد في دعوة غير المسلمين للإسلام؛
فمعظم المعتنقين للإسلام عرفوه من الدعاة المسلمين العرب أو دعاة الرافضة، كذلك
لاحظت أيضاً الصعوبات التي تقابل المعتنق للإسلام - حديثاً - عندما يطلب إعلان
إسلامه على يد بعض مسؤولي المراكز الإسلامية، حيث يطلب منه مبلغ من المال
إمعاناً في التعقيد! ! وربما تقليداً للنصارى في طريقة التعميد فتحول الإسلام عند
هؤلاء إلى مجرد طقوس.
2- وعلى ضوء ما ذكر آنفاً: غالباً ما تحدث مشادة بينهم حيث يكون المسلم
الجديد شغوفاً بمعرفة أمور العقيدة والآخر كسولاً فضلاً عن شعوره بالحسد لكونه
أقل معرفة بالإسلام من المسلم الجديد، فعندما يصحح الأول خطاً ارتكبه الثاني في
العبادة أو العقيدة تجد المسلم بالميلاد لا يقبل ذلك قائلاً له: (متى عرفت الإسلام
حتى أصبحت فيه عالماً؟) ولا تمضي لحظات حتى تجد المسلمين بالميلاد تجمعوا
حول هذا لضربه! ! ولو كان على حق، بك قد يصل الأمر أحياناً إلى القتل -
والعياذ بالله - لمجرد أنه ليس مسلماً بالميلاد! !
3- من أكبر مشكلات معتنقي الإسلام - حديثاً - فقدانهم لأعمالهم وذويهم
وبخاصة النساء منهم؛ وذلك قد يكون لاكتشافها أن عملها حرام بحكم الإسلام، أو
أن يحاربها أهلها لاعتناقها الإسلام، وهذا صراع قاس ومرير في بلد قل أن يوجد
فيه المؤازر وكل شيء فيه بثمن إلا الهواء.
4- والمسلم الجديد غالباً لا يجد من يتابعه ويواسيه في مصائبه لعدم وجود
مركز يختص بهذا الأمر، مما يجعله سهل الانزلاق مع الرافضة المتأهبة لهذه
الحالات أو الارتداد عن دينه عندما تشتد به المحن ولا يجد مخرجاً منها.
5- المسلم الجديد لا يعرف الفرق بين الغث والسمين، لذلك نشط الرافضة
بين المسلمين الجدد لاحتوائهم ولقد نجحوا -إلى حد كبير- في استقطابهم، بل هناك
من لم يعرف الإسلام إلا عن طريقهم لكثافة نشاطهم وتوافر كتبهم ومساعداتهم.
6- أما أكثر مكاتب المسلمين القائمة بالدعوة هناك - وبالرغم مما تقدمه من
جهود - إلا أن نشاطها محصور في توزيع بعض الكتب وقليل من حلقات تحفيظ
القرآن، لكنها لا تقوم - بما فيه الكفاية من المتابعة والتقصي وراء المسلمين
أصحاب المشكلات الذين يحتاجون إلى الدعم والمؤازرة [*] .
ثانياً: المسلمون بالميلاد:
هذه الفئة مارس الاحتلال البرتغالي والأسباني - والأمريكي مؤخراً - معهم
طريقة جعلتهم أقل تعليماً وأكثر تخلفاً، مع أنهم يقطنون في أخصب الأراضي
الزراعية في جنوب الفلبين، وهم الوحيدون المتمتعون بالدعم الكبير الذي يصل
إليهم من بلاد المسلمين، مع العلم أن هذا الدعم لا يوزع إلا على السلاطين وقليلين
من غيرهم؛ الأمر الذي جعلتهم في وضع طبقي أيضاً، فهناك فئة في تخمة من
الشبع وفئة تتضور من الجوع.
وأكثر الفئات مهضومة الحقوق هي فئة المجاهدين والمرابطين في الثغور،
والحقيقة أنهم هم أولى الفئات بالدعم.
هذه التركيبة جعلت الفئة المتنعمة غارقة في الكسل والخمول، والفئة الثانية
حاسدة ومنتظرة للمزيد من الدعم لتحسين حالهم بدلاً من الكد والمثابرة لتحسين
الأوضاع بطرق الكسب الشريف.
ولقد وجدت ظاهرة جديدة تأكيداً للكسل حيث أصبح عدد من مسلمي الميلاد
يبيع أرضه للنصارى ويهاجر إلى المدينة في شمال البلاد، وذلك بخطة من الكنيسة
التي عجزت عن تنصيرهم فعمدت إلى إخلائهم بشراء الأرض وتسليمها للنصارى،
أملاً في تحويل المنطقة إلى منطقة نصارى مغلقة.
بجانب هذا الوضع السيئ فلقد أحيا الأعداء فيهم نعرة قبلية مقيتة تلاحظها في
سوء العلاقات بين القبائل حتى بلغت درجة القطيعة والحرب، وجعلت الرجل لا
يتزوج من غير قبيلته ظناً منه أن القبيلة الثانية كافرة! ! ، هذا مع غلاء المهور
الفاحش الذي لا يتصوره العقل.
ولقبائل مسلمي الفلبين درجات طبقية تبدأ بقبيلة (المرناو) على أنها أرقى
القبائل ثم (المقتدناو) ثم (التاوسوق) ثم تأتي بعدها القبائل الصغرى الأخرى والفارق
بين هذه القبائل هو فقط الكم العددي للقبيلة الذي يكسبها قوة ومنعة وعليه جاء هذا
التدرج، وقبيلة التاوسوق هي القبيلة المقاتلة حقاً وقد كلفت ببناء المساجد في جميع
أنحاء الفلبين وذلك لغيرتهم الإسلامية أكثر من غيرهم.
ومن المؤسف حقاً أنهم لا يعرفون العقيدة الصحيحة ولا يميزون بين الحلال
والحرام ومعظمهم صوفي، وبدأت تدخل عليهم ضلالات الرافضة مؤخراً، كما
سيتبين فيما بعد.
ثالثاً: الصوفية:
- تنتشر البدع الصوفية بين أئمة المساجد في المدن الكبرى، كما تنتشر
الصوفية في جزر هولوسولو وتاوتاوي وباسيلان، حيث يكثر بينهم التعامل بالسحر
والشعوذة وخاصة الطريقة الرفاعية، وهناك فرق أخرى من الصوفية قد لا يوجد
لها مثيل، منها:
* القرديون: وهم يعتقدون بأن القرود لها قدرة على شفاء الأسقام المستعصية.
* المنبريون: وهم يعتقدون بقدسية المنبر العتيق في بعض المساجد.
* الجنيون: وهؤلاء يتعاملون مع الجن بالسحر والشعوذة.
* القبوريون: وهؤلاء هم المستغيثون بقبور من يسمونهم أولياء ويتوسلون بهم
ويقدمون لهم القرابين وما إليها من شركيات.
- لقد نشر الصوفيون كثيراً من البدع والخرافات مثل إقامة المآتم ومراسم
الدفن - تقليداً للنصارى - وقراءة القرآن على الأموات، وإقامة الولائم بعد عشرين
يوماً من الوفاة وبعد أربعين أو خمسين يوماً من الوفاة أيضاً، وغير ذلك من البدع
مثل إحياء ليلة النصف من شعبان والاحتفال بالمولد النبوي، كما ظهرت بينهم
عقيدة تناسخ الأرواح.
رابعاً: الرافضة:
للرافضة نشاط ملموس بين المسلمين بعامة وطلاب الجامعات والمعاهد
بخاصة، فقد أخذوا يشككون المسلمين في دينهم من عدة نواح، وهم يقسمون
نشاطهم إلى قسمين نشاط للمسلمين وآخر لغير المسلمين - حيث إن عدداً دخل
الإسلام عن طريقهم -مع أنهم لا يركزون كثيراً على هذا الجانب.
فهم يقدمون للمسلمين ما يشككهم في معتقد أهل السنة والجماعة، وبهذا
التشكيك ظهرت مشكلة صارت تواجه المسلمين والرافضة - على السواء - من قبل
النصارى؛ حيث ظن النصارى أن الإسلام إسلامان والقرآن قرآنان، إسلام شيعي
وآخر سني وقرآن فاطمة وقرآن السنة، وبهذا فقد قالوا: إن القرآن محرف كما
نقول نحن حيال الإنجيل، والإسلام متعدد مثل النصرانية -كاثوليك وبروتستانت-
وأصبح هذا من مفتريات المنصرين على الإسلام التي استلهموها من مفتريات
الرافضة.
والآن بدأ الرافضة يركزون نشاطهم في الجنوب - حيث الثقل الإسلامي -
وذلك لأن الشمال أصبح مكتظاً بالشباب من العرب الذين ذهبوا إلى الفلبين طلباً
للدراسة، حيث يوجد الآن في مانيلا وحدها قرابة السبعة آلاف طالب، منهم عدد لا
بآس به يقوم بمحاولة الرد على الرافضة، وهذه المحاولات -مع ضعفها- أعاقت
سير دعوة الرافضة هناك، فضلاً عن أن سكان الجنوب مسلمون بالوراثة ولا علم
لهم بأباطيل الرافضة -إلا ما رحم ربي- مما جعلهم أكثر تقبلاً لضلالاتهم، بجانب
ما يوجد فيهم من صوفية متفشية تحرم صاحبها من التدقيق والتحقيق، علاوة على
الدعم المادي الذي يقدمه الرافضة، فضلاً عن إثارتهم للنعرة العرقية وذلك باستعداء
الفلبينيين على العرب من جانب أنهم أعاجم والروافض أعاجم فلذلك هم أحق
بالتعاون معاً، ويعتمدون على تفسير آية: [الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفَاقاً]
[التوبة: 97] ، تفسيراً محرفاً مؤداه أن كل العرب كفرة ومنافقون.
والدعم الذي يقدمه الرافضة يعتبر قليلاً مقارنة بالدعم القادم من بلاد المسلمين
إلا أنه على قلته يُعْتَمَدُ في توزيعه على الإيرانيين أنفسهم عن طريق وسطاء من
أبناء الفلبين، ويقومون هم بالمتابعة الدقيقة، ويأمرون بتوزيع الدعم في الوقت
المناسب وللعمل المناسب -أي بتركيز محسوب- مما جعل لدعمهم أثراً فاق أثر
الدعم القادم من بلاد المسلمين، رغم كثرته وتعدد مصادره.
ونظراً لوجود المتخصصين والمتفرغين لدعوة الرافضة فضلاً عن الدعم
المادي والدبلوماسي المقدم من سفارة إيران وعدم وجود نظير مقابل له لدى
المسلمين أصبح نشاط الرافضة أكثر تأثيراً حتى بلغ الأمر درجة اتهام أهل السنة
والجماعة بكثرة الكلام وقلة العمل، والحق يقال: لا يعرف للمسلمين نشاط إلا
جهود دعوية وإغاثية في حدود ضيقة [*] بينما الرافضة ينشرون المعاني المحرفة
للقرآن وكثيراً من كتب مذهبهم الباطل بكل اللغات المحلية والإنجليزية، وكفى
شاهداً على نشاطهم بناء مسجد كبير بمدينة (دوماجتي) باسم مسجد الخميني، بينما
لا يوجد مسجد واحد باسم أهل السنة والجماعة في المدن الكبرى نهائياً! ! ، وهم
دائماً يلمزون مسلمي السنة بأنهم وهابيون مبتدعون! !
ولا يمكن للمرء أن يتصور إلى أي مدى أثرت أباطيلهم، والأدهى من ذلك
والأسوأ: أنه لم يقم أحد بالرد على هذه الأكاذيب ولو بطريق غير مباشر حتى الآن، مما جعلهم يقولون: إن هذا هو الحق وإلا لماذا لم يرد عليهم أحد من أهل السنة
والجماعة؟ ! وفعلاً لقد صدَّق العوام هذه الأراجيف كل التصديق، ونحن جميعاً
مسؤولون عن الرد على هذه الأباطيل ما لم يقم من يفندها.
ولقد قام الشيخ سلامات هاشم - مؤخراً - بنشر مجلة في حدود ضيقة على
نفقته لدحض أراجيف الرافضة، إلا أنها لم تنهض بالمهمة الكاملة.
ومع العلم أن زعماء الرافضة الأساسيون هم إيرانيون لا يتعدون العشرة في
كل الفلبين، لكنهم لا يلتقون بالجمهور مباشرة بل عن طريق وسطاء من أبناء
الفلبين كما أنهم يعملون بأعمال توهم الناس بأنهم فقراء ولا دخل لهم بشيء سوى
كسب القوت مثل الجزارة أو المطاعم الصغيرة وصناعة الخبز.
وعندما يرغبون في اجتذاب القادة الكبار من المسلمين لاعتناق مذهبهم الهدام،
يعطونهم تذاكر طيران مفتوحة لعدة بلدان إسلامية، وعند ذهابهم لتلك البلدان
يعرضون عليهم أسوا ما في تلك البلدان، ثم يدعونهم بعد ذلك لزيارة إيران حيث
يعرضون عليهم أفضل المناطق، ثم يهيئون لهم مقابلات مع كبار قادة إيران إمعاناً
في الإغراء، ثم يطرح عليهم السؤال: أي البلدان أكثر إسلاماً؟ إيران البلاد
الأخرى؟
والروافض لا يميلون إلى أسلوب الحوار المفتوح إلا إذا علموا أن المحاور
يجهل شبهاتهم وغير ملم بدقائق التاريخ الإسلامي، فهم ميالون للأسلوب الخفي
بعمل المنشورات خاصة وسط الجهلة الذين لا علم لهم وفي المناطق التي لا تتوافر
بها المراجع لدحض مفترياتهم.
والرافضة والنصارى يتشابهون في طقوسهم الدينية، وذلك في عبادة تكفير
الذنوب، حيث إن للنصارى أسبوعاً مقدساً من كل عام فيه الجمعة المقدسة يصلب
فيها أحد النصارى وهو حي دون أن يقتل، ويخرج فيها الشباب عاريي الظهور
ويضربون أجسادهم بالسياط المليئة بالشوك والحديد حتى تسيل الدماء وهم يدورون
بالشوارع كما يفعل الروافض تماماً في طقوسهم المبتدعة في أيام عاشوراء.
وهنالك أشخاص عادوا إلى الحق بعد أن أضلتهم الرافضة، ومن جملة هؤلاء
الشيخ مهدي باقندا من مدينة زامبوانقا، وهو الوحيد الذي كون صحيفة من ماله
الخاص للرد على ترهات الرافضة.
أما وسائل تشكيكهم الأخرى [**] فتتمثل في الآتي:
(1) يزعمون أن القرآن الذي بين أيدينا - نحن أهل السنة والجماعة -
محرف، وقد زيد فيه ونقص، وأن هناك مصحف فاطمة فيه مثل القرآن الذي معنا
ثلاث مرات (ومن هنا جاء زعم النصارى بأن القرآن محرف وليس كتاب واحد،
مثله مثل الإنجيل) .
(2) طعنوا في صحة كتب الحديث التي بين أيدينا وبخاصة صحيحي
البخاري ومسلم، وذلك للتشكيك في صحة السنة النبوية الشريفة.
(3) يكفرون الصحابة ويشككون في نزاهتهم وبخاصة الصحابة الكبار منهم،
وهذه ظاهرة منتشرة جداً حتى بين من يدعي الولاء لأهل السنة من المسلمين في
الفلبين وذلك عن جهل.
(4) ينشرون الرذيلة بين أبناء وبنات المسلمين عن طريق (نشر المتعة) أو
ما يسمونه (نكاح المتعة) ، ففي بادئ الأمر كانوا يشيعون هذا السفاح بين المسلمين، فضلاً عن أن عدد المعتنقات للإسلام كبير وما يزال في ازدياد ملحوظ، ولكن
سرعان ما نفر النساء من هذا الرأي وكرهن الرافضة، فغير الرافضة من خطتهم،
وقالوا: إن زواج المتعة لا يجوز إلا مع المرأة النصرانية، ولقد وقعت كثيرات من
بنات المسلمين وغيرهن من المعتنقات للإسلام ضحايا لهذا الانحراف.
(5) يزعمون بأن الأئمة الاثني عشر معصومون، وأنهم أفضل من الأنبياء والرسل.
(6) يوزعون الكتب والمجلات التي تحمل هذه السموم دائماً في شتى جزر الفلبين المسلمة فلا يكاد يخلو منها مسجد ولا مدرسة.
(7) يقدمون الندوات والمحاضرات بكل الوسائل المتاحة لنشر عقائدهم إن لم يجدوا من يقف ويفند مزاعمهم.
(8) لقد أثر الروافض على بعض خريجي الجامعات الإسلامية المتخرجين
في الدول العربية واستمالوهم بالإغراءات عن طريق السفارة الإيرانية.
(9) لقد تغلغل الروافض في صفوف (جبهة تحرير مورو الوطنية بقيادة نور
مسواري) تحت شعارات زائفة مثل محاربة الإمبريالية والصهيونية وغيرها من
الشعارات، لذلك فهناك كثير من القادة يتعاطفون مع الرافضة.
(10) تأثر بعض الطلبة العرب بدعاوى الرافضة فتبنوا عقائدهم الباطلة.
__________
(*) هناك جهود خيرية كثيرة تقوم بها جماعات إسلامية تعمل لنصرة الإسلام والدعوة إليه إلى وإغاثة المسلمين هناك، انظر كتيب (الأعمال الخيرية في الفلبين، الأهداف - الأعمال - الآثار - النتائج - الحاجات) للشيخ سعود بن محمد العوشن
- البيان -.
(**) لبيان باطلهم في هذه المزاعم، انظر: الشيعة والسنة، والشيعة والتشيع، لإحسان إلهي ظهير، وانظر أيضاً: مختصر التحفة الاثني عشرية بتحقيق محب الدين الخطيب، وأصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية - عرض ونقد - للدكتور ناصر القفاري
- البيان -.(85/83)
متابعات
أسئلة الأهلة في ساحة الحوار..
كنا ومازلنا ندعو أصحاب الفضيلة العلماء والمفكرين والقراء المتابعين إلى
التواصل مع المجلة تعليقاً ونقداً وتصحيحاً لأي أخطاء، والتعقيب على أي ملاحظة
تستحق التصويب. وقد سبق أن نشرت المجلة في العدد (79) مقالة (أسئلة الأهلة
في قالبها العبثي) للكاتب سليمان الربعي، وقد وصل إلينا هذان الردان على المقال
المذكور:
- البيان -
الرسالة الأولى من الأخ / عبد الله بن عبد الرحمن:
اطلعت على ما كتبه الأستاذ سليمان الربعي بعنوان (أسئلة الأهلة في قالبها
العبثي) المنشور في العدد (79) . - وأعجبني حسن أسلوبه وقوة عرضه، وأهمية
القضية التي عالجها الكاتب، واللهَ أسال أن يبارك فيه ويوفقه لكل خير.
ولكن استوقفني وصفه لسؤال عرضه بعض الصحابة في شأن الأهلة.. بأنَّه:
(ساذج يدل على سطحية في التفكير وبدائية في النظر ومحدودية في التناول التأملي، وبساطة البحث عن المعرفة الفكرية المهمة المناسبة للمكان والزمان ... ) .
ومن المعلوم المتفق عليه أنَّ للصحابة (رضي الله عنهم) منزلة جليلة، ومكانة
كبيرة، فلا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، وأنهم أبرّ هذه الأمة قلوباً
وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، وأن من أصول أهل السنة والجماعة موالاتهم
لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبتهم، والكف عمَّا شجر بينهم.
وفي الآية الكريمة المشار إليها في المقال تأديب للصحابة (رضي الله عنهم)
بأن يسأل المرء عمَّا ينفعه، ويترك ما دون ذلك من الأسئلة التي لا تنفع في الدين.
ولا شك بأن الكاتب لم يُرد على الإطلاق تنقص أحد من الصحابة، ولعل
مراده أن يُشتغل بالأمور العملية النافعة، فالسلف الصالح كانوا يكرهون الحديث
فيما لا تحته عمل. وهي -فيما نحسب- زلة قلم غير مقصودة، وإنا على ثقة -إن
شاء الله- بأن الكاتب لو أعاد قراءة المقالة مرة ثانية لتنبه لذلك وصحح عباراته..
وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
الرسالة الثانية من الأخ / محمد آل عبد العزيز: ومما جاء فيها:
قرأت مقالة الأخ سليمان الربعي (أسئلة الأهلة في قالبها العبثي) ، وأشكره
على حرصه وغيرته وجمال أسلوبه، وأرجو أن يتسع صدره للملحوظة التالية:
عتب الكاتب على بعض الناس الذين يسألون عن عقيدة ذلك الأستاذ وعلى أي
شيء توفاه الله؟ وماذا كان منهجه في الممارسة؟ وفي عام كذا وكذا ماذا عمل؟
وفي مكان كيت كيف شوهد؟ نقبوا في تراثه؟ وماذا ترى يا شيخ في القوم المحبين
له؟ وفي الفتية المثنيين عليه؟ وهلم جرا من هذه الألوان القاتمة في أفق الساحة
من بعض الناس المحسوبين على الدعوة.
ولا أجد أي حرج في السؤال عن عقيدة أحد الكتاب أو الدعاة، أو عن تاريخه
ومنهجه وتراثه، فالتقويم والتصويب أمر لازم إذا التزم بالمنهج العلمي والأدب
الإسلامي، وبخاصة في مثل هذا العصر الذي اختلطت فيه السبل وكثر فيه الدخيل، وهو منهج شرعي سبقنا إليه أئمة هداة من سلف هذه الأمة الأبرار الذين بنوا علم
الجرح والتعديل، فتكلموا عن الرواة قوة وضعفاً، وعن المرويات صحة وسقماً.
وبهذا حفظ الله الدين؛ قال محمد بن سيرين: (ما كانوا يسألون عن الإسناد فلما
ظهرت الفتن؛ قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظرون إلى أهل السنة فيأخذون حديثهم
وينظرون إلى المبتدعة فيتركون حديثهم) .
وأحسب أن الكاتب يتفق معي في هذا الرأي، ولكنه أراد أن يستنكر على
بعض الناس الذين يأخذون بالظنة ويتهمون بغير بينة، بل يتحدثون بجرأة عن
سرائر القلوب، ويرتبون على دقائق المسائل أموراً عظاماً لا تقتضيها. ونتيجة
ذلك أن أقرب شيء إلى ألسنتهم التبديع والتضليل بل التكفير بدون دراسة شروط
ذلك ومعرفة موانعه.. وهذا أمر غير محمود نهى عنه السلف والأئمة قديماً وحديثاً، والعدل لازم مع كل أحد، والله (تعالى) أعلم.
تعليق المجلة:
نشكر الأخوين الكريمين على هذين التعليقين اللطيفين، فنحن نرحب بكل نقد
هادئ هادف يلتزم الدليل الشرعي، ويتحلى بالأدب وحسن الظن، والمسلم مرآة
أخيه المسلم، وهذا من التواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، ويسعدنا جداً
ذلك النقد البناء لأننا نرى أنه ليس موجهاً للكاتب فحسب بل موجه لإدارة المجلة
وهيئة تحريرها.. ورحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا.
والتواصل مع المجلة كتابة وتعليقا وتصحيحاً مطلب نلح عليه ونحث معشر
القراء على القيام به، ولا شك أن القارئ الناضج مكسب نسعد به ونفرح، ونجاح
المجلة وسلامة منهجها وصفاء طريقتها يحتاج إلى التعاون والتكاتف.
وهيئة تحرير المجلة توافق الأخوين على ما ذكراه، وتؤكد أن الكاتب لم
يقصد ما حذر منه القارئان الكريمان، وهو -كما ذكر لنا- لم يقصد أي شيء مما
أخذ عليه ويبرأ إلى الله أن يكون ذلك مقصده.
لكنه كان يتحدث عن ظاهرة ملموسة كانت محور حديثه وأراد التنبيه لسلبياتها. فجزاه الله خيراً، فمن ذا الذي لا يسيء قط، ومن له الحسنى فقط، ولكنها زلة
قلم، نسأل الله للجميع العفو والتوفيق والسداد..(85/94)
في دائرة الضوء
مراجعة لا رجوع
دعوة إلى النقد والتقويم لمسارنا الدعوي
محمد محمد بدري
في الملاحة يعرف قائد السفينة أنه لا يكفيه أن يقلع في اتجاه هدفه، بل يجب
عليه (مراجعة) مساره على طول الطريق، فإذا عدّل مساره لتفادي الهلكة لم يشعر
أبداً أنه (رجع) عن الهدف، وإنما هو يؤَمِّن وصوله إليه.
وهذه المقالة هي دعوة هادئة لا تزعج المستيقظ ولكن توقظ النائمين لإقرار
مبدأ (المراجعة) لمسار العمل الإسلامي لتعديل وسائله وفق الواقع والإمكانات حتى
لا تبقى سفينة حركتنا الإسلامية حائرة في خضم أمواج الكوارث والمشكلات دون
أن تعرف طريقها إلى شاطئ التمكين! !
المراجعة والفهم الخاطئ:
إذا ذكرت كلمة (مراجعة) أو (نقد) ، في بعض الأوساط الإسلامية غلب على
أفهام السامعين أنها ترادف كلمة (تشهير) .. (تجريح) .. (غيبة) إلى غير ذلك من
الكلمات التي تنافي الأخوة الإيمانية، وتخلخل الصفوف، بل وتفضح العورات،
وتكشف ثغرات صفهم أمام الأعداء! !
ومن هنا نجد أن عملية (المراجعة) و (النقد الذاتي) لمسار العمل الإسلامي
عملية غير رائجة في أوساطنا الإسلامية، بل تُوَاجَه في كثير من الأحيان بلون من
(التشنج) الفكري الذي يخلط بين المحن بسبب أخطاء يجب مراجعتها، وبين
الابتلاء الذي هو سنة الدعوات، ومن ثم يتهم من يقوم بالمراجعة والنقد الذاتي بأنه
رجع عن الطريق، ولم يثبت للمحن! ! وهذا في حقيقته كارثة كبرى!
المراجعة مطلوبة. وهذا هو الدليل:
إن المراجعة والنقد الذاتي هما طريقا القرآن والسنة، ومنهج الأئمة من سلف
هذه الأمة:
* فأما القرآن والسنة:
فقد عرض القرآن كثيراً من غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من الجيل القرآني الفريد، وأوضح فيها الأخطاء والتقصير على المستوى الفردي والجماعي.
- ففي أحد: كانت الجماعة المسلمة تعاني آلام الهزيمة، وبينما هي في
المحنة نزلت آيات القرآن، لا لتبارك جهود المسلمين وبطولاتهم في هذه الغزوة،
ولا لتوصيهم بالصبر بعد أن قاموا بما عليهم وبذلوا غاية جهدهم، بل ل (تراجع)
المعركة وتشير إلى نقطة الخطأ بكل وضوح [مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا] ، فالقرآن
يشير إلى أنه كان بين المؤمنين - الذين بقوا مؤمنين وعفا الله عنهم مع تقصيرهم -
كان بينهم من يريد الدنيا! ! ومع أن ما حدث كان بإذن الله [ومَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى
الجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ] مع هذا: أخبرت الآيات أن المصيبة كانت
من عند أنفسهم [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 165] .
- في غزوة تبوك: جاء قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ
لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا
مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ] [التوبة: 38] .
- في حنين: نزل قوله (تعالى) : [ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنكُمْ شَيْئاً وضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ ولَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] [التوبة: 25] .
- وفي غزوة بدر الكبرى: نزل قول الله (عز وجل) : [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ
مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وإنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ
كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلَى المَوْتِ وهُمْ يَنظُرُونَ] [الأنفال: 5-6] .
* وفي سرية عبد الله بن جحش (رضي الله عنه) بصائر للذين يرفضون
المراجعة في أوساطنا الإسلامية: لقد خرجت هذه السرية بأمر من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- بهدف استطلاع أخبار قريش، فمرت بها عير لقريش وحدث
اجتهاد خاطئ أخرج السرية عن مهمتها الأساسية إلى قتال مع هذه العير في آخر
يوم من رجب، ورجع عبد الله بن جحش بالعير وأسيرين إلى رسول الله، فماذا
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
لقد قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام.
وحين نزلت آيات الوحي، كيف عالجت هذه القضية؟
لقد كانت آيات الله حاسمة: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والْمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ
اللَّهِ والْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ] [البقرة: من الآية 217] .
إن أول ما يتبين لقارئ هذه الآيات أن القرآن قد أتى بتقرير واضح بَيَّن أن ما
حدث كان خطأ بل وخطأ كبيراً [قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ] تقرير للخطأ ومطاردة له بين
صفوف المسلمين، ثم جعل القرآن هذا التقرير للخطأ دماً جديداً في جسم المجتمع
الإسلامي، وكشفاً وفضحاً لأعداء الله من المشركين، وبياناً لجريمتهم الأكبر
[والْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ] .
وفي غير سرية عبد الله بن جحش كانت المراجعة للخطأ -إذا وقع - هي
طريقة القرآن، وكان الاستدراك له هو طريقة السنة:
وتكفي نظرة في القرآن، وقراءة لأخبار السير والمغازي لتأكيد ذلك وبيان أن
المراجعة الدائمة والتبصير بالأخطاء هي طريقة القرآن والسنة.
المراجعة لدى الرعيل الأول:
وعلى طريق القرآن والسنة سار الأئمة من سلف هذه الأمة: فكان منهجهم
الفكري وواقعهم العملي هو الحض على المراجعة والنقد الذاتي والدعوة إليهما، بل
كانت هذه المراجعة هي صفتهم التي تميزهم عن أهل الأهواء كما أخبر عبد
الرحمن بن مهدي أحد شيوخ الشافعية وغيره: (أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم) [*] .
ولذلك وجدنا أهل الحديث الذين أخذوا على عاتقهم المحافظة على سنة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يضعون أصول الجرح والتعديل، ذلك العلم الذي لا
يخرج عن أن يكون لوناً من ألوان النقد الذاتي والمراجعة للرواة.
ويماثل الجرح والتعديل في الحديث، واجب (الحسبة) الذي يهدف إلى حفظ
الشريعة والأخلاق في المجتمع الإسلامي، ويراقب فاعليتها في حياة المسلمين.
وهكذا وجدنا العلماء في كل عصر ينبهون على المغالطات التي تحدث في
الأمة سواء أكانت من المبتدعة أو غيرهم.
وإذاً فالمراجعة والنقد الذاتي واجب شرعي لا يملك المسلم إزاءه اختياراً،
وضرورة دعوية وحركية لمتانة الصف الإسلامي وصلابة الأرض التي يقف عليها.
ومن هنا وجب علينا أن يكون عندنا من رحابة الصدر وسعة الأفق ما يجعلنا
قادرين على هضم الانتقادات والمراجعات ووضعها في مكانها السليم اقتداء بأئمتنا
من سلف هذه الأمة.
حتى تنجح المراجعة ماذا يلزمها؟
ولكي تكون المراجعة والنقد الذاتي جزءاً من أعمالنا، وطريقاً إلى مواجهة
ذواتنا بعيداً عن الاندفاعات والظنون، وسبيلاً إلى النمو السليم لأعمالنا لا بد أن
يتوفر فيهما عدة أمور، منها:
1- الإخلاص والكفاءة: حتى لا تكون المراجعة والنقد جهوداً عرجاء لا
تمشي على رجلين لابد من شرطين أساسيين، هما: (الإخلاص) و (الكفاءة) ؟ !
* فأما الإخلاص: فهو إيثار الحق على كل الخلق في نقد الأعمال وتقويم
المواقف، بحيث يكون شعار النقد [وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا] .
* وأما الكفاءة: فهي امتلاك المعايير الدقيقة للنقد والمراجعة من الكتاب
والسنة، والإحاطة بالواقع مع استحضار تجارب الماضي وخبرات السابقين. ولا
يغني شرط من الشرطين عن الآخر؛ إذ لو توفرت (الكفاءة) وافتقد (الإخلاص)
تحول النقد إلى لون من ألوان الدجل الفكري الذي يضر أكثر مما يفيد! ! وأمّا إذا
توفر شرط (الإخلاص) دون توفر شرط (الكفاءة) والقدرة على المراجعة والنقد:
تحول النقد إلى لون من ألوان الألعاب الصبيانية التي لا تقوِّم اعوجاجاَ ولا تُصلح
فساداً، وإذن: فلا بد من توفر شرطي الإخلاص والكفاءة ليؤدي النقد دوره في
ترشيد العمل ودفعه إلى النمو السليم.
2- نقد الذات لا نقد الآخر: الناقد الحق ليس من يرى القشة في عيون
الآخرين، ويغفل عن العود في عينيه، وليس من يسكت عن الجرائم الكبيرة في
فصيله الإسلامي، ويطارد الهفوات في الفصائل الأخرى، وإنما الناقد الحق هو من
يعكف على الذات فيربيها على أمر الله ويأخذها بشرعته (سبحانه) ، تربية ميدانية
من خلال (ممارسة) العمل الإسلامي (ومعايشة) معاناته اليومية، (واستشعار)
التحديات المحيطة به، فإذا فعل ذلك، كان نقده أداة تنظيف للوعي والخلق في
فصيله الإسلامي -قبل الفصائل الإسلامية الأخرى- ووسيلة من وسائل وقاية الدعوة
والحركة الإسلامية من تراكم الأخطاء التي تنفجر في فتن مدمرة تأتي على كيان
العمل الإسلامي! .
3- تحقيق الإصلاح لا ترسيخ الفوضى: من السهل أن ينقد إنسان عملاً ما
أو يعدد المآخذ الكثيرة على موقف من المواقف، ولكن الاختبار الحقيقي هو: هل
يملك هذا الإنسان القدرة على تطوير العمل الذي ينقده بحيث يرتقي به إلى الأفضل، ويفتح أمامه المجالات الأرحب والآفاق الأوسع؟ وهل يقدر هذا الذي ينقد موقفاً ما
أن يوجهه إلى كيفية القيام بدور أكبر ووظيفة أشمل؟ هذا هو الاختبار الحقيقي! !
إن النقد الصحيح (بِنَاء) و (مشاركة) تحيط بالعمل وتوجهه إلى الأفضل،
وليس مجرد المعارضة التي لا تبتغي إصلاحاً، وإنما فقط تُرسخ الفوضى.
4- تبادل النصائح لا تبادل التهم: النقد والمراجعة لابد أن يكونا في إطار من
الحكمة والصبر، وفي أسلوب يضبطه قول الله (عز وجل) :
[وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً..] وقوله سبحانه: [وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ذلك أن النقد موقف (نصح) لتبادل الآراء والأفكار، وليس موقف (عداء) لتبادل الشتم والضرب!
كما أن النقد والمراجعة ليسا وصاية على الآخرين ولا إرهاباً لعقولهم، وإنما
هما محاولة للتعرف على ما في ممارساتنا من خلل وخطأ للرجوع عنه، واكتشاف
ما فيها من صواب للاحتفاظ به وتنميته.
5- علانية النقد لا إسرار النصيحة: تختلف طريقة مناصحة الفرد عن
طريقة نقد ومراجعة أعمال الجماعة، فالأولى: يجب أن تتم في السر وإلا تحولت
إلى لون من ألوان التشهير، وأما الثانية: فلابد أن تتم بشكل علني ليراها الجميع،
ويقوم الجميع بتصويبها، إن النقد الذاتي والمراجعة ليسا مجرد النجوى المحدودة
التي يقوم فيها الناقد بالإسرار بالأخطاء إلى أخيه المجتبى في خلوة حميمة، وإنما
النقد إعلان مشهود عن الخطأ على رؤوس الملأ، إعلان يتمتع بصراحة الأسلوب،
ووضوح الأفكار مع الاحتفاظ في ذات الوقت بالهدوء الضروري في محاصرة
الظواهر السلبية حتى لا يضيف إليها النقد ظواهر سلبية أكبر وأخطر. هنا قد نسمع مقولة يرددها بعضهم مفادها أن النقد بهذه الصورة يقود إلى الفرقة وخلخلة الصفوف الإسلامية؟ ! .
وبادئ ذي بدء، نحن لا نشك في (إخلاص) من يرددون هذه المقولة، ولكنا
نعتقد أنهم كالأم التي تصل محبتها لوليدها إلى عدم تقويم سلوكه وتربيته على تحمل
المسؤولية، فتصنع منه إنساناً عاجزاً هشاً، بل قد تؤدي محبتها له إلى موته لأنها
تخشى أن تذهب به إلى الطبيب فيصف له دواء مراً وحقناً مؤلمة.
نعم، إن النقد الذاتي والمراجعة هما الدواء لعملنا الإسلامي من أمراضه،
وهما التطعيم الذي يقيه - بإذن الله - من الإصابة بتلك الأمراض في المستقبل،
وإذا كان لهذا الدواء بعض الآثار السلبية فإن هذا لا يعني أن نترك مرضانا بغير
علاج حتى يفترسنا المرض ويقضي علينا.
فإن قال قائل: إن الفرقة ليست الأثر السلبي الوحيد، بل هناك ما هو أخطر، إن النقد الذاتي والمراجعة يكشفان عوراتنا أمام أعدائنا المتربصين!
قلنا: إن هذه المقولة تفترض في أعدائنا الغباء المحكم والجهل التام، بينما
الحقيقة أن خصومنا يعرفون عنا ما قد يفوق -أحياناً - ما نعرفه نحن عن ذواتنا،
لسبب بسيط وهو أنهم يعلمون أن في غفلتهم عنا سقوطهم، وهم حريصون على
عدم السقوط.
إن التستر على الأخطاء بدعوى عدم خلخلة الصفوف أو تبصير الأعداء
بمواطن الضعف هو في حقيقته الأمر الخطير والمفسدة العظيمة، ذلك أن دراسة
الفشل تفيدنا أكثر مما يفيدنا نصف نجاح خداع يُبْقي على عوامل الفشل التي لا تُنْتِج
في النهاية إلا السقوط والتوجه نحو السراب.
إن غياب المراجعة والنقد الذاتي تَسبب في كثير من المرات في خروج قطار
الحركة الإسلامية والدعوة الإسلامية على وجه العموم عن طريقه ليسير بطريقة
عشوائية أو بغير سبيل وطريق دون أن يجد من يعدل انحرافه ويصوب أخطاءه
حتى لا تتكرر الكوارث، ونكتفي جميعاً بالشكوى من تكرار الكوارث وتجارب
الفشل، وكأن الشكوى هي العلاج! !
إن أي طريقة في العمل الإسلامي لا يجب أن تكون منديلاً على أعيننا يمنعنا
من إعادة النظر فيها ومراجعتها في أي لحظة نريد، فإذا كشفت لنا مراجعتنا عن
أخطاء ارتكبناها، فلنعلم أن الاعتراف بالأخطاء لا ينتقص من الذات وإنما يؤدي
إلى تزكيتها، ويحول دون تدسيتها، وأن الندم على الأخطاء يكون دائماً هو الحافز
على مواصلة السير بتصور كثر وضوحاً وأقل أخطاءً.
إنه ليس من الصواب - ولا من الممكن - أن نعبر آفاق المستقبل ونخوض
غماره دون أن نعي جيداً أحداث ماضينا ودروس حاضرنا، ولن نقدر على ذلك إلا
عبر (المراجعة) للماضي (والنقد) للحاضر، فمتى ندرك أن وعينا بدروس الماضي
ونقدنا لصفحة الحاضر لا تعني بأي حال الرجوع عن أهدافنا الصحيحة، وإنما هي
(مراجعة) لا (رجوع) ؟ !
هدية -صلى الله عليه وسلم- في زكاة الفطر
فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلم، وعلى من يُمُونه من
صغير وكبير، ذكر وأنثى، حر وعبد، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو
صاعاً من اقط، أو صاعاً من زبيب، عن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نخرج
زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من
أقط، أو صاعاً من زبيب) ، أخرجه البخاري 3/294، ومسلم 985.
(زاد المعاد ج2 ص 19)
__________
(*) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 7.(85/98)
منتدى القراء
هم يفصلون ونحن نلبس
باسل علوظي
التبعية الفكرية عند الكثير من المثقفين لا تعدو أن تكون تأثراً بالنظريات،
وانبهاراً بالأفكار الغربية وإذا جئت تطبق النظرية على الواقع وجدت الأمر معقداً
وظهرت أمامك علامات استفهام، ولأضرب لك مثالاً من تجربتي:
من القوانين التي درستها في علم الفيزياء قانون الغاز المثالي
ح. ض = ن. ك. ت. باللاتيني P. V = N. R. T
ونعيش مع هذا القانون حصصاً طويلة وعليه تبنى صناعات عديدة ويحفظه
ملايين الناس في رؤوسهم، وإذا جئنا إلى الواقع (والطبيعة) وجدنا هذا القانون غير
صحيح على إطلاقه، ومن الخطأ تعميمه لأنه خاص بالغاز المثالي، وهذه المعلومة
بعينها لم أذكر أني سمعتها في بلادنا من مدرسينا - إلا مرة من مدرس أتى من
الخارج - في حين أن هذه المعلومة يعرفها تقريباً كل كبير وصغير هنا في ألمانيا -
حيث أدرس -.
فالقوانين النظرية هي تبسيط وتشريح لأجزاء من الواقع إذا ضمت إلى
بعضها أصبحت معقدة بحيث لا يكاد يستوعبها عقل، فلذلك لابد من النظرة الشاملة
لمن يغوص في تفاصيل أي فكرة أو تجربة والا لكفت قوانين نيوتن لمكوكات
الفضاء، ولكن نظريات أينشتين النسبية كانت أنسب وأشمل حيث أخذت المتغيرات
بعين الاعتبار، أما ما كان لدى نيوتن فقد كان ثوابت (بدهيات) .
وفي الوقت الذى يعتبر فيه الغرب حرِّية الإنسان أساساً لابد من الحفاظ عليه
(نظرياً) نجدهم يمنعون بعض الأحزاب التي تشكل خطراً على مجتمعاتهم، ففى
ألمانيا لا يعترفون بالإسلام باعتباره ديناً رسمياً، ويعترفون باليهودية، مع العلم أن
عدد المسلمين في ألمانيا يقرب من مليونين في حين لا يتجاوز عدد اليهود بضعة
آلاف.
فكيف نفهم هذا التناقض إذا نظرنا إلى الديموقراطية والحرية من خلال
مفهومهما الفلسفي النظري، هذا يُرد إلى مُرَّكب معتمد في أرض الواقع تلعب فيه
مفاهيم أخرى أدواراً متفاوتة من حين لأخر؛ منها -بل وأهمها كما يبدو لي- انتماء
الشعوب الغربية الأوروبية إلى دين آبائهم وأجدادهم، فاذا أحسَّوا بأن غيرهم يحمل
فكراً قد يجعلهم تبعاً له قالوا: [بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا] وقد صرح بذلك
الوزير دوجلاس في بيان مشترك مع مجموعة الشعوب البريطانية (الكومون ويلث)
قدمه إلى البرلمان البريطاني في مسألة موقفهم من قضية البوسنة والهرسك بخاصة
والوجود الإسلامي في أوروبا بعامة.
فإلى من ينادي بالديموقراطية في الدول الإسلامية: هكذا يفهم أصحاب فكرتك
طريقهم فينطلقون من أرض واقعهم، فإذا فَصَّلوا وأردتَ أن تلبس فخذ مقاساً
يناسبك - وقد لا تجد - ففصل أنت من واقع أرضك وتاريخك لمستقبلك.
إن نبي الله داود (عليه السلام) كان يأكل من عمل يده، ورسولنا -صلى الله
عليه وسلم- كان يخصف نعله بنفسه، وشيخ الإسلام ابن تيمية أثَّم المسلمين عامة
إذا احتاجوا لصناعة ولم يجدوا منهم من يصنعها لهم فيغنيهم عن الحاجة والتبعية
والذل لغيرهم.(85/107)
الورقة الأخيرة
الخروج عن النص
د. محمد البشر
(توظيف الكلمة) وسيلة قديمة قدم الأمم والحضارات البائدة التي جاء ذكر
بعض منها في القرآن الكريم، والتعبير القرآني عن (توظيف الكلمة) جاء بسياق
قصصي مختلف، فقد تحدث القرآن في غير موضع عن الكيفية التي لجأ إليها
الطواغيت في تضليل الأمة ومخادعة الرأي العام.
فقد قال فرعون في محاولته وأد الحركة الإصلاحية والتعتيم على الرسالة
السماوية: [ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ
فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] [غافر: 26] ، ومن يقرأ هذه الآية ويتدبر مضمونها ويتأمل
معناها ويعي مغزاها، يدرك أن هذه الآية - كغيرها من آيات القرآن الكريم - لم
تنزل لتحكي عن فرعون بشخصه من أجل الإخبار فقط؛ بل لاستلهام العبرة والتدبر
في المعنى الذي جاء في سياق هذه الآية.
ومن المعاني المستخلصة من ركوب الظالمين مطية الدعوة، وضعهم أعواناً
يفكرون نيابة عنهم، وينطقون بألسنتهم، ويُحَسِّنون صورتهم، وتتنوع وسائلهم
بحسب ما هو متوفر عندهم، ولن ندخل في تحليل تاريخي من أجل بيان الفرق بين
ماهية الوسيلة التي لجأ إليها فرعون في محاولته إيصال رسالته إلى قومه - التي
ذكرت في الآية الكريمة السابقة - وبين الوسيلة الإعلامية المعاصرة من حيث القوة
والنفاذ والسطوة والتأثير، فالعبرة بالمعنى المراد وليس بالكيفية التي يتحقق بها هذا
المعنى.
ولذلك نقول: إن معنى أن يتحول الظالم إلى داعية للإصلاح هو معنى يتجدد
في كل زمان ومكان، لكن الفارق الجوهري بين الماضي والحاضر هو أن الوسيلة
الإعلامية المسلطة على شعوب هذا الزمان قد نجحت وتفوقت بشكل مذهل في نقل
هذا المعنى والترويج له، وأدى القائمون عليها الدور الذي قضى بهم بكل دهاء
ومكر خرج في أحيان كثيرة عن (النص) المكتوب الذي قضى مُعدوه سنين عدداً من
أجل وضع استراتيجية فاعلة لهذا السيناريو الذي تكبدوا من أجله كل العناء.
وبعد ذلك كله يخرج الإعلاميون عن النص بعد أن خامرت عقولهم نشوة
(الانتصار) بما يزيفونه، حتى أوجعوا الأمة بضربها في عقيدتها ودعوتها، وكل
ذلك (وعين الرضا عن كل عيب كليلة) .
فضل صوم ست من شوال.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه. عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال.
كان كصيام الدهر)
(صحيح مسلم ج2 ص 822)(85/111)
شوال - 1415هـ
مارس - 1995م
(السنة: 9)(86/)
كلمة صغيرة
- اسكت تسلم -
أيها الإسلاميون في مشارق الأرض ومغاربها.. حتى لا تتعرضوا لأي هجوم
ولتضمنوا العيش بسلام، وحتى لا تتعرضوا للمصادرة والسجن والتشريد وربما
الإعدام: التزموا الوصايا العشر التالية:
1- ألغوا مطالباتكم بتحكيم الشريعة الإسلامية! .
2- توقفوا عن معارضة تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني! .
3- لا تنتقدوا مظاهر الفساد والانحلال! .
4- ألغوا التفكير في الجهاد في سبيل الله! .
5- تهاونوا مع خطط تغريب المجتمع المسلم! .
6- اعتقدوا أن تخريب الإعلام والتعليم إنما هو تطوير! .
7- اعطوا المرأة حقها في التحرر من الإسلام وتعاليمه! .
8- لا تعترضوا على العلمانية المهاجمة لدينكم، فهذه حرية تعبير! .
9- اقبلوا تحجيم العمل الإسلامي تحقيقاً لرغبة النظام العالمي الجديد! .
10- قولوا بقول النصارى (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ! .
بذلك تسلمون وتعيشون بأمان في (فاتيكانات) خاصة لكن بلا سفارات.
يا قوم لا تتكلموا.. إن الكلام محرمُ(86/1)
الافتتاحية
عنوان يختصر واقعاً
كان من الصعوبة بمكان أن تناقش أو تحاور أو تجادل.. فالطرف الآخر قد
سد كل قنوات الاتصال، وليس بالإمكان إلا أن تتقوقع حول قناعتك وإيمانك بأن
قادة الغرب يقولون: «دمروا الإسلام.. أبيدوا أهله» [*] ، فالإسلام في تلك
الفسحة التاريخية القريبة كان ينحصر في مصطلح «القوى الرجعية» التي تحاول
أن تقف في طريق «الحل التقدمي» وتزرع دربه الهادر بأشواك صغيرة، كانت
في نظر الجمهور «تؤذي» ولكنها لا «توقف» زحف القومية المنتفشة أو اليسار
المتحرر ... كان شائعاً في ذلك الوقت نظريات خرافية من طراز «خيانة العمائم»
و «الارتباط بالاستعمار» و «الدراويش البلهاء» ... ولهذا فقد كان عنوان
الكتاب المذكور بمثابة بيضة هشة تواجه جداراً صلداً مغروراً لا يمكن أن يتحمل
مجرد التحمل أن يسمع أن للإسلام تاريخه الناصع أو خياره الحضاري أو مشروعه
السياسي الذي يهدف إلى أن تحكم البشرية بشرع الله..
اليوم يقف الجدار الصلد مذعوراً ... مجرد أن تهمس باسم الإسلام ينتفض،
وحين تشير إلى حملة رسالته تخرج حمم البركان قاذفة شيئاً من مخزون الحقد
الهائل المروّع ...
مسافة زمنية قصيرة تلك التي فصلت بين السخرية والاستهزاء على شاطئ
الأمس «القريب» وهذا الفزع والهلع والتخبط في عصر «المسلمون
قادمون» ! ! ، أصبح العالم المتربص بهذا الدين أشبه ما يكون بقلب يضرب بأقصى سرعة ويثير الأوعية الدموية في مختلف أنحاء الجسم الأرضي ليفرّغ ما لديه من دم ليعاود ضخّه من جديد في المعركة، فالقلب المضطرب حذرٌ وجلٌ، والمسلمون في أنحاء البسيطة يرفضون الموت ويقاومون الدم الفاسد ...
الغرب كما يقول مفكر بريطاني كان ينظر إلى الإسلام قبل عقدين نظرة
العقيدة المتراجعة التي كان يحسن أن توظف لمكافحة الشيوعية الأثيمة ... واليوم
تقف الصليبية واليهودية والشيوعية والهندوسية والديكتاتورية المحلية لتخوض
حرب القبائل المتحزبة وتجلب بـ «خيلها ورجلها» من كل ناحية لخنق هذا
المارد الذي بدأ يتململ ...
المعركة ضخمة وكبيرة بل ومصيرية وتحتاج إلى كم هائل من الذخيرة والعتاد؛ ولهذا نستطيع أن نتلمس بعض الفروق بين حرب الإسلام اليوم وبين معارك
الغرب القريبة مع النازية والفاشية والشيوعية.
وأهم هذه المعالم:
*أنها المعركة الأولى التي تجري بين الغرب الصليبي وتراثه من جهة، وبين
هذا الدين الضارب بجذوره في التراث والصدور من جهة أخرى، فهي معركة
دينية، وهي تعيد إلى الأجواء عصور «ريتشارد قلب الأسد» ونفير جنود
الصليب، وفي هذا الإطار وكما كانت المعركة بالأمس فإن الغرب هو البادئ،
حيث يشعر بالقوة والسيطرة وضرورة المبادرة قُدماً في حصار المسلمين قبل أن
يشبوا عن طوق العجز.
*أن حشد الجانب الغربي كان سريعاً ولاهثاً ويغلب عليه الانفعال والتهويل،
ففي المعارك السابقة كان الجانب الآخر كالنازية قد كونت كيانات وقوة مهددة بل
عدوانية، بينما المسلمون اليوم وخلال أعوام قليلة يواجهون ترسانة الغرب
الإرهابية بأسلحتها العاتية المتغطرسة.
*أن معالم الصراع قد وحدت بين النصرانية المحرّفة واليهودية الضالة مما
أعاد ذكريات المعارك الأولى في فجر الإسلام وأصبح الاستعراض العام لمسرح
المعركة يكشف عن قوة هذا التحالف ويزنه بميزان القرآن الكريم الذي أفرد مساحة
كبيرة لخطورة هذا الحلف منذ أن بزغ نور الرسالة.
*الصراع متنوع ويختبئ وراء لافتة محاربة الإرهاب، لكن أحداث الساعة
كشفت عن أن أجساد الشيشان وأعراض البوسنيات وحجاب الفتيات
العفيفات: «إرهاب حضاري» لابد للوقوف في وجهه من صب البارود، ونصب المشانق، وشق الأخاديد.
لم تعد «العمائم» و «اللحى» و «الدراويش» أدوات يوظفها العدو
والصديق في معارك جانبية أو قضايا هامشية ... إنها اليوم تقف أمام أعتى حصار
دولي أصبح يولول بلا مواربة أو دبلوماسية صارخاً: «دمروا الإسلام ... أبيدوا
أهله» ثم لا يلبث المذعورون إلا أن يتمتموا بنفس اللازمة في مشهد من مسرحية
الصراع بين دين حمل لواء إنقاذ البشرية.. وبشرية ضالة حملت لواء إطفاء نور
الله بيدها ... والله متم نوره ولو كره الكافرون والعمي المرتجفون من شعاع الشمعة
اليتيمة فضلاً عن النور الوقاد ...
لم تعد أخبار الإذاعات العالمية تحمل في ثناياها إلا تفاصيل المعركة المشتعلة، ولا يمكن اعتبار النشرة الإخبارية شيقة! مالم يتصدر الإسلام وحملته عناوينها،
لقد أصبح هذا الدين المطارد بلا مواربة القصعة التي اجتمعت عليها الدنيا بمختلف
مشاربها واتجهاتها وشاراتها، ومع كل سهم يوجه، ويدٍ تغتصب وجرح ينزف،
كل ذلك مطارق توقظ الأمة من نومها، والأعداء بذلك يقدمون للأمة أكبر خدمة
وأعظم فرصة لتأخذ مسارها ووضعها وموقعها الطبيعي ...
عنوان هذا الكتاب أصبح البند رقم واحد في السياسة الدولية!
__________
(*) عنوان كتاب رائج/ لجلال العالم.(86/4)
الشرع والواقع
أزمة تطبيق لا أزمة فهم
د. خميس بن عاشور
عندما نتصفح جملة الإنتاج الفكري المعاصر للمسلمين، نلاحظ تلك
الاندفاعات غير الشعورية التي ربما تفسر ذلك الاضطراب النفسي الناتج عن
الحيرة المنهجية في كيفية التعامل مع الموروث الثقافي، ومن ملامح هذا
الاضطراب المنهجي: عدم الفصل بين الدين الحقيقي الذي تمثله نصوص الوحي
الإلهي (الكتاب والسنة الصحيحة) وبين إضافات علماء المسلمين من تفسيرات
وشروح قد تكون سليمة وقد تكون عكس ذلك، وعندما نُفصّل أكثر: نجد أن أهم
اضطراب في هذا المجال هو موقف العلماء والمفكرين من العمل في المنظور
الإسلامي باعتباره بعداً (فلسفياً) .
إن أصحاب الفكر الإرجائي قديماً وحديثا ركزوا كثيراً على تفسير الإسلام
وشرحه ومحاولة فهمه فهوماً تختلف باختلاف المنابع الفكرية والبدع (الأيديولوجية) ، ولكن بالرجوع إلى نصوص الدين الإسلامي نجدها تدل دلالة واضحة على أن
مشكلة فهمه وتوضيحه ليست مطروحة بهذه الكيفية المعقدة؛ فالقرآن بيان للناس،
والبيان في اللغة هو الوضوح، فالقرآن واضح الدلالة بنفسه [ونزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم] [النحل: 44] وقوله صلى الله عليه وسلم: «تركتكم
على مثل البيضاء ليلها كنهارها» [1] ، وهذا معناه: الوضوح والمفهومية.
ومن هنا نقول: إن الأزمة إذاً أزمة عمل وتطبيق لا أزمة فهم وتفسير،
وبالتالي: فالاستقامة على وفق دعوة الإسلام في الوقت الراهن وفي جميع أوقات
انحطاط المسلمين هي القضية التي يمكن أن تكون مستقبَلاً علاجاً لهذا الاضطراب
النفسي والجمعي لدى مفكري الحركة الإسلامية المعاصرة، وبعد ذلك يمكن أن
تطرح قضية اللغة والدعوى التي لا دليل عليها في هذا المجال وهي أن لغة
المسلمين أثناء فترة التنزيل ليست هي لغة المسلمين اليوم، وهذا خطأ فاحش،
فالقرآن عربي مبين إلى يوم القيامة، وتعلم اللغة العربية ميسر أكثر من أي وقت
مضى، فالقرآن العربي إذن واضح ومفهوم ومفسر بنفسه وبالسنة النبويةالصحيحة
بشرط معرفة لغته.
وهذه العملية - أي: عملية تعلم لغة القرآن - أصيبت بجرثومة يمكن أن يقال
لها: «ذهان الصعوبة والاستحالة» ، وهذا المرض الجرثومي أنشأ أمراضاً
أخرى - أو بالأحرى بدعاً فكرية أخرى - بدأت تطرح قضية خطيرة ومهمة وهي البحث عن وسائل لفهم الإسلام من خارج نصوص الإسلام الإلهية، ولهذا سيطر الفكر الإرجائي على الساحة الرسمية للمسلمين - إلا من رحم ربك -، هذا الفكر الذي يجعل العمل مشروطاً بشروط جعلت منه قضية فلسفية مثالية لا نجدها إلا في صفحات ومخيلات أصحابها، وبالتالي: بدا الإسلام عند هذه الفئة عبارة عن تراث فكري جميل يدرس من أجل نفقات الأبهة والبهارج الرسمية التي هي بمثابة التوابل للطعام لا أكثر ولا أقل.
إن الإسلام الممثل في نصوص الكتاب والسنة قد بين للناس قيمة العمل
والتطبيق والاستقامة عليه، بل إنه جعل العمل هو العبادة، فالعبادة هي أن يعمل
المسلم كل ما يحبه الله ويرضاه، فالصلاة عبادة، والخشية من الله عبادة، والرجاء
والتوكل عبادة، وتعليم الناس عبادة، والجهاد في سبيل الله عبادة، ومعاملة الناس
بسلوك حسن عبادة، وغير ذلك من مجالات الحياة الواسعة.
قال (تعالى) : [ألا له الخلق والأمر] ، فهذه الآية المجملة المختصرة قد
جمعت بمضمونها توحيدي الربوبية والألوهية، وهي في حد ذاتها عنصر وأصل
من أصول المنهج الإلهي، فقصر الخلق على الله (عز وجل) بيان لتوحيد الربوبية
وكل ما يتعلق به من رزق وتدبير وإحياء وإماتة..، وقصر الأمر فيها بيان لتوحيد
الألوهية أي: العبادة وكل ما يتعلق به من مقتضيات وعلى رأسها: الاستقامة وفق
الأوامر والنواهي، وهذه النواهي هي كذلك أوامر بالترك.
فالأزمة إذاً قد تفرعت، وأصبح المسلمون والذين يأمرونهم قد يخالفون ما أمر
الله به، وقد يفعلون ما نهى الله عنه، وهذا المنهج الذي هو واقع بالفعل هو نتيجة
اتباع الهوى، وقد أظهر لنا إسلاماً موازياً للإسلام الحقيقي الإسلام الذي تمثله
نصوص الوحي الإلهي (الكتاب والسنة الصحيحة) ، وفي هذه الحالة فإنه لابد أن
تتشكل الحركة الإصلاحية التي تعمل على توضيح الحقائق الشرعية، وهذه هي
مهمة العلماء العاملين الذين ورد ذكرهم في الأثر القائل: «يحمل هذا الدين من كل
خلف عدوله ينفون عنه تأويل الغالين وانتحال المبطلين» [2] .
والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ح/43، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: ج1 ص13.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الشهادات، باب الرجل من أهل الفتيا يسأل عن الرجل من أهل الحديث، ج 10 ص209، وصححه الإمام أحمد كما في مفتاح دار السعادة ج1/163، 164
- البيان -.(86/8)
دراسات شرعية
نظرة في المصطلحات العقدية
سعد بن محمد آل عبد اللطيف
تشهد الساحة الإسلامية في المجال الفكري فوضى في الاصطلاحات، فهذا
يجعجع بالمصطلحات المحدثة نابذاً خلفه المصطلحات الشرعية، وذاك يستتر
بباطله خلف المصطلحات الشرعية لتزيين الباطل وترويجه بين الناس، والآخر
يرفض جميع الاصطلاحات المحدثة ولو كانت ذات معنى صحيح.
إن تحديد الاصطلاحات وتوضيح مدلولاتها يساعد كثيراً على إزالة الإشكال
في الفهم، وحسن الظن بالآخرين، والوصول إلى الحق، وتضييق دائرة الخلاف،
ويغلق الباب أمام سيل جارف من الشرور والفساد، ويحول دون تسلل دعاة الزندقة
وأهل الأهواء إلى الساحة بترويج أباطيلهم وبدعهم.
والاهتمام بهذا الموضوع هو جزء مهم من مسألة التأصيل العلمي الشرعي في
الصحوة العلمية التي تشهدها الأمة الإسلامية. وهذه السطور هي محاولة متواضعة
في هذا الباب، وسيكون تناولي لهذا الموضوع على النحو التالي:
1- أهمية الاعتناء بالاصطلاحات الشرعية:
تأتي أهمية الاعتناء بالاصطلاحات العقدية كالإيمان والكفر والنفاق ... لأنها
مما جاء في وحي الله (عز وجل) فلها حرمتها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه
الله) : ومن الأصول الكلية أن يُعْلَم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة
فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما
نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق؛ فإن الله يقول الحق وهو يهدي
السبيل، والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله
بها، يثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما
أخبر ونطيعه في كل ما أوجب وأمر [1] .
والتعبير عن الحق بالمصطلحات الشرعية هو سبيل أهل السنة والجماعة؛
قال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية (رحمه الله) : والتعبير عن الحق بالألفاظ
الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة [2] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) :.. والتعبير عن حقائق الإيمان
بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها، فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها،
وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن
تفهم، وفيها من الحِكَم والمعاني مالا ينقضي عجائبه. والألفاظ المحدثة فيها إجمال
واشتباه ونزاع، ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده وليس هو قول الرسول الصادق
المصدوق، وقد يضطرب في معناه، وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس،
فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والإسلام؛ كما قال (تعالى) :
[واعتصموا بحبل الله جميعاً] [آل عمران: 103] ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها بياناً شافياً: فإنها لا تنتظم فقط جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة، بل فيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل؛ كما قال: [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون] [الحجر: 9] [3] .
ولابد من توضيح الاصطلاحات للناس حتى لا يلتبس الحق بالباطل، وليس
كما فعل الفلاسفة الإسلاميون، فقد سعوا إلى ترويج الفلسفة اليونانية الوثنية بأسماء
ومصطلحات شرعية حتى يوجدوا لتلك الفلسفة قبولاً عند الناس تحت هذه الأسماء
والمصطلحات الشرعية التي تعظمها نفوس المسلمين؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
(رحمه الله) فيهم:.. ثم إنهم لما سمعوا (أي: الفلاسفة الإسلاميون) كلام الأنبياء
أرادوا الجمع بينه وبين أقوالهم، فصاروا يأخذون ألفاظ الأنبياء فيضعونها على
معانيهم، ويسمون تلك المعاني بتلك الألفاظ المنقولة عن الأنبياء، ثم يتكلمون
ويصنفون الكتب بتلك الألفاظ المأخوذة عن الأنبياء فيظن من لم يعرف مراد الأنبياء
ومرادهم أنهم عنوا بها ما عناه الأنبياء، وضل بذلك طوائف [4] مثال ذلك:
الملائكة، فهي عندهم: هي العقول العشرة، واللوح المحفوظ: هو النفس
الفلكية ... ، إلى غير ذلك.
2- خطورة الاصطلاحات المجملة التي لم تحدد:
الاصطلاحات المجملة هي اصطلاحات تحمل حقاً وباطلاً وتشتمل على
صواب وخطأ، وعدم تحديدها يكون سبباً في وقوع الخلاف والشقاق؛ يقول شيخ
الإسلام (رحمه الله) : ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال
عبر بغيرها أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن
كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين
يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما
قاله لم يتصوره فضلاً عن أن يعرف دليله.. [5]
ويقول ابن القيم (رحمه الله) : فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة
والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك
هوى وتعصب [6] .
وهناك فريقان عبر تاريخ الأمة الإسلامية قد تحدثوا بمصطلحات مجملة محدثة، كانت سبباً في ظهور البدع وفشوها بين الناس.
الفريق الأول: الصوفية: فقد كان التصوف في مراحله الأولى قد أكثر فيه
من استخدام المصطلحات المجملة التي تحمل حقاً وباطلاً؛ كالغناء مثلاً، فجاء مِن
بعدهم مَن تعلق بهذه الاصطلاحات، وأصبح يستدل على مذهبه الفاسد من وحدة
الوجود أو سقوط التكاليف بأقوال هؤلاء المشايخ.
يقول ابن القيم (رحمه الله) : فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع
اصطلاح القوم عليها فإنها أصل البلاء، فإذا سمع ضعيف المعرفة والعلم بالله
(تعالى) لفظ: اتصال وانفصال، ومسامرة ومكالمة، وأنه لا وجود في الحقيقة إلا
وجود الله، وأن وجود الكائنات خيال ووهم، وهم بمنزلة وجود الظل القائم بغيره:
فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات، والعارفون من القوم أطلقوا
هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسهم فخلط الغالطون في فهم
ما أرادوه ونسبوه إلى إلحادهم وكفرهم واتخذوا كلماتهم المتشابهة تُرساً لهم
وجُنة [7] .
الفريق الثاني: أهل الكلام: الذين استخدموا مصطلحات محدثة مجملة في
مجادلتهم مع الملاحدة والفلاسفة ونحوهم.
يقول ابن تيمية (رحمه الله) : وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة (المبتدعة)
كلفظ الجسم والجوهر والعَرَض وحلول الحوادث ونحو ذلك، كانوا يظنون أنهم
ينصرون الإسلام بهذه الطريقة وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله،
فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك، وهذه حال أهل البدع كالخوارج
وأمثالهم، فإن البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقاً للسنة، إذ لو كانت كذلك لم تكن
باطلاً، ولا تكون باطلاً محضاً لا حق فيه، إذ لو كانت كذلك لم تخْفَ على الناس،
ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل: إما مخطئاً
غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد [8] .
3- استخدام المصطلحات المحدثة:
لابد أن يحرص المسلم على استخدام المصطلحات الشرعية، أما المصطلحات
المحدثة فلابد من عرضها على الكتاب والسنة للتحقق من صحة دلالتها على
المطلوب؛ قال (تعالى) : [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الأخر، ذلك خير وأحسن تأويلا] [النساء: 59] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل
الكلام، فلا تُتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يُعرف مراد المتكلم بها، فإن وافق ما
قاله الرسول كان من القول المقبول، وإلا كان من المردود، ولا يكون ما وافق قول
الرسول مخالفاً للعقل الصريح أبداً، كما لا يكون ما خالف قوله مؤيداً ببرهان العقل
أبداً [9] .
ويقول أيضاً (رحمه الله) : وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم
فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة؛ كمخاطبة العجم من
الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة [10] .
ثم يقول بعد ذلك: والسلف والأئمة الذين ذموا وبدّعوا أهل الكلام في الجوهر
والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل في المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه
الألفاظ في أصول الدين: في دلائله، وفي مسائله: نفياً وإثباتاً.
فأما إذا عرف المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعبر عنها لمن يفهم
بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه، فهذا عظيم المنفعة،
وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ كما قال (تعالى) : [كان الناس
أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين
الناس فيما اختلفوا فيه] [البقرة: 213] وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب
فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم، وذلك يحتاج إلى
معرفة معاني الكتاب والسنة، ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم، ثم اعتبار هذه
المعاني ليظهر الموافق والمخالف [10] .
وهذا المنهج قد استخدمه شيخ الإسلام في كتبه ومناظراته مع الخصوم، ومن
أمثلة ذلك: قوله (رحمه الله) : فيقال له: لفظ الجوهر والعرض في الاصطلاح
الخاص: ليس نفيهما عن الله من الشريعة، كما أنه ليس إثباتهما من الشريعة، بل
سلف الأمة وأئمتها أنكروا على من تكلم بنفيها، كما أنكروا التكلم بإثباتها وعدوا ذلك
بدعة، فليس لأحد أن ينفي بهذين اللفظين الذين ليس لهما أصل لا في نص ولا في
إجماع ولا أثر إلا بحجة منفصلة غير هذا اللفظ، إذ الحجج التي يستدل منها باللفظ
لابد أن يكون لفظها منقولاً عمن يجب اتباع قوله وهو الكتاب والسنة والإجماع،
فكيف باللفظ الذي لا يُنقل عن إمام في الدين ولا أحد من سلف الأمة [11] .
__________
(1) مجموع الفتاوى (12/113 - 114) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية (1/70، 71) ت: د التركي والأرناؤوط، مؤسسة الرسالة ط الأولى 1408هـ.
(3) النبوات (333، 334) دار الكتب العلمية، ط الثانية 1414 هـ.
(4) النبوات (249) ، وانظر بُغية المرتاد: (219) ت: د موسى الدويش ط الأولى 1408هـ.
(5) مجموع الفتاوى (12/114) .
(6) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ج/3/927، ت: د علي الدخيل الله، دار العاصمة 1412هـ.
(7) مدارج السالكين (3/158) دار الحديث.
(8) درء تعارض العقل والنقل (2/104) ط/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ت: د/ محمد رشاد سالم ط الأولى 1400هـ.
(9) درء تعارض العقل والنقل (5/58) .
(10) مجموع الفتاوى (3/306 - 308) .
(11) نقض تأسيس الجهمية (2/383-384) ت/ محمد بن عبد الرحمن ابن قاسم ط الأولى 1392 هـ مطبعة الحكومة.(86/21)
دراسات دعوية
الترف
وخطره على الدعوة والدعاة
-2-
فيصل البعداني
تطرق الكاتب الكريم في الحلقة السابقة إلى بيان حقيقة الترف وموقف الإسلام
منه وأهم مظاهره وأسبابه وأهم آثاره العامة والخاصة، ونواصل معاً الاطلاع على
المزيد من الإيضاح والبيان لجوانب أخرى من هذا الموضوع.
-البيان-
الآثار السيئة للترف على مسيرة الدعوة:
*أن المترفين من الدعاة حريصون على تقليد تجارب دعوية سابقة، وقل أن
يبرز من أوساطهم قيادات دعوية جديدة تتأمل في تجارب من سبقها وتأخذ منها ما
كان صالحاً في نفسه ومناسباً للمرحلة التي تمر بها الدعوة، وما لم تجده لدى
السابقين كذلك اجتهدت فيه على ضوء تعاليم الشرع وفي ظل متطلبات الواقع.
*عدم تقدم الدعوة إلى مراحل متقدمة، بل تأخرها إن لم يصل الأمر إلى
انشقاقها نتيجة اختلاف الرأي بين المترفين وغير المترفين من الدعاة حيث إن
المترفين غالباً ضعيفو الرأي، والعميق منهم في رأيه يكون الأصل فيه مراعاة
استمرار أسباب ترفه حتى وإن لم يستشعر ذلك في ذهنه وغير المترفين غالباً هم
الأكثر عمقاً في الرأي وسبر حقائق القضايا والمسائل من غيرهم، ولكن زمام اتخاذ
القرار والمبادرة غالباً بيد من بإمكانه مد الدعوة بالمال والقدرة على الإنفاق على
مشاريعها - بيد المترفين -، ورجوع أولئك عن رأيهم إلى ما يراه غيرهم قليل في
الغالب نظراً لما يوجده الترف لديهم من استعلاء وكبر خفي يحجزهم في أكثر
الأحيان عن قبول الحق ممن ليس على شاكلتهم، ولن يعجزوا عن التبرير وسوق
الحجج لأن باب الاستغلال السيء لمصلحة الدعوة مشرع للجميع وليس من عادته
رد أحد.
*كون المترفين أكثر عرضة للفتور والتراجع عما هم عليه من خير ودعوة
أمام الفتن التي تلازم في الغالب الدعاة، والعقبات التي تعترض مسيرة الدعوة، بل
إن بعضهم قد يتحول أمام المغريات والخوف من أفول الترف وانصرام الملذات إلى
الوقوف في وجه الدعوة، وكَيْل التهم لها، وإثارة الشُبَه حولها، ومحاولة الوقيعة
بين حَمَلتها.
*أن الداعية المترف متعود على الإنفاق على خواصه بكثرة وسعة؛ فإذا أوكل
إليه شيء من أموال الدعوة فعل بها كما يفعل بماله غالباً، والأصل أنها لا تصرف
إلا في الأمور الضرورية والحاجية، وما زاد عن مكان فالمكان الآخر في أمس
الحاجة إليه.
*أن الداعية المترف أقل اهتماماً بدعوته والقيام بها من غيره، وذلك لأنه عقد
همته للشهوات والتلذذ بالنعم والملذات وطلب أسباب ذلك، هذا من جهة، ومن جهة
أخرى: هو عاجز عن القيام بأمور نفسه فكيف يقوم بأمور الدعوة وهي ضرب من
الجهاد؟
*أن الداعية المترف أقل إفادة للمدعوين من غيره، وذلك لأن انغماسه في
النعيم وتحصيل أسبابه مانع له من التزود بالعلم الشرعي، مما يعني اكتفاءه بتقديم
ما عنده من معلومات، فإذا انتهت بدأ بتكرارها، وهكذا.
*الترف من أسباب زوال الدعوات وأفولها ما لم يبادر كبار الدعاة إلى إصلاح
الوضع وتسديد الأمر لأن انتشار الترف بين مجموعة من الدعاة من غير نكير يؤدي
إلى اتساع انتشاره بين فئات أخر، نظراً لحب النفوس لذلك واتخاذ كل فئة لمن
قبلها قدوة، مما يؤدي إلى ضعف الأنشطة في البداية نتيجة فتور بعض الدعاة،
وبعد ذلك يبدأ تساقط الفاترين مجموعة بعد مجموعة نتيجة الانهماك بزخرف الحياة
والتشاغل بزينتها.
*الترف يدفع الدعاة إلى عدم نشر الدعوة بقوة وجدية بين كافة فئات المجتمع، كما أنه يؤدي إلى فتور المربين عن ممارسة الأعمال التربوية نظراً لمشقة ذلك
على النفس وما تتطلبه العملية التربوية من وقت وجهد وبذل، وذلك ما يعجز عنه
المترفون نظراً لعدم تعودهم عليه.
علاج الترف وكيفية تجاوزه:
سيكون هناك بسط للحديث - نوعاً ما - في هذا الجانب نظراً لأهميته،
وسيتم تقسيم هذه الفقرة إلى ثلاثة محاور:
أ- من هدي السلف في التعامل مع زهرة الحياة وزخرفها:
لابد للمترف من النظر في هدي السلف في التعامل مع متع الحياة وملذاتها،
للأخذ منه والسير على منواله، ونظراً لكثرة ما ورد عن السلف في ذلك فسأحاول
ذكر أبرز معالم هديهم في ذلك والاستشهاد لذلك ببعض أقوالهم وأفعالهم:
*تربية النفس على عدم تحقيق كل ما تشتهيه مع قدرة العبد على تحقيق
مطلوبها؛ قال رجل لابن عمر (رضي الله عنه) : ألا أجيئك بجوارش، قال: وأي
شيء هو؟ قال: شيء يهضم الطعام إذا أكلته، قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر،
وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثر مما يشبعون [1] ،
وفي رواية: ولكن عهدت أقواماً يجوعون مرة ويشبعون مرة [2] . وسئل الحسن
عن الرجل يبتاع الطعام ويبتاع اللحم، هل عليه في ذلك؟ فقال: إن عمر بن
الخطاب (رضي الله عنه) قال: كفى سرفاً ألا تشتهي شيئاً إلا أكلته [3] .
*أن ما يكون ترفاً من رجل قد لا يكون ترفاً من آخر، حيث كان السلف
(رحمهم الله تعالى) يفرقون بين الرجل الغني والرجل الفقير، فيقبلون من الغني من
التوسع ما لا يقبلونه من الفقير؛ عن عبد الله بن حميد قال: مر جدي على عمر
ابن الخطاب وعليه بردة فقال: بكم ابتعت بردك هذا؟ قال: بستين درهماً، قال:
كم مالك؟ قال: ألف درهم، قال: فقام إليه بالدرة فجعل يضربه ويقول: رأس
مالك ألف درهم وتبتاع ثوباً بستين درهما؟ ! [4] ، وفي حين كان عمر يصنع ذلك
بهذا الرجل ذكر ابن سعد عن سعد بن إبراهيم قال: كان عبد الرحمن بن عوف
يلبس البُرد أو الحلة تساوي خمسمائة أو أربعمائة [5] ، وذكر الأصفهاني عن
عثمان بن أبي سليمان: أن ابن عباس اشترى ثوباً بألف درهم فلبسه [6] .
ومما ينبغي أن يلحق بذلك اختلاف البلدان غنى وفقراً، وكذلك اختلاف
الأوقات من حيث نزول النوازل بالمسلمين أو عدم ذلك، ففي البلد الغني في حال
الأمن واستقرار أحوال المسلمين يتساهل في التوسع في استعمال المباحات أكثر من
التساهل بذلك في البلد الفقير، أو في حال نزول المصائب والبلايا على المسلمين.
*النظر إلى ملذات الحياة الدنيا وشهواتها على أساس أنها وسيلة زائلة تقرب
إلى الدار الآخرة لا أنها غاية في ذاتها وهدف يطمح إلى تحقيقه والتشبث به، قال
عثمان ابن عفان (رضي الله عنه) في آخر خطبة له: إن الله إنما أعطاكم الدنيا
لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، لا
تبطركم الفانية، ولا تشغلكم عن الباقية، آثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا
منقطعة وإن المصير إلى الله (عز وجل) [7] .
*التوسط في الإنفاق على النفس والأهل؛ قال عبد الملك بن مروان لعمر ابن
عبد العزيز: كيف وما يغنيك؟ ، قال: الحسنة بين السيئتين، قال الله (تعالى) :
[والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما] [الفرقان: 67] [8] ، وقال الحسن: إن من علامة المؤمن: ... ولا يقصر به بيته، ولا يبخل ولا يبذر،
ولا يسرف ولا يقتر [9] ، وعن سفيان، قال: كانوا يكرهون الشهرتين: الثياب
الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس فيها أبصارهم، والثياب الرديئة التي يُحتقر
فيها ويُستَذَل دينه [10] .
*الإنفاق في وجوه البر والخير والحث على ذلك؛ فعن علي (رضي الله عنه)
قال: ما أنفقت على نفسك وأهلك من غير سرف ولا تقتير فلك، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان [11] ، وعن الزهري، قال: تصدق
ابن عوف على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشطر ماله، ثم تصدق
بأربعين ألف دينار، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على
خمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة [12] ، وعن الحسن،
قال: باع طلحة أرضاً له بسبعمائة ألف، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرقاً من
مخافة المال حتى أصبح ففرقه [13] ، وعن مغيث بن سمي، قال: كان للزبير
ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منزله وليس معه
منه شيء [14] .
*السعي في طلب الرزق بدون مغالاة توصل العبد إلى التفريط في الطاعات؛
ومن ذلك: ما جاء عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: كنت أنا وجار لي
من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت
بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك [15] ، وعن ثابت
البناني، قال: ذكر أنس سبعين رجلاً من الأنصار كانوا إذا جنهم الليل أودوا إلى
معلم لهم بالمدينة يبيتون يدرسون القرآن، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوة أصاب
من الحطب واستعذب من الماء، ومن كانت عنده سعة أصابوا الشاة فأصلحوها
فكانت تصبح معلقة بحُجَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[16] ، وقال القاسمي: وكان السلف يبتدرون عند الأذان ويخلون الأسواق لأهل الذمة والصبيان [17] .
*الحث على شغل الإنسان وقته بما ينفعه ديناً ودنيا، والتحذير من البطالة
والفراغ، قال عمر (رضي الله عنه) : لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول:
اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة [18] ، وقال ابن
مسعود: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته [19] ، ... وقيل لأحمد: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئاً حتى
يأتيني رزقي؟ فقال: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي [20] وقوله -صلى الله عليه وسلم-
حين ذكر الطير فقال: تغدو خماصاً وتروح بطاناً [21] ، فذكر أنها تغدو في طلب
الرزق، وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتجرون في البر والبحر
ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم [22] .
*الإكثار من محاسبة النفس عند سعة الرزق وانبساطه، وخشيتهم من أن
يكون ذلك استدراجاً؛ قال عبد الرحمن بن عوف: قُتل حمزة فلم نجد ما نكفنه فيه
وهو خير مني، وقتل مصعب بن عمير وهو خير مني فلم نجد ما نكفنه، وقد
أصبنا منها ما قد أصبنا.. ثم قال: إني لأخشى أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في
الدنيا [23] .
وعاد خباباً نفرٌ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أبشر يا أبا
عبد الله إخوانك تقدم عليهم غداً، قال: فبكى وقال: أما إنه ليس بي جزع ولكنكم
ذكرتموني أقواماً وسميتم لي إخواناً، وإن أولئك قد مضوا بأجورهم كلهم، وإني
أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم [24] .
ب- توجيهات عامة للمترف يمكنه القيام بها:
*معرفة أن الترف مما لا يليق بالدعاة، وأن اللائق بهم هو إيثار العمل بدين
الله والدعوة إليه والذود عنه؛ لأن ما عند الله خير وأبقى، ومن ترك شيئاً لله
عوضه الله خيراً منه؛ قال الله (تعالى) في الحديث القدسي: أعددت لعبادي
الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر [25] ، وقال
ابن القيم (رحمه الله) : قال لي شيخ الإسلام في شيء من المباح: هذا ينافي
المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة، ثم يقول: فالعارف يترك
كثيراً من المباح إبقاءً على صيانته ولاسيما إذا كان ذلك المباح برزخاً بين الحلال
والحرام [26] ، وقال (رحمه الله) في الفوائد: من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على
شهوته [27] .
*على المترف أن ينظر في حوادث الزمان ونوائب الليالي والأيام، وأنه إن
كان غنياً اليوم فقد يكون فقيراً غداً، وبالتالي: فإنه إن لم يردع نفسه في غناه
واغتر بحاله فقد تزول دنياه فجأة ويتحول غناه فقراً وعزه ذلاً، وعندها تضيق به
الأرض بما رحبت وتسوء عاقبته، ولله در الشاعر حين قال:
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم
فالعاقل يعد نفسه لتقلب الأحوال وتبدل الأزمان.
*على المترف أن ينظر في مدى الخسارة التي يجنيها نتيجة الاشتغال بمظاهر
الترف، ومن تلك الخسائر على سبيل المثال: ذهاب أمواله سدى، وكون الوقت
الذي يفنى في ذلك غير نافع له في الآخرة مع أنه يدنو بصاحبه من الآخرة،
وضعف محبة العبد لربه لأن اشتغاله بملذات الدنيا وشهواتها يؤدي به إلى حبها حباً
يصد عن الطاعة، ومثل ذلك مُضعف لحب العبد لربه، قال ابن القيم (رحمه الله) :
لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة [28] .
*على المترف أن يدرك أن حصوله على وسائل الترف ومغريات الحياة
وشهواتها ليس من أسباب تحصيل السعادة، والواقع خير شاهد على ذلك، فكم من
رجل بلغ الغاية في الاستمتاع بزهرة الحياة ومتعها، ومع ذلك نجده كثير الخوف
والهموم، شارد البال، بل إن الأمر قد يصل به إلى قتل النفس والانتحار، وكم من
رجل مع فقره وصعوبة معيشته نجده في سعادة وهناء وانشراح صدر، قال الحسن: أهينوا الدنيا، فوالله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن هانها [29] ، وقال الشاعر:
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
*الحذر من تقليد البيئة التي يعيش فيها في كل شيء، والتنبه لعدم أخذ
التصورات والقيم إلا من طريق الإسلام، لأن من أبرز أسباب الترف -كما سبق -
حب التقليد للمترفين في المجتمع وإرادة مباهاتهم وحب البروز والتعالي عليهم نتيجة
رفع كثير من المجتمعات من شأن الدنيا وزخرفها، وتحويل ذلك إلى غاية وقيمة
بعد أن كان وسيلة وزينة، والطريق لتجاوز ذلك وتلافيه: تعويد الإنسان نفسه
الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة لمعرفة حكمها في الشيء المراد فعله قبل
مباشرة ذلك، وعندما يطبق المرء ذلك ستتضح له القيم والسلوكيات المخالفة لتعاليم
الإسلام في المجتمع - ومنها الترف والتباهي به - فيسعى إلى الحذر منها وتجنبها.
*لابد للعبد من إشغال نفسه بما يعود عليه نفعه في الآخرة، وذلك لأن النفس
إذا رباها صاحبها على جعل ذلك هدفاً، تترتب الأولويات لديها فتقدم الأنفع على
النافع والنافع على ما ليس فيه نفع، وحين تفعل النفس ذلك فإنها ستتعالى عن
التعلق بمتع الحياة؛ قال سليمان الداراني: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان
في قلبه ما يشغله عن الآخرة [30] ، وقال مالك بن دينار: بقدر ما تخزن للآخرة
يخرج هم الدنيا من قلبك [31] .
*التأمل في تبعات الترف في الآخرة، وتخيل العبد وقوفه بين يدي الله
(تعالى) ، والأسئلة التي ستوجه إليه في ذلك الموقف عن النعيم الذي يتقلب بين
جنباته في هذه الدنيا دافع له إلى ترك الترف، ولذا: ذكّر النبي -صلى الله عليه
وسلم- أمته بذلك فقال: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما
أفناه وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم
أبلاه [32] ، ولقد كان هذا التأمل من أكبر الأسباب التي دفعت بعض السلف إلى
التقلل من الدنيا وملذاتها؛ قال طاووس: حلو الدنيا مر الآخرة، ومر الدنيا حلو
الآخرة [33] وكان الأسود يقول: من كانت الدنيا أكبر همه، طال غداً في القيامة
غمه [34] .
*النظر في حال أهل الترف قديماً وحديثاً، والتأمل في أوضاعهم وما يعانيه
غالبهم من غفلة، وقلة طاعة، وقسوة قلب، وكثرة هم، وتشتت فكر، بالإضافة
إلى الفجيعة من تقلب الأحوال والخوف من انصرام ما هم عليه من نعيم وملذات:
كفيل بردع العاقل عن التعلق بالملذات، ولله در سفيان الثوري حين قال: إذا أردت
أن تعرف قدر الدنيا فانظر عند من هي [35] .
*إدراك المترف أن القليل من نعيم الدنيا يكفي لعبور هذه الدار والوصول إلى
الآخرة، وبالتالي: فإن عليه التخفيف من الانغماس في الملذات، قال -صلى الله
عليه وسلم- حين دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي
الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا! ، فقال: مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا
كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح
وتركها [36] ، وكان خالد بن صفوان يقول: بت أفكر فكسبت البحر الأخضر بالذهب الأحمر، ثم نظرت فإذا الذي يكفيني من ذلك رغيفان وطمران [37] .
*معرفة مخططات ووسائل أعداء الإسلام في إلهاء الشعوب المسلمة لصدها
عن دينها وسلب خيرات بلدانها، فإن من أسباب لهو بعض المسلمين وتشاغلهم
بالترف والشهوات - كما سبق - سعي أعدائهم من اليهود والنصارى وغيرهم إلى
ذلك، فمتى عرف المرء تلك المخططات واتضحت له وسائل تنفيذها، تحاشى
الوقوع في حبائلها.
*لابد للمترف من النظر في أحوال المسلمين والتأمل في شدة ما يعانون من
فقر وجهل ومرض، بالإضافة إلى ما يتعرضون له من حروب، ليعرف شدة خطئه
في ترفه، وأن الأنفع له تقديم ما يفيض عن حاجته إلى إخوانه.
ج- وسائل يحسن للمربين الأخذ بها للتخفيف من الترف وآثاره:
عندما نتحدث عن ترف بعض الأشخاص المنتسبين إلى طريق الدعوة لابد لنا
من التعريج على الدور الواجب القيام به من قبل المربين والمسؤولين عن المحاضن
التربوية لكي يقوموا بدورهم في تجاوز هذه الظاهرة حتى لا تتراجع مسيرة الدعوة
أو تستمر في مكانها التي هي فيه دون تقدم يذكر، والوسائل التي يمكن أن يقوم بها
المربون في علاج تلك الظاهرة كثيرة؛ منها ما يلي:
*تربية من في تلك المحاضن على الاستقامة والجدية، وتعوديهم على
أخذالإسلام بقوة بحيث يبادرون إلى فعل محبوبات الله (تعالى) سواء أكانت واجبات
أو مستحبات، وإلى ترك مبغوضات الله (تعالى) سواء أكانت محرمات أو
مكروهات. والاستقامة على الإسلام وأخذه بقوة لا يطيقه إلى من صلب عوده وقوي
إيمانه، لأنها تعني القيام بين يدي الله (تعالى) على حقيقة الصدق بحيث يترك
الإنسان شهوات نفسه وملذاتها مع قدرته على إتيانها، ويتحمل ما يلاقيه من جراء
قيامه بمخالفة معهودات المجتمع وعاداته [38] .
*تصريف طاقات المتربين وتوجيههم إلى حسن استثمار أوقاتهم، لأن من
أبرز دواعي الترف وأسبابه ارتفاع نسبة الفراغ في أوقات الشباب، مع وجود
طاقات كبيرة بحاجة إلى توجيه وإرشاد واع من قبل المربين لتصريفها تصريفاً
حسناً ووضعها في المسار الصحيح، ولقد جاء حديث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- الذي رواه ابن عباس (رضي الله عنهما) : نعمتان مغبون فيهما كثير من
الناس: الصحة والفراغ [39] مبيناً مدى تفريط كثير من الناس في طاقاتهم،
ومنبهاً أصحاب التربية والتوجيه إلى ضرورة ملاحظة تلك الظاهرة والسعي بجد
لعلاجها.
*لابد للمربين أن يبينوا للذين يربونهم وبخاصة في المجتمعات المترفة منهج
الإسلام في التعامل مع النعم، والسعي بجد إلى ممارستهم ذلك المنهج في واقع
حياتهم العملية مع متابعتهم - بأسلوب مناسب - أثناء التطبيق والممارسة من أجل
رفع معنوياتهم، وتشجيعهم حال الإصابة، وتوجيههم إلى الحق حال مجانبته
والوقوع في ضده.
*لابد للمربين من توجيه الشباب وتربيتهم على الجلد والخشونة وترك الدلال
والطراوة، ومن الأمور التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك ما يلي:
-الحديث عن صفات الرجال المجاهدين في الأمة قديماً وحديثاً، وبيان مدى
تركهم للكثير من الأمور التي تؤدي بهم إلى الترف والرفاهية مع تمكنهم من إتيانها
لكي يتخذ المربُّون أولئك الأفذاذ قدوة وأسوة.
-إرشادهم إلى ما كان عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من
خدمة أنفسهم؛ قالت عائشة (رضي الله عنها) : كان أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- عمال أنفسهم، فكان يكون لهم أرواح، فقيل لهم: لو اغتسلتم [40] ،
وحثهم على القيام بخدمة أنفسهم قدر الإمكان والاستغناء عن العمال والخدم - في
المنزل وخارجه - وجعل ذلك هو الأصل وخلافه هو الاستثناء.
-اختيار أنواع الرياضة التي تؤدي إلى قوة الجسم وتساعد على التحمل
والخشونة كالجري والسباحة، وأنواع الرياضات التي تساعد في الدفاع عن النفس،
مع ملاحظة وتجنب المحاذير الشرعية والتربوية.
-الإقلال من توفير وسائل الترف، سواء أكان ذلك في المطاعم أو المشارب
أو الملابس أو المساكن أو المراكب أو الألعاب ... إلخ.
-دفعهم إلى إتيان ما يستطيعون من نوافل العبادات وبالأخص العبادات البدنية
كصيام التطوع والحج والعمرة وقيام الليل ... ونحو ذلك من العبادات التي يكون
فيها نوع مشقة على البدن.
-لا بد للمربين من توجيه من تحت أيديهم إلى الاهتمام بمعالي الأشياء وترك
سفاسفها، والبحث عن حقائق الأمور وعدم الاقتصار على ظواهرها، والقيام
بتعريفهم بأن قيمة الإنسان بحسب ما يكون عليه من تقوى لله وعمل لدينه ونصرة
لإخوانه، لا بما هو عليه من زهرة الحياة الدنيا وزخرفها.
*لابد للمربين من تعويد من تحت أيديهم على الإيثار والكرم وحب البذل
ودفعهم إلى المبادرة والتسابق في ذلك إيثاراً للباقية على الفانية، قبل أن يفاجئ أحداً
منهم الموت أو تتبدل به الأحوال ويحدث ما يمنعه من القيام بذلك.
*لابد للمربين أن يحملوا الذين يربونهم بعض المسؤوليات، مع التشجيع حال
الإصابة، والإرشاد مع الرفق حال الخطأ.
*لابد للمربين من تشجيع من تحت أيديهم على الابتكار والسعي إلى اتخاذ
القرار، وحثهم على التفكير والقيام بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وممارسة
النقد البناء ونبذ التقليد الأعمى للآخرين - من مربين وغيرهم - في الصغير
والكبير.
*لابد للمربين من طرق أسماع الذين يربونهم بمعاناة أكثر المسلمين في هذا
العصر مع تقديم ما يرسخ ذلك في نفوسهم من صور ووثائق، ودفعهم إلى المقارنة
بين حياتهم التي يعيشونها وبين الحياة التي يعيشها الآخرون من إخوانهم.
__________
(1) الزهد للإمام أحمد، 189.
(2) ، (3) إصلاح المال لابن أبي الدنيا، 106 (4) السابق، 112.
(5) طبقات ابن سعد 3/92.
(6) حلية الأولياء 1/321.
(7) ذم المال لابن أبي الدنيا، 77.
(8) ، (9) إصلاح المال لابن أبي الدنيا، 100.
(10) السابق، 113.
(11) كنز العمال 6/509.
(12) سير أعلام النبلاء 1/81.
(13) حلية الأولياء 1/89.
(14) السابق، 1/90.
(15) البخاري مع الفتح 1/223، ح 89.
(16) حلية الأولياء 1/123.
(17) موعظة المؤمنين 1/125.
(18) ، (19) موعظة المؤمنين 1/116.
(20) أحمد 1/50، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/546، ح 2831.
(21) أحمد 1/30، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/932، ح 5254.
(22) موعظة المؤمنين 1/116.
(23) حلية الأولياء 1/100.
(24) السابق، 1/145.
(25) البخاري مع الفتح 6/366، ح 3244.
(26) مدارج السالكين 2/28.
(27) الفوائد لابن القيم، 146.
(28) السابق، 147.
(29) ذم الدنيا لابن أبي الدنيا، 138-139.
(30) السابق، 129.
(31) السابق، 66.
(32) الترمذي 4/612، ح 2417، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/221، ح 7300.
(33) حلية الأولياء 4/12.
(34) ذم الدنيا، 132.
(35) السابق، 145.
(36) أحمد 1/301، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/989، ح 5669.
(37) ذم الدنيا، 148.
(38) انظر: منهج السنة النبوية في تربية الإنسان لبدير محمد بدير، 106.
(39) البخاري مع الفتح 11/233، ح 6412.
(40) السابق 4/355، ح 2071.(86/27)
خواطر في الدعوة
ولكن حمزة لا بواكي له
محمد العبدة
إن الظلم الواقع على المسلمين في كثير من بقاع العالم لا نظير له؛ فهذا
المجتمع الدولي الظالم الكنود قد تحالف حلف الشيطان ضد كل حق وفضيلة، وضد
كل من يريد عبادة الله وحده، وترك ما دونه من الأصنام، ويريد هذا الحلف
الشيطاني جرّ البشرية إلى مهاوٍ سحيقة من الضلال والفسق، ومن يقول له: لا،
فهذه جريمة العصر.
إن ما يجري في البوسنة مثال صارخ على النفاق الدولي وتظاهره بالإنسانية، وهو يخفي مُرّ العذاب بسكوته عما يقع من جرائم بحق المسلمين، وهذا واضح
يعرفه كل إنسان، بل ويتألم له أناس من غير المسلمين الذين عندهم بقية من ضمير
أو حب للحق. ولكن الذي نريد الوصول إليه هو: أين علماء المسلمين؟ ! وأين
دورهم في التخفيف عن إخوانهم؟ وأخص بالذكر العلماء الذين لهم مكانة متميزة،
لماذا لا يمارسون الضغوط على هذه الحكومات كي تقوم بعملٍ ما؟ ! فالغرب لا
يفهم إلا لغة القوة، ولو كانت قوة معنوية، ولكن عندما لا يرى شيئاً ولا يحس بأي
معارضة لما يفعل، فسوف لا يرى إلا مصالحه القريبة والبعيدة.
لقد تدخل بابا النصارى مباشرة وبقوة في مسألة كرواتيا وسلوفينيا؛ يقول
هنجتون صاحب مقال صراع الحضارات [1] : وكنتيجة لإصرار البابا على تأمين
دعم قوي للبلدين الكاثوليكيين، اعترف الفاتيكان بكل من سلوفينيا وكرواتيا حتى
قبل المجموعة الأوروبية، وحذت الولايات المتحدة حذو أوروبا، وهكذا تجمع
الممثلون الرئيسيون في الحضارة الغربية وراء إخوانهم في الدين.
هل بابا النصارى أحرص على رعاياه من حرص العلماء على إخوانهم في
الدين؟ ! أليس من العجيب أن هذه النصرانية التي تقول في كتبها المحرفة: دع ما
لقيصر لقيصر وما لله لله تتدخل في السياسة وتستجيب الدول لاقتراحات وضغوط
البابا، وديننا الذي يقول: [وهو الذي جعلكم خلائف الأرض..] [الأنعام:
165] ، والذي يقول: [ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر..] [آل عمران: 104] ، لا يتدخل علماؤه في شؤون
إخوانهم، ومن العجيب أيضاً أن النصرانية المحرفة تقول في كتبها: من ضربك
على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر تجد رجالها من أشد الناس إيماناً بمبدأ القوة،
وأنه هو الذي يحل المشاكل العالمية، وديننا الذي يقول: [وقاتلوا في سبيل الله
الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين] [البقرة: 190] لا نجد من
يدافع عنه ولا عن رعاياه، أيكون عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مسؤولاً عن
شاة إذا عثرت بشط الفرات ولا يكون العلماء مسؤولين عن دماء المسلمين؟ ! لا
شك أنهم مسؤولون ويستطيعون فعل شيء يخفف الآلام.
إن الواجب يدعو علماء المسلمين أن يجتمعوا على كلمة يستطيعون بها رفع
الظلم عن إخوانهم في البوسنة أو الهند أو كشمير، هل نأمل بأن يكون هناك دور
للأزهر وأمثاله؟ ! هذه القلاع التي كانت حصناً لردع أعداء الدين، وهل نأمل بأن
يأخذوا بنصيحة عمر حين قال: يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول: (لا)
بملء فيه.
__________
(1) نشر هذا المقال في مجلة (Foreign Affairs) صيف 1992، وقد أحدث ضجة كبيرة، وترجم إلى العربية عدة مرات.(86/39)
هموم ثقافية
التنمية بين المشروع الحضاري الغربي
والمشروع الحضاري الإسلامي
(1)
أ. د. نبيل السمالوطي [*]
المفاهيم:
يمكن النظر إلى نظريات التنمية ومداخلها سواء أكان ذلك في الفكر الوضعي
أو الفكر الإسلامي على أنها اجتهادات يمكن الاتفاق أو الاختلاف حولها، وهذه
الاجتهادات تدور أساساً حول آليات وعمليات وأساليب ومضامين تغيير مخطط
يستهدف تحسين مستويات الحياة ورفع مستويات معيشة الناس وتحقيق أهداف عليا
وصورة معينة للمجتمع والعلاقات والتنظيمات والنظم الاجتماعية التي هي موضع
اختلاف بين نماذج التنمية المختلفة، وهي أشد اختلافاً بين المشروع الغربي
باتجاهاته المختلفة من جهة، وبين المشروع الإسلامي باجتهاداته المتباينة من جهة
أخرى.
ويقصد هنا بالاجتهادات الوضعية: تلك التوجيهات والنظريات والمداخل
والمناهج التي يطرحها بعض المنظرين لتحقيق التنمية الشاملة للمجتمعات اقتصادياً
واجتماعياً وسياسياً وعسكرياً ... دون الاستناد إلى ثوابت عقدية أو أخلاقية أو قِيَميّة
أو تشريعية ترجع لوحي من السماء، وهي تحاول تحليل وتفسير ظواهر الفقر
والغنى، والتخلف والتقدم، والضعف والقوة، وتحديد منطلقات التنمية وآلياتها
وضوابطها وأهدافها استناداً إلى متغيرات واجتهادات حسية أو عقلية أو اجتماعية أو
تاريخية في حدود الخبرة البشرية وإمكانات العقل البشري، وفي ضوء فلسفات
التاريخ أو في ضوء نماذج وأهداف أيديولوجية بعيدة عن أي ثوابت أو مطلقات أو
حقائق لا تتغير.
وفي المقابل: يقصد بالاجتهادات الدينية: تلك الآراء والنظريات والمداخل
والمناهج التي تحاول فهم وتشخيص وتحليل متغيرات التخلف والتقدم والغنى والفقر
والقوة والضعف في إطار المنطلقات والثوابت والأهداف والضوابط الدينية، مع
الأخذ بكل جوانب التحليل العلمي والمنهجي المادي والاجتماعي والتاريخي
والاقتصادي والسياسي في إطار متغيرات التاريخ ومتغيرات العصر، وفي ضوء
المنطلقات الثابتة المتصلة بجوهر الإنسان والمجتمع، ورسالة كل منهما، والموقف
من التاريخ والثقافة، والموقف من عالمي الغيب والشهادة، وفي إطار نظرة تكاملية
للمعرفة من حيث مصادرها وطبيعتها وأنواعها، ودور كل منها في مسيرة الإنسان
والمجتمع، وفي ظل رؤية شمولية للعوامل والأسباب والآليات المؤدية إلى التقدم
والتنمية بكل أبعادها المادية والروحية والاجتماعية والسياسية، البشرية والكونية،
وفي إطار فهم وتفسير محدد للإنسان والمجتمع والتاريخ والعلاقات الاجتماعية سواء
أكان ذلك بين الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات أو الدول [1] .
والقول بوجود مشروعات أو نماذج من التنمية تستند إلى اجتهادات وضعية،
وأخرى تستند إلى اجتهادات دينية، يعني: أن كلا النوعين من النماذج يتضمن
إعمال العقل والتحليل العلمي والاستعانة بمصادر متعددة للمعرفة، ويعني: إمكانية
التعدد والاختلاف في مجال الاجتهاد القائم على منهجية التفسير والتحليل وبناء
الخطط استناداً إلى قواعد معلوماتية وفكرية ومنطقية، وإذا كانت الاجتهادات
الوضعية تستند إلى قدرات البشر وتستبعد الثوابت الدينية، فإن الاجتهادات الدينية
تستند إلى الثوابت الدينية سواء أكانت منطلقات أو آليات أو أهدافاً، ولكنها تؤكد
على أهمية الجهد الإنساني في الاستنباط والفهم والتحليل والوصول إلى النتائج
والأحكام، وينطبق هذا الأمر على علوم الدين والدنيا معاً التي ينظر إليها الإسلام
بوصفها علوماً إسلامية، فالعلوم التجريبية التي وجدت قبل الإسلام اختفت من حياة
الإنسان تحت وطأة عدة قوى، من بينها سياسات حكام الإمبراطورية الرومانية التي
ركزت على الحياة العسكرية والتنظيمات القانونية ولم تهتم بالعلم التجريبي، ومن
بينها السياسات الكنسية في أوروبا التي أكدت على استبعاد أي اجتهاد إلى جوار
كتابهم المقدس.
فضل المسلمين على الحضارة:
وكما يذكر ابن نباتة فقد تم وضع الكتب في الدهاليز ليأكلها الزمان، وعندما
أتى الإسلام، أنشأ المسلمون أول جامعة وهي بيت الحكمة، وتم إخراج الكتب من
الدهاليز، وقام المسلمون بترجمتها إلى العربية واستكمال ما نقص أو ضاع منها،
والتعليق عليها وشرحها، وتدريس الصالح منها، وتأليف العديد من الكتب،
والوصول إلى العديد من الاختراعات العلمية، وتقنين خطوات المنهج التجريبي
بشكل واضح [2] .
هذا بالطبع إلى جانب الوصول إلى علوم جديدة سواء أكان ذلك في مجالات
السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو التربية تستند إلى مبادئ الكتاب والسنة، أو في
مجال التجريب في بعض فروع العلم كالكيمياء والطب والرياضيات.. إلخ، وقد
نظر المسلمون إلى كل هذه العلوم على أنها علوم إسلامية، وقد أدى المسلمون خدمة
مهمة للعلم، وذلك بنقله من المحلية إلى العالمية، وقاموا بتطوير العلوم وتحديد
معالم المناهج، كذلك قاموا بمحاولة تقديم العلم المفصل للمتخصصين وتبسيط العلوم
للجمهور، وهذا العلم الذي نشأ وتطور وتقدم في ظل الحضارة الإسلامية وصل إلى
الغرب من خلال مراكز إشعاع ثقافي، مثل الأندلس وصقلية والشام وغيرها.
وترتبط حضارة الإسلام بالعلم ارتباطاً وثيقاً؛ لأن طلب العلم جزء لا يتجزأ
من العبادة، وطلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة، وكانت أول كلمة في القرآن
الكريم هي اقرأ، وهنا يحق لنا القول: إن العلم النافع بكل فروعه يحتل موقعاً
رئيساً في الحضارة الإسلامية، وإذا كان الغرب ومشروعه الحضاري يركز الآن
على العلوم التجريبية التي أقامها على مرتكزات من العلم الإسلامي فالفارق كبير
بين موقع العلم في المشروع الحضاري الإسلامي وموقعة في المشروع الحضاري
الغربي؛ فرق في المنطلقات والغايات، وفرق في الضوابط والآليات، وفرق في
التوجيه والتطبيق؛ فالمنطلقات عند المسلمين عبادية؛ أي: تنفيذ إرادة الله وأوامره
في النظر في الكون والآفاق، وفي الأنفس، وفي التاريخ والمجتمع وهي كلها
مخلوقات لله من أجل الوصول إلى السنن أو القوانين التي تحكم هذه المخلوقات،
وهذا يفيد من جهتين: الأولى: تعميق الطاقة الإيمانية عند الإنسان، فالتعمق في
العلم يؤدي إلى مزيد من الخشية لله [إنما يخشى الله من عباده العلماء]
(فاطر: 28) . الثانية: الانتفاع بهذه المعرفة في التطبيقات العلمية (التقنية أو الصناعية) الأمر الذي يؤدي إلى أن يكون المجتمع المسلم هو الأقوى اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وصحياً وسياسياً وعسكرياً ... وهو شرط رئيس للقيام برسالة الإنسان والمجتمع المسلم في إعلاء كلمة الله والدعوة إليه وتأمين سبل الدعوة الإسلامية ومحاربة طواغيت الأرض وإقامة العدل والقضاء على الظلم، والنصوص كثيرة من الكتاب والسنة في هذا المعنى؛ منها قوله (تعالى) : [قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون] [الزمر: 9] وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- فضل العالم على العابد، وأوضح أن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدماء الشهداء، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يفعل.
وهذا هو ما أدى إلى ازدهار الحضارة الإسلامية وإلى إبداعات العقل المسلم
في كل مجالات العلوم الشرعية والكونية والاجتماعية والأدبية والإنسانية، وهذا هو
ماحدا بملوك أوروبا في عصر النهضة إلى إرسال مجموعات للحصول على الكتب
الإسلامية لترجمتها إلى اللغات الأوروبية، ليس فقط في مجالات العلم الطبيعي
والاجتماعي ولكن أيضاً في مجالات العلوم الشرعية كذلك، وكانت هذه هي نقطة
انطلاق الحضارة الغربية في مجال العلم التجريبي بشقيه النظري والتطبيقي، وهو
العامل الرئيس في التقدم العلمي والاقتصادي والتقني الحالي في الغرب.
وإذا كانت النماذج الدينية والوضعية في التنمية تنطلق من مشروعات
حضارية متباينة أو متصادمة من حيث المنطلقات والغايات، فإنه يتعين علينا أن
نتفق على مفهوم الحضارة، فالحضارة بوصفها خلاصة الخبرة والتراكم المعرفي
والتربوي والإبداع البشري والضوابط الإصلاحية لها جانبان:
أولاً: الجانب المعنوي: يتمثل في المعتقدات والقيم والأخلاقيات والضوابط
الدينية والمبادئ والأطر الفكرية والرؤية العامة للكون والحياة والإنسان والتاريخ
والعلاقات بين البشر، أفراداً وجماعات ودولاً.
ثانياً: الجانب المادي: المتمثل في المستوى العلمي التجريبي ومستوى التقنية
والمستويات الاقتصادية المادية لأبناء المجتمع.
والحضارة هي محصلة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة، وهي محصلة
التفاعل بين الدوافع والرغبات والتطلعات والأعمال والشهوات الإنسانية من جهة،
وبين الضوابط والمعايير التي تحكم حركة الإنسان في إشباع هذه الشهوات،
وتوجيه الدوافع، وأساليب توظيف نتاج هذه الدوافع والشهوات والأعمال الإنسانية
من جهة أخرى، وهي محصلة التفاعل بين الغايات النهائية والإمكانات والإبداعات
والجهود الإنسانية للوصول إليها، فالحضارة إذن هي تفاعل بين عاملين: الأول
يتصل بالقيم والمبادئ والموجهات العقدية المنهج والنماذج السلوكية والفكرية التي
تحدد ما هو مرغوب فيه وما هو متسامح فيه وما هو مرغوب عنه، وبين الواقع
المادي بمغرياته المادية وما فيه من أدوات وأجهزة هي وسائل إشباع الحاجات
الإنسانية المتزايدة والمتغيرة [3] .
إشكاليات النموذج الغربي في الحضارة:
والحضارة في المشروع الغربي هي حضارة ترتكز في منطلقاتها وآلياتها
وأهدافها على الجانب المادي في الحياة، وحتى بالنسبة للمبادئ العليا والقيم في
الغرب فهي موظفة لخدمة الأهداف المادية، فإذا كان المشروع الحضاري الغربي
يعلي من قيم وممارسات: الديموقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، وإعلاء قيمة
العقل والتفكير العقلي، والاحتكام للمنطق والسيطرة على الطبيعة وإخضاعها لخدمة
الإنسان.. إلخ، فإن هذه المبادئ المتفق على أهميتها وضرورتها ليست مسخرة
لحماية الإنسان بذاته، وإنما لحماية المصالح والصفوات الغربية مقابل الجماهير،
وحماية المجتمعات الغربية مقابل المجتمعات الأخرى، وهذه القيم التي يرفع
المشروع الغربي شعارها ويجعل منها سيفاً مسلطاً على العالم الثالث، يؤكد أغلب
الباحثين في العلوم الاجتماعية في الغرب وبعض مفكري العالم الثالث أن هذا
المشروع الغربي يمثل بها قمة صور وحالات التنمية التي يجب على كل دول العالم
الثالث السعي لتحقيقها، هذه القيم والمبادئ هي مثاليات غير متحققة حتى في الغرب
نفسه؛ فالحكم في الولايات المتحدة ليس ديموقراطياً وإنما هو حكم صفوة القوة على
حد تعبير س. ر. ملز C. R. MILLS في كتابه بعنوان صفوة القوة The
Power Elite [4] ، وحقوق الإنسان غير مطبقة فعلياً في أمريكا بدليل استمرار
التمييز العنصري والصراعات العرقية في أوروبا وأمريكا، وزعماء الغرب
يؤكدون أن إعلان حقوق الإنسان لم يوضع لسكان إفريقيا السوداء، وهذا ما أعلنه
أحد رؤساء الحكومة الفرنسية وهو جون فيري [5] ، وموقف الغرب من مسلمي
البوسنة والهرسك يعكس حقيقة فهم حقوق الإنسان في الغرب، ونفس الأمر تعكسه
ثورات وتمرد العرقيات المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ومن بينها ما
حدث منذ سنتين تقريباً في لوس انجلوس، ونفس الأمر أيضاً يعكسه موقف
ومؤامرات الغرب ضد حركات التحرر في العالم الثالث، سواء أكانت اقتصادية أو
سياسية، ويتضح من موقف الغرب من الإسلام والمسلمين ويتضح هذا في العديد
من المشروعات الفكرية العلمية مثل مشروع كاميلوت، كما يتضح من موقف
الغرب من تجارب الديموقراطية في دول العالم الثالث مثل تجربة الجزائر، كما
يتضح من موقف الأوروبيين حالياً من المستوطنين العرب والمسلمين في دول
أوروبا مثل فرنسا وألمانيا.. إلخ، وهو موقف يعكس العداء وعدم الإنسانية.
هذه الإشكاليات في المشروع الحضاري الغربي، هي إشكاليات موضوعية
يثيرها كتاب ومفكرو الغرب أنفسهم الذين يرون أن المشروع الحضاري يعلي من
قيمة الاستمتاع المادي والرفاهية في مقابل القيم الأخلاقية، وهذه الحقيقة أدت في
التطبيق إلى العديد من الإشكاليات التي تبرزها بشكل موضوعي الإحصاءات
الغربية التي أوردها فهمي هويدي في مقال له بالأهرام بتاريخ الرابع من أكتوبر
سنة 1994م من واقع المصادر الرسمية في الغرب التي توضح أن 40% من
الأطفال غير شرعيين (في الولايات المتحدة) و60% من الأزواج لا يعيشون مع
زوجاتهم، وأن عشرة آلاف أنثى دون الثامنة عشر تم اغتصابهن سنة 1992م في
مدينة واشنطن وحدها، منهم 3800 دون الثانية عشر، وأن 20% من هؤلاء
الأخيرات تم اغتصابهن عن طريق آبائهن، و26% عن طريق الأقارب، وأنه قد
تم رصد 30 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية لمكافحة الجريمة، ويجند
لهذا العمل 000ر100 رجل شرطة [6] .
أهم جوانب الاختلاف بين المشروع الحضاري الإسلامي
والمشروع الغربي:
أما عن المشروع الحضاري الإسلامي فهو مشروع متوازن يعكس فطرة
وحاجات الإنسان، ويحقق أقصى درجات التوازن المادي والروحي، وأقصى
درجات التقدم في كل المجالات الروحية الدينية والاقتصادية والعلمية والسياسية
والاجتماعية، وهذا المشروع يحقق صالح الإنسان الحقيقي في الدنيا والآخرة،
وبهذا تتكامل المادية والروحية، وتتكامل الجوانب المعرفية الحسية والعقلية مع
حقائق الوحي، ويتكامل الإنسان مع الكون الذي يعيش فيه والذي سُخر من قِبَل
الخالق لخدمته، ويتكامل الإنسان مع مجتمعه وأمته، ويتكامل عالم الغيب مع عالم
الشهادة، وتتكامل الدوافع مع الضوابط، وتتكامل الدنيا مع الآخرة.
ولا يمكن الاكتفاء بالقول: إن المشروع الحضاري الغربي ينطلق من المادية
والعلمانية المسرفة، وإن المشروع الإسلامي ينطلق من الإيمان بالغيب ويحقق
التكامل بين المادة والروح، لأن المنطلقات والأهداف والآليات والنتائج متصارعة
ومتناقضة، وسوف يكتفى هنا بإبراز بعض الأمثلة لتوضيح هذا الأمر:
أولاً: الموقف من الكون أو ما يسمى بالطبيعة ومن الحياة والوجود: هو في
الغرب علاقة صراع دامٍ، يعكس هذا مصطلحات: غزو الصحراء، قهر الطبيعة،
إخضاع الظواهر لسيطرة الإنسان ... وهم يصورون العلاقة على أن الحياة الطبيعية
معاكسة للإنسان، مقلقة له، ولابد من صرعها والتغلب عليها. [7] يقابل هذه
النظرية في المشروع الحضاري الإسلامي نظرة مناقضة تماماً، فكل ما في الكون
مسخر للإنسان، بل إن الكون في جانبه المتصل بالبشر مخلوق لخدمة الإنسان،
ومناسب لقدراته على المعرفة والتعامل والتسخير، قال (تعالى) : [هو الذي خلق
لكم ما في الأرض جميعاْ] [البقرة: 29] وكما يقول صاحب الظلال [8] : فإن
كلمة لكم تدل دلالة قاطعة أن الله خلق الإنسان لأمر عظيم ... ليكون مستخلفاً في
الأرض، مالكاً لما فيها، فاعلاً مؤثراً فيها.
وإذا كان المشروع الحضاري الغربي يؤكد العداء بين الإنسان والبيئة المادية
(الجغرافية) المحيطة به، فإن الإسلام يؤكد أن هذه البيئة مسخرة بأمر خالقها
للإنسان، والآيات التي تتحدث عن هذا كثيرة وقاطعة؛ منها قوله (تعالى) : [الله
الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً
لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس
والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه ... الآية]
(إبراهيم: 32-34) وقد جاء هذا الكون موافقاً تماماً لقدرات الإنسان على الفهم
والتفسير والاستيعاب، وقدرات الإنسان على العمل والاستثمار والإنتاج، وقدرات
وحاجات الإنسان البيولوجية كالماء والهواء، والنسب المعجزة للأكسوجين، وما
تنبته الأرض من غذاء أو كساء ... إلخ، كل هذا يؤكد الوحدة والتناسق في
النواميس أو القوانين أو السنن التي تحكم الأرض والكون والإنسان حتى لا يقع
التصادم والصراع والعدوان، على العكس تماماً من مُسَلمات المشروع الحضاري
الغربي..
ثانياً: ما يبرز فيه الصراع والتناقض بين المشروعين الحضاريين الغربي
والإسلامي، يتمثل في النظر إلى الإنسان؛ فالإنسان في المشروع الغربي حيوان
ناطق، يسعى باستمرار نحو إشباع شهواته خاصة شهوات المال والجنس والأكل
والمركز والتفوق بأقصى قدر ممكن وبأقل خسارة ممكنة، فهو يحاول الوصول إلى
أقصى قدر من اللذة والرفاهية بأقل مجهود ممكن [9] ، وهذا هو التيار النفعي
(البراجماتي) والرأسمالي المسيطر على الفلسفة الغربية، فالإنسان في المشروع
الغربي: كائن يهدف إلى المنفعة والمتعة في إطار المشروع الفردي والحرية
والمسؤولية الفردية، وهو ليس إلا رقماً في معادلة حياتية يمكن فهمها وتحليلها
بالحاسب الآلي، أما الإنسان في المشروع الحضاري الإسلامي فهو مخلوق خلقه الله
واستخلفه في الأرض لأداء رسالة حضارية محددة هي العبادة بمفهومها الواسع الذي
يشمل كل ما قصد به تنفيذ أوامر الله وتجنب نواهيه، وهذه تشمل: العبادات،
والتعلم، والإنتاج العلمي، وفهم السنن الحاكمة للإنسان والكون والمجتمع
والتاريخ [10] ، وتشمل: تعمير الأرض والإنتاج العملي وبناء المجتمع الأقوى إيمانياً واقتصادياً وتقنياً واجتماعياً وسياسياً؛ المجتمع القادر على: إقامة العدل والحق، وعلى تحرير الإنسان، والقضاء على الظلم، والدعوة إلى الإسلام، وتأمين سبل الدعوة إلى الله، وبناء القوة المرهبة لأعداء الإسلام.
والإنسان في المشروع الإسلامي كائن مزدوج الهوية؛ فهو مكون من جانب
ترابي هو مصدر الشهوات، وجانب روحي هو مصدر السمو والقيم ومصدر ترشيد
إشباع هذه الشهوات بالشكل الذي يحقق الاعتدال وفق المنهج الإلهي، وهذا لا ينفي
حق الإنسان في الاستمتاع بالطيبات من الرزق، قال (تعالى) : [قل من حرم زينة
الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق] [الأعراف: 32] وقال (تعالى) :
[زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة
والخيل المسوَمة والأنعام والحرث.. الآية] [آل عمران: 14] .
ثالثاً: من جوانب الصراع بين المشروع الغربي والمشروع الحضاري
الإسلامي: مصادر المعرفة [11] ، ومصادر التوجيه والضبط بالنسبة لحركة ...
الإنسان في الفكر والعمل، وحركة المجتمعات في التنظيم والتخطيط وتحديد
الأهداف وتحديد الأولويات؛ فالمشروع الغربي بحكم ماديته وعلمانيته ينكر الوحي
وينكر كل ما يتصل بالغيب، ويثق ثقة مطلقة بالعقل الإنساني وقدراته الخارقة على
النفاذ إلى أدق أسرار الإنسان والكون والحياة، فهو قادر على تنظيم سلوكياته
وعلاقاته وتنظيماته ومجتمعه وعالمه دون حاجة إلى توجيهات سماوية أو غيبية،
واستناداً إلى هذا: انطلق يشرع ويصوغ القوانين في كل جوانب الحياة.
وفي المقابل: نجد المشروع الحضاري الإسلامي يؤكد على أهمية أحادية
الوحي مصدراً للمعلومات الصادقة، ومصدراً للتشريع الحكيم، ومصدراً للضبط
والتوجيه، في كل مجالات السلوك والعلاقات والنشاط البشري، مع فتح المجال
واسعاً للاجتهاد في مجال المتغيرات والمستجدات في إطار الثوابت الإيمانية
والمعيارية الحاكمة، والمشروع الإسلامي يؤكد على أهمية المصادر الحسية والعقلية
للمعرفة بوصفها مصادر بشرية ركز الوحي على أهميتها ووجه إلى ضرورة
استخدامها للوصول إلى السنن الحاكمة للكون والمجتمع والإنسان والتاريخ، للانتفاع
بها عملياً، إلى جانب زيادة الطاقة الإيمانية عند المؤمنين، والمشروع الإسلامي
يؤكد عدم قدرة الإنسان على التشريع لما يحقق له النفع الحقيقي لا النفع الوهمي،
النفع في الدنيا والآخرة لا النفع الدنيوي فقط، النفع لكل الناس لا النفع لجماعة أو
صفوة أو فئة أو مجتمع دون آخر.
فالإنسان في المشروع الإسلامي مخلوق خلقه الله بقدرات محددة لايتعداها،
وهو يسعى بحكم تكوينه الترابي وبحكم وسوسة الشيطان له نحو إشباع شهواته إلى
غير حد، وكل إنسان مهما زادت ثقافته وقدراته لا يستطيع التخلص من تجربته
الزمانية والمكانية، ولا أن يتخلص من المؤثرات التربوية والاقتصادية التي أثرت
على تنشئته الاجتماعية، كذلك لا يستطيع التخلص من القوى التنظيمية والسياسية
والمجتمعية التي عاصرها، ولا يستطيع التخلي عن المشكلات الاجتماعية
والعاطفية والجسمية التي يعاني منها، ولا يستطيع تحقيق الحيدة والنزاهة الكاملة أو
الموضوعية عند مناقشة أمور تتصل بالحاجات الإنسانية أو السلوكيات أو العلاقات
الاجتماعية..، ولا يستطيع الإحاطة بكل جوانب الموضوع المدروس، لكل هذه
الأسباب وغيرها فإن الإنسان في حاجة مستمرة إلى الهدي الإلهي وإلى المنهج
الرباني، ينظم له حياته وعلاقاته [12] ويحدد له الأولويات والأهداف والآليات
التي تحقق صالحه الحقيقي.. هذا المنهج بضوابطه وأحكامه وتوجيهاته لا يصادر
المصادر البشرية للمعرفة وهي الحس والعقل، ولا يصادر الجهد والبحث الإنساني
عن الحقيقة ولا يمثل عائقاً أمام انطلاق الإنسان ورفاهيته، وعلى العكس من هذا؛
فإن هذا المنهج يؤكد الفعالية الإنسانية ويستثيرها في إطار السلامة والاعتدال،
وحماية الإنسان من الانحراف والطغيان والفساد، ومن العبودية لغير الله. [13]
وهذا المنهج يحقق أقصى درجات العزة والكرامة للإنسان.. دون هذا المنهج تسود
الأنانية والصراع والتناقضات الطبقية والعرقية والدولية، وتسود الشهوات وتقنن
الانحرافات، ويسود الانحراف والشذوذ باسم حرية التعاملات المالية، أو حرية
استخدام الجسد، أو حرية العلاقات بين الجنسين أو بين أبناء الجنس الواحد، أو
حرية الإجهاض، وبعيداً عن المنهج الإلهي تختفي العفة وتختفي رقابة الآباء على
الأبناء، ويندفع الناس تحركهم الشهوات المادية وحدها، وتعد الضوابط الأخلاقية
نوعاً من التخلف الفكري المرفوض.
إن الوحي وهو المصدر الرئيس في المشروع الإسلامي يؤكد على وجود
عالمين؛ عالم الشهادة وعالم الغيب، وأن الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة يعبرها
الإنسان إلى الآخرة، وأن الحياة الدنيا هي فترة الاختبار والابتلاء، والنتيجة قد
تكون في الدنيا، ولكنها يقيناً يحصلها الإنسان في الآخرة، وفي ضوء هذا التصور
يصبح الإنسان مستعداً للتضحية بجهده وماله بل وحياته في سبيل حياة أخرى،
وبهذا الفهم يصبح الإنسان قادراً على ممارسة الكر والفر في حياته الدنيا وفق المنهج
الإلهي، وهذا ما يحقق المرونة والفعالية في الحياة الإنسانية، فهذا المشروع يحدد
للإنسان متى ولماذا يضحي، ومتى ولماذا يتوقف عن التضحية بالجهد والوقت
والمال والنفس.
والمشروع الحضاري الإسلامي يحقق نوعاً من أسمى أشكال التعادلية في حياة
وفعاليات الإنسان، فالعديد من آيات القرآن الكريم تحقر من شأن الدنيا وتزهد الناس
فيها؛ منها قوله (تعالى) : [إنما الحياة الدنيا لعب ولهو.. الآية] [محمد: 86]
وقوله (تعالى) : [وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور] [آل عمران: 185] وهذا
حتى لا يركن الإنسان لشهواته ونزواته وينزلق نحو الانحراف والفساد، وهناك
العديد من الآيات الكريمات تؤكد على أهمية الاستخلاف والعمل والعلم والتعليم وبذل
الجهد والإنتاج وتعمير الأرض حتى قيام الساعة؛ منها قوله (تعالى) : [هو الذي
جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ... الآية] [تبارك: 15]
وقوله (تعالى) : [هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها] (هود: 61) كل هذا
من أجل استمرار حركة الحياة وتحقيق مصالح الناس وإنفاذ مشيئة الله وإنفاذ
واجبات الاستخلاف في الأرض.
__________
(*) الكاتب أستاذ متخصص في علم الاجتماع مارس التدريس في جامعات مصر والسعودية، وله العديد من الدراسات المتخصصة، مثل (الدين والتنمية في علم الاجتماع) و (قضايا التنمية والتحديث في علم الاجتماع المعاصر) و (علم اجتماع التنمية) وغيرها ونحن نرحب به على صفحات البيان ونأمل تواصله في مقالات وأبحاث أخرى قادمة -البيان-.
(1) نبيل السمالوطي: الدين والتنمية في علم الاجتماع.
(2) علي سامي النشار: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، وارجع إلى دراسته بعنوان تاريخ التفكير الفلسفي في الإسلام.
(3) مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، الاتحاد العالمي للمنظمات الطلابية 1980 ص7.
(4) ارجع في هذا إلى: محمد سعيد رمضان البوطي: منهج الحضارة الإنسانية في القرآن.
(5) ارجع إلى دراسة تشارلس رايت ملز بعنوان صفوة القوة ودراسته بعنوان الخيال السوسيولوجي Sociological Immagination وارجع إلى الدراسات المذكورة في الكتاب الذي حرره وينر M Winer وهنتنجتون Huntington بعنوان تفهم التنمية السياسية Understanding Political development الصادر سنة 1987 عن دار نشر Little Brown وارجع أيضاً إلى دراسة جندزيير L Gendzier بعنوان التغير السياسي: العلماء والعالم الثالث Scientists and the Third World الصادر سنة 1985 عن دار نشر Boulder Co.
(6) ارجع إلى دراسة فهمي هويدي بعنوان (فقراء لا متخلفون) منشورة بجريدة الأهرام القاهرية بتاريخ 4/10/1994م ص9.
(7) نبيل السمالوطي: المصدر السابق.
(8) سيد قطب: في ظلال القرآن طبعة دار الشروق بالقاهرة، المجلد الأول ص53 (9) مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، ص5 - 15.
(10) محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص85 وما بعدها.
(11) راجع عبد الرحمن الزنيدي: مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام، وراجع عبد الحميد الكردي: نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة.
(12) يوسف القرضاوي: الحل الإسلامي فريضة وضرورة، ص9-41، وارجع إلى: منير شفيق: الإسلام في معركة الحضارة.
(13) عبد الفتاح عاشور: منهج الإسلام في تربية المجتمع.(86/41)
قطوف
وصايا نبوية
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب العلم ليُماري به
السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار) . وفي
رواية عن حذيفة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعلموا
العلم لتباهوا به العلماء، أو لتُماروا به السفهاء، أو لتصرفوا وجوه الناس إليكم. فمن
فعل ذلك فهو في النار) . وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (من تعلم العلم ليُباهي به العلماء ويجاري به السفهاء، وتصرف به
وجوه الناس إليه؛ أدخله الله جهنم) . عن صحيح سنن ابن ماجه، ج1، للعلامة
الألباني..(86/54)
مقال
دراسة المستقبل
- مدخل تأصيلي -
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
مدخل:
علم الإدارة من العلوم القديمة قدم الإنسان، أخذ أشكالاً وأنماطاً متعددة تختلف
باختلاف العصور والأنشطة، وهو حصيلة تجارب وخبرات متنامية للاستفادة من
الطاقات والموارد المتاحة البشرية منها على وجه الخصوص للوصول إلى أهداف
محددة بأسرع وقت ممكن، وأقل جهد مبذول، وأقل تكلفة ممكنة.
فعلم الإدارة وسيلة من وسائل ضبط العمل وإتقانه وتوجيهه الوجهة الصحيحة، ولهذا قال الكاتب فورست في تعريف الإدارة: إنها فن توجيه النشاط الإنساني.
ويعتمد الفكر الإداري لبناء أي عمل من أي نوع كان على العناصر التالية:
1- التخطيط. 2- التنظيم. 3- التوجيه. 4- الرقابة (المتابعة) .
فالتخطيط أحد العناصر المهمة لإنجاح أي عمل بشري، وهو يعني: التصور
المستقبلي المبني على الدراسة والتحليل للوقائع والإحصائيات الثابتة للعمليات
المستقبلية، ويكون عادة قبل التنفيذ [1] .
* ويشمل التخطيط ما يلي:
1- رسم الأهداف العامة والخاصة. 2- دراسة المستقبل (التوقع) .
3- رسم السياسات واللوائح. ... 4- تحديد الجداول الزمنية للتنفيذ.
5- دراسة الموازنات المالية المتوقعة.
فالتخطيط إذن وسيلة من وسائل بناء العمل على الدراسات والأبحاث العلمية،
وليس على أساس العواطف والرغبات الشخصية، وبه يعرف الإنسان إلى أين هو
ذاهب.. وما الطرق التي سوف يسلكها.. والوسائل التي سوف يستخدمها..!
وبهذا يتبيّن أنّ دراسة المستقبل أحد العناصر الرئيسة لنجاح التخطيط، حتى
إن الكاتب فايول اختزل علم الإدارة كله في هذا العنصر تأكيداً لأهميته وحيويته،
فقال في تعريف علم الإدارة: بأنّه النظر إلى المستقبل.
وفي هذه المقالة لن أتحدث عن عناصر الفكر الإداري، أو عناصر التخطيط، وإنّما سوف أخصصها لدراسة المستقبل وتوظيفه في العمل الإسلامي.
(1)
إن الدعوة الإسلامية من أجلّ وأشرف الأعمال التي تقوم بها الأمّة، وهي من
أولاها بالتخطيط والدراسة، وما لم تبن بناءً علمياً صحيحاً، وترسم لها الخطط
العلمية والعملية فإنّها سوف تبقى ذات أثر محدود الفاعلية زماناً ومكاناً، ولا يكفي
أن يكون العمل ناجحاً في مرحلة ما من المراحل، ولكن من المهم أن نحافظ على
ذلك النجاح وننميه بصورة مطردة.
لقد ولدت الصحوة الإسلامية المعاصرة في وسطٍ مُسْتَلَبٍ حضارياً وفكرياً،
ومتخلف إدارياً وسياسياً واقتصادياً، ورجال الصحوة جزء من هذه الأمة، ولهذا
امتدت إلى بعضهم العدوى لتصيب برامجهم التي تبنى على العفوية والارتجال
والاجتهادات الفردية المتخبطة، وتتأثر بردود الأفعال الآنيّة، وتنطلق من
أطروحات وعظية وتعميمات مبنية على فراغ علمي، والنتيجة المتوقعة إزاء ذلك:
ظهور بعض الإنجازات الغثائية الهشة التي لا تقوى على الثبات أمام الأعاصير
الفكرية والسياسية.
إنّ الدارس لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد أنّ خطواته المباركة في
كلّ مرحلة من المراحل الدعوية تسير وفق خطة محكمة مستبصرة؛ قال الله
(تعالى) : [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله
وما أنا من المشركين] [يوسف: 108] .
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى المستقبل دائماً حتى في
أحلك المواقف وأحرجها، فها هو ذا يقول لخباب بن الأرت لما شكى له الشدة التي
أصابت الصحابة في العهد المكي: ... والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من
صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم
تستعجلون [2] .
ويقول لسراقة بن مالك (رضي الله عنه) وهو يطارده يوم الهجرة: كيف بك
إذا لبست سواري كسرى؟ ! [3] .
ويقول وهو يحفر الخندق، عندما اجتمعت عليه الأحزاب: أعطيت مفاتيح
الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة.. أعطيت مفاتيح فارس، والله
إني لأبصر قصر المدائن أبيض.. أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب
صنعاء من مكاني هذه الساعة [4] .
والعجيب أن بعض الناس يبحث هذه النصوص ونحوها من زاوية واحدة فقط، وهي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، وأن هذا من
الغيب الذي أظهره الله عليه تأكيداً لنبوته ورسالته، وواجبنا التسليم والتصديق،
وهذا حق بلا ريب، ولكن لهذه النصوص زوايا وأبعاد كثيرة، من أجلّها: أنّ
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضع بين عينيه أهدافاً جليلة بعيدة المدى، ثم
استحث النفوس الحية والهمم العالية للوصول إليها، دون أن تصاب بالإحباط أو
اليأس لعارض طارئ من العوارض القريبة، فهي دعوة لتوسيع الأفق وتعميق
النظر والانطلاق إلى تلك الرحاب الواسعة لاستشراف آفاق المستقبل غير المنظور، ومن ثم: السعي الحثيث لاستثمار الحاضر بكل إمكاناته لبناء المستقبل وترسيخه
وإزالة عوائقه ومشكلاته.
إنّ سعة الأفق والنظر إلى المستقبل تجعل الإنسان يدرك تماماً: ماذا..
ومتى.. وكيف يعمل، فهو يتحرك برؤية واضحة وخطى مرسومة، وها هو ذا يوسف (عليه الصلاة والسلام) يرسم خطته الاقتصادية بالاستفادة من سنوات الرخاء المشهودة، لمواجهة سنوات الشدة المتوقعة؛ قال الله (تعالى) : [قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً ممَّا تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدَّمتم لهنَّ إلا قليلاً مما تحصنون]
[يوسف: 47-48] .
وإن شعار (المستقبل لهذا الدين) شعار صحيح بلا شك، دلت عليه الدلائل
الشرعية المتواترة، ولكنّه ليس شعاراً وعظياً، تحشد له القصص وتستثار له
النفوس فحسب، بل لابد من معرفة شروط التمكين وموانعه، والعمل على إعداد
الأمة وبنائها، ورسم الخطط المستقبلية الكفيلة بتيسير سبيل ذلك وإنجازه، فنصر
الله (عز وجل) لا يتنزّل على العجزة القاعدين؛ قال الله (تعالى) : [إن الله لا يغير
ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم] [الرعد: 11] ، قال ابن الجوزي: إن الله لا
يُغير ما بقوم من الكروب، حتى يغيروا ما بأنفسهم من الذنوب، فلا يكون التغيير
إلا بعد التغيير، فبظلمنا وذنوبنا صبّت علينا المظالم، وهكذا ينتقم الله من الظالم
بظالم [5] .
إن استشراف المستقبل ليس رجماً بالغيب، أو تعلقاً بالظنون والتخرصات،
أو اشتغالاً بالخيالات المجردة الهلامية، وإنما هو توظيف لمعطيات الماضي
(المدروس) والحاضر (الملموس) ومسبباتها، لتوقع نتائجها ولوازمها، ومن ثم:
رسم خطط العمل وتنظيمها بناءً على ذلك.
(2)
إذا أردنا للدعوة الإسلامية أن تنهض من كبوتها، وتقدم برامج أكثر فاعلية
ونماءً وتأثيراً في الأمة، فلابد من وجود مراكز بحثية جادة يستقطب لها أهل العلم
والبصيرة والخبرة، ليتم من خلالها: دراسة المستقبل وتغيراته المتوقعة، ورسم
الخطط وتنظيمها.
وتتم دراسة المستقبل بالمواءمة بين العناصر التالية:
1- دراسة النواميس والسنن الكونية، فسنن الله (تعالى) ثابتة لا تتحول ولا
تتبدل؛ قال (تعالى) : [فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا]
[فاطر: 43] ؛ ولهذا أمر الله (تعالى) بدراستها والاعتبار بها: [قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين]
[آل عمران: 137] .
2- دراسة تاريخ الأمم وتجارب الشعوب والدول في قديم الدهر وحديثه؛
ففيها عبرة وعظة لكلّ معتبر، ولهذا قصّ الله (تعالى) لنا قصص الأمم الغابرة،
وقال: [لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن
تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون]
[يوسف: 111] .
3- دراسة وتقويم تجارب الحركات الإسلامية المعاصرة بكلّ تجرّد بعيداً عن
التعصب لها أو ضدها، والحذر من عقدة التفرد والتميز التي قد تصاب بها بعض
تلك الحركات التي تؤدي في الغالب إلى الدوران حول الذات واعتقاد الكمال
(الزائف!) ، وتقزيم الحركات الأخرى، ومن ثم: إهمال تاريخها وتجاربها، مع
أنّ الحكمة تقتضي دراسة حتى الحركات التي نرى أنّها هزيلة وذات تجارب ضعيفة، لكي لا نقع فيما وقعت فيه، والسعيد من وعظ بغيره.
4- دراسة الإمكانات والقدرات المتاحة الموظفة والمستثمرة حالياً، أو التي
يمكن توظيفها مستقبلاً.
5- التعرف على مواطن القوة لاستثمارها ودعمها، ومواطن الضعف
لتصحيحها وعلاجها، ويتطلب ذلك مكاشفة بينية في غاية الوضوح والصراحة،
بعيداً عن المجاملة أو التسويغ.
6- دراسة الاحتياجات الآنيّة التي تتطلبها المرحلة الحالية، (الأهداف
القريبة) .
7- دراسة التطلعات والطموحات المستقبلية (الأهداف البعيدة) ، من خلال
الإمكانات والقدرات المتاحة، ومن ثم: السعي إلى التوفيق بين الأهداف القريبة
والبعيدة، بحيث يكمل بعضها بعضاً ولا يطغى جانب على جانب آخر.
8- ترتيب سلم الأولويات العلمية والعملية بمقتضى النصوص الشرعية
ومتطلبات الواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية.
9- دراسة الظروف المحيطة، والتحديات التي تواجهها الأمّة، والعقبات
المتوقعة من داخل البناء أو خارجه والحذر من داء التبسيط المفرط للمسائل الذي
يؤدي غالباً إلى الغفلة والتهاون وعدم المبالاة، وداء التصعيب المفرط الذي يؤدي
إلى تعقيد المسائل وتضخيمها حتى يصاب المرء بالإحباط واليأس، وهما اللذان
يُعبر عنهما الأستاذ مالك بن نبي بذهان السهولة وذهان الاستحالة..! ! .
ويضمن ذلك نسبياً حساب المواقف قبل وقوعها، ومعرفة البدائل الممكنة،
ممّا يجعل تقدير القرارات أكثر دقة وفاعلية.
وبهذا التكامل والشمول تتحرك الصحوة الإسلامية وفق خطط علمية محكمة
مدروسة، تنتقل فيها الدعوة من مرحلة إلى أخرى، تتفادى أو تستعد من خلالها
للأزمات المفاجئة، وتساهم مساهمة فاعلة في صناعة الأحداث وتوجيهها، ولا تقف
دائماً موقف ردود الأفعال التي تفرض عليها فرضاً..! ! ؛ قال الله (تعالى) :
[وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله ... وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم] [الأنفال: 60] ، وقال (تعالى) : [يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثباتُ أو انفروا جميعاْ] [النساء: 71] . ...
وعلى الرغم من إدراك كثير من الإسلاميين لخطورة هذا الأمر وأهميته، إلا
أنّ التفاعل العملي مع هذه الحقيقة يسير بتثاقل وتباطؤ غريب..!
إن كثيراً من الدعاة يُستهلكون في الأمور الوقتية والأعمال اليومية وهي من
الخير إن شاء الله ولكنهم لا يجدون وقتاً لتقويم أعمالهم وتاريخهم، كما لا يجدون
وقتاً لرؤية ودراسة مستقبلهم، وقصارى ما يفعلونه النظر تحت أقدامهم.
وإن مستقبل الأمة له علاقة وطيدة بإعداد الأمة وتربيتها تربية شرعية متكاملة، فإلى متى يستمر مصير الأمة ألعوبة بأيدي الساسة الذين ينظرون إلينا بازدراء
شديد ومهانة، ويمارسون في حقنا مختلف ضروب الاستبداد والتعسف،
ويستخدمون العصا الغليظة التي تُلهب الظهور، بل وتقطع الأعناق..! !
إن عملاً جباراً ضخماً مثل العمل الإسلامي الذي يُراد منه انتشال الأمة،
الأمة كلها، من حمأة الجاهلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. ونحوها لا يقوى عليه
آحاد من علماء الأمة ومفكريها مهما بلغت إمكاناتهم وقدراتهم، كما لا يقوى عليه
فصيل واحد من فصائل العمل الإسلامي مهما بلغ مفكروه وقواعده وجماهيره؛ فهو
يحتاج إلى جهود جبارة تُستنفر لها كل الخبرات والطاقات المتوافرة، أو التي يمكن
توفيرها، وتوجّه بخطط مدروسة وأعمال محكمة؛ قال الله (تعالى) : [أفمن يمشي
مكباً على وجهه أهدى أمَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم] [الملك: 22] .
__________
(1) الإدارة في التراث الإسلامي، محمد البرعي وعدنان عابدين، ص25.
(2) أخرجه: البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (6/619) ، رقم (3612) وفي كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- من المشركين بمكة (7/164 165) رقم (3852) .
(3) ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (2/120) وابن حجر في الإصابة (2/ 19) ، وفي إسناده نظر؛ انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله أحمد (ص280) .
(4) رواه أحمد والنسائي بإسناد حسن كما قال ابن حجر في الفتح (5/280) ، والطبراني في المعجم الكبير (11/376) ؛ انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (ص448-449) .
(5) انظر: أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب، محمد محمود الصواف، ص7.(86/55)
الملف الأدبي (نصوص شعرية)
أهازيج
دماء اليقظة
تركي المالكي
القصيدة:
قدّمَ لي أشلاءهُ طريةً..
مغموسةً بالحزنْ!
أوقدَ لي مشاعلَ العينينْ
غارين تنزفان آلامَهما..
وتنبضان رغمَ ثِقْل الوهْنْ!
تلوحُ في عمقهما..
بلدتُه التي هوتْ..
قوتُه التي وهتْ..
أحلامُه التي استحالتْ..
نُتَفاً من عهْنْ! !
* * *
أنظرُ بالبرودة المعتادةْ
يُثيرني..
(أحفرُ في ذاكرتي! ..
لا ألتقي متسعاً للحفرْ
أوقفتُني؟ ! أوقَفَني؟ !
سيانِ إذ قد عدت بالخفينِ
لا بالسر
صفراً تجرّ الصفرْ)
لكنما.. يعلقُ بي..
من رحلتي سؤالْ
أقذفُه كطلقةٍ..
بدايةَ اشتعالْ! :
من أنتْ؟
عضو شوتْه الحُمّى..
تحتَ جحيم قصفهم تداعى
يفرشُ جسرَ دمهِ..
ينسجُ من أشلائه شراعا!
يسري إليك منهكاً مراعا
(يُشعلُني يمنحني آليةً للحفرْ!
تنبضُ في الحمّى..
أُبصرُني أمخُرُ بحرَ السرْ
أَقْلبُ وجهَ (جروزُني) ..
تَشِفّ من خلاله بخارَى!)
أقرأُ فيه نبضَ (داغستانَ)
وجهَ شاملٍ
ووهجُهُ يُقاومُ (الثلوجَ) و (الحيارى) !
دهشةَ حمزاتوفَ مصلوباً
تشُدّ عنقَه (رفاقُه) النصارى!
أحضنُ حزن صاحبي
يسبقني فمي..
كلمعة الضياء في مغارةٍ..
وكلّ حرف وقدةٌ..
يضجّ في أرجائها دمي:
تعالَ أنت مني..
دماك هذي تنتمي للفجرْ!
تعال وادرعني..
نكون نبتتين تثمران لو..
بعد عقود زهرْ..
ونَبْعةً ونصرْ..
وتمزجان بذرةَ الجهد بماء الصبرْ!
يَسْكنُني..
نصيرُ جسماً واحداً..
فبعضُه لبعضه تداعى! !
* * *
تَلقيات:
صوت 1- قصيدةٌ كالشمسْ.
صوت 2- أهزوجة لم تنغمس في الهمسْ.
صوت 3- جديدةٌ.. خيالُها يفتح لي نوافذاً..
ألحانُها تحملُني..
فوق بساط الجرسْ.
صوت 4 -................ . سْ.
* * *
إفاقة خارج النص: (جروزُني) ..
ما بين أحلامي وقصف الأمسْ
تستقبل الصباح بالجراحْ!
ما بين أشعاري وبرد الرمسْ..
تعلم عني أنني..
أنزف في الحبر رؤى
وحُلُماً.. ونَفَساً مشتعلاً من نَفْسْ! !
أما يدي فالقيدُ في معصمها! ! ..
يحولُ ما بين يدي..
والقوسْ! !(86/64)
كتابة
الكتابة بوصفها فعلاً
بحسبها مقاومة
د. مصطفى السيد
إن المجرمين إذ يطالعون النص المكتوب، فإن براعته وقوته تفعل في
نفوسهم وعقولهم فعلاً فاتكاً وإذ هم على الفور يفصحون عن سوء ما صنعوا، وقد
يُقلعون عن سوئهم أيضاً.
ليس على الأرض أخطر ولا أقوى من كاتب يعيش من أجل فكره، فهو
يُركز كل وجوده في فكره كما تتركز أشعة الشمس في عدسة ليستطيع أن يُحْدث
مثلها نوراً وهّاجاً ساطعاً.
تُعَدّ الكتابة في عصرنا بل وفي كل عصر إحدى أهم الوسائل التي يمكن من
خلالها قراءة مجتمع ما بتفاصيله وهمومه؛ تقرأ حياة الناس اليومية وأحلامهم،
وتحاول أن تشير إلى مواضع الخلل والألم، لأنها لا تخاف القضايا الساخنة أو
الحرجة، وإنما تلج إلى أعماقها، والكتابة حين تنهض بهذا الدور تقول الكثير،
وتعطي الكثير، إذ تصبح كالمرآة التي يرى الشعب فيها نفسه، والإنسان حين يرى
نفسه بوضوح لابد أن تتحرك طاقاته ومشاعره ليصبح أكثر وعياً. هذه إحدى
الرسائل التي تتطلع الكتابة إلى توصيلها لأن النص المكتوب ليس إلا رسالة باتجاه
القارئ، فإذا فقد مضمونه الجاد ألغى نفسه وقارئه.
إن إيماننا راسخ بأن الكتابة قوة خفية آسرة، تدفعنا إلى الاكتمال الصعب في
مواجهة النقص الملازم للعاجزين والكسالى، إنها الملاذ الذي نشيده لنرفع به القبح
والحصار والتشتت، وكم هو مدين الكاتب لهذا الإيمان الطامح الذي يدرأ عنا بفضل
الله الكثير من الأذى الذي يواجهنا.
إن الكتابة الأصيلة يكفيها أن تحول بيننا وبين الكتابة التي تكون حسب
الحجوم والأيام والمناسبات والمواسم.
الكتابة هي الهوية الفكرية للإنسان المثقف يُثبِتُ من خلالها وجوده، ويُبرز
عبر سطورها حضوره، هو يكتب فهو موجود، ولئن كان ميلاد الإنسان اللغوي
يَثْبُتُ بالكلام، فميلاده الفكري يُثَبّتُ بالكتابة.
والكتابة الصادقة تمتزج بمواقف الإنسان امتزاج الدم بالشريان وهي ليست
بياضاً في سواد، وصحفاً تقرأ أو لا تقرأ، بل هي شهادة على العصر، واستكشافٌ
لسبل التوصيل والتواصل مع طائفة من الناس جعلت من الحروف قَُوْتَها وقُوّتها،
تبتهج بالنص الجديد المضمخ بطيوب الواقع لا المتضخم بالحديث عن زائف الفواقع، النوازل المفجعة.
الكتابة الصادقة جُهْدٌ وجهاد لأنك:
لا تستطيع أن تكتب خارج دمك
نعبر النهر فنشمر عن سيقاننا
في الكتابة
لابد أن نشمر عن أرواحنا
لأن الكُتّاب الذين خافوا
أصبحوا كتبة
والشجعان مع الكرام البررة
عندما يضحي الكاتب بسلطته يغدو كاتبَ السلطة، كاتب الوظيفة والارتزاق
لا كاتب المواجهة والاستشهاد.
قال الإمام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : وتجد أئمة أهل العلم من أهل البدعة
والفرقة ... يصنفون لأهل السيف والمال من الملوك والوزراء ويتقربون إليهم
بالتصنيف فيما يوافقهم [1] .
مثل هذه الكتابة تكون كتابة اللحظة الطارئة بأعراضها وصدقها الواقعي،
ولكن أبعد ما تكون عن أن تعكس جوهر اللحظة وترسباتها السياسية والفكرية
والفنية التي تمنحها بقاءً شبه أبدي خارج اللحظة التي أنتجتها.
مثل هذه الكتابة مهضمات فكرية وليست غذاء، تمارس فيها عمليات
التنظيمات والتشذيبات الداخلية للخطاب، التي تنتهي في ظل ظروف من الإقصاء
وضروب من الاستعباد إلى إقامة مساحات الصمت والإضمار، وساحات من
الإفصاح والإعلان تحكم ما يجب أن يقال، وما يخضع للتجديد والكشف والابتكار
وما يتبع نظام التعقيب والتبرير والتكرار.
هذه الكتابة: تحصيل حاصل، كلام دون إشارة، قول دون دلالة، أصوات
بلامعان، كمٌ دون كيف، بدن بلا روح، مياه راكدة دون مصب، تنشد الأمان
والسلامة، مهنة رسمية، تمّحي الشخصية فيها، لا تتغير من زمان إلى زمان، ولا
تتبدل من مكان إلى مكان، ولا من شخصية إلى شخصية، ولا من قضية إلى
قضية.
هذه الكتابة: أدت إلى تضاؤل الاهتمام الشخصي والشعبي وفقدان الثقة في
الكاتب والمكتوب على السواء.
أما الكتابة الجادة فقد تفتح على المرء أبواب الجحيم عندما تلقي به بين أشداق
النقاد الذين لا يرقبون في مخلص إلا ولاذمة، ولكنها تبقى الكتابة التي تروي حقول
الانتظار بقطرات الأمل لأنها تهطل على النفوس بأشعة الوعي، فإذا لامست شغاف
القلب اهتزت وربت وأنتجت من تجاوب القراء بقدر ما تحمل من عناء الكاتب
وعنايته.
هذه الكتابة والموت فرسا رهان وقرنا ميدان، لأنها شهادة لله وشهادة على
الناس وشهادة في سبيل الله، حسبها من الأثر الحميد إشاعة تيار جديد من الأفكار
الحقيقية الصادقة، إنها ليست فن ارتياد إمكانات اللغة فقط، وليست كذلك دخول
الأبواب المفتوحة، بل فتح الأبواب المغلقة والعقول المقلقة أيضاً.
هذه الكتابة: لا تقف عند حدود التفسير فقط، بل تستشرف تخوم التغيير،
وآفاق الغد، لأنها ليست حذلقة فكرية، تدعي وجود عمق مفقود، أو تغطي خواءً
مشهوداً.
هذه الكتابة: يكون الكاتب فيها هادياً ومعلماً، ولا تكون منازلة في معركة
(دونكوشوتية) وهمية، إنها النص الضد لكتابة التسلية التي رفضها الكاتب الذي
صرخ مستقيلاً من قيودها.
سيداتي آنساتي سادتي:
سلبتكم عشرين عام
آن لي أن أرحل اليوم
وأن أهرب من هذا الزحام
وأغني في الجليل
للعصافير التي تسكن عش المستحيل
ولهذا: أستقيلْ.. أستقيلْ.. أستقيلْ.
الكتابة المسلية تطرد بحروفها قطرات الأمل لتؤسس لعبودية فكرية عمادها
نصوص تُرَص ولا تقول شيئاً، تسد خلة الكاتب إلى الشهرة الكاذبة وسحت المال،
وتسد عقل القارئ ونفسه لما حوته من ثقافة السخافة، وسخافة الثقافة.
الكاتب العضوي المنتمي إلى عقيدة الأمة لا يضع قلمه في يده فقط بل وفي
قلبه أيضاً، يفعل ذلك ليواجه كتائب المرتزقة، وفصائل ذوي الجعائل ممن
يقبضون أقلامهم عن نُصرة الحق وأهله، ويطلقونها تنهش في أعراض الرجال.
عندما نكتب يجب أن نكون نحن، وليس مصالح الآخرين المزيفة معكوسة
فينا، يجب أن نكون صوت من لا صوت له.
(عندما يخرس الإنسان في بلائه
يمنحني الله قدرة التعبير عن شقائه) .
إن من اضطر غير باغ ولا عاد أن يقول ما لا يقال، وأكْرِه وقلبه مطئمن
بحب الخير وأهله فلا تثريب عليه إن شاء الله، أما الذي يتبرع بالخضوع ويَطّوع
بالخنوع، فلن تقبل معاذيره، لأنها من لاغية القول، وسيحمل من أوزاره ومن
أوزار من يضلهم ما شاء الله له أن يحمل.
الكتابة حقاً لا تنفي ولا تصادر بل تحاور وتتسع لوجهات النظر، ولا تبتزّ
الخصوم بكل ما في المعجم من سوء الألفاظ والألقاب لأنهم خالفوها الرأي.
هذه الكتابة تحاور فتنقل المتلقي إلى آفاق أوسع، ولا تراوح مكانها، لأن
كاتب المراوحة لا يسطيع بدون تاء أن يَضُخّ في عقول القراء مبادئ المعرفة التي
توسع مداركهم إلا إذا كان تعلم بدوره مبادئ الحرية والأخلاق والتسامح والترفّع،
ففي ظلال هذه القيم الأربع يصبح الالتزام والحرية شيئاً واحداً وقيمة عظيمة أيضاً،
وتجعل من القارئ الذي ينتظر هذه المعرفة الطازجة شريكاً مهماً في محاولة
التأسيس لجيل متحضر شاهق الجباه ومن الأسْد الأباة، هدفه مقاومة السلبية
واللامبالاة التي سُجن في أبهائها وردهاتها كتاب كُثْرٌ ممن قَوْلَبوا المجتمع عبر
الكتابة المدجنة والأفكار المهجنة في أنماط من التفكير هشمت آمال الأمة وهمشت
دورها.
إن الكتابة التي تصادر فيها حرية الكاتب هي المدخل المؤدي إلى مصادرة
حرية الوطن والفكر معاً، وتقييد الكتابة يؤدي بشكل طبيعي إلى تدمير الوطن
والمواطن.
إن الكتابة التي تؤسس للحوار الهادف المسؤول وليس للهتاف المتحمس
المتهور هي بفضل الله ضمان مستقبل أفضل، والحوار مهما بهظ ثمنه واحتد
صوته يظل أرخص من نقطة دم تسفك وطي كشح على حقد.
إن حصار الكاتب رغبة أو رهبة ينتج حكماً وحتماً طبقة من الكتبة المدربين
على تقديم المعلبات الثقافة والأدبية والفكرية؛ يقدمونها بعد أن انتهت مدة صلاحيتها
لتصيب عقول القراء بالشلل، ولتنتج بالتالي ثقافة عاقراً عقيماً عبر مضغ الناس
ثقافة اللا أمة واللادور واللاقضية.
في مناخ المصادرة يقرأ الكاتب (النشرة الجوية) للكتابة ليتعرّف اتجاه الريح،
فإن كان عصر الاشتراكية فكراً وأدباً عكف على سير أعلام الخبثاء: ماركس/
انجلز/ ولوي التوسير (أحد كبار مفسري الماركسية في فرنسا قضى قبل سنتين)
وجاستون باشيلار، وتيري آجلنتون (ناقد إنجليزي ماركسي) / وبيار لوكاتش/ ولو
سيان جولدمان (من كبار نقاد الأدب الواقعي والماركسي) .
وإني لأقسم بكل قسم مباح وبكل يمين يعظم به الرب (سبحانه وتعالى) أن مثل
هؤلاء الكتاب في ظل الظرف السابق يصبحون يساريين؛ فيكتبون عن كل السابقين، ويمسون إذا اتجهت بوصلة السلطة إلى الإسلام إسلاميين فينشرون سيرة الإمام
الشافعي (رحمه الله تعالى) ويحدثونك عن شيوخه مثل مالك ومسلم بن خالد الزّنجي
ويتكلمون عن أصحابه وطلابه والمتمذهبين بمذهبه مثل القفال والربيع راوي الأم،
والنووي، والرسالة في الأصول، والشافعي في بغداد، والشافعي في القاهرة ...
إلخ، هؤلاء هم كتاب النشرة الجوية.
وأخيراً: فستبقى النصوص التي ينتجها كل كاتب بمفازة من الاهتمام وبمبعدة
عن القراء ما لم يُدخل العالَم بفتح اللام الأخيرة بوصفه نصاً والواقع بوصفه نصاً
أيضاً مالم يدخلهما في نسج الكتابة، وستظل كتابته محدودة الأمداء مالم تكن ذات
فضاء وأفق شاسع.
وإذا ما نفى الكاتب موضوعية الآخر بهوى النفس، واختزل العالم بفقهه
الخاص، ونقل الإبداع من حوار بين الكاتب والناس إلى حوار بين القلم الأخضر
وقوى الابتزاز والقرصنة بكل صورها فإن الكتابة حينئذ تكون قد فقدت مشروعها
ووأدت طموحها.
__________
(1) الاستقامة ج1 ص43 ت/ د محمد رشاد سالم.(86/68)
نصوص شعرية
السحاب في معتقل القيظ
علي الغامدي
شفتان مرهقتان من وجعين قد دهماهما! ..
وجع السؤال المرّ.. مع وجع الجوابْ! !
فالقيظُ أشعل نارهُ
وبنى مدائن للسرابْ
قيظٌ تربعّ في العيون وشدّ أرقةَ العذابْ!
جمع المعاول ثم علّمها الخرابْ! !
ويداه تمتهنان زرعَ العقم في رحم الترابْ!
كم ظلّ يحلم أنه سيشيد معتقلاً ليُسكِنه السحابْ..
فالقيظُ غايته الخرابْ
مازال يخدعه السرابْ
شفتان والينبوعُ وارتْه السلاسلُ والقيودْ..
والقيظُ فجّر سوطَه ينبوعَ دمْ!
رصفتْه أشلاءُ الأباةْ
لم تسمع الجدرانُ رغم السوط آهْ! !
فتعلمتً معنى الحياة
والسوط لا يدمي سوى كبد البغاةْ!
أصغى الجدارُ لعله يحظى بآهْ..
فبكى وسالت دمعتاهْ:
ما المجد إلا للأباةْ..
حتى وإن مكث الذبابُ هنيهة فوق الجباهْ.
شفتان والأقدام تفترش العظامْ..
همجيةُ الأقدام تجتاح السنابلَ في انتقامْ!
وتجاهلتً أن السنابل لا تموتْ..
من كل سنبلة سينبت ألفُ سنبلة ويخضَرّ الحطامْ! !
وغد السنابل لن يفكّ لثامَهُ غيرُ الحسامْ!
لا نفع من جيش الكلامْ..
مالم يُسطّرْهُ الحسامْ
في الفجر تنتفضُ العظامْ..
لتهزّ أفئدةَ الطّغامْ
في الفجر يحلو الإبتسامْ
شفتانِ والرسخ اختفى والقيدُ ملّ..
وقوافلُ الكلمات ألهبَها الحصارْ..
حتى غدتً في لجة الأمواج للساري فنارْ!
