نص شعري
مسرح!
عبد الله محمد العسيري
يجر خطاهُ..
على «مسرح» من سآمةْ
ومن خلفه «ابنُ سلول» له أوجه عدةٌ
ليس فيها جباهُ!
وفي مقلتيه جهامةْ
وفوق الجبين حمولة ذل..
غدت للعبيد علامةْ!
«وقع هُنا»
يخط بريشته في الورقْ
هامساً وهو يحني العنقْ:
«سمعاً وطاعة!
نحن باعة..
وما كانت القدس والأرض إلا بضاعة!
وكلي قناعة..
غير أني أفضّل كتمان سري»
ويُغرقُ همساً:
«كيف أصنع لو أبصرَ الشعبُ أحداقَه السائلةْ!
ويدي القاتلةْ!
وجنينَ» السلام «الذي جاء ميتاً
وإن صفقت فرحاً فرقةُ» القابلةْ «! !
إن شرطي الحفاظ على السر حتى استلام الثمنْ» .
هو يهوي على الطاولة..
يغمس الآن ريشته.. والعفنْ..
يتحدث عبر روائحه! ..
عن حقيقة هذا الظلام الذي..
يتستّر متزّراً بـ «السلامْ» !
أفّ.. هذا زمان الوَهَنْ!
ما الوهن؟ !
أن تبيع دمي..
وتجعل دولارهم بعد قتلي الكفنْ! !
ثم تسلبه حين تبتعد العدساتُ..
لتأخذ أنت الثمنْ(77/51)
المسلمون والعالم
المسافة بين فلسطين وجنوب افريقيا
رؤية في حدثين
د. عبد الله عمر سلطان
لم يجد وزير الخارجية الأمريكي من عبارة لوصف دخول الشرطة الفلسطينية
إلى غزة وأريحا سوى القول: «إنها تجربة تشبه التجربة المثيرة التي نراها اليوم
في جنوب افريقيا» ، وما أبعد الشبه وأخبث المقارنة بين تجربة جنوب افريقيا
التي عادت لتُحكم وتسير وفق رأي أهلها، وبين «الجيب» الاختباري الذي
يحاول المستفيدون من وجوده أن يروجوا له، ويربطوا بينه وبين تجربة الأفارقة
الجنوبيين.
ولكن مهلاً، قد يكون هناك شيء من التشابه بين هذا الحدث، وذاك ربما
يكون هناك خيط رفيع يربط المشهدين، والمسرحين، والجمهور الفاغر فاه لهثاً
وراء ما تخبئه بقية الفصول التي اعتاد الجميع أن تكون مأساوية وفي اتجاه واحد،
والجمهور الذي يهنأ بلذة النصر على الظلم بعد كفاح مرير، ولنتأمل ملامح الشبه
بين الروايتين:
أولاً: كلا المشكلتين في الجنوب الأفريقي أو فلسطين المحتلة بدأت مع انتشار
الرجل الأبيض وحضارته المشينة، التي كانت تحمل الإنجيل المحرّف بيد بينما
تنشغل الأخرى في صب الرصاص والبارود باتجاه سكان العالم من غير البيض،
الرجل الأبيض الذي ينظر إلى نفسه باعتباره مخلوقاً فوق البشر الآخرين كان من
حقه أن يعلن وهو يطأ القدس (بظلالها الإسلامية) انتهاء الحروب الصليبية كما فعل
الجنرال اللنبي أو أن يمارس الصيد البشري في حق سود جنوب افريقيا وملونيها
لأنهم دون البشر، الذين يحملون الدماء والأعين الزرقاء.
ثانياً: كلا الكيانين العنصريين في جنوب افريقيا أو في كيان الصهاينة لم يكن
ليكتب له الاستمرار والبقاء لولا الدعم الغربي المادي والمعنوي المباشر ورغم
تعاقب الشعارات التي بدأت منذ إطلاق الفكرة السخيفة التبريرية بأن الاستعمار جاء
ليطور الشعوب المحرومة، وحتى شعارات «ولسون» وعصبة الأمم في تقرير
حق الشعوب، إلى إعلانات الأمم المتحدة ودساتيرها الطنانة بالرغم من توالي كل
هذا الطنين الهائل، فإن الغرب لم يغير موقفه العملي من هاتين التجربتين
المروعتين، بل ظل ينظر إلى هذين الكيانين باعتبارهما امتداداً حضارياً له بكل
شمولية التجربة الحضارية وتعقيدها.
ثالثاً: ظلت جنوب أفريقيا كما ظل العدو الصهيوني نموذجاً آلياً لما تعنيه
العنصرية والتفرقة على أساس الجنس أو العرق (وأهم من ذلك الدين) فالآبارتايد
التي تعني بلغة المستعمرين البيض التفرقة على أساس اللون والصهيونية كلاهما
كانا ولازالا وجهين لنفس العملة التي جرمها العالم ودوله ومنظماته الدولية عبر أكثر
من عقد، وحتى سقوط نظام التفرقة في جنوب افريقيا التي ظلت تجربتها ممقوتة
ومقاطعة دولياً، بالرغم من الخطوات والمبادرات الإيجابية للبيض لحل هذه
المعضلة، بينما حظيت الصهيونية بدعم أمريكا خصوصاً حتى أجبر العالم في ظل
«النظام العالمي الجديد» أن يبتلع اعتراضه ويدوس على قراراته السابقة لكي
تشرق شمس الصهاينة في ظل الحرب الصليبية.
رابعاً: في ظل هذا المشروع الغربي القذر، وبالدعم الدولي لدوله المنتصرة
في هذا القرن، ومع تزامن الاعتراض الدولي الصوتي غالباً والدبلوماسي أحياناً،
أظهرت الشعوب الأفريقية المجاورة، والدول العربية المحيطة بفلسطين، فشلاً تلو
فشل، وكشفت المواجهة المفروضة على هذه الأمم عن فجوة حضارية هائلة،
وغباء سياسي لا مثيل له، لاسيما حين كان يحارب المهزوم والمظلوم بسلاح ظالمه
وعقيدة من قهره، وهذا بحد ذاته كان دافعاً لطرح أسئلة ضرورية وبدهية حول
الكينونة والذات والجذور الحضارية، وإجابات هذه الأسئلة هي البداية الصحيحة،
لتصحيح المعادلة القائمة.
خامساً: وهنا، ومع تراكم هذه العوامل هب السود في افريقيا مطالبين
بحقوقهم وأرضهم وثرواتهم ... ، بل قبل ذلك بإنسانيتهم، بينما كان شعب فلسطين
المسلم يدفع بالدم الأحمر كل يوم ليغذي روح الجهاد والانتفاضة في وجه الظالم،
ومن يقف وراءه ويستتر بدرعه وآلته العسكرية العجيبة.
أنا أزعم أن عوامل الشبه وتقاسيم الملامح تتنتهي هنا، ليبدأ مفترق طرق قاد
تجربة جنوب افريقيا نحو الانتصار، بينما قاد قضية فلسطين نحو وضع أقسى من
الاحتلال المباشر، وأفظع من التسليم بمفرداته التي تلاشت مع الدخول الهزيل
لقوات القمع الفلسطينية الناشئة.
لماذا نجح «مانديلا» ؟
هذا التساؤل الملح طرحه العديد من المراقبين والمهتمين والمندهشين، وهم
يرون «نلسون مانديلا» يُقْسم رئيساً للدولة الجديدة في جنوب افريقيا، وأكثر ما
أثار دهشة هؤلاء هو مقارنة مصير فلسطين المظلم بالرغم من عدالة قضيتها مع
واقع مشروع «مانديلا» الذي انتهى إلى انتصار باهر ولهذا التساؤل مكانه
المشروع وأهميته البالغة.
لقد اجتمع لمشروع «مانديلا» القائم عدة عوامل لابد من وضعها في
الحسبان عند تناول القضية، بعضها يمكن الإفادة منه كونه تجربة بشرية وتحركاً
إنسانياً يستفاد منه، لاسيما لأولئك الذين تصدوا لحل مشكلة فلسطين من أبناء جلدتنا، نجح «نلسون مانديلا» بعد ثمن باهظ وكفاح لاشك في مرارته، فقد نفي هذا
الرجل الذي حمل قضية أبناء جلدته إلى جزيرة روبن عام 1964 م ومكث في
السجن أربعة وعشرين عاماً، حمل فيها هم أمته، ويقول تعليقاً على ذلك: «
طردت من الجامعة في أول سنة لي فيها، وكنت ابن تسعة عشر عاماً بعد أن قدت
اعتصاماً داخل مبنى الجامعة، بعدها عرفت أن هذا الطريق مليء بالمفاجآت وأن
هذه البداية، مجرد بداية» ، ولم يثن هذا الأمر «مانديلا» عن قناعته، فظل
تحت المراقبة والملاحقة حتى اعتقل عام 1956 م لمدة عام بتهمة إثارة الشعب، ثم
أعقب ذلك قرار بحظر نشاط «المؤتمر الوطني الأفريقي» فاندفع «مانديلا»
نحو العمل السري وانشأ عام 1961 م جناحاً عسكرياً تابعاً للمؤتمر، وإثر ذلك
اعتقل ثم أدين عام 1964 م، وحكم عليه بالسجن المؤبد وحينذاك قال: «ظننت
أن الحياة لا طعم لها بعد شهور من السجن.. كدت أن أنس ما معنى الحياة، لكني
لم أنسَ أنني كنت أعيش لقضية تستحق أن أدفع حياتي ثمناً لها فضلاً عن أن
أنساها..» .
ولنا أن نقارن بين هذا الرجل الضال الذي كان يتخذ من الماركسية نموذجاً
بالرغم من نصرانيته، وبين قيادات العار التي قادت قضية المسلمين الأولى كانت
قيادة المنظمة تعيش في الفترة التاريخية نفسها، ولكن ممارستها أبعد ما تكون عن
طريق التضحية التي مارسها كافر، فضلاً عن متابعة طريق الحق والرشاد، لقد
رفض «مانديلا» أن يفرج عنه ليمضي كدمية تقبل بشروط المؤسسة الحاكمة في
جنوب افريقيا، وفضل السجن على الحرية العوراء، حدث هذا مرتين عام 1973
م وعام 1984 م، ولما كان يسأل كانت إجابته: «لقد سجنت لرفض التفرقة
العنصرية، وسأقبل الإفراج عني شريطة أن ترفع هذه التفرقة البشعة» ، لقد قبل
«مانديلا» السجن لمدة ربع قرن، ثم اضطر الجلادون أن يفرجوا عنه بعد ما
رأى العالم كيف يستطيع فرد أن يرتفع بقضية إلى الآفاق البعيدة، وكيف تستطيع
قيادات أخرى أن تهوي بشعبها وتاريخها ودمائها إلى تلك الهوة السحيقة، وهي
تعيش عيشة الأباطرة، وتمارس النضال على الفرش الحريرية والبسط الحمراء،
ثم تُقْتَنَص كالطيور المرعوبة في قصورها الصغيرة أو على الشواطىء حيث لقي
بعض قادة التهريج النضالي لقضية فلسطين حتفهم وهنا يحضرني مقال «زهير
محسن» الذي اغتيل في مدينة «كان» الساحلية بفرنسا حيث كان يمارس النضال
السياحي! ! بعيدة هي القيادات الفلسطينية بأنانيتها وتهريجها وقصر نظرها ونزقها
وطفولتها السياسية، مقارنة بالمواصفات القيادية المتميزة التي صقلتها التجربة
والممارسة في المثال الذي نطرحه للمقارنة.
لقد علق «جفري بارثولت» المعلق الأمريكي على هذا البون الشاسع بقوله:
«قيادة تصنع الحدث وأخرى تلهث لتظل في دائرة الحدث» ، ونحن نقول: قيادة
تعرض عن شعبها وعقيدتها وعمقها لتظل تحكم ولو شبراً من الطين وأخرى ترفض
أن تتاجر بآلام من ائتمنوها على قضيتهم حاضرهم وغدهم.
إن من الظلم بمكان أن نقارن بين القيادتين رغم المعطيات المتعددة التي
سنحت لعرفات وشركاه فأصروا دوماً على أن يختاروا مقعد القيادة بأي ثمن ولو كان
هذا الثمن باهظاً وغالياً وثميناً، كقيمة القدس ومنزلة الأقصى في قلب كل مسلم،
إن من المفارقة حقاً هنا أن شعب فلسطين قد خاض حرباً ضروساً في وجه الاحتلال
تزيد ضراوتها وتضحياتها على تلك التي شهدتها جنوب افريقيا، لكن جهاد الشعوب
قد يذهب أدراج الرياح في ظل قيادات الترهل والعجز، وهذا أبلغ الدروس التي
يجب أن يستفيد منها الشعب الفلسطيني الآن، وهو يشهد بالرغم من الاتفاق الهزيل
ذروة اشتعال المقاومة والجهاد، فالقيادات التي سطرت الاتفاق الهزيل بأي ثمن
سيطويها الزمن، وحينها ستُظهر الأحداث القيادات الراشدة التي تصبر وتصابر
وترفض الانحناء إلا لربها، وهناك ستبدو تجربة «مانديلا» حتى من الناحية
القيادية ضئيلة، ولكم أن تتأملوا بذرة الصمود التي وضعها الشيخ المقعد المصابر «
أحمد ياسين» ، وهو يواجه بجسده المشلول أعتى قوى الجبروت الوحشية.
وإذا وضعنا في الحسبان الفارق بين القيادتين، نجد عاملاً آخراً لا يقل أهمية
عن هذا العامل، وهو يتمثل في جوهر الصراع في فلسطين، حيث يمثل ذلك
الصراع امتداداً للحرب الصليبية اليهودية التي شنت على أهل التوحيد المضطهدين
في الدعوة، وحتى ظهور الملاحم والفتن، فالحرب في جنوب افريقيا كانت لا
تحمل البعد العقدي، بعد أن روض الرجل الأبيض افريقيا السمراء ونصّرها
وألحقها بمنظومته الحضارية، وإن كان ينظر إليها نظرة العبد المقود والمسيحي
الوضيع، فالإسلام إذاً غائب عن هذه المعادلة، وفي ظل التغيرات الدولية وانقشاع
خطر الشيوعية، وتحول «مانديلا» من شيوعي أحمر إلى متعصب للرأسمالية
وأنصار الليبرالية بمفهومها النصراني وجذورها اليونانية فلا يوجد سبب للقلق
داخلياً أو خارجياً، فهذه الدولة ستظل انعكاساً لحضارة الرجل الأبيض تستورد قيمه
ومبادئه وديموقراطيته، وستهتم بقضاياها الداخلية وكيف تحسن من وضع الإنسان
الأسود المسحوق، الذي سيدور في النهاية حول رحى القوى الغربية، «لن يكون
(مانديلا) خطراً على الحضارة الغربية فليس لديه (جرثومة الأصولية) أو فكرة نشر
(حضارة مغايرة) » كما يقول المعلق الأمريكي «ساوندرز» ، بينما نرجع إلى
فكرة «جفري برثولت» عن ماهية الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يعلق على
دخول اتفاق غزة/أريحا أولاً حيّز التنفيذ بقوله: «سواء أكان هذا حسناً أو سيئاً فإن
جنوب افريقيا اليوم تتعامل مع واقعها الشاب، ومهما كان الماضي قاسياً وخاطئاً
فإنه من البقايا التي ينظر إليها بسماح وعفو، أما هناك في الأراضي المقدسة فإن
الوضع يختلف فالتاريخ حاضر، منذ إبراهيم عليه السلام الذي يعتبر نبياً لدى
اليهود والمسلمين، وهذا الماضي يطل كسحابة داكنة يحكم الحاضر ونقاشاته،
ويسحبه إلى الوراء بالرغم من توالي القرون ... » .
الصراع حتى في منظور أولئك المحايدين نظرياً صراع عقدي حضاري
طويل ولاهث لا يمكن حله على الطريقة «المانديلية» ، لأن المعادلة فيه أن نكون
أو لا نكون، والغرب يرفضنا مهما تصنعنا الذل وتعلمنا العبودية لأن الحق أخبرنا
أن هذا النفق ليس له من مخرج إلى أن نتبع ملتهم كما اتبع «مانديلا» ملتهم،
فرضوا عنه، ولكن ضمن المعادلة نفسها، التابع والمتبوع، السيد والعبد، الأبيض
«السوبرمان» والمملوك المنبوذ..
ونتيجة لذلك العامل وذاك الإطار، فقد نجح «مانديلا» حينما أثبت للغرب
أن قضيته معه محصورة في رفع التفرقة غير الإنسانية التي تمارس ضد السود من
بني جلدته، وفي سبيل هذا سعى منذ خروجه من السجن قبل ثلاث سنوات إلى
إثبات اندماجه العضوي ضمن قواعد ومفردات الغرب النافش ريشه اليوم، أعلن
بعد خروجه من السجن تمسكه بالليبرالية الغربية وديمقراطيتها وتجاربها الغربية
الرائجة، ثم أعلن بلا مواربة أنه كان مخطئاً أو مبالغاً في إعجابه بالشيوعية أو
الاشتراكية ورغم كونهما نبتتين غربيتين ثم خطى الخطوة المهمة والحاسمة حينما
أدرك بعد جولته التاريخيةفي الولايات المتحدة بُعيد الإفراج عنه، أن عليه أن
يتقرب ويتودد ليهود العالم، فأعلن دون تردد عن بالغ أسفه واعتذاره عن موقفه
السابق والقائل بأن الصهيونية صورة من صور العنصرية، إنها ليست كذلك، هكذا
اكتشف الزعيم الواقعي قواعد اللعبة وحصل على جواز السفر الذي قُبل بموجبه
عضواً بارزاً ورصيداً مهماً، فزاد هذا من بريقه ولمعانه، فقصته وتاريخه وكفاحه
ثروة وجهت نحو رصيد هائل لنجاحات الغرب، ومن يقبل أن يوظف كل هذه
المعطيات المهمة في اللحظة المناسبة وبالأسلوب الذي يكفل إعادة التأهيل، ثم
الانطلاق في شرايين هذه الحضارة المتوحشة التي توظف كل من يقبل بشروطها
وقواعد لعبتها.
الحقيقة التي تصفعنا:
الحقيقة التي تصفعنا شئنا أم أبينا أن نموذج غزة/أريحا أولاً هو نموذج إقليم
«بانتوستان» وهو إقليم كان يقطنه السود في ظل الحكم العنصري البائد،
ويحكمون أنفسهم ذاتياً ويمارسون فيه ضبط العناصر التي تقلق أمن البيض كما
يجمعون القمامة بطريقتهم الخاصة، ويوزعون الحصص الدراسية حسب اتفاقهم،
ويحق لهم سماع طبولهم التقليدية، وإصدار الطوابع التي تحمل اسم «الكانتون» !!، لكن كان لهم حرية أكبر في المجال الاقتصادي وعبور البشروالتجارة الخارجية.
لقد رفض «مانديلا» دولة «بانتوستان» ليقبل «فخامته» بأقل منها بكثير
بعد شهور من إراقة ماء الوجه والمفاوضات الشاقة التي انتهت بمهرجان التوقيع
الأخير الذي أثبت للعالم الذي كان يتابع حفل الاتفاق أنه يشاهد مسرحية بكل ما
تعنيه الكلمة من قيمة ترفيهية، وأن التهريج السياسي قد يكون أكثر فكاهة من
الترفيه التجاري القائم.
إن الحقيقة التي تصفعنا اليوم تقول لنا مرة أخرى: إن علينا أن نختار موقعنا
في الوجود، فإما أن نكون وإما أن لا نكون، لأن الحل المطروح والقيادة الحالية
في شأن القضية الفلسطينية يقودان حتماً إلى الإندماج في الكيان الصهيوني،
والالتحاق بركب المنتصر الذي قهرنا بالسلاح الفتاك دهراً، ثم روضنا إلى شباكه
تحت شعار السلام والاستقرار والسوق الشرق أوسطية.
إن العالم اليوم لا يعترف إلا بلغة القوة ومفرداتها، ولا يؤمن إلا بجبروت
المنتصر الذي يمارس استعماره بشتى الطرق والوسائل السياسية والاقتصادية
والإعلامية، ومن كان يصدق أو يلهث وراء المبادىء والشعارات فعليه أن يتأمل
في واقع البوسنة، ودفاع «مانديلا» السابق عن حق فلسطين في الوجود وتجريم
الصهيونية الغاشمة وجرائمها.
لازلت أتذكر دفاع بعض الدعاة والإسلاميين الحار عن «مانديلا» الذي وقف
في وجه الصهيونية واليهود، أما اليوم فالأحداث المتوالية والحقائق الدامغة لا تفسح
مجالاً لأنصاف الحلول أو التمييع أو التسطيح، ولهذا نال شعب افريقيا الجنوبية
حريته وفق قانون ومعايير الغرب النصراني، بينما نال شعب فلسطين ومجاهدوه
المصرون على المقاومة هدية رمزية وهي قوة قمع تطارد فيه روح الإسلام الذي
هو المستهدف في هذا الصراع، وشتان بين مظلوم ينال حريته، ومقموع يصب
عليه مزيد من القهر والعسر الذي لابد أن يعقبه اليسر، حسب وعد الله المحتوم.(77/52)
نص شعري
.. في الغابة الجديدة..
فيصل بن محمد الحجي
أنا في الغابة قد أحدق بي ... خطرٌ يُنذرني بالعَطَب
أنا في الغابة وحدي أعزلٌ ... خائفٌ مضطربٌ كالأرنب
ضارياتُ الغاب حولي كشّرت ... عن نيوب كسياط اللهب
ليس لي منها نصيرٌ منقذٌ ... ليس لي في طوقها من مهرب
والردى يرقبني من مخلب ... أو من الناب وسُم العقرب
ما جدى الحيلة حين امتزجت ... قوة الليث بمكر الثعلب؟
آه يا ربي أغثني.. إنني ... تائبٌ.. والأمن أقصى مطلبي
فبدا (سعدٌ) صديقي قادماً ... حاملاً سيفاً شديدَ المضرب
فتعانقنا فيا.. يا مرحبا ... بصديق مُسعف في الكُرَب
وجلسنا بأمان راسخ ... وتوارى الخوف خَلفَ الحُجُب
وتذاكرنا لقاءات الصبا ... وتهادينا قطوفَ الأدب
واختلفنا بحديث عابر ... وتشاتمنا لأدنى سبب
وتفرقنا كما يقضي الجفا ... عندها أيقنتُ أني عربي! !
* ... * * *
لم تكن أعمالنا تودي بنا ... لو تخلقنا بأخلاق النبي!(77/61)
المسلمون والعالم
رسائل عاجلة
إلى الشعب اليمني المسلم
أيمن بن سعيد
وصلتنا هذه المقالة من الكاتب الكريم، وهي في الحقيقة لسان حال كل مسلم
مخلص لإخوانه شعب اليمن، لعل الله أن ينفع بها كل من تصل إليه منهم.
-البيان-
أيها الشعب اليمني المسلم في كل مكان، يسرنا أن نبعث إليك هذه الكلمات من
منطلق الأخوة، وواجب المحبة التي فرضها الله بين عباده المؤمنين رغبة منا في
القيام بواجب النصح الذي أوجبه الله تعالى على المؤمنين تجاه أنفسهم وإخوانهم،
مخاطبين من خلالها إيمانك وحكمتك لما جاء في الحديث الصحيح: (الإيمان
يمان ... ) ، مذكرين بسابقتك في التمكين لهذا الدين ونشره في جهات كثيرة من الأرض، وببذلك في سبيل تحقيق ذلك النفس والنفيس، ونحن أيها الشعب المؤمن الأبي حين نتوجه إليك بتلك الرسائل نخاطبك من خلالها بأسلوب الناصح المشفق عليك، وحاشا لله أن يكون هدفنا التعالي عليك، أو التشفي منك لما ينزل بساحتك، وذلك لأنك جزء منا ونحن جزء منك، فما يصيبك يصيبنا، وما يسوؤك يسوؤنا، قال - صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، ولذا فإننا نحرص على الوضوح والمصارحة لك قدر طاقتنا، مبررين ذلك بعلمنا لحبك للحق، وسعة صدرك له، واستعدادك لقبوله.
أيها الشعب اليمني المسلم: إنا نتابع بقلق وخوف، ما يقوم به بعض القادة
الحاكمين بأمرهم على أرضك من سفك للدماء، وإزهاق للأرواح وتدمير مكتسبات
الأمة وخيراتها، وكل ذلك من أجل الحفاظ على مناصبهم وتثبيت كراسيهم،
واستمرار نفوذهم، ونظراً لوجود غبش في تصور الكثيرين وبخاصة من أبنائك
تجاه تلك الأحداث، ووجود تباين كبير في المواقف من شخص إلى آخر، قمنا
بتوجيه هذه الرسائل المختصرة إليك، والتي نلقي من خلالها بعض الضوء على ما
يمر بك اليوم من أزمة، محاولين تنبيه أولئك الأشخاص إلى الموقف الحق في هذا
الأمر الجلل، علها أن تجد قبولاً فينفع الله تعالى بها ويسدد، وجاء الآن دور
الشروع في تلك الرسائل:
الرسالة الأولى الذنوب سبب الأزمة:
أيها الشعب اليمني المسلم من الأمور المتقررة في الشرع أنه مانزل بلاء بأحد
فرداً أو شعباً إلا بذنب، وما حلت مصيبة إلا بمعصية، قال تعالى: [وما أصابكم
من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير] [الشورى: 30] ولقد انتشر في
الساحة اليمنية في السنوات الأخير العديد من الذنوب والمعاصي فمن قيام الدولة
الموحدة على دستور علماني مشبوه كان لعلمائك الأفاضل منه موقف صريح
معروف، إلى إفساح المجال للأحزاب العلمانية على اختلاف مشاربها لتقدح في
الدين، وتجذب إليها بعض أبناء المجتمع ساعية إلى إقصاء شرع الله تعالى ونشر
التغريب والعلمنة في المجتمع تحت شعاراتها البراقة المختلفة كالتحديث والتطوير
والعدالة ... الخ، إلى محاربة الدعاة والمصلحين ومحاولة إجهاض مكتسبات الأمة
الموافقة للشرع في التعليم وغيره، إلى تجديد الكنائس في بعض المدن والسماح
لوجود نشاط تنصيري قوي في القطاع الصحي وبين العاملين من المسلمين في
شركات التنقيب عن النفط، إلى انتشار الربا، وتفشي صناعة الخمور وتعاطيها،
إلى عودة ظهور أهل البدع والخرافة وبقوة من رافضة وصوفية وإسماعيلية، إلى
ضعف القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، إلى
ازدياد تعلق كثير من الناس بالدنيا وقلة استمساكهم بتعاليم الشرع، إلى اختلاف أهل
الخيروتفرقهم وعدم اجتماعهم على كلمة سواء، إلى غير ذلك من المنكرات الكبيرة
والصغيرة التي لا تخفى.
أيها الشعب اليمني المسلم: إن الطريق إلى تجاوز المصائب والبلايا التي
حلت بك يكمن في العودة الصادقة على وجه السرعة إلى الله تعالى، والالتزام بكل
جد بشرعه المطهر، والقيام بنبذ تلك المنكرات ومقاومتها سواءً أكانت عامة أو
خاصة، وذلك لأنه ما دفع بلاء إلا بتوبة، قال الله تعالى: [فلولا كانت قرية
آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة
الدنيا ومتعناهم إلى حين] [يونس: 98] .
الرسالة الثانية ضرورة الالتفاف حول العلماء والدعاة:
أيها الشعب اليمني الأبي: إن العلماء الناصحين، والدعاة المخلصين هم
مصابيح الأمة وشموعها التي تضيء لها الطريق في الظلم، وتقودها إلى بر الأمان
في النكبات والفتن، وقد أمر الله تعالى بسؤالهم والأخذ عنهم في قوله عز وجل:
[فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون] [النحل: 43] ، وذلك لأنهم العالمون بدين
الله تعالى، العاملون بتعاليمه، الداعون إليه، المنافحون في سبيل تمكينه،
المحاربون لأعدائه، فوجب لذلك الالتفاف حولهم، للأخذ عنهم، ومناصرتهم وشد
أزرهم أمام أعدائهم الذين يكيدون لهم، ويمكرون بهم، لا لأشخاصهم، وإنما لما هم
عليه من دعوة للحق ومنافحة للباطل.
أيها الشعب اليمني: إننا حين ندعوك إلى الالتفاف حول علمائك ودعاتك
المخلصين، نحذرك في الوقت نفسه من فئة تريد الاندساس في صفوفهم لتمزيق
كلمتهم، وتحذير الناس من الأخذ عنهم، وهم قلة ولله الحمد، ولكن علامتهم
الواضحة التي لا يستطيعون إخفاءها بالإضافة إلى انحراف مناهجهم وما هم عليه
من خرافات وبدع وحب لمتع الحياة وشهواتها ولاؤهم لأعداء الدين من العلمانيين
والاشتراكيين، ومحاولة تبرير انحرافاتهم وجرائمهم في حق الدين والأمة، والسعي
إلى جعل سيئاتهم في نظر الشعب حسنات، وشرورهم خيرات.
الرسالة الثالثة الوحدة مطلب ومكسب:
أيها الشعب اليمني: إن الوحدة بين الشعوب الإسلامية ومنها الوحدة بين
اليمنيين مطلب يدعو إليه الشرع، ويحث عليه العقل، وتحتمه المصلحة وهو
طريق العودة إلى الأصل بعد أن مزقه الأعداء وشتته المستعمرون إلى دويلات
هزيلة، إلا أن الوحدة التي تقوم على دستور علماني مشبوه وقيادات وأحزاب لا هم
لها إلا ذواتها وأطماعها الشخصية، لن تؤدي إلا إلى مزيد من الفرقة والتمزق،
ولن تكون الوحدة عندها إلا وسيلة تتعارض أو تتوافق مع هوى القيادات، وتتناقض
المواقف بالتالي بحسب ما تقدمه هذه الوحدة باعتبارها وسيلة يستخدمها كل طرف
سلباً وإيجاباً في صراعه مع الأطراف الأخرى، وتبقى الوحدة الحقيقية التي تجمع
للأمة قوتها وتصون حماها ويحكم فيها شرع الله ومنهجه، مطلباً للأمة ومكسباً
تحرص عليه وتسعى إليه، مهما سببت هذه النماذج المشوهة من انطباعات سيئة
عن الوحدة.
الرسالة الرابعة الأخوة الإسلامية أولاً:
أيها الشعب اليمني: أوجب الله تعالى التآخي والتآزر بين المؤمنين، ودعاهم
إلى التواد والتناصر، فقال عز وجل: [إنما المؤمنون إخوة] [الحجرات: 10] ،
وقال سبحانه: [والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر..]
[التوبة: 71] ، وحذر تعالى من تأخير مرتبة تلك الأخوة الإيمانية، وقيام
الشخص بتقديم أخوة النسب أو الوطن عليها، فقال عز وجل: [قل إن كان آباؤكم
وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله
لا يهدي القوم الفاسقين] [التوبة: 24] .
ولقد أحدثت الأزمة اليمنية شرخاً في مبدأ الأخوة الإيمانية لدى أفراد كثيرين،
حيث ظهرت الكراهية، ووجدت نفوس مريضة ترضى بنزول البلايا وحلول
المصائب على الآخرين، بل وتتمنى حدوث ذلك بهم، بالإضافة إلى كونه قد برز
في الساحة دعاة القبلية والمناطقية، وبدأ أشرار بإثارة التعصب المذهبي بعد أن كاد
أن يخمد، رغبة منهم في تفجير الوضع وقيام الحرب الأهلية بين أبناء القبائل
والمناطق والمذاهب المختلفة، ولعل أكبر الجهات جرماً وأعظمها تسبباً في ذلك
الإعلام الكاذب الذي تأثربه الكثيرون ممن ضعف وعيه، وغاب لديه أثناء تبنيه
المواقف وحكمه على الآخرين الانطلاق من نصوص الشرع وجعلها دليلاً وحاكماً
في ذلك، أو ممن ليس بضعيف الإيمان ولكن قلت معرفته بالمقاصد وضعفت نظرته
إلى المرامي والغايات التي يطمح إلى تحقيقها من يقف خلف تلك الوسائل الإعلامية
المختلفة.
أيها الشعب اليمني: وعلى ضوء ذلك فإن الحل يكمن في الاستمساك
بنصوص الكتاب والسنة، والتأسي بهدي سلف الأمة في العلم والعمل والدعوة
والمبادرة إلى تقديم الأخوة الإسلامية على جميع الروابط والوشائج المختلفة سواءً
أكانت قبيلة أو منطقة أو غير ذلك، والسعي إلى تطبيق لوازم تلك الأخوة من محبة
ونصرة وتكافل في أرض الواقع، مع القيام بنبذ ما وراء ذلك من كراهية وحقد،
وعصبية وتعد على الآخرين في أموالهم أو أعراضهم أو أنفسهم.
أيها الشعب اليمني المحب للحق: يا ترى هل يبادر من أفرادك من قصّر أو
انحرف في هذا الجانب إلى تلافي أخطائهم والتكفير عن زلاتهم؟ هذا ما نظنه بهم
ونرجوه منهم
الرسالة الخامسة خطورة تحقق الانفصال:
أيها الشعب اليمني: إن مخاطر كبيرة تنتظرك أنت، وستنعكس على بلادك
حينما يتمكن الحزب الاشتراكي من السيطرة، حيث سيقوم بالقضاء على خصومه،
كما أنها تنتظر جنوب وشرق بلادك في حال تحقق الانفصال وتمكن الحزب من
الانفراد بها، ولعل أبرز المخاطر المتوقعة: تطبيق الحزب لما يسميه بمشروع
الحزب الحضاري الذي يصفه على ألسنة عدد من مسؤوليه بالتحديث والتطوير
وتجاوز النظم القديمة والقيم البالية! ! وملخص حقيقة ذلك المشروع: تغريب
المجتمع وعلمنته، وإقصاء شرع الله تعالى ومحاربته وإحداث تغيير في قيم ومبايء
شعبنا المسلم عن طريق علمنة المناهج وإقصاء أهل الخير والصلاح عن مواقع
النفوذ ومراكز التوجيه، وضرب الصحوة الإسلامية عن طريق تجفيف منابعها،
وتحجيم انتشارها ومطاردة أفرادها بأي ذريعة من مثل: مساندتها لمن سيسميهم في
حال قضائه عليهم بالقوى الشريرة أو الاتهام بالتطرف ودعم الإرهاب ... الخ، هذا
بالإضافة إلى تشجيع السفور والاختلاط، وتمرد المرأة على القيم والمباديء
الإسلامية.
وهناك خطر آخر وهو إبراز الحزب لعلماء البدعة والخرافة كالرافضة
والصوفية حلفاؤه منذ قيام الوحدة إلى اليوم وجعلهم (وجهه الإسلامي) واستخدامهم
ورقة بيده يضرب بها الحركة الإسلامية السنية على اختلاف فصائلها متى شاء،
كما أن الحزب سيسعى في حال انتصاره إلى إنهاء جميع خصومه في الشمال
والجنوب، وجعل الساحة فارغة له ولحلفائه، مما يعني إسالة أنهار من دماء أبنائك
أيها الشعب في جهات كثيرة من أرضك.
أيها الشعب اليمني المسلم: ونحن نحذرك من خطورة تمكن الحزب
الاشتراكي وكل حزب علماني، ونقوم بدعوتك إلى مواجهة تلك المخططات بكل
سبيل من الآن قبل أن يأتي وقت تندم فيه ولات حين مندم، فإن ذلك لا يعني بحال
أننا نؤيد المؤتمر الشعبي، فكم جرّب الدعاة في بلدك تقلبات قادته المتكررة،
ووعودهم بتصحيح الانحرافات حين تحاصرهم الضائقات، ثم ما إن ينفك قيد
المحنة حتى يعودوا إلى علمنتهم وضلالهم.
الرسالة السادسة يا شعب اليمن أنت مستهدف!
أيها الشعب اليمني الأبي: يا من عرفت بعزتك، وشجاعتك وقوة شكيمتك،
وعنايتك بما يعينك على حفظ كرامتك سلاحك إنك مستهدف من قبل أعدائك في
الداخل والخارج، وإن التنسيق بين العدوين الداخلي والخارجي قد ازداد وبلغ الغاية، بل قد بدءوا بالفعل في تنفيذ مخططهم ضدك، فبعد ضرب جيشك يراد تمزيقك،
وإثارة الحروب الأهلية بين فصائلك المختلفة تحت ذرائع شتى كالمناطقية والقبلية
والمذهبية لتضعف أولاً، ويتم نزع سلاحك ثانياً ثم يتم ترويضك وسلب عزتك
وإذهاب كرامتك، ليتمكن بعدها أعداؤك من تغيير هويتك وتقسيم أرضك، وسلب
خيراتك، وفعل ما يشاء أعداؤك بك.
أيها الشعب اليمني المسلم: لقد حاولت القوى الدولية استعمارك ولكنها فشلت
في تحقيق هدفها ذاك في جل مناطقك، فهيأت بعض أبنائك، وربتهم على عينها
ليتآمروا معها ضدك، فيا ترى هل تقف أمام أهداف أولئك ومخططاتهم كالجبل
الأشم فتحرمهم مما يريدون، ولكننا نعلم أنك لن تتمكن من ذلك إلا باستمساكك بدينك، وإدراكك لمخططات أعدائك، وحفاظك على وحدتك وسبل قوتك، نسأل الله تعالى
أن يجنبك ما يريده أولئك لك.
الرسالة السابعة ضرورة اجتماع الدعاة وترتيبهم للأولويات:
أيها الشعب اليمني المسلم: إن الدعاة إلى الله تعالى في صفوفك فئة منك،
ولذا نستميحك العذر بأن نخصهم بهذه الرسالة الأخيرة.
أيها الدعاة إلى الله تعالى في اليمن: إن المسؤولية على عواتقكم كبيرة وإن
من أبرز أسباب الأزمة غفلة بعض الدعاة وتقاعسهم عن القيام بواجبهم بالكلية،
وقيام بعضهم بشيء من ذلك، ولكن من دون ترتيب للأولويات والمبادرة إلى البدء
بالأهم قبل المهم، والواجب قبل المندوب، هذا بالإضافة إلى عدم التشاور بين
الفصائل الدعوية في القضايا المطروحة بهدف التنسيق بين المواقف الذي حال دون
التمكن من الوصول إلى اتخاذ موقف موحد حيالها.
أيها الدعاة الصادقون: إن تشتتكم وتفرقكم النابع في غالبه من اختلافات
شخصية، وسعي بعضكم إلى إلغاء الأطراف الأخرى، وجعلها تحت لوائه، وقيام
بعضكم بحصر وظيفته في تتبع عثرات الدعاة والقيام بنشرها وتحذير الناس من
الالتفاف حولهم من خلالها مع كون ذلك محرماً في الشرع يمثل خطراً كبيراً على
وجودكم في الوقت الراهن، ويهيء لبعض الجهات استغلال بعضكم مرحلياً لضرب
الآخر ليتم في ما بعد حفر الخنادق لمن بقي منكم وإلقائهم فيها.
أيها الدعاة المخلصون: إن دوركم داخل شعبكم اليمني يجب أن يكون مبنياً
على ركيزتين:
الأولى: تعليم الناس العقيدة الصحيحة التي كان عليها رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وصحابته الكرام، والقيام ببنائها في نفوسهم، والسعي إلى إيجاد
لوازمها وآثارها في حياتهم العامة والخاصة.
الثانية: هدم الكفر والبدع والمعاصي ومحاربتها والقيام بتحذير الناس منها
وبالحكمة، فإن أغفلتم هاتين الركيزتين، أو قام بعضكم بإحداهن واستهجن واستهان
بمن يقوم بالأخرى فقد زاغ وانحرف.
أيها الدعاة إلى الله تعالى: احذروا فإن الخطر الذي ينتظركم من جراء
الأحداث الأخيرة كبير وماحق، فأعداؤكم يريدون فرض العلمانية في بلادكم
ويسعون إلى تجفيف منابعكم وحصاركم، والتضييق عليكم جميعاً من دون تفريق
بينكم، والإتيان بآخرين من أهل البلاغة والضلالة ليقوموا بالدعوة إلى باطلهم باسم
الإسلام بدلاً منكم، فيا ترى هل تتقون الله وتتنبهون لذلك فتبادروا إلى ترك الشقاق
والفرقة بينكم وتعودوا جميعاً إلى الأخذ بصدق بمنهج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وصحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان في العلم والعمل والدعوة؟
أيها الأحبة: هذا ظننا بكم، وهذا ما نؤمله منكم، والله يحفظكم ويرعاكم.
وختاماً أيها الشعب اليمني المسلم: نسأل الله أن يصونك ويحميك وأن يمكنك
من نصرة دينه، وهزيمة أعدائك الذين يكيدون لك في الداخل والخارج والله يحفظك
ويتولاك.
[إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم] .(77/62)
أحداث راوندا
رسالة إلى كل من أمن مكر الله
د.يوسف الصغيّر
إن الذي يطلع على ما يتعرض له الأبرياء من إبادة في «راوندا وبورندي»
لا يملك إلا أن يتأثر ويتألم ويسأل نفسه: ألهذا الحد تنتكس فطرة الإنسان فيقتل
لمجرد القتل والانتقام العام؟ ألهذا الحد رخصت الحياة على بني البشر؟ !
إن غياب أخلاق المحاربين يدل على خواء الحضارة الحالية، فمعظم شعبي
«راوندا وبورندي» تربوا على يد الكنيسة سواء الكاثوليكية أو البرتستانتية وعُمّدَ
الناس وغمسوا في الماء المقدس! ونالتهم بركات القُسُس! ومع ذلك فهم أكثر
همجية ووحشية لأنهم جمعوا أخلاق الوثنيين مع طبائع الغربيين في إدارة الصراع
التي تتلخص في الإبادة الجماعية التي تحل كل إشكال، لقد كان للإسلام وجود كبير
في المنطقة انحسر مع قدوم المستعمر، أفليس من حقهم أن نهتم بهم لعل الله أن
يحدث بعد ذلك أمراً!
الموقع والتاريخ:
تقع «راوندا وبورندي» في وسط افريقيا ضمن المنطقة الاستوائية، وقد
ساعد ارتفاعهما على اعتدال مناخهما مما يفسر كثافة السكان العالية فيها، مقارنة
بدول الجوار، حيث تبلغ الكثافة 160 شخص في الكيلومتر المربع، وتبلغ مساحة
«راوندا» حوالي 26 ألف كم2، ويقطنها حوالي أربعة ملايين وربع المليون
نسمة، أما «بورندي» فتبلغ مساحتها حوالي 27 ألف كم2، ويقطنها خمسة
ملايين ونصف المليون نسمة، وقد وصلهما الإسلام في فترة متأخرة مع امتداد نفوذ
سلطان عمان وزنجبار، وكانت السيادة فيهما للمسلمين، وعندما اتفقت الدول
الأوربية في القرن التاسع عشر على توزيع المستعمرات فيما بينها منعاً للنزاعات،
أصبحت تنجانيقا أو البر التنزاني حالياً من نصيب ألمانيا والكونغو «زائير حالياً»
من نصيب بلجيكا، وحيث أن بورندي وراوندا تقعان بين هاتين المنطقتين، فقد قام
الألمان أولاً بتوسيع نطاق مستعمراتهم إلى المرتفعات، فتمت لهم السيطرة على كل
من بورندي وراوندا، ونظراً لقلة الألمان في المنطقة ورقي المسلمين الحضاري
مقارنة بالقبائل الوثنية آنذاك، فقد اضطر الألمان للاستعانة بالمسلمين من أجل شغل
الوظائف المختلفة، وعندما قام الألمان بمد خطوط السكك الحديدية في المنطقة،
ازدهرت أحوال المسلمين وانتشروا في أنحاء البلاد وكثر دخول الوثنيين في الإسلام.
وقد قام المسلمون بعدة ثورات ضد الاستعمار الألماني بدءاً من حركة «بشر
بن سالم» عام 1307 هـ وانتهاءً بحركة «ماجي ماجي» الوطنية التي أخمدها
الألمان بعنف وهمجية، حيث قاموا بإحراق القرى وقتل الألوف من المدنيين، وقد
أدت هذه الحركة إلى تغير سياسة الألمان، فعمدوا إلى المهادنة والسماح من جديد
بحرية الدعوة، وقد استمر هذا الوضع حتى قامت الحرب العالمية الأولى بين ألمانيا
وحلفائها من الأتراك والنمساويين من جهة وبريطانيا وفرنسا وحلفائهما من جهة
أخرى.
وكما كانت أوروبا مسرحاً للحرب فقد كانت المستعمرات أيضاً مجالاً لحرب
أخرى حيث قام الانجليز باحتلال تنزانيا، بينما استولى البلجيك على راوندا
وبورندي، وهكذا تمت تصفية المستعمرات الألمانية في افريقيا، وتم تثبيت هذا
الوضع بعد الحرب عن طريق إصدار عصبة الأمم قراراً يجعل بورندي وراوندا
تحت الانتداب البلجيكي.
وهنا زاد الضغط على المسلمين في المنطقة، حيث قام البلجيكيون بالقضاء
على الممالك الإسلامية في شرق الكونغو التي تحاذي راوندا وبورندي وهدمت
المساجد، وأزيلت علامات الوجود الإسلامي، أما في بورندي وراوندا فقد نشطت
الإرساليات التبشريرية لمحاربة التعليم الإسلامي، وقام الاستعمار بمصادرة أراضي
المسلمين بحجة إقامة مشاريع عامة، وأصبحت النصرانية ومدارس التبشير هي
السبيل للحصول على كثير من المساعدات والميزات، ولهذا دخل كثير من الوثنيين
ظاهراً في النصرانية حتى وصلت نسبتهم إلى 70 % مقارنة مع 20 % للمسلمين، والباقي منهم وثنيون وحلت (لغة البلجيكيين) محل السواحلية (لغة المسلمين) ،
وقبيل خروج الاستعمار ظاهراً في عام 1382 هـ بدأت تظهر آثار السياسة
الاستعمارية التي كان لها آثارها المدمرة بعد حوالي 32 عاماً.
جذور المأساة:
إن أساس المأساة هو الاختلال الواضح في التوزيع السكاني وتوزيع السلطة،
ففي بورندي وراوندا هناك قبيلتان تشكلان الأغلبية الساحقة من السكان هما: قبيلتي
الهوتو (16 % منهم مسلمون) وهم من أصل زنجي والتوتسي (3 % منهم مسلمون)
وهم من أصل حامي، وعلى الرغم من أن الهوتو أكثر عدداً فإن السلطة في يد
التوتسي، حيث أن ملكي بورندي وراوندا سابقاً كانا من التوتسي، وقد اشتعلت
الحرب بين الجانبين قبل خروج الاستعمار مع اختلاف في نتيجتها في بورندي عنها
في راوندا، وإليك ملخصاً لما جرى في كل بلد:
أولاً بورندي:
تبلغ نسبة التوتسي في بورندي 25 %، بينما تبلغ نسبة الهوتو 65 % من
السكان، ومع ذلك استطاع التوتسي الاحتفاظ بالسلطة والسيطرة الكلية على الجيش
والشرطة والمناصب العليا، مع تحول النظام إلى جمهوري عسكري ونظراً
للاضطرابات المستمرة ومطالبة الهوتو بالمساواة، فإن السلطة رضخت مؤقتاً فتم
اجراء أول انتخابات ديمقراطية في البلاد في يونيو 1993 م، فاز بها حزب «
الجبهة من أجل الديمقراطية» برئاسة «ميليشو ندادي» وهو من الهوتو وبالطبع
اعتمدت خطة الرئيس على إدخال الهوتو في الجيش والشرطة التي كانت تقريباً
وقفاً على التوتسي، ولكن بعد أربعة أشهر قام الجيش الذي يسيطر عليه التوتسي
بانقلاب عسكري تم خلاله إعدام الرئيس وستة من الوزراء وشكل قادة الانقلاب
مجلساً للإنقاذ الوطني! برئاسة وزير الداخلية، وفرّ بقية الوزراء إلى السفارات
الأجنبية في العاصمة «بوجميورا» ، وبعد معارك متصلة فشل الانقلاب وتراجع
قادة الجيش عن المحاولة، وحاولت القيادات التبرؤ من الانقلاب بدعوى أن
العناصر الانقلابية غير منضبطة، ومع ذلك استمرت أعمال القتل المتبادل بين
الهوتو والتوتسي، وقام الجيش الذي يسيطر عليه التوتسي بأغلب أعمال القتل،
وقد قتل أكثر من مئة ألف مدني أغلبهم من الهوتو، ولجأ أكثر من سبعمائة ألف إلى
خارج البلاد، وكثيرٌ منهم إلى راوندا المجاورة، واستقرت الأحوال مؤقتاً على بقاء
الرئاسة بيد الهوتو حيث تولى الرئاسة «سيبريان نتارياميرا» وهو من الهوتو،
مع بقاء السلطة الحقيقية في يد التوتسي.
ثانياً راوندا:
تبلغ نسبة الهوتو في راوندا حوالي 90 % من السكان، ولذلك فقد حسم الأمر
لهم مبكراً، حيث قاموا بثورة على ملوك التوتسي الذي كانوا يستأثرون بالسلطة
والمال، ولم يتدخل البلجيكيون على الرغم من استعمارهم للبلاد، وفي عام 1961 م أجريت انتخابات تم على إثرها الغاء الملكية وتولى الهوتو الحكم، ولم يستسلم
التوتسي فقد كانت غاراتهم مستمرة من الدول المجاورة، وبخاصة بورندي التي
يسيطرون عليها، وفي عام 1973 م تولى الحكم الجنرال «جوفنال هابيا ريمانا»
بعد أن قام بانقلاب عسكري، ونهج نهجاً اشتراكياً، وكانت تربطه صداقة مع
الرئيس الفرنسي «فرانسوا ميتران» ، مما مكنه من الاعتماد على الدعم الفرنسي
في الوقوف في وجه غزو التوتسي لراوندا عام 1990 م، حيث قامت الجبهة
الوطنية الراوندية المكونة أساساً من قبائل التوتسي بغزو راوندا قادمة من أوغندا
التي تولت تسليح الجبهة.
وهكذا تعقد الوضع حيث أن التوتسي في كلا البلدين يحاولون استعادة
سيطرتهم المطلقة، وقد حصلت المأساة الأخيرة عندما تعرضت طائرة الرئاسة
الراوندية للهجوم عند محاولتها الهبوط في مطار العاصمة الراوندية «كيجالي»
وذلك بواسطة إطلاق الصواريخ عليها، وقد كانت الطائرة تقل كل من رئيسي
راوندا وبورندي وهما من الهوتو، وهنا أشارت أصابع الاتهام إلى التوتسي وبدأ ت
على الفور مجازر رهيبة في كل من بورندي وراوندا، وبدأ مسلسل القتل ليس فقط
على الهوية بل على الشبه فقط، فمن يشبه الهوتو يتم قتله من قبل التوتسي، ومن
يشبه التوتسي يتم قتله من قبل الهوتو، وقام حرس الرئيس الراوندي مع مجموعات
من الهوتو بارتكاب مجازر رهيبة استعملت فيها الأسلحة النارية والسكاكين، بل
ومفكات «البراغي» أيضاً، ولم ينج من المذابح المتبادلة طفل أو امرأة أو عاجز، وبلغ عدد القتلى حوالي 200 ألف قتيل، بل ويصل في بعض التقديرات إلى
500 ألف إنسان، وأصبح من المعتاد أن ترى أكوام من الجثث مكدسة في الطرقات، واستعرت الحرب من جديد بين جيش الحكومة وقوات الجبهة القادمة من أوغندا،
وسيطرت الجبهة على حوالي نصف البلاد، ووصلت إلى العاصمة، ومازال القتال
يدور فيها مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من الناس إلى تنزانيا المجاورة.
ولسائل أن يسأل: أين الأمم المتحدة التي تزعم أنها المسؤولة عن حفظ أرواح
المستضعفين وإقامة السلام بين بني البشر؟ والجواب هو أن الأمم المتحدة موجودة
في عاصمة راوندا منذ فشل حملة التوتسي السابقة، ولها قوات من بلجيكا
وبنجلاديش وغيرهما، وقد قامت بمهمتها خير قيام! فقد قامت القوات البلجيكية
بمساعدة قوات فرنسية باجلاء الأجانب (الغربيين) ، ثم انسحبت أيضاً تاركة القوات
البنغالية تقوم بمحاولة حماية المدنيين بدون جدوى، ومع استمرار المجازر استمر
التغاضي عما يجري، فالقاتل والمقتول أفارقة وإن كان غالبيتهم من النصارى أتباع
الكنيسة السوداء إلا أنهم من الجنس غير الأبيض!
أخيراً:
لعل القارىء الكريم يلاحظ أن ممارسة المجازر الرهيبة التي تعتمد على
الإبادة الجماعية التي لا تفرق بين ذكر وأنثى، ولا بين صغير وكبير، ولا بين
مسلح وأعزل، يكاد يكون القيام بها وقفاً على معتنقي النصرانية، وذلك لعدم وجود
الحجة التي يواجهون بها الخصم، ولهذا تلجأ إلى خيار الإبادة، وهذا ما حصل في
الأندلس وفي أمريكا الجنوبية وفي البوسنة، محاولات فاشلة جرت وتجري، ولهذا
يستطيع الفرد العادي أن يستنتج أن الإنسان في عرف الساسة الغربيين هو اليهودي
أولاً ثم النصراني الغربي ثانياً، ثم النصراني ثالثاً ثم من يحقق مصالحهم رابعاً،
وما عداهم فهم مجرد أوراق نقدية ليس لها رصيد.(77/71)
المسلمون والعالم
شاهد عيان:
هكذا تهدم مساجد أهل السنة في إيران
د.عبد الله المكراني
قامت السلطات الإيرانية مؤخراً بهدم مسجد «فيض» الخاص بأهل السنة في ...
مدينة «مشهد» ، والهجوم المسلح وإراقة دماء المصلين في مسجد «المكي»
أكبر مسجد جامع لأهل السنة في «زاهدان» عاصمة «بلوشتان» الإيرانية،
واحتلال المسجد والمدرسة الدينية التابعة له من قبل «الحرس الثوري» الإيراني
والمخابرات الإيرانية وإن كان قد تأخر نشر المقال لظروف فنية فإنه يسرنا إيضاح
هذه المؤامرة كما وضحها الأخ الكاتب جزاه الله خيراً البيان
[ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها،
أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب
عظيم] [البقرة: 114] .
مسجد الشيخ فيض في مشهد هو مسجد جامع مر عليه قرابة مائة عام وكان
مثار جدل عنيف في الأعوام الأخيرة بين الحكومة الإيرانية المتمثلة في المخابرات
من جهة وبين أهل السنة والجماعة المستضعفين تحت الضغط الرافضي المتزايد من
جهة ثانية، وربما عاد سبب ذلك إلى ما يلى:
فراغ إيران من الحرب الخارجية من جهة، وعدم تحملها لأهل السنة في
مدينة كمدينة «مشهد» من جهة ثانية، وكذلك، قد يعود الأمر إلى حشود المصلين
الذين كانوا يملؤون المسجد عند أداء الفرائض في كل مكان، بالمقارنة بعدد
المصلين الشيعة الذين لا يعدون صلاة الجمعة فرضاَ عينياً بسبب غيبة الإمام
المنتظر بزعمهم الذي هو في تناقص مستمر، هذا من جانب، ومن جانب آخر
وجود هذا المسجد لأهل السنة في قلب مدينة مشهد، وقرب مزار الإمام «الرضا»
قبلة آمال القوم، ووجوده قرب بيت والد خامنئي مرشد الثورة الحالي، وإحاطة
المسجد بجيران في غاية التعصب، حيث أصبح المسجد مركز تجمع لأهل السنة
حيث يلتقون لأداء الصلاة فيه، لذا غيرت الحكومة قبل سنة واحدة خط سير
الطائرات الذاهبة إلى الحج، التي كانت تحمل حجاج السنة من بلوشتان وخراسان،
من مشهد إلى كرمان، كي لا يجتمع أهل السنة في مسجدهم في مشهد، كل هذا
جعل الدولة تفكر في هدم المسجد، وهناك قرار غير معلن ينص على أن أي مدينة
تكون نسبة السنة فيها أقل من 40 % يجب أن لا يسمح لهم ببناء مسجد فيها،
والتلاعب في تحديد هذه النسبة مسألة سهلة بالنسبة لهم، والكلام السابق هو كلام
محافظ مشهد وهو ابن آية الله جنتي المشهور بتعصبه ضد أهل السنة هناك.
وقبل هدم المسجد اقترحت المخابرات الإيرانية مبلغاً من المال يأخذه أهل
السنة بدلاً من المسجد كأنه محل تجاري، فلا قداسة ولا احترام! ! ولكن العلماء
أفتوا بأن تبديل المسجد أو بيعه غير جائز، ولقد صادرت المخابرات تلك الفتوى،
فلم تصل إلى المسؤولين الرسميين، واقترحوا أيضاً أن يعطوا لهم أرضاً في
أطراف مشهد، أي بعيداً عن مركز المدينة، ولم يلق أيضاً ذلك العرض قبولاً من
هيئة أمناء المسجد، ومن علماء بلوشتان وخراسان وغيرهم من أهل السنة، ولقد
استصدرت المخابرات بعض الفتاوى من بعض المشايخ المغمورين والمرتزقين،
حيث أفتى أولئك بإعدام أفضل العلماء والشباب بتهمة «الوهابية» ، وهذه حجتهم
كلما أرادوا قتل عالم من أهل السنة، وفي ليلة الاثنين 19 شعبان 1414 هـ
الموافق لذكرى وصول الخميني إلى إيران، حيث تحتفل الدولة بتلك المناسبة أشد
الاحتفالات، وتسمى في إيران «عشرة فجر الثورة» ، في ليلة كهذه يضيع كل
شيء، حاصرت المخابرات الإيرانية مسجد فيض لأهل السنة في مشهد حصاراً
عنيفاً، ثم استقدمت 15 جرافة كبيرة وبعد منع الناس من التردد حول المسجد بدأت
الجرافات في العمل من خارج المسجد طوال الليل في هدم الجدران والأبواب باتجاه
الداخل دون أن يفرغ المسجد من المصاحف والسجادات والمكتبة الموجودة فيه
واقتيد إلى السجن كل من كان في المسجد غير من استشهد تحت الجرافات، وكل
من كان يأتي ويسأل عن سبب الهدم حيث علم خبر ذلك في الليلة نفسها هاتفياً من
خادم المسجد الذي كان في الداخل قبل الهدم.
انتشر هذا الخبر المؤلم كالصاعقة في المناطق السنية التي تقع في الحدود
الإيرانية، حيث الزحف الشيعي مستمر منذ العهد الصفوي إلى يومنا هذا ويتعرض
أهل السنة لأنواع الضغوط لإبعادهم عن المراكز الداخلية أو للتهجير إلى خارج
البلاد.
في يوم الثلاثاء الأول من فبراير 1994 م بدأت احتفالات الحكومة، إلا أن
هذا الحادث المؤلم أدمى قلوب أهل السنة (وكثير من المعارضين الذين يكرهون
النظام أشد من غيرهم) ، ممن كانوا يتعرضون أيضاً لضغط وقتل وتعذيب،
والغريب أن (دعوة الأخوة) بين السنة والشيعة لم تزل على أشدها من قبل الحكومة
تزويراً وخداعاً، وكل عالم سني إذا تكلم بشيء من الحق يلقى وبالاً عظيماً لأنه
يفرق بين الأخوة! ! وهكذا سجن وأعدم علماء وشخصيات بارزة إما بتهمة الوهابية
أو التفرقة بين السنة والشيعة أو التجسس وهذه التهم الجاهزة لكل من لم يسمع لهم
ويطيع، كالأستاذ بهمن شكوري والعلامة أحمد مفتي زاده والعلامة آية الله البرقعي
الذي كان من كبار مراجع الشيعة وتحول للسنة قبل الثورة وكتب رداً على عقيدة
الشيعة وله كثير من المؤلفات والكتب والمقالات، والدكتور علي مظفر يان الطبيب
الحاذق الذي تحول للسنة قبل الثورة أيضاً وأعدم، وعشرات من هؤلاء الذين
نحسبهم شهداء فضلاً عن المسجونين والمنفيين، والآن لنرجع إلى ما نحن بصدده.
انتشر خبر هدم مسجد فيض بالهواتف والأفواه، إلا أن الصحف ولضغوط
الحكم الجائر في إيران لم يقدروا على عمل أي شيء مهم يحول دون تخريب
المسجد، أو إعادة بنائه كما حدث في مسجد (حضرت بال) أو مسجد بابري في
الهند، وقال أحد السيخ في زاهدان: إن الحكومة الإيرانية بيضت وجه حكومتنا! ،
ومع هذا الجو الخانق الذي يخرس أدنى صوت أو اعتراض تفجر حزن أهل السنة
وكانوا يبكون في كل مكان، وبدأوا بإغلاق محلاتهم التجارية في بعض المدن
السنية، وبخاصة في زاهدان عاصمة بلوشتان الإيرانية وبدأ الناس بالتجمع حول
المسجد المكي والمدرسة الدينية التابعة له والمجاورة للمسجد، اللذين بناهما الشيخ
عبد العزيز ملا زاده رحمه الله الزعيم الديني والسياسي لأهل السنة في بلوشتان،
وكان الناس يلقى بعضهم بعضاً بوجوه حزينة وبغيظ مكظوم.
وفي صباح الثلاثاء الأول من فبراير 1994 م حدث اجتماع شعبي ديني
خلافاً لما أعلنته صحف الدولة التي افترت عليهم بأنهم من المنافقين، أي من «
منظمة مجاهدي خلق اليسارية» ، ثم غيرت لهجتها فوراً وافترت عليهم بأنهم من
الأشرار والمهربين، تجمعوا حول مسجد المكي وفي داخل المدرسة الدينية وبدأ عدد
من المشايخ يهدىء الناس الذين كانوا يتفجرون غضباً، وبادىء ذي بدء لم يفتحوا
باب المسجد للناس ليتفرقوا، وقال خطيب المسجد إني أخاف أن تحدث حادثة
تنسينا قضية مسجد فيض، لكن أعداد الناس بدأت تتزايد باستمرار إلى أن فتحوا
أبواب المسجد كي لا يشتبك الناس مع القوى الحكومية التي حاصرتهم من كل جهة، ولا يكونوا هدفاً لطلقات حاقدة من حرس الثورة والمخابرات، وذهب خطيب
الجامع إلى حشد الناس ووعدهم بأن يتصل بالمسؤولين ليأتوا إلى الناس ويحدثونهم
ويقنعونهم، ومنذ الصباح الباكر وإلى وقت وقوع الهجوم كان العلماء ووجوه الناس
الذين اجتمعوا في مكتب المدرسة الدينية يسعون جاهدين للاتصال بالمسؤولين من
المحافظ ومكتب مندوب الخامنئي (الذي يدبر المؤامرات الشيطانية ضد مدارس أهل
السنة ومساجدهم) وغيرهما، ولكنهم لم يجدوا أحداً، كانوا يسمعون جواباً واحداً
وهو: أن دوائر الدولة مشغولة بإقامة احتفالات الثورة، لكن ظهر بعد ذلك من
القرائن أن هذا كله كان جزءاً من المؤامرة المدبرة سابقاً.
ومن جانب آخر وخوفاً من تأزم الوضع سعى علماء السنة إلى تهدئة الناس
ودعوهم من خلال مكبرات الصوت إلى الهدوء، وفي وسط هذا الضجيج وحيال
غضب الناس من هدم مسجدهم كأنه لم تكن هناك آذان كثيرة تسمع، وبخاصة أن
شباب المدارس الذين يسمعون الإهانات لمعتقداتهم يومياً من معلميهم قد تفجر
غضبهم وحنقهم وكانوا يبكون، وبدأ الناس برمي سيارات الشرطة بالحجارة وكسر
الزجاج، وأخذوا ينزلون أعلام الدولة المرتفعة فوق الدكاكين بشأن احتفالاتهم، ثم
ذهب بعض العلماء والمصاحف بأيديهم إلى حشود الناس الذين تحمسوا كثيراً وكانوا
يمنعونهم من المظاهرة وكسر الزجاج.. كل هذا لأنهم كانوا يعرفون حقد الدولة
وخططها.
وقال أحد شهود العيان أنه رأى شخصاً كلما كان الناس يمنعونه من كسر
الزجاج لم يكن يمتنع عن ذلك حتى منعوه بالقوة، وإذا بجهاز اللاسلكي يقع من
تحت إبطه وكان يلبس اللباس البلوشي المحلي، ولما عرف الناس أنه من
المخابرات الإيرانية ويكسر الزجاج، ضربوه وإذا بهذا العنصر للمخابرات يطلق
النيران على الناس ويهرب، ويجب أن نعلم أن كثيراً من عناصر المخابرات
الإيرانية كانوا يتخفون في اللباس البلوشي، وكانوا في ذلك اليوم يستغلون عواطف
الناس، ويحاولون استفزازهم لإيقاد الفتنة فتكون لديهم الذريعة لتوجيه سلاحهم إلى
صدور أهل السنة باسم الأشرار والمنافقين كما افترت عليهم صحفهم الحكومية التي
كذبت في نفس الوقت خبر هدم مسجد فيض في مشهد، في حين أن المسؤولين
كانوا يعترفون بذلك، ولما سئلوا عما في الصحف قالوا إنها «حرة» ! !
[وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون] .
وقبل حادثة إطلاق النار على المصلين في مسجد «المكي» بعدة ساعات تم
إخلاء المستشفى الحكومي من المرضى تمهيداً لإدخال الجرحى والقتلى الذين كانوا
ينوون قتلهم، هذا وغيره يدل على أنهم كانوا قد درسوا الوضع بدقة قبل ذلك
بشهور، حتى رتبوا الحادث في أيام الاحتفالات إلى أن عرفوا طبائع المدن التي
سوف تعترض على هدم المسجد، ليضربوها بالحديد والنار [ويمكرون ويمكر الله
والله خير الماكرين] ، كما أنهم عزلوا زاهدان عن باقي المدن وقطعوا الاتصالات
الهاتفية قبل الحادثة بعدة ساعات.
وفي ذلك الوقت كان خطيب الجامع الذي يعد زعيماً لأهل السنة والعلماء
ووجوه الناس كانوا مجتمعين في مكتب المدرسة ليحادثوا أي مسؤول حكومي يأتي
إلى الناس فيجيبهم بشيء، إلى أن وصل قائد الشرطة الضابط (غضنفري) إلى
مكتب المدرسة وأخبر أنه وجد عبر اللاسلكي بعض المسؤولين وقال الشيخ له ليأتوا
من غير طريق الشارع الرئيس الذي اجتمع الناس فيه خوفاً عليهم كي لا يرميهم
الناس بالحجارة، لكنهم عمداً أو جهلاً والله أعلم جاؤوا عبر الشارع الرئيس، وفعلاً
حدث ما توقعه الشيخ، ورماهم الناس بالحجارة، ولكن لا أحد يدري بالضبط هل
كانت هذه جماهير الناس حقاً أم أنهم فئة معدة لتقوم بهذا الدور في هذا اليوم؟ وكما
أشرت سابقاً أن المخابرات كانت تعد لهذه الواقعة كي تضرب أهل السنة من جهة
وكي توجه أنظار الناس في إيران إلى هذه المشكلة لينسوا مشكلاتهم وليوحدوا
صفوفهم لتفرقهم كثيراً بعد الحرب مع العراق، ولقد تبين أن الذين جاؤوا ليلتقوا
بالناس هم الذين أصدروا الأمر بإطلاق النار أولاً وقبل هذه الحادثة بقليل ذهب أحد
العلماء إلى قائد الشرطة ورجاه أن يفرق عناصر الشرطة في المنطقة كي لا يتفجر
غضب الناس برؤيتهم، فأجاب: هؤلاء لا يسمعون! وصاحبه كان يبتسم، وكأنهم
كانوا عالمين بما سوف يجري، وفي هذا الوقت في الساعة 5. 12 ظهراً بالتوقيت
المحلي أذن المؤذن كي يخرج الناس من الشارع ويدخلوا المسجد لأداء الصلاة،
وبعد ذلك بقليل سمع الأمر بإطلاق النار من اللاسلكي الذي كان بيد أحد الضباط،
ودخل الناس والعلماء إلى المسجد وأعلنوا عبر مكبرات الصوت أن الشغب وكسر
زجاج محلات الناس لا يصح ولا يجوز شرعاً وبدأوا في أداء صلاة الظهر، وكانوا
في الصلاة جماعة حيث بدأت طلقات الرصاص تدوي في الهواء، ثم يسقط
المصلون والأبرياء في داخل المسجد والمدرسة بعد ذلك، وذهب أحد المشايخ بعد
الصلاة وتكلم عبر مكبرات الصوت موجهاً نداء إلى الشرطة أنه يجب عليه ألا
يكرر الخطأ، وأن لا يطلق الرصاص، فأجابت الشرطة فوراً عبر مكربات
الصوت: لسنا نحن الذين نطلق الرصاص وإنما هم المخابرات والحرس، ثم كنا
نرى أسف بعض الضباط بعد ذلك لما حدث، لأن الشرطة هي القوى النظامية
وليست قوى (حزب الله) كما يقولون أو حرس الثورة، ثم أغرقوا المسجد والمدرسة
بدماء الأبرياء خلال ثلاث ساعات متواصلة، وكانت تشاهد الطائرة المروحية من
فوق والجنود من الأرض وسيارات الحرس من أعالي الجبل ومن فوق البنايات، لم
يبق من المسجد مكان إلا وأصابه الرصاص، ثم بعد ذلك جمعوا القتلى والجرحى
والأسرى، والله أعلم بعددهم، ولم يعطوا إلا ثلاث جثث ليلاً ومنعوا من تشييع
الجنائز، وبعد ذلك جاؤوا في منتصف الليل، وأزالوا آثار الرصاص من الجدران
والأبواب وغيروا زجاج الشبابيك، ظل المسجد محاصراً حوالي أسبوع ثم رفعوا
الحصار وأرغموا خطيب الجامع للحضور لمظاهراتهم وإلا سوف يعملون معه كذا
وكذا، وهذه هي القصة المؤلمة لشاهد رأى الحادثة بعينه.
العجيب الذي لا يمكن تعليله بحال أن يشكك آيات إيران في مساجد السنة
ويدعون بأنها الخطر الأكبر على عقديتهم، ولا ينبذون بنت شفه حيال كنائس
النصارى وبيع اليهود ومعابد المجوس، فأي إسلام يدعي هؤلاء وهم يهدمون
مساجد الله جهاراً نهاراً؟ !
نداء من أهل السنة في إيران لإخوانهم المسلمين:
في بيان مهم وزع يوضح الحاجة الماسة لأهل السنة في إيران، وأن حاجتهم
الماسة تتطلب ما يلي:
1- إيجاد إعلام فاعل لأهل السنة على الأقل مسموع باللغة الفارسية.
2- تخصيص قسم للترجمة إلى الفارسية للكتب العقدية والفكرية المهمة.
3- نشر أشرطة علماء السنة مثل (أحمد مفتي زاده) و (عبد العزيز ملازاده)
و (آية الله البرقعي) وغيرهم.
4- تدريس أبناء السنة في الجامعات الإسلامية المشهورة.
5- أهمية إيصال المجلات الإسلامية النافعة لهم.
أدركوا مسلمي إيران السنة قبل أن يذوبوا في مخططات الرافضة.
والله المستعان.(77/77)
قراءة في كتاب
إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق
تأليف: د. يوسف إبراهيم يوسف [*]
عرض:نورة السعد
لا يقتصر مفهوم «إنفاق العفو» في الفكر الإسلامي على فضل المال فحسب، فآية البقرة [ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو] [1] لم تقيد العفو بالفائض من
المال، وإن كان المفسرون قد وقفوا بالعفو عند ذلك، بل إن السنة المطهرة قد
وردت صراحة «بإنفاق العفو» من الجهد والإمكانيات البشرية وهو ما يؤكده
الدكتور/ يوسف إبراهيم يوسف في بحثه هذا عن «إنفاق العفو في الإسلام» ،
وسوف نعرض في السطور الآتية بعضاً مما ورد فيه بإيجاز:
والعفو هو الفائض عن حاجة صاحبه من مال أو جهد أو وقت أو صحة وهو
موجود بكمية وفيرة لدى الأمة الإسلامية التي تجاوزت المليار نسمة سواءاً أكانت
تمثل العفو في الجهد البشري أم الموارد النقدية والعينية، بل إن دور «العفو» من
الجهد البشري في بناء المجتمع، وتمويل تنميته، أكبر من دور «العفو» في
المال لاسيما في معظم المجتمعات الإسلامية، التي تملك قدراً كبيراً من الاثنين غير
أن ثرواتها المادية والمالية غير مستغلة.
ويشير الكتاب إلى أن «العفو» بهذا المعنى يكمن في صور متعددة فليس
موجوداً عند الأغنياء فقط، فالغني يملك فضل المال، بيد أن الفقراء لديهم مكامن
أخرى للعفو تتمثل في الجهد والصحة والمواهب المختلفة في اللسان والجنان، ولقد
فهم الصحابة المعنى الأول من إنفاق «العفو» فاشتكوا إلى الرسول -صلى الله
عليه وسلم- قائلين: «يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور» ! ! لكن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحح لهم هذا الفهم فقال: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة.. وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة» [2] ، حتى إذا عجزت عن أي عمل «تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك» [3] .
إننا إذاً جميعاً داخلون في هذا التكليف قادرون عليه بصور متفاوتة وهذا يعني
أن الطاقات الفائضة، والإمكانات الموهوبة للإنسان لا يباح للمسلم تعطيلها أو منعها
عن خدمة المسلمين، ولا يعفى من المسؤولية من قام بتبديدها في مباح، أو وضعها
في محرم.
إننا والحال هذه مكلفون بالبحث عن ميادين وقنوات لتنفق في سبيل الله
جهودنا وأعمارنا وعافيتنا ومواهبنا، يقول الرسول ص: «من كان في حاجة أخيه
كان الله في حاجته» [4] ، ومن هنا فإن كل ما يزيد عن كفاية الشخص مما لديه
من إمكانيات يصبح محلاً للإنفاق على مصالح المجتمع (ص 68-73) ويروي أبو
سعيد الخدري رضي الله عنه: بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم-
إذ جاءه رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالاً فقال رسول
الله ص: «من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له
فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» ، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا
أنه لا حق لأحد منا في فضل [5] .
وهكذا فإن كل فضل من مال أو جهد أو فتوة أو قدرة يجب أن يستغل إسلامياً
ليصب في الصالح العام، فيرتقي المجتمع، ويبين أثر ذلك على الأفراد. إن المسلم
المخلص يترجم عقيدته في سلوك عملي رجاء ثواب الله سبحانه وتعالى وتصديقاً
بموعوده، يوم لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره، وشبابه، وماله وعلمه.
وإذا أردنا أن نقف على نوع التكليف في مسألة إنفاق العفو: هل هو فرض
عين أم فرض كفاية؟ فإن المؤلف ممن رجح المذهب الثاني الذي يوجب على كل
فرد أن يترصد بالعفو من ماله وجهده فرص التوظيف والتشغيل فإذا وجدت حاجة
في الناس بادر إلى سدها، فإذا سبقه إلى ذلك غيره جاز له أن يبقي العفو الذي لديه، ولا يكون بذلك آثماً، بيد أنه يظل يتحرى الفرص لتشغيل ما لديه.
(ص 58، 59)
ويوجب الإسلام البدء بالإنفاق الاستهلاكي على النفس، ومن تلزم نفقته فإذا
وجد «عفواً» بعد ذلك أُخْرجَتْ الزكاة بشروطها، وما بقي فوقها فإن المسلم
يفاضل في إنفاقه بين الإنفاق الاجتماعي والإنفاق الاستثماري بحسب الظروف
الاجتماعية وأحوال المسلمين من حوله، والمقصود بالإنفاق الاجتماعي هو: إسهام
المسلم في الإنفاق على مصالح المجتمع، ويعني الإنفاق الاستثماري: الإنفاق على
تكوين رأس المال، وزيادة قدرة المرء على توليد الدخل الشخصي، وهذا ما أرشد
إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث صاحب الحديقة إذ قال: «فأنا أنظر
إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأرد فيها ثلثه» [6] .
(ص 56، 57)
وإن في المال حقاً سوى الزكاة كما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه وإن
الحديث الذي يقول: «ليس في المال حق سوى الزكاة» صحته: «في المال حق
سوى الزكاة» ، أما كلمة «ليس» فزيدت في الحديث عن طريق النساخ وشاع
الخطأ بعد ذلك، قال بهذا فضيلة الشيخ القرضاوي متابعاً للعلامة الشيخ أحمد شاكر، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من واجبات المال غير الزكاة: «تجب
النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم، ويجب حمل العاقلة وقضاء الديون،
ويجب الإعطاء في النائبة، ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضاً على
الكفاية ... إلى غير ذلك من الواجبات المالية» . وقال الإمام مالك رحمه الله:
«يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم ولو استغرق ذلك أموالهم» .
والخلاصة: أن في المال حقوقاً واجبة غير أداء الزكاة فإن إخراج الزكاة لا ينفي عن المال صفة الكنز، إذا منعت بقية الحقوق الواجبة فيه فيما يعود بالنفع على المسلمين من بناء الاستثمارات، وإقراض المحتاج وإطعام الجائع، وغير ذلك من ضروب التكافل بين المسلمين، والتي تعبر عن طبيعة النظام الإسلامي،
وتبني مجتمع المتقين المتكافل. (ص 94، 95، 97) ...
وتقع مهمة توجيه العفو، إلى الإسهام في تحقيق التنمية الاقتصادية، على
عاتق الكثير من المؤسسات القائمة في المجتمع ابتداءً من مؤسسة الدولة نفسها
بوصفها أهم مؤسسة في المجتمع، وانتهاءاً بالجمعية الخيرية التي يكونها الأفراد
لأداء واجب من الواجبات الكفائية، مروراً بالكثير من المؤسسات التي يضمها
المجتمع، والدولة بوصفها أهم المؤسسات المؤثرة على «العفو» من ناحية فعاليته
في تحقيق مصالح المجتمع، تستطيع القيام بعدة أمور:
1- أول ما يجب على الدولة في هذا الخصوص هو أن تتخذ من الوسائل
والسياسات ما يجعل الفوائض المهاجرة تطمئن إلى توطنها في بلادها وتعود من
مهجرها، وهذا يتطلب تأميناً على نفسها، وفتحاً لفرص الاستثمار والتنافس الحر
أمامها، وسعياً إلى إيقاظ الوعي الديني في نفوس أصحاب هذه الفوائض.
2- أن تضع الدولة إطاراً لتنظيم عملية استخدام العفو، يكفل انسياب
الفوائض إلى قنوات الاستثمار المختلفة، ومجالات الخدمة الاجتماعية المتعددة دون
عقبات أو عراقيل، وبما يحفظ هذه الفوائض من أن تبدد في مشروعات مظهرية
غير مجدية، أو في استثمارات لم يصل المجتمع إلى طلبها في هذه المرحلة.
(ص 104، 105)
وبعد ذلك تظهر قضية كفاءة المصارف الإسلامية، وإذا استطاعت هذه
المصارف أن تقوم بدورها المنوط بها، وأن تعمل دائماً على رفع كفاءتها وتطوير
أساليبها فإن نجاحها مرتهن بمساندة المجتمع والدولة، فالمطلوب إذاً نشر المصارف
الإسلامية في أرجاء البلاد، وإزالة المعوقات من أمامها، وإحاطتها بالتشريعات
الكفيلة باستقرارها ونموها.
ويتحقق إنفاق العفو بأكثر من صورة، وقصره على صورة دون أخرى تقييد
للمطلق بغير دليل، فكلما طابت نفس المسلم، وتفاعلت مع الهدي الذي أتاه من ربه، تمكنت من اقتحام العقبة، واختارت صورة من صور إنفاق العفو في سبيل الله،
تكون أبلغ في الدلالة على الاستجابة لأمر الله، وأول هذه الصور وأعلاها تتمثل في
تقديم العفو والتخلي عن ملكيته لصالح المستفيد منه. (وهناك صورة الوقف: وهي
خروج عن ملكية العفو وجعله ملكاً لله تعالى فلا يملكه من وقف عليه لكنه يستفيد
منه فقط) .
ومن الصور أيضاً، استخدام العفو في خدمة مصالح المسلمين مع الاحتفاظ
بملكيته، مثل بناء المشروعات الاستثمارية التي تحقق منفعة للمالك ومصلحة
للمجتمع في الوقت نفسه، وتتدرج بعد ذلك صور إنفاق «العفو» فهناك صور
كثيرة استخدمها المسلمون ثم تغافلوا عنها، وهي من هدي الرسول -صلى الله عليه
وسلم- تنضوي تحت ما يسمى بـ «المنيحة» . قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس، إن أجرها
لعظيم» ، فالمنيحة هي الدابة يدفعها المستغني عنها إلى من يستفيد من قوتها
ودرها، ثم يستعيدها بعد مدة مقدرة ومثل ذلك أن يبني المسلم دوراً يملكها، لكنه يخصصها لسكنى الفقراء وأبناء السبيل وينتفع بها إذا احتاج إليها، وجدير بالذكر أن عدم إنفاق فائض المال في صورة من هذه الصور أو مثيلاتها يعني تعطيل المال والجهد وإضاعتهما، وذلك أمر منهي عنه شرعاً. (ص 54، 55)
ويشير حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا قدست أمة، لا يأخذ فيها
الضعيف حقه غير متعتع» [7] ، إلى هذه العلاقة الوثيقة بين حفظ كرامة الإنسان، واستحقاق الأمة نصر الله وعونه، فإن حق الضعيف في هذا الحديث ليس حقاً
معيناً، وإنما هو حق شامل عام: إنه حق في الحياة الكريمة، وفي العدالة
والمساواة والحصول على عمل دون أن يتقدمه من هو دونه، وحقه في التنقل
والملكية وممارسة حقوقه السياسية، وحقه في إبداء الرأي، وتوجيه أمور
الجماعة ... إلى غير ذلك من الحقوق التي جاءت بها الشريعة وكفلها الإسلام. (ص 12، 13)
__________
(*) المصدر: د يوسف إبراهيم يوسف إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق ط 1 1414 هـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية دولة قطر بتصرف يسير.
(1) البقرة، آية 219.
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه مسلم.
(7) رواه ابن ماجه بسند صحيح اج.(77/85)
في دائرة الضوء
رؤية في مسألة «التعددية»
عرض ونقد
د.محمد يحيى
حفلت الكتابات الفكرية في الآونة الأخيرة بطروحات كثيرة حول قضية
«التعددية» وتفريعاتها في النواحي الفكرية والاجتماعية والسياسية، بل وحتى الدينية، وبدا لمن يتابعون هذه الكتابات أن أنصار مبدأ «التعددية» يرون فيه الحل الناجع للكثير من مشكلات الأمة وفق توصيفهم لها، وأنهم يطرحونه مذهباً فلسفياً قائماً، يدعون له، وينافحون عنه في وجه خصوم معينين، وارتبطت فكرة «التعددية» بمنظومة أخرى من الأفكار التي تروج هي الأخرى في الكتابات الفكرية المعاصرة، كفكرة «الاعتراف بالآخر» ، و «الديموقراطية» وما أشبه ذلك، كما اكتسبت مثل تلك الأفكار قداسة خاصة، وارتقت إلى مرتبة الشعار العاطفي المطلق، الذي يرفع لاستجلاب المشاعر وإثارة الخواطر، ويطلق علامة على حركة اجتماعية وفكرية عامة.
هدف هذه الفكرة:
وشُهرَت دعوة «التعددية» بخاصة في وجه الحركات والأفكار الإسلامية
التي وصفت بأنها عدو التعددية، كما هي عدو الفكر والتقدم والتنوير والعقل
والحرية ... الخ، وعلى الرغم من اجتهاد بعض المفكرين الإسلاميين في إيجاد
وضع ثابت للتعددية داخل الشريعة الإسلامية كالقول الشائع مثلاً بأن المذاهب
الفقهية هي أحزاب سياسية واجتماعية متعددة إلا أن وصمة رفض التعددية بقيت
تلاحق الإسلاميين في الكتابات الجارية وتدمغهم في عرف الكاتبين بكل النواقص
الناجمة عن ذلك.
ملحوظات أربع مهمة:
ولا يكاد المتابع للكتابات الدائرة حول التعددية أن يهرب من ملحوظات عديدة
حول هذه الفكرة كما جاءت في الطروحات الدارجة، وهي ملحوظات ينبغي وضعها
في الحسبان عند أي تعامل أو تحليل للفكرة.
أولاً: أبرز هذه الملحوظات ما يتعلق بالمصدر الذي تؤخذ منه عادة هذه
الكتابات والدعوات في الفترة الراهنة، وأعني به قطاعات من الفئة المثقفة ذات
التوجه العلماني، وبالذات العناصر المسماة بالليبرالية واليسارية منها، ولا يخفى
أن الفئات الأخيرة على تنوعها من ماركسية وشيوعية واشتراكية وقومية كانت حتى
وقت قريب أشد الرافضين لمبدأ التعددية ولاسيما في مجال الحزبية السياسية ذلك
لأن أصحاب هذه المذاهب كانوا إلى سنوات أخيرة يزايدون على أصحابهم في
الغرب في التشديد على «أحادية» مذاهبهم ورؤاهم الفكرية وقدرتها وحدها على
تفسير وتحليل كل الظواهر، وتدبير كل أمور المجتمع دون شريك، وليس ببعيد
عنا زعم الماركسيين أن فلسفتهم هي الحق الوحيد القادر على شرح وتوضيح كل
أمور الكون، وعلى تفسير شتى الظواهر الاجتماعية سواء أكان التفسيرفي مجال
الحركة الاجتماعية والسياسية أو في مجال الفكر والرأي والنظر الفلسفي، فما بال
المزاعم قد تغيرت إلى النقيض في زمن قصير لا يسمح بتحول فكري، بل وبدون
دلائل على حدوث مثل هذا التحول إلى الانفتاح الفكري؟ !
ثانياً: تؤدي هذه الملحوظة إلى أخرى تفوقها في الأهمية والمغزى فالواقع
المشهود والتجربة التاريخية خلال نصف قرن مضى، تدل على أن من يستميتون
الآن في طرح مبدأ «التعددية» كانوا أول وأشد من يناقضه في القول وفي الفعل
فهم الذين قمعوا وكبتوا بل سحقوا الحركات الإسلامية، وأمروا أو حرضوا على
قتل المفكرين والعلماء المسلمين العزل من أي شيء سوى أفكارهم، وهم الذين
تحالفوا مع كل أصحاب الدعوات والممارسات الاستبدادية في الحكم، وناصروا كل
من حل الأحزاب، وسيطر احتكاراً على مذاهب ومنابر الإعلام والثقافة وسد منافذ
الحركة الاجتماعية الأصيلة وفي الوقت الراهن يتحالف هؤلاء مع أنظمة حكم
عسكرية دكتاتورية تحظر التعددية السياسية، وتمنع التعددية الفكرية والأخطر من
ذلك أن ممارسة هؤلاء لمفهوم «التعددية» في الحاضر تتمحور حول رفض وجود
التيار الإسلامي الفكري والحركي في الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية
والإعلامية بحجة واهية مصطنعة هي أن هذا التيار يرفض التعددية وبذلك جاز أو
وجب إبعاده عنها رغم أن من بين صفوف «التعدديين» الجدد من أفنى عمره
يرفض التعددية الحزبية والفكرية، ثم ها هو أصبح من دعاتها، وتلك تعددية
غريبة تلك التي تجعل من أهم مبادئها إقصاء أقوى الأطراف على الساحة،
وقصر المنتفعين بها على أصحاب مذاهب هي في حقيقتها مذهب واحد: هو
العلمانية المتطرفة.
ثالثاً: إن «التعددية» المكتشفة أخيراً حلاً سحرياً للمشكلات والأزمات، لا
تطرح باعتبارها فكرة أو مسلك اجتماعي أو أسلوب حركي أو دعوة أخلاقية، بقدر
ما تطرح سلاحاً مشهوراً في وجه خصوم التيار العلماني من المسلمين، فنحن لسنا
أمام طرح فكري يطلب لنفسه كسائر الطروحات الفكرية المناقشة الهادئة الجادة
والعقلانية، بقدر ما نواجه بشعار يُرَدَدُ لإرهاب الخصوم ودمغهم بالتسلطية،
ورفض الحوار وتشويه صورتهم في أذهان الناس على أنهم هم وليس العلمانيون
الذين يبشرون بالبطش والطغيان برفضهم للتعددية، وبالمثل فإن هذا السلاح
والشعار يستخدم لتبييض صورة العلمانيين وتحسينها بنفي أبرز ملامحها وهو
الاستبداد بالرأي والتعصب المقيت ضد المخالفين، والرغبة العارمة في الاستئثار
والاحتكار لكل مناحي الحياة وأدوات الفعل والحركة في المجتمع. نحن إذن في
طرح «التعددية» في الكتابات العلمانية الجارية نواجَه بأسلوب خبرناه في
طروحات منظومة الأفكار الأخرى المماثلة ألا وهو استخدام الفكرة سلاحاً كالسيف
والمدفع للهجوم على الخصوم وتشويه صورتهم مع تحسين صورة الأنصار.
رابعاً: ترتبط الملحوظة الأخيرة بما سبق، فلأن مفهوم «التعددية» يستخدم
الآن مجرد سلاح للضرب، ولأنه يناقض أفكار وممارسات من يتزعمون لواء
الدعوة إليه، فهو يبدو غامض الملمح ومضطرب الأبعاد فالحديث قد يجري عن
التعددية السياسية فنسمع دعوة إلى السماح بتعدد الأحزاب، لكن هذه الدعوة مقيدة
بأن تعمل هذه الأحزاب داخل نطاق محدد ومحدود لا تتجاوزه، هو في العادة «
ميثاق وطني» أو قانون صارم يضفي عليها في الواقع وحدة أو «أحادية» في
الفكر والسلوك، فوق أن هذه «الأحزاب المتعددة» تستثنى منها فئات عديدة أولها
ما يسمى بالأحزاب الدينية أو الإسلامية مما يجعل من التعددية المرغوبة مجرد لفظ
أجوف، والحديث قد يدور حول التعددية الفكرية والثقافية لكنه ينحصر في الواقع
في نبذ ونفي الإسلام والتمكين لأحادية فعلية من المذهب العلماني المتغرب، حتى
وإن تسترت ببعض التفريعات الشكلية داخل هذا المذهب، والأكثر أهمية في هذا
أن المناقشات حول التعددية تتركنا في حيرة حول ما إذا كان الكلام يدور حول واقع
موجود بالفعل يراد الاعتراف به، وتقنين وجوده، أم حول مثال وأنموذج يراد
إيجاده من عدم، باعتباره هدفاً أسمى ينبغي الوصول إليه، ذلك لأن الحديث عن
التعددية يجري أحياناً بشكل يوحي بأن أنصاره إنما يريدون تمهيد السبيل لتطورات
ومذاهب وأفكار يراد جلبها إلى الساحة بعد التمهيد لها بفكرة التعددية، ولعلنا نذكر
في هذا السبيل كيف خلقت بعض الأحزاب السياسية خلقاً مصطنعاً في بعض البلدان
العربية عندما راجت «موضة» التعدد الحزبي بتقليد أسماء وتوجهات أحزاب
قائمة في البلاد الأوروبية، كأحزاب الخضر والاتحادية الديموقراطية وغيرها.
كيف نتعامل مع هذه الفكرة؟
هذه الملحوظات الأولية حول طروحات فكرة التعددية في الكتابات العربية
المعاصرة ولاسيما العلمانية توجه النظر إلى ضرورة فحص مصدر وأهداف الطرح
قبل التعامل معه فكرياً على أنه فكرة بريئة يرد عليها الإسلاميون بأي شكل كان،
فنحن كما أسلفت أمام فكرة ظاهرها الانفتاح والتحرر لكنها تصدر عن منابر
ارتبطت أشد الارتباط بكل معاني الدكتاتورية والأحادية والهيمنة الاحتكارية ونفي
الآخر، والفكرة تطرح بشكل مناقض لجوهرها حيث تنطوي دائماً على استبعاد
الإسلام وحركاته من هذه التعددية الانفتاحية الموعودة بحجة جاهزة هي: أن
الإسلام لا يؤمن بالتعددية وبالتالي فلا مكان له فيها وكأن الآخرين الذين أعطوا مكاناً
فيها كانوا يؤمنون بها، وأخيراً تطرح الفكرة لا باعتبار هذا الطرح مبدءاً قابلاً
للنقاش العقلي والفلسفي والتوضيح، بل مجرد سلاح لتشويه الإسلاميين وتحسين
صورة العلمانيين، وهو ما ينعكس في غموض أبعاده، وفي هذه الحالة ينبغي أن
نقف إزاء أهداف تَبَنّي العلمانيين لهذه الفكرة ضمن منظومة ادعاءاتهم الراهنة، إذ
تكون في هذا فائدة تفوق مجرد التعامل السطحي معها رفضاً أو قبولاً.
يرتبط الحديث كثيراً عن «التعددية» في هذه الفترة ارتباطاً سببياً مباشراً
بصعود الفكر والطروحات الإسلامية إلى حد أدهش العلمانيين في العقدين الأخيرين
في مقابل إفلاس مذاهبهم وطروحاتهم المختلفة، لقد حدث انقلاب مدهش في ساحة
الفكر والثقافة في المجتمعات العربية حيث أن السيطرة شبه المطلقة التي كانت
للعلمانيين (بفضل الالتصاق بالأنظمة الحاكمة) في الخمسينيات وبالذات في
الستينيات، قد تضعضعت، ثم انهارت في السبعينيات والثمانينيات، ومع سقوط
الطروحات العلمانية أصبحت النخبة العلمانية عارية أمام الجماهير دون تمويه يخفي
حقيقة عمالتها وتبعيتها لأنظمة هي بدورها عميلة وتابعة للدول الاستعمارية القديمة،
بجانب خيانتها الكبرى لدينها وعروبتها وشعوبها بأساليب الحكم الاستبدادي، وبدا
واضحاً أن الساحة التي شهدت سيطرة العلمانيين الاحتكارية مهيأة الآن لاكتساح
إسلامي شامل لن تتبقى معه آثار تذكر لمذاهب وأفكار العلمانية المتغربة، في هذه
الظروف نشأ فجأة الحديث عن «التعددية» في ذات الأوساط التي كانت قد كرست
كل جهودها بدعم من السلطات وأجهزة الأمن والبطش، لكي تقضي على كل آثار
الإسلام وأفكاره قبل ذلك بسنوات. ظهرت فكرة «التعددية» بوضوح لكي تكون
مجرد الغطاء والمبرر الذي يسمح بوجود واستمرارية بقايا الأفكار العلمانية المتغربة
في وقت بدا للعلمانيين أن التيار الإسلامي الجارف سيجتاحها كلها. نحن إذن نواجه
بفكرة وليدة الخوف الطاغي لدى من مارسوا القمع والاستبداد والنفي والاحتكار في
أن يستبعدوا وينفوا مع فارق بالطبع هو أنهم مارسوا هذه الأشياء في موقع الأقلية
التابعة للخارج والموالية لأنظمة غير شعبية، بينما الإسلام هو دين وثقافة وحضارة
البلاد وعقيدة أغلبية سكانها الساحقة.
التعددية من منظور علماني:
«التعددية» في جوهر طرحها الراهن من جانب العلمانيين لا تعبر عن
توجه ديموقراطي مفاجىء، ولكنها مجرد مناورة فكرية للإلحاح على ضرورة وجود
أفكار مغايرة للإسلام في الساحة التي يظنون أن الإسلام بقوة الجماهير سيكتسحها
كلها، ولو أتيحت لهم فرص رد التيار الإسلامي لأسقطوا دعوى «التعددية» تماماً، وهم بالفعل قد ضمنوا دعاواهم ما يسمح بذلك، فوسط الحديث عن التعددية في
كل مظاهر الحياة نجدهم قد وضعوا الشروط والقيود التي تؤدي حتماً إلى استبعاد
الإسلام منها في نهاية المطاف، أو إعطائه وضع التابع الضعيف داخل إطارها
ووسط سائر المذاهب العلمانية.
القضية إذن، كما هو الحال مع الطروحات الأخرى حول «الاعتراف بالآخر» وما شابهه، لا تعدو أن تكون «تكتيكاً» دعائياً فكرياً بطرح شعار يضمن البقاء للنفس في حالة صعود «الآخر» (الإسلامي) المكتسح مع إمكانية إسقاط هذا الشعار وتفريغه من مضمونه في حالة تراجع هذا «الآخر» . بهذا وحده نستطيع أن نفسر التناقضات الكامنة في الدعوى واللبس والغموض الذي يكتنف أبعادها كما أشرنا في الملحوظات السالفة، فهي ليست مبدءاً فكرياً متسقاً بل مجرد شعار يستخدم سلاحاً وفي الحقيقة يستخدم باعتباره مناورة شأنه شأن سائر الطروحات العلمانية في هذه الفترة تنفيذاً للدور الذي يؤديه العلمانيون في هذه الفترة في مواجهة الإسلام وحركاته، وخلاصة المناورة أنه عندما يكون المد العلماني في صعود نسمع حديث الاحتكار والأحادية والنفي والاستبعاد، وعندما ينهار المد ويتراجع نسمع حديث التعددية والاعتراف بالآخر لضمان موطىء قدم وبقية من وجود لدعاواه دون أن يجتاحها المد الإسلامي المضاد، ولأنهم يعاملون
«التعددية» هذه المعاملة سلاحاً وشعاراً ومناورة، فلا يبالون بالتناقضات، بل لا يهتمون بالتوضيح والمناقشة العقلية المتأنية، وهذه خلفية طرح فكرة
«التعددية» .
* * *
أنحن مع التعددية أم ضدها، وكيف؟
يصل طرح «التعددية» إلى الفكر الإسلامي عادة في شكلين لا ثالث لهما:
الأول هو اتهام مطلوب الرد عليه بأن الإسلام أو الإسلاميين ومعهم في ذلك تاريخ
الإسلام لم يعرف التعددية بل كان ضدها على طول الخط، والثاني هو تحد للإسلام
وللإسلاميين وللفكر الإسلامي بأن يخرجوا بطروحات نظرية وممارسات عملية
تثبت أن للتعددية مكانة راسخة عندهم.
طرح «التعددية» إذن يوجه للفكر الإسلامي في شكل اتهام أولا، ثم في
شكل تحد ثانياً، أي يوضع الإسلام في موضع دفاعي مما يفرض عليه آليات الدفاع
التقليدية وأبرزها محاولة نفي التهمة بأي شكل وإثبات العكس ألا وهو أن الإسلام لا
يحتوي على شيء قدر احتوائه على «التعددية» ذلك المبدأ السحري المرغوب فيه! وبالفعل دارت في هذا الإطار مرغمة معظم المعالجات الإسلامية للفكرة بدءاً من
تطويع مفهوم «الشورى» لفكرة «التعددية» وانتهاءاً كما ذكرنا بالحديث عن
المذاهب الفقهية كأحزاب سياسية، وبدا لمن يتابع هذه الكتابات (الدفاعية
والاعتذارية في جوهرها) أن الإسلام ما جاء أو أوحي إلا ليضمن أو يوجد التعددية
في كل أشكالها حتى لو كانت هناك مجالات لا توجد فيها، ويتناسق هذا مع ما عهد
في أمثال هذه الكتابات الدفاعية المضطرة إلى نفي التهمة وإثبات العكس ولو
بالمبالغة فكذلك رأينا من يذهب إلى أن من خصائص الإسلام الاعتراف بالآخر
(ونسيان نفسه على ما يبدو!) أو التمكين لمخالفيه في الوجود ... الخ.
وبصرف النظر عن الكتابات الإسلامية في موضوع التعددية، التي لم تجد
مفراً من أن تكون دفاعية اعتذارية بحكم طريقة طرح الفكرة من الجانب الآخر فإن
هذه الكتابات تظل تتحدث عن تعددية داخل الإطار الإسلامي مهما كان ذلك الإطار
واسعاً، أو حتى فضفاضاً كما بدا عند بعضهم، وهذا الوضع للتعددية الفكرية
والسياسية والثقافية داخل الإطار الإسلامي لا يعجب من يطرحون الفكرة مهما بدا
متسامحاً لأنهم يقصدون في الحقيقة تعددية جذرية أي خارج الإطار الإسلامي، أو
هم يرمون في الحقيقة إلى ثنائية (لا تعددية) تضع الإسلام في ناحية والعلمانية
(بمذاهبها الثانوية) المتغربة في الناحية الأخرى. ولهذا فالردود أو المعالجات
الإسلامية لموضوع التعددية لا تلقى القبول عند العلمانيين لأنها لا تصل مهما
تساهلت، أو مهما نفت التهمة وقبلت التعددية إلى المفهوم المرجو من طرح الفكرة، وهو القبول الصريح والاعتراف «بغير الإسلامي» و «بالمعادي للإسلام»
طرفاً مساوياً وشريكاً قوياً مؤثراً في ثنائية تنظيم سائر المجتمعات الإسلامية، بل
والقبول بأن تكون لهذا الطرف حجية الحكم والتوجيه والسيطرة، ولعل في هذا
الهدف الأخير ما يفسر الإلحاح العلماني في الآونة الأخيرة على فكرة تتواكب مع «
التعددية» وهي «تداول السلطة» حيث يدور التركيز على ضرورة أن يقدم
الإسلاميون التعهدات القاطعة والمضمونة بأنهم لن يصلوا إلى الحكم، أو بالأدق إلى
مواقع القرار والتوجيه في المجتمعات إلا من خلال انتخابات شعبية (وهذا ما لم
يفعله العلمانيون أبداً بل جاءوا عن طريق الانقلاب والدعم الخارجي) ، وأنهم لن
يحتكروا السلطة أبداً بل سيتبادلونها مع الاتجاهات الأخرى (وهذا أيضاً ما لم يفعله
العلمانيون مطلقاً مع الإسلاميين) ، وهذا الحديث عن تداول أو بالأصح تبادل
السلطة بين طرفي الثنائية يوحي بأن الإسلام دين الأغلبية سيوضع على قدم
المساواة (إن لم يكن أدنى بكثير) مع فئات نخبة الأقلية الضئيلة التي لا تعيش إلا
بحبل من الأنظمة وحبل من القوى الخارجية.
المقولات الإسلامية إذن حول القبول بالتعددية إما داخل الإطار الإسلامي أو
خارج هذا الإطار في مجتمعات ودول وعقائد أخرى، لن تحظى بالإعجاب من
جانب دعاة «التعددية» ، وهم كذلك لن يستسيغوا القبول الإسلامي بأديان ومذاهب
مخالفة داخل إطار المجتمعات والدول الإسلامية مادام الإسلام مهيمناً عليها، لأنهم
كما أسلفنا يريدون تعددية أو ثنائية جذرية يكون فيها لمذاهب العلمانية المتغربة
وجوداً مؤسساً ومهيمناً، أو على الأقل تبادلياً مع الإسلام في البلاد الإسلامية، ولا
يكون متضمناً داخل الإطار الفكري ولا نقول العقدي الإسلامي. القبول الإسلامي
بالتعددية مهما كان متسامحاً وواسع المدى لن يصادف هوى أصحاب الدعوة الراهنة
العالي صوتها لأنه لا يوافق جوهر وهدف طرحهم، ألا وهو الأحادية العلمانية
المتسربلة زيفاً في ثياب طلب التعددية، والحق أن الموقف العلماني الحقيقي من
موضوع التعددية يطابق الموقف الإسلامي الذي يهاجمونه وإنْ من الناحية المضادة
فهم إن سمحوا بالتعددية وهو ما يشك فيه كثيراً فإن ذلك يكون بين مذاهب فرعية
داخل المذهب الأم أنواع مختلفة من الليبرالية داخل الإطار الليبرالي الأعم، أو
أنماط من الفكر الماركسي داخل المذهب الشيوعي المادي الأوسع.. الخ، أو يكون
على أبعد تقدير بين عدة مذاهب وتوجهات تشترك كلها في الأساس العلماني
المتغرب، وتجد فيه قاسمها المشترك الأكبر، ومبررها الفلسفي وعلى هذا فإذا كان
الموقف الإسلامي يرى أن تعدد الأفكار والتوجهات يجوز داخل إطار أعم وأقوى،
فهو لا يقدم شيئاً شاذ اً كما يصور العلمانيون بل هو نفس موقفهم، تعدديتهم إذن في
أحسن حالاتها وأكثرها تحرراً لا تختلف عن التعددية التي ينادي بها بعض
الإسلاميين في المقابل، فلماذا إذن يستمر الهجوم الحاد على الإسلام بدعوى رفض
التعددية وتشعب الأفكار والرؤى؟ وهذا المفهوم للتعددية عندهم يقتصر فقط على
داخل الصف العلماني، أما خارجه، فهناك أحادية صارمة تنفي الضد الإسلامي
وتعاديه.
التعددية وتقلب المعنى:
الصورة الحقيقية التي ينبغي على الفكر المسلم أن يعيها هو أننا إزاء طرح
متقلب متعدد المستويات في هذا الموضوع، فنحن أمام دعاية ملحة حول «التعددية» لكننا إذا تفحصناها وجدناها «تعددية» مقيدة ومشروطة ومحدودة داخل تفريعات
مذهب أو إطار واحد مسيطر العلمانية الوافدة ثم نجدها في هدف الطرح «ثنائية»
جذرية عندما نتبين معناها في المجتمع المسلم، ولكننا في الممارسة الواقعية العملية
نجدها «أحادية» صارمة وشرسة في نفيها واستبعادها «للآخر» الإسلامي،
ورفضها لكل طروحاته وإصرارها على إخضاع الإسلام (بآليات التطوير والتطويع
والعلمنة والتغريب) داخل النمط اللاديني والنسق التغريبي. «التعددية» هي ورقة
الدعاية «والثنائية» هي الهدف المنشود لإثبات وحفظ الوجود داخل المجتمعات
الإسلامية في ظل صعود التيار الإسلامي، أما «الأحادية» فهي الواقع والممارسة
والهدف النهائي، ولكن الفكر الإسلامي يتعامل حتى الآن مع الشعار فقط، وعلى
مستواه السطحي دون الاختراق إلى الأهداف والغايات وواقع الممارسة والفعل
وخلفية التاريخ والأصول الفكرية النظرية، ولذلك فإن الطرح الإسلامي المضاد
الداعي للقبول بالتعددية لا يجد القبول عند أصحاب الدعوى التعددية رغم أنه كان
ينبغي أن يرضيهم لو كانت النوايا صحيحة وسليمة، ذلك لأنهم لا يقنعون برد
يجابههم على مستوى الشعار، لأن الشعار عندهم هو مجرد القناع الظاهري الذي
يخفي حقيقة «الثنائية» و «الأحادية» ، ومهما حاول الإسلاميون مواجهة الشعار
برفض التهمة وقبول التحدي، فلن يرضى العلمانيون لسبب بسيط هو أن قبول
المسلمين بالتعددية أياً كانت أبعاده يناقض استمرار توجيه التهمة ضدهم لأسباب
دعائية ويحرم العلمانيين من عريضة اتهام رابحة وورقة تشويه جيدة، كما أن هذا
القبول الإسلامي لا يتمشى، ولا يعني حقيقة «الثنائية» و «الأحادية» الكامنة
وراء شعار «التعددية» كما أراده رافعوه.
ولست بذلك أدعو للكف عن الطرح الإسلامي والتعاطي في مسألة
«التعددية» في شكل نفي التهمة وإثبات الموقف الصحيح، حتى لو اقتصر ذلك في الوقت الراهن على التعامل على مستوى الشعور، وحتى لو اقترن ببعض التعسف في التخريج والتنظير، فهذا الأمر مطلوب إبراء للذمة وتوضيحاً لمواقف الإسلام في وجه الشبهات المثارة والتي قد تنطلي على من لا يعلمون. ولكن هذا الطرح ينبغي كذلك أن يتجاوز مستوى طرح «التعددية» باعتبارها شعاراً، ليتعامل مع مستويات الدعوى المختلفة التي ألمحنا إليها فيما سبق وفوق ذلك ينبغي على هذا الطرح الإسلامي للقضية أن يتجاوز مستوى الردود الدفاعية ليناقش المشكلة برمتها مناقشة واعية متأنية متدبرة، وهو ما لا نجده عند طروحات العلمانيين التي تتسم كما قلنا في بداية المقال بالانفعالية والتشنج.
أسئلة تحتاج إلى أجوبة:
إن هناك أسئلة تحيط بفكرة «التعددية» لا تجد إجابة في الطرح العلماني
لكنها تبقى ملحة على ضوء الطروحات لتحقيق خير أكبر وأعم، شأنها في ذلك شأن
«الديموقراطية» ؟ أي هل «التعددية» هي هدف نهائي يتحتم على المجتمع أن
يصل إليه، أم أنها أسلوب قد يطبق في مواقف معينة للتعرف على أفضل الآراء
والاتجاهات، ولتحقيق أنجع أداء في مجال معين؟ وهل نقف عند التعددية في
المواقف والاتجاهات والآراء كأمر حتمى، أم أننا نسعى إلى تجاوز ذلك صوب
رأي محدد واحد لاسيما إذا أدى هذا التعدد والتشعب إلى التشتت والتمزق بل
والصراع؟ وعلى أي مستوى يكون طلب التعددية وتكريسها وفي أي مجال؟ هل
هي في مجالات الاقتصاد والإنتاج والعلوم أم في مجالات القيم والأخلاق والعقائد؟
ولماذا تضفى على «التعددية» في حد ذاتها قيمة مطلقة بحيث تصبح خيراً محضاً
في جوهرها وفي مجرد وجودها، بينما يصبح توحد الرأي (حتى ولو كان أمراً
طبيعياً نابعاً من الموقف دون قسر) أمراً مستقبحاً في ذاته ومرتبطاً بالدكتاتورية أو
الفقر الفكري؟ وهل يصبح هذا التصور في كل المواقف أي هل ينطبق في
المواقف الاقتصادية الإنتاجية مثلاً كما ينطبق على المواقف العقائدية؟ ثم هناك
السؤال الأهم: هل طرحت «التعددية» باعتبارها قضية لمجرد التقليد لأن الغرب
قد طرحها في السنوات الأخيرة داخل مجتمعاته لظروف وأسباب مختلفة؟
منطلقات التعددية العالمية:
إن طرح مسألة «التعددية» جرى في بعض بلاد أوروبا الشرقية وما يسمى
بالعالم الثالث مؤخراً على المستوى السياسي البحت، طلباً لتعدد الأحزاب السياسية
في مجتمعات ظلت عقوداً طويلة لا تعرف سوى نظام الحزب الواحد. ولكن في بلد
غربي رائد ومؤثر كأمريكا طرحت المسألة في سياق اجتماعي ثقافي سلوكي مع
ارتفاع صوت فئات متعددة عرقية (الزنوج وذوي الأصل الأمريكي الجنوبي
والآسيوي) ولغوية (أسبانية) وسلوكية (جماعات ما يسمى بتحرر المرأة وحقوق
الشواذ وأنصار البيئة و «الأصولية المسيحية» ) ، لتطالب بوجود متوسع، ونفوذ
قوي لها داخل المجتمع الواحد، وهنا اتخذت قضية التعددية أبعادها المحددة التي
وصلت إلى حد التبشير بالتعددية في أنماط الزي والطعام والسلوك الشخصي، لكنها
لم تصل إلى إسقاط الإطار الموحد العام الذي يربط أشتات المجتمع الأمريكي، فهذه
التعددية مثلاً لم تتسع أو تشمل دعاة إقامة مجتمع ديني «أصولي» ، ولا دعاة
إقامة نظام نازي مما يسمى باليمين الجديد المتطرف.
والحديث عن «التعددية» في بعض بلدان أوروبا الغربية كفرنسا وألمانيا
وإلى حد أقل إنجلترا، بدأ فقط تحت ضغط وجود تجمعات كبيرة ومتزايدة من
المهاجرين الأجانب، مما فتح احتمال الثنائيات بل والتعدديات اللغوية والعرقية
والدينية (وأبرزها الإسلام) داخل البلد الواحد، لكن مفهوم التعددية في هذه البلدان
جرى تحجيمه في الحال، بحيث أصبح على أحسن الأحوال لا يتجاوز مجرد
السماح لبعض هذه الفئات بحقوق محدودة، للتعبير وببعض الخدمات الاجتماعية مع
كف أذى أصحاب البلاد عنها.
الخلاصة:
من الواضح أن أنماط طروح التعددية هذه تخالف تماماً النمط الذي طرحه
العلمانيون في البلاد العربية، والمخالفة في الشكل واضحة، لكنها أوضح ما تكون
في الغرض والهدف من الدعوة كما ظهر مما سبق، ويجب على الفكر الإسلامي أن
يضع هذه الفروق الجوهرية في الاعتبار عند تصديه لمناقشة هذه الفكرة، لكن «
التعددية» في طرحها المحلي تبقى كما أسلفنا «تكتيكاً» فكرياً دعائياً يحقق أهدافاً
متعددة أبرزها كسب المشروعية للفكر العلماني الوافد والاحتفاظ له بمكانة مقننة
داخل المجتمعات الإسلامية في وجه صعود الالتزام بالإسلام، ثم الهجوم الدعائي
على الفكر الإسلامي وتشويه صورته وإشغاله بالدفاع الاعتذاري عن النفس، مع
تحسين صورة النخبة العلمانية الساقطة وإضفاء طابع الحرية والانفتاح عليها، وهو
أبعد ما يكون عن حقيقتها.(77/91)
إصدارات
من مكتبة «البيان»
* اليهودية والماسونية: لمؤلفه الشيخ العلامة / عبد الرحمن الدوسري رحمه
الله، يقع الكتاب في (184) صفحة، وضح فيه مؤلفه دعاوى اليهود بأحقيتهم التاريخية في أرض فلسطين، كما كشف عن جوانب من مكر اليهود على النصرانية وعلى الإسلام، وسعيهم الحثيث للتحكم في شؤون العالم وخيراته عن طريق إنشاء الحركات والمنظمات المشبوهة كالماسونية، كما فضح في جزء من الكتاب بعض الشخصيات والدعوات التي صنعها اليهود وربوها، وختم كتابه بالحديث عن الأسلحة التي انتصروا بها، والأمور التي يجب أن ننطلق منها لمواجهة دويلتهم في المنطقة «إسرائيل» ، والكتاب من نشر دار السنة للنشر والتوزيع بالخبر.
* الخشوع في الصلاة: لمؤلفه/ محمد عزالدين توفيق، يقع الكتاب في 102
صفحة من القطع المتوسط، يتحدث فيه مؤلفه عن الأسباب الداعية للخشوع في
الصلاة والطرق الموصلة إليه، والكتاب يحمل الرقم (3) من سلسلة المعالم الصادرة
عن دار النشر الدولي بالرياض.
* بدائع التفسير: الجامع لتفسير الإمام ابن قيّم الجوزية، جمع وتخريج /
يُسري السيد محمد، يقع الكتاب في خمسة مجلدات، وقام فيه جامعه بتتبع كلام ابن
القيم في التفسير من خلال كتبه المختلفة وترتيبها حسب ترتيب سور وآيات
المصحف الشريف، والكتاب من نشر دار ابن القيم بالدمام.
* ظاهرة النفاق خبائث المنافقين في التاريخ: لمؤلفه/ عبد الرحمن حسن حبنكه
الميداني، يقع الكتاب في مجلدين، وقد تحدث فيه مؤلفه عن تعريف النفاق
والمنافقين، وقام بدراسة شاملة للنصوص القرآنية في النفاق والمنافقين، كما قام
بنظرة استعراضية للمنافقين عبر التاريخ، والكتاب يحمل الرقم (7) من سلسلة
أعداء الإسلام، وهو من نشر دار القلم بدمشق.
* دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة: للكاتب الناقد/ محمد حسن بريغش، وهو كتاب جديد عن القصة الإسلامية المعاصرة تناول الكاتب فيه عدداً من
القصص بالتحليل والنقد، ويضم الكتاب أربعة فصول: الأول يتحدث عن ملامح
القصة الإسلامية الحديثة، وفي الثاني يعرض لسبع قصص من إنتاج الدكتور
نجيب الكيلاني، فيحللها وينقدها من خلال رؤية إسلامية لهذا الفن القصصي،
وهذه القصص التي عرضت في هذا الفصل تمثل ثلاثة عقود من تطور الكيلاني
وإنتاجه. وفي الفصل الثالث عرض الكاتب آخر انتاج الكيلاني، متمثلاً في
المجموعة القصصية (الكابوس) ورواية (ملكة العنب) ، وانتهى إلى أن هذه
القصص مع ثلاث قصص أخرى تعد نقلة مهمة ومرحلة جديدة في مسيرة الدكتور
الكيلاني الأدبية، ومسيرة القصة الإسلامية المعاصرة، وفي الفصل الرابع حلل
المؤلف كتاب الدكتور نجيب الكيلاني عن المسرح الإسلامي، وتوقف عن العديد
من الآراء والنظريات المطروحة في هذا الكتاب، والكتاب نقد تطبيقي من خلال
رؤية إسلامية تحاول ترسيخ قواعد للنقد الإسلامي وتحديد ملامح هذا الفن عبر
التجارب الأدبية، والإبداع الجديد، بعد أن كثر الحديث عن النظرية والملامح بعيداً
عن المجال التطبيقي(77/105)
من ثمار المنتدى
أنشطة المنتدى الإسلامي
التحرير
سبق الحديث عن بعض مشاريع «المنتدى الإسلامي» مثل: «كفالة الدعاة، وبرنامج شهر رمضان الماضي، ومشروع مكافحة العمى بدولة تشاد، والدورات
والملتقيات العلمية للمنتدى، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم» ، وفي هذا العدد
نواصل الحديث عن مزيد من المشاريع كما يلي:
- البيان -
سادساً مشروع مكتبة إسلامية:
الكتاب الإسلامي له دور كبير في نشر الوعي العلمي، ونشر العقيدة
الصحيحة بين أبناء المسلمين، ويفتقر الكثيرون إلى الكتاب الإسلامي افتقاراً شديداً، وهو لا يوجد في الغالب إلا بأيدي الطلاب الخريجين من الجامعات الإسلامية، أما
عامة الدعاة وطلاب العلم فلا يجدون المراجع الإسلامية التي يحتاجون إليها في
معرفة عقائد الإسلام، والعبادات والمعاملات الشرعية.
وفي المقابل ينتشر الكتاب الصوفي بين أيدي الناس، فكتب المدائح النبوية
والأوراد الصوفية متداولة بشكل واسع.
ومن أجل ذلك يسعى المنتدى الإسلامي إلى تجهيز مكتبات إسلامية عامة
تحتوي على المراجع العلمية الأساسية في مختلف العلوم الإسلامية، وذلك لتقريب
العلم بين أيدي الدعاة وتسهيل الوصول إلى المعارف الشرعية الأصلية.
وقد أعدت اللجنة العلمية بالمنتدى ثلاثة نماذج للمكتبات العلمية:
الإول: مكتبة إسلامية كبيرة: توضع في المدن الرئيسة وفي أماكن التجمع
الكبيرة للدعاة.
الثاني: مكتبة إسلامية متوسطة: توضع في المدن الصغيرة والجوامع.
الثالث: مكتبة إسلامية صغيرة: توضع في المساجد والمدارس.
وتم انتقاء الكتب بناء على الاحتىاجات الأساسية للدعاة في كثير من البلاد،
وعرضت قوائم الكتب على عدد من العلماء وطلاب العلم لإبداء الرأي وإعطاء
المشورة، فرأوا مناسبتها.
ويعين المنتدى الإسلامي مشرفاً على كل مكتبة من هذه المكتبات للحفاظ على
المكتبة من جهة، ولإعانة القراء وإرشادهم من جهة أخرى.
تكلفة المكتبة الكبيرة: 000ر12 دولار
تكلفة المكتبة المتوسطة: 500ر3 دولار
تكلفة المكتبة الصغيرة: 750ر1 دولار
وتشمل التكلفة: قيمة الكتب، ومتوسط قيمة الشحن، وإيجار المقر لمدة سنة
وتأثيثه.
سابعاً مكتبة طالب علم:
العلم الشرعي مطلب مهم من المطالب التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية قال
الله تعالى: [فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك] ، فبدأ بالعلم قبل العمل، وقد
سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه السنة وأمر بها جميع أتباعه، قال الله
تعالى: [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما
أنا من المشركين] .
فالعلم الصحيح هو الذي ينير الطريق أمام الداعية، فلا يدعو الناس إلا
بمقتضى الحجة والبرهان، وذلك يعينه في معرفة أدواء الناس ومشكلاتهم، ثم
يستطيع بعد ذلك أن يرتب الأولويات التي يبدأ بها بناءاً على ذلك.
ويحرص المنتدى الإسلامي على تعيين الدعاة الذين يتوسم فيهم الخير
والصلاح، مع صفاء العقيدة وحسن السلوك، والعلم هو جماع ذلك كله ولكن بسبب
الضعف العام الذي يعانيه كثير من الدعاة في أفريقيا وغيرها لغياب العلماء وقلة
المراجع العلمية لزم تنمية قدرات الدعاة العلمية، ورفع مستوياتهم الثقافية، ومن
أجل ذلك يقدم المنتدى الإسلامي برامج متنوعة لهم منها: توفير مكتبة منتخبة لكل
داعية من دعاته التابعين له، بالإضافة إلى بعض الدعاة الذين يتوسم فيهم الخير
والصلاح والجدية، وقد راعينا في اختيار هذه المكتبة عوامل مختلفة منها:
1 -أن تكون هذه المكتبة شاملة لمعظم أبواب العلم، جامعة لأهم الأصول
التي يحتاج إليها الدعاة.
2 -أن تلائم الاحتىاجات الدعوية في المنطقة.
3 -أن تكون سهلة العبارة سلسة العرض.
ولكي يكون الاختيار أكثر دقة وأبلغ فائدة وضعنا قائمتين: الأولى للدعاة
الجامعيين، والثانية للدعاة غير الجامعيين.
وقد تم عرضهما على عدد من العلماء الفضلاء للاستفادة من توجيهاتهم
وملحوظاتهم، وإليك بيانهما:
أولا دعاة غير جامعيين:
1- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
2- أعلام السنة المنشورة (للحكمي) .
3- تفسير السعدي.
4- تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (للبسام) .
5- صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- (للألباني) .
6- الرحيق المختوم (للمبار كفوري) .
7- مختصر منهاج القاصدين (للقاسمي) .
8- فضائح الصوفية (لعبد الرحمن عبد الخالق) .
ثانياً دعاة جامعيون:
1- شرح العقيدة الواسطية (للرشيد) .
2- أعلام السنة المنشورة (للحكمي) .
3- فتح رب البرية بتلخيص الحموية (لابن عثيمين) .
4- تفسير السعدي.
5- فقه السنة (لسيد سابق) .
6- تمام المنة في تخريج أحاديث فقه السنة (الألباني) .
7- الرحيق المختوم (للمبار كفوري) .
8- معالم الانطلاقة الكبرى (محمد عبد الهادي المصري) .
9- أصول الدعوة (لعبد الكريم زيدان) .
10- تهذيب مدارج السالكين (لابن القيم / العزي) .
11- الموجز في الفرق والأديان (العقل والقفاري) .
تكلفة مكتبة طالب علم (مع الشحن) :
أولاً: مكتبة طالب علم غير جامعي: 50 دولار
ثانياً: مكتبة طالب علم جامعي: 60 دولار.(77/107)
الورقة الأخيرة
ثمن الكرسي
أحمد العويمر
في كل دول الدنيا، يرشح الوزير لمؤهلاته العلمية، ولتجربته العملية ليتمكن
من إداء رسالته على الوجه المطلوب، انطلاقاً من إيمانه بالأيدلوجية العقدية
والفكرية التي تدين بها أمته، غير أن جل ديار العرب والمسلمين في هذا الزمان
عندما يرشح الوزير فيها إنما يعود أمر ترشيحه إما لصلة حزبية أو لنزعة عشائرية
أو لصداقة خاصة أو لترشيح الحزب ذي الأغلبية، فهي في الغالب معايير لا تمت
للعلمية بصلة ولا للمعرفة العملية بأي رابطة.
ولذلك ستكون عطاءات وزارة (سعادته) إن وجدت راجعة في الغالب على ما
بناه سابقه، وقد يتهور بنصيحة بعض المستشارين إياهم فيهدم ما بناه سلفه وتعود
الأمور «حيص بيص» ، وفي النهاية إما أن يقال الوزير أو تقال الوزارة لفشلهما
في أداء ما هو مناط بهما من مهام.
وفي أثناء ممارسة سعادته لمهام وزارته فإن عليه شروطاً يلزمه أن ينفذها ثمناً
لبقائه في الكرسي، ومنها:
* الثناء المنقطع النظير للمعطيات التي جاء بها الزعيم الهمام والتي انتشل بها
البلاد وساهم في تطورها والتي لم يأت بها سواه، وتلك المعطيات سيستمر المديح
لها حتى ولو لم يرها الشعب.
* الدعوة لإعادة ترشيح الزعيم لأن البلد لم تنجب مثله ولن تنجب غيره وعليه
البقاء في الحكم حتى تقبض روحه أوأن يطاح به.
* الدعوة بمناسبة وبغير مناسبة لعلمنة المجتمع: ليس بفصل الدين عن
السياسة، وإنما لفصل الدين عن الحياة.
* المعارضون في نظره ليسو سوى شلل وغوغاء لا يعرفون (ألف باء)
السياسة، ولو أتيح لهم المجال لأودوا بالبلاد إلى الخراب والدمار وعليهم أن يعيشوا
على هامش الحياة إن لم يكونوا في غياهب السجون إن لم يكونوا على أعواد
المشانق.
* أن أسلمة المجتمع تخلف ورجعية وأن الدعاة لذلك متطرفون وإرهابيون وأن
على المجتمع وفئاته أن يعيشوا حياة ليبرالية لا تقيم لثوابت الدين أي احترام، بل
وعلى الحكومة أن تتخذ من البرامج والخطط ما يجفف منابع الإسلام خوفاً من نشوء
الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى.
إن لم يؤمن الوزير بهذه «الأفكار المتطرفة» ويعمل جاهداً على تنفيذها فإن
بقاءه في كرسيه مشكوك فيه.
قولوا لي بربكم: هل هذه الأفكار أساليب عمار أم أساليب دمار؟ وهل أولئك
الذين يدعون لتلك السياسات الخرقاء بناة أم هدامون؟ وهل هم مسلمون حقاً أم أنهم
أدعياء ومنافقون لأنهم لا يقيمون للدين وزنا؟ وهل تستطيع مثل تلك الدول أن
تسير إلى الأمام أم ستسير إلى الهاوية؟
قاتل الله اليهود فتلك مخططاتهم، وقاتل الله من سار على نهجهم ما أجهلهم،
والله نسأل أن يرى العاملين للحق ما تقر به العيون وما تصلح به الأحوال، رغم
كل المعوقات، وأن يخزي أعداء الإسلام وأن يريهم نهايات باطلهم المحتومة.
[ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله] .(77/111)
صفر - 1415هـ
يوليو - 1994م
(السنة: 9)(78/)
كلمة صغيرة
الخطاب العلماني - إزاء فضحه من الإسلاميين وتعريتهم له في الكثير من الدراسات - اتخذ مساراً جديداً بعيداً عن الموضوعية التي طالما ... تشدقوا بها ومصادماً للحرية التي يزعمون أنها من حق الآخر باتخاذهم منهجاً ... جديداً في السب والشتم والقذف، وحتى لا تراق مياه وجوههم لا يوقعون -أحياناً- ردحهم في العداء للإسلام ودعاته وهذا ليس غريباً عليهم فهم جبناء عند الحوار الموضوعي، وإذا تورط أحدهم فيه استخدم كل مواهبه في التزوير والمغالطة ... والكذب لستر سوءاته، وقد أدى بهم هذا النهج إلى التأكيد على أنهم منافقون عقدياً ... وميكيافيليون سياسيا ً، وسوفسطائيون فكرياً، بل إن أحدهم سمى اهتداء الفنانات (الحرب بالنقاب) !
فماذا يبقى لكم من دعوى الإسلام إذا هاجمتوه أو أنكرتم ما جاء به؟ ! أو
اتهمتم دعاته بأنهم دعاة للظلام والتخلف! ! إن ثقة الناس في علمائهم الموثوقين لا
حد لها، مهما افتريتم عليهم أو غالطتم في حقهم.
وأخيراً نقول لكم (إذا لم تستحوا فاصنعوا ما تشاؤون) .(78/1)
الافتتاحية
تعالوا إلى كلمة سواء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
لما رأى نفر من عقلاء الأمة أن قوتهم ونهضتهم لا يمكن أن تكون إلا بالعودة
للأصول وبالرجوع للجذور، وظهرت الصحوة الإسلامية على كل الأصعدة، وإن
كانت لم تسلم من بعض السلبيات إذ صارت مع اختلاف الآراء وتباين المنطلقات
مجالاً للحزبية الضيقة وحب السيطرة والزعامة فنشأت اختلافات في الرؤى
والمنطلقات ساهمت في إضعاف هذه الصحوة مما مكن لأعدائها من العلمانيين بشتى
اتجاهاتهم المشبوهة من الافتراء عليها والدعاية الكاذبة ضدها، ولا يكاد مجتمع
إسلامي أن يسلم من الصراع المرير بين الإسلاميين والعلمانيين ووجدت بعض
الحكومات في بعض البلدان فرصة في تأجيج الصراع بين الفريقين لتبقى هي
المسيطرة على أزمة الأمور، ولتنسى الشعوب المغلوبة على أمرها ما تعيشه من
ظلم وفقر وجهل..
وبما أن الإسلاميين هم أصحاب المبادئ والدعاة إلى الحق وأن فتح المجال لهم
سيؤدي في النهاية لسقوط تلك الحكومات الصوتية، لذا عمدوا إلى مضايقة التيار
الإسلامي بمصادرة حقه في الوجود، وبوضع القوانين التي تحد من دوره وفعالية
تأثيره في تلك المجتمعات، مع التفنن في وضع كل صور الاستفزاز للإسلاميين
وبخاصة في وسائل الإعلام والتعليم، وعملوا بأسلوب معروف هو (احتواء) بعض
العلماء ليكونوا ناطقين رسميين لتلك الحكومات العلمانية ضد أي رأي صادق، وأي
فكر نزيه يدعو لإعطاء الإسلام ودعاته دورهم في الإصلاح ورأينا من هؤلاء من
يهاجم دعاة الإسلام بكل صفاقة لصالح من لا يحكم بشرع الله، فإلى الله المشتكى.
هذا فضلاً عن ما تقوم به تلك الحكومات من تشجيع للتيارات العلمانية من
يسارية وليبرالية، بإعطائها حق الوجود، وحق إبداء الرأي وبكل الوسائل المتاحة
بل وفسحت المجال للافتراء والكذب على الإسلاميين بلا وازع من دين أو رادع من ضمير، فهل هذا من العدل أو من المساواة أو من الحريات التي طالما تشدقت
بها تلك الحكومات؟! إن الحقيقة العلمية الثابتة تؤكد على أن الضغط يولد الانفجار!
لذا وجدنا تلك المجتمعات التي حرمت دعاة الإسلام من العمل في وضح النهار
وفي الهواء الطلق، وأطلقت العنان لغير الإسلاميين من أي توجه علماني، بدعوى
أنه لا يصح قيام تجمع من منطلق ديني لأننا حسب رأيهم كلنا مسلمون.. لكنها لم
تحرم الأحزاب القومية أو الأحزاب الديمقراطية، ولم تحرم الأحزاب الوطنية
بالحجة نفسها، ولكن حين نعلم السبب يبطل العجب فالمقصود هو الإسلام الذي لا
يُراد له صوت مرتفع يدعو باسمه لأن الشعوب مسلمة، وحل مشكلاتها فعلاً في
الإسلام، وحينها ستسقط الأصنام.
لقد وجدنا تلك المجتمعات التي يناوئ حكمها الإسلام ودعاته تعيش أوضاعاً
مأساوية من الاضطراب وفقدان الأمن، مما هو حديث الساعة كل يوم.
لكن حين تُحرم بعض الفئات من حقوقها وتضطهد وتُحارب في وجودها فمن
يمنع اليائسين من ردود الأفعال العنيفة ومن يقنع أولئك بعدم تجاوز الحدود ومن
يفهمهم بسلوك الطريق المستقيم وعدم اللجوء إلى العنف المضاد؟!
لا يكاد يختلف اثنان في أن السبيل إلى ذلك هو إعطاء الجميع حقوقهم وعدم
التفرقة في المعاملة في الحقوق المدنية، وفتح الحوار عن طريق العلماء المعروفين
بخبرتهم وماضيهم المجيد في الدعوة إلى الله، وأن خلاف ذلك ليس من ورائه إلا
سوء الأحوال مما يسر له كل عدو وشامت، ولا نشك أن وراء تلك الفئة أناس
مشبوهون يعملون على اضطراب مسار الأمة وانحرافه عن الصواب.
والملاحظ أنه عند فشل السياسات الحكومية العلمانية في حرب الدعوة والدعاة
وحينما يكون نتيجة العنف والإرهاب الحكومي عنفاً وإرهاباً مضاداً يعلم الحاكمون
بأمرهم أن اللجوء للحوار هو البديل، لكننا نفاجأ بأن الحوار إنما هو انتقائي، وأن
فئات فاعلة لها كيانها ولها تأثيرها، بل حتى اتجاهات فكرية تعرف بالاعتدال من
كل الدارسين عالمياً، نُفاجَأ أنها نُحيت عن الحوار ولا ندري مع من يتم الحوار
وعلى ماذا يتم التناقش.
والويل كل الويل لمن يحتج أو يطالب حتى بتطبيق قانونهم جدلاً فاللجوء إلى
القمع جاهز، وإعلان الطوارئ أو الحصار أقرب ما يكون! إنه من العقل بل من
الشرع والمصلحة العليا للأمة المراجعة الشاملة لسياسات الضرب بيد من حديد أو
سياسات الضرب في المليان، والعمل على جمع الأمة على كلمة سواء وأن يعطى
العلماء دورهم الصحيح في الدعوة وجمع الشمل والحوار البناء قبل أن تحترق
الأوراق وقبل أن نعض أصابع الندم.
إننا مازلنا ندعو إلى تحكيم شرع الله، فهو علامة إسلامنا ودليل انتمائنا لهذا
الدين، تحقيقاً لعبوديتنا لله تعالى، واحتراماً لرغبات شعوبنا التي تطالب بتحكيم
شريعة الله والتوقف عن مهازل مجالس الشعب والبرلمانات التي تلهي الأمة بالدعوة
لتطبيق الشريعة، ثم الدعوة إلى التقنين لأحكامها، حتى إذا أوشكت تلك المجالس
على تنفيذ ذلك حلت بأمر رئاسي فتلغى تلك الجهود التي أوشكت على التمام لتبدأ
من جديد انتخابات ثم مناقشات ثم دراسات ثم تحل، وهكذا دواليك. إن تلك
الأساليب لم تعد تخفى على أحد، فهي أساليب مخادعة ومكشوفة، فإلى متى نخادع
شعوبنا ونغالط أنفسنا؟ !
إن واقع أمتنا مرير منذ أن نحيت شريعة الله، ومنذ حكم أمتنا كل علماني
عنيد يقف بكل صفاقة ضد أي دعوة إلى تحكيم الإسلام بدعوى أنه رجعية وتخلف،
فأي خير يأتي من هؤلاء غير ما نلمسه من انحراف وسوء أحوال؟ مما جرأ إحدى
الدول الغربية لتضع في استراتيجيتها الاستعمارية الجديدة العمل على زيادة تأثير
نفوذها في إحدى البلدان العربية، وقد نشر هذا على الملأ، فهل من مصلحة أمتنا
أن يتحكم فيها الأجنبي وأن يبعد عنها كل مصلح غيور؟ !
إننا ندعو إلى المراجعة وإلى المحاسبة وإلي الاستماع إلى كل قول رشيد
يهدف إلى المصلحة العليا للأمة، بدلاً من أن نكون معوقين للوصول إلى جادة
الصواب، ومكرسين لعوامل القلق والاضطراب.. إن علاجنا بين أيدينا لكننا
نهرب عنه متشبهين بأهل الكتاب الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.
العزاء لنا وللأمة جميعاً أن كل طاغية ينحي شرع الله ويحارب أولياءه إنما
هو مُحارب لله ولرسوله وللمؤمنين، ولن يفلح مثل هؤلاء أبداً، ولنا أمل جد كبير
في الله تعالى أن يرزق الأمة الرجال الأكفاء الذين يعيدونها للمنهج الإلهي وأن
يضعوا ثقتهم في العلماء المخلصين والدعاة المصلحين مع العمل لما فيه مصلحة
البلاد والعباد، وحينها سيغير الله الأحوال إلى الأحسن والأصلح بإذنه تعالى، وما
ذلك على الله بعزيز، إن صحت النوايا وحسنت المقاصد، وإلا فالموعد الله،
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.(78/4)
مصطلحات
أهل السنة والجماعة
محمد بن عبد الله الوهيبي
السنة في الاصطلاح تأتي بعدة معان [1] ولا يعنينا في هذا المقال الموجز
تتبع تلك المعاني، وإنما يعنينا أن نُعَرّف بمصطلح «السنة» أو «أهل السنة»
باعتبارها دلالة على اتجاه معين في الاعتقاد، يقول الإمام ابن رجب رحمه الله -
« ... وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء» [2]
ومراد هؤلاء الأئمة بـ «السنة» طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان
عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن
عياض يقول: «أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال» [3] ، وذلك
لأن عدم أكل الحرام من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من
أهل الحديث وغيرهم: السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، وبخاصة
في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل
القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة وإنما
خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة، وأما
السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات) [4] .
وأهل السنة هم المتبعون لسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسنة أصحابه ...
رضي الله عنهم، يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: « ... ولا ريب في أن
أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآثار أصحابه، هم أهل السنة» [5] .
إذاً لفظ «أهل السنة» يقصد به معنيان: الأول متابعة السنن والآثار الواردة
عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته رضي الله عنهم والعناية بها،
وتمييز صحيحها من سقيمها، والتزام موجبها من الأقوال والأعمال في مجال العقيدة
والأحكام والثاني: أخص من المعنى الأول، وهو الذي عناه بعض المصنفين حيث
سموا كتبهم باسم السنة كابن أبي عاصم وأحمد بن حنبل وابنه والخلال وغيرهم،
ويعنون بذلك الاعتقاد الصحيح الثابت بالنص والإجماع، وفي كلا المعنيين يتبين لنا
أن مذهب أهل السنة امتداد لما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته
الكرام رضوان الله عليهم أما التسمية بأهل السنة فنشأت بعد الفتنة عند بداية ظهور
الفرق.
قال ابن سيرين رحمه الله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت
الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل
البدع فلا يؤخذ حديثهم» [6] ، وسئل الإمام مالك رحمه الله «من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به لا جهمي ولا قدري ولا رافضي» [7] ، ثم لما صارت للجهمية شوكة ودولة امتحنوا الناس ودعوهم إلى التجهم بالترغيب
والترهيب فآذوا الناس وعذبوهم، بل وقتلوا بعض من لم يقل بقولهم، فسخر الله
لأهل السنة الإمام أحمد رحمه الله حيث صبر على امتحانهم وابتلائهم، وناظرهم
وفند حججهم وأعلن السنة وأظهرها، ووقف في وجه أهل البدع والكلام، فصار
بسبب ذلك يلقب بإمام أهل السنة.
نستنتج مما سبق أن مصطلح «أهل السنة» اشتهر عند الأئمة المتقدمين
باعتباره مصطلحاً مقابلاً لمصطلح «أهل الأهواء والبدع» من الرافضة والجهمية
والخوارج والمرجئة وغيرهم، فأهل السنة هم الذين بقوا على الأصل الذي كان
عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم.
أهل السنة والجماعة:
ويطلق على أتباع مذهب السلف الصالح في الاعتقاد «أهل السنة
والجماعة» ، وقد وردت أحاديث كثيرة تأمر بلزوم الجماعة، وتنهى عن الفرقة والخروج [8] ، وقد اختلف العلماء في المقصود بالجماعة على عدة أقوال [9] أحدها أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، والثاني أنهم الأئمة المجتهدون والثالث أنهم الصحابة رضي الله عنهم، والرابع هي جماعة المسلمين إذا أجمعوا على أمر، والخامس جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير.
وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى معنيين: (الأول: أن الجماعة هم الذين
اجتمعوا على أمير على مقتضى الشرع، فيجب لزوم هذه الجماعة، ويحرم
الخروج عليها وعلى أميرها، والثاني: أن الجماعة ما عليه أهل السنة من الاتباع
وترك الابتداع، وهو المذهب الحق الواجب اتباعه والسير على منهاجه، وهذا
معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو الإجماع، أو السواد
الأعظم ... ) [10] .
ويقول شيخ الإسلام: «وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الإجماع
وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس المجتمعين
و» الإجماع «هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة، مما له تعلق بالدين ... » [11] .
ومصطلح «أهل السنة والجماعة» يؤدي نفس المعنى الذي يؤديه مصطلح
«أهل السنة» ، فعامة استعمالات الأئمة له مقابل أهل البدع والأهواء، وإليك
بعض الأمثلة على ذلك:
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى [يوم تبيض وجوه
وتسود وجوه] [آل عمران: 106] ، «فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة
والجماعة، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة» [12] .
وقال سفيان الثوري رحمه الله: (إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة،
وآخر بالمغرب فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة) [13] .
إذاً يمكن أن نعتبر مسمى أهل السنة والجماعة بين الفرق، كمسمى المسلمين
بين الملل، فالانتساب إليه والتسمى به واستعماله باعتباره دلالة على صحة الاعتقاد
والمنهج، أمر حسن وسائغ باعتباره انتساباً لاسم شرعي، وقد استعمله أئمة السلف، ومن أكثر الأئمة استعمالاً لهذا المصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
الأشاعرة والماتريدية ومصطلح أهل السنة والجماعة:
يكثر استعمال هذا المصطلح بين الأشاعرة والماتريدية، ويعتبر كثير منهم أن
مذهب السلف «أهل السنة والجماعة» هو ما قاله أبو الحسن الأشعري وأبو
منصور الماتريدي، وبعضهم يعتبر أهل السنة والجماعة «الأشاعرة والماتريدية
ومذهب السلف» .
يقول الزبيدي: (إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة
والماتريدية) [14] ، ويقول صاحب الروضة البهية: (اعلم أن مدار جميع عقائد
أهل السنة والجماعة على كلام قطبين أحدهما الإمام أبو الحسن الأشعري والثاني
الإمام أبو منصور الماتريدي ... ) [15] ، أما الأيجي فيقول: ( ... وأما الفرقة
الناجية المستثناة: الذين قال فيهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «هم الذين
على ما أنا عليه وأصحابي» فهم الأشاعرة والسلف من المحدثين وأهل السنة
والجماعة) [16] ، ويقول حسن أيوب من المعاصرين: (أهل السنة هم أبو الحسن
الأشعري وأبو منصور الماتريدي ومن سلك طريقهما، وكانوا يسيرون على طريقة
السلف الصالح في فهم العقائد) [17] ، وعامة هؤلاء يذكرون عقائد الأشاعرة
والماتريدية على أنها مذهب أهل السنة والجماعة، وليس المقصود هنا مناقشة هذا
الادعاء الباطل، وإنما أردت ذكر فائدتين في هذا المجال هما:
1- أن استعمال الأشاعرة والماتريدية ومن تأثر بهم لهذا المصطلح لا يغير
شيئاً من حقيقة ابتداعهم وانحرافهم عن منهج السلف الصالح في أبواب كثيرة لا
مجال لتفصيلها هنا.
2- أن استعمالهم لهذا المصطلح لا يمنعنا من استعماله والتسمي به باعتباره
اسماً شرعياً استعمله أئمة السلف، ولا يعاب من يستعمله أو يُذم، إنما يعاب إذا
خالف اعتقاد ومذهب السلف الصالح في أي أصل من الأصول.
__________
(1) اجتهد بعض الباحثين في تتبع معاني السنة ومرادفاتها، ومن أوسع الدراسات في ذلك ما كتبه الشيخ عبد الرحمن المحمود في مواقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/3804، وما كتبه الشيخ ناصر العقل في رسالة مستقلة بعنوان مفهوم أهل السنة والجماعة عند أهل السنة والجماعة.
(2) رواه اللالكائي في شرح السنة رقم 49.
(3) انظر نصاً مقارباً في اللالكائي رقم 51، وأبي نعيم في الحلية 8/104.
(4) كشف الكرية 1920.
(5) تلبيس إبليس لابن الجوزي 16 وانظر الفصل لابن حزم 2/107.
(6) رواه مسلم في مقدمة صحيحه ص 15.
(7) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر 35.
(8) انظر رسالة قيمة في هذا الباب فيها جمع للنصوص الواردة في ذلك وعنوانها وجوب لزوم الجماعة وذم التفرق، جمال بن أحمد بادي انظر ص 15-117.
(9) الاعتصام 2/260-265.
(10) موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/17.
(11) مجموع الفتاوى 3/175.
(12) رواه اللالكائي 1/72، وابن بطة في الشرح والإبانة 137، ونسبه السيوطي إلى الخطيب في تاريخه وابن أبي حاتم، الدر المنثور 2/63.
(13) رواه اللالكائي في شرح السنة 1/64 وابن الجوزي في تلبيس البليس 9.
(14) إتحاف السادة المتقين 2/6.
(15) الروضة البهية لأبي عذبة 3.
(16) المواقف 429.
(17) تبسيط العقائد الإسلامية 299 وانظر التبصير في أصول الدين153 والتمهيد للنسفي2، والفرق بين الفرق 323، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي 150 وغيرها.(78/8)
محاضرات إسلامية
فقه النوازل والواقعات
دليل على ارتباط الفقه بالحياة
- 2 -
د. عبد العزيز القارئ
في الحلقة الأولى من هذه المحاضرة لفضيلة الدكتور عبد العزيز القارئ عضو
هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، تطرق فضيلته إلى حقيقة
الفقه وكيف أبدع الصحابة فيه ونبه فضيلته على خطر ظاهرة الاشتغال بالصناعة
الحديثية على حساب الفقه بمعناه الشامل، ثم تطرق لمسألة الاجتهاد وأثره العظيم
في حياة الناس وبيان الأحكام الشرعية، وكيف كان فقه الصحابة فقه تطبيق وليس
فقه نظريات جامدة، ونواصل معكم بقية هذه المحاضرة المهمة.
- البيان -
نماذج من فقه الصحابة:
وسأضرب لمنهج الصحابة رضي الله عنهم في فقه النوازل والواقعات أربعة
أمثلة:
المثال الأول في العبادات:
الأذان يوم الجمعة: فقد كان الأذان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-
أوله عندما يجلس الإمام على المنبر، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر، وفي عهد
عثمان وعلي، كثر الناس وزاد الأذان الثالث على الزوراء [1] ، الأذان الثالث كما
ورد في النص باعتبار الأذان الذي عند جلوس الإمام على المنبر وباعتبار الإقامة
فإنها تسمى أيضاً أذان، فزاد الأذان الأول على الزوراء، وفي بعض الروايات أن
الزوراء دار كانت في السوق، وفي بعض الروايات أنه أمر بذلك ليعلم الناس
بدخول أو بحضور وقت الجمعة قبل أن يخرج الإمام إلى المسجد أو إلى المنبر.
ما كان هذا الأذان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا على عهد
الصاحبين، وإنما هو سنّه الخليفة الراشد عثمان قياساً على باقي الصلوات، هذا
أذان لإعلام الناس بدخول الوقت في أوله، فقاس الجمعة على باقي الصلوات، هذه
نازلة وهذا ما واجهها به الصحابة من فقه، والصحابة في عهد عثمان عملوا بفعله
في سائر المدن والأمصار، وقد كانوا منتشرين فيها.
المثال الثاني في الطلاق:
فقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الطلاق كان على عهد
النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، أن طلاق
الثلاث كانت توقع واحدة، فقال عمر: «إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم» [2] ، فأمضاه عليهم بمشاورة من الصحابة، وحقيقة هذه
المسألة كما أفهم والله أعلم أن عمر أولاً كان يسأل المطلق الذي أوقع الثلاث دفعة
واحدة عن قصده ماذا يقصد هل يقصد إيقاعها ثلاثاً أو ما قصد إلا التأكيد وإيقاعها
واحدة، ثم لما تتابع الناس على ذلك، وكثر منهم واستخفوا به صار لا يسأل أحداً
عن مقصده، ولا يفرق بين من يقصد التأكيد وإيقاعها واحدة أو لا يقصد ذلك،
ويمضيه على الجميع ثلاثاً ردعاً للناس الذين كثر منهم هذا واستخفوا بحدود الله عز
وجل.
هذا مثال آخر لطريقة الصحابة في مواجهة النوازل، فإن الحال في وقت
عمر تغير عن الحال في وقت النبي صوأبي بكر.
المثال الثالث حد الخمر:
وهو يشبه هذا المثال، ولكنه في الحدود (حد الخمر) ، فشارب الخمر في عهد
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضرب بالجريد وبالنعال ويبكت (بمعنى أن يقال
له أما تستحي أما تتقي الله.. ونحو ذلك) ، وفي عهد أبي بكر جلد أربعين، وفي
عهد عمر قال عمر رضي الله عنه: ويبدو أن شاربي الخمر قد كثروا في عهده
فاستشار الصحابة، فقال علي رضي الله عنه إنه إذا شربها سكر وإذا سكر هذى
وإذا هذى افترى، فجلده ثمانين مثل عقوبة القربة، وفي رواية أن عبد الرحمن بن
عوف قال له رضي الله عنه: إن أخف الحدود ثمانون جلده فأمضوا عقوبة شارب
الخمر ثمانين جلدة، فاختلف الفقهاء في فهم ذلك: بعضهم قالوا إن حد الخمر
ثمانون، وبعضهم قالوا حدها أربعون وما زاد فهو تعزير، وللإمام أن يزيد تعزيراً
إذا كان ذلك اجتهاد من إمام عادل.
المثال الرابع في المعاملات:
وهو تضمين الصناع، فالصانع إذا ادعى هلاك المتاع الذي بحوزته وليست
له بينة على ذلك، كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء قبل
علي يُصدّق، وفي عهد علي ألزمهم بالضمان، وقال لا يصلح الناس إلا ذلك.
لماذا؟ لأن الناس في عهد علي رضي الله عنه اختلف حالهم عن حال الناس في
عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وعثمان فإن التزامهم بالصدق
وبالحق صار أخف مما سبق فاختلف حالهم عن ذي قبل، ومن مثل هذا استنبط
العلماء قاعدة اختلاف الفتوى بسبب فساد الناس، كما تحدث للناس أقضية بقدر ما
أحدثوا من أحكام، ففساد الناس وفساد الأحوال تتغير بموجبه الفتوى.
هذه أربعة أمثلة تبين لنا منهج السلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في مواجهة ما يستجد من واقعات ونوازل، ونستفيد من هذه الأمثلة دروساً
عظيمة لواقعنا ولحالنا أصلح الله حالنا، ومنها:
1- أن الاجتهاد لا يسوغ من كل أحد إنما يسوغ ممن له الأهلية فقط، فإن أبا
بكر أو عمر أو غيرهما من الخلفاء الراشدين ما كانوا يستشيرون كل أحد، بل كانوا
يستشيرون فقهاء الصحابة وأهل العلم والرأي منهم.
2- ومن هذه الدروس أن الاجتهاد ليس صلاحية مطلقة للمجتهد، بل يجب
أن يكون مقيداً بالقواعد الشرعية والمبادئ الكلية والأصول المعتبرة عند الفقهاء
وعند العلماء، والتي استنبطت من الكتاب والسنة. ولو تأمل الدارس المتفقه كل
مثال من الأمثلة الآنفة الذكر وغيرها من الأمثلة، لوجد هذه الحقيقة فيها، فإن
الصحابة رضي الله عنهم لا يخرجون في اجتهاداتهم هذه عن المبادئ الكلية التي دل
عليها الكتاب والسنة.
3- ومن هذه الدروس أن مدار الشرع على المصلحة: على جلب المصالح
المعتبرة، وعلى درء المفاسد المحققة فحيث ما تكون المصلحة الشرعية فثم شرع
الله كما يقول ابن القيم رحمه الله فلا أقول كما يقول بعض الكتاب المعاصرين: إن
الشريعة الإسلامية مرنة! ! فكلمة مرنة في عرفهم تحتها ما تحتها، لكن أقول إن
الشريعة الإسلامية، والفقه الإسلامي صالح للتطبيق في كل زمان ومكان مهما
اختلفت أحوال الناس، ومهما استجد من متغيرات ومن تطورات فالمصلحة معتبرة
لكن أهواء الناس غير معتبرة، وشهوات الحكام ورغبات السلاطين غير معتبرة في
الشريعة الإسلامية ولا لدى الفقهاء الذين يتقون الله عز وجل في البيان، وهذه
القاعدة (دوران الشرع على المصلحة) لا يعرفها إلا الفقهاء ولا يقدر على تطبيقها
إلا الفقهاء والعلماء الربانيون.
4- ومن هذه الدروس أيضاً أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إضافة إلى عملهم الغزير بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبفهمهم العميق للأحكام الشرعية كانوا كما نوهت على بصيرة كاملة بالواقع ...
وتتعجب من اختلاف فتياهم، فتجد الصحابي في المدينة له فتوى وفي العراق له
فتوى أخرى، وفي حالة له فتوى وفي حالة أخرى له فتوى أخرى، كما ضربتُ
في هذه الأمثلة، وهذا يدل على أنهم متبصرين بالواقع الذي يعايشونه مدركين تمام
الإدراك للوقائع المستجدة التي يواجهونها، وهكذا يجب أن يكون الفقيه.
ومن أعجب الأمثلة على ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال له: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: إلى النار، فلما ذهب وانصرف قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا فما
شأن اليوم؟ قال: إني أحسبه مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً فبعثوا في أثره فوجدوه
كذلك [3] .
فاختلاف الحالة لدى المفتي كالطبيب يصف لكل مريض ما يناسب حاله فلو
أفتى هذا بأن له توبة كأنه حرّضه على أن ينفذ ما في قرارة نفسه، وفي رواية أنه
سئل يعني أن سائلين سألاه فسأله سائل هل لمن قتل توبة؟ قال: لا وسأله سائل
آخر في مرة أخرى فقال: نعم. فلما سئل عن هذا الاختلاف في الفتوى قال:
رأيت في عيني الأول أنه يقصد القتل فقمعته، وأما الثاني فكان صاحب واقعة
يطلب المخرج.
هل تريدون مثالاً أوضح من هذا على عظم أهمية أن يكون الفقيه متبصراً
بالواقع، عالماً بأحوال الناس، عالماً بملابسات الوقائع التي تطرأ عليه والنوازل
التي تستجد؟ !
5- ومن أعظم الدروس المستفادة من هذه الأمثلة آنفة الذكرأن في منهج
السلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يمكن أن نسميه بالشورى
العلمية فقد كان أبو بكر الصديق إذا نرلت به نازلة، ولم يجد فيها فيما يعلم سنة عن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى الناس فيسألهم، أخرج البغوي عن
ميمون بن مهران رحمه الله قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب
الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، فإن لم يكن في الكتاب، وعلم من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل
المسلمين: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فربما
اجتمع النفر كلهم يذكر كل واحد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضاء، فإن
أعياه أن يجد فيه سنة جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم (لاحظ استفتاء ثم
شورى أهل الفقه والحل والعقد) ، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به. وكان عمر
رضي الله عنه يفعل ذلك إلا أنه إن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان
فيه لأبي بكر قضاء فإن وجد أبا بكر قضى به بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس
الناس، فإذا اجتمعوا على أمر قضى به ومع أن هؤلاء هم من هم ومع ذلك لا
يغترون برأيهم ولا يستدلون باجتهادهم، بل يشاورون الناس وتجد الواحد اليوم مع
قلة بضاعته وغلبة الهوى عليه ينفرد بنفسه بين جدران أربعة ويخرج علينا بآراء
عجيبة لا فقه فيها ولا بصيرة ولا يتقي الله فيها، ويريد أن يحمل الناس عليها.
استبداد علمي مع أنه لا استبداد في العلم في الإسلام، كما أنه لا استبداد في السياسة، والاستبداد السياسي والاستبداد العلمي كلاهما مذموم في الإسلام.
معالم على طريق الاجتهاد:
ثم إن الاجتهاد في المسائل الاجتهادية فيما فيه مجال للاجتهاد وإذا وقع من
المجتهدين مهما كان الاجتهاد جزئياً أو كلياً على أنواعه التي يذكرها الفقهاء يجب أن
لا يؤدي إلى التنازع والتناحر والتطاحن. انظرإلى الصحابة وخذ عمراً مثلاً وهو
خليفة أمير المؤمنين كيف كان يناقشه الصحابة ويحتدون ويقولون له هذا ظلم
«أتقف ما غنمناه بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا» ، ومع ذلك لا يغضب ... نماذج رائعة من أدب الاختلاف.
الاختلاف لدى السلف لا يفضي إلى التنازع والتطاحن، ولا يفسد للود قضية
كما يقول العلماء، فإن التناحر والتطاحن في الآراء وفي العلم ورمي المخالف في
الاجتهادات بالتهم من علامات أهل البدع كالخوارج الذين يكفرون مخالفيهم،
فالمبادرة الى تكفير المخالف في مسائل للاجتهاد فيها مجال، من علامات الخوارج، وسب المخالفين ولعنهم والتشنيع عليهم من علامات الروافض، فعلى كل مسلم أن
يتأدب بهذه الآداب، على كل مجتهد، على جميع أهل العلم أن يتأدبوا بهذا الأدب
السلفي إن كانوا وقعوا في مسلك أهل البدع من التشنيع على المخالفين ورميهم بالتهم
وتبديعهم وتكفيرهم وسبهم والتشنيع عليهم، فعليهم أن يستغفروا الله ويتوبوا إلى الله
ويعودوا إلى منهج السلف.
أما أهل العلم والفقه والاجتهاد من علمائنا على مختلف مستوياتهم ودرجاتهم
أكابرهم وأصاغرهم فإننا نطالبهم بأن يواجهوا النوازل التي وقعت بنا والواقعات
التي استجدت علينا، وما أكثرها وما أخطرها مثلاً، نحن نواجه الآن في مجتمعنا
هجمة علمانية، هناك من يحاولون علمنة هذا المجتمع ومحاولة صبغه بصبغة
العلمانية، فيدعون للفصل بين الدين والحياة وبين الفقه والمجتمع، وهذه نازلة
خطيرة جدت في الأمة فالمجتمع المسلم يسير بخطى حثيثة إلى العلمانية بضغوط
خارجية وجهود داخلية، أناس يتكلمون بألسنتكم وهم من جلدتكم وهم يبذلون النفس
والنفيس في سبيل تخريب هذا المجتمع المسلم، وهذا من أعظم النوازل، فعلى
علمائنا أن يواجهوا هذه النوازل بعقلية ناضجة كعقلية السلف، عقلية الصحابة
رضوان الله عليهم أجمعين، عقلية واعية عميقة تتقي الله عز وجل، فإن من أعظم
ما يواجه به هذا المقام أن يبين العلماء الحكم الشرعي لا يخافون في الله لومة لائم،
والحمد لله أنه لاتزال في مجتمعنا بقية من علماء يقولون الحق ولا يخافون لومة لائم، نسأل الله أن يثيتهم ويجزيهم عنا خير الجزاء.
العالم أو المفتي الذي لا يتقي الله في بيان الحكم، وينافق العلماء، لا يصلح
للاجتهاد، وهو والجاهل سواء لأنه أخطر من الجاهل، العالم يقتدى به فإذا لم يتق
الله في بيان حكم الشرع يورد الأمة موارد الهلاك، وهناك علماء للأسف ينافقون
الحكام أو يخافون منهم ولا يبينون الأحكام على وجهها الصحيح، ومن أعجب
الأمثلة على ذلك مفت في بلد مسلم أفتى بإباحة الربا إذا مارسته الدولة وتحريمه إذا
مارسه أفراد الشعب، انظر إلى أي حد يصل النفاق ومداهنة الحكام، هذا فقيه نعم
ولكنه من فقهاء السلطان له سلف، ذلك المنافق الذي رأى حماماً يلعب به الخليفة
فكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالحديث الصحيح لا سبق إلا في
خف أو حافرأو نصل، فزاد أو جناح هذا مثل ذاك فأمثال هؤلاء موجودون نسأل
الله عز وجل أن يكفينا شرهم.
__________
(1) الحديث بنصه البخاري، ج1، ص219.
(2) مسلم، ج2، ص1099، كتاب الطلاق، ح/1472.
(3) المصنف لابن أبي شيبة، ج9، ص362، ح/7803.(78/14)
دراسات شرعية
نظرات في
علم أصول الفقة: الصعوبة والعلاج
محمد عثمان الأخضر شوشان
أصول الفقه أحد العلوم الإسلامية الأصيلة توالت المؤلفات فيه عبر التاريخ،
إلا أن ظاهرة صعوبة هذا العلم ملموسة، وهذه الرؤية من الكاتب محاولة لعلاج
صعوبة هذا العلم.
- البيان -
تعتري أصول الفقه جملة من المشكلات في جوانب مختلفة منه في مضمونه
أحياناً، وفي منهج دراسة مسائله، ومناقشة بعضها، وفي الأسلوب الذي سطر به
أحياناً، وفي منهج تدريسه أحياناً أخرى، وكلها مشكلات تسببت في قلة الاستفادة
من هذا العلم المهم، لذا فهي بحاجة ماسة للحلول والعلاج من قبل المتخصصين فيه
عسى الله عز وجل أن ينفع بها.
وأحاول في هذا المقال إن شاء الله تسليط الضوء على إحدى هذه المشكلات،
محاولاً طرح بعض الحلول لها حسب ما أراه مناسباً.
تتمثل هذه المشكلة في منهج تدريس أصول الفقه، تلك التي نتج عنها قضيتان
خطيرتان: الأولى عدم فهم أصول الفقه، والثانية عدم معرفة كيفية الاستفادة منه
بعد ذلك.
أما القضية الأولى: فإن طلبة العلم الشرعي في الجامعات والمعاهد
المتخصصة بله من هم دونهم يشكون من صعوبة فهم مادة «أصول الفقه» وتؤكد
نتائج الاختبارات هذه الدعوى في كل فصل دراسي.
أما القضية الثانية: فإن هناك عدداً لا بأس به من طلبة العلم إما لأنهم رزقوا
فهماً قوياً، أو لأنهم بذلوا جهداً مضاعفاً قد أدركوا وفهموا كثيراً من مسائل هذا الفن
ولكنهم للأسف الشديد لا يستفيدون من هذا شيئاً في ممارساتهم العلمية، وذلك لعدم
معرفتهم بكيفية الاستفادة من هذا العلم!
إن حل هاتين المشكلتين موزع في نظري بين أطراف ثلاثة هي:
1- طالب العلم.
2- معلم مادة أصول الفقه.
3- المؤسسات العلمية والتعليمية المهتمة بتدريس هذه المادة والاستفادة منها.
أولاً طالب العلم:
إن أهم مسألة ينبغي أن تتوفر لدى طالب العلم تجاه هذا الفن بعد سلامة القصد
هي إدراكه للغرض من دراسته والفائدة المرجوة منه، ويحصل ذلك بمطالعة ما
سطره العلماء في هذا الخصوص، ويمكن جمع ذلك في ثلاث نقاط:
1- تحصيل ملكة الاستنباط للأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية
وملكة الاستنباط هي رأس مال الجهد كما قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني.
2- استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة حسب نظر المجتهد لا في واقع
الأمر، وهذا مبتغى ومطلب كل مجتهد صادق مخلص، ورفع الإثم عنه عند الخطأ
منوط بسلوكه المنهج القويم في الاجتهاد أي اعتماده قواعده الشرعية، التي هي
أصول الفقه.
3- معرفة سبب الاختلاف في جملة من الفروع الفقهية المختلف فيها بين
العلماء إذ إن الاختلاف في القاعدة الأصولية قد يسبب اختلافاً في أحكام الفروع
الفقهية، مما يمهد ويختصر للطالب أسباب الترجيح.
4- استنباط أحكام النوازل باستخدام دليل القياس أو مقاصد الشريعة.
كما على الطالب أن يستحضر أن أول من ألف في هذا الفن تأليفاً مستقلاً إمام
جليل من أئمة أهل السنة والجماعة هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله
مما يؤكد توجيه مسؤولية هذا العلم إلى من ينتمون إلى هذا المنهج منهج السلف
الصالح تعلماً وتعليماً واستفادة وتجديداً.
إن إدراك طالب العلم لأهمية هذا العلم من خلال الوقوف على أغراضه
وفوائده، ثم مقارنة ذلك بحال كثير ممن تصدروا للفتيا والاجتهاد في أيامنا هذه
سواء أكانوا ممن يدعون الالتزام بالنصوص الشرعية أو ممن يغلبون النظرة العقلية
المصلحية على النصوص الشرعية على حد سواء، وما ترتب على هذا من مفاسد، لمن أهم أسباب تنشيط الهمة والجد والاجتهاد لفهم مسائل هذا العلم مهما كانت
التضحية كبيرة.
ثانياً معلم مادة «أصول الفقه» :
تنتظم الاقتراحات المتعلقة بالمعلم في هذا الموضوع في مقدمتين: المقدمة
الأولى: عُرّف أصول الفقه باعتباره لقباً بأنه (القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط
الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية) [1] ، وقد عُرّفت القاعدة بأنها (حكم
كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه كقولنا: كل حكم دليل على القياس
فهو ثابت) [2] .
المقدمة الثانية: هذه القواعد إنما يتوصل إليها لتكون عند عملية الاستنباط
(مقدمة كبرى في القياس الحملي أو ملازمة في القياس الاستثنائي، بعد أن يقدم لها
بمقدمة صغرى موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة ودليل تفصيلي يعرفه
الفقيه بيسر وسهولة كالأمر بالصلاة في قوله تعالى: [أقيمو الصلاة] فيكون بذلك
قياساً منطقياً هذه كيفيته:
المقدمة الصغرى: الصلاة مأمور بها في قوله تعالى: [أقيموا الصلاة]
وهذا دليل تفصيلي.
المقدمة الكبرى: كل مأمور به واجب (وهذه أصولية أو دليل كلي إجمالي) .
النتيجة: الصلاة واجبة (وهذه النتيجة حاصلة بإسقاط الحد الأوسط المكرر) .
فمن هاتين المقدمتين ندرك أن أصول الفقه في الاصطلاح هو القواعد الكلية
نحو (كل أمر للوجوب) التي يتوصل بها المجتهد إلى التعرف على الأحكام الشرعية
الفرعية (كوجوب الصلاة) من الأدلة التفصيلية التي هي في هذا المثال قوله تعالى:
[أقيموا الصلاة] ، وهكذا ... [3] .
الاقتراحات المترتبة على هاتين المقدمتين:
1- قيام مدرسي أصول الفقه بتدريسه على أساس ما عرف به سابقاً، أي
على شكل قواعد (أحكام كلية ... «بحيث تكون القاعدة شكلاً ومضموناً هي
موضوع الدرس يتناولها المدرس بالشرح والتفصيل.
2- قيامهم كذلك بتدريب الطلاب على كيفية الاستفادة منها عند التطبيق على
الصفة المذكورة آنفاً، مع ذكر الأمثلة الصحيحة الواقعة في مصنفات أهل العلم.
ويطلق على هذا المنهج (تخريج الفروع على الأصول) يستعين المدرس بما
ألف فيه، ومن ذلك:» أصول الشاشي «،» تخريج الفروع على الأصول
للزنجاني «،» مفتاح الوصول في بناء الفروع على الأصول للتلمساني «،
التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للاسنوي» ، «القواعد والفوائد الأصولية
لابن اللحام» ، وكلها كتب مطبوعة وفي متناول الجميع.
ولهذين الاقتراحين فوائد منها:
1- سهولة حفظ القاعدة واستذكارها عند الحاجة إليها باعتبارها المقصود
الأول من الدرس.
2- يسر الاستفادة منها عند التطبيق كما هو مبين في ترتيب المقدمات بخلاف
ما لو عرضت على شكل بحث مبسوط.
وبهذا إن شاء الله يجد الطالب نفسه أمام سبيل لا غموض فيه، ولا صعوبة
للتوصل إلى حكم شرعي في مسألة معينة، ولم يبق منه سوى بذل الجهد في تحديد
الأدلة المتعلقة بمسألته.
ثالثاً المؤسسات التعليمية والعلمية:
أرى أن المطلوب من هذه المؤسسات للمساهمة الجادة في حل هذه المشكلة
جملة من الأمور:
1- عقد ندوات وجلسات يدعى إليها المتخصصون في هذا العلم لتشخيص
المشكلة، ومحاولة تقديم حلول عملية لها.
2- المسارعة في تنفيذ ما توصل إليه أهل الاختصاص في هذا الشأن ونشره
تعميماً للفائدة.
3- تكليف الباحثين في الدراسات العليا ممن تتعلق رسائلهم بالأحكام بوضع
فهرس للقواعد الأصولية المذكورة في بحوثهم حتى يتمكن غيرهم من التعرف على
كيفية استفادتهم من تلك القواعد.
4- على المؤسسات العلمية التي تقوم بإصدار الفتاوى والبحوث وضع فهرس
للقواعد الأصولية المذكورة في مجلاتها الدورية للغرض السابق نفسه.
غير أنه بعد قراءة هذه المقترحات يتبادر إلى الذهن سؤال مهم وهو: هل
القواعد الأصولية كلها قد صيغت على شكل قواعد؟ وهل هذه الصياغة موحدة بين
الأصوليين؟
لا شك أن هاتين المسألتين في غاية من الأهمية بالنسبة لزماننا هذا على الأقل، إذ قد لا تكون بهذه المثابة عند الأوائل لاعتبارات كثيرة، فليس سهلاً أن يقوم أي
طالب أو باحث بصياغة قاعدة من بعد إدراكه للدرس، إذ يتطلب هذا العمل الدقيق
إحاطة بجميع متعلقات القاعدة، وقد لا يتوفر هذا في غير أصحاب التخصص
المتمرسين من أساتذة ومجتهدين.
لذا فإنني أقترح أن تقام ندوات وجلسات علمية يدعى إليها هؤلاء لوضع صيغ
موحدة للقواعد الأصولية، ثم نشرها ليتداولها الجميع، علماً بأن علماءنا الأوائل قد
كفونا مؤونة صياغة جملة منها، وبخاصة القواعد المختلف فيها ومظانها كتب
التخريج والأصول وأسباب الاختلاف وبعض كتب القواعد الفقهية، وكان من
منهجهم في صياغتها أن تذكر القاعدة بصيغة السؤال إن كانت مختلفاً فيها وبصفة
التقرير إن كانت متفقاً عليها.
وفي الختام أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذه الاقتراحات، وأن يرزقنا
الإخلاص والتوفيق في العلم والعمل.
__________
(1) شرح مختصر المنتهى 1/18.
(2) التلويح للتفتازاني 1/20.
(3) أصول الفقه للباحسين 120.(78/22)
دراسات اقتصادية
المشكلة الاقتصادية
وعلاجها من المنظور الإسلامي
-2-
د. محمد عبد الله الشباني
في الحلقة السابقة تطرقنا إلى جانب من معالجة الإسلام لجانب من جوانب
المشكلة الاقتصادية، وهو جانب الندرة، وفي هذه الحلقة سوف نتطرق إلى
الجوانب الأخرى لمعالجة مشكلة الندرة، وهذا الجانب يتعلق بدور الدولة في معالجة
الندرة من خلال كيفية استغلال الموارد الطبيعية وتنميتها، أي دور الدولة المسلمة
في التأثير على الإقلال من تأثير قانون الندرة على المشكلة الاقتصادية.
إن من مهمات الدولة أن تعمل على البحث عن المصادر الطبيعية، فقد أشرنا
في الحلقة السابقة إلى الحديث الذي رواه أبو يعلى في مسنده عن عائشة رضي الله
عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء فيه: (اطلبوا الرزق في خبايا
الأرض) [1] ، ففي هذا الحديث توجيه نبوي للأفراد وللحاكم المسلم باعتباره ...
مسؤولاً عن الأمة، والقاعدة التي يتبعها التشريع الإسلامي هي مخاطبة الأمة
فصيغت الأوامر كما جاءت في القرآن الكريم موجهة لأفراد الأمة بأجمعهم لكن
مسؤولية التنفيذ تقع على الحاكم نفسه، فمن ذلك قوله تعالى: [ولكم في القصاص
حياة يا أولي الألباب] [البقرة: 179] ، وقوله تعالى: [الزانية والزاني فاجلدوا
كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله] [النور: 2] ، كما
يلاحظ ذلك في الأحاديث النبوية الشريفة حيث يتوجه الخطاب إلى الأمة، لكن جهة
التنفيذ هم ولاة الأمر، وعليه فإن التوجيه النبوي في هذا الحديث يقتضي أن تقوم
الدولة بالبحث عن مصادر الرزق المخبوءة في باطن الأرض.
الحديث الشريف يوضح العلاج:
إن من وسائل علاج ندرة الموارد وفق ما يشير إليه ذلك الحديث الأمور التالية:
1- ضرورة بذل الجهد من قبل الأمة ممثلة في الحاكم المسلم بالعمل على
البحث عن الموارد الطبيعية، وتسخير القوى العاملة من الأمة بالعمل على بذل
الجهد والمشقة، فصيغة «اطلبوا» توحي بأهمية الحصول على موارد طبيعية
جديدة، أو اكتشاف مجالات جديدة في استغلال الموارد الطبيعية المتاحة، مما
يقتضي بذل كل جهد ممكن عضلي أو عقلي وبالتالي فإن مشكلة الندرة لن تحل
بدون بذل الجهد والعمل، فالله قد تكفل برزق جميع مخلوقاته، ويؤكد هذه الحقيقة
قوله تعالى: [وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها] [هود:
6] ، لكن الحصول على هذا الرزق يستدعي بذل الجهد، كما أنه لا يقتضي كثرة
الكمية المتاحة، ولكن اكتشاف مختلف مجالات الاستخدام للموارد المتاحة يؤدي إلى
إشباع حاجات الإنسان.
2- إن مفهوم الرزق كما أشار إليه الحديث لا يقتصر على شيء دون آخر بل
يشمل كل شيء يحقق إشباع الحاجات سواء أكان الأمر يتعلق بالإنتاج الزراعي، أو
المعدني، أو غير ذلك، وبالتالي ضرورة قيام الأمة ممثلة في ولي الأمر بالتنقيب
عن مصادر الرزق، إذ أن المصادر مخبوءة في باطن الأرض، فإذا تقلصت أو
قلت الموارد المتاحة على وجه الأرض فلا يعني ذلك أن الرزق قد انقطع،
والاكتشافات العلمية المعاصرة أكبر دليل على أن الله يفتح في كل يوم على البشر
مصادر جديدة من الرزق سواء أكان ذلك من خلال العثور على موارد جديدة، أو
اكتشاف كميات إضافية، أو اكتشاف مجالات جديدة لاستخدام الموارد المتاحة، التي
تساعد على إشباع متطلبات الإنسان.
3- يوجه الحديث الانتباه إلى حقيقة مهمة أغفلها المسلمون ولم يهتموا بها
وهذه الحقيقة هي أن الأرض مملوءة بالخيرات، وأن المشكلة تكمن في الإنسان
نفسه، فالأرض تمتلك في باطنها خيرات كثيرة، وما على الإنسان إلا أن يُعمل
فكره، ويبذل جهده في البحث عن مصادر الرزق في باطن الأرض، ولن يكون
هناك عجز في الموارد لتلبية احتياجات الإنسان إلا إذا كسل الإنسان عن البحث
عنها، أو انحرف فكره وسلوكه في استغلال ما أتاحه الله له من خيرات فصرفها في
مجالات مضرة تعود بالشر عليه، وإن الممارسات المعاصرة من قبل الدول لهي
أكبر دليل على أن العجز ليس في الموارد بقدر ما هو في نوعية استغلال الجهد في
ما يعود بالضرر على الإنسان نفسه.
ضرورة استغلال الموارد المتاحة:
إن من المسببات لإيجاد الندرة في الحاجات القصور في استغلال الموارد
المتاحة، ولهذا فإن من المهام الأساسية التي ينبغي على ولاة الأمر من المسلمين
الاهتمام بها هو استغلال الموارد المتاحة، وعدم تعطيلها، تلك التي يمكن من
خلالها سد حاجات المجتمع، وإن ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع
يهود خيبر لإشارةٌ واضحة الدلالة على ضرورة استغلال الموارد المتاحة، فقد روى
البخاري والبيهقي في سننه وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عبد
الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر
لليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها [2] ، وفي رواية
للنسائي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر
وأرضها على أن يعملوها من أموالهم وأن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شطر
ما يخرج منها، وفي حديث أخر رواه البيهقي بسنده عن عبد الله بن أبي بكر قال:
جاء بلال ابن الحارث المزني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستقطعه
أرضاً فقطعها له طويلة عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال إنك
استقطعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرضاً طويلة عريضة أقطعها لك وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليمنع شيئاً يسأله، وإنك لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل قال انظر ما قويت عليه منها فأمسكه وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله شيء اقتطعنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين [3] .
من هذين الحديثين نرى اهتمام الإسلام وحرصه على معالجة ندرة الحاجات
من خلال العمل على استغلال المتاح منها، والعمل على الاستفادة القصوى من
الموارد المتاحة وعدم تعطيلها، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- عمد إلى علاج
النقص في الأيدي العاملة القادرة على الحرث والزراعة بالاستعانة باليهود على أن
يكون للمسلمين شطراً مما تخرجه الأرض، وصنع عمر وهو ولي أمر المسلمين
مع بلال المزني باستعادته ما لم يستطع بلال عمارته مما تم إقطاعه إياه من رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، يؤكد حقيقة أن معالجة الندرة في أحد جوانبها هو
العمل على استغلال المتاح من المصادر، وتدخل الدولة حسب سلطتها لتنفيذ ذلك،
ولهذا نجد الواقع السيئ للمجتمعات الإسلامية في عجزها عن استغلال مواردها
وتعطيلها سواء أكان ذلك من خلال التنظيمات والتشريعات المالية والإدارية المعيقة
للمبادرات الشخصية، أو من خلال تبني مناهج في التخطيط الاقتصادي
والاجتماعي تساعد على تعطيل الموارد وجعلها في حالة عجز دائم.
تدخل ولي الأمر للمصلحة العامة:
إن من واجبات الدولة في حالة تعطل مورد من الموارد الطبيعية بسبب عدم
قدرة الشخص على التنفيذ لنقص في قدراته المادية أن تتدخل في تنظيم ذلك، ففي
عمل عمر رضي الله عنه باستعادة ما تم إقطاعه واعادة توزيعه على المسلمين،
تنفيذ لهذا الجانب من حيث عدم ترك الأرض غير مستغلة ولهذا فإن من مسؤولية
الدولة وضع الأنظمة الإجرائية التي تساعد على استغلال المتاح من الموارد
الطبيعية وغيرها ممن يُعجَزُ عن استغلاله بأحد عوامل الإنتاج ففي حالة توقف
المصانع الإنتاجية لعدم قدرة أصحابها على الإنفاق عليها، فإن على ولي الأمر
التدخل وعدم تعطيل هذه الموارد، فقد روى أبو داود بسنده عن عبد الله بن محمد
بن عبد الرحمن الحميدي أن عامر الشعبي حدثه أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فأحياها
فهي له « [4] ، ففي هذا الحديث إرشاد لولي الأمر أن يتدخل في حالة عجز
المالكين عن استغلال عنصر من عناصر الإنتاج، وذلك باستغلاله وفقاً للقاعدة
الشرعية» لا ضرر ولا ضرار «بحيث يكون لولي الأمر وضع القواعد الإجرائية
التي تساعد على تدخل الدولة في حالة توقف المصانع أو المزارع الكبيرة عن
الإنتاج لعجز المالكين عن استغلالها، مراعاة لمصلحة الاقتصاد العام للدولة، مع
مراعاة حقوق المالكين، بشرط عدم تعطلها عن المساهمة في زيادة الناتج القومي.
أساليب تنمية الموارد:
إن من مسببات الندرة المرتبطة بالموارد الطبيعية سوء الأسلوب في استغلال
الموارد المتاحة، بحيث تؤدي إلى ضعف وعجز الموارد عن القدرة على الإنتاج
وتوفير الاحتياجات؛ ولهذا فإن طرق وأساليب استغلال الموارد الطبيعية يلعب دوراً
في اضمحلال وتقلص القدرة الإنتاجية للمورد الطبيعي، ولقد حرص الإسلام على
هذا الجانب، ووردت أحاديث عدة توجه الانتباه إلى هذا الجانب، وإن على قادة
المجتمع المسلم الاهتمام بهذا الجانب، ومن تلك الأحاديث ما رواه البيهقي في سننه
عن علي بن الحسن عن أبيه عن جده قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
المدينة فقال: (يا معشر قريش إنكم تحبون الماشية فأقلوا منها، فإنكم بأقل الأرض
مطراً، واحرثوا فإن الحرث مبارك أكثروا فيه من الجماجم [5] ) ، وفي حديث
آخر رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب أنه قال: نهى عن الحكرة بالبلد، وعن
التلقي وعن السوم قبل طلوع الشمس، وعن ذبح قني الغنم [6] ، وقد روى أبو
داود عن عبد الله بن حبشي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من
قطع سدرة صوب الله رأسه في النار» [7] .
من هذه الأحاديث يمكن فهم السياسة التي يوجه الإسلام أتباعه إليها فيما يتعلق
بأساليب المحافظة على الموارد الطبيعية بالعمل على المحافظة على الغطاء النباتي، ... وعدم قطع أو إزالة الغطاء الشجري، والتعامل مع الموارد المتاحة حسب
طبيعة البيئة، واستغلال الموارد وفقاً للظروف البيئية، ونلاحظ ذلك من توجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين من قريش بتغيير نمط الاستثمار من تربية الماشية التي تعتمد على الرعي إلى الحرث، حيث أن طبيعة البيئة لا تسمح لهذا النوع من الاستغلال بخلاف البيئة في مكة التي تقوم على الرعي وليس على الزراعة، كما أن الزراعة في منطقة المدينة أجدى وأكثر فائدة، ولهذا فإنه من الواجب استخدام البدائل والخيارات عند التعامل مع الموارد الطبيعية، وعدم استنزاف الموارد المنتجة، والإبقاء عليها من أجل زيادتها كما يرشد إلى ذلك الحديث الذي منع من ذبح إناث الغنم لما في ذبحها من استنزاف لمورد من الموارد المتاحة لإشباع حاجات الإنسان، وينطبق هذا على أي مورد من الموارد المتاحة للإنسان بضرورة العناية بتنمية الموارد الطبيعية وزيادتها من خلال حسن الاستغلال.
إن ما توحي به جميع الأحاديث التي أشرنا إليها من توجيهات، لهو مؤشر
قوي على مدى حرص الإسلام على معالجة جانب ما يحدث من عجز في توفير
الاحتياجات الفردية من خلال معالجة مسببات الندرة المرتبطة بالموارد الطبيعية.
__________
(1) ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد أن ابن حبان ضعفه لأن فيه هشام بن عكرمة ولكن المعنى ودلالات النص يمكن أخذها من عموم نصوص أخرى.
(2) فتح الباري، ج5، ص19، باب المزارعة مع اليهود ح/2331.
(3) أخرجه مالك في الموطأ، والدارمي.
(4) رواه أبو داود ح/3456، صحيح سنن أبي داود ح/2950.
(5) الجماجم نوع من المجسمات تشبه الرؤوس توضع بين الزروع والثمار لمنع الطير من أكلها.
(6) قني الغنم أي التي تقتنى للدر والولد، واحدتها قنوة.
(7) صحيح الجامع الصغير وزيادته، ج2، ص792، ح/4299، وصححه الألباني.(78/28)
خواطر في الدعوة
.. سددوا وقاربوا..
محمد العبدة
جُبلَ الإنسان على النقص والضعف، فربما أبرم اليوم أمراً يفكر غداً في
نقضه أو إصلاحه وتعديله، وعندما يضع البشر قانوناً من عند أنفسهم لتيسير
شؤون حياتهم، سرعان ما يكتشفون أن فيه ثغرات لابد من إصلاحها، أو أنه
يكبلهم بجزئية من جزئياته، ومن ثم يبدأ الالتفاف عليه، أو تفسيره بما يتناسب مع
أغراضهم.
نقول هذا لأنه عندما أراد المسلمون في هذا العصر ترتيب أمور الدعوة ترتيباً
إدارياً، أخذوا من البيئة التي حولهم، فكانت هذه (التراتيب) بحاجة إلى إعادة النظر
بين كل فترة وأخرى، للبحث عن عيوبها، وما هي أوجه النقص فيها، ولكن شيئاً
من هذا لم يحدث، ووجد المسلمون أنفسهم أسرى لقوالب جامدة، وشكليات صنعتها
أيديهم، لم يستطيعوا التخلص منها، وكان الواجب أن يستفيدوا من صياغة التشريع
الإسلامي كما أنزله الله سبحانه وتعالى، لأننا سنجد فيه دائماً مساحة ومرونة لزيادة
العمل، كما نجد فيه حداً أدنى وحداً أعلى، قال تعالى عن حال الدائن والمدين:
[وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون]
[البقرة: 280] والدفاع عن النفس ضد الظلم حق، ولكن التحمل والمغفرة أجمل:
[ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور] [الشورى: 42] ، [يسألونك ماذا
ينفقون قل العفو] [البقرة: 219] .
لماذا لم يستفد المسلمون من هذه السنة في تدبير الخلق، حتى كان من آثار
هذا الجمود والضيق أن عُطلت طاقات، وأهدرت إمكانات؟ فكم من شاب متحمس
أو داعية له قدم راسخة لم يستفد منه لأن طرائق العمل لا تستوعب الجميع، ولم
يكتف المسلمون أنهم ضعاف في اكتشاف الطاقات الفاعلة، بل زادوا على ذلك أنهم
خسروا كثيراً ممن عندهم خير وعلم، وقراءة في تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة
تنبئك عن العشرات والمئات الذين لم تستوعبهم الدعوة، وربما وجدوا أنفسهم أمام
طريق مسدود، فاختار بعضهم القيام بجهود فردية، ومنهم من أصابه الفتور وآثر
العزلة.
يقول بعض المفكرين: «إن من أسباب تقدم الإنجليز على من سواهم من
الشعوب الأوروبية في بداية نهضتهم هذه، المرونة في تنظيماتهم وكل
شؤون حياتهم، فنراهم دائماً يتركون مساحة للتحرك من خلالها ومحاولة التخريج والاجتهاد» .
هذا ما توصلت إليه عقولهم البشرية، أما المسلمون الذين يحملون فكرة
التجديد فهم يستهدون بالسيرة النبوية وأسلوب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في
معاملة صحبه الكرام، ويتأملون أسرار نزول القرآن منجماً خلال ثلاث وعشرين
سنة، وكيف تربى المسلمون من خلال هذا التنزيل، وإذ فعلوا هذا فإنهم سيصلون
إلى نتائج طيبة بإذن الله.(78/35)
هموم ثقافية
أقوال منسية حول «التغريب» [*]
د. أحمد إبراهيم خضر
منذ العشرينيات من هذا القرن والباحثون الغربيون المتخصصون منشغلون
بقضايا تغريب العالم الإسلامي بعامة، وما يسمونه بمنطقة الشرق الأوسط بخاصة
ولا يكاد يخلو أي كتاب أو أي مقالة تتعرض لحياة المسلمين من إشارة هنا وأخرى
هناك لهذا التغريب، إلى الدرجة التي حدت بهؤلاء الباحثين إلى القول:
«إن مظاهر التغريب عند شعوب الشرق الأوسط مشاهدة تماماً وبدرجة
كافية وإنه لمن السهل عليك أن تضع قائمة طويلة توضح لك كيف أن هذه المظاهر
التقليدية التي كانت سائدة منذ مائة أو مائة وخمسين عاماً قد اجتاحتها رياح التغيير،
واستبدلتها بقيم أدخلها الغرب» .
لم يكن تغريب المسلمين مسألة متروكة لمجرد الاحتكاك بين الثقافتين
الإسلامية والغربية، ثم متابعة آثار هذا الاحتكاك على الإسلام والمسلمين، إنما
كانت سياسة موجهة ومدروسة تستند إلى تنظير خاص، يعتمد في جزء كبير منه
على تجارب الاحتكاك بين الإسلام والغرب في الماضي، وعلى تجربة الثورة
الصناعية وما تلاها من آثار على البناء الاقتصادي والاجتماعي والتقني الغربي، ثم
على تحليل مسألة اتساع الهوة بين هاتين الثقافتين بعد الثورة الصناعية؛ بسبب
الاستقرار الثقافي في بلاد المسلمين، وتلك التراكمات التي أخذت مكانها في الغرب.
نظرية ومكاسب:
استندت عملية تغريب المسلمين إلى ما يسمى بنظرية (تشويش الأحكام
القيمية) أو إيقاع الاضطراب في هذه الأحكام، وتقوم هذه النظرية على الأساس
التالي:
«هناك توازن وتوافق بين عناصر ثقافة المجتمع التقليدي المستقر جيداً،
بمعنى أن القيم التي تحكم وتسود هذا المجتمع تتسق وتؤيد واقعه المعاش؛ ولهذا
تتميز ثقافة هذا المجتمع بالتماسك والتوازن الداخلي.
ويمكن للواقع الثقافي أن يعير وأن يستعير عناصر من ثقافة أخرى مخالفة
بصورة أكثر سرعة من استعارة القيم الثقافية، ولهذا يصعب حدوث تغير في القيم
في الوقت الذي يسهل فيه حدوث تغير في الواقع.
وعندما يحدث اتصال بين ثقافتين مختلفتين، فيدخل واقع جديد إلى إحداهما
يمكن هنا أن يتحطم التوازن القديم، وتتغير القيم الثقافية بتغير الواقع الذي كانت
تحكمه وإن احتاج الأمر إلى بعض الوقت، بسبب هذه الصلة العاطفية التي يحيط
بها المجتمع ثقافته الخاصة، ومقاومته لإدخال أي محتويات ثقافية غريبة أو جديدة.
وهذا لا يعني بالطبع أن مكونات الواقع في ثقافة ما يمكن أن تزرع في ثقافة
أخرى دون أن تسبب تغيرات في قيمها، أو أن قيم ثقافة ما يمكن أن تفرض على
الثقافة الأخرى دون أن تحدث تغيرات في مكونات هذه الثقافة؛ لأن التناسق المحكم
والاعتماد المتبادل بين مكونات الواقع والقيم الثقافية يجعل من غير الممكن أن تدخل
تغيرات في واحدة منها دون أن تحدث تغيرات في الأخرى» .
بهذه النظرية دخل الغرب إلى حياة المسلمين ساعياً بمختلف طاقاته الثقافية
والعسكرية والاقتصادية والتقنية إلى إدخال واقع جديد يخص ثقافته هو على ثقافة
المسلمين؛ ليحطم التوازن القائم بين واقعها وقيمها، ويغير من قيمها حتى تصبح
مناسبة للواقع الجديد الذي أدخله عليها، ولقد حقق الغرب هنا مكسبين مهمين:
أولهما أنه بتحطيمه لهذا التوازن المشار إليه أوجد هوة عميقة بين الإسلام والمسلمين، ودمر الصلة العاطفية التي تربط المسلمين بإسلامهم والمكسب الآخر: أنه وهو
يخترق هذه الهوة ليملأ الفراغ المترتب عليها حرك الأمور بالطريقة التي تمكنه من
تحقيق مكاسب مادية ضخمة على حساب هذا الكيان المنهار.
سنقتصر في مقالتنا هذه على عرض وتحليل ثلاثة من عناصر هذا الواقع
الجديد الذي أدخله الغرب على حياة المسلمين فدمر التوازن القائم في ثقافتهم.
أولا صنع هيبة الغرب:
لم يكن هذا الواقع موجوداً من قبل، كانت العلاقة بين المسلمين وغيرهم تقوم
على أساس «الإسلام والكفر، وجاء الغرب وأدخل واقعاً جديداً.. فبعد أن تمكن
من إيجاد موطئ لأقدامه في بلاد المسلمين، أحاط نفسه وأهله بهالة من الهيبة
والاحترام، وفرض نفسه على النظام الاجتماعي القائم في بلاد المسلمين، وتقلد
الوظائف القيادية، وساهمت حكومات بلاد المسلمين العلمانية في تدعيم هذه الهيبة؛
بوضع أبناء المستعمر في مواقع قيادية مهمة وسمحت لهم بالحضور إلى مناسبات
وطنية وغير وطنية، لا يدعى إليها عادة إلا كبار رجالات الدولة وعلية القوم فيها.
وزاد الغرب من هيبته في عيون المسلمين بما أدخله عليهم من صناعات
وتكنولوجيا ومعرفة في ميادين مهمة انفرد بها، وكان نتيجة ذلك أن ظهر الغربيون
للمسلمين على أنهم هم الأسمى وهم الطبقة العليا.
وهنا تغيرت القيم فأصبح الغرب وأهله هدفاً مرغوباً يسعى بعض المسلمين
للانتفاع به، كما ينتفعون بصناعاته ومنتجاته، وسهلت هذه الهيبة عند المسلمين
طريق محاكاة أسلوب الحياة والسلوك والأخلاقيات والاتجاهات الغربية، ثم جاء
الانهيار الكبير حينما قلد المسلمون الغربيين في فتورهم نحو دينهم وعدم مبالاتهم به
وهو عين ما كان يهدف إليه الغرب.
يقول (روفائيل باتاي) أستاذ علم الإنسان في (دوبسيي كوليج) بفيلاديلفيا
وجامعة كولومبيا في الخمسينيات من هذا القرن:
» ... بينما تكشف لنا البدايات التقنية للتغريب عن هذا النجاح العالمي الذي
حققته، تأتي هناك عوامل أخرى أبرزها (نظام الهيبة الجديد) الذي تسرب الغربيون
عن طريقه إلى قطاعات الناس المختلفة، وتمكنوا من السيطرة والرقابة على
الوظائف المهمة، وفرضوا أنفسهم على النظام الاجتماعي، وظهروا للناس على
أنهم هم الأسمى وهم الطبقة العليا.
ليس من السهل أن نحلل المكونات المتعددة التي تصنع الهيبة الغربية، لقد
كان عنصر القوة هو العنصر الأكثر أهمية في أيام الاستعمار الأوربي، إلا أن هذا
العنصر قد استبدل الآن بمزيج متعدد المكونات: مثل الثروة، وتملك الآلات
والمعدات الغربية ذات الهيبة، أو المعرفة الخاصة في ميادين ذات أهمية متزايدة
كالطب والزراعة وغيرهما، وشغل مراكز تحظى بالثقة والنفوذ تمنحها الحكومات
المحلية للغربيين، والسماح لهم بالحضور الحر في مناسبات معينة مثلما يسمح تماماً
وبدرجة متساوية للقيادات العليا في الدولة. إن الهالة والهيبة التي تحيط بالغربي
غلفت ثقافته تماماً، فأصبح اكتساب الثقافة الغربية نتيجة لذلك هدفاً مرغوباً فيه
اجتماعياً يفوق بدرجة كبيرة الانتفاع المعترف به لمنتجات هذه الثقافة «.
وفي معرض حديثه عن تخلي المسلمين عن مناهجهم التقليدية في الطب
واتباعهم لمناهج الطب الحديث يقول (باتاي) في وثيقته:
» إن البحث في الأسباب التي أدت إلى التغيرات في الاتجاهات العقلية التي
سادت منذ قرون، لا يجعلنا نرد هذه التغيرات العقلية إلى الاهتداء المفاجئ إلى
التفكير الأكثر عقلانية ولكن إلى (الميل للغرب) .. من أين أتى هذا الميل؟ !
تكمن الإجابة على هذا السؤال في هذه الهيبة للغربيين وثقافتهم، إن الهيبة
التي يتمتع بها كل شيء غربي في عيون شعوب الشرق الأوسط أوجد فيهم نزوعاً
إلى محاكاة كل الطرق الغربية، إنه أدى إلى رغبة خانعة ليس فقط في الحصول
على المعدات الغربية، ولكن رغبة في تقليد السلوك والاتجاهات الغربية كذلك. لقد
قبل الطب الغربي ليس لأنه أظهر أفضلية ولكن لأنه طب غربي، تبنى سكان
الشرق الأوسط ازدراء الغرب للممارسات السحرية وغير العلمية، ليس لأن ذلك له
قيمة فحسب، ولكن لأنه أمر مؤكد جاء به الغرب (المهاب) «.
وعن (اللامبالاة) وعدم الاكتراث بالدين التي قلد فيها المسلمون الغرب يقول
(باتاي) :
» ... وهنا ظهر على المسرح (الغربي) المحمل بالهيبة والذي يحتل وضعاً
أعلى ويحمل ثقافة تستحضر الرغبة في محاكاتها: أن هؤلاء الأجانب لا ينتمون
فقط إلى دين مختلف، ولكن اتجاهاتهم نحو دينهم المسيحي كانت فاترة فكان من
الطبيعي أن يقلد هؤلاء المعجبون بالطرق الغربية من مجموع ما قلدوه الفتور نحو
الدين واللامبالاة به، فأظهروا عدم الاهتمام بدينهم هم «.
ثانيا علمنة الأسرة:
ينظر الغربيون إلى الأسرة المسلمة على أنها أسرة ممتدة، والأسرة الممتدة في
المصطلحات الغربية هي الأسرة التي تتكون بنائياً من ثلاثة أجيال أو أكثر، وتضم
الأجداد وأبناءهم غير المتزوجين والمتزوجين (أو بناتهم) وتضم أحفادهم كذلك.
سعى الغربيون نحو علمنة الأسرة المسلمة، وإلى أن تكون الأسرة الغربية
وأشكالها الاجتماعية هي النموذج الجديد الذي يجب على المسلمين الاقتداء به. عمل
الغرب على فصل الأسرة المسلمة عن الدين، وذلك بكسر قبضة الدين من تلك
الأسرة الممتدة وتقليص اعتماد الفرد عليها، والقضاء على تكامله معها وتدمير
سلطة الأب على أولاده، وانفلات الأبناء من الأسرة؛ حتى ينفلتوا من الجو الديني
العام الذي يحيط بالأسرة، والنظر إلى كل ذلك على أنه ماضٍ يجب أن يرفض.
يقول (باتاي) :
» في الوقت الذي كان فيه التأثير المباشر للبعثات التنصيرية على الحياة
الدينية في الشرق الأوسط تافهاً، تميز الغرب بموقفه البارد تجاه الدين لأن الدين في
الشرق الأوسط في ظل الظروف التقليدية هو طريقة كلية للحياة: التنظيمات المهنية
هي تنظيمات دينية، ارتداء الزي المحلي أمر يقره الدين الطب والتعليم مهنتان
دينيتان، سلطة الدولة نفسها تقوم على الدين، ليس هناك ترتيب هرمي في الإسلام
كما هو في الكنائس المسيحية، وليس هناك قسيس أيضاً، العديد من سكان الحضر
منتظمون في دوائر دينية، والكثير من العائلات سواء أكانت في الريف أو الحضر
تحظى بتأييد المؤسسات الدينية، أما أكثر المؤسسات التي تمسك بقبضتها على الفرد
فهي الأسرة الممتدة، اعتماد الفرد على أسرته وتكامله معها مسألة عالية الأهمية في
ثقافة الشرق الأوسط إلى درجة أنها تعد ثقافة القرابة، الأسرة هنا مؤسسة دينية
يعضدها الدين، أي أن الدين يعضد الأسرة، وهي بدورها تعضد الدين.
ولما جاء التغريب أحدث انهياراً في السلطة الأبوية، وحطم الأسرة الممتدة
وغيّر نظام الاقتصاد العائلي بسبب حركة الهجرة من القرية إلى المدينة إلى نظام
اقتصادي يقوم على علاقات غيرشخصية، أصبحت الأسرة الغربية وأشكالها
الاجتماعية نموذجاً يحتذى به بين الطبقات العليا والوسطى، ولم يترتب على هذه
الأمور مجرد تغير جوهري في طبيعة الحياة الأسرية ذاتها فقط، وإنما ترتب عليها
أهم من ذلك كله وهو (علمنة الأسرة) وابتعادها عن الدين، فحينما ينفلت الشاب من
قبضة أسرته كان يخلف وراءه هذا الجو الديني الهام الذي كان يحيط به فيصبح
رفضه لهذا الجو جزءاً من رفضه للماضي، ولهذه الأسرة التي تحكم قبضتها عليه.
ثالثا الحياد الموجه للمشروعات الاقتصادية والفنية الغربية:
هناك الكثير من المشروعات الاقتصادية والفنية الغربية العاملة في البلاد
الإسلامية مهمتها الأساسية استنزاف خيراتها وربطها بالغرب، ولقد حرص
الغربيون وهم يدخلون هذا الواقع الجديد إلينا هذه المشروعات على تجنب الخوض
المباشر في أي موضوعات تتعلق بالعقيدة الإسلامية، وتركوا هذه المهمة للبعثات
التنصيرية بالرغم من تسليمهم بمحدودية عائدها وللشيوعية لكنهم أي الغربيين أولوا
الشيوعية اهتماماً وثقلاً أكبر، فهي في نظرهم التهديد الحقيقي الخطر على عقيدة
المسلمين الذي يمكن أن يطيح بتوازنهم الاجتماعي الثقافي، وقد تركزت الجهود
على إقناع المسلمين بأن الشيوعية لا تتطابق مع الإسلام فقط بل إنها التعبير
الحقيقي للشكل النقي من الإسلام في أصوله الأولى! ولا يهم هنا أن يكون نظام
الحكم القائم في بلاد المسلمين شيوعياً بقدر ما يهم تدمير بنائهم الاجتماعي الثقافي
الكلي.
يقول (با تاي) :
«تميز مدخل الغرب في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بصفة خاصة
بالاعتناء الشديد بتجنب الخوض في أي قضايا أيديولوجية، والتركيز على الناحية
الفنية فقط بالنسبة للمشروعات الاقتصادية والفنية وما هو على شاكلتها، دخلت هذه
المشروعات إلى الشرق الأوسط عبر الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومعها توجيه
أساس بعدم التدخل في القيم والأيديولوجيات الخاصة بالبلاد.
لكن الأمر يختلف بالنسبة للبعثات التنصيرية، فليس أمر الكف عن التدخل
الأيديولوجي موضع حرية اختيار هنا، إلا أنه يجب أن يوضع في الاعتبار رد فعل
المجتمع الإسلامي للمحاولات المكشوفة لتنصيره، لقد نجحت البعثات التنصيرية في
علاج عشرات الآلاف من المسلمين، كما علمت الآلاف من مرضى الأطفال
المسلمين، وربما أثرت بسلوكياتها ومثلها على النظرة الأخلاقية للعديد من المسلمين، ورغم ذلك فإن الذين تحولوا إلى النصرانية قلة قليلة. إن الدين في الشرق
الأوسط يشغل وضعاً محورياً في بنائه؛ ولهذا يعتبر التنصير عند المسلمين ردة
يترتب عليها أن ينفصل المسلم إذا تنصر عن الأسرة والمجتمع والقيم الثقافية
ويتعرض لنبذ أصدقائه والمحيطين به، وأهم من ذلك كله أن اعتناق الإسلام اعتقاداً
ثابتاً لا يهتز والنظرة إليه على أنه الدين الحقيقي يعني أن الردة عنه غباء كامل.
رابعا تغريب النخبة:
عمد الغرب بهذا الواقع الجديد إلى ضرب التوازن المستقر الذي أوجده الإسلام
بين طبقات المجتمع المختلفة وإلى تمزيق الشرايين الحيوية التي تجري بين
الطبقات العليا والدنيا وإيجاد تناقضات بينها، إلى أن ينتهي الأمر بأن تنظر الطبقة
العليا إلى الطبقة الدنيا على أنها جماعة من المتخلفين البدائيين الذين يمثلون ما
يسميه الغرب» بالوجه الفقير لثقافة الإسلام التقليدية «.
وحتى تتسع الهوة بين هاتين الفئتين عمد الغرب إلى ما يلي:
1- تغريب واحتضان الطبقة العليا التي تملك المال الوفير والفرص المتاحة
للسفر والاتصال بالغرب وشراء منتجاته وتبني نمط حياته، ثم استغلال الدافع
الكامن عند الطبقة الدنيا التي تسعى إلى تسلق السلم الاجتماعي لتكون قريبة من
الطبقة العليا بإتاحة الفرصة لها لاكتساب الخاصية التي تفردت بها هذه الأخيرة.
2- تدمير الجسر الثقافي الذي يربط بين الفئتين السابقتين بتحويل الطبقة
العليا إلى جماعة من المستهلكين الشرهين لكل ما هو مستورد وقادم من الغرب،
بعد أن كانت هذه الطبقة تستخدم أحسن وأجمل وأفضل القوى الثقافية المتوافرة في
الأرض الإسلامية، لقد كان هذا الاستخدام في حد ذاته أساساً من أسس توحد الطبقة
العليا في المجتمع مع باقي الطبقات.
لم يكن تغريب الطبقة العليا إلا أحد أوجه سلسلة الواقع الجديد الذي أراد به
الغرب ضرب التوازن الاجتماعي المستقر في البلاد الإسلامية، وهناك وجهان
آخران: أولهما إيجاد طبقة جديدة من العمال الحضريين المحرومين، ولقد جندت
هذه الطبقة من المدن ومن الريف؛ لدفع عجلة التصنيع الفجائي والمفروض الذي
أدخله الغرب على عالمنا الإسلامي، لقد عاشت هذه الطبقة ظروفاً صعبة وقاسية
ولم يكن المهم أن تعيش هذه الظروف فقط، وإنما كان المهم أن تحرم من
الإشباعات العاطفية والروحية التي يمنحها الدين والأسرة الممتدة لأفرادها. كان
تجنيد هذه الطبقة من الريف لتحقيق هدف مهم آخر سعى إليه الغرب وهو إيجاد ما
يسمى (بثنائية الريف المدينة) حيث القدر الأكبر للمدينة وكل ما قدم منها ويرمز لها، مع الحط من قدر الريفيين والعمل على هجرتهم إلى المدينة لتشكيل الطبقة الجديدة
وتركيز المهنيين (الغير مهمين) والمثقفين في المدينة على حساب المهنيين الذين
تشتد الحاجة إليهم كالأطباء والمهندسين وغيرهم.
هذا هو الوجه الأول، أما الوجه الثاني: فقد كان تدعيم الطبقة الوسطى
وإضافة فئات أخرى لها تشابه أكثر وأكثر مثيلتها في البلاد الغربية، ويعهد إليها
بمهمة التطوير الثقافي للبلاد لحساب الغرب.
خامسا إدخال الصناعة والتكنولوجيا:
لم يكن التصنيع (الحديث) والتكنولوجيا واقعاً قائماً في بلاد المسلمين فجاء
الغرب وأدخلهما عن عمد كواقع جديد بهدف إحداث اضطراب خطير في النسيج
المكون لثقافة المسلمين أولاً، ولضمان تبعية المسلمين له واستنزاف خيراتهم
بطريقة عصرية، لأن الطرق القائمة لا تسعفه في تحقيق هذا الاستنزاف.
دمر الغرب الصناعات المحلية، وقضى على المهن التقليدية، ونشر بضائعه
الاستهلاكية، وأرغم الصنّاع والحرفيين إما على الخروج من الساحة والانضمام إلى
ركب العمال الحضريين، أو تعديل خبرتهم الفنية بحيث ينتجون بضائع ذات نمط
غربي يعرف الغرب أنها لن تقوى على المنافسة أمام بضائعه التي تستخدم التقنية
الحديثة العالية الجودة المعدلة وفقاً لأذواق المسلمين، ثم نافس الغرب بعد ذلك
المشروعات الصناعية القائمة، وأدخل مناهجه الغربية في إنتاج ما يصنع محلياً.
اعتقد المسلمون أنهم وهم يستخدمون المعدات والتقنية الغربية قد وصلوا إلى
مرحلة من التقدم الاجتماعي، وأن التغير الذي حدث عندهم بسبب هذا الاستخدام
تغير محدود لن يؤثر على قيمهم الأساسية، ولم يدرك المسلمون وهم في وهم هذا
التقدم أن الغرب قد وقف بهم عند حد (طريقة الاستخدام) ولم ولن يصل بهم أبداً إلى
(طريقة الإنتاج) .. لم يكن المسلمون وهم يستخدمون الصناعة والتقنية الغربية
يقفون عند الحدود الشرعية التي تحدد لهم الفرق بين الانتفاع بالثقافة وبين التأثر
بهذه الثقافة، في حين أن الغرب كان يعلم تماماً أن استخدام أي عنصر ثقافي غربي
لابد وأن يؤدي بالضرورة إلى استخدام عنصر آخر، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر
إلى تبني طريقة الحياة الغربية ذاتها.
حال الغرب دون تمكين المسلمين من صناعة الآلات التي توجد فيها باقي
الصناعات، فلم توجد لدينا المصانع التي تصنع الآلات من (موتورات) وخلافه ولم
تتوفر لدينا آلات من صناعة البلاد تمكننا من صناعة باقي المصانع، ولقد أعاق
الغرب صناعة الآلات في بلاد المسلمين بحجة أنها تحتاج إلى وقت طويل وأنه لابد
لنا من صناعة الحاجات الأساسية، فانصرف المسلمون إلى الصناعات الاستهلاكية
وأصبحت بلادهم سوقاً لمصانع أوربا وأمريكا، وأرسلت أكثر البعثات إلى الخارج
لا لتعلم صناعة الهندسة الثقيلة وصناعة الفولاذ، ولكن لدراسة الآداب واللغويات
والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي توسع الهوة بين المسلمين وثقافتهم، فانصرفت
البلاد إلى صناعة المنسوجات والورق وخام الحرير، وأهملت صناعة الآلات.
وبدلاً من استقدام خبراء صناعة الآلات استقدمت الخادمات والمربيات
الأجنبيات، صاغ الغرب لنا كتبنا خاصة في النمو الاقتصادي، فجعلنا نعتقد أننا
لابد وأن نسير في عدة مراحل وبشروط معينة حتى نصل إلى مرحلة التقدم فأطال
أمامنا أمل تسلم زمام رأس الصناعة ومنبعها وهو (صناعة الآلات) .
أجبرنا الغرب على شراء المصانع والآلات منه وبثمن باهظ، وإذا أصيبت
الآلات بعطب أو كسر اضطررنا لاستقدام خبرائه لإصلاحها أو استيراد الآلة منه
وإلا تعطلت المصانع كلية.
لم تكن لبلاد المسلمين سياسة اقتصادية محددة في أن تكون هذه البلاد
(صناعية) بمعنى (أن تصنع الآلات) ، ولهذا لم تخلص بلادنا حتى الآن ولم تستغنِ
عن الغرب لكنها أصبحت بدلا من ذلك أكثر ارتباطاً به وبمنتجاته وآلاته والأهم من
ذلك كله بطريقة الحياة الغربية.
يقول (باتاي) :
ما أن وجد الغربيون لأنفسهم قدماً في قلب الشرق الأوسط حتى بدأوا في
إظهار (تكنولوجيتهم) ونشر مظاهر معينة منها عمداً وعرضاً بين السكان المحليين.
إن المظاهر التكنولوجية للثقافة هو إيسر ما يمكن أن يستعار، وهذا صحيح فقط
عند النظر إلى (استخدام) المنتج التكنولوجي وليس (إنتاجه) . إنه يصعب عليك أن
تصنع مضخة مياه تعمل بمحرك لكنك تستطيع في دقائق قليلة أن تتعلم كيف
تستخدمها، وأن تتعرف على مزاياها التي تفوق استخدامك للأسلوب القديم لرفع
المياه عن طريق (الشادوف) .
إن قبول سكان الشرق الأوسط للتكنولوجيا الغربية بالإضافة إلى إمكانيات نقلها
ووظيفتها الكبرى كمؤشر هام للتقدم، قد تيسر بواسطة حقيقة مؤداها أنها لا تشغل
وضعاً مهماً في ثقافتهم الخاصة.. وبمعنى آخر إن شعوب الشرق الأوسط مثل
أصحاب أي ثقافات أخرى لم ترَ أن مجرد التحول إلى استخدام المعدات الغربية
يعنى أن قيمهم الأساسية سوف تتأثر، بل رأت أنه مجرد تغير ذو أهمية قليلة،
وأخيراً أدركت بعد أن فات الأوان أن قبول أي عنصر ثقافي غربي منفرد يؤدي إلى
قبول عناصر أخرى أكثر وأحدث فتكون النتيجة إحداث اضطراب خطير في النسيج
الحيوي المكون لثقافتهم التقليدية.
إن مقارنة نمو التصنيع الغربي بتصنيع الشرق الأوسط يبين لنا أن تصنيع
الأخير كان محدوداً وفجائياً، بالإضافة إلى أنه مفروض من الخارج، ولم ينمو
عضوياً في بيئته المحلية، ولهذا كان من المحتمل أن يصاحب بتوترات قاتلة
يترتب عليها انهيار الأشكال التقليدية من التفاعل الاجتماعي الذي تميزه العلاقات
الشخصية والأسرية وانتشار المكانات الموجهة قرابياً، وتحوله إلى الأشكال الغربية
من التفاعل الاجتماعي الذي يقوم على العلاقات غير الشخصية» .
هذه خمسة عناصر من عناصر هذا الواقع الجديد الذي أدخله الغرب على حياة
المسلمين لتغريبهم وتدمير التوازن القائم في ثقافتهم، وتندرج جهود الغرب هذه
تحت قوله عز وجل [ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفَاراْ
حسداْ من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق] [1] ، وتشير الوقائع السابقة إلى
أن الغرب قد نجح إلى حد بعيد في جهوده تلك رغم التحذير الذي وجهه الله عز
وجل للمسلمين من اتباع سبيل الكافرين كما جاء في قوله تعالى: [ومن يشاقق
الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله
جهنم] [2] ، وقوله تعالى [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم] [3] وقوله تعالى: [لا تجد قوما
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله] [4] ... إلى غير ذلك من
الآيات.
لكن نجاح الغرب في تغريب المسلمين لم يكن راجعاً إى كفاءة تنظيره
المدروس الذي أسماه (تشويش الأحكام القيمية) ، فليس هذا التنظير كما يخيل
للبعض بجهد إبداعي خلاق يضيف هيبة أخرى إلى هيبة الغرب الحالية في عيون
المسلمين. إن هذا الجهد يتضاءل أمام قاعدة ابن تيمية رحمه الله التي يقول فيها:
«إن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى
موافقة في الأخلاق والأعمال ... فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة
والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية.. فإن إفضاء هذا النوع من الموالاة أكثر
وأشد والمحبة والموالاة لهم أي اليهود والنصارى تنافي الإيمان» .
ويرجع نجاح الغرب في تغريب المسلمين إلى سببين أساسين:
الأول: أن هذا هو قضاء الله عز وجل النافذ فيما أخبر به رسوله -صلى الله
عليه وسلم- مما سبق في علمه، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لتتبعن سنن من
قبلكم حذو القذة حتى لو دخلوا مجر الضب لدخلتموه، قال يا رسول الله: اليهود
والنصارى؟ قال فمن؟) [5] .
الثاني: ضعف إيمان المسلمين: الله سبحانه وتعالى ضمن نصر دينه وحزبه
وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً، يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «فإذا
ضعف الإيمان صار لعدوهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا عليهم
السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى، فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مَكْفيٌ
مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان
وواجباته ظاهراً وباطناً.. وقد قال الله تعالى للمؤمنين [ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم
الأعلون إن كنتم مؤمنين] [6] ، وقال تعالى: [فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم
الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم] [7] .
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها
ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم
إذا كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره.
__________
(*) انظر تفصيلا: RAPHAEL PATAI, THE DYNAMICS OF WESTERNIXATION THE MIDDLEEAST JOURNAL, V 9 NO 1, WINTER 1955 , PP 1-16.
(1) سورة البقرة، آية 109.
(2) سورة النساء، آية 115.
(3) سورة المائدة، آية 51.
(4) سورة المجادلة، آية 22.
(5) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، وابن ماجة، كتاب الفتن.
(6) سورة آل عمران، آية 139.
(7) سورة محمد، آية 35.(78/37)
نصوص شعرية
.. «لا» ..
د. محمد ظافر الشهري
من المنتصرْ؟ !
سؤال من النار
آذت به عبدَها.. في سَقَرْ
فَرَدّ الشررْ:
عُمرْ.. أيها النارُ..
فازَ.. انتصرْ
ودين المجوس انتحرْ
هُمُ قد «بروا» ريشةَ الغدر
في صدر إسلامنا
لكي يرسموا صورةً قاتمةْ
فكانت لنا الخاتمةْ
لأن القدرْ..
إذا غَيّبَ الشمسَ
أبدى القمرْ!
من المنتصر؟ !
سؤالٌ عضالْ!
إجابته لم تكن عند أهل الشمالْ
ولا نزوة من «جمالْ»
إجابته..
دوحةٌ عَبّقَتْ في «الظلالْ»
فغنى شذا عطرها
موكبَ الشمس بعد «الزوال» :
إذا طلب «الرملُ» منا السجودْ
وبلّغنا «الحبلُ» دارَ الخلودْ
فإنا نفضلُ دربَ الحبالْ
من المنتصرْ؟ !
ورود غَذَت نحلنا.. أم يدٌ آثمة؟ !
لسانٌ تلا الذكرَ..
أم ألسنٌ ظالمة؟ !
أكُفٌ بها الجمرُ..
أم راحة الغادة الناعمة؟ !
أنا مؤمنٌ
قال للكفر: «لا ... »
وأبصرَ في معصم النصر
«أنشوطةَ» الابتلاءْ
فيا نفسُ لا تعذليني
ذريني..
لأنفض عن ساعديّ الكسلْ
وأزرع في مهجتي
بذرة من أمل
وأجتث بـ «الحب» زقومةًَ!
حيث كانتْ ولمّا تزلْ
ترد المسارْ
إلى جمرة
في «تجاعيد» نارْ
وتأبى على «العود» أن يشتعلْ!
ذريني..
أرفرفُ بالروح فوق الحياة
«أوزع» طوقَ النجاة
أصوغ من الفجر أنشودةً خالدة
أعيش حدائي..
إلى «سورة المائدة»
وكل السورْ
وما دام للجنة الارتحالْ
فنعم «السفر»(78/50)
قصة قصيرة
درس الشيخ
د. محمد الحضيف
يداوم على حضور درس الشيخ عبد الهادي في مسجد (الحكمة) وحينما يعود
إلى البيت، بعد الدرس، يسأله أهله عن الدرس، فيرد بشيء من الانفعال: هل
الدرس طبق من الأكل أو قطعة ملابس، حتى أعطيكم رأيي فيه؟ !
إنه يرى كل الحضور يهزون رؤوسهم أثناء الدرس، وبعد خروجهم من
المسجد يتحدثون في مواضيع لا علاقة لها بالدرس مطلقا، يذكر مرة أنه أراد
مناقشة بعض الحضور فيما تحدث عنه الشيخ، فوجد نفوراً، ثم مال عليه أحدهم
وهمس في أذنه: من (الحكمة) أن لا تناقش ما يقوله الشيخ، إن الشيخ عبد الهادي
يكره أن يؤوّل كلامه، فهو حينما يقول إن التلفزيون حرام، لا يريد أن تذهب بأحد
الظنون، فيعتقد أنه يتهم مدير التلفزيون، أو السياسة التي تقوم عليها برامج
التلفزيون، أو حتى برامج التلفزيون نفسها، إن الشيخ عبد الهادي يؤثر (الحكمة)
في قوله وعمله، ولذا فهو يكره (المواجهة) ، ويكره كذلك أن يواجه أحداً بخطئه.
تلاميذ الشيخ عبد الهادي كلهم على هذه الشاكلة، مرة حضر لأحدهم خاطرة
ألقاها بعد الصلاة في مسجد في أحد الأحياء الفقيرة، كان موضوع خاطرته «أولئك
الذين يأتون إلى المسجد بثياب ممزقة وغير نظيفة» ، واشتد في تأنيبه لهم، مردداً
قوله تعالى: [يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد] . بعد الخاطرة رأى أن
يناقشه فيما تحدث عنه، فقال له: كيف تطالب هؤلاء الفقراء المعدمين بثياب نظيفة؟ ألم يكن من الأولى أن تحدثهم عن العدالة الاجتماعية في الإسلام حتى تعزيهم على
الحال التي هم فيها؟ فرد عليه مستنكراً: كأني أشم في كلامك طروحات
الاشتراكيين، أو بعض أفكار فلان وفلان، وبالمناسبة فالشيخ عبد الهادي لا يرى
أن من (الحكمة) الترويج لمثل هذه الأفكار.
في إحدى المرات رأى وجهاً غير مألوف يحضر لأول مرة درس الشيخ لقد
بات يعرف كل الذين يحضرون الدرس، بعد أن أنهى الشيخ حديثه وهم الجميع
بالانصراف، تكلم الشخص الغريب فجأة على غير عادة الحضور فقال: يا شيخ،
أنت تكلمت فقلت من (الحكمة) أن لا تفعل كذا ومن (الحكمة) أن تفعل كذا، ثم
ذكرت حديث الأعرابي الذي دخل وبال في المسجد قبل سنتين، وها أنذا أحضر
درسك الآن، ومازلت لم تبرح حديث بول الأعرابي، يا شيخ، لقد حضرت درس
الشيخ عبد الرحمن في مسجد (الحزم) قبل أسبوعين فذكر حديث «سيد الشهداء
حمزة» ، وحضرت درسه الأسبوع الماضي، وكان موضوعه «الأمة في
ظل النظام العالمي الجديد» ، وموضوع درسه اليوم «شيخ الإسلام ابن تيمية مُصلحاً» .
دارت عيون الحاضرين، واشرأبت أعناقهم إلى هذا الواقف يجادل الشيخ،
بعد هول المفاجأة التي عقدت ألسنتهم، قال له أحدهم: ليس من (الحكمة) أن
تخاطب الشيخ بهذه الطريقة، فأجاب الشاب: وهل من (الحكمة) أن يخدركم بهذا
الكلام منذ أكثر من خمس سنوات؟ قالها، ثم استدار منصرفاً.
حدثت حالة من الهرج، وتعالت الأصوات، منها ما يستنكر التصرف ومنها
ما يتساءل، أما هو فقد انسحب بهدوء وخرج من المسجد ولحق بالشاب واستوقفه،
ثم سأله قائلاً: أنا أعجب من أمرك، كيف قدرت أن تجادل الشيخ؟ لقد أخبروني
أن من (الحكمة) ألا أسأله، وحينما سألت بعضهم عن رأيه في الدرس، قال لي إن
الدرس ليس أكلاً أو ملابساً حتى يكون لنا رأي فيه، ثم أريد أن أسألك: من هو
الشيخ عبد الرحمن الذي تحدثت عنه؟ وأين مسجده؟ قال الشاب: هل تود أن
تحضر درسه؟ فرد بالإيجاب.
في الأسبوع التالي كان في مسجد (الحزم) يستمع للشيخ عبد الرحمن الذي كان
يتحدث عن «دور الشباب في الدعوة إلى الله» ، كان الشيخ عبد الرحمن يقول:
«إن المجتمع يهدد وجوده الفساد، لقد غدا حال الناس والفساد يحاصرهم من كل
جانب، كحال قوم حشروا حشراً في نفق مظلم فهم يتخبطون، يحتاجون دليلاً
يقودهم خارج النفق، والدليل يحتاج شعلة تهديه في هذا الظلام، إن الشاب الملتزم
هو الدليل، وإن الدعوة هي الشعلة، لكن الدعوة أمرها خطير، ومن ضروراتها
الامتحان والابتلاء، ومن لوازمها صنوف من البلاء كثيرة، منها الموت والسجن
والاضطهاد، مصداقاً لقوله تعالى: [أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم
لا يفتنون] ، إن الفساد الذي يعصف بالمجتمع أضعاف الظلمة التي تلف النفق،
وإن دون الشعلة لهباً مضطرماً فلا يصل إليها إلا أولو العزيمة الصادقة، كما أنه لا
يصبر على بلاء الدعوة إلا أصحاب الهمم العالية الذين يستلهمون الدرس من معلمهم
الأول محمد -صلى الله عليه وسلم-،» والله يا عم لا أترك هذا الأمر حتى يظهره
الله أو أهلك دونه «.
أخذت كلمات الشيخ عبد الرحمن بلُبّه، وطفق يحدث نفسه: هذا ما كنت
أبحث عنه، لكن الشيخ حيرني حينما قال خذ الشعلة لتقود الناس، أي اقبل أن
تحمل الدعوة، ثم يعود فيقول إن دون الشعلة لهباً مضطرماً، والدعوة محفوفة
بالابتلاء.
بعد نهاية الدرس ذهب إلى الشيخ وسلم عليه بحرارة، ثم طرح عليه تساؤلاته
وحيرته، مال عليه الشيخ وقال: خذ الشعلة.. واحذر اللهب، ثم أضاف وهو
يبتسم: أراك ثانية.(78/52)
نصوص شعرية
جمرة في الدماغ
عبد الوهاب الزميلي
في حريق الفكرة (المخدّرة)
غشي العينَ دخانٌ
فبدتْ ثم اختفتْ!
والدماء اتقدتْ
ضاقت الجدرانْ بالجمر المذابْ
يتلوّى في مساريب اللهبْ
وتنادتْ تطرق الرأسَ..
حروفٌ من حرابْ
وتلفّفتُ بجلدي
عند رأس القنطرةْ
أرقب الأسرابَ
يخفيها الطلبْ!
وضممتُ باليدينْ..
رأسي المخبأ! ما أقسى الصخبْ! !
وبدتْ بين التلافيف تعومْ
أيّ زوج يا حروفَ الفتح تدنو!
بورك العرسُ فهاكْ:
وانتشلت الغادةَ الحسناءَ..
من بين الدماءْ
ثم ألفيتُ يدي تغسلُها فوق الجبينْ
وإذ النار سلامٌ
ولهيبُ الحرفِ
ماءْ! !(78/56)
من الأدب السياسي
كوميديا السلام الحامض
ما وراء " الكوابيس " [*]
زياد الدريس
1- تأبين:
وكالات الأنباء / وكالات السفر والسياحة:
تم ظهر يوم (13 سبتمبر 1993 م) في البيت الأبيض «إنهاء» القضية
الفلسطينية، حيث أجريت مراسم التوقيع على «حلها وإنهائها» وسط أجواء
«مقدسة» ! ساهم رابين في تأجيجها من خلال تلاوة آيات توراتية من سورة «الانتصار» ، تلاه عرفات بتلاوة آيات عربية من سورة «الهزيمة» !
2- نسوة في السياسة:
الذين خطبوا أو صرحوا أو كتبوا عن اتفاق السلام بنشوة واحتفالية كانوا لا
يمرون في حديثهم على معارضي الاتفاق إلا ويوسعوهم تسفيهاً وجلداً لموقفهم من
الاتفاق أياً كانت المعارضة فلسطينية أو عربية وكأنهم يصادورن المعارض وبالذات
الفلسطيني في التعبير عن رأيه في وطنه! بل ويتهمونه بالنفعية أو الطوباوية.
ثم ما يلبث هؤلاء المحتفلون في نهاية حديثهم القمعي حتى يكرروا تلك المقولة
الجديدة في قاموس الصراع العربي/الإسرائيلي: فلسطين شأن فلسطيني،
والفلسطينيون وحدهم هم الذين يقررون مصيرهم ومصير وطنهم!
(ما أشبه هؤلاء المثقفين بتلك المرأة التي تلوك عورات جيرانها واحداً تلو
الآخر، ثم تختم مائدتها بقولها: ما لناش دعوة! !) .
* إذا كان هذا موقفكم، فلماذا تؤيدون الاتفاق أو تعارضونه؟
* إذا كانت هذه قناعتكم، فلماذا تقفون غصة في حلوق المعارضين دون
المؤيدين؟
* إذا كانت هذه فلسفتكم، فلماذا تتكلمون؟ !
* أما أنا فمازلت أؤمن بتلك المقولة التي علمتمونا إياها من قبل أيها المتكلمون، إن القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين جميعاً.
* هل تذكرون هذه العبارة / العهد، أنا لم أكفر بها حتى الآن، ولهذا فمن حقي
ومعي المؤمنون الآخرون بها أن نتكلم عن فلسطين.. أما أنتم فلا.
3 -قال قائل منهم:
قبل طرح أي مشروع أو قرار سياسي عربي، ثق ثقة تامة أن الموقف منه
حتى قبل الاطلاع عليه وتداوله سيكون على النحو التالي:
سيقول المثقفون القوميون: نعم لهذا المشروع، من منطلق السعي نحو
تسوية الواقع العربي، ورفض «المزايدات» !
سيقول المثقفون الإسلاميون: لا لهذا المشروع، من منطلق السعي نحو
تأمين المستقبل العربي ورفض «المناقصات» !
سيقول المثقفون الفلسطينيون: نعم إذا قالت حكوماتهم: نعم، ولا إذا قالت
حكوماتهم: لا، من منطلق: وهل أنا إلا من غزية ... ولقبض جميع
«المزادات» و «المناقصات» ! !
إذاً: القوميون ينظرون إلى «اليوم» لأنهم يبحثون عن الاستقرار
الإسلاميون ينظرون إلى «الغد» ، لأنهم يبحثون عن النصر. السلطانيون
ينظرون إلى «الأمس» لأنهم يبحثون عن مواقف بطولية / خرافية كي يدرجوها
في مشروع «مذكرات سيادة السلطان» !
4 -وطن على الريق:
آنذاك، حين كانت الشعوب العربية تقاتل من أجل تحرير أراضيها من سنة
1948 حتى 1973 م، مروراً بكل النكبات والنكسات والنزوات، كان المقاتل
العربي في ساحة المعركة يجرح أنامله ثم يكتب بالدم اسم وطنه على علم بلاده الذي
سيغرسه في ذلك الشبر المحرر!
وهكذا أراد عرفات أن يفعل في ذلك الشبر الفلسطيني الذي حرره في واشنطن، لكن المقام كان مقام سلام لا ينبغي لرائحة الدماء أن تفوح فيه، فما كان من خيار
آخر لممارسة ذلك الطقس الجهادي القديم في هذه الأجواء الحمائمية سوى أن يبلل
عرفات أنامله من «ريقه الناشف» ، ويكتب اسم بلاده على العلم الفلسطيني.
هكذا فعل عرفات، وهكذا ستدوم تلك الفلسطين الجديدة مادام هذا الريق!
5 -لحية المناضل ومقص الراعي:
أيام كان عرفات مناضلاً ورقياً وقد تحول الآن إلى رئيس ورقي لم يتمالك أحد
الصحفيين أن يكتم الرغبة لديه في أن يسأل عرفات: متى ستتحول طبوغرافية
الوجه العرفاتي من المرحلة البرزخية بين الحليق والملتحي؟ ! .. ومتى سيسلخ
عرفات جلده العسكري، ويلبس بدلة آدمية تنسجم مع نزهاته وعناقاته الدولية؟ !
لم يتوان عرفات في الإجابة، فقد كان ينتظر السؤال منذ قذف آخر موسي
حلاقة، وآخر قميص «تي شيرت» . قال عرفات: ستزول كل هذه الأعراض
«الفيدل كاستروية» حينما تتحرر فلسطين، ويندحر الاحتلال الإسرائيلي عن كل «شبر من أراضينا» .
ومضت الأيام شعرةً شعرةً حتى فتح الناس أعينهم على مشهد (غزة - أريحا)
أولاً، وإذا مساحة المحرر من فلسطين لا تعدل سوى 2% من مساحة الأشبار
المحتلة. فهل سيحلق عرفات 2% فقط من لحيته؟ !
وهل سيخلع 2% فقط من بدلته العسكرية، وليكن الجورب الأيمن أو ليكن
الأيسر، أو كلاهما معاً، فلا اليمين الفلسطيني «المتطرف» ولا اليسار الفلسطيني
«المتطرف» يؤيدان الاتفاق، فما أسعد عرفات بخلعهما معاً!
6- " 00000 ":
مسكينة فلسطين، لقد عاشت وعايشت حقبة طويلة من «المزايدة» ، يوم أن
لم يكن هناك زبون ولا بيع، وربما هي الآن وقد جاء الزبون ليفاوض فإنها تعرض
عبر «مناقصة» فمن يشتري بأقل سعر؟ !
7- من أشعل الفيروس؟
مرت أزمة الخليج فَطبَعَتْ في الصوت العربي بعامة والخليجي بخاصة خطاباً
قطرياً طامساً لذلك الخطاب القومي الذي كان يطفح في شوارع المدن العربية حتى
قبل الثاني من أغسطس 1990م، وكان مدهشاً حقاً ذلك الانقلاب السريع في اللغة
والعلاقة بين العرب، وكان التساؤل الذي يهتك صمت المجالس العربية هو: هل
ستدوم هذه الوعكة القطرية طويلاً؟ أم ستكون كغيرها من الوعكات العربية المتتالية
التي ما تلبث أن تنجلي لتفسح المكان لوعكة جديدة!
مهما كانت التخمينات للوعكة الشفائية القادمة، فلم يكن أحد يتصور أنها
ستكون إسرائيل.
لقد بدأ اللسان العربي يتهجى من جديد اللغة الإقليمية من خلال فكرة السوق
الشرق أوسطية، بمشاركة تركيا وإيران وإسرائيل «فيروس الوعكة الجديدة» .
وفي خضم هذه الأعراض كان يخترق الذاكرة العربية في غيبوبتها المحببة
سؤال نزق: هذه الدول العربية التي اتكأت على شجرة العزلة كأنها لم تأمن بعضها، هل ستأمن إسرائيل على نفسها؟ !
8- يا «سلام» سلم:
«رفع المقاطعة العربية» .. «السوق الشرق أوسطية» .. «إعادة توزيع
الموارد والثروات في المنطقة» ، السباق الأمريكي/ الإسرائيلي المحموم نحو
تحقيق وإنجاز هذه الإجراءات السلمية بأسرع ما يمكن، يجعلنا نتساءل: هل كانت
عملية السلام هذه منعطفاً أرادته إسرائيل لتغيير الحرب معنا من حرب عسكرية
«باردة» إلى حرب اقتصادية «ساخنة» ؟
9- النكثة:
إذا كانت الأمة العربية قد مرت في صراعها مع إسرائيل ضمن ما مرت عليه
من قاموس الإخفاق بالنكبة والنكسة في منعطفات صراعها المزمن فإنها الآن تمر
وضمن القاموس إياه بمنعطف جديد يمكن أن يسمى: النكثة!
ففي هذا المنعطف تم نكث كل الوعود والعهود التي عقدت عربياً وعالمياً في
نخب فلسطين:
* استعادة كل الأراضي الفلسطينية «السليبة» .
* طرد دولة إسرائيل «الدخلية» من خريطة العالم العربي.
* المقاطعة العربية التامة مع إسرائيل سياسياً واقتصادياً حتى ينجلي الاحتلال
عن كل شبر فلسطيني.
* إعادة الشعب الفلسطيني اللاجئ والنازح والمهاجر إلى وطنه.
* تنفيذ القرارات الدولية 242، 338، 425، وجميع قرارات هيئة الأمم
التي توشك الآن بجهود أمريكية وإلحاح إسرائيلي وهوان عربي أن تُرمى جميعها
في زبالة النظام العالمي القديم!
10- كيمياء السلام:
خرج مشروع (غزة أريحا أولاً) من مرحلة البروتوكولات إلى مرحلة
المنازعات ومطاردة التفاصيل بين متاهات التعميم الذي ساد بنود المشروع في
جانب الحقوق الفلسطينية، ويبدو من متابعة أولية لهذه المطاردات أن تفاعلات
السلام ستعطي المعادلة التالية:
مشروع (غزة - أريحا أولاً) + (لا للقدس) ثانياً + غليان/الفيضان
«غاز» أولاً + ريحة «ثانياً» + مشروع (لا للقدس) + (H2O) !
11- قراءات في الفنجان اليهودي:
(إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست
ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مُزقت دولة
الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن) ! !
السلطان عبد الحميد الثاني
(وسرعان ما أدركت أن أسلوب اليهود في الجدل يقوم على قواعد خاصة بهم، وهو اعتمادهم في أول الجدل على بلاهة خصمهم، فإذا لم يتمكنوا منه تظاهروا
هم بالغباء فيستحيل على خصمهم أن يأخذ منهم أجوبة واضحة) !
أدولف هتلر
(تغلغل اليهود في ديارنا.. ونحن راجعون..
صاروا على مترين من أبوابنا.. ونحن راجعون..
ناموا على فراشنا.. ونحن راجعون..
وكل ما نملك أن نقوله: «إنا إلى الله لراجعون» !)
نزار قباني
(أخي إن ضج بعد الحربْ ... «يهودي» بأعمالهْ
وقدّس ذكر من ماتوا ... وعظم بطش أبطالهْ
فلا تهزج لمن ساروا ... ولا تشمت بمن دانا
بل اركع خاشعاً مثلي ... لنبكي حظ موتانا)
ميخائيل نعيمة
12- الكاوبوي «كلينتون» :
الذين تابعوا تفاصيل الاتفاق وإعلان المبادئ، وحذافير لقاء التوقيع بزعامة
كلينتون، لم يمسكوا بأيديهم سوى حقيقة واحدة مفادها: لقد كان كلينتون «راعياً»
بحق!
__________
(*) كتبت هذه الكوابيس في ديسمبر 1993م، وقد تأخر نشرها لظروف خاصة بالكاتب، ولحسن الحظ أن مشكلات السياسة العربية تمتد وتتمطط بحيث لا تحترق المقالات التي تتحدث عنها ولها مهما تأخر نشرها! .(78/57)
مراجعات أدبية
قراءة نقدية في البيان الأدبي
(العدد 76)
أ. د. ناصر بن سعد الرشيد
ينقسم الملف الأدبي إلى قسمين: القسم الأول النصوص الإبداعية من شعر أو
قصة أو مقالة، والقسم الثاني دراسات أدبية أو قراءات نقدية، وسأبدأ بالقسم الثاني
من الملف المنشور في العدد (76) ، فقد كتب الدكتور مصطفى بكري السيد تحت
عنوان «مراجعات أدبية: رؤية في القراءة النقدية» ، وبدأها بتعريفه للقراءة النقدية بأنها: «نظرية القواعد التي تحكم تفسير نص من النصوص الأدبية، يتأكد
فيها دور القارئ بوصفه أحد منتجي النص عبر علاقة تفاعلية تصل القارئ
بالمقروء، لتثمر إنتاج معرفة جديدة تتيح للقارئ توظيفها في إغناء ذاته أو في إعادة
بنائها» .
ولا شك أن هذا التعريف على جماله وصدقه لا يمكن له أن يستوعب كل
تعريفات القراءة النقدية، إذ من المعلوم عند المناطقة أن التعريف يجب أن يكون
جامعاً مانعاً، بيد أن تعريف الدكتور «مصطفى» على كثرة ما استوعب لم يمنع
أن يدخل في هذا التعريف مفردات جديدة ورؤى أخرى، فالدكتور «مصطفى»
انطلق من قانون واحد وهو «العلاقة التفاعلية» كما أسماها، أو «التواصل»
بين المبدع والمتلقي، ومحاولة إعادة بناء النص، بمعنى أن الناقد مبدع، وهذه هي
إحدى نظريات النقد الحديثة، وهي قراءة واحدة من قراءات النص، فالنص لاسيما
الجيد عالم فسيح يمكن أن ينظر إليه من زوايا متعددة، فحيناً يقرأ قراءة تفسيرية
وهي التي أشار إليها الدكتور، وتارة يقرأ قراءة تأويلية، ولعل هذه القراءة هي
القراءة السائدة اليوم، وهي القراءة الأفسح والأرحب، وتارة أخرى يقرأ قراءة
جمالية فنية، بمعنى أن توظف فيها آلات «اللسانية» وقوانين البلاغة، والنص
الجيد بعد ذلك كله هو ذلك النص الذي «لا تفنى عجائبه، ولا يخلق على كثرة
الرد، ولا يشبع منه العلماء» .
ولقد حاول الدكتور «مصطفى» أن يعطي هذا النوع من القراءة مصطلحاً
إسلامياً فسماها قراءة «التدبر» ، وهو مصطلح في الحقيقة رائع وجامع ومانع
فهو رائع إذ هو مصطلح قرآني يجب أن نحتفل به، وأن نحييه في دراساتنا النقدية
المعاصرة، علنا نستغني به عن مصطلح أجنبي لغربه، فلا ينسجم تمام الإنسجام
مع ما نريد، فالمصطلح الذي لا يحمل ما نريد أن نضع فيه من معاني ورؤى
وحمولات مصطلح ضامر ضعيف، لا يقوى على كثرة الرد ويبلى مع التكرار أو
يكون موهماً لخلاف المقصود، وهو جامع لأنه يجمع كل أنواع قراءات التدبر من
تفسيرية وتأويلية وفنية وجمالية، وهو مانع لأنه يمنع القراءات السريعة المبتسرة
التي لا تتغلغل إلى بناء النص ولا تغوص في أعماقه، فمثل هذه القراءة إنما
تستخرج من النصوص محاراتها وقواقعها، لكنها لا تصل إلى دررها وجواهرها.
لقد ركز الدكتور مصطفى على قراءة «التدبر» تركيزاً انطلق منه إلى حكم
خطير وصائب، حيث قال: «ولكن الذي مات بل في الحقيقة ولد ميتاً وجمهوره
آخذ في التناقص هو اجترار الكلام والفكر المعلب والرؤى القبلية وإخضاع التعامل
مع الإبداع إلى قوالب جامدة منغلقة لتصبح ذات صيغة سلطوية وتسلطية على الفكر
الموضوعي، ويكون سقف الفن عندها هو المقنن الجاهز والسلبي المستهلك» .
ويحذر الدكتور مصطفى من بعض أنواع القراءات التي لا تسبر غور النص
والتي تفتقد شروط قراءة «التدبر» وأنا معه في ذلك وخصوصاً تلك القراءات
المعجمية التي تهمل السياق بأنواعه وما يشير إليه النص، أي تهمل إشارات النص
ومنطوقاته ومخبوءاته، وهذه القراءات قراءة لغوية تصلح للدراسات اللغوية، لكنها
لا تصلح للدراسات النصية الجامعة، ففي هذه القراءة تغيب عن القارئ أوليات
التعامل مع الشعر والأثر الفني بعامة، فهي تمكنه من الإحاطة بالمستوى الإخباري
للنص، ولكنها تحجب عنه المستوى الإشاري وهو ما تزخر به اللغة الشعرية فيما
وراء المؤدى المباشر، والذي يكون نظام العلاقات الدلالية والإيقاعية في النص،
وهو الذي يجعل النص يفلت من الظرف المحدد، ويمتلك القدرة على البث المتجدد
بحيث يخاطب أجيالاً عدة «.
وليس كل نص بقادر على أن يفلت من الظرف المحدد، ويملك القدرة على
البث المتجدد مهما كان قارئه، ما لم يكن هذا النص نصاً عظيماً مثل القرآن الكريم
والحديث الشريف وبعض النصوص الشعرية الجيدة الخالدة، وإلا فإن هناك
نصوصاً مهما حاولت القراءة شحنها أو مهما كان التعامل معها لا يمكن لها أن
تستجيب لذلك لأنها نصوص ركيكة ضعيفة أو معادة، والقارئ مهما كانت قدرته
وملكته النقدية، أو حتى موهبته الإبداعية لا يستطيع بأي حال من الأحوال» نفث
الروح في نصوص ولدت ميتة «، كما أنه لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن
يُنْشر الموتى، لكن إذا اجتمع النص الجيد والقارئ الجيدكان الإبداع نقداً والنقد
إبداعاً، وانفلت النص من ظرفه المحدد، ومن مناسبته الخاصة أو سياقه الضيق
إلى عالم واسع رحب يخاطب كل الأجيال ويخاطب كل الأمكنة ويخاطب كل
الأزمنة، وكذلك هو القرآن الكريم» والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب «.
إن لم نفطن إلى هذا الشمول في تعاملنا مع النص فإننا والحال هذه» نمارس
قتل روح النص في حق النصوص الحديثة والتراثية على السواء، هكذا مانزال
ندرس المتنبي، المادح، ومايزال الموضوع أي سيف الدولة وحروبه محور
شاعريته، ويغيب عنا مناخ القمم الذي يكشف عنه نظام العلاقات اللغوية في شعره، يغيب عنا جواب المتنبي على عصر تقهقر فيه العنصر العربي المسلم ... «
ومثل هذا يمكن أن يقال عن مرثية ابن مناذر لعبد الوهاب الثقفي، ومرثية ابن
الرومي لابنه محمد، فالقصيدتان وإن قيلتا في مناسبتين خاصتين لكن قراءتهما
يجب أن ترتفع بهما عن خصوصية المناسبة (السبب) إلى عمومية اللفظ (الفكر كله
والحياة كلها) ، إذ يمكن لهاتين المرثيتين أن تقرآ على أنهما تحتلان رؤية فلسفية
للموت والحياة وللحزن البشري والمأساة الإنسانية والتساؤل عن ما وراء الموت
وهذه النظرة لا يمكن أن تتأتى إلا بمحاولة استنطاق النصوص، واستكشاف دلالاتها
وإشاراتها» إن هذه القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن
القارئ إلى النص، فبقدر ما يقدم النص للقارئ يضفي القارئ على النص أبعاداً
جديدة قد لا يكون لها وجود في النص «.
وأختتم قراءتي لما كتبه الدكتور مصطفى بكري السيد بإشارته إلى المشكلة
كلها، وهي مشكلة تنظيم الحياة ونشاطها، وهي مشكلة الفكر، فالمشكلة النقدية هي
جزء من هذه المشكلة، يقول الدكتور:» وأخيراً فإن مشكلة النقد ليست معزولة
عن مشكلة الفكر عندنا، بل إن مشكلة النقد هي مشكلة هذا الفكر أو هي وجه من
وجوهها «.
وفي العدد نفسه كتب الأستاذ محمود مفلح تحت زاوية» نقد على نقد «
موضوعاً اختار له عنوان» نقد ظالم.. ونقد نائم «، وهو عنوان مثير يبعث في
سامعه وقارئه أشتاتاً من الأسئلة، وأحسب أن أبسطها وأقربها متناولاً: ما هو النقد
الظالم وما هو النقد النائم؟ وهل هذا تصنيف نقدي جديد أم هو مصطلح جديد؟
لاسيما ونحن في عصر التصنيفات الجديدة والمصطلحات المستحدثة.. إن الجواب
على هذه التساؤلات وربما غيرها، وما تحدثه من إيحاءات وما تستدعيه من
تفسيرات أو تأويلات، سيظهر للقارئ بعد أن يكمل قراءة هذه المقالة النقدية، فما
يلبث أن يجد الأستاذ محموداً يعني بالنقد النائم النقد الذي يتناول النصوص الإسلامية
(حسب قوله) ، والنقد الظالم هو النقد الذي يدور في» فلك الحداثة والتغريب
والأشكال التعبيرية الجديدة التي يكتنفها الغموض ويشكل لحمتها وسداها اللغز
والأسطورة والسحر و (يفلسفون) لها ويؤولونها ويحاولون جاهدين أن يقنعوا القارئ
بأهميتها وريادتها «، أما أن النقد نائم في رأي الأستاذ محمود فلأن» صوت النقد
في صحافتنا الأدبية الإسلامية ومن أقلام كتابنا خافت جداً «.
وأحسب أن القارئ لما كتبه الأستاذ محمود الذي يعالج نوعين من النقد قائمين
اليوم، وإن كان أحدهما يظهر على الآخر (نقد إسلامي ونقد مستغرب) عليه قبل أن
يسلم للأستاذ محمود أو لا يسلم. أن يعرّف الأدب الإسلامي (أي النصوص
الإبداعية) وما مواصفات كونها إسلامية، وما مواصفات كونها غير إسلامية أو
مستغربة، وما هو المبدع وما نوع إبداعه، وهل للمبدع رسالة وما الفرق بين
الإبداع وبين التعليم، وهل للشكل أثر في كونه إسلامياً أو غير إسلامي، وهل
» الأشكال التعبيرية الجديدة «غير إسلامية؟ . كل هذه التساؤلات ومعها غيرها مثلها أو تزيد يجب أن يجاب عنها من قبل الأستاذ محمود أو من قبلي أو من قبل رابطة الأدب الإسلامي، وأتمنى أن تترك لرابطة الأدب الإسلامي.
وإذا كان الأدب الإسلامي حسب مفهومي الذي اقتبسته من القطبين (سيد
ومحمد) هو باختصار (كل تعبير فني جميل يعبر عن الإنسان وقضيته وعن الوجود
والكون والحياة، وما وراء الحياة، وعالم الغيب والشهادة، تعبيراً لا يخالف
ضوابط الإسلام وأصوله) ، لو أخذنا بهذا التعريف الأولي للأدب الإسلامي لوسعنا
دائرته وأغنينا مجالاته ونفينا عنه الجمود والضيق والقولبة الضيقة، وأخرجناه
» من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة «.
وأذكر أنني قلت في تعليق لي ذات ليلة في ندوة من ندوات الأدب الإسلامي
المباركة، تعليقاً على الأستاذين الفاضلين الدكتور عبد القدوس أبو صالح والدكتور
عبد الباسط بدر، حول رأيهما في تعريف الأدب الإسلامي:» أود أن ننظر إلى
الأدب العربي كله بعد الإسلام على أنه أدب إسلامي، وأن نخرج منه ما خالف
الإسلام على أنه أدب شذ عن منهج الأدب الإسلامي في مضمونه أو في تعبيره،
كما أنني لا أميل مطلقاً إلى تتبع بعض النصوص الأدبية في تراثنا الإسلامي
وإبرازها على أنها نصوص إسلامية، وأن ما سواها ليست كذلك «.
وأعتقد أننا لو أخذنا بهذا الرأي لوجدنا أن جملة نصوصنا الأدبية هي نصوص
إسلامية حتى إذا ما عرضناها على التعريف الآنف، وجدناها تندرج تحته بكل
تواءم وتناغم، ولو أخذنا مثلاً شعر أبي نواس برمته وجملته لوجدنا أن أكثره شعره
يندرج تحت ذلك التعريف للأدب الإسلامي، وإنما خرج من ذلك التعريف إنما هو
شاذ يمثل الأقل، ومثله يقال عن أبي تمام وشعره والتجديد في الشعر شكلاً أو
مضموناً ليس بالضرورة أن يكون غير إسلامي كما أن عدم التجديد في الشعر شكلاً
أو مضموناً ليس بالضرورة أن يكون إسلامياً.
وأحسب أن من الأخطاء التي يقع فيها المنظرون للأدب الإسلامي أن يعتبروا
بعض الأشكال الشعرية الجديدة، أو بعض التعبيرات الشعرية الحديثة التي تحاط
حيناً بالغموض وحيناً آخر بالإبهام أدباً غير إسلامي، أو أدباً يتعارض مع الإسلام،
والنظر هنا والحكم على كونه إسلامياً أو غير إسلامي يجب أن يتوجه إلى المحتوى
والمضمون، ولقد كفتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه مؤنة ذلك كله وكأنها
تجيب عن هذا التساؤل بقولها:» الشعر كلام (كسائر الكلام) حسنه حسن وقبيحه
قبيح «.
ولا أكتم أخي الفاضل الأستاذ محموداً أنني في يوم من الأيام كنت مستوحشاً
من بعض النصوص الجديدة ولاأزال أستوحش من بعضها لأنني كنت قد جئت إليها
بتصور مسبق على أنها صورة من صور الهدم، أو وعاء من أوعية الغزو الثقافي، أو وسيلة من وسائل التغريب والاستلاب (وهكذا ينظر في أغلب الأحيان إلى كل
جديد وخصوصاً في المجتمعات المحافظة مثل مجتمعنا) ، بيد أنني بعد أن وطئت
حماها، وخضت حمأتها، وحاولت أن أعقد نوعاً من الألفة بيني وبينها، بدلاً من
الوحشة، افترّت لي عن بعض محاسنها وأسفرت لي عن بعض مناقبها، وعرفت
أن هذا النوع من التعبير ليس بالضرورة أن يكون متمرداً على القيم الإسلامية،
وإنما هي مسألة صراع الأجيال والاتصال الحضاري الرهيب والتثاقف المتسارع
(وإن كنا الأضعف في حلبة الصراع الحضاري والتثاقفي) .
أقول هذا لأنني قد وجدت في بعض هذا النوع من الشعر بعض المضامين
الخيرة وخصوصاً موضوع» الهوية «، والبحث عن الذات وسط هذه الانكسارات
وإزاء هذه الانتكاسات والمحن، وأحسب أن محمداً الثبيتي واحداً من هؤلاء الشعراء
في قصيدتيه:» فواصل من لحن بدوي قديم «و» صفحة من أوراق بدوي «،
وما يقال عن الثبيتي يقال عن بعض من الشعراء غيره، ومنهم الشاعر عبد الله
الصيخان في عدد من قصائده التي احتواها ديوانه» هواجس في طقس الوطن «
كقصيدته المعنونة» الحجرة «، وقصيدته» فاطمة «، وقصيدته» هواجس في
طقس الوطن «، ومنهم الشاعر عبد الله الزيد في» أغنية للوهج «و» وجع
المسافة بين دمك وثلاجة الموتى «، في رثاء أخيه محمد، ومنهم الشاعر عبد الله
الخشرمي في قصيدته» وصايا النخيل «، ولو أخذنا الشاعر الكبير عبد الرحمن
العشماوي على أنه من شعراء الأدب الإسلامي الشباب فسنجد شعره ينضح إسلاماً
في شعره العمودي المألوف أو في شعره الجديد» بائعة الريحان «على السواء مما
يبرهن على أن الشكل التعبيري الجديد ليس بالضرورة أن يكون موحشاً أو أن يكون
وعاء خطيراً يتنافى والأدب الإسلامي.
وبعد: فإن لم ننتبه إلى هذا فإننا سنخنق الأدب الإسلامي في بوتقة ضيقة،
ونجعله في حيز ضيق يفقد فيه نموه وانطلاقته، وربما أدى ذلك إما إلى عقمه وإما
إلى موته.. وأرجو ألا تكون بعض مواقفنا المتشددة في فهمنا للأدب الإسلامي،
وسجنه في حيز الوعظ والتعليم والتعبير المباشر، هو ما حدا ببعض النقاد أن
يتجاوزوا هذه النصوص إلى نصوص أخرى وصفها» محمود مفلح «تارة بأنها
» تدور كلها في فلك الحداثة والتغريب والأشكال التعبيرية الجديدة التي يكتنفها
الغموض ويشكل لحمتها وسداها اللغز والأسطورة والسحر «ويفلسفون» لها
ويؤولونها ويحاولون جاهدين أن يقنعوا القارئ بأهميتها وريادتها، وتارة أخرى
يلحى باللائمة على نفر من نقاد الحداثة والتغريب (كما أسماهم) بأنهم يقدمون
نصوصهم التي يقرأونها ويتناولونها بالدراسة «إبداعية ومعاصرة ومهمة وجديرة
بالقراءة ... إلا النصوص الإسلامية! ! ! أو ما يقترب منها، فإنها في زعمهم
فقيرة متخلفة، فجة، تغلب عليها الخطابية والسطحية، وهي تجافي روح الفن،
وتتنافى مع الحساسية الجديدة والرؤية المعاصرة» .
كما يسوء الأخ الأستاذ محمود مفلح التعاون الوطيد بين هذا النوع من النقاد
تعاوناً يرفع بعضهم من شأن بعض، ويدعو بعضهم لبعض حسب قوله: «وإن
المتأمل كذلك فيما يكتب من نقد هنا وهنا لابد وأن يلاحظ أن ثمة اتفاقاً وإجماعاً على
توجه نقدي معين، وأن ثمة جسوراً تقام بين هذا الناقد وذاك، فكأن هذا هو
الصوت، وذلك هو الصدى في تناغم عجيب واتفاق يبعث على الدهشة» .
أقول للأخ محمود وغير محمود: إن التنافس بين الاتجاهات النقدية
المتصارعة لا يحسمها مثل هذا التشكي وذلك التظلم، وإنما يحسمها العمل فلكل
منتداه ولكل رابطته، وأعرف أن للأدب الإسلامي رابطة تجمع كثيراً من أدباء
العالم الإسلامي عربه وعجمه ومبدعيه وناقديه، فالحلبة ميسرة للجميع وإن
الحصيف المبدع المجدد هو من سيظهر في النهاية على صاحبه، وكما كان الشعراء
في عهد بني العباس يميت بعضهم بعضاً وحمل بعضهم ذكر بعض بما يقدم للساحة
الأدبية من إبداع جديد، فإن النقاد والمبدعين في هذا العصر يظهر بعضهم على
بعض، ولا أشك لحظة واحدة في أن المبدع الذي يلمس جراحات أمته وواقعها،
ويحقق هويتها من خلال رؤية جديدة أو تعبير جذاب، هو الذي سيبقى وغيره
سيذهب جفاء، وما الشاعر الإسلامي الدكتور عبد الرحمن العشماوي إلا مثل أسوقه
للشاعر المتألق المتجدد ذي الصيت الذائع.
ويجمل بي وقد أطلت الوقفة مع الأستاذ مفلح أن أختم قراءتي لمقالته بتعقيب
بسيط على قوله: «واستعرض إذا شئت الصفحات الأدبية الإسلامية في أي
مطبوعة تشاء، فإنك قل ما تجد دراسة أدبية جادة عميقة ذات رؤية نقدية واضحة
تنسجم مع قيمنا الحضارية وتعطي لهذا العمل أو ذاك حقه، ولن تجد كذلك توجهاً
نقدياً عاماً واضح المعالم، ولن تجد أيضاً وأقولها بمرارة أسماء نقاد جادين دؤوبين
مخلصين لهذا الفن أو ذاك رغم أن النتاج الإسلامي معافى ومقروء ولا يخلو من
جماليات تستحق أن يتوقف عندها النقد» ، فلمَ هذا! أهو أمر يتعلق بالنتاج
الإسلامي أم هو أمر يتعلق بالنقاد أنفسهم! !
أما القسم الإبداعي فسأتوقف ملياً عند بعض القصائد وعند قصة واحدة وأما
القصيدة التي أود أن أقرأها على عجل فهي قصيدة الدكتور صالح الزهراني بعنوان
«رتابة» ، وهذه القصيدة سأعدها قصيدة إسلامية على أن التعليم فيها أو المباشرة
ليست واضحة، وإنما أعدها إسلامية لأن موضوعها يعالج أمراً من أمور هذه الأمة، وموضوع القصيدة الرتابة في كل شيء والزيف في كل شيء، وأن كل شيء هو
ذلك الشيء لم يتغير ولم يتحول، وأن الخطأ هو الخطأ والكذب على الشعوب هو
الكذب، وأن الهزيمة نصر وأن الفتح رقص وغناء ومائدة.. موضوع يصلح أن
يكون إسلامياً وغير إسلامي، بمعنى أن مثل هذا الموضوع لا يصنف إسلامياً كما
أنه لا يصنف غير إسلامي، أقصد من هذا أن أعود إلى بعض ما أسلفت حين
قراءتي لما كتبه الأستاذ الفاضل محمود مفلح، وأبرهن على أن الأدب الإسلامي قد
يتسع حتى يدخل فيه ما لا يخالفه، لكن ليس بالضرورة أن يكون موضوعه إسلامياً
صرفاً أو تعبيراته تعليمية وعظية.
إن الشاعر الزهراني شاعر يملك قدراً هائلاً من الإبداع مارسه في هذه
القصيدة الجميلة، وآية توفيقه أنه جعلها أو أنها جاءت على بحر مجزوء قوي
الإيقاع (رجز) وقافية متحركة ساكنة، فالتاء المربوطة ساكنة وما قبلها مفتوح حتى
يتلاءم البحر مع القافية، لقد عبر الشاعر الزهراني عن ما يدور في حاضر هذه
الأمة وما يقدم لها من إعلام وزيف أصبح مستهلكاً ومكشوفاً، أي لم يعد ينطلي على
أحد إذ أصبح هذا الزيف ديدناً أي «رتابة» ، وحاول الزهراني أن يحدده بتسعين
سنة، ولا أدري بالضبط لماذا «تسعون حجة» والزمن هنا لا يهم تحديده فالقصيدة
ليست وثيقة تاريخية تؤرخ لبداية خمود ثورة الوعي، والمهم أن هذه الثورة خامدة
وبرهان هذا الخمود:
يبدأ العرض ميتا! ... فوق أشلاء صامدة
البدايات واحدة ... والنهايات واحدة
ويعود هذا المشهد في كل مرة فيبدأ العرض ميتاً والبداية واحدة والنهاية واحدة، والأنكى من ذلك أن:
بطل العرض واحد ... وقصة العرض واحدة
بعد يوم من الضنا ... والوجوه المزايدة
يأتي العرض لكن من مُخْرج واحد ومن عارض واحد ومن قصة عرض
واحدة، فهل يوقظ الجماهير الراقدة بإعلان الفاتح
عن فتواحات جيشه ... عن قواه المجاهدة
أنها شقت المدى ... واستباحت وسائده
وأراقت دم الدجى ... وأضاءت فراقده
والجماهير تدرك هذا الزيف لأنها اعتادت عليه، لكن شاعر الهوى يتهجى
قصائده فلا يحرك ساكناً في هذه الجماهير الجامدة ولا يوقظها لأنها:
عرفت كيف ينتهي
عرفت كيف يبتدي
أصبح الزيف قاعدة! !
مسكين هذا الفاتح الذي تنتهي فتوحاته بالرقص والغناء والتطبيل والمائدة دون
أن يتفاعل معه جمهوره، لأن جمهوره يعرف زيفه وخداعه، وأن هذا الفصل منذ
تسعين حجة يعود ويعود وتحفظه الجماهير التي أصبحت جامدة لا يحرك فيها ساكناً، وهنيئاً لهذه الجماهير النائمة التي لا تتحرك، ولعل الصحوة تعقب هذا الرقاد لأن
الرقاد هنا والجمود هنا علامة من علامات إدراك الزيف وإدراك الزيف هو أدل
دلائل اليقظة.
أما القصيدة الثانية فهي «دمعة على أطلال سربنتسا» للشاعر فيصل محمد
الحجي، وهي قصيدة معبرة حمّل فيها المسلمين مسؤولية ما حدث لهذه المدينة من
حصار وقصف شديد، إذ لم يحفظوها كما يحفظ الحر الحرة بالدم، وأراد أن يثير
فينا النخوة وحمية الإسلام، وحق الأخوة وواجب النصرة، بتعييرنا من طرف خفي
بتقاعسنا، ولمح لنا بأننا لم نفعل كما فعل هارون والمعتصم بالروم وتذكيرنا
بتاريخنا هنا ليس يقصد منه الشاعر إعلامنا بأن هارون أو المعتصم قد هبا يوماً
لنجدة مسلمة أو مسلم استغاث بهما أو احتاج إلى عونهما، فهذا خبر نقرأه في
مقرراتنا المدرسية الأولى، لكنه أراد أن يعيرنا بتقاعسنا، وأن يعقد مقارنة بين
ضعفنا الراهن ووهننا القائم، وبين قوة وشهامة أسلافنا، فيذكر (هارون الرشيد)
مقابل (نقفور) حيث يجعل من الرشيد رمزاً للقائد المسلم وللرئيس المسلم ذي النجدة
والشهامة الذي يشعر بأنه مسؤول أمام الله ومحاسب على ذلك إن فرط بعدم حماية
مسلم أو مسلمة، حتى ولو كانت في بلد غير إسلامي، ويجعل من من «نقفور»
رمزاً للصليبي الغربي المعتدي على حرمات المسلمين وأوطانهم، فإن كان الرشيد
حياً أدبه وعلمه كيف تصان حريات المسلمين وأراضيهم، وإن كان الرشيد ميتاً
صال «نقفور» وجال وانتهك الحرمات، وجبا الأموال منا بطرق متعددة،
وعجزنا أن نفعل شيئاً رغم كثرة عددنا وعتادنا، ووجدنا أن الملجأ من هذا كله إلى
مجلس الأمن نعرض فيه قضيتنا، وجعلنا منهم الخصم والحكم في الوقت نفسه.
والقصيدة في جملتها قصيدة معبرة جياشة تصلح أن تلقى، ولو ألقيت لكانت
أشد أثراً على المتلقي من مجرد قراءتها، على أن هذا الأثر قوي على قارئها،
وهي قصيرة تحمل رسالة خيرة، ونقول لشاعرنا الحجي:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
وليسمح لي الشاعر محمد البراهيم على عدم قراءة قصيدته «ذكرى العبور»
رغم استحقاقها للدراسة والقراءة، فهي قصيدة لا تقل عن أخواتها إن لم تفق بعضاً
منهن، لكن ضيق الوقت لم يسمح لي بذلك من ناحية وشعوري بأن القصيدة تحتاج
إلى وقفة أطول تنصفها، وتقدمها للقارئ تقديماً يليق بها من ناحية أخرى، ولعلي
في قادم الأيام أتمكن من قراءتها.
أما قصة عبد الحليم البراك فقد كتب قصة طريفة عنوانها «شيء لم يحدث»
اختصر كل أحداثها في هذا العنوان السهل، والقصة واقعية عرضها عرضاً فنياً
موفقاً ليس فيها تكلف بعض القاصين، ولم يحاول أن يدخل فيها فضولاً كما يفعل
بعضهم، وإنما حبكها حبكة محكمة، وكل حلقة من حلقاتها تستطيع أن تكملها بقولك
«وكأن شيئاً لم يحدث» .
إن بطل هذه القصة وإن كان يرقب جدار صمت قد امتدت قامته حتى الأفق
يثنيه هذا الجدار من أن يعانقه، فهناك «فتحة علوية تكاد تختفي في ثنايا هذا
الجدار الشامخ.. ثمة نور ضئيل منها» ، وعلى صعوبة الأمر حيث الجدار يعانق
الجدار، وهذه السلسلة الحديدية التي لم تستطع أن تثقل أنفاسه الحرة داخله «، فإن
هذا لا يمنع من الفرحة» وكأن شيئاً لم يحدث «.. إن هذه القصة تروي أحداث
شاب محاصر لكنه لا يستسلم لأنه ينظر إلى كل شيء دون ما يأبه لعواقبه» وكأن
شيئاً لم يحدث «.
أن القصة لا تحتاج إلى تأويل أو تخرص، وإن كان القاص حاول أن يشغلنا
عن تقريرية القصة ببعض الإبهام مثل قوله:» ألقها «دون معرفة عائد الضمير،
وهذا مما يشوق القارئ لمحاولة معرفة على ماذا يعود الضمير، ومثل» ثمة جموع
وقحة «ما هي هذه الجموع؟ إن الإجابة على هذه التساؤلات التي طرحها القاص
وهي التي جعلت من قصته عملاً أدبياً جيداً تظهر في مكان آخر حين» يتمخض
عن انفجار مدو يحصد أربعة من ذوي الأكتاف المذهبة فأكثر من عشرة قد زينت
أذرعهم الوقحة بشرائط خضراء «، هؤلاء الوقحون يسميهم المحلفون والمحاكمون
بأنهم» أربع حمامات «، ولا يخفى ما لهذه المفارقة من أثر فني رائع.
كل هذا يحدث لكنه بالنسبة له» كأن شيئاً لم يحدث «، إن لدى القاص ملكة
فنية استطاع من خلالها أن يوظف عبارة» وكأن شيئاً لم يحدث «في أربعة
سياقات من القصة، كل عبارة توحي بمعنى جديد وبمعنى مغاير، إن هذه الكلمة
السحرية» وكأن شيئاً لم يحدث «هي كل شيء في هذه القصة، هي عنوانها وهي
بدايتها وهي نهايتها، وهي عقدتها، وأحسب أن هذه الكلمة السحرية» وكأن شيئاً
لم يحدث «تكفي الأخ القاص عبد الحليم البراك أن تضعه في عداد القاصين ذوي
الطرح الملتزم والقدرة الفنية.
وأخيراً فلقد حرصت على أن أتناول قصة الدكتور الحضيف» حدث في
السوق «إلا أن الدكتور مصطفى بكري قد قرأها قراءة لا أرى عندي عليها من
مزيد.(78/64)
المسلمون والعالم
على أطلال اليمن:
المجد لكرسي الحكم!
د. عبد الله عمر سلطان
مع تصاعد موجة عدم الاستقرار والحروب المصغرة على مستوى العالم بدا
واضحاً أن الشعارات الفضفاضة كالنظام العالمي الجديد، وزوال خطر الحرب
النووية، وانتصار الديموقراطية النهائي (بصورتها الغربية) ، ونكتة نهاية التاريخ
وبزوغ فجر السلام المزعوم ... لا يمكن أن تغطي سوأة الأحداث الملتهبة والإفلاس
الذي تشهده الساحة السياسية الدولية، أو أن تحجب كساح الأمم المتحدة التي لا
تحمل من اسمها سوى الرسم، ومن مضمونها القبيح إلا هامة بطرس غالي وسمعته
المثيرة للغثيان.
وفي هذا الخضم الفوضوي والدوائر المتلاقية، أخذت مراكز الدراسات
الغربية تبحث باهتمام عن ظاهرة مثيرة للجدل: وهي مستقبل اليسار في العالم
لاسيما النصراني منه، ففي المجر أزاح الناخبون الحكومة الليبرالية الديموقراطية
التي خلفت نظام الستار الحديدي الشيوعي؛ ليقفز الشيوعيون مرة أخرى إلى
السلطة، بينما يتوقع أن يشهد العالم الحالي عودة قوية لليسار في أوربا لاسيما
ألمانيا، حيث يسعى الديموقراطيون الاشتراكيون إلى الوصول للحكم، في الوقت
الذي يظهر أن حزب العمال البريطاني في طريقه إلى إسقاط حكم المحافظين الذي
لايزال يحكم لعقد ونيف؛ ليزيل أسطورة التفوق اليميني في المجتمعات «الأنجلو
سكسونية» كما حدث العام الماضي في كندا ومن قبلها الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد أظهرت نتائج الانتخابات الأوربية هذا التوجه، حيث سجلت الأحزاب
ذات التوجهات اليسارية تفوقاً واضحاً لاسيما في البلدان التي تحكمها الآن أحزاب
يمينية ومحافظة، لكن هذا الصعود الظاهر لا يمكن أن يخفي في طياته بعض
الملاحظات الجوهرية وأهمها أن اليسار اليوم هو يسار يختلف في ملامحه وتوجهاته
عن يسار الستينيات، حيث خفت حدة الطرح السياسي وأخذ اليسار الحالي يتجه
كثيراً نحو الوسط، لاسيما في طروحاته الاقتصادية هذه الطروحات في حد ذاتها
تجعله اليوم يؤمن أكثر بقداسة السوق وآلياته بعد أن كان يلعنها ويمقتها ويصنفها
على أنها من آثار الإقطاع والرجعية، وهو بإضافته قضية البيئة والمخاطر المحدقة
بها شَكّلَ نقاط جذب وكسب بعد أن أصبحت مشكلة البيئة ملحة لاسيما في أوروبا
المكتظة سكانياً والمعادية بحكم وثنيتها للطبيعة في خضم معركتها معها لقهرها
وإذلالها، وإضافة إلى هذه الملاحظة فإن المرء لا يمكن أن يتجاهل تراجع اليسار
الحاكم في دول كفرنسا وأسبانيا على سبيل المثال، حيث شكلت النتائج الأخيرة
مصاعب جمة ليسار لايزال يتربع على سدة الحكم.
كل هذه العوامل تجعل أنصار الدورة التاريخية لتفسير الأحداث وتشريح
الجسم السياسي ينتشون، وهم يوظفون هذه السلسلة الحاشدة من الأحداث للتدليل
على نجاح نظريتهم القائلة: بأن الغرب منذ القرن الماضي يشهد دورة كل ثلاثين
سنة، ينقلب فيها الناخبون من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار بعد أن
يفرغ كل جيل من هذا الطرف أو ذاك برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي،
وأن هذا التوازن حفظ لأوربا الغربية وأمريكا التوازن المطلوب لتكريس الهيمنة،
وتجديد الدم المطلوب لخوض معركة الهيمنة الدولية.
إن اليسار هو نتاج وإفراز متراكم للتجربة الغربية، لذا فإن دوره في الحياة
الغربية مفهوم، كلما شعرت المجتمعات هناك بأن «اليمين» قد استنفذ طاقاته
وأفكاره، واليسار هناك لا يكف عن تطوير شعاراته ونظرياته وممارساته في سبيل
«المصلحة القومية» ، وهو في سبيل هذا لا يتجاهل مثلاً مكونات الحضارة التي
ينتمي إليها، أو يتعامى عن صعود الشعور الديني الملتهب في العالم والغرب وإذا
استثنينا ديناصورات الماركسية المتحجرة، فإن بإمكاننا القول أن اليسار الأوربي
من خلال الأمثلة الحاكمة في أوربا وأمريكا لا يخفي عداءه المتأصل للإسلام وأهله،
وإن أضاف إلى نظريته العدائية بعض الأطر الفلسفية المطلوبة.
لقد أردت باستعراضي هذا الدخول إلى موضوع مهم هو «دور اليسار
العربي في واقع الحياة العربية الحالية وتراكم السحب الداكنة التي تلف حاضرنا»
فقد وصلت الأمة إلى شفا الجرف الماثل بعد سلسلة طويلة من عملية الاستلاب
السياسي والعقائدي والاقتصادي، وجاءت مأساة اليمن لتبرهن لنا جميعاً على أن
التشرذم لا حدود له، والمؤامرة لا نهاية لها، والتوجس القائم من المخاطر القادمة
له ألف سبب يبرره، لقد ضربت اليمن مثالاً؛ لأنه نموذج يستحق الفحص ومأساة
تفرض نفسها مع استمرار النزف والدم المراق والحلم المتهشم وتساءلت عن دور
التيارات العلمانية واليسارية بخاصة في صنع هذه المأساة حيث يبحث الغرب عن
دور لليسار يلعبه، بينما كان اليسار الشيوعي في عالمنا العربي ينقلب ليتحول إلى
«إنزيم» مضاف إلى التفاعل المفزع في اليمن ليحولها إلى ساحة ترتفع فيه
الحناجر بشعارات براقة تختلط بواقع مزري؟ !
ويسار اليمن مثالاً:
وقد يقول قائل: إن الأزمة اليمنية والحرب الأهلية القائمة هي من صنع
القبيلة الحاكمة التي تختفي تحت رداء الحزب، وتسكن القصر الجمهوري وترفع
شعارات الوحدة، بينما تتعاطى القات السياسي، وتسعى في نفس الوقت إلى
استثمار حماس الدعاة وطيبة الإسلاميين وتعاطف الشارع معهم، ليخوضوا معركتها
ويفصلون جهاداً على مقياس المرحلة، وإن الاشتراكيين في جنوب اليمن بتوجههم
الانفصالي يحمون شعبهم وثرواته من نزوات الحكم الشمالي وقد يبدأ هؤلاء بسرد
مساوئ النظام في الشمال، وما أتت به الوحدة من مآس وأضرار على الشطر
الجنوبي السابق، ونحن حين نحصر التسلسل في هذا المقال حول دور اليسار
العربي في المثال اليمني، قد نضطر إلى الاستشهاد بواقع أو مشهد ماثل الآن، لكن
ليس الغرض هنا تحليل الحرب الأهلية القائمة أو الممارسات السياسية هنا وهناك،
بل الغرض إلقاء الضوء على ممارسة اليسار العربي لاسيما في اليمن خلال الأزمة
المحتدمة هناك.
يدعي الماركسيون منذ قديم الزمن أنهم وحدويون حتى النخاع ومستشهدون في
سبيل يمن واحد، ويكفي للتدليل على ذلك أن تتأمل قائمة الأحزاب اليمنية التي
نبتت بعيد إعلان الوحدة والتعددية الحزبية، لتجد أن كلمة «وحدوي» أو
«وطني» أو «موحد» أو «اتحادي» تشكل العامل المشترك بينها، حتى إنك تكاد تخلط بينها من شدة التشابه.
واليساريون في اليمن ليسوا مقصورين على الحزب الاشتراكي في الجنوب،
بل إن أحزابهم «الوحدوية» في الشمال أكثر بسبب الانفتاح السياسي الذي لا
يخشى من تجمعات سياسية كل رصيدها بضعة يساريين حالمين، ومقر مستأجر،
وخط تليفوني ومطبوعة لا يقرأها إلا مصحح المطبعة وأعضاء الحزب الطليعي،
ورصيد طبعاً يصب فيه حساب يتضخم مع كل دور يلعبه الفتيان اليساريون
الوحدوين التقدميون! !
ولا شك أن الاشتراكيين الجنوبيين هم أكثر التيارات اليسارية تطرفاً في قضية
الوحدة، فالحزب ظل لأكثر من عقدين يحلم بالوحدة، ويجعلها هدفه الأسمى
وقضيته التي لا تقبل المساومة، وحين شكلت الوحدة مخرجاً من المأزق الناتج عن
انهيار الاتحاد السوفيتي ووسيلة لتحسين سمعته البالغة السوء في المنطقة (حارب
جيرانه السعوديين والعُمانيين والشماليين ثم التفت إلى الرفاق فأوقع بهم مجزرة لا
تقارن بشاعتها بالحرب الدائرة الآن) ، لم يتردد الوحدويون الاشتراكيون في تبنيها
دون أن يكون للشعب في الجنوب أي رأي أو مشورة وبخاصة أنهم قطيع من
المتخلفين الذين فشلت الثورة في جعلهم من بلوريتاريا الحزب..!
وما أسرع اللحظات التي تمر فإذا الحزب اليوم ينادي بالانفصال ويقاتل من
أجل التشطير، ويهرب قادته من العاصمة إلى المدينة الساحلية الرجعية «المكلا»
لكي يكملوا ما بدؤوه من مخطط الدولة التي يستطيعون أن يستمروا في حكمها، بعد
أن رأوا لعبة الكراسي الموسيقية تقذف بهم خارج المنافسة في ظل منافسين
محترفين في الشمال.
لقد نسف الحزب ورموزه الفارين كل البرامج والشعارات والأحلام الوحدوية
التي طالما تغنوا بها، وأصبحت كلمة وحدة تثير لديهم حساسية في الصدر، وحكة
في الجلد، وتهيجاً في الأعصاب، وغدت كل المصطلحات الثورية والوحدوية
جريمة لا تغتفر بين الرفاق اليساريين، في الوقت ذاته بدأ اليساريون في الشمال
من ورثة الشعارات الوحدوية إزاحة منافسيهم في الصناعة الوحدوية والسوق
الاتحادي، كل ذلك يتم باستخدام نفس المصطلحات الثورية التقدمية اليسارية.
قام الاشتراكيون في الجنوب بثورتهم في سبيل «الكادحين» ومن أجل إنهاء
الإقطاع، وإطفاء نار الاستغلال الطبقي الذي كان يمارسه السلاطين وأصحاب
النفوذ ممن يسمون «بالسادة» والسيد هو الذي ينتهي نسبه إلى النبي -صلى الله
عليه وسلم- وينتشر جل هؤلاء السادة في الجنوب حيث يشكلون طبقة من علماء
الصوفية التي تمارس شعوذتها باسم الانتساب إلى آل البيت، لقد صمم الشيوعيون
في الجنوب على أن الدين وأتباعه لاسيما السادة هم عدوهم الأول ولاسيما «رابطة
أبناء الجنوب» التي كان السادة يتسترون من ورائها ويمارسون من خلالها نشاطهم
السياسي، ومع الردة عن المبادئ الأولى شكل الجنوبيون المنفصلون دولة يرأسها
سيد من هؤلاء السادة (البيض) ، ويرأس حكومتها سيد آخر (العطاس) ، ويدير
أمورها في الواقع رئيس الرابطة الصوفية السابق (الجفري) ، وتجمع عدداً لا بأس
به من سادة آخرين، حتى إن الشارع الجنوبي أسماها «دولة السادة» .
ترى هل هذا تكفير عن اثم الماضي أم جواز سفر مطلوب لإثبات رجعية
النظام وقدرته الفائقة على الرقص في حلبة الدراويش، وإثبات للجدية في الانقلاب
من متطرفين ماركسيين إلى رجعيين يخدرون المريدين بهجمات الأقطاب وكرامات
السادة الذين طلقوا كل مبدأ ومعتقد؟ !
وإن كان الشيوعيون الملاحدة في الأمس يعادون المشايخ التقليديين فإنهم ظلوا
بالأمس، ولايزالون يرفعون لافتة ضخمة تقول إنهم ينادون بالدولة العصرية التي
لا تتحكم فيها القبيلة كما هو الواقع في الشمال، ويتباهون دائماً بأنهم قضوا على
القبلية نهائياً في الجنوب، فهل هذا صحيح؟ !
الواقع يقول إن اليساريين شمالاً أو جنوباً قد ارتدوا وتشرذموا وانقسموا حسب
قانون القبيلة والقبيلة وحدها، فالشمالي لاذ بحصن الفخذ، والجنوبي الشيوعي
السابق أصبح أكثر مناطقيةً ورجعية من خصومه، ويكفي أنه تحالف مع قبائل بكيل
في الشمال، ومد يده إلى قبائل «شبوة» و «حضرموت» بعد أن حطم كياناتها،
وسحلها لمدة عقدين، وبات الجميع يرون أنه لا فرق بين الجمهوريين الوحدويين
الذين وظفوا العامل القبلي بذكاء، واليساريين السابقين الذين يحاولون أن يطبخوا
وجبة قبلية باستعجال جعلهم يقدمون وجبة سريعة عسرة الهضم، صعبة الفهم.
ويتهم الماركسيون القدامى ومومياوات العصر الشيوعي في اليمن الحكم في
صنعاء بأنه صاحب علاقات قوية بالإسلاميين المتطرفين، وأنه احتضن الخارجين
على القانون والإجماع العربي! ! والواقع يقول إن هذه هي أهم الأوراق التي لا
يكف قادة الجنوب من التلويح بها كلما حاصرتهم الحقائق وأعياهم الواقع المتناقض،
لكن مهلاً فهؤلاء الماركسيون تحالفوا مع قوى متطرفة تدعي العمل الإسلامي مثل
«حزب الحق» الزيدي المرتبط بإيران الدولة صاحبة الباع الطويل في التآمر والإرهاب، ومع هذا لم يعتبروا هذا التحالف الذي استمر طوال فترة الوحدة وحتى قبيل اندلاع المعارك، نوعاً من التطرف أو الأصولية أو الرجعية!
وما دمنا نتحدث عن الرجعية فيكفي أن نتأمل أن الشيوعيين قرروا أن
يتحالفوا مع أكثر الفصائل الحاملة للراية الإسلامية ارتباطاً بالنظم المنقرضة، فقد
تحالفوا مع الأحزاب الصوفية الخرافية البائدة، ومع أتباع النظام الإمامي الزيدي
المتلاشي، وربما دأب الماركسيون على جمع شتات كل الفرق التي تسير في درب
الانقراض وفلك النسيان.
وظل الماركسيون يعتزون بتحالفهم مع الدول التقدمية في أنحاء العالم لاسيما
(صين ماو وشيوعية موسكو) مقابل اتهام أعدائهم بأنهم صنيعة الاستعمار الغربي،
لاسيما قائدة الاستعمار العالمي (أمريكا) ، كما أن للزمن أحكاماً وللشيوعيين منطق
عجيب وقانون انقلاب مخيف، فقد أصبحت صداقة أمريكا والغرب لهم إنجازاً،
والتفات مجلس الأمن لهم الذي طالما كالوه أقذع الشتائم أصبح وعياً وتحضراً،
وأصبحت الزيارات العلاجية لأمريكا وأوروبا مسابقة يتنافس عليها الأمين العام
للحزب مع منظر الحزب مع فراش الحزب ... الحزب عرف الطريق يا سادة إنه
يبدأ في شارع بنسلفانيا وينتهي بمبنى الكونجرس، ومن سبق فاز..!
لقد غدت مفردات اليسار العربي سهلة الفهم، فهي تساوي اليوم نقيض ما قام
عليه هذا التيار وما استورده قبل عقود، ويكفي أن تنظر إلى الموقف قبل عشرين
عاماً أيام النضال الثوري، والمد القومي، ثم تنظر إلى موقف اليمين الرجعي،
لتخرج بموقف اشتراكي اليوم وشيوعي الحاضر، إن مفردات الخطاب السياسي
هي مفردات الرجعية السابقة مضروبة بالأس ثلاثة.
لقد كانت الدولة الشيوعية في جنوب اليمن مثالاً للتطبيق الصارخ للماركسيين
في جميع أنحاء العالم، أما في الغد فلا يستبعد أن يقيم هؤلاء قبة للسيد البيض تحج
إليها القبائل ويرقص بجانبها الدراويش، وتقوم بتمويل الرحلات السياحية إليه
شركة أمريكان إكسبرس بالتعاون مع فرع الحزب الاشتراكي في المنطقة.
ولكم أن تتأملوا اليسار في محضنه الغربي، وهذا الخبل السياسي الذي يصر
على أن يقيم كرسي حكمه على جماجم البشر وهياكل الشعارات والمبادئ المفلسة،
بينما يغذي جنونه وشبقة شوق عارم للسلطة والنفوذ، ورغبة جامحة للوصول إلى
كرسي الحكم، حتى لو أريقت الدماء، وأزهقت الأوراح ومورس الدجل السياسي
بصورة تدعو للخجل، لو كان هناك خلق فضيلة، أو خصلة حياء.(78/79)
حوار
لقاء مع فضيلة رئيس المشيخة الإسلامية
في كوسوفو المسلمة
كوسوفو منطقة إسلامية مازالت ترزح تحت نير الاستعمار الصربي بعد تفكك
جمهورية يوغسلافيا، وعند ما أعلن برلمانها في أيلول 1991 م الاستقلال ونصب
زعيمهم (د. إبراهيم دوغوفا) ، قامت حكومة الصرب بالغاء حكمها الذاتي وربطتها
بالحكومة الصربية مباشرة وسامت أهلها سوء العذاب ومازالت، وسبق أن تطرقنا
بالتعريف بهذه المنطقة المسلمة مع بيان لمخطط التدمير الصربي لها في العدد (71) .
ويسرمجلة «البيان» في سبيل التعريف بهذه المنطقة ورموزها المشهورين،
اللقاء مع فضيلة رئيس المشيخة الإسلامية بكوسوفو د. رجب بويا، حيث يحدثنا
عن واقع المسلمين ومعاناتهم وما يحتاجونه من دعم وتأييد، والدور المنتظر من
إخوانهم المسلمين لنصرتهم.
-البيان-
بطاقة تعريف
وُلد في مدينة كلينا بكوسوفو، ودرس فيها إلى المرحلة المتوسطة، ثم حصل
على درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد كانت بعنوان
«الألبانيون والإسلام» ، ثم حصل على الدكتوراه وقد كانت بعنوان «المسلمون في يوغسلافيا» .
* ما هي أهداف زيارة فضيلتكم إلى بريطانيا، وهل أنتم مرتاحون لنتائجها؟
في الحقيقة الزيارة هي للتعرف على المراكز الإسلامية والجمعيات والاستفادة
منها في العمل الإسلامي، لا سيما أنها في أوروبا وهي قريبة منا، وقد استفدنا
كثيراً من حيث التنظيم والعمل.
* نرجو لو حدثتمونا عن أبرز التطورات في كوسوفو في الفترة الأخيرة.
إن قضية كوسوفو شبيهة بقضية فلسطين، هي الآن محتلة من قبل
الصرب وكوسوفو هي أصلاً جزء من ألبانيا، وقد قاموا باقتطاع هذا الجزء، علماً
أن سكان كوسوفو من الألبان المسلمين يشكلون نسبة 90 % وفي كوسوفو 100
ألف جندي صربي، ومن قبل كان الوضع لابأس به اقتصادياً ولكننا الآن صرنا
نُعاني من أزمات اقتصادية لاسيما بعد تسريح 200 ألف عامل من أعمالهم في
المصانع والدوائر الحكومية والمستشفيات وغيرها من المرافق.
* هل ملئت هذه الأماكن بالصربيين أم تركت فارغة؟
إن الصرب يشكلون نسبة 5 % من السكان، وإن كانوا يحاولون بعد
إخراج الألبان من أعمالهم أن يسدوا العجز بغيرهم، ولكن بقيت الكثير من الأماكن
فارغة، ومازال الحال هكذا بلا تغيير حتى الآن.
* هل هنالك فرق بين الصرب في ألبانيا والصرب في صربيا، لأن هنالك
من يفرق بينهم؟
نعم في السابق كانت هنالك فروق بين الصرب المقيمين في كوسوفو ومن
هم داخل صربيا، ولكن مع التغيرات انقلب الصرب في كوسوفو وصاروا
كالصربيين خارجها في معاملتهم مع المسلمين.
* ما هو الموقف الذي لمستموه من الدول الإسلامية تجاه محنتكم؟
إلى الآن لا نكاد نرى شيئاً من الدول الإسلامية، لا مساندة سياسية ولا
اقتصادية، وحتى الإعلامية قليلة جداً.
* وهل ينطبق نفس الكلام على الجمعيات الإسلامية وهيئات الإغاثة؟
هنالك من الجمعيات من قامت بالمساعدات البسيطة جزاهم الله خيراً وكان
من الواجب أن يقوموا بأكثر من ذلك.
* ما هو المشروع الأبرز الذي تودون أن يقوم به المسلمون؟
الشيء الذي نطلبه من إخواننا جميعاً أن يقوموا بالتعريف بقضيتنا، وبهذه
المساندة يستطيعون تدارك موقف إخوانهم قبل أن يضعفوا، ونود أن تكون المساعدة
في التعليم والصحة والعمل الدعوي الإسلامي، علماً أنه لدينا والحمد لله مدرسة
ثانوية شرعية فيها 450 طالباً، وكلية للدراسات الإسلامية بإشرافنا، ولكن هذه
المؤسسات تحتاج إلى دعم مادي حتى تؤدي رسالتها، وكذلك عندنا 21 مركزاً
إسلامياً تحت إشرافنا.
* معلوم أن قيمة كفالة الدعاة تختلف بين بلد وآخر، فهل يمكنكم أن تعرفونا
عن القيمة لكفالة داعية في كوسوفو؟
لقد اتصل بنا عدد من الجمعيات لكفالة دعاة وأئمة مساجد، والحمد لله لم
نطلب منهم ما يعطى للدعاة الآخرين في الدول الأوربية، فيكفي الداعية مبلغ
(200) دولار أمريكي شهرياً.
* إن الأمة البوسنية قد دخلت في منعطف جديد بعد إعلان الحكومة البوسنية
المسلمة الاتفاق مع الكروات الكاثوليك، ماذا ترون في هذا الاتفاق وانعكاساته على
الأوضاع في كوسوفو؟
إن إخواننا في البوسنة أعلم منا بوضعهم واستراتيجيتهم وسياستهم نحوها
ولا أستطيع أن أقول شيئاً لعدم اطلاعي على الموقف من قريب، ولكني أقول إنهم
يعملون جاهدين لحمل أمانة بلادهم ومسؤولياتها، نسأل الله لنا ولهم التوفيق والسداد.
* هل هناك نشاط بارز للدعاة لرد العدوان الصربي في المدى الطويل؟
نحن في المشيخة الإسلامية ليس لدينا دعاة من الخارج، فكل الدعاة من
الداخل وكلهم من الإخوة الألبان، وهم مع المسلمين في أمورهم الدعوية والسياسية
والاقتصادية ويعملون مع الناس ويساعدوهم في إخراج البلاد من هذه الأزمة،
والكل يعمل ويجتهد.
* ما هي الحجج التي يتذرع الصرب بها في احتلالهم لكوسوفو؟
إنهم يقولون إن كوسوفو مهد الصرب، فهم من حيث الموقع يرون أنها
صربية، وأن الألبان في زعمهم ما هم إلا جالية جاءت من ألبانيا من قبل الأتراك
العثمانيين، وهذا الأمر يُصرح به تارة ويُلوح به تارة أخرى، وهم أيضاً يطمعون
في أراضي كوسوفو الخصبة والغنية من ناحية الخيرات، فهم يزعمون أنهم ضحوا
فيها بالدماء خاصة في حربهم مع العثمانيين ويقولون: لا حق للألبان في هذه
الأراضي، وقد حضروا من ألبانيا ولكننا نعتبر أنفسنا من أصل السكان، ولسنا
جالية، ونحن مسلمون منذ أجدادنا وهذه هي الحقيقة.
* كلمة أخيرة لقراء المجلة؟
إن كلمتي لإخواننا هي أن يقوموا بالدور الإعلامي لإبراز قضيتنا والقضايا
الإسلامية الأخرى، وكذلك مساعدة إخوانهم بكل ما يستطيعون.(78/87)
المسلمون والعالم
بعد «التطهير» [*]
مقال مترجم
ترجمة: د. أحمد بن راشد بن سعيّد
الوقت هو يوم الجمعة ليلاً، ومطعم «أدريا» في «بانيالوكا» يغص
بالحديث والضحك والموسيقى، لا أحد يلقي بالاً إلى الأرض المهجورة في الجانب
الآخر من الطريق، والمكسوة ببقايا مسجد «فرحات باشا» ، الذي يعود بناؤه إلى
القرن السادس عشر.. كل مساجد «بانيالوكا» دمرت منذ بداية الحرب.
المسلمون القلائل الباقون في أجزاء البوسنة التي استولى عليها الصرب لم
يعودوا يأملون في أي نوع من التدخل، قبل اندلاع الحرب الأهلية في عام 1992م
كان عددهم يقارب 000ر350 نسمة، ومنذ ذلك الحين حوالي 90% وعلى جوانب
الطريق المؤدية إلى «بانيالوكا» يشاهد المرء حطام بيوتهم وأطلالهم بعض
الخرائب الباقية يرتفع عليها العلم الصربي إشارة إلى أن عائلة صربية تنوي إعادة
بنائها والسكن فيها، وبعض آخر يفكك بغرض استعمال أجزائها مواداً للبناء.
في بلدة بوسنية يحتلها الصرب وجدنا ثلاثة رجال مسلمين مستعدين للقاء زائر
أجنبي، إلا أن الرعب كان يتملكهم من عقاب الصرب إلى حد أنهم لا يريدون أن
يُعْلَنَ عن مكانهم ولا عن أسمائهم، أحدهم زعيم ديني وشيخ كبير، لم يقل لنا شيئاً، ولكن دموعه انهمرت على وجنتيه، أصغر الثلاثة سناً وهو يكتب مذكرات يومية
لما يعانيه شعبه من اضطهاد قال لنا: «التطهير العرقي» مستمر، في مارس قتل
37 مسلماً و3 كروات في بيوتهم في «برييدور» ، وفي الشهر الماضي امرأة
مسلمة اسمها «نورا ميدانوفيتش» تبلغ الخامسة والثمانين من العمر قتلت في بيتها
في «بانيالوكا» ، المسلمون بشكل يومي تقريباً يجلدون في الشوارع والأسواق،
والذي يزعج المسلمين أكثر هو سياسة العمالة القسرية التي ينتهجها الصرب، قال
الشاب: «هناك 1. 500 مسلم يجبرون على العمل الآن» ، وأضاف: «إنهم
يجعلوننا ننظف الشوارع نقطع الأخشاب، نشذب الأشجار، ونحصد القمح، وقد
بدأوا مؤخراً بإرسال كثيرين ليحفروا خنادق في الجبهة، وقد قتل الكثير منهم
هناك» .
قلة من المسلمين فضلوا السلامة عبر اعتناق النصرانية! امرأة صربية في
قرية «بوسانسكا غراهوفو» الصغيرة قالت إن أصدقاء مسلمين لها اختاروا هذا
الخيار: «في العام الماضي عمدوا كنصارى أرثوذكس لأنهم يريدون البقاء» ..
وقد أرسلوا مؤخراً إلى جبهة «بيهاتش» شمال غرب البوسنة، وأضاف: «إنك
لا تتخيل كم هي سيئة حالتهم، إنهم لا يغادرون الخنادق مطلقاً لأنهم سيقتلون إن
حاولوا ذلك، إنهم يقضون حاجتهم ويأكلون وينامون في الخنادق..» .
الأموال المقدمة من «بلغراد» إضافة إلى شبكة تموين سرية قللت النقص
(في مناطق البوسنة التي يحتلها الصرب) ، والذي أحدثته العزلة والعقوبات الدولية.
في «بانيالوكا» الأناناس المستورد وفاكهة «الكيوي» متوفرة بسهولة
ويستطيع المقتدرون شراء أزياء حديثة في المتاجر الواقعة على شارع
«غوسبودكا» .
الصرب في كل «بانيالوكا» يقولون إن اليونان عملت الكثير لتحسين
الأوضاع، فقامت برفع مستوى التعامل التجاري مع الصرب رغم العقوبات.
«كوبر يسانين» أحد الصرب قال: «لقد أثبتت اليونان أنها أحسن أصدقائنا»
مشيراً إلى أن «تهديد الإسلام» في البلقان قد أجبر الصرب واليونانيين والبلغار
على تكوين جبهة مشتركة.
__________
(*) عنوان المقال: After " Clearing "، الكاتب: لارا مارلو المصدر: مجلة تايم، التاريخ: 6 يونية 1994م.(78/91)
المسلمون والعالم
أوجادين
انتصارات جديدة للمجاهدين
الاتحاد الإسلامي في أوجادين
تمهيد:
أوجادين قطاع مسلم تحتله أثيوبيا منذ سلمته بريطانيا عام 1948 م، وسبق
للمجلة أن عرّفت بهذه المنطقة في عدد سابق، وقد تلقينا هذا التقرير عن انتصارات
المجاهدين هناك من مكتب العلاقات الخارجية والإعلام للاتحاد الإسلامي في
أوجادين، شاكرين تواصلهم مع المجلة مع دعائنا لهم بالنصر والتمكين. البيان
[يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون]
[الصف: 8]
مازالت الهجمات الصليبية المتحالفة مستمرة على إخواننا المجاهدين في
أوجادين، وقد ابتدأت منذ عامين إلا أنها أخذت طابعاً جديداً منذ يوم
10/11/ 1414 هـ، وقد اختلف الهجوم الأخيرعن الهجمات السابقة لكونه أول هجوم تشترك فيه أطراف خارجية مباشرة منذ اندلاع المعارك، حيث شاركت في قصف المواقع طائرات أجنبية (غربية) ، كما تمثل القوى المحلية الصليبية الحكومة الأثيوبية التي تشترك في الهجوم البري المكثف، وذلك بعد أن خسرت مليشيات «التجراي» الكثير من محصلة إحدى وعشرين مواجهة في الفترات الماضية.
وقد أحبط الله كيد الصليبية التي خططت للتصفية النهائية للمجاهدين في هذا
الهجوم الأخير، بفضل الله سبحانه وتعالى ثم للأسباب التالية:
1- أخذ المجاهدون تكتيك عدم التمركز في مناطق معينة، وانتشروا في
أنحاء المنطقة وفي طولها وعرضها ليمارسوا حرب العصابات المستمرة في الليل
والنهار.
2- بفضل من الله هطلت أمطار غزيرة لم ير لها مثيل في الآونة الأخيرة
وهذه الأمطار ساعدت المجاهدين، كما عرقلت وشلت حركة العدو الذي لم يستطع
الخروج من مناطق كثيرة مثل (لغب) حيث انقطعت الطرق، وتعطلت كثير من
آلياتهم ومعداتهم العسكرية.
وبعد أن أخفق العدو الصليبي في هجماته المتحالفة بدأ الانتقام من الشعب
الأعزل، وأخذ يمارس ضدهم ما يلي:
1- جمع أعيان الشعب وبخاصة المتهمين بأنهم من أنصار الجهاد، وقتلهم
بصورة بشعة.
2- جمعوا المصاحف والكتب الإسلامية وكل ما هو مكتوب بالعربية
وأضرموا فيه النار.
3- هدمت وأحرقت عدد كبير من منازل الشعب المسلم الأعزل.
4- تقوم الطائرات الحربية بقصف آبار الشعب التي تشرب منها المواشي
التي يعتمد الناس في حياتهم المعيشية عليها، وذلك حتى يتوقف الشعب عن تأييده
للمجاهدين.
معارك وتنفيذ عمليات ناجحة:
قام المجاهدون بتنفيذ عمليات ناجحة في الأيام القليلة الماضية نذكر منها:
1- في 20/11/1414 هـ قام المجاهدون بالهجوم على مطار «جودي»
العسكري وتفجيره ليلاً، وكانت عملية ناجحة حيث عاد المجاهدون سالمين.
2- في 21/11/1414 هـ التقت كتيبة من المجاهدين ومجموعة من
مليشيات العدو في «هطاوي» قرب عاصمة المنطقة «جودي» ، ودار بينهما
قتال مري'ر كان النصر فيه حليف المجاهدين، وبينما هم يجمعون الغنائم من
المعدات الحربية وصلت الطائرات الحربية المساندة فانسحب المجاهدون من الموقع.
3- في 22/11/1414 هـ تصادمت كتيبة من المجاهدين وقافلة للعدو قرب
بلدة «كنجدة» انهزمت قافلة العدو، وتمكنت من الفرار.
4- في 26/11/1414 هـ نصب المجاهدون كميناً لناقلة للعدو تقل عدداً
كبيراً من جنودهم، وقد تمكن المجاهدون بفضل الله سبحانه وتعالى من الاستيلاء
على هذه الناقلة بعد قتال عنيف، وأصبح من فيها بين قتيل ومشرد، وغنم
المجاهدون غنائم عديدة من بينها عدد لا بأس به من البنادق وجهازي لاسلكي،
وكمية جيدة من الذخائر.
5- في 5/12/1414 هـ اصطدمت كتيبة من المجاهدين ومجموعة من
مليشيات العدو في موقع قرب بلدة «جرسلي» ، ودار بينهما قتال مرير استمر
عدة ساعات، وأسفرت هذه المعركة عن إبادة المجموعة النصرانية البالغ عددها
(40) جندياً، حيث لم ينج منهم إلا اثنان فقط، وعادت الكتيبة المجاهدة إلى مواقعها
سالمة ولله الحمد.
6- في 6/12/1414 هـ قام المجاهدون بتنفيذ كميناً ناجحاً لقافلة في مدينة
«جودي» العاصمة، حيث اغتالوا جنديين وجرحوا واحداً من مليشيات العدو
الصليبي.
7- في 8/12/1414 هـ نصب المجاهدون كميناً لقافلة للعدو قرب مدينة
«قبردهري» ونجم عن هذا الكمين تدمير سيارة تقل عدداً كبيراً من جنود العدو الذين صاروا ما بين قتيل وجريح.
8- في 11/12/1414 هـ تمكن المجاهدون من تفجير سيارة وقتل من فيها
، كما استولوا على سيارة أخرى بحمولتها في نفس الموقع، وكان موقع العملية بين
مدينة «فبربيح» و «طجبحور» .
9- 16/12/1414 هـ التقت سرية من المجاهدين ومجموعة من مليشيات
العدو قرب بلدة «شنيلي» ودار بينهما قتال مرير استمر لمدة يوم كامل وبفضل الله
فقد انهزم جنود العدو وولى ظهره تاركاً على أرض المعركة (70) قتيلاً، أما
المجاهدون فقد قتل منهم عشرة وجرح خمسة، نسأل الله أن يتقبلهم شهداء في سبيله.
10- في 17/12/1414 هـ اشتبكت كتيبة من المجاهدين ومجموعة من
مليشيات العدو في نواحي مدينة «طجحبور» ودار بينهما قتال عنيف استمر نحو
ساعتين، وانتهت المعركة باندحار المجموعة النصرانية وانتصار المجاهدين،
حيث أسفرت هذه المواجهة عن قتل (47) من الجيش الاثيوبي وجرح ما يربو عن
(30) منهم، ومن جانب المجاهدين فقد سقط منهم (3) مجاهدين، وأصيب (10)
مجاهدين آخرين نسأل الله أن يتقبل الموتى شهداء في سبيله.
11- في 28/12/1414 هـ هاجمت سرية من المجاهدين وفي وضح النهار
قاعدة للمليشيات التجرانية النصرانية في مدينة «طجحبور» ، فقتلوا اثنين من
جنود العدو وغنموا بندقيتيهما، وأصيب أحد المجاهدين بجروح طفيفة.
اعتقال الرئيس المحلي بعد عزله:
في 2/12/1414 هـ الموافق 13/5/1994 م قامت السلطات الأثيوبية
باعتقال الرئيس المحلي لأوجادين «حسن جري قلنلي» ، ونائبه «أحمد علي
طاهر» ، وذلك بعد أن رفضا طلب هذه السلطات تسليم السلطة إلى «عبد الرحمن
محمد أغاس» المعين من قبلها لما في الأخير من الولاء الشديد إلى الذي يصل إلى
درجة العمالة للحكومة الاستعمارية.
وبعد أن تعرض الشعب للخطوات الوحشية السابقة من الغارات البرية
والجوية التي لا تفرق بين المجاهدين المسلحين وبين الشعب الأعزل، كما تعرضت
قيادته السياسية المتمثلة في الحكومة المحلية وبرلمانها المحلي إلى سلسلة من
التدخلات والمضايقات أدت إلى زجهم في السجن بصورة بشعة، والجدير بالذكر أن
إسقاط الحكومة المحلية في أوجادين واعتقال رؤسائها المحليين هو للمرة الثانية
خلال عام واحد.
وبعد هذه الخطوات بدأ في أنحاء المنطقة وبخاصة في المدن الرئيسة مثل
«جودي» العاصمة و «قبردهري» و «طجحبور» مسيرات ومظاهرات
واحتجاجات على هذه التصرفات غير الإنسانية، فكان رد الحكومة الأثيوبية أن
قامت بمزيد من المداهمات والاعتقالات الجماعية وبخاصة ضد أعضاء الحكومة
المحلية والبرلمان، بل تعدى الأمر في هذه المرة إلى إعدام أعداد كبيرة من أعيان
الشعب والوجهاء، فبدأ الشعب يخرج من المدن ليلتحق بالجبهات المسلحة بعد أن لم
يستطع الصبر على هذه الانتهاكات والممارسات من قبل السلطات الاستعمارية في
أديس أبابا، ويلاحظ أن هناك مشاركة فعلية من قبل الشعب في المعارك الأخيرة
بعد أن كانت محصورة بين مجاهدي الاتحاد الإسلامي وبين مليشيات «تجراي»
النصرانية في خلال العامين الماضيين.
وذلك أن الشعب كان يراهن في انتهاء الفترة الانتقالية للحكومة الأثيوبية،
ومن ثم تحديد موعد لإجراء استفتاء عام حول استقلال أوجادين ولما انتهت هذه
الفترة الانتقالية التي مددت عدة مرات من قبل الجبهة الحاكمة في أديس أبابا
(EPROF) اتضح للشعب خرافة الوعود الكاذبة التي ترددها هذه الشلة
الاستعمارية بأن لكل قومية أن تحدد تقرير مصيرها، وأن تختار ما تشاء في ظل
الدستور الجديد! بل أكثر من ذلك انكشف الوجه الحقيقي لهذه العصابة المتعصبة
التي كشرت عن أنيابها لتمارس سياسة الحديد والنار في قمع الشعب المسلم في
أوجادين، وتنكرت لكلامها المعسول الذي كانت تردده في الفترة الماضية عندما
شعرت أن بإمكانها حسم الصراع لصالحها عن طريق القوة العسكرية بواسطة
حلفائها الغربيين، الذين يتدخلون دائماً في الصراع الدائر في القرن الإفريقي لصالح
الأقلية الاستعمارية في أثيوبيا، والتاريخ القديم والحديث يثبت صحة ذلك.
وفي صعيد آخر فقد استعدت الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين للمواجهة
المسلحة مع مليشيات العدو، وانسحبت قياداتهم من المدن، وأغلقوا معظم مكاتبهم،
وقال الأمين العام لهذه الجبهة الوطنية «إبراهيم عبد الله» في مقابلة مع هيئة
الإذاعة البريطانية في 28/12/1414 هـ: إن شعب أوجادين يتعرض لحملات إبادة
واعتقالات واسعة، بل وتعذيب وإعدامات في داخل السجون الجماعية وقال: أن
جبهته تقاتل بجانب مجاهدي الاتحاد الإسلامي لرفع الظلم والضيم عن الشعب في
الأوجادين، ولن نضع البندقية حتى نحصل على حقوقنا في تقرير المصير.
وهكذا نجد أن تخطيط الصليبية المتحالفة قد خاب وفشل [ويمكرون ويمكر
الله والله خير الماكرين] ، كما نجد أن الهجوم الواسع الذي اشتركت فيه أطراف
أخرى، والذي كان مخططاً منذ فترة طويلة وعلى تمثيل مستوى عال في العناصر
المتحالفة، قد باء بالفشل الذريع ولله الحمد وأصبحت نتائجه عكسية حيث إن
الشعب كله اشترك في المعارك الأخيرة، وأصبحت المسألة بين شعب أوجادين
المسلم البالغ ستة ملايين نسمة، وبين المليشيات الاستعمارية الصليبية.