نور ونارْ
والنار في الظلماء تزداد استعارْ
والنور لا يخبو إذا ما اشتد في الليل الحصارْ
فالنور ناصية النهارْ!(86/75)
متابعات نقدية
في التحليل الشعري ...
دخان الصمت
أيمن علي
ما أجمل الشعر إن صدر عن نفسٍ شاعرةٍ، تتلمسُ مآسيَ واقعٍ مريرٍ يُزْجي
الحزن بنغمة تتسللُ لنفس قارئها، فيتحد القلبان وتتساقطُ دموعُ ألمٍ بين شاعرٍ عاش
لأمة سادَتً قروناً، وقارئ وجدَ بغيته في كلمات عرفها قلبه وعجز عنها لسانه.
وها هي قصيدة الأستاذ (عبد الوهاب الزميلي) دُخان الصمت تقفُ بالقارئ
على واقعٍ تُعُلّمَ فيه الصمتُ، وخِيفَ الكلامُ عنه، فبدَتً كلماتُهُ دخاناً تعبر عن
صمت خانق بشيء غير مرئي، خوفاً من فضيحة الكلمات في زمن صُودِرَتً الكلمةُ
فيه.
بدأ شاعرنا أبياتَهُ بثنائية النحات والمنحوت، فالنحات يمثل القوة المتصرفة
كيفما شاء ودونما مساءلة، والمنحوت يمثل العجز بتبعية مطلقة لا تعرفُ إرادةً غيرَ
إرادةِ صاحبها.
وإذا تأملنا الأفعال التالية في أبيات المجموعتين (أ، ب) (تحفر، ترقش،
تلون، تسرب، تسك، تسقى، تثقب، يخنق، نجد صفات هذا النحات الذي صب
جاهليته بكل معانيها في منحوتاته، حتى لا تَخْرِمَ منها شيئاً، فَنَقَشَ في الأحداق
حتى لا ترى إلا ما يريد، وأفسد الدم بالحبر فتغيرت المشاعر، فلم تَعُدً تمثل فكر
أمة، بل باتت تفكر في طعامها وشرابها فحسب، لأن النحات حفر في جماجمها فماً
حراّ! حراً يأكلُ ويشربُ ما يشتهي ويحب، يخلو من أي مبدأ أو عقيدة، وتفنن في
تزيين عظام الصدر ليخنق الإيمان إن استطاع ليجعله ليلاً يمحو به الفجر!
والنقش من أقوى وسائل النحات ثباتاً واستمرارية، وقرن معه الرقش
والتلوين ليزيده خداعاً وجمالاً.
وفي أحداقنا نقشوا وصبوا في الدم الحبرا
يدُ النحات تحفرُ في ... جماجمنا فماً حراً
ترقّشُ [1] في عظام الصدر ليلاً يقضم الفجرا
وبعدَ هذا الواقعِ الأليمِ والتغاير بين صفات النحات المبادر الدؤوب المغير
وبين صفات المنحوتات المستسلمة الضعيفة، ينقلنا الشاعر من تلك الثنائية
الصغيرة إلى دائرة التاريخ الواسعة بشقيها: شق الحق وشق الباطل، وبعبارة
أخرى ثنائية الصراع التاريخي بشقيه: شق يغوث ونسرا وشق معركة بدر التي
فرقت بين الحق والباطل، فشعور النحات بخطورة التاريخ الزاخر بموروثات الدين
والعلم والوعي، أملت عليه تزوير صفحات التاريخ حتى وإن اضطر لتغيير البحر
على ما فيه من صفاء واتساع ووضوح، بل حق وإن صوّر الألام أفراحاً،
والهزيمة نصراً والكفر إيماناً ...
تُلَوّنُ صفحةَ التاريخ ... والآلامَ والبحرا
ولم تَسْلَمِ الأطفالُ من يد النحاتِ التي غذتهم على مر السنين بأنه الشهم العفيف، ولم تَسْلَم الأزهار أيضاً على ما فيها من فطرة وجمال، فأبدلها بأشواك القبح
والهموم والشقاء، بل سقى الشوك خمراً إمعاناً في الضياع واستبدالاً لفطرة الله؛
يقول الشاعر:
تُسَرّبُ [2] في رؤَى الأطفال ... شهماً يخنق الطهرا!
تَسُكّ مسامعَ الأزهار ... تَسْقي شوكنا خمرا
ولما كانت الأمة ترى في معاركها ومنها معركة بدر النور والهداية والطريق
إلى الخلاص من الظلم، ثَقّبَ النحاتُ كل ذاكرة اتصلت بتاريخها ودينها ومبادئها،
لتبقى عارية عن الفكر كما أراد لها.
تُثقّبُ كُلّ ذاكرةٍ ... رأتً في بدرِنا البدْرا
وأما صفات المنحوتات فتوضحها الأفعال التالية في المجموعة الثالثة (ج) :
نجري، نعرى، تطقطق، تقرض، تنشج، نغمس ... من: سلب للإرادة
واستسلام، وخوف، بل جريان خلف الزور بجميع أشكاله ومعانيه من: نفاق
اجتماعي، واقتصادي، وتاريخي، وثقافي، وسياسي.
وَنَجْرِي في خِضَمّ الزور ... وفي أحضانه نعرى
فيوحي الفعل نجري بكثرة النفوس المريضة، والزور هو تزويق الكلام
وتحسينه في الصدر، فكم من غافل تسابق لقول الزور والعمل به من أجل حياة
تافهة دنيئة، كما توحي به كلمة نعرى، فالشقاء يسببه الناس لأنفسهم لطواعيتهم
المطلقة للنحات ومساعدتهم له.
ولقد تنوعت أماكن التغيير التي أحدثها النحات، ففي الأحداق، الدم، الجماجم، الصدر ... مما أدى إلى قطع الجسر؛ جسر العبور إلى التاريخ والتراث، الجسر
الذي يربط الأمة بدينها وحضارتها، وما تملك إلا النشيج كالصبيّ الذي يبقى بكاؤه
في صدره عجزاً وخوفاً.
وما كانت يدُ النحاتِ لتنجحَ لولا انغماسٌ في شهواتٍ زائلة زائفة، فاستنشق
الناسُ الذهبَ والفضة بدلاً من استنشاق الحرية التي نَعِمَ بها أجدادُهُمً قروناً.
تطقطقُ في مفاصلنا ... نِمالٌ [3] تقرضُ الجسرا
وتنشجُ في حناجرنا ... حروفٌ تلعقُ القهرا
ونغمسُ في مناجمنا ... معاطسُ [4] تنشق التبرا [5]
لقد أظهرتً الأبياتُ الغلبةَ للنحات، ورغم ذلك ما يزال الأملُ يحدو الشاعرُ
من بداية القصيدة، فيد النحات:
ترقشَ في عظامِ الصدر ... ليلاً يقضِمُ الفجرا
فالقضم: الأكل بأطراف الأسنان، عكسه الخضم: الأكل بالفم كله، فبين
الشاعر حرص النحات على إطفاء الفجر، ولكنه عاجزٌ لا يتخذُ وسيلةً سوى القضم، فالفجر ما زال مركوزاً في النفوس حتى وإن قُضِمَ أجزاؤُهُ، وكذا قوله:
تَسُك مسامعَ الأزهار ... تسقي شوكنا خمرا
فالسّكُ: التضييق والانسداد، فهو وإن ضيّق النور، وحاول منع الهداية فإنه
لم يستطع القضاء عليها.
وحتى مع استسلام المنحوتات جرياً وراءَ الزور، ومع سيطرة النحات على
الجوارح، نجد الأمل بين كلمات الشاعر حيث يقول:
تطقطقُ في مفاصلنا ... نِمالٌ تقرضُ الجسرا
والقرض: القطع، فقرضُ النملة مع كونه بطيئاً لا يكون هدماً شاملاً،
فالباطل وإن أثرّ في بناء الأمة عجز عن هدم كيانها.
وتأتي اللوحةُ الأخيرة من أبيات المجموعة (د) متمازجةً مع خيوطٍ ضعيفةٍ
سَبَقَتْ، لتتجمعَ في بوتقةِ أملٍ واحدةٍ تتضادّ مع سابقتها تجربة النحات بالإمكانات
والنتائج.
ويطوي في ثنايا الرمل ... نبضٌ ينبتُ الجمرا
يفض التل ينفذ في ... عروقِ الموتة الكبرى
يُدهدهُ ما تحنطه ... وتلقمه فم المجرى
حروفُ يغوث وارتجفتْ ... لتعبدَ ربها النسرا
فإمكاناتُ النحاتِ كبيرةٌ ومواهبه متعددة، ولكن سرعان ما تهدمت أصنامه
وسارت مع النهر لتصبح سراباً، لأنها لم تتبلورً من أفكارِ أمةٍ أو من تضحيات
أثرت في واقعها، وإنما هي زخرفات تعلمها النحات (يغوث) من ربه النسرا الذي
لا يضر ولا ينفع.
وأما إمكانات الأمة المادية فهي قليلة، ولكن رصيدها المعنوي متصل بأنبيائها، فمهما توارى الحق بالتراب فمن ثنايا الرمل مكان الرسالة الأولى تنبت حياة
الوعي، لتهدم ما تحنطه يد النحات فينتصر تاريخ أمّه قهرت أعداءها قروناً.
__________
(1) تزخرف وتزين.
(2) تملأ، ويقال: سربت إليه الشيء: إذا أرسلته واحداً واحداً.
(3) جمع، مفرده نملة.
(4) مفرده معطس وهو الأنف.
(5) فتات الذهب والفضة قبل أن تصاغ.(86/78)
نصوص شعرية
الأمل والعمل
علي الحجي
مَن قضى العمر كلّه ... لم تصادفه معضلاتْ؟
كفكف الدمع يا أخي ... هذه سنة الحياةْ
ليس يجدي بكاؤنا ... إنما الصبر والثباتْ
إن تدعً ساحة الرّماة ... لا تدعً نخبة الكُماةْ
اطرح اليأس جانباً ... واتخذ مئزر الثّقاتْ
واصل السير عازماً ... مُبعداً حاجز البُغاةْ
حاول البدء واعياً ... لا تقل: إنه المماتْ
وارفع البيد ناهضاً ... والتباشير مشرعاتْ!
قد تقوّي قلوبنا ... عارضات ومشكلاتْ!
وهي تطهير آثم ... وهي أجرٌ مع التّقاةْ
خالقُ الليل موجدٌ ... يقظةً تعقب السباتْ
أحسنِ الظنّ فالمُنى ... أمهاتٌ لها بناتْ!
هل هموم تعوقنا ... إن بدأنا من الفَلاةْ
كالذي ليس عنده ... غير بحثٍ عن النجاةْ
فهو يسعى محاولاً ... وائداً حالة الشّماتْ
آملاً في نجاحه ... عزمُه يجمع الشّتاتْ
لو شكا من ضياعه ... بات في قبضة الشّكاةْ
إن تحقّق صغيرةً ... فالبساتين من نواةْ
ثم تُضحي فسائلاً ... زاهياتٍ ورائعاتْ
ثم.. تُمسي خمائلاً ... والعناقيد مثمراتْ
عثرة الممرء دُربةٌ ... ربنا كامل الصفاتْ
ما التفاتٌ إلى الورا ... بالذي يوصل السّعاةْ
ما ارتماءٌ على الثرى ... بالذي يُنقذ الحُفاةْ
نشوة اللحن رقصة ... في قلوب بها حياةْ
وفق معيار عازفٍ ... ينحت الحرف أغنياتْ
ينسج الوزن مبدعا ... محدثاً روعة الأداةْ
وهو إن خالف الألى ... ليس يخشى تفلّتاتْ
فهو يبنى على هُدى ... دون إهمال سابقاتْ
فالإطار الذي به ... أعذب الشعر كالمهاةْ..
لم يلوّثهُ جاعلاً ... نغمة الفن تُرّهاتْ!
من يكن قصدهُ الخنى ... يلتمس ناديَ العراةْ
من يخُن وجهه السّنا ... ما له في الحيا سماتْ
إن دفنّا تراثنا ... سوف نفنى مع الغداةْ
يرفع الشهمُ قدرَه ... إن يكن شادي الهداةْ
ثم يبني كيانه ... راعياً يوقظ الرّعاةْ
ليس في الشعر جذوة ... إن دعا الناسَ للسّباتْ!
أو تبدّى متاهة ... صبحُها الليلُ والشتاتْ!
أو تراءى (عريضةً) ... تشتري الزيف والهباتْ!(86/83)
المسلمون والعالم
الأحداث في القوقاز ...
حرب لم يكسبها الروس، ولم يخسرها الشيشان
د/عبد العزيز كامل
بعد أن وطئ الروس بأقدامهم الثقيلة أرض العاصمة الشيشانية (جروزني)
وسط تواطؤ دولي مكشوف، هناك أسئلة تتوارد على الأذهان حول هذه الحرب
وانعكاساتها المحتملة على الصراع المحتدم الآن بين قوى الكفر والإسلام في الشرق
والغرب.
لعلي في هذه السطور أتناول بعض هذه الأسئلة المطروحة، ولنجعل الوقائع
تجيب عليها:
أولاً: هل انتهت الحرب باستيلاء القوات الروسية على قصر الرئاسة؟ :
التاريخ يجيبنا أن لا، بل إن تلك الحرب يمكن اعتبارها قد بدأت بالفعل،
وبخاصة بعد أن انحاز إلى الجبال المقاتلون الشيشان الذين يشتهرون بالتمرس في
معاركها عبر التاريخ، فروسيا لم تستطع طمس هوية هذا الشعب عبر مائة
وخمسين عاماً من الصراع في شمال القوقاز، ذلك الصراع الذي بدأه القياصرة
(البيض) النصارى، ثم تبعهم القياصرة (الحمر) الشيوعيون، ثم هاهم أدعياء
الليبرالية الروسية (الغبراء) يحاولون إعادة الكرّة عن طريق المخالب والأنياب
(الديموقراطية) .
لقد خاض الإمام شامل حرب عصابات في جبال القوقاز لأكثر من ثلاثين سنة، وحتى بعد أن سقط في (ميدان الكرامة) عام 1859م فإن الحرب استمرت حتى
عام 1864م. وأهل الشيشان يقولون: إن الحرب التي بدأت فعلياً كحرب عصابات
لن تنتهي إلا في حالتين: إما أن تستقل الشيشان عن روسيا الاتحادية ويرحل
المحتل الروسي عنها، وإما أن يفنى ذلك الشعب مفضلاً الشهادة على الحياة تحت
سيطرة عدو حاقد يضع الشعب الشيشاني في مرتبة أدنى من مستوى الآدمية.
ثانياً: ما الذي دفع شعباً صغيراً كشعب الشيشان (مليون و200 ألف نسمة)
أن يقدم على تحدي قوة من أكبر قوى العالم العسكرية لينازلها إلى النهاية؟ وهل يعد
هذا ضرباً من الانتحار الجماعي أو المغامرة بحياة الشعوب؟
لك أيها القارئ أن تتصور حال شعب يتوارث إذلاله أعداؤه جيلاً بعد جيل
محاولين إقصاءه عن دينه وهويته خلال مائة وخمسين عاماً من الحروب، مرة
لتنصيره، ومرة لإجباره على الردة والدخول في دين من لا دين لهم من الملحدين
الشيوعيين، ومرة لإكراهه على الاندماج القسري مع عدوه الروسي فيما يسمى بـ
الاتحاد الروسي..
ماذا ينتظر من الشعب الشيشاني الغني بموارده النفطية وغيرها عندما يرى
98% من موارده تتحول كل سنة إلى موسكو بينما لا يبقى له غير 2% منها؟ ..
ماذا ينتظر من شعب لم يكن يوماً (أرثوذكسياً) في ملته أو (سلافياً) في عرقه
وسلالته، ومع ذلك يُكره على أن يكون جزءاً لا يتجزأ من جسم روسيا الأرثوذكسية
السلافية؟ ! .. ماذا ينتظر من شعب يُنظر إليه باحتقار لدرجة أن يقرر الزعيم
المتجبر ستالين أن ينفيه بأكمله إلى مجاهل سيبريا، ويسلم أرضه لأهل (جورجيا)
بدعوى أنه تعاون مع النازيين أعداء روسيا، ثم يُكتشف بعد ذلك بسنوات طويلة أن
هذا الاتهام كان مجرد (غلطة) ! ! .. وماذا ينتظر من شعب يتوعده الزعيم القومي
المتطرف متنامي الشعبية جيرنوفسكي بسلب حقوقه المدنية و (إخصاء كل رجل
فيه) ! ! .. وماذا ينتظر من شعب يتخذ لكل هذه الأسباب قراراً جماعياً بالانفصال
عن هذا الاتحاد الروسي الإجباري، ظناً منه أن الدنيا قد تغيرت وأن العالم الحر
المنادي بحق الشعوب في تقرير مصيرها سيناصره ويؤازره، فإذا بهذا العالم يقف
مع عدوه ضده؟ ! .. ثم ماذا ينتظر من شعب اختار زعيماً له عن طريق الانتخاب، ثم يراد إكراهه على الخضوع لزعامات مصنعة في الخارج من عملاء مأجورين
ومعينين من قبل العدو وقادمين من الخارج فوق الدبابات؟ ! إن هذه الأسباب
وغيرها تفسر لنا: لماذا أجمع هذا الشعب على الوقوف خلف زعامة تقوده لمحاولة
الخروج من هذا الهوان.
ثالثا: لماذا أقدم يلتسين على خوض غمار هذه الحرب بهذا الإصرار؟ :
من الناحية الاقتصادية التي لها الأولوية في قرارات عُبّاد المادة أراد الروس
أن يحافظوا على احتكار مصادر النفط الشيشاني الغنية، ويُؤَمنوا مرور أنابيب
النفط عبر هذه الأراضي التي يطلق عليها (بوابة آسيا) ، ثم هم يريدون استمرار
تحويل نسبة الـ 98% من الموارد الشيشانية إلى جوف الدب الروسي المتخم بالشر
والشره.
أما الناحية السياسية، فلا شك أن التسليم بخروج الشيشان من تحت المظلة
الروسية، سيؤدي حتماً إلى تفكك الاتحاد الروسي الجديد، ليلحق بالاتحاد السوفيتي
الفقيد، الأمر الذي سيعده الروس نذير شؤم يهدد أحلامهم بقيام إمبراطورية روسية
تكون وريثة للشريك السابق في قيادة العالم، وستتضاعف الكارثة إذا تتابع خروج
الجمهوريات الإسلامية الأخرى في منطقة القوقاز التي تتشكل من نحو 40 أقلية
عرقية وقد يكون انفصال الشيشان أول مسمار في نعش الاتحاد الروسي كما كان
استقلال دول البلطيق أول سهم في صدر الاتحاد السوفيتي البائد.
رابعاً: هل حقق الروس أهدافهم من حرب الشيشان؟ :
يستطيع المرء أن يجزم بأن هدف الروس المعلن من هذه الحرب وهو إعادة
النظام وفرض احترام الدستور لم يتحقق؛ فالأرض الشيشانية مازالت تغلي تحت
أقدام الروس، وعندما وضعت روسيا قواتها في حالة تأهب في 14/12/1994،
ثم بدأت القتال بعد ذلك: كان مقرراً لهذه الحرب ألا تستغرق وقتاً طويلاً، حتى إن
وزير الخارجية الروسي قد صرح بأن المهمة العسكرية في الشيشان لن تستغرق
أكثر من ساعات معدودة، ومما يدل على أن الروس كانوا جادين في إنهاء هذه
الحرب بسرعة: أنهم حشدوا لغزو الشيشان 150 ألف مقاتل، بينما لم يحشدوا
لغزو أفغانستان إلا نصف هذا العدد، ولكن الذي حدث أن المعركة طالت وزادت
أعباؤها مما أوقع يلتسين في ورطة، ووجد الروس أنفسهم غارقين في مستنقع
حرب عصابات يبدو أنها ستكون طويلة ومرهقة ومذلة للروس ومما زاد من ورطة
الرئيس الروسي وعده بتخفيض عجز الميزانية الروسية بنسبة كبيرة لعام 1995،
ولكن تلك الحرب عرقلت برامجه من أجل الوفاء بهذا الوعد، وأصبح حصوله على
مساعدات آتية من الغرب محل شك، نظراً لأن صندوق النقد الدولي له حساسيات
خاصة به فيما يتعلق بالأزمات الداخلية في الدول التي تتعامل معه.
ومما يدل على شدة اضطراب يلتسين من عدم انتهاء هذه الحرب بسرعة: أن
قواته ظلت تقصف العاصمة الشيشانية بشراسة وجنون غير عابئة بالأصوات التي
تنبعث من هنا وهناك منادية بوقف القتال ووصلت به العجلة إلى حد اعتبار الحرب
منتهية بمجرد الاستيلاء على قصر الرئاسة الذي تسلمه الروس مدمراً تماماً وخالياً،
ثم أعلن بوقاحة أن مهمة الجيش قد انتهت وأن الشرطة تتولى فرض النظام، ولكن
ظهر بعد ذلك أن المقاتلين الشيشان لايزالون يقاومون الجيش الروسي حتى كتابة
هذه السطور في مناطق مختلفة من العاصمة (جروزني) .
وقد أدى استمرار القتال، وبالتالي استمرار الانقسامات في المواقف داخل
الحكومة والجيش الروسي إلى المزيد من الإرباك لـ يلتسين، مما قد يضطره إلى
التضحية ببعض معارضيه ككباش فداء، وهنا لن يكون في مقدوره أن يحكم قبضته
على منصب الرئاسة، ولاتزال تفاعلات هذه الحرب مستمرة على الساحة الروسية
نظراً لتزايد عدد القتلى والأسرى والجرحى الروس في الحرب، أما على الساحة
الدولية: فإن ديمقراطية يلتسين المدّعاة قد أصبحت نوعاً من المزاح الثقيل الذي لا
يضحك أحداً! ، وإلا فكيف تقرر روسيا الديمقراطية إزاحة رئيس منتخب من شعبه
من على كرسي الرئاسة بواسطة الدبابات والطائرات؟ !
أما من الناحية الإعلامية: فقد خسرت موسكو الحرب دعائياً، واهتزت
صورتها وهي تحشد قواتها وتكشر عن أنيابها بكل شراسة في مواجهة شعب أعزل
يدافع عن أبسط حقوقه، كما ظهر زيف وكذب إعلامها في تغطية أنباء الحرب،
وقد اعترف بهذه الخسارة الإعلامية سيرغي ستيباشين رئيس جهاز مكافحة التجسس
في موسكو.
خامساً: ما هي انعكاسات أحداث الشيشان على ما يسمى الشرعية الدولية؟ ،
وما هو تقييم موقف الغرب من هذه الحرب؟ :
مثلما سقطت مصداقية الديمقراطية الروسية مع كل صاروخ كان يسقط على
(جروزني) ، فإن مصداقية الديمقراطية الغربية أيضاً كانت تسقط مع كل قتيل أو
جريح يسقط من أهل الشيشان، ذلك لأن الغرب هو الذي أعطى يلتسين الضوء
الأخضر، لكي يبدأ تلك الحرب الجائرة، فهو لم يكتف هذه المرة بمواقفه السلبية
الباردة فيما يتعلق بقضايا المسلمين، بل إن موقفه اتسم في معظمه بمباركة هذا
الغزو مبرراً إياه بأن جمهورية الشيشان تعتبر من الناحيةالقانونية جزءاً من الاتحاد
الروسي، وبالتالي: فإن مسألة تدمير العاصمة فوق رؤوس سكانها يعد مسألة
داخلية في مفهوم دعاة حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها! إن هذه
الدول التي وقفت موقفاً صارماً من الاتحاد السوفيتي السابق من أجل إطلاق عدة
آلاف من اليهود السوفيت ليهاجروا بحرية إلى الأرض المغتصبة في فلسطين
بدعوى حق الإنسان في العيش حيث يريد: هي الدول نفسها التي تتنكر الآن لمجرد
حق الحياة الآمنة للشعوب المسلمة المستضعفة في الشيشان والأنجوش والبوسنة
وفلسطين وغيرها، وتلك الدول التي ساندت بحزم المفكر الروسي أندريه سخاروف
ضد الرئيس السوفيتي الأسبق ليونيد بريجنيف بدعوى حق الإنسان في أن يفكر كما
يريد، هي نفسها التي لا تريد أن تقر الآن لشعوب بأكملها أن تشق طريقها في
الحياة حسب ما تمليه عليها قيمها ومعتقداتها، وهذا الموقف المتنكر لحرية الشعوب
في تقرير مصيرها جعله الغرب وقفاً على الشعوب الإسلامية فقط، أما حينما
قررت جمهورية (ليتوانيا) في عهد جورباتشوف الانفصال والاستقلال، فإن تلك
الدول قد وقفت خلفها بكل قوة، مما عجل بانفراط عقد الاتحاد السوفيتي البائد،
فحقوق الإنسان المسلم مستباحة لكل من أراد الغزو أو التطهير العرقي أو فرض
النظام واحترام الدستور! ، أما حقوق الإنسان في مثل (هايتي) و (بنما) فمن أجلها
يُعد الغزو وتجييش الجيوش أمراً واجباً حتى لا تضيع القيم الديمقراطية! .
سادساً: ما مدى إسلامية المعركة التي يخوضها الشيشان ضد الروس؟ :
هذا السؤال يتكرر كلما نشب صراع بين قوى الكفر وبين طوائف أو شعوب
من المسلمين المستضعفين المنسيين! ، وربما كان هذا السؤال بريئاً للتأكد من
شرعية دعم المقاتلين في هذا الصراع، وربما يكون مغرضاً: الهدف منه التثبيط
وصرف أنظار المسلمين عن قضايا إخوانهم في الدين والعقيدة الذين يستنصرون بهم
فيوجبون عليهم النصرة.
والذي يتضح من تاريخ هذا الشعب في الجهاد وصموده ضد رياح التغيير
التي هبت عليه من كل جانب: أنه شعب يريد الحق على أقل تقدير وإن لم يكن
مستقيماً كل الاستقامة على منهاجه، وأحاديث القادة هناك وإن كانت مما ينبغي أن
تؤخذ على حذر إلا أنه لا ينبغي أيضاً أن تتجاهل فيها العاطفة الإسلامية! ؛
فالشيشان أصحاب قضية وإن انتشرت بينهم الخرافة والبدعة! ، ولكن الأصل
المعمول به عند علماء أهل السنة كما قرر ذلك الإمام ابن تيمية أنه يجاهد مع الأمير
الفاجر الأمير الكافر، فإذا أضفنا إلى ذلك أنهم مستضعفون غاية الاستضعاف
بالنسبة لعدوهم كان الأمر آكد؛ فالنسبة العددية بين الروس والشيشان هي 100:
1، أما القوة العسكرية: فجيش الشيشان لا يتعدى الـ (40) ألف مقاتل بينما
الجيش الروسي يتألف من أكثر من مليوني جندي، وأما عن ناحية العتاد: فسلاح
الشيشان: معظمه من السلاح الخفيف، وحتى الثقيل منه فمحدود وقديم، أما
الروس: فيملكون أكبر وأقوى ترسانة للأسلحة في العالم. وهذه المقارنة علي كل
حال لا تعني صرف النظر عن نصرة هؤلاء المظلومين المستضعفين في حرب
الإبادة التي شنت عليهم، ولكنها مما يؤكد وجوب نصرتهم بالمستطاع في معركتهم
المصيرية؛ فنحن أمة نؤمن بالغيب، وبأن الله (تعالى) قد أحكم في الكتاب آية
تنبيء عن سنة كونية ثابتة لا تتغير وهي قوله (تعالى) : [كم من فئة قليلة غلبت
فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين] [البقرة: 249] . لقد أعلن الرئيس
جوهر دوداييف أن خسائر الروس في تلك الحرب قد بلغت 12 ألف روسي. ومن
يدري، فلعل الله (تعالى) قد شاء أن ينزل زعامة الاتحاد الروسي من علياء كبريائها
على يد المستضعفين الشيشان، كما أسقط من قبل بنيان الاتحاد السوفييتي ركاماً
على يد المستضعفين الأفغان.
وصدق الله العظيم في قوله: [ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي
عليه لينصرنه الله] [الحج: 60] . اللهم انصر إخواننا وثبت أقدامهم، وزلزل
الأرض من تحت أقدام أعدائهم.. آمين.(86/86)
حزب الله ... الأمريكي!
أمريكا تنتخب الإنجيل
د. عبد الله عمر سلطان
أمريكا اختارت الإنجيل ... أمريكا أثبتت للعالم مرة أخرى أنها أكبر قوة
متدينة في الغرب؛ هذه هي خاتمة برنامج وثائقي أنتجته إحدى أكبر محطات البث
التلفزيوني في الولايات المتحدة، وكان متزامناً مع تغطية صحفية واسعة النطاق
عن الصحوة الدينية التي تجتاح أمريكا من المحيط الأطلسي حتى المحيط الهادي
كالموجة الهادرة.
البعض يجب أن يفسر هذه الظاهرة العامة بمنظار المجهر السياسي فيتحدث
بإسهاب عن نتائج الكونجرس الأخيرة ومكاسب المتدينين وممثليهم، ويسرف في
التحليل ويبالغ في إبراز الأرقام والتركيز على شخصيات اليمين الديني الجامحة ...
لا بأس من هذا، لكن الظاهرة الدينية في الولايات المتحدة تتعدى البعد السياسي
لتشمل العنصر الأخلاقي والعقدي بصورة صارخة، ولعل الظاهرة السياسية أحد
إفرازات هذه الصحوة الدينية.. هكذا تحدث كليم ميلر الباحث الأمريكي، ويضيف: يكفي أن ندلل على عمق تأثير الموجة الدينية أن الكونجرس الجديد وزعامته
الجمهورية (المتنطعة) قد جعلت من قضية الصلاة في المدارس والأماكن العامة
قضيتها الأولى كما يصرح نيوت جيجريتش زعيم الأغلبية الجمهورية....
مراسل مجلة الإيكونمست لخص وضع الحزب الجمهوري في هذه اللحظة
بالقول: إنه حزب الله الأمريكي وأضاف: ألين كويست مثال للموجة الدينية
السياسية القادمة، إنه من زعماء الحزب في ولاية (مانيسوتا) ، في حياته الخاصة
هو متدين ولديه عشرة أطفال! ، ويصرح باستمرار: أن على أمريكا أن تتطهر
من الشواذ وأن تشن الحرب على مؤسساتهم، وأن المرأة ليست مهيأة لقيادة
الأمة ... وهذه الدعوة تلقى قبولاً وترحيباً، هذه الظاهرة لم تعد محصورة في الجنوب الأمريكي المتدين تاريخياً، إنها بدأت تطفح حتى في المدن المشهورة بالتحرر الشديد ... لقد أصبح للمتدينين قصب السبق في أماكن لم يتصور أن يصلوا إليها ك (نيويورك) و (كاليفورنيا) ، وفي هاتين المنطقتين أصبح الآباء المتدينون هم القوة الأولى في مجالس المدارس المحلية، وبالرغم من الكر المتبادل بين المدارس الحكومية العامة والتيار الديني فقد استطاع التيار الديني أن يسيطر
على 15% من مجموع المجالس في الولايات كلها والتي يبلغ مقدارها 2250 مدرسة ... يقول الشريط التلفزيوني: حتى في (هوليود) عاصمة السينما بدأ الزحف الديني يدق أبوابها، وأصبحت عاصمة الفن الأمريكي تشعر أنها محاصرة من جهتين الأولي خارجية والثانية داخلية، لقد بدأ زعماء التيار اليميني مثل نيوت جينجريتش يهزأون بالقيم المنحطة التي تشيعها صناعة السينما الرديئة، وقبل سنتين استهدف نائب الرئيس الأمريكي دان كويل هذه الماكينة الإعلامية خلال الحملة الانتخابية ووصفها بالانحطاط، لقد قوبل كويل بعاصفة من الاحتجاج آنذاك، أما اليوم وفي ظل الشعور بالضياع والحيرة والرغبة في التدين فإن الملحوظات نفسها ستلقى الترحيب بدل الهجوم، ويضيف التقرير المرئي: كانت أمريكا تلمس بيديها إفراز الثقافة المتحررة من كل قيد ... هناك أربعون بالمائة من الأطفال اليوم يعيشون من دون رعاية أحد الوالدين، بينما يولد 28% من الأولاد خارج نطاق العلاقة الزوجية، في الوقت الذي تنتهي نصف الزيجات تقريباً بالطلاق، بينما يبلغ عدد الشاذين والشاذات أكثر من عشرة ملايين شخص. هذه الصور المأساوية للمجتمع تجعل حتى من هذه الفئات السالفة تنظر إلى القيم الدينية نموذجاً وحيداً قادراً على انتشالها من ورطتها.
هذه الورطة جعلت من التفكير بوسائل جديدة لكبح جماح الشهوة التي عربدت
دهراً من الزمن أمراً ملحاً، ففي تحقيق مطول عن الخجل ورد فيه: أن الأمريكي
المتوسط كان يفتخر بأنه لا يهتم بشيء من حوله، وأن إشباع رغباته وشهواته
وحريته أمر مقدس، أما اليوم: فهناك إجماع على أن فقدان الخجل أدى بهذه الأمة
أن تصبح محاطة بالإيدز والمخدرات ورعب عصابات الأطفال والمتاجرين
بأعراضهم، وخلال هذا الخضم يتجه الناس إلى الدين فأمريكا اليوم تشهد صحوة
دينية على مختلف الأصعدة حتى المتحررين الديمقراطيين كالرئيس كلينتون الذي
يجد نفسه مضطراً إلى الظهور بصورة الرجل المتردد على الكنيسة والحريص على
مبدأ العائلة المقدس ومفهومها رغم رواج الشائعات الكثيرة عن سلوكه المثير للجدل.
لقد رافق هذه الحمى الدينية انتشار واسع لجماعات أكثر تشدداً، وفي بداية
عام 1995 فجعت أمريكا بهجومين مسلحين على عيادتين للإجهاض من تدبير
اليمين الديني، الذي ينظر إلى ذلك العمل بوصفه جريمة بحق الدين والإنسان،
والذي يدافع عن برنامجه في حرب الإجهاض قادة الكونجرس الجدد، ومع مرور
الوقت بدأت بعض عيادات الإجهاض في التلاشي والمغادرة بعد تكرار حوادث
العنف والهجوم الذي تجاوز مرحلة التنديد السلمي إلى استخدام القوة بل السلاح.
وربما رجع المرء إلى الوراء قليلاً حين انتعش اليمين الديني في الثمانينات
ولا سيما أيام حكم الرئيس ريجان حيث كانت العقيدة السياسية الداخلية والخارجية
مصبوغة بلون ديني قوي وبظهور جماعات الأصولية الإنجيلية كبات روبتسون
وجيمي فارويل وجيمي بيكر وجيمي سويجارت.. لقد شن الليبراليون حملة مضادة
لقص أظافر الحركات الإنجيلية وتشويه سمعتها لا سيما وأن قادة الإنجيليين كانوا
منغمسين في ممارسات تتناقض مع مبادئهم ورسالتهم.. أما الموجه الحالية: فإن
قاعدتها تتألف من القطاع المتدين المتوسط دخله وتتشكل من أولئك المترددين على
الكنائس المتعددة، وفي حين تحظى موجة الأصولية الحالية بوجوه بعض القادة
المتشددين ك روبرتسون وفارويل فإنها تظل بعيدة عن السيطرة الكاملة لرجال
الدين حيث تظهر زعامات سياسية متدينة تحمل رسالة الإنجيل وتمارسها بأسلوب
سياسي ماكر كما يفعل نيوت جينجريتش.
لقد أفردت مجلة النيوزويك تحقيق غلافها قبل شهور عدة لرصد ظاهرة العودة
إلى الدين بوصفها قوة وحيدة قادرة على حماية الكائن الإنساني من التمزق،
وركزت على العودة إلى الكنيسة أو الكنيس دون التطرق إلى ظاهرة بروز الإسلام
على الساحة الأمريكية الذي هو أسرع الأديان انتشاراً، وهذه الموجه الدينية العامة
هي التي تُستخدم وقوداً لبرنامج الجمهوريين المسمى عقد مع أمريكا وهو تصور
وضعه مركزا أبحاث هريتج وأمريكان إنيتر بريز لكي يحصدا نتاج هذه الصحوة
الأمريكية الرافضة لنمط الحياة البائسة السائدة هناك، التي ربما استعرضنا بعض
جوانبها في مقال قادم إن شاء الله(86/93)
آمال المسلمين.. والمنظمات الدولية
[كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه]
عثمان جمعة ضميرية
مدخل:
موقف الغرب والشرق من قضايا المسلمين موقف واضح للعيان: إهمال
واستهتار وسلبية مطلقة، وسبق أن تطرقت المجلة لمواقف العالم ممثلاً في هيئة
الأمم من قضايا المسلمين بشكل مفصل في مقال سابق، وفي تناول المجلة لأحوال
وقضايا بلاد المسلمين بعامة.
وهذا المقال رؤية تاريخية قريبة لمنطلقات هيئة الأمم وسابقتها عصبة الأمم،
وأنهما إنما أنشئتا للسيطرة واستعباد الدول الكبرى لغيرهم وتمرير ما يريدونه من
مواقف وقرارات كما أشار إلى ذلك كثير من الباحثين والمتخصصين كما سنرى.
-البيان-
1- عندما خلق الله (تعالى) الإنسان جعله ينزع إلى الحياة مع الآخرين
والالتقاء بهم، إذ إنه لا يستطيع أن يعيش منعزلاً بمفرده عن بني جنسه، يستوي
في ذلك الأفراد والجماعات والأمم والدول، ومن هنا نشأت العلاقات بين الأمم
البشرية.
وقد جعل الله (تعالى) الناس شعوباً وقبائل وميّز بينهم ليكون هذا التمايز سبباً
للتعارف والتعاون، فقال (سبحانه) : [وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا]
[الحجرات: 13] .
ومن هنا كان للأمم في علاقاتها مع غيرها قواعد مرعيّة ومبادئ تعارفت
عليها منذ العصور الغابرة، وعليها بنت أساس العلاقات في حالي السلم والحرب،
حتى قال مونتسكيو: ما من أمة من الأمم إلا ولها في حقوق الدول نظام، حتى
قبائل (إركوا) الذين يأكلون أسراهم لهم نظام من هذا القبيل؛ فإنهم يرسلون رسلهم
ويستقبلون رسل غيرهم ويعرفون أحكام السلم والحرب، ولكن من سوء أمرهم أن
نظام حقوقهم غير مبني على الصحيح من الأصول [1] .
2- وجدت هذه القواعد بوجود الجماعات الإنسانية ذاتها، وقبل أن تكتسب
صفة الدولة كما يعرفها القانون أو النظام الدولي الحديث فكان ذلك بداية لنشأة
القانون الدولي على تسامح وتجاوز في التعبير لأن القانون الدولي بمعناه الحديث لا
يتجاوز عمره ثلاثة قرون؛ منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي، على إثر
المنازعات الأوربية التي انتهت بإبرام معاهدة وستفاليا سنة 1648م التي تعتبر
فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية، والنقطة التي يبدأ عندها تاريخ القانون الدولي في
وضعه الحالي حيث نشأ القانون الدولي الحديث أصلاً في أوروبا ثم امتد سلطانه
خارجها إلى الدول التي تأثرت بالمدنية الأوروبية، ويؤكد علماء القانون الوضعي
النشأة الكاثوليكية للقانون الدولي، وأن حركة التأليف والبحث والنشر في القانون
الدولي كانت مطبوعة منذ نشأتها بالطائفية والانحياز، وسادتها المصالح الرئيسة
للدول النصرانية، فبدت أحكام هذا القانون مسُودة لا سائدة، ومسوّغة لتصرفات
الدول الاستعمارية، مصبوغة بالإقليمية والطائفية والعنصرية [2] .
وكانت هذه النشأة للقانون الدولي مرتبطة بنشأة الدول الأوروبية واستقلالها
عن سلطة البابا الدينية، وبالتحولات الاقتصادية والسياسية التي واكبتها حيث
ظهرت فكرة العائلة الدولية وهي تعني مجموع الوحدات الدولية، وأهمها الدول ذات
السيادة التي يقع عليها إلزام القانون الدولي، وليست هذه الجماعة من الوجهة
القانونية مستقلة عن الدول الأعضاء فيها، وإنما هي تعبير عن صلاتٍ يربط بينها
أنواع من الترابط.
وسبب نشوء هذه العائلة الدولية هو تمكين الدول النصرانية وحدها من أن
تمتلك أراضي الجماعات غير النصرانية وأن تبطش بها وتستنزف خيراتها، فلذلك
كوّنت فيما بينها عائلة دولية أوروبية مسيحية [3] .
3- وفي هذه المرحلة كانت النصرانية هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات
الدولية، ولذلك أعلن التحالف الديني في المؤتمر الأوروبي المقدس! عام 1815م
عزم المتعاقدين القوي على ألا يتخذوا لسياستهم وتسيير شؤونهم إلا قواعد
النصرانية؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم مندوبين عن العناية الإلهية لمباشرة الحكم وأنهم
أسرة واحدة، رغم أنهم يحكمون بلداناً متعددة ويتبوّءون عروشاً متفرقة، ومن هنا
قال المعتمد البريطاني في مصر أيام الاحتلال الإنجليزي: إن واجب الرجل
الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية (!) على رأس هذه البلاد مصر هو تثبيت
دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن، وإن كان من الواجب منعاً لإثارة
الشكوك ألا نعمل رسمياً على تنصير المسلمين، وأن نرعى المظاهر الزائفة (!)
للدين الإسلامي كالاحتفالات الدينية وما شابه ذلك.
وفي هذه المرحلة أعطى البابا بركاته! لكل نصراني يحاول أن ينتقم من
الكفرة المسلمين! ، واستهدفت حركة الكشوف الجغرافية تفريق العالم الإسلامي
واكتشاف طرق للتجارة مع الشرق لا تمرّ بالعالم الإسلامي، وهكذا برّر رجال الدين
النصراني المد الاستعماري بهدف ديني هو القضاء على الإسلام، ولم يكن عندهم
أي حرج من توجيه أي ضربة للأنظمة الاقتصادية والاجتماعية للدول الإسلامية
والاستيلاء على أراضي الدول غير النصرانية واستعباد أهلها، لأن الأوروبي يشعر
أنه سيد العالم.
ومن ناحية أخرى كان التحالف المقدس! امتداداً للحروب الصليبية، إذ إن
التحالف نصّ على تثبيت قواعد الأخلاق النصرانية، وقام عمل الدول النصرانية
شاهداً على ذلك، حيث تدخلت الدول النصرانية لمساعدة اليونان في ثورتها على
الدولة العثمانية، كما ساعدت وساندت حركات الانفصال التي قامت بها أيضاً:
رومانيا، والصرب، وبلغاريا وكانت ولايات في الدولة العثمانية.
ومن أقوى الأدلة على ذلك أيضاً: ما كتبه أحد ساسة فرنسا في عهد لويس
الرابع عشر حيث قال: إن على فرنسا أن تنتهز فرصة السلام الذي تنعم به أوروبا
بعد حرب السنوات السبع، وتنقضّ على الإمبراطورية العثمانية لتقيم صرح
المسيحية وتستخلص الأراضي المقدسة، وإن مشروع قناة السويس مشروع صليبي، ويجب أن تكون ملكاً مشتركاً للعالم المسيحي [4] .
4- ثم في مرحلة تالية اتخذت الدول الأوروبية أساساً جديداً للعلاقات الدولية،
وهو المدنية، بمعنى أن الدول المتمدّنة يصح أن يعترف لها بالشخصية الدولية وأن
يكون لها حق التملك وأن تكون عضواً في العائلة الدولية، وذلك لأنها اضطرت
لاعتبارات تتعلق بالتوازن الدولي إلى قبول الدولة العثمانية في معاهدة باريس
(1856م) عضواً في العائلة الدولية، فتشارك الدول النصرانية في الحقوق
والواجبات الدولية على أساس المساواة، غير أن هذه العضوية ظلت ضعيفة بالنظر
إلى استمرار نظام الامتيازات الأجنبية فيها، وبعد نصف قرن من الزمان سنحت
الفرصة أيضاً لليابان، ويومها قال دبلوماسي ياباني مخاطباً العالم الغربي بتهكم:
حينما تحقق لكم أننا على الأقل نتساوى معكم في علوم الدمار سمحتم لنا بالجلوس
على موائدكم باعتبارنا متحضرين! وكان ذلك عقب انتصار اليابان على روسيا
القيصرية [5] .
ولكن لم يكن يبلغ هذا الضرب من المشاركة على الصعيد الدولي أن يكون حقاً
للدول غير النصرانية، بل كان منتهى أمره أنه عطاء تمنحه الدول النصرانية
لغيرها بشروط، أهمها: أن تكون الدولة التي لا تدين بالنصرانية ذات حضارة
ومدنية بمفهومها النصراني؛ فما زال الفكر الأوروبي أسير الرواسب الاستعلائية
التي ورثها عن الأجداد (الإغريق والرومان) التي ظلت عميقة تحت التربة
الأوروبية تكشفها عوامل التعرية من حين إلى حين، كما في تصريح رئيس
الحكومة الهولندية حيث يقول عام 1956م: إن الدول المسيحية وحدها هي التي
تستطيع أن تميز بين العدل وغير العدل، وبين الحرب المشروعة وغير المشروعة
وتساءل عما إذا كان المسلم أو الهندي يستطيع أن يعي معنى العدوان، لأن إدراك
مثل هذا المعنى قاصر على الدول ذات الثقافة المسيحية! [6] .
واستغلت الدول النصرانية الأوروبية شعار المدنية لترتكب به أفظع الجرائم
على البشرية، فاحتلت أقاليم الدول الأخرى، وراحت تستغلها أبشع استغلال،
فتفسد عقائدها وأخلاقها، وتستنزف خيراتها ومواردها، وتسخر أبناءها في العمل
والصناعة.
وكانت هذه الدول تتسابق فيما بينها على التسلط لتحصل الدولة الكبرى منها
على أوسم قطعة في الفريسة الصريعة (من بلدان الشرق الأدنى والأوسط والأقصى)
وأذكى ذلك نيران الأخذ بالثأر، فاندلعت الحرب العالمية الأولى (1914م) التي
تعرضت فيها البشرية لأهوال قاسية، ولما هدأت العاصفة واجتمعت الدول الأوربية
في مؤتمر باريس (1919م) ، لإعادة بنيان الدول الذي كان على وشك الانهيار،
عندئذ أصبحت النغمة الجديدة هي السلام الذي يخفي وراءه ما يخفي، حيث جاء
نظام الانتداب ليُطْلَى به نظام الاستعمار القديم وليخاتل الأمم والشعوب التي وُعدت
بالحرية والاستقلال، فمصر تحت الانتداب الإنجليزي، وكذلك فلسطين.. وسورية
ولبنان تحت الانتداب الفرنسي ...
5- وكان من نتائج مؤتمر باريس السابق النص على إنشاء عصبة الأمم
المتحدة لتكون أداة لحفظ السلام العام ولتوطيد العلاقات بين الدول، وتعود الجذور
التاريخية لنشوء عصبة الأمم إلى المدرسة الكاثوليكية في الفكر الأوروبي، التي
تعكس الروح أو الطبيعة الرومانية القائمة على العنف وعبادة القوة المادية والتعصب
العقدي والروح الصليبية ضد العالم الإسلامي، ومن دعاة هذه المدرسة بيير ديبو
من رجال القانون الفرنسي، ففي كتابه استرداد الأرض المقدسة يدعو إلى تكوين
عصبة أمم تكون قاصرة على الدول الأوروبية وقادرة على محاربة العالم الإسلامي
لاسترداد فلسطين من أيدي المسلمين لتكون في يد الأوروبيين.
ثم جاء الوزير الفرنسي سالي سنة 1603م بمشروعه لإنشاء جمهورية
مسيحية كبرى تضم شعوب أوروبا المسيحية ما عدا الأرثوذكسية، ثم جاء مشروع
الفيلسوف الألماني ليبتي لتكوين اتحاد بين الدول الأوروبية حتى تتمكن من محاربة
الدولة العثمانية واقتسام ممتلكاتها بين الدول الأعضاء [7] .
6- ولئن فشلت عصبة الأمم فيما زعمته من حفظ السلام الدولي، وعصفت
بها الأعاصير السياسية الدولية، فإن التركة آلت إلى هيئة جديدة بعد انتصار الحلفاء
في الحرب العالمية الثانية حين منحت دول مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945م
شهادة ميلاد هيئة الأمم المتحدة لتكون محط آمال العالم أجمع، يتطلع إليها راجياً أن
تحقق للمستقبل ما أخفقت عصبة الأمم في تحقيقه في الماضي، ولكن الهيئة الدولية
الجديدة جاءت لتكوين ديكتاتورية من الدول الكبرى لتسيير السياسة العالمية، ويشهد
لهذا: أن الدول الخمس ذات التمثيل الدائم في مجلس الأمن (وهي: الصين وفرنسا
وبريطانيا وأمريكا وروسيا) لكل منها حق الاعتراض على أي قرار يصوت عليه
في مجلس الأمن، وعندئذ يمتنع المجلس من إصداره، ويصير القرار كأن لم يكن،
مهما تكن أغلبية الأصوات التي وافقت عليه في الأصل، وواقع الحال كما هو
مشاهد منذ نشأتها يؤيد هذا، فكم من المشاريع والقرارات التي اتخذت من أجل
بعض قضايا المسلمين في العالم وما أكثر هذه القضايا! أو صوت عليها، فكان أن
أخرج أحد الأعضاء الكبار لسانه لذلك القرار فأصبح كأنه لم يكن! وكم تواطأ
الجميع على قضايا المسلمين وتآمروا ضدهم بصورة من الصور، بل بكل الصور،
أبَعد هذا كله وبعد معرفة أصل ونشأة هذه المنظمات الدولية وجذورها التاريخية
والفكرية والسياسية يمكن أن يعلق المسلمون عليها الآمال لتحل مشكلاتهم أو
لتنصفهم من المعتدين عليهم؟ !
وهذه قضية فلسطين، وقضية البوسنة والهرسك التي يصورون فيها القضية
أنها صراع بين المسلمين والصرب (هكذا.. الصرب وليس النصارى! وحتى في
وسائل الإعلام العربية والإسلامية) ، فهذه القضية شاهد ناطق على تآمر الجميع
على قضايانا تحت مظلة الأمم المتحدة والقانون الدولي والشرعية الدولية وحفظ
السلام، ونحن مساكين كم نتهافت على هذا السلام الذليل الرخيص؟ ، وتلتقي قمة
الإمبريالية مع ذروة الشيوعية في هذا التآمر، فيكتب الرئيس الأمريكي السابق
نيكسون في مجلة الشؤون الخارجية قائلاً: روسيا وأمريكا يجب أن تعقدا تعاوناً
حاسماً لضرب الصحوة الإسلامية [8] .
7- ولكن متى يمكن للمسلمين أن يكون لهم كلمتهم ودورهم في هذه المنظمات
الدولية؟ ومتى يحملون الآخرين على احترامهم وهيبتهم؟ .. إن ذلك لا يكون إلا
عندما يعود المسلمون عودة صادقة إلى مصدر قوتهم وعزتهم، وهو دينهم الذي
يأمرهم بإعداد القوة بكل معانيها العقدية والأخلاقية والمادية، عندئذ يُرهبون عدو
الله وعدوهم وآخرين من دونهم، ويقولون كلمتهم المسموعة جهاداً مباركاً في سبيل
الله لتحرير البشرية كلها، مع جهادهم بقتال أعداء الله، وأظنهم يدركون ذلك كما
يدركه غيرهم من الأوروبيين على ما يرويه بعض الكتاب المسلمين الذين التقوهم
في مؤتمر دولي سنة 1956م حيث قال مسؤول أوروبي كبير وكان جرح فلسطين
حاراً جداً قال: يا سيدي! أنتم العرب أذكياء، ولكنكم قوم لا تُخيفون، حينما يوجد
عندكم علماء قادرون على تدمير الأرض في (59) دقيقة كما ادعى الإنجليز بدلاً من
(60) دقيقة كما ادعى الأمريكان، عندئذ يحسب لكم حساب، أما إذا كنتم بحاجة إلى
ألف بندقية لتوزيعها على رجال الشرطة وكنتم مضطرين لشرائها من بلجيكا ثم
تَنكُل بلجيكا عن الصفقة وتبقى شرطتكم بلا بندقيات، فليس من حقكم أن تسألوا
العالم أن يعيد إليكم فلسطين! ! .
وصدق الله العظيم: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..] [الأنفال: 60]
[والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه
وما هو ببالغه] [الرعد: 14] .
__________
(1) روح القوانين، لمونتسكيو، ص 7.
(2) القانون الدولي العام، د حامد سلطان، ص29-30، قانون التنظيم الدولي، د صلاح عامر، ص 61-62.
(3) القانون الدولي، د حسين جابر، ص 53، مصنفة النظم الإسلامية، د مصطفى كمال وصفي (رحمه الله) ، ص 285.
(4) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، للمستشار علي علي منصور، ص 58-59.
(5) الشخصية الدولية، د محمد كامل ياقوت، ص 277.
(6) تطور المجتمع الدولي، د يحيى الجمل، ص37 وانظر ما كتبه د عبد العزيز سرحان عن تعصب الأوربيين الديني في القانون الدولي في كتابه مبادئ القانون الدولي، ص 11-13، والكاتب النصراني مجيد خدوري في السلم والحرب، ص377.
(7) انظر هذه التصريحات في الشخصية الدولية د محمد كامل ياقوت، ص 882، والسلم والحرب لمجيد خدوري، ص 369-372.
(8) عن كتاب الحروب الصليبية، بدؤها مع مطلع الإسلام واستمرارها حتى الآن د أحمد شلبي، ص20، وقد جعل العبارة في فاتحة كتابه أيضاً نقلاً عن مجلة الشؤون الخارجية سنة 1985 والكتاب بجملته عرض شامل دقيق للهجمات الصليبية الغربية على العالم الإسلامي عبر العصور ونيكسون نفسه هو الذي قال حين عاد من جولة قام بها في أفغانستان لدراسة الأحوال هناك، وسأله الصحفيون: ماذا وجدت هناك؟ قال: وجدت أن الخطر هو الإسلام! ويجب أن نصفي خلافاتنا مع روسيا في أقرب وقت؛ فروسيا على أي حال بلد أوروبي! والخلاف بيننا وبينها قابل للتسوية، أما الخلاف الذي لا يقبل التسوية فهو الخلاف بيننا وبين الإسلام انظر: رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر للأستاذ محمد قطب (حفظه الله) ، ص161.(86/97)
المجاهدون.. هل ينقذون إرتريا؟ ! [*]
قال (تعالى) : [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن
انتهوا فإن الله بما يعملون بصير] [الأنفال: 39] ، لقد شهدت الساحة الإرترية في
هذا العام تحولاً كبيراً لصالح المجاهدين بفضل الله، حيث منيت الجبهة الشعبية
بهزائم متتالية إثر ضربات المجاهدين المتوالية التي أسفرت عن استيلاء المجاهدين على الكثير من معسكراتها، كما اضطرتها إلى الانسحاب من معظم الريف الإرتري، وقد اتسع نطاق تحرك المجاهدين ليشمل معظم أقاليم إرتريا بما في ذلك إقليم (سراي) ، وصارت المبادرة بيد المجاهدين، وأصبحت أخبار الجهاد وانتصارات المجاهدين حديث الناس في كل بقاع إرتريا.
وبعد أن سجلت حكومة أفورقي إخفاقاً وفشلاً ذريعاً في شتى المجالات
العسكرية والسياسية وغيرها: لجأت إلى وسائل العجز والخور، وكان آخرها حملة
الاعتقالات الواسعة التي شملت العاصمة (أسمرا) وكلاً من مدينتي (كرن) و (قندع)
ومناطق أخرى.
وكانت تلك العملية أشبه بعمليات الاختطاف، حيث نفذت في جنح الظلام من
قِبَل كوماندوز صرب إرتريا وفي حالة من التنكر والتستر التام، وما زال مصير
المعتقلين مجهولاً ويكتنفه الكثير من الغموض، وتفيد المعلومات أن الذين تم
اختطافهم أكثر من مائة معتقل، معظمهم من الدعاة والمعلمين وأعيان ووجهاء
المسلمين في تلك المدن.
يا جماهير شعبنا المسلم.. ويا أنصار الجهاد المبارك.. إن هذه الأحداث ما
هي إلا حلقة من حلقات ذلك المخطط الصليبي الذي انتهجته الجبهة الشعبية في
حرب الإسلام والمسلمين منذ قيامها، وحتى تتضح الأمور وينكشف ذلك المخطط
لابد من ذكر بعض ممارسات الجبهة الصليبية الحاكمة في إرتريا:
فعلى الصعيد الداخلي:
1- حاربت اللغة العربية وأقصتها عن مناهج التعليم وعن المعاملات الرسمية، واعتبرتها لغة أجنبية.
2- حاربت الدعوة والدعاة، وأغلقت المعاهد الإسلامية وسعت في تحويلها
إلى مدارس علمانية، واستخدمت في تنفيذ ذلك شتى وسائل الإرهاب من الاقتحام
العسكري لتلك المعاهد واعتقال الدعاة والمعلمين وقتل بعضهم ... إلخ.
3- تشجيع النصارى للعودة إلى إرتريا، وتمليكهم أراضي المسلمين السكنية
والزراعية، في الوقت الذي تسعى فيه للحيلولة دون عودة المسلمين من أرض
المهجر.
4- انتهاك أعراض المسلمين وإفساد المجتمع، وقد مارست ذلك بالأمس
تحت مظلة التجنيد الإجباري، وتمارسه اليوم حكومة أفورقي بحجة الخدمة الوطنية، مما اضطر بعض الأسر المسلمة إلى الهجرة من جديد.
5- القيام بالتحريش بين القبائل المسلمة وإثارة الفتنة بينها، ومحاولة الإيقاع
بين القبائل الحدودية، وممارسة سياسة فرق تسد بين المسلمين.
هذه بعض ممارسات الجبهة الصليبية في الداخل، وأما
على الصعيد الخارجي:
1- فقد قامت بتوطيد علاقاتها مع إسرائيل والدول النصرانية والسماح لها
بإقامة المشروعات الاستثمارية، والقواعد التجسّسية، وفتحت المجال على
مصراعيه للمنظمات التنصيرية.
2- تنكرت للدور العربي في القضية الإرترية، وعملت على سدّ كل أبواب
التعاون معها، ورفض جميع مبادرات الجمعيات والمنظمات الخيرية للإسهام في
تقديم الخدمات للمجتمع الإرتري، واتهامها بأنها مصدر للفتن، وكان من
تصريحات أفورقي أن قال: لسنا عرباً، ولسنا بحاجة إلى دعم العرب، وستأتينا
أموالهم عن طريق الغرب! ! .
3- وأخيراً: توج أفورقي الصليبي مواقفه تلك بقطع العلاقات الدبلوماسية مع
السودان الشقيق، ذلك البلد الذي آوى الشعب الإرتري وثورته خلال الثلاثين عاماً
السابقة، وقاسمه لقمة العيش، وناصر قضيته حتى الاستقلال، فجاء أفورقي
ليكافئه بقطع العلاقات الدبلوماسية واحتضان المعارضة السودانية، حيث جعل من
(أسمرا) مقراً لاجتماعاتهم، وأصبح يهدد أمن السودان من خلال التلويح بدعم تمرد
قبائل البجة تارة [**] ، وباستعداء أسياده الصليبيين تارة أخرى.
قال (تعالى) : [وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا
أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون] [التوبة: 12] .
لقد بات جلياً من خلال تلك الممارسات والمواقف التي أجملناها في هذا البيان
بأن ما يحدث إنما هو جزء من المخطط الصليبي العالمي الذي يستهدف استئصال
شأفة الإسلام والمسلمين؛ فصرب في البوسنة، وصرب في الشيشان، وصرب في
إرتريا، وصرب في كشمير، وصرب في جنوب السودان.. وكلهم منطلقون من
خندق واحد، ومن منطلقات حاقدة.
ومن هنا نوجه نداءنا إلى كافة الشعوب المسلمة أن استجيبوا لداعي الجهاد
وحماية بيضة الإسلام؛ قال (تعالى) : [ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله
والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراْ]
[النساء: 75] .
وهكذا، فإن أعداء الإسلام يرموننا عن قوس واحدة، فلنرمهم عن قوس
واحدة، قال (تعالى) : [وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله
مع المتقين] [التوبة: 36] .
وليعلم أفورقي وعملاؤه أن الشعوب المسلمة لا يحدها حدود، وأن بيضة
المسلمين واحدة، وأن المجاهدين في إرتريا له بالمرصاد، [وسيعلم الذين ظلموا
أي منقلب ينقلبون] .
وفي الختام: نهيب بكافة جماهيرنا المسلمة، وبأنصار جهادنا المبارك في كل
مكان: أن يناصروا حركة الجهاد الإسلامي الإرتري دعماً وتأييداً حتى نتمكن من
صد تلك الهجمة الصليبية المدعومة، ونرد كيد أعدائنا ونحمي بيضة الإسلام في
المنطقة، [ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز] .
__________
(*) عن بيان حركة الجهاد الإسلامي الإرتري بتصرف يسير.
(**) البجة اسم يطلق على قبائل بني عامر والهدندوه، وهي قبائل رعوية تعيش على جانبي الحدود السودانية الإرترية، وقد أقام أفورقي معسكر تدريب غرب إرتريا ضم فيه بعض العناصر المشاغبة من تلك القبائل لبث فوضى في ذلك الجزء من السودان، وبالتالي إرهاق الحكومة السودانية تنفيذاً لتوجيهات أسياده.(86/106)
في دائرة الضوء
فن إدارة الوقت
أعمارنا.. كم نستغل منها؟ وكم نضيع؟
عبد الله آل سيف
هذا الموضوع يهم طائفة من الناس، وهم الذين يشعرون أن الوقت المتاح لا
يكفي لقضاء كل الأعمال والطموحات التي يريدونها، وبالتالي: فهم بحاجة ماسة
إلى قواعد في فن إدارة الوقت، إذن ... فهذا الموضوع يهم أصحاب الطموحات
والمشاريع والهمم العالية، أصحاب الإبداع والابتكار.
وفي الحقيقة فإن أصحاب الهمم العالية يشكون من ضيق الوقت، وهذه
الشكوى، وإن كانت صحيحة من جانب لقصر أعمار بني البشر، إلا أنها ليست
صحيحة من جانب آخر.
ووجه ذلك: أن المشكلة ليست في الوقت فحسب، ولكن المشكلة تكمن أيضاً
في طريقة إدارة الوقت بفعالية ونجاح، ولذا: تجد من الناس من يستطيع بحسن
إدارته لوقته أن يعمل الشيء الكثير.
ولسنا بصدد الحديث عن أهمية الوقت؛ لأن هذا موضوع آخر وفيه من
النصوص الشرعية وكلام السلف والعلماء والحكماء ما يضيق عنه المقام [1] .
لكن سنعرض إحصائية دقيقة تبين أهمية العمر والحرص عليه بما يثير الغيرة
لدى الإنسان المسلم.
لنفرض أن الإنسان يعيش عمراً افتراضياً مدته سبعون سنة، فإذا ضيع
الإنسان خمس دقائق يومياً فإن هذا يعني أنه أضاع من مجموع العمر كله ثلاثة
أشهر تقريباً (88 يوماً) ، وهذا الجدول يوضح المسألة أكثر فأكثر.
-------------------------------------------------------
الوقت من اليوم مجموع الوقت من العمر الافتراضي النسبة المئوية
-------------------------------------------------------
- خمس دقائق ثلاثة أشهر 0.35%
- عشر دقائق ستة أشهر 0.71%
- عشرون دقائق سنة كاملة 1.42%
- ساعة كاملة ثلاث سنوات 4.28%
- عشر ساعات ثلاثون سنة 42.85%
------------------------------------------------------- ...
ثم إذا نظرت إلى مجموع الأنشطة التي تستهلك الوقت تجد أنها كثيرة جداً،
وهي وإن كان بعضها ضرورياً لكن بعضها الآخر غير مفيد وغير فعال.
وهذا يتضح في الجدول التالي:
------------------------------------------------------------
نوع النشاط ما يستغرقه بالسنوات النسبة المئوية من العمر كله
-------------------------------------------------------------
النوم، بمعدل ثمان ساعات يومياً 23 32%
العمل، (من 7-2.5) يومياً 21.5 30.7%
الأكل والشرب، بمعدل ساعة ونصف يومياً 4.5 6.4%
------------------------------------------------
نوع النشاط ما يستغرقه بالسنوات النسبة المئوية من العمر كله
-------------------------------------------------------------
- الأعمال المعتادة والمراجعات الحكومية
(بمعدل نصف ساعة) ... ... 1.5 2.14%
- الأعمال المنزلية والرحلات والتنزه
(بمعدل ساعة واحدة يومياً) . ... 3 4.28%
- اللقاءات الاجتماعية والودية بين الأصدقاء
(بمعدل نصف ساعة يومياً) . 1.5 2.14%
- التنقل من مكان لآخر
(بمعدل نصف ساعة يومياً) . 1.5 2.14%
- الاتصالات الهاتفية
(بمعدل نصف ساعة يومياً) . 1.5 2.14%
-----------------------------------------------------------------
المجموع 61 سنة 87%
الباقي 9 سنوات 12.85%
فإذا حذفت من ذلك فترة المراهقة وزمن الطفولة فكم يا ترى يبقى من الوقت
للمشاريع الطموحة والأعمال الكبيرة، والأهداف النبيلة.
ولا ننسَ أن هذه التقديرات هي متوسط الوقت الذي يقضيه عامة الناس مع
إمكانية أن يكون هناك إنسان يزيد على هذا المتوسط من الوقت المبذول لكل نشاط،
كما أن هناك مَن ينقص من هذا ويكون شحيحاً بوقته إلى درجة الاقتصار على أقل
قدر ممكن مما يستحقه كل نشاط.
أقسام الوقت:
1- الوقت المادي الميكانيكي: وهو مقياس لحركة جسم مادي بالنسبة لجسم
مادي آخر، كالفترة التي تستغرقها الأرض في الدوران حول الشمس، ووحدات
هذا القسم: الثانية، والدقيقة، والساعة، واليوم.
2- الوقت البيولوجي: وهو الوقت الذي يقاس فيه تطور الظواهر البيولوجية
ونموها ونضجها وكمالها، ووحدته هي الجسم نفسه، فقد يكون لطفلين عمر زمني
واحد كتسع سنوات مثلاً، لكن أحدهما أكثر نضجاً من الآخر من حيث الطول
وكمال الجسم وتناسقه.
3- الوقت النفسي: وهو نوع آخر من أنواع الشعور الداخلي بقيمة الوقت،
حيث يؤثر الحدث النفسي في ذلك إذا كان سعيداً أو سيئاً أو خطراً أو مهماً، فتبدو
الدقائق في الحدث السيء كأنها ساعات، وتبدو الساعات في الحدث السعيد كأنها
دقائق.
4- الوقت الاجتماعي: وهو الوقت الذي يربط فيه تقدير الوقت بأحداث
اجتماعية مهمة إما عالمية أو محلية، ولذا: نسمع كبارالسن يؤرخون بحياة فلان
وفلان [2] .
قواعد إدراة الوقت:
* القاعدة الأولى:
تحديد الأهداف والأولويات: هناك مثل قديم ساخر يقول: عندما لا تعرف
أين تتجه فإن كل الطرق توصلك، وتحديد الهدف أمر على قدر كبير من الأهمية.
وللأسف فإن من التخلف الحضاري الذي تعيشه الأمة ما يمكن أن نسميه
بأزمة الهدف أو غياب الأهداف وخاصة الأهداف الوسطى التي تخدم الهدف
الأعظم [3] .
- أقسام الأهداف:
يمكن أن تقسم الأهداف إلى ثلاثة أقسام:
1- الهدف الأكبر: وهو أهم هدف يسعى له الإنسان ونجد ما عداه من
الأهداف تخدم هذا الهدف، وهو بالنسبة للإنسان المسلم: تحقيق العبودية لله (عز
وجل) ، وبالنسبة للماديين: تحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة والمصلحة والمتعة.
2- الأهداف الوسطى: وهي مجموعة من الأهداف تخدم الهدف الأكبر؛
مثالها بالنسبة للإنسان المسلم: الدعوة إلى الله، الصلاة، طلب العلم، بر
الوالدين.... الخ.
3- الأهداف الصغيرة: وهي ما يمكن أن يعبر عنها بأنها مجموعة من
الوسائل التي تخدم الأهداف الوسطى؛ مثالها: طلب العلم هدف أوسط وهناك
مجموعة من الوسائل والطرق والوسائل لتحقيقه.
علماً بأن كل هدف هو بالنسبة لما فوقه وسيلة وبالنسبة لما تحته هدف.
وبناء على هذا التقسيم: تكون هذه الأهداف على شكل هرم، حيث يتبوأ
الهدف الأعظم القمة وتليه الأهداف الوسطى الخادمة له، ثم تمثل الأهداف الصغيرة
قاعدة الهرم.
- تدوين الأهداف:
1- دون أهدافك بنفسك أو بالتعاون مع المجموعة التي تعمل معك في نفس
القطاع أو المؤسسة.
2- احرص على كتابتها؛ فهذا أدعى لعدم نسيانها.
3- لاحظ أن تكون الأهداف ذات معنى سامٍ قابل للنمو والتطور، وينم عن
همة عالية.
4- الاهتمام في سبيل تحقيق الهدف بالكيف لا بالكم.
5- الوضوح في صياغة الأهداف.
6- أن تكون الأهداف واقعية وممكنة التحقيق [4] .
- معايير خاطئة لتحديد أولويات العمل:
1- إذا كنت تقدم العمل الذي تحبه على العمل الذي تكرهه.
2- إذا كنت تقدم العمل الذي تتقنه على الذي لا تتقنه.
3- إذا كنت تقدم العمل السهل على العمل الصعب.
4- إذا كنت تقدم الأعمال ذات الوقت القصير على ذات الوقت الطويل.
5- إذا كنت تقدم الأعمال العاجلة على غير العاجلة وإن كانت مهمة [5] .
* القاعدة الثانية:
تسجيل الوقت وتحليله: الكثير من الناس يجهلون كيف يقضون أوقاتهم، ولذا: نجد البون شاسعاً بين ما يفعلونه في الواقع وبين ما يريدون أن يفعلوه، فإذا كان
ما يريد أن يفعله الواحد منهم من الأنشطة يستغرق 90 (نقطة) يجد أن ما يفعله في
الواقع لم يتجاوز 10 (نقاط) مما يريد أن يفعله، وهذا يعني التقصير في أداء بعض
الأنشطة أو عدم فعلها نهائياً.
المعلومة الدقيقة في تحليل الوقت وتسجيله تقود إلى تعريف دقيق للمشكلات
ومضيعات الأوقات، ومن ثم: تساعد على التخطيط السليم لقضاء الوقت [6] .
- أنواع تسجيل الوقت:
1- السجل اليومي للوقت: يركز فيه على الوقت تحديداً، والمكان، ونوع
النشاط، وترتيب الأنشطة في الأهمية.
2- السجل الشهري: يركز فيه على الوقت ابتداءً وانتهاءً، والتاريخ،
وكيفية قضاء النشاط، منفرداً أو في اجتماع، ومكان النشاط وأهميته.
3- سجل ملخص الوقت: يركز فيه نوع الأنشطة، مجموع الوقت
المخصص لكل نشاط في السنة كلها بالنسبة المئوية، ومن ثم المقارنة بين الأهمية
والنسبة المئوية المخصصة له [7] .
* القاعدة الثالثة:
التخطيط لقضاء الوقت: كثير من الناس يحب أن يعمل أكثر من محبته أن
يفكر، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه صواب.
والسر في ذلك أن الإنسان فيه غريزة حب الإنجاز والعجلة ومحبة رؤية ثمرة
العمل مبكراً، والعمل يشبع هذه الغريزة، بخلاف التخطيط والتفكير فنتائجه ليست
مباشرة ولا تظهر إلا بعد فترة من الزمن.
والعمل بدون تخطيط يأخذ وقتاً أطول مما يستحق، بخلاف العمل المخطط له
فهو يأخذ أقل قدر ممكن من الوقت لهذا العمل.
ولذا: فإن مضيعات الوقت تعترض بكثرة من لا يخطط لوقته، ومن ثم: فهو
لم يخطط لإيجاد حلول لها، ولذا يضيع وقته.
ومن يعمل العمل بدون تخطيط تقنعه أقل النتائج الحاصلة، بخلاف من يخطط
فإنه لا يرضى إلا بأكبر قدر ممكن من النجاح [8] .
-كيف نخطط؟ :
1- حدد الأهداف ورتبها حسب الأهمية والأولوية.
2- فكر في الخيارات المطروحة لتحقيق الأهداف واختر أحسنها ثم حدد
الوقت بالدقة لتنفيذ الطريقة.
3- حدد المكان المناسب للجميع لتنفيذ العمل.
4- فكر فيمن يقوم بالعمل أنت أو غيرك ومن هو الأصلح في ذلك.
5- افترض حدوث مضيعات للوقت، ومن ثم ابحث لها عن حلول.
6- تجنب الارتجالية في وضع الخطة.
7- لا تعط أي نشاط أكثر من الوقت الذي يستحقه، إذ إن إعطاءه ذلك يعني
أن العمل الصغير سوف يتمدد ليملأ الوقت المتاح مع إمكانية الاختصار في الوقت.
8- ضع احتياطات عند فشل النشاط لاستثمار الوقت، فمثلاً عندما يتخلف
الطرف الآخر عن الموعد، يفترض أن تستفيد من الوقت وتستثمره في شيء آخر.
9- حاول أن تجمع الأعمال المتشابهة لتقوم بها دفعة واحدة، مثل: إجراء
عدة اتصالات هاتفية.
10- تذكر أن بضع دقائق من التفكير توفر بضع ساعات من العمل الشاق،
وكما تقول بعض النظريات: إن 80% من الإنتاج تنبع من 20% من
العناصر [9] .
* القاعدة الرابعة:
التفويض والتوكيل: يعتبر التوكيل الجيد من الأساليب الناجحة لحفظ الوقت،
وذلك لأنك تضيف بأوقات الآخرين وقتاً جديداً إليك، وتكسب عمراً إلى عمرك
المعنوي.
- أسباب الإعراض عن التفويض:
1- المركزية التي يتشبع بها بعض الأشخاص، حيث لا يثق الشخص بأحد
البتة، وأضرار هذه المركزية تظهر عندما يصيب الشخص مرض قاهر أوظرف
طارئ حيث يتعطل العمل بدونه.
2- الرغبة في تحقيق أكبر قدر ممكن من النجاح.
وهذه نظرة قاصرة، لأن النظرة البعيدة تقضي بأن التفويض وسيلة ناجحة
لاحتمال أن يكون المتدرب فيما بعد مثلك في الأداء أو أحسن منك أحياناً، وبالتالي
تحافظ على وقتك وتنجز أكثر [10] .
* القاعدة الخامسة:
مضيعات الوقت: مضيعات الوقت داء عضال يشكو منه كل حريص على
وقته، وهي قسمان:
1- داخلي من الإنسان نفسه، وينبع هذا غالباً من عدم التخطيط السليم.
2- خارجي من الآخرين: الأسرة والمجتمع.
ومضيعات الوقت قد تكون أموراً نسبية، فمثلاً: قد يأتيك زائر ثقيل الظل
بدون ميعاد، ويقتطع جزءاً ثميناً من وقتك، فبينما تشعر أنك على جمر تتلظى،
يشعر هو في المقابل بسعادة غامرة وانطباع جيد عن هذا اللقاء.
-مضيعات الأوقات:
1- اللقاءات والاجتماعات غير المفيدة سواءً أكانت عائلية أو غيرها.
2- الزيارات المفاجئة من الفارغين.
3- التردد في اتخاذ القرار.
4- توكيل غير الكفء في القيام بالأعمال، وهو ما يسمى بالتفويض غير
الفعال.
5- الاتصالات الهاتفية غير المفيدة.
6- المراسلات الزائدة عن الحد.
7- القراءة غير المفيدة، ويدخل فيها فضول العلم عند تقديمها على الفاضل.
8- بدء العمل بصورة ارتجالية بدون تخطيط ولا تفكير.
9- الاهتمام بالمسائل الروتينية قليلة الأهمية.
10- تراكم الأوراق وكثرتها وعدم ترتيبها.
11- عدم القدرة على قول لا، أو ما يمكن أن نسميه بالمجاملة في إهداء
الوقت لكل من هب ودب.
12- التسويف والتأجيل [11] .
- كيفية السيطرة على مضيعات الوقت:
1- اجمع البيانات اللازمة عن مضيعات الوقت.
2- حدد سبب تضييع الوقت بدقة.
3- ضع عدداً من الحلول لكل مضيع للوقت ثم اختر أنسبها.
علماً بأن السيطرة على مضيعات الوقت لا يعني بالضرورة إزالتها بالكلية لأن
بعض هذه المضيعات ضروري ومهم، ولكن لابد من السيطرة عليه بدلاً من
السيطرة علينا.
وقد ذكر المصنفون في هذا الباب حلولاً مستقلة لكل مضيع من المضيعات لم
نر متسعاً لذكرها هنا لكثرتها.
إلماحات مهمة:
1- إدارة الوقت الناجحة لا تعني بالضرورة تخفيض الوقت اللازم لتنفيذ كل
نشاط معين، بل تعني قضاء الكمية المناسبة منه لكل نشاط.
2- يستحيل أن تكون جميع الأعمال في درجة واحدة من الأهمية، وهذا يعني
أنه لابد من ترتيب الأولويات.
3- عالج مضيعات الوقت بحلول جذرية لا وقتية.
4- تحكم في الوقت المتاح ولا تترك الوقت هو الذي يتحكم فيك، فبادر
بالأعمال وانتهز الفرص.
5- إنما تكمل العقول بترك الفضول؛ الفضول في القول أو الفعل [12] .
6- ساعة وساعة: ينبغي للإنسان أن يجعل جزءاً من وقته للترويح عن نفسه
لأن القلب إذا كلّ عمي، وينبغي أن يكون الترويح بشيء مفيد كقراءة الأدب
والشعر والتاريخ، أو الرياضة المفيدة للجسم كالسباحة؛ قال أبو الدرداء: إني
لأستجم قلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق [13] .
7- وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام [14]
أصحاب الهمم العالية والمشاريع الطموحة يتعبون أجسامهم ولا تكفيهم الأوقات
المتاحة لتحقيق كل طموحاتهم.
8- لكل وقت ما يملؤه من العمل؛ بمعنى أن لكل وقت واجباته، فإذا فُعلت
في غير وقتها ضاعت [12] .
9- الوقت قطار عابر لا ينتظر أحداً، فإن لم تركبه فاتك.
10- تذكر أن أهم قاعدة في إدارة الوقت هي الانضباط الذاتي النابع من
إرادة جبارة عازمة على الحفاظ على وقتها متخطية كل العقبات التي تعترض
طريقها.
11- اعمل بطريقة أذكى لا بمشقة أكثر كانت هذه العبارة هي شعار الجمعية
الأمريكية لتقويم المهندسين كمحاولة منها للتمييز بين الشغل والانشغال، وهي تشير
إلى التخطيط السليم لكل عمل تعمله [15] .
وختاماً أقول: إن من نعمة الله (تعالى) علينا أيضاً أن نوّع لنا العبادات كي
نختار منها ما تقوى عليه نفوسنا، فإذا مللنا نوعاً انتقلنا إلى آخر، فلله الحمد
والشكر على ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
__________
(1) انظر مثلاً: كتاب قيمة الزمن عند العلماء، عبد الفتاح أبو غدة، وكتاب: سوانح وتأملات في قيمة الزمن، خلدون الأحدب، وغيرهما.
(2) انظر: كتاب أفكار رئيسية في إدارة الوقت، محمد المدني البخاري، ص (12-17) .
(3) إدارة الوقت د نادر أبو شيخة، 95.
(4) إدارة الوقت: د نادر أحمد أبو شيخة، 98، إدارة الوقت، لمجموعة من الباحثين: ترجمة د وليد عبد اللطيف هوانة، 347.
(5) إدارة الوقت: د نادر أحمد أبو شيخة، 101.
(6) إدارة الوقت: ترجمة د وليد عبد اللطيف هوانة، 237 - 244.
(7) أفكار رئيسية في إدارة الوقت، 25، إدارة الوقت - أبو شيخة، 81، إدارة الوقت، د وليد هوانة، 225.
(8) انظر: إدارة الوقت، ترجمة وليد هوانة، 45، إدارة الوقت، د أبو شيخة، ص109.
(9) إدارة الوقت، د أبو شيخة 114، أفكار رئيسية في إدارة الوقت، 53.
(10) إدارة الوقت، هوانة، 377 - 440، إدارة الوقت، أبو شيخة، 239.
(11) أفكار رئيسية في إدارة الوقت، 40، إدارة الوقت، د أبو شيخة، 125.
(12) سوانح وتأملات في قيمة الزمن، لخلدون الأحدب، 53 - 66.
(13) بهجة المجالس لابن عبد البر، 1/115.
(14) ديوان المتنبي، 201.
(15) أنجز أكثر واعمل أقل، بحث قدمه جون هـ شريدان، ضمن مجموع البحوث المترجمة، ترجمة وليد هوانة، ص 327، وإدارة الوقت، أبو شيخة، 26.(86/110)
مساحة للحوار
بين أهل الفكر وأهل الإدارة
جمال سلطان
هل أصبحت المشكلة مزمنة إلى هذا الحد، الذي يضطرنا إلى بسطها عبر
صفحات منابرنا الإعلامية؛ من جانبي وعلى مسؤوليتي الشخصية أجيب بالإيجاب: نعم؛ إن هناك مشكلة داخل إطار العمل الإسلامي، سواء أكان هذا الإطار
جماعات أو حركات أو أحزاباً أو مؤسسات، وتجاهل هذه المشكلة في تقديري أمر
غير صحي وغير مفيد، وإن كان يخفي ضجيج المشكلة حيناً من الوقت إلا أنه لن
يستطيع أن يخفيها طول الوقت، كما أن هذا التجاهل يراكم من آثار المشكلة ويعزز
من خنادق كل فريق من فرقائها.
وبداية، أود التمهيد المختصر للمشكلة: بتحرير مفرداتها، ووجه الخلاف
بين أطرافها، فالمقصود بأهل الفكر: القطاع الإسلامي المشتغل بقضايا الفكر
الدعوي: مفكرون، ودعاة، وكتاب، وصحفيون، وأكاديميون، وعلماء،
والمقصود بأهل الإدارة: أولئك المتميزون بمهارات التنظيم والإدارة والإشراف
على خطط الأداء الوظيفي في المؤسسات أو الجماعات أو الأحزاب أو نحوها.
ووجه الخلاف يمكن تبسيطه في أن بعض أهل الفكر دائمو الشكوى مما قد
يبدو لهم كجبروت وسوء تقدير يلقونه من أهل الإدارة، ونزعات هيمنة تعوق
انطلاقة الجهد الفكري، وتجتهد لتقنينه وضغطه في قوالب معينة، ويصل الاتهام
أحياناً إلى حد القول بتحقير الجهود الفكرية إلى جانب الجهود الإدارية، والنظر إلى
المفكر أو الداعية كموظف في جهاز إدارة، الأمر الذي يمس كرامة النشاط الفكري
والدعوي وأصحابه، ويطفئ جذوة التأمل والتفكير ووهج النشاط والتجدد في نفس
الداعية والمفكر، ويحبط بالتالي أي معنى للعطاء الفعال الرائد في هذا المجال.
على الجانب الآخر قد ينظر أهل الإدارة بشيء من القلق والضجر أيضاً إلى
أهل الفكر، ويرون أنهم يغالون في شعورهم بالتميز، ويبالغون في حساسيتهم من
الانضباط والتأطير ويزدرون العمل الإداري.
ولاشك أن الجهود الفكرية والجهود الإدارية، هما بمثابة جناحي الطائر طائر
العمل الإسلامي العام الذي إذا أصاب الخلل أحد جناحيه، فقد أصابه في صميمه.
ولاشك أيضاً، في أن كلا الطرفين في حاجة ماسة إلى وجود الطرف الآخر،
بل وإلى تعزيز دوره، ومساعدته بكل سبيل من أجل تحقيق الخير العام للعمل
الإسلامي، فالمفكر بدون القاعدة الإدارية أشبه بالطائرة التي فقدت الاتصال
بمحطتها الأرضية، كما أن الإدارة في مجال العمل الإسلامي بدون المفكر الداعية،
تنتهي إلى آلية منغلقة ورقابة وظيفية مملة، تعجز عن ريادة الواقع، واستشراف
آفاق العمل ومستقبله.
وهذه المشكلة في الحقيقة ليست خاصة بالمجال الإسلامي وحده، بل هي
شائعة في المجتمع الإنساني بوجه عام، وإذا كان الغرب قد استطاع إلى حد كبير
حل هذه المشكلة في إطار منظومته الحضارية فإن الشرق بوجه عام مازال عاجزاً
عن إيجاد الحلول الواقعية والجادة لهذه المشكلة، كما أن هذه المشكلة، بارتباطها
المباشر وغير المباشر بمنظومة القيم والشرائع والمرجعية العليا للمجتمع، هي غير
قابلة لمبدأ استيراد الحلول، فالحل الذي نجح في الغرب وهو حل يطول شرحه ولا
يناسب المقام بسطه لا يصلح بتمامه وكماله في مجال العمل الإسلامي، ويصبح من
المحتم علينا بسط المسألة للحوار الهادف البنّاء الصريح، وبذل الجهود الجادة من
أجل ضبط العلاقة المتوترة بين الجهتين، لوقف نزيف الطاقات الإسلامية، وبناء
منظومة إسلامية تكاملية متضامنة.
وحتى يتم هذا الحوار، أرى أن أهم أسباب الجمود الذي تشهده قطاعات كبيرة
من العمل الإسلامي، إنما يعود إلى إهمال الجانب الفكري، ووضع أصحاب الفكر
والدعوة في الصفوف الخلفية من مسيرة العمل، وضعف الإحساس لدى بعض
العاملين بأهمية هذه الجهود الفكرية والدعوية وقيمتها في تجديد نشاط الدعوة وفتح
آفاق جديدة أمام طاقاتها فضلاً عن الدفاع عن مكتسباتها وصد الغارات الفكرية
والإعلامية والثقافية العديدة التي تنهش في جسد الصحوة ومؤسساتها وتياراتها فضلاً
عن ترشيد الصحوة ذاتها من خلال رصد وتحليل فعلها في الواقع، وتقويمه،
وطرح الأفكار الجديدة التي تحرك النشاط نحو الأفضل والأكثر رشداً وإنجازاً.
إن قيمة الداعية أو المفكر، والنشاط الذي يصدر عنهما، يرتبط ارتباطاً
حميماً بوضعهم في مسيرة العمل كرواد للطريق، يستطلعون ما وراء الأكمة،
وينذرون القافلة، ويحدون الركب، فإذا ما أهملتهم القافلة، أو وضعتهم في مؤخرة
الركب، فلاشك أن الخسارة تكون فادحة، والمسيرة تصبح مغامرة في متاهة،
ووراء ذلك كله يصبح النشاط الفكري والدعوي عديم القيمة، وعديم الفاعلية،
ويتحول وجوده في المسيرة إلى مجرد تحفة فنية تكمل جمال الديكور! .(86/122)
منتدى القراء
اليهود المسالمون! ! وأطماعهم
فهد سعود المحمود
الحقيقة التاريخية الثابتة، الواضحة وضوح الشمس، هي الحقد اليهودي
الدفين على الإسلام والمسلمين، وقد كان لليهود مواقف عدائية كثيرة مع المسلمين
ابتدؤوها مع الرسول الكريم على الرغم من صدق نبوته -صلى الله عليه وسلم-
عندهم [1] ، ولما تكررت محاولات اليهود الغادرة أيام الرسول، أمر -صلى الله
عليه وسلم- بإجلائهم خارج المدينة، وأجلوا عن مساكنهم إلى مدينتي تيماء ...
وخيبر [2] في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل نسي اليهود في العصر
الحديث ذكرى سكن أجدادهم في يثرب المدينة المنورة وخيبر؟
للإجابة على هذا السؤال نقول:
... عندما سقطت القدس القديمة بأيديهم عام 1967 م، دخلها وزير دفاعهم
موشيه دايان في صحبة الحاخام الأكبر شلومو غورين، وبعد أدائهم صلاة الشكر
عند حائط البُراق قال فيهم: اليوم فُتح الطريق إلى بابل ويثرب، وتعالت هتافات
النصر التي رددها يهود المنتصرون يا لثارات خيبر. وتقول رئيسة الوزراء آنذاك
جولدا مائير - وهي في (إيلات) على خليج العقبة -: إني أشم رائحة أجدادي في
خيبر [3] .
ومن المؤلم حقاً أنهم بعد احتلال القدس بدؤوا خطة ماكرة، فلم يتركوا أسلوباً
إلا واتبعوه (وعد ووعيد - إغراء وتهديد) ، حاولوا انتزاع الزاوية الفخرية دار أبي
السعود في القدس وهي ملاصقة للجهة الغربية لسور المسجد الأقصى لكي يهدموها
للبحث عن أساس هيكلهم - المزعوم - وطلبوا إلى أرملة الشيخ حسن أبو السعود
(رحمه الله) أن تبيعهم الدار بالثمن الذي تريد أو أن تختار داراً سواها في أي مكان
آخر تحدده، فرفضت وأصرت على الرفض، فأخرجت منها بالقوة، وقامت
الجرافات بهدم الدار ... لم تقبل هذه العجوز العروض حفاظاً على الأرض
الإسلامية التي فرط فيها الأبناء مقابل حكم ذاتي محدود وهزيل! ! .
قطوف
حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الجدال والخصومات في الدين فقال
في ذلك: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ هذه الآية [ما
ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون] ، وروى الإمام مالك: ذروا المراء،
فإن المراء لا تؤمن فتنته، ذروا المراء، فإن المراء يورث الشك ويحبط العمل ...
عن كتيب الجدال في الدين، د/ أحمد خضر، من سلسلة (من التراث) .
__________
(1) أي: في كتبهم قبل التحريف.
(2) تيماء وخيبر تقعان في شمال المملكة العربية السعودية حالياً.
(3) إسماعيل الكيلاني: لماذا يزيفون التاريخ؟ ، ص 34-35.(86/125)
الورقة الأخيرة
غزو.. وثلاث حقائق
د.محمد بن ظافر الشهري
لم يعد التنكيل بالمسلمين مقصوراً على دول أو عقائد بعينها، بل لم يعد
مقصوراً على الكافرين كفراً أصلياً، ولهذا فقد أصبح الحديث عن الطعنات المتتالية
في جسد أمتنا أمراً لا يدعو إلى العجب.. وإن كان يحمل معه الكثير من المرارة
والحرقة.
إن من نافلة القول أن أتحدث عن وحشية الروس وهمجيتهم فإن لهم القدح
المعلى في تلكم الرذائل وليس في هذا تنقص للمنافقين وصنوف الكافرين؛ فهم في
حربهم للمسلمين كأفراس الرهان.. كل أمة منهم تلعن أختها..! ! ولكنني أذكر هنا
بثلاث حقائق ينطلق بها هذا الغزو الهمجي.
أيها المسلمون.. لقد آن لكم أن تعوا أن القوى العظمى ما هي إلا أصنام
صاغها خيال الجبناء الذين أصابهم الوهن فاختل إيمانهم بالغيب ويئسوا من نصر
الله.. فجمع الله لهم هزيمتين: ظاهرة وباطنة.
إن شعباً قليل العدد والعدة، محاصراً من كل جانب، قد خذله أهله قبل
أعدائه.. لَيُقَدم أوضح البراهين على شدة بأس المؤمن، حين يُبْلِي هذا البلاء في وجه قوة من أعتى قوى الكفر في هذا الزمن! !
وحقيقة أخرى.. أهديها إلى دول الكفر بهذه المناسبة.. أيتها الدول
المتحظرة.. لن تكوني أحسن حالاً من فارس والروم، فقد حاولت الأوعال قبلك أن تنطح صخرة الإسلام، فسجلت كتب التاريخ نتائج تلكم المحاولات، فراجعيها إن شئت.
أما الحقيقة الثالثة.. فهي من نصيب أصحاب الدرك الأسفل من النار، الذين
لم يأخذوا العبرة من البوسنة ولا من طاجكستان، و..، فليت شعري هل يدركون
الآن أن تجفيف المنابع سياسة منيت بالفشل الذريع عند الذين ابتدعوها ومارسوها
على أكمل وجه، فكيف بها عند من لا يجيدون سوى المحاكاة؟ ! لقد صدرت آلاف
من أحكام الإعدام في حق هذا الدين.. ولكنه لا يزال حياً.. كم هو مثير للضحك
والشفقة في آن، أن يستجمع الرجل قواه ثم ينفخ باتجاه الشمس لعله يطفئها.. أو
يحثو بالتراب في البحر يريد ليدفنه ...
[يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره
الكافرون] [التوبة: 32] .
قطوف
فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام
وكثرة الجدال والخصام والزيادة في البيان على مقدار الحاجة: لم يكن عياً ولا جهلاً
ولا قصوراً، وإنما كان ورعاً وخشية لله واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع.. ... من كتاب بيان فضل علم السلف على علم الخلف، للحافظ ابن رجب، تحقيق محمد العجمي.(86/127)
ذو القعدة - 1415هـ
أبريل - 1995م
(السنة: 9)(87/)
كلمة صغيرة
كفى أيها الأفغان
أربعة عشر عاماً من الجهاد الأفغاني كانت حافلة بكل ألوان الانتصارات
والبطولات الجهادية، ومع تساقط الشهداء وتناثر الأشلاء وتتابع المهاجرين..
كانت تكبيرات المجاهدين تقوي العزائم وتشحذ الهمم لمواصلة الطريق مهما كان
شاقاً وطويلاً.
وبعد أن سقط الشيوعيون كانت النفوس تتطلع إلى حكومة المجاهدين
الإسلامية.. ولكن -مع الأسف الشديد- سقط المتقاتلون في دوامة الصراع الحزبي
والقبلي، وتناثرت الأشلاء ثانية، ولكن هذه المرة في سبيل..!
كم هو مؤسف أن تُقطف هذه الثمرة وتصبح ألعوبة تعبث بها القوى النفعية.
ولن نحمل المسؤولية القوى الخارجية أو الأصابع الخفية - وإن كنا لا ننكر
دورها - ولكن نؤكد أن المسؤولية -كل المسؤولية- إنما هي على قادة الجهاد الأفغاني.. فماذا سوف يجنون وقد دكت كابل وضاقت بقبورها..؟ !(87/1)
الافتتاحية
وأملي لهم ... إن كيدي متين
... ... ... ... ...
... ... ... ... ... [1]
إن تاريخ الحكومات الثورية ثم الديمقراطية! مع الصحوة الإسلامية المعاصرة
تاريخ قديم حافل بكل ألوان الصراع والملاحقة والكبت وإحصاء الزفرات.. ولكن
العجيب أنّ الأيام والمحن لا تزيد الصحوة الإسلامية إلا ثباتاً ورسوخاً وتجذراً،
وفي كل يوم تمتد تلك الأغصان الكريمة وتتنامى بصورة مدهشة جداً..
لقد جن جنون الساسة والعلمانيين وفقدوا القدرة على التركيز والتفكير، وظنوا
أن الحل الوحيد الذي يُخرجهم من هذا المأزق هو العصا الغليظة التي تلهب الظهور
وتدمي الجباه..!
ظنوا أن الخيار الأمثل هو بناء السجون والمعتقلات في الصحاري اللاهبة
التي تنتهك فيها آدمية الإنسان، ويُمارس فيها شتى ألوان القهر والجبروت..!
ومع ذلك كله لم يتوقف المد المبارك؛ فالشارع الإسلامي على الرغم من
سياسة التجهيل وإعلام المرتزقة وسماسرة الصحافة يزداد التفافاً حول علمائه ودعاته
المخلصين.
ولكن.. ماذا بعد؟ ! وإلى متى تستمر الأنظمة (الديمقراطية!) في عدائها
الصارخ المتطرف للصحوة الإسلامية ورجالاتها؟ ! إلى متى يستمر الجري اللاهث
إلى هذا النفق المظلم..؟ !
مع الأسف الشديد لم تستفد هذه الأنظمة من خبراتها السابقة، بل استمرت لغة
السجون والعصي هي الأسلوب الوحيد الذي تجيده بكل إتقان وجدارة، فهل انحلت
المشكلة ووصلوا إلى مطلوبهم..؟ !
لقد ولّد العنف الرسمي عنفاً مضاداً، وأثمر التطرف تطرفاً مقابلاً، وأصبحت
القضية تدور في حلقة مفرغة تماماً، فالأدوات البوليسية التي تستخدمها السلطة
أصبحت وقوداً مستمراً للعنف والعنف المضاد! ! كم هو مؤسف أن تبقى تلك
العقول الصغيرة المتخثرة تجتر السياسة نفسها..؟ !
حقاً إنه الإفلاس المفرط الذي أدخلها في دوّامة العنف والقمع والتغطرس.!
[أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا]
[الفرقان: 44] .
لقد نجحت الأنظمة الثورية في وأد بعض الأحزاب العروبية المتهرئة، لأنها
وجدت رموزاً نخرة يمكن أن تباع وتشترى بثمن بخس دراهم معدودة، ولكنها
فشلت فشلاً ذريعاً في ترويض تلك الجياد الأصيلة التي اشترت ما عند الله والدار
الآخرة.
إن ثمة حقيقة كبرى يغفل عنها أولئك الملأ الذين غرّتهم عساكرهم، وهي أن
حرب الصحوة الإسلامية ليست حرباً لأشخاص بأعيانهم تنتهي قضيتهم بتصفيتهم أو
خنق أصواتهم، ولكنها حربٌ مع السنة الكونية، فالله (سبحانه وتعالى) أنزل هذا
الدين لكي يبقى إلى قيام الساعة، [يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمَ نوره
ولو كره الكافرون] [الصف: 8] . كما أنها حرب مع الله (تعالى) ؛ فقد جاء في
الحديث القدسي: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» [1] .
ومن ثم: فإن أي محاولة لاستئصال الصحوة الإسلامية وتجفيف منابعها تعد
محاولة خاسرة يائسة، مآلها بحول الله (تعالى) إلى التآكل والموت؛ قال الله (تعالى) : [إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم
حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون] [الأنفال: 36] .
إن العقيدة الإسلامية لا يمكن أن تحارب بقوة السلاح وطغيان السلطة، وإن
استطاع السلاح في يومٍ من الأيام أن يؤذي رجال هذه العقيدة أو يعطل مسيرتهم
لبعض الوقت، فإنها تبقى راسخة حية تعمر قلوب المؤمنين، ولابد أن يظهر نورها، فكيف يعرف الخوف أو الإحباط طريقاً إلى صدور المؤمنين وهم يقرؤون الأنفال
والتوبة وآل عمران..؟ ! !
[2]
قال الله (تعالى) : [وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري
فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني
لأظنه من الكاذبين * واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا
لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين *
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا
لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين] [القصص: 38-42] .
إنها قصة موسى (عليه أفضل الصلاة والسلام) مع فرعون بني إسرائيل،
ولكنها قصة حية تتجدد بتجدد الفراعنة والطواغيت، فهم كثيرون تجمعهم عقلية
الاستعلاء والاستكبار والاغترار بالجند؛ قال الله (تعالى) : [أمَّن هذا الذي هو جند
لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور] [الملك: 20] ...
شعارهم واحد لا يختلف: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) ! .
ولكن سنة الله (تعالى) تتجدد مع تجدد الفراعنة، فإن الله يُملي للظالم حتى إذا
أخذه لم يفلته؛ قال الله (تعالى) : [والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا
يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين] [الأعراف: 182-183] .
وبعد هذا الصراع كله: [فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون] ؟ ! !
أهم أولئك الجبابرة الذين ملكوا العبيد! وفتحوا السجون، يأمرون وينهون بلا رقيب
ولا حسيب؟ ! أم هم أولئك المخبتون الصادقون؟ !
قال الله (تعالى) : [الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم
مهتدون] [الأنعام: 81، 82] .
الأمن الذي يعمر قلوب الدعاة.. حتى وهم مسلسلون في ظلمات السجون..!
الأمن الذي ملأ نفوسهم.. حتى وهم يجلدون وتسيل الدماء على وجوههم..!
الأمن الذي سكنت به جوارحهم.. حتى وهم معلقون على أعواد المشانق..!
فصبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
__________
(1) البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، ح/6512.(87/4)
دراسات شرعية
مفاهيم ودروس من صلح الحديبية
د. محمد بن عبد الله الشباني
مدخل:
تمثل السيرة النبوية والسنة القولية والفعلية للرسول -صلى الله عليه وسلم-
مصدراً مهماً لفهم التشريع الإسلامي على مستوى العلاقات الاجتماعية والسياسية،
وبخاصة عند تحديد كيفية التعامل مع الأعداء.
وفي هذا العصر الذي بلغت فيه الهزيمة النفسية مدًى واسعاً يستدل بعض من
يدافع عن واقع الهزيمة التي تجذرت في نفوس بعض من يتولى توجيه الأمة سياسياً
وفكرياً بـ (صلح الحديبية) دليلاً شرعياً يُسَوّغُ به تسليم أرض المسلمين في
فلسطين إلى اليهود والتمكين لهم فيها، وبذل مال المسلمين لتقويتهم.
إن غزوة الحديبية وما تم فيها من صلح بين رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وبين أعدائه من مشركي العرب تحتاج إلى وقفة متأنية ودراسة منهجية حتى
لا يُعمَد بحسن نية أو بسوء نية إلى تزيين التخاذل والاستخذاء والاستسلام لأعداء
الأمة.
إن تلك الغزوة وما حصل فيها من مواقف متعددة في التعامل مع المشركين
لَدروسٌ ينبغي فهمها واستيعابها من قبل أفراد الأمة، لما في ذلك من أهمية في
مكافحة الغزو الثقافي وما يتبعه من هزيمة نفسية هي أشد ألماً وتأثيراً في كينونة
الأمة من الاحتلال العسكري ولما لذلك من تأثير على استمرار قدرتها على المجابهة
إلى أن يأذن الله لها بالفرج، وتتوفر لها أسباب عدم الاندثار والزوال والذوبان في
الأمم والثقافات الأخرى.
ويرتبط فهم المواقف التي حدثت في غزوة الحديبية ومعرفة مدلولاتها بفهم
الظروف التي صاحبت هذه الغزوة التي قاد فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم-
طلائع الجيوش المسلمة، آملاً أن يكون فيما سأتطرق إليه من مفاهيم ودروس لهذه
الغزوة ما يوضح الحقيقة التي يراد نسيانها أو تناسيها.
أحوال ما قبل الصلح:
*مكانة (مكة) في قلوب المسلمين:
إن مكانة مكة في قلوب العرب تمثل بقايا قيم وتعاليم نبي الله إبراهيم (عليه
السلام) ، ولهذا: فقد كان العرب يفدون إلى مكة لأداء النسك في شهر ذي الحجة،
وقد حرّموا بينهم شهور ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، فلم يبيحوا القتال في تلك
الأشهر، لكي تتمكن القبائل العربية من الوفود إلى مكة لأداء مناسك الحج، ولذا:
فقد كانت مكة محط أنظاره -صلى الله عليه وسلم- هو وصحابته الكرام الذين تهوي
دائماً أفئدتهم إليها.
*تضعضع مكانة قريش:
وإن من أهم الظروف التي سبقت صلح الحديبية والتي تساهم في فهم معطيات
وأسس الصلح الذي تم بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش: تضعضع
مكانة قريش العسكرية بعد غزوة الخندق، التي انتصر فيها رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، مما أدى إلى تفكك التجمع المناهض للدولة الإسلامية، وقيامه -صلى
الله عليه وسلم- بالقضاء على اليهود الذين كان لهم دور فاعل ومؤثر في تأليب
العرب المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان لهذا الواقع أثره
في بروز القوة الإسلامية في المدينة وظهورها قوةً جديدة قادرة على مجابهة جميع
القوى في الجزيرة العربية آنذاك.
*فرض واقع جديد:
ويتضح من الأسلوب الذي اتبعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خروجه
إلى مكة معتمراً رغبته -صلى الله عليه وسلم- في الحصول على الاعتراف من
قريش بالمجتمع الجديد الذي قام في المدينة، وأن له الحق كبقية القبائل العربية في
زيارة مكة، مما يساعد القوة الإسلامية الجديدة على الامتداد والانتشار في الجزيرة
العربية، وبالتالي: إضعاف مركز قريش، وقد أعلن -صلى الله عليه وسلم-
للناس أنه لا يريد الحرب ولا يسعى إليها [1] ، بل خرج مُحرِماً سائقاً للهدي معظماً
لشعائر الله، فلم يأخذ معه سلاحاً إلا السيوف مغمدة.
فلم يخرج -صلى الله عليه وسلم- من أجل الجهاد وتأديب أعداء الله، وإنما
خرج لأداء شعيرة من شعائر الله، ولكن هذه الخطوة وضعت قريشاً أمام خيارين
أحلاهما مر؛ فإما أن يمنعوه ص؛ فتهتز مكانتهم الأدبية والاجتماعية بين العرب
لكونهم يصدون عن بيت الله الحرام، وإما أن يقبلوا دخوله -صلى الله عليه وسلم-، فتهتز مكانتهم السياسية وهيبتهم العسكرية بين العرب؛ لأنه سيقال: إن قريشاً
سمحت للمسلمين بدخول مكة لعدم قدرتها على مواجهتهم ومنعهم.
بين صلح الحديبية ومعاهدات السلام! :
يمثل صلح الحديبية الأساس الشرعي لكيفية التعامل مع الأعداء، وكيف يتم
التهادن معهم، والقواعد التي ينبغي مراعاتها؛ أخذاً بالظروف العسكرية التي تم
على ضوئها الصلح، وفهماً لما احتوت عليه نصوص الصلح من قواعد يجب فهمها
على ضوء قوة المسلمين، وليس على ضوء الضعف والاستخذاء واللجوء إلى العدو
للحماية وطلب النصرة.
إن المعطيات والأحداث المصاحبة والسابقة واللاحقة لصلح الحديبية توضح
القواعد التي تحكم سلوك المسلمين مع الأعداء، وتحدد الإطار الذي يمكن على
ضوئه أن يتم التعامل معهم سلماً أو حرباً، لهذا: فلابد من استعراض أهم الأحداث
والمواقف التي سبقت التوصل إلى عقد الهدنة وليس الصلح، فهناك فرق كبير بين
الهدنة التي تمت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصلح كما هو حادث الآن
مع اليهود المغتصبين لأرض المسلمين؛ فالصلح الذي تم مع بعض قادة الدول
العربية إنما هو استسلام كامل وإقرار للمغتصب باغتصابه، بل ومكافأة للعدو بفتح
البلاد العربية والإسلامية ليغزوها وينهب خيراتها من خلال: التمكين له اقتصادياً،
والتطبيع السياسي الكامل معه، مع العمل على مسخ العقل المسلم وسلبه مقومات
وجوده الثقافي والفكري فيما يعرف بـ «التطبيع الثقافي» ، هذا الصلح الذي يتم
ويطلق عليه اسم (عملية السلام) ، وترتفع عقيرة الداعين و (المطبلين) له بزعم أن
ما يتم الآن من صلح إنما هو تطبيق لما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-
واتباع لمنهجه! ، بل إن من المضحكات المبكيات أن يستشهد حاملو لوائه بقوله
(تعالى) : [وإن جنحوا للسلم فاجنح لها] بعد نزعها من سياقها في الآية وفقاً
لقاعدة: (لا تقربوا الصلاة..) .
كيف نفهم صلح الحديبية؟ :
إن الأحداث السابقة لتوقيع الصلح مع قريش التي توضح الظروف المساعدة
لحصول الصلح تمثلت في الأمور التالية:
أولاً: حينما علمت قريش بمقدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثار ذلك
حميتها؛ فجمعت قواها من أجل محاربته -صلى الله عليه وسلم-؛ فاستعانت
بحلفائها من الأحابيش وثقيف، فتدافعوا خارج مكة لملاقاة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وفي مقدمتهم الفرسان بقيادة «خالد بن الوليد» بمئتي فرس، وقد عمد
«خالد» بأن وقف أمام المسلمين في قبلتهم لغرض الانقضاض عليهم عند قيامهم
بأداء الصلاة، ولهذا: فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائد فرسانه «
عباد بن بشر» (رضي الله عنه) فتقدم ووقف إزاء «خالد» وَصفّ أصحابه خلف
المسلمين لابسين الإحرامَ، وبعد أن حان وقت صلاة الظهر أذن «بلال» (رضي
الله عنه) وأقام الصلاة، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم، ولهذا: فقد
وضع المشركون خطتهم في الصلاة الثانية على أن يهجموا على المسلمين أثناء
صلاتهم للعصر، ولكن الله أمر نبيه وشرع له صلاة الخوف، فأفسد ذلك على
قريش خطتها [2] ، إذ كان من أهم الدروس التي حصلت من تشريع صلاة الخوف
توجيه الانتباه إلى (العنصر العقدي في الصراع مع العدو) الذي يراد إبعاده بالصلح
مع العدو في عصرنا الحاضر، فإبراز شعيرة الصلاة خلال المواجهة مع العدو
والإصرار على أدائها إنما هو توجيه للأمة بعد رسولها بعدم التهاون في أي مبدأ،
حتى في أحلك الظروف المواجهة العسكرية فما بالنا في عقد هدنة أو معاهدة؟ ! ؛،
فأي صلح أو معاهدة تبرم مع الأعداء تتضمن في أبعادها وشروطها تنازلاً ولو
ضمناً عن القيم والمبادئ الإسلامية، تعتبر هذه المعاهدة أو الصلح اتجاهاً فاسداً،
مثل شرط ضرورة (التطبيع الثقافي) الذي يصر اليهود والنصارى على مطالبة
المسلمين بتنفيذه؛ وذلك من خلال محاربة (مفهوم الولاء والبراء) بطمس الشخصية
الإسلامية، وفصل الدين عن الدولة، ومحاربة أي توجه لتثبيت ركائز التميز
الإسلامي.
ثانياً: استشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من معه من المسلمين:
ماذا يفعل بعد أن خرجت قريش لمنعه من أداء شعيرة العمرة؟ ، فأشار عليه
الصديق (رضي الله عنه) قائلاً: «يا رسول الله، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد
قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه» ، لقد أخذ الرسول -
صلى الله عليه وسلم- بهذا الرأي فقال: «امضوا على أمر الله» [3] ، فساروا،
وتجنب -صلى الله عليه وسلم- المواجهة مع قريش كما تحكي تفاصيل ذلك كتب
السيرة لا لضعف وعجز حيث لم يخرج من المدينة بقصد فتح مكة وانتزاع الزعامة
من قريش بل ليظهر للناس أن ما يدعو إليه إنما هو امتداد للدين الذي كان عليه
العرب منذ «إسماعيل» (عليه السلام) ، والذي من أهم شعائره تعظيم مكة حيث
بيت الله الحرام، وهذا الأسلوب الذي عمد إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
سيدفع كثيراً من العرب إلى إعادة النظر في العداء تجاه هذا الدين؛ لهذا: ندرك
سر قَسَم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيقبل بأي صلح يضمن حقن
الدماء وتحقيق تعظيم الحرمات [4] ؛ ولهذا: لا يجوز الصلح مع الأعداء إذا لم يكن
فيه تطلع إلى وضع أفضل للدعوة أو الأمة.
ثالثاً: أسلوب المفاوضات الذي اتبعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع
قريش، وكيفية التعامل مع العدو لتحقيق ما يصبو إليه المفاوض المسلم: فمن
الأمور التي أبان عنها أسلوب المفاوضات الذي اتبعه الرسول -صلى الله عليه
وسلم- الذي ينبغي اتباعه: تحديد الغاية والهدف من الصلح على أن يرتبط الهدف
بخدمة المنهج الاعتقادي لدولة الإسلام والمسلمين؛ فلو نظرنا إلى غاية الصلح الذي
عقده الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع قريش نجد أنه قد حقق غاية وهدف
الصلح، وهو: اعتراف قريش لرسول الله بحق المسلمين في تعظيم البيت وزيارته، وقبول قريش لأن يعظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيت، وذلك اعتراف
بالدعوة التي ينادي بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالعودة إلى أصل دين «
إبراهيم» و «إسماعيل» (عليهما السلام) ، وإزالة ما علق به من شرك وعبادة
للأوثان، ولكن خوف قريش على مكانتها الدينية جعلها تتعصب ضد السماح
للرسول -صلى الله عليه وسلم- بدخول مكة لأنها في حرب معه، وسبب هذه
الحرب معروف لدى العرب؛ فالسماح له يعني بالضرورة الاعتراف بقوة الدين
الجديد؛ لهذا: حاولت قريش إيجاد المخرج فيما أوقعها فيه رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فأخذت تبعث الرسل من حلفائها، فبعثت «الحليس بن علقمة» سيد
الأحابيش، وقد كانت هذه القبيلة في حلف مع قريش، وهم معروفون بشدة تعظيمهم
للبيت، ولهذا: فقد عمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما علم بقدومه إلى
ممارسة سياسة إضعاف ارتباطه بقريش، وذلك بهز مشاعر التأله لديه؛ فقد قال -
صلى الله عليه وسلم- حينما رآه: «إن هذا من قوم يتألهون وفي لفظ: يعظمون
الهدي، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه» [5] ، فلما رأى «الحليس» الهدي
يسيل عليه بقلائده من عرض الوادي، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله،
واستقبله الناس يلبون قد شعثوا، صاح وقال: «سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن
يُصدوا عن البيت، وأن يحج لخم وجذام ونهد وحَمْير ويمنع» ابن عبد المطلب «!! هلكت قريش ورب الكعبة، إنما القوم أتوا عُمّاراً» [6] ، وبمجرد أن رأى هذا المشهد رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إعظاماً لما رأى، ورجع إلى قريش يدعوها إلى السماح للمسلمين بالاعتمار ومهدداً لها بالخروج من الحلف معها.
لقد كان لهذا الموقف تأثير في زعزعة التحالف بين قريش والأحابيش، وإن
ما قام به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجاه «الحليس» يمثل منهجاً لقادة
الأمة عند عقد الصلح والهدنة مع الأعداء بالاستفادة من التناقضات الاجتماعية
والثقافية في معسكر الأعداء لتحقيق الغاية من الهدنة.
ثم عمدت قريش إلى بعث عدة رجال، منهم: «عروة بن مسعود الثقفي»
زعيم ثقيف و «سهيل بن عمرو» الذي تم على يديه الصلح، ومن جانب
الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد بعث عدداً من الرسل، ومن أهمهم: ...
«عثمان بن عفان» (رضي الله عنه) الذي اختاره -صلى الله عليه وسلم- لمكانته في قريش، وبعث معه كتاباً إلى أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب وإنما جاء معتمراً، وقد بقي «عثمان» في مكة وشاع لدى المسلمين بأنه قُتل، ولهذا: اتخذ الرسول القائد قراره بالقتال، وحتى يضمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تماسك الصف المسلم، وحتى لا يدخل حرباً مع قريش إلا بعد أن يضمن قبول صحابته بدخول الحرب، طلب صالبيعة من المسلمين على الموت.
رابعاً: محاولة قريش التحرش بالمسلمين بهدف إثارة الحرب، وذلك من
خلال إرسال مجموعات من الرجال لمهاجمة المسلمين، وكان موقف الرسول -
صلى الله عليه وسلم- التأني والمصابرة؛ لتحقيق الهدف الذي جاء من أجله،
وإفشال هدف قريش من دعواهم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما جاء
محارباً؛ وقد وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجموعة من أتباعه بقيادة «
محمد بن مسلمة» (رضي الله عنه) لحراسة المسلمين، وكان من يقظته أن تمكن
من إفساد خطة قريش؛ حيث تمكن (رضي الله عنه) من القبض على من أرسلتهم
قريش إلا «مِكْرَز» الذي أفلت، وقد حبسهم رسول الله صحيثُ ثارت ثائرة قريش، فجاء جمع منهم ورشقوا المسلمين بالنبل والحجارة، وقد كانت غاية قريش من
هذه المحاولات سبر قوة المسلمين وتحديد مدى استعدادهم.
ولهذا: فإن من أهم الأمور التي ينبغي الانتباه إليها عند الرغبة في تحقيق
هدنة أو صلح لخدمة الأهداف الاستراتيجية للأمة: إشعار الخصم بالقوة والاستعداد
والحيطة بقصد إضعاف الجانب النفسي لدى العدو، فشعور العدو بالتفوق والقدرة
على تملك زمام الأمور يجعل الصلح يخدم مصلحته.
وكذلك فإن الهدف الذي يمكن فهمه من أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم-
البيعة من أصحابه على الموت وليس على مجرد القتال هو: إدخال الوهن في
قلوب قريش، حيث أوضح ذلك لهم أن الرسول صلن يرجع إلا وقد ناجزهم وأن
أتباعه الذين بايعوه بيعة الموت لن يتراجعوا؛ لأنه لا يمكن أن يُهزم قوم استحبوا
الموت على الحياة.
إن قرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحرب عندما ظهرت من قريش
بوادر خيانة لدرس عملي ينبغي فهم مراميه وغاياته، فالهدنة أو الصلح مع العدو إذا
لم يكن من مركز القوة فإن حقوق الأمة ومقدراتها تصبح هدراً، ومن هذا: ما فعله
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإعلان الحرب على العدو حينما شاع أن
«عثمان» (رضي الله عنه) ومن استأذنه من الصحابة في الذهاب إلى مكة قد
قتلوا، فهو لم يتردد في إعلان الحرب، لكن في زمن الانهزام يقوم العدو بالقتل الجماعي والتشريد والهدم للمنازل بعد توقيع الصلح أو ما يعرف
بالسلام! ! فتمتد الأيدي الذليلة التي بعدت عن منهج الله إلى العدو الذي تقطر أياديه بدماء الرجال والنساء والأطفال، ويستمر في سرقة الأرض والقيم بدون أن ... تثور الكرامة في النفوس، فتجابه العدو بما يستحقه، ولكن بدلاً من ذلك تتوجه إلى سفك دماء شعبها وبالأخص الوجوه المتوضئة التي تعلن أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنحرفين والخائنين ممن يتكلمون بلغتنا وهم من جلدتنا يمارسون النفاق بدون حياء! ! .
إن الصلح مع العدو إن لم يقترن بالقوة الحامية له ويخدم مصالح الأمة القريبة
والبعيدة فإنه صلح محرم شرعاً، وليس له إلزام، ولا يمكن الاستشهاد بأي وجه
بصلح الحديبية والادعاء بأن في الاستسلام أسوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمثل هذا الرأي فيه مساهمة في إذلال الأمة ووضع القيود عليها، وإضعاف
روح المقاومة لديها، وممارسة التحريف المتعمد لعناصر تكوين شخصيتها المسلمة.
خامساً: لقد كان من نتيجة البيعة أن أرسلت قريش جمعاً من زعمائها بقيادة «
سهيل بن عمرو» أتوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتذرون له
ويوضحون حقيقة الأمر، ويطلبون إرسال من أسرهم الرسول -صلى الله عليه
وسلم-، فأصر -صلى الله عليه وسلم- على فك أصحابه أولاً، فبعثوا بمن كان
عندهم، فأطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراح من أسرهم.
في هذه الواقعة إشارة وتأكيد إلى الحزم والقدرة على تحديد مسار الصلح
ليكون لصالحه، وليس كما فعله الذين يصالحون اليهود مع بقاء الآلاف من
المعتقلين في سجون العدو، واستمرار المداهمات والقتل ونسف بيوت المرتهنين في
فلسطين؛ فتُهدم عليهم وتصادر أملاكهم، ومع ذلك يتم التوقيع على الصلح الذي
تصرح كل كلمة فيه بأن ما يجري ليس صلحاً ولكن استسلاماً وخيانة وتفريطاً في
حق الأمة.
سادساً: لقد كانت أجواء محادثات الصلح وما تم فيها من مناقشات وردود
الأفعال في معسكر المسلمين على ما تم التوصل إليه، توضح أمرين:
الأول: أن الصلح يخدم الاستراتيجية الخاصة بتحقيق الأهداف التي ترغب
الأمة في تحقيقها، وأن شروط الصلح غير متضاربة مع الأهداف والغايات العليا
للسياسة العامة للدولة المسلمة، بحيث يستخدم الصلح للتمكين للأمة.
الثاني: أن التنازلات التي تُمنح لا تتعارض ولا تتناقض مع مصلحة الأمة
على أن تكون هذه التنازلات شكلية أكثر منها فعلية وإن ظهرت في بادئ الأمر أن
فيها تنازلات كما سنوضحه عند الحديث عن محتويات الصلح.
وإن من المبكيات أن اليهود في هذا العصر عندما وقعوا «الصلح» ! ! مع
العرب فيما عرف بـ «كامب ديفيد» ، أو ما عرف بـ «الحكم الذاتي» ، أو «
الصلح مع الأردن» ، قد انتهجوا في استراتيجيتهم في وثائق الصلح ما استخدمه
الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع قريش، حيث حققوا مكاسب أمنية استراتيجية
مع عدم تقديم تنازلات تؤثّر على أمنهم أو هويتهم.
إن قراءة مكونات الصلح مع أي طرف من الأطراف العربية لتبدي مدى بُعْد
النظر والدهاء اليهودي الذي قابله استهتار واستخذاء من قِبَل الطرف العربي.
ومما يلاحظ: أن من أهم الأمور التي ركزت عليها قريش: إبقاء نوع من
الهيبة الزائفة لواقعها؛ فقد طلبت أن لا يدخل المسلمون مكة هذا العام على أن يعود
المسلمون العام القادم لأداء العمرة، وهذا ما فعله اليهود مع العرب بإعطائهم مكاسب
شكلية، مثل: انسحاب عن أراضٍ مجردة من السلاح وتقع تحت مراقبة قُوى تحت
السيطرة والنفوذ اليهودي، أو سلطة شكلية يتحكم فيها اليهود، أو استئجار لأرض
وبقاء اليهود مستغلين لها.
وللحديث بقية ...
__________
(1) انظر: البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح/2731، 2732.
(2) انظر: فتح الباري: ج7، ص488.
(3) أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، ح/4178، 4179.
(4) انظر: البخاري: ح/4178، 4179، وفتح الباري: ج5، ص396.
(5) فتح الباري: ج5، ص403، وانظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله أحمد، ص488، والسيرة النبوية الصحيحة، للدكتور أكرم ضياء العمري، ج2، ص441.
(6) السابق.(87/8)
دراسات حديثية
اجتماع الجرح والتعديل في راوٍ واحد
محمد بن عبد الله الأحمد
من المحاسن الواضحة لهذه الصحوة المباركة، ومن سماتها الظاهرة:
حرصها على صفاء المورد وسلامة الطريق، مما أثمر اهتماماً بالسنة النبوية تحقيقاً
ونشراً، ودراسة وفقهاً، وقبل ذلك وبعده، التزاماً ودعوة ومشاركة في هذه المسيرة
الراشدة. وهذه الأسطر تعرض موضوعاً مهماً للمشتغلين بدراسة الأسانيد، وهو:
العمل عند اجتماع الجرح والتعديل في الراوي الواحد، وهو موضوع أغفله عدد من
الباحثين - خصوصاً المعتمدين على كتاب «تقريب التقريب» .
وأتمنى أن يكون في هذه الأسطر بيان لأهمية هذا المبحث في الحكم على
الرجال وتصحيح الأحاديث وتضعيفها، فهو مع علم العلل أساس الحكم على
الأحاديث.
وفي ثنايا هذه الأسطر تذكير بمنهج أسلافنا في التعامل مع أهل العلم وآرائهم، وإنزالهم المنازل التي يستحقونها، دون إفراط أو تفريط، فلا عصمة لعالم،
وليس أخو علم كمن هو جاهل، عسى أن نعي منهجهم فنسير على دربهم.
وقد سلك العلماء في هذا الموضوع ثلاثة طرق:
1- الجمع بين الأقوال ما أمكن:
وذلك بتنزيل كل قول على أمر خاص، وأوجه الجمع كثيرة يصعب حصرها، منها ما يتعلق بأحوال الراوي في شبابه وكهولته، سفره وإقامته، ضبط صدره
وضبط كتابه، بالنسبة لشيوخه وتلاميذه ... وهكذا، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن
رجب في آخر شرحه «لعلل الترمذي» فصولاً نافعة في هذا الباب.
2- الترجيح:
وهو اعتماد أحد الأقوال جرحاً أو تعديلاً وطرح ما عداه، واعتماد أحد
الأقوال لا يكون جزافاً أو هوى، بل بناءً على أسس وقواعد، منها:
(أ) التثبت من النقل عن الناقد، والتأكد من عبارته:
قال الحافظ ابن حجر: ونقل ابن الجوزي من طريق الكديمي عن ابن المديني
عن القطان أنه قال: لا أروي عنه يعني أبان العطار، وهذا مردود؛ لأن الكديمي
ضعيف.
وقال في ترجمة بشر بن شعيب الحمصي: قال ابن حبان: كان متقناً ثم غفل
غفلة شديدة؛ فذكره في الضعفاء، وروى عن البخاري أنه قال: تركناه.
وهذا خطأ من ابن حبان نشأ عن حذف؛ وذلك أن البخاري إنما قال في
تاريخه: تركناه حياً سنة اثنتي عشرة، فسقط من نسخة ابن حبان لفظ حياً، فتغير
المعنى.
(ب) النظر في حال الناقد:
من وجوه: تشدداً وتساهلاً، مرتبته في هذا العلم، ومعرفته به، معاصرته
للمتكلم فيه زماناً أو مكاناً، مصادره في هذا النقد، مذهبه الاعتقادي، اصطلاحاته
النقدية.. إلخ.
ومن الأمثلة: قول الحافظ في ترجمة أحمد بن شبيب الحبطي: ولا عبرة
بقول الأزدي لأنه ضعيف، فكيف يعتمد في تضعيف الثقات؟ ! .
وقال في ترجمة خثيم بن عراك: وغفل أبو محمد بن حزم فاتبع الأزدي
وأفرط، فقال: لا تجوز الرواية عنه، ومادرى أن الأزدي ضعيف فكيف يقبل منه
تضعيف الثقات؟ ! .
وقال في ترجمة محارب بن دثار: وقال ابن سعد لا يحتجون به، قلت: ...
ولكن ابن سعد يقلد الواقدي، والواقدي على طريقة أهل المدينة في الانحراف على
أهل العراق.
ومما يتعلق باصطلاح الناقد: ما قاله الحافظ في ترجمة يزيد بن عبد الله
الكندي، قال: عن أحمد أنه قال: منكر الحديث، قلت: هذه اللفظة يطلقها أحمد
على من يغرب على أقرانه؛ عرف ذلك بالاستقراء من حاله. أ. هـ.
ومن ذلك اصطلاح البخاري في عبارة: منكر الحديث وفي إسناده نظر.
ومما يتعلق بمعرفة المتكلم بالراوي ما نقله الحافظ في تهذيبه عن أبي أحمد
الحاكم أنه قال: وربما يقع له الغلط يعني البخاري لا سيما في الشاميين، ونقله
مسلم من كتابه فتابعه على خطئه. [ترجمة أبي عمران الأنصاري] .
(ج) معرفة سبب الكلام جرحاً أو تعديلاً:
وهذا عنصر مهم في الترجيح؛ فقد ردت أقوال أئمة كبار لما عرف سبب
كلامهم، فقد يكون السبب اختلاف المذهب بين الناقد والمتكلّم فيه وهذا باب واسع
ينبغي تأمله، أو ما يكون بين الأقران من المنافسة التي تؤدي إلى نوع من الميل
على الآخر، أو وقوفه على نص أو فعل للمتكلم فيه ولم يفهمه الناقد على وجهه
الصحيح، أو يكون كلامه نتيجة ظن مرجوح ... إلى أسباب كثيرة.
وهاك جملة من الأمثلة وهي من مقدمة الفتح أيضاً:
حميد بن هلال العدوي، قال يحيى القطان: كان ابن سيرين لايرضاه. قال
الحافظ: بيّن أبو حاتم الرازي أن ذلك بسبب دخوله في شيء من عمل السلطان وقد
احتج به الجماعة.
وهذا إسماعيل بن إبراهيم القطيعي، وثقة ابن معين وأخرج له الشيخان، قال
الحافظ: وغمزه أحمد لأنه أجاب في المحنة.
وهذا إمام الصنعة شعبة بن الحجاج يترك المنهال بن عمرو الأسدي، ومع
ذلك يوثقه عدد من الأئمة ويخرج له البخاري، ذلك لأن شعبة لما سُئل عن سبب
تركه له قال: أتيت منزل المنهال فسمعت منه صوت طنبور فرجعت ولم أسأله،
قال وهب بن جرير: فهلا سألته عسى كان لا يعلم.
وهذا الإمام مالك بن أنس وهو أشهر من عرف بانتقائه للرجال، فإذا حدث
عن رجل فهو ثقة لم يقبل أهل العلم توثيقه لعبد الكريم ابن أبي المخارق. قال ابن
عبد البر: لا يختلفون في ضعفه، غرّ مالك سَمته ولم يكن من أهل بلده.
وقد أعتذر مالك عن روايته عنه، فقال: غرني بكثرة بكائه في المسجد
[الميزان2/646، 647] .
أما رد كلام الناقد نتيجة لأنه لم يفهم فعل أو قول الراوي على وجهه الصحيح، فالأمثلة كثيرة، منها:
الحسن بن مدرك السدوسي، قال أبو داود: كان كذاباً يأخذ أحاديث فهد بن
عوف فيقلبها على يحيى بن حماد.
قال الحافظ: إن كان مستند أبي داود في تكذيبه: هذا الفعل، فهو لا يوجب
كذباً، لأن يحيى بن حماد وفهد بن عوف جميعاً من أصحاب أبي عوانه، فإذا سأل
الطالب شيخه عن حديث رفيقه ليعرف إن كان من جملة مسموعه، فحدثه به أولاً،
فكيف يكون بذلك كذاباً، وهذا الراوي خرّج له البخاري وحدّث عنه أبو زرعة وأبو
حاتم ووثقه النسائي.
وهذا زيد بن وهب الجهني، وثقة الجمهور، وقال الحافظ: وشذ يعقوب ابن
سفيان الفسوي، فقال: في حديثه خلل كثير، ثم ساق من روايته قول عمر في
حديثه: «يا حذيفة، بالله أنا من المنافقين؟ !» ، قال الفسوي: وهذا محال.
قلت [الحافظ] : هذا تعنت زائد، وما بمثل هذا تُضعف الأثبات، ولا ترد الأحاديث
الصحيحة، فهذا صدر من عمر عند غلبة الخوف وعدم أمن المكر، فلا يلتفت إلى
هذه الوساوس الفاسدة في تضعيف الثقات.
ومن ذلك: تكذيب هشام بن عروة لمحمد بن إسحاق، ولما سئل عن السبب
قال: حدث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر وأدخلت علي وهي بنت تسع، وما رآها
رجل حتى لقيَت الله (تعالى) .
وقد رد هذا التضعيف عدد من الأئمة منهم أحمد بن حنبل؛ قال: فلعله سمع
منها في المسجد أو سمع منها وهو صبي، أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب،
فأي شيء في هذا؟ ! [الميزان 3/470، 471] .
ولذلك ذهب المحققون من أهل الحديث إلى تقديم الجرح المفسّر عند
تعارض الجرح والتعديل في الراوي، وشرطه: كون التفسير يُعتدّ به ومعتبراً
وخفي على المعدّل، لأن مع الجارح في هذه الحالة زيادة علم، والله أعلم.
3- التوقف حتى يأتي مرجح:
وقد ذهب إلى هذا المسلك عدد من النقاد، منهم: الحافظ أبو حفص عمر بن
شاهين في الجزء المطبوع من كتابه «ذكر من اختلف العلماء ونقاد الحديث
فيه ... » ، وهو مطبوع في آخر «تاريخ جرجان» للسهمي.
فهو يتوقف حينما يتكافأ النقاد عدداً أو مكانة، كما في ترجمة أبي الأشهب
جعفر بن الحارث وترجمة حميد بن زياد وزكريا بن منظور، وقد توقف في خالد
بن أبي مالك، مع أنه ذكر عن أحمد بن حنبل وأحمد ابن صالح توثيقه، ونقل عن
يحيى بن معين تضعيفه.
وقال في الخليل بن مرة: وهذا الخلاف في الخليل بن مرة يوجب الوقف فيه، لأن الخليل بن مرة روى أحاديث صحاحاً وروى أحاديث منكرة، وهو عندي إلى
الثقة أقرب.
وبعد هذا الاستعراض الموجز الذي لم أقصد به الاستقصاء والدراسة العلمية
أرجو أن يكون قد تحقق ما قصدته من التذكير بهذا الموضوع وإثارة الاهتمام به،
حتى يحظى من الإخوة الباحثين بمزيد عناية نظرية، وممارسة عملية، ليستفيدوا
من هذا المنهج في نقد وتقويم واقعهم الدعوي ورموزه ... والحمد لله رب العالمين.(87/18)
دراسات دعوية
رصيد الداعية
خالد أبو الفتوح
يعتقد بعض الشباب المتحمسين أنه يكفي لإقناع الآخرين بصحة دعوتهم أن
تكون الحجة جليّة واضحة وأن يكون البيان فصيحاً بليغاً، ولكنهم مع حرصهم على
إتقان ذلك قد يُفاجؤون بعدم استجابة مدعويهم، فيلقون التبعة من على أكتافهم ظانين
أنهم أدوا ما عليهم [وما على الرسول إلا البلاغ] و [ليس عليك هداهم، ولكن
الله يهدي من يشاء] ، ثم يحمّلون من كانوا محلاً لدعوتهم المسؤولية كاملة لعدم
استجابتهم للهدى؛ [بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم، فمن يهدي من أضل
الله؟] ، أو يسندون سبب إخفاقهم إلى محض المشيئة الإلهية [ولو شاء الله
لجمعهم على الهدى] [ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً] .
ولا شك أنه لا يخرج شيء عن المشيئة الإلهية، وأن الذين لم يستجيبوا
لوضوح الحجة وبلاغة البيان ليسوا بمنجى عن المحاسبة والسؤال، ولكن لا شك
أيضاً أن هؤلاء المتحمسين الطيبين لم يلتفتوا إلى غاية الدعوة التي لا تقتصر فقط
على إقامة الحجة لاستحقاق الجزاء، بل تهدف بالمقام الأول إلى إخراج الناس من
عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وإنقاذهم من غضب الله (تعالى) وناره إلى رضاه
وجنته؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: إن مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاء ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها،
فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم
يقتحمون فيها [1] ، وهذا المعنى هو ما وصف به الله (سبحانه) رسوله -صلى الله
عليه وسلم-؛ حيث يقول (عز وجل) : [لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه
ما عنتم حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم] [التوبة: 128] .
وغالباً ما يكون دافع هؤلاء المتحمسين هو الإخلاص ومحبة رؤية الخير
منتشراً بين الناس، ولكن.. هل يكفي هذا الدافع للتنصل من المشاركة في مسؤولية
الإخفاق؟
إن المدقق في عناصر (عملية الدعوة) يخرج ولابد بأن قيام أمر الدعوة لا
يقتصر على إيضاح حجة وبلاغة بيان، فهما بالرغم من أهميتهما يشتركان جنباً إلى
جنب مع عناصر أخرى عديدة لإنجاح حجية البلاغ من قِبَل الداعي.
ومن هذه العناصر ما يمكن أن نطلق عليه: (رصيد الداعي) لدى المدعو،
ونعني بذلك: رصيده من الثقة في أمانته وعلمه والطمأنينة إليه، ليكون هذا
الرصيد مُوَطّئاً لاستجابة المدعو إذا أراد الله له الهداية، أو أبلغ في استحقاق النقمة
إذا انتكس وأبى إلا الغواية.
وهناك إشارات عديدة في الكتاب والسنة إلى هذا العنصر الهام في (عملية
الدعوة) ؛ فمن ذلك:
*ما جاء في قصة نبي الله يوسف:
[ودخل معه السجن فتيان، قال أحدهما: إني أراني أعصر خمرا، وقال
الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه، نبئنا بتأويله إنا نراك
من المحسنين* قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما،
ذلكما مما علمني ربي، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم
كافرون] [يوسف: 3637] ، فالملاحظ في الآية الأولى: أن الفتيين أقبلا على يوسف (عليه السلام) وهما في حالة تسليم بأمانته وإذعان لعلمه، ولكن هذا التسليم وذلك الإذعان لم ينشأ من العدم، بل كانا نتيجة ما رأوه من إحسان يوسف عليهم؛ [إنا نراك من المحسنين] ، وإذا تنبهنا إلى أن هذين الفتيين كانا على ملة الكفر لأدركنا أن الإحسان المقصود عندهم ليس هو الإحسان بالمصطلح الشرعي، ولكنه إحسان بالمعنى الذي تعارف عليه جميع الناس وهو فعل ما اتفقت العقول السديدة والفطر السليمة أنه حسن، ويلزم لنا أن نتخيل ما هي حياة السجون حتى نعرف قيمة الإحسان إلى الآخرين فيها، سواءً أكان إسداء جميل، أو بذل نصيحة، أو اهتمام عام بأمر الآخرين في مثل هذه المحنة [2] .
وبعبارة أخرى نستطيع القول: إنه للوصول إلى هذه الثقة وهذا التسليم
والإذعان، فقد حدثت (عملية تفاعل اجتماعي إيجابي) بين يوسف (عليه السلام)
والمسجونين الآخرين، وذلك من خلال شبكة اجتماعية مصغرة كونها يوسف (عليه
السلام) مستغلاً قنوات الاتصال المتاحة والرابطة الاجتماعية الواقعية رابطة إحساس
السجين بالقهر.
وفي الآية الثانية: نلاحظ أن يوسف (عليه السلام) استثمر الموقف استثماراً
كاملاً، وقطف الثمرة في أوانها؛ فإنه لما رأى إتيانهما إليه واثقين فيه مسلّمين
بأمانته مذعنين لعلمه، أكد عليهما ما وقر في نفوسهما بأنه أهل لهذه الثقة ومحل
لهذا العلم مما يؤكد أهمية هذا العنصر في الدعوة، ثم أسند كل هذا الفضل إلى ربه، وبدأ عرض دعوته في وضوح وجلاء ويسر وسهولة.
*وما جاء في قصة موسى (عليه السلام) مع القبطي والإسرائيلي:
حيث يقول الله (عز وجل) : [فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما،
قال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ ، إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين.] [القصص: 19] ، فاحتجاج القبطي بعدم ملاءمة هذا السلوك من موسى (عليه السلام) مع دعوى الإصلاح يدل على أن موسى (عليه السلام) كان معروفاً عنه أنه صاحب دعوة إصلاحية قبل نبوته؛ يقول الأستاذ سيد قطب (رحمه الله) : أما بقية عبارته [إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين] .. فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكاً يُعرف به أنه رجل صالح مصلح، لا يحب البغي والتجبر، فهذا القبطي يذكره بهذا ويورّي به، ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه، يريد أن يكون جباراً لا مصلحاً، يقتل الناس بدلاً من إصلاح ذات البين وتهدئة ثائرة الشر [3] ولعل هذا المسلك كان تمهيداً للدعوة الكبرى التي جاء بها موسى (عليه السلام) بعد إرساله بالنبوة.
*وفي قصة نبي الله صالح (عليه الصلاة والسلام) :
يقول الله (سبحانه) حاكياً عن قوم صالح: [قالوا: يا صالح قد كنت فينا
مرجواً قبل هذا ... ] (هود: 62) ، جاء في محاسن التأويل: ... أي: كانت
تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك وتكون مشاوَراً في
الأمور، ومسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا
أن لا خير فيك [4] . وهذا من أبلغ التناقض في منطق الكافرين، إذ إن اعترافهم
بأن صاحب الدعوة هو الذي كان يُعد للخير والرشد فيهم لما ظهر عليه من أمارات
ذلك كان يقتضي تسليم قيادهم له وإذعانهم لدعوته، ولكنهم ارتكسوا وكفروا به
وبدعوته.
*وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أوضح الدلالات
على أهمية (رصيد الداعية) :
حيث يقول الله (سبحانه) : [قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به،
فقد لبثت فيكم عمراً من قبله، أفلا تعقلون؟ !] [يونس: 16] ، ففي قوله [أفلا
تعقلون] توبيخ شديد لهم وتسفيه لعقولهم؛ لأنهم لم يلتفتوا إلى قوة الحجة الملزمة
لهم، وذلك أنهم شهدوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما يوجب تصديقه
والإيمان به، ولم يكن ذلك عن موقف واحد أو أكثر، بل كان على امتداد عمره -
صلى الله عليه وسلم- مما يكون أبلغ وأوكد في الإلزام بالحجة؛ يقول ابن القيم
(رحمه الله) : ... الحجة الثانية [في الآية] : أني قد لبثت فيكم عمري إلى حين
أتيتكم به، وأنتم تشاهدونني، وتعرفون حالي، وتصحبونني حضراً وسفراً،
وتعرفون دقيق أمري وجليله، وتتحققون سيرتي ... ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي
فيه علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما سيكون على التفصيل، فأي برهان
أوضح من هذا؟ ! [5] .
وقد استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الرصيد لديهم، وأكد عليه، بل استنطقهم به، وذلك عندما جهر بالدعوة إليهم كافة، فقد قال لهم -صلى الله
عليه وسلم- بعد أن اجتمعت بطون قريش على جبل الصفا إثر دعوته لهم بالحضور: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا:
نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد [6] ،
فقد أبى -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوهم إلى الدعوة الجديدة عليهم قبل أن
يستخرج منهم رصيد الثقة فيه.
وهذا الهدي النبوي من نور الوحي القرآني؛ حيث كان إيذان التحرك العلني
بالدعوة هو قوله (تعالى) : [وأنذر عشيرتك الأقربين] [الشعراء: 214] ، فإن
(العشيرة الأقربين) أدعى إلى الثقة فيمن هم يعرفون سيرته ويخبرون طويته لما
بينه وبينهم من صلة القربى والنسب، ولا شك أنه لابد لبناء هذا الرصيد من كمال
في المحاسن وسلامة من النقائص وحضور ومتابعة في الواقع، وتتراكم آثار كل
ذلك لصنع هذا الرصيد لدى المدعوين، وهذا ما تشهد به سيرة المصطفى -صلى
الله عليه وسلم-.
*وهذا ما نشاهده في قصة الصحابي نعيم ابن النحام:
حيث رُوي أنه حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي، فقالوا له: أقم
عندنا وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا وكان
يقوم بأيتام بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد ذلك [7] ،
فنعيم (رضي الله عنه) كان له من أعمال الخير لدى قومه ما جعله أحد المكونات
الرئيسة لنسيج مجتمعه، بحيث يتهتك هذا النسيج إذا تخلى عن أفراد مجتمعه، فلا
يستطيع هؤلاء الاستغناء عنه، مع استطاعته هو تركهم والهجرة عنهم، أو
استغلال هذه المكانة وهذا الرصيد في الدعوة لما يؤمن به دون أن يكون عنصراً
بنّاءً لدعوى الجاهلية في المجتمع الذي يعيش فيه.
*معالم أخرى:
هذا.. وقد يستدعي الداعية ما تركه دعاة آخرون من رصيد محفور في أذهان
المدعوين الجدد مستفيداً من ظلال المواقف الناصعة والدعوة الواضحة لهؤلاء الدعاة، معتبراً نفسه امتداداً طبيعيّاً لهم وإن باعدت بينهم السنون والأيام؛ وذلك كما فعل
ونطق مؤمن آل فرعون: [ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات، فما زلتم في شك
مما جاءكم به، حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا، كذلك يضل الله من
هو مسرف مرتاب] [غافر: 34] ، فلقد اقتبس مؤمن آل فرعون الذكرى الطيبة
ليوسف (عليه السلام) ؛ ذكرى العفة والعلم والأمانة والكفاءة، مذكّراً إياهم بوضوح
سابق دعوته، فلقد جاءهم (بالبينات) ليربط بينه وبين صاحب الدعوة المعاصر لهم
موسى (عليه السلام) الذي [جاءكم بالبينات من ربكم] [غافر: 28] ، كما أوضح
المؤمن لهم من قبل، فهو يربط بين الداعيين نسباً ودعوة لتكون محصلة الدفع
النهائية في أقوى صورها.
فعلى ذلك يستطيع المسلم توظيف (الرصيد الإيجابي الجمعي للدعوة) في
دعوته الآخرين، كما يحسن له أن يشارك في بناء رصيد الثقة لدى آخرين قد لا
يستطيع دعوتهم ليأتي مسلم آخر فيستثمر هذا الرصيد مباشرة حين تحين فرصة
الدعوة.
وكما أنه قد يُستدعى رصيد الدعوة لصالح داعية ما، فإنه قد يبدده أفراد
منتسبون إلى الدعوة، وذلك بسوء سلوكهم الشخصي أو الدعوي أو عدم اتباعهم
للحكمة في الدعوة، كما يحدث أحياناً في واقعنا المعاصر، فعلى المسلم الواعي أن
يحرص ألا يكون معول هدم لما شيده الآخرون إذا لم يستطع أن يكون لبنة في
صرح الدعوة المباركة.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
(2) لك أن تتأمل قوله (تعالى) : [ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم] [فصلت: 34] ، لتعرف أثر الإحسان إلى الآخرين في كسب حبهم وولائهم.
(3) في ظلال القرآن، م5، ص2684.
(4) محاسن التأويل للشيخ محمد جمال الدين القاسمي، ج9، ص145.
(5) بدائع التفسير، جمع يسري السيد محمد، ج2، ص395.
(6) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، وانظر الرحيق المختوم، ص79، ط مكتبة السلام.
(7) انظر المغني لابن قدامة المقدسي، ج2، ص868.(87/24)
خواطر في الدعوة
أنماط التفكير
[3]
محمد العبدة
جاء الإسلام والإنسان العربي يملك صفات إيجابية فطرية تساعده على حمل
الرسالة، كما أن فيه صفات سلبية تحول دون ذلك، فكانت آيات القرآن تتنزل
لتصوغ شخصية المسلم صياغة أخرى تذهب عنه أوضار الجاهلية ومفاهيمها،
وعاداتها وتقاليدها.
جاء الإسلام والعربي يغضب لكلمة، ويثور لحادثة بسيطة، فيكون من ورائها
القتال والدمار، وكانت الآيات القرآنية تطلب من المسلمين الصبر وعدم رد العدوان
حتى يأذن الله وحتى يتمكن المسلمون في الأرض، وتحول العربي المسلم إلى
شخصية متماسكة متوازنة يغضب في محل الغضب، ويرضى في محل الرضا،
ولا يتصرف ضمن دائرة الفعل ورد الفعل، ولا يستطيع أعداؤه التلاعب به
بالضغط على مكامن الضعف فيه.
انتشر الإسلام في الآفاق، وكانت هذه التوجيهات تؤثر في شخصية المسلم من
كل جنس ولون بعد أن صاغت شخصية العربي، ولكن الناس لم يثبتوا طويلاً على
هذا المنهج الرباني، فعاد فريق منهم لطبيعته أو لبيئته الثقافية التي تربى فيها على
ردود الأفعال وعلى التعصب لما ألفه، فعندما ظهرت فرقة الخوارج بغلوها
وضلالها وتشددها كانت ردة الفعل أن ظهر الإرجاء والتساهل في أمر الدين،
وأصبحت الأوامر والنواهي التي طالب الله بها عباده وكأنها لعالم آخر، وعندما
ظهر الاعتزال والانحراف عن المنهج الوسط، وحكّموا العقل في النص الموحى به، كانت ردة الفعل أن وُجد من لا يريد للعقل أن يمارس دوره الطبيعي، ووجد من
ينفي الحكمة عن نصوص الشرع ويبتعد عن التفكر في أمر الله الكوني والشرعي،
بل ظهر من يلغي العقل تماماً ويعتبر أن مصدر المعرفة هو الرؤى والذوق
والإشراق، وعندما تفشى الترف والإسراف وحب الدنيا في المجتمع الإسلامي كان
رد الفعل: الزهد البارد والزهد السلبي الذي أضر بالمسلمين ضرراً بالغاً.
وهكذا أصبحنا نعيش علمياً وثقافياً بل وسياسياً على ردود الأفعال، ولا نفكر
فيما ينفعنا في ديننا ودنيانا تفكيراً هادئاً مستقلاً، ولقد نشأت في هذا العصر تجمعات
إسلامية تدعو إلى الله، قد تصيب وقد تخطأ، ولكن بعض المسلمين مازال
يتصرف ضمن دائرة ردود الأفعال، فإذا وجد خطأ عند إحدى هذه الفصائل فيجب
أن يخالفها في كل صغيرة وكبيرة، ويعمل بعكس ما تعمل ولو كان عملها صواباً،
وتجده دائماً في حالة تشنج وضيق صدر، فيقع منه الظلم والغبن لإخوانه، وتقوم
المعارك الكلامية التي لا فائدة منها، فإلى متى تبقى شخصية المسلم شخصية
انفعالية مزاجية سريعة التقلب، لا يعرف إلا طَرَفَي القضية، فإذا لم تكن معه فأنت
ضده، وإني لأظن أن من أسباب هذا التمزق في الشخصية عدم وضوح أو تحديد
الغاية والهدف من الأعمال التي نريدها، وبالتالي: عدم وضوح الأسباب المؤدية
إلى هذه الغاية.
إن أعداءنا يعلمون هذا منا، فيقومون ببعض الأفعال ليكون رد الفعل مناسباً
لهم، وإذا لم نتمكن من وحدة التفكير ووحدة الهدف، فسيكون الأمر كما قيل: كلٌ
يغني على ليلاه.(87/31)
هموم ثقافية
التنمية بين المشروع الحضاري الغربي
والمشروع الحضاري الإسلامي
(2)
أ. د. نبيل السمالوطي
تحدث الكاتب الكريم في الحلقة السابقة عن الفرق بين منطلقات المشروع
الحضاري الغربي والمشروع الحضاري الإسلامي، وبيّن مفهوم الحضارة وفضل
المسلمين فيها، ثم بيّن أهم جوانب الاختلاف بين المشروعين، وأوضح من هذه
الجوانب: الموقف من الكون والحياة، والنظرة إلى الطبيعة الإنسانية، والموقف
من مصادر المعرفة ومصادر التوجيه.. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بيان
جوانب أخرى من الموضوع.
الجانب الرابع: من جوانب الصراع بين المشروع الحضاري الغربي
والمشروع الحضاري الإسلامي يتمثل في الموقف من العلم والعالم [1] ؛ فالعلم
المادي التجريبي في المشروع الغربي هو المصدر الأساس والوحيد للسيطرة على
البيئة، وهو المصدر الوحيد للرفاهية والرزق والتقدم، فالإمكانات في العالم هي
الإمكانات المادية التي يمكن حسابها ومشاهدتها وإخضاعها للبحث العلمي الواقعي
من خلال الحاسبات الآلية، والعلم هو السبيل الوحيد للتنمية والتقدم، ولا شيء
خارج العلم والعالم المحسوس، وهذا يعني: أن منطلقات العلم وآلياته وأهدافه تدور
في دائرة المادية والعلمانية والنفعية والقدرة البشرية لاغير.
وفي المقابل نجد أن المشروع الإسلامي يرفع من مكانة العلوم الشرعية
والتجريبية ويعدها جميعاً علوماً إسلامية، طالما أن المسلم مكلف بالنظر والبحث
والتجريب، وطالما أنها تصدر عن عقل بشري مخلوق لله (تعالى) ، وطالما أنها
تبتغي الوصول إلى الحقائق (العلوم الشرعية) أو إلى القوانين أو السنن التي تحكم
ظواهر وحركات الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ، وهي في النهاية سنن الله في
خلقه. وهذا يعني: أن الاهتمام بالعلوم الشرعية والتجريبية في المشروع الإسلامي
يعد مطلباً دينياً يتصل بالعقيدة ذاتها، فطلب العلم فريضة، ويجب أن يكون
المجتمع المسلم هو الأقوى مادياً لإنفاذ رسالة الإنسان على الأرض، وهذا لن يتأتى
إلا بالتقدم العلمي والتقني، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، غير أن العلم
التجريبي في نظر الإسلام ليس قادراً على كشف وتفسير كل أسرارالكون والإنسان، وهذا العلم يجب أن يوضع في حجمه الحقيقي وأن يوجه لنفع الإنسان، وهذا
يعني: أن هناك ضوابط عقدية وأخلاقية تحدد منطلقات العلم التجريبي وآلياته
وأساليب الاستفادة منه وتوجيه نتائجه. والمشروع الإسلامي لا يعد العلم هو الوسيلة
الوحيدة للسيطرة على البيئة أو استثمارها، ولا يعد الإمكانات المنظورة التي يكشف
عنها العلم هي الإمكانات الوحيدة المتاحة للإنسان وللعالم، فهناك سنن الله التي لا
تتخلف، وهناك عنصر البركة الإلهية والفتوحات الربانية والرزق الإلهي والأرزاق
المخبوءة التي لا ندركها، والتي ترتبط بالإيمان والتقوى؛ قال (تعالى) : [ولو أن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض]
[الأعراف: 96] وإلى جانب عامل البركة هناك عامل فضل الله وتنزيله الرزق على العباد؛ [والله يرزق من يشاء بغير حساب] [البقرة: 212] وهناك عامل الطمأنينة وهي نعمة لا يمكن للعلم وحده أن يحققها قال (تعالى) : [الذين آمنوا
وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب] [الرعد: 38] .
وهذا يعني أن المشروع الغربي بركونه إلى العلم المادي البشري أسقط عدة
أمور؛ أهمها أنه أسقط السنن الإلهية الماضية في المخلوقات، وأسقط قدرة الله
وقدره، وأسقط عاملي الاطمئنان والبركة الإلهية، وأسقط التوجيه الأخلاقي لنتائج
العلم ولمساراته ومضامينه وفق المنهج الإلهي، وهذه الإسقاطات أدت إلى شقاء
الإنسان في ظل مجتمع الوفرة والتقدم العلمي والتقني، وكأن وظيفة العلم هي زيادة
كمية المتعة والرفاهية المادية فقط، وهنا ينطبق على المؤمن بهذه الفلسفة قوله
(تعالى) : [والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم]
[محمد: 12] .
والعلم في المشروع الحضاري الإسلامي يرتبط بالمسخرات الكونية من جهة،
ويرتبط بقدرات الإنسان وفعالياته من جهة أخرى، ويرتبط بأساليب الانتفاع بهذه
المسخرات من جهة ثالثة، فإذا كانت علاقة الإنسان بالبيئة هي علاقة تسخير
وليست علاقة صراع كما صورها الغرب، فإن المسخرات الإلهية التي هيأها الله
للإنسان على قسمين:
الأول: مسخرات يحصل عليها الناس في كل زمان ومكان دون جهد كالماء
والهواء.
الثاني: مسخرات تتطلب جهداً بشرياً للانتفاع بها وفهم قوانينها وتوظيفها في
خدمة الإنسان والمجتمع، وهذه يتطلب الانتفاع بها: التعليم والبحث العلمي والعمل
والتطبيقات التقنية والصناعية، وهذه المسخرات الكونية أتاحها الله لجميع خلقه
مؤمنين وكافرين، فالكون ليس متحيزاً للمسلم وليس موجهاً ضد الكافر، فعطاء الله
في المجال المادي للجميع؛ [كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان
عطاء ربك محظورا] [الإسراء: 20] ، فالله (سبحانه وتعالى) يمكّن للجميع،
وهناك فرق كبير بين تمكين الله للمؤمنين وتمكينه للكافرين، فالأول تمكين رضاً
وقبول في الدنيا والآخرة، والثاني تمكين استدراج ولا يكون إلا في الدنيا فقط،
وكل أنواع التمكين يتطلب جهداً فاعلاً ومؤثراً من جانب الإنسان [2] .
الجانب الخامس: من جوانب الخلاف بين المشروع الحضاري الغربي
والمشروع الحضاري الإسلامي يتمثل في تحديد محركات الحياة البشرية
والاجتماعية؛ فالمشروع الغربي يؤكد على المجتمع التنافسي وعلى الديموقراطية
والحرية الفردية، أو على تعددية الصراع في الاقتصاد والسياسة والاجتماع
والتربية، وهم في هذا ينطلقون من أن الموارد نادرة وقد تم إحصاؤها في العالم من
خلال العلم، وأن زيادة السكان عقبة تواجه باستمرار عمليات التنمية والتطوير،
وأن البقاء للأقوى مادياً، ويجب استمرار التنافس والصراع كآليات لتحقيق التقدم.
وهذا التنافس الصراعي ملاحظ على مستوى الأسرة والمجتمع في الغرب،
كما أنه ملاحظ على مستوى العلاقات الدولية بين دول الشمال والجنوب أو الدول
الغنية والفقيرة (محاولات السيطرة وفرض سياسات وثقافة الغرب على الدول النامية، وافتعال الأزمات لترويج تجارة الأسلحة، ومحاولة الضغط لتوجيه معدلات التبادل
التجاري العالمي لصالحهم، والحصول على المواد الخام بأبخس الأسعار،
واستخدام آليات الديون والقروض والتسليح والخبرات العلمية ونقل التقنية
والإعلام.. لخدمة أهداف الغرب المادية..) .
وفي المقابل فإن المشروع الإسلامي يؤكد على المجتمع التراحمي الذي ينطلق
من قوله (تعالى) : [إنما المؤمنون إخوة] [الحجرات: 10] وقوله -صلى الله
عليه وسلم-: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [3] ، مجتمع
الشورى والعدل والمساواة والتنافس الشريف في كل مجالات الخير والعطاء
والإنتاج، والمشروع الإسلامي يؤمن بالأسباب وبالعلم وبقدرة العقل على الفهم
والتفسير والإحصاء والتحليل والتركيب، لكنه يؤكد أن العقل والقدرة البشرية
محدودان، فهما لا يستطيعان حصر كل خيرات الأرض، فهناك مصادر أخرى
للطاقة وللغذاء سوف يتم اكتشافها، والأرض لا يمكن أن تضيق بسكانها لأن الله هو
الرزاق ولأنه هو (سبحانه) الذي بارك فيها وقدر فيها أقواتها، قال (تعالى) : [..
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين] [الذاريات: 58] ، وقال (تعالى) : [..
وبارك فيها وقدر فيها أقواتها] (فصلت: 10) وهذا يعني أن افتراض المشروع
الغربي أن الإنسان قادر على اكتشاف كل إمكانات الأرض، فرض لم يثبت صحته
على المستوى الديني، وأيضاً على المستوى العلمي التجريبي فكل يوم تكتشف
مصادر جديدة للغذاء والطاقة، وكل يوم يتم اكتشاف حقائق علمية وتطبيقات تقنية
تسهم في زيادة استفادة الإنسان من البيئة واستثمار معطياتها بشكل أفضل، الأمر
الذي يزيد مصادر الغذاء والكساء والطاقة ومختلف الموارد، وفوق هذا كله:
العطاء الإلهي والبركة وتوفيق الله، وهي عوامل لا يمكن حسابها من خلال الآليات
البشرية كالكمبيوتر، وعلى عكس المشروع الغربي: فإن المشروع الإسلامي لا
يربط التخلف بزيادة السكان، ولا يرى في هذه الزيادة معوّقاً حتمياً للتنمية،
فالقضية يتم النظر إليها من مناظير متعددة؛ فالسكان هم طاقة اقتصادية ومورد
أساسي من الموارد النادرة، وعامل رئيس من عوامل الإنتاج، بشرط حسن
استثمارها وتوجيهها وتوظيفها من خلال برامج التعليم والتربية والتدريب والإعلام،
وما تزال المناطق الصحراوية ومناطق الغابات والأراضي القابلة للزراعة تمثل
غالبية أراضي الدول التي تعاني مما يطلق عليه الانفجار السكاني، وما تزال في
هذه الدول طاقات وإمكانات وموارد يمكن استثمارها إذا أحسن استثمار وتوجيه
الطاقات البشرية، وهناك الإمكانات غير المحدودة للبحار والموارد المائية وهناك
العجز في استيعاب التقنية، والعجز الأكبر في استنباتها وتطويعها للبيئات المحلية،
وهذا يعني أن العديد من الدول تخلق مشاكل سكانية لنفسها (بطالة جرائم تضخم
زيادة نسبة الإعالة زيادة استهلاك إجهاض برامج التنمية ... إلخ) لا بسبب كثرة
السكان ولكن بسبب سوء التخطيط في الموارد البشرية وهجرة العديد من الكفاءات
العلمية والفكرية بسبب عدم تقديرها واستثمارها بشكل علمي مخطط، وعدم كفاية
النظريات التعليمية والتدريب، يضاف إلى هذا: أن هناك دولاً تعاني من نقص
الموارد البشرية وتقبل الهجرات وتضع عليها العديد من القيود، وهنا لا تصبح
المشكلة مشكلة زيادة في السكان، وإنما مشكلة توزيع وتنظيم للهجرة سواء الداخلية
أو الخارجية أو العالمية، وهذه ترتبط باعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية،
وحتى على مستوى الدول الإسلامية والعربية، فأغلب الدول باستثناءات قليلة مثل
مصر والجزائر.. تعاني من قلة سكان، وحتى هذه الدول المستثناة فإن الإشكالية
فيها في نظر بعض الباحثين هي تراجع معدلات التنمية وعدم كفاءة الاستثمارات
المادية والبشرية، وهناك تجارب تثبت أن أكبر الدول سكاناً هي أعلى الدول في
معدلات التنمية، والدليل على هذا أن معدل التنمية في الصين يصل إلى 13%
وهو أعل من معدلات التنمية في الكثير من دول الغرب.