ومما يدل على فشل هذا الهجوم الذي يهدف إلى استئصال المجاهدين وإخماد
أي مقاومة منهم أن المعارك والعمليات الناجحة قد ارتفعت بصورة واضحة أكثر من
ذي قبل.
ومن ناحية أخرى تشير الأخبار الواردة من أنحاء الأوجادين أن معنويات
المليشيات الاستعمارية في الحضيض، وأن آثار الملل والإرهاق ظاهرة عليهم لذلك
فإنهم الآن يبحثون التفاوض مع قيادات أوجادين لإنهاء التوتر الذي عم في أنحاء
المنطقة، إلا أنهم لم يجدوا استجابة حتى الآن لما اشتهروا به من الغدر والخيانة في
مفاوضاتهم الماضية.
ونحن بدورنا ننبه أن الحرب الدائرة في أوجادين حالياً ليست حرباً بين
الإتحاد الإسلامي وبين الحكومة الاثيوبية فقط، وإنما الحرب بين شعب أوجادين
المسلم الذي يئن تحت الاستعمار الحبشي منذ قرن من الزمن، وبين الحكومة
الاستعمارية النصرانية في أثيوبيا، وخير دليل على هذا اعتبار أوجادين منطقة
عسكرية منذ أن ضمتها بريطانيا إلى أثيوبيا عام 1948 م ظلماً وعدواناً وإلى يومنا
هذا، حيث تندلع في كل عدة سنوات حروب طاحنة لتلخيص المنطقة من أيدي
المستعمرين، وما كانت حرب 1977 م المشهورة بـ (حرب أوجادين) التي تعتبر
من أكبر الحروب التي عرفتها البشرية إلا واحدة من هذه الحروب.
لذا فإننا ننادي إخواننا في كل مكان أن يقفوا إلى جانب إخوانهم في أوجادين،
وأن يستنكروا الانتهاكات والممارسات غير الإنسانية التي يتعرض لها الشعب المسلم
من قبل نصارى الحبشة المتعصبين المغتصبين، حيث إن طبيعة المعركة لا تختلف
عن طبيعة المعركة القائمة في كل من فلسطين والبوسنة والهرسك.
نسأل الله تعالى أن ينصر عبادة المجاهدين في كل مكان، وأن يجعل الدائرة
والذل والصغار على من عادى وظلم.(78/94)
متابعات
الندوة الدولية حول التقريب في استانبول
عرض وتحليل
سعد بن محمد آل عبد اللطيف
أقيمت هذه الندوة في إستانبول بتركيا من 1315 فبراير 1993 م برعاية
وقف دراسات العلوم الإسلامية بتركيا وهي مؤسسة علمية تعنى بالأبحاث
والدراسات العلمية، تحت عنوان (الشيعة عبر التاريخ وحتى يومنا الحاضر) ، وقد
بدأ الإعداد لهذه الندوة والأبحاث التي ألقيت فيها منذ ثلاث سنوات، وقد اشترك فيها
ستة عشر عالماً من جامعات تركيا، وقد قاموا برحلة علمية إلى إيران لمدة
أسبوعين.
والهدف من هذه الندوة: تدارس التقارب بين السنة والشيعة! ، وما هي
العوائق التي تحول دون ذلك.
وألقيت في بداية المؤتمر كلمة ترحيبية يمثل صاحبها أهل السنة! ! وكلمة
ترحيبة أخرى يمثل صاحبها الرافضة، والأول من بلد له ثقل كبير عند أهل السنة
والآخر له ثقل كبير أيضاً عند الرافضة، ولهذا الاختيار مغزى كما ترى، وقد اتفق
الطرفان على أن الخلاف بين طائفتيهما السنة والرافضة هو خلاف هامشي! !
ثم ألقيت البحوث التي أعدها أساتذة جامعات من تركيا، وفي الغالب كان يتلو
هذه البحوث تعقيب من الحاضرين من علماء ومثقفي الشيعة الحاضرين في الندوة،
وسنعرض لبعض أهم هذه الأبحاث عرضاً موجزاً.
الأبحاث:
*بحث بعنوان نشأة الشيعة وتطورها، د. أدهم روحي فغلالي رئيس جامعة
موغلا بتركيا تحدث في هذا البحث عن منشأ الخلاف وأساسه بين السنة والشيعة
وهو مسألة: الإمامة، وذكر أن الشيعة يسرون أن الإمامة بالنص وأنها لعلي بن
أبي طالب رضي الله عنه ثم لأبنائه، وذكر أن الإمامة ركن من أركان الإيمان
عندهم، ثم تتبع أحداث التاريخ لرصد تطور معتقدات هذه الفرقة أي الإمامية الإثنا
عشرية.
ثم جاء تعقيب د. محمد علي آذرتب أستاذ في جامعة طهران بإيران حيث
شكك في دعوى أن الإثنا عشرية يقولون بأن إمامة علي بن أبي طالب كانت بالنص، وعرف التشيع بأنه هو الاعتقاد بأن علي بن أبي طالب وأهل البيت أفضل الناس
للخلافة بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقط، ثم ذكر وعلى حسب زعمه أن
أغلبية الصحابة لم يبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ثم ذهب يطعن في
الأمويين والعباسيين [1] .
*بحث بعنوان آراء الشيعة في علوم القرآن، د. موسى كاظم يلماز من
كليات الإلهيات بجامعة طهران، وتحدث فقال: إن القرآن جاء بالتواتر دون زيادة
ولا نقصان، بخلاف الرافضة القائلين بوقوع التحريف في كتاب الله بأقوال علمائهم
ونقلاً عن مصادرهم، وجعلها على قسمين: القسم الأول المصادر والأقوال للعلماء
المتقدمين منهم ما قبل القرن الرابع، والقسم الثاني العلماء القائلين بهذا القول ممن
عاشوا ما بين القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر الهجري ثم ذكر قسماً ثالثاً وهم
القائلون بعدم وقوع التحريف.
ثم جاء التعقيب من محمد باقر حجي أستاذ كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية
بجامعة طهران الذي أكد في أول الأمر أن القرآن الكريم جمع في عهد النبي -صلى
الله عليه وسلم- وليس في زمن أبي بكر كما قال الباحث، ثم زعم أن الرافضة لا
يقولون بتحريف القرآن، وأن الروايات التي في هذا الباب هي ضعيفة السند وهي
مخالفة للقرآن والسنة والإجماع! ! ثم ذكر عدة كتب لهم تنفي القول بتحريفه وقال:
لو أن وجود روايات تدل على التحريف عند الشيعة يعني أن الشيعة يؤمنون
بتحريف القرآن لكان وجود الروايات الكثيرة الدالة على التحريف في نطاق واسع
عند أهل السنة! هي أيضاً دليل على اعتقاد أهل السنة بالتحريف! ! ثم ذكر بعض
هذه المرويات التي على فرض صحتها من جهة السند فليس فيها دلالة على
التحريف، من ذلك ما جاء في كتب الحديث أن آية الرجم نسخت تلاوة وبقيت
حكماً، ففي هذا الحديث دلالة على وقوع التحريف في القرآن الكريم كما يزعم!
ولا شك أن ذلك سفسطة [2] .
*بحث رأي الشيعة الأمامية الإثنا عشرية في التفسير، د. علي أوزك كلية
الإلهيات بجامعة مرمرة تحدث عن عقيدة الإمامة عندهم وكون الإمام لابد أن يكون
معصوماً، وذكر أمثلة على تفسيرهم وتأويلاتهم لآيات القرآن الكريم في دعوى
الإمامة والنص فيها فيما يرى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبنائه من بعده.
ثم ذكر أركان مذهبهم وهي: العصمة، المهدية، الرجعة التقية وكيف أنهم
أولوا آيات القرأن الكريم لتسويغ هذه الأركان والاستدلال على أهميتها وشأنها في
الدين عندهم.
ثم تعرض للخصائص المشتركة كما يرى بين السنة والشيعة، وهي: التوحيد
النبوة المعاد، ولكن المعلوم أنهم نفاه لصفات الله عُبّاد للقبور غلاة في أئمتهم،
معرضون عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، معادون للصحابة رضوان الله
عليهم ... إلى آخر معالم مذهب القوم.
ثم ذكر الباحث أن العلم بالقرآن الكريم وبتفسيره هو خاص بالنبي وآل بيته
رضي الله عنهم فقط، وذكر أن الإمام عندهم له أحقية التشريع!
ثم علق المهدي الحسيني الروحاني بأن أركان الدين الأربعة ليست أركان بل
هي أمور وقضايا فرعية! وأصول الدين عندهم هي خمسة: التوحيد العدل النبوة
الإمامة، وقال: إن القول بأن الشيعة ترى أن للإمام أحقية في التشريع يجب اتباعه
على ما يرى والتصديق بما يقول كذب عليهم! بل هو قول أهل السنة الذين جعلوا
الصحابة رضوان الله عليهم لهم أحقية التشريع! ! وهو يشير هنا إلى مسألة قول
الصحابي وحكم الأخذ بقوله، وهي مسألة أصولية وقع فيها الخلاف بين أهل السنة، ثم زعم أن أهل السنة يقولون كما تقول الشيعة بأن للقرآن ظاهراً وباطناً، (كذا
زعم!) [3]
كان هذا التعليق المتهافت سبباً في أن يعقب الباحث د. علي أوزبك على
تعقيب الروحاني، حيث قال: إن المقصود في اجتماعنا هو الوصول إلى الحق
والتجرد له دون محاكمة الصحابة وآل البيت [4] .
*بحث بعنوان أصول الدين عند الشيعة، د. عوني إنحاف كلية الإلهيات
بجامعة 9 سبتمبر تحدث في بحثه عن أصول الدين عندهم، وهي: التوحيد والعدل، وقد وافقوا المعتزلة في هذين الأصلين: التوحيد بنفي الصفات والعدل بنفي
القضاء والقدر.
الأصل الثالث النبوة، والرابع الإمامة، والخامس المهدوية، والسادس المعاد، بالإضافة إلى الرجعة والتقية، ثم شكك الباحث في كونهم يعتقدون بتحريف القرآن، ويرى أن التقية أمر طبيعي ربما احتاج له المسلم العادي إذا ما خاف على نفسه أو
على من يعز عليه، وبخاصة وأن منهم الإثنا عشرية الذين لاقوا وذاقوا الكثير من
المحن والمصاعب، فكان هذا دافع للتستر خلف ستار التقية.
ثم جاء تعقيب آية الله مهدي الحسيني الروحاني الذي قال: إن كلمة الشيعة
تعظم أئمتهم كما زعم فإن هذا التعظيم لا يعدو مثل تعظيم أهل السنة للصحابة! ! ثم
ذكر أن قومه يوافقون الأشاعرة في تنزيه الله عز وجل يعني نفي بعض صفات الله
عز وجل بخلاف من وقع في التشبيه من أهل الحديث السافبين والحنابلة وابن تيمية
وأتباعه من الوهابيين! (كذا زعم) .
ثم يعود ويذكر أن المعتزلة هم الذين أخذوا هذين الأصلين عنهم: العدل
والتوحيد لا العكس، وهذا ادعاء غير صحيح، فإن الشيعة ومتقدميهم بخاصة
كالروافض كانوا في أول أمرهم مشبهة ومن رؤوسهم في هذا الباب كما هو معروف
هشام بن الحكم، ثم تحولوا إلي الاعتزال ونفي القول بنفي القدر ثم كيف يزعم في
أول الأمر أنهم وافقوا الأشاعرة في باب التوحيد؟ وهنا يرى أن المعتزلة قد وافقوه؟ والأشاعرة تثبت بعض الصفات وتنفي بعضها الآخر أما المعتزلة فينفون جميع
الصفات، فهل وافقت الرافضة حينما قالت بنفي بعض الصفات أو نفي الكل؟ ! ثم
يوافق الباحث في أنهم لا يقولون بتحريف القرآن! ! ويخالف الباحث في أن التقية
والرجعة والبداء ليست من العقائد بل هي من المسائل الفرعية.
*بحث بعنوان مناقشة آراء الإمامية وتقييمها حول موضوعات أصول الدين،
د. يوسف شوقي ياووز كلية الإلهيات بجامعة مرمرة تعرض لما تعرض له زملاؤه
السابقون، ثم أشار إلى أن التقية والعصمة والإلهام الغيبي كانت وراء ما أسماه
بـ (الإمامية الإلهية) .
ثم تحدث الباحث بمرارة عن عقيدتهم في أئمتهم المجتهدين، وأنها فتحت باباً
للظلم والاستبداد والعبودية، ونقل عن أحد علمائهم أنهم يرون طاعة المجتهدين من
علمائهم في كل شيء، ومن رد عليه فهو راد على الإمام والراد على الإمام راد
على الله [5] .
*بحث بعنوان الفكر الشيعي من التقية والانتظار إلى الولاية المطلقة، أحمد
الكاتب، تحدث في بحثه عن الفكر السياسي الشيعي مرحلة الانتظار والتقية حيث
تجمد الحدود عندهم والقضاء وغيرها من الأمور حتى يخرج الإمام من السرداب،
وهناك من قال بفكرة النيابة وذلك بأن يقوم الفقهاء بالقضاء وأخذ الزكوات وغيرها.
وكانت النيابة بذرة لفكرة وعقيدة ولاية الفقيه التي تطورت على يد الخميني
حديثاً حيث أخذ ببث هذه الفكرة بين طلابه في النجف، وألف في شأنها كتابه
الحكومة الإسلامية، ثم قام بالتطبيق العملي لهذه الفكرة حينما وصل إلى سدة الحكم
في إيران، وللحكومة الإسلامية وتحت ستار ولاية الفقيه أن تفعل ما تشاء، فلها
مثلاً أن تهدم المساجد إذا رأت ذلك، أو تمنع أفراد الشعب من الحج إلى مكة
المكرمة ... إلى غير ذلك [6] .
*بحث بعنوان التقية والعصمة والإلهام عند الشيعة الإمامية د. موسى
الموسوي رئيس المجلس الإسلامي في لوس أنجلس بأمريكا قال في شأن التقية:
كانت ولازالت لها آثارها السيئة في حياتنا، ولازلنا ندفع ضريبتها الباهظة.
وضرب أمثلة على عقيدتهم التقية فقال: إن عقيدتهم في الخلفاء الراشدين
عقيدة غير حسنة كما تشهد بذلك كتبهم ولكنهم يضمرون هذه العقيدة أمام أهل السنة
ويقولون فيهم قولاً حسنا.
ويرفض أن تنسب عقيدة التقية إلى الأئمة من آل البيت، ثم قال عن عقيدة
عصمة الأئمة: إنما وضعت هذه العقيدة لأجل غاية وهي القول بـ الإمامة الإلهية،
وشهد شاهد من أهلها [7] .
وهناك أبحاث أخرى منها: الثورة الإسلامية الإيرانية والشيعة في القرن
العشرين، الشيعة من القرن العاشر إلى القرن العشرين [8] ، فروع الدين عند
الشيعة، العبادات في المذهب الجعفري، التصوف عند الشيعة الزيدية ... وغيرها
من الأبحاث.
وفي الختام:
توالت كلمات الحاضرين من أهل السنة من غيرالأتراك من رعايا الدول
العربية وباكستان ممن هم على مذهبهم بالثناء على هذه الندوة، ودعوتها إلى الوحدة
الإسلامية ونشر المحبة بين الفريقين أهل السنة والشيعة، إلا أنهم أكدوا على جوب
توضيح موقفهم أي الرافضة من مسألة وقوع التحريف في القرآن الكريم ومسألة
سب الصحابة وتحذيرهم عامتهم من الوقوع في هاتين المسألتين، كما دعى ممثل
إيران إلى أن يكون الاجتماع القادم في إيران وبإشراف مجمع التقريب بين المذاهب
الإسلامية الموجود هناك [9] .
وقفات مع هذا المؤتمر:
أولاً: يتميز هذا المؤتمر أو الندوة بالطابع العلمي الأكاديمي إلى حد ما ومن
ثم فهو ليس كغيره من مؤتمرات التقريب التي يغلب عليها الجانب العاطفي والدندنة
حول شعارات الوحدة الإسلامية ومواجهة الأعداء ... الخ.
ولكن ينقص أصحاب هذه البحوث الشيء الكثير من التأصيل العلمي الشرعي
للموضوعات المطروحة، وما يترتب على معتقداتهم تلك مع أهمية عدم الاغترار
بزخرف قولهم وبخاصة وأنهم أهل تقية، ومعرفة أقوال سلف الأمة والعلماء
والمعتبرين المعاصرين فيهم، والرجوع إلى كتب الملل والنحل لمعرفة حقيقة
مذهبهم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، إذ كيف تعرف ذلك إلا بمعرفة أحكام وشرائع
هذا الدين من مصدريه الصحيحين الكتاب والسنة والتجرد للحق ونصرته دون
مواربة أو مجاملة أو عواطف زائفة؟ !
فهناك من الباحثين من هَوّن من شأن في إثبات الصفات المثلى لله عز وجل
كما دلت على ذلك النصوص الشرعية كما هي عقيدة أهل السنة أما القوم فهم ينفون
هذه الصفات، فيرون أن الأمر ليس ذا أهمية وأنها قضية هامشية؟ ! وهناك من
شكك في كونهم يقولون بوقوع التحريف في القرآن وغيرها من الأخطاءالثابتة فعلياً
في مراجعهم المعتمدة.
ثم لابد للباحث من الحصيلة العلمية الشرعية الصحيحة والعقيدة والتصور
الصحيح من أجل التقييم الصحيح على وفق منهج أهل السنة والجماعة، ومما يدل
على ضعف الحصيلة العلمية الشرعية عند هؤلاء الباحثين، عدم تعرضهم لتوحيد
العبودية عند أولئك، وبخاصة وأن مواقفهم معروفة في هذا الباب، كيف لا وهم
يحجون إلى قبور أئمتهم؟ ! كما هو معروف في مشاهدهم في العراق وإيران مثلا.
ثانياً: الغاية من المؤتمر والمقصد منه هو التقريب، وهي غاية فيها نظر،
فهل يجوز التقريب بين أهل السنة والمبتدعة، فضلاً عن أولئك؟ ! وهل المقصود
من التقريب التنازل من أهل السنة عن عقائدهم! ! أم هل يمكن الاجتماع معهم وهم
يقولون بوقوع التحريف في كتاب الله ويردون السنة؟ ! ويكفرون الصحابة.
ثالثاً: عند وقوع التنازع بين أهل السنة والقوم سيقوم أهل السنة بالرجوع إلى
الكتاب والسنة عند وقوع هذا الاختلاف والتنازع، عملاً بقوله تعالى: [فإن
تنازعتم في شيء فروده إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك
خير وأحسن تأويلاْ] [النساء: 59] ، أما أولئك فيقولون أن القرآن الكريم محرف وربما أولوه على أهوائهم، أما السنة فهي عندهم ما نسبوه إلى أئمتهم (فقط) ، ويطعنون في الصحابة رضوان الله عليهم إلا القليل منهم ويطعنون في السنة إلا أحاديث معدودة، يقدمون أقوال علمائهم ومراجعهم في الحوازات العلمية على نصوص الوحي، فكيف يتفق الفريقان بل كيف يلتقيان؟ !
رابعاً: توصل بعض الباحثين إلى نتائج طيبة في معرفة عقيدة القوم من
القول بوقوع التحريف في القرآن الكريم إلى الطعن في الصحابة، إلى التقية
والعصمة وغيرها، ولكن ماذا يترتب على هذه العقائد من حكم قائلها، وكيف
نتعامل معه على ضوء معتقداته الفاسدة؟ هل يمكن بعد كل ذلك أن نجلس معه
ونتحاور ونثني عليه ونحسن الظن؟ !
كيف نكون مع قوم يطعنون في كلام الله ووكلام رسوله -صلى الله عليه
وسلم- وفي صحبه الأطهار، ويرجون ليوم يظهر فيه إمامهم المزعوم ليهدم الكعبة
ويقتل أهل السنة ويبطش بهم؟ ! كيف يؤمن جانبهم وهذا ما يؤمنون به، وإلى
متى نبقى سذجاً إلى هذا الحد؟ !
__________
(1) انظر لبيان أن الإمامة للإمام علي ليست بالنص (منهاج السنة) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) انظر إلى كتاب (الشيعة والقرآن) لإحسان ظهير، و (الشيعة وتحريف القرآن) للأستاذ محمد مال الله، من واقع كتبهم المعتبرة.
(3) انظر لمناقشة مسألة أن للقرآن ظاهراً وباطناً في كتاب (التفسير والمفسرون) للشيخ الذهبي، وكتاب (الفكر الصوفي) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وكيف دحضاها.
(4) انظر الشيعة والتفسير (د علي السالوس) و (الشيعة والسنة) لإحسان ظهير.
(5) انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام، ومناقشتهم في هذا الباب مناقشة علمية.
(6) انظر (دراسة في ولاية الفقيه) د محمد عثمان، ومعلوم أن كثير من علماء الشيعة مثل (كاشف الغطاء) نقد هذه الفكرة التي اخترعها الخميني.
(7) انظر (الشيعة والتصحيح) لموسى الموسوي، لمزيد من الإيضاح لهذه المسألة.
(8) انظر (الثورة البائسة) لموسى الموسوي، و (جاء دور المجوس) د الغريب.
(9) انظر (رسالة التقريب بين الشيعة والسنة) د القفاري، من منشورات دار طيبة بالرياض، حيث ناقش هذه المسألة بما لا مزيد عليه.(78/102)
في دائرة الضوء
محاسبة النفس ونقد الذات
رؤية دعوية لإصلاح المسار
عبد العزيز بن محمد الوهيبي
تمهيد:
لقد سرني وأثلج صدري ما كتبه الأخوان الفاضلان الأستاذ/ جمال سلطان في
مقاله (الدعوة السلفية رؤية نقدية) ، وما كتبه الأستاذ/ أحمد الصويان في مقاله
(الاستبداد الدعوي) اللذين نشرا في العدد (73) من هذه المجلة فهيج ذلك المقالان
شجناً قديمتاً عندي، وأحببت الإدلاء بدلوي في الموضوع بهذه المقالة، عسى أن
تدفع هذه المشاركة الآخرين لتناول تلك القضية من زوايا أخرى تعين على وضوح
الرؤية، وسلامة الفهم، وحسن السلوك. والله من وراء القصد.
ثمة عيبان بارزان، وشاهدان عدلان على ضعف الإنسان وعجزه وقصوره،
هما: الظلم والجهل.
[إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها
وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماْ جهولاْ..] [الأحزاب: 72] .
هاتان الآفتان هما أساس كل بلاء، وجذر كل نقص في بني آدم، ويمكن رد
كل آفة أو عيب من غيرهما إلى هاتين الآفتين مباشرة أو بطريق غير مباشر.
والوعي بهاتين الآفتين والسعي لتلافيهما دلالة على سلامة المنطلق، ونجاح المآل
بإذن الله تعالى.
آفة الظلم:
وهي العيب الأول، وهو عيب أخلاقي وله مظهران: المظهر الأول فردي
يتمثل في أسوأ صورة، التي تتمثل في الشرك بالله تعالى، يقول سبحانه: [إن
الشرك لظلم عظيم..] [لقمان: 13] ، وأي ظلم أعظم من الشرك بفاطر الأرض
والسموات؟ !
والمظهر الثاني لهذا العيب الخطير جماعي متعد، يتمثل في ظلم الناس،
وأسوأ صورة له هي الكبر الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- (الكبر بطر
الحق وغمط الناس ... [1] ، وقال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من
كبر ... ) [2] .
آفة الجهل:
وهي العيب الثاني، وهو عيب معرفي ويتجلى هو الآخر في مظهرين:
المظهر الأول الجهل بالشريعة المنزلة على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وذلك
بالإعراض عنها كلياً وهو حال الكافرين المستكبرين الذين قال الله عنهم: [والذين
كفروا عما أنذروا معرضون] [الأحقاف: 3] ، أو الإعراض عن بعض ما جاء به
الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو حال العصاة الفاسقين، أو المبتدعة الزائغين،
الذين قال الله عن أشباههم: [أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء
من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد
العذاب..] [البقرة: 85] .
الأمر الذي يؤدي إلى التفرق والاختلاف، [فنسوا حظاْ مما ذكروا به فأغرينا
بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة..] [المائدة: 14] ، ذلك الجهل وذلك
الانحراف نابعان من اصطناع منهج منحرف في الاستدلال كمناهج الصوفية ...
والباطنية، أو قصور المنهج المعتمد كمناهج الخوارج، وتلك صورة تتكرر،
وماتزال حيث تتمسك بعض الطوائف ببعض الجوانب التي حث عليها الإسلام وأمر
بها، فتجعل منها قضية الإسلام الأولى والأخيرة وتتمسك طائفة أخرى بجانب آخر
وتعطيه الأهمية نفسها، وتنكر الواحدة منهما على الأخرى وتقاطعها وتدابرها،
وتتمزق الصفوف، وتبدد الجهود وربما وصل الأمر إلى التفسيق والتبديع، بل
ربما وصل الأمر إلى التكفير وإهدار الدماء، نسأل الله السلامة والعفو والعافية.
تلك بعض آثار المظهر الأول من مظاهر الجهل.
المظهر الثاني وهو الجهل بالواقع: إذ أن الشريعة أحكام كلية وضعت لتعالج
أحداثاً جزئية، ولذلك لابد من فهم الواقع بشكل صحيح، من أجل تنزيل أحكام
الشرع عليه، ومن صور الجهل بالواقع اصطناع منهج في الفهم والتحليل يقود دائماً
لفهم خاطئ ومعالجة خاطئة، ومن الأمثلة الشهيرة في التحليل السياسي على سبيل
المثال نظرية المؤامرة، تلك التي ترجع كل الأحداث والوقائع والمستجدات لمؤامرة
عالمية واحدة يختلف في تحديدها ولكن النتيجة واحدة مؤامرة شديدة الإحكام، شديدة
الدقة، شديدة النجاح لا نملك إزاءها صرفاً ولا عدلاً، وتحيط بكل شيء علماً، قد
تكون خلف هذه المؤامرة الماسونية السرية، ذات القيادة الخفية، وهي حكومة
عالمية خفية تجتمع وتخطط، وتدبر كل شيء، وكل هذه الحكومات والدول
والمنظمات إنما هي أحجار على رقعة الشطرنج، تتحرك وفق مخطط مدروس كي
تنفذ لعبة الأمم، وتعبث بمقدرات الشعوب..
هذه النظرية ليست مختصة ببعض المسلمين، بل هي منهج مريح يعفي من
تبعات التحليل والتدقيق والمراجعة، وكانت سائدة في بعض المدارس التحليلية
الأمريكية عندما كانوا يرون الشيوعية خلف كل خطر يتهددهم كما هو لدى المكارثية.
تلك أربعة فروع من فروع الخلل السلوكي (الأخلاقي) والخلل المعرفي تتفرع
عنها فروع أخرى كثيرة.
مدارس فهم النص:
في المسألة المعرفية الاستدلالية نود طرح هذا السؤال: هل جاء الإسلام
بمفردات نصوص تؤخذ هكذا مبعثرة، ويتعامل مع كل نص بمفرده كأنه منهج
مستقل وتشريع منفرد، أم ينظر إليه كما ينظر إلى الخلية في الجسد الحي لا قوام
لها إلا به، ولا حياة لها إلا بحياته، وعزلها وفصلها يعني موتها المحقق..؟ ! ثم
إذا سلمنا بأن الشريعة كل متكامل يصدق بعضها بعضاً، ويؤيد بعضها بعضاً كما
قال الله تعالى: [الله نزل أحسن الحديث كتاباْ متشابهاْ مثاني] [الزمر: 23] ،
فأي هذه النصوص هو المحور، وأيها الأطراف؟ ! أيها هو العمود الفقري،
وقطب الرحى الذي لا قيام لغيره إلا به..؟ ! أيها المحكم الذي يمكن من خلاله فهم
المتشابه ... الملتبس الغامض..؟ ! ولنأخذ على ذلك مثلاً توضيحياً سريعاً: في
مسألة الموقف من عصاة الموحدين في شريعة الإسلام، فنحن نجد هنا مدارس
متعددة في فهم النص وإدراكه أشهرها ثلاث:
أولا الخوارج: الذين آمنوا بأن النص المحكم في هذه المسألة هو قول الله
سبحانه وتعالى: [ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا..]
[الجن: 23] ، وكل نص خلاف هذا النص فهو عندهم مردود عليه، فنصوص مغفرة
الذنوب دون الشرك، مثل قوله سبحانه: [إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك..] [النساء: 48] ، المقصود بها ما دون الكبائر.. وهكذا، ومن خلال هذا
الفهم السيء فإن مرتكب الكبيرة المصر عليها كافر خارج من الملة مخلد في نار
جهنم والعياذ بالله..! !
ثانياً المرجئة: الذين قالوا بأن النص المحكم في هذه المسألة قوله سبحانه
وتعالى: [قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله
يغفر الذنوب جميعاْ] [الزمر: 53] ، وكل نص يفهم من ظاهره خلاف هذا النص
فهو غير مراد والواجب تأويله، فمثلاً الآية التي استدل بها الخوارج على مقولتهم
السابقة، فإن المقصود بالمعصية في الآية هو المعاصي المكفرة كالسخرية بالدين،
أو ذم الرسول-صلى الله عليه وسلم-، أو كراهية ما أنزل الله ... الخ.
ثالثاً مدرسة الصحابة أو المنهج الحق: أما علماء الصحابة ومن اقتفى أثرهم، فقد رأوا أن في المنهجين خللاً معرفياً استدلالياً ظاهراً، ذلك أنه في حقيقة الأمر
فإن الآية المحكمة في الباب هي قوله سبحانه وتعالى: [إن الله لا يغفر أن يشرك
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..] [النساء: 48] ، فبهذه الآية تجتمع أطراف
النصوص ويفسر بعضها بعضاً، فنصوص الوعد بالجنة للموحدين العصاة الذين
يقترفون الكبائر، هي بعد تطهيرهم في النار حيناً من الدهر، أو بمغفرة الله سبحانه
وتعالى لهم، ونصوص الوعيد على المعصية المقصود أن الفاعل لها مستحق للوعيد
وقد يعاقب بذلك العقاب، وقد يغفر الله له، أو تكفرها طاعاته أو البلاء الذي يصيبه
في الدنيا، أو غير ذلك من الأسباب، ولا ريب أن فهم السلف هو الفهم السديد،
وهو مقتضى النصوص الواردة المتواترة في إقامة الحدود على مرتكبي الكبائر، إذ
لو كانوا كفاراً لوجب قتلهم، ولغير ذلك من الدلائل.
ولا ريب أن هذا الفهم هو الذي يعصم المجتمع من التمزق والحروب الداخلية
الناجمة عن رؤية وفهم الخوارج، كما يعصمه من التحلل وانتشار الفساد والجريمة
الناجم عن الرؤية الإرجائية.
ومن هنا نفهم حقيقة قول الله سبحانه: [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاْ]
[النساء: 59] ، فالرد إلى الله والرسول ليس عملاً تعبدياً فقط ينجو به الفاعل من عذاب الآخرة، بل هو أيضاً أحسن مآلاً ومصيراً في الدنيا للأفراد والجماعات.
ولقد دلت نصوص الكتاب والسنة على الأهمية الكبرى لمراجعة المسيرة ونقد
الذات، والنصوص في هذا كثيرة جداً، فمن ذلك قوله سبحانه: [والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..] ... ...
[التوبة، 71] ، فجعل سبحانه وتعالى مناط الولاء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك ظاهر لا ريب فيه، إذ إن المداهن الساكت عن مخالفات أخيه يكون في صدره حرج منه، كما أن لأخيه حرجاً هو الآخر إذ هو يعلم أن أخاه منكر في نفسه لهذا الفعل، ولكنه لا يبين له هذا الإنكار مما يدل على وجود حاجز بينهما، ومنها قوله سبحانه وتعالى: [لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون..] [المائدة: 78، 79] ، فكان سبب حلول اللعنة عليهم ترك التناصح والتذكير.
ولقد حفلت نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة بالكثير من التقويم
والمراجعة والتصحيح، فمن ذلك الآيات في غزوة بدر الكبرى التي فرقت بين
الحق والباطل، واختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قسمة
أول غنائم يحصلون عليها، ونزول سورة الأنفال تعالج هذا الحدث العظيم:
[يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا
الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم..]
[الأنفال: 1، 2] ، وهكذا تمضي الآيات متوالية في درس تربوي طويل وعظيم
وعجيب..
ومع نزول هذه الآيات، وبعد عام فقط، تكون الأنفال هي السبب الأساس في
هزيمة أحد، وتتنزل الآيات لا تجاملهم ولا تحابيهم رغم هزيمتهم وألمهم يتنزل فيهم
قوله سبحانه: [ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم
في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد
الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم ... ] [ال عمران: 152] .
هكذا يجتمع عليهم الدرس العملي القاسي بالهزيمة، والدرس النظري بالملامة، كتاباً يتلى إلى يوم القيامة، ويسمع به خصومهم، ولا يقال: ربما شمت الأعداء
بنا.. ربما وربما..، بل يكون البيان في وقت الحاجة إليه والتذكير في قمة
الانفعال، ليكون ذلك أبلغ وأعمق أثراً.
وفي مواقع وأماكن وحوادث كثيرة أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن
تستقصى، حتى لقد صح عن بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه
قال: (كنا لا نتباسط مع نسائنا والوحي ينزل مخافة أن ينزل فينا شيء، حتى إذا
قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تباسطنا..! ! بهذه الحساسية كانوا
رضوان الله عليهم يتلقون الوحي، ويستمعون إليه.
ضرورة المحاسبة والمراقبة:
من هذه النصوص ومن غيرها، ندرك الأهمية القصوى لمحاسبة النفس
ومراجعة المسيرة، وتصحيح الطريق، وهي حقيقة موضوعية تنبه لها عقلاء
البشر وأسوياء العالم، فوضعوا لهذا الغرض مجالس الشورى ودواوين المراقبة،
وغير ذلك، ومن هنا كانت الأهمية الكبرى لأن يتعود الدعاة وقفات المراجعة
ومجالس المناصحة، ومؤتمرات التصحيح، وأن يرحبوا بالنقد الهادف ويصبروا
على التوجيه الإيجابي، بل ويصنعوا الأدوات والآليات التي تضمن لهذا النقد وذلك
التوجيه أن يؤتي ثماره وينتج فوائده المرجوة.
خلل في زوايا ثلاث:
وسأتطرق لهذا الموضوع في هذه العجالة من زوايا أساسية ثلاث، أرى أن
الخلل يظهر واضحاً فيها وهي:
أولاً فقه المقاصد وغايات الدين الكبرى:
ففي هذه الزاوية يظهر خلل عميق شديد الإيذاء في فهم كثير من الدعاة
والجماعات للغايات الكبرى للدين، وترتيبها فيما بينها، وفي ترتيب الأولويات
ويتجه كثير من هؤلاء إلى التعامل مع هذا الموضوع ومع جميع القضايا إلى التفكير
البسيط المختزل، ومن خلال هذا التفكير المبسط لدرجة الإخلال يتحرك الفرد
والجماعة، ويرسم طريقه، ويحدد مساره.
فمثلاً يسأل سائل: لم خلق الله الخلق؟ فتكون الإجابة: ليعبدوه وحده سبحانه
وتعالى، بدليل قوله تبارك وتعالى: [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ... ]
[الذاريات: 65] ، أي يوحدون.
ثم يسأل: وما التوحيد؟ فيجاب: هو إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة وهو
ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، ثم ينسى توحيد
الألوهية ويركز على النوع الأخير لأنه النوع الذي يكثر فيه الانحراف حسبما يرى، فلا يتحدث إلا عنه ولا يناقش إلا فيه، ولا يدندن إلا حوله وينسى أولاً أن العبادة
اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة، وأن
عمارة الأرض، ورحمة البشرية، والقوامة على الناس من أنواع هذه العبادة، وأن
الله تبارك وتعالى جعل وجود الجماعة لتحقيق هذا الغرض، والقيام بهذه الرسالة،
فقال سبحانه: [هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها..] [هود: 61] ،
أي طالبكم بعمارتها.
ولذلك يغيب هذا البعد للأسف الشديد عن أذهان كثير من الإخوة الدعاة، فلا
يلتفتون إليه، ولا يعالجونه، ولا يسألون عنه، بل ربما نظر إليه بعضهم نظرة
نفور وتنفير، بل ربما نظرة تبديع وتضليل، فيرون الاهتمام بإعداد القوة التي أمر
الله بها: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..] [الأنفال: 60] يرون ذلك نوعاً
من التساهل وتضييع قضايا الدين، ويجهلون أنهم إنما جعلهم الله تبارك وتعالى
للشهادة على الناس والرحمة للعالمين: برهم وفاجرهم مسلمهم وكافرهم: [وما
أرسلناك إلا رحمة للعالمين] [الأنبياء: 107] [وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا
شهداء على الناس..] [البقرة: 143] ولذلك فهم لا يقومون بأي جهد لعمارة
الأرض على أحسن صورة، ولإعداد القوة، وللشهادة على الناس.. بل تراهم
يُزَهّدون في فهم الواقع، وفي متابعة المستجدات المهمة، وفي تعلم اللغات الأجنبية
وغيرها وباختصار كل ما من شأنه الحصول على القوة، والقيام بالشهادة.
ثانياً إ دراك الذات ومعرفة الآخر وكيفية التعامل معه:
ولقد جعل الله لكل من آفتي الظلم والجهل دواءً، فدواء الجهل السؤال والتعلم، ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم- لمن أفتوا صاحب الشجة بالاغتسال حتى
مات (قتلوه قتلهم الله.. ألا سألوا حين جهلوا، فإنما شفاء العي السؤال..) [3]
فالعلم بنوعيه: العلم بالدين والشرع، والعلم بالكون والواقع هما الشفاء للداء العريق
في الإنسان، داء الجهل، وقد يسر الله وحيه ودينه: [ولقد يسرنا القرآن للذكر
فهل من مذكر..] [القمر: 32] ، كما يسر فهم كونه، وقد وضع الحدود الشرعية
والكونية، والمخالف لها إنما يضر نفسه، ويدمر مجتمعه وتبقى السنن ويتمزق هو: [تلك حدود الله فلا تعتدوها..] [البقرة: 229] ولقد أدرك علماء الطبيعة ذلك
فالتزموا بالحدود الكونية كما هي دون أن يسألوا عن سبب مقدار سرعتي الضوء
والصوت، ولا عن سبب مقدار عجلة الجاذبية، ولكنهم اكتفوا بقياسها والتزموا به، ولو خالفوه لدمرت آلاتهم وخاب سعيهم.
وهكذا الشأن في أمر الله الشرعي ووحيه المنزل، فهو يسير ولكنه خطير،
سهل ولكنه ثقيل..: [إنا سنلقي عليك قولاْ ثقيلاْ..] [المزمل: 5] ويكفي أن
نعلم أن أخطر مذهبين عقائديين شهدهما العصر الحديث، وقامت على أساس هذين
المذهبين ما يسمى بالدول العظمى روسيا وأمريكا، وهما الرأسمالية والاشتراكية
(الشيوعية) ومجالهما الحيوي الاقتصاد.
إن هذين المذهبين نُقضا في كتاب الله تبارك وتعالى في آية واحدة هي قوله
سبحانه: [ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا..]
[البقرة: 275] ، فكون البيع حلالاً ذلك نقض للاشتراكية التي تدعو للملكية العامة،
وإبطال ملكية الأفراد في النهاية وتحريم البيع بذلك، وتحريم الربا نقض للقاعدة
المركزية في النظرية الرأسمالية، وهي قاعدة الربا التي لا وجود للنظام إلا بها.
من ذلك يتبين لنا أن دعاة الإسلام والساعين لتغيير مجتمعاتهم حتى تسير وفقاً
لشريعة الله تبارك وتعالى، عليهم أولاً وقبل كل شيء فهم شريعة الله تبارك وتعالى
كما أنزلها لا كما تهوى نفوسهم وترغب أفئدتهم، عليهم فهمها بشمولها وعمومها،
وبالطريقة االصحيحة المعتبرة، عليهم أن يثنوا ركبهم لهذا الغرض ويصبروا
ويصابروا، وعليهم كذلك فهم واقع مجتمعاتهم والواقع الدولي من حولهم، وتنزيل
هذا الفهم الشرعي على الواقع المتغير المتجدد، كي يتمكنوا من قيادة ركب البشرية، وليس فقط منافسة خصومهم والوقوف أنداداً لهم.
ثم عليهم بعد ذلك الفهم، وهذا الوعي تربية ذواتهم ومن معهم على الجوانب
السلوكية والسبل العبادية لله تبارك وتعالى، والقيم الخلقية مع عباده المؤمنين وغير
المؤمنين، وهي عملية شاقة فعلاً، ولكن لا مناص عنها، كانت تلك هي منهجية
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه حبه، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: كنا لا نجاوز عشر آيات حتى نعلمهن، ونعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً.
ولا سبيل غير هذا السبيل: علم وعمل، معرفة وسلوك، قول وفعل ظاهر
وباطن.. ولقد لبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربع قرن يربي أصحابه
بالعلم والعمل ثم ما لبث في الربع الثاني أن هز بهم رضوان الله عليهم أجمعين
الدنيا وجابه بهم التاريخ، وأسقط بهم القوتين العظميين: فارس حيث أخبر
عنهم - صلى الله عليه وسلم-: (إذا هلك كسرى فلا كسرى غيره..) [4] ، والروم البيزنطية التي انكفأت على نفسها في أوروبا، ولم ترفع رأسها طوال عشرة قرون حتى جاء العصر الحديث، والذي حدث أول مرة يمكن أن يتكرر مرة أخرى إذا وجدت شروطه الموضوعية، لأن الوحي لايزال موجوداً محفوظاً:
[هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله..]
[الصف: 9] .
ثالثاً إدراك سنن الله في الكون والأفراد والجماعات:
لقد تعلمنا من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله، أن لله في مسيرة الكون
والمجتمع سنناً دقيقة قابلة للرصد تحتاج، للتعامل معها والتحرك من خلالها، كما
قال سبحانه: [فلن تجد لسنت الله تبديلا، ولن تجد لسنت الله تحويلاْ..]
[فاطر: 43] ، ومن تلك السنن الكثيرة أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأن
للتمكين في الأرض شروطاً وضوابط: [إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين..] [البقرة: 124] ، وقال أيضاً: [إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم..] [محمد: 7] .
ومن ذلك أن الناس يسارعون لتكذيب من يأتيهم بالغريب غير المعتاد
ويحتاجون لكثير من الوقت حتى تختمر الفكرة في أذهانهم فيؤمنوا بها: [بل كذبوا
بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله..] [يونس: 39] ، ومن ذلك أيضاً أن
الجماهير تخضع لما يسمى في نظريات الإعلام بالعقل الجمعي وقادة الرأي، قال
تعالى: [إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس
وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول
البشر..] [المدثر: 18-25] ، قال هذا قائد الرأي الجاهلي الوليد بن المغيرة ثم رددتها الجماهير من ورائه دون تفكير، ولذلك طالبها تبارك وتعالى بالنظر الفردي أو الثنائي: [قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد..]
[سبأ: 46] .
وإذا صح هذا في الجاهلية مع التخلف الإعلامي والاتصالي والانتقالي فهو في
العصر الحديث أجلى وأوضح وأظهر، لذلك فإن ثقل الأمانة وضخامة التبعة على
الدعاة في الوقت الحاضر كل ذلك ضخم جداً، ولن يطيقوه إلا بالعلم ديناً ودنيا،
والعمل الجاد عبادة وعمارة، والتربية الصالحة العميقة نسكاً وخلقاً، ثم رص
الصفوف ووحدة الكلمة، على كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، والوعي
بالواقع والسنن، والتحرك بالأهداف البعيدة والكبيرة: [ولينصرن الله من ينصره
إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور..] [الحج: 40، 41] .
والحمد لله أولاً وآخراً.
__________
(1) صحيح أبي داود، كتاب اللباس باب ما جاء في الكبر، وصححه الألباني في صحيح الجامع ج2، ص770، ح/4608.
(2) صحيح أبي داود، كتاب اللباس باب ما جاء في الكبر، ج2، ص 771.
(3) أبو داود، ج1، ص 239، ح/336، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ج2، ص 804، ح/4362.
(4) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان، ج7، ص 218؛ مسند أحمد، ج 2، ص 263.(78/111)
منتدى القراء
من مآسي تاريخنا المعاصر
صالح محمد العصيمي
وقفت ذات يوم ممعناً النظر في خريطة العالم الإسلامي، وكلما نظرت إلى
بقعة في تلك الخريطة أغمضت عيني، ثم صرفتهما بسرعة إلى بقعة أخرى ثم
بدأت أبحث عن مكان يكسوه اللون الأخضر، ولكن للأسف كانت تلك الخريطة تكاد
أن تكون حمراء اللون والدماء الزكية تسيل في شعاب العالم الإسلامي وأوديته
وتتجمع أنهاراً مع أنهار الدموع لتكون بحر المأساة الكبرى، أما الرؤية في بحر
المأساة فإنها معدومة فشمس الإسلام قد حجبت بغبار الذنوب والخطايا.
ففي البوسنة والهرسك يقتل المسلمون، ودول الغرب تحيك المؤامرات.
والمسلمون يبلغون المليار، يعيش أكثرهم بلا هدف، ولا هم مشترك وذلك يجعلهم
مجرد هامش في صفحة التاريخ.
كان اليهود والنصارى وأمم الأرض جميعاً يهابوننا عندما كنا نهاب الله
ويخشوننا عندما كنا نخشى الله، ويأبهون بنا عندما كنا نهتم بإخواننا في كل مكان،
أما وقد تركنا ذلك كله فكان لزاماً أن تمضي سنة الله فينا [إن الله لا يغير ما بقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم] [الرعد: 11] .
إن نداءات المسلمين من يوغسلافيا أو من الفلبين أو من الحبشة والهند موجهة
أساساً إليك أنت! .. نعم أنت يا من تقرأ هذه السطور وتقلب هذه الصفحات، هل
تعتقد أن المخاطب غيرك أو أن المسؤول سواك؟ كلا وإن كنت تحسب ذلك فاعلم
أن هذه هي المشكلة وأن هذا هو الخلل.
عندما صاحت تلك المسلمة وامعتصماه، كان هناك رجل مسلم لم يتجاهل
الأمر، كذلك فإنه لم يقل: هل سأقاتل الروم وحدي! ! ولكنه فعل ما يستطيع
فركب البحر ثم جد في السير حتى بلغ المعتصم فبلغه الصرخة، ولو أن كل واحد
منا عرف تقصيره فعمل لإكماله لكان الأمر هيناً، ولكن للأسف كل من سمع
بالمصائب اعتقد أن المخاطب هو كل مسلم يعيش على هذه البسيطة سواه.
اعلم يا أخي أنك بإيمانك وبغيرتك على أمتك تمثل أمة واحدة ودولة كاملة،
فيك جهاز للدفاع عن الأمة، وفيك جهاز للإعلام بواقع الأمة، وفيك بيت للمال
يدعم الأمة، فلا تحتقر من أمرك شيئاً، ذلك الرجل الذي بلّغ المعتصم صيحة
المرأة المسلمة انتقم للإسلام ببضع كلمات، فهلا نصرت الإسلام وأنت على أحد
ثغوره؟ !
يجب على كل منا أن يساهم في العلاج، وإليك بعضاً مما تستطيع تقديمه:
1- اجعل لهموم الأمة موقعاً هاماً في خريطة قلبك: فالمسلم الحق يتأمل حال
أمته ثم يتألم له، فإذا حضر الطعام تذكر إخوانه الجياع، وإذا جلس مع أفراد
أسرته تذكر أفراد أسرة أخيه المنكوب، فصلاح الدين لم يولد فارساً، ومحمد بن
القاسم لم يولد قائداً، بل كانوا أفراداً مثلنا ولكن نفوسهم سمت فسموا، وهممهم
ارتفعت فارتقوا.
2- الدعاء: ومن منا يشك في أن الدعاء أمضى سلاح وهو على العدو أشد
من القنابل والصواريخ، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يرد
القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر) .
3- الدعم المالي: وليس المقصود بذلك دفع مبلغ زهيد نشعر بعده بأننا أدينا
ما علينا، ولكن لنقدم إلى من حرم حق العيش والحياة من ضروريات الحياة ما
أمكن، فضلاً عن كمالياتها.(78/123)
الورقة الأخيرة
ذوق الداعية
جمال سلطان
الدعوة إلى الله ليست في الحقيقة عملاً علمياً بحتاً، بقدر ما هي عمل
احتماعي، يتخاطب فيه الداعية مع أصناف من البشر، ومستويات من المدارك
والأفهام، إضافة إلى شبكة كاملة من العلاقات الاجتماعية لها حساسياتها تجاه الكلام
والخطاب والألفاظ، وهذا كله مما يوجب على الداعية المسلم الاحتفاظ بقدر عال من
الذكاء والحضور الذهني، وقبل ذلك وبعده إلى قدر عال من الذوق والأدب ورهافة
الحس، بالنظر إلى كونه يمثل تجسيداً فردياً للوجود الإسلامي في المجتمع.
أقول هذا الكلام، المحرج لبعضهم، بمناسبة تكرار صدور تعبيرات وكلمات
وألفاظ من بعض الدعاة، في دروسهم أو أشرطتهم أو على منابرهم هي بالتأكيد مما
يأباه الذوق، وينفر منه السمع، ويصدم المستمع بطلقات ثقيلة من القبح والذمامة
والأذى، وصحيح أن هذا كله لا يصدر عن كبار الدعاة ورموز الدعوة المتميزين،
وإنما يصدر عادة عن شباب الدعاة، والمبتدئين في هذا المجال، ولكن ذلك لا
يمنعنا من الإشارة إليه والتحذير منه، لشيوعه وأسراف هؤلاء النفر في استعماله.
خذ مثلاً لذلك الحديث عن تميز المسلمين، وشمولية دين الإسلام لكل
سلوكيات المسلم، وهناك نصوص كثيرة تغني في هذا الشأن، إلا أن بعض الدعاة
لا يتخير أو لا يجذب حاسته سوى قول مشرك أو يهودي بذيء، موجهاً حديثه إلى
أحد الصحابة: إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى يعلمكم الخراءة.
يا أخي هذا قول يهودي ثائر حاقد، وبذيء، وقد سجل أهل العلم قولته من
باب أمانة النقل، أما أن تصبح بذاءة اليهودي، والخراء، وحديث الخراءة
والمستفاد من قصة الخراء، هي حديث المنابر وأشرطة التسجيل، فهذا أبداً لا
يكون من الذوق ولا من ذكاء الدعوة ولا من أدب الداعية، ولا من رهافة الإحساس.
إن نزعة تسقط الغرائب والفرائد في الخطاب الدعوي، هي ولا شك فعل
المبتدئين، وقليلي العلم والخبرة معاً، ولكننا على كل حال لابد أن ننبه كل من
تصدى إلى الدعوة، إلى شرط جوهري وبسيط، وهو أن يمتلك الذوق والأدب
الرفيع والرهافة، وأن يحدث الناس بما يعرفون ويحتملون، لا أن يتلمس لهم من
الفرائد والنوادر ما يجرح مشاعرهم أو يصدم خواطرهم، بل عليه أن يسمو بهم في
خطابه.
والله المستعان.(78/127)
ربيع الأول - 1415هـ
أغسطس - 1994م
(السنة: 9)(79/)
كلمة صغيرة
أصبح المجاهدون الذين ساهموا في تحرير أفغانستان ظاهرة مرعبة وغير
مقبولة في كل بلد، وقد اتُخذت الوسائل الخسيسة لإظهارهم وكأنهم الخطر الأكبر
على كل بلد ينتمون إليه زوراً وبهتانا، وجرَّموا بمجرد الانتماء لذلك الجهادٌ، بل
ونالهم نكران الجميل حتى من أقرب المقربين لهم من رفاق الجهاد الذين طالب
بعضهم بإخراجهم من أفغانستان، بل وأصدر المنافقون فتاوى بحل قتلهم ظلماً
وعدواناً!
إنها خطة شيطانية يساهم فيها أعداء الإسلام وأذنابهم لضرب أولئك الشباب
والقضاء عليهم، فماذا سيكون رد فعلهم يا ترى، فماذا سيكون رد فعلهم يا ترى؟ !
وكنا نود توعية بعضهم حتى لا تظهر بينهم بعض الأفكار المتعجلة والمنحرفة كما
حصل لشباب الخلافة مثلاً ونهايتهم المأسوية، كما كنا نتمنى استغلالهم في مقاومة
الباطل وحزبه في مواقع جهادية أخرى، لكن هذا الأمر لا يعني أولئك الحكام بحال
مادام أن محارتهم رغبة السادة الكبار! !(79/1)
الافتتاحية
المشروع العلماني يتداعى
جاء الإسلام رسالة خاتمة أخرج الله به الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب
العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل
الإسلام، ولذلك دخله الناس أفواجاً، وعلى هذا الأساس قامت دولة الإسلام في
المدينة، وتواصل مده عبر القرون، فكانت جنسية المسلم عقيدته.
وحينما بَعُدَ المسلمون عن حقيقة دينهم، وانحرف بهم الفهم عن أصول
معتقدهم ومنطلقاته الإيمانية، حينها ظهرت الأمية الفكرية والتعصب المذهبي
والاتجاهات البدعية، وظهر الغلو المصادم للإسلام، مما أدى إلى شيوع الجهل في
الأمة بعامة، مما أدى إلى سقوطها أمام الزحف الاستعماري الجديد الذي اصطنع
نفراً من أبناء الأمة على عينه، فظهرت في ديار الإسلام الاتجاهات الفكرية الوافدة
التي دعت إلى القومية والعنصرية والفئوية، بتشجيع من المستعمر المغتصب الذي
سلم العهدة بعد فترة الاحتلال وبعد مقاومته إلى تلامذته ومريديه، وهو متأكد تماماً
من مدى حرصهم على أداء دوره، وقيامهم بتنفيذ رسالته بأعظم مما كان يقوم به،
فقامت الأحزاب العلمانية التي جعلت من نفسها ما يدعونه «بالشرعية
الدستورية» ، فحكمت بعقلية بوليسية مناوئة للأمة ولعقيدتها وضربت بالحديد والنار كل دعاة الفكرة الإسلامية، واعتبرتهم أعداء ليس لهم حق الدعوة إلى تحكيم شريعة الله في وضح النهار، في الوقت الذي فتحت فيه المجال لكل منهج علماني حتى ولو كان ماركسياً.
أفيدوني رحمكم الله ماذا استفاد عالمنا الإسلامي والعربي من تلك الحكومات
العلمانية؟ وماذا كسب من جراء تولي أولئك الحاكمين بأمرهم على مقدرات أمتنا؟
وبماذا أتوا لها من معطيات الحضارة الجديدة النافعة سوى أن جعلوا بلداننا في
مؤخرة البلدان فقراً وفي ذيل القافلة تخلفاً، ولم نعد سوى أسواقاً استهلاكية للأجنبي، ومحطات تجارب للأنظمة والقوانين المستوردة ومجالاً مفتوحاً للتغريب والإفساد
عن طريق وسائل الإعلام والتعليم، فضلاً عن تنحية شريعة الله، مما ساعد على
انتشار الجريمة بمعدلات متصاعدة لها آثارها الخطيرة على حاضر الأمة ومستقبلها.
هذه بعض نتائج العلمانية في ديارنا، ومع ذلك مازالت الأبواب مشرعة
لنشوء المزيد من تلك الأحزاب إياها، وعقد الندوات والحوارات معها لتكريس تلك
المبادئ الباطلة، وخداع الشعوب بمنطلقاتها، والحيلولة دون نشر الفكر الإسلامي
الرشيد، وبعد سبعين عاماً مضت من غزو العلمانية لعالمنا العربي والإسلامي، لم
نجد سوى قبض الريح وحصاد الهشيم.
إن عقلاء الغرب في غمرة بحثهم الدائب عن مصالح بلدانهم، يقومون
بعمليات غربلة وتقويم لمناهج حياتهم واتجاهات فكرهم، للبحث عن مواطن
الانحراف وتقويمها، ومعرفة معوقات الطريق وتذليلها، ومعرفة خاطئ الأفكار
وتصويبها.
أما علمانيو أمتنا فهم أكثر العلمانيين في العالم ديكتاتورية، وأبرزهم انتهازية
وأشهرهم تطرفاً في التعصب لآرائهم الهزيلة، حتى صار «أتاتورك الهالك»
يحكم من قبره مقدرات دولة مثل تركيا، فيجرم كل دعاة الإسلام وقادة الإصلاح
لمخالفتهم لما وضعه من نهج علماني أهوج، وعلى نهجه يحكم الفراعنة الصغار في
بلداننا اليوم، ويقفون بكل صفاقة للحيلولة دون تحكيم شريعة الإسلام بدعاوى فارغة
ما أنزل الله بها من سلطان، بينما نجد الغربيين في خضم مراجعاتهم لأفكارهم
وقوانينهم ومناهجهم، يضعون العلمانية نفسها في قفص الاتهام، فمنذ أكثر من شهر
دعا «مركز أبحاث الديمقراطية» بجامعة «ويستمنستر» في لندن بالتعاون مع
منظمة «ليبرتي» إلى ندوة عن «انهيار العلمانية والتحدي الإسلامي للغرب» ،
ركزت في أبحاثها على نقد المشروع العلماني عبر المستويين النظري والتطبيقي،
وموقف الإسلام من هذا المنهج.
وهذه الندوة لم تكن ترفاً فكرياً، ولم تصدر من فراغ، وإنما كان دافعها ما
لاحظه العلماء وقادة الفكر هناك من مظاهر الانحراف والسقوط التي آلت إليها
الحياة في الغرب مما جعل الغربيين أنفسهم يهربون إلى غير العلمانية، حتى وإن
كان إلى أصوليات نصرانية فضلاً عن ما عانته تلك المجتمعات من مظاهر
الانحراف الخلقي الذي أدى إلى شيوع الأمراض الجنسية والمخدرات وغيرها
وظهور الاتجاهات السياسية المتطرفة مثل النازية والفاشية والتطهير العرقي، مما
يعني أن الحضارة الغربية آيلة للسقوط لا محالة إذا سارت بنفس هذا المعدل في
الانحراف.
وقد قام هؤلاء المفكرون في هذه الندوة بمناقشة تلك المظاهر المنحرفة في
حياتهم، لتلمس الطريق قبل السقوط الذي حذر منه سابقاً أمثال «توينبي
وشبنجلر» ، وإذا نظرنا إلى واقعنا العلماني في عالمنا العربي والإسلامي، نجد أن علمانيينا الذين هم من جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا ينقصهم ذكاء أولئك الغربيين وبعد نظرهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومظاهر مكرهم تتجلى فيما يلي:
1- التجاهل للأيدلوجية العلمانية في شقها الليبرالي، التي يتبنونها للتربص
والتستر والحيلولة دون أي توجه آخر حتى ولو كان الإسلام ذاته، لأنهم يعلمون أن
فسح المجال له يعني سقوطهم المحتم.
2- إشاعة الفهم الكهنوتي الخاطئ للإسلام، واعتباره كأي دين محرف آخر
لا يصح أن يبارح دور العبادة، وهذا جهل بالإسلام وآفاقه الحياتية المختلفة التي
اكتشفها غير المسلمين فأسلموا، وفاقد الشيء لا يعطيه.
3- العقليات المستمرئة للباطل التي يمكن أن تتحالف مع الشيطان، وأن
تتصالح مع أعدى أعداء الإسلام، لكنها تأخذها العزة بالإثم عن الرجوع إلى الحق
والاعتراف بحاكمية الإسلام.
4- نفاقهم لكثير من الحكام، ومسايرتهم في كل ما يدعون إليه، ولاسيما ما
من شأنه علمنة المجتمعات، وحثهم على مضايقة التيار الإسلامي وإظهاره بأنه
العدو الوحيد للحاكم، ليكسبوا من تهميشه وجودهم في الساحة وبخاصة في وسائل
الإعلام، حيث يدعون ليل نهار إلى أن العلمانية هي الحل! !
5- النهج الميكيافيلي الذي يعني أن «الغاية تبرر الوسيلة» ، فقد كانوا
ماركسيين يقفون صفاً واحداً ضد الإسلام، وحينما سقطت أيدلوجيتهم صاروا
يهادنون الإسلام، ولكن بفهم جديد يدعونه «التنوير» ، وهو للتزوير أقرب، وفي
مكان آخر من هذا العدد مزيد من الفضح للعلمانيين ولطرائقهم الجديدة.
إن البقاء للأصلح مهما طالت الأيام ومهما أرجف المرجفون، ومما يثبت ذلك
ترنح التجربة العلمانية في الغرب، والأعجب أن القوم عندنا يقيمون لها الاحتفالات
خداعاً وتزويراً وغشاً للأمة جمعاء، إن كل باطل لا يدوم والحق الذي لا شك فيه
أن «إن المستقبل للإسلام» رغم كل المعوقات.
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «ليبلغن هذا الأمر ما
بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله في هذا الدين بعز
عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» .
[والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون] .(79/4)
مقال
نحو فهم صحيح للعقيدة
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، وبعد:
لا شك أن العلم بالله تعالى أشرف العلوم وأزكاها وأهمها، فلا حياة للقلوب ولا
نعيم، ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ثم
فإن التفقه في أصول الدين، وتعلم العقيدة وتعليمها، من أعظم المهمات، وأفضل
القربات.
وهذه المقالة تحوي جملة من المعالم والتنبيهات لعلها تسهم في الفهم الصحيح
للعقيدة، وتعين على تحقيق فقهها تعلماً وتعليماً، فإليك تلك المعالم على النحو التالي:
إخلاص النية لله تعالى في دراسة العقيدة وفهمها:
على كل من المتعلم والمعلم أن يصدقا في فهم العقيدة، وأن يسعيا إلى تلقي
العقيدة ابتغاء وجه الله تعالى، وطمعاً في مرضاته، ففقه العقيدة من أفضل العبادات
، والعبادات يجب أن تكون لله تعالى وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: [وما
أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء] [البينة: 5] وقال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً
من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة «) [1] ، ويقول الربيع بن خثيم:» كل
ما لا يراد به وجه الله يضمحل « [2] .
التسليم التام والتعظيم الكامل للنصوص الشرعية الدينية:
يتعين عند تلقي العقيدة وتدريسها أن يخضع القلب لنصوص الوحيين فلا
يعارض النص المنزل برأي، ولا ذوق، ولا معقول، ولا سياسة ... لقد كان نبينا
محمد -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه رضي الله عنهم على التسليم لله تعالى
وتعظيم النصوص الشرعية وإجلالها، فلقد خرج -صلى الله عليه وسلم- يوماً على
أصحابه وهم يقولون:» ألم يقل الله كذا وكذا؟ يرد بعضهم على بعض، فكأنما
فقئ في وجهه حب الرُمّان من الغضب، ثم قال: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه
ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم) « [3] .
قال الأوزاعي رحمه الله» من الله تعالى التنزيل، وعلى رسوله التبليغ،
وعلينا التسليم « [4] .
التدرج في تعلم وتعليم مسائل العقيدة:
يلزم البدء بالأولويات، وتقديم الأهم على المهم، فيراعي المتعلم والمعلم
التدرج والمرحلية في التعامل مع كتب العقيدة.
فيبدأ بالمختصرات وينتهي بالمطولات، فيبدأ مثلاً» برسالة الأصول
الثلاثة «للشيخ محمد بن عبد الوهاب، أو أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ حكمي، ثم ينتقل إلى كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم الواسطية لابن تيمية، ثم شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ثم التدمرية ... إلى أن يصل إلى المطولات مثل أصول اللالكائي ونحوها [5] .
ويعتني بتقديم الأهم على المهم، ومن ذلك أن يبدأ بتحقيق ما يجب عليه في
باب الاعتقاد، فيجب على المكلف أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر، وما أمر به الرسول ونهى عنه، بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به،
فلابد من تصديقه فيما أخبر والانقياد له فيما أمر [6] .
ولذا فإن الاشتغال مثلاً بتعلم وتعليم» الأصول الثلاثة «من آكد المهمات،
فيجب على كل مكلف أن يعرف ربه سبحانه وتعالى، ونبيه -صلى الله عليه
وسلم- ودينه الإسلام، وهذا ما جاء في حديث جبريل المعروف حيث يتعين على
المكلف تحقيقها في دنياه، كما يُسأل عنها حين يوضع في قبره، ويُسأل عنها يوم
بعثه ونشره: ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين؟
الشمولية في تعلم العقيدة وتعليمها:
فلا يقتصر على تقرير مسائل في الاعتقاد مع إهمال نظيرها أو آكد منها كأن
يُشتغل مثلاً بتقرير توحيد الربوبية مع إهمال توحيد العبادة، أو يُحذّر من الشرك
في الدعاء والذبح والنذر، مع إهمال أو تساهل في شرك الطاعة كما هو مشاهد في
واقع كثير من المسلمين الآن.
إن هذه الشمولية تحقق الأخذ بجميع أحكام الشرع، والإيمان بشعائر
الدين كافة، قال الله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة] ...
[البقرة: 208] ، وقال سبحانه: [والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا] [ال عمران: 7] ، وإن هذه الشمولية تورث إيماناً بجميع النصوص الشرعية، وتستلزم وسطية وخيرية بين الطوائف والفرق التي أهملت تلك الشمولية، حيث آمنت تلك الفرق ببعض النصوص وأخذت بها وأنكرت بقية النصوص وأعرضت عنها.
وهذه الشمولية تورث اعتدالاً في التلقي والفهم، فنسلم من ردود الأفعال،
ومقابلة الانحراف بانحراف آخر كما هو حال أهل البدع والأهواء.
هكذا نتعامل مع المخالف:
ومع هذه الشمولية في التعلم والتعليم لمباحث الاعتقاد، فإن الانحرافات ظاهرة
في حياتنا الحاضرة تستدعي مزيداً من التفصيل في سبيل الرد على هذا الانحراف،
وكشف شبهات المخالف وتفنيدها، وهذا مسلك مأثور سلكه سلفنا الصالح رحمهم الله
تعالى.
» فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله هل لهم رخصة أن يقول الرجل:
كلام الله ثم يسكت [7] ، فقال أحمد: ولمَ يسكت؟ لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه
السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون « [8] .
فكان الإمام أحمد وغيره من السلف يعتقدون أن القرآن كلام الله تعالى، ولما
أظهر المعتزلة القول بخلق القرآن، لم يجد السلف بداً من مخالفتهم والرد عليهم،
والتفصيل في ذلك، فقالوا: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق فمنه بدأ وإليه يعود.
ومثال آخر:» أن علماء الكوفة القائلين بأن الإيمان قول وعمل أكثر من
غيرهم في بقية الأمصار، حيث إن الإرجاء ابتداء كان فيهم أكثر، كما أن التجهم
وتعطيل الصفات لما كان ابتداء حدوثه من خراسان، كثر من علماء خراسان ذلك
الوقت من الإنكار على الجهمية ما لم يوجد قط لمن لم تكن هذه البدعة في بلده ولا
سمع بها « [9] .
والناظر إلى واقعنا يرى أنواعاً كثيرة من الانحرافات الظاهرة في باب
الاعتقاد، كتولي الكفار وموالاتهم، وانتشار المذاهب الفكرية والأدبية المنحرفة
وظهور عدة طواغيت وأرباب من أمثال مجددي ملة» عمرو بن لحي «الداعين
إلى عبادة الأوثان والأموات، ودعاة تحكيم القوانين الوضعية والدساتير الأرضية
... وغيرها.
ومع خطر هذه الانحرافات وشناعة أثرها فإن الجهود المبذولة تجاهها قليلة
محدودة، وفي المقابل فإن جهوداً كبيرة ومؤلفات كثيرة تصرف في تحصيل حاصل، وتقرير أمور اعتقادية هي محل اتفاق بين المسلمين الآن.
أهمية تحقيق الحدود والتعريفات:
من المعالم المهمة في فهم العقيدة: الاعتناء بالتعريفات، والعلم بحدود ما أنزل
الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فعلى المعلم والمتعلم أن يهتما
بتحقيق الحدود والتعريفات لمصطلحات الاعتقاد مثل الإيمان والنبوة والمعجزة ...
الخ بحيث تكون جامعة مانعة، فلا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو
داخل فيها، فيتوصل إلى التصور الصحيح لتلك المصطلحات، ومن ثم يعرف
ضرورة ما يناقض تلك المصطلحات.
ومن ثم فإن المعرفة الصحيحة لحد الإيمان مثلاً يورث علماً صحيحاً في
معرفة حد الكفر الذي يناقض الإيمان، فإذا كان الإيمان قولاً وعملاً، فكذا الكفر
قول وعمل، ولما ضل المرجئة في معنى الإيمان فجعلوه تصديقاً فقط أورثهم ذلك
ضلالاً آخر عندما حصروا الكفر في التكذيب فحسب.
وهناك جملة من أقوال أهل العلم في بيان أهمية هذا المَعْلَم:
يقول ابن تيمية:» الألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن
مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته، وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن
نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر ... « [10] .
ويقول ابن القيم:» معرفة منازل العبودية ومراتبها من تمام معرفة حدود ما
أنزل الله على رسوله، وقد وصف الله تعالى من لم يعرفها بالجهل والنفاق فقال
تعالى: [الأعراب أشد كفراْ ونفاقاْ وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على
رسوله] [التوبة: 97] ، فبمعرفة حدودها دراية، والقيام بها رعاية يستكمل العبد
ويكون من أهل إياك نعبد وإياك نستعين « [11] .
ويقول أيضاً:» فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولاسيما حدود
المشروع المأمور والمنهي، فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود حتى لا يدخل فيها ما
ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها ... « [12] .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:» اعلم أن
مَنْ تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها
الخاصة، عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى
الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما،
لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة
الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة « [13] . ...
مثالان مهمان:
من التنبيهات المهمة في هذا الموضوع: معرفة منشأ النزاع وأصله في أبواب
الاعتقاد التي وقع فيها الافتراق، فإن معرفة ذلك يورث فهماً صحيحاً، ويميز
المذهب الحق من المذاهب الباطلة، كما يعطي تصوراً صائباً لأقوال المخالفين
وأوجه الاتفاق والاختلاف معهم، وأضرب لذلك مثلين: أحدهما مسألة الإيمان
فالأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان هو دعوى أن الإيمان حقيقة واحدة لا
تتبعض ولا تتجزأ، فمتى ذهب بعضه ذهب كله فلم يبق منه شيء.
يقول ابن تيمية:» وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج
والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال
بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه، وبقاء
بعضه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يخرج من النار من كان في قلبه
مثقال حبة من الإيمان) [14] « [15] .
والمثال الآخر: أصل الضلال في مسألة القدر هو التسوية بين مشيئة الله
تعالى وإرادته، وبين محبته ورضاه، فسوى بينهما الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا،
فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً وقالت القدرية
النفاة ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة فهي خارجة عن
مشيئته وخلقه [16] .
هذا ما تيسر إيراده من معالم وتنبيهات في فهم العقيدة، راجياً من الله تعالى
أن يعين على استكمالها، وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح ابن ماجة ج1، ص 48؛ المسند ج2، ح/238؛ وصحيح أبي داود ج2، ص 697، وقال الألباني صحيح.
(2) سير أعلام النبلاء 4/259، وجاء في حلية الأولياء (3/176) عن محمد بن الحنفية.
(3) أخرجه أحمد والترمذي.
(4) التمهيد لابن عبد البر 6/14.
(5) انظر: كتاب برنامج عملي للمتفقهين، لعبد العزيز القارئ، ص 40.
(6) انظر تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/312، 327، ودرء تعارض العقل والنقل 1/51، وشرح الطحاوية 1/7.
(7) يعني حال الواقفة الذين يقولون: القرآن كلام الله، ويسكتون فلا يقولون مخلوق كالمعتزلة والجهمية ولا يقولون غير مخلوق كأهل السنة، وقد عدهم السلف من الجهمية، بل شر من
الجهمية، لما يتضمنه سكوتهم من اللبس والتضليل.
(8) مسائل الإمام أحمد لأبي داود، ص 263.
(9) مجموع الفتاوى 7/311.
(10) مجموع الفتاوى 12/113.
(11) مدارج السالكين 1/140.
(12) الفوائد: 133.
(13) منهاج التأسيس: 13.
(14) البخاري ج1، ص 11، كتاب الإيمان ح/15، مسلم كتاب الإيمان ح/148.
(15) مجموع الفتاوى 7/510.
(16) انظر مدارج السالكين 1/251، شرح الطحاوية 1/324.(79/8)
مقال
العلماء ومسؤولية البلاغ
عبد اللطيف الوابل
إن من يتأمل سنة الله في الأمم الماضية، ويقرأ تاريخ هذه الأمة المسلمة
يصل إلى حقيقة واحدة هي أنه كلما ضلت أمة من الأمم عن الحق، وابتعدت عن
الهدى، وقادها أهل الزيغ والضلال، وتحكم في شؤونها المفسدون، فإن من سنة
الله أن يبعث فيها نبياً من الأنبياء يبين الحق للناس، ويكشف الباطل وأهله ويحمل
راية الإصلاح والجهاد، صابراً على ما يصيبه من الأذى.
كان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون أقوامهم إلى الحق
ويطالبون رؤساءهم من الملأ بالإذعان والطاعة لأمر الله وحكمه، وتحكيم شرعه
في كل شؤون الحياة، ويكشفون للناس الباطل القائم، وخذ مثلاً لذلك قصة شعيب
عليه السلام مع قومه حيث ذكر الله عنه بأنه دعا قومه إلى الالتزام بشرع الله،
ونهاهم عن البغي والفساد، قال تعالى: [وإلى مدين أخاهم شعيباْ، قال يا قوم
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني
أخاف عليكم عذاب يوم محيط، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا
الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين] [هود: 84، 85] ، فجمع عليه
السلام في دعوته بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يقتصر على العبادة
الفردية، بل دعاهم إلى إصلاح شؤونهم الاقتصادية والاجتماعية، وهذا معلم واضح
من معالم دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدعوة المتكاملة التي تقتضي التغيير
الشامل لجميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليكون
الدين كله لله، فلم يكن أنبياء الله بمعزل عن واقع قومهم، ولم ينشغلوا بقضية
الأفراد عن قضايا الملأ وعن مظالم المجتمع.
ولما بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- أنزل عليه القرآن ليكون كتاب
هداية ومنهج حياة آمنة مطمئنة، فمن يقرأ القرآن يجد أنه منهج شامل يوجه حياة
الناس في جميع جوانب الحياة، فقد حمل -صلى الله عليه وسلم- أمانة الرسالة،
ودعا الناس إلى كل خير وفضيلة، ونهى عن كل سوء ورذيلة: أمر بإقامة العدل
ونشره بين الناس، ودعا إلى إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وحارب كل أنواع الظلم والعدوان سواء أكان ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعات، ولم تقتصر توجيهات القرآن على الجوانب الشخصية لحياة الأفراد، بل شملت
الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحيث إن محمداً -صلى الله
عليه وسلم- هو خاتم الأنبياء إذ لا نبي بعده، فقد حمل المسؤولية بعده العلماء
الصادقون كما ورد بذلك الأثر: «وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في
الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العامة كفضل القمر على سائر
الكواكب والعلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا
العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» [1] .
هذه المسؤولية التي تحملها علماء الأمة الربانيون طوال تاريخ الإسلام كانت
بمثابة السور الآمن الذي حمى الأمة من عواصف الانحلال والفساد، ولا شك أن
الناس بدون العلماء جهال، تتخطفهم شياطين الإنس والجن، من كل حدب وصوب، وتعصف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب، ومن هنا كان العلماء من نعمة
الله على أهل الأرض، فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى.
والعلماء الذين أعنيهم هم العلماء الربانيون الجريئون في قول الحق المحبون
الخير للأمة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والمحاسبون للولاة،
الناصحون لهم بالحق، الذين اتصفوا بخلق المرسلين، يقولون للظالمين ظلمتم
وللمفسدين أفسدتم، لا يخشون أحداً إلا الله سبحانه، ولا يسكتون عن حق واجب
إذاعته، ولا يكتمون حكماً شرعياً في قضية أو مشكلة سواء أكانت متعلقة بشؤون
الأمة أم بعلاقات الدولة، إذ صلاح الأمة منوط بصلاح العلماء وقيامهم بواجبهم.
صفات أولئك العلماء:
ولهذه النوعية العظيمة من العلماء صفات يتسمون بها، ويمكن إجمالها فيما
يلي:
1- الإخلاص في القول والعمل:
وهو أن يريد العالم بعلمه وجه الله والدار الآخرة، في الحديث: «لا تَعَلّموا
العلم لتباهو به العلماء أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترئوا به المجالس فمن فعل
ذلك فالنار النار» [2] ، وإن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة رجل تعلم العلم
وقرأ القرآن لغير الله، وفي الحديث الآخر: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله
لا يتعلمه إلا لصيب به عرض الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» [3] .
2- العلم بما علم ودعوة الناس إلى ذلك:
فإنه لا فائدة من علم لا يتبعه العمل، ولهذا فإن العلماء العدول تجد علمهم في
حركاتهم وسكناتهم وصمتهم وكلامهم ومواقفهم، يقول الإمام علي رضي الله عنه يا
حملة العلم اعملوا به، فإن العالم من عمل بما علم فوافق عمله علمه، وسيكون
أقوام يحملون العلم لا يجاوزر تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم
علانيتهم، يجلسون حلقاً حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على
جليسه إذا جلس إلى غيره وتركه أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله
عز وجل، وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- أنه قال: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن
خمس: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه،
وماذا عمل فيمَ علم» [4] .
3- خشية الله ومراقبته في القول والعمل:
قال سفيان الثوري: إنما يطلب الحديث ليتقى به الله، قال ابن عبد البر:
وليعلم المفتي أنه موقع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك وعن
مالك رحمه الله أنه كان إذا سئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، وقال
بعض أهل العلم لبعض المفتين: إذا سئلت عن مسألة فلا يكن همك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولاً «.
4- قول الحق وإظهاره:
ومن أهم واجباتهم الرد على شبهات أهل الزيغ والضلال وإنكار المنكرات
المعلنة الظاهرة وبيان خطرها، وإعلام الأمة بذلك، وعدم التدليس عليهم لئلا يتخذ
الناس سكوت العلماء عن المنكر الظاهر والظلم والبغي حجة في اعتقاد أن ذلك حق
لاسيما مسائل الاعتقاد: كالحكم بغير ما أنزل الله مثل القوانين الوضعية واستحلال
ما حرم الله وتقنينه وإلزام الناس به، وموالاة المشركين ومظاهرتهم على المسلمين، التي يترتب على السكوت عنها ضياع الفهم الصحيح لدين الله واندراسه،
وانقلاب الحق باطلاً والباطل حقاً في نفوس عامة الناس، مما لا يجوز السكوت
عليه.. هذا البيان للحق هو الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم بقوله: [وإذ أخذ
الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم
واشتروا به ثمناْ قليلاْ فبئس ما يشترون] [ال عمران: 187] إن العلماء هم أقدر
الناس على قول الحق وبيانه لاسيما ما يتعلق بأعمال الولاة والحكام، مما تكون
مفسدته عامة على جميع الأمة.
5- التعاون والتشاور والتناصح:
وذلك بتبادل الرأي والمناداة إلى اجتماع كلمة المسلمين على الحق حتى تتحقق
المصالح العامة، ولا شك أن العلماء هم أولى الناس بجمع كلمة المسلمين، إذ الأمة
إنما تجتمع على علمائها فإذا اجتمعت كلمة العلماء، وتوحدت وحصل بينهم التعاون
والتناصح، فإن ذلك أدعى إلى اجتماع الأمة وتعاونها وتضامنها في وجه عدوها.
6- مناصرة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها:
إن مسؤولية العلماء ليست محصورة بقطر أو ببلد بل ينبغي أن يعيشوا
ويعايشوا هموم الأمة، ويناصروا المسلمين، ويردوا على أعدائهم ويرفعوا الظلم
عنهم بما يستطيعون، لا يخشون في ذلك أحداً إلا الله سبحانه، وذلك أسوة بنبيهم
محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإن دعوتهم ورسالتهم لا ينبغي أن تحصرها
الأقطار ولا الجنسيات لاسيما في أيام الفتن وظهور البدع وانتشار الفساد والظلم
والعدوان ...
7- كشف سبيل المجرمين:
وذلك بتحذير الأمة من خطر أصناف المجرمين، وطرق الظالمين وخداع
المنافقين، وهذا هو جزء من بيان الحق وإظهاره، وكما قيل:» وبضدها تتبين
الأشياء «، والعلماء هم أعرف الناس بشبه المنافقين وخفاياهم، الذين يمثلهم اليوم
بكل وضوح أصناف العلمانيين، ولهذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بجهاد
المنافقين، وكشف سبيلهم لتحذر الأمة من الوقوع في غوائلهم، ومن الانخداع
بمظاهرهم الكاذبة.
8- الحذر من مجالسة أهل الأهواء:
أولئك القوم الذين لاتزال آثار الهوى والحسد تظهر في أقوالهم وأعمالهم، فهم
باب فتنة في كل زمان ومكان ومفتاح شر على الأمة في السابق واللاحق، وهل ما
أصاب الإمام أحمد، وابن تيمية وغيرهما من علماء الأمة إلا بسبب هذا الصنف من
الناس؟ والأصل في علماء الأمة أن يتولوا الرد على أهل الأهواء، ويحذروا
الناس من مخالطتهم؛ لأن الناس تبع لعلمائهم، فإذا رأوا علماءهم يلاطفون أهل
الأهواء، فإنهم يقعون في شباكهم ويظنون أن ما عندهم هو الصواب! !
إن علماء المسلمين هم الذين كانوا يقودون حملات الجهاد ويرفعون رايات
الإصلاح، ويدافعون عن حقوق أمتهم، فلم ينزلوا في مساجدهم أو منازلهم أو
يقتصروا على تدريس طلابهم، وإفتاء الناس في قضاياهم الخاصة من طلاق
ووضوء وصلاة وبيع وشراء وغيرها مع أهمية ذلك كله، بل كانوا يعلمون أن
مسؤوليتهم أكبر من ذلك بكثير، وأن واجبهم تجاه الأمة يتعدى هذه الأمور كلها
ليصل إلى مناصرة المسلمين، ومناهضة الكافرين، وكشف ضلال الفاسقين ورد
الظالمين عن ظلمهم، وحماية شرع الله من التحريف أو التعديل ونبذ التحاكم إلى
القوانين الوضعية أو التلاعب بأوامر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم وفق علماء المسلمين إلى الصواب، وثبتنا وإياهم على الحق، إنك على
كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
والله من وراء القصد.
__________
(1) رواه أبو داود 4/57 ح 2641، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/1079 ح 6297.
(2) صححه الألباني في صحيح الجامع 2/1229 ح 7370، وعزاه للبيهقي وابن ماجة والحاكم في المستدرك.
(3) رواه أبو داود 4/71 ح 3664، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/1060 ح 6159.
(4) رواه الترمذي 4/612 ح 2416، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2 /1220 ح 7299.(79/16)
دراسات في العقيدة
دلائل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
بين السنة والبدعة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصل عظيم من أصول الدين، فلا
إيمان لمن لم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ولده ووالده والناس
أجمعين.
* قال الله تعالى: [قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم
وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم
من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم
الفاسقين] [التوبة: 24] .
قال القاضي عياض في شرح الآية: «فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة
على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها -صلى الله
عليه وسلم-، إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله
وتوعدهم بقوله تعالى: [فتربصوا حتى يأتي الله بأمره] ، ثم فسقهم بتمام الآية،
وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله» [1] .
* وقال الله تعالى: [النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم] [الأحزاب: 6] .
* وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب
إليه من والده وولده والناس أجمعين» [2] .
* وقال أيضاً: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
والده وولده» [3] .
* وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو
آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل
شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا والذي نفسي بيده
حتى أكون أحب إليك من نفسك» ، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ
من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» [4] .
آثار محبته -صلى الله عليه وسلم-:
المحبة عمل قلبي اعتقادي تظهر آثاره ودلائله في سلوك الإنسان وأفعاله ومن
علامات ذلك:
أولاً تعزير النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره:
قال الله تعالى: [إنا أرسلناك شاهداْ ومبشراْ ونذيراْ لتؤمنوا بالله ورسوله
وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاْ] [الفتح: 9] .
ذكر ابن تيمية أن التعزير: «اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما
يؤذيه» . والتوقير: «اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد
الوقار» [5] . ...
وتوقير النبي -صلى الله عليه وسلم- له دلائل عديدة، منها:
1 -عدم رفع الصوت فوق صوته:
قال الله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون]
[الحجرات: 2] .
وعن السائب بن يزيد قال: «كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت
فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما أو
من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما،
ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ص» [6] .
2 -الصلاة عليه:
قال الله تعالى: [إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا
صلوا عليه وسلموا تسليماْ] [الأحزاب: 57] .
قال ابن عباس: يصلون: يُبرّكون [7] .
وفي الآية أمر بالصلاة عليه، والأمر يقتضي الوجوب، لهذا قال النبي -
صلى الله عليه وسلم-: «البخيل من ذكرتُ عنده فلم يصل عليّ» [8] . ...
وقال: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ» [9] .
ثانياً الذ ب عنه وعن سنته:
إن الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصرته، آية عظيمة من
آيات المحبة والإجلال، قال الله تعالى: [للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من
ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاْ من الله ورضواناْ وينصرون الله ورسوله أولئك هم
الصادقون] [الحشر: 8] .
ولقد سطر الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الذب
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس، في
المنشط والمكره، في العسر واليسر، وكتب السير عامرة بقصصهم وأخبارهم التي
تدل على غاية المحبة والإيثار، وما أجمل ما قاله أنس بن النضر يوم أحد لما
انكشف المسلمون: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ
إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد، فقال: يا سعد بن
معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت
يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة
بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون،
فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه [10] .
ومن الذب عن سنته -صلى الله عليه وسلم-: حفظها وتنقيحها، وحمايتها من
انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، ورد شبهات الزنادقة
والطاعنين في سنته، وبيان أكاذيبهم ودسائسهم، وقد دعا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بالنضارة لمن حمل هذا اللواء بقوله:» نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً
فبلغه كما سمعه، فرب مُبلّغ أوعى من سامع « [11] .
والتهاون في الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو الذب عن سنته
وشريعته، من الخذلان الذي يدل على ضعف الإيمان، أو زواله بالكلية، فمن
ادعى الحب ولم تظهر عليه آثار الغيرة على حرمته وعرضه وسنته، فهو كاذب
في دعواه.
ثالثاً تصديقه فيما أخبر:
من أصول الإيمان وركائزه الرئيسة، الإيمان بعصمة النبي -صلى الله عليه
وسلم- وسلامته من الكذب أو البهتان، وتصديقه في كل ما أخبر من أمر الماضي
أو الحاضر أو المستقبل، قال الله تعالى: [والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما
غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى] [النجم: 14] .
والجفاء كل الجفاء، بل الكفر كل الكفر اتهامه وتكذيبه فيما أخبر، ولهذا ذم
الله المشركين بقوله: [وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق
الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين، أم يقولون افتراه قل
فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم
يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة
الظالمين] [يونس: 37-39] .
ومن لطائف هذا الباب التي تدل على منزلة الشيخين الجليلة، أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه:» بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ
منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع
ليس لها راع غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته
فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب
رضي الله عنهما» [12] .
رابعاً اتباعه وطاعته والاهتداء بهديه:
الأصل في أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله أنها للاتباع والتأسي،
قال الله تعالى: [لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
الآخر وذكر الله كثيراْ] [الأحزاب: 21] .
قال ابن كثير: «هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسي
بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته
ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل» [13] .
وجاء أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: [وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا] [الحشر: 7] .
وجعل الله عز وجل طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طاعته سبحانه
، فقال: [من يطع الرسول فقد أطاع الله] [النساء: 80] .
وأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول، فقال: [يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا]
[النساء: 59] .
وتواترت النصوص النبوية في الحث على اتباعه وطاعته، والاهتداء بهديه
والاستنان بسنته، وتعظيم أمره ونهيه، ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه
وسلم-: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا
عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة
ضلالة» [14] .
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتموني أصلي» [15] .
وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» [16] .
فطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي المثال الحي الصادق لمحبته عليه
الصلاة والسلام فكلما ازداد الحب، زادت الطاعات، ولهذا قال الله عز وجل:
[قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله] [ال عمران: 31] .
فالطاعة ثمرة المحبة، وفي هذا يقول أحد الشعراء:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه ... ذاك لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن أحب مطيع
خامساً التحاكم إلى سنته وشريعته:
إن التحاكم إلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أصل من أصول المحبة
والاتباع، فلا إيمان لمن لم يحتكم إلى شريعته، ويسلم تسليماً، قال الله تعالى:
[فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاْ
مما قضيت ويسلموا تسليماْ] [النساء: 65] .
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من علامات الزيغ والنفاق الإعراض عن سنته، وترك التحاكم إليها، قال الله تعالى: [ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما
أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن
يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاْ بعيداْ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل
الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداْ] [النساء: 60، 61] .
الغلو في محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
انحرف بعض الناس عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحدثوا في دين
الله عز وجل ما ليس منه، وغيروا وبدلوا، وغلوا في محبتهم للرسول -صلى الله
عليه وسلم- غلواً أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم، الذي قال الله عز وجل فيه: [وأن هذا صراطي مستقيماْ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله]
[الأنعام: 153] .
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على حماية جناب التوحيد، فكان يحذر تحذيراً شديداً من الغلو والانحراف في حقه، ودلائل ذلك كثيرة جداً
منها:
* عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده،
فقولوا: عبد الله ورسوله» [17] .
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا أني أنهاكم عن
ذلك يحذر ما صنعوا» [18] .
* وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي -صلى الله
عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«جعلتني لله عدلاً، بل قل ما شاء الله وحده» [19] .
* وعن أنس أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن
خيرنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم
الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق
منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» [20] .
ونظائر هذه النصوص كثيرة جداً، وثمرتها كلها بيان أن محبة النبي -صلى
الله عليه وسلم- وتعظيمه لا تكون إلا بالهدي الذي ارتضاه وسنه لنا، ولهذا قال
عليه أفضل الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ» [21] .
حقيقة المولد النبوي:
ظهرت هذه الفكرة في عصر الدولة العبيدية الباطنية، إظهاراً منهم لدعوى
محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم انتشرت في كثير من دول العالم الإسلامي، إلى يومنا هذا فأصبح اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عيداً مشهوداً عند
كثير من المبتدعة يجتمعون فيه لإنشاد المدائح النبوية والأوراد الصوفية، وإقامة
الحفلات والرقصات، وقد يقترن بذلك بعض الشركيات من دعاء النبي -صلى الله
عليه وسلم- والاستغاثة به، وقد يحدث الاختلاط بين الرجال والنساء والاستماع إلى
الملاهي.
إن تحويل الإسلام إلى طقوس وثنية من الأهازيج الشعرية والطبول والمزامير
والتمايل والرقص، وبالتالي الانحراف به عن صفائه ونقائه، هو من قبيل جعله
إلى العبث والخرافة أقرب منه إلى الدين الحق.
وحينما تكون هذه العقلية الساذجة المنحرفة حاكمة للعالم الإسلامي يكون رد
الفعل الرئيس لدخول خيول نابليون إلى الأزهر الشريف هو اجتماع الشيوخ للتبرك
بقراءة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- من صحيح البخاري! وكلما ازدادت
الدائرة على المسلمين ازدادت الدروشة، وتمايلت الرؤوس وبحت الأصوات
بالأناشيد والأوراد والمدائح النبوية.
إن الاحتفال بالمولد النبوي أصبح عند بعض الناس من العامة والخاصة الآية
الرئيسة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأذكر أنني كنت قبل سنوات في بلد
إسلامي في أوائل شهر ربيع الأول، والناس منهمكون في التجهيز والإعداد لليوم
الثاني عشر، تحدثت مع أحد كبار الأساتذة الجامعيين عن هذه البدعة، وبعد أن بح
صوتي بذكر الأدلة والشواهد، قال لي: هذا صحيح، ولكن هذا سيدنا النبي! !
عندها تذكرت قول غلاة الصوفية: «من أراد التحقيق فليترك العقل
والشرع!» [22] ، وصدق ابن تيمية حينما قال عن غلاتهم: «كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم» [23] . ...
ومن المفارقات التي تدعو إلى التأمل، أن بعض الناس قد يعصى النبي -
صلى الله عليه وسلم- ليلاً ونهاراً، ويتهاون في تعظيم أوامره، فضلاً عن الالتزام
بسنته، ومع ذلك فهو يحتفي بيوم المولد، ويوالي فيه ويعادي، وكأن غاية الحب
عنده هو إحياء هذا اليوم بالمدائح والأوراد، وبعد ذلك ليفعل ما يشاء ... ؟ ! يقول
الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: «من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً
واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غلواً فيه ولاسيما أصحابه رضي الله
عنهم ومن يليهم من خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشد غلواً
في القول وابتداعاً في العمل» .
وليس عجيباً أن يحظى هذا اليوم باحتفاء رسمي من الحكومات العلمانية
وتسخر له كافة الإمكانات الرسمية، وتجري تغطية فعالياته من جميع وسائل
الإعلام، لأنها تعلم يقيناً أن غاية هؤلاء الدراويش لا تتجاوز الأوراد والمدائح حتى
إن النذور والقرابين التي ترمى على القبور والأضرحة والمزارات أصبحت مصدر
دخل رئيس لوزارات الأوقاف والسياحة، ولهذا كان حافظ إبراهيم يقول متهكماً:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف يرزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أحجارها الصلوات؟! [24]
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين،
ثمرتها الاقتداء والبذل والعطاء والتضحية والجهاد في سبيل نصرة دينه وإعلاء
لوائه وحماية سنته، ولا يوجد بين محبي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكان
للعجزة النائحين، وما أجمل قول أنس بن النضر رضي الله عنه لما مر بقوم من
المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات
عليه « [25] .
__________
(1) الشفا بتعريف أحوال المصطفى 2/18.
(2) أخرجه البخاري 1/58، ومسلم 1/67.
(3) أخرجه البخاري 1/58.
(4) أخرجه البخاري 11/523.
(5) الصارم المسلول على شاتم الرسول ص422.
(6) أخرجه البخاري 1/560.
(7) أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به 8/532.
(8) أخرجه أحمد 201، والترمذي 5/551.
(9) أخرجه أحمد 2/254، والبخاري في الأدب المفرد ص 220، والترمذي 5/550.
(10) أخرجه البخاري 6/21 و 7/354.
(11) أخرجه أحمد 1/437، والترمذي 5/34، وابن ماجة 1/85.
(12) أخرجه البخاري في عدة مواضع منها: 6/152 و 7/18 و 42.
(13) تفسير القرآن العظيم 3/475.
(14) أخرجه أحمد 4/126، 127، وأبو داود 5/13-15، والترمذي 5/ 44، وابن ماجة 1/16.
(15) أخرجه البخاري 2/111 و 10/438.
(16) أخرجه مسلم 2/943.
(17) أخرجه البخاري في عدة مواضع منها 6/478.
(18) أخرجه البخاري 8/140، ومسلم 1/377.
(19) أخرجه أحمد 1/214 و 283 و 347.
(20) أخرجه أحمد 3/153 و 241.
(21) أخرجه مسلم 3/1344.
(22) مجموع الفتاوى 11/243.
(23) مجموع الفتاوى 2/174.
(24) الديوان، ج1، ص 318.
(25) أخرجه البخاري 6/21 و 7/355 ومسلم 3/1512 * من تعليقاته على كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان للسهسواني.(79/22)
خواطر في الدعوة
(كذلك لنثبت به فؤادك [*] )
محمد العبدة
يشتكي كثير من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية من ظاهرة الفتور [1]
التي تفشت في السنوات الأخيرة، واعتورت كثيراً ممن كان يرجى نفعه، ويؤمل
خيره، وإذا كانت هذه الظاهرة طبيعية أحياناً لما جُبل عليه الإنسان من الضعف
فإنها تبدو غير ذلك عندما تتكرر وتستمر، وعندئذ فهي جديرة بالتأمل ومعرفة
الأسباب والدوافع، وإن من أكبر أسبابها والله أعلم عدم التجديد في العمل الإسلامي، والانتقال به من مرحلة إلى أخرى، من حالة الضعف إلى القوة ومن قلة العلم إلى
الرسوخ فيه، ومن التأصيل النظري إلى الواقع العملي ومن التخطيط الجزئي إلى
التخطيط الشامل، فإن هذا مما يرفع الروح المعنوية عند المسلم، بل ويزيد إيمانه،
وعندها يكون أقوى على دفع عملية التغيير فهي علاقة جدلية كما يقال، وإن ما نراه
أحياناً من الجمود على فكر معين قاله أحد الدعاة أو المفكرين قبل عقود من السنين،
يدعو إلى الأسف، فما يصلح لفترة الأربعينات والخمسينات قد لا يصلح اليوم، وما
كُتب في تلك الفترة وما بعدها بقليل حول الاجتهادات في أساليب الدعوة، أو طرح
بعض الشعارات ليس كله صحيحاً، وهؤلاء الدعاة وإن كان لهم فضل السبق،
ولكن الحق أحق أن يتبع، وقد رأينا عجباً ممن يتصدى للدعوة، يقول لك: قال
فلان، وكتب فلان، وكأنه لم يزدد منذ عشرين سنة حرفاً من العلم، ولا يدري ماذا
جَد على الساحة الإسلامية.
وإذا تتبعنا حال الدعوة في عصر الرسالة نجد أنها في تقدم مستمر، ليس فيه
تراجع، فالمسلمون يزدادون عدداً، والدعوة تكسب شخصيات مهمة وتجد لها ملجأ
آمناً في الحبشة، ويتعاطف معها بعض أشراف قريش في حصار الشعب، ثم تأتي
بيعة العقبة الكبرى منعطفاً مهماً للدعوة، فالهجرة إلى دار الإسلام (المدينة) .
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينقل المسلمين خطوة خطوة على
طريق التمكين فالمرحلة المكية كانت إعداداً للمرحلة المدنية، بل كل مرحلة سواء
أكانت في الفترة المكية أو المدنية كانت نقطة انطلاق إلى ما بعدها، وكلما مارس
الفرد واجباً ازداد قوة واستعداداً، وقويت آماله، وشعر بالرغبة في العمل، وكان
القرآن ينزل منجماً ليثبت قلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويعيش المسلمون
مع القرآن واقعاً عملياً، يُقوّمهم وينتقل بهم في عملية تربوية إلى الحال التي وصل
إليها الصحب الكرام.
إذا كان الإسلام هو الحق وغيره هو الباطل، فلماذا وجد هذا الواقع الذي نحن
فيه لولا أن في الأمر خللاً في معرفة وجوه المصالح والمفاسد، ونقصاً في القيادات
التي تنقل المسلمين إلى المرحلة المناسبة، ولعله عندئذ تُشفى صدور قوم مؤمنين.
__________
(*) سورة الفرقان: آية 32.
(1) ونعني بها: التراخي والتباطؤ بعد الجد والنشاط، فتهن العزيمة عن المضي قدماً لعارض يمنعها وانظر ما كتبه الشيخ الدكتور ناصر العمر حول هذه الظاهرة في كتابه: الفتور: المظاهر والأسباب والعلاج.(79/32)
دراسات اقتصادية
المشكلة الاقتصادية
وعلاجها من المنظور الإسلامي
- 3 -
د. محمد عبد الله الشباني
في الحلقتين السابقتين ناقشنا جانب من جوانب المشكلة الاقتصادية، وهو
جانب الندرة في الموارد الطبيعية، وأوضحنا المنهج الإسلامي في معالجة هذا
الجانب، وفي هذه الحلقة سوف نناقش الجانب الثاني من جوانب المشكلة
الاقتصادية، والمتمثل في نمطية ونوعية توزيع عناصر الإنتاج على أفراد المجتمع
أي تحديد مصادر الدخول الفردية وقواعد اكتسابها وتوزيعها وأنصبة عناصر الإنتاج
في الدخل.
يرتبط حل المشكلة الاقتصادية بالأساس الذي يتم بموجبه تحديد العائد الأفضل
للتكاليف المدفوعة على عوامل الإنتاج، ومدى تأثير ذلك على عرض المستخدمات
الإنتاجية، وبالتالي فإن المشكلة الاقتصادية ترتبط بالأسلوب والمنهج الذي يتم به
معالجة توزيع المدفوعات على مختلف عوامل الإنتاج.
مفهوم نظرية التوزيع:
تقوم نظرية التوزيع وفقاً للمفهوم الاقتصادي على تحديد مستوى المدفوعات
بالنسبة إلى مختلف عوامل الإنتاج، فنظرية التوزيع وفق المفهوم الاقتصادي
المعاصر تهتم بكيفية الحصول على عائد أفضل للتكاليف المدفوعة على عوامل
الإنتاج، الذي بدوره يؤثر على عرض المستخدمات الإنتاجية.
تتدخل المفاهيم الاعتقادية والتنظيمية في تحديد رؤية النظام الاقتصادي
للعلاقات التأثيرية لعوامل الإنتاج في بناء نظرية التوزيع في التطبيق العملي، من
تلك المفاهيم التي لها تأثير في التمييز بين مختلف الأنظمة الاقتصادية: كيفية
توزيع الناتج الصافي للدخل بين مختلف عوامل الإنتاج.
إن القواعد والضوابط التي يتم وضعها من قبل النظم الاقتصادية لها تأثير
على حركة عناصر الإنتاج، فمثلاً النظرة التي يتبناها النظام الاقتصادي تجاه
عنصر العمل ودوره في عملية الإنتاج، والأساليب المستخدمة في تحريكه وكذا بقية
عوامل الإنتاج الأخرى، تحدد التمايز والاختلاف بين مختلف الأنظمة الاقتصادية
فيما يتعلق بكيفية توزيع الناتج القومي على مختلف عوامل الإنتاج.
تمثل أهم جوانب المشكلة الاقتصادية في الأساليب التي تتبناها نظرية التوزيع
لمجموع النواتج الصافية للدخل، ممثلاً في مقدار دخل الفرد (أي نصيبه) الذي يناله
نظراً لاشتراكه في الإنتاج، سواء بعمله أو بملكيته أو بهما معاً، تتأثر هذه
الأساليب التي يتبعها النظام الاقتصادي لأي مجتمع من المجتمعات بالفلسفة التي
يسعى النظام الاقتصادي لترسيخ مفاهيمها فيما يتعلق بالنظرة إلى أي عنصر من
عناصر الإنتاج.
يقصد بمفهوم التوزيع وفق النظرة الاقتصادية، عملية تحديد حصص عناصر
الإنتاج في دخل المجتمع والتي تشتمل على جانبين هما:
1- التوزيع الشخصي، أي توزيع ملكية عناصر الإنتاج على أفراد المجتمع.
2- التوزيع الوظائفي، ويقصد به تحديد أنصبة عناصر الإنتاج في الدخل
القومي على أساس الوظيفة التي أداها كل عنصر في تحقيق هذا الدخل.
إن المشكلة الاقتصادية في جانبها التوزيعي تقوم على أساس تحديد مصادر
الدخول الفردية، فالنظام الرأسمالي الذي أصبح السمة المسيطرة بعد سقوط النظام
الاشتراكي يحدد مصدر الدخل من العمل ومن عوائد التملك، مع قصور النظام
الرأسمالي في وضع القواعد المحددة لاكتساب الملكية أو توزيعها مما أدى إلى سوء
توزيع الملكية بين أفراد المجتمع والذي بدوره أدى إلى سوء توزيع الدخول بينهم
فيما يتعلق بالتوزيع الشخصي، أما التوزيع الناشيء عن مساهمة عناصر الإنتاج
(أي التوزيع الوظائفي) فالنظام الرأسمالي يحصر هذا التوزيع في الربح للأرض
والأجر للعمل والفائدة الربوية لرأس المال والربح للتنظيم أو الإدارة.
أما النظام الاشتراكي فهو يلغي الملكية الخاصة لعناصر الإنتاج كلياً أو يحد
منها بدرجة كبيرة، لذا فإن التوزيع يتم على أساس العمل، ووفقاً للخطة الاقتصادية
التي ترسمها الدولة، وهو بهذا يخالف النظام الرأسمالي، وقد أوضحت التجربة
العملية عجز هذا النظام عن حل المشكلة الاقتصادية، بل أدى إلى تفاقمها، وعجز
عن تحقيق الأحلام التي بشر بها أتباعه ومعتنقيه، أما النظام الرأسمالي فقد أخذت
بوادر فشله تبرز، وأخذت جوانب المشكلة الاقتصادية تستفحل مما يؤذن بقرب
سقوط النظام الرأسمالي الربوي، وذلك سوف يؤدي إلى كارثة عالمية لا يعلم مداها
إلا الله، فجزئيات المشكلة الاقتصادية أخذت في الاتساع والنمو والتجزؤ مما جعل
منظري النظام الاقتصادي الرأسمالي يهتمون بالجزئيات والعمل على تجنب
الأضرار التي تلحق بالجوانب الأخرى للمشكلة الاقتصادية.
لم تجد النظرية الإسلامية فيما يتعلق بجانب التوزيع من يتبناها في الواقع
التنفيذي، وبالتالي فإن ما سوف يتم إبرازه من طروحات لمعالجة المشكلة
الاقتصادية في جانبها التوزيعي، إنما يقوم على افتراض أن هذه الأطروحات في
المعالجة إنما تقوم على أن هناك تكامل في النظرة لإدارة اقتصاد الدولة، والذي
بدوره يرتبط ببقية الأنظمة الاجتماعية الأخرى المستمدة من الشريعة الإسلامية أي
أن هذه الطروحات لا يمكن أن تقوم بدورها في معالجة هذا الجانب من جوانب
المشكلة الاقتصادية إذا عزلت عن محيطها البيئي، إن القصد من طرح هذه
الأطروحات في معالجة جانب التوزيع من المنظور الإسلامي عند معالجة المشكلة
الاقتصادية، هو إبراز أن الإسلام يمتلك الوسيلة والمنهج الذي يمكن عند الأخذ به
مع بقية أنظمة الإسلام الأخرى، حل ما يعانيه الإنسان المعاصر من مشاكل
اقتصادية ناتجة عن الانحراف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.
العلاقة بين عناصر الإنتاج وتوزيع الدخل القومي علاقة ترابط وتداخل
وترتكز هذه العلاقة على تحديد عناصر التملك ومصادرها، والأسلوب الذي ينبغي
اتباعه لتوزيع الدخل القومي على عناصر الإنتاج، ومن مصادر بروز المشكلة
الاقتصادية في إي نظام اقتصادي حدود ونظام ومصادر التملك، وكيفية إيجاد
التوازن بين مختلف عناصر الإنتاج في اقتسام حصة من الدخل القومي وهذا يتأثر
بالقواعد والنظم والتشريعات التي تحدد مصادر الدخل وطرق الكسب ونطاق ومجال
استخدام الفائض المدخر من الكسب.
إن من أهم الأمور التي تشغل بال الاقتصاديين هو كيفية معالجة عدم التوازن
في تخصيص وتوزيع الدخل على مختلف عناصر الإنتاج.
يمتلك الإسلام تصور معين ومنهاجية خاصة تحدد طرق الكسب ونطاقه كما
تعالج نطاق الإنفاق مع إعطاء الحافز على الادخار والاستثمار، بجانب الاحتفاظ
بتوازن المجتمع ضمن التوجيه القرآني الكريم في قوله تعالى: [كي لا يكون دولة
بين الأغنياء منكم] [الحشر: 7] ، الإسلام يحرص على تحقيق التوازن بين
مختلف عناصر الإنتاج بالتدخل عند الضرورة مع وضع القواعد التي يتم الاسترشاد
بها، إن عناصر الإنتاج التي يقرها الإسلام، ويعمل على تحقيق التوازن بينها
ثلاثة عناصر أساسية هي: العمل، والموارد الطبيعة ورأس المال، أما عنصر
التنظيم أو الإدارة فهو يدخل ضمن عنصر العمل والإسلام يعطي أهمية خاصة
للعمل حيث إن له دور متميز في العملية الإنتاجية لأنه العنصر المؤثر في تكوين
رأس المال، ولكن لا يُهمل دور رأس المال في المساهمة في العملية الإنتاجية.
اختلال التوازن بين عناصر الإنتاج يساهم في وجود المشكلة الاقتصادية ولهذا
فقد وضع الإسلام قواعد لمنع هذا الاختلاف بين عناصر الإنتاج، وسوف نناقش
كيفية معالجة الإسلام لكل عنصر من عناصر الإنتاج فيما يتعلق بمعالجة توزيع
الدخل القومي بين هذه العناصر، ويعقب ذلك إبراز معالجة الإسلام العامة لضبط
التوازن بين مختلف عناصر الإنتاج ضمن نظام الإسلام الاقتصادي.
يعتبر الإسلام عنصر العمل هو القاعدة الأساسية في التملك، كما أنه هو
المتحكم والمؤثر في تحديد تكاليف الإنتاج، لأن إنتاج السلع أو تقديم الخدمات
مرتبط بقوة العمل المبذولة سواء أتمثلت هذه القوة في الجهد العقلي أو العضلي وإن
إنتاج السلع أو تقديم الخدمة لا يتم إلا من خلال قوة العمل، وبهذا فإن الإسلام
يعترف بدور العمل في العملية الإنتاجية.
روى الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده عن جميع بن عمير عن خاله أبي
بردة بن نيار قال: سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الكسب فقال:
«بيع مبرور وعمل الرجل بيده» [1] ، وفي حديث آخر رواه أحمد والحاكم عن رافع بن خديج قال: قيل يا رسول الله: أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» [2] ، وفي حديث آخر رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي ثياباً من هجر فأتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساومنا في سراويل وعندنا وازنون يزنون بالأجر فقال للوازن: «زن وأرجح» [3] . ...
من هذه الأحاديث وغيرها نجد أن الإسلام يعطي للعمل دوراً في العملية
الإنتاجية، وأن العمل هو أفضل أعمال الكسب، لأهمية العمل في النشاط
الاقتصادي وتأثيره في الدورة الاقتصادية، وفي ظهور المشكلات الاقتصادية فقد
عمد الإسلام إلى معالجة المشكلات التي يمكن أن يؤثر فيها العمل، فمن تلك
المعالجات التي اهتم الإسلام بوضع حلول لها، وأرشد إلى أمور ينبغي الأخذ بها
الأمور التالية:
1- وضع أسس تحديد الأجور:
عند وضع سياسة الأجور يجب وضع أسس تحديد الأجور في المجتمع فمن
ذلك ما رواه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده عن المستورد بن شداد قال: سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة وإن
لم يكن له خادم فليكتسب خادماً فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً» [4] ، إن
هذا الحديث يضع قاعدة عامة لسياسة الأجور، ونصيب العمل من الدخل العام وهذه
القاعدة تتمثل بأن يكون هناك حد أدنى للأجور لا يجوز إعطاء أقل منه وهذا الحد
الأدنى مرتبط بالكفاية في تحقيق الضروريات الأساسية، لهذا فإن من المشكلات
التي تؤثر في تفاقم المشكلة الاقتصادية هو تقليص الأجور وإضعاف نصيبها من
الدخل القومي، لأن إضعافها سوف يؤدي إلى التأثير على الإنفاق والذي بدوره
يؤثر على الدورة الإنتاجية.
2- ضرورة معلومية الأجور ودفعها عند تمام العمل المنجز:
وهذه القاعدة تساعد على إيجاد سوق العمل المستقرة، ومنع الاضطرابات
العمالية التي هي السمة البارزة في المجتمعات الرأسمالية، ومن الأحاديث المرشدة
إلى هذا الأمر ما رواه الدارقطني بسنده عن عبد الله بن مسعود أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: «إذا استأجر أحدكم أجيره فليعلمه أجره» [5] ، كما روى أحمد
في مسنده عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن استئجار
الأجير حتى يبين له أجره، ونهى عن النجش واللمس وإلقاء الحجر [6] ، كما
روى البيهقي في سننه مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وأعلمه أجره
وهو في عمله» [7] فهذه الأحاديث ترشد إلى دفع مستحقات العمال في وقتها،
ومعلومية الأجر والغاية من هذا الأمر إيجاد العلاقة الجيدة بين أرباب العمل والعمال، وبالتالي استقرار سوق العمل.
3- العمل على استقرار سوق العمل:
وذلك بالعمل على غرس مبدأ الاستقرار وبقاء العامل في عمله وعدم التنقل
من عمل إلى آخر، وإن اضطراب سوق العمل وعدم استمرارية العمال في أي
نشاط من الأنشطة الاقتصادية، سوف يؤثر على تكلفة الناتج نتيجة لتغير منحنى
عرض العمالة، فيحدث الاضطراب في سوق العمل، لهذا فإن الإسلام يعمد إلى
الحث على استقرار العمالة وعدم تنقلها، ويرشد إلى ذلك ما رواه ابن ماجة في
سننه وأحمد في مسنده عن الزبير بن عبيد عن نافع قال: كنت أجهز إلى الشام
وإلى مصر، فجهزت إلى العراق فأتيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت
لها: يا أم المؤمنين كنت أجهز إلى الشام فجهزت إلى العراق، فقالت: لا تفعل
مالك ولمتجرك فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا سبب
الله لأحدكم رزقاً من وجه فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له» [8] ، وما رواه ابن
ماجة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من
أصاب من شيء فليلزمه» [9] ، هذه التوجيهات النبوية ترشد إلى الاهتمام
بضرورة العمل على استقرار العمالة وبقائها، أي العمل على السعي إلى المحافظة
على توازن منحنى العرض والطلب للقوى العاملة.
4- حفظ حقوق العاملين:
تقوم استراتيجة تنظيم العمل كما ترشد إليه أحكام الإسلام، على حفظ حقوق
العاملين وإلزام أصحاب العمل بتوفير الظروف البيئية الملائمة، وعدم استغلال
طاقة العامل أكثر من قدرته، وضرورة كفاية الأجر لتحقيق احتياجاته الأساسية،
فلقد وردت أحاديث ترشد إلى مراعاة ذلك والأخذ به، ومن ذلك ما رواه البخاري
في الأدب المفرد عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» [10] ، كما روى
البخاري بسنده في الأدب المفرد عن أبي ذر قال: قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما
يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه» [11] .
من هذه الأحاديث يمكن وضع سياسة عامة للعلاقة بين أرباب الأعمال
والعمال، تتمثل في إعطاء العمال الأجور الكافية لسداد احتياجاتهم، مع وضع
الضوابط التي تمنع أصحاب العمل من تكليفهم بالقيام بأعمال أكثر من طاقتهم بحيث
يلزم صاحب العمل بتهيئة الظروف التي لا تؤدي إلى إرهاق العامل جسدياً ونفسياً،
هذه الأمور تقدر بقدرها ضمن القاعدة الأصولية «لا ضرر ولا ضرار» بحيث لا
تغلب مصلحة العامل على مصلحة رب العمل، ولا مصلحة رب العمل على
مصلحة العامل، بل يجب الانطلاق عند وضع السياسات العمالية من مفهوم أن
الجميع أخوة تربطهم رابطة العقيدة والإيمان.
__________
(1) أحمد ح/46613، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح/1126.
(2) أحمد ح/14114، وصححة الألباني في صحيح الجامع ح/1033.
(3) أحمد ح/352، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح/3574.
(4) أبو داود ح/2945، صحيح الجامع ح/6486.
(5) ضعيف الجامع الصغير، ضعفه الألباني وعزاه للدارقطني.
(6) أحمد ج3، ص 59؛ ضعيف الجامع ح/6030.
(7) ضعيف الجامع الصغير ح/943.
(8) سنن ابن ماجة ح/2148، وضعفه الألباني، ضعيف ابن ماجة ح/469.
(9) سنن ابن ماجة 2147، وضعفه الألباني، ضعيف ابن ماجة 468.
(10) الأدب المفرد ح/192، صححه الألباني، صحيح الجامع ح/5191.
(11) الأدب المفرد ح/194، صححه الألباني، صحيح الجامع ح/238.(79/34)
نصوص شعرية
صرخة في طريق المجد
عبد العزيز بن غرسان الشهري
جُرحٌ مضى وهناكَ جُرحٌ بادي ... ومصائبٌ جلت عن التّعدادِ
في كلّ ناحية وكل ثَنيّةٍ ... جُرحٌ يَصيحُ بأمتي ويُنادي
حتى متى فرْعَونُ يقْهرُ عزتي ... وإلى متى هَامَانُ ينهبُ زادي؟
وإلى متى سيظلّ يُقلقُ راحتى ... كسرى، وقيصرُ يسترقّ بلادي؟
ما في الممالك والمدائن سالمٌ ... من سوط جبار وصولة عَادي
كم تَستَغيثُ وتستجيرُ وما ترى ... إلا جماداً، أو شبيه جَمَادِ!
****
أبناءُ جلدتنا وفي نظراتهمْ ... حقدُ الصليب وخسّةُ الموسادِ
فتحوا لأهْل الشّرّ كلَ مُغَلّقٍ ... وغَدَوا لأهْل الخير بالمرصادِ
نصبوا العداءَ فليسَ يُغلقُ منبرٌ ... إلا ويُفْتَحُ للفساد نوادي
والكفر يرتَعُ في الممالك آمناً ... وشريعة الرحمن في الأصْفَادِ
وأئمةُ الإصلاح في أوطاننا ... ملؤا السّجُونَ بتهمة الإفسادِ
والقُدسُ مثخنةً تئنّ وفي رُبى ... مدريدَ مدوا للسلام أيَادي
في ما مضى كنا نراهُ خيانةً ... واليومَ نركُضُ خلفَهُ ونُنادي
بالأمس طارقُ جَاءَهَا مُتوشحاً ... سيفاً ليرفعَ رايةَ الأمجادِ
ماذا يظنّ ويُرتَجَى من معشَرٍ ... خانوا كتائبَ طارق بن زيادِ
رباهُ جئتُكَ لا لغيركَ طالباً ... ولغير بابكَ ما أنختُ جَوَادي
****
ألمي يطول فَأمّتي في حيرةٍ ... من فُرقَة العُلماء والعُبّادِ
الحقّ بينَ تَخَاصم وتَقَهقُر ... والكُفر بينَ تضافرٍ وتمادي
زُرعَ الخلافُ بأرضها حتى غدَتْ ... مزَقاً من الأضغان والأحقادِ
تغزى فتُهرَعُ ويحَ عُمري للعدا ... كفريسة هُرعت إلى الصيادِ
والفقرُ يفتكُ بالبلاد ومَالُها ... يُجبَى لأهل الكُفر والإلحادِ
إني لأعجبُ كيفَ تُنصَرُ أمةٌ ... عَبَثاً بغير شريعة وجهادِ
ما دُمتِ مُعْرِضَةً وسيفُك مغمدٌ ... فالمَجدُ في واد، وأنتِ بوادِ
****
أنا مسلمٌ يا قوم تجري في دمي ... شيَمُ الأباةِ ونَخوَةُ الأجدادِ
قد راعَ تكبيري كَنائسُ قيصَرٍ ... وارتَاعَ كسرى من صَهيل جيَادي
نفسي عليّ عزيزةٌ وكرامتي ... لا تُشتَرى بالوَعد والإبْعَادِ
والقلبُ مني باليقين قد ارتوى ... ثقةٍ فلستُ أشُكّ في الميعادِ
والله لا النمرودُ يوهنُ همتي ... أبداً ولا فرعَونُ ذو الأوتَادِ
أنا لستُ أخشى حربَهُم وسياطَهُم ... كلا ولا أخشى من الجَلادِ
إن مادَ جسمي للسياط وللأذى ... فالقلبُ مني ليسَ بالمَيّادِ
إن آثروا سجني فسجني خَلوةٌ ... وسياحتى في النفي والإبعادِ
أوْ سرّهُم قتلي فلستُ بجازع ... فالموت غايةُ مطلبي ومُرادي
عَجبوا، وما عجبوا لشيء مثلما ... عَجبوا لطول تصبّري وعنَادي
ضدان ما اجتمعا لطالب عزةٍ ... شَرَفُ النفوس وراحةُ الأجسادِ
****
يا قوم قد بانَ الطريقُ فهل تُرى ... أزفَ الرحيل إلى ذُرى أمجادي
سيروا على سنن الأبَاة وشمّروا ... حذراً، فما في الدرب غيرُ قتادِِ
أدوا الأمانة قبل ألا تملكُوا ... إلا البُكاءَ وحُرقَةَ الأكْبَادِِ
إني أرى أيامكم قد أصْبَحَتْ ... حُبلى، وأرقُبُ ساعَة الميلادِ
وتوغلوا في كل درب نافع ... لا تتركوا الميدان للأوغادِِ
كم منهل عذب، وكم من مورد ... للخير يشكوا قلةَ الوُرّادِِ
ربوا النفوسَ على الثّبَات سجيةً ... عندَ الحَوادث فالخُطوبُ غوادي
وتريثوا فالنصر ليسَ بخُطبة ... تُلقى وليسَ بوفرة الأعدادِِ
ما حاجة الأمجاد إلا وقفةٌ ... في الحادثات كوقفة المقْدادِِ
كم راية بالأمس أوْقدَ نارُها ... لم يبقَ منها اليومَ غيرُ رمادِ
هي رايةٌ للحقّ إلا أنها ... رُفعت بغير بصيرة ورشادِ
ما قلة الأعداد نشكوا إنما ... تشكو الكتائبُ قلة الإعدادِ
محَنُ الزمان تَمَيزُ إنْ هي أقبلت ... بينَ الأسُود وصُورة الآسادِ
وتَسُفُ ريحُ الجدّ كلّ مُخلخلٍ ... في الدرب ليس بثابت الأوتادِ
حتى إذا زكت النفوسُ وهُيئت ... للنصر جاء النصرُ كالمُعتادِ
تأتي البشائرُ بعدَ طول مشقةٍ ... كالغيث بعدَ البرق والإرعادِ(79/43)
المسلمون والعالم
هل الغرب يكره التسلط إلى هذا الحد؟
عين الرضا لجاكرتا.. وعين السخط لكوالالمبور!
د. عبد الله عمر سلطان
«مات الديكتاتور» ، «سقط الإمبراطورالأحمر» ، «وأخيراً.. هلك الطاغية» ...
عناوين مشابهة لهذه كانت هي التي تتصدر صفحات الصحف الغربية
وحاشيتها العربية بعد هلاك زعيم كوريا الشمالية وصنمها الأوحد «كيم إيل
سونج» ، لاسيما بعد أن أخذت المواجهة بين هذه الدولة المتقوقعة على نفسها وبين القوى الغربية المسيطرة على العالم ومقدراته بعداً آخر ... ، لقد فجّر الزعيم الهالك من ضمن ما فجر خلال لقائه بالرئيس الأمريكي الأسبق «جيمي كارتر» معادلة النفاق والتطفيف الأمريكي الطافح حين ربط بين برنامجه النووي وبرنامج
«إسرائيل» الأكثر تطوراً، وقذف بالكرة في الجانب الأمريكي قائلاً:
«أنا مستعد لتدمير برنامجي النووي في حالة تدمير البرنامج الإسرائيلي
الأكثر خطراً..! !» .
لقد أصبح منطق الطغاة والمحنطين على كراسي الحكم هو «قارنوا برامجنا
التسليحية ببرامج إسرائيل» ، وهذا المنطق هو من باب إحراج الجانب الغربي
وبيان عوار منطقه وكفره بأبسط مبادئ العدل والمساواة في العلاقات الخارجية لأنه
يمسك بهذا الغرب المنحاز من العصب الذي يثيره، ويكشف عن همجيته وانحيا زه، أما الجانب الآخر من منطلق الطغاة ومنطقهم، لاسيما في عالمنا العربي
والإسلامي، فهو أن هذه المقولة الحقة لا يراد بها إلا باطل تجرعته أجساد شعوبنا
حينما تسلط هذه الأسلحة وتلك المدافع إلى صدور الشعب الأعزل.. لا إلى
«إسرائيل» التي كفلت لزعامات تصلب الشرايين أن تغرس أقدامها كجذور شجر الصبّار الشائك ...
لقد تنفس «العالم الحر» الصعداء، وأفرغت ذراعه الإعلامية التي لا تقل
دموية وجرماً عن آلته العسكرية والاقتصادية المقالات والدراسات والتحليلات
المتعددة التي ترسم خيارات المستقبل الآسيوي بعد هلاك الطاغية.
أوليس جديراً أن يحتفل الغرب المناضل دوماً في سبيل الحرية بسقوط زعيم
متسلط؟ أوليس الغرب هو حامي حمى الديموقراطية والذائب هياماً وشغفاً بكل ما
هو ومن هو عادل ومنصف؟ !
قد يذكرنا بعضهم هنا بمقولة «جان كارباترك» مندوبة أمريكا في الأمم
المتحدة سابقاً، ومنظرة اليمين الأمريكي «المحافظ والمتدين» حينما أطلقت
تصريحها الشهير حول دعم أمريكا لبعض الأنظمة القمعية مقابل حركات تؤمن
بالحوار والتعددية، فقالت دون مواربة: «إن دكتاتوراً تابعاً لنا ... خير ألف مرة
من نظام ديموقراطي يقف أمام مصالحنا ... » .
وهنا قد يقال: إن هذا التصريح هو زلة لسان أو عاطفة جياشة من شمطاء لم
تملك مشاعرها أو أحاسيسها وهي عادة متأصلة في رعاة البقر لاسيما المحافظين
منهم لكن لماذا لا نمتثل لنصائح الناطق باسم البيت الأبيض أو وزارة الخارجية
الأمريكية حيث يشير علينا مع كل غارة إسرائيلية تجندل الأطفال وتزرع الرعب،
بأن نضبط أعصابنا، وأن نتحلى بمقدار جيد من ضبط النفس، حتى تتكفل
إسرائيل بضبط أنفاسنا.. أو إنهائها إلى الأبد؟ ! .
ماذا علينا لو نظرنا بعين الواقع إلى جنوب شرق آسيا قريباً من بؤرة هلاك
الدكتاتور، وقارنا بين مثالين أحدهما «دكتاتوري» ... والآخر «ليبرالي» ...
واحد يكمم الأفواه ويطارد المعارضين، ويستحدث العقائد لدولة جل سكانها يدينون
بدين واحد، وآخر يحكم خليطاً غير متجانس من الشعوب والأعراق ... ؟ ! لن
نختار دولة مسلمة وأخرى كافرة لأن أصدقاءنا الأمريكان سوف يتهموننا حتماً
بالأصولية والتشدد والنتائج المسبقة، بل سنختار دولتين ضمن عالمنا الإسلامي
لننظر كيف يُصعّد الحدث هنا، ويتجاهل هناك ثم نطرح السؤال البريء ذاته: هل
يؤيد الغرب الديموقراطية أم الدكتاتورية؟ !
ثم ما هو عامل الفرز لحب التسلط أو الهيام بالتسامح والتعددية؟ هل هذا
العامل مهم وحاسم ودقيق إلى هذا الحد؟ .. دعونا نستعرض وضع أندونيسيا
وماليزيا للوصول إلى إجابة معقولة على هذا السؤال.
أندونيسيا ومفترق الطرق:
ظلت أندونيسيا رغم ضخامتها وكثافتها السكانية عامل تحييد واستقرار في
منظومة السياسة الأمريكية في المحيط الهادي، أو بعبارة «ستيفن ستراسر»
المعلق الأمريكي «دولة متعاونة مع الغرب إلى أقصى حد، وودودة مع الصين
رغم استحواذ الجالية الصينية بها على المقدرات الاقتصادية، مع سلبية في تعاملها
مع جيرانها، وهي الآن تبحث عن موطئ قدم في ظل انقلاب الموازين، فهي التي
بادرت لإجراء المباحثات في كمبوديا، وهي التي تسعى لجمع فرقاء النزاع في
بورما، كما أنها الآن تعرض وساطتها بين كوريا الشمالية والغرب» إن الرئيس
الحالي سوهارتو الذي أتى بعد حكم «سوكارنو» المتعاطف مع الشيوعيين، ظل
أصدق الحلفاء لأمريكا، وهذا ما حدا بالغربيين إلى التغاضي عن الممارسة السياسية
العنيفة والفساد المستشري في الحكومة هناك ولا تزال أصداء الصدمات الأخيرة بين
الحكومة والشعب لا تخطئ بكثير متابعة من قبل الصحافة الغربية التي تعمل
بنظرية حارس البوابة «الإعلامية» ، وهذه النظرية الإعلامية تقول إن الإعلام
لاسيما الذكي يتعامل مع الخبر كحارس البوابة فيضخم ما يراه يخدم مصالحه
ومبادئه، ويتجاهل ما يسيء إليها ... وهذا العامل هو الذي يفسر التغاضي عن
إجراءات الحكومة الأندونيسية لحظر أكبر ثلاث مجلات في البلاد هي: «دي تيك، وتمبو، والمحرر» في شهر «حزيران» المنصرم بعد أن نشرت تفاصيل عن
عمولات صفقة شراء أسلحة للقوات البحرية الأندونيسية التي يتهم فيها وزير
التطوير والتقنية «حبيبي» الذي يعد أبرز الشخصيات لخلافة «سوهارتو» بعد
أن إنتهاء ولايته الخامسة.
لقد مرالأرخبيل الأندونيسي بفترة مشابهة في عام 1978 م، بعد أن تظاهر
الطلبة والمثقفون اعتراضاً على إعادة انتخاب سوهارتو رئيساً في ظل انتشار
المحسوبية والفساد والقمع السياسي، والاعتماد على المساعات الخارجية وتسلط
الجالية الصينية، على مقدرات البلاد وتحالفها مع نظام العسكر.
لقد طرح المعارضون بقوة أن العسكر قد قاموا بواجبهم ولم يعد لديهم أي جديد
يقدمونه، فتفتقت الأذهان عن فكرة «الباتشيلا» ، وهي دين جديد استحدثه
«سوكارنو» ، وألزم الشعب الأندونيسي المسلم اعتناقها، ثم قام بمطاردة كل خصومه بحجة محاربة هذا الوثن الجديد الذي اُلزمَت حتى الأحزاب الإسلامية بالإيمان به وإلا ... والسؤال: هل يواجه المأزق السياسي بدين جديد أو وثن آخر يتم من خلاله محاربة المد الإسلامي المتنامي في الأرخبيل الوادع؟
لقد راهن العسكر والقوى الغربية من خلفهم على النمو الاقتصادي باعتباره
هدفاً وغاية ووسيلة من خلال نموذج شبيه بنموذج «بونشيه» ديكتاتور تشيلي
الذي حكمها بالحديد والنار ليرفع من اقتصادها عقدين من القمع لكن النمو
الاقتصادي في ظل التسلط والتغاضي الغربي، لا يحل المشكلة بل ربما فاقمها
فالصحافة الأندونيسية والشارع هناك يتحدث عن «مافيا بيركلي» ، وفي هذا
إشارة إلى جامعة «بيركلي» الأمريكية الشهيرة التي ينتمي إليها معظم رموز
النظام الحاكم والمثقفين الكبار، وهذه العصابة الحاكمة ترى أن النمو الاقتصادي
وحده لا ينصف مظلوماً أو يزيل فساداً أو يحل قضية هامة كقضية الهوية والانتماء
لاسيما في أجواء صحوة المسلمين المعاصرة وعودتهم إلى ذاتهم.
قد يتغاضى الغرب حيناً عن أصدقائه، ويطلق أيديهم تخنق وتصطاد
ضحاياها البشرية، وتعد برفاهية أكبر وحلم تنموي جميل، لكن الأرقام والمشاعر
حينما تختلط تقول إنه بالرغم من التقدم الاقتصادي والنمو المتسارع في أندونيسيا،
إلا أنه يظل أقل بكثير من دول آسيوية أخرى لا تقارن بإمكاناتها ومقدراتها، وأن
طوفان الفساد المستشري يلقي بظلاله على الحياة الاقتصادية من خلال الاحتكار
والعمولات الخيالية، تماماً كما يعوق نمو الحياة الاجتماعية أو السياسية، فالنمو
الاقتصادي لابد أن يرافقه انفتاح سياسي، واستقرار اجتماعي، واستنفار لغالبية
الأمة يربطها بمعتقد أو فكرة شمولية حضارية كعقيدة الإسلام لا تمت لشعوذة العسكر
أو صنمهم الهلامي! !
وماليزيا في خندق الدفاع عن الذات:
على عكس الوضع في أندونيسيا، فإن الخارطة السياسية والأمنية في ماليزيا
تتميز باختلاط كثير من الأعراق لاسيما الصينيين والهنود، إضافة إلى الملاويين
المسلمين، ويشكل المسلمون أغلبية ضئيلة لكنهم يمسكون بزمام الحكم والقيادة، وقد
استطاعت ماليزيا أن تسجل قفزات كبيرة في تكوين دولة عصرية ذات اقتصاد متين
رغم قلة إمكاناتها مقارنة بأندونيسيا، وظلت البلاد تتمتع بمناخ حر وفضاء واسع
حتى للأقليات المتربصة بالمسلمين والموالية لدول الجوار وبالرغم من الرفاه
الاقتصادي المقرون بمناخ حر وديمقراطي، فقد ظلت البلاد تتمتع بسياسة مستقلة
ترفض التحزبات، وتأبى أن تخضع للهيمنة والغطرسة الغربية.
لقد جمع المثال الماليزي المحرمات الثلاث: نمو اقتصادي، وحرية سياسية،
وتوجه مستقل يحمل بصمات الإسلام، وهذا ما يفسر حنق الغربيين لاسيما
البريطانيين من هذه الدولة الفتية وتسخير وسائل الإعلام لاسيما التي يملكها ...
الصهيوني «ماردوخ» للنيل من الحكومة الماليزية التي ردت على بريطانيا
«العظمى سابقاً» بأسلوب فيه درس للعزة ونموذج للإباء.
لقد قامت كوالالمبور بشطب الشركات البريطانية من قائمة المؤسسات التي
تتعامل معها، فما كان من الأسد البريطاني «الهرم» إلا أن قدم الاعتذار وتخلت
الصحافة البريطانية عن أسلوب الدس العلني في هذه الجولة، لكن التآمر لم ولن
ينتهي، وسيجد ألف وسيلة لرد المارد الماليزي إلى الحظيرة وفرض النموذج
«السوهارتي» عليه إن أمكن ذلك.
إن التوجه المستقل لاسيما المسلم هو عامل الفرز الوحيد لمضايقة ماليزيا
ورسم المخططات لحصارها، كما أنه شرط العضوية المهم الذي غض الغرب
الطرف بسببه عن الأرخبيل المجاور، الذي رضي بالدوران في الفلك الغربي،
وقام بنصب العقيدة الجديدة «الباتشيلا» بدلاً من الاعتزاز بالإسلام وترسم نهجه
الحضاري.
الغرب يكره الديكتاتورية، ويحب الديموقراطية، عبارة حفظناها عن ظهر
قلب، لكن الحقيقة المرة أن هذه العبارة صحيحةفي حق شعوبه ودوله فقط، أما في
حق الشعوب المسلوبة هويتها فربما جرب الغرب الديمقوراطية هنا وشجع
الدكتاتورية هناك، لكن في بلداننا المسلمة فلا شك أن الديكتاتورية لاسيما العسكرية
تواجه بترحيب أكبر وتغذى بالمقويات والمنشطات التي تسعى كما نرى في البلدان
الثورية في عالمنا العربي إلى جعله كسروية ثورية يتوارثها الدكتاتور الصغير عن
السفاح الكبير، وهذا بالضبط ما ينوح عليه الغرب ويلطم في مأتم الديكتاتور
الشيوعي الكوري الذي حول «البرولتاريا» بقدرة قادر إلى مؤسسة ماركسية
عائلية مغلقة أمام المساهمين
هل نعود إلى مقولة «جين كارباتريك» ونعيد تقييمها على ضوء هذه
المقارنة لنقول: إنها أكبر من مجرد زلة لسان وأقرب ما تكون إلى قاعدة مهمة في
سياسة وصولية مستعمرة؟ !(79/47)
المسلمون والعالم
وآإسلاماه:
ردة بين مسلمي الهند فماذا نحن فاعلون؟ !
د. نفيس أحمد
المسلمون في أطراف «علي كراه» وبعض مديرياتها يقضون حياتهم في
أسوأ درجات الفقر والتخلف، وبخاصة في الناحية التعليمية والاقتصادية، ولا توجد
المدارس التي يتلقى فيها أبناء المسلمين العلوم الدينية والعصرية في هذه القرى إذ
أن جل الناس يعيشون في فقر وإفلاس، فلذلك لا يستطيعون بناء المدارس، ولا
يعرفون أهمية التعليم في العصر الحديث، فضلاً عن أن يرسلوا أولادهم إلى
الخارج للدراسة، وغالب أبنائهم يشتغلون في المزارع وتزويد المدن المجاورة
بالحليب، ويعملون في النجارة أو الحدادة، وبعض الأعمال اليدوية البسيطة بوجه
عام.
والشيء الذي يفزع كل مسلم، هو أن الأحزاب الهندوكية المتعصبة قد
استغلت تخلف المسلمين وسوء حالتهم، فعملت جاهدة على إخراجهم من ربقة
الإسلام، وقد عرفت هذه الحركة باسم «شدهي» ، والحزب الهندوكي الذي يؤدي
الدور المهم في دعم هذه الحركة يُعرف باسم «بآديه سماج» ، وتلك الردة واقع
يعيشه المسلمون، والمناطق المتأثرة بهذه الردة هي: «هاترس» «آكره»
«اتيه» ، «متهرا» في ولاية اترابرديش، و «بهرت بور» في ولاية رجستهان، إذ إن هذه المديريات متجاورة، وقد بلغ عددها المائة أو أكثر ومعظم من يقطن هذه المنطقة هم طبقة «راجبرت» ، وكان أكثر أفراد هذه القبيلة قد دخلوا في الإسلام قبل عدة قرون، ولكنهم لم يجدوا التوعية الدينية والتربية الإسلامية رغم مضي عدة قرون على إسلامهم، ولم يفكر المسؤولون من الأمة الإسلامية في وضعهم التعليمي والاقتصادي، إذ إنهم لايزالون متمسكين بالتقاليد التي ورثوها، فلم يتغيرحالهم في قليل أو كثير، وقد سنحت للحركات الهندوكية المتعصبة فرصة بعد استقلال الهند، واستغلت الأوضاع وحاولت إقناع المسلمين بالارتداد، أو إغرائهم بمزاعمها بأنهم إنما كانوا على الديانة الهندوكية من قبل، وأن الملوك المسلمين قد أرغموا آباءهم وأجدادهم بالقوة على ترك الديانة الهندوكية، ولم يعد هناك أي مبرر في استمرارهم على الدين الإسلامي، ويصبح من العسير نيلهم الوظائف في الدوائر ولا أي ضمان لنيل المال والحياة الكريمة ما لم يرتدوا إلى الهندوكية.
غير أن المسلمين الذين كانت عندهم الكرامة والغيرة، رفضوا شتى
الإغراءات وهاجروا إلى باكستان، وقد ارتدت أكثر القرى التي بلغت حوالى مائة
قرية بعد الاستقلال، والمسلمون من سكان هذه القرى لايزالون يتعرضون
لمحاولات حثيثة لدفعهم إلى الردة، والمديريات والقرى الأخرى التي تأثرت بهذه
الحركة هي كما يلي:
1- في «علي كراه» ونواحيها:
برساره، الله بور، كلوكانكله، سوجيا، سوجان، كرى رستم، نكله كهرني، كوكا كهريا، كمهرى، كيمار، ببكواره، وكيرو.
2- في مديرية متهرأ:
كوهن بور، برى، بمورى، مان كانكله، بهينه، ملك بيور اسبار مادهرى
كند، اندى، نوكايان، سيواميكو، برادلى، سيهى، حتى بوره يائى سرير، تهرا، سلطان بور.
3- في مديرية آكره:
مريره، سلى نكر، سنيحكجه، سكراه، كاوا، واد، راى بها سكندره،
كهداوائي، بحبورى، فتحبورى، يُسى جه، كهيره، بيرى، وأ اد يجائى نكله
لجن، حسن بور، اروا، ساندهن، وكتيلا، وفي بعض القرى لا يوجد الآن أي
مسلم، ففي ولاية راجستهان، وبصفة خاصة في مكان تسى كهيلى ببرو، جالنى
كنج.
العوامل الكامنة وراء فتنة الردة:
من العوامل التي تؤدي إلى انتشار تلك الردة، الكتابة ضد الإسلام: فنسبة
الهنود من المثقفين والمتعلمين في هذه المنطقة مرتفعة بالمقارنة مع المسلمين كما أن
وضعهم الاقتصادي هو أحسن بكثير من المسلمين، فلديهم أسواق تجارية كثيرة
وكبيرة، ويخصص التجار من دخلهم اليومي قسطاً معيناً لحركة «شدهي» ،
وتستعمل هذه الحركة ذلك القسط المعين لتنشيط العمل والدعاية ضد الإسلام،
وتطبع الكتب بكثرة للطعن في القرآن الكريم والسنة، وتوزع مجاناً في موسم
«هاترس» ، الذي ينعقد في معبد «دأوجى مهراج» في «أغسطس» أو «سبتمبر» كل عام، وتزداد هذه الكتب في كل سنة، وتحتاج إلى الرد الدامغ عليها، وهذا ما لم يقم به أحد بعد، وتغرس روح الاستنكار والاستخفاف ضد الإسلام والمسلمين عن طريق هذه الكتب، والمسلمون لا يستطيعون الرد الصحيح بسبب قلة معرفتهم بالدين الإسلامي فيتأثرون بتلك الشبهات، وقد أصيبوا بمركب النقص بسبب النسبة المنخفضة في التعليم والاقتصاد، وبما يثار ضد الإسلام من دعاوى ومفتريات.
اختلاط المسلمين بالهندوس:
كما ذكر سابقاً فإن المسلمين يعيشون مع الهندوس ويتشبهون بهم في تقاليدهم
إلى حد كبير، فأسماء الرجال والنساء من المسلمين متشابهة مع أسماء الهندوس،
وننقل هنا بعض الأسماء على سبيل المثال: (حتربال سنك جندربال، راجبيرسنك، سرنام سنك، سكورام، انوب سنك) ، هذه أسماء الرجال المسلمين كلها، أما
أسماء النساء فهي سرشيلاديري ارملاديري تاراوتي وهنى) ، والسبب في هذا هو
تسهيل الالتحاق بالمدارس، فحينما يأخذ مسلم ولده للالتحاق في المدرسة يطالبه
مدير المدرسة بتغيير الاسم ليكون مشابهاً لأسماء الهندوس، فيقول أب الولد
المسكين: عيّن الاسم الذي تستحسنه لهذا الولد فيبدل المسؤول اسمه، ويسجل هذا
الاسم في المستندات كلها مستقبلاً، ويعرف هذا الولد المسلم بالاسم الهندوكي.
وننقل هنا بعض أسماء الأولاد المحولة في الماضي القريب على سبيل المثال: (جمشيد علي، الاسم الجديد والمحول: مهندرسنك، محمد سليم الاسم الجديد
والمحول: راجويرسنك، جميل أحمد، الاسم الجديد والمحول: ملكهان سنك) ،
وهناك شيء آخر وهو: حينما يذهب أي مسلم إلى مسجل البلد لتسجيل اسمه فيشير
عليه بأهمية تغيير اسمه إلى اسم هندوكي بدلاً من اسمه الإسلامي.
ونتيجة لجهل المسلمين فهم يحتفلون بأعياد «هولي، ديوالي، رنكولي»
الهندوسية، وعلى سبيل المثال فإن مراسم الزواج تتم كما يحتفل الهندوس بها تماماً، وإن تقاليد الزواج تشابه ما لدى الهندوس، وكثير من المسلمين يدورون سبع
مرات حول النار وفق الطقوس الهندوكية مع خطبة النكاح، وبعضهم يكتفون
بالدوران بدلاً من خطبة النكاح فحسب، ويوضع الطعام مثل الهندوكيين في أيام
الزواج، ولا يستعملون اللحم قط، ويحتفلون بذكرى الأربعين للميت، ويأكلون فيه
«بوا» الطعام الهندوكي، ويتصورونه طريقاً للثواب والعمل الصالح، ولو امتنع
أحد منهم عن تلك الطقوس وصف بأنه «وهابي» ! ! ، ويوجد جبل باسم
«كوبردن» قريباً من «متهرا» يعبده الهندوس والهنود الذين لا يذهبون إلى كوبردهن في تاريخ معين، فهم يصنعون الجبل الصغير في بيوتهم للعبادة، وكثيرٌ من المسلمين في هذه المنطقة لجهلهم يفعلون ذلك في بيوتهم مثل الهندوكيين.
ثم إن المسلمين يلعبون القمار بكثرة مثل الهندوس في يوم «دهن تيرس»
ويتفاءلون به للنجاح للسنة الآتية، وهم يلبسون دهوتي (اللباس الهندوكي الخاص)
مثل الهندوس بوجه عام، ويحضر قليل من المسلمين للصلاة في يوم الجمعة
والعيدين، وكذلك الصلوات الخمس.
الإغراء بالمال للردة عن الإسلام:
إن المسلمين كلهم يعيشون في فقر مدقع، وهم يرتدون إلى الهندوكية بأتفه
مقابل، مثل إسقاط الديون اليسيرة أو غير ذلك، ومن المسلمين الذين اختاروا
المذهب الهندوسي في الأعوام الماضية على سبيل المثال: (كيندالال اختار المذهب
الهندوكي لأجل مضخة يدوية مائية للحقل؛ كبتان سنك، اختار المذهب الهندوسي
لأجل ثلث ألف روبية؛ كيان سنك، مقابل العمل كفراش! ديوان سنك، مقابل
اعطائه بعض المال.
وارتد أحد عشر مسلماً في «الله بوره، وبرساره» في نوفمبر وديسمبر
1991 م، وكلهم تقريباً أغروا بالمال، ويحتفل المسؤولون من «أريه سماج»
احتفالاً كبيراً عند إجراءات ردة المسلمين، ويكون البوليس بكثرة في ذلك الوقت
لترويع المسلمين، فيجمع وجهاء الناس وكبار الزعماء من المنطقة وتلقى الخطب
ضد الإسلام والمسلمين علانية، لإظهار القوة للمذهب الهندوكي ويتأثر المسلمون
بهذا العمل خوفاً، حيث يقود الرأسمالي الهندوسي المشهور «برلا» هذه الحركة
لتؤدي دورها في انتشار الارتداد في هذه المنطقة.
وتُزَوَجُ البنات المسلمات من الهندوس مقابل الأموال لآباء البنات بدافع الطمع
والجهل بالدين، وأما أبناء المسلمين الذين يدرسون الابتدائية والثانوية فهم يختاون
المذهب الهندوسي ليتمكنوا من الزواج، وليجدوا المال الوافر مع تزويجهم من
الهندوسيات، ومن ثم يُسَهّل المسؤولون الهندوس عملهم في الدوائر الرسمية.
ارتد أكثر القرى التي بلغ عددها أكثر من مائة بعد استقلال الهند إلى الآن،
وكانت الردة بكثرة إبان استقلال الهند، لكن لاتزال هذه الظاهرة مستمرة، وجل
زعماء مسلمي الهند يتجاهلون القرى التي ارتدت كلها، فيهدم المسجد فيها،
ويستعمل حظيرة للدواب! ! .
مخاطر المستقبل ومدارس المعبد الهندوسي (ششوديا) :
وانتشرت حركة الردة إلى الآن بسبب تخلف المسلمين وسوء حالتهم في
التعليم والاقتصاد، ولجهلهم بحقيقة دينهم، ولكن الحركات الهندوكية قد اختارت
حيلة جديدة، وهي تأسيس المدارس باسم «التعليم والتربية» ، حيث يُعلم الأولاد
في هذه المدارس التعاليم الهندوسية مع الدراسات الأخرى التي تهاجم الإسلام
والمسلمين ويزداد التهجم والاستخفاف ضد المسلمين بتدريس دعاوى اعتداءات
الملوك المسلمين على الهنود، وقصص ملوك الهندوكيين أيضاً وقد أسست مدرسة
في موضع سرجان في مديرية هاترس، التي يوجد فيها المسلمون بكثرة، وليس
لهم سبيل لتعليم أولادهم إلا هذه المدرسة، فينشأوا على المذهب الهندوسي من حداثة
السن.
فهلا تدبرنا وفكرنا فيما يحدث من قبل أن تكون العواقب رهيبة ومدمرة؟
الحركة القاديانية وأثرها بين المسلمين:
يستغل القاديانيون المسلمين أيضاً بسبب تخلفهم في التعليم والاقتصاد ولجهلهم
بالإسلام، وقد نجحوا بخاصة في مدينتي «رجان وساندهن» وكثير من المسلمين
قد قبلوا المذهب القادياني، وأسست لهم مدرسة من قبل القاديانيين ويلتحق بها
أطفالهم مما جعلهم يتأثرون بمذهب القاديانية.
إهمال المسلمين الكبير:
غريب جداً ألا يعلم كثيرٌ من المسلمين شيئاً عن هذه الردة الكبيرة حتى الآن،
ولا يقوموا بمحاولات جادة لإيقافها ودراسة أسبابها ووضع الحلول الناجعة لعلاجها
سوى ما حصل في ولاية «راجستهان» قبل عدة أيام في منطقة «بهرت بور» .
هكذا توقف فتنة الردة:
لا يوجد أي نظام للتعليم العام والشرعي بوجه خاص لأولاد المسلمين وبناتهم
في المنطقة كلها، لذلك يجب اتخاذ الخطوات التالية لعلاج هذه المأساة، وهي كما
يلي:
1- تأسيس المدارس التي يدرس فيها التعليم الإسلامي مع العلوم الحديثة.
2- تأسيس النوادي الإسلامية التي يلقي بها العلماء الخطب والنصائح الدينية
في بعض المناسبات.
3- تكتب الردود الدامغة على الكتب المعادية للإسلام التي توزع مجاناً بين
المسلمين في المنطقة كلها.
4- تأسيس كلية ثانوية عامة لأبناء المسلمين.
5- إنشاء المشروعات التعاونية لإصلاح حال المسلمين والرفع من مستواهم
الاقتصادي والتعليمي.
6- فتح حسابات مالية لإعانة المسلمين الذين يرتدون بسبب الفقر.
ولا بد من توفير المال لإتمام الأعمال المذكورة مع الجهد المركز والاهتمام
البالغ، وقد أسست مدرسة ابتدائية من قبل جمعية التعاليم الدينية في «الله بوره»
وتُدَرّس فيها العلوم الإسلامية مع العلوم الحديثة، وقد بدأنا هذا العمل بعون الله
تعالى مع فقدان كثير من الوسائل في أيدينا، وقد جاءت النتائج مفيدة بعد بدء هذا
العمل، ولم يرتد أحد من المسلمين بعد ذلك وهم يشعرون بالثقة في النفس ولقد زار
مسؤول الجمعية منطقتهم في كثير من الأحيان، والآن نحن نحتاج إلى مكان واسع
لتأسيس الكلية والمدرسة الثانوية كما نحتاج إلى الأفراد الذين يبذلون الجهد
والإخلاص.
بدأ هذا العمل برعاية اتحاد التعليم الديني «علي كره» ، وهو فرع لمجلس
التعليم الديني الذي يرأسه فضيلة الشيخ «أبو الحسن علي الندوي» ، ويتولى
أمانته العلامة الدكتور «اشتياق حسين قريشي» من «لكنؤ» ، أما رئيس الفرع
فهو «رحمة الله خان شرواني» ، وخازنه البروفيسور «نجم الحسن» من جامعة
«علي كره» الإسلامية، ويرعى هذا الاتحاد ثلاثين مدرسة أخرى في محافظة
«علي كره» ، والمساعي جارية لفتح مدارس أخرى كثيرة تعلم الطلاب عن طريق اللغة الأوردية مواد عصرية مع التعليم الشرعي الإسلامي.
هذا حال بعض المسلمين في الهند، فما هو واجب المراكز الإسلامية الدعوية
في عالمنا الإسلامي، وما هو واجب أغنيائنا والموسرين من المسلمين حيال الرفع
من شأن إخواننا المغلوبين على أمرهم؟ ألا هل بلغت اللهم فاشهد! ! ..
والله نسأل التوفيق والسداد للجميع.(79/54)
المسلمون والعالم
حول موضوع الأكراد
- مناقشة وتعقيب -
محمد بن سليمان
في العدد (76) من «البيان» المقال الموسوم بـ «أحفاد صلاح الدين بين
مؤامرة الأعداء وخذلان الأصدقاء» ، ولما كان هذا الموضوع من الموضوعات
الشائكة حيث تختلط العاطفة مع القومية والإسلامية، كان لابد من رؤية إسلامية
تكون بعيدة عن ردود الفعل وضغط الأحداث، وقبل إبداء بعض الملاحظات على
المقال التي هي مساهمة في إيجاد رؤية إسلامية، لابد من التمهيد التالي: ...
1- نحن نؤمن بالإسلامية، وليس عندنا ولله الحمد أي نعرة قومية أو نظرة
مجافية لأي شعب من الشعوب الإسلامية، وذلك حتى لا يظن ظان، أو يتهم متهم.
2- إن القضايا التي تهم أمر الأمة لا يصلح لها التدسس للعواطف على
حساب الحل السليم والنظرة الواقعية، ولا يصلح لها إلا المصارحة وقول الحق ولو
كان مراً، ومعالجة المشكلة من جميع جوانبها.
3- إن الأمة الإسلامية تجمع شعوباً شتى ولغات شتى، والأصل هو انصهار
هذه الشعوب في بوتقة الإسلام، والإسلام لا يضاد الأشياء الطبيعية مثل أن ينتسب
الإنسان إلى قبيلة أو شعب، ولكنه يحارب العصبية القبلية أو العصبية الشعوبية:
[وجعلناكم شعوباْ وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم] ، ومشكلة الشعوب
الإسلامية مشكلة واحدة سواء أكانوا عرباً أو عجماً، وهي البعد من منهج الله،
والتخلف الذي ضرب بجرانه منذ سنين متطاولة.