وقد عالج بعض الكتاب هذه القضايا بشكل جيد مثل فهمي هويدي في مقالاته
بالأهرام القاهرية [4] التي أورد فيها تأكيد الأكاديمية الإفريقية للعلوم في بيانها
بمناسبة الدعوة إلى المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الثالث في القاهرة في أغسطس
الماضي، أن السكان من أهم عناصر التنمية في إفريقيا، وأن محاولة تخفيض
معدلات نموهم يؤدي إلى إهمال موارد القارة وعدم الانتفاع بها.
وإذا ما انتقلنا إلى الديموقراطية في المشروع الغربي والشورى في المشروع
الإسلامي، نجد فروقاً جوهرية في العديد من الأمور، منها: حدود الديموقراطية،
والضوابط والمعايير أو الثوابت التي يجب الالتزام بها، وآليات تحققها، ونوعية
الأشخاص الذين لهم حق إبداء الرأي، فإذا كان الاثنان يتفقان في بعض الأهداف
مثل المشاركة وتجنب الاستبداد وتحقيق المصالح العامة، فإن المجتمع الغربي في
غيبة الثوابت الأخلاقية الفطرية يضل الطريق ويقنن الانحراف والفساد والضلال
في بعض المجالات الحياتية.
*ملاحظات ختامية:
وفي نهاية هذا العرض الاجتهادي أود أن أطرح بعض الملاحظات الختامية،
وهي:
أولاً: يجب التمييز بين معطيات المشروع الحضاري، وبين معطيات الواقع
الممارس، فالمشروع الحضاري الإسلامي كما عرضت له يُستمد في جانب الثوابت
من المصادر الشرعية، وفي جانب الاجتهاد من رؤية كل مجتهد، وهناك فرق بين
هذا المشروع الذي طبق فعلاً في بعض العصور مثل العصر النبوي وعصر الخلافة
الراشدة وبعض العصور الأخرى، وبين واقع المسلمين كما نراه اليوم، وبالمثل:
فإن هناك فروقاً كبيرة بين القيم الإنسانية المهمة المعلنة للمشروع الغربي مثل
تحرير الإنسان، وتحقيق المساواة بين البشر بغض النظر عن الاختلافات العرقية
واللونية والطبقية والمجتمعية، والمناداة بحقوق الإنسان، وضرورة المشاركة في
المسؤولية والقرار، وتداول السلطة ... إلخ، وبين واقع التطبيق سواء أكان ذلك
داخل مجتمعات الغرب أو في علاقاتها مع مجتمعات العالم الثالث، أو حتى في
علاقاتها مع بعضها البعض.
ثانياً: أن كل جوانب التقدم العلمي والتقني، والتقدم في بعض مجالات التقنية
الاجتماعية كالتخطيط والتنظيم والإدارة والتسويق ... في الحضارة الغربية، تنطلق
من الأخذ ببعض القيم الإلهية الداعية إلى العلم والتعليم والعمل والإنتاج والاستثمار
وتعمير الأرض ... إلخ، وهذه القيم سبق إليها الإسلام وطبقها المسلمون في بعض
العصور، فسادوا العالم وفتحوا آفاقاً واسعة في كل مجالات الفكر والعلم، وهي
ذاتها القيم التي عندما تركها المسلمون وقعوا في أسر التخلف والسيطرة الأجنبية
والتبعية للغرب.
ثالثاً: هناك أوجه إيجابية وأخرى سلبية في المشروع الغربي، وهناك أوجه
التقاء وأوجه اختلاف مع المشروع الإسلامي؛ وعلى سبيل المثال: هناك بعض
جوانب الاتفاق والاختلاف في الموقف من العلم والإنتاج والتقنية والمشاركة
والوقت ... بين المشروعين الحضاريين المذكورين، وهناك أيضاً تفاعل إيجابي بين المشروعات الحضارية، وقد كانت الحضارة الإسلامية أكثر الحضارات انفتاحاً وتفاعلاً مع الحضارات الأخرى المختلفة، ابتداءً من قبول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتقنية حفر الخندق، وقيام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بتدوين الدواوين، ومروراً بعصر النهضة العلمية في العصور الإسلامية المتعاقبة وحتى اليوم، فتقبل كل ما يتلاءم مع مقاصد الإسلام.
رابعاً: كل الأفكار والنظريات والمداخل والمدارس المطروحة في مجال
التنمية تنبثق بشكل أو بآخر من خلفيات معينة هي التي تشكل أساسيات مشروع
حضاري معين أو آخر، ولهذا تتباين النظريات والمداخل والمدارس.
__________
(1) يحيى هاشم حسن: الإسلام والاتجاهات العلمية المعاصرة: دار المعارف، مصر، 1984، ص164 وما بعدها.
(2) محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخية ما يحب لنفسه، وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، ح/71، 72.
(4) فهمي هويدي: هوامش على مؤتمر السكان والتنمية: الأهرام القاهرية، أغسطس 1994 ص9.(87/33)
مقال
بين العصمة والوصمة
سليمان بن عبد العزيز الربعي
ينتابُ المرء في أحايين كثيرة قلق غريب إزاء مستقبليات الدعوة إلى الله (جل
وعلا) ، مصحوباً بشعور متنامٍ بأنها لازالت بحاجة ماسة إلى ترشيد جانبها العميق
الملاصق لحال العاملين في حقلها.
وقد كان ثم جهود خيّرة أريد لها ملء هذا الفراغ والقيام بواجبه المهم، غير
أن القوالب الرئيسة في العمل الآني استحوذت على الاهتمام نظراً لبعدها الخطابي
من جهة، وروحها المتوثبة من جهة أخرى، الأمر الذي أدى إلى سد المنافذ
لتطويرها وصرف نظر الدعاة عنها في وقت دعت الحاجة فيه إلى تربية شمولية.
وإن من جوانب التكامل في العمل الدعوي بخاصة إيضاح الرؤية وفق أطر
من الموضوعية والتجرد وإخلاص النية والقصد فيه لله (سبحانه وتعالى) ، مما
يساعد بإذن الله على تلافي الأخطاء وإيجاد البدائل المناسبة للوضع المراد إزالته،
سواء أكان في جانبها النظري غير المرتبط بتشريع أو في جانبها التطبيقي الذي
يمارس من خلال اجتهادات قابلة للصواب والخطأ، ولعل من قبيل تلك الأخطاء
الملاصقة لحال العاملين في نظري ما يحيطه الظرف المكاني والزماني، إضافة إلى
عامل المساندة الجماهيرية بتكويناتها المتعددة لأولئك الدعاة الأخيار من جوٍ مأهول
بكل ذرة من ذراته بالإشعار المكرور بمنزلتهم ومكانتهم وفضلهم.. إلخ، مجاوزاً
حدوده الشرعية إلى مرادات بعيدة عن هدي سلفنا الصالح، قريباً من نزغات
الغالين المجاوزين.. وبمجموع ذلك كله يخشى السابر لمجريات الأمور وجود
عينات ترفض محض النصح، وترد ملحوظات المعنيين، وصولاً إلى تأهيل
رموزهم إلى درجة من العصمة! لا تنبغي إلا لرسل الله (صلوات الله وسلامه
عليهم) قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، مبدين مفارقة عجيبة في واقعهم حين تبرز لديهم
روح الرفض لمبدأ العصمة في أولئك الدعاة في الوقت الذي يرفضون فيه إبداء النقد
المباين المتحرر! بل إنهم يتجاوزن ذلك بفرض تصنيف معين لذلك الناقد الملاحظ، من مثل: المثبط البعيد عن الساحة الراجم بالغيب المتصيد للأخطاء الناقد بلا
عمل الشانئ الحاسد وما شئت من هذه المنظومة، ويقيننا جميعاً: أن الدعاة إلى الله
(سبحانه) يرفضون هذا التوجه المؤسف، لكن بعضهم مقصر في البيان، والبعض
الآخر مقتصرعلى جانب واحد فقط في تربية الجمهور، على أن إبداء الخطأ للعالم
أو للداعية ومواجهته به بنية طيبة صافية ينال نصيباً من فرض العين!
إنّ الداعية المخلص يجب أن يكون ذا روح كريمة تعمل على تطبيق قناعتها
الراسخة: رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا، ووجود مثل تلك العينات حول الداعية
ونحوها المطرد في الحقل بعموم: كفيل بإيجاد فجوة كبيرة تفصل الجمهور عن
الدعاة، بل إنه شعور موجود يبثه كثيرون عند الحديث عن مشكلات التواصل
الدعوي، وإذا كنا نسمع عن حرية التعبير التي يرددها خلق كبير من الدعاة
ويدعون إلى لون منها، فإنهم مطالبون أولاً بحمل القريبين منهم على هذا المفهوم،
من أجل تعامل أحسن في قابل الأيام والأعمال، وحتى يتيحوا الفرصة لكل حادب
ناصح مشفق ليقول ما تبرأ به الذمة.
اليوم يغيب هذا الوعي عن الكثيرين بدرجة متنامية، فلكل داعية جمهور من
المريدين يقابلون الملاحظ بعاصفة من السخريات الشامتة على موقعه الذي لا يحسد
عليه بين يدي ذلك العالم الداعية لمجرد تفوهه بملحوظة سيقت بقالب مهذب مؤدب،
بل يُلاحَق في حله وترحاله بوصمة المباينة عن المسار الرشيد الذي يتزكى به
الواصمون، وحين لا يكون النقد موجهاً لعَلَمهم تنثال عبارات المديح لقوة الملاحظة
وجودتها عند هذا الأخ الكريم والشيخ المبجل الحكيم! ! وبقدرة عزيز حكيم تندرس
تلك الوصمات، وتغيب هاتيك المعايب، بل وينسون ابن عساكر برمته وماذا قال!.
إن بين الموقف الأول والآخر المباين لحمة قوية من الجهل وضيق الأفق تكاد
تنسحب إلى توصيف عمومي.
وبين هذا وذاك ينشغل الحقل الدعوي كله إلا من رحم ربك منهم عن إيجاد
حل لهذا المزلق المتعاظم بحجة الرد على ملاحظ لبق، هم في نقاشهم المحتدم معه
ينفون عن ذاك الداعية قداسة العصمة، غير أنهم لا ينسون أبداً رد كيد هذا الشانئ
في نحره وإلغاء باطله بالوصمة! !(87/41)
نص شعري
قبيل الفجر
محمد بن ظافر الشهري
إيه.. يا أنجماً..
لم تزل تتفيأ جنحَ الظلامْ
يا زينةً.. ومصابيحَ
أطفأها الغيمُ.. أو كادَ..
بُعداً لهذا القتامْ!
آه.. لو تسمقين على الطقسِ
.. لو ترجمين هواكْ! !
إذن.. لتألقتِ
في عين سّيارة الفجرِ..
لن يجد الركبُ بُداً
من الاهتداء إذا ما رآكْ
فغايتهُ..
جسدٌ كاملٌ في ترابٍ حرامْ
وولوجٌ إلى السّلمِ.. لا في السلامْ
...
حاول البومُ أن يمتطيكَ
بنصف جناحْ!
أي شيء عراه؟ !
حين عاد يسبّ الصباحْ! !
شاهداً
أن مكثَ السديمْ
قد يطول.. ولكنه لا يدومْ
حَدّثينا..
فلسنا نملّ حديثَ النجومْ
حدثينا..
فإن علينا السماعْ
وعليكِ الكلامْ!(87/44)
من قضايا المنهج
لمحات في فن الحوار.. الحلقة الأولى..
[ضوابط الحوار]
محمد محمد بدري
قد نرى بعض الفرقاء كلما أرادوا ائتلافاً تفرقوا.. وحيثما جلسوا لتسوية
خلاف تشتتوا وتنازعوا! !
ولا يرجع ذلك إلى نوعية الأخلاق المتردية لهذا الفريق أو ذاك فقط.. وإنما
يرجع قبل ذلك وبعده إلى الجهل بعلم الحوار وفن المحاورة الذي يجعل المتقاربين
في الأهداف والأفكار في خلافٍ دائم، ونزاع مستمر، وفُرقة مقيتة! !
ولكي لا نسقط في فتنة الفُرقة لابد أن نرتفع بحواراتنا إلى مستوى أن تصبح
علماً نتلقاه، وفناً نتدرب على أساليبه ونمارسه للوصول إلى أهدافنا النافعة، بعيداً
عن الارتجال وتغييب الخيال!
وهذه المقالة، دعوة لتعلم ضوابط الحوار التي تحكمه، والتدرب على أساليبه
التي تخدمه، والتعرف على عوائقه التي توقفه.. حتى يكون كلامنا باعتدال،
وجدالنا بمنطق، وحوارنا باتزان، سائلاً الله التوفيق والسداد.
لكل حوار ضوابط تحكم مساراته، وتوجه تلاقح الأفكار خلاله.. وضوابط
الحوار فضلاً عن كونها آداباً وأخلاقاً هي جزء رئيس ومؤثر في فعالية أي عمل
يُبْنى على الحوار.. ذلك: أن أي عمل في بدايته هو مشروع في محتوى بعض
الكلمات والأفكار التي ينميها الحوار ويخصبها، ويبعث فيها روح العمل.
ولا شك أن ضوابط الحوار إنما تقوم على أصول سلفنا الصالح أهل السنة
والجماعة في تمحيص الآراء المتباينة، وتجلية الإشكالات المتوقعة، دون تَحَول
الحوار إلى مهاترات يضيع معها الود لتحل محله الجفوة والقطيعة.
ومن هذه الضوابط:
1- السماع الكامل:
الحوار هو: فن السماع للآخر، وعدم الطمع في الكلام بدلاً منه، لأن هذا
الطمع يزهدنا فيما يقوله مَن نتحاور معه، ويحرمنا من تَدبّر قوله الذي لا يتحقق إلا
بالسماع الكامل لهذا القول حتى دُبرَه أي: آخره.
كما أن السماع الكامل للآخر يُشْعره باهتمامنا بما يقول، وجديتنا في التحاور
معه، وثقتنا في الوقت ذاته فيما عندنا.
وتأمل معي هذا الحوار بين عتبة بن ربيعة والنبي -صلى الله عليه وسلم-،
لقد أتى عتبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى جلس إليه، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت
قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم،
وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك
تقبل منها بعضها، قال رسول الله ص: قل يا أبا الوليد، أسمَع. قال: يا ابن أخي
إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون
أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن
كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده
عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب
التابع على الرجل حتى يداوى منه.. أو كما قال، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فاستمع مني. قال: أفعل. قال النبي -صلى
الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم [حم * تنزيل من الرحمن
الرحيم ... ] (فصلت: 12) [1] .
فانظر رحمك الله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يستمع إلى عتبة
وهو يعرض عليه هذه الخواطر التي تثير الاشمئزاز مقارنة بما يشغل النبي من
عظائم الأمور، ومع ذلك يتلقاها النبي حليماً، ويستمع إليه دون مقاطعة عتبة ويردد
في نهايتها: أفرغت يا أبا الوليد؟ . فيقول: نعم، فيقول الرسول الكريم: فاستمع
مني، بل لا يبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه حتى يقول له عتبة: افعل..
فيبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلاوة قول ربه في ثقة وطمأنينة! !
إن السماع الكامل للآخر، وإعطاءه الفرصة حتى يُتم كلامه، مع استوضاح
أي غموض فيما يعرضه من أفكار.. إن كل ذلك لا بد أن يكون هو السمة المميزة
لكل حواراتنا، فإذا تبين لنا خطأ الآخر، فإن السماع الكامل له وعدم مقاطعته هو
المقدمة الصحيحة لرجوعه عن الخطأ مهما كان عناده وغلظته؛ فإن أشد الناس
جفافاً في الطبع وغلظة في القول لا يملك إلا أن يلين وأن يتأثر إزاء مستمع صبور
عطوف يلوذ بالصمت إذا أخذ محدثه الغضب [2] .
2- تجريد الأفكار:
هدف الحوار هو الاستفادة من الأفكار وليس تدمير الأشخاص، ولذلك؛ فإن
من أهم ضوابط الحوار: التركيز على فض الاشتباكات الفكرية دون التعرض
السلبي للأشخاص بتشويه أو تجهيل، فلا خلاف مطلقاً بين أشخاص المتحاورين،
وإنما بين أفكارهم، والفكرة الحسنة تُمْتدح بغض النظر عن قائلها، والفكرة الخطأ
تُرَاجع دون تسفيه قائلها أو التهكم منه، فالنظر دائماً إلى الآخر من خلال ما قيل،
لا من قال [3] ، مع احترام أهل العلم، وحفظ مكانتهم ومراتبهم، فلا نؤثمهم مطلقاً
ولا نعصمهم مطلقاً، ولا نقبل كل أقوالهم ولا نُهْدرها كلها، وإنما ننتفع بأفكارهم ما
دامت حقاً، ولا نعتقد فيهم العصمة من الخطأ، ونرى أن الآخر قد يمتلك الحق أو
أنه يكون هو الراجح عنده، وأن ما عندنا يحتمل الخطأ أو أن يكون هو المرجوح.
ولا شك أن التحاور ضمن هذا المبدأ مبدأ افتراض المخالفة هو المدخل الذي
يضع الآخر في أول الطريق الصحيح للتفكير، لأنه يرى أن من يحاوره يضع نفسه
معه في موضع المجادلة المشتركة لمعرفة الحق؛ [وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في
ضلال مبين] [سبأ: 24] .. هكذا في هدوء من يبتغي للآخر الإرشاد وليس
الإفحام والإذلال، وفي ثقة من أخلص للحق المجرد فصح انقياده له، ولم يهتم بمن
قاله من البشر، وإنما كان جُل اهتمامه بالقول في ذاته وتمييز الحسن منه والأحسن، ثم اتباع الأحسن، فكان من أصحاب البشرى بالنجاح وتحقيق الأهداف في الدنيا،
والنعيم في الآخرة؛ [فبشر عبادٌ * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك
الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب] [الزمر: 17، 18] .
3- ترك المراء:
قد يُخْفِي الحوار في نفس من يمارسه حباً خفياً للتميز على الآخر، ولا يمكن
اكتشاف هذه العورة النفسية إلا بأن يترك المحاور المراء والجدل، ويلتزم بيان
الحق بالحجج والبراهين.
ومن هنا: فقد وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- تارك المراء ببيت في
الجنة.. قال -صلى الله عليه وسلم-: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً [4] .. فرغم الاعتقاد بملكية الحق لا يكون إثباته عن طريق المراء والجدل، وإنما عبر الطرق والمسارات الشرعية التي تصل بسالكها إلى بيان الحق، وعدم الانتقال بأي حال من الأحوال من شواهد الأدلة إلى دوافع الآخر، أو من إقامة الحجج للتدليل على صحة ما نراه ونعتقده إلى إثارة الجدل للتدليل على خطأ الآخر وخبث بواعثه.. فيدور حوارنا في حلقة مفرغة، ويتفرع إلى ... مضايق ومتاهات تتمزق فيها الأفكار ويُقْتل التفكر والتدبر على مذابح المراء والجدل العقيم! !
إن المراء يغلق باب الحوار ويلغيه، لأنه يدفع طرفي الحوار إلى التصور
الخاطئ: بأن حوارهما هو مباراة لا تكون نتيجتها إلا قاتل أو مقتول، فلا يبحث
كل منهما عن حقائق أو أدلة، وإنما يكون بحثه وجهده في محاولة إغراق الآخر في
طوفان من الكلام الذي يُضيع الوقت والجهد في غير فائدة، ويوغر الصدور،
ويكرس الفرقة.
4- تغافر لا تنافر:
الحوار هو لون من ألوان التشاور حول بعض الموضوعات والأفكار، ومن
ثم: فهو جلسة تناصح وتغافر وليس جلسة تصارع وتنافر، فمع قبول رأي الآخر
أو رفضه تبقى طهارة القلب وصفاء السريرة نحوه، مع قبول معذرته والتغافر عن
خطئه إن وقع، بل والحرص على أن يخرج الحق على لسانه، فقد رُوي أن الإمام
أبا حنيفة (رضي الله عنه) رأى ولده حماداً يناظر في المسجد فنهاه، فقال له ولده:
أما كنت تناظر؟ قال: بلى، ولكن كنا كأن على رؤوسنا الطير من أن يخرج
الباطل على لسان الخصم، بل كنا نود أن يخرج الحق على لسانه فنتبعه، فإذا كنتم
كذلك فافعلوا! ! [5] .
وهذه هي سيماء سلفنا الصالح في حواراتهم، فقد ذُكِر عن حاتم الأصم أنه
قال: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي، قالوا: وما هي؟ قال: أفرح إذا
أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي لا تتجاهل عليه، فبلغ ذلك الإمام
أحمد بن حنبل (رحمه الله) فقال: سبحان الله! ما كان أعقله من رجل [6] .
.. نعم، ما أعقله من رجل يحب أن يُظْهر الله الحق على لسان أخيه،
ويحاول رؤية الحق من أي وعاء خرج، ومن أي جهة سطع.
إن من طلب الحق فأخطأه لا يمكن تسويته بمن طلب الباطل فأدركه، فطالب
الحق وإن أخطأ نتجاوز عن خطئه، ونغفر له تجاوزه، وإن كان ثمة عتاب
فبالمودة والإخاء والقول الحسن.
وتأمل معي ما جاء في سيرة علي بن الحسين (رضي الله عنه) : لقد كان بينه
وبين ابن عمه حسن شيء، فما ترك حسن شيئاً إلا قاله، وعلي ساكت، فذهب
حسن، فلما كان الليل، أتاه علي فقال: يا ابن عمي إن كنت صادقاً فغفر الله لي،
وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، والسلام عليكم. فالتزمه حسن، وبكى حتى رثي
له [7] .
إن الحوار جلسة بدء علاقة يظللها الحب والتغافر، ولسان حال المتحاورين:
من اليوم تعارفنا ونطوي ما جرى منا
فلا كان ولا صار ولا قلتم ولا قلنا
5- الصدق والوضوح:
الصدق مع كونه ضابطاً من ضوابط الحوار هو خلق نبيل لا خيار للمسلم في
التحلي به،.. والوضوح في الفكرة هو وسيلة قبولها من الطرف الآخر..
والوضوح في المواقف له أكبر الأثر في تصفية القلوب وإعادة الود.
ومن هنا كان الصدق والوضوح هما طريق التآلف وحصول البركة، قال
رسول الله ص: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما [8] .
وكما أن البيع المبني على الصدق والوضوح هو بيع مليء بالبركة، كذلك
الحوار القائم على الصدق والوضوح هو حوار مبارك ييسر الله تعاون أطرافه على
البر والتقوى، ويبارك جهودهم المتعاونة على نصرة الحق.
ومن هنا وجب علينا في كل حواراتنا أن نتجنب الكلمات الغامضة التي تؤدي
إلى سوء الفهم، ونتجنب أساليب المغالطات والدفاع عن الأوضاع الخاطئة التي
تؤدي إلى إثارة الحقد، وإيغار الصدور والقلوب، وذهاب الود بين طرفي الحوار،
ومن ثم تكون النتيجة هي فشل الحوار في تحقيق أهدافه.
6- العلم والعدل:
الحوار الناجح هو حوار يضبط العلم مساره، ويوجه العدل موقف كل طرف
فيه تجاه الآخر.
فأما العلم، فإنه لا يستقيم حوار بدونه، بل في غيابه يصبح ضرر الحوار
أكثر من نفعه، لأن جهود المتحاورين في هذه الحال تذهب سدى وتضيع بلا ثمرة
تذكر.. روى الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن
نفراً كانوا جلوساً بباب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا
وكذا؟ قال: فسمعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج، فكأنما فُقئ في
وجهه حب الرمان، فقال: بهذا أمرتم؟ ! ، أو بهذا بعثتم، أن تضربوا القرآن
بعضه ببعض؟ ! إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أمرتم به
فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه [9] ، يقول ابن تيمية (رحمه الله)
في التعليق على هذا الحديث: وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل
إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه [10] .
وأما العدل فهو الطريق إلى اعتدال أخلاق المتحاورين بين طرفي الإفراط
والتفريط، وهو الحامل لهم على قبول الحق من الخصم، بل من العدو المبين! !
لقد روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكله بحفظ زكاة
رمضان، فأتاه آت فجعل يحثو من الطعام، فأمسك به ثم خلى سبيله، ثم عاد
الثانية والثالثة، إلى أن قال في الثالثة: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قال:
قلت: ما هن؟ ، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية [الله لا إله إلا هو الحي
القيوم] [البقرة: 255] حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا
يقربنك شيطان حتى تصبح. فلما أخبر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال
له: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟، قال: لا، قال: ذاك شيطان [11] .
فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يمتنع من قبول الحق من أعدى
أعدائه، بل ممن يعلم أنه كثير الكذب.. وذاك غاية العدل.
إن طريق الوصول إلى الحق عبر الحوار هو الاتصاف بالعدل والعلم وحسن
القصد، وأما الجهل والظلم وسوء القصد فهو الطريق إلى التنازع والفرقة والقطيعة
بين أهل المنهج الواحد، بل بين ذوي الرحم.
ولا تزال قلة الإنصاف قاطعةً بين الأنام وإن كانوا ذوي رحم
7- التحاور العملي:
المتأمل في حواراتنا يجد أنها تحوي في أكثرها هوة كبيرة بين ما نتحاور له
وما يترتب عليه من أعمال في الواقع.. وهذه كارثة.. لأن الحوار يجب أن يكون
حول ما ينبني عليه عمل وفيما ترجى من ورائه مصلحة أو منفعة، أما عدا ذلك:
فالخوض فيه: خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي في الكتاب أوالسنة
أو عمل سلف الأمة.
فأما الكتاب فآيات كثيرة؛ منها: قوله (تعالى) : [يسألونك عن الأهلة قل
هي مواقيت للناس والحج] [البقرة: 189] حيث جاء الجواب بما تعلق به العمل،
مع الإعراض التام عما قصده السائل من السؤال عن الهلال من كونه يبدو في أول
الشهر دقيقاً كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدراً، ثم يعود إلى حالته الأولى.
وأما السنة فأحاديث كثيرة؛ منها: (أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه
وسلم-: متى الساعة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وما أعددت لها؟ فكأن
الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صيام ولا صلاة ولا
صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال -صلى الله عليه وسلم-: أنت مع من
أحببت [12] ) [13] .
وأما عمل السلف الصالح فكثير أيضاً، نذكر منه: خبر عمر بن الخطاب
مع صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن، فقال عمر: سبيل محدثة
أي: بدعة جديدة ثم أرسل إلى رطائب من جريدة نخل فضربه بها حتى ترك ظهره
دبرة أي: قرحة ثم تركه حتى برئ ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود،
فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني،
فقد والله برئت، فأذن له عمر أن يذهب إلى أرضه.
إن تحاورنا يجب أن يكون هو الخطوة التمهيدية الأولى في طريق أعمالنا
المشتركة التي نتعاون على إتمامها.. ولذلك: فإنه من الضروري أن نتعرف قبل
التحاور على الأهداف العملية للحوار، ونتبين ما هي الدوّامات الفكرية الطارئة
والمنعطفات النظرية العارضة التي قد تلفتنا عن أهدافنا العملية لتنحرف بحواراتنا
إلى أمور نظرية شكلية ليس لها أدنى تأثير في مسيرة العمل، ولا يترتب عليها إلا
استنفاذ طاقاتنا في غير طائل وبغير ثمرة.
وثمة ضوابط أخرى للحوار لا يسعنا الوقوف عندها تفصيلاً حتى لا نخل بأحد
ضوابط الحوار وقواعده الضرورية، وهي:
8- الحجة الرأسية:
الحوار الناجح هو حوار يخلو من الإطالة الزائدة عن الحد، التي تُحَوّل
الحوار إلى خطبة يتشدق فيها كل طرف من أطراف الحوار ويتفاصح بكثرة الكلام،
بل وغرابته أحياناً! ! ، وهو ما كرهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بقوله:.. إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ ، قال: المتكبرون، والثرثار: كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق: أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فيه بالكلام، ويتوسع فيه، ويغرب به تكبراً وارتفاعاً، وإظهاراً للفضيلة على غيره [14] .
إن الإطالة والتكرار والإسهاب وهو ما نطلق عليه الحجة الأفقية لا ينتج عنه
إلا دفن الفكرة الرئيسة للحوار وسط هذا الكم الكبير من الكلام، ومن ثم: عدم قدرة
الآخر على اكتشاف ما نقصد فضلاً عن فهمه وتدبره؟ !
وإذن: فالمحاور العاقل هو من يحاول الوصول إلى هدف الحوار من أقرب
طريق، ولا يضيع وقته ووقت الآخر في تكرار الكلام والإسهاب في المقدمات التي
لا فائدة فيها، بل يقتصر في الألفاظ والكلمات على قدر الحاجة ويوضح فكرته
بأقرب عبارة وأوجز لفظ، وهو ما نطلق عليه الحجة الرأسية حيث يذكر المحاور
فكرته الرئيسة، ثم ينتقل بعد ذلك لتدعيمها بالأدلة، في إجمال غير مخل، وتفصيل
غير ممل.
إن من فقه الحوار وذكاء المتحاورين: أن يتحرزا عن إطالة الكلام في غير
فائدة، وعن اختصاره اختصاراً يخل بفهم المقصود منه [15] ، وأن يحققا التوازن
الدقيق بين جفاف الحوار بسبب قلة الأدلة أو غموضها، وبين غرق الحوار بسبب
الإسهاب والتكرار غير المفيد.. وللحديث بقية، والله من وراء القصد.
__________
(1) ابن هشام: السيرة النبوية، ج1 ص314.
(2) ديل كارنيجي: كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ص92 بتصرف.
(3) ابن القيم: مدارج اسالكين، ج3 ص545.
(4) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، ح/4800، قال الألباني: لكن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن، السلسلة الصحيحة، ح/273 ص492.
(5) محمد أبو زهرة: أبو حنيفة.
(6) بكر بن عبد الله أبو زيد: الرد على المخالف، ص60.
(7) شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج4 ص397.
(8) البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بيّن البيّعان.
(9) مقدمة ابن ماجه، ح/10، مسند أحمد، ج2 ص178.
(10) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، ص43.
(11) البخاري، كتاب بدء الخلق، ج4 ص92.
(12) البخاري، كتاب الأدب، ح/295.
(13) انظر الموافقات، ج1 ص46.
(14) النووي: رياض الصالحين، ص289.
(15) الشنقيطي: آداب البحث والمناظرة، ص76.(87/46)
من حصاد التجربة
من تجربتي مع النصرانية
اكتشفت تناقضاتها وزيفها
مسعود النرواجو أديوجو
الكاتب كان قسيساً نصرانياً في نيجيريا، ولما أراد الله له الهداية اطلع على
بعض الكتب الإسلامية التي رأى فيها معالم دين الإسلام الحق فعاد إلى دينه الأساس، وها هو ذا يوضح تجربته مع النصرانية وكيف اكتشف تناقضاتها وزيفها فأعلن
إسلامه بكل جرأة متحدياً النصارى كلهم لو أرادوا مناقشته.
- البيان -
أرى من الحق عليّ في البداية أن أقرر حقيقة مهمة؛ هي أنني وُلدت مسلماً،
ولكني تنصرت فيما بعد معتقداً أن النصرانية هي الدين الحق كما يزعم المروجون
الغربيون من أصحاب الدعاية التنصيرية، ولكني بعد اعتناقي لذلك الدين اكتشفت
بعد مضي اثني عشر عاماً أنني قد انضممت إلى مجموعة من المزيفين والمشوشين، والعابدين للأصنام من الدرجة الأولى.
وبعد التعثر في الظلام لسنوات عديدة للبحث عن الحقيقة هنا وهناك عبر
الاطلاع على كل العلوم السرية، علوم السحر والتنجيم، التصوف، علوم الأسرار
وما يسمى بالـ كابالا، بعد هذا كله قد قررت أن أقوم ببحث مستقل عن الإسلام
والمسيحية، ولقد قررت بتصميم عميق أن أتحرى الصدق، وأن يكون رائدي هو
الحق والحق فقط.
ولقد تجشمت الصعاب في دراسة ما يسمونه (الكتاب المقدس) ! صفحة صفحة، ولقد كانت دهشتي عظيمة عندما اكتشفت وعرفت أن فيه آثاراً من الإسلام أكثر
مما فيه من النصرانية، ولقد اكتشفت أيضاً مما زاد حنقي وغضبي أن ما يُدعى
بالكتاب المقدس من سفر التكوين إلى آخر سفر يحوي عدداً من التناقضات الفاضحة
وأسساً تحمل على اقتراف كثير من أنواع الجرائم، ولذلك أرى أنه من السخف
تسميته كتاباً مقدساً في شكله الحالي.
أطفئ مصباح عقلك واعتقد:
هذا هو حال النصارى، فالمعضلة والمشكلة الأساسية مع النصراني المعاصر
أنه لا يكترث بالاطلاع على كتابه المقدس! وأنه لا يدرسه كما فعلتُ لكي يصل إلى
الحقيقة، ولو أنه قد فعل ذلك أعني لو قام أي نصراني ممن ولد وعاش في هذا
الدين بقراءة كتابه المقدس قراءة خالصة لمعرفة الحق، قراءة ناقدة ببصيرة فسوف
يكتشف ويا لحزنه وشجنه أن دينه بحاجة إلى أن يعيد التفكير فيه كثيراً؛ فالمسيح
(عليه السلام) لا علاقة له بما آلت إليه النصرانية، وسيكتشف أنه حتى اسم الكتاب
المقدس نفسه (Bible) لا ذكر له في الكتاب المقدس، فهي كلمة مخترعة.. كما أن
أساس الاحتفال بميلاد المسيح المسمى بـ (عيد الكرسماس) وعيد الفصح والتثليث
(Trinity) لا وجود لكل ذلك في كتابهم المقدس.
موقف لا ينسى:
وعندما كنت أقوم بالبحث طلباً للحقيقة قمت ذات مرة بزيارة إحدى المكتبات
الإسلامية في فينسبري بارك في لندن وكان ذلك في عام 1985م حيث اشتريت
كتاباً يسمى حياة محمد [*] لمؤلفه د. محمد حسين هيكل، وعند قراءتي للكتاب
واستيعابه وتفهم معانيه برز توجهي نحو الإسلام، وأصبحت أقرأ الكتب الإسلامية
الأخرى لعلماء المسلمين من أمثال: سيد قطب، وأبي الأعلى المودودي، وأحمد
ديدات.
ولقد وجدتني والحمد لله مؤمناً برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- عندما
قرأت نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم بالإنجليزية لعبد الله يوسف علي،
وعند قراءتي للقرآن وجدت نفسي مغموراً بالنور التام نور الإسلام، ولم أضِع وقتاً
في حث الخطى نحو الرجوع إلى الإسلام، لأبدأ حياتي الإسلامية بنظافة روحية،
أنا وكل أفراد أسرتي، ومنذ ذلك الوقت كنت أقول وبصوت جهوري وعلى رؤوس
الأشهاد علناً: إن القرآن هو الوثيقة الوحيدة التي تشتمل على الحق المنزل من عند
الله التي مازالت صافية طاهرة باقية على أصلها وصفائها منذ أن أوحى الله (تعالى)
إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يومنا هذا، وسيظل كذلك إلى يوم الدين.
والقرآن في ذلك لا يشبه الكتاب المقدس عند النصارى الذي كان عرضة
لتباين وجهات النظر والتنقيح الدوري وتلاعب رجال الكنيسة به.
آلاف الأخطاء في كتابهم المقدس:
وكما أشرت سابقاً فإن في الكتاب المقدس آلاف الأخطاء التي تشوش على
النصارى واليهود على السواء عقيدتهم، ومع ذلك فهم أي: النصارى يروجون
وينشرون الأكاذيب ويشيعون المتناقضات الفاسدة ليضللوا البسطاء ويبعدوهم عن
الرسالة الحقة رسالة الله القرآن العظيم؛ فلا عجب أن يقول الله (تبارك وتعالى) :
[وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على
شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم
يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون] [البقرة: 113] .
أريد أن أذكر هنا دون أدنى تناقض: أن الإسلام دين العدل والسلام والحق،
هذا هو ما جاء به هذا الدين، فالإسلام لا يوازيه ولا يساويه أي دين آخر.
تسبيح الله بين النصرانية والإسلام:
ويمكن أن يظهر الانتظام والاتساق في الإسلام في مثال واحد: في كلمة الله
أكبر، ليست هذه عبارة تقال في أثناء العبادة في الصلاة، وإنما لكل نعمة من النعم، وفي كل حادثة أو أمر سواءً أكان ذلك الأمر خيراً أم شراً توجد له آثار مروية
يستطيع المسلم أن يثني بها على عظمة الله (تعالى) ويذكر قدرته ورحمته في
عبارات مثل: لا إله إلا الله، الله أكبر، سبحان الله، وفي كل موقف يجد المسلم
أمامه من الأذكار ما يرجع إليه يعظم الله بها ويسبحه، وهناك أذكار كثيرة منها:
الحمد لله، ما شاء الله، أستغفر الله وكل هذا من العبارات الجميلة المشتركة بين
جميع المسلمين لتمجيد الله وتسبيحه وتحميده في جميع الظروف والأحوال.
أما في النصرانية، فإنني يمكنني القول بكل وضوح على ضوء الأدلة الواضحة، على الرغم من أنهم جميعاً يدّعون تسبيح الله وتحميده بطريقة أو بأخرى: إنه لا توجد طريقة واحدة مشتركة منظمة أو أنموذج يحتذى كما هو الحال في
الإسلام سواءً أكان ذلك من حيث العبارات التي تقال لكل ظرف وحالة، أو من
حيث المناسبات نفسها، إلا عبارة واحدة هي: هلولويا أو عبارة آمين، ولذلك فإن
ممارستهم للشعائر تختلف وتأخذ مناحي مختلفة، فمن التصفيق إلى ذرف الدموع
إلى الضرب على الطبول والرقص..! !
ومن المهم أن نذكر هنا أن أغلبية النصارى يفضلون أن يحمدوا المسيح! بدلاً
من أن يحمدوا الله بالإضافة إلى الإكثار من حمد الثالوث المتوهم؛ أي: ادعاء أن
الثلاثة في واحد تساوي إلهاً واحداً؛ حيث يقولون: المجد للآب والابن وروح
القدس! ولا شك فإن مبدأ التثليث يمثل قمة الغباء والتشويش الروحي والاضطراب
في المسيحية.
أما بالنسبة لأسلوب العبادة: فإني أقول بكل وضوح وعلناً: إن الإسلام فقط
هو الدين الذي يعترف بأن العبادة هي المظهر الأساس للدين؛ لذا: فإن هناك أركاناً
خمسة للإسلام، فالصلاة مثلاً قد ذكرت بكل تفصيل؛ متى تقام في أوقاتها يومياً،
حيث يقف المسلمون بكل تواضع وانكسار لله، وكيف يؤدونها على هيئة يلزم منها
الاستسلام لله (تعالى) .
وقد ذكر القرآن الوضوء شرطاً للصلاة حيث جعل الصلاة نفسها فرضاً على
جميع المسلمين، بالإضافة إلى ذلك: فإن صلاة الجماعة ميزة أخرى إضافة على
العبادة الفردية.
فلا يوجد في جميع أنحاء العالم أي صوت يخرج على إجماع المسلمين على
العبادة بالشكل المذكور.
وهذا عكس النصرانية تماماً، إذ إنه لا دليل في كتابهم المقدس يصف شكلاً
معيناً من العبادات يكون نموذجاً يتبعه جميع النصارى، ولا ينبغي أن يدهش القارئ
هذا الأمر إذ إن المسيح (عليه السلام) نفسه لم يدع إلى هذه النصرانية المحرفة (في
كل سني دعوته) . بل ومن السهل أن نثبت أن رسل الله جميعاً الذين أرسلوا قبل
الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- بما فيهم المسيح (عليه السلام) كانوا مسلمين
كما وصفهم القرآن الكريم [البقرة: 132، 133 آل عمران: 19، 85 المائدة:
111، ... ] ، بل إن هناك حالات ذكر فيها القرآن أن هؤلاء الرسل قد سجدوا لله
في ذل وخضوع.
وما أريد ذكره هو أن الإسلام يلزم معتنقيه بالإيمان بكلمة التوحيد لا إله إلا الله، وبالإحساس بالمسؤولية والقيام بالواجبات مثل: الصلاة خمس مرات في اليوم
والليلة، والصوم في شهر رمضان، وإعطاء الزكاة عندما يحين وقتها في كل عام،
والحج إلى بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا.
أما النصرانية فهي اعتناق هش، فلما كان اتصالها بالله (تعالى) فضفاضاً فقد
أصبحت ممارسة لبعض من يمكن أن نصفهم بأنهم إما كسالى جداً فلا يقومون
بالعبادة الجادة والصلاة الجادة في أمورالدين، أو أن يكونوا من أولئك المتكبرين
الذين يعتقدون أنهم أكبر من أن يعبدوا الله ولكنهم في نفس الوقت يخجلون أن ينسبوا
إلى الإلحاد، ولذلك فإن أسهل الأمور أن ينتسبوا إلى النصرانية، لأننا نرى أن مثل
هذا الانتساب لا يكلفهم أي مسؤولية، وحتى الذهاب إلى الكنيسة ليس عملاً إلزامياً
للمسيحيين.
من واقع تجربتي
استطيع أن أدعي أن 90% من المسلمين الذين يتحولون إلى المسيحية هم من
أولئك المشوشين الذين يرون في الانضباط بالشعائر التعبدية والنظام الإسلامي عبئاً
عليهم ولذلك فهم يتخفون تحت ظل النصرانية التي لا تطلب منهم أي شيء بالمقابل.
وعلى الرغم من تعاليم الكتاب المقدس فإن النصارى في جميع أنحاء العالم
غير مجمعين على موقف موحد تجاه الخمر شرب المسكرات، وكذلك القمار لعب
الميسر، والفوضى الجنسية، والربا.. الخ.
وأستطيع أن أقول دون تردد إن ما يعانيه هؤلاء القوم هو نقص الإيمان بالله،
لأنهم لو كانوا مؤمنين حقاً لعلموا أنه ما من تضحية تعظم في عين المؤمن إزاء
رضوان الله.
أستطيع أن أقول بثقة: إن النصرانية دين تشويش وإرباك عقدي، فيمكن أن
نقول: إن موقف النصارى من المسلمين يتلخص في أنه: إذا لم تستطع أن تقنع
المسلم بالردة عن الإسلام فشوش عليه عقيدته، ولذلك: فهم ينشرون الأضاليل
والأكاذيب، وذلك إصراراً منهم في التمرد على الحق المطلق الخالد في رسالة الله،
فلا عجب أن يقول الله (تعالى) بشأنهم: [ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات
والأرض ومن فيهن، بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون] [المؤمنون:
71] .
__________
(*) هناك على كتاب حياة محمد المذكور ملاحظات ومآخذ تطرق لها بعض العلماء والكتاب، انظر على سبيل المثال كتاب موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين للشيخ مصطفى صبري
- البيان -.(87/57)
نص شعري
صرخة جروزني
د. عدنان علي رضا النحوي
شِيشَانُ! صُبّي دَماً فِي الأضِ واغْتَسِلي ... النُّورِ مِنْه، وضمّي زَهْوةَ الأمَلِ
ورجّعي مِنً رُبَى جروزني مَلاحِمَها ... فوّارةً بِدَمٍ لِله مُشْتَعِلِ
مِنً كُلّ أرْوعَ سَبّاق بوثبتهِ ... إلى الشهادة خَطّافٍ على عَجَلِ
تطلّعتً كُلّ دَارٍ مِنً مَشَارقِها ... إِليْكِ بيْنَ دَواعِي الشّوْقِ والوَجَلِ
مَاذا رَأوا؟ ! عَجَباً! هوْلاً تُفَجّرُهُ ... عِصَابةٌ مِنً وُحُوشِ الأرْضِ الهَمَلِ
هَبّوا إليْكِ بأرتالٍ مُدَعّمَةٍ ... مِثْلِ الجراد إذا أَوْفَى على أسَلِ [1]
جُنّوا فَهَبّوا بأحْقَادٍ مُرَوّعةٍ، ... بالمكرِ بالكيدِ مِنً غَدْرٍ ومِنً خَتلِ
وأطْبَقُوا وَليَالي الموْتِ فاغِرةٌ ... فَاها على ومضاتِ البرْقِ والشّعَل
وأقبلوا وجُيُوشٌ مِنْهُمُ فَزِعتْ ... لمّا رأوا عَزْمَة الإيمَانِ لم تَزُلِ
رَامُوا الفِرَارَ فما أنْجاهُمُ أملٌ ... وخَلْفَهُمً صَرَخَاتُ القَهْر والعَذَل
مِنً مُجْرِمٍ ظالمٍ عَاتٍ تَمُدّ لهُ ... أهواؤه ظُلُماتِ الشّرّ والزّللِ
يُمدّهم كلما ارتَدّوا على جَزَعٍ ... بِعُصْبَةٍ مِنً قَطِيعِ الأعْبُدِ الذّللِ
ظَنّوا القِتالَ سُوَيْعَاتٍ فَهالَهُمُ ... أن القِتالَ طويلُ العَهْدِ والأمَلِ
طَارَتً مِنَ الهَلَعِ القتّال أفْئدَةٌ ... وفُزّعَتً مِنً دنوّ الموتِ والأجلِ
فَلمً تَعُدً غيرَ آلاتٍ تُحَرّكُها ... هُوجُ العَواصِف مِنً مَكْرٍ ومِنً دَغَلِ
مِنً كُلّ دَبّابَة تَرْمي بَوارِجُها ... نَاراً تأجّجُ في قَصْرٍ وفي نُزُلِ
تَظَلّ تَزْحَفُ لا تَلْقَى سِوَى جُدُرٍ أو مَسْكَنٍ فَرَمَتً بالوابِل الهَطِل
حَتّى إذا انْطَلَقَتً في زَهْوِها انْفَجَرتْ ... بِرَمْيةٍ مِنً شَدِيد البَأس مُشْتَمِل
كَأنّما الأرْضُ شُقّتً عَنً فَوارِسها فَغَيّبُوها بِلَفْحِ النّارِ والظُلَلِ
يَهْوِي الجِدَارُ وأبْطالُ الحِمَى صَعدُوا ... نُوراً تَلألأ في أفْقٍ وفي سُبُل
يا للنداء عَلا! دوّى بِسَاحَتِهِمْ ... الله أكْبَرُ، مِنً سَهْلٍ ومن قُلَلِ
لِله دَرّ رِجَالٍ يَنْسُجُونَ دَماً ... أكْفانَهُمً بِحَنِينِ البِشْرِ والجذَلِ
يَسْتَقْبِلُونَ جِنَانَ الخُلْدِ فَانْفَرَجَتْ ... أبوابُها فَرَحاً بالمؤمِن البَطَلِ
أوً كُلّ حَوّامةٍ في الجوّ قَاصِفَةٍ ... تَنْقَضّ بِالموْتِ أو بالحادِثِ الجَللِ
جُنّتً قَذائِفها أو جُنّ قاذِفُها ... مَوّارةً بيْنَ وَادٍ أو على جَبَل
تُلقِي اللهيبَ جَحِيماً أو تَدُكّ بِهِ ... عَمائِراً أو تُسوّي شَاهِقَ القُلَلِ
وتَتْرُك المؤمنين الصّابرين على ... دَمٍ تَوهّج فِي السّاحَاتِ مُنْهمِلِ
كَأنّما الأرْضُ كَانَتً قَبْلُ عَاطِلةً ... فوُشّيَت بِدِمَاء الفَارِسِ البَطَلِ
كأنّهمً وبِسَاطُ الأرْضِ مُنْتَشِرٌ ... لآلِئ زَيّنَتً مَوْشِيّةَ الحُلَلِ
قَصْرَ الرئاسَةِ! فاهْزأ من صَواعِقهمْ ... ورُدّها فَوْقَهُمً مَوْصُولَةُ الوَهَلِ
نَهضْتَ كالقَلْعَةِ الشّماءَ فانْقَلبُوا ... بِخِزْيِهِمً وجُذُورُ الحَقّ لَمً تُنَل
هُنَا الحَضَارَةُ أعْمَاقُ الحَيَاةِ بِهَا ... بَيْنَ الجَماجِمِ والأشْلاَءِ والطّلَلِ
هَذي حَضَارَةً إنْسانٍ رِسَالتُه ... إلى الدّنا عَزْمَةُ التَوْحِيد والرسُلِ
وخَاتمِ الأنْبيَاءِ المرسَلين دَعا ... إلى هُدًى صَادقٍ بالوحي مكتملِ
يُزْوَى الفَسادُ بِعَزْمٍ غَيرِ مُنْهَزِمٍ ... ويُرْتَقى لِعُلاً بالحق مُتّصِلِ
رِسالة اللهِ للإنْسَانِ يَحْمِلُها ... رِجالُها صُدُقاً فالحَقً أو اعْتَزِلِ
تبيّن الرّشْدُ! منً يَتْركْهُ يُلقَ به ... على لهيبٍ تلظّى أو على شُعَلِ
أولئك المجرِمُونَ الظّالمون بَغَوا ... وأفْسَدُوا الأرض في ظلمٍ وفي نَكَلِ [2]
أولئك المجْرمون استكبروا وعَتَوا ... صَاغوا الحضارة من زَيْعٍ ومن مِيَلِ
أيْنَ الحَضَارةُ؟ ! لا عَدْلٌ ولا شَرفٌ ... مِنً فَاجِرٍ ساقِطٍ أو فَاجرٍ ثَمِلِ
يُورون في الأرض من أهوائهم شعلاً ... ومن جرائمهم وقداً من الدّخل [3]
__________
(1) أوفى: أشرف وأتي، الأسل: الرماح، النبل، نبات ذو عيدان لا ورق له، شوك النخل.
(2) النكل: من التنكيل.
(3) الدخل: ما داخلَ الجسم أو العقل من الفساد والغرور والمكر والخديعة.(87/64)
خبر
نمى إلى علم المجلة وهي تحت الطبع وفاة الأديب والروائي الإسلامي المعروف / نجيب الكيلاني بعد معاناة مع المرض نسأل الله أن يغفر له وأن يعفو عنه، وأنيسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله ومحبيه الصبر والاحتساب.
- البيان -(87/66)
من فقه الدعوة
التربية بالحدث
عبد العزيز الحويطان
إن التربية بالحدث تفعل فعلها أكثر مما لو كانت كلاماً منمقاً مرصوصاً
بأسلوب بديع، والمتأمل لسير الأوائل من هذه الأمة يتعجب من هذه النفسية العجيبة
المعطاءة لأبناء هذا الدين التي لا تكل ولا تمل مهما كانت الظروف والأحوال،
سواء أكانت أيام مكة أو بعد الهجرة تقدم وتبذل، وقد تكون محاولات ينجح بعضها
ولا يحالف التوفيق البعض الآخر، ولكنها عطاء لله: [وقل اعملوا فسيرى الله
عملكم ورسوله والمؤمنون] ، [وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه] .
من أولئك النفر الذين بذلوا أنفسهم: عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ، فهو
عمر الحريص على دخول الناس في الإسلام والتمسك به، وتثبيت المؤمنين
المستضعفين حدثاء العهد بالإسلام، وهو عمر لا ينتظر الأوامر ولا يقف عند
مرحلة التفكير، بل يسارع إلى التنفيذ مباشرة، فما كان يعرف التردد في مثل هذه
الأمور، ... لننظر ماذا فعل أثناء هجرته وبعدها داعياً إلى الله (سبحانه وتعالى) ،
متبعاً عدة طرق ووسائل، كان همّه فيها هو هداية الناس إلى الإسلام وثباتهم عليه.
تذكر كتب السير بإسناد حسن [1] قصة هجرة عمر بن الخطاب (رضي الله
عنه) ، أنه قال: اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش ابن أبي ربيعة
وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التَنَاضُبَ [2] من أضَاةِ بني غفار فوق سَرِف،
وقلنا: أينا لا يصبح عندها فقد حُبس، فليمض صاحباه.
قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنها هشام، وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل ابن
هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما
حتى قدما علينا المدينة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة فكلماه، وقالا: إن
أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، فرقّ لها.
فقلت له: يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم..
فقال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب
معهما.
فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما.
فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذا قد فعلت ما فعلت؛ فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة
نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها
معهما.
حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت
بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟
قال: بلى.
قال: فأناخ وأناخ ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه
وربطاه، ثم دخلا به مكة وفَتنَاه فافتتن.
قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم
عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم.
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- المدينة أنزل الله (تعالى) فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: [قُلْ يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ] [الزمر: 53-54] .
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام ابن
العاصي.
قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى، أصعد بها فيه
وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها.
قال: فألقى الله (تعالى) في قلبي أنها إنما أنزلت فيما كنا نقول لأنفسنا ويقال
فينا.
قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله -صلى الله عليه
وسلم-. أ. هـ.
هذه هي القصة، وهذه هي جهود الفاروق (رضي الله عنه) في ذلك الوقت،
وإن المرء وهو يمر عليها ليتعجب أشد العجب من أمرين: أحدهما: حرص أبي
جهل، ذلك الذي يسافر، ويقدم ويؤخر، ويبذل، ويستخدم الأساليب الملتوية باسم
البر بالوالدين وباسم الرحم كونه قريباً لعياش بن أبي ربيعة، بل ويصطحب
الحارث بن هشام إمعاناً في القربى، غير مكترث بنجاح النتائج من عدمها، كل
ذلك في سبيل الشيطان والصد عن دين الله، ثم لا يقتصر على ذلك، وبدلاً من
دخول عياش إلى مكة على ناقته مكرماً معززاً نظراً لبره بأمه، فإنهما استخدما
خدعة ماكرة؛ حيث أوثقاه وقيداه حتى يدخل مكة ذليلاً حقيراً كناية عن ذلة من اتبع
محمداً، وإنذاراً لمن سولت له نفسه من قريش سلوك طريق عياش، تماماً كما
تُستخدم بعض الأساليب الشبيهة بذلك ضد الدعاة إلى الله اليوم.
وننتقل إلى الجانب الآخر لننظر إلى ذلك المؤمن الذي يأبى أن يهاجر كما
يهاجر غيره، فنراه يختار صحبة رجلين، قد يكون اختارهما على غيرهما لأمر
أراده من تقوية عزيمتهما وإنقاذهما مما هما فيه من الفتنة، وحيث قد وفق عياش
نجد أن هشاماً لم يستطع اللحاق بهما، ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل نجد فصلاً
آخر يقدمه عمر؛ ألا وهو محاولته إقناع عياش بن أبي ربيعة بعدم الذهاب مع أبي
جهل وكأنه عرف نية أبي جهل المبيتة، فهو هنا يعرض عليه نصف ماله، لا
سلفة وإنما عطاء، كل ذلك ليثبته على الإسلام، وعندما لم تنجح هذه المحاولات
عرض عليه ناقته وهي ذلول نجيبة من أطايب النوق آنذاك حتى ينجو لو رابه أمر، ولكن ابن أبي ربيعة لم يعِ هذه المحاولات.
وهل توقف الأمر عند هذا الحد؟ ، لا؛ بل تعدى إلى الدعوة بالمراسلة، فهو
لم ينس صاحبه الذي حبس ليفتن في دينه، فنجد أن عمراً يسلك طريقة قد غفل
عنها الكثير من الدعاة في هذا الزمن زمن التقدم المادي والاتصال السريع ألا وهي
المراسلة، فأخذ صحيفة كتب فيها هذه الآيات.. ولعل السؤال يبرز هنا: لماذا
يرسل عمر هذه الصحيفة لشخص ربما فتن في دينه؟ وهل سيفهم هشام بن
العاصي الصحيفة؟ وعلى فرض فهمها، هل سيرجع إلى الإسلام كما كان؟ وعلى
فرض ذلك، هل سيهاجر إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه؟ هذه
استفهامات العاجزين القاعدين، الذين يديرون أمورهم بالنيات فقط.. وبالقول لا
بالعمل، ولكن عمر يلقن هؤلاء هذا الدرس العظيم [وما على الرسول إلا البلاغ]
وقد نجح البلاغ هنا بإذن الله وتحققت جميع هذه الاستفهامات، ونفع الله بهذه
الصحيفة، وهاجر هشام بن العاصي إلى المدينة على يدي عمر (رضي الله عنه) .
إن جيلاً فيه أناس بنفسية عمر لهو جيل عامل نشيط، وهكذا فلنكن مثل عمر
وبمثل عزمه وحرصه على هذا الدين، إننا إذا كنا كذلك فسنفلح بإذن الله، وسيفتح
الله على أيدينا ما هو مغلق، وينفع الله بنا البلاد والعباد، وقبل ذلك أنفسنا قبل
غيرنا.
__________
(1) سند القصة حسن، وقد أخرجها الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وفي السند ابن إسحاق، وقد صرح هنا بالتحديث.
(2) التناضب وأضاة بني غفار: موضع واحد، الأضاة: أرض تمسك الماء فيتكون فيها الطين، والتناضب: شجرات في هذه الأضاة، وهي لا زالت مشاهدة على جانب وادي سرف الشمالي.(87/67)
المسلمون والعالم
تطبيع.. ضد الطبع والتطبع! !
قراءة في نموذج تطبيعي
د.عبد الله عمر سلطان
الصخب الإعلامي والضجيج الصحفي الذي رافق توقيع اتفاق أوسلو قبل أقل
من عامين أصبح من الماضي البعيد، أما الوعود المنهمرة بتحويل غزة وأريحا إلى
سنغافورة أخرى وهونج كونج الشرق الأوسط فقد صارت من النكات السمجةوالمُلح
الباردة.
ليس السؤال لماذا تبخر اتفاق السلام المزعوم؟ ! ولماذا ثبت للمرة الألف أن
الموقعين قد خُدعوا من قِبَل قوم لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة؟ .. وليس الغريب أن
تتوالى الأحداث كقطع الليل الكالح الذي ينشر بؤسه منذ أن وُقع الاتفاق حتى هذه
اللحظة، إنما الاستغراب في سرعة الانهيار وانتشار الحقيقة المرعبة بين المتابعين
لهذا المسلسل البائس.
لقد ولّد الاتفاق منذ اللحظة الأولى إحساساً جماعياً بالكارثة، لا سيما بين الذين
كانوا ولا زالوا يزنون الأحداث بميزان القرآن والسنة، ويستندون إلى التجربة
التاريخية التي تدعم هذه النظرة التي تطل على الواقع من علٍ بينما المتاجرون
بمبادئهم وأوطانهم يصرون على أن هذا الاتفاق هو الخطوة الأولى لعهدالاستقرار
والرفاهية! ! التي لم تطل أبداً.
لقد كان الصوت المعارض للتطبيع والتلميع لأعداء الأمس خافتاً في ذلك اليوم
الأسود.. بينما كان الحِرباويون وسماسرة تسويق المرارة والهزيمة يعيشون أحلى
ساعاتهم وأزهى عصورهم، لقد زال الصراع بين اليهود والعرب واكتشفوا فجأة
أنهم أصدقاء يرعاهم راعي البقر ويوردهم المواضع التي كان واضحاً أن فيها هلاك
البعير العربي ونماء الخنزير الصهيوني..، خرج وقتها من يقول: لسنا
فلسطينيين أكثر من أهل فلسطين، وليس أمام العرب سوى المتاح من فتات الحلول
المتعفنة.. وكأن المسألة مزايدة سياسية اعتادها أولئك الذين لبسوا مسوح القومية
حيناً والناصرية دهراً ثم أصبحوا كيسنجريين أكثر من كيسنجرنفسه في النهاية.
الحقائق هكذا كانت ولا زالت لا تثبت أمامها الأباطيل، والبصيرة الراشدة
حتماً تنتصر على أهازيج المتصهينة، حتى ولو كانت الأولى تقطن بين دفتي كتاب
أصفر قديم بينما الثانية تبث على موجات الأثير أو تلوث الفضاء بدعايتها وكذبها.
هذا بالضبط ما حدث مع اتفاق السلام المزعوم، هذا الاتفاق كان أكثر من
مغالطة.. لقدكان فضيحة وطنية وجرفاً عقدياً سقط فيه أولئك المتعبون البائسون
الذين أصروا على أن يئدوا القضية للتخلص من حملها، بدلاً من تركها تعيش
وتكبر وتجاهد رغم الآلام والصعاب والشوك المنثور..
لقد كانت معارضة اتفاق السلام مبنية على خلفيات شتى، لكن الصوت المسلم
كان أنقى وأوضح وأشجى تلك الأصوات، فإن عارض القوميون الاتفاق ... فلقد
عارضوا التفاصيل وأيدوا جوهر الصلح والتطبيع بل والاندماج بالآخر:
الصهيوني.. ولئن حذّر بعض رفاق الزعيم فلأنهم رأوه وهو يصر على إلقاء نفسه وشعبه في حمى النار الإسرائيلية حيناً، أو لأن الكرسي لم يتسع لهم وله.. ولئن زايدتً طهران وضجت فلأن الاتفاق ومعارضته مكسب للذين لم تجف أيديهم بعد من حبر اتفاق إيران كونترا..
وكعادة العرب بدأ سباق الهرولة المريع نحو اليهود المغتصبين بشكل جماعي
ما عدا بعض الاستثناءات ويلفت نظر المراقب نموذجان، فالأول بلغ شأنه،
وانحصر دوره حالياً في ملاحقة المؤمنين من أبناء شعبه، والتبجح بهذه البطولات
الإسرائيلية مع أنه يُذل ويُهان من قبل اليهود، حتى كأن الذي لا يعرف معنى
العمالة والعبودية لا يحتاج إلا إلى رؤية هذا الزعيم! وهو يلاحق أسياده من
عاصمة إلى أخرى ومن معبر إلى مخبأ يخفي فيه وجهه وجرمه..
أما اتفاق وادي عربة المخجل: فقد أصبح نموذجاً للتطبيع المفروض على
الرقاب والإرهاب المبرمج لقبول الجرثومة الإسرائيلية بوصفها كائناً صحياً ومغذياً
للجسد العربي البادي المرض والهزال.
إن كلمة تطبيع تأتي من كلمة طبيعي أو ما يعني بالإنجليزية Normal التي
معناها: طبيعي، أما جعل الوضع الشاذ طبيعياً فهو ما يعني بالإنجليزية
Normalization؛ فهل يعقل أن يصبح الطبيعي الفطري مفروضاً على الرقاب؟ ! أو هل يمكن أن ينقلب الغاصب إلى صديق حميم والقاتل إلى أستاذ في علم
الفضيلة؟ ! أو اليهودي إلى أخ في العقيدة؟ ! .
لقد كان من عوامل نجاح كشف عوار هذا التطبيع الأعرج أن الصوت المسلم
قد خاطب الناس بما آمنوا به وصدقوه ووعوه؛ خاطبهم بلغة سورة البقرة وآل
عمران، وأشار إلى أن يهود اليوم إنما هم إخوان القردة والخنازير في الأمس، وأن
القدس خير مثال على حقيقة الصراع وأفضل تلخيص للقضية المكلومة.
التطبيع في نموذجه الثالث كان الأسرع، فبعد أن أفطر رابين على المائدة
الرمضانية الرباعية، وطمأنتنا إذاعات وصحف الزحف التطبيعي على أن شهيتة
كانت ممتازة [1] ! ! ! جاء دور إخوانهم البرلمانيين الصهاينة؛ فقد قامت طائرة
خاصة بجلب 29 من النواب اليهود في ليلة رمضانية، وقد وعدوا بأن يكون السلام
مع دولة اليهود نموذجياً! وقبلها بيوم: ألغي قانون أردني سابق يلغي عقوبة
التجسس لحساب إسرائيل! كما يلغي قانون حظر بيع العقارات للإسرائيليين، ثم
تلا ذلك تسريح ربع الجيش، لأن إسرائيل أصبحت دولة غاية في التهذيب واللطف، وهي استراتيجياً لا تمثل خطراً! ! ، فهي لاتفكر في امتلاك أسلحة نووية
وكيماوية وجرثومية! ! إنما همها الأوحد تنظيف الجو من خطر التلوث الأصولي
الذي أعياهم جميعاً وأقض مضجعهم بلا استثناء! !
لقد وصل شهر العسل هنا إلى حد أن يتصل رابين بكلنتون شخصياً حتى
يلغي قرار تخفيض المساعدة الأمريكية للأردن من 400 مليون إلى 50 مليون
دولار.
إن التطبيع الحكومي هوتطبيع فوقي بين حكومات لا تتمتع حتى في حالة
اليهود بشعبية كاملة، أما الخطر الحقيقي فهو التطبيع بين الشعوب والذي يُشهر
هجمةً لابد للصوت المسلم أن يتصدى لها كما تصدى للاتفاقات الرسمية التي تعيش
الآن في غرفة الإنعاش بالرغم من الكمية الهائلة من المغذيات والأدوية التي تحقن
بها صباح مساء.
إن التطبيع الثقافي يرمي إلى زعزعة الثوابت العقدية، وإلى إشاعة الفاحشة
والتحلل والتعلق بالرموز اليهودية والنماذج الصهيونية أو تلك التي تسير في
ركابها.. لقد قامت إذاعة أردنية ببث بعض أغاني اليهود ثم تلا ذلك زيارة لفرقة أردنية مشبوهة ل (حيفا) من أجل إثبات تطور واندماج الشعب الأردني المسلم باليهود كما زعموا.. لكن في المقابل قامت ردود فعل شعبية مضادة لهذه الشذوذات من ضمنها قيام سيدتين بتقديم قضايا إلى المحكمة ضد التطبيع وسماسرته.. فالشعوب تدرك أن لها دوراً في وقف نزيف الكرامة، والمنطق الذي جرى بتسارع ملفت للنظر منذ المبادرة الساداتية، وحتى الولائم الأخيرة، ولذلك صرح الملك حسين بأن هذا السلام هو تكملة لما بدأه القادة العرب التاريخيون.. إن أولئك أنجبوا تطبيعاً بارداً، إلا أن التوجه الأخير يكرس للتطبيع الذي يخالف الطبيعة والطبع والتطبع! .
__________
(1) نقلت هذا الخبر ثلاث صحف عربية! ! .(87/73)
المسلمون والعالم
الصهيونية واليهودية
د. محمد آمحزون
استقر تعريف الصهيونية في المصطلح السياسي على أنها: حركة يهودية
دينية سياسية تهدف إلى إعادة مجد إسرائيل بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وهي
تمزج بين السياسة والدين وتتخذ الدين ركيزة تقوم عليها الدعوة السياسية [1] .
كما جاء تعريفها بأنها: دعوة وحركة عنصرية دينية استيطانية تطالب بإعادة
توطين اليهود وتجميعهم، وإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين بواسطة الهجرة
والغزو والعنف كحل للمسألة اليهودية [2] .
لقد تأثر العديد من المفكرين اليهود بالنزعة القومية العنصرية التوسعية التي
سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، مثل هيرش كاليشر (1795-1874م) في
كتابه البحث عن صهيون، وموشي هس (1812-1875م) في كتابه روما والقدس، وليوبينسكر (1821-1891م) في كتابه التحرير الذاتي.
ثم بدأت الصهيونية تتغلغل وتنتشر أكثر بين اليهود منذ عام 1881م عندما
اضطرت أعداد ضخمة منهم إلى النزوح عن روسيا على إثر المجازر التي تعرضوا
لها بعد اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني، وإلى قيام جمعيات أحباء صهيون
التي طرحت مسألة استيطان اليهود لفلسطين وغزوها عن طريق الهجرة كاحتمال
عملي، كما درست إحياء اللغة العبرية لتصبح لغة غالبية اليهود عوضاً عن
اليديشية، وقد تمكنت حركة البيلو من إيصال عشرين مستعمراً يهودياً عام 1882م
كانوا طلائع الهجرة الأولى إلى فلسطين؛ وأوجدوا عدة مستعمرات صهيونية شكلت
المراكز الأساسية للاستعمار الزراعي الصهيوني في المراحل اللاحقة [3] .
إلا أن أحد أعضاء جمعيات أحباء صهيون البارزين وهو آحاد هاعام ذهب
إلى إعادة النظر في فكرة إقامة المستعمرات، وأخذ يركز على ضرورة الحفاظ على
القيم الروحية اليهودية، وأكد بأن طريق وقف الانحلال الروحي اليهودي في نظره
هو إقامة مركز روحي لليهودية في فلسطين يعيد لليهود حيويتهم ووحدتهم ويؤدي
في النتيجة إلى تحقيق الحلم القومي اليهودي، وسُميت صهيونيته بالصهيونية
الروحية [4] .
وبادر أنصار آحاد هاعام لأجل هذا الغرض إلى تشكيل جمعية بني موسى،
وتتلمذ على يده عدد من المثقفين اليهود [5] .
وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر: اعتنق صحفي يهودي من فيينا هو
تيودور هرتزل الفكرة الصهيونية على أثر موجة من العداء لليهود في أوروبا، وقام
بتأليف كتاب حول المسألة اليهودية شرح فيه تصوره ووجهة نظره لحل المسألة
اليهودية بعنوان الدولة اليهودية في عام 1895م [6] .
وبعد عامين من هذا التاريخ تمكن هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول
بحضور (204) من المندوبين اليهود يمثلون جمعيات صهيونية متناثرة في أرجاء
مختلفة من العالم، وتمخض هذا المؤتمر عن تحديد أهداف الحركة الصهيونية فيما
عرف ببرنامج (بال) ، وإنشاء الأداة التنظيمية لتنفيذ هذا البرنامج، وهي: المنظمة
الصهيونية العالمية، وقد حدد المؤتمر هدف الصهيونية على أنه خلق وطن لليهود
في فلسطين بواسطة الهجرة وربط يهود العالم بهذا البرنامج [7] .
وتعتبر صهيونية هرتزل صهيونية سياسية لأنها حولت المشكلة اليهودية إلى
مشكلة سياسية وأوجدت حركة منظمة محددة الأهداف والوسائل [8] .
أما الصهيونية الدينية فقد اتخذت شكلاً تنظيمياً عام 1902م بقيام حركة
مزراحي تحت شعار أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب شريعة توراة إسرائيل،
وتحت شعار آخر التوراة والعمل، ويرى هؤلاء أن اليهود أمة متميزة عن غيرها،
لأن الله في زعمهم هو الذي أسسها بنفسه، وأن وحدة الوجود اليهودي تتمثل بالتحام
اليهود والتوراة وفلسطين، ذلك الالتحام الذي يفجر عبقرية اليهود، ولحركة
مزراحي هذه فروع في كل العالم، ويتبعها الحزب الديني القومي والعديد من مزارع
الكيبوتز والموشاف والكثير من المدارس التلمودية [9] .
وظهرت تيارات صهيونية أخرى مثل الصهيونية التنقيحية، ومن روادها:
جابو تنسكي الذي عرف هو وأتباعه بالتشديد على أهمية بناء قوة عسكرية صهيونية
كبيرة لغزو فلسطين وبناء الدولة اليهودية بالقوة، ويمثل حزب (حيروت) اليميني
بقيادة بيغن وشارون التيار التنقيحي داخل إسرائيل [10] .
ومن هذه التيارات: الصهيونية العملية التي كانت تطالب بالاعتماد على
الجهود الذاتية اليهودية والمباشَرة ببناء الوطن القومي لليهود. وكان وايزمان وابن
غوريون أهم دعاة هذا الأسلوب [11] .
ومنها: الصهيونية العمومية التي تستند إلى المطالبة بالمصلحة القومية
بصرف النظر عن الانتماء الطبقي، وقد نشط أصحاب هذا الاتجاه في تجميع المال
لتثبيت جهود الاستيطان اليهودي في فلسطين [12] .
ومنها كذلك: صهيونية الدياسبورا (الشتات) التي تتبنى الصهيونية الثقافية
فيما يتعلق بالنظرة إلى إسرائيل على أساس أنها مركز اليهودية الثقافي أو
الروحي [13] .
ومن هذه المدارس أيضاً: الصهيونية العمالية، أو الاشتراكية، ولعل أهم
تيارات هذه المدرسة هي مدرسة جوردون التي ركزت على فكرة اقتحام فلسطين،
وركزت أيضاً على العمل باعتباره وسيلة من وسائل التخلص من عقد المنفى
وصهر القومية اليهودية الجديدة [14] .
وجدير بالإشارة إلى أن العقيدة الصهيونية وأبعادها الدينية والتاريخية تشكل
الخلفية النظرية وقاعدة الارتكاز اليهودي في إسرائيل، بدءاً من الناحية التشريعية؛
كقانون العودة (1950م) الذي يقضي بحق كل يهودي في الجنسية الإسرائيلية،
مروراً بالقول: إن فلسطين هي موطن يهود العالم باعتبار الأقدمية والاستمرارية
التاريخية لمدة ألفي سنة، وإن يهود اليوم يشكلون على هذا النحو قومية تمتد إلى
آلاف السنين من التاريخ.
يقول الزعيم الصهيوني ديفيد بن جوريون: إن إسرائيل قد تكون أحدث دول
العالم، ولكن الشعب اليهودي له وجود عمره أربعة آلاف عام متتالية [15] .
ومن هنا: فإن توسع الكيان الإسرائيلي يجد تبريره الجاهز في مفهوم إسرائيل
الكبرى أو إسرائيل التاريخية في شعار من الفرات إلى النيل.
ومما لا شك فيه أن التيارات والمدارس الصهيونية المختلفة وإن تنوعت
أساليبها واختلفت وسائلها فهي تتفق في الجوهر، وتتبنى كلها نسقاً أيديولوجياً واحداً، وتتحد حول الهدف المرسوم، ألا وهو: حل مشكلة اليهود عن طريق استيطان
فلسطين بطريقة جماعية وإقامة دولة يهودية صهيونية.
فهذه المدارس كلها تبرر نقل اليهود إلى فلسطين بمعاذير مختلفة، لكنها تصبّ
في اتجاه واحد هو: تهجير الفلسطينيين بالقوة وإبعادهم عن طريق طردهم
ومصادرة أراضيهم، فنقل اليهود من المفهوم الماركسي يتم لأسباب أممية اشتراكية، وأما من المنظور الليبرالي فيتمّ لأسباب ديمقراطية وتاريخية، ولكن يظل الإجماع
قائماً رغم اختلاف القناعات الفكرية حول الفكرة الصهيونية ذاتها.
إن علاقة الصهيونية باليهودية علاقة عضوية حيث لا تنفك إحداهما عن
الأخرى، وبالتالي يمكن القول: إن الصهيونية واليهودية وجهان لعملة واحدة؛ وما
الماركسية والليبرالية إلا قناعان يستعملهما اليهود لتمرير مخططاتهم وخدمة أهداف
الصهيونية القريبة والبعيدة.
والدارس عبر التاريخ لليهود بوصفهم شعباً له صفاته وخصائصه المميزة يجده
شعباً شريراً، خائناً، ملتوياً، خبيث الطوية، ماجن السلوك، عنصرياً، مغروراً،
جشعاً، يستغل الآخرين، يثير الفتن، ويبيت المؤامرات ضد الأمم والشعوب
الأخرى [16] .
وهكذا: فالناظر في عقلية ونفسية القوم لا يجد على الإطلاق اختلافاً في
الصفات والخصائص بين اليهودية والصهيونية بوصفهما توأمين يتفقان في الأسس
والمبادئ والأهداف، وهي:
-المحافظة على تميز العنصر اليهودي.
-العمل من أجل العودة إلى أرض الميعاد.
-السيطرة على جميع شعوب الأرض وتسخيرها لخدمة الجنس اليهودي.
وعلى الرغم من الدعاية الواسعة التي نشرتها بعض الحركات الصهيونية في
أوساط الرأي العام العالمي حول اشتراكيتها وماركسيتها، فالحقيقة تبقى أن الشيوعية
بصفة عامة والمؤسسات الصهيونية العمالية أو الاشتراكية بصفة خاصة هي في
جوهرها العملي أدوات ومؤسسات لخدمة مصالح إسرائيل قبل قيام الدولة وبعدها.
ولعل ما يعكس بوضوح هذه الرؤية تيار اليهودي الصهيوني بورخوف الذي
حاول توظيف المنهج الماركسي في خدمة رؤيته الصهيونية، فأكّد الأساس الطبقي
والاقتصادي للصهيونية، وخلُص من تحليله إلى حتمية الحل الصهيوني وسيلةً
لتزويد كل الطبقات اليهودية الهامشية بقاعدة الإنتاج أو الأرض المقدسة في
المصطلح التقليدي [17] .
وليس البناء الاقتصادي في إسرائيل إلا نتاجاً لنشاطات الصهيونية العمالية
الاشتراكية بالدرجة الأولى، فالهستدروت (اتحاد نقابات عمال إسرائيل) والكيبوتس
(المزارع الجماعية) والهاجاناه والبالماخ (منظمات عسكرية صهيونية) هي الأدوات
التي استخدمها الصهاينة الماركسيون في تحويل جزء من فلسطين إلى دولة
صهيونية، وهذه المؤسسات أوجدتها الصهيونية العمالية المرشحة منذ البداية لهذا
الدور، لأنها هي التي استقطبت يهود شرق أوروبا الذين تمّ تهجير بضعة آلاف
منهم وزرعهم في فلسطين، الأمر الذي عجز عنه تماماً الصهاينة السياسيون
والثقافيون والدينيون [18] .
ومن الواضح جداً أن اليهودي سواء أكان ماركسياً أم رأسمالياً إنما يؤمن بفكرة
رئيسة وهي العودة لأرض الميعاد لتأسيس دولة يهودية تعبّر عن الروح الخالدة
للشعب اليهودي، وهذه هي نقطة البداية والنهاية بالنسبة لجميع اليهود بغض النظر
عن انتماءاتهم الحزبية أو المذهبية التي ينبغي أن تكون في خدمة الأمة اليهودية أولاً
وأخيراً.
وقد تنبه كثير من اليهود لهذا الجانب في الأيديولوجية الصهيونية؛ فالحاخام
لانجلو يشير إلى أن البرنامج الصهيوني يدور حول فكرة واحدة، وكل القيم الأخرى
إن هي إلا أداة في يد هذا المطلق (الأمة) [19] .
ويقول موشي ليلينبلوم: إن الأمة كلها هي أعزّ علينا من كل التقسيمات
المتصلة المتعلقة بالأمور الأرثوذكسية أو الليبرالية في الدين، فعندما يتعلق الأمر
بالأمة يجب أن تختفي الطائفية.. فلا مؤمنون ولا كفار، بل الجميع أبناء إبراهيم
وإسحاق ويعقوب.. لأننا كلنا مقدسون، كل واحد منا، سواء أكنا غير مؤمنين أو
أرثوذكسيين [20] .
ولذلك فلا الماركسيون اليهود يصرون على ماركسيتهم؛ فحزب المابام
اليسارى مثلاً أيّد التدخل الأمريكي في فيتنام، ولم يعارض الاستثمارات الأجنبية
والخاصة في إسرائيل، ولا الليبراليون الرأسماليون يصرون على ليبراليتهم
ورأسماليتهم؛ فحزب الماباي يدخل في تحالف مع الأحزاب الدينية مطلقاً يدها في
كثير من جوانب الحياة في إسرائيل العلمانية! ! ، كما أن الأحزاب اليمينية لا
ترفض التحالف مع الأحزاب اليسارية، وتقبل بعض السمات الاشتراكية أو
الجماعية التي تتسم بها الحياة في إسرائيل، والجميع في حالة الحرب يقفون صفاً
واحداً إذا كان الأمر يتعلق بإبادة الفلسطينيين [21] أو شن حرب ضد الإسلام
والمسلمين.
كما أن التنسيق بين يهود الشتات يسير في الاتجاه نفسه نحو التكامل للسهر
على مصالح الدولة العبرية، فنشاطهم يمارس من خلال المساعدات المالية الضخمة
والأعداد البشرية الموجهة لدعم الدولة الصهيونية في إسرائيل؛ فوفق خطة محكمة
يقدم يهود أوروبا الشرقية وروسيا الدعم البشري، ويقدم يهود أوروبا الغربية
والولايات المتحدة الأموال والضغط الدبلوماسي من أجل مصلحة إسرائيل.
إن الخلاف بين العلمانيين والمتدينين الصهاينة هو خلاف أسلوب لا مضمون، إذ لا يختلفون في الأسس والمبادئ، كما يتفقون حول الغايات والأهداف لخدمة
إسرائيل وأمنها ومستقبلها.
ويمكن أن يتساءل المرء: لمن ولاء اليهود؟ ، إن الإجابة على هذا السؤال
نجدها في ثنايا كتابات وتصريحات اليهود أنفسهم؛ يقول وايزمان: إن في أعماق
كل يهودي صهيونياً كامناً [22] ، ورسم ابن جوريون صورة للمحامي اليهودي ...
الخالص الذي يلعب دوراً تخريبياً خارج وطنه القومي، ويعارض الدولة ...
وقوانينها.. أما داخل الوطن القومي فإنه سيلزم نفسه بغرس غريزة توقير الدولة ... والقانون واحترامهما [23] . ...
ويعتقد فيلسوف الصهيونية موشي هس أن اليهودي لا يمكن أن يفرّ من تميزه
وانتمائه للشعب المختار والمضطهد بقوله: عبثاً يختبئ هؤلاء اليهود العصريون من
مسرح جريمتهم وراء مواقعهم الجغرافية أو وراء آرائهم الفلسفية ... قد تقنّع نفسك
تحت ألف قناع، وقد تغير اسمك ودينك وطباعك، وقد تسافر حول العالم متخفياً
كي لا يكتشف الناس أنك يهودي، لكن أي إهانة موجهة للاسم اليهودي ستؤلمك
بحدة يفوق إيلامها ذلك الرجل المخلص ليهوديته المدافع عن شرف الاسم
اليهودي! [24] ، وهذه الرؤية للبعد الديني أو اليهودي في الصهيونية تنعكس في موقف مفكرين صهاينة آخرين مثل الأديب الإسرائيلي آهارون ميجد عضو حركة العمل الذي يعلق على هذه الظاهرة بقوله: ... لقد ذهبت نظرية (دين العمل) إلى سبيلها، وجاء دين آبائنا ليملأ المكان الخالي، هل هذا سيء للغاية؟ هل هذا أسوأ من الفراغ المطلق؟ ففي ليلة عيد الغفران على الرغم من كل هذا ستكون الشوارع هادئة ونظيفة، والسيارات لن تصرخ، وتغلق المطاعم أبوابها، ولن يدوي التلفزيون من كل نافذة، وسيسود الإحساس بالعيد كل شيء، وبدلاً من أن تتجول العصابات في المدينة، فإنه سيكون من الأفضل لها أن تدخل إلى المعابد لتستمع إلى الصلاة [25] . ...
ومن الملاحظ أن الرؤية الصهيونية للتاريخ تأثرت بالرؤية اليهودية القديمة
تأثراً كبيراً، حتى إنهما يتشابهان في البنية، فبوبر يرى أن تاريخ اليهود هو تاريخ
يتدخل فيه الرب، ويفرق بوبر بين التاريخ: التجربة التي تعيشها الأمم، والوحي: وهو التجارب المهمة الخالصة التي يعيشها الأفراد، ويرى أنه حينما يتحول
الوحي إلى أفكار يفهمها جمهور الناس ويؤمنون بها، فإنها تصبح عقائد، هذا هو
الوضع بالنسبة لسائر الأمم، أما بالنسبة لإسرائيل فالأمر جد مختلف؛ إذ إن ثمة
تطابقاً كاملاً بين الوحي والعقيدة والتاريخ، إن إسرائيل تتلقى تجربتها الدينية
الحاسمة كشعب؛ فليس النبي وحده هو الذي تشمله عملية الوحي، بل المجتمع كله
على حد زعمه وإن مجتمع إسرائيل يعيش التاريخ والوحي ظاهرة واحدة التاريخ
وحي والوحي تاريخ [26] .
وهكذا يتحول اليهود في منظور الصهاينة كما هو الحال تماماً مع الرؤى
الدينية الإسرائيلية القديمة إلى شعب من الأنبياء، ويتحول تاريخهم إلى وحي
مستمر، ولذا: فاليهود بحسب تصور بوبر: أمة تحمل وحياً إلهياً عبر تاريخها
المقدس [27] .
ويقول نحمان سيركين الزعيم الصهيوني العمالي: إن الفيلسوف المتصوف
والمفكر الاشتراكي يتفقان على خصوصية التاريخ اليهودي وقدسيته كما يتفقان على
تداخل التاريخ المقدس والتاريخ الإنساني [28] .
وكما كان اليهود القدامى يرون أن تاريخ الشعب اليهودي محطّ اهتمام الرب،
وأنه مركز الحركة التاريخية، خلع الصهاينة المركزية والإطلاق نفسيهما على
تاريخ الشعب اليهودي؛ فالتاريخ الإنساني كله يدورحول الأمة اليهودية التي تقف
في وسطه لتجسد فكرة وجود الله التي تمثل حجر الزاوية في حركة التاريخ نحو
الخلاص كما يقول بوبر [29] .
وكما أن وجود الماشيح المنتظر أساسي لإضفاء معنى على التاريخ اليهودي:
فوجود اليهود في التاريخ الإنساني أساسي لإضفاء معنى على هذا التاريخ في الرؤية
الصهيونية؛ إن تأمين نظام العالم الذي يترنح بين عواصف الحروب الدموية
يتطلب بناء الدولة اليهودية، وبناءُ كيان الشعب وإظهار روحه هما عملية واحدة لا
يمكن الاستغناء عنها لإعادة بناء العالم المهتز الذي ينتظر القوة العليا الموحدة
الموجودة في تجمع إسرائيل المقدس [30] .
وهس العلماني له رأي مماثل شرحه في كتابه روما والقدس: إن تاريخ
الإنسانية أصبح مقدساً من خلال اليهودية [31] .
وخلاصة القول: إن الصهيونية واليهودية إنما تعبران عن فلسفة واحدة
متكاملة، وهي تتخطى الخلافات السطحية بين اليهود لتصل إلى البنية الفكرية
الكامنة وإلى النسق الأيديولوجي الواحد بغض النظر عن التنوع والاختلافات، وإن
العلاقة بينهما مركبة إلى حد بعيد، إذ إن الأفكار الأساسية للأيديولوجية الصهيونية
مستقاة من العقيدة اليهودية، وليس أدل على البعد اليهودي لدولة الصهاينة من اسم
دولتهم، وشعار حكومتهم، وشكل علمهم ذي اللونين الأبيض والأزرق لون الطاليت
(شال الصلاة اليهودي) تتوسطه نجمة داود، ويتحدث نشيده القومي عن عودة إلى
وطنه تذكّر المرء بالعودة إلى العصر الماشيحاني، واسم الدولة (إسرائيل) ، واسم
البرلمان الذي يجتمع فيه ممثلو الشعب اليهودي (الكنيست) أي: المعبد، والدستور
غير المدون عندهم الذي يعتبر التوراة هي الدستور الأعلى في إسرائيل، إضافة
إلى عشرات الرموز والشعارات الدينية التي استقاها الإسرائيليون الصهاينة من
تراثهم الديني في ميادين الحرب والسلام ومراحلها وأدواتها وعملياتها وآلياتها.
فإسرائيل بالمعنى الديني هي نفسها إسرائيل الشعب بالمعنى العرقي، وهي
نفسها إسرائيل الدولة بالمعنى الصهيوني، وكلها تجليات للجوهر نفسه.
وهذه الفكرة جديرة بالإشارة إليها وبخاصة بالنسبة لأولئك الذين لا يدركون
المقومات التي تربط بين هذه المفاهيم الثلاثة، فيظنون أن ليس ثمة علاقة عضوية
بين الصهيونية واليهودية [32] .
إن ممتلكات إسرائيل القومية العزيزة على قلوب اليهود وهي الأرض واللغة
والتاريخ والعادات هي القاسم المشترك بين اليهودية والصهيونية، بصرف النظر
عن انتماء اليهود الحزبي أو الطائفي أو الأيديولوجي؛ ولذلك: فإن محاولة
الماركسيين العرب تجريد اليهود الماركسيين من خلفيتهم الصهيونية إنما هي محاولة
لتزييف الحقيقة، والغرض منها إبعاد كل شبهة عن المذهب الماركسي الشيوعي! ! .
__________
(1) أحمد عطية: القاموس السياسي، ص 917.
(2) الموسوعة السياسية، بإشراف د عبد الوهاب الكيالي، ص659.
(3) المرجع نفسه، ص660 وتاريخ الحركة الصهيونية الحديثة، (1897- 1918) ، ص21.
(4) عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية ج1، ص207.
(5) الموسوعة السياسية، ص660.
(6) روجيه جارودي: ملف إسرائيل: دراسة الصهيونية السياسية، ص80.
(7) الموسوعة السياسية، ص660.
(8) عبد الوهاب المسيري: المرجع السابق، ج1، ص198، 199.
(9) الموسوعة السياسية، ص663.
(10) عبد الوهاب المسيري: المرجع السابق ج1، ص201، 202.
(11) الموسوعة السياسية، ص665.
(12) المرجع نفسه، ص665.
(13) المرجع نفسه، ص663.
(14) عبد الوهاب المسيري: المرجع السابق ج1، ص203، 204.
(15) David Ben Gurion: Rebirth and Density of Israel, p 195) 16 (أنظر: عبد الرحمن حبنكة الميداني: مكايد يهودية عبر التاريخ، ص13- 20، ومحمد عزة دروزة: اليهود في القرآن الكريم، ص131، 132.
(17) د المسيري: المرجع السابق، ج1، ص204.
(18) المرجع نفسه، ج1، ص 205.
(19) أرثر هرتزبرج: الفكرة الصهيونية: تحليل تاريخي ومختارات، (ترجمة لطفي العابد وموسى عنتر) ، ص38.
(20) المرجع نفسه، ص71.
(21) المرجع نفسه، ج1، ص213.
(22) Richard Grossman: Aivation Reborn The Israel of Weizman, p 19) 23 (David Ben Gurion: Loc - Op - cit, p 420-421) 24 (آرثر هرتزبرج: المرجع السابق، ص25.
(25) د رشاد عبد الله الشامي: القوى الدينية في إسرائيل، ص44، سلسلة عالم المعرفة، العدد 186 ذو الحجة، 1414هـ/ يونيو 1994م (مصدره: روبنشتاين إمنون: من هرتزل إلى جواش إيمونيم ذهاباً وعودة) .
(26) آرثر هرتزبرج: المرجع السابق، ص331.
(27) المرجع نفسه: ص336.
(28) المسيري: المرجع السابق، ج1، ص238.
(29) آرثر هرتزبرج: المرجع السابق، ص333.
(30) المرجع نفسه، ص297.
(31) المرجع نفسه، ص310.
(32) انظر ريجينا الشريف في كتابها: الصهيونية غير اليهودية، من إصدارات سلسلة عالم المعرفة عدد رقم 96، الكويت.(87/77)
المسلمون والعالم
الصومال
بين أسياد الحرب وأسياد الفقر
محمد عثمان
بعد مرور أسبوعين من انسحاب قوات الأمم المتحدة من الصومال مازال
وضع هذا البلد المنكوب في حالة من الفوضى، حيث لا يوجد حتى الآن حكومة
مركزية فضلاً عن مصالح عامة تقيم للناس شؤونهم اليومية.
وبعد انسحاب الأمم المتحدة ساد الخوف مجدداً من اندلاع حرب قبلية جديدة
في العاصمة، وبالتالي حرب شاملة في المناطق الأخرى.
الوضع الحالي في البلاد:
مازال كل من الجنرال محمد فارح عيديد والرئيس علي مهدي محمد يسيطر
كل منهما على شطر من المدينة التي دمرتها حرب 91-1992م؛ فبينما يحاول
عيديد فرض سيطرته على المطار والميناء يحاول علي مهدي إقناع حلفائه بعدم
السماح لـ عيديد تولي رئاسة البلاد، إذ إن عيديد هو الأقوى عسكرياً والأكثر كفاءة
وتنظيماً، إلا أن علي مهدي يعتمد على الكثافة القبلية بجوار العاصمة.
وفي (كسمايو) عاصمة (جوبالاند) يتصارع كل من الجنرال محمد سعيد
حرسي مورجان صهر الرئيس السابق والعقيد أحمد عمر جيس، والأول يسيطر
على (كسمايو) حتى الآن، وتوقُع اندلاع حرب بينهما محتمل في أي وقت، وتعتبر
منطقة (جوبالاند) من المناطق الخصبة وذلك لمواردها السمكية والزراعية ووجود
الميناء الرئيس في المنطقة بها.
وفي شمال شرق البلد يتصارع على السُلطة هناك كل من الجنرال محمد أبشر
موسى والعقيد عبد الله يوسف ونتج من هذا الصراع تدهور أحوال المعيشة في
المنطقة وإغلاق ميناء (يوصاصوا) المصدر الرئيس للمعيشة في المنطقة.
وفي شمال غرب البلاد (جمهورية أرض الصومال) التي أعلنت الانفصال:
فإن الوضع في غاية الخطورة وبخاصة بعد اندلاع الحرب في شهر نوفمبر 1994م
في مدينة (هرجيسا) ثاني أكبر المدن بين أنصار أحمد محمد علي (تور) والرئيس
محمد إبراهيم عجال، ونتج من هذا قتل أكثر من مائة شخص ولجوء آلاف منهم
إلى مخيمات داخل أثيوبيا.
وبالإمكان رسم خارطة التحالف الحالي كما يلي:
الجنرال محمد فارح عيديد الرئيس علي مهدي محمد
(جنوب مقديشو) ... ... ... (شمال مقديشو)
العقيد عبد الله يوسف ... ... الجنرال محمد أبشر موسى
العقيد أحمد عمر جيس ... الجنرال محمد سعيد حرسي
عبد الرحمن أحمد علي (الأحدب) الرئيس محمد إبراهيم عجال
والسؤال هنا: من هو الذي ترجح كفته ضد خصمه، ومن هو الأقرب
للرئاسة؟
قبل الإجابة لابد من معرفة مواقف القوى الفاعلة التي يمكن أن ترجح كفة
طرف دون آخر، وهناك أربع قوى رئيسة لها أثر في المنطقة:
1- الدول العربية: فبعد انهيار الشيوعية لم يبق للصومال أهمية استراتيجية
لمنطقة الخليج العربي، وبالتالي: فإنه لا يوجد أي حل عربي حتى الآن، وليس
للدول العربية مَيْلٌ لتأييد مجموعة ضد أخرى، عدا السودان الذي أيد فارح عيديد
في البداية وسانده بمساعدات محدودة.
2- موقف دول السوق الأوربية المشتركة (EEC) : وهو حتى الآن غير
واضح وبخاصة في تعاملهم مع أمراء الحرب، إلا أن الذي يظهر أن إيطاليا هي
صاحبة القرار في شؤون الصومال، وموقفها معروف بميولها إلى الرئيس المؤقت
علي مهدي محمد ومعروف أن إيطاليا تريد حلاً سريعاً للأزمة حتى تتمكن من
الاستفادة باستثمارها الزراعي (الموز) في القسم الجنوبي من البلاد.
3- الدول الإفريقية المجاورة (الحبشة إرتريا كينيا أوغندا السودان) : وجميعها
تؤيد عيديد نظراً لتوجه جل زعماء العالم الثالث بالوقوف مع الأقوى عسكرياً، إلا
أن هذه الدول نفسها تعاني من حروب داخلية وبالتالي فإنه من المستبعد أن يتقدموا
بحل لأزمة الصومال.
4- أمريكا وموقفها المتردد في تأييد طرف دون آخر: فتأييدها لعيديد يجعلها
تشعر بالحرج أمام أصدقائها في العالم الثالث، ويحيي هذا آلاماً وسط الشعب
الأمريكي الذي مازال يتذكر قتلى قوات المارينز هناك، لذا: فإن إمريكا لا يمكن
أن تختار عيديد رئيساً، ويمكن أن تأتي ببديل من قبيلة عيديد نفسها، ولعل عثمان
عاتو وهو تاجر كبير ربما يتمتع بتأييد أمريكي (1) على أن يقنع عاتو الجنرالَ
عيديد بعدم استخدام القوة ضد خصمه مهدي محمد، وأن يوضع المطار والمرفأ
تحت إدارة مكونة من الطرفين، ويؤيد هذا الرأي التجار وبعض الضباط الكبار
أمثال محمد نور جلال.
خيبة إعادة الأمل:
إن تجربة أمريكا والأمم المتحدة في الصومال والتي سميت بإعادة الأمل لم
يكن لها من اسمها نصيب؛ حيث كانت تجربة قاسية وتعتبر مهمة فاشلة حيث
خرجت قواتها ولم يتغير من الوضع شيئاً، ولم تخلف الأمم المتحدة أي مرفق حيوي
سواء أكان ذلك مدرسة أو مستشفى، كما أنها لم تكوّن إدارة مناسبة رغم أن تكلفة
وجودها الذي يقدر بثلاثة بلايين دولار وخسارة أكثر من 140 فرد من ذوي القبعات
الزرقاء. والمستفيدون من هذا الوضع هم أمراء الحرب (الجنرالات المعروفون)
وأمراء الفقر (أي: هيئات الإغاثة النصرانية) التي تتاجر باسم الإغاثة لتنصر
وتنهب خيرات هذا الشعب المنكوب.
الحل الإسلامي:
يرى المتابع أن الحل الإسلامي غائب، حيث لم يتسن تبني الطرح الإسلامي
من الأساس من أطراف النزاع، بل كانت المسألة فيما بينهم هي حرصهم على
الحصول على مصالح شخصية ليس إلا، وذلك يعود لأسباب كثيرة من أبرزها:
التركيبة القبلية للشعب الصومالي، بالإضافة إلى العوامل الداخلية وهي اختلاف في
تشخيص الازمة وإيجاد حل لها.
ولعل الأصوب تكوين مجلس للعلماء والمشايخ والدعاة البارزين كالشيخ
شريف عبد النور والشيخ محمد نور قوي والشيخ محمد معلم حسن والشيخ علي
ورسمه والشيخ عمر الفاروق وغيرهم، يقوم بدور القيادة وطرح الحلول للأزمة
وفصل القبائل المتصارعة ومحاولة الصلح بينها.. إلى غير ذلك من المحاولات
التي تجمع كل الفعاليات القائمة في الساحة على كلمة سواء لمحاولة انتشال البلاد
من ويلات الحرب وليعود للشعب الصومالي دوره المأمول في حياة مستقرة ومعيشة
كريمة.
وللمقال بقية ...(87/89)
المسلمون والعالم
جهود المنصرين في كينيا..
أضواء على الخطط القائمة لاستئصال المسلمين
خلفان خميس إسماعيل
إن المسلمين في العالم العربي والإسلامي بعد سقوط الأندلس ضعفت قواهم
فأصبحوا كالصيد الجريح يحمل الموت والحياة معاً.
أما النصارى فلما دانت لهم بلاد المسلمين في الأندلس، لم يكتفوا بإعمال
السيوف في رقاب المسلمين يقتلونهم دون رحمة ولا شفقة فحسب، بل ازدادت
قلوبهم عطشاً لدمائهم؛ فكشروا عن أنيابهم وشرعوا يلاحقون المسلمين أينما وجدوا، فنزلت سفنهم تضرب البحار فيما سُمّيت زوراً وبهتاناً بالكشوف الجغرافية بحثاً
عن المسلمين، ومحاولة تطويق العالم الإسلامي.
فتحركوا نحو الجنوب مروراً برأس الرجاء الصالح، وكانوا لا يمرون بمدينة
إلا وأنزلوا فيها بأسهم وبطشهم ينشرون الرعب بين المواطنين قتلاً وتشريداً.
ولما وصلوا إلى (مُمباسا) المدينة الإسلامية على الساحل الكيني قتلوا أهلها
المسلمين في مذابح جماعية، ثم حرقوها خمس مرات! ، وفعلوا مثل ذلك في مدينة
(غيدي) و (لامو) وغيرها، باستثناء مدينة (ماليندي) حيث صالحهم أميرها، وقدم
لهم المساعدات ليواصلوا رحلتهم الاستكشافية! ! المزورة على التاريخ.. والذي
يثير الأسف: أنه أثناء تواجد البرتغاليين في (مُمباسا) بنوا قلعة يسوع لنشر
المسيحية، كما بنى فاسكو دي جاما منارة في مدينة (ماليندي) ، وكل ذلك مما يدل
على أن الكشوف الجغرافية عندهم تعني تعذيب المسلمين ونشر المسيحية.
هذه الرحلات كانت واضحة الأهداف والوسائل، ومثلها مثل كل الرحلات
التي يقوم بها الصليبيون في العالم الإسلامي؛ يدرسون مداخله ومخارجه، ثم
يرجعون إلى حكوماتهم ليدلوها على منافذ التسلل إلى بلاد المسلمين، وإلا.. فهل
كانت هذه البلاد المكتشفة! خالية من السكان؟ أولم يكن يعرفها أحد على
الإطلاق؟ ! .
من المعروف أن الأوربيين لما وصلوا إلى ما يسمى (بالعالم الجديد) ولم يكن
جديداً أبادوا السكان الأصليين وهم (الهنود الحمر) .
وهذا يعني: أن هذه البلاد كانت آهلة بالسكان قبل مقدم المكتشفين، وكذلك
كان الحال في إفريقيا شرقها وغربها، إذن: تسمية هذه الرحلات استكشافية افتراء
وتزوير على التاريخ، لقد كانت تلك الرحلات تنصيرية بكل معاني الكلمة، سواء
أكان ذلك من حيث الدافع أو من حيث الهدف والوسيلة.
وماذا بعد اللعبة الخبيثة؟ :
وبهذه اللعبة الخبيثة تعتبر الكاثوليكية هي الطائفة الأولى وصولاً إلى شرق
إفريقيا وذلك في الموجة الأولى تحت ستار (الكشوف الجغرافية) التي قام بها فاسكو
دي جاما وأعوانه في القرن الخامس عشر، إلا أن هذه الموجه لم تؤت أكلها لعدم
اعتناق النصرانية إلا من قِبَلِ نفر قليل، وقد تغلب العُمانيون عليهم بعد حروب
دامت قرنين من الزمن، وفي القرن التاسع عشر: هبت الموجة النصرانية الثانية
على بلاد شرق إفريقيا، وعاودت الكرّة من جديد، وكانت البروتستانتية هي الرائدة
في هذه الموجة وبأسلوب يختلف عن أسلوب الموجة الأولى، ولما جاء الاستعمار
البريطاني عام 1884م أخذ العمل التنصيري طابعاً رسمياً؛ وذلك بوقوف الحكومة
البريطانية مع رجال التبشير، وتقديم الدعم السخي في سبيل نشر النصرانية
بمختلف الوسائل. ومما يلاحظ: أن النشاط التنصيري آنذاك كان قاصراً على
المناطق الساحلية ذات الأغلبية المسلمة في الموجة الأولى، لكن في بداية الموجة
الثانية أي: من القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين بدأ التسلل إلى عمق
الأراضي الكينية، وبدأت الإرساليات التنصيرية الأجنبية المتمركزة في المنطقة
الساحلية تنتقل إلى الداخل، عملاً بنصيحة المؤتمرات التنصيرية بأن يسبقوا
المسلمين إلى الوثنيين.
وفعلاً أسسوا مراكزهم من: مدارس، ومستشفيات، وكنائس، وغيرها في
مختلف المناطق الداخلية الوسطى والغربية مثل: (فوي) و (ليمورو) و (كيسومو)
وغيرها.
وبعد الحرب العالمية الأولى شهدت النصرانية في هذه المناطق نمواً كبيراً
وازدادت أنشطتها؛ فترجموا الإنجيل إلى مختلف اللغات القبلية وإلى اللغة
السواحيلية، فنتج عن تلك الحركة وأنشطتها أن تنصر آلاف من الوثنيين، وفي
بداية الأربعينات انقسمت الكنيسة البروتستانتية، وأنشأ المنشقون عنها كنائس
مستقلة، وفي محاولة لرأب الصدع أنشيء (المجلس المسيحي في كينيا) ، وفي عام
1959م عقد مؤتمر كنسي بين الكاثوليك والبروتستانت، وكانت مهمته التنسيق بين
جهود الكنيستين والقضاء على تبديد الطاقات وتضارب سبل العمل، وكوّنوا
(المجلس الوطني المسيحي في كينيا) .
وفي بداية النصف الثاني من القرن العشرين واصلت حركة التنصير عملها،
وكثفت جهودها وأنشطتها بمزيد من نشر ترجمة الأناجيل والكتب الدينية الأخرى،
وفتحت كليات اللاهوت في (نيروبي) ، وفي (ليمورو) ، وفي (مجاكوس) ، وفي
(تاناريفان) ، وأسسوا محطة إذاعية في (كيجابي) ، وكذلك شهدت هذه الفترة ما
يسمى ب (حركات الإصلاح) المختلفة وإنشاء المنظمات والجمعيات التنصيرية
المتنوعة، ولما بدأ البث التلفزيوني عام 1962م؛ تضمن برنامجه بث النصرانية
بشكل كبير، وافتتحت أيضاً (إذاعة صوت كينيا) في عام 1963م، ولازالت
تواصل إرسالها حتى الآن، واسمها الجديد (Kenya Broadcasting Co-
Operation K. B. C.) ، وفي عام 1964م أصدر المجلس المسيحي في
كينيا صحيفة باسم الهدف Target/Lengo باللغتين الإنجليزية والسواحيلية،
بالإضافة إلى صحيفة الشعب باللغة الإنجليزية.
نصرانية كينيا بعد الاستقلال:
وفي عام 1963م رحل الاستعمار عن كينيا، لتصبح مستقلة سياسياً ككثير
من الدول المستقلة آنذاك، بعد أن تأكد المستعمرون من أنهم خلّفوا جيلاً نصرانياً
عريضاً وفياً، فأسندوا إليه قيادة الجمهورية الجديدة من الكوادر المدربة المخلصة
للنصرانية والموالية للسياسة الغربية.
وأبعدوا العناصر الإسلامية التي همشها المستعمر الغربي عن المؤسسات
السياسية ومراكز التأثير، وتجاهلوا الوجود الإسلامي، وفرضوا تعتيماً إعلامياً
على الإسلام والمسلمين، واعتمدت الحكومة سياسة التهجير والتوطين، فأصبحوا
يقومون بتهجير كثير من النصارى وتوطينهم في مناطق المسلمين بحجة استصلاح
الأراضي الزراعية كما حدث في مدينة (مبكيتوني) التي تقع في المنطقة الساحلية،
كل ذلك لضمان سيطرة النصارى على مقاليد الأمور في البلاد ولضمان انتشار
الحركة التنصيرية حتى يتم تنصير كينيا كلها، ولتصبح دولة نصرانية تماماً بحلول
عام 2000م حسب الخطة المرسومة من قِبَل الفاتيكان.
ولما كانت نتائج حركة التنصير المكثفة الأولى مثمرة، فقد ازداد اهتمام
أمريكا بهذه الدولة الوليدة؛ ترعاها وتكفلها وتُوفد إليها المنصرين من حين لآخر.
وحقاً كانت نتائج هذه الحركة في الستينات مذهلة ورهيبة، ولذلك اُعتبرت
كينيا بمثابة الفاتيكان في إفريقيا، وهي المسؤولة عن تصدير النصرانية إلى باقي
دول إفريقيا، فحظيت كينيا بهذه الاعتبارات برعاية خاصة ومركزة من قبل العالم
النصراني، واستبشروا خيراً بهذه النتائج، وتوقعوا أن تصبح نصرانية تماماً مع
طلوع فجر عام 2000 م إن استمر الحال على هذا الوضع.
وفي عام 1975م عقد المؤتمر الخامس لمجلس الكنائس العالمي في (نيروبي)
وكان من أهم الموضوعات المدرجة على جدول أعماله مشكلة الميزانية، حيث
بُحثت هذه المشكلة بغية إيجاد حل مناسب لها ليتمكن المجلس من القيام ببرامجه
الكثيرة لنشر النصرانية، وتم تحديد مصادر الدخل من (13) دولة أوربية وأمريكية
والتي ستساهم بـ 98% من ميزانية المجلس، والباقي من الكنائس الأعضاء
والمؤسسات الكنسية الأخرى، وقد تمخض عن هذا المؤتمر انضمام معظم
الجمعيات الكنسية المحلية لعضوية المجلس في نفس العام.
وفي عام 1989م عقد زعماء النصارى في كينيا اجتماعاً سرياً في (نيروبي) ، وقد استطاع أحد المسلمين التسلل إلى قاعة الاجتماع، فأفشى هذا الخبر، كما
نُشرت هذه الأخبار في: جريدة الرسالة (The Message) لجمعية الشبان
الأنصار في (مُمباسا) ، وفي مجلة المجتمع الكويتية، ومجلة المركز السودانية،
وعشرات من الصحف الإسلامية.
وأهم ما نوقش في هذا الاجتماع:
1- وضع السبل والوسائل الكفيلة لضمان تنصير المسلمين.
2- وضع حد لمنع تدفق السيل النصراني نحو الإسلام، ومحاولة إرجاع من
أسلم إلى النصرانية من جديد.
3- تبني خطوات جديدة في عملية التنصير، مثل:
أ) نشر الإنجيل داخل بيوت المسلمين.
ب) استخدام آيات من العهد القديم، واستخدم اسم عيسى بدل يسوع عند
مخاطبة المسلمين.
ج) بناءالمراكز الصحية ذات الأهداف التنصيرية في أماكن تجمع المسلمين.
4- دراسة الإسلام ومذاهبه وفرقه للوقوف على نقاط الضعف والاختلاف
وكيفية إثارة هذه النقاط لإيجاد الخصومات بين الفرق الإسلامية! !
5- دراسة المنظمات والجمعيات الإسلامية وأنشطتها ومصادر تمويلها
وميزانياتها.
6- مساعدة المتنصرين الجدد مادياً وثقافياً، وذلك بتعليمهم المهن والحرف
المختلفة مع تقديم رأس مال لمن له خبرة في شؤون التجارة منهم، وتعليم أبنائهم
وإرسالهم إلى الخارج للدراسات العليا.
وقد علم في نهاية هذا الاجتماع أن إحدى المؤسسات الكنسية المتمركزة في
الولايات المتحدة قد تعهدت بتقديم ما يقارب المليارين من الشلن الكيني لاستخدامها
في المشاريع التنصيرية المختلفة، وفي الختام أوصى الاجتماع بعقد اجتماع آخر
بعد أربعة أشهر لمعرفة ثمرات جهودهم وتدقيق حساباتهم، وفي عام 1993م جعل
الفاتيكان وكيلاً له في مدينة (هومابي) الواقعة على بحيرة فيكتوريا حيث درسوا
استراتيجية المنطقة، ورأوا أنها صالحة للقيام بنشاطاتهم، إذ يمكنهم استقبال الذين
يأتون من: تنزانيا، وأوغندا، وبوروندي، ورواندا، بسهولة.
هذه جهود القوم في أداء رسالتهم في تنصير المسلمين أو على الأقل إخراجهم
عن دينهم، وهذا ما صرحوا به في كثير من لقاءاتهم ومؤتمراتهم، فإلى متى تكون
جهود المسلمين قليلة وأعمالهم أقل؟ ! .
دعوة لأغنياء المسلمين:
إننا نذكر الموسرين وأصحاب الفكر ودعاة الحق إلى أهمية الوقوف ضد أولئك
المنصرين بمشاريع دعوية يكون عائدها دعماً للمسلمين ورفعاً من مستواهم
الاجتماعي، وليقابلوا تلك الجهود الماكرة بالعض على عقيدتهم بالنواجذ، والله من
وراء القصد.(87/93)
في دائرة الضوء
نهاية الاستشراق القديم وبداية عهد جديد
محمد حامد الأحمري
هناك من يحبون استدبار الحوادث إذا استقبلتهم، فيقررون الغياب عن الزمان
والناس والأفكار مرعوبين من الجديد، ليعيشوا في زمن معروف، ومع أقوام
معروفين، وأفكار معروفة، وهم إن عادوا إلى تلك المدارس والأشخاص وجاؤوا
بجديد فلا تثريب عليهم، ولكن اللوم على أولئك الذين يعيدون الهجرة إلى الماضي
القريب ويريدون أن نذهب معهم مرة أخرى إلى عوالم معروفة لنا ولهم، مدروسة،
مكرورة، مملولة، ثم هم لا يبدعون في رؤيتهم جديداً، ولا يمتعون عقولنا وأذواقنا
بشيء، يزعمون أن جهدهم الجهد وقولهم الفصل وإن كان قد دُرِسَ حتى دَرس.
إن تكن طالت عليك المقدمة، فقد أودعتها جزءاً من القضية؛ لأن جمعاً من
قومنا لفتوا الانتباه هذه الأيام إلى العودة لأعمال الحركة الاستشراقية فيما قبل قرن
يزيد أو ينقص قليلاً، ويعيدون الحديث عن الأسماء نفسها، والكتب ذاتها،
ويختصرون أو يشرحون كلام المعقّبين على الحركة تلك، ويقولون ما قاله عمر
فروخ أو الخالدي أو العقاد أو الجندي، بل وللأسف ليس لبعض هؤلاء المتحدثين
اليوم اطلاع الناقدين السابقين، ولا يملكون الوسائل اللازمة لدراسة الاستشراق،
وأولها لغاته ومناهجه.
وتكتب كتب، وتعقد دراسات، وتقام ندوات ... بلا جديد، ويشتغل طلاب
الجامعات العربية الإسلامية في اجترار الماضي بلا زيادة.
ولم لا يسأل هؤلاء المستغرقون في الأبحاث القديمة.. لم لا يسألون أو
يهتمون بحركة الاستشراق الجارية الآن، هل هناك استشراق اليوم؟ ! ما هو؟
وماذا فيه؟ ما قديمه وما جديده؟ ومن هم رواده؟ وماذا يريدون؟ ! .
وهذه هي المحاولة أو المغامرة العسيرة على عقول ومعارف كُتّابنا، بعضهم
ليسوا كتاباً ولا باحثين.. إنهم قُراء قديم بلا مواهب، أفلا يكتفون بأن يكونوا قراءً
وكفى! ، ونعْم العمل، أمّا أن يقنعونا أنهم عرفوا ما كتب قبل خمسين عاماً أو تزيد، عرفوا الاستشراق ودرسوه، فهذا لا جديد فيه، ولا يستحق أن يقنعونا به أو
يقولوا لنا إن بعض قومنا قديماً تأثروا بالاستشراق أو لم يتأثروا ويعيدوا علينا
الاعتراضات نفسها والسياقات القديمة عينها.
كان الأولى بنا أن ندرس ظاهرة الاستشراق المعاصر، ونحددها في
مستجداتها، وندرس أعمالها مباشرة، وأعمالها اليوم بخاصة دون إغراق في قديمها
وألا نخشى من التحول إلى دراسة ما جد عندهم كما درسوا هم ما جد عندنا.
الجديد في الاستشراق:
والذي طرأ على تلك المدرسة في العقود الأخيرة تطور مهم، فإن ما يسمى
استشراقاً أو مدرسة استشراقية ذات اهتمام علمي ثقافي في غالبه، وسياسي
اجتماعي في بعض جوانبه كما عهدناه، قد انتهت كثير من تلك الجوانب ولم تعد
أولوية في الاستشراق الحديث، بل تحول اليوم إلى عمل سياسي اجتماعي
متخصص يهتم بمراقبة ودراسة الأوضاع السياسية والأشخاص والأحزاب والأفكار
السياسية والعوامل الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية دراسة وافية، ووضع حلول
لها! ! .
فقد قرر المستشرقون منذ قرابة عشرين عاماً أنّ العمل العلمي الثقافي في بلاد
المسلمين وتراثهم ليس بذي جدوى ولا أهمية، بل هو ضياعٌ للوقت والجهد، فليس
لدى العرب والمسلمين أفكار ولا كتب ولا آداب تستحق الدراسة والجهد، والقليل
الذي يحتاجون له نقلوه إلى لغاتهم وبخاصة الإنجليزية كتاريخ الطبري، ومقدمة ابن
خلدون، ورسالة الشافعي وأعمال المتصوفة! والفلاسفة والشعراء الكبار.. ونحوها، والكتاب المعاصرون العرب ليس لديهم ما يستحق القراءة، وإذا حدث فسوف
يكون عمله مترجماً بلغة غربية في زمن قياسي، والمؤلف العربي يحرص على
ترجمة أعماله إلى لغات غير العربية، وهذا يسهل عمل من يتابع أفكارنا منهم،
وهم يترجمون ما يحتاجونه حتى بعض الأشرطة السمعية، فلماذا يضيعون وقتاً
طويلاً في دراسة الكتب الإسلامية القديمة مع معاناة مشكلة اللغة العربية؟ .
لذا: اتجهوا اتجاهاً سياسياً عارماً، وقطعوا الاهتمام أو أغلبهم بالقضايا
العلمية والفكرية إلا بمقدار ما تحقق أثراً سياسياً مباشراً.
واليوم: شخص مثل برنارو لويس اليهودي المؤرخ الشهير الذي كتب عن
الشرق الأوسط، والحشاشين، والأتراك، وترجم عن العربية مقتطفات تاريخية
وأعمالاً عديدة ذات طابع علمي، ولّى وجهه منذ زمن نحو السياسة، وأشرف على
معهد الدراسات اليهودية في جامعة (برنستون) ، ثم تفرغ للكتابة السياسية، ويكتب
عن: العرب والإسلام، واللغة السياسية في الإسلام، والإسلام والغرب، وصياغة
المشرق الإسلامي الجديد، ويعمل لإعداد جيل من السياسيين اليهود الأمريكيين
ليُخترق العالم العربي بشكل أكبر، ويقدم محاضرات سياسية واستشارات في الهدف
نفسه متخذاً من قضية أمته وقومه اليهود قضيته، ورمى بالتاريخ إلى الوراء، ولا
قيمة للتاريخ عنده إلا دوره في الحاضر والمستقبل وهذه أهم مهمة للتاريخ حقاً،
وهو من أصحاب النظرية المركزية اليهودية في غرب آسيا، حيث يرى أن على
إسرائيل أن تحكم منطقة وسط وغرب آسيا، من الجمهوريات الإسلامية إلى
النصف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وأن على الغرب أن يترك هذه
المنطقة لها وحدها؛ فإسرائيل هي القادرة عقلياً وسياسياً ومالياً وعسكرياً على القيام
بذلك في إدارة يسندها تحالف أمريكي مباشر ويربط هذا باستراليا كما شرح في مقال
له شهير عن مستقبل المنطقة، ونشره في مجلة الشؤون الخارجية.
ومثل آخر هو: جون إسبوزيتو، يتجه لدراسة الإسلام المعاصر والحركات
الإسلامية المعاصرة، ويقيم علاقات مباشرة مع الإسلاميين وجمعياتهم وزعاماتهم
ليدرسها عن قرب، ويقدم الكتب من أمثال التهديد الإسلامي، أسطورة أو حقيقة،
وبدأت أعداد كبيرة من الشباب تهتم بهذه الموضوعات. ويقدم هؤلاء الاستشارات
والتوجيهات للحكومات الغربية كما كان يفعل السابقون في زمانهم.
ولعل أعمالاً سابقة كعمل مالك بن نبي وحديثه عن المستشرقين من معاصريه، أو عملاً كعمل السباعي عن مستشرقي زمانه ومقابلاته لهم: كانت أعمالاً حية
مواكبة للحركة في وقتها، مؤثرة في قرائها آنذاك ولم تزل، ولكنها لا تصلح لتكون
مادة دراسة الحركة في زماننا هذا ولا القادم لأنها أصبحت في معظم مادتها تاريخاً
فكرياً لا فكراً معاصراً جارياً.
اليوم يطلب الأساتذة في الجامعات الغربية أن تكون الأبحاث في الجامعات عن
الحركة الإسلامية المعاصرة! ، عن الأفكار الجديدة والمؤثرة على الشباب في العالم
الإسلامي وتطلعاته، ولعل من اطلع على كتاب انتقام الله الذي ترجم بعنوان يوم الله
للكاتب الفرنسي جيل كيبل وكتابه النبي والفرعون يلاحظ مدى المتابعة للوعي
الإسلامي في بلادنا، والكتب التي يقرؤها الشباب المسلم، والأشرطة التي
يستمعونها، عن الرجال المؤثرين فيهم، المواقف التي تستفز الشباب المسلم! ! ،
وكيف يمكن أن يواجه ويُغوى عن هدفه ويُشغل بمعارك هامشية جانبية تؤكد غياب
الأمة عن دورها وعن قضاياها وتغرق فيما يتمنى لها عدوها، وللأسف يقع بعض
المسلمين عن قناعة أو جهل في شباك الإغواء أو النقاش البيزنطي الذي غدا مثلاً،
ليس لأنه في ذاته خطأ فقط، وإنما لأنه أيضاً زمنياً خطأ أكبر، كان ملهاة عن
الجيوش الغازية على الأبواب، كان مشغلة عن المعركة، ونحن نختار أحياناً إحياء
الطريقة البيزنطية نفسها ولكن لا نسميها جدلاً بيزنطياً أو جدلاً لا فائدة منه مع أننا
منهيون عنه، ولأنه هو البديل عن العمل: فقد نضفي على جدلنا هالات من
الأهمية والخطورة والمنهجية، فتكسب نقاشاتنا أهميتها من الألقاب التي نلقيها عليها، وليس من حقيقتها ولا من مكانتها في الدين أو السياسة أو المجتمع أو التاريخ،
وهذه مضيعة للوقت والجهد، وسبب في صرف اهتماماتنا عن معرفة حال المسلمين
الذين هم بأشد الحاجة إلى الالتفات لمصائبهم ولأعدائهم المحدقين بهم، ولتصحيح
أفهامهم وأفكارهم وعقائدهم، فهم لا يدرسون حياة الشعوب المجاورة لهم، ودورها
في حياتهم، ولا يدرسون الإسلام بالطريقة التي بعثت الحياة في قلوب السابقين من
الأمة، إذ كان الإسلام لأتباعه: طريق عزة وكرامة للفرد وللأمة، واستقلالاً عن
ضغط الأعداء، وعدالة في الداخل، ووحدة في التوجه، وتكاملاً في التخصصات،
وحيوية غامرة، وتطلعاً لمعالي الأمور وذروة سنامها.
التفكير عند سلف الأمة ليس إغراقاً في تاريخ كسرى وقيصر ولا في جاهلية
العرب وأقوالهم، وليس تمحكاً وتحكيكاً وافتعالاً للخلاف الداخلي بين المسلمين
أشخاصاً وأفكاراً، وكتب الملل والنِحَل لم تكن همّ المسلمين وهدفهم، بل كان عملهم
دعوة الناس وهدايتهم، عملهم هداية من ترون من أعماق الصين إلى نهاية الغرب،
وليس لكلام زال وزال تأثيره ماضياً كان أو معاصراً، بل معرفة بالدين، ثم معرفة
بالحال الحالّة بأنفسهم وعدوهم وكيف يواجهونها، وبذل الطاقة والجهد لهذا، لا
لعلاج مشكلة ماضية، ولا لتوهم أو افتراض مشكلة في داخل الأمة.. ثم البحث
عن حل مفترض كذلك. هذه السلبية في الهروب من مواجهة الحياة والعدو طريق
العاجزين ومنحى الجاهلين، لأن كل شيء منها سهل ممكن النقاش مدروس سابقاً،
أو هو طعن للأمة من الخلف لا يكلف سوى استثارة وإيهام بشبهة أو ترويع مروع،
فيجن خوفاً وهلعاً ويضحي بأهل داره خوفاً من عدو متخيل من الداخل، وإذا كان
قد ولى أولئك أو تركوا ما كان يسمى استشراقاً في عمومه واختصوا بعمل محدد
عمل سياسي مجرد، فإن مواقعهم الآن احتلها مجموعة من العرب الذين نشؤوا عرباً
في بلاد عربية بغض النظر عن أصلهم، ولكونهم غرباء في المجتمع العربي، لن
يجدوا موقعاً سياسياً يتناسب مع معرفتهم بالعرب، فقد قاموا بالعمل التشويهي نفسه، بل أسوأ بكثير مما كان يعمله المستشرقون؛ فها قد رأينا مستشرقين أمثال عزيز
العظمة وأركون، وهؤلاء المستشرقون العرب توفرت لهم إمكانات لم تتوفر للطبقة
الاستشراقية الغربية المعاصرة؛ فمهارتهم في العربية التي كانت تقف عائقاً لكثير
من الغربيين لم تعد اليوم عند هؤلاء مشكلة، ثم: أزمة عقدتهم الفكرية والسياسية
حيث لا يجدون من يحترم كتاباتهم في العالم الغربي تزيد من حقدهم على الإسلام
والمسلمين والسخط على الأمة وتشويه تاريخها واحتقار تفكيرها وقراءته بعين
غربية حاقدة، وثم: عقدة كونهم مستغربين على هامش الغرب يزيدهم محاولة
إثبات أنهم غربيون أكثر من الغرب، فتجعلهم عقدة النقص هذه أشد ضرراً على
المسلمين من المستشرقين الغربيين.
والأولى بنا أن نعلم أن الاستشراق ليس تاريخاً ماضياً، ولكنه أيضاً سياسة
قائمة يومية متجددة.. نجد أنفسنا وثقافتنا فيها من خلال لغاتها مباشرة، وأعمالها
ومؤتمراتها وأبحاثها وقرارات الحكومات المبنية عليها.
ونحن لو اتجهنا نحو هذه المدرسة بهذه القناعة، أو على الأقل واجهناها
بهدف معرفتها ومتابعتها عن قرب متابعة مؤلفاتها ومقالاتها ودراساتها وتقاريرها،
لوجدنا في الحاضر ما يغني عن كثير مما قيل في الماضي، ولساعدنا ذلك على فهم
العالم الذي نعيش فيه، ولساهمت هذه الدراسة الواعية والمراقَبة الجادة في تطوير
العقول والعلوم والأفهام وإنضاج مجتمعنا سياسياً، وإنضاج أساتذة الجامعات لدينا
والشباب المسلم ليخرج واعياً لعصره، فاهماً لصديقه وعدوه، يعرف كيف يتعامل
مع مفكري عصره وعالَمهم، لأن تدريس الاستشراق بالطريقة الفكرية التاريخية
الموجودة الآن قد تساهم في عمل تغفيلي غير مقصود، ولكنه يساعد في عملية
تركيز الجهل بالحاضر والإغراق في الماضي، وإقرار الخروج عن مسار العمل
والفكر المعاصر، والعودة إلى عهد المِلَل والفرق الهالكة، يجعله يناقشهم وكأنهم
فرقة إسلامية انتهت منذ العصر العباسي، ولا يتعامل معهم كبشر وفكر يعمل
ويعيش معه في نفس الزمن، يناقشه ويكيد له ويحاربه ويصالحه ويخادعه في نفس
الوقت.
لا بأس من دراسة تمهيدية للاستشراق مثل دراسة محمود حمدي زقزوق
الجيدة، أو دراسة قاسم السامرائي تكون البداية منها، ثم بعد ذلك تكون المتابعة لما
يحدث الآن.
طريقة المواجهة:
وهل يمكن أن تقوم محاولة جادة لاختراق وعي الحاضر الغربي والصورة
الموجودة للإسلام والمجتمعات الإسلامية هناك؟ ، وهل يمكن أن تعطي أعمالنا
وكتبنا تصوراً عنا نحدده نحن ولا يُحَدد لنا وحسب ما نريد؟ ، على فهمنا: فليسوا
كلهم حاقدين، وليسوا كلهم صليبيين مغرضين، بل منهم من يريد الحقيقة كما أن
منهم من أسلم في الماضي، ولكن.. هل نملك القدرة أيضاً على صرف النظر عن
التفكير من خلال التهم والدفاع عن ذاتنا! بطرق مباشرة أو غير مباشرة؟ .
وإذا كان المقصود الهداية هداية مجتمعاتهم فهل بإمكاننا غزو المكتبة الغربية
بكتب جديدة مترجمة أو مؤلفة يقرؤها هؤلاء المستشرقون ويقرؤها المجتمع الغربي
عموماً؟ ، وسوف تعين هذه الكتب بالدرجة الأولى هذه الجماهير المسلمة التي
تعيش وتفكر من خلال مكتبة غربية حاقدة ومضادة، ونحن نملك بعض! المعرفة
الجيدة في الإسلام، فلم لا نحولها إلى عمل جاد في اللغات الأخرى، يحيي صورة
الإسلام الحقيقي، وينشر الوعي به، ويقلل من تيار الهجوم العنيف ضده وضد
أهله؟ ونتخلص من عقدة ماذا قالوا عنا قبل قرن أو قرنين؟ ! ولنجعلهم يسمعوا لنا الآن، ثم: ألا نقوم بدراسة جادة للفكر الغربي مباشرة بلا وسائط ونجعله مادة
دراسة؟ ، لم لا نفكر في قلب الموضوع وتغيير الاتجاه؟ ، لماذا نحن خائفون فزعون من دراسة ما عندهم وبخاصة النخبة منا؟ ، لم لا نتحدث عما لديهم عن خرافات وأكاذيب.. وإيجابيات قد تكون مفيدة؟ وبخاصة أن الإغراق في الاستشراق لا يقدم فائدة، فهؤلاء المستشرقون غالباً نكرات في بلادهم وفي ثقافتهم، ميزتهم كتابة تقارير عنا.. وماذا تصنع تجاه كاتب التقارير؟ ! ، هل تصرف جهدك لكتابة تقرير عنه، أم تنصرف لعملك وهمك؟ وإذا فهمت ماذا كتب عنك، فهذا كل الذي تريد حتى تعرف ما هو موقع قدمك في عمل دائم جاد ومؤثر ومهم. فمعرفة الاستشراق أداة وليست غاية.
إن علماء الإسلام عبر القرون درسوا التوراة والإنجيل وعقائد الفرق الأخرى، وحاجّوا علماءهم، بل أسلم بعضهم بعد نقاشات ودراسات ومجادلات أدت بأن
يؤلف بعضهم الذين أسلموا كتباً في نقد ديانة قومهم، لماذا ألجأنا الخوف والضعف
الفكري إلى الانكماش وضرب أسوار الحديد حتى على القادرين! !
دراسة الاستشراق بالطريقة الموجودة طريقة عقيمة لا فائدة منها، فنحن في
حاجة إلى متابعة جادة للجديد ومواجهته بموقف من جنسه، وهذه الدراسة غير
مسموح بها في أكثر مناطق العالم الإسلامي، فأين الدولة التي تسمح لجامعاتها
بدراسة السياسة والمجتمع الغربي، ثم بناء سياسة ذلك البلد الإسلامي مع الآخر بناءً
على معرفة علمية وسياسية صادرة عن جامعة عربية أو مركز للدراسات
المستقبلية؟ ! ، وما دام هذا الأسلوب العلمي غير مسموح به في بلاد العالم الإسلامي فقد يكون الحل هو دراسة فكر الغرب ودياناته ونقدها بلغتنا، وهذا هو الرد العملي الموازي للاستشراق؛ إن كتاب الدكتور حسن حنفي عن الاستغراب والذي هدف إلى نقل المواجهة إلى ساحتهم قد يكون مثالاً لجانب من جوانب المعرفة بالفلسفة الغربية، ولكنه لم يَخْلُ من شطحات فلسفية وتلمذة لمدارسهم، وليس عندنا إلى الآن أعمال نقدية للفكر الغربي مشابهة لما يخرج عندهم ينقد أفكارهم، أما ضياع الجهد في اتهام المستشرقين وتلاميذهم وإثبات انحرافهم وخداعهم فحسب فلا فائدة منه، إن علينا أن نتخلص من عقدة الخوف من فكرهم ومن ثقافتهم، وأن نواجه ثقافتهم بتنمية ثقافة جادة لنا، وناقدة لخصومنا، وننقل ميدان النقاش إلى هناك، ونتخلى عن عقدة النقص حين نضع دائماً ديننا وأمتنا مادة للنقاش والاتهامات، ولا يعني هذا أن نكتب هجاءً سطحياً لهم كما فعل كثير من المستشرقين تجاهنا، بل ليكن عملنا علمياً، مفيداً لنا ولهم، ومنقذاً لهم من الضلال..، وكل هذا لا يعني عدم معرفة الاستشراق، بل نريد المعرفة التي تسوق وتدفع إلى مواجهة ثقافة بثقافة وعلم بعلم.(87/100)
منتدى القراء
إلى الكاتب الأمل
عبد الله بن يوسف اللاحم
إن منهج الإسلام يمتاز بالوضوح والبيان، بعيداً عن الغموض والتعقيد،
سواء أكان ذلك في عقيدته أو في تشريعاته أو في منهجه في الدعوة إلى الله (تعالى)
المتمثل في منهج القرآن الكريم والسنة النبوية، الذي هو منهج واضح قريب الفهم
لكل أحد ...
إن من واجب الداعية والكاتب الموضوعي أن ينطلق في منهج الكتابة من
ركيزتين:
أولهما: الاختصار البليغ.
وثانيهما: الجلاء والوضوح.
فبالاختصار تحفظ الفكرة وتحصل الرغبة، وبالبلاغة تسمو المعاني لتتوافق
مع اختلاف المدارك والأفهام، وبالوضوح تتم الفائدة لكل قارئ.
ومن هذين المصدرين الكتاب والسنة استفادت الأمة بعامة علماً بالله، وإيماناً
به، وازداد العلماء حكمةً وفقهاً في دين الله، ولذلك: فالرسول -صلى الله عليه
وسلم- يوجه أهل الدعوة إلى ذلك المنهج بقوله: إن طول صلاة الرجل وقصر
خطبته مئنة فقهه [1] .
إننا نرى بعض إخواننا الكتاب والمتابعين في الصحف الإسلامية يدخلون في
دوامة الإطالة والغموض الذي لا يخدم الدعوة الإسلامية ولا يزيد القراء وعياً
بواقعهم المعاصر، وذلك لعدة أسباب:
1- إن هذه المقالات والتحقيقات قد تطول جداً مع دقة الكتابة، فتحتاج إلى
وقت وجهد لا يمكن توفره لكل قارئ، مما يدعوه إلى الإحجام عن قراءتها.
2- ما قد يوجد في تلك الكتابات من: غموض، ومصطلحات، وتطويل
للفكرة، مما لا يساعد كثيراً من القراء على الاستفادة الكاملة.
3- ليس المقصود من الكتابة أن يبرز الكاتب علمه وثقافته، وليس هو في
سباق فيصول ويجول في بحار التطويل والغموض والفلسفة، بقدر ما يكون
المقصود إيصال الفكرة من أقرب طريق لمن يحتاجها من عامة طلبة العلم.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، ج2 ص594.(87/109)
الورقة الأخيرة
هيئة الأمم المتحدة بين التنظير والتطبيق
أحمد العويمر
أسست هيئة الأمم المتحدة على أنقاض (عصبة الأمم) لحفظ السلم العالمي،
وحل مشكلات الشعوب والأخذ بيدها إلى ما فيه صلاحها ونموها واستقرارها، وإن
نجحت هذه الهيئة في حل بعض المشكلات، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في حل
قضايا العالم العربي والإسلامي وعلى رأسها قضية فلسطين، بل ساهمت في إقرار
قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المغتصبة.
أما ما يحدث في (البوسنة والهرسك) من عار يندى له جبين كل إنسان: إنما
هو سبة على المتنفذين في الهيئة من القمة إلى القاعدة، فهذه المنظمة قد فشلت فشلاً
ذريعاً في أداء الرسالة المنوطة بها، كما أنها تهاونت حيال قضايا أمتنا بشكل يكاد
يكون مقصوداً، ولقد خالف أمينها العام مسلماته الفكرية التي كان يدعو إليها، كما
في كتابه (الحكومة العالمية) ، بل قد تنازل عن مرئياته السياسية المعروفة مثل:
رأيه السابق في إلزامية القرار (242) الذي تراجع عنه تراجعاً عكسياً تماماً، بل
زاد الطين بلة أن صار أكثر همه عقد المؤتمرات العالمية التي تزيد تكاليفها عن
الآثار المتوقعة لها، حتى وكأنه يريد أن يضرب الرقم القياسي في عقد مثل تلك
المؤتمرات في عهده؛ إذ عقد مؤتمر (ريودي جانيرو) عام 1992م، ومؤتمر حقوق
الإنسان عام 1993م، ومؤتمر السكان عام 1994م، ومؤتمر (كوبن هاجن) الأخير
هذا العام.
ولقد تحدث الكاتب بيتر مانسفيلد ساخراً من تبديد الأموال في هذه المؤتمرات
بدون جدوى، ومن الطريف أن رئيس (ملاوي) قال: إن كلفة حضوره إلى مؤتمر
هيئة الأمم الأخير تبلغ 125 الف جنيه استرليني، وأن إنفاقها في حاجيات بلاده
أولى، وما قيل في المؤتمر من دفع الغرب 4. 1 تريليون دولار لمساعدة الدول
الفقيرة، إنما سحبته الدول الغنية من جانب آخر عن طريق القيود التجارية
وبمهازل اضطراب العملات وتسديد الديون المستحقة لهم.
هذه المؤتمرات وما أحدثته وتحدثه من ردود أفعال متباينة لم تعد على العالم
سوى بالكلام وضياع الجهود والأوقات ليس إلا، وتقرير أمور بدهية هي تحصيل
حاصل. وهذا هو المتوقع مادام أن العقلية (الاستعمارية) و (العنصرية) تجعل حق
النقض مكفولاً لأعضاء مجلس الأمن الدائمين ضد أي قرار لا يوافق هواهم، الأمر
الذي يجعل الحقوق تحت رحمتهم، وبإمكانهم إجهاض أي مشروع مهما كان بإشارة
يد فقط، وتمخض الجبل فولد فأراً حيث لم يقبل الكبار إسقاط ديون العالم الثالث،
واختتم المؤتمر بقرارات غير إلزامية! ! .
إن على أمتنا الإسلامية الوقوف جبهة واحدة، وأن يكون لها دور بحكم
مكانتها وعددها وأهميتها، حتى تُحترم قضاياها، وإلا كانت كمّاً مهملاً كما يراد لها.
فهل نفعل.. عسى ولعل.(87/111)
ذو الحجة - 1415هـ
مايو - 1995م
(السنة: 9)(88/)
كلمة صغيرة
تطبيع وتطبيع
منذ نحيت شريعة الله وأمتنا تسير من شيء إلى أسوأ، وكانت عاقبة ذلك
الكوارث والهزائم والنكبات أم حكومتنا الديموقراطية حتى في عصور ثورياتها
وعنترياتها التي أعلنت توجهاتها القومية وأن وحدتها لا يغلبها توجهاتها القومية وأن
وحدتها لا يغلبها غلاب، لم تحقق شيئاً مما تشدقت به، والحال ما نراه.!
وهل انكسارات أمتنا جعلتها تعلن العودة لشريعة الله أم إن ذلك ما زادها إلا
سقوطاً وتداعياً في أحضان العدو؟ ، إن الأمم العاقلة تطبع علاقتها بين شعوبها
وليس مع أعدائها وتزيل كل معوقات تقاربها واتحادها، وتخفف من بير وقراطيتها
كما حصل مؤخراً في (شينجين) بتطبيق حرية الانتقال لمواطني سبع دول أوروبية
دون أي قيد حدودي.
أين أمتنا من مثل هذه القرارات، أم إنها لا تجيد سوى المؤامرات ضد بعضها
بعضاً، وتغريب المجتمعات، ومصادرة الحياة لمجرد الاشتباه! .
متى تسود شريعة الله بعيداً عن المزايدات الانتخابية ودعاوى التقنين،
فنضمن ما هو أحسن وأرأف بالبلاد والعباد، وحتى نكون حقً (خير أمة أخرجت
للناس) أم على قلوب أقفالها؟ ! .(88/1)
الافتتاحية
العقيدة أولاً.. ولكن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه، وبعد..
كثيراً ما تحدث العلماء والمفكرون المسلمون داعين إلى الرجوع إلى منهج
الأنبياء في الدعوة، في خضم الكثير من المناهج الدعوية الجديدة، التي ينأى
بعضها قليلاً أو كثيراً عن ذلك المنهج، مما أدى بتلك الدعوات إلى الإخفاق في
الوصول إلى تحقيق غاياتها المعلنة بتحكيم شريعة الله وحده دون غيره، ودعوة
الناس كافة إلى صراط الله المستقيم، وحينما نؤكد على أهمية الدعوة إلى منهج
الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، إنما نعني أن يكون البدء بأي إصلاح منطلقاً من
إصلاح العقيدة فهي الأساس الذي يجب أن تنطلق منه الدعوات بعيداً عن التقليد
والمجاملات، وعدم البدء بجزئيات مهما كانت؛ فهي لا تصل إلى أهمية إصلاح
العقيدة. لقد بدأ بعضهم بالإصلاح الفكري، ومنهم من دعا إلى الإصلاح الخلقي
والروحي، ومنهم من دعا إلى الإصلاح السياسي، ومنهم من دعا إلى غير ذلك.
إن تلك الجهود الجزئية مع ما قدمته من أعمال، ومن مساهمة في التأثير على مسار
الصحوة الإسلامية المعاصرة، قد توقفت عند مدًى معين لم تتجاوزه، فولّد ذلك
إخفاقات في مجال الدعوة مازلنا نلمس آثارها في كثير من الأحيان من الخلافات
المستمرة والصراع المرير بين رفاق الدعوة والجهاد، فضلاً عن العجز عن قطف
الثمار التي طال انتظارها.
فحتى متى تبقى الدعوة الإسلامية حقلاً للتجارب. إنه من المحتم على أولي
الشأن من العلماء والعاملين في سلك الدعوة إلى الله التوقف كثيراً أمام بعض ما
حصل من الوقائع والفجائع، ودراسة هذه الظواهر المقلقة، وما تنطوي عليه
نفسيات بعض المنتسبين للدعوة من: حزبية، وتعصب أعمى، وتقديس للرجال.
وسنجد أن وراء تلك السلبيات والمشكلات في طريق الدعوة
أسباب، منها:
1- أن كثيراً من الاتجاهات الدعوية لا تنطلق من تأصيل شرعي صحيح في
مناهجها، مما أدخل في بعض الدعوات أفراداً من الشباب المتحمسين الذين ينقصهم
العلم الشرعي، مع الأنفة من الرجوع إلى العلماء الموثوقين لاستشارتهم.
2- ولقد نتج عن السبب الأول: أن تسيد في بعض الحركات الإسلامية
أصحاب الفكر البدعي، وأصبحوا منظرين لتلك الحركات، مما أدى أحياناً إلى
وجود سلوكيات لا تمت إلى الإسلام بصلة.
3- الفهم الجزئي لديننا الحنيف، والانطلاق من جزئيات معينة كما ذكرنا
والبناء عليها، وتناسي الأصول التي يجب البدء بها والبناء على أسسها.
4- التوجه الحزبي الضيق لبعض الدعوات الذي جعلها تتقوقع على نفسها،
وربما رأت أنها هي التي على الحق وحدها، وهذا نظر قاصر وتزكية للنفوس
تخالف الأصول الشرعية، وغمط لحقوق الدعاة العاملين.
5- البعد عن الحوار البناء لإيجاد أرضية مشتركة بدءاً من إصلاح العقيدة،
مما ولد صراعاً عنيفاً حتى بين بعض فئات الجماعة الواحدة والمنهج الواحد، مما
جعل أعداء الدعوة من العلمانيين وغيرهم يشعرون بالغبطة، وهم يعملون لتأجيج
مثل تلك الخلافات ليستمر الصراع المؤسف بين الأخوة والأشقاء.
ماذا نعني بإصلاح العقيدة:
الذي نعنيه بإصلاح العقيدة هو: نهج الطريق الذي سلكه الأنبياء (عليهم
الصلاة السلام) وعلى رأسهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعواتهم لأممهم
التي أرسلهم الله (تعالى) إليها، فهذا هو الطريق الأمثل الموصل إلى الغاية المرجوة
ومحورها الأصيل، العبودية المطلقة لله وحده، وتحقيق الألوهية له (جل جلاله)
ودعوة الناس إليها، وتربيتهم عليها قبل أي شيء آخر، فمفتاح دعوة الرسل:
معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتحقيق الحاكمية في التشريع لله (عز وجل) ،
والولاء والبراء على ذلك. وينبني على هذه المعرفة مطالب الرسالة كلها.
إن كل داعية مخلص يجب أن ينطلق في دعوته من أصول أهل السنة
والجماعة المعتبرة، بعيداً عن المناهج البدعية من: صوفية، وكلامية، وعقلانية
بحتة، فهي التي أدت بالأمة إلى التشرذم والتفرق.
وما ننصح به إخواننا الدعاة جميعا عدم الاستعجال في قطف الثمار، فذلك آفة
تؤدي إلى سلوك الأساليب البعيدة عن الحكمة.
إننا حقاً بحاجة ماسة إلى العودة إلى سنن الأنبياء في الدعوة، وقد وضحت لنا
السيرة النبوية المنهاج لبناء مجتمع إسلامي، فمتى يتعاون الدعاة فيما بينهم؟ !
ومتى يصل الدعاة والعلماء العدول إلى كلمة سواء بدلاً مما هو حاصل في أحيان
كثيرة من جفاء وعدم مودة، لمسنا آثارها السيئة على واقعنا الدعوي، مما جعل
الأعداء يشمتون بنا، وجعل الأصدقاء لا يملكون سوى الدموع حيال ما حصل
ويحصل، إننا بحاجة حقاً إلى التوقف والمراجعة والعودة إلى المنهاج النبوي كما
رسمته لنا السيرة الصحيحة.
فحسن النية والإخلاص وحده لا يكفي في توصيل الدعوة إلى الناس وقبولهم
لها، نعم العقيدة أولاً، ولكن لابد من التزام الأساليب الدعوية الحكيمة، واقتفاء آثار
الوحيين، وتجريد المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
لقد جربنا كثيراً من المناهج الجديدة التي ألمحنا إلى بعضها، غير أن حالنا لا
يسر، ولم يبق لنا سوى منهج الأنبياء في الدعوة كما فصله بأوضح بيان نبينا
وأسوتنا وقائدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في سيرته وسنته ونقَلَهُ عنه أصحابه
والتابعون لهم بإحسان [أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ... ] [الأنعام90] ،
وهذه عبودية كان يلزم الأخذ بها من أول الطريق.
إننا نريد أن تكون أساليب الدعوة المحسوبة على أهل السنة والجماعة (أهل
الحديث) هي الأساليب النبوية الصحيحة، كما هو معهود عنهم قديماً وحديثاً، وكما
فصلها كثير من العلماء والدعاة العدول.
والله نسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يلهمنا حسن القصد في
القول والعمل.. والله المستعان..(88/4)
دراسات شرعية
معاني العقيدة من خلال فريضة الحج
د.عبد العزيز آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: ففي الحج معان عظيمة، وحكم بالغة، ومنافع كثيرة، كما قال
سبحانه: [ليشهدوا منافع لهم] [الحج: 28] ، وفي هذه الصفحات نورد جملة من
معاني العقيدة ومسائل أصول الدين من خلال هذه الفريضة:
أولاً: التسليم والانقياد لشرع الله تعالى:
كم نحتاج أخي القارئ إلى ترويض عقولنا ونفوسنا كي تنقاد لشرع الله
(تعالى) بكل تسليم وخضوع، كما قال (سبحانه) : [فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما]
[النساء: 65] .
فالحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم، فإنّ تنقل الحجاج بين المشاعر،
وطوافهم حول البيت العتيق، وتقبيلهم للحجر الأسود، ورمي الجمار ... وغيره
كثير: كل ذلك أمثلة حية لتحقيق هذا الانقياد لشرع الله (تعالى) ، وقبول حكم الله
(عز وجل) بكل انشراح صدر، وطمأنينة قلب.
لقد دعا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) فقالا: [ربنا
واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت
التواب الرحيم] [البقرة: 128] .
لقد دعوا لنفسيهما، وذريتهما بالإسلام، الأذي حقيقته خضوع القلب وانقياده
لربه المتضمن لانقياد الجوارح.
ورضي الله عن الفاروق عمر إذ يقول عن الحجر الأسود: «إني أعلم أنك
حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك
ما قبلتك» [1] .
يقول الحافظ ابن حجر: «وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي -
صلى الله عليه وسلم- فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه» [2] .
ويقول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني (رحمه الله) : «ومن مذهب أهل السنة: أن كل ما سمعه المرء من الآثار [3] مما لم يبلغه عقله، فعليه التسليم والتصديق
والتفويض والرضا، لا يتصرف في شيء منها برأيه وهواه» [4] .
ويقول ابن القيم (رحمه الله) : «إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله
على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامروالنواهي والشرائع،
ولهذا لم يحك الله (سبحانه) عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء، أنها سألته
عن تفاصيل الحكمة فيما، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، بل انقادتْ، وسلمتْ،
وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها
وإيمانها واستسلامها بسبب عدم معرفته، وقد كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم
عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نهى عن ذلك؟ ولِمَ فعل
ذلك؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام» [5] .
ثانياً: إقامة التوحيد:
إن هذه الشعيرة العظيمة قائمة على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له؛ قال
(سبحانه) : [وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي
للطائفين والقائمين والركع السجود] [الحج: 26] .
وحذر (سبحانه) من الشرك ونجاسته، فقال (عز وجل) : [فاجتنبوا الرجس
من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به] [الحج: 3031] .
بل من أجل تحقيق التوحيد لله وحده، والكفر بالطاغوت، شُرع للحاج أن
يستهل حجه بالتلبية قائلاً: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد
والنعمة لك والملك، لا شريك لك» .
ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة
بسورتي الإخلاص (قل هو الله أحد) ، و (قل يا أيها الكافرون) ، كما كان يفعل
الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
كما شَرعَ الله (تعالى) التهليل عند صعود الصفا والمروة، فيستحب للحاج
والمعتمر أن يستقبل القبلة عند صعوده الصفا والمروة ويحمد الله ويكبره ويقول: «
لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد،
يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر
عبده، وهزم الأحزاب وحده» .
ومن أجل تحقيق التوحيد أيضاً كان خير دعاء يوم عرفة أن يقال: «لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل
شيء قدير» .
وفي مناسك الحج وشعائره تربيةٌ للأمة على إفراد الله (سبحانه) بالدعاء
والسؤال والطلب، والرغبةإليه، والاعتماد عليه، والاستغناء عن الناس، والتعفف
عن سؤالهم، والافتقار إليهم؛ فالدعاء مشروع في الطواف والسعي، وأثناء الوقوف
بعرفة، وعند المشعر الحرام، وفي مزدلفة، كما يشرع الدعاءوإطالته بعد الفراغ
من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق.
ثالثاً: تعظيم شعائر الله (تعالى) وحرماته:
قال الله (تعالى) بعد أن ذكر أحكاماً عن الحج: [ذلك ومن يعظم حرمات الله
فهو خير له عند ربه] [الحج: 30] .
والحرمات المقصودة هاهنا أعمال الحج المشار إليها في قوله (تعالى) : [ثم
ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم] [الحج: 29] [6] .
وقال (سبحانه) : [ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب]
[الحج: 32] ، فتعظيم مناسك الحج عموماً من تقوى القلوب [7] .
وتعظيم شعائر الله (تعالى) يكون بإجلالها بالقلب ومحبتها، وتكميل العبودية
فيها؛ يقول ابن القيم (رحمه الله) : «وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا
تخلى أحدهما عن الآخر فسدت» [8] .
ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تزال هذه
الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة [يعني: الكعبة] حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك
هلكوا» [9] .
رابعاً: محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل أعمال القلوب، وأفضل
شعب الإيمان، ومحبة الرسول صتوجب متابعته والتزام هديه، وإن التأسي برسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء القيام بمناسك الحج سبب في نيل محبته، حيث
قال -صلى الله عليه وسلم-: «خذوا عني مناسككم» ، وفي اتباع النبي -صلى
الله عليه وسلم- تحقيق لمحبة الله (تعالى) ؛ كما قال (سبحانه) : [قل إن كنتم
تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله] [آل عمران: 31] .
خامساً: تحقيق الولاء بين المؤمنين والبراءة من المشركين:
كم هو محزن حقاً تفرق المسلمين شيعاً وأحزاباً.. وتمزقهم إلى دول متعددة
ومتناحرة.. وقد غلبتْ عليهم النعرات الجاهلية المختلفة، وإن فريضة الحج أعظم
علاج لهذا التفرق والتشرذم، فالحج يجمع الشمل، وينمي الولاء والحب والنصرة
بين المؤمنين، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي الكتاب والسنة
وقبلتهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً، حيث يجمعهم لباس واحد،
ومكان واحد، وزمان واحد، ويؤدون جميعاً مناسك واحدة.
كما أن في الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين: حيث الحج مدرسة لتعليم
السخاء والإنفاق، وبذل المعروف أياً كان، سواء أكان تعليم جاهل، أو هداية تائه، أو إطعام جائع، أو إرواء غليل، أو مساعدة ملهوف.
وفي المقابل: ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم؛ يقول
ابن القيم: «استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في
المناسك» [10] .
لقد لبى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد، خلافاً للمشركين في تلبيتهم
الشركية، وأفاض من عرفات مخالفاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل
غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس،
فخالفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- عوائد الجاهلية ورسومها كما في خطبته
في حجة الوداع، حيث قال: «كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي
موضوع» [11] ؛ يقول ابن تيمية: «وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل: دعواهم يا لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم» [12] .
سادساً: تذكر اليوم الآخر واستحضاره:
فإن الحاج إذا فارق وطنه وتحمل عناء السفر: فعليه أن يتذكر خروجه من
الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وأهوالها.
وإذا لبس المحرم ملابس الإحرام: فعليه أن يتذكر لبس كفنه، وأنه سيلقى
ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا.
وإذا وقف بعرفة: فليتذكر ما يشاهده من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم
واختلاف لغاتهم، موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن [13] ؛ قال ابن
القيم: فلله ذاك الموقف الأعظم الذي ... كموقف يوم العرض، بل ذاك أعظم
نسأل الله (تعالى) أن يتقبل منا ومن المسلمين صالح الأعمال، وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقبيل الحجر (2) فتح الباري، ج3ص463 (3) أي: الآثار الصحيحة (4) الحجةفي بيان المحجة، ج2 ص435.
(5) الصواعق المرسلة، م4، ص1560، 1561.
(6) انظر: تفسير ابن عطية، ج4 ص120.
(7) انظر: تفسير الطبري، ج17 ص157 (8) مدارج السالكين، ج1 ص495.
(9) أخرجه ابن ماجة: كتاب المناسك، باب فضل مكة، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن؛ انظر: فتح الباري، ج3 ص449 (10) تهذيب سنن أبي داود، ج3 ص309.
(11) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح/147.
(12) اقتضاء الصراط المستقيم، ج1 ص301.
(13) انظر: مختصر منهاج القاصدين، ص48.(88/8)
دراسات شرعية
مفاهيم ودروس من صلح الحديبية
(الحلقة الثانية)
د.محمد بن عبد الله الشباني
تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى أحوال ما قبل صلح الحديبية، وبيّن كيف
استفاد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- من هذه الأحوال موضحاً الأسس والمبادئ
التي ركز عليها، وخطواته التي اتبعها، وأسلوب مفاوضاته، ومحاولات قريش
المضادة، وذكر الكاتب أن قريشاً رضيت من الصلح بهيبة زائفة ومكاسب شكلية،
وهذا ما يلاحظه المتابع للمعاهدات المعاصرة مع اليهود، ويواصل الأخ الكاتب
عرض مزيد من المفاهيم والدروس حول الموضوع.
- البيان -
دروس من شروط صلح الحديبية:
الدراسة المتأنية في شروط الصلح الذي تم بين رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وقريش ترشد إلى أمور ينبغي الأخذ بها عندما يواجه المسلمون حالات من
عقد صلح أو معاهدات مع أعداء الأمة، وتتمثل هذه الأمور فيما يلي:
أولاً: التركيز على الغاية والهدف القريب والبعيد من الهدنة، وعدم إعطاء
أهمية قصوى للأمور الشكلية على حساب المصلحة الجوهرية للطرف المسلم، ومن
أمثلة ذلك: إصرار قريش على عدم البدء في الكتابة بذكر صيغة البسملة
والاستعاضة عنها بلفظ ذي دلالة للمعنى نفسه وهو باسمك اللهم، وكذلك عدم ذكر
صفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقرونة باسمه، إن هذه الأمور الشكلية يمكن
المماحكة فيها لإبعاد الخصم عن جوهر هدف الصلح، ومن ثم: استنزاف قواه
ومهاراته التفاوضية في معالجة هذه الأمور الشكلية، وكان واضحاً أن الرسول -
صلى الله عليه وسلم- فوّت عليهم هذه الغاية بالرغم من عدم انتباه بعض الصحابة
لذلك.
ثانياً: أن الصلح لم يكن مانعاً أو عائقاً لحركة الرسول -صلى الله عليه
وسلم-، فلم يرد في الصلح الحد من حرية حركة الرسول، بل إن أهم نقطة في
هذا الصلح هو توفير المجال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحركة في
الجزيرة العربية، وتحييد العدو الرئيس وهو قريش، ولهذا: فقد ذُكر أن عقد
الاتفاقية هو هدنة ومهادنة يُقصد منه وقف الحرب عشر سنين، يأمن فيه الناس
ويكف بعضهم عن بعض، وعدم إظهار العداء أو ما يعرف في الوقت الحاضر
وقف الحملات الإعلامية؛ وهذا الشرط هو محور وغاية الصلح؛ فإن منع إظهار
العداء يسمح للمسلمين بالحركة والدعوة للأفكار التي يحاربون من أجلها، كما أن
إيقاف الحرب بين قريش وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- سوف يهيئ
الظروف للمسلمين للانتشار مع تحييد قوة قريش ونفوذها المعنوي من التأثير في
بقية العرب.
إن من المفارقات التاريخية العجيبة في هذا العصر أن يتبع اليهود المقاصد
نفسها التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع قريش، وذلك حينما
استطاعوا عند توقيع معاهدة كامب ديفيد إخراج مصر (القوة العربية الكبيرة) من
الصراع واستخدامها أداة لتفتيت القوة العربية والإسلامية، ثم استخدامها أداة لتنفيذ
وتحقيق المصالح اليهودية، وذلك باستغلال هذه المعاهدة لإلغاء أو تخفيف الحصار
السياسي والاقتصادي والإعلامي مع بقية العالم، وقد تمكنوا من الحصول على
الاعتراف من قِبَل كثير من الدول وتنمية علاقاتهم الاقتصادية معها بسبب تلك
المعاهدة، بل لقد حققت معاهدة كامب ديفيد غايتها باعتراف الزعامة الفلسطينية
بشرعية دولة اليهود، ثم سقطت آخر أوراق التوت عندما وقّعت منظمة التحرير
الفلسطينية قبولها بما عرف بالحكم الذاتي الجزئي! لغزة وأريحا.
وقد كان من النتائج المباشرة لصلح الحديبية أن تفرغ رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لحلفاء قريش في غزوة الخندق (اليهود) ، فبعد عودة الرسول من
الحديبية بشهر أو أقل استنفر من شهد الحديبية، ومنع من لم يشهدها من الغزو معه، فالله الذي يعلم خفايا النفوس منح أولئك الذين اختاروا الآخرة على الدنيا حسن
ثواب الدنيا والآخرة، وفي هذا عبرة أن من يتجرد في عطائه لله قد يعطيه الله ما
يشتهي في دنياه قبل آخرته بجانب ما يدخره له في آخرته.
ثالثاً: أشارت وثيقة الصلح إلى أمر يثير التساؤل ويهز النفوس، لقد حدث
ذلك للمسلمين المصاحبين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث أشارت وثيقة
الصلح إلى أن مَن أتاه من قريش ممن هو على دينه بغير إذن وليه رده محمد -
صلى الله عليه وسلم- إليه، ومن أتى قريشاً ممن كان مع محمد لم يردوه إليه، إن
ظاهر هذا الشرط غبن على المسلمين، فكيف يتخلى المجتمع المسلم عن أفراده
المستضعفين فيردهم إلى أعدائهم، وفي الوقت نفسه لا يرد من نكص على عقبيه
وهرب مرتداً من المجتمع المسلم؟ ، ولكن المتأمل لهذا الشرط يجد أن قبوله في
غاية الحكمة؛ فلا شك أن المجتمع المسلم لا يرغب في ضم الأفراد ضعيفي العقيدة
أو المهزومين، فمن يرتد ويهرب من المجتمع المسلم فهو شر تخلص منه المجتمع، فوجوده يشكل الطابور الخامس، ولهذا: فإن الحرص على ضم أولئك الذين في
قلوبهم مرض حيث فضلوا النكوص لا فائدة منه، أما أولئك المؤمنون بالعقيدة من
المعسكر الآخر الذين اشترطت المعاهدة إعادة من يهرب منهم إلى المجتمع المسلم
فقد كان في بقائهم مصلحة ظاهرة، إذ إن قبول مثل هذا الشرط سوف يفتح
للمسلمين مصالح كثيرة، مثل أن يجعل هذا المعسكر على الحياد والتفرغ
لمعسكرات أخرى، بحيث يمكن أن يتم القضاء على تلك المعسكرات بإضعاف
التحالف بينها، فقبول ذلك الشرط ممكن من قِبَل الدولة المسلمة تشجيعاً لتلك الفئات
على القيام بالمقاومة؛ أي: بوجود تشكيلات عسكرية حرة الحركة تقلق العدو
وتجعل هذا الشرط عبئاً عليه بدلاً من أن يكون معيناً له، وهذا ما حدث بعد
ذلك [1] ، فقد تكونت خلية تعلن الحرب ضد قريش عندما قاد أبو بصير المسلمين المستضعفين الهاربين من مكة للتصدي لرحلات قريش الاقتصادية على طريق الشام الحيوي، مما دفع قريشاً للكتابة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلبون إليه إلغاء هذا الشرط.
رابعاً: أعطت وثيقة الصلح الحق لأي قبيلة من قبائل العرب أن تتحالف مع
أي طرف من أطراف الصلح؛ فدخلت (خزاعة) في عهد الرسول وعقده، ودخلت
(بنو بكر) في عهد قريش وعقدهم، وقد كان لهذا التحالف دوره في نقض العهد
وفتح مكة فيما بعد.
ومن هذه الجزئية في شروط عقد الصلح يمكن إدراك أهمية وضرورة أن لا
يَحُدّ الصلح مع العدو من إمكانية تكوين الأحلاف؛ لأن ذلك من أساسيات الاستقلال
السياسي، فإن أي صلح ينقص من هذا الحق أو يمنعه أي: يمنع حرية التصرف
من عقد المعاهدات مع الآخرين أو تحديد إطار من التعامل يحدده العدو إنما هو
انتقاص لحرية وكرامة الأمة، ويعتبر استسلاماً وتسليماً للعدو، فهذا صلح لا يجوز
في عرف وقواعد الإسلام؛ فعندما تحتوي بنود المعاهدات على فقرات تمس حرية
الحركة والتصرف، أو الحد من السيادة، كما حدث في اتفاقيات المصالحة في
(كامب ديفيد) و (غزة وأريحا) والصلح مع الأردن التي سعت إلى تقليص وإضعاف
سيادة الدول والجماعات التي وقع اليهود معها الصلح.
ولقد بليت الأمة في هذا الزمن برجال مهمتهم قلب الحقائق وتفسير التاريخ
وأحداثه ليواكب الرغبات والأهواء، فبرز رجال يَدّعون العلم والمعرفة أخذوا
يفسرون أحداث السيرة النبوية لتتناسب ورغبات القادة الذين أسلموا أمورهم إلى
أعدائهم، وتولوا تطبيع الأمة وفق ما يشتهي أعداؤها.
لقد استدل بعض الناس على مشروعية الصلح مع اليهود المغتصبين لأرض
فلسطين، بأن هذا الصلح مع اليهود سوف يقلل ويخفف من الأذى الذي يقع من
أعدائهم اليهود والنصارى بحقن دماء المسلمين في فلسطين، وحفظاً لدماء المسلمين
في بقية الدول العربية، لأن واقع الأمة لا يسمح لها بالمقاومة واستعادة حقوقها! !، وأن إدراك بعض الشيء أفضل من فقدان الكل، وتجربة العرب في عدم الصلح
مع العدو منذ قيام دولة اليهود في فلسطين لم تسفر إلا عن مزيد من الهزائم وفقدان
السيادة على كل فلسطين، وأن المقاومة لم تجد، بل أدت إلى قتل وتشريد مئات
الآلاف من العرب المسلمين، وأن الصلح مع اليهود سوف يوقف هذا الضرر، وأن
صلح الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع مشركي مكة يقدم السند الشرعي! ! الذي
يجيز التصالح مع العدو ...
وتنبع هذا المقولة من الهزيمة النفسية التي أصيبت بها الأمة والتشرذم الذي
قسّم بلاد العرب والمسلمين إلى دويلات تبنت أفكاراً ومنهاج وسياسات ومبادئ
عقائدية تصادم الأصول الإسلامية، بل وتحاربها، وما تلى ذلك من إعلام رسّخ في
عقل الأمة الخوف وحب الحياة مع قلب الحقائق والعمل على مسخ الفكر وغرس
الاستكانة والرعب في القلوب بدلاً من غرس حب الشهادة والاستشهاد وتحمل
الشدائد والتضحية والفداء في سبيل نصرة الإسلام بدعوة الناس إليه والعمل على
تطبيقه في واقع الناس.
صلح الحديبية بين الاستدلال والانتحال:
إن الاستدلال بـ (صلح الحديبية) على جواز الصلح مع اليهود والتسليم
بشرعية وجود دولتهم على أرض المسلمين والتمكين لهم بالغزو الثقافي والاقتصادي: أمر لا يتفق مع حقيقة صلح الحديبية، ولا الغايات التي هدف إليها كما أثبت ذلك
التاريخ، بجانب أن الواقع العسكري والتفاوضي يغاير جميع المقاييس للواقع
المعاصر الذي يستدل بصلح الحديبية بوصفه دليلاً شرعياً لإجازة الصلح مع أعداء
الله اليهود، وذلك للأمور التالية:
أولاً: أن واقع الصلح مع مشركي قريش يختلف عن واقع الصلح مع اليهود،
فالنبي قد خرج من مكة إلى المدينة من أجل إيجاد الكينونة للمجتمع المسلم، لينطلق
منها إلى بقية جزيرة العرب، وذلك من أجل العمل على إعادة العرب إلى دين
إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكان -
صلى الله عليه وسلم- بعد فترة قصيرة من استقراره في المدينة استطاع أن يفرض
وجود المجتمع المسلم، فقد مكّن الله له في جزيرة العرب، وألحق بقريش هزائم
متعددة، وانتصر على التحالف بين مشركي قريش والعرب واليهود الذين أوقدوا
حرب الأحزاب، التي انتهت بهزيمة قريش وبقية القبائل العربية المتحالفة معها من
جهة، والقضاء على يهود المدينة قضاءً مبرماً من جهة أخرى، فالصلح تم بعد
انتصار المسلمين والاعتراف بهم باعتبارهم قوة كبرى في الجزيرة العربية.
ثانياً: لقد أوضح الرسول -صلى الله عليه وسلم- النتائج العملية للصلح مع
مشركي قريش، وأن هذا الصلح كان فتحاً للمسلمين بعد أن توهم بعض المسلمين
أن صلح الحديبية لم يكن فتحاً لعدم تحقق الغاية المعلنة وهي الطواف بالكعبة وذبح
الهدي في مكة، ثم نزلت سورة الفتح وهم في طريق العودة [إنا فتحنا لك فتحا
مبينا] [الفتح: 1] وقال عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: لقد أنزلت عليّ
الليلة سورة لهيَ أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، وقال رجل: يا رسول الله،
أفتح هو؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح [2] ، فانقلبت كآبة المسلمين
وحزنهم إلى فرح ورضا، وطابت نفوسهم بذلك.
إن مما يحز في النفس أن واقع ما أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-
من الفتح للمسلمين هو ما حصل لليهود في هذا العصر، فالعرب المسلمون هم الذين
يسعون إلى الصلح خوفاً من الحرب، ويعلنون في وسائل إعلامهم تلك الخدعة
الكبرى دعوى الأرض مقابل السلام! ! هذه الكلمة التي تحمل معاني كثيرة، ومن
تلك المعاني: إعطاء الأرض مقابل الأمان، أي: التسليم لليهود بفلسطين أو بجزء
منها مقابل أن يترك اليهود العرب في أمان! ؛ يأكلون كما تأكل الأنعام بعد أن
هزموا في جميع معاركهم التي أشعلت مع اليهود مباشرة أو غير مباشرة بقيادة
رجال يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة.
ثالثاً: من عجيب الأمر أن يتم الاستدلال بصلح كان غايته التمكين للمسلمين
بصورة أو بأخرى من دخول دار المشركين (مكة حينئذ) ، على شرعية معاهدات
غايتها التمكين لليهود بكل الصور في ديار المسلمين.
إن صلح الحديبية تم بدون تفريط في الأرض المسلمة وبدون إعطاء حق
للمشركين في أرض المسلمين، وإنما هو توقيف للحرب فترة معينة، أما الصلح
الذي تم مع اليهود فهو صلح أعطى لليهود الشرعية باغتصاب أرض المسلمين
والسماح ليهود العالم بالتجمع فيها، فهو صلح يبيع المقدسات والأرض مقابل وقف
الحرب؛ لينعم أولئك الذين يرغبون في الحياة الدنيا وزينتها في ظل السيطرة
اليهودية النصرانية، بل إن هذا الصلح فرض على العرب المسلمين المساهمة في
تنمية القدرة الاقتصادية اليهودية والتمكين لدولة اليهود بتوسيع رقعتها الاقتصادية:
من خلال فرض الإتاوة اليهودية بالمساهمة فيما يعرف بتنمية الأراضي المحتلة من
خلال ميزانية الدولة اليهودية، والمساهمة في إنشاء بنك للتنمية للشرق الأوسط
تحت زعامة وقيادة اليهود على أن يشارك في أمواله العرب أغنياؤهم وفقراؤهم.
رابعاً: أن صلح الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يمنع المسلمين من
التحرك العسكري وبسط النفوذ، بل إن الصلح كان وسيلة للقضاء على التحالفات
السابقة مع قريش حتى يمكن إضعاف قدرة قريش على المقاومة، ولهذا: فإنه في
أقل من شهر من عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة شن حربه على
اليهود في خيبر (حلفاء قريش في معركة الخندق الأحزاب) ، وقد كانت نتيجة
معركته مع اليهود أن حقق الرسول -صلى الله عليه وسلم- السيطرة الكاملة على
المناطق الشمالية للمدينة، وبالتالي: حقق الأمان للمدينة.
أما الصلح مع اليهود: فقد قيد العرب من العمل على تحقيق القوة العسكرية
بمنع التطوير العسكري؛ وذلك بالعمل على حظر بيع الأسلحة للدول الإسلامية،
وإذا تم بيع معدات حربية فهي ضمن حدود السيطرة النصرانية، ومن ثم: فإن
الأجنبي هو المتحكم في تشغيلها وصيانتها وتأمين قطع الغيار لها، ولا يسمح بوجود
صناعات محلية تؤمن حتى الذخائر وقطع الغيار لهذه الأسلحة، وبالتالي: فإن بيع
الأسلحة للدول العربية والإسلامية ينحصر في نوع الأسلحة الدفاعية المتخلفة بدون
تحقيق تقدم صناعي حربي لهذه الدول، بل إن اقتناءها يُحَمّل الاقتصاد الإسلامي
والعربي أعباءً كبيرة وإهداراً للقدرات المالية المسلمة، بدلاً من أن يكون تنمية
للقدرات الدفاعية المسلمة مرتبطاً بالتنمية الصناعية وبالاستغناء عن الدول
النصرانية، وفي الجهة المقابلة: فإن اليهود يحصلون على جميع أسلحة الدمار
الشامل ووسائل التقدم التقني؛ فعقود التطوير للأسلحة بمختلف أنواعها قائمة، بل
إن دولة العدو اليهودي أصبحت من الدول المصدرة للتقنية العسكرية المتقدمة،
بجانب ذلك: فإن الصلح أعطى لليهود حرية جلب اليهود من مختلف أنحاء العالم
وتقوية الروابط السياسية والاقتصادية مع مختلف الدول، مما سوف يوسع قاعدة
نفوذ العدو اليهودي، ويقلل من قدرة العرب والمسلمين على اختراق النفوذ اليهودي.
خامساً: أن صلح الحديبية لم يقيد الأمة بشن الحرب على قريش من أولئك
المستضعفين الذين كانت قريش تحول دون إظهارهم للإسلام؛ فقد كان من شروط
الصلح أن المسلمين يردون من قدم عليهم مسلماً ولا ترد قريش من جاءها مرتداً،
وقد كان تعليل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبول هذا الشرط: أن من ذهب
منا إليهم: فأبعده الله، وليس منا بل هو أولى بهم، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم:
فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً، فلم يكن هذا الشرط مانعاً للمسلمين من البحث عن
مخرج، وبالتالي: منع القوى المعارضة لهذا الشرط من نقضه، فقد بدأت المقاومة
لهذا الشرط حينما قدم أبو بصير إلى المدينة هارباً من قريش، ووفق شروط الصلح
رده الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش، لكنه استخلص نفسه منهم بقتل
أحد الحارسين له خلال أخذهم له إلى مكة، وكوّن مجموعة أخذت تقطع طرق عير
قريش، بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما استخلص أبو بصير نفسه
منهم وخرج من المدينة بموجب توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال تلك
العبارة المشجعة: ويل أمه! مسعر حرب لو كان له أحد [3] وهي كناية عن قوة
هذا الرجل وإشعار للمسلمين بضرورة مساعدته واللحاق به، مما اضطر قريشاً إلى
الطلب من الرسول إلغاء هذا الشرط.
أما الصلح الحالي؛ فإن من أهم شروطه: العمل على تأمين وتحقيق الأمان
لليهود ومحاربة كل من يسعى إلى حرب اليهود، وبالأخص من يسعى إلى إعلان
الجهاد ومحاربة اليهود على أساس عقدي.
__________
(1) انظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص491، 496، والسيرة النبوية الصحيحة ج2 ص451، 452.
(2) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود مع معالم السنن ج3، ص174، والإمام أحمد: 3/420، وعند مسلم أن الرجل الذي سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ؛ مسلم ح/1785، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية.
(3) البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح/2731، 2732 وانظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص491، 496، والسيرة النبوية الصحيحة ج2، ص451، 452.(88/14)
دراسات تربوية قرآنية
صور من لبس الحق بالباطل
(3)
عبد العزيز بن ناصر الجليل
مدخل:
بعد بيان معنى اللبس والتلبيس وأنه إلباس الهوى والشهوة لبوساً شرعياً
بتحريف الأدلة أو كتا، ثم بيان الأسباب التي تؤدي إلى لبس الحق بالباطل والمؤدية
بدورها إلى الضلال والإضلال، نذكر هنا بعضاً من صور اللبس والتضليل، وذلك
لنحذر من الوقوع فيها بأنفسنا، ونحذر إخواننا المسلمين من الوقوع فيها والانخداع
بها، ولم أراع في ترتيبها الأهمية، لكن حسب ما عنّ في الخاطر، أسأله (سبحانه)
التوفيق والسداد في القول والعمل، ومن هذه الصور ما يلي:
1- الاحتجاج على شرعية الأنظمة المبدلة لشرع الله والمستحلة لما حرم الله بآثار عن السلف (رضي الله عنهم) أنه: كفر دون كفر:
وهذا، والله تحريف للأدلة عن مواضعها، وإنزال الحكم في غير محله، وافتراء وتجن على سلفنا الصالح وخير القرون في هذه الأمة، فما كانوا عن عصرنا يتحدثون ولا أنظمته المبدلة لشرع الله يقصدون، فالله المستعان، ومن أحسن ما رأيت من الردود على هذا التلبيس ما كتبه الشيخ أحمد شاكر (رحمه الله) ، ومما قاله: وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب به المضللون في عصرنا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين، يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الوضعية التي ضربت على بلاد المسلمين [1] .
فاللهم إنا نبرأ من هذا اللبس ونبرئ صحابة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- والتابعين لهم بإحسان من هذا التلبيس وهذه المغالطات، وإنه لا أحد ينزل
قول ابن عباس (رضي الله عنه) أو غيره من السلف على المبدلين لشرع الله في
زماننا هذا إلا رجل سيطر عليه الجهل بالواقع فلا يعلم ما يدور من حوله، أو رجل
منافق ملبس يعلم واقعه وعدم مشابهته للواقع الذي كان يتحدث عنه ابن عباس
(رضي الله عنه) ، ولكنه يغالط ويخلط الحق بالباطل اتباعاً للهوى وطمعاً في دنيا
يصيبها؛ فإنه لم يحدث قط في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة
يتحاكم إليها الناس.
2- الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، والرضى بالذل والمهانة:
وهذه الصورة من صور اللبس والمغالطة ليس القصد من إيرادها هنا الرد على المحتجين بالقدر على ضلالهم ومعاصيهم، وإنما المقصود التنبيه على أن من يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه إنما هو مغالط وملبس ومدلس، وموضوع الرد على المحتجين بالقدر موجود في مظانّه من كتب العقيدة الصحيحة لدى سلفنا (أهل السنة والجماعة) ، مثل: العقيدة الواسطية، ومعارج القبول، والعقيدة الطحاوية.. إلخ، والمراد هنا: كشف اللبس الحاصل بين الحق والباطل في هذه المسألة، حيث إن المحتج بالقدر على فعل المعاصي والإصرار عليها قد وقع في لبس عظيم، ويعلم هو بنفسه أن احتجاجه ليس في محله، وإنما أورده لتبرير شهوته وضعفه بدليل أنه في أمور الدنيا وكسبها لا نجده يقعد محتجاً بالقدر، وأن الله (سبحانه) كتب عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج، بل إنا نجده يسعى ويفعل الأسباب الممكنة لدفع كل ذلك، فلماذا لا يوجد هذا الدفع أيضاً في أمور الدين وأمور الآخرة فيسعى للآخرة سعيها، ويأخذ بأسباب الهداية وأسباب النجاة من النار، وهي ميسرة لمن أرادها؟ ! ، لماذا هو جبري في أمور الدين والآخرة، وقدري في أمور الدنيا؟ .
وقريب من الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي والرضى بالواقع أولئك
الذين يتجرؤون على فعل المعاصي اعتماداً على رحمة الله (سبحانه) ، نعم إن الله
غفور رحيم، ولكن ليس مقتضى هذه الرحمة أن يتجرأ هذا الملبس على المعصية،
وإنما المقصود منها: فتح باب التوبة والرحمة لمن وقع فيها وانتهى وندم، فيقال له: لا تيأس؛ فإن الله غفور رحيم.
3- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله
خوف الابتلاء وتعريض النفس للفتن:
هناك من يترك الأمر والنهي عجزاً وكسلاً وجبناً وبخلاً، لكن لا يريد أن يعترف بهذه الصفات الذميمة، فبدلاً من الاعتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية، منها: الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد، معتمداً على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والضوابط الشرعية في ذلك، فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على النفس وعلى الناس في أن النكول عن الأمر والنهي قد تم من منطلق شرعي وضوابط شرعية، والأمر في حقيقته ليس كذلك، وإنما هو الخوف والجبن وإيثار السلامة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله (عز وجل) ؛ يقول الإمام ابن تيمية (رحمه الله) : ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة: صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال [تعالى] عن المنافقين: [ومنهم من يقول: ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا] [التوبة: 49] [2] . ...
فلا يصح لقائل أن يقول أنه يجب الابتعاد في الدعوة إلى الله (سبحانه) عن
كل ما من شأنه أن يجر على الداعية الأذى والمحن! ، إن صاحب هذا القول قد
نسي أو تناسى سنة الله (عز وجل) في الصراع بين الحق والباطل، وسنته
(سبحانه) في الابتلاء والتمحيص؛ قال (تعالى) : [ومن الناس من يقول آمنا بالله
فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله، ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا
كنا معكم، أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين* وليعلمن الله الذين آمنوا
وليعلمن المنافقين] [العنكبوت: 10، 11] .
نعم إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم، بدليل عدم
الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ولو كان قليلاً، وإنما مادام الأمن
والسلامة والراحة فهو نشيط ومتحرك، فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء
والتمحيص آثر السلامة والراحة، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد.
ولا يعني ما سبق من الكلام أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء، كلا،
فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلاء، كما لا يفهم منه أيضاً الدعوة إلى
التهور والطيش معاذ الله، فلابد من وجود المنطلقات الشرعية في كل التصرفات،
لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله (سبحانه) في ابتلاء المؤمنين، وأن نوطن
أنفسنا على هذه الأمور، لأنه لابد منها لكل من ادعى الإيمان وتصدّر للدعوة
والجهاد، ولابد منها ليتميز الخبيث من الطيب، ولابد منها لتمحيص القلوب
والصفوف، ولو قلبنا تاريخ الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وتاريخ الدعاة
والمصلحين لرأينا ذلك المعلَم ظاهراً وقاسماً مشتركاً عندهم جميعاً.
وقريب من هؤلاء أولئك الذين يبررون كسلهم وحبهم للراحة وضعف همتهم
بالتواضع البارد والزهد في المسؤولية، لأنه يعرف أن الدعوة إلى الله (سبحانه) لا
يعرف صاحبها الراحة، وتحتاج إلى همة عالية، لكنه عوضاً من أن يعترف
بضعفه هذا، فإنه يغالط نفسه وغيره، ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا الضعف على
الخوف من المسؤولية واحتقار النفس، وأن هناك من هو أولى وأتقى وأفضل..
إلخ.
4- المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة
والتسامح ومصلحة الأمة:
إن الخلط بين المداراة والمداهنة، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح، كل ذلك ينتج عنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة.
وإيضاحاً لهذا الأمر: أنقل كلاماً لأهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة
والمداهنة ومسألة الولاء والتسامح.
قال البخاري (رحمه الله) في باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم، وعن عائشة (رضي الله عنها) أنه
استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة
أو بئس أخو العشيرة فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلت ثم
ألنت له في القول، فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله مَن تَركه أو
ودعه الناس اتقاء فحشه [3] .
ويعلق ابن حجر (رحمه الله) على حديث عائشة بقوله: قال ابن بطال:
المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ
في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة
فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من
الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة
الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق
بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا
يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك [4] .
ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة، وأنهما ضدان لا يجتمعان،
إذ إن المداراة صفة مدح وهي لأهل الإيمان، بينما المداهنة صفة ذم وهي لأهل
النفاق، فهل بقي بعد هذا البيان مجال للالتباس في هذا الأمر؟ ! .
ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق وأهل المعاصي من
المسلمين فحسب، وإنما الأخطر من ذلك هو: مداهنة الكفار بمشاربهم المختلفة
تحت غطاء المداراة ومصلحة الأمة، حتى اهتز جانب الولاء والبراء الذي هو
الركن الركين في عقيدة التوحيد وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله يضعف، بل اهتز
عند بعضهم، والسبب في ذلك: الجهل بحقيقة المداراة والمداهنة، أو المغالطة
فيهما عن علم وهوى.
5- الانفتاح على الدنيا والركون إليها، بحجة التعفف عن الناس وإنفاق المال في وجوه الخير:
وفي هذه الصورة مدخل خفي للشيطان يتسرب منه إلى نفس الإنسان، يبلغ اللبس في هذا الأمر من الخفاء بحيث لا يفطن له إلا المجاهد لنفسه، المفتش لقلبه، الحذر الخائف من الدنيا وغرورها، ومكمن اللبس هنا في أن التعفف عن الناس أمر مطلوب، ويحث عليه الشرع في أكثرمن آية وحديث، وكذلك الإنفاق في سبيل الله وبذل المال في أوجه البر المختلفة، كل هذا حق لا ريب فيه، لكن الشيطان لا يألو جهداً في إغواء بني آدم وجرهم إلى حزبه خطوة خطوة، ولهذا: فهو يبدأ مع الإنسان ليجره إلى الدنيا وغرورها من باب التعفف عن الناس، ومساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف.. إلخ، ثم بعد ذلك، وبعد إشغاله بالمال وطرق جمعه ومشاكله وشبهاته نبحث عن صاحبنا الذي كنا نراه في لقاءات الخير والدعوة إلى الله (سبحانه) فلا نراه إلا قليلاً، وهكذا، حتى ينفتح على الدنيا، ويركن إليها، ويضع له الشيطان في كل وادٍ من أوديتها شغلاً وهماً يتشعب فيهما الفكر، ويتشتت فيهما الذهن ويتحول المال المكتسب إلى استثمارات جديدة وتوسع في المباحات وإسراف في المآكل والمراكب والمساكن، وقد كان الهدف في البداية هو التعفف والإسهام في وجوه الخير والبر، والغريب في الأمر أن هذا المغالط عندما يذكّر بالآيات التي تحذّر من الدنيا، وسرعة زوالها، وخطر الركون إليها، فإنه بدلاً من أن يشعر بالخطر ويسعى لتدارك الأمر؛ فإنا نجده يصر على المغالطة واللبس، ويقول: إن التعفف عن الناس مطلوب، ولابد للداعية أن يكون له مصدر يستغني به عن الناس وينفع به دعوته، ويساهم في الخير، وهو يعلم أن ليس هذا قصده، وإنما أراد تغطية حبه للدنيا والركون إليها بهذا الغطاء الشرعي الذي لم يراع الضوابط الشرعية فيه.
وقد يقول قائل: إذن، ما العمل في مثل هذه الحالة وبخاصة لمن أراد صادقاً
أن يتعفف عن الناس وأن ينفع دعوته بالمال؟
والجواب لا أملكه، لأنها معادلة صعبة يختلف حلها من شخص لآخر، ويكفي
في حلها أن يعلم الله (سبحانه) من أنفسنا أننا نريد التعفف والبذل بصدق في سبيل
الله (سبحانه) ، فعندئذ يحمينا برحمته من الدنيا وزخرفها، ويخرجها من قلوبنا لتبقى
في أيدينا، وكل إنسان على نفسه بصيرة.
6- الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع:
إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد، وصدق الله العظيم: [ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاْ عظيماً] [النساء: 27] . ...
ومن رحمة الله (عز وجل) أنه لم يكل مصالح العباد إلى أهواء البشر
وشهواتهم، بل وضع (سبحانه) شريعة كاملة مبرأة من الجهل والهوى، ومبرأة من
النقص والقصور، لأن مصدرها منه (سبحانه) الذي له الأسماء الحسنى والصفات
العلا، ولو أن تقرير مصالح العباد كان في أيدي البشر لحصل من ذلك شر وفساد
كبير، وذلك لما عليه البشر من الجهل والنقص والهوى والشهوة، وهذا مشاهد في
الواقع؛ فالمجتمعات التي لا يحكمها شرع الله (سبحانه) وتحكمها أنظمة البشر
وقوانينهم نرى فيها من الفساد والشرور والظلم والاستعباد والضنك والضيق ما تعج
منه الأرض والسماوات، وتبرأ منه الوحوش في البريات، وصدق الله العظيم:
[ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، بل أتيناهم بذكرهم
فهم عن ذكرهم معرضون] [المؤمنون: 71]
إن الذين يتشدقون بالتيسير ويغالطون به بغير علم ولا هدى من الله (سبحانه) ، لو كان الأمر بأهوائهم لعطلوا كثيراً من أحكام الشريعة التي قد يُظَن فيها المشقة
والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين، فالله (سبحانه) الرحيم بعباده، هو
الذي يعلم ما يصلح شؤونهم، وييسر أمورهم، ويعلم ما يشق عليهم وما لا يشق،
إنه حكيم عليم.
7- التشهير بالدعاة والمصلحين واغتيابهم بحجة النصيحة
والتحذير من الأخطاء:
عن أبي برزة الأسلمي، والبراء بن عازب (رضي الله عنهما) ، قالا:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان
قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم،
تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته [5] .
والمقصود من إيراد هذه الصورة هو الحذر من تزيين الشيطان وتلبيسه في
إظهار الغيبة أو النميمة أو التشهير في قالب النصيحة، والتحذير من الأخطاء
والغيرة على دين الله وتعظيم حرمات الله (عز وجل) ، إن هذا هو الخطير في الأمر: إذ لو أن الواقع في الغيبة أو النميمة أقر بذنبه، واعترف بتقصيره، واستغفر
ذنبه لكان الأمر أهون، أما أن يكابر ويلبس على نفسه وعلى الناس بأن قصده
النصيحة للأمة وتحذيرها من الأخطاء، وهو يعلم من نفسه غير ذلك من التشفي أو
الحسد أو التهوين من شأن من وقع منه الخطأ وتنفير الناس عنه، فكل ذلك من
المغالطة وتلبيس الشيطان وتزيينه؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) :
ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول:
ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم
بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت، وربما
يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه، وهضماً لجنابه،
ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون
مخلوقاً، وقد رأينا فيهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، إلى أن قال: وربما يذكره
عند أعدائه ليتشفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله
ولخلقه، ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا
الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان [6] .
فلا مدخل لملبّس ومغالط في إظهار حقده وتشفيه وحميته لنفسه في قالب
النصح والديانة، وكل إنسان أدرى بنفسه وقصده.
ولكن يبقى هناك بعض القرائن التي تكشف هذا اللبس والخداع في نفس
المدعي للنصح والديانة، منها:
1- التشهير والتعيير بالمنصوح، خاصة إذا كان من المصلحين وأهل العلم.
2- الظلم، وعدم الإنصاف مع المنصوح، وبخسه حقه، وإخفاء خيره
وحسناته.
3- عدم التثبت، والأخذ بالشائعات، وتصيد الأخطاء والفرح بها.
4- تغليب سوء الظن، وتفسير المقاصد بدون دليل وبرهان.
5- أن يكون قد عرف عنه الكذب وقلة الورع.
6- المداهنة للظالمين والركون إليهم.
8- التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها
الكيد للدين وأهله:
إن من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع، فلا ترى الحق بصورته المضيئةولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة إليه، وباطنها الكيد والمكر والخداع، ويحصل من جراء ذلك: أن يُخدع كثير من ... المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويثنون على أهلها بدلاً من فضحها وكشف ... عوارها وتعرية باطلها، وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، يقول ابن القيم (رحمه الله) : فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو ... أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ ... في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر (رضي الله عنه) ، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله [7] .
وقد قص الله (سبحانه) علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا
خداع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين برفع لافتة إسلامية
على صرح من صروح النفاق، لكن الله (عز وجل) فضحهم وفضح لافتتهم وعرّى
باطلهم، ليكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم، وعبر التاريخ الطويل لمن يأتي بعدهم
ممن يرفع لافتة إسلامية يخفي وراءها خبثه ومكره، ويكيد بها المسلمين في أي
زمان ومكان، وهذه القصة ذكرها الله (سبحانه) في سورة التوبة بما يعرف بمسجد
الضرار، حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، قال (سبحانه) : [والذين
اتخذوا مسجداْ ضراراْ وكفراْ وتفريقاْ بين المؤمنين وإرصاداْ لمن حارب الله ورسوله
من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبداْ.
لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن
يتطهروا، والله يحب المطهرين] [التوبة: 107108] ، واللافتات المرفوعة اليوم
كثيرة وماكرة، أقتصر منها على بعض الأمثلة:
ما يرفعه الذين بدلوا شرع الله (عز وجل) ورفضوا التحاكم إليه في بلادهم
من لافتات يخدعون بها شعوبهم المسلمة، مثل إقامة الذكرى السنوية لإحراق
المسجد الأقصى المبارك، فترى هؤلاء المجرمين الخائنين لله (سبحانه) ورسوله -
صلى الله عليه وسلم- يخدعون المسلمين بإحياء ذكرى حرق المسجد الأقصى كأنهم
يهتمون بالمسلمين ومقدساتهم، وهم قد خانوا الله (سبحانه) من قبل بتنحية شريعته
واستحلال محرماته، وخانوا أمتهم بعد ذلك بالتذلل لليهود والنصارى، وما أصدق
ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري (رحمه الله) في محاضرة له مسجلة: إن
إحراق المسجد الأقصى بل إحراق مساجد الدنيا كلها ليس أعظم جرماً من الاعتداء
على شرع الله وحكمه وسلطانه في الأرض من قبل الأنظمة التي تتباكى على
الأقصى وإحراقه.
__________
(1) عمدة التفسير، ج4، ص156158.
(2) مجموع الفتاوى، ج28، ص168.
(3) البخاري، كتاب الأدب، وانظر: فتح الباري، ج10، ص528.
(4) فتح الباري، ج10، ص28.
(5) رواه الترمذي وأبو داود، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5044) .
(6) مجموع الفتاوى، ج28، ص237238.
(7) الفوائد، ص109.(88/23)
خواطر في الدعوة
وإخوانهم يمدونهم في الغي
(2)
محمد العبدة
ماذا نسمي الذين يريدون إبعاد الأمة عن هويتها وحضارتها، وعن عزها
ومقوماتها، بل الذين يريدون اقتلاعها من جذورها لتقع فريسة لأعدائها، أو لأمشاج
مختلطة من الزيف والانحطاط الفكري والأخلاقي، إنهم يسمون أنفسهم بأسماء شتى: الحداثيين، التنويريين، العلمانيين ولكن اسمهم الحقيقي المنافقون؛ لأنهم
يتظاهرون بالإصلاح وهم مفسدون (ولكن لا يشعرون) ويتظاهرون بالثقافة (ولكنهم
لا يعلمون) ، هؤلاءالذين يبصبصون عندما يرون أسيادهم، فيقولون مثل قولهم،
فإذا قال أسيادهم: إن الصحوة الإسلامية سببها المشاكل الاجتماعية والاقتصادية
التي تعاني منها بعض الدول: رددوا أقوالهم، وطالبوا بدعم الدول المحاربة للإسلام
حتى ينحسر التدين أو ما يسمونه (الأصولية) وهذه شنشنة معروفة عند المستشرقين
الذين عاشوا في القرن الماضي، والذين يقولون (بسماجة عجيبة) : إن محمداً اتبعه
الفقراء، لأنه نادى بالإصلاح الاجتماعي، أي إنه استغل الظروف الاقتصادية
والاجتماعية ليجمع الناس على هذا الدين، ثم جاءت صحافة الغرب ليدندن كتابها
حول هذا الموضوع، وكثير منهم يتميز بالسطحية والخبث في معالجة شؤون
الإسلام، فيأتي المنافقون من بني جلدتنا ليرددوا أقوالهم، ولو أن فيهم مسكة من
عقل أو ذرة من إنصاف لعلموا أن الذين أسلموا مع محمد -صلى الله عليه وسلم-
كان فيهم التجار الأغنياء كأبي بكر، وعبد الرحمن ابن عوف، وعثمان بن عفان،
وفيهم الفقراء، وفيهم الأشراف والموالي، ولكن أنّي لمن لم يذق طعم الإيمان أن
يحس برابطة الدين، وفي هذا العصر نجد الذين أقبلوا على الالتزام بالإسلام
وحمايته ونصرته، فيهم التجار الأغنياء، والشباب الذين عاشوا في النعيم، وفيهم
أساتذة الجامعات، وكبار الموظفين، وفيهم القضاة، والكتاب، فهل كل هؤلاء
(صعاليك) عندهم مشاكل اقتصادية؟ ! .
إن هوية هذه الأمة: الإسلام، ولسانها: العربية، فمن يحارب هذا فلابد أن
يسمى باسمه الحقيقي؛ إنهم يخونون أمتهم وحضارتهم، يقول الصحابي الجليل
حذيفة بن اليمان: المنافقون الذين فيكم اليوم شرّ من المنافقين على عهد رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، قلنا: وكيف؟ ، قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، وهؤلاء أعلنوه [1] .
إننا لم نر أو نسمع في أمة معاصرة أن قام نفر من أهلها يطالبون بالانسلاخ
عن حضارتها ودينها وتقاليدها، ويحاربون ثقافة بلدهم أشد المحاربة، كما يفعل
هؤلاء الذين يعيشون بين أظهرنا؛ روى البخاري [2] عن ابن عباس قال: يا
معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب؟ ! ... ولا والله ما رأينا رجلاً منهم قط
يسألكم عن الذي أنزل إليكم، وإن في الغرب اليوم وبخاصة في أمريكا من يدعو
للعودة إلى الدين، يقول أحدهم: أرى أن تربية الأطفال اليوم لا تتم بشكل جيد،
أحبذ إدخال التربية الدينية إلى المناهج، ولكن يبدو أن علمانيينا (المنافقين) مازالوا
يعيشون في أجواء القرن التاسع عشر الأوروبي، حيث كانت موجة الإلحاد
والماركسية والوجودية، ولم يسمعوا بما يجري في نهاية القرن العشرين، أو لا
يحبون أن يسمعوا.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص28.
(2) البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يسأل أهل الشرك ج3 ص163.(88/34)
مقال
مسلماتنا بين الثابت والمتحول
عبد العزيز كامل
من تناقضاتنا التي نعيشها اليوم نحن المسلمين أننا أصبحنا من حين لآخر
نفاجأ بمقولات أو آراء، أو مواقف تهجم علينا كالصاعقة أو الصدمة المذهلة
المحيّرة، التي تحتاج لمجرد الإفاقة من وقعها وقتاً للعودة إلى التوازن، وما ذلك إلا
لأنها تضرب فينا عصباً مكشوفاً، أو وتراً حساساً، أو شعوراً مستقراً.
إنها كالماء الشديد البرودة الذي ينهمر على جسدك في زمهرير الشتاء، إذا
فتحت خطأ صنبور الماء البارد بعد أن استكان الجسم واستروح لذة الدفء.
لسنا نقصد هنا صدمات ومفاجآت المتلونين من العلمانيين على اختلاف
توجهاتهم وتقلباتهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فهؤلاء لا يستغرب منهم
ذلك، لأنهم لا ثوابت لديهم! ، ولا أصول ولا عقائد مستقرة لهم، وإنما همنا
وحديثنا عن تلك الظاهرة الطارئة الدخيلة علينا نحن الإسلاميين، التي سببتها كثرة
التناقضات الفكرية، والمشاحنات الحزبية، وكذلك ما انبنى عليها من آراء
استفزازية وردود كيدية، وأيضاً ما كثر أخيراً من الآراء السياسية، انتهازية كانت
أو اضطرارية أو إرضائية.
لن نقف طويلاً للإسهاب في استعراض بعض هذه الصدمات والصعقات
والكدمات، ولكن تكفينا إطلالة سريعة على العديد من قضايانا الأساسية والمحورية
لنتفقد ما أصاب ثوابتها من دخن، وما اعتراها من دخل، اهتزت له قناعات،
وخفقت وخمدت بسببه أصوات وحركات.
* خذ مثلاً: قضية الصراع مع العدو اليهودي، أو ما أطلق عليه إعلامياً:
(الصراع العربي الإسرائيلي) ، تلك القضية التي لن نلوم على التفريط فيها
عصابات العلمانيين بعد أن رفعوها ثم أنزلوها ثم دفنوها، لن نلومهم لأنهم ليسوا لها
ولا أهلها، إنما نتحير من ذلك التغير الذي بدأ يعتري ثوابتها لدينا نحن الإسلاميين!، كم هي الثوابت التي كانت حتى عهد قريب مستقرة لدينا، مستعصية على أي
محاولة للالتفاف أو الالتفات أو التزييف، استعرض بذاكرتك هذه الثوابت فهي
معروفة وتأمل فيما طرأ عليها وهو معروف أيضاً فستجد أن كل قائم ثابت من تلك
الثوابت قد أصيب بسهم غرر من إحدى كناناتنا، أو بصاروخ من إحدى قواعدنا.
أين نحن الآن من وضع اليهود على رأس قائمة الأعداء، واعتبارهم أهل
حرب دائمة وشاملة، وتحريم السلام الدائم الشامل معهم، وعدم إقرارهم على أي
جزء من أرض المسلمين، ووجوب نصرة المجاهدين الفلسطينيين ضدهم، وتحريم
الهجرة الجماعية لإخلاء الأرض أمامهم، أين نحن من تحريم وتجريم الاعتراف
بدولتهم وتخوين الاتصال بقادتهم.. دقق النظر في كل تلك الثوابت، تجد أنها كلها
أو جلها قد قيل فيها قولان! ! ، أو انتطح فيها عنزان، أو اختلف فيها نظران.
* وإذا أردت مثالاً آخر لقضية ما كان لنا أن نُخضع ثوابتها لرياح الاختلاف؛ فأمامك قضية تحكيم الشريعة في حياة المسلمين، والموقف من المناوئين لها،
المحاربين لأهلها، والمصرين على الحكم بغيرها.. انظر كيف تطرق الاختلاف
إلى ثوابت كثيرة فيها ابتداء من اعتبارها قضية من قضايا الأصول المرتبطة
بالاعتقاد، ومروراً بضرورة جمع الجهود والقلوب حولها ومعاداة من يجاهر بحربها، بقوله أو فعله.
أليس من العجيب والغريب أن تصدر العديد من الإصدارات لتقرير شرعية
الأنظمة المبدلة للشريعة.
ماذا بقي من الثوابت لدينا في هذه القضية، بعد أن أصبح منا من يردد
دعاوى الإرجاف الإعلامي العلماني، ولا يتورع عن ترديد الأوصاف التي ابتكرها
لازدراء العاملين لنصرة دين الله من قبيل: (التعصب التطرف الارهاب التشدد) ؟!.
* سأعطيك مثالاً ثالثاً: كان من الثوابت حتى عهد قريب، ما يشبه الإجماع
بين فصائل الإسلاميين على أن نصرة المستضعفين من المسلمين في كل مكان
واجب بالنفس والمال، وأن تبني قضاياهم ومراقبتها وطرحها وكسب الأنصار لها
من أعظم واجبات الدين وأوثق عرى الإيمان.
انظر الآن، كيف أصبح هذا في نظر بعضهم، نوعاً من الاشتغال المحرم
بالسياسة، وضرباً من ضروب إلهاء الأمة، ولوناً من ألوان تدخل المرء فيما لا
يعنيه، والكلام عما يؤذيه، أو هو شكل من أشكال الشغب على الحكومات والهيئات
والمنظمات..!
بل أصبح من بعضهم من يصف كل جهاد مشروع للذود عن النفس والدين
والعرض، بأنه افتتاح للمزيد من المحارق، افتعالاً للمعارك، وإشعالاً للمهالك! !
سبحان الله! هل غدا الجهاد فريضة منسوخة أو منسوءة في كل البقاع، أو
سقطت فريضته مع سقوط الخلافة، فلا يقوم إلا معها؟ !
إنك إن أردت أن تعدد معي قضايا أخر كثيرة تعرضَتْ لمثل ما تعرضت له
أخواتها تلك لما عدمت الحيلة، ولا أعوزتك الوسيلة ... ويكفيك استعراض العناوين
الكبيرة لقضايانا مثل: (الولاء والبراء، وفرضية اجتماع المسلمين، والسعي لإعادة
كيانهم، وفرضية العمل لذلك فردياً، ومشروعيته جماعياً، وضرورة إنكار المنكر، والصدع بكلمة الحق ... إلخ) .
يكفيك استعراض تلك العناوين وغيرها، وتأمل ما شاب ثوابتها من اهتزاز،
لتشعر بحجم المشكلة وخطورة المسألة.
إنه لابد لنا من حماية ثوابتنا، والتنادي لإحكام السياج الواقي حولها حتى لا
نتيه مع الاختلافات أو نضيع في مفترق التناقضات، ولا مفر أمام العاملين في
الساحة الإسلامية من ضرورة وضع الأطر العامة في برامجهم التربوية لضمان الحد
الأدنى من الاتفاق عليها وتأمينها من عوادي التغيير والتحوير والتأويل.. ولعله
يتسنى في عدد قادم استعراض بعض الوسائل المعينة على ذلك (إن شاء الله) .(88/36)
من قضايا المنهج
لمحات في فن الحوار
الحلقة الثانية
[أساليب الحوار]
محمد محمد بدري
مدخل:
ذكر الأخ الكاتب في الحلقة الأولى أهمية وجود ضوابط للحوار، وذكر منها: السماع الكامل، وتجريد الأفكار، وترك المراء، والتغافر بين
المتحاورين، والصدق والوضوح في الفكرة والأسلوب، وضبط مسار الحوار
بالعلم والعدل، والمنطق العملي في الحوار، والوصول إلى هدف الحوار من
أقصر طريق وهو ما أطلق عليه: (الحجة الرأسية) .
وفي هذه الحلقة يتطرق الكاتب إلى أمر آخر في الموضوع، وهو (أساليب
الحوار) .
- البيان -
أساليب الحوار:
إذا كانت ضوابط الحوار تقرر الآداب والأخلاق التي يجب أن نلتزم بها في
كل حواراتنا، وتؤكد على هذه الآداب بإن.. فأساليب الحوار ترشدنا إلى كيف
نحقق ضوابط الحوار عبر مهارات نتدرب عليها وتكتيكات نمارسها في واقع
حواراتنا حتى لا تصل هذه الحوارات إلى طرق مسدودة أو تكون نتيجتها الوحيدة
هي زيادة الفرقة والتناحر..
ومن هذه الأساليب [1] :
(أ) الإعداد الجيد:
الإعداد الجيد للحوار: هو المقدمة العلمية لتمهيد الأرضيات الفكرية المشتركة
بين طرفي الحوار حتى تمر أفكارهم في اتجاهي الأخذ والعطاء دون اصطدامات
فكرية، أو كوارث عملية.
والإعداد الجيد يعني: إعداد المناخ العام للحوار، والإطار الواضح للتحاور،
من حيث: هدف الحوار، ونفسية المتحاورين، ونقاط التحاور.. ثم مراعاة ذلك
كله بدقة وحكمة قبل وأثناء وبعد الحوار:
1- هدف الحوار:
ربما لا يعرف بعضنا في أكثر حواراته إلا هدفاً واحداً هو سحق الآخر
وإفحامه بل وإذلاله وتلك كارثة حقيقة، فللحوار أهداف أخرى أهم وأنفع، منها:
- الحوار الاستكشافي: وهو يهدف إلى التعرف على أفكار الآخرين عن قرب، ومعرفة بواعث أعمالهم وحركاتهم، وهذا يتطلب إشعارهم بأن حوارنا معهم هو
تعبير عن حبنا لهم ورغبتنا في الانتفاع بخبراتهم والتفاعل معها والعمل من خلالها.
- الحوار التسكيني: وهو يهدف إلى تقليل هوة الخلاف مع الآخرين.. وهذا
يستوجب منا الصبر والتريث وتجاهل استفزازاتهم، بل والسماح باستفراغ كل
شحناتهم العاطفية دون ردود أفعال منا أثناء هذا التفريغ.. ثم إرساء بعض مبادئ
الحوار، وفي مقدمتها: أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
- الحوار التعاوني: وهو يهدف إلى الوصول لحلول لقضايا الخلاف بين
طرفي الخلاف، لتكون هذه الحلول مقدمة لتطوير علاقات التعاون بينهما، وتعميق
وتوسيع نطاق هذه العلاقات في مجالات جديدة.. وهذا يستلزم محاولة الوصول إلى
صيغة ترضي الآخرين عبر استقراء الخلفيات الفكرية والنفسية لهم.
- الحوار الحاسم: وهو يهدف إلى حسم الخلاف في الرأي بين طرفي الحوار
حول بعض القضايا، وتقريب خطوط الفكر بينهما إلى خط فكري واحد.. وهذا
يقتضي من المحاور عزةً في تواضع، وثباتاً على المبدأ في رفعه ولين، واستعلاء
بما يحمل من حق مع رحمة وشفقة بالآخرين.
2- نفسية المحاورين:
ترجع نسبة كبيرة من الحوارات الفاشلة إلى عدم معرفة المحاور للطرف
الآخر المقابل له معرفة دقيقة، لأن هذا الجهل يؤدي إلى سوء الفهم بكل تأثيراته
السلبية التي تصل إلى حد الانشقاق والفرقة! !
ومن هنا كانت المعرفة الدقيقة لنفسية الآخر وظروفه وبيئته واهتماماته
ومبرراته في التمسك بما يقول.. كل ذلك هو الطريق إلى تحديد الأسلوب المناسب
للتحاور معه، والمفتاح الصحيح لفتح قلبه والقرب منه وضبط أعصابه.
- النفسية اليائسة: وهي نفسية من تعرضوا لإحباطات مستمرة على طريق
العمل الإسلامي.. وأسلمتهم هذه الإحباطات إلى يأس مطلق من أي عمل، وهؤلاء
لا يتصورون عملاً يمكنه الوصول إلى التغيير للأفضل، بل ويكرهون من يحاول
القيام بأية محاولة إيجابية للتغيير، ويجدون متعتهم الحقيقية في رصد تجارب الفشل!!
ولا شك أن الحوار مع هؤلاء يتطلب الحذر الشديد لكي لا يضيع وقت الحوار
فيما لا ينفع، أو يدور التحاور دون الوصول إلى أعمال محددة تبنى على الحوار..
ومن هنا وجب على من يتحاور مع هذا الصنف من النفسيات أن يتحرى عدم
الخوض في أي أمر أو موقف من الأمور والمواقف التي سببت لهؤلاء إحباطاً في
يوم من الأيام، لأن هذه الأمور تستثير شهيتهم لترسيخ الإحباط واليأس.. وإنما
يكون التركيز في الحوار على ترسيخ اليقين بأن هناك دائماً ما يمكن عمله، وأن
كل عمل مفيد.
- النفسية المُصَنّفة: وهي النفسية التي تميل دائماً إلى تصنيف الآخر وتأطيره
بجهالة ودون تروٍ، بل وتعتبر الآخر عند أدنى مخالفة من معسكر الأعداء الذين
يجب التصارع معهم وسحقهم! ! ولا شك أن التحاور مع أصحاب هذه النفسية
يتطلب قدراً من الذكاء والحذر، ويقتضي إبراز أكبر قدر من مواطن الاتفاق بين
الطرفين في بداية التحاور، لأن ذلك يقلل فجوة الخلاف.. ثم استثمار الفرص
للتأكيد على خطأ تصنيفهم عبر إرسال رسالة فكرية تثبت حسن النية والحب للآخر، لأن ذلك يقلل الكراهية.. فإذا ضاقت فجوة الخلاف، وانحسرت حدة الكراهية من
الآخر، فلابد من الالتزام خلال الحوار بترك الفرصة الدائمة للمخالف ليرجع عن
أفكاره مع حفظ ماء الوجه.
إن من نحاوره ونخالفه في الرأي بطريقة صحيحة للحوار والخلاف لا يشعر
بالانهزام والإرغام، بل يشعر بفضيلة انكشاف الحق والرضوخ له دون إرغام من
أحد.
والحوار الناجح هو الحوار الذي لا يشعر فيه المتراجع عن الخطأ بالذل، كما
لا يشعر فيه الداعي إلى الحق بالغرور.
- النفسية المتصيدة: وهي التي يقوم صاحبها بتصيد الحروف والألفاظ دون
الاهتمام بمقاصدها أو إحسان الظن بقائلها.. وهذه النفسية وليس لنا مثل السوء
كنفسية الخنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمته.
وهكذا صاحب النفسية المتصيدة، يسمع منك ويرى المحاسن أضعاف أضعاف
المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد
بغيته وما يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله [2] .
ولا شك أن التحاور مع أصحاب هذه النفسية يحتاج إلى التذكير الدائم بأنه
ليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله
وتُجْتَنب [3] . مع التخلق بأدب الاعتراف بالخطأ إن وقع منا، وعدم الدفاع عن الأخطاء أو تبريرها، لأن ذلك هو السبيل إلى إقامة جسور التواصل مع أصحاب النفسية المتصيدة التي يجب أن يكون شعار الحوار معهم:
من الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط
- النفسية الهروبية: وهي التي يسيطر على أصحابها فكرة أنهم لا يملكون
فعل شيء في مواجهة المتآمرين عليهم، فيدفعهم ذلك إلى الهروب من مواجهة
تجاربهم الفاشلة ومحاولة معرفة الأخطاء التي تسببت في الفشل، إلى تبرير هذه
التجارب بما يبرئ ساحتهم، ويضع المسؤولية على الآخرين الذين لا يكفون عن
التآمر ضدهم!
ولا شك أن التحاور مع هؤلاء يحتاج إلى دوام التذكير بأن العوامل الداخلية
في أي عمل هي التي تعطي العوامل الخارجية تأشيرة العمل والتأثير، وأن علينا
أن نتقن العمل بدلاً من أن نبرر الفشل، ونمارس عبودية الأخذ بالأسباب ضمن
ممارسة عبودية التوكل.. ونعلم علم اليقين أن أول خطوة في طريق ضرب تآمر
الآخرين هي التحرك بفاعلية وإيجابية في حدود الاستطاعة مع الحذر الواجب وعدم
اليأس.
وهكذا تحتاج كل نفسية إلى طريقة في الحوار تختلف قليلاً أوكثيراً عن
الأخرى، ومن هنا يصبح من الأهمية بمكان معرفة نفسيات الآخرين الذين نتحاور
معهم.. فإذا جهلنا من نتحاور معهم لأي سبب، فإن أسلوب جس النبض عبر أسئلة
عن أمر عام ليس لها علاقة مباشرة بموضوع الحوار قد تكسبنا بعض الخبرة عن
الآخرين، وتعطينا فرصة التعرف على أفكارهم ونفسياتهم من خلال ميولهم
وطريقتهم في الإجابة، بل وحتى من خلال نبرات أصواتهم في الرد وإشارات
أيديهم المصاحبة لها.
3- نقاط التحاور:
في غياب التحديد الدقيق لنقاط التحاور تتحول أكثر حواراتنا جدلاً عقيماً
سائباً ليس له نقطة ينتهي إليها.. لذلك فإنه من أهم خطوات الإعداد الجيد للحوار
معرفة نقاط التحاور، والبدء بالأهم منها، وترك غير المهم من فضول العلم والكلام
وغيره من الأمور التي تفرق بنا سبلها عن أصل الموضوع وأساس القضايا،
فيتبعثر الجهد ويضيع الوقت..
ولكي نحفظ جهدنا ووقتنا فإننا قبل كل حوار نقوم بإعداد نقاط التحاور إعداداً
جيداً، ونعمل في الوقت ذاته على تقليل المفاجآت الفكرية غير المتوقعة.. تلك
المفاجآت التي يكون لها آثار سلبية عميقة في سير الحوار، بدفعه إلى التشعبات
والتفريعات التي تمزق معها الموضوع الأساس ويضيق وقت الحوار عن مناقشته.
ولا شك أن الإعداد الجيد لنقاط التحاور يستوجب أن تكون لدينا القدرة قبل
الحوار أن نجيب على أسئلة من أمثال: هل هذه النقطة مهمة؟ وما مدى أهميتها؟
وهل يمكن التحوار حولها أو وتهميشها؟ وما موقفنا إذا رفض الآخرون قبولها..
إلى غير ذلك من الأسئلة التي تمثل الإجابة عنها الطريق إلى الحوار المثمر، ولا
يصل الحوار في غيبتها إلا إلى الطريق المسدود.
(ب) الصمت الواعي:
إذا كان السماع الكامل للآخر من أهم ضوابط الحوار، فإن الصمت الواعي
هو وسيلة هذا السماع التي تحقق منه الفائدة القصوى..
إن الصمت الواعي يستلزم قدرات خاصة لاستيعاب ما يقوله الطرف الآخر
وتخزينه في الذاكرة بصورة منظمة لاسترجاعه في الوقت المناسب للحوار.. وهذا
يعني أن نعرف أثناء صمتنا: حتى متى يجب أن نسمع؟ ومتى يجب أن نتكلم؟
وماذا نقول إذا تكلمنا؟ .. فليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يقال يقال في كل
وقت، وليس كل ما يقال في كل وقت يقال لأي أحد.. بل كما يقول الشاطبي
(رحمه الله) : ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة،
ومما يفيد علماً بالأحكام بل ذلك ينقسم: منه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم
الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لايطلب نشره بالنسبة إلى حال أو
وقت أو شخص [4] .
وإذن: ففي بعض الأمور يكون الصمت هو الواجب، وفي أمور أخرى يكون
الكلام هو الواجب.. والصمت الواعي هو فن التوفيق بين واجب الصمت وواجب
الكلام.. وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها،
فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة،
فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن
كانت مما تقبله العقول، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم
يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري وفق المصلحة الشرعية
والعقلية [4] .
إن للصمت وظائف حوارية ضخمة حين يحسن استخدامه، أما حين يُساء
استخدام الصمت فيلتزمه المحاور دائماً وفي كل الأحوال، فإنه يعطي الآخر إحساساً
بعدم جديته، بل قد يحسب الآخر أن هذا الصمت لون من ألوان عدم الترحيب
وعدم التجاوب معه! !
وإذن: فلابد من اكتساب القدرة على الصمت الواعي الذي يحقق الوسطية بين
رد الفعل السريع الذي لا يُنْتِج إلا الخسائر الحوارية، وبين رد الفعل المتأخر الذي
يبدد الوقت والجهد دون فائدة.
(ج) التسلسل المنطقي:
في كل حوار ناجح يمثل التسلسل المنطقي المقدمة الأولى لهذا النجاح، ومن
هنا فإن من فقه المحاور الذكي أن يتسلسل فيما يقدمه للآخر تسلسلاً منطقياً يقدم فيه
الأسباب والحيثيات التي تؤدي إلى نتائجها في غاية اليسر والهدوء.. ولا يعني ذلك
أن يتسلحف المحاور بأفكاره أو يُبقي عليها في بيات شتوي متوقفة عن الحركة،
وإنما يعني أن يتلطف في تقديمها للآخر، فإن كان ثمة أفكار غريبة على نفس
الآخر وعقله فلا يفاجئه بها، بل يقدم بين يديها مقدمات تؤنس بها وتدل عليها حتى
لا تكون فتنة له؛ كما قال عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه
عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عروة بن الزبير: ما حدثت أحداً بشيء من
العلم قط لا يبلغه عقله، إلا كان ضلالة عليه.
فليس الناس طرازاً واحداً، والعقول تتفاوت، والأفهام تتباين، ولابد من
مراعاة هذا التباين وذلك التفاوت.
وتأمل ذكره (عز وجل) قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر
التشبيه وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصته بين يدي قصة
المسيح وولادته من غير أب، فإن النفوس لما آنست بولد بين شيخين كبيرين لا
يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب [5] .
وقد راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- أحوال الناس وأفهامهم، فترك بعض
الأمور التي لا يدركها فهم الناس أو فهم بعضهم، فقال لعائشة (رضي الله عنها) : يا
عائشة لولا أن قومك حديثٌ عهدهم قال ابن الزبير: بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها
بابين: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون [6] .
وإذن: فإنه لابد للمحاور من الاقتصار فيما يقول على قدر فهم الآخر، فقد
قيل بحق: كِلْ لكل عبد بمعيار عقله، وزنْ له بميزان فهمه، حتى تسلم منه وينتفع
بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار [7] .
ولا شك أن مما يفيد في ذلك، ويسهل الطريق أمام المحاور لإقناع محاوره،
أن يضع المحاور نفسه مكان محاوره، ويحاول التفكير في القضية المعروضة
للحوار بمثل عقلية محاوره، والنظر فيها من نفس الزاوية التي ينظر منها.
فإذا فعل ذلك تحقق له بإذن الله الدخول إلى قلب محاوره بما يريد من أفكار،
وأدى حق العلم عليه، كما قال كثير بن عروة: إن عليك في علمك حقاً، كما عليك
في مالك حقاً، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا
تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك.
(د) التساؤل الهادف:
الأسئلة هي وسيلتنا لأهداف متعددة، فهي وسيلتنا للتعرف على الآخر ومنزلته
وعلمه، كما في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس: من القوم؟، وهي وسيلتنا للوصول إلى معلومة نافعة لترتيب أفكارنا أثناء الحوار، كما وقع
من ضمام بن ثعلبة حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: من خلق السماء؟
ومن خلق الأرض؟ .. ثم استحلف بخالق هؤلاء على ما يريد التثبت منه.
والأسئلة هي وسيلتنا لتحويل موضوع الحوار إذا أردنا، وهي وسيلتنا لتنشيط
عملية التحاور، أو اختبار صحة بعض المعلومات، وإثارة تفكير الآخر.. إلى
غيرها من الأهداف.
ولأن الأسئلة بهذا القدر من الأهمية في عملية التحاور، فإنه من الضروري
جداً أن نعرف كيف نصوغ الأسئلة؟ ومتى نثيرها؟ وما هي أولوياتها؟ وما هو
النوع المناسب منها لما نريده من الحوار؟ ..
- أساليب التساؤل: للتساؤل أساليب متنوعة، فمنها أسلوب الأسئلة المغلقة،
ومنها أسلوب الأسئلة المفتوحة، ومنها أسلوب تتابع الأسئلة الذي يبدأ بالأسئلة
المفتوحة ليصل إلى الأسئلة المغلقة تماماً.
- فأما الأسئلة المفتوحة: فهي الأسئلة التي تسمح للآخر بالإجابة عن السؤال
من أي زاوية يريدها، وبكم المعلومات التي يحب ذكرها، مثل أن نقول: ما رأيك
في كذا؟ أو ما هي الوسائل التي تقترحها للإفادة من كذا؟ .
ومزايا هذا النوع من الأسئلة أنه يجعل الآخر يتكلم ونحن ننصت فقط،
فنحصل منه على أكبر قدر من المعلومات ونتعرف على الطريقة التي يفكر بها..
كما أن لهذا النوع من الأسئلة ميزة كبيرة، وهي أن الآخر لا يشعر معها بأي رهبة
أو صراع [8] ، ومن ثم: فإن هذا النوع من الأسئلة هو المناسب لبدء الحوار
وتحقيق الانسجام المبدئي بين طرفي الحوار.. والمحاور الجيد هو من يبدأ حواره
مع الآخر بمجموعة من الأسئلة المفتوحة والمحايدة والتي توحي للآخر أن درجة
قناعته بطرفيها متساوية، وبذلك يحقق هدفي التعرف على الآخر دون استنفاره،
وبالتالي: تحقيق الانسجام معه بصورة طيبة وتلقائية..
- وأما الأسئلة المغلقة: وهي الأسئلة التي تقيد الآخر بوضع الإجابة في إطار
محدد.. مثل أن نسأل: هل توافق هذا الأمر أو تخالفه؟ .. ما دليلك على
قولك؟ .. من قال بذلك؟ .. إلى غيرها من الأسئلة التي تميز بسيطرة السائل على الأسئلة
والأجوبة معاً، وبطريقة تمكنه من الوصول إلى هدفه من أقرب طريق.
وأما الأسئلة المتتابعة من الانفتاح إلى الانغلاق التام: فهي أسئلة متدرجة
يحاول بها السائل الوصول إلى أهداف تتفق مع ما يتبنى من الأفكار عبر الانغلاق
المتدرج الذي لا يسمح للآخر بالتفصيل في المواضع التي لا يريد فيها السائل إلا
الفكرة المجملة! !
ولا شك أننا لابد أن نتدرب على عدم الخضوع لهذا الأسلوب في الأسئلة،
ونتعلم كيف نتدخل أحياناً لصياغة السؤال أو التعليق عليه بصورة أو بأخرى حتى
يفهم الآخرين ما نقصد من الإجمال الذي نجيب به على الأسئلة المغلقة تماماً.
إنه من الضروري لنا في كل حواراتنا أن نسأل ونستوضح قبل أن نصدر
حكماً أو نرفض رأياً، ولا بأس بتنوع الأسئلة حسب الحاجة حتى يتضح لنا الأمر
جلياً.. ذلك أن العلم سؤال وجواب، ومن ثم قيل: حسن السؤال نصف العلم [9] . (هـ) فن الممكن:
في بعض حواراتنا قد تختلط لدينا الأمنيات بالإمكانيات، فندور في أحلام
أمانينا بدلاً من التقدم إلى معطيات واقعنا، وتضيع جهودنا الحوارية دون تحقيق
الممكن.. ولكي نتخلص من هذا المرض الحواري الخطير، لابد لنا أن نتعرف قبل
كل حوار على عدة بدائل للحوار، لنختار الممكن منها إذا فشلنا في تحقيقها جميعاً،
فإذا بدأ الحوار فليكن شعارنا: فن الممكن في حوار مستحيل.. لا نترك فرصة
تحقيق هدف صغير ممكن جرياً وراء محاولة تحقيق حلم كبير مستحيل! !
فإذا كنا نهدف من حوارنا إلى إقامة علاقات تعاون مع الآخرين، ولم نقدر
على تحقيق هذا الهدف لعلامات ظهرت في الآخرين من الانتصار للنفس، وحب
الغلبة والميل للمنازعة والمخاصمة.. فلنستثمر حوارنا في محاولة إيجاد علاقة طيبة
أو التعرف على مدى استعدادهم لإقامة علاقات التعاون في المستقبل.
فإذا فشلنا في ذلك أيضاً، ولم نقدر على اجتثاث جذور الخلاف بيننا وبينهم،
فلنحاول أن يكون هذا الخلاف في أضيق الحدود، ولنضع بيننا وبينهم قاعدة: إن
الخلاف في الآراء لا يصنع لقاء القلوب.
وهكذا نبقى حريصين على الإفادة من الحوار بقدر الممكن، ولا نطمع فيما
يستحيل.. فمن مشى من محاورينا معنا إلى نهاية الشوط فهو أخ لنا نسعد به، ومن
مشى قدراً يسيراً نقبل منه ذلك وندعو له بالجزاء الأوفى من الله.. بل كل من
أعطانا أي قدر من التعاون فنحن لا نستغني عنه.. ومن استطعنا تعديل مساره إلى
الأفضل فنحن لا نزهد فيه.
إن الناس تتفاوت أقدارهم وقدراتهم، ولا يستطيع إنسان تحقيق الفائدة من
جميعهم إلا أن يكون عمله في إطار فن الممكن.
__________
(1) للدكتور حسن محمد وجيه كتاب بعنوان: (مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي) أوضح فيه أساليب الحوار بشكل جيد، فراجعه إن شئت.
(2) ابن القيم: مدارج السالكين، ج1، ص435، بتصرف يسير.
(3) الشاطبي: الموافقات، ج 4، ص189، 190.
(4) ابن القيم: إعلام الموقعين، ج4، ص163.
(5) بكر أبو زيد: تصنيف الناس بين الظن واليقين، ص81.
(6) أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، ومسلم: كتاب الحج باب، جدر الكعبة وبابها، والنسائي: كتاب المناسك، باب بناء الكعبة.
(7) الغزالي: الإحياء، ج1، ص71.
(8) مستفاد من كتاب: مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، د حسن محمد وجيه.
(9) ابن حجر: فتح الباري، ج1، ص142.(88/40)
نصوص شعرية
لب الصراع
صالح أحمد البوريني
ظَهرَ العَداء وصَرّح الإعلامُ ... في الغرب أّن عدوّه الإسلامُ
والغرب يَطوي بين أضلع صدره ... حقداً تَشُبّ أوارَه الأيامُ
ما زال يحمل في النفوس ضغينة ... يَسقي ترابَ غِراسها الإجرامُ
يَقْتاتُ من تاريخه أحقاده ... فَتَشِبّ منه عداوة وخصامُ
يَرمي بنار عَدائه مَنْ أسلَموا ... سِيّانِ فيه العُرْبُ والأعجامُ
ولقد أباح دماءَنا في بوسْنَة ... أما دماءُ الصربِ فهي حرَامُ
حَظْرُ التسلح لعبة دوليّة ... للغرب فيها الحَلّ والإبْرامُ
للصرب عُدوان على إخواننا ... ضجّت له الغبراء والآكامُ
لا العِرْقُ سرّ للعداوة بينهم ... كلا ولا الألوانُ والأجسامُ
سِرّ العَداء هو الديانةُ وحدَها ... لُبّ الصراع الكفرُ والإسلامُ
والصرب يعلن سِلْمَه بشروطه ... وشروطه الإذلال والإعدامُ
والغرب يعلن كل يوم خُطّةً ... نحو السلام وليس ثَمّ سلامُ
يُبدون سعياً للسلام تسَتّرا ... دعوى السلام تَظاهُرٌ وكلامُ
في كل جُرح نازف من أمتي ... للغرب نصلٌ حاقدٌ ومرامُ
في كل جهد للتحرر نكسة ... يَصْلى لهيبَ جراحها الأيتامُ
في كل سعي للخلاص مخاطر ... ومزالق ومهالك وحطامُ
يا ويحَ أمةِ يعربٍ كما نالها ... مِنْ شرّه الإيذاء والإيلامُ
في كل شَعبٍ فتنة من كيده ... عَظُمت بها الآفات والآثامُ
في كل شأن من شؤون حياتنا ... رأي له ودعاية وكلامُ
وتدَخّل ونصيحة مزعومة ... ومشورة ضَلّت بها الأفهامُ
في كل درْبٍ للتقدم عثرة ... مِنْ صُنْعه وحجارة وركامُ
وبِرَغْم كل عدائه لشعوبنا ... فَلَه حضور بيننا ومُقامُ
وبكل رابية له في أرضنا ... دار ترفرف فوقها الأعلامُ(88/53)
نواميس
د. محمد بن ظافر الشهري
في ربيع الحروفْ
يتفتق زهر القريض بعَرفِ الشبابْ
وعلى مر كل الفصولْ
وبرغم الكوارثِ
في موسم القحط.
ذاك المهدد بالإستلابْ
يرفض الحرفُ
أن يتقمص دور العجوزْ
أن يُلقّن ماذا يحلّ..
وما لا يجوزْ..
لا عجابْ..
رُب حرف تعشّق درب الحياةِ
وعاف دروب الحتوفْ! !
* * *
هل يطول انتظار صباح العربْ؟ !
ربما..
غير أني على ثِقَةٍ أنه يقتربْ؟ !
من يكون؟
وما لون عينيهِ؟
هل يعتريه الأفولْ؟
هو من تعرفون..
وألوان عينيه مختلفٌ..
هو يسلك درب الرسولْ
فحيّهلا بالتعبْ! !
* * *
عجباً.. للجنينْ
دونما ضجةٍ
يتجرع عيش السجينْ
وإذا فارق الحبسَ..
يبكي بكاء الحزينْ! !
عجباً.. للرياحْ
تلزم الصمتَ ما ضعفت
فإذا عصفتْ..
جهرت بالصياحْ! !
لا عجابْ..
أيما قصةٍ لسراج يبثّ الضياءْ
سبقتها ولا بدّ
قصةُ كيّ الفتيلْ..
إنها سنة الأولين
ولا ريب في أنها
سنة الآخرين..(88/55)
قصة قصيرة
عبد الإله وحبات الرمل
علي محمد
لم يكن للمساءات نكهة حاذقة المرارة في حلق عبد الإله مثلما كان ذلك المساء، فقد اقتحمته المرارة من أذنيه وكل حواسه طوال النهار، فانسكبت في قلبه، ومن
ثم: إلى كل جسمه، حتى إنه عندما وضع طرف إصبعه في فمه كالعادة ليشعر
بالمرارة أكثر، وجد أن لسانه أشد مرارة من إصبعه.
التفت وراءه ليرى بقايا أضواء الشارع الأخير وهو يتجه إلى الصحراء لعله
يبوح لها بآلامه، وانتابه شعور بالمرارة طالما راوده وهو يتأمل ذلك الشارع
الأصفر الذي يحيط بالمدينة من كل جانب.
إنه بالنسبة له ولأمثاله لا يعدو كونه قيداً من نار يقيد المدينة ومن بداخلها،
ويمنع في ذات الوقت خروج آهاتهم أو دخول الفرح إليهم، فكان حاجزاً من النار
يخنق أنفاس المدينة وأسرارها، وتذكر وهو يلقي عليه النظرة الأخيرة أنه قرأ ذات
مرة عن ذلك الشارع أنه الحزام الذهبي الذي يزين خصر المدينة النائمة على تلال
الرمال الناعمة، فتفجر في رأسه سؤال عاصف: لماذا يرونه كذلك وهو لا يراه؟
حاول تناسي ذلك السؤال، وأدار رأسه تجاه الصحراء، واستنشق كمية كبيرة
من هوائها الذي ظن أنه نقياً لعله يزيل ما بداخله من أتربة المدينة الممتزجة برائحة
عرق المسحوقين وبعض الدم الذي يقطر من قلبه، ولعله يقتلع في طريقه أشجار
القهر التي نمت بداخله، ليقذف بها على تلك الوجوه المتأنقة رغم بشاعتها الفاضحة.
واستنشق مرة أخرى، لكن كل ذلك لم يحقق له ما كان يحلم به، فتمتم
بكلمات لم يفهمها هو نفسه.
وتساءل مرة أخرى: لماذا اختار الصحراء بالذات لتكون مستقر أسراره
وراحة نفسه؟ ، وسرعان ما تذكر كلام جاره سعيد؛ بأنها مليئة بالأسرار، وتَمثل
أمام ناظريه في تلك اللحظة ظهر جاره المنحني انحناءته العجيبة التي حيرته، فهي
لم تكن بسبب كبر سنه، وليست لمرضه، وكثيراً ما يهرب جاره من الأسئلة حولها، لابد أن خلفها ما يخشى أن يتحدث عنه ذلك الرجل.
ابتسم عبد الإله في مرارة، وقال محدثاً نفسه: لعلها من ذلك السور الناري
الذي حبس أهل المدينة.
لكن عبد الإله لم يكن ليقتنع أن الصحراء لا تملك إلا الأسرار فقط، بل
وداخلها دُفِن الكثير من الأكاذيب التي خبّأها أصحابها واستعاروا ماضٍ يرون أنه
يناسبهم.
آهٍ أيتها الصحراء، كم أنت أمينة على أسرار الجميع، وكم أنت مصغية لكل
ثرثرات الموجوعين وأباطيل المخادعين.
واصل عبد الإله حديثه مع الصحراء وهو يتأمل وجهها الكبير الناصع
البياض في هذه الليلة المقمرة.
كم أتمنى أيتها الرمال أن تكشفي لأهل المدينة زيف البطولات التي يدعيها
المزيفون القادمون منك، أولئك الذين يتلبسون بمظاهر المدينة، ونسوا أن يزيلوا
ملامح الصعاليك التي لم تزل تفترش وجوههم، وعلى ظهورهم آثار نعل كبيرة لا
تصنع في مدينتهم، لأنها تحمل علامة غريبة عن الصحراء والمدينة التي تنام على
أطرافها.
واصل عبد الإله رحلته إلى قلب الصحراء في ضوء القمر الساطع، وأكوام
الرمال تبدو كالجمال الرابضة، وعلى قممها كانت تتراءى له تلك الرؤوس المقززة
وكأنها مغروسة عليها، ولم يدر لماذا بدأ يشعر كأنه إنما دخل إلى مقبرة، وإذا
بالهدوء الذي كان ينشده قبل قليل قد أصبح موحشاً مخيفاً، وإذا به يحس أن هناك
من يتعقبه ويقترب منه حتى كأنه يشعر بأطراف أصابع من خلفه تلامس كتفيه،
وإذا بحبات الرمل تُصَبّ على ظهره، وخالجه شعور بهلع شديد.. هل تراهم
سمعوا حديثه للصحراء؟ .. وبدأ يفتش في جسمه لعله يجد شيئاً ليس منه.
ازداد خوفه، وكذلك سيره، حتى إنه لم يعد يعرف مصدر تلك الأنفاس
اللاهثة: هل هي أنفاسه أم أنفاس الذي يتعقبه من خلفه، وكلما زادت سرعته كلما
زادت كمية الرمل على ظهره، ولم يعد يملك من الأعصاب ما يمنعه من الركض،
فأطلق ساقيه للريح وهو لا يرفع بصره عن الأرض، ولا يستطيع في الوقت ذاته
الالتفات إلى الخلف، وبينما هو منطلق بأقصى ما يملك من قوة أحس بضربة قوية
على رأسه، فسقط على وجهه، وأدرك أنه هلك لا محالة، فانقلب على ظهره في
محاولة بائسة لتفادي الضربة الثانية، لكنها لم تصبه، لأنه لم يكن هناك من يقوم
بها، وأغمض عينيه مستسلماً، لكنه لم يعد يسمع وقع تلك الأقدام.. وبعد لحظات
من الانتظار القاتل فتح عينيه بقوة حتى لا يتردد فلا يستطيع فتحها بعد ذلك، فلم
يجد أحداً، ووضع يده على رأسه ليتلمس الدم الذي بدأ يسيل، وتلفت يميناً وشمالاً
فلم تقع عيناه على أحد، فزاد خوفه، هل يملكون هذه القدرة على ضربه دون أن
يراهم؟ ! وتذكر على الفور كلام جاره صاحب الانحناء، فتفقد ظهره فوجده كما
هو، لم ينحن بعد، فاستلقى على الأرض، فإذا هو تحت شجرة كبيرة يتخلل
أغصانها ضوء القمر، وإذا بها قد أهملت أحد أغصانها اليابسة، ونظر إلى رجليه
فإذا بنعلي أخيه الأكبر صاحب الأرجل الطويلة فيهما، ولفرحته لم يتمالك نفسه
حيث انفجر ضاحكاً ودموعه تتساقط، حيث اكتشف أن ذلك الصوت خلفه لم يكن
سوى صوت النعلين الطويلتين اللتين كانتا تقذفانه بالرمل على ظهره! ، وتلمس
رأسه في ألم وهو ينظر مبتسماً إلى غصن الشجرة المتدلي، الذي كان صاحب
الضربة التي على رأسه.
ألقى نظرة على تلال الرمل، فإذا بتلك الرؤوس لا تزال عليها، إنها وجوه
أولئك الصعاليك، لابد أنهم هربوا من هذه الصحراء خوفاً من حبات الرمل،
وتركوا وجوههم الحقيقية هنا، وتذكر مرة أخرى العلامات التي على ظهورهم،
وتلمس ظهره فلم يجد عليه تلك العلامة، فحمد الله على ذلك، ونظر إلى غصن
الشجرة اليابس فدنا منه وخاطبه قائلاً: يالجهل الناس عندما يظنون أن غصن
الشجرة عندما ييبس أنه مات، وهو في الواقع إنما وصل إلى مرحلة النضج،
فيكون أكثر فائدة من الأغصان اللينة.
استنشق من هواء الصحراء، فإذا به يشعر بحيوية ونشاط ورغبة عارمة في
العودة إلى المدينة، فانطلق مسرعاً والرمل يتساقط على رأسه وكتفيه، لكنه لم يكن
خائفاً؛ فهو عرف بعض الأسرار، وعندما غاب القمر لم يكن عبد الإله قد وصل
إلى المدينة، فلم يفقده أحد من أهلها، وعندما أطل الليل مرة أخرى بوجهه الأسود
القاتم ابتسم الشارع الأصفر ابتسامة صفراء، والصحراء لم تزل تحفظ الكثير من
الأسرار.. ومنها سر عبد الإله الذي لم يصل بعد ...(88/57)
مراجعات نقدية
هذه (الخطيئة) .. فمتى (التفكير) ؟ !
عبد الوهاب الزميلي
في غشاء النبال التي أحاطت بصدر الأمة تندس سهام راشها العدو الكاشح
وغرزها (عربي الوجه واللسان) ، وانفرجت لها منافذ إلى عقل الأمة ووجدانها،
تفضي إلى (مقتل) .. وكان من تلك المنافذ مدرج طاوعها ولان.. فعكفت عليه
تدقيقاً وتذويباً حتى ارتخى.. فانزلقت منه إلى الغور..! إنه منفذ الكلمة
الشاعرة.. التنغيم الآسر.. والقوافل إن لم يغرد حداتها فربما استاقها تنغيم (ناعم) أو ترديد (ناهق) ، ثم ترى تلك السهام وقد أسدل عليها سدنتها ما حسبوه ستراً لا ترى العينُ ما وراءه! ! من مسخ للعقل والقلب، وهدم للدين والفطرة، ومن تأمّله ولو قليلاً.. رآه منهتك الأستار.
وربما تترس أولئك برفع (قبعة) العلم، ودعوى إثراء العقل المسلم بجلب ما
يسوّقه الآخر من مناهج أدبية وافدة تحوط نتاج مريديها بسور شائك، ثم تفلسف ذلك
النتاج ليملأ أحداق المغفلين، وينزوي بهم ليستدبروا أمتهم.
ولعلها من (أدق) المعاول و (أشدها) :
فهي دقيقة لأنها تنسرب إلى حياة الأمة بخفية وخطو بطيء حتى تخالط فكرها
وحسها.. هابطةً بهما إلى المادة أو إلى العبث والحيرة! .. مارّة بمسلمات الأمة
لتلقيها للريح، وهي شديدة شدة البلاء العام والنوايا الكالحة والخداع المخَمّر العفن.
نعم.. لا ضير من تلقي الخير من (شيطان زكاة أبي هريرة!) ، إنما يتوقف
تمثل ذلك المتلقى على (صَدَقَك) .. ولا نبالي به وإن كان كذوباً.
والمسلم بفطرته ومنهجه لا يأبى التوقد العلمي فحينما يجيل بصره في الثقافات
من حوله: فقد يلمح بين الركام قبساً يلتهب، فيعرضه على فطرته ومنهجه فيتقي
(نقاط) الإحراق.. ويتلقط (نقاط) الضوء فيطويها تحت جناحه، وذلك الجهد
الفاحص المميز لا بد أن يكون مشتبكاً مع كل العطاء البشري لأن منهج المسلم
يتناول جوانب الحياة كلها، فلا يكون مقبولاً فيها إلا ما أمدّه ذلك المنهج بالقبول.
ولكن يأخذ العجبُ مداه..! حين نرى بعض المناهج الوافدة تلمّع وتزركش،
ثم تمرر لتكون ميزان الكلمة.. دون أن توزن هي! ! ، ثم تسعى إلى التمدد
(الناعم) في تلافيف حياتنا، وتجهد لتخط على رمال الجزيرة حرفها.. ولتجعل تلك
الرمال ملحاً تذيبه غضبة موج..! فإذا لم تفعلوا ولن تفعلوا.. والله متم نوره.
ومنها: (المنهج التشريحي) الذي يقوم على الألسنية كأساس نقدي له، [
الخطيئة والتكفير، ص29] .
وقد حرث له أهله في بعض أرضنا، فأخرج شوكه (النكد) ، فكانت وخزاً
يستنزف الدماء، ولكن.. قطرة.. قطرة..، وكان من نتاجه كتاب (الخطيئة
والتكفير) للدكتور عبد الله الغذامي، وقد أتبعه بعدة كتب صغيرة كلها تحوم حول ما
كتبه في كتابه هذا، وقد أخذ الغذامي بالمنهج التشريحي؛ حيث يراه أفضل ما قدمه
العصر من إنجاز أدبي نقدي [الخطيئة، ص83] ، وعرّف التشريح بأنه: تفكيك
النص من أجل إعادة بنائه [الخطيئة، ص50] .
وسنجري الحديث موجزاً عن بعض ما طرحه في بعض كتبه وبخاصة كتابه
(الخطيئة) وذلك لنلمس ما ظهر ناتئاً.. بل وحاداً في بعض الأحيان، وسنعرضه
عبر ثلاثة عشر سؤالاً (كاشفاً) ، وكل سؤال منها فجوابه (نص) من أحد كتب
الرجل، يدل دلالة (محددة) على موضوع السؤال بالذات، وذلك لنصل إلى جواب
السؤال الأهم: ماذا يريد هؤلاء؟ آلبناء أم الهدم؟ .
وقبل الولوج من مدخل الأسئلة أمهد الطريق إليها بثمان (نقاط) :
الأولى: (موت المؤلف) : الذي يلح عليه الغذامي في مواضع متعددة من
كتبه.. وهو في هذا يتحسس مقتفياً خطى الفيلسوف الفرنسي رولان بارت حذو القذة بالقذة.. ومن كَلَف الغذامي بهذه القضية أن أفرد لها عدة مقالات.. وبذلك العنوان نفسه: (موت المؤلف) [انظر كتابه (ثقافة الأسئلة) وكتابه (الموقف من الحداثة) ] . فلم هذا اللهاث خلف هذه القضية؟ ! ، ولم هذا الحرص (الحار) على غرسها في الأذهان؟ ! .. قد (ينجلي الغبار) إذا علمنا أن بارت وهو صاحب تلك المقولة أصالة.. وهؤلاء خلفه يسيرون يعلن صراحة أن مقولة (موت المؤلف)
تعني: (موت الإله) ! ! ، والغذامي حين عرض لمقولة بارت التي أعلن فيها موت المؤلف.. يذكر أن بارت أكد فيها على أن الكتابة هي في واقعها نقض لكل صوت كما أنها نقض لكل نقطة بداية (أصل) [الخطيئة، ص71] .
ونجد الغذامي يفرح بهذا النقض والهدم ويطرب له، بل يراه فروسية متميزة
من إمامه بارت؛ حيث يقفز جواد فارسنا قفزات واسعة المدى لتحرير النص مثلما
حرر الكلمة [الخطيئة، ص71] .
بل ويرى أن بارت حسم الصراع حين قتل منافسه (؟) وبذا يحسم بارت
الصراع بين العاشقين المتنافسين على محبوب واحد، فيقتل رولان بارت منافسه
ليستأثر هو بحب معشوقه (النص) [الخطيئة، ص71] .
وفي كتابه (الموقف من الحداثة) في مقالة بعنوان (موت المؤلف) يذكر أن:
علاقة المؤلف بالنص تشبه علاقة الأم بجنينها، فحين يصبح إنساناً حياً مستقلاً لا
يجوز أن نجعلها هوية له، بل ذكرها يرد بسبب ابنها، أي: إنها صارت عالة
عليه، وهذه حالة النص مع كاتبه، فالنص بعد إنشائه يستقل بوجود خاص. أ.
هـ. [ص84، 85] .
والنص عند الغذامي: وجود لغوي يقوم على وظيفة جمالية احتكارها لغوي،
أي: ليس باجتماعي أو نفسي أو تاريخي، وهذه كلها تعزل بعيداً عن النص وإن
وجدت فيه [الموقف من الحداثة، ص84] . وذلك النص أعلى نماذجه عنده هو
القرآن الكريم؛ [الموقف من الحداثة، ص85] ، فهل يريد سحب مقولة (موت
المؤلف) على (نصوص) القرآن ليتحقق ذلك النقض الموعود؟ ! ! .
وعندما تعرّض لقراءة بارت التشريحية لقصة (ساراسين) لبلزاك، وأن
صفحات القصة في حدود عشرين صفحة، ومع ذلك كتب عنها بارت كتاباً يزيد
على مئتي صفحة، مما جعل بعض النقاد يعجبون والبعض الآخر يهزؤون، قال:
ولكن القارئ العربي لا يجد ذلك عجيباً ولا غريباً، ويكفي أن نتذكر كتاب (مدارج
السالكين) لابن القيم [الخطيئة، ص67] ، وهو في هذا يغافل القارئ ليسقط في
ذهنه أن ابن القيم حين يتحدث عن قوله (تعالى) : [إياك نعبد وإياك نستعين] في
ثلاثة مجلدات، أن ذلك مسوغ لقبول ما نفث في عقده هو! ! ، ثم في مقولته تلك
لَمْسٌ ولكن (بخفة) لإمكانية الربط بين قراءة بارت ل (ساراسين) ، وقراءة ابن القيم
لـ[إياك نعبد وإياك نستعين] .
الثانية: التحول عنده يتسع ليشمل كل حركة يصنعها الإنسان أو يقع في
وجهها (؟) فالتحول النفسي والتحول الثقافي والتحول العلمي كلها نتاج سعيد
للإنسان [الخطيئة، ص221] . فالتحول عنده شامل وفيه الحياة والسعادة.
أما الثبات: فهو تنازل عن الحياة، وبانتصار قيود الثبات تحدث الطامة
[الخطيئة، ص226، 227] .
هذا موقفه من الثبات والتحول أو إن شئت فقل: من (الثابت والمتحول) .
الثالثة: ليس هناك غاية ثابتة (في نظره) ، بل يمكن للإنسان أن يحدد أي
غاية يسوقه إليها هواه.. ثم ما عليه إلا أن يسعى إليها ليصل إلى السعادة؛ يقول:
وما على الإنسان إلا أن يقرر في خياله أي طوبى (؟ !) تهفو إليها نفسه، ثم يأخذ
بالسعي نحوها، وستتحقق له السعادة في دأبه إليها [الخطيئة، ص230] .
وبهذا انتهيت من النقطة الثالثة، وما بقي من النقاط الثمان فسأسرده سرداً،
وسيرد ما يدل عليه من كلامه في أجوبة الأسئلة:
الرابعة: لا يرى للنص معنى ثابتاً.
الخامسة: يرى أن تفسير (النص) يعتمد على الذائقة الشخصية.
السادسة: لا يرى أن هناك من يمكنه أن يحكم على معنى (نص) من
النصوص بالصحة أو عدمها.
السابعة: المنشيء في (نظره) لا يتحمل تبعة ما كتب، ولا يقال عما كتبه:
هذا حلال وهذا حرام! ! .
الثامنة: ليس للمنشيء في (نظره) أن يحدد معنى ما كتبه.
ذاك بعض ما قرره الغذامي في كتبه.. إلا إذا كان يعد كلامه كله إشارات حرة
لا تقيد بمعنى، وأنه (هو الآخر) إشارة حرة لا ينبغي الاعتداء عليها بالتقييد..
(المعنوي) ..! ، فمعناها لا يصح تحديده! .
هل يرى ذلك؟ .. ربما..! ، ويكون ذلك من تمام التأسي بإمامه بارت الذي
وصفه بأنه: جعل ذاته إشارة حرة فخلاها دالاً عائماً لا يحد بمدلول [الخطيئة،
ص 64] .
والغذامي قد شغفه ذلك البارت حباً.. ولعل هذا الحب هو الذي دفعه لينزلق
إليه في جحر الضب (والصب بالمهملة! ! تفضحه عيونه) ، وقد خصه بمبحث في
كتابه (الخطيئة) عنوانه: (فارس النص) ، ختمه بصفحة يعتذر فيها عن
(التقصير..!) ، ومما قاله في مبحثه عن إمامه: وما زالت الكلمة تعاني من القيد (؟)
حتى جاء فارسها وحررها من قيدها [الخطيئة، ص71] .
عود على بدء للأسئلة الثلاثة عشر:
س1: كيف أصبحت الكلمة بعد هذا التحرير؟
يقول: حرة مطلقة من كل ما يقيدها، فهي لا تعني شيئاً (؟) ، وهي إشارة
حرة، ولذا: فهي قادرة على أن تعني كل شيء [الخطيئة، ص70] .
س2: ولكن.. ألا يمكن أن تكون دالة على معنى بيّن؟
يقول: لا مكان للظن بأن النص الأدبي يحمل معنى محدداً أو أنه ذو معنى
على الإطلاق [الخطيئة، ص142] .
س3: ألا ترى أنه قد يؤدي هذا إلى العبثية في تفسير النصوص؟
يقول: سيظل النص يقبل تفسيرات مختلفة ومتعددة بعدد مرات قراءته
[الخطيئة، ص83] .
ماذا؟ !
يقول: فالبيت الشعري يحمل لألف قارئ من قرائه ألف معنى، أي: إنه
بيت بلا معنى محدد (؟) ، والقارئ هو الذي يفسره حسب ما تمليه عليه نفسه
(! !) [الخطيئة، ص269] .
س4: دكتور عبد الله..! هل يحق لكاتب النص أن يحدد معنى النص الذي
كتبه؟
يقول: ليس للكاتب أي حق على النص، لأن الكاتب إذا فرغ من كتابة نصه
يتحول إلى قارئ لما كتب.. وبذا: يدخل الكاتب نفسه كواحد من جمهور النص
يتلقاه مثل سواه من الناس، ومعانيه عنده لابد تختلف (؟) عن معاني الآخرين
[الخطيئة، ص95] .
س5: ولكن.. إذا كان كاتب النص لا يستطيع أن يحدد معناه ولا القارئ
كذلك في (نظركم) يا دكتور عبد الله.. فهل من سبيل إلى الوصول إلى المعنى
الصحيح؟
يقول: مادام أنه لا وجود للمعنى الثابت أو الجوهري، فإنه لن يكون هناك
مجال لحكم أو لحاكم على الصحة من عدمها [الخطيئة، ص8081] .
(عجيب! !) ..
س6: ولكن لماذا تخشى تحكيم المعنى؟
يقول: لو حكمنا المعنى فعندئذ نوقع المنشيء في إشكالات عديدة، قد نقول
بأنه قال ما لا يجوز له أن يقوله [الموقف من الحداثة، ص76] .
(هو هذا..! !)
س7: نعم قد يفعل ذلك.. فلو قلت شعراً (مثلاً) فيه سخرية بالدين وبرب
العالمين، فعند ذلك تستتاب، فإن لم تتب أقيم عليك حد الردة..، فماذا ترى؟
يقول:.. إن الشاعر لا يقع عليه الحد فيما قال في شعره [ثقافة الأسئلة،
ص 62] .
(لا إله إلا الله..)
س8: قد ورد عن الشعراء قوله (تعالى) : [والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم
تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وذكروا الله..] .. فمن هم هؤلاء الغاوون، الذين في كل وادٍ
يهيمون؟ .. من هم في (نظركم) ؟
يقول: هم شعراء النص الجميل فحسب [ثقافة، الأسئلة ص40] .
س9: مثل من؟
يقول: كعب بن زهير (..) [الموقف من الحداثة، ص67] .
س10: فمن شاعر الفئة المستثناه (إلا الذين آمنوا..) ؟
يقول: الشاعر الذي يعيد للكلمة قداستها من خلال إعادة الفعل إليها [ثقافة
الأسئلة، ص40] .
س11: مثل من؟
يقول: محمود درويش (..) [ثقافة الأسئلة، ص40] .
س12: دكتور عبد الله.. ما هو منهج المسلمين..؟ عفواً! !
أعني: هل تعلم لهم منهجاً؟
يقول: نمرّ بفترة تاريخية ضائعة الهوية الفكرية، وليس لعرب اليوم (فلسفة)
تميز ثقافتهم وتطلقها (بادئة) (؟) وتوجهها (غاية) (؟) [الموقف من الحداثة،
ص 153] .
س13: أخيراً.. نعلم أنك (تشريحي) المنهج، فكيف تفعل وأنت ترتدي
(ثوب الإسلام) حين تطبق منهجك على قصيدة لحمزة شحاته مثلاً؟
يقول: حينما أقرأ قصيدة شحاته لست عبد الله الغذامي الرجل العادي،
ولكنني عبد الله آخر انسلخ من نفسه مثلما تنسلخ الحية من جلدها.. [الخطيئة،
ص 262] .
عياذاً بالله..! !
وأختم تلك الأسئلة بما بدأتكم به:
فماذا يريد هؤلاء؟
كَشيشُ أفعى أجمعتْ لعض ... فهي تحكّ بعضها ببعض
وبعد الختام أقول لكم:
قد يكون الحديث دافئاً وعذباً لو كان عن (مجنون ليلى) ، أو (مجنون لبنى) ،
أو (مجنون عزة) .. بل ويكون واثباً حينما يكون عن (مجنون التراب) ..
فكيف يكون حينما يصبح عن (مجنون رولان بارت) ؟ !(88/61)
نصوص شعرية
أبحث عن ذاتي
محمد العتيق
أتملى في شعري حيناً ... أراني خلف الكلماتْ
أبحث عن ذاتي فكأني ... أبحث في أشتات رفاتْ
فيناديني الكلم عذولا ... من خلف حدود الأصوات
يا راصدَ نجمٍ لا يطلع ... طال مُقامك في الأمواتْ
فإلام تركّضُ أشعارك ... في ميدان هوى قد فاتْ
وإلامَ تسافر في الماضي ... تبحث في ذاتك عن ذات
دع عنك نياحك كالثكلى ... وتلمسْ درب الساداتْ
أسرج خيل مديحك فيهم ... قبّل هاتيك العتباتْ
واستنشق عبق مواطئهم ... وتسقّط منها البركاتْ
ويناديني الكلم: تأملْ ... هذا سعدك خذه وهاتْ
هات بقايا حُلُمٍ غالك ... وارهن شعرك كي تقتاتْ
دعْ عذلك عني يا كلمي ... هيهات أطيعك هيهاتْ
ما كنتُ لأحيا مملوكاً ... وأراني مِنْ عَبَدِ اللاتْ
أنا أعبدُ ربي في شعري ... أفأمنحه عَبْدَ الذاتْ؟ ؟(88/70)
المسلمون والعالم
بدعة جديدة
تفسير التاريخ أصولياً!
د. عبد الله عمر سلطان
العلاقة بين الغرب والإسلام تطرح نفسها هذه الأيام في صيغ تساؤلية متنوعة، وتكاد تكون هي أكثر المواضيع إلحاحاً وأبرز علامات الاستفهام انتشاراً، بل
وبحثاً عن الإجابة والشرح.
لم يعد الحديث عن الإسلام وعلاقته بالغرب اليوم موضوع بحث أكاديمي أو
دراسة استشراقية، لأن تتابع الأحداث وتشابكها يفرضان الدخول إلى الموضوع
عبر أكثر من بوابة وفوق جسور متعددة تصوغ واقع الحياة المعاصرة، وإن صح
ما قاله مراقب فرنسي اليوم من أن: أكثر من 80% من الأخبار التي تتعلق بالغرب
والعالم الثالث تصب في خانة الإسلام وعلاقته بالدول الصناعية، فإن الحديث عن
الإسلام كبؤرة اهتمام وملاحقة لا تحتاج إلى مزيد من البرهنة أو حشد الأدلة.
تهتم الدوائر الدولية والأمريكية خصوصاً بالحديث عن باكستان في هذه
المرحلة المهمة التي تتناول العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي، وهذا الاهتمام
قديم ومعروف، وقد بلغ ذروته إبان الحرب الأفغانية حينما ظهر واضحاً الشق
الإقليمي لهذه الدولة في الصراع الدولي، كما أن شعور الغرب القديم بأن باكستان
دولة إسلامية أصلاً؛ جعلها دوماً موضوعة تحت المجهر السياسي، لا سيما في
أوقات توجه الحكومة الباكستانية إلى إلغاء الفجوة بين شعار الإسلام وواقع الشارع
الباكستاني والقوانين والتشريعات المنظمة له.
وخلال السنتين الأخيرتين انكب بعض المراقبين والمحللين على دراسة
ظاهرة انتشار المد الإسلامي في باكستان، ومحاولة فهمه انطلاقاً من المقولة
الشهيرة: إن قوة الإسلام تكمن في بساطته وتعدد نشاطاته ومظاهره بين فئات
المجتمع، ويمكن أن يقال: إن أبرز نقاط قوة الظاهرة الإسلامية في باكستان ترجع
في نظر المراقبين الغربيين إلى عوامل مهمة، منها:
*تدين الشعب الباكستاني الفطري، وترسخ دور العلماء والمثقفين الإسلاميين
البارز في رسم التوجهات، وامتداد الشعور الإسلامي إلى المؤسسات المهمة من
خلال أفراد، لا سيما في الجيش الباكستاني، حيث ثبت لقادته أن باكستان تعامل
من كونها دولة مسلمة، وتحارب أو توظف من هذا المنطلق.
*التجربة التاريخية التي أثبتت أن باكستان مستهدفة لإسلامها؛ وذلك من
خلال: حروبها مع الهند، أو القضية الكشميرية التي ظُلِمت فيها باكستان بصورة
مجحفة، أو من خلال حرب أفغانستان ... وأخيراً: موضوع القنبلة النووية التي
حرمت البلاد من المساعدات الخارجية بسببها، بالرغم من مباركة الدول الغربية
لامتلاك الهند القنبلة النووية.
*التصريحات المتتالية لقادة الغرب المنادية بحرب الإسلام دون هوادة، ابتداءً
من طرح هنتجون الأكاديمي، ووصولاً إلى ترجمته السياسية الواقعية على لسان
ويلي كلاس أمين عام حلف الأطلسي، أو نيوت جنجرتش زعيم الكونجرس
الأمريكي.. عبارات من طراز: إن الأصولية الإسلامية لا يمكن وصفها إلا أنها
أخطر من الشيوعية كما ورد على لسان كلاس، أو: إن على أمريكا رسم سياسة
واستراتيجية شاملة لمواجهة الخطر الإسلامي كما صرح جنجرتش، هي التي تغذي
الكره للغرب وأدواته المحلية من رموز وأحزاب، وتشعر الباكستانيين أن ما يوحد
العالم ضدهم هو الإسلام.
*ضعف المؤسسات والشخصيات العلمانية، وارتباطها بطبقة من السياسيين
الفاسدين، واستجداء هذه الفئة من المعادين للمشروع الإسلامي لرجل الشارع من
خلال تقديم صورة (إسلامية) مقبولة، كما في نموذج بنازير بوتو التي اضطرت
إلى وضع (نصف حجاب) بدلاً من السفور التي كانت معروفة به، أو توقفها عن
مصافحة الرجال علناً! ، أو مشاركتها في مناسبات دينية، أو إصدارها تصريحات
قوية لمساندة قضايا إسلامية في البوسنة وكشمير، أو إخفائها لانتمائها الرافضي أمام
الجمهور السني العريض.
وإذا كان هذا وضع بنازير بوتو التي تعتبر ألمع الرموز العلمانية في باكستان، والمستندة على رصيد عائلي ودعم شعبي عريض نسبياً، فإن واقع الرموز
العلمانية الأخرى أضعف كثيراً، بل تعرض إلى مزيد من التراجع خلال العقد
الأخير.
*انكشاف واقع السياسيين الباكستانيين المغرق في الفساد والمحسوبية
واستغلال النفوذ سواءً أكان ذلك متمثلاً في حزب الشعب الحاكم برئاسة بوتو، أو
المعارضة برئاسة نواز شريف، وتلاحظ (الإيكونومست) أن الباكستانيين مجمعون
على أن طبقة السياسيين هم من محترفي الفساد ورعاية المصالح الخاصة، وأن
الأحزاب الكبيرة هي عبارة عن عوائل إقطاعية تملك المال وتستثمره في الحياة
السياسية لجلب مزيد من المكاسب، ولذا: فهم مستعدون لانتهاك مصالح البلاد في
سبيل مصالحهم الشخصية! ، وفي هذا السياق تتخذ الديموقراطية وسيلة لحفظ
نفوذهم، من هنا: يبرز الإسلام ورموزه كخلاص للملايين من الشباب والمثقفين
ورجال الأعمال، حيث تبرز من خلاله أخلاقيات ومُثُل يفتقدها أولئك الذين
يتاجرون به فقط، ولا يتبنونه ديناً شاملاً..
*تخلي الغرب وأمريكا خصوصاً عن باكستان بعد انتهاء الحرب الباردة
واندحار السوفييت في أفغانستان، وهناك شعور بين جميع الباكستانيين على مختلف
مشاربهم يدين هذا السلوك الانتهازي، الذي يوصف بالنفاق وحب الذات ويحرق
أوراق كل من يعتقد أن خلاص باكستان يكمن في علاقات متميزة مع (واشنطن) ،
وهو الشعار الذي ترفعه بوتو هذه الأيام بالتحديد.
أحداث كراتشي.. والقطيعة مع الذات:
على الرغم من أن أحداث (كراتشي) لم تنقطع منذ عام 1992م، إلا أن
الصحافة الغربية أبدت اهتماماً متزايداً منذ أن قتل دبلوماسيين أمريكيين يعملان في
القنصلية الأمريكية في (كراتشي) ، وعلى الرغم من أن حصيلة العنف جاوزت
(1200) شخص خلال عام 1992م، إلا أن تعامل حكومة بنازير بوتو معها كان
يمثل قطيعة كاملة مع المعنيين بالقضية، والتوجه مباشرة إلى واشنطن لتعزيز
مواقعها في الداخل عبر الدعم الخارجي.
فأحداث كراتشي تصلح نموذجاً لعرض الكيفية التي قررت بعض الحكومات
أن تتخذه لتضخيم المخاوف من الخطر الأصولي (حتى لو لم يكن هناك علاقة) الذي
يستهدف الغرب وفريقه المرتبط به محلياً.
المشكلة كما يقول دايفيد أولبرين أن (حزب المهاجرين) الذي يمثل 80% من
سكان المدينة لا يشعر إلا بالملاحقة والمطاردة ومحاولة فرض سيطرة حزب بوتو
على أكبر مدينة باكستانية، و (حزب المهاجرين) لا يمكن وصفه بأنه حزب
أصولي ألبتة، فهو يمثل المهاجرين إلى باكستان من الهند وقت التقسيم، وبحكم
كون (كراتشي) عاصمة ولاية السند التي كانت دوماً معقل عائلة بوتو، فإن بنازير
ظلت غير مكترثة بكراتشي وسكانها خصوصاً أن حزبها لم يكن يحظى بثقل
انتخابي في المدينة.. إنها مشكلة سياسية محلية ... بل مغرقة في محليتها
وأطرافها ... فماذا فعلت بوتو لحلها؟ .. تقول مراسلة مجلة (الإيكونومست) : إن بوتو ظلت تنظر إلى (كراتشي) نظرة الانتقام، وحينما كان يسقط عشرة قتلى في الأسبوع كانت تردد: إن سقوط عدة قتلى في اليوم أمر طبيعي، بل يجب أن ينظر إليه ببرود في مدينة بحجم (كراتشي) ..! !
سقوط عشرة قتلى في الأسبوع معناه أكثر من (500) قتيل في العام هو أمر
طبيعي جداً! ! ، لكن سقوط قتيلين أمريكيين قلب المعادلة.
اهتمت بوتو بالأمر أيما اهتمام، وبدأت تتحدث عن الفوضى العارمة التي
تجتاح المدينة، ولأن (الدم أمريكاني) فلابد هنا من بهارات ونكهات أصولية حتى
تكتمل الطبخة.. لقد اكتشفت بوتو أن (الأصولية) هي السبب، وأن أصابعها هي
التي تقف وراء أعمال العنف والشغب القبلية والقديمة، لذا: ناشدت أمريكا قائلة:
إنني مستهدفة وإياكم من الأصوليين، علينا أن نضع أيدينا بأيدي بعضنا البعض
لمحاربة هذا الخطر.. أنا بحاجة إلى مساعدتكم.
لكن الرد أتى سريعاً من أحد النواب الأمريكيين الذي علق قائلاً: ما دخل
أمريكا في لعبة (حزب الشعب) و (المهاجرين) ؟ ! صحيح أننا نحارب الأصولية،
لكننا لسنا أغبياء إلى درجة الاستغلال الممقوت أو تجيير حوادث مروعة لمصالح
أشخاص بعينهم، إن هذا الموقف لا يساند مواقف بوتو كما يقول مراقب بريطاني:
إن بوتو خلال زيارتها إلى أمريكا سمعت كلاماً معناه: أن كلينتون وإدارته لا
يمكنهم الاعتماد على حكومة ضعيفة لا تستطيع حفظ الأمن في شوارع أكبر مدينة
فيها ...
وهكذا لم تؤت الزيارة التاسعة والعشرون لبوتو ثمارها..، لقد سأل مراسل
(النيوزويك) بوتو عن سبب تجاوزها للرقم القياسي في عدد الزيارات الخارجية،
حيث قامت بثمان وعشرين زيارة رسمية خلال أقل من (18) شهراً، فردت بوتو:
إنني أسوّق باكستان للعالمية..، نعم تسوّق، أي: تعرضها للبيع، وتعرض دورها
كسمسار أو دلال متكأة على الخطر الأصولي، وتزايد عليه وتخلطه بكل حادث أو
فاجعة، بحيث يصبح التفسير الأصولي للأحداث نظرية جديدة تنافس نظرية
التفسير المادي للتاريخ لماركس، أو الجنسي لفرويد، بالرغم من أن الفشل
والانهيار هو مصير كل تفسير متعسف وظالم ومحارب لأبسط أبجديات المنطق،
فضلاً عن مصادمته لشرع الله.
في اليوم نفسه الذي كانت تفسر بوتو لأباطرة البيت الأبيض نظريتها، كانت
هناك تصريحات مشابهة تتحدث على لسان دكتاتور صغير أو كبير عن أهمية
الحرية والاستقرار وبشاعة الأصولية والتطرف، وتسوّق واقع شعوبها التعس من
خلال الأسلوب نفسه والمخطط ذاته: نحن نحميكم من التطرف، إذن: نحن وإياكم
في الخندق معاً.
فَهِمْنا إذن لماذا تكثر هذه الأيام الزيارات التسويقية إلى ضفتي الأطلنطي،
وعرفنا مصطلحاً جديداً في السياسة الدولية اسمه: تسويق الخوف من الإسلام
ورهن الشعوب والبلاد في مزاد صاخب مجنون، يرتجف من سماع الإسلام
باعتباره ديناً ومنهج حياة.
بنازير ليست الوحيدة التي تتاجر بهذه البضاعة الفاسدة.. لحظة تأمل قصيرة
أو التفاتة هنا أو هناك، تكشف أن المنافسة في هذه السوق مشتعلة في هذه الأيام!(88/72)
المسلمون والعالم
الصومال
بين أسياد الحرب وأسياد الفقر
-2-
محمد عثمان
رسم الكاتب في الجزء الأول من المقال صورة للوضع الحالي الذي يعيشه
الصومال، ورصد واقع الفصائل الصومالية المختلفة، ثم حلل مواقف الدول
العربية والغربية ودول الجوار، مبيناً مدى تأثير تلك المواقف على تفاعلات الوضع، ثم نوه بملامح حل إسلامي للموقف، وها هو يواصل معالجته للموضوع ببيان
موقف (أسياد الفقر) .
- البيان -
كان من نتائج الحرب الأهلية في الصومال نزوح أكثر من مليون صومالي
إلى الدول الغربية النصرانية وإلى الدول النصرانية المجاورة وبخاصة كينيا
والحبشة، وكان في انتظارهم في هذه المخيمات أسياد الفقر (هيئات التنصير)
ليجدوا مزيداً من المعاناة والإذلال.
بدأت حركة التنصير في القرن الإفريقي في العصور المتوسطة، عندما
قررت الكنيسة الحبشية إجبار المسلمين على التخلي عن دينهم، فقاومهم المجاهد
أحمد بن إبراهيم الملقب بالأيسر، وهزم جيوش النصارى وأقام حكومة إسلامية في
مدينة (هرر) إلى أن استنجدت الحبشة بالبرتغال، ووصول الأسطول البرتغالي إلى
شواطئ إفريقيا الشرقية، ومن العجائب: أن الأسطول العماني هزم الأسطول
الصليبي القوي وأجبره على الرجوع ... استمرت المقاومة باسم الإسلام، فكانت
ثورة محمد عبد الله حسن الذي قاوم الاستعمار الإنجليزي وحاربه أكثر من 20 سنة، ومع أن حركة محمد عبد الله عليها مآخذ كثيرة، إلا أنها كانت ذات أثر طيب في
محاربة الاستعمار ومخططاته الصليبية، فقد كتب البرلمان الإنجليزي إلى السيد
محمد عبد الله حسن وطلب منه توضيح مغزى جهاده، فأجاب: جهادي ضد
الأسقف الذي وضعتموه في بلدة (ديمولي) .
وفي عهد سياد بري نشطت حركة التنصير؛ حيث تلبست بثوب الإغاثة
والمساعدة الإنسانية، ففتحت الكنيسة في مقديشو أبوابها للمحتاجين والراغبين في
مِنَحٍ دراسية في الدول الغربية.
وقد بلغ العدد المسجل لدى الكنيسة أكثر من (000ر430) اسم حسب
ادعاءاتهم، وكان من توقعاتهم أن العدد سيصل إلى (000ر500) نصراني عام
2000م، وهذا في وجود حكومة ولو ضعيفة، ومن البدهي أن العدد سيتضاعف
مع الظروف الأخيرة.
إن الهيئات الإغاثية هدفها هو المتاجرة باسم الإغاثة، وإلا فأين نتائجهم، مع أن عددهم أكثر من (76) هيئة؟ ! ، ولقد ذكر مؤلف كتاب (Lords Of Poverty) : أن ما يصل إلى اللاجئين أقل من 20% مما يجمعه هؤلاء باسم
الإغاثة الإنسانية، والحقيقة: أن هدف الهيئات الحقيقي هو المتاجرة باسم المجاعة
والكارثة، ومحاولة تنصير الشعوب المسلمة.
لقد كان للإغاثة الإسلامية أثرها الطيب في إغاثة المسلمين في الصومال سواء
في الداخل أو في مخيمات اللاجئين حيث توجد بعض هذه الهيئات مثل:
1- المنتدى الإسلامي
2- مؤسسة الحرمين.
3- لجنة مسلمي إفريقيا.
4- جمعية إحياء التراث الإسلامي.
5- مؤسسة الإبراهيم الخيرية.
6- وكالة الرحمة.
7- الهيئة العليا ... وغيرها.
ولقد قامت هذه الهيئات بأعمال جليلة، حيث: أنشأت مخيمات للاجئين،
وقامت بتوفير المواد الغذائية والصحية والمستلزمات الأخرى الضرورية، ومن
أعمالهم الطيبة قيامهم بإنشاء مطابخ جماعية في المناطق المنكوبة.
ورغم أن الهيئات الإسلامية قامت بأعمال جليلة ألا أنه كان ينقصها الإعلام
القوي والتخطيط والتنظيم الرفيع والترتيب العملي فيما بينها.
إن ما تقوم به الهيئات النصرانية في الصومال يجب إيقافه، وبالتالي إحلال
هيئات إسلامية محلها، وإلا فالنتيجة المتوقعة سيكون لها عواقب وخيمة.
ومن أنشط الهيئات النصرانية: الكنيسة السويدية المتعصبة، ولها أكثر من
هيئة في الصومال الآن، منها:
1- الكنيسة السويدية للإغاثة (SCR) .
2- وهيئة ديكونيا (DEKONIA) .
وقد فتحت الأخيرة صالة لتجميل النساء! ! في إحدى مدن شمال شرق
الصومال.
ومن الهيئات النشطة: (الصليب الأحمر) ، الذي وضع علامة الصليب على
المباني، وكذلك كونسورن العالمية، وكونسورن الأيرلندية (Concern) .
وصندوق إنقاذ الأطفال البريطانية (Savethe Children Fund) .
والعون المسيحي (The christin Relief) .
واللجنة الكاثوليكية للإغاثة (The christin Relief) .
وأطباء بلا حدود الفرنسية ... وغيرها.
لقد قام الإخوة الدعاة داخل الصومال وخارجها بمحاربة التنصير بين الأفراد
ومتابعة نشاط المنصرين وأساليبهم، ولقد كان للإخوة الدعاة جهود مشكورة، حيث
فتحوا خلاوي (مدارس تحفيظ القرآن) ومدارس داخل المخيمات، وكذلك مراكز
للجاليات في الخارج، كما قامت (الجمعية الإسلامية لمكافحة الحملات التنصيرية)
في الصومال ومقرها مقديشو بأعمال جليلة، مثل: جمع معلومات عن الهيئات
التنصيرية وعدد المنصرين من الصوماليين، وحصر مخططاتهم وكشفها للشعب
الذي تذمر لما يقوم به هؤلاء من عمليات تنصيرية وغار لدينه، فقام بقتل عدد كبير
من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية (Colonbo Salvadore) في مقديشو عام 1990م.
بيان بأسماء الهيئات التنصيرية العاملة في الصومال:
1- الصليب الأحمر الدولي السويدي. 26- الإغاثة السويدية.
2- وكالة الإغاثة والتطوير اليهودية. ... 27- الحركة العالمية ضد الجوع
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (فرنسا) .
3- مجلس التضامن العالمي. ... 28- وكالة البحوث والتعاون في
... ... ... ... ... ... ... ... التطوير (بريطانيا) .
4- أوكسرم (البريطانية) . 29- الجمعية الأمريكية للصداقة.
5- كونسورن (الأيرلندية) . 30- شيفا (الإيطالية) .
6- جول (الأيرلندية) . 31- ميسان (الكوري) .
7- تروكير (الأمريكية) . 32- التعاون (الإيطالي) .
8- اتحاد إنقاذ الأطفال (الأمريكية) . 33- المجلس العالمي للإغاثة
والتطوير (بريطانيا) .
9- صندوق إنقاذ الأطفال (البريطانية) . 34- أوكسفورم (كوبيك - كندا) .
10- الكنيسة السويدية للإغاثة. 35- الصيدلة بلا حدود (فرنسا) .
11- كونسورن العالمية. ... 36- سمير تانس بورص (أمريكي)
12- كاريتاس الصومالية (إيطالية) . ... 37- العون المسيحي (بريطانية) .
13- اللجنة العالمية لتطوير الشعوب. 38- سوس (الإيطالية) .
14- هوم ريد. ... 39- سوس العالمية (أمريكية) .
15- المؤسسة الإفريقية للبحوث الطبية. 40- سوس للأطفال (نمساوية) .
16- اللجنة الأمريكية للاجئين. 41- فيشن العالمية (أمريكية) .
17- اللجنة الكاثوليكية للإغاثة. 42- المعونة للعمل الفني (ألمانية) .
18- اللجنة العالمية للإنقاذ. 43- هاند كوب العالمية.
19-\ الطب العالمي. ... 44- الصداقة (الأمريكية) .
20- أطباء بلا حدود (بلجيكا) . 45- الخطوط العالمية (أمريكية) .
21- أطباء بلا حدود (فرنسا) . 46- كاندي (أمريكي) .
22- أطباء بلا حدود (هولندا) . 47- المؤسسة الخارجية لإغاثة
المنكوبين (أمريكي) .
23- أطباء بلا حدود (أسبانيا) . 48- دارت (أمريكي) .
24- حركة العون (بريطانية) . 49- كير (الأسترالية) .
25- مجمع الطب العالمي (أمريكي) . 50- اللجنة الأوربية للإغاثة.
وأخيراً:
فتلك أوكار التنصير العاملة بين أفراد الشعب المسلم في الصومال، والغريب
أنه لا يوجد حضور للهيئات الخيرية الإسلامية إلا القليل مما ذكر سابقاً، ألسنا
مقصرين في حق أحبتنا هناك؟ ! ثم: كيف نتعجب بعد ذلك مِن تنصر أعداد غير
قليلة من الصوماليين، باستغلال فقرهم وجهلهم ومرضهم؟ ! .. إننا بحاجة إلى
مزيد من الدعم والمساعدة لهم وجمع كلمة ذوي الشأن هناك على كلمة سواء، حتى
تستقر أوضاعهم، وتستقيم أحوالهم، ومن ثم: العودة صفاً واحداً لبناء بلدهم الجديد، بعيداً عن كل التوجهات الحزبية والقبلية التي أوردتهم المهالك، ولن يجمعهم سوى
الإسلام، وهو ما يعلنون جميعاً الإيمان به..
والله من وراء القصد..(88/78)
المسلمون والعالم
الأزمة الشيشانية إلى أين؟
مدخل لفهم المسألة الشيشانية
محمد أمين
تمهيد:
دخل المسلمون في القرون الأخيرة نفقاً مظلماً بسبب تفريطهم في أمور دينهم
وابتعادهم عن أوامره واقترافهم نواهيه، ولن يخرجوا من هذا النفق إلا بالرجوع
إلى كتاب الله وسنة رسوله وأن يبدؤوا التغيير وفق السنن الشرعية والكونية؛ قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم
الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تعودوا لما تركتم من دينكم [رواه
أبو داود، ح/3462] .
وليُعلمَ أن غاية إصلاح المصلحين وغاية تغيير هذا الواقع المر يجب ألا تكون
تكثير الأرزاق أو استقلال الشعوب والقرارات أو تحرر الاقتصاد أو ما شابه ذلك،
كلا، بل يجب أن تكون غاية التغيير هي تعبيد الناس لرب العالمين؛ [وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون] [الذاريات: 56] ، وما سوى ذلك فهو تبع.
لذلك: فإن كل الحلول العجلى من المخلصين والغيورين على الدين التي تقع
منهم بدون فهم كامل لسنن التغيير مصيرها الفشل وجر الأمة إلى مزيد من التخبط
والتجارب الفاشلة.
ولعل مما يؤلم: أن نجد من إخواننا الدعاة إلى الله ممن نالوا نصيباً من الفهم
لكتاب الله وسنة رسوله ومنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة والجهاد، ينساقون وراء المتعجلين والمتسرعين والمزايدين، ويحسنون الظن بمن هو ليس
أهلاً لذلك، ويستحسنون تلك الدعوات، ويعجبون بتلك الشعارات البراقة دون
تأمل في حقيقتها وخلفيتها ومآلاتها.
لقد آن أوان أن نقول لكل صاحب دعوة جهادية: قف وتأمل فيما تقول وتعمل، وعرّف الراية التي ترفعها وبرهن عليها، واعرض ما تقول على أولي العلم
والبصيرة حتى تستحق رايتك أن يوالى عليها، ويدعى الناس إليها.
وهذا كله حتى لا تصاب الأمة وشباب الصحوة بالذات بالإحباط والزهد في
نصرة الدعوات الصادقة.
ويؤلمني أن أمثل لقولي هذا بقضية مسلمي الشيشان، ففي الوقت الذي تعاني
فيه الأمة من الجراح التي تنزف ألماً ودماً في فلسطين وأفغانستان والبوسنة..
ينفجر جرح جديد في مكان آخر عزيز علينا في بلاد الشيشان في القفقاس، فما أن
أعلن الرئيس الجنرال جوهر دوداييف (القائد السابق لفرقة القاذفات الاستراتيجية في
الجيش الروسي) قيام جمهورية الشيشان الإسلامية واستقلالها عن روسيا الاتحادية
في نوفمبر (1991م) حتى بدأت المؤامرة من قِبَل روسيا لإفشال هذا الاستقلال
(وليس إسقاط دوداييف) والعودة بالشيشان إلى الحظيرة الروسية النتنة.
وتتسلسل الأحداث حتى تنتهي باجتياح روسي وحشي وبربري للعاصمة
(جروزني) ومدن (شالي) و (أرجون) ، وما زالت المعارك مستمرة.
وتنزف الدماء الغزيرة، وتبكي البواكي على أطلال (جروزني) ، وتزداد آلام
المسلمين وحسرتهم، ولكن صمود رجال الشيشان الأشاوس أمام الجيش الروسي
خفف من آلام المسلمين والمحبين، لأنه حط من كبرياء الجيش الروسي، وأنزله
من عليائه، وحد من غطرسته؛ فتنادى بعض المسلمين للجهاد، وتعالت أصوات
بأن هنالك هجمة صليبية جديدة ضد المسلمين قد بدأت في بلاد الشيشان، وأبرز
الإعلام المحلي والعالمي هذه الحرب وبيّن حجم الدمار والقتل الذي حل بالبلاد
والعباد.. وكلٌ له مقصد، والله يعلم هدفه.
والمسلمون والدعاة مستبشرون خيراً بقرب أوان بزوغ فجر جديد للإسلام في
تلك البلاد، وقيام دول إسلامية مستقلة بعد ما يزيد عن قرنين من الاستعمار
الروسي الكريه، وبنوا استنتاجهم على فرضيات ظنوها حقائق وحسابات حسبوها
قواطع، وهي:
1- أن القفقاس بأكمله سيهب للمناداة باستقلاله بعد أن شاهد الصمود البطولي
للجيش الشيشاني والمتعاونين معه.
2- أن المتاعب الاقتصادية التي تعاني منها روسيا وتكاليف الحرب الباهظة:
كفيلة بإنهاكها وإفقارها.
3- تزايد أعداد القتلى والمصابين خاصة بعد أن تقوم حروب العصابات
الكفيلة باستنزاف الجيش الروسي.
4- إمكانية ظهور معارضة قوية ضد يلتسين، تزيله من حكم البلاد،
وتعترف بحق الشعوب القفقاسية في الاستقلال.
5- وجود نزعة دينية في تلك الشعوب كفيلة بتوحيدها وإثارة روح الجهاد
فيها ضد المستعمر الروسي.
لكل هذه الأمور والأسباب يظن الظانون بأن هذه الحرب ستسفر بإذن الله عن
قيام دول إسلامية في تلك المنطقة، لذلك لابد أن تدعم هذه الحرب ويستنزف
الجيش الروسي فيها، وترفع راية الجهاد، وتتحمل كافة تبعات هذا الموقف.
ودللوا على إسلامية المعركة الدائرة بما يلي:
1- إعلان الاستقلال عن روسيا الكافرة وتكوين جمهورية الشيشان الإسلامية.
2- أن جوهر دوداييف نادى بالإسلام، وبالحل الإسلامي، وبالانفصال عن
روسيا، ومنع الخمور أخيراً..!
3- إحسان الظن بالقيادات على اعتبار أنها إسلامية الأصل، وأنها راجعة
إلى الله بعد الجهل والضلال الذي كانت فيه، ويجب أن لا نطالبها بما لا تستطيعه
الآن..!
4- أن لهذه الشعوب تاريخاً عريقاً في مقاومة الروس وجهادهم، وهي لن
تهدأ حتى تحقق غايتها في إخراج الروس والانفصال عنهم.
5- يكفي في هذه الحرب أنها ضد روسيا التي أذاقت المسلمين مر العذاب،
وتآمرت عليهم في (البوسنة) .
دعوة للتأمل! :
وفي ظني أنه قبل مناقشة هذه الفرضيات والحيثيات وأنا لن أناقشها أحب أن
ألفت النظر إلى بعض النقاط التي أحسبها مهمة جداً ومعينة إلى حد كبير في إصدار
الحكم على مثل هذه القضية، لذلك سأورد بعض الوقائع على هيئة نقاط وأترك
تحليلها للقارئ الكريم، وهي أنه لابد لنا من:
1- معرفة الواقع السياسي الموجود على الساحة السياسية الروسية، ووجود
قطبين مهمين، وهما: يلتسين ووزير دفاعه من ناحية، والمعارضة بقيادة إيجور
جيدار (رئيس الوزراء السابق) وأعوانه من ناحية أخرى، وكل قطبٍ له أعوانه
وأنصاره النافذين في الدولة، وليس من السهولة القضاء على أي واحد منهما، مع
أن كل واحد منهما يسعى للسيطرة على مقاليد الحكم وخدمة أهدافه.
2- أيضاً لابد لنا أن نعرف ونحدد دوافع حرب روسيا على الشيشان، وهل
هي بسبب:
أ- الدافع الأمني الروسي: لكي تحمي روسيا حدودها الجنوبية التي تشهد
القلاقل والنزاعات، وأيضاً لما تمثله الشيشان من ثقل استراتيجي في المنطقة نتيجة
الموقع والكثافة السكانية (2. 1 مليون نسمة) .
ب- الدافع العسكري الروسي الداخلي: حيث إن القيادة العسكرية الروسية
الممثلة في بافل جراتشوف وزير الدفاع تعاني من فساد مالي كبير وتواجه اتهامات
بذلك، إضافة إلى فقدان الانضباط في الجيش الروسي، وتدني كفاءته القتالية،
فجاءت هذه الحرب لإخفاء هذه العيوب وصرف النظر عنها.
ج- الدافع الاقتصادي الخارجي: حيث إن أذربيجان وقعت اتفاقية تعاون مع
مجموعة من شركات النفط العالمية المتعددة الأجناس بقيادة (بريتيش بتروليم)
(صفقة القرن) ، وذلك لاستخراج ونقل (511) مليون طن من النفط من أذربيجان
إلى أوروبا، فأرادت روسيا الاستفادة من عوائد هذه الاتفاقية الكبرى، لأن طريق
النقل المرشح يمر عبر أنابيب نفط الشيشان.
د- دافع استغلال النفط الشيشاني: حيث إن الشيشان من المناطق الغنية
بالنفط في روسيا، فلم ترد روسيا التفريط فيها، ولكن لو نظرنا إلى إنتاج الشيشان
من النفط في عام 1993م لوجدنا أنه (6. 2) مليون طن، وإنتاج روسيا للفترة
نفسها (354) مليون طن، لعلمنا أن ما يمثله إنتاج الشيشان للنفط ليس بالإنتاج
المغري لروسيا.
هـ- الدافع السياسي الداخلي ليلتسين: أراد أقطاب السياسة في روسيا أن تكون أزمة الشيشان وأرضه ميدان المعركة الحقيقي بينهم؛ فالذي ينتصر فيه سيملك كثيراً من أوراق اللعبة السياسية في روسيا، ولعل مما يؤكد ذلك: التناقض الكبير في مواقف السياسيين والعسكريين الروس من هذه الحرب، أضف إلى ذلك: انتشار فضائح الجيش الروسي في التلفاز المستقل والصحافة الروسية.
و الدافع الديني (الصليبي) : شنت روسيا هذه الحرب، لأنها تتخوف من المد الإسلامي الذي بدأ يصحو في روسيا، ولكننا بنظرة سريعة متأملة نجد أن عدد المسلمين في روسيا الاتحادية حوالي عشرين مليوناً من أصل (150) مليون روسي، أي: بنسبة 7% من عدد السكان، وهي نسبة غير مؤثرة ولا فعالة خاصة إذا عرفنا مدى الجهل الذي يعيشه المسلمون هنالك وقلة الجهود بل ندرتها ... التي تركز على تعليمهم وتشغيلهم.
3- لابد من معرفة مدى تأثير سبعين سنة من الحكم الشيوعي التسلطي على
الشعوب الإسلامية، وحجم التضليل الذي سلط عليهم عبر البرامج الإلحادية
والحزبية، وما أسفر عن ذلك من تكوين جيل من تلك الشعوب تتبنى قيم ومبادئ
الاشتراكية والعلمانية التي تخالف أصول دينه ومعتقداته.
4- لابد لنا من معرفةٍ أكثر تفصيلاً بالشعب الشيشاني وقياداته:
أ- معرفة الخلفيات السياسية والثقافية للقيادات الشيشانية المؤثرة الآن على
الساحة، ومعرفة صدق توجهاتها وإخلاصها لمبادئها.
ب- معرفة التركيبة القبلية الموجودة في المجتمع الشيشاني، وهو نظام
التايبات وهو القبيلة المكون من غارات أي: جماعات وتوجد في الشيشان (170)
تايب، (100) من التايبات الجبلية، و (70) من السهلية، ويجب أن نحدد أساس
ولاء تلك التايبات للقادة، هل هو على أساس ديني أو قومي، سياسي أو مادي.
ج- معرفة الخلفية الدينية لتلك الشعوب ومدى تغلغل الإسلام الصحيح الخالي
من الشرك في نفوسهم وواقعهم، ومدى فهمهم للإسلام، وهل الموجود لديهم الآن
هو الحد الأدنى المقبول الذي يعتمد عليه في حرب جهادية نأمل من ورائها نصر الله
وفتحه.
5- لابد من معرفة أوضاع شعوب القفقاس الأخرى، وما هو موقفها من هذه
الحرب، كذلك حقيقة أوضاعها الدينية والاقتصادية والتركيبة الاجتماعية وولاءاتها
السياسية.
6- موقف الدول الغربية وبالذات أمريكا من إشعال هذه الحرب، ومدى
الإفادة التي سيحققها الأمريكان والغرب من هذه الحرب وتطوراتها، مع الأخذ في
الاعتبار الأمور الآتية:
أ- مازالت روسيا في نظر الغرب قوة عظمى يحسب لها حساب، وهناك قلق
ومخاوف من أن تعود روسيا للحكم العسكري المخابراتي التسلطي.
ب- الإمكانات العسكرية والبشرية الضخمة التي لدى روسيا، وبالذات في
القدرات النووية والصواريخ والأسلحة التقليدية، أضف إلى ذلك عدد السكان الذي
يبلغ (150) مليوناً.
ج- البنية التحتية الضخمة التي تملكها روسيا التي وإن كانت تفتقد إلى
الحداثة، ولكنها قادرة على تلبية احتياجات روسيا الضرورية، وبالذات في أوقات
الأزمات.
د- الموارد الطبيعية الهائلة التي تزخر بها روسيا الاتحادية.
هـ- المساحة الشاسعة من الأراضي التي تحقق لروسيا عمقاً استراتيجياً ليس من السهولة إغفاله.
6- موقف القوى الإقليمية المحيطة بالقفقاس، ومدى إفادتها من هذا النزاع
(إيران، أذربيجان، تركيا) .
7- لابد لنا من أن نعرف تسلسل الأحداث في جمهورية الشيشان منذ عام
1991م وحتى الاجتياح البربري الروسي في 11/12/1994م، حتى نحدد صدق
دعوى كل فريق، وصدق الراية التي يرفعها. والأحداث باختصار هي:
أ- عقد المؤتمر العام للشعب الشيشاني في 25 نوفمبر 1990م، وحضرته
مجموعات متنافسة، أهمها: مجموعتان، لكل مجموعة أنصار من القبائل
الشيشانية، وهما:
1- التقليديون برئاسة ليتشا أمخاييف وتدعمه حركة (دايمو كخ) التي تتزعمها
واحدة من أكبر قبائل الشيشان، والتحق به سلام بيك نائب البرلمان الروسي في
الاتحاد السوفيتي السابق، ووزير صناعة الكيمياء البترولية في روسيا ... وغيرهم.
2- القوميون: وتمثل هذه المجموعة (الحزب الديموقراطي الفيناخي) برئاسة
زيليمخان ياندارييف، وحركة (غولام) ، و (حزب الطريق الإسلامي) برئاسة
جانتيمروف، وتزّعم القوميين آنذاك كل من بيسلان جانتيميروف وياراجي
مماداييف الذي أصبح فيما بعد مسؤولاً عن النفط الشيشاني، وهما اللذان تزعما
المؤتمر وطالبا بتقسيم السلطة في الجمهورية بصورة عادلة وقاطعة.
ب- تم في مايو 1991م عقد المؤتمر الثاني للشعب الشيشاني، وقد أحرز
القوميون فيه انتصاراً ساحقاً بقيادة ياراجي مماداييف، ورئيس (الحزب
الديموقراطي الفيناخي) زيليمخان ياندارييف على التقليديين، وانتخب دوداييف
رئيساً للّجنة التنفيذية للمؤتمر، الأمر الذي أدى إلى الانشقاق، وترك المؤتمر كلّ
المثقفين برئاسة ليتشا أمخاييف وسلام بيك حاجيف.
ج- بدأت ثورة (فيناخ) في 6 سبتمبر 1991، ولعب فيها أتباع مماداييف
ودعمه المالي دوراً مهماً في الانتصار، وتقاسم الظافرون مقاعد القيادة مؤقتاً فيما
بينهم.
د- في 27 أكتوبر 1991 عين دوداييف رئيساً، وترأس جانتيمروف الحرس
القومي، وعين مماداييف وزيراً للنفط، وهو أهم منصب على الإطلاق في الدولة،
وهو السبب فيما حدث بعد ذلك.
هـ- في نوفمبر 1991 أعلن استقلال الشيشان عن روسيا الاتحادية.
و في أوائل 1992 غادرت القوات الروسية الشيشان، وتركت باختيارها
الأسلحة والمعدات الحديثة والطائرات في الشيشان.
ز- في مارس 1992 خططت المعارضة وقامت بهجوم فاشل على العاصمة
(جروزني) ، وفي أثنائه جاء دعم سريع من (موسكو) للحكومة مقداره (150)
مليون روبل، تبعه في أغسطس 1992 دعم آخر مقداره (500) مليون روبل،
وفي أواخر عام 1992 وصل (موسكو) مماداييف، وطلب مبلغ (2. 5) مليار
روبل للحكومة، واستجيب لطلبه.
ح- وقع نزاع بين أقطاب السلطة على البترول: مماداييف وأتباعه من جهة، ودوداييف وأتباعه من جهة أخرى خاصة إذا عرفنا أن إجمالي الدخل من النفط
خلال سنتي الحكم بلغ (5. 2) مليار دولار ذهبت لأقطاب السلطة من الطرفين،
وبدأ كل طرف يبحث عن فضائح الآخر، وحصلت اغتيالات في كل من
(جروزني) و (لندن) بسبب هذه الأمور، وبدأت القبائل (التايبات) تميل إلى أحد
الطرفين بحسب مصالحها.
ط- انقسم البرلمان نتيجة لهذا الصراع إلى قسمين: قسم مع دوداييف وعدده
(12) برلمانياً، و (29) مع المعارضة.
ي- خطط البرلمان لإجراء استفتاء على الثقة في دوداييف والبرلمان في 5
يونيو 1993، وليس على الاستقلال.
ك- في 4 يونيو تم تحطيم اللجنة الانتخابية من قِبَل أنصار دوداييف، وفي 5
يونيو وقعت الاصطدامات بين القوى المعارضة والحكومة، وفرّق دوداييف بواسطة
المصفحات اجتماعاً لأنصار إجراء الاستفتاء، وألغيت بطاقات الاقتراع.
ل- أصبح جانتيمروف الذي كان رئيساً للحرس وعين بعد ذلك وزيراً عدواً
لدوداييف، وانحازت معه تشكيلات مسلحة من الجيش، وأعلنت منطقة (نادتير
يتشيني) استقلالها وتكوين (الجمهورية الشيشانية) على التيرك، وأصبح زعيمها
المحافظ السابق للمدينة عمر أفترخانووف.
م- نتيجة لهذه الصراعات، وبعد الفضائح التي لحقت بمماداييف، فقد هرب
إلى (موسكو) ، وأصبح رئيساً لحكومة الثقة الوطنية، واستقر الوضع إلى حدّ ما
لدوداييف.
ن- كانت القوى السياسية في (موسكو) ترقب الوضع في الشيشان عن بعد،
ويحاول كل طرف أن يلعب بالأوراق التي في يده لإضعاف الطرف الأخر (أنصار
السلام، وأنصار الحرب) .
س- في أكتوبر عام 1993م حينما رفض دوداييف التوقيع والمشاركة في
الاستفتاء الخاص بدستور روسيا الاتحادية، قوي اتجاه أنصار الحرب وبدأت عجلة
الحل العسكري بالظهور، وتبع ذلك تبني أنصارُ الحرب المعارضةَ الشيشانية
وتسليحها ودعمها ضد دوداييف، وانتهت بالاجتياح الروسي للعاصمة (جروزني)
ومدن (شالي) و (أرجون) ، وما زالت المعارك مستمرة.
8- لابد من معرفة أن مع الجيش الروسي قطاعاً كبيراً من المعارضة
الشيشانية، وهم وإن كانوا يؤيدون الاستقلال، ولكن ليس بمفهوم دوداييف،
ويرون في هذه الحرب أنها حرب سياسية وليست دينية، وفي الجانب الآخر:
يقاتل في صفوف دوداييف جماعات من (جورجيا) و (أوكرانيا) ومن دول البلطيق.
نحو نظرة أكثر موضوعية لتحليل الأحداث:
لذلك: فإني أحسب أن إيراد مثل هذه النقاط، التي تعبر عن وقائع ملموسة
غير خافية على أحد، كفيلة بإعطاء تصور شبه واضح عن حقيقة هذه الحرب
ودوافعها ومآلاتها ونتائجها المتوقعة على المسلمين على المديَين المتوسط والبعيد
وعلى التوازنات الإقليمية والدولية.
إنني أرجو بهذا العرض السريع لواقع الأزمة الشيشانية أن أكون قد لفتّ نظر
الأخوة إلى جانب آخر من القضية جدير باهتمامهم وعنايتهم، تاركاً لهم استنتاج
النتائج، وأرجو مع ذلك أن نخرج على الأقل بتصور عام واضح عن هذه القضية
وإن لم نتفق على كل تفصيلاتها، على أن نضبط جميع مواقفنا وقراراتنا ورؤانا
بضابط الشرع (من كتاب وسنة) على فهم السلف الصالح، وأن لا ننساق وراء
المكاسب الوقتية والأهداف القريبة، وننسى المكاسب الدائمة والأهداف الاستراتيجية
وتحقيق الغاية العظمى، ألا وهي: تعبيد الناس لرب العالمين.
وما سبق ذكره أجمله فيما يلي:
أولاً: الحرص على فهم كتاب الله وسنة رسوله فهماً صحيحاً وفق منهج
السلف الصالح (رضوان الله عليهم) ، وأن نستخلص من ذلك منهج التغيير الشرعي
وفق السنن الشرعية والكونية.
ثانياً: الحرص على النظرة البعيدة للوقائع والأحداث، وأن لا نتنازل عن
الأهداف الاستراتيجية والغاية العظمى لمكاسب وقتية وأهداف مرحلية.
ثالثاً: أن لا ننخدع بوسائل الإعلام العالمية والمحلية، وأن ننظر في الأخبار
نظرة فاحص ومدقق ومتثبت، وأن لا نخدع بالعبارات المنمقة والتهويشات
والمبالغات الإعلامية أو التحقيقات السطحية العاطفية.
رابعاً: أن لا نتخذ مواقف في القضايا الحاسمة إلا بعد عرضها على أولي
العلم والبصيرة، بعد عرض الوقائع والخلفيات للحدث والمؤثرات التي تؤثر فيه،
والنتائج المترتبة عليه.
خامساً: أن لا ننسى ونحن نواجه هذا النظام العالمي الجديد قول الله (تعالى) :
[وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال]
[ابراهيم: 46] فأولياء الشيطان من اليهود والنصارى يخططون ويعملون ويستحمرون من يحقق لهم أهدافهم بغض النظر عن دينه ومعتقده وسلوكه، فالحذر الحذر من أمثال هؤلاء ودعواتهم.
سادساً: يجب على الدعاة تحديد الأولويات، وأن تكون أولى الأولويات نشر
التوحيد ومحاربة الشرك الأكبر، وهذا لا يتحقق إلا بنشر العلم، وتوفير وسائله
ومصادره، فلا نصر ولا تمكين إلا للموحدين؛ [كتب الله لأغلبن أنا
ورسلي..] [المجادلة: 21] .
سابعاً: أن القيادة السياسية في الشيشان هي قيادة عليها كثير من الملاحظات:
من حيث تاريخها السياسي، وخلفيتها السابقة في الحزب الشيوعي، ودوافعها في
الإعلان عن هذه الراية الإسلامية مع عدم الفهم الحقيقي لها ولما تعنيه من التزامات
وتبعات وولاءات، ثم عدم توفر أسباب النصر الشرعية والكونية.
ثامناً: إن هذه الحرب هي حرب سياسية قمعية من روسيا، لها دوافع كثيرة
في إشعالها، منها:
1- حسم الخلافات السياسية في (موسكو) بين أقطاب الحكم، وتقوية موقف
الرئيس يلتسين ووزير دفاعه أمام المعارضة.
2- إثبات هيبة الحكومة الروسية في المجالين الداخلي والخارجي بوصفها قوة
عظمى مازالت تمسك بزمام الأمور وتتحكم في مساراتها.
3- تريد الحكومة أن تعطي درساً قاسياً للشعوب الأخرى التي تطمع في طلب
الاستقلال عن روسيا، وذلك بواسطة تدمير الشيشان.
4- الدافع الاقتصادي ورغبة روسيا بأن لا تفلت من يدها الفرصة الاقتصادية
النفطية التي حدثت في أذربيجان، وكذلك إثبات حضورها القوي في المنطقة.
تاسعاً: إنني أستحث الأخوة الغيورين على دينهم وأمتهم بأن يمدوا يد
المساعدة العلمية الدعوية أولاً والإغاثية ثانياً، فهذا أهم ما يحتاجونه الآن، والمجال
متاح لمن أراد ذلك، وبالذات من خلال المناطق المجاوره بإذن الله (تعالى) .
عاشراً: أن الوضع السياسي الداخلي في روسيا المعقد بدرجة كبيرة والتدهور
الاقتصادي يجعلان من الصعب إصدار أحكام قاطعة ونتائج نهائية لأي تحرك
سياسي أو عسكري.
وختاماً: فإنني لا أدعي الإحاطة بكامل الموضوع، ولكنني أفتح باباً للتأمل
ولتأصيل منهج في اتخاذ المواقف، أرجو من الإخوة أن يتأملوه ويتفكروا فيه،
داعياً الله أن يعلي كلمته ويعز أولياءه.. والله غالب على أمره..(88/83)
متابعات
هذا هو واقع المسلمين في الفلبين
(نقد لما نشر سابقاً حول الموضوع)
بعد صدور العدد (85) من البيان الذي تضمن مقالة عن مسلمي الفلبين تحت
عنوان: (نظرات في واقع المسلمين في الفلبين) للأخ الفاضل الحافظ يوسف موسى، ومع ما أجريناه على أصل المقالة من تعديل وتقييد لإطلاقاتها وتهذيب لأسلوبها
وتعليق: فإنها مع ذلك واجهت نقداً ساخناً من بعض الأخوة الأحبة الذين عتبوا على
البيان نشرها تلك المقالة التي هضمت الجهود الكبيرة للعاملين في الدعوة إلى الله
بين مسلمي الفلبين، ولقد وصلنا أكثر من رد وعتاب، من أوسعها تناولاً مقالتان:
الأولى: للشيخ سعود العوشن، والأخرى: لأخينا المستشار عبد الرحمن
السنيدي، ونظراً لطولهما فقد اضطررنا لاختصارهما لضيق المساحة، شاكرين
لهما إيضاحهما وما أبدياه من تعليق موضوعي، وفق الله الجميع.
- البيان -
تعليق الشيخ سعود العوشن، ويمكن تلخيصه فيما يلي:
1- إن مقالة الأخ الحافظ يوسف موسى كالت التهم بما يغاير الحقيقة والواقع، ولو أنه اقتصر في مقالته على مشاهداته ومعاناته في رحلته لكان هذا هيناً، لكنه
عمم وأطلق بما يخالف الحق والحقيقة.
2- نسي الكاتب أن من مسلمي الفلبين الكثيرين من خريجي الجامعات
الإسلامية وبخاصة في السعودية وغيرها.
3- أن ادعاء عدم الرد على الرافضة غير صحيح، وذكر الشيخ سعود العديد
من الكتب والرسائل العلمية المترجمة إلى اللغة الفلبينية، مثل: (الخطوط
العريضة) لمحب الدين الخطيب، و (هذه نصيحتى لكل شيعي) للشيخ أبي بكر
الجزائري، و (بروتوكولات قُمْ) ، و (أبرهة القرن العشرين) ... وغيرها، وقد
وزعت على نطاق واسع بين مسلمي الفلبين ولاسيما طلبة العلم والدعاة من خلال
المؤسسات التعليمية والدعوية.
4- أن جل المساجد في الفلبين ولا سيما ما أنشأته الجمعيات الخيرية هي
مساجد لأهل السنة والجماعة، وأنه لا يوجد بها أي تصوف أو تشيع، وجهود
الجمعيات الخيرية ولاسيما من دول الخليج لها دورها في توعية المسلمين وبخاصة
(جمعية التنمية الإسلامية، التابعة لجمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت) ،
و (جمعية الوقف الإسلامي) في (مراوي) ، وإدارة الدعوة ب (مركز ابن تيمية) في
(كوتاباتو) وغيرها.
5- وضح الشيخ سعود الأنشطة الإسلامية التي ترعاها تلك الجهات موزعة
في جنوب الفلبين، وأن هناك خمسين معهد إسلامياً، يشتمل كل معهد على أربع
مراحل: الحضانة، والابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، وهناك الكليات الإسلامية
العشر، وحلقات القرآن الكريم، ويبلغ عددها ما يقارب الخمسمائة حلقة.
وساق الشيخ سعود المشاريع التي تقوم بها تلك الجهات، من إنشاء المدارس
والمعاهد والكليات والمساجد، وحفر الآبار، وبناء دور الأيتام ومدارس تحفيظ
القرآن، وما تقوم به من جهود إعلامية من استئجار للإذاعات لبث التوعية
الإسلامية للمسلمين هناك، وترجمة العديد من الكتب الإسلامية لنخبة من العلماء
المعروفين والمشهود لهم بالعلم والفضل والدعوة إلى الله، وبيّن المشاريع الخيرية
كمشروع إفطار الصائمين، وذبح الأضاحي، وتوزيع الصدقات، ومساعدة
المتضررين في الكوارث والحروب.
ثم ختم مقالته بالدعوة إلى تحري الصدق وعدم التعميم، وتجنب إطلاق الكلام
على عواهنه، لما في ذلك من أضرار ومن جحود لجهود العاملين في حقل الدعوة
هناك مما هو مشاهد وملموس، وتمنى لو أن الكاتب قصر انطباعاته على مشاهداته
الخاصة حتى يلتمس له العذر، أما وإنه عمم، فإنه قد جانب الصواب وتناسى
جهود العاملين هناك، وبإمكانه زيارة تلك الجمعيات والاطلاع على جهودها من
كثب.
ثانياً: مختصر مقالة المستشار عبد الرحمن السنيدي:
أما مقالة المستشار عبد الرحمن السنيدي فنعرضها مختصرة نظراً لطولها
وضيق حيز النشر:
... نظراً لأن لي بعض الأطلاع على العمل الخيري والدعوي وأحوال
المسلمين في الفلبين، لذلك فإنني سوف أبين أهم الملحوظات والمرئيات والأخطاء
التي وردت في مقالة الكاتب، ليكون هو وقراء مجلة البيان على علم بحقائق الواقع
بعيدين عن كيل التهم جزافاً والتعميم وإطلاق الكلام بلا دليل.
أولاً: اعتقد أن الكاتب لا يعرف بنفسه أحوال المسلمين وواقعهم في الفلبين
حقيقة، إذا أحسنا الظن به وقلنا: إنه لم يتعمد كيل التهم ومخالفة الحق والواقع
والرمي بالنقائص والمعائب، فهذه أعمال الجمعيات القائمة بالعمل الخيري هناك؛
وحتى يقف القارئ على وجه الحق: أبين ما يلي:
من الجمعيات العاملة هناك: (جمعية الوقف الإسلامي) التي تأسست قبل أكثر
من 10 سنوات، وتقوم بمعظم أنواع النشاط الإسلامي من دعوة وتعليم للدين
الإسلامي باللغة العربية من الروضة حتى الكليات الجامعية بنين وبنات، مع الفصل
بينهم والتزام الحجاب فلديها 3 كليات يتبعها 12 معهداً، وعشرات المدارس،
و200 مدرسة قرآنية، و9 دور للأيتام، وتكفل 570 داعية، وقامت ببناء أكثر
من 240 مشروعاً إسلامياً بين مركز ومسجد ومدرسة، وحفرت أكثر من 145 بئراً للمسلمين هناك، ولديها مكتبة عامة للمسلمين، ومكتبة لبيع الكتاب والشريط الإسلامي بالتكلفة، ومركز للترجمة، ويتبعها إدارتان للدعوة وجمعية نسائية، وتدفع الرسوم الدراسية عن آلاف الطلبة والأيتام المسلمين، ودعمت أكثر من 300 مسجد و300 جمعية بمساعدات مقطوعة (ثابتة) ، وتقوم سنوياً بتوزيع آلاف المصاحف والكتب للمسلمين، وطبع وترجمة جزء منها حسب أهمية الحاجة ويجري العمل لديها بنظام محكم وإشراف ومتابعة وفاعلية، ولديها في هذا المجال عمل جيد يساعد العاملين في الميدان في العمل الإسلامي والقائمين عليه، ويختصر الوقت والجهود والمال والورق والروتين يتمثل في إعدادها ل (86) نموذجاً للسير عليها في العمل الدعوي والخيري، مما يعطيه فاعلية ونشاطاً وسهولة إشراف ومتابعة وحسن أداء، وهناك جمعية إقامة الإسلام، وجامعة (مسلم مندناو) ويتبعها عدد من الكليات و (78) معهداً ومدرسة وغير ذلك، وهناك جمعية (التنمية الإسلامية) وتركز على المشاريع الاستثمارية وتدعمها جمعية (إحياء التراث الإسلامي) ، ولها عدد من المدارس والمشاريع الإسلامية، وأنشأت إذاعة إسلامية كبيرة سوف تغطي (مندناو) كلها بالبث وهي ثلث الفلبين، وهناك (مركز الشباب العربي) و (جمعية النور الإسلامية) ... ، وغير ذلك كثير من الجمعيات والمراكز والمؤسسات الإسلامية، يدرس أغلبها علوم الإسلام باللغة العربية، ويتبعها مئات المعاهد والمدارس الإسلامية، وعشرات الكليات ودور الأيتام، والمئات من حلقات تعليم القرآن، وتوجه وتشرف على آلاف الدعاة بعضهم مكفول وآخرون متطوعون، ويقدر عدد الجامعيين منهم بأكثر من (500) فرد، يهتدي على أيديهم كثيرون من العصاة، ويسلم مئات من النصارى ومن لا دين لهم في كل عام، بالإضافة إلى القيام بالنشاط الدعوي في مختلف الأوجه، وتنظم لهم وللأئمة والمدرسين دورات شرعية وتربوية من قِبَل الجمعيات الكبيرة تزيدهم فاعلية وعلماً واطلاعاً، وغير ذلك من أوجه النشاط الدعوي والعمل الخيري التي يطول بنا ذكرها.
ولذلك: فإن ما ورد في المقال من عبارات أريد بها التهوين من شأن
الجمعيات والمراكز الإسلامية العاملة هناك ووصفها بالوهن والهزال هو خلاف
الواقع، لأن أغلب أو عامة الذين يتولونها هم من المسلمين المعروفين بالعلم
والفضل والتفاني في الدعوة إلى الله، هذا ما نحسبهم والله حسيبهم.
ثانياً: المسلمون الأصليون: وهنا مربط الفرس وبيت القصيد، فكل ما ورد
من كلام في المقال عنهم من همز ولمز وذم: تهم عامة عارية من الدليل والحجة
والبرهان، ولم تراع فيها أمانة الكلمة ومسؤوليتها في الإسلام، ولذلك: فقد أثار
المقال بين شريحة من القراء الذين لا يعلمون عن واقع المسلمين هناك شيئاً
بالمشاهدة أو الزيارة أثار موجة من الحيرة والسخط، سوف أردها بعون الله
انتصاراً للحق وبياناً له ورفعاً للاتهام والظلم عن إخواننا هناك، من واقع اطلاعي
ومشاهداتي لأحوالهم فأقول:
* تحدث المقال عنهم بصفة اللمز والتنقص حيث وصفهم بالمسلمين بالوراثة
أو الميلاد أربع مرات، خلافاً للمتعارف عليه هناك من صفة المسلمين الأصليين.
* دعوى أن الدعم الذي يصلهم من بلاد المسلمين لا يوزع إلا على السلاطين
وقليلين من غيرهم، فأي سلاطين وأي قليلين؟ ! فليذكرهم إن كانت هناك حقيقة،
أما الرمي جزافاً فظلم وغير صحيح، فالذي أعرفه من مشاهداتي أن الجمعيات
الخيرية التي سبق ذكرها تنفذ مشاريعها التعليمية والدعوية وغير ذلك (في الغالب
في الجنوب) بمعرفتها عن طريق نخبة مختارة من خريجي الجامعات الإسلامية في
السعودية أو غيرها، أو في بلادهم من أبناء ودعاة وعلماء المسلمين هناك، وفي
المقابل لم يذكر حاجاتهم ومطالبهم كما ذكرها للفئة الأخرى.
* وصفهم عموماً بالكسل وأن عدداً منهم يبيع أرضه للنصارى ويهاجر إلى
المدينة في الشمال بخطة من الكنيسة، وهذا اتهام عام بلا تحديد، فليته ذكر منطقة
بعينها أو أشخاصاً أو فئة معينة، ليتم الاتصال بهم من قبل الجمعيات الخيرية
ونصحهم ومعالجة أمرهم، ولكن الذي نعرفه ويعرفه غيرنا أكثر ممن له صلة
بالعمل الإسلامي هناك: أنهم من أجود المسلمين تبرعاً بأراضيهم وقفاً في سبيل الله
للأعمال الخيرية وتعاوناً في ذلك، وآية ذلك: أن أغلب أراضي مشاريع الجمعيات
الخيرية الإسلامية من أوقافهم [*] ، وأعرف جمعية منها نفذت أكثر من 235 مشروعاً
ما بين مسجد ومدرسة ودار أيتام ومركز إسلامي وبئر، تم بهذه الصفة، فكيف
تقلب حسنات هؤلاء الإخوة المسلمين في المقال إلى سيئات ويبخسون حقهم،
ويتهمون تهماً باطلة قد تنطلي على من لا علم له بحقائق الأمور؟ ! ،
والإحصائيات لدى العاملين والجمعيات تزخر بالشهادة بهذه الحقائق.
* ذكر أنه لا يوجد مسجد واحد باسم أهل السنة والجماعة في المدن الكبرى
نهائياً: وهذه من سقطات المقال الكبرى وشطحاته، ولعل هذا ما يؤكد أن كاتب
المقال لا يعرف شيئاً عن واقع المسلمين هناك إضافة إلى ما سبق، وإلا كيف يجرؤ
على مثل هذا القول والتعميم والحكم الذي سوف يكذبه ويرى عكسه كل زائر للفلبين، ومثل هذا القول البيّن بطلانه في ذاته لا يحتاج إلى دليل على ذلك، فكل المدن
التي يوجد بها المسلمون بها مساجد لأهل السنة والجماعة، وأطمئن القراء الكرام
والمشفقين على العمل الإسلامي هناك بالذات بأنها بحمد الله بالمئات، بل بالآلاف،
وأنه يوجد في مدينة (مراوي) وحدها أكثر من (96) مسجداً، كلها بفضل الله لأهل
السنة والجماعة، وقد حضر (80) إماماً من أئمتها دورة شرعية أقامتها لهم (جمعية
الوقف الإسلامي) مدتها (6) أشهر، وقد كان لي شرف حضور حفل التخرج في
هذه الدورة يوم 27 شعبان الماضي 1415هـ أثناء وجودي هناك، فكيف يجرؤ
أحد على إطلاق مثل هذه المقولة، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
* ذكر أن المسلمين بالميلاد لا يعرفون العقيدة الصحيحة، ولا يميزون بين
الحلال والحرام، وأن بعضهم صوفي، في حين يذكر أن المسلمين الجدد أوسع فهماً
ومعرفة بالأمور الشرعية وأكثر نشاطاً من المسلمين بالوراثة، وهذه والله واحدة من
العظائم والرزايا، وكل واحدة هي أكبر من أختها، فكيف يصدق هذا الزعم
الواضح بطلانه، فهل يعقل أن يكون من دخل في الإسلام جديداً وقد أمضى معظم
عمره في النصرانية محجوباً عن تعاليم الإسلام، ولم يعرف عنه إلا من خلال
مترجمات مختصره أو دعوة من مسلم، أن يكون أعلم بالأمور الشرعية وأوسع فهماً
من أولئك المسلمين الذين تعلموا العلوم الشرعية من صغرهم باللغة العربية،
وتخرج كثير منهم في جامعات ومعاهد إسلامية، واطلعوا على كثير من الكتب
والمراجع الشرعية، هذا لا يكون، ولكنها المغالطة والخلط.
* ومن ذلك رمي معظمهم بالتصوف زوراً وبهتاناً؛ فالذي أعرفه من زياراتي
لبعض البلاد الإسلامية في إفريقيا وآسيا أن أحوال المسلمين وعقيدتهم في جنوب
الفلبين خاصة، ومناطقهم التي زرتها في إقليم (مندناو) ومنها (كوتباتو) ومنطقة
(مغانوي) و (سلطان قدرات) وفي إقليم (لاناو) في (مراوي) وغيرها، أو في بعض
مساجد (مانيلا) تجدهم أكثر صفاءً في العقيدة من كثير من البلاد الإسلامية، حتى
المجاورة لهم، والبعد عن الصوفية والتصوف والفرق والطرق والمناهج الأخرى
سمة معروفة لهم، وإذا كان الكاتب يعرف مسجداً معيناً بين آلاف المساجد أو مقراً
تمارس فيه الطقوس الصوفية، أو يعرف شيخاً لطريقة صوفية معينة، فليذكره كي
يتوجه له أهل الخير لبيان الحق له ودعوته إليه، وفي ذلك تعاون منه على الخير،
أما أسلوب الاتهام جزافاً فلا داعي له ولا طائل من ورائه.
أما قوله: إنهم يعتبرون المسلمين حديثاً من الدرجة الثانية، ويظنون أن
الإسلام يخصهم وحدهم، وأنهم لا يحبون من يسلم حديثاً.. إلخ، فأنا وإن كُنتُ من
المسلمين العرب فالحق أحق أن يتبع، والفضل لأهله ينسب، فأقول: إن أكثر
المسلمين الجدد اهتدوا بدعوة إخواننا الفلبينيين هناك، ولا مقارنة في النسبة بين من
اهتدى على أيديهم ومن اهتدى على يد غيرهم من عرب أو غيرهم، والإحصائيات
تشهد بذلك.
ومثل مقولة: إنهم يجتمعون لضرب المسلم الجديد حينما ينكر منكراً، وقد
يصل الأمر إلى القتل ولو كان على الحق، ففيه من التهويل والتعميم والمبالغة
والظلم والتنفير والخلو من الدليل ما الله به عليم. ومن قوله: إن بعض مسؤولي
المراكز الإسلامية يطلبون مبلغاً من المال من معتنق الإسلام إمعاناً في التعقيد وتقليداً
للنصارى في طريقة التعميد والطقوس، فهذا على شاكلة ما سبق: رمي دون تحديد
ولا دليل، فليحدد مركزاً أو مسؤولاً ليكون لكلامه واقعاً، والذي عرفناه عنهم ومن
مخالطتهم: الحرص على دعوة غير المسلمين بالتي هي أحسن وبالحجة والبرهان
والمحاورة، ثم فرحهم بإسلامهم ومتابعتهم وتعليمهم بقدر ما يستطيعون وعدم التمييز
بينهم، بل قد يؤثرونهم ببعض المزايا والأمور ترغيباً لهم في الإسلام، أما ما ذكر
في المقال من دعاوى فهي توهمات يكذبها الواقع.
* أما القول بأن قبيلة (التاوسوق) هي أكثر القبائل غيرة على الإسلام، وهي
المقاتلة حقاً، وقد قامت ببناء المساجد في جميع أنحاء الفلبين: أقول: إنني لا
أعرف شيئاً عن هذه القبيلة، وإذا كان الكاتب يعلم شيئاً فليمدنا به على عنوان
المجلة مؤيداً قوله بالدليل، أما قوله: إنها أكثر غيرة ونشاطاً، فهذا غير دقيق،
فالمعروف هناك أن قبيلة (المرناو) مشتهرون بذلك أيضاً، وكذا قوله: إنها المكلفة
ببناء المساجد غير صحيح، وليته اكتفى بذلك، غير أنه زاد قوله: في جميع أنحاء
الفلبين، وما علم أن من القراء من لا يعرف الحقيقة، والذي أعرفه ويعرفه غيري
أن المساجد في جنوب الفلبين وهي منطقة النشاط والأكثرية بنيت غالبيتها من قِبَل
الجمعيات الإسلامية المشار إليها سابقاً وغيرها مما لم يذكر، وهذه المساجد تعد
بالآلاف ولا تختص بها قبائل معينة، إنما تتعاون هذه الجمعيات الخيرية فيما بينها
ومعها أهل الخير والمحسنين من العالم الإسلامي حسب إمكانياتها واحتياج مناطق
المسلمين، ومثل ذلك بقية المشاريع الإسلامية، ولا نعرف مسجداً منها صوفياً أو
شيعياً، وهذه المساجد موجودة إحصائياتها وأسماؤها لدى هذه الجمعيات المنفذة،
وهكذا بقية ما ورد من دعاوى وتهم لا تثبت على محك الحق:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء
ثالثاً: تحدث المقال عن الصوفية ورمى بها أئمة المساجد والمسلمين الأصليين
وهم منها بريئون وقد ذكر خمس فرق من الصوفية، وأن الصوفيين نشروا كثيراً
من البدع والخرافات مثل إقامة المآتم ومراسم الدفن تقليداً للنصارى، كما ظهرت
بين المسلمين عقيدة تناسخ الأرواح.. إلى آخر هذه الدعاوى والتهم الباطلة، ونحن
نطالب الكاتب أو من نقل عنه هذه المعلومات أن يحدد ولو منطقة واحدة يجري فيها
ما ذكر، ومن هم القائمون على هذه الأعمال ليتم الاهتمام بذلك وتوجيه الدعاة
نحوهم.