4- إن أي مشكلة لا تحل برد الفعل، فإذا كان الترك العلمانيون رفعوا شعار
القومية الطورانية، وبعض العرب رفعوا شعار القومية العربية، فالحل لا يكون
برفع شعار القومية الكردية، وإنما بالرجوع إلى مصدر القوة والوحدة والتقدم، وهو
الإسلام.
بعد هذا التمهيد أقول لكاتب المقال:
1- لماذا هذا التهويل في الألقاب، فهل أكراد البرزاني والطالباني والحزب
الكردستاني في تركيا، هل هؤلاء أحفاد صلاح الدين حقاً؟ وأكثرهم فاسدون جهلة، شيوعيون وعلمانيون، ومن الطبيعي أن يقال أيضاً أن عرب اليوم من الجهلة أو
الذين لا يريدون المنهج الإسلامي ليسوا أحفاد عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد،
ولا أتراك اليوم أحفاد نور الدين أو محمد الفاتح..
2- إن لهجة المقال وفي الصفحة الثانية منه توحي بأن االأصل عند لأكراد
هو الانفصال، فهم في الدولة الإسلامية: «وشاركوا في كثير من الأحداث
التاريخية، وقامت لهم دول، وفيهم علماء ... » ، وأقول للأخ الكاتب: هذا شيء
طبيعي لأن كل الشعوب التي أسلمت اندمجت في المجتمع الإسلامي الواحد، ولم
يعد هناك هذا التمايز فالأتراك شاركوا ومسلمو الهند شاركوا، والبربر شاركوا،
فهل نعود الآن ليفتخر كل شعب بما عمل، ونثيرها عصبية مشوبة بالإسلامية؟
ومن أغرب الأشياء أن يقول الكاتب: إن دولة صلاح الدين كانت دولة كردية، وهل فَكّر صلاح الدين رحمه الله بهذا التفكير أم أقام دولة إسلامية وكان أستاذه في
هذا هو السلطان نور الدين محمود التركماني؟
وأما نقلك عن علماء الأكراد أن الغرب يعاديهم لأن صلاح الدين منهم وهو
الذي طرد الصليبيين، فهذا أيضاً من التهويل الذي لا يحمد فالغرب يعادي الإسلام
والمسلمين من أي انتماء كانوا، وصلاح الدين رحمه الله من أبطال الإسلام، ولكنها
نظرة ضيقة للأمور، وللأتراك أن يقولوا: الغرب يعادينا لأن الدولة العثمانية دكت
حصون الغرب وقلاعه لمدة ثلاثة قرون، والعرب يقولون: إن عداء الغرب لهم
أكبر من أي عداء لأنهم هم الذين حملوا الدعوة الإسلامية إلى الشعوب في أنحاء
العالم.. وإذا شجعنا هذه النغمات فماذا نقول للبربر في شمال إفريقيا أو لسكان
جنوب السودان، أو لكل طائفة إسلامية لا تتكلم العربية؟ !
3- والأعجب من هذا أن يقول الكاتب: إن هناك رأياً منصفاً في مصطفى
البرزاني، ويقول: «انظر: علماء الأكراد» مع أن أمر البرزاني وعلاقته مع
إسرائيل وعلاقته مع الشيوعيين في موسكو، أمر مشهور وقد اعترف ابنه مسعود
في مقابلة مع مجلة (المجلة) بعلاقة والده هذه، وأما علاقة الطالباني وغيره من
الأحزاب العلمانية الكردية مع إسرائيل، فيكفي أن يرجع الكاتب إلى الصحف
والمجلات الصادرة بعد حرب الخليج.
4- هل تُشَجّعُ اللغة العربية أم الكردية، والمفروض على الأكراد وغيرهم
من الشعوب الإسلامية أن يتعلموا العربية، لأنها لغة الإسلام ولغة القرآن والسنة
والثقافة الإسلامية، ونحن نعلم أن هناك دعاة مخلصين في صفوف الأكراد يعلمون
العربية، وينشرون الوعي الإسلامي والعلم الشرعي، ونحن لا نخاطب هؤلاء
وإنما الذين يدندنون حول اللغة القومية ويغيرون أسماءهم أو أسماء أبنائهم من
العربية إلى الكردية، كما أننا نعلم صعوبة تعلم العربية بالنسبة للشعوب الإسلامية،
وأنها تحتاج لإرادة ووقت، وأنه لابد من ترجمات للعلوم الإسلامية، ولكن الأصل
هو تعلم العربية.
5- في بداية المقال ذكر الكاتب أن من أسباب تطور ملف الأكراد «ازدياد
الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، ومطالبة الأكراد بحل تاريخي على غرار حل
الصراع العربي الإسرائيلي» ، وكأن الكاتب يوافق على هاتين النقطتين، فهل
هناك فعلاً اهتمام بحقوق الإنسان المسلم أم أن الغرب يدغدغ عواطف المسلمين بهذه
الكلمات الطنّانة؟ وهل يوافق الكاتب على هذا الحل العربي الإسرائيلي؟ وهل
الأكراد المسلمون يوافقون على هذا الحل؟ !
6- وأخيراً أقول للأخ الكاتب: إن مشكلة الأكراد هي مشكلة كل مسلم ولا
شك في أنهم ظلموا من الأنظمة التي يعيشون في ظلها كما ظلم غيرهم أيضاً،
ويجب على المسلمين مساعدتهم في وضعهم الحالي في شمال العراق، وعلى الدعاة
استغلال هذه الفرصة لبث الدعوة وتعليم الناس أمور دينهم وإنشاء المدارس ... وأما
على المدى البعيد فلماذا لا يتعاون المسلم الكردي مع المسلم التركي للوقوف أمام
الزحف العلماني؟ ولماذا لا يتعاون الأكراد في إيران وهم من أهل السنة مع أهل
السنة هناك؟ وإن مشكلة الكردي المسلم هي مشكلة العربي المسلم، فلماذا لا يتعاون
الجميع لإقامة شرع الله، والدول لن تسمح أبداً بحل انفصالي فلماذا لا نرجع إلى
الأصل وإلى الحل الصحيح وهو الإسلام؟ !
تعقيب على المقال:
وقد تم عرض هذا النقد على كاتب المقال وأفاد بالآتي:
أشكر للكاتب الكريم وجهة نظره التي لا أشك في أنها ناتجة عن غيرة إسلامية، وأحب أن أضع بين يدي القارئ الكريم بعض ملحوظاتي على المقال فيما يلي:
1- حينما دعوت إخواننا الأكراد بأنهم أحفاد صلاح الدين، إنما كنت أعني
استجاشة شعورهم الإسلامي بربطهم بقائد مسلم منهم، ولعلم الأخ الكريم أن الأكراد
العلمانيين يعتبرون صلاح الدين خائناً للقضية الكردية! هكذا يزعمون، ثم من قال
أن المعني بأحفاد صلاح الدين حزب البرزاني أو الطالباني بينما المقال يحذر من
التعامل معهم؟ !
2- لا يمكن بحال أن يفهم القارئ للمقال أن فيه دعوة قومية، وقد بين المقال
أن من أسباب فشل انتفاضتهم كونها كانت ذات منطلق قومي ومعاذ الله أن يكون
ذلك الوهم في ذهن الكاتب.
3- لا أدري كيف يفهم الكاتب أن الأصل في المقال هو انفصال الأكراد وقد
أكدت على خطأ ذلك، وأن أي توجه انفصالي سيعود سلباً على مصلحة هذا الشعب
المسلم، وسيستغل من أعدائه أبشع استغلال.
4- لا يمكن أن أدعو إلى اللغة الكردية على حساب لغة القرآن الكريم، ولكن
لنكن واقعيين أكثر، فهل ندع دعوة إخواننا الأكراد وتوعيتهم حتى يتعلموا لغة
القرآن، أم أن دعوتهم بلغتهم ضرورة مع أهمية بل ضرورة تعلمهم لغة القرآن
الكريم؟ ! وهذا محل اتفاق والحمد الله.
5- أما أن الأكراد يطالبون بحل تاريخي وذكر بعض الحلول، فهذا لسان
الكثيرين منهم، وتلك الحلول لا يعني وصفها بالتاريخية أنها صحيحة أو مطلوبة،
لكنها حديث الساعة ولا يمكن بحال أن تحل مشكلات المسلمين إلا بحلول إسلامية
مهما طال الزمان، وهذا ما نتفق عليه.
6- أما ما ذكره الأخ الكريم في تعقيبه عن البرزاني فقد كنت أرغب ويرغب
غيري في توثيق ما ذكره عنه، وليس الإحالة إلى مجهول، وبخاصة وأن الرجل
قد أفضى إلى ما قدم، وإن كان الواجب ذكر الحقائق مهما كانت مرة.
جزى الله أخانا خيراً ووفقنا وإياه إلى ما يحبه ويرضاه.(79/62)
المسلمون والعالم
مأزق الإعلام العربي
في حرب اليمن
د. محمد البشر
المتتبع لتغطية الكثير من وسائل الإعلام العربية للحرب اليمنية الأخيرة
والإرهاصات السياسية التي سببت اندلاع الحرب، وتأثيرها على مرحلة ما بعد
الحرب يلحظ العجب العجاب، فمنذ بداية الأزمة يشعر المتابع لتلك الوسائل
الإعلامية أن الإعلام العربي لم يتحرر بعد من عبوديته العمياء للنزوات والأهواء
السياسية الشخصية، ولم يستفد من الدرس القاسي الذي حصل في حرب العرب مع
إسرائيل عام 1967 م، عندما ضلل هذا الإعلام الجماهير العربية حتى ظنت أن
إسرائيل قد هزمت هزيمة ساحقة، وأبيدت عن بكرة أبيها، ولن تقوم لها قائمة،
فإذا بالإسرائيليين يردون على هذا الزيف الإعلامي بضربة قاصمة قبل أن تشرق
شمس الصباح، لتوقظ الشعوب العربية على حقيقة مُرة كشفت زيف إعلامها الذي
لم يكن إلا وسيلة لتمجيد الاستبداد العسكري والتسلط السياسي، وقناعاً يتوارى خلفه
الذين كرسوا أنفسهم لتعبئة الجماهير ونفخها بالشائعات والرسائل المزيفة.
ومع أن الفارق الزمني بين عامي 1967 و1994 م كبير وشاسع، وخليق
بأن يجعل هذا الإعلام يستفيد من ذلك الدرس الذي تلقاه وأن يعي أبعاده، إلا أن
الأحداث الأخيرة في اليمن أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن مأزق هذا الإعلام
سيظل اليوم وغداً ومستقبلاً كما كان بالأمس مادام يدور في فلك الأهواء السياسية
التي توجهه، ومادام هو أيضاً يقبل بهذا التوجه ويتلقاه بطاعة عمياء وتزلف لا
حدود له.
قد يقول قائل إن أي مؤسسة إعلامية لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن
تنفك عن التوجه السياسي الذي تنتمي إليه، حتى لو كان ذلك في البلاد الغربية التي
تدعي حرية الرأي و «ديموقراطية» الفكرة، ويُرد على هؤلاء بالقول إن
«تبعية» الإعلام العربي للتوجيه السياسي لا يمكن مقارنتها بغيرها من أنواع التبعية الإعلامية الأخرى، فالإعلام العربي كالشاعر الجاهلي يبالغ في المديح ويقذع في الهجاء، وقد كان مديحه وهجاؤه في أحداث اليمن يتعدى مسألة المبالغة في الوصف إلى التضليل والخداع وتزييف الحقيقة، وقد تمثل ذلك في الزخم الإعلامي الهائل الذي وقف بقوة في صف الحزب الاشتراكي يساند فكرته، ويناضل عن رموزه، ويروج لمبادئه في داخل اليمن وخارجها، حتى استيقظت الشعوب العربية على الحقيقة التي لا تقبل الزيف، ولا ترضى بالمخادعة، واكتشفت الشعوب العربية أن الحقائق الصامتة التي كانت تجري على أرض اليمن ونالت تعتيماً إعلامياً يعجز الإنسان عن وصفه، كانت مغيبة عنه وأدركت أيضاً أن هذا الإعلام إنما كان فقط يزاول مهمة التأثير في صياغة الرأي العام، وإعادة تشكيله حتى ينسجم مع السياسة المرسومة له، حتى لو كانت هذه السياسة قد بان عوارها وتكشف زيفها.
وإن تعجب فعجب لبعض مؤسسات الإعلام العربي التي حاولت أن تلتزم
بمعايير الموضوعية والحياد في تغطيتها لأحداث اليمن عندما كانت في أيامها الأولى، لكنها ما لبثت أن أصيبت بالداء الذي أصاب غيرها، فغيرت من خط مسارها،
وانحرفت بشكل ملفت للنظر وبدون سابق تخطيط أو إشعار وانضمت إلى قافلة
المهرجين وركب المزيفين، فخسرت جمهورها أولاً وخسرت المؤسسات الإعلامية
الأخرى التي كانت تنقل عنها ثانياً.
أما الوجه الكالح والمزيف لهذا الإعلام فقد تمثل في عجزه عن التعامل مع
الواقع بعد أن تكشفت الحقائق وانتهت الحرب، واستمر في ممارسة دوره في
التضليل والترويج للفكرة المهزومة، وبات يردد كلمات وعبارات مثل:
«الانتصار الملغوم» و «سقطت الدولة ولم تسقط الفكرة» و «اختفى الحزب الاشتراكي كرقم عسكري في الساحة اليمنية لكنه يظل رقماً سياسياً مهماً ومطلوباً لتحقيق التوازن مع الإسلاميين» و «بقاء الحزب الاشتراكي أصبح ضرورة وطنية وإقليمية ودولية لمواجهة أي احتمالات أصولية» ، وغير ذلك من الجُمل والعبارات والمصطلحات التي أصبحنا نسمعها في هذا الوقت بالذات أكثر من أي وقت مضى.
وفي ظني أن هناك سبباً آخراً لهذا الزيف والتضليل الإعلامي العربي المتعمد
الذي صاحب أحداث اليمن الأخيرة، وهو أن بعض الصحف العربية قد فتحت
أبوابها مشرعة لكل مغضوب عليه، ولكل ناقم على مجتمعه، ولكل منفي وصاحب
«ثأر» ، ولكل مغرض وصاحب هوى لكي يمارس تضليل الآخرين من خلال
هذه الصحافة الموبوءة، ولذلك فإن هذه الصحافة في نظر أمثال هؤلاء تمثل مصدراً
للرزق ووسيلة للتشفي.
ومادام حال الإعلام العربي بهذه الصورة، فإنه سيظل يمارس وظيفته في
تضليل الرأي العام وصياغته من خلال السياسة التي تُملى عليه، لكن المهم أن
تدرك الشعوب العربية هذه الحقيقة، وأن تبحث عن البديل الذي يحترم عقل
الإنسان.(79/68)
المسلمون والعالم
بعد الحرب:
اليمن يمر بأخطر مرحلة
أيمن بن سعيد
بعد أن توقف الاقتتال في اليمن، ووضعت الحرب أوزارها، بدأ الكثيرون
في الحديث عن مستقبل اليمن في ظل الوضع الراهن الذي أفرزته (الأزمة) ،
ونحاول في هذه المعالجة استشراف المستقبل حيالها وإلقاء الضوء على معطياتها
سواءً أكان ذلك فيما يتعلق بالوضع الداخلي اليمني، أو فيما يتعلق بالموقف
الخارجي.
من معالم المستقبل اليمني:
لقد أفرزت هذه الحرب العديد من الافرازات، ستشكل بمجموعها المستقبل
اليمني، ولعل من أبرز معالم تلك المرحلة في ضوء المعطيات المتوفرة ما يلي:
* ازدياد ثقل الحركة الإسلامية، وكسبها للمزيد من التأييد الشعبي في الشارع
اليمني، بالإضافة إلى تعاطف بعض القادة العسكريين معها، وتحسن النظرة إليها
لدى كثير من الرموز الاجتماعية المؤثرة، وفي مقابل ذلك ازدياد الضغوط
الخارجية على الرئيس اليمني للعمل على تحجيم دور الإسلاميين وعدم السماح لهم
بالسعي إلى التفرد بالشارع اليمني وحصد الكثير من المكاسب بعد سقوط الحزب
الاشتراكي المنافس العقدي المنظم لهم، وعدم القابلية لدى جل اليمنيين للكثير من
رموزه.
مما يعني والله أعلم أن من أبرز معالم المرحلة القادمة الصراع بين الحركة
الإسلامية والقيادة الحالية عند رضوخها للضغوط المتوالية عليها، مما سيؤدي إلى
انحسار شعبيتها وعدم استقرار الوضع الداخلي.
وإذا سلكت القيادة اليمنية هذا المسلك، فإنها ستعمل على إبراز الكثير من
الرموز العلمانية في الداخل ذوي العداء الصارخ للتوجه الإسلامي، من أجل مزيد
من الاستفزاز لشباب الحركة الإسلامية، وبالتالي جرهم إلى ممارسات يريدها أولئك
لتكون ذريعة لضرب المكتسبات الإسلامية الحالية في كثير من المجالات.
وربما تكون الخطوة الأولى في هذا الاستفزاز تحجيم الوجود السياسي للحركة
الإسلامية وسلوك العديد من الخطوات القانونية للتضييق عليها، ومنها القيام بالدعوة
إلى انتخابات نيابية مبكرة من أجل التخلص من الوجود الإسلامي المميز في
البرلمان الحالي، والإتيان ببرلمان جديد يساعد على تمرير تلك التوجهات للتأثير
على الشارع اليمني.
أما في حالة عدم الرضوخ لتلك الضغوط، فإن من أبرز معالم المرحلة القادمة: وجود تماسك داخلي بين الدولة وعامة الشعب، وربما يؤدي ذلك إلى تحريك
المعارضة في الخارج عن طريق كوادرها في الداخل للقيام باضطرابات داخلية،
مما سيؤدي إلى توجيه بعض التهم للنظام كانتهاك حقوق الإنسان ودعم التطرف
ورعاية الإرهاب.. الخ، وفي نظري فإن القيادة ستحاول الإمساك بالعصا من
الوسط من أجل القيام بإجراء شيء من التوازن بين الضغوط الخارجية والداخلية،
وستجد لها مؤيدين في هذا الاتجاه من القوى الدولية المؤثرة كالولايات المتحدة على
سبيل المثال.
وفي حال اضطرار القيادة اليمنية إلى اتخاذ قرار لمصلحة إحدى الجهتين فإن
من المؤكد أنه سيكون لمصلحة الضغط الخارجي، مما يعني الدخول في صراع
ومواجهة مع الحركة الإسلامية.
وقبل إنهاء الحديث عن هذا المعلم المحتمل، لابد من تسجيل ظاهرة برزت
بعد الحرب وبقوة وهي تداعي العلمانيين من ساسة وإعلاميين في داخل اليمن
وخارجه، لإثارة المخاوف لدى القيادة اليمنية من بروز التيار الإسلامي الذي كان له
دور مؤثر في هذه الحرب، ولعل أبرز المخاوف التي يبثها أولئك:
التخويف من ازدياد شوكة الإسلاميين مما قد يفقد القيادة الحالية نفوذها
ويحرمها من التفرد بالكلمة الأولى في البلاد.
أن ذلك سيؤدي إلى عدم استقرار اليمن لأن العلمانيين في الداخل ومن خلفهم
في الخارج سيقلبون الطاولة، وسيستمرون في المعارضة وبقوة مما يعني إحراجاً
شديداً للدولة.
إيهام القيادة اليمنية بأن حاجتها إلى الإسلاميين قد ضعفت إن لم تكن قد انتهت
بعد ضرب قوة الحزب الاشتراكي.
التهديد بأن التحالف مع الإسلاميين سيعني خنق البلد اقتصادياً والتضييق عليه
سياسياً، واتهامه بدعم الإرهاب والتطرف وانتهاك حقوق الإنسان.
ومع أننا لا ننتظر من التيار العلماني غير هذا التحريض والمكر والخداع إلا
أنه لابد من القول بأن عدم إعطاء الإسلاميين المكاسب التي يستحقونها سيؤدي إلى
عدم الاستقرار في اليمن، وسيكون الأمر كما هو موجود في دول أخرى كالجزائر،
نظراً لطبيعة البلد الجغرافية والاجتماعية ولا نتشار السلاح مع الشعب بشكل قد لا
يكون له نظير في أي بلد من بلدان العالم.
* من المتوقع أن يكون من أبرز معالم المرحلة القادمة إضعاف وإسقاط الكثير
من الرموز السياسية والاجتماعية التي أيدت الحزب الاشتراكي وتحالفت معه،
بالإضافة إلى بعض من القيادات والشخصيات غير المرغوب فيها وبخاصة التي
وقفت مع الإنفصاليين وأيدتهم.
* بروز قيادات جديدة في المحافظات الجنوبية والشرقية خلفاً لقيادات الحزب
الاشتراكي، والغالب أنها ستكون من أتباع الرئيس السابق «علي ناصر» الذي
يُلَمّع بشكل ملفت للنظر.
* وجود مزيد من الحريات وبالأخص لأصحاب الفكر غير المعارض للحكومة
سواءً أكانوا محسوبين على الإسلام أو علمانيين، ووجود نوع من التنافس بين
أصحاب الاتجاهات الفكرية المختلفة وبخاصة في المحافظات الجنوبية والشرقية بعد
الفراغ العقدي والنفسي الكبير الذي أحدثه سقوط قوة الحزب الاشتراكي.
* ازدياد تردي الوضع الاقتصادي كاستمرار انهيار العملة، وازدياد أسعار
السلع الأساسية، وارتفاع معدلات البطالة، وقلة فرص العمل، وتوقف الكثير من
المشاريع التي كانت قائمة وبالأخص في محافظتي عدن وحضرموت، نظراً لأن
دخول البلاد ستصرف على الأقل في المنظور القريب على قادة الجيش وبعض
الشخصيات السياسية البارزة من أجل كسب ولائها للرئيس ولحكومته، بالإضافة
إلى انصراف الجزء الأكبر منها على فوائد المديونية الكبيرة على اليمن، وتوقف
بعض أصحاب رؤوس الأموال عن تقديم الدعم نتيجة عدم رضاهم عن النتائج التي
أفرزتها الحرب.
* سعي القوى الانفصالية في الخارج والداخل إلى تعميق روح «المناطقية»
بين أبناء الشمال والجنوب، وإثارة النعرات المذهبية، وإثبات أن أبناء الشمال
يريدون إلغاء الوجود البارز لأبناء الجنوب، وأنهم يعاملونهم كمواطنين من الدرجة
الثانية أو الثالثة، من أجل كسب التعاطف معهم ضد قوات الحكومة والرموز
الوحدوية المختلفة.
* من المعالم المهمة في مستقبل الأوضاع اليمنية، وضع التراتيب الإدارية
من قبل الحكومة لتثبيت ودعم الوحدة في اليمن، بعدما زالت أكبر العقبات في سبيل
ذلك.
نظرات في مستقبل الحزب الاشتراكي:
حين قرر الزعيم الاشتراكي علي سالم البيض ومن حوله اتخاذ قرار الانفصال، انقسم قادة الحزب الاشتراكي في المكتب السياسي واللجنة المركزية إلى مؤيد
لقرار الانفصال ومعارض له، والذين قاموا بتأييد قرار الانفصال ساروا مع البيض
إلى النهاية، وبعد الهزيمة التي حلت بهم فر من بقي منهم إلى خارج البلاد، أما
الذين عارضوا قرار الانفصال فقد أعلن بعضهم تأييده للوحدة، وهؤلاء كان غالبهم
في صنعاء فيما بقي بعضهم معتكفاً في منزله ومنهم من غادر البلاد والتزم الصمت.
وبين يدي الحديث عن مستقبل الحزب الاشتراكي لابد من الحديث عن كل من
الإنفصاليين والوحدويين كلاً على حدة.
أولاً مستقبل الانفصاليين:
لم يبقَ أحد من هؤلاء داخل اليمن بل فر من بقي منهم على قيد الحياة إلى
خارج البلاد، ومستقبل هؤلاء مرتهن بنوايا الدول التي ساندتهم أثناء الأزمة فإن
رأت أن من مصلحتها التوقف عن مساندتهم أو أن الوضع لا يسمح لهم بالقيام بمثل
ذلك، فإن هذه الفئة ستختفي وستعتبر هزيمتها العسكرية بمثابة نهاية حياتها
السياسية، أما إذا رأت تلك الدول أن من مصلحتها الاستمرار في رفض نتيجة
الحرب وأن بإمكانها استخدام هذه الفئة كورقة ضغط لتحقيق بعض المكاسب، فإن
الإنفصاليين في الحزب الاشتراكي سيكونون في دائرة الضوء لمعارضة النظام القائم، وعنذ ذلك يمكن لهم أن يقوموا بأمور عدة منها:
القيام بحرب استنزاف عن طريق العصابات المختلفة، مثل تفجير المنشآت
واغتيال بعض الرموز الوحدوية، واحتجاز وقتل بعض الأجانب الذين تسمح
الظروف بممارسة ذلك ضدهم.
شراء ذمم بعض القبائل لتسمح للعصابات بالعمل من أراضيها والاحتماء بها
بعد انجاز مهماتها التخريبية.
شراء ذمم بعض الرموز السياسية لتأييد موقفها بأي شكل، هذ من جهة ومن
جهة أخرى ليتسنى للمعارضة كشف استراتيجية الحكومة في مواجهة نشاطاتها
المختلفة.
الاستمرار في إثارة النزاعات العرقية والقبلية، وإثارة المذهبية والمناطقية في
سائر الأراضي اليمنية.
استخدام قراري مجلس الأمن 924 و 931 مدخلاً لنظامية المعارضة
الخارجية، لكونهما ينصان على ضرورة الحوار بين طرفي النزاع وعدم حسم
الصراع بالقوة لمصلحة طرف واحد والقول بأن إنهاء الأزمة عسكرياً لن ينهيها
سياسياً، والوضع في الجزائر خير مثال.
عودة المعارضة المسلحة ستدمر البلد اقتصادياً بوسائل عديدة لا تخفى على
المتابع الحصيف، وضرب البلد سياسياً عن طريق التأثير على موقف بعض الدول
العربية والإسلامية، وإيهام صناع القرار في الدول الغربية أن مصالحهم تكمن في
عدم الاستقرار في اليمن وأن تمكنهم من استنزاف خيرات البلاد لن يتم إلا عن
طريق المعارضة في الخارج في حال وصولها إلى الحكم.
ثانياً مستقبل الوحدويين:
وهذا الجناح هو الذي ستسمح له القيادة بأن يكون المتحدث باسم الحزب
الاشتراكي، وأعتقد بأن هناك خيارات عدة أمام هؤلاء في حالة رغبتهم الاستمرار
في الحياة السياسية ولعل من أبرزها:
بقاؤهم متحدثين باسم الحزب الاشتراكي، وارثين لمواقعه في السلطة وعند
ذلك من المتوقع أن يكون بعضهم ممثلاً للمؤتمر الشعبي العام داخل الحزب، كما أن
الآخرين سيبقون على ما كانوا عليه من فكر وسلوك سياسي، ولكن بشرط عدم
مجاوزتهم للخطوط الحمراء التي لا يُسمح بتجاوزها، وهذا هو والله أعلم أقوى
الخيارات.
من المحتمل أن يعلن هؤلاء عن حزب جديد يقوم على أنقاض حزبهم البائد،
من أجل التخلص من اسم الحزب ذي الدلالات العقدية من جهة والتبرؤ من الانتماء
للحزب الذي تسبب فيما تسبب فيه من خراب ودماء ولتفادي السخط الجماهيري
ضده.
أن ينضم أولئك الوحدويون في الحزب إلى بقية الأحزاب السياسية الأخرى
وبالأخص حزب المؤتمر الشعبي العام.
حرب اليمن بين المصالح والمفاسد:
لا يخلو كثير من الأمور من وجود خير وشر، إلا أن الأزمة اليمنية أثمرت
العديد من الجوانب الخيرة، كما أنها أدت إلى الكثير من الآثار السيئة وسنحاول هنا
إيضاح أهم ما تحقق أو يمكن أن يتحقق من مصالح وإيجابيات ومن مفاسد وسلبيات:
أ -من المصالح والإيجابيات:
* سقوط قوة الحزب الاشتراكي وكبار قياداته، مما يعني تحرر المحافظات
الجنوبية والشرقية من هيمنته، وحصولها على مزيد من الانفتاح والحريات.
بروز قوة الإسلاميين في الساحة اليمنية، وكسبهم السمعة الحسنة وتعاطف
الكثيرين من أبناء الشعب اليمني معهم.
* انفتاح مجالات جديدة للدعوة إلى الله تعالى أحدثها السقوط الكبير لقوة ونفوذ
الحزب الاشتراكي، التي يمكن للدعاة والمصلحين الاستفادة منها وجني ثمارها.
* تهيؤ الفرصة للنظام للتمكن من توحيد الجيش والعملة وكثير من مؤسسات
الدولة، ومركزية الدخل العام للدولة مما يعني تحسناً اقتصادياً متوقعاً بعد زوال
بعض آثار الأزمة.
* ضعف الأفكار البدعية من رافضة وصوفية والتي ارتبط رموزها بالحزب
الاشتراكي وسقوط بعض الرموز النفعية والمتسترين بالدعوة إلى الله من ذوي
الهوى والنزعات الطائفية.
ب -من المفاسد والسلبيات:
* خسائر الحرب البشرية والمادية الكبيرة وما سببته الأزمة من ضعف
وإنهاك للاقتصاد ومن معاناة لأبناء اليمن وبخاصة في محافظات عدن ولحج، وأبين.
* آثار الحرب العقدية والنفسية، حيث برزت المناطقية، وظهرت ولاءات
جديدة غير إسلامية كالولاء والتقديس للوحدة أياً كانت، والتأييد لما يسمى
بالديمقراطية، والتعددية السياسية والشرعية الدستورية.
* إبراز حزب المؤتمر الشعبي العام لبعض كوادره المنحرفة عقدياً، وعودة
ما كان يعرف بـ «الزمرة» أنصار «علي ناصر» إلى الحياة السياسية.
* زيادة فرص تحجيم دور الإسلاميين أو محاولة ضربهم من قبل النظام في
المرحلة القادمة، لما ألمحنا إليه.
* قتل وإعاقة الكثير من الكوادر الخيرة والشجاعة في الشعب اليمني سواء
أكانت داخل الجيش أو في القوى المساندة له أثناء الحرب.
المطلوب من الإسلاميين في هذه المرحلة:
* إدراك خطورة المرحلة:
لقد بذل الإسلاميون كل ما يستطيعون من أرواح ودماء وأموال ومواقف وآراء
من أجل التأثير على الرأي العام اليمني، لدرء أعظم المفاسد والتقليل من مخاطر
هذه المرحلة، إلا أن الأعداء قد رموهم عن قوس واحدة محاولين تحجيم دورهم
والتقليل من شأنهم، وحرمانهم من قطف الثمار التي يستحقونها وبالتالي لابد لهم من
إدراك خطورة المرحلة المقبلة وإعداد العدة لذلك حتى لا يتمكن الأعداء من تطبيق
قاعدتهم الشهيرة «الإسلاميون: تضحيات بدون مكاسب ولن يتحقق للإسلاميين ...
ذلك إلا باجتماعهم على كلمة سواء ومعرفة أن الأعداء قد يسعون إلى ضرب فصيل
منهم اليوم وتحييد الفصائل الأخرى ليجهزوا عليها غداً الواحد تلو الآخر (إنما أكلتُ
يومَ أكلَ الثور الأبيض) .
وليعلم الجميع أن كيد الأعداء لا يستهدف شخص أو فصيل وإنما المراد به
الإسلام ذاته، وبالتالي فلابد من إجراء خطوات سريعة من الإسلاميين لرأب الصدع
وإصلاح الأوضاع فيما بينهم عن طريق التحاكم إلى نصوص الشرع وتناسي الإحن
والأحقاد الناتجة عن آراء اجتهادية أو مواقف شخصية لهذا الداعية أو ذاك، وفي
حال عدم التوصل إلى شيء من ذلك فلابد من تأخير النقاش فيها قليلاً والتوجه إلى
مواجهة الخطر الأكبرالذي قد يجتاحهم.
* التأني والواقعية:
سقوط قوة الحزب الاشتراكي وقياداته لا يعني التهاون في الإعداد للمرحلة
المقبلة، وبالتالي فإن على دعاة الإسلام في اليمن أن يتبصروا في أمرهم وأن يتأنوا
وأن يلتزموا بالانضباط بالقواعد الشرعية، حتى لا يقعوا في منزلقات خطيرة.
* المزيد من المكاسب للدعوة الإسلامية:
في هذه المرحلة التي برزت فيها مكانة الإسلاميين، يمكن لهم تحقيق العديد
من المكاسب، ومنها على سبيل المثال:
* تثبيت المعاهد العلمية ومدارس تحفيظ القرآن رسمياً، وزيادة أعدادها
وميزانياتها، والمبادرة إلى فتح أعداد كبيرة منها في المحافظات الجنوبية والشرقية، مع السعي إلى إعطائها استقلالاً إدارياً كما كان الوضع في السابق.
* المطالبة بالإشراف على قطاع التربية والتعليم واخراج الكوادر والقيادات
ذات الفكر المنحرف منها، وإصلاح المناهج المصادمة للإسلام عقيدة وشريعة
وسلوكاً.
* السعي إلى إجراء إصلاحات واضحة في مجال التعليم العالي، وتنحية
الرموز المشبوهة القائمة عليه.
* تربية شباب الصحوة وعامة الشعب على إنكار المنكرات العامة المنتشرة
في اليمن، والسعي إلى توجيه أهل الجرأة من العلماء والدعاة والأعيان لتكوين نواة
لهيئات رسمية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
* استغلال الفرصة لإصلاح السلك القضائي ومعالجة ما فيه من سلبيات
كانتشار الفساد والرشوة لدى بعض القضاة، ووجود من لا يجوز توليه هذا المنصب
وبخاصة النساء.
* إجراء مزيد من الإصلاحات في جوانب الاقتصاد والإعلام والصحة
والسعي إلى أسلمة هذه الجوانب وإشراف الكوادر الصالحة من أبناء الصحوة أو من
غيرهم عليها.
* التخلص من علماء السوء والفتنة من أهل الرفض والتصوف ومنعهم من
الصعود على المنابر لإفساد عقائد المسلمين واستبدالهم بمن يخاف الله ويتقيه.
* المبادرة بإلغاء القوانين المخالفة للشرع حتى لا تكون حجة لأعداء الدين
وذريعة إلى إفشاء الفساد والمنكرات بين المسلمين.
* الضغط في سبيل الحصول على قناة تلفزيونية ومحطة إذاعية للبرامج
التربوية، ومعالجة القضايا الإسلامية التي يحتاجها أبناء الشعب اليمني.
* التخفيف من الآثار السيئة للأزمة:
كانت للأزمة اليمنية آثار سيئة في جوانب مختلفة سواء ما كان منها متعلقاً
بالشعب اليمني ذاته أو ما كان متعلقاً بعلاقة الشعب اليمني ببعض شعوب المنطقة
وسنذكر بعض الآثار التي تعقد فيها الآمال على الإسلاميين في إصلاحها أو التخفيف
منها بعد توفيق الله عز وجل:
* المساعدة في التخفيف مادياً على من أصيب أثناء الأزمة بإصابات جسدية.
* السعي إلى ضبط أوضاع الدولة إدارياً، وإصلاح الفساد المستشري فيها.
* العمل على تخفيف الآثار التي سببتها الأزمة في نفوس اليمنيين من إحن
وأحقاد نتيجة إعلام الأزمة.
* محاربة الآثار السيئة التي نشرها المغرضون بين أبناء الشعب اليمني
كالمناطقية والقبلية، والسعي إلى تجاوزها عن طريق غرس الإيمان وإذكاء روح
الانتماء للإسلام.
* محاربة الآثار العقدية السيئة والممارسات الخاطئة التي لا يقبلها الإسلام
والتي نتجت عن الأزمة، من مثل تمجيد الوحدة وتقديسها حتى أصبحت لدى الكثير
غاية في ذاتها، مع أنها على الحقيقة وسيلة إلى تحقق مقاصد شرعية ولذا وقف
الإسلاميون معها، أما لو كانت وسيلة لتحقيق مفاسد شرعية كاجتماع أهل الشر
والعلمنة وكيدهم للدين والخير، لتغيرت النظرة ولكان العلماء والدعاة من أوائل من
يقف ضدها، ومن ذلك تمجيد ما يسمى بالشرعية الدستورية، ولا يخفى على
الجميع تنديد علماء اليمن في بداية قيام الوحدة بالدستور الحالي من جهة، كما لا
يخفى أن هذا السلاح قد يستخدم لضرب الصحوة نفسها إن لم يكن اليوم فغداً،
وعليه فالواجب بيان هذا الجانب للناس وأنه لا يجوز تقديس سوى النص الشرعي
الصحيح، أما ما سواه فهو عرضة لأن يكون حقاً أو باطلاً والمسلم يقبل الحق ويرد
الباطل، ومن ذلك أيضاً تمجيد الوحدويين بشتى فصائلهم مع أن منهم الاشتراكي
والبعثي والناصري ... الخ وفي الشرع لا فرق بين من كان من أولئك وحدوياً أو
انفصالياً، والواجب الشرعي مناصحة الجميع حتى يعودوا إلى الله عز وجل،
صحيح أن المصلحة الشرعية قد تقتضي غض الطرف عن فريق دون فريق، إلا
أن الولاء والبراء القلبي تجاه الجميع يجب أن يكون واحداً.
* الاهتمام بالعلم الشرعي والتربية العميقة:
لقد شغل الدعاة إلى الله عز وجل في اليمن منذ بداية الوحدة إلى اليوم بأزمات
ومحن من قبل أعدائهم ابتداء بمعركة الدستور، ومروراً بالانتخابات البرلمانية ...
وتشكيل الحكومة وانتهاء بهذه الأزمة التي استمرت شهوراً طويلة وختمت بهذه
الحرب المأساوية، ولذا فإنا نؤكد على دعاة الإسلام في اليمن وعلمائه الأفاضل،
ونأمل منهم الاعتناء بنشر العلم الشرعي من مصادره الأصيلة، والمبادرة إلى تعليم
الناس العقيدة الصافية الصحيحة التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وصحابته الكرام، وأن يحرصوا على الاهتمام بالجوانب التربوية وإدراك بأن
المرحلة في اليمن مرحلة العلم والتربية وأنه لا يجوز إهمالها في خضم المعتركات
السياسية، مع أن عليهم بذل كل ما يستطاع من جهد لتعميق الإيمان وترسيخه في
نفوس العامة الذين يقدرون العلماء والدعاة، وأن يبادروا إلى إعداد رجال ربانيين
يقومون بأمر هذا الدين في صفوف القبائل حتى يتفرد ولاؤها للدين.
وأخيراً:
نهيب بعلماء الأمة وقادتها ودعاتها والخيرين من أبنائها في كل مكان أن يقفوا
مع إخوانهم في اليمن في هذه المرحلة العصيبة بكل ما يستطيعون من نصيحة ورأي
ودعم، فإن الوقت وقتهم والواجب واجبهم، نسأل الله أن يكتب لليمن من أمره رشداً، وأن يجعله ذخراً للإسلام وعزاً للمسلمين.(79/71)
دراسات دعوية
أسئلة الأهلة في قالبها العبثي الجديد
تأملات في طبيعة الأسئلة المطروحة حول آليات الدعوة والموقف منها
سليمان بن عبد العزيز الربعي
ربما لم تكن الدعوة إلى الله بحاجة إلى تنقية من الشوائب والآفات أكثر منها
في واقعها المعاصر، نظراً لمبررات عديدة تشكل تهديداً حقيقياً لحاضرها وقابلها،
تلك الدعوة التي يحمل المسلم الواعي همها سبراً وأملاً إشفاقاً وبين الفينة وأختها
تُطل على ساحتها معالم أخطار جسيمة هي من قبيل تلك التهديدات، تدعو إلى
الوقفة الجادة والرؤية العميقة المصححة حيالها، وان من ذلك ما يُسمى باصطلاح
أهلها (المعوقات) ، وهي في الأعم الأغلب تندرج تحت قسمين رئيسين:
(1) معوقات داخلية (2) معوقات خارجية.
ويُقصد بالداخلية: ما يكتنف مسيرة العمل الدعوي من عوامل مثبطة ترتبط
بآليات محسوبة على الصف العامل منهاجاً أو ممارسة عينية، والخارجية: تأخذ
أشكال الزحف المباين، والرصد المريب القاصد إلى شر مضمر، ونحن إذا ما
نظرنا نظرة موضوعية، وجدنا المعوقات الداخلية بتوصيفها الآنف تربو خطراً
على تلك الخارجية المعلومة من أبجديات الدعوة بالضرورة؛ لأن البصير الناقد يجد
صعوبة في التمييز والتصنيف لما يستجد من عوائق داخلية، وحتماً يصاب بالحيرة
والتردد دون الجزم بنتائج مبنية على مقدمات افتراضية، وهو كذلك يواجه عند
الإقدام واتخاذ الاجراء عينات لا تحصى من سوء الفهم المفرز أسئلة يصعب الاجابة
عليها، وهذا هو سر إقدام النبي -صلى الله عليه وسلم- على أعمال حاسمة في
مواجهات مباينة عن الصف الإسلامي، في الوقت الذي لم يعمد فيه إلى ذلك عندما
يصبح الشأن داخلياً خوف البلبلة داخل التنظيم الجديد، وخشية الاستغلال السيئ من
قبل مراجع ومراكز عديدة قد ترى في الإجراء تعدياً على التقعيد والوحدة لا مبرر
له البتة، وهو -صلى الله عليه وسلم- يعطي السبب ذاته لعمر رضي الله عنه الذي
طالب باتخاذ إجراء حاسم في حق ابن أبي في غزوة بني المصطلق جزاء ما تفوه
به من فتنة بقوله عليه الصلاة والسلام: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً
يقتل أصحابه!» [1] .
والقرآن الكريم يحكي للنبي -صلى الله عليه وسلم- نماذج من تحركات مريبة
داخل الدولة الناشئة، لا يعلم عليه الصلاة والسلام رموزها ولا مدبريها، من بعض
أهل المدينة الذين مردوا على النفاق، في حين لم يكن يخفى عليه كافة رموز
طوائف الكفر الصراح في مدى الصراع الناشب حديثاً، وهذا وذاك من المعوقات
لكن الأول لطيف خفي، والثاني خارجي صريح جلي.
أريد من وراء هذا كله أن أخلص إلى القول: إن الدعوة الإسلامية تواجه في
حاضرها ضغطاً خارجياً متزايداً، غير أنه يسير لجهة فضحه من تحركات داخلية
خطرة بكل معنى لهذه الكلمة المقلقة.
وأحاول في هذه العُجالة - إن شاء الله - رصد لون من ألوان هذه المعوقات
الداخلية التي إستشرت في الصف المنهجي والآلي بشكل فعال ينبىء عن أن وراء
الاكمة ما وراءها، بل وامتدت بهاجسها القلق صوب ميادين دعوية خارجية تنظر
إلى صفوف الداخل نظرة استشراف وثقة، تنمذج من مثالها المرصود أساليبها
وخططها المستقبلية، إن محصلة ما سطرت يكمن في نشوء مناخات متنامية من
الأسئلة العبثية التي لا طائل وراءها، ومن تطور عوالم حوارية توصف بالسلب مذ
كانت وسيساً قلما يُسمع على قدر ما هو حادث في هذا الوقت بالذات.
وهذه الظاهرة ينبغي أن تُطرح طرحاً جاداً، وتناقش مناقشة تفصيلية متجردة، ويُبحث فيها عن الأسباب والدوافع والنتائج المنتظرة وراء هذه الظاهرة التي
يطَّرد الاهتمام بتحليلها وسط مجتمعات دعوية، تلك التي أصبحت - بعد أن لم
تكن - كوابيس مثقلة بالأسى والضجر، تزور منامات المصلحين بتعدد صورها البشعة التي لا تشاكلها إلا رؤوس الشياطين.
لقد نعى القرآن الكريم على المسلمين منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام توجيه
أسئلة عبثية إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، طارحاً نموذجاً لتلك الأسئلة المنهي
عنها متكرماً برد نافع ينهج مناهج الحكمة والبلاغة الأصيلة.
إن ما أعنيه يكمن في ذلك الدرس العظيم الذي تعلمنا إياه سورة البقرة في قول
المولى عز وجل: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج..]
[البقرة: 189] ، فقد جاء في أحد تفسيري الآية الكريمة أن الناس سألوا النبي -
صلى الله عليه وسلم- عن الأهلة والكواكب، لمَ يبدو القمر هلالاً صغيراً، ثم لا
يلبث إلا قليلاً وقد أخذ في الزيادة والتوهج والاكتمال، وهو على أي حال سؤال
ساذج يدل على سطحية في التفكير، وبدائية في النظر، ومحدودية في التناول
التأملي، وبساطة في البحث عن المعرفة الفكرية المهمة المناسبة للمكان والزمان
وكان يمكن أن يأتي الرد على ظاهر سؤالهم العبثي، لكن النظر الصحيح يقرر غير
ذلك، حيث جاء بأسلوب الحكيم عند البلاغيين، وهو جديد على العرب ينبىء عن
شيئين اثنين: صد عن استفسارات لا تفيد، وتوجيه نحو المفيد من المقاصد العليا،
إنه قد صرف الإجابة إلى باطن القصد الذي لم يرد في العقول المستفهمة عن سبب
تطور الأفلاك لا عن مقصد وحكمة إيجادها.
أورد الإمام محمد بن جرير الطبري - رحمه الله - بسنده إلى ابن عباس
رضي الله عنهما أنه قال: «سأل الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن
الأهلة، فنزلت هذه الآية: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ... ] الآية.. يعلمون بها حل دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم» [2] .
ويبدو السؤال أكثر وضوحاً في مراده الدقيق في رواية - وإن كانت بسند
ضعيف - أخرجها الإمام السيوطي، إذ «أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قوله
تعالى: [يسألونك عن الأهلة] قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة ابن عتمة
وهما رجلان من الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل
الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي، ثم لايزال ينقص ويرق حتى يعود كما كان لا
يكون على حال واحدة؟ فنزلت [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ... ]
في حل دينهم ولصومهم ولفطرهم وعدة نسائهم والشروط التي إلى أجل» [3] .
إن القوم، إذن «يسألونه عن الأهلة.. ما شأنها؟ ما بال القمر يبدو هلالاً
ثم يكبر ثم يستدير بدراً؟ وفي الإجابة اتجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد
العلم النظري، وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم، ولم يحدثهم عن
الدورة الفلكية، وكيف تتم وهي داخلة في مدلول السؤال: ما بال القمر يبدو هلالاً
... الخ، كذلك لم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية، أو في توازن
حركة الأهلة والأجرام السماوية، وهي داخلة في مدلول السؤال: لم خلق الله الأهلة؟
فما هو الايحاء الذي يُنشئه هذا الاتجاه من الإجابة؟ لقد كان القرآن بصدد
إنشاء تصور خاص، ونظام خاص، ومجتمع خاص.. كان بصدد إنشاء أمة جديدة
في الارض، ذات دور خاص في قيادة البشرية، لتنشىء عالماً خاصاً من
المجتمعات غير مسبوق، ولتعيش حياة نموذجية، ولتقر قواعد هذه الحياة في
الأرض، وتقود إليها الناس، والإجابة العلمية على هذا السؤال ربما كانت تمنح
السائلين علماً نظرياً في الفلك إذا استطاعوا استيعاب هذا العلم، وهو محل شك؟
لأن العلم النظري بحاجة إلى مقدمات طويلة، ومن هنا عدل عن الإجابة التي لا
تفيد كثيراً في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها ... » [4] .
إنه لفت نظر إلى المهم، وتجنب طرح حوارات وأسئلة هي أقرب إلى العبث
منها إلى الجد، وهو رسالة تربوية للعلماء والمعنيين لاستخدام الأسلوب ذاته،
واليوم يمارس بعض المسلمين الدور نفسه، حيث اطردت أسئلة الأهلة بصورها
المتعددة الشوهاء، وأصبح هم الكثيرين «تصميم» أسئلة من هذا الطراز لتلقى
في مجمع يحفل بالأهم، لو أن قومي أولئك يعلمون!
إن الصورة تتكرر «لتشنف» الأذان بنشاز قديم، وتطرح في اهتمام عجيب
مئات من الحوارات المتكررة حول الدعوة وواقع الدعاة، خالية من ثمرة تُجتنى أو
فائدة تُرتجى.
بل وتقطع المسافات من أقصى الجنوب إلى أواسط الشمال ليتمخض الجبل
الأشم عن مواقف استفهامية كمواقف الأعراب في العهد الأول، ثم لا تلبث أن
تورث هذا الصخب القلق العقيم الذي ينحدر من صبب في نمط مسف يهتك حجب
الأحراز والحرمات لا في المناهج والآليات فحسب، بل في الاعيان والشخوص نقداً
وتقييماً ومغالطة وتجريحاً لا يرقب في داعية إلا ولا ذمة.
إنه لا يعني الدعوة إلى الله أن تحارب من مراصد خارجية، فتلك سنة
المواجهة، لكن الذي يعييها ويقلقها ويعنيها أن ينتدب أناس من داخل الصف أنفسهم
لهذه المهمة الدنيئة التي تصب في خدمة العدو المتربص، لقد خسرت هذه الدعوة
جهداً كبيراً صرفه أولئك في سبيل نبش قبر فلان وتشويه صورة علان عندما
اجتاحت هذه الأسئلة عقولهم وقلوبهم بصورة قوية، فحسبوا أنهم ببثها واشهارها
مناضلون مجاهدون، وما هم - في الحق - إلا أدوات غيرية، يحرقون أنفسهم
ومراجعهم وما يشعرون.
ولقد كان من نتائج هذا التوجه أن أصيبت الأمة والدعوة على اختلاف
مناهجها برجال مقدسين وأعلام معتبرين، جعلوا من محاريب علمهم مجالاً تطرح
من خلاله تلك الترهات، وقد أخذت صفة الشرعية والثقة والتزكية عند بعضهم.
إن مما يحفظ على الدعوة إلى الله جلالها، ونبلها، ومصداقيتها وتوحيد هدفها
الرشيد، أن يتعامل الأعلام من أئمة الإسلام مع أسئلة الأهلة الجديدة بأسلوب الحكيم
ذاته، الذي انتهج في القرآن الكريم، وعولجت به قضايا شائكة من قضايا الدين،
إنهم ملزمون بواجب توجيه أمثال أولئك السائلين نحو مقاصد تفيدهم، وتحذيرهم
من مغبة هذه العبثية الجديدة، وقد كان هذا دأب المصلحين من أهل العلم، حين
شعروا بهذه المسؤولية العظيمة واستكنهوا خطر مثل هذه الممارسات المضلة
وسلبيتها الماثلة، أورد أبو إسحاق إبراهيم بن جماعة الكناني - رحمه الله - عن
أبى إبراهيم المزني قوله: «فجعل يسمع مني وينظر إليَّ ثم يجيبني عنها بأخصر
جواب، فلما اكتفيت قال لي: يا بني ألا أدلك على ما هو خير لك من هذا؟ قلت:
نعم، فقال: يا بني هذا علم إن أنت أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه كفرت، فهل لك في علم إن أصبت فيه أجرت، وإن أخطأت فيه لم تأثم؟ قلت: وما هو؟ قال: الفقه فلزمته وتعلمت منه الفقه ودرست عليه» [5] .
لقد أصبح من المعتاد تماماً أن يصدر كتاب تشويهي مقرظاً من العَالِم الفلاني،
أو أن يكتسح الأسواق شريط بصوت ذلك الحبر الرباني في شأن من شؤون هوامش
الحواشي!
إن مما علمناه عقيدة: أن الله - جل وعلا - لم يتعبدنا بالتنقيب عن السرائر
فذلك له وحده، وسوء النية منقصة في المسلم الحق، وتلك الأسئلة تتمحور حول
هاتين النقيصتين، فمن سؤال يركز على ذلك الأستاذ: ما عقيدته وعلى أي شيء
توفاه الله؟ وماذا كان منهجه في الممارسة؟ وفي عام كذا ماذا عمل؟ وفي مكان
كيت كيف شوهد؟ نقبوا في تراثه؟ وماذا ترى يا شيخ في القوم المحبين له؟ وفي
الفتية المثنين عليه؟ وهلم جراً من هذه الألوان القاتمة في أفق الساحة، أو سؤال
يفني الوقت في البحث عن كلمة في الكتاب المقروء تحتمل الوجهين وتقبل الرأيين، ثم لا يلبث المرء إلا وقد اطلع على نموذج من نماذج سوء النية في الدرس
والسبر والحوار من جانب واحد، لا لشيء إلا لحاجة في نفس يعقوب لما يقضها!
ولعله - باذن الله - لن يقضيها.
إن هذين النموذجين هما ميدان المنافسة هذه الأيام بين فئام من مدعي العلم
والمعرفة، وان الفطن الكيس يدرك كذلك أن القوم بين رجلين، رجل جاهل مغيب، وآخر اكتنفته دواعي الحالقة التي تحلق الدين لا الرأس كما في حديث المعصوم -
صلى الله عليه وسلم -.
نعم، فإن من القوم أولئك من هو حاسد حانق، يكشفه منطقه ويعريه لحن
القول، ونحن بحيال ذينك الرجلين، نقدم للأول علاجاً من المعرفة والعلم
والتوضيح، ودعوة إلى تفهم الواقع وقراءة الحقيقة من منطلق التجرد لله وطلب
الحق أياً كان وممن كان، أما الثاني فإن الإمام الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية -
رحمه الله- يسدي إليه نصحاً بالتوبة والإنابة، ذلك لأن الواجب في حق كل «من
وجد في نفسه حسداً.. أن يستعمل التقوى والصبر، فيكره ذلك في نفسه» [6] ،
ويكره العبث بالعقول!
إن هدف المتربصين بالدعوة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إيجاد جر من
الصدام العنيف بين السادة العلماء والدعاة، الذي يمكن أن تسببه تلك الأسئلة
والحوارات العبثية القائمة اليوم، والمتجهة نحو إيجاد مثل ذلك الهدف، لقد أدرك
أولئك المتربصون أن المزلق الخطر المسبب لذلك يتمثل في تلك المناخات من
التشكيك والاتهام المبطن والعمل المضاد، وإيعاز مخيف بالإسقاط والتسلق على
حساب غيرهم.. وتفويت الفرصة إنما يتم بمضادات حيوية تقابل أسئلة الأهلة في
قالبها العبثي الجديد، وربط السائلين بأصول الدين، وصرف جهودهم السلبية نحو
(أهداف) و (مضامين) و (وسائل) تعينهم على فهم الدين ومن يرد الله به خيراً يفقهه
في الدين، لا في أسئلة العابثين.
وإن الأمانة الكبرى لا تقتضي من أولئك الأعلام أن يفنوا الأوقات الطويلة في
الإجابة على مثل هذه الأسئلة، أو طرح مناقشات تقابل بالرضا المعضد، بل إن
رباط العلم يجب أن يكون في سموق عال على الجراحات وإلهتافات الشخصية
الجانبية، لتصل إلى سماوات النبل الشريف في البذل والخير والعطاء الزاهر.
إن ما يدفع بتلك الأسئلة نحو الشيوع والشهرة الواسعة، ما يحسه بعضهم
بالوصاية على الدعوة النقية من كل شائبة، والحق أن تلك الدعوة المبتغاة، أو
السنة المطهرة، أو السلفية المتبعة ليست حكراً على أحد، بل ولا يمكن السماح
بمجرد خاطرة هذه الفكرة أن تسبح في فضاءات أحد، لأنها - ببساطة - منهج
مرفوض، نفاه المولى سبحانه عن الدين وحذر منه رسوله الأمين -صلى الله عليه
وسلم-.
إن تلك الأحاديث التي وردت في الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ليست
متكأ مناسباً لأولئك، فهي فرقة لا تعرف بالأشخاص والأعيان، بل هى دعوة ذات
منهاج مطروح للعرض، وحين عرفت السنة بأحمد - رحمه الله - فإن ذلك بسبب
تقاعس أهلها - آنذاك - عن القيام بحق الوحدة الإتباعية لمبدأ العقيدة في إن القرآن
الكريم منزل غير مخلوق، وأن تدارس المتمسك به في الإعلان، وتأول بقية من
يعول عليهم، حينها عرف أحمد بها وعرفت به وأصبح من الغالب أن يقال: (إن
رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة، وإن رأيته يكرهه فاعلم
أنه صاحب بدعة) .
وحين عرف المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بالسنة فلأنه
قد جاء على فترة من الاتباع وطفرة من الابتداع، ولسنا في حل اليوم أن نطبق ذلك
في حاضرنا على الأعيان، فالأمة آيبة إلى ربها، والسنة متبعة على مستوى
طيب - بحمد الله -، فلم هذه الوصاية على السلفية والسنة والإتباع من قبل أولئك السائلين ومراجعهم؟ إن هذه الأمة التي كانت خانعة مستذلة قد شبت عن الطوق، ولم تعد تتذكر الماضي الأسيف إلا وهي تسكب دموع التوبة والألم، وحين بلغت هذا الوعي الراشد فانها سترفع يد الوصاية التي يحاول إطباقها من يدعون حق تملك حقوق السنة والسلفية تمهيداً للتصدير واعتماد فروع خاصة في بلاد الإسلام.
إن الراعي في رأس شظية يؤذن فيقيم للصلاة لحقيق بتملك هذه الدعوى التي
بنقلها أصحاب الأسئلة لأنفسهم [7] ، أولئك الراجمون بجهالة المجتمع مقروناً ...
بشعور العلوية المشوبة بحذر لا يتصور، وهم إن سمعوا بعزم ذلك الراعي النجيب، أجفلوا بخيلهم وأسئلتهم حوله وحول مرعاه ورعيته طمعاً في الإلغاء والتصفية
والحسم، غير أن الحق كله لذلك الراعي في القول والفعل، والفصل حينئذ بين
الفريقين مرجعه إلى فضيلة القاضي.
وفي حين تكمن بينة الداعي «المدعي إقامة السنة وحقها» بصلاة الشظية
فإني أحسب أن يمين المنكرين سؤال عبثي جديد.
وعند الله تجتمع الخصوم، وهو وحده المستعان على ما يصفون.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام، 3/ 303، ت: مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي، دار احياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
(2) جامع البيان في تأويل القرآن، أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري، 2/ 192، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1458 هـ.
(3) الدر المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين السيوطي، 1 / 490، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - وانظر: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني 1 / 192، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، الطبعة الثانية 1413 هـ.
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب، 1 / 179 وما بعدها، دار الشروق، الطبعة الرابعة عشرة 1408 هـ بتصرف يسير.
(5) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، أبو إسحاق إبراهيم بن جماعة الكناني، ص16، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(6) مجموع الفتاوى، 10/ 125.
(7) روى أبو داود والنسائي بسند صحيح عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية جبل، يؤذن بالصلاة، ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا الى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة والشظية: القطعة تنقطع من الجبل ولم تنفصل عنه - انظر: صحيح الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، رقمه (241) 1/ 102، تحقيق واختيار: محمد ناصر الدين الألباني، الكتب الإعلامي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1406 هـ.(79/85)
في دائرة الضوء
أقنعة العلمانية
قراءة في الطروحات العلمانية الجديدة
د. محمد يحيى
يلاحظ المتتبع للطروحات العلمانية الفكرية في البلدان العربية خلال الفترة
القريبة، توجهين أساسيين يحكمان هذه الأفكار، أولهما حديث نسبياً من حيث
التعبير العلني عنه مؤخراً، وهو يبشر صراحة بالفكر العلماني «الكلاسيكي» في
صورته الشرسة من ضرورة الفصل بين الدين (وهو هنا الإسلام) والدولة، أو بين
الدين والسياسة، أو بين الدين والحكم، أو بين الدين والاقتصاد والتعليم وسائر
شؤون المجتمع، أما الاتجاه الثاني فهو يواصل ما عهد عن أصحاب هذا الفكر في
العقود الماضية من طرح العلمانية وراء أقنعة ومسميات شتى لا تلجأ إلى المصادمة
المباشرة أو الوضوح الصريح أو الإفصاح عن النوايا والأهداف النهائية، وظهور
الاتجاه الأول الذي يمكن أن نسميه بالأتاتوركي نسبة إلى رائد العلمانية في العالم
الإسلامي في شكلها السياسي الشامل يرتبط بتصاعد الحرب من جانب القوى المحلية
والأجنبية ضد الحركات الإسلامية، حيث فقدت هذه القوى توازنها أو صبرها في
الفترات الأخيرة، وقررت أن تكون الحرب علنية ليس فقط ضد التيارات الإسلامية
ولكن ضد الإسلام ذاته، من خلال وجوده الدستوري والقانوني في أنظمة الدول
العربية، وأيضاً من خلال وجوده المؤسسي في هيئات تعليمية أو ثقافية أو
اجتماعية، ولذا جاءت الدعوة إلى العلمانية الأتاتوركية صريحة إلى حد أننا سمعنا
مثلاً موظفاً رسمياً في وزارة الثقافة بإحدى الدول العربية يتحدث باسم وزارته وهو
ما يعني الحديث باسم الحكومة داعياً إلى فصل الدين عن الدولة في دستور البلاد،
وتتردد آراء مشابهة من جانب كتاب من المشرق والمغرب العربي في صحف
ومجلات تصدر هنا وهناك، وتديرها وتدعمها الأنظمة والحكومات، وتتراوح
أهداف هذا التوجه الجديد المعلن ما بين بالونات اختبار (وفق المصطلح الصحفي
الدارج) لآراء الصفوة والجماهير نحو الدعوة العلمانية الصريحة، وما بين التهديد
للإسلاميين والمؤسسات الإسلامية بأنهم إذا لم يتوقفوا عن النشاطات الإيجابية في
مجال الدعوة والحركة فإن الأنظمة الحاكمة قد تضطر في نهاية المطاف إلى اللجوء
إلى «الحل الأتاتوركي» أي إلى تبني العلمانية التقليدية بالنص في الدساتير
والقوانين على تنحية الإسلام وعزله عن شؤون الدولة والحكم والمجتمع بكل
مؤسساته، والوصول إلى الإقصاء الشامل لهذا الدين عن كل شؤون الحياة.
خطورة التوجه العلماني الجديد:
لكن هذا التوجه الأخير للطرح العلماني على خطورته المتمثلة في المصادمة
الصريحة للإسلام، يبقى محدوداً من الناحية الكمية بالمقارنة مع التوجه العلماني
الأخير الذي يحتل المساحة الكبرى في الكتابات الفكرية والإعلامية العلمانية،
وأعني به تسريب هذا الفكر بشتى جوانبه وراء مجموعة من الأقنعة وأدوات التنكر
والستائر التي تخفي حقيقة جوهره أو مقاصده وأغراضه البعيدة أو الجهات التي
تحركه وتستفيد منه، وفيها جهات دينية غير إسلامية تتمسك بأديانها أشد التمسك،
وتتعصب لها إلى الحد الممقوت، لكنها تريد للمسلمين أن يتحللوا من دينهم، وأن
تنفصم عرى هذا الدين، ويبعد عن حياة الشعوب وتوجيه مصائرها، وإذا كان
الفكر العلماني الكلاسيكي محدود الطرح في الناحية الكمية حتى الآن، فإن الفكر
المقنع منذ فترة طويلة ومازال أكثر انتشاراً لأنه لا يسعى إلى الصدام المباشر
الواضح مع العقيدة، بل يواصل عدوانه عليها، ويهاجمها بطريق غير مباشرة،
فيقوض الطرح الإسلامي بطريق الإجهاض والإضعاف المستمر، دون أن يجازف
بإثارة مشاعر الجماهير المسلمة أو تحفيز طاقات رد الفعل الفكري الإسلامي، أو
تنبيه المسلمين لما يراد بهم، بل ويكسب فوق ذلك التظاهر بأنه تيار فكري محايد
أو حتى «إسلامي مستنير» ! !
صور جديدة للخداع:
وأقنعة العلمانية كما عهدناها متعددة وكثيرة ومتغيرة وفق الظروف والمناسبات، وتتيح هذه الأقنعة مزايا أخرى لأصحاب الفكر العلماني غير ما لاحظناه فيما سبق، فهي قبل كل شيء تمكنهم من الرد على دحض الإسلاميين لأفكارهم بمقولة أن
الإسلاميين لا يفهمون العلمانية، أو يتعمدون الحط من شأنها بربطها بالفكر في
الإسلام، بينما هي «في الحقيقة» (أي في القناع والفكر) لا تعني سوى التفكير
الحر، أو الاجتهاد الذهني، أو الاستنارة العقلية، أو الموضوعية العلمية، أو
الإصلاح الاجتماعي والديني! ! ... الخ.
ولقد شاهدنا في الفترة الأخيرة إحدى المجلات الشيوعية ترد على سلسلة
مقالات لكاتب ومفكر إسلامي موضوعي فند فيها أفكار العلمانيين، باتهام الكاتب أنه
«يزيف العلمانية» أي يتهم العلمانية، وينسب إليها ما ليس فيها على حد زعم
المجلة وهذه هي فائدة أسلوب الأقنعة والتنكر، لأنه يمكن العلمانيين عند الرد
الموضوعي والداحض والمفند لأفكارهم أن يتنصلوا منها بزعم أنهم إنما ليسوا سوى
دعاة العقل والفكر والحرية والاستنارة والتقدم وما أشبه ذلك من المصطلحات
والألفاظ العامة التي يطلقونها دونما تحديد اجتلاباً للأذهان، لكنهم يحددونها في
الوقت الملائم وبالمعنى والمضمون الذي يختارونه ويكون أكثر المضامين فعالية
وأثراً في وضع ومقام معين.
مزاعم علماني متفلسف:
وفي هذا الصدد مثلاً ونحن نشير إلى أقنعة العلمانية واستخدامها التقنع والتنكر
لأغراض مرحلية تتعلق بالرغبة في الانتشار والترويج واستمالة الأذهان وتجنب
المواجهة المباشرة، أشير إلى واحد من أحدث هذه الأقنعة وربما كان من أطرفها،
فقد عرف أستاذ جامعي مصري للفلسفة وهو غير مسلم اشتهر بهجومه على
الإسلاميين منذ عقد الستينات العلمانية بقوله: إنها تعني التفكير في الأمور البشرية
النسبية والمتغيرة بطبيعتها من خلال فكر نسبي ومتغير، والابتعاد عن «المطلق»
عند التفكير في هذه الأمور البشرية وتدبيرها وإدارتها، وهذا التعريف المبتكر
للعلمانية يبدو مختلفاً تماماً وبعيداً كل البعد عن تعريفها التقليدي بأنها فصل الدين
عن الحكم والدولة والمجتمع، لكنه بعد تحليله يصل إلى نفس الهدف وراء سحابة
المصطلحات الفلسفية عن المطلق والمتغير والنسبي.
فصاحب هذا التعريف يصف العلمانية بأنها التفكير في الشؤون البشرية ذات
الطابع النسبي والمتغير بأساليب وأفكار مماثلة لها من حيث النسبية والتغير لكنه من
المعروف أن المذاهب العلمانية المتنوعة وبالذات في المجالات «المتغيرة
والنسبية» كالسياسة والاقتصاد وقضايا المجتمع، اتسمت بأشد درجات الإطلاق والجمود والصلابة وعدم التغير بحيث كانت تضع نفسها في شكل دساتير وقوانين صارمة ثابتة تهيمن على حركة المجتمعات التي طبقت فيها وتعيد صياغتها بشكل كلي وشامل بحيث تتسق هذه المجتمعات مع تلك الأفكار النظرية المجردة، ولو كلف الأمر ملايين الضحايا البشرية ومحن واضطرابات تستمر عشرات السنين.
وليست التجربة الشيوعية فيما كان يعرف بالكتلة الشرقية الأوروبية عنا ببعيد، فالمذاهب العلمانية نفسها، وهي من وضع البشر لم تكن ترى في نفسها أنها أفكار
متغيرة ونسبية جاءت لتحكم شؤون بشرية متغيرة ونسبية، بل على العكس فقد
انتحلت لنفسها بالضبط ما تدعي العلمانية أن الأديان قد اتصفت به ألا وهو الطابع
المطلق الشمولي الجامد المستعصي على التغير، وينطبق هذا حتى على تلك
المذاهب العلمانية التي ادعت «الليبرالية» أو التحرر، إذ لم تخلوا هذه المذاهب
من مطلقات مقدسة طرحت على أنها ثابتة ثبوت الدهور، وغير متغيرة مع تغير
الظروف، بل وعلى أنها هي التي تحكم وتضبط وتوجه التغيرات وتهيمن عليها لا
تواكبها ولا تسايرها ولا تتغير معها، وهذه المقدسات معروفة حتى الآن في الحرية
الاقتصادية ونظام التمثيل البرلماني، وأفكار المساواة المطلقة والفردية، وأشهر
مطلق من مطلقات الليبرالية بل ومن مطلقات الفكر العلماني نفسه هو مطلق فصل
الدين عن الدولة.
وللماركسية والاشتراكية مطلقاتها الخاصة كما لسائر المذاهب والفلسفات
العلمانية، بل إنهم يتبادلون الهجوم فيما بينهم بالإشارة إلى الطابع المطلق لكل منهم
الذي يستعصي على التغيير والنسبية، ويقاومهما ويصر لنفسه على احتكار الحق
المطلق حتى في أدق الأمور الاجتماعية والاقتصادية وأكثرها عرضة لمجريات
التغير والتبدل.
العلمانية والمطلق والنسبي:
العلمانية إذن لم تكن أبداً إدارة أو تفكيرفي شؤون البشر المتغيرة والنسبية
بأفكار وأساليب تشاكلها، بل على العكس كانت تتمثل في استبدال مطلق جديد (هو
العلمانية) لمطلق قديم هو (المسيحية الغربية) ، وما رافقها من أفكار ومذاهب سياسية
واقتصادية وثقافية، ثم إن المذاهب العلمانية لم تنظر لنفسها على أنها مجرد
تعبيرات ملائمة عن أوضاع نسبية ومتغيرة، تتغير وتتبدل وتمضي مع ذهاب هذه
الأوضاع، بل على العكس اعتبرت نفسها مبادئ وخطوط عمل وإرشاد وتوجيه
حاكمة وعامة، توجه وتقود وتشكل هذه الأوضاع، بل وتحكم كيفية ومسار تغييرها
إلى أبد الآبدين، أو إلى الوصول إلى الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ كما في
الماركسية والليبرالية.
العلمانية إذن تحل لنفسها ما تحرمه على غيرها، وإذا نظرنا إلى الجانب
الآخر من المسألة فلن نجد داعياً لوصف شؤون البشر بأنها نسبية ومتغيرة مهما
كانت درجة التغير والتبدل التي تطرأ على أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم فوراء
هذه التغيرات تقف (كما تقول لنا حتى فلسفات العلمانية ذاتها) قوانين كبرى ومبادئ
عامة، وملامح مشتركة، تجعل من وجود أفكار وتعاليم مطلقة للتفكير في هذه
الشؤون، أمراً مقبولاً، بل وضرورياً، ولا ننسى أن «ماركس» وهو أحد كبار
كهنة الفكر العلماني الغربي قد ابتكر نظاماً مطلقاً محكماً ادعى أنه يقف بثبات
وصرامة لا تتخلف وراء كل التغيرات التي تطرأ على المجتمعات فالمطلق أياً كان
له مجال في التفكير في الشؤون البشرية والمطلق كذلك له مجال أكبر في مجال
توجيه هذه الشؤون كما تدل على ذلك التجربة العلمانية ذاتها في النظرية والممارسة، ذلك لأنه إذا قبلنا بفكرة أن كل الشؤون البشرية متغيرة ونسبية، فإن ذلك لا يعني
منطقياً أن تكون المبادئ التي توجه وتحكم هذه الشؤون متغيرة ونسبية مثلها، لأن
الحكم والتوجيه والتدبير في حد ذاته يعني وجود درجة كبيرة من الثبات والهيمنة،
تتجاوز النسبية والتغير وتتعالى عليهما أو تقود التغيرات في مسار معين، وتبعدها
عن مسار آخر.
والأكثر أهمية في ذلك هو بحث معنى «المطلق» وفق هذا التعريف المبتكر
للعلمانية، فهل المقصود هنا هو «الإله» الذي تتحدث عنه الأديان التي يواجهها
العلمانيون رغم ضرورة الإشارة إلى اختلاف مفاهيم الألوهية بين الأديان وبالأخص
بين الإسلام وبين سائر الأديان بما فيها تلك التي تسمى حالياً بالسماوية أم أن
«المطلق» هذا هو الأفكار والمذاهب الدينية لاسيما ما يتصل منها بالتشريع والشؤون الاجتماعية المتنوعة، وفي هذه الحالة ينبغي الإشارة إلى وجود شريعة في الإسلام تختلف جوهرياً وبالنوع عن أي أفكار أخرى بدائية ومحدودة قد تحتويها الأديان الأخرى في مجال التشريع الاجتماعي، فالشريعة الإسلامية هي نظام كامل له منهاجه الخاص، ولا يمكن أن تختزل هذه الشريعة بوصفها بتلك الكلمة العامة الغامضة ذات الإيحاءات السلبية في دنيا الفلسفة وهي عبارة
«المطلق» ، فالشريعة الإسلامية بالذات تحتوي على مستويات من المبادئ والقوانين والأحكام، وفيها من المرونة ومن القابلية للاستيعاب وتغطية المتغيرات، والتعامل معها من خلال أنظمتها هي كالاجتهاد وغيره ما يحول دون نشوء مشكلة ... التقابل الثنائي بين المطلق والنسبي التي يثيرها ذلك التعريف العلماني، وهو يحمل في ذهنه الأوضاع المسيحية الغربية.
وإياً كان ذلك «المطلق» فلا يعطينا تعريف العلمانية هذا مسوغاً لإبعاده عن
شؤون البشر، سواء أكان تفكيراً فيها أو توجيهاً لها، مادام أن العلمانية نفسها تقيم
بعده مطلقاً أو مطلقات أخرى من صناعتها هي، أي أصنام وثنية مادية لتحل محل
الآلهة الغيبية (حسب تصورهم) ، فلا جديد في المسألة.
تهافت العلمانية الجديدة:
تعريف العلمانية الجديد هنا ينشيء عند تحليله تناقضات ومشكلات عديدة،
كما أنه ينبثق عن نفس التعريف القديم، لكنه ليس سوى قناع أو تنكر له، فهو
يطلق اسم المطلق على: الدين أو الشريعة أو العقيدة أو «الله» ، وهو ذو
إيحاءات سلبية كما قلنا ولاسيما في مذاهب الفلسفة الغربية الحديثة وفي مقابلة هذا
المطلق توضح شؤون البشر المتغيرة النسبية (هكذا كل شؤون البشر متغيرة ونسبية
عندهم بإطلاق!) ، ثم تأتي العلمانية لتسمى في هذا التعريف بالأفكار النسبية
المتغيرة والتي تصلح بذلك دون «المطلق» لتسيير وتفسير حياة البشر وشؤونهم.
إنها مجرد تسميات مختلفة، فبدل القول بأن الدين يجب أن يرفض وينحى من
حياة البشر لتحل محله العلمانية، أو بالأصح مذاهبها المختلفة يأتي القول بأن حياة
البشر متغيرة نسبية بإطلاق (!) في التغير والنسبية، وأن هناك اتجاهين يتنازعان
تفسير وتسيير هذه الحياة، أحدهما «مطلق» لا يصلح لها والآخر مثلها متغير
نسبي، فهو الأصلح والأجدر بها، هكذا تترجم العلمانية الكلاسيكية إلى صياغة
تحاول أن تتجمل بمصطلحات الفلسفة ذات الإيحاءات والظلال المعينة دون أن
يتغير شيء في المضمون.
لكن هذا التعريف الجديد أو القناع الجديد يحتوي من التناقضات أشد ما يحتويه
التعريف الأقدم، لاسيما فيما يتصل بالإسلام، فشريعة الإسلام ليست ذلك «المطلق» البعيد عن دنيا البشر وهمومهم وأوضاعهم بل هي وثيقة الصلة بها لا من حيث
إنها تعكسها وتبررها وتواكبها بشكل ذيلي في تغيراتها كما يصور التفسير المادي
المألوف، بل من حيث إنها تقودها وتوجهها وترقى بها وفق مشيئة وحكمة العزيز
العليم الذي أوحى بها، وشؤون البشر في هذا التصور الإسلامي ليست متغيرة
نسبية بإطلاق، بل تطرأ عليها التغيرات وفق سنن ثابتة، كما تتفاوت التغيرات
بين مادي واجتماعي ونفسي وعقدي وأخلاقي ... كل له مساره الخاص ودرجته
الخاصة في مدى التغير، والتغير فيها يمكن توجيهه والتحكم فيه على الأقل من
الناحية المهمة كناحية الإيمان وإرضاء الله بالعمل وفق منهجه، والثبات في محن
البلاء والاختبار المتنوعة.
وأخيراً فإن الأفكار العلمانية ليست نسبية التطور كما يزعم التعريف، بل هي
تزعم لنفسها كما أسلفنا الإطلاق والثبات، أضف إلى ذلك السذاجة الفكرية المتضمنة
في مقولة أن النسبي والمتغير لا يصلح للتفكير فيه سوى النسبي والمتغير فصاحب
هذا التعريف وهو ماركسي النزعة يعرف أكثر من غيره أو هذا هو المفترض أن
الماركسية وقبلها بدرجة أكثر الهيجلية قد حكّمت فكراً (أو ما أسموه بمنهج علمي)
مطلقاً هو الجدل أو الديالكتيك بشقيه المنطقي والمادي في تفسير ما رأوا أنه شؤون
الحياة والتاريخ المتغيرة والنسبية، فالمتغير في هذه الفلسفات محكوم بقانون مطلق
لا يجعل منه تغيراً بقدر ما يجعل منه ثباتاً يتجلى شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر بكامله،
كما أن النسبي عندهم لا يصبح نسبياً إلا عندما ينسب إلى إطار مطلق يحتويه
ويتعالى عليه.
خدعة المجتمع المدني:
في نهاية الأمر لسنا نواجه سوى قناع آخر من أقنعة العلمانية هذه المرة في
ثوب فلسفي النقش، لكن الأقنعة لها ثياب متعددة، فهناك مثلاً الثوب السياسي الذي
يفصح عن نفسه هذه الأيام في مصطلح كثر ترديده بصورة ببغاوية حتى عد عند
بعضهم وكأنه الحل السحري لكل الأزمات والمشاكل وفي مقدمتها أزمة الإسلام،
وأعني به مصطلح «المجتمع المدني» ، فالدعوة إلى العلمانية هذه الأيام تتخذ
شكل الإلحاح على إقامة أو تقوية ما يسمى «بالمجتمع المدني» ، وليس المقصود
بهذا المجتمع كما قد يتبادر إلى الذهن أنه المجتمع الذي لا يسيطر عليه العسكريون
بشكل مباشر أو غير مباشر كما هي الحال في معظم المجتمعات العربية، بل على
العكس نجد أن أصحاب هذا المصطلح أو التعريف العلماني من أشد أنصار الحكم
العسكري، لأنهم يرون في شراسة هذا الحكم وبعده عن الالتزام بالقوانين وحقوق
الإنسان، أكبر ضمانة للتصفية الجسدية للحركات الإسلامية التي يناصبونها العداء
والخصومة.
المجتمع المدني المقصود في هذا المصطلح الذي نجد له أوسع رواج الآن في
بعض الصحف والمجلات والمنابر الناطقة باسم النخبة العلمانية، هو المجتمع
اللاديني، ذلك لأن «المدني» عندهم لا يواجه «العسكري» بل يواجه ...
«الديني» وقد اعتمد مطلقو هذا التعبير على ترجمة محرفة للاصطلاح الدنيوي أو غير الكنسي في بعض اللغات الأوروبية، الذي يقابل ويواجه «الكنسي» أو الديني فالدين عندهم يرتبط بما هو متصل بالكنيسة ورجالها (الكهنوت) الذين يشكلون بزيهم وتنظيمهم المستقل المميز سلكاً هو سلك الدين أو الكنيسة المتميز عن سائر المؤسسات الاجتماعية، كسلك الجيش أو ملاك الأراضي ... الخ، وعند غيرهم يطلق عليه اسم «الدنيوي» (أي غير الديني) الذي تحور في الترجمة أو في التلاعب عند أصحاب التعريف أو الدعوة الجديدة إلى «المدني» . ...
والخلط هنا ينشأ من أن كلمة «المدني» في استخدامات العربية الحديثة
تطلق أساساً للتفرقة بين ما ينتمي إلى السلطة العسكرية وما ينتمي إلى غيره كما قد
يطلق على ما ينتمي إلى المدنية أو الحضر، أو ما يتسم بالصفات السائدة في تلك
الأماكن، لكن «المدني» لا يعني في العربية «العلماني» ، ومن هنا يأتي القناع
أو التنكر، فهم يستخدمون تعبير المجتمع المدني لأنه سيجد القبول بإيحاءاته التي
تعني مجتمعاً لا يسيطر عليه العسكريون بالدكتاتورية والتسلط وكبت الحريات
وفرض الرأي الواحد الخاطئ في معظم الأحيان، كما أن أصحاب المصطلح
يساعدون على هذا الترويج بإكسابه إيحاءات أخرى ينظمونها حول لفظة
«المدني» كالديموقراطية والحرية وتعدد الآراء والمناقشات والانفتاح السياسي والفكري، لكنهم عندما يتحدثون عن هذا المصطلح فإنما يقصدون كما يتضح من كتاباتهم العلمانية أو اللادينية المجتمع الذي يفصل الدين عن حياته وينحيه بعيداً، وهكذا يظهر المصطلح جذاباً لبعضهم لكنه في نفس الوقت يؤدي نفس ما يؤديه التعريف الكلاسيكي للعلمانية.
وكما هو الحال في التحليل السابق للتعريف الجديد للعلمانية، فإننا إذا حللنا
تعبير «المجتمع المدني» كما يستخدمه العلمانيون، فسنجده ينطوي على تناقضات
تهوي به كمصطلح جاء حسب استخدامهم أبسطها أن مفهوم «المجتمع المدني»
كما يستخدم في الكتابات الاجتماعية الغربية يعني مجموع المؤسسات والهيئات
والمنظمات والجمعيات والروابط المعروفة (الجيش، الشرطة الجهاز
الإداري ... الخ) ، ومن هذه الناحية فإن المصطلح بمعناه الدقيق أو العلمي في الكتابات الأكاديمية يضم ولا يستبعد المؤسسات الدينية، كما يضم ولا يستبعد الأفكار والرؤى الدينية طالما أنها تشكل قسماً من نسيج هذا الشعب الذي يتشكل المجتمع المدني من تنظيماته.
وللعلمانية أقنعة أخرى تخفي وراءها طرحها الأساس والصريح الذي ما خرج
هذه الأيام إلى طور العلن إلا كحلقة من حلقات المواجهة مع الإسلام كما يسمونها،
والأقنعة ذات فوائد متعددة للطروحات العلمانية لكنها في المقابل ينبغي أن تكون
بمثابة ساحة تدريب ودافع تنشيط للفكر الإسلامي في تتبعها ودراستها ودحضها
وكشف ما وراءها، مع إظهار البديل أو بالأصح «الأصيل» الإسلامي الذي
تحاول هذه الطروحات أن تشوه صورته أو تخفيه.(79/95)
من ثمار المنتدى
أنشطة المنتدى الإسلامي
سبق الحديث في الأعداد السابقة عن بعض مشاريع «المنتدى الإسلامي»
مثل: «كفالة الدعاة، وبرنامج شهر رمضان الماضي، ومشروع مكافحة العمى
بدولة تشاد، والدورات والملتقيات العلمية للمنتدى، وحلقات تحفيظ القرآن
الكريم» ، ومشروع مكتبة إسلامية، ومكتبة طالب علم، وفي هذا العدد نواصل الحديث عن مزيد من المشاريع كما يلي:
- البيان -
ثامناً معاهد إعداد الدعاة:
تمهيد:
العلم الشرعي من القضايا الأساسية التي يقوم عليها العمل الدعوي ولهذا كان
العلم هو مقدمة كل عمل ومع الأسف الشديد فإن الجهل بأصول الإسلام وقواعده
العامة، فضلاً عن غيرها من السمات السائدة في أوساط المسلمين، ليس عند عامة
المسلمين فحسب بل حتى عند خاصتهم من أئمة المساجد والدعاة والمدرسين..
ومن ذلك نبعت فكرة إنشاء معاهد لإعداد الدعاة في عدد من الدول الإسلامية،
لنشر الوعي الشرعي بين المسلمين، وإعداد مجموعة منتخبة من الدعاة للقيام
بالأعباء العلمية والدعوية.
ولا شك أن إعداد الرجال القادرين على تحمل المسؤولية وأعبائها عملية شاقة
جداً، وتتطلب جهوداً كبيرة، ولكنها في غاية الأهمية، وهي ضرورة ملحة ينبغي
الاعتناء بها.
ب - أهداف المشروع:
1- إعداد كفاءات دعوية مؤهلة قادرة على تحمل المسؤولية.
2- نشر العلم الشرعي في أوساط المسلمين.
3- إعداد طاقات سلفية واعية، ترفع راية أهل السنة والجماعة.
جـ- إعداد المنهج التعليمي:
المنهج التعليمي هو إحدى الركائز الأساسية لإنجاح المشروع، وقد قامت لجنة
من الأساتذة الأكْفَاء بوضع خطة تعليمية يعتمد تدريسها في المعاهد، مع الاستفادة
من مناهج الجامعات الإسلامية.
د- خطة الدراسة في المعاهد:
يتم اختيار الطلاب الذين أنهوا المرحلة الثانوية بتفوق من المدارس الإسلامية، وسوف تكون الدراسة في المعهد لمدة سنتين اثنتين فقط تدرس فيهما المواد التالية:
1- العقيدة ... ... 2- التفسير
3- التلاوة ... ... 4- الفقه
5- أصول الفقه ... 6- العقيدة
7- مصطلح الحديث 8- أصول الدعوة
9- التاريخ والسيرة ... 10 - اللغة العربية
11 - الفرق والأديان
في السنة الأولى يتم افتتاح ثلاثة فصول دراسية فقط، ويكون عدد الطلاب
المقبولين ثلاثين طالباً في كل فصل، وفي السنة الثانية يتم افتتاح ثلاثة فصول
دراسية أخرى بحيث لا يزيد مجموع الطلاب في المعهد عن 200 طالب.
هـ - المدرسون:
سوف يتم اختيار أربعة من المدرسين الأكْفَاء للقيام بأعباء هذه المسؤولية
الكبيرة في السنة الأولى، ويكلف أحدهم بالقيام بإدارة المعهد بالإضافة إلى جهوده
في التدريس، وفي السنة الثانية يزاد ثلاثة مدرسين آخرين ليكون المجموع الكلي
للمدرسين سبعة مدرسين.
تكلفة إنشاء معهد لإعداد الدعاة: 000ر133 دولار
متوسط تكلفة تشغيل المعهد للسنة الأولى: 000ر32 دولار
وهذا يشمل الرواتب والكتب والمصروفات الإدارية.
تاسعاً القوافل الدعوية:
المناطق الإسلامية مناطق كبيرة مترامية الأطراف وعرة المسالك والدروب،
وقد انتشر الإسلام بحمد الله تعالى في مختلف الأدغال والقرى النائية، ولكن الجهل
غلب على المسلمين في المدن الرئيسة فضلاً عن القرى والهجر النائية، مما جعل
البدع والشركيات والكهانة تنتشر في أوساط المسلمين انتشاراً واسعاً، بل انتشرت
بعض الطقوس والعادات الوثنية، حتى بلغ الحال في بعض المناطق أن الأجيال
الجديدة من أبناء المسلمين تركوا دينهم وتحولوا إلى عبادة الأوثان، ولكن بقيت
عندهم بعض الرسوم والعادات الإسلامية التي توارثوها عن آبائهم، مثل التوجه
جهة مكة خمس مرات في اليوم والليلة، وهم يفعلون ذلك ولا يدرون لماذا يفعلونه!
ومثل هؤلاء هم البيئة الخصبة غالباً للنشاط الكنسي، حيث أقيمت المراكز
التنصيرية في القرى النائية، واستقر المنصرون بين المسلمين حتى أصبح من
المعتاد أن ترى القسيس المنصر يسكن بين الأدغال والأحراش منذ سنوات طوال.
ولصعوبة الانتقال بين المدن والقرى، ولوعورة الطرق وخطورتها في بعض
الأحيان، كلف المنتدى الإسلامي دعاته بإعداد القوافل الدعوية التي تنطلق إلى
مختلف المواقع التي ينتشر فيها المسلمون وغيرهم من الوثنيين والنصارى، وذلك
حرصاً على الوصول إلى الأماكن البعيدة والوعرة.
وتتكون القافلة في الغالب من: داعية يجيد لغة القوم، داعية محلي ليكون
دليلاً ومعيناً، طبيب عام لمعالجة المرضى، مشرف زراعي أحياناً، سائق.
وتحمل القافلة أدوية لعلاج المرضى، وأحياناً بعض الملابس والمواد الغذائية، وأحياناً أخرى بعض الكتب باللغة المحلية، وذلك من أجل تأليف قلوب الناس
وتقريبهم إلى الإسلام، كما تكلف القافلة بإجراء المسح العام للمنطقة لمعرفة
احتياجاتها ومشكلاتها لعرضها على المكتب الرئيس في المنطقة لدراستها وتقويمها.
وقد أجريت التجارب الأولية لهذه الخطة فوجدت نتائج طيبة مباركة ومشجعة
للمزيد من العطاء والإنتاج، حيث أقبل الناس على العلم وبدأوا يتعرفون على
العقيدة الصحيحة والعبادات السليمة، إضافة إلى الوثنيين الذين يسلمون على أيدي
هؤلاء الدعاة (ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) .
متوسط تكلفة القافلة الدعوية الواحدة 1350 دولار(79/109)
الورقة الأخيرة
أيها الغيورون عتابكم مقبول
التحرير
بعد صدور العدد (78) وما ورد فيه من رؤية خاصة لكاتبين من كُتاب المجلة
في موضوعين مختلفين هما (ذوق الداعية) و (قصة: درس الشيخ) ، وما ألمحا إليه
من موقف رأياه عند ذكرهما للحديثين (حديث سلمان رضي الله عنه قال: قيل له:
قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة ... الحديث) ، وحديث
(بول الأعرابي في المسجد) .
فوجئنا ببعض الإخوة الغيورين الذين كاتبونا وهاتفونا جزاهم الله خيراً مفيدين
بأن سياق المقالين فيه استهانة وتقليل من قيمة الحديثين، ونعوذ بالله أن يخطر ببال
مسلم أي شيء من ذلك، لكنها وجهة نظر حيال التناول الجزئي عند عرض ديننا
الحنيف والتوقف عند نقاط بعينها، وتناسي الأصول العامة والكليات الكبرى.
ثم إن الخلاف قد يحصل من طريقة التناول، ولذلك نؤكد على أهمية ألا
يخطر ببال أحد من قرائنا الكرام ما ذكر، ونحن نعلم ولله الحمد قيمة ما أوردته
السنة، فحديث سلمان رضي الله عنه أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي
وابن ماجه وغيرهم، ولذلك قال النووي رحمه الله: ومراد سلمان رضي الله عنه
«أنه علمنا كل ما نحتاج إليه في ديننا ... » ، وجاء في «المنهل العذب لمورود
شرح سنن أبي داود» للسبكي [1/38] عند شرحه لحديث سلمان رضي الله عنه
عند قوله: «أجل..» ، يعني علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء
نحتاج إليه في ديننا، وقال الطيبي: «جواب سلمان من باب أسلوب الحكيم لأن
المشرك لما استهزأ كان من حقه أن يهدد أو يسكت عن جوابه، لكن ما التفت سلمان
إلى استهزائه وأجاب جواب المرشد للسائل المُحَيّر» .
أما حديث بول الأعرابي، فقد رواه البخاري في كتاب الوضوء ح/219
[فتح الباري، الجزء الأول، ص 385] ، وقد ذكر ابن حجر في الفتح الحكم
العظيمة من تركه يبول في المسجد.
لقد كان الحديثان الشريفان موثقين من المصادر المعتمدة، وحسبهما أنهما في
الصحيحين، ولا يجوز لمسلم أن يشكك في صحتهما أو أن يقف منهما موقف
المجادل أو المستهزيء، ونحن في هذه المجلة نصدر عن منهج إسلامي سلفي يقدر
المصادر الحديثية المعتمدة، ونرفض جملة وتفصيلاً المساس بأي منها لأن ذلك
يعني النكوص عن منهج سلفنا الصالح الذي طالما حذرنا من مخالفته في الكثير من
البحوث والمقالات في هذه المجلة، لكن ما حصل كان وجهة نظر وضحنا منطلقها، والأخوان الكاتبان نحسبما، والله حسيبهما، ولا نزكي على الله أحداً من
المعروفين بغيرتهما على السنة، ومن الملتزمين بها.
والله نسأل أن يغفر لنا جميعاً، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم.(79/111)
ربيع الآخر - 1415هـ
سبتمبر - 1994م
(السنة: 9)(80/)
كلمة صغيرة
المؤتمر العالمي للسكان والتنمية، مؤتمر مشبوه، يتضح ذلك من خلال ورقة
عمله التي بلغت مائتي صفحة، تضمنت أمورا مصادمة للإسلام من الدعوة إلى
تسهيل القضايا الجنسية، وتشجيع المساوة المطلقة بين البنين والبنات في كل
التشريعات، ولدعوة إلى تحديد النسل، وإشاعة موانع لحمل وسن القوانين التي
تبيح عمليات الإجهاض وتلك الدعاوى الباطل للإسلام منها موقف حاسم ولذلك
رفضه علماء الإسلام قاطبة.
فلماذا _ إذن تستضاف تلك المؤتمرات المشبوهة لتطرح سخافاته بدعوى العلم
وحرية الرأي وهي تصادم الدين؟ ، ولماذا لم يعقد هذا اللتان تعنيان من كثافة
سكانية علية وليس لديهما دين يمانع في تبني تلك الدعوى الباطلة؟ ! .
إننا في حاجة إلى زيادة النسل مع أسلمة خطط التنمية، وفي ذلك حل لكل
إشكاليات المؤتمر.
والسؤال المهم لمصلحة من يقام هذا المؤتمر؟(80/1)
الافتتاحية
ماذا وراء أمواج السلام؟!
للإسلام مع يهود تاريخ حافل بالصراع تخللته صور عديدة لمكرهم وغدرهم
مصداقاً لقوله تعالى [ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين
أشركوا] ، ومؤامرات ابن السوداء وميمون القداح وآثارها الخطيرة في تاريخنا مسطرة وجهودهم في إفساد تراثنا الإسلامي ببث إسرائيلياتهم معروف وتظاهرهم بالإسلام للكيد له كما فعل (يهود الدونمة) ، الذين عملوا على إسقاط الخلافة العثمانية، لا يجهله أي قارئ للتاريخ الحديث، وقامت دولتهم على ثرى فلسطين المسلمة بدعم من الإنجليز الذين أعطوهم (وعد بلفور) عام 1917 مؤذناً بقيام دولتهم التي قامت فعلاً عام 1948، ولم تفلح الحكومات العربية آنذاك في التعامل معهم ومواجهتهم، بل أُوقفت الزحوف المجاهدة المنطلقة لتحرير فلسطين المغتصبة بدعوى أن ذلك واجب الحكومات العربية التي انهزمت شر هزيمة، وتوالت النكبات في عصور القومية العربية والنزعات الثورية العلمانية، التي لم تكن سياساتها حيال العدو سوى الحرب الكلامية ومجرد التلويح باسترداد الأراضي المغتصبة ليس إلا! وكانت النتيجة المحتمة لتلك السياسات العجيبة الهزائم المتوالية في أعوام 1956، 1967، 1973 مما أوجد إحباطاً لدى الشعوب العربية التي لم تُعد الإعداد المطلوب للجهاد في سبيل الله وهذا ما أدى فيما ... بعد إلى السقوط في مستنقع الاستسلام للعدو بدءاً بقبول (مشروع روجرز) من قبل (عبد الناصر) إلى صلح السادات في كارثة (الكامب ديفيد) إلى الغرق في الوحل بمهزلة الحكم الذاتي في غزة وأريحا، التي مازال العدو يمسك بخناقها، ثم التوقيع بالصلح مؤخراً مع الأردن، حيث أعلن أن هذا الصلح يؤذن بإنهاء الحرب بين البلدين بعد وعد من أمريكا بالدعم الاقتصادي والتنازل عن ديونه، ومد جيشه بالسلاح، ولا ندري لحرب من؟!
والواضح أن ذلك الصلح مخطط له منذ عشرين سنة على الأقل! وهذا ما
أكدته الخطوات التطبيعية السريعة بينهما والمتمثلة فيما يلي:
1- الربط المباشر بين البلدين في الهاتف والكهرباء.
2- فتح نقطتي عبور جديدتين للسياح والرعايا
3- الإسراع بفتح ممر جوي بينهما وهو ما حصل بالفعل 4 تعاون قوات
الأمن في البلدين لمكافحة الجريمة.
5- استمرار المفاوضات حول الشؤون الاقتصادية تمهيداً للتعاون الثقافي
المستقبلي، والكاسب الوحيد في مسألة السلام هذا هو العدو لأمور منها:
1- نجاحه في تفريق الصف العربي والتفرد بكل دولة في سلام مهين
2- التطبيع القادم في الأصعدة السياسية والإعلامية والسياحية، وأخطر من
ذلك التطبيع الثقافي الذي يعني إزالة كل ما في الكتب والصحف والمناهج من كون
اليهود أعداء لأمتنا، ولا ندري ماذا سيصنعون بما في الوحيين
3- انتعاش الاقتصاد الصهيوني بخاصة بعد تطبيق إلغاء المقاطعة العربية
وهذا ما بشر به (بيريز) قومه في كتابه (شرق أوسط جديد)
4- تفريط الأمة في بناء قوتها بناءً على هذا السلام الموهوم بينما العدو مسلح
نووياً واقتصادياً وإعلامياً، بما لا يدع مجالاً للمقارنة
إن موقفنا من العدو موقف عقيدة، وليست المسألة حاجزاً نفسياً يسهل هدمه،
يقول تعالى [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] . ولاشك أن
التداعي السريع على هذا السلام أو بتعبير أدق (التطبيع) هو تجاهل لموقف عقيدتنا
وجهل بحقيقة الصراع مع العدو، مما أدى إلى السياسات العقيمة على كل الأصعدة، حيث ووجه الاتحاد بالتفرق ووجهت القوة بالضعف والعقيدة بالأيدولوجيات الفاشلة.
إن الحل الإسلامي الذي يعرفه العدو ويخشاه مازال معطلاً من إعداد للعدة
وتجييش للجيوش وتربية للأمة التربية الجهادية وتحكيم لشريعة الله واستقلالية
للقرار بعيداً عن المؤثرات الأجنبية، وهذا الحل هو ما يخشاه قادة العدو، يقول (بن
جوريون) : «لا نخشى إلا الإسلام، هذا المارد الذي بدأ يتململ من جديد ويقول:
إن ما أخشاه أن يظهر في العالم العربي: محمد جديد»
إن واقعنا اليوم في خضم هذه الأحداث المتوالية يضع علامات استفهام كبيرة
تحتاج إلى جواب.
لماذا ينحى الإسلام من المواجهة وهو الحل الحاسم لغطرسة العدو؟
لماذا تضرب الحركات الإسلامية المجاهدة في كل بلد عربي عند التمهيد لكل
سقوط واستسلام للعدو؟
لماذا يصادر الرأي المعارض للاستسلام ويعتبر أهله دعاة انقسام وتفريق
للصفوف ويحاربون بكل الوسائل الإعلامية؟
لماذا تستخرج الموافقة للاستسلام للعدو بأساليب مزيفة وإدعاء أن ذلك رغبة
الشعوب مع محاولات إغرائها بوسائل مكشوفة لقبول تلك التوجهات؟ !
كيف يفرط في أراض إسلامية مغتصبة ويكتفى ببعض ما احتل بعد نكبة 67
فقط، وما قبلها أليست تلك أراض إسلامية محتلة.؟ !
ولا ندري متى يُكَف عن التزوير وتسمية الأشياء بغير اسمائها، ففي هذه
الأيام يسمى هذا السقوط بسلام الشجعان! وما عهدنا الشجعان يفرطون في مبادئهم
ويتهاونون في حقوقهم.
وعلى كل حال يجب أن لا نيأس من روح الله ونصره، متى ما صدقنا معه،
وأعددنا العدة، وجاهدنا في سبيله بكل السبل الشرعية المتاحة ومن أعظمها إيقاظ
الحس الإسلامي في الشعوب الملبس عليها، ببيان حقيقة أعدائها والموقف منهم،
وتبشيرها بمثل قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- «لا تقوم الساعة
حتى تقاتلوا يهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي يا مسلم هذا يهودي ورائي
فاقتله) [*] » ، فلماذا نعطي الدنية في ديننا والله تعالى يقول: [ولله العزة
ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون]
__________
(*) رواه البخاري في صحيحه، باب قتال اليهود من كتاب الجهاد ج1/232.(80/4)
في إشراقة آية
[وخلق الإنسان ضعيفاً] [1]
د. عبد الكريم بكار
الإنسان هذا المخلوق العجيب هو صنعة الله تعالى المحكمة الدقيقة هذا الإنسان
الذي يبدو للوهلةالأولى في منتهى البساطة مشتمل على كل أشكال التعقيد، إنه يبدو
قوياً مخيفاً مع أنه في حد ذاته ضعيف في كل جانب من جوانب شخصيته ضعفاً لا
يوازيه شيء سوى ما يدعيه من القوة والعزة والسطوة!
إن هذه الكلمات القرآنية الثلاث قد لخّصت لنا جوهر الإنسان، لكن دون أن
تضع لنا الإصبع على مفردات ذلك الضعف ومظاهره ليظل اكتشافها التدريجي
عبارة عن دروس وعظات مستمرة تذكر الإنسان بحقيقته، وسوف ينفذ العمر دون
أن نحيط بحقيقة أنفسنا.
ويمكن أن نسلط الضوء على بعض ما أدركناه من ضعفنا وبعض ما يجب
علينا تجاه ذلك في الكلمات التالية:
1- تَبَصّر بني الإنسان عل الرغم من التقدم المعرفي الكبير بأجسامهم مازال
محدوداً إلى يوم الناس هذا، فهناك أجزاء من أجسامنا مازالت مناطق محرّمة، فعلم
الدماغ مازال علم إصابات أكثر من أن يكون علم وظائف وتشريح، ومركبّات
الأنسجة والسوائل المختلفة في أجسامنا وتفاعلها مع بعضها مازال الكثير منها
مجهولاً، فإذا ما دلفنا إلي مناطق المشاعر والإدراك وصلاتها وتفاعلاتها بالجوانب
العضوية، وجدنا أن كثيراً مما لدينا ظنون وتخرصات أكثر من أن يكون حقائق.
فإذا ما خطونا خطوة أخرى نحو العالم الوجداني والروحي وجدنا أنفسنا في
متاهات وسراديب، حتى إن الفردية لتطبع كل ذرة من ذرات وجودنا المعنوي،
مما يجعل إمكانات الفهم ووضع النواميس والنظم العامة أموراً قليلة الفاعلية محدودة
النجاح.
إن الباحثين في مجالات علوم الإنسان يجدون الطرق متشعبة ملتوية كلما
تقدموا نحو الأمام، على حين أن الباحثين في علوم الطبيعة يستفيدون من أنواع
التقدم المعرفي الأفقي في إضاءة ما بقي مظلماً من مسائل الطبيعة والمادة. وتقدّس
الله تعالى إذ يقول: [ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من
العلم إلا قليلا] [الإسراء: 85]
ويزداد ظهور ضعف الإنسان حين يدخل الإنسان في صراع بين عقله
ومشاعره حيث يجد نفسه عاجزاً عن دفع مشاعره والخلاص من وساوسه والتغلب
على مخاوفه أو معرفة مصدرها في بعض الأحيان، ليدرك المرة تلو المرة أنه مع
طموحه إلي السيادة على الأرض وغزو الفضاء قاصر عن السيطرة على نفسه!
إن فاعلية كل رأي ودقته نابعان من مجموعة العمليات التي يستند إليها فحين
تكون تلك العمليات ظنية وعائمة فإن آراءنا الطبية والنفسية سوف يظل كثير منها
هشاً ونسبي الصواب.
2- هذا الإنسان الضعيف لا يستطيع أن يبصر الأمر إلا ضمن شروط
ومعطيات زمانية ومكانية وثقافية خاصة ومحدودة، فهو لا يستطيع أن يتخلص من
محدودية الرؤية وضرورة النظر من زاوية معينة، وهذا هو السرّ الأكبر في أننا لا
نملك أن نتفق حول كثير من المسائل والقضايا المطروحة. إن خصوصية تكويننا
وظروفنا ومشاعرنا تدفع مواقفنا وآراءنا إلى التفرد، ومن ثم فإننا نعجز عن توحيد
الرؤية وبسط الرأي الواحد في أكثر شؤوننا.
3- نحن عاجزون عن إدراك الأشكال النهائية لأكثر حقائق هذا الكون دفعة
احدة، فالحقائق لا تسفر لنا عن كل أبعادها وأطوارها إلا على سبيل التدرج، ومن
ثَمّ فإن الإنسان الضعيف يظل يكتشف عجزه باستمرار، وكأن ما يحرزه من التقدم
اليوم ليس إلا عنواناً على ما كان يجهله بالأمس، وما سيصل إليه غداً ليس إلا
رمزاً على ما يجهله اليوم، ومن ثم فإن التغيير والتطوير يظلان ملازمين لكل
إنتاجاتنا وإبداعاتنا علي مقدار ما نحرزه من تقدم في العلم والفهم، والمقولة التي لا
يفتأ هذا المخلوق الضعيف يرددها: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا، ولقلت كذا..، وانطلاقاً من هذا فإن من سمات النظريات العلمية الناجحة أن
تكون منفتحة وذات قابلية جيدة للإضافات التي تأتي بها حركة كشف الحقائق
وإدراك المجهولات.
4- هذا الإنسان الضعيف لا يستطيع أن يجزم بشيء مقطوع من حوادث
المستقبل، فمهما أدرك المرء الظروف والعوامل والمؤثرات التي تحيط به لم
يستطع أن يعرف ماذا سيحدث له بعد شهر أو يوم أو ساعة، وأعظم أطباء الدنيا لا
يستطيع ضمان استمرار حياته أو حياة غيره ساعة من زمان، ومن ثمّ فإن القلق
والخوف من المستقبل هما الهاجس الجاثم فوق صدر الإنسان الحديث الذي فقد
الإيمان وفضيلة الدمج بين الحياة الدنيا والآخرة، والمتأمل في كثير من الأقوال
والتصريحات والدراسات يجد أن خبراء الاستراتيجية هم أكثر الناس مجازفة ولا
سيما عندما يشرعون في سرد التفاصيل للأحداث المتوقعة، حيث تقصر طاقات
البشر وإمكاناتهم عن التنبؤ بها [2] .
5- أكثر ما يظن فيه عجز الإنسان وضعفه هو الإمكانات التي يمتلكها لفهم
الواقع المعاش بكلياته وجزئياته ومشكلاته وخباياه، وقد كثرت في أيامنا هذه الدعوة
إلى فهم الواقع وفقهه، وهي دعوة مهمة، لكنها تخفي في طريقة طرحها نوعاً من
التبسيط للمسألة، حيث إن فهم الواقع أو مقاربته مسألة من أعقد ما يواجهه العقل
البشري، فالقيم التي نؤمن بها تتحكم إلى حد كبير في رؤيتنا لذلك الواقع، وكثيراً
ما تشكل حائلاً بيننا وبين رؤية حقيقة ما يجري فيه. والعقل الإنساني حتى يلامس
الواقع فإنه يفترض ثباته وجموده، على حين أن الواقع يظل محطّة لتدفق التحولات
المشعثة الكثيرة والحادة أحياناً مما يجعل إدراكنا قاصراً عن ملاحقته، وبالتالي فإن
أحكامنا تصدر على أشياء فائتة ومنتهية ومن هنا فإنه لابد من بناء (إشكالية) ، يتم
من خلالها تقسيم الواقع إلى قضايا يمكن تحديدها وتقديم إجابات وحلول لها، والنمط
الذي سنصور الواقع من خلاله هو عبارة عن صورة عقلية مركبة تدخل فيها رؤانا
العقدية إلى جانب العناصر المعرفية والقيم الاجتماعية التي ترشد حركة المجتمع،
ومادام كل ذلك متفاوتاً عند الناس فإن عجزنا عن لمّ الخلاف سوف يظهر أكثر
وأكثر عندما نحاول تقويم الواقع وإصدار الأحكام عليه.
وهذا ما سيؤدي بالتالي إلى اختلافات كثيرة في مناهج الإصلاح ومشروعات
النهوض الحضاري، وهنا يظهر مرة أخرى مأزق وهن الإنسان حيث إن التقدم
العلمي لا يتحقق دون الإغراق في التخصص، والتقدم يستمد مشروعيته وأهميته
من كونه يقدم الأدوات التي تساعد على إصلاح شأن الإنسان وترشيد قراراته، لكن
الإغراق في التخصص يحول دون فهم الواقع ودون فهم حاجات الإنسان المختلفة
من منظور شامل، إذ إن مجال التخصصات هو الجزئيات، وفهم الواقع الإنساني
يحتاج إلى رؤى ونظريات كلية لا تتوفر عادة عند الاختصاصيين.. ومن هنا ندرك
لماذا نرى تقدم المعرفة وتأخر الإنسان وانحداره شيئاً فشيئاً نحو البربرية! إننا
عاجزون عن رعاية شؤوننا إذ اما ابتعدنا عن الانتفاع بالهداية الربانية.
الموقف الموضوعي مما سبق:
إذا كان الإنسان على ما ذكرنا من العجز والقصور فإن عليه أن يطامن من
نفسه، ويخضع لقيوم السموات والأرض خضوع العارف بضعته المدرك لعظمة
خالقه متخذاً من ذلك باباً للأوبة والتوبة الدائمة.
وعلى الإنسان مع ذلك أن يحترم عقله وقدراته فلا يزجّ به في مجاهيل
وغيوب لا يملك أدنى مقدمات للبحث فيها، حتى لا يتناقض واقعه مع ذاته ومن
المنهجية القويمة أن نعلّم أنفسنا الصبر على الاستقراء والتأمل وعدم المسارعة إلي
إطلاق الأحكام الكبيرة قبل التأكد من سلامة المقدمات التي تستند إليها، وحين نصل
إلي حكم ظني فإنه علينا أن نصوغة بطريقة تُشعر المطلع عليه بذلك، فلا نسوق
القطعيات مساق الظنيات، ولا الظنيات مساق القطعيات. ويروون عن الإمام مالك
رحمه الله أنه كان كثيراً ما يردد قوله تعالى [إن نظنُّ إلا ظنَّاً وما نحن بمستيقنين] [الجاثية: 32] وذلك عندما يُستفتى فيفتي، وقد عتب الإمام الجويني على
الماوردي أنه كان في كتابه» الأحكام السلطانية «يسوق المظنونات والمعلومات
على منهاج واحد» [3] . مع أن النصوص في مجالات «السياسة الشرعية»
قليلة، وأكثر المسائل فيها مبنية على الاجتهاد.
إن الوضعية التي وضع الله تعالى فيها الإنسان تحتم أن نظل في حالة من
الاستعداد الدائم لقبول الحق أياً كان مصدره والتراجع عن الخطأ وتعديل الرأي
وامتلاك فضيلة المرونة الذهنية، وعلى الله قصد السبيل.
__________
(1) النساء: 28.
(2) اقرأ إن شئت ما كتبه (نيكسون) في كتابه (نصر بلا حرب) عن المستقبل الذي يتوقعه لروسيا ثم ما آلت إليه الأمور! .
(3) انظر الغياثي: 142 تحقيق د عبد العظيم الديب.(80/8)
من فقه الدعوة
نظرات تربوية في خلق الصدق
-3-
عبد العزيز بن ناصر الجليل
نشرت الحلقتان الأولى والثانية من هذه الدراسة في العددين (75) و (76) من
هذه المجلة، ولظروف فنية تأجلت هذه الحلقة الأخيرة حيث يضع الكاتب بين يدي
القارئ هذه الهموم والأشجان في صورة رسائل إلى من يهمه الأمر.
- البيان -
الرسالة الأولى إلى علماء الأمة وطلاب العلم فيها:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به ربنا عز وجل عباده المؤمنين [يا أيها
الذين آمنوا اتقوا وكونوا مع الصادقين] [التوبة: 119] .
يا علماءنا الأجلاء: يا من تعقد عليهم الأمة أملها بعد الله سبحانه في إنقاذها
مما هي فيه من جهل ومحن وبلاء [اتقوا الله وكونوا مع الصادقين] وإن من
لوازم الصدق مع الله سبحانه وتعالى ومع عباده المؤمنين، الحذر الشديد من الدنيا
وزينتها وزخرفها، فلا أضر على العالم منها، ولذا كان سلفنا الصالح يحذرونها أشد
الحذر، فبارك الله في علمهم وعملهم، وأصلح الله بهم ما فسد.
أيها العلماء الأجلاء: إن أمتنا الإسلامية تمر في هذا الزمان بمحن شديدة وهي
تنتظر كلمتكم، فإذا سكتم فمن لعقيدة الأمة التي يسعى الأعداء لإفسادها ومن لدماء
الأمة التي تسفك وتستباح يوماً بعد يوم، ومن لأعراض الأمة وأخلاقها التي تنتهك
باسم الحرية والتقدم والتحضر، ومن لأموال الأمة واقتصادها الذي تسري فيه نار
الربا والبيوع المحرمة؟!
ودعاؤنا إلى الله عز وجل أن تلتحم صفوف المصلحين في هذه الأمة من
علمائها ودعاتها ومجاهديها وقادتها ليكونوا يداً واحدة في الإصلاح والدعوة إلى الله
بالحكمة والموعظة الحسنة، راجياً أن تقبلوا هذا التذكير ولو صدر من ابنكم
الصغير.
ولكم في سيرة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قدوة حسنة، فقد استفاد في
محنته من أعرابي عامي ... ذكر الذهبي في السير: قال أحمد بن حنبل: ما
سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر يعني محنته أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها
في رجعة طوق، قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مُت شهيداً، وإن عشت عشت
حميداً، فقَوى قلبي) [1] .
الرسالة الثانية إلى دعاة الأمة ومجاهديها:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين: [يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين] [التوبة: 119] .
وإن من لوازم الصدق ومقتضياته أن تكون الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد
في سبيله لأجل الله عز وجل وابتغاء مرضاته، فلا تكون لأجل مال أو منصب أو
جاه أو كسب شهرة أو التعصب لشيخ أو حزب أو طائفة، لأن كل ذلك ذاهب
وضائع وممحوق البركة في الدنيا والآخرة، فحري بنا أن نحاسب أنفسنا ونحن في
طريق الدعوة والجهاد في سبيل الله، ونتبين مدى صدقنا في دعوتنا إلى الله سبحانه، وهل هي خالصة لله وحده أم يشوبها ما يشوبها من أعراض الدنيا الفانية..؟ !
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يبادر الداعية إلى تصديق
قوله وما يدعو إليه بفعله، وأن لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، أو يرغب في فعل
ولا ينوي القيام به، أو يظهر للناس حرقة وغيرة على هذا الدين والأمر لا يتعدى
شقشقة اللسان، والقلب مشحون بأمر الدنيا وشهواتها وغارق في وديانها، إن كل
ذلك مما ينافي الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل.
مع أهمية سلامة قلب الداعية من الغل والحقد والحسد على إخوانه الآخرين
من الدعاة، وإنما يُكنّ المحبة لكل مصلح يدعو إلى الخير، ويتعاون معه في طاعة
الله عز وجل، ولا يحتقر جهده مهما قل، ولا تراه إلا حريصاً وساعياً إلى اجتماع
الكلمة ووحدة الصف، فالداعية الصادق يكره الفرقة والاختلاف إذا لم يكن في
أصول الدين وكلياته، والدعاة الصادقون يرحم بعضهم بعضاً، ويرفق بعضهم
ببعض، ويتناصحون فيما بينهم.
كما إن الصدق مع الله سبحانه في الدعوة والجهاد يفرض على المسلم أن يكون
على بصيرة فيما يدعو إليه ويجاهد من أجله، وهذا يلزم التفقه في الدين والتبصرة
فيه بما قال الله عز وجل وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفهمه الصحابة
الكرام رضي الله عنهم.
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه، الحذر من كيد الأعداء
المتربصين بهذا الدين وأهله من الكافرين والمنافقين، وبخاصة في زماننا هذا الذي
تنوعت فيه أساليب المكر والخبث، فحري بالداعية الصادق أن يتفطن لدسائس
الأعداء ودجلهم ونفاقهم ولو ألبسوا ذلك كله لبوس الحكمة والمصلحة إن التنازل
اليسير من الداعية إلى الله سبحانه لا يقف عند حد، بل يتبعه تنازلات وتنازلات،
لأن أعداء هذا الدين لا يكتفون بالقليل من الداعية وقد حذر الله سبحانه نبيه -صلى
الله عليه وسلم-من هذا الخطر فقال: [فلا تُطِعِ المكذبين * وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون] [القلم: 8-9] ، والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي
هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى -صلى الله عليه وسلم- وهي أن
التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله فهو صاحبها، وأن الحق الذي تنزلت به لا
يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار، فلا سبيل إلى التعاون بين حقها
وباطلهم، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على
الباطل، فهما منهجان مختلفان وطريقان لا يلتقيان، فأما حين يغلبه الباطل بقوته
وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم، لحكمة قضاها الله فالصبر حينئذ حتى يأتي الله
بحكمه والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح، وهما الزاد المضمون لهذا
الطريق.
إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق فالمحاولات
كثيرة التي حاول المشركون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فيها المساومة
على الدعوة، ولكن الله عصم منها رسوله، وهي محاولات الطغاة مع أصحاب
الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها،
ويرضوا بالحل الوسط الذي يغرونهم به في مقابل مغانم كثيرة، ومن جملة الدعاة
من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً، فأولئك لا يطلبون منه أن يترك
دعوته كلياً، إنما يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
ومن لوازم الصدق في الدعوة أن يحذر الداعية من الكذب على إخوانه
المسلمين والدعاة المصلحين، ومن ذلك إشاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها
واستخدام الأساليب الملتوية والمراوغات بحجة السياسة والمصلحة.. كل هذا لا
يتفق وصدق الداعية وسلامة قلبه.
ومن لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يعتني كل مسلم منا بنفسه
بالوسائل الشرعية للتربية، وذلك في وسط بيئة صالحة معروفة بصحة الفهم وحسن
القصد، يتربى معها، ويعد نفسه للتضحية في سبيل الله عز وجل وبذل المال
والنفس في ذلك، وأن يوطن نفسه لابتلاءات الطريق ومشاقه، التي هي سنة من
سنن الله عز وجل لتمحيص الصفوف، قال تعالى: [الم * أحسب الناس أن
يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين
صدقوا وليعلمن الكاذبين] [العنكبوت: 2-3] فلا يتبين الصادق في دعوته من
الكاذب إلا بالابتلاء نسأل الله عز وجل العافية والصبر عند البلاء.
إن الداعية الذي يهمل نفسه فلا يربيها ويعدها للبيع على الله عز وجل يوشك
أن ينهزم وتخذله نفسه عند أول هزة وأول اختبار، مع أنه يحب لنفسه غير ذلك
مما يعيشه في حال الرخاء والأمن من الحماس العاطفي والكلام الذي لا يجاوز
التراقي، يقول سيد قطب رحمه الله: «إن العقيدة وطريقها لشاقة بعيدة، تتقاصر
دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة، إن تكاليف العقيدة هو جهد خطر، تجزع
منه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية، ولكنه الأفق الذي تتخاذل دونه النفوس
الصغيرة والبيئة الهزيلة، قال تعالى: [لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك
ولكن بعدت عليهم الشقة] [التوبة: 42] [2] .
وإنني بهذه المناسبة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين أن لا نتكلم في
أمر، أو نقدم على موقف من مواقف الدعوة حتى تتوفر فيه الشروط التالية:
1- الاطمئنان التام أنه الحق الذي يحبه الله تعالى، وإعداد النفس لتحمل
تبعاته.
2- الاطمئنان التام على أن القيام في هذا الأمر هو لله سبحانه وحده وابتغاء
مرضاته.
3- الاستعانة بالله وحده في تحقيق هذا الأمر والثبات عليه إذ لا قدرة للعبد
لحظة واحدة بدون عون الله وتوفيقه.
إذن يا إخواني الدعاة: إن الأمر جد ليس بالهزل.
قد هيؤوك الأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
الرسالة الثالثة إلى المربين في هذه الأمة:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين [يا أيها الذين
أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين] [التوبة: 119] .
أيها المربون: إن التربية لها معنى أوسع من التعليم وتلقين المعلومات
فالتربية هي الجهد الذي يبذله المربون في كل مجتمع من آباء ومعلمين وغيرهم في
إنشاء الأجيال القادمة على أساس العقيدة التي يؤمنون بها، ومنحهم الفرصة الكافية
لتشرب معاني الدين والتضحية من أجله والاعتزاز به بين الأمم فالأمة الجادة هي
التي تربي أبناءها طبقاً للعقيدة التي تدين بها لله تعالى، وتسعى لنشرها بين الأمم،
حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله تعالى، وهذه مهمة المربين في هذه الأمة
فما أثقلها من تبعة، وما أشرفها من رسالة.
ومن لوازم الصدق أيها المربون الكرام أن تصدقوا مع من ولاكم الله تربيتهم
وتعليمهم، وذلك بتعليمهم الخير، وربطهم بأبطال هذه الأمة ورعيلها الأول،
وتحذيرهم من الشر وأهله، وتبصيرهم سبيل المجرمين وأفكارهم الخبيثة وتفنيدها
والتحذير منها.
ومن لوازم الصدق في التربية إعداد المناهج الكريمة المستمدة من الكتاب
والسنة، وفهم الصحابة وفقه الواقع الذي تعيشه الأمة، فعلى المسؤولين عن مناهج
التعليم في المجتمعات المسلمة أمانة عظيمة وتبعة ثقيلة، فليصدقوا مع الله عز وجل
في أمة محمد ص وأبنائها، فلا يختاروا إلا ما فيه الخير والإصلاح وتنشئة الأجيال
على العقيدة الحقة والأخلاق السامية، وأن يردوا ويسقطوا كل ما من شأنه إفساد
العقيدة والأخلاق والأفكار والهمم، فنحن أمة ذات رسالة عظيمة خالدة ينبغي للناشئة
أن يدركوا رسالة أمتهم، وأنها خير أمة أخرجت للناس.
أيها المربون من آباء ومعلمين: إن الله سبحانه سائلكم عما استرعاكم فأعدوا
للسؤال جواباً [واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله] [البقرة: 281] تذكروا أثر
العمل الطيب، والسنة الحسنة حين تسري في الأمة وينتشر الخير بسببها، فتنالوا
أجر ذلك عن كل من تأثر به، والعكس بالعكس والعياذ بالله تذكروا أثر العمل
السيء والسنة السيئة حين تسري في أبناء الأمة ويتربون عليها فستنالوا وزر ذلك
ووزر من تأثر به نعيذكم بالله من هذا المآل، وهذا مصداق قوله -صلى الله عليه
وسلم-» من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن
ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل
بها « [3] .
ومن لوازم الصدق في التربية: أن يربط الأبناء والطلاب في حياتهم
بالأهداف العالية النبيلة، ولا يربطون بالتوافه من الأمور والأهداف الهابطة لأن
النظرة السائدة اليوم في أكثر بيوت المسلمين ومدارسهم: أن طلب العلم قد ربط
بالمصلحة الدنيوية، وأنها وسيلة للعيش ولا يوجد في جو المنزل أو جو المدرسة إلا
من رحم الله من يقول للمتربي إن لك أمة تنتظرك، وأن لك دوراً ينتظرك في
الدعوة إلى التوحيد وهداية الناس بإذن الله تعالى والجهاد في سبيله عز وجل والذود
عن حمى الأمة وعقيدتها، إن هذا النوع من التربية قليل، فعلى المربين الصادقين
مع ربهم سبحانه أن يحيوا هذه المعاني عند إخوانهم المربين ويصبغوا بها المناهج
المعدة لذلك، وينشروها في صفوف أبنائهم وطلابهم حتى يخرج جيل قوي متماسك
يشعر بانتمائه لهذا الدين، ويشعر بمسؤوليته ليتولى هو بدوره إكمال الطريق،
وتربية الأجيال التي تأتي بعد ذلك.
وبقيت كلمة أخيرة أوصي بها نفسي وإخواني الآباء، ألا وهي الصدق مع الله
سبحانه في جعل البيت محضناً من محاضن التربية الكريمة للأبناء والبنات
والإخوان والأخوات والزوجات، وذلك بعمارته بذكر الله عز وجل ووجود القدوة
الصالحة، وتطهيره من أسباب الرجس والفساد، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته..
إن العجب كل العجب من أناس أنعم الله عليهم بنعمة الأموال والأولاد، ثم هم
يخربون بيوتهم بأيديهم ويلقون بأنفسهم وأهليهم إلى النار، والله تعالى يقول: [يا
أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراْ وقودها الناس والحجارة] [التحريم: 6] .
إن أحدنا لو رأى ابنه أو ابنته أو أخاه أو أخته أو زوجته يتعرض أحدهم
لهلاك في الدنيا بحريق أو غرق أو سقوط من شاهق، لهب مسرعاً لإنقاذه وإن لم
يكن قريباً منه صاح به محذراً من السقوط في المهلكة، وإن الله سبحانه يحذرنا من
نار تلظّى لا تأتي نار الدنيا عندها إلا جزءاً من سبعين جزء منها ومع ذلك لا
يتحرك الكثير منا في إنقاذ نفسه وأهله منها [قل نار جهنم أشد حراْ لو كانوا
يفقهون] [التوبة: 81] .
الرسالة الرابعة إلى الإعلاميين في هذه الأمة:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به عباده المؤمنين سبحانه عز من قائل: [يا
أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين] [التوبة: 119] .
أيها المؤمنون من إعلاميي هذه الأمة: إني أخاطب فيكم عقيدتكم الإسلامية،
التي تحملونها بين جوانحكم التي تحدد هويتكم بين بني البشر وترفع رؤوسكم بين
بني الإنسان، أخاطب فيكم غيرتكم الإسلامية ومروءتكم العربية، وأخلاقكم العريقة
التي تميز المسلم عن غيره، أخاطب فيكم الأمانة العظيمة التي حملكم الله إياها من
خلال مسؤولياتكم الخطيرة التي تتولونها أخاطب فيكم المسؤولية التي أناطتها الأمة
بكم لتربوا أبناءها على الإيمان الصادق والعفة والطهارة والعزة والكرامة.
أيها الإعلاميون المؤتمنون على عقيدة الأمة وأخلاقها: اصدقوا مع ربكم
سبحانه في الوفاء بما عهد إليكم [وأوفو بالعهد إن العهد كان مسئولا]
[الإسراء: 34] ، [لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون]
[الأنفال: 27] .
واصدقوا مع أمتكم المسلمة التي أمنتكم دينها وأعراضها وعقولها وأفكارها،
فلا تخونوا أمتكم، وكونوا عند حسن ظنها بكم.
إن إعلام أي أمة يعبر عن عقيدتها وهويتها، وإذا أردنا أخذ صورة سريعة
عن أي أمة أو مجتمع، فلننظر إلى إذاعتها وتلفازها وصحفها وما ينشر فيها فإن
ذلك يدلنا على ما يقوم عليه هذا المجتمع من عقيدة وأخلاق.
إن لكل أمة هوية، فأين هويتنا الإسلامية في في كثير من إعلام دولنا؟ !
إن الإسلام ليس كلمة فحسب، ليس عقيدة مستكنة في القلب فحسب بل
الإسلام هو الاستسلام لله عز وجل وحده في جميع شؤون الحياة، قال تعالى: [يا
أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة] [البقرة: 208] .
هذا هو الإسلام الذي جاء من عند الله عز وجل، وإن الناظر في إعلام
المجتمعات المسلمة اليوم ليرى ازدواجية وانحرافاً، وهذا يعني أحد أمرين:
1- أن يكون هناك جهل بحقيقة هذا الدين، وأنه بالإمكان أن يكون المرء
مسلماً بقلبه ولسانه فقط ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء ويعمل ما يحلو له أن يعمل مادام
أنه ينطق الشهادتين، فالهوية التي يحملها هي الإسلام وهذه عقيدة المرجئة التي
أفسدت في الأرض ودخل من خلالها العلمانيون الذين يفصلون الدين عن الحياة،
ويجعلونه عقيدة مستكنة في الضمير وبين جدران المساجد فحسب! !
2- أو أن حقيقة الدين ومفهومه الواسع واضحة في أذهان القوم، ولكنهم
آثروا الحياة الدنيا ومناصبها وزخرفها على مرضاة الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة، فاشتروا الحياة الدنيا الفانية بالدار الآخرة الباقية فما أشد خسارتهم وأكسد تجارتهم، ألا ذلك هو الخسران المبين.
ثم ماذا سيكون جوابك إذا حاكمتك الأمة بأسرها على ما قدمت لها من كلمة
مسموعة أو مرئية أو مقروءة يوم تكون سبباً في إضلال أبنائها، أناشدك بما معك
من الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا تغفل عن هذا اليوم الرهيب، فوالله إنه لقريب:
[وما يدريك لعل الساعة قريب * يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا
مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي شقاق بعيد]
[الشورى: 18] .
وبعد: هذا ما يسر الله سبحانه كتابته حول هذا الموضوع، عسى الله أن ينفع
به كاتبه وقارئه في الدنيا والآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 11/241.
(2) طريق الدعوة، ج1، ص 96.
(3) صحيح مسلم (كتاب الزكاة ح/1017 سيصدر هذا الموضوع بحلقاته السابقة مع زيادات في رسالة مستقلة إن شاء الله في الحلقة السادسة من دراسات تربوية في ضوء القران للكاتب.(80/14)
دراسات اقتصادية
الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة
المشكلة الاقتصادية وعلاجها من المنظور الإسلامي
-4-
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقة السابقة ناقشنا علاقة التوزيع بعناصر الإنتاج، وبالتحديد دور
عنصر العمل باعتباره أهم عناصر الإنتاج تأثيراً في وجود المشكلة الاقتصادية
وكيفية معالجة الإسلام لعنصر العمل من ناحية أهميته النسبية من العملية الإنتاجية،
وفي هذه الحلقة سوف نتتطرق إلى مناقشة عنصر الموارد الطبيعية باعتباره
عنصراً من عناصر الإنتاج وعلاقة هذا العنصر بتوزيع الدخل القومي وتأثيره على
بروز المشكلة الاقتصادية، ومعالجة الإسلام لهذا العنصر من عناصر الإنتاج.
يقصد بالموارد الطبيعية وفقاً للمفهوم الاقتصادي: كل ما على سطح الأرض
من تربة وبحار وأنهار، وما فوقها من ضوء ورياح، وما في جوفها من ثروات
معدنية، إن هذا العنصر من عناصر الإنتاج هو مجال الاستغلال وهو الذي يمارس
الإنسان دوره فيه من خلال العمل للاستفادة مما أودع الله في أرضه وسمائه من
رزق لسد حاجات الإنسان.
الموارد الطبيعية والاقتصاد:
وعلاقة الموارد الطبيعية بالمشكلة الاقتصادية تتمثل في مدى الاستفادة مما في
الأرض من خيرات، وتحريك بقية عناصر الإنتاج لاستغلال هذه الموارد. إن عدم
استغلال الموارد الطبيعية المتاحة بأسلوب اقتصادي سليم يحقق النفع العام وتيسير
حاجات الأفراد يساعد على بروز المشكلة الاقتصادية، فأهمال الموارد الطبيعية
وعدم استغلالها يؤدي إلى تعطل بقية عناصر الإنتاج الأخرى مما يساعد على تفاقم
المشكلة الاقتصادية كما أن أسلوب الاستغلال للموارد الطبيعية وعدم مراعاة التوازن
عند الاستغلال يؤدي إلى استنزاف الموارد أو أهدارها وبالتالي تفاقم المشكلة
الاقتصادية أيضاً.
قواعد وضوابط:
لقد وضع الإسلام قواعد وأرشد إلى مناهج في كيفية استغلال الموارد الطبيعية
بالشكل الذي يخدم اقتصاديات المجتمع، ويحقق التوازن في استغلال الموارد
الطبيعية، ويزيل ويبعد الوسائل المسببة لإهدار الموارد مما يقلل من تأثير عنصر
الموارد الطبيعية في تفاقم المشكلة الاقتصادية.
وترتكز القواعد التي عالج بها الإسلام عنصر الموارد الطبيعية على نظرته
بأن ما في السموات والأرض قد سخر لمصلحة الإنسان ومعاشه، وأن على الإنسان
أن يبذل طاقته للاستفادة مما وهبه الله من موارد خلقت لتوفر احتياجات الإنسان
المادية، ويمكن تحديد القواعد التي يأمر الإسلام بتبنيها عند معالجته لعنصر الموارد
الطبيعية في الأمور التالية:
أولاً: الحث على استغلال الموارد المعطلة بتوجيه ولاة أمر المسلمين بالتدخل
بوضع القواعد والضوابط المؤدية إلى استغلال الموارد المعطلة فقد روى أبو داود
عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري أن عامر الشعبي حدثه أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها
فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له» [1] ، وهذا الحديث يرشد إلى عدم ترك الموارد
المعطلة بدون استغلال، وإن للمجتمع المسلم الحق في التدخل في استغلال هذه
الموارد المعطلة حتى ولو كانت ملكيتها ملكية فردية، وعلى ضوء هذا الحديث
يمكن أن تقوم الدولة المسلمة بوضع القواعد الإجرائية فيما يتعلق بالمنشآت
الصناعية، أو الزراعية، أو غيرها من الأصول الثابتة المنتجة عند عجز ملاكها
عن تشغيلها بالتدخل بتشغيلها؛ لأن هذا الإجراء سوف يؤدي إلى التقليل من تفاقم
المشكلة الاقتصادية وذلك باستمرارية الإنتاج واستغلال القوى العاملة في هذه
المشاريع وعدم تعطلها، وبالتالي الحد من إهدارها، وحقيقة المشكلة الاقتصادية في
العالم الإسلامي تكمن في عجز الدول الإسلامية عن ممارسة دورها في استغلال
الموارد الطبيعية، بل إن إهدار الموارد الطبيعية هو السمة البارزة في الممارسات
الاقتصادية لمعظم الدول الإسلامية.
ثانياً: منح الامتياز إذا وجدت علاقة ما بين الموارد الطبيعية وحاجة الناس
لفئة من فئات المجتمع على حساب الفئات الأخرى: فالموارد الطبيعية التي يحتاج
إليها الناس وهي ميسره وفي متناول الجميع لا يحق لشخص امتلاكها وليس للدولة
إعطاء حق الامتياز لشخص أو فئة وبالتالي احتكار منافعها، فحبس مورد طبيعي
يحتاج إليه الناس وجعله في أيدي فئة معينة من الناس من الأمور المسببة لوجود
المشكلة الاقتصادية سواءً بتعطيل الاستفادة من هذا المورد أو من خلال احتكاره
وحرمان فئات من الناس من الاستفادة منه لعدم قدرتهم على دفع الثمن المطلوب لقاء
حق الامتياز أو الإقطاع، ولكن حق منح الامتياز والإقطاع موكول إلى ولي الأمر
ضمن احتياج المورد الطبيعي حتى يمكن استغلاله، أي أن المورد الطبيعي بطبيعته
التي خلقها الله عليها يحتاج إلى جهد ومال للاستفادة منه، منع الامتياز إنما يعود
إلى الموارد الطبيعية الظاهرة التي يمكن لجميع الناس الاستفادة منها مثل الملح
أوالكلأ أو التراب أو الرمال وغير ذلك من الأمور الظاهرة علي وجه الأرض،
التي يمكن للناس الاستفادة منها مباشرة، وقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسلام
فيما رواه ابن ماجه عن ثابت بن سعيد عن جده أبيض بن حمال: «أنه استقطع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الملح الذي يقال له ملح سدّ بمأرب فأقطعه له،
ثم إن الأقرع بن حابس التميمي أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا
رسول الله إني قد وردت على الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس بها ملح ومن
ورده أخذه، وهو مثل الماء العدّ، فاستقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أبيض
بن حمال في قطيعتة في الملح فقال أبيض: قد أقلتك منه على أن تجعله مني صدقة
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هو منك صدقة، وهو مثل الماء العدّ من
ورده أخذه» [2] . وروي ابن ماجة بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلاء والنار وثمنه
حرام» [3] وفي رواية أخرى لابن ماجة بسنده عن أبي هريرة «ثلاث لا يمنعن
الماء والكلاء والنار» [4] ، فمن جملة هذه الأحاديث يتضح مراعاة حاجة الناس
الظاهرة البارزة للمورد الطبيعي، وأن الحاجة العامة للمورد الطبيعي تمنع ولي
الأمر من منح امتيازه لأي فئة من الفئات حتى لا يؤدي ذلك إلى إحتكاره والإضرار
بالناس والتأثير على عرض هذه المادة التي يستفاد من أخذها من المورد الطبيعي
مباشرة، حيث إن منح حق امتياز استغلالها لفئة من الناس أو إقطاعها لفئة من
الناس أو لشخص أو لأشخاص سيؤدى إلي قلة العرض، وارتفاع سعرها وعجز
الناس عن تملكها مع حاجتهم الماسة إليها وشرائها من محتكرها الممنوح له حق
امتيازها.
ثالثاً: تدخل الدولة المباشر باستغلال الموارد الطبيعية غير المستغلة وفق
خطط إنتاجية استثمارية يضعها ولي الأمر وفق الظروف والمعطيات المتوفرة
وبأسلوب يدفع أفراد الأمة لاستغلال هذه الموارد الطبيعية المعطلة، أي أن من
السياسات التي يحبذها الإسلام عدم العمل المباشر في استغلال المورد الطبيعي وإنما
العمل على تشجيع الأفراد باستغلال مدخراتهم، وبالتالي المساهمة في حل المشكلة
الاقتصادية من خلال قيام الدولة في توفير رأس المال الخاص باستغلال الموارد
الطبيعية وتوفير الظروف للقوى العاملة في المساهمة في استغلال هذه الموارد، فقد
أخرج البخاري مرسلاً عن قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال: «ما بالمدينة أهل
بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع على وسعد بن مالك وعبد الله
ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي
وابن سيرين، وقال عبد الرحمن بن الأسود كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في
الزرع، وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن
جاؤوا بالبذر فلهم كذا» [5] ، ومن هذا الحديث ندرك السياسة التوزيعية لعناصر
الانتاج، التي تقوم علي العمل على دفع عوامل الإنتاج الأخرى لتحقيق التوازن بين
مختلف عناصر الإنتاج، وتوزيع الدخل القومي بين هذه العناصر لمعالجة جانب
الإنتاج في المشكلة الاقتصادية.
رابعاً: استغلال الموارد الطبيعية من خلال تدخل ولي الأمر في إعادة توزيع
الفائض من الاستغلال عن طريق وضع التنظيمات الخاصة والقواعد المنظمة التي
تساعد على الاستفادة من مكونات الناتج القومي مع مراعاة حقوق التملك الخاصة
وذلك بالتدخل لتحقيق المصلحة العامة لزيادة الناتج القومي والإقلال من تأثير
العناصر المرتبطة بالموارد الطبيعية من التأثير في إيجاد المشكلة الاقتصادية
واستفحالها، ولقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسلام الجوانب في كيفية تحقيق
ذلك من خلال التوجيه النبوي للأمة فمن ذلك ما رواه البخاري وابن ماجة عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لا تمنعوا
فضل الماء لتمنعوا به الكلأ» وفي لفظ ابن ماجه «لا يمنع أحدكم فضل ماء ليمنع
به الكلأ» [6] . كما أوضح الحديث الأخر الذي رواه ابن ماجة عن جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما قال نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع فضل
الماء وفي رواية له «لا يمنع فضل الماء ولا يمنع نقع البئر» [7] ونقع البئر هو
الزائد من مائها أو المجتمع، فمن هذه الأحاديث يمكن فهم التوجيه النبوي في
معالجة الاستفادة منها عند عدم توفر المياه، وبالتالي فإنه في حالة وجود بئر مملوكة
لفرد فإن عليه أن يمنح الرعاة ما زاد عن حاجته حتى يمكن الاستفادة من الكلأ في
المناطق المتاخمة للبئر، كما قد يفهم أنه في حالة توفر مياه زائدة عن حاجة مالك
لبئر، فإن عليه أن يمنح ما زاد عن حاجته في زراعته إلى الآخرين ممن لا يوجد
لديهم الماء، وهذا يؤدي إلى قيام الأفراد باستغلال الأراضي المجاورة لمن يتوفر
لديه الماء مع مراعاة عدم الإضرار بمالك البئر، وهذا ينطبق في حالة تعطل
وسائل رفع الماء لدى أحد المزارعين مما قد يحتاج إلى ما زاد عن ماء جاره حتى
لا يخسر إنتاجه ويمكن القياس على ذلك فيما يتعلق، في حالة تعطل مورد من
الموارد الطبيعية عن الاستغلال وإمكانية استغلال هذه الموارد ولو بالتدخل في
تنظيم استغلال الزائد من الموارد الطبيعية.
__________
(1) سنن إبي داود كتاب البيوع، صحيح سنن أبي داود ح/3009 ج2ص 67.
(2) سنن ابن ماجه كتاب الرهون، باب إقطاع الأرض والعيون، ح/ 2475، صحيح سنن ابن ماجه ح/2006 ج2ص64، 65، وحسنه الألباني.
(3) سنن ابن ماجه كتاب الرهون، باب (المسلمون شركاء في ثلاثة) ، ح/ 2472، صحيح ابن ماجه ج2/64 ح/2004، قال الألباني صحيح دون " ثمنه حرام ".
(4) ابن ماجه، كتاب الرهون، (باب المسلمون شركاء في ثلاثة ح/ 2473، صحيح ابن ماجه ح/2005 ج 2/64.
(5) أخرجه البخاري، كتاب الحرث والمزارعة - باب المزارعة بالشطر ونحوه وأشار ابن حجرإلى أنه موصول من طريق أخرى.
(6) البخاري كتاب الأشربةح/2353، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج5ص39.
(7) أخرجه ابن ماجه كتاب الرهون، باب النهي عن بيع فضل الماء، ح/ 2479، وصححه الألباني، صحيح ابن ماجه ح/2010، ج2 ص65.(80/24)
خواطر في الدعوة
الفرج بعد الشدة
محمد العبدة
هذا العنوان من الكلام المحبب عن الأقدمين، وقد ألفوا فيه الكتب وجمعوا
حوله الفصول، تُرى لماذا هذا الاهتمام، وأي باعث للكتابة في هذا الشأن؟ لاشك
أن الشدائد التي لاقاها المسلمون وخاصة ما بعد القرن الرابع هي السبب في هذا،
سواءاً أكانت شدائد داخلية من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، أو كانت خارجية
مما أصاب العالم الإسلامي من الغزو الخارجي المدمر، وهذا ما حدا بالقاضي
التنوخي أن يكتب المجلدات حول (الفرج بعد الشدة) .
إن ما ابتلي به المسلمون في السنوات الأخيرة من الحيف الواقع بهم والحرب
الإعلامية الحاقدة التي تشن عليهم صباح مساء، ما يجعل هذا العنوان محبباً إلى
المسلم المعاصر أيضاً، ويجعله يردد مع الشاعر:
فاصطبر، وانتظر بلوغ مداها ... فالرزايا إذا توالت تولت
إننا لا نستطيع الإغراق في التفاؤل، وربما لأن الأمور لم تبلغ مداها بعد
وخاصة من جانب الصبر والإعداد المطلوب من المسلم ولكن مما يبشر بخير أن
المسلمين رغم الواقع الأليم قد أصبحوا رقماً صعباً في المعادلة السياسية الداخلية
والدولية، وعاد بعض أشد الأعداء ليقول: يجب أن نتعايش مع هؤلاء، ونفكر
بطريقة عقلانية للتفاهم معهم ... وشيء آخر وهو هذه الحرب الإعلامية التي نرى
فيها السُمّ الناقع، لهي دليل على تعاظم قوة الإسلام وشعور الأعداء بالخطر من
جهته.
عندما يستطيع المسلمون الوصول إلى نقطة (الحرج) مع أعدائهم، فمعنى هذا
أن كفة الميزان بدأت تميل لصالحهم، فكفار مكة عندما شعروا بالخطر بدأوا بوضع
العراقيل أمام هجرة المسلمين، فمرة يحجزون أموالهم، ومرة يحجزون زوجاتهم
وأولادهم، ودبروا قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم-أو إخراجه أو سجنه،
وعندما علموا بهجرته تشنجت أعصابهم ووضعوا الجوائز لمن يأتي به حياً أو ميتاً
ولكن من رحمة الله بعباده أن لا يوصلهم إلى مرحلة اليأس والطريق المسدود،
فيذلوا وينكسروا، وقد قال تعالى: [فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً]
[الشرح: آية 6] ، وقد جاء في تفسيرها: لن يغلب عسر واحد يسرين، ومن ظن
أن الله يسلط أعداءه على رسله تسليطاً دائماً، فقد ظن ظن السوء، كما يقول
العلامة ابن القيم رحمه الله، فهل يتقدم المسلمون خطوة أو خطوات حتى يستحقوا
(الفرج بعد الشدة) وينطبق عليهم قوله تعالى: [وقال الذين كفروا لرسلهم
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين *
ولنسكننكم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد]
[ابراهيم: 13- 14] .(80/30)
دراسات تاريخية
عبد الله بن سبأ
في ميزان البحث العلمي
-1-
د. محمد أمحزون
تمهيد:
موضوع «عبد الله بن سبأ والسبئية» أحد الأبحاث التي تطرق إليها
بالدراسة الكثير من الباحثين من المسلمين والمستشرقين، ومن أهم الدراسات في
هذا الباب بحث الدكتور سليمان بن حمد العودة بعنوان «عبد الله بن سبأ وأثره في
إحداث الفتنة في صدر الإسلام» وبحث «عبد الله بن سبأ بين الحقيقة والخيال»
د. سعدي الهاشمي، وبحث الأستاذ أحمد عرفات القاضي بعنوان «إنكار ابن سبأ
نقش على الماء» [1] .
وهذه الدراسة للدكتور (محمد أمحزون) مناقشة بحث جديد حول الموضوع
نفسه لباحث لم يأت بجديد وإنما هو نقل عن الباحثين حول تلك الشخصية، والناقد
(الكاتب) أحد المتخصصين في دراسة التاريخ، وعضو هيئة التدريس في جامعة
«مكناس» بالمغرب (قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية.
- البيان -
هذه الدراسة نقد للبحث الذي نشره د. عبد العزيز الهلابي أستاذ التاريخ
الإسلامي في جامعة الملك سعود، في حوليات كلية الآداب الكويتية [*] عن عبد الله بن
سبأ، تدخل في مجال اهتمامات التاريخ الإسلامي، وقد قام فيه المؤلف بتحليل
روايات الإخباري سيف بن عمر التميمي عن دور عبد الله بن سبأ في أحداث الفتنة
الواقعة في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما حيث انتهى بحثه إلى أن تلك
الروايات مختلقة ولا أساس لها من الصحة! ! ثم أورد النصوص عن «السبئية»
في بعض المصادر المتقدمة فأوضح أنه من خلال استخدامها في تلك المصادر لا
تعني جماعة لها عقيدة دينية أو مذهب سياسي محدد، وأنها أطلقت على أناس
مختلفين، وكان يقصد بها في كل الأحوال الذم والتعيير، وبعد أن ناقش أقوال
الباحثين المعاصرين وآراءهم من عرب ومستشرقين خلص في بحثه إلى أن ابن
سبأ شخصية وهمية، وأن الدور المنسوب إليه في إثارة الأحداث وتسييرها دور
مزعوم.
إن هذا البحث الذي كتبه د. الهلابي يعتبر أحدث دراسة مستقلة أفردت عن
عبد الله بن سبأ ولذلك أحببت إبداء بعض الملحوظات حول الآراء التي تبناها حيث
نفى في بحثه وجود تلك الشخصية، وأن ابن سبأ في رأيه لا يعدو أن يكون مجرد
خرافة سطرتها كتب التاريخ والفرق! !
ومن الملحوظات على هذه الدراسة ما يلي:
أولاً سيف بن عمر لم ينفرد بالرواية:
يقول د. الهلابي في ص (13) من بحثه: «ينفرد الإخباري سيف بن عمر
التميمي من بين قدامى الإخباريين والمؤرخين بذكر تلك الشخصية في رواياته،
ويجعل له دوراً رئيساً في التحريض على الفتنة، وقتل الخليفة عثمان وإنشاب
القتال في معركة الجمل في البصرة» [2] .
في الواقع أن سيف بن عمر لم يكن المصدر الوحيد الذي استأثر بأخبار عبد
الله بن سبأ، بل ورد ذكر أخبار ابن سبأ وطائفته منقولة عن علماء متقدمين ورواة
غير سيف بن عمر مثل:
* سويد بن غفلة أبو أمينة الجعفي الكوفي المتوفى عام (80 هـ/ 699م) ،
مخضرم ثقة، من أصحاب علي رضي الله عنه [3] جاء في «طوق الحمامة»
لحيي بن حمزة الزيدي وفي «اللفظ» للبرقاني أنه دخل على علي في إمارته فقال
: «إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر، يرون أنك تضمر لهما مثل ذلك،
منهم عبد الله بن سبأ، فقال علي: مالي ولهذا الخبيث الأسود، ثم قال: معاذ الله
أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيّره إلى المدائن،
ونهض إلى المنبر حتى إذا اجتمع الناس أثنى عليهما خيراً، ثم قال: أو لا يبلغني
عن أحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري [4] .
* زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي المتوفى قبل عام (90هـ/709م) ،
روى عن علي بن أبي طالب، وهو من جلة التابعين، متفق على الاحتجاج به،
أخرج ابن عساكر في» تاريخ دمشق «عنه قال:» قال علي بن أبي طالب:
مالي ولهذا الخبيث الأسود، يعني عبد الله بن سبأ، وكان يقع في أبي بكر
وعمر « [5] .
* إبراهيم بن يزيد النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه الثقة المتوفى عام (96
هـ / 714 م) [6] . روى ابن سعد في» طبقاته «أن رجلاً كان يأتيه فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى
الناس مختلفين في أمر علي وعثمان، فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك فقال:» ما
أنا بسبأي ولا مرجئ « [7] .
* الشعبي عمر بن شراحيل الحميري اليمني المتوفى عام (103هـ/721م) ،
من رواة الأنساب والأخبار الثقات [8] . أخرج عنه ابن عساكر في» تاريخ دمشق «قال:» أول من كذب عبد الله بن سبأ « [9] .
*سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني المتوفى عام
(106هـ/721م) ، كان أحد فقهاء التابعين، ثبتاً فاضلاً [10] ، روى يعقوب بن
سفيان الفسوي في كتابه» المعرفة والتاريخ «قال:» قال أبو الوليد: سألني سالم
بن عبد الله بن عمر: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال: بئس القوم بين
سبأي وحروري « [11] .
* أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي المعمر المتوفى عام
(110هـ/ 728م) ، روى عن علي بن أبي طالب، قال فيه الحافظ الذهبي: وبه ختم الصحابة في الدنيا [12] . أخرج ابن عساكر عنه قال:» رأيت المسيب ابن نجبة أتى به ملببه، يعني ابن السوداء، وعلي على المنبر، فقال علي: ما
شأنه؟ فقال: يكذب على الله ورسوله [13] .
* حُجيّة بن عدي الكندي أبو الزعراء الكوفي، روى عن علي وجابر وهو
من الطبقة الثالثة [14] . ذكر ابن عساكر عنه أنه رأى علياً على المنبر، وهو
يقول: من يعذرني من هذا الحميت الأسود الذي يكذب على الله ورسوله يعني ابن
السوداء [15] .
* أبو الجلاس الكوفي، روى عن علي بن أبي طالب، من الطبقة
الثالثة [16] . نقل ابن عساكر عنه قال: «سمعت علياً يقول لعبد الله بن سبأ: ويلك! والله ما أفضي إليّ بشيء كتمته أحداً من الناس، ولقد سمعته يقول: إن بين يدي الساعة ثلاثين كذاباً وإنك لأحدهم [17] .
* قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى عام (117هـ/735م) ، من ثقات التابعين
وحفاظهم، روى عن أبي الطفيل وأنس بن مالك، كان آية في الحفظ
والرواية [18] . نقل الإمام الطبري في تفسير قوله:» وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية [فأما الذين في قلوبهم زيغ ... ] قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية ... فلا أدري « [19] .
* أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي المتوفى عام (157هـ/773م) [20] . نقل
الإمام الطبري عنه في» تاريخه «رواية يصف فيها أشراف أهل الكوفة لخصومهم
من أصحاب المختار بالسبئية [21] .
ثانياً الموهوم لا يدفع المعلوم:
يقول المؤلف:» لا أعلم فيما اطلعت عليه من المصادر المتقدمة أي ذكر لعبد
الله بن سبأ عند غير سيف بن عمر سوى رواية عند البلاذري « [22] .
إن المصادر المتقدمة التي اطلع عليها د. الهلابي إذا كانت أغفلت موضوع
ابن سبأ والسبئية، فلا يعني ذلك بالضرورة أنه شخصية خرافية، إذ إن عدم ذكرها
له لا يقوم دليلاً على الإنكار أو التشكيك، فهل استوعَبَت تلك المصادر كل أحداث
التاريخ الإسلامي حتى نقف وقفة المنكر أو المتشكك إذا لم تذكر شيئاً عن ابن سبأ؟! وهل من شروط صحة الرواية التاريخية تضافر كل كتب التاريخ على ذكرها؟ !
ثم هل نسي د. الهلابي أن المصادر القديمة ضاع كثير منها فأصبحت مفقودة أو في
حكم المفقود، حيث ضاع كثير من مؤلفات الزهري وابن إسحاق والواقدي
والمدائني وابن شبّه والأصمعي والهيثم بن عدي وعروة بن الزبير وغيرهم، إلا ما
استوعبته بعض المصنفات الموسوعية كتاريخ الطبري مثلاً؟
ومن هنا ينبغي الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق للخروج من الشبهات
والتوهمات، إذ إن الموهوم لا يدفع المعلوم، والمجهول لا يعارض المحقق
فشخصية ابن سبأ وجماعته حقيقة تاريخية يتفق عليها كثير من المصادر المتقدمة
غير البلاذري.
جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همذان المتوفى عام (83هـ/702م) وقد
هجى المختار وأنصاره من أهل الكوفة بقوله:
شهدت عليكم أنكم سبئية وأني ... بكم يا شرطة الكفر عارف [23]
وجاء ذكر السبئية في كتاب» الإرجاء «للحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى
عام (95هـ/713م) ، الذي أمر بقراءته على الناس وفيه:» ... ومن خصومة هذه
السبئية التي أدركنا، إذ يقولون هدينا لوحي ضل عنه الناس « [24] .
وفي الطبقات لابن سعد المتوفى عام (230هـ/844م) ورد ذكر معتقدات
السبئية وأفكار زعيمها، فعن عمرو بن الأصم قال: قيل للحسن بن علي: إن أناساً
من شيعة أبي الحسن علي عليه السلام يزعمون أنه دابة الأرض، وأنه سيبعث قبل
يوم القيامة، فقال كذبوا، ليس أولئك شيعته أولئك أعداؤه، لو علمنا ذلك ما قسمنا
ميراثه ولا أنكحنا نساءه ... » [25] . علماً بأن ما ذكر في هذا النص لا يخرج
عما جاء به ابن سبأ من آراء، وأكده علماء الفرق والنحل والمؤرخون في
كتبهم [26] .
وتحدث ابن حبيب المتوفى عام (245هـ/860م) عن ابن سبأ حينما اعتبره أحد
أبناء الحبشيات [27] ، كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم المتوفى عام
(253هـ/ 859م) خبر إحراق علي رضي الله عنه لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه «الاستقامة» [28] .
وفي «البيان والتبيين» للجاحظ المتوفى عام (255هـ/868م) رواية تشير
إلى عبد الله بن سبأ [29] ، كما ذكر الجوزجاني المتوفى عام (259هـ/873م) وهو
من علماء الجرح والتعديل، أن من مزاعم عبد الله ادعاءه أن القرآن جزء من تسعة
أجزاء، وعلمه عند علي، وأن علياً نفاه بعد ما كان هم به « [30] .
ويقول ابن قتيبة المتوفى عام (276هـ/889م) في» المعارف «:» السبئية
من الرافضة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ « [31] .
ويذكر البلاذري المتوفى عام (279هـ/892م) ابن سبأ في جملة من أتوا إلى
علي رضي الله عنه يسألونه عن رأيه في أبي بكر وعمر، فقال لهم: أوتفرغتم لهذا؟ وحينما كتب علي الكتاب الذي أمر بقراءته على أنصاره كان منه عند عبد الله ابن
سبأ نسخة عنه فحّرفها» [32] .
وأورد الناشيء الأكبر المتوفى عام (293هـ/905م) عن ابن سبأ وطائفته ما
يلي: «وفرقة زعموا أن علياً عليه السلام حي لم يمت، وأنه لا يموت حتى يسوق
العرب بعصاه، وهؤلاء هم السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان عبد الله بن سبأ
رجلاً من أهل صنعاء، يهودياً ... وسكن المدائن» [33] .
ثالثاً السبئية في المصادر وليست للذم والتعيير فقط:
بعد أن ذكر المؤلف نصوصاً نثرية وشعرية ورد فيها ذكر السبئية، قال:
«وبناءً على هذا فلا يمكن الاستنتاج من النصوص السابقة أن السبئية تعني فئة لها هوية سياسية معينة، أو مذهب عقائدي محدد، ولكن المؤكد أنها عندما تطلق على قوم يقصد بها الذم والتعيير» [34] .
إن هذا الاستنتاج للباحث لا يخلو من المغالطة والتمويه، فهو يحاول جاهداً
التشكيك في السبئية إلى حد جعله يتأولها مجرد كلمة تستعمل للسب والذم! !
إني لأكاد أدهش حين يقول ذلك، وهو نفسه يذكر نصاً شعرياً للفرزدق [35]
فيه إشارة واضحة إلى ابن سبأ اليهودي الأصل، الهمداني اليمني المنشأة.
تعرف همدانية سبئية ... وتكره عينيها على ما تنكرا
ولو أنهم إذا نافقوا كان منهم ... يهوديهم كانوا بذلك أعذرا
على أن وجود عبد الله بن سبأ وارتباط السبئية به مما أطبقت عليه المصادر،
فذكرته كتب التاريخ والحديث والطبقات والرجال والأنساب والأدب واللغة، وجزم
بذلك علماء الفرق والمقالات.
فقد نقل القمي المتوفى عام (301هـ/913م) أن عبد الله بن سبأ أول من أظهر
الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم وادعى أن علياً أمره
بذلك [36] .
وأما الإمام الطبري المتوفى عام (310هـ/922م) فقد أفاض في تاريخه في ذكر
أخبار ابن سبأ ومكائده معتمداً على روايات الإخباري سيف بن عمر التميمي عن
شيوخه [37] .
ويتحدث النوبختي المتوفى عام (310هـ/922م) عن أخبار ابن سبأ فيذكر أنه
لما بلغ نعي علي بالمدائن قال للذي فعله: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة،
وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك
الأرض [38] .
ويقول أبو حاتم الرازي المتوفى عام (322هـ/933م) أن عبد الله بن سبأ ومن
قال بقوله من السبئية كانوا يزعمون أن علياً هو الإله، وأنه يحيى الموتى وادعوا
غيبته بعد موته [39] .
وأكد ابن عبد ربه المتوفى عام (328هـ/939م) أن ابن سبأ وطائفته السبئية قد
سلكوا مسلك الغلو في علي حينما قالوا هو الله خالقنا، كما غلت النصارى في
المسيح بن مريم [40] .
ويذكر أبو الحسن الأشعري المتوفى عام (330هـ/941م) عبد الله بن سبأ
وطائفته من ضمن أصناف الغلاة، إذ يزعمون أن علياً لم يمت، وأنه سيرجع إلى
الدنيا فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً [41] .
وروى الكشي المتوفى عام 340هـ/951م) بسنده إلى أبي جعفر محمد الباقر
قوله: إن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة، ويزعم أن أمير المؤمنين عليه السلام
هو الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، كما روى بسنده إلى علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب: «لعن الله من كذب عليناً، إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت
كل شعرة في جسدي، لقد ادعى أمراً عظيماً، ماله لعنه الله» [42] .
ويقول ابن حبان المتوفى عام (354هـ/965م) : «وكان الكلبي محمد ابن
السائب الإخباري سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون: إن
علياً لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير
المؤمنين فيها» [43] .
ويقول المقدسي المتوفى عام (355هـ/965م) في كتابه «البدء والتاريخ» :
إن عبد الله بن سبأ قال عندما بلغه موت علي بن أبي طالب: لا يموت حتى يسوق
العرب بعصاه [44] .
ويكشف الملطي المتوفى عام (377هـ/989م) عن عقيدة السبئية فيقول:
«ففي عهد علي رضي الله عنه جاءت السبئية إليه وقالوا: أنت أنت! قال: من
أنا؟ قالوا: الخالق الباريء، فاستتابهم فلم يرجعوا فأوقد لهم ناراً عظيمة
فأحرقهم [45] . ...
ويذكر كبير محدثي الشيعة ابن بابويه القمي المتوفى عام (381هـ/991م)
موقف ابن سبأ وهو يعترض على علي رضي الله عنه في رفع اليدين إلى السماء
أثناء الدعاء [46] .
وفي» مفتاح العلوم «للخوارزمي المتوفى عام (387هـ/997م) :» السبئية
أصحاب عبد الله بن سبأ « [47] .
وذكر البغدادي المتوفى عام (499هـ/1037م) أن فرقة السبئية أظهروا دعوتهم
في زمان علي رضي الله عنه فأحرق قوماً منهم، ونفى ابن سبأ إلى سباط المدائن،
إذ نهاه ابن عباس رضي الله عنهما عن قتله حينما بلغه غلوه فيه، وأشار عليه بنفيه
إلى المدائن حتى لا يختلف عليه أصحابه، لاسيما وهو عازم على العود إلى قتال
أهل الشام [48] .
وقال أبو جعفر الطوسي المتوفى عام (460هـ/1067م) إن ابن سبأ رجع إلى
الكفر وأظهر الغلو [49] .
ويقول الاسفراييني المتوفى عام (471هـ/1078م) إن ابن سبأ قال بنبوة علي
في أول أمره، ثم دعا إلى ألوهيته، ودعا الخلق إلى ذلك، فأجابته جماعة إلى ذلك
في وقت علي [50] .
ويتحدث الشهرستاني المتوفى عام (548هـ/1153م) عن ابن سبأ فيقول:
» ومنه انشعبت أصناف الغلاة « [51] . ويقول أيضاً: إن ابن سبأ أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي» [52] .
كما أن كتب الأنساب هي الأخرى تؤكد نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ،
ومنها كتاب الأنساب للسمعاني المتوفى عام (562هـ/1167م) [53] .
وعرّف ابن عساكر المتوفى عام (571هـ/1176م) ابن سبأ بقوله: «عبد الله
ابن سبأ الذي تنسب إليه السبئية، وهم الغلاة من الرافضة، أصله من اليمن، كان
يهودياً وأظهر الإسلام» [54] .
وفي اللباب في تهذيب الأنساب «يذكر ابن الأثير المتوفى عام
(630هـ/ 1232م) ارتباط السبئية من حيث النسبة بعبد الله بن سبأ» [55] .
وذكر ابن أبي الحديد المتوفى عام (655هـ/1257م) في «شرح نهج البلاغة
ما نصه:» فلما قتل أمير المؤمنين عليه السلام أظهر ابن سبأ مقالته وصارت له
طائفة وفرقة يصدقونه ويتبعونه « [56] .
وذكر السكسكي المتوفى عام (683هـ/1284م) أن ابن سبأ وجماعته أول من
قالوا بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت [57] .
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى عام (728هـ/1327م) أن أصل الرفض
من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلو في علي بدعوى
الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له» [58] .
وأشار الحسن الحلبي المتوفى عام (740هـ/1339م) إلى أن ابن سبأ ضمن
أصناف الضعفاء [59] .
وعند الحافظ الذهبي المتوفى عام (748هـ/1347م) : «عبد الله بن سبأ من
غلاة الشيعة، ضال مضل» [60] .
أما الصفدي المتوفى عام (764هـ/1363م) فقد قال في ترجمته: «عبد الله
ابن سبأ رأس الطائفة السبئية ... فلما قتل علي زعم ابن سبأ أنه لم يمت لأن فيه
جزءاً إلهياً، وابن ملجم إنما قتل شيطاناً تصور بصورة علي، وأن علياً في
السحاب، والرعد صوته، والبرق صوته، وأنه سينزل إلى الأرض» [61] .
ويشير الشاطبي المتوفى عام (790هـ/1388م) إلى أن بدعة السبئية من البدع
الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله تعالى الله وهي بدعة تختلف عن غيرها من
المقالات [62] .
ويعرف الجرجاني المتوفى عام (816هـ/1413م) عبد الله بن سبأ بأنه رأس
الطائفة السبئية ... وأن أصحابه عندما يستمعون الرعد يقولون: عليك السلام يا
أمير المؤمنين « [63] .
وفي خطط المقريزي المتوفى عام (845هـ/1441م) أن عبد الله بن سبأ قام في
زمن علي رضي الله عنه مُحدثاً القول بالوصية والرجعة والتناسخ [64] .
وسرد الحافظ ابن حجر المتوفى عام (852هـ/1448م) في كتابه:» لسان
الميزان «عن ابن سبأ أخباراً غير روايات سيف بن عمر، ثم قال في النهاية:
» وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ، وليس له رواية والحمد لله « [65] .
وفي عقد الجمان للعيني المتوفى عام (855هـ/1451م) أن ابن سبأ دخل مصر
وطاف في كورها، وأظهر الأمر بالمعروف، وتكلم في الرجعة، وقررها في قلوب
المصريين [66] .
وأكد السيوطي المتوفى عام (911هـ/1505م) في كتاب» لب الألباب في
تحرير الأنساب «نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ [67] .
وتحسن الإشارة إلى أنه لا ينبغي الغض من قيمة المصادر المتأخرة التي
ذكرت السبئية، ذلك أن أصحابها كابن كثير والذهبي وابن حجر والسيوطي
وغيرهم من الأئمة الحفاظ، كانوا يستقون معلوماتهم من مصادر قديمة وقيمة بعضها
الآن في عداد المفقود، كما عرفوا بسعة اطلاعهم، وغزارة معارفهم وتقصيهم
الدقيق للأخبار، حتى إن الباحث يندهش مثلاً عندما يطلع على كثرة الطرق
وتنوعها في رواية ابن حجر لأحداث تاريخية، ومن مصادر متقدمة كأخبار البصرة
لابن شبه، وكتاب صفين لحيي بن سليمان الجعفي، والمعرفة والتاريخ للفسوي،
وتاريخ أبي زُرعة الدمشقي، وغيرها من كتب التاريخ.
وللحوار بقية. في العدد القادم بإذن الله.
__________
(*) دورية علمية تصدر عن جامعة الكويت.
(1) المنشور في مجلة الأزهر بدءاً من العدد (5 السنة 63) الصادر في جمادى الأولى عام 1411 هـ.
(2) الهلابي: عبد الله بن سبأ: دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة، ص 13.
(3) انظر: العجلي: الثقات، ص 212، وابن حجر: تقريب التهذيب، ج1، ص341.
(4) يحيى بن حمزة الزيدي: طوق الحمامة (نقلاً عن إحسان إلهي ظهير: السنة والشيعة، ص 8) ، وابن حجر: لسان الميزان، ج3، ص 280، وتهذيب التهذيب، ج2، ص 214، قال: (رواه البرقاني في اللفظ) .
(5) ابن عساكر: تاريخ دمشق (المخطوط) ج9، ص 331.
(6) الذهبي: الكاشف، ج1، ص51، وابن حجر: التهذيب، ج1، ص 177.
(7) ابن سعد: الطبقات، ج6، ص 192.
(8) انظر: الفسوي: المعرفة والتاريخ، ج2 ص 592، والخطيب: تاريخ بغداد ج12، ص 227.
(9) ابن عساكر: المصدر السابق (المخطوط) ، ج9 ص 331.
(10) انظر: ابن سعد: المصدر السابق، ج5 ص195، وخليفة: الطبقات، ص 246.
(11) الفسوي: المصدر السابق، ج2 ص7658.
(12) انظر: الذهبي: الكاشف، ج2، ص52 وابن حجر: التقريب، ج 1، ص389.
(13) ابن عساكر: المصدر السابق (المخطوط) ج9، ص331.
(14) انظر: العجلي: المصدر السابق ص110 وابن حبان: الثقات، ج4 ص92.
(15) ابن عساكر: المصدر السابق (المخطوط) ج9، ص 331.
(16) انظر: ابن حجر: لسان الميزان، ج3 ص289.
(17) ابن عساكر: المصدر السابق (المخطوط) ج9، ص331.
(18) انظر: العجلي: المصدر السابق ص389، وابن معين: التاريخ، ج 2.
(19) الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3/3/119.
(20) انظر: ابن قيتبة: المعارف، ص234 وابن النديم: الفهرست، ص 105.
(21) الطبري: تاريخ الرسل، ج6، ص 25.
(22) الهلابي: المرجع السابق، ص16.
(23) أعشى همدان: ديوان، ص148.
(24) أبو عمر العدني: كتاب الإيمان، ص249.
(25) ابن سعد: المصدر السابق، ج4، ص39.
(26) انظر: الأشعري: مقالات الإسلاميين ج1، ص86، والقمي: المقالات والفرق ص119، وابن حبان: المجروحين، ج4 ص253، والمقدسي: البدء والتاريخ ج3، ص129.
(27) ابن حبيب: المحبر، ص308.
(28) ابن تيمية: منهاج السنة، ج1، ص7.
(29) الجاحظ: البيان والتبيين، ج3، ص81.
(30) الجوزجاني: أحوال الرجال، ص38.
(31) ابن قتيبة: المعارف، ص267.
(32) البلاذري: أنساب الأشراف، ج3 ص382.
(33) الناشيء الأكبر: مسائل الإمامة، ص22.
(34) الهلابي: المرجع السابق، ص48.
(35) المرجع نفسه، ص 47.
(36) الفرزدق، ديوان، ص242.
(37) القمي: المصدر السابق، ص20.
(38) الطبري: تاريخ الرسل، ج4، ص283، 326، 331، 340.
(39) التوبختي: فرق الشيعة، ص 23.
(40) أبو حاتم الرازي (أحمد بن حمدان) : الزينة في الكلمات الإسلامية، ص 305.
(41) ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج2 ص405.
(42) أبو الحسن الأشعري: المصدر السابق ج1، ص85.
(43) أبو عمر الكشي: الرجال، ص98.
(44) المصدر نفسه، ص 100.
(45) ابن حبان: المجروحين، ج2، ص253.
(46) المقعسي: المصدر السابق، ج5، ص129.
(47) الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، ص18.
(48) ابن بابويه القمي: من لا يحضره الفقيه ج1، ص213.
(49) الخوارزمي: مفاتيح العلوم، ص22.
(50) البغدادي: الفرق بين الفرق ص15، 225.
(51) أبو جعفر الطوسي: تهذيب الأحكام ج2، ص322.
(52) الاسفراييني: التبصير في الدين، ص108.
(53) الشهرستاني: الملل والنحل، ج2 ص116.
(54) المصدر نفسه، ج1، ص 155.
(55) السمعاني: الأنساب، ج7، ص24.
(56) ابن عساكر: المصدر السابق، ج9 ص328.
(57) ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب ج2، ص98.
(58) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج2 ص99.
(59) السكسكي: البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان، ص50.
(60) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج4 ص435.
(61) المجلسي: الرجال، ج2، ص71.
(62) الذهبي: المغني في الضعفاء، ج1 ص339.
(63) الصفدي: الوافي بالوفيات، ج17 ص20.
(64) الشاطبي: الاعتصام، ج2، ص197.
(65) الجرجاني: التعريفات، ص79.
(66) المقريزي: المواعظ والاعتبار، ج 2ص356.
(67) ابن حجر: لسان الميزان، ج3، ص290.
(68) العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، 9/1/168.
(69) السيوطي: لب الألباب في تحرير الأنساب ج1، ص132.
ملحوظة: الهامش (68) و (69) غير مشار إليهما في المقال. (ماس)(80/32)
خاطرة أدبية
أدباء.. بلا أدب
د. محمد بن ظافر الشهري
قالوا عن الرجز أنه حمار الشعراء، قلت: ليس الأمر كذلك إذا عد الحداثيون
شعراء، ذلك أن الصحف باتت أطوع الحمر للحداثيين، فهي لا تبالي من الذي
يمتطيها ولا ماذا يحمل، مادام لا يحمل كلمةً ثابتة الأصل شامخة الفرع، وعلى كل
حال فلم تعد الحمر بنوعيها وسائط نقل مقنعة في هذا الزمان، ولهذا عمد أهل
الارتزاق بالكلمة إلى «سيارات الكذب» فركبوا أسرعها لأن الثمن يتناسب باطراد
مع السرعة، وامتطى قليلو الأدب «طائرات الاغراء» فحلقوا بها في سماء
المجاهرين، أما عديمو الأدب فقد استقلوا «مكوك سب الإسلام» الذي أثبتت
معامل النظام العالمي الجديد / القديم أنه أسرع وسيلة للوصول إلى النجومية العالمية،
وهو مجهز بأحدث وسائل السلامة! ! .
لقد نال سلمان رشدي جائزة الدولة النمساوية إيماناً بـ «آياته الشيطانية» ،
واستحق «الطاهر» بن جلون جائزة جونكورد الفرنسية في «ليلة قَذَرِهِ» ،
وتسبب «أولاد حارة» نجيب محفوظ في منحه جائزة نوبل.
إن المتابع للحركة الأدبية يلاحظ انتشار «الشذوذ الفكري» الذي أدرك عبيد
الدرهم والشهرة أنه أيسر السبل لتسنم الهرم الأدبي المعاصر.
ليس شيئاًًً مما ذكرت يدعوا إلى العجب، فإن الحرب بين الحق والباطل سنة
ماضية، ولكن إذا كان هؤلاء «الشذاذ» قد آثروا الحياة الدنيا، فأين الذين آمنوا
بأن الآخرة خير وأبقى؟ ! ، إن هذا ينبغي أن يكون حافزاً لكل من وجد في نفسه
القدرة على التعامل مع الكلمة وتطويعها أن يتقدم في ثقة وثبات متوكلاً على الله،
راجياً وجهه، منافحاً عن العقيدة الناصعة والفكر الأصيل.
على الشاعر والناثر والناقد أن يشعروا بالمسؤولية الملقاة على كواهلهم
وليحذروا من أن يرمي بهم التقليد الأعمى في غياهب الغموض، أو يحصرهم في
خطاب أساتذة الأدب الانجليزي في كليات الآداب، إنهم مطالبون بإيصال الفكرة
عبر الكلمة إلى الناس.. كل الناس.
وتبقى الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ويبقى الأديب المؤمن
صّداعاً بالحق مهما كثر الناعقون بالباطل، [.. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما
ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال] [الرعد: 17](80/47)
نص شعري
شجاعة
عبد الله بن محمد العسيري
أخيراً تعلمت أن جهاد اليهود ضلالٌ..!
وبوابةٌ.. للمجاعه!
وأن عناق اليهود شجاعه!
وأن نضالي الحقيقيّ تفريغُ ذاكرتي..
من حكايا دمائي المضاعه!
ووهم القتال..
وحسبُكَ من شَر لفظٍ سماعه.
* * *
غسلتُ فمي وفؤادي!
فرشتٌ لرابين بسطَ ودادي! !
وعدتُ إليكم (بفتح) مريح
غنائمُه رائحاتٌ غوادي! !
شجاعُ أنا فاحملوني وغنوا..
وزكوا نفوسكم من كرامتها! .. وتمنوا
فأحلامكم فوق ريح السلامْ..
ستصبح سُحْباً..
تصب الغنى فوقكم والوئامْ! !
* * *
فقطْ.. طلقوا وهمكم واتبعوني
فإني كرهتُ سجون الكرامه! !
أنا خلف (وجه الصقور) اختنقتُ عقوداً..
فما أجمل الآن وجه النعامه!
شجاع أنا لست أخشى..
وها أنا أعلن أني تخطيت خوفي..
وصرت لدى ابن (حيي) غلامَهْ! !(80/49)
قصة قصيرة
عواصف العتمة
عواض بن شاهر العصيمي
في تلك الساحة..
والليل شبه وحيد في الطرقات..
ثمة قطيع من الكلاب يدور عاصفته على هواه..
تكبر حيناً وتدنو حتى أقول لن تصمد لها نافذتي المسيجة بالحديد متقارب
القضبان.. وحيناً.. تخر إلى الأرض، فأحس بالأمن وتبدأ غيمة النعاس تلامس
العينين.
بيد أنها، كما لو أن أحداً قذف حجراً هناك: ما تلبث أن تملأ من جديد فضاء
الليل، فأبقى مكرهاً مفتوح العينين، أكابد العاصفة..
الوقت كماء ينبجس من صخرة، يقطر كعادته متجافياً عني.. يتحاشاني أراه
كلما تضرست في مزولته، والصباح لا عصافير له تحت العقارب..
أنهض.. أتأمل الساحة بغضب.. متوارية كالخديعة، وفيها الكلاب لا تكاد
ترى.. عمود المصباح الذي يطل عليها من بعيد معطل، ويقف مثل رجل
منحن.. والطريق سقيم.. ولو غامرت ونزلت إلى الشوارع، وحاربت هذه المخلوقات بالحجارة، لربما اعترضتني في تلك الساحة دورية الليل.. وعندما يسألوني سوف أرتبك.. وحينئذ قد ينزل من «الجيب» أحدهم ويدنو مني.. يتفحصني.. «البيجامة» واسعة كالثوب.. وسابغة حد الكعب.. والحلق بالإمكان حصر أزاريره خارج الفتحات.. والوجه على سجيته..
سألقي عليه تحية آدم لملائكة الله أولاً، ثم أصافحه.. هو حُرٌ.. إن شاء
صافحني وإن بادرني بالأسئلة فكما يريد.. الحق معه.. ماذا يفعل رجل هنا مع
هذه الكلاب؟ ! .. وفي هذه الساعة من الليل الغابر؟ ! ..
لقد أزعجتني.. حاولت النوم فلم أستطع والله! ..
وتخرج هكذا.. أين تسكن؟ ! ..
هناك.. في تلك «الحارة» ..
هويتك! ..
صحيح.. وهنا قد يأخذني إلى التوقيف.. سيكون صعباً بكل تأكيد قضاء بقية
الليل على بلاط الريبة حتى الصباح..
ألمح وأنا مستند إلى قضبان النافذة المعتمة أكثر من كلب يقترب من العمود
المعطل.. يتمحك به أحدها.. يرفع رجله.. هذه وضعية ممتازة للقتل.. رصاصة
واحدة، وفي مكان لا تزيغ فيه الشعرة، كافية لمسح أثره..
هكذا كنا نقتل الكلاب.. إذ ما أن تهبط على قطعان الماعز في السفوح حتى
نتلقاها في عتمات الكمائن.. وفوق الصخور، أو تحت الشجيرات المنقضة على
منازلنا في السهل، لا تطيش الطلقة عن لمعة المقتل..
أشد قبضتي على الحديد الخشن.. أشعر بالصدأ يتوحش في معترك الخطوط، ويهيج في الأصابع.. يخترق راحة اليد باتجاه عزيمة اللحم والدم والعصب..
وما الذي يضر؟ ! ..
عما قليل سيشتعل نداء الفجر.. وحالما تسيل على الحيطان الشمسُ تنطفئ
الكلاب..
أنزع يدي خاليتين من الصراخ ولغط القضبان، وأعود متمهلاً إلى فراشي..
الغرفة مذبوحة من الجدار إلى الجدار في الظلمة.. والباب موارى.. وفي نهاية
المدخل على بعد أمتار ثمة زاوية تمسك بمصباح ينسكب مباشرة باتجاه الباب الذي
يسلمني على الدوام إلى الشارع.. غير أن سعفة من الضوء رغم ذلك جاهدت في
السقوط عبر الباب داخل الغرفة، وعلى الجدار انكسرت فبقي منها مثل طولي قائماً
يتشبث بتراب الطوبات القريبات من السقف..
كانت العاصفة قد سكتت..
ها هي من منازل الجيران تأتي الديكة منتشية بماء الفجر، وأنا أذكر الله
وأحشو الغرفة بالخطوات..
أقف مباشرة تحت المروحة المضبوطة على رقم (5) .. ورغم أن الهواء
ينزل على فروة رأسي كالسوط، وصرير المروحة منخرط فيما يشبه انهيار
السلاسل، إلا أنني أوقفت عيني على شيء يتحرك عند قدمي..
لقد أثار انتباهي أنني أطفأت الأنوار على فراش منفرد، وثياب معلقة على
الحائط، ولم أفطن إلى أن الجريدة بقيت تروح بعدي وتجيء تحت هواء المروحة
المستديم.. الآن فقط تبين لي أن الصفحات كانت طوال الليل تروح وتجيء تحت
الهواء.. تتقصف.. يصطفق بعضها ببعض.. في الظلمة.. تحت الصرير..
أتذكر كيف أن الدم كان يفور بين يدي، والخراب يندلع في الصفحة سطراً
بسطر.. وأن دمي موزعاً بين وكالات أنباء العالم ليس غير هذا الذي يسيل هنا
تطارده الحرائق وحدقات الجنود..
أتذكر كيف أن «علي عزت بيغوفيتش» كان يقف وحيداً في ركن الصفحة
مسبل اليدين، حاسر الرأس، قد بذل وجهه إلى شيء ما عن يساره، وعينه اليمني
كانت ضيقة مثل الطرقات إلى «سراييفو» ..
وكيف أن الرجال ذوي العيون الزرق ملؤا ذات صباح شوارع «مقديشو بحثاً
عن سلام فاقع كجباههم وقت الظهيرة.. كانت (Returning Hope) [*] ترقص
ثملة على شفاه رجال البحرية وهم يحرسون الأقداح الفارغة في المخيمات، بينما
أحدق أنا في وجوه بضعة أطفال تجاوروا حول رجل لا يبدو منه سوى دمه على
الأرض..
العالم يطبق على رأسي مثل قبعة..
أحسست بجفاف حاد، واشتهيت الماء، غير أني تمهلت في النهوض حتى
اطمأن، عرقٌ في رأسي أخذني فجأة..
وبقيت الجريدة بعدي..
والكلاب..
والعتمة.. [**]
__________
(*) معناها: إعادة الأمل، وهو اسم العملية العسكرية التي أقرها على أرض الصومال مجلس الأمن الدولي.
(**) نشرنا قصتك بالرغم من سيطرة العتمة عليها، ونرجو أن تحمل مشاركاتك القادمة بروقاً من الأمل والعمل بين العواصف -البيان -.(80/51)
نص شعري
.. حوار..
علي الحاجي
جميل:
أنا يا بثينةُ راحلٌ صَوْبَ الجبلْ ... فالشيبُ أنذرني وقلبي في وَجَلْ
قال استَمعْ نُصحي فوجهك شاحبٌ ... رَتبْ حقائبكَ الثمينة في عَجَلْ
والوقتْ أدركنا وهذي شَمسُهُ ... غابتْ وراء الأفق والليلُ وَصَلْ
إني بياضٌ غيرَ أنّ مُصيبتيْ ... سوداءُ تَحملُ في ثناياها الأجَلْ
عهدُ الشباب مضى فماذا يُرتَجَى ... من هذه الدنيا الفَجُورة بالدَجَلْ
إمض لعزكَ فالجنانْ قريبةٌ ... قُربَ الطغاة إلى جَهنّمَ يا بَطَلْ
بثينة:
قالتْ بثينةُ يا جميلُ أما تَرى ... أن المعاركَ والحُروب بلا أمَلْ
بَذل الأباةُ دماءهُمْ ونُفوسَهم ... وتيتمتْ أبناؤُهم في المُعتقَلْ
بَلْ كلّ معركة نَخوضُ غمارَها ... نُسجتْ وقائعُها على قد الفشَلْ
إهدأ قليلاً كي نُقَوّمَ ما مَضى ... ونَرى علاقةَ ما طبخْتَ بما حَصَلْ
هلْ ما تَقوم به جهادٌ فاضلٌ ... أم أنهُ نَزَقٌ وطيشٌ مُرتَجَلْ؟
وَهَنَتْ قوَى الصَبْر الجَميل لديكُمُ ... فَخرجّتَ تستُر ضعفَ صبر قد رحَلْ
ووصفت مَنْ جَعلَ الأناةَ طريقةُ ... يبني بناءَ الصالحين منَ الاُوَلْ
بالجُبن والخَور الشديد وأنه ... حَمَلٌ يُعَدُ على المديح من الهَمَل
جميل
أو هَنّتِ يا بنّتَ الأكَارم والتُقَى ... وشرعت في نحت الأرُومة والأثلْ [1]
وَجَعلت أسبابَ الخُنوع جميلةً ... وصقلت سيفاً للدعاية والجَدَلْ
خَوفاً على مال يلذُ رنينُهُ ... وخَدُود أصغرنا الذي مَلّ القُبَلْ
هُمْ جَنّدوا للحرب كلّ رمَاحهمْ ... وبقيتُ وحديَ بالتعقّل مُعتقَلْ
أدعو إلى السلم الذليل وأبتغي ... عندَ العدو سَرابَ عيش مُبتَذَلْ
أنا إن أمُتْ فإلى الجنان تَزُفني ... حُورٌ تلألأ مثلَ أحدَاق المُقَلْ
أو أنتصر أقضي على جُبن غدا ... نهجاً وفكراً يُستطابُ ويُنتحلْ
بثينة:
أنا ما عشقتك يا جميل صبابة ... أو هزّني شعرٌ تضَمخَ بالغزَلْ
أنا قد عشقتُكَ يا جَميلْ مُجاهداً ... ومُثقفاً ومُفكراً يُحي الأمَلْ
أنا ما حَرصتُ على الحياة دقيقةً ... إلا لأضغطَ فَوقَ زَندك يا بطَلْ
إنْ كُنْتَ تَحسبُ أن قلبي خائرٌ ... أخطأتَ يا زينَ الشباب ولا خجَلْ
أو كانَ حقدُكَ يا جميلُ أصابني ... فاعلمْ بأن الحقدَ أكثرَ ما قتَلّ
كلّ الذي أبغيه أنْ تلقْ العدا ... في ساعة لا حظّ فيها للفشَلْ
وانظُرْ لصَفّكَ بالأناة وبالتُقَى ... وابحثْ عن السر الذي خَلفَ الشللْ
بثينة:
أنا لستُ أحقدُ يا بثينةَ مُطلقاً ... لكنني أخشى عليكَ منَ الحوَلْ
أخشى من الضعف الذي هزّ الحجَا ... وغدا سلاحاً يستظلّ بما حصَلْ
لكن نُصحَك يا بثينةُ رائعٌ ... عَسلٌ يُخالطُهُ رحيقٌ من جَدلْ
قلبي بحتُبك يا بثينةُ نابضٌ ... لمّا رأيتُ الصدقَ ينبُضُ في المُقَلْ
هيا نُحاولَ أنْ نقوّمَ نَهجَنَا ... بشجاعة الأبطال والسلف الاُوَلْ
رفعوا لواءَ الحق في أركانها ... وفقَ الكتاب ووفقَ منهاج عدَلْ
فقهوا كتابَهُمُ وعاشوا عصرَهُمْ ... فاستنبطوا حكماً وصاغُوها دوَلْ
بثينة:
أبشر جميلُ فلستُ أوْجَلُ منهمو ... حُسنُ التدبُر من مزيَات البطَلْ
فانظر لمُشكلة الجزائر كي ترى ... أينَ الصوابُ وأينَ أسبابُ الزلَلْ
وانظرْ إلى مصرَ الجهاد هُنيهةً ... علّ التبصُرَ يُطفئ الخَطبَ الجَللْ
أو خُذْ بلادَ الشام كيفَ تصرّفُوا ... فتفرقُوا في كلّ بيداء طَللْ
فإذا استفدتَ منَ الدروس جَميعها ... ووعيتَ أسبابَ التخلف والعللْ
هيا إلى ساح الجهاد فكُلُنا ... شوقٌ لنثأرَ للمذابح في عَجَلْ
فإذا رجعتَ من الجهاد مُظفراً ... ألقاكَ بالوجه المُضيء وبالقُبَلْ
وإذا قضيتَ فإنني مُشتاقةٌ ... ولجنة الفردوس يحدُونَا الأمَلْ
__________
(1) الأثل: أثلة كل شيء: أصله.(80/55)
نقد على نقد
تقويم الحداثة = تقويض أم ترويض؟
إبراهيم بن منصور التركي
أجدب النمط الشعري في عصر الانحطاط، وبلغ من التصحر درجة الترمّد
والتجلمد، فهبت أيدي النهضويين تستدعي النص التراثي الغائب تعيد إنطاقه
واستنطاقه، وتحاول امتداداً عمودياً يتصل بالسلف الشعري، ويمتد في الوقت نفسه
أفقياً ليعبر عن واقعه المعاش.
ولم يكن هذا الوضع ليرضي ثلة معاصرة رأت فيه ارتكاسا فجاً، يتبتل في
محراب القديم «المتكلس» ، فمضت فيما تحسبه حداثة أو تحديثاً تزعم اقتراض
النافع من يمين أو يسار، فاتحة بذلك باب الانبهار بالآخر الغربي على مصاريعه،
كل ذلك مع محاولة استنكاف يتأبى خضوعاً للسابق العربي، فكان أن جاءت تلك
المحاولات مسخاً للشرق ونسخاً للغرب.
وحاول بعض المهتمين تلمس أسباب تلك الميول المتفرنجة، واكتناه ما وراء
الأكمة، فجاءت طروح كثيرة يأخذ بعضها برقاب بعض، تعرض لهذه الظاهرة
التحديثية وتتناولها بالدراسة والتقويم، وأبحرت مقاربات رديفة لتنتشل الأدب من
التشظي المرتقب، وتحثو في وجوه الناكصين بعض الحقيقة، وانبرت الثلة الغيورة
لتتمترس صوت الحوار والنقاش، مطلقة أعيرتها الحوارية عبر توجهين متباينين
انشعبت إليهما الرؤى، تعلن في أولهما الفئة الأولى عن رفضها القاطع لكل
إفرازات تلك الظاهرة التحديثية، وترى حتمية القطيعة المعرفية مع كامل نتاجاتها،
في حين رأت الفئة الأخرى إمكانية الانتفاع بالمعطى الجديد ما لم يصادم الثوابت أو
يزعزعها، هذه الفئة الأخيرة تتكئ على تأسيس معرفي بالرأي والرأي المضاد،
فتتناور بعد استكمالها شرائط الحوار وطرائقة، من غير ان تتخذ من دون الحق
وليجة، وسنقارن فيما يأتي بين النهجين في حوارهما الحداثة حواراً أدبياً فكرياً.
أولاً: جوانب التجديد الشكلي:
لقد تخلقت الحداثة من رحم التجديدات وارتياد ذرى التحديث، فما لبثت الأكلة
أن تداعت إلى قصعتها مبهورة بجديد الموائد، إلا أنها أعني الحداثة أصطدمت
بالابتناء المحصن عن بعض ضد اجتياحاتها الجسورة، فهي لم تكتف بالاندساس
الدلالي في صميم المتن الشعري، وإنما مارست انزياحاً متمرداً انتهك الأنساق
الشكلية السائدة، وحاول بعض الغيورين ربط هذا الانتهاك الشكلي بجوانب التمرد
الدلالي، فالشعر الحر أو شعر التفعيلة وفق هذه النظرة مرفوض بجميع أشكاله
وألوانه، لأنه يشارك في الجريمة الواسعة ويمهد لها، والشعر الحديث جريمة يمتد
في أسلوب متدرج حتى يقتل الكلمة العربية ويلغي تاريخها، وحتى يحاول قتل اللغة
كلها، ثم يمتد المكر إلى التاريخ والعقيدة والدين، ومن ثم لا يرضى أصحاب هذا
التوجه عن عدد من الشعراء المسلمين شرعوا يكتبون الشعر الحديث، وهم يدرون
أو لا يدرون أن جميع أشكاله بضاعة واحدة خطط لها نهج واحد لتحقيق أهداف
واحدة.
ولم يرتض المنصفون فتح أبواب المصادرة والإلغاء وإساءة النية، أو جعل
التماهي بين الكيانين الشكلي والدلالي أمراً حتمياً، فجاء نهجهم ليقرر بأن لنا «أن
نعاف الطارئ وليس لنا رفض وجوده وإن اختلف مع الموروث.. فشاعر النثرية
والغموض نرفضه فنياً ولا ننظمه في عقد المشبوهين إلا أن يتعمد بنزوعه تقويض
الكلمة الطيبة، والمتأثر فنياً بشاعر حداثي لا نسلكه في مساره الفكري» [1]
وحسبما يعلم فإن التجديد العروضي ضارب بجذوره في تراثنا الأدبي كما أن
الغموض ليس قضية آنية راهنة، وإنما هو إشكالية تتجذر في تراثنا النقدي عبر
مقولة (المعنى في بطن الشاعر) أو مكاشفة (لم تقول ما لا يفهم؟) إنهما تخليص
للفن من تلك العبارات التي فقدت وهجها المثير، وأصبحت مضغة في شدق السائد
والمتبع.
إن الرغبة السلطوية في التأطير وقولبة الإبداع ستقف حجر عثرة إن اتسعت
أمداؤها أمام محاولات التجريب والشكف عن اللامع المستكن.
ولهذا جاء النهج المتعقل ينداح في فضاءات التمايز بين الكيانين أعني محايثة
الفن للموضوع ويؤكد أن «الغموض الفني لا يعني إلغاء الدلالة.. إنه تخليص
للنص الإبداعي من الدلالة الواحدة المنتهية والتسامي إلى احتمال دلالات كثيرة
يتلبس بها النص، وتكون قادرة على الاستجابة لتطلعات المتلقي» [2]
إن النهج المنكفئ على مألوف الذات لا يشكل معضلة حينما يغدو الانكفاء
ممارسة فردية محصورة، ذلك أن الطرح الشعري الجديد يظل توجهاً ذوقياً يحق
للآخر استدباره مادام يرى القبلة في الجهة المخالفة، إنما الإشكال ينزرع عندما
يكون الاستنكاف الفردي فرضاً قسريا لرأي الأنا في وجه الرؤية الجماعية، أو
عندما يصبح تجبر اً عدائياً ضد مألوف الذات. إن رفض التجديد وإقفال الباب دونه
سيؤدي بالضرورة إلى تسطح الإبداعات الأدبية، وتحويل أشكالها إلى أختام
محفوظة يصم بها الأدعياء الدخلاء. فيختبئ من ثم الوسم البائن بين المبدع الأصيل، والمدعي الدخيل. كما قد تتسلطن الرؤية الأحادية لتكبسل الرؤى الجمعية
وتختزلها في مرتأى فردي وحيد.
ثانياً: إلغاء الحداثة وتصفيتها أم تنقيتها؟ :
إن التوجه الترويضي يميل إلى إمكان التعويض بديلاً عن إعلان التقويض،
ويطرح الرغبة في التنقية عوضاً عن الإلغاء والتصفية. فهو يتساءل عن جدوى
«التفكير في أسلمة الحداثة وجعلها إشكالية عربية متحاشية التورط في الإلحاد
والرفض والتصدي للإسلام» [3] ، «فالثابت أنها أي الحداثة تستمد لحمتها
وسداها من واقعها المعاش، ومن ثم فإن لكل زمان ولكل أمة ولكل ثقافة حداثة
متميزة، فهل نملك القدرة على بلورة حداثة عربية تصد وباء الطارئ.. لو استطعنا
ذلك لقبلنا بوصف الجديد بالحداثة، ومنحناها ملامح عربية وإسلامية ولنا أن نسميها
ما شئنا: حداثة أو معاصرة أو تجديدا» [4] .
وبرغم الروح المتفائلة التي ينطوي عليها هذا الرأي إلا أنه يعكس إشعاع
الترويض الذي يماهنه أنصار التقويض لطرح البديل الجائز، وهنا تصبح
محاولات التقويم فعل احتواء للشكل الحداثي دون النفاذ إلى دواخل المعنى الشعري، أي أنه يحرر الكلمة مما علق بها من غبار السنين فيطهرها ويغسلها. وهذا النهج
المتعقل يعيد في حواره إيجاد خطابه النقدي حول الخطاب الحداثي المتأسس فيندس
في أديمه المغصن، ويعيد تشكيله عبر رؤية مقبلنة تمارس الفرز والانتقاء. إنه
يذيب ولا يذوب، يجادل ولا يجامل، يختار الباقيات الصالحات ولا يرضى غيرها.
ولا يرى خطاب التقويض إمكانية استبقاء الصالح، بل إنه يشنع على الحداثة
بكل صورها، وينفي تعدديتها وتباينها، فلا يمكن حسب ذلك الرأي أن يقول حداثي
أن له حداثته الخاصة التي تختلف عن حداثية أدونيس أو كمال أبو ديب، لأن
ركائز الحداثة واحدة، وخطها العام واحد، وهذا الرأي قد اجتالته أفكاره الغيورة
المتحمسة إلى الرغبة في طمس المعالم التحديثية وغيبتها، دون إدراك مفارقة
الأدبي للفكري، في حين يؤكد الخطاب الآخر وبكل واقعية أن علينا «أن نتبين
ميادين الجدل الحداثي فهناك الحيز الأدبي والحيز الفكري ولكل مجال
متطلباته» [5] .
لقد خلط الهم التحديثي عملاً صالحاً وآخر سيئاً فكان لزاماً استبقاء ما ينفع
الناس وإزهاق روح الزبد، أما محاولة نسف المنجز الحداثي بكل مفرداته فتفكير
عاطفي يهوي بالموضوعية في مكان سحيق. إن ذلك يعني إشراع النوافذ أمام حوار
فني تتبادل فيه الآراء حول الجديد الوافد دون فرض مصادرة أو استعداء.
ثالثاً: منهج التعامل مع الأقوال الحداثية:
الفارقان السابقان داخلان ضمن الفروق في منهج التعامل، لكن إفراد منهج
التعامل مع الأقوال بفقرة منفردة يأتي تنبيهاً على خطورة هذا الجانب. ذلك أن
كثيرين يستصدرون أحكامهم عن ظواهر الأقوال من خلال ما يستبطنونه من نوايا،
عبر توغل ينبت عن الظاهر البريء ليفتض بكارة الأصقاع المحجبة.
يؤكد خطاب التقويض مثلاً على أن في الحداثة ثورة على اللغة والعقيدة
والتاريخ والدين، ويضطر أحياناً لكي يؤكد هذه المقولة إلى لي أعناق النصوص
المحايدة ليجعلها رفضاً للدين أو اللغة أو التاريخ! . رغم أن النص حمال يمكن أن
يستوعب دلالة أرأف! .
إن العقل المتجرد يوجب «أن نتخطى التعميم والتشهير وعشوائية التصدي.
وتلافي إطلاق الأحكام العامة.. وتحرير المسائل وتحديد الأحكام وأخذ الأمور بقوة
الفهم ودقة التصور» [6] ، كما يأخذ على عاتقه «إقامة جسور العودة، وفتح
قنوات الاتصال، وطرح الفظاظة والغلظة وتحامي التشهير» [7] .
إن التعامل الواقعي مع الظواهر المحدثة ومحاورتها كفيل ببلورتها وتصحيح
منهاجها، أما استعداء الآخرين واتهامهم بالمروق والفسوق والعصيان، فلا يجب أن
يكون إلا مع «الفئات المكشوفة، التي تعلن الحرب على الله والكون والإنسان فهذه
لا هوادة معها ولا حوار» [8]
إن وجود حوار خلاق يدرع جنح الكلمة المهذبة سيرسم الدروب والمسالك
ويقتطع من البيداء المهالك، وهو ما قد يعيد للأصيل تعملُقه، ويقزم دور الطارئ
الدخيل، فضلاً عن أنه يمنح النقد مصداقية هو في مسيس الحاجة إليها.
إن الإسلام كما يأبى في الشعر والقصة إثارة الشهوة، فإنه يأبى في النقد شهوة
الإثارة، وهو كما يرفض أن يتسامق النقد لذات النقد فهوأيضاً يرفض أن يتسابق
النقد لنقد الذات، وكما الحرص علي إيجاد أدب إسلامي في الشعر والنقد يجب أن
يكون الحرص على وجود أدب إسلامي في الحوار، هذه البدهيات المغفلة يجب أن
تنسرح إلى حيز الفعل في كل حوار نقدي، حتى لا يزل النقد الإسلامي أو يُزَل في
مهاترات لا تجدي شيئاً. وأحسب أن زلات كتلك قد تعني سلباً للمعطيات الإيجابية
التي يمكن أن تريع في حضن النقد والإبداع الإسلامي بفعل التحاور الخلاق بين
الرأي والرأي الأخر.
إني هنا لا أتهم أشخاصاً أو أبرئ آخرين، بقدر ما أحسب أني وازنت بين
نهجين من مناهج التعامل مع الرأي المضاد، الذي وإن اختلفنا معه، فلا يجب أن
يكون اختلافنا ضدياً متشنجاً، بل يجب أن يكون حوارياً هدائاً يمتلك مع فرادة
التصور فرادة الأسلوب.
وعلى أي حال، يمكن لمن أراد الاستزادة في معرفة الحداثة، سواء أكان من
جهة جذورها أو أفكارها أو المنهج الناجع للتعامل معها، أن يقرأ مع كتاب
د. الهويمل السابق كتاب: الحداثة في ميزان الإسلام للدكتور عوض القرني
وكتاب: أدب الردة للأستاذ جمال سلطان، ففيهما حول هذا الموضوع غناء شاف وبيان واف.
__________
(1) الحداثة بين التعمير والتدمير، د حسن الهويمل ص39.
(2) نفس المصدر ص46.
(3) نفس المصدر 27.
(4) نفس المصدر ص29.
(5) الحداثة بين التعمير والتدمير ص28.
(6) نفس المصدر ص34 35.
(7) نفس المصدر ص38.
(8) نفس المصدر ص37.(80/58)
المسلمون والعالم
الحالة الجزائرية الفصل الثالث
ثم ماذا؟!
د/ يوسف الصغير
إن ما يجري في الجزائر اليوم امتداد لما سمي بحرب الجزائر، فالصراع كان
بين تيارين أساسيين هما تيار الفرنسة والتيار الإسلامي، وعلى الرغم من تغير
الأسماء فإن المسمى واحد، فالحرب الأولى كانت بين الجيوش الفرنسية
والمجاهدين الجزائريين واستمرت من عام 1839م لمدة نصف قرن، ارتكبت
خلاله الجيوش الفرنسية أبشع صور الإبادة، وتم لهم في النهاية إخضاع الشعب
الجزائري، وبدأت مرحلة المسخ بعد مرحلة الإبادة، وخلال هذه المرحلة قام
الفرنسيون بجهود جبارة لإعادة صياغة الشعب ثقافياً، وضُمّت الجزائر إلى فرنسا،
فتم تشجيع الفرنسيين على الاستيطان في الجزائر، واستعمارها وسموا بالمعمرين،
وأعطوا أحسن الأراضي، وتمتعوا بحقوق المواطنة من الدرجة الأولى أما الشعب
فهو فرنسي من الدرجة الثانية، وتم فرض الخدمة العسكرية عليهم، ولكن لم يترقوا
في الرتب، أما سياسياً فقد نشأت فروع للأحزاب الفرنسية في الجزائر وكانت
أقصى أماني الأحزاب الوطنية أن ينال مواطنوا الجزائر حقوق الفرنسي، وفي هذه
الأثناء قام الشيخ عبد الحميد بن باديس بإنشاء جمعية العلماء وكان لها دور كبير في
المحافظة على الهوية الإسلامية، مما مهد لقيام حرب التحرير التي كان الإسلام هو
مرتكزها المعنوي، وكان الناس يقاتلون لإخراج الفرنسيين الكفار من الجزائر التي
يجب أن تبقى حرة ومستقلة عن فرنسا، وبالطبع كان هناك كثير من الجزائرين
يقاتلون في صفوف الفرنسيين وهؤلاء انقسموا إلى قسمين، قسم بكر في اتخاذ
القرار وانضم إلى جيش التحرير قبل انسحاب فرنسا ويمثلهم كثير من الضباط
السابقين في الجيش الفرنسي، وهم الذين يحكمون الجزائر اليوم باسم فرنسا وعلى
رأسهم خالد نزار ويعرفون بجنرالات فرنسا، أما القسم الآخر فقد خرجوا مع
الفرنسيين وعاشوا في فرنسا يعانون من التهميش والإهمال فهم لا يعامألون معاملة
الفرنسي على الرغم من تضحياتهم، حيث يعانون إحباطاً لا مزيد عليه فهم
منبوذون من الجالية الجزائرية في فرنسا إضافة إلى إحساس الفرنسيين بأنهم عبء
عليهم، غير أنه يتوجب عليهم إيواؤهم لأسباب أدبية.
وبعد إنسحاب فرنسا العسكري من الجزائر تولى مقاليد السلطة بدعم دولي
وإقليمي رجل يخطب في الناس بالفرنسية، ويحكمهم بالاشتراكية (أحمد بن بله)
وبينما قام النظام الجديد بتقريب الشيوعيين الذين كانو يؤيدون لاستعمار الفرنسي،
قام بايذاء وسجن شيوخ جمعية العلماء.
وعلى الرغم من تغير الحكام فإن سيطرة المتفرنسين كانت واضحة وتكونت
منهم مافيا عسكرية وسياسية غرقت في الفساد ونهبت ثروات البلاد بل وحاولت بيع
ثروات البلاد مقدماً وأوقعتها في ديون خارجية كبيرة حتى إن دخل البلاد لا يكاد
يغطي ربا الديون فكيف بوفائها؟ ! وفي المقابل قامت هذه العصابة بالوقوف أمام
التوجه الإسلامي بل وحتى نشر التعريب.
وعن طريقهم استمرت فرنسا في حكم الجزائر وكانت الأحداث الحالية دليلاً
واضحاً على أن الجزائر لا تزال أسيرة الاستعمار الفرنسي حتى إن الشيخ رابح
كبير صرح في حديث إذاعي أن وزير الداخلية الفرنسي يتحدث كأنه وزير داخلية
الجزائر، وذلك تعليقاً على حادثة المجمع السكني الفرنسي في الجزائر.
ولهذا فإنه لا داعي لتحليل مواقف الحكومة الجزائرية لأنها وإن كان أركانها
سواءً أكانوا البارزين أو المتوارين لهم مصالح يحاولون الحفاظ عليها إلا أن بقاءهم
مرهون بمواقف أسيادهم، فهم بين منفذ لسياسات الدولة الداعمة أو لاجئ إليها.
إن الحكم العسكري في الجزائر يحاول الحصول على دعم من أي جهة لديها
استعداد، ولها مصلحة في دعم الوضع الحالي في الجزائر ويمكن تقسيم تلك
الجهات إلى ثلاث: عربية وغربية وفرنسية.
أولاً: الموقف العربي:
إن نظام الحكم في الجزائر يحظى بدعم الدول العربية التي تشعر بخطر تنامي
الصحوة الإسلامية وخوفها من قيام دولة إسلامية تعبر عن آمال شعبها في تطبيق
الإسلام في كل مجالات الحياة، ولكن مظاهر هذا الدعم تتفاوت فبلاد المغرب
العربي في وضع حرج: فهي من جانب علاقاتها متوترة مع الجزائر فهناك مشاكل
حدودية ساخنة مع المغرب، وأخرى تحت الرماد مع تونس وليبيا، ومن جانب
آخر تخشى وصول الإسلاميين للحكم مما يجعل الدعم الواضح للحكومة مغامرة غير
محمودة العواقب، ولهذا فالمغرب تارة يغض الطرف عن نشاط الجماعات المسلحة
على جانبي الحدود، وتارة أخرى يتشدد معها حتى أنه سلم أمير الجماعة الإسلامية
المسلحة (عبد الحق العيايدة) إلى حكومة الجزائر التي حكمت عليه بالإعدام، أما
تونس فإنها لزمت الصمت عند فوز الجبهة في الانتخابات، ثم انحازت بصورة
واضحة للنظام مما أدى إلى قيام الجماعات المسلحة بعمليات انتقامية داخل تونس،
أما ليبيا فهي كالعادة مواقفها متباينة وغير ثابتة والحكومة الجزائرية أحياناً تتهم ليبيا
بإيواء المجاهدين، وأحياناً أخرى تشيد بالتعاون الأمني وتتحدث عن دعمها اللفظي
طبعاً لليبيا في وجه الحصار المفروض عليها.
أما الدول البعيدة فمنها من يتراوح تأييده بين دعم مادي وبين تعاون أمني
وثيق عن طريق إرسال ضباط وخبراء في التحقيق والتعذيب وعلى أي حال فإن
وضع النظام الميئوس منه لا يشجع على التورط معه في علاقة قد تؤثر على
مستقبل العلاقة مع تلك الأنظمة في حال سقوطه.
ثانياً: موقف الدول الغربية:
وهي تنقسم إلى دول من الدرجة الثانية، وهذه الدول همها المنافع المادية
المجردة بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم فمثلاً إيطاليا يهمها بقاء العلاقات
الاقتصادية الحالية، ولكنها لا تتبنى النظام السياسي، ولهذا فهي تدعوا إلى حوار
يشمل جميع الأطراف، بل وتقول: إن النظام يعاني من مشكلة الشرعية أما الدول
القوية وبخاصة أمريكا وألمانيا فإن لهما مصالح اقتصادية وأهداف سياسية مستقبلية
في الجزائر: فمثلاً أمريكا لها مصالح حالية كبيرة في الجزائر وهي تأمل في تأمين
هذه المصالح، وتسعى إلى ملأ الفراغ الذي يتوقع أن يشغر بخروج فرنسا النهائي
من الجزائر ولهذا فهي تسعى إلى بناء علاقات مع كل من الحكومة الحالية، ودعمها
مالياً ولو بصورة محدودة نظراً لإحساس أمريكا بعدم جدوى الدعم للنظام وأن
سقوطه مسألة وقت ومن جانب آخر تحرص على ربط علاقات ببعض الأطراف
ممّن يمثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبخاصة تيار الجزأرة، ويلاحظ أن موقف
أمريكا الرسمي هو تفضيل بقاء النظام الحالي كما هو مع علمها باستحالة ذلك،
ودعوة النظام من جهة أخرى إلى الحوار الجاد مع الأطراف الأخرى التي لا تمارس
العنف، مما قد يعني ضمناً استبعاد جبهة الإنقاذ، وهذا يتوافق مع الموقف الفرنسي، ولكنه لا يتوافق مع الموقف الفعلي الأمريكي في محاولتة لربط خيوط الاتصال مع
جميع الأطراف ويبدو أن الموقف الأمريكي يحاول الجمع بين أمرين متناقضين
وهما استبعاد الإسلاميين عن الحكم وأن تحل أمريكا محل فرنسا في الجزائر، وهذا
الجمع مما يصعب تصوره فإبعاد الإسلاميين يقتضي ترسيخ الدور الفرنسي،
وخروج فرنسا يعني سقوط النظام في يد الإسلاميين، وبالتالي فإن أمريكا تصرح
بأن هناك اتفاق في وجهات النظر مع فرنسا، ولكن ليس هناك تطابق فيها، وقد
شرح أحد الدبلوماسيين الأمريكيين الوضع في الجزائر في لقاء له مع وسائل الإعلام، ومما نشرته «الحياة» في 8/2/1415هـ نقتطف ما يلي:
«قال: إن الوضع المتدهور في الجزائر مقلق» ، ونفى أن تكون بلاده
تنازلت عن الجزائر أو أنها مقتنعة بأن حكومة إسلامية هي المستقبل الوحيد فهذا
ليس الواقع «لقد أيدنا جهود الإصلاح الاقتصادي عبر إعادة جدولة ديونها ...
الخارجية في نادي باريس وصندوق النقد الدولي وحضضنا الحكومة على توسيع
قاعدتها السياسية الضيقة جداً عبر الحوار مع كل القوى السياسية التي ترفض العنف
والإرهاب» في البلد.
إلى أن قال: «أما النتيجة الأكثر ترجيحاً في حال استمرار التدهور فهي
اتجاه البلاد نحو نوع من البلقنة، وهذا سيكون تطوراً سلبياً يشجع بعض المناطق
الأخرى مثل مناطق البربر لأن تصبح أكثر ميلاً للانفصال هذا هو السيناريو
المرجح في حال استمرار التدهور» .
ثالثاً: الموقف الفرنسي:
إن فرنسا تعاني من عقدة الشعور بأن هناك انحساراً سريعاً في النفوذ الفرنسي
في العالم وتراجع على جميع المحاور أمام الزحف الإنجلوسكسوني فهناك مشكلة
تراجع اللغة الفرنسية سواءً أكان ذلك على مستوى أوربا أو على مستوى العالم،
وحتى في فرنسا يعاني الفرنسيون من زحف الثقافة الأمريكية الناطقة بالإنجليزية،
أما في إفريقيا فإن التراجع مستمر ويحاول الفرنسيون باستماتة الحفاظ على آخر
مناطق نفوذهم فأنشأوا الرابطة الفرانكفونية وتورطوا في النزاعات الداخلية لحماية
مصالحهم، وقد تمت هزيمة فرنسا في رواندا وحلت محلها أمريكا بدون جهد كبير،
ويمثل الوضع في الجزائر أكبر التحديات أمام الحكومة الفرنسية فهناك داخل
الحكومة تنافس كبير بين وزيري الداخلية والخارجية حيال الملف الجزائري مما
يوحي بحالة التردد في التعامل مع الجزائر بين عقليتين، عقلية أن الجزائر ما تزال
ينظر لها على أنها أمتداد لفرنسا أو أنها بلد لها فيها مصالح مهمة، أما الشعب
الفرنسي فهو يعيش بين مشاعر العنصرية والمكابرة إزاء المطالبة بالتدخل في
الجزائر وبين الإحساس بالعجز ومطالبة الحكومة بالكف عن سياستها الخرقاء في
الجزائر والعمل على عدم الغرق في أتون المشكلة الجزائرية، ويبدو أن الحكومة
الفرنسية متورطة في دفع فاتورة ليس لها حد من أجل حماية النظام ومحاولة منع
سقوطه مع إحساسها بعدم جدوى الدعم حتى إن وزير خارجيتها يتساءل عن مصير
مساعداتهم ولا شك أن ارتكابها لأعمال استعراضية مثل عمليات التفتيش والتدقيق
التي ليس لها عائد سوى إحساس المسلمين بالغبن والإذلال مما يزيد من تفاقم
الوضع ويدل بالتالي على حالة التخبط التي تعيشها فرنسا مع إحساسها بأن هناك من
يسره تتالى أخطائها لأنه يعد العدة للعب الدور التالي الذي قد ينجح فيه، وقد يناله
ما نال فرنسا، وما أعنيه أن أمريكا دأبت على وضع رجلها في موضع قدم فرنسا
الخالي، وللذكرى فإن أمريكا حاولت أن تنجح فيما فشلت فيه فرنسا في فيتنام حيث
إنه بمجرد خروج فرنسا مكسورة الجناح دخلت أمريكا بكل خيلائها وجبروتها فنالها
ما نال فرنسا، والذي لا شك فيه أن مستقبل الجزائر يحدد داخل الجزائر نفسها،
ولن يستطيع أحد من الأعداء التأثير عليه إلا من خلال ثغرة موجودة في صفوف
القوى الإسلامية المؤثرة، ولا يمكن إخفاء أن هناك ثغرات يحاول العدو النفاذ منها، فهل نعمل على سد هذه الثغرات؟ ونعمل بجد على الوصول الى الهدف المعلن
وهو إقامة دولة إسلامية تحاول أن تسير على منهاج النبوة، أم نضيع في خضم
الخلافات والأهداف القريبة التي قد تجعل من الخطوات الأخيرة أصعب الخطوات؟
وإذا كان جهاد الشعب الجزائري قد سرق منه قبل أكثر من ثلاثين سنة، فهل نكرر
الخطأ، ونجعل غيرنا يحقق أغراضه على حسابنا، ففرنسا تريد أن تفشل المشروع
الإسلامي في بدايته وإذا كانت أمريكا ترى استحالة ذلك فلا يعنى أنها لا تحاول
إفشاله في مرحلة قادمة، فالحذر الحذر والبدار البدار إلى تحديد الأهداف وإعداد
الوسائل ودراسة الواقع بإيجابياته وسلبياته،. من أجل الخروج بتصور لحل
المشاكل الداخلية التي تعترض سبيل الجهاد لإعادة الوجه الإسلامي المشرق لأرض
المليون شهيد.
الساحة الجزائرية والنظام العالمي الجديد:
إن ما يجري في الجزائر قد فضح ما يسمى بالنظام العالمي الجديد وتبجح
الغرب بالديمقراطية ودفاعه عنها حتى لقد بلغ بهم الأمر أن يصدروا قراراً في
مجلس الأمن يخول أمريكا تشكيل قوة لغزو دولة (هاييتي) مدعين أن هذا لمجرد
إعادة الرئيس المنتخب ديمقراطياً وإسقاط النظام العسكري الحالي، ومن جانب آخر
يحذر القس والسياسي الأمريكي جيكي جاكسون «نيجيريا» من فرض حصار
اقتصادي عليها إذا لم يسلم العسكريون الحكم لرجل الأعمال (مسعود أبيولا) الذي
يعتقد أنه فاز في الانتخابات النيجيرية الأخيرة، ولا ينتهي العجب عندما نرى الدول
الغربية تدعم في الوقت نفسه زمرة من العسكريين الذين قاموا بإنقلاب عطل المسار
الانتخابي وشن حرباً على الذين فازوا في الانتخابات الجزائرية، ويبدو لي أنهم
يرون أن الشعب الذي يعتمد في طعامه على المعلبات المستوردة يجب عليه أيضاً
أن يحكم بأفكار معلبة مستوردة من الخارج أيضاً، ولما كان المسؤولون الفرنسيون
يتبجحون بأنهم يسعون إلى محاربة الإرهاب في الجزائر حتى إنهم أخيراً أرسلوا
ألف مظلى فرنسي بكامل سلاحهم إلى الجزائر مما يشكل بداية التورط الفرنسي
المباشر فإنه من المستحسن عرض بعض الممارسات والوسائل التي يتبعها النظام
في محاربة الشعب المسلم، وسنكتفي بمقتطفات من رسالة كتبها المحامي الفرنسي
المعروف بدفاعه عن الجزائريين أيام حرب التحرير وبعلاقاته الحميمة مع أركان
النظام «جاك فرجس» وقد أختتم رسالته بكلمات يتبرأ فيها من أصدقائه القدامى
الذين تخلوا عن المبادئ ومارسوا ضد الشعب نفس ممارسات المستعمر الفرنسي،
فقال «لهؤلاء الذين ارتدوا على أنفسهم أقول: وداعاً للجزائرين إلى الأبد، جزائر
المخلصين والمضطهدين، والضعفاء»
وحيث إن الرسالة طويلة ومليئة بالتفاصيل أختار منها لقطات معبرة منها
شهادة إسماعيل منصوري الذي يقول:
جَرّدَنا رجال الدرك من ملابسنا تماماً، وأوثقونا من أرجلنا وأيدينا وأحرقونا
بنافثة لهب، وحقننا أحدهم بمادة في «القضيب» ، لم نكن نملك أي جواب على
أسئلتهم، فقد الكثير منا استخدام عضو من أعضائه، وقد أورد المؤلف لائحة طويلة
بمن ماتوا تحت التعذيب نختار منم ما يلي:
1- محمد عمروش: سبعة وعشرون سنة، مؤذن بمسجد النصر، أغتيل من
قبل الشرطة أمام المسجد بينما كان رافعاً يديه إلى فوق.
2- سيد مقيرش: يلقب ب (محمد لَماَنَهّ) من كل سكان حي المدينة بالجزائر
العاصمة لأمانته وثقته، تم إيقافه من طرف رجال الدرك «بوزريعه» تحت إمرة
(رئيس رقباء مساعد) توفي تحت التعذيب، تم فتح تابوته رغم منع السلطات لذلك
فوجدوا أن أعضائه قد قطعت بالمنشار الكهربائي.
وقد تطورت أساليب النظام حيث عمدوا في الفترة الأخيرة إلى أسلوب العقاب
الجماعي والتصفية العشوائية حيث إن قتل أحد عناصر الأمن في شارع أو في قرية
يعني قيام قوات الأمن الخاصة «الننجا» باعتقال وتصفية مجموعة من الشباب
حتى الذين لم يكن لهم دور في الحادث، وهذا يدل على الطريق المسدود الذي
وصل إليه النظام حيث يعتبر أن كل الناس ضده، وبدون تمييز ومن الملاحظ أن
قوات الأمن يقومون بتغطية وجوههم خوفاً من كشف شخصياتهم، وهذا ليس
بمستغرب فإنه إذا كان الحكام الفعليين في الجزائر غير معروفين تماماً: فكل من
(بن جديد «و (بو ضياف) و (علي كافي) و (زروال) واجهات يتم إجبارها على
الاستقالة أو قتلها أو تنحيتها من قبل (المافيا الخفية) ، فإنه من الطبيعي أن يكون
المرتزقة حريصين على عدم معرفتهم لحرصهم على حفنة من النقود التي تعطى لهم
من المساعدات الدولية مع العلم أن المجند العادي في الأمن يتقاضى أجراً أكثر من
الطبيب مع انتشار البطالة حيث لم يعد أمام الشباب سوى الاضمام إلى قوات الأمن
أو البقاء عاطلين ومعرضين للاعتقال أو الخروج إلى الجبال للانضمام إلى
المجاهدين الذين نجحوا في إخراج النظام من كثير من المناطق حتى إن العاصمة
بها مناطق محرمة على أعوان النظام، وتدل عملية مهاجمة سكن السفارة الفرنسية
التي كان يحرسها الدرك الفرنسي ومقتل خمسة من الدرك والدبلوماسيين وخروج
المهاجمين بدون أي خسائر على الرغم من أن الحراسة مشددة في هذه المنطقة مما
تدل على مقدار الفشل الذي يلاقيه النظام في إصراره ومن ورائه فرنسا على الحل
الأمني، أي القضاء على المجاهدين، وكما يصرح المسؤولون الفرنسيون أخيراً
أنهم يحضون الحكومة على إجراء الانتخابات في الوقت المناسب أي بعد تصفية
الإسلاميين أو تحجيمهم.
ولكن أنّى لهم ذلك وكيف يثق بهم أحد بعد ما تسببوا في إدخال البلاد في نفق
مظلم، بتعطيلهم المسار الانتخابي ورفض خيار الشعب، والله نسأل أن يعلي كلمته
وينصر جنده إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.(80/66)
المسلمون والعالم
أدركوا مسلمي بورما
قبل فوات الأوان [*]
د. محمد يونس [**]
يتعرض إخواننا المسلمون في إقليم «أراكان» في بورما إلى حرب شاملة
تقوم على القتل والتشريد والتعذيب، مخالفة لكل الشرائع ومصادمة لما يسمى
بحقوق الإنسان من قبل الطغمة الحاكمة البورمية البوذية، وهذا موجز عن أوضاع
هذا الشعب المسلم المضطهد، وما يعانيه من حرب عنصرية شديدة يتناساها العالم،
لكن حين تتعرض زعيمة المعارضة البورمية لمضايقة بسيطة لا تصل إلى «واحد
في الألف» مما يتعرض له المسلمون، تقوم الدنيا ولا تقعد، ويشنع على حكومة
«رانجون» بدعوى مخالفتها لحقوق الإنسان، أما المسلمون فلا مؤيد لهم، وقد
سبق لمجلة «البيان» أن تطرقت بالتعريف بهذه المنطقة من خلال دراسة موسعة
عن هذا الشعب في العدد (52) .
- البيان -
«أراكان» المحتلة هي الدولة الإسلامية التي تكاد أن تُنسى من أذهان كثير
من المسلمين مع مرور الأيام والسنين، وهي تقع في جنوب غرب بورما البوذية
والساحل الشرقي من خليج البنغال، تحدها من الشرق سلسلة جبال أركان التي
تعتبر امتداداً لجبال هملايا وتجعل أراكان منفصلة تماماً عن بورما البوذية وتعطيها
شكل وحدة جغرافية مستقلة، كما تمتد حدودها من الشمال مع بنجلاديش نحو
(176) ميلاً، بينما يمتد ساحلها على خليج البنغال نحو (360) ميلاً، ويتجاوز
عدد سكانها الأربعة ملايين ونصف المليون نسمة حوالي 70% منهم مسلمون،
يعرفون باسم «الروهنجيا» و 25 % بوذيون يعرفون باسم «الماغ» ، 5 %
أقليات أخرى من النصارى والهندوس وعباد الظواهر الطبيعية!
ومازال المسلمون يعانون الأمرين من القمع الذي تقوم به الحكومة البورمية
البوذية منذ احتلال هذه المنطقة من قبل الملك البوذي (بودوبيه) عام 1784 م وإلى
الآن ومما يحدر ذكره أن أماكن المسلمين الروهنجيا ليست في أركان فقط، وإنما في
العديد من المواقع بما فيها العاصمة رانجون.
وفي عام 1991 م استغلت حكومة بورما البوذية الأحداث التي حدثت بعد
أزمة الخليج الثانية، فاستأنفت مسلسل القتل والتعذيب والقتل والتشريد ضد مسلمي
أراكان الأبرياء، واستمرت المجازر والمذابح ضدهم لا لشيء سوى إصرار هذا
الشعب على عقيدته الإسلامية ومطالبته بالحرية والكرامة [وما نقموا منهم إلا أن
يؤمنوا بالله العزيز الحميد] [البروج: 5] فكان نتيجة لتلك المجازر الوحشية،
وسياسة انتهاك الأعراض الجماعية، وتردي الأوضاع الأمنية، أن اضطر أكثر من
(300) ألف مسلم روهنجيا من بينهم الأطفال والنساء وكبار السن إلى مغادرة
ديارهم إلى دولة مجاورة هي «بنجلاديش» وقد أجبرت هذه الهجرة الجماعية
المفاجئة بنجلاديش التي تعاني اضطرابات سياسية واقتصادية مستمرة على توقيع
اتفاقية مع بورما نصت على:
1- العودة الفورية والسريعة للمهاجرين إلى ديارهم.
2- أن تقوم الحكومة البورمية بتعويض المسلمين عن كل ما فقدوه.
3- السماح لمسلمي أراكان بحرية السفر والتنقل داخل البلاد وخارجها.
4- أن تصدر الحكومة البورمية بطاقة الجنسية للمسلمين فور عودتهم إلى
بلدهم.
5- تعويض المسلمين عند استخدامهم قسراً عمالاً لبناء السدود والطرق.
وفي الواقع أنه لم ينفذ أي بند من بنود هذه الاتفاقية بل العكس هو ما حدث
فقد استبدلت القوانين العنصرية بأخرى أشد صرامة، وأصبح التنقل للمسلمين في
أراكان أصعب من السابق، وازدادت عمالة السخرة والاحتجاز القسري وحوادث
القتل والتعذيب والاعتقالات واغتصاب النساء وإجبار الفتيات المسلمات على
الزواج من البوذيين، وإليكم فيما يلي بعض النماذج من هذه الممارسات التي
تركتبها الطغمة البوذية الحاكمة ضد المسلمين في أراكان فهي تساعد على إلقاء
الضوء على الوضع المأساوي الذي يمر به المسلمون في هذا البلد المنسي:
من الناحية الدينية:
1- هدم المساجد وتحويلها إلى مراقص وخمّارات ودور سكن.
2- يتعرض العلماء والدعاة وطلبة العلم للامتهان والضرب، وإرغامهم على
العمل في المعتقلات.
3- عدم السماح للدعاة بالانتقال من مكان إلى مكان لممارسة الأنشطة الدعوية، ولا يسمح بدخول العلماء والدعاة من الخارج لأعمال الدعوة والإرشاد بين إخوانهم
المسلمين.
4- مصادرة أوقاف المسلمين ومقابرهم وتحويلها إلى مراحيض عامة أو
حظائر للخنازير والمواشي.
5- يدخل أفراد الجيش البورمي البوذي في المساجد بأحذيتهم ونجاساتهم
حاملين زجاجات الخمر تحدياً لمشاعر المسلمين.
6- غير مسموح للمسلمين ببناء المساجد أو المدارس ولا إصلاح القديم منها
كما لا يسمح لهم باستخدام مكبرات الصوت في الأذان.
7- غير مسموح بأداء فريضة الحج للمسلمين من أراكان باستثناء عددقليل
ممن ترضى السلطات البورمية البوذية عن سلوكهم، وهذا من باب الدعاية أيضاً.
من الناحية الاجتماعية:
1- صدر في عام 1982 م قانون جديد للجنسية والهجرة وبموجبه قرر أن
شعب أراكان المسلم شعب بلا وطن، وليس لهم حق تملك أي عقارات في الدولة
ولا ممارسة الوظائف في الدوائر والمؤسسات الحكومية.
2- إجبار الفتيات المسلمات على الزواج من البوذيين.
3- إصدار توجيهات من قبل السلطات البوذية بين وقت وآخر تهدف إلى
تحويل المجتمع المسلم إلى مجتمع إباحي.
4- ترويج الخمور وإشاعة الفاحشة بين أبناء المسلمين الشباب على نفقة
الحكومة بالمجان.
5- إرغام المسلمين على العمل بدون تعويض كبناء السدود، وحفر الخنادق
للجيش، وحمل بضائعهم إلى المناطق الجبلية النائية.
6- إقامة مستوطنات بوذية جديدة بين قرى المسلمين بهدف تغيير التركيبة
السكانية في أركان، وعلى وجه الخصوص في مناطق الكثافة السكانية للمسلمين.
من الناحية الاقتصادية:
1- مصادرة أراضي المسلمين وأوقافهم وإقامة معابد البوذيين ومستوطناتهم
عليها.
2- حجز قوارب صيد الأسماك التابعة للمسلمين ومصادرتها لأد نى سبب.
3- عدم السماح للمسلمين ببيع محاصيلهم الزراعية، مما يؤدي إلى خسارتهم.
4- منع المسلمين من شراء الآلات الزراعية الحديثة لتطوير مشاريعهم
الزراعية.
5- عمليات السلب والنهب لأموال المسلمين تتم تحت إشراف عمال الحكومة.
6- إلغاء العملات المتداولة بين وقت وآخر من دون تعويض المسلمين عنها
7- إحراق محاصيل المسلمين الزراعية، وقتل مواشيهم
8- عدم السماح للمسلمين بإقامة أي نوع من الصناعة في أراكان.
الموقف الحالي:
يتغلغل الخوف الدائم في قلوب الحكام البورميين من أن التنامي السكاني
للشعب المسلم هناك، لذلك يقومون بإكراه المسلمين على ترك شعائر دينهم
واعتناقهم للحضارة البوذية وثقافتها، وهذا يؤدي إلى منع المسلمين أن تقوم لهم
قائمة، وبالتالي ينجحون في مخططاتهم التي انتهجوها للقضاء على المسلمين منذ
أول يوم لاستقلال بورما، وللوصول إلى هذا الهدف فقد اتخذوا خطوات منها:
1- غير مسموح للنساء أن يتحجبن خارج المنزل.
2- على النساء والفتيات المسلمات أن يخرجن للعمل في الحقول
3- لا يسمح للشباب المسلمين بإعفاء لحاهم.
4- غير مسموح للرجال المسلمين بارتداء زيهم المعتاد
5- يجب على المسلمين الحصول على إذن مسبق قبل الزواج.
6- إجبار الفتيات المسلمات على تناول موانع الحمل، بينما ممارسة هذا
العمل تعتبر خرق لقانون الدولة بالنسبة للبوذيات.
7- غير مسموح للرجل المسلم أن يتزوج أكثر من واحدة.
8- إرغام المسلمين على الانحناء للعلم البورمي.
9- المراقبة المستمرة على المساجد والمدارس الدينية.
ولمتابعة هذه الخطوات التعسفية وتنفيذها قرروا بأن المسلم الذي يعفي لحيته
لا يقبض راتب عمله حتى يحلقها، ولا يسمح له بركوب الباصات والقوارب،
والنساء اللاتي يخرجن متحجبات يمزق حجابهن، ومنذ مطلع عام 1994 م قامت
حكومة «رانجون» البوذية باجراءات بشعة تجاه علماء الدين والقيادات الإسلامية
في أراكان، في خطوة خطيرة ضد المسلمين هناك فقامت السلطات العسكرية
بالقبض على عدد كبير من العلماء والمشايخ واعتدت عليهم بالضرب والسجن،
وقامت سلطات السجن بحلق لحى العلماء والمشايخ وتشويه وجوههم، ولم يكتفوا
بهذه التجاوزات، بل وصل بهم الأمر إلى اغتصاب بنات هؤلاء العلماء والمشايخ
على أيدي أفراد القوات البوذية المسلحة.
وعلى صعيد آخر فقد تتابعت الأخبار الواردة من داخل أراكان بأن الطغمة
الحاكمة البورمية البوذية لا تزال تصر على تكرار الأسباب والعوامل التي أدت
بالشعب المسلم الروهنجيا إلى الهجرة والتشرد، وعلى عدم اعترافها بهؤلاء
المسلمين باعتبارهم مواطنين أصليين، بالإضافة إلى امتداد عملياتها الإرهابية
واجراءاتها التعسفية، واعتقال زعماء المسلمين، ونهب أموالهم واستباحة حرماتهم
وإرغام سكان القرى والمدن من الرجال والنساء والأطفال وكبار السن كل يوم على
العمل بدون أي تعويض، كرصف الطرق في المناطق الجبلية، وحمل أسلحة
الجيش والعتاد إلى الغابات والمناطق الجبلية.
كما أن الطغمة الحاكمة البوذية البورمية شكلت مؤخراً قوة خاصة باسم
«الدفاع عن الحدود» (ناساكا) التي تضم رجال المخابرات السرية ووحدات انتحارية من الجيش ورجال الشرطة والجوازات، لملاحقة المسلمين، ووفقاً للنظام الأساسي الذي تشكلت بموجبه هذه القوة الخاصة، فقد أعطيت امتيازات مثل حق تنفيذ أي عملية بدون إذن رسمي سابق من قبل الحكومة، كما أن لها اتخاذ أي اجراءات تراها مناسبة ضد المسلمين دون الرجوع للقضاء أو المحاكمات ومقر هذه القوة ولاية أراكان المسلمة، لتمارس فيها ما تشاء من الإيذاء وصنوف التعذيب والقتل ضد المسلمين، ونفذت حتى الآن عشرات العمليات ضد المسلمين الأبرياء منذ أن تم تشكيلها وقتل خلالها عدد كبير من الشباب المسلمين وأودع مئات آخرون في السجون باتهامات باطلة، وفي الوقت الحاضر صار العلماء المسلمون على وجه الخصوص هدفاً لحملات هذه القوة.
وأخيراً قد اشتدت حدة اعتداءات الطغمة الحاكمة ضد المسلمين كثيراً ففي
الأسبوع الأول من شهر مايو 1994 م تم اعتقال عدة مئات من المسلمين عشوائياً
في بلدتي «مونغدو وبوتهيدونغ» من بينهم (64) امرأة وطفل، وهم يواجهون
الآن شتى أنواع التعذيب في السجون والمعتقلات.
وعمليات التعذيب والظلم قد تتعدى حدود ما كانت في السابق، فقد جرى
اعتقال ثلاثمائة مسلم في الفترة من 23-25/5/1994 م بما فيهم بعض عمد قرى
المسلمين والعاملين التابعين لهم، وهم يتعرضون في المعتقلات لعمليات التعذيب
على أيدي قوات (ناساكا) ، كما ذبح (11) مسلماً من قبل هذه القوة الغاشمة في
«مير الله» وهي منطقة قيادة «علي تائنجو» جنوب بلدة «مونغدو» .
كما أجبرت القوات المسلحة البورمية العاملة في جنوب بلدة (مونغدو)
(000 ر20) مسلم من سكان القرى على نقل أسلحة الجيش وبضائعه من مكان إلى آخر، كما استخدموا باعتبارهم دروعاً بشرية في العمليات العسكرية ضد المجاهدين وخلال تلك العمليات تم قتل عدد كبير من هؤلاء المسلمين والفلاحين العاملين في أراضيهم باتهامات كاذبةأنهم على علاقة بالمجاهدين.
هذه هي الحالة التي يعيش في ظلها المسلمون، وبموجب حديث الرسول
صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد
الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» فإن مأساة
أراكان وقضية الشعب البورمي ليست مأساة وقضية شعب واحد، بل هي مأساة
جميع الأمة الإسلامية، بل مأساة الإنسانية جمعاء. إن قضية هذا الشعب تشكل
محنة مركبة ومضاعفة، وهي كارثة إنسانية كبيرة، وجريمة في حق المجتمع
الدولي وضد القانون الدولي، وإن إبادة جنس بشري أو فئة معينة داخل بورما لا
يعتبر شأناً داخلياً يخص بورما وحدها، لأنه يتعلق بحقوق الإنسان التي ينص عليها
ميثاق الأمم المتحدة، ويزعم الغرب أنه يدافع عنها.
فنناشدكم يا إخواننا أن تقوموا بواجبكم تجاه هؤلاء المسلمين المضطهدين في
رانجون على ايقاف ممارساتها التعسفية وممارساتها القمعية وحملات الإبادة المنتظمة
ضد المسلمين هناك، كما نناشد من خلال مجلة «البيان» الجهات المسؤولة في كل
بلد مسلم أن تقف وراء شعب في أراكان في كفاحهم لاستعادة حقوقهم المغصوبة من
الاستعمار البوذي البورمي وأن تمارس كافة الأساليب السياسية والدبلوماسية
والاقتصادية للحد من ممارساتها العدوانية تجاه هؤلاء المسلمين العزل، كما نأمل
تسهيل وسائل التعليم والمعاش والتنقل لهم ولأولادهم [وإن استنصروكم في الدين
فعليكم النصر] [الأنفال: 72]
[واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين] [هود: 115] .
من أخبار مجاهدي الروهنجا:
وردنا من الأستاذ «سعيد الرحمن» أمين عام منظمة تضامن الروهنجا ما
يلي من آخر أخبار المجاهدين هناك:
1- وقعت دورية مؤلفة من (35) جندياً في كمين أعده مجاهدو المنظمة في
19/5/1994 م شمالي قرية «فانسي» التي تبعد (48) كم شمال مدينة «بوتسمي
دونغ» في محافظة «أراكان» ، وقد قتل (11) جندياً بورمياً في الكمين والجدير
بالذكر أن القوات البورمية العاملة في جنوب مدينة «مونج داو» أجبرت حوالي
(000ر20) مسلم من سكان القرى على نقل الأسلحة والقيام واستخدمتهم باعتبارهم
دروعاً بشرية في العمليات العسكرية ضد المجاهدين، وقتلت خلال العملية هذه
عدداً من الفلاحين بحجة أنهم من المجاهدين الروهنجا.
2- بتاريخ 15/6/1994 م قامت مجموعة من مجاهدي الروهنجا بمحاصرة
ومهاجمة دورية تابعة للجيش البورمي في الموقع العسكري في «خاندونج» بينما
كانوا يستريحون في مضافة القرية شرقي فومالي على بعد (6) أميال جنوب شرق
«بوتيدونج» ، وقد قتل (7) من أفراد الدورية الثمانية فوراً، واستولى المجاهدون
على أسلحتهم، ثم قامت قوات المجاهدين بنصب كمين للقوة الحكومية المساندة،
وحدثت مواجهة ثانية مع القوات المتقدمة قتل خلالها عنصر من القوات البورمية
واضطرت باقي القوة إلى التراجع حاملة معها بعض الجرحى، وعادت قوات
المجاهدين إلى قواعدها سالمة.
__________
(*) من بيان منظمة (الروهنجيا) أراكان بورما بتصرف بسيط ولها مجلة التضامن صوت المنظمة باللغة العربية وهي تستحق الاشتراك فيها لمساعدتها بالدعم لتواصل رسالتها في الدعوة والتعريف بالمسلمين هناك، وعنوانها: c/o Dr Mohammed Yunus P O Box 795 Chittagong, Bangladesh.
(**) هو رئيس منظمة تضامن الروهنجيا الإسلامية.(80/76)
المسلمون والعالم
العمل الإسلامي في إفريقيا
حوار مع د/ عبد الرحمن السميط
التحرير
* العمل الإسلامي الخيري بأنواعه المختلفة (الإغاثي التعليمي
الدعوي ... ونحوها) عمل جديد نسبياً، ولكنه خطى خطوات متسارعة في السنوات الأخيرة.. فكيف تقومونه، مع إيجابيات العمل وسلبياته؟
خلال الخمس عشرة سنة الماضية شهدت الساحة الإسلامية نمواً كبيراً جداً
للعمل الخيري، ورغم التوفيق الذي حالف الغالبية العظمى من هذه المنظمات
بفضل من الله سبحانه وتعالى، وذلك من خلال ما حققته من نجاح طيب في كثير
من الميادين، إلا أنني أود أن أركز هنا على نماذج من السلبيات التي حدثت والتي
أتمنى أن نقوم نحن العاملين في المؤسسات الخيرية بمراجعة أنفسنا وتصحيح هذه
الأوضاع الخاطئة، ومنها على سبيل المثال:
أولا: بدأت تبرز عند البعض روح الانتماء للمنظمة التي يتبعها حتى طغت
على روح الانتماء للإسلام، مما أثر على العمل الإسلامي في المناطق التي يعملون
بها، وأحياناً يحدث هذا بحسن نية ونادراً ما يحدث بصورة أخرى. ودعني
أضرب لك مثالاً:
قمت بزيارة لمنطقة نائية في شمال كينيا، واكتشفت وجود قبائل أصلها
إسلامي، ولكن لا يوجد بينهم دعوة إسلامية منظمة، وكان يوجد شخص من
المدرسين الحكوميين يقوم بتدريس مادة الدين الإسلامي في بعض المدارس الثانوية، وكان لديه استعداد طيب، وبدأ فعلاً في الدعوة في وسط هذه القبائل، وكنا
بحاجة له للتفرغ للدعوة الإسلامية، ولكن ظننا أننا لو سحبناه من المدارس ستصبح
بدون مدرسين مؤهلين، وبخاصة وأن التعيينات الآن في تلك المدارس صعبة جداً،
مما يعني بقاء الطلبة في المرحلة الثانوية بدون توجيه إسلامي، فتركناه على
وظيفته على أن يعمل في أيام العطل معنا في الدعوة، وفوجئنا بإحدى المنظمات
تعرض عليه راتباً خيالياً وتنقله إلى مكان آخر، بينما كان بالإمكان تعيين أي
شخص بديل له في ذلك المكان، ومن السهل وجود أشخاص بديلين عنه هناك،
ونجم عن ذلك أن أصبحت المدارس بدون دعوة، وكذلك القرى التي كان يزورها
ويدعو الناس فيها فقدته أيضاً، وأعتقد أن هذا التصرف ناتج من أن الأخوة لم يروا
إلا من زاوية ضيقة (من وجهة نظر مصلحة المؤسسة التي يعملون بها فقط) ، ولهذا
نجد تنقلات كثيرة بين المؤسسات الإسلامية أعتقد أن أشد المنظمات ضرراً على
العمل الإسلامي هم أولئك الهواة الذين يأتون وفي جيوبهم كثير من المال،
ويعرضون الرواتب الخيالية في الأزمات، ثم ينسحبون بمجرد أن تنتهي الأزمة،
ويبقى هؤلاء الموظفون مشردين بدون وظيفة، وقد حصل هذا في المجاعة التي
أصابت الصومال وشمال كينيا، حيث يوجد عدد غير قليل ممن كانوا موظفين في
الحكومة وفي غيرها، وتم إغراؤهم برواتب خيالية فاستقالوا من وظائفهم للعمل في
بعض المؤسسات، واستغنت عنهم تلك المؤسسات بعد انتهاء المجاعة، فأصبحوا
يمدون أيديهم إلى الناس طلباً للإحسان بعد أن كانت لديهم وظيفة يستطيعون أن
يخدموا الإسلام من خلالها.
ثانياً: ومن السلبيات تدافع المنظمات للعمل في نفس المكان، وكم كنت أتمنى
لو قمنا بالابتعاد عن أي مكان توجد فيه إحدى المنظمات الإسلامية والانتقال إلى
أماكن أخرى، فالساحة تستوعب الجميع، وما حدث في مجاعة الصومال مثال على
ذلك حيث تركز عمل أغلب المنظمات الإسلامية في منطقة مقديشو وما حولها، وها
نحن نرى تدافعاً للمنظمات الإسلامية في بعض المناطق مع إهمال كامل لمناطق
أخرى، فموزمبيق مثلاً يوجد بها ست منظمات رغم محدودية العمل ورغم أن
أغلب المنظمات لم تقدم شيئاً ملموساً حتى الآن لإخوانهم المسلمين، ورغم المشاكل
الإدارية التي تكتنف عمل بعض المؤسسات الإسلامية، بينما دولة مثل غينيا
الاستوائية التي فيها أعداد كبيرة من المسلمين، ومثل نيجيريا والكميرون والكنغو لا
يوجد فيها حضور حقيقي لمنظمات ميدانية تقدم عملاً خيرياً في هذه المناطق إلا ما
ندر.
ثالثاً: إصرار بعض المنظمات رغم العجز الإداري الموجود لديها على
التوسع بدون حدود، مما أوجد خلخلة في أعمالهم، فنجد بعض العاملين يبقون
أشهراً طويلة بدون رواتب وبدون تعليمات، دعك من الزيارات الميدانية التي
يفترض أن يقوم بها العاملون في المكاتب الرئيسة للاطلاع على مشاكل مكاتبهم في
مختلف المناطق، وهذا أوجد إحباطاً في نفوس إخواننا من الدعاة في هذه المناطق
مما عاد بسلبيات كثيرة على العمل الخيري.
رابعاً: عدم قيام بعض المنظمات الإسلامية بتدقيق المحاسبة بشكل يضمن
وصول المساعدة إلى المحتاج فعلاً، كما قرر المتبرع، مما أوجد فئة من الناس
ممن قلت تقواهم فأصبحوا يجتهدون في هذه الأموال، وأصبحت الحدود غير
واضحة في أعينهم بين المصالح الشخصية ومصالح الإسلام وهناك سلبيات كثيرة
تحتاج إلى وقت أطول ومجال أرحب.
* العمل الخيري من الأعمال الشاقة المجهدة.. فما هي الصعوبات الرئيسة التي ترون أنها تواجه العمل الخيري، وكيف يمكن تجاوزها أو التقليل من آثارها؟
كثير من العاملين في العمل الخيري يدّعون أن المشكلة الرئيسة هي المال
وأنا أعتقد أن غالبية المؤسسات الإسلامية لديها مشكلة مالية، ولكن المشكلة ليست
في قلة الأموال ولكن في تخمة الأموال التي لا تستطيع أن تضعها في موضعها
الصحيح، والمشكلة الرئيسة في نظري هي إدارة العمل الخيري حيث لا يوجد
أشخاص مؤهلين للعمل في المؤسسات الخيرية الإسلامية نتيجة حداثة عهدها،
وهناك أيضاً انعدام الرقابة الميدانية عند بعض المؤسسات التي مدت جذورها بشكل
كبير في وسط المتبرعين ونست الزيارات الميدانية وأهميتها في الرقابة الإدارية
والمالية، كما أن هناك صعوبة يجب أن لا نغفلها، وهي عدم وجود الغطاء
السياسي للعمل الخيري الإسلامي، فالدول الإسلامية بصورة عامة دول ضعيفة أو
دول لا تود الدخول في إشكالات سياسية لحماية العمل الخيري الذي ينبع من دولها،
بينما نجد أنه ما أن تمس مؤسسة أمريكية أو ألمانية أو إنجليزية إلا وتقوم قيامة
حكومات تلك الدول وتتدخل لدى أعلى المؤسسات الحكومية في إفريقيا وجنوب
شرق آسيا، لصالح العمل الخيري الذي تقوم به المؤسسات الغربية، بينما نحن
المسلمين كالأيتام على موائد اللئام وأضرب لك مثالاً بلجنة مسلمي إفريقيا، وهي
ليست فريدة في ذلك حيث قتل العديد من دعاتنا في عدد من الدول مثل الصومال
وليبيريا وسيراليون وموزمبيق وغيرها، وإطلاق النار على مؤسساتنا شيء لم يعد
يثيرنا بسبب كثرة ما يحدث ولا نستطيع أن نلجأ إلى أي جهة لتقوم بحمايتنا، بل
إنه حتى في الصومال برزت النعرات الوطنية والإقليمية بشكل مزعج، فأنت عندما
تطلب قوات لحماية الإغاثة التي تنقلها من مكان إلى آخر، يقول لك المسؤول هناك: أنك لست تابعاً لبلدي ولا أستطيع أن أحميك، بينما هو يقوم بحماية الإغاثة التابعة
لمؤسسات نصرانية باسم الأمم المتحدة، وكنت أتمنى أن نحس بالوحدة الإسلامية
أولاً، وبالوحدة الخليجية ثانيا في حماية المؤسسات الخيرية الخليجية بصورة خاصة، والمؤسسات الإسلامية الأخرى بصورة عامة، بغض النظر عن هذه الحدود
المصطنعة التي وجدت بين دولنا.
*التخطيط والتدريب والمتابعة.. من الدعامات الرئيسة لنجاح العمل الخيري، فما هي مرئياتكم حيال هذا الموضوع؟
أعتقد أن العمل الإسلامي الخيري إذا أريد له النجاح فلابد له من وضع خطة
مستقبلية مع تقييم لما نفذ من هذه الخطة على مراحل، ويكون هذا التقييم بإجراء
محاسبة إدارية ومالية دقيقة في المكاتب الرئيسة، بالإضافة إلى زيارات ميدانية
دورية لأمكنة العمل، حيث لاحظنا أن بعض المؤسسات الخيرية تعتمد على الإدارة
من بعيد دون أن تعلم ماذا يحدث في الميدان حقيقة، بل إنها تعتمد اعتماداً كلياً في
اتخاذ بعض القرارات المهمة على التقارير التي تصلها. أما مشكلة التدريب، فمع
الأسف الشديد قليل من المؤسسات التي تقوم بدورات تدريبية ولكنها لا تكون على
المستوى المطلوب، وينعكس ذلك على مستوي العمل مما يجعل بعض العاملين
يتحدثون عن أمور يجهلونها.
*للمنظمات التنصيرية خبرات طويلة وإمكانات هائلة وجهود جبارة في العالم
الإسلامي.. فمن خلال خبرتكم في إفريقيا هل لكم أن تذكروا لنا بعض الإحصائيات
لحجم هذه الأنشطة، وما هو دور المؤسسات الإسلامية في مواجهة المد التنصيري؟
الإحصائيات موجودة في المراجع الأجنبية وبخاصة المراجع التنصيرية
وأضرب مثالاً بكنيسة «المرمون» التي زاد عدد أتباعها أكثر من 16 % خلال
السنوات الأربع الماضية في إفريقيا، كما أن الكنيسة الكاثوليكية تبذل عشرات
الملايين من الدولارات على العمل التنصيري في إفريقيا، حيث ازداد عدد ...
الكاثوليك وهم فئة من فئات النصارى ما بين عام 1980 إلى عام 1994 م من 52
مليون إلى 92 مليون، والمعروف أن البابا الحالي زار إفريقيا لأول مرة في عام
1980 م ثم زارها بعد ذلك عشر زيارات ويوجد حالياً 55 ألف طالب يدرسون
الرهبنة الكاثوليكية في إفريقيا ويوجد حالياً 20700 قسيس و 42 ألف راهبة،
يساعدهم 264 ألف مساعد ديني متفرغ للقسس في أعمالهم الدينية اليومية، فإذا كان
هذا في إفريقيا وحدها، فما بالك في المناطق الأخرى، ولوحظ كذلك أن رجال
الكنيسة بدأوا الدخول في السياسة بدعم من الفاتيكان، رغم أن الفاتيكان ينفي ذلك
تماماً، ولكن من الواضح جداً أنه لا يمكن أن يقوموا بما قاموا به من تدخل سياسي
بدون هذا الدعم الخفي من الفاتيكان، وكمثال على ذلك، هناك خمس دول يرأس
المجالس الوطنية أو البرلمانات بها قسس كاثوليك برتبة أسقف في غرب إفريقيا،
وقد كانت البداية في «بنين» حينما أصبح الأسقف «إيسادور ديسوزا» رئيساً
للبرلمان في عام 1990 م، ثم حدث نفس الشيء في الكنغو والغابون والتوغو
وزائير، ويرأس الحركة الانفصالية في جنوب السنغال قسيس كاثوليكي، كما أن
الكنيسة الكاثوليكية متورطة حتى آذانها في الحركة الانفصالية في جنوب السودان
ويقيم «جون قرنق» أثناء زيارته إلى نيروبي نصف المدة في كنيسة كاثوليكية في
ضواحي نيروبي، والنصف الثاني في كنيسة بروتستنتية، وبكل وضوح يقوم بهذا
العمل بينما تدخلت الدول الغربية لتحريم إقامة أي حزب على أساس ديني في خمس
دول ذات أغلبية إسلامية، وهي موريتانيا، والنيجر، وتشاد، والسنغال، وغينيا
كوناكري، حتى لا يكون للإسلام صوت في السياسة، وحسب إحصائيات المجلة
الدولية لأبحاث التبشير وهي مجلة علمية أمريكية فإن ما تم جمعه خلال عام واحد
لصالح الكنيسة في شمال أمريكا وغرب أوروبا بلغ 181 مليار دولار، ويوجد
لديهم 2050 محطة إذاعة وتلفزيون، ويملكون في دولة مثل أندونيسيا 64 مطار،
ويمكن من هذا أن نقدر عدد الطائرات التي يملكونها.
*صلة القارة الإفريقية بالإسلام صلة قديمة جداً، وقد كان للغة العربية
حضور مبكر في القارة، ولكن استطاع الاستعمار استبدال اللغة العربية وحروفها
باللغات الغربية والأحرف اللاتينية.. فهل لكم أن تذكروا لنا بعض تلك الجهود في
ذلك؟
الإسلام لم ينزل على إفريقيا (ببراشوت: مظلة) وإنما له جذور عميقة، فمنذ
هجرة الحبشة الأولى االتي دخل بها الإسلام إلى إفريقيا قبل أن يدخل إلى المدينة
المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقد اكتشف قبل مدة مسجد في جزيرة
«باتي» في شرق كينيا عمره 1350 سنة، واكتشف مسجد له نفس العمر في شمال زنجبار وفي جزيرة «بمبا» . وفي زيارتي الأخيرة إلى «مدغشقر» وجدت كثيراً من الآثار الإسلامية التي يعود تاريخها لأكثر من ألف سنة، ويذكر أحد الباحثين الغربيين أنه وجد قبراً في زيمبابوي كتب عليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
«هذا قبر سلام صالح الذي انتقل من الدار الفانية إلى الدار الباقية عام 95
من هجرة النبي العربي»
وهناك قرائن تثبت أن العرب كانوا قد سكنوا جنوب إفريقيا قبل الرجل
الأبيض، بل قبل الرجل الأسود، وأقصد جمهورية جنوب إ فريقيا التي كانت
عنصرية، وإلى عهد قريب جداً كان الحرف العربي هو الحرف الذي كان يستخدم
في الكتابة في إفريقيا بدون منافس، حتى جاء الاستعمار والتنصير الغربي في
منتصف القرن الماضي، وأخذ يحارب الحرف العربي لأنه ينتمي إلى لغة القرآن،
واستطاع أن يغير كثيراً من اللغات، من أواخر اللغات التي غيرت من الحرف
العربي إلى الحرف اللاتيني لغة «الهاوسا» في شمال نيجيريا، واللغة الصومالية
وغيرها، وكانت اللغة العربية لغة رسمية في كينيا إلى عام 1964 م ثم ألغيت،
ومع الأسف الشديد فإن العرب لا يقدمون شيئاً للدفاع عن لغتهم، حينما قام أحد
الوزراء ذوي التوجه الإسلامي في السنغال بإلغاء اللغة الألمانية في بعض المعاهد
نظراً لعدم الحاجة لها، تدخلت ألمانيا وقطعت جميع المساعدات حتى اضطر
أصحاب القرار هناك لإقالة هذا الوزير، وفي «تشاد» تم إقرار اللغة العربية لغة
رسمية، ولكن رغم هذا لم تتقدم أي دولة عربية بإرسال مدرس واحد للغة العربية
في المدارس التشادية، ولذلك بقيت اللغة العربية لغة رسمية حبراً على ورق،
وحتى الإذاعة العربية فكانت إلى عهد قريب تبث لمدة ربع ساعة فقط، بينما
الإذاعة باللغة الفرنسية تبث لعدة ساعات نظراً لعجز الإذاعة العربية عن توفير
برامج ومعدات تحتاج إليها، وقد صدر منذ شهر قرار من تشاد بأن تكون جميع
اللافتات في الدوائر الرسمية باللغة الفرنسية واللغة العربية، ورغم هذا لم تجد أي
تشجيع من الدول العربية لذلك.
*كيف بدأت صلتكم الشخصية بإفريقيا، وما هي العقبات الأولى التي واجهتكم
في العمل، وما أبرز نشاطات لجنة مسلمي إفريقيا؟
أذكر منذ كنت أعمل في كندا في السبعينات أنني ألقيت محاضرة على
مجموعة من الطلبة المسلمين في أمريكا عن جهود التنصير، وتحمس الأخوة
وطلبوا مني أن نفعل شيئاً، فاقترحت في محاضرة أخرى أن يدفع كل طالب مبلغاً
يتراوح ما بين نصف دولار إلى دولار شهرياً وبصورة مستمرة، ثم يجمع ذلك
المال ونطبع به كتباً ونوزعها في الدول المحتاجة وبخاصة في إفريقيا، وعندما
عدت إلى الكويت بعد انتهاء دراستي وتدريبي شعرت بأن العمل الطبي لا يستوعب
طاقاتي، وحصلت على بعض التشجيع من بعض المسؤولين، ونحمد الله سبحانه
وتعالى أن تبرعت لنا إحدى المحسنات لبناء مسجد، فذهبنا إلى «ملاوي» لبناء
المسجد، وما وجدناه هناك كان يدمي القلب، وعلى إثرها كنت أحد المؤسسين
للجنة مسلمي إفريقيا، وقررنا منذ البداية أن نعمل بشكل علمي بحت، وأن لا ننظر
في الحالات الفردية، وأن ننظر إلى المجتمع الإسلامي ككل ونحاول أن ننميه،
فنحن لا نساعد شخصاً بذاته لأنه محتاج للمال أو لغيره، ولكن نحاول أن نبني
المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية والإغاثية لهذه المجتمعات، وأذكر أنه
في أول ثلاثة اجتماعات كنا بأمس الحاجة إلى 500 دولار ولم نستطع أن نجمعها،
ولكن بعد ذلك نحمد الله سبحانه وتعالى على أننا قد تجاوزنا الامتحان في هذا
الجانب في الأيام الأولى من بداية عملنا حتى أصبحت الأن لجنة مسلمي إفريقيا
أكبر منظمة عالمية متخصصة في العمل الإسلامي في إفريقيا حيث يغطي عملها
أربعين دولة في إفريقيا ولها مكاتب متعددة هناك ولدينا 3288 داعية متفرغاً وهو
عدد يفوق ما لدى جميع الدول العربية المشتركة، ولدينا أكثر من نصف مليون
طالب يدرسون في 840 مدرسة تديرها لجنة مسلمي افريقيا عبر مكاتبها الميدانية،
وحفرنا 760 بئراً، ولدينا أكثر من 200 طالب يدرسون الدراسات العليا وبخاصة
في مجال الطب والهندسة والعلوم في عدة جامعات في الدول العربية والأجنبية، كما
قمنا بترجمة وطباعة وتوزيع أكثر من 5. 6 مليون كتيب إسلامي بـ 18 لغة
وبالطبع لدينا إذاعة للقرآن الكريم وهي الإذاعة الإسلامية الوحيدة التي تمتلكها
منظمة إسلامية، وتغطي 16 دولة إفريقية في غرب إفريقيا ومقرها «سيراليون»
وتبث بعشر لغات، وقد أسلمت عدة قرى ومناطق بسبب سماعها للإسلام حيث لم
تكن قد وصلتها الدعوة الإسلامية من قبل، ومع الأسف الشديد فإن هذه الإذاعة
تعاني من مشاكل مالية بعد أن استمرت عشر سنوات في البث بدون انقطاع.(80/85)
في دائرة الضوء
الكتاب الإسلامي: وقفات نقدية
ودعوة للارتقاء نحو الأفضل
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
انتشر الكتاب الإسلامي انتشاراً واسعاً، وأصبحت له الصدارة في دور
العرض والنشر ومعارض الكتاب الدولية والمحلية، وسجلت مبيعاته أرقاماً قياسية
منقطعة النظير، وساعد في انتشاره تطور آليات النشر والطباعة تطوراً مذهلاً،
فأصبحت دور النشر تقذف بسيل متدفق من الكتب بألوانها البراقة وعناوينها الجذابة، وأصبح المتابع للجديد يعجز عن الإحاطة بذلك، وبخاصة مع فوضى الكتابة
والنشر، وغياب المؤسسات العلمية التي تنظم ذلك وتحتويه أو تتبنى الكتب
المتميزة بعد دراستها وتقويمها.
وأمام هذا الركام المتتابع من الكتب تضيع الكتابات العلمية الجادة التي يكتبها
أهل القدرة والإتقان، وبخاصة إذا لم يكونوا من أصحاب الأسماء اللامعة المشهورة، ويظهر هذا جلياً مع غياب القارئ الناضج غالباً الذي يملك قدرة نقدية تؤهله
للتمييز بين الغث والسمين، حيث أصبح كثير من القراء كالتائه الغريب لا يدري
أين يتجه..!
وعلى الرغم من العمر الطويل نسبياً للصحوة الإسلامية المعاصرة، إلا أن
القدرة العلمية لكثير من أبنائها لم تنضج بعد، ويظهر ذلك في العقلية الهشة التي
نشاهدها في المنظومة الثقافية السائدة هنا وهناك. مع أنّ أبناء الصحوة مقارنة
بغيرهم أكثر الناس ثقافة واهتماماً بالقراءة وإقبالاً عليها بمختلف تخصصاتها.
وللمادة المكتوبة المعروضة في الساحة تأثير كبير جداً في صنع وتشكيل فكر
القراء، وتقويم هذه المادة وتحليلها ضرورة ملحة تساهم في إثراء المعرفة العلمية
وترشيدها، وفي هذه الورقات سوف أقف وقفات عابرة عند بعض الكتابات
الإسلامية الحديثة، لعلها تساعد في تسديد النقص وتقويم الخطأ.
الوقفة الأولى: في أهداف التأليف:
أولاً: التجديد والإبداع:
تختلف أهداف التأليف من كاتب إلى آخر، ولكن من السمات الظاهرة في
الكتابات الإسلامية غياب الإبداع والتجديد، فالكتابة الأصيلة الجادة التي تقدم إضافة
علمية جديدة قليلة جداً، إذا قورنت بالعدد الكبير الذي تنتجه المطابع، فمعظم
الكتابات تكرار واجترار لا جديد فيها، فالمسألة الواحدة تجد فيها عشرة كتب مثلاً
أو أقل أو أكثر كلها تدور حول أفكار واحدة وتعرض بطرائق متشابهة، وقد لا أبالغ
إذا قلت وباستخدام مفردات وجمل وشواهد واحدة..!
وهذا ناتج في كثير من الأحيان عن عجز بعض الكتاب وافتقادهم لآلية الكتابة
وأدواتها، والإبداع لا يأتي من فراغ، فهو ثمرة لتراكم مجموعة كبيرة من العلوم
والمعارف والخبرات
وكثرة الكتب في الموضوع الواحد لا تدل على أنّهُ أعطى حقه من الدرس أو
أنه بحث بحثاً متكاملاً، بل إنّ ذلك قد يتطلب مزيد بحث وتأصيل، إمّا لأنّ
الكتابات السابقة كلها أو بعضها ضعيفة، أو أن الموضوع واسع ولم تستوعب جميع
أطرافه ومسائله.
ولا يعني هذا أنّ كل كاتب مطالب بأن يأتي بأفكار جديدة دائماً، ولكن إذا لم
تكن الفكرة جديدة فليس أقل من التجديد في أسلوب العرض والمناقشة والتحليل.
قال الإمام النووي في بيان آداب التأليف: «وينبغي أن يكون اعتناؤه من
التصنيف بما لم يُسبق إليه أكثر، والمراد بهذا ألا يكون هناك مصنّف يُغني عن
مصنّفه في جميع أساليبه، فإن أغنى عن بعضها فليصنّف من جنسه ما يزيد
زيادات يحتفل بها مع ضمّ ما فاته من الأساليب» [1] .
وقال صاحب الأزدي: «لا ينبغي لمصنّّّف يتصدى لتصنيف أن يعدل عن
غرضين: إمّا أن يخترع معنى، وإمّا أن يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين
الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلي بحلية السرف» [2] .
وقال حاجي خليفة: «ثم إن التأليف على سبعة أقسام، لا يؤلف عالم عاقل
إلا فيها، وهي: إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء
مغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء
متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه» [3]
وجماع هذه المقاصد التأكيد على ضرورة الإتيان بالجديد، والحرص على
الإبداع والابتكار، والذي ينبغي تأكيده أنّه على الرغم من كثرة الإصدارات وتتابع
المطبوعات الحديثة، إلا أنّ الأصيل النافع هو الذي بقى والزمن كفيل بإماتة الغثاء، قال الله تعالى: [فأما الزبد فيذهب جفاء وأمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض] (سورة الرعد: الآية 17) .
ويعجبني في هذا السبيل موقفان رائعان:
الموقف الأول: قال المفضل بن محمد بن حرب المدني: «.. ثم إنّ مالكاً
عزم على تصنيف الموطأ، فصنّفه، فعمل من كان في المدينة يومئذ من العلماء
الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شاركك فيه الناس
وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بما عملوا، فأتي بذلك. فنظر فيه ثم نبذه، وقال:
لتعلمنّ أنّه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله.
قال المفضل: فكأنّما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما سمع لشيء منها بعد ذلك
بذكر!» [4] .
الموقف الثاني: قال البويطي لشيخه محمد بن إدريس الشافعي: «إنك تعتني
في تنظيف الكتب وتصنيفها، والناس لا يلتفتون إلى كتبك ولا إلى تصنيفك، فقال: يابني إن هذا هو الحق، والحق لا يضيع» [5]
ثانياً: التنظير الثقافي
بعض الكتابات الإسلامية تميل إلى التنظير الثقافي، ولا يتم تنزيلها على
أرض الواقع الذي تعيشه الأمة، فهناك فجوة عميقة فسيحة بين الهم الثقافي والمعاناة
اليومية التي تعيشها الأمة الإسلامية، وإنّ التجريد والإغراق في التنظير، وتحويل
الكتابة إلى متعة ثقافية أو أطروحات فنية، لا يخدم الدعوة الإسلامية بحال، فما لم
تتحول الأطروحات الثقافية إلى مشروعات عمل وإنجازات مشاهدة ملموس فإنها
تبقى كلمات باردة لا حياة فيها.
إنّ الكتابة الإسلامية ليست صنعة يتكسب بها المرء، أو هواية يشغل بها وقته، وإنمّا هي إحساس بالمسؤولية ينبض بمشكلات الأمة واحتياجاتها، ومن ثم فإن
الكاتب الناجح هو الذي ينزل من صومعته الفكرية وبرجه العاجي ويتلمس هموم
الناس وأحاسيسهم، ولابد من تفاعل وتواصل يتسم بالحيوية والجدية بين الكاتب
والقارئ، ولكن مع الأسف الشديد لازال الخطاب الإسلامي بعيداً عن رجل الشارع، وهو أقرب إلى السلبية والارتجال، منه إلى الإحساس بواقع الأمّة.
لقد غلبت عزلة الكتاب الإسلامي عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ... فهو لا يقدم الأطروحات العلمية التي تنطلق من المستجدات المتلاحقة التي تمر بها
الأمة الإسلامية، والتي تفرزها بيئات متباينة سياًسًيا ًواجتماعياً، فالدراسات
الشرعية الحديثة المتخصصة في الفقه والتوحيد، ونحوهما اقتصرت على التحقيق
والترتيب والتبويب والاختصار، ونحو ذلك. وهذه مطالب في غاية الأهمية،
ولكنها قصرت تقصيراً واضحاً في معالجة احتياجات العصر ومستجداته.
ففي مجال الدراسات العقدية، قل أن تجد دراسات متخصصة لمناقشة
الفلسفات الغربية المعاصرة، التي ملأت الساحة بضجيجها، وقل أن تجد دراسات
متخصصة للرد على دعاة التغريب والحداثة، وما بعد الحداثة، ونحوها.
ومما يلزم ذكره أنّ أئمتنا وأسلافنا رضي الله عنهم كانوا يعالجون القضايا التي
احتاجت إليها عصورهم، فقضية الإمام الشافعي، تختلف عن قضية الإمام أحمد بن
حنبل، وتختلف عن قضية الإمام ابن تيمية، وإن كانت كلها تجتمع في إطار واحد
أما نحن فقد وقفنا عند قضايا المتقدمين، ولم نهتم الاهتمام اللازم بقضايا
عصرنا التي تحيط بنا من كل مكان، فعصرنا الذي نعيش فيه وإن كانت قضاياه
تشارك بعض قضايا هؤلاء الأئمة في بعض المسائل إلا أنّه قد استجدت فيه مسائل
وأحوال كثيرة تحتاج إلى اجتهادات جديدة ومعالجات علمية مستفيضة ينهض بها
علماء الأمة ومجتهدوها.
وأمّا في مجال الدراسات الفقهية فهناك قصور بيّن في دراسة فقه النوازل،
مثل: (المعاملات المالية المصرفية بتعقيداتها الكثيرة، التأمين، العلاقات الدولية..
ونحوها) . وإن كانت هناك إسهامات محمودة مشكورة في هذا الميدان، لكنها لا
زالت قليلة وتحتاج جهداً أكبراً
وأما في مجال السياسة الشرعية فالأمر فيها أصعب، والدراسات التي يُعتمد
عليها في هذا الباب لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكتاباتنا السياسية لا تعدُ في
الغالب أن تكون توصيفاً للواقع أو لبعض جوانبه، وهي تعمد غالباً إلى تصوير
العدو الخارجي وكأنه أخطبوط امتد لكي يحيط بكل شيء ويسيطر عليه، وأما نحن
فمجرد أحجار على رقعة شطرنج! ! ومن ثم فإنّ الخطط التي تدار، والدسائس
التي تحاك هي سبب هزائمنا المتلاحقة، والنتيجة الطبيعية هي الهروب من
المسؤولية بإلقاء التبعة على العدو الخارجي دائماً.! !
إنّ مشكلات الأمة الإسلامية، مشكلات كثيرة، متعددة الألوان متعددة
الاتجاهات، معقدة تعقيداً كبيرا، وتحتاج إلى دراسات علمية جادة ناضجة تنفذ إلى
العمق، وترسم السبيل الأمثل لوعي الأمة وعزتها.
الوقفة الثانية:
الموضوعية العلمية في البحث والدراسة والتحليل:
تميزت بعض الكتابات الإسلامية بضعف ظاهر في اعتماد الموضوعية العلمية
في البحث والدراسة والتحليل، ومن علامات ذلك:
أولاً: ضعف منهج الاستدلال العلمي:
إنّ الاعتماد على المصادر الشرعية للاستدلال والتلقي، مطلب أساس لسلامة
البحث العلمي واستقامته على الجادة الصحيحة، وقد تواترت الدلائل الشرعية
لتقرير ذلك والتأكيد عليه، قال الله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى االله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاْ] [سورة النساء: الآية 59] ،
فالأدلة المتفق عليها هي: الكتاب والسنة والإجماع واختلف العلماء في القياس،
وأكثرهم على اعتباره دليلاً رابعاً إذا استوفى الشروط العلمية التي قررها علماء
الأصول.
وقد انحرف عن هذا السبيل فئتان:
الفئة الأولى: الذين أهملوا النصوص الشرعية عل اختلاف ظاهر في درجة
الإهمال وأدى ذلك إلى استحداث مصادر أخرى للاستدلال والتلقي. ومن هذه
المصادر:
(1) الاعتماد على الآراء والعقول البشرية المجردة، مع توافر النصوص
الشرعية المحكمة، كما هو الحال عند أصحاب المدرسة العقلية، ومن دار في فلكهم
من أهل الرأي الذين يعارضون بأقيستهم الفاسدة وآرائهم الناقصة النصوص الثابتة
المحكمة.
(2) الاعتماد على أقوال الشيوخ والرجال، وجعلها حجة في ذاتها وتقد يمها
على الكتاب والسنة الصحيحة.
(3) الاعتماد على الذوق والوجد والإلهام والكشف، كما هو الحال عند
الصوفية والباطنية.
(4) حصر الحق في منطقة أو بلد أو طائفة بدون حجة أو برهان.
الفئة الثانية: أخذوا بالأدلة المتفق عليها، ولكنهم تعاملوا معها بحرفية صارمة
أدت إلى الانحرافات التالية:
(1) عزل النص الواحد عن النصوص الأخرى، وأخذه كأنّه وحدة مستقلة،
أو أخذ النص بمعزل عن المقاصد الكلية للتشريع الإسلامي، وهذا يؤدي بالضرورة
إلى قصور بيّن في النظر، وعجز في التصور، ومعلوم أنّ المسألة لا تتضح
معالمها إلا إذا جمعت أطرافها واكتملت أجزاؤها.
(2) إهمال الأصول والقواعد العلمية التي أصّلَها الأئمة الأثبات في فهم
النصوص، مثل العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه والناسخ
والمنسوخ، ونحوها.
(3) الاستهانة بأقوال الأئمة والفقهاء المتقدمين منهم والمتأخرين، بحجّة أن
النص موجود بين أيدينا، ويمكن أخذه مباشرة، فلسنا بحاجة للنظر في شيء آخر،
ويحتج بعضهم بأن أكثر الأئمة والفقهاء كان ينهى عن تقليده وكتابة أقواله واجتهاداته، وقد يقول: هم رجال ونحن رجال..!
وفي هذا المنهج خطورة بالغة لا تحمد عقباها، ونتيجتها الحتمية إهمال
التراث العلمي العظيم الذي ورثناه عن أئمة الإسلام وفقهائه الأعلام، وفرق كبير
بين تقليد الأئمة وجعل أقوالهم في منزلة أقوال النبي المعصوم -صلى الله عليه
وسلم-من جهة، والضرب بها عرض الحائط وإهمالها من جهة أخرى..!
(4) تأثر فهم الكاتب بالبيئة الاجتماعية والتربوية والنفسية التي نشأ عليها،
فإذا كانت البيئة تميل إلى التساهل فأحكامه واختياراته متساهلة، وإذا كانت البيئة
تميل إلى التشديد، فأحكامه واختياراته متشددة.
وخطورة هذا المسلك أنّ المرء يبني اجتهاداته العلمية بناء على الخلفية
الفكرية التي نشأ عليها، وهو لا يشعر بذلك على الإطلاق، فيكون اختيار الباحث
واجتهاده انعكاساًً لبيئته، ولذا فإن التجردفي البحث والتحليل من القضايا الدقيقة التي
تحتاج إلى مزيد عناية ونظر.
ثانياً: الاستهانة بعقل القارئ وفكره من خلال المسائل التالية:
1- تلقين القارئ:
يسعى بعض الكتاب إلى تلقين القراء الفكرة المرادة وكأنها لوائح إدارية
صارمة مجردة من الاستدلال العلمي والبرهان الشرعي، ودور القارئ التسليم
والقبول، ثم التلقي والأخذ، بدون نظر أو تأمل، لأنّ الكاتب قد كفاه المؤونة،
وفكرّ بالنيابة عنه.
فالكاتب بذلك يربي القارئ على التبعية والتقليد، وعلى الحفظ والتلقين،
وليس على النظر والتفكير، والنتيجة قدرة فائقة على الحفظ والاجترار، وعجز
ظاهر عن التأمل والتعقل والنقد البناء.
إن الكاتب المتميز هو الذي يربي عقل القارئ ويدفعه إلى التفكير ويستحثه
على النظر والمشاركة، ويفتح أمامه آفاقاً جديدة من البح فحينما ينهي القارئ الكتاب
الذي بين يديه، ويبدأ بنشاط عقلي جديد يدعوه إلى التأمل وتقليب النظر، ويثير
عنده الرغبة في المساهمة الفاعلة، فقدنجح الكاتب هنا نجاحاً ملحوظاً في ربط
القارئ بما كتب وبمقدار ما يشعر القارئ بالحيوية والتفاعل، يكون مقدار النجاح.
ولكن حينما يعجز الكاتب عن دفع القارئإلى التفكير ويبقي ذهنه ساكناً خاملاً،
فقدُ أخفق في ربطه والتأثير عليه، والقارئ الذي يفقد القدرة على التفكير هو
بالضرورة عاجز عن التفاعل والتواصل والانتفاع بما يقرأ..!
2- الوصاية على عقل القارئ وفكره:
يسعى بعض الكتاب إلى فرض الوصاية على عقل القارئ وفكره ومحاصرته، وإلزامه بالنتيجة التي توصل إليها، ويظهر ذلك في بعض الأحيان من عنوان
الكتاب فضلاً عن مادته الأصلية، فبعضهم يعنون لكتابه بقوله: (القول الفصل
في..) ، (نهي الصحبة عن ... ) ، (إلزام الأصحاب بـ ... ) ، ويشعر القارئ
حينما يقرأ لهؤلاء الكتاب في المسائل الخلافية التي تباينت فيها أنظار المجتهدين
قديماً وحديثاً، أنّ الحق معه بلا ريب، وأنّ مخالفه على شفا جرف هار يُخشى أن
ينهار به إن لم يتب ... !
وليس خطأ أن يجتهد الكاتب في ترجيح أحد الأقوال بدليله إذا استفرغ وسعه
وكان أهلاً لذلك ولكن الخطأ أن يصادر أقوال الآخرين ويحسم المسألة حسماً قاطعاً
لا مراجعة فيه، وفي هذا ازد راء بعلماء الأمّة ومجتهديها الذين لم يصلوا إلى ما
وصل إليه..! !
ويتفرع من هذه المسألة أنّ بعض الكتبة قد لا يلزم القارئ بالنتيجة التي
توصل إليها، ولكنه يوهمه بأنّ المسألة لا يوجد فيها إلا قول واحد، ويسعى لتلميعه
وإبرازه، وإن وجدت أقوال أخرى فهي عنده ضعيفة ليس لها حظ من الأثر أو
النظر، مع أنها قد لا تقل قوة عن القول الأول، وقال بها أئمة مجتهدون، وأخشى
أن يكون في هذا الأسلوب لون من ألوان الخداع وفقد للأمانة العلمية التي تعد لازماً
من لوازم البحث العلمي، كما أنّ فيها مشابهة لليهود الذين يكتمون الحق، قال الله
تعالى: [يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون]
(سورة آل عمران: الآية 71) .
والمنهج العلمي يقتضي عرض الأقوال والحجج بأمانة كاملة ثم يُرجّح بناء
على القواعد العلمية المتبعة عند علماء الأمة للترجيح بين الأقوال، قال ابن تيمية:
«يجب أن يكون الخطاب في المسائل بطريقة ذكر دليل كل قول ومعارضة الآخر
له، حتى يتبيّن الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته» [6] .
3- ضعف التركيز:
بعض الكتاب يبدأ الكتابة والفكرة لم تنضج بعد في ذهنه، ولم يتصور المسألة
تصوراً جيداً، فيضطر إلى الخلط والتلفيق، أو الدوران وفقدان التركيز، رغبة
منه في الوصول إلى مراده، فلا الكاتب قادر على استيعاب الفكرة، ولا هو قادر
على إيصالها إلى القراء، والننتيجة المتوقعة إزاء ذلك ضحالة الفكرة وميلها إلى
السطحية وقلة العمق.
إنّ الكاتب الناجح هو الذي يستطيع نقل الأفكار والمعلومات إلى القارئ
بأقصى قدر من المنهجية العلمية، مع سهولة العرض وسلاسة الأسلوب، وأمّا
الدوران والتنطع والتقعر في الكلام فكما أنّه يفسد الفكرة ويصعبها، فهو يُملل القارئ
وينفره.
قال الإمام النووي في بيان آداب التصنيف: «وليحرص على إيضاح العبارة
وإيجازها، فلا يوضح إيضاحاً ينتهي إلى الركاكة، ولا يوجز إيجازاً يفضي إلى
المحق والاستغلاق» [7] .
وقال ابن الأنباري: «متى أمكن أن يكون الكلام جملة واحدة، كان أولى من
جعله جملتين من غير فائدة» [8] .
4- المنحى العاطفي:
يغلب الخطاب العاطفي على كثير من الأطروحات الإسلامية، فالمواعظ
والقصص هي السائدة في طريقة المعالجة لعامة القضايا، فالربا مثلاً لا يُعالج
معالجة فقهية اقتصادية مؤصلة، تحدّد فيها أبعاد المشكلة ومعالمها، ثم تحدد آثارها
وأخطارها على الفرد والمجتمع، ثم ترسم الحلول والبدائل العلمية الجادة، للنهوض
بالأمة من هذا المأزق الخطير.
وهكذا عامة قضايا الأمة ينبغي أن تعالج بعلمية، ولا تعالج بعواطف
وعموميات تحوم حول الحمى ولا تقترب من أصل الداء، ولا بأس أن توجد كتابات
تركز علي الجانب العاطفي، أو تتخصص فيه في مقاماتها، ولكن لا ينبغي أن
تكون هذه صفة سائدة في الخطاب الإسلامي، فالخطاب الوعظي يصلح لبعض
الناس، ولكنه لا يصلح لهم جميعاً، كما أنّه يصلح لمعالجة بعض الموضوعات،
لكنه لا يصلح لها جميعاً والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه اللائق به شرعاً
وعقلاً.
يخيّل إليّ وأنا أقرأ لبعض الكتّاب أنّ تخلف الأمة القرون الماضية كلها يمكن
أن يعالج بإذكاء العاطفة والإصلاح القلبي، ولا شك بأنّ هذا تبسيط ضيق الأفق،
وإيقاظ البعد الإيماني لمعالجة مشكلات الأمّة مطلب أساس ولكنه بالمفهوم الشامل
المتكامل لمعنى الإيمان، ومن مقتضيات ذلك رسم الأوعية الشرعية الأصيلة
للنهوض بالأمّة من كبوتها.
5- ضعف الرؤية الشاملة:
تفتقر بعض الكتابات الإسلامية إلى الرؤية الشاملة لللإسلام، وإنمّا تأخذ
أصول الإسلام وشرائعه أجزاء متفرقة لا صلة لها ببعضها.
وظهر في هذا الإطار اتجاهان:
الاتجاه الأول: ركز على القضايا الكلية، وأهمل ما يسميه بالثانويات
والقشور والشكليات، مع أنّها كلها ثابتة بالنصوص الصحية عن النبي -صلى الله
عليه وسلم-على اختلاف بيّن في تحديد المقصود بالكليات والثانويات.
ومن ذلك أنّ أحدهم كان ينعى على بعض الناس اشتغالهم في إثبات صفة
اليدين لله سبحانه وتعالى، وفي الوقت الذي تمتد فيه أيادي اليهود والنصارى لسرقة
مقدرات المسلمين وأموالهم، فضلاً عن أيدي فساق المسلمين التي ترابي وتغش
وتحتكر..!
وأحسب أنّ هذا الاختلاف مفتعل تماماً، والحقيقة أنّه يمكن إثبات يدين لله
سبحانه وتعالى تليقان بكماله وجلاله وعظمته، ومع ذلك يمكن محاربة اليهود
والنصارى والتحذير من المرابين ونحوهم، وأمّا تشطير الدين وتبعيضه فمما لم
يرد عن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين.
الاتجاه الثاني: ركز على جزئيات الشريعة ووضعها في موضع الكليات،
وأدى ذلك إلي التساهل في الأخذ بأصول الإسلام، وصرف الطاقات في قنوات
مفضولة.
والصواب أنّه لا يجوز الاشتغال بالفروع على حساب الأصول ولا بالجزئيات
على حساب الكليات، كما لا يجوز إهمال الفروع والاستهانة بها، بدعوى أنها
قشور وثانويات، فكل شيء ثبت في دين الله عز وجل فهو حق يجب أن يقدّر حق
قدره، ويوضع في موضعه اللائق شرعاً.
ونصوص الشرع وقواعده تقتضي البدء بالأهم فالمهم، كما جاءذلك في حديث
عبد الله بن عباس، لما بعث النبي صمعاذاً إلى اليمن. [9]
وفقه الأولويات من المسائل المهمة التي تحتاج إلى مزيد بحث ودراسة
وتأصيل.
__________
(1) المجموع شرح المهذب (1/30) .
(2) التعريف بآداب التألبف للسيوطي ص28.
(3) كشف الظنون (1/35) ، وبسط ابن خلدون القول في بيان هذه الأهداف في المقدمة (2/230، 231) .
(4) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/86) وعنه السيوطي في تنوير الحوالك (1/7) .
(5) التعريف بآداب التأليف ص23، 24.
(6) مجموع الفتاوى (8/108) .
(7) المجموع شرح المهذب (1/30) .
(8) الإنصاف في مسائل الخلاف ص264.
(9) أخرجه البخاري (3/357) ومسلم (1/50) .(80/96)
الورقة الأخيرة
الهجرة غرباً
د. وحيد عطية المصري
يجذب انتباه المطالع للصحافة العربية اليومية الإعلانات المتكررة لمكاتب
الهجرة إلى الخارج التي تحث أصحاب الخبرات العلمية ورؤوس الأموال على
الهجرة إلى الغرب، كذلك يجد المتتبع لتلك الإعلانات أن فحواها كُتب بطريقة
خبيثة ومغرية لجذب «الزبائن» لبضائعها! وعادة ما تذكر تلك الإعلانات العديد
من المميزات مثل:
* نظام الضمان الاجتماعي للمستحقين.
* الرعاية الصحية المجانية.
* التعليم مكفول للجميع.
* الاستقرار والأمان والحرية.
لذلك يجد الكثير من أبناء المسلمين المضطهدين في بلدانهم المؤهلين تأهيلاً
عالياً ضالتهم في مكاتب الهجرة تلك، ويقبل عليها المضطرون اضطراراً أو
أصحاب الثروات الخائفين من مصادرتها بطريقة أو بأخرى، وغالباً ما يجد العلماء
والمهندسون والأطباء والمحاسبون فرص عمل ممتازة في البلاد الغربية مقارنة بما
يجدونه في بلادهم، بل إن العديد منهم يبزون نظراءهم الأجانب ويتقلدون أعلى
المناصب في المؤسسات والهيئات التي يعملون بها.
إن الأمر ليس بمقصور على مكاتب الهجرة فحسب، بل إن المشاهد لطارقي
أبواب بعض السفارات يطلبون معلومات واستفسارات عن الهجرة يتيقن تماماً أن
نزوح الخبرات المسلمة في تزايد مستمر، وهو من غير أدنى شك يؤدي إلى
النزوح المعاكس للخبراء الأجانب إلى بلاد بعض المسلمين بمميزات خاصة لا
تتوفر لأبناء المسلمين في بلدانهم!
غير أن كل ما سبق من مغريات للعيش في بلاد الغرب يجب أن لا ينسينا ما
يواجهه الغرب من انهيار في القيم والأخلاق، بالإضافة إلى ما سيواجهه المسلم
هناك من مشكلات، منها على سبيل المثال لا الحصر: أداء الفرائض بصفة عامة، وتربية الأبناء وتعليمهم، وخطر تأثير المجتمع المختلط على الأسرة المسلمة.
وهناك أسئلة عدة تطرح نفسها: هل توضح مكاتب الهجرة المميزات
والأخطار «للزبون» ، أم تعميه بذكر المميزات التي يفتقدها في بلاده فقط؟ لماذا
تبحث مكاتب الهجرة عن المسلمين سواء أكانوا خبراء أو مستثمرين وتشجعهم على
الهجرة؟ وإلى متى هذا التزاحم على مكاتب الهجرة وأبواب السفارات الأجنبية من
أبناء المسلمين؟
ليس المطلوب من علماء المسلمين ومفكريهم محاربة هذه الظاهرة فحسب،
بل عليهم أيضاً إيجاد الحلول والتشريعات اللازمة للمحافظة على العقول المسلمة،
وتكريمها، وإعطائها الثقة الكاملة في سبيل النهوض بالأمة الإسلامية لتصبح الرائدة
بين الأمم في شتى نواحي الحياة.(80/111)
جمادى الأولى - 1415هـ
أكتوبر - 1994م
(السنة: 9)(81/)
كلمة صغيرة
تمثل وسائل الإعلام المقروءة منبراً مهماً في التأثير على الفرد والجماعة
وصناعة الرأي العام وتشكيله؛ إذ ليست الإصدارات الدورية من صحف ومجلات
سوى محطات للتأثير المتراكم، والحوار المنتظم مع عقل القارئ وعواطفه ومعارفه.
وقد كان أملنا منذ البدء أن ننشيء منبراً دورياً، يسد بعضاً من الحاجة الماسة
في ميدان الإعلام الإسلامي وتجسّد الأمل، وكانت «البيان» ، إلا أننا بعد كل هذه
المسيرة نحب أن نذكر القارئ الكريم أننا لم نجعل من هم المجلة ملاحقة الحدث
السياسي ورصده وتحليله مع إدراكنا لأهمية ذلك فالمجلة إصدار شهري وهمومها:
شرعية، فكرية، ثقافية بالدرجة الأولى، ومع ذلك فإننا نحرص على إبداء موقفنا
من أحداث العالم الإسلامي وإعطاء رؤية لبعض التحولات السياسية المفصلية
نحسب أنها تحظى بنصيب من النضج والعمق وحسبنا أن نجتهد ما أمكن، وأن
نحلم مع ذلك باعتلاء موقع أفضل، وتقديم عطاء أقرب إلى رضوان الله، وأدعى
إلى احترام القارئ الكريم.(81/1)
الافتتاحية
والعاقبة للمتقين
رؤية في الأحداث الأخيرة بالجزائر
(1)
وأخيراً.. وبعد مرور ثلاث سنوات وبضعة أشهر خرج عباسي مدني
وصاحبه علي بلحاج من السجن برؤوس شامخة وهمم عالية، خرجا ليثبتا للناس
جميعاً أن أساليب المكر والقهر والجبروت التي تصب فوق رؤوس الدعاة
والمصلحين لا تزيدهم إلا إقبالاً وثباتاً، ولا تثني من عزائمهم، أو تحبط من
هممهم..! !
لقد أثبتت أحداث الجزائر أنه مهما تشبث أهل الغواية بغوايتهم، وأصروا
على باطلهم، فإن أهل الحق أطول نفساً، وأقوى عزيمة، وأهنأ بالاً..!
لقد أثبتت أحداث الجزائر أن الديموقراطية التي يرعاها الغرب هي
ديموقراطية الببغاوات الذين يقولون ما لا يفعلون، وحالهم كما قال القائل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت! !
لقد أثبتت أحداث الجزائر أن دعوات الإصلاح وحركات التغيير لن تنجح إلا
بالصبر واليقين والثبات على الحق، مهما كثرت التضحيات، فالبصبر واليقين
تنال الإمامة في الدين.
ما بال هذه الجماهير التي تعرضت لكل أنواع المسخ وغسيل الدماغ تعود
ثانية إلى رياضها اليانعة الكريمة ولا ترضى بالدنية في دينها..؟ !
ما بال هذه الجماهير التي ذاقت كل أنواع الذل والاستخذاء، تعود ثانية إلى
نداء التوحيد بكل إباء وشمم..؟ !
لقد جربت الأمة كل شعارات التغيير: النفعية.. الاشتراكية.. القومية..
البعثية.. الوطنية.. والنتيجة مزيد من الانحطاط والتخلف والفساد، فلا تخرج
الأمة من مأزق إلا وتعود إلى مأزق آخر أشد منه انحرافاً وتخلفاً، فتتراكم
الإحباطات، والضحية هو الشعب المسكين.!
إن أشد حالات الذل والمهانة أن تضرب العبودية على الشعوب، وتسرق
عقولها، وتصادر هويتها، ولقد عرفت الشعوب أن تلك الهياكل النخرة المهترئة
التي تخبطت في قيادة الأمة قد أفلست، وانكشفت أقنعتها وظهر عوارها وخزيها،
ولم يبقَ إلا أن تعود إلى دينها الحق وتلتف حول أبنائها الخُلص الأبرار الذين
عُفّرَتْ وجوههم بالتراب ذلاً وعبودية لله العظيم وحده لا شريك له.
لقد أثبتت أحداث الجزائر أن الإسلام هو خيار هذه الأمة، فلما رفعت راياته
وحملها رجالها المخلصون، التفت حولهم الجماهير بكل محبة وثقة.
مساكين أولئك الذين يحاربون الإسلام..! !
مساكين أولئك الذين يحاربون الله تعالى ويبارزونه..! !
مساكين أولئك الذين يحاربون خيار الشعب ويناصبونه العداء..! !
(2)
وبخروج الشيخين من السجن انتقل العمل الإسلامي في الجزائر إلى طور
جديد ومفترق حاسم مليء بالمناورات السياسية، عندما بدأت الدعوة إلى الحوار
والجلوس على مائدة المفاوضات، ونحن نثق بصلابة إخواننا وقوتهم في دينهم،
كما نثق بيقظتهم وإدراكهم للألاعيب السياسية بأنفاقها المظلمة وطرقها المتعرجة،
وحبنا لهم يدفعنا إلى تذكيرهم بالنقاط التالية:
أولاً: أن المطالبين بالحوار هم الذين أسكتوا اختيار الشعب، وعطلوا المسار
الانتخابي، ووأدوا الديموقراطية المزعومة التي يتشدقون بها.
ثانياً: أن الحوار لا يعني الضعف والرضوخ والتنازل، ولا يؤدي إلى
الاستهلاك وامتصاص الحماس، بل ينبغي أن يكون دعوة لاستعادة الحقوق وإصلاح
الأوضاع المتدهورة.
ثالثاً: لا يجوز أن تنسينا الأهداف القريبة أهدافنا البعيدة، ولن يتم ذلك إلا
بوضوح الخطط، وتوافر الدراسات، ومعرفة الإمكانات والخيارات المطروحة في
الساحة.
والذي نريد تأكيده أن القضية ليست أن يخرج مدني من السجن أو لا يخرج
مع تقديرنا الشديد له وإنما القضية أن تخرج الأمة بأكملها من ذلك السجن الكبير
الذي يكتم أنفاسها، أن يخرج الشعب من ذلك الحصار الرهيب الذي ضرب عليه،
أن يعيش الناس عيشة الأحرار الكرام لهم عقول يعون بها وآذان يسمعون بها
وعيون يبصرون بها.
رابعاً: لقد كانت قوة الإنقاذ في المرحلة السابقة في تماسكها ووحدة كلمتها
ووضوح أطروحاتها ومبادئها، ولن تكون قوية في هذه المرحلة الحرجة إلا بذلك،
فالحذر الحذر من الاختلاف والفرقة والتنازع، وتطاوعوا ولا تختلفوا، وتناصروا
ولا تتخاذلوا، وقضية الجزائر الكبرى ليست هي الإنقاذ أو حماس أو النهضة أو
الجماعات المسلمة، إنما هي أن نكون أو لا نكون، وإما إسلام أو لا إسلام.
لقد صبر الشعب الجزائري وثبت في هذه المحنة عندما رأى أشياخه وقادته
في مقدمة الصفوف برؤوس شامخة ونفوس أبية كريمة.
لقد صبر الشعب الجزائري وثبت عندما رأى الصدق والقوة في الحق
ووضوح الرؤية، ولكني أحسبه يوصي القيادة بالمحافظة على انتصاراته حتى لا
تسرق ثمرته كما سرقت من قبل لمّا أخرج الاستعمارَ من أرضه.
[والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا] ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه
وسلم.(81/4)
مقال
نظرات في:
أصول التجديد الإسلامي
خميس بن عاشور
هل العقيدة والشريعة اللتان توجدان اليوم بين أيدي المسلمين هما العقيدة
والشريعة اللتان كانتا أيام الصحابة والسلف الصالح؟ .. أم أن تشويهات أصابت
الإسلام الأول الإسلام الصحيح إسلام الفطرة والوضوح والواقعية، لا شك أن إسلام
اليوم في كثير من البلدان ليس هو الإسلام الصحيح كما ورد به الوحيان، ومادمنا
نسلم بذلك فإن ضرورة التجديد تبدو ملحة للخروج من الأزمة، أزمة البعد عن واقع
الإسلام النقي، ومع اعتقاد كثير من المسلمين بأن الإسلام لا يزال بخير وعافية في
عقيدته وشريعته فإنه يتحتم أن نبين ما إذا كان ذلك صحيحاً أم أنه لا يعدو كونه
وهماً كبيراً، وتراكمات فكرية للزمان والمكان على الضمير الجمعي المسلم سيما
وقد استحال الإسلام إلى تقاليد وعادات مستحكمة خالية من بذور الإبداع التي تميز
ذلك التفاعل البناء بين الإسلام النقي ونفوس المسلمين المخلصين، وإلا فكيف نفسر
تلك السلبية التي ميزت المسلم فيما بعد القرون المفضلة، إن هناك خَللاً دون ريب، وإن هناك انحرافاً عن الخط الذي رسمه الوحي الإلهي للمسلم كي يسلكه بكل
عزيمة وثقة، ومهمة التجديد في هذا المجال هي تحديد علل ذلك الانحراف،
ووضع الأساليب والمناهج التي بإمكانها أن تضع قطار الإسلام مرة أخرى على
الخط ويلزم من ذلك أن توفر هذه الأساليب التجديدية نفس الظروف والإمكانيات
النفسية الروحية التي وجدها المسلم عندما كان الوحي يتنزل على محمد صلى الله
عليه وسلم.
إن مهمة التجديد إذاً هي إبعاد كل العناصر والجزئيات الدخيلة على عملية
تفاعل الوحي مع النفوس، هذا التفاعل هو الذي من شأنه أن يحيي تلك الإيجابية
الإيمانية التي أخرجت من بين من أخرجت جيل الصحابة وجيل التابعين الذين مثلوا
الإسلام خير تمثيل، وأصبحوا بذلك النموذج السامي لثمرة تفاعل الوحي الإلهي
بالنفوس، وبعد ذلك قد تلوح في الأفق إمكانية مطابقة الواقع الفكري والعملي الآني
مع الواقع الفكري والعملي للفترة النموذجية للإسلام، فترة السلف الصالح، ثم
نحاول إزالة الشوائب والزوائد التي تشوه عملية المطابقة، وبقدر الجهد والإخلاص
الذي نبذله في هذه العملية بقدر ما تكون الصورة الحاصلة أوضح وأقرب إلى
النموذج المنشود وإن كان ليس بالضرورة أن نحصل على نفس الحجم ونفس الكثافة
بل قد نحصل على أقل من ذلك أو أكثر بحسب توافر الشروط اللازمة لإحداث
عملية التفاعل بين الوحي الإلهي البعيد عن كل شائبة بشرية وبين نفوس المسمين
الذين يملكون الشروط النفسية المطلوبة منهم، كذلك حسبنا أن نعمل على التسوية
والمقاربة ما أمكن إن هذه العملية التطابقية تبدو عملية هائلة تتطلب الإرادة والعزيمة
التي لا تعرف الكلل ولا الخور.
إن نظرة فاحصة إلى منهج التلقي أثناء فترة التنزيل، ثم فترة أولئك الذين
عايشوا التنزيل تجعلنا نجزم بعد الاطلاع على ما أنتجه المسلمون في ميدان أصول
التشريع والاعتقاد بأن هناك بوناً شاسعاً بين هذين المنهجين (منهج السلف ومنهج
الخلف) وبغض النظر عما حدث بسبب الضرورات الزمانية والمكانية فإن أصول
الخلف الجديدة لا شك أنها تحمل الكثير من بصمات الوضعية البشرية التي من
شأنها تكثيف الحجب التي تقف دون استشفاف المعنى الحقيقي للإسلام.
إن دراسة منهاج السلف في الاعتقاد والتشريع تبين لنا بكل وضوح أن مهمة
هذه المنهاج هي البحث عن حكم الله في القضايا المطروحة من خلال تتبع نصوص
الوحي وقد فرض هذا الاتباع للنصوص شروطاً تدور جلها حول إثبات النص سنداً
ومتناً ومعنى، حتى إذا اتفقت الأسانيد والمعاني حول فهم معين أخذوا به ولم
ينظروا إلى غيره، وهذا ما حدث في الأغلب، إن لم نقل في كل القضايا العقدية،
أما القضايا التشريعية (أي المتعلقة بالأحكام العملية) فإنهم كانوا رغم مفاهيمهم
المتعددة لبعضها فإن خلافاتهم كانت محدودة ومحصورة جداً، وسبب ذلك اتحادهم
في منهج الفهم والإثبات، ولقد اقتضت العصور اللاحقة لهؤلاء السلف شروطاً
فرضتها حيثيات الزمان والمكان، وبالتالي فإننا نستطيع أن ندخل عاملاً مهماً في
تجديد الإسلام عقيدة وشريعة وهو عامل «علم الإسناد» الذي هو من الدين ولولا
الإسناد لقال من شاء ما شاء، والغرض من ذلك هو إعادة الاعتبار إلى النص
الصحيح الذي هو غاية المشرع بلا ريب سواء أكان ذلك في الأحكام العملية أو
الأحكام الاعتقادية، بدون تفريق بين العقيدة والشريعة لا كما فعل ذلك منهج الخلف، وبالإضافة إلى ذلك فإننا نستطيع أن ندخل عاملاً آخر لا يقل أهمية عن الأول
وهو اللغة العربية، فالعمل على إعادة الاعتبار إلى اللغة التي نزلت بها كل تلك
النصوص هو ذلك العامل ذو الرقم المهم في هذه المعادلة، وبالإضافة إلى ركن
الاجتهاد الفقهي العملي فإننا نستطيع أن نضع منهجاً لا يعتبر جديداً بقدر ما يعتبر
عملية تنسيق وقراءة لما يوجد في مبادئ الفكر الإسلامي الأصولي بالدرجة الأولى،
وذلك من خلال مراجعة مؤلفات المسلمين في بيان أصول التشريع وأصول الاعتقاد، ويمكن صياغة ذلك كما يلي:
أولاً: الرجوع إلى النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) مع اعتبار كل ما
وضعه المسلمون في محاولاتهم لفهم النصوص، وذلك ما يقودنا بالتالي إلى مراجعة
أمهات كتب أصول الفقه وأصول العقيدة ليسر منهاجها، ثم محاولة نقدها ليؤخذ منها
ما يستحق الأخذ في عملية وضع منهج لتجديد الإسلام وإرجاع الحيوية إليه في
نفوس المسلمين.
ثانياً: الإسناد في هذه العملية يعتبر وسيلة لا مناص منها ومهمته هي
الوصول إلى متن النص الصحيح، كما جاء به الوحي الإلهي، وذلك قبل البدء في
عملية فهمه وفق مقتضيات خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين فالإسناد إذا هو
تلك الضرورة التي فرضها البعد الزماني عن مصدر النص وهذا يقود بدوره إلى
دراسة منهجية تتعلق بعلم الإسناد ومدى إمكانيات توظيفه لكي يؤدي مهمته الأساسية
في عملية تجديد الإسلام.
ثالثاً: اللغة العربية وإن كانت أداة ووسيلة هي في نفس الوقت غاية لأن
نزول الوحي بها يجعلها ذات أهمية بالغة، وهذا ما يقودنا إلى محاولة وضع خطة
سليمة لدراسة اللغة العربية فيما بعد انقضاء عصور الاحتجاج حيث أصحاب اللغة
الأصليين السلفيين، وذلك ما من شأنه أن يوفر للمسلمين من العرب وغير العرب
الشرط المباشر لاستقبال خطاب الشارع المنزل بلسان عربي مبين، وهنا يتحتم
وضع المناهج المفصلة لنشر اللغة وتدريسها بكيفية تقرب المسلم من النص وهو
سليم من التشوهات التي قد تصيبه بسبب عوامل الزمان والمكان.
فتجديد اللغة هو أيضاً ركن من أركان تجديد الإسلام نفسه، وذلك بالتركيز
على النص العربي (نثراً وشعراً) قبل التركيز على قواعد اللغة من نحو وصرف
مثلما هو معمول به اليوم ومنذ قرون طويلة من تاريخ الإسلام حيث طغت الوسيلة
(قواعد اللغة) على الغاية (النص العربي) .
رابعاً: الاجتهاد، والمقصود به بذل الجهد في معرفة الحكم العملي لا
الاعتقادي، وذلك ما من شأنه أن يحافظ على وحدة العقيدة عند المسلمين، ووضع
حد لعمليات التمحل والتعسف التي تعرضت لها من خلال القول بجواز الاجتهاد في
العقيدة الذي تزعمت القول به مدرسة العقلانية قديماً وحديثاً، أما الاجتهاد في معرفة
الأحكام العملية فهو العملية الواجبة من أجل أن يبقى الإسلام صالحاً لكل زمان
ومكان كما أراده الله عز وجل، ولكن إذا نحن تأملنا في الخلافات الحاصلة بين
المسلمين نجد أن أغلبها نابع من المبالغة في توسيع مجال النظر البشري في مسائل
الإيمان والحقائق الغيبية أي توسيع مجال الاجتهاد على غير الوجهة التي أرادها
الشارع، أي علي الطريقة المعبرة عن الآراء أو بعبارة أخرى عن الميولات
والأهواء النفسية في بعض الأحيان أو حتى السياسية في أحيان أخرى، وهذا ما
يقودنا في هذا المضمار بدافع المنهج العلمي إلى دراسة الاجتهاد دراسة أصولية
تهدف إلى وضع تعريف له مقبول شرعاً، وتحديد مجاله، ووسائله وأساليبه،
وبالتالي محاولة فرز تلك المعضلات الفكرية التي نشأت بسبب تداخل مجالات
المتحول في مجال الثابت داخل الإسلام عقيدة وشريعة، وتقودنا هذه الدراسة مرة
أخرى إلى مبادئ الفكر الأصولي الإسلامي حيث ستؤخذ كل الأصول بالاعتبار بدءاً
بالقياس وانتهاءً بالأصول الأقل أهمية كالعرف والاستصحاب مع التركيز على هذا
الأخير الذي قد يكون أصلاً له أهمية أكبر مما أعطاه الأصوليون في كتبهم ومؤلفاتهم، وهذه الأهمية تكمن في علاقته «الرياضية» مع القياس، لأننا نجد المتوسعين
في العمل بالقياس والرأي يقللون من أهمية الاستصحاب والذين يضيقون في العمل
بالقياس والرأي أو ينكرونهما يتوسعون في العمل بالاستصحاب كالحنابلة والظاهرية، وهذا ما يجعله ينافس أصل القياس ويحد من عمله ليصبح بديلاً في الإجابة عن
الوقائع الطارئة، وكما سبق فإن هذا المنهج قد لا يعتبر جديداً بقدر ما يعتبر عملية
إعادة تشكيل أو صياغة للتراث الأصولي الإسلامي الذي لم يترك لمستزيد مجالاً
كبيراً للزيادة، وإنما حسبنا أن نستشف من هذا التراث ما به نستعيد مجدنا في مجال
التقنين والالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة، والله الموفق..(81/8)
دراسات شرعية
النفاق
حقيقته، أنواعه، صوره
-1-
د. محمد عبد الله الوهيبي
تمهيد:
كثر الحديث في القرآن الكريم عن النفاق والمنافقين، صفاتهم وأخلاقهم وأنهم
شر أنواع الكفار، وأن مصيرهم في الدرك الأسفل من النار، ومن ثم تحذير
المؤمنين منهم لأن «بلية المسلم بهم أعظم من بليته بالكفار المجاهرين، ولهذا قال
تعالى في حقهم: [هم العدو فاحذرهم] [المنافقون: 4] ، ومثل هذا اللفظ يقتضي
الحصر، أي لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد ها هنا لحصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو
للمسلمين سواهم، بل هذا من إثبات الأولية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا
يُتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا
بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم
بها، فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف
دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع
أولئك ساعة أو أياماً ثم تنقضي ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار
والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر،
ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر» [1] .