أما هذا الأسلوب العجيب في كيل التهم بغير أدنى دليل: فهو غيبة عامة وظلم
وظلمات يتحمل وزرها قائلها، فعلى كل مسلم أن يتحرى الحق بدليله.
رابعاً: تحدث عن الرافضة ونشاطهم وكشف بعض مخططاتهم، وهو يشكر
على ذلك، إلا أن هناك ملحوظات يجب التنبيه عليها، منها:
1- أنه وردت في الحديث عنهم أخطاء ومبالغات غير صحيحة وتخالف
الواقع.
2- أن نشاط الرافضة الذي ذكره لا يقتصر بهذا الشكل على الفلبين وحدها
في أيامنا هذه، من حيث: فتح فروع في البلاد الأخرى لمراكزهم العلمية، ودعمهم
مادياً ومعنوياً ودبلوماسياً من قبل سفارات دولتهم، والوقوف إلى جانبهم بكل
الإمكانات والمطبوعات لنشر مذهبهم، فكل هذا معروف عنهم وهو ليس في الفلبين
فقط، وإنما في كل بلاد يفتح لهم فيه المجال.
الخاتمة: مما سبق أقول: إن الواجب يفرض على كل مسلم انطلاقاً من
واجب الأخوة الإيمانية والحرص على جمع شمل المسلمين وعدم التوهين والفت في
عضد العاملين للدعوة ضرورة التبين والتثبت لئلا يصيب غيره بجهالة، ثم يصبح
على ما فعله من النادمين، وقد لا ينفع الندم وبخاصة في هذا العصر الذي تنتشر
فيه وسائل الإعلام بسرعتها بين ملايين الناس من ينشد الحق عند الحكم على
الآخرين أفراداً أو جماعات ما لهم وما عليهم واسترشاداً بقوله (تعالى) : [ولا
تبخسوا الناس أشياءهم] ، وما ورد في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
) إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث (، وغير ذلك من النصوص الكثيرة،
والبعد عن الزلل والظلم والجور والعواقب الوخيمة، وما حاد المسلم أو الجماعة المسلمة في أمر عن منهج الله الحق إلا أصابهم من الخلل والفشل والوهن والاختلاف وسوء العاقبة بقدر ما فرطوا فيه.
رزقنا الله جميعاً صلاح النية والقصد والاهتداء بمنهج الله وصراطه المستقيم
في كل أمر، وثبتنا عليه، ورزقنا حسن التبصر والبصيرة والسعي لكل ما يعلي
شأن الإسلام والمسلمين.
__________
(*) هذا هو ما نعرفه عن إخواننا المسلمين في الفلبين، وقد تكون التهمة المذكورة سابقاً شذوذاً، والشاذ لا حكم له، ولكن يجب ألا نغفل عما ذكر مما قد يحصل من بيع بعض الأفراد أراضيهم للنصارى، خوفاً من أن يكون هناك مخطط كنسي صليبي لإحلال النصارى محل المسلمين في مناطق كثافتهم، إذ إن مثل ذلك ليس بعيداً البيان.
(1) لديّ بيان المزيد والتفصيل لمن يريد أن يطلع على ذلك من نشاطاتها. الهامش رقم (1) غير مشار إليه في المقالة (ماس) .
(2) ولذلك فقد تدارك القائمون على المجلة بعض الشيء وحسب علمهم وأحالوا القارئ إلى كتيب: الأعمال الخيرية بالفلبين، وذكروا أن هناك جهوداً خيرية كثيرة. الهامش رقم (2) غير مشار إليه في المقالة (ماس) .(88/95)
متابعات
نعم.. يموت المجتمع ويحيا
محمد العسيري
اطلعت على مقال د/ خالص جلبي، فوجدت أن فيه فكرة جديرة بالنظر
والتأمل، وتواصلاً وإسهاماً في هذا النظر أقدم هذه المشاركة المتواضعة:
نعلم علم اليقين أن كل مخلوق حي له جسد وروح، بناءٌ مادي خارجي وروح
تسري في أوصاله، والمجتمع كذلك له جسد وروح؛ ومن هنا كانت ميتة المجتمع
كما أرى إما ميتة مادية محسوسة بهلاك أفراده أو دمار بنيته، وإما معنوية روحية
بانهيار مبادئه وقيمه الحضارية.
فالميتة المادية المحسوسة:
هي الدمار الشامل أو الجزئي لمجتمعٍ ما بحيث تزول إمكاناته البشرية
ومكتسباته الحضارية، وأرى أن هناك طريقين لهذا الموت:
1- انحراف بعض الأفراد وسكوت الآخرين: كما في قوله (تعالى) : [وإذا
أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا]
[الإسراء: 16] ، وقوله (تعالى) عن قوم صالح: [وكان في المدينة تسعة رهط
يفسدون في الأرض ولا يصلحون] [النمل: 48] عقروا الناقة وهموا بقتل صالح
(عليه السلام) فكان الجزاء والعقاب: [أنا دمرناهم وقومهم أجمعين]
[النمل: 51] .
2- تواطؤ المجتمع على الانحراف: كما حدث في قوم لوط (عليه السلام)
وما كانوا يقيمون عليه من الفواحش والمعاصي التي استحقوا بها عذاب الله؛ فكان
عقابهم: [فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل] [الحجر: 74]
وتلاشى ذلك المجتمع ودفن في مقبرة التاريخ.
والميتة الروحية المعنوية:
كما حدث لأمتنا في العصور المتأخرة حينما عانت من الإحباط النفسي
والهزيمة الداخلية عندما تسلطت عليها فئات من المستغربين عقدياً وثقافياً وقيميا،
وقدموا روح هذه الأمة عقيدتها وقيمها وثقافتها وفكرها قربان ولاء لأصنام الجاهلية
المعاصرة، ثم بقي جسد الأمة لينهشه كل طامع وحاقد ومتسلط، كما قال
النبي - صلى الله عليه وسلم-: يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.. [*] .
ولكن كما أن الله يخرج الحي من الميت فقد أراد الله لهذه الأمة أن تبعث من
رقدتها، فتنبهت على نداءات صوت الصحوة الإسلامية يهتف بالرجوع إلى
الأصول وإحياء المبادئ الإسلامية.
من أسباب حياة المجتمعات:
1- الإيمان والتقوى: [ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات
من السماء والأرض..] [الأعراف: 96] .
2- الاستغفار والتوبة: [فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل
السماء عليكم مدراراً* ويمددكم بأموال وبنين..] [نوح: 10 - 12] .
3- الإصلاح (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) : [وما كان ربك ليهلك
القرى بظلم وأهلها مصلحون..] (هود: 117) .
من أسباب موت المجتمعات:
1- الظلم: [وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة..]
[هود: 102] .
2- البطر وكفر النعمة: [وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها..]
[القصص: 58] .
وبطرت: أي: أشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم الله به عليهم من الأرزاق؛
فحق الموت على هذا المجتمع واندثرت ديارهم.
هذا ما خطر لي عن موت المجتمع وحياته، نسأل الله (سبحانه) أن يوفقنا إلى
العمل بأسباب حياة مجتمعنا وتجنب أسباب موته، والله ولي التوفيق.
__________
(*) أخرجه الإمام أحمد ج5 ص278، وأبو داود ج4 ص483، وصححه الألباني: صحيح سنن أبي داود ح/3610.(88/105)
هموم ثقافية
نكون.. أولا نكون..!
نظرات في مذكرات المرأة الصهيونية الرجل
أحمد عبد الرحمن الصوبان
الدارس لتاريخ الحركة الصهيونية الحديثة يجد عجائب وغرائب كثيرة جداً،
فمن شعب مهين مستضعف مشتت في كلّ أنحاء العالم، يتحول اليهود خلال سنوات
قلائل إلى أمّة قوية مهيبة، يتساقط تحت أقدامها قادة المشرق والمغرب.
جولدا مائير (رئيسة وزراء إسرائيل 1969- 1973م) إحدى النساء اللواتي
ساهمن مساهمة قوية في قيام دولة إسرائيل، قال عنها ابن غوريون أول رئيس
للوزراء عندما عادت من أمريكا محملة بخمسين مليون دولار بعد حملة تبرعات
واسعة: سيُقال عند كتابة التاريخ: إن امرأة يهودية أحضرت المال، وهي التي
صنعت الدولة [ص171من مذكراتها] ، بل قال عنها ثانية: إنها الرجل الوحيد في
الدولة! [ص97] ، عندما قرأت مذكراتها وجدت دروساً عملية جديرة بالتأمل
والنظر، منها:
الأول: ضرورة الإيمان الراسخ بالهدف الذي يدفع للبذل والعطاء، وتحويله
من حلم إلى حقيقة واقعة.
الثاني: أن آمال الإنسان لا تتحقق إلا بالإصرار والصبر وطول النفس،
واستسهال الصعاب..!
ودعونا الآن نقرأ بعض هذه المقاطع التي لا تحتاج إلى تعليق:
لقد شعرت أن الرد الوحيد على قتل اليهود في أوكرانيا هو أرض فلسطين،
يجب أن يكون لليهود أرض خاصة بهم، وعليّ أن أساعد في تحقيق هذا، لا
بالخطب والتبرعات، بل الحياة والعمل هناك معهم في أرض فلسطين [ص54] .
لقد كانت مسألة العمل في حركة العمل الصهيوني تجبرني للإخلاص لها
ونسيان همومي كلها، وأعتقد أن هذا الوضع لم يتغير طيلة مجرى حياتي في الستة
عقود التالية [ص56] .
لقد كانت (فلسطين) هي السبب، ولأجلها حضرنا جميعاً، ولأجلها تحملنا
المشاق! .. لقد كنت شغوفة في شرح طبيعة الحياة في إسرائيل لليهود القادمين،
وأوضح لهم كيف استطعت التغلب على الصعاب التي واجهتني عندما دخلت
(فلسطين) لأول مرة، ولكن حسب خبراتي المريرة التي مارستُها كنت أعتبر أنّ
الكلام عن الأوضاع وكيفية مجابهتها نوعاً من الوعظ أو الدعاية، وتبقى الحقيقة
المجردة هي وجوب إقامة المهاجرين وممارستهم للحياة عملياً. لم تكن الدولة
الإسرائيلية قد أنشئت بعد، ولم تكن هناك وزارة تعنى بشؤون المهاجرين الجدد،
ولا حتى من يقوم على مساعدتنا لتعلم اللغة العبرية، أو إيجاد مكان للسكن، لقد
كان علينا الاعتماد على أنفسنا، ومجابهة أي طارئ بروح بطولية مسؤولة!
[ص 71] .
كان الروّاد الأوائل من حركة العمل الصهيوني هم المؤمنون الوحيدون الذين
يستطيعون تحويل تلك المستنقعات أو السبخات (! !) إلى أرض مروية صالحة
للزراعة، فقد كانوا على استعداد دائم للتضحية والعمل مهما كان الثمن مادياً أو
معنوياً..! [ص74] .
عندما أتذكر وضع (السوليل بونيه) [منظمة يهودية] منذ زمن أي: منذ
1927م في مكتبها الصغير في القدس يوم كانت لا تستطيع دفع أجور العمال، ثم
أفكر في وضعها الحالي، والخمسين ألف موظف وموظفة، وبمدخولها الذي وصل
إلى 5. 2 مليون ليرة إسرائيلية، عندها أحتقر أي شخص يقول أو يُنكر على
الصهيونية تفاؤلها [ص 95] .
إننا في اجتماعنا هذا لن نُعيد المسيح إلى الحياة (في زعمهم) ، ولكن لابد لنا
من القيام بمجهود لنقنع العالم بما نريده وبما نحن عليه! ! [ص99] .
أعتقد أن هناك سببين فقط يمثلان المحنة القومية التي مررنا بها، أحدهما:
الانهيار والاستسلام، والقول: لا أستطيع أن أتابع. والثاني: أن تكشر عن أنيابك
وتحارب بكل ما أوتيت من قوة على كل الجبهات التي تواجهك مهما كانت المدة
صعبة وطويلة، وهذا بالضبط ما قمنا به في السابق، ونحن قائمون به الآن!
[ص 120] .
أدركت أنه لا يكفي لشعب ضعيف أن يثور لكي ينال عدلاً مطالبه، أما مبدأ
(نكون أو لا نكون) فعلى كل أمة أن تعمل به وبالتالي تقرر مصيرها بطرقها
الخاصة، وعلى اليهود ألا يعتمدوا على أحد من أجل تقرير مصيرهم [ص130] .
لم يقدم لنا الاستقلال على طبق من فضة، بل حصلنا عليه بعد سنين من
النزاع والمعارك، ويجب أن ندرك بأنفسنا ومن أخطائنا الثمن الغالي للتصميم
والعزيمة [ص238] .
أخبرت اليهود في جميع أنحاء أمريكا أن الدولة الإسرائيلية لن تدوم
بالتصفيق ولا بالدموع ولا بالخطابات أو التصريحات! ، إنما يجب توفر عنصر
الوقت لبنائها، قلت في عشرات المقابلات: لن نستطيع الاستمرار دون مساعدتكم؛ فيجب أن تشاركونا بمسؤولياتكم في تحمل الصعاب والمشاكل والمشقات والأفراح، صمموا على المساعدة وأعطوني قراركم! لقد أجابوا بقلوبهم وأرواحهم بأنهم
سيضحون بكل شيء في سبيل إنقاذ الوطن! ! [ص185] .
[2]
أرجو من القارئ الفطن أن يقرأ هذا المقطع بتمعن شديد، ثم يقارنه
بالشعارات الثورية التي ملأت الأمة بضجيجها وصخبها لعبد الناصر ومن بعده من
قادة التحرر العربي ... ! ! .
تردد الجموع بكل بلاهة:
من الخليج الثائر.. إلى المحيط الهادر.. لبيك عبد الناصر!
فتجاب بكل استهتار ومهانة: سنرمي إسرائيل في البحر!
والنتيجة هي تحطيم الطيران المصري كله على أرض المطار.. فالقادة
يعبثون ويشربون حتى الثمالة، ويتراقصون على أنغام الموسيقى، ولا يدركون ما
حدث إلا حينما انتهى كل شيء..! !
وبعد هذا الإحباط.. حتى تلك الشعارات الثورية سقطت.. وتحركت القلوب
الرحيمة تندد بالفدائية، وتنادي بالسلام وحقن الدماء.. فلابد أن نتفرغ للبناء، فقد
أنهكتنا الحروب..!
إنها حرب عقيدة، ولن تنتصر الأمّة بشعاراتها النفعية وإعلامها الرخيص،
فمتى يدرك الناس أننا قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله؟!. فإما نكون أو لا نكون..! ! [ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم
يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون] [النساء: 104] .(88/107)
الورقة الأخيرة
حالة جارودي
جمال سلطان
المفكر الفرنسي المسلم رجاء جارودي، رجل أضنته السنون في معالجة
قضايا الفكر الفلسفي والفكر الحضاري، وعلى الرغم من رصانته وجديته في تأمل
قضايا الفكر المختلفة، إلا أن قضايا الفكر إجمالاً تختلف عن العلوم الشرعية
بضوابطها ومعالمها ومحدداتها العلمية، ولذلك: فكثيراً ما يخطئ جارودي أخطاءً
فاحشة عندما يتحدث في قضايا من هذا القبيل دفاعاً عن الإسلام بحكم عدم
التخصص. كذلك هناك عامل السن وضعف القدرة على التعمق في عالم جديد عليه
من الأفكار، والتاريخ، والحضارة، والدين، كعالم الإسلام، لاسيما وقد أسلم
جارودي في سن متأخرة بعدما أضنته التجارب والسياحات الفلسفية وأجهدت ذهنه،
ولكن حالة جارودي تختلف كثيراً عن حالات المفكرين المسلمين أبناء المجتمع
الإسلامي والتاريخ الإسلامي، مولداً ونشأة وتحضراً، فهؤلاء يؤخذ كلامهم على أنه
شهادة إسلامية من أصحابها، وهذا مكمن الفتنة، أما جاردوي: فلا أظن أحداً من
الغرب أو الشرق يأخذ كلامه باعتباره حجة من داعية إسلامي أو مفكر إسلامي أو
عالم مسلم، وإنما الجميع يأخذ كلامه في الإسلام كنوع من التصور والسياحة
الفكرية لرجل حديث عهد بإسلام، فالفتنة هنا ضعيفة بل معدومة، أقول هذا الكلام
بمناسبة صدور مقالات وكتابات تحمل بعنف شديد على آراء جارودي وشطحاته،
ففي الحقيقة: إن الأمر أهون من كل هذه القسوة وهذه الحماسة، بل إن كثرة
ردات الفعل هذه، وتوالي الحماسات المنتسبة إلى الإسلام في غير قضية بدعوى
الدفاع عنه وحمايته، قد تؤدي إلى نتائج عكسية، تستخف بكتابات الإسلاميين،
وتضعهم في ركن أصحاب المعارك الوهمية، مما يخدش من جدية الطرح الإسلامي
وقيمته، عندما يخوض غمار المعارك الحقيقية والمصيرية.(88/111)
المحرم - 1416هـ
يونيو - 1995م
(السنة: 10)(89/)
كلمة صغيرة
معاً على الطريق
إنّ معايير قياس نجاح أي مطبوعة إعلامية متعددة، ولعل من أبرزها:
قدرتها على الوصول إلى قلب القارئ وعقله بمعالجتها لهمومه وقضاياه بمنهجية
علمية رزينة، ونحسب أننا في (البيان) نحرص على ذلك حرصاً شديداً، وقد نوفق
حيناً، ونقصر حيناً.. ويسعدنا في هذا العدد التطويري أن نواصل تقديم العديد من
الأبواب المتنوعة، فتجد: الدراسات الشرعية، والبحوث التربوية، والدراسات
الاقتصادية، وواقع المسلمين، والدراسات الدعوية، والكتابات الأدبية، والهموم
الثقافية ... وليس ذلك لإشباع ميول ورغبات جميع القراء فقط، ولكن: لبناء
المسلم الصحيحة عقيدته، المتكامل فكره، الواعي لواقعه، الفاهم لرسالته،
المنطلق من التأصيل الشرعي في مواقفه..
نقدم كل ذلك في إخراج جديد نحسبه متناسباً مع الحس الجمالي للمسلم. إننا
إذ نضع بين أيديكم باكورة هذا الإخراج نؤكد على أن نجاحنا مسؤوليتكم ومسؤوليتنا
جميعاً، فتواصلكم معنا يسمعنا صدى نبضنا، كما أن تواصل إخواننا الكتاب كل في
تخصصه يشعرنا بتكاتف الجهود من أجل أداء رسالة الدعوة والتوجيه والتبصير من
خلال نافذة (البيان) .. والله من وراء القصد..(89/1)
افتتاحية العدد
هل للإرهاب ملة؟ !
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
فلقد عاشت كثير من المجتمعات العربية والإسلامية بعد الاستقلال تحت حكم
بعض الزمر العسكرية أو تحت إمرة بعض الأحزاب ذات الأيديولوجيات المشبوهة
ممن هم ثمرة مرة لمرحلة الاستعمار البغيض، فحكموا دولهم بالحديد والنار،
وكانوا نماذج رديئة لوأد الفكر النزيه وللعداء للدين وتغريب المجتمعات. وحينما
قيض الله للأمة الإسلامية الصحوة التي أعادت الناس إلى ربهم وجددت إيمانهم
برسالتهم الخاتمة واستجيشت الروح الإيمانية في الشعوب؛ فأعطت خيارها
لأصحاب المبادئ الإسلامية، نتج عن ذلك أن زلزلت قواعد العملاء، وأقض
مضاجع سادتهم، حتى هدد الرئيس الفرنسي السابق متران بالتدخل العسكري في
حالة تسلم الإسلاميين للحكم في الجزائر، مما هو معروف للجميع وكان الأتباع
الفرانكفون أوفياء لسادتهم؛ فأجهضوا واحدة من أنزه الانتخابات المعدودة في العالم
العربي، وما زال المجتمع الجزائري يعيش في دوامة العنف والعنف المضاد نتيجة
سرقة خيار ذلك الشعب المجاهد، ويبدو أن موقف تلك الطغمة العسكرية صار ديدنا
لكل سلطة حاكمة بأمرها حيال أي عمل نزيه، والوقوف بكل صفاقة ضد كل توجه
إسلامي، مع اختراعهم لإيقافه مؤامرات موهومة ودعاوى ما أنزل الله بها من
سلطان؛ لإيقاف المد الإيماني وإسقاط مشروعيته بدعاوى الإرهاب والتطرف وما
شابهها، وهذا في نظرنا أمر طبيعي ما دامت شريعة الله معطلة وأحكامها غير نافذة، والقضاة يحكمون بقوانين أجنبية مستوردة في محاكم استثنائية عسكرية تصدر
أحكاماً نهائية مفصلة حسب رغبة القوم وتوجهاتهم المعروفة، ولهذا: شن الإعلام
المؤمم والأقلام المشتراة وكتّاب الفنادق ما يثير المطاعن بدون وجه حق ضد
الإسلاميين، ويشكك حتى في نواياهم.
وما ذلك إلا ترديد أبله وتقليد أعمى إن لم نقل منقول عما تردده وسائل الإعلام
الأجنبية ضد الإسلام حيث يقولون: إنه العدو الوحيد بعد سقوط الشيوعية البائدة.
لقد أثار الغربيون بوسائل شتى ذلك الموقف ضد الإسلام، وأعدوا الخطط
ليجعلوا من الإسلاميين دعاة الإرهاب في العالم كما حصل في تفجير (مركز التجارة
الدولية) ، ولا يزال يتذكر المتابعون لذلك الحدث الجلل أن المحامين بينوا أن وراء
تلك الجريمة أيد خفية من ضمنها شخصية يهودية عُتّم عليها، ولم يعد لها ذكر،
ويبدو أن ذلك يثير شبهات تواطؤ المخابرات الأمريكية باستعمال أيادٍ مشبوهة
للشهادة ضد المتهمين.
وهذا ما أعلنه أحد هؤلاء العملاء الذي أعلن فيما بعد: أنه كان كاذباً في معظم
شهادته، ولا شك أن ما بني على باطل، فهو باطل، ومع كل ذلك فقد شوهت
سيرة كثير من الإسلاميين الذين زج بأسمائهم بشهادة عميل ضائع المروءة فاقد
الضمير.
أما الحادث الأخير وهو تفجير المبنى الفيدرالي في (أوكلاهوما) ، فقد كانت
ردود الأفعال المتعجلة حياله نتيجة طبيعية للحرب المجنونة ضد الإسلام وأهله
ووصمهم كذباً وزوراً بالتطرف والإرهاب، فقد اتهم الإسلاميون بأنهم وراءه - بعد
حدوثه بساعات معدودة - ولم يكن صدر بعد أي بيان رسمي بالإدانة، فوجدنا مثل
نائب أوكلاهوما السابق، والنائب الديموقراطي الحالي ديف مكيروي يصرح في
حديث لقناة ال (سي إن إن) الإخبارية: أن الاحتمال الأكبر هو أن المشتبه بهم من
الراديكاليين الإسلاميين! وضربت على هذا الوتر فعاليات أمنية وإعلامية أمريكية،
مما أدى إلى حرب قذرة ضد المسلمين في أمريكا، جعلتهم يعيشون أياماً قلقة حزينة
نالوا فيها من المضايقة والإرهاب الكثير وبخاصة في المدارس والمراكز الإسلامية
والتهديدات بالهواتف، الأمر الذي جعل الكثيرين يقبعون في بيوتهم خوفاً من ردود
الأفعال التي صنعها الإعلام المعادي.. ثم يأبى الله إلا أن تظهر الحقيقة بعد أيام
معدودات، فإذا بالمجرم الحقيقي إنما هو أصولي نصراني أمريكي، فجّر ذلك
المبنى في ذكرى إحراق جماعة (ديفيد قورش) الأصولية المتطرفة، التي انتحرت
مع زعيمها حرقاً حينما حاصرهم البوليس الفيدرالي في العام قبل الماضي، هذه
الجماعة وغيرها كثير: هي عينات من التطرف والإرهاب الموجود في الغرب،
وهي محسوبة سياسيّاً على اليمين الأمريكي العنصري. والتي لها ميلشياتها
العسكرية، والتي تعلن نازيتها وعنصريتها على رؤوس الأشهاد.
وهناك أيضاً تطرف شرقي، هو ما فعلته جماعة (أوم) اليابانية، الذين ثبت
تواطؤهم بإلقاء غاز السارين السام في أنفاق مترو طوكيو، وأدى إلى وفاة واختناق
الكثيرين، وتداعياته اللاحقة ما تزال حديث الساعة، فما بالك بتطرف وإرهاب
الصرب في حربهم الضروس ضد مسلمي البوسنة، وتطرف وإرهاب السيخ
والهندوس ضد مسلمي الهند وكشمير، وتطرف وإرهاب أعداء المسلمين في كل من
(طاجيكستان) و (الفلبين) و (الشيشان) و (بورما) والتطرف الصهيوني في فلسطين
المحتلة المدعوم من الغرب والشرق معاً. وغير ذلك كثير.
لم يكن الإسلام في يوم من الأيام لا قديماً ولا حديثاً دين إرهاب، بل حتى في
الحروب: كان يأمر بالرفق وعدم قتل النساء والشيوخ والأطفال والرهبان ممن لا
يد له في قتال المسلمين وإيذائهم، وهذا ما تطرقت له باستفاضة كتب الحديث والفقه
في أبواب الجهاد مع حث الإسلام على العدالة مع الناس حتى عند الاختلاف معهم
في الدين [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ
أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] [الممتحنة: 8] ؛ يقول العلامة
ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية: أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة والمكافأة
بالمعروف والقسط للمشركين من أقاربكم وغيرهم حيث كانوا بحال: لم ينصبوا
لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم
في هذه الحال لا محذور فيها ولا تبعة.
فكيف يُزْعَمُ أن الإسلام يدعو إلى مثل تلك الأعمال الإرهابية التي تتنافى
والروح الإسلامية المشبعة بالقسط والعدل والرحمة.
وبمناسبة عقد (مؤتمر الأمم المتحدة التاسع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين)
الأخير؛ يحق لنا في هذا المقام أن نتساءل: ترى ماذا سيناقش هذا المؤتمر؟ ، وما
هي توصياته [*] ؟ وهل سيبحث حقيقة الإجرام والمجرمين فعلاً، ومنهم المجرمون
الحقيقيون الذين لم تأخذهم بالمؤمنين أي رحمة؟ أين محاكمة قادة الإجرام العالمي
الذين أرهبوا ونكلوا بالشعوب الإسلامية في فلسطين والبوسنة والهرسك والشيشان
مثلاً وانتهكوا الدين والحرمات، وضربوا بقرارات الأمم المتحدة عرض
الحائط؟ .. هل سيدانون ويحاكمون على الملأ ليعرف الجميع جرائمهم، كما حوكم وأدين مجرمو الحرب العالمية الثانية، ويكلف البوليس الدولي بالقبض عليهم في أقرب فرصة. أم إن المسألة ليست سوى مجرد جعجعات معروفة، وستوظف لمصالح معينة، وسيكون الضحية والمدانون دائماً هم المسلمين وبخاصة الدعاة منهم الذين يطاردون تحت ستار محاربة الإرهاب والتطرف؟ ، وهذا هو المتوقع، وما علمنا في مؤتمرات هيئة الأمم إلا تأكيداً لهيمنة الدول الكبرى على دول العالم الإسلامي، وإطلاقاً لأيدي الدول البوليسية في محاربة شعوبها مما نلمسه في واقع كثير من الدول العربية.
إن مما ينبغي أن يفطن له وأن يعيه كل الناس: أن الإرهاب الحقيقي إنما هو
إرهاب الشعوب في أن تدين لربها، وإرهابها من أن تدعو لتحكيم شريعته،
وإرهابها من أن تدلي برأيها فيما يراد لها من تغريب لمجتمعاتها، ومحاولة تركيعها
قسراً لأعدائها، وإرهابها في أن تعلن هويتها الإسلامية، بل وحتى التدخل
الخارجي في كثير من دول العالم الثالث كما حصل من قبل بعض الدول الكبرى هو
إرهاب بمعنى الكلمة. فإلى متى يلمز الإسلاميون بالإرهاب، والإرهابيون حقّاً
غيرهم؟ !
[وَسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]
__________
(*) كتبت الافتتاحية في بداية افتتاح المؤتمر.(89/4)
دراسات تربوية قرآنية
الأسباب الواقية من لبس الحق
الحلقة الأخيرة
بقلم:عبد العزيز بن ناصر الجليل
بعد أن تبين لنا خطورة لبس الحق بالباطل من خلال الصور التي أوردناها
في السابق، وما ينتج عنها من الضلال والانحراف الذي يورث العواقب الوخيمة
في الدنيا والآخرة، بعد ذلك: يحق لنا بل يجب علينا أن نسأل: كيف النجاة من
ذلك الخطر؟ وما هي الأسباب الواقية منه؟ وللإجابة على ذلك: نستعرض أسباب
التباس الحق بالباطل؛ فمنها ينطلق العلاج، وبضدها تتميز الأشياء.
فقد مر بنا أن تلك الأسباب لا تخرج عن ثلاثة أمور:
1- شبهة تسببت في أخذ الباطل على أنه الحق، وأصل هذا: الجهل.
2- شهوة تسببت في أخذ الباطل وترك الحق عن شهوة وضعف واعتراف
بالخطأ.
3- شهوة وشبهة نتج عنهما أخذ الباطل وإظهاره في صورة حق عن هوى
ومغالطة استناداً إلى شبهة يعلم صاحبها أنها لا تصلح للاستدلال.
وبعد هذه المقدمة التي لابد منها بين يدي الأسباب الواقية من اللبس والتلبيس. يمكن تفصيل وبيان الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل فيما يلي:
1- علم وبصيرة بدين الله (عز وجل) وشرعه، وعلم وبصيرة بما يضاد دين
الله (سبحانه) وشرعه؛ فإذا تحقق هذا الأمر: فإن الاستبانة لسبيل المؤمنين وسبيل
المجرمين قد تحققت، وبهذا: فلا مجال للشبهة هنا أبداً؛ لانتفاء الجهل الذي منه
تنتج الشبهات المؤدية إلى اللبس والتلبيس، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم (رحمه
الله تعالى) : فتنة الشبهات تُدفع باليقين، وفتنة الشهوات تُدفعُ بالصبر، ولذلك جعل
(سبحانه) إمامة الدّين مَنوطةً بهذين الأمرين، فقال: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: 24] ، فدلّ على أنه بالصبر
واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قوله: [إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: 3] ، فتواصوا
بالحق الذي يَدْفَعُ الشبهات، وبالصبر الذي يَكُفّ عن الشهوات [1] .
2- الصبر وتقوى الله (عز وجل) :
فبالصبر وتقوى الله (سبحانه) تدفع الشهوة وينتصر الإنسان على هواه؛ لأنه
قد يحصل للإنسان البصيرة والعلم بدين الله (عز وجل) ، ويتبين له الحق من
الباطل، ولكن إذا لم يكن لديه الصبر عن شهوات النفس، والتقوى التي تحجزه
عن مخالفة الصواب: فإنه يضعف ويقع في المخالفة مع علمه بذلك، أما إذا اجتمع
العلم والبصيرة مع التقوى والديانة فإنه إذا بان الحق ولاح: لم يكن أمام من هذه
صفته إلا الإذعان والتسليم والانقياد، وذلك لانتفاء الشبهة والشهوة في حقه، وإلى
هذا أشار ابن القيم في النقل السابق بقوله: إن فتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة
الشهوات تدفع بالصبر ولكن إذا ضعف الصبر والتقوى، ووجدت الغفلة عن الآخرة، وتنوسِيَ الوقوف بين يدي الله (عز وجل) ، وصاحب ذلك شيطان يزين، ودنيا
تتعرض بفتنها: فالغالب عدم السلامة. ولكن المخالف للحق هنا: إما أن يكون لديه
بقية تقوى وخوف من الله (عز وجل) فيعترف بذنبه، ويستغفر منه ويتوب، أو
يكون (عياذاً بالله) قد رقّ دينه وسيطر عليه هواه فأخذ يلتمس مبرراً لباطله،
ويبحث هنا وهناك عن شبهة يظهر بها باطله ومخالفته في قالب الحق والموافقة
لدين الله، وهذا هو الخداع والتلبيس، ولا علاج له إلا بتقوى الله (سبحانه) ،
واليقين بالرجوع إليه.
نعم.. إنه لا يمنع من الوقوع في الباطل بعد العلم والبصيرة، ولا يمنع من
تلبيسه على الناس إلا الإيمان باليوم الآخر إيماناً جازماً ويقيناً صادقاً، وإن لم يتذكر
العبد هذا اليوم ويحسب له حسابه: فلن يفيده في ذلك العلم والبصيرة؛ فكم من عالم
بالحق تنكب عنه وخالفه، أما إذا انضم إلى العلم والبصيرة: الصبر والتقوى
والخوف من الحساب يوم القيامة، فإن الشهوة ستنقمع وإن الهوى سيُغلب، وعندها: يختفي اللبس والتلبيس والخداع والمغالطة في دين الله (عز وجل) ؛ يقول الإمام
ابن القيم (رحمه الله) في معرض رده على المحتالين على شرع الله بالحيل الباطلة:
فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكَاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر
والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال
والأفعال. [2] .
ويقول سيد قطب (رحمه الله) في ظلال قوله (تعالى) : [وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [الأعراف: 169] :
نعم.. إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي
يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العَرَض الأدنى القريب في هذه
الدنيا.. نعم، إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها [3] .
أسباب أخرى مساعدة:
وبعد ذكر السببين الرئيسين للوقاية من اللبس والتلبيس، وهما: البصيرة في
الدين الذي تدفع به الشبهة، والصبر والتقوى اللذان تدفع بهما الشهوة: نذكر فيما
يلي بعض الأسباب المساعدة لتثبيت السببين السابقين:
3- محاسبة النفس ومجاهدتها وتحصينها بالذكر والدعاء والعمل الصالح:
حيث لابد للمسلم من محاسبة دائمة للنفس، ومجاهدة لها في تطويعها لشرع
الله (عز وجل) والحذر من الشيطان الذي لا يفتأ يوسوس ويزين لها الباطل، فإن لم
يتفقد كل منا نفسه، ويسد على الشيطان مداخله المتعددة؛ فإن النفس تكون على
خطر أن تنساق مع شهواتها وهواها، فيحصل من جراء ذلك: اللبس والتلبيس
والتضليل والمغالطة، إما بعلم أو بجهل، وإن مما يؤكد أهمية المحاسبة الدائمة
واليقظة الشديدة للنفس ما يحصل من كثير منا في يومه أو غده من المغالطات
والمعاذير الكاذبة والتبريرات الغامضة، سواء أكان ذلك مع النفس أو مع الناس،
ولكنها تكثر وتقل حسب التقوى وقوتها أو ضعفها في القلب، مع أنه يوجد من
الدعاة والمصلحين نماذج فريدة في إخلاصها وصدقها وبعدها عن المداهنة والمغالطة
والتلبيس، نسأل الله لهم الثبات، ونسأله (سبحانه) للجميع الصدق في المقاصد
والأقوال والأعمال.
ومن الأسباب القوية التي يُتحصن بها من الشيطان ووساوسه: ذكر الله (عز
وجل) في أحوال اليوم والليلة؛ فكلما كان اللسان رطباً بذكر الله (تعالى) والقلب
يواطؤه في ذلك: كلما كان الشيطان بعيداً ولا يستطيع اقتحام الحصن؛ لأن ذكر الله
(سبحانه) يحرقه ويمنعه من الدخول، ولكن ما إن يغفل العبد عن ذكر الله (تعالى)
حتى يكر مرة أخرى للوسوسة، فهذا دأب الشيطان في كره وفره على القلب، فكلما
ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل وسوس.
ومن الأسباب الواقية من التباس الحق بالباطل: مجاهدة النفس في عمل
الصالحات والإكثار منها من غير إفراط ولا تفريط، كما جاء في الحديث القدسي
الذي منه: وما تقرب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب
إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر
به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها.. الحديث [4] فمن كان يسمع
ويبصر ويمشي ويبطش بنور الله وهداه: فإنه لن يخطئ أبداً؛ قال (تعالى) :
[وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69]
وبالضد من ذلك فإن كثرة الذنوب من أسباب الضلال والزيغ؛ قال (تعالى) :
[ ... فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ... ] [الصف: 5]
4- مصاحبة أهل العلم والورع:
إن الجليس يتأثر بجليسه وصاحبه، سواءً أكان ذلك في الخير أو الشر، وذلك
عن طريق المؤانسة والمشابهة والقدوة، وعليه: فإن من الأسباب المانعة من
الانحراف ولبس الحق بالباطل: الجلوس مع أهل العلم والتقوى ومصاحبتهم
ومشاورتهم، لأنه بالعلم الذي عندهم تحترق الشبهات، وبالتقوى والورع لديهم
تحترق الشهوات، وبذلك يُسد على الشيطان البابان الرئيسان اللذان يدخل منهما
ليلبس على النفس ويزين لها التلبيس، والعكس بالعكس: ما إن يصاحب المرء
أهل الجهل والجدال ومن لم يؤتوا حظّاً من التقوى والورع إلا ويتأثر بهم وينطبع
بأخلاقهم وتشتبه عليه الأمور لضعف العلم والبصيرة، أو يتعمد ترك الحق وتعميته
على الناس لضعف التقوى والصبر عن الشهوات، وقد روي عن عمر بن الخطاب
(رضي الله عنه) قوله: لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد
الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى
أطايب الثمر.
ولعل مما يدخل في هذا السبب: الإكثار من قراءة أخبار أهل العلم والتقوى
والجهاد من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان؛ ففيهم الأسوة
والقدوة والخير كله.
5- الحذر من الدنيا، وعدم الركون إليها:
إن من أعظم أسباب الانحراف عن الحق والوقوع في الانحراف والمخالفات:
هذه الدنيا الغرارة؛ فكلما انفتحت على العبد كثرت شبهاتها وانساق مع شهواتها
المختلفة، وعندما يرد ذكر الدنيا فإنه يقصد بها كل ما أشغل عن الآخرة من متعها
المختلفة التي أجملها الله (عز وجل) في قوله (سبحانه) [قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] [التوبة: 24] .
والانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها ينتج عنه: غفلة عن الآخرة، وتشتت
للذهن والقلب، وإعمال الفكر في الاستزادة منها، والخوف على فواتها.. وهذا
يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا: تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين
الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، والذي ينشأ منهما: الكذب،
والتدليس، والتلبيس، والطمع، والجشع.. وبخاصة في مثل عصرنا الذي نعيش
فيه، والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات، ولا عاصم من أمر الله إلا
من رحم، ولذا: كان الأولى لمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها:
أن يتخفف منها قدر الاستطاعة وأن يرضى منها بالقليل؛ لأن هناك تناسب طردي
وخاصة في زماننا هذا بين كثرة الدنيا وكثرة الوقوع في الشبهات والشهوات
المؤديات إلى التدليس والتلبيس.
6- النصح للأمة والحذر من عاقبة التلبيس والتدليس عليها:
إن الشعور بواجب النصح للأمة يقتضي من المسلم وبخاصة الداعية إلى الله
(عز وجل) أن يبين الحق لأمته، ويعري الباطل ويكشفه لها، ولا يجعله ملتبساً
عليها فتضل؛ لأن الذي يرى أمته تُضلل ويُلَبّس عليها دينها فتعيش في عماية من
أمرها، ثم يتركها وهو يعلم الحق من الباطل إن مَن هذا شأنه: يعتبر خائناً لله
ورسوله وللمؤمنين، وإن الله (عز وجل) سائله يوم القيامة عن علمه: فيم عمل به؟، وهذا فيمن رأى التضليل والتلبيس فلم يُحذّر منه ولم يكشفه للناس، فكيف بمن
باشر التلبيس والتضليل بنفسه (عياذاً بالله) ؟ إن هذا بلا شك أكثر خيانة من سابقه،
وإن وزر وضلال من ضلله بتلبيسه هذا سيحمله فوق ظهره يوم القيامة من غير أن
ينقص من أوزار من ضللهم شيء. والحاصل: أن شعور المسلم بإثم وعاقبة
التلبيس أو السكوت عليه: من أقوى الأسباب المانعة من الوقوع فيه إن كان في
القلب حياة وخوف من الله (سبحانه) والدار الآخرة، لأن من كان في قلبه المحبة
الحقيقية لهذا الدين وأهله: لا يمكن أن يرى التضليل والتلبيس من المفسدين
المنافقين ثم يرضى لنفسه السكوت والوقوف موقف المتفرج، بل لن يقر له قرار
ويهدأ له بال حتى يساهم قدر استطاعته في إبانة سبيل المؤمنين وإسقاط اللافتات
الزائفة عن سبيل المجرمين وتعرية باطلهم وخداعهم كما مر بنا في صور التلبيس،
وعندها: تعرف الأمة من توالي ومن تعادي، وعندها: تتميز الصفوف ويتميز
المؤمن من المنافق، وكل هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة، لكنها رخيصة في
سبيل الله (عز وجل) لأن نصر الله (جل وعلا) الموعود لا يتم بدونها.
وبعد:
فهذا ما يسره الله (عز وجل) في هذه العجالة حول هذا الموضوع المهم الذي
يمس المسلم في عقيدته وأخلاقه ومجتمعه، ولا أزعم أنني أحطت بجوانبه كلها،
ولكن حسبي إثارة هذا الموضوع والتذكير به لعل فضيلة العلماء الكرام والإخوة
الدعاة يكملون ما نقص منه، ويقوّمون ما اعوج منه. وأحب أن أنبه: أن ما ذكرته
من صور التلبيس ذكرته على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فالصور كثيرة
وكثيرة وبخاصة في زماننا هذا الذي قلّ فيه العلم والورع ونجم فيه الجهل والنفاق.
وفي خاتمة هذه المقالات: أوصي نفسي الأمارة وأوصي إخواني المسلمين:
بأن يتفقد كل منا نفسه، ويبحث عن هذا المرض الخطير فيها فإذا وجدنا شيئاً من
ذلك وسنجد فعلينا التوبة الصادقة من هذا المرض، ولنبادر بقطع جذوره قبل أن
يستفحل، ولا نُسوّف في ذلك أبداً؛ لأن التسويف وطول الأمل من عمل الشيطان
وتلبيسه.
والله أعلم، وصلّ الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) إغاثة اللهفان: ج2، ص167.
(2) إعلام الموقعين: ج3، ص214.
(3) في ظلال القرآن: ج3، ص387.
(4) البخاري: كتاب الرقائق، ح 6502.(89/8)
مقال
العلاقة بين العلم والخلق
في الفكر التربوي الإسلامي
بقلم: د.محمد عز الدين توفيق
هذا الموضوع من الموضوعات المرتبطة بالتراث التربوي والتعليمي عند
المسلمين، وفي أي تراث لابد أن نجد الجوانب المشتركة ونجد الخصوصيات،
وفي التراث النفسي عند المسلمين وفي تطبيقاته في علم التربية هناك أمور تقنية
ومنهجية تُدرس في إطار علمي محايد، وأمور أخرى تختص بها الحضارة
الإسلامية وتُدرس في إطار المرجعية الفكرية والعقدية لهذه الحضارة وهي الإسلام.
هذه الأمور المشتركة هي الأفكار والآراء التربوية ذات الطابع التقني
والإجرائي، وهذه تخضع للاختبار العلمي التجريبي، فلا يمكن أن نرجع إلى
الوراء؛ فنجمد على آراء تربوية تم تجاوزها علميّاً، ونكون في تمسكنا بها
معتمدين على مجرد انتسابها إلى التراث، فاعتماد المنهج التجريبي لأجل الوصول
إلى أحسن الطرائق وأفضل الأساليب التعليمية منهج إسلامي أصيل، والتخمينات
الذاتية إذا لم تمر بمرحلة التجربة تبقى فروضاً قابلة للصواب والخطأ معاً، وفي
التراث أمثلة لهذه الآراء التربوية التي أصبحت تتمتع بقيمة تاريخية فقط لكنها
متجاوَزة من الناحية العلمية.
لكن الذي يجد امتداده في الحاضر واستمراره في المستقبل: هو تلك القيم التي
تميز حضارتنا رغم التطور الذي عرفته النظريات التربوية في العصر الحاضر،
وهذه القيم يجب التعامل معها بشكل مختلف، فإذا كنا في مجال النظريات نحتكم إلى
المنهج العلمي القائم على وضع الفروض والتحقق منها وفق مراحل مشتركة بين
الباحثين، فإننا في مجال القيم والأخلاق نستلهم مبادئ ديننا ونحتكم إلى العلم الثابت
الذي جاءنا من عند الله.
والعلاقة بين العلم والخلق هي من هذا المجال الثاني، فأخلاقنا متميزة داخل
قاعة الدرس، وفي الشارع، وفي المحكمة، وفي المصنع، وفي الحافلة، وفي كل
مؤسسة من مؤسسات المجتمع.
غير أن استلهام التراث في تحديد العلاقة بين العلم والخلق لا يعني التسليم
بكل ما جاء فيه عنها، فالتراث يُذكر ويُقصد به: كل ما وصل إلينا من الآباء
والأجداد، وهذا معنى عام يشمل الكتاب والسنة، كما يشمل الكتب والمخطوطات
التي ضمت علم المتقدمين وأدبهم وتاريخهم، فإذا استعملنا هذا المعنى العام للتراث
فيجب أن نميز فيه بين الجانب الإلهي والجانب البشري، وذلك حتى تختلف طريقة
تعاملنا مع ما ورد في هذا التراث عن العلاقة التي نحن بصدد دراستها، ففي الوقت
الذي سيكون الوحي أو الكتاب والسنة معياراً ثابتاً تعرض عليه كافة الأخلاق التي
ألح عليها العلماء في مجال العلم والتربية، ستكون اجتهاداتهم في تنزيل هذه
الأخلاق على الواقع محل استفادة واستئناس لاختلاف الظروف والعصور.
إن الحديث عن العلاقة بين العلم والخلق في ظل الحضارة الإسلامية وثيق
الصلة بمشروع التأصيل الإسلامي للعلوم الإنسانية بعامة، هذه العلوم التي ليست
لها صبغة إسلامية، وتحتاج في البيئة الإسلامية إلى وجهة تميزها عن وجهتها
السائدة حالياً في الغرب.
نحن بحاجة إلى ربط الصلة بين آخر ما توصل إليه البحث العلمي في علم
النفس وتطبيقاته في التربية وبين ما يزخر به تراثنا النفسي والتربوي.
إن الإنجازات التي حققها علم التربية الحديث إنجازات لا تنكر، ويكفي أنه
أسس الأساليب التربوية على الدراسة التجريبية والبحوث الميدانية، بعيداً عن
التخمينات النظرية والمعلومات المكتبية، لكن هذه الإنجازات لم تملأ الفراغ الخاص
بالقيم، لأن العلم التجريبي لا يستطيع أن يملأه، وإنما يملؤه الدين أو ما يقوم مقامه
من فلسفات وضعية بالنسبة للعلمانيين.
ولقد تعرضت العلاقة بين العلم والخلق للاضطراب في ظل النظريات
التربوية الغربية، وأحدثت ثنائية التعليم وعلمانيته قطيعة بينهما في الحضارات
الغربية، فأصبحت الأخلاق موضوعاً من موضوعات الدراسة، بينما صارت بقية
العلوم تدرس دراسة تخصصية محضة، واعتبرت الأخلاق مسألة شخصية، وتم
فصل الجوانب المعرفية عن الجوانب الأخلاقية، وأصبحت السياسات التعليمية تهتم
بالجانب التقني والإداري، فالمهم هو تكوين أطر متخصصة لسد حاجات البلد، ولا
يهم الجانب الأخلاقي في هذا التكوين، ونحن نريد أن تعود إلى هذه العلاقة حيويتها، كما كانت في ظل الحضارة الإسلامية، لأن التكوين التقني أو التخصصي العلمي
المعزول عن التربية الأخلاقية لن يعطي الشخصية المنشودة لبناء الأمة وخدمة
أهدافها.
لقد تعلم المسلمون من دينهم: أنه لتحقيق الشخصية الإسلامية المنشودة لابد
من الاهتمام أثناء التربية بالجسم والعقل والروح، ولأجل هذه النظرة المتكاملة لم
يكن العلم نظريّاً فحسب، ومهما تكن قيمة المعلومات التي يحصلها الإنسان فلابد
لصاحب العلم كيفما كان اختصاصه أن يلتزم بالقيم الخلقية التي يفرضها العلم على
أهله.
ونقصد بالعلم هنا: جميع العلوم التي يدرسها الإنسان سواء أكانت دينية
مصدرها الوحي أو دنيوية مصدرها العقل، كما نقصد بالخلق: الجانب الذي يقابل
العلم، وهو يرادف العمل أو التطبيق.
وفي المجال الذي نتحدث عنه هناك ثلاثة أنواع من الأخلاق يُطالبُ بها أهل
العلم:
- أخلاق علمية: يتخلق بها المرء في فترة التعلم والدراسة.
- أخلاق مهنية: يتخلق بها عندما يمارس اختصاصه سواء أكان تعليماً أو
غيره.
- أخلاق اجتماعية: يتخلق بها في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه.
أمثلة تؤكد العلاقة بين العلم والخلق
في الفكر التربوي الإسلامي:
تكثر الأمثلة التي تجسد اهتمام المسلمين بهذه العلاقة، نذكر بعضها:
* المثال الأول: الوصية التي يوصي بها الأستاذ تلميذه قبل عودته إلى بلده
وجلوسه للتدريس والفتيا، أو ما يمكن تسميته بالتوجيهات التربوية عند التخرج،
وكلها كانت وصايا أخلاقية تحث على الأمانة والتواضع وفعل الخير ونشر العلم
والإخلاص لله، ومما ورد في وصية أبي حنيفة لتلميذه يوسف بن خالد السمتي: إذا
دخلت البصرة واستقبلك الناس وزاروك وعرفوا حقك، فأنزل كل رجل منهم منزلته: أكرم أهل الشرف، وعظم أهل العلم، ووقر الشيوخ، ولاطف الأحداث، وتقرب
من العامة، ودارِ التجار، واصطحب الأخيار، ولا تتهاون بالسلطان، ولا تقولن
من الكلام ما ينكر عليك في ظاهره.. [1] .
* المثال الثاني: الإجازات التي كان يجيز بها العلماء تلاميذهم، وما كانت
تتضمنه من الأمر بتقوى الله ولزوم طاعته والقيام بحق العلم عملاً ونشراً، فمن
العلماء من كان يفصل شروطه التي يجيز على أساسها طلابه ومن سأله الإجازة من
أهل العلم، ومنهم من كان يحيل على شروط العلماء المتعارف عليها، كما أجاز
ابن خلدون لجماعة من علماء مصر أثناء مقامه بها وفيهم الإمام ابن حجر العسقلاني
فكتب في إجازته: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أجزت لهؤلاء
السادة، والعلماء القادة، أهل التحصيل والإفادة والفضل والإجادة، والإبداء في
الكمال والإعادة، جميع ما سألوه ورجوه من الإجازة وأملوه، على شروطه المعتبرة
عند العلماء، وأخبرهم أن مولدي عام اثنين وثلاثين وسبعمئة، والله (تعالى) ينفعنا
وإياهم بالعلم وأهله، ويجعلنا من سالكي سبله، وكتب بذلك عبد الرحمن بن محمد
بن خلدون، منتصف شعبان عام سبعة وتسعين وسبعمئة [2] .
لقد كان الانتقال من مرحلة التلقي والتلمذة إلى مرحلة التدريس والمشيخة
مرحلة حاسمة لها هيبتها، ولذلك: حفها العلماء بشروط علمية وأخلاقية صارمة.
ورغم أن الإجازات لم تكن في أول الإسلام لقرب العهد بالنبوة، ولشيوع
الأمانة، لكنها ظهرت بعد الابتعاد عن عصر النبوة، وطالت سلسلة الإسناد لضبط
الرواية، والأخذ عن الثقات، والإجازة: عبارة عن إذن يمنحه المجيز لشخص
آخر يسمى مُجازاً، يأذن له فيه أن يروي عنه رواية قرآنية أو أحاديث نبوية أو
أشعاراً أو فقهاً أو لغةً أو غير ذلك، وقد يكون المستجيز طالباً دَرَسَ عند الشيخ
المجيز، وقد لا يكون، لكن يشترط في الإجازة أن يكون المجيز عالماً بما يجيز به، ثقة في دينه وروايته، معروفاً بالعلم، وأن يكون المستجيز من أهل العلم وطلابه
حتى لا يوضع العلم في غير أهله.
* المثال الثالث: موقف الأسرة والآباء من هذه العلاقة، وحرصهم على
استفادة أبنائهم من التعليم: العلم والخلق جميعاً، ويظهر هذا في وصاياهم للمعلم
عند تسليمه الولد، وقد أوصى عبد الملك بن مروان معلم ولده فقال له [3] : علّمهم
الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة؛ فإنهم أسوء الناس بدعة، وأقلهم أدباً،
وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة، وأحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضا، ويمصوا الماء مصّاً
ولا يعبوه عبّاً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في ستر، لا يعلم به أحد
من الحاشية فيهونوا عليه.
فهذه الوصية اشتملت على توجيهات صحية وأخرى علمية وأخرى أخلاقية
تبعاً لنظرة الإسلام إلى المكونات الثلاثة: الجسم، والعقل، والروح.
* المثال الرابع: حضور الثقافة الدينية بقوة في المراحل الأساسية للتعليم،
ثم في المراحل التالية، وشعار ذلك: البداية التي كان سيبدأ بها الطفل بعد تعلم
القراءة والكتابة، وهي حفظ القرآن الكريم، يقول ابن خلدون: تعليم الولدان القرآن
الكريم شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أقطارهم،
لِمَا يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون
الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من
الملكات [4] .
ورغم أن العلوم التي كانت تدرس في المدارس والجامعات الإسلامية لم تكن
جميعاً علوماً دينية، ولكن المبدأ السائد كان هو البدء بهذه العلوم الدينية وإتقانها قبل
التخصص في غيرها، لأنها قاسم مشترك يحتاج إليها كل طالب كيفما كان
التخصص الذي سيختاره فيما بعد؛ يقول عمر بن عتبة لمعلم ولده: ليكن أول
إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بك، فالحسن عندهم ما
صنعت، والقبيح عندهم ما تركت، علمهم كتاب الله، ولا تُمِلّهم فيه فيتركوه، ولا
تتركهم منه فيهجروه، وروّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تنقلهم
من علم إلى علم حتى يُحكموه، فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم، وعلمهم
سنن الحكماء وجنبهم محادثة النساء، ولا تتكل على عذر مني فقد اتكلتُ على كفاية
منك [5] .
* المثال الخامس: هو ارتباط العلم بالمسجد، وما يرمز إليه المسجد من
علاقة بين العلم والعمل، والإيمان والطاعة، ورغم أن الكتاتيب والمدارس قد
أنشئت فيما بعد مستقلة عن المساجد، ولكن المسجد بقي محور الدراسة، فكانت
المدارس ملحقة به، وإذا كانت كبيرة كانت تضم المسجد ضمن مرافقها، وكان
جزءٌ من وقت العالِم وطلابه يمضى في المسجد.
* المثال السادس: هو الرحلة في طلب العلم [6] ، فقد كانت الرحلة بدوافعها
وآدابها تأكيداً للعلاقة بين العلم والخلق، وذلك لأن الطلاب لم يكونوا يَقنعون بأخذ
العلم من الكتب والصحف، فكانوا يرحلون لملاقاة الشيوخ، حتى يأخذوا عنهم العلم
والخلق، ويستفيدوا منهم العلوم النظرية بالقراءة عليهم، والأخلاق العملية
بالاحتكاك بهم ومجالستهم والاستماع إلى نصائحهم وتوجيهاتهم، كما كان العلماء
يدركون هذه المهمة المزدوجة، ولم يكونوا يرون أنفسهم حملة أسفار وعلوم فقط.
هذه أمثلة لقوة العلاقة التي كانت تصل بين العلم والخلق في الفكر التربوي
للمسلمين.
وبما أن طرفي العلاقة هما الأستاذ والتلميذ؛ سنأخذ كلاً منهما نموذجاً نرى من
خلاله كم كان حجم هذه العلاقة بارزاً عند علماء المسلمين.
الأستاذ:
1- النية التي تقف وراء طلب العلم والاشتغال بالتدريس: لقد كثر التأكيد
على الإخلاص لله (تعالى) عند تحصيل العلم وتبليغه حتى لا يفقد الأخلاق التي
تكون معه ومنها: العزة، والاستعلاء بالإيمان، وقول الحق، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وحتى يكون طلب العلم لله وتبليغه لله: لابد أن يتخلق العالم
بالزهد والقناعة والأخذ من الدنيا بقدر الحاجة، فالعالم إذا استولت عليه الأفكار
المادية انعكس ذلك على عطائه العلمي، وانصرف عقله إلى التملك والاستهلاك،
وصار اشتغاله بالعلم حرفة جافة هدفها الأجرة التي يحصل عليها آخر الشهر، ولم
يكن المقصود عندهم بالإخلاص لله عند تحصيل العلم وعند التصدر لتدريسه ألا
يأخذ شيئاً يستعين به على الدراسة أثناء الطلب أو يأخذ كفايته وكفاية عياله أثناء
التدريس، بل كانت المنح وكانت الأجور، ولكنها لم تكن هي الدافع الأول وراء
الحركة العلمية، ولم تكن هي سبب تلك التضحيات التي بذلها الطلاب في دراستهم
وذلك الإخلاص الذي عرف به الشيوخ في عملهم.
2- الأخلاق العامة التي يمشي بها الأستاذ بين الناس: يقول بدر الدين بن
جماعة: أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام: كإقامة الصلاة في
المساجد، وإفشاء السلام للخواص والعوام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والصبر على الأذى بسبب ذلك..، ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز
منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها، فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في
الأحكام، وهم حجة الله على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا يُنظرون،
ويقتدي بهم من لا يعلمون، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه، فغيره أبعد عن الانتفاع به.
وأن يعامل الناس بمكارم الأخلاق من: طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وكظم
الغيظ، وكف الأذى عن الناس واحتماله منهم.. [7] .
3- الأخلاق الخاصة بمعاملة الطلاب والتلاميذ: يقول الغزالي عن هذه
المعاملة: ثم على المعلم أن يشفق على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، وألا
يدع من نصح المتعلم شيئاً، وأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها، ثم ينبهه
أن الغرض من طلبه العلم الثقافة والقرب من الله دون الرياسة والمباهاة والمنافسة
وأن يهتم بأخلاق التلاميذ اهتمامه بعقولهم، وأن يزجرهم عن سوء الأخلاق بطريق
التعريض ما أمكن، وألا يصرح بالزجر إلا عند الضرورة.
وعلى المدرس أن يربي في تلميذه ملكة الاجتهاد والنظر لا مجرد التقليد
والتسليم حتى ينشأ مستقلاً لا نسخة من معلمه [8] .
ومن الأخلاق التي تضبط هذه العلاقة إذا كان التلاميذ كثرة: العدل بينهم؛
والعدل من أصول الأخلاق، وبه جاءت الشريعة الإسلامية، ولذلك نهت عن كل
صور الظلم، فتعميم التعليم من العدل ولكن منعه ممن لا يستحقه كبذله لمن يستحقه، والمساواة بين التلاميذ عند تعليمه وعدم التفريق بينهم في ذلك من العدل، وإذا
منح الأستاذ لأحد الطلاب عناية خاصة فلأجل تفوقه ونبوغه لا لماله وقرابته.
4- الأخلاق المتعلقة بالهيئة عند التدريس: وقبل أن يلتفت علماء التربية إلى
أهمية الهندام في العمل التربوي ذكره علماؤنا ضمن أخلاق العالم عند التدريس؛
يقول ابن جماعة: إذا عزم العالم على مجلس التدريس تطهر من الحدث والخبث،
وتنظف وتطيب، ولبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه، قاصداً بذلك
تعظيم العلم وتبجيل الشريعة [9] .
ونلاحظ في هذا النص المرونة في أمر اللباس تبعاً لاختلاف العصور والبلدان، لكن الهيبة والنظافة والجمال تبقى مميزات ثلاث لأنواع اللباس التي لبسها العلماء
في مجالسهم التعليمية.
ولا يخفى أن أنظار التلاميذ تتجه إلى الأستاذ ساعة أو أكثر، فيجب أن تقع
أنظارهم على شيء مستحسن، فإن ذلك أيضاً من الخلق الذي يأخذونه عنه.
وأما هيئة التدريس: فقد عددوا لها أخلاقاً، منها: السكينة، والوقار،
والتواضع، والافتتاح بالحمد لله والختم بذكره، وتفويض العلم له بأن يقول: هذا،
والله أعلم.
وأما الكلام الذي يتكلم به أثناء الدرس: فقالوا: عليه أن ينزه لسانه عن كثرة
المزاح والضحك فإن من مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، وأن
يتجنب الكلام الفاحش، فإن اضطر لاستعمال كلمة يُسْتَحْيى منها ففي الكناية ما يغني
عن التصريح إلا أن يكون التصريح لازماً للتوضيح.
ومن الأخلاق العلمية التي سبق علماؤنا إلى التأكيد عليها: الالتزام بموضوع
الدرس، واستيفاؤه شرحاً، وقد اتخذوا موقفاً وسطاً بين من لا يقبل أي استطراد
وبين من لا يتقيد بموضوع أو مقرر؛ يقول ابن جماعة: وكان بعض العلماء
والزهاد يختم الدروس بدرس رقائق يفيد به الحاضرين تطهير الباطن، ونحو ذلك
من: عظة، ورقة، وزهد، وصبر [10] .
ومعنى هذا: أن الأستاذ إذا استوفى الدرس حقه لا بأس أن يفيد الطلاب
بفوائد أخرى يرى أن غيره لا يفيدهم بها خصوصاً في هذا المجال الأخلاقي،
ويزيد ابن جماعة شرطاً آخر فيقول: فإن كان في مدرسة ولواقفها في الدروس
شرط اتبعه، ولا يُخل بما هو أهم ما بنيت له تلك البناية، ووقفت من أجله وهذا
بتعبيرنا المعاصر هو احترام المقررات العامة للمؤسسة.
5- أخلاق السؤال والإجابة: وكلام علمائنا في هذه النقطة يدور حول الرفق
والتلطف: فإذا فرغ الشيخ من شرح درس، فلا بأس أن يطرح مسائل تتعلق به
على الطلبة؛ يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن ظهر استحكام فهمه له
بتكرار الإجابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطف له في إعادته له [11] .
هذا الخلق هو الذي يحبب للطلاب المراجعة؛ لأنه يسألهم ويمتحن استيعابهم
برفق ودون إحراج، وإذا سألوه أجاب بما يعلم، وقال فيما لا يعلم: لا أعلم، بل
إن كلام علمائنا عن الرفق يمتد إلى العقوبة الحسية والمعنوية التي قد يلجأ إليها
الأستاذ لتنفير الطلاب من التهاون والتقصير.
والملاحظ أن علماءنا كانوا يفضلون التعزيز الإيجابي على التعزيز
السلبي [12] قبل أن تقول به المدارس المعاصرة؛ فهم يفضلون الثناء على الطالب المجد بين أقرانه ليكون لهم قدوة، على معاقبة المقصر ليكون لهم عبرة، وإذا أُلْجِئوا إلى العقوبة يجعلونها آخر الدواء، ولذلك ذكروا مراتب ستّاً للتعزيز السلبي:
الأولى: عفو الأستاذ إذا كان الخطأ أول مرة.
الثانية: النصح.
الثالثة: العقاب الخفيف.
الرابعة: العقاب الشديد.
الخامسة: العقوبة البدنية من غير شدة بعيداً عن التشفي والانتقام.
6- الأخلاق المتعلقة بالموضوع المدروس: على العالم أن يحفظ درسه من
الموضوعات التي تخدش الحياء، وتشجع على المجون والخلاعة؛ ولذلك كانت
مدارس المسلمين خالية من دراسة الأدب المكشوف والفن الهابط، وكانت
موضوعات الدراسة نظيفة، لأنها منتقاة، وهذا ما يسمى اليوم بتطهير المعلومات،
وهو إحدى المهام الثلاثة للمدرسة، أما الثانية: فهي تنظيم هذه المعلومات، والثالثة: تبسيطها.
التلميذ:
1- يعتبر علماؤنا أن حسن الخلق أساس النبوغ في العلم، ولذلك: فإنهم
عندما يلحون على ربط العلم بالأخلاق لا يقصدون آثارها في حياة الطالب بعد
الدراسة فقط، بل يقصدون آثارها في حياته أثناء الدراسة نفسها، وفي المجال
العلمي الذي هو بصدده، ورغم أن العلاقة بين جودة التحصيل وقوة الذاكرة وبين
الاستقامة على الدين والتمسك بمكارم الأخلاق: علاقة خفية، فإن العلماء والمربين
المسلمين تنبهوا إليها؛ يقول أبو حامد الغزالي: على الطالب أن يكون طاهر النفس
عن رذائل الأخلاق ومذموم الصفات، فطهارة النفس وحسن الأخلاق أساس النبوغ
في العلم، وربما حصل سيئ الأخلاق على العلم، غير أنه لن ينتفع به ولن ينفع به، فكأنه لم يحصله [13] .
2- وبعد أن أكدوا على علاقة الأخلاق بحسن الاستفادة والانتفاع بالعلم،
جعلوا طلب العلم نفسه خُلقاً، وتكلموا عن الهمة العالية وعن الجد في الطلب حتى
يصير العلم هواية وسلوة، وعندما يصير كذلك يصعب التحول عنه إلى غيره.
3- ويعينه على بلوغ هذه المرتبة خلق آخر هو التواضع، فمهما بلغ علمه لا
يغتر به ولا يخرجه إلى ساحة الإعجاب بالنفس، فلا زال المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.
4- كما يعينه أيضاً انشغاله عن عيوب الناس، وانصرافه إلى عيب نفسه وما
تعانيه من نقص في العلم وتقصير في العمل، وإذا ترك الناس وأقبل على نفسه
يُكملها بالعلم والخلق تعود على استغلال الوقت وحسن استثماره.
5- وبما أن الطالب في السابق كان هو الذي يختار شيوخه: كثرت الوصية
باختيار أهل العلم والورع، فإذا اختار الأعلم والأتقى فليلازمه بالصبر والتواضع
والاحترام.
6- أما علاقة التلميذ بالتلميذ: فكانت تحكمها أخلاق الأخوة في الإسلام من
المحبة في الباطن والتعاون في الظاهر، يصاحب المجد التقي ويجتنب الكسلان
والشرير، وإذا ابتلي برفيق سوء تلطف حتى يتخلص منه.
__________
(1) أحمد شلبي: التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، ص332، ط ثانية، مكتبة النهضة المصرية.
(2) ابن خلدون: المقدمة، ج1 ص439، دار نهضة مصر، بتحقيق علي عبد الواحد وافي.
(3) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج2 ص167، نقلاً عن: أحمد شلبي: مرجع سابق ص63.
(4) المقدمة، ص397.
(5) ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج1 ص363، نقلاً عن: أحمد شلبي: مرجع سابق ص64.
(6) انظر: (صفحات من صبر العلماء على العلم والتحصيل) للشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
(7) تذكرة السامع والمتكلم بأدب الصالح والمتعلم، ص 20، دار الكتب العلمية.
(8) إحياء علوم الدين، ج8 ص46 - 47.
(9) المرجع السابق، ص 30.
(10) نفس المرجع، ص 37.
(11) المرجع السابق، ص53.
(12) مصطلح التعزيز: مصطلح نفسي تربوي يعني التدعيم، وقد يكون إيجابيّاً بتشجيع الفرد على الاستجابة الصائبة، وقد يكون سلبياً بتنفيره من الاستجابة الخاطئة.
(13) الإحياء، ج1 ص40.(89/14)
خواطر في الدعوة
الفرصة السانحة
محمد العبدة
إذا كان الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون يرى في سقوط الشيوعية
والاتحاد السوفييتي فرصة سانحة للغرب وبزعامة أمريكا لفرض حضارته وقيمه
وثقافته على الآخرين، فإن المسلمين يرون أنها فرصة سانحة لهم: لنشر إسلامهم
وثقافتهم بين الشعوب التي عانت وتعاني من عجرفة الحضارة الغربية، كما عانت
من كثرة التحولات الفكرية التي أخذتهم يميناً وشمالاً، ولم توفر لهم فرص السعادة
والاطمئنان.
إن الفساد المستشري في الأرض يشبه ما جاء في الحديث: إن الله نظر إلى
أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم [1] .. وإن الإنسانية بحاجة إلى من ينقذها من
أوبائها الاقتصادية، حين أصبح تاريخها كأنما هو تاريخ الأسنان والأضراس [2]
وإذا كان الرئيس نيكسون بدا منتشياً بسقوط الاتحاد السوفييتي إلا أنه لم تمض
سنوات قليلة حتى ظهر في الغرب من يقول ب (صدام الحضارات) وليس بزعامة
الغرب المطلقة، وظهر من يكتب عن (الهيصة الديموقراطية) [3] ، وتكلم بعض
الباحثين عن خيانة الرأسمالية الغربية لمبادئها الأولى وكيف تحولت إلى (بورصة) .
إن ما يجري في العالم فرصة للمسلمين لإعادة الشعوب التي خرجت من مظلة
الاتحاد السوفييتي إلى دينها، ونشر الإسلام الصحيح بين صفوفها، وهي شعوب
اشتهرت بقوة الشكيمة، وشدة البأس، وتحتل موقعاً عريضاً من الأرض (من حدود
اليونان إلى بخارى وسمرقند) ، كما أنها فرصة لنشر الإسلام الصحيح بين شعوب
جنوب شرقي آسيا، وهي الآخذة اليوم بأسباب القوة والتقدم الصناعي، وإن
الشعوب الإسلامية على اختلاف أماكنها وألوانها تحمل في داخلها من الصفات
القويمة ما يؤهلها للنهوض، وإن حُرمت من كثير من أسباب العلم والعمل، وكل
هذا بحاجة لجهود جمعيات ومؤسسات، وبحاجة إلى تجديد في وسائل الدعوة سواء
أكان ذلك عن طريق الكتاب، أو المحاضرة، أو الإعلام المرئي والمسموع، وإن
في المسلمين من العلماء والمفكرين من هو قادر على هذا التجديد في وسائل الدعوة، وعرض الإسلام عرضاً بسيطاً واضحاً وقويّاً.
ولعلّ انهيار المذاهب الفكرية المعاصرة يكون تقدمة وتوطئة لانتشار الإسلام
إلى كل حَجَر ومدر، بل هو في الواقع آخذ في الازدياد بكيفية تسترعي النظر،
وقد سمعنا أن مسؤولي السجون في أمريكا يتمنون أن يتحول السجناء إلى الإسلام
ليرتاحوا من المشاكل والمشاغبات، ويسمحون للدعاة في الدخول على السجناء
وإلقاء الدروس والعظات.
أما عن خبر هذه الحملة التي يتولى كبرها الإعلام العالمي والمحلي، وعن
هذا التهويش والتهويل عن خطر الإسلام، ووجوب التصدي له، فإن كل هذا لا
يرعبنا ولا يخيفنا وقد نهى الله (عز وجل) المؤمنين عن الوهن لما أصابهم بأحد،
وعن الحزن على مَنْ فُقد، وعلى مذمة الهزيمة، وأنّسهم بأنهم الأعلون أصحاب
العاقبة، والهون: الضعف واللين، ومن كرم الخلق ألا يهين الإنسان في حربه
وخصامه، لا يلين إذا كان محقّاً، وأن يتقصّى جميع مقدرته، ولا يضرع ولو مات، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى.. [4] .
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في باب صفة أهل الجنة وأهل النار.
(2) الرافعي: وحي القلم، ج2، ص10.
(3) عنوان كتاب لمؤلف فرنسي، وهو يعتبر أن الظاهرة الديموقراطية ظاهرة نسبية، وأنها الآن في دور الانحطاط.
(4) تفسير ابن عطية ج2، ص225.(89/24)
دراسات دعوية
نحو وعي سُنني
خالد أبو الفتوح
من المآثر المهمة للصحوة الإسلامية المعاصرة: التنبه إلى أهمية الكشف عن
سنن التغيير واستخدامها في الأنفس والمجتمعات؛ فمعرفة هذه السنن (القوانين)
والعمل بها: أمر ضروري لإحداث أي حراك اجتماعي طبيعي في أي مجتمع يعاني
من التخلف أو الركود الحضاري، أو يُراد له تصحيح مسار حركته.
وقد كانت هذه السنن معلومة ومعمولاً بها منذ عهد خير القرون، ثم أخذ
الضمور يصيب الوعي بها شيئاً فشيئاً حتى انتهى الأمر إلى التسليم عمليّاً على
الأقل بأنه ليس ثمة نظام يوجه حركة التاريخ، وفي النهاية وفي غيبة منهج أهل
السنة: ألقي هذا الوعي في سلة عقيدة الجبرية، حيث لا مكان لعمل الأسباب،
وأصبحت هذه الأمة هي أكبر أمة تُتخطف حتى من أحقر الأمم، ولكن.. بوعي
وتخطيط مدروس وفقاً لهذه السنن.
نعم.. كان العلم والعمل بهذه السنن مركوزاً في حركة المجتمع الإسلامي منذ
عهد النبوة، ولكنه كان كبقية العلوم الإسلامية غير مقنن وغير مدون، تماماً كما
كانت أصول فقه الأحكام الشرعية موجودة قبل ظهور أول كتاب مدون في هذا العلم
(الرسالة، للإمام الشافعي) ؛ يظهر ذلك جليّاً لمن تدبر كتاب الله وبخاصة قصص
الأمم السابقة: [أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ ... ] [الروم: 9] ، وفي قصص الأنبياء؛ فهي لم تذكر لمجرد التلاوة أو السرد القصصي، بل: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ... ] [يوسف: 111] ، ويظهر أيضاً في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه الرشيد تجاه الأفراد، ثم الطوائف والجماعات، ثم التكتلات والدول، ويظهر كذلك في سلوك الصحابة والسلف الصالح (رضوان الله عليهم) تجاه الأفراد، وفي جهادهم الواعي للأمم الأخرى.
لقد كان الجهاد بمفهومه الشامل باباً واسعاً لفتح آفاق فهم وتطبيق سنن التغيير، ومع البعد عن زمن النبوة: كان هذا الباب ينكمش رويداً رويداً في الفهم، وفي
التطبيق، فرأينا انكماش مفهوم الجهاد إلى القتال، ثم انكماش القتال إلى الدفاع، ثم
تحول الدفاع إلى تعايش سلمي وعلاقات قائمة على مصالح مشتركة مع تغييب قيم
الأمة ومبادئها.. وفي منحى آخر: أصبح مفهوم الجهاد مرادفاً للعنف والاغتيال
السياسي. وصاحب ذلك بالتدرج نفسه غفلة الأمة عن دورها الرائد بين الأمم
باعتبارها أمة شهادة على الناس، وغفلتها عن دورها الرقابي الإصلاحي باعتبارها
خير أمة أخرجت للناس.
أي إننا نستطيع القول: إن المفهوم الصحيح للجهاد شاملاً الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر كان يمثل آلية عفوية للتحرك من خلال سنن التغيير، ولكن
كانت هذه الآلية مركوزة في الوعي الباطن، ولم تظهر في بؤرة الوعي المنظور
كبقية العلوم، إما للانشغال بالعمل بها كما كان في القرون المتقدمة وإما لعدم الانتباه
لأهميتها، كما كان يظهر في عهود الانحدار والانحطاط.
وتأتي مقدمة ابن خلدون كأول محاولة لوضع أسباب رقي وانحطاط الأمم في
بؤرة هذا الوعي المنظور، فجاءت هذه المقدمة لتكون بداية تقنين وتدوين (أصول
فقه التاريخ) ، ولكن.. لماذا لم تستمر هذه البداية لتكون دفعة لتأصيل ونشر الوعي
بهذا العلم؟ لقد كان ابن خلدون نفسه يأمل أن يأتي مِن بعده مَن يتم ما بدأه [1] ،
ولكن لم يتحقق أمل ابن خلدون بالرغم من أن الحركة العلمية بين المسلمين في هذا
الوقت لم تكن سيئة في فروع أخرى من العلم.
كان ابن خلدون عالماً لم يجد أصحاباً يقومون بنشر خلاصة علمه وعصارة
تجربته، ولم يكن هذا الحدث هو الأول من نوعه في تاريخ الحركة العلمية عند
المسلمين، بل سبق أن حدث أكثر من مرة أن ضاعت اجتهادات علماء أفذاذ بسبب
عدم قيام تلاميذهم بالنشاط الكافي لنشر علمهم واجتهاداتهم، ومنهم الإمام الليث الذي
قال عنه الشافعي (رحمهما الله) : الليث أفقه من مالك، ولكن أصحابه لم يقوموا
به [2] ، ولكن الخطورة في حالة ابن خلدون هي: ارتباط العلم الذي وضع قواعده به، فإنه في حالة الإمام الليث أو غيره كان هناك فقهاء آخرون يقومون بإثراء الاجتهاد في فقه الأحكام الشرعية إذا لم يقم هؤلاء الأصحاب بواجبهم، أما في حالة علم (أصول فقه التاريخ) : فإن تقنينه وتدوينه بدأ وانتهى عند ابن خلدون. والذي يظهر: أن هذا العلم باعتباره يمس أمر الدول والمجتمعات بصفتها التكتلية والتفاعلية كان في حاجة إلى عقل جماعي متحرك للكشف عنه ثم نشره، وإلى وعي اجتماعي للسير وفق سننه وقوانينه ومن ثم: إثراء الاجتهاد فيه [*] ، وإلى قيادة مدركة لأهمية هذه الحركة العلمية وهذا الاتجاه المجتمعي فتقوم بالدعم، وليس بالعرقلة خوفاً من ضياع سلطانها المزيف إذا انتشر الوعي بهذه السنن! ! .
ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وبقيت مقدمة ابن خلدون كلؤلؤة علمية مستقرة
في قاع التراث، يعلم الناس بوجودها، ولكنهم لا يدركون أهميتها فلا يكلفون
أنفسهم عناء الكشف عنها.. إلى أن لمع بريقها بعد قرون من الزمن لرجال من
المشرق، اختلفت مقاصدهم من صيدها، ولكنهم في النهاية أخرجوها وصقولها ثم
عرضوها، لكن.. في إطار مخملي خلف ستار زجاجي، لا يطلع عليها إلا نخبة
المفكرين وصفوة المثقفين! ! فتحولت المقدمة إلى ثقافة باردة ليس لها صدى في
حركة المجتمعات التي هي تستهدفها في الأساس.
ولم يهتم الإسلاميون في بداية أمرهم اهتماماً ذا بال بالمقدمة، إما لانشغالهم
ببيان صحيح الإسلام ومدى المخالفات الحادثة في الواقع، مع عدم إدراكهم إدراكاً
كافياً لسبل تغيير هذا الواقع، وبالتالي: عدم البحث عما يرشد إلى هذه السبل،
فاستقرت جهود معظمهم عند حدود الحركة الوعظية المجردة، وإما الانصراف عنها
نتيجة الانصراف عن صاحبها بسبب كلام عالم مشهور عن بعض تصرفات ابن
خلدون الشخصية، أو نتيجة بعض الثغرات والاجتهادات التي لا يُوافق عليها؛
وهذا الموقف من ابن خلدون ومقدمته: خطأ منهجي؛ فالمقدمة فيها فوائد كثيرة؛
فيجب ألا تهمل من أجل أخطاء أو أقوال غير صحيحة [3] .
ومن المنطقة نفسها التي خرج منها ابن خلدون، وبعد خمسة قرون، خرج
مفكر منهجي يبين أسباب التخلف الحضاري الذي قبعت الأمة بسببه في ذيل الأمم،
ورضيت بجُثُوم الاستعمار فوق صدرها.
ظهر مالك بن نبي وكأنه صدًى لعلم ابن خلدون يهمس في وعي الأمة بلغة
القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات،
ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة
على الأمم المستضعفة وبخاصة المسلمين ووضع لهم معادلات وقوانين الإقلاع
الحضاري.. ولكن الأمة لم تقلع حضاريّاً؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها
ومؤسساتها، وإما لضعف المحرّك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين
معاً.. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين نظريات مفيدة للمحرّكِين الذين يهتمون بانطلاق المشروع الحضاري للأمة.
ومع أهمية ما تركه مالك من فكر إلا أنه ظل في أذهان كثير من شباب
الصحوة فكراً مَتْحفيّاً، لا يهتم به إلا المتخصصون من روّاد الفكر الساكن على
الرغم من أنه (نموذج لنظريات الحركة الاجتماعية) ، ولعل من أسباب هذه الفجوة
ما يلي:
1- جفاف أسلوب مالك نظراً لأن معظم كتبه مترجمة عن الفرنسية.
2- افتقاد كلامه للبعد الشرعي، بل جل فكرة استقاه من النظر والتأمل في
الواقع، والاطلاع على أطروحات بعض المفكرين الغربيين، وذلك نتيجة اختلاط
منابع فكره؛ فظهر فيها بعض الكدر.
3- وقوعه في بعض الأخطاء الاجتهادية والسقطات السياسية؛ نتيجة السبب
السابق.
4- وقوع بعض خلاف في وجهات النظر بينه وبين أحد رموز الصحوة.
ومع كل ذلك: فإنه لا سبيل لمنصف إلا أن يضع فكر مالك بن نبي بأسلوبه
الصعب وأخطائه الاجتهادية وسقطاته السياسية كدواء مهم ينبغي على المريض
تناوله رغم مرارة طعمه ورغم آثاره الجانبية [4] .
ونلاحظ أن أسباب التجافي عن كتابات مالك تقترب من أسباب إهمال علم ابن
خلدون وبخاصة آخر سببين، ولكن مالك كان أوفر حظّاً من ابن خلدون حيث تهيّأ
له أصحاب من المشرق أيضاً يقومون به عنايةً بفكره ونشراً له وتوضيحاً،
فأخرجوا أفكاره في طبعة جديدة مزيدة ومنقحة، احتوت على مستحضرات فكرية
مشتقة من تركيبة مالك الحضارية، ولكن راعوا فيها تحسين طعمها وتخفيف آثارها
الجانبية.
ومع ذلك فقد كان من الملاحظ وجود هوّة بين الأعمال الفكرية التي تهتم
بكشف سنن التغيير وبين النبع الصافي لهذه السنن أعني: القرآن الكريم، ومعه
السنة النبوية الصحيحة واختلفت علاقات هؤلاء الكتّاب بهذا النبع:
1- فمنهم: من حاول الاجتهاد في الاستنباط من هذه النصوص قدر طاقته،
ولكنه اجتهاد غير أصيل؛ لاختلاط روافد فكره، ونتج عن ذلك: عدم كفاية الإقبال
الذي يستحق صاحبه أن تفتح عليه كنوز القرآن والسنة، فندعو الله أن يثيب من
ذلك شأنه على اجتهاده.
2- ومنهم: من استدل بنصوص الوحي كشواهد لصحة أفكاره الاجتماعية؛
فهذه الأفكار لم تكن بنت الأدلة، ولكن كانت الأفكار سابقة عليها ثم أُتي بالأدلة
معضدة لها.
3- ومنهم: من أورد أدلة الوحي للالتفاف حول بعض الطيبين لإقناعهم بهذا
الخير من الباب المحبب إليهم المقنع لهم.
4- ومنهم: من أوردها لمجرد ذر الرماد في العيون حتى لا يتهم بأن هذه
الأفكار اجتهاد شخصي.
5- ومنهم: من أهمل نصوص الوحي إهمالاً شبه كلي اعتماداً على النظر في
علم الاجتماع، وتدبر تجارب الحركات والأمم، واستنطاق أحداث التاريخ، بل:
والنظر في العلوم الطبيعية والتجريبية لاستخراج سنن التغيير في الأنفس
والمجتمعات.
ولا شك أن هناك مندوحة للنظر في مثل هذه العلوم لاستخراج السنن
والقوانين التي تحكم تغيير النفوس والمجتمعات، بل نرى أن النظر في مثل ما
سبق وبخاصة أحداث التاريخ هو من مقتضى قوله (تعالى) : [ ... أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا
تَعْقِلُونَ] [يوسف: 109] ،.. وغير ذلك من الآيات التي تحث على دراسة عاقبة
أي: نتائج ومآل أفعال الذين من قبلنا الذين سبقونا تاريخيّاً، بل في الآيات حث
على السير وهو دعوة للدراسة العملية للتاريخ فضلاً عن تذاكر الأخبار.. والحكمة
ضالة المؤمن.
وعندما نستخرج سنن التغيير من النصوص الشرعية، فقد نجد التقاءً في نقاط
تقاطع مع بعض ما يُذكر في هذه العلوم أو غيرها:
فمثلاً: يقول بعض علماء الحضارات: إن شيوع الترف وتفشي الانحراف
الجنسي والتحلل الخلقي سبب لانهيار الحضارات، ونجد ذلك في السنة المستخرجة
من قوله (تعالى) : [وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] ، فنستطيع أن نضع هذه السنة كالآتي:
ترف + فسق (استفاضة بلاغ+ وعدم استجابة) --< = تدمير وانهيار.
وعند إعمال هذه السنة في أمة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ نجد حديثاً
يبين نوع العقوبة التي يمكن أن تقع على الأمة، وذلك في قوله -صلى الله عليه
وسلم-: سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلك أمتي
بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل
بأسهم بينهم فمنعنيها [5] .
وكذلك المبدأ الشهير في السياسة فرّق تَسُدْ: يستخدمه حزب الشيطان لنصرة
الباطل وإضعاف أهل الحق، ويستخدمه حزب الله لنصرة الحق وإضعاف أهل
الباطل، والمتتبع لغزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته في مواجهة
قوى الكفر يجد أنه استخدم هذا المبدأ غير مرة، ولكن لنصرة وسيادة دين الله.
وكما أننا نجد نقاط التقاء بين هذه العلوم المستخرجة من نصوص الوحي،
نجد أيضاً نقاط افتراق؛ كما في السنة المستخرجة من قوله (تعالى) : [فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ..] [مريم: 49] ،
وقوله (تعالى) : [وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ فَاًوُوا إلَى الكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ
رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً] [الكهف: 16] ؛ فاعتزال الشرك
واعتزال أهله بعد البلاغ المبين يترتب عليه هبة وزيادة فضل إلهي.. بينما لا فرق
عند الناظرين في العلوم السابقة نظرةً عقلانية بحتة بين اعتزال الشرك واعتزال
التوحيد! !
فالمقصود: أن هذه العلوم المذكورة وغيرها من العلوم والمعارف: كفقه
الواقع، وفقه الحركة، ومعرفة مقاصد الشريعة، بجوار فقه التاريخ لمعرفة أسباب
قيام وسقوط الدول والحضارات، ودراسة أسباب نجاح وفشل الحركات الاجتماعية
القديمة والحديثة ... كل ذلك يمثل منظومة واحدة يمكن الاستفادة بها في التغيير إذا
أُحسن الاستفادة والتنسيق بينها.
ولكن.. هل مجرد التغيير هو كل ما يهم المسلم؟ ... إن معرفة كل ما سبق
قد يعطي تمكنّاً في قوانين التغيير، وعند استعمال هذه القوانين فقد يتحقق التغيير
والتمكين، ولكنه لا يؤدي وحده إلى تمكين الرضا والاستخلاف في الأرض،
فمعرفة هذه القوانين قد يُنتج مسلماً صاحب وعي حضاري، ولكنها وحدها لا تنتج
مؤمنين يستحقون معيّة الله الخاصة واستخلاف الله لهم في أرضه.
* وهذا هو أول المعالم المميزة والفوائد العديدة للإقبال على نصوص الوحي
لأخذ سنن التغيير، فالتوجه الأول يساعد على معرفة أسباب التمكين المجرد،
والتوجه إلى نصوص الوحي يدلنا على أسباب تمكين الرضا الذي من أهم أركانه:
تحقق صفات (التوحيد) ، و (التقوى) ، و (الصلاح) فيمن يستحقونه، وهذا ما تدل
عليه آيات من كتاب الله؛ كقوله (تعالى) : [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ... ]
[النور: 55] وقوله (تعالى) : [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم
بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ... ] [الأعراف: 96] وقوله (تعالى) : [وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]
[الأنبياء: 105] ... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدل على هذا المعنى، والتي تفتح لنا المجال للبحث في هذه المعاني من وجهة أخرى غير الوجهة الفردية.
وهذه المعاني قد يعتبرها بعض أصحاب التوجه الأول من أصحاب الفكر
الناضج! والتقدمي أنها مجرد دروشة لا تقدم ولا تؤخر في التغيير.
* وثانياً: أننا عندما نقبل على نصوص الوحي لننهل منها منهج التغيير
يتضح لنا جوهر الصراع وأطرافه، إضافة إلى معادلاته، فسنن التغيير ما هي إلا
مجرد معادلات وقوانين إدارة الصراع، أما جوهره فقائم على عداوة الشيطان
للإنسان (وليس للمسلم فقط) ، والله (عز وجل) يؤكد على هذه العداوة، فيقول:
[ ... وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [البقرة: 168] ويقول على
لسان يعقوب: [ ... إنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [يوسف: 5] ، بل ويحثنا
ويحرضنا على عداوته، فيقول: [إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواً ... ]
(فاطر: 6) ... فكيف يمكننا بعد كل ذلك تهميش الحضور الشيطاني في المعركة، والاقتصار على الإيمان الغيبي بوجوده؟ ! فلابد للمسلم من استحضار هذه العداوة ليستطيع المواجهة [6] . وطرفا الصراع هما: حزب الله وحزب الشيطان، ويمثل المتقون حزب الله، بينما يمثل قوى حزب الشيطان: أهل الكتاب، والمشركون، والمنافقون. فلابد من معرفة صفات المتقين كما أسلفنا التي بها يستحق أفراد حزب الله الفوز بمعية الله الخاصة، فيكونون مؤمنين حقّاً ينصرون الله فينصرهم [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ] [الحج: 40] ولا شك أن من مقتضيات التقوى عدم التخلف عن المنهج الرباني في التحويل والتغيير؛ فحزب الله يستخدم السنن الربانية في التغيير في الأنفس والمجتمعات استخداماً صحيحاً لمواجهة الشيطان وحزبه في معركة العداوة بينهما.
وأيضاً: لابد من معرفة العدو وكل فصيل من تكتله (على أرض الواقع) :
معرفة صفاته الخلقية، ودواخله النفسية، وطريقة تفكيره، ودوافعه، ونقاط
الضعف فيه، ومراكز القوة ...
وكذلك لن يستغني حزب الله عن الوعي بالخطة المضادة للعدو أي: المنهج
الحركي للشيطان (أو ديناميكية الشيطنة) لمعرفة أساليبه في التغيير والتأثير، فالله
(عز وجل) لا يكتفي بالتأكيد على عداوة الشيطان للإنسان، بل يوضح أساليبه
وطرقه في المواجهة؛ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ... ] [النساء: 45] .
فعناصر حزب الشيطان أولياءٌ للشيطان، أي: إن الشيطان رائدهم وقدوتهم،
وهناك إيحاء متبادل بين شياطين الجن وشياطين الإنس: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُواً شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً ... ]
[الأنعام: 112] ، وهذا ما يجعل أسس مناورات المعسكر الشيطاني واحدة مع
اختلاف الزمان والمكان [أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] [الذاريات: 53] .
* وثالثاً: أن الاعتصام بحبل الله يعطينا رؤية متكاملة تعصمنا بحول الله من
الانزلاق إلى دعوات مخادعة أو سقطات سياسية ساذجة؛ فبها نعرف أن الدعوة إلى
الإنسانية وذوبان الحضارات: سراب كبير يكشفه قوله (تعالى) : [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] (هود: 118) وأن الدعوة إلى السلام
العالمي وهمٌ يجليه قوله (تعالى) : [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة: 251] وكذلك تعارضها عقيدة
الولاء والبراء.
وأن تبني اللاعنف خدعة كبرى كذبها الواقع فضلاً عن أنها تصطدم بدعوة
القرآن للأمة بالإعداد واليقظة والتحفز لمواجهة أعدائها ... إلى غير ذلك من
اجتهادات وسقطات.
* رابعاً: أن نصوص الوحي تشمل سنن التغيير في الأنفس وسنن التغيير في
المجتمعات، ففيها مجال فهم قوانين تغيير الأفراد بجوار ما تكسبه من الوعي
باتجاهات وقوانين تغيير المجتمعات، فيكون الناهل منها متكامل الإدراك شامل
الوعي؛ حيث نرى فيها مثل قوله (تعالى) : [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ] [الحج: 40] (سنة المدافعة) ، كما نجد قوله (تعالى) : [ ... ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] [فصلت: 34] وتكون
سنة تحويل العداوة كالآتي:
عداوة (دفع بالإحسان) --< ولاية
كما نرى فيها قوله - -صلى الله عليه وسلم- -: يا عائشة لولا أن قومك
حديث عهدهم قال ابن الزبير: بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل
الناس، وباب يخرجون بوّب له البخاري (رحمه الله) بعنوان: من ترك بعض
الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه [7] . وهكذا
يعرف الفرد المسلم كيف يكتسب ويحتوي الآخرين، كما يعرف كيف يواجههم.
* وخامساً: أنه ثمّة خصائص متميزة في الإقبال على القرآن الكريم لا تجدها
في غيره:
1- فثمرة الاجتهاد فيه أقرب إلى الثبات واليقين، ولكن يبقى جهد المتلقي في
التجرد والإخلاص والصلة بالله ليصل إلى المستوى الذي يليق بمن تفتح عليه كنوز
القرآن؛ [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] [العنكبوت: 69] [وَنُنَزِّلُ مِنَ
القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً] [الإسراء: 82] .
2- كون الانتهال منه عبودية يؤجر عليها المسلم (تدبر تفكر تعقل) ، وكذلك
العمل وفق منهجه.
3- والقرآن يخاطب الإنسان بما فيه من عقل وقلب ونفس، بخلاف المصادر
الأخرى.
4- وهو أقرب إلى الحس وبداهة العقل وثقافة المسلم، فينتفع منه كل مسلم
مقبل مهما بلغ مستواه العلمي.
5- وللقرآن سلطان على النفوس وسيطرة على الشعور لا يصلها أي مصدر
آخر.
وبعد.. فقد يثار تساؤل، وهو: هل من المصلحة الكشف عن هذه السنن
والقوانين؟ وأليس من الحكمة ألا يطلع الأعداء على هذه السنن؟
وعند مناقشة هذا السؤال يجب أن ندرك:
1- أنه لا تقدم إلا بوجود وعي عام بهذه السنن، بحيث يصل مفهوم هذه
السنن إلى العوام في صورة يقينيات بدهية ولو أخذت صورة عبارات مختصرة
تحمل معاني مكثفة، فإنه لابد أن يعي كل شخص دوره في التغيير بحيث لا يعرقل
تصرف منه جهود بقية المجموع، وبحيث تستثمر وتحشد كل الطاقات في اتجاه
التغيير إلى الأفضل.
2- أنه عند تساوي إمكانات حزب الله وحزب الشيطان، أو عند وصول
حزب الله إلى بذل غاية الجهد: فإن معية الله الخاصة تتدخل لنصرة جنده؛ [يَا
أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [محمد: 7] [وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] ، [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ... ] [التغابن: 16] .
3- أن الأعداء يعرفون هذه السنن والقوانين بالفعل ولكن حسب توجههم
ومناهجهم ويبنون عليها حركتهم السياسية في مواجهتهم لنا.
وأخيراً: فهذه دعوة لكل مسلم للعمل على تكوين وإشاعة إطار وعي سنني مع
الحرص على ربانية المسلم، ودعوة لعلمائنا ومفكرينا لبيان منهج رباني واقعي
للتغيير.
وتنبيه للعاملين في حقل الدعوة إلى الله وإلى سبيل الله: أن التفلت من هذه
السنن بدعوى أن علينا العمل وليس علينا النتائج على نحو إهمال إحكام الأسباب
يعتبر تسللاً خفيّاً نحو عقيدة الجبر. وإن أي حركة لن تستطيع الوصول إلى تغيير
صحيح بغير الوعي والتمكن من سنن التغيير، لن تبلغ التغيير المنشود مهما أُحكم
تنظيمها، ومهما بلغ علم وذكاء منظريها، أو ألمعية وحكمة كوادرها، أو إخلاص
وتفاني أفرادها، ولن تكفي مجرد إرادتهم للتغيير، وبغير هذه السنن والقوانين
سيكون نصيبها من النجاح هو ما كان لـ عباس بن فرناس عندما أراد أن يطير في
الهواء جاهلاً قوانين الجاذبية، فكان نصيبه من الطيران: تسجيل اسمه في التاريخ
باعتباره أول هالك في سبيل التحليق في الفضاء.
__________
(1) انظر: البداوة والحضارة، نصوص من مقدمة ابن خلدون، لمحمد العبدة، ص18.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي ج8 ص156.
(*) أعني بذلك: أن تكون هناك منظومة فكرية يجتهد من خلالها أكثر من عقل مفكر على قواعد وأصول متقاربة، بحيث يثري اجتهاد كل منهم اجتهاد الآخر، وأن يكون هناك وعي بأهمية هذا العلم وبضرورة العمل من خلاله بين أفراد الأمة بحيث تعود تطبيقاتهم له وعياً بينهم وإثراءً للاجتهاد فيه بين المفكرين وهذا ما حدث للمذاهب الفقهية المعروفة، ولذا: نجد ثراء المذهب الحنفي بأحكام الديار والسير؛ لكونه انتشر في الثغور وأطراف الرقعة الإسلامية أكثر من غيره، ولذا أيضاً: اقتصر علم الحديث على النخبة العلمية لعدم حاجة الأفراد إلى تطبيق مسائله.
(3) محمد العبدة: السابق، ص20.
(4) للأستاذ محمد العبدة دراسة قيمة عن مالك بن نبي استفدت منها، يحسن أن يطلع عليها من يهتم بهذا الموضوع، وقد نُشرت هذه الدراسة بعنوان قراءة في فكر مالك بن نبي في مجلة البيان ابتداءً من العدد (17) إلى العدد (23) .
(5) أخرجه مسلم: كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.
(6) يعتبر كتاب عندما ترعى الذئاب الغنم للشيخ رفاعي سرور قاعدة جيدة لمعرفة طبيعة هذه العداوة.
(7) البخاري: كتاب العلم.(89/26)
دراسات اقتصادية
(الخصخصة) من المنظور الإسلامي
نظرات في موضوع بيع القطاع العام للأفراد
د.محمد بن عبد الله الشباني
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي باعتباره نظاماً اقتصاديّاً وقوة عالمية، وسَعْي
الدول المكونة والتابعة له إلى التحول إلى نظام السوق، وتبني الفكر الرأسمالي في
تنظيم اقتصاديات تلك الدول، وتفرد النظام الرأسمالي بتوجيه الاقتصاد العالمي
والترويج لهذا الفكر: بأن يكون وحده الفكر الموجه للسياسات الاقتصادية للدول
النامية، بما يمتلكه هذا الفكر من مؤسسات اقتصادية عالمية تتحكم في الحركة
الاقتصادية العالمية من خلال: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمؤسسات
المالية الأخرى المنتشرة في الدول الصناعية الرأسمالية.
لقد أخذت الدول الإسلامية التي كانت تتبع منظومة الاتحاد السوفييتي باعتباره
نظاماً اقتصاديّاً يتبنى الفكر الاشتراكي القائم على تملك الدولة لمختلف الأنشطة
الاقتصادية بتغيير سياستها الاقتصادية بعد سقوط هذا النظام، والتحول إلى اقتصاد
السوق القائم على الفكر الرأسمالي المتهود بدون دراسة للواقع التنظيمي
للاقتصاديات الاجتماعية للدول الصناعية الرأسمالية، وإنما اتجهت إلى تبني ما
يمليه صندوق النقد الدولي من سياسات اقتصادية منزوعة من إطارها الذي قامت
عليه تلك المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وبدون النظر إلى المسيرة التاريخية
للفكر الرأسمالي من ناحية التشريعات التطبيقية.
إن مفهوم (الخصخصة) كما يتم تداوله في الإعلام هو: تحويل الملكية العامة
للأنشطة الاقتصادية المملوكة للدولة إلى الأفراد والقطاع الخاص، وطرح هذه
الأنشطة حتى لرؤوس الأموال الأجنبية، بل إنه يتم تشجيع رؤوس الأموال
الأجنبية على القدوم للتجارة في هذه الأنشطة؛ ويعود ذلك إلى أن معظم أفراد
شعوب الدول الإسلامية لا يتوفر لديهم رأس المال المدخر الذي يستطيعون به تملك
هذه الأنشطة؛ ولهذا قامت الدول الإسلامية بتقرير سياسات استقطاب رؤوس
الأموال الأجنبية، لشراء هذه الأنشطة الاقتصادية وإدارتها وبيعها إلى مواطني تلك
الدول. إن هذا التوجه سيكون له أثار سياسية متمثلة في تدخل الدول الصناعية في
السياسات الإدارية والإنتاجية لهذه الأنشطة: من خلال حماية رؤوس أمواله
المستثمرة في هذه المشروعات المباعة إلى القطاع الخاص الأجنبي.
وتدور المبررات المطروحة من قبل الأنظمة السياسية التي ترغب في تحويل
أنشطتها الاقتصادية المملوكة للقطاع العام إلى القطاع الخاص والانفتاح على اقتصاد
السوق ضمن إطار فكرة تفعيل الاقتصاد والتخلص من الأنشطة المسببة لخسارة
الاقتصاد الوطني؛ نتيجة لتدني الكفاءة التشغيلية، وغياب الحافز لدى الإدارة وغير
ذلك من المبررات، بجانب الرغبة في الحصول على التمويل من قبل المؤسسات
المالية الدولية والمؤسسات المالية الرأسمالية في الدول الصناعية.
إن تبني مفهوم (الخصخصة) لم يقتصر على الدول الإسلامية التي كانت تأخذ
بنظام الاقتصاد المخطط، الذي يقوم على تملك الدولة لمصادر الإنتاج وتقليص دور
القطاع الخاص، بل شمل الأمر تلك الدول التي كانت تُحسب ضمن معسكر اقتصاد
السوق، وتسمح للأفراد بتملك مختلف الأنشطة الاقتصادية، ولكنها تولت إدارة
وتملك أنشطة اقتصاديات المنافع العامة أو أنشطة اقتصاديات تنمية واستغلال
الموارد الطبيعية، لهذا: فإن من الضروري مناقشة هذا التوجه وإبراز الرؤية
الإسلامية، وهل يمكننا استخلاص تصور من خلال منهج الإسلام لكيفية إدارة
الاقتصاد بحيث يتم تحقيق الكفاية والفاعلية للاقتصاد مع احتفاظه بإطار حقوق الفرد
في تملك المال؟ .
كما سبق أن أوضحت في مقالات سابقة: فإن الإسلام يعطي أهمية خاصة
للمال وحق الفرد في التملك بدون حدود من حيث الكمية وفق ضوابط الحلال
والحرام ومراعاة مقاصد الشريعة الأخرى.
إن حماية الناس من الاستغلال والاحتكار فيما يتعلق بالحصول على المنافع
العامة سواء أكانت منافع خدمية مثل الماء والكهرباء، أو منافع مادية من الأمور
التي أولاها الإسلام عناية خاصة.
إن من أهم الملامح والركائز التي يتميز بها النظام الاقتصادي الإسلامي:
حماية أفراد المجتمع من وقوع القطاعات الاقتصادية التي يحتاجها الناس في مجملهم
في قبضة القوى المالية الفردية أو الجماعية، لقد وردت جملة أحاديث وضعت
الإطار العام لهذا التوجه، فمن ذلك: ما رواه أبيض بن حمال: أنه استقطع الملح
الذي يقال له ملح سدّ مأرب، فأقطعه له، ثم إن الأقرع بن حابس التميمي أتى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، إني قد وردت الملح في
الجاهلية، وهو بأرض ليس بها ماء، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء العِدّ،
فاستقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبيض بن حمال في قطيعته في الملح،
فقال قد أقلتُك منه على أن تجعله مني صدقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- هو منك صدقة، وهو مثل الماء العِدّ، من ورده أخذه [1] فهذا الحديث
يضع قاعدة عامة تتمثل في: أنه لا يجوز منح امتياز أو تمليك فرد أو جماعة من
الأفراد لأي منتج خدمي أو سلعي إذا كان هذا المنتج يحتاج إليه عامة الناس إلا
ضمن شروط معينة تحفظ للناس حقوقهم، وتمنع عنهم الاستغلال، وتحقق منفعة
لاقتصاد المجتمع.
ويدل على ذلك ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام [2] ،
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة: ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ، والنار [3]
وهذه الأحاديث في مجملها تؤكد: ضرورة أن يكون استغلال المنافع العامة التي
يحتاج إليها الناس؛ سواء أكانت استغلال موارد طبيعية أو بيع منافع عامة مثل:
منفعة الكهرباء، أو المواصلات، أو التعليم، أو غيرها ضمن نطاق العدل، بحيث
لا يؤدي منح بيع هذه المنافع إلى التحكم في المادة المنتجة أو المنفعة أو الخدمة
المقدمة، وأن على ولي الأمر وضع القواعد والأسس التي تحفظ حق الأمة بدون أن
يؤدي ذلك إلى تعطيل استغلالها وحرمان اقتصاد المجتمع المسلم منها، وفي الوقت
نفسه الالتزام بالتوجيه النبوي الذي أشرت إليه والذي يؤكده أيضاً ما رواه أبو داود
والطبراني في الكبير، عن قيلة بنت مخرمة، قالت: قدمنا على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، قالت فقدم صاحبي، تعني: حريث بن حسان وافد بكر بن وائل، فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين
بني تميم بالدهناء: ألا يجاوزها إلينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور، فقال: اكتب
له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي وهي وطني وداري،
فقلت: يا رسول الله، إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك، إنما هي هذه
الدهناء عندك مُقَيّدُ الجمل، ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، قال:
أمسك يا غلام، صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر،
ويتعاونان على الفتان [4] ، إن هذا الحديث يضع قاعدة عامة في التنظيم
الاقتصادي، وذلك: بأنه لا يجوز تخصيص مورد أو منفعة عامة لفئة من الناس
دون أخرى إذا كان هذا التخصيص سوف يؤدي إلى الإضرار بالآخرين، وإن مثل
هذه الإجراءات تثير الفتن والمشاكل في المجتمع.
على ضوء الأدلة السابقة التي تحد من تملك الموارد الطبيعية ذات النفع العام، وكذلك تملك استغلال المنافع العامة ومنع إقطاعها سواء أكان إقطاع تملك أو
إقطاع استغلال منفعة، يثور هنا تساؤل: ما هو التصور الذي يطرحه الإسلام لحل
مشكلة استغلال الموارد المتاحة للمجتمع وإدارة أنشطة اقتصاديات المنافع العامة،
وفق إطار تشجيع تملك هذه الأشياء، أو تمليك استغلال منافع الخدمات العامة،
التي يحتاج الناس إليها مثل: الكهرباء، والهاتف، والمواصلات.. وغير ذلك من
المنافع الخدمية التي يحتاج إليها الناس؟
إن النظرة التكاملية الشمولية التي يتميز بها النظام الإسلامي عن بقية الأنظمة
البشرية تمد الدارس لشريعة الإسلام بالحلول، وذلك من خلال الدراسة المباشرة
لمصدري التشريع (القرآن والسنة) ، فيجد فيهما المخارج العملية لأي إشكال قد
يعترضه، سواء أكان ذلك في المجال التنظيري أو العملي.
إن الإشكالية التي قد تواجهنا هي: كيف يتم التوفيق بين الرغبة في استغلال
الموارد المتاحة، وإشباع حاجات الناس، وتحقيق الكفاءة والفعالية في إدارة
الأنشطة الاقتصادية؟ .
إن معالجة هذه الإشكالية يتمثل في اتباع الآتي:
إبقاء أصل ملكية الموارد الطبيعية بيد الدولة، ومشاركة الدولة في استثمار
هذه الموارد، مع إتاحة الفرصة للأفراد باعتبارهم عنصراً من عناصر الإنتاج
(وهو عنصر العمل) بالمشاركة في استغلال هذه الموارد، مع إشراك رأس المال
من خلال استغلال رؤوس الأموال عن طريق: قيام الدولة بتوفير الأصول الثابتة
التي تساعد قوة العمل على ممارسة النشاط بواسطة المشاركة في العملية الإنتاجية
بالعمل، ومشاركة أصحاب رؤوس الأموال من خلال: توفير رؤوس الأموال
التشغيلية، يُستدل على ذلك بدليلين: الأول ما رواه البخاري مرسلاً، عن قيس بن
مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث
والربع، وزارع علي وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين، وقال
عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع، وعامل
عمر الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم
كذا [5] ، وأشار البيهقي في سننه: أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران واشترى
عقرهم وأموالهم، وأجلى أهل ضمك وتيماء وأهل خيبر واستعمل يعلى بن منبه،
فأعطى البياض على: إن كان البذر والبقر والحديد من عمر، فلعمر الثلثان ولهم
الثلث، وإن كان منهم فلهم الشطر، وأعطى النخل والعنب على أن لعمر الثلثين
ولهم الثلث.
إن عمل عمر (رضي الله عنه) مستمد من فعل رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر (رضي الله عنهما) : أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر لليهود؛ على أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها [6] إن هذا المنهج الذي فعله رسول الله -صلى الله ... عليه وسلم-؛ وتبعه في ذلك عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) تطبيقاً لعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدة مهمة في إدارة الاقتصاد الإسلامي فيما يتعلق بكيفية استثمار واستغلال عناصر الإنتاج مع الإبقاء على روح المبادأة الفردية والبعد عن البيروقراطية، فَفِعْلُ عمر (رضي الله عنه) يحدد لنا منهجاً يمكن ممارسته في هذا العصر، بل إن ممارسته سوف تحل كثيراً من المشاكل فيما يتعلق منها بإيجاد الموارد المالية للدولة بدون اللجوء إلى فرض الضرائب؛ وذلك من خلال قيام الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج بتوفير ما يعرف محاسبياً بالأصول الثابتة، وتفويض استغلال هذه الموارد الطبيعية إلى أفراد الأمة من خلال إعطائهم حق
الاستغلال بدون تدخل في كيفية الإدارة، على أن يكون نصيب الدولة مربوطاً
بالإنتاج وليس بالربح، فالدولة في هذه الحالة لا تتدخل في كيفية إدارة النشاط،
ولكنها تتحصل على نسبة من الدخل يكون مصدراً من مصادر الواردات العامة،
وبهذا الأسلوب نكون قد حققنا الاستغلال لهذه الموارد بالأسلوب الذي يحقق الكفاية
والفعالية الإدارية بعيداً عن تدخل الدولة في إدارة النشاط، والشيء نفسه يمكن
تطبيقه على أنشطة خدمات المنافع العامة، فمثلاً: حق النقل الجوي أو البري،
يمكن للدولة أن تجعله مورداً ماليّاً لها، وفي الوقت نفسه تتحقق الكفاءة في الإدارة،
من خلال ما يمكن أن نطلق عليه تمليك إدارة النشاط، فتقوم الدولة مثلاً: بإنشاء
السكك الحديدية وتوفير العربات سواء أكان ذلك لنقل البضائع أو الركاب، أي:
توفير الأصول الثابتة، ثم عرض إدارة تشغيل هذه المنفعة على الأفراد أو الشركات، مقابل جزء من الدخل العام يتناسب مع ما صرف من أصول ثابتة، أي: أن
يكون نصيب الدولة من الدخل يعادل قيمة الأصول الثابتة المستثمرة في هذ النشاط
ونسبة إضافية تكون عائداً لاستثمار مال الدولة؛ ليكون مورداً من موارد الخزينة
العامة، بهذا الأسلوب: فإن الدولة تحقق أمرين: الأول: توفير الخدمة التي يحتاج
إليها الناس واستغلال الموارد الطبيعية، وتحقيق عائد مالي يكون رافداً من روافد
الإيرادات العامة.
الثاني: تحقيق الفعالية الاقتصادية والبعد عن البيروقراطية الحكومية في إدارة
الأنشطة الاقتصادية من خلال: تحفيز القوى البشرية ورأس المال المتاح من قبَل
أفراد الأمة، لتحقيق الفعالية للنشاط الاقتصادي الذي هو ميزة النظام الرأسمالي.
الدليل الثاني: ما رواه بطرق عدة وروايات متعددة الحافظ أبو عبيد القاسم بن
سلام في كتابه الأموال، فقد أورد عدداً من النصوص حول ما ارتآه عمر بن
الخطاب (رضي الله عنه) ووافقه عليه الصحابة فيما يتعلق بالأراضي المفتوحة من
إبقائها ملكاً عامّاً للمسلمين، ووضع الخراج عليها؛ فقد روى عن إبراهيم التميمي
أنه قال: لما فتح المسلمون السواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا، فإنا افتتحناه عنوة،
قال: فأبى وقال: فمن لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا
بينكم في المياه، قال: فأقر أهل السواد في أراضيهم، وضرب على رؤوسهم
الجزية وعلى أراضيهم الخراج، ولم يقسمها بينهم [7] . إن تصرف عمر (رضي
الله عنه) بإبقاء الأرض للمسلمين وتحصيل خراج عليها، إنما هدف منه توفير
الموارد المالية للدولة، بدليل ما أخرجه البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:
سمعت عمر قال: لولا آخر الناس ما افتتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- خيبر [8] ، فالعلة التي بنى عليها عمر (رضي الله عنه)
اجتهاده واتخاذه قراراً بوقف الأرض بجعلها ملكاً للمسلمين عامة: هو العمل على
توفير مصدر دائم لدخل الدولة، حتى يتم الصرف منه على شؤون المجتمع، هذا
الاجتهاد الذي بنى عليه عمر (رضي الله عنه) حكمه، إنما كان بناءً على استشارة
الفقهاء وعلماء الصحابة، فقد أورد الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام رواية أخرى
عن هذا الموضوع بسنده، قال: أخبرني عبد الله بن أبي قيس، قال: قدم عمر
الجابيه فأراد قسم الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذاً ليكونن ما تكره! ؛ إنك إن قسمتها صار الربع العظيم في أيدي القوم مم يبدون، فيصير ذلك إلى
الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام سدّاً، وهم لا
يجدون شيئاً، فانظر أمراً ليسع أولهم وآخرهم [9] .
ووفقاً لذلك التعليل وتلك النظرة الثاقبة للصحابي الجليل معاذ بن جبل (رضي
الله عنه) : اتخذ عمر قراره بإبقاء الأرض، فأبقى الأرض يجبي ريعها لبيت مال
المسلمين، فهل يمكن الأخذ بهذا الإجراء فيما يتعلق بالأراضي البور التي تحتاج
إلى إصلاح، فتقوم الدولة بذلك، وتهيئها للمستغلين، وتنال جزءاً من إنتاجها، مع
إبقاء الأرض لصالح الأجيال القادمة، وعدم إقطاعها، وكذا: ما يختص بتمليك
استغلال المنافع العامة؟ . لكن السؤال الذي يثور هنا هو: كيف يمكن التوفيق بين
هذا والنصوص التي أشارت إلى جواز إقطاع ولي أمر المسلمين تمليك الأرض قبل
إحيائها، حسب ما جاء في الحديث: الذي رواه هاشم بن عروة عن أبيه أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم
حق [10] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق [11] ، وما رواه عبد الله بن أبي بكر قال: جاء بلال بن الحارث المزني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستقطعه أرضاً فقطعها له طويلة عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرضاً طويلة عريضة قطعها لك، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليمنع شيئاً يسأله، وإنك لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل، قال: انظر ما قويت عليه منها فأمسكه، ومالم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله؛ شيء اقتطعنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين [12] .
إن الأخذ بفكرة إبقاء ملكية الأراضي وحق إبقاء استغلال أنشطة خدمات
المنافع للدولة قياساً على ما عمله عمر مع أراضي البلاد المفتوحة، يحقق مصلحة
عامة؛ حيث: محدودية الأراضي البور سواء أكانت قد مُلكت في الماضي وهجرت
ولا يعرف مالكها، أو لم يتم تملكها وإحياؤها، على أن يقتصر الإقطاع على ما يتم
إقطاعه لأغراض السكنى، وأن يكون الإقطاع إقطاع استئجار، أي: إنه إقطاع
مشروط بالاستغلال، وإن للمُستَقْطَع له أن يتملك ويتصرف، لكن بشرط قدرته
على الاستغلال واستمراريته واستثماره في مجاله الذي من أجله منح، أما في حالة
عجز من أقطع له أو من تملكه بعد من استقطعه وعجز عن استغلاله: فترجع ملكية
الأصل إلى الدولة، وذلك في حالة عدم وجود أصول استثمارية موضوعة على
الأرض المقطوعة، وأما في حالة وجود أصول موضوعة لغرض الاستفادة من
الأرض: فتمنح لمن يقدر على استغلالها على أن يعطى المالك غير القادر على
الاستغلال جزءاً من الإنتاج لقاء هذه الأصول الموضوعة وفق القاعدة الشرعية
لاضرر ولا ضرار، وبهذا نبقي على سريان نصوص أحاديث الإقطاع، وفي
الوقت نفسه عدم تعطيل الأرض بحجة إقطاعها، والأخذ بهذا الرأي قد استند فهمه
إلى ما رواه الدارقطني وأبو داود عن عبيد الله بن حميد عن عبد الرحمن الحميدي
أن عامر الشعبي حدثه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من وجد دابة قد
عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها الرجل فأحياها فهي له [13] ، ويمكن
أن يقاس على هذا الحديث الأراضي المستقطعة وغير المستغلة وأي أصل مملوك لا
يستغل لعجز مالكه عن استغلاله، بأن تقوم الدولة بمنحه لمن يقدر على استغلاله؛
وفق إجراءات تنظيمية تحقق العدالة والمصلحة العامة للمجتمع المسلم.
ثانياً: الرقابة على أسعار بيع المنتجات السلعية للموارد الطبيعية والمنافع
الخدمية، التي مُنح الأفراد تملك منافعها من خلال تشغيل هذه الأنشطة بوساطة
العمل أو بالعمل ورأس المال، بحيث تُراعي هذه الأسعار مصلحة المنتفعين بهذه
السلع والخدمات من ناحية، وتحقيق عائد مجز لمن يقوم بالاستثمار، سواء أكان
ذلك من خلال تقديم المال، أو الجهد، لإدارة تشغيل هذه الأنشطة الاقتصادية من
ناحية أخرى.
والسؤال الذي يبرز هنا: هل يجوز التدخل في تحديد الأسعار، أي: تسعير
المنتجات والخدمات؟ وما هي حدود هذا التدخل في حالة جوازه؟ ، وما هي
الوسائل التي هي أكثر فعالية لتحقيق التوازن لحماية مصالح المستهلكين من ناحية،
وعدم الإضرار بمصالح المنتجين وبائعي منافع الأنشطة الخدمية من ناحية أخرى؟ .
تتطلب عملية حماية المستهلكين التدخل في تحديد أسعار المنتجات السلعية أو
الخدمية، وعملية التدخل في التسعير سوف تؤدي إلى تعطيل فعالية قانون العرض
والطلب، وبالتالي: حصول الخلل في الأنشطة الاقتصادية، لما للتدخل في تحديد
الأسعار من أثار سلبية على فعالية وكفاءة النشاط الاقتصادي، كما أن ترك
المستهلكين تحت رحمة المنتجين وبخاصة تلك السلع والخدمات التي يحتاج إليها
الناس في غالبيتهم فيه ظلم لهم وفتح لباب الاحتكار، لقد وردت أحاديث تمنع
التدخل في التسعير؛ من ذلك: ما رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة: أن
رجلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، سعّر،
قال: بل أدع، ثم جاءه رجل، فقال: يا رسول الله سعّر، قال: بل الله يرفع
ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة [14] ، كما روى
ابن ماجة عن أنس بن مالك، قال: غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، قد غلا السعر فسعّر لنا، فقال: إن الله هو
المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ يطلبني
بمظلمة في دم ولا مال [15] .
إن هذه الأحاديث تؤكد أن الإسلام لا يحبذ التدخل في التسعير، بل يترك
الأمر لقوى السوق، وهي التي تصحح الاختلال ما بين العرض والطلب، لكن
هناك آثاراً ذكرت تصرفات صدرت عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قد يفهم
منها معارضة هذه الأحاديث، ومن ذلك: ما رواه الإمام مالك والبيهقي عن سعيد بن
المسيب: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيب له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا وفي
رواية للبيهقي: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه
غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين لكل درهم، فقال له
عمر (رضي الله عنه) حُدّثنا بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون
بسعرك، فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت،
كما روى الإمام مالك عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن عمر بن الخطاب (رضي
الله عنه) يأخذ من النبط من الحنطة والزبيب نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر
الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القطنية العشر، كما روى البخاري: أنهم كانوا
يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبعث
عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه، حتى ينقلوه حيث يباع الطعام [16] ،
وذكر البيهقي في رواية: أن الغاية من منع البيع: حتى ينقلوه إلى سوقه؛ لئلا
يغلو الطعام هناك على من يفد، وأنه في ذلك الموقع أرخص، يتضح من هذه
الأحاديث أن هناك نوعاً من التدخل في التأثير على التسعير، بل إن ما طلبه عمر
(رضي الله عنه) من حاطب ابن أبي بلتعة (رضي الله عنه) يوحي بالتسعير؛ حيث: طالبه برفع السعر أو رفع بضاعته من السوق، وأن هذا قد يعارض ما جاء عن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عدم استجابته لطلب الناس بالتسعير للوهلة
الأولى.
ولكن واقع الأمر: أن عمر (رضي الله عنه) في جميع ما ورد عنه لم يقم
بالتسعير وتحديد السعر، وهو الذي رفضه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإنما
اتبع أساليب تنظيمية مراعاة للمصحلة العامة، فهو لم يحدد سعراً معيناً ألزم به
حاطب بن أبي بلتعة، ولكنه حينما علم أن سعره سوف يضر بجلب السلعة في
المستقبل؛ لأن عدم تحقق سعر مجز للجالب للسلعة سوف يؤدي ولابد إلى الامتناع
عن الجلب في المستقبل؛ وهذا فيه ضرر على توفير الكميات المعروضة، مما
سوف يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، لهذا: أمره بأن يرفع بضاعته من السوق أو يرفع
سعره، وهذا ليس من باب التدخل في السعر، وإنما هو أسلوب من أساليب الرقابة
السعرية، وهذا أمر يختلف عن التسعير وتحديد السعر، وقد مارس هذا الفعل
الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء في حديث البخاري: حينما منع الناس
من تلقي الجلب، ومن شراء الطعام قبل أن يجلب في مكان البيع حتى يتحقق
التنافس الكامل بين المشترين والبائعين، فلا يُحْمَلُ غبن لأي طرف.
لهذا: نجد أن الإسلام لا يتدخل في التسعير، ولكنه يتدخل في التأثير على
العوامل المؤثرة في جانبي العرض والطلب.
إن السؤال الذي يمكن طرحه هو: إذا اتّبعَ المنهج الإسلامي كما أشرنا إليه
فيما سبق من حيث: مشاركة الدولة استغلال الموارد الطبيعية، وممارسة بيع
المنافع الخدمية، مع إعطاء عنصري العمل ورأس المال حق مشاركة الدولة وتوفير
المرونة للقطاع الخاص لممارسة دوره الفعال في إدارة الأنشطة الاقتصادية، مع
الإبقاء على دور الدولة فاعلاً ومؤثراً سواء في الإبقاء على التملك، أو التدخل في
الرقابة على الأسعار بدون التسبب في إضعاف المبادأة الفردية.. فكيف يتم
المحافظة على توفير الاحتياجات الأساسية للأفراد ذوي الدخول الضعيفة مع
الارتكاز على توفير الظروف الملائمة لتحقيق العائد المجزئ لمن فُتح لهم مجال
العمل في الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالموارد الطبيعية وبيع المنافع الخدمية؟ .
إن الإسلام حينما وضع منهجيته لتشجيع القوى الفاعلة من القوى العاملة
وأصحاب رؤوس الأموال مع اتباع سياسة التحفيز كما أوضحناه فيما سبق لم يترك
معالجة أوضاع كثير من الفئات التي تحتاج إلى هذه المنتجات والخدمات مع كونها
لا تستطيع شراء هذه السلع والمنافع لقلة مواردها، فقد وضع منهجاً ماليّاً من خلال
أساليب الإنفاق من الموارد العامة للدولة.
يتميز الإسلام في منهجيته في توزيع موارد الدولة بتقسيم الموارد المالية
للدولة إلى قسمين: القسم الأول: ما يتعلق بالزكاة، فقد خصصها للإنفاق على
أفراد المجتمع بقصد تحقيق الرفاه الاجتماعي بحيث: لا تنفق موارد الزكاة إلا
للأصناف الثمانية التي حددها القرآن، أما المصالح العامة وهي القسم الثاني: فيتم
الإنفاق عليها من الموارد العامة للدولة، ومن ضمن هذه الموارد العائد من مشاركات
الدولة في استغلال الموارد الطبيعية والعائد من تأجير الأصول الثابتة الخاصة ببيع
المنافع العامة [17] .
__________
(1) أخرجه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب: إقطاع الأرض والعيون، ح/ 2475، صحيح سنن ابن ماجة ح/2006، ج2 ص6465 وحسنه الألباني.
(2) أخرجه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب: المسلمين شركاء في ثلاثة، ح/2472، صحيح سنن ابن ماجة ج2 ص64، ح/2004، قال الألباني: صحيح دون ثمنُهُ حرام.
(3) سنن ابن ماجة: كتاب: الرهون، باب: المسلمون شركاء في ثلاثة، ح/2473، صحيح سنن ابن ماجة ح/2005، ج2 ص64.
(4) سنن أبي داود: كتاب الإمارة، باب في إقطاع الأرضين، ح/3070، وقال الألباني: ضعيف الإسناد، وانظر ضعيف سنن أبي داود ص309 ومقيد الجمل: أي: مرعى الجمل ومسرحه، فهو لا يبرح منه ولا يتجاوزه في طلب المرعى - البيان.
(5) البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، باب: المزارعة بالشطر ونحوه.
(6) البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، باب: المزارعة مع اليهود، ح/ 2331، الفتح: ج5 ص19.
(7) البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، باب: المزارعة مع اليهود، ح/ 2331، الفتح: ج5 ص19.
(8) البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، ح/2334 وبعد فهذا الطرح اجتهاد مني، أرغب أن يتم إثارة الحوار حوله حتى تتلاقح الأفكار للخروج برأي سديد في مثل هذه الموضوعات المستجدة.
(9) البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، ح/2334 وبعد فهذا الطرح اجتهاد مني، أرغب أن يتم إثارة الحوار حوله حتى تتلاقح الأفكار للخروج برأي سديد في مثل هذه الموضوعات المستجدة.
(10) البخاري: كتاب: الحرث والمزارعة، باب: من أحيا أرضاً مواتاً، رواه البخاري بصيغة التحريض في ترجمة الباب، (انظر الفتح ج5 ص23) .
(11) البخاري: كتاب الحرث والمزارعة، باب من أحيا أرضاً مواتاً ح/ 335.
(12) أخرجه مالك في الموطأ، والدارمي.
(13) أخرجه أبو داود: ح/3456 وصححه الألباني، انظر صحيح سنن أبي داود ح/3950، ج2 ص67.
(14) أخرجه أبو داود، كتاب: المبايعة، باب: في التسعير، ح/3450، وصححه الألباني: صحيح أبي داود ج2 ص611.
(15) أخرجه ابن ماجة، كتاب: التجارات، باب: من كره أن يسعر، ح/ 220، وصححه الألباني: صحيح ابن ماجة: ج2، ص1415.
(16) البخاري: كتاب البيوع، باب: ما ذكر في الأسواق، ح/2123.
(17) لمزيد من معرفة هيكلية الموارد العامة وأساليب تحديد طرق إنفاق الموارد العامة للدولة الإسلامية وأسلوب ومنهجية الإسلام في معالجة قضية إدارة المالية العامة للدولة على ضوء الظروف والمعطيات المعاصرة يراجع كتابنا (المالية العامة على ضوء الشريعة الإسلامية) .(89/37)
نص شعري
يارب
مروان كجك
لَكَ العُتْبَى [1] لَقْد صِرْنَا ... وإلى ضَعْفٍ وإعْياءِ
وأصْفادٍ تَدُورُ بنا ... على أعتَابِ أعداءِ
نَرُومُ العِزّ عندَهُمُ ... وهُمْ بَوّابةُ الداءِ
نَظُنّ النّصْرَ بالإغضا ... ء عن كُفْرٍ وأخْطاءِ
وعُدْوانٍ يَلُفّ النا ... سَ مِنْ دانٍ إلى نائي
ونَخْطُبُ [2] وُدّ من كانوا ... بني حِقْدٍ وَبَغْضاءِ
فَتأخُذُنَا خَطَايَانَا ... إلى ذُلّ ولأوَاءِ [3]
وننسَى أننا كُنّا ... شِفَا مِنْ كُلّ بأساءِ
وأنّا أمْةٌ التّحْرِي ... رِ من ألِفٍ إلى ياءِ
* * *
لكَ العُتبى، لَقَدْ حِرْنا ... لِمَيْنٍ [4] رائحٍ جائي!
يُقامرُنا على الأحلا ... مِ في خُبْثٍ وإلْهاءِ
يقولُ: غَداً، وأي غَدٍ ... نقَدّمْهُ لأبناءِ؟
وهذا الحاضِرُ المنكُو ... د يَعْطِبُ كلّ أشيائي
يُبَعْثِرُها يُشَتّتُها ... يُقَيّدْها لأعدائي
***
لكَ العُتْبَى سُنُونَ ال ... قَحْطِ قَدْ عَاثَتْ بأرجائي
تَلُفّ الناسَ بالآثا ... مِ مِنْ ذَلْقٍ [5] لِتأتاءِ
ولمْ تَبْخَلْ على أحَدٍ ... بإعْنات وإزْراءِ [6]
فكُلّ القَوْمِ طُعْمَتُها ... ولوْ جَنَحُوا لإغْماءِ
وتخشى صَحْوَهُم يَوْماً ... على إيقاع حَدّاءِ [7]
يَسُوسُ الناسَ بالحُسْنى ... ويأتيهمْ بأنباءِ
***
لكَ العُتْبَى ولوْ عَصَفَتْ ... أعاصيرٌ ببَيْدائي
أو ازْدَحَمَتْ على بابي ... جِنَاياتي وأرزائي
أو اقْتَحَمَتْ جُنُودُ البَغْ ... يِ أوطاني وأحيائي
أو اختَبَأتْ لِيَ الأهْوا ... لُ في نفسي وأهوائي
وأقْبَلَ كُلّ جبارٍ ... بأوْشابٍ وغَوْغَاءِ [8]
وسارَ بهم إلى قتلي ... وتمزيقي وإفنائي
ولو مَلَكُوا نواصِي الأرْ ... ضِ أو صَعِدوا لجَوْزاءِ
فَلَنْ أرتَدّ عن ديني ... ولا أهلي وأنحائي
ولن أرضَى سِوى الإسلا ... مِ مِنْهاجاً لأبنائي
فَلَيلُ الظلمِ، مهما طا ... لَ، لنْ يَرْقى لعْليائي
ولَنْ يَحْظى بما يَبْغِي ... هِ من قَهْرِي وإحْنَائي
__________
(1) العتبى: الرضى.
(2) نخطب: نطلب.
(3) اللأواء: الشدة.
(4) المين: الكذب.
(5) ذلق: فصيح اللسان.
(6) الإعنات: الشدة، الإزراء: التحقير والتهوين والعيب.
(7) حداء: منشد.
(8) الأوشاب: الأخلاط.(89/49)
من قضايا المنهج
لمحات في فن الحوار
الحلقة الثالثة
[معوقات الحوار]
محمد محمد بدري
المتأمل في أكثر حواراتنا الإسلامية يجد أن بعضنا يحمل في كيانه جراثيم
تمنع الحوار الصحي، وتعوق تنمية أفكارنا وتلاقحها خلال الحوار! !
ومن هنا: فإن كل خلاف في حواراتنا لا يُنتج إلا حرق جسور التواصل بيننا، لنصل إلى حالة اللا حوار.. ومن ثم: الفرقة والتناحر..
ومن هذه الجراثيم أعني المعوقات ما يلي:
التعصب والحزبية:
جناحا التعصب هما: ضعف النفس وجهل العقل.. ومن ثم: يؤدي التعصب
إلى الحزبية التي يبتلى بها كثير من المنتسبين إلى طائفة في العلم أو الدين أو إلى
رئيس معظّم عندهم، فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقهاً ولا رواية إلا ما جاءت به
طائفتهم. [1] ولا يميلون إلا إلى الاجتماع برفقائهم في الطائفة نفسها أو الحزب
الذين يحملون أفكارهم نفسها، فإذا اجتمعوا بمن يخالفونهم في بعض الآراء؛ فهم
معزولون عنهم بحاجز نفسي هو اهتمامهم بسحق المخالف وإفحامه، بل وإذلاله! !
وهم لا يرون الوجود حولهم إلا من خلال هذا اللون الحزبي الذي يوقعهم في الكثير
من الأخطاء.. فهم مثلاً: يرون أن ما عندهم هو الحق المطلق، وأن ما عند
الآخرين هو الخطأ المطلق.. وهذا يدفعهم إلى التعصب ضد الآخرين والتحامل
عليهم، لأن هؤلاء الآخرين لا يمكن عندهم إلا أن يكونوا خبيثين، ليس ما عندهم
إلا خطأ لا يحتمل الصواب! ! ومن ثم: فهم لا يرون الاستماع إلى هؤلاء الخبثاء
الجهلاء! فضلاً عن مناقشة آرائهم وعرضها على بساط البحث والنظر.. بل كل
جهد الحزبيين إنما يوجهونه للدفاع عن آرائهم، واستحضار الأدلة والبراهين
للاحتفاظ بها.
وهكذا يتحول الحوار بينهم وبين الآخرين إلى سباق يحاولون فيه إسماع
الآخرين ما يستطيعون من الأفكار التي يحملونها، في جو من النزال والمصارعة
الحوارية التي تواجه فيها كل كلمة بضدها، وكل فكرة بما يقابلها، ويقترن فيها
رفع الصوت مع ضعف الحجة، بل إن بعضنا قد يلجأ إلى تخانة الأحبال الصوتية
تعويضاً عن عمق الحجة، وكما قيل بحق الماء العميق أهدأ إذ تجد الصخب
والضجيج على الشاطئ حيث الماءالضحل ولا جواهر ولا درر، وتجد الهدوء
والسكون لدى الماء الأعمق حيث النفائس والكنوز [2] .
إن الضحالة الفكرية وغياب نفائس الأدلة لدى الحزبيين مع التعصب
المذموم.. كل ذلك: من أكبر معوقات الحوار، ومن أهم أسباب تعكير صفو المتحاورين وترسيخ الجهالة في قلوب العوام والمقلدين، بل أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها [3] . ...
إننا نرى في جلسات الحوار بين الحزبيين كيف تتزاوج الأفكار دون أن
تنجب أفكاراً جديدة.. وما ذلك إلا لأن الحزبية تؤدي إلى العقم الفكري الذي لا يرى
في الحوار إلا لوناً من ألوان النزاع الذي يجب تجنبه إذا أردنا أن تبقى علاقاتنا
وصلاتنا.. وهذا من عجائب التفكير الحزبي، وأعجب منه: أن الحزبيين إذا
وجدوا آية من كتاب الله توافق رأيهم أظهروا أنهم يأخذون بها، وإذا وجدوا آية
نظيرها تخالف قولهم لم يأخذوا بها، وطلبوا لها وجوه التأويل وإخراجها عن
ظاهرها حيث توافق رأيهم، وهكذا يفعلون في نصوص السنة سواء: إذا وجدوا
حديثاً صحيحاً يوافق قولهم، أخذوا به، وقالوا: لنا قول رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كيت وكيت، وإذا وجدوا مئة حديث صحيح بل وأكثر تخالف قولهم،
لم يلتفتوا إلى حديث منها [4] .
إن من يدخل ساحة الحوار بقوالب فكرية معدة مسبقاً وانتماءات حزبية مقررة
سلفاً: إنما يدخل الحوار لتقرير رأيه، والمدافعة عنه، والتعصب له، وليس عنده
الاستعداد أبداً أن يتنازل عن رأيه، حتى وإن تبين له خطؤه.. ومن هنا: تتصدع
جسور التواصل بين المتحاورين، ولا يصل الحوار إلى أي نتيجة بحال.
إن الحوار الفعال يحتاج دائماً إلى طاقة عالية من الحب، تحرر العقل من
الخوف، وتوفر الأمان الفكري الذي يسمح بتبادل الأفكار على أساس من رؤية
واضحة ومتحررة من القيود الفكرية، وفي مقدمتها قيدا التعصب والحزبية.
التصنيف المتعسف:
يمثل هذا المرض الحواري (التصنيف المتعسف) لوناً من ألوان الإعاقة الذاتية
لسير الحوار في طريقه الواضحة المستقيمة.. ذلك أن أصحاب هذه الطريقة في
التفكير يسيطر عليهم التصنيف المتعسف وغير الحقيقي للآخر، ويجعلون من هذا
التصنيف الخاطئ ما يمكن أن نطلق عليه الفلتر الذي يتلقون من خلاله ما يعرضه
عليهم الآخر من أفكار، بل ليس عندهم أدنى استعداد لتغيير هذا الفلتر مهما أتى
الآخر من أقوال أو أفعال تدل على تغير أفكاره! ! فالحوار يبدأ بالتصنيف وتُفسر
الأقوال والأفعال بناءً على هذا التصنيف حتى ولو كانت لا تدل عليه! !
ومثل هذه الحال يشبه تماماً ما حكاه الإمام الشاطبي (رحمه الله) عن الإمام
الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال:
عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين
والمنكرين.. إن صدقت من دعاني لموافقته سمّاني موافقاً، وإن وقفت في حرف
من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفاً، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب
والسنة بخلاف ذلك وارد سمّاني خارجيّاً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني
مشبهاً، وإن كان في الرؤية سماني سالميّاً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئيّاً،
وإن كان في الأعمال سماني قدريّاً، وإن كان في المعرفة، سماني كراميّاً، وإن
كان في فضائل أبي بكر وعمر، سماني ناصبيّاً، وإن كان في فضائل أهل البيت،
سماني رافضيّاً، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما،
سماني ظاهريّاً، وإن أجبت بغيرهما، سماني باطنيّاً، وإن أجبت بتأويل، سماني
أشعريّاً وإن جحدتهما، سماني معتزليّاً، وإن كان في السنن مثل القراءة، سماني
شافعيّاً، وإن كان في القنوت، سماني حنفيّاً، وإن كان في القرآن، سماني حنبليّاً،
وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخيار إذ ليس في الحكم والحديث
محاباة قالوا: طعن في تزكيتهم..
ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون عليّ من أحاديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني
غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله (تبارك وتعالى) ، ولن يغنوا عني من الله
شيئاً [5] .
فانظر (رحمك الله) إلى تلك الحال التي حكاها الإمام ابن بطة، وقارنها
بواقعنا.. هل تجد فرقاً؟
إن الكثيرين منا يدخلون الحوار مع الآخر وقد صنفوا هذا الآخر على أنه من
معسكرات الخصوم.. ومن ثم: يبدؤون في مصارعته عبر حوار شعاره: قاتل أو
مقتول، تستخدم فيه الأدلة لتشويه الآخر واتهام نواياه والطعن في مقاصده، ثم
يحشد المحاور مع الأدلة الأتباع المقربين عبر تعبئة عامة مفادها أن من ليس منا
فهوعلينا وأنه لا يمكن بناء كياننا إلا عبر تدمير كيانات الآخرين! ! .
ويبدأ الأسلوب العجيب في التصنيف؛ فيدان الفرد عبر تصنيف خاطئ
متعسف، ثم يدان كل شخص ينتسب إليه مجرد انتساب.. فتكون النتيجة الحتمية
هي ضمور الحوار الإيجابي، ثم يتطور الأمر عبر الروح الانفعالية ليصل إلى
موت الحوار تماماً.. ومن ثم: تحدث الفرقة المقيتة والتصارع المخزي.. تلك
الفرقة وذلك التصارع اللذان ينتجهما الزهد في سماع الآخر، فضلاً عن الرغبة في
التعاون معه بسبب من أخطر أمراضنا الحوارية وهو: التصنيف المتعسف.
الذوات المتورمة:
الإحساس بالذات في إطار إنجاز حقيقي، قد يكون أمراً مقبولاً.. أمّا الشعور
بتضخم الذات مع العجز والفشل فهو ما نقصده بمرض الذوات المتورمة؛ يرمونهم
بالسطحية، وضيق الأفق، والخلو من عمق الفهم.. بل إنهم يرون الآخرين
قاصرين في تفكيرهم، لم يصلوا بعد إلى النضج الذي وصلوا هم إليه! ! .
إنهم يرون أنفسهم الأساتذة الذين يفهمون كل شيء، ويعرفون كل الأمور! !
إنهم يرون أنفسهم أساتذة يجب أن يُعَلِّموا ولا يتعلّموا، ومن ثم: لا يقبلون
الاستماع إلى الآخر أيّاً كان هذا الآخر وإذا جلس أحدهم في حوار مضطرّاً، فهو
يحس في أعماق نفسه أنه أعلى من المكان الذي يجلس فيه، وأنه لا حاجة له في
سماع ما يقوله الآخر! !
إن الواحد من هؤلاء يمارس ما لا يصلح له من العلوم دون تأهل اغتراراً
بقدرته وذهولاً عن حقيقة علمه ومجاله، وتسمعه يتكلم فيما لا يحسنه، ولم يبلغ
الدرجة التي تؤهله للخوض فيه وإبداء الرأي في مسائله، فيضع الأمور في غير
موضعها فيضل ويضل [6] . ويدفعه تورم ذاته إلى ترك الحق الذي عليه الآخر،
كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: الكبر: مَنْ بَطِرَ الحق
وغَمَطَ الناس [7] ، ولا شك أن هذا الصنف من المحاورين لا يمكن أن يكون
حوارهم إلا فرصة لتورم ذواتهم، وليس لحل المشكلات أو الاختلافات المعروضة
للحوار، ولذلك تراهم يستبدون بآرائهم، ويسرقون الأدلة والبراهين لتسفيه الآخر
والتهكم منه والاستخفاف به، مع اعتقاد خفي بأن ما يصدر عنهم سداد لا خطأ فيه،
وأن ما يصدر عن الآخرين خطأ لا سداد فيه، ومن ثم: يعز عليهم الرجوع عما هم
عليه، فيبقون على أخطائهم لا يجدي معهم تفهيم ولا محاورة! !
إن المحاور أجدر الناس بالبعد عن الكبر بشتى صوره، فإن الطرف الآخر إذا
رأى منه ازدراءً له واحتقاراً بالقول أو الفعل فإن ذلك ينفره منه، ويؤدي إلى
كراهته وكراهة ما عنده من الحق، لأن الناس جبلوا على محبة المتواضعين
وكراهية المتكبرين [8] ، وما أفسد علينا أكثر حواراتنا إلا التعالي على الآخرين
وتجاهلهم والزهد فيما عندهم بسبب أحد أمراضنا الحوارية، وهو مرض تورم
الذات.
النظرة الأحادية:
النظرة الأحادية هي لون من ألوان الأمراض الحوارية التي يمكننا أن نطلق
عليه: عمى الألوان، حيث تسيطر على صاحبه فكرة واحدة، يرفض ما عداها من
الأفكار.. ففكرته في حقيقتها سجن يمنعه من الاطلاع على أفكار الآخرين،
ونظرته عمى يحول بينه وبين رؤية البدائل المطروحة من الآخرين، فضلاً عن
الإفادة منها.
إن أصحاب النظرة الأحادية يرون أنهم يملكون كل المعرفة، بينما لا يرون
أن الآخرين يمكن أن يملكوا ولو جزءاً من هذه المعرفة.. وحالهم في ذلك يشبه حال
من ذكرهم الإمام الغزالي في الإحياء في قصة رمزية تستحق التأمل مفادها: أن
ثلاثة من العميان أُدخلوا على فيل ولم يكونوا عرفوه من قبل فوضع أحدهم يده على
رجله، ووضع الآخر يده على ذيله، ووضع الثالث يده على بطنه، فلما خرجوا
سألوهم: ما الفيل؟ فقال الأول: الفيل: كسارية المسجد، وقال الآخر: الفيل:
كخرطوم طويل به شعر كثيف، وقال الثالث: الفيل: الجبل العظيم الأملس..
فأدخلوا مرة أخرى على الفيل، وأمسكوا بجميع أجزائه، وعندها ضحكوا من
تعريفاتهم السابقة للفيل، واستطاعوا أن يصفوه على حقيقته.
وهكذا أصحاب النظرة الأحادية، يرى الواحد منهم جزءاً من الحقيقة، ويظن
أنه يرى كل الحقيقة؛ فيصف الأمور بغير أوصافها.. فإن حدّثه الآخر عن بقية
الحقيقة التي يجهلها، لم يكلف نفسه مجرد محاولة التعرف على ما يريد الآخر قوله، بل يَنْقَض عليه متهماً إياه بالضلال والانحراف والجهل.. ولا يترك له فرصة
الحوار، بل يسعى لمصادرة آرائه والحجر عليه، فيصم أذنيه ويغلق عينيه، فلا
يسمع له رأياً ولا يقبل له طرحاً.. هكذا.. مهما بلغ الآخر من الفهم والتخصص
فيما يحدثه فيه ويعرضه عليه! !
إن النظرة الأحادية هي نظرة تفتقد إلى الشمولية والتوازن وضبط النسب،
ولذلك: فهي من المعوقات الكبيرة في طريق نجاح حواراتنا، فهل نتخلص منها؟
الحجة الدائرية:
إذا كانت الحجة الرأسية هي إحدى ميزات الحوار.. وكانت الحجة الأفقية
هي من عيوب الحوار [9] ، فإن من معوقات الحوار ما يمكن أن نطلق عليه:
الحجة الدائرية.. فما هي تلك الحجة؟
إن الحوار مثلاً يكون حول المستوى التربوي لأفراد الحركة الإسلامية،
فيطلق أحد المتحاورين حكماً عامّاً بأن المعاصرين منهم ليسوا على مستوى
القدامى.. فيعترض الثاني ويسمي اثنين أو ثلاثة من أفراد الحركة الإسلامية المعاصرين.. وهنا يقول الأول: نعم.. ولكني لا أرى أن من ذكرتهم من المعاصرين بالمعنى الصحيح.. فيجيبه الثاني: وكيف تميز المعاصرين من القدامى؟ فيرد الأول: باستطاعتك أن تعرفهم بمستواهم التربوي الفائق!
وهكذا.. يعود الحوار إلى المكان نفسه الذي بدأ منه وكأنه يسير في دائرة! ! .
ولا شك أن أصحاب هذه الحجة الدائرية يغلب عليهم التنظير والسفسطة، مع
قلة من طرق مسدودة.
ومن هذه المغالطات الحوارية: أن يعمد أحدهم إلى فكرة الآخر فيقطعها أجزاءً
صغيرة، ثم يخضع كل جزء لامتحان دقيق ليظهره بلا قيمة وبلا فائدة، فإذا انتهى
من جميع أجزاء الفكرة خلص إلى تفاهة فكرة الآخر على الجملة! !
ومن مغالطات أصحاب الحجة الدائرية: أنهم يحاولون إحراق الجزئيات
بعرض الكليات.. فإذا تحدث المحاور عن ضرورة الحجاب مثلاً، تأوه هؤلاء
وبدؤوا في عرض آلام الأمة وأحزانها ليحيدوا عن مواجهة الموضوع الأساس
للحوار [10] .
ومن مغالطاتهم أيضاً: أن يستدل الواحد منهم على ما يراه بمؤهلاته العلمية،
أو قناعته الشخصية، أو يمينه المغلظة.. هكذا، وكأن مؤهلاته تصلح بديلاً عن
الحجة الواضحة.. أو أن قناعته الشخصية يمكن أن تحل محل الفكرة المقنعة.. أو
أن يمينه المغلظة يمكن أن تكون دليلاً؟ !
وهكذا تتعدد المغالطات الحوارية من الاحتجاج بالواهيات من الأدلة إلى
الاحتجاج بالكثرة من الدهماء على الباطل لمجرد كثرتهم.. إلى غير ذلك.
ومن طرائف هذا الصنف من المحاورين: ما حكاه الماوردي (رحمه الله) قال: رأيت رجلاً يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه خصمه بدلالة صحيحة،
فكان جوابه أن قال: إن هذه دلالة فاسدة؛ ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما
لم يذكره الشيخ لا خير فيه! ! [11] .
فتأمل (رحمك الله) هذه الحجة وأمثالها مما لا يفيد معها منطق ولا يجدي معها
برهان.. ألا ترى أن الحوار لا يمكن معها الاستمرار فيه؟ وأن النتيجة البدهية لها
هي دوران الحوار في حلقة مفرغة بسبب من ترك محكمات الأدلة إلى متشابهاتها،
بل إلى ما ليس من الأدلة، وإنما هو حجة وهمية نطلق عليها جدلاً الحجة
الدائرية ...
*وثمة معوقات أخرى لا توقف الحوار فقط، بل يصبح الحوار معها أمراً
مستحيلاً، نذكر منها أحدها لكي ندرك أنه مع التزامنا بضوابط الحوار، وإتقاننا
لأساليبه، ومعرفتنا بمعوقاته.. فإن كل هذا لا يعني بالضرورة قبول الآخر لما
نقول من أفكار أو نعرض من آراء..
وهذا العائق هو..
كراهية الآخر:
في بعض الحوارات يظهر الحق جليّاً، ولكن يبقى صراع الآخر قائماً بتأثير
عوامل نفسية لا يجدي معها دليل ولا منطق.. ومن هذه العوامل النفسية: كره
المحاور لمن يحاوره، ذلك الكره الذي يدفعه إلى رفض ما عنده وإن كان صواباً..
وذلك كحال اليهود مع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كانوا يعرفون الحق قبل
ظهوره -صلى الله عليه وسلم-، فلما جاءهم هو به لم ينقادوا له حسداً وكرهاً.
إن من يدخل الحوار وقد انطوت نفسه على كره الآخر تراه يشتد في الحوار
حول ما يعرضه الآخر عليه من أمور لو أتته من غير هذا المحاور لقبلها بلا
جدال.. ومن هنا: فإن أمثال هذه الحوارات تفتقد الاعتماد على الحجة، بل هي في الحقيقة حوارات (طرشان) لا يسمع طرفٌ فيها الآخر، وإنما يتفنن كل طرف في أساليب العداء تجاه الآخر، تلك الأساليب التي تبدأ بوصم المخالف بأقبح الألقاب وأحط الأسماء، ثم تنتقل خطوة أخرى في العداء: فيبدأ المكر والكيد والتربص بأمر السوء حتى يصل العداء إلى أسلوب لأقتلنك حيث يرى الآخر أن قتل محاوره هو البديل للحجة والبيان، فيحل السيف والسنان محل القلم واللسان، ... وتصبح المواجهة الوحشية والإرهاب والعدوان هي وسائل التحاور.. أو إن شئت قلت: وسائل فرض الرأي على الآخر..
وهكذا يعود الحوار إلى جاهلية الفكر التي واجهها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بالدعوة لتدبر الأمور والتفكر فيها، بينما يريد من يتربص بنا السوء من بني
جلدتنا أن يرجعونا إلى التحاور وفق ضوابطها في الصراع والتناحر، وعبر
أساليبها التي تحرق جسور التواصل بين المتحاورين لتصل بهم إلى الفرقة والتشرذم
والشتات والعار..
وبعد..
فهذه المقالة ليست رأياً لي أسجله، وإنما هي محاولة للمشاركة في تغيير واقع
حواراتنا عن طريق الكلمة المكتوبة.. ولست أدعي لهذه المحاولة الكمال، وإنما
هي خطوة على الطريق يعوزها التواصل المستمر.
فلتكن هذه المقالة دعوة للكتابة المستمرة والتذكير الدائم بقواعد الحوار وفنون
التحاور.
ولتكن هذه المقالة وصية لي ولإخواني بعدم الانقطاع عن الكتابة في هذا
الموضوع المهم تحت دعوى أننا عذرنا أنفسنا، وأدينا أمانة الكلمة بما كتبناه ذات
مرة حول لمحات في فن الحوار.
__________
(1) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، ص8.
(2) انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب المسلم، ط3 سنة 1408 هـ، ص76.
(3) الشاطبي: الاعتصام، ج2، ص230.
(4) ابن القيم: إعلام الموقعين، ج2، ص214، بتصرف.
(5) الشاطبي: الاعتصام، ج1، ص28 - 29.
(6) محمد العبدة: مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين، ص104.
(7) أخرجه أبو داود: كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، وقال الألباني: صحيح الإسناد (صحيح الجامع الصغير 4608) ؛ انظر صحيح سنن أبي داود، ج2، ص177.
(8) د محسن عبد الناظر: الحوار مع أهل الكتاب، ص171، بتصرف.
(9) راجع إن شئت: (ضوابط الحوار) .
(10) د طارق الحبيب: كيف تحاور؟ ص72، بتصرف.
(11) الماوردي: أدب الدنيا والدين، ص78.(89/52)
سياسة شرعية
العلاقات والحصانات الدبلوماسية
في الفقة الإسلامي والقانون الدولي
(1)
بقلم: علي مقبول
نبذة تاريخية عن أهمية التمثيل الدبلوماسي:
قبل البدء في أخذ فكرة تاريخية مختصرة عن التمثيلالدبلوماسي، لابد لنا من وقفة لتعريف الدبلوماسية:
- ما أصل تسميتها؟ ، وما حدها؟ .
- وما موضوعها؟ .
* أصل تسمية الدبلوماسية:
إن هذه الكلمة مشتقة من الفعل اليوناني (Diploma) ومعناه (طوى) ، وكانت تطلق في العهد الروماني على الوثائق التي
كانت تطوى (طيتين) ، كجوازات السفر، وتذاكر المرور، أو الوثائق والصكوك
الصادرة عن الملوك والأمراء، والمتضمنة منح شخص ما توصية خاصة، أو
امتيازات استثنائية.
ثم أصبحت هذه الكلمة تطلق على الأوراق والوثائق الرسمية، أو تلك التي
تتضمن نص الاتفاقات أو المعاهدات المعقودة [1] .
وقد دخلت هذه الكلمة المعجم الدولي منذ أواسط القرن السابع عشر حين حلت
محل كلمة المفاوضة (Negotiation) ، وقد تطور مدلول الدبلوماسية مع الزمن
وأصبح يشير إلى معانٍ شتى [2] .
* المفاهيم المختلفة لكلمة الدبلوماسية:
لقد اختلف أساتذة القانون الدولي خاصة منهم الذي اهتم بدراسة العلاقات الدبلوماسية في تحديد معنى الدبلوماسية، وسنشير إلى أهم الآراء في تعريف هذه الكلمة:
1- الدبلوماسية هي: علم علاقات الدول ومصالح كل منها، أو: فن التوفيق
بين مصالح الشعوب، وبشكل أدق: علم وفن المفاوضات [3] .
2- وقيل: فن وعلم معالجة الشؤون الخارجية الدولية [4] .
وخلاصة القول: إن بعض الكُتّاب يستعمل الدبلوماسية بمعنى توجيه العلاقات
الدولية، وآخرون يقصدون بها: الأشخاص الذين يتولون الإشراف على العلاقات
الدولية في كل دولة، وقد استخدم المسلمون معاني هذه الكلمة في أول الأمر وسيلة
لنشر الدعوة الإسلامية، فقد بادر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى إرسال
الرسل، داعياً ملوك وأمراء زمنه للإسلام [5] .
* تحديد موضوع الدبلوماسية:
يشتمل موضوع الدبلوماسية على دراسة المبادئ العامة والأساليب والأصول التي تتعلق بتمثيل الدول والعلاقات المتبادلة بينها.
والمسؤولون عن هذا التمثيل هم عادة رؤساء الدول، ورؤساء الحكومات،
ووزراء الخارجية، والممثلون الدبلوماسيون، ومع أن الذين يقومون بالتمثيل فعلاً
هم المبعوثون الدبلوماسيون؛ إلا إن لكل من رئيس الدولة، ورئيس الحكومة،
ووزير الخارجية دوره في التوجيه حسب أهمية مركزه [6] .
* نبذة تاريخية عن مراحل تطور الدبلوماسية:
يدل استقراء التاريخ أن المجتمعات السياسية تبادلت فيما بينها البعثات الدبلوماسية منذ أقدم العصور.
ففي سنة 2353 (ق. م) كان الإمبراطور ياو إمبراطور الصين يستقبل
مبعوثي البلاد المجاورة وفقاً لقواعد دقيقة ومراسيم مختلفة.
وعند الإغريق كانت المدينة هي الوحدة السياسية، وكان من الضروري أن
تدخل هذه المدن في مفاوضات وعلاقات فيما بينها، فكانت هذه المدن تحرص على
أن ترسل أبناءها الصالحين للتفاوض مع الآخرين.
أما الإمبراطورية الرومانية، فقد كان إرسال الرسل والسفراء عندها أمراً
شائعاً وطبيعياً، كما ساعد نشوء قانون الشعوب؛ وما احتواه هذا القانون من قواعد
تحكم علاقات الرومان بغيرهم على استقرار القواعد المتعلقة بالتمثيل
الدبلوماسي [7] .
أما العصور الأوروبية الوسطى فإنها امتازت عن سابقتها العصور القديمة
بأنها عصور تدهور وتأخر.
ولا شك أن النظام الإقطاعي الأوروبي قد لعب الدور الأكبر في هذا التدهور
والتأخر في العصور الوسطى، ومن البدهي أن نظاماً كنظام الإقطاع يستند على
الحروب والانعزالية والجهل لا يكون فيه أي مكان لتبادل الممثلين وعقد المعاهدات
وإجراء المفاوضات [8] .
أما عن الدبلوماسية في العصر الحديث التمثيل الدبلوماسي الدائم: فإن مؤتمر
(فيينا) لعام 1815م، وما أقره من قواعد دولية ثابتة يعتبر حجر الأساس في بناء
الدبلوماسية الحديثة، فقد اكتسبت بعده الخدمة الدبلوماسية أبعادها الخاصة بوصفها
مهنة مميزة عن حرفة السياسي، أو رجل الحكم، وأصبحت لها قواعدها،
وإجراءاتها، ومراسمها الخاصة بها.
ولم يكن من باب الصدفة اختيار (فيينا) بالذات لاجتماع مؤتمر الأمم المتحدة
للعلاقات والحصانات الدبلوماسية الذي بدأ أعماله في شهر مارس 1961م ففي
(فيينا) تم التصديق على أول اتفاق لتحديد الوضع القانوني للممثلين الدبلوماسيين
ومراتبهم [9] .
- صورة التمثيل الدبلوماسي في عصر صدر الإسلام:
يعطي الإسلام أهمية عظمى للتمثيل السياسي وتأمين السفراء؛ لأنه عن
طريقهم يمكن أن تتعرف سائر الشعوب على تعاليم الإسلام، ومبادئه، ويسهل
تبادل المعرفة والتعرف على الحضارات، والصناعات، وسائر التحركات الموالية
أو المعادية [10] .
والسنة النبوية مليئة بالتصرفات النبوية التي تدل على اهتمام النبي -صلى
الله عليه وسلم- بالسفارات؛ ومن ذلك: الكتب والرسائل التي حملها رسُلهُ -صلى
الله عليه وسلم- إلى الملوك، والرؤساء، والأمراء، داخل الجزيرة العربية
وخارجها.
وأيضاً مما يدل على اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسفارات:
استقباله لرسل أعدائه، ومعاملته لهم؛ وإكرام وفادتهم؛ وهذا دليل على مشروعية
السفارة؛ ومما يؤكد ذلك قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... ]
[المائدة: 1]
وقد جاء في تفسير العقود أنها ستة، منها: عقد الحلف [11] ؛ ويراد به:
المحالفات، والمعاهدات؛ ولا شك أن عقدها يتم بوساطة السفارات التي يقوم بها
الرسل، ولما أفادت هذه الآية جواز المعاهدات، ومشروعية عقدها، فإن ما
يتوصل به إلى عقدها يكون مشروعاً وجائزاً [12] .
ومعروفة قصة أبي رافع وسفارته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك
قصة سفارة رسولي مسيلمة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد اتسعت السفارة في عهد الدولة الأموية، وكان لها دور كبير في تثبيت
أركان الدولة وتعاليم الإسلام، وفي الفترات المحدودة التي ساد فيها السلام بين
الدولة الإسلامية والدولة الرومانية: كان هناك شيء من المراسلات، والسفارات،
ذات الطابع الثقافي، أو غيره؛ ومن ذلك: رسالة وردت من قيصر إلى معاوية
(رضي الله عنه) خليفة المسلمين يسأله عن أشياء، وقد أجابه معاوية عن ذلك [13] .
وقد بعث عبد الملك رسالة مع سفيره الشعبي إلى قيصر الروم، فأعجب
قيصر الروم أشد الإعجاب بعقلية الشعبي، فكتب رسالة خاصة إلى عبد الملك جاء
فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا الرجل كيف ملّكوا غيره [14] .
- الدبلوماسية في الدولة العباسية:
قامت الدولة العباسية عام 750م، وقد تطورت العلاقات الدبلوماسية في ظل
الدولة العباسية تطوراً كبيراً، حيث أقيمت علاقات متطورة مع جميع الدول،
وبخاصة النصرانية في أوروبا، وكان أساس هذه السفارات تبادل السفراء،
كالسفارات بين الخليفة المنصور وكل من الملك بين ملك الإفرنج، وبين الخليفة
هارون الرشيد وشارلمان ملك الإفرنج عامي 797 - 802م، وبين الخليفة
المأمون والبيزنطيين.
والسفارة بين عضد الدولة وبين الإمبراطور باسيل، وقد تبودلت السفارات
في مناسبات مختلفة في عهد الخليفة المقتدر مع بيزنطة سنة 918 م، حيث أرسلت
بيزنطة سفارة تتكون من عشرين شخصاً، وقد احتفوا بهم وأطلعوهم على مباهج
العاصمة بغداد، وقصورها، والأماكن المهمة فيها.
وقد أرسل البلغار وفداً إلى الخليفة المقتدر سنة 309هـ - 921م، للتفاوض
حول إرسال خبراء في بناء الحصون، وفقهاء الدين الإسلامي، وقد أرسل الخليفة
إليهم ذلك [15] .
الحصانات والامتيازات الدبلوماسية في القانون الدولي:
تمهيد: المقصود بالحصانة الدبلوماسية، هو ما يتمتع به المبعوث الأجنبي
من حقوق وامتيازات في الدولة المرسل إليها، ويعتبر هذا الموضوع من أهم
مقومات الدبلوماسية [16] .
ولذلك: فالحصانات والامتيازات ليست في حقيقتها سوى استثناء يرد على
اختصاص الدولة، لأنه من المسلّم به طبقاً لنظرية السيادة للدولة الحق في أن
تمارس اختصاصها على كافة الأفراد الذين يقيمون على إقليمها، والهدف من
الحصانات والامتيازات الدبلوماسية هو إعفاء بعض الأشخاص من سلطات الدولة
واختصاصها القضائي [17] .
* التكييف القانوني للحصانات والامتيازات الدبلوماسية:
يتمتع الممثلون الدبلوماسيون بحصانات وإعفاءات متنوعة في الدول التي يباشرون فيها وظائفهم، وقد تضاربت النظريات حول المبنى القانوني لهذه الحصانات إلى ما يلي:
1- نظرية امتداد الإقليم: وهي تقرر أن رجل السلك الدبلوماسي حينما يوجد
في إقليم دولة أخرى يعتبر كأنه لا يزال في إقليم دولته، ومن ثم: لا يكون خاضعاً
لما يسري في إقليم الدولة التي يعمل فيها من قوانين.
ويعيب هذه النظرية: أنها قائمة على افتراض لا أساس له من الحقيقة،
ويؤدي إلى نتائج غير مقبولة، فقد استند إليها بعض السفراء في القديم للمطالبة
بإعفاءات تتناول الحي أو المنطقة التي توجد فيها السفارات أو المفوضيات.
2- نظرية النيابة: ومقتضاها أن الممثل الدبلوماسي حين يباشر وظيفته إنما
ينوب عن رئيس دولته صاحب السيادة، ومن ثم: يتمتع بنفس الإعفاءات المقررة
لرئيس الدولة.
ويؤخذ على هذه النظرية: أنها تضيق عن تفسير ما يتمتع به الممثل
الدبلوماسي من حصانات خارج نطاق عمله الرسمي من جهة، ومن جهة أخرى:
فإن المسلّم به أن الممثل الدبلوماسي لا يتمتع بالمركز نفسه من حيث الإعفاءات
كرئيس الدولة الذي تقضي المبادئ العامة بأنه غير معصوم من الخطأ وتمتنع
مساءلته على أي وجه من الوجوه.
3- نظرية الوظيفة: وهو الرأي الذي أيده كثير من المتخصصين في القانون
الدولي، وهو الذي يربط بين الحصانات وبين وظيفة الممثل الدبلوماسي، ويقرر
أن أساس الحصانة هو تمكين الممثل الدبلوماسي من مباشرة وظيفته التمثيلية وأداء
عمله دون عائق، وأن الحصانات مقررة للوظيفة ذاتها وليست لفائدة الممثل
الشخصية.
ولقد أخذت اتفاقية (فيينا) سنة 1961م، بنظرية الوظيفة؛ حيث قررت في
الديباجة أن الغرض من الحصانات ليس تحقيق فائدة الأفراد، بل ضمان الأداء
الفعال لوظائف البعثات الدبلوماسية باعتبارها ممثلة للدول.
على أن الإشارة إلى الصفة التمثيلية تفيد ضرورة مراعاة الصفة في تقرير
الحصانات الدبلوماسية.
ولما كانت الحصانات مرتبطة بالوظيفة وملازمة لها ولم تقرر لفائدة الممثل
الشخصية: فإنه يتفرع من ذلك أن الممثل الدبلوماسي لا يعفى من أحكام القانون
كلية بل هو يخضع لها بوجه عام، وإنما يمتنع فقط اتخاذ أية إجراءات إدارية أو
قضائية في مواجهته أمام السلطات الإقليمية، ويترك الأمر في هذا الشأن لسلطات
الدولة التي يتبعها، وذلك حتى لا يكون في اتخاذ هذه الإجراءات بواسطة الدولة
التي يباشر فيها وظيفته ما يعوق الممثل الدبلوماسي عن أداء عمله بحرية واطمئنان، ومن هذا أيضاً: أنه إذا ارتكب جريمة أو أمعن في انتهاك القانون الوطني،
فللدولة أن تطالب من دولة المبعوث الدبلوماسي استدعاءه، بل يجوز لها أن تطرده
من الإقليم [18] .
* ماهية الحصانات والامتيازات الدبلوماسية:
تمهيد: جرى العرف الدولي على تمتع الممثلين الدبلوماسيين بامتيازات عديدة
بعضها خاص بأشخاصهم، وبعضها خاص بأملاكهم وبدور الوكالات السياسية.
وقد تقررت لهم هذه الامتيازات تحقيقاً لاستقلالهم، وحتى لا تمنعهم من القيام
بمهمتهم على أتم وجه.
مع أنه يجب أن يلاحظ فيما يتعلق بهذه الامتيازات، التي سنشرحها تفصيلاً
إن شاء الله أن التمتع بها قاصر على الممثلين الدبلوماسيين الدائمين، تمييزاً لهم عن
الذين يُنتدبون لأداء مهمة خاصة أو لتمثيل دولتهم في مفاوضة أو ما أشبه ذلك،
فهؤلاء الأخيرون لا يتمتعون قانوناً بأي إعفاء.
وسنبين هذه الامتيازات إجمالاً، ثم نتحدث عنها بعد ذلك بشيء من التفصيل، ثم نتحدث عن موقف الشريعة الإسلامية من هذه الحصانات والامتيازات.
وهذه الحصانات والامتيازات بالنسبة للممثلين الدبلوماسيين التي قررها
القانون الدولي يمكن ذكرها إجمالاً فيما يلي:
1- واجب عدم التعرض لشخص الممثل الدبلوماسي، أو الحصانة الشخصية.
2- عدم خضوع الممثل الدبلوماسي لقضاء الدولة المبعوث لديها، أو
الحصانة القضائية.
3- عدم خضوع دار الوكالة ومحتوياتها للقضاء الإقليمي.
4- الحصانة المالية، أو الإعفاء من الضرائب.
أولاً: الحصانة الشخصية للممثل الدبلوماسي:
تؤكد المادة (29) من اتفاقية (فيينا) حصانة المبعوث الدبلوماسي، وتفصله
بقولها: تكون للممثل الدبلوماسي حصانة، ولا يجوز القبض عليه أو حجزه بأي
شكل من الأشكال، وتعامله الدولة المستقبلة بالاحترام الواجب، وتتخذ جميع
الإجراءات المعقولة لتمنع أي اعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته.
ويفهم من هذه المادة: أن على الدولة المعتمد لديها المبعوث واجباً ذا شقين:
الشق الأول: أن تحرص من ناحيتها على عدم المساس بمكانة المبعوث بأي
صورة من الصور، فيتعين عليها معاملته بالاحترام الواجب لمركزه، وتجنب أي
فعل أو تصرف يكون فيه إخلال بهيبته أو امتهان لكرامته أو ازدراء لشخصه أو
تقييد لحريته، وبالأخص القبض عليه أو حجزه لأي سبب من الأسباب.
الشق الثاني: أن تكفل له الحماية اللازمة ضد أي اعتداء يمكن أن يوجه إليه
من الغير، أو أي فعل يكون فيه مساس بذاته أو بصفته.
وفي حالة وقوع اعتداء على المبعوث: يجب على الدولة المعتمد لديها أن
تجري ما يلزم لمؤاخذة أو معاقبة المسؤولين، وتعويض الضرر الذي يكون قد حدث.
ومراعاة مكانة ذات المبعوث الدبلوماسي واجبة ولو لم يتمسك بها فمكانته
تحميه على حد قول فوشي بالرغم منه، إذ هي مقررة لصالح دولته ضماناً لاستقلاله
في أداء مهمته المكلف بها من قبلها أكثر منها لصالحه الخاص.
وعلى رئيس البعثة الدبلوماسية إذا ما وقع عليه أو على أحد أعضائها اعتداء
أن يبلغ ذلك إلى الدولة المعتمد لديها، وعلى الدولة المعتمد لديها إجراء التحقيق
اللازم لذلك، ومجازاة المعتدي، وتقديم الترضية المناسبة، فإذا لم تهتم الدولة
المعتمد لديها بشكواه فإنه يبلغ ذلك لدولته لإجراء اللازم، وقد يطلب من الدولة
المعتمد لديها المغادرة على سبيل الاحتجاج.
ولكن ما الحكم إذا قام المبعوث الدبلوماسي برد الاعتداء الواقع عليه مباشرة؟
مما لا شك فيه أن الممثل الدبلوماسي يتمتع بحق الدفاع الشرعي عن النفس،
وعلى المبعوث هنا ألا ينسى طبيعة مهنته، وعليه أن لا يلجأ إلى الانتقام المباشر
إلا إذا كان في حالة دفاع شرعي عن النفس فعلاً [19] .
وأيضاً على الدولة الموفد إليها أن تمنع إهانة رجال السلك الدبلوماسي أو سبهم
أو التشهير بهم، ويذكر الشراح عادة أن حرية الصحافة تتقيد بهذا الشأن احتراماً
للقانون الدولي العام، ومع ذلك يجوز ممارسة حق النقد العادي في الصحف أو
الخطب [20] .
ويتبع حرمة المبعوث الدبلوماسي، حرمة مسكنه وأمواله، ويكون مسكنه
بمنأى عن التعرض من جانب سلطات الدولة أو من جانب الغير، وعلى الدولة
المعتمد لديها أن توفر الحماية الكافية لمسكن المبعوث الدبلوماسي، وتمشياً مع هذا
الاعتبار تنص المادة (30) من اتفاقية (فيينا) على أنه: يتمتع المسكن الخاص
للممثل الدبلوماسي بنفس الحصانة والحماية المقررة لمباني البعثة.
وتتمتع أيضاً وثائقه ومراسلاته، وكذلك ممتلكاته، باستثناء ما ورد في
الفقرة (3) من المادة (31) بنفس الحصانة، وسيأتي ذلك مفصلاً إن شاء الله عند الحديث عن الحصانة عن دار الوكالة السياسية [21] .
ثانياً: الحصانة القضائية:
تحدثت المادة (31) من اتفاقية (فيينا) عن الحصانة القضائية فقالت:
1- يتمتع الممثل الدبلوماسي بالحصانة إزاء القضاء الجنائي للدولة المستقبِلة، كما يتمتع بالحصانة إزاء القضاء المدني والإداري لنفس الدولة، فيما عدا الأحوال
الآتية:
أ- دعوى عينية متعلقة بعقار خاص واقع في الدولة المستقبلة، إلا إذا كان
الممثل الدبلوماسي يتمتع بحق ملكيته لحساب حكومته من أجل أغراض البعثة.
ب- دعوى متعلقة بتركة يكون الممثل الدبلوماسي قد عين منفذاً أو مديراً لها،
أو يكون وارثاً أو موصى له بصفته الشخصية وليس باسم الدولة المرسلة.
ج- دعوى متعلقة بمهنة حرة أو نشاط تجاري أيّاً كان نوعه، حين مزاولة
الممثل الدبلوماسي في الدولة المستقبلة له خارج نطاق مهامه الرسمية.
2- لا يلزم الممثل الدبلوماسي بأداء الشهادة.
3- لا يجوز اتخاذ أي إجراء تنفيذي حيال الممثل الدبلوماسي، إلا في
الحالات الواردة تحت البنود أ، ب، ج من الفقرة (1) من هذه المادة، وبشرط ألا
تمس هذه الإجراءات مكانة شخصه أو سكنه.
4- حصانة الممثل الدبلوماسي بالنسبة لقضاء الدولة المستقبلة لا تعفيه من
الخضوع لقضاء الدولة المرسلة [22] .
ومن هذه المادة نرى أنه لم يرد في اتفاقية (فيينا) تعريف محدد للحصانة
القضائية، ولهذا: فقد ذهب القانون إلى أن المقصود بالحصانة القضائية هو:
إعفاء أو استثناء أو عدم خضوع المبعوث الدبلوماسي للاختصاص القضائي المحلي.
ولكن قد يستدرك سائل فيقول: إن الأخذ بالتعريف السابق ينطوي على نقص
في سيادة الدولة المبعوث لديها الممثل الدبلوماسي!
وأجيب عن هذا التساؤل: أن المقصود بالحصانة القضائية هو الحصانة من
ممارسة الاختصاص، أي: إن عدم خضوع المبعوث الدبلوماسي لاختصاص محاكم
الدولة المستقبلة، لا تجعله فوق قوانين تلك الدولة، فالحصانة من الاختصاص
القضائي لا تعني الحصانة من المسؤولية، إذ تبقى مسؤوليته قائمة، وإن ما يترتب
على الدفع بالحصانة هو اختلاف المحاكم التي تتولى الفصل في الدعوى، إذ ينقل
هذا الاختصاص من محاكم الدولة المستقبلة إلى محاكم الدولة المرسلة.
وعلى ذلك يمكن القول إن المقصود بالحصانة القضائية: نقل الاختصاص
القضائي من محاكم الدولة المستقبلة إلى محاكم الدولة المرسلة في الدعوى التي
يكون أحد أطرافها مبعوثاً دبلوماسياً.
ويتحدد نقل الاختصاص في الدعاوى المدنية المقامة على المبعوث الدبلوماسي
وفقاً لأحكام القانون الدولي الخاص، باعتبار أن المبعوث الدبلوماسي شخص أجنبي
يخضع لأحكام تحديد الاختصاص الواردة فيه.
ويتحدد نقل الاختصاص في الدعاوى الجزائية وفقاً لقاعدة: شخصية القانون
الجزائي، التي تقضي بخضوع أفراد الدولة لأحكام قوانينها بغض النظر عن مكان
وقوع الجريمة [23] .
ومما سبق يتبين لنا: أن رجال السلك الدبلوماسي لا يخضعون لولاية الحاكم
في الدولة الموفد إليها بالنسبة لما يرتكبونه من جرائم على اختلاف أنواعها سواء
أكانت: جنايات، أو جنح، أو مخالفات.
ولا يجوز اتخاذ أي إجراء قضائي من قبض وتحقيق وتوجيه اتهام ومحاكمة
ضد أحد رجال السلك الدبلوماسي.
ولكن يحق للدولة الموفد إليها في القضايا الجنائية أن تبلغ دولة المبعوث
المخطئ طالبة سحبه ومحاكمته، وكذلك بإمكان المجني عليهم في الدولة الموفد إليها
التقدم بالشكاوى لوزارة الخارجية للدولة المستقبلة حتى تتخذ الإجراءات الدبلوماسية
اللازمة، وقد تطالب الأخيرة برفع الحصانة عنهم حتى تتمكن من تحقيق العدالة.
أما القضاء المدني: فيذهب الرأي الراجح في القانون إلى تقييد الإعفاء من
القضاء المدني، وذلك بالاستثناءات الواردة في المادة (31) في الفقرة (1)
وتشمل: أ، ب، ج [24] .
__________
(1) د سموحي فوق العادة، الدبلوماسية الحديثة، ص1.
(2) د محمد عزيز شكري، المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم، ص319، 320.
(3) د سموحي فوق العادة، الدبلوماسية الحديثة، ص2.
(4) د عائشة راتب، التنظيم الدبلوماسي والقنصلي، ص65.
(5) راجع: د محمد عزيز شكري، المدخل إلى القانون الدولي وقت السلم، ص322.
(6) د فاضل زكي، الدبلوماسية بين النظريةوالتطبيق، ص14.
(7) د محمد حافظ غانم، العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، ص35، 36.
(8) د فاضل زكي، مرجع سابق، ص22.
(9) راجع: د عدنان البكري، العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، ص34.
(10) د محمد سلام مدكور، معالم الدولة الإسلامية، ص181.
(11) انظر حول معنى الآية: كتاب أحكام القرآن للكيا الهراسي، ص7، وأحكام القرآن، للقرطبي، ج6، ص32، وفتح القدير، للشوكاني، ج2، ص4.
(12) د محمد حسن سفر، السفارات في النظام الإسلامي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد التاسع، السنةالثالثة، شوال وذو القعدة وذو الحجة، عام 1411 هـ، ص18.
(13) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير، ج8، ص102.
(14) انظر: د محمد الصادق عفيفي، التطور الدبلوماسي في الإسلام، ص35، 36.
(15) د سهيل الفتلاوي، تطور الدبلوماسية عند العرب، ص106.
(16) السابق، ص119.
(17) سلطات الأمن والحصانات والامتيازات الدبلوماسية في الواقع العملي والنظري مقارناً بالشريعة الإسلامية، د فاوي الملاح، ص63.
(18) انظر: مبادئ القانون الدولي العام، د محمد حافظ غانم، ص 581، 582.
(19) انظر: التنظيم الدبلوماسي والقنصلي، د عائشة راتب، ص144.
(20) العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، د محمد حافظ غانم، ص137.
(21) انظر: القانون الدبلوماسي والقنصلي، د علي صادق أبو هيف، ص176.
(22) انظر: مواد اتفاقية (فيينا) ، عن وثائق مؤتمر الأمم المتحدة بشأن العلاقات والحصانات والامتيازات الدبلوماسية المنعقد في (فيينا) عام 1961، عن المجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد (17) 1961، ص52.
(23) راجع الحصانة القضائية للمبعوث الدبلوماسي، دراسة مقارنة، د سهيل الفتلاوي، ص8991.
(24) انظر: التنظيم الدبلوماسي والقنصلي، د عائشة راتب، ص155، والعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، د محمد حافظ غانم، ص139.(89/60)
المسلمون والعالم
نعم..
قامت الجامعة العربية بدورها!
بقلم: عبد العزيز كامل
بعد أن انفض سامر الاحتفال بذكرى مرور خمسين عاماً على إنشاء جامعة
الدول العربية، وبعد أن أفرغ المتحدثون ما في جعبتهم من مدحٍ أو قدح، ومن ثناء
أو هجاء، ها نحن ندلي بما نراه في هذا الشأن، لا احتفالاً بهذه الذكرى، ولا
احتفاءً بيوبيلها الذهبي، ولكن إحقاقاً لحق ينبغي قوله، وتسجيلاً لشهادة لابد منها.
ولابد لنا من استحضار مشاهد سريعة من التاريخ الحديث، لاستظهار شواهد
من واقع مرحلة البدء التي تمخضت عن ميلاد فكرة الجامعة العربية، ذلك أنه في
أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن التاسع عشر، بدا أن دولة الخلافة
العثمانية قد أصبحت مرشحة للسقوط، بسبب ما اعتراها من خلل في البنيان ودَخَل
في المنهج، هذا في الوقت الذي كانت فيه دول العالم النصراني تتطلع إلى سقوطها
وإلى موت (الرجل المريض) لاقتسام تركته، وكان اليهود أيضاً يتشوقون للحدث،
ويرمقون الأحوال بشغف، عسى أن ينالهم نصيب من قسمة الميراث.
وفي أواخر حياته، سمع تيودور هرتزل (مؤسس فكرة الدولة اليهودية)
بحركة تدعو إلى تجديد شباب الخلافة الإسلامية، وأطلقت هذه الحركة على نفسها
(حركة الجامعة الإسلامية) ، وكان من دعاتها الشيخ محمد رشيد رضا، فاغتم لهذه
الحركة، وسرعان ما حركه حسه اليهودي الماكر من الاغتمام بالخبر إلى السعي
إلى اغتنامه، وخطر له أن يجري اتصالاته لإقحام النصارى في المناداة بتحرير
العرب من (استعمار) الترك، ولينادوا ب (القومية العربية) في مقابلة (القومية
التركية الطورانية) التي رفع يهود تركيا عقيرتهم بها، وكان أن اتصل هرتزل
بنجيب عازوري لمحاولة دمج حركته المسماة (اليقظة العربية) مع حركة (الجامعة
الإسلامية) ، ثم حدث أن قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، ليكون من أهم
نتائجها: هزيمة تركيا، والقضاء على دولة الخلافة العثمانية، وما هي إلا أعوام
ثلاثة حتى صدر وعد بلفور (وزير خارجية بريطانيا) بمنح اليهود وطناً قوميّاً في
فلسطين، ثم تقوم الحرب العالمية الثانية، التي كان من أهم نتائجها، تقسيم بلاد
العرب بين انجلترا وفرنسا، بمقتضى اتفاقية (سايكس بيكو) وزيري خارجية
البلدين، وهكذا انفرط العقد الذي كان يجمع البلدان العربية والإسلامية برباط
الإسلام، وأصرّ الأعداء على إيجاد رابطة بديلة لرابطة الانتماء للإسلام، وراج
الكلام وزاد الضجيج حول (رابطة العروبة) بدلاً من (رابطة الإسلام) ، و (الجامعة
العربية) بدلاً من (الجامعة الإسلامية) .
وفي 29 مايو عام 1941م، أدلى السياسي البريطاني المخضرم إيدن
بتصريح في مجلس العموم البريطاني، عبّر فيه عن استعداد بريطانيا لاحتضان
الدعوة لإنشاء الجامعة العربية، وقال: إن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا في مساعيهم
لتحقيق فكرة (جامعة عربية) وقال: إنه سيكون لبريطانيا شرف السبق إلى تحقيق
هذا المطلب! .
وفي مصر، ندب حزب الوفد المصري (أعرق الأحزاب العلمانية) نفسه
لتنفيذ الفكرة، فدعا زعيم الوفد مصطفى النحاس إلى إنشاء مؤتمر يبحث فكرة
التنسيق بين الدول العربية، لترسيخ المبدأ القومي ثم الوطني على أساس الانتماء
للعروبة، واقترح تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر لهذا الشأن.
وبالفعل: جاء اليوم الذي أعلن فيه عن تأسيس (الجامعة العربية) بعد أن
أجهض اليهود والنصارى والعلمانيون مشروع (الجامعة الإسلامية) وأعلن في 22
مارس عام 1945م، عن تأسيس الجامعة لتكون (القاهرة) مقرّاً لها، في وقت كانت
مصر فيه لا تزال تحت الاحتلال الإنجليزي الذي أعطى الضوء الأخضر لقيام
الجامعة التي تستطيع التعامل من خلالها مع العرب بأنها ليست ضد أماني العرب
في (الوحدة) ، وأدركت أنها من خلال سيطرتها على مصر، وسيطرة مصر على
الجامعة، ستستطيع تمرير ما تتطلبه المرحلة من مناورات ومؤامرات.
لقد ولدت الجامعة إذن لغرض واضح من البداية: سلخ العرب المسلمين عن
المسلمين غير العرب، لا لإعزاز العرب بغير الدين، ولكن طمعاً في إذلال الدين
بذُل العرب. لهذا: فقد كان مرسوماً منذ البداية أن تكون الجامعة تجسيداً للذل
العربي، فهل نجح البريطان - ومن بعدهم الأمريكان - في إنجاح الجامعة في هذه
المهمة؟ !
لنتأمل معاً ... ماذا أعلنت الجامعة من أهداف؟ وماذا تحقق منها في عالم
الواقع؟ ما الذي تحقق لمصلحة العرب؟ وما الذي تحقق لمصلحة أعداء العرب؟ .
لقد نص ميثاق الجامعة على عدد من الأهداف الكبيرة، فلنراجعها، ولنراجع
نتائجها بعد خمسين عاماً من إنشاء الجامعة وتوقيع ميثاقها:
أولاً: استكمال تحرير البلاد والشعوب العربية من الاحتلال الأجنبي:
لاحظ التعبير: الشعوب (العربية) والعربية فقط! وماذا إذن عن الشعوب
الإسلامية؟ ! لا ضير من احتلالها ما سلمت بلاد العرب، ومع هذا، هل سلمت
بلاد العرب وتحررت شعوب العرب من الاحتلال الأجنبي؟ نسأل بعد خمسين عاماً
من إعلان الميثاق ونترك الجواب للشعوب التي لا يزال يسيطر عليها الأجنبي
ويخضعها لمعسكره، بعد أن كانت خاضعة فقط لعسكره، نعم، لقد انتهى عصر
سيطرة العسكر، وبدأ منذ زمان عصر سيطرة المعسكر، ومع هذا أيضاً: فلا يزال
من بلاد (العرب) في ظل جامعة العرب، مَنْ لا يزال باقياً تحت سيطرة أذل
العسكر (اليهود) ، وأسألوا فلسطين التي وضعت الجامعة بصمتها على صك بيعها
في المعاهدات السلمية، بعد خمسة حروب، هُزمت جيوش العرب في أولاها سنة
1948 وغابت في الثانية عام 1956، وسحقت ونكست في الثالثة عام 1967،
وسحبت منها الثمرة في الرابعة 1973م، بينما تفرج عليها العالم وهي ساكتة
صامتة في الخامسة عام 1982م، حيث اجتاح اليهود جنوب لبنان في حرب من
طرف واحد! .
ثانياً: كان من أهداف الجامعة العربية المعلنة، تحقيق فكرة الدفاع العربي
المشترك , وهذا يعني في أبسط معانيه: وجود جيش عربي قوي موحد، أو على الأقل: جيوش عربية قوية بينها تنسيق لرد أي أطماع من الغير، فهل هذا حاصل الآن بعد خمسين عاماً؟ ! لقد تم في عام 1950م توقيع معاهدة: الدفاع العربي ... المشترك، وتم تشكيل مجلس للدفاع المشترك، ولكن هذه المعاهدة تم إيقاف العمل بها منذ ست عشرة سنة، كما تم إلغاء مشروع الإنتاج الحربي بدعم من الدول العربية مجتمعة، ولكن بعض لجان مجلس الدفاع المشترك لم تُلغَ، وإنما ... أُبقيت كرمز، وسمح لها باستئناف نشاطات من قبيل: رعاية الدورات الرياضية، وإصدار المعاجم العسكرية التاريخية والجغرافية! ونحو ذلك.
ثالثاً: كان من الأهداف المعلنة: تحقيق الوحدة الاقتصادية العربية، وإقامة
سوق عربية مشتركة.
هل تحققت للعرب وحدة اقتصادية تحت مظلة الجامعة العربية؟
لقد أعلن في عام 1962م، عن مشروع (الوحدة العربية الاقتصادية) ونص
المشروع على أن لرعايا الدول الموقعة حرية انتقال الأشخاص، ورؤوس الأموال،
وتبادل البضائع، والإقامة، والعمل، والترانزيت ... إلخ، وبعد عشر سنوات
كاملة من إعلان الاتفاقية، أُلغيت بعد تقويمها ومراجعتها ثم الحكم بفشلها. وأُرجع
سبب الفشل في حينه إلى أن: الأهداف كانت طموحة جداً..! !
أما السوق العربية المشتركة، فنسمع عنها فقط في إذاعة بلاد (واق الواق)
والصحف التي تتحدث عن الغول والعنقاء والخل الوفي! .
رابعاً: إحكام المقاطعة العربية ضد إسرائيل:
وهو هدف، استمرت الجامعة في المحافظة على إعلانه، وظلت المقاطعة
قائمة في العلن، حتى قوطعت من بعض أعضاء الجامعة العربية، وبدون إذنها،
وصدرت القرارات برفع المقاطعة كلياً أو جزئياً، وبرز مصطلح التطبيع بدلاً منها، ولا نكاد نسمع الآن بعد خمسين عاماً أن هناك من يتعاطف مع قطع العلاقات
السياسية فضلاً عن الاقتصادية، بل صار الرائج والسائد (المسارعة) بدل
(المقاطعة) ! فالكل يتلهف على فتح الأسواق أمام بضائع اليهود.
خامساً: ومما تم إعلانه من الأهداف قديماً:
إنشاء محكمة عدل عربية للنظر في فض المشكلات التي (ربما) تنشأ بين
الدول الشقيقة، فتكون المحكمة موئلاً لفض المنازعات بدلاً من اللجوء إلى المحاكم
الدولية، وقد نصت المادة (19) على ضرورة إنشاء تلك المحكمة.
ولكننا لم نسمع حتى الآن عن مشكلة واحدة عرضت على تلك المحكمة، لا
لأن العرب لم تنشأ بينهم خلال خمسين عاماً (لا قدر الله) أي مشكلة (! !) ، ولكن
لأن هذه المحكمة لم تعقد أي جلسة، ولسبب بسيط، وهو أن هذه المحكمة لم تُشكل
أصلاً.
سادساً: أعلنت الجامعة في ميثاقها عن أهمية ضمان حقوق الإنسان العربي:
لم يختلف العرب في أمر مثل اختلافهم في هذه القضية، حيث ظهر أن لكل
طرف عربي فهماً خاصاً لحقوق الإنسان، وقد جاءت الإشارة إلى حقوق الإنسان
في ميثاق الجامعة مجملة ومبهمة، ومع هذا: لم تجتمع الآراء في هذه القضية،
حتى إنه قد تشكلت في عام 1961م، لجنة للنظر في تعديل ميثاق الجامعة فيما
يتعلق بحقوق الإنسان العربي، إذ اختلفت بعض الدول في مجرد تبني الجامعة
(حقوق الإنسان) في بلد عربي كهدف من أهدافها! واعتبرت دول أخرى هذا الأمر
من حقوق السيادة، وأنه من الأمور الخاصة بكل دولة، حيث لها الحق في معاملة
رعاياها بما تراه ملائماً، وبعد أخذ ورد، انتهت المداولات إلى إعلان وثيقة
(وعظية) تدعو إلى احترام حقوق الإنسان (العربي) وصدر ما يسمى ب (إعلان
حقوق الإنسان العربي) كصدىً خافت ونقع باهت لـ (إعلان حقوق الإنسان) في
الأمم المتحدة، ومع هذا: تناقضت وجهات النظر حيال الإعلان العربي، ووجهت
إليه سهام النقد، حتى انتهت إلى الإلغاء والنقض! .
وإذا كان هذا هو شأن الجامعة مع أهدافها الكبرى، فماذا يا ترى سيكون حالها
مع الأهداف الأدنى منها؟ إن نظرة واحدة على المشروعات والاتفاقيات
والطروحات التي أعلنت عنها الجامعة دون أن تحقق منها شيئاً، لتصيب الإنسان
بالدهشة، وتدفعه للتساؤل: لماذا هذا الإصرار على الفشل؟ ! ولماذا يقترن الفشل
دائماً ب (العروبة) في مشروعات (بيت العروبة) كما يحلو لهم أن يسموه؟ !
اتفاقيات فاشلة، مشروعات فاشلة، أطروحات فاشلة ...
ففي عام 1958م أُعلن عن مشروع لإنشاء مصرف للتنمية العربية.
وفي عام 1960م أُعلن عن تشكيل المجلس الاقتصادي العربي.
وفي عام 1962م أُعلن عن توقيع اتفاقية للوحدة العربية.
وهذه الاتفاقيات كانت حبراً على ورق، حيث لم يُر لها أي أثر في الواقع،
وهناك اتفاقيات أخرى أو مشاريع لم تر النور أصلاً، ولم تخرج من أدراجها ولو
لالتقاط الصور التذكارية بجانبها، من ذلك: إنشاء مجلس عربي للبحوث الذرية في
الأغراض السلمية، والاتفاقية العربية للتبادل التجاري وتنظيم التجارة لعام 1953م، واتفاقية تسديد مدخرات المعاملات التجارية وانتقال رؤوس الأموال لعام 1956م، واتفاقية توحيد التعرفة الجمركية 1956م.
هذه أحوال الجامعة مع مشروعاتها وأهدافها النابعة من داخلها، فماذا عساها
أن تفعل مع مشاكلها المنبعثة من خارجها؟ إننا سنشير فقط مجرد إشارات لأبرز
التحديات التي واجهتها الجامعة، لا عبر سنيها الخمسين فهذا أمر يطول ولكن عبر
عقودها الخمسة.
ففي الأربعينات: وبعد ميلاد الجامعة بثلاثة أعوام، كانت نكبة فلسطين،
واحتلال عصابات اليهود لها، وفشل العرب من خلال الجامعة في الترتيب لمعركة
جادة مع اليهود، في الوقت الذي كانت كل الشواهد تدل على استعداد اليهود لتلك
الحرب، فلما قامت الحرب سنة 1948م، اندحرت جيوش العرب المقاتلة تحت
لواء (العروبة) أمام جيش اليهود المقاتل تحت لواء (التوراة) ! .
وفي الخمسينات: حدث خلاف بين مصر والأردن، عجزت الجامعة عن حله
داخل أروقتها، فسجلت بذلك أول نقطة ضعف في السيطرة الداخلية بين أعضائها،
مما حدا بالأردن إلى تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي في 13/7/1958م، ولم
يكن للعرب من خلال الجامعة ذلك الموقف الذي يتناسب مع ضخامة الحدث.
وفي الستينات: كانت الهزيمة المهينة مرة أخرى لجيوش سبع دول عربية
أمام جيش اليهود 1967م، وأصبحت العروبة أمثولة وأضحوكة أمام العالم الذي
طالما سمع التهديد بإلقاء (إسرائيل) في البحر، وأصيبت الجامعة العربية بالصفعة
الكبرى من جرائها، لأنه تأكد أنه بعد عشرة أعوام من وعودها بحشد العرب
لمعركة المصير والتحرير، كان العرب في ظلها منصرفين فقط لمعاركهم الداخلية،
وخلافاتهم المزمنة.
وفي السبعينات: تُوّجت حرب (التحريك) سنة 1973م، بسلسلة من عمليات
الإجهاض للنصر الجزئي الذي تحقق، حتى انتهت إلى توقيع اتفاقية سلام (منفرد)
قامت به الدولة المحتضنة للجامعة، دون مشورة بقية الدول العربية، مما دفع تلك
الدول وقتها إلى سحب الجامعة نفسها من مقرها بالقاهرة إلى مقر مؤقت في تونس،
وبعد أول مؤتمر عقد في (بغداد) تقرر عزل مصر ومقاطعتها، وسخر الرئيس
المصري - آنذاك - من مقاطعة العرب وسحب الجامعة، وقرر إنشاء جامعة أخرى
في مصر! ، وسماها جامعة (الشعوب) العربية، بدلاً من جامعة (الدول) العربية! .
وفي الثمانينات: أُعيدت مصر إلى الجامعة العربية، وعادت إلى مقرها،
دون أن تتغير الأسباب التي من أجلها قوطعت مصر ونُقلت الجامعة! .
وكان هذا من علامات الاستفهام والتعجب التي أُثيرت حول كيفية إدارة
المواقف داخل تلك الجامعة، حيث تبين للجميع أنه لا ثوابت تحكمها ولا مبادئ
تسيّرها، ولا تأثير فيها ولا بها ولا منها، وقد تُرجم هذا الشعور إلى انصراف
العرب إلى إنشاء مجموعات إقليمية، ظهرت على شكل مجالس منفصلة مثل:
مجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون العربي، ومجلس الاتحاد المغاربي،
وبقيت الجامعة مجلساً لمن لا مجلس له! .
وفي التسعينات: توالت الكوارث على الجامعة، لتهدم ما تبقى في بنيانها من
قواعد، وليكون هذا العقد الذي لم ينته بعد هو العقد الفاصل في عمر الجامعة،
وكان أهم ما حدث فيه من الأحداث:
1- غزو الكويت من قبل الجيش العراقي، حيث سجل ذلك أول سابقة
اجتياح من دولة عربية لأراضي دولة عربية أخرى، وكلاهما عضو في الجامعة
العربية، وتعجز الجامعة في مؤتمرها للقمة أن تفعل شيئاً، فتتفاقم الأزمة عربياً،
وتتفاعل دولياً، مما مهد لتدويل الأزمة، كما هو معروف.
2- كان فشل الجامعة في تقديم أي حلول في أزمة الخليج مما أطاح بما تبقى
من مصداقيتها، وكان هذا من أسباب تسريع عملية السلام مع اليهود، حيث بدا
لبعض العرب، أنه لا جدوى من التعايش مع وهم (الوحدة العربية) ، وبالتالي: لا
جدوى من الاستمرار في إدارة (الصراع العربي الإسرائيلي) ، فكان مؤتمر مدريد،
وكانت الصفعة الجديدة للجامعة، لأنها استبعدت من التمثيل في المؤتمر، حيث
تقرر التعامل مع الدول العربية كلاً على حدة، وهذا ما حدث في خطوات عمليات
السلام بعد ذلك، حيث جعل لكل دولة مشاركة في المفاوضات مساراً خاصاً بها.
ثم بدأ مسلسل التسارع العربي للارتماء في أحضان العدو المسالم، أو الحبيب
المحارب، دون أدنى تنسيق بين الدول العربية، ولا تملك أمانة الجامعة سوى إبداء
امتعاضها ودهشتها من سرعة إيقاع عمليات (الصلح المنفرد) الذي حدث من أجله
فيما مضى أشياء وأشياء.
3- ثم جاءت الطامة الداهية، لتسقط على رأس الجامعة وهي ساهية لاهية،
إذ جاءها نعيها بلسان فصيح على لسان شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي
عندما أعلن في مؤتمر الدار البيضاء لتنمية الشرق الأوسط: إن إسرائيل يمكن أن
تنضم إلى جامعة الدول العربية مستقبلاً، بشرط أن تغير اسمها ليكون (منظمة
الشرق الأوسط) ! !
وأذاع التلفزيون الإسرائيلي بعد ذلك: أن إسحاق رابين رئيس الوزراء
الإسرائيلي قد طرح على العاهل المغربي مضيف المؤتمر فكرة البدء في خطوات
النظام الشرق أوسطي، وقال له: إن أسباب ومبررات وجود الجامعة العربية،
تعتبر لاغية الآن بعد الخطوات التي قطعت على طريق السلام، وأصبح الأمر
يتطلب استحداث مؤسسة شرق أوسطية جديدة تقبل بانضمام إسرائيل! .
وهكذا أُعلنت نتيجة المصارعة لجولة استمرت خمسين سنة في حلبة
(الصراع العربي الإسرائيلي) ، حيث رفع المصارع المتدين (اليهودي) ذراع نفسه،
فوق جثة المصارع العلماني (العربي) .
إن شيئاً واحداً نجحت فيه العلمانية العربية بعد خمسين عاماً من العمل
المؤسسي، وهو: الانتصار لكل المصالح، عدا مصلحة الأمة، وما أصدق كلمة
أحمد الشقيري الرئيس السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية في كتابه (الجامعة
العربية) عندما وصف الجامعة بأنها: منظمة إقليمية، أنشئت لخدمة السياسة
الغربية.
ونشهد مع أحمد الشقيري بأنها كذلك، ونزيد: وكذلك خدمة المصلحة اليهودية، ولهذا نقول بكل ثقة بعد خمسين عاماً من إنشائها:
نعم، قامت الجامعة بدورها.!(89/70)
تأملات
في مسيرة الحركة الإسلامية في اليمن
بقلم:عبد الله أحمد ناصر
الحلقة الأولى
وصلنا هذا المقال من الأخ الكاتب، وهو نقد موضوعي فيما نحسب فضلاً
عن أنه من أساليب النقد الذاتي للحركة الإسلامية الذي نحرص عليه، وفي الوقت
نفسه: نرحب بأي تعقيب موضوعي يلتزم بأدب الحوار ممن يهمه الأمر.. والله
نسأل للجميع التوفيق والسداد..
- البيان -
بين آونة وأخرى يدعو قادة الحركة الإسلامية في اليمن إلى دراسة تجربتهم،
والتأمل فيها، واستلهام ما فيها من جوانب مضيئة ومشرقة، واستجابة لتلك
الدعوات المتكررة: أسلط في هذه المقالة الضوء على مسيرة الحركة الإسلامية في
اليمن منذ قيام الوحدة اليمنية إلى اليوم، وسأكتفي ابتداءً بالتأمل في مسيرة الإخوة
المنضوين تحت لواء التجمع اليمني للإصلاح، نظراً لكونهم الأكثر عدداً وقدرة
والأقدم تنظيماً في الساحة اليمنية المعاصرة على أمل أن تتبعها مقالة أخرى عن
مسيرة الإخوة الذين لم ينضووا تحته، على أنى لا أعتبر اليقظة الرافضية في اليمن
والمدعومة من إيران وأنصارها، والتحرك الصوفي النشط والمدعوم من بعض
رجال المال والأعمال في الداخل والخارج جزءاً من الحركة الإسلامية في اليمن،
نظراً للانحراف الكبير والبعد الشديد لأصول الرافضة ومبادئ الصوفية ومجانبتهما
لما كان عليه سلف هذه الأمة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، بل أعتقد أن
الرافضة والصوفية خطران من الأخطار المحدقة باليمن، وأن الواجب على كل
غيور محاربتهما بقدر المستطاع.
وأعتقد أن حركة عريقة التاريخ، واسعة الانتشار، متعددة الإنجازات،
يصعب دراستها وتقويمها من شخص واحد، وخلال مدة قصيرة، وفي مقالة
صحفية، بل يتطلب ذلك توافر جهود عديدة ونظرات كثيرة يكمّلُ ويسدد بعضها
بعضاً، ولكني خشيت أن لا يتحقق مثل ذلك، فرأيت أن أطرح ما لدي مستعيناً بالله
(تعالى) ، فما لا يدرك كله لا يترك جله.
وليس لي ابتداءً من هدف إلى إبراز الجوانب الإيجابية في مسيرة الحركة
الإسلامية في اليمن إلا دعوة العاملين في الساحة الإسلامية إلى الاستفادة منها
واستثمارها، كما أنه ليس لي من هدف من إبراز سلبياتها إلا دعوة الأحبة
المقصودين بالأمر أن يعملوا على تجاوزها وتلافيها، على أن ما سيتم طرحه من
آراء سواء أكانت حول الإيجابيات أم السلبيات مما لاعلاقة له بالثوابت الإسلامية:
صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخرين خطأ يحتمل الصواب، وليس من هدفي
وعلام الغيوب ذكر العيوب للتشفي والتجريح والانتقاص لحبيب من الأحباب أيّاً كان
وضعه، وأيّاً كان انتماؤه، وكل ما في الأمر: الاقتناع بأن خير وسيلة لتصحيح
مسيرة العمل الإسلامي هى: النقد من الداخل، والنقد البناء لا الهدام، لأن أي فئة
إسلامية مهما كان فضلها، ومهما علت رتبتها لاتسلم من النقص والخطأ، وليست
الإشكالية في الوقوع في الخطأ، ولكن في الاستمرار عليه؛ قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون [1] ومتى تصورت
أي فئة إسلامية نفسها فوق مستوى الخطأ والنقد فذاك الخطل كله، بل هو دليل
العجب والكبر، وعلامة اغترار النفس وخيلائها وشعورها بالكمال ولاكمال، (نسأل
الله (تعالى) لأنفسنا ولإخواننا العافية والسلامة) ومتى وصل الحال بمجموعة تعمل
للإسلام إلى ذلك، فعليها وعلى دعوتها السلام.
وسأعتمد في الطرح على المصارحة ووضوح الفكرة والعبارة، ولن أحرص
على التنميق والمجاملة لعلمي المسبق بسعة صدور إخواني وإحسانهم للظن فيما
أحسب وحملهم للكلام على سلامة القصد وحب الخير.
أولاً: من إيجابيات الحركة الإسلامية في اليمن
منذ قيام الوحدة إلى اليوم:
الإيجابيات (ولله الحمد والمنة) كثيرة وكبيرة، يطول المقام باستعراضها
وتفصيلها، ولا ينكرها إلا جاحد، ولا يماري فيها إلا معاند، ولذا: سأكتفي بذكر
أبرزها، ومن ذلك:
* الانتشار الأفقي الكبير للعمل الإسلامي داخل الشعب اليمني سواء أكان ذلك
في المدن والأرياف من جهة، أوبين سائر طبقات المجتمع اليمني المختلفة مهنية
وقبلية من جهة أخرى، ويبرز هذا الانتشار للمنضوين تحت لواء التجمع اليمني
للإصلاح فيما كان يعرف سابقاً باليمن الشمالي، وفي بعض مديريات محافظتي
(أبين) و (شبوة) فيما كان يعرف باليمن الجنوبي.
* الانتشار الرأسي المتين داخل المؤسسات الرسمية للدولة، مما أدى إلى
الوصول إلى بعض مواقع المسؤولية ومراكز اتخاذ القرار، ومحاولة إفادة العمل
الإسلامي من خلالها تأييداً أو حماية سواء أكان ذلك من خلال مجلس الرئاسة سابقاً، أو على مستوى الوزراء ونوابهم، أو محافظي المحافظات، أو مدراء العموم
والنواحي ... وغير ذلك.
* حماية شباب الصحوة وإلجام غضبهم وكبح جماحهم من الدخول في صراع
مسلح مع أعداء الصحوة الإسلامية من علمانيين بشتى فئاتهم ورافضة وصوفية
وباطنية ومن يسير في ركابهم من أصحاب المصالح والشهوات مع توفر السلاح في
الشارع اليمني ووجود استفزاز شديد وتهييج قوي وبخاصة في بداية الوحدة اليمنية
سواء أكان ذلك على لسان كبار المسؤولين، أو عبر كثير من العلمانيين وعلماء
السوء في وسائل الإعلام المختلفة من: تلفاز، وإذاعة، وصحافة، ومنابر الجمعة، والمنتديات الثقافية والاجتماعية المختلفة.
* إنكار بعض المنكرات الضخمة مع إعطائها بعداً عقدياً، وبخاصة في بداية
الوحدة، كالدستور العلماني الذي قامت على أساسه الوحدة بين الرئيس اليمني وقادة
الحزب الاشتراكي، ومقاطعة الاستفتاء حوله، والمنافحة من أجل إغلاق مصنع
الخمر حتى تم تدميره على أيدي بعض الغيورين أثناء دخول جيش الحكومة مدينة
عدن، وتغلبه على فلول الاشتراكيين والصوفيين ومن سار في ركابهم داخلها.
* حماية وتنمية كثير من مكتسبات الصحوة الإسلامية ومنابرها كالمعاهد
العلمية، ومناهج التربية الإسلامية في التعليم العام، وجمعيات النفع العام والخدمات
الاجتماعية، ومنابر الجمعة، وحرية الدعوة في المساجد والصحف والمجلات
الإسلامية من محاولات السطو عليها أو تحويرها من قبل العلمانيين والرافضة
والصوفية.
* العمل على الوقوف في وجه التغريب والعلمنة في اليمن، ومحاولة
التخفيف من آثار الحملة التي يقوم بها سدنة العلمانية والتغريب في البلاد، سواء
من داخل الحكومة ومراكز التخطيط والتوجيه والإعلام، أو من خلال الأحزاب
السياسية والنقابات المهنية والمؤسسات الصحفية والشبابية والفنية، أو من خلال
مواقعهم داخل جامعتي صنعاء وعدن وكليات التربية ومعاهد المعلمين، أو في
المراكز التنفيذية داخل المحافظات اليمنية المختلفة.
* سبق التيارات العلمانية في الطرح والنزول إلى الشارع اليمني بشرائحه
الاجتماعية والمهنية المختلفة، وبالتالي: حجبها عن احتواء كثير من عامة الناس،
وكسب ولائهم العام للإسلام، وحمايتهم من الوقوف في وجه الإسلام ودعاته، بل
إن الحركة من خلال ذلك السبق في النزول والكسب لكثير من الجماهير:
استطاعت أن تكوّن رأياً عامّاً إسلاميّاً في الشارع اليمني يناصر الإسلام ويحب
دعوته، ويظهر الولاء لشريعته، وينكر الإلحاد والعلمانية بشتى صورها، وقد
ظهر ذلك في التنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية، وضرورة الرجوع إلى أحكامها،
ومحاربة كفريات الدستور الذي قامت على أساسه الوحدة اليمنية.
كما أنها من خلال ذلك النزول وذلك الكسب: استطاعت أن تقوي الشعور
بالذاتية الإسلامية والانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس لدى كثير من أفراد الشعب
اليمني، بعد أن حجب بعضهم عن ذلك الجهلُ الشديد بأحكام الدين والتشاغل بالحياة
الدنيا وزخرفها، أو التأثر بأفكار منحرفة قادته من هنا أو هناك.
كما أنها استطاعت من خلال ذلك أن تزرع الأمل في قلوب كثير من أفراد
الشعب اليمني بغد مشرق للإسلام لما يحمل من مبادئ العدل والخير ومحاربة
الباطل والفساد بشتى صوره المختلفة.
* الوقوف في وجه بعض الحملات التنصيرية في اليمن، ولفت أنظار
الشارع اليمني إليها، وإلهاب حماسهم ضدها، مثل: سب الذات الإلهية، وتمزيق
المصحف وإلقائه في أماكن لا تليق، وتنصر شواذ من اليمنيين، وإيصال ذلك إلى
أبواب القضاء واستصدار أحكام فيها، مثل: إغلاق بعض المستشفيات، وطرد
البعثات التنصيرية المتواجدة فيها (لم ينفذ الحكم إلى الآن، ويبدو أنه لن ينفذ) .
* التمكن من توظيف كثير من العامة في بعض الأعمال الدعوية وأعمال النفع
العام، مما خفف بعض العبء على الدعاة من جهة، واستغل بعض طاقات هؤلاء
من جهة أخرى، بالإضافة إلى التمكن من تربية كثير من الشباب على الجرأة في
الحديث وتعويدهم على المواجهة والخطابة.
* محاولة التخفيف من معاناة عامة الشعب من الأوضاع الاقتصادية المتردية
عن طريق ما تقدمه الجمعيات الخيرية التابعة للحركة من مساعدة للفقراء والشباب
على الزواج، وكفالة للأيتام والأرامل، وإقامة لمشاريع المياه، وإفطار الصائمين،
وذبح الأضاحي ... ونحو ذلك، بالإضافة إلى محاولة تخفيف اندفاع الشريك الأقوى
داخل الائتلاف الحكومي في تنفيذ متطلبات صندوق النقد الدولي، وقيامهم من داخل
الائتلاف بمعارضة رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية ورفع أسعار المشتقات
النفطية والكهرباء فوق نسبة 100%، ومطالبتهم بتغيير أعمدة الفساد الإداري
والاقتصادي داخل الحكومة من أجل الوصول إلى إصلاح إداري واقتصادي حقيقي.
* الجهد الكبير المبذول من بعض الدعاة الذين نحسبهم، والله حسيبهم:
صادقين مخلصين مع قلة في ذات أيديهم، وضعف في الإمكانات المتوافرة لهم.
وبذلك كله أنجزت الحركة الإسلامية في اليمن انجازات متميزة متعددة
المجالات، وأصبح حضورها في الشارع اليمني حضوراً فاعلاً، رفع الصوت
الإسلامي الصادق، بعيداً عن المزايدة والتهريج والشعارات التي اعتادها الناس من
الأحزاب العلمانية بمختلف فصائلها، مما جعل كثيراً من العامة والخاصة يلتفون
حول راية الحركة وينصرونها.
ثانياً: من سلبيات الحركة الإسلامية في اليمن
منذ قيام الوحدة إلى اليوم:
إذا كان ما سبق جزءاً مهماً من الإيجابيات التي تحسب للحركة الإسلامية في
اليمن، وهي محل إعجاب وتقدير كل مسلم مخلص مطلع على جهود الإخوة هناك،
إلا أن أي عمل أيّاً كان لابد من وجود بعض السلبيات والعثرات فيه، التي تكون
نتيجة الانشغال بالعمل، وبالتالي: ضعف التخطيط والمتابعة، أو نتيجة وجود
بعض الأخطاء والتوجهات المعينة داخله، وسأحاول الاستطراد فيها قليلاً على
خلاف ما فعلت في الإيجابيات لأهميتها، وحاجة أصحاب الشأن إلى التعرف عليها
لتلافيها، ولعل من أبرز ذلك ما يلي:
* عدم الوضوح في تبني الحركة لمنهج أهل السنة والجماعة:
من الأمور المحمودة في الحركة الإسلامية في اليمن تميزها بنخبة جليلة من
العلماء والأفاضل الذين جمع بعضهم بين الاطلاع الشرعي الجيد، والإدراك العميق
لمقتضيات العصر وضروراته، ولكن بسبب ملابسات اجتماعية معينة، واتساع
الحركة، وكثرة أنصارها، وتنامي اهتماماتها: ضعف اهتمامها بطرح منهج أهل
السنة والجماعة والدعوة إليه، واكتفت برفع شعارات مجملة الكتاب والسنة، ونحن
وإن كنا نقدر هذا الطرح ونعتبره صالحاً للولوج في أوساط الشيعة الزيدية في
الخمسينات والستينات نظراً لقوة شوكتهم في ذلك الوقت، إلا أن الاستمرار عليه
واتخاذه منهجاً وسياسة للحركة إلى هذا الوقت وبالأخص منذ قيام الوحدة إلى الآن
أمر أحسب أنه خاطئ ومرفوض، لأمور من أهمها:
1- سلبياته العديدة، ومنها: عدم تصور كثير من شباب الصحوة لأبعاد
وأصول منهج أهل السنة وإدراكهم له، حتى عند كثير من أولئك الذين ينحدرون
من مناطق سنية، ومايدركه بعض الشباب منه ناتج عن الفطرة التي نشؤوا عليها،
لكن بدون العلم بأن هذا هو منهج أهل السنة والجماعة، مما سهل على كثير من
أصحاب البدع كالأشاعرة إيهام أولئك الشباب أن ماهم عليه هو معتقد أهل السنة
والجماعة.
2- أن المبتدعة من رافضة وصوفية في كثير من مناطق اليمن المختلفة قد
شمروا عن سواعدهم لتدريس بعض الشباب المنتسبين إليهم انحرافاتهم وبدعهم
بالتفصيل، بل إن بعضهم جارٍ في بناء بعض المراكز العلمية التي تحتوي على
سكن داخلي من أجل تدريس مجموعة من الشباب المحسوبين عليهم، كما أن
آخرين ساعون على قدم وساق لتجديد الأربطة وإحياء المزارات التي يقع فيها من
الفساد والشرك والباطل ما الله به عليم، بينما لاحظت وقد أكون مخطئاً ندرة
تدريس منهج أهل السنة والجماعة لشباب الحركة من خلال كتب أئمة السلف المتفق
على جلالتهم ومن تابعهم في القديم والحديث، ولا أقل من أن تقوم الحركة بتبني
تدريس كتابات أئمة الدعوة الإصلاحية في اليمن في الجوانب العقدية كابن الوزير،
والحسن الجلال، وحسين النعمي، والصنعاني، والشوكاني ... ونحوهم، وتعتبر
نفسها امتداداً لمدرستهم.
3- أن عدم الوضوح في طرح منهج أهل السنة والجماعة أفسح المجال
لبعض الوافدين إلى اليمن والمحسوبين على الحركة الإسلامية في بلدانهم والذين
تتلمذوا على أيدي بعض قيادات التيار العقلاني المعاصر، أو الذين تلقوا العقيدة
على المذهب الأشعري، أو الذين يوجد لديهم بعض الانحرافات العقدية في مسائل
التوسل والاستغاثة والقبور والاحتفالات البدعية المختلفة، من تدريس شباب
الصحوة في المعاهد العلمية وبعض مدارس وزارة التربية، من دون نكير واضح أو
ملاحظة جلية من علماء الصحوة وقادتها.
4- أن عدم الوضوح في طرح منهج أهل السنة والجماعة من قبل الحركة
الإسلامية، وجهل كثير من شباب الصحوة به: أوهم كثيراً منهم أن منهج أهل
السنة هو ماعليه بعض الأفراد والفئات المنتسبة إلى منهج أهل السنة، والتي لاقت
كثيراً من حملات التشويه من قبل كثير من قيادات الحركة، نظراً لاختلافهم مع
أولئك منهجياً أو شخصياً مما سبب لدى كثير من شباب الحركة نفسية رافضة لمنهج
أهل السنة نظراً لربطهم منهج أهل السنة بأولئك الأشخاص المشوهين في أذهانهم،
كما أدى ذلك إلى اعتقاد بعض الشباب أن منهج أهل السنة محصور في الحديث عن
بعض صفات الرب جل وعلا وأنه لا يعني الدين الخالص النقي الذي بعث الله به
محمداً -صلى الله عليه وسلم- بشموله وعمومه.
5- أن في عدم وضوح الحركة في طرحها لمنهج أهل السنة واكتفائها بدلاً من
ذلك بالطرح المجمل مراعاةً لأهل البدع من الرافضة والصوفية وهم حفنة قليلة،
ولم تغير تلك المراعاة من موقفهم تجاه الحركة شيء، وسيستمرون في عدائهم لها
حتى تتبنى ما هم عليه من معتقدات وأفكار منحرفة، ولقد كان من الواجب على
الحركة أن تبين لهم ولعامة الشعب ضلالهم وانحرافهم، هذا من جهة، من جهة
أخرى: فقد خسرت الحركة مئات من الدعاة وطلبة العلم وأعداداً كبيرة من
المتحمسين لمنهج أهل السنة والجماعة في طول البلاد وعرضها، وهي في أمسّ
الحاجة إلى جهودهم وخدماتهم، مما يعني أنها بهذا التوجه قد عملت وبأسلوب عملي
يخالف دعوات قيادتها الشفهية المتكررة على شق صف الدعوة وانقسام الدعاة وطلبة
العلم إلى قسمين أو أكثر.
ولا يعني هذا أنني أدعو إلى المواجهة والصراع المتشنج مع المخالفين، مما
يؤدي إلى فتح جبهات متعددة في الساحة ليس في مقدور الحركة مواجهتها جميعاً في
وقت واحد، ولكن أرى أنه لابد من الوضوح الهادئ في التعامل معهم، والدعوة
الجادة لهم إلى تصحيح مناهجهم بالحكمة والموعظة الحسنة (وما كان الرفق في
شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) وحماية أبناء الحركة بكافة الوسائل
والسبل من التأثر بهم، أو عدم النضج في فهم منهج أهل السنة نتيجة عدم الوضوح
في طرحه.
6- أن عدم وضوح الحركة في طرحها لمنهج أهل السنة، ورفعها للشعارات
المجملة أدى إلى عدم إعطائها للجانب الاعتقادي ما يستحقه من مكانة واهتمام كما
أعطاه إياه الشارع الحكيم، واستمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بنائه في
نفوس أصحابه ثلاث عشرة سنة هي مدة العهد المكي بالإضافة إلى استمرار
الاعتناء به أثناء تنزل التشريع في العهد المدني.
7- أن عدم وضوح الحركة في طرحها لمنهج أهل السنة والجماعة سوّغ
لبعض المهتمين أن يقول بأن الحركة الإسلامية في اليمن المنضوية تحت لواء
التجمع اليمني للاصلاح لا تعمل على نشر الفكر الصحيح، وإنما تحرص على
التوفيق بين الفئات المتواجدة في الساحة اليمنية ذات الأفكار المختلفة، وتحرص
على عدم حدوث صدام بينها لاغير، سواء أكانت تلك الفئات هي السلفية والصوفية
الغالية في الجنوب، أو السلفية والمذهب الزيدي الذي بدأ يميل بقوة إلى الرفض في
الشمال.
هذا، ولعدم وضوح الحركة في تبنيها لمنهج أهل السنة والجماعة سلبيات
كثيرة، إلا أن ذلك لايعني بحال أن الحركة الإسلامية المنضوية تحت التجمع اليمني
للإصلاح ليس فيها أحد من المنتمين إلى أهل السنة والجماعة، أو أن جميع
أطروحاتها الدعوية لا تتوافق مع منهج أهل السنة، بل إنني أؤكد على وجود نخبة
جليلة من العلماء السلفيين الذين نحبهم ونفخر بهم، وقد رأيناهم ينافحون عن منهج
أهل السنة بكل صدق وإخلاص في بعض المواطن، ولكنني أردت حثهم على مزيد
من الاهتمام والعطاء ودعوتهم إلى الحرص على نشر منهج أهل السنة، وتربية
أبناء الحركة وعامة الشعب عليه، مع الوضوح في طرحه وتبنيه والدعوة إليه،
لأن مجرد الطرح العام لا يكفي في كل حال.
* وجود التباس وعدم تميز في صفوف قيادة الحركة:
من غير المستغرب أن ينتسب إلى صفوف الحركة وهي التي دعت الجميع
إلى الانضواء تحت لوائها في التجمع اليمني للإصلاح أهل معاصٍ وفسوق، أو
أهل بدع وانحرافات فكرية، وإن كان الواجب على الحركة تجاه أولئك بيان الحق
لهم والاجتهاد في دعوتهم إلى ترك ما هم عليه من انحراف سلوكي أو فكري.
لكن الأمر الذي ينكر على الحركة الإسلامية في اليمن: أن يكون من قادتها
ومن علمائها بعض أهل البدع من معتزلة وزيدية هم أقرب إلى الرافضة بالإضافة
إلى بعض المتجاوزين لتحكيم النص الصحيح، والداعين إلى تحكيم عقولهم وما
تشتهيه أهواؤهم باسم ما يسمى بمصلحة الدعوة، حتى إنه ليتراءى للمراقب من
خارج الحركة أن زمامها في المستقبل القريب آيل إليهم (نسأل الله ألا يكون الأمر
كذلك) ، ولست أدري كيف يحتمل أهل السنة داخل الحركة الإسلامية في اليمن
وعلماؤهم خصوصاً التعايش مع أولئك من دون أن تكون لهم خطة واضحة على
المدى القريب والبعيد لنصحهم وتعديل مسارهم وبيان انحراف منهجهم لشباب
الصحوة وعامة الأمة حتى لا يغتروا به؟ ! .
ولست أنكر مشروعية الدعوة لأولئك، لكن دعوتهم شيء وتسليمهم كثيراً من
زمام الحركة الإسلامية، واتخاذ القرار فيها، والسكوت على ما هم عليه من منهج
منحرف مغاير لمعتقد أهل السنة والجماعة ومنهجهم شيء آخر.
* تحول قيادة الحركة في الفترة الأخيرة من العلماء إلى الساسة
وبعض مشايخ القبائل:
في بداية إعلان الحركة الإسلامية لقيام التجمع اليمني للإصلاح بعد قيام
الوحدة اليمنية كان المتابع لأطروحات التجمع مثل: كفر الدستور، تحريم الخمر
والدعوة إلى إغلاق مصنعه في عدن، تحريم الربا والدعوة إلى تحويل بنوك الربا
إلى مصارف إسلامية، محاربة إدارة الاقتصاد اليمني بأسس اشتراكية كما نص
على ذلك الدستور، محاربة مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات بالمفهوم
العلماني الساعي إلى هتك القيم والضوابط الاجتماعية في المجتمع اليمني وتلاشيها،
محاربة إلغاء الحدود الشرعية والزكاة، محاربة الرشوة والفساد المستشري في
أوساط الدولة، الدعوة إلى تحكيم نصوص الكتاب والسنة والاستدلال بها، محاولة
جمع الدعاة على كلمة سواء ... وغير ذلك كثير: يحس أن خلفها علماء شرع، بل
إن الرموز التي كان لها صولة وجولة باسم التجمع في البداية هم علماء أجلاء
وطلبة علم فضلاء، يعرفهم العامة والخاصة.
إلا أن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن الأطروحات قد أصابها بعض الخلل،
وأن أسهم ما يسمى بالمصلحة قد ارتفعت على حساب النص، فمن تلميع وتزكية
بعض الزعماء السيئين المعروفين بمواقفهم المعادية للحركة الإسلامية ودعاتها،
الذين تتقلب مواقفهم في التعامل مع الحركة الإسلامية حسب قوة وضعف حاجتهم
إليها، إلى وصف بعضهم بالدهاء والفطنة والصدق والشجاعة والشهامة والثبات
على المواقف، متناسين بأنه لو كان الأمر كذلك: لأعلنوا توبتهم من تاريخهم
الأسود، ولقاموا بترك ما هم عليه من علمانية وولاء لأعداء الإسلام في الشرق
والغرب، إلى ضعف إنكار المنكرات المستطاع إنكارها يوماً بعد آخر، إلى ادعاء
أن عبادة القبور والاستغاثة بها من المسائل الخلافية ومن قشور الدين! التي لايجوز
التشاغل بها على حساب الأصول والقضايا الكبرى [2] ، إلى تكرار الاتهام لبعض
الدعاة غير المنضوين تحت راية التجمع بين آونة وأخرى بآيات النفاق وخدمة
الأعداء، ونسبتهم إلى جهات علمانية كالحزب الاشتراكي، أو اتهامهم بالعمالة
لجهات خارجية! ! إلى الزعم بأنه لا توجد أحزاب علمانية في اليمن، لأن قانون
الأحزاب يلزم كافة الأحزاب بأن تعترف بأن الإسلام عقيدة وشريعة، وأن كافة
الأحزاب بما فيها الحزب الاشتراكي وأحزاب البعث والأحزاب الناصرية قد وافقت
على ذلك، إلى حضور بعض زعماء الحركة لبعض المنكرات العامة دون
إنكار [3] ... وغير ذلك كثير.
صحيح أن هذا قد يصدر أحياناً من بعض القيادات باجتهادات فردية قد لا
تمثل الحركة أو مجلس الشورى فيها، لكنها حينما تكون من بعض القيادات الرئيسة
البارزة، وتتكرر في أكثر من مناسبة، فإنها في تقديري لن تفهم إلا بصفتها
الرسمية لا الشخصية.
وبعضهم قد يفعلها من باب التكتيك السياسي ... وهذا قد يقبل بحدود مقبولة،
ولكن الإسراف فيه حتى يصل إلى حد قلب الحقائق تجاوز غير مقبول، وسيكون له
بالتأكيد نصيب كبير في تضليل كثير من الناس داخل الحركة وخارجها.
كما أن الشخصيات التي بدأت تبرز في قيادة التجمع وتتحدث باسمه في الآونة
الأخيرة هم بعض الشخصيات في أمانة المؤتمر، ولجنة الحوار السياسي، وبعض
مشايخ القبائل، بينما بدأ يتضاءل دور العلماء وطلبة العلم، ويضعف صوتهم شيئاً فشيئاً.
وكلنا أمل بأن يسعى علماء اليمن وطلبة العلم الشرعي في الحركة، إلى أن
يستعيدوا دورهم البارز في قيادة الحركة الإسلامية عموماً والتجمع اليمني للإصلاح
بوجه أخص، حتى لا تغرق السفينة، وينفلت العقد، وتقاد الحركة الإسلامية في
اليمن إلى انحرافات عقدية وفكرية لا تحمد.
.. (يتبع)
__________
(1) أخرجه ابن ماجة، ج2، ص1420، ح4251، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة، ح3428.
(2) بادر بعض الغيورين في التجمع اليمني للإصلاح إلى استصدار بيان باسم التجمع ينفي كون عبادة القبور والطواف حولها والاستغاثة بها من قشور الدين ومن المسائل الخلافية غير المعتبرة، كما بينوا في أكثر من جلسة خاصة بأن من صدر منه ذلك البيان هو شخص قيادي في التجمع حرص على سمعة التجمع من أن تلطخها قيادات الأحزاب السياسية الأخرى من دون أن يكون لديه علم شرعي، ولكن الملاحظ أن ذلك البيان لم يلق الاهتمام المطلوب من وسائل الإعلام المختلفة سواءً ماكان منها تابعاً للإصلاح أو تابعاً لوسائل الإعلام الرسمية بخلاف البيان الأول والذي طار في الناس طيران النار في الهشيم، ولنا عتاب آخر على إخواننا وهو كيف يعطى أمثال هذا الرجل دوراً قيادياً بارزاً في قيادة التجمع؟ كيف؟ .
(3) قد توجد بعض المبررات والاجتهادات لدى بعض من يحضر تلك اللقاءات التي تقع فيها منكرات كبيرة بغض النظر عن صوابها أو خطئها إلا أن عامة شباب الصحوة وأفراد الشعب لا يعون تلك المبررات التي هي مستقرة في ذهن من اجتهد ولم تخرج منه إليهم حتى لا يغتروا بها ويظنوا أنها حق وموافقة للشرع.(89/80)
من تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية
وموقفها من قضية فلسطين
بقلم: د.محمد آمحزون
إن تاريخ الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية يشير إلى ظاهرة مهمة جدّاً في
نشأة هذه الأحزاب، وفي مواقفها من النزاع العربي الإسرائيلي، وفي تأثرها
بالعناصر اليهودية التي حرّكتها الصهيونية العالمية لإقامة دولة إسرائيل.
ويمكن القول بكل يقين: بأن الحركة الشيوعية في العالم العربي إنما أنشأها
اليهود الذين كانوا أنشط العناصر داخل هذه الحركة، وفي تلك الفترة بالذات من
تاريخ قيام الأحزاب الشيوعية في العالم العربي، أخذت بعض الدعاوى تنتشر في
الأجواء السياسية حول شرعية حق اليهود القومي في فلسطين، لتلتقي هذه النظرة
التي عمل الشيوعيون على ترويجها مع النظرة الصهيونية والأهداف التي تعمل لها.
إن تأثر الماركسيين العرب بالعناصر اليهودية على مستوى القيادة والتنظيم
السياسي، كان له بالغ الأثر في جعل الماركسيين يعمون عن واقع وطنهم،
ويتغاضون عن تمزيق بلادهم، إذ كانوا لا يفكرون من خلال عقولهم، وإنما من
خلال المخططات التي تضعها الشيوعية الدولية والصهيونية العالمية، ويعملون هم
على تنفيذها بشكل تلقائي دون أن يجهدوا أنفسهم في تحري المواقف، ليروا ما إذا
كانت تلك المخططات الموضوعة تصلح للعالم العربي الإسلامي وتتفق مع حقه في
الوجود أم لا.
كان الحزب الشيوعي الفلسطيني أول حزب شيوعي تأسس في المنطقة عام
(1919م) ، وكان جميع عناصره من اليهود الروس الذين حملوا بذور الفكرة الأولى
إلى فلسطين. وفي عام 1924م تأسس الحزب الشيوعي في لبنان، حيث ساهم
بعض العناصر اليهودية الوافدة من فلسطين في إنشائه، وهي التي أوكلت إليها
مهمة نشر الفكرة الشيوعية والإشراف على تنظيم خلاياها في منطقة الشرق
الأوسط [1] .
وفي نهاية عام 1925م كانون الأول (ديسمبر) انعقد المؤتمر الوطني الأول
للحزب الشيوعي، وانتخب لجنته المركزية من سبعة أعضاء، وظل تيبر اليهودي
الروسي محتفظاً بأمانة الحزب العامة، وكان يعرف عادة باسم شامي، حيث درج
معظم الأعضاء القياديين في الحركات الشيوعية على استعارة أسماء أخرى، وهو
تقليد يهودي [2] .
وقد ظل الصراع محتدماً في الحزب منذ عام 1928م حتى عام 1932م،
حين تمكن خالد بكداش من أن يبلغ مركز زعامة الحزب بترشيح جاكوب تيبر
المبعد إلى فلسطين وتزكيته، وتقدم معه وجوه ثلاثة جديدة هم: نقولا شاوي وفرج
الله الحلو ورفيق رضا الذي قدر له أن يلعب بعد ثلاثين عاماً دوراً كبيراً في فضح
أسرار الحزب واتصالاته [3] .
ففي عام 1959م خرج رفيق رضا على الحزب وكان عضواً في قيادته
المركزية ليروي بعض تاريخه، ويسلط الضوء على الجوانب المظلمة فيه، وقد
كتب في ذلك الحين بياناً نشرته جريدة (الجماهير) السورية، جاء فيه: في عام
1932م وفد إلى بيروت عدة مندوبين شيوعيين يهود حملوا مبالغ وافرة من المال
إلى قيادة الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، وأذكر منهم أميل وأوسكا ومولر،
وقد أبدلت لهم شخصياً قسماً من الأموال التي حملوها بالعملة المحلية آنذاك، وفي
عام 1938م حملت إلى الحزب مبلغ خمسة وعشرين ألف فرنك، كان الحزب
الشيوعي الفرنسي قد قرر آنذاك وضعها تحت تصرف الحزب الشيوعي السوري؛
لتوسيع حملته من أجل إقرار المعاهدة الفرنسية البغيضة، ومحاربة الاتجاه الوطني
في ذلك التاريخ، هذا مع العلم أن خالد بكداش قد نقل بنفسه مبلغاً آخر حين كان في
باريس مشتركاً في مؤتمر (آرل) الشيوعي الفرنسي [4] .
ولم يكتف (الحزب الشيوعي السوري اللبناني) بذلك، ولم يقف ارتباطه
الفكري والمالي بالعناصر اليهودية عند هذا الحد، فقد استعار أسماء صحفه التي
أصدرها من أسماء الصحف التي أصدرتها الحركة الشيوعية اليهودية في فلسطين؛
فاسم (صوت الشعب) وهي الصحيفة السرية للحزب الشيوعي في سورية ولبنان
ترجمة حرفية لاسم الجريدة العبرية للحزب الشيوعي اليهودي (كول عاهام) ، واسم
(النور) وهي الصحيفة العلنية للحزب التي أصدرها في دمشق عام 1956م منقول
حرفياً عن اسم صحيفة (الحزب الشيوعي الإسرائيلي) التي أصدرها في فلسطين
عام 1934م [5] .
وقد سار (الحزب الشيوعي العراقي) في الخطة نفسها في تعريب الأسماء
اليهودية في الصحف التي أصدرها، إذ حملت صحيفته السرية أيضاً عام 1959م
اسم (صوت الشعب) أسوة بالصحيفة اليهودية (كول عاهام) [6] .
ولذلك: لم يكن غريباً حين جاءت القضية الفلسطينية أن نجد (الحزب
الشيوعي السوري اللبناني) وبقية الأحزاب الشيوعية في العالم العربي تتخذ موقفاً
معادياً للحق الفلسطيني المغتصب؛ مرتبطة في ذلك وملتقية بالاتحاد السوفييتي،
ومع الصهيونية العالمية، ولا غرابة في ذلك؛ إذ أحسنت العناصر اليهودية تنشئتها
وتوجيهها واصطفاء قياداتها.
فبشأن حقيقة موقف (الحزب الشيوعي السوري اللبناني) من قضية فلسطين
يقول رفيق رضا عضو اللجنة المركزية المنشق: ... وكانت قيادة الحزب الشيوعي
بمثل حماس ابن جوريون على بعث الدولة اليهودية في فلسطين؛ فإسرائيل في
نظرها واحة من واحات الديموقراطية في الشرق الأدنى، والشعب الإسرائيلي
المشرد لابد وأن يلتقي في أرض الميعاد، وأن واجب التضامن الأممي في عرف
القيادة المذكورة هو من صلب المبادئ الماركسية، ولذا: فوجود إسرائيل له في
عرفها مبرراته الإنسانية التي تتخطى المبررات والوقائع القومية، ومنذ اليوم الأول
لكارثة فلسطين أو منذ اليوم الأول لإعلان التقسيم ووقوف الدول الكبرى إلى جانب
الصهيونية بما فيها الاتحاد السوفييتي، منذ ذلك اليوم المشؤوم: انحازت قيادة
الحزب الشيوعي إلى جانب الرأي الاستعماري الصهيوني، ونادت بعدالة التقسيم،
ودعت إليه؛ كما لو كانت قيادة تجري في عروقها دماء إسرائيل، وهي قد التزمت
جانب الاستعمار والصهيونية علناً وصراحة على لسان دعاتها وفي بياناتها وصحفها، ... وقد قوبلت خيانتها هذه بسخط عربي عارم زلزل الأرض تحت أقدامها، وانهالت
لعنات العرب عليها حتى لم يعد بوسع شيوعي في سورية ولبنان أن يعلن
شيوعيته [7] .
وقد تبنى الحزب فيما بعد دعوة الصلح مع إسرائيل صراحة، وكان يوزعُ في
سورية سرّاً مقالات صموئيل ميكونيس أمين عام (الحزب الشيوعي الإسرائيلي)
المنشورة في جريدة (الكومنجورم) : في سبيل سلم دائم، الداعية إلى الصلح حلاً
وحيداً لمشكلة الخلاف، ولقيت مقالات ميكونيس تأييد قيادات الأحزاب الشيوعية في
المنطقة العربية جميعاً، تلك التي ظلت تنظر إلى النزاع العربي الإسرائيلي من
زاوية الحكام في إسرائيل، لا من مبدأ وجودها [8] .
لقد ظلت الأحزاب الشيوعية العربية تتهم حكام إسرائيل اليمينيين بأنهم عملاء
للاستعمار دون المساس بكيان إسرائيل أصل المشكلة، ولا بموضوع الدولة اليهودية
في فلسطين، وهو أصل الخلاف.
ويعد هذا الموقف في حد ذاته تحريفاً للنظرة إلى القضية الفلسطينية،
وإغراقها في المفهوم الشيوعي الجديد الذي يهاجم حكام تل أبيب ويسكت عن دولة
إسرائيل، وذلك يعني: أن ارتباط إسرائيل بالغرب هو ما يغيظ الشيوعيين ولا
يرضيهم، فإذا ارتبطت إسرائيل بموسكو غدت شيئاً آخر: (دولة صديقة محبة
للسلام) ، يدعو لها الشيوعيون العرب بالسلامة وطول البقاء! !
أين إذن جوهر المشكلة؟ أليس هو إسرائيل ذاتها، الكيان الذي اغتصب حق
الفلسطينيين وأرضهم ووجودهم، واضطهد شعباً بأكمله بين أسير وقتيل وشريد؟ !
أين حمامات الدماء التي اقترفتها أيدي الإرهابيين الصهاينة في فلسطين،
وراح ضحيتها آلاف النساء والشيوخ والأطفال والشباب؟ !
أين مذابح قطاع غزة والضفة الغربية، وصبرا وشاتيلا، ودير ياسين.. التي
كان على رأسها مثل السفاح بيجن الحائز على جائزة نوبل للسلام؟ ! !
فليست فلسطين، ولا القضية الفلسطينية، ولا الحق العربي الإسلامي هو
المهم بالنسبة للأحزاب الشيوعية العربية، بل كان المهم لديهم أن تتعاظم القوة
السوفييتية الأم في المنطقة، وينمو نفوذها ويبسط سلطانها، مادامت هذه القوة تجسد
أحلامهم في الحكم، وتطلعهم يوماً ما إلى ذروة السلطة، ومادامت هي التي ترفدهم
بالمال، وتوفر لهم في بلادها وفي البلاد الأخرى لذائذ الحياة في فنادقها ونواديها
تحت غطاء عقد المؤتمرات والمهرجانات.
وعلى الرغم من أن قضية فلسطين كانت تطرحها الأحداث كل يوم، وبشكل
أحدّ وأعنف مع تعاظم الخطر الإسرائيلي، فقد ظل الشيوعيون على موقفهم الأول
منها، وظلت سياستهم ومواقفهم تدفع بالقضية الفلسطينية إلى الجوانب والهوامش،
بالاعتراض على اتجاه الحكم الإسرائيلي دون المساس بالجوهر الأصل وهو أصلاً
اغتصاب أرض فلسطين.
فدعوتهم كان هدفها ربط إسرائيل بالمعسكر الشيوعي كما هو هدفها ربط
العرب إلى هذا المعسكر، وفي إطار التبعية هذه تجد المشكلة الفلسطينية حلها في
الإخاء اليهودي العربي.
ومن الملاحظ أن (الحزب الشيوعي السوري اللبناني) لم يكن وحده الحزب
الذي أسسه اليهود ثم اختاروا لقيادته عناصر معادية لكل اتجاه عربي فضلاً عن
الاتجاه الإسلامي؛ فالحزب الشيوعي المغربي: قد أسسه اليهود أيضاً تحت قيادة
ليون سلطان في عام 1943م، وهو يهودي مغربي كان يعمل في سلك المحاماة [9] .
وقد ظل الحزب الشيوعي المغربي (حزب التقدم والاشتراكية حالياً) ذيلاً
للحزب الشيوعي الفرنسي، واستمر ذلك بعد الاستقلال مع التبعية المطلقة للاتحاد
السوفييتي [10] .
ومن الملاحظ أن علي يعتة (زعيم الحزب حالياً) قد تسلم مهام الأمين العام
للحزب المذكور بعد وفاة ليون سلطان وهو من أصل جزائري، وقبل مجيئه إلى
المغرب واتصاله بليون سلطان في الدار البيضاء كان عاملاً في فرنسا، وهناك
حصل على الجنسية الفرنسية [11] .
ولا يخفى الاتصال الوثيق بين علي يعتة والجالية اليهودية في المغرب؛ فقد
ظهر بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية لعام 1994م في معبد يهودي مرتدياً طاقية
اليهود التقليدية، وهو يستمع إلى الحَبر الكبير الحزّان داخل السنياغوغ [12] .
ونسبة المنخرطين اليهود في الحزب الشيوعي المغربي لم تبلغها أي نسبة
أخرى من انخراطاتهم في التكتلات اليسارية والتجمعات النقابية الأخرى كالاتحاد
الوطني لطلبة المغرب والاتحاد المغربي للشغل رغم أنها كانت فيها نسبة غير قليلة
من المسؤولين اليهود [13] .
كما أن الذين كانوا يشرفون على تعذيب المقاومين المغاربة في السجون في
عهد الحماية كان من بينهم اليهود، وكانوا أكثر نشاطاً في التعذيب، وأشد حقداً
عليهم من غيرهم [14] . بل إن من اليهود المغاربة من يعترف بذلك الموقف
المشين؛ يقول إسحاق ليفي في مقال له في صحيفة (العلم) المغربية: إن الحقيقة
التي لا تخفى على أحد هي أن الأقلية اليهودية بالمغرب عُزلت واعتزلت كثيراً عن
الروح الوطنية، وذلك بفضل جهود الاستعمار من جهة، ومن جهة أخرى بواسطة
التعاليم المعطاة لهم من طرف (الميثاق الإسرائيلي العالمي) [15] ومن بين
الشيوعيين المغاربة اليهود البارزين: إبراهام السرفاتي أبرز قيادات منظمة (إلى
الأمام) الماركسية، والكاتب في مجلة (أنفاس) سابقاً.
وكذلك نبتت الأحزاب الشيوعية العربية الأخرى بغرس ورعاية اليهود في
مصر والعراق [*] غير أن المهم في هذا المجال بالذات مواقف الشيوعيين العرب من
القضية الفلسطينية، أي: موقفهم من قضية الأمة الإسلامية في معركتها المصيرية، وإذا كان يحق للاتحاد السوفييتي أن يتصرف كدولة، وأن يعمل وفق مصالحه
وإن خالفت مصالح الآخرين فكيف يحق لمواطنين عرب أن يصروا على التعامل
معه والتبعية له باعتبار أنه عقيدة لا دولة، وأنه يعمل وفق المبادئ لا المصالح،
وأن يتبنوا بالتالي مواقف تلك الدولة التي لا تأبه إلا لمصالحها، ولا تعمل إلا لتنفيذ
مخططاتها القريبة والبعيدة.
وتجدر الإشارة إلى أن الأحزاب الشيوعية العربية اشتركت في تأييد تقسيم
فلسطين، وفي الدفاع عن مبدأ دولة إسرائتيل، وفي الهجوم على الرجعية العربية
بوصفها مسعرة نار الخصام بين الشعبين العربي واليهودي! ، وعدوة الحق!
اليهودي في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وبلغ بالشيوعيين العرب التحدي
لمشاعر الأمة العربية الإسلامية أن يطالبوا الحكومات في البلاد العربية بالاعتراف
بدولة إسرائيل، وأن ينظموا في كل من سورية والعراق وفلسطين ومصر
مظاهرات شيوعية هزيلة تؤيد حق الشعب اليهودي في إقامة دولة إسرائيل بعد أن
أقرت هيئة الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1947م مشروع تقسيم
فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية [16] .
فهذا (الحزب الشيوعي السوري اللبناني) يعتبر حرب 1948 ضد إسرائيل:
مؤامرة رجعية دنيئة استعمارية، هدفها بذر الخصومة والعداء بين الشعبين العربي
واليهودي، ورفع شعار (إلى الاتحاد في سبيل سحب الجيوش من فلسطين) [17] .
ودعا (الحزب الشيوعي العراقي) الحكومات العربية الخائنة على حد قوله إلى
الاعتراف بإسرائيل منادياً: فلتسقط الحرب بين الوطنيين والديموقراطيين العرب
واليهود لإحباط خطط الاستعمار والرجعية، ولتحيى الصداقة العربية
اليهودية! [18] . ...
وكتب في صحيفته السرية (القاعدة) : إن الشعب العراقي يرفض بإباء أن
يحارب الشعب الإسرائيلي الشقيق [19] .
أما الشيوعيون العرب في فلسطين: فقد وقفوا منذ اللحظة الأولى إلى جانب
إخوانهم الشيوعيين اليهود مطالبين بحق اليهود في إقامة دولة إسرائيل واستقلالها
عن العرب، وطالبوا بإجراء مفاوضات مباشرة ما بين إسرائيل والحكومات العربية، وشددوا على ضرورة سحب القوات العربية المعتدية من إسرائيل [20] .
على أن الحزب الشيوعي المصري قد بلغ نهاية المطاف انغماساً في حمأة
التآمر والخيانة الصريحة؛ فجاء في بيان له: لقد عانى الشعب اليهودي في فلسطين
اضطهاداً لمدة طويلة، إن الشعب اليهودي يريد أن يحصل على استقلاله الذاتي،
وإن فرض الوحدة مع العرب تلك الوحدة التي يرفضها الشعب اليهودي معناه أولاً:
أننا نناقض مبدأ حق تقرير المصير [21] .
وعاد الحزب نفسه ليكتب في بيان آخر له: إن اليهود يكوّنون اليوم شعباً
ديموقراطيّاً! وتزداد سيطرتهم على حكومتهم يوماً بعد يوم، في حين أن الحكومة
العربية في فلسطين حكومة فاشية! ! ... وإن القضاء على الدولة اليهودية وإخضاع
اليهود لهذه الحكومة العربية معناه القضاء على واحة الديموقراطية التي يمكن أن
تكون ذات تأثير حسن على الجزء العربي في فلسطين، وتلعب دوراً إيجابيّاً في
الشرق الأوسط [22] .
أما (المنظمة الشيوعية) فقد عالجت في أواخر عام 1948م النزاع العربي
الإسرائيلي في مقال افتتاحي نشرته صحيفة (صوت البروليتاريا) في عددها الثالث، فقالت: في 15 مايو (أيار) 1948م غزت! جيوش البلاد العربية فلسطين،
هناك حرب قائمة في الشرق الأوسط منذ ستبعة شهور، ولكننا إذا درسنا هذه
الحرب بتعمق لوجدنا أنها ليست سوى حرب عنصرية، لقد أملى الاستعمار
البريطاني هذه الحرب وأعد لها منذ سنين طويلة ليدافع عن مركزه في الشرق
الأوسط، إن هذه الحرب هي واحدة من مصادر الحرائق الكثيرة التي تشعلها
الرجعية العالمية، وذلك بهدف خلق ترسانات من بعض المناطق التي يريدون
استخدامها كنقط للهجوم ضد الاتحاد السوفييتي، وأخيراً فإن هذه الحرب موجهة
اليوم ضد الخطر الذي تمثله البروليتاريا الثورية في فلسطين (تعني إسرائيل) [23] .
إن في هذه العبارات من التمويه والمغالطة ما لا تخفى؛ فالاستعمار البريطاني
لم يتدخل في الشرق الأوسط إلا لمصلحة إسرائيل، فهو الذي أصدر وعد بلفور،
وفتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وخطط بكل ما يملك من وسائل بتنسيق
مع الصهيونية العالمية لإقامة الكيان اليهودي في فلسطين المحتلة، ولسنا ندري أي
رجعية عالمية يعني هؤلاء، وقوى الغرب والشرق، اليمين واليسار، أمريكا
والاتحاد السوفييتي وأوروبا جمعاء كانت في صف إسرائيل في مؤامرة عالمية
استهدفت الوجود العربي الإسلامي في فلسطين.
ذلك كان مجمل مواقف الأحزاب الشيوعية العربية من موضوع فلسطين
وإسرائيل، وقد حرصت هذه الأحزاب أن تظل منسجمة مع مواقف الاتحاد
السوفييتي في الأمم المتحدة وموافقته على قرار التقسيم.
فكيف يرجى أن تحرر هذه الأحزاب المجتمعات العربية الإسلامية من تركة
الجهل والذلة اللذين ورثتهما من الاستعمار الصليبي، وكرسهما شرذمة من الحكام
المستبدين الذين بذلوا ولاءهم ومنحوا تأييدهم للغرب؟ ! .
وكيف يؤمل أن تنهض هذه الأحزاب بالأمة، وهي التي ارتمت في أحضان
يهود الشرق، وسلمت لهم مقاليد أمورها بتنفيذ تعليماتهم وخططهم الموجهة لمناصرة
إسرائيل؟ ! ، وصدق الشاعر العربي في هذا الصنف من الناس:
ونشحذ من يهود الشرق عدلاً ... كمن تَخِذَ الغراب له دليلا
أليس من المخجل زرع استعمار جديد في قلب العالم الإسلامي، وهو
الاستعمار الصهيوني العدو اللدود للمسلمين الذي ما فتئ يضع بتنسيق مع الصليبيين
كل العراقيل والعقبات التي تحول دون تقدم البلاد الإسلامية ونهضتها.
إن السياسة الشيوعية والسياسة الصهيونية في الساحة العربية، وما يحدث من
تنسيق بينهما: تعتبران من أشد أنواع السياسات مكراً وتآمراً، وإن الاتحاد
السوفييتي بمنظومته الحزبية العربية كان طرفاً في تلك المؤامرة الدنيئة التي أتاحت
للمتاجرين بالقضية الفلسطينية أن يتقدموا للزعامة والقيادة، وفي الثورة الفلسطينية
أوضح مثال على هذا؛ فعندما تراجع المسلمون وتخاذلوا دُفعت بعض القيادات
العلمانية إلى السطح، وانضوى تحت ألويتهم أبناء المسلمين المخدوعين، وتاجر
عرفات وجورج حبش ونايف حواتمه ... وغيرهم بدمائهم وبنوا على جماجمهم
مجداً أثيلاً.
إن اليهود بدؤوا منذ القرن التاسع عشر على الخصوص في التطلع والتخطيط
لإقامة كيان صهيوني في فلسطين، وقد كانوا يعلمون جيداً أن ليس بإمكانهم أن
يطؤوا أرض فلسطين بأقدامهم وأن يقر لهم قرار فيها إلا في حالة ضعف المسلمين
وتخلفهم، كما كانوا يدركون أن الإسلام هو السر الحقيقي لقوة المسلمين ونهوضهم؛
ولذلك أقدموا بما لديهم من مكر وخداع وهيمنة على وسائل الإعلام المختلفة على
نشر الفكر الشيوعي، وتمويل الأحزاب الشيوعية وتأسيسها في البلاد العربية،
ونشر الإلحاد.. وغير ذلك من المفاهيم العلمانية المادية التي تدعو المسلمين إلى
فصل الدين عن الدولة وعن الحياة، والتحلل من الأخلاق والقيم الإنسانية.
وقد كان ذلك تحت ستار الشعارات الخادعة المضللة؛ فتغلغلت تلك الأفكار في
عقول كثير من الشباب المضللين الذين فقدوا التوجيه الصحيح والفهم العميق للإسلام
لأسباب داخلية أهمها: غياب الإسلام عن الساحة كنظام حضاري ومنهج حياة شامل، ولأسباب خارجية أهمها: الغزو الشيوعي الصهيوني والصليبي للعالم الإسلامي،
واستيراد أساليب وأنظمة ظاهرها التقدم والتحرر، وباطنها الاستلاب والاحتواء
والجمود، فقد جرب المنتسبون إلى الإسلام مختلف الأنظمة الوضعية من ليبرالية
واشتراكية فلم تزدهم إلا ذلة وجموداً وتأخراً وتبعية للغير، علماً بأن الظروف التي
مرّت بها أوروبا وجعلتها تكره الدين بمفهومه الكنسي المحرف الضيق هي ظروف
ليست موجودة في الإسلام (ولله الحمد) .
وقد استغل الشيوعيون اليهودُ وعلى رأسهم ماركس معركةَ الدين والعلم،
والدين والدولة في أوروبا للتمويه والمغالطة وتعميم الأحكام بالقول: إن الدين أفيون
الشعوب أي: الدين عامةّ وأنه يتعارض مع النظر العقلي، وهي شبهة لها مجالها
الحقيقي في واقع الكنيسة والفكر الغربي، بينما لا نجد لها أي أثر في الإسلام
والفكر الإسلامي، ومن الملاحظ إذن: أن الحملات التي توجه ضد الدين الحق
وهو الإسلام إنما توجه من قِبَل دعاة المذاهب المادية وعلى رأسهم اليهود ضمن
مخطط رهيب يتبلور من خلال الغزو الفكري الذي حاول بمختلف الأساليب تهميش
أثر الإسلام في عقر داره، وإيهام المخدوعين من أبناء هذه الأمة أن لا سبيل للتقدم
إلا بإبعاد الإسلام عن مجالات الحياة المختلفة، هذا كسلاح لتركيز السيطرة اليهودية
والتمكين لها في البلاد العربية الإسلامية، إذ يدرك اليهود جيداً أن الإسلام يقف سدّاً
منيعاً في وجه أي احتواء أو تبعية أو تنازلات، لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بأرض
إسلامية كفلسطين، وتهجير شعب مسلم بأكمله وتشريده.
__________
(1) قدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي، ص49.
(2) الغادري: التاريخ السري للعلاقات الشيوعية - الصهيونية، ص159.
(3) قدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي، ص58.
(4) صحيفة الجماهير السورية، 13 تموز (يوليو) 1959.
(5) الغادري: التاريخ السري للعلاقات الشيوعية - الصهيونية، ص162.
(6) المرجع نفسه، ص162.
(7) المرجع نفسه، ص171.
(8) المرجع نفسه، ص172.
(9) 162 Rabert Rezette les politipues marocains P.
(10) العربي الناصري: الاندحار الماركسي في العالم الإسلامي، ص6.
(11) Rabert Rezette; loc-Qp-cit P165 - 166.
(12) المشهد المذكور موثق بصورتين لعلي يعتة، وهو داخل المعبد اليهودي، التقطهما مصور الأسبوع السياسي انظر: الأسبوع الصحافي السياسي، 7 يناير 1994، ص1، 7.
(13) مجموعة من المؤلفين: التاريخ الحديث والمعاصر ليهود المغرب، ص 54.
(14) صحيفة العلم المغربية، 28 كانون الأول (ديسمبر) 1955م.
(15) قدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي، ص144.
(16) المرجع السابق، ص156.
(17) أضواء على القضية الفلسطينية، من منشورات الحزب الشيوعي العراقي، أب 1948.
(18) صحيفة القاعدة عدد رقم 11، عام 1963م.
(19) قدري قلعجي: المرجع السابق، ص156.
(20) صحيفة صوت البروليتاريا 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948م.
(21) المرجع نفسه، 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948.
(22) صحيفة صوت البروليتاريا، 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948.
(23) صحيفة صوت البروليتاريا، 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948.
(*) أنظر: نهاد الغادري: التاريخ السري للعلاقات الشيوعية الصهيونية، قدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي، أنور الجندي: هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام.(89/92)
نص شعري
نجمان وعتمة ليل
بقلم: تركي المالكي
قصة مستعادة:
جاءني في كفه خيط وإبرة!
والرجالُ الجوفُ سورٌ حولَهُ..
تحرُسُ غَدْرَهْ!
ها جبينٌ غائرٌ يقتربُ الآنَ..
وطرفٌ مدّهُ إذ مدّ ذُعْرَهْ!
خاطَ لي عينَيّ.. ثم احتدّ..
يطوي شفتيّ!
وهو لا يكظم.. فُجْرَهْ!
والهدى يغزِل فَجْرَه!
............
.......... .؟
عاد يطوي خلفه الليلَ..
وخيطٌ.. من دماءْ..
رشّ أرضي فابتدتْ رحلتَها..
نحو الضياءْ!
آه.. ما أحلى الدماءْ!
آه.. ما أروع أن تسكب ناراً..
فوق فحمٍ.. جفّ نسغُ الجمر فيهِ
حين أغفى بين أسفار الشتاءْ! !
تحفِرُ الذاكرةَ العطشى..
فتخضلّ شراراً.. وانتماءْ! !
ريادة:
نجمان يشقان.. إزارَ الليلْ..
يرشان على نخل الأرض رحيقَ الضوءِ..
حريقَ شياطين الكاهن إذ يُرسلُهمْ..
يسترقون السمعَ! فيُؤذَنُ بالويلْ!
هو يخلِطُ قطرةَ نبعٍ عذب جارٍ..
ببحارٍ راكدةٍ من ملح
(الكذب / الكفر) العَريانْ!
تكتشف النخلُ شموخَ أعاليها..
تمحو أشواقُ الثمر لياليها..
تسري فيها.. عدوى الخصبِ
فتخضرّ أمانيها! ! ( ... )
فتح:
إنسانْ..
مزّقَ قطنَ الآذانْ..
فضّ غشاوةَ عينيه النجمانْ!
إنسانٌ.. إنسانانِ.. أناسٌ.. الإنسانْ! !
تنداحُ خيوطُ النجمين غيوثاً
ترتحلُ النوءْ
تتمدّدُ.. بُسُطاً من ضوءْ..
تفترشُ الأرضَ المنكوبةَ بالسحر وبـ العُمْيانْ! !
احتضار:
الغبارْ ...
أزّ إعصارَهُ.. ثم ثارْ!
ساقَ أعوانَهُ.. واستشارْ (؟ !)
وابتدا رحلةَ الإنهيارْ! ..
حينما مدّ لـ النجم طغيانَهُ..
واحتوى في السراديب بركانَهُ..
أتغُلّ السراديبُ.. نوراً.. ونارْ؟ !
استشراف:
أسافرُ عبرَ العقودِ..
إلى القابِل!
يحدثُني زمَنُ الخصب عن طللٍ خاملِ!
وعن غرقدٍ ذابلِ! !
قيل لي:
كان يوماً يؤُزّ الأعاصيرَ..
كانت تُطيعُ..
وتجلدُ نخلي بسوط الغبارْ..
قيل لي:
كانت الخاتِمة..
أن تطاولَ عُنْقُ الأعاصيرِ..
واحتبسَ النخلَ..
لفّ الخناقَ عليها..
وكبّل نجمين بين يديها! ..
وأدخلها بين أسوارهِ..
كي يحُدّ امتدادَ الهُدى في المدى..
فلما اعتدى ارتدّ واشتدّ.. حبلُ الردى..
على عُنُق الكاهنِ! !
وما إنْ.........
حتى هوى وانسحقْ! ..
تحت ضوء النجوم.. احترقْ! !
إنه الغيثُ جاءَ..
الغبارُ زهقْ!
وأمِتْ عزفُ قطرِ السماء تجمّعَ..
بين النخيل اصطفقْ! !
والنجومُارتدتْ ضوءها..
دفقَها ال (كان) ! ما بين سور الغبارْ؟
كذّب الآن عينُ اليقين أحاديثَ قبلُ ادّعتْ..
أن ضوءَ النجوم اختنقْ! !
آهِ.. كلا ورب الفلقْ!
آهِ.. كلا ورب الفلقْ!
والوجودُ الشهودُ القيودُ..
تَضِجّ وحتى العبيدِ: صدقْ..
وصدقْ.. وصدقْ.. وصدقْ ...(89/104)
في دائرة الضوء
ماذا نعرف عن أمريكا؟ !
بقلم: د.أحمد بن محمد العيسى
سؤال بمثل هذا العنوان يبدو ساذجاً.. أليس كذلك؟ ! أمريكا بهذا الحضور
السياسي والاقتصادي والعسكري والإعلامي على المسرح العالمي لا يمكن أن
يجهلها أو يشكك في تفوقها أحد، فالولايات المتحدة الأمريكية تمثل اليوم عنفوان
حضارة الغرب وتألقها، فهي وريثة الاستعمار الأوروبي، والمحافِظة على المصالح
الغربية في بقاع الأرض، وبدلاً من الاستعمار العسكري المباشر، جاء الاستعمار
الأمريكي بثوبه الجديد، ثوب حقوق الإنسان وصندوق النقد الدولي وما يسمى
بالشرعية الدولية وقوانين الإرهاب وشبكة سي إن إن وجوائز أوسكار ومشروب
الكوكاكولا ووجبات ماكدونالدز السريعة وشبكات إنترنت للمعلومات ...
ولكن.. هل هذه الصورة التي تبدو شديدة الوضوح من الخارج تكفي لأن
تعطينا رؤية صحيحة عن الداخل؟ هل يكفي أن نعرف ما يدور في داخل الدار من
خلال معرفة عنوانه، أو من خلال معرفة ملابس الخارجين من ذلك الدار؟
وللإجابة السريعة على هذا السؤال، أقول: إن الصورة الحقيقية التي نملكها نحن
أبناء الصحوة الإسلامية عن أمريكا من الداخل، تظل غير واضحة المعالم، ضعيفة
التركيب، مليئة بالتناقض، لا تستطيع أن تستوعب التناقض الظاهر بين التفوق
والانحطاط، بين التنظيم المؤسساتي والاضطراب الاجتماعي، بين القدرة السياسية
على المسرح العالمي والسذاجة السياسية على المستوى الفردي.
وقبل أن نسترسل في توضيح مسارات الموضوع، قد يقول قائل: وهل نحن
في حاجة إلى معرفة أمريكا من الداخل؟ ! ألم تؤد ممارسات الفكر العربي خلال
قرن من الزمان في دارسة إلى الإغراق في التعلق بالنموذج الغربي، وأخرجت لنا
مسوخاً فكرية وثقافية بعيدة عن عقيدة الأمة وآمالها ومصالحها؟ ! .
نقول: إن الجهل باللاعب الأساس لا يؤدي إلا إلى الهزيمة أمامه، فإما أن
تكون هزيمة مادية (عسكرية واقتصادية وسياسية) أو هزيمة فكرية ونفسية، وذلك
عندما تتغلغل ثقافته وقيمه وأخلاقه عبر العديد من القنوات إلى عقولنا وبيوتنا،
ونحن نحسب أنها من متطلبات التقدم الحضاري، لقد رفع الفكر الإسلامي منذ
بدايات التحدي الغربي الكاسح للعالم الإسلامي شعار أن نستفيد من الحضارة
المعاصرة بما يتلاءم مع معتقداتنا وأخلاقنا ومبادئنا، وأن نرفض ما يخالفها، ولكن
هذا الفكر لم يستطع أن ينتقل خطوة أخرى لتجسيد هذا الشعار في أرض الواقع،
لأننا لم نعرف الحضارة المعاصرة التي هي حضارة غربية بكل المقاييس بتفاصيلها
لكي نعرف ما يتلاءم وما يخالف، وقد أدى ذلك إما إلى اقتحام هذا الحضارة من
قبل أناس لم يعرفوا أولاً معتقداتهم وشريعتهم، فانتقلوا إلى البحث والتنظير في ما
يصلح وما لا يصلح، أو إلى التوقف عند بعض مظاهر هذه الحضارة وإعطاء
أحكام ناقصة أو متحيزة.
إن تعاملنا مع أنفسنا ومع الآخرين، ورؤيتنا لما يجري في هذا العالم،
ومعرفة القرارات المصيرية التي تتخذ على أكثر من مستوى: سوف تتأثر بشكل
أو بآخر بمستوى معرفتنا بمن يحرك السياسات وينفذها سواء أكانت مباشرة أو من
خلف الكواليس.
إذن: فمعرفتنا بأمريكا ضرورية لكي نستطيع أن نفهم ما يجري حولنا، ليس
في تعاملاتنا الخارجية فحسب، ولكن أيضاً داخل حصوننا المشرعة للرياح؛ ولهذا: فإننا نتوقع أن دراسة واحدة عن أمريكا أو اثنتين أو مجموعة من الدراسات لا
تكفي لتمنحنا القدرة على المعرفة، بل نحتاج إلى جهود علمية كبيرة تكون جزءاً
من دراسة للحضارة المعاصرة بكل تفاصيلها وتبدأ من نقد مفهوم الحضارة ومفهوم
التقدم من منظور إسلامي، ثم تنطلق لتجيب على أسئلة تتجاوز مجرد تحديد الواقع
إلى معرفة أسبابه وخفاياه، بمعنى أن تتجاوز المعرفة مجرد ما هو موجود في
الواقع إلى طرح أسئلة: كيف؟ ولماذا؟ .. كيف وصلت أمريكا إلى ما وصلت إليه؟ ولماذا تأخر الآخرون؟ فلا يكفي أن نقول مثلاً: إن أمريكا تمثل القوة العسكرية
الأولى في العالم، ونبدأ نعدد في ترسانتها من الأسلحة النووية والتقليدية، بل نبحث
في: كيف وصلت إلى هذه المكانة؟ ولا يكفي أن نقول: إن الجريمة والعنف
والانحلال الأخلاقي تضرب أطنابها في المجتمع الأمريكي، بل نسأل: لماذا وقع
هذا؟ وكيف؟
الأسئلة كثيرة عن أمريكا، وأحسب أن إجاباتنا عنها ستكون كما ذكرت مغرقة
في الضحالة، وهذه ليست خاصية لمن يتعامل مع أمريكا عن بعد، مثل بعض
رموز الصحوة الإسلامية ومفكريها فحسب، بل وحتى لأولئك الذين اقتربوا من
المسرح الأمريكي، إذ إن معظم الذين تعاملوا بشكل أو بآخر مع المجتمع الأمريكي
من الدعاة والمفكرين والدارسين، لم يستطيعوا أن يَنفذوا من حواجز كثيرة وضعوا
أنفسهم فيها أو وضعت لهم إلى التعمق في فهم المجتمع الأمريكي، ومعرفة
خصائص تفوقه وخصائص انحطاطه.
فلو تأملنا في مظاهر شتى للحياة الأمريكية من الداخل وذلك من خلال رسم
سيناريو لبعض الأحداث التي قد تقع للمتعاملين مع المجتمع الأمريكي من دعاة
المسلمين وشبابها لاستطعنا أن نعرض لبعض الأسئلة التي لا يزال كثير منها دون
إجابة في أوساط الفكر الإسلامي المعاصر.
دعوة للتأمل:
فتأمل الأحداث التالية:
داعية يسافر إلى الولايات المتحدة لزيارة قصيرة، يلتقي فيها بعض إخوانه
من المسلمين، ويشارك في بعض الأنشطة الإسلامية هناك، ماذا ستكون رؤيته عن
البلد الجديد؟ ما هي مصادر معرفته عن ذلك المجتمع؟ ، كيف سينتقل من مكان
إلى مكان؟ ، ومع من سيتحدث؟ هل ستتاح له الفرصة للحديث مع أبناء هذه البلاد، ليبلغهم برسالة الإسلام؟ ... وتزدحم الأسئلة في رأسه: لابد أن في أهل هذه
البلاد من إذا سمع الحق اتبعه.. لابد أن فيهم جماعات قد أنهكتها حياة الآلة التي
يعيشون فيها.. كيف يصل إليهم؟ ما هي أفضل السبل للدخول معهم في حديث
ودي؟ كيف يفكرون في المسلم الملتزم؟ لابد أن وسائل الإعلام قد أفسدت نظرتهم
للإسلام.. ولكن، هل يمكن لوسائل الإعلام أن تؤثر هذا التأثير على مئتي مليون
من البشر أو يزيدون؟ ! كيف تأسست هذه الوسائل؟ ، ومن يديرها ويوجهها؟ هل
هي موجهة بالفعل؟ أين حرية الإعلام وحرية الصحافة؟ من يعطيها الضمانات
لكي تكون حرة؟ ! كيف تتشكل العلاقة بين الهيئات القضائية والتشريعية والتنفيذية؟ ألا يوجد عندهم كما هو الحال في واقع كثير من بلاد المسلمين أن يكون الذي بيده
الحل والعقد هو الخصم والحكم؟ ! من يقدم له المعرفة؟ من يملكها؟ ..
شاب مسلم مهاجر اضطرته ظروف العيش والاضطهاد إلى الهرب إلى العالم
الجديد بحثاً عن الرزق والاستقرار، ولكنه يحمل بين جنبيه هذا الكنز الثمين:
عقيدة التوحيد، لا يريد أن يتأثر بما يسمع عنه من مظاهر التفسخ والانحلال في
ذلك المجتمع، عند وصوله إلى ذلك البلد يصدمه احترام العاملين في المطار في
محطات القطار، في الفنادق، في الشركات للإنسان، تعاملهم معه بلطف ونظام،
بينما هو ربما ترك كثيراً من مظاهر الاستهانة بكرامة الإنسان، والتعامل الفج مع
طلباته وحقوقه في بلده، ولكنه بعد أن عاش بعض الوقت بدأ يشعر بثقل الغربة،
لا يفهم التناقض الكبير في المجتمع الذي يعيش فيه؛ التقدم التقني والمعلوماتي،
والنظام المحكم في مجالات العمل، والعلاقات التي لا مجاملة فيها بين الرئيس
والموظف؛ لا تحيز في المعاملة لقرابة أو صداقة أو مكانة اجتماعية.. وفي نفس
الوقت الفراغ الكبير بعد ذلك، عندما يحل المساء، وينتهي يوم العمل: يشعر
بالضياع! فهو لا يستطيع أن ينخرط كما يفعل الأمريكيون في صخب الحياة الليلية
وتفسخها، يتجه إلى التلفاز ليسلي نفسه، ويقضي بعض ذلك الليل الكئيب،
عشرات القنوات التلفازية: قنوات للأفلام، وقنوات للرياضة، وقنوات للأخبار،
وغيرها كثير، تنبعث في نفسه العشرات من الأسئلة: كيف استطاعت هذه البلاد
أن تفرض نفسها على العالم؟ ! .. كيف استطاعت أن تتحكم في مصير كثير من
بلاد المسلمين، تستنزف ثرواتهم بالسعر الذي تريد، وتصدر لهم ما تشاء بالسعر
الذي تريد؟ كيف يعيش هؤلاء الناس؟ ! ... يركضون ويركضون في النهار وفي
الليل ... كيف تستقيم أمورهم؟ ! ، وكيف ينظمون حياتهم؟ ! .. وكيف ...
وكيف؟ ؟ ؟ ... لماذا كل هذا العنف والحب والرياضة والغناء في قنوات
التلفاز؟ ! ما هذا السخف في عرض برامج تتحدث عن قضايا اجتماعية مقززة: الإجهاض، الشذوذ الجنسي، علاقات الأسرة المتفككة..؟ لماذا تشعر وأنت تتحدث مع الأمريكي أنه لا يفقه شيئاً خارج حدود دولته.. لا يهتم إلا إذا قُتل أمريكي واحد، بينما يقتل العشرات والمئات يوميّاً في بلاد العالم الثالث ولا تجد من يخبره بها! لماذا نتابع ونحن هناك في بلداننا إذاعات لندن ومونت كارلو وصوت أمريكا، ونشاهد العشرات من قنوات التلفاز الغربية، بينما لا يسمع الأمريكي هنا أي إذاعة أو تلفزيون من خارج أمريكا.. حتى من أوروبا؟ ! من يحرك هذا المجتمع؟ من يوجهه؟ ! هل حقّاً أنه يُوجه أو يُحرك؟ من يملك المعرفة؟
رجل أعمال جذبته الإعلانات التي تبعثها وكالات الإعلام المتخصصة في
السفارة الأمريكية، رحل يبحث عن فرص للتجارة.. دخل في علاقات مع بعض
الشركات للتصدير.. أخذته الشركة في رحلة للاطلاع على بعض منشآتها ومجالات
عملها.. لاحظ في البداية أن ترتيب الزيارة كان مخططاً بدقة في كل تفاصيله:
متى سيصل.. ومن سيستقبله.. ماذا سيفعل في اليوم الأول.. وماذا سيفعل في
اليوم الثاني.. وهكذا. وصل إلى هناك وأخذ يتحدث بلباقة ويتصرف وكأنه يدرك
كل ما حوله.. اطلع على بعض مصانع الشركة من الأجهزة الألكترونية، وذهل
من حجم الإنجاز، ودقة العمل، وانضباط العاملين.. الجميع يعملون في هدوء
وسكينة.. لا يتحدث بعضهم إلى بعض إلا همساً، لا تجد الأوراق على الأرض،
ولا تجد أعقاب السجائر في كل مكان.. قسم المتابعة يراقب خطوط الإنتاج من
جهاز حاسب آلي كبير، والشاشات تملأ القاعة.. اليوم الثاني: يدعونه إلى حفلة
ساهرة في فندق ضخم.. الجميع يلبسون ملابس أخرى غير تلك التي رآها في
الشركة.. وتدور أسطوانات الموسيقى، وتدور كؤوس الخمر.. هل يجاملهم
ويجلس في هذا المكان الموبوء؟ .. لماذا تغيروا هكذا؟ ! لماذا أصبحوا بهذا
الصخب وهذه القذارة؟ هل هذا تعويض عن يوم العمل حيث الجميع ملتزم
بواجباته؟ .. يسير في اليوم الثالث في شوارع المدينة وحيداً.. يريد أن يتعرف
على المجتمع في هذه المدينة الكبيرة.. ولكن، هل بوسعه التعرف على الناس من
خلال السير في الشوارع؟ أخذته رجلاه إلى قلب المدينة.. ذهل من حجم
المتسكعين والفقراء! .. كيف يعيش الناس هنا؟ ، وكيف تصلهم الخدمات الأساسية؟ الأزقة ضيقة ووسخة، والأطفال يلعبون في أطراف الشوارع.. هل صحيح أن
تجار المخدرات يجدون في هذه الأماكن ثروتهم الحقيقية؟ .. هل صحيح أن رجال
الأمن لا يدخلون هذه المناطق بعد منتصف الليل؟ يذهب إلى ضواحي المدينة،
فيجد التناقض الصارخ.. الجميع هنا يعيشون في بذخ واضح.. الفلل جميلة
والحدائق متناثرة.. والأطفال يلعبون في ساحات مصممة بشكل متناسق.. تبدو
المدارس نظيفة وحافلاتها جديدة.. المدرسون يخرجون في آخر اليوم الدراسي
لترتيب خروج الأطفال، ولتأمين ركوبهم في الحافلات.. يصيبه الدوار فيعود إلى
الفندق ليلاً، وقد أرهقه التجوال، هل يستطيع أن يفهم هذه البلاد؟ .. من يقدم له
المعرفة؟ ! .
وتتعدد الأسئلة التي يمكن أن يطرحها المرء الذي يقدر له الله أن يعيش لوقت
من الزمن في أمريكا، أما أولئك الذين يتعاملون مع أمريكا من الخارج، مع الوهج
الإعلامي، والسيطرة الاقتصادية والسياسية، فلا شك أن الأسئلة ستكون مباشرة،
وستبحث الأفئدة عن إجابات موثوق بها وغير متأثرة بذلك الوهج، ستتسائل عن
القوى السياسية وغير السياسية في المجتمع الأمريكي.. كيف تشكلت؟ ولماذا
برزت؟ وكيف تم تحجيم القوى الشعبية الأخرى؟ لماذا يتنافس حزبان فقط في
انتخابات الرئاسة وانتخابات مجلس الشيوخ؟ كيف يسير النظام الانتخابي؟ وما
هي القوى المسيطرة على صنع القرار؟ ما هو دور الإعلام، وما هي القوى
المسيطرة عليه؟ وكيف وصلت إلى هذا المستوى؟ ما هي القوى المهمشة في
المجتمع الأمريكي؟ ولماذا أصبحت كذلك؟ ما هو دور الجامعات ومراكز البحث
العلمي ومراكز الدراسات الاستراتيجية في صناعة التفوق العلمي والتقني؟ وكيف
تتشكل تلك المراكز وكيف تمول، وكيف تقوم بأعمال التخطيط والتنفيذ؟ ما هو
دور الشركات الرأسمالية الكبرى؟ ومن يمتلكها؟ وكيف يكون نظامها؟ وما
علاقتها بصانعي القرار على المستوى السياسي والاقتصادي؟ كيف يتشكل النظام
القضائي، والنظام التعليمي، والنظام الإداري؟ ما هو المستوى الثقافي لغالبية
الشعب الأمريكي، وما هي اهتماماته، وما هي وسائل الثقافة الاجتماعية؟ من أين
جاء التفوق الأمريكي؟ .. هل جاء من الثروة الاقتصادية؟ أو من الثروة البشرية؟
هل جاء بسبب كفاءة النظام السياسي، أم كفاءة النظام التعليمي، أم كفاءة النظام
الإداري؟ وأخيراً.. ما هو مستقبل أمريكا في ضوء الحقائق الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية؟ وفي الوقت نفسه: ما هو مستقبل
الإسلام في أمريكا بعيداً عن التمنيات والتهويشات الإعلامية؟ هل يعتبر الإسلام
حقّاً من أكثر الأديان انتشاراً هناك؟ ما هي الفرص المتاحة ولم تستغل؟ وما هي
المعوقات؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ ... وتستمر الأسئلة.. فمن يملك المعرفة؟ !
وبعد هذه الأسئلة كلها، لا نملك إلا أن نؤكد مرة أخرى على أن الجهل بما
يحدث في أمريكا سيقودنا إلى مزيد من الجهل بما تقوم به أمريكا من اندفاع لترتيب
وضع العالم بعد اختفاء القطب الدولي الآخر الشيوعية ويصبح المسلمون هم
الضحية مرة أخرى، بعد أن كانوا ضحايا الاستعمار الأوروبي في بدايات القرن
بسبب الجهل بما يجري في هذا العالم من تطورات وأحداث.. ولو أعدنا قراءة
التاريخ الحديث لوجدنا أن المسلمين كانوا يُستخدمون بالآلاف لتنفيذ سياسات
الاستعمار دون أن يدركوا دورهم ومكانتهم من الأحداث، فمن تجييش المسلمين
الهنود للحرب في العراق والشام، ومن استخدام عرب الجزيرة للحرب ضد الخلافة
العثمانية فيما سمى بالثورة العربية، ومن استخدام المسلمين من شمال إفريقيا
للحرب ضد الألمان في قلب أوروبا.. وهكذا.. وقارن بين ذلك كله وبين استخدام
أمريكا المسلمين اليوم للقتال معها في بقاع عديدة مثل: الصومال وهاييتي، وفي
البوسنة والهرسك.. وغيرها.. كل ذلك يجري بسبب الجهل.. قاتله الله.
[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] .(89/107)
متابعات
منشأ النفاق..
صالح السالم
كتب الدكتور محمد الوهيبي عن النفاق في عددين من مجلة (البيان) هما
(81 - 82) فأجاد وأفاد، فجزاه الله خيراً.
ومشاركة في بيان منشأ النفاق وأصله، أقول:
لم يكن للنفاق ذكر في مكة قبل الهجرة، ولم ينزل فيه شيء فيما أعلم من
القرآن المكي؛ فقد كان المسلمون مستضعفين لا شوكة لهم فلم يوجد المسوّغ لأن
ينافقهم أهل مكة، بل يمكننا القول: إن النفاق لم يكن من أخلاق العرب، وإن الذي
وجد في مكة هو خلاف النفاق ممن كان يظهر الكفر مستكرها وهو في الباطن مؤمن، وحينما قربت وفاة أبي طالب طلب منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرّ
بكلمة التوحيد ليحاج له بها عند ربه، فلم يقلها ولو في الظاهر مجاملة لابن أخيه.
ولما حدثت الهجرة ودخل الإسلام في بيوت أهل المدينة بقي منهم أناس لم يرد
الله أن يطهر قلوبهم، فشرقوا بالإسلام ووجدوا بعد بدر أنه لا مناص من إعلان
الإسلام في الظاهر ليسلموا وليبقوا على مراكزهم في قومهم، وفي سيرة ابن هشام
قال: وانضاف إليهم [أي: اليهود] رجال من الأوس والخزرج ممن كان على
جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك بالإسلام واتخذوه جنة عن
القتل، ونافقوا في السر، وكان هواهم مع يهود [1] .
فعلى هذا: كان نفاقهم مجاراة لإخوانهم من اليهود [وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ
الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ ... ] [آل
عمران: 72] أي: قال اليهود بعضهم لبعض: آمنوا أول النهار نفاقاً ومكراً
وتلبيساً على الضعفاء من الناس، فإذا كان آخر النهار فارجعوا إلى حقيقة أمركم من
الكفر والتهود، فتبعهم على ذلك ضعاف النفوس فنافقوا مثلهم، وتعلموا منهم التقلب
والتلون، وسلكوا مسلكهم وصاروا [وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خلَوْا إلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] [البقرة: 14] .
فعلى هذا: فالنفاق من تعليم اليهود ومكائدهم، ومنشأه منهم؛ فهم الذين كانوا
قبل ذلك يظهرون متابعتهم لموسى وتمسكهم بالتوراة مع أنهم يبدلون كلام الله
ويغيرون الأحكام ويكتمون الحق ويحرفون الكلم عن مواضعه. فصلة المنافقين بهم
صلة قوية، صلة الحميم بحميمه والأخ بأخيه، صلة الدفاع والحماية والمشاركة في
السراء والضراء [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإن قُوتِلْتُمْ
لَنَنصُرَنَّكُمْ ... ] [الحشر: 11] مع أنهم ليسوا من اليهود في ديانتهم ولا منهم في أصولهم، وإنما يجمعهم الهدف المشترك وهو الكيد للإسلام فيتوالون عليه [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] [المجادلة: 14] .. وبعد ذلك انتشر النفاق في المدينة وما حولها من الأعراب، وجاءت التحذيرات منه، وتوالت فضائح المنافقين في القرآن الكريم.
وذكر الكاتب في آخر المقال بأن الرافضة صنف من المنافقين لا يزالون عبر
التاريخ يظهرون العداوة للأمة.
فأقول: نعم، هذا دليل من الواقع على نفاقهم، ودليل آخر هو: ما ذكره
شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث قال (رحمه الله) : فإن أساس النفاق الذي بني عليه
هو الكذب، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه، كما أخبر الله عن المنافقين
أنهم: [يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ..] [آل عمران: 167] ،
والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية، وتحكي هذا عن أئمة أهل
البيت الذين برأهم الله من ذلك [2] ، وقد ذكر في مواضع كثيرة من كتابه منهاج
السنة أن الرافضة أكذب الأمة؛ من ذلك قوله: وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية
والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف [3] ، وقوله: والمقصود هنا: أن
العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل
القبلة [4] .
فأصل النفاق من اليهود وأصل الرفض من اليهود؛ فمؤسس مذهب الرافضة
هو ابن سبأ [*] اليهودي المنافق الذي دخل في الإسلام ظاهراً وبقي على يهوديته في
الباطن، لذلك ذكر الشيخ مشابهة الرافضة لليهود من وجوه عديدة، فقال: قالت
اليهود لا يصلح الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا في
ولد علي، وقالت اليهود: لا جهاد حتى يخرج المسيح الدجال وينزل سيف من
السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد
وينادي مناد من السماء اتبعوه.. واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم
وكذلك الرافضة ... [5] .
وذكر كثيراً من أوجه الشبه بينهم، بل إن أكثر الأمور التي خالفوا فيها أهل
السنة هي من تعاليم اليهود، ونحن نسمع أدعيتهم في المطاف وغيره يثنون على
الله بما أكرم به موسى أكثر من ثنائهم على الله بما أكرم به محمداً؛ وذلك لأن هذه
الأدعية أخذت من أدعية اليهود، ومع ذلك فهم يتشدقون بإعلان البراءة في موسم
الحج من أمريكا وإسرائيل كذباً وزوراً وتضليلاً للناس، وإلا فهم إخوانهم وتلاميذهم.
ومن هنا: يتضح أن الثلاث الأثافي اليهود والنفاق والرفض تحمل قِدراً واحداً
يغلي حقداً وعداوة وبغضاً وكيداً للإسلام والمسلمين، فهل يتنبه المسلمون لذلك؟ ! .
تتمة:
قد ذكر الكاتب أن النفاق الأصغر (العملي) قسيم النفاق الأكبر (الاعتقادي) .
لكنني أذكر بألا ننسى أن النفاق العملي إذا استحكم في الإنسان أدى به إلى النفاق في
القلب، فعلى هذا: فهو سبب من أسبابه وليس قسيمه فقط؛ يقول (جل وعلا) :
[فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]
[التوبة: 77] .
فلنحذر جميعاً من النفاق والمنافقين حتى لا نقع في أحابيلهم.. والله من وراء
القصد.
__________
(1) سيرة ابن هشام: ج2، ص135.
(2) منهاج السنة: ج1، ص159.
(3) منهاج السنة: ج1، ص13.
(4) منهاج السنة: ج1، ص15.
(5) منهاج السنة: ج1، ص7.
(*) أنظر: كتاب عبد الله بن سبأ ودوره في الفتنة في صدر الإسلام، د سليمان بن حمد العودة.(89/114)
منتدى القراء
خطر تضخيم الذات الأجنبية
زهرة الإبراهيمي
يحرص بعض الآباء والأمهات على متابعة التلفاز مع أبنائهم للإشراف على
كل صغيرة وكبيرة تتعلق بمشاهدتهم لهذا الجهاز.
ولا يتساهل الوالدان في أحيانٍ كثيرة في مشاهدة أبنائهم لما فيه إخلال
بالأخلاق والقيم الإسلامية، وهذا في حد ذاته حسن. ولكن هذه المتابعة تخف
درجتها بالنسبة للأفلام الحربية، باعتبار أن أكثر عناصرها من الرجال، وبالتالي:
فهي تخلو من المشاهد الفاضحة أو المخلة بالآداب.
وما أريد التنبيه عليه هو: أن الخطورة لا تكمن في تلك المشاهد فقط، فهذه
الأفلام لها تأثيرها السلبي على شخصية النشء المسلم.. ويمكن أن نلخص هذه
المخاطر في جوانب عدة:
أولاً: عدد كبير من هذه الأفلام هي أفلام أمريكية تصور الحرب في فيتنام أو
في اليابان، ويحرص المخرج خلالها على إبراز شخصية المجند الأمريكي الشجاع
الذكي! ، الذي لا يقف أمامه شيء، ويبيد برصاصة واحدة آلاف الجنود الفيتناميين
البلهاء كما يصورهم الفيلم! ! مما يغرس الروح الانهزامية الخائفة التي ترى
الأمريكي شخصاً لا يقهر، وهذا خلاف الواقع المعروف؛ لأن فيتنام كانت مقبرة
حقيقية للأمريكان.
ثانياً: الطابع العام للأفلام الحربية يعكس حسن خلق المجند، وكيف أنه يجمع
القوة والرأفة! ، ويعرض نفسه للموت في سبيل إنقاذ طفل أو عجوز.. وهذا بلا
شك ينافي الواقع، إضافة إلى أنه سيغرس علامة استفهام لا يستهان بحجمها في
نفس الطفل.. فما دام هذا الشخص بهذا النبل وهذه القيم والأخلاقيات، فلماذا
نكرهه؟ ! إنه أفضل من كثير من المسلمين.. وهذا بلا شك يزعزع مبادئ الولاء
والبراء في نفوس الصغار.
ثالثاً: الترجمة العربية الحرفية لهذه الأفلام تحمل ألفاظاً سيئة وعبارات نابية
من قبيل: (أيها اللقيط.. اذهب إلى الجحيم.. عليك اللعنة ... ) .. وبمرور الأيام
يصبح سماع هذه الألفاظ معتاداً لدى المشاهدين الصغار أو الكبار.
رابعاً: التأثر ببطل الفيلم، وربما سمع البعض منا ابنه يقول له: أريد أن
أصبح مثل رامبو! وهذا يقتل الاقتداء بالنماذج الإسلامية في نفوس الصغار.
خامساً: في حالة وجود امرأة في الفيلم، نرى كيف أنها تصارع الرجال
وتقتل وتنسف، والملاحظ دائماً وجود امرأة واحدة في فريق عمل رجالي كأن
النصر لن يتم إلا بها وهذه المرأة تحاكي الرجال وتماشيهم، ولا شك أن هذا له
تأثيره السيء وبالذات على الفتاة المسلمة في سن المراهقة.
سادساً: إلف الأطفال لسماع الموسيقى المصاحبة لأحداث الفيلم، وهذه
الموسيقى محرمة في ديننا كما نعلم.
هذا غيض من فيض.. وقليل من كثير من سلبيات هذه الأفلام، فاتقوا الله
أيها الآباء والأمهات، فهؤلاء هم أبناؤنا.. (أكبادنا التي تمشي على الأرض) .(89/117)
الورقة الأخيرة
وظلم ذوي القربى إلى متى؟ !
أحمد العويمر
أن تشن الهجمات الظالمة، والاتهامات المعلبة، والنقد غير النزيه علِى الدعاة
إلى الله بعامة، والجماعات الإسلامية بخاصة من قبل اليهود والنصارى
والماركسيين وأذنابهم الموتورين (اليسار العربي بشتى فئاته) ، والقول في الدعاة
إلى الله من التجني والكذب والافتراء ما هو معروف مما يتقيؤونه ويسودون به
الصفحات كل يوم، كل ذلك معلوم ومنتظر؛ والشيء من معدنه لا يستغرب.
أما أن يتطرق التشكيك في كثير من الدعاة إلى الله من قبل نفر من أهل
الإسلام وممن يشار إليهم بالبنان، فهذا ما لا يتوقع ولا يخطر على بال أحد لأسباب، منها:
* أن الإسلام يدعو إلى التعاون على البر والتقوى، وينهى عن التعاون على
الإثم والعدوان.
* التعميم في الأحكام غير مقبول مع آحاد الناس، فكيف مع الدعاة إلى الله؟ !
* وهل خطر ببال أولئك الشانئين أنهم في خندق واحد مع المتربصين بالدعوة
بنقدهم هذا غير الموضوعي؟
* الإسلام يدعو إلى الإنصاف حتى مع الأعداء، فكيف مع العلماء والدعاة
[وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [المائدة: 8]
*وأخيراً، فإن المطلع على نماذج من النقد المطروح يلحظ نقداً جيداً متميزاً
ولكنه قليل، كما يلحظ الكثير من المبالغات والاجتهادات غير الموفقة التي لا تقوم
على أساس علمي، وبعضها مما يسعه الخلاف، ولا تستحق المعاداة والمفاصلة
بسببه.
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهند
لا شك أن حقل الدعوة إلى الله والعاملين فيه لا يخلو من أخطاء وسلبيات
وملحوظات في العقيدة والمنهج والسلوك، غير أن حل تلك المشكلات وعلاجها ليس
بالفضح والتشهير، وإنما بالرغبة الصادقة في الإصلاح والصدق في التناصح ثم
بعقد الندوات العلمية التي يجتمع فيها الدعاة للتدارس والتشاور بعيداً عن الحزبيات
والأنانيات والتعالم، ليكون الهدف هو مصلحة الدعوة التي مبناها على أصول
الكتاب والسنة والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والاعتصام بحبل الله وعدم التفرق.
الغريب أن يكون بعض أعداء الله أكثر موضوعية من بعض المنتسبين إلى
الدعوة، فأولئك حسب ما ورد في الأخبار يراجعون خططهم في التعامل مع
الإسلاميين لأن مناهجهم القائمة على التعميم في الحكم غير صائبة، فقد دعوا إلى
إعادة النظر فيها لأن العداوة للإسلاميين لم تنتج سوى نتائج سلبية كبرى عليهم
وعلى عملائهم.
فهل يكون النقد الموضوعي منا معشر الدعاة إلى الله لمصلحة دعوتنا وحسب
ما يمليه علينا ديننا؟ أم تأخذ بعضنا العزة بالإثم بالإصرار على منهجه إياه مما
يشتت الصفوف ويوغر النفوس، ويسهم في إضعاف آثار الدعوة؟ !
إن كان الأول: فهذا هو المطلوب، وإن كان الآخر: فوالله إن ذلك علامة
سوء وظاهرة مرض كبرى، نسأل الله السلامة والعافية.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟ !(89/119)
صفر - 1416هـ
يوليو - 1995م
(السنة: 10)(90/)
كلمة صغيرة
خداع العناوين
كتب بعض الكتاب والعلماء عن خداع العناوين ووضحوا كيف تكون بعض
العناوين أحياناً بعكس ما تحويه تماماً.
ومن هذا القبيل: مجلة تسمى (منار الهدى) وهي حَريّة أن يكون اسمها:
(منار الردى) ؛ فهي لسان حال ما يسمى ب (جمعية المشاريع الخيرية) بلبنان، أو
بمعنى أوضح: (جماعة الأحباش) أتباع عبد الله الحبشي، وحين تتصفحها تصطدم
بالكذب والافتراء والخداع، فشيخهم يزعم أنه خادم السنة وهو يذبحها من الوريد
إلى الوريد، لما يشيعه بين أتباعه من شركيات وبدعيات، ومما تنشره مجلتهم تلك:
1- التحذير من العقيدة السلفية وعلمائها بدعوى كونهم وهابيين.
2- تلميع رجال البدعة المنحرفين قديماً وحديثاً ونشر تراثهم المقبور.
3- الهجوم على علماء الإسلام المعروفين وتلويث سمعتهم بكل كذب وزور.
4- موالاتهم للرافضة والباطنيين وأهل الزيغ والضلال، ومعاداتهم لأهل
السنة الحقة.
وقد حذر من انحرافهم الكثير من العلماء كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز،
والعلامة الألباني، والشيخ عثمان الصافي، ود. عوض منصور، وعبد الرحمن
دمشقية.. وغيرهم.
ومع وضوح ضلالاتهم فما زال يغتر بهم بعض السذج والبسطاء بعد أن
استغلوا ولبّسوا على بعض الرموز البارزة في تزكية أنفسهم.
ولعله يتسنى للمجلة بيان المزيد من ضلالهم وانحرافهم في مناسبة قادمة -إن
شاء الله (تعالى) -والله المستعان.(90/1)
افتتاحية العدد
دروسٌ من الأحداث
الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أنّ المآسي والنكبات قد اتسع نطاقها
وبدأت تتناثر هنا وهناك، فلا تكاد تخف وطأة الكفر أو الظلم على المسلمين في بلد
من البلدان حتى تفاجأ الأمّة بنكبة أو نكبات جديدة ترقق ما كان قبلها!
وعلى الرغم من الآلام والأحزان التي تملأ قلوب المخلصين، إلا أنّ هذه
المآسي تحمل في ثناياها دروساً عظيمة جديرة بالتأمل والدرس، فبشائر النصر
والتمكين تلوح في الأفق، ومن هذه الدروس:
أولاً: أنّ الأمم والحضارات تمرّ بسنوات قوة وانتشار وتمكين، ثم تنتكس
وتتلاشى تدريجيّاً حتى تموت وتصبح حدثاً تاريخيّاً تطويه السنون، فكم من حضارة
سادت وطغت ولكن الله (عز وجل) أخذها أخذ عزيز مقتدر، قال الله (تعالى) :
[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ *
وَثَمُودَ الَذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ *
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ]
[الفجر: 6 -14] .
ولكنّ الأمة الإسلامية على الرغم من تتابع القرون، وتكاثر العقبات والهزائم
المتلاحقة التي مرّت بها، إلا أنها بفضل الله وقوته لم تمت وإن ضعفت أو تمزق
بعض أطرافها؛ فهي تملك أعظم مقومات البقاء والثبات.
ثانياً: أنّ الشعوب الإسلامية المعاصرة جرّبت كل ألوان الشعارات الجاهلية،
وظلت تتقلب فيها سنين متتابعة، ولكنها سرعان ما استيقظت من غفلتها، وعرفت
إفلاس تلك الشعارات وزيفها وقصورها، فعادت ثانية إلى هويتها وجذورها
التاريخية، وعرفت طريق العز والتمكين.
وإن الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها متعطشة عطشاً شديداً لهذا الدين
الحنيف، فقد ملّت العبث بها وخداعها وسرقة عقولها ومقدراتها، وأيقنت أنّ
خلاصها الحقيقي إنّما هو باعتصامها بحبل الله المتين.
والأمة المريضة الهزيلة لا يعبأ بها أحد على الإطلاق، ولا يُلقي لها الناس
بالاً، ولا تستحق أن تُقدر أو تهاب، أو حتى يُنظر إليها، ولكنّ الأمّة الحية
المعطاءة حينما تبدأ بالحركة والتململ يهابها الناس، ويحسبون لها حساباً جديداً،
لأنها عادت إلى هويتها الحقيقية معتزة بها، ولذا: فهم يحاولون كبتها وقطع
جذورها ووأدها في مهدها، ويتعاملون معها بكل صلف وظلم وجبروت.
ثالثاً: أنّ ما يصيب الأمة من محن ومآسٍ إنّما هو بسبب خورها وضعفها؛
قال الله (تعالى) : [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا
يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياً وَلا نَصِيراً] [النساء: 123] ، وقال الله (تعالى) : [أَوَ
لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 165] .
والنياحة والتباكي على حال المسلمين لن يُغيّر شيئاً من الواقع، فهي حيلة
العجزة القاعدين الذين يرضون الدنيّة في دينهم.. وليست النائحة الثكلى كالنائحة
المستأجرة..!
وإنّ طريق التغيير والتمكين طريق طويلة متعددة الدروب وعرة المسالك،
يمتحن الله (عز وجل) بها أولياءه، ونصر الله (عز وجل) وفضله إنّما يتنزل على
الصادقين المخلصين؛ قال الله (تعالى) : [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاًتِكُم
مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: 214] .
وإمامة الشعوب وقيادتها ليست أماني وأحلاماً وشعارات؛ وإنّما تكون ببذل
الأسباب الشرعية المأمور بها في كتاب الله (عز وجل) وسنة نبيه محمد؛ قال الله
(تعالى) : [قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ] [البقرة: 124] ، وقال الله (تعالى) : [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: 24] .
رابعاً: أنّ الظهور والغلبة في النهاية إن شاء الله (تعالى) مهما طال الطريق
وكثرت العقبات وزادت المكائد لأولياء الله المؤمنين، وهذا وعد قاطع لا شك فيه؛
قال الله (عز وجل) : [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ
* وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] [الصافات: 171-173] .
وإن هذه الغلبة والمنعة لا تأتي من ضياع الهوية والذوبان في الغرب أو
الشرق، ولكنها تأتي بعظيم الثقة بالله (تعالى) والاعتماد عليه وحده لا شريك له؛
قال الله (تعالى) : [أَمَّنْ هَذَا الَذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ
الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ
وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ]
[الملك: 20-22]
خامساً: أنّ مكائد الأعداء تتلون وتتغير بتغير المواقف والأحداث، والفطنة
والذكاء يجب ألا تكون مقصورة عليهم، فالمسلم يجب أن يكون متوقد الإحساس،
يقظاً لا تنطلي عليه الأحابيل والدسائس؛ قال الله (تعالى) : [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] [الأنعام: 55] .
لقد كانت الحكومات العلمانية تعلن الحرب الصراح على الإسلام وأهله،
وتفتح السجون والمعتقلات لمجرّد الانتساب إلى الإسلام والمحافظة على الصلوات،
وجرّبت كل ألوان القمع والتنكيل لإيقاف هذا المدّ المبارك، ولكنها أدركت وبعد
طول تجربة أنها لا تستطيع أن تقف أمام رجالات هذا الدين؛ فالمحن لا تزيدهم إلا
قوة ورسوخاً..! ولهذا: لجأت إلى ألعوبة ماكرة أرادت أن تخدع بها السذج
والبسطاء، ألا وهي التترس بالإسلام ورفع شعاره بين الناس..! !
ولكنه الإسلام المعدّل (المرمّم!) الذي قصت أجنحته، ومُسخت معالمه
وضاعت هويته.. ليتلاءم في النهاية مع الأطروحات العلمانية، ويقف معها في
خندق واحد..!
إنه إسلام الدروشة والطرقية.. إسلام الأضرحة والمزارات والأهازيج
الدينية..!
إسلام الأحوال الشخصية وحسب..! !
قال الله (تعالى) : [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم
بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُُمْ عَذَابٌ أََلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون] [البقرة: 8،10]
وقال الله (تعالى) : [وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]
[المنافقون: 4] .
فالله نسأل أن يعز دينه ويعلي كلمته، وأن يرينا في أعداء هذا الدين ما تسر
به نفوس المؤمنين، حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر..
والله من وراء القصد..(90/4)
دراسات شرعية
كلمات في فقه الصحابة (رضي الله عنهم)
د. عبد العزيز آل عبد اللطيف
الحمد لله (تعالى) وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد..
من أصول أهل السنة والجماعة: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله
والاقتداء بهم كما قرر ذلك الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى) [1] .
لقد كان الصحابة (رضي الله عنهم) خير قرون هذه الأمة وأفضلها؛ كما أخبر
الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في قوله: خير الناس قرني، ثم الذين
يلونهم، ثم الذين يلونهم ... [2] .
وقال عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) : من كان مستنّاً فليستن بمن قد
مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً،
قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم [3] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) معلقاً على هذا الأثر: وقول
عبد الله بن مسعود: كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً كلام
جامع؛ بيّن فيه حسن مقصدهم ونياتهم ببر القلوب، وبيّن فيه كمال المعرفة ودقتها
بعمق العلم، وبيّن فيه تيسير ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة
التكلف [4] .
وقال بعضهم للحسن البصري (رحمه الله) : أخبرنا صفة أصحاب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكى الحسن ثم قال: ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدي والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم (تعالى) ، واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا ولم يجاوزوا حكم الله في القرآن، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم [5] .
* لقد أدرك سلفنا الصالح قدر الصحابة (رضي الله عنهم) ، فقاموا بحقوق
الصحابة علماً وعملاً، اعتقاداً وسلوكاً، فهداهم الله (تعالى) إلى الصراط المستقيم،
وخالف المبتدعةُ سبيل أهل السنة، فطعنوا في الصحابة (رضي الله عنهم) ،
وشتموهم، ومن ثم: فقد ضلوا ضلالاً بعيداً، وكلما زاد سبّ المبتدعة للصحابة
(رضي الله عنهم) : زادوا ضلالاً وغيّاً، كما هو ظاهر في طائفة الرافضة وإخوانهم
الباطنية، ويليهم في الضلال: الخوارج والمعتزلة، فلما كان عداء الخوارج
والمعتزلة للصحابة دون عداء الباطنية، فإن ضلالهم أقل، وانحرافهم أدنى من
الباطنية، وكان الأشاعرة قريبين من أهل السنة في باب الصحابة، ولذا: كانوا
أقرب من غيرهم، مع أنهم لم ينفكوا عن شعبة من الرفض عندما زعموا أن مذهب
السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم [6] . [*]
كان الصحابة (رضي الله عنهم) على عقيدة واحدة، فهم خير القرون، قد
تلقوا الدين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، ففهموا من مقاصده -
صلى الله عليه وسلم-، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن
بعدهم [7] .
لقد تلقوا النصوص بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا
الأمر فيها أمراً واحداً، وأجروها على سَنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء
والبدع، حيث جعلوها عضين؛ فآمنوا ببعضها، وأنكروا بعضها من غير فرقان
مبين [8] .
قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) : قف حيث وقف القوم،
فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وَلَهُمْ على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل
لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم،
ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم
محسّر، وما دونهم مقصّر، لقد قصّر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا،
وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم [9] .
وأوصى الإمام الأوزاعي (رحمه الله) من سأله عن القَدَر بهذه الوصية: وأنا
أوصيك بواحدة، فإنها تجلو الشك عنك، وتصيب بالاعتصام بها سبيل الرشد إن
شاء الله (تعالى) : تنظر إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من هذا الأمر؛ فإن كانوا اختلفوا فيه، فخذ بما وافقك من أقاويلهم، فإنك
حينئذ منه في سعة، وإن كانوا اجتمعوا منه على أمر واحد لم يشذ عنه منهم أحد،
فأين المذهب عنهم، فإن الهلكة في خلافهم، وإنهم لم يجتمعوا على شيء قط فكان
الهدى في غيره، وقد أثنى الله (عز وجل) على أهل القدوة بهم فقال: [وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ ... ] [التوبة: 100] واحذر كل متأول للقرآن على خلاف ما
كانوا عليه.. [10] .
وكان اجتهاد الصحابة في مسائل الفقه والفروع أكمل من اجتهادات من بعدهم، وصوابهم أكمل من صواب المتأخرين، وخطؤهم أخف من خطأ المتأخرين [11] ، ولذا: قال الإمام الشافعي (رحمه الله) : هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى،
ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا [12] .
يقول ابن القيم معلقاً على كلام الشافعي: قد كان أحدهم يرى الرأي فينزل
القرآن بموافقته ... وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة: أن يكون رأيهم لنا
خيراً من رأينا لأنفسنا، وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً
وحكمة وعلماً ومعرفة وفهماً عن الله ورسوله ونصيحة للأمة، وقلوبهم على قلب
نبيهم، ولا وساطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضّاً
طريّاً لم يَشُبْه إشكال، ولم يَشُبْه خلاف [13] .
وفي باب التعبد والسلوك كان الصحابة (رضي الله عنهم) أرباب النسك
الشرعي الكامل كما سبق وصفهم في مقالة الحسن البصري يقول ابن تيمية: فالعلم
المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما ما جاء عن من بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلاً ... فمن بنى الإرادة
والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية
والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد -صلى الله عليه
وسلم- وأصحابه: فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى [14] .
* لقد خلّف الصحابة (رضي الله عنهم) ثروة نفيسة من الأقوال المأثورة،
والمواقف العملية المسطورة في سائر المجالات من: عقيدة، أو فقه، أو سلوك،
أو دعوة ... إلخ، وكم نحتاج إلى النظر في تلك الآثار، والانتفاع بها، خاصة في
هذا الزمان الذي كثر فيه ولله الحمد من يطالب بالأخذ بالكتاب والسنة.
أهمية متابعة منهج الصحابة:
إن الرجوع إلى كلام الصحابة (رضي الله عنهم) في فهمهم للنصوص
الشرعية من القواعد الجليلة والقضايا الكبيرة التي تحقق سلامة في المنهج، ونجاة
من الشبهات والشهوات والضلال والغي.
وأقدم لك أخي القارئ جملة من أقوال الصحابة (رضي الله عنهم) وما تضمنته
من المعاني المهمة والمسائل المفيدة، راجياً من الله (تعالى) أن تكون باعثاً إلى
الاستفادة من فقههم والانتفاع بعلومهم (رضي الله عنهم) :
* يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : لولا ثلاث
لأحببت أن أكون قد لحقت بالله، لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي في
التراب ساجداً، أو أجالس قوماً يلتقطون طيب الكلام كما يُلتقط طيب الثمر [15] .
يقول ابن تيمية في بيان عظم هذه المقالة الرائعة: وكلام عمر (رضي الله
عنه) من أجمع الكلام وأكمله، فإنه ملهم محَدّث، كل كلمة من كلامه تجمع علماً
كثيراً، مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن؛ فإنه ذكر الصلاة، والجهاد، والعلم،
وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة؛ قال أحمد بن حنبل: أفضل ما
تطوع به الإنسان: الجهاد، وقال الشافعي: أفضل ما تطوع به: الصلاة، وقال
أبو حنيفة ومالك: العلم.
والتحقيق أن كلاّ من الثلاثة لابد له من الآخرَيْن، وقد يكون هذا أفضل في
حال، وهذا أفضل في حال، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه يفعلون
هذا وهذا وهذا، كلّ في موضعه بحسب الحاجة والمصلحة، وعمر جمع
الثلاث [16] .
* وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: لا يَرْجُوَنّ
عبد إلا ربه، ولا يخافَنّ إلا ذنبه [17] .
وقد سئل ابن تيمية عن معنى هذه العبارة، فكان مما قاله (رحمه الله) : هذا
من أحسن الكلام وأبلغه وأتمه، فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر،
والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال (تعالى) : [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] [الشورى: 30] ، وقال (تعالى) : [فَأخَذْنَاهُم
بِالْبَاًسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَاًسُنَا تَضَرَّعُوا]
[الأنعام: 42، 43] أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجيء البأس: التضرع؛ قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، ولهذا قال (تعالى) : [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً] إلى أن قال (تعالى) : [إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [آل عمران: 173- 175] فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء، ويُنتصر على الأعداء، فلهذا قال علي (رضي الله عنه) : لا يَخَاَفَنّ عبد إلا ذنبه، وإن سلط عليه مخلوق، فما سلط عليه إلا بذنوبه؛ فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله.
وأما قوله: لا يَرْجُونّ عبد إلا ربه، فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع
الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله، [وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ
بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ وَإن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
[الأنعام: 17] والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال (تعالى) :
[وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [المائدة: 23] فكل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه، والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره: كان وتيسر - ولو لم يشأ الناس -[18] .
* وقال عمار بن ياسر (رضي الله عنه) : ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار [19] .
قال العلامة ابن القيم في شرح هذه الكلمات: وقد تضمنت هذه الكلمات أصول
الخير وفروعه؛ فإن الإنصاف يوجب عليه أداء حقوق الله كاملة موفّرة، وأداء
حقوق الناس كذلك، وألا يطالبهم بما ليس له، ويعاملهم بما يحب أن يعاملوا به،
ويحكم لهم وعليهم بما يحكم به لنفسه وعليها، ويدخل في هذا: إنصافه نفسه من
نفسه، فلا يدعي لها ما ليس لها، ويُنميها ويرفعها بطاعة الله (تعالى) وتوحيده،
وحبّه وخوفه.
وبذل السلام للعالم: يتضمن تواضعه وأنه لا يتكبر على أحد، بل يبذل
السلام للصغير والكبير، والشريف والوضيع، ومن يعرفه ومن لا يعرفه ...
وأما الإنفاق مع الإقتار فلا يصدر إلا عن قوة ثقة بالله، وأن الله يُخلفه ما
أنفقه، وعن قوة يقين، وتوكل، ورحمة، وزهد في الدنيا، ووثوق بوعد مَنْ وعده
مغفرة منه وفضلاً، وتكذيباً بوعد من يعده الفقر ويأمره بالفحشاء [20] .
وجاء في فتح الباري: قال أبو الزناد بن سراج وغيره: إنما كان من جمع
الثلاث مستكملاً للإيمان؛ لأن مداره عليها، لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم
يترك لمولاه حقّاً واجباً عليه إلا أداه، ولم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا
يجمع أركان الإيمان. وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار، ... ويحصل به التآلف والتحابب. والإنفاق من الإقتار يتضمن غاية الكرم لأنه إذا
أنفق مع الإقتار كان مع التوسع أكثر إنفاقاً، وكونه مع الإقتار يستلزم الوثوق بالله
والزهد في الدنيا وقصر الأمل وغير ذلك من مهمات الآخرة [21] .
* وقال أبو الدرداء (رضي الله عنه) : يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف
يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال
عبادةً من المغترين [22] .
قال ابن القيم معلقاً على تلك العبارة: وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال
فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير (رضي الله عنهم) .
فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى
في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، قال (تعالى) : [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ] [الحج: 32] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
التقوى ههنا وأشار إلى صدره، فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو
الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه
الفارغ من ذلك التعب الكثير ... إلخ [23] .
* وكان معاذ بن جبل (رضي الله عنه) لا يجلس مجلساً للذكر إلا قال حين
يجلس: الله حكم قسط، تبارك اسمه، هلك المرتابون، إن وراءكم فتناً يكثر فيها
المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير
والكبير، والحر والعبد، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت
القرآن، ما هم بمتبعيّ حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع
ضلالة، واحذروا زيغة الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق فإن
على الحق نوراً، فقالوا: وما يدرينا (رحمك الله) أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ قال: هي كلمة تنكرونها منه وتقولون ما هذه، فلا يثنيكم فإنه يوشك أن يفيء
ويراجع بعض ما تعرفون [24] .
بهذه الكلمات النافعات لمعاذ بن جبل (رضي الله عنه) أختم هذه المقالة، ولعل
القارئ الحصيف يُعمل فكره وتأمله في تلك العبارات، والله المستعان.
__________
(1) انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ج1، ص241.
(2) البخاري: كتاب فضائل الصحابة ح/3651.
(3) أورد ابن تيمية هذا الأثر في منهاج السنة النبوية ج2، ص77، وعزاه إلى ابن بطة، ولعله في الإبانة الكبرى.
(4) منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية: ج2، ص79.
(5) أخرجه أبو نعيم في الحلية، ج2، ص150.
(*) هذه المقولة المشهورة عند أهل الكلام غير صحيحة، انظر بيان خطئها في فتح رب البرية بتلخيص الحموية للشيخ محمد الصالح العثيمين ضمن مجموع فتاوى الشيخ ج2، ص25-29 والحقيقة أن المقولة يجب أن تكون أن مذهب السلف هو أسلم وأعلم وأحكم، كما بين الشيخ (حفظه الله) .
(6) انظر: التسعينية لابن تيمية، ص256.
(7) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج27، ص388.
(8) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، ج1، ص49.
(9) أخرجه أبو نعيم في الحلية، ج5، ص338، وأخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (القدر) : ج2، ص247 عن عبد العزيز الماجشون.
(10) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (القدر) : ج2، ص254.
(11) انظر: منهاج السنة النبوية، ج6، ص80.
(12) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، ج1، ص80.
(13) إعلام الموقعين: ج1، ص81، 82 باختصار.
(14) مجموع الفتاوى: ج10، ص362، 363 باختصار.
(15) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ج13، ص272.
(16) منهاج السنة النبوية: ج6، ص75.
(17) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ج13، ص284.
(18) مجموع الفتاوى: ج8، ص161، 166 باختصار.
(19) أخرجه البخاري تعليقاً، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (ج1، ص 83) : مثله لا يقال بالرأي؛ فهو في حكم الرفع.
(20) زاد المعاد: ج2، ص407، 410 باختصار.
(21) فتح الباري: ج1، ص83.
(22) الفوائد لابن القيم: ص133، 134.
(23) الفوائد لابن القيم: ص133، 134.
(24) أخرجه أبو نعيم في الحلية، ج1، ص232، 233.(90/8)
دراسات تربوية
الترويح عن النفس في الإسلام.. مفاهيم وضوابط
بقلم: فيصل البعداني
يعتبر الترويح عن النفس من الأمور المهمة التي قد يحتاجها المربون والدعاة
أثناء مخالطتهم للناس ودعوتهم إياهم، إلا أن استخدام كثير من المشتغلين بالدعوة
والتربية له لا يتم بالصورة المطلوبة، إذ يقعون أثناء ممارسته بين إفراط أو تفريط؛ فمنهم من غلا فيه، وصار جل همه مجرد الترويح عن من يدعوهم بدعوى
كسبهم وتحبيبهم في الخير الذي يدلهم عليه، ومنهم من يرى أنه لا فائدة فيه بل هو
مضيعة للوقت مفسدة للعمر.
ولذا: فسأحاول هنا تبيان مفهوم الترويح في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية
مع بيان أهميته وتقديم شيء من أدلته وخصائصه، وإبراز ما يوفق الله له من
ضوابط وقواعد شرعية علّ ذلك أن يدفع إلى استخدام صحيح للترويح، وممارسة
له منضبطة بالشرع الحنيف.
تعريف الترويح:
تدور مادة (روح) في اللغة حول معاني: السعة، والفسحة، والانبساط،
وإزالة التعب والمشقة، وإدخال السرور على النفس، والانتقال من حال إلى آخر
أكثر تشويقاً منه [1] ، وتختلف تعريفات الترويح في اصطلاحات الباحثين نظراً
لاختلافهم في الاتجاهات التي ينطلقون منها لتحديد ماهيته، فمنهم:
1- من يربط الترويح بالغرض الذي يؤديه، وعليه: فالترويح هو: التسرية
والتنفيس عن النفس [2] ويسمي بعضهم هذا الاتجاه بنظرية التعبير الذاتي [3] .
2- من يربط الترويح بالوقت، وعليه: فالترويح هو: التعبير المضاد للعمل
على أساس أن الإنسان قليلاً ما يجد في عمله نوعاً من الترويح [4] .
3- من يربط الترويح بالغرض الذي يؤديه والوقت معاً، وعليه: فالترويح
هو: أوجه النشاط التي يمارسها الفرد في أوقات فراغه والتي يكون من نتائجها
الاسترخاء والرضى النفسي [5] .
4- وذهب بعض المختصين في الأعمال الترويحية إلى اشتراط النفع في
العمل الترويحي سواء أكان نفعاً فرديّاً أم جماعيّاً، نفسيّاً أم بدنيّاً أم عقليّاً [6] .
ولن أطيل في هذا المقام باستعراض نصوص الباحثين في تعريف الترويح،
بل سأقتصر على تعريف واحد آراه الأنسب، وهو: أن الترويح عن النفس في
الإسلام عبارة عن: أوجه النشاط غير الضارة التي يمكن أن يقوم بها الفرد أو
الجماعة طوعاً في أوقات الفراغ بغرض تحقيق التوازن أو الاسترخاء للنفس
الإنسانية في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية.
وفي ظل هذا التعريف؛ فإنه من الممكن أن تكون تلك الأنشطة وجدانية، أو
عقلية، أو بدنية، أو مركبة من كل ذلك أو بعضه.
أهمية الترويح:
تبرز أهمية الترويح عن النفس في جوانب كثيرة، منها:
* تحقيق التوازن بين متطلبات الكائن البشري (روحية، عقلية، بدنية) ففي
الوقت الذي تكون فيه الغلبة لجانب من جوانب الإنسان يأتي الترويح ليحقق التوازن
بين ذلك الجانب الغالب وبقية الجوانب الأخرى المتغلب عليها.
* يساهم النشاط الترويحي في إكساب الفرد لخبرات ومهارات وأنماط معرفية، كما يساهم في تنمية التذوق والموهبة، ويهيء للإبداع والابتكار [7] .
* يساعد الاشتغال بالأنشطة الترويحية في إبعاد أفراد المجتمع عن التفكير أو
الوقوع في الجريمة، وبخاصة في عصرنا (عصر التقنية) الذي ظهرت فيه البطالة
حتى أصبحت مشكلة وقلت فيه ساعات العمل والدراسة بشكل ملحوظ جدّاً، وأصبح
وقت الفراغ أحد سمات هذا العصر [8] .
* من أبرز المسميات التي أطلقت على عصرنا: عصر التقنية، وعصر
القلق، وعصر الترويح.. وترتبط هذه المسميات بعلاقة وثيقة فيما بينها؛ فالتقنية
تولد عنها القلق، وأصبح الترويح أحد أهم متطلبات عصر التقنية والقلق؛ لما له
من تأثير في الحد من المشاكل المترتبة عن ذلك [9] .
أدلة جواز الترويح:
لا يقدر بعض الدعاة أهمية الترويح، وينظرون إليه على أنه مضيعة للوقت
مفسدة للعمر، وفي هذا الأمر نظر، إذ قد دلت النصوص الشرعية إجمالاً وتفصيلاً
على جواز الترويح، بل إن منها ما دعت إليه وحثت عليه، وسأكتفي هنا لعدم
مناسبة التوسع في الطرح ببعض الأدلة الإجمالية والتفصيلية، فمن الأدلة الإجمالية:
* حديث حنظلة (رضي الله عنه) وفيه:.. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما ذاك، قلت: يا رسول الله نكون
عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا
الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم
الملائكة على فرشكم وفي الطرقات، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة [10] .
* حديث أبي جحيفة في الصحيح، وفيه:.. فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى
أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في
الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل، قال: فإني صائم، قال:
ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم
فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن،
فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال
له النبي -صلى الله عليه وسلم-: صدق سلمان [11] .
* حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) وفيه: أن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: صُم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقّاً، وإن لعينك عليك حقّاً، وإن لزوجك عليك حقّاً، وإن لزورك عليك حقّاً [12] وفي رواية: قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عبد الله بن عمرو: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت، لا صام من صام الأبد [13] .
ومن الأدلة التفصيلية:
1- عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال له: يا ذا الأذنين
قال أبو أسامة - أحد رواة الحديث -: يعني يمازحه [14] .
2- عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي وكان
لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل يتقمعن [*] منه فيسر بهن
إليّ [15] .
3- قال محمود بن الربيع: إني لأعقل مجة مجها رسول الله في وجهي وأنا
ابن خمس سنين من دلو [16] .
4- عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي-صلى الله عليه وسلم- في
سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال:
هذه بتلك [17] .
5- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد رأيت رسول الله-صلى الله
عليه وسلم-، يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول
الله، سترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي
أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصةً على اللهو [18] .