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (نبه الله سبحانه وتعالى على صفات
المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم
الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات
الكبار أن يظن بأهل الفجور خيراً) [2] ، وسيكون حديثنا في هذا المقال عن تعريف
النفاق، ثم نذكر أنواعه، ونركز الحديث على النفاق المخرج من الملة باعتباره
المقصود الأساس من بحثنا.
تعريف النفاق:
اختلف علماء اللغة في أصل النفاق، فقيل إن ذلك نسبة إلى النفق وهو
السرب في الأرض لأن المنافق يستر كفره ويغيبه، فتشبه بالذي يدخل النفق يستتر
فيه.
وقيل: سمي به من نافقاء اليربوع، فإن اليربوع له جحر يقال له: النافقاء،
وآخر يقال له: القاصعاء، فإذا طلب من القاصعاء قصع فخرج من النافقاء، كذا
المنافق يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي يدخل فيه، وقيل: نسبة إلى نافقاء
اليربوع أيضاً، لكن من وجه آخر وهو إظهاره غير ما يضمر ذلك: أنه يخرق
الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض ترك قشرة رقيقة حتى لا يعرف مكان هذا
المخرج، فإذا رابه ريب دفع ذلك برأسه، فخرج، فظاهر جحره تراب كالأرض،
وباطنه حفر، فكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر [3] .
ولعل النسبة إلى نافقاء اليربوع أرجح من النسبة إلى النفق (لأن النفق ليس
فيه إظهار شيء، وإبطان شيء آخر، كما هو الحال في النفاق، وكونه مأخوذاً من
النافقاء باعتبار أن المنافق يظهر خلاف ما يبطن، أقرب من كونه مأخوذاً منه
باعتبار أنه يخرج من غير الوجه الذي دخل فيه، لأن الذي يتحقق فيه الشبه الكامل
بين النافقاء والنفاق هو إظهار شيء وإخفاء شيء آخر، إضافة إلى أن المنافق لم
يدخل في الإسلام دخولاً حقيقياً حتى يخرج منه) [4] .
أما النفاق في الاصطلاح الشرعي فهو إظهار القول باللسان أو الفعل بخلاف
ما في القلب من القول والاعتقاد [5] ، أو هو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه، وهو
اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وإن كان أصله في اللغة
معروفاً كما سبق [6] .
وأساس النفاق الذي بني عليه: أن المنافق لابد وأن تختلف سريرته وعلانيته، وظاهره وباطنه، ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى: [ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون] [البقرة: 10] ، وقال: [والله
يشهد إن المنافقين لكاذبون] [المنافقون: 1] وأمثال هذا كثير « [7] .
إذاً: أخص وأهم ما يميز المنافقين الاختلاف بين الظاهر والباطن، وبين
الدعوى والحقيقة كما قال تعالى: [ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر
وما هم بمؤمنين] [البقرة: 8] ، قال الإمام الطبري رحمه الله: (أجمع جميع أهل
التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة
صفتهم) [8] .
وقد يطلق بعض الفقهاء لفظ الزنديق على المنافق، قال شيخ الإسلام رحمه
الله:» ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ (الزنديق) وشاعت في لسان
الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق: هل تقبل توبته؟ والمقصود هنا: أن (الزنديق)
في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أأبطن ديناً من الأديان: كدين
اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطلاً جاحداً للصانع والمعاد والأعمال
الصالحة ... « [9] ، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان مراتب المكلفين في
الدار الآخرة وطبقاتهم:) : (الطبقة الخامسة عشر) : طبقة الزنادقة، وهم قوم
أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، هؤلاء هم
المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار» [10] .
1- النفاق الأصغر:
الأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو وأبي
هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، في ذكر آية المنافق، فعن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا إئتمن خان» [11] .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه
خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر،
وإذا خاصم فجر» [12] ، قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث:
(هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في
المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه
ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار، فإن
أخوة يوسف -صلى الله عليه وسلم-جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف
والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال ولكن
اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار،
أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال
ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في
صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه
وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يُرد
النبي -صلى الله عليه وسلم-بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، وقوله -صلى الله عليه وسلم- (كان منافقاً خالصاً) معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، قال بعض العلماء هذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه، فهذا هو المختار في معنى الحديث ... ) [13] .
وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار
للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فتفضي به إلى النفاق، لا أن
من بدرت منه هذه الخصال، أو فعل شيئاً من ذلك من غير اعتياد أنه منافق) [14] .
وقال أي الخطابي: «ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرار
الفعل» [15] ، وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال:) والأولى ما قاله الكرماني: إن حذف المفعول من (حدّث) يدل على العموم، أي إذا حدّث في كل شيء كذب فيه، أو يصير قاصراً، أي إذا وجد ماهية الحديث كذب، وقيل محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالباً « [16] ، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعدما شرح هذه الخصال:» وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن ... « [17] .
ومن هذا الباب الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين [18] ، قال
النبي صلى الله عليه وسلم:» من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على
شعبة من نفاق « [19] ، ومن ذلك ما رواه البخاري في» باب: ما يكره من ثناء
السلطان، وإذا خرج قال غير ذلك «:» قال أناس لعبد الله بن عمر: إنا ندخل
على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنّا نعدها
نفاقاً « [20] .
وهذا هو النفاق الذي خافه الصحابة على أنفسهم، يقول ابن رجب [21] :
(ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية
خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند
سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك
منه نفاقاً، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي: أنه مر بأبي بكر وهو يبكي،
فقال: مالك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، عافسنا الأزواج والضيعة
فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فالله إنا لكذلك، فانطلقنا إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فقال:» مالك يا حنظلة؟ «قال: نافق حنظلة يا رسول الله وذكر
له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:» لو تدومون
على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي
طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة « [22] .
ومما ورد في هذا المعنى أي خوف الصحابة من النفاق ما قاله ابن أبي مليكة:» أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق
على نفسه ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل « [23] ، يقول
الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الأثر:» والصحابة الذين أدركهم ابن أبي
مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة
بن الحارث والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة
أجل من هؤلاء كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا
يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع وذلك لأن
المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشعر به مما يخالف الإخلاص ولا يلزم من
خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى
رضي الله عنهم « [24] .
وخلاصة القول في النفاق الأصغر، أنه نوع من الاختلاف بين السريرة
والعلانية مما هو دون الكفر، وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل وكإظهار
مودة الغير والقيام بخدمته مع إضمار بغضه والإساءة إليه، كالخصال الواردة في
حديث شعب النفاق ونحو ذلك، فعلى المسلم الحذر من الوقوع في شيء من ذلك.
2- النفاق الأكبر:
سبقت الإشارة إلى تعريفه عند الكلام عن النوع الأول، ويمكن اختصار
تعريفه بتعريف ذكره الحافظ ابن رجب حيث قال رحمه الله:) النفاق الأكبر، وهو
أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر، ويبطن ما
يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل
من النار» [25] ، ومن الآيات في تكفيرهم ومصيرهم في الآخرة قوله تعالى:
[ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين] [البقرة: 8] ، وقوله ...
عز وجل: [بشر المنافقين بأن لهم عذاباْ أليماْ] [النساء: 138] ، وقوله سبحانه: [إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار] [النساء: 145] ، وقوله تعالى:
[وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها] [التوبة: 68] ، وقوله
تعالى: [يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس
المصير، يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمَوا بما
لم ينالوا] [التوبة: 73، 74] وقوله عن طائفة من المنافقين: [لا تعتذروا قد
كفرتم بعد إيمانكم] [التوبة: 66]
فهذه الآيات تبين لنا أن المنافقين من أسوأ أنواع الكفار، ومصيرهم في
الآخرة في الدرك الأسفل من النار، لأنهم زادوا على كفرهم، الكذب والمراوغة
والخداع للمؤمنين، ولذلك فصل القرآن الحديث حولهم وحول صفاتهم لكي لايقع
المؤمنون في حبائلهم وخداعهم.
وفي الحلقة القادمة سنتحدث إن شاء الله عن بعض صور النفاق الأكبر.
__________
(1) طريق الهجرتين 374.
(2) تفسير ابن كثير، 1/47.
(3) انظر في معنى النفاق لسان العرب 1/358، 359 المفردات 502 النهاية 5/98 القاموس المحيط 3/286 شرح السنة للبغوي 1/71، 72 تفسير القرطبي 1/195 حاشية مختصر سنن أبي داود 7/52، 53؛ والمنافقون في القرآن الكريم د عبد العزيز الحميدي 13.
(4) المنافقون في القرآن الكريم، ص 13.
(5) انظر عارضة الأحوذي 10/97.
(6) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 5/98 لسان العرب 10/359، الإيمان لابن تيمية 284.
(7) الإيمان الأوسط، وانظرصفة النفاق للإمام الفريابي 29.
(8) تفسير الطبري 1/268.
(9) الأيمان الأوسط 13.
(10) طريق الهجرتين 374.
(11) رواه البخاري، كتاب الإيمان (باب علامة المنافق) رقم 33؛ الفتح 1 /89؛ مسلم كتاب الإيمان (باب بيان خصال المنافق) شرح النووي 2/46.
(12) رواه البخاري، كتاب الإيمان (باب علامة المنافق رقم 34، الفتح 1/ 89؛ مسلم كتاب الإيمان (باب بيان خصال المنافق) ؛ شرح النووي 2/46 (13) ، شرح النووي على صحيح مسلم 2/46، 47 (14) شرح السنة 1/76، وجامع العلوم والحكم ص407.
(15) فتح الباري 1/90.
(16) نفسه 1/91، وانظر أقوالاً أخرى حول الحديث في نفس الموضوع في شرح النووي 2/46، 47، وحاشية مختصر المنذري 7/53، وشرح السنة 1 /76، وجامع العلوم والحكم 406، وعارضه الأخوذي 10/98، 99.
(17) جامع العلوم والحكم 406.
(18) مجموع الفتاوى 28/436، ومسلم بشرح النووي 13/56.
(19) رواه مسلم (كتاب الأمارة) باب ذم من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو عن أبي هريرة رقم 1910، 3/1507.
(20) رواه البخاري كتاب الأحكام رقم 7178، الفتح 13/170، وانظر صوراً أخرى لهذا النوع في جامع العلوم والحكم 406، 407.
(21) جامع العلوم والحكم 408.
(22) رواه مسلم (كتاب التوبة) باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الأرض رقم 2750.
(23) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله (الفتح 1/109) .
(24) فتح الباري 1/111، وانظر الإيمان لابن تيمية 409، وجامع العلوم والحكم 407.
(25) جامع العلوم والحكم 403.(81/14)
مراجعات شرعية
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ
محمد شاكر الشريف
لقد أصبحت اليوم قضايا الإسلام وأحكامه الشرعية مرعى خصباً وكلأ مباحاً،
ترعاه السوائم من كل لون وجنس، ويشعر المرء بكثير من الضيق والضجر،
والغضب، وذلك عندما يطالع في كثير مما يكتب أو يستمع إلى كثير مما يقال،
فيجد الجهل والجور والحيف في تناول الأمور الشرعية، لكن هذه الحالة التي يكاد
يعيشها المرء يوميا وذلك بفعل الدخلاء والمتطفلين على الكلام في أمور الإسلام
تزداد أكثر وأكثر، ويزداد حرها ولهيبها اللافح، عندما يقع ذلك الخلط والتخليط،
والحيف، والجور، والتحريف من رجل مشهور يشار إليه من بين الناس، أومن
جماعة مشهورة لها رصيدها عند الناس.
وقد يكون الدافع أحياناً لهذه الرغبة في تحصيل منفعة شخصية، أو حفاظاً
على منصب زائل، أو دفعاً لمضرة متوهمة، وقد يكون الدافع أحياناً لذلك هو
الرغبة في عمل ما يسمونه «مصالحه» مع بعض الأنظمة الحاكمة بغير ما أنزل
الله، أو إنهاء أزمة معه، أو الحصول على ما يسمونه «بعض المكاسب» من
مثل السماح بدخول الانتخابات، أو إصدار مجلة، أو غير ذلك.
وبغض النظر عن مناقشتنا لتلك الرغبات، وما إذا كانت مقبولة أو مرفوضة، فإن الذي ينبغي أن يكون واضحاً للجميع أنه لا يمكن أن تكون تلك «المساومات» على حساب الإسلام، وعلى حساب أحكامه، وشرائعه ومناهجه وثوابته، وإلا فإن الحركة الإسلامية الناضجة لن تغفر هذه «المساومات» لأصحابها، وسوف تعزلهم، وفي النهاية سوف تلفظهم، ولن يحصد المرء غير ما زرع أقول الذي دعاني إلى كتابة ذلك، هو ما قرأته في جريدة الحياة يوم الأحد بتاريخ
30/2/ 1415 ص5 العدد 11494 من بيان أصدرته جماعة إسلامية كبيرة، لها رصيدها، ولها ريادتها في مجال العمل الإسلامي.
ولا يعنيني الآن رغم كثرة ما تعرض له بيان الجماعة غير موضعين:
الموضع الأول: قول بيان الجماعة: (إنهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة،
ويعتبرون أنفسهم جماعة من المسلمين، وإن عقيدتهم، وفكرتهم من حيث النقاء
والأصالة لا تشوبها شائبة، كما إن مناهجهم واضحة، ومتميزة من حيث اعتمادها
على الكتاب والسنة، والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات) .
ونحن هنا لا يعنينا أن ننقب وراء هذا الكلام في تراث الجماعة لنرى مدى
صوابه من خطئه، ويكفينا هذا الإعلان الذي يمثل أصلاً قويماً، ينبغي أن يقوم
عليه أي عمل إسلامي، وهو يمثل في الوقت نفسه مقياساً لمدى قرب العمل
الإسلامي أو بعده عن حقيقة الإسلام.
إن إعلان مثل هذا الأصل من أي جماعة تعمل للإسلام، لابد أن يلقى
الترحيب والإشادة، ويستقبل بالسرور والسعادة من أولئك الذين يهمهم أمر الإسلام
ويعيشون له، وينبغي تشجيع أصحابه على التمسك به وإعانتهم عليه وانطلاقاً من
تشجيعنا لتلك الجماعة على الالتزام بهذا الأصل، الذي أعلنوه ومساعدتنا لهم
للمضي فيه قدماً، ننتقل إلى الموضع الثاني لنناقشه انطلاقاً من الأصل المذكور.
الموضع الثاني: فقد جاء في بيان الجماعة أن «الشريعة الإسلامية أباحت
لغير المسلمين حرية العقيدة، والعبادة، وإقامة الشعائر، وحرية الأحوال الشخصية، وعملت على حماية ذلك إلى أبعد مدى» ..
ويمضي البيان إلى أن يقول عن جماعته أنها «ترى أن المواطنة، أو
الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة، وأن هذه
المواطنة أساسها المشاركة الكاملة، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات، مع
بقاء مسألة الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث طبقاً لعقيدة كل مواطن
وبمقتضى هذه المواطنة، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى
» الجماعة «أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل
المناصب الأخرى من مستشارين، ومديرين، ووزراء، ويمثل النصارى مع
المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت
ألوانه، وتماسكت عناصره» ، وقد يتعجب المرء ويتساءل هل من الممكن أن
يكون الذي كتب تلك الفقرة، هو نفسه الذي كتب الفقرة السابقة التي نقلناها؟ !
شيء عجيب حقاً لكن على أي الأحوال ننتقل الآن إلى مناقشة تلك الفقرة الأخيرة
على ضوء الأصل الذي ذكرت الجماعة أنها متمسكة به.
أولاً: هل أباحت الشريعة الإسلامية فعلاً لغير المسلمين حرية الاعتقاد.. إلى
آخر ما قال البيان، مع العلم أن «غير المسلمين» وهو التعبير الذي آثر بيان
الجماعة استخدامه يشمل اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والشيوعيين،
وعبدة الأوثان، وعبدة الأبقار، وكل كافر أو مشرك.
فأين نجد تلك الإباحة في «الكتاب والسنة، والفهم الصحيح، الذي أجمع
عليه أهل العلم الثقات» ؟ إن الشريعة لم تبح قط الكفر بالله أو الشرك به ولم تبح
قط التعبد بالعبادات الباطلة المبتدعة، ولم تبح قط فعل المنكرات والمعاصي، وإنما
الخلاف قد وقع بين أهل العلم في شأن أهل الكتاب: اليهود والنصارى وما سواهما
من الكفار، هل يعاملون معاملة أهل الكتاب، أم ليس إمامهم إلا الإسلام أو السيف؟ لأدلة عندهم في ذلك لامجال للحديث عنها هنا ولم تكرههم الشريعةعلى الدخول
في الإسلام [لا إكراه في الدين] ، أما «الإباحة» فلا، وفرق كبير بين
«الإباحة» وبين عدم الإكراه، فإن «المباح» هو الذي يستوي فيه الأمران: الفعل أو الترك، والكفر والشرك أكبر الكبائر فكيف يقال: إن الشريعة أباحت
ذلك؟ !
لكن لنقل: إن بيان الجماعة لم يقصد «الإباحة» بالمعنى الوارد في أصول
الفقه، وإنما أراد فعلاً عدم إكراه «غير المسلم» على ترك دينه والدخول في
الإسلام، بل تركت له الخيار بين الدخول في الإسلام أو البقاء على دينه.
ثانياً: لنفترض أن أصحاب البيان يأخذون بقول أهل العلم الذين يرون أن
ذلك الحكم غير مختص بأهل الكتاب، وأن جميع الكفار يشملهم الخيار في الدخول
في الإسلام أو البقاء على دينهم، لكن على أي نحوٍ جاء هذا الخيار سواءً أكان
لأهل الكتاب فقط، أو لجميع الكفار؟
إن مقتضى «الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم
الثقات أن ذلك لا يكون إلا بأن يصبح هؤلاء من» أهل الذمة «فيلتزموا بأحكام
» أهل الذمة «،» ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون «أما كتاب ربنا الكبير المتعال ففيه قوله: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] [التوبة: 29] .
وأما سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-المؤيد من ربه، والذي لا ينطق عن
الهوى ففيها الكثير نذكر منها حديث بريدة الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه:
» اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.... . ثم ادعهم إلى الإسلام
فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك
فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.. « [1]
فالكتاب والسنة» يبينان أن السيف لا يرفع عمن يرفع عنه من الكفار إلا
ببذل الجزية عن يد وهم صاغرون، وذلك التزام بأحكام «أهل الذمة» .
وأما «الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات» ، فارجع إليه
وانظر في جميع كتب أهل العلم الفقهية بدون استثناء لتجد الآيات والأحاديث وأحكام
«أهل الذمة» المبنية عليها ولتعلم أن دار الإسلام، لا يقيم فيها كافر إقامة دائمة
إلا إذا خضع لأحكام «أهل الذمة» ، وبمقتضى هذا الخضوع يأمن أهل الذمة على
أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
وعلى هذا فقول بيان الجماعة: «إن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة
لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة» ، لم يعتمد على الكتاب ولا على السنة ولا
على الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات، بل جاء مناقضاً لكل ذلك.
إن ما يقوله البيان هنا يعنى أن مصطلح «أهل الذمة» والأحكام المرتبطة به
قد انتهى، وأن بيان الجماعة قد استخرج له شهادة الوفاة، وكفنه ودفنه في ثياب
«المواطنة والجنسية» لكنها شهادة مزورة وثياب دنسة، وستبقى الأحكام الشرعية ثابتة شامخة رغم كل البيانات.
فيا أصحاب البيان: خبرونا ماذا تفعلون بنصوص كتاب ربنا وسنة نبينا
وبعمل الخلفاء الراشدين وأقوال الأئمة وتصانيف العلماء التي تحدثت عن أهل الذمة
وأحكامهم، ماذا تفعلون بهذا؟ أتقولون: إن بيانكم نسخ تلك الأحكام؟ ! وهل يملك
أحد من المسلمين أن ينسخ أحكام الشرع، أو أن يبدلها ويغيرها حسب هواه؟ !
وربما قد يعجب بعض القراء، وقد يستغرقون في الضحك الشديد ويقولون:
(ياعم: أين أنت الآن، وفيم تتكلم، وعن أية جزية أو صغار، وأين هذا الجهاد
الذي تتحدث عنه، وهل نستطيع أن نفرض ذلك على الكفار، ونحن الذين في
الحقيقة نكاد ندفع لهم الجزية عن يد ونحن صاغرون) .
وأنا أقول لصاحب مثل هذا الكلام:
أولاً: أن ذلك ليس كلامي جئت به من عند نفسي، وإنما هو نصوص الشرع
وأقوال أهل العلم، ونحن جميعاً مطالبون بالالتزام بذلك وعدم الخروج عنه.
ثانياً: أن المرء منا قد تمر به فترات ضعف أو عجز وسواء أكان هذا
الضعف أو العجز خارجاً عن إرادته فيكون معذوراً، أو كان ضعفاً وعجزاً ناتجاً
عن تقصير وجبن وخور فلا يكون معذوراً لا يتمكن معها من الصدع بكلمة الحق أو
الجهر بها أو العمل لها وإلزام الآخرين بها، لكن ليس البديل عن ذلك هو التحريف
والتبديل، فإذا لم يتمكن المرء من قول الحق أو فعله فلا أقل من الصمت، أما
النطق بالباطل والدعوة إليه وتزيينه للناس فمن من المسلمين يقبله؟ !
وإذا لم يستطع جيلنا القيام بذلك على الوجه المطلوب، فلا أقل يا أخي من أن
نترك للأجيال القادمة المفاهيم صحيحة غير مبدلة والثوابت غير محرفة فلعل الله
سبحانه يحقق على أيديهم ما عجز جيلنا عن تحقيقه (وإن كان لنا أمل في الله تعالى
أن يحقق نصر الإسلام على يد هذا الجيل) .
ثالثاً: ونمضي مع البيان حيث يذكر: «وإن هذه المواطنة أساسها المشاركة
الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات» وهذه هي النتيجة المنطقية طالما تم
إلغاء أحكام أهل الذمة وهي في نفس الوقت تمثل الطلب الذي طالما ألح الكفار في
الحصول عليه، وهو المساواة التامة في دار الإسلام بين المسلمين والكفار،
فياسبحان الله ما أشد ظلم هذه المساواة التامة وما أكثر مرارتها!
لكننا نمضي مع البيان ليفسر لنا هذه المشاركة الكاملة والمساواة التامة حتى
يكون كلامه هو الشاهد عليه، يقول بيان الجماعة: «وبمقتضى هذه المواطنة
وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده، ترى (الجماعة) أن للنصارى
الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من
مستشارين ومديرين ووزراء.
لقد أصبحت» المواطنة «في فقه تلك الجماعة أصلاً شرعياً، وقاعدة تُفَرّع
عليها الأحكام وتؤخذ منها التفاصيل، فها هو ذا يقول:» وبمقتضى هذه المواطنة «ولم ينس البيان أن يضيف إلى هذا الأصل أصلاً آخر ليناقض به الأحكام
الشرعية ألا وهو قوله:» وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده «
فهل تلك الحجج الباردة التي قدمها البيان:» (المواطنة «) وحتى لا يحرم المجتمع
من قدرات وكفاءات أفراده» هل تصلح تلك الحجج، لمعارضة الأحكام الشرعية
الثابتة!!
وقد نظرت في هذه الفقرة فوجدت أن كاتبها يتعامل مع العواطف وليس مع
أصول ثابتة يرجع إليها، وذلك أنه قصر تولى المناصب علىالنصارى «دون أن
يذكر» اليهود «وهم الذين يشملهم مع النصارى لفظ» أهل الكتاب «باتفاق أهل
العلم، فما هي القاعدة يا أصحاب البيان» التي استندتم إليها لإخراج اليهود من
تولي المناصب؟ ! وما النصوص الشرعية من «الكتاب والسنة والفهم الصحيح
الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات» التي تستندون إليها في التفرقة بين اليهود
والنصارى؟ ! الذي يبدو لي أن الكاتب أهمل ذكر اليهود رغم عدم وجود أدلة يستند
إليها في ذلك لأنه مازال يعيش في أجواء الحرب التي كانت بين المسلمين واليهود،
وربما كان يخشى من ردة الفعل الشعبي عند ذكر اليهود، لكن أقول لك يا أخي: لا
تخشَ شيئاً، فالآن قد انتهت الحرب وحل السلام، ولم يعد بين المسلمين واليهود
حروب، وبالتالي فلا تخشَ من ضياع التأييد الشعبي وكن منطقياً مع نفسك،
وأعلنها قل حتى يستقيم لك منطقك: «وبمقتضى هذه المواطنة، وحتى لا يحرم
المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى (الجماعة) أن للنصارى واليهود الحق أن
يتولوا....» إلى آخر ما جاء في الفقرة، بل وأضف البقية الباقية من غير
المسلمين وأنا أقول لأصحاب البيان: طالما أنكم أقررتم أن المواطنة أو الجنسية
حلت محل مفهوم أهل الذمة، فلماذا لا تقرون للمواطن اليهودي الذي يتمتع بجنسية
إحدى الدول العربية والإسلامية بالحق في تولى المناصب الوزارية والاستشارية؟ !
إنه لشيء ممتع حقاً من وجهة نظر بيان الجماعة أن نرى دولة مسلمة:
رئيسها مسلم، ورئيس وزرائها يهودي، والوزراء خليط من المسلمين واليهود
والنصارى، ولا بأس أن يكون رئيس مجلس الشورى نصرانياً، حتى تكون هناك
عدالة ومساواة في توزيع المناصب العليا لا سيما وأن لهم المشاركة الكاملة
والمساواة التامة في الحقوق والواجبات كما ذكر البيان فتكون رئاسة الدولة للمسلمين، ورئاسة الوزراء لليهود ورئاسة مجلس الشورى للنصارى! !
وعلى كلٍ فنحن نطالبكم بالكتاب والسنة أو الفهم الصحيح الذي أجمع عليه
أهل العلم الثقات أو اختلفوا فيه، والذي يبيح للنصارى جميع المناصب باستثناء
رئاسة الدولة.
أما نحن فنبرأ إلى الله تعالى من ذلك، ولا نقول بظُلم أهل الذمة ولا بالاعتداء
عليهم، ولكن لا ننزلهم إلا حيث أنزلتهم الشريعة، ولا نعطي لهم شيئاً حرمهم الله
ورسوله منه.
ومساعدة منا لكم على الالتزام بالحق، نذكر لكم من النصوص الشرعية والفهم
الصحيح لأهل العلم ما يبين بطلان ما ذكرتموه في الفقرة السابقة، وإن كان المرء
ليس في حاجة إلى ذكر تلك الأدلة، لأن ما ذكرتموه في الفقرة السابقة هو من الكلام
الذي يقال عنه: مجرد حكايته كاف في بيان بطلانه، بل إن الرجل المسلم العامي
صاحب الفطرة السليمة التي لم تدنس بمثل ما جاء في البيان إذا سمع ذلك الكلام
الذي ذكرتموه، فلابد أن يمجه ويرفضه ويستغربه، وإذا لم تصدقوني فانزلوا إلى
الشارع المسلم، وسلوا الناس وسوف تعرفون النتيجة.
يقول الله تبارك وتعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى
أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم..] [المائدة: 51]
يقول ابن كثير رحمه الله: «ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود
والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله ... ثم تهدد وتوعد من يتعاطى
ذلك فقال: [ومن يتولهم منكم فإنه منهم] » أليس من الموالاة لأهل الكتاب اليهود
والنصارى، جعلهم وزراء أو أعضاء في مجلس الشورى (مستشارين) ، إذا كنتم لا
توافقون على ذلك فلننظر إلى ذلك الأثر الوارد عن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد
الذي جعل الله الحق على قلبه ولسانه في فقه تلك الآية: «عن عياض الأشعري أن
عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في
أديم واحد، وكان له (أي لأبي موسى) كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب
عمر، وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام؟
فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر أجنب هو؟ قال: لا، بل نصراني، قال:
فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال: أخرجوه ثم قرأ [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
اليهود والنصارى أولياء ... ] ، قال أبو موسى: والله ما توليته وإنما كان يكتب،
فقال عمر رضي الله عنه: أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب؟ ! ، لا تدنهم إذ
أقصاهم الله، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله، ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله» [2] فانظروا
كيف رفض الخليفة الملهم اتخاذ كاتب نصراني يطلع على أمور المسلمين واحتج
على ذلك بالآية المذكورة، وأنتم لا تجعلونه كاتباً فقط، بل تجعلونه رئيساً للوزراء
ووزيراً ومستشاراً ومديراً وهلم جرا.
يقول بيان الجماعة في فقرته الأخيرة «ويمثل النصارى مع المسلمين في
مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه
وتماسكت عناصره» ، وإني لأتعجب: هل هذا كلام شرعي يعبر عن رؤية جماعة
إسلامية أم أنه موضوع إنشاء من النوع الذي يقال في المجاملات، وهل من الممكن
أن تكون هناك مجاملات على حساب الدين؟ ، الشيء الغريب والعجيب في آن:
أن النصارى أنفسهم لا يقبلون هذا الكلام ولا يرتضونه؛ لأن هذا الكلام يعنى أن
ذاتية النصارى وذاتية المسلمين قد ذابتا وتداخلتا معاً، وكونتا نسيجاً واحداً مما يعني
ضياع الشخصية المستقلة أو التنازل عنها، وإذا كنت لا تصدقني فسل وأظنك تعلم
قبل كثيرين غيرك ماذا يفعل كبير النصارى في بلدك ضد الإسلام والمسلمين،
وعلى كلٍ أنا لا أمنعك الحق في أن تعبر عن أحاسيسك وأشواقك أنت وجماعتك
تجاه النصارى، وابذل لهم كل ما تستطيع من تنازل أو لين في القول، لكن عليك
ألا تتعدى بهذه الأحاسيس والأشواق إطار جماعتك إلى المسلمين كلهم، فما أظن أن
أحداً خولك الحديث باسم المسلمين في بلدك.
ثم أقول: وهب أن الذي ذكرته أنت صحيح وهو غير صحيح لكن نفترض
ذلك أنه كان هو الواقع فعلاً، فهل وجود الاختلاط وعدم التمايز بين المسلمين
والنصارى يذكر على سبيل المدح أم يذكر على سبيل الذم وعلى سبيل تنبيه
المسلمين على التمايز عن الكفار والابتعاد عن مشابهتهم أو التشبه بهم؟ ! ألم
تسمعوا عن «الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على
أهل الذمة، والتي فيها منع تشبه أهل الذمة بالمسلمين والتي تحول دون حدوث ذلك
النسيج المزعوم.
ألم تسمعوا عن كتاب صنفه العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية» وهو يحذر
فيه أشد التحذير من ذلك النسيج الواحد الذي تدعونه، إنه كتاب «اقتضاء الصراط
المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» فارجعوا إليه فلعله يردكم عن إدعاء ذلك النسيج.
على كل حال إن لم تكونوا قد سمعتم بهذا ولا بذاك، فلا علينا أن نسمعكم
بعض أحاديث الرسول المصطفى التي تحرص على تمييز المسلمين عن غيرهم من
الكافرين سواء أكانوا من أهل الكتاب، أومن غيرهم، وتحول بين المسلم
وحدوث ذلك النسيج (الحضاري والاجتماعي والثقافي) الموحد.
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: منكراً على المسلمين ما يقع منهم من
مشابهة ومتابعة وموافقة لليهود والنصارى، ومنفراً لهم من ذلك وحاضاً على تركه، يقول: «لتتبعُن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا
جُحْر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» [3] ، قال ابن حجر رحمه الله: «قوله: قال فمن: هو استفهام إنكار، والتقدير: فمن
هم غير أولئك» [4]
ويقول -صلى الله عليه وسلم- «من تشبه بقوم فهو منهم» [5] قال ابن
تيمية: «إسناده جيد وأقل أحواله: أنه يقتضي تحريم التشبه بهم» وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» [6] ولا يُكَمّل رد السلام، بخلاف المسلم الذي يقال له: وعليكم السلام ورحمة الله، أليس في هذه الأحاديث منعٌ للنسيج الثقافي والحضاري والاجتماعي الواحد، ألا يشعر المسلم من مثل هذه التوجيهات حرص الإسلام على إقامة حاجز نفسي بين المسلم وغيره، يمنعه من الانجذاب نحوه، وإذابة الفوارق بينه وبين غيره.
وفي النهاية أقول لأصحاب البيان: ما الغرض، ومن المستفيد، ومن
يرتضي ذلك البيان؟
فإن كان الغرض أن يرضى عنكم «الأسياد» المحليون أو غيرهم، فأنا
أقول لكم تصديقاً لقول ربي مادمتم ترفعون شعار الإسلام، ولو تنازلتم عن أمور
كثيرة، فلن يرضوا عنكم، كما قال تعالى: [ولن ترضي عنك اليهود ولا
النصارى حتى تتبع ملتهم] [البقرة: 120] أما إن كان الغرض هو الدفاع عن
الإسلام، فإن ذلك لا يمكن أن يتم عبر العبث بأحكامه أو التنازل عنها.
وأما المستفيد، فلا يستفيد من هذا البيان إلا أعداء الله ورسوله والمؤمنين لأن
أي محاولة لتغيير أو تحوير في ثوابت الإسلام ومفاهيمه لن تصب إلا في مصلحتهم، ولن تؤدي إلا إلى تزييف وعي الشعوب المسلمة، وبالتالي رواج الأباطيل بينها،
وسهولة انقيادها للطواغيت.
وأما الرضا، فإن هذا البيان لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين؛ لأنه
لايمكن الرضا بما فيه خروج على أحكام الشريعة.
وأخيراً فلي رجاء: هل أطمع في بيان آخر يتم فيه الرجوع إلى الحق
والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولأن يكون المرء ذيلاً في الحق
خير له من أن يكون رأساً في الباطل، آمل ذلك، لا سيما أنكم إناس مسلمون
تحبون الله ورسوله وتودون خدمة دينكم، وإن شاء الله لن يخيب ظني فيكم ولعل
هذا البيان كان فرصة لنا لنقدم هذه الأمور التي ربما تكون قد غابت عن بعضهم،
لا سيما وأن بعض المناوئين لأحكام الشريعة، يبثون مثل هذه الأقوال في مقالاتهم
وأحاديثهم.
والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ح/1731.
(2) تفسير ابن كثير 2/108، فتح الباري 13/196.
(3) البخاري كتاب الاعتصام بالسنة باب/14، ح/7320.
(4) فتح الباري 13/201.
(5) أبو داود 4/314، مسند أحمد 3/142 وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني.
(6) البخاري كتاب الاستئذان باب 22، ح/6258.(81/22)
خواطر في الدعوة
بين المداراة والمداهنة
محمد العبدة
إن الفرق كبير بين المداراة والمداهنة، فالأولى سنة، والثانية معصية
والمسلم الذي يتصدى لدعوة الخلق، وتعليمهم، وهدايتهم لطريق الحق، سوف
يلقى كثيراً من العنت، وكثيراً من الأذى، وسيجد بالمقابل أصنافاً من الناس فيهم
خير مشوب بجهل، أو غفلة، فإذا صبر على أمثال هؤلاء، واستعمل المداراة على
وجهها الصحيح، فإن العاقبة له بإذن الله، وما المداراة إلا حسن العشرة غير
مشوبة بمعصية، أو كما وصفها الشيخ رشيد رضا بالكياسة التي لا تهدم حقاً، ولا
تبني باطلاً، وحتى يكون للداعية أثره، وشخصيته المتميزة، لابد أن يبتعد عن
المداهنة، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو
يرده إليه، أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليُقره على الباطل، ويتركه
على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق « [1] .
والدليل على المداراة ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:
» استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام: قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام، قال: أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس إتقاء شره « [2] وفي البخاري في كتاب الأدب، ما جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال:» إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا
لتلعنهم. « [3]
قال العلماء:» ما كان من أمر الدين، مثل أن يفتي بغير الحق أو يكذب أو
يترك شيئاً من الواجبات، فهذه مداهنة محرمة، والمداراة مثل أن تعطيه مالك أو
تحسن إليه.. « [4] . ويفصل ابن بطال أنواع المداراة حتى يكون المسلم على بينة
من أمره فيقول:» والمداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين
الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، فالمداراة
مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر
على الشيء ويستر باطنه «. [5]
وإذا فقه المسلم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكيف أنه استعمل
المداراة ليعلم المسلمين آداب الدعوة، مع أن الله سبحانه وتعالى عصمه من الناس،
وإذا فقه أقوال العلماء الذين نقلنا عنهم، فسوف يتألف أناساً، أو يبعد شر آخرين،
وأما الفظ الجواظ فلا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع، وهذه هي الدنيا بصفوها
وكدرها.
__________
(1) ابن الأزرق / بدائع السنن 2/17 والكلام لابن القيم.
(2) البخاري كتاب الأدب ح/6054، مسلم، كتاب البر ح/2591.
(3) ذكره البخاري في ترجمة باب المدارة مع الناس، ورجح ابن حجر انقطاعه الفتح 10/544.
(4) العواصم والقواصم 8/185.
(5) فتح الباري 10/454.(81/35)
دراسات اقتصادية
الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة
المشكلة الاقتصادية وعلاجها من المنظور الإسلامي
- 5 -
د. محمد عبد الله الشباني
في الحلقتين السابقتين الثالثة والرابعة ناقشنا علاقة التوزيع بعنصرين من
عناصر الإنتاج وهما عنصر العمل والموارد الطبيعية ومدى تأثيرها في وجود
المشكلة الاقتصادية وكيفية معالجة الإسلام لهذين العنصرين من ناحية أهميتهما
النسبية في العملية الإنتاجية، وعلاقتهما التأثيرية في بروز المشكلة الاقتصادية.
وفي هذه الحلتقة سوف نناقش دور رأس المال باعتباره من عناصر الإنتاج
في العملية الإنتاجية وأهميته النسبية في التأثير في بروز المشكلة الاقتصادية.
والمفهوم الاقتصادي لرأس المال: هو كل ثروة تدخر وتستخدم في إنتاج ثروة
أخرى، فهو بهذا يشمل الكثير من الثروات بل الثروات المدفوعة على الإنتاج
كالأرض والمناجم والمواد الأولية وأدوات الإنتاج كالآلات والمنشآت الصناعية
والزراعية والتجارية والنقد، وينقسم رأس المال إلى ثابت وهو الذي يستخدم أكثر
من مرة واحدة في الإنتاج ورأس مال متداول وهو الذي لايستخدم غير مرة واحدة
مثل البذور والمواد الأولية.
يحتاج تكوين رأس المال إلى توافر ثلاثة عوامل هي الموارد الطبيعية والعمل
والادخار، والادخار ضرورة لتكوين رأس المال حيث إن الادخار عامل يوجد لأنه
يعمل على تحريك بقية عناصر الإنتاج الأخرى، وبالتالي يختلف عن الاكتناز،
الذي يقوم على الاحتفاظ بالثروة من غير تفكير في استثمارها.
لقد أعطى الإسلام لرأس المال دوراً مهماً ومؤثراً، بل إن كثيراً من
التوجيهات النبوية والممارسات التي تمت في عهده عليه الصلاة والسلام ومن بعده
خلفاؤه تؤكد حقيقة أن لرأس المال دوراً في استغلال بقية عناصر الإنتاج وبالتالي
تتخذ السيادة التحويلية للدولة الإسلامية توجها خاصاً فيما يتعلق باستخدام رأس المال
في تحريك الاقتصاد ومعالجة المشكلة الاقتصادية، ومن ذلك ما أشرنا إليه في
الحلقة السابقة من حديث قيس بن مسلم الذي رواه البخاري «وعامل عمر الناس
على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا» [1]
فعمر رضي الله عنه بهذه السياسة المنهجية أوضح ما لرأس المال من دور في
استغلال عنصري العمل والموارد الطبيعية، ورأس المال المتاح سواء من خلال
مساهمة الدولة يكون في تقديم رأس المال التشغيلي أو رأس المال الثابت.
إن المنهجية التي يقوم عليها الإسلام عند معالجته لرأس المال تقوم على أسس
وقواعد تساعد على أن يكون لرأس المال دور في معالجة المشكلة الاقتصادية من
ناحية استخدامه باعتباره أحد الأدوات المهمة في استغلال واستثمار بقية عناصر
الإنتاج، وبالتالي تقليص التأثيرات السلبية للمشكلة الاقتصادية على الناتج القومي
مع تحقيق التوازن فيما يتعلق بتوزيع الدخل القومي.
والقواعد والأسس التي ترتكز عليها المنهجية الإسلامية في معالجتها لاستخدام
رأس المال باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج وأداة لمعالجة المشكلة الاقتصادية
تتمثل في الأمور التالية:
أولاً: الحث على الادخار واعتباره أهم وسيلة من وسائل تكوين رأس المال
وأنه سبب من أسباب انتفاء الفقر فقد روى أحمد في مسنده عن أبي الدرداء رضي
الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: «من فقه الرجل رفقه في
معيشته» [2] ، والفقه المقصود في هذا الحديث هو جودة الفهم وحسن المعرفة،
والرفق في المعيشة هو القصد في الإنفاق من غير إسراف وفي هذا الحديث توجيه
للأمة بمراعاة القصد في الإنفاق والحث على الادخار، ويساند هذا الحديث ما رواه
أحمد والطبراني في الأوسط عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما عال من اقتصد « [3] ، والمقصود بالعول
في هذا الحديث نفي الفقر عن من اقتصد في نفقته، فلم يبخل ولم يبذر، وفعل
الرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد هذا المقصد من التوجيه فقد روى البخاري في
صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه» أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم « [4] ، ففي هذا العمل من
الرسول -صلى الله عليه وسلم-إرشاد للأمة إلى العمل على الإدخار ومراعاة
مستقبل الأيام وعدم اكتناز ما زاد عن حاجته من الإنتاج بحيث يساعد في هذا على
توافر السلع في الأسواق.
ثانياً: الاهتمام برأس المال العيني بالمحافظة عليه وإطالة العمر الإنتاجي له
وتجنب أساليب الاستهلاك المضرة، التي تؤدي إلى تقصير العمر الإنتاجي فرأس
المال العيني هو رأس المال الثابت للمنتج، الذي يمثل الأداة التي تحرك بقية
عناصر الإنتاج، ولهذا فإن الإسلام يوجه الانتباه إلى الاهتمام برأس المال العيني
(الثابت) فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه» أن قدح النبي -
صلى الله عليه وسلم-انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة قال عاصم رأيت
القدح وشربت فيه « [5] ، ففي هذا الحديث توجيه واضح وإرشاد بضرورة ...
الاهتمام والعناية برأس المال المنتج والمستخدم بقصد إطالة الاستفادة منه، فيمكن
قياس الآلات والمعدات المكونة لرأس المال العيني على القدح من حيث العمل على
صيانة الآلات والمعدات لإطالة عمرها الإنتاجي، والاهتمام بعدم تشغيل الآلات
فوق طاقتها الإنتاجية حتى لا تتعطل أو تخرب قبل نهاية عمرها.
ثالثاً: اعتبار رأس المال الثابت الركيزة الأساسية في تكوين رأس المال
الاجتماعي، وبالتالي العمل على الإبقاء عليه وعدم التفريط ببيعه، وإن من الواجب
في حالة بيع رأس المال الثابت استبداله برأس مال ثابت منتج آخر، وذلك بقصد
توسيع قاعدة رأس المال العيني، والأهمية النسبية للمحافظة على رأس المال العيني
تكمن في مجابهة النقص في القيم الفعلية لرؤوس الأموال النقدية، ومحاربة التوجه
إلى الاستثمار في الأصول النقدية مثل شراء الأسهم والسندات الحكومية وسندات
الإقراض بقصد الاتجار بها، لأن هذه الأصول أصول غير منتجة، ولهذا فإن من
المشاكل التي تواجه الدول الإسلامية التي تستثمر فوائضها النقدية في الأوراق
المالية من خلال المضاربة في أسواق المال العالمية النقص في القيم الفعلية لهذه
الأموال نتيجة التضخم المالي، ولهذا فالتوجيه النبوي بالعناية برأس المال العيني
باعتباره الركيزة في تكوين رأس المال ومجابهة النقص في القيم الفعلية للنقود يعتبر
العلاج لكثير من المشكلات الاقتصادية التي تواجه المجتمعات الإسلامية المعاصرة
كما يرشد إليه حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه ابن ماجة بسنده أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-قال:» من باع داراً فلم يجعل ثمنه في مثله كان قمناً أن لا
يبارك فيه « [6] وحديث عمران بن حصين الذي رواه أحمد بسنده أنه سمع رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-يقول:» من باع عقدة مال سلط الله عز وجل عليها تالفاً
يتلفها « [7] ، والمراد بعقدة المال أصل المال أي رأس المال الثابت.
فهذان الحديثان يوجهان الأمة إلى ضرورة التركيز على تكوين رأس المال
الثابت وعدم التفريط فيه أو استبداله إلا بمثله أي إعطاء أهمية لرأس المال الثابت
باعتباره الأساس في تشغيل بقية عناصر الإنتاج الأخرى وزيادة الناتج القومي.
رابعاً: توجيه الاهتمام لإحلال واستبدال وتجديد رأس المال الثابت، أي
العمل على استمرارية رأس المال الثابت للمنتج بإحلال الأصول الثابتة الجيدة محل
الأصول المستهلكة، وتوجيه الانتباه إلى مراعاة الطاقة الاستيعابية لرأس المال
المنتج بحيث لا يؤدي توسع رأس المال الثابت إلى إعاقة العملية الإنتاجية بالتأثير
عليها وبالتناقص، ويرشد إلى هذا المفهوم ما رواه أبو داود عن عاصم بن لقيط بن
صبرة عن أبيه قال:» كنت وافد بني المنتفق …، قال: فبينا نحن مع رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة
تيعر، قال: ما ولّدْتَ يا فلان؟ قال: بهمة، قال فاذبح لنا مكانها شاة، ثم قال: لا تحسبن (بالكسر) ولم يقل لا تحسبن (بالفتح) أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مئة لا نريد أن تزيد فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة « [8] .
ففي هذا الحديث إرشاد إلى أمرين:
الأول: استبدال الأصل القديم بأصل جديد فالشاة التي تذبح حل محلها بهيمة
صغيرة سوف تقوم بالإنتاج والشاة المذبوحة عادة تكون من الغنم التي بدأ إنتاجها في
التقلص.
الثاني: أشار الحديث إلى أن الطاقة الاستيعابية للحظيرة وقدرة الراعي علي
المحافظة على القطيع هما في حدود مائة رأس من الغنم فالزيادة عن هذا الحد
إضعاف للقدرة الإنتاجية لعنصري الإنتاج، المكان والقوى العاملة (الراعي) ،
ويمكن الاسترشاد بهذا التوجيه النبوي بضرورة وضع قواعد وإجراءات يجب
اتباعها من قبل المالكين لرأس المال الثابت بمختلف مكوناته وقيام ولي الأمر
بالإشراف والمتابعة لتطبيق هذه الإجراءات لما فيه مصلحة الأمة بأجمعها.
__________
(1) البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب المزارعة، بالشطر ونحوه.
(2) مسند أحمد 5/194.
(3) مسند أحمد 1/447.
(4) البخاري، كتاب النفقات 6/190.
(5) البخاري، كتاب فرض الخمس 4/47.
(6) أخرجه ابن ماجة، كتاب الرهون، ح/ 2019، وصححه الألباني، صحيح ابن ماجة ح/2490.
(7) أحمد 4/445.
(8) أبو داود 1/98 ح 142، وصححه الألباني، صحيح أبي داود 1/29 ح 129 (سخلة) : المولود الجديد من الغنم، (يتعر) : أي تصبح المراح مكان حفظ للغنم ليلاً بما يشبه الحظيرة (بهمه) : الأنثى للصغير من الغنم.(81/37)
دراسات تاريخية
عبد الله بن سبأ
في ميزان البحث العلمي
- 2 -
د. محمد آمحزون
تمهيد:
سبق الحديث عن اصل هذه الدراسة وبيان خطأ بعض المنطلقات التي بنى
عليها د/عبد العزيز الهلابي دراسته تلك، وهي أن (سيف بن عمر لم ينفرد
بالروايات الواردة في ابن سبأ، إنما سبقه الكثير من المؤرخين والعلماء في مصادر
معروفة وأن السبئية ليست للذم والتعيير فقط) ويواصل الأخ الكاتب المزيد من
الكشف عن تهافت تلك الدراسة.
- البيان -
للسبئية منطلقات خطيرة:
أما قول الأستاذ الهلابي: إن السبئية لا تعني جماعة معينة لها عقيدة محددة،
بل هي مجرد كلمة تعني الذم والتعيير، فهذا ينافي الواقع التاريخي لهذه الطائفة
التي تزعم أنها هديت لوحي ضل عنه الناس [1] ، ويزعم رئيسها أن القرآن جزء
من تسعة أجزاء وعلمه عند علي [2] ، كما أن السبئية يقولون برجعة الإمام وأن
الأموات يرجعون إلى الدنيا [3] ، ويقولون بالوصية [4] ، ويسبون الصحابة [5] ،
ويزعمون أن علياً دابة الأرض [6] ، وأنه شريك النبي في النبوة بل منهم من يقول
بأن محمد -صلى الله عليه وسلم-رسول علي، يقول ابن حزم عنهم: وهذه الفرقة
السبئية باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد، منهم كان إسحاق بن محمد النخعي
الأحمر الكوفي، ويقولون: إن محمد -صلى الله عليه وسلم-رسول علي [8] .
وتقول السبئية كذلك بالحلول والتناسخ [9] ، ويعللون اختفاء علي بالغيبة [10] .
ويجزم قتادة بن دعامة السدوسي بأن السبئية كغيرها من الفرق الضالة مثل
النصرانية واليهودية، لها أفكارها ومعتقداتها الخاصة بها، التي تعد بدعة تتناقض
مع جوهر الدين المنزل من عند الله، يقول: والله إن اليهودية لبدعة وإن
النصرانية لبدعة، وإن الحرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة مانزل بهن كتاب ولا
سنهن نبي [11] .
ومن السبئية المغيرة بن سعيد البجلي الذي قال عنه ابن قتيبة: وأما المغيرة
فكان مولى لبجيلة وكان سبئياً [12] .
وقال فيه ابن عدي: لم يكن بالكوفة ألعن من المغيرة بن سعد فيما يروى عنه
من الزور عن علي، هو دائم الكذب على أهل البيت، ولا أعرف له حديثاً
مسنداً [13] .
وجابر بن يزيد الجعفي الذي ذكره ابن حبان في عداد السبئية حيث قال: كان
جابر سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: إن علياً يرجع إلى
الدنيا [14] ، وروي عن سفيان بن عيينة أنه يعني جابر كان يقول: علي دابة الأرض [15] .
ومنهم أبو النصر محمد بن السائب الكلبي الكوفي الذي قال فيه ابن حبان:
وكان الكلبي سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ [16] . ويقول عنه الحافظ ابن
زريع البصري: رأيت الكلبي يضرب صدره ويقول: أنا سبئي، أنا سبئي [17] .
وأبعد في الخطأ من الزعم السابق بأن السبئية ليست طائفة لها عقيدة محددة
قول الدكتور الهلابي بأن السبئية مجرد كلمة تطلق للتعيير والذم [18] .
وإذا كانت كذلك، فلابد أن يكون لها أصل في اللغة، وعند الرجوع إلى
معاجم اللغة وجدنا أن سبأ تعني: من حلف على يمين كاذبة غير مكترث بها
والخمر اشتراها ليشربها، والجلد سبأه أي أحرقه [19] .
ولم يقل أحد من علماء اللغة أن السبئية تعني الذم والتعيير، بل قال صاحب
لسان العرب: وسبأ اسم رجل يجمع عامة قبائل اليمن، وهو اسم مدينة بلقيس
باليمن، والسبأية أو السبئية من الغلاة، وينسبون إلى عبد الله بن سبأ [20] .
وقال الزبيدي: وسبأ والد عبد الله المنسوبة إليه الطائفة السبئية بالمد كذا في
نسختنا، وصحح شيخنا السبئية بالقصر كالعربية وكلاهما صحيح، من الغلاة،
جمع غال وهو المتعصب الخارج عن الحد في الغلو من المبتدعة، وهذه الطائفة
من غلاة الشيعة [21] .
رابعاً - موقف الإمام علي من السبئية:
يقول الدكتور الهلابي: وهذه الروايات التي تروي بأن السبئية قالت لعلي:
أنت خالقنا ورازقنا لا يمكن أن يقبلها المنطق السليم، إذ لا نعرف أحداً من العرب
عبد إنساناً واعتقد أنه هو الخالق الرزاق، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، بل لا
نعرف أن أحداً من المسلمين ارتد عن دين الله ارتداداً صريحاً بعد الردة التي حدثت
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-مباشرة ... لماذا يعاقبهم علي بالإحراق في
النار وهي عقوبة غير مألوفة لا في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-ولا في
عهد الخلفاء الراشدين قبله؟ ألا يمكن أن يضربهم بالسياط ليستتيبهم فإن لم يتوبوا
قتلهم بالسيف؟ [22] .
إن خبر إحراق علي رضي الله عنه لطائفة من الزنادقة المرتدين تكشف عنه
الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمعاجم، فقد ذكر الإمام البخاري
في كتاب استتابة المرتدين في صحيحه عن عكرمة قال: أتي علي رضي الله عنه
بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي -
صلى الله عليه وسلم-: (لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول الرسول -صلى الله
عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه) [23] .
ولفظ الزندقة ليس غريباً عن عبد الله بن سبأ وطائفته، يقول ابن تيمية: إن
مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ [24] . ويقول الذهبي: عبد الله
ابن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل [25] ، ويقول ابن حجر: عبد الله بن سبأ
من غلاة الزنادقة ... وله أتباع يقال لهم السبئية معتقدون الإلهية في علي بن أبي
طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته [26] ، ويقول في موطن آخر بأن أحد
معاني الزندقة الادعاء بأن مع الله إلهاً آخر [27] ، وهذا المعنى قال به ابن سبأ
وأتباعه، وجزم بذلك أصحاب المقالات والفرق والمحدثون والمؤرخون.
وروى خبر الإحراق أيضاً أبو داود في سننه: في كتاب الحدود باب الحكم
فيمن ارتد [28] ، والنسائي في سننه: في كتاب الحدود [29] ، والحاكم في ...
المستدرك، في كتاب معرفة الصحابة [30] ، والطبراني في المعجم الأوسط من
طريق سويد بن عقلة أن علياً بلغه أن قوماً ارتدوا عن الإسلام، فبعث إليهم
فأطمعهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم
ورماهم فيها، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال: صدق الله ورسوله [31] .
وروي من طريق عبد الله بن ثريد العامري عن أبيه قال: قيل لعلي إن هنا
قوماً على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟
قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما
تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت
أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا: فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال:
قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم، فقالوا كذلك فلما كان اليوم الثالث
قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك فخد لهم أخدوداً بين باب
المسجد والقصر وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض وجاء بالحطب فطرحه بالنار في
الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا فأبوا أن يرجعوا فقذفهم فيها حتى إذا
احترقوا قال:
إني إذا رأيت الأمر منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
قال الحافظ ابن حجر: وهذا سند حسن [32] .
خامساً - سيف بن عمر في الميزان:
يتحامل الدكتور الهلابي على الإخباري سيف بن عمر التميمي تحاملاً شديداً،
ويقول بأن سمعته باعتباره محدثاً سيئة للغاية، فقد حكم أصحاب الجرح والتعديل
عليه بالضعف واتهموه بوضع الأحاديث على الثقات وبالزندقة، كما يتهمه بالتحيز
والتعصب، وأنه عبث بروايات التاريخ الإسلامي، خصوصا ما له صلة بالفتنة
وما تلاها [33] .
والحقيقة أن هذا الكلام مبالغ فيه، إذ يجب أن نفرق بين سيف بن عمر
باعتباره محدثاً من جهة وباعتباره إخبارياً من جهة أخرى، فالطعن فيه من جهة
الحديث وهو أمر صحيح لا ينسحب بالضرورة على الأخبار التي يرويها.
أثنى الحفاظ على سيف بالخبرة والمعرفة في التاريخ، فقال الحافظ الذهبي:
كان إخبارياً عارفاً [34] ، وقال الحافظ ابن حجر: ضعيف في الحديث عمدة في
التاريخ [35] .
على أن الحافظ ابن حجر لم يرض باتهامه بالزندقة وقال: أفحش ابن حبان
القول فيه [36] .
ولسنا ندري كيف يصح اتهامه بذلك وروايته في الفتنة وحديثه جرى بين
الصحابة رضوان الله عليهم أبعد ما يكون عن أسلوب الزنادقة، وكيف يستقيم
اتهامه بالزندقة وهو الذي فضح وهتك سر الزنادقة!
ويمكن القول: إن رواية سيف بعيدة كل البعد أن تضعه موضع هذه التهمة،
بل هي تستبعد ذلك، إذ إن موقفه فيها هو موقف رجال السلف في احترامه
للصحابة وتنزيهه لهم عن فعل القبيح، فقد انتحى جانباً عن أبي مخنف والواقدي
فعرض تسلسلاً تاريخياً ليس فيه تهمة للصحابة، بل يُظْهِر منه حرصهم على
الإصلاح وجمع الكلمة، وهو الحق الذي تطمئن إليه النفوس، إذ يسير في اتجاه
الروايات الصحيحة عند المحدثين.
وإذا كان المحدثون يتساهلون في الرواية عن الضعفاء إن كانت روايتهم تؤيد
أحاديث صحيحة موثقة، فلا بأس إذن من الأخذ بهذا الجانب في التاريخ وجعله
معياراً ومقياساً إلى تحري الحقائق التاريخية ومعرفتها، ومن هذا المنطلق تتخذ
الأخبار الصحيحة قاعدة يقاس عليها ما ورد عند الإخباريين مثل سيف والواقدي
وأبي مخنف، فما اتفق معها مما أورده هؤلاء تلقيناه بالقبول، وما خالفها تركناه
ونبذناه.
ومما لا شك فيه أن روايات سيف في أغلبها مرشحة لهذه المعاني، إذ تتفق
وتنسجم مع الروايات الصحيحة المروية عن الثقات فيما يتعلق بوجود ابن سبأ
علاوة على أنها صادرة ومأخوذة عمن شاهد تلك الحوادث أو كان قريباً منها.
أما وصف سيف بالتحيز فأمر غير صحيح، إذ أن تعصب سيف المزعوم
ترده أحوال قبيلته بني تميم وموقفها من الفتنة، فمن المعروف أنهم ممن اعتزل
الفتنة مع سيدهم الأحنف بن قيس يوم الجمل [37] ، وبالتالي فإن روايته للفتنة
تشكل من خلال مضمونها على العموم مصدراً حيادياً ومطلعاً في آن واحد.
سادساً - تحميل روايات سيف ما لا تحتمل:
يقول الدكتور الهلابي: وما يهمنا هنا هو الرواية الأولى، إذ أن سيفاً أراد أن
يقول بطريق غير مباشر: إن الخليفة علياً لم ينضم إليه أحد من المهاجرين
والأنصار، وإنما فقط سبعمائة من الكوفيين والبصريين، ومن يكونون هؤلاء
الكوفيين والبصريين في المدينة؟ لابد أنه يريد أن يقول بطريق غير مباشر أيضاً:
إن أنصار الخليفة علي هم قتلة عثمان، مع العلم أنه ذكر في مكان آخر أن قتلة
عثمان من أهل البصرة قتلوا مع حكيم بن جبلة العبدي قبل أن يقدم علي وجيشه
البصرة، فسيف يهدف ضمنياً إلى النيل من الخليفة علي، وفي الوقت نفسه يريد
أن يعارض تلك الروايات التي تبالغ في عدد المشاركين في جيش علي من أهل بدر
خاصة والصحابة من المهاجرين والأنصار عامة [38] .
من الملحوظ هنا أن الدكتور الهلابي يحاول جاهداً أن يحمل روايات سيف ما
لا تحتمل من المعاني، ويتجاهل روايات أخرى لا تتفق مع خطه الذي رسمه مسبقاً
تجاه سيف، فيَحْكُم بلا دليل ظاهر على أجزاء من رواياته ويسكت عمداً عن ذكر
أجزاء أخرى لأنها تؤدي الغرض من فهم الروايات بالشكل المطلوب، وهو مع هذا
يستعمل عبارات غير علمية وغير دقيقة مثل: أراد أن يقول بطريق غير مباشر،
يهدف ضمنياً.
فمن المآخذ على الدكتور الهلابي أنه نسب إلى سيف ما لم يرو بقوله: ... إن
الخليفة علياً لم ينضم إليه أحد من المهاجرين.
فالشطر الأخير من هذه العبارة مأخوذ من رواية سيف: وخرج معه أي مع
علي من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل [39] ، أما
الشطر الأول من العبارة: إن الخليفة علياً لم ينضم إليه أحد من المهاجرين
والأنصار فهو من استنتاج الدكتور الهلابي.
وهذا الاستنتاج ليس في محله، إذ يتناقض مع ما رواه سيف حول هذا
الموضوع، فقد ذكر أسماء الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين انضموا إلى
علي، ومن ذلك قوله فأجابه رجلان من أعلام الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان وهو
بدري وخزيمة بن ثابت [40] ، وقوله: وأرسل علي الحسن وعماراً بعد ابن
عباس ... [41] ، فلما نزلوا ذي قار دعا علي القعقاع بن عمرو فأرسله إلى
البصرة [42] .
وهؤلاء من المهاجرين، وقوله: قال الشعبي: بالله الذي لا إله إلا هو، ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة بدريين ما لهم سابع أو سبعة ما لهم ثامن [43] .
والحق أن الصحابة الذين انضموا إلى علي رضي الله عنه أو إلى مخالفيه
(طلحة والزبير وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم) لم يكونوا كثرة كما توحي بذلك
بعض الروايات التي تبالغ في عدد المشاركين من الصحابة في الفتنة، وإنما كانوا
قلة كما جاءت بذلك الأخبار الصحيحة في كتب الحديث.
روى عبد الرزاق في المصنف والإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن محمد
بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عشرات
الألوف، فلم يحضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين [44] .
وروى ابن بطة بإسناده إلى بكير بن الأشج أنه قال: أما إن رجالاً من أهل
بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم [45] .
وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى الحسن البصري أن رجلاً قال لسعد بن
أبي وقاص: هذا علي يدعو الناس، وهذا معاوية يدعو الناس، وقد جلس عنهم
عامة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال سعد: أما وإني لا أحدثك
ما سمعت من وراء وراء، ما أحدثك إلا ما سمعته أذناي ووعاه قلبي، سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يقول: إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول ولا
تقتل أحداً من أهل القبلة فافعل [46] .
هذا وإن رواية سيف عن الصحابة الذين شاركوا في الفتنة تسير في هذا
الاتجاه ولا تحيد عنه.
أما قول الدكتور الهلابي في تساؤلاته: ومن يكونون هؤلاء الكوفيين
والبصريين في المدينة؟ لابد أنه يريد أن يقول سيف بطريق غير مباشر أيضاً إن
أنصار الخليفة علي هم قتلة عثمان، مع العلم أنه ذكر في مكان آخر أن قتلة عثمان
من أهل البصرة قتلوا مع حكيم بن جبلة قبل أن يقدم علي وجيشه البصرة [47] .
فصحيحة نسبة القول الأخيرإلى سيف [48] ، لكن العبارة الأولى التي فيها
أنه اتهم علياً بأن أنصاره هم قتلة عثمان، فلم يقل بها سيف إطلاقاً، ولا ذكرها
الإمام الطبري في تاريخه، وإنما هي من استنتاج الدكتور الهلابي الذي يتقن علم ما
وراء السطور! ولهذا نقول للأستاذ الهلابي: متى كان المنهج العلمي ضرباً من
ضروب الاستنتاج العقلي المحض في غياب النصوص والروايات؟ !
وللإشارة، فإن أسلوب سيف في روايته لأحداث الفتنة ليس فيه أي نيل أو
تجريح لعلي رضي الله عنه بل أثنى عليه بما هو أهله، إذ نقل عن سعيد بن زيد
أنه قال: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-ففازوا على
الناس بخير يحوزونه إلا وعلي بن أبي طالب أحدهم [49] .
وذكر أن علياً حين انطلق إلى البصرة في إثر طلحة والزبير وعائشة كان
ينوي الإصلاح وجمع الكلمة [50] ، كما أثنى على دور القعقاع بن عمرو رسول
علي في تثبيطه أهل الكوفة عن الاشتراك في الفتنة أولاً [51] ، ثم في مساعيه
الإصلاحية بين علي ومخالفيه في البصرة ثانياً [52] .
سابعاً - منهج عجيب إزاء الأحاديث النبوية:
يقول المؤلف: ومع أني أرجح أن (حديث الحوأب حديث موضوع ... [53] .
فمن الملاحظ هنا أن الدكتور الهلابي يتعامل مع الأحاديث النبوية كما يتعامل
مع الروايات التاريخية، فيقبل ويرفض، ويعلل ويجرح حسب اجتهاده الشخصي،
مع العلم أن مصطلح الحديث فن جليل وخطير بلغ من الدقة والإحكام أرقى ما يمكن
أن تصل إليه الطاقة البشرية، فأحكامه ومصطلحاته ذات دلالة واضحة ومحددة لا
تقبل التلاعب فيها، ولذلك يكون الحديث إما صحيحاً وإما ضعيفاً وإما موضوعاً،
وفق الموازين النقدية للرواية.
وبما أن الأحاديث هي غير الروايات التاريخية، فينبغي للتثبت من صحتها
أن يتم الرجوع إلى العلماء المختصين في علم الحديث النبوي.
وحديث الحوأب حديث صحيح قال عنه الحافظ ابن كثير: إسناده على شرط
الصحيحين [54] ، وقال الحافظ الذهبي: هذا حديث صحيح الإسناد [55] وقال
الحافظ بن حجر في الفتح: أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان
والحاكم، وسنده على شرط الصحيح [56] .
ورواية الحديث كما نقلها الإمام أحمد: (حدثنا عبد الله، حدثني أبي حدثنا
يحيى عن إسماعيل، حدثنا قيس قال: لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً،
نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا
راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز
وجل ذات بينهم، قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال لها ذات يوم:
كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب! [57] .
ثامناً - الطبري سمى السبئية:
يقول الدكتور الهلابي: إن الإمام الطبري لم يسم طائفة عبد الله بن سبأ سبئية، وإنما وضع هذه التسمية سيف بن عمر لتنسجم مع رواياته حول ابن سبأ ودوره
في الفتنة [58] .
لقد فات المؤلف بأن الإمام الطبري ذكر السبئية في تفسيره جامع البيان عند
شرحه لقوله تعالى: [فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله] [ال عمران: 7] ، يقول: وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا
أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله ... كان من
أهل النصرانية أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئياً أو حروريا أو قدرياً أو
جهمياً، كالذي قال ص: فإذا رأيتم الذين يجادلون فهم الذين عنى الله
فاحذروهم [59] .
تاسعاً - منهج المستشرقين غير مسلم له على الإطلاق:
يبدو جلياً أن الدكتور الهلابي تأثر بأفكار بعض المستشرقين الذين لا يقرون
بوجود ابن سبأ، إذ نحا منحاهم في إثارة الشكوك حول شخصيته ويقول: بأن
هؤلاء نالوا قصب السبق في إثارة قضية عبد الله بن سبأ [60] .
لكن يا ترى إذا كان المستشرقون قد سبقوا الباحثين العرب إلى دراسة
شخصية ابن سبأ، فهل نحن ملزمون بالتسليم بكل ما كتبوه في هذا الصدد؟
إن المستشرقين كغيرهم من البشر معرضون لعوامل السهو والخطأ، ومنهم
من يشتط في نظرته، ويحمل في نفسه من الأهواء والرغبات ما يجعله يفرض
آراءه المسبقة على النصوص، ويتعسف في تأويلها نظراً للعداء التاريخي في نفسه
للإسلام والمسلمين.
ثم لا يخفى أن المستشرقين الذين أنكروا وجود السبئية كان هدفهم من ذلك
التشكيك والإنكار هو إدعاء أن الفتن إنما هي من عمل الصحابة والمسلمين أنفسهم،
وأن نسبتها إلى اليهود أو الزنادقة هو نوع من الدفاع لجأ إليه الإخباريون والرواة
المسلمون ليعلقوا أخطاء هؤلاء الصحابة على عناصر أخرى، فيقول أحد هؤلاء
المستشرقين: بأن ابن سبأ ليس إلا شيئاً في نفس سيف أراد أن يبعد به شبح الفتنة
عن الصحابة وإنها إنما أتت من يهودي تستر بالإسلام [61] .
عاشراً - ثبوت أخبار ابن سبأ:
إذا افترضنا جدلاً أن الروايات والأخبار المتعلقة بابن سبأ غير صحيحة ومن
نسج الخيال، فكيف يعقل أن يسكت عنها العلماء الأقدمون ولا ينتقدوها، وهم الذين
أصّلوا منهجاً علمياً دقيقاً في نقد الرجال وتتبع أحوالهم!
هذا وقد أثبت كثير من العلماء والرواة في كتبهم خبر ابن سبأ، ولم يُستدرك
عليهم في هذا الشأن إلا ما كان من بعض الباحثين المعاصرين الذين أطلقوا لأنفسهم
العنان للخوض في هذا الموضوع بغير سند أو أثرة من علم فأساؤوا بذلك إلى أسس
البحث العلمي التي يدعون أنهم أهلها بغير دليل.
حادي عشر - رأي بلا مصدر أو دليل:
الغريب في الأمر أن الدكتور الهلابي رغم تأكيده على أن شخصية ابن سبأ
شخصية وهمية، فإنه لم يدعم رأيه ولو بمصدر واحد متقدم ينفي وجود عبد الله بن
سبأ، فكيف يكون إذاً صاحب منهج علمي ودراسته قائمة على الآراء والفرضيات،
بينما هي تفتقر أساساً إلى الأدلة العلمية ودعم من المصادر المتقدمة القريبة من هذه
الأحداث؟ !
وفي الختام نقول: إن تشكيك بعض الباحثين المعاصرين في عبد الله بن سبأ، وأنه شخصية وهمية، وإنكارهم وجوده، لا يستند إلى الدليل العلمي ولا يعتمد
على المصادر المتقدمة، بل هو مجرد استنتاج يقوم على فرضيات وتخمينات
شخصية تختلف بواعثها حسب ميول مُتبنيها واتجاهاتهم.
__________
(1) أبو عمر المقدسي: كتاب الإيمان، ص 249.
(2) الجوزجاني: المصدر نفسه، ص 38.
(3) أبو الحسن الأشعري: المصدر نفسه، ج1 ص 86.
(4) القمي: المصدر السابق، ص 20.
(5) النونحتى: المصدر السابق، ص 44.
(6) الذهبي: ميزان الاعتدال، ج1، ص 384.
(7) الملطي: المصدر السابق، ص 15. (هامش 7 غير مشار إليه في النص - ماس-)
(8) ابن حزم: الفصل في الملل والنحل، ج4 ص 186.
(9) البغدادي: المصدر السابق، ص 241.
(10) الكرماني: الفرق الإسلامية، ص 34.
(11) الطبري: جامع البيان، ج6، ص 189.
(12) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج2، ص 149.
(13) الذهبي: الميزان، ج4، ص 162.
(14) ابن حبان: المجروحين، ج1، ص 208.
(15) الذهبي: الميزان، ج1، ص 384.
(16) ابن حبان: المجروحين، ج2، ص 253.
(17) ابن حجر: التهذيب، ج9، ص 179.
(18) الهلابي: المرجع السابق، ص 46.
(19) العكبري: المشوف المعلم؛ وابن منظور: لسان العرب، ج2، ص 77؛ والزبيدي: تاج العروس، ج1، ص 75.
(20) ابن منظور: المصدر السابق، ج2، ص 77.
(21) الزبيدي: المصدر السابق، ج1، ص 75.
(22) الهلابي: المرجع السابق، ص 52.
(23) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب استتابة المرتدين، ج8، ص 50.
(24) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج28، ص 483.
(25) الذهبي: الميزان، ج2، ص 426.
(26) ابن حجر: لسان الميزان، ج3، ص ص 290، 289.
(27) ابن حجر: الفتح، ج12، ص 270.
(28) أبو داود: السنن، كتاب الحدود، ج4، ص 126.
(29) النسائي: السنن، كتاب الحدود، ج7، ص 104.
(30) الحاكم: المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ج3، ص 538.
(31) ابن حجر: الفتح، ج12، ص 170.
(32) ابن حجر: الفتح، ج12، ص 270.
(33) الهلابي: المرجع السابق، ص ص 39، 40، 67.
(34) الذهبي: الميزان، ج2، ص 255.
(35) ابن حجر: التقريب، ج1، ص 344.
(36) المصدر نفسه، ج1، ص 344.
(37) الطبري: تاريخ الرسل، ج4، ص 498، 500، 501.
(38) الهلابي: المرجع السابق، ص 43.
(39) الطبري: تاريخ الرسل، ج4، ص 455.
(40) المصدر نفسه، ج4، ص 447.
(41) المصدر نفسه، ج4، ص 487.
(42) المصدر نفسه: ج4، ص 488.
(43) المصدر نفسه، ج4، ص 447.
(44) رواه عبد الرزاق في المصنف، ج11 ص357؛ وابن كثير عن أحمد في البداية والنهاية، ج7، ص 253.
(45) ابن شبة: تاريخ المدينة، ج4، ص 1242.
(46) ابن عساكر: المصدر السابق (المطبوع) ، ص 485، 486.
(47) الهلابي: المرجع السابق، ص 43.
(48) الطبري: تاريخ الرسل، ج4، ص ص 470، 472.
(49) المصدر نفسه، ج4، ص ص 447، 448.
(50) المصدر نفسه، ج4، ص 471.
(51) المصدر نفسه، ج4، ص 484.
(52) المصدر نفسه، ج4، ص ص 487، 489.
(53) الهلابي: المرجع السابق، ص 43.
(54) ابن كثير: المصدر السابق، ج6، ص 241 (56) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج2، ص 125.
(57) ابن حجر: الفتح، ج13، ص 55.
(58) أحمد: المسند، ج23، ص 137.
(59) الهلابي: المرجع السابق، ص 61.
(60) الطبري: جامع البيان، 3/3/121.
(61) الهلابي: المرجع السابق، ص 58.
(62) عبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين ج2، ص 22.(81/43)
نصوص شعرية
رؤى خارج القيد
تركي المالكي
(1)
قيود تخنق الأفكار والأعناقْ! .
(........................)
وتعبرُ في رؤاي اليوم (أشواقُ) ..
غدا حُلُمي بجوف (القبو) .. مصباحاً
وما بين الحصار هَمَى
على جرحي.. همى ترياقْ!
أشدّ العين من أسر التّشُيّؤ..
من خطى قدمي أحررها..!
وأبعثها لتبحر في المدى..
وتعانق الآفاقْ!
ويهوي السوطُ.. والجلادُ يُزْبدُ..
و (الصدى) ضجّت به (الأبواقْ) !
وينفتح المدى.. يمتدّ! ..
وينكمش (الصدى) .. يرتدّ! ..
ورغم لفائف الظلماء..
أبصر أنجماً شقّت ستار الليلْ! ..
ورشّتْ في المدى حزماً من الأضواءْ!
يَرفّ الآن في سمعي صهيلُ الخيلْ!
وتمتزج الدماءُ بشوقها.. و (الليلْ) ..
يضجّ منادياً بالويلْ! ..
وتلعقُ خطوَهُ (الأصداء) ! :
(لكم يا مارقين الويلْ، لكم يا مارقي..)
(2)
(وأعلم أن (أشواقي) ..
غدت في محنتي الترياقْ..
فأشتاقُ! .. وأشتاقُ! ..
وأمنحُها دمي.. قلبي..
سنيّ العمر.. والأحداقْ!
وأنْبُت بين (أسوار الجفاف) نخيلةً..
تشتاقُ للثمرة!
وأسواط السموم تهزّها والشمسْ..
تَصُبّ شعاعَها ناراً! ..
ورغم الجدب والإعصار..
تَبْسُقُ بيننا شجرة! !
تمد فروعها في الأفق.. منتشرةْ
غدت مأوى (الطيور) الهاجراتِ القيدْ!
وللجوعى.. غدتْ ثمرةْ! ..
(3)
(رُؤى) لم تندرج في (عالم الأوهامْ) !
تعين على غيار الصمت والأيامْ..
و (أحلامٌ) تمارسُ فعلها..
لتُحَطّمَ الأغلال و (الأصنامْ) !
وننسجُ حولها عملاً..
يُهيّءُ للهدى أقوامْ..
ويجري العام بعد العامْ! ..
ويبقى الشوقُ وقّاداً..
ويسري في الدم الإلهامْ..
ولا نأسى على ما فاتَ..
نحلمُ أن نرى زمناً..
يُجسّدُ هذه (الأحلامْ) ! !(81/57)
المسلمون والعالم
مأساة المسلمين في ليبيريا
- حقائق وأرقام -
سيكو أبو بكر شريف
يتعرض المسلمون في ليبيريا منذ خمس سنوات ماضية لحملة صليبية ووثنية
شرسة تهدف إلى استئصالهم وإنهاء وجودهم على التراب الليبيري، ونجم عن هذه
الحمل قتل ما يزيد عن (100. 000) ألف مسلم شر قتلة كإحراق الدعاة والأئمة
بإشعال النيران فيهم بعد صب البنزين عليهم وفصل رؤوس آخرين عن أجسامهم
وقطع ألسن وآذان المؤذنين أحياء وفتح بطون الحوامل واغتصاب النساء والفتيات
مما أفرز ما لا يقل عن (10. 000) يتيم وأرملة، مع تشريد ما يزيد عن
(700. 000) ألف يعيشون الآن لاجئين في الدول المجاورة مثل غينيا وسيراليون وساحل العاج ونيجيريا وغانا وغيرها فضلاً عن مئات الآلاف الذين نزحوا إلى العاصمة منروفيا ويقيمون في مخيمات ومراكز إيواء تحت حماية قوات حفظ السلام الإفريقية، ويعانون جميعاً ظروف معيشية وصحية سيئة للغاية، هذا بالإضافة إلى هدم المساجد والمدارس الإسلامية ومنازل المسلمين، ومؤسساتهم الاقتصادية مع نهب كافة ممتلكاتهم.
هذا ما يحدث وغيره كثير للمسلمين في ليبيريا في غفلة أو لا مبالاة من الأمة
الإسلامية.
ولصراع المسلمين مع النصارى في ليبيريا تاريخ طويل بدأ كما سيتضح منذ
عام 1822م، ولكن كان في شكل غزو تنصيري وفكري منظم وإن كانوا قد نجحوا
في تهميش المسلمين وإبعادهم عن شؤون المجتمع، إلا أنهم فشلوا في تنصيرهم
بالمقارنة مع الجهود الجبارة التي بذلوها ويبذلونها لمدة تزيد عن قرن وستة عقود.
نبذة جغرافية وتاريخية:
تقع جمهورية ليبيريا على الساحل الجنوبي الغربي من القارة الإفريقية ويحدها
المحيط الأطلنطي جنوباً، وغينيا كوناكري شمالاً وساحل العاج شرقاً، وسيراليون
غرباً، تبلغ مساحتها (111. 000) كيلو متر مربعاً وعدد سكانها (3) ملايين نسمة، يشكل المسلمون (35%) والنصارى (25%) والباقون وثنيون، ويتكون سكان
ليبيريا من (16) قبيلة منها الماندغو والفاي والغولا والماندي وهذه كلها قبائل مسلمة.
تأسست ليبيريا في عام 1847م على يد الإفريقيين المحررين الذين اختطفوا
إلى الولايات المتحدة أرقاء، ولكن ظهرت هناك أصوات وجمعيات إنسانية
عارضت الاتجار بالإنسان واستعباده ونادت بتحرير الأرقاء وإعادة توطينهم في
وطنهم الأصلي إفريقيا، وبتأييد ودعم من الحكومة الأمريكية آنذاك باشرت تلك
الجمعيات مهمتها الاستيطانية بإيفاد البعثات الاستكشافية إلى القارة الإفريقية لإيجاد
مناطق صالحة لتوطين المحررين، وبعد رحلات عديدة وقع اختيارهم على منطقة
تعرف حالياً بـ (ليبيريا) حيث حصلوا على أراضي من ملوك ورؤساء قبائل
المنطقة الأصليين بالشراء تارة وبالمنحة تارة أخرى.
وفي عام 1822م وصلت أول سفينة إلى شاطئ المستوطنة الجديدة محملة
بالفوج الأول من المحررين العائدين ترافقهم البعثات التنصيرية بهدف تنصير
المنطقة وأهلها من المسلمين، ثم تتابع وصولهم وظلت الحكومة الأمريكية ممثلة
بتلك الجمعيات الإنسانية أو التنصيرية بالأحرى ترعى شؤون المستوطنة الجديدة
إلى أن أعلنت استقلالها عام 1847م وسموها (ليبيريا) وتعني (هنا الحرية) لتكون
بذلك أول دولة إفريقية ذات سيادة.
وعرف أولئك العائدون بـ (الأمريكيين الليبيريين) ويشكلون (5%) من
مجموع سكان ليبيريا إلا أنهم حكموا البلاد لمدة زادت عن (135) سنة أي منذ
الاستقلال عام 1847م ولم يسمحوا بمشاركة أغلبية السكان الأصليين في الحكم حتى
إذا كان عام 1980م قاد الرئيس صومويل دو الراحل وهو من السكان الأصليين
انقلاباً عسكريا ليضع بذلك نهاية لحكمهم واحتكارهم للسلطة.
بداية محنة المسلمين:
حينما أدرك المنصرون فشلهم في تنصير المسلمين، عمدوا إلى الغزو المسلح
في 24 ديسمبر عام 1989م عن طريق تحريض ودعم أفراد بعض القبائل الوثنية
المعروفين بكراهيتهم وحقدهم الشديد ضد الإسلام والمسلمين، فتسللوا عبر حدود
ليبيريا مع ساحل العاج حيث تدربوا تحت اسم (الجبهة الوطنية الليبيرية) بقيادة
تشارلز تايلور وهو من الأمريكان الليبيريين وأعلنوا أنهم يهدفون إلى الإطاحة
بالحكومة تضليلاً للرأي العام العالمي وتغطية على تصرفاتهم الوحشية في المسلمين، وقاموا بعملية تمشيط في طول البلد وعرضه بحثاً عن كل من هو مسلم أو إسلامي
للقضاء عليه.
الوضع الأمني والسياسي:
ينقسم البلد الآن إلى ستة أجزاء: العاصمة منروفيا وضواحيها وتسيطر عليها
الحكومة الانتقالية بدعم من قوات حفظ السلام الإفريقية التي تدخلت في أغسطس
عام 1990 لبسط الأمن عندما انهار الجيش الحكومي أمام المتمردين، والجزء
الثاني تحت سيطرة (الجبهة الوطنية الليبيرية) الفصيل الرئيس والجزء الثالث
تسيطر عليه حركة التحرير من أجل الديموقراطية في ليبيريا (يوليمو) والمكونة من
بعض المسلمين وفلول جيش الرئيس صومويل دو الراحل الذي اغتيل على يد
المتمردين في سبتمبر عام 1990 في ظروف غامضة، والجزء الرابع يسيطر عليه
(مجلس السلام الليبيري) وهي مجموعة وثنية نصرانية، والجزء الخامس تحت
سيطرة المسلمين الذين استردوها من الجبهة الوطنية الليبيرية، والجزء السادس
والأخير تحتله (قوات دفاع قبيلة لوما) وهي وثنية خالصة، وجميع الفصائل غير
الإسلامية متفقة فيما بينها على ضرب المسلمين وإنهاء وجودهم في ليبيريا.
وقعت كل من الجبهة الوطنية الليبيرية وحركة يوليمو باعتبارهما الموجودتين
على الساحة وقتئذ اتفاقية الصلح مع الحكومة الانتقالية في مدينة كوتونو عاصمة
جمهورية بنين بتاريخ 25/7/93، وتضمن الاتفاق وقف إطلاق النار ونزع السلاح، وتكوين حكومة انتقالية جديدة تمثل جميع الأطراف المعنية لتسيير شؤون البلد
والإشراف على إجراء الانتخابات بعد ستة أشهر من تاريخ توقيع الاتفاقية إلى غير
ذلك من البنود الواردة فيها. وبعد مرور سنة على توقيع الاتفاقية المذكورة، لم ينفذ
منها إلا البند الخاص بتشكيل حكومة انتقالية جديدة، وقد تعثر تنفيذها بسبب
تدخلات خارجية وتعنت كل طرف وسعيه إلى الحصول على نصيب الأسد من
المناصب الوزارية والإدارية العليا، بل لقد زاد الوضع تعقيداً بظهور فصائل جديدة
لم تكن طرفاً في الاتفاقية المذكورة.
القضية الأساسية للمسلمين:
على رغم أن المسلمين هم الضحية الأولى للأحداث الجارية في ليبيريا بسبب
عقيدتهم، إلا أن الاتفاقية المذكورة جاءت مجحفة بحقهم، حيث لم يرد فيها ما يكفل
حرية الاعتقاد والعبادة لجميع المواطنين، بل وعلى العكس، نصت على العفو عن
المسؤولين عن تلك الاعتداءات الوحشية وإشراكهم في الحكم، كما أنها لم تتضمن
أي ضمانات تحول دون تكرار ما حدث، الأمر الذي سيجعل من الصعب على
المسلمين العودة إلى ديارهم والعيش في أمن واستقرار.
ومن المناسب أن نوضح هنا بأن لا ينخدع أحد بوجود بعض المسلمين في
الحكومة الانتقالية الحالية التي قد تزول في أي وقت لأنه تمثيل إسلامي صوري،
الهدف منه إرضاء المسلمين وتثبيطهم وإسكاتهم عن المطالبة بحقوقهم المشروعة،
وبخاصة إذا علمنا أن ذلك التمثيل غير صادر عن تنظيم إسلامي مؤسسي ذي برامج
وأهداف، هذا فضلاً عن وجود حملة شعواء الآن تطالب بتنحيتهم وإخراجهم من
الحكومة نظراً لانتمائهم الإسلامي.
النشاط التنصيري:
تقوم المؤسسات الكنسية بأنشطة مكثفة وعديدة في ملاجئ المسلمين في
مجالات الإغاثة والصحة والتعليم والشباب وتقديم قروض زراعية وتجارية للاجئين، وكلها تهدف إلى استمالتهم وإخراجهم من دينهم إن استطاعوا، وقد أقاموا داخل
الملاجئ في غينيا وحدها ما لا يقل عن أربعين مدرسة في مختلف مراحلها من
ابتدائية ومتوسطة وثانوية، أما في مجال الإغاثة، فإن أغلب عمليات التوزيع تكون
في أيام الجمعة ويجعلونها متزامنة مع صلاة الجمعة، وأما نشاطهم في داخل ليبيريا
فهو منقطع النظير ويتضح ذلك من الأرقام التالية:
النشاط العدد
المدارس 13051
الكليات المتوسطة والمعاهد الفنية 500
الجامعات 2
الكنائس والمراكز التنصيرية 48400
المستوصفات والمراكز الصحية 36
المستشفيات 6
المكتبات لترويج الكتب التنصيرية 400
مؤسسات إنسانية وخيرية 6
محطات إذاعية 2
صحف ومجلات 4
دور أيتام 2
وعندما قرر المسلمون الدفاع عن أنفسهم في وجه الاعتداءات المتكررة المشار
إليها، أثارت القوى التنصيرية المحلية والعالمية ضجة كبيرة وكثفت من تحركاتها
لمواجهة ما يسمونه الخطر الإسلامي على النصرانية في ليبيريا، وإليك أيها القارئ
الكريم نص التقرير الذي أصدره مؤخراً مجلس الكنائس العالمي وتوصيات اللجنة
المنبثقة عنه والخاصة بليبيريا، مما يدل على حجم المؤامرة التي تحاك ضد الإسلام
والمسلمين في هذه الدولة الإفريقية وفي غفلة من الأمة الإسلامية.
نص التقرير [1] :
مدخل: منذ (147) سنة، قررت (المنظمة الأمريكية للاستيطان) وهي
منظمة نصرانية غير حكومية ومقرها في أمريكا إعادة توطين العبيد الإفريقيين
المحررين والمرفوضين من قبل المجتمع الأمريكي، قررت توطينهم في أي بقعة
من القارة الإفريقية، وكان لهذه المنظمة هدفان رئيسان:
الأول: إعادة توطين هؤلاء الأفارقة في قارتهم الأصلية.
والثاني: استعمال هؤلاء المستوطنين في تنصير إفريقيا.
وقد تم وضع عدة استراتيجيات لتحقيق هذه الأهداف، ولكن نظراً لبعض
الظروف الاقتصادية والعامل الديني بين السكان الأصليين الذين كانوا من المسلمين، فإن تحقيق هذه الأهداف قد واجهته بعض الصعوبات.
وبالاختصار، وبعد مرور (147) سنة، فإن هذه الدولة النصرانية المهمة،
مهددة من قبل المسلمين، أكثر من أي وقت مضى، وهناك حاجة إلى المزيد من
الاهتمام والمساعدة العاجلة لهؤلاء المتقين (النصارى) لقمع هذا الخطر الإسلامي،
ولكن قبل إصدار أي توصيات، فإنه من الأفضل التعرف على مدى قوة هذه
الجماعة (المسلمين) واستيراتيجيتهم ومصادر تمويلهم والعقول المخططة لهم، وهذه
الأعمال تحتاج إلى تشكيل لجان خاصة لدراستها، وفي ضوء نتيجة هذه الدراسة،
يمكن تأجير متخصصين من أنحاء العالم للتعامل مع الوضع حماية للنصرانيةفي
ليبيريا بصفة خاصة وفي أفريقيا بصفة عامة، ويتوقع وصول تقرير عن ليبيريا
بصفة خاصة وعن إفريقيا بصفة عامة من هذه اللجان في أقرب فرصة لكي يتم
وضع خطة العمل لعام 1994.
التقرير الشامل الذي أعدته اللجنة الخاصة
بليبيريا 19 مارس 1994
مقدمة:
بناء على طلب مجلس الكنائس العالمي لدراسة الخطر الإسلامي للنصرانية
في واحدة من أهم الدول النصرانية في العالم والمسماة ليبيريا الدولة التي استخدمتها
الكنائس البورتستانتية قاعدة لمدة قرن وبضع عقود لنشركلام الإله في كل أنحاء
أفريقيا، فقد وجدنا أنه خطر يمكن قمعه ويتطلب التعامل معه بجهود جماعية من
قبل جميع الكنائس في العالم، لأن سقوط النصرانية في هذه المنطقة الاستراتيجية
من العالم يعني نكسة كبيرة أخرى للنصرانية، ونريد من هذا التقرير التعرف على
قوة هذه الجماعة الإسلامية ومصادر تمويلها والعقول المخططة لهم.
قوة الجماعة (المسلمين) :
كان للإسلام وجود قبل وصول العبيد المحررين الذين أسسوا تلك الدولة منذ
(147) سنة، فهؤلاء المسلمون تقليديون في عقيدتهم ومحافظون في تمسكهم بدينهم، ولا يسمحون بأي تغيير رغم الحرب النفسية الموجهة إليهم منذ تأسيس دولة
ليبيريا الحديثة، مع ذلك استطاع (المسلمون) ضبط أنفسهم دوما طوال كل هذه
الأعمال القمعية والاضطهاد الذي يصفه الكثيرون بأنه قنبلة موقوتة.
هذه الجماعة اليقظة تهيمن عليها قبيلة ماندنجو القوية وهي قبيلة قوية منتشرة
في غرب إفريقيا، وقد حكمت معظم هذه المناطق قبل وصول الأوروبيين في تلك
الجهة من إفريقيا بدأت هذه الجماعة تظهر في الآونة الأخيرة أكثر تطرفاً حتى من
جيرانهم المسلمين الذين هم أكثر منهم عدداً، وقد زادت من تصميمهم، الحرب
الأهلية الدائرة في البلد التي دفعتهم إلى حمل السلاح وهو ما يجعل التهديد أكثر
خطورة، حيث يوجد حالياً أكثر من (10. 000) شاب مسلم يحملون السلاح
وينتمون إلى إحدى الفصائل المتحاربة ذات الأغلبية المسلمة وبقيادة أحد المسلمين،
وإن كان لا يوجد عند هذا القائد أي برنامج إسلامي، وإنما هو ذو طموحات سياسية، وبعبارة أخرى ليس هناك أي تهديد من جهة قائد هذه الفصيلة بل من السهل كسبه
بالمال والسلطة، ولكن التهديد الحقيقي يكمن في أولئك الشباب (المقاتلين) حيث
يؤمن معظمهم بحتمية استعادة حقوقهم ومجدهم الإسلامي.
ويؤيد هذه الأفكار بعض القادة الإسلاميين الراديكاليين وعلى وجه التحديد
(الشيخ/ كافومبا كونيه) الرجل الذي يطالب بالمساواة الدستورية للمسلمين في البلد،
ومع ذلك فإنه يعارض الحرب كوسيلة للحصول على حقوقهم.
كما تحظى هذه الفكرة بتأييد بعض رؤساء الجمعيات الإسلامية الخيرية منهم
الشاب النشط الذي يرأس لجنة مسلمي إفريقيا الشيخ/ عمر سايو الداعية الديني
المتدرب في السعودية وهو مصدر تمويل قومه (المسلمين) لعلاقاته الجيدة مع
العرب، ولكن كيفية تحقيق هدف كافومبا هذا مازال مجهولاً حتى الآن.
في ضوء العوامل المذكورة أعلاه، نوصي باتخاذ الإجراءات التالية فوراً:
1- إرسال متخصصين إلى ليبيريا من ذوي الخبرة الطويلة في التعامل مع
مثل هذه القضايا المعقدة.
2- إغداق الأموال على الكنائس للقيام بحملات صليبية مكثفة.
3- كسب السياسيين الرؤساء ذوي النفوذ والمعنيين بالقضية الليبيرية.
4- التأثير على العالم الغربي للقيام بحملات لصالح القادة السياسيين من
النصاري.
5- إيجاد بلبلة في صفوف التجمع ذي الأغلبية المسلمة من الشباب.
6- كسب كبار القادة المسؤولين عن عملية حفظ السلام في البلد للمساهمة في
إفشال نشاط هؤلاء الشباب الأصوليين.
7- العمل على إيجاد عداوة في نفوس النصارى ضد المسلمين.
8- دفع رواتب مغرية لعدد كبير من الشبان المنصرين للقيام بأنشطة
تنصيرية مكثفة.
9- وضع أنشطة الشخصيات الإسلامية البارزة في البلد ومؤسساتهم تحت
المراقبة وتشكيل لجنة خاصة للإشراف على ذلك.
10- التأثير على النصارى في الحكومة للوقوف إلى جانب الكنيسة والعمل
من أجل مصالحها في كل المداولات الوطنية.
11- كسب القادة السياسيين الإسلاميين بأي وسيلة كانت، وختاماً يتم دعم
هذه المخطط من قبل جميع النصارى في العالم مع الحرص الشديد عل سرية التنفيذ.
وجميع هذه التوصيات إما قد نفذ فعلاً أو أنها تحت التنفيذ.
__________
(1) تم ترجمة هذا التقرير من اللغة الانجليزية.(81/61)
المسلمون والعالم
هذا ما يفعله الرافضة في إفريقيا
محمد إدريس
تضعف إسلامية المرء فقهاً وسلوكاً، إذا قل اهتمامه بلغة القرآن الكريم،
ويبدو خلله العقدي إذا عاداها، ويأبى الروافض الفرس إلا أن يظهروا الأدلة الدامغة
على التربص بالإسلام عقيدة صحيحة، ومنهاجاً قويماً، فهاهم يشيدون صرحاً
للفارسية على جسد العربية، وهي تغرغر في جامعة غانا، ولا لوم على الروافض
إذ يحبون الفارسية، ولكن اللوم على المسلمين والعرب بخاصة الذين يجهلون أو
يتجاهلون مصرع العربية سامدين في مواقع كثيرة وهم مشغولون عنها، والله
المستعان.
- البيان -
أولاً اللغة العربية تحتضر في جامعة غانا:
تبادرت إلى ذهني صرخة اللغة العربية على لسان حافظ إبراهيم قديماً:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي ... رجالا وأكفاء وأدت بناتي
ومحدثي يشرح لي ما جرى وهو أحد أساتذة اللغة العربية والعلوم الإسلامية
بجامعة غانا وأنا مشدوه حقاً مما سمعته منه، لقد تمثّل لي هذا الوأد حقاً في هذه
القصة الغريبة في واقعنا العربي المعاش! ففي جامعة الليغون أعرق الجامعات في
غانا، بل وفي إفريقيا، توجد كلية اللغات التي كانت تضم قسم اللغة العربية
باعتبارها لغة حية مثل الفرنسية والأسبانية والألمانية والروسية التي تدرس بها،
وفي الحقيقة أنه لا يستفيد من اللغة العربية ولا يقبل عليها في الجامعة إلا الطلبة
المسلمون الأفارقة الدارسون فيها، أو بعض الطلبة النصارى المتخصصون في
اللسانيات وهم قلة قليلة، وكانت الحكومة الغانية ممثلة بوزارة الجامعات هي التي
تمول قسم اللغة العربية هذا كباقي اللغات فتحضر الأساتذة وتتكفل بتكلفة السنة
التطبيقية المتمثلة في انتقال الطلبة إلى جامعات الأقطار العربية قبل سنة التخرج،
لتطبيق ما أخذوه ميدانياً بين إخوانهم العرب المسلمين، ولكن منذ أربع سنوات
خلت، توقفت الحكومة عن تمويل كلية اللغات بالجامعة كلها، وأوكلت هذا إلى
حكومات وقوميات كل لغة لتقوم بذلك.
ويقول محدثي: فانبرت كل حكومة وكل قومية تقوم بواجب المسؤولية إزاء
لغتها، فقدمت كل منها دعماً فائضاً، وتكفلت بجميع احتياجات الأساتذة والطلبة
والوسائل التعليمية والمادية، بل ووضعت أيضاً حوافز مغرية، حتى يلتحق أكبر
عدد ممكن من الطلبة بقسم لغتها!
وبقي أساتذة اللغة العربية السبعة في القسم يرقبون ماذا يحدث؟ وينتظرون
ماذا يقع من حكوماتهم العربية الإسلامية، فطال الانتظار، ولم يحدث شيء!
فقرروا إشعار المعنيين لعل قرار الحكومة الجديد لم يصلهم، أو لم يذكر كثير من
حكام العرب المسلمون في غمرة الحياة السياسية، فتوجهوا إلى سفارات الدول
العربية الممثلة في غانا، وعددها ست سفارات، وقد وجدوا من ممثلي هذه
السفارات لقاءاً لبقاً وودياً، وترحيباً فيّاضاً، ووعوداً معسولة فاطمأن لها الأساتذة
وتنفسوا الصعداء.
ولكن الأيام توالت والشهور مرت، والأساتذة يراجعونهم حيناً بعد آخر فلا
يجدون منهم غير اعتذارات كثيرة ومبررات واهية ووعوداً عرقوبية! ! فقرر
الأساتذة جزاهم الله خيراً العدول عن السفارات إلى الهيئات والجمعيات العربية
الإسلامية، والثقافية والخيرية المهتمة بنشاط الدعوة، فراسلوا مؤتمر الدول
الإسلامية بهذا الخصوص، وبعضاً من الهيئات والجمعيات العلمية العربية،
ومجامع اللغة العربية، والمراكز الثقافية، بل وبعض الشخصيات العلمية التي تهتم
بمثل هذه الموضوعات، فتلقوا ردوداً مختلفة، ومنهم من أرسل مبعوثه لمعاينة
المكان أي لجامعة غانا لدراسة الموضوع عن كثب مع الأساتذة، ورفع تقريراً بعدها
مفصلاً ومأساوياً عن وضع اللغة العربية إزاء اللغات الأخرى! ! ولكنه مع الأسف
الشديد منذ ذلك الحين لم ير له أثر! !
ومرت السنتان والثلاث والأربع، فحزم خمسة أساتذة حقائبهم وغادروا
الجامعة نهائياً بعدما ساءت حالتهم المادية، ليبحثوا عن عمل في مكان آخر وقرر
البقية مواصلة جهودهم مصرين على المواصلة مهما كان الأمر ومهما ساءت الأمور.
يقول الأستاذ: وأخيراً فوجئنا بقرار الجامعة في هذه الآونة ومضمونه كالآتي: نظراً لما لوحظ على قسم اللغة العربية من تدهور في نشاطه العام وعدم توفر
الشروط المتماشية مع لوائح النظام الجامعي لبقائه، فإنه تقرر إلغاء هذا القسم
تدريجياً بدءاً بالسنة الأولى إلى السنة الرابعة على مدى أربع سنوات ابتداءاً من
السنة الدراسية المقبلة 95/1996 م، وتحل محله اللغة القادرة على توفير الشروط.
ويواصل الدكتور حديثه والألم يبدو على قسمات وجهه: وما أن صدر القرار
المذكور بأيام حتى شهدنا رجالاً من الشيعة الرافضة يتحركون في الجامعة بين
الإدارة والوزارة بسعي حثيث، ولما تتبعنا خطاهم أخبرنا بأنهم قدموا طلبهم
يحاولون بكل ما يملكون من جهد ووسائل إحلال اللغة الفارسية محل اللغة العربية،
وهم مستعدون أن يوفروا كل الشروط وزيادة في هذا المجال! !
ويقول محدثي: ولا يستبعد حسب الإشارات والأمارات والأخبار أن تفتح
السنة أولى فارسية مكان السنة أولى عربية الموءودة في الموسم الجامعي المقبل! !
فقلت مواسياً ومتحسراً لمحدثي: وماذا بوسع مثلي ومثلك أن يفعل؟ ومنذ
سنتين مضتا أغلقت الجامعة الإسلامية بالنيجر لمدة سنة ونصف، وهي التي تموّل
من قبل مؤتمر الدول الإسلامية! ! وليس القسم كالجامعة! ! فإني أخاف أن يكون
قول حافظ قد صدق حقاً، وها هي ذي اللغة العربية توأد في هذه الرقعة التي
يسكنها 54 % من المسلمين الراغبين في تعلم لغة القرآن والإسلام وكأن شيئاً لم
يكن! ! فهل من مجيب؟ ! وأين التشدق بالقومية والهوية والأصالة! وإلا فعفن
السياسة العلمانية المنبطحة قد طغى على كثير من حكام العرب والمسلمين! فهل
تموت العربية في غانا؟ !
ثانياً إيران تبني جامعة في كينيا:
ذكر النائب الثاني لرئيس حزب فورد كينيا الحزب المعارض للحكومة
البروفيسور/ راشد مزي، أن هناك خطوات جارية لبناء جامعة في منطقة الساحل
بكينيا، ذكر ذلك فورد فور رجوعه من زيارة استغرقت أسبوعين إلى إيران تلبية
لدعوة قدمت إليه لحضور ذكرى الثورة الإيرانية الخامسة بتاريخ 4/6/1994 م،
مع زميله/ فارح معلم عضو في البرلمان لمنطقة لغنيرا كما ذكر أنه على اتصال
بالسفارة الإيرانية لتنفيذ الخطة، وأن الكلام حول المشروع المذكور قد تمت مناقشته
خلال زيارته مع مندوب دولة إيران للشؤون الإفريقية ونائب وزير الدراسات العليا
الذي أيد الفكرة.
كما أكد بأنه واثق كل الثقة أن الحكومة الكينية لن تعارض الأمر لأنه في
مصلحتها، وذكر أن المندوبين الإيرانيين سيأتون إلى مدينة ممباسا لدراسة الوضع
بهذا الخصوص، وأضاف قائلاً بأن الحكومة الإيرانية قد وعدت بتقديم عشرين
(20) منحة دراسية سنوياً لمن يريد من الشباب الكينيين الالتحاق بجامعاتها،
والهدف واضح كالشمس في رابعة النهار.
تعليق:
هذه إيران الدولة الرافضية تقدم كل الجهود لنصرة عقيدتها وإيجاد موطئ قدم
لها في كل مكان، لاسيما في إفريقيا التي تكاد تكون خالية من مذهبها بعد سقوط
دولة بني عبيد الباطنية في مصر، إذ تصطفي بعض الشباب الأفارقة الذين توفر
لهم كل الإمكانيات للدراسة في جامعاتها وحوزاتها العلمية، وتستقطب بعض
المسؤولين الذين لا يعرفون حقيقة مذهبها، وها هي تقوم بالعمل المتواصل لبناء
جامعة رافضية في كينيا.
فماذا فعل أكثر أهل السنة سوى الكلام، بل إن الجامعات الإسلامية في
بعض الدول العربية لم تعد تقبل الطلاب من الدول الإفريقية إلا في أضيق نطاق،
بينما إيران تشرع لهم الأبواب؟ إن الأمر جد خطير إذا لم تتخذ كل السبل لقطع
الطريق على الرافضة وتوعية الشعوب المسلمة بما تخطط له إيران وملاليها، فهل
نعي عظم الخطر أم على قلوب أقفالها وأولئك يعملون ليل نهار؟ أدركوا إفريقيا
فإنها قارة المستقبل قبل أن يسبقكم إليها القوم بمخططاتهم ولامبالاتنا! .
- البيان -(81/71)
المسلمون والعالم
الجزائر:
الحوار بعد خراب الديار
د. عبد الله عمر سلطان
وأخيراً وبعد ثلاث سنوات من القمع والمعالجة الأمنية والنظرة الأحادية التي
لا ينقصها قصر النظر الحاد، استجابت المجموعة العسكرية في الجزائر لنداء
المنطق والعقل، وأيضاً لنداءات الأصدقاء الأجانب وقررت أن تجلس مع ممثلي
الشعب الجزائري الحقيقيين وقادة الأمة الذين غُيبوا في غياهب السجون بعد اجراء
أول اختبار حقيقي في عالمنا العربي انتهى بالنتيجة المتوقعة: هزيمة ساحقة
للمترهلين من قادة التحرير وصعود ملفت للنظر للدعاة المصابرين.
لقد قام الرئيس الجزائري الأمين زروال بخطوته هذه بعد وصول الأوضاع
في الجزائر إلى حافة الهاوية في ظل رفض الجنرالات المتشددين الحل السلمي
وإصرارهم على تصفية المقاومة الشعبية حتى آخر نفس جزائرية حرة لقد حاول
الأمين زروال في بداية وصوله إلى السلطة أن يبدأ حواراً حقيقياً يعيد الاستقرار إلى
البلاد، وجاءت خطواته المتمثلة باتفاق مبدئي مع شيوخ الإنقاذ حينها على
التحضير لجولة حوار يبدأ بإطلاق الشيخين بوخمخم وجدي ثم الإفراج عن بقية
قيادة الجبهة والدخول في حوار ينهي المأزق الجزائري الراهن، لكن أنّى لفرنسا
وقطيعها المربوط بها بحبل سري أن يرضوا بحل كهذا يعيد الأوضاع إلى أطرها
الطبيعية ويعيد المياه إلى مجاريها؟ !
لقد شن علي كافي (هل لازلتم تذكرون هذا النكرة؟) وكان رئيساً للوزراء
ويمثل التيس المستعار الذي كان يختبئ وراءه جنرالات فرنسا حملة ضد رئيسه،
وحذر من الحوار، وطالب بدلاً من ذلك بحماية العلمانية الجزائرية وحرية
الإنفاصليين البربر وحفنة الشيوعيين المحنطين، لأن هذا الخليط الممزوج بالتوابل
الفرنسية يمثل النخبة التي لا ترى بأساً من وصول الحرب الأهلية في الجزائر إلى
تدمير الحاضر والمستقبل..!
وأخذ العسكر المتشددون المبادرة وراحوا يضيقون الخناق على دعاة الحوار
داخل أجهزة الدولة بصورة تشبه أعراض مرضى التوحد، وإن المصابين بهذا
المرض الخطير لا يعانون من انفصام الشخصية، حيث تظهر لهم شخصية سوية
وأخرى مجنونة، لأن هؤلاء لا يعرفون سوى شخصية واحدة هي شخصية تعيش
في عالم منفصل عن عالم بني البشر و (الأوادم) ، وتنسحب من خضم الحياة
اليومية، وتقطع كل اتصال لها به، وتوجد عالماً خاصاً بها لا يصيخ السمع لأحد،
ولا يرد النداء حتى لأبسط النداءات وأكثرها إخلاصاً وقرباً.
وجنرالات التصعيد الأمني كانوا يعيشون عالم التوحد الأمني الذي يمنى
المصابون به بقرب تطهير الجزائر من آخر مظهر إسلامي، بل حتى عروبي
ليصدح الفرانكفونيون بأناشيدهم الفرنسية المخلوطة باللغة الأماغيزية!
لكن هل نجح منطق الجنرالات المختبئين وراء قناع السلاحف والذين أسالوا
دماء الشعب الجزائري أنهاراً؟
وكيل وزير الخارجية الأمريكية زار باريس في بداية هذا الصيف واجتمع
بمندوبي الصحافة والمحللين للوضع الجزائري، وأشار إلى أن الجيش الجزائري
أصبح من الضعف بمكان بحيث أن المستقبل يحمل بالنسبة لإدارته حلين لا ثالث
لهما: إما الوصول إلى وضع كالوضع في يوغسلافيا حيث ستوجد ثلاث دول
متناحرة على الأقل، أو أن يصل الإسلاميون إلى السلطة بقوة السلاح، وقد كان
هذا التصريح بمثابة استكمال للصراع العلني بين واشنطن وباريس، واشنطن التي
ترى أن تتعامل مع الواقع وتنظر إلى موطئ قدم جديد في الجزائر التي عافت
التدخل الفرنسي المستفز، وفرنسا المثقلة بالحقد الصليبي وثارات معركة الجزائر،
وانحسار رموزها ورجالاتها وثقافتها في ساحة الصراع الحر العلني الذي أكد
الجزائريون أن خيارهم فيه هو الإسلام.
ولم تكن أمريكا وحدها تقف هذا الموقف، بل إن إيطاليا وألمانيا وحتى الأسد
الإستعماري (بريطانيا) رفضت الوصاية الفرنسية على تعاطيها ومعالجاتها للملف
الجزائري، وأكدت أن الحل هو عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الواجهة لأنها
(رغم كل الحقد والمشاعر السلبية) وحدها القادرة على أن تعيد الاستقرار والأمن
المطلوبين لهذه البقعة المضطربة.
لقد أخرجت مجلة الإكنومست ملفاً في بداية شهر أغسطس الماضي تتحدث فيه
عن معركة يمكن تجنبها بين الإسلام والغرب، وكان سبب إخراج هذا الملف إلى
النور كما يقول المحرر توقع استلام الإسلاميين السلطة في الجزائر، مما يعني أن
على الغرب أن يعيد النظر في تعاطيه وتعامله مع هذه الحركة السنية التي أعادت
الإسلام إلى الواجهة عقيدة وحيدة في عالم اليوم تعطي منهجية متكاملة للإنسان في
حياته اليومية، ومنافساً وحيداً للحضارة الغربية وإفرازاتها.
إن هذه الخطوة المتوقعة منذ زمن قد تكون الفرصة الأخيرة أمام الحكم
الجزائري لإنقاذ البلاد من الأزمة الراهنة، وإن استجابة قادة الإنقاذ وشروطهم
العادلة التي حملتها رسالة الشيخين مدني وبلحاج تدلان على حرص الإسلاميين على
إنقاذ الوضع والخروج بحل يكفل إنهاء الأزمة، لكن ما لم يقترن هذا الإفراج
المؤقت بتغيير في أسلوب وعقلية السلطة خلف القناع العسكري، فإن جولات
الحوار قد لا تكون سوى سراب وبخاصة، إذا صدق توقع المسؤول الأمريكي أو
نفذ المتشددون في السلطة بعض ماضيهم التسلطي تجاه قيادات الجبهة لتصفية
رموزها، وعندها يمكن أن نقول إن الحوار هو ستار لخراب الديار.. وإحلال
الدمار الذي لازال ينهش التراب الجزائري..! !(81/76)
المسلمون والعالم
وقفة مع:
المد الإسلامي في أفريقيا
محمد لانج صار
تعتبر إفريقيا إحدى مناطق الصراع العقائدي في القرن العشرين، فقد شهدت
هذه القارة خلال هذا القرن صراعاً عقائدياً مريراً لم تشهده في سابق تاريخها،
ويدور هذا الصراع بين الإسلام الذي يحرص على ترسيخ دعائمه في ربوع القارة،
والنصرانية التي تسعى للتغلغل فيها على حساب الإسلام واليهودية التي يقل وجودها
في القارة بالنسبة لغيرها، ولكنها تعمل كادحة لفك العزلة التاريخية التي طال أمدها
بينها وبين شعوب المنطقة، إلى جانب مذاهب فكرية ونحل باطلة تبث سمومها
الفتاكة بين كل ذي عقيدة ودين.
وتوجد عوامل عدة وراء هذا الصراع العقائدي الذي تشهده الساحة الإفريقية،
تتلخص فيما يلي:
1- الاتصالات المتبادلة بين شعوب القارة الإفريقية والشعوب الأخرى:
حيث تؤكد الدراسات السكانية أن هناك ارتفاعاً مطرداً في الهجرة السكانية من
وإلى القارة الإفريقية، ولا شك أن الاحتكاك بين الشعوب ينتج عنه نوع من الغزو
الفكري والثقافي والعقائدي، إذ لابد من التأثير أو التأثر أو كليهما معا، فإذا كان
الإسلام قد دخل إلى إفريقيا، وانتشر فيها عن طريق الاحتكاك بين الأفارقة وغيرهم
وبخاصة التجار العرب فكذلك النحل والعقائد والمذاهب الفكرية الأخرى الدخيلة التي
لم يكن لها وجود في القارة إنما جاءت عن طريق الوافدين للقارة وعلى رأسهم
المستعمرون الغربيون.
2- تنازع الدول الاستعمارية في مصالحها داخل القارة الإفريقية:
فالاستعمار الغربي لإفريقيا قد صاحبته محاربة شديدة للإسلام من جانب،
والترويج للنصرانية والعقائد والمذاهب الفكرية الباطلة من جانب آخر ومازال
الغربيون يمارسون هذه السياسة؛ لتصورهم بأن الإسلام قنبلة موجهة ضد الغرب،
واعتقادهم بأن في انتشار الإسلام في إفريقيا تهديداً لمصالحهم وأطماعهم الاستعمارية، ومن هنا ندرك الأسباب التي تدفع الغرب إلى مساعدة الكنيسة العالمية بشتى
مذاهبها، ودعم مؤسساتها التعليمية والاجتماعية والمالية في القارة الإفريقية، حيث
أصبحت الكنيسة بعد إفلاسها في الغرب مجرد سلاح غربي لمحاربة الإسلام.
3- إفلاس الكنيسة أمام الحضارة الغربية:
فبعد إفلاس الكنيسة في الغرب، وفشلها في تكوين الإنسان الغربي تكويناً
روحياً يتمشى مع حضارته المادية، تنكر الإنسان الغربي للكنيسة وانصرف عنها
باعتبارها عائقاً كبيراً في طريق التطور والتقدم الحضاري وبخاصة بعد فضائح
رجال الكنيسة في القرون الوسطى، وظهور استغلالهم للدين، ومن هنا جرّت
الكنيسة ذيل الهزيمة في أوروبا متجهة إلى إفريقيا حيث توجد ظروف وعوامل عدة
كالفقر والأمية والوثنية يمكن أن تستغلها لنشر مبادئها والتغلغل فيها على حساب
الإسلام، ويؤكد ذلك الاهتمام البالغ الذي توليه الكنيسة للقارة الإفريقية في هذا القرن، والزيارات البابوية المتعددة إلى دول إفريقيا، وما يسود الآن من فكرة أفرقة
القساوسة لتولي المناصب في الكنيسة الكاثوليكية، والاقتراح المقدم إلى الفاتيكان
بأن يتولى أحد الأفارقة السود منصب البابوية في المستقبل.
4- تزايد الوعي الإسلامي لدى مسلمي القارة الإفريقية:
فبفضل الله وبما من به من الوعي الإسلامي المتزايد لدى مسلمي إفريقيا
وانفتاحهم نحو الرؤية الشمولية للإسلام، أصبح كثير منهم يقاومون أشكال التنصير
التي لم يكن المسلم الإفريقي يفطن وينتبه لها، وقد نشأت في مختلف أنحاء القارة
الإفريقية حركات إسلامية تتزعم هذه المقاومة.
مظاهر الصحوة الإسلامية في إفريقيا:
هناك، وفي وسط الصراع العقائدي المرير تشهد القارة الإفريقية صحوة
إسلامية عارمة، حيث يتزايد المد الإسلامي فيها باطراد رغم كل المخططات
الصليبية الرامية إلى تنصيرها والحيلولة دون انتشار الإسلام فيها، وهذه الصحوة
تتخذ مظاهر عدة منها:
(أ) انتشار المدارس الإسلامية في ربوع القارة:
فما من شك في أن المعاهد الإسلامية والعربية التي يزداد عددها يوماً بعد يوم
في مختلف الدول الإفريقية تساهم مساهمة فعالة في نشر الإسلام وتوعية المسلمين،
وهي تزود الصحوة الإسلامية في القارة الإفريقية بالثقافة اللازمة لنضجها
واستمراريتها، ولاسيما بعد أن انخرط في السلك التعليمي لهذه المدارس أصحاب
الاتجاه الإسلامي من الشباب المسلم المتخرج من الجامعات الإسلامية.
(ب) ظاهرة التزايد المستمر في عدد الكتاتيب ومراكز تحفيظ القرآن الكريم:
ويلاحظ أن هناك عودة إلى نظام الكتاتيب ومراكز وخلاوي تحفيظ القرآن
الكريم في عديد من الدول الإفريقية، فقد انتعشت الخلاوي القديمة التي كانت قد
توقفت لفترة عن أداء رسالتها، وبخاصة إبان الحقبة الاستعمارية التي حاربت
وبشدة كل ما له صلة بالإسلام، كما نشأت كتاتيب كثيرة أخرى في المدن والقرى
والأرياف، وقد زاد الأفارقة من عنايتهم بمراكز تحفيظ القرآن الكريم متهمين الثقافة
الغربية ومؤسساتها التعليمية بالعمل على تدمير القيم والأخلاق في المجتمعات
الإسلامية وبخاصة بين الشباب.
(جـ) كثرة الجمعيات الإسلامية:
فقد نشأت جمعيات إسلامية في مختلف الدول الإفريقية، وهذه الجمعيات مما
لا شك فيه هي دعائم ترتكز عليها الصحوة الإسلامية، وبخاصة أن معظم هذه
الجمعيات تضم في صفوفها عدداً كبيراً من الكوادر والمثقفين بالثقافة الإسلامية
الناضجة ممن تخرجوا من الجامعات الإسلامية والعربية، ولذا نستغرب ما نسمعه
من الهجوم الشرس على تعدد الجمعيات الإسلامية في إفريقيا، واعتبار هذا التعدد
ظاهرة سلبية وسيئة للعمل الإسلامي، إذ لا ينبغي النظر إلى هذا التعدد من الناحية
السلبية فقط؛ لأن الإسلام ينتفع من هذه الجمعيات المتعددة أكثر مما يتضرر بها،
وإن كننا نؤمن بضرورة التنسيق فيما بينها في حقل العمل الإسلامي؛ لأن ذلك هو
السبيل لنجاحها في أداء المهمات المطلوبة منها.
(د) قيام اتحادات للطلبة المسلمين في مختلف الجامعات الإفريقية:
فقد تشكلت عدة اتحادات للطلبة المسلمين في مختلف الجامعات الإفريقية
وتعتبر هذه الاتحادات توجهات إسلامية داخل هذه الجامعات العلمانية؛ ولذا ينبغي
الاهتمام بها، ودعمها مادياً ومعنوياً؛ كي تعطي ثمارها المرجوة في تحويل هذه
الجامعات من التبعية للغرب إلى مواقع استراتيجية للإسلام مستقبلاً بإذن الله.
وتجدر الإشارة إلى أن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض قد
بدأت في تنظيم دورة شرعية للتوعية في جامعة دكار بالتنسيق مع اتحاد الطلبة
المسلمين في هذه الجامعة.
(هـ) التغيير التدريجي في النمط الصوفي القديم:
يلاحظ أن هناك تراجعاً تدريجياً للزعامات الصوفية في إفريقيا ذات النمط
الصوفي الذي كان يتسم بالسلبية والجمود الفكري، وبدأ الاتجاه نحو المنهج
الإسلامي الصحيح بعدما تخرج عدد كبير من الشباب المسلم من الجامعات الإسلامية.
(و) ظهور تدريجي للزي الإسلامي:
فقد بدأ الزي الإسلامي يظهر تدريجياً في أوساط النساء المسلمات في إفريقيا،
وكان ذلك ثمرة طيبة من ثمار الصحوة الإسلامية المتزايدة في القارة ولم يعد من
المستغرب أو النادر أن ترى امرأة مسلمة متحجبة، وأنت تمشي في شوارع بعض
الدول الإفريقية كالسنغال أو كينيا أو مالي.
تلك تأملاتنا في المد الإسلامي المتزايد في إفريقيا، الذي يتطلب منا بذل مزيد
من الجهد والاهتمام بالعمل الإسلامي وتطويره للوصول إلى أهدافنا السامية، وما
ذلك على الله بعزيز.(81/80)
حوار
د. صلاح الصاوي في حديث شامل
أجرى الحوار / السيد أبو داود
د. صلاح الصاوي الأستاذ بكلية الشريعة جامعة الأزهر.. من الدعاة
المتميزين.. عمل نائباً للأمين العام لهيئة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة برابطة
العالم الإسلامي.. ثم مديراً للمركز العالمي لأبحاث الإعجاز العلمي في باكستان ثم
أستاذاً زائراً في معهد العلوم الإسلامية والعربية في واشنطن.. ويعمل الآن مديراً
لمركز بحوث تطبيق الشريعة الإسلامية برابطة العالم الإسلامي.. وله صلات
عديدة بالمنظمات الإسلامية في أوروبا وأمريكا ومختلف أنحاء العالم الإسلامي
تعددت كتبه وتنوعت إلا أن القاسم المشترك بينها هو هموم ومشكلات الصحوة
الإسلامية وكيفية ترشيدها وبصفة خاصة على المستوى العقدي والفكري، ولذا كان
الحوار مع د. صلاح الصاوي مهماً وذا مغزى بحكم هذه الخبرة الواسعة في العمل
الإسلامي.
- البيان -
* الأمة الإسلامية في حالة انكسار وضعف في هذه المرحلة.. وباعتبارك
عشت في أوروبا وأمريكا، وعايشت مشكلات المسلمين هناك واقتربت من مقولات
الغرب.. ما هو الأسلوب الأمثل في رأيك للتعامل مع الغرب؟
إذا كان المقصود بالحوار بسط قضية الإسلام فهذا مما تعبّد الله به عباده في
جميع الأطوار والأحوال سواء أكانت الأمة في حالة انتصار أم في حالة انكسار،
فنحن أمة دعوة ورسالة نبلغها لغيرنا من الناس في جميع أطوارنا وفي جميع أحوالنا
فلا خلاف على بسط قضايانا والدفاع عنها وحشد الأدلة لإثباتها في أي طور وعلى
أي حال كنا، وهذا القدر من القضية يحكمه أيضاً ألا ينكسر حاجز الولاء والبراء
الذي أقامته الشريعة، وجعلته أساساً في التعامل بين المسلم وغير المسلم، وقضية
الولاء والبراء لها قواعد محكمة في دين الإسلام وقد وردت فيها عشرات الآيات
والأحاديث، وفي أزمنة الانكسار يرق هذا الحاجز ويضعف، ويبرز فقه التبرير
الذي تنشئه عوامل الوهن التي تمر بها الأمة من ناحية، ومفاهيم الاختراق
الوافدةمن ناحية أخرى، ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن يقال: إن الولاء والبراء
يحدده الكتاب والسنة لا غير، فمن كان مؤمناً بالله ورسوله بذلت له حقوق الموالاة
كاملة، ومن كان كافراً بالله ورسوله حجبت عنه حقوق الموالاة كاملة، ومن كان
فيه إيمان وفيه فجور أو فيه طاعة وفيه معصية فإنه يأخذ من الموالاة بحسب إيمانه
وطاعته، ويأخذ من المعاداة بحسب ما فيه من معصية، وهذا المعنى ينبغي ألا
ينهزم ولا ينكسر في أنفسنا مهما توالت مطارق المحن والشدائد علينا.
لكن من ناحية السلوك العملي فنحن نفرق بين الموالاة والمداراة فالتسامح
موجود للمسلمين ولغيرهم، والمداراة يلجأ إليها الناس حينما يكونون في حالة ضعف
وانكسار، وطبيعي حينما أكون ضعيفاً ومنكسراً أن لا تطلب مني أن أتصرف
باعتباري قوياً ومتمكناً.
وعندما تكون الأمور على هذا النحو فمنطق التسامح والتآلف وارد ومنطق
الدعوة والاستماتة في الدفاع عن قضية الإسلام وبسط حججه وَرَدّ بعض شبهات
وأباطيل خصومه واردٌ ومهم.
وعموماً فإن علاقتنا بالغرب وبغير المسلمين عموماً علاقة دعوة وعلاقة بلاغ، ونحن أمة دعوة ورسالة وأصحاب الدين الذي ارتضاه الله لعباده ديناً وقد نُسِخَتْ
به الأديان كلها، ونحن نمسك بأيدينا المصحف الذي حماه الله من التحريف والتبديل
على حين حرفت الكتب السماوية كلها فلم يبق على الأرض وحي معصوم إلا القرآن
والسنة، ولم يبق دين يقبله الله ويرتضيه لعباده إلا الإسلام، فبقدر جسامة هذا
الموقع وهذه المسؤولية ينبغي أن تكون أمانة الدعوة وأمانة البلاغ مع المحافظة على
عقيدة الولاء والبراء حتى لا تنكسر هذه الأمة على مافيها من انكسار، وحتى لا
تذوب هويتها في معترك الأفكار والسياسات.
* تختلف فصائل الصحوة الإسلامية في فهم النصوص وفي تنزيل هذه
النصوص على الواقع، ومن هنا تنشأ المشكلات، كيف يمكن في رأيك الخروج
من هذا المأزق؟
يحدث خلط في التعامل مع النصوص الشرعية بين مناط الاستخلاف ومناط
الاستضعاف، فهناك طائفة من النصوص يرتبط تطبيقها بواقع الاستخلاف والقوة
وطائفة أخرى يرتبط تطبيقها بواقع الاستضعاف والغربة. ومثال ذلك الآيات
الواردة في باب الصفح والمغفرة والمداراة وتألف المخالف.. فما ورد في هذا المقام
من آيات أو أحاديث فإنما ترتبط بواقع الاستضعاف والغربة، وما ورد من نصوص
في باب الهجر والزجر والغلظة، فإنما يرتبط بواقع التمكين والقوة، فإذا حدث خلط
فأنزلت النصوص التي ترتبط بواقع الاستضعاف على واقع القوة أو العكس فيحدث
الخلط ويحدث التشويش.
فالنصوص الواردة في باب الصفح والمغفرة وتألف المخالف مثل قوله تعالى:
[قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله] [الجاثية: 14] وقوله تعالى:
[وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون]
[يونس: 121] وقوله تعالى: [واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراْ جميلاْ]
[المزمل: 10] هذه النصوص ترتبط بواقع يعيش فيه المسلمون في غربة، لا قوة
لهم ولا شوكة ولا منعة، فإذا تحول المسلمون إلى واقع القوة والاستخلاف والتحكم
يخاطبون بطائفة أخرى من النصوص كقول الله تعالى: [يا أيها النبي جاهد الكفار
والمنافقين واغلظ عليهم] [التحريم: 9] ، وقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا
قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة] [التوبة: 73] ومن أسباب
الخلط والشطط في وقتنا المعاصر قضية الغفلة عن هذا المعنى.. ومتى حدث هذا
الفصل الذي نرجوه، ينتظم الأمر، ويستقيم المسار بإذن الله.
* في ظل انهيار الحضارةالمادية الغربية.. هل ترى أن مستقبل الإسلام
سيكون نابعاً من بلاد المسلمين أنفسهم، أم من خارج بلاد الإسلام؟
هذه المنطقة هي منطقة الريادة.. منطقة الإسلام.. المنطقة التي بعث فيها
الأنبياء وتنزلت فيها كتب السماء.. وأهلها هم أبناء الأجيال الأولى الذين انتصر
بهم الإسلام ونحن نتمنى أن يشرح الله للإسلام صدورغيرهم، وأن يكونوا مدداً
للإسلام والمسلمين.
* الإعلام الغربي يتحدث دائماً عن الإنسان الغربي على أنه متحضر لا يفرق
بين الناس على أساس ديني.. على عكس الإنسان العربي والمسلم.. فعلى
اعتبارأنكم عشتم وسط الغربيين.. هل هذه المقولة صحيحة؟ بخاصة فيما نراه في
البوسنة وما نراه من تفرقة عنصرية في بعض ديار الغرب؟
الفرق بيننا وبينهم هو الفرق بين الوضوح وبين النفاق.. فقوانينهم ونظمهم
تنص على ما تقول.. وواقعهم في كثير من الأحوال يخالف ذلك مخالفة جذرية،
وحسبنا هذا التطفيف الظالم الذي يقوده ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، والمكاييل
المزدوجة التي يتعامل بها مع العالم الإسلامي.
ولكننا لا نعرف هذا التلون وهذا الخداع.. فظاهرنا كباطننا، ما نعتقده ديانة
نفعله على الملأ ونقيم عليه الحجج والبراهين، وكل من يعيشون على أرض
الإسلام يتمتعون بحقوق كاملة لا يتمتع بعشرها المسلمون المقيمون في الغرب الآن.
فلا يملك المسلم المقيم في أمريكا مثلاًِ أن يتزوج من امرأة ثانية إلا إذا قدم
وثيقة طلاق أمام القضاء الأمريكي، وإلا يعتبر قد ارتكب جريمة قانونية ضخمة
جداً، يحاكم بها، ويطرد من البلاد.
وبعض الناس قد تحتم عليه ظروفه الزواج وهو في ذلك المجتمع الجديد،
ولكن لا يملك ذلك، فهل صادر المسلمون حق غير المسلمين في أن يحتكموا في
مسائل الأسرة إلى قوانينهم عبر 14 قرناً؟ . ولكن في القرن العشرين.. يحجب
هذا الحق عن المسلمين.
ماذا يعني أن يقوم المجتمع الفرنسي ولا يقعد من أجل فتاتين محجبتين فأي
خطورة على الحضارة الغربية والمجتمع الفرنسي من ذلك؟
* هل لك أن تحدثنا عن مدى ارتباط الصليبية العالمية بالنظام العالمي الجديد؟
هذا موضوع متشابك.. لكني أقول: إن هناك صراعاً طويلاً عمره في
الحقيقة خمسة آلاف سنة بين وعدين وعد حق من الله تعالى ووعد مفترى.. كذب
به أصحابه على الله.
اليهود والنصارى اتفقوا على الأسطورة التي تقول: إن قادماً سيأتي وسينزل
في أرض الميعاد، وإنه يجب أن يهيء المسرح لاستقباله، وأن يتعاون اليهود
والنصارى معاً في ذلك، هذا القادم عند النصارى هو المسيح وعند اليهود هو
الدجال، وهناك تناقض جذري بين هذين القادمين.. فاليهود يرون في المسيح
عيسى ابن مريم أنه ابن زنا كذاب دعيّ! ، والنصاري يعتقدون أنه إلههم ومعبودهم، وأن اليهود هم الذين قتلوه، ورغم هذا التناقض الجذري الضخم جداً الذي يفصل
بينهما إلا أنهم استطاعوا أن يتفقوا حول هذه الأسطورة وقالوا نحن نتفق على أن
قادماً سيأتي، وبما أنه سينزل في أرض الميعاد، فيجب أن يكون شعبه قوياً لكي
يتمكن من استقبال هذا القادم.. فالصليبية العالمية تقول نحن نصلي للرب، ونرسل
السلاح لإسرائيل لنهيء المسرح لاستقبال هذا القادم الجديد الذي سيقود العالم قيادة
جديدة.
فتقف الآن اليهودية العالمية والصليبية العالمية في معسكر لاستقبال قيادة جديدة
للبشرية بزعمهم.. وأن هذه هي التي ستغير وجه الوجود كله. والمستهدف في
الناحية المقابلة هو الإسلام وبخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي فمحاربة الإسلام
أصبح مشروعهم القومي الذي يجمعون عليه شعوبهم.
إن ما نراه اليوم من مرحلة للسلام، بدأ منذ خمسة آلاف سنة، منذ وعد الله
لإبراهيم وسينتهي عندما يلتقي المسيحان: مسيح الهدى عيسى بن مريم ومسيح
الضلالة الدجال، فيدرك مسيح الهدى مسيح الضلالة في فلسطين فيقتله، ويومها
يسدل الستار عن آخر فصل في هذا الصراع، والذي أخبرنا بذلك هو رسول الله
الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، وأخبرنا أن المسيح سيصلي خلف
المهدي فقال: (وإمامهم منهم تكرمة الله لهذه الأمة) إشارة إلى أن المسيح لن يأتي
بشريعة جديدة وإنما سيحكم بشريعة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم يبدأ
مسلسل آخر الزمان وهو كالعقد إذا انفرطت منه حبة تتداعى سائر حباته وتتساقط.
فالقضية هكذا لها أبعاد وجذور دينية قابعة في أعماق مخططي السياسة
وصناع القرار في الغرب، وهو بعد ديني عند اليهود والنصارى نرجو ألا يغفله
المسلمون.
* ما هو دور المنظمات الإسلامية في الغرب لمواجهة هذه المخططات.. وما
الذي يعوقها لتؤدي دورها كما يفعل اللوبي اليهودي؟
أعتقد أن المسلمين يستطيعون أن يؤدوا دوراً كبيراً في هذه المجتمعات أن
يؤثروا بعض التأثير في السياسة الأمريكية إذا شاءوا، وأن يرجحوا مرشحاً على
آخر، وأن يدعموا بعض القضايا الإسلامية، ويمثلوا ضغطاً على صناع القرار
هناك، هذا ليس بمستحيل لكن العمل الإسلامي هناك يعاني من التشرذم أيضاً، لأن
جذوره مهاجرة من الشرق فنقلت معها ما نعانيه في الشرق من تفرق وتشرذم، فإذا
وفقوا في مثل هذه البلاد إلى من يرشد خطاهم ومسارهم ويجمع الله به كلمتهم،
فأتوقع أن يؤدوا دوراً كبيراً في هذه البلاد.
وهذا التفكير بدأ يطرح بعمق في الفترة الأخيرة فعقدت مؤتمرات إسلامية في
أمريكا لترشيد العمل الإسلامي، والجمع بين فصائله أو على الأقل إيجاد وحدة
موقف في التعامل مع الأحداث التي تمر بالإسلام والمسلمين، وبعض هذه
المؤتمرات حققت نجاحاً ملحوظاً، وبعضها انتهى إلى صياغات وبرامج محددة
يمكن أن تستمر وأن توظف إذا وجدت من يستكمل البناء ويكمل المسيرة فالساحة
واعدة بكثير من الخير، فالمسلمون يستطيعون أن يؤدوا دوراً فاعلاً إذا استغلت
وسائل الإعلام والاتصال في النافع المفيد، ووظفت لصالح الإسلام.
* كيف يمكن القضاء على الخلاف بين فصائل العمل الإسلامي؟
لقد تأملت في واقع العمل الإسلامي المعاصر فوجدت أنه يعاني من مشكلتين
كبيرتين.. من تشرذم علمي يوشك أن يمثل تفرقاً في الدين.. ومن تشرذم تنظيمي
يوشك أن يمثل تفرقاً في الراية.. فأخذت أبحث عن الأسباب.. ما الذي أدى إلى
التشرذم العلمي؟ هناك اجتهادات علمية متفاوتة مختلفة أدت إلى أن تموج الساحة
بالمفاهيم المتصارعة.. أسباب ذلك كثيرة منها.. الخلط بين الثابت والمتغير أو
الخلط بين المحكم والمتشابه، لأن سر الخلل في هذه الناحية يرجع إلى أحد أمرين:
إما أن نغلو في مسألة من مسائل المتشابه فنرفعها إلى مصاف المحكمات والقطعيات
فنوالي ونعادي عليها.. وإما أن نوهن ونفرط في مسألة من المحكم فنهمش قيمتها،
ونهمش دورها ونهبط بها إلى مستوى المسائل المتشابهه والبسيطة، هذايقتضي منا
أن نعيد ترتيب الأوراق داخل العقل المسلم، بحيث نفصل بدقة بين المحكمات التي
يجب أن تجتمع عليهاكلمة المسلمين كافة وبين المتشابهات التي يجب أن يتغافر فيها
الناس ولا يفجروا بسببها عداوات وخصومات.
ويجب أن تقدم ورقة عمل تجمع فيها نقاط التنازع بين فصائل العمل
الإسلامي.. لنفصل فيها كما قدمنا سابقاً.. ولي شخصياً دراسة مطبوعة في ذلك بعنوان (نحو مسيرة راشدة للعمل الإسلامي) .
* الشباب الإسلامي حائر الآن: فطائفة تغرق في التراث ولا ترى غيره
وطائفة تقطع الصلة بالتراث إلى حد كبير.. كيف السبيل للخروج من هذاا المأزق؟
لا بديل عن سلفية المنهج وعصرية المواجهة، بمعنى إننا يجب أن نرجع
بأصول الفهم إلى الكتاب والسنة وما أجمع عليه الفقهاء، وأن نستخدم هذه الأصول
في دراسة ومعالجة مشكلاتنا المعاصرة، فلا نهاجر إلى الماضي بالكلية فننفصل عن
الحاضر بالكلية فهذا نوع من الخلل، ومعناه أنني سأعيش في اهتمامات تراثية
تاريخية بحتة، فالسلف واجهوا مشكلات بعينها تصدوا لها بالقرآن والسنة وبكل ما
آتاهم الله، أما مجتمعاتنا المعاصرة فإنها تفرز قضاياجديدة فلا ينبغي أن أهاجر إلى
الماضي، وأنفصل عن مشكلاتي المعاصرة ولا ينبغي بنفس القدر أن تحجبني هذه
المشكلات المعاصرة عن التواصل مع السلف وعن استخدام أصول الفهم وقواعد
المنهج السلفي التي توارثتها الأمة جيلاً بعد جيل في دراسة وتحليل وعلاج هذه
المشكلات..
وهناك معيار يمكن أن يمثل صمام أمن في هذه القضية.. فإذا فصلنا أبناء هذا
الجيل عن تراثهم وعن كتب سلفهم فإننا نغامر بالفكر الإسلامي ونغرر به تغريراً
كبيراً ينذر بمستقبل شديد الظلام، فسلفنا الصالح كما نقلوا لنا نصوص الكتاب
والسنة نقلوا لنا الفهم الصحيح والمعتبر لمحكمات الكتاب والسنة، وكما مثلوا
مرجعية في نقل النصوص، مثلوا مرجعية في فهم المحكمات في هذه النصوص
ولهذا يقول الله تعالى: [ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم] [النساء: 115] كان يكفي أن يقول:
ويتبع غير سبيل الله، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين من بعدي [1] وكان يكفي أن يقول عليكم بسنتي فقط.. ففهم سلفنا
الصالح والقرون الثلاثة الأولى يمثل صمام أمن في فهم محكمات الكتاب والسنة.
ولقد قرأت لأحد المتساهلين من أهل الفكر المعاصر من يقول: إن مقصود
الشريعة من قطع يد السارق هوتحقيق الزجر الخاص للسارق ثم الزجر العام أمام
الناس حتى لا يأكلوا بالسرقة، فلو أتينا بعقوبة أخرى غير القطع ولتكن الأشغال
الشاقة فنحن نكون بذلك قد حققنا مقصود الشريعة، ولم نخالف الشرع، ولم نحكم
بغير ما أنزل الله، فهذا نوع من الضلال والبهتان الذي أدى إليه التفلت من مرجعية
السلف، فالأمة أجمعت جيلاً بعد جيل على هذه العقوبة وعلى أن الخروج عنها
ضلال والحكم بغيرها بهتان وكفر وشرك وظلم لأنه حكم بغير ما أنزل الله.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، المقدمة/باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ح/6، ج1ص15، وأبوداود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، ح/3851.(81/85)
في دائرة الضوء
مأزق النقد في الفكر الحداثي
د. أحمد بن محمد العيسى
لا أتصور أن هناك مفكراً يتجاهل أهمية النقد كعنصر من عناصر نهوض
الأمم ووسيلة لتقويم الواقع ومعالجة الأخطاء والغوص في أعماق حركة المجتمعات
والأفراد، وفي أعماق الأفكار التي تتراكم داخل تلك المجتمعات أو في عقول
أفرادها التي تشكل رؤيتهم للقضايا الأساسية التي تكوّن واقعهم الاجتماعي بالمعنى
الشامل لهذا الواقع، ولكن الذي يثير الاختلاف والرفض أحياناً في مسألة النقد يتمثل
في ثلاثة عناصر تشكل منظومة النقد وهي: من هو الناقد؟ وما هو المنقود؟ وما
هو منهج النقد؟
وأحسب أن التفكر في هذه العناصرالثلاثة مهم جداً عندما نحاول القراءة في
مشاريع النقد الحداثية التي اجتاحت الفكر العربي منذ أن انهار مشروع النهضة
العربي بعد هزيمة (يونيو) 1967، الذي قادته القومية العربيةوالفكر التغريبي منذ
جلاء الاستعمار العسكري عن البلاد العربية، وتزامن هذا الحدث التاريخي مع
اكتساح ظاهرة الصحوة الإسلامية المجتمعات العربية مبشرة ببدء مشروع نهضوي
آخر مغاير لذلك الذي قادته القومية العربية، لقد أدت هذه الأحداث إضافة إلى عامل
ثقافي شديد الأهمية وهو استحكام حركة التغريب الفكري والثقافي والأدبي على
عقول (المثقفين) العرب الذين غرقوا حتى آذانهم في المعارك الفكرية والنقدية
والفلسفية التي شهدتها أوروبا وبخاصة فرنسا وألمانيا منذ مطلع هذا القرن.
المشاريع النهضوية ردود أفعال:
أدت هذه الظروف إلى نشأة مشاريع النقد الحداثية، والتي يمكن أن نصفها
بأنها ردود أفعال على واقع يبدو لتلك الفئات من المثقفين أنه يسير في اتجاه معاكس
لحركة التقدم والنهضة، ويمكن تبرير هذا الحكم من جانبين:
الأول: إن مشاريع النقد الحداثية أقحمت الفكر العربي الذي يفترض أنه
يبحث عن حلول لمشكلات المجتمع العربي في قضايا فكرية وفلسفية لا علاقة
لواقعه بها، ولهذا وجدنا كثيراً من أفكار المدارس النقدية الأوربية من ماركسية
ووجودية وبنيوية وتفكيكية وغيرها، تجيء وتذهب في الدراسات العربية وعلى
صفحات المجلات المتخصصة وغير المتخصصة دون أن تشغل عقل القارئالعربي
وذلك لسبب بسيط وهو أنها لا تعبر عن همومه وأفكاره وقضاياه المصيرية، وكثير
من النقاد الحداثيين يعترفون بهذه الحقيقة ولكنهم يجدون تفسيراً لها يتناسب مع
غرورهم الثقافي، إذ يبررون ذلك بأن العقل العربي لا يزال يعيش وفق آليات
ومنطلقات لا تستوعب هذه المصطلحات والمناهج النقدية التي يبثونها في دراساتهم
النقدية، إذ أن الكتابة العالية لا تتوجه إلى جمهور شعبي من القراء بل تستهدف
النخبة المثقفة القادرة على قراءة هذا النهج من الكتابة من خلال تفهم هذه النخبة
للإطار الفكري والأدبي ومرجعه الغربي لهذه الكتابة، بنظر كتابها وقارئيها كلما
اقتربت هذه الكتابة من الأنماط والنماذج الغربية ارتفعت قيمتها الأدبية وازدادت
صحتها الفكرية [1] ! !
الثاني: إن الدراسات النقدية الحداثية على الرغم من أنها متخلفة بعشرات
السنين عن المدارس النقدية في الغرب إلا أنها وبسبب بعدهاعن الواقع العربي
كثيراً ما تأتي بنتائج غير موضوعية وبعيدة عن الواقع الاجتماعي والسياسي
والاقتصادي العربي، ويمكن أن نضرب لهذا مثالاً وهو أن غالبية النقاد يجمعون
على أن الوضع العربي القائم حالياً هو وضع متخلف ساهمت في تكوينه أسباب عدة
منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، إلا أنه عند التشخيص الدقيق لأسباب هذا
التخلف تتباين الآراء وتبتعد الأفكار كثيراً فمشاريع النقد الحداثية كما عند الجابري
وغيره ترى أن الأزمة تكمن في تكوين العقل العربي، الذي ينقسم إلى عقل (سلفي)
يزداد مع الوقت توغلاً في الماضي بالشكل الذي يجعل التفكير فيه يفقد أسبابه
الموضوعية، وعقل متغرب يحاكي النموذج الأورربي الذي يتوغل في المستقبل
بالشكل الذي يجعل الأمل في اللحاق به يتضاءل أمام اضطراد التقدم العلمي والتقني
الهائل.. [2] .
ويتطرف آخرون في استنتاجاتهم النقدية بحسب مناهجهم النقدية إلى أبعد من
ذلك كما هو عند أدونيس أو محمد أركون وعبد الله العروي وغيرهم.
شهوانية النقد الحداثي:
ولم تكن عملية النقد لما يسمى بالعقل (السلفي) ، تتم بدراسة واقع (العقل)
الإسلامي في العصر الحديث، ثم محاولة إيضاح مساراته المرضية ومقارنة ذلك
بالأسس والمنطلقات العقائدية والفكرية الإسلامية، ولو تم ذلك لكنا مسرورين جداً،
ولكن شهوانية النقد الحداثي اتجهت إلى تلك الأسس والأصول لتحاول الطعن في
صلاحيتها لتكون أساس النهضة والتقدم، وكأن الهدف الأساسي لعملية النقد الحداثية
هذه هي اقتلاع الأصول من (العقل) العربي وإعادة تركيبه من جديد، أو كما يقول
محمد أركون: الحداثة التي ننظر إليها في هذا المجال هي التي تضع حداً لاستئثار
الأديان التقليدية بوصفها الينابيع والمقامات العليا لإنتاج الحقيقة الواحدة وإدارتها،
الحقيقة العالمية الثابتة العابرة للتاريخ بعد أن أوحى الله بها وأبانها وحماها.. [3] .
أسباب التخلف في زعمهم:
والغريب أن مدرسة النقد الحداثية توجه أسباب التخلف الحضاري إلى (العقل)
الإسلامي السلفي، بمفهومه المثالي وليس الواقعي، بينما يؤكد الواقع والتاريخ أن
(العقل) الإسلامي الذي يعتمد على مصادر التلقي في الإسلام (الكتاب والسنة) كان
غائباً في أغلب فترات التاريخ العربي المعاصر، وإن الحوادث التاريخية
والاجتماعية الكبرى التي حدثت في تاريخ العرب المعاصر والتي شكلت عصر
الانحطاط والتأخر للمسلمين بعامة والعرب بخاصة، كانت تتم في ظل غياب شبه
تام للعقل الإسلامي الفاعل، وإذا حدث ووجد (العقل) الإسلامي فهو إما كان دوره
هامشياً أو كان دوره مقموعاً من قبل القوى العلمانية والقومية التي أحكمت قبضتها
على العالم العربي منذ رحيل الاستعمار، إذن كيف تقوم المدارس النقدية الحداثية
بتشريح مريض لعقل غير موجود بصورة شمولية وتنسب إليه الفشل الحضاري
للعالم العربي! !
يتضح من الأسطر السابقة أن الناقد هو من تتلمذ في أحضان المدارس النقدية
الأوربية بكافة اتجاهاتها وتياراتها، وبذلك شكلت تلك المدارس تكوينه الفكري
و (العقلي) ، أما المنقود فهو التراث الفكري الإسلامي، وتعدى ذلك إلى نصوص
الوحي في القرآن الكريم والسنة النبوية، لأن تلك النصوص في مفهوم الحداثيين
هي من التراث الفكري الذي لا قدسية له ولا تميز، وهذه جميعاً هي التي شكلت
بنية (العقل) الإسلامي، ونأتي الآن إلى الإشارة إلى منهج النقد الذي سلكه
الحداثيون في مشاريعهم النقدية، والذي نحسب أنه يمثل المأزق الذي وقع فيه أولئك
القوم.
منهج النقد الحداثي:
إن القارئ للفكر النقدي الحداثي لا يحتاج إلى عناء كبير في اكتشاف الأدوات
النقدية التي يستخدمها الحداثيون في نقد (العقل) العربي، ومن ثم نقد أصوله
المعرفية ومنطلقاته الفكرية، لقد غرق النقاد الحداثيون كما أشرنا سابقاً في خضم
الحركات النقدية والفلسفية الغربية التي تطغى على الساحة الفكرية في فرنسا وألمانيا
بالذات، لأنهما تمثلان أهم المدارس الفكرية في تاريخ أوروبا المعاصر ابتداء من
فلسفة هيجل وكانت ومروراً بماركس وفرويد ونيتشه ثم انتهاء بالحركات النقدية
التي ازدهرت بعد الحرب العالمية الثانية من أمثال الوجودية والبنيوية والتي قامت
بهجوم نقدي حاد للفكر الغربي الذي أفرز النازية والفاشستية وغيرها من الحركات
العنصرية، لقد اهتم النقاد الحداثيون العرب فترة من الزمن بالأدوات النقدية التي
يقدمها الفكر الماركسي لتشريح حركة التاريخ والمجتمع، مثل مفهوم صراع
الطبقات، وتحالف القوى البورجوازية والرجعية الدينية لممارسة السلطة وتبرير
سحق الطبقات المحرومة في المجتمعات، وانتقل بعضهم إلى مدرسة النقد البنيوية
والتي يمثلها ميشل فوكو وجاك دريدا وجيل ديلوز، فاهتموا بتفكيك النص وإعادة
قراءته بعيداً عن تأثير الواقع الاجتماعي والفكري الذي أنتجه.
وها هو قطيع منهم يتجه إلى مدرسة ما بعد الحداثة حيث التهكم والتوجه
الفردي والعودة إلى الذات: هذه هي ردود الفعل التي لا مهرب منها لفكر يبحث
عن حقيقة تتميز بتهرب دائم، فكر لا يجد أمامه منفذاً إلا في الفكاهة والهزل
ورفض روح الجد وفي تجذير الوعي الذاتي.. [4] ، واهتم كثير من الدارسين
الحداثيين بالمناهج الغربية في العلوم الإنسانية (علم الاجتماع والتاريخ واللغات وعلم
النفس والتربية.. إلخ) فاقتبسوا المناهج النقدية التي أفرزتها الصراعات الفكرية
التي خاضتها المدارس الفلسفية في الغرب، وبدأوا يطبقونها على التاريخ والتراث
الإسلامي، أما قراءتهم للتراث الإسلامي منذ عصر صدر الإسلام وحتى الآن فقد
كانت تتم بصورة انتقائية بحيث يتم في الغالب اقتباس النصوص والحوادث
التاريخية والفكرية التي تخدم حكماً نقدياً مسبقاً، وهي قبل ذلك وبعده تتنفس من
خلال الرؤية الاستشراقية للثقافة الإسلامية، والمتأمل مثلاً في مشروع علي أحمد
سعيد (أدونيس) في كتابه الثابت والمتحول، يرى بشكل واضح المحيط الاستشراقي
الذي قرأ به أدونيس التراث الإسلامي.
وبهذا أدى استخدام المناهج النقدية الحداثية في البيئة الفكرية الإسلامية إلى
محاولة قسرية للمزج بين بيئتين وثقافتين مختلفتين حيث يتم تفسير حركة المجتمع
والفكر تفسيراً قريباً لما يحدث في المجتمعات الغربية، بل والأخطر من ذلك
أصبحت المناهج النقدية الغربية تمثل سلطة مرجعية للناقد، يرجع إليها كلما حاول
إصدار حكم نقدي على أي ظاهرة يقوم بدراستها في الفكر الإسلامي، وعندما
يستخدم النقاد الحداثيون المناهج النقدية التي تطورت في سياق الفكر الغربي،
فبعضهم يفسرون مثلاً حركة الفتوحات الإسلامية تفسيراً مادياً جدلياً، حيث كانت
تهدف إلى التوسع والهيمنة، وأن حروب الردة والفتنة الكبرى التي حدثت في
أواخر عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إنما هي حروب اقتصادية، وأن
تاريخ الإسلام منذ قيام الإسلام إلى اليوم هو تاريخ صراع بين الطبقات، تارة
يكتسي هذا الصراع صبغة اقتصادية اجتماعية وتارة يظهر بمظهر الصراع
الايديولوجي والنزاع بين الفرق.. [5] . أما علاقة الإسلام بالنصرانية فقد تصارعا
وتبادلا النبذ منذ القرن السابع مستعملين التصور نفسه للحقيقة الموصى بها،
لتشريع المساعي التوسعية طلباً للهيمنة في مدى المتوسط خصوصاً.. [6] . ولعل
القارئ لا يغفل عن استخدام هذه الأحكام النقدية البعيدة عن محيط المسلمين العقدي
والفكري، فقد أغفل أولئك النقاد مثلاً الدوافع الإيمانية التي دفعت حركة الفتوحات
الإسلامية، وهي الدوافع التي يحث عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة من نشر
الدعوةالإسلامية، وإعلاء كلمة الله في الأرض.
ومشاريع النقد الحداثية التي وقعت في هذا المأزق لم تجد حرجاً من انتقاد
المشروع التغريبي الكامل، ذلك أن الحداثيين اكتشفوا أن نقل الواقع العربي ليماثل
الواقع الأوربي بكل قيمه وأفكاره وثقافاته هو بكل المقاييس ضرب من المستحيل،
وأن مشروع المتغربين الأوائل على مستوى الفكر والسياسة والأدب قد انهار تماماً
بعد هزيمة 67، حيث اصطدم هذا المشروع بازدواجية اسمها الغرب حيث يُرى
الغرب بأنه يمثل العدوان والغزو الاستعماري والاحتكار والامبريالية وفي نفس
الوقت فهو يمثل الحداثة والتقدم والنموذج في مشاريع التنمية.