خصائص الترويح عن النفس في الإسلام:
يمثل الإسلام نظام حياة متكامل عقيدة وشريعة يجب أن تنبثق عنه جميع
تصورات ومبادئ وقيم وسلوكيات الإنسان المسلم، وعلى ذلك: ينبغي أن ننظر إلى
الموضوع الذي نحن بصدده (الترويح) من خلال الخصائص التي أعطاها له
الإسلام، ومنها أنه:
1- عبودية لله (تعالى) :
قال الله (تعالى) : [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ...
العَالَمِينَ] [الأنعام: 162] والترويح هو جانب من المحيا في حياة المسلم، وبالتالي: فهو (لله رب العالمين لا شريك له) في حال إصلاح العبد لنيته في ممارسته بشروط حلّه، واتخاذه وسيلة لتحقيق عمل صالح أو لتجديد نشاط المسلم في الأعمال الجادة؛ روي عن أبي الدرداء أنه قال: إني لأستجم قلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق [19] .
2- ثابت المعالم متجدد الوسائل:
ليس للمسلم أثناء قيامه بنشاط ترويحي أن يتجاوز جوانب يوجب الإسلام
تركها لحرمتها أو ضررها بل عليه أن ينضبط بضوابط الإسلام ويحتكم بأحكامه،
وهذا هو الجانب الثابت في الترويح، وما سوى ذلك فللإنسان أن يبدع ويجدد فيه ما
شاء من كيفيات ووسائل، وذلك الثبات في الترويح من جهة والإفساح وفتح المجال
للتجديد من جهة أخرى: هو أحد الخصائص المهمة للترويح في الإسلام.
3- يراعي طبيعة الفطرة الإنسانية:
عند التأمل في أنواع الترويح المشروع والمباح: نجده شاملاً لجميع حاجات
ودوافع الإنسان التي تتطلبها جوانبه المختلفة (الروح، العقل، الجسد) مما يدل على
أن من خصائصه العموم والشمول لجميع مكونات وخصائص الكائن البشري
ومراعاة الفطرة التي خلقه الله (تعالى) عليها.
4- يحقق التوازن بين جوانب الإنسان المختلفة:
للإنسان جوانب مختلفة (روح، عقل، جسد) ، وله ميول متنوعة، قد تدفعه
إلى تغليب جانب أو أكثر على بقية الجوانب الأخرى، ولكن نتيجة للترابط بين
جوانب الإنسان المختلفة نجده يكلّ ويملّ، ويصعب عليه مواصلة المسير، بل قد
يمتنع من ذلك، وهنا يأتي دور الترويح لتحقيق التوازن بين تلك الجوانب، لكي
يبتعد الإنسان عن الكلل والملل، ويعاود المسير براحة وطمأنينة.
5- انطلاقة من دافِعِيّة وممارسة بانتقائية:
يتم الإقبال على ممارسة النشاط الترويحي وفقاً لرغبة الممارس ودافعيّته
الذاتية حسب حاله من الكلل والملل أو النشاط والهمة، كما أن الإقبال يتم أيضاً وفقاً
لاختياره لأي نوع من أنواع الأنشطة الترويحية التي تناسبه وتحقق ميوله ورغبته
واحتياجاته.
6- لا يزحف على عمل جاد:
يتم النشاط الترويحي في وقت الفراغ، والمراد به: الوقت الخالي عن
الأعمال الجادة كأوقات الشعائر التعبدية الواجبة، وأوقات العمل، وأوقات القيام
بواجبات ومستلزمات الحياة الأخرى، كالأكل والنوم، وما توجبه طبيعة الحياة
الاجتماعية من آداب مرعية كزيارة الأقارب، وإكرام الضيف، وعيادة المريض..
ونحو ذلك.
ضوابط للترويح عن النفس في الإسلام:
1- الأصل في الترويح الإباحة:
ويدل لذلك حديث أبي الدرداء (رضي الله عنه) أن الرسول -صلى الله عليه
وسلم- قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه
فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نَسيّاً، ثم قرأ هذه الآية [وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِياً] [20] .
ومن القواعد المتقررة في الشرع أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل
الدليل على التحريم [21] .
2- الترويح وسيلة لا غاية:
الترويح وسيلة من الوسائل التي يستطيع بها الإنسان تحقيق التوازن بين
جوانبه المختلفة، في حالة وجود اختلال بالإفراط في جانب على حساب بقية
الجوانب الأخرى، وإذا تجاوز النشاط الترويحي هذا الحد وأصبح هدفاً وغاية في
ذاته، فإنه يخرج من دائرة المستحب أو المباح إلى دائرة الكراهية أو الحرمة.
وبهذا الضابط يخرج الاحتراف لبعض الأنشطة الترويحية عن دائرة المباح أو
المشروع لأن فيه إخلالاً ببنية وهيكل النظام الاجتماعي القائم على تعاليم الإسلام،
وفيه قيادة أفراد الأمة إلى الميوعة والترف والانحلال، أضف إلى ذلك: تحقيق
ذلك لرغبات أعداء الأمة في إلهاء أفرادها وإشغالهم عن جوهر الصراع الحضاري
الذي يمارسونه ضدها.
وأدلة هذا الضابط ظاهرة في الشريعة، ومنها:
أن الإسلام رفض الإفراط في كمية العبادات الشرعية التي جاء آمراً بنوعها
أمر وجوب أو استحباب، إذا أُخرجت عن حد المألوف المستطاع، ومن النصوص
الدالة على ذلك - بالإضافة إلى ما سبق -:
* عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: دخل النبي -صلى الله عليه
وسلم- فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب
فإذا فترت تعلقت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا، حلوه، ليصل أحدكم
نشاطه، فإذا فتر فليقعد [22] .
* عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول
فليضطجع [23] .
وإذا كان هذا النهي عن أمر مشروع، فما الحال بأمر مباح لم يأمر الشارع
بنوعه، يُزاد في كميته زيادة مفرطة، تسبب ضياع المأمور به، وتجحف بالتوازن
بين جوانب الإنسان المختلفة، وتغير هيكل النظام الاجتماعي الإسلامي، وتحقق
مكائد ومخططات أعداء الأمة الساعين إلى إلهائها وتقويض بنيانها؟ ! .
3- الجد هو الأصل، والترويح فرع:
سبق ذِكْرُ أن النشاط الترويحي في التصور الإسلامي ما هو إلا حالة علاجية، لحصول الاختلال في إعطاء كل جانب من جوانب الكائن البشري ما يستحقه من
النشاط والقوة، ليعود الإنسان بكافة جوانبه لمواصلة السير في طريقه إلى الله (عز
وجل) بجد ونشاط ومثابرة، وسأحاول تأصيل ذلك والتأكيد على أن الجد صاحب
التقدمة والسبق، وأن الترويح تابع له، وفرع عنه، من خلال الأمرين التاليين:
أ- الأولوية للجد في حال التعارض:
يقدم الإسلام الجد على الترويح، ويَظْهَر هذا جليّاً في سلوكياته -صلى الله
عليه وسلم- وأقواله، ومن ذلك: ما رواه أبو برزة الأسلمي (رضي الله عنه) أنه -
صلى الله عليه وسلم- كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها [24] .
قال الحافظ ابن حجر أثناء شرحه لهذا الحديث: قوله: وكان يكره النوم قبلها
والحديث بعدها لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقاً، أو عن
الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها
المختار [25] .
والقارئ الكريم يلاحظ أن الشارع لم يكره الترويح المتمثل في النوم لراحة
البدن أو السمر لكونه سيؤدي إلى تضييع الواجب يقيناً، بل لاحتمال أن يكون
ذريعة إلى الوقوع في ذلك.
* ما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب [26] .
* عن سماك قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله -صلى الله
عليه وسلم، قال: نعم، فكان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه
يذكرون عنده الشعر وشيئاً من أمورهم فيضحكون، وربما تبسم [27] .
4- ألا يكون في النشاط الترويحي مخالفة شرعية:
يعتبر هذا الضابط الأهم من ضوابط النشاط الترويحي، ولتطبيقه صور
مختلفة، منها:
* ألا يكون في النشاط الترويحي أذية للآخرين من سخرية، أو لمز، ونبز،
أو ترويع، أو غيبة، أو اعتداء على ممتلكاتهم بإتلاف أو استخدام ... ونحو ذلك؛
قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً
مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا
بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا
أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب
بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَاًكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ
تَوَّابٌ رَّحِيمٌ] [الحجرات: 11، 12] ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: لا يأخذن
أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً.. [28] .
* ألا يكون في النشاط الترويحي كذب وافتراء؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له [29] .
* ألا يكون في النشاط الترويحي تبذير للمال واستهلاك باذخ؛ قال الله
(تعالى) : [وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إنَّ
المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً] ...
[الإسراء: 26، 27] ، وسياق الآية في الإنفاق على ذي القربى والمسكين وابن السبيل، فكيف الحال في الترويح [30] ؟ ! .
* ألا يكون في النشاط الترويحي اختلاط بين الرجال والنساء لما يفضي إليه
ذلك من النظر المحرم، والخلوة المحرمة، بالإضافة إلى أنه قد يكون ذريعة
لمخالفات شرعية أكبر؛ قال الله (تعالى) : [وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن
وَرَاءِ حِجَابٍ] [الأحزاب: 53] ، وقال رسول الله: إياكم والدخول على النساء،
فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله: أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت [31] .
وعن جرير (رضي الله عنه) قال: سألت رسول الله عن نظر الفجاءة فأمرني
أن أصرف بصري [32] .
* ألا يكون في النشاط الترويحي نص على الحرمة.
ولقد جاءت بعض النصوص بتحريم بعض أنواع ووسائل الترويح، ومن ذلك:
أ -المعازف؛ ورد في تحريمها نصوص، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف [33] .
ب -النرد؛ قال ضص: من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم
الخنزير [34] .
ج -الميسر؛ قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ
وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]
[المائدة: 90] .
د -التحريش بين البهائم؛ قال ابن عباس (رضي الله عنهما) : نهى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عن التحريش بين البهائم [35] [**] .
هـ -اتخاذ ما له روح غرضاً؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا
تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً [36] .
وتصوير ما له روح؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من صور
صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ [37] .
ز -كثرة الضحك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ولا تكثر
الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب [38] .
ح -النظر إلى ما حرم الله (تعالى) ؛ ورد في ذلك نصوص كثيرة، منها قوله
(تعالى) : [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فَرُوجَهُنَّ] [النور: 30، 31] .
5- ألا يشغل النشاط الترويحي عن واجب شرعي أو اجتماعي:
الطابع العام لحياة المسلم: الجدية، وما الترويح إلا عامل مساعد للحياة الجادة، والاستمرار فيها، فإذا تجاوز الترويح هذا الحد فشغل عن الجد: فإنه يخرج إلى
دائرة المكروه أو المحرم بحسب نوع الجد الذي يشغل عنه، فإذا كان شاغلاً عن
أداء واجب أو ترك محرم فإنه محرم، وإن كان شاغلاً عن أداء مستحب أو ترك
مكروه فإنه مكروه، لأنه أصبح ذريعة إلى الحرام أو المكروه، وما كان ذريعة
إليهما أعطى حكمهما، يقول أبو زهرة في بيان قاعدة سد الذرائع:
... وذلك لأن الشارع إذا كلف العباد أمراً فكل ما يتعين وسيلة إليه مطلوب،
وإذا نهى الناس عن أمر فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه حرام أيضاً، وقد ثبت هذا
بالاستقراء للتكليفات الشرعية طلباً ومنعاً. [39]
6- ألا يكون النشاط الترويحي ضارّاً على ممارسه:
إذا كان في النشاط الترويحي ضرر على ممارسه أيّاً كان نوع الضرر ولم
يوجد فيه نفع يفوق ذلك الضرر فإنه يحرم على ذلك الممارس مزاولته؛ لقوله -
صلى الله عليه وسلم-: لا ضرر ولا ضرار [40] ، ولما قد تقرر في الشرع من
قواعد مثل قاعدة: إذا اجتمع الحلال والحرام غُلّب الحرام [41] ، وقاعدة: درء
المفاسد مقدم على جلب المصالح [42] ، وبهذا تظهر حرمة أنواع من الرياضة في
عصرنا كالملاكمة والمصارعة بوضعها الحالي والله أعلم لما تؤدي إليه من أضرار
في الجسم، بل وربما أدى بعضها إلى الوفاة أو الإعاقة كما هو مشاهد.
__________
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة ج2، ص454، الترويح للعودة ص23.
(2) انظر: البدائل الإسلامية لمجالات الترويح المعاصرة لبسيوني، ص 21.
(3) انظر: الترويح ونظرياته في المجتمعات الحضرية المعاصرة د إسحاق القطب، والمنشور في مجلة الدار عدد شوال 1402هـ.
(4) انظر: البدائل الإسلامية لمجالات الترويح المعاصرة لبسيوني، ص 21.
(5) انظر: الترويح وأوقات الفراغ لدرويش والحمامي، ص21.
(6) انظر: البدائل الإسلامية لبسيوني، ص24.
(7) انظر: الترويح وأوقات الفراغ لدرويش والحمامي، ص25.
(8) انظر: السابق ص63، 77.
(9) انظر: السابق ص23.
(10) مسلم م4، ص2106، ح2750.
(11) البخاري مع الفتح ج4، ص209، ح 1968.
(12) البخاري مع الفتح ج4، ص217، ح 1975.
(13) مسلم م2، ص815، ح1159.
(14) الترمذي ج4، ص358، ح 1992م، وقال: صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح7909.
(*) في القاموس المحيط: تقمع فلان تحير أو جلس وحده، والمقصود: أنهن يجلسن بعيداً عن النبي دون عائشة.
(15) البخاري مع الفتح ج10، ص526، ح 6103.
(16) البخاري مع الفتح ج1، ص172، ح 77.
(17) أخرجه أبو داود، ج3، ص66، ح2578، وابن ماجة م1، ص 636 وقال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط البخاري.
(18) مسلم م2، ص609، ح 892.
(19) بهجة المجالس لابن عبد البر، ج1، ص115.
(20) أخرجه الحاكم: ج2، ص375، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(21) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص60.
(22) البخاري مع الفتح ج3، ص36، ح 1150.
(23) مسلم م1، ص543، ح 787.
(24) انظر: البخاري مع الفتح ج2، ص7273، ح 599.
(25) فتح الباري ج2، ص73.
(26) ابن ماجة م2، ص1403، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح 7321: صحيح.
(27) أحمد: ج5، ص86.
(28) أبو داود: ج5، ص273، ح 5003، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7454: حسن.
(29) أحمد ج5، ص5 وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7013: حسن.
(30) انظر: تفسير ابن كثير، ج3، ص36.
(31) مسلم م4، ص1711، ح2172.
(32) مسلم م3، ص1699، ح2159.
(33) البخاري مع الفتح ج10، ص51، ح5590.
(34) مسلم م4، ص1770، ح 2260.
(35) الترمذي ج4، ص210، ح 1708 وقد رواه مرسلاً عن مجاهد (ح 1709) وحكى أن المرسل أصح، وكذا قال المنذري في مختصر السنن ج3، ص 391، وضعف الألباني المرفوع في ضعيف الجامع، ح6049.
(**) في القاموس المحيط: التحريش: الإغراء بين القوم أو الكلاب وذلك بتدريبها على ما يشبه المصارعة بهدف التسلي بذلك.
(36) مسلم م3، ص1549، ح1957.
(37) البخاري مع الفتح ج10، ص393، ح 5963.
(38) أحمد: ج2، ص310، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7312: صحيح.
(39) ابن حنبل حياته، وعصره، وآراؤه الفقهية لأبي زهرة، ص314.
(40) أحمد: ج1، ص313، وقال الألباني في صحيح الجامع: ح7517: صحيح.
(41) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص105، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص121.
(42) الوجيز في القواعد الفقهية للبرنو، ص85.(90/16)
خواطر في الدعوة
جمال الكون
محمد العبدة
إن ما كتبه ابن تيمية في سفره الكبير (درء تعارض العقل والنقل) كان لحل ...
مشكلة كبيرة في تربية وتكوين شخصية المسلم، لأن الفصل بين العقل والنقل
يحدث شروخاً وتشوهات في طبيعة التفكير، فإن الوحي للعقل كالنور للبصر، فما
فائدة أن يكون الإنسان مبصراً والظلام من حوله يلف الكون؟ ! ، وشبيه بهذا أيضاً: مَنْ يفصل بين آيات الكون المنظور وآيات الكتاب المسطور، فإذا كانت غاية
الخلق العبودية التامة لله (تعالى) ، فإن من كمال التربية انسجام الوسائل والغايات،
فقيام العقل بوظيفته المقدرة له وسيلة، والتناغم مع الطبيعة المُسخّرة للإنسان وما
فيها من إبداع وجمال وسيلة أيضاً، وقد أمر الله (تعالى) في كتابه بالنظر في آيات
الأنفس والآفاق [فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ] [الطارق: 5] ، كما نبه القرآن إلى
هذا الكون وما فيه من جمال [وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ]
[الحجر: 16] ، [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاًكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا
جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ] [النحل: 5، 6] ، [وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ] [النحل: 8] .
ثم جاءت السنة لتربي المسلم على الانسجام مع هذا الكون، فعندما سئل
رسول الله عن الرجل يعجبه أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً قال: إن الله يحب
الجمال.. [1] وكان يغير الاسم القبيح والمنظر القبيح.
وجاء العلم الحديث ليكشف أن الجمال من تركيبة هذا الكون، وأن ما قاله
علماء القرن التاسع عشر من أن المادة ليس لها إلا خواص كمية كالوزن والحجم
والعدد ليس صحيحاً، وجاء العلم الحديث ليقول: إن أي نظرية أو فرضية نرى
فيها الجمال فإننا نتأكد أنها أقرب للصواب لأنها جزء من الكون. فالجمال في
النظرة الجديدة: وسيلة من وسائل اكتشاف الحقيقة العلمية [2] ويتساءل العلم
الحديث مستنكراً على العلم المادي الإلحادي: هل تستطيع آليات الطبيعة أن تفسر
جمال النُدف الثلجية، أو زبد البحر، أو غروب الشمس، أو زخرفة ريش
الطيور؟ [3] ، إن الجمال في الفيزياء هو السمة الغالبة، فالتجربة تخطئ في الغالب والجمال قلما يخطئ، وقد كان الرياضي والفيزيائي هرمان فيل مقتنعاً بأن نظريته في القياس لا تنطبق على الجاذبية، ولكن نظراً لكمالها الفني، لم يرد التخلي عنها، وقد تبين بعد ذلك بوقت طويل أن نظريته تلقي ضوءاً على ... ديناميكا الكم الكهربائية، فجاء ذلك مصداقاً لحسه الجمالي [4] ويقول عالم الرياضيات والفيزياء هنري بوانكاريه: لأن في البساطة والضخامة كلتيهما جمالاً؛ فنحن نؤثر البحث عن حقائق بسيطة وعن حقائق كبيرة [5] ، ويعلن أينشتاين أنه: ... لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق داخلي في الكون [6] . وأكتفي بهذه النقول من الفصل الممتع (الجمال) ، وأتمنى أن يقرأ العلم الجديد مَنْ في قلبه مرض من الذين يتابعون إلحاد العلم القديم، [أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] ؟ ! .
__________
(1) الألباني: صحيح سنن الترمذي: ج2، ص193.
(2) العلم في منظوره الجديد تأليف: روبرت أغروسي، جورج ستانيو، سلسلة عالم المعرفة، ص46.
(3) المصدر السابق: ص71.
(4) المصدر السابق: ص48، 49.
(5) المصدر السابق: ص48، 49.
(6) المصدر السابق: ص48، 49.(90/26)
سياسة شرعية
العلاقات والحصانات الدبلوماسية..
في الفقه الإسلامي والقانون الدولي
(2)
بقلم: علي مقبول
في الحلقة الماضية ذكر الكاتب نبذة عن تاريخ التمثيل الدبلوماسيومفهومه ومراحل تطوره، وذكر صورة التمثيل الدبلوماسي في صدرالإسلام، ثم شرع في إيضاح الحصانات والامتيازات الدبلوماسية في القانون الدولي، فذكر منها: الحصانة الشخصية للممثل الدبلوماسي، والحصانة القضائية، ويواصل الكاتب ذكر جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
ثالثاً: عدم خضوع دار الوكالة ومحتوياتها للقضاء الإقليمي:
يقصد بدار الوكالة السياسية ومحتوياتها: مقر البعثة والمساكن التي تخصصها
الدولة الموفدة لاستعمال البعثة.
ويلحق العديد من القانونيين بها: وسائل النقل التي تملكها أو تستأجرها البعثة، فضلاً عن الحديقة وموقف السيارات.
وتتمتع كل هذه الأشياء بالحصانة، وهذه الحصانة ذات شقين:
الشق الأول: خاص بحظر دخول السلطات العامة مقر البعثة، وكذا: منع
اتخاذ أي إجراء قضائي أو إداري داخلها، ويشمل ذلك: القبض أو التفتيش، أو
الاقتحام، أو الحجز ... ونحوها.
الشق الثاني: خاص بضرورة توفير كافة الإجراءات الملائمة لحراسة البعثة، لمنع الجمهور من اقتحامها، أو الإضرار بها، أو الإخلال بأمنها، أو الانتقاص
من هيبتها، بل تلتزم الدولة بأن تتخذ إجراءات أمن مشددة في أوقات الهياج أو
الفتنة أو الاضطرابات الشعبية، ومنع التظاهر أمام مقر البعثة حتى لا يؤدي إلى
عدم الاطمئنان الذي قد يعوق قيام البعثة بواجباتها على النحو الأكمل [1] .
وقد أشارت المادة (22) من اتفاقية (فيينا)
إلى هذه النقاط، فنجد المادة تقول:
1- تكون مكانة مباني البعثة مصونة، ولا يجوز لوكلاء الدولة المستقبلة
دخولها دون موافقة رئيس البعثة.
2- على الدولة المستقبلة واجب اتخاذ جميع الإجراءات المناسبة لحماية مباني
البعثة ضد أي تدخل أو ضرر عليها، وأن تمنع أي إخلال بأمن البعثة أو النيل من
كرامتها.
3- لا يجوز أن تكون مباني البعثة، وأثاثها، والأشياء الأخرى الموجودة فيها، وكذلك وسائل النقل الخاصة بالبعثة.. محل تفتيش أو استيلاء أو حجز، أو
إجراء تنفيذي.
وأيضاً مما يلحق بدار الوكالة: محتوياتها، ووثقائها، وتتمتع أيضاً كافة
محفوظات ووثائق البعثة الدبلوماسية بالحصانة، أي: إنه لا يجوز التعرض لهذه
المحفوظات أو الوثائق أو كشف سريتها، وطبيعي أن هذه الحصانة مكفولة
للمحفوظات والوثائق الموجودة في المقر في إطار الحصانة المقررة لهذا المقر،
وتمتد تلك الحصانة كذلك إلى وثائق ومحفوظات البعثة الموجودة خارج المقر، وقد
ورد النص على هذه الحصانة في المادة (24) من اتفاقية (فيينا) بقولها: تكون
حرمة المحفوظات والمستندات الخاصة بالبعثة مصونة دائماً أيّاً كان مكانها.
وهذه الحصانة مطلقة، ولا يجوز التنازل عنها لأي سبب، وتظل سارية في
حالة قطع العلاقات الدبلوماسية [2] .
حق الملجأ: تثير حصانة مقر البعثة مشاكل واسعة حول حق البعثة في إيواء
الفارين من العدالة، أو السماح باللجوء السياسي أو احتجاز بعض الأشخاص فيها.
فبالنسبة لحق البعثة في إيواء الفارين من العدالة، نجد أن القانون والقضاء
الدوليين يرفضان الإقرار للبعثة بهذا الحق، وذلك على أساس أن الحصانة لا تمتد
إلى أبعد مما تطلبه حماية العمل الدبلوماسي، ويجب على رئيس البعثة أن يسلمهم
إلى سلطات الدولة، وإن كان يمتنع على هذه السلطات أن تقتحم مبنى السفارة
للقبض على الفارين من العدالة، وأقصى ما كانت تعمله الدول في مثل هذه الأحوال
هي أن تحاصر السفارة وتطلب تسليم المجرم.
ويوجد خلاف في القانون في جواز إعطاء حق اللجوء السياسي من جانب
البعثة، ولا نجد خلافاً في هذا الشأن في نطاق دول أمريكا اللاتينية، فهي تعترف
للبعثات السياسية بحق إيواء السياسيين، كما تؤيد هذا الحق بالنص عليه أيضاً في
اتفاقية (مونتفديو) المبرمة بينهم عام 1933م [3] .
أما بالنسبة للدول الأخرى: فقد نازع الكثيرون في شرعية فكرة الملجأ
الدبلوماسي، معللين رأيهم بمخالفته لمبدأ السيادة الأقليمية، ولكن رغم هذا حصلت
له تطبيقات عديدة أثناء الحرب الأهلية الأسبانية، وكذلك بعد الحرب العالمية
الأخيرة، فقد لجأ رئيس وزراء هنجاريا السابق كيلاي إلى السفارة التركية في
(بودابست) في إبريل سنة 1944م، وكذلك لجأ رئيس وزراء رومانيا السابق
روداسكو إلى السفارة الإنجليزية في (بوخارست) في السنة نفسها.
ومع غموض القواعد المتعلقة بالملجأ الدبلوماسي، نجد أن اتفاقية (فيينا)
سنة 1961م، لم تتناوله بالتنظيم، واكتفت بالنص في المادة (41) على عدم جواز استعمال مقر البعثة الدبلوماسية بطريقة تتنافى مع وظيفة البعثة، ونص المادة - كما في الفقرة (3) -: لا يجوز استخدام مباني البعثة على وجه لا يتفق مع وظائفها المقررة في هذه الاتفاقية، والمفهوم أن هذا النص يمنع بطريقة ضمنية منح الملجأ الدبلوماسي [4] .
ومع ذلك يرى العديد من القانونيين، وتدل السوابق القضائية على إعطاء حق
اللجوء إلى السفارة لأغراض إنسانية، وذلك إذا ما خيف على المجرم السياسي من
اعتداء العناصر غير المسؤولة، وإن كان ذلك لا يتضمن بحال منع الاختصاص
المحلي لسلطات الدولة، وقد أقرت هذا الاتجاه محكمة العدل الدولية في حكم لها
صدر عام 1950م [5] .
وقبل أن أختم هذه النقطة أشير بلمحة موجزة عن حصانة الحقائب الدبلوماسية، وذلك لتعلقها بموضوعنا (الحصانات) خاصة وأن اتفاقية (فيينا) قد أفردت لها
أحكاماً خاصة بها ذات فائدة في هذا النطاق:
- الحقائب الدبلوماسية:
للبعثة الدبلوماسية أن تستخدم حقيبة دبلوماسية للبريد السياسي بينها وبين
الدولة الموفدة، وقد دل العرف على تنظيم استخدامها، وذكرتها اتفاقية (فيينا) في
موادها.
- مدلول الحقيبة الدبلوماسية:
تحتوي الحقيبة الدبلوماسية في العادة على المستندات والأوراق والأشياء المعدة
للأعمال الرسمية، ويلحق بالحقيبة في الحكم: الطرود المغلقة والمختومة التي
ترسل من الدولة إلى البعثة والعكس، ويجب أن يوضع على الطرود أو الحقيبة
علامات خارجية تدل على صفتها (المادة 27/4) .
- حصانة الحقيبة:
قررت اتفاقية (فيينا) حصانة الحقيبة، ومنعت فتحها أو حجزها
(المادة 27/ 2) ، على أنه من الملاحظ أن هذه الحصانة قد يساء استخدامها، فقد تستخدم في التهريب، أو حمل مواد ممنوعة ... ونحوها، فما هو الحكم في هذه الحالة؟ وما الوسيلة الواجب اتباعها لو اشتبهت الدولة المُوفَد إليها في أمر من هذه الأمور؟ هل يجوز فتحها؟
رفضت اتفاقية (فيينا) إقرار نص يفيد هذا المعنى رغم جهود العديد من
القانونيين في ذلك.
وللدولة التي تشك في أمر الحقيبة أمران:
1- إما منع دخول الحقيبة أصلاً.
2- أو فتحها بعد استئذان وزارة الخارجية، وفي حضور رئيس البعثة
الدبلوماسية.
- حامل الحقيبة:
أطلقت عليه اتفاقية (فيينا) اسم الرسول الدبلوماسي، وأضفت عليه حصانة
كاملة، بشرط أن يكون حاملاً لمستند رسمي يدل على صنعته، ويحدد فيه عدد
العبوات المكونة للحقيبة الدبلوماسية، وقد ذكرت اتفاقية (فيينا) ذلك في
(المادة 27/ 5) بقولها:
إنه [حامل الحقيبة] أثناء قيامه بمهامه في حماية الدولة المعتمد لديها، يتمتع
بالحصانة في شخصه.
ثم ذكرت المادة نفسها أيضاً أنه: لا يخضع لأي شكل من أشكال القبض أو
الحجز وتنتهي الحصانة الشخصية لحامل الحقيبة بمجرد تسليمها إلى المرسل إليه
(المادة 27/6) .
وأجازت الاتفاقية إرسال الحقيبة مع قائد طائرة تجارية، ونجد المادة (27/7)
توضح ذلك: يجوز أن تسلم الحقيبة الدبلوماسية إلى قائد طائرة تجارية، ويجب أن
يهبط عند نقطة دخول مصرح بها، كما يجب عليه أن يحمل وثيقة رسمية تبين عدد
الطرود التي تتألف منها الحقيبة، غير أنه لا يكتسب صفة حامل الحقيبة، ويجوز
للبعثة أن ترسل أحد أعضائها لاستلام الحقيبة الدبلوماسية من يد قائد الطائرة بطريقة
مباشرة وحرة [6] .
رابعاً: الحصانة المالية أو الإعفاء من الضرائب:
جرت عادة الدول إعفاء رجال السلك الدبلوماسي من الضرائب الشخصية
المباشرة، وكذلك من دفع رسوم إلا ما كان منها مقابل خدمات فعلية كالإنارة والمياه، كما يعفى الممثلون الدبلوماسيون على سبيل المجاملة بشرط معاملة المثل من
الرسوم الجمركية.
ولقد احتوت اتفاقية (فيينا) سنة 1961م على تنظيم مفصل للإعفاءات المالية، وذلك على النحو التالي:
قررت المادة (34) على أنه: يعفى الممثل الدبلوماسي من جميع الضرائب
والرسوم، شخصية كانت أو عينية، عامة، أو إقليمية، أو بلدية، فيما عدا:
أ- ذلك النوع من الضرائب غير المباشرة التي تكون عادة في سعر البضائع
والخدمات.
ب- الضرائب والرسوم المفروضة على العقارات الخاصة الواقعة في إقليم
الدولة المستقبلة، إلا إذا كان الممثل الدبلوماسي يضع يده عليها نيابة عن الدولة
المستقبلة من أجل أغراض البعثة.
ج- ضرائب التركات ورسوم الأيلولة التي تجبيها الدولة المستقبلة، وذلك مع
مراعاة الفقرة الرابعة للمادة (39) .
د- الضرائب والرسوم على الدخل الخاص التي يكون مصدرها في الدولة
المستقبلة، والضرائب التي تجبى من رأس المال الخاص بالتمويل للمشروعات
التجارية الواقعة في الدولة المستقبلة.
هـ- الضرائب والرسوم التي تجبى مقابل خدمات خاصة.
ورسوم التسجيل، والقيد، والرهن، والدمغة الخاصة بالأملاك الثابتة مع
مراعاة أحكام المادة (23) .
الإعفاءات الجمركية:
1- نصت اتفاقية (فيينا) أيضاً على أن تقوم الدولة الموفد إليها وفقاً لما قد
تضعه من قوانين وأنظمة بالسماح بدخول المواد الآتي ذكرها، وبإعفائها من جميع
الرسوم الجمركية والضرائب والتكاليف الأخرى غير تكاليف التخزين والنقل
والخدمات المماثلة (المادة 36) :
أ- الأشياء المعدة للاستعمال.
ب- الأشياء الخاصة بالاستعمال الشخصي للممثل الدبلوماسي وأفراد أسرته
الذين يعيشون في كنفه، بما في ذلك الأشياء اللازمة لإقامته.
2- تعفى الأمتعة الشخصية للممثل الدبلوماسي من التفتيش، مالم توجد قرائن
جدية تبرر إمكانية احتوائها على أشياء لا تشملها الإعفاءات المقررة في الفقرة
الأولى من هذه المادة، أو أشياء يحظر قانون الدولة المستقبلة استيرادها أو
تصديرها، أو تخضع لأنظمة الحجر الصحي، ويجري مثل هذا التفتيش في
حضور الممثل الدبلوماسي أو مندوبه الرسمي [7] .
وهكذا حددت اتفاقية (فيينا) حدود هذه الإعفاءات المالية، ولكن السؤال المهم
في هذا المجال هو: هل التزم الممثلون الدبلوماسيون بهذه الحدود؟
الواقع أن ما يسمع به الناس اليوم، وما يرونه من إساءة استخدام المبعوثين
الدبلوماسيين لهذه الإعفاءات بلغ من الكثرة بحيث أصبحت تتزايد خطورتها يوماً
بعد يوم.
فالحقيقة: أن كثيراً من المبعوثين الدبلوماسيين أساؤوا استعمال حقهم في
الامتيازات المالية، وظهر على المسرح الدولي كثير من عمليات التهريب التي
نفذت بمعرفة هؤلاء الدبلوماسيين، كما أن بعضهم أساء استغلال الإعفاءات
الجمركية [8] وعدم تفتيش أمتعتهم، واستغلوا هذه الحصانات في إدخال أشياء
ممنوعة، وهناك الكثير من قضايا تهريب المخدرات وغيرها من أفلام ومجلات
هابطة ضبطت في حوزة هؤلاء الممثلين الدبلوماسيين، ولا نطيل بذكرها
لشهرتها [9] .
__________
(1) النظم الدبلوماسية والقنصلية، د جعفر عبد السلام، ص 117 -118.
(2) لقانون الدولي العام، د إبراهيم محمد العناني، ص 287.
(3) انظر: النظم الدبلوماسية والقنصلية، د جعفر عبد السلام ص120.
(4) انظر: مبادئ القانون الدولي العام، د محمد حافظ غانم، ص 585.
(5) انظر: النظم الدبلوماسية والقنصلية، مرجع سابق، ص 120.
(6) راجع: النظم الدبلوماسية والقنصلية، د جعفر عبد السلام، ص 122، العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، د عدنان البكري، ص 129، الدبلوماسية الحديثة، د سموحي فوق العادة، ص 290
(7) انظر: العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، د محمد حافظ غانم.
(8) سلطات الأمن والحصانات والامتيازات الدبلوماسية، د فاوي الملاح، ص 219.
(9) انظر: الكثير من الأمثلة على ذلك في المرجع السابق، ص 329 وما بعدها.(90/28)
هموم ثقافية
رؤية إسلامية لـ: إشكاليات مفهوم الديمقراطية
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
الديمقراطية كلمة أجنبية، جرى عليها قلم التعريب؛ فهي في لغة قومها
Democracy ومعناها: السيادة للشعب، وتطبيقها العملي يعني: أن يحكم
الشعب نفسه بنفسه عن طريق ممثلين له في مجلس ينتخبه يطلق عليه: (مجلس
الشعب) أو (مجلس الأمة) أو (المجلس النيابي) أو غير ذلك من الأسماء المعبرة عنه.
ولا أريد أن أتكلم هنا عن الغور التاريخي الذي تبلورت من خلاله الديمقراطية
المعاصرة، كما إنني لا أريد أن أفصّل في أنواع الديمقراطية، سواء أكانت سياسية
أو غير سياسية، ولكن أريد أن أشير إلى أهم المعاني التي ينطوي عليها مفهوم
الديمقراطية، وذلك من خلال الإشكاليات التي تغلف أزمة تبعثر ذلك المفهوم في
أوساط الداعين إليها.
وسيكون حديثي من خلال الإشارة إلى ست إشكاليات، تتضمن كل منها عناصر متعددة:
الإشكالية الأولى:
مبادئ الديمقراطية:
طالما أن المحصلة النهائية للإيقاع الديمقراطي هي حكم الشعب بالشعب، فإن متطلبات ذلك تدفع إلى السطح بأربعة عناصر رئيسة تؤلف فيما بينها النغم الأخير.
- العنصر الأول (الحرية) :
إن الحرية في المجتمع الديمقراطي تتعدى كثيراً ذلك التقييد الذي ذكره الدكتور
علي الدين هلال في بحثه المعنون (مقدمة الديمقراطية وهم الإنسان العربي
المعاصر) عندما حصرها بقوله: الحرية، أي: احترام الحريات المدنية والسياسية
للمواطنين؛ الحريات المدنية مثل: الحريات الشخصية، وحرية الانتقال،
والزواج.. والحريات السياسية مثل: حرية التعبير والرأي والحق في الاجتماع والتنظيم.. [1] .
إن جميع ما ذكره منطو في مفهوم الحرية في المجتمعات الديمقراطية، لكن
المفهوم الشامل عند أصحابها أعمّ من ذلك؛ فهي حرية مطلقة، لا يقيدها دين
سماوي، بل تسورها قوانين أرضية غير متفق على نصوصها، فهي أسوار
متحركة، لها مسارات متعرجة بحسب البلاد والمجتمعات.
وعندما تكون الحرية مبتوتة التحديد عن دين الله الذي هو الإسلام، فإن تقييد
إطلاقها سيكون خاضعاً لعقول البشر وأهوائهم، ومن هنا: ستختلف معاني الحرية
بحسب ذلك، وبناء عليه: فإن مفهوم الحرية في النظام الاشتراكي مغاير لمفهومها
في النظام الرأسمالي، وفي داخل المنظومة الاشتراكية: فإن مفهومها في الصين
مثلاً قد تراه مغايراً لمفهومها في كوبا، ومثل ذلك يقال في إطار النظام الرأسمالي،
فإن مفهوم الحرية في فرنسا مثلاً قد تراه مغايراً لمفهومها لدى ألمانيا، ويعود سبب
اختلاف المفاهيم إلى تراكم ظروف حياتية وموضوعية أدت في النهاية إلى صياغة
قوانين متغايرة، سواء في إطار المنظومات العقدية (كالاشتراكية والرأسمالية) ، أو
في إطار مكوناتها (أي: الدول التي تنتظمها) .
وبسبب ذلك: فإن ممارسة الحرية في تلك الدول أو المجتمعات لن تكون
بالقدر نفسه.
إلا أن القاسم المشترك بينها جميعاً هو انبتاتها عن التقييد الرباني، فالحرية
الجنسية والحرية الاقتصادية والحرية السياسية والحرية الثقافية والحرية الاجتماعية
والحرية الفكرية والعقدية: جميع تلك الحريات وغيرها هي حريات يطلق للشعب
أسلوب التعبير عنها، كل بطريقته وذلك من خلال الأطر التي يضعها ممثلوه
المنتخبون.
إن مهمة المجلس النيابي في الظاهر هي إيجاد الأوضاع التشريعية التي من
خلالها تُمارس الحرية المنوه عنها بما يكفل المصلحة لأفراد الشعب، وبما أن مفهوم
الحرية ليس محدداً وموحّداً لدى أولئك الممثلين للشعب، فإن الصيغة النهائية ستكون
محصلة تغلّب أصوات أصحاب مفهوم معين على أصوات أصحاب مفهوم آخر،
وحتى تلك الصيغة النهائية لن تكون سوى حلول وسط لدى أصحاب المفهومين،
وكل ذلك ليس بالضرورة أن يكون معبراً عن وجهة نظر الشعب.
ولما كان الأمر يغذ السير في هذا الاتجاه؛ فإن مفهوم الحرية لن يبقى ثابتاً،
سواء لدى الأفراد، أو المجتمعات، ومع تطور أو تغير مفهوم الحرية تتطور أو
تتغير المفاهيم الديمقراطية، ومثال ذلك: ما ذكره الدكتور إسماعيل صبري عبد الله
في بحثه المعنون (المقومات الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية في الوطن العربي) ، إذ قال عن تطور مفهوم الديمقراطية الغربية: كانت أولى خطواته: هي حق
تكوين النقابات، ثم الأحزاب، وظل هذا الحق مرفوضاً في فرنسا بالذات إلى ما
قبل مائة عام. الخطوة الثانية كانت: حق الاقتراع العام، وهذا المبدأ لم يسر
بصفة عامة إلا في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحالي. الخطوة الثالثة في
ذلك كانت: الاعتراف بالحقوق السياسية للمرأة، وهذا حدث قريباً جداً؛ في فرنسا
لم تنل المرأة الحقوق السياسية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، سويسرا ما زالت لا
تعطي للمرأة الحقوق السياسية حتى الآن. الخطوة الرابعة كانت: الاعتراف بحق
الأحزاب وبحق العمال في التأمينات الاجتماعية، وبالذات التأمين ضد البطالة [2] .
وكما أن الحرية الفردية المبتوتة عن الإطار الإسلامي غير متفق على تحديد
أبعادها لدى الديمقراطيين، مما أعطاها صفة الإطلاق عند النظر إليها من حيث
العموم، فإن الحرية بمعناها الأشمل تتوفر لها هذه الخصائص نفسها [3] في
المساحة الجماعية التي تمثل الحرية الفئوية.
ففئة العمال لهم فهم للحرية ليس بالضرورة أن يتطابق مع فهم فئة الموظفين
لها، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن فئة الفلاحين، وعن فئة المثقفين، وعن فئة
السياسيين.. وهكذا.
ومن هنا: تتبنى كل فئة إطاراً يُعبّر عن فهمها للحرية تتحرك من خلاله،
فانبثقت من مضامين هذا التصور مسميات منوعة هي عناوين معروفة لتلك الفئات، مثل: النقابات، والأحزاب، والهيئات، واللجان ... وسواها، تتوسّم كل فئة أن
تمارس فهمها للحرية تحت شعار عنوانها.
ونظراً لأن هذه الحرية لها صفة الإطلاق: فإن كل فئة تنزع إلى توسيع دائرة
حركتها في تلافيف تلك الصفة المطلقة لمفهوم الحرية بما يجعلها تتجاوز مساحاتها
إلى مساحات الفئات الأخرى، فيقع الصدام الذي تنشأ عنه طاقات شعورية وعاطفية
لها منحى الدفع باتجاه التوسع على حساب الآخرين مما يسبب ضحايا بشرية ومادية، والتي مهما عظمت فإنها تبقى دون الآثار السلبية المترتبة على الشقاق والافتراق،
مما يؤدي إلى بعثرة الأمة وإضعافها باسم ممارسة الحرية! ! .
ومن هنا: فإن عنصر الحرية الذي هو المبدأ الأول في الديمقراطية، عندما
ننظر إليه من خارج المنظور الإسلامي نراه متردّياً في إشكاليتين رئيستين:
إشكالية تحديد مفهومه في مجالاته الفردية.
إشكالية تحديد مفهومه في مجالاته الجماعية.
إن مجرد وجود هاتين الإشكاليتين كاف لجعل الريح تهوي بالديمقراطية إلى
مكان سحيق! ! .
- العنصر الثاني (المساواة) :
ولها وجهان (إفرازي) و (تنفيذي) ، ولكل وجه ما يناسبه من المناقشة
والتحليل.
الوجه الإفرازي: وهو الوجه الذي من خلاله يُفرَز النواب الناجحون في
الانتخابات فيدلفون المجلس، وبموجب المساواة: فإن جميع الناخبين بغض النظر
عن مستوياتهم الثقافية وخبراتهم الحياتية لهم وضع متساوٍ في الإدلاء بأصواتهم
لصالح مرشحيهم، ولكل فرد صوت واحد فقط، إما لصالح مرشح واحد أو لصالح
قائمة من المرشحين. وفي هذه الحالة يتساوى صاحب شهادة الدكتوراة العلمية مع
العامي الجاهل الذي لا يعرف كيف يتوضأ، في إدلاء كل منهما بصوته لصالح
مرشح أو قائمة مرشحين! ! ويتساوى العالم الفاضل التقي مربي الأجيال في الإدلاء
بصوته مع بنت الهوى التي تعرض مفاتنها في الملاهي الحمراء، ويتساوى
الإداري صاحب العقل المنظم وواضع برامج التعليم أو التنمية في الإدلاء بصوته
مع جامع القمامة الأمي، ويتساوى مدير المدرسة أو رئيس الجامعة في الإدلاء
بصوته مع الطالب الناشيء الذي يدرّسه. وعندما تفرز الأصوات ربما يفوز مرشح
بسبب صوت أدلى به الأمي على مرشح آخر جلّ أصوات ناخبيه من المثقفين.
ففي هذه الإشكالية أطاحت مساواة الأصوات بأهمية ثقل الكفاءات.
ثم نُيمّم وجوهنا شطر ناحية أخرى، وهي انعدام المساواة في قدرات
المرشحين في دعاياتهم الانتخابية، فربّ صافق في الأسواق لا يكاد يخط اسمه
يفوز بعضوية المجلس على حساب مربّ عريق بسبب تفاوت القدرات المالية،
وأحياناً ربما بسبب الانتماءات الحزبية أو التعصبات القبلية، فهذه إشكالية أخرى
إزاء دعوى المساواة! ! .
الوجه التنفيذي: وهو الوجه الذي يكتسب من خلاله النواب واجهات اجتماعية
ومواقع نفوذية بحكم موقعهم، لا بحكم القانون، ففي الواجهة الاجتماعية قد يلقى
النائب الأمي من الترحاب في المجالس والدوائر الحكومية والمؤسسة الشعبية ما لا
يلقاه العالم الجليل المجتهد أو صاحب رسالة الدكتوراة المتفوق صاحب الأبحاث
والدراسات، لا لشيء سوى لأن الأول نائب في مجلس الشعب والآخر ليس كذلك،
بل الأنكى من ذلك: اندفاع الناس لتنفيذ أوامر ذلك النائب الأمي، وأحياناً لا تكون
أوامر بل إشارات، بمقابل عدم اكتراث أولئك الناس بحضور العالم مجلسهم،
فضلاً عن أن يصدروا عن أمره! ! .
وأما من ناحية النفوذ: فإن أتباع النائب وأنصاره يحظون بالمكاسب المادية
الناشئة من توليهم الإدارات ومراكز متقدمة سواء في الحكومة أو الشركات، أو
الناشئة من استلالهم لأحقية تنفيذ المناقصات ذات الأرقام الفلكية، أو من تمكنهم من
اصطناع أفكار وهمية يجسدونها بمؤسسات اقتصادية يجعلونها غطاءً لابتزازاتهم
المالية ... وهكذا.
إن جميع ذلك مقتصر على حضرات النواب أو من كان في حكمهم كالوزراء، دون غيرهم ولو كانوا علماء فضلاء أو عاملين نجباء.
إن الديمقراطية تقف عاجزة إزاء حل إشكالية لعنصر من أهم عناصرها،
وهو عنصر المساواة.
- العنصر الثالث (التمثيل النيابي) :
على أعتاب التمثيل النيابي تتصارع الأهواء، تارة لابسة لبوس الحق أو
ملتبسة به، وتارة متدرعة بالأفكار الزائفة والآراء الباطلة، التي يخيل لمستمعيها
من سحر بهرجة إعلام الداعين إليها، أنها نور يتلألأ يضيء الظُلمة، أو ماء
رقراق يروي غليل العطشان! ! إلا أنّ انبلاج الأمر يسفر عن زيف هذا وذاك
معاً! ! . وهذا لا يقحمنا في إشكالية واحدة، بل يزجّ بنا في حقل إشكاليات، هذه بعض مظاهرها وأنواعها:
1- ممارسة الحق الإلهي: إن نواب المجلس النيابي يمارسون التشريع على
وجه الاستقلال عن أي قيد يحدّ من ذلك، وهم يفعلون هذا ضمن صلاحياتهم
الممنوحة لهم من الدستور، والتي بموجبها يُحِلّون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون، مما ليس فيه حق للبشر، إذ إن التحليل والتحريم حق خاص لله (تعالى) ، ففعلهم
ذاك هو ممارسة لحق إلهي ينقض عقيدة لا إله إلا الله، ويحل محلها عقيدة: لا إله
إلا المجلس النيابي! !
2- الأقلية والأغلبية: وينظر إليها من زاويتين: (عامة) و (خاصة) .
فأما العامة: فإن نواب المجلس عند التحقيق لا يمثلون أغلبية الأمة بل يمثلون
أقليتها؛ فالمجلس لا يصل إلى عضويته إلا من كان غنيّاً، بنفسه أو بقومه، ولو
كان جاهلاً أو سفيهاً، أو كان وجيهاً بنسبه أو بصدارته قبيلته أو عشيرته أو طبقته
أو فئته، ولو كان صاحب هوى أو فكر منحرف، أما المتوسطون من الشعب وهم
الأغلبية الحقيقية فلا ممثل لهم.
وأما الخاصة: فإن تشريعات المجلس تصدر بالأغلبية النيابية، وعند إعمال
النظر النزيه يتضح جليّاً أن النجاح سيكون حليف القضية المعروضة إذا كانت
مكرسة لمصالح الأغلبية المجلسية، ومشتتة أو ملغية لمصالح المعارضين.
3- الاستمرار والحل: قرار استمرار عمل المجلس النيابي أو حَلّه يقبض
على مفتاحه رئيس البلاد، الذي هو في الواقع رأس هرم مراكز القوى فيها، إن
لعبة شد الحبل بين المجلس والحكومة (وهي التي تمثل مراكز القوى إما بأشخاصها
أو برئيسها) تتم غالباً من جانب واحد. وعندما يشد المجلس الحبل في اتجاهه
فيصوبه إلى الخط الأحمر يصدر فوراً قرار الحل.
وتعاد اللعبة من جديد! ! وفي الدول الإسلامية ذات النظام الديمقراطي فإن
الخط الأحمر غالباً ما يتمثل باختلال توازن تشكيلة المجلس بما يمكّن من تمرير
المطالبة بتحكيم الشريعة الإسلامية! ، إن هذه الإشكالية واحدة من الصخور الصلداء
التي تتهشم على نتوءاتها جهود الإسلاميين النيابيين التي يهدرون زمناً طويلاً في
حشدها بغية تحقيق الحلم المتمثل في الوصول إلى تحكيم شرع الله من خلال
المجلس النيابي! ، ومن المؤسف أن نقرر أن الإشكالية البارزة هنا هي: أن أولئك
الإسلاميين لم يدركوا بعد أنهم يحرثون في الهواء ويزرعون بذور الوهم، فهل
سيحصدون سوى الخواء! !
4- الجزئية الكلية: إن مسحاً شاملاً لمكونات شعب من الشعوب سيظهر فيه
عدداً من الأديان والطوائف والقبائل والمهن والطبقات والأجناس وغيرها، وكل
واحدة من هذه المكونات تتألف من شعب وبطون وأفخاذ واختصاصات وأعراق،
منها كلها أو من بعضها، وإن المجلس النيابي مهما كان الإعداد له دقيقاً فإنه يقصر
عن إيجاد الصيغة العادلة للتمثيل الكلي لتلك المكونات، ولذلك: فإن حقيقة ذلك
المجلس لا تتجاوز تمثيل أجزاء من تلك المكونات من استيفاء دعوى الكلية، مما
يحمل في طياتها معنى البهتان، ويُلحق بها وزر الافتئات.
5- قصور التخصصات: ما إن ينعقد المجلس النيابي حتى يشرع في تكوين
لجانه المختلفة، ولكل لجنة تخصص محدد، ويخضع تعيين أعضاء كل لجنة في
الغالب إلى مزايدات الأحزاب والفئات التي يتشكل منها المجلس، وقد يحدث أحياناً
أن يكون جميع أعضاء اللجنة ليس بينهم نائب واحد يحمل التخصص الموكول لتلك
اللجنة تمثيله! ! مما يؤدي إلى استعانة اللجنة برجال متخصصين من خارجها! ! .
6- انخفاض المستويات: بما أن المجلس النيابي يضطلع بمسؤوليتي الرقابة
والتشريع، فإنه بحاجة إلى مستويات ثقافية ذات ارتقاء تخصصي وخبرة تنفيذية
تمكنه من أداء دوره، إلا أن الانتخابات النيابية بأساليبها الالتفافية تدفع إلى كراسي
المجلس بتشكيلة عجيبة، بينهم من لا يعرف كيف يكتب اسمه ومن لا يحسن سوى
بيع بعض الخضروات، فما هو دور هؤلاء البسطاء في الرقابة والتشريع؟ ! ،
وإذا ادعى بعض الإسلاميين أنهم سينجحون في تمرير التشريعات الإسلامية من
خلال: المجلس فكيف يكون هذا ومعظم إن لم يكن كل تخصصات النواب لا علاقة
لها بالشريعة ولا يعلمون شيئاً عن أصول التشريع الإسلامي؟ ! .
7- العام والخاص: رغم أن عضوية المجلس النيابي تكليف لأداء العمل العام، فإن كثيراً من أعضائه يبتزونه لصالح النفع الخاص، إما لهم أو لأقاربهم أو
لقبائلهم أو لمعارفهم، ويتم ذلك كله في إطار القانون والحصانة البرلمانية، وبالتالي: يتحول أداء كثير من النواب من الخدمة المؤسسية إلى المصلحة الشخصية.
8- ضياع مصالح الأمة: ما إن يسند أعضاء المجلس النيابي المنتخب
ظهورهم إلى كراسيهم المجلسية الوثيرة، حتى يبدأ تشكيل الدوائر الشللية، سواء
حزبية أو قبلية أو مصلحية، وكثيراً ما يرتفع صراخ المهاترات ويتراشق الجميع
بالاتهامات، وتحتدم المعارك الصوتية وتعلو النبرات وتنتفخ الأوداج، وكأن قاعة
المجلس ساحة حرب، (صبّحكم مسّاكم) فإذا حمي الوطيس رأيت كراسي تطير في
الهواء وقبضات تتوجه نحو الوجوه، وأخذاً بالتلابيب ورشقاً بالأحذية (كرمكم الله)
مما يستدعي تدخل الآخرين لفك الاشتباك بعد أن استبد بالجميع الإنهاك! ! فكيف لا
تضيع مصالح الأمة في خضم أمواج تلك الخزعبلات؟ ، وقد شاء الله أن أرى
واحدة من تلك المسرحيات، أقصد الجلسات، منقولة على الهواء مباشرة عبر
قنوات التلفزيون في إحدى البلاد الإسلامية.
9- التسرّب والتسريب: تعتبر المجالس النيابية فرصة لا تعوض يستغلها
أعداء الأمة لتسريب عملائهم بشكل قانوني، ومن خلال انتخابات معترف بها محليّاً
ودوليّاً إلى تلك المجالس، ومن خلال أولئك النواب المسرّبون تتسرب جميع أسرار
الدولة إلى أعدائها دون أن يتجرأ أحد على اختراق الحصانة البرلمانية لإيقاف تلك
المهزلة! ! بل يستطيع أولئك المسرّبون أن يؤثروا على قرارات الدولة لصالح
أسيادهم! ! .
10- استغلال المنبر المجلسي: يتخذ أصحاب الأديان والطوائف من المجلس
النيابي منبراً يدعون من على أعواده لأديانهم وطوائفهم ويستعملونه ستاراً لتمرير
ودعم أتباعهم وأنصارهم، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهكذا تتمكن مؤسسات
تلك الأديان والطوائف من الاستفادة من مؤسسات الدولة والقطاع الخاص بما تلاقيه
من تغطية نيابية محصنة.
11- الهاجس! ! : إن تحليلاً دقيقاً لتصرفات معظم نواب المجالس النيابية
سيشير بما لا يدع مجالاً للشك أن هؤلاء النواب يباشرون أعمالهم المجلسية وفي
نفوسهم هاجس الترشيح للانتخابات القادمة، ولذلك فإنهم يدرسون تصرفاتهم
ويوجّهونها بما لا يؤدي إلى وقوفها عائقاً دون آمالهم النيابية المستقبلية، إن هذا
الهاجس قد يجعل بعض النواب يقفون حجر عثرة أمام مشاريع القرارات التي يعيق
تأييدها احتمال فوزهم في المجلس المقبل، حتى وإن كانت تلك المشاريع
المعروضة على المجلس فيها مصلحة للأمة وتوطيد لكيانها.
12- الانتهازية: تسعى بعض الأنظمة إلى عرض الوزارة على بعض
الفائزين في الانتخابات، وهنا ينتهز النائب الذي تعرض عليه الوزارة الفرصة
للمفاضلة بين أيهما ألمع جاهاً وأوسع كسباً، آلوزارة أم النيابة؟ ، فأيهما رجحت
في ذهنه كفتها بادر باختيارها، وأحياناً تكون الانتهازية حزبية وليست شخصية؛
فيبادر الحزب الممثل في المجلس إلى دفع أحد أعضائه للمشاركة الوزارية أو
النيابية حسب ما تقتضيه مصلحته الحزبية.
13- التلوّن والبرمجة: إن كثيراً من المرشحين النيابيين يلوّنون أفكارهم
ويبرمجون تصرفاتهم بحسب ما يودّه منهم ناخبوهم، فإن كان ذلك يقتضي منهم
الصلاة صلوّا! ! ، أو الزكاة زكوّا، أو العربدة عربدوا! ! . إنهم يلبسون لباس
الجماهير ويكتحلون بلون كحلهم! ! .
تلك كانت ثلاث عشرة إشكالية فرعية في موضوع التمثيل النيابي في المفهوم
الديمقراطي، وكل واحدة منها كافية لهدم الهيكل وتقويض البناء، فكيف لو أضفنا
إليها إشكالية الصراع بين النواب وبين الحكومة (التي تمثل مراكز القوى الحاكمة
والمسيطرة) ، وإشكالية دور الإعلام المحلي والوافد في صياغة توجهات الناخبين
وأفكارهم، وإشكالية الدعم المالي والمعنوي الموجود والموعود الذي يدفع ببعض
المرشحين نحو الصدارة، وغير ذلك من الإشكاليات الفرعية الأخرى ... لا شك أن
ذلك سيزيد الصورة قتامة ويكسي الواقع سواداً.
- العنصر الرابع (الواقع الدستوري) :
لم أقل الدستور، بل قلت الواقع الدستوري، وأقصد به الدستور وما يكتنفه
من ملابسات، وتلفه من ظروف، وتنجم عنه من إفرازات، ومن أهمها:
1- مصلحة الزعيم: سواء أكان رئيساً أو غير رئيس.
فالدستور لابد أن يلبي مصلحة الزعامة، وعلى الديمقراطية أن تكيّف أحوالها
لأداء خدمة تلك المصلحة، وينبغي أن تصاغ بنود الدستور في ذلك الإطار، فإذا
اقتضت مصلحة الزعامة حل المجلس يُحلّ، وينبغي أن تلبي مواد الدستور تلك
الرغبة الزعامية، وإذا اقتضت تجميده يجمّد، أو إلغاءه يُلغى، وكل ذلك بتغطية
دستورية. وإذا عجزت صيغ الجمل الدستورية عن القيام بتلك التغطية فإن الدستور
يُعدّل وينقح خدمة لعين الزعيم.
وفي بعض الأحيان لا يحتاج الزعيم لأي من هذا كُلّه؛ فيدوس فوق الدستور
ويمضي قُدماً لتحقيق مصلحته، دون أن ينسى القول: إن الذي فعله ليس إلا
لمصلحة البلاد وسعادة العباد! ! .
[مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] [غافر: 29] .
2- مزاج الزعيم: نعم مزاجه! ! فالواقع الدستوري يخضع أحياناً لأمزجة
الزعماء وأهوائهم، والزعيم ليس مطالباً بتبرير قراراته، فقد جعله بعضهم في مقام
من لا يُسأل عمّا يفعل! ! .
وإن استفسرت عن ألوان أمزجة أولئك الزعماء: فما عليك إلا النظر إلى
ألوان الطيف الضوئي وما يمكن أن يستجد من ألوان أخرى بخلط بعضها ببعض،
فأمزجة الزعماء قد تبدأ باللجان الشعبية، وتمر بمناجل الفلاحين، واتحاد القوى
العاملة، وأصناف النقابات، وشعارات الأحزاب، وكراسي مجلس الشعب.. وقد
تنتهي عند إشارات الدستور ومقتضياته ومفهوماته بل ونكهاته، وقد لا تنتهي.
3- إرادة الدول الأجنبية: إن كثيراً من الدول الديمقراطية هي في الواقع في
إطار النفوذ الأجنبي رغم علم الاستقلال الذي يرفرف فوق مؤسساتها الرسمية،
ويبقى موضوع استمرار الديمقراطية فيها أو إيقاف عجلاتها منوطاً بإرادة تلك الدول
صاحبة النفوذ، الذي له أوجه متعددة، منها: النفوذ الاقتصادي، والنفوذ العسكري، والنفوذ السياسي.. وغيره من ألوان النفوذ، وكل لون من تلك الألوان له حظه
في التأثير على الصيغة النهائية للواقع الدستوري، بما في ذلك القرار السياسي
المتعلق بالعلاقات الخارجية، أو القرار الداخلي المتعلق بالإجراءات الأمنية، أو
القرار الاقتصادي المتعلق بالميزانية العامة للدولة أو ...
4- تعليق الحريات: إن بعض الأنظمة عندما تريد بلورة الواقع الدستوري
حسب رغباتها ومقتضيات مصالحها تلجأ إلى اعتقال المناوئين ومصادرة حرية
كلمتهم أو تعليقها بما لا يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات الدستورية، وبالتالي
يفقدون فرصتهم المتاحة للوصول إلى المجلس النيابي ويتم تعليق الحريات
المعارضة للنظام في إطار الدستور الذي ينص على أن الحريات الشخصية مكفولة
في إطار القانون، وهؤلاء المعتقلون قد خالفوا القانون، أي النظام، فلابد من تكميم
أفواههم ووضع الأغلال في أيديهم، ليهنأ الزعيم وينام على فراشه الوثير! ! .
5- مراكز القوى: وهي جماعات الضغط التي ترى أن يُفصّل الدستور بما
يحقق مصالحها ويُدعّم نفوذها، كما أنها تتخذ من مظلة الدستور مواقع انطلاق في
داخل المجلس النيابي وفي خارجه لحماية مكاسبها الذاتية؛ ولذلك تراها تضع
العراقيل أمام أي مشروع قرار يحول بينها وبين أهوائها ومطامحها الابتزازية، وإذا
فشلت نصوص الدستور في توفير تلك المظلة سعت جماعات الضغط إلى تنقيحه
واستبدال بعض فقراته لتناسب تحقيق آمال وأهداف مراكز القوى التي تشمل
فعاليات سياسية واقتصادية وعسكرية.
6- المحاباة: تلجأ بعض الفئات، بصفتها الحزبية أو الشخصية إلى محاباة
وتملق النظام الحاكم، إما بالدفاع عن دستوره أو بمؤازرة رموزه، رغم أن ما
ترفعه من شعارات لا يسمح لها بهذا ولا بذاك. وللأسف إن هذا الوصف ينطبق
على بعض الجماعات الإسلامية أو الأفراد الإسلاميين المتورطين في حمأة المجالس
النيابية؛ فرغم أن دستور بلادهم علماني، مجافٍ للشريعة، بل مضاد لها، فإنهم
يدعون إلى احترام ذلك الدستور المضاد لتنزيل رب العالمين ولسنة خاتم المرسلين،
محاباة للنظام، ويتسامرون مع رموزه تملقاً لهم، أو انتهازية منهم. وإذا أردنا
دراسة الواقع الدستوري والمؤثرات التي تحيط به وتبلور توجهات فهم نصوصه أو
تنقيحها فإنه لا يسعنا أن نغض الطرف عن إحصاء أصوات النواب المحابين
والمتملقين! !
__________
(1) كتاب الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي: ص10، مطبوعات مركز دراسات الوحدة العربية.
(2) المصدر السابق: ص111.
(3) أي عدم تحديد الأبعاد.(90/34)
البيان الأدبي
فاصلة أدبية
التحرير
لم يكن بدّ من البيان.. بعد أن عبّر مدادكم معشر القراء عن استقبالين متقابلين؛ ... فمنكم من أثنى على ارتفاع المستوى الفني للنصوص المنشورة في المجلة،
وأبهجه ثمار البيان الأدبي الذي يختبئ شهراً إلا كمرور الكرام كي يجمع لؤلؤة من
عطاياكم، ثم ينظمها في عقد ملفاته التي تبزغ عليكم شمسُها كلّ شهرين.. ومنكم
من يعتب على نشر شعر التفعيلة وتوظيف عدد من الشعراء للرمز في النص
الشعري، ويرى أن في ذلك انحرافاً عن مسار البيان في البيان! .. ونحن نقدركم
جميعاً، ونحتفي بكم لا باعتباركم مرآةً تعكس، ولكن بتمثلكم عقلاً مؤمناً يقبل
ويرفض ويوازن وينقد، وذوقاً رفيعاً يتقرّى الجمالَ وهو أدرى به، وأرضاً معطاءة
تحتضن بذرتَنا التي لوحتها الشمس والريح حتى اختزنتْ خصبها! فتفضّ مغاليقها، وتحيلها شجرةً باسقة الجذع ريانة الثمر.. ونقول لكم مصارحين:
إننا لا نضيق بالأشكال الأدبية المعبرة عن نبض العصر مادامت ملتزمةً
بالفصحى، قادرةً على منح المعنى والرؤية ولو بعد مرات من القراءة خصوصاً
حين تكشف كل قراءة منها عن عمق جديد محتشد باللآلئ..
فقط نرفض العبثية والشكلية المحضة، ونرفض الرؤى والرؤيا المعوّقة
والمعوّقة.. نقبل التجديد الذي لا يعترضه نص شرعي صريح، أو رأي فقهي
صحيح، وإننا لنطمح أن نجد نبض الأدب في جيل الصحوة سهاماً مجلية، تكون
امتداداً لنبل حسان (رضي الله عنه) وتمتلك مع ذلك أدواتِ عصرها الفنية دون أن
تستأنسها فتنُهُ، وتروضّها آلهتُهُ المزيفة.
إننا نؤمن أن جيل الصحوة وهو يغسل درن الجاهليات عن الأرض يقدم البناء
الحضاري الشامل.. إنه لا يهدم أبنية الزيف وبيوت العنكبوت فحسب، ولكنه
ينشيء خلايا النحل، ويعطي للناس عسلاً حلالاً، وشفاءً من سقام الجاهليات.. كما
أنه لا يقتلع شجر الغرقد، ثم يسترخي على الرمال الخاوية! ! بل يملؤها حَبّاً
وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غلباً، وفاكهة وأبّا، ويجعل من كل ذلك مصاعد للطاعة،
وسبلاً مذللة لعبادة الله.
هذا هو الميناء الذي نطمح أن تنزل فيه مراكبنا الأدبية، ولكننا ما زلنا نتراآه
كالنجم الغائر؛ ولذا: فنحن نقبل أحياناً ما يقل فنياً عن مستوى طموحنا دون أن
نُسفّ هابطين! ونحن نأمل أن نسلك درباً صعداً، يزداد مع الزمن تألقاً وعمقاً.
وأقلامكم أولاً وآخراً مصبّ السقيا لأحواض البيان الأدبي فهل تفيض جوانحكم
بالينابيع؟ !
ذاك أملنا الذي منحتمونا منه أول الغيث، فلا كان غيثكم وسميّاً إلا في نفعه..(90/46)
نص شعري
جغرافيا الّرقاب
د. صالح سعيد الزهراني
إلى صُنّاع الحياة، وإلى الأغبياء بدرجة كافية جدّاً:
باسمِ تحرير مواليكَ، يجيئون إليكْ!
في زُجاج العطر، يأتون إليكْ..
في نديف القطن، في علبة ديتولٍ
وفي خلطة كيكْ!
تجد العاشق مجذوباً، يغنّيكَ..
مواويل السّليكْ
يخطف البسمة من عينيك، يدعوكَ..
بأحلى ما لديكْ،
من تراتيل الهوى العذب، يناديكَ:
أنا بين يديكْ
أنا أحنى منك يا قلبي عليكْ
باسم كشف السرّ عن خارطة الأموات دي جاما
وماجلان، مدّا شهقة العاشقِ..
فافتح ساعديكْ!
وعلى الأشرعة البيضاء رأس السندبادْ
وابن ماجدْ..
يرسم الدائرة الأولى لبيت العنكبوتْ..
يرسمْ: المدخل، والمخرجَ، والأبعادَ، صوتَ الرّيِح، هزّاتِ المداراتِ،
المضيقاتِ، مراسي الحزنِ، وجهَ البحر، أمواجَ السكوتْ.
يقذفُ الحبلَ على هامة صيادٍ فقيرْ
فينادي: يا ابن ماجدْ..
كلّ ما أبغيه قوتْ!
فيُجيبُ البحر صمتاً ... لن تموتْ ...
يرتمي الموجُ سيوفاً، يستدير البحرُ في عين ابن ماجدْ..
أيها البّحارُ.. دوزن ناظريك
قف كما أنتَ ... / إليكْ
أيها الرّائد: أدرك قاتليكْ
قالها البّحارُ للبحر غناءً: لا عليكْ
قالها البحر، ودي جاما يغنّي هاشمياتِ الكُميتْ
أتيت إليك مِلءُ فمي سُؤالٌ ... وبين جوانحي كُتبَ الجوابُ
تضيق الأرض في نظر الحُبارى ... ويأبى أن تضيق به العُقابُ
مددتُ يديّ، مِلؤهُما اشتياقٌ ... ومن كفّيّ ينهمرُ السّحابُ
وتنكسر الرّياح على جبيني ... وتُنكر ضبَحها الخيلُ العِرابُ
هنا فوق الخريطة لُفّ حبلي ... وطُوّقت المآذن والرّقابُ
كشفت رؤى الفجيعة عن فتوحي ... وعن تشكيلتي كُشف النّقابُ
إذا لم يكتب العلماءُ مجداً ... لأمتهم، فعلمُهمُ سرابُُ(90/48)
سباعيات
أعمال.. ونيات! ! !
شعر: د.محمد ظافر الشهري
لَكَ اللهُ يا أيها المسجدُ ... إذا سرّ شانئكَ المَشْهدُ
إذا داسَ رابينُ مستكبراً ... بأخفافه حيثما نَسجدُ
إذا ما سألنا بني جلدنا ... لماذا يبوسون رجل العتدو
لماذا أعانوه في حربه ... علينا، فقالوا: لنا مقصد
فإنا نَبَرّهُمُ عَلّهُمْ ... إذا رأوا البِرّ أن يهتدوا
فلم أر أن اليهود اهتدوا ... ولكن أرى عرباً هُوّدوا
نلوم اليهود على ظلمهم ... ولوم بني جلدنا آكد(90/51)
نص شعري
قراءة جديدة في دفتر ليلى
طاهر العتباني
كانت ليلى في تراث العرب الشعري: رمزاً للحب والعشق، ... والآن:
أصبح للبعض عشق جديد وهمّ جديد، يملأ عليهم قلوبهم، ويأخذ بمجامع
أرواحهم ... وفي هذه القصيدة قراءة جديدة لدفتر ليلى.
لـ ليلى بساتينها والجنانْ
ولي وَحْدي السُهْدُ..
لي وَحْدي الوَجْدُ ...
والافتتانْ
وفي وجهها ...
حين يطلع من كل صوبٍ ...
على خاطري
دمعتانْ
وفي مقلتيّ اشتياقٌ ولفحٌ ...
وفي كلماتي حروفٌ ...
لها وَلَهٌ مُسْتَبِد ... وأنشودتانْ
لليلى الحَنَانْ
ولي سَهَرُ العاشقينَ ...
ولي ليلها ...
بَحْرُها ...
وليَ الشاطئانْ
لليلى المعاني الحِسانْ
لليلى القصيدةُ ...
حين يحاصرني شوكها ...
وليَ الطَلَلُ المشرئبّ ...
يخاطبني من بعيد الزَمانْ
لليلى الرحيلُ ...
ولي أن أوقّفَ كل الصحابِ ...
علي رَبْعِها ...
أغزل الدَمْعَ من مُقْلتيها ...
فَيَبْكي الحصانْ لليلى ...
ولي ... أن نموتَ ونحيا ...
على كل مفترقٍ في طريق الجِنانْ
الدَمْعُ يعزفني على أطلالها
فتروغ من أضلاعي الكلماتُ
والوَجْد يَسْهَرُ في شعاب جوانحي
فتهيمُ في وُجْداني الكلماتُ
والليل يتركني وحيداً في المدى
وتهدّني بحصارها الظلماتُ
والصُبْحُ يشرق بَعْد ليلٍ تائهٍ
فكأنما في ضوئِهِ عَزَماتُ
وإذا الضحى غمر الدروبَ ضياؤهُ
وانساب في أصدائه الصَدَحاتُ
فلقلبي المحبوسُ وَقْع قصيدةٍ
وبوجهها تتشكل الأبياتُ
لليلى انهمار الدموعِ ... على وجنتي
ولي مِحْنتي
ولي وقفتي.. بين هذي الطلولِ..
ولي أنّتي
ولي في انبعاثِ النشيجِ ...
بأضلاعيَ الحرّةِ
نزيفٌ من القلق المستبدّ ...
وأنّةُ ليلٍ بقيثارتي
لليلى بكائي وأنشودَتي
لليلى التي.. وجهها في الفؤادِ..
طريقٌ طويلٌ..
وهذي الصفوفُ من الشهداء الأُلى أشعلوا عَزْمتي
لليلى.. مَرَرْتُ على كل بيتٍ..
وَقَفْتُ على كل صَحْبٍ ...
هتفتُ على كل قلبٍ ...
وأترعْتُ من لهفتي
لليلى رحيلي ...
صهيلُ الحصانِ بصدري
ولي رَجفتي
ولي أن أسافِرَ ...
لا البيد يعرف وَجْهي
ولا الليلُ يُدْرك: ما غايتي
لليلى غيابي طويلاً ...
وراء الكهوفِ التي نُثرتْ ...
في مدى خطوتي
ولي مِنْحَةُ السائرينَ على الدربِ..
لي خطوةُ الراحلينَ ...
إلى الجنّةِ
***
سيسألني الدربُ ... عند المسيرِ
لمن وِجْهتي
ويسألني الطيرُ ...
حين يحطّ على شجر الروحِ ...
حين يرفرف في مُقلتي
ويسألني البَحْرُ ...
حين أحطّ الرحالَ على شاطئيهِ ...
وحين أمدّ المجاديفَ ...
في عَرْضِهِ شامخ الهِمّةِ
لمن وجهتي؟ !
لمن غنوتي؟ !
لمن يتلظى اللهيبُ بقلبي؟ !
لمن حرقتي؟
لمن دَمعتي؟
لمن سَهِرتْ كل هذي النجومِ.؟ !
بصدري؟
وطال ارتقاب الضياء ...
الذي سوف يشرق في حالكِ ...
الظلمةِ
سيسألني ...
كل ريعٍ وقفتُ عليه ...
وساءلتُ حصباءَهُ ...
رَمَلهُ
وهذي الظباء التي ترتع الآنَ ...
في مُهْجتي
لمن وقْفتي؟ !
لمن كل هذي الطلولِ ...
التي تبعث الشَجْوَ في رحلتي؟
لمن كل هذي الأثافيّ
في العرصات التي
أمر عليها ... ؟
لمن صمتي المتلظى بصدري
كنار السكينةِ ...
حين تعاودني شِدّتي
ستسألني السُحْبُ ...
حين تمرّ على صحراءِ القلوبِ..
لتوقِظَ فيها صدى كلمتي
ستسألني كل هذي الخرائطِ ...
أينَ الخيول التي؟ !
وأين الفتوح التي؟ !
وأينَ الفوارسُ من كل فجّ ...
على صَهْوةِ؟ !
سيسألني الشهداءُ الذينَ ...
أُلملِمُ أشواقهمْ ...
كل ليلٍ ...
يحاصرني دَمُهُمْ كل فَجْرٍ ...
ويوقفني فوق هذي الروابي،!
لمن وجهتي؟
لمن غنوتي؟
لليلى التي؟
لليلى التي ...
حاصرتها السهام الخئونةُ ...
في كل وادٍ ...
ونادٍ..
دَفَعَتْها السهامُ ... إلى القمّةِ
لمن وَجْهُ ليلى التي؟
لمن وَجْه ليلى التي؟
- إنها دعوتي
- إنها دعوتي(90/52)
دراسات أدبية
أدونيس ... علامات التراجع! !
إبراهيم بن منصور التركي
بعد أن أوْهَت الحداثة اللبنانية قرنها بالنطح في صخرٍ صلد، لم يجد كبيرها
الذي علمها الشعر بدّاً من أن يعيد النظر في أقوال البدايات. فأدونيس الشاعر
الشهير الذي نفخ في تلك الحداثة من روحه تنبه بعد طول زمان إلى خطورة آرائه
الأولى الجريئة، فعاد يوائم بين ماكان وما يجب أن يكون. لقد كان أدونيس يمثل
في السابق حالة الرفض المطلق للانخراط في ترس المنظومة الجماعية،
والاستنكاف عن مجاراة المشروع السائد، وفي مقابل ذلك كان ينتهج نهجاً هروبيّاً
ينسحب وفقاً له إلى عالم أسطوري لا يمكن أن يوجد إلا في ذهنه.
بين أدونيس اليوم وأدونيس الأمس تبادر إلى ذهني عقد مقارنة مصغرة
تكشف مدى التطور والتغير الذي آلت إليها آراؤه اليوم، وكيف انسلخت عن بعض
أثواب أدونيس الأمس. ما الطريق الجديد الذي اختاره للتغيير؟ . وكيف كان ذلك؟ هذا ما ستقوله المقالة وتوضحه في السطور التالية، عن طريق استعراض موقف
أدونيس من: الدين، والقرآن، والتراث.
أولاً: الدين:
يقول أدونيس في ديوانه الصادر عام 1961م:
(لا الله أختار ولا الشيطان..
كلاهما جدارْ
كلاهما يغلق لي عيني..
هل أبدل الجدار بالجدار؟ ! !) [1] .
اصطدم الشعر الحداثي بصلابة التدين الشعبي الذي هاله أن يرى الألفاظ ذات
القداسة تمتهنها أبيات الشاعر الحديث، ومن ثم: لازم الشعر الحديث نعت الكفر
والتزندق والإلحاد. ويحاول أدونيس في أحد كتبه الجديدة الصادرة في 1993م أن
يقف عند مثل هذه الظاهرة عبر قصاصة ينقلها عن المجلة العربية (العدد 91، أيار
مايو 1985م) فهذه المجلة تصدر حكماً بالكفر والإلحاد على الشاعر الصديق الدكتور
عبد العزيز المقالح [2] هكذا يقول أدونيس وهو يحاول أن يبين طبيعة اللغة
الشعرية وأنها مجازية، فحين يقول الشاعر مثلاً: (صار الله رماد) ، لا يقصد
المدلول الحرفي المباشر الظاهر، أي: لا يقصد أن الله نفسه الذي يؤمن به المسلم
هو في ذاته صار رماداً ... الشاعر هنا يرمز بقوله هذا إلى حالة عامة من تراجع
أو غياب فكرة الله الواحد، وما تنطوي عليه من قيم وما تفترضه من سلوك، إنه
على العكس ينتقد هذه الحالة التي تتمثل في كون الممارسة الدينية السائدة تبتذل فكرة
الله المتعالية وتشوهها بحيث يبدو الله عبر هذه الممارسة كأنه أصبح رماداً،
والشاعر هنا مؤمن بالله كأبهى ما يكون الإيمان [3] ، وكذلك يحاول أدونيس تبرير
عبارة مماثلة وردت في شعره هو، إذ صرخ الجمهور لما سمع أدونيس يلقيها في
إحدى الأمسيات: لقد كفر [4] .
ليس الشاعر الجديد كافراً -كما يقول أدونيس- بل هو مؤمن بالله كأبهى ما
يكون الإيمان! ! . إن الشاعر الجديد وفقاً لرأي أدونيس السابق يرسخ مبدأ الإيمان
وينميه، كل غرضه أن (ينظّف) الممارسة الدينية السائدة من كل شوائبها
وتشوهاتها،، ولن أقف لأخالف أدونيس في فهمه (الجديد) لشعر المقالح، فهو فهم محتمل على أية حال على ما فيه من امتهان لفظ الجلالة.
ولكن هل يمكن أن يفهم شعر أدونيس الذي تصدّر هذه الفقرة فهماً مماثلاً؟ ! .
وهل يمكن أن يتبادر الفهم نفسه في قوله الآخر:
أعبر فوق الله والشيطان
دربي أنا أبعد من دروب
الإله والشيطان [5] .
إن أدونيس يؤكد في هذين المقطعين على فكرة الانعتاق من كل تشكل
أيديولوجي سابق إلهيّاً كان أم شيطانيّاً. إنه يختلق لنفسه أيديولوجيا خاصة تؤكد
فكرة الخصوصية والتفرد التي دندن حولها كثيراً. إنه رفض للدين والأيديولوجيا
برمتهما، هكذا كان أدونيس 1961، أما أدونيس 1993 ففي تعليقه على شعر
المقالح يظهر كيف أنه يحاول جاهداً سحب النص الشعري الجديد من براثن الكفر
والإلحاد، وحلحلته ليكون لبنة جديدة في جدار الإيمان، إنهما موقفان متباينان،
موقفان يعكسان تحولاً في الرؤية، وتراجعاً عن النهج التصادمي إلى محاولة
التقريب والتوفيق.
ثانياً: القرآن:
يؤلف أدونيس كتاباً جديداً يحمل في عنوانه إشارة الحديث عن النص القرآني، يأتي هذا الحديث في دراستين مطولتين كتبهما في ذلك الكتاب عن النص القرآني، بالإضافة إلى مقالات أخر لا تمت للعنوان بصلة، وهو يؤكد فيه على أن هذا
النص مفتاح لفهم العالم الإسلامي، ولن يفهم أحد المسلمين وتاريخهم إذا كان يريد
هذا الفهم إلا بدءاً من استيعاب هذا النص، والإحاطة بمستوى العلاقة القائمة بينه
وبين المسلم [6] . وبعد ثناء مطول يتحدث فيه أدونيس عن روعة البيان القرآني
وجماله البلاغي، يتحدث بعد ذلك فيما يزيد على أربع صفحات عن ترتيب الآيات، وجمع القرآن، ومراجعة جبريل للرسول مرة في كل سنة ومرتين قبل وفاة
الرسول، ويتحدث كذلك عن كتابة القرآن في عهد النبوة من قِبَل كتاب الوحي،
وجمعه في عهد عثمان.. إلخ، ويشعر أدونيس بأنه يعيد البدهيات المعروفة فيقول
من ثم معلقاً على ذلك: ربما اندفع بعض القراء بعد قراءة هذا كله وسأل: تلك
بدهيات، فلماذا تكررها علينا؟ ، وجوابي هو: أن كونها بدهيات هو بالضبط ما
يدفعني إلى أن أكررها، وليسمح لي أن أتابع فأقول: إن من البداهة لاستغلاقاً [7] .
ولا أحد يملك منع أدونيس من أن يتابع، ولكن قبل ذلك ليسمح هو بالقول:
إنه يلطّف آراءه الأولى ويبغي قتل احتقانها السابق عبر تكريس البدهي المعروف.
بغيته: محو تلك الصورة الشائهة التي ارتسمت لموقف ذاته من تلك البدهيات.
ثالثاً: التراث:
يقول أدونيس عن تشاؤم ديوانه (أغاني مهيار) المنشور 1961م: هو تشاؤم
رجل ينشد حلاً جذريّاً للمعضلات الاجتماعية والثقافية في العالم العربي التي تحجب
كل آفاق جديدة، فمهيار، يدعو إلى ما أسميته في مكان آخر الهدم الجميل، الهدم
الكامل لإعادة البناء [8] . تلك هي الرؤية الأولى التي حكمت تصوره للتراث، لقد
كان يرى حتمية الهدم من أجل إعادة البناء، كانت دعوته الأولى: حرق التراث
قبل محاولة البدء بإنشاء مشروعه المعاصر؛ لقد قالها شعراً:
أحرق ميراثي، أقول أرضي
بكرُ، ولا قبور في شبابي.. [9] .
أما أدونيس الجديد 1994 فيحاول أن يتملص من دعوى التخريب التي
تضمنتها آراؤه أيام الشباب، يحاول التبرير في سيرته الثقافية التي كتبها، إذ يقول
عن دعوته إلى رفض التراث أو تجاوزه وتخطيه: وحين كنا نقول بالرفض أو
التجاوز أو التخطي كنا نعني على الأخص: رفض القراءات التي فهمت الأصول
بطرق لم تؤدّ إلى الكشف عن حيويتها وغناها، بقدر ما أدت إلى قولبتها
وتجميدها ... نعرف جميعاً أن معظم الذين تصدوا لقراءة التراث بدءاً من عصر النهضة قرؤوا القراءات ولم يقرؤوا الأصول، ومن هنا فشلها في تقديم فكر جديد أو فتح أفق جديد للبحث ... كنا في مجلة (شعر) لا نحلم بمثل هذه القراءة، قراءة الأصول نفسها برؤية جديدة، وإنما كنا نعمل لها ونمارسها [10] .
هكذا استبدل أدونيس بمنهجه النقضي (المثالي) منهجاً تلفيقيّاً (واقعيّاً) عماده
إعادة الترتيب، أدونيس 1961 الذي سعى إلى نسف الكل وتقويض التراثي القديم
ليقيم على أنقاضه الجديد، انتقل في 1993 إلى محاولة إبقاء القديم والدعوة إلى
عصرنته، عبر تطهير القديم من ترسباته العالقة وتكريره بصورة عصرانية جديدة
على حد قوله. لقد رأى ضرورة الاحتفاظ بشرعية الغطاء التراثي دون النفاذ إلى
عمائقه الباطنة، أي أن يستلّ من التراث نفسه ما يسوّغ مرئياته الجديدة، كل ما
يفعله هو القيام بصهر المعطيات التراثية في قوالب فكرية معدّة سلفاً، فيكون
التراث -من ثم- خَدَماً لتلك الأفكار الجديدة.
ولكن هل يعني هذا تراجعاً فعليّاً عن كل آرائه السابقة؟ .
يشير أدونيس إلى أنه انضم في مقتبل عمره إلى الحزب القومي
السوري [11] ، وأنه قرأ كتاب (الصراع الفكري في الأدب السوري) لأنطون سعادة (مؤسس الحزب) ، وأن هذا الكتاب كان صاحب الأثر الأول في أفكاره وتوجهاته [12] ، وهذا يعني أن أدونيس قد اعتنق أفكار هذا الحزب وآمن بها، فما الذي يدعو إليه الحزب القومي السوري؟ .. من أهم مبادئه:
القوميون السوريون يتميزون بالماضي السحيق الذي يمثله الفينيقيون،
بوثنيتهم وخمرهم وآلهتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولذاتهم ...
أزهى العصور في تاريخ سورية هو العصر الفينيقي.
عندما يتحدثون عن سورية فإنما يقصدون بذلك سورية الكبرى والتي تضم
سورية الحالية ولبنان والأردن وفلسطين.
فكرة الألوهية اخترعها الإنسان يوم كان رازحاً تحت سلطان الخوف والوهم
والخرافة.
نظرتهم.. مادية تنكر وجود الله والبعث والرسالات واليوم الآخر [13] .
إلا أن أدونيس لا يستمر على وئام تام مع الحزب، حيث اضطر في إحدى
مراحل حياته إلى أن يقول وبصراحة: (أنا أكبر من الحزب) ، وقد جرّت عليه هذه
المقولة لوماً عنيفاً ونقداً جارحاً جعلته لا ينساها [14] ، وكأن أدونيس في مقولته
هذه يتنصل من التطابق الفكري الكلي بينه وبين الحزب، متذرعاً بأن الحزب قد
توقف وجمد ولم يسع إلى تحقيق أهدافه.
ومثل هذا التحول في الانتماء قد يفسر سبب انحلاله من ربقة آرائه السابقة،
إذ يبدو أن انتماءه الحزبي السابق كان أحد الأسباب المؤثرة في آرائه الأولى، إلا
أنه بعد انسلاله من الحزب عاود النظر في تلك الآراء، وأحس بزيادة جرعتها
(التطويرية) عما يحتمله الواقع، ومن ثم: كان شروعه في التعذير والتبرير،
وهكذا إشارة تفيد أن أدونيس لا يتحول عن آرائه السابقة كنوع من التراجع
الانقلابي أو التوبة الفكرية، بقدر ما هو تغيّر في التكتيك والاستراتيجية التي تمكنه
من الإصابة الأمثل للهدف، إنه يبرم عقد مصالحة مع الواقع بعد أن تورط بآرائه
الثورية الأولى، يعقد تصالحاً مع الدين، تصالحاً مع التراث، تصالحاً مع الجمهور، تصالحاً مع النقاد، باختصار: الوصول إلى صياغة تصالحية بينه وبين النمطي
والسائد هو الهدف غير المعلن! ! . هكذا يضطر أدونيس أخيراً إلى الإذعان لضغط
الواقع واجداً أن ركوب ظهر السائد واستخدام آلياته هي الطريقة الأمثل لنقض
السائد وتغييره.
لقد تفاجأ أدونيس وبحركة ارتدادية عنيفة باستحالة اقتلاع الجذور المتعلقة
بالقرآن والدين والتراث، فهي ضاربة في عمق العقل العربي، وإزالتها تعني
ببساطة إزالة الخصوصية التي جعلت العرب عرباً والإسلام إسلاماً، لذا: كان
أدونيس على درجة من الوعي أفهمته ضرورة احتواء آرائه السابقة وتفريغها من
حمولتها الضدية، فهل إن أدونيس اختار التوقيت إذ بدا وهجه يخبو ويؤذن
بالانطفاء؟ . وهل إن هذا التحول سيكون وقوداً يذكي الوهج ثانية، ويعيد إليه
الوميض؟ . وإنْ، فإلى متى؟ ! ! .
__________
(1) أغاني مهيار الدمشقي، ص48.
(2) النص القرآني وآفاق الكتابة، ص183.
(3) السابق، ص184.
(4) ها أنت أيها الوقت، ص154.
(5) أغاني مهيار الدمشقي، ص49.
(6) النص القرآني وآفاق الكتابة، ص36.
(7) السابق، ص48.
(8) رأيهم في الإسلام، ص33 (مقالة بقلم أدونيس) أعدّ الكتاب: لوك باربولسكو وفيليب كاردينال، تعريب: ابن منصور العبد الله.
(9) أغاني مهيار الدمشقي، ص49.
(10) ها أنت أيها الوقت، ص56، 58، 59.
(11) السابق، ص93.
(12) السابق، ص107.
(13) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، ص410، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، ط2، (بتصرف) .
(14) ها أنت أيها الوقت، ص151.(90/56)
المسلمون والعالم
حرب البوسنة: لا مكان للضعفاء!
بقلم `د. عبد الله عمر سلطان
ربما يجد الكاتب صعوبة بالغة في الحديث عن البوسنة وأحداثها، فالواقع أن
نهر الدم والقهر الجاري قد أصبح مثالاً واقعاً، يحمل بين ثناياه مزيداً من التعاسة
والحسرة، ولذا: فإن أي مأساة بوسنية جديدة لا تثير في النفوس إلا مشاعر أو
زفرات قصيرة العمر؛ ذلك أن المأساة نفسها قد طالت وحفلت بشتى ألوان الظلم
والعسف والوحشية، حتى أصبح الرأي العام المحلي والدولي مهيأً دوماً لاستقبال
المزيد من الكوارث والرزايا، بل ربما وصل الأمر ببلادة الحس وموت المشاعر
أن يُستغرب مرور أسبوع أو شهر دون حصول مأساة جديدة ضحاياها هم المسلمون
الضعفاء هناك..!
وابتداءً: فإن عجز الدول والشعوب الإسلامية تجاه مأساة البوسنة بأطوارها
المتلاحقة لا يحتاج إلى تدليل أو بيان، ولا أجد هنا من شاهد سوى أن أحداث
البوسنة الأخيرة قد خنقت حتى أزير الشجب المبحوح أو صور الاستنكار الفلكلوري
المعتاد، فحتى هذا أختفى ووُئِد وتلاشى الآن؛ فالجميع مشغولون بما هو أهم: من
محاربة الأصولية والتطرف ... وربما كان الحفاظ على الهوية المسلمة في قلب
أوروبا جرحاً لمشاعر القارة المتحضرة أو استفزازاً للرجل الأبيض، كما يفتي بذلك
خبراء الإرهاب ومفكرو الحملة القمعية ضد كل نَفَس أو صوت إسلامي في قلب
أوروبا أو في بلاد الإسلام ذاته.
هذا الخور الذي يلف العالم الإسلامي تجاه متحف البربرية الصربية الراهنة،
يجعلنا نلتفت قليلاً إلى أصحاب القرار الحقيقيين الذين ثارت حميتهم، وارتفعت
أصواتهم حينما مُس الدم النصراني المتمثل في تصفية جنود الأمم المتحدة،
فسارعوا إلى الحديث عن بربرية الصرب ووحشيةٍ تذكرهم بالقرون الوسطى!
الفتيل:
بدأت موجة التوتر في البوسنة في التصاعد بعدما شهد صرب البوسنة هزيمة
منكرة على أيدي القوات الكرواتية، التي دحرتهم من أقليم سلوفينيا الغربي الذي
يشكل ثلث الأراضي الكرواتية المحتلة من قِبَل صرب البوسنة التي أطلقوا عليها
اسم (جمهورية كارايينا) بعد أن نجحوا في احتلالها عام 1991م، ومع الزمن: بدا
أن حلم صربيا الكبرى القائم على تحالف جمهورية صربيا والجبل الأسود مع
جيوب الصرب في كرواتيا والبوسنة يشهد مزيداً من التصدع؛ فالمسلمون
والكروات اليوم أقوى من ذي قبل، بينما يشهد الجانب الصربي تراجعاً في وحدته
وقوته، ففي المعركة التي جرت في شهر ذي الحجة من عام 1415هـ
(مايو 95 م) تراجعت الوحدات الصربية بسبب ظهور خيانات واسعة في الجيش الصربي الذي يقوده ميلان جيلكتش الذي وجه اللوم مباشرة إلى زعيم صربيا سلوبدان ميليفتش متهماً إياه بالتخاذل عن نصرة إخوانهم الصرب في حربهم الخاسرة أمام كرواتيا.
لقد وضح بالدليل القاطع أن الصرب استطاعوا من خلال حلفهم القوي أن
يجتاحوا مناطق واسعة من البوسنة وكرواتيا، لا سيما وأن الشعار المرفوع كان:
الوحدة فقط تنقذ الصرب.. وبعد ثلاثة أعوام من قيام دويلات الصرب الهمجية في
مناطق أعدائهم ظهر أن هذه الوحدة الظاهرية مهددة بالفعل، لا سيما وأن القادة
العسكريين والسياسيين انخرطوا في تجارة تهريب المواد الممنوعة والسجائر
والوقود، مما دفع العديد من الطواقم المهنية المدربة إلى الهجرة خارج حدود هذه
الدويلات، حيث يتندر هؤلاء الهاربون بالفساد والمحسوبية التي وصلت إلى حد أن
زعماء سلوفينيا الغربية كانوا مشغولين عن مواجهة الكروات بتجارة بيع الوقود إلى
القوات الحكومية المسلمة بعد استيراده من كرواتيا! !
ولا يخفي الصرب أن محاولة شق صفوفهم عبر إصدار تصريحات علنية
تنتقد فيها قيادةٌ صربية قيادةً صربية أخرى: تمثل محاولة استصدار وفاة للحلم
الصربي كما أن تقاعس صربيا الكبرى وقيادتها عن دعم صرب كرواتيا ربما ينتقل
بدوره إلى وقف المساعدة عن صرب البوسنة الذين يشكلون أقدر قيادة صربية حالية، وربما كان الوصف الصحيح لها أن تضاف نقطة لحرف الدال لا سيما بعد الجرائم
الأخيرة! .
لقد هاجم سلوبودان ميلوسيفيتش الصرب الكروات لقصفهم زغرب خلال
حرب سلوفينيا الغربية، وكان هذا دليلاً كافياً على خطورة حالة الوحدة الصربية،
ثم ما لبث أن ذاع نبأ المحادثات الصربية الأمريكية لرفع الحظر عن بلجراد مقابل
اعتراف شكلي بجمهورية البوسنة والهرسك (دون الاعتراف بحكومتها) ، وهذا
الاعتراف يوازي جريمة الخيانة العظمى من وجهة نظر جزاري صرب البوسنة ...
ما العمل إذن ... ؟
ما يجري بين واشنطن وبلجراد من محادثات رفيعة المستوى يمكن أن يلغى
من خلال القذائف على الأرض، صحيح أن ميلوسيفيتش قد تراجع عن إتمام
الصفقة، إلا أن صرب البوسنة رأوا فيها تخلياً عنهم، كما يقول مايكل إليوث ومع
بروز خطر الانشقاق الصربي: كان هناك حديث على مستوى عالٍ يرعاه البطرس
الحاقد لإعادة تحديد دور الأمم المتحدة في البوسنة، وما يعنيه الأمين الخائن لأمانته: هو قصر مهام الأمم المتحدة بحيث يمارس القناص الصربي هوايته المعتادة في
حصد أرواح المسلمين، وهذا الانسحاب المقرر للأمم المتحدة في هذا الوقت يعني
أن معظم الجيوب المحمية حسب قرارات الأمم المتحدة ستكون مكشوفة لمجرمي
وطغاة الصرب، وهنا أراد الصرب أن يبادروا إلى احتلال هذه المواقع التي
تحرسها الأمم المتحدة قبل انسحاب قواتها.
لقد بدأ الصرب في تحديهم الأرعن: بأن تجاوزوا حدود المنطقة المنزوعة
السلاح، واستولوا على دبابات قوات بطرس غالي، ثم أداروها إلى صدور العزل
في سراييفو فقتلوا أحد عشر بريئاً ... وحينما أصدر مبعوث البطرس التعيس
ياسوتشي أكاشي تصريحاته: بأن هذا أمر لا يحتمل، وطلب من قوات حلف
الأطلسي أن تضرب بعض الأهداف الصربية حول عاصمتهم مدينة بالي، قامت
القوات بقصف مواقع عسكرية مهمة، مما دفع صرب البوسنة إلى الانتقام من قوات
الأمم المتحدة والإغارة على مواقعها وأخذ جنودها رهائن، ضاربين بأبسط معاني
الشرعية الدولية المزعومة عرض الحائط!
الإشارات التي يجب أن نفهمها:
ظلت القوات الصربية تمارس وحشيتها وقسوتها وفظائعها لمدة أربعة أعوام
تجاه المسلمين في البوسنة دون أن تتدخل الأمم المتحدة وأوروبا وأمريكا بهذه
السرعة والغضب، بل إن حلفاء الحرب العالمية كانوا يحتفلون بعيد النصر في
موسكو - الوجه الآخر للنازية المعاصرة - بينما يموت الشعب المسلم أمام أنظار
كلينتون في البوسنة والشيشان.
ولكن حينما يحتجز بضع مئات من البريطانيين والفرنسيين تصبح هناك
مشكلة خطيرة ومعضلة تستدعي أن ترسل فرنسا وبريطانيا من أجلها آلاف الجنود
لحفظ السلام.
هل السلام انتقائي إلى هذه الدرجة؟ ! أم إن مسألة قتل واغتصاب واحتجاز
شعب كامل تحت سمع ونظر العالم المتحضر لا تستحق العناية والشفقة ... ؟
لقد قال العالَم النصراني المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية: إن المجازر
الجماعية العرقية والدينية، كمجازر النازية لن تحدث للأبد Never Again..
لكنها تحدث اليوم وكل يوم، ويكون ثمن الدم المسلم الرخيص أو إبادة شعب بأكمله: مقاطعة الرئيس الأمريكي لاستعراض عسكري روسي في موسكو ... وما أرخصه
من ثمن! ..
لقد لخص أحد المعلقين الأمريكيين مأساة البوسنة بأنها حرب الإشارات..
ولابد للمسلمين أن يفهموا هذه الإشارات.. أو بعضها.
من هذه الإشارات: أن الغرب قد أعلنها بلسان المقال والحال: أن الدم المسلم
على التخوم النصرانية الأوروبية لابد أن يحرق لكي تكتمل طقوس التعميد
النصراني المبشر بعالم ونظام دولي جديد، يحدث هذا في البوسنة لأعوام وفي
الشيشان لأشهر، مع التذكير بأن دموع التماسيح لابد أن تذرف مع كل ضحية أو
مجزرة؛ لإثبات فحولة حقوق الإنسان وحرية الصحافة في المجتمعات الغربية.
ومن هذه الإشارات: أن الصرب قد عرفوا تماماً أن الغرب قد أطلق يدهم في
أدغال وتلال البوسنة، وأن التهويشات السابقة ضرورية من أجل استمرار
المسرحية، وأن حلف الأطلسي وقوات الأمم المتحدة وقوات التدخل السريع وقوات
مكافحة الجراد سوف ترفع صوتها في كل مرة مهددة متوعدة ... ثم تنتهي قصة
التهديد والخلاف كما تنتهي أي رواية أو شريط سينمائي هزلي ... يفوز البطل
الأجش وتنتهي القصة نهاية سعيدة! !
ومن الإشارات المهمة: أن وسائل الإعلام الغربية قد جندت كل طاقتها من
أجل مئات من جنود مختطفين، بينما حفل اليوم نفسه بأحداث مهمة وقاسية:
كسقوط سبعين شابّاً مسلماً في (توزلا) ، وإسقاط طائرة وزير خارجية البوسنة
ووفاته مع مساعديه، ومع ذلك أتت هذه الأخبار ضمن تفاصيل الاختطاف للدلالة
عن ارتفاع ثمن المخطوفين وهوان شأن القتلى والمسؤولين المسلمين.
ومن الإشارات المهمة: أن صرب البوسنة قد فهموا الدرس جيداً؛ فالعالم لا
يخاف إلا من القوي، والحضارة الغربية عموماً تقدس القوة وتعبدها حتى لو كان
هذا على حساب المبادئ والمثل المعدة للاستهلاك الإعلامي، وقد فهموا أيضاً أن
المواجهة مع المسلمين تسمح لهم أن يغفر لهم الغرب الأفعال الإجرامية المثيرة
المتمثلة في ربط جنود الأمم المتحدة إلى الأعمدة والأبواب في صورة مذلة ... ولابد
أن القادة الصرب قد أمنوا العقوبة فأساءوا الأدب، ولكم أن تتصوروا دولة أو
عصابة عربية تقوم بخمس ما قام به الصرب، فماذا سيكون رد الفعل الغربي
والدولي..؟ !
من الإشارات كذلك: أن الناطق باسم الأمم المتحدة قد وصف الإرهاب
الصربي والجرائم المتتالية بأنه: عمل أشبه ما يكون بالعمل الإرهابي أما قتل 70
مسلماً في (توزلا) فقد وصف بأنه مأساة عميقة.. إن هذا العمل المخزي والمهين
لكل الأعراف الدولية يوصف بأنه: أشبه ما يكون بالعمل الإرهابي فما حقيقة
الإرهاب يا سدنة الشرعية الدولية؟ ! .
ومن الإشارات أيضاً: النقد الجارح لبطرس الحاقد من قبل المعلقين الغربيين
بعد طرحه مشروع قرار سحب قواته من البوسنة أو تعديل مهامها؛ حتى بعد مهزلة
الخطف وتناثر أشلاء المسلمين في جيوب الأمن الكاذب ... لقد وصفه معلق
بريطاني بأنه: رجل غير معقول في المواقف التي لا تحتمل رأيين ووصفه آخر:
بأنه ربّى في صدور الصرب كل أنواع التعنت والغطرسة بتغاضيه عن جرائمهم
وتعامله اللين معهم بينما لا تزال الصحافة العربية المهاجرة بفكرها ومقراتها تناقش
السؤال الملح والصعب منذ سنوات: هل بطرس غالي يتحامل على المسلمين؟ ! !
لقد أشار الرئيس البوسني إلى أن العالم يحاول أن يغطي على جريمته
الأصلية؛ حينما منع الضحية من مقاومة الجلاد، وحرم المسلمين من امتلاك
السلاح الذي يخولهم أن يدافعوا عن وجودهم أمام الأمة الصربية الحاقدة ... إن دور
الأمم المتحدة قد بدا عارياً، أما حلف الأطلسي فيقدم رجلاً ويؤخر اثنتين، وطالما
أن المسلمين عاجزون حتى عن الاستنكار: فإن المعركة هناك قد انتقلت إلى طور
الحرب الداخلية التي تجري بين أقطاب أوربيين، تجمعهم عقيدة واحدة وثقافة
مشتركة ورؤية عامة تدفعهم إلى الاستعانة بالأجساد المسلمة المستسلمة: وقوداً
للخلاف، ورصيداً للانتقام وأسلوباً لغش الخلق كلما حدث خلاف بين الأشقاء
الحلفاء!
الحرب الدائرة في البوسنة اليوم وهذه التغطية الملتهبة هي حرب أوروبية
داخلية، ووجودنا الهامشي يحتم علينا أن نتعامل معها على هذا الأساس حتى تنتقل
الأمة من خانة الهامش إلى خانة الأصل، ومن موقع المستضعف إلى موقع الفاعل
المدافع عن الإنسانية التي تعاني من الظلم والعسف والموت المجاني.
وحسبنا الله ونعم الوكيل..(90/62)
المسلمون والعالم
تأملات في مسيرة الحركة الإسلامية في اليمن
الحلقة الثانية
بقلم:عبد الله أحمد ناصر
تناول الكاتب في المقال السابق إيجابيات الحركة الإسلامية في اليمن منذ قيام
الوحدة، فكان مما ذكره: انتشارها الواسع، وحماية شباب الصحوة، وإنكار بعض
المنكرات، والوقوف في وجه التغريب والعلمنة والحملات الصليبية، ثم ثنى
الكاتب بذكر السلبيات، فكان منها: عدم وضوح تبني منهج أهل السنة، وعدم
تميز صفوف القيادة، مع اعتلاء سدتها من ليسوا أهلاً لها.. ويتابع الكاتب في هذه
الحلقة ذكر ملحوظات أخرى.
- البيان -
اعتماد سياسة: إما الاحتواء وإما الإلغاء في التعامل
مع الإسلاميين الآخرين في الساحة:
الحقيقة أن تعامل كثير من قيادات وكوادر الحركة الإسلامية المنضوية تحت
لواء التجمع اليمني للإصلاح مع الإسلاميين الآخرين في الساحة محل استغراب
وتساؤل! ؛ إذ ليس أمام الآخرين إلا أن ينضووا تحت لواء التجمع، ويباركوا
المواقف التي تتخذها قيادته، ويسكتوا عن المنكرات والمخالفات الصادرة عنها ...
لينالوا رضاها، وبالتالي: التزكية والمديح من كوادرها، والمساعدة في الوصول
إلى بعض المواقع التي يمكن خدمة الدعوة من خلالها، وإلا فإن التهميش والذم
ومحاولة الإلغاء وتحذير شباب الصحوة من المنهج الذي يسير عليه أولئك،
ومحاولة التضييق عليهم في الوظائف لكي يتركوها، ومحاولة حرمانهم من إمامة
المصلين في الجمع والجماعات، والفصل لمن يقوم بالدعوة إلى الله (تعالى) من
الطلبة داخل المعاهد العلمية وبعض المدارس والكليات ... إلخ: هو الذي ينتظرهم.
ونحن نتساءل: لماذا يحتمل الإخوة في الحركة من العلمانيين والرافضة
والصوفية في الأحزاب والنقابات المختلفة ما هو كذب وافتراء وبدوافع ونوايا سيئة، وتقوم قيادة الحركة بدعوة أولئك إلى الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن،
ولايُحتَمل من الإسلاميين الآخرين في الساحة ما هو أقل من ذلك مع إقراري بأن في
بعض ما يطرحونه تعد وظلم مع أن لهم حق المحبة والنصرة، وغالب ما يطرحونه
يكون في الجملة بدافع الغيرة على دين الله (تعالى) ، وبهدف النصرة له؟ ! ! .
لماذا تبقى الابتسامات متبادلة والصدور والأبواب مشرعة أمام بعض
العلمانيين والمبتدعة، وتعمد الحركة إلى محاولة الإلغاء والتهميش لكل ما هو
إسلامي ليس منضوياً تحت رايتها؟ ! ! لماذا لا يدعى هؤلاء إلى الله (تعالى) إن
كانوا على خطأ وهم أقرب؟ ولماذا لايصبر عليهم، ويحتمل منهم كما يحتمل من
غيرهم وهم أولى؟
لماذا لا تغير الحركة سياسة (إما الاحتواء وإما الإلغاء) إلى التنسيق ومحاولة
توظيف الجهود لخدمة الإسلام، مع القبول بالخلاف والتعايش معه مادام لايتعارض
مع ثوابت الإسلام وأسسه؟
وأخيراً: لماذا نخاف من النقد إذا صدر من الإسلاميين الآخرين في الساحة،
ونضيق به ذرعاً، ونعتبره أمراً طبيعيّاً وحقّاً من حقوق التعبير عن الرأي إذا صدر
من غيرهم؟ !
إن الحركة الإسلامية في اليمن بحاجة بحق إلى أن تعيد النظر في تعاملها مع
الإسلاميين الآخرين، وكلنا أمل بأن يتداعى الغيورون من علماء وطلبة علم وسائر
المخلصين داخلها إلى ذلك.
ولا شك بأن لبعض الإسلاميين من خارج الحركة دوراً في هذه الجفوة التي قد
تصل إلى حد القطيعة أحياناً، ولكن العتب يكون أكثر على الحركة الإسلامية،
لأنها الآن في منزلة القيادة والظهور، فهي الأخ الأكبر وعليها أن تحتمل ما لا
يحتمل غيرها، وبقدر تراجع الآخرين وجفائهم ينبغي أن تتقدم هي وتحلُم،
فخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام، وينبغي أن يدرك الجميع أن قوتهم الحقيقية في
اجتماعهم وتآزرهم، فالمسلم أخو المسلم؛ لا يسلمه ولا يخذله، والبديل الذي يعرفه
الجميع هو الاتجاه العلماني الذي أذاق الشعب اليمني ألواناً من التغريب والإفساد؛
فليست القضية أسماءً وأحزاباً ... إصلاحاً وسلفيين و ... و ... ولكن: إما إسلام
وإما علمانية.
تعويل الحركة كثيراً على القبائل:
دخلت الحركة الإسلامية في اليمن في أوساط القبائل وعملت على أن يكون
شعار القبائل الذي ترفعه هو الإسلام، وحسناً فعلت، إلا أنه من المفترض أن يكون
هدف ذلك الدخول: هو تيسير دعوتهم ومحاكمتهم إلى شعارهم متى خالفوه، أما أن
نكتفي كما هو الواقع في كثير من الأحيان برفع تلك القبائل لشعار الإسلام فقط دون
أن يصاحب ذلك برامج دعوية وتعليمية مكثفة لها، فأمر أظنه خاطئاً وخطيراً.
وكل ما أخشاه أن يدعي بعض أعداء الصحوة الإسلامية بأن هدف الحركة من
الدخول في أوساط القبائل بل وفي أوساط الجماهير اليمنية عموماً هو كسب ولائها
للحركة، وضمان مناصرتها لتوجهها السياسي وكل ما يخدم ذلك الهدف لا غير.
وأحسب أن القيادات المخلصة في الحركة الإسلامية لا ترضى أن يكون
التوجه إلى تلك القبائل والجماهير لمجرد الاعتماد عليها في الدفاع عن الحركة
ومنجزاتها، عن طريق كيل المديح والتمجيد لشيوخ تلك القبائل، فإن معظم هؤلاء
في الغالب أتباع كل ذي مال ومنصب. ولا يرضي مخلص واعٍ رَبْط حماية الحركة
وشبابها بهم وإعطاءهم مكانة بارزة وثقلاً كبيراً في التأثير على توجه الحركة
وقراراتها، وأظن أن ذلك يحتاج من كل مخلص داخل الحركة من علماء وطلبة علم
وغيرهم إلى إعادة النظر فيه، والعمل على تلافيه.
ظاهرة ضعف الموارد المالية:
مع أن عمر الحركة الإسلامية في اليمن طويل نسبيّاً إلا أن الملاحظ ضعف
إمكاناتها المادية وشح مواردها، وهاتان في نظري ظاهرتان متناقضتان: حيث إن
المفترض أن تكون هناك علاقة طردية لا عكسية بين عمر الحركة ومواردها،
ولكن للأسف: إن الأمر ليس كذلك، وجل موارد الحركة تأتي في الوقت الحاضر
كما هو ملحوظ من توظيف بعض أفرادها في طلب التبرعات وجمعها، وهذا مورد
مهم ولاشك، ولكنه ليس مورداً ثابتاً ومستقرّاً، بل هو مرتبط بمدى شعبية الحركة
ودعاتها واقتناع الناس بهم، وهذا الأمر مرتبط بعوامل كثيرة ليس هذا موضع
الحديث عنها، بحيث تزيد في الموارد تارة وتنقصها أخرى، مما يعني إمكانية
تعريض الدعوة ومشاريعها للخطر وربط استمرارية تلك المشاريع برحمة المتبرعين، ... ولو سلمنا جدلاً بثبات هذا المصدر واستمراره، فإنه ليس بمورد كاف بالتأكيد
والواقع خير شاهد مما يحتم على قيادة الحركة إعطاء هذا الجانب ما يستحقه من
تفكير واهتمام.
وهذه الإشكالية ليست خاصة باليمن، ولكنها مع الأسف الشديد عامة في أكثر
دول العالم الإسلامي، وعند مختلف فصائل العمل الدعوي، والذي نأمله من
الحركة الإسلامية في اليمن أن تعمل على الوصول إلى النضج الاقتصادي
والاستثماري بمثل سعيها إلى الوصول إلى النضج السياسي، وهما قرينان يدعم
أحدهما الآخر.
ملحوظات دعوية وتربوية متفرقة:
لكي لا يتشعب الحديث ولا أخرج عما يناسب مجلتنا الغراء [البيان] سأوجز
بعض المآخذ الدعوية والملحوظات التربوية على الحركة في النقاط التالية:
1- ضعف العلم الشرعي:
ضعف العلم الشرعي داخل صفوف الحركة أمر تجاوز حد الظاهرة إلى
المشكلة، ويبدو أن انشغال الحركة بالعمل السياسي وغلبة خطاب علمائها ودعاتها
في هذا الموضوع وما يخدمه في أغلب الملتقيات وخطب الجمعة قد ساعد على
الوصول إلى تلك النتيجة، هذا بالإضافة إلى ضعف التوجيه لشباب الحركة إلى
طلب العلم الشرعي، والقلة النسبية في أعداد طلبة العلم، وعدم قيام الموجود منهم
بدوره، والانفصام بين قيادة الحركة وبعض الإسلاميين الآخرين غير التابعين لها،
الذين يوجد لديهم علم شرعي لابأس به، مما جعل كل تلك الأسباب وغيرها
تتضافر للوصول بالحال إلى ما وصل إليه، وليس المراد بالطبع أن يكون جميع
شباب الحركة في مستوى رفيع من العلم الشرعي، ولكن المراد: أن تتوجه قيادة
الحركة الإسلامية في اليمن إلى العمل على إيجاد الحد الأدنى من العلم الشرعي الذي
لايعذر المسلم بالجهل به لدى أولئك الشباب، بالإضافة إلى السعي إلى إيجاد طبقة
من الشباب متفقهة في أمور دينها تتولى زمام تعليم بقية شباب الحركة الحد الأدنى
من العلم الشرعي وتكون متفرغة لذلك.
صحيح أن الحركة قد أنشأت مئات المعاهد العلمية، ومدارس تحفيظ القرآن،
وكلية القرآن الكريم، وجامعة الإيمان، وهي ساعية عن طريق تلك المعاهد
والكليات لأداء نوع من الواجب في معالجة ضعف العلم الشرعي لكنها مع حداثة
إنشاء الكلية والجامعة من وجهة نظري غير كافية بسب اقتصارها على فئة محدودة
من أبناء الحركة، ولابد من توجه علماء الحركة وطلبة العلم الشرعي في كافة
أنحاء البلاد إلى المساجد بكثافة، لإقامة الدروس العلمية والمحاضرات الشرعية
لأبناء الحركة وعامة الأمة، وأن يتم التركيز على إقامة تلك الدروس والمحاضرات، وبكثافة أيضاً في جميع المحاضن التربوية وبخاصة في هذه الفترة التي لا توجد
فيها أمور تشغل كافة كوادر وأنصار الحركة كالانتخابات وغيرها.
2- ظاهرة ضعف الالتزام بالأحكام الشرعية داخل صفوف الحركة:
من الأمور المحزنة الموجودة داخل صفوف بعض قيادة الحركة وشبابها:
ظاهرة ضعف الالتزام بالأحكام الشرعية وعدم أخذ الإسلام بقوة، وذلك بسبب عدم
الاعتناء بترك الذنوب الصغير منها والكبير، وسلوك مسلك انتقائي في التحذير من
بعضها، والبعض الآخر بسلوك مسلك التبرير معها، ومن تلك الذنوب: حلق
اللحية، ومصافحة النساء، وشرب الدخان والشيشة، ومضغ القات، ومشاهدة
التلفاز بما فيه من مخالفات شرعية، والتخلف عن صلاة الجماعة، وضعف الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر أثناء الاختلاط بالعامة ... إلخ.
وليس المراد بالطبع الحديث عن معاصٍ بعينها، وإنما المراد الحديث عن
نفسية معينة في الاتباع لنصوص الشريعة، والتنبيه إلى أهمية تربية الشباب على
ضرورة التسليم والانقياد الخالص لكتاب الله (تعالى) وسنة نبيه -صلى الله عليه
وسلم- بحيث يصبح الحال متى سمع شاب من شباب الحركة أمراً لله (تعالى) أو
الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعلاً أو تركاً هو المبادرة إلى تنفيذ الأمر سواء
أكان ذلك على سبيل الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الكراهية، فإن لم يفعل شعر
في نفسه بحزن وتأنيب ضمير على وقوعه في ذلك، أي: أن نربي الشباب على
تحقيق محبوب الله (تعالى) وتعظيمه بدلاً من أن نجعلهم ينظرون إلى ذات الفعل،
فإن كان مندوباً فكأنه لاداعي لفعله، وإن كان مكروهاً فكأنه لاداعي لتركه،
بالإضافة إلى الضرب على وتر: هذا مختلف في حله أو حرمته أو وجوبه أو ندبه، وكأن الاختلاف فيه بين أهل العلم مسوغ للعبد أن يختار من أقوالهم ما شاء،
وسلوك مسلك التبرير لترك واجب أو فعل محرم من قبل إخوان الفاعل لذلك، بدلاً
من المبادرة إلى نصحه وتنبيهه.
إن وجود هذه الظاهرة داخل أوساط الحركة يوجب على علمائها وطلبة العلم
الشرعي فيها تدارسها والخروج بحلول عملية لتجاوزها قبل أن تنتشر وتستشري
فيتم الندم ولكن بعد فوات الأوان ولله در رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي
حذرنا من تلك الظاهرة؛ فقال فيما رواه سهل بن سعد في مسند الإمام أحمد وغيره
بسند صحيح: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا
بطن واد فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن
محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه.
3- ظاهرة تربية الفرد من أجل المجموع:
يجد المتابع ظاهرة تربية الفرد من أجل المجموع جلية في أوساط الحركة حين
يلاحظ الجوانب الإيمانية (الروحية) والعلمية لدى شباب الحركة ويقارنها بالحرص
على العمل الدعوي، ولقد سمعت محاضرة لأحد مشاهير الدعوة الإسلامية
والمنضوين تحت لواء الحركة، وطرح فيها السؤال التالي: لماذا خلقنا؟ ، وكان
جوابه: لدعوة الناس إلى الإسلام! ! ! وأنا لا أنكر أهمية الروح الجماعية
وضرورتها، لكن هذا جانب، وهناك جانب آخر أهم وهو الاعتناء بالفرد عقديّاً
وسلوكيّاً، لأن مدار النجاة يوم القيامة على ذلك كما لايخفى، ولعل اتساع قواعد
الحركة، وانشغالها في المرحلة الماضية بالخطاب السياسي لضرورات آنية أدى
إلى التقصير في بعض الجوانب التربوية، فإذا عذرت الحركة نسبيّاً في السابق
فينبغي أن تتنبه في هذه المرحلة المستقرة نسبيّاً، وتسعى إلى جعل التربية بجوانبها
المختلفة من أولى الأولويات التي يجب الاعتناء بها والتركيز عليها.
ومن البدهي أن العناصر الكريمة والمعادن الثمينة التي تربت ونضجت واتقت
الله (عز وجل) هي الذخر الحقيقي للعمل الإسلامي، وهي الجذور القوية التي
ترسخ من عمق الحركة وثباتها.
كما عليها أن تحرص مستقبلاً على أن تسير برامجها التربوية وفق جداول
مرسومة لا تتأثر بالأحداث الجارية وما يصنعه أعداء الصحوة من قضايا وأحداث
لإشغال الحركة بها، ولفت أنظار كوادرها وتفريع جهودهم وطاقاتهم فيها وألا يكون
الأمر جارياً على التعايش مع الأحداث الواقعة لا غير، بل ينبغي أن يبقى تنفيذ
البرامج التربوية وفق الجداول الزمنية المرسومة لها على أن يكون في البرامج
المطروحة مرونة نسبية مع ما يستجد من أحداث؛ حتى لا تضطر الحركة نتيجة
أمور طارئة إلى تعليق برامجها وعدم تطبيقها.
4- ظاهرة وجود دعاة غير مؤهلين للدعوة:
يبدو أن الانتشار الأفقي الكبير للدعوة أجبر المسؤولين عن الحركة على
الاستفادة من كل من ينتسب إليها وإن لم يكن أهلاً لذلك وهذه ظاهرة ذات شقين:
شق إيجابي: سبق الحديث عنه، حيث يتم توظيف مختلف الطاقات والاستفادة من
كل الإمكانات، بشرط أن يكون ذلك بحدود معينة، وبدوائر محددة، وتحت متابعة
وإدارة واعية لا تعتني بالكم فقط على حساب الكيف.
وشق سلبي: حينما يقدم أولئك إلى ما لا يحسنون، ويعملون فيما لا يتقنون،
وتزداد الخطورة حينما يؤدي ذلك إلى ترقي هؤلاء في سلم القيادة حتى نفاجأ في يوم
من الأيام بقيادات هشة هزيلة لا تملك مؤهلات الدعوة والقيادة.
5- ظاهرة ضعف التربية الرأسية لشباب الحركة:
من الظواهر الخطيرة في مسيرة الحركة ضعف التربية الرأسية لكوادرها
وعدم وجود متابعة كافية للفرد خلال تلقيه العمل التربوي، فمثلاً: نحن لا نعلم عن
هذا الفرد المستمر معنا خمس سنوات ما البرامج العلمية التي أخذها، ولا جوانب
الضعف لديه في النواحي الإيمانية وغيرها، ولا الوسائل التي عولجت بها بعض
نقاط ضعفه في مراحل سابقة، ولا البرامج العلمية والإيمانية والدعوية المفترض
أخذه لها في المستقبل، كما أننا لا نملك تقويماً لمدى استفادته من البرامج التي
شارك فيها.
والتسليم بذلك من قِبَل قيادة الحركة يعني أن دعوتها متجهة اتجاهاً جماهيريّاً
فقط، وأنه من الممكن اختراقها بسهولة من بعض من لاخلاق لهم وما أكثرهم
وبخاصة إذا أجاد أحدهم فن تبني بعض القضايا التي هي محل اهتمام كبير لدى
الحركة كالانتخابات وغيرها من القضايا التي يوالي عليها بعض الناس ويعادي.
والمفترض وجود حد أدنى من المميزات والخصائص لمن يتربى من الشباب
في المحاضن التربوية للحركة كالمعاهد العلمية والمراكز الصيفية والمخيمات
وغيرها، بحيث تصبح لدى الشاب من المسلّمات التي لابد من تحصيله لها حتى
يستمر مع إخوانه، وبالتالي: لايحتاج المربي إلى صرف جهد ووقت لغرسها في
نفوس من حوله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: تضمن الحركة بذلك وجود حد
أدنى من الالتزام لدى شبابها يتميزون به عن من لم يتربّ من الأشخاص في
صفوفها، ومن الممكن أن تكون تلك الخصائص والمميزات: أداء الفرائض،
واجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، والحرص على إتيان المستحبات
وترك المكروهات، وحفظ شيء من القرآن الكريم، والمحافظة على صلاة الجماعة
وأداء السنن الرواتب، والمحافظة على الأذكار المأثورة، وترك مضغ القات،
وبعض الظواهر الاجتماعية المخالفة للشرع ... ونحو ذلك.
وقبل أن أنهي الحديث حول هذه الظاهرة أشير إلى أن الضعف فيها بل وفي
الناحية التربوية عموماً ليس خاصّاً بالحركة اليمنية، بل هو عام في مختلف
الحركات والاتجاهات الدعوية في العالم الإسلامي، وينبغي للأخوة اليمنيين كما
ينبغي لغيرهم الاستفادة من أخطاء وتجارب الآخرين.
6- ظاهرة تربية الشباب على الاكتفاء بالولاء للحركة ورموزها:
من الظواهر المحزنة والموجودة ظاهرة تربية كثير من شباب الحركة على
الولاء للجماعة ورموزها لا على القيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام، وإذا أراد
شخص أن يعرف مصداقية هذا القول فعليه أن ينظر: كم من الأخيار ليس له
نصيب من الولاء في نفوس الكثير من شباب الحركة، وذلك بسبب عدم انضمامهم
للحركة، أوبسبب قيامهم بنقد بعض مواقفها، وكم عظمة المحبة لأشخاص لا التزام
لديهم في المظهر، وتوجد لديهم الكثير من المعاصي الظاهرة سواء في المعتقد
والفكر أو الممارسة والسلوك، وكل ما عملوه هو إظهار الانتماء للحركة والتأييد لها
في مواقفها وممارساتها.
كما عليه أن ينظر إلى روح التبرير القوية جدّاً لأخطاء وممارسات المنتمين
للحركة وبالأخص قيادتها من كثير من كوادرها، وحين تنقطع الحجة تأتيك القاعدة
المحكمة: هم أعلم وأفهم! ! .
ولكن روح التبرير تنقلب إلى روح لتجريح الأشخاص غير المنتمين للحركة،
وحينما تحاور أحدهم وتذكر له حسنة تُفْرِح عند أحد أولئك، يذكر لك سيئة تُحْزِن،
وكأن كل شغله الشاغل هو إثبات الخطأ للمتحدث عنه، ونسبة النقص إليه لا غير،
مهما علت رتبته وبلغ فضله.. نسأل الله (تعالى) للجميع السلامة والعافية.
7- الحساسية الشديدة من النقد:
توجد لدى بعض قيادات الحركة وكثير من كوادرها حساسية كبيرة من النقد
تجعلهم يقفون موقفاً معادياً من كل من ينبه الحركة إلى أخطاء أو منكرات وقعت
فيها، وقد جر ذلك إلى تربية شباب الحركة على التبرير للأعمال المطروحة من
قِبَل قيادة الحركة وعدم نقدها، ونتج عنه: عدم تربية الحركة لوجوه قيادية شابة
مبتكرة، بل لنسخ مكررة من المربين، ولكن ليس بنفس الجودة بل بمستوى أقل،
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: عدم نضج الأفكار المطروحة داخل الحركة بنار
النقد، وصقلها بمطرقة النصح، وكان من نتائج تلك الحساسية والغياب الملحوظ
للنقد الذاتي داخل الحركة: المبالغة والتهويل في الحديث عن الآخرين ذمّاً أو مدحاً، وتضخيم الإنجازات والاعتزاز الكبير بها، وليست الإشكالية في اعتزاز الحركة
بفعلها الصواب وحديثها عن ذلك، فذاك حق لها (وأما بنعمة ربك فحدث) ، لكن
الخطر: هو أن يتحول ذلك الاعتزاز إلى عُجْبٍ وغرور يعمي ويصم، وقد قال
بعض السلف: إنما الهلاك في اثنين: العجب والقنوط..، ولست أدري لماذا
نخاف من النقد إذا كان لدينا نكران للذات وحرص على الوصول للأفضل؟ .
وأخيراً: فنصيحة من محب؛ فإني أرى أن الواجب على الحركة الإسلامية
في اليمن أن تسعى إلى امتلاك نظرة مستقرة لتغيير المنكرات المتواجدة في الساحة
اليمنية بحيث تسير كافة جوانب العمل الإسلامي على وفقها ومن أجل خدمتها، بل
وعليها أن تُضَمّن في خدمة تلك النظرة جهود الإخوة الدعاة العاملين في الساحة من
خارجها، وأن تعمل على توظيف ما يقومون به لخدمتها، كما عليها أن تحذر من
القيادة العلمانية في الساحة اليمنية وتدرك ألاعيبهم بشكل أعمق، وتحذر من الدخول
في الشراك السياسية التي يقيمونها للحركة، وأن تعلم بأنهم ما وافقوا على دخولها
للحكومة في هذه المرحلة إلا لحاجتهم الماسة إليها، وإلى قادتها وجماهيرها، وأن
الظروف متى تحسنت بالنسبة لهم فإنهم قد يقلبون ظهر المجن للحركة في أي لحظة
كما قلبوه في السابق والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وبخاصة في ظل الحملة
الدولية المنظمة عالميّاً وعربيّاً على ما يسمى بالحركات الأصولية لمنعها من تجاوز
ما يضعونه من دوائر حمراء، سواء أكان عن طريق العمل السياسي أو غيره.
أعزائي القراء: كانت تلك بعض الإيجابيات التي لدى الحركة الإسلامية في
اليمن، والتي أدعو العاملين في الساحة الإسلامية إلى الاستفادة منها، وهذه بعض
السلبيات التي أدعو الحركة الإسلامية في اليمن والمنضوية تحت راية التجمع
اليمني للإصلاح إلى النظر والتأمل فيها بروية وإحسان ظن، خاصة أنها كتبت
بمداد الحب وبدافع النصح وإرادة الخير، على أن ما فيها من صواب هو من الله
(تعالى) وحده، وما فيها من خطأ فهو من نفسي الأمارة بالسوء ومن الشيطان،
وأستغفر الله، والله ولي التوفيق والسداد؛ قال الله (تعالى) : [إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ
مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ] .(90/70)
المسلمون والعالم
الأصولية الغربية.. المنشأ والواقع والمستقبل
(1)
بقلم:ياسر قارئ
تمهيد:
كثرت في الآونة الأخيرة الكتابات والتصريحات حول الأصولية الإسلامية
والتنديد بخطرها حتى أصبحت قرباناً يَقْدُمُ الحجاج إلى عواصم الدول الغربية
المتسلطة، وعربوناً للمزيد من الصفقات المالية والعسكرية. وخشية من ضياع
الحقيقة وسط ضجيج الباطل أقدمت على كتابة هذا الموضوع، لنستكشف سويّاً
حقيقة الأصولية المتسترة تحت أخلاق الديمقراطية العلمانية، وفي الوقت نفسه نعي
حجم الدور الذي تلعبه تلك القوة الشريرة في تسيير دفة الأمور في عواصم القرارات، ولعل في هذه المحاولة عبرة وعظة للمنخدعين بسعة صدر الديمقراطية وجاذبيتها
الخلابة ممن صُنعوا على أعين أجنبية في المناطق الثلجية، أيضاً لعله يستفيد منها
إخوة لنا في الدين غفلوا أو جهلوا حقيقة المسرحية الدرامية التي يتم من خلالها
احتكار القرارات الخارجية المتعلقة بالشعوب الإسلامية في ردهات البرلمانات
الغربية، إذ ليست العبرة بتكوين مجموعة عمل مؤثرة تلقي بثقلها الانتخابي على
أصوات النواب؛ ليحصل المسلمون على بعض حقوقهم، وإنما بمعرفة طبيعة
العلاقة الدينية العقدية التي تربط صُنّاع القرار بتلك المنظمات؛ إذ التقوا على موجة
واحدة أصبحت لا تفرق فيها بين الرئيس والقسيس ولا بين النائب والراهب،
يعملون جميعاً لتهيأة الظروف التي نص عليها الكتاب المقدس لاستقبال أمير السلام
المسيح عيسى ابن مريم (عليه الصلاة والسلام) .
وليسهل تناول الموضوع قسمته إلى ثلاث حلقات: أعرض في الأولى منها
الأسس التي قام عليها المذهب البروتستانتي النصراني وصلة ذلك بالمهاجرين
الأوائل إلى العالم الجديد، أما الحلقة الثانية فسيكون الحديث فيها عن المنظمات
الإنجيلية الأصولية التي استمدت منهجها من ذلك المذهب ودورها على المسرح
السياسي، ثم أتطرق في الختام إلى نتائج ذلك الدور من خلال صناديق الاقتراع،
مع تسليط الضوء على مواقف لبعض قادة اليمين الديني في بلاد (العم سام) !
إن الصراع الأزلي بين الحق والباطل هو الذي أدى إلى قيام ما يعرف
بالولايات المتحدة الأمريكية، فالمعروف عندنا ب (الكشوف الجغرافية) كان بمثابة
محاولة للالتفاف حول العالم الإسلامي، ومن ثم سهولة القضاء عليه؛ وذلك لفشل
أوروبا في الغزو المباشر نظراً لوجود الدولة العثمانية التي وقفت ولقرون عديدة سدّاً
حائلاً بين الصليبيين والعالم الإسلامي، فكانت رحلة كريستوفر كولمبوس التي
ادّعى فيها اكتشافه للعالم الجديد، ثم ساهم الصراع الديني بين الكاثوليك
والبروتستانت في الهجرة والاستيطان في الأرض الجديدة التي اغتصبوها من
سكانها الأصليين، وأدى تشاغل بريطانيا العظمى (سابقاً) بالمشاكل القريبة منها (أو
لعله إيثارها التركيز على المناطق الإسلامية) إلى غض الطرف عن الدولة الناشئة
على الضفة الغربية للمحيط الأطلسي؛ هذه العوامل مجتمعة أوجدت القوة العظمى
اليوم، إلا أن الدين ينفرد بدور خاص في إحداث هذا المخاض؛ حيث عبّر إليكس
دي تاكفيل عن ذلك بقوله: إننا يجب ألا ننسى: أن الدين هو الذي أوجد المجتمع
الأمريكي؛ فهو يتدخل في كل عادات المجتمع ومشاعره الوطنية، مما يشكل قوة
فريدة ومتميزة، ولا تزال النصرانية تتمتع بالهيمنة على الرأي العام الأمريكي،
وهذا مسلم به [1] ، لقد وصف دي تاكفيل أمريكا في القرن التاسع عشر تقريباً أثناء
زيارته لها، فيا ترى ما هو هذا الدين الذي أوجد هذه الإمبراطورية؟ وهل لهذا
الدين انعكاسات على صناعة القرار السياسي أم إن أمريكا دولة علمانية؟ .
لكي تتضح الصورة، سوف أستعرض واقع
المهاجرين الأوائل ومعتقداتهم:
منذ القرن السادس عشر الميلادي: أصبح الكتاب المقدس للنصارى يشتمل
على العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) ، وكان للقس مارتن لوثر الدور
الأكبر في هذا التحول الخطير والمهم، لما له من آثار مستقبلية، ولقد سميت
حركته هذه ومن سار على نهجها فيما بعد ب (البروتستانت) أي: المعترضين الذين
خرجوا على سلطان الكنيسة الكاثوليكية في روما، ويطلق عليه النصارى لقب
المصلح ظناً منهم بأنه قد حسّن أوضاع الكنيسة وصلاتها بالمجتمع، وبغض النظر
عن الأسباب التي دفعت لوثر إلى ذلك فإن المهم في الأمر هو دمج الكتابين وتقبل
النصارى لذلك، وماذاك إلا لأن العهد القديم قد أصبح في ذلك الوقت كتاباً سياسيّاً
يقوم على قاعدة الحق الإلهي في الأرض المقدسة للشعب اليهودي [2] ، ونتيجة
لذلك الاندماج تسربت إلى العقيدة النصرانية ثلاثة أمور رئيسة هي: أولاً: زعم
اختيار الله لليهود وتفضيلهم على سائر الأمم، ثانياً: ما يدعى بالحق الإلهي لليهود
في الأرض المقدسة في فلسطين، ثالثاً: ربط الإيمان عند النصارى بعودة المسيح
(عليه الصلاة والسلام) ثانية بقيام دولة صهيون [3] .. وعلى هذه الأسس قامت
المنظمات الأصولية أو الإنجيلية النصرانية التي أخذت على عاتقها عبء تطويع
القرارات السياسية الخارجية للولايات المتحدة وتجييرها لصالح إسرائيل -كما
سنرى فيما بعد-.
انبثقت عن هذا الفكر في أوروبا طائفة تسمى البيورتانتس أو المتطهرين،
وقد غالت هذه الفرقة في تعظيم الكتاب المقدس مع إعطاء الأولوية للعهد القديم،
وبالتالي: ساهمت في نشر الثقافة العبرية على المستوى الشعبي، فرضع الإنجليز
النصارى مفهوم الأرض المقدسة التي حارب أجدادهم الصليبيون خلال حملاتهم
المعروفة من أجل السيطرة عليها؛ ليجتمع فيها اليهود فيكون ذلك حسبما يرون
مقدمة لعودة المسيح (عليه السلام) ، فوصلت النهضة العبرية بأفكارها المتداخلة
المؤيدة للصهيونية ذروتها في عهد الثورة البيورتانية في بريطانيا في القرن السابع
عشر [4] ، وتعدى التطرف النصراني إلى مطالبة مجموعة تطهيرية تدعى لفلرز
الحكومة الإنجليزية بإعلان التوراة (العهد القديم) دستوراً للبلاد [5] ، وربما لا
يستغرب أمر كهذا خاصة إذا سبقه تمهيد على مستوى المجتمع؛ إذ كانت تقام
الصلاة في الكنائس باللغة العبرية، وكذلك كانت تلاوة الكتاب المقدس بالعبرية بدلاً
من اللغة اللاتينية، وأصبح الأطفال يعمّدون بأسماء عبرية بدلاً من أسماء القديسين
النصارى، وتوجت هذه الهيمنة اليهودية على الدين النصراني بشقه البروتستانتي
بنقل يوم الاحتفال الديني ببعث المسيح (عليه الصلاة السلام) إلى يوم السبت
اليهودي [6] . وفي سنة 1807م تم تأسيس جمعية لندن لتعزيز النصرانية بين
اليهود، ولقد تبنى وزير الخارجية اللورد بالمرستون تسهيل عودة اليهود الغرباء
إلى فلسطين رغم أنه لم يكن من أتباع الحركة الصهيونية، وتابعه في ذلك اللورد
جلادستون ودوق كنت [7] .. نخلص مما سبق إلى أن حركة الإصلاح الديني في
أوروبا التي نشأت عنها طائفة البروتستانت قد غيرت كثيراً من المواقف السياسية
فضلاً عن الاجتماعية والدينية، على الرغم من أن أوروبا كانت ولا تزال ترفع
شعار العلمانية وتُسَوّقُه لدول العالم وبالذات مستعمراتها السابقة.
من تلك الطائفة البروتستانية التي تُدعى (التطهيرية) جاء جُلّ المهاجرين
الأوائل إلى الولايات المتحدة، فحملوا معهم التقاليد والقناعات التوارتية وتفسيرات
العهد القديم التي انتشرت في أوروبا وإنجلترا بالذات في القرنين السادس عشر
والسابع عشر، فسّموا أنفسهم (أبناء إسرائيل) واحتفلوا بيوم السبت راحة لهم،
وأدخلوا اللغة العبرية إلى جامعة (هارفرد) الشهيرة، وألزموا الطلاب بها، وجعلوا
ترجمة التوراة من العبرية إلى اللاتينية أساساً لاجتياز الدراسة [8] .
ويقول الرحالة الفرنسي دي تاكفيل في وصفهم: إنهم أحبوا أن يطلق عليهم
وصف الحجاج (أسوة بمن يزور موطن ولادة المسيح عليه الصلاة والسلام) وطبقوا
القوانين وكأن ولاءهم للرب فقط، فلم يعد هناك ذنب إلا وأقيم عليه الحد (بمفهومهم)
من زنى أو اغتصاب أو علاقة محرمة، بل وصل الأمر بهم إلى القيام بجولات
على المنازل لمعاقبة المتخلفين عن حضور القداس الذي جعلوه فرضاً على الناس
وأنزلوا أشد العقوبة بهم [9] .
وظنوا أن العالم الجديد هو الأرض الموعودة فسمّوا مدناً كثيرة بأسماء عبرية
قديمة، كما ظنوا أن الهنود الحمر هم القبائل اليهودية العشر المفقودة فحاولوا ردّهم
إلى اليهودية؛ ليعجلوا بالعودة الثانية للمسيح (عليه الصلاة والسلام) ، وقد سمحوا
لليهود ببناء محافلهم الدينية في وقت مبكر جدّاً بعد هجرتهم وقبل السماح للطائفة
الكاثوليكية بذلك [10] ، الأمر الذي حدا بأحد الوزراء (رئيس المحكمة العليا فيما
بعد) واسمه روجر تاني إلى القول: إنه لو وصل إلى أمريكا أي شخص يخالف
المستوطنين البيض النصارى لما اعترف بأنه مساوٍ لهم أو مستحق لمشاركتهم في
المزايا التي يمتعون بها، فالأمم الوحيدة المتمدنة على الأرض هي الشعوب
النصرانية البيضاء التي تقطن أوروبا، وأولئك المهاجرين يمكن قبولهم [11] ،
ومن هذه التركيبة الاجتماعية والعقدية انحدر المؤسسون الأوائل لنظام الحكم
والدستور الأمريكي، فتومس جيفرسون على سبيل المثال (وهو متهم من قبل
بعضهم بعدائه للدين) قد حاول من خلال وضعه للائحة الحرية الدينية سنة 1779م
الحفاظ على انتشار النصرانية بفصلها عن الدولة، وعذره في ذلك (أي الفصل) :
هو أن النصرانية ازدهرت خلال السنين الثلاثمئة الأولى دون الحاجة إلى مؤسسة
تدعمها، وعندما تبناها الإمبراطور قسطنطين بدأ صفاؤها في الزوال [12] ، ولعل
هذا الموقف لا يبدو غريباً منه وهو الذي صنّف كتاباً عنوانه: (حياة وأخلاق يسوع
الناصري) وذلك في عصور التنوير! وبالرغم من إيمانه ب (إله الطبيعة) (وهو
عكس إله الوحي) إلا أنه أوجب على الحكومة الحث على الدين ورفض (اللادين) ،
بل وأيد رفض المحكمة لشهادة الملحد، وقال: لتكن وصمة عار عليه [13] ، وقد
أبدى اهتماماً بالغاً بالدين، وأشعر بأهميته للناس: فجعله بمثابة الدستور لهم
لحاجتهم إلى مصدر فوق البشر يدفعهم لمنح الحقوق الطبيعية للآخرين؛ مثل
الحكومة التي تحتاج إلى دستور لكبح جماحها [14] ، أما أغرب ما صدر عنه: هو
اقتراحه بأن يكون شعار الولايات المتحدة على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار
غيمة وفي الليل عمود من النار، بدلاً من النسر أسوة بحال اليهود في فترة
التيه [15] ، فلا عجب إذاً في أن ينتخب للرئاسة في سنة 1800م، كيف لا وهو يعبر عن آراء وعقائد القطاع الأكبر من الشعب.
أما صنوه في التوجس من الدين جيمس ماديسون: فإنه يؤكد رأي جيفرسون
ويرى أن المؤسسة النظامية سوف تحد من التبشير بالنصرانية، وبالتالي: سوف
تؤذيها ولا تنفعها، وهذا يتطلب فصل الكنيسة عن الدولة [16] ، فالدين حسب
وجهة نظره ينتشر في أطهر صوره بدون مساندة الحكومة لا في ظلها، ولهذا: فلم
يعارض ماديسون وجود القساوسة وأماكن الصلاة في الجيش الأمريكي على الرغم
من كونه مؤسسة حكومية، إلا أنه طالب باستقلالهم عن الإدارة العسكرية [17] .
وفي دراسة قام بها أحد الباحثين ويدعى جون داسمو بعنوان (النصرانية
والدستور) دحض فكرة إلحاد الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي، وبالنظر إلى أهم
ثلاث عشرة شخصية ممن شاركوا في مؤتمر (فيلادلفيا) : فإن ثمانية منهم يمكن
وصفهم بأنهم إنجيليون (أي أصوليون حسب التعبير المعاصر) ، وثلاثة من عامة
النصارى، واثنان موحدان هما جيفرسون، وماديسون إلا أنهما قد تحولا إلى
التعاطف مع النصرانية كما يتضح ذلك في كتاباتهم ومحاضراتهم، ولنا أن نتصور
بعد هذا حال البقية من المشاركين في المؤتمر وتأثرهم بالفكر التطهيري وانعكاس
ذلك على: سياسة الحكومة الداخلية المتعلقة بأتباع هذا الفكر، والخارجية التي
تطالب بتطبيق تعاليم الكتاب المقدس في أرض الواقع خاصة إذا ما تذكرنا ضعف
الخلافة العثمانية البيّن واحتلال الصليبيين لمواقع متقدمة في البلاد الإسلامية،
فأصبحت قضية فلسطين مسألة وقت لا أقل ولا أكثر؛ لأن القرار الشعبي والسياسي
قد اتخذ منذ زمن مبكر جدّاً؛ منذ أن قامت حركة الإصلاح اللوثرية في أوروبا،
وكانت الهجرة إلى أمريكا وقيام ذلك الكيان إرهاصات للتوجه نحو احتلال فلسطين.
لقد قام القس النصراني الأمريكي وليام بلاكستون بتكوين البعثة العبرية من
أجل إسرائيل (لاحظ الصراحة في الأسماء فهي ليست نصرانية أو كنسية) والهدف
منها هو: تسريع عودة اليهود إلى فلسطين، وقد ألّف كتاباً اسمه (المسيح آت)
يربط فيه بين العودتين، ولا تزال هذه البعثة تعمل حتى يومنا هذا ولكن تحت اسم
(الزمالة اليسوعية الأمريكية) ، وظني أن التغيير قد تم بسبب قيام الكيان الصهيوني
من جهة، وكذلك عدم إثارة الشكوك، خاصة وأن بعض المسلمين القلائل قد أخذوا
ينتبهون إلى هذه المنظمات وأدوارها المشبوهة، وتعتبر المنظمة اليوم قلب جهاز
التأثير (اللوبي) الصهيوني في أمريكا.
وشارك المنصّرون الرحالة والحجاج وعلماء الآثار في هذه المهمة، فأيقظوا
مشاعر الأمريكيين العاديين نحو العهد القديم والتاريخ اليهودي ليشجعوا الهجرة إلى
فلسطين وإقامة المستوطنات، وقامت زوجة أحد كبار التجار في (فيلادلفيا) في
سنة 1850م بشراء أراضٍ كثيرة في فلسطين، ووهبتها لإقامة مستوطنات يهودية هناك [18] ، ولا يملك المرء أمام هذا إلا ترديد قول الشاعر:
ولو كان النساء كمثل هَذِهْ ... لفضلت النساء على الرجال
مع فارق المناسبة والأشخاص بالطبع! إننا لا نستغرب أن تقوم امرأة ثرية
بالتبرع من أجل عقيدتها خاصة إذا كانت تلك هي رغبة الرئيس الأمريكي في ذلك
الوقت؛ فقد صرح جون آدامز لأحد الصحفيين اليهود بأنه يتمنى رؤية أمة يهودية
مرة ثانية في يهودا [19] .
كذلك كان للسفراء دور في هذه المهمة الدينية، إذ رفع القنصل الأمريكي في
استانبول يوم كانت حاضرة الخلافة العثمانية مقترحاته إلى وزارة الخارجية التي
تقضي بأن تكون فلسطين وليست أمريكا وطناً لليهود، فما معنى تصريح كهذا
لدبلوماسي يقيم في بلد أو دولة تتبع لها تلك المنطقة؟ .. في عرف السياسة يعتبر
هذا تدخلاً صارخاً في الشؤون الداخلية للدولة، بل والدعوة إلى النيل من سيادتها
الوطنية، وظني كما أشرت سابقاً أن القضية قد حسمت في أذهان الساسة
الأمريكيين منذ زمن بعيد، وأصبح التصريح بالدعوة إليها عن طريق الدبلوماسيين: كالدعوة التي رأيناها إلى استقلال جمهوريات البلطيق عن الاتحاد السوفييتي البائد
أيام حكم جورباتشوف، أما القنصل الأمريكي في القدس: فيبدو أنه حاول تلطيف
الأجواء، فقال في مذكراته: متوقعاً أن موضوع استعادة إسرائيل على الرغم من
عدم شعبيته الآن سيكون مقبولاً في العالم غداً، وهذا الغد هو الذي عبر عنه
الرئيس وورد ولسن قائلاً: إن على ابن راعي الكنيسة (يقصد نفسه) وقد أُعْطِيَ
الفرصة التاريخية لخدمة رغبة الرب بتحقيق البرنامج الصهيوني المساعدة على
إعادة الأرض المقدسة إلى شعبها اليهودي [20] ، فبعد تيقنه من هزيمة العثمانيين
في الحرب العالمية الأولى أكد تأييد بلاده لقرار الدول الحليفة بوضع حجر الأساس
للدولة اليهودية في فلسطين، وأيده مجلس النواب الأمريكي، وبالتالي: صادقت
أمريكا على وعد بلفور، وقد لوحظ من خلال سجلات الكونجرس تشابه مواقف
أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي واستشهاد كثير منهم بالعهد القديم
والنبوءات التوراتية أثناء المداولات [21] .
إن تربية الرئيس ولسن الدينية قد أثرت فيه وفي سياسته؛ فقد بعث بمذكرة
إلى الحاخام اليهودي استيفن وايز يشعره فيها باهتمامه البالغ والعميق بالعمل البناء
الذي قامت به (لجنة وايزمان) في فلسطين، وعبر فيها عن ارتياحه للتقدم الذي
تسير عليه الحركة الصهيونية في أمريكا وأوروبا [22] ، كما أن الرئيس إبراهام
ترومان وبسبب دراسته التوراة، مثل سلفه الرئيس إبراهام لنكولن كان يؤمن
بالتبرير التاريخي للوطن القومي لليهود، وأنه كمعمداني (إنجيلي أصولي) يحس
بشيء عميق له مغزاه في فكرة البعث اليهودي، وأن موسى (عليه الصلاة السلام)
هو الذي أتى بالمبدأ الأساس لقانون هذه الأمة من على جبل سيناء [23] ، فالشيء
العميق الذي لم يذكره هو: العودة الثانية للمسيح التي يؤمن بها المعمدانيون
النصارى، التي من شروطها كما بينا: إقامة دولة صهيون كمقدمة للعودة! أما
الغريب في الأمر هو: ما يقصده بالأمة، فهل هي أمريكا؟ أم النصارى عموماً؟
أم اليهود والنصارى؟ إن واقع الحال يدل على أنهم اليهود الذين قدمهم النصارى
على أنفسهم بسبب العقائد المتسربة إليهم من العهد القديم الذي لُقّنوه منذ قرون خلت، ولم يتوقف دعم الساسة الأمريكيين على البوح بالمشاعر الفياضة والدافئة تجاه
إسرائيل وشعبها، بل تعدى ذلك إلى الانخراط في الجماعات التي تؤيد النشاط
الصهيوني في فلسطين والغرب على حد سواء، ومن ذلك: انضمام ثمانية وستين
عضواً من مجلس الشيوخ (مجموع أعضائه: مئة، يمثل كل ولاية فيه نائبان) الذي
من صلاحياته التصديق، بل واقتراح القرارات السياسية الخارجية للدول، ومئتي
عضو من مجلس النواب (مجموع أعضائه قرابة أربعمئة) : إلى اللجنة الفلسطينية
الأمريكية (لاحظ تضليل الاسم) ، التي أسست في الثلاثينيات لتوعية الرأي العام
الأمريكي حول أهداف وإنجازات الصهيونية، وقد ردّ أحد أعضاء هذه اللجنة من
النواب على رسالة الرئيس روزفلت عندما كان متوجهاً إلى (يالطا) لحضور المؤتمر
الشهير هناك قائلاً: إن ناخبيّ ينظرون إليك كأنك موسى [معاذ الله] المعاصر،
وينتظرون منك نتائج تتعلق بدولة اليهود في فلسطين [24] .
وبمرور الأيام وتسارع الأحداث: ازداد نفوذ الأصوليين النصارى في أروقة
الكونجرس والمكتب البيضاوي، وكما سيأتي معنا بإذن الله كيف أن سقوط القدس
في سنة 1387هـ 1967م واقتراب الألف الثانية من نهايتها قد ضاعفا من جهود
الإنجيليين لدرجة أنهم أصبحوا يتحكمون في الانتخابات الرئاسية والنيابية وبالذات
العقد الأخير - كما سيأتي معنا لاحقاً-، لأن هؤلاء المتطرفين ينطلقون من عقائد
ورثوها عن التطهيريين الأوائل الذين نزلوا الأرض الجديدة، وتشبعوا بمحتويات
التوراة التي أصبحت مصدراً للقرارات السياسية العالمية؛ فانطلقوا بكل إمكاناتهم
ليقيموا الكيان الصهيوني، وقد شاركهم بل سابقهم في ذلك الرؤساء والنواب
الأمريكيون، ليس بدافع الحاجة إلى المال اليهودي لتمويل الانتخابات كما يظن،
فهذه ظاهرة متأخرة في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما إنطلاقاً من عقيدة
راسخة درسوها صغاراً وحاولوا فرضها على الواقع من مراكز نفوذهم كباراً، ولا
يستثنى من ذلك أحد حتى واضعو الدستور الأمريكي الذي يفترض فيه وجود الأثر
العلماني، إلا أنه كما بينا أن الدستور نفسه قد وضع بطريقة تضمن انتشار
النصرانية أو البروتستانية بالذات التي صاغت توجهات الساسة، ولا تزال حتى
عصرنا هذا، لدرجة وجود مراكز أبحاث في أمريكا مهمتها دراسة أثر (اليمين
الديني) ومنظماته على السياسة الأمريكية [*] .
__________
(1) Alix de Tocqueville, Democracy in America, P 114.
(2) محمد السمّاك: الصهيونية المسيحية، ص37.
(3) المرجع السابق، ص34.
(4) أسعد السحمراني: من اليهودية إلى الصهيونية، ص196.
(5) الصهيونية المسيحية، ص38.
(6) المرجع نفسه.
(7) المرجع السابق، ص42.
(8) يوسف الحسن: البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص38.
(9) Domocracy in America, P 45.
(10) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص37.
(11) نورتن فريش وريتشارد ستفينز: الفكر السياسي الأمريكي، ص160.
(12) Garry Wills, Under God, P 368.
(13) الفكر السياسي الأمريكي، ص28.
(14) المرجع السابق، ص36.
(15) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص41.
(16) Under God, P 375.
(17) المرجع السابق، ص379.
(18) Robert Dugan, Gr , Winning The New Civil War, P 155.
(19) الصهيونية المسيحية، ص58.
(20) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص40.
(21) من اليهودية إلى الصهيونية، ص214.
(22) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص45.
(23) المرجع السابق، ص47.
(24) الصهيونية المسيحية، ص60.
(25) المرجع السابق، ص65. الهامش رقم 25 لم يشار إليه في المقالة (ماس) .
(26) البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص48. الهامش رقم 26 لم يشار إليه في المقالة
(ماس) .
(*) من هذه المراكز: جامعة (ويسكانسن) في مدينة (ماديسون) ، وجامعة (ميتشجن) ، بالإضافة إلى العديد من الجامعات الأصولية! .(90/80)
في دائرة الضوء
نحو بناء إسلامي لمصطلح الأقلية
بقلم:كمال السعيد حبيب
يثير مصطلح الأقلية في بعده الأساس: الموقف من الآخر الذي يشاركك
العيش في مجتمعك، أي: ما هو الموقف الأخلاقي والقانوني والحضاري الذي تقفه
الأغلبية من الآخر.
النموذج الإسلامي وغير الإسلامي في التعامل مع الآخر:
هناك نموذجان لكيفية التعامل مع المخالفين: أحدهما: النموذج الإسلامي الذي
يستمد مصادره من الكتاب والسنة وتطبيقات الخبرة الإسلامية في الفترتين النبوية
والراشدة، وثانيهما: النموذج غير الإسلامي سواء أكان وضعيّاً مصدره العقل
البشري أو دينيّاً مصدره أصول محرّفة اختلط فيها الوضع والتحريف بأثارة قليلة
من الدين الصحيح.
في النموذج الإسلامي: نلحظ أن قبول الآخر، والحفاظ عليه، وترتيب
أوضاعه الحقوقية والإنسانية: هو جزء أساس من صُلب النموذج، فلا يوجد كتاب
فقه لم تنتظم أبوابه وفصوله الإشارة إلى قواعد تنظيم علاقة الدولة الإسلامية بغير
المسلمين، سواء أكانوا أهل ذِمّة يربطهم بالدولة عقد مؤبد، أو كانوا كفاراً حربيين، أو مستأمنين، وقد وضع المسلمون لذلك علماً خاصّاً أسموه عِلم السِّيَر [1] ، وهذا
العلم يجعل علاقة الدولة الإسلامية بمخالفيها في العقيدة حتى لو كانوا حربيين كفاراً
جزءاً من القانون الداخلي للدولة، يحق لمخالفيها مقاضاتها لو خالفته؛ ففي الكامل
لابن الأثير واقعة بالغة الدلالة، تبين إلى أي مدى بلغ رُقي وعظمة السلوك
الإسلامي في التعامل مع المخالفين حتى لو كانوا أعداءً.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن أبي السري واليه على سمرقند:
اعمل خانات في بلادك؛ فمن مَر بك من المسلمين فأقروه يوماً وليلة وتعهدوا دوابّهم، ومن كانت به عِلة فأقروه يومين وليلتين، وإن كان منقطعاً فأبلغه بلده، فلما أتاه
كتاب عمر، قال له أهل سمرقند: قتيبة ظلمنا وغدر بنا؛ فأخذ بلادنا، وقد أظهر
الله العدل والإنصاف، فَاًذن لنا فليقدم منّا وفد على أمير المؤمنين، فأذن لهم،
فوجهوا وفداً إلى عمر، فكتب لهم عمر: إلى سليمان: إن أهل سمرقند شكوا ظلماً
وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي هذا: فأجلس
لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب إلى معسكرهم، كما
كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة، فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضي،
فقضى أن يخرج العرب من سمرقند إلى معسكرهم، وينابذهم على سواء، فيكون
صُلحاً جديداً أو ظفر عنوة، فقال أهل الصفد: بلى نرضى بما كان ولا تحدث
حرباً، وتراضوا بذلك [2] .
هذه الواقعة تؤكد أخلاقية الدولة الإسلامية في التعامل مع المخالفين - حتى لو
كانوا أعداءً- وهو ما يعرف بوحدة القيم في الإسلام، أي: إن الحضارة الإسلامية
لم تعرف الازدواجية في سلوكها؛ فهي تعامل الخصم بالقواعد نفسها، وهذه القواعد
ليست على سبيل التطوع، ولا على سبيل التبادل، بل لها طابع إلزامي حتى ولو
لم يلتزم بها الطرف الآخر، فقد نقض الروم عهدهم مع المسلمين زمن معاوية
(رضي الله عنه) وفي يده رهائن منهم، فامتنع المسلمون جميعاً عن قتلهم، وخلوا
سبيلهم، وقالوا: وفاءٌ بغدر خير من غدر بغدر [3] .
وفي النماذج غير الإسلامية: نجد الحضارة الإغريقية في قمة ارتقائها، لم
تكن تطبق نظمها الحقوقية والدولية إلا على رعاياها اليونانيين؛ حيث يشترك
السكان في اللسان والدين والتقاليد والعادات (النموذج الغربي المعاصر في تطبيقه
القومي) ، ولم تكن تلك النظم تطبق على من يطلقون عليهم: البرابرة (كل ما عدا
الإغريق) ، وقال أرسطو: إن الفطرة هي التي أرادت أن يكون البرابرة لليونان
عبيداً، فليتصرف القائد اليوناني في كل بربري بما يشاء. واليهود: قالوا: ليس
علينا في الأميين سبيل، واعتبروا الآخرين خدماً لهم، باعتبار أن اليهود في
زعمهم شعب الله المختار. والهنود: قسموا الناس إلى أربع طبقات البراهمة: وهم
أهل الدين، والكشترية: وهم أهل السيف، والريشة: وهم أهل الحِرَف والتجارة،
والشودرة: وهم الخدم، وهذا التقسيم طبقي موروث، لا يمكن لاحد أن ينعتق منه، وينظر الهنود لطبقة الخدم على أنهم طبقة الأنجاس، وهم لا يعرفون لأحد من
الأجانب حقّاً في حال السلم أو حال الحرب.
والرومان في أوج مدنيتهم قالوا: ما في الأرض إلا أقوام ثلاثة: الرومان،
والمعاهدون، وسائر العالمين، وكانوا يطلقون على الأجنبي (HOStes) أي: العدو المبين، أما المتنصرة الغربيون المتأثرون بالإغريق والرومان: فإنهم رأوا الآخرين برابرة لا تلزمهم أية قواعد قانونية أو أخلاقية، حتى قال هوكو خروتيوس (ت 1645م 1050هـ) وهو أبو القانون الدولي الحديث: إن المسيحيين في عصرنا يقدمون في حروبهم على أعمال تستحي منها الوحوش أنفسها، وقال البابا أربانوس السادس: إن الغدر إثم، ولكن الوفاء مع المسلمين أكبرُ إثماً، ويذكر آدم ميتز: أن الكنيسة الرسمية في الدولة الرومانية ذهبت في معاداتها للمسيحيين الذين يخالفون رجالها في الفكر أبعد مما ذهب إليه الإسلام بالنسبة لأهل الذمة. ولوقوع التشاجر والتخاصم بين المذاهب النصرانية المتعددة؛ فإن حاكم أنطاكية المسلم في القرن الثالث الهجري عين رجلاً نصرانيّاً يتقاضى ثلاثين ديناراً في الشهر، كان عمله منع المتخاصمين من قتل بعضهم بعضاً [4] . ...
ولما ظهر المذهب البروتستانتي في أوروبا في القرن السادس عشر، قاومته
الكنيسة الكاثوليكية بكل قوتها، وعرف تاريخ الاضطهاد النصراني المذهبي مذابح
بشرية رهيبة؛ أهمها مذبحة باريس عام 1572م، التي استضاف فيها الكاثوليك
البروتستانت لديهم، لتقريب وجهات النظر بينهم، لكنهم قتلوهم ليلاً وهم نيام، فلما
طلع الصبح على باريس وكانت شوارعها تجري بدماء الضحايا؛ هنّأ البابا
الكاثوليكي ملكَ فرنسا شارل التاسع الذي وقعت المذبحة في عهده [5] .
وفي إطار الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا: نظم المجلس
النيابي لباريس لجنة خاصة عام 1549م لقمع الخروج على الرأي، وإرسال
المدانين إلى المحرقة، وأطلق على المحكمة الجديدة اسم (الغرفة المتأججة) ،
وقضى مرسوم شاتو بريان عام 1551م: بأن طبع أو بيع أو حيازة كتب الهرطقة
يعد جريمة عظمى، وأن الإعدام هو عقاب الإصرار على الآراء البروتستانتية،
وخلال ثلاث سنوات أُرسل ستون بروتستانتيّاً إلى الغرفة المتأججة؛ حيث ماتوا
حرقاً.
وعن كراهية النصارى لليهود يذكر وول ديورانت: كانت نيران الحقد
تضطرم في قلوب المسيحيين، وكان بنو إسرائيل في تلك الأيام يحبسون أنفسهم في
أحيائهم وبيوتهم خشية أن تثور عواطف السذج من الناس؛ فتؤدي إلى مذابح.
ولما خرجت الحملة الصليبية الأولى، أعلن قائدها أنه سيثأر لدم المسيح من
اليهود، ولن يترك واحداً منهم حيّاً، وأنه لابد من قتل يهود أوروبا قبل الخروج
لقتال الأتراك في أورشليم [6] .
مصطلح الأقلية في العلوم الاجتماعية:
لأن المصطلحات انعكاس للحضارات التي أفرزتها، فإن النموذج الغربي
المعاصر الذي يُعد استمراراً للتقاليد الصليبية ولكن في صيغة علمانية هو الذي أنتج
مصطلح الأقلية (Minority) ، وترتبط بهذا المصطلح في الدراسات الاجتماعية
الغربية قضايا تعكس الطابع العنصري، مثل: التحامل (Pregadce) وما يرتبط
به من معاملات أخرى مثل: القلق (Anxiety) ، والجمود (Rigidity) ، وسوء
الحكم (Misgudgment) ، والتعصب (Fanatism) ، والاضطهاد وعدم
التسامح، وأيضاً: الصراع وما يرتبط به من عنف، وتوتر، وتفرقة
(Descrimination) ، وعدوان، ثم هناك مفهوم الاضطهاد أو التمييز العنصري
(Segregation) [7] ، وهذه القضايا التي يثيرها الفكر السياسي والاجتماعي الغربي حين دراسته لقضية الأقليات تؤكد على أنه رغم دعاوى التسامح والمساواة وحقوق الإنسان؛ فإن العلاقة بين الأغلبية والأقلية تتضمن تفاعلات ذات طابع لا يقبل الآخر إلا مكرهاً أو في وضع أدنى؛ حيث: يتعرض للتحامل والتمييز والاضطهاد والعدوان والتفرقة، ولنتابع بعض تعريفات الأقلية في الفكر الغربي:
الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية تعرّف الأقلية بأنها: جماعة من الأفراد
يختلفون عن الآخرين في المجتمع نفسه بسبب: العرق، أو القومية، أو اللغة، أو
الدين، وهم يتصورون أنفسهم كجماعة ذات مضامين سلبية، وهم يعانون من نقص
نسبي في القوة، ومن ثم: يخضعون لبعض أنواع الاستعباد والاضطهاد والمعاملة
التميزية المختلفة.
والموسوعة الاجتماعية الأمريكية تعرف الأقليات بأنها: جماعة داخل
المجتمع لها وضع اجتماعي أقل، وتمتلك قدراً أقل من القوة والنفوذ، وتمارس
عدداً أقل من الحقوق مقارنة بالجماعة المسيطرة في المجتمع وهي عادة ما تعزل،
وتخضع للاضطهاد في المواقف والسلوك بسبب اختلافات (فعلية أو مفترضة) :
طبيعية، أو ثقافية، أو اجتماعية؛ باختصار: فإن أفراد الأقليات غالباً ما يحرمون
من الاستمتاع الكافي بامتيازات مُواطن الدرجة الأولى [8] .
وهذه التعريفات تجعل من الأقلية موضوعاً غير فاعل؛ أي: إن الأغلبية هي
التي تحدد وضع الأقلية في المجتمع، وتجعلها دائماً في مكانة المستلب أو المضطهد، ولذا: فقد عمد بعضهم إلى طرح مفهوم للأقلية يجعلها طرفاً فاعلاً في مجتمعها،
بحيث تمكنها من ممارسة تكتيكات دفاعية متمايزة عن الأغلبية إذا لم تحصل على
حقوقها بشكل متساوٍ مع الأغلبية، كما اتجه البعض للبحث عن مصطلحات بديلة
لمفهوم الأقلية لاستبطانه دلالات عنصرية، ويمكن افتراض أن الاتجاهين في
تعريف الأقلية يعبران عن استراتيجيتين غربيتين في التعامل مع الأقلية:
أحدهما: تعرف ببوتقة الصهر (Melting - Pot) التي تحاول امتصاص
الأقلية واستيعابها في الأغلبية: بحيث يصبح المجتمع موحداً في صيغة متماثلة
بدعوى تحقيق التكامل (Integesation) .
ثانيهما: تعترف بالتعدد، لكنها تضع حدوداً قصوى ودنيا يجب أن يمارس
التنوع في إطارها، بحيث لا يؤدي إلى تفجير المجتمع من الداخل. ومارست
الدولة القومية المعاصرة الاستراتيجية الأولى، التي تؤكد الطابع المهيمن والمركزي
للحضارة الغربية في علاقتها بالآخر، لكنه ثبت فشل هذه الاستراتيجية؛ لأنه لا
يمكن إلغاء الولاءات والانتماءات الأولية للجماعات الأخرى المكونة للمجتمع.
المصطلحات التي استخدمتها الحضارة الإسلامية:
لم تعرف الحضارة الإسلامية مصطلح الأقلية طوال تاريخها للتعبير عن غير
المسلمين الذين يقيمون داخلها، وإنما عُرف هذا المصطلح لأول مرة في إطار
صراع الدولة العثمانية مع القوى الأوروبية للإجهاز عليها فيما أطلق عليه المسألة
الشرقية، وذلك باستخدام القوى الغربية للأقليات التي تعيش داخل الدولة العثمانية:
كمخلب قط لتفتيتها بدعوى حماية هذه الأقليات والحفاظ عليها.
فمصطلح الأقلية ظهر في العالم الإسلامي مرتبطاً بقوى خارجية تسعى لإثارة
القلاقل وعدم الاستقرار داخل المجتمع المسلم، أما المسلمون: فقد استخدموا
مصطلح الملة للتعبير عن الفئة غير المسلمة التي تعيش بينهم، وبينما كان نظام
الملة العثماني المستمد من الخبرة الإسلامية للدولة النبوية يقيم العلاقات بين
المسلمين وغير المسلمين على قاعدة التسامح والاعتراف بالتنوع في إطار الوحدة
وتحقيق العدل والحماية؛ فإن مصطلح الأقلية ارتبط بالتدخل الغربي وارتباط فئات
داخلية من المجتمع الإسلامي به، وبالتالي: تأكيد تمايزها عن المجموع والغالبية،
لتحقيق مآرب سياسية وتأسيس الطائفية.
المصطلحات التي استخدمتها الحضارة الإسلامية للتعبير عن الآخر (غير
المسلم) الذي يشارك المسلمين أوطانهم تؤكد مشروعيته.
وأهم هذه المصطلحات:
أهل الذمة: وهم المعاهدون من اليهود والنصارى وغيرهم ممن يقيمون في
دار الإسلام على سبيل التأبيد، حيث يربطهم بالدولة الإسلامية عقد يكفل لهم الأمان
والحماية والحرمة، ويصبحون من أهل دار الإسلام شرط أن يبذلوا الجزية
ويلتزموا أحكام الملة.
أهل الملة: وهي الصيغة العثمانية لترتيب أوضاع غير المسلمين فيها، على
أساس منحهم حق إدارة شؤونهم الخاصة والعامة تحت إشراف الدولة وعن طريق
رؤسائهم.
وهذه المصطلحات تجعل الدين فقط معيار التمييز بين المسلمين وغير
المسلمين، ولا تقيم للعِرق أو اللغة أو القومية أي أثر في ترتيب أوضاع البشر
داخل مجتمعاتهم [9] .
نحو بناء إسلامي لمصطلح الأقلية:
تضمنت مفردات اللغة كلمة الأقلية كتعبير عن الجزئية والاستثناء، أو مباينة
الكثرة أو الغالب، وتشير معاجم اللغة إلى مادة قَلَلَ التي اشتقت منها كلمة الأقلية؛
فقد جاء في لسان العرب: قلل القلة خلاف الكثرة ... وفي حديث ابن مسعود:
الربا وإن كثر فهو إلى قِل معناه: قِلة ... ويقول: قدم علينا قُلُلٌ من الناس إذا كانوا
من قبائل شتى متفرقين، وقلة كل شيء رأسه، والقلة أعلى الجبل، وقلة كل شيء
أعلاه.
ويشير معجم القرآن الكريم إلى أن الكلمة في القرآن تشير إلى النقص، كما
في قوله (تعالى) : [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ] [البقرة: 249]
وقوله (تعالى) عن فرعون: [إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ] [الشعراء: 54]
وبالتأمل في الدلالة اللغوية التي اشتقت منها كلمة أقلية نلاحظ:
أولاً: استخدمت للتعبير عن دلالة كمية تقابل الأكثر [وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلاً
فَكَثَّرَكُمْ] [الأعراف: 86] .
ثانياً: استخدمت للتعبير عن دلالة كيفية لا تجعل العدد معياراً لها؛ كما في
حديث ابن مسعود: الربا وإن كثر فهو قُل، وكما في قول لبيد:
كلّ بَنِي حُرّةٍ مَصِيرُهُمْ.. ... قُلّ وإن أكْثرتْ من العَدَدْ
فالقلة هنا: تعبير عن حالة كيفية العدد المجرد وليست معياراً لها.
ثالثاً: قد تعبّر عن حالة كيفية خالصة؛ كما في تفسير القلة بأعلى الشيء،
وكما في التعبير القرآني [حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً] [الأعراف: 57] أي:
حملت وارتفعت.
رابعاً: تشير الكلمة إلى تجمع الأشتات المتفرقين من أصول عرقية متعددة،
وهو ما يعنيه المصطلح في العلوم الاجتماعية، وهو واضح جدّاً، كما في قوله:
قدم علينا قُلُلٌ من الناس إذا كانوا من قبائل شتى.
وإذا تأملنا السياق القرآني تفتحت لنا آفاقاً أوسع للفهم؛ ففي القرآن استخدمت
الكلمة مرات عدة:
أولاً: في مقابل كلمة ثُلّة لتدل على تعبير كمي في سياق كيفي؛ كما في قوله
(تعالى) : [ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ] [الواقعة: 13، 14] فالقلة
هنا لا تعني النقص، وإنما التمييز والسبق والارتقاء.
ثانياً: أُلحِق بها ما يزيدها بياناً بحالة اجتماعية وسياسية تعبر عن
الاستضعاف؛ كما في قوله (تعالى) : [وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي
الأَرْضِ تَخَافُونَ ... ] [الأنفال: 26] .
ثالثاً: تقدم عليها ما يزيدها بياناً، وهي كلمة: شرذمة في إطار سياق
اجتماعي وسياسي يعكس أكثر الحالات تعبيراً عن مفهوم الأقلية كما تذهب إليه
العلوم الاجتماعية الحديثة وذلك في قوله (تعالى) حكاية عن فرعون في وصفه لقوم
موسى بعد أن خرجوا من مصر: [إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإنَّهُمْ لَنَا
لَغَائِظُونَ] [الشعراء: 54، 55] ، ويميل كاتب هذه السطور لافتراض أن كلمة
شرذمة قليلون في هذا السياق تعكس الدلالة السياسية والاجتماعية لما يشير إليه
مصطلح الأقلية من وجهة نظر الأغلبية والسلطة الحاكمة، حيث تسود بينهما علاقة
صراعية استخدمت فيها أدوات القهر المعنوي والمادي بقصد استئصال الأقلية
ومحوها من الوجود، وربما يدفعنا ذلك إلى أن نؤكد العلاقة بين طبيعة النظام
السياسي وبين ممارساته تجاه الأقلية، حيث يميل النظام الفرعوني الاستبدادي إلى
عدم التسامح مع الأقلية التي تقع تحت سلطانه، وقد يجنح إلى حد العمل على
استئصالها، ويمكن لنا أن نقول: إن تطبيقات فرض التكامل القومي بمعنى سحق
الولاءات الأولية لصالح الأيديولوجية الواحدة التي تفرضها الأنظمة الثورية في
العالم الثالث هي تعبير عن ممارسة تدخل في إطار النموذج الفرعوني.
رابعاً: إن تعبير الاستضعاف مصطلح قرآني أكثر تعبيراً عن مصطلح الأقلية، ... ولكن من حيث رؤية هذه الأقلية لذاتها تجاه الجماعة الحاكمة التي توصف عادة
في القرآن الكريم بالاستكبار، حين يكون الصراع بين الأقلية والأغلبية حول
المبدأ [*] .
خامساً: التعبير القرآني يستخدم القلة للتعبير عن النقص العددي، لكنه لا
يجعل مجرد النقص العددي مثاراً للاحتقار أو مبرراً للتقليل من الشأن، بل الغالب
أن القلة تستخدم في السياق القرآني للتعبير عن المدح والتقدير، وهو ما يؤكد أن
الإطار القرآني لا يجعل من المعيار العددي المجرد مقياساً لترتيب أوضاع اجتماعية
وسياسية واقتصادية متميزة، فتعبير القلة أو الكثرة هو تعبير محايد حتى يأتي
وصف يحدد طبيعة هذه الكثرة أو القلة، وهو ما يطلق عليه: التعبير الوظيفي للعدد.
ويمكن استخدام مصطلح الأقلية للتعبير عن التعدد الثقافي أو العِرقي لجماعة
من البشر في مواجهة جماعة أخرى تعبر عن الأكثرية أو التميز في سلم التدرج
الاجتماعي والسياسي، لكنه يحتاج إلى تحديد وضبط ليعبر عن الخصوصية
الحضارية الإسلامية.
وتعرّف هذه الدراسة الأقلية من منظور إسلامي
على النحو التالي [10] :
الجماعة التي تعيش داخل المجتمع الإسلامي على سبيل الاستقرار (الدوام)
ولها حكم شرعي مختلف عن أحكام الجماعة المسلمة، أو التي فارقت الجماعة
المسلمة بتأويل ديني لا يسوغ.
فلا يعد أقلية من وجهة النظر الإسلامية: المستأمنون الذين يدخلون دار
الإسلام لضرورات تفرضها طبيعة العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب.
كما ينظم العلاقة بين الجماعة المسلمة والأقلية الحكم الشرعي لا معيار الكثرة
أو القلة العددية، ونقصد بالحكم الشرعي: اجتهاد ولي الأمر في تحديد الأوضاع
المنظمة لتواجد غير المسلمين في المجتمع الإسلامي بما لا يتعارض مع المقاصد
العامة للشريعة أو نصوصها القطعية.
ويعد أقلية: من فارق إجماع المسلمين بتأويل ديني لا يسوغ، أي: لا تجيزه
قواعد اللغة والشرع أي الجماعات المخالفة لإجماع الأمة ويدخل ضمن هؤلاء:
البهائيون، الإسماعيليون، الدروز، العلويون، بعقائدهم الباطنية المصادمة للإسلام، فهم ينتسبون للإسلام، ولكنهم ليسوا منه، فهم أحق بوصف الردة بتعبير عبد
القاهر الجرجاني وغيره.
ولا يدخل ضمن الأقلية من وجهة النظر هذه: الأكراد، البربر، الأتراك..
وغيرهم ممن تعتبرهم الدراسات الحديثة أقلية، وكما يقول فاضل رسول: إن طرح
علاقة الشعوب الإسلامية ببعضها ضمن مفهوم الأقلية والأكثرية هو أمر خاطئ؛
فالإطار الإسلامي من المفترض أن يجمع المسلمين من أي شعب وقوم، فلا توجد
هنا أغلبية وأقلية، وإذا اعترفنا بوجود انتماءات قومية مختلفة: فيمكن الكلام ربما
عن شعب صغير وآخر أكبر، ولكن ليس عن أكثرية وأقلية.
إن العلاقة بين الشعوب المسلمة ضمن البلد الواحد لا يمكن فهمها على أساس
علاقة الداخل بالخارج؛ فتاريخيّاً: كانت علاقة الشعوب الإسلامية ببعضها علاقات
مركز بأطراف، وليست علاقة داخل بخارج، وكانت علاقة المركز بالأطراف
قابلة للتداول، ولا تعتمد على القهر، أما الحالة التي نعيشها فهناك ضغط دائم من
الأطراف على المركز، ربما لصالح أطراف خارجية.. [11] .
إن معيار الحكم الشرعي الذي تتبناه هذه الدراسة لإعادة التعريف بمصطلح
الأقلية من وجهة النظر الإسلامية يتميز بالآتي:
أولاً: أن الحكم الشرعي معيار فوقي؛ بمعنى: أن الله هو الذي أمر المسلمين
بقبول غير المسلمين في إطار البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الإسلامية،
وأمر بالإحسان إليهم وحمايتهم إذا دفعوا الجزية وقبلوا التزام أحكام الملة، وعقد
الذمة بهذا المعنى، ورغم أن الذين يوقعونه بشر، إلا أن مصدره الله والرسول،
وهو بهذا واجب شرعي وتكليف إلهي لا يمكن مخالفته.
ثانياً: أنه معيار ثابت لا تعتريه التغيرات، ولا تكيفه أهواء البشر، وهو
منضبط، بمعنى أن استخلاص الحكم الشرعي محكوم بقواعد علمية صارمة يتم
الاجتهاد في ضوئها.
ثالثاً: أنه صريح؛ فهو لا يتتبنى خطاباً مراوغاً يحاول أن يلغي فيه
خصوصية غير المسلمين.
__________
بعض المراجع والصادر:
(1) محمد حميد الله: مقدمة في علم السّيَر، أو حقوق الدول في الإسلام، ضمن كتاب ابن القيم الجوزية: أحكام أهل الذمة بتحقيق صبحي الصالح، ص74 وما بعدها.
(2) ابن الأثير الجزري: الكامل، ج4، ص48، 49.
(3) أبو يعلى: الأحكام السلطانية، تصحيح وتعليق الفقي، ص48، 49.
(4) آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة: أبو ريدة، ص68.
(5) القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع المسلم، ص73.
(6) وول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة عبد الحميد يونس، م4، ج3، ص54.
(7) سميرة بحر: المدخل لدراسة الأقليات، ص18.
(8) نيفين مسعد: الأقليات والاستقرار السياسي، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، رسالة دكتوراة، ص10.
(9) كمال السعيد حبيب: الأقليات والحماية السياسية في الإسلام، دراسة حالة للدولة العثمانية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
(*) استخدمت هذه المصطلحات استخداماً استهلاكيّاً من قِبَل بعض الفئات، ونحن نُقِرّ بها باعتبارها مصطلحات قرآنية، لكننا ننأى بها عن مثل تلك الاستخدامات الدعائية ... ... - البيان -.
(10) السابق.
(11) فاضل رسول: الإسلام والقومية أفكار حول تجربة الشعب الكردي، الحوار، صيف 1986، السنة الأولى، ص17.(90/92)
مقال
استثمار المواقف
بقلم: خالد السبيعي
أورد ابن حجر في (لسان الميزان) قصة عجيبة، ذكرها أبو محمد ابن حزم
لعبد الله بن محمد بن العربي والد القاضي أبي بكر أنه أي: ابن حزم شهد جنازة،
فدخل المسجد فجلس قبل أن يصلي، فقيل له: قم فصلِ تحية المسجد، ففعل، ثم
حضر أخرى فبدأ بالصلاة، فقيل له: اجلس ليس هذا وقت صلاة وكان بعد العصر
فحصل له خزي، فقال للذي ربّاه: دُلني على دار الفقيه، فقصده وقرأ عليه الموطأ، ثم جدّ في طلب العلم بعد ذلك.
لقد أجاد أبو محمد كما رأينا في التعامل مع هذا الموقف، وحوّله من خسارة
إلى مكسب، إن هذه القصة نموذج ساطع لفن التعامل مع المواقف واستثمارها.
ولا نستطيع في الواقع الاستمرار في الحديث عن الموقف واستثماره دون
وضع تعريف محدد للمقصود به هنا، فالموقف إذاً: هو كل ما يتعرض له الفرد
من أحداث ويتطلب منه اتخاذ قرار - إيجابي أو سلبي- تجاه هذه الأحداث، ويكون
له القدرة على اتخاذه، وبعبارة أخرى: فالحياة: مجموعة من المواقف.
إن استثمار المواقف يحتاج إلى منهج واضح، لعلنا في هذه العجالة نلقي
ضوءاً على بعض أسسه.
إن المبادئ التي يحملها الفرد، والقيم التي تحكم تصرفاته، والطباع
الشخصية المحركة لدوافعه، تمثل الأسس الداخلية التي يقوم عليها منهج الاستثمار
المتوازن للمواقف، فضعف الإيمان بالمبدأ مثلاً أو قوته ومدى سلبيته أو إيجابيته
ونتائج التخلي عنه تحدد مدى قوة تأثير العامل.
كما إن هناك مؤثرات أخرى (خارجية) ، كالبيئة التي يعيش فيها الفرد
والأصدقاء المقربين له، والضغوط التي يتعرض لها سواء أكانت اجتماعية أو
اقتصادية أو فكرية أو غير ذلك، وسيكون استعراضي هنا لأثر الأسس أو العوامل
الداخلية (الفردية) ، وذلك لأنها المحدد النهائي لمدى الاستجابة (الاستثمار) وكيفيتها.
فالأنَفَة على سبيل المثال طبع شخصي عند ابن حزم، دفعته إلى تصحيح
وضع خاطئ (جهل المرء بدينه) بإيجابية ملهمة كما رأينا سابقاً وجعلته فيما بعد
علماً من أعلام الفقه الإسلامي.
والتعصّب الأعمى للقبيلة وكل تعصّب أعمى من القيم الجاهلية المعروفة، إلا
أن أثرها كما سيظهر في القصة التالية خطير وجد خطير.
فقد أورد ابن كثير في (البداية والنهاية) رواية للبيهقي، جاء فيها: أن أبا
جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً ليستمع منه،
وكلّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر
تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم
بعض سفهائكم لأوقعتم في نفوسهم شيئاً، ثم انصرفوا، وتكرر هذا الأمر ثلاث ليال، حتى قالوا: لا نبرح حتى نتعاهد على ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا،
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته
وسأله عن رأيه فيما سمع، فأجابه أبو سفيان بأن ما سمعه لم يكن كلاماً منكراً أو لا
يعقل، وكذلك كان رأي الأخنس، ثم أتى الأخنس إلى أبي جهل وسأله عن رأيه
فيما سمع، فقال أبو جهل: ماذا سمعت؟ ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف،
أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب،
وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟
والله لا نسمع له ولا نصدقه! .
انظر إلى أثر هذه القيم، وما تفعله بالبشر! .
أما عن أثر المبادئ وهو الأهم على استثمار المواقف فالشواهد عليه لا
تحصى، وسنعرض لموقف فريد منها، لم يتكرر في القرآن الكريم، ولم يذكر
صاحبه إلا في هذه السورة التي حملت اسمه، إنه نبي الله يوسف (عليه الصلاة
والسلام) .
وسنتوقف قليلاً عند هذا الموقف ونتأمله، كما وصفه الله (عز وجل) في محكم
تنزيله.
رزق يوسف (عليه السلام) بجمال أخّاذ في الخلقة، وعقل راجح، وفصاحة
في البيان، مما جعله محط أنظار الناس.
وسكن في بيت العزيز (حاكم مصر) بعد أن اشتراه بثمن بخس! ! ، وأعجبت
به امرأة العزيز [وَرَاوَدَتْهُ الَتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ
لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ
وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
المُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا البَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا البَابِ قَالَتْ مَا
جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [يوسف: 23- 25] .
كانت الظروف كلها مهيأة تقريباً لحدوث ما لا تحمد عقباه، إن حب الشهوات
طبع بشري عالجه يوسف (عليه الصلاة والسلام) وأزاله بالمبدأ السامي (طاعة الله) ، الذي هو عقيدة كل مسلم.
وختاماً: فإن الفرد منا بحاجة إلى مبادئ صحيحة يعتقدها وتنير دربه، وقيم
صالحة ينتقيها، وطباع بشرية يهذبها، ليكون الاستثمار الأمثل للحياة.(90/102)
منتدى القراء
ضغط الواقع
بقلم:خالد محمد الذواد
يتخذ الأفراد والجماعات والأمم في أحيان كثيرة مواقف معينة، ما كانت لتتخذ
لولا وجود عوامل ضاغطة، أدى تراكمها إلى اتخاذ هذه المواقف، المغايرة لما كان
ينبغي اتخاذه.
وهذه العوامل نطلق عليها: ضغط الواقع، وهو: تلك العوامل الضاغطة
المجتمعة، التي تؤثر في اتخاذ موقف ما.
ومقاومة ضغط الواقع تنعدم حتماً بانعدام القدرة على المقاومة وانعدام إرادة
المقاومة، وبالنسبة لنا نحن المسلمين فالقدرة هي قوتنا الذاتية بكافة أشكالها،
والإرادة نستمدها من إيماننا وعقيدتنا، وما موقفا معتّب بن قشير (المنافق) وسعد
ابن معاذ (الصحابي) إلا تصوير لذلك الخيط الدقيق لما بين المؤمن والمنافق من
فروق.
فعندما تحزبت الأحزاب على المسلمين زاعمة استئصال شأفتهم في شوال من
السنة الخامسة للهجرة قبائل العرب من الخارج، واليهود من الداخل عظم البلاء
واشتد الخوف، وظن المؤمنون بالله الظنون، في تلك اللحظة قال معتب: كان
محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن
يذهب إلى الغائط [1] .
لم يستطع معتب مقاومة ضغط الواقع الذي عاشه في تلك اللحظة، بسبب
انعدام القدرة والإرادة، فقال من كلمات الكفر ما قال، وفي مقابل هذا اتخذ سعد بن
معاذ موقفه الرائع، فقد بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما اشتد خطر
الأحزاب إلى عيينه بن حصن والحارث بن عوف قائدي غطفان ليعطيهما ثلث ثمار
المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وقبل أن يتم الصلح على هذا
استشار سعد بن معاذ وسعد بن عباده، فلما علما أنه يفعل ذلك من أجلهم ولحمايتهم
والتخفيف عنهم، قال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على
الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها
تمرة، إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه،
نعطيهم أموالنا! والله مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله
بيننا وبينهم [2] .
لم يؤثر ضغط الواقع الذي عايشه سعد على موقفه، بل تحرر منه بإيمانه
وعزته وشجاعته، فسجل له التاريخ موقفاً لا يمكن أن ننساه.
أما عن المواقف المعاصرة: ففي كل بيئة، في كل بيت، بل وعند كل فرد،
فالعالم والمفكر والقائد وكل فرد معرض لضغط الواقع، وقليل فقط من يستطيع
مقاومة كل الضغوط، ومن ثم: التحرر التام منها.
وقد يتخذ الفرد موقفاً ما تحت ضغوط معينة، لا يشعر هو بوجودها، وعدم
شعوره لا يعني بالطبع عدم وجودها حقيقة، وينبغي على الفرد أيّاً كان أن يتخذ
مواقفة بمعزل عن تأثير الضغوط المختلفة مهما بلغت قوة هذه الضغوط، لكي تكون
حياته في النهاية والتي هي مجموعة المواقف التي يتخذها كما يريد هو وكما يعتقد،
لا كما تفرضها عليه ظروفه.
__________
(1) سيرة ابن هشام.
(2) سيرة ابن هشام.(90/106)
منتدى القراء
دعوة إلى اكتشاف الطاقات الكامنة
بقلم: عبد الله بن ناصر الحمد
لاشك أن ساحة العمل الإسلامي المعاصر تشتكي من النقص الكبير في
كوادرها العلمية والعملية، ومع وجود هذه المشكلة فإنه يندر أن ننتبه إلى عدم
صلاحية أحد الأشخاص في مكانه الذي يشغله، وذلك للحاجة الشديدة التي تستدعي
أي شخص لشغل هذه الأماكن الشاغرة، لذلك نلمس في العمل الدعوي أن إنتاجية
عدد كبير من الدعاة تصبح دون المستوى المطلوب نظراً لوجودهم في غير الأماكن
المناسبة لقدراتهم.
وإذا أدركنا حجم هذه المشكلة فإن علاجها يسهل كثيراً، إذ إن إدراك المرض
أول خطوات العلاج، ولا أزعم أني سوف أستوعب علاج هذه المشكلة، لكن
حسبي فتح الباب أمام المختصين حتى يدلوا بدلوهم لوضع الحلول لهذه المشكلة
الخطيرة.
وفي البداية: أؤكد على أهمية الإحساس بالمشكلة، ونشر الوعي بخطورتها
بين الأوساط الدعوية، حتى تتفتق الأذهان، ثم تبحث عن علاجات لهذه المشكلة،
فأهل الخبرة لهم القِدْح المعلّى في مثل هذه المشكلات.
وثانياً: لابد أن يعي الدعاة وسائل استغلال الطاقات وتوجيهها، فلا يعامل
جميع الأشخاص معاملة واحدة، بل لابد من توجيه كل شخص إلى ما يمكن أن يبدع
فيه، وهذا أمر يدركه أصحاب النظر والعاملون على إعداد العاملين في سلك الدعوة.
أما إذا لم يوفق الشخص إلى من يوجهه إلى ما ينفعه وإلى الوجهة التي يصلح
لها، فالأمر حينئذ أصعب، وفي هذه الحالة فإني أقترح أن يقوم الشخص بفحص
مهاراته ومحاولة استخراج أجدى الاتجاهات التي يمكن أن ينتج ويفيد من خلالها،
مع الحرص على استشارة الآخرين ودراسة تجارب من سبقه.
وفي الختام أدعو قراء مجلتنا البيان إلى طرح حلول جادة لهذه المشكلة، فإنها
والله مشكلة مهمة تستحق أن يتوقف عندها كل مخلص وكل داعية إلى هذا الدين.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(90/108)
الورقة الأخيرة
الشهوة الخفية!
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
أواخر الخلافة العثمانية كثر صراع السلاطين على الزعامة والنفوذ، وانتشر
السجن والقتل بينهم، حتى إنّ أحد الخلفاء قتل تسعة من إخوانه لتثبيت حكمه وحكم
ولده من بعده..!
أليست هذه الحادثة جديرة بالتأمل والنظر..؟ !
غريب هذا الإنسان.. ألهذا الحدّ يبلغ به بريق الزعامة..؟ !
ألهذا الحد يطغى ويتجبر من أجل الوصول إلى القمة..؟ !
وليس هذا المثال نشازاً لا نظير له؛ فكتب التاريخ في قديم الدهر وحديثه
طافحة بنظائره، بل إنّ التاريخ الحديث يُرينا إبادة وإذلال شعوب بأكملها، فحبّ
الزعامة والظهور يُعمي ويصم، ويجعل الإنسان يبيع كل شيء من أجل الوصول
إليها..!
وليس عجيباً أن تتواتر النصوص النبوية في التحذير من السعي إلى الإمارة،، فهي فتنة تتساقط تحتها كرامة الرجال، وتنكشف أمامها كمائن القلوب..!
لقد اعتدنا ذلك من الساسة وطلاب الدنيا وأصحاب المغانم الفانية.. ولكن
الغريب كل الغرابة أن ينتقل الداء داخل بعض التجمعات الدعوية، ويسيطر على
بعض النفوس المريضة، من حيث تشعر حيناً، ومن حيث لا تشعر أحياناً أخرى!
حتى يصبح همّ المرء أن يسوّد على خمسة أو عشرة أو أقل أو أكثر دون أن يُفكر
بورع صادق في تبعات ذلك في الدنيا والآخرة، فهي أمانة.. وإنها يوم القيامة
خزي وندامة..!
إنّ ضباباً كثيفاً يطغى على بصر الإنسان حينما يرى لمعان القيادة يطل عليه
من بعيد، وتظل نفسه تحدّثه ويُمنيه هواه بالوصول إليها، فتراه ينسى نفسه ويلهث
من أجل الوصول إليها والعض عليها بالنواجذ، ثم تجد التسابق والتنافس، بل الكيد
والكذب أحياناً للوصول إلى المطلوب، فالغاية تبرّر الوسيلة! وصدق الفضيل بن
عياض عندما قال: ما من أحد أحبّ الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس،
وكره أن يُذكر أحد بخير [1] .
بئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً وشرفاً، ينتفخ فيها المرء ويتيه
ويتبختر..!
وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخرف عاجل وعرض قريب..!
إنّ حبّ الظهور والعلو بداية السقوط والانحراف والفشل، وما أحكم رسول
الله حينما يقول: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على
المال والشرف لدينه [2] .
قال شدّاد بن أوس (رضي الله عنه) : يا بقايا العرب.. يا بقايا العرب! إنّ
أخوف ما أخاف عليكم: الرياء، والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني: ما
الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة! [3] .
وإنّ نصر الله (عز وجل) وتأييده لا يتنزل إلا على عباده المخلصين،
الأخفياء الأتقياء، الذين تشرئب أعناقهم وتتطلع قلوبهم إلى النعيم المقيم، في مقعد
صدق عند مليك مقتدر؛ قال الله (تعالى) : [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا
يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83] .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله: ج1، ص143.
(2) أخرجه أحمد: ج3، ص460، والترمذي: كتاب الزهد، باب 43، ج 4، ص588 وإسناده صحيح.
(3) شرح حديث أبي ذر: ص25، وجامع الرسائل ج1، ص233، كلاهما لابن تيمية.(90/111)
ربيع الأول - 1416هـ
أغسطس - 1995م
(السنة: 10)(91/)
كلمة صغيرة
حتى متى؟ !
يحز في نفس كل مسلم مخلص الواقع المأساوي للعلاقات المتوترة بين كثير
من أقطار العالم الإسلامي، فلا تكاد تَسلم دولتان من نزاعٍ بينهما يشتد فيه الخلاف،
وقد تراق فيه الدماء.. على ماذا؟ ! على أمتار من الأرض، ربما ساهم في
تخطيطها رجال أجانب سبق لهم احتلال تلك البلدان، وعملوا عن سابق إصرار
لتكون الحدود بؤراً قابلة للاشتعال في أي فرصة، وهذا ما يحصل مع الأسف
الشديد لأدنى سبب.
وتقوم (الرويبضات) بصب الوقود على النار بعيداً عن كل عقلانية يدّعونها،
ويساعد الإعلام (الرخيص) بصحفه الصفراء (الحمراء سابقاً!) في إيقاد النار
ليزداد اشتعالها، لا لشيء وإنما لنزاعات إقليمية ضيقة ولنعرات جاهلية سخيفة.
أين ما يجب أن يدين به أولئك من دين يجعل الجميع أمة واحدة؟ ! بل أين
الرابطة (القومية) التي طالما تغنوا بها؟ !
إنها لمأساة تضحك الثكالى حينما تُمد الأيادي إلى الأعداء الألداء الذين حذرنا
الله من الركون إليهم، وفي الوقت نفسه تُدفع شعوبنا إلى معاداة نهى إسلامنا عنها،
وأمرنا الباري (جل وعلا) بأن نكون سويّاً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
فحتى متى نتداعى في أحضان الأعداء كالفراش على النار، بينما تتوتر
النفوس وتثار أعصاب الشعوب حتى لم يبق على إشعال الحرب إلا تصرف
أرعن؟ !
ثم: نحن بحاجة إلى بناء الأمة وإثارة روح المجد والتعاون والتضامن، بعيداً
عن النزعات الجاهلية والتصرفات الغوغائية.(91/1)
افتتاحية العدد
مُسَعّرُ حرب لو كان معه أحد
تمر الأمة الإسلامية في هذه الفترة بمرحلة دقيقة قد تحدد وضعها لسنوات
طويلة قادمة، فهناك مظاهر انبعاث إسلامي في كل أنحاء المعمورة، وهناك
محاولات وأد لهذا الانبعاث، ولهذا فإنه مما لا يدعو للاستغراب كون المسلمين
طرفاً مستهدفاً في معظم بؤر التوتر في العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لأن
أعداء الله في سباق مع الزمن؛ ولهذا نجد معظم أعمالهم ضد المسلمين تبدو وكأنها
تستبق شيئاً، وعند استعراض كثير من الأعمال نجد فيها الاستعجال والتوتر،
وإليك بعض الأمثلة:
1- ما يسمى بالعملية السلمية في الشرق الأوسط: لقد حاول اليهود في فترة
احتلالهم تذويب الفلسطينيين وجعلهم جزءاً من مجتمع الكيان الصهيوني يمثلون
مصدر العمالة الرخيصة، عماله تعمل وتكدح لتعيش عيشة الكفاف، ليس لها هدف
ولا يحدوها أمل، تبني المجمعات السكنية ليقيم فيها يهود الشتات، تزرع الأرض
ليُصَدّرَ الإنتاج ويلصق عليه (أنتج في إسرائيل) ، جموع تذهب وتجيء هدفها فقط
هو الحياة، نعم ... مجرد الحياة! ، ولهذا: فقد حاول اليهود حرمانها حتى من
الزعامة المصنوعة المتمثلة في منظمة التحرير. ولكن حصل ما لم يكن بالحسبان،
لقد أصبح للجماهير هدف وأصبح لها زعامة نابعة من ذاتها، لها مبادئ غير
مستوردة أو مفصلة في بلاد الأعداء، وكانت الانتفاضة ميدان التنافس بين
الزعامتين والتوجهين؛ وهنا حصل الانقلاب وأصبح الرخيص غالياً، وبدا أن
ياسر عرفات هو السلعة الوحيدة التي أنتجتها الدول العربية واستوردتها إسرائيل،
وهذه أولى خطوات التطبيع.
2- لقد كان الغرب أثناء تهاوي المنظومة الاشتراكية يبشر العالم بعصر جديد
شعاره: حرية الاقتصاد، وتعددية الأحزاب، ونهاية عهد حكومات الحزب الواحد
الذي كان شاملاً في دول ما يسمى بالعالم الثالث، وكانوا يضغطون على الدول
للسماح بالتعددية، ولكن اكتشفوا أن هذا التوجه سيؤدي حتماً إلى قيام دول إسلامية
التوجه، فسرعان ما تغيرت المواقف وتم استثناء العالم الإسلامي، وأصبح الموقف
الجديد هو دعم الأنظمة القائمة بشرط واحد وهو: المشاركة في التصدي للعدو رقم
واحد للغرب حسب نظرية (صدام الحضارات) ألا وهو الإسلام، وقد اتخذ هذا
أشكالاً متعددة: فهناك دعم لنظام علماني صريح حساس تجاه أي شعار أو مظهر
إسلامي كما في تركيا. وأيضاً احتواء أحزاب شيوعية كانت تحكم المسلمين في
الجمهوريات باسم الحزب الشيوعي الروسي والسماح لها بممارسة السلطة بشروط
منها: التصدي للصحوة، وفتح البلاد للنفوذ الغربي، حتى إن أمريكا تحدد
لأذربيجان الخط الذي يمكن أن يمر معه خط أنابيب البترول الخاص بها. أما في
كثير من البلاد العربية فإن المواجهة أشد قسوة بسبب: أن تنامي المد الإسلامي
يمثل خطورة مباشرة على كيان اليهود في فلسطين، وأصبحت مواجهة التطرف
والأصولية بزعمهم هي عربون الولاء للغرب والحرص على مصالحه، ويكفي أي
نظام أن يعلن أنه قتل عدداً ممن يشتبه أنهم من المتطرفين (لاحظ من المشتبه) حتى
ينكس الغرب رايات حقوق الإنسان، بل وتنهال عليه الهبات والقروض ويحصل
على إطراء البنك الدولي أيضاً، بل إنه عندما تشكو دولة اليهود أن الإسلاميين
يحصلون على أموال من تبرعات المسلمين في أمريكا وأوروبا وغيرها: يتصدى
كلينتون للقضية ويصدر قراراته السريعة ويمارس ضغوطه على الذين لديهم القابلية
للانضغاط.
3- مطاردة العناصر الإسلامية البارزة المشردة في كل مكان تأوي إليه،
وتكثيف المتابعة لأي مشروع إسلامي ثقافي محض حتى لو كان مسجداً أو مدرسة،
ومحاولة إلصاق التهم الجاهزة التي لا يُقبل أن يعتذر عنها رغم ثبوت بطلانها، بل
وتنازلت أمريكا عن حقوق مواطنيها إذا كانت أصولهم إسلامية؛ فبينما يصل
اليهودي الذي لم يحصل على الجنسية إلا منذ سنتين على أعلى المناصب في البيت
الأبيض تبادر مخابرات بلد غربي إلى التقرب من أمريكا عن طريق اعتقال مسلم
يحمل الجنسية الأمريكية بدون أدلة تدينه إلا سحنته العربية و (سَمْتَه الإسلامي) .
4- مقاومة بروز أي كيان إسلامي جديد، وهذا واضح بيّن في حالة البوسنة
وكشمير والشيشان، ولن نسهب في مواقف الغرب ولكن لابد للمراقب أن يلاحظ
التناقض في المواقف؛ فمثلاً في حالة البوسنة كانت الأمم المتحدة والغرب يعلمون
بوجود معسكرات الاعتقال والتعذيب الصربية، وحرصوا على التكتم عليها حتى تم
كشفها عن طريق الصحافة، أما في الفترة الأخيرة: وبينما كان المسلمون يعدون
إمكاناتهم المتواضعة من أجل محاولة فك الحصار عن سراييفو، فقد بادر الغرب
بالإعلان عن الحشود المسلمة، بل وتبرعت أمريكا بإعلان عدد القوات المحتشدة،
أما الرئيس الفرنسي الجديد فإنه حذر المسلمين من الهجوم، هذا في الوقت الذي لم
نسمع فيه أي تحذير غربي من أي هجوم صربي، بل ولم تتفضل أمريكا بإعلان
حجم التعزيزات الضخمة القادمة من صربيا نجدة لصرب البوسنة في خرق صريح
للحظر الدولي الذي يبدو أنه مطبق بحزم فقط على جانب واحد: هو المسلمين.
كلمة أخيرة لابد منها، وهي: إن كل هذه الأعمال لن توقف المد الإسلامي
الذي هو قدر الله لهذا العالم، فكل أعمالهم وبذلهم سيكون عليهم حسرة في الدنيا
وندامة في الآخرة؛ قال (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ] [الأنفال: 36] .
لقد حاول الصرب القضاء على الإسلام في البوسنة، فتقدمت الصحوة
الإسلامية في البوسنة تقدماً هائلاً، وكانت أفعال الصرب عاملاً مهمّاً فيها. وأيضاً
لقد حاولت فرنسا وأذنابها وقف تقدم الإسلام في الجزائر؛ فحدث أن قامت الطغمة
الحاكمة بقتل آلاف الأشخاص وضاقت السجون على سعتها؛ فأقاموا المعسكرات في
الصحراء وملؤوها بالشباب المسلم، فماذا حصل؟ لقد دفع الشعب
الجزائري 000 ر40 قتيل حتى تقتنع الحكومة بالحوار مع جبهة الإنقاذ وتعود إلى نقطة الصفر! ! .
إلى كل المجاهدين إلى كل الدعاة المطاردين: اثبتوا فإن الله ناصر عباده
الصالحين، لا يفت في عضدكم قلة المعين وضعف الناصر، ولا يرهبنكم محاولات
التضييق والمحاصرة، فإن بعد كل عسر يسراً، وبعد كل ضيق فرجاً، ومن كان
الله معه كفاه، وسيرتد بإذن الله كيد الكائدين إلى نحورهم، وما أحرى بكل مسلم
وكل كيان إسلامي تكالبت عليه الأعداء وضاقت به السبل أن يستلهم العبرة من خبر
صحابي جليل لم يكن من قبله مشهوراً:
إنه خبر أبي بصير (رضي الله عنه) الذي عمل ما عمل من جهود لمضايقة
قريش، وأفلح في أن يؤدي دوره بكل جدارة كانت محل إعجاب الرسول -صلى
الله عليه وسلم-، ما أحوجنا إلى تأمل قصص الأنبياء والصالحين كما وردت في
القرآن والسنة؛ ففيها عبر ودروس تهون معها ما يلاقيه الدعاة والعاملون للإسلام
من مضايقات وعوائق في الطريق، وصدق الله العظيم:
[كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [المجادلة: 21] .(91/4)
دراسات شرعية
اتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) في ضوء الوحيين
حقيقته، منزلته، مظاهره، عوائقه
(1)
بقلم: فيصل بن علي البعداني
اتباع النبي أحد أساسيات دين الإسلام ومسلماته، وقد تواترت النصوص الشرعية الصحيحة في بيانه، إلا أن ذلك لم يمنع انحراف طوائف من المسلمين عن سلوك الجادة فيه، حيث اضطربت فيه أفهام وزلت أقدام؛ مما جعل الحاجة لإيضاحه تعظم، والبيان يتوجب، ولذا: فسأحاول في هذه الدراسة التعريج عليه لبيان بعض جوانبه، راجياً الله (تعالى) أن يوفق للخير ويصلح القصد.
الاتباع في اللغة:
مصدر اتبع الشيء إذا سار في أثره وتلاه، والكلمة تدور حول معاني اللحاق
والتطلب والاقتفاء والاقتداء والتأسي.
يقال: اتبع القرآن: ائتم به وعمل بما فيه، واتبع الرسول -صلى الله عليه
وسلم-: اقتدى به واقتفى أثره وتأسى به [1] .
الاتباع في الشرع:
هو الاقتداء والتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في الاعتقادات والأقوال
والأفعال والتروك، بعمل مثل عمله على الوجه الذي عمله -صلى الله عليه وسلم-
من إيجاب أو ندب أو إباحة أو كراهة، مع توفر القصد والإرادة في ذلك.
ويكون الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الاعتقادات: بأن يعتقد العبد
ما اعتقده النبي -صلى الله عليه وسلم- على الوجه الذي اعتقده من ناحية الوجوب
أو البدعية، أو لكونه من أسس الدين أو ناقضاً لأصله أو قادحاً لكماله ... إلخ من
أجل أنه اعتقده -صلى الله عليه وسلم-، ويشمل الاعتقاد هنا: قول القلب وهو
التصديق، وعمل القلب وهو الإخلاص والمحبة والتوكل والخوف والرجاء.. إلخ.
ويكون الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الأقوال: بامتثال مدلولها،
وما جاءت به من معانٍ، لا أن تكرر ألفاظها وتردد نصوصها فحسب، فمثلاً:
الاتباع لقوله -صلى الله عليه وسلم-: صلوا كما رأيتموني أصلي [2] يكون
بالصلاة كصلاته.
كما يكون الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الأفعال: بأن نفعل مثل
فعله على الوجه الذي فعله من أجل أنه فعله.
فقولنا (مثل فعله) : لأنه لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل وكيفيته.
وقولنا (على الوجه الذي فعله) : معناه المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيته
(إخلاصاً، وتحديداً للفعل من حيث كونه واجباً أو مندوباً) لأنه لا تأسي مع اختلاف
الغرض والنية وإن اتحدت صورة الفعل.
وقولنا (من أجل أنه فعله) : لأنه لو اتحدت الصورة والقصد ولم يكن المراد
التأسي والاقتداء فإنه لا يكون اتباعاً.
ويكون الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في التروك: بأن نترك ما ترك
على الصفة والوجه الذي ترك من أجل أنه ترك، وهي القيود نفسها في الاتباع في
الأفعال.
والمراد باتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- اتباعه في كل ما جاء به من
أوامر ونواهٍ في القرآن والسنة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ألا إني أوتيت الكتاب
ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه [3] ، قال عطاء: طاعة الرسول-
صلى الله عليه وسلم-: اتباع الكتاب والسنة [4] .
المخالفة ضد الاتباع:
وتكون المخالفة في الاعتقاد والقول والفعل والترك، فأما المخالفة في الاعتقاد
تكون بأن يعتقد العبد خلاف ما اعتقده النبي -صلى الله عليه وسلم- كأن يُحِلّ إنسان
ما عُلم بالضرورة تحريمه من دين الإسلام، أو يحرم ما علم بالضرورة حله من
دين الإسلام، ومثل أن يبتدع في دين الله (تعالى) ما ليس منه كالاحتفالات البدعية
التي لم يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته (رضي الله عنهم) ، ومثل
أن يعتقد أحد بأن المخالفين لشرع الله (تعالى) وما جاء به النبي -صلى الله عليه
وسلم- هم أولياء الله وأحباؤه. والمخالفة في القول تكون بترك امتثال ما اقتضاه
القول ودل عليه من وجوب أو حظر، والمخالفة في الفعل تكون بالعدول عن فعل
مثله مع كونه واجباً، والمخالفة في الترك تكون بفعل ما ترك مع كونه محرماً.
ولا تكون المخالفة في ترك المندوب وفعل المكروه، بل لا تكون إلا في ترك
الواجب وفعل المحرم.
علاقة الاتباع بالزمان والمكان:
لا علاقة للزمان المخصص أو المكان المخصص بالفعل لمجرد وقوعه فيه إلا
بدليل خارجي عن ذلك الفعل، فإن خصص المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لنا
بذلك الدليل الخارجي لذلك الفعل زماناً أو مكاناً خصصناه به كتخصيص الطواف
حول الكعبة والاستلام بالحجر الأسود والركن اليماني (مع اختلاف في الصفة)
والصيام الواجب بشهر رمضان، والوقوف بعرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة، وعيدي الفطر والأضحى بوقتهما المعروف، وأما ما فعله بحكم الاتفاق والمصادفة
ولم يقصده لذاته -ولو تكرر ذلك- مثل: أن ينزل بمكان ويصلي فيه، لكونه نزل
لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان
بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين على الأصوب بل مبتدعين، وقد ورد نهي
الفاروق عمر (رضي الله عنه) في قوله الثابت: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا
آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً، فمن عرضت له الصلاة [أي: في موضع
صلاته -صلى الله عليه وسلم-] فليصل أو فليمض [5] ، وتؤكد هذا المعنى أم
المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) فتقول: نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج [6] ، ولقد
قرر كثير من أهل العلم هذا المعنى: كابن تيمية في الفتاوى [7] ، والآمدي في
أحكامه حيث قال: ... فلو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في
المتابعة والتأسي وسواء تكرر أو لم يتكرر، إلا أن يدل الدليل على اختصاص
العبادة به كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلوات بأوقاتها، وصوم
رمضان [8] .
الأفعال النبوية من حيث الاتباع والتأسي:
تنقسم أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- من حيث الاتباع والتأسي إلى ثلاثة
أقسام هي:
1- الأفعال الجبلية:
كالقيام والقعود والشرب والنوم وغير ذلك، وهي نوعان من جهة التأسي
والاتباع:
* نوع جاء النص الخارج عن الفعل بإيجابه أو ندبه، كالأكل باليمين،
والشرب ثلاثاً وقاعداً، والنوم على الشق الأيمن فهذا يشرع التأسي والاقتداء به في
ذلك.
* نوع لم يأت نص دال على مشروعيته، وهو باق على الأصل من حيث
الإباحة للجميع؛ وذلك لأن الأوصاف التي يطبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام
والشراب لا يطلب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها [9] . وهذا النوع محل
خلاف بين أهل العلم في مشروعية التأسي والاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- فيه
على جهة الندب على قولين:
أ- أن التأسي والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا النوع مندوب،
وقد كان ابن عمر (رضي الله عنه) يفعل مثل ذلك وإن كان قد فعله -صلى الله عليه
وسلم- اتفاقاً ولم يقصده.
ب- أنه لا يشرع التأسي والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا قول
وفعل جمهور الصحابة (رضي الله عنهم) ، ومنهم الفاروق وعائشة (رضي الله
عنهما) كما في كلامهما المتقدم [10] .
ويلحق بالأفعال الجبلية: الأفعال التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم-
بمقتضى العرف والعادة كلبس الجبة والعمامة وإطالة الشعر ونحو ذلك، إذ لا تدل
على غير الإباحة إلا إذا ورد دليل على مشروعيتها [11] .
2- الأفعال التي علم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم:
ذكر أهل العلم في باب خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أموراً من المباحات
والواجبات والمحرمات بعضها متفق على حكمه بالنسبة له -صلى الله عليه وسلم-
وبعضها الآخر فيه خلاف، فمن المباح له: الزيادة على أربع نسوة في النكاح،
والنكاح بلا مهر، ونكاح الموهوبة، ومن الواجب عليه: وجوب التهجد وقيام الليل، ومن المحرم عليه: الأكل من الصدقة، وأكل ذي الرائحة الخبيثة كالثوم والبصل.
فهذه خصائص لا يشاركه فيها أحد ولا يقتدى ويتأسى به فيها [12] ؛ قال
الشوكاني: والحق أنه لا يقتدى به -صلى الله عليه وسلم- فيما صرح لنا بأنه
خاص به كائناً ما كان إلا بشرع يخصنا [13] .
ويلحق بهذا ويرجع إليه: ما خص به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بعض أصحابه دون بعض؛ كشهادة خزيمة وأضحية أبي بردة [14] ، كما يلحق به
ما خص به -صلى الله عليه وسلم- أهل بيته (رضي الله عنهم) كالمنع من أكل
الصدقة.
3- الأفعال التعبدية:
وهي الأفعال غير الجبلية وغير الخاصة التي يقصد بها التشريع، فهذه
مطلوب الاقتداء والتأسي به -صلى الله عليه وسلم- فيها، وهي الأصل في أفعال
النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله (تعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ ... ] [الأحزاب: 21] إلا أن صفتها الشرعية تختلف من حيث الإيجاب أو
الندب بحسب القرائن.
قواعد مهمة في الاتباع:
لتقرير ما سبق حول حقيقة الاتباع أذكر القواعد التالية:
أ- مبنى دين الإسلام على الوحي والنقل الصحيح لا العقل والاستنباط، فما
جاءنا من أمر ونهي في كتاب الله (تعالى) أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-
وجب علينا قبوله والمبادرة إلى امتثاله فعلاً أو تركاً.
ب- يتعين على المسلم البحث عن الحكم الشرعي والتثبت فيه قبل إتيان
العمل في جميع شؤون حياته، وتطبيق ذلك هو حقيقة الاتباع والتأسي برسول
الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يقول الشاطبي حول ذلك: كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله
باطل [15] .
ج- ما تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- من جنس العبادات ولم يفعله مع
وجود المقتضي لفعله على عهده -صلى الله عليه وسلم- ففعله بدعة وتركه سنة،
كالاحتفال بالمولد النبوي والإسراء والمعراج والهجرة ورأس السنة ونحوها، قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد [16] . يقول الإمام مالك (رحمه الله) : فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً [17] .
د- كل ما يحتاجه الناس في أصول الدين وفروعه، في أمور الدنيا والآخرة
من العبادات والمعاملات في السلم أو الحرب، في السياسة أو الاقتصاد ... إلخ
جاءت الشريعة ببيانه وإيضاحه؛ قال الله (تعالى) : [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً
لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] [النحل: 89] ، وقال (سبحانه) :
[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً]
[المائدة: 3] .
هـ - أن الاتباع لا يتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشرع في ستة أمور،
هي:
1- السبب: فإذا تعبد الإنسان لله (تعالى) بعبادة مقرونة بسبب غير شرعي
فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثل إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب
بالتهجد بحجة أنها ليلة الإسراء والمعراج، فالتهجد عبادة، لكن لما قرن بهذا السبب
كان بدعة لكونه بني على سبب لم يثبت شرعاً.
2- الجنس: فإذا تعبد الإنسان لله (تعالى) بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير
مقبولة؛ كالتضحية بفرس لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام (الإبل
البقر الغنم) .
3- القدر أو العدد: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة أو ركعة
في فريضة، فعمله ذلك بدعة مردودة لأنها مخالفة للشرع في القدر أو العدد.
4- الكيفية: فلو نكس إنسان الوضوء أو الصلاة لما صح وضوؤه أو صلاته؛ لأن عمله مخالف للشرع في الكيفية.
5- الزمان: فلو ضحى إنسان في رجب أو وقف بعرفات في التاسع من ذي
القعدة لما صح ذلك منه لمخالفته للشرع في الزمان.
6- المكان: فلو اعتكف إنسان في منزله لا في المسجد، أو وقف بمزدلفة لا
عرفات لما صح ذلك منه لمخالفته للشرع في المكان [18] .
والأصل في العبادات بالنسبة للمكلف التعبد والامتثال دون الالتفات إلى الحِكَم
والمعاني وإن كانت ظاهرة في كثير منها، ولا يفهم من ذلك أن البحث عن الحِكَم
والمعاني في العبادات التي دلت عليها القرائن ليس بمطلوب، كيف لا وقد ذكر الله
(تعالى) شيئاً من ذلك مثل قوله: [لعلكم تعقلون] [لعلكم تفلحون] [لعلكم
تتقون] ، ولكن المراد: التحذير من التنطع في استخراجها أو ربط القيام بالتنفيذ
والعمل بمعرفتها والأصل في العادات والمعاملات الالتفات إلى المعاني والبحث عن
الحكم وإن كانت قد لا تظهر في أشياء منها [19] .
ز- المشقة ليست مقصودة في الشريعة، ولذا: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- للشيخ الذي نذر أن يمشي وكان يهادى بين ابنيه: إن الله عن تعذيب
هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب [20] ، قال العز ابن عبد السلام مقرراً ذلك: لا
يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب (سبحانه وتعالى) ، وليس عين
المشاق تعظيماً ولا توقيراً [21] .
منزلة الاتباع في الشريعة:
للاتباع منزلة عظيمة في الشريعة الإسلامية، ويتضح ذلك من خلال النقاط
التالية:
1- الاتباع شرط لقبول العبادات:
لا قبول لعمل من الأعمال العبادية إلا بالاتباع والموافقة لما جاء به محمد -
صلى الله عليه وسلم-، بل إن الأعمال التي تعمل بلا اتباع وتأسّ لا تزيد عاملها
من الله إلا بعداً؛ وذلك لأن الله (تعالى) إنما يعبد بأمره الذي بعث به رسوله -صلى
الله عليه وسلم- لا بالآراء والأهواء؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد [22] ، قال الحسن البصري: لا يصح القول
إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا
بالسنة [23] .
2- هو أحد أصلي الإسلام الأساسين:
الإخلاص وإفراد الله بالعبادة هو حقيقة إيمان العبد وشهادته بأن لا إله إلا الله،
والاتباع والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو حقيقة إيمان العبد وشهادته
بأن محمداً رسول الله، فلا يتحقق إسلام عبد ولا يقبل منه قول ولا عمل ولا اعتقاد
إلا إذا حقق هذين الأصلين (الإخلاص الاتباع) وأتى بمقتضاهما؛ قال الله (تعالى) :
[فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً]
[الكهف: 110] ، يقول ابن تيمية: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما: ألا
نعبد إلا الله، والثاني: ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة، وهذان
الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله [24] ، ويقول ابن
القيم: فلا يكون العبد متحققاً ب (إياك نعبد) إلا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإخلاص للمعبود [25] .
3- هو سبب لدخول الجنة:
ويدل لذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد
أبى [26] ، وقال الزهري (رحمه الله تعالى) : الاعتصام بالسنة نجاة [27] .
4- هو دليل محبة الله (تعالى) :
ويدل لذلك قول الله (تعالى) : [قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [ال عمران: 31] ؛ يقول ابن كثير: هذه
الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه
كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين المحمدي في
جميع أقواله وأفعاله [28] .
5- طريق تحصيل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة:
أوجب الله (تعالى) على عباده محبة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتقديم
ذلك على محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين؛ كما في الحديث: لا
يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؛ [29] وقوله -
صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب، حين قال: يا رسول الله لأنت أحب إليّ
من كل شيء إلا من نفسي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا والذي نفسي بيده
حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من
نفسي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر [30] .
ولا سبيل لتحصيل تلك المحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتحقيقها إلا عن
طريق الاتباع والحرص على الكمال فيه؛ يقول الخطابي حول هذا المعنى: لم يرد
به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار، لأن حب الإنسان لنفسه طبع ولا سبيل
إلى قلبه، قال: فمعناه: لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك وتؤثر
رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك [31] .
6- الاتباع سبيل امتثال الأوامر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتجنب
الوعيد المترتب على ذلك:
أمر الله عباده بطاعة نبيه في آيات كثيرة منها قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... ] [النساء: 59] ورتب الوعيد الشديد على
مخالفته، كما في قوله (تعالى) : [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الكَافِرِينَ] [آل عمران: 32] .
ولا سبيل للعبد إلى امتثال تلك الأوامر بطاعة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- والاستجابة له وتجنب الوعيد الشديد على ذلك دنياً وآخرة إلا بالاتباع
والتأسي.
7- الاتباع من صفات المؤمنين اللازمة لهم:
ويدل لذلك قوله (تعالى) : [وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الفَائِزُونَ] [النور: 52] ، وقد نفى الله (سبحانه وتعالى) الإيمان عن من
أعرض عن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يرض بحكمه؛ قال الله
(تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
8- الاتباع علامة من علامات التقوى:
اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- من علامات ودلائل تقوى القلب وصحة
إيمانه؛ قال الله (تعالى) : [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ]
[الحج: 32] وشعائر الله: أوامره وأعلام دينه الظاهرة، ومن أبرزها وأعلاها
طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- واتباع شرعه [32] .
من مظاهر الاتباع:
للاتباع مظاهر كثيرة من أهمها وأبرزها:
1- تعظيم النصوص الشرعية:
ويكون تعظيم النصوص الشرعية بتقديرها وإجلالها، وتقديمها وعدم هجرها، واعتقاد أن الهدى فيها لا في غيرها، وتعلمها وفهمها وتدبرها والعمل بها والتحاكم
إليها وعدم معارضتها، وقد كان هذا هو هدي أئمة الاتباع وسادته من الصحابة
والتابعين ومن جاء بعدهم، وحدث ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- قال: إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها فقال
أحد بنيه: إذن والله أمنعها، فأقبل عليه ابن عمر فشتمه شتمة لم يشتمها أحداً قبله
قط، ثم قال: أحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: إذن والله
أمنعها [33] .
وحدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: قال فلان وفلان كذا، فقال ابن سيرين أحدثك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
وتقول قال: فلان وفلان كذا وكذا؟ والله لا أكلمك أبداً [34] .
2- الخوف من الزيغ والانحراف عن الحق:
وقد كان ذلك واضحاً جليّاً لدى الصحابة (رضوان الله عليهم) بل إن أفضل
هذه الأمة بعد نبيها (أبا بكر الصديق) كان يقول: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئاً من أمره
أن أزيغ، وقد عقب ابن بطة على كلمة الصديق تلك فقال: هذا يا إخواني الصديق
الأكبر يتخوف على نفسه من الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه -صلى الله عليه
وسلم-، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وأوامره
ويتباهون بمخالفته ويسخرون بسنته؟ ! نسأل الله عصمةً من الزلل ونجاةً من سوء
العمل [35] .
3- الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به ظاهراً وباطناً:
بحيث يجرد العبد متابعته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكتفي بالتلقي
عنه؛ فلا اعتقاد ولا عبادة ولا معاملة ولا خلق ولا أدب ولا نظام اجتماعي ولا
اقتصادي أو سياسي ... إلخ، إلا عن طريقه وعلى وفق ما جاء به من أحكام
وتعاليم في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، بحيث تكون شريعته هي المهيمنة
والرائدة.
4- تحكيم العبد للشرع وتحاكمه إليه:
بحيث يُحَكّم ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب والسنة
ويتحاكم إليهما، ويجعل ذلك هو الميزان الذي يزن بواسطته الأقوال والأفعال
والأحكام، فما وافقها قبله وعمل بما فيه، وما خالفه رده وإن قاله من قاله؛ قال الله
(تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ] [النساء: 65] ،
وتحكيم العبد وتحاكمه إلى الشريعة وحرصه على أن تكون جميع شؤونه خاضعة لها
هو السمة البارزة والعلامة الفارقة بين المسلم الحريص على الاتباع للحق ومن اتبع
هواه بغير هدى من الله فضل وأضل، سواء أسمّي ذلك الهوى عقلاً أو ذوقاً أو
مصلحة أو إماماً أو حزباً أو نظاماً.. إلخ.
4- الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه:
عن العباس (رضي الله عنه) أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً [36] .
فإذا رضي المسلم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيّاً ورسولاً: لم يلتفت إلى
غير هديه ولم يعول في سلوكه على غير سنته، وحَكّمَه وحاكم إليه، وقبل حكمه
وانقاد له وتابعه واتّبَعَه ورضي بكل ما جاء به من عند ربه، فيسكن قلبه لذلك،
وتطمئن نفسه، وينشرح صدره، ويرى نعمة الله عليه وعلى الخلق بهذا النبي -
صلى الله عليه وسلم- وبدينه أيما نعمة، فيفرح بفضل ربه عليه ورحمته له بذلك؛
حيث جعله من أتباع خير المرسلين وحزبه المفلحين؛ قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ *
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ]
[يونس: 57، 58] والرضا كلمة تجمع القبول والانقياد؛ فلا يكون الرضا إلا حيث يكون التسليم المطلق والانقياد الكامل ظاهراً وباطناً لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ربه [37] .
__________
(1) انظر: لسان العرب ج1، ص416، 417، المعجم الوسيط ج1، ص81.
(2) البخاري مع الفتح ج2، ص131، 132، ح631.
(3) أخرجه أحمد: ج4، ص134، وصححه الألباني.
(4) الدارمي: ج1، ص516.
(5) قال ابن تيمية في الفتاوى (ج10، ص410) : ثبت بالإسناد الصحيح.
(6) أخرجه مسلم: م2 ص951، ح1311.
(7) انظر الفتاوى: ج10، ص409.
(8) الأحكام للآمدي: ج1 ص226.
(9) الموافقات للشاطبي: ج2، ص108.
(10) انظر في تقرير ذلك: كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص105، 106.
(11) انظر: أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- للأشقر، ج1، ص 235، 236.
(12) انظر: الأحكام للآمدي، ج1، ص228.
(13) إرشاد الفحول: ص35، 36.
(14) انظر: الموافقات للشاطبي: ج2، ص245، 246.
(15) الموافقات: ج2، ص333.
(16) مسلم: م3، ص1344، ح 1718.
(17) الاعتصام للشاطبي: ج1، ص49.
(18) انظر: الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع لابن عثيمين ص 21، 22.
(19) راجع مبحث الشاطبي النفيس في ذلك، في الموافقات: ج2، ص 300-310.
(20) مسلم: م3، ص1263، ح 1642.
(21) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: ج1، 30.
(22) مسلم: م2، ص1344، ح1718.
(23) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: ج1، ص57 رقم: 18.
(24) الفتاوى: ج1، ص333، 334.
(25) مدارج السالكين: ج1، ص104.
(26) البخاري مع الفتح: ج13، ص263 ح7280.
(27) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: ج1، ص56 رقم: 15.
(28) تفسير القرآن العظيم: ج1، ص358.
(29) البخاري مع الفتح: ج1، ص75ح 15.
(30) البخاري مع الفتح: ج11، ص532 ح6632.
(31) انظر: شرح النووي لمسلم ج2، ص15.
(32) انظر: تفسير القرآن العظيم ج3، ص219 وتفسير السعدي ج5، ص293.
(33) الدارمي: ج1، ص124 رقم 448.
(34) الدارمي: ج1، ص124 رقم: 447.
(35) انظر كلمة الصديق وتعقيب ابن بطة في: الإبانة الكبرى ج1، ص 245، 246.
(36) مسلم: م1، ص62، ح 34.
(37) انظر: الضوء المنير على التفسير للصالحي ج2، ص253، 254.(91/8)
دراسات تربوية قرآنية
لا تحسبوه شراً لكم
بقلم:عبد العزيز بن ناصر الجليل
مدخل:
يواصل الكاتب (وفقه الله) وقفاته التربوية القرآنية مع بعض الآيات القرآنية،
فقد سبق أن تطرق لوقفات مع قوله (تعالى) : [وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا
الحَقَّ وَأََنتُمْ تَعْلَمُونَ] [البقرة: 42] ويواصل مجدداً وقفات إيمانية أخرى مع قوله
(تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم] [النور: 11] .
- البيان -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إن الله (عز وجل) ، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، كتب النصر
والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين، وكتب المهانة والذلة على
أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سنة لا تتخلف إلا إذا تخلفت أسبابها، حيث
يديل الله (سبحانه) أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين، ويسلطهم عليهم ويظهرهم،
فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر حيث
الاستضعاف والذلة لجل المسلمين، والغلبة والقهر للكافرين، وما كان لسنة الله
(سبحانه) أن تتبدل ولا أن تتحول، [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلاً] [فاطر: 43] ولكن أسباب تحقيق سنة الله (سبحانه) في نصر عباده
المؤمنين قد تخلفت؛ فحقت علينا سنة الله (سبحانه) في التغيير [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] وسنة الله (سبحانه) لا تحابي أحداً.
ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن، وبمقتضى العقل والحس، إلا أننا نجد
من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه (سبحانه) وصفاته العلا؛ حيث أدت هذه
الغفلة عند بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط، أو إلى شيء من العجلة والتسرع
أمام ضغط الواقع، وتسلط الأعداء، وعند انتشار الظلم والفساد.
ولن يكون الكلام هنا عن تلك السنة، وإنما سينصب الاهتمام على سنة
عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة، والله (سبحانه) يبينها لنا من خلال أسمائه الحسنى
وصفاته العلا، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عنها بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد
من اليأس والقنوط، أو الجزع والتسخط، أو الاندفاع والعجلة والتهور، وهذه
وقفات مع قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم] [النور: 11] .
هذه الآية توجيه رباني في إحسان الظن بالله (عز وجل) ، والثقة بحكمته
ورحمته، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ
وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء
المصائب، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه،
وكادوا له كيداً [إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً] [الطارق: 15 17] ، وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله (عز
وجل) سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ] [الأنعام: 54] وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) حول
هذا المعنى، ومما ذكره: قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم ربّاً قادراً، حليماً،
عليماً، رحيماً، كاملاً في ذاته وصفاته، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده، مجرياً
لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في
عقولهم من استحسان الحسن، واستقباح القبيح [1] .
وسيأتي إن شاء الله في ثنايا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منها ثمار هذه السنة الكريمة، وبخاصة في
واقعنا المعاصر المليء بالشبهات، والشهوات، والمتناقضات، والمكائد،
والمؤامرات.. ما يزيد الموضوع بياناً.
أهمية الموضوع:
تتضح أهمية الموضوع في الأمور التالية:
أولاً: علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً؛ فكلما قوي الإيمان بالله (سبحانه)
في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته: كلما قوي الفهم لهذه السنة، وأثمرت في
القلب ثمارها الطيبة. والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله
ربّاً ومعبوداً، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ حيث إن هذه السنة من
ثمرات أسمائه (سبحانه) الحسنى، التي منها: الحكيم، والعليم، والكريم،
واللطيف، والبر الرحيم.. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله
(سبحانه) بها. كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد في: أثرها على
صدق التوكل على الله (عز وجل) ، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده،
وإحسان الظن به (جل وعلا) ، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير
والإصلاح، فمهما ظهر من الشرور والمصائب، فله (سبحانه) الحكمة البالغة
[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [آل عمران: 66] وأما ارتباطها بالأصل الخامس من
أصول الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر فهذا واضح؛ لأن اليقين باليوم الآخر
ورجاء الأجر من الله (عز وجل) يقويان الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير
وأبقى، مهما فات من هذه الدنيا. وأما علاقتها بالأصل السادس من أصول الإيمان
وهو الإيمان بالقدر خيره وشره فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق.
ثانياً: ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة
من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين، وما يكيدون به
لهذا الدين وأهله من المكر والتشويه والابتلاء؛ مما أدى ويؤدي إلى ظهور حالات
اليأس والإحباط من تغير الحال، أو الشعور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة،
فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تقوي اليقين بوعد الله (سبحانه) ،
والثقة بنصره، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره، وأنه (سبحانه) الحكيم العليم فيما
يقضي ويقدر، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله (سبحانه) في ذلك وفق
علمه الشامل، وحكمته البالغة، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
ثالثاً: الجهل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله (سبحانه) في التغيير،
أو التغافل عنها بعد معرفتها، لا سيما وأن في فهم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً
لَّكُم] [النور: 11] خير معين لتفهم سنن الله (عز وجل) الأخرى: كما في قوله
(تعالى) : [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] وفي
هذه المعرفة فتح باب للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله (سبحانه) ، كما أن فيها
وقاية من التخبط والاضطراب في المنهاج والاجتهادات، كما أن في دراسة هذه
السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر
بالتصورات الجاهلية، والتفسيرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم
على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوسائل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا
تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر خيره وشره.
رابعاً: التنبيه إلى طلب الخِيَرة من الله (سبحانه) في كل الأمور، وتفويض
الأمور إلى حسن تدبيره (عز وجل) واختياره؛ لأنه (سبحانه) يعلم ولا نعلم، ويقدر
ولا نقدر، وهو علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أين يكون الخير، وأين يكمن الشر؛ ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها.
خامساً: كثرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا، سواء على مستوى الأفراد
أو الجماعات، التي أدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة: كالقلق،
والاكتئاب، والفصام.. وغيرها، حتى أصبحت سمة لواقعنا المعاصر، ومعرفة
الله (سبحانه) بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته التي تزرع في القلب الاطمئنان
والرضا، وتفويض الأمور إليه (سبحانه) ، وحسن الظن به (عز وجل) ، وأن
اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيه:
إن في تفهم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم] [النور: 11] أحسن علاج لهذه
الأمراض وغيرها.
سادساً: إن في هذه السنة وفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع
العظيمة، التي بنيت عليها أحكام الشرع؛ ألا وهي: اليسر ورفع الحرج والمشقة،
وأن الله (عز وجل) لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة، سواء أكان في أحكامه
الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية.
__________
(1) مفتاح دار السعادة: ص326.(91/20)
مقال
المأجور والمأزور من المجتهدين
بقلم: عادل الماجد
كثير من قضايانا تحتاج إلى اجتهاد ببذل الوسع في معرفة المصالح والمفاسد،
ومن ثم نقرر قراراً وننفذ ما قررناه وننتهي.
وبغض النظر عن صواب القرار من خطئه أو التنفيذ نقول: فلان مجتهد!
ونقطع بهذه الكلمة كل حوار حول النتائج، وإن كانت أفسدت مصالح وجلبت مفاسد، فيكفي أنه اجتهد! ! بل نهديه أجراً لا نتيقنه عندما نقول: فلان اجتهد وهو
مأجور! !
فهل هو مأجور أم آثم؟ وهل يحق لأي مسلم أن يبذل وسعاً في أي قضية
ويقرر وينفذ ولو كان غير مؤهل لذلك؟ ! وهل الإخلاص والصدق يخولان للمرء
أن يجتهد في مسائل لا يعلم مناطها أو يعلم المناط ولكن يجهل فقه تحقيقه؟ !
إن بذل الوسع يكون من مجتهد جمع بين فقهين: العلم، والواقعة؛ يقول
صاحب أضواء البيان (رحمه الله) : فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم،
فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم، ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا [1] ،
ويقول الشاطبي في الموافقات: الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان.... والثاني:
غير المعتبر، وهو الصادر عن من ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن
حقيقته: أنه رأي بمجرد التشهي، وخبط في عماية واتباع للهوى، فكل رأي صدر
على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل الله [2] .
فالاجتهاد حق خاص لا يتعدى عليه الآخرون، وهم مأزورون غير مأجورين إذا لم
يكونوا من أهله إلا أن يعفو الله ولا يمكن حمل التقصير على حسن النية وسلامة
المقصد.
وحتى صاحب الحق في الاجتهاد لا يسلم له اجتهاده؛ إذ إنه لا يعدو الظنية
في الحق، وقد يجتهد اجتهاداً لا يقر عليه ولا يعذر في خطئه، فلا يؤخذ رأيه بل
يرد؛ يقول الشاطبي: منها: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها ولا الأخذ بها تقليداً،
وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة [3] ثم يقول: ومنها:
أنه لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن
اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد، فهو لم
يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهدين [4] ...
وسبب هذه الزلة تقصير من المجتهد في بذل الوسع؛ يقول الشاطبي: فيعرض فيه
الخطأ في الاجتهاد، إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه، وإما
بعدم الاطلاع عليه [الدليل] جملة [5] ويعلق الشيخ عبد الله دراز على ذلك: وقد
يكون هذان من عدم بذل الوسع، ومن التقصير فيما هو واجب على المجتهد.
لذا: كان الوقوف أمام الاجتهاد من أهم أسباب حفظ الحق ودفع الخطأ، وما
أدخلنا في التخبط والعماية إلا اجتهاد خاطئ في غير محله؛ إما أنه صادر ممن
يفتقر إلى العلم، أو ممن يفتقر إلى فقه الواقعة، ومع ذلك يجد منا اتباعاً وتبريراً،
لأن قائله فلان المعروف أو فلان الصادق العابد! !
ومن المعلوم الثابت: أن المجتهد لا ينفرد بالوسائل، بل هو محتاج إلى غيره
من أهل التجارب والصنائع والتخصصات، وإن اجتهد دون التحقق من أهل
الوسائل فهو مقصّر في واجب بذل الوسع ملام غير مشكور؛ يقول الشاطبي: لا
يلزم أن يكون مجتهداً في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة؛ فالدليل عليه أمور: أحدها: أنه لو كان كذلك لم يوجد مجتهد إلا في الندرة مما سوى الصحابة، ونحن
نمثل بالأئمة الأربعة، فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في
انتقاده ومعرفته ثم يقول وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب
الحيض وغير ذلك، ويبني الحكم على ذلك، والحكم لا يستقل دون ذلك
الاجتهاد [6] .
إنه بدون تلك العناية بالتعامل مع الاجتهادات سترتفع مصالح وتجلب مفاسد
باسم الاجتهاد وإرادة وجه الله في العمل! ! وننسى هذا المنهج العظيم الذي مراده
الحق ممن كان ورد الباطل عمن كان، ومن الأمور المشتهرة في السلف ومن بعدهم: تخطئة المجتهد والرد على من تطاول إلى الاجتهاد وهو دونه، فكم وقع في خطأ
مجتهد عظيم مثل الأئمة الأربعة ومن سبقهم وممن بعدهم، ونص على ذلك في كتب
الفتيا والفقه وغيره، من غير اكتراث: مَنْ صاحب الخطأ، فهل نقف تلك الوقفات
أمام الاجتهادات الخاطئة التي أودت بمصالح وأفسدت أكثر مما أصلحت، وهل
نقول: قف! ! لا يحق لك الاجتهاد؟ ولا يشترط أن يكون المخطئ رجلاً خبيث
النية، سيء المقصد، يتربص بنا الدوائر! ! بل قد يصدر من المخلص والصادق
النصوح، ولكنه يقع لأسباب كثيرة، منها:
أولاً: الهوى: وهو الميل عن الحق، وأصعبه: الهوى الخفي الذي يعتقد
صاحبه أنه متجرد من هواه وهو واقع فيه من حيث لا يشعر؛ قال الماوردي:..
وأما الوجه الثاني: فهو أن يخفي الهوى مكره، حتى تموه أفعاله على العقل،
فيتصور القبيح حسناً والضرر نافعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين: إما أن يكون
للنفس ميلاً إلى ذلك الشيء، فيخفى عنها القبيح لحسن ظنها، وأما السبب الثاني:
فهو استثقال الفكر في تمييز ما اشتبه وطلب الراحة في اتباع ما يسهل حتى يظن أن
ذلك أوفق أمريه وأحمد حاليه، واغتراراً بأن الأسهل محمود والأعسر مذموم فلن
يعدم أن يتوسط بخدع الهوى [7] .
ثانياً: الغفلة: هو اصطلاح للشاطبي في الموافقات يعبر به عن أحد أسباب
خطأ المجتهد [8] ، وهذه الغفلة تحدث للصغير والكبير والبر والفاجر ولا يسلم منها
أحد؛ فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول بعدما سمع أبا بكر (رضي الله
عنه) يتلو [وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] :
فكأني لم أسمع بهذه الآية من قبل. فكم من عالم تقي ورع قال رأياً خالف نصّاً
صحيحاً صريحاً لا يخفى على صغار طلاب العلم بسبب غفلة. وآخر من الدعاة
العاملين اتخذ رأياً أو عمل عملاً جليّاً خطؤه ظاهراً فساده، وذلك لغفلة منه، وهو
وإن كان غير ملومٍ على غفلته، فإنه يلام إن مضى بعد بيان الحق على اعتبار أنه
اجتهاد منه! !
ثالثاً: التقصير: ومن التقصير: الكسل عن بذل الوسع في الحكم، فيكسل
عن تقصي المسألة أو التثبت من الواقعة أو الدليل، وقد يعجل فيقصر به الوسع؛
يقول ابن تيمية في أقسام من ترك الحديث من المجتهدين: لكن الذي قد يخاف على
بعض العلماء أن يكون الرجل قاصراً في درك تلك المسألة، فيقول مع عدم أسباب
القول وإن كان له فيه نظر واجتهاد، أو يقصر في الاستدلال، فيقول قبل أن يبلغ
النظر نهايته [9] .
ومثل ذلك لا يكون اجتهاداً لأنه صدر من مجتهد قصرت به وسائل الاجتهاد
المعتبرة في هذه المسألة، بل يقطع الشيخ عبد الله دراز بأن ذلك المجتهد ملوم قطعاً
في تقصيره، فيقول: يصح أن يقال: إنه [المجتهد المقصر] لم يبذل غاية الوسع،
والاجتهاد يتوقف عليه، فإذا لم يقم ببذل أقصى الوسع والوقوف عند حد كان يمكنه
تجاوزه في البحث يكون مقصراً وغير آتٍ بحقيقة الاجتهاد، فيكون ملوماً
قطعاً [10] .
وتتعجب اليوم من فتاوى واجتهادات تطلق سريعاً دون تروٍ أو دراية، فلا
تعجب أنه يُفتى في قضية ربما جمع عمر (رضي الله عنه) أهل بدر للإفتاء فيها [*] !! فالله المستعان.
__________
(1) أضواء البيان: ج3، ص581.
(2) الموافقات: ج4، ص167.
(3) الموافقات: ج4، ص170.
(4) الموافقات: ج4، ص172.
(5) الموافقات: ج4، ص168.
(6) الموافقات: ج4، ص109.
(7) أدب الدنيا والدين: ص3537.
(8) أنظر: الموافقات، ج4، ص170.
(9) الموافقات: ج4، ص171.
(10) رفع الملام: ص43.
(11) الموافقات، ج4، ص171، الحاشية (1) الهامش رقم (11) غير مشار إليه في المقالة (ماس) .
(*) جميع النقول في هذا المقال عن الاجتهاد في الحكم الشرعي وشروط المفتي، ولكن هذا ينطبق على الاجتهاد في أمور الدعوة، وهذا القياس فيه جليّ ظاهر.(91/24)
خواطر في الدعوة
تربية قرآنية
محمد العبدة
لم تكن تربية الأصحاب داخل قاعات المحاضرات، يتلقون الدوس النظرية
للحفظ والترديد، ولكنها كانت تربية من خلال الأحداث والجهد والجهاد والتعب
والنصب، كانت الآيات تتنزل وهم في أتون المعركة، تحدثهم عن خلجات نفوسهم
وترشدهم وتصوبهم وتبين لهم قوانين النصر والهزيمة وسنن الله في الأمم
والجماعات.
نزلت آيات سورة الأنفال معاتبة للمسلمين الذين شهدوا بدراً لاختلافهم حول
الغنائم: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] [الأنفال: 1] ، ونزلت
معاتبة لهم حرصهم على القافلة: [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ]
[الأنفال: 7] ، ومع أن الخلاف على الغنائم لم يقع من الكل، إلا أن الآيات خاطبت
الجميع وكأنهم جسم واحد، إبرازاً لأهمية الجماعة وتماسكها، ودورها في حماية
الفرد، ومسؤوليتها عما يقع داخل الصف، وعندما أخطأ بعض الصحابة في أحد،
وعصوا أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء الخطاب أيضاً للجميع: [حَتَّى
إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ] [آل عمران:
152] ، [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] [آل عمران: 165] وهذه أعظم تربية وأكملها
لترسيخ تضامن المجتمع الإسلامي؛ يقول ابن عطية في تفسيره: جاءت المخاطبة
في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله (تعالى)
عليها لم يقع فيها جميعهم، ولذلك وجوه من الفصاحة، منها: وعظ الجميع
وزجره ... ومنها: الستر والإبقاء على من فعل.. [1] .
ومن التربية القرآنية: أن العتاب جاء شديداً بعد بدر، مع أنهم خرجوا
منتصرين، وقد بذلوا أرواحهم في سبيل الله، والبدريون هم الطبقة الأولى من
الصحابة، قيل لهم: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] [الأنفال: 1] ، ويصور
حالهم قبل المعركة: [يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ] [الأنفال: 6] وكل ذلك
حتى لا يصيبهم غوائل الظفر التي تصيب الإنسان عادة في مثل هذه الأحوال،
وحتى لا يصيبهم الغرور في الدين؛ فيظنوا أنه لابد من النصر في كل موقف لأنهم
مسلمون، ولذلك قال لهم: [وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] [الأنفال: 17] ، [وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ] [آل عمران: 126] ، وكأنه يريد منهم
الاستمرار على هذا المستوى الإيماني ليكونوا أصحاب رسالة للعالم أجمع.
كان الموقف في أُحد مغايراً لما حدث في بدر، فقد تحول سير المعركة لغير
صالح المسلمين بعد عصيان الرماة، وكانت النتائج مؤلمة، وقد ترك بعضهم أرض
المعركة، ومع ذلك فقد جاءت الآيات لتعفو عنهم، ولتمس ما حدث مسّاً رقيقاً،
وكأنها يد حانية تمسح جراحاتهم، وتزيل عنهم آثار الغم الذي أصابهم، قال (تعالى) : [إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ] [آل عمران: 140] ، [وَلَقَدْ عَفَا
عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] [آل عمران: 152] ، [إنَّ الَذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ
يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] ...
[آل عمران: 155] ، [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]
[آل عمران: 159] .
أي دُمْ على مشاورتك لهم، وإن وقع منهم ما وقع، ولو أن الآيات جاءت
مقرعة وموبخة لهم أشد التوبيخ، بعد أن أصيبوا في أنفسهم، ورأوا ما حل برسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، لأصابهم من الفشل والإحباط الشيء الكثير، وأما
الدرس فقد تعلموه، وما نسوه أبداً بعد أُحد، وهذه هي التربية القرآنية.
__________
(1) تفسير ابن عطية: ج3، ص262.(91/28)
دراسات اقتصادية
وقفات متأنية مع..
عمليات التمويل في البنوك الإسلامية
(1)
د. محمد بن عبد الله الشباني
مدخل:
البنوك الإسلامية مظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية المعاصرة، بُذلت
الجهود والأموال في سبيل قيامها لتؤدي دورها في أسلمة الاقتصاد، ولم يسلم هذا
التوجه من نقد فريقين: الأول: العلماء المخلصون الذين يطالبون بالتصحيح
واستقامة العمل على الطريق الشرعي، وألا يكون البنك الإسلامي مجرد شعار
استهلاكي فقط.
والثاني: العلمانيون المغرضون الذين يهاجمون تجربة البنوك الإسلامية
لأسباب مشبوهة لا تخفى.
وكاتب هذه الدراسة ليس غريباً على هذا التخصص، فله دراسات وأبحاث
علمية من أشهرها كتاب: (بنوك تجارية بدون ربا) .. ويهدف بهذه الدراسة إلى
النصح والعمل الجاد لإنجاح هذه التجربة التي لم تعد تمثل أصحابها بقدر ما تمثل
الاقتصاد الإسلامي ومنطلقاته الشرعية.
ومجلة البيان ترحب بالتعقيبات التي تثري البحث وتعالجه من زوايا مختلفة.
- البيان -
تمثل البنوك الإسلامية الأمل الذي يتطلع إليه المسلم لتنظيم نشاطاته
الاقتصادية على ضوء ما يأمر به القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فيجد المؤسسة
التمويلية التي تلبي احتياجاته المالية ضمن إطار الشريعة الإسلامية.
والواقع المأساوي للعالم الإسلامي يتمثل في الانفصام النكد بين العقيدة وما
توجبه من أحكام تشريعية تنظم حياة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وبين
التنظيمات والتشريعات التي فُرضت على الشعوب الإسلامية نتيجة الاحتلال
النصراني للبلاد الإسلامية وسقوط رمز الدولة الإسلامية الموحدة للعالم الإسلامي
على يد كمال أتاتورك وبروز قيادات سياسية قامت بتبني النموذج الغربي في
التشريع والتنظيم، ومن ذلك: قيام النظام الاقتصادي على الفلسفة الربوية التي يقوم
عليها نظام الاقتصاد العالمي.
إن بداية الرغبة في الخروج عن الربا وتأسيس بنوك إسلامية تعمل على
الابتعاد في تعاملها عن الربا بدأ في الستينات من هذا القرن، ولا زالت التجربة
البنكية الإسلامية تعاني كثيراً من القصور والمحدودية، ويبرز كثير من التساؤلات
حول مدى شرعية كثير من العمليات التمويلية التي تمارسها البنوك الإسلامية.
في هذه الحلقة سوف أوضح الظروف التي تمارس البنوك الإسلامية فيها
أنشطتها البنكية والمعوقات التي تحول بين قيام نظام بنكي إسلامي سليم يمثل في
منطلقاته النظرية والتطبيقية روح الشريعة الإسلامية، وفي الحلقات القادمة سوف
أتطرق إلى بعض العمليات التمويلية التي تمارس من قِبَل البنوك الإسلامية أو
غيرها من البنوك الربوية التي امتطت صهوة الرغبة لدى جمهور المسلمين بالابتعاد
باستثماراتهم ومدخراتهم عن الربا، فأوجدت ما أطلق عليه صناديق التجارة حيث
اسْتُقْطِعَ جزءٌ من المدخرات لما تدعيه من قيام هذه الصناديق بالاتجار بالأموال
المشتركة فيها بعيداً عن الربا المحرم.
إن مناقشة الظروف وبعض المعوقات التي تحد من نشاط البنوك الإسلامية
ومن قدرتها على ممارسة العمليات البنكية من منطلقات إسلامية: سوف تساعد
القارئ على معرفة الأسباب التي تحد من انطلاقة هذه البنوك لخدمة المجتمعات
الإسلامية، وإبعادها عن محق الربا الذي تعيشه هذه المجتمعات في واقعنا الراهن،
ويمكن تحديد أهم المعوقات التي تحد من نشاط البنوك الإسلامية وتحرفها عن
ممارسة العمل البنكي السليم المنضبط بضوابط الشريعة في الأمور التالية:
أولاً: النشاط البنكي يمثل الجانب التطبيقي لجانب من جوانب النظام
الاقتصادي، وبالتالي: فالنشاط البنكي يتأثر بالمنهج الذي يقوم عليه البناء
الاقتصادي، وعلى هذا: لا يمكن عزل أعمال البنوك عن أن تسير وفق ما
يستلزمه النظام الاقتصادي؛ من ضرورة أن تمارس البنوك ميكانيكية السياسات
النقدية والمالية التي ترسم من قِبَل الأجهزة الإدارية القائمة على تنفيذ النظام
الاقتصادي، ومن المعروف أن الفائدة (الربا) تمثل الأساس الذي يقوم عليه النظام
الاقتصادي العالمي المعاصر، وبالتالي: فإن البنك الإسلامي الذي يمارس نشاطه
ضمن إطار هذا النظام الاقتصادي في دول يقوم نظامها الاقتصادي على جواز أخذ
الفائدة الربوية واستخدامها أداةً لتوجيه حركة الأموال (السياسة النقدية) ، لتنفيذ
السياسة المالية المرسومة من قبل الأجهزة الاقتصادية للدولة: سوف يعاني من
مشكلة المواءمة بين سياساته البنكية التمويلية التي يمارس من خلالها نشاطه البنكي
القائم على أساس منع أخذ الفائدة وإعطائها والسياسة البنكية المرسومة من قبل البنك
المركزي الذي يشرف على أعمال البنوك ويوجهها وفق السياسات النقدية والمالية
التي ترسمها الأجهزة الاقتصادية للدولة التي يمارس البنك الإسلامي نشاطه فيها.
إن هذا الواقع يدفع البنك الإسلامي إلى اتباع مناهج تطبيقية في التمويل
تتوافق مع أسلوب الفائدة في عمليات الإقراض البنكية.
ثانياً: البيئة التنظيمية التي أشرنا إليها في الفقرة الأولى والتي يمارس البنك
الإسلامي نشاطه التمويلي ضمن إطارها تدفع البنك الإسلامي إلى استخدام وسائل
وطرق تمويلية تكون أقرب إلى وسائل الربا من ناحية ضمان العائد، وذلك
باستخدام الحيل الشرعية لإجازة كثير من صور المعاملات التي يدور حولها الخلاف
والبحث عن مخارج فقهية لها، وإن كانت في واقعها وحقيقتها ومقاصدها أقرب إلى
الربا من البيوع والمعاملات الشرعية، إن النظام البنكي المعاصر يحد من قيام
البنوك بالعمليات الاستثمارية من خلال المشاركات التمويلية، بل يقصر عمل
الاستثمار على وسيلة الإقراض حيث إن عملية المشاركات تقوم على عنصر
المخاطرة بخلاف عمليات الإقراض لتوافر العائد بخلاف التمويل القائم على فقة
المعاملات الشرعية الذي يرتكز على البيع والمشاركة في المخاطر.
ثالثاً: المنافسة لجذب الإيداعات وراغبي التمويل بين البنوك الإسلامية منها
وغير الإسلامية التي تمارس عملها في الوسط الربوي؛ مما يدفع البنوك الإسلامية
لتجاوز الكثير من القواعد الشرعية في معاملاتها الشرعية والعمل على اختيار صيغ
للتعامل تتفق في مضمونها وغايتها مع الأساليب البنكية الربوية، بقصد جذب
المودعين والراغبين في التمويل للتعامل مع البنك الإسلامي بالشكل الذي يجنب
البنك الإسلامي مخاطر التعامل وفق الصيغ الإسلامية القائمة على عناصر المخاطرة
وعدم ضمان الربح، ولضمان نسب العائد الذي يمكن منحه للمودعين الذين فوضوا
البنك في الاستفادة من هذه الودائع.
رابعاً: تطلع الجماهير الإسلامية إلى التخلص من الربا وتوسيع الأنشطة
البنكية في العالم الإسلامي التي لا تقوم على الربا: دفع كثيراً من ذوي الغيرة إلى
المطالبة بالبحث عن مخارج شرعية لكيفية توفير التمويل بدون اللجوء إلى الربا،
وصاحب هذا التطلع انتشار الوعي الديني والرغبة في تجنب الوقوع في الحرام مع
بروز حقيقة: أن النظام البنكي ضرورة لتيسير التبادل النقدي وتسهيل حركة
التجارة الدولية، أدى ذلك التطلع إلى المطالبة بإيجاد بنوك تلتزم بالشريعة، ولكن
ضمن المبادرات الفردية بحيث لم يتم تبني نظام بنكي كامل مرتبط بالنظام
الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
إن ضرورة توفر بيئة اقتصادية وتشريعية تلتزم بالشريعة الإسلامية يساهم في
معالجة المشاكل التطبيقية من خلال إبراز تصور شمولي لمختلف العلاقات البنكية
سواء ما يتعلق بكيفية تمويل الاستثمارات الداخلية أو العلاقات التبادلية الخارجية
ضمن إطار يحكم العمل الاقتصادي للدولة، بحيث يتم تجنب الازدواجية بين فلسفة
النظام الاقتصادي السائد القائم على الربا الذي يمارس البنك الإسلامي نشاطاته
ضمنه وبين ما ينبيء من وجود بيئة تنظيمية يقوم نظامها على ممارسة الشريعة
الإسلامية بكل جوانبها.
إن عدم وجود مجتمع تقوم أنظمته المختلفة على الإسلام يحد من قدرة البنك
الإسلامي على الانطلاق والابتعاد عن البحث عن الحيل الشرعية عند ممارسته
لنشاطه التمويلي.
خامساً: الظاهرة المشتركة بين البنوك الإسلامية التي تمارس الأعمال البنكية
تتمثل في أن نشاطها في الأغلب يتركز على الاستثمار المتوسط الأجل والطويل
مثل تكوين الشركات المساهمة في تمويل الأعمال الاستثمارية، إلا أن مساهمتها في
حل مشكلة التمويل قصير الأجل الذي يمثل المشكلة الرئيسة التي يعاني منها الناس
في المجتمع المعاصر محدودة، وتأخذ الشكل الذي تمارسه البنوك في التمويل قصير
الأجل صوراً من أنواع البيوع التي دجنت من خلال البحث عن المخارج الفقهية
حتى يتم تلاؤمها مع واقع التمويل قصير الأجل القائم على الفائدة الربوية وبين
الرغبة في الابتعاد عن الربا مما أفقد البنوك الإسلامية قدرتها على أن تمارس دور
الريادة في تغيير الاتجاه الربوي القائم في النظام البنكي السائد في العالم الإسلامي،
وهو ما سوف نحاول مناقشته في الحلقات القادمة بدراسة صور التمويل قصير
الأجل الممارس من قبل البنوك الإسلامية، وذلك بسبر غور صحة وسلامة
المنطلقات الشرعية بقصد تقويم هذه الصور من الممارسات، مع الإشارة إلى
البدائل الممكن ممارستها.
سادساً: ضعف دور الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية وهامشيتها؛
فالرقابة الشرعية يقتصر دورها على الإفتاء والبحث عن مخارج فقهية لما يقترحه
الممارسون، مع قصور في التصور العملي التطبيقي؛ فالرقابة الشرعية لا تمارس
عملية الفحص والاطلاع على مراحل عمليات إقرار التمويل والتأكد من أن
الإجراءات التي تُمارس تتفق مع الشريعة، بجانب أن أجهزة الرقابة الشرعية لا
تمتلك الخبرة البنكية التي تساعدها على إيجاد البدائل السليمة، وإنما يقتصر دورها
في الإفتاء إذا طلب المديرون منها ذلك! . إن هذا الدور يفقد أجهزة الرقابة
الشرعية فاعلية التأثير على تطوير البنك لأساليب ممارساته، كما لا يتيح لها
اكتشاف الخلل الشرعي عند التطبيق، إن أعضاء الهيئات الشرعية في الأغلب غير
متفرغين للعمل البنكي، وبالتالي: يتصف عملهم بالصفة الاستشارية.
إن مناقشة واقع التعامل وفق ما أتيح لنا من معلومات عن كيفية ممارسة
البنوك الإسلامية لنشاطها التمويلي لا يعني جحد أهمية وجود هذه البنوك ولا غمط
حق من قام على تأسيسها وبذل الجهد والمال في سبيل ظهورها، ولكن مناقشة هذا
الواقع إنما قُصد به النصح، فتجربة البنوك الإسلامية لا تنسب إلى أصحابها،
وإنما تنسب إلى الإسلام، وبالتالي: فالتأثير السلبي سوف ينعكس على إمكانية
توسيع القاعدة البنكية الإسلامية، وبالتالي: إضعاف المطالبة بتحويل النظام البنكي
القائم على الربا إلى نظام يُنتفى فيه الربا، فالممارسة الخاطئة للعقود الشرعية التي
لويت أعناقها من خلال البحث عن مخارج شرعية: لا تختلف في النتيجة عما يتم
من ممارسته في البنوك الربوية، لهذا: نجد في الآونة الأخيرة اتجاه بعض البنوك
الربوية إلى إيجاد أقسام للمعاملات الإسلامية ضمن الصيغ التي تمارسها البنوك
الإسلامية؛ لكون هذه الصيغ لا تختلف في النتيجة عن الصيغ التي تمارس من قبل
البنوك الربوية، غير أنها أُلبست باللبوس الإسلامي، كما سوف نناقشه في حالات
من الصيغ المطروحة من قبل البنوك الربوية بقصد جذب مدخرات بعض الفئات
الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية التي تشعر بالجزع من أكل الربا، وفي الوقت
نفسه: ترغب في الحصول على عائد مضمون بدون مخاطرة.(91/30)
هموم ثقافية
كيف نحمي ثوابتنا..؟
عبد العزيز كامل
كان الحديث في لقاء سابق؛ عن ظاهرة باتت شبحاً مهدّداً بالانفصال روابطنا، وبالانفصام عرانا، ألا وهي: التزحزح عن ثوابتنا أو بعض ثوابتنا في قضايانا
المعاصرة الكبرى، حيث لا تكاد تبقى لنا قضية إلا وقد استهدفت بالاختلاف أو
استهلكت بالمزايدة من بعض من يتتبع اختلافات العلماء والدعاة في عالمنا الإسلامي
ليبرز منها عند الطلب ما يوافق غرضه وهواه.
إن هذا يهدد الهدف المنهجي الصادق لكل مسلم مشفق ناصح، ألا وهو:
اتفاق فصائل العاملين للإسلام على حدودٍ دنيا من الأهداف، يتبناها الجميع،
ويسيرون نحو تحقيقها بخطًى ثابتة، وإلا فعلى أي شيء نجتمع في العمل للدين إذا
تميعت عقيدة الولاء والبراء، وتراجعت قضية تحكيم الشريعة في بلاد المسلمين،
وبهتت صورة الكفاح الصادق لنصرة الإسلام، وبردت العواطف تجاه المستضعفين، وخفقت الأصوات عن إحقاق الحق وإبطال الباطل، وأُطفئت في داخلنا جذوة
التحرق لانتصار التوحيد، وخمدت فورة التوثب لعبور الهزيمة والتخلف؟ ! .
من المستفيد إذا قعدنا وقام غيرنا، وكسلنا ونشط سوانا من: أتباع الديانات
الباطلة، والمذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة؟ !
إن الكثيرين من المرجفين والمبطلين قد انطلقوا يبشرون بأفول نجم التدين،
وذهاب بريق الصحوة، وانحسار مَدّ الدعوة، فهل نعيب عليهم أن أقررنا أعينهم
بما يشتهون؟ !
إننا لن نستطيع هذه المرة أن نعلق مسؤولية عدم تحقيق الأهداف على مشجب
ضخامة التحدي ومؤامرات الأعداء، بل الأمر فينا ومنا، وعقباه إلينا وعلينا،
حيث بتنا نفض جموعنا عن قضايانا المحورية، ونصرف وجوهنا عن همومنا
الجادة.
والخطر كل الخطر، أن تتم عمليات الإشغال والانشغال عن هموم الإسلام
باسم الإسلام، ويتم الصرف عن العمل باسم العلم.
ولكل هذا فإن إعمال الفكر، وكد الذهن من أَجْلِ استجماع أسباب حماية
الثوابت يطرح نفسه أمراً مهمّاً، ولن يكون ذلك إلا باستلهام روح النصيحة لله
ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم، واستشعار أهمية تغليب المصالح على
المواقف الخاصة، واستبعاد تعرض ثوابت الدين للمخاطر من أجل الحفاظ على
الخواطر.
ويظهر لنا من خلال تتبع أحوال السلف مع أمانة المحافظة على العلم والدين،
أن هناك أسباباً تُعين مراعاتها على حماية الثوابت، منها:
1- لا مجاملة في الحق:
فالحق قديم، وهو يعلو ولا يُعلى عليه، ومن نوقره من أجل الدين لا ينبغي
أن يرتفع فوق حقائق الدين، ومن الضوابط في ذلك عدم الخلط بين الصلاح
الشخصي والخطأ العلمي، فكل إنسان بل كل إمام يؤخذ منه ويرد إلا صاحب
الحجرة كما قال الإمام مالك والزلة من العالم أمر وارد، وهو قبلها وبعدها: عالم،
وبمقتضى علمه لابد أن يعذر الناس في رد زلاته، وإلا فالأمر كما قال عمر بن
الخطاب (رضي الله عنه) : يفسد الناس ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال منافق
بالقرآن، وزلة العالم [1] ، فالمجادلة في الزلات والأخطاء إفساد للعلم، ومحاباة
على حساب الدين، وقد قال الإمام أحمد: ليس في الدين محاباة [2] .
2- من احترام العالم ألا يُسأل إلا فيما يعلم:
ذلك أنه لا ينبغي في الأصل أن توجه للعالم الأسئلة في غير تخصصه،
خاصة إذا كانت مبتورة أو ملتوية، أو موجهة لتحصيل غرض مبيت، فهذا من
التغرير بالعالم والتوريط له، وهذه هي (الغَلُوطات) التي نهى النبي -صلى الله
عليه وسلم- عنها، في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن معاوية (رضي الله
عنه) أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الغلوطات [*] .
قال الخطابي: الغلوطات: هي شرار المسائل، والمعنى: أنه نهى أن
يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها، ويستسقط
رأيهم فيها [3] ، وإن كان لابد من تلك المسألة، فلتطرح على المجامع العلمية،
التي تقلبها من جميع جوانبها التخصصية، فهذا أدعى إلى الاحتياط للدين، وأسلم
للفتوى.
3- من الاحترام للعلم ألا يُجاب في شيء إلا بعلم:
فمن الآفات التي قل التحفظ منها في زماننا: المبادرة إلى إعطاء الجواب على
سؤال مباغت، دون مراجعة للنصوص والأقوال، وقد كان شأن الصحابة أن
يجمعوا كبار فقهائهم لكبار المسائل، فهذه سنة من سنن الخلفاء الراشدين التي ينبغي
أن نعض عليها بالنواجذ؛ قال عثمان بن عاصم، التابعي الجليل: إن أحدهم ليفتي
في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، فينبغي لمن
يستفتى أن يتحصن ب (لا أدري) حتى يدري؛ قال ابن عباس (رضي الله عنه) :
إذا ترك العالم (لا أدري) أصيبت مَقَاتِلُه [4] .
وقال الإمام مالك: ذل وإهانة للعلم أن تجيب كل من سألك [5] .
4- احترام لا تقديس:
فإذا كان احترام أهل العلم ديناً وتقوى، فحفظ العلم نفسه للعمل هو الدين
والتقوى، فعلماء أهل السنة درجوا على استبعاد وساوس العصمة لغير الأنبياء،
وتناقلوا تلك المقولة النفيسة: اقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتن وقد كان
سعيد بن المسيب (رحمه الله) لا يكاد يفتي فتوى أو يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني [6] ؛ ولهذا ينبغي أن يكون ربط الناس دائماً بمنهاج السلف، لا بنسبة
الأشخاص إليهم.
5- كلما عظم الأثر عظمت المسألة:
ذلك أن القضية، كلما كان لها ارتباط بقطاع أكبر من الأمة: كلما عظمت
المسؤولية في الكلام فيها، أو نقل الكلام فيها.. وفي عصرنا: لا تصلح
الاجتهادات الفردية في القضايا المصيرية، ولا يصح السكوت عن خطأ علمي من
بقية أهل العلم، فهذا أيضاً من مسؤولية العلم، فكما أن كتمان العلم ابتداءً لا يجوز: فإن السكوت عن بيان الخطأ فيه أيضاً لا يجوز، وقد قال النبي -صلى الله عليه
وسلم- في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه: من سُئل عن علم فكتمه: ألجمه
الله بلجام من نار يوم القيامة [7] ، قال الشارح: وكلما كان العلم المسؤول عنه مما
يترتب عليه العمل والمسؤولية، كانت الضرورة أشد لبذل العلم، قال الخطابي:
هذا في العلم الذي تترتب عليه الفروض [8] أما السكوت عن إظهار الحق أو
استظهاره من مفت أو مستفت فإنه هلكة كما وصفه قتادة، وحرام كما قال عنه محمد
بن كعب القرطبي: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على
جهله [9] .
6- الاحتياط عند النظر في القول المتفرد أو الجديد:
وخاصة إذا لمحت فيه آثار الخلط بين مواطن الاجتهاد وموارد النص، أو
تنزيل الأصول منزلة الفروع، أو إيقاع الأحكام على غير الوقائع، ولا ينبغي
للجديد المتفرد من القول أن يأخذنا ببريقه، حتى ننظر من أين أتت تلك الجدة، ومم
استمد ذلك التفرد، ولا نعلم مسألة من القضايا الكبار التي سبقت الإشارة إلى بعضها
إلا ولأهل العلم قديماً وحديثاً كلام فيها، يفرض على من تكلم فيها لاحقاً ألا يهمله أو
يلغيه؛ قال الإمام أحمد (رحمه الله) : من تكلم في شيء ليس له فيه إمام، أخاف
عليه الخطأ، وقال: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم، وإلا فلا
يفتي [10] .
7- الاحتياط عند تنزيل الأحكام على الوقائع:
فكم من قضية تحشد فيها نصوص وأقوال موضوعة لقضية أخرى، فلهذا:
يبدو عند التمحيص والنظر أن حكمها غير حكمها، لأن واقعها غير واقعها، ولهذا: فإن ابن القيم (رحمه الله) عندما اشترط في المفتي أن يكون فقيهاً بالواقع المحيط
بالمسألة (في كتابه إعلام الموقعين) فإنه لم يكن فقط محتاطاً بهذا للفتوى، بل كان
حامياً ومراعياً لحرمة النصوص أن تستخدم في غير محلها، وفي الصحيح أن عمر
بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقول: يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين،
فلقد رأيتني (يوم أبي جندل) ، ولو استطعت لرددت على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أمره [11] .
8- دقة السؤال وأمانة السائل:
فليست الأمانة مطلوبة فقط من المسؤول، بل من السائل أيضاً، فمن أمانته
أن يحسن صياغة السؤال، ويجرده من الإيهام والإبهام، وقد عد العلماء حسن
السؤال في أول مراتب العلم.
ومن أمانة السائل أيضاً: أن يتحرى أمانة المسؤول وصدقه وأهليته، قيل
لعبد الله بن المبارك: كيف نعرف العالم الصادق؟ قال: الذي يزهد في الدنيا ويقبل
على الآخرة.
9- دقة الجواب وأمانة المسؤول:
فالعالم الأمين لا يجيب على السؤال مجرداً، بل ينظر في القرائن المحيطة
بالسائل، فلعله يستعين بالعلم على البطالة، أو يستخدم الفتوى في ضلالة، أو
يبتغي الرفعة على صنعة الدين، أو يريد تسخيره لهدف دفين.
ولهذا كان ديدن العلماء والمصلحين أن يتأسوا برسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في النظر إلى حال السائل قبل إعطائه الجواب، وفي عدم التمكين كمن يريد
أن يختل الدنيا بالدين، قال ابن مسعود (رضي الله عنه) : لو أن أهل العلم صانوا
العلم ووضعوه عند أهله: لسادوا أهل زمانهم، ولكنهم وضعوه عند أهل الدنيا
لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم [12] وقال الإمام أحمد: ليتق الله عبد ولينظر ما
يقول وما يتكلم، فإنه مسؤول [13] .
10- التماس العذر لا يكفي عن أخذ الحذر:
وذلك فيما قد يكون من مؤامرات خارجية في الفتوى، فالعذر من الدين،
ولكن الحذر أيضاً من الدين، فليحذر السائل وليحذر قبل ذلك المسؤول من التفريط
في متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-[فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [النور: 63] ، قال سفيان الثوري: لقد كان
الرجل يستفتى فيفتي وهو يرعد [14] .
وأخيراً نقول:
لا، لإسقاط الرموز:
وقد يسأل سائل، وما علاقة هذا بحماية الثوابت؟ ، والجواب: إن هناك
أشخاصاً اعتباريين، يقفون بمجموعهم خلف ثوابتنا يحمونها ويذودون عنها، وهم
مجموعة العلماء والعاملين والدعاة المخلصين في مختلف بلدان العالم الإسلامي،
أولئك رضيتهم الأمة الواعية والْتفّت حولهم الشعوب المدركة، وحازوا احترامها
فصاروا رموزاً عندها للدعوة والدين، فهؤلاء لا ينبغي أن نسقط كل يوم منهم واحداً
من أعين الناس لصواب تخطاه، أو خطأ تغشاه، فالخطأ من العالم أو الداعية لا
ينبغي أن يصير خطيئة، يستباح من أجلها عرضه، ويُنهش بسببها لحمه، ذلك أن
من تركنا رأيه اليوم في مسألة، سنحتاج إلى رأيه غداً في مسائل، ومن لم يكن
اليوم في قضية موفقاً لعله سيكون غداً في غيرها متفوقاً، فنحن إذا هدمنا هذا الرمز
من مصر اليوم، وذلك الرمز من الشام غداً، وذاك الثالث من اليمن أو غيرها بعد
غدٍ، من يبقى لنا؟ ومن يتحدث في الناس باسمنا ويذود عن ديننا؟
إن ثوابتنا ستظل تتساقط بقاياها كل يوم، مع كل رمز نسقطه، لأن
المصداقية عند عموم الناس وللأسف لا تتجزأ.
حقّاً إنها مهمة صعبة ... أن نحمي ثوابتنا وأن نُبقي في الوقت نفسه على
تماسكنا، ولكنها يسيرة على من اتقى الله وعدل.
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح: ج2، ص46.
(2) المصدر نفسه: ج2، ص142.
(*) أخرجه أحمد: ج5، ص435، وأبو داود في كتاب العلم، باب التوقي في الفتيا ج4، ص65، ... ... ...
وإسناده ضعيف ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.
(3) عون المعبود، بشرح سنن أبي داود ج10، ص90.
(4) الآداب الشرعية لابن مفلح: ج2، ص61.
(5) الآداب الشرعية لابن مفلح: ج2، ص61.
(6) الآداب الشرعية لابن مفلح: ج2، ص62.
(7) صحيح سنن أبي داود: ج2، ص696.
(8) عون المعبود بشرح سنن أبي داود: ج10، ص92.
(9) تفسير القرطبي: ج4، ص304، تفسير الآية 187 من آل عمران.
(10) الآداب الشرعية: ج2، ص60.
(11) راجع: إعلام الموقعين، ج1، ص8788.
(12) الآداب الشرعية: ج2، ص48.
(13) الآداب الشرعية: ج2، ص59.
(14) الآداب الشرعية: ج2، ص59.(91/36)
نص شعري
مَعْرِض الهزيمة
شعر: عبد الله بن عبد الكريم الخميس
سئمتُ وقد شابهَ اليومُ أمسا ... طِبتُ لدى الجُرحِ بالموتِ نفسا
وما بي قُنُوطٌ ولكنّ عصري ... يُسَامُ به الشتّمّ خنقاً ودهسا
ألم يأنِ أن نحتوي عِزّةَ الدينِ ... نُحْيي لإسلامِنا الحُرّ عُرسا
شرِبنا من الذّلِ حتى ارتوينا ... كَرَعنا على الكُرهِ كأساً فكأسا
كِنانتُنا أُتخِمَتْ بالسهامِ ... ولم نَحْتَمِلْ طيلةَ الحَربِ قوسا
تناحُرُ فُرسانِنَا مَنْبَعُ الذّلّ ... في الخَالِياتِ لنا كان درسا
شتَاتٌ عِصَابتُنا واختِلافٌ ... وشرٌ يَدِبّ إذا الليلُ أمسى
وغَابٌ تمن الشوكِ تُدمي الحيارى ... ثِمَارٌ خبيثٌ لما كان غرسا
وبين جوانِحِنا خَافِقَاتٌ ... قُلُوبٌ هي الصّخرُ بل هي أقسى
فهلاّ نُجَدّدُ عَهْدَ التّآخي ... ونقتُلُ (ذُبْيَان) فينا و (عبسَا)
ونتركُ ما فيه كُنّا افترقنا ... ونخلِطُ ب (الخَزْرَجِيّةِ) (أوسَا)
و (داحِسَ) ما حازتِ السّبقَ حازتهُ ... (غبراءُ) والحَادِثُ الشُؤمُ يُنْسَى
لِنُصبِحَ للعِز أهلاً وكُفْئاً ... ونبعَث للنُورِ والدفءِ شمسا
وننعَم بالحُبّ حتى كأنّا ... لنسمع للحُبّ قرعاً وجرسا
إذا ما افترقنا كأفلاكِ بَحرٍ ... فإنّ العقيدة يا قومُ مَرسَى(91/42)
من قضايا المنهج
المنطق التبريري
بقلم: محمد محمد بدري
حين نعاني مرضاً فكريّاً فرديّاً: قد يرى بعضهم الصمت حياله هو الواجب..
أمّا حين يكون المرض الفكري وباءً يشل فعالياتنا ويضيّع جهودنا: فلا تعطي ثماراً
بقدر الثمن المدفوع، فإن الكلام هنا يكون هو الواجب..
وهذا المقال محاولة للتوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام في علاج وباء
المنطق التبريري في عملنا الإسلامي، ليحل محله المنطق العملي الذي يدفعنا إلى
إتقان العمل بدلاً من تبرير الفشل.. ويعلّمنا ممارسة عبودية الأخذ بالأسباب التي
هي أحد مفردات عبودية التوكل.
لقد شاءت إرادة الله أن تحكم الكون سنن في غاية الدقة والعدل والثبات، لا
يجدي معها تعجل الأذكياء ولا أوهام الأصفياء، فهي لا تحابي أحداً من الخلق مهما
زعم لنفسه من مسوغات المحاباة..
ومن سنن الله الثابتة: أن لكل حادث سبباً، ومن وراء الأسباب تدبير اللطيف
الخبير.. فالنجاح في الوصول إلى الأهداف يرتبط بالوسائل الموصلة إليها، وليس
بأمور سحرية غامضة الأسباب، والمنتصر في أمور الدنيا هو من يأخذ بأسباب
النجاح سواء أكانت أهدافه سليمه أم لا [كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا
كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً] [الإسراء: 20] .
وقد كانت انتصارات المسلمين في (اليرموك) و (القادسية) و (عين جالوت)
وفق تلك السنن الثابتة.. وحين طرأ الخلل على سنن النصر الثابتة، كانت هزائم
المسلمين في أحد وحُنين والجسر.
بل إن ذاكرة تاريخ المسلمين تحفظ أن هزيمتي أحد وحنين كانتا والنبي-صلى
الله عليه وسلم-بين صفوف المسلمين يقودهم، ليعلم من سيرث الأرض من
المؤمنين: أن الخلل حين يقع في صفوف المسلمين تنطبق عليهم سنن الله.
ونحن نجزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينهزم قط:
في أحد: رتّب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-الأمور، ورسم الخطة
العسكرية التي حقق الله بها النصر، ولكن الرماة الذين اجتهدوا فأخطؤوا هم الذين
أضاعوا النصر.. فكانت الهزيمة التي تعلمنا منها أن صلاح العقيدة أهم أسباب
النصر، وأن من صلاح العقيدة الأخذ بالأسباب وطاعة القائد.
وفي حُنين: لم ينهزم النبي-صلى الله عليه وسلم-، وإنما الذين انهزموا هم
حديثو العهد بالإسلام الذين أُعجبوا بكثرة العدد ورأوا فيه سبب النصر، وغفلوا عن
مُسبب النصر.. ومع ذلك: نصر الله نبيه ببقية من أصحابه المخلصين، لتعلم هذه
الأمة أن النصر لا يكون إلا بالصفوة المختارة التي بلغت قمة التجرد لله وغاية
الإخلاص لدينه.
وأمّا موقعة الجسر: فهي درس عظيم جدير بالتأمل والتدبر..
لقد خرج أبو عبيد بن مسعود الثقفي (رضي الله عنه) على رأس جيش لقتال
الفرس، فأرسل رستم إليه بهمن بن جازويه برسالة يقول فيها: إمّا أن تعبر النهر
(نهر الفرات) إلينا وندعكم والعبور، وإمّا أن تَدَعُونا نعبر إليكم،.. فنهى الناسُ
أبا عبيد عن العبور.. فلجّ وترك الرأي والمشورة، وقال: لا يكونون أجرأ منا
على الموت.. فعبر إليهم فضاقت الأرض بأهلها.. واشتد الأمر على المسلمين..
حتى إن أحد فيلة الفرس وطئ أبا عبيد فقُتل شهيداً.. وتتابع على أخذ اللواء سبعة
أنفس من ثقيف فقاتلوا حتى الشهادة، وذهبت ريح المسلمين وانكشف أمرهم،
وخسروا في هذه المعركة أربعة آلاف مقاتل.. وكانت خسارة كبيرة للمسلمين كلهم، أحس بعظمها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب فقال: اللهم إن كل مسلم في حل
مني، أنا فئة كل مسلم، يرحم الله أبا عبيد لو كان عبر فاعتصم بالخيف، أو تحيز
إلينا، ولم يستقل (يعني برأيه) لكنا له فئة.
.. نعم لقد عبر أبو عبيد الجسر بشجاعة وإقدام وإيمان وحب للشهادة، لكنه
لم يحسب للمعركة حسابها، ولم يدرس أرض المعركة بشكل كاف، وزاد على ذلك
بمخالفته لمن معه من أركان الجيش الذين نهوه عن العبور، فلم ينته واستقل برأيه، فكانت هزيمة الجسر التي علمتنا أن النصر مع الإقدام يرافقه، ولكن مع التبصر
والأناة، وبعيداً عن الاندفاع الذي يهلك الجند ويأتي بالهزيمة، ذلك أن الحماس
لشيء ما لن يخدمه، ما لم يكن مشفوعاً بأسلوبه الفني الذي يحققه.
تلك بعض هزائم المسلمين، وهذه بعض أسبابها.. ونحن لا نريد هنا أن
نعرض لهزائم المسلمين بكلياتها وجزئياتها، فذلك موجود في مظانه من كتب السير
والمغازي، وإنما هي مواقف مختارة أردنا منها التأكيد على أن سنن الله التي تحكم
الحياة جارية لا تتخلف، وأن الأمور لا تمضي جزافاً، وإنما تخضع لعلاقة تلازم
بين الأسباب والنتائج، ولذلك فإن تخلف النتائج في أي أمر نُقدم عليه لابد أن يدفعنا
إلى خطوتين: الأولى: هو أن نفترض حدوث خطأ في عملنا.. والثانية: هو أن
نبحث بجد عن هذا الخطأ في أعمالنا لنصوبه.
تساؤل مهم وجوابه:
وفي ظلال هذا الفهم لطبيعة العلاقة بين الأسباب والنتائج، نخطو في مقالنا
هذا خطوة أخرى فنتساءل: ما هي الأسباب وراء انحسار عملنا الإسلامي، وعجزه
عن بلوغ أهدافه من عودة الإسلام إلى المجتمع وصبغه بصبغة الإسلام، ثم تتويج
ذلك بقيام النظام السياسي الإسلامي؟
سيرد البعض على الفور: علينا العمل، وليس علينا إدراك النتائج! !
وسيؤكد آخرون: لقد قمنا بكل ما نقدر عليه ولكن الظروف الاجتماعية والسياسية
والدولية لم تسمح بتحقيق النتائج! !
وأمّا الذين يدينون بالجبرية السياسية فيرددون القوت الذي يقتاتون به عند كل
فشل: إن مكر أعدائنا من القوى المحاربة للإسلام وأذنابهم من العملاء الذين
تحركهم الأيدي الخفية.. إن مكر هؤلاء قدر غالب ليس لنا وسائل لدفعه ولا أسباب
لرده! .
وأمّا الصنف الأخير فسيصحح بزعمه كلام هؤلاء كلهم: لا بل نحن في آخر
الزمان وهذه علاماته، فلا يمر يوم إلا والذي بعده أسوأ منه..! !
وهكذا يظل القوم يلهثون في البحث عن كبش الفداء لتبرير الفشل والانحسار
ويتفنون في اختراع الأسباب لزحزحة المسؤولية عن عواتقهم وإلقائها على عاتق
الغير من أعداء وظروف وغيرها، وهؤلاء هم الذين أصابهم وباء (المنطق
التبريري) .
لقد ضرب الله لنا مثلاً في القرآن لأناس أصابهم هذا المرض (المنطق
التبريري) ثم عافاهم الله منه بتوفيق أرشدهم وأعقلهم إلى الطريقة الصحيحة لعلاجه؛ فقال (عز وجل) : [إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا
مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ] [القلم: 17 18] .. لقد عزم هؤلاء على حرمان
المساكين من حقهم بقطف ثمار بستانهم في الصباح قبل أن يراهم أحد، فعاقبهم الله:
[فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ]
[القلم: 19، 20] .. وفي الصبح: ذهب أصحاب البستان ليتموا ما اتفقوا عليه،
وفوجئوا بالمأساة.. مأساة استحالة النضارة في القطوف الدانية والثمار الزكية
الشهية إلى سواد مُدْلَهِم لا ينتفع بشيء منه، بل هو صورة غضب الله ومؤاخذته لهم
على كفران النعمة بما أقسموا على منع الخير وقبض أيديهم عن عطاء من هم أهل
للعطاء..
فماذا فعل أصحاب البستان؟ لقد كان بعضهم مصاباً بالمنطق التبريري فأخذوا
في تصيد كبش الفداء والبحث عن أمر خارج عنهم كان هو السبب في بلائهم،
فطمأنوا أنفسهم اطمئناناً خادعاً بأنه لم يحصل شيء، فليست هذه جنتنا وإنما نحن
ضللنا الطريق..
[فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إنَّا لَضَالُّونَ] .. وحينما تأكدوا أنها هي وليست غيرها،
كان التبرير الآخر الذي يقوم على تنزيه النفس وإلقاء التبعة على الظروف والقدر
[بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ] ..
وهنا بدأ أوسطهم وأعقلهم وأرشدهم في تعريفهم بالسبب الحقيقي لما هم فيه،
والطريقة الصحيحة في النظر إلى المحن والمصائب.. [أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ?] ،
إن المشكلة فيكم وليست خارجكم، وأنتم الذين أخطأتم..
هذا هو الطريق:
ولم يرتكب أصحاب الجنة حماقة التبرير للبقاء على الخطأ، بل بدؤوا في
عملية التصحيح على الفور.. [إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ] .. [إنَّا كُنَّا طَاغِينَ] إن الخطأ
عندنا، والمشكلة بدأت من عندنا وليس من عند غيرنا..
.. هذه الطريقة التي اتبعها أوسطهم هي ما يجب أن نسلكه في علاج تبريرنا
لعجزنا وانحسار عملنا الإسلامي، فنقول: إن التبريرات التي نسوقها لتبرير فشلنا
وعجزنا عن تحقيق أهدافنا ما هي في حقيقتها إلا نتائج للأسباب الحقيقية التي يغفلها
عمداً أو جهلاً من أصيبوا منا بوباء المنطق التبريري.. ذلك المنطق الذي يعفينا من
أدنى مسؤولية أو تقصير، ويفترض دائماً عدم وقوع أخطاء منا، كانت هي السبب
في تأخر قطفنا لثمار أعمالنا؟ ! .
.. ونحن نذكّر أنفسنا، ونذكّر من أصابهم المرض منا، فنقول: إذا كانت
الظروف هي سبب فشلنا في تحقيق أهدافنا، فإن معنى ذلك أن أعمالنا دون مستوى
عصرنا، لأننا لم نستعد لمواجهة تلك الظروف.
وإذا كانت خطط أعدائنا هي سبب فشلنا، فما الذي يجعلها تنجح؟
وإذا كان أذناب هؤلاء من العملاء الذين تحركهم الأيدي الخفية هم سبب فشلنا، فمن الذي تسبب في وجود الأذناب، وغطى الأيدي الخفية؟ ..
وإذا كان وجودنا في آخر الزمان هو سبب فشلنا لأن كل يوم يكون أسوأ مما
قبله فهل يعني هذا أن محاولات المصلحين وجهودهم لابد أن تضيع سدى؟ .
إن الحقيقة التي يجب أن ندين بها جميعاً: أننا نحن شئنا أم أبينا المسؤولون
عن فشلنا وهزائمنا، وكل من يحاول أن يزحزح هذه المسؤولية عن عاتقنا ليلقيها
على عاتق الغير، هو في الحقيقة يلحق بنا الضرر ويؤخر خروجنا مما نحن فيه.
إن من يعتقد أن مكر أعدائه هو القدر الغالب، أو أن الظروف فوق طاقته:
سيتحرك بنفسية المهزوم الذي يرى أنه لن يستطيع فعل شيء، وربما أسلمه ذلك
إلى الاستسلام للواقع على أنه التصرف الواقعي، فيتقوقع على نفسه وينسحب من
ميادين العمل ليشغل نفسه بقضايا هامشية، وإذا حاولت أن تشحذ همته للعمل على
التغيير، رد عليك بقوله: كنت أقوى عزيمة منك، كنت أحاول وأعمل وأجاهد،
وتبين لي بعد سنين من التجارب المرة أن الأمور ليست بهذه البساطة، وأن
محاولتي هذه كانت نوعاً من السذاجة والغفلة! .
ولا يقل هزيمة عن هذا من يرى أن التغيير لا يخضع لسنة ارتباط النتائج
بأسبابها، أو يرى أننا في آخر الزمان فيظل ساكناً في انتظار ظهور المهدي الذي
يصلح الدنيا دون جهود من أهلها، وكلما دعاه أحد إلى العمل والتضحية من أجل
الإصلاح أجاب لسان حاله: [فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] ،
ومهما كانت مرارة الفساد الذي يحيط به، فإنه يبقى في انتظار ظهور المهدي الذي
قد يمر ألف عام أو أقل من ذلك أو أكثر دون أن يظهر، بينما لو أخذ هذا وغيره
بالأسباب الموصلة إلى النصر وتغيير الواقع الفاسد لغيّر الله بهم هذا الواقع.
إن من يحاول التستر على أخطائنا وعدم الكشف عنها هو من يُسْلمنا إلى
المأساة الحقيقية تحت دعوى عدم التشهير بأنفسنا، أو كشف عيوبنا أمام أعدائنا..
ذلك أن هؤلاء يضعوننا في مرتبة أعلى من مرتبة أصحاب رسول الله-صلى الله
عليه وسلم-الذين بيّن الله في قرآنه أن ما وقعوا فيه من أخطاء كانت سبباً في
هزائمهم في أحد وحُنين.
قد يرد بعضهم بقوله: إن الابتلاء من سنن الدعوات، وقد جرت حكمة الله
وسنته في رسله وأتباعهم أن يُدال لهم مرة، وأن يُدال عليهم مرة أخرى، ليتميز
الصادق من غيره.
ونحن نقول: إن هذا الكلام حق وصدق لا مرية فيه، ونحن لا ننكر أن
الابتلاءات والمحن من سنن الدعوات.. بل هي طريق الرسل وأولياء الله..
وواجب الذين يصابون بها هو الثبات على ما هم عليه.
ولكن ما نريده: أن يكون لدينا ملكة الفرقان بين الابتلاء والفشل بسبب الخطأ
في العمل.. ذلك أن الموقف الصحيح في الأول هو الثبات والبقاء على ما نحن
عليه، أما الموقف الصحيح في الثاني فهو مراجعة الخطأ والتخلي عنه والبدء في
تدراكه بالسير في الطريق الصحيح.
إن التفكير بطريقة المنطق التبريري الذي يفصل النتائج عن أسبابها تحت
دعوى أن علينا أن نعمل، وليس علينا تحقيق النتائج هو في حقيقته مصيبة كبرى؛
لأن ذلك يعني مثلاً أن المهندس الذي يشيد عمارة فتنهار لا يحاسب! ! أو أن
الطبيب الذي يهمل في علاج مريض فيموت لا يكون مسؤولاً ومحاسباً! !
إن الذين يرددون: علينا أن نعمل وليس علينا تحقيق نتائج.. هؤلاء يغيب
عنهم أن الصواب في الأعمال أصل قبولها في الآخرة وشرط نجاحها في الدنيا..
وأن صواب الأعمال لا يتحقق إلا أن تكون أعمالنا وفق شروط الزمان والمكان،
فالقيام بالأعمال خارج وقتها غيرمقبول، كما أن إتيان النوافل بترك الواجبات من
ضعف الفقه.
إن أعمالنا من أجل التغيير لابد أن تكون في إطار أعظم أصل من أصول
التغيير وأصدقه في عالم الأنفس والمجتمعات، وهو قول ربنا (عز وجل) : [إنَّ
اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] طبقاً لفهمها الصحيح حسب سنن الله
في الكون، وطبقاً للعلاقة بين ما هو في النفس وما هو خارج النفس من أوضاع
يطلب تغييرها، بمعنى أن كل شيء يتوصل إليه بأسبابه المؤدية إليه، فإذا كنا نريد
تغيير واقع منحرف، فإن طريقنا إلى ذلك أمران:
الأول: إثارة السخط على الواقع المنحرف، وإثارة الاهتمام بتغييره، وزيادة
الوعي بالبديل، والالتزام بهذا البديل.
الثاني: الإيمان بضرورة توفير القوة المؤيدة للتغيير التي تكفي لإزاحة القوة
الباغية المؤيدة للواقع المنحرف.
فإذا اقتصرنا على الأمر الأول من التغيير لما في النفس، وهو: تغيير الرضا
بالواقع إلى السخط عليه، والتطلع إلى إحلال بديله: سيحصل بإذن الله ما قابله فقط
من التغيير في الواقع.. أي سيحصل التغيير في الآراء والمطالب وسيلتزم الأفراد
بوصفهم أفراداً بما يمكنهم التزامه من الواقع المنشود.
فإذا ما حدث الأمر الثاني من التغيير لما في النفس، وهو الإيمان بضرورة
توفير القوة المؤيدة للتغيير الكافية لإزاحة القوة المعادية عن طريقها، وتوفرت
بالفعل تلك القوة.. حينئذ سيحصل التغيير الآخر.. وذلك:
إمّا بتخلي القوة المعادية عن المجابهة خوفاً من القوة الجديدة.
وإمّا أن تحصل المواجهة فيحكم الله بين الفريقين حسبما تقتضي حكمته
(سبحانه وتعالى) .. فإن كانت النتيجة نصراً لأصحاب الحق، فبحول الله وتوفيقه
واتباع ما أمر به: كتب الله لهم هذا النصر.
وإن كانت الأخرى، فلأمر يريده الله كان تأخير النصر.. ومن لحق من أهل
الحق بربه فهو بالشهادة أسعد.. وعلى الباقين استئناف السير على الطريق
المشروع المبرور حتى يأذن الله بالنصر، ولكل أجل كتاب.
... تلك هي الطريقة الصحيحة في محاولة الخروج من الانحسار والفشل.
... وهذه هي الطريقة الصحيحة في تفسير الهزيمة بعد إتقان العمل..
وبعد.. فإن (المنطق التبريري) يمثل أخطبوطاً يمد سيقانه إلى جل مجالات
أعمالنا الإسلامية، ويشكل قيوداً وأغلالاً تنمو في ظلالها قابليتنا للهزيمة، وتُقْتل
بسببها همتنا للتغيير ... ونحن ندرك أننا لن نقدر على علاج وباء المنطق التبريري
بمقالة تكتب عنه، فذلك نوع من تسطيح الأمور والتفاؤل المفرط الذي يفقدنا الرؤية
الصحيحة.
ولكننا في الوقت ذاته لا نعتقد أنه لا علاج لهذا الوباء، أو نقول كما يقول
لسان حال بعضهم: أقام العباد فيما أراد.. لن يكون إلا ما قد كان.. رفعت الأقلام
وجفت الصحف ... وغيرها من الأدلة السائرة التي يسوقها في غير موضعها
أصحاب (المنطق التبريري) .
وفقنا الله جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح.(91/44)
سياسة شرعية
العلاقات والحصانات الدبلوماسية
في الفقة الإسلامي والقانون الدولي
(3)
علي مقبول
تطرق الكاتب في الحلقتين الماضيتين إلى مفهوم التمثيل الدبلوماسي ومراحل
تطوره، ووضّح موقف القانون الدولي من الحصانات والامتيازات الدبلوماسية ذاكراً: الحصانات الشخصية والقضائية، والمالية، وعدم خضوع دار الوكالة للقضاء
الإقليمي.. وفي هذه الحلقة يذكر الكاتب موقف الشريعة الإسلامية من هذه
الحصانات.
- البيان -
موقف الشريعة الإسلامية من الحصانات والامتيازات
في القانون الدولي:
تمهيد:
الدعوة إلى السلام العالمي والتعايش السلمي من خلال العلاقات الدبلوماسية
تكاد تصم الآذان بضجيجها في هذا الزمان، بل لقد أصبحت لكثرة القائلين بها كأنها
الحق الصراح وما عداها هو الباطل بادي الرأي للذي لا يعرف الأحكام الشرعية.
أما من يفهم الكتاب والسنة ويتمسك بهما: فلا تزيده كثرة النداء بتلك
الشعارات إلا مقتاً لها ولأصحابها، لأنها دعوة مائلة عن نهج الحق.
وهذه الدعوة التي تنتشر اليوم إنما تنتشر وفقاً لمبادئ قانونية وضعية ما أنزل
الله بها من سلطان.
فالقانون الدولي العام الذي يتفرع عنه القانون الدبلوماسي، ويعتبر جزءاً منه، الذي أكدته اتفاقية (فيينا) 1960م، والذي وضعته لجنة القانون الدولي التابعة
للأمم المتحدة: يوجب أول ما يوجب على كل دولة: مراعاة أحكامه؛ كما أكدت
ذلك المادة الأولى منه.
وهذا غير جائز؛ فإن الواجب على الدولة المسلمة أن تراعي أحكام القرآن لا
أحكام القوانين الموضوعة من البشر [1] .
أولاً: الحصانة الشخصية:
اعترف العرب بأحقية السفير واحترامه وعدم إهانته؛ لأنه مبعوث من أمم
أخرى، ولما جاء الإسلام شملت الدولة الإسلامية السفراء الوافدين إليها بالأمان
والسلام مدة بقائهم في بلادها حتى يعودوا إلى أوطانهم، وعُرف عن الدولة
الإسلامية منذ نشأتها الحرص التام على تمتع السفراء بما يعرف في الاصطلاح
الحديث المعاصر للقانون الدولي العام بقاعدة الحصانة الشخصية.
ثم إنه من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية [2] قاعدة تأمين المبعوثين
على أنفسهم حتى يعودوا سالمين إلى من بعثهم من أمرائهم ودولهم.
واحترام حرية السفراء سبق الإسلام بها القانون الدولي الحديث [3] ؛ يقول
الله (تعالى) : [وَإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَاًمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ] [التوبة: 6] .
قال القرطبي: (وإن أحد من المشركين) أي: من الذين أمرتك بقتالهم،
(استجارك) أي: سأل جوارك، أي: أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن،
أي: يفهم أحكامه وأوامره، فإن قبل أمراً فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه، وهذا
مالا خلاف فيه [4] .
والممثلون الدبلوماسيون هم الذين يقومون بتمثيل دولهم، وقد يريدون أن
يتعرفوا على تعاليم الدين أو عقد معاهدة ونحوه، ولذلك ضمن الإسلام سلامتهم حتى
يعودوا إلى أوطانهم سالمين، ومعروف منذ القدم أن هؤلاء الرسل يعطون مزايا لا
تتوفر لغيرهم.
ثم إنه يثبت الأمان للرسول الموفد من قومه، أو دولته إلى الدولة الإسلامية
بمجرد أن يطأ أراضي الدولة الإسلامية.
قال السرخسي (رحمه الله تعالى) : وإذا وجد حربي في دار الإسلام، فقال:
أنا رسول، فإن أخرج كتاباً عرف أنه كتاب ملكهم: كان آمنا حتى يبلغ رسالته
ويرجع، لأن الرسل آمنة في الجاهلية والإسلام، وهذا لأن أمر القتال والصلح لا
يتم إلا بالرسل، فلابد من أمان الرسل ليتوصل إلى المقصود، ثم إن الرسول لا
يكلف بإقامة البينة على أنه رسول وإنما يكتفي بالعلامة، والعلامة أن يكون معه
كتاب يعرف أنه كتاب ملكهم، فإذا أخرج ذلك فالظاهر أنه صادق، والبناء على
الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته ... وإن لم يخرج كتاباً أو أخرج
ولم يعلم أنه كتاب ملكهم فهو وما معه فيء، لأن الكتاب قد يفتعل وإذا لم يعلم أنه
كتاب ملكهم بختم وتوقيع معروف فالظاهر أنه افتعل ذلك [5] .
وقد ذكر أبو يوسف (رحمه الله) في كتاب الخراج: إن الحربي إذا قال: أنا
رسول الملك بعثني إلى ملك العرب، وهذا كتاب معي، وما معي من الدواب
والمتاع والرقيق فهدية إليه، فإنه يصدق ويقبل قوله إذا كان معروفاً، فإن مثل ما
معه لا يكون إلا على مثل ما ذكر من قوله إنها هدية من الملك إلى ملك العرب،
ولا سبيل عليه ولا يتعرض له ولا لما معه من المتاع والسلاح والرقيق والمال، إلا
أن يكون معه شيء له خاصة حَمَله للتجارة، فإنه إذا مر به فعليه العشور [6] .
وهناك كثير من الأدلة الواضحة على عصمة المبعوث أو الرسول واحترام
شخصه، وقد نص الفقهاء (رحمهم الله) في كتبهم على أن الرسل لا تقتل.
قال الأوزاعي: ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن لأن النبي-صلى الله
عليه وسلم-كان يؤمن رسل المشركين، ولما جاءه رسولا مسيلمة قال: لولا أن
الرسل لا تقتل لقتلتكما [7] ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا
رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة [8] .
وخلاصة القول: أن السفراء منذ القدم لا يتعرض لشخصهم بالإهانة أو
التضييق، وقد يحصل أن يمد السفير دولته ببعض المعلومات، وكذلك أيضاً يفعل
سفراء الدولة الإسلامية، إلا أن الفقهاء قرروا ألا يكون محض عمل السفير هو
التجسس أو الإفساد، فإن كان كذلك فإنه يُنبَذ إليه، أي: يبعد من البلاد ولولي
الأمر بما له من حق الرقابة على المستأمنين والرسل أن يلاحظ تحركاتهم ويراقب
نشاطهم وليس من الحكمة أن يركن إليهم، فإذا أحس منهم خطراً أبعدهم [9] .
ثانياً: الحصانة القضائية:
أما الحصانة القضائية التي تقضي بعدم خضوع رجال السلك الدبلوماسي
للولاية القضائية للدولة الموفد إليها، سواء في المسائل الجنائية أو المدنية أو
الإدارية، أما هذه الحصانة فإن التشريع الإسلامي يختلف فيها عن القانون الدولي،
فالمستأمن والسفير يسأل كل منهما مدنيّاً وجنائيّاً عما يرتكبانه من أعمال في بلاد
الإسلام [10] ، على أساس أن السفير أو الرسول يعتبر مستأمناً لدى الدولة
الإسلامية بأمان منحه الإمام، وهذا المستأمن بدخوله أرض الإسلام بعد إعطائه
الأمان يعتبر ملتزماً بأحكام الشريعة الإسلامية، ويسري عليه ما يسري على الذمي
من أحكام، فيعاقب الجميع في دار الإسلام دفعاً للفساد، ودفع الفساد واجب ملزم
لكل من يقيم بين المسلمين ولو مؤقتاً، والمجرم خاصة إذا كان إجراماً متعدّياً لا
يستحق الحماية، ولا يصلح لأداء وظيفته.
والحاصل: أن الأحكام الإسلامية تطبق على المستأمن فيما يتعلق بالمعاملات
المالية بالاتفاق، فإنه يمنع من التعامل بالربا، لأن ذلك محرم في الشريعة الإسلامية، وكل بيوعه ومعاملاته يطبق عليها النظام الإسلامي لأنه يتعامل مع المسلمين، فلا
يطبق عليه إلا شرع المسلمين، وذلك أمر بدهي، ولو كان التعامل بينه وبين ذمي
أو مستأمن فإنه خاضع للأحكام الإسلامية لا يحكم بغيرها، لأن السيادة للدولة
الإسلامية مفروضة على كل رعاياها.
وبالنسبة للعقوبات: فقد قرر الفقهاء أنه إذا ارتكب أمراً فيه اعتداء على حق
مسلم نزل به العقاب المقرر في الشريعة الإسلامية وطبقه الحاكم، وهو خاضع له،
وكذلك إذا كان الاعتداء على ذمي أو مستأمن مثله، لأنه يجب إقامة العدل وإنصاف
المظلوم من الظالم مادام مقيماً في دار الإسلام.
وإن كان الاعتداء على حق من حقوق الله (تعالى) كالزنا، فإن جمهور الفقهاء
قرروا أخذه بالعقاب المقرر، إذ هو لم يجئ إلى ديار المسلمين ليسعى فيها بالفساد.
وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال: إن العقوبات التي تكون حقّاً لله وهي ما
تكون حماية خالصة للفضيلة أو يكون حق الله فيها غالباً كالسرقة لا يقام الحد فيها
على المستأمن، وإن كان يضمن السرقة؛ لأن الحاكم المسلم هنا ليس له عليه ولاية
كاملة، إذ إن إقامته مدة معلومة، كما أنه قد يكون رسولاً لدولة، والرسل لا
تقتل [11] .
إذن: الحصانة القضائية التي يخلعها القانون الدولي على الممثلين
الدبلوماسيين لا يعترف بها الإسلام، ولهذا فإنّ فقهاءنا (رحمهم الله) لا يعطون
السفراء امتيازاً زائداً يفضلون به المستأمنين الدبلوماسيين على المستأمنين العاديين،
والقاعدة العامة: أن المسلمين والمستأمنين عامة: سفراءهم، وتجارهم، وسياحهم، وجميع فئاتهم خاضعون للأحكام والأنظمة الجنائية والمدنية التي تفرضها الشريعة
في بلاد المسلمين، ولا يعفى غير المسلمين إلا من العقوبة المتعلقة بحق الله (تعالى)
في قول بعض الفقهاء كما سبق ذكره.
والرأي المختار في تطبيق الحدود على السفير أو الرسول الممثل الدبلوماسي
الذي يتفق مع أدلة الشريعة أن السفير أو المبعوث أو الدبلوماسيين عامة يجب أن
يلتزموا بأحكام الإسلام ماداموا مقيمين في الدولة الإسلامية؛ لأن الموافقة على
إعطائهم الأمان لم يتضمن قبول مخالفتهم لأحكام الشريعة.
ولا يُسوّغ مبدأ المعاملة بالمثل أو الحصانة التي تمنحها بعض الدول للسفراء
أو المبعوثين أن يخالفوا أحكام الشريعة الإسلامية في أرض الإسلام، وهذا ما لا
يجوز شرعاً، ولذا: يجب تطبيق الحدود والقصاص على كل مخالف لأحكام
الشريعة الإسلامية سواء أكان سفيراً أو غيره؛ نظراً للمفسدة التي قد تحدث من
تعطيل هذه الحدود.
ورب قائل يقول: كيف يتم هذا والدول قد اتفقت على إعطاء الحصانة
القضائية للدبلوماسيين؟
والجواب: أن اتفاق الدول لا يعطل أمراً شرعيّاً ولا حدّاً من حدود الله، لأن
المسلمين يجب أن يلتزموا بشرع الله ولا يعقدوا أي اتفاق فيه تعطيل لأحكام الإسلام، وقد نهى الرسول-صلى الله عليه وسلم-عن ذلك فقال: كل شرط ليس في كتاب
الله فهو باطل [12] وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلح جائز بين المسلمين
إلا صلحاً حرم حلالا أو أحل حراماً [13] .
ولذا: فإن أي اتفاقية معاهدة لتبادل السفراء والمبعوثين أو للحصانة
الدبلوماسية تخالف شرع الله لا ينبغي أن يوافق عليها المسلمون، بل يجب أن
يعدلوها بما يتفق وشرع الله.
لذا: يمكن للدولة الإسلامية أن تعقد الاتفاقيات بشأن التبادل الدبلوماسي بينها
وبين الدول الأخرى، وتشترط في هذه الاتفاقيات أن تتم المعاملة بالمثل بحيث
تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، مقابل تطبيق قوانين الدول على السفراء المسلمين
بما لا يحل حراماً أو يحرم حلالا.
وفي هذا زجر ومنع للدبلوماسيين من ارتكاب الجريمة أو الإفساد في الأرض، ومدعاة لالتزامهم بأحكام الإسلام في الدولة الإسلامية [14] .
ثالثاً: حصانة عدم خضوع دار الوكالة
ومحتوياتها للقضاء الإقليمي:
لم تكن في فجر الإسلام بعثات دبلوماسية دائمة، وإنما كانت بعثات دبلوماسية
مؤقتة للقيام بعمل معين يغادر بعده المبعوث أرض الإسلام إلى مأمنه بعد انقضاء
أجل الأمان.
ثم إن الإسلام لا يعرف حرماً آمناً إلا الحرمين الشريفين في مكة والمدينة،
فليس لدور الوكالات السياسية عنده هذه الحرمة الغالية التي تمس سيادة بلاده.
بيد أن الدولة الإسلامية كانت تستقبل السفراء في منازل خاصة تستضيفهم
فيها، مثل منزل رملة بنت الحارث بن سعد في المدينة على عهد الرسول-صلى
الله عليه وسلم-، والمنزل الذي كان يعرف باسم دار الضيفان ودار صاعد في بغداد
حيث كانت بمثابة دار للضيافة، وفي أواخر أيام العباسيين كانوا يعطون داراً
يسكنون فيها، أو ينزلون في مدرسة من المدارس، أما في دمشق فكانوا ينزلون في
دار الضيافة، وكذلك في القاهرة.
وكانت الدولة الإسلامية مع ذلك تسمح للسفراء بممارسة حريتهم الكاملة في
إقامة شعائر دينهم، حتى إن الرسول-صلى الله عليه وسلم-سمح لوفد نجران
النصراني بأن يؤدي شعائره الدينية في المسجد؛ قال ابن القيم (رحمه الله) بعد أن
ذكر قصة وفد نجران: ومن فقه هذه القصة:
1- جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين.
2- تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم [15] ...
وذلك إذا كان هذا عارضاً، فلا يمكنون من اعتياد ذلك بإقامة الكنائس والمعابد
الدائمة.
هل يجوز للمبعوث الدبلوماسي إلى دار الإسلام منح الملجأ لغيره؟
سبق معنا أن هناك خلافاً في القانون الدولي في جواز إعطاء حق اللجوء
السياسي للفارين، وأن هذا الخلاف غير موجودفي دول أمريكا اللاتينية [16] ، أما
بالنسبة إلى الدول الأخرى فهناك نزاع بينهم، ولكن على فرض صحته، هل يجوز
للمبعوث الدبلوماسي في دار الإسلام أن يعطي الأمان لغيره من المستأمنين؟
الواقع أن ما يعطى للمبعوث الدبلوماسي من مزايا هي لتسهيل مهامه
ومباشرتها بكل حرية ومن باب المعاملة بالمثل، ومنح الأمان من الممثل الدبلوماسي
ليس من الأمور التي تدخل في اختصاصه، ولذلك نجد ابن قدامة (رحمه الله) يقول: ولا يصح أمان كافر وإن كان ذميّاً؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: ذمة
المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم [17] ، فجعل الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم،
ولأنه متهم على الإسلام وأهله فأشبه الحربي [18] . وقال ابن حجر في الفتح:
وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف كالكافر [19] ، ومعنى ذلك: أن الفقهاء
اتفقوا على أن الذمي لا يعطي الأمان لغيره من المستأمنين، إلا ما روي عن
الأوزاعي أنه قال: إن غزا الذمي مع المسلمين فَأمّن أحداً، فإن شاء الإمام أمضاه
وإلا فليرده إلى مأمنه [20] .
ولأن من شروط الأمان: أن يكون المؤمّن مسلماً كما تبين من الحديث السابق، فلا يصح أمان غير المسلم، فإذا كان الأمان من الذمي لا يصح: فمن باب أولى
ألا يصح أمان الرسول الذي يدخل دار الإسلام لمهمة خاصة ثم يعود إلى بلده،
ولأن الأمان إنما أعطي له من أجل تيسير مهمته، ولأن الأمان ولاية ولا ولاية
للكافر على المسلمين.
رابعاً: الحصانة المالية للممثل الدبلوماسي
وموقف الشريعة من ذلك:
الحصانة المالية أساسها في القانون الدولي المعاملة بالمثل، أما في الإسلام
فإن الفقهاء قرروا إعفاء المستأمن الرسول من العشور التي كانت معروفة عندهم؛
قال أبو يوسف (رحمه الله تعالى) : ولا يؤخذ من الرسول الذي بعث به ملك الروم
ولا من الذي أعطي أماناً العشر إلا ما كان معهما من متاع التجارة، فأما غير ذلك
فلا عشر عليهم فيه [21] .
فالمقصود بالإعفاء من العشور هو ما يشبه الإعفاء من الضرائب [22]
بالنسبة لهؤلاء الرسل، وهذا موجود في كلام فقهائنا (رحمهم الله تعالى) :
قال الشافعية: ولا يؤخذ شيء من حربي دخل دارنا رسولاً.
وقال الحنفية: إنه لا يؤخذ من الرسول الذي بعث به ملك الكفار عشر.
وقال كثير من الفقهاء: وإذا كانوا لم يأخذوا من تجار المسلمين ولا من رسلهم
شيئاً لم يأخذ المسلمين شيئاً منهم أيضاً.
وإذا اشتُرِطَ ذلك للرسل فينبغي للمسلمين أن يوفوا لهم بشرطهم [23] .
وقبل أن ننتهي من موضوع التمثيل الدبلوماسي يتبادر إلى الذهن سؤال مهم هو:
ما حكم التمثيل الدبلوماسي الدائم في وقتنا الحاضر؟
نستطيع أن نقول أنه بناءً على ما قرره الفقهاء من وجوب تأمين الرسل أو
السفراء القادمين إلى الدولة الإسلامية فإنه لا مانع من إقامة علاقة سياسية دائمة بين
الدولة الإسلامية وغيرها، فمثلاً نجد ابن قدامة (رحمه الله) قد بيّن أنه: يجوز
إعطاء الرسول أو السفير الأمان وحق الإقامة دون تحديد ذلك بمدة معينة، فقال:
ويجوز عقد الأمان لكل منهما (الرسول والمستأمن) مطلقاً ومقيداً بمدة سواء كانت
طويلة أو قصيرة [24] .
فابن قدامة يرى جواز إقامة السفير أو الرسول في الدولة الإسلامية بصفة
دائمة أو لمدة محدودة بزمن طويل أو قصير، وهو ما يشبه الآن ما يسمى بالتمثيل
الدبلوماسي الدائم.
إلا أنه من الخير أن يفطن المسلمون اليوم لكثير من التسهيلات والامتيازات
التي تمنح للأجانب، فإنه من المُسلّم به أن أمن الدولة هو مجموع مصالحها الحيوية
والواجب على ولي أمر المسلمين أن يهتم بهذه المصالح، سواء أكانت سياسية أو
اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو معنوية أو أدبية، كما يعمل على مقاومة كل من
يعمل أو يحاول الحصول على المعلومات من الدولة الإسلامية عن تلك الأشياء، أو
القيام بمحاولات تهدد الأمة الإسلامية في كيانها أو أهدافها الحيوية أو التأثير على
معنويات شعوبها أو التشكيك في مبادئها وقيمها، خاصة بعض الدبلوماسيين الذين
يستغلون حصانتهم الدبلوماسية في تحقيق بعض الأغراض التي تمس أمن وسلامة
الدولة الإسلامية.
هذا وإن كان بعض فقهائنا (رحمهم الله تعالى) أجازوا عقد الأمان للرسول أو
السفير بصفة مطلقة وبدون تحديد مدة معينة، إلا أن ذلك مربوط بشرط مهم وهو:
أن عقد مثل هذه العلاقات الدبلوماسية الدائمة تخضع لتقدير ولاة الأمر وأهل الحل
والعقد، وأن يكون محققاً لمصلحة الدولة الإسلامية.
ومعروف لدى القارئ الكريم القاعدة الفقهية المشهورة القائلة: إن تصرف
الإمام على الرعية منوط بالمصلحة وقد نص الشافعي (رحمه الله) على هذه القاعدة
بقوله: منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم [25] .
الخاتمة:
وبعد هذا التطواف بين الحصانات الدبلوماسية في الفقه الإسلامي والقانون
الدولي، نريد أن نوضح الأمور التالية:
أولاً: في العلاقات الخارجية (التمثيل الدبلوماسي) : يهتم النظام الإسلامي
بالغايات الشرعية لهذه العلاقات، بينما نجد النظام الوضعي يهتم بتحقيق مصالح
بشرية متقلبة، وكما قال أحدهم: ليست هناك صداقات دائمة وإنما هناك مصالح
دائمة ولذلك تتأثر هذه العلاقات في الأنظمة الوضعية بتحقيق مصالحها فقط.
ثانياً: إن صياغة أهداف العلاقات الخارجية، يجب أن تتم في ضوء المنهج
الإسلامي، الذي حددته الأحكام الشرعية؛ فلا ينبغي لأي دولة إسلامية أن تضع
برامجها وأهدافها في غياب هذه العلاقات، بحيث تصبح كالأهداف التي تضعها أي
دولة أخرى، فالله قد أكرمنا بالإسلام وجعله منهجاً لنا، فمهما ابتغينا العزة بغيره
أذلنا الله.
ثالثاً: يجب إظهار التميز الإسلامي في علاقتنا مع غيرنا؛ لأن تميزنا هو
الذي يميزنا عن بقية الدول الأخرى، وإذا لم نتميز بما لدينا من عقيدة إسلامية
أصبحنا والدول الأخرى سواء.
أخيراً: إن المصالح المشتركة لا تبرر التنازل عن حكم من أحكام الإسلام
الواضحة، إذ إن هذه المصالح يجب أن تخضع لحكم الإسلام، ولذلك لا يقول قائل: إن المصالح تجعل المسلمين يتنازلون عن مبادئهم، فالمبادئ أسمى وأعلى من كل
مصلحة، ومصلحة الدين فوق كل مصلحة [26] .
__________
(1) راجع: أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة فيه، ص (454-459) .
(2) سلطات الأمن والحصانات والامتيازات الدبلوماسية، د فاوي الملاح، ص219.
(3) العلاقات الدولية في الإسلام، كامل سلامة الدقس، ص139.
(4) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج8 ص75.
(5) المبسوط، للسرخسي، ص92، 93.
(6) الخراج لأبي يوسف، ص203.
(7) مسند أحمد: ج1، ص404.
(8) المغني لابن قدامة، ج8 ص400.
(9) آثار الحرب، وهبة الزحيلي، ص337.
(10) المرجع السابق، ص338.
(11) العلاقات الدولية في الإسلام، أبو زهرة، ص72، 73.
(12) جزء من حديث أخرجه: البخاري في البيوع، باب البيع والشراء مع النساء ج3 ص27، وفي الشروط، ج3 ص177.
(13) أخرجه: أبو داود في الأقضية، باب في الصلح، ج4 ص1920، والترمذي في الأحكام، باب (17) ج3 ص634، 635.
(14) انظر: العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، رسالة دكتوراة مخطوطة، مقدمة من سعيد المهيري، ص726، 727.
(15) زاد المعاد لابن القيم، ج3، ص638.
(16) راجع: سلطات الأمن والحصانات والامتيازات الدبلوماسية، ص698.
(17) أخرجه: البخاري في الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، ج8 ص10 وفي الجزية والموادعة، ج4 ص67 ومسلم في الحج، م1 ص994.
(18) المغني، لابن قدامة، ج8 ص398.
(19) فتح الباري، ج6 ص316.
(20) المصدر السابق.
(21) الخراج لأبي يوسف، ص 2045.
(22) وهذا أصل كان يفعله ملوك العرب والعجم جميعاً، فكانت سنتهم أن يأخذوا عشر أموال التجار إذا مروا بها عليهم، ومنهم الرسل فأبطل الله ذلك برسوله -صلى الله عليه وسلم- وجاءت فريضة الزكاة بربع العشر، فالضرائب بجميع أنواعها غير جائزة في الشريعة الإسلامية إلا في حدود ضيقة جدّاً جدّاً ليس هذا مجال تفصيلها.
(23) انظر: أحكم أهل الذمة، ج1 ص166 وما بعدها والمغني، ج8 ص518 ومغني المحتاج، ج4 ص247.
(24) المغني لابن قدامة، ج8 ص400.
(25) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص121.
(26) للاستفادة راجع: العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية.(91/52)