مأزقهم في مشاريعهم:
ولكن هل تنبه أولئك النقاد إلى المأزق الذي وقعوا فيه باستخدامهم المناهج
النقدية الغربية في نقد الواقع العربي؟
الحقيقة أنهم يعرفون المأزق الذي وصلت إليه مشاريعهم، يقول هشام شرابي
شئنا أم أبينا يستمد هذا الفكر العلماني النّقاد مفاهيمه ومصطلحاته وأبعاده من التجربة
الأوروبية للحداثة بمفهومها الشامل.. [7] ولكن كيف يمكن تبرير هذا الاستخدام
للمصطلحات والمفاهيم الأوروبية، يجيب شرابي: يهدف الناقدون العلمانيون عند
طرحهم مقولة الحداثة إلى إقامة إطار ومفاهيم تختلف إلى حد بعيد عن الأطر
والمفاهيم الغربية التي يستمدون منها مقاييسهم العلمانية وعدداً من مفاهيمهم النقدية!
وذلك لأن المنطلق الفكري لدى معظمهم هو الواقع المعاش عينه لا الفكر الأكاديمي
المجرد! [8] .
ولكن هل هذا ممكن؟ هل يمكن استخدام مقاييس علمانية ومفاهيم نقدية من
بيئة فكرية معينة ثم تقام أطر ومفاهيم مختلفة عن تلك الأطر والمفاهيم. إن هذا لا
يكون إلا بالقيام بحركة نقدية عميقة لتلك الأطر والمفاهيم المقتبس منها أولاً، ثم
تقارن تلك الأطر بالأصول الفكرية والعقدية التي يقوم عليها المجتمع المنقود. وهذا
مالم يفعله الحداثيون، وإنما يتحدثون عن تجاوز لمفاهيم ومصطلحات هم غارقون
في لججها وتشكل محور فكرهم وإنتاجهم النقدي ويقول الجابري في هذا السياق إننا
نوظف مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أومنهجيات أو قراءات مختلفة متباينة، مفاهيم
يمكن الرجوع ببعضها إلى كانت أو فرويد أو بلاشير أو التوسير أو فوكو،
بالإضافة إلى عدد من المقولات الماركسية التي أصبح الفكر المعاصر لا يتنفس
بدونها. [9] ، ولكن كيف يبرر الجابري هذه المراجع وأحكامها النقدية، يقول:
ولا نشك أن القارئ المتمرس بهذه الفلسفات والمنهجيات سيلاحظ، وله الحق في
ذلك، أننا لا نتقيد في توظيفنا لتلك المفاهيم بنفس الحدود والقيود التي تؤطرها في
إطارها المرجعي الأصلي، بل كثيراً ما نتعامل معها بحرية واسعة. إننا واعُون
بهذا تمام الوعي ونمارس هذه الحرية بكل مسؤولية. ذلك لأننا لا نعتبر هذه المفاهيم
قوالب نهائية، بل هي فقط أدوات للعمل يجب استعمالها في كل موضوع بالكيفية
التي تجعلها منتجة، والأوجب التخلي عنها، إذ ما قيمة أي مفهوم إذا كان سيذكر
للزينة فقط؟ [10] .
فوضوية النقد الحداثي:
أما نحن فنشك في قدرة الناقد الحداثي في عدم التقيد بالحدود والقيود التي
تؤطر تلك المنهجيات في إطارها الأصلي، لأن ذلك ببساطة يعني هدم ذلك المنهج
النقدي أو تجاوزه لغيره، فما لم يلتزم الناقد بحدود ذلك المنهج فإن ذلك يعني إما
اقتباس انتقائي من أدوات ذلك المنهج بحيث يصبح الناقد يتعامل مع (لا منهج) ، أو
أن يتجاوز الناقد حدود ذلك المنهج ويقدم منهجاً جديداً، وهذا لا يملكه النقاد
الحداثيون لأنهم لا يزالون يعيشون في غربة المكان كما فعل أسلافهم أصحاب
المشروع التغريبي الكامل.
وأخيراً، إذا كان القارئ للنقد الحداثي لا يستغرب النقد الهادم للفكر والتراث
الإسلامي، والمفاهيم الإسلامية التي تكون (العقل) المسلم والتي تكون أساساً للنهضة
المنشودة في العالم العربي، فقد يستغرب نقدهم للمشروع التغريبي الكامل الذي
يجعل (العقل) العربي يرى الغرب في صورة المثال والنموذج الذي يجب أن يسير
على منواله في مشروع النهضة المنشودة. إذاً هل لدى أولئك النقاد من مشروع
آخر تنهض به الأمة العربية من سباتها الطويل؟ ! !
إن المشروع النقدي الحداثي بكل تأكيد لا يقدم البديل، بل يفتح المجال على
مصراعيه للفوضى الفكرية والسياسية والاجتماعية، وبالتالي إلى ضياع الهوية
الحضارية للأمة بعد أن يتم هدم كل المقومات والأصول التي تبني عليها الأمة
نهضتها وتميزها الحضاري.
__________
(1) هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1990، ص23.
(2) محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة 1992، ص24.
(3) محمد أركون، تقبل الحداثة بأبعادها المختلفة في السياق الإسلامي، جريدة الحياة، 25 ذو الحج 1414هـ، 5 يونيو 1994م.
(4) إهاب حسن نقلاً من هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1990، ص95.
(5) محمد عابد الجابري، التاريخ والفلسفة: ملاحظات حول إشكالية الأصالة والمعاصرة من كتاب التراث والحداثة مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1991، ص113.
(6) محمد أركون، المصدر السابق.
(7) هشام شرابي، المصدر السابق، ص86.
(8) هشام شرابي، المصدر السابق، ص91.
(9) محمد عابد الجابري، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، في العروي و (آخرون) دار توبقال 1986، ص12.
(10) محمد عابد الجابري، المصدر السابق، ص12.(81/94)
من ثمرات المنتدى
الملتقى الثقافي والدورة الشرعية
التحرير
الدورة السابعة للعلوم الشرعية:
نظم المنتدى الإسلامي الدورة السابعة للعلوم الشرعية في المقر الرئيس في
لندن، وذلك في الفترة 23 صفر 6 ربيع الأول 1415هـ وقد شارك في الدورة ثلة
من أساتذة الجامعات وطلبة العلم، واستفاد منها قرابة الستين طالباً.
كما نظم المنتدى وللمرة الأولى دورة مبسطة في العلوم الشرعية باللغة
الإنجليزية في الفترة نفسها، وقد بلغ عدد المشاركين ثلاثين طالباً.
والمنتدى الإسلامي يحمد الله عز وجل أن سخر القائمين عليه للاهتمام بهذه
الدورات العلمية النافعة، كما يشكر الإخوة المدرسين على جهودهم الطيبة خلال أيام
الدورة.
أنشطة المنتدى الإسلامي الصيفية (الملتقى الثقافي السابع عشر) :
أقام المنتدى الإسلامي ملتقاه الثقافي السابع عشر في مدينة ليستر يومي السبت
والأحد 21، 22 صفر 1415هـ، تحت شعار نحو ترشيد أخلاقي للعمل
الإسلامي. وقد تناول المحاضرون الموضوع من خلال ثلاث محاضرات:
1) أخلاق السلف في التعامل مع المخالفين.
2) البناء الخلقي وأثره في تكوين الداعية.
3) المؤثرات النفسية على أخلاقيات المنتدين.
4) بالإضافة إلى ندوة تحمل شعار الملتقى عنواناً لها.
كما تضمن الملتقى محاضرة عن أوضاع اليمن تناولت التاريخ والحاضر
ورؤية مستقبلية لأوضاع اليمن.
والمنتدى الإسلامي يشكر الإخوة المحاضرين على استجابتهم للدعوة وعلى
محاضراتهم القيمة، كما يعتذر مرة أخرى للإخوة والأخوات الذين حضروا الملتقى
عن تغيب عدد من المحاضرين المدعوين، وهو أمر خارج عن إرادتنا وإرادتهم،
فالله المستعان.
وبعد الملتقى السابع عشر، كانت لنا وقفة مع جمهور المنتدى المستفيدين في
استبانة كانت نتائجها كالتالي:
يرى 72% من المشاركين أن الملتقيات الثقافية نشاط مهم له فوائده العديدة
بينما يرى 24% منهم أنها نشاط مفيد إلى حد ما، ويرى 4% أنها نشاط روتيني
فائدته قليلة.
أما عن عدد الملتقيات السنوية، فيرى 19% منهم أن تعقد الملتقيات ثلاث
مرات سنوياً، بينما يرى الأكثرون (57%) أن تعقد مرتين سنوياً، و13% يرون
عقدها مرة واحدة فقط، أما 11% من الحضور فيرون ألا يعقد الملتقى إلا عند
الحاجة إلى طرح موضوع مهم، وبعد التأكد من مشاركة محاضرين متميزين.
وأظهرت الاستبانة أن 45% من الحضور يشجعهم على المشاركة بالدرجة
الأولى أسماء المحاضرين المدعوين، بينما يحضر 34% منهم تفاعلاً مع شعار
الملتقى وعناوين المحاضرات، وذكر 21% أن الأسباب الاجتماعية والترفيهية هي
الأسباب الرئيسة لحضورهم، وحول ظاهرة اعتذار المحاضرين عن المشاركة بعد
الإعلان عن أسمائهم، أبدى 12% من الحضور أن هذا يزعجهم كثيراً، إلى درجة
أنهم لو علموا بذلك قبل الوصول لم يحضروا أصلاً، لكنه لا يؤثر على موقفهم من
المشاركة، وذكر البقية (26%) أن هذا أمر يتوقع ولذلك لا ينزعجون منه.(81/104)
الورقة الأخيرة
جاهلون أم متجاهلون؟!
محمد سليمان
إن مشكلتنا مع من يسمون أنفسهم بالكتاب (المثقفين) أو (الانتلجنسيا) العربية، أو (التنويريين) وهذا يعني أن غيرهم ظلاميون مشكلتنا معهم أنهم يقفون مع الظلم
والاستبداد، بل مع الهمجية والوحشية عندما تكون ضد المسلمين، والحقيقة أن
هؤلاء ليسوا بمثقفين ولا أصحاب فكر، لأن الثقافة والعلم ستؤدي يوماً ما إلى
معرفة الحق والوقوف بجانب العدل، مع إننا نرى بعض الباحثين الغربيين وهم قلة
على كل حال يتكلمون ببعض الحقيقة التي لا يستطيع أحد عنده ذرة من حياء أو
موضوعية إنكارها.
جاء في حوار أجرته إحدى الصحف العربية مع الباحث الفرنسي (فرانسوا
بورجا) قوله عن النخبة الحاكمة بعد الاستقلال: فالنخبة الاستقلالية انفصلت عن
الغرب سياسياً، ولكن ثقافياً ظلت تتجاهل الأطر المرجعية المحلية، ففي تونس
مثلاً أغلق (الحبيب بورقيبة) المؤسسة التي كانت تعتبر قلب الثقافة الإسلامية في
تلك الفترة، وهي جامعة الزيتونة، وقال جواباً لسؤال حول العنف ومن الذي بدأ
به؟ : في كثير من الأحيان نجد أن العنف بادرت به الأنظمة الحاكمة، وليست الحركات الإسلامية.
ورداً حول ما يقال وإن المد الإسلامي يرجع إلى تدهور الحالة الاقتصادية قال: أنا لا أوافق على هذا التحليل، ولكن أعتقد أن الظروف الاقتصادية تؤثر إلى حد
ما على أسلوب العمل السياسي....
وهذا كاتب فرنسي آخر (جاك فيرجاس) يؤلف أخيراً (رسالة مفتوحة إلى
أصدقاء جزائريين تحولوا إلى جلادين) ، وفي هذا الكتاب يتهم مثقفي الجزائر
ويحملهم مسؤولية ما يجري، ويتهمهم بالتواطؤ مع السلطة، وأن فعل الإسلاميين
كان رداً على عنف السلطة، ويطالب (المثقفين) بتحديد موقعهم بوضوح، هل
يقفون إلى جانب النظام الديكتاتوري أو ينضمون إلى ضحايا القمع..؟ !
هل هذان الفرنسيان أعرف بالمنطقة وظروفها وتقلباتها من بعض المتعالمين
عندنا؟ أم أن شيئاً من الحياد والتعقل جعلهم يتكلمون ببعض الحقائق، بينما نرى
كتابنا (كتاب الصحف والمجلات) الذين يدعون (التنويرية) مازالوا يدندنون على أن
سبب المد الإسلامي هو التدهور الاقتصادي، ويطلبون من الغرب مساعدتهم
اقتصادياً حتى يقف هذا المد.
وإن مما يدعو للشفقة والرثاء أن يطلع علينا (فؤاد زكريا) في مجلة العربي
متأسفاً متحسراً على الأيام الخوالي، أيام طه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة
موسى الذين بدأت بهم حركة (التنوير) ! ومتحسراً على أن الإسلام هو الذي ينتشر
بين صفوف الناس والمتعلمين، وهذا في زعمه تراجع إلى الوراء.
حالة مؤسفة فعلاً أن يكون (المثقفون) العرب بهذا الجهل أو التجاهل.(81/107)
جمادى الآخرة - 1415هـ
نوفمبر - 1994م
(السنة: 9)(82/)
كلمة صغيرة
يتباهى الغربيون بتقريرهم للحرية قيمة إنسانية في دساتيرهم وقوانينهم
يواصلون ويفاصلون عليها، ولفرنسا ادعاء كبير في هذا الباب، غير أن واقعها
اليوم لا يمت لذلك بصلة، فالحرية في نهجهم هي الهجوم على الإسلام ودعاته
وتشجيع مناوئي الإسلام حتى (تسليمه البنغالية) !
بل وأصبح الفكر الموضوعي المجرد تحت طائلة قانونهم، فقد رفضت رسالة
علمية تكذب دعوى مذابح اليهود، وصودر كتاب (جارودي) في كشف عنصرية
الصهيونية ومزق كثير من صفحاته وصودرت كتب إسلامية في معرض للكتاب
عندهم.
أما انتهاك الحرية الشخصية فكان بقرار من وزير (التربية) لرفضه ارتداء
الزي الإسلامي للفتيات المسلمات بدعوى أنه ظاهرة أصولية، ولا نعرف أنهم
رفضوا ارتداء زي الراهبات ولا الطاقية الصهيونية المعروفة، وهي مظاهر
أصولية! .
الغريب أن يؤيد مسؤول مسلم رأي الوزير! ! وإنها لمأساة أن يجتمع ضدك
القريب والبعيد!(82/1)
الافتتاحية
متى تستقل أمتنا تشريعياً؟ !
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى
آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
كل الدول في شتى أنحاء العالم لها أنظمة وقوانين تدين لها، وعليها تحافظ،
وتعادي وتوالي من أجلها.. لا ترضى أن تمس من قريب أو بعيد ووصل الأمر في
الاعتزاز بها أن ربطوا بينها وبين سيادة الدولة، واعتبروا أي مساس بهذه السيادة
يعتبر «خيانة عظمى» .
وأمتنا الإسلامية عبر تاريخها الطويل تؤمن إيماناً كاملاً بأن دين الإسلام هو
هويتها وشريعته هي دستور حياتها، وقيمه وأخلاقه هي منهاج تعاملها فيما بينها
ومع الآخرين، وكان ذلك سبباً مباشراً في وحدة الأمة وقوتها ومهابتها وبعد سنوات
وسنوات من البعد عن الإسلام الحق وشريعته الخالدة، استولى الطورانيون على
أطلال الخلافة العثمانية التي كانت تسمى آنذاك «الرجل المريض» بمؤامرة
محبوكة وضحتها شروط «كرازون» التي نفذها العميل الماسوني «أتاتورك»
والتي كان من أهم بنودها:
1- قطع صلة تركيا بالإسلام.
2- وضع دستور مدني علماني.
وكانت الثمرة المرة لتلك المؤامرة أن تداعى الأعداء المستعمرون على جل
ديار الإسلام مستعمرين لها، محاولين تنفيذ الشروط نفسها في كل بلد احتلوه وبعد
سنوات من مقاومة المجاهدين لهم سلموا السلطات لنفر ممن صنعوهم على أعينهم،
فأسسوا الحكومات العلمانية التي قامت بعد ما سمي بـ «الاستقلال» ولا ندري أي
استقلال يزعمون والمستعمر مازال قائماً في النظم والقوانين السائدة، ولا ندري أي
استقلال يدعون وهم يعادون الإسلام ودعاته ويرفضون تطبيق الشريعة الإسلامية
بحجج استعمارية ترفض الإسلام ديناً ودولة..؟ ! بل زادوا عليها معاداة الدعاة إلى
الله، وسن القوانين المضادة لشرعه ومنعهم قيام أي توجه إسلامي مهما كانت صفته، بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، مع عدم ممانعتهم من قيام أي تنظيم غير
إسلامي حتى ولو كان شيوعياً أو بعثياً.
لقد شجعوا سياسات التغريب في الفكر والمجتمع، ومحاولة صنع أجيال
متمردة على الإسلام بالسياسات الإعلامية والتعليمية والسياحية.. وشنوا حملات
تشويه ضد الإسلاميين، ورموهم عن قوس واحدة، واتهموهم ظلماً وعدواناً
بالتطرف والإرهاب، ورفضوا بكل عنجهية الحوار الموضوعي معهم فكانت عاقبة
أمرهم خسراً.
وحتى تنطلي هذه اللعبة على الشعوب المغلوبة على أمرها، شغلوها بهموم
الحياة والبحث عن لقمة العيش، وزعموا بكل تبجح أن هذه الصحوة إنما مرجعها
فقر الشعوب وحاجتها، فدعوا الدول الأجنبية لبذل المزيد من المعونات والتنازل
عن ما ألحقته سياساتهم العقيمة من ديون للدول الأجنبية لكنها مازالت تعيش في فقر
ومسغبة وسوء أحوال وعنف مضاد، وما أصدق الحديث القدسي (من عادى لي ولياً
فقد آذنته بالحرب) .
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: لماذا يحاربون الإسلام وفيه عزتهم
ومنعتهم؟ ولماذا يناصبون دعاته العداء وهم لا يريدون إلا أن تكون كلمة الله هي
العليا؟ ! لا شك أن هذا هو الدليل الجلي على الانحراف عن منهج الحق ويؤكد ذلك
ما تضمنته أنظمتهم وقوانينهم من انتهاك للإسلام وتعاليمه ومحاربة لأوليائه، ولا
نجد تبريراً لذلك إلا ما يلي:
1- أن هؤلاء الحاكمين بأمرهم عاهدوا أسيادهم والشيطان على رفض شريعة
الله حتى آخر لحظة من حياتهم.
2- الجهل المركب بالإسلام واعتباره مثل غيره من الأديان المحرفة، ولسان
حالهم أن الإسلام غير صالح للحكم لعدم مناسبته للعصر [كبرت كلمة تخرج من
أفواههم إن يقولون إلا كذبا] .
والحقيقة أن هؤلاء الحكام إن لم يكونوا عملاء بأفعالهم تلك فماذا يكونون؟ إذ
أن الجهل لم يعد مسوغاً كافياً لوصمهم به لأن كثيراً من المجامع العلمية العالمية
اعترفت بشريعة الإسلام وتميزها وشمولها وصلاحيتها، وأصبح ذلك معروفاً
ومتيسراً لكل باحث عن الحقيقة، ويبدو أنه زيادة على الأسباب آنفة الذكر فإن حب
السلطة والتمسك بها لما تؤديه من مصالح مادية ومعنوية له دوره أيضاً.
ولا ننسى أن ذلك بسبب تصورهم الخاطئ: بأن فتحهم المجال لدعاة الإسلام
وطرحهم المنهج الإسلامي، سيغري الشعوب بالموافقة على برامجهم وبالتالي
إعطاؤهم التأييد دون غيرهم، كما حصل لجبهة الإنقاذ الجزائرية.
ومازلنا نتساءل مع كل مخلص من أبناء هذه الأمة: إلى متى تُحرم الشعوب
الإسلامية من خيارها الأصيل؟ وحتى متى يُحال دون تحكيم الشريعة الإسلامية؟
وإلى متى يُحال دون تبليغ رسالة الإسلام دون غيره.
إن السابر لحال الحكومات العربية التي لا تقيم لشريعة الإسلام وزنا، يجد
أنها غير شرعية بالمعنى الشرعي الصحيح لمضادتها لشرع الله، وغير شرعية
نظاماً لظلمها لشعوبها وسلبها خياراتها المعلنة، ولمخالفتها حتى لدساتيرها التي
تنص غالباً على أن الإسلام دين الدولة، إذ أن ذلك صورة لا حقيقة لها.
إن الاستقلال حقاً أن تستقل بمبادئك ومنطلقاتك الأصيلة، والفخر حقاً أن
تطبق شريعة الخالق جل وعلا، لا أن تكون عالة على الأجانب، والعزاء لأمتنا
المغلوبة على أمرها في كثير من البلدان أنها وإن حيل بينها وبين ما تطالب به من
تطبيق الشريعة، فإن الظلم لا يدوم وإن دام مؤقتاً فإن عاقبة القائمين عليه وخيمة
وسينالهم الجزاء الأوفى دنيا أو أخرى.
إننا ندعو الحاكمين في الدول الإسلامية إلى تطبيق شريعة الله إثباتاً لصحة
إيمانهم [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم] ، وليساهموا في
حل إشكاليات مجتمعاتهم، لأن الشريعة الإسلامية مع ضبطها لأحوال العباد توجد
الضمير الحي الذي يفقده القانون، فقد ملت الشعوب جور ما تحكم به من القوانين
المستوردة، بل إن من المساجين من طالب بتحكيم شرع الله عليه وإخراجه، فليس
هناك ما يسوغ كل هذا التردد حيال تطبيق الشريعة الإسلامية.
إن دين الله قادم بإذن الله ولو وضعت في طريقه السدود والقيود، وعلى
الدعاة إلى الله أن يعملوا جاهدين لتبليغ رسالتهم على المنهج النبوي وبكل الوسائل
المشروعة، وأن لا يتعجلوا قطف الثمار، وأن لا يتيحوا للأعداء فرصة للنيل منهم
أو الحيلولة دون بلاغهم، وصدق الله العظيم: [ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم
أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون] ، وقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم] ، ذلك كلام الله تعالى، وعده ووعيده، ومن أصدق من الله قيلا؟!(82/4)
مقال
وقفات مع جهود علماء الدعوة السلفية في نجد
في الرد على المخالفين
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيفف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فالرد على المخالفين سواءأ كانوا من المبتدعة أو الكافرين أو المنافقين أو
غيرهم نوع من الجهاد في سبيل الله تعالى فهو من أفضل القربات وأعظم الطاعات، ففيه إظهار للسنة، وتحذير من البدعة، وقضاء على الفتنة، واستبانة سبيل
المجرمين.
والرد على المخالفين لا يكون عملاً صالحاً مقبولاً إلا إذا أريد به بيان الحق
وإظهاره، ورحمة الخلق وهدايتهم، كما كان أهل السنة قديما وحديثاً: يعلمون
الحق ويرحمون الخلق.
وليس الحديث عن علماء نجد تعصباً لإقليم.. فنعوذ بالله من دعاوى الجاهلية
ونعرات القومية، لكنه الحديث عن الأقربين، ممن لهم مواقف رائعة مغمورة،
وأياد بيضاء منسية، وجهاد ودعوة وصبر وتضحيةكغيرهم، فمع أن علماء نجد
كانوا منشغلين بالتدريس والفتيا والقضاء وغيرها إلا أنهم اجتهدوا في الرد على
المخالفين أياً كانوا، فصدعوا بالحق لا يخافون في الله لومة لائم ولم تمنعهم سطوة
أحد من الخلق عن إبلاغ رسالات الله تعالى.
[الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداْ إلا الله وكفى
بالله حسيباْ] [الأحزاب: 39] .
اجتهد علماء نجد في الرد على المخالفين وسطروا كتباً كثيرة، ورسائل
متعددة في الرد على طوائف الكفر وأهل البدع وسائر المخالفين لدين الله تعالى،
ودوّنوا أجوبة شافية في إزالة اشكالات وكشف شبهات، وحسبك أن تلقي نظرة على
الجزء التاسع من كتاب «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» وكتاب:
«مختصرات الردود» وتبلغ صفحات هذا الجزء ثمان وأربعين وأرربعمائة صفحة من الحجم الكبيرمع أن هذا الجزء يقتصر على بعض الردود لا كلها، وعلى مختصرات الردود دون مطولاتها لتعرف مدى ذلك.
ومن خلال متابعة واطلاع لجملة من هذه الردود، أقف بعض الوقفات:
1- كثرة الردود وتعددها وشمولها:
ما أكثر الكتب والرسائل التي دونهاأولئك العلماء في الرد على المنحرفين،
وما أكثر القصائد التي نظمها العلماء في الجواب على المبتدعة وبقية المخالفين،
وقد تميز بعض علماء نجد بكثرة الردود وتعددها، ومن ذلك الشيخ عبد الرحمن بن
حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1385هـ) ، وابنه العلامة عبد اللطيف (ت
1393هـ) ، والشيخ سليمان بن سحمان (ت 1349) والشيخ عبد الرحمن بن محمد
الدوسري (ت 1399) والشيخ حمود بن عبد الله التويجري (ت1413هـ) رحمهم الله
جميعاً.
ولقد كتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن ردّاً على داود بن جرجيس النقشبندي، وجملة من الردود على عثمان بن منصور، وردّاً على ابن حميد صاحب السحب
الوابلة، وردّاً على محمود الكشميري، وغيرهم.
وأما الردود التي حررها العلامة عبد اللطيف فهي كثيرة، منها: رد مطوّل
وآخر مختصر على داود بن جرجيس، وجملة من الردود علي عثمان بن منصور،
والبراهين الإسلامية في الرد على الشبهات الفارسية، ورد على الصحاف،
والبولاقي، وابن عمير..
وأما الردود التي كتبها الشيخ سليمان بن سحمان فهي كثيرة جداً، منها:
الأسنة الحداد في الردّ على علوي الحداد، والصواعق المرسلة الشهابية الرد على
محمد الكسم السوري وكشف غياهب الظلام رداً على (مختار العظم) والضياء
الشارق رد اًعلى (الزهاوي) الشاعر، وله قصائد طويلة في ديوانه عقود الجواهر
المنضدة الحسان في الرد على أئمة الضلال مثل (أحمد زيني دحلان) و (النبهاني)
ونحوهم.
وحرر الشيخ عبد الرحمن الدوسري عدداً من المقالات والقصائد في هذا الباب، فكتب ردّاً على أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي ونظم قصيدة في الرد على
الشاعر القروي، ورد اًعلى القوميين والاشتراكيين في مقالات متعددة نشرت في
مجلة راية الإسلام التي كانت تصدر في الرياض ثم توقفت.
ودَوّن الشيخ حمود التويجري عدة ردود منها: إيضاح المحجة في الرد على
صاحب طنجة رداً على (أحمد الصديق الغماري) ، والرد القوي على الرفاعي
والمجهول وابن علوي، والانتصار على من أزرى بالمهاجرين والأنصار رداً على
(عبد الله السعد) ، والسراج الوهاج لمحو اباطيل أحمد شلبي عن الإسراء والمعراج.
ولم يقتصر علماء نجد في ردودهم على طائفة معينة فحسب، بل شملت
ردودهم جميع الطوائف والمبتدعة، فكتبوا في الرد على الملاحدة الزنادقة
والنصارى، والباطنية، والمتصوفة والخرافيين، وكذلك الرد على الرافضة
الأشاعرة وغيرهم.
2- تنوع الردود حسب اختلاف الأحوال:
تنوعت ردود علماء نجد واختلفت حسب ما استجد من الانحرافات والمخالفات، فغلب على رسائل أئمة الدعوة زمن الدولة السعودية الأولى الرد على المخالفين في توحيد العبادة لكثرة المخالف آنذاك، وأظهر مثال على ذلك ما نجده في مؤلفات ورسائل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ولما انتشرت الدعوة السلفية في بقية أنحاء الجزيرة العربية وخارجها احتاج
الأمر إلى زيادة بيان وتفصيل في مبحث الأسماء والصفات، وذلك لغلبة الانحراف
في هذا الباب في كثير من بلاد المسلمين، كما نجده جلياً في رسائل الشيخ عبد الله
بن عبد الرحمن أبي بطين (ت1282هـ) والشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه العلامة
عبد اللطيف.
وفي هذا الزمان استفحل حكم الطاغوت في بلاد المسلمين، الذي تمثل في
القوانين الوضعية، فاهتم علماء نجد بالرد علي تلك القوانين، ومن ذلك ما سطره
العلامة محمد بن إبراهيم في رسالته «تحكيم القوانين» وفتاوية وأجوبته المتعددة
في تقرير الحاكمية لله تعالى، ونقد المؤسسات الوضعية والأنظمة الطاغوتية [1] ،
وكتب الشيخ عبد الرحمن الدوسري كتاباً في ثلاثة أجزاء بعنوان «الحق أحق أن
يتبع» في نقد القوانين الوضعية.
ولما ظهرت موجة الإلحاد والاستهزاء بالغيبيات، وإنكار وجود الله تعالى،
كما هو عند الشيوعيين، انبرى لهم علماء نجد، فكتب الشيخ العلامة عبد الرحمن
بن ناصر السعدي (ت1376هـ) رسالة بعنوان «الأدلة القواطع والبراهين في إبطال
أصول الملحدين» ، وكتب رسالة أخرى بعنوان «انتصار الحق» في الموضوع
نفسه.
وكتب الشيخ ابن سحمان جواباً عن أسئلة ألقاها بعض زنادقة عصره سنة
1332هـ، حيث تتضمن هذه الأسئلة طعناً في الحكمة الإلهية في تشريع مناسك
الحج، وسمى جوابه «إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل» .
وعندما زاغ عبد الله بن علي القصيمي، تصدى له علماء نجد بالرد فألف
الشيخ السعدي رسالة بعنوان «تنزيه الدين وحملته عما افتراه القصيمي في أغلاله
» وألف الشيخ إبراهيم السويح (ت1369هـ) كتاباً بعنوان «بيان الهدى من الضلال
في الرد على صاحب الأغلال» ، وصنف الشيخ عبد الله بن يابس (ت1389هـ)
كتاباً بعنوان «الرد القويم علي ملحد القصيم» .
3- لم تكن هذه الردود ترفاً أو فضولاً أو كلاماً بارداً:
لقد كان الباعث على تدوين تلك الردود هو الغيرة على دين الله تعالى،
والذب عن شعائر الله والغضب لحرمات الله عز وجل، فهذه الجهود في الرد على
المخالفين من مقتضيات الولاء والبراء، ومن لوازم الحب في الله والبغض في الله،
الذي يعد أوثق عرى الإيمان كما أخبر الصادق المصدوق، ومن ثم فإن أحدهم يرد
على المخالف أياً كان، سواءً أكان حاكماً أو محكوماً، قريباً أو بعيداً، مع مراعاتهم
لأحوال الناس ومنازلهم، ومدى قربهم أو بعدهم عن الحق، فعلى سبيل المثال نجد
الشيخ حمد بن عتيق (ت1301هـ) يرد على اعتراضات أحد الحكام في زمانه، كما
رد على أخطاء في تفسير فتح البيان للشيخ محمد صديق حسن رحمه الله، وكان
الشيخ حمد في غاية الصلابة والشدة مع ذاك الحاكم، بينما كانت رسالته إلى الشيخ
محمد صديق حسن في غاية اللطف واللين فمع ما وقع فيه الشيخ محمد صديق من
أخطاء وهنات في تفسيره، ومع ما اشتهر عن ابن عتيق من الغيرة الإيمانية والقوة
في دين الله تعالى، إلا أننا نجد الشيخ ابن عتيق يلتمس لمحمد صديق المعاذير،
ويحسن الظن به، لما كان عليه محمد صديق من عموم الاتباع لمذهب السلف
الصالح.
لقد صدع الشيخ بكلمة الحق أمام حكام زمانه، فلم يداهن أحداً منهم بل رد
عليهم دون خوف فقال في إحدى رسائلة مخاطباً أحدهم: «وأما ما ذكرت من
التخويفات فجوابه: [إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ
بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم] ونصدع بالحق إن شاء الله، ولا قوة إلا به، ولا يمنعنا من ذلك تخويف أحد [2] .
ولا غرابة أن يقوم الشيخ هذا المقام الرفيع، فلقد كان من المدافعين عن هذا
الدين، والغيرة على المسلمين كانت شغله الشاغل، وهمه الوحيد، حتى إنه كتب
جواباً لمن عزاه في وفاة ابنيه قائلاً:
» ولكن والله ما بلغت مصيبتي بالابنين معشار ما بلغ بي من المصيبة التي
حلت بكثير من الإخوان.. بينما الرجل يدعو إلى التوحيد ويحذر من أهل الشرك
إذا هو منقلب على عقبيه « [3]
4- الانتصار لإخوانهم العلماء:
فإذا رد أحد هؤلاء الأعلام علي بدعة أو مخالفة، فلا عجب أن يرد المخالف
على هذا العالم، ومن ثم قام علماء نجد بالذب عن إخوانهم وحماية أعراضهم،
وتقرير صحة ردودهم وتأكيدها.
ومن ذلك أن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين كتب رسالة في تخطئة
البوصيري في بردته، فقام أحدهم بالذب عن تلك البردة والرد علي المعتقد الصحيح، فانبرى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في الدفاع عن أبي
بطين وتقرير صواب رسالته.
ودافع الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن الشيخ حمد بن
عتيق، عندما كتب الشيخ حمد بن عتيق رسالة في التحذير من موالاة الكفار، فشنع
بعض الشامتين بالشيخ حمد، واستغلوا بعض الهنات في عبارات الشيخ حمد،
فبادر الشيخ عبد اللطيف بالدفاع عنه فكان مما قاله:» فيجب حماية عرض من قام
لله وسعى في نصر دينه الذي شرعه، وترك الالتفات إلى زلاته والاعتراض على
عباراته، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل
بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» .
فليصنع الركب ما شاؤا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
ولما قال المتوكل لابن الزيات: يا ابن الفاعلة وقذف أمه، قال أحمد: أرجوا
الله أن يغفر له، نظراً إلى حسن قصده في نصر السنة وقمع البدعة « [4]
5- لا تنفك هذه الردود عن جوانب عملية:
ومواقف ظاهرة، فليست مجرد ردود نظرية علمية فحسب، بل اقتضت
موجبها من الهجر، أو القتل، أو القتال ونحو ذلك.
ويقول الشيخ عبد الله أبو بطين عن أحد المنتسبين للعلم المردود عليهم: وابن
عجلان أقل الأحوال هجره، وأما النصيحة فلا تفيدفي مثله» [5]
وأفتى الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم بجواز قتل رافضي تطاول على
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[6] .
ومن المواقف العلمية في هذا الصدد، ما فعله المحسن: مقبل بن عبد العزيز
الذكير حيث أنشأ نادياً في البحرين لتحرير المقالات وإعداد الردود على النصارى
الذين انتشروا في أطراف الجزيرة العربية، وقد تولى الشيخ محمد بن عبد العزيز
المانع (ت1385هـ) رئاسة النادي، وقام به خير قيام [7] .
6- سلك بعض علماء نجد أسلوب المناظرة مع المخالفين:
عندما دعت الحاجة إلى مثل تلك المناظرات، ومن ذلك ما وقع في المناظرة
بين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين وبين علماء مكة المكرمة سنة 1185
هـ، وكانت المناظرة في مسائل توحيد العبادة، وقد أقنعهم الشيخ الحصيني
بالصواب واعترفوا بأن هذا هو دين الله تعالى [8] .
كما وقعت مناظرة بين الشيخ حمد بن ناصر بن معمر (ت1225هـ) وبين
علماء مكة سنة 1211هـ، وقد أذعن علماء مكة لمقالته، وطلبوا من الشيخ ابن
معمر تأصيل براهينه، وتسجيل ما ناظرهم به، فكتب في ذلك رسالة مفيدة [9] .
7- كان الرد على المخالف يأخذ مسلكاً دعوياً:
يراد به دعوة المخالف إلى اتباع الحق والدليل، مع رحمته والإحسان إليه.
ومن ذلك قصة الشيخ أحمد بن عيسى (1319هـ) مع التاجر التلمساني كما
حكاها الشيخ محمد نصيف قائلاً:
«كان الشيخ أحمد بن عيسى يشترى الأقمشة من جدة من عبد القادر
التلمساني أحد تجار جدة بمبلغ ألف جنيه ذهباً، فيدفع له منها أربعمائة، ويقسط
عليه الباقي، وآخر قسط يحل ويستلمه التلمساني إذا جاء إلى مكة للحج من كل عام، ثم يبتدئان من أول العام بعقد جديد، ودام التعامل بينهما زمناً طويلا وكان الشيخ
أحمد بن عيسى يأتي بالأقساط في موعدها المحدد لا يتخلف عن قسط ولا يماطل في
أداء حقه، فقال له التلمساني: إني عاملت الناس أكثر من أربعين عاماً فما وجدت
أحسن من التعامل معك يا وهابي فيظهر أن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من
خصومكم السياسيين، فسأله الشيخ أن يبين له هذه الشائعات، فقال: إنهم يقولون
إنكم لا تصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا تحبونه فأجابه الشيخ أحمد
بقوله: سبحانك هذا بهتان عظيم.. إن عقيدتنا ومذهبنا أن من لم يصل على
النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير فصلاته باطلة، ومن لا يحبه فهو كافر، وإنما الذي ننكره نحن أهل نجد هو الغلو الذي نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، كما ننكرالاستعانة والاستغاثة بالأموات، ونصرف ذلك لله وحده.
يقول الشيخ محمد نصيف عن الشيخ التلمساني: فاستمر النقاش بيني وبينه
في توحيد العبادة ثلاثة أيام حتى شرح الله صدري للعقيدة السلفية، وأما توحيد
الأسماء والصفات فإن الذي قرأته في الجامع الأزهر هو عقيدة الأشاعرة وكتب
الكلام مثل السنوسية وأم البراهين وشرح الجوهرة وغيرها، فلهذا دام النقاش فيه
بيني وبين الشيخ ابن عيسى خمسة عشر يوماً، بعدها اعتنقت مذهب السلف،
فعلمت أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم بفضل الله تعالى، ثم بحكمة وعلم الشيخ
أحمد بن عيسى.
ثم إن الشيخ التلمساني أخذ يطبع كتب السلف.. وصار من دعاة عقيدة السلف.
قال الشيخ محمد نصيف: فهداني الله إلى عقيدة السلف بواسطة الشيخ عبد
القادر التلمساني فالحمد لله على توفيقه» [10] .
8 -تميزت تلك الردود بعمق وعي أصحابها:
وسعة اطلاعهم وفقههم واقعهم، ومعرفة مشكلات عصرهم، ولقد حرص
علماء نجد على نشر ردودهم في المجلات ذات الانتشار الواسع، مع صعوبة
وتعذر الاتصالات آنذاك فالشيخ ابن سحمان يكتب رداً على جريدة القبلة لسان
الشريف الحسين بن علي ويرسل هذا الرد إلى مجلة المنار، ويكتب الشيخ العلامة
السعدي رسالة إلى مجلة المنار، فيثني ثناء حسناً على المجلة وصاحبها، ويشير
إلى جهود تلك المجلة في نصرة الإسلام، ثم يبدي انتقاده على المجلة بضعف
اهتمامها في الرد على الملاحدة والزنادقة، وأصحاب المسلك العقلاني، ويذكر
السعدي في رسالته طنطاوي جوهري وما في تفسيره «الجواهر» من المزالق،
ويربط هذا الاتجاه المنحرف بالاتجاه الفلسفي اليوناني القديم [11] .
كما انتقد الشيخ محمد بن مانع في رسالة خطية محمد رشيد رضا في دعوته
للتقريب بين أهل السنة والشيعة*، وانتقد عموماً المدرسة الإصلاحية، كما بعث
الشيخ عبد الله بن يابس انتقاداً لكتاب «الوحي المحمدي» لمحمد رشيد رضا، وقد
نشر في مجلة المنار، ثم أعقبه محمد رشيد رضا بالجواب [12] .
9- قوة الحجة ووضوح البرهان:
لاشك أن اتباع الحق بدليله يورث يقيناً ورسوخاً، ومن ثم يتميز أهل الحق
بقوة حجتهم، وثبات منهجهم، واطراد مسلكهم بخلاف أهل الباطل، فهم في ريبهم
يترددون، يغلب عليهم التناقض والتذبذب.
ونلحظ من خلال ردود علماء نجد قوة الحجة، والثقة المطلقة بالمنهج الذي
سلكوه مسلك أهل السنة والجماعة ولا ريب أن هذه الحجج القوية نابعة من علم
راسخ ويقين ثابت.
وقد كان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: «أنا أخاصم
الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي كلاً أخاصمه
بكتب المتأخرين من علماء مذهبه الذين يعتمد عليهم [13] .
ومن ذلك أن مندوباً انجليزيا قدم البحرين وكان قسيساً نصرانياً ومعه كتاب
يحوي شبهات في إثبات صحة النصرانية وتوهين دين الإسلام، فعرضه على حاكم
البحرين، وطلب منه عرضه على علماء البحرين ليجيبوا عليه أو يقروا بصحة ما
فيه إن عجزوا، فَعُرِضَ عليهم فقالوا: لا نستطيع الرد عليه فقال له أحد خواصه:
إنه يوجد في البحرين شاب من طلبة العلم بنجد، فأرى أن تعرضه عليه عسى أن
يكون له عنده جواب، فأعطى الكتاب لهذا الطالب، وهو الشيخ عبد العزيز بن
حمد بن معمر (ت1244هـ) ، فقال: سأعطيكم الجواب عليه بعد شهر إن شاء الله
تعالى، فلم يمض شهر حتى دفع إليهم الجواب السديد، واسمه» منحة القريب
المجيب في الرد على عباد الصليب «فدعى القسيس الانجليزي، فلما قرأ الرد
دهش من قوة الجواب وسداد الرأي» [14] ... تلك وقفات تحتاج إلى مزيد بسط
وبيان، لكن حسبنا من هذه الوقفات العابرة أن تكون حافزاً للاطلاع على تراث
أولئك العلماء، والتأسي بهم في جهودهم العلمية والعملية، وبالله التوفيق.
__________
(1) انظر فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 12/250، 254، 264، 270، 468.
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية 7/261.
(3) هداية الطريق في رسائل وفتاوى الشيخ حمد بن عتيق ص229.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/162، 163.
(5) الدرر السنية 9/269.
(6) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/250 12/187-190.
(7) علماء نجد خلال ستة قرون للبسام 3/830.
(8) انظر تفصيل هذه المناظرة في روضة الأفكار لابن غنام 1/131-133.
(9) طبعت هذه الرسالة بعنوان الفواكه العذاب في الرد علي من لم يحكم السنة والكتاب، انظر تفصيل هذه المناظرة في روضة الأفكار 1/200، 201.
(10) علماء نجد 1/156-158 (باختصار) .
(11) انظر مجلة المنار، مجلد 29 ج2، ص46-48.
(12) انظر مجلة المنار، مجلد 34 ج2، ص140-146.
(13) مجموعة مؤلفات الشيخ عبد الوهاب 5/38.
(14) انظر علماء نجد 2/446 * آخر ما استقر عليه أمر الشيخ محمد رشيد رضا هو اقتناعه بعدم فائدة توجه التقريب مع الشيعة لما هم عليه من أصول تخالف الكتاب والسنة.
- البيان -(82/8)
دراسات شرعية
النفاق
حقيقته، أنواعه، صوره
-2 -
د. محمد عبد الله الوهيبي
تمهيد:
تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى تعريف النفاق في اللغة والاصطلاح،
وبين معنى النفاق الأصغر وأنه نوع من الاختلاف بين السريرة والعلانية مما هو
دون الكفركالرياء، وبين أن النفاق الأكبر الذي هو إظهار الإنسان إيمانه بالأركان
الستة للإيمان، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه.. وفي هذه الحلقة يواصل
الكاتب المزيد من الإيضاح لجوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
صور النفاق الأكبر:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض هذه الصور، فقال: فمن النفاق
ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبيّ
وغيره، بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به أو بُغْضه، أو عدم
اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو
ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومازال بعده، بل هو بعده أكثر منه على
عهده ... ) [1] .
وقال في موضع آخر: (فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه،
أن لا يرى وجوب تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به، ولا يرى
أيضاً وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر علماً
وعملاً وأنه يجوز تصديقه وطاعته لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان
المعبود واحد، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته،
إما بطريق الفلسفة والصبر، أو بطريق التهود والتنصر ... ) [2] .
ونقل هذه الأنواع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقال: ( ... فأما
النفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به
الرسول، أو بُغْض الرسول أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين
الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل
الدرك الأسفل من النار) [3] .
فيتحصل مما ذكره هذان الإمامان بعد دمج الأنواع المتشابهة أو المتقاربة
خمس صفات أو أنواع هي:
1- تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو تكذيب بعض ما جاء به.
2- بغض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بغض ما جاء به.
3- المسرة بانخفاض دين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو الكراهية
بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- عدم اعتقاد وجوب تصديقه فيما أخبر.
5- عدم اعتقاد وجوب طاعته فيما أمر.
وبالنظر إلى الآيات التي ذكرت أحوال المنافقين، وكلام المفسرين حولها،
يمكن أن يضاف إلى هذه الصفات صفات أخرى، وهي:
6- أذى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عيبه ولمزه.
7- مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المؤمنين.
8- الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين لأجل إيمانهم وطاعتهم لله ولرسوله.
9- التولي والإعراض عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالوقوع في أي صفة من هذه الصفات يُخرج من الملة، وهذه الصفات أكثرها
متعلق بحق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
( ... فالنفاق يقع كثيراً في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته ... ) [4] .
وسأشرح بعض هذه الصفات باختصار ذاكراً أدلة نفاق صاحبها:
1- أذى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عيبه ولمزه:
وهذا داخل في سبه -صلى الله عليه وسلم- لأن السب: «هو الكلام الذي
يقصد به الانتقاص والاستخفاف ... » [5] والعيب، واللمز فيه انتقاص.
قال تعالى: [ومنهم من يلمزك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم
يعطوا منها إذا هم يسخطون] [التوبة: 58] .
نزلت هذه الآية في ذي الخويصرة التميمي حينما جاء إلى النبي -صلى الله
عليه وسلم- وهو يقسم غنائم حُنين (فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن
يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: دعه فإن له
أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرميّة ... قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي -
صلى الله عليه وسلم- قال: فنزلت فيه [ومنهم من يلمزك في الصدقات] ) [6] .
قال الإمام الشوكاني في تفسيرها: (قوله: ومنهم من يلمزك) ، يقال: لمزه
يلمزه: إذا عابه، قال الجوهري: اللمز العيب، وأصله الإشارة بالعين
ونحوها، ... ومعنى الآية: ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات: أي في تفريقها
وقسمتها) [7] .
وقال في آية أخرى: [ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن، قل أذن
خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون
رسول الله لهم عذاب أليم] [التوبة: 61] ، إلى قوله سبحانه: [ألم يعلموا أنه من
يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداْ فيها ذلك الخزي العظيم] [التوبة: 63] .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لأن
ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم
يكن الكلام مؤتلفاً، ... ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر لأنه أخبر أن له نار
جهنم خالداً فيها ... ) [8] ، وقال الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: (قوله:
«ومنهم» هذا نوع آخر مما حكاه الله من فضائح المنافقين وقبائحهم، وذلك أنهم
كانوا يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه الطعن والذم هو أذن، قال
الجوهري: يقال رجل أذن: إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد
والجمع ومرادهم أقمأهم الله أنهم إذا آذ وا النبي -صلى الله عليه وسلم- وبسطوا فيه
ألسنتهم، وبلغه ذلك اعتذروا له وقَبل ذلك منهم، لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه أنه أذن مبالغة، لأنهم
سموه بالجارحة التي هي آلة السماع، حتى كأن جملته أذن سامعة، ... وإيذاؤهم له
هو قولهم «هو أذن» لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كل ما يقال له ولا يفرق بين
الصحيح والباطل اغتراراً منهم بحلمه عنهم وصفحه عن خباياهم كرماً وحِلماً
وتغاضياً....) [9] .
وهذه الآية والتي قبلها ذكرهما شيخ الإسلام ضمن الآيات الدالات على كفر
شاتم الرسول وقتله [10] .
وذكر أن إيذاء الرسول ولمزه من الصفات الدالة على نفاق صاحبها، فقال
رحمه الله: (وذلك أن الإيمان والنفاق، أصله في القلب، وإنما الذي يظهر من
القول والفعل فرع له ودليل عليه، فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم
عليه، فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي -صلى الله عليه وسلم-، والذين
يؤذونه من المنافقين، ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له، ومعلوم أنه إذا
حصل فرع الشيء ودليله حصل أصل المدلول عليه، فثبت أنه حيث ما وجد ذلك
كان صاحبه منافقاً سواء أكان منافقاً قبل هذا القول، أو حدث له النفاق بهذا ...
القول) [11] ، وهذا السب من الإيذاء واللمز والاستخفاف مناف لعمل القلب من الانقياد والاستسلام (ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد واستسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا هو بعينه كفر إبليس فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً ولكن لم ينقد للأمر، ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافراً) [12] .
2- التولي والإعراض عن حكم الله ورسوله:
ذكرت هذه الصفة عنهم في سورتي النساء والنور، قال تعالى: [ويقولون
آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين،
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون] [النور: 47، 48] ، يقول الحافظ ابن كثير في تفسيرها: (يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يقولون قولاً بألسنتهم [آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك] أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى: [وما أولئك بالمؤمنين] ، وقوله تعالى: [وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم] أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه، وهذه كقوله تعالى: [ألم تر إلى الذين يزعمون ... ] [13] ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن وأن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا) [14] ، وقال سبحانه في سورة النساء: [ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاْ بعيداْ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداْ]
[النساء: 60، 61] ، لا شك أن هؤلاء المعرضين ممن يدعون الإيمان هم المنافقين [15] ، (فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى ... الرسول فصد عن رسوله كان منافقاً) [16] .
وهذا النوع من النفاق مما ينافي عمل القلب من القبول والاستسلام.
3- مظاهرة الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين:
وهذه من أخص صفات المنافقين، فهم في الظاهر مع المؤمنين، لكنهم في
الحقيقة مع الكفار عيوناً وأعواناً لهم، يكشفون لهم عورات المسلمين وأسرارهم،
ويتربصون بالمؤمنين الدوائر.
قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين
في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين]
[المائدة: 51، 52] .
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية بعدما ذكر الخلاف في
المعني بهذه الآية: (والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره
نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان
بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله
والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله
ورسوله منه بريئان) [17] .
ومن الآيات الصريحة دلالتها في اتصاف المنافقين بهذه الصفة قوله تعالى:
[بشر المنافقين بأن لهم عذاباْ أليماْ، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاْ] [النساء: 138، 139] .
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: ( ... أما قوله جل ثناؤه:
[الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين] ، فمن صفة المنافقين، يقول
الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي، والإلحاد في ديني
«أولياء» يعني أنصاراً وأخلاء «من دون المؤمنين» يعني من غير المؤمنين،
«أيبتغون عندهم العزة» أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من
دون أهل الإيمان بي؟ ، «فإن العزة لله جميعاً» يقول: فإن الذين اتخذوهم من
الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم، هم الأذلاء الأقلاء ... ) [18] .
ومعلوم أن موالاة الكفار مراتب مختلفة [19] ، منها ما يصل إلى درجة الكفر
الأكبر، ومنها دون ذلك، وما نشير إليه هنا هو الموالاة المخرجة من الملة التي
يختص بها المنافقون وهي اتخاذهم أنصاراً وأعواناً على المؤمنين، أو الموالاة
التامة لهم بالرضى عن دينهم أو تصحيح مذهبهم ونحو ذلك، يقول الإمام الطبري
رحمه الله مبيناً ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: [لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء
من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة]
[آل عمران: 28] ، قال رحمه الله: (لا تتخذوا أيها المؤمنين، الكفار ظهراً
وأنصاراً توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين،
وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك [فليس من الله في شيء] يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ... ) [20] ، وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ضمن نواقض الإسلام (الثامن:
مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: [ومن يتولهم
منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين] [21] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى [ومن
يتولهم فأولئك هم الظالمون] : (وذلك الظلم يكون بحسب التولي فإن كان تولياً تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً من دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب، ما هو غليظ،
وما هو دونه) [22] .
وهذه الموالاة تدل على فساد في اعتقاد صاحبها، وبخاصة من جهة منافاتها
لعمل القلب من الحب والبغض، فالحب والبغض كما هو معلوم أصل الموالاة
والبراءة، فمحبة المؤمنين تقتضي موالاتهم ونصرتهم، وبغض الكافرين يقتضي
البراءة منهم ومن مذاهبهم وعداوتهم ومحاربتهم، فإذا عادى المرء المؤمنين
وأبغضهم، ووالى الكافرين وناصرهم على المؤمنين، فقد نقض أصل إيمانه.
4- المسرة بانخفاض دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو الكراهية
لانتصار دينه:
وهذه الصفة ذكرها الله عز وجل عن المنافقين في أكثر من موضع، فهم
بسبب موالاتهم للكافرين يسعون معهم لإضعاف المسلمين وإثارة الفتن بينهم
والتخذيل ويسيئون الظن بوعد الله ونصره، ويحبون ظهور الكفار وانتصارهم على
المسلمين ويفرحون بذلك، وبالمقابل يصيبهم الهم والغم حينما ينتصر المسلمون.
قال عز من قائل: [إن تصبك حسنة تسؤهم، وإن تصبك مصيبة يقولوا قد
أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون] [التوبة: 50] ، قال الإمام الشوكاني
رحمه الله: (إن تصبك حسنة) أي حسنة كانت بأي سبب اتفق كما يفيده وقوعها في
حيز الشرط، وكذلك القول في المصيبة، وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في
القتال كما يفيده السياق دخولاً أولياً، فمن جملة ما تَصْدُق عليه الحسنة، الغنيمة
والظفر، ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة الخيبة والانهزام، وهذا نوع آخر من
خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم، والإخبار بعظيم عداوتهم لرسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وللمؤمنين، فإن المساءة بالحسنة، والفرح بالمصيبة من أعظم ما
يدل على أنهم في العداوة قد بلغوا الغاية) [23] ، ويقول الإمام ابن حزم رحمه الله:
(وأما الذي أخبر الله تعالى بأنه إن أصابت رسوله عليه الصلاة والسلام سيئة
ومصيبة تولوا وهم فرحون، أو أنه إن أصابته حسنة ساءتهم فهؤلاء كفار بلا
شك) [24] .
والذين يسوءهم انتصار دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- حكمهم حكم من
يسوءه انتصار الرسول نفسه، ولذلك ورد في الآية السابقة: [إن تمسسك حسنة
تسؤهم ... الآية] ، وفي آية أخرى، يقول سبحانه وتعالى: [إن تمسسكم حسنة
تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاْ، إن الله بما يعملون محيط] [آل عمران: 120] .
وما أكثر ما نلاحظ هذه الصفة في المنافقين المعاصرين من الساسة
والإعلاميين وغيرهم، حيث يصيبهم الهم والغم والحزن، ويظهرون الكراهية
حينما ينتصر المسلمون في بلد من البلدان، وبالمقابل يظهرون الفرح والسرور
والتشفي بما يصيب المؤمنين من هزيمة ومصائب ومحن، وقد يبررون هذا السلوك
بوجود انحرافات وأخطاء لدى بعض المؤمنين، وهذا المبرر أو التأويل وإن عُذر
به المتأولون المجتهدون، فلا عذر لكثير من هؤلاء لأنه لا يعرف عنهم حرص
على التدين أو غيرة على الدين، وإنما يحرصون على ما يرضي أولياءهم
الحقيقيين من اليهود والنصارى ونحوهم، وهذا السلوك المشين يدل على فساد في
عمل القلب من الحب والفرح أو البغض والكراهة، نسأل الله تبارك وتعالى السلامة
والعافية.
ويمكن أن نذكر صنفاً آخر من أصناف المنافقين، الذين عُرفوا على مدار
التاريخ بالكيد للسنة وأهلها ومعاونة الأعداء عليهم، والحزن لظهور السنة وعلوها،
والفرح بانهزام أهل السنة وانكسارهم، وهؤلاء هم الرافضة وقد صور شيخ الإسلام
حالهم هذا أحسن تصوير، فقال: ( ... فالرافضة يوالون من حارب أهل السنة
والجماعة، ويوالون التتار، ويوالون النصارى، وقد كان بالساحل بين الرافضة
وبين الفرنج مهادنة، حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين
وسلاحهم، وغلمان السلطان، وغيرهم من الجند والصبيان، وإذا انتصر المسلمون
على التتار أقاموا المآتم والحزن، وإذا انتصر التتار على المسلمين أقاموا الفرح
والسرور، وهم الذين أشاروا على التتار بقتل الخليفة، وقتل أهل بغداد، ووزير
بغداد ابن العلقمي الرافضي هو الذي خامر على المسلمين، وكاتب التتار، حتى
أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة ونهى الناس عن قتالهم، وقد عرف العارفون
بالإسلام: أن الرافضة تميل مع أعداء الدين ... ) [25] .
فهل يعي المسلمون بعامة، والمنتسبون إلى الدعوة بخاصة، هذه الحقيقة؟
وهل يعي هذه الحقيقة من لايزالون يدافعون عن القوم ويحسنون الظن بهم أو
يتحالفون معهم ويعلقون عليهم الآمال لنصرة الدين؟
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/434.
(2) الإيمان الأوسط 180.
(3) مجموعة التوحيد 7.
(4) الإيمان الأوسط 181، وانظر الإيمان 285.
(5) الصارم المسلول 561.
(6) رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين باب من ترك قتال الخوارج للتألف رقم 6933 (الفتح 12/290) .
(7) فتح القدير.
(8) الصارم المسلول 38.
(9) فتح القدير 2/375.
(10) الصارم المسلول 28، 34.
(11) نفسه 35.
(12) نفسه 521.
(13) تفسير ابن كثير 3/298، وانظر تفسير الطبري 18/15، وتفسير أبي السعود 4/134 (13) تفسير ابن كثير 3/298، وانظر تفسير الطبري 18/15، وتفسير أبي السعود 4/134.
(14) الصارم المسلول 39.
(15) تفسير ابن كثير 1/519.
(16) الصارم المسلول 38.
(17) تفسير الطبري 10/398.
(18) تفسير الطبري 9/319.
(19) انظر الولاء والبراء، د محمد القحطاني 231 247.
(20) تفسير الطبري 6/313.
(21) الرسائل الشخصية 213.
(22) تفسير كلام المنان 7/357، وانظر 2/304.
(23) فتح القدير 2/368، 369، وانظر تفسير الطبري 14/289.
(24) المحلى 11/205، 206.
(25) مجموع الفتاوى 28/636، وانظر 28/435.(82/20)
خواطر في الدعوة
منهج الاعتدال
محمد العبدة
هل تستطيع الدعوة الإسلامية القضاء على هذا التشرذم والتفتت الذي أضر
بالعمل الإسلامي أيما ضرر؟ وعلى هذه النوابت التي ما تفتأ تظهر بين الحين
والآخر، ويغلب على كثير منها الغلو في الدين، مما يدع الناس حيارى لكثرة ما
يلقى إليهم من خلاف في الدين واجتهادات ما أنزل الله بها من سلطان، ويحق
للمسلم أن يسأل عن سبب كثرة هذه الظواهر في السنوات الأخيرة، وهل هذا شيء
طبيعي؟!
إن ظاهرة الغلو أو التساهل في الأوامر والنواهي، نشأت قديماً وربما يكون
هذا من طبيعة الإنسان الذي لا يقهر نفسه على منهج الاتباع والاعتدال والوسطية،
ففي التشدد والتساهل أهواء نفسية، وطموحات دنيوية، وجهل بأسس هذا الدين
ومقاصده العامة، وإنما تكثر هذه النوابت عندما يضعف العلم ويقل العلماء، وإن
كان العلم متيسراً ومنتشراً في هذه الأيام ولله الحمد ولكن العلماء المستقلون الذين
يجمعون بين العلم والتقوى ويكونون مرجعاً للمسلمين وللشباب خاصة، هؤلاء قلة
قليلة، وقد تخلو منهم بعض الأقطار.
وإذا أردنا الاستفادة من الماضي فهناك تجربتان تدلان على أنه عندما يوجد
العلم والتطبيق العملي للإسلام، فإن ظاهرة الغلو تضعف إلى حد بعيد.
1- عندما انحاز الخوارج عن علي رضي الله عنه استأذن ابن عباس رضي
الله عنهما في مناقشتهم وتبيين الحق لهم، فذهب إليهم وسألهم عن سبب مخالفتهم،
ورد عليهم شبهاتهم من القرآن والسنة وتراجع عدد كبير منهم عن بدعتهم، وعادوا
إلى صفوف أهل السنة.
2- استمرت بدعة الخوارج زمن بني أمية، ولما تولى الخلافة عمر بن
عبد العزيز رحمه الله حاورهم وكان عالماً ربانياً، ولما لم يجدوا في سلوكه
وتصرفاته منفذاً للنقد أو الاحتجاج كما كان في تصرفات بعض من سبقه أقروا له
بكل ما قال، إلا ما كان من موافقته بأن يكون الخليفة بعده «يزيد بن عبد الملك» ،
فوعدهم ببحث هذا الأمر، ولكن المنية وافته قبل أن يتمه.
نخلص من هذين المثالين إلى أن العلماء الراسخين في العلم، هم الذين
يكشفون الشبهات، ويبينوا حكم الإسلام في كل مسائل العصر، ويجيبون عن كل
الأسئلة التي تقلق بال الشباب المسلم، وأن على الدعوة الإسلامية القيام بخطوات
عملية جادة لتقوية جبهة الإسلام علمياً واجتماعياً واقتصادياً، فلعل من عنده بقية من
دين أو عقل يثوب ويرجع وتهدأ نفسه، فالإنسان مجبول على الميل لمن يأخذ بيده
لحل مشكلات الحياة التي تواجهه، فهكذا رجع الخوارج عندما شاهدوا التطبيق
العملي في سيرة عمر بن عبد العزيز، وسيبقى أصحاب الأهواء يستمرئون أعراض
المسلمين، ويخوضون معارك وهمية، ويُذهبون أوقاتهم في جدال لا خير فيه،
فهؤلاء لا يؤبه لهم، والقافلة تسير بدونهم.(82/31)
هموم ثقافية
مسيرة المنهج وتشكلاته
في الفكر الإسلامي
عبد العزيز بن محمد الوهيبي
متى ظهر المنهج في الإسلام؟ وهل تشكل وتغير أم بقي على صورته الأولى
لم يتغير؟
* وإذا كان قد تغير، فما هي المحطات الأساسية التي توقف عندها؟ ومن هم
أبرز ممثلي التيارات الفكرية الكبرى في ذلك المنهج؟
* هل عرف المنهج في الإسلام ما يسمى بـ «الثورة العلمية» ، أو
«القطيعة المعرفية» في التفكير الغربي الحديث؟
هذه الأسئلة وغيرها من قضايا المنهج، كانت ومازالت مطروحة في الفكر
الإسلامي في مختلف عهوده، ولكنها اليوم بخاصة، في هذا الطور الحديث لمسيرة
الفكر البشري، ومسيرة الأمة الإسلامية، وذخيرتها من التجارب والمحاولات
المختلفة للنهضة، ورؤاها المختلفة للمنهج ولنفسها وللعالم والكون من حولها،
نتيجة للتخبطات والمناهج الملفقة، فإن هذه الأسئلة تعود لتحتل موقعاً مركزياً في
التفكير والتأليف من مفكرين ومؤلفين عرب ومسلمين، ذلك أن واقع البشرية
والتعاسة والدمار الذي أصابها منذ الثورة العلمانية الكبرى الحديثة التي يؤرخ لها
بالثورة الفرنسية (سنة 1789م) .
وواقع العرب والمسلمين الذين يجيئون في قاعدة السلم في التقدم والعلم والنماء
الاقتصادي، هذا الواقع يشهد بأن هنالك أزمة في المنهج، أزمة في التفكير
وطرائقه، أزمة في النظام التشريعي والأخلاقي والإداري وباختصار أزمة في كل
شيء تقريباً، ولا مناص من مواجهة الأزمة في جذورها الحقيقية والبحث عن
علاج ناجع لها، ومخرج سديد منها.
ومن هنا فإني في هذا المبحث القصير أحاول الرجوع القهقرى، لنرى معاً
البدايات للمنهج في الإسلام، والمحطات والمنعطفات التي توقف عندها
والشخصيات والأعلام الذين توهج بهم، وتركوا خلفهم بصمات لا تنسى على
مسيرة المنهج في الإسلام.
والبداية التي ننطلق منها معاً هي: نزول الوحي، ذلك أن الرسل عليهم
السلام بُعثوا إلى أمم متعددة وشعوب متفرقة، كانت ذات ثقافات ومناهج وطرق
متنوعة في التفكير، ولذلك لم يكن لهم عليهم السلام مندوحة من خطوتين اثنتين في
التغيير الفكري، والعقدي والاجتماعي والسياسي:
الخطوة الأولى: هدم المناهج الباطلة السائدة في مجتمعاتهم وأممهم، وبيان
ضلالها وتهافتها.
الخطوة الثانية: بناء المنهج الصحيح البديل، وتأصيله وتعميقه.
فهما خطوتان: هدم وبناء، إبطال وتأسيس، تخلية وتحلية، تفكيك وتركيب، كما هو هدف الرسالة كلها: [فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله فقد استمسك
بالعروة الوثقى لا انفصام لها] [البقرة: 257] ، فهما عمليتان: كفر وإيمان،
رفض وقبول، هدم وتأسيس.
مناهج الجاهلية ومواجهتها:
فما هي يا ترى مناهج الجاهلية التي واجهت الرسل، وعلى الخصوص
خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ وكيف تمت تعريتها وكشفها وإبطالها وتقديم
البديل الصحيح عنها؟ .
إن الإجابة على هذا السؤال إجابة عن قضية المنهج التي شغلت البشرية بكل
أبعادها وما تزال، وهي قضية ضخمة وخطيرة وشديدة التأثير، ولذلك استحقت كل
هذا الاهتمام وأكثر منه، والله المستعان.
أول ما نندهش لمواجهته في موضوع المنهج في الإسلام كتاباً وسنة هو
غزارة النصوص في هذا الباب وثراؤها الملفت للنظر..!!
حقاً، لقد احتلت قضية المنهج موقعاً مركزياً في نصوص الكتاب والسنة
للخطورة التي تمثلها، وللأهمية العميقة للوصول للمنهج السليم في تحديد خيارات
الإنسان ورهاناته المستقبلية وميزان قيمه وأحكامه: [لقد أرسلنا رسلنا بالبينات،
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ... ] [الحديد: 25] .
فما هي أولاً: طبيعة التفكير الجاهلي؟ وكيف تنقض وتبطل؟
وما هي ثانياً: المنهجية البديلة عنها؟
في المسألة الأولى: هنالك ملامح ومظاهر متعددة للتفكير الجاهلي نحاول أن
نجملها في هذه العُجالة بما يلي:
أولاً - الفهم السحري الخرافي للكون والحياة ومظاهر الطبيعة:
يقول تعالى: [وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم
رهقاْ ... ] [الجن: 6] ، [واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر
سليمان، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ... ] [البقرة: 103] ،
[قالوا اطيرنا بك وبمن معك، قال: طائركم عند الله، بل أنتم قوم تفتنون ... ]
[النمل: 47] .
ولقد رفض الإسلام هذه الرؤية السحرية، وأثّمها وجّرمها، بل لقد كفرها،
كما قال تعالى: [وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر ... ]
[البقرة: 103] .
كما قوّض الوحي معالم هذه الرؤية السحرية الخرافية: يقول النبي - صلى
الله عليه وسلم-: «إن الرقى، والتمائم، والتولة شرك» [1] ، ويقول: «لا
عدوى، ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر» ، عن أبي هريرة وزاد: «ولا نوء ولا
غول ... » [2] .
ثانياً - تعطيل وسائل الفهم الصحيح والاستدلال المنتج:
[ولقد ذرأنا لجهنم كثيراْ من الجن والإنس: لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم
أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام، بل هم أضل،
أولئك هم الغافلون] [الأعراف: 179] .
فهم لا يسمعون: [بشيراْ ونذيراْ، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ... ]
[فصلت: 4] ، وإذا سمعوا لا يعقلون: [ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم
أكنة أن يفقهوه..] [الأنعام: 25] ، وإذا عقلوا لا يعملون: [إن تدعوهم لا
يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم] [فاطر: 14] ، [أفتطمعون أن
يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم
يعلمون ... ] [البقرة: 75] .
ولذلك فقد قارن كتاب الله تعالى بينهم وبين المؤمنين، وبيّن آثار هذه المقارنة
بقوله: [مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، هل يستويان مثلاْ؟
أفلا تذكرون] [هود: 24] ، والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً نكتفي منها بذلك
الذكر الطيب المبارك.
ثالثاً - استحداث مناهج ووسائل بديلة باطلة: ومن ذلك:
1 -القول بعصمة طائفة من الناس وصحة أقوالهم مطلقاً بغض النظر عن
شواهدهم أو أدلتهم أو مستنداتهم، وذلك لقدرهم وعظمتهم في النفوس (كالآباء
والأجداد) أو لوجاهتهم وقوتهم وجبروتهم (كالزعماء السياسيين) أو لقداستهم ومكانتهم
الدينية! (كالأحبار والرهبان) ، يقول الله سبحانه وتعالى عن النوع الأول:
[وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على
أمة، وإنا على آثارهم مقتدون] [الزخرف: 23] ، وفي الأخرى (مهتدون)
[الزخرف: 22] ، وعن النوع الثاني يقول تبارك وتعالى: [وقالوا ربنا إنا أطعنا
سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً
كبيراْ ... ] [الأحزاب: 67، 68] ، وعن النوع الثالث يقول جل وعلا:
[اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] [التوبة: 31] .
ولا ريب أن أعظم إبطال لنظرية العصمة هذه سواء أجاءت على لسان المقال
(كما هو عند النصارى والشيعة) أو على لسان الحال (كما هو عند كثير من الناس)
هو البيان الأكيد والتكرار الشديد لبشرية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعرضه
للخطأ والنسيان وإن كان لا يقر من الله تعالى ونزول المعاتبة له ولأصحابه في
نصوص قرآنية قاطعة متكررة تتلى إلى يوم القيامة، كما في سورة «عبس»
وغيرها من السور.
2- التقليل من قيمة المعرفة والاكتفاء في القضايا الخطيرة بالظن والخرص
والهوى والمتشابهات: [وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها، قلتم ما
ندري ما الساعة، إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين ... ] [الجاثية: 22] ،
[إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون
إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى ... ] [النجم: 23] ،
[وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظن وإن هم
إلا يخرصون] [الأنعام: 116] [فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه
ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ... ] [آل عمران: 7] ، وهذه هي الوسيلة المفضلة في
انحرافات المعاصرين فقل أن تجد ذكر الله واليوم الآخر في وسائل الإعلام المقروءة
والمسوعة والمرئية الغربية؟!
3 -الكبر وبطر الحق بعد ظهوره لهم: [سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون
في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا
يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ... ] [الأعراف: 146] ،
[ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس، فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا إن هذا إلا
سحر مبين] [الأنعام: 7] ، [وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، ظلماً وعلواً فانظر
كيف كان عاقبة المفسدين] [النمل: 14] .
وهؤلاء لا تنفع معهم الحجج مهما تكاثرت وتضافرت، فالعيب عندهم أخلاقي
سلوكي داخل في باب الشهوات، وليس معرفياً علمياً يدخل في باب الشبهات التي
تزول بالعلم، وهي علل قديمة جديدة، فلم تخرج انحرافات المعاصرين مع تنوعها
وتشعبها في خطوطها العريضة عن الانحرافات الأولى بل لاتزال تكررها وتعيد
إنتاجها بصور وعناوين جديدة، والاستقراء خير شاهد.
ذلك هو منهج الإسلام في بيان خلل وخطل وفساد المناهج الجاهلية وذكر
وجوه العيب فيها، وسبل السلامة من تلك الوجوه، فما هو يا ترى المنهج المفضل
البديل..؟!
ملامح المنهج الإسلامي في التفكير:
هنالك الكثير من النصوص التي ترسم ملامح وقسمات هذا المنهج وطرائقه
نذكر منها:
أولا: الإعلاء من شأن العلم، والرفع من قيمة العلماء المخلصين في البحث
عن الحقيقة: [وقل رب زدني علماً..] [طه: 114] ، [اقرأ باسم ربك الذي
خلق ... ] [العلق: 1] ، [يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات ... ] [المجادلة: 11] ، [وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير] [الملك: 10] ، [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ... ] [الزمر: 9] ، ونصوص الكتاب والسنة في هذا المعنى كثيرة جداً، نكتفي منها بما ذكر هنا.
ثانياً: إطلاق الوسائل المعرفية إلى أقصى مداها كي تنهل من مصادر المعرفة
المتاحة لبني الإنسان، فقد خلق الله الإنسان للإعلام، ولكنه زوده بوسائل المعرفة:
[والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار
والأفئدة لعلكم تشكرون ... ] [النحل: 78] ، [ولا تقف ما ليس لك به علم، إن
السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا] [الإسراء: 36] .
فلدينا سمع ينهل من الأخبار: وحياً ربانياً، أو حدثاً إنسانياً، وبصر ينهل من
الكتاب: المقروء وهو الوحي، والكتاب المنظور وهو الكون، وفؤاد يعقل نفسه
ويعقل الكتاب المنظور والمسطور، ولقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في
الحديث عن الوسائل الثلاث: السمع والبصر والفؤاد، حيث ورد كل منها وما
يشتق عنها في مائة وثمانين موضعاً في كتاب الله تبارك وتعالى بينما ورد الحديث
عن العقل، واللب، والنهى، والحكمة في حوالي ستة وثمانين موضعاً، وكفى
بذلك دلالة على عناية الإسلام وحرصه الشديد على إطلاق وسائل الإنسان المعرفية
المتاحة إلى مداها الأقصى، تلك الوسائل التي تنهل من المصادر الثلاثة: الخبر
عن الله في وحيه، وعن الإنسان في حاضره وماضيه، والكون والعقل الذي يتلقى
ذلك كله ويتدبره ويفهمه ويزنه ...
ثالثاً: التأكيد على الصياغة السننية العقلانية لظاهرة الوحي والظاهرة
الإنسانية والكونية: [أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ... ]
[محمد: 24] ، [ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون] [البقرة:
179] ، [ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون]
[الأعراف: 34] ، [سنة الله في الذين خلو من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً]
[الأحزاب: 62] ، [ولن تجد لسنة الله تحويلاً] (فاطر: 43) ، [ومن الجبال
جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف
ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء ... ] (فاطر: 27-28) . ...
وهكذا فالظواهر الرسالية، والإنسانية، والكونية قابلة للتعقل والفهم والتركيب، ولذلك والله أعلم لم ينزل الله تبارك وتعالى الكتاب فقط وإنما أنزل معه الميزان
العقلي: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] [الحديد: 25] .
والأنبياء لم يعلّموا الكتاب فقط، ولكنهم خلطوه بالحكمة: [لقد من الله على
المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ... ] [آل عمران: 164] ، [يؤتي
الحكمة من يشاء، ومن يؤتّ الحكمة فقد أوتي خيراْ كثيراْ] [البقرة: 269] .
و «الميزان» العقلي في الحقيقة يقوم «بوزن» الحقائق التي تحصل عليها
الوسائل المعرفية الممكنة من مصادر المعرفة، ومن ثم ترتيبها في سلم أولويات
يعيد تشكيلها بعد انتزاعها من الواقع ويعطيها موقعاً في هذا السلم، وحجماً مرناً
قابلاً لإعادة التشكيل في ظروف الزمان والمكان، فهو ليس ميزاناً جامداً لا يتبدل
ولا يتغير، وإنما يخضع لظروف الزمان والمكان والبيئة، وهكذا نجد على سبيل
المثال قضايا الرسل الحيوية تتفاوت من أمة لأخرى، حسب انحرافها وضلالها،
ومن هنا يظهر وجه الخلل في الرؤية الخوارجية أو الإرجائية أو الشيعية مثلاً،
فضلاً عن أهل الكتاب، فما بالك بالوثنيين..؟!
رابعاً: رسم معالم المنهج وتوضيحها بحسب العقل المعرفي الذي يعمل فيه:
1 -ففي حقل الأخبار: تأتي الوثائق المكتوبة المضبوطة تاريخياً ونقدياً في
الطليعة: [ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ... ]
[الحج: 8] ، ومن هنا كانت جريمة تزييف الوثائق خصوصاً فيما يتعلق بالوحي
من أخطر الجرائم على الإطلاق: [فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون
هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما
يكسبون] [البقرة: 70] ، وكذلك الآثار: [قل سيروا في الأرض فانظروا كيف
بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ... ] [العنكبوت: 20] ، ثم يأتي قبول
خبر الثقة: [ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن، قل أذن خير لكم يؤمن
بالله ويؤمن للمؤمنين ... ] [التوبة: 61] .
والتوقف عن خبر الفاسق: [يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
أن تصيبوا قوماْ بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين] [الحجرات: 6] ورفض
خبر الكاذب: [لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا
إفك مبين ... ] [النور: 13] .
2 -وفي حقل الكونيات تجيء المشاهدة والتجربة والاستقراء معياراً أولاً:
[قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز
حكيم ... ] [البقرة: 260] ، [أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت، فذكر إنما أنت مذكر ... ] [الغاشية: 1721] ، وحديث التأبير الصحيح شهير في هذا
المعنى.
3 -وفي حقل العقليات تجيء المسلمات والبداهات العقلية معياراً: [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ... ] [النساء: 82] [يا أبت لم تعبد
ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً..] [مريم: 42] .
وللحديث بقية.(82/33)
نصوص شعرية
كَائنٌ بِلا هُويَّة
د. صالح الزهراني
من أيّ نهر شربت الصمت والوجلا؟ ! ... أمهاتك صيّرن الشجى أملا
من أينَ عممت هذا الذّل.. ما عرفت ... أرض الشياهين لا نسراً، ولا حجلا؟
في مقلتيك أرى «سعداً» .. ببيرقه ... وفيلقاً «لصلاح الدين» مشتعلا
أرى احتمالات معنىً كنت أجهله ... ولم يكن عند من أغلاك محتملا
من أنت؟ أبصرُ في عينيك أسئلة ... عويصة، وهموماً أثقلت جبلا
من أنت؟ أقرأ في كفيك ملحمة ... موؤودة، وخيولاً كفّنت بطلا
كأنه ما أتاك الكون مبتهلاً ... يوماً، ولا حُفّ بالنجوى ولا احتفلا
ولا ارتمت تحت رجليك النجوم هوى ... والشمس ما شاطرتك البوح والغزلا
من أنت؟ «عنترة العبسي» ألمحه ... في وجنتيك يُباري الخيل والأسلا
كيف انحنى فيك هذا الرأس يا قمراً ... بزهو عينيه كنا نضرب المثلا
من أنت؟ ما قلتُ شيئاً.. كان يقتلني ... بكل حرف بهيّ كلما سألا
ما قلت شيئاً.. نكست الرأس مكتئباً ... وكنت أطرق مما قاله خجلا(82/44)
نصوص شعرية
.. الأسماء..
فيصل بن محمد الحجي
لو كانت (الأسماء) تُشْرَ عادة ... بالمال من (بقَّالة) البلغاءِ
أو كان (يشحذها) الذي يحتاجها ... بالذُّل من بوّابة الكُبَراءِ..
أو كان مصنعها بعيداً.. ثم لا ... تأتي بغير مشقةوعناءِ..
لمشى الغنيُّ معدِّداً أسماءه ... ولعاش معظمُنا بلا أسماءِ(82/46)
نصوص شعرية
.. التيه..
محمد عبد القادر الفقي
وطال بنا الليلُ في التيه..
ضاق بنا الدربُ
عشش فينا الخوارْ!
وها نحن والرجزُ إلفانِ! ..
نعرى ... نجوع ... ونشقى
ونظمأ.. والنارُ تشوي الوجوهَ..
تكاد السماواتُ من فوقنا..
تخرّ علينا
وتنشق من تحتنا الأرضُ
والموجُ يطغى
ونصرخُ.. نصرخ:
«يا من يجيء إلينا بسبع سنابل خضرٍ
يفيض علينا من الماء والزيت ...
يُسعفنا من رماداتنا والجفافِ
فقد هلك الحرثُ والنسل، والضرع جفّ
وغادرت المزن آفاقَنا
وعربد بين الربوعِ الخرابُ»
ويقبل «جونُ» بسنبلةٍ في اليسارِ!
ومُديتُهُ في اليمين!
ويدخلُ بين الزوايا..
يؤلب هذا
ويَنقُد هذا
ويغتالُ هذا وهذا
وتمضي السنونْ
ونحن نقبل كفيه، «والنعلَ» ! ..
نلعق ما كان بالأمس عاراً! ..
ويزداد حجمُ الضحايا
ويعلو الأنين!
* * *
«ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا»
لفاضت على البعد أنهارُ خيرٍ
وصار المواتُ رُبَى من زروع وزهر
وأمطرت السّحْب سمناً وشَهداً
ومناً وسلوى!
وساد الوئامُ..
وحلّ السلامْ!
* * *
ولكنهم ما وعوا الذكرَ، «ما كان أكثرهم مؤمنينْ» !
تعاموا وصموا وساروا بدرب شياطينهم سادرينْ
فحل عليهم عذاب مهينْ!
وأقفرت الأرض، ما عاد غيرُ العضاهِ
وبومٍ تنوح مع النائحينْ
* * *
ولو أنهم صدّقوا المرسلينْ..
لعاشوا كراماً وماتوا كراماً
وكانوا جميعا من المفلحينْ! .(82/47)
نقد على نقد
الأدب الإسلامي
محاورات وتعقيب
محمد حسن بريغش
استوقفني في العدد (78) من مجلة «البيان» ، القراءة النقدية لما نشر في
العدد (76) للأستاذ الدكتور ناصر بن سعد الرشيد.
واستمتعت بهذه القراءة العميقة الجادة، والتعقيبات المفيدة على ما كتبه
الدكتور مصطفى بكري السيد، والأستاذ الشاعر محمود مفلح، وأود التوقف عند
بعض النقاط التي وردت في التعقيب، لما لها من فائدة في إثراء الموضوع وتجليته.
إن الذي أشار إليه الأستاذ محمود مفلح في العدد (76) في مقالته «نقد ظالم
ونقد نائم» واقع ملموس، وشكواه لها ما يبررها، وأسبابها كثيرة منها:
1- تقصير المهتمين بالأدب الإسلامي، وعزوفهم عن تناول الإبداع بالنقد،
والتقويم على أسس واضحة، وانشغالهم بدلاً من ذلكبكثير من الأمور الاحتفالية
والإعلامية، واهتمامهم بتقديم النظريات والقوالب الأدبية المتخيلة للأدب الإسلامي، وانصرافهم عن الأمر الأهم، وهو دراسة الإنتاج الأدبي الإسلامي في القديم
والحديث، والعودة إلى تراثنا الأدبي الكبير منذ فجر الرسالة الإسلامية، إلى اليوم،
لدراسته وفق التصور الإسلامي، وإبراز ملامحه وسماته، واستخلاص المنهج
الصحيح لهذا الأدب، ووضع القواعد الموضوعية لنقد النصوص وتقويمها، وإعادة
عرض تاريخ الأدب العربي من جديد، على أسس إسلامية منهجية صحيحة، بعيداً
عن المناهج الغربية، التي استهدفت سلخه من الصفة الإسلامية، وإبعاده عن
حقيقته التي تنتمي إلى الإسلام في العموم.
ووفق هذا ستبرز الملامح الشاذة في هذا الأدب، وتفرز الفترات المضطربة
وحدها التي جعلها المنهج الغربي سمة عامة تنسحب على الأدب العربي كله
وتوضع هذه الفقرات والنصوص في مكانها الطبيعي، وضمن حجمها الصحيح.
وكذلك نحن بحاجة إلى عرض الآداب المختلفة لشعوب العالم الإسلامي غير
العربي وفق المنهج ذاته لإبراز سماته وملامحه واستخلاص هذه الملامح التي تشكل
منهجاً واقعياً صحيحاً للأدب الإسلامي.
إن مسؤولية المشتغلين بالأدب الإسلامي، إزاء دراسة النصوص ونقدها
والتعرف على خصائصها، وإبراز سماتها، والتعريف بأصحابها أهم بكثير من
وضع الأسس النظرية، والأطر الفكرية، وفق القواعد المطبقة في المذاهب الأدبية
الغربية، لأن هذا الاتجاه يلغي وبشكل آلي تراثنا الأدبي كله ويخرجه من دائرة
الأدب الإسلامي، ولأن التنظير يعني محاولة إنشاء هذا الأدب حديثاً، وتحديد
قواعده، وكأنه أمر مستحدث وليس امتداداً لتاريخ طويل وتراث كبير.
2- ومن هذه الأسباب قلة المنافذ الإعلامية المتاحة للأدب الإسلامي بعامة
والنقد بخاصة فضلاً عن التعتيم المقصود في كثير من الأحايين على الأدباء
الإسلاميين، والمشتغلين بهذا الأدب.
3- ومنها ابتعاد مناهج الدراسة الأدبية في العالم الإسلامي عن دراسة هذا
الأدب، فضلاً عن الاعتراف به، وخضوعها للمناهج الغربية في ذلك، وهناك
أسباب أخرى لا مجال للحديث عنها في هذه العجالة [1] .
ولكم كنت أتمنى أن يكون ضمن هذه التعقيب للدكتور ناصر على الشاعر
مفلح، مبادرة جادة منه للإسهام في النقد، والاهتمام بالأدب الإسلامي قديمه وحديثه، لا سيما أنه يملك هذه القدرة، وهذا الحس النقدي ولديه هذا الاهتمام الجاد بالأدب
الإسلامي.
هذه الملاحظة تنقلني إلى ما طرحه الدكتور ناصر في تعقيبه عندما أشار إلى
تعريف الأدب الإسلامي [2] ، واستطرد بعدها إلى القول: «أود أن ننظر إلى
الأدب العربي كله بعد الإسلام على أنه أدب إسلامي، وأن نخرج منه ما خالف
الإسلام على أنه أدب شذ عن منهج الأدب الإسلامي في مضمونه، وفي تعبيره» .
ولأشد ما أفرحني ذلك، لأنني وجدت من ألتقي معه في مثل هذه النظرات،
لرسم معالم الأدب الإسلامي على أسس متينة [3] ، كما سجلت ذلك في كتابي الثاني
عن الأدب الإسلامي، فالأدب العربي منذ بزوغ الرسالةتحول إلى أدب إسلامي في
عمومه وجملته، وإن لم يكن إسلامياً في شموله اعتراه ما اعترى الناس من صواب
وخطأ، وقوة وضعف، وصلاح وآثام « [4] .
ومادام الأمر كذلك، ألا يحق لنا أن نتساءل عن مدى جدية الكاتب في هذا
الرأي، وعن مسؤوليته في ذلك، وهو الناقد والأستاذ الجامعي، والدارس والمدرس
للأدب؟ نحو الأدب والدارسين.
إن أدبنا العربي بحاجة إلى نظرة صحيحة، نظرة تعيده إلى منهج الأدب
الإسلامي، الذي يشمل الحياة كلها، ولا ينحصر في موضوعات محددة كما يظ'ن
الناس، لأن الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الجميل للأديب المسلم عن تجربته
في الحياة من خلال التصور الإسلامي.
وهو حقيقة ممتدة من بدء ظهور الإسلام إلى اليوم، وسيظل إلى قيام الساعة
مادام هناك إسلام ومسلمون، وقد يضعف، وقد يعلوه الغبار والأصباغ، ولكنه يظل
باقياً مادامت كلمة الله تتلى ومادام كتاب الله العزيز محفوظاً.
وهذا ينسحب على كل الموضوعات، والأفكار، والأغراض، والعصور
والأساليب.. فلماذا يرمي الكاتب الفاضل المسؤولية على الآخرين وكأن الأمر
خارج عن مسؤوليته ومسؤولية كل ناقد مسلم يهتم بإسلامه ومجتمعه، وبالتالي يهتم
بهذا الأدب؟!
إن اشارة الناقد إلى رابطة الأدب الإسلامي، وترك الأمر لها لترد على هذه
التساؤلات نوع من الهروب، ومع أن الرابطة قد تأسست لخدمة هذا الأدب، فإن
المسؤولية نحو الأدب الإسلامي، وتحديد منهجه، ليست مقصورة عى أحد لأن
الأمر ليس كهنوتاً بل هو مسؤولية كل أديب مسلم، وكل ناقد مسلم، إن كان من
أعضاء الرابطة أو خارج نطاقها، فقضية الأدب الإسلامي هي قضية كل مسلم قبل
الرابطة وبعدها، والاهتمام به ليس مقصوراً على الرابطة أو على أي مؤسسة
أخرى.
ومع أنني كنت من أول الداعين والعاملين لإنشاء هذه الرابطة والمؤسسين لها، والداعين للأدب الإسلامي، فإنني أعرف أن كثيراً من المهتمين خارج الرابطة
ليست إسهاماتهم بأقل من إسهامات الآخرين بل هي أكبر من إسهامات الرابطة لأنهم
غير خاضعين للأطر الإدارية والنفسية التي تتحكم في أعمال الرابطة والمؤسسات
الأخرى عموماً، فضلاً عن أمور أخرى لا مجال للحديث عنها.
أما عن موقف بعض المنظرين للأدب الإسلامي من الأشكال الشعرية الجديدة، أو بعض التعبيرات الحديثة، فإن الأدب الإسلامي يتسع لكل الأشكال
والموضوعات، لأن الإسلام هو الحياة ذاتها ولكنها الحياة كما أرادها لنا خالق الخلق
سبحانه وتعالى، وهذه الحياة فيها كل ما يتعلق بالإنسان والمخلوقات من نشاطات
ومشاعر وتجارب، والأديب المسلم يعبر عن كل ذلك كمخلوق يخضع بعبوديته لله
وحده، والأدب الإسلامي أدب الحياة، وأدب الإنسان في كل مكان، وليس
محصوراً في موضوعات محددة أو صيغ معينة ولكن هذا المفهوم لا يمنعنا من
الوقوف في وجه التيارات الوافدة التي تتسربل بألوان وأشكال مستحدثة وتدعي بأنها
لا تتعدى ذلك.
إن أقطاب هذه التيارات لا يخفون مقاصدهم إزاء كل شيء في تراث هذه
الأمة وكيانها، في الشكل والمضمون وفي السلوك والمعتقد وفي الوجود عموماً.
يقول يوسف الخال:» أريد أن أعبث باللغة مدة عشرين سنة كرد فعل على
عبث أسلافنا بلغتنا ألف عام «.
ويقول د. بولس نويا اليسوعي المشرف على رسالة (الثابت والمتحول)
لأدونيس، التي أصبحت كتاباً مقدساً عند الحداثيين يخاطب أدونيس:» لا أخفي
أنني شعرت بكثير من الحرج عندما طلبت مني أن أكون رفيقك في السفرة
الاكتشافية التي كنتُ ناوياً القيام بها، ولئن دفعني دافع إلى قبول هذه المهمة فلأنني
شعرت عندما فهمت مقصدك وتبينت الخطوط الكبرى لما تريد أنك ستحقق حلماً
حلمت به في شبابي مرتين ... «.
ويتابع:» إن معظم فصول أطروحتك إن لم يكن كل فصل منها يمكن أن
يصبح منطلقاً لأبحاث أرجو أن يتفرغ لها كثير من الشباب تحت إشرافك وموجهين
بتوجيهات منك « [5] .
فهل يمكن أن نقطع الصلة بين النصوص الحديثة وجذورها؟ وهل يمكن أن
نقرأ النص أيضاً بحد ذاته منفصلاً عن سياقه وسط المجموعات الشعرية والأدبية
لهذا أو ذاك؟ .
إن الأديب المسلم أديب منفتح على الحياة، واسع الصدر، يحب الناس،
ويحب الخير، ولكنه أيضاً لا يستطيع التغاضي عن أي باطل، ولا يستطيع أن
يتغافل عما تحمله الصيغ التعبيرية من إيحاءات ومضامين يأباها الإنسان السوي كما
تأباها عقيدة المسلم.
ولا يمنع هذا من قراءة كل ما يصدر عن هذا وذاك بقلب سليم النية وعقل
واع متفتح، وإدراك بصير، حتى لا نقع في الغفلة من جهة، ولا نحكم بالاندفاع
العاطفي من جهة أخرى.
__________
(1) انظر للمؤلف كتاب (الأدب: أصوله وسماته) الفصل الأول، الأدب الإسلامي بين مؤيديه ومعارضيه (1935) .
(2) البيان العدد (78) ص 69.
(3) الأدب الإسلامي: أصوله وسماته، ص 4346، وانظر (8384) ، وانظر ص 89 وما بعدها.
(4) المصدر السابق، ص91.
(5) الثابت والمتحول، 1/914، وواضح أنه يقصد الدعوة لإنشاء حركة يتولى أمرها أدونيس، تتابع هدم هذه الأصول، ولقد حدث ذلك.(82/50)
دخان الصمت
عبد الوهاب الزميلي
(أ)
وفي أحداقنا نقشوا ... وصبوا في الدّم الحبرا
يد النّحات تحفر في ... جماجمنا فماً (حرّا) !
ترقّش في عظام الصدر ... ليلاً يقضم الفجرا
تلوّن صفحة التاريخ ... والآلامَ والبحرا
(ب)
تُسَرّبُ في رؤى الأطفال ... (شهماً!) يخنق الطهرا؟ !
تسُكّ مسامعَ الأزْهَار ... تَسْقي شَوْكَنَا خَمْرا
تثقب كل ذاكرة ... رأت في بدرنا البدرا
(ج)
ونجري في خضم الزور ... في أحضانه (نعرى) !
تُطقطقُ في مفاصلنا ... نمال تقرضُ الجسرا
وتنشج في حناجرنا ... حروفُ تلعق القهرا
(ونغمس) في مناجمنا ... معاطس تنشق التبرا؟
(د)
ويُطوَى في ثنايا الرمل ... نبضٌ يُنبت الجمرا
يَفُضّ التّلّ ينفُذُ في ... عروق (الموتة الكبرى)
يدهده ما تُحنّطُه ... وتلقمه فم المجرى
حروف (يغوثَ) .. وارتجفت ... لتعبد ربها (النسرا) ! !(82/56)
نصوص شعر ية
.. أنواء..
محمد البراهيم
يمضي عام.. ويجيء عامْ
وتظل رعاة الأزلامْ..
تزرع غدراً..
في عيني غدنا الأحلامْ
تأكل سحتاً..
من ريع مبيع الأوهامْ!
بينا.. تتهادى عن بعدٍ..
أنواءٌ لحمتها النارْ
وسُداها سحق الأحرارْ
وعلى بلدي..
أتلمح خللَ الأنواءْ
وجه الطوسي..
يبسم خبثاً
ويحيك عمائمه السودْ
يمنحها هام الوزراءْ
يوطئُ خيلَ التتر الأبطحْ
يستدعي حَجَر الأطهارْ
وبنو بلدي..
يرتادون السوق جثياً
يبتاعون الوهم نقياً
(والغازي) ال (كانْ) السمسارْ..
أبصر بعض النوء وأفتى:
هاتيك عوارض إمطارْ
وتلاه سليل الحنفاءْ..
في رصف طريق الإلهام! .(82/58)
المسلمون والعالم
هذه حقيقة مجلس الأمن
نظرات في مواقفه من قضايا المسلمين
د. محمد طاهر حكيم
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن دور مجلس الأمن ومهامه في تحقيق الأمن
والسلام العالميين إبان تعرض المسلمين لمآس ونكسات وويلات من أعدائهم في
شتى أنحاء المعمورة ولا سيما في البوسنة وفلسطين وكشمير على سبيل المثال لا
الحصر.
وظن بعضهم أن مجلس الأمن سيفرض الأمن ويعيد السلام إلى المناطق
المنكوبة، ويحقق الأهداف التي قام من أجلها وهي إقامة العدل ونصرة المظلوم
وردع المعتدي، وغاب عن هؤلاء أن المنظمة الدولية غدت أداة طيعة في أيدي
الأقوياء لتحقيق خططهم وتنفيذ مآربهم.
إن مجلس الأمن تتحكم في قراراته خمس دول فقط الأعضاء الدائمون وهم:
أمريكا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، والصين، التي تسعى من خلال قرارته
لتحقيق مصالحها الخاصة وفرض سيطرتها على الدول الضعيفة والإسلامية منها
بالذات، ويقال عن أي قرار يصدر عن هذا المجلس بأنه قرار دولي أو يعبر عن
إرادة المجتمع الدولي وهذا عجيب وما أكثر عجائب هذا الزمن ومنها أن يقال عن
القرار الصادر من خمس دول بأنه «دولي» ويفرض على باقي دول العالم دون
أدنى حق لها في ابداء الرأي أو الاعتراض عليه، بل إنه بإمكان دولة واحدة من
هذه الدول الخمس إفشال أي قرار لا يعجبها بصرف النظر عن مواقف بقية الدول،
ومع هذا يقال عن أي قرار يصدر عن مجلس الأمن بأنه قرار دولي.
خذ مثالاً شعب البوسنة المسلم، وما حدث له من وحشية وهمجية لا نظير لها
حيث يعيش شعب بكامله تحت الإرهاب، والحكم العسكري، ونظام المعسكرات
الذي يذكرنا بأساليب «النازية» أو «الفاشية» أو «الشيوعية» ومجلس الأمن
الذي يتبجح بالدفاع عن حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي وحق جميع شعوب
الأرض في العيش في سلام متباطئ متخاذل لأن هناك بعض الأعضاء الدائمين في
المجلس لا يرون ما يراه العالم ودوله وشعوبه قاطبة، فهل بعد هذا يصح أن يقال
عن أي قرار يصدر من مجلس الأمن بأنه قرار دولي؟
أين مكمن التزوير؟
إن مجلس الأمن لا يعبر عن المجتمع الدولي بل هو يعبر عن هيمنة أعضائه
الدائمين على «القرار الدولي» ولذا يحسن تسميته بـ «مجتمع القوة» أو
«مجتمع الخاصة» أو «مجتمع النخبة» الذي يحكم باسم المجتمع الدولي، ولذا فإن تسمية قراراته بالدولية زور وباطل.
إن هذا الوضع القائم ما هو إلا امتداد لحقبة الاستعمار الذي ولى بمظهره
العسكري ليحل بمظهره السياسي، فهذا المجلس في الحقيقة أصبح مجلس استعمار
وليس مجلس أمن، وهذا ما تؤكده أفعال أعضاء المجلس وتصريحاتهم، فهم لا
يرون ضرورة الرجوع إلى مجلسهم أو استصدار القرار من مجلسهم فيما تقوم به
دولهم من أعمال عدوانية أو تأديبية كما يسمونها تجاه الدول الأخرى ولا سيما
الإسلامية بل تنطلق دولهم في تعاملها مع هذه الدول من منطلق القوة والنظرة
الاستعمارية الماثلة في مخيلتهم فوق القرار وأنهم قادة العالم وحكامه كما لو كانوا في
أيام استعمارهم العسكري.
فأمريكا تتدخل في شؤون دول أمريكا اللاتينية وتقتل وتعتقل من تشاء
وتضرب مثلاً ليبيا بالقنابل عام 1986م وبريطانيا تكتسح الفوكلاند والاتحاد ...
السوفيتي السابق يحتل افغانستان ويقتل مئات الألوف من الناس ويدمر البلاد،
ويهدد الدول المجاورة بحجة الدفاع عن أفغانستان ولم يعبأ بقرارات الأمم المتحدة
حتى خرج بسياط المجاهدين.
وحينما سئلت «تاتشر» رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، لماذا لم
تستصدر بريطانيا قراراً من مجلس الأمن في حرب فوكلاند؟ فأجابت قائلة: «إن
البريطانيين ليسوا عرباً» .
القرارات بين الضعفاء والأقوياء:
ثم إن قرارات مجلس الأمن تفرض على الدول الضعيفة ولا سيما الإسلامية
منها، كما تفرض على هذه الدول العقوبات الاقتصادية والتجارية والعسكرية،
والمقاطعة الدولية إذا لم تخضع لرغبة وهيمنة مجلس الأمن بل وتدرج أسماؤهم في
قائمة الدول المساندة للإرهاب والمنتهكة لحقوق الإنسان.. الخ.. كما هو حال
بعض الدول الإسلامية المعروفة للجميع، أما الدول الكافرة والمحتلة لأراضي
المسلمين والتي تحظى بمساندة وتأييد أعضاء مجلس الأمن الدائمين فلا تلزم بتطبيق
أي قرار صادر عن مجلس الأمن ولا يفرض عليها أي عقوبات إلا صورياً ذراً
للرماد في العيون بل هي في كثير من الأحيان تعربد يمنة ويسرة وتهزأ بقرارات
المجلس «الموقر» دون أن يثير ذلك حفيظة المجلس أو أن يكون فيه التحدي
للمجتمع الدولي، وهذا يؤكد أن المجلس لن يقف مع أي قضية للمسلمين مهما كانت
إذا كان الطرف الآخر فيها من غير المسلمين.
فهذا الرئيس الصربي المجرم، لما سأله بعض الصحفيين الأجانب عن مصير
أكثر من (60) قراراً للمنظمة الدولية، ولماذا لم ينفذها الصرب، فالتفت إليهم
المجرم ضاحكاً وقال: إننا غير مسؤولين عن تنفيذ هذه القرارات لأن صربيا تنفذ
القرارات الصربية لا قرارات الأمم المتحدة، وقال: لا توجد أي قوة ستحول بيننا
وبين أهدافنا، ولن يستطيع أحد أن يقف في وجه المصالح الصربية في يوغسلافيا، وأن الصرب مستعدون لمجابهة العالم كله في ذلك.
ومنذ أيام وقف رئيس وزراء العدو الصهيوني وقال: على العرب أن يعطوا
الكثير من التنازلات والمرونة في محادثات السلام وعليهم أن ينسوا الأراضي
الإسرائيلية! والقدس تماماً! لأنها صارت مسائل لا تقبل مناقشة، وأن أي نقاش
حولها إنما هو حديث في الوقت الضائع لن يقدم ولن يؤخر.. إلخ.
وخطب رئيس وزراء الهند يوم استقلال الهند وقال: إن كشمير جزء لا
يتجزأ من الهند وإن أي كلام حول استقلالها أو تقرير مصيرها مجرد حلم باكستاني
صعب المنال، وعلى الكشميريين أن يدركوا أنهم هنود، ومن أراد أن يكون
باكستانياً فعليه مغادرة أراضي الهند، يعني الأراضي الكشميرية.
أجوبة وتصريحات مليئة بالتحدي والغطرسة والصلف، والسبب أنهم يعلمون
أن قرارات مجلس الأمن حبر على ورق، وأنها لا تنفذ عليهم بل يعلمون أن الدول
الكبرى توافقهم بل وتساندهم وتشجعهم على ما يقومون به من احتلال وأعمال
إجرامية وإلا فما معنى قول «كاراجيتش» زعيم صرب البوسنة، وهو يتساءل
باستغراب، «لماذا يتظاهر الجميع بذرف الدموع على البوسنة؟ إن هؤلاء
المتظاهرين بدموعهم يتحدثون إلينا في الغرف المغلقة بطريقة مختلفة، وهذه
الطريقة هي: إراحة الذبيحة وحد الشفرة، وكيف تفسر سكوت الدول الكبرى على
احتلال اسرائيل الأراضي الإسلامية العربية وإبعاد أهلها عنها؟
دعني أسأل بريطانيا العظمى عما سيكون عليه موقفها لو أن فرنسا وألمانيا
قامتا باقتطاع جزء من الأراضي البريطانية، واعتبرت ذلك الجزء حزاماً أمنياً لها، دعني أسأل جميع أعضاء المجلس عما إذا كان ضم القدس المحتلة يختلف عن
ضم النازية للنمسا.. إلخ.
على من تنفذ القرارات؟
ثم أود أن أسأل أعضاء المجلس الدائمين: أرونا قراراً واحداً صدر عن
مجلس الأمن في صالح المجتمع الإسلامي قد دخل حيز التنفيذ؟
هناك أكثر من (63) قراراً دولياً في قضيةالبوسنة لم ينفذ منها قرار واحد
وكأن الصرب يعرفون هذه الحقيقة فاستمروا في مذابحهم وجرائمهم في ظل الحماية
الدولية، وقد عبر عن هذا الواقع المرير وزير الخارجية البوسني في مؤتمر
صحافي عقده في لندن بقوله» إن المنظمة العالمية عار على مجتمعنا المعاصروإننا
سنقوم برفع الشكوى إلى المحكمة الدولية ضد هذه المنظمة الدولية العاجزة عن
حماية شعبنا بل لمشاركتها في المجازر المرتكبة في البوسنة، إن المنظمة الدولية
سلبت منا الحق الأساسي في الحياة وحق الدفاع عن أنفسنا «.
اتخذ المجلس أكثر من مائة قرار لصالح القضية الفلسطينية أشهرها القرار
» 242 «الذائع الصيت الذي أكاد أجزم أن الأوراق التي كتب عليها قد بليت فهل نفذ منها قرار واحد؟
وفي قضية كمشير المسلمة اتخذ المجلس أكثر من 13 قراراً لم ينفذ منها قرارٌ
واحدٌ، بل لا يوجد أي دور للمجتمع الدولي في منع الجرائم التي ترتكبها قوات
الاحتلال الهندوسي يومياً ضد شعب كشمير المسلم الأعزل.
المجلس يستجيب لمن؟
وعندما دخلت قوات جورجيا إلى» أبخازيا «ووجه الأبخاز» 14 «نداء
عاجلاً للأمين العام سعياً للتدخل الدولي حماية للأرواح البريئة، لم تكلف الأمانة
العامة نفسها مشقة الرد عليها، عندها فطن الأبخاز إلى أنه لا قيمة للنداءات والذل
والهوان والاعتماد على الآخرين فوحدوا جهودهم في ملاحقة العدو بشجاعة وبسالة،
ووقعت المفاجأة:» شيفرنادزة «بنفسه يقوم بنداء عاجل للأمين العام، يرجوه فيه
سرعة التدخل، وجاء الرد في هذه المرة سريعاً، فقد تم إرسال مبعوثي الأمم
المتحدة الذين دعوا لاجتماع عاجل بين الطرفين، وتم الاجتماع باتفاق على انسحاب
الجورجيين من» سوخومي «لكن الاتفاق لم ينفذ، وانتظر الأبخاز مصداقية الأمم
المتحدة، ولكن دون جدوى، عندها خرجوا على قلب رجل واحد فحرروا عاصمتهم
وإن أخرجوا منها بتدخل الروس ولكن إلى حين بإذن الله.
وفي جزر مورو يعاني ستة ملايين مسلم من الحصار المفروض عليهم من
قبل قوات الصليبي راموس، وفي طاجكستان يوجد أكثر من مائتي ألف مسلم
شردهم الشيوعيون عبر الحدود الطاجيكية، وفي باكو تحتل القوات الأرمينية
النصرانية 20 في المائة من أراضي أذربيجان وتضع يدها على 38 مدينة آذرية
وفي الصومال ولبنان.. مآس وأحزان، ولا وجود لمجلس الأمن.
الحقيقة أننا نحن المسلمين نبالغ في حسن الظن بمجلس الأمن عندما نلجأ إليه، ونتوقع منه أن ينظر إلى قضايانا بعين العطف والرحمة أو على الأقل بعين العدل
والإنصاف.
حقيقة يجب أن نعيها:
وتغيب عن أذهاننا حقيقة مهمة وهي: أن المجلس عبارة عن التكتل اليهودي
(أمريكا) النصراني (بريطانيا وفرنسا) الشيوعي (روسيا والصين) ، فهل يرجى
للمسلمين خير من هؤلاء؟ أليس هؤلاء هم أعداؤنا، أليس الله قد حذرنا منهم ومن
والاعتماد عليهم وموالاتهم؟ ألم يخبرنا الله تعالى وهو أصدق القائلين [لتجدن أشد
الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا] فكيف نأمل الخير ممن حذرنا الله
منهم.
هل نتوقع مناصرة قضايانا ممن زرعوا النبتة الخبيثة (اسرائيل) في قلب
العالم الإسلامي؟ أم نتوقع ذلك من روسيا وهي التي لطخت يديها بدماءالمسلمين
الأبرياء في دول آسيا الوسطى وأفغانستان وهي التي تزود إسرائيل باليهود والأيدي
الفنية الماهرة، وتزود مجرمي الصرب بالأسلحة ضد مسلمي البوسنة العزل.
أما فرنسا فلها موقفها من قضايا المسلمين بعامة ومن قضية البوسنة بخاصة
فعندما قام ميتران بزيارته المشبوهة (لسراييفو) قال للرئيس المسلم علي عزت:
» ليكن في علمك بوضوح أن فرنسا لن تسمح مطلقاً بوجود دولة على عتبات أوروبا يحكمها المسلمون «.
وقد عبر نائب الرئيس البوسني أيوب غانيتش عن موقف الأوروبيين من
قضية بلاده، فقال: إن أوروبا أظهرت وجهها الحقيقي، وإن تدمير البوسنة وفناء
أهلها سيكون على يد أوروبا وليس على يد الصرب فقط.
فهل نأمل مناصرة قضايا المسلمين من هذه الدول، أم نأمل ذلك من الصين
العضو الخامس في المجلس وهي التي لا زالت تستعمر تركستان الشرقية وتعمل
التقتيل والتهجير حيال المسلمين هناك وتزود مجرمي الصرب بالأسلحة والمعدات.
هذه بركات بطرس!
هل نتوقع الخير بل الحياد من بطرس غالي الذي يمتلئ قلبه حقداً على
الإسلام والمسلمين والذي يفتقد لروح المبادرة الإنسانية والشجاعة السياسية في
ممارسة مهامه ومنصبه؟ فقد تطوع في أول مؤتمر صحفي يعقده بعد اختياره
لمنصبه بأن أعلن أن القرار 242 غير ملزم لإسرائيل، وقد سبق في دراسة
منشورة له أن قال بعدم إلزامية ذلك القرار، ولم يكن ذلك التصريح المدهش سوى
بداية لمسلسل من المواقف العفنة والمعادية للمسلمين، وهي مواقف أثارت كثيراً من
الاستنكار حتى في وسائل الإعلام الغربية، ومن هذه المواقف:
الضغط على مسلمي قبرص دون اليونانيين والنصارى.
تجاهلها المتعمد لقضايا المسلمين الملحة كفلسطين وكشمير وبورما وأبخازيا
وغيرها.
وأما موقفه من الحرب المسلطة على المسلمين في البوسنة، فقد كان موقفاً
متخاذلاً بل متواطئاً مع الجزارين الصرب ضد المسلمين، فقد دعا الصرب والغرب
في بداية الحرب أن يحكموا الحصار حول البوسنة حتى لا يدخل إليها المجاهدون
المسلمون للدفاع عن إخوانهم فتتحول البوسنة إلي أفغانستان أخرى ثم عندما طلب
منه التدخل لوقف المذابح الصربية أجاب قائلاً: هذه حرب الأثرياء وليس عندنا
مال، ثم فيما بعد أصر على أن لا يكون لقوات الأمم المتحدة أي دور في حماية
شعب البوسنة وموقفه هذا قد انتقد حتى من بعض الغربيين فقد وصفته» كيرك
باتريك «السفيرة الأمريكية السابقة في الأمم المتحدة بقولها (إنه شخص قصير
النظر وتصرفاته غير إنسانية لأنه لم يعلن الحرب دفاعاً عن البوسنة) ، وقد كتبت
عنه ست مقالات طويلة اتهمته فيها بأنه (المسؤول الوحيد عن إبادة الشعب البوسني
المسلم وسيأتي يوم يقدم فيه الحساب الطويل أمام العالم عن تواطئه مع الصرب) ،
أما مهازل المناطق (غير الآمنة) والتي تسمى زوراً بالآمنة فهي سخرية كل من لديه
أدنى ذرة من ضمير.
ماذا فعل الوسيط وقوات هيئة الأمم؟
مأساة المنظمة الدولية في البوسنة لا تنتهي عند هذا الحد بل كان من أكبر
مآسيها وسيطها» ديفيد أوين «البريطاني الذي صمم تصميماً صربياً، وتقول عنه
زوجة السفاح» سلوبودان «رئيس صربيا (إن أوين أحد أفراد عائلتنا فهو دائماً
معنا ... في كل مرة يزور بلجراد ينزل ضيفاً على بيتنا.. يأكل ويشرب معنا ...
وكانت مهمته إيجاد تصفية عادلة محايدة للحرب كوسيط دولي ولكن المهمة الحقيقة
التي قام بها ويقوم بها هي تقطيع أوصال البوسنة كما وصفه مذيع» بي بي سي «
وعلق الصحفي الانجليزي» جون سويني «على خارطة أوين لتقسيم الجمهورية
المنكوبة بقوله (أما أوين فإنه يجلس بابتسامته الذئبية، ويتوسط لتقطيع البوسنة ...
هذا للصرب.. وهذا للكروات.. والفتات للمسلمين) ، يقول ذلك الوسيط الدولي
المزعوم: (إن مسألة الضربات الجوية الغربية ضد الصرب هي خدعة بشكل أو
بآخر ... وإن دور الأمم المتحدة هناك ينطوي على أكثر من خدعة) قالها بسهولة
وكأن البشرية كلها لا قيمة لها عنده.
ويأتي بعد هذا دور القوات الأممية التي أرسلت إلى هناك لتؤمن الخائفين
وتدافع عن المظلومين وتستر عورات المضطهدين إلى آخر مصطلحات الرحمة
وحماية الإنسان التي ترفع لواءها قوات الأمم المتحدة في كل مكان، فماذا فعلت هذه
القوات؟
ذكرت صحيفة» الجارديان «الصادرة في 28 اغسطس 1993م عدداً من
تهم الفساد الموجهة إلى جنود الأمم المتحدة في سراييفو وأخطر هذه التهم أن هذه
القوات تقوم بالمتاجرة بالمخدرات وتهريبها، وقال المراسل: إن الجنود الفرنسيين
الذين يعملون تحت قيادة الأمم المتحدة يقومون بعمليات اغتصاب واسعة ضد
المسلمات، وأنهم كانوا يعطون الصرب شحنات الأغذية والأدوية مقابل إعطائهم
نساء مسلمات بوسنيات من المعتقلات لاغتصابهن.
وقال مراسل» الديلي تلغراف «: إن ضباطاً كباراً من الأمم المتحدة هم
الذين كانوا يشرفون على أسواق الدعارة في البوسنة. وذكرت» نيويورك نيوز «
الصادرة في 17/5/1414 هـ، أن أكثر من خمسين ضابطاً من فرنسا وكندا
وأكرانيا ونيوزيلندة ودولة افريقية لم يذكر اسمها كانوا يترددون على معتقل يديره
الصرب يعج بالأسيرات من النساء المسلمات اللاتي أجبرن على ممارسة البغاء.
هذه بعض أعمال وجرائم ذوي القبعات الزرقاء، لكن السؤال: من يتولى
التحقيق في ذلك إذا كان الخصم هو الحكم؟
آخر مهازل المنظمة:
وتأتي بعد هذا آخر مهازل المنظمة الدولية في اختيار هيئة المحكمة الدولية
لمحاكمة مجرمي الصرب على جرائم الحرب وكانت المفاجأة، فقد تم استبعاد أي
قاض مسلم من عضوية المحكمة المذكورة، أما الأكثر غرابة فهو اختيار قاض
هندوسي من ماليزيا التي يشكل المسلمون فيها أكثر من 70 % من سكانها واختيار
قاض نصراني من مصر التي تزيد نسبة المسلمين فيها عن 92% في المائة
واختيار قاض زرادشتي من باكستان التي تزيد نسبة المسلمين فيها عن 90 %.
والمضحك أن المجرمين الذين سيحاكمون أمام المحكمة مطلقون ويستقبلون
استقبال الأبطال والقادة في لندن وباريس ونيويورك وواشنطن وجنيف، والأخطر
من هذا كله أن الدول العظمى الأعضاء في مجلس الأمن التي طالبت كثيراً بتأسيس
هذه المحكمة تتراجع الآن عن تقديم زعماء الصرب للمحاكمة باعتبار أن جلوسهم
إلى مائدة المفاوضات يشفع لهم، أما محاكمتهم فتعرقل مسيرة السلام.
إن المرء يقف حائراً أمام تصرفات هذه المنظمة التي تكيل بمكيالين وتزن
بميزانين فهي لا تحب نصرة المسلمين أو حتى السماح للآخرين بمساعدتهم أو حتى
حمايتهم أو حتى حماية الأبرياء منهم لكن عندما يكون الأمر متعلقاً ببعض الجنود
غير المسلمين فيظهر الوجه الآخر للمنظمة الدولية فتقلق وتحزن على بضعة جنود
أسبان ولا تتأثر على تقتيل مئات الآلاف من المسلمين وتشريدهم وتهجيرهم
واغتصاب نسائهم ونهب ممتلكاتهم.
إن هذا الشعور الذي ينتابنا نحو هذه المنظمة وسكرتيرها يجعلنا نكرر ونرفع
صوتنا مع الكاتب الذي يقول: (إن عالمنا مليء بالأكاذيب وإن هيئة الأمم وميثاق
حقوق الإنسان كذب في كذب وحماية الشعوب من التفرقة العنصرية كذب في كذب
وحماية الدول من الإعتداء هو كذب في كذب) ، وكذلك نكرر مع الرئيس علي
عزت (إن الغرب حينما يتعلق الأمر بالإسلام مستعد لأن يخون مبادئه وقيمه التي
ينادي بها) .
الحقيقة الغائبة:
إن الحقيقة الناصعة التي لا تحتاج إلى إثبات هي أن قضايانا لن يحلها أحد
سوانا (وما حك جلدك مثل ظفرك) وإن أمة لا تملك الدفاع عن نفسها لا تستحق
الحياة والبقاء، والحقيقة أن ما اغتصب بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ذلكم هو المنطق
البدهي الذي تشهد له حقائق التاريخ الإنساني قديماً وحديثاً، فلولا ذلك لما خرج
الرومان من العالم العربي في عصر الفتوحات ولما طرد المسلمون الصليبيين
المعتدين الغزاة من أراضيهم، ولما غادرت فرنسا الجزائر وأمريكا فيتنام وروسيا
افغانستان.
لكن إلى متى نظل نتشبث بمجلس الأمن؟ وإلي متى نبقى مخدوعين بـ
» المجتمع الدولي «؟ إن شرور اليهود والهندوس والصليبيين والشيوعيين واعتداءاتهم على المسلمين لن تقهرها» شرعية دولية «ولا قرارات شجب وإدانة واستنكار، وإنما تهزمها وحدة المسلمين واتفاقهم وقوتهم وتفوقهم التقني والعلمي والعسكري، والاتحاد والتعاون فيما بينهم في كل المجالات ولا سيما المجالات الدفاعية والعسكرية.
والله من وراء القصد..(82/60)
المسلمون والعالم
جهودهم.. وجهودنا
في عصر السلام..!
عبد العزيز بن محمد الخضر
إن جميع أخطاء الماضي التي لها أكثر من قرن، لم تكن إلا تراكمات مع
الزمن لإنشاء جيل أو أكثر تشرّب الهزيمة واعتاد الذل بعد أن تحولت قابلية
الاستعمار لديه إلى مرض مزمن لم تتخلص منه إلا نوعية محدودة مع أنها لا تخلو
من بعض الآثار هنا أو هناك.
أخطاء الماضي.. ومحررو السياسة العربية:
إذا كان لديك ذاكرة وكنت ممن يتابع تنظيرات الإعلام العربي السياسية عن
طريق كتابات بعض الكتاب إياهم، فإنك ستلاحظ مدى تحولات الأفكار لديهم،
وهذه التحولات تتأثر باتجاه الريح السياسية، إذ لديها حساسية الاستشعار عن بعد
وعن قرب، إذ فن التبرير والإقناع وادعاء الواقعية وغيرها أساليب سهلة لمن
يمارسها على مدى أكثر من عشرين عاماً.
إنك لا شك ستلاحظ على كتاباتهم ادعاء الموضوعية والواقعية، وأنهم هم
النخبة المثقفة في المجتمعات العربية، وأما نقد العقلية العربية، والمجتمعات
العربية، والسياسات العربية، وأخطاء الماضي.. فهم يخرجون أنفسهم منها مع
أنهم هم الذين ساعدوا في تشكيل العقلية العربية، والسياسات العنترية.
فهم من أكبر أسباب النكسات العربية، ومع هذا فإنك لا تكاد تجد أحدهم يقول
أو يحاول أن يعترف بأخطاء الماضي ولو بالتلميح، إذ ليس المهم لديهم أن تحل
هذه القضية أو تلك! إنما المهم هو أن يكتب في زاويته كل صباح أو كل أسبوع ما
يسود ذلك الحيز، وبعضهم يجعلك تفهم أنه سبق له نقد ماضي السياسة والعقلية
العربية لكن أحداً لم يسمعه.
ما أسهل أن يسحبوا آراءهم السابقة ثم يتهموا بها الآخرين، فعندما سقطت
الشيوعية غير مأسوف عليها، بدأت التنظيرات والتحليلات لأسباب السقوط
وخلفياته، ونقد الأيديولوجية التي قامت عليها، هذا رأيهم الآن وهم يعتبرون
أنفسهم النخبة المثقفة ذات النظرة البعيدة.. فأين هذه الآراء قبل أكثر من عشر
سنوات؟!
أليس من السهل أن تنقد مخلفات الفكر بعد وضعها في زبالة التاريخ؟ ! أين
الثبات على المبدأ؟ أين الأسس العلمية والموضوعية؟ أين الصدق؟ أين الشجاعة
في الرجوع عن الخطأ أمام الملأ؟ أين الإخلاص في حل المشكلات؟
هذا الكلام مقدمة للحديث عن أهم قضايا أمتنا الإسلامية التي يحاول الإعلام
ومحررو السياسة العربية أزاحة أخطاء الماضي حيالها على الآخرين واتهامهم بها،
ليدفع الجميع في مجتمعاتنا الإسلامية ثمن السلام، كما دفعوا ثمن الحرب.
قضية فلسطين.. القدس.. أولاً:
إن المتأمل لواقع العالم الإسلامي ومشكلاته سيلاحظ أن القضية الفلسطينية هي
محور نكسات هذا القرن، وقُبيل الحديث عن هذه القضية أشير إلى ملحوظة سلبية
يجب أن يُتنبه لها وهي مسألة الحماس الوقتي المحدود الذي يبدأ بالانطفاء تدريجياً
بعد الحدث إلى أن يتلاشى، فتصبح اهتماماتنا بقضايا الأمة على شكل موجات ذات
قمة وقاع، فما أن يبدأ الخط البياني بالارتفاع إلا ويسقط بنفس السرعة.. ولو أن
كل قضية نتعامل ونتفاعل معها نسبياً تبعاً لأهميتها في حياة الأمة ومصيرها، مع
السماح للتغيرات الطفيفة في التعامل والحماس للطبيعة البشرية.
لقد كان أمراً مؤسفاً أن يسألني أحدهم عن كتاب متكامل يعطيه التصور
الشرعي والواقعي للقضية الفلسطينية والأحداث التي مرت بها، يعطيه النظرة
المستقبلية لأهم قضايا الأمة ثم لا أستطيع الإجابة..!
لا أنكر أن هناك كثير من الكتب التي اهتمت بهذه القضية من منظور إسلامي، ولكن غالباً يلاحظ عليها الاهتمام بجانب دون آخر، ومع هذا فهي محدودة
الانتشار والشيء الذي لا نستطيع نفيه أنه لوحظ إهمال كبيرمن الدعاة والمثقفين
الإسلاميين بهذه القضية في السنوات الماضية، حتى أفقنا على مثل هذه المؤامرات
والمواقف، وكثير من فئات المجتمع الإسلامي ليس لديها الوعي الكافي بمثل هذه
القضية، سوى بعض المشاعر والعواطف القابلة للهدم بتأثير إعلامي منظم، عندها
نحتاج إلى سنوات عديدة لإعادة بناء الوعي والمشاعر إذ الهدم أسهل من البناء،
ولو كان هناك اهتمام منظم من المثقفين والدعاة في أنحاء العالم الإسلامي، وتعاون
مع دور النشر للوصول إلى جميع شرائح المجتمع، لأصبحت مضادات حيوية لهذه
المؤثرات الإعلامية، ويكفي لرؤية هذا الخلل أننا وجدنا كثيراً من الفئات في
المجتمع الإسلامي اقتنعت بأفكار السلام بعد أن كنا نراه مستحيلاً قبل سنوات!
نعم لقد خسرنا الشيء الكثير حتى حماس الجماهير وعواطفها، بمجرد
التخدير الإعلامي لعدة شهور!
لذا يجب أن يكون لدينا الاهتمام المتوازن في كل قضية إسلامية، ولا
يتعارض هذا مع الاهتمامات التأصيلية للعلم الشرعي للخاصة والعامة، وتوعية
الجماهير، ولا يليق أن تضيع الأمة بجمود بحجة العلم الشرعي، أو هامشية بحجة
الاهتمام بالواقع.
جهود وتبريرات:
لقد تركزت الجهود الإعلامية المختلفة في الفترة الماضية منذ مؤتمر مدريد
على محاولة إقناع جميع الشرائح في المجتمع العربي والإسلامي بحتمية هذا الحل،
وأنه لا يمكن أن يوجد هناك حل آخر، وللوصول إلى هذا الهدف اتبعت أساليب
عدة كتغيير الصيغة الإخبارية وتحليلاتها تدريجياً فيما يتعلق بهذه القضية وتركيز
الاهتمام بالأخبار التي تشجع تقدم خطوات السلام، ومحاولة تهميش الأخبار المؤثرة
على عملية السلام، إضافة إلى كم هائل من المقالات والأعمدة الصحفية المختلفة
للكتاب الذين ينظرون لهذه الخطوات بطرق مختلفة.
ويلاحظ المتتبع في الفترة الماضية لأكثر الآراء المختلفة المؤيدة والمعارضة
بمختلف توجهاتها التي طرحت عبر منابر إعلامية متعددة وفقاً لتوجهها العام، أن
هناك محاور عدة يحاوَل من خلالها اقناع الطرف الآخر.
وقبل أن أستعرض تلك الآراء التي طرحت، أو أن أشير بكل أسف إلى تفوق
الطرح العلماني، وجهود محرري السياسة العربية في التنظير لهذه القضية لإقناع
المتابع العربي، أو محاولة تخديره، وإن كان هذا التفوق ناتج عن التفوق الإعلامي
في الوسائل، إلا أن هناك بعض النقاط والتساؤلات التي طرحها هذا التوجه بعمق
وموضوعية
-مدعين- يوهمان المتابع البسيط الاقتناع بهذه الآراء حيث يلاحظ ابتعادهم
عن الطرح العاطفي، مع محاولتهم إشعار الآخرين بالموضوعية والواقعية، مع
رمي المعارضين من كل التوجهات ببعض الكلمات والتعبيرات، وجعلهم جبهة
واحدة، مع اتهامهم بعدم الواقعية وأنهم مازالوا يعيشون مرحلة الشعارات.
أما الطرح الإسلامي لقضية السلام، فإنه وللأسف لايزال دون مستوى
الأحداث، إذ كل الطرح الذي تم في الفترة الماضية من قبل الإسلاميين لايزال
طغيان العاطفة مؤثراً فيه تأثيراً كبيراً، وكثيراً ما تركز الهجوم فيه على قادة عملية
السلام، مع بكاء ورثاء الواقع، وتذكر التاريخ واستعمال العموميات بعيداً عن
مناقشة تعقيدات الأحداث، وفضح المبررات التي يطرحها المؤيدون.
حيل لإقناع الآخرين:
لقد كانت الآراء التي تؤيد عملية السلام تدور محاورها حول نقاط محددة ومن
خلالها استطاعت اختراق العقلية العربية وإقناعها بحتمية هذا الحل، ويمكن
بالاستقراء تحديد تلك النقاط باختصار كالتالي:
1- أن الأوضاع العربية لا يمكنها في الوقت الحالي مواجهة إسرائيل
ومعارضتها، فهي في ضعف اقتصادي كبير، ومشاكل داخلية متعددة إضافة إلى
الضعف العسكري والعداوات فيما بين الدول العربية نفسها.
2- يجب استغلال هذه الفرصة لتفريغ مجتمعاتنا للتطوير والتنمية التي
تحتاجها بدلاً من الدخول في حروب استنزاف تئد برامج التنمية المختلفة.
3- إنتهاج مبدأ «خذ وطالب..» ومن خلاله نتدرج في استرداد الحقوق
خطوة خطوة، بدلاً من أن نخسر كل شيء، ولو أننا قبلنا بالتقسيمات السابقة باتباع
هذا الأسلوب لكنا حافظنا على مكتسبات كبيرة.
4- أنه تم تجريب الحلول التي يريدها المعارضون عن طريق استرجاع
الحقوق بالقوة وعدم التنازل عن أي شيء، فكانت النتيجة أن وصلنا إلى هذه الحالة.
5- التحول الجيد في العقلية العربية في التفاوض والمحاورة الواقعية بعيداً
عن الأحلام، والتخلص من قضية رفع الشعارات والسياسات العنترية باسم تحرير
المقدسات التي استغلتها قيادات عربية لتبرير أخطائها المتعددة.
6- كسب بعض الشيء أحسن من أن نخسر كل شيء نتيجة لأوضاعنا
الحالية.
7- وضع هوية ودولة للفلسطينيين يكون من خلالها تكوين الذات لاسترداد
الحقوق مستقبلاً، وجعلهم يواجهون تحديات المستقبل بأنفسهم.
8- تكرار إلقاء سؤال: ما هو الحل البديل؟ وكيف أيها المعارضون؟ ومن
خلاله يتم اتهام المعارضين بعدم وجود حل لديهم، وأنهم مازالوا يعيشون الأوهام
السابقة، وبعدهم عن النظرة الواقعية والموضوعية.
تلك بعض المبررات أو الحيل التي استعملت لإقناع الآخرين، والتي أثمرت
عن اقتناع قطاع عريض في المجتمع الإسلامي، بل حتى المعارضون ممن لهم
النظرة الإسلامية وبخاصة من ذوي الثقافة السطحية أصبح ليس لديهم إلا العاطفة
الحارة لمواجهة مثل هذه المبررات، حيث يلاحظ عدم قدرتهم على مواجهة
المبررات بذاتها والمحاورة حولها، وهذا الأمر له خطورته، إذ كيف تتم المحافظة
على هذه الفئة التي لم تتلوث بأفكار السلام؟ ثم كيف نحاول إقناع الذين آمنوا
بحتمية هذا الحل إذا كنا لا نحاول الرد عليها وفضح هذا التوجه؟ !
تهافت التبريرات:
من السهل جداً أن ترد على هذه المبررات إذا كان لديك علم شرعي وثقافة
واسعة وفهم عميق للواقع، ولكن من الخطأ أن نظن أن قطاعاً عريضاً يمكن أن
يكون لديهم هذه المقدرة، ويمكننا هنا أن نستعرض بعض المبررات التي يتمسك بها
من يعارض عملية السلام من أصحاب النظرة الإسلامية والمتمثلة فيما يلي:
1- خيانة القضية باعتبارها قضية دين أو عقيدة، لأن الاعتراف للعدو بحق
الوجود على أرض فلسطين لا يمكن أن يقابله أي شئ، فكيف إذا كانت بنود السلام
مجحفة وفيها ظلم واضح؟!
2- أن الطبيعة اليهودية من الوحي ومن التاريخ ومن الواقع تثبت أنها لا
يمكن أن تلتزم بالمواثيق والعهود.
3- من أهم الأفكار التي تقوم عليها عمليات السلام، الوقوف في وجه
الأصولية الإسلامية ومحاربتها والتضييق عليها، باسم معارضتهم لأفكار السلام!
4- خطورة الأمور التي ستحدث مستقبلاً، كعمليات التطبيع التي سينتج عنها
اختراق كبير لمجتمعاتنا العربية والإسلامية في النواحي الثقافية والسياسية
والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
5- أن تجارب الحروب والمواجهات السابقة لم تكن إلا من قيادات القومية
العربية، وكان طبيعياً أن تفشل، أما حركات الجهاد الفعلي فإنها قادرة على تحقيق
نتائج لولا إعاقات وخيانات بعض النظم العربية.
6- بقاء القضية معلقة الآن، أفضل من أن تحل بمثل هذه الحلول التي ستدفع
ثمنها الأجيال القادمة.
تلك بعض المبررات وليس كلها التي يطرحها المعارضون لفكرة السلام مع
اليهود، وأعرف أن هناك أسباباً كثيرة غيرها تجعل من السلام الذي وصلنا إليه
واقعة حرجة للأمة تجمعت فيها أخطاء وخيانات الماضي والحاضر.
ما دورنا..؟ !
تُرى هل تكفي عبارات الشتم والتنديد، وتأجيج العواطف، وبكاء ورثاء
الواقع للتخفيف من آثار المصيبة؟ !
بنظرة موضوعية ونقدية لذواتنا نجد أننا لا نزال بعيدين عن مستوى الحدث
إذ لاتزال عشوائية الطرح البعيدة عن التنظيم فيما يخص هذه القضية، فكل ما تم
في الفترة الماضية فقط جهود فردية هنا وهناك، من بعض الكتاب والخطباء
والمحاضرين، التي ينقصها أيضاً الشمولية في الطرح، فكل جهد منها أجاد في
معالجة زاوية من زوايا المشكلة.
إن استمرارنا في معالجة هذه القضية بهذه الطريقة، دون تخطيط وتأمل
ودراسة مستقبلية للوضع، قد يجعلنا أمام مستقبل مظلم في ظل هذه الأوضاع حتى
أصبحت تلك القضية التي نتمسك بها في معارضة السلام تحشرنا في التصنيف مع
آخرين من معارضي السلام من متطرفي اليهود والإسلام الإيراني وحثالة المتاجرين
بالقضية..!
وحتى الآن ليس لدينا فكرة متكاملة لمواجهة الوضع الذي لم نُستشر فيه وما
هي البرامج التي يمكن أن نسير عليها للتخفيف من آثار تلك المصيبة.
وهنا اقتراحان يمكن البدء بهما:
*تنسيق الجهود بين مراكز وهيئات إسلامية مختلفة في أنحاء العالم لوضع
برامج عملية يمكن تطبيقها في الواقع لمواجهة تحديات المستقبل القريب.
*قيام مبادرات خاصة من أي جهة إسلامية لتخصيص لجان تهتم بهذا الشأن،
وعقد ندوات متعددة تُستقطب فيها أعداد كبيرة من العلماء والمتخصصين في الشؤون
الإعلامية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وأعرف أن هناك اقتراحات
كثيرة يمكن إيجادها في هذا الشأن، إلا أنه تبقى مشكلة من يُعلق الجرس، ومن يبدأ
..؟ ! لأن مثل هذه الاقتراحات تتكرر ويكثر الحديث حولها، بل سنجد من يقول
إن قيام أي مؤتمرات وندوات في هذه القضية سينتج كماً هائلاً من التوصيات التي
لن ترى طريق النور..! !
تلك مشكلة من مشكلاتنا الكثيرة التي نعاني منها، وأتوقف هنا عن الاستطراد
حولها.
ومع هذا وبافتراض عدم قيام تلك الاقتراحات الجماعية في عالم الواقع فإنه
يمكن أن تكون هناك جهود فردية منظمة هنا وهناك، يمكن من خلالها نشر وعي
متكامل حول هذه القضية، فبإمكان أي جهة إعلامية إسلامية أن تستقطب الكتاب
للحديث في هذا الشأن، وأن نقوم بإصدار كتيبات على شكل سلسلة من الإصدارات
تعالج القضية من جوانب مختلفة.
ويمكن كذلك لخطيب الجمعة بدلاً من أن يطرح القضية كلها بحماس وعاطفة
في خطبة أو خطبتين، ثم يترك الحديث عنها لسنوات يمكن أن يكون لديه تخطيط
مستقبلي في معاجة القضية وطرح متكامل على شكل سلسلة من الخطب تمتد
لسنوات، حيث يتطرق لهذا الموضوع كل أربع شهور مثلاً، يجمع خلالها
معلومات متنوعة وتعليقات ونظرات مستقبلية.
ويمكن لأي جهد شخصي نقوم به، أن نفكر جيداً قبل القيام به، حتى لا
يحصل هناك تكرار في الطرح لأفكار ومواضيع محددة، وتهمل جوانب أخرى
ويمكن عن طريق اللقاءات المباشرة مع العلماء، وأساتذة الجامعات والمتخصصين
حثهم على التطرق والاهتمام بمثل هذه الموضوعات وعدم نسيانها.
أشياء كثيرة يمكن عملها، لو صدقنا مع الله وابتعدنا عن تلك السلبية التي
نعيشها في حياتنا.(82/72)
المسلمون والعالم
الإسلام في زيمبابوي
ماضيه وحاضره ومستقبله
عمر بيري
تقع دولة «زيمبابوي» في جنوب إفريقيا، ويحدها من الشمال جمهورية
زامبيا، ومن الجنوب جمهورية جنوب إفريقيا، ومن الشرق دولة موزنبيق ومن
الغرب جمهورية بوتسوانا، ويبلغ عدد سكان زيمبابوي حوالي عشرة ملايين نسمة، والمسلمون يقلون عن نسبة 1% من هذا التعداد، حيث يبلغ عددهم حوالي ثمانين
ألف نسمة، ويعتمد اقتصاد زيمبابوي على الزراعة في المقام الأول ثم التعدين
والتصنيع.
استقلت زيمبابوي عن الاستعمار البريطاني عام 1980م، بعد قرن من
الاستعمار، وذلك بعد حرب دامت أكثر من عشرين عاماً، وكانت المسيحية هي
الديانة الرسمية في أيام الاستعمار، إلا أن الحالة تغيرت بعد الاستقلال، إذ ينص
دستور زيمبابوي على حرية الاعتقاد، وبناء على ذلك يتمتع المسلمون بحرية كاملة
حيث لا يوجد أي عائق من ناحية الحكومة في طريقة نشر الإسلام.
دخول الإسلام في زيمبابوي:
دخل الإسلام في زيمبابوي على مرحلتين: المرحلة الأولى كانت قبل مجيء
الأوربيين إلى زيمبابوي، حيث قامت علاقات تجارية بين العرب المسلمين الذين
دخلوا المنطقة عن طريق الساحل الشرقي من موزمبين، وكان هؤلاء المسلمون
يتاجرون مع قبيلة تعرف باسم «الواريمبا» التي تقيم في إقليم «ماسوينجو»
جنوب شرق زيمبابوي، هذه القبيلة أسلمت في ذلك الوقت ولكن لأسباب لا تعرف
انقطعت العلاقات التجارية بين الواريمبا والعرب، مما أدى إلى ابتعاد الواريمبا عن
الإسلام، إلى أن بقيت بعض التعاليم الإسلامية عندهم متضائلة جداً، واعتبروها
تقاليد خاصة بقبيلتهم.
من هذه التعاليم الإسلامية التي بقيت عندهم: عدم أكل لحم الخنزير واللحوم
التي يذبحها غيرهم، ولا يتزوجون أحداً من خارج القبيلة، وعند الذبح يقولون
البسملة بطريقة محرفة، وبقي عندهم الختان أيضاً، وكان الشاب يعلم سورة الفاتحة
بطريقة محرفة بعد الختان، وكانت هذه السورة تعتبر سراً من أسرار القبيلة،
وكانوا يحيون بعضهم بعضاً بالتحية الإسلامية، أي السلام عليكم.
وقد اكتشف المسلمون هذه القبيلة في أوائل السبعينات، وأسلم أغلبهم ويبذل
حالياً الدعاة جهدهم لإعادة إسلام هؤلاء الإخوة الذين ضلوا.
أما المرحلة الثانية لدخول الإسلام في زيمبابوي فذلك كان مع مجيء
الاستعمار، لقد أتت الحكومة الاستعمارية بالهنود باعتبارهم موظفين إداريين إلى
زيمبابوي، وكان معظمهم بحمد الله مسلمين، ونظراً لأن السكان المحليين ما كانوا
معتادين على العمل في المزارع والمناجم مقابل راتب، إذ كانوا يفضلون أن يعملوا
في مزارعهم الخاصة، ونظراً لكل ذلك وللحاجة إلى الأيدي العاملة اضطر
المستوطنون إلى جلب العمالة من «ملاوي» و «موزمبيق» ، وكان بحمد الله
وتوفيقه معظم هؤلاء مسلمين.
وهكذا يمكن تقسيم المسلمين في زيمبابوي إلى ثلاث فئات، وهم:
1- مسلمون ذوو الأصول الآسيوية (منهم الملونون) .
2- مسلمون ذوو الأصول الملاوية (وهم أغلبية الفئات) .
3- مسلمون محليون (الواريمبا وغيرهم الذين يسلمون هذه الأيام) .
بحكم أسباب هجرة المسلمين إلى زيمبابوي يتواجد المسلمون في المدن
الرئيسة ومناطق التعدين والزراعة، وفي الريف بالنسبة للمسلمين المحليين
(الواريمبا) ، فالمسلمون الآسيويون يحترفون التجارة بينما نجد الملاويين يعملون في
المزارع والمناجم، ومنهم من يحترف الحياكة.
حالياً يوجد معهد إسلامي واحد في العاصمة يعرف باسم «اقرأ دار العلم» ،
ويشرف عليه مجلس العلماء، ولكن يوجد ما يشبه نظام الخلاوي في كل مسجد،
حيث يتلقى التلاميذ دروسهم الإسلامية بعد الدوام المدرسي، أي بعد صلاة العصر.
المستقبل للإسلام:
إن مستقبل الإسلام في زيمبابوي مبشر جداً نظراً للحرية الدينية التي هي حق
دستوري، ونظراً لأن الحكومة لم تضع أي عقبات أمام الدعوة الإسلامية فهي تعامل
المسلمين كأي مواطن من غير فرق، وكلما تقدموا بطلبات سواء أكانت لبناء مسجد
أو غير ذلك، وجدوا استجابة جيدة.
ومن الأمور التي تبشر بمستقبل زاهر للإسلام في زيمبابوي سأم غير
المسلمين من النصرانية لعلاقتها بالاستعمار، ورغبتهم الشديدة في شيء جديد
والإسلام بالنسبة لهم جديد.
نظراً لهذه العوامل يجب على المهتمين بالدعوة أن يستغلوا فرصة تسامح
الحكومة لصالح الإسلام، وأن يعملوا على زيادة عدد المسلمين، وعلى رفع مستوى
المسلمين المعيشي، والثقافي، والتعليمي، مما قد يمكنهم من احتلال مراكز حساسة
في الدولة، ويمكن أن يتم ذلك إذا اعتبرت المقترحات الآتية:
1- التعليم:
* تأسيس مدارس إسلامية ذات نظام مزدوج، حيث يجمع الطالب بين التعليم
الإسلامي (الديني) والتعليم الأكاديمي، وهذه المدارس يمكن أن تقام في مناطق
الواريمبا (إقليم ماسونجو) ، وفي كوبكوي، والعاصمة هراري، وبلاوايو، ونحبذ
لو كانت هذه المدارس داخلية كلها، أو بعضها حتى نتمكن من استقبال طلاب من
مناطق مختلفة.
* تأسيس معاهد تجارية مهنية تقدم برامج في مجالات مختلفة مثل:
السكرتارية، والمحاسبة، والتجارة، والإدارة، والمهن الأخرى مثل: الكهرباء،
وميكانيكا السيارات، والنجارة، وغير ذلك، ويسمح لهذه المعاهد أن تقدم التعليم
الأكاديمي أيضاً.
2- المشاريع التنموية:
بما أن معظم المسلمين فقراء، أعتقد أنه لو أتيحت لهم فرص لعمل مشاريع
تنموية، وقدمت لهم المساعدات اللازمة، قد يرفع ذلك من مستواهم المعيشي،
ويكون لذلك أثر ملموس في سير الدعوة الإسلامية في زيمبابوي وكما سبقت الإشارة
ومعظم المسلمين الفقراء يجيدون الحياكة، فلوعملت لهم جمعيات تعاونية في هذا
المجال فلا شك أن ذلك سينفعهم، ومنهم من يجيد البناء، والتجارة، والزراعة،
ومجالات تجارية أخرى.
3- برامج الدعوة الإسلامية والتوعية:
يلاحظ أن أحد أسباب قلة عدد المسلمين في زيمبابوي أن المسلمين لم يبذلوا
جهداً كبيراً في الدعوة الإسلامية، بل قصروا مجهودهم على أنفسهم وذويهم، لذا
فقد يجد الواحد أن العامة من غير المسلمين ربما لم يسمعوا قط عن الإسلام،
وبالتالي أرى ضرورة تنفيذ برامج الدعوة وتكثيفها، من خلال استغلال الوسائل
المتاحة من الأجهزة الإعلامية، مثل الراديو، والتلفاز والصحف، وهناك حاجة
إلى منشورات إسلامية باللغة الإنجليزية واللغات المحلية.
ويمكن أن تقوم الدعوة الإسلامية من خلال تقديم الخدمات الصحية، وحفر
الآبار، وغير ذلك على نمط ما يقدمه التبشير النصراني، وفي أوقات الجفاف يمكن
تقديم الإغاثة اللازمة، وأيضاً يمكن أن تقدم مساعدات للمزارعين في شكل البذور
الحبوب الزراعية المختلفة، والسماد، والآلات الزراعية وغير ذلك.
4- وهناك حاجة للمنح الدراسية في الخارج في جميع المجالات، والحكومة
لا مانع لديها بهذا الخصوص.
5- أما فيما يختص بتسجيل المنظمة في زيمبابوي فيستحسن أن تسجل
باعتبارها محلية حتى تستثنى من الضرائب، وهذا يساعد أيضاً حين يطلب إقامة
لأي أجنبي يرغب العمل في المنظمة، حيث تشترط الحكومة لأي أجنبي يريد
العمل في زيمبابوي أن يتوظف لدى منظمة أو شركة محلية، حيث إن هذه المنظمة
أو الشركة تقوم مقام الكفيل.(82/81)
المسلمون والعالم
الأقليات الإسلامية
قضية العصر
د. محمد يحيى
في وقتنا الراهن لا يستطيع المسلم أن يهرب من أنباء الاضطهاد والملاحقة
بل والمذابح التي تتعرض لها الأقليات الإسلامية سواء أكانت صغيرة الحجم أم
كبيرة في شتى أنحاء العالم فمن «البوسنة» إلى «كوسوفو» إلى «اليونان»
إلى بلاد «الأباظة» وإقليم «أوستيا» و «الإنجوش» و «طاجيكستان»
و «كشمير» و «الفلبين» و «تايلاند» إلى «أثيوبيا» و «الكاميرون»
و «جنوب إفريقيا» ، ومنذ سنوات وسنوات كان الحديث عن قبرص وإريتيريا وزنجبار وبورما التي عاد الحديث عنها كما عاد عن الجمهوريات ... السوفيتية الآسيوية السابقة، كما كان على امتداد سبعين عاماً، ومازال الحديث متصلاً عما أقل إثارة للانتباه كنقص الدعاة والمساجد والفقر والجهل بتعاليم الدين والتفكك والبعد عن سائر مسلمي العالم.
المعنى المطلوب لمفهوم الأقليات:
باختصار فإن ملف قضية الأقليات الإسلامية هو ملف مؤلم يبعث على الحسرة
وينفر القلم من الاقتراب منه، وأذكر أن أحد رؤساء التحرير لمجلة إسلامية طلب
مني منذ سنوات أن أكتب باباً ثابتاً في مجلته عن الأقليات المسلمة أتابع أحوالها
وأعرف الناس بها وبمشاكلها فكان ردي عليه بعد أن تناولت مشكلة نقص المعلومات
وصعوبة الحصول عليها هو أن هذه القضية لا يمكن لأي شخص أن يتناولها دون
الحديث عن موضوع واحد متكرر لا يكاد يتغير ألا وهو الذبح والتقتيل مما يؤدي
بعد فترة إلى تعود القراء عليه بحيث ينحصر مجال الأقليات الإسلامية عندهم في
مجرد مقابلة روتينية باردة لآخر إحصاءات القتلى والمعذبين من المسلمين بجانب
إحصاءات الخسائر المادية في صفوفهم.
وأخشى أن قضية الأقليات الإسلامية قد تحولت عند المسلمين أو في إعلامهم
على تواضعه وضعفه إلى ما كنت أتصوره منذ سنين طويلة فلا توجد في الصورة
الآن سوى إحصاءات القتلى والخسائر على كل الجبهات والأصعدة توضع أمام
الناس وسط افتقار كبير إلى المعلومات الأخرى ووسط بعض التعبيرات الحزينة
والاقتراحات المعممة لحل الأزمة ولا شيء غير ذلك مما يؤدي في الحقيقة إلى قتل
القضية وفض الاهتمام بها تماماً، والغريب أننا في دنيا الأرقام هذه نعتمد في
إحصاءاالقتلى والخسائر على المصادر الأجنبية في المقام الأكبر وليس على
مصادرنا إلا فيما ندر.
الإحصائيات الأجنبية مشبوهة:
والطريف أن الرجوع إلى هذه المصادر الأجنبية نفسها رغم تحيزها الواضح
يكشف عن حقائق قد تبدو غريبة حتى بالنسبة لمن كانوا يظنون أنفسهم من
المطلعين، فمنذ فترة قريبة تصادف أن وقع في يدي كتاب الأحصاء السنوى
الصادر عن مكتب الإحصاء الألماني لعام 1991 وفيه باب عن توزيع السكان في
شتى دول العالم وفق الديانة، ووجدت في هذا الكتاب أرقاماً عن المسلمين في
أوروبا فإذا بهم وفق مصادر هذا الكتاب يبلغون 12% من سكان الاتحاد السوفيتي
السابق و4. 10% من سكان ما كان يعرف بيوغوسلافيا و3% من سكان فرنسا و7
. 2% من سكان ألمانيا و4. 1% من سكان بريطانيا وإيرلندا وتصورت أنه نتيجة
لتحيز التقرير (الذي يقول: إن هذه هي الأرقام كما كانت عام 1989) فلابد أن
تكون النسب السكانية للمسلمين أعلى من ذلك بكثير على الأقل في الاتحاد السوفيتي
والاتحاد اليوغسلافي السابقين، أما عن إفريقيا فقد أورد الكتاب مثلاً أن المسلمين
يشكلون 8. 42% من سكان بوركينا فاسو مقابل 1، 12% من المسيحين، فمن
كان يظن أن بوركينا فاسوا بلداً إسلامياً هذا إن عرف سكانها على خريطة إفريقيا
الغربية؟ والمسلمون في سيراليون 5. 38% من عدد السكان وهم أكبر مجموعة
دينية فمن كان يتصور أو يعرف أن سيراليون بلد إسلامي؟ وهم في السنغال
9. 93% من عدد السكان أي أكثر من نسبتهم في بعض البلاد الإسلامية المشهورة ومع ذلك فلا تطالعنا السنغال في الإعلام الدولي إلا بوجه مسيحي، يوحى بأنها بلد لا وجود للمسلمين فيه إلا قلة هامشية، والمسلمون في بلاد إفريقية أخرى في هذا التقرير غير الموثوق تماماً يشكلون أقليات أكبر مما قد يظن المرء فهم في موزمبيق 13% من عدد السكان وفي رواندا 9% وفي مالاوي 2. 17% وفي غانا 7. 15 % هذا عدا البلدان التي يشكلون فيها الأغلبية.
وبصرف النظر عن مصداقية هذه الإحصاءات (وهي ليست فوق مستوى
الشبهات لإنها مثلاً تورد أن عدد المسلمين في السعودية يبلغ 93% من السكان وهو
كذب مضحك) ، فإنها تدل على شيء واحد يحكم العلاقة مع قضية الأقليات المسلمة
ألا وهو الافتقار المخجل إلى المعلومات الأساسية من مصادر موثوقة رغم أننا
نعيش في عصر يكثر الحديث فيه عن ثورة المعلومات وثورة الاتصالات، ونلمس
فيه نقداً للدول الإسلامية في مجال استهلاك أدوات الاتصال والإعلام على الأقل من
الناحية التقنية البحتة، إن عدم وضوح الصورة يشكل الجانب الأهم من قضية
الأقليات لكنه مجرد البداية، فعلى فرض توافر المعلومات الدقيقة والمفصلة
والموثوقة هل يمكن أن تتغير الصورة أو يتغير وضع الأقليات تتحول قضية
الأقليات عن أن تكون مجرد قضية إحصاءات بأعداد القتلى والخسائر؟ لا أظن ذلك، بل إن الجهل وعدم توفر المعرفة بأحوال الأقليات قد يكون أحياناً السلاح الذي
تستخدمه بعض الجهات والدوائر العلمانية صاحبة النفوذ في كثير من البلدان
الإسلامية كي تحجب الحقائق عن جماهير المسلمين، وتقضي بذلك على تعاطفهم
مع الأقليات الإسلامية، ومن ثم تلاشي الوعي والإحساس بوجود أمة إسلامية واحدة
يرجى الترابط والتعاضد بين مكوناتها.
مشكلات الأقليات:
قد يكون الجهل بأحوال الأقليات بل حتى بأعدادها هو المشكلة الأولى التي
تواجه المسلمين حيال هذه القضية إلا أن هذه المشكلة تهون بجانب المشاكل الأخرى
المتصلة بموضوع الأقليات المسلمة، ولعل أوضح هذه المشاكل هي كيفية توصيف
الأقليات، فهل المسلمون في كشمير أقلية أم أنهم أصحاب البلاد الذين يرزحون
تحت الاحتلال الهندوسي؟ وهل هم في الجمهوريات الآسيوية السابقة من الاتحاد
السوفيتي أقليات أم أصحاب البلاد الحقيقيين وهم الأغلبية فيها الذين تآكلت أغلبيتهم
إما عن طريق تهجير الروس إلى بلادهم أو عن طريق استلاب أبنائهم بنشر
الشيوعية والإلحاد؟
ويقال نفس الشيء في بلدان إفريقية كثيرة تقلصت فيها أعداد المسلمين (دون
أن يتحولوا إلى أقلية بالمعنى الدقيق) من جراء عمليات التنصير العارمة أو إبعادهم
إلى هامش الحياة على يد الاستعمار، وهنا ينبغي أن نشير كذلك إلى مسألة حجم
الأقليات، فالحديث عن الأقليات الإسلامية بوضعها كلها في سلة واحدة لمجرد أنهم
يوجدون داخل حدود سياسية لا يشكلون فيها أغلبية عددية يتجاهل حقيقة أن هؤلاء
أقليات كبيرة العدد بحيث لا يجوز أن يطبق عليها مفهوم الأقلية.
كذلك فإن هناك أقليات إسلامية تعيش وسط أغلبية غير مسلمة كبيرة إلى حد
أن هذه الأقليات كما في أمريكا أو الصين أو بعض بلاد أوروبا تفوق أعدادها أعداد
المسلمين في بلدان يعتبرون فيها من الأغلبيات إلا أن عدد السكان فيها لا يتجاوز
ملايين قليلة، لكن النسبة العددية للمسلمين في تلك البلدان كبيرة العدد تجعل منهم
«أقلية» وفقاً للمصطلح العددي، ومما لا شك فيه أن هذه الأقليات كبيرة الحجم يمكن أن يكون لها بالتنظيم والنشاط والتماسك دور فاعل في نشر الإسلام في محيطها أو على الأقل في الحفاظ على عقيدتها والتفاعل الإيجابي مع الأمة الإسلامية لخدمة مصالحها كما هو حال الجاليات اليهودية في أمريكا ودول غرب وشرق أوروبا.
والحق أن مجرد إطلاق لفظ الأقليات على المجتمعات الإسلامية المقيمة في
بلدان خارج ما اصطلح عليه أنه يمثل القلب الإسلامي أو ديار الإسلام يوجد فوضى
وظلم كبير، فهناك مجتمعات مسلمة كما أشرت في الفقرة السابقة كانت توجد في
ديارها آمنة كما في مناطق غرب أفريقيا والبلقان ثم فرضت عليها تجمعات سكانية
أخرى بفعل التنصير أو التهجير أو تغلب القوى السياسية غير الإسلامية المحلية أو
الاستعمارية بحيث أن تسمية «الأقلية» تغمطها حقها وتطمس الواقع التاريخي
لتشير إلى مجرد حاضر مؤلم، بل وتجمع هذه التسمية بين هذه التجمعات
ومجتمعات إسلامية أخرى نشأت في فترات قريبة في بلدان كبلدان المهجر في
الأمريكتين وأستراليا، غير أن الخطورة الحقيقية في مصطلح «الأقليات» تكمن
في جانب آخر.
إن استعمال هذه التسمية يشير إلى تجمعات سكانية محدودة العدد وبالتالي
محدودة التأثير لكونها بعيدة فعلياً (جغرافياً) من القلب أو المركز، ومن ثم تكون
بعيدة عن هذا المركز من ناحية الشعوب والترابط مما يجعل الاهتمام بها في أحسن
الأحوال أمراً ثانوياً، وهذه التسمية تشير إلى تجمعات سكانية تقيم منعزلة ومندمجة
داخل دول إقليمية ذات حدود ثابتة وراسخة ومحاصرة داخل ببيئات ثقافية ودينية
مغايرة، كما تشير التسمية إلى أن هذه الأقليات قد تحدد وضعها إلى الأبد داخل هذا
النطاق أي داخل نطاق غير إسلامي، وعلى هامش اهتمامات الأمة الإسلامية بحيث
أن أقصى ما ينتظر من علاقة بين المركز الإسلامي أو القلب الإسلامي وهذه
الأقليات هي علاقة التفقد بين وقت وآخر والإمداد ببعض المواد التعليمية والتدخل
اللفظي في الحالات القصوى لمحاولة إنقاذ هذه الأقليات مما تتعرض له دون أن
يؤدي ذلك أبداً إلى إفساد العلاقات مع القوى والبلدان والقوميات غير الإسلامية التي
تعيش الأقليات المسلمة داخل نطاق نفوذها.
الأقليات بين المسلمين والنصارى:
ومن الجلي أن هذا التكييف لقضية الأقليات الإسلامية وهو التكييف الذي يشير
إليه المصطلح يتناقض تماماً مع الوضع داخل النصرانية العالمية فمن الصحيح أن
عبارة الأقليات النصرانية قد تستخدم أحياناً لكنها تستخدم فقط على المستوى
الإعلامي والدارج دون أن يكون بها ارتباطات شعورية أو معنوية كتلك المشار إليها
في الفقرة السابقة، أما الوضع الطبيعي فهو أن ينظر إلى النصارى في كل مكان
ليس على أنهم أقليات منعزلة هنا وهناك وسط بيئات غير نصرانية وإنما كأفراد
وأعضاء في ديانة وأمة دولية الطابع لها مؤسساتها الدولية (العابرة للقارات والحدود
الإقليمية) وهي الكنائس الكبرى ومجالسها العالمية ومنظماتها التي لا تكاد تحصى،
وهي هيئات مسؤولة عن رعاية وتفقد جميع النصارى في كل مكان دون تفرقة بين
أغلبيات وأقليات في النظرة أو الشعور أو مدى الرعاية أو مدى تقدير الاحتياجات،
وينطبق نفس الشيء على اليهود والبوذيين والهندوس حتى الآن، فضلاً عن النحل
الصغيرة المارقة مثل القاديانية والبهائية وغيرها.
الخلل في مفهوم الأقليات الإسلامية حالياً:
إذن النظرة أو الطريقة التي تطرح بها مسألة الأقليات الإسلامية تعاني من
الخلل منذ بدايتها لمجرد الإيحاءات والمعاني التي تحيط بمصطلح الأقليات ذاته لأنها
تحدد طبيعة الأقليات كما قلت كتجمعات محدودة العدد ومحدودة الأهمية تقع منعزلة
عن القلب أو المركز داخل بيئات غير إسلامية تحاصرها وتبعدها عن القلب الذي لا
يستطيع بدوره أن يكون علاقة معها تتداخل أو تؤثر بأي حال على علاقاته مع تلك
القوى غير الإسلامية، ولذلك تبقى علاقة المركز مع الأقليات علاقة هامشية وهشة
تبرز من خلالها كل إيحاءات العزلة والقلة وعن الأهمية التي ينطوي عليها مصطلح
«الأقلية» كما تكاد تقتصر على مجرد التدخل اللفظي من وقت لأخر وإحياء
الروابط المعنوية المجردة، هذا الطرح الخاطئ منذ البداية بحكم التركيز على
مصطلح «الأقلية» بإيحاءاته يختلف عن طروحات نصرانية ويهودية تبدأ من
منطلق الأمة الواحدة، وليس من منطلق القسمة بين أكثريات وأقليات تتحدد فقط
على معيار عددي مشكوك في دقته على أفضل الأحوال، وألاحظ هنا أن المعيار
العددي للبحث في حساب الأقليات يغفل جوانب أخرى أكثر أهمية في مسألة الأقلية
وأبرزها الفاعلية والتأثير الذي يمكن للأقلية أن تمارسه داخل المجتمع الذي تعيش
فيه بفضل حسن تنظيمها، وتماسكها، وتركز عناصر القوة المادية والإعلامية
والاقتصادية والسياسية ... الخ، ومرة أخرى فإن مثال الأقلية اليهودية في أمريكا
والأقليات النصرانية في بعض البلدان الإسلامية أو الأقلية الصينية في ماليزيا يؤكد
هذا الرأي.
والواقع أن هذا الخلل في تصور قضية الأقليات المسلمة منذ البداية يعكس
خللاً في القلب أو المركز الإسلامي نفسه الذي يبدو أنه من خلال الطرح لمسألة
الأقليات على هذا الوجه القاصر يسعى إلى تفادي أو تجنب مواجهة الأزمة داخله أو
أن هذا الطرح في حدا ذاته تعبير عن الأزمة ذاتها.
المقصود بالقلب والمركز:
إن ما أقصده هنا بالقلب أو المركز الإسلامي وهو ما يشير إليه بعضهم بالعالم
العربي وبعض البلدان المجاورة كإيران وتركيا والذي يعاني من مشكلات التفتت
والانقسام والخلافات واشتعال الحروب على الهوية بين الجماهير المسلمة ونخب
وفئات علمانية فرضتها عهود الاستعمار والتبعية في هذه المناطق.
إن هذا القلب لا يكاد يستحق لقب المركز أو القلب نتيجة للمشكلات المتعددة
التي يعاني منها، وليس هنا مجال التعمق في ذكرها بحيث أن طرح قضية الأقليات
بشكل هامشي منعزل، من شأنه أن يخفف أعباء هذا المركز عما إذا طرحت هذه
القضية باعتبارها قضية أساسية من قضايا الأمة الإسلامية الواحدة ذلك لأن هذه
الوحدة في حد ذاتها بل هذا الوجود لأمة إسلامية هو الآن في بعض الدوائر موضع
تساؤل وشك في ظل فكر التجزئة الإقليمية القومية العرقية أو في ظل فكرة العلمانية.
إننا لا نجافي الحقيقة ولا نتجنى إذا قلنا: إن المركز لم يعد مركزاً أو قلباً
بالمعنى الدقيق أو بالمعنى التاريخي أيام الدول الإسلامية الكبرى حتى السلطنة
العثمانية أو الخلافة العثمانية، وهذا المركز لم يعد قادراً لاعتبارات عديدة على أن
يقوم بأعباء قضية الأقليات لو طرحت على نطاق واسع باعتبارها قضية مجتمعات
إسلامية تعاني من ظروف مشددة وضغوط ويطلب الاهتمام بها كالاهتمام بالمركز.
إن المركز لم يعد مركزاً بالمعنى الدقيق لافتقاده إلى السلطة المركزية ذات
الطابع الدولي والمسؤوليات العابرة للقارات كالهيئات النصرانية واليهودية بل
والشيوعية (سابقاً) والليبرالية الدولية، ومن دواعي الأسف أن المنظمات الإسلامية
الدولية لم تكن بأي حال البديل الناجح المكافئ لهذه المؤسسات الدولية الأجنبية ولم
تمثل البديل المطلوب للسلطة السياسية المركزية المعبرة عن وجود الأمة الإسلامية
الواحدة، ولأن المركز أو القلب من العالم الإسلامي لم يعد قادراًعلى أداء دور كبير
على الساحة الدولية، فإن ذلك انعكس سلباً وبالضرر الشديد على قضية الأقليات
حتى مع الطرح المتواضع لها باعتبارها مجرد قضية تعاطف شعوري مجرد،
وعلى هذا تزداد قضيةالأقليات المسلمة صعوبة وتعقيداً إزاء هذا الضعف في المركز
الذي يقيد إلى حد كبير من إمكانية القيام بتحرك فعال لحل مشاكل الأقليات رغم
وجود التوصيات والحلول النظرية الكثيرة لهذه المشاكل.
القضية إذن متشابكة الأطراف وهي إن كانت قضية الأقليات إلا أنها أيضاً
وبنفس القدر قضية الأغلبيات المسلمة التي أصبحت في بعض الأحوال وكما تدل
على ذلك شواهد الماضي القريب والحاضر المعاصر تعاني من مشكلات حادة لا
تختلف عن مشكلات الأقليات وذلك في ظل حكم الأقليات والفئات العلمانية، إن
الاضطهاد بل حتى والمذابح أصبحت واحدة في كلا الحالتين كما إن الحلول التي
تطلبها الأقليات وأبسطها حق العبادة وأداء الشعائر وتعليم الأبناء الدين الإسلامي
أصبحت هي الحلول التي تطلبها بعض الأغلبيات الإسلامية التي تحكمها طغم
علمانية لا سيما إذا كانت من العسكر، وإزاء هذا الوضع فإن انتظار الحل
لمشكلات ومحن وأوضاع الأقليات من المركز أو القلب الإسلامي يصبح أمراً
مشكوكاً فيه إن لم يكن بعيد المنال، ولا يعني هذا بالطبع أن يتأجل طرح أو حل
مشكلات الأقليات إلى حين إصلاح أوضاع المركز الإسلامي حتى يصبح قادراً على
التعامل معها، وإنما يعنى تقديم طرح أكثر نضجاً ووعياً لهذه القضية [*] .
وفي تقديري أن هذا الطرح الأقرب للصدق والأفضل هو الكف عن معاملة
المسألة من المنظور الضيق الذي تنطوي عليه كلمة «الأقليات» لابد من النظر
إلى المجتمعات الإسلامية في شتى بلدان العالم من منطلق مفهوم الأمة الواحدة ذات
المهمة الربانية الجسيمة مع استناد هذه الرؤية إلى معرفة ومعلومات دقيقة
وموضوعية، ولا يعني هذا اتباع سياسة مواجهة مشددة مع العالم غير الإسلامي قد
لا تكون الأمة مستعدة لها في الوقت الراهن، وإنما يعني معاملة الأقليات باعتبارها
أجزاء عضوية من الأمة لا مجموعات منعزلة هامشية تقع خارج نطاق الأمة.
إن هذه المجتمعات قد تكون خارج ما تعودنا على أنه النطاق الجغرافي للأمة
الإسلامية (وإن كان هذا القول غير صحيح تماماً) لكنها يجب أن تكون في موقع
القلب من الأمة أو داخل نطاقها المعنوي والفكري وهمها الحضاري، كما إن المركز
الإسلامي لابد أن يعدل نظرته إلى الأقليات ولكن قبلها عليه أن يعدل نظرته إلى
نفسه وإلى أوضاعه.
__________
(*) ومما يجدر ذكره أن (الندوة العالمية للشباب الإسلامي) قد عقدت ندوة دولية للاهتمام بأحوال الأقليات الإسلامية، وصدر عن هذه الندوة دراسة جيدة وموثقة عن أحوال الأقليات المسلمة في العالم، وذلك في ثلاثة أجزاء، كما سبق لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن عقدت ندوة مماثلة صدر عنها مجلد ضخم حول الموضوع نفسه وكتب بعض المهتمين بدراسة الأقليات دراسات لا بأس بها، ويأتي في مقدمتها دراسة د سيد عبد المجيد بكر في عدة أجزاء البيان.(82/86)
في دائرة الضوء
لم لا نفكر..؟!
دعوة إلى المزيد من المنهجية
بعيداً عن الرتابة والتقليد
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
(1)
إن طرق المعرفة البشرية أياً كان نوعها متعددة، وهذه الطرق تؤثر غالباً
على صحة المعلومة أو بطلانها، وبقدر ما تنضبط هذه الطرق بالمنهج العلمي يكون
القرب من صحة المعلومة ودقتها، والقدرة على التفكير الصحيح هي الطريق
الأمثل للنمو والنضج، فالفكر هو حياة الإنسان وبه يتميز عن بقية الكائنات، وهو: «الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة» [1] .
ومن أخطر العوامل المؤثرة سلباً على طريقة التفكير والتحليل بناء المعارف
العلمية على العادة والأعراف التي ينشأ عليها الإنسان، فهو يعتقد صحة المسألة
لكثرة تكرارها وتداولها في بيئته التي نشأ فيها، فهي معارف مبنية على التقليد
والاقتباس وليس على التفكير والتدبر، فهو لا يستطيع أن يتجاوز الموروث
الاجتماعي أو الفكري.
وبعض الموروثات الاجتماعية أو الفكرية أو الدعوية قد تكون صحيحة لا
غبار عليها، لكنها تكتسب صحتها عند قوم لأن الدليل الشرعي قد دل عليها وعند
آخرين لأنها موروثات ألفوها وأخذوها عن آبائهم وأشياخهم، وشتان بين المنهجين!
وكثيراً ما نعتقد صحة فكرة ما من الأفكار وتصبح لدينا مسلمة من المسلمات
لا تقبل المناقشة، حتى إذا خرجنا إلى بيئة أخرى واطلعنا على معارف جديدة،
واكتسبنا خبرات إضافية، تبين لنا بطلان ما كنا نؤمن به، وقديماً كان يقال: «لا
يعرف الإنسان خطأ شيخه حتى يجلس عند شيوخ آخرين» .
إن الشعور بالسلامة المطلقة للبيئة التي يعيش فيها الإنسان، واعتقاد هـ بكمالها
وخلوها من الأمراض، يقوده إلى التبعية وحبس العقل عن التدبر والتأمل، وسوف
يؤدي ذلك إلى الضمور والتآكل، وأما الإحساس بضرورة النمو والتحسين وليس
بالضرورة الخطأ فإنه يقوده إلى الإبداع والتجديد وتطوير الطاقات، فالتفكير المبدع
هو الذي يحول الركود والرتابة والتلقائية إلى حركة حية منتجة تتطلع دائماً إلى
المزيد، وكما قال الفضل: «التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك» [2] ، وقال
ابن القيم: «التفكر والتذكر بذار العلم، وسقيه مطارحته، ومذاكرته تلقيحه» [3] .
إن التفكير الصحيح وسيلة من وسائل الانعتاق من آسار العادة والاتكال على
تفكير الآخرين، وكسر لطوق الرتابة والاجترار الذي يتربى عليه الناس كابراً عن
كابر، ولهذا تضمنت دعوات الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام دعوة للتفكر
والنظر، والتخلص من إرث الآباء والأجداد، قال الله تعالى: [قل إنما أعظكم
بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) ] سبأ: 46 [.
والتأثر بالعادة أو البيئة له أشكال متعددة، منها التأثر بالبيئة الاجتماعية التي
ينشأ فيها المرء، أو التأثر بالتجمع الحزبي الذي ينتمي إليه.. ونحو ذلك.
أذكر أنني قبل سنوات كنت في زيارة لأحد الإخوة الدارسين في بريطانيا
فرأيته يساهم في توزيع بيان لتأييد الثورة الإيرانية، فقلت له: هل أنت مؤمن بما
جاء في هذا البيان؟ ! فقال: لا، ولكن..! فقلت: ولكن بهذا أمرت.. فاحمر
وجهه خجلاً، وسكت..!!
تعجبتُ كثيراً من هذا الموقف، وعلمت أن التربية الحزبية أفضل طريقة لوأد
العقول وإماتة البصائر، هذه التربية التي تبنى على ضرورة التسليم والانقياد، دون
النظر والتفكير، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً، ومثل هذا الموقف له نصيب وافر
من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من نصر قومه على غير الحق، فهو
كالبعير الذي ردي، فهو ينزع بذنبه» ] 4 [.
لقد نجحت التربية الحزبية في صناعة الببغاوات والقطعان الهائمة التي لا
تجيد إلا فن التصفيق والإشادة واجترار الشعارات، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في
بناء العقول الحية المبصرة، القادرة على بناء المواقف وصناعة الأحداث وأخزى
الله التبعية العمياء الصماء كم قتلت من الطاقات، وسحقت من الشخصيات..! !
(2)
ومن العوامل المؤثرة أيضاً على طريقة التفكير أن معرفتنا للحق تتأثر بأقوال
الرجال وشهرتهم، فنحن نحاكي الرجال في أقوالهم واعتقاداتهم لمجرد إمامتهم
وشهرتهم، حتى إن عقل الإنسان ينغلق ويصبح وقفاً على ذلك الشيخ حتى لا يرى
حقاً إلا ما جاء عن إمامه الذي آمن بقدراته وإمكاناته، فهو يقبل ويرفض، ويصدق
ويكذب، ويأخذ ويعطي، بناء على قول الشيخ وتوجيهه بدون النظر إلى الحجة أو
البرهان، وبدون أن يكون له حظ من التعقل أو التفكير وما مثل هذا الإنسان إلا:
«كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه وهو لا يدري» ] 5 [.
ومن طرائف المقلدة ما نقله الماوردي حيث قال: «ولقد رأيت من هذه
الطبقة رجلاً يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة فكان
جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم
يذكره الشيخ لا خير فيه! فأمسك عنه المستدل متعجباً! !» ] 6 [.
وشدة إعجابنا بإمام من الأئمة تجعلنا في بعض الأحيان نتحرج من سؤاله عن
الحجة هذا إذا فكرنا في السؤال! وأذكر في مناقشة لأطروحة علمية أن الباحث
تبنى مسألة واستدل لها بقول لشيخ الإسلام ابن تيمية، فسأله الأستاذ المناقش: وما
حجة ابن تيمية؟ ! فكأن الباحث ارتبك ولم يخطر بباله هذا السؤال، ولم يفكر فيه ...
على الإطلاق؟!
قال محمد بن عبد الله بن الحكم: «ما رأت عيني قط مثل الشافعي، لقد
قدمت المدينة فرأيت أصحاب عبد الملك الماجشون يعلون بصاحبهم، يقولون:
صاحبنا الذي قطع الشافعي، فقلت: إني لأحب أن أنظر إلى رجل قطع الشافعي،
قال: فلقيت عبد الملك، فسألته عن مسألة، فأجابني، فقلت: أي شيء الحجة؟
قال: لأن مالكاً قال كذا وكذا..! فقلت في نفسي: هيهات أسألك عن الحجة،
فتقول: قال معلمي، وإنما الحجة عليك وعلى معلمك!» ] 7 [.
ولهذا قال ابن تيمية: «معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك
عليها هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر» ] 8 [.
وما أجمل قول أبي يوسف: «لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا» ] 9 [.
(3)
إن الخطاب الإسلامي ليس خطاباً وعظياً مجرداً، وإنما هو في أصله خطاب
برهاني يعتمد على البيان التفصيلي الدقيق للحجج والبراهين، وبخاصة في القضايا
الكلية للاعتقاد، فأساسه قول الله تعالى:] قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [
] البقرة: 111 [، وقوله تعالى:] ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن
كنتم صادقين [] الأحقاف: 4 [.
وتتوالى النصوص الشرعية للتأكيد على ضرورة التعقل والتدبر والنظر في
ملكوت السموات والأرض، وتستحث العقل البشري على ضرورة البحث
والمراجعة والتأمل، وتنعى على المقلدة منهجهم، وتذمهم على جمودهم وعجزهم
وقصورهم، قال الله تعالى:] أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها
أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [
] الحج: 46 [.
ويأتي اليوم الذي يتحسر فيه أولئك القوم ويندمون على منهاجهم وطريقتهم،
قال الله تعالى:] وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [
] الملك: 10 [، وقال تعالى:] وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [] الأحزاب: 67 [.
وحينما زعم بعض الفلاسفة أن الطريقة القرآنية طريقة خطابية، رد عليهم
شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة، منها قوله: «وليس الأمر كما يتوهمه
الجهال الضلال، من الكفار المتفلسفة وبعض المتكلمة، من كون القرآن جاء
بالطريقة الخطابية، وعري عن البرهانية أو اشتمل على قليل منها، بل جميع ما
اشتمل عليه القرآن هو الطريقة البرهانية، وتكون تارة خطابية، وتارة جدلية مع
كونها برهانية.
والأقيسة التي اشتمل عليها القرآن هي الغاية في دعوة الخلق إلى الله ...
ولهذا اشتمل القرآن على خلاصة الطرق الصحيحة التي توجد في كلام جميع
العقلاء، من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم، ونزهه الله عما يوجد في كلامهم من
الطرق الفاسدة، ويوجد فيه من الطرق الصحيحة ما لا يوجد في كلام البشر
بحال» ] 10 [.
إن الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى العقول الناضجة المستنيرة القادرة على
التفكير والإبداع، وعلى المربي أن يستشعر أهمية ذلك فيحيي هذه الملكة في نفوس
أتباعه، فلأن يقود أسوداً متوثبة يقظة، خير له وأنفع من أن يقود قطيعاً من
الخرفان التي لا تعي ولا تدرك، ولن يقوى المربي على ذلك إلا إذا كان أسداً، فهل
من أسود؟!
تأمل حال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما يقول على المنبر: «إذا
أصبتُ فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني» ، فقال له رجل من بين الناس: «إذا
أخطأت قومناك بسيوفنا..!» ، عمر بن الخطاب لا يرضى بتعبيد الناس للناس
ومصادرة عقولهم، وتغييبهم عن الساحة، بل يطالبهم بالمشاركة والناس لا يرضون
بالتبعية والعجز، وهكذا تبنى الأمم.
وأكاد أجزم بأن من الأسباب الرئيسة للتخلف الفكري والمنهجي الذي تمر به
الصحوة الإسلامية هو أننا جعلنا التفكير ورسم الخطط مهمة آحاد من الناس أما
البقية فهم متفرجون، لا يتجاوز دورهم تكثير السواد..!
وإن تحرير العقول من العبودية للأحزاب، ومن الذوبان في أقوال الشيوخ،
مطلب رئيس للنهوض بالعمل الإسلامي من الرتابة والاجترار والدوران حول الذات، ولعل من أبرز مقومات نجاح العمل الإسلامي أن تستحث تلك الطاقات الكامنة
الخاملة، إلى النظر والتأمل، وفق الأسس والموازين الشرعية، فلأن تفكر الأمة
بمائة عقل خير لها وأنفع من أن تفكر بعقل واحد..!!
__________
(1) ابن القيم في مفتاح دار السعادة 1/181.
(2) المرجع السابق 1/180.
(3) المرجع نفسه 1/183.
(4) أخرجه أبو داود 5/341 بسند صحيح.
(5) من كلام الشافعي نقله ابن القيم في إعلام الموقعين 2/200.
(6) أدب الدنيا والدين، ص 78.
(7) مناقب الشافعي للبيهقي 1/208.
(8) درء تعارض العقل والنقل 5/204.
(9) إعلام الموقعين 2/200.
(10) مجموع الفتاوى 2/4647، وانظر: 14/62 و437.(82/96)
من ثمار المنتدى
أنشطة المنتدى الإسلامي الصيفية
يحرص المنتدى الإسلامي ولله الحمد والشكر على ترشيد العمل الإسلامي
وتنشيطه، وذلك بنشر العلم الشرعي الصحيح في أوساط المسلمين بعامة، وفي
أوساط الدعاة في البلاد الإسلامية المختلفة بخاصة، وقد كان الصيف الماضي حافلاً
بالعديد من الأنشطة الدعوية والبرامج الميدانية المتعددة، وهي كما يلي:
أولاً الملتقيات الدعوية:
1- الملتقى الدعوي السابع عشر في بريطانيا:
تم عقد هذا الملتقى في يومي 22 و 23 صفر 1415هـ في مدينة ...
«ليستر» وقد شارك فيه ثلاثمائة شخص، وكان العنوان الرئيس للملتقى:
«نحو ترشيد أخلاقي للعمل الإسلامي» . ...
2- الملتقى الدعوي الثاني في غانا:
تم عقد هذا الملتقى في مدينة نياكروم لمدة ثمانية أيام من 12 إلى 20 ربيع
الأول 1415هـ، وقد شارك فيه مائة وواحد وستون داعية من «غانا، وتوجو
وبنين، وبوركينا فاسو، وساحل العاج، والنيجر» ، كما شارك فيه اثنا عشر
ضيفاً من الشيوخ والدعاة، ومن أبرز المحاضرات التي ألقيت:
أ- ولا تفرقوا. ب- العلمانية وأثرها في العالم الإسلامي.
جـ- الإخلاص. د- السنن الإلهية.
هـ-الولاء والبراء. و دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
وقدمت وفود البلدان المشاركة بحوثاً وندوات متعددة منها:
أ- الفرق المنتمية إلى الإسلام وأنشطتها القائمة حالياً.
ب- تاريخ الدعوة الإسلامية السلفية في كل دولة.
3- الملتقى الدعوي الثاني في كينيا:
تم عقد الملتقى في مدينة «ممباسا» لمدة عشرة أيام من 1 إلى 10 ربيع
الأول 1415هـ، شارك فيه مائة وخمسون داعية من «كينيا، وتنزانيا، وأوغندا
وجزر القُمُر، والصومال، وإثيوبيا» ، وقدم في هذا الملتقى عدد من الدروس
العلمية والمحاضرات من إبرزها:
(أ) التكفير خطورته وضوابطه.
(ب) لا إله إلا الله مفتاح دعوة الرسل.
(ج) مصادر التشريع الإسلامي.
(د) مسائل في باب الأسماء والصفات.
(هـ) أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم.
كما قام الشيوخ بزيارة مساجد المنطقة ومراكز الدعوة والمدارس الإسلامية
وألقوا فيها عدداً من المحاضرات والكلمات التوجيهية.
4- الملتقى الدعوي الأول في السنغال:
تم عقد الملتقى في ضاحية من ضواحي العاصمة «داكار» لمدة عشرة أيام
من 28 صفر إلى 8 ربيع الأول 1415 هـ، وكان عدد المشاركين 120 داعية
من: «السنغال، ومالي، وموريتانيا، وجامبيا، وغينيا بيساو، وغينيا
كوناكري» ومن أبرز المحاضرات التي ألقيت في هذا الملتقى:
(أ) المخرج من الفتنة في مسيرة العمل الإسلامي.
(ب) معالم الرشد في الدعوة إلى الله.
(ج) افتقار العمل الإسلامي إلى الضوابط الشرعية.
(د) أدب الاختلاف بين الدعاة.
كما قام الشيوخ بزيارة لعدد من مساجد المنطقة والجمعيات والمراكز الإسلامية
فيها.
ثانياً الدورات الشرعية:
1- الدورة الشرعية السابعة للدعاة في بريطانيا:
تم عقد الدورة في مبنى المنتدى الإسلامي بلندن لمدة أسبوعين من 24 صفر
إلى 5 ربيع الأول، وشارك فيها 89 داعية قدموا من: فرنسا، وهولندا والسويد،
و27 منهم قدموا من إنجلترا.
2- دورة شرعية لإعداد الدعاة في الصومال:
تم عقد الدورة في مدينة «بورعو» في شمال الصومال لمدة عشرة أيام من
6 إلى 16 ربيع الأول، وشارك فيها تسعون داعية من مختلف أنحاء الصومال
وقدم في هذه الدورة أربعون درساً، بالإضافة إلى عدد من المحاضرات والأنشطة
الأخرى.
3- دورة شرعية لإعداد الأئمة والدعاة في أوغندا:
تم عقد الدورة في مدينة «امبالي» لمدة عشرة أيام من 15 إلى 24 صفر
1415 هـ، وشارك فيها اثنان وثمانون إماماً، وتهدف هذه الدورة إلى التأهيل
الشرعي لدى الأئمة والخطباء وتزويدهم بالعلوم الفقهية والدعوية التي يحتاجون إليها
لإحياء رسالة المسجد.
4- دورة شرعية لإعداد الدعاة في بنجلاديش:
تم عقد الدورة في مدينة «دكا» لمدة أربعة عشر يوماً من 29 صفر إلى 11
ربيع الأول 1415 هـ، وشارك فيها خمسون دارساً، وقد سبق هذه الدورة دورة
مكثفة لمدة ثلاثة أشهر شارك فيها خمسة وعشرون دارساً.
5- دورة شرعية لإعداد الدعاة في نيجيريا (لاجوس) :
تم عقد الدورة لمدة ثلاثة أسابيع من 24 ربيع الأول إلى 14 ربيع الثاني
وشارك فيها مائتان وخمسون طالباً.
6- دورة شرعية لإعداد الدعاة في نيجيريا (كانو) :
تم عقد الدورة لمدة أسبوعين من 22 ربيع الأول إلى 7 ربيع الثاني، وشارك
فيها مائة وخمسون طالباً من خريجي الثانويات وطلاب الثانويات والمتوسطات.
7- دورة تعليمية لإعداد الدعاة في نيجيريا:
عقدت الدورة في مدينة «جيغا» بولاية «كيبي» لمدة أسبوعين من 6 إلى
21 ربيع الأول 1415 هـ، وشارك فيها مائة وسبعة وخمسون من مدرسي
المدارس الإسلامية وأئمة المساجد وطلبة العلم.
8- دورة في الإدارة وطرق التدريس في غانا:
تم عقد الدورة في غانا لمدة أسبوع من 21 إلى 28 ربيع الأول 1415 هـ،
وشارك فيها مائة مشارك، وألقيت فيها عدد من المحاضرات الإسلامية، وتهدف
الدورة إلى تنظيم وترشيد العمل التعليمي الإسلامي.
ثالثاً المخيمات الشبابية:
يحرص المنتدى الإسلامي على إقامة المخيمات الشبابية والطلابية لدورها
الكبير في إيجاد المحاضن التربوية التي تربي الشباب وتنشر الوعي الإسلامي في
صفوفهم، وكان من أبرز المخيمات التي عقدت خلال الصيف الماضي ما يلي:
1- المخيم الشبابي الثالث في كينيا:
عقد المخيم في منطقة «لامو» لمدة أسبوع من 15 إلى 21 ربيع الأول
1415هـ، وشارك فيه خمسة وسبعون طالباً وقدم فيه خمسة وثلاثون درساً
وثمانية وعشرون محاضرة في أبواب متنوعة في العلوم الشرعية والدعوية
والتربوية.
2- المخيم الشبابي الأول في مدينة كاي بدولة مالي:
عقد المخيم لمدة أسبوع من 28 ربيع الأول إلى 5 ربيع الآخر، وشارك فيه
خمسة وثمانون طالباً وقدمت فيه خمسة عشرة محاضرة.
3- المخيم الشبابي الأول في مدينة سان بدولة مالي:
عقد المخيم لمدة أسبوع من 18 إلى 24 ربيع الأول، وشارك فيه مائة
وعشرون طالباً، وقدمت فيه أربع عشرة محاضرة.
4- المخيم الشبابي الأول في جامبيا:
عقد المخيم في مدينة «بانجول» لمدة خمسة أيام وشارك فيه مائة داعية.
5- مخيم شبابي في إثوبيا:
تم تنفيذ المخيم بمدينة «أديس أبابا» في الفترة من 29 ربيع الأول إلى 7
ربيع الثاني 1415 هـ بالتنسيق مع «جمعية القرآن الكريم» ، وحضره مائة
وعشرون طالباً.
رابعاً مسابقات تحفيظ القرآن الكريم:
يشرف المنتدى الإسلامي على عدد كبير جداً من حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وقد عقد عدد من مسابقات تحفيظ القرآن الكريم، وهي:
1- مسابقة تحفيظ القرآن الكريم الثانية في دولة غانا.
2- مسابقة تحفيظ القرآن الكريم الأولى في دولة بنين.
3- مسابقة تحفيظ القرآن الكريم الأولى في دولة توجو.
4- المسابقة الكبرى لتحفيظ القرآن الكريم بين طلاب «غانا وبنين وتوجو» .
وقد كان لهذه المسابقات بفضل الله تعالى دور بارز في إعلاء الهمم وحث
الناس على الاعتناء بكتاب الله تعالى تلاوة وحفظاً وعلماً وعملاً.
تلك بعض من ثمرات دعمكم وتشجيعكم لنا، نسأل الله عز وجل أن يبارك في
هذه الجهود وأن يوفقنا لفعل الصالحات، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر
والتقوى.(82/103)
الورقة الأخيرة
لنحذرهم.. بعضُهم من بعض
د. محمد ظافر الشهري
لايزال المنافقون يتوارثون راية «ابن أبي» جيلاً بعد جيل، تلك الراية التي
تعلو كلما قوي المسلمون، فإذا دب الضعف في جسد الأمة وتسابقت إليها الأدواء،
وتواثبت عليها الأعداء، نكست راية النفاق ورفعت راية المجاهرة.
وتلك ذاتها هي حال الشيوعي الذي لا يقبل من الناس إلا عقيدة «لا إله
والكون مادة» ، فمن كفر بها فضرب الأعناق، ومن آمن بها كان من الرفاق فإذا
شعر الشيوعي بالخطر، ترضى عن أبي ذر رضي الله عنه وتحدث عن
«اشتراكية في الإسلام!!» .
وهكذا يفعل «أفراخ اللادينية» الذين إذا أجدب بهم الزمان زاروا المساجد
يوم الجمعة، فإذا أخصبوا أصروا على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وقالوا:
من اصطحب إسلامه خارج المسجد فلا يلومن إلا نفسه!! .
وإنك لترى «الحداثي» يتحدث عن «اللامعقول» و «العبث» و «اللغة
المفجرة» مادام يخشى أن تصيبه دائرة، فإذا خلا له الجو طفق يسب الدين ويعلن
الحرب على قيوم السماوات والأرضين.
إن المنافقين هم المنافقون مهما تباينت شعاراتهم وتعددت مشاربهم، ولقد نبأنا
الله من أخبارهم بما يكفي لهتك أستارهم وفضح أسرارهم، إنهم «يخادعون الله
وهو خادعهم» .
ولقائل أن يقول: فما بالهم إذن يخْفَون على الناس؟ ! ولن أماري في أن من
الناس من يهش بهم ويبش إليهم، فأجسامهم تدعو إلى الإعجاب وأقلامهم تبز
الألباب، وقد «طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين» [وإذا انقلبوا إلى
أهلهم انقلبوا فكهين] [المطففين: 31] ، ولكن الحق الذي لا ريب فيه أن الأمة
«بدأت» تميز عدوها من صديقها، ولم تعد الشعارات البراقة والدعاوى الجوفاء تصلح لتلميع الشخوص أو الأطروحات، وهذا ما أدركه المنافقون فأسقط في أيديهم، واستيقنوا أن العلم في ازدهار، وأن الجهل في تراجع وانحسار.
لقد كان المنافقون فيما مضى يوجهون سهامهم إلى العلماء وطلاب العلم، أما
اليوم فقد اتسع الخرق على «الراتق!!» ، ولا غرو والحال هذه أن تطيش سهام
المنافقين وتحار أحلامهم، ويغلب عليهم التشنج في أقوالهم وأفعالهم، [فهم في
ريبهم يترددون] [التوبة: 45] ، [والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون] [يوسف: 21] .(82/111)
رجب - 1415هـ
ديسمبر - 1994م
(السنة: 9)(83/)
كلمة صغيرة
.. هم العدو فاحذرهم..
كان أعداؤنا المعروفون في صدر الإسلام هم المنافقون وفي عصور تالية
كانوا هم الزنادقة وفي هذا العصر هم (العلمانيون) إذ يجمع هؤلاء قاسم مشترك هو
ادعاؤهم الإسلام وهم أعدى أعدائه وعداؤهم للإسلام يتمثل فيما يلي:
* أنهم يرفضون إسلام الوحيين، وربما رضوا بإسلام أمريكاني!
* يقفون ضد المطالبة بتحكيم الشريعة بشراسة ويرون في القوانين الوضعية
بديلاً عنها.
* يدعون إلى الفكر (الليبرالي) الجاهلي ويرفضون الفكر الإسلامي الرشيد.
* مجاهرتهم بالتعاون مع أعداء الإسلام في الداخل والخارج والدعوة لتطبيع
العلاقات معهم.
* يغررون بالمرأة المسلمة ويدعونها للتحرر من الإسلام لتكون طعمهم
لانحراف المجتمع وتغريبه.
* عداؤهم لعلماء الإسلام ودعاته ووصفهم ظلماً وعدواناً بالتطرف والإرهاب
إننا مازلنا نعرف مخططاتهم وأهدافهم المشبوهة حتى ولو تظاهروا بالإسلام
حتى يدخلوا في الإسلام كافة، ولن تنطلي أخاديعهم إلا على الجهال والسذج. نعم
هناك أعداء آخرون غيرهم لكنهم أوضح من الشمس في رابعة النهار.(83/1)
الافتتاحية
تحولات النخب
تيه السياسة.. تيه الثقافة
مسارُ التاريخ العربي المعاصر - السياسي والفكري منه - مر بعدد من
الانكسارات الحادة، كان كل منها يهدم سياقاً وصل إلى لحظة الانفجار في مأزقه،
وينشيء من أشلائه نسيجاً لسياقٍ آخر جديد، غير أن التحولات جميعاً كانت تحدث
داخل هذا التيه لا خارجه، وكثيراً ما كان الآخر - بنفسه أو بظلاله من النخب
السياسية التي تتغذى من دعمه - هو المسيطر على مسار التحول ووجهته الرئيسة.
إنها رحلة تنحدر كل يوم إلى عمق أشد محنة وأكثف ظلاماً وأبلغ إمعاناً في
سفر الهدف الضائع والجهد المهدر، وها هي النخب اليوم وهي تقف في أعقاب
قرن من التحولات والانكسارات السياسية والثقافية تحاول بعد أن ركبت قطار
«السلام» أن تجبر كل شيء على محو هويته والركوب معها! بدءاً من ... الذاكرة التاريخية، ومروراً بالأشخاص والأفكار والأشياء، حتى ولو كانت العقول المسلحة بالوعي والعلم مجمعةً على خطورة الرحلة، ومحذرةً من جُبّ الانتحار الذي قد ينتظر القطار في نهايتها. ولئن اختلف من بقي من عقلاء هذه المنطقة على كل شيء إلا أن حوافرهم تشترك جميعاً في النزول عند فكرة واحدة أسّها الإقرار بأن مسيرة «السلام» وآلياته ومفاصله الرئيسة، وبُنيته السياسية والاقتصادية والفكرية أصبحت - بعد الاتفاقيات العديدة التي صَبّت في مجرى السلام أو زامنت مسيرته - في يد العدو التقليدي: البعيد (على المستوى الجغرافي فقط) ، أو القريب المنتزع من أحشاء أوروبا وأمريكا، والمزروع في جسد العالم العربي من خمسين عاماً خلت.
لقد كان قرناً من التيه تَحملُنا فيه النخب السياسية من هوة إلى أخرى والكثرة
الكاثرة من الأمة غائبة أو مغيبة، تسمع صهيل الخيول ووعود العز فإذا استبان
الأمر وانجلى الغبار وجدت نفسها في مزاد البيع، تدكها بغال العدو وتصهل فوقها
أحصنته، وهي تباع بالثمن البخس الذي تقبضه النخب لحسابها الشخصي، بينما
تسوقها إلى حظيرة الاستسلام بسوط السلطان، وغبار الإعلام!
هل نسينا وعود الليبرالية وتحالفاتها مع المحتل بين الحربين؟ وكيف انتهت
الحرية إلى سجون العسكر وثوراتهم بعد نكبة (1948م) ؟ ! أم نسينا جحيم
الأحزاب القومية والمد الثوري الذي تغذى على مشاعر الناس وعواطفهم ودمائهم!
ثم لما بانت صحائفه بعد أن باد سلطانه إذْ به عاش على سمع العدو وبصره،
والتحمت كفاهما خلف الستار مراراً (خارج النص المسرحي الإعلامي طبعاً!) ،
وليس أبلغ من صفة «القتل» التي لم يجد أحد الباحثين السياسيين كلمة أصدق
منها في توصيف الحال التي انتهى إليها (البلد/الأنموذج) مصر بعد تنقله بين هذه
النخب.
أما اليوم فإن الصبح قد بان لذي عينين، وأطلت علينا النخب السياسية تحت
شمس إسرائيل (المشرقة) ، تبادلها العناق، وتكشف في ميدان السباق إلى
«الحضن اليهودي» ما كان يمارس خلف الستار، بعيداً عن لهيب أكف الجماهير المصفقة لعبارات «التحرير» أو «الجهاد» ! المدوية في مكرفونات هذا النظام أو ذاك (حسب ما يقتضيه المقام) ! وكما أن عرفات (غزة / أريحا) لم يكن سوى نسخة رديئة عن سادات (كامب ديفيد) فإن حسين (وادي عربة) ليس سوى حبة ثالثة في المسبحة، وكل الثوابت التي تُبطّئ تساقط بقية الحبات قد اختُزِلت اليوم في ثابت وحيد، يحتاج إلى بعض الجهد والوقت لتذويبه.. إنه «الحرج» بالمفهوم الذي يشرحه «حسن المغرب» - في إجابته لسؤال الصحفيين عن توقع طلب رابين رفع مكتب الاتصال إلى قنصلية - بقوله: «إن صداقته الحميمة مع رابين وذكاء الأخير سيجعلانه يقدر» الحرج «الذي قد يسببه للحسن مع شعبه لو أراد تنفيذ هذا الطلب الآن! . ومع ذلك فإنه يبدو أن الوجه الكالح للنخب السياسية لم يعد حريصاً على برقع الحرج هذا، بعد أن أصبح حبلُه السري المتّصل بالآخر الحامي له، يعتمد في بقائه على تضحيات» شجاعة «تبدأ بالتطبيع الاقتصادي، ثم تطمع أن لا تحلّ الرحال إلا في مضارب» الشرق أوسطية «حيث تنصب إسرائيل خيمة شيخ القبيلة! .
على الشط الآخر تُسايرُ معظم النخب الثقافية أمراضَ الساسة، وربما سبقتهم
حيناً! فكانت طليعتهم في تهيئة الأجواء لامتصاص سقطة أخرى دون انفجار! ، أو
تأخرت بعض الوقت فلم تفلح في نقض نسيج السنين الطوال وركوب عربة القطار
الأولى التي احتشد فيها الساسة، فتأخرتْ لا رفضاً للمرحلة ولكن بنية الإعداد
والركوب في العربة التالية! أما الالتحام مع خيار الأمة والانحياز إلى الشعوب
المغلوبة على أمرها فكيف نتوقعه أو ننتظره ممن يعيش بجسده في مدينة عربية
بينما كل قراءاته وقناعاته وكيانه النفسي والثقافي يستوطن إحدى العواصم الغربية.
إن الواحد من هؤلاء» يعيش تمزقاً حاداً في الانتماء فهو منتم بفكره إلى العالم
الغربي الحديث بينما هو منتم بعلاقاته الاجتماعية إلى العالم العربي «، إن هذا
النوع من النخب هم طلائع العدو الثقافية، وإن هاجموا وحاربوا كياناته السياسية
وتسلطه الاستعماري.
ويبقى بعد ذلك هذا المشهد الطاغي اليوم حين تجتمع» النخبة ضد الأهل «
وتحتشد» الدولة ضد الأمة «ويكتمل عصر التبعية، غير أن تحت هذه القشرة
عالماً مفعماً بالحركة، وشعوباً تنحاز زرافات ووحداناً إلى هويتها، وتفرز رموزاً
ونخباً تَتّقدُ بهمومها، بالرغم من ثقل التبعة، ووطأة أمراض الغياب الحضاري
قروناً عددا، ومع مرور كل يوم يشتد التمايز بين تيار صاخب يحاول إعادة البناء،
وأقليات نخبوية تتشبثُ بأطواق نفوذ مُخَرمة، والعدو هناك يراقب ويرى في كل
شرارة وعي صغيرة نطفةً تتخلّقُ بركانَ لهب قادم! فيحشد مكره وريحه لإطفائها
فلا يزيد لهيبها إلا انتشاراً وجمرَها إلا نضجاً وتوقداً، غير أن النخب التي تبيع
أهلَها، وتنغرس في أرض العدو لا تكاد تعي أن خيارات الشعوب المسكونة بهاجس
الإحياء والنهوض هي المنتصرة في النهاية، ومع ذلك فإننا نشهد قلةً جادة صدمتها
الحقائق، وبدأت تغادر السفينة المثقوبة، رغم الضغط النفسي والحصار الإعلامي،
وتنحاز إلى خيارات الشعوب، وكأن صوتها يردد:
"» شدّ على أصابعي يظنني أخافْ!
أسرج لي حصانَه المقطّعَ الأطرافْ!
لوّح لي باللؤلؤ المكنون في الأصدافْ!
قلتُ له: يا سيدي (العرّافْ) ..
ماذا ترى يفعلهُ البحارُ في..
سفينةٍ مثقوبةٍ!!
بطيئةِ الشراع والمجدافْ؟ ! «".(83/4)
في إشراقة آية
يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا
صالح بن سليمان العامر
إن المتأمل في كتاب الله تعالى، والناظر فيه ببصيرة، ليدرك تلك المعالم
والسنن والحقائق والنواميس التي يقوم عليها الكون والوجود الإنساني، حتى إنه
ليعلم، بل ويعتقد أن لهذا الكون وهذا الوجود رباً يدبر وحاكماً يحكم ونظاماً واحداً.
ولنتدبر معاً آية من كتاب الله حتى نبرهن على ذلك على سبيل المثال، قال
الله تعالى: [يعلمون ظاهراْ من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون]
[الروم: 7] ، في هذه الآية ذكر الله صنفاً من الناس على سبيل الذّم واصفاً حالتهم في نظرتهم القاصرة إلى الدنيا، حيث قال: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) ، ووصفهم الله بأنهم يعلمون، إذاً هم ليسوا جهلاء بل من الذين يعلمون، وربما يكون أحدهم عالماً في كثير من الفنون، فقد يكون أديباً كبيراً وربما كان عارفاً بالسياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو التجارة؛ ولذلك قال الحسن البصري - رحمه الله -: «والله ليبلغ من علم أحدكم بدنياه، أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يُحسن أن يصلي» [1] ، فالحسن - رحمه الله - ذكر صنفاً واحداً وإلا فهناك أصناف آخرون يجيدون فنوناً أخرى، فقد قال ابن عباس وعكرمة وقتادة رحمهم الله ورضي عنهم: «يعرفون أمر معيشتهم ودنياهم، متى يزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يغرسون، وكيف يبيتون» [2] ، وقال ابن خالويه: «ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم» [3] ، كل هؤلاء نظروا إلى الدنيا من زاوية واحدة وبمقياس واحد وبفهوم ذات منطلقات محددة، والحقيقة التي فهمها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - والصحابة من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هي أن هذا الوجود ما هو إلا سلسلة واحدة وحلقات متصلة، أو بعبارة أخرى صفحات متوالية، أول تلك الحلقات والصفحات هذه الدنيا التي وقف عندها أولئك النفر (الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) ، ويلي هذه الصفحة صفحات أُخَرُ وهي ما سماه الله تبارك وتعالى (الآخرة) .
والذي يجعل الآخرة في حسابه هو المفكر الموفق والحكيم المسدد الذي يضع
الأمور في نصابها، ولذلك قال تعالى: (وهم عن الآخرة هم غافلون) فالغفلة عن
الآخرة تجعل مقاييس الغافلين تختل ويتأرجح في أكفهم ميزان القيم، فلا يملكون
تصوراً صحيحاً، ويظل تصورهم عنها ظاهراً سطحياً ناقصاً « [4] .
ولقد أجاد سيد قطب - رحمه الله - في ظلال القرآن، حيث عقد مقارنة بين
صنفين من الناس حيث قال:» ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب
حسابها مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينظر ما وراءها لا يلتقي هذا وذاك في
تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها، ولا يتفقان في حكم
واحد على حادث أو حال، فلكل منهما ميزان ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما
ضوء يرى به الأشياء والأحداث والقيم والأحوال، وهذا يرى ظاهراً من الحياة
الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ونواميس شاملة للظاهر
والباطن والغيب والشهادة والدنيا والآخرة.. الماضي والحاضر والمستقبل، وعالم
الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء والأموات، وهذا هو الأفق البعيد الأوسع
الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه، ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق
بالإنسان المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله « [5] .
وبذلك تعرف الحكمة من ذكر (الآخرة) عند ذكر أي تشريع أو أي خُلُق في
القرآن والسنة مثل قوله تعالى: [الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر....]
[النور: 2] وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» ، وفي رواية «ليسكت» ) [6] ، ففي هذين النصين دليل على أثر الإيمان باليوم الآخر في الإذعان للأحكام والتشريع والتخلق بالأخلاق الفاضلة والمحمودة ... وبالتأمل في الآية تبدو فوائد منها:
إن معرفة أمور الدنيا وعلومها هو أمر محمود، ولكن الاكتفاء به والإكثار منه
بحيث يؤدي ذلك إلى الغفلة عن الآخرة هو المذموم، فمثلاً دراسة الأدب أمر
مطلوب، ولكن الإغراق فيه بصورة تلهي المرء وتعميه وتصمه عن أن يتعلم أمور
دينه وآخرته هو المذموم؛ ولذلك تجد ذلك الكاتب أو الأديب أو الشاعر يجيد هذه
الفنون ويطرب حينما يقرأ عنها، وإذا نظرت إلى حصيلته من العلم الشرعي
الواجب لوجدته خاوياً مع أنه يمتلك الآله من كتابة وفهم وفكر التي تخوله أن يكون
مفكراً إسلامياً يستطيع توظيف تلك النصوص الموجودة في الكتاب والسنة - التي
هي هدفٌ للمسلم في الحياة - لكي يحقق الغاية من وجوده فيها، وهي إرضاء الله
تبارك وتعالِى، فيكون بذلك من السعداء في الدنيا والآخرة، وكذلك إذا نظرت إلى
تأثره بالقرآن وخشوعه عند سماعه، لوجدته غير ذلك المتأثر الخاشع، لعدم
اهتمامه به واطلاعه عليه، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولا أقصد عند ذكر ذلك أن
جميع الأدباء على هذه الوتيرة وعلى هذا المنوال بل هناك من الأدباء من تجده ذا
حصيلة علمية وخشوع وحياة قلب.
ومنها أهمية الإيمان باليوم الآخر وأثره في تقويم الفرد وسلوكه وتفكيره ولذلك
قال الله تعالى في الحديث القدسي - ويسمى بحديث الولي -: «ولسانه الذي ينطق
به وعقله الذي يعقل به» [7] ، أي أنه ينطق على نور من الله ويفكر ويعقل
الأمور والأحداث على نور من الله.
ومنها كذلك: خطر الغفلة عن الآخرة لأنها تنسي الإنسان نهايته وحياته
الحقيقية، ولذلك كان السلف الصالح يفكرون في الآخرة ويعملون للآخرة ولهم
مواقف في تأملها والخشوع عند تذكرها مما يدفعهم إلى العمل الصالح ولنا مع المفيد
مما هو مسطور في كتب الأدب والزهد والسلوك مما هو في مقامه ويطول المقام
بذكره*.
وفي الآية فوائد كثيرة ومعارف غزيرة أكتفي بهذا القدر منها، والله أعلم،
والحمد لله أولاً وآخراً.
__________
(1) تفسير ابن كثير.
(2) تفسير القرطبي.
(3) تفسير القرطبي.
(4) الظلال، 2758، ج 5 -ج5 ص2758.
(5) الظلال، ج 5، ص 2759.
(6) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
(7) أصل الحديث في الصحيح عن أبي هريرة وهذه الزيادة عند أبي يعلى في مسنده * أنظر كتاب الزهد للإمام أحمد، وكتاب الزهد للإمام وكيع بن الجراح، وانظر مدارج السالكين لابن القيم، وغيرها.(83/8)
دراسات تربوية قرآنية
[ولا تلبسوا الحق بالباطل..]
[1]
عبد العزيز بن ناصر الجليل
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله
وصحبه.. أما بعد:
فإن الله عز وجل خلق الخلق من الجن والإنس لغاية عظيمة، وهي عبادته
سبحانه وتوحيده والإخلاص له وحده لا شريك له، قال تعالى: [وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون] [الذاريات: 56] ، ومن أجل ذلك أنزل سبحانه الكتب
وأرسل الرسل، وزود عباده بالعقول التي تميز الخير من الشر والحق من الباطل،
وتكفل سبحانه بالعون والتوفيق لمن أراد الهدى والحق فدله إليه ورزقه الانقياد له،
وتخلى عمن أعرض عن الحق فلم يقبل به، ولم يستسلم ويخضع له، وكل هذا من
الابتلاء الذي خلق الله سبحانه الموت والحياة من أجله، قال تعالى: [الذي خلق
الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاْ وهو العزيز الغفور] [الملك: 2] .
وانقسم الناس إثر ذلك إلى مؤمنين موحدين مدركين للغاية التي من أجلها
خلقوا، فصارت دوافعهم كلها في مرضاة الله سبحانه، وسخروا كل ما آتاهم الله في
هذه الدنيا لخدمة هذه الغاية الشريفة لنيل مرضاة الله سبحانه وتعالى، فعملوا للآخرة
والفوز برضوان الله والجنة، ومن الناس من أمضى حياته في اللهو واللعب وإيثار
الحياة الدنيا، وجعل هذه الدنيا همه وغايته واتبع هواه، فخسر الدنيا والآخرة، ألا
ذلك هو الخسران المبين.
ثم إن الفئة المؤمنة لم تسلم كذلك من الفتن، وكيف لا يكون ذلك وعدوها
الشيطان الرجيم متربص بها لا يفتأ يضلها ويزين لها ويخدعها؟ يقول الله عز وجل
عن إبليس اللعين: [قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم
من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين]
[الأعراف: 16، 17] ، وقال تعالى: [قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في
الأرض ولأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين] [الحجر: 39، 40] .
أحابيل الشيطان:
إن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد، فتنة التزيين ولبس الحق
بالباطل واتباع الهوى في ذلك، ولقد وقع في هذا الشَرَك الخطير كثير من الناس
وبخاصة في زماننا هذا، حيث تموج الفتن موج البحر، وحيث كثر الخداع والنفاق
والدجل والرياء.
نعم إننا في زمان اشتدت فيه غربة الإسلام، وضُلل كثير من الناس وتمكن
الشيطان من كثير منهم تمكناً يظنون معه أنهم بمنأى عن عدوهم اللدود وعلى صلة
بربهم سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا بسبب التباس الحق بالباطل والجهل بالعلم
ولتعاون شياطين الجن والإنس [يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراْ]
[الأنعام: 112] ، فتعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة،
وألفاظ من القول خادعة، وتسمية للأشياء بغير أسمائها فَضَلّ بسبب ذلك كثير من
الناس، والعاقل منهم من وقف حائراً لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من
التناقضات وتبرير المواقف الخاطئة المخالفة للشريعة، بسبب استيلاء الهوى على
النفوس واستيلاء الشهوات على القلوب.
ولما كان من غير المستطاع المجاهرة برد الشريعة ورفضها، كان لابد لهم
من لي أعناق النصوص من آيات وأحاديث ليستدل بها أولئك المبطلون على
المواقف المنحرفة وليست فيها دلالة عليها، ولو أن الذي يقع في الانحراف يعترف
بذنبه وخطئه وضعفه في مخالفة الشريعة، لكان الأمر أهون، وكذلك لو أنه استدل
بدليل في غير محله ولما نُبّهَ إلى هذا الخطأ في الاستدلال رجع واعترف لكان هذا
أيضاً أهون، ولكن المصيبة أن يصر المسلم الذي حَرّفَ الأدلة ولواها ليجد لعمله
مَخْرَجَاً وشرعية، فيكابر بعد بيان الحق له، ويغالط نفسه والمسلمين بصنيعه هذا.
منطلق هذه الوقفات:
إننا في زماننا هذا نرى صوراً كثيرة من لبس الحق بالباطل، وصوراً أخرى
من المغالطات والخداع والحيل المحرمة في شرع الله عز وجل، فكان لزاماً على
الدعاة والمصلحين أن يحذروا من الوقوع في هذا المزلق، وأن يكشفوه للناس ولا
يدَعُوهم لأهل الأهواء يلبسون عليهم دينهم ويحرفون الكلم عن مواضعه، ومعلوم ما
ينتج من وراء ذلك من الفتن والتضليل.
من أجل ذلك جاءت هذه الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لمعالجة هذا
الموضوع المهم على ضوء الكتاب والسنة وما ذكره العلماء الفحول، وقد اخترت
عنواناً لها قوله تعالى: [ولا تلبسوا الحق بالباطل] ، وهو جزء من آيتين
كريمتين وردت إحداهما في سورة البقرة عند قوله تعالى: [ولا تلبسوا الحق
بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون] [البقرة: 42] والأخرى في سورة آل عمران
عند قوله تعالى: [يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم
تعلمون] [آل عمران: 71] .
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
وهاتان الآيتان وإن كانتا قد نزلتا في أهل الكتاب فالعبرة بعموم اللفظ
لابخصوص السبب كما هو مقرر عند علماء الأصول، فكل من كتم الحق وخلطه
بالباطل وهو يعلم فهو من أهل هذه الآية، ولذلك سوف لا أتطرق لمحاولات أهل
الكتاب ولا أصحاب الملل الكافرة في تلبيس الحق بالباطل ومغالطاتهم في ذلك، بل
سينصب جل البحث على واقعنا المسلم الذي نعيش فيه وندعو إلى الله فيه، محاولاً
كشف بعض الصور التي التبس فيها الحق بالباطل والتي يقع فيها بعض المنتسبين
لهذا الدين من المنافقين وضعاف الإيمان لتبرير الانحراف أو التهوين منه والرضى
به وإقراره، بل إن بعض الطيبين من دعاة وطلاب علم قد تأثروا بأولئك الملبسين
فصاروا يرددون بعض ما يقولون بعلم أو بغير علم، وقد قسمت الموضوع إلى
المباحث التالية:
* أهمية الموضوع * تعريفات
* أسباب التباس الحق بالباطل * صور من لبس الحق بالباطل
* الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل * خاتمة.
أهمية الموضوع:
إن لدراسة التباس الحق بالباطل أهمية كبرى لما ينتج عن ذلك التلبيس من
تزييف وفتنة يكون لها الأثر السيء والضرر البالغ في تضليل الأمة وتحريف
الحقائق وتزوير الأحداث، ويمكن توضيح أهمية الموضوع في الأمور التالية:
1- القيام بالعبودية لله تعالى لا يتم إلا بالإخلاص له سبحانه وتعالى، وأن
تكون العبادة على بصيرة باتباع ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
والبصيرة بالدين لا تتحقق مادام أن الباطل ملتبساً بالحق، مما يلزم تنقية الحق من
الباطل قال تعالى: [قد تبين الرشد من الغي] [البقرة: 56] .
2- كثرة التلبيس والتضليل في عصرنا بوسائل إعلامية ماكرة مضللة تلبس
على الناس دينهم وتخلط الحق بالباطل، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق
وإظهار الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، وذلك لطمس الحق أو
تشويهه وتشويه حملته والداعين إليه، فكان لابد من إزالة هذا اللبس لإحقاق الحق
وإبطال الباطل بقدر المستطاع [ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون]
[الأنفال: 8] .
3- السكوت المزعج لكثير من العلماء وطلبة العلم في ديار الإسلام أمام كثير
من المستجدات والنوازل التي تبحث فيها الأمة عن الموقف الشرعي إزاء تلك
النوازل، مما حدا بذوي القلوب المريضة في غيبة العلماء أن يلبسوا على الأمة
أمرها، وتكلمت الرويبضة في أمر العامة، والأدهى والأمر أن من أهل العلم من
يساهم في هذا التلبيس فتراه يسمي الأمور بغير أسمائها، وينزل النوازل في غير
مناطاتها، بل قد يثني على المبطلين ويغض من قدر المصلحين، فإلى الله المشتكى.
4- أهمية تعرية الباطل وأهله، فمادام أن الحق مختلط بالباطل، وسبيل
المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين، فإن الدين سيبقى مشوهاً عند الناس،
وسيبقى التلبيس فيه قائماً، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) .
5- ضرورة بيان تلبيس الطواغيت ودعاة العلمنة في كثير من بلدان الإسلام
وما يضفونه على مخططاتهم الظالمة من تبريرات لظلمهم وادعاءاتهم التي قال الله
تعالى في مثلها: [وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا
إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون] [البقرة: 11، 12] .
6- ظهور بعض المغالطات من كثير من الناس واستخدامها في تبرير
المواقف الخاطئة والمخالفات الشرعية، سواء أكانت فردية أو جماعية فينبثق عنها
مواقف وممارسات خاطئة تلبس على الناس أمرهم، ومنشأ هذه المغالطات في
الغالب شهوة مزجت بشبهة فتولد عنها مغالطة، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد.
مصطلحات في الموضوع:
يحسن بنا قبل الدخول في ثنايا الموضوع الإلمام بتعريفات كثر إيرادها، من
أهمها (اللبس والتلبيس) و (الأغاليط والمغالطات) :
أولاً- اللبس والتلبيس:
قال في لسان العرب: «اللّبْس واللّبَس: اختلاط الأمر، لبس عليه الأمر
يلبسه لبْساً فالتبس، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته، والتبس عليه الأمر أي
اختلط واشتبه، والتلبيس: كالتدليس والتخليط، شدد للمبالغة، وربما شدد للتكثير،
يقال: لَبَستُ الأمر على القوم ألبْسُه إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً» أ. هـ،
وقال ابن الجوزي - رحمه الله - في تلبيس إبليس: «التلبيس إظهار الباطل في
صورة الحق» أ. هـ، ومن ذلك قوله تعالى: [ولا تلبسوا الحق بالباطل
وتكتموا الحق وأنتم تعلمون] [البقرة: 42] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه
الله - عند هذه الآية: «فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم
الحق الذي تبين أنه باطل إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق» .
ثانياً- الأغاليط والمغالطات:
قال في لسان العرب: «المغْلطَة والأغلوطة: ما يغالط به من المسائل
والجمع: الأغاليط، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الأغلوطات، قال الهروي: وأراد بها المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيهيج بذلك شر
وفتنة، وإنما نهي عنها لأنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون إلا بما لا يقع،
ومثله قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (أنذرتكم صعاب المنطق) يريد
المسائل الدقيقة الغامضة» .
وقد أخرج أبو داود - رحمه الله - في سننه عن معاوية - رضي الله عنه-
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الأغلوطات [1] ، وروى كل من
البخاري ومسلم حديث حذيفة المشهور في الفتن، وفيه قول حذيفة: «إني حدثته
حديثاً ليس بالأغاليط» [2] قال في الشرح: الأغاليط جمع أغلوطة وهي المسائل
التي يغلط فيها والأحاديث التي تذكر للتكذيب، ونقل الحافظ بن رجب - رحمه الله- في جامع العلوم والحكم عند شرحه للحديث التاسع من أحاديث الأربعين النووية
قوله: وقال الحسن البصري: «شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون
بها عباد الله» وقال الأوزاعي: «إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى
على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علماً» .
والحاصل مما ذكر أن المغاليط هي التي يثيرها المغالطون من صعاب المسائل
أو المسائل التي لم تقع، وذلك ليغالطوا بها العلماء ليزلوا فيعمون بها العباد ويهيج
من ذلك شر وفتنة وتلبيس على الناس، نسأل الله السلامة..
وللحديث بقية إن شاء الله.
__________
(1) أبو داود كتاب العلم ح/8.
(2) البخاري كتاب المواقيت ح/4، مسلم كتاب الإيمان.(83/12)
من فقه الدعوة
حكم الإنكار في مسائل الاجتهاد
خالد بن عثمان السبت
تمهيد
جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص صفات صفيه من
خلقه صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه حيث قال [الذين يتبعون الرسول النبي
الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم
عن المنكر] [الأعراف: 157] ، وهذا الوصف أيضاً من أخص أوصاف من
اصطفاهم من سائر البشر ليكونوا أتباعه ورسله وأنبياءه صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين [والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر ويؤمنون بالله] [التوبة: 71] وبين جل جلاله أوصاف المؤمنين:
[التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف
والناهون عن المنكر] [التوبة: 112] وجعل الله تعالى مناط خيرية أمتنا الإسلامية
بهذا الوصف [كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر] ... [آل عمران: 110] .
وهذا الوصف له آداب وضوابط يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن
المنكر معرفتها والالتزام بها، وسيكون حديثي في هذه الحلقة عن حكم الإنكار في
مسائل الاجتهاد وعلى النحو التالي:
أهمية هذه المسألة:
الكلام في هذه المسألة يعتبر من أهم ما ينبغي معرفته في هذا الباب، وذلك
لسببين رئيسين:
الأول منهما: كثرة وقوع اللبس والخلط في هذا الجانب.. فإن الكثيرين ممن
يتكلمون عن هذه المسألة يعبرون عنها بـ «الإنكار في مسائل الخلاف» فيطلقون
القول بـ «عدم الإنكار في مسائل الخلاف» .
ولو جعلنا عبارتهم هذه قاعدة وأردنا تطبيقها لتعطل باب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر تماماً.. لأن الخلاف واقع في أصول الدين وفروعه في القديم
والحديث، فما هو الضابط في ذلك؟ الحق كما قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبراً.. إلا خلاف له حظ من النظر
السبب الثاني: هو استغلال كثير من أهل التلبيس والتدليس والخلط، ذكر
بعض أهل العلم مثل هذه العبارة في كتبهم..! ! فأصبحت مُعَوّلاً لأولئك لتثبيت
جذور التمييع لمسائل الشريعة العلمية والعملية..!
وإن من عادة أهل البدع إطلاق العبارات المجملة.. والموهومة، ليصلوا منها
إلى معان باطلة! ! والحق في خلاف مسلكهم هذا.. قال ابن القيم -رحمه الله- في
نونيته:
فعليك بالتفصيل والتمييز ... فالإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا ... الأذهان والآراء كل زمان
وقال:
فعليك بالتفصيل إن هم أطلقوا ... أو أجملوا فعليك بالتبيان
وقد علمت مما سبق أنه لا يحكم على الشيء أو الفعل بأنه منكر إلا إذا قام
على ذلك دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع
المسلمين.. وعليه فإنه إذا وُجد النص فلا عبرة بخلاف المخالف كائناً من كان..!
فالقول بأن «مثل هذا من المختلف فيه الذي لا ينكر» قول باطل.. وإنما
العبارة الصحيحة «لا إنكار في مسائل الاجتهاد» .
فإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي لم يرد فيها دليل من الكتاب أو
السنة الصحيحة، أو وقع عليها الإجماع.. أو كانت مما تضاربت فيها الأدلة -
ظاهراً - في نظر المجتهد أو خفي المأخذ، أو غير ذلك من الأمور المعروفة، فهذا
مسلم، وبه تعلم أن هناك فرقاً بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد، فالأولى أعم
من الثانية كما هو ظاهر.
والحاصل أنه كلما قوى الخلاف كلما كان العذر أقرب.. والعكس يقال في
حال ضعفه.
جاء في نصاب الاحتساب: «.. ومن لم يستر الركبة ينكر عليه برفق لأن
في كونها عورة اختلافاً مشهوراً، ومن لم يستر الفخذ يعنف عليه ويضرب لأن في
كونه عورة خلافاً عند بعض أهل الحديث» [3] .
ومما يُستدل به على بطلان القول بعدم الإنكار في مسائل الخلاف: إنكار
الصحابة ومن بعدهم على المخالف للسنة الثابتة كائناً من كان، والأمة مأمورة
باتباع نبيها-صلى الله عليه وسلم- وكل من أتى بما يخالف هديه الثابت وسنته فهو
مخطئ قطعاً وينكر عليه.
وقد أنكر الصحابة على من منع من التمتع بالعمرة، وعلى من أتم في السفر،
وعلى من أباح وطئ المرتدة بملك اليمين، وعلى من حرق الغالية بالنار، علماً بأن
القائلين بهذه الأقوال الآنفة الذكر هم من أفاضل الأمة وخيارها بعد نبيها-صلى الله
عليه وسلم-، ولا يدانيهم من كان بعدهم لا في علم ولا في تُقىً..! !
وإن مما ينبغي أن يُعلم أنه ليس كل مجتهد مصيب، وإنما المصيب واحد لأن
الحق لا يتعدد، وإن كان المجتهد المخطئ مأموراً بالعمل بما وصل إليه اجتهاده
حتى يتبين له خطؤه، وهو مأجور أجراً واحداً في حال الخطأ، وله أجران في حال
الإصابة.
وكثير ممن غلط في مسألتنا تلك إنما دخل عليه اللبس بسبب عدم وضوح هذه
المسألة الأخيرة..! !
ونحن في هذا لمقام أردنا الإشارة إلى هذه النقطة للتنبيه عليها دون الخوض
في تفاصيلها، لأن هذا محله كتب الأصول.. وقد أطنب في شرحها وبيانها شيخ
الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فراجعه إن شئت.
وبهذا تكون قد عرفت أن الصواب إنما هو القول بعدم الإنكار في مسائل
الاجتهاد.. وضابط هذا ما تقدم.. وأنه لا التفات إلى الخلاف الشاذ، كما أن مثله لا
يجعلها مسائل اجتهاد، والواجب في مثل هذه الأمور الاجتهادية لزوم المناصحة
والبيان من قبل من تبين له وجه الحق في شيء من تلك المسائل.
وقفات:
الوقفة الأولى: هذا الكلام يقال في حق المجتهد أو المتأول الذي له فيما ذهب
إليه تعلق بالنصوص الشرعية، أما المقلد فلا، لأنه ينكر عليه، وقد نقل ابن مفلح
رحمه الله رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- تدل على أنه لا ينكر على المجتهد بل
على المقلد، قال إسحاق بن إبراهيم: عن الإمام أحمد أنه سُئل عن الصلاة في
جلود الثعالب. قال: إذا كان متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً
ينهى.. « [4] .
الوقفة الثانية: لا يتنافى عدم الإنكار على المخالف في مثل هذه المسائل مع
دراستها ومناقشتها بين أهل العلم، ليعرف كل منهم مأخذ الآخر ليهتدي الجميع
للوصول إلى الحق، شريطة أن لا يؤدي هذا إلى فتنة أو مفسدة كبيرة، وبشرط أن
لا يكون التشاغل بها على حساب ما هو أهم منها.
الوقفة الثالثة: يندب المخاطب إلى العمل بالأحوط والخروج من الخلاف في
هذه المسائل جرياً على وفق القواعد الشرعية.
الوقفة الرابعة: تجنب الخلاف والحرص على تفاديه قدر الاستطاعة، مع
التماس الأعذار للمخالفين، بالإضافة إلى عدم جعل هذه الخلافات الاجتهادية مجالاً
للتفرق والانقسام واستباحة الأعراض.
الوقفة الخامسة: ينبغي حسن المحاورة والمناظرة في هذه المسائل وغيرها،
مع التجرد للحق متى ظهر دليله، وترك المراء والجدال العقيم والمخاصمة.
وقد قرر ابن القيم -رحمه الله- مسألتنا هذه أحسن تقرير في كتابه العظيم
إعلام الموقعين فقال:» وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن
الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف
سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه
ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب
إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه «لا إنكار في المسائل المختلف
فيها» والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا كان خالف
كتاباً أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء!
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على
من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل
الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
والصواب ما عليه الأئمة: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل
به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها - إذا
عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به - الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء
الأدلة فيها، وليس في قول العالم: «إن هذه المسألة قطعية أو يقينية ولا يسوغ
فيها الاجتهاد» طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب،
والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير،
مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها
للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام،
وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح
على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على
الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة وأن الشفعة
ثابتة في الأرض والعقار.. « [5] .
__________
(1) شرح نونية ابن القيم للهراس 1/143.
(2) المصدر السابق (1/329) .
(3) نصاب الاحتساب 216.
(4) الآداب الشرعية (1/167) .
(5) أعلام الموقعين (3/288-289) .(83/19)
خواطر في الدعوة
أهل مكة أدرى بشعابها
محمد العبدة
هذا المثل المشهور يجبهك به بعض الناس عندما تبدي وجهة نظرك في
أحداث معينة، أو تناقش فكرة تخالف فيها ما هو واقع في بلد من بلدان العالم
الإسلامي، وأنت لست من أهله، فهل يصح إطلاق مثل هذا المثل في واقعنا اليوم
وهل تُحلّ مشكلة كبيرة بمثل هذا التبسيط، حيث لا داعي للمشاركة والاستفادة من
آراء الآخرين أو المخالفين.
لا يشك أحد في وجود خصوصيات معينة لكل بلد سواء من ناحية جغرافيته أو
طبيعة سكانه أو مستوى ثقافته، لكن ما حجم هذه الخصوصية أمام كثير من
الأحوال المتشابهة: الاجتماعية منها والاقتصادية والسياسية؟
إن الخصوصية تمثل نسبة قليلة، فلقد عاشت معظم شعوب العالم الإسلامي
ظروفاً واحدة، والتخلف الحضاري يلفها جميعاً، ولم تتمكن حتى الآن من العودة
لهويتها وأصالتها وإلى الدين الذي يرقيها معنوياً ومادياً، وقد تسلطت أوروبا على
معظم هذه الشعوب في القرن الماضي، وجعلت أرضه مِزَقاً وأوزاعاً، وفرضت
مناهج للتعليم خرجت أجيالاً ممسوخة العقل والفكر، فلا دنيا أقامت ولا رجعت إلى
دينها الذي هو مبعث حضارتها وعزها، فالمشكلات واحدة والهموم واحدة، فهل
هناك خير في نقل الخبرات والتجارب، وقد وقعت أحداث في المشرق كانت جديرة
بالتأمل والدراسة وأخذ العبرة، وحدثت أمور في المغرب كان حَرىّ بأهل المشرق
أن يستفيدوا منها.
لقد ذكر القرآن الكريم قصص أقوام لنعتبر بها وهم بعيدون عنا زماناً، وقد
مَرّ على المسلمين زمن كان من مميزات طلب العلم الرحلة إلى الأقطار المجاورة
لزيادة في العلم أو الخبرة ومعرفة أحوال المسلمين، بل إننا نجد في أيامنا هذه من
أذكياء المجتمعات الغربية مَنْ يصف ويحلل بعض مشاكل المسلمين وكأنه يعيش بين
ظهرانَيْهم، فلماذا يحرم المسلمون أنفسهم من خبرات متراكمة لمقولة يقولها إنسان لم
يتعود على التفكير العميق، وعلى التأمل في سنن الاجتماع البشري التي ذكرها
القرآن، وإذا كان الحاضر أشبه بالماضي، أفلا تتشابه أحداث وقعت في زمن
متقارب؟ ولا أظن أن مثلاً هنا وشعاراً هناك يحل مشاكلنا المعقدة التي تحتاج إلى
دراسة وحوار ومشاركات للرأي تعقد لها ندوات ومؤتمرات حتى تتضح القضايا،
ويبين السبيل.
وإذا كان أهل مكة أدرى بشعابها، فليس من الضروري أن يكونوا أدرى
بظروفها وما يحيط بها، وبطبيعة الصراع الذي يدور في العالم اليوم، ولقد رمى
عمر بن الخطاب رضي الله عنه داهية الروم بداهية العرب عمرو بن العاص
رضي الله عنه ونحن تحاصرنا الشعارات العامة والأمثال المضروبة، وقد تحولت
الدنيا إلى قرية كما يقولون.(83/25)
نصوص شعرية
.. روضات الصبر..
مروان كجك
اصبر فصبرُك دعوةٌ وسبيلُ ... يا مَنْ يُداوي السّقْمَ وهْوَ عَليلُ
لو كنت أملِكُ بعضَ أوصافِ الدّوا ... لَبَذَلْتُهُ، لكنني مخجولُ
أدعوُ لكَ الشافي القديرَ وأرْتَجي ... فضلاً به يُقْضَى لنا المأمولُ
آذَنْتَ أهلَ البَغْي حينَ دَعَوْتَهُمْ ... للحقّ، فارتعدت ذُرىً وذُيُولُ
وتقاصَرُوا لَمّا رأوْك مَنَارَةً ... بالحقّ، يرسمُ دربَكَ التنزيلُ
ضاقُوا بصوتكَ، لم ترقهمُ عصبةٌ ... قامَتْ لبعثِ الحقّ وهْوَ هزيلُ
وتعاقدُوا أنَْ يصرفوكَ تجنّياً ... حتى يسودَ مُصانِعٌ وعميلُ
أبْشِرْ أبا الفرسان إن رماحَهم ... شَقّتْ بطونَ الريحِ وهيَ تصولُ
واستنشدَت ريحَ الشمالِ نشيدَها ... فتساقطَ الحمّالُ والمحمولُ
رَضَعَتْ مِنَ التاريخِ محض زُلالِهِ ... وتذوّقت مَا أنبتَ الترتيلُ
حتىَ غدت أسْدُ العَرينِ تصونُهُ ... عن غادر في مقلتيه ذُحولُ
لم تُلههِمْ دُنْيا ولا زَيْفُ الرّؤىَ ... ما بينهم خَبلٌ ولا مجهولُ
صَفْوُ العَشيرةِ في المكارمِ والتقى ... أهلُ الفداءِ، إذا دَعَوْتَ، فُحُولُ
ميزانُهُمْ قرآنُهُم وزعيمُهُم ... عَبدُ تَسَامىَ في المقامِ رسولُ
فاصْبِرْ فإنكَ في النوازل رائدٌ ... والدربُ - نَعْلَمُ - شائِكٌ وطويلُ
فالصبرُ رَوْضاتٌ لأبناء الهُدَى ... ولِجَنّةِ الرحمنِ تلكَ سبيلُ(83/27)
دراسات اقتصادية
الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة
المشكلة الاقتصادية وعلاجها من المنظور الإسلامي
(الحلقة الأخيرة)
د/ محمد عبد الله الشباني
في الحلقات السابقة أشرنا إلى جانبي الندرة والأهمية النسبية لعناصر الإنتاج
ودور كل عنصر وأهميته في العملية الإنتاجية وارتباطه بالمشكلة الاقتصادية وفي
هذه الحلقة سوف نتطرق إلى كيفية معالجة الإسلام لتوزيع الدخل العام، أي إيجاد
التوازن في الثروة بين أفراد الأمة وذلك فيما يتعلق بتوزيعها وفق المبدأ القرآني
[كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم] [الحشر: من الآية 7] .
إن قضية التوزيع للثروة تمثل روح وجوهر الاختلال في الأنظمة الاقتصادية
المعاصرة حيث نجد التفاوت بين مختلف أفراد الأمة فيوجد الأشخاص المعدومون
الذين لا يجدون المأوي أو المأكل أو الملبس والفئات المتخمة، فالإسلام أوجد نظاماً
لمعالجة الاختلال الاقتصادي سواء أكان ما يتعلق بتوفير الوسائل المالية اللازمة
لحفز عناصر الإنتاج أو إعادة التوازن من خلال التشريع المالي الإسلامي الذي
عالج قضية التفاوت بأسلوب يحقق العدالة ويساعد الفئات غير القادرة على المساهمة
في نمو الدخل العام.
تمثلت معالجة الإسلام للتفاوت في تملك الثروة باتباع نظام مالي فريد في
نوعه يتحقق من خلاله تحقيق عدالة التوزيع وإيجاد التكافل بين مختلف أفراد
المجتمع ضمن إطار تنظيمي متكامل، بحيث إذا اختل جزء منه ظهر الاختلال في
بقية الأجزاء، فالنظام المالي الإسلامي مكمل للنظام الاقتصادي في إطاره العام
والاجتماعي بمختلف جوانبه بحيث لا يمكن تحقيق أهداف النظام المالي الإسلامي
إذا اختلت بقية أنظمة الإسلام المتعلقة بتنظيم شؤون الإنسان الحياتية.
مميزات نظام توزيع الثروة في الإسلام:
يتميز نظام توزيع الثروة في النظام الإسلامي بخصائص مهمة تتمثل في الآتي:
أولاً: وضع نظام للجباية المالية من المكلفين حيث يشمل هذا النظام جميع
مصادر الدخل، ويتمثل ذلك في نظام الزكاة فقد خصص هذا المورد للإنفاق منه
على تلبية احتياجات الفرد الأساسية وتنمية قدرته الذاتية من خلال منح الزكاة
للمحتاجين من أفراد المجتمع، لقد حدد القرآن الكريم مصارف الزكاة بحيث لم
يجعل لآراء الأفراد دوراً فيمن تصرف له يقول تعالى: [إنما الصدقات للفقراء
والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله
وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم] [التوبة: 60] ، فهذه الآية تحدد
نوعية من تصرف لهم الزكاة ومن خلالها يتضح أن الزكاة تهتم بتوفير الحاجات
الفردية لأفراد الأمة، ولقد اهتم العلماء المسلمون بتحديد الكفاية التي تحدد من
يستحق الزكاة ممن لا يستحقها، يقول الإمام النووي في هذا الخصوص: «المعتبر
المطعم والملبس والمسكن وسائر ما لابد له منه على ما يليق بحاله بغير إسراف ولا
إقتار لنفس الشخص ولمن هو في نفقته» [1] ، وهذا الفهم الذي أشار إليه الإمام
النووي قائم على فهم ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعلي قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته» [2] .
إن المفهوم الذي يمكن استخلاصه من هذا الحديث هو اتساع نطاق الحاجات
العامة التي تقوم الدولة باتباعها بحيث تتكفل الدولة برعاية أفرادها في أمورهم
الخاصة ممن لا يستطيعون أن تكون لهم القدرة على توفير احتياجاتهم، وهذا الأمر
ليس متروكاً للأفراد من الناس وإنما هو واجب من واجبات الدولة عليها القيام به.
وإن تحقيق العدالة في توزيع الثروة بين مختلف فئات المجتمع وبالتالي
إضعاف تأثير الجوانب الأخرى المسببة للمشكلة الاقتصادية يقوم على مفهوم أن
المسلمين كالجسد الواحد.
خصائص الزكاة:
ولهذا فإن الزكاة تمثل الأداة التي شرعها الإسلام لتحقيق عدالة التوزيع والتي
تتميز بالخصائص التالية [3] :
1- فصل حصيلة الزكاة عن الموارد المالية الأخرى التي يتم جبايتها للإنفاق
على المصالح العامة وتخصيصها بالإنفاق منها على الفئات الثمان التي حددها
القرآن في آية الصدقات: على أن يكون الإنفاق على احتياجات الأفراد بالشكل الذي
يجعل مستحق الزكاة يستغني عن الزكاة مستقبلاً بحيث يكون مساهماً في زيادة
موارد الزكاة، يقول الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) في هذا
الخصوص «فيدفع إلى كل واحد منهما (الفقير والمسكين) إذا اتسعت الزكاة ما
يخرج به من اسم الفقر والمسكنة إلى أدنى مراتب الغنى، وذلك يعتبر بحسب
الحالات فمنهم من يصير بالدينار الواحد غنياً إذا كان من أهل الأسواق يربح فيه
قدر كفايته فلا يجوز أن يزاد عليه، ومنهم من لا يستغنى إلا بمائة دينار فيجوز أن
يدفع إليه أكثر، ومنهم من يكون ذا جلد يكتسب بضاعته قدر كفايته فلا يجوز أن
يعطى وأن كان لا يملك درهماً» [4] ، وهذا الفهم للإمام الماوردي لنطاق صرف
الزكاة إنما هو مبنى على توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي
رواه الترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «قدم علينا مصدق النبي -
صلى الله عليه وسلم- فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا وكنت غلاماً يتيماً
فأعطاني منها قلوصاً» [5] .
2- في حالة عجز الزكاة عن كفاية احتياجات الأفراد فإن لولي الأمر فرض
مبالغ إضافية لسد حاجة المحتاجين من الأغنياء بشكل مؤقت لإشباع الحاجات، وقد
أوضح الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك في الحديث الذي رواه الترمذي عن
فاطمة بنت قيس قالت سألت أو سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الزكاة فقال
(إن في المال حقاً سوى الزكاة ثم تلى هذه الآية التي في البقرة [ليس البر أن تولوا
وجوهكم] « [6] ، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي رواه الطبراني
في الصغير موقوفاً أنه قال» إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر
الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعسروا إلا مما يضيع أغنياؤهم،
ألا وإن الله عز وجل يحاسبهم يوم القيامة حساباً شديداً، ثم يعذبهم عذاب أليماً.
3- اعتماد عدم المركزية في الجباية والصرف بالنسبة للزكاة فلا يجوز نقل
حصيلة الزكاة من وحدة إدارية معينة إلى أخرى مالم يتم إشباع حاجات أفراد هذه
الوحدة الإدارية، وقد أوضح الرسول ذلك كما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن
عباس الذي جاء فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذ بن جبل
رضي الله عنه إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن
لا إله إلا الله وإني رسول الله.. إلى أن قال: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة
في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم» [7] ، وقد أوضح الإمام الماوردي
واقع صرف الزكاة على الأصناف الثمانية حيث قال: «وإذا قسمنا الزكاة في
الأصناف الثمانية لم يحل حالهم بعدها من خمسة أقسام: أحدها أن تكون وفق
كفايتهم من غير نقص ولا زيادة، فقد خرجوا بما أخذوه من أهل الصدقات وحرم
عليهم التعرض لها، القسم الثاني: أن تكون مقصرة عن كفايتهم فلا يخرجون من
أهلها ويحالون بباقي كفايتهم علي غيرها، والقسم الثالث: أن تكون كفاية لبعضهم
مقصرة عن الباقين فيخرج المكتفون عن أهلها، ويكون المقصرون على حالهم من
أهل الصدقات، والقسم الرابع: أن يفضل عن كفاية جميعهم يخرجون من أهلها
بالكفاية ويرد الفاضل من سهامهم على غيرهم من أقرب البلاد إليه، والقسم الخامس
: أن تفضل عن كفايات بعضهم ويعجز عن كفاية الباقين فيرد ما فضل عن المكتفين
على من عجز عن المقصرين حتى يكتفي الفريقان» [8] .
4- استخدام الزكاة أداة لتحريك الفوائض المالية الناتجة عن عنصر العمل
باستغلالها، فالزكاة ليست واجبة على الناتج أو صافي الربح وإنما على رأس المال، وما ينتج عنه إذا تجاوز النصاب، والنصاب يتفاوت حسب طبيعة المال بجانب
أن شمولية الزكاة لجميع أفراد المجتمع وأن الحد الأدنى لما يعفى من الزكاة ضئيل
سواء أكان لرأس المال أو الناتج وفرض الزكاة وفق ذلك يهدف إلى التقليل من
تراكم المال في يد فئة معينة محدودة، فالزكاة تدفع المدخرات الجامدة إلى الاستثمار
المنتج وليس إلى الاستثمار غير المنتج حيث حرم الإسلام الربا أو الاستثمار في
إنتاج سلع أو تقديم خدمات محرمة مثل إنتاج الخمور أو آلات الطرب أو خدمات
المتع المحرمة.
ثانياً: لعنصر العمل تأثير في العملية الإنتاجية كما أنه المصدر المساعد في
تكوين الثروة بجانب أنه وسيلة التملك الأساسيةفي الإسلام واختلاف نصيب العمل
من الناتج القومي يؤثر في عدالة توزيع الثروة كما أنه العنصر الذي يساعد على
تفاقم المشكلة الاقتصادية، ولهذا فقد اهتم الإسلام عند معالجته للمشكلة الاقتصادية
بأن أعطى لهذا العنصر من عناصر الإنتاج أهمية خاصة وراعى - عند توزيع
الناتج القومي على عناصر الإنتاج - هذا العنصر لما له من دور سلبي أوإيجابي في
الوضع الاقتصادي لأي مجتمع، فعنصر العمل هو العنصر المتحكم والمؤثر في
تحديد تكاليف الإنتاج، وبالتالي في قيمة الناتج القومي وتوزيعه بين عناصر الإنتاج
الأخرى.
إن معالجة الإسلام عند توزيعه للناتج القومي بين مختلف عناصر الإنتاج قد
راعى أهمية عنصر العمل باعتباره عاملاً منتجاً أو مستهلكاً في الدورة الاقتصادية،
فوضع قواعد وأسس ينبغي الاسترشاد بها عند تحديد مقدار الأجر الذي يعطى
للعامل: وقد ارتكزت هذه الأسس على قاعدة ضرورة كفاية الأجر في توفير
الضروريات الأساسية لحاجات الفرد بحيث لا يقل الحد الأدنى للأجر عن توفير هذه
الضروريات، وبالتالي فإن هذا الحد يتغير بتغير الظروف ويفهم هذا من حديث
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المستورد بن شداد قال سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يقول: «من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة وإن لم يكن له
خادم فليكتسب خادماً فإن لم يكن له مسكن فليكتسب سكناً قال أبو بكر أخبرت أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق» [9] .
ثالثاً: يقر الإسلام لرأس المال بأحقية الحصول على جزء من الناتج القومي
باعتبار أن رأس المال عنصر من عناصر الإنتاج الذي يتحقق من خلال استغلاله
زيادة الناتج القومي، بالتالي فإن لرأس المال حق في الحصول على جزء من الناتج
القومي على شكل ربح أو إيجار، ويمكن فهم ذلك مما ورد عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- مما رواه ابن ماجة والبيهقي والنسائي وأبو داود عن رافع بن فريج
قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمزابنة» [10] ...
وكذلك ما رواه مسلم وأبو داود عن حنظلة بن قيس الأنصاري «قال سألت رافع بن
خديج - رضي الله عنه - عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به إنما
كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الماذيانات
وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم
يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك أجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا
بأس» [11] ، فمن جملة ما يفهم من هذه الأحاديث أن الإسلام يعطى لرأس المال نصيباً من الناتج القومي باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج يؤثر في تحديد تكلفة المنتج وبالتالي في قيمة الناتج القومي ولكنه استبعد وضع قيود لأحقية رأس المال في جزء من الناتج القومي، وهذه الأحقية مرتبطة بطبيعة دور رأس المال في الحصول على الناتج القومي: ولهذا فإن حق رأس المال في جزء من الناتج القومي إنما يتحقق إذا تمثل في أصل ثابت يمكن استغلاله بتحقيق الإنتاج مثل الريع للأرض أو المساهمة مع عنصر آخر مثل دخول رأس المال النقدي أو العيني مع العمل في تحقيق الربح، ولهذا نجد أن الإسلام استبعد أن يكون للنقود - التي هي أداة
للتداول - أن يكون لها جزء من الناتج.
ولهذا فقد حرم الربا بأي صورة كانت سواء أأطلق على الربا الفائدة أو العائد
أو العمولة أو أي تسمية كانت، لهذا فإن نظرية التوزيع للناتج القومي التي تمثل
جانب من جوانب المشكلة الاقتصادية في النظام الاقتصادي المعاصر، كما يمكن
فهمها من القرآن والسنة أنها تقوم على قاعدة المشاركة الفعلية في عملية الإنتاج،
ولهذا فإن عملية التوزيع وفقاً لذلك تتحدد في عنصر العمل من خلال دفع الأجور
والربح لرأس المال المساهم في عملية الإنتاج الذي يتحمل المخاطرة بالفقدان في
حالة الخسارة وأحقية الحصول على عائد يتمثل في الربح أو الإيجار لرأس المال
العيني الذي تم تكوينه من خلال استغلال الموارد الطبيعية والاستفادة منها في تكوين
أصول رأسمالية منتجة يتم الانتفاع بها فتنال جزءاً من الدخل الناتج عن استغلالها.
هذه هي المشكلة الاقتصادية:
مما سبق من مناقشات لجوانب متعددة للمشكلة الاقتصادية يتضح لنا أن
المشكلة الاقتصادية من وجهة النظر الإسلامية هي جزء من واقع حياة الإنسان
وبالتالي فلا يمكن القضاء عليها، ولكن يمكن الحد من تأثيراتها السلبية، وأن
معالجة الإسلام للمشكلة الاقتصادية يقوم على تجنب الأسباب بالمواجهة لهذه المشكلة، والالتزام بالمنهج الإسلامي في التنظيم الاجتماعي والسياسي والمالي الذي رسمه
الله في كتابه وعلى لسان نبيه، وأن تحقيق الرخاء يرتبط بالإيمان بالله سلوكاً
واعتقاداً كما أشار إلى ذلك ربنا في كتابه في قوله تعالى: [ولو أن أهل القرى
أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض..] [الأعراف: 96] .
__________
(1) مطالب أولي النهى.
(2) البخاري، كتاب النفقات ح/15.
(3) لمزيد من الإطلاع على نظرية الإسلام في التنظيم المالي للدولة بما يتلاءم مع الواقع المعاصر ومع مبادئ الشريعة يراجع كتابنا مالية الدولة على ضوء الشريعة الإسلامية دراسة نظرية وعملية تكيفية تطبيقاً للشريعة في مجال تمويل الدولة ومناهج صرف الأموال - عالم الكتب 1413هـ.
(4) الأحكام السلطانية.
(5) الترمذي، كتاب الزكاة ح/21.
(6) الترمذي، باب ما جاء أن في المال حقاً سوى الزكاة ح/662.
(7) البخاري، كتاب الزكاة ح/1.
(8) الأحكام السلطانية.
(9) أبو داود، كتاب الإمارة، باب أرزاق العمال ح/2945، قال الألباني: صحيح، صحيح أبي داود ح/2552.
(10) البخاري، كتاب البيوع ح/82.
(11) مسلم، كتاب البيوع ح/113.(83/29)
نصوص شعرية
.. بذور النهاية..
نضال القاسم
سأمضي وحيداً.. أشدّ الرحالْ
إلى غير غاية!
وحيداً.. مشيت الخطى عنوةً
ومنذ ابتدأت.. رأيتُ النهايةْ!
فما صدَقوني..
وقد حاربوني..
وألقوا بدربي بذورَ النهايةْ
فما أوهنتني الدروبُ
ولا ضيعَتني الدروبُ
لأني بجرحي قصصتُ الحكايةْ
فقد علمتني..
خطاي النزيفَ! ..
وقد لقّنتني
جراحي البداية! .(83/38)
مقال
روح الفريق والمبادرات الذاتية
محمد محمد بدري
يشكل الأفراد العنصر الأول في بناء كل أمة، وتوفر الصلات بين هؤلاء
الأفراد الشرط الأول لقيام هذه الأمة برسالتها وتقديمها لعطائها الحضاري.. فروح
الفريق هي الدعامة الأساسية في حمل رسالة الأمة، والعمل الجماعي من أهم
ضمانات النجاح وتحقيق الأهداف، ذلك أن العمل الجماعي يضيف كل فرد في
الأمة إلى غيره إضافة كيفية لا كمية، وروح الفريق توحد الأفكار والممارسات
العملية من أجل تحقيق رسالة الأمة.. ومن هنا كانت الأمة التي تسير خطوات
أفرادها بروح الفريق ويسود أعمالهم التعاون والتكامل، هي الأمة الجديرة بالريادة
البشرية.
ولقد ربى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرعيل الأول من المسلمين على
روح الجماعة وذكرهم بالمسؤولية الجماعية عن أمر هذا الدين، فكان وصفه -
صلى الله عليه وسلم- لدين الإسلام بالسفينة السائرة في البحر، يحاول المفسدون
خرقها وإغراق أهلها، وكانت وصيته للمسلمين جميعاً بأن طريق نجاتهم إنما هو
الأخذ على أيدي المفسدين كما في صحيح البخاري، قال -صلى الله عليه وسلم-
«مثل القائم على حدود والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» [1] .
وإذن فالمسؤولية عن هذا الدين هي مسؤولية «أمة» المسلمين في مواجهة
«أمة» الكافرين، وكما أن الكفار لا يمارسون كفرهم وإفسادهم فرادى، وإنما يوالي بعضهم بعضاً، فكذلك يجب أن يمارس المسلمون إسلامهم مجتمعين وأن يواجهوا الكفر بـ «الأمة» المتعاونة المتناصرة، ويوقنوا أنه إذا لم تقم «أمة» الإيمان بهذا الواجب، فسوف تتولى «أمة» الكفر قيادة البشرية، وإذا حدث ذلك كان الفساد الكبير، في ميادين السياسة، في ميادين الاجتماع، في ميادين الأخلاق، وشيوع التحلل والفواحش.. وغير ذلك..
ومن هنا فإن المسلمين في أمس الحاجة إلى من يعيدهم إلى العمل بروح
«الأمة» وقيم «الولاء» للفكرة الإسلامية، والبعد عن العصبيات والأطر الحزبية التي هي في حقيقة أمرها «مقابر» تدفن فيها «أشلاء» الأمة الإسلامية بعد أن قتلتها الفرقة.
ولا شك أن عودة المسلمين إلى روح الأمة، وهجرهم للأطر الحزبية يحتاج
إلى شجاعة في فك الارتباط القائم بين العمل الإسلامي وبين الأطر الحزبية وبالتالي
تَقَبُل العمل الإسلامي للاستراتيجية الصائبة التي توصله إلى أهدافه، سواء أكانت
هذه الاستراتيجية منبعثة من داخله أو من خارجه! !
ولكي يتحقق هذا الهدف الأكبر، ويصل العمل الإسلامي المعاصر إلى ذلك.
المستوى السامق، لابد للتربية الإسلامية من تنمية الصفات التي تحقق التفاعل بين
أفراد الأمة مثل صفة الأخوة، والشورى، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر
والعطاء المتبادل والقدرة على تكوين تجمعات حضارية يكون الولاء فيها للأمة
الإسلامية، قبل أن يكون للتجمع أو الحزب؟ !
ولا شك أن تنمية هذه الصفات تحتاج إلى برامج تربوية تركز على الائتلاف
والعمل الجماعي، وتنهي العزلة عن المجتمع، وتربي الأفراد على أساس من
الحرية ضمن النظام، والمبادرة مع الانضباط، والتنفيذ وليس الجدل وتفجير
الطاقات وليس تبرير العجز، وروح الفريق وليس روح القطيع.
إن التربية «المطلوبة لتنشئة المسلمين عموماً - فضلاً عن الجيل الذي يقع
عليه عبء المواجهة الأولى مع الجاهلية، ينبغي أن توازن بين الروح الفردية
والروح الجماعية عند أفراد الجماعة، فلا تحيلهم أصفاراً عن طريق تنمية الروح
الجماعية على حساب الروح الفردية، ولا تنمي فيهم الفردية الجانحة فيعتز كل منهم
بفكره وذاته وبتقييمه الخاص للأمور، فلا تأتلف منهم جماعة، ولا يلتئم لهم تجمع
له وزن» [2] .
ولكي يحقق العمل الإسلامي المعاصر ذلك التوازن بين الروح الجماعية وبين
الروح الفردية، لابد له من توفير المناخ الذي يساعد على تنمية شخصية الأفراد مع
اختيار أساليب العمل التي تتيح أقل قدر من السلطة، وأكبر قدر من المبادرات
الذاتية، والحرص في ذات الوقت على ترسيخ مبدأ الشورى بين العاملين للإسلام
وتبادل الأراء فيما بينهم حول الأمور التي فيها صلاح حال الأمة.
ولا شك أن هذا يستلزم أن يتحول العمل الإسلامي من أسلوب المركزية في
اتخاذ القرار وتطبيقه ومراقبة تنفيذه! ! إلى أسلوب المشاركة التي يتسع نطاقها،
رغم المخاطرة بالوقوع في الخطأ؟ ! ذلك أن هذا الأسلوب في العمل هو الطريق
إلى تنمية الطاقات، وتحرر الأفراد من التقوقع داخل أفكار وتصورات القادة، إلى
الشعور بحرية التحرك والعمل، مما يزيد من حماستهم للعمل والعطاء لإحساس كل
منهم أن له وظيفة مستقلة تتناسب مع كفاءاته وقدراته.
وإذا كان أسلوب المشاركة الواسعة من الأفراد يحقق لهم تنمية الشخصية
واستقلالية القرار، فإن الصلات التعاونية بينهم تؤدي إلى نمو روح الود، وتُيسر
تقبل كل فرد منهم أراء إخوانه.. فتكون النتيجة هي ازدياد التفاعل بين أفراد
الجماعة وتكامل جهودهم في سبيل حمل رسالتهم التاريخية، والخروج بأمتهم من
أزمتها.
إن الجماعة والتنظيم في الإسلام يعني «التعاون» و «العلمية» .. أي
تعاون الجهود في خطة يضعها العلم، فجوهر الجماعة وحقيقة التنظيم إنما هو
التعاون بين المسلمين، والتكامل بين نشاطاتهم في اتجاه التمكين لشريعة الله،
وإقامة دولة الإسلام، وإحياء الأمة الإسلامية.
ومن هنا وجب أن يكون تخطيطنا الإسلامي «أسلوب عمل جماعي يأخذ
بالأسباب لمواجهة توقعات المستقبل، ويعتمد على منهاجنا الفكري العقدي الذي
يؤمن بالقدر ويتوكل على الله، ويسعى لتحقيق هدف شرعي هو عبادة الله وحده لا
شريك له.
ولأن التخطيط الإسلامي أسلوب عمل جماعي فلابد أن يستوعب جهد كل
أفراد المجتمع، ويهتم بتحقيق الترابط الاجتماعي بين أفراده، عبر إيجاد رابطة
الأخوة بين المسلمين والاهتمام بالروابط الأسرية وعلاقات الجوار» [3] بحيث
تتحول علاقة المسلمين ببعضهم بعضاً إلى شعور حي يتفاعل مع مشاكل الآخرين
وحاجاتهم، كما يتفاعل مع قضاياه الفردية.
ولأن التخطيط الإسلامي أسلوب عمل جماعي فلابد أن يقوم على مبدأ
الشورى ويصطبغ بصبغته كما أمر الله عز وجل [وشاورهم في الأمر]
[آل عمران: 159] ولابد أن تكون الشورى هي صفة الصف الإسلامي كما أخبر الله سبحانه [وأمرهم شورى بينهم] [الشورى: 38] ولابد أن يتعلم الفرد المسلم أن يبحث دائماً عمن يستشيره من أهل العلم والخبرة، وأهل الإخلاص
والتقوى.. فيمزج فكره وتجربته مع ما يمكن أن يستفيده من أفكار وتجارب الآخرين، لكي يكون عمله على ضوء من رؤية مستوعبة، وبصيرة نافذة.
ولأن التخطيط الإسلامي أسلوب عمل جماعي، فلابد فيه من التأكيد على
إيجاد «التشجيع المتبادل» والنهي عن «التثبيط» ذلك أن «كلمة التشجيع تلعب
دوراً هاماً في دفع عجلة العمل إلى الأمام، بينما تعوق كلمات التثبيط العمل القائم -
إن لم توقفه تماماً - ومن هنا فإن واجب القائمين على العمل الإسلامي أن يبتعدوا
عن الأقوال المثبطة مثل: ماذا يفيدنا هذا؟ ، أو لن نستطيع أن نعمل شيئاً..،
وأن يعملوا بروح إيجابية وهم على يقين أن هنالك دائماً ما يمكن عمله، وأن كل
عمل مفيد» [4]
إن الحياة الإسلامية حياة جماعية يسودها التعاون والتكامل، ويخرج فيها الفرد
من دائرة التمحور حول الذات إلى الانفتاح على الآخرين.. ومن الاتجاه إلى الهموم
الفردية إلى حمل هموم الأمة.. ولذلك فإن تجمعات الأفراد الذين لا تقوم بينهم
صلات الأخوة والتعاون والتكامل، لا تستحق وصف «المجتمع المسلم» و «الأمة
الحية» بل إن أول صفات الأمة الميتة هي «تعطل روح الجماعة والعمل
الجماعي، وتوقف تبادل الخبرات والمشورة.. وذلك يُنتج في واقع الأمة ظواهر
التعصب للرأي، والعجب والكبر والتعالم وإملاء الرأي وفرضه على الآخرين
ويكون من نتائج ذلك بروز مجتمع الكراهية، وفقدان الثقة وشيوع الحسد وانعدام
التعاون والوحدة، وتفرق الكلمة، والتستر علي الأخطاء، والعيوب، ورفض النقد
الذاتي، وتبرير الهزائم والنكسات والأزمات، وبالجملة: تحطم روح الجماعة
والعمل الجماعي، وإغلاق قنوات الاتصال والتفاهم فلا تحل المشكلات إلا
بالخصومة والفتن والتآمر والقتل ولعل هذا المصير ما يشير إليه تعالى [قل هو
القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً
ويذيق بعضكم بأس بعض] [الأنعام: 65] .
إننا نشكو في عملنا الإسلامي من بعض الأخطاء، هذه حقيقة، ولكننا إذا
بحثنا عن سبب هذه الأخطاء سنجد أن وزرها جميعها يرجع إلينا نحن.. إلى
» الجراثيم «التي نحملها في كياننا فتمنع من العمل الجماعي وروح الفريق.. جراثيم الشح المطاع والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، واعجاب كثير منا
برأيه! !
إن أخطاء عملنا الإسلامي المعاصر ستبقى طالما بقينا عاجزين عن تصفية
وتجديد كياناتنا وفقاً لتوجيهات الإسلام التي تجعل التعاون والروابط القوية بين
الأفراد هي أساس تحقيق الأهداف.. قال الله عز وجل [لو أنفقت ما في الأرض
جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم] [الأنفال: من
الآية63] فالفرد المنعزل لا يستطيع أن يرسل الخير إلى غيره، بل لابد أن يكون
عمله في صورة» فريق عمل «يؤدي نشاطاً مشتركاً ويتحرك بتوازن دقيق بين
الروح الفردية والروح الجماعية فيكون عمله في إطار من» الفرد للمجموع
والمجموع للفرد «وتقوم استراتيجيته على أساس من» روح الفريق والمبادرات
الذاتية «.
ولا تستطيع أمة من الأمم أن تحقق أقصى الفعالية في الداخل والخارج إلا إذا
كان النظام الجماعي هو الذي يُسَير خطوات أفرادها، ومن هنا فإن الواجب الأول
لجميع فصائل العمل الإسلامي المعاصر هو بداية مسيرة التعاون من أجل بناء الأمة
الإسلامية القوية التي تستطيع مواجهة كل أعدائها وحمل رسالتها الحضارية إلى كل
البشرية.. تلك الرسالة التي لا يمكن أن يحملها فرد أو مجموعة أفراد، إنما تحملها
مجموعات متعاونة تعمل وفق خطة تكاملية مدروسة تقوم على أساس من» روح
الفريق والمبادرات الذاتية «.
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب الشركة ح/6، والترمذي كتاب الفتن ح/12.
(2) محمد قطب - واقعنا المعاصر ص 477.
(3) د فرناس عبد الباسط البنا - التخطيط ص 85، 93.
(4) ج كورتوا - لمحات في فن القيادة ص 34 بتصرف.(83/39)
المسلمون والعالم
سلام وادي عربة
الاستفراد الثالث
د/ عبد الله عمر سلطان
تبدو عملية السلام المنطلقة بهذا الزخم الملفت للنظر عملية أحادية المكاسب
والتوقعات والتصورات والمستقبل، الجانب الصهيوني في كل تفاصيل أي اتفاق أو
إعلان مبادئ أو حفلة سمجة يطل برأسه وهو يرسم ابتسامته الماكرة وبرعاية
الحليف الأمريكي المحترف وكأنه يريد إذلال آخر معاقل الأنفة في النفوس التي
ذاقت الهزيمة مرتين وهي تقابل بني إسرائيل، مرة جرجرت أذيالها في ساحات
المعارك، وها هي اليوم تقدم فروض الطاعة والولاء وبقية الدراهم القليلة عربوناً
لقبولها في النظام الإقليمي الشرق الأوسطي.
صحيفة النيويورك تايمز علقت على عناوين هذه المرحلة بقولها: «مرحلة
قبول الوضع الراهن بكل واقعية وتكريس الوجود الغربي في المنطقة مع إعطاء
إسرائيل حجمها الحقيقي الذي طالما حاول العرب أن يخفوه عن أنظارهم..» ، أما
مراسل هيئة الإذاعة البريطانية فعلق على حفلة التوقيع الأردني / الإسرائيلي:
«بأنه اليوم الذي فتح الباب لحاخام يهودي بأن يقف على أرض إسلامية وفي ضيافة أسرة هاشمية تنتمي إلى نبي الإسلام ليصرح بمقاطع من التوراة وسط احترام وتقدير بالغين..» ، (برنت راسل) المعلق الأمريكي خرج بصورة تحليلية تمس عمق هذا السيل الجارف فقال: «الواقع الذي ترسمه القيادة الأمريكية في دفعها لعلمية السلام تطغى عليه حتى الآن الروح الدعائية والاحتفالية، وأنا لا أقلل من عدد المعاهدات أو كثرة اللقاءات الثنائية أو حجم التنازلات التي تلقتها إسرائيل بمباركة أمريكا فهذه ظاهرة للعيان لا تحتاج إلى عدسة مكبرة أو جهاز حاسب آلي، لكن الذي تجب الإشارة إليه أن هذه الاتفاقات لازالت اتفاقات حكومات لا شعوب وخيار رسمي لم يراعِ نبض الشعوب أو يأخذ بعين الاعتبار شعبية الذين يتمسكون بخيار الصلح فضلاً عن مستقبلهم.. إن من حق إسرائيل أن تحتفل لأن هذا السلام هو ما تمنته وحاربت وخططت من أجله لعقود بعد أن كانت منبوذة، وهو ينسجم مع السياق السياسي والشعبي لليهود في شتى بقاع الأرض، أما الشعوب العربية فإننا إذا تواضعنا واكتفينا بتوصيف دبلوماسي للواقع فإن واقعها يقول إنها تشعر بالغثيان أو دوار البحر من مظاهر الصداقة العربية - الإسرائيلية التي تشبه طبخة وضعت على موائد الجائعين والمحبطين على عجل ثم قيل لهم ليس أمامكم سوى الإشادة بالخلطة السحرية التي أخرجت لكم الطبق العربي/ الإسرائيلي المشترك.
لقد أتت خطوات السلام الأردنية - الإسرائيلية بعد حادثة تفجر الباص في تل
أبيب، هذا الحادث كشف بصدق عن النفسية اليهودية المنحطة التي تريد أن تقبض
ثمن الانهيار والانصياع العربي دون مقابل، حتى ولو كان عاطفياً، فرابين وصف
الحادث أمام الشعب البريطاني الذي كان يزوره بالقول:» إن الإرهاب هو من
طبيعة شعوب هذه المنطقة - من العرب - وإن علينا أن نجد من الوسائل ما يكفل
القضاء على الطباع المتأصلة لدى هذه الأمم «، أي بكلام آخر: إن السلام الذي
تبرمه أمريكا وتضغط من أجل إتمامه لمصلحة قاعدتها المتقدمة (إسرائيل) هو سلام
الحضارة المتفوقة التي يصفها كاتب يهودي» وجدت نفسها مضطرة إلى العيش
وسط جيران عدوانيين متخلفين فكانت مهمة إسرائيل إدخال مفاهيم السلام والاحترام
المتبادل قبل أن توقع اتفاقيات سياسية هامة «إن هذا الاحتقار وتلك الغطرسة
الإسرائيلية ظهرت في تصرف رئيس الدولة الذي يطلق عليه طابور التطبيع
العربي لقب (جنرال السلام) هذا الجنرال المسالم العجوز هو (عايزرا وايزمان)
الذي رفض أن يستقبل مكالمة ياسر عرفات في أعقاب حادثة الباص تعبيراً عن
احتقاره الممزوج بالغضب من هؤلاء الذين اضطر إلى توقيع اتفاقيات سلام معهم
رغم حنقه داخلياً عليهم ورفضه حتى اعتذاراتهم المتكررة والمهينة.
لماذا يريدون السلام إذن؟
إذا كانت شعوب المنطقة المسلمة همجية متخلفة بربرية إلى هذه الدرجة وإذا
كان زعماء السلام الأعرج إرهابيين مهما ركعوا واعتذروا وقبلوا الأيادي، فلماذا
إذن هذا الهجوم الضاري من أجل السلام وما الذي يدفع أمريكا (المتحضرة)
وإسرائيل» المتمدنة «لكي توقع هذه الاتفاقيات وترضى بالحديث مع قادة الإرهاب
(كما تحكي عنهم) وشعوب المنطقة التي تؤمن بالعنف وسيلة وحيدة للحوار.
الحلف الأمريكي الإسرائيلي ينظر إلى المنطقة العربية على أنها منطقة تمر
بمرحلة مخاض قاس، مرحلة تنهي القوى الدولية فيها عصر الحرب الباردة
ومخلفاتها وتسعى إلى تشكيل شبكة جديدة من العلاقات والرؤى والمفاهيم والقواعد
التي تكرس الانتصار الغربي الليبرالي عنواناً والصليبي حقيقة وإلى الأبد.. القوى
الدولية تشعر منذ (قمة مالطا) التي عقدت بين جورج بوش وميخائيل جورباتشوف
أن الأنظمة العربية لا سيما الثورية ضرورية لإنهاء مستحقات الحرب الباردة ولا
سيما الصراع العربي الإسرائيلي بالصورة التي حددتها هذه القوى، أي بتفوق
يهودي يكرس المرحلة الشرق أوسطية الجديدة وهذا يحتاج إلى قيادات المرحلة
الراهنة - التي على الرغم من كل تناقضاتها وتاريخها - تشكل حجر الأساس لهذه
الاتفاقيات التي توقع هنا وهناك وهذا الدور يتعاظم في ظل ارتفاع المد الإسلامي
الذي له موقف واضح من قضية فلسطين والقدس والصلح مع اليهود ...
لقد بدى للعيان بعد أكثر من عقد من الصلح في كامب ديفيد أن التطبيع ظل
تطبيع حكومات لا شعوب وأن الشعب المصري في أوسع قطاعاته ظل ينظر إلى
الصلح مع اليهود على أنه اتفاق حكومي فوقي لا يعنيه من قريب أو بعيد، وظل
دعاة التطبيع وعرابوه مجموعة منعزلة عن الشعب ونبضه رغم الإمكانات الهائلة
والمنابر المتعددة التي بين أيديهم، والتجربة الصهيونية حتى في القطاعات التي
جاءت في الاحتكاك مع الغرب من المجالات البحثية والرياضية والفنية ظلت مغلقة
في قطاعها الواسع أمام موجة التطبيع، والمحصلة إذن سلام توقعه حكومات
وقيادات مارست الهزيمة السياسية بالأمس وتوقع هزيمتها السياسية اليوم وتحت هذه
اللافتة الرسمية التي لا تستند إلي دعم شعبي يسعى الكيان الصهيوني إلى إقامة
كيانات تنشط في مجالات الفكر والإعلام والسياسة والاقتصاد، تكون بمثابة النخب
التي ترتبط بالمشروع الصهيوني الشرق أوسطي وتمارس دور الهتاف للتطبيع باسم
الشعوب التي لفظتها وعركتها منذ أيام النضال القومي والماركسي حتى انتهاء الحال
بهم اليوم طلائع للحل الصهيوني والسلام ببصماته الرامية إلى خنق الأمة.
إن إسرائيل وأمريكا تسعيان اليوم إلى توقيع الصلح مع العرب وهم في
أضعف حال، حينها سيقول اليهود رأيهم في السلام مع العرب في الانتخابات
المقبلة، وهو موقف سيكون في مجمله راضياً عن الخطوات السلمية، في مقابل
ذلك نجد أن الشعوب العربية مغيبة بل مسلوبة حتى من حق الاعتراض، وهذا
بالتحديد ما يهدد جنين السلام منذ يومه الأول، فالشعوب تثأر لكرامتها ولو بعد حين
حتى ولو كان على طريقة النازية حينما ثارت ضد اتفاقية (فرساي) التي اعتبرها
الألمان مهينة لهم» كما يقول (فرانسيسكو دوتشيني) المعلق الإيطالي، هذه القوة
الصهيونية تمثلت يوم أن وقف الرئيس الأمريكي كلنتون خلال زيارته الأخيرة
للكيان الصهيوني وهو معتمر الطاقية اليهودية واعداً إسرائيل بحماية وأمن وتفوق
إلى الأبد ثم قام زعيم المعارضة (بنيامين نتان ياهو) وخاطب كلنتون قائلاً «لسنا
بحاجة إلى وعود مستقبلية واتفاقات مع زعامات صغيرة إن أبناءنا اليهود هم الذين
صنعوا المعجزة الإسرائيلية وإن السلام الذي يوعد اليهود بإبرامه مع جيرانهم
سيحرمهم من أرضهم التوراتية المقدسة» في الوقت نفسه كانت قوات الأمن
الأردنية تعتدي على عضو في البرلمان الأردني أراد أن يعبر عن موقفه من
المعاهدة في ظل «الشرعية الدستورية وضمن حقوقه النيابية» ولكن الرد كان
يتمثل في إقدام عناصر الأمن على ضربه وهو يهم بارتقاء المنبر، أما زملاؤه
الذين طلبوا أن يعبروا عن وجهة نظرهم من السلام المفروض على الأردن فإن الرد
كان واضحاً: ليس أمامكم سوى التأييد والدعم لهذا الاتفاق خصوصاً أن الرئيس
الأمريكي كان ضيف البرلمان.. عندها وجد المعارضون الأردنيون أن مقاييس
السلام وارتباطه بالقوة والضعف يجعل من زعيم المعارضة الإسرائيلية يقول رأيه
بكل صراحة في حضرة (الإمبراطور كلنتون) أما هم فقد اكتفوا بأن يقاطعوا الجلسة
ويشاهدوا زملاءهم على شاشات التلفاز وهم يغمرون «الراعي» الأمريكي بفيض
من الهتاف والتصفيق.
السلام الآن مطلوب ويكفي أن النفسية اليهودية المعقدة والمشوهة قد رأت
كلنتون يلقي بثقله في محطات رحلته الشرق أوسطية يكيل المدح لمن سار على
الخط الإسرائيلي ويكيل الوعيد لمن تردد أو تساءل، ثم بعيد هذه الرحلة يعقد مؤتمر
الشرق الأوسط للتنمية بالمغرب وتشارك الوفود العربية بقضها وقضيضها لتمرر
وتقر المخطط الإسرائيلي لمرحلة الهيمنة الصهيونية المقابل للضمور العربي.
وفي رأي محلل فرنسي «السلام الأردني الإسرائيلي نموذج للاتفاقيات
النفسية.. فالحدود الإسرائيلية الأردنية ظلت هادئة لأكثر من أربعين عاماً الذي
حصل هو تكريس السلام العسكري وترجمته إلى قبول بالتفوق الإسرائيلي وفتح
نوافذ شعبية له حتى يحرق جدار العداء..» .
ما فات هذا المعلق هو أن أخطر ما في اتفاق وادي عربة وما تلاه من مشاهد
وعروض مسرحية يهودية مستفزة تغذي في الإنسان المقهور والمطالب بالانسلاخ
عن دينه ومنطقه ومعاناته بذور الرفض لسلام المنهزمين لا سيما وأنهم قد خرقوا
طبلة أذنه أيام الكامب ثم أيام اتفاق أوسلو بالجنة التي ستبزغ حينما يصالح
المغتصب اليهودي المتكئ على الترسانة الغربية المستكبرة التي نالت منه في
(صبرا وشاتيلا) والقدس والخليل وحوض البقر ودير ياسين ثم يفتح عينيه ليرى
الزعيم الفلسطيني يُذل صباح مساء ويعامل باعتباره رئيس محمية هنود حمر مهمته
قمع شعبه ومحاصرته، بينما لم تتحول صحاري النيل إلى أنهار وجنات بمجرد أن
تصالحت مصر وإسرائيل، بل زادت معاناة المواطن المصري الذي حاول أن
يصدق من قال له: إن السلام معناه الازدهار.. وهذا بالضبط ما يجعل تمرير مثل
هذه الكذبة الممجوجة وجبة ثقيلة الظل وعسيرة الهضم.. تماماً كوجه رابين وجوقته
العربية التي ترقص على المزامير اليهودية وتصر على أن نصاحبها في الرقص..
على الطريقة الصهيونية المقززة، كما رقصت النخب (إياها) أيام الكامب أو هتفت
مع عرفات نخب التطبيع يوم أن احتفل الغرب المتصهيتن بالاستفراد الثاني بالعرب
في حديقة البيت الأبيض قبيل حوالي عام، بينما جاء الاستفراد الثالث في وادي
عربة رتيباً ومملاً لأن الجميع اكتشفوا أن النائحة المستأجرة التي باعت ضميرها
وقلمها وحنجرتها وهي تندد بأعداء السلام من المتطرفين إنما تمارس الانتحار
البطيء منذ أن اختارت أن تكون ظلاً للمشروع الصهيوني في المنطقة.(83/46)
المسلمون والعالم
المسلمون في اليونان
بين المطرقة والسندان
د. عبد الله البراهيم
تمهيد:
كلمة عميقة الدلالة في وصف الموقف المعادي للمسلمين في أوروبا توضحه
بجلاء قالها المؤرخ الفرنسي المعروف (جوستان لوبون) في كتابه المشهور «
حضارة العرب» : «إن حقد النصارى على المسلمين يشبه حقد اليهود على
النصارى، خفيٌ أحياناً لكنه عميق دائماً» وهذا القول لا يبعد عن الصحة إلا أن
الحقيقة: أن ذلك العداء اليوم ليس خفياً إنما هو واضح كالشمس في رابعة النهار،
كما في البوسنة، وكذلك في اليونان حيث يعاني المسلمون من المضايقة والحرمان
مما يخالف المعاهدات الدولية بل والدستور اليوناني نفسه وقبل تفصيل ما سبق،
أعطي لمحة عن دخول الإسلام في اليونان.
دخول الإسلام في اليونان:
فتح المسلمون مدن الجزر اليونانية في العهد الأموي ومنها (رودس) وفتح
المسلمون الأندلسيون كريت عام 212 هـ.
وفتح السلطان مراد الأول (العثماني) مقدونيا عام 782هـ، وتوالى سقوط
مدن اليونان حتى خضعت لحكم العثمانيين عدة قرون، فهاجر العديد من الأتراك
والبلقان والألبان المسلمين إلى هناك واعتنق بعض اليونانيين الإسلام.
وفي القرن الثالث عشر عقدت معاهدة لوزان بين تركيا واليونان عام 1344/
1923 وطرد اليونانيون الألبان المسلمين من منطقة (جنينه) ، كما طردوا
(المقدونيين) المسلمين، وعلى أثر هذا هاجر مئات الألوف من المسلمين إلى تركيا، ووصل عدد المهاجرين (1.200.000) نسمة وتعرض من بقى للاضطهاد
مما قلل عدد المسلمين اليونانيين، ويقدر عددهم الآن بأكثر من (200.000)
نسمة.
الأماكن التي يقطنها المسلمون:
ينتمي المسلمون في اليونان إلى عدة أصول فمنهم الأتراك ومنهم البلقان
والبوماك والألبان، ومنهم اليونانيون أيضاً ويتنشرون في مناطق عدة من أهمها:
1- تراقيا القرية: ومساحتها 8.758 م، وعدد سكانها حوالي 400.000 نسمة والمسلمون منهم 117 ألف مسلم، وكانت هذه المنطقة تابعة لتركيا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ثم احتلتها اليونان بعد ذلك، وقد كفلت معاهدة لوزان تحقيق المساواة والعدالة للمسلمين، وعدم المساس بمعتقداتهم ومساجدهم ومدارسهم وأوقافهم لكن المعاهدة لم تحترم وبسبب اضطهاد المسلمين عدد قراهم من 300 قرية إلى 40 قرية.
2- مقدونيا: وتقع شمالي اليونان وعدد المسلمين فيها حوالي 15 ألف نسمة
والمسلمون فيها من الألبان واليونان والبوماك والغجر وهم يعانون من التفكك
والضياع بصورة مآساوية.
3- منطقة بحر إيجه: وبخاصة جزيرتي رودس وكوس والجزر القريبة من
تركيا ويخشى على المسلمين فيها من الانفتاح والذوبان في المجتمعات غير المسلمة.
4- منطقة ايبروس وتقع شمال غرب اليونان: قرب ألبانيا، وكانت أرضاً
ألبانية استولت عليها اليونان على 1332، وحصل بها تبادل سكاني مع تركيا
حسب اتفاقية لوزان، ثم طرد المسلمون الألبان إلى ألبانيا وبقى بها حوالي 50 ألف
مسلم، وهاجر معظمهم فيما بعد، وقتل العديد منهم وغير بعضهم أسماءهم ليسلموا
من الاضطهاد، ويقدر عدد المسلمين بها بـ 15 ألف نسمة.
5- أثينا: العاصمة، وبها عدد من المسلمين منذ العهد التركي، وهاجر إليها
عدد آخر من المسلمين والألبان من مناطق مختلفة، كما تقيم بها جالية مسلمة من
بعض الدول العربية، ويقدر عدد المسلمين بها ب20 ألف نسمة.
واقع المسلمين في اليونان:
تمارس الحكومة اليونانية الضغوط على المسلمين فتمنعهم من بيع أراضيهم إلا
لليونانيين، كما تحرم عليهم زيادة مساكنهم عن دور واحد، مع منع بناء المساجد،
ومن استخدام الوسائل العصرية في الإنتاج ليظلوا متخلفين، لذا يعيشون وضعاً
اقتصادياً متدهوراً ولقد حكم على أحد المسلمين بدفع غرامة مالية بسبب تعليمه
القرآن الكريم لابناء المسلمين أيام الجمع، كما حكم على مسلم آخر بالغرامة
والسجن لأنه يعلم الأطفال دينهم ساعتين في الأسبوع.
الحكومة اليونانية تستبيح المواثيق:
كفلت معاهدة لوزان بين اليونان وتركيا آنفة الذكر حماية الأرواح وحرية
ممارسة الدين وحرية الهجرة والتنقل والمساواة أمام النظام، حرية استخدام لغتهم،
وحق تأسيس وإدارة المدارس والمعاهد الاجتماعية والدينية ولقد ضربت بها اليونان
عرض الحائط، وفي بروتوكول 1968 عقد بين الحكومتين اليونانية والتركية
أيضاً ويتضمن أن تحترم كل حكومة المشاعر الدينية والعرقية للأقليات في البلدين
كما وقعت اليونان على الاتفاق الأوروبي لحقوق الإنسان الذي تضمن حرية الديانات
وحرية الرأي وعدم التمييز على أساس ديني أو عرقي.
الدستور اليوناني يكفل الحرية ولكن!
ينص الدستور اليوناني عام 1975 على حماية حقوق الأقلية التركية المسلمة
في تراقيا الغربية ومن نصوصه:
- كل اليونانيين متساوون أمام القانون المادة 1-4.
- سحب الجنسية اليونانية يكون فقط عند حمل جنسية أخرى أو عند القيام
بعمل ضد المصالح الوطنية في المادة 3-4.
- يملك كل الأشخاص الحق في التعبير بحرية عن هوياتهم والاشتراك في
الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد ما داموا لا يشكلون خطراً على
الآخرين ويحترمون القانون، المادة 1-5.
- كل الأشخاص الذين يعيشون ضمن حدود اليونان يجب أن يتمتعوا بحماية
كاملة لحياتهم وشرفهم وحريتهم بغض النظر عن قوميتهم أو عرقهم أو لغتهم أو
دينهم، المادة 2-5.
- كل إجراء إداري يحد من حرية الحركة أو المسكن في البلاد لأي يوناني
مادة 4-5 الصحافة حرة يمنع مراقبتها، المادة 2-15.
خرق الحكومة لدستورها:
قامت الحكومة اليونانية بمخالفات قانونية تخالف حتى دستورها المعلن وذلك
في حق المسلمين فقط ومنها:
1- الحرمان من حق المواطنة والجنسية: وهذا حصل لأشخاص زاروا
تركيا ومنهم عسكريون خرجوا مع الجيش اليوناني ومنهم صحفيون فضلاً عن
المخالفة لقرارات مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي (CSCE) عام 1989 الذي
ينص على ضرورة احترام الدول الموقعة وفيه عدم حرمان المواطن المغادر لبلده
من العودة إليه متى شاء، ولقد حرم بضعة آلاف من المسلمين لخروجهم من اليونان
لتركيا أو البانيا من العودة لبلادهم.
2- حرية التنقل (السفر) واحتجاز الجوازات: تمنع الحكومة اليونانية
مسلمي اليونان من حرية السفر حيث تحجز جوازاتهم بعده طرق منها دخول
البوليس لمنازل المسلمين وطلب الجوازات، ثم أخذها ومنها أن شرطة الجوازات
عند الحدود تخير العائدين من المسلمين عند دخولهم للبلاد بأن جوازاتهم لم تعد
صالحة وبالتالي تحجزها لديها وفي معظم الحالات يتم إعادة الجوازات في فترة بين
شهرين إلى 8 أشهر وبدون ذكر للأسباب.
إن حجز الجوازات بدون سبب وبدون محاكمة وبدون مواجهة قضائية يخرق
مواد الدستور اليوناني والاتفاقيات الدولية لحرية السفر كما يشكل مضايقة للمسلمين
في اليونان وإنكار لحقهم في السفر.
3- حرية الحركة والسفر في المناطق «المقيدة» : معظم تراقيا الغربية
منطقة عسكرية «مقيدة» يحتا ج فيها المرء لترخيص رسمي لدخولها وبخاصة
المحاذية لبلغاريا ويذكر بعض أفراد الأقلية المسلمة أن هناك 25000 مسلم من
البوماك يعيشون في المناطق المقيدة من اكسانثي و 10.000 في المنطقة المقيدة من
كوموتيني، وهناك تشديد قوي على حركة وتنقل سكان تلك المناطق كما تغلق
المنطقة كلها بين منتصف الليل حتى الخامسة صباحاً ويمنع السكان من تجاوز دائرة
قطرها 30 كم من قراهم في جميع الأوقات.
4- إنكار الأصل العرقي: ترفض الحكومة اليونانية الاعتراف بوجود أقلية
تركية في اليونان وبخاصة في تراقيا الغربية كما ذكر رئيس الوزراء بأنه يوجد
مسلمون يونانيون في تراقيا الغربية ولا يوجد أتراك يونانيون هناك.
ومن القضايا المشهورة ما حصل للدكتور صادق أحمد والسيد إسماعيل شريف
في يناير 1990 عندما دعيا للمحاكمة عندما وزعا مطبوعات في حملتهما الانتخابية
لعضوية برلمان 1990 وذكرهما «الأقلية التركية» فيه تحريض المواطنين على
العنف وإيجاد تفرقة للأمة باستخدام لفظة تركي «وحكم عليهما بالسجن 18 شهراً.
5- المعاملة المتردية والسيئة: على الرغم من توقيع اليونان على الاتفاقية
الأوربية لحقوق الإنسان والحريات الأساسيةالتي تنص على عدم تعريض الأفراد
لمعاملة غير إنسانية أو سيئة فإن مسلمي تراقيا الغربية يتعرضون لمضايقات كثيرة
من قبل البوليس مثل:
- استدعاء من يتعاونون مع منظمات حقوق الإنسان والمراقبين الدوليين من
المسلمين وذلك لاستجوابهم والتحقيق معه في قسم الشرطة.
- مضايقة المحامين من المسلمين من قبل البوليس بين وقت وآخر.
- قيام رئيس المباحث بإعطاء أوامر لمراقبة كثير من الأتراك المسلمين.
- مضايقة المراقبين الخارجين والمنظمات الإنسانية التي تحقق في انتهاكات
حقوق الأقلية المسلمة التركية، وقد تعرض المحامي الألماني (هانز هيلدمان)
للضرب من قبل المباحث بعد حضوره جلسة محاكمة د. صادق أحمد وإسماعيل
شريف.
- تهديد المسلمين من قبل البوليس بالضرب والإيذاء في حالة تقديمهم أي
شكوى.
6- حرية التعبير: ينص الدستور اليوناني في مادته الرابعة عشرة على
حرية التعبير والنشر للأراء والمعتقدات كما ينص على حرية الصحافة ومنع الرقابة
عليها.
وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الحرية بالنسبة لمسلمي تراقيا الغربية مقيدة
ويمنع دخول الصحف والكتب التركية إلى المنطقة ويتم التشويش أحياناً على
الإذاعة والتلفزة التركية، ويوجد حالياً 5 صحف باللغة التركية محدودة الطبعات
قليلة الصفحات تصدر أسبوعياً في كوموتيني وإكساتي مع مجلتين شهريتين ويحظر
نشر أي انتقاد للحكومة عما يصيب المسلمين من مضايقات.
7- الحرية الدينية (حرية العبادة) : تنص معاهدة لوزان على حق مسلمي
اليونان في حرية الدين وحق التصرف في المعاهد الوقفية كما نصت الوثيقة
الختامية لاجتماع فينا في يناير 1989 على حرية الأفراد في تنظيم مؤسساتهم
الدينية وهياكلها الإدارية، وقد خرقت الحكومة اليونانية هذه المعاهدة بعدة أشكال
منها:
- عدم إعطاء التصاريح لترميم أو إعادة بناء المساجد القائمة ومنع التصريح
ببناء المساجد الجديدة.
- عدم منح المسلمين حق اختيار مفتٍ لهم.
- محاولة الحكومة التصرف في أوقاف المسلمين.
8- الحرية السياسية: تقوم الحكومة اليونانية بعدة إجراءات للتضييق على
المسلمين في محاولة منها للتقليل من عدد أصواتهم والحد من وزنهم في الانتخابات
ومن هذه الإجراءات:
- إغلاق الحدود مع تركيا قبيل الانتخابات لمنع المسلمين اليونانيين من الذي
يكونون في زيارة لتركيا من العودة للتصويت.
- إيقاف جميع المواصلات الداخلية الحيوية والبرية بين تراقيا الغربية وبقية
أجزاء اليونان في أسبوع الانتخابات.
- الزج بألاف الجنود في تراقيا الغربية ليصوتوا هناك في محاولة للتقليل من
أصوات المسلمين.
- التخفيض التدريجي لعدد صناديق الاقتراع في المنطقة والمباعدة بينها
لتصبح عملية الاقتراع شاقة وتحتاج لسفر لا يقل عن ساعة للوصول إليها.
- تعرض بعض المسلمين للضرب في مراكز الاقتراع.
- إغلاق بعض الصناديق في تراقيا الغربية قبل انتهاء فترة التصويت للتقليل
من أصوات المسلمين.
- رفض طلبات الترشيح للانتخابات كما حصل للدكتور صادق أحمد والسيد
إسماعيل شريف.
9- عدم المساواة: تنص معاهدة لوزان في مادتها رقم 45 على ضرورة
حصول المسلمين في اليونان على حقوق متساوية مع غيرهم من المواطنين كما
تنص المادة 4/1 من الدستور اليوناني على أن جميع اليونانيين سواء أمام القانون.
ويعاني المسلمون في اليونان من عدم تمكينهم من بيع وشراء الأراضي ومن
بيع وشراء أو إصلاح المنازل أو بنائها وكذلك منع بناء المدارس والمساجد وهي
الحقوق التي يحصل عليها غيرهم بسهولة.
ويحصل الشيء نفسه في قطاع التجارة إذ يمنع المسلمون من الترخيص
بمزاولة التجارة أو ممارسة المهن الحرفية وتملك المعدات الصناعية اللازمة
للمصانع ويجدون صعوبة بالغة في الحصول على رخص القيادة العمومية وهي
الضرورية للمزارعين لقيادة التراكتورات والحراثات وهناك نوع آخر من الصعوبة
في الحصول على رخصة القيادة الخصوصية.
أ- المباني والأراضي: يشترط القانون اليوناني الحصول على ترخيص من
حاكم المنطقة قبل شراء أو بيع الأراضي والمباني وتستغل السلطات هذا القانون في
مضايقة المسلمين في عمليات البيع والشراء، وفي الوقت الذي يحصل المواطن
اليوناني النصراني على الترخيص في اليوم نفسه.
ويستطيع المرء ملاحظة الفرق بين مناطق المسلمين والنصارى في المساكن
حيث مساكن المسلمين صغيرة وتعاني من القدم ومعظمها من طابق واحد أما مساكن
النصارى فهي غالباً من طابقين وذات مظهر أفضل والشوارع والملاعب ومباني
المدارس أفضل حالاً، كما أن البلديات في قرى المسلمين لا تمنح التراخيص بتعبيد
طرق جديدة أو إصلاح الطرق الحالية وتتعرض لغرامات فادحة في حالة مخالفة
الأوامر، وهناك الكثير من القرى المسلمة التي لا تصلها الكهرباء والمياه.
ويمكن للمرء أن يقارن ببساطة بي قريتين في ضواحي كوموتيني: قرية
كالاموكاسترو المسلمة وقرية سيدروهوري النصرانية.
وتدعي السلطات اليونانية أن السبب في ذلك أن المسلمين لا يريدون إنفاق
الأموال على مبانيهم لأنهم يستثمرونها في تركيا! كما يدعي بعض المسؤولين
اليونانيين أن السبب يعود إلى فقر المسلمين حيث أن دينهم يجعلهم متخلفين وفقراء.
ب- نزع ملكية الأراضي: في عام 1978 وضعت الحكومة اليد على مساحة
من الأراضي مساحتها من 3000 - 4000 فداناً لبناء جامعة تراقيا في ضواحي
كوموتيني ولم يستغل إلا جزء بسيط من الأرض لمباني الجامعة وقد أدى هذا
الإجراء ضد الملاك المسلمين من الفلاحين إلى أن يهاجروا إلى تركيا، ويذكر
بعض المزارعين أنهم عرضوا 500 فداناً على الحكومة بدون مقابل بشرط أن
تترك لهم باقي الأرض إلاأن طلبهم رفض، وتدعي الحكومة أنها لا تفرق في إجراء
وضع اليد بين المسلمين والنصارى من مواطنيها وبين عامي 1976-1980
وضعت الحكومة اليد على 3000 فدان من الأراضي على بعد 8 كم من كوموتيني
وكان 90% من هذه الأرض يعود للمسلمين، وتؤدي عملية انتزاع الملكية وبخاصة
للأراضي الزراعية إلى إيجاد صعوبات لملاكها المسلمين الذين حتى لو تم تعويضهم
مادياً لا يتمكنون من شراء أراضٍ جديدة لزراعتها مما يؤدي بهم إلى الهجرة إلى
تركيا.
ج- التجارة: تفرض الحكومة قيوداً» غير مكتوبة «على المسلمين تمنعهم
بموجبها من مزاولة الأعمال التجارية التي تحتاج إلى تصريح من السلطة المحلية،
فلا يوجد مصانع مملوكة للمسلمين ولا محطات وقود ولا حتى صيدليات وفيما يلي
بعض الحالات الواقعية:
* مهندس ميكانيكي من إكسانثي، ومدير فني لمصنع رخام، حاول على مدى
عدة سنوات الحصول على ترخيص لبناء مصنع دون جدوى.
* خباز مسلم، من إكسانثي، ذكر أنه استأجر محلاً لبيع الحلويات والخبز
ولم يستطع على مدى عدة سنوات من الحصول على ترخيص لشراء معدات المخبز، كما لا يمنح المسلمون المتقدمون لشغل وظائف حكومية مهنية الفرصة كغيرهم.
د- رخص القيادة: كما سبق ذكره فمن الصعوبات جداً أن يحصل المسلمون
على رخص قيادة عمومية التي يحتاجها المزارعون لقيادة الحراثات والتراكتورات
ويزيد عدد الذين رفضت طلباتهم عن 3000 مسلم في تراقيا الغربية في السنوات
الأخيرة، ويحتاج الحصول إلى رخص القيادة الخصوصية إلى توسط أحد
المسؤولين أو دفع رشوة.
هـ- أعمال الخدمة المدنية: لا يتم منح المسلمين الفرصة للعمل بأعمال الخدمة المدنية، وهناك على سبيل المثال 300 موظف في مكتب السلطة المحلية في كوموتيني لا يوجد بينهم أي مسلم ومن الألف موظف في مكتب السلطة المحلية في إكسانثي لا يوجد مسلم واحد وتدعي السلطات أن السبب يعود إلى أن المسلمين لم يتقدموا أصلاً لشغل هذه الوظائف، وهذا غير صحيح كما يذكر المسلمون هناك.
و المدارس: تنص المادة 40 من معاهدة لوزان على أحقية المسلمين في
تراقيا الغربية في حقوق متساوية مع غيرهم لتأسيس وإدارة المدارس والمعاهد
وحقهم في استخدام لغتهم (التركية) وممارسة دينهم (الإسلام) في تلك المدارس.
ويذكر المسلمون عدم تمكينهم من بناء مدارس جديدة أو ترميم القديمة، كما لا
يسمح لهم بتعيين المدرسين ويدرس أبناؤهم مناهج قديمة باللغة التركية، وفي
المدارس الابتدائية يدرس أبناء المسلمين الأتراك 70% من المناهج باللغة اليونانية
والتي كانت قبل 20 سنة لا تشكل إلا 40% فقط، ويتم تعيين المدرسين من قبل
الحكومة أما مدرسوا اللغة التركية فيتم تدريبهم في أكاديمية (تيسالونكي) التي لا
تؤهلهم تأهيلاً جيداً لتعليم اللغة.
ويوجد حوالي 250 مدرسة ابتدائية (تركية) في تراقيا الغربية يدرس فيها
حوالي 12000 طالب ومدرستان تركيتان ثانويتان واحدة في أكسانثي والأخرى في
كوموتيني تستوعب كل منهما قرابة 150 طالباً، وتشترط هاتان المدرستان اجتياز
الطالب لاختبارات قبول يجرى باللغة اليونانية، ويضطر الطلبة الذين لم يجتازوا
الاختبار للسفر إلى تركيا لإكمال دراستهم الثانوية هناك.
ز- المناهج الدراسية: معظم المناهج الدراسية التي تدرس لأبناء المسلمين
باللغة التركية في المدارس الابتدائية هي مناهج قديمة لم يتم تطويرها ومازالت
الطبعات مثلاً تعود إلى عام 1970م، ويعود السبب في ذلك إلى أن الكتب ذات الطبعات الأحدث التي ترسلها الحكومة التركية تحتاج إلى موافقة الحكومة اليونانية التي تتلكأ في ذلك، على الرغم من عمل التعديلات المطلوبة، إلا أن الكتب لم تفسح.
والله نسأل أن يلطف بإخواننا المسلمين هناك، وأن يرفع ما نزل بهم من ظلم.
__________
مراجع:
1- الأقليات المسلمة في أوروبا (سيد بكر)
2- مجموعة حقوق الأقليات (الأقليات في البلقان)(83/53)
المسلمون والعالم
انطباعات عائد من اليمن
أيمن بن سعيد
تمهيد:
رصدت مجلة البيان أحداث اليمن الأخيرة أولاً بأول متوخية في ذلك العدل
والإنصاف داعية أبناءها إلى نبذ الخلاف وضرورة تعاونهم على البر والتقوى،
للخروج من دائرة تلك الفتنة التي مرت بهم وببلدهم وبعد أن وضعت الحرب
أوزارها، كانت البيان ترغب في رصد الواقع الفعلي بعد الحرب بنظرة موضوعية، كما عودنا قراءنا وطالبنا بعض المهتمين بمتابعة ذلك الحدث وبعد لأي وصلتنا
هذه المقالة من الكاتب الذي سبقت مشاركته بالكتابة للمجلة شاكرين له ولكل كتاب
المجلة تواصلهم معنا.
- البيان -
تأسرك اليمن بخضرتها، وجمال هوائها، واعتدال درجة حرارة أغلب
مناطقها، ووعورة وارتفاع جبالها وامتداد وجمال سواحلها، واختلاف مناخاتها،
وغزارة أمطارها، وتنوع محاصيلها، ومع أن ذلك موضوع يستحق الحديث عنه
من وجهة نظري إلا أني سأضرب الذكر عنه صفحاً، وأتوجه إلى تناول انطباعاتي
حول القضايا التي أظن أنها تهم قارئ (البيان) الغراء.
الوضع الاقتصادي:
تحسن الوضع الاقتصادي قليلاً عما كان عليه في الأيام الأخيرة للحرب وذلك
من ناحية تحسن قيمة صرف الريال مقابل الدولار، وانخفاض الأسعار، وتوافر
فرص العمل نسبياً، إلا أن الوضع ما يزال أكثر من سيء على كل حال فعلى سبيل
المثال:
بالنسبة للقيمة الشرائية للريال ما يزال سعر صرفه مقابل الدولار متدهوراً،
حيث تبلغ قيمة الدولار الآن 95 ريالاً بينما كانت قد بلغت أثناء الحرب 150 ريالاً.
وبالنسبة للبطالة فما تزال متضخمة وبخاصة بعد شبه التوقف العمراني في
محافظتي عدن والمكلا، وإن وجدت حركة عمرانية خفيفة في سائر المحافظات،
مما قلل بالتالي فرص العمل.
أما بالنسبة للغلاء الفاحش ومعاناة الناس من ذلك فما تزال السلع الأساسية
مرتفعة الأسعار جداً بالنسبة لعامة الناس مع الانخفاض الذي حصل لها بعد الأيام
الأخيرة للحرب حيث تبلغ الأسعار لدى التجار لبعض السلع - بالريال اليمني -
كالتالي: القمح 650، والسكر 2400، والأرز التايلندي 2200، الكيلو الجرام
من اللحم البقري: 300 ريال، الدجاجة الواحدة 220 ريال.
ولابد من الإشارة إلى أن الارتفاع الكبير في الأسعار يصاحبه ضعف في
مدخولات عامة الناس فباستثناء التجار وأصحاب الحرف الآلية يبلغ متوسط رواتب
موظفي الدولة من جند وغيرهم 3500 ريال: بينما غالبية الشعب إما مشتغلون
بالزراعة وهي لا تكفي لتوفير السلع الأساسية، وإما عاطلون عن العمل وهم الأكثر
وبخاصة في المدن والمحافظات الفقيرة نسبياً كالمهرة وحجة والحديدة.
ولقد جعل ضعف المدخول الكثير من أفراد المجتمع يلهث جاهداً في تحصيل
لقمة العيش وتوفير متطلبات الحياة، مما أعطى التفكيرالمادي وحسابات الربح
والخسارة دوراً كبيراً في التأثير على التعامل بين أفراد المجتمع.
الوضع الاجتماعي:
المجتمع اليمني مجتمع محافظ في الجملة تحكمه القبلية وبالأخص في
المحافظات الشمالية في أحيان كثيرة، ويبدو أن القبلية في الجنوب - بعد زوال
نفوذ الحزب الاشتراكي مهيأة للعب دور كبير وبالأخص في حضرموت وشبوة
وأبين ويافع، وما يوجد من ضعف في المحافظة في بعض المدن كعدن على وجه
الخصوص فمرده إلى كون هذه المدينة كانت عاصمة الاحتلال الانجليزي، ثم
عاصمة دولة الحزب الاشتراكي، ويوجد فيها الكثير من القوميات الوافدة كالهندية
والصومالية.. إلخ وبأعداد كبيرة.
ويليها في ذلك مدينة تعز، وسبب ذلك يعود إلى ضعف الكيان القبلي فيها
ومجاورتها لمحافظة عدن وكون جل أفراد وقيادات الحزب الاشتراكي في
المحافظات الشمالية منها.
ومع وجود التزام ومحافظة في المجتمع اليمني بشكل عام إلا أنه التزام
ومحافظة تقليدية - بخاصة في جانب المرأة - ومالم يبادر الدعاة والمصلحون وعلى
وجه السرعة إلى إعطائها بعداً عقدياً إسلامياً عن طريق نشر العلم الشرعي وإذكاء
روح المراقبة لله تعالى والخوف منه سبحانه واستغلال الفرص المتاحة نسبياً في
وسائل الإعلام المختلفة وتكثيف الدروس والمحاضرات الشرعية في المساجد
والمدارس للرجال والنساء على السواء، وتوزيع الكتاب والشريط الإسلامي بشكل
كبير فإنها معرضة للضعف بشكل سيكون ملحوظاً وبسرعة كبيرة وذلك عن طريق
الكثير من المؤثرات ومنها:
أ- التحول الكبير في المجتمع اليمني من ناحية التعليم وهذه إيجابية كبيرة
حيث يتوقع أن يتم القضاء على الأمية في اليمن والتي تبلغ نسبتها الآن أكثر من
60% بشكل كبير جداً في أوساط الجيل القادم إلا أنه ما لم يصحب التعليم تربية
للجيل على المراقبة لله تعالى والخوف منه ورجاء ثوابه كما تبين فإن ذلك قد يعني
جعله عرضة لتلقي ثقافات مختلفة مخالفة للشرع عن طريق القراءة للصحف
والمجلات والكتب المختلفة والتي تحمل فكراً منحرفاً وتشجع على السلوكيات السيئة، وعن طريق الاحتكاك بالمدرسين والطلبة ذوي التوجهات المنحرفة.
ب- عن طريق وسائل الإعلام والاتصالات المختلفة - حيث انتشرت أجهزة
التلفاز والراديو بل والفيديو في جل المنازل تقريباً ومما عمت به البلوى أن صحون
استقبال البث المباشر أصبحت ظاهرة متفشية في كثير من المدن بالإضافة إلى أن
الصحف والمجلات التي تروج للسموم الفكرية والسلوكية تباع في كل المدن تقريباً
وبأسعار زهيدة نسبياً، بالإضافة إلى أنه من الميسور على المراهقين والشباب في
جل المدن اليمنية من الذكور الذهاب إلى دورالسينما أو المقاهي التي تعرض فيها
أفلام سيئة من خلال الفيديو.
ج- الدور الخطير الذي يقوم به أصدقاء وصديقات السوء المنتمون إلى
الأندية الفاسدة أو الأحزاب والمنظمات العلمانية وهي كثيرة في اليمن.
د- الوضع الاقتصادي المتردي الذي يدفع بعض الشباب ذكوراً وإناثاً إلى فعل
كل ما يمكن فعله في سبيل الحصول على المال بغض النظر عن كونه خيراً أو شراً.
ومع أن المجتمع اليمني يمتلك عاطفة دينية جيدة، وتنتشر في أوساطه صحوة
إسلامية مباركة إلا أن هذه الصحوة تنتشر انتشاراً أفقياً أكثر من انتشارها انتشاراً
رأسياً بمعنى أن جل أفرادها يحملون ولاءً عاماً للإسلام وطموحاً قوياً لتطبيقه
واستعداداً لدى الكثيرين للدفاع عنه إلا أن حصيلتهم الشرعية ضعيفة ولذا نجد الكثير
من المخالفات الشرعية في أوساط الكثير من أفراد وقيادات الصحوة من مثل ضعف
الالتزام الذاتي بأحكام الإسلام، وتقديم العقل أو المصلحة على النص، والولاء
للأفراد والجماعات على حساب الولاء للدين.. إلخ.
وكذلك يوجد من بين أفراد الصحوة من لديه علم شرعي لا بأس به لكن لديه
ضعفاً ظاهراً في فقه الواقع، ولذا لا يتمكن من إنزال أحكام الدين على الواقع
وتطبيقها تطبيقاً صحيحاً، كما أنه قد يوجد فريق يحمل فكراً نظرياً صحيحاً لكنه
أبعد ما يكون عن الالتزام والتقيد بأخلاقيات الدين وآدابه سواءً أثناء عرضه للدين
أو تحاوره مع الآخرين.
ولذا فإن الصحوة الإسلامية هناك مهددة من داخلها وخارجها، فمن داخلها هي
مهددة بالتنازع بين فصائلها، وبأخذ كل فصيل ببعض النصوص دون الأخرى،
وبسهولة اختراقها من بعض من يعاديها عن طريق رفعه لشعاراتها نتيجة حرصها
على الكم دون الكيف، كما أنها مهددة من الداخل بمثالية بعض الفصائل وعدم الفقه
لطبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد، بالإضافة إلى عدم إدراك بعضهم للموقف
الشرعي الصحيح الذي يجب التعامل على ضوئه في هذه المرحلة الحرجة، وكذلك
وجود عقليات ضيقة - تعد الآخرين قصاراً وتريد فرض الوصاية عليهم ومصادرة
آرائهم، ولا تقبل الخلاف في مسائل الاجتهاد وترى أن من لم يكن عصرياً في
جميع آرائها فهو ضدها.. إلخ.
أما التهديد الخارجي الذي ينتظر الصحوة الإسلامية في المجتمع اليمني فيتمثل
في التيار العلماني بشتى فصائله الاشتراكية واللبرالية والقومية من بعثية وناصرية
.. الخ، كما يتمثل في التيار البدعي الذي يوجد أفراد منه داخل بعض فصائل العمل
الإسلامي وهو يشترك مع التيار الإسلامي في رفع شعار الدين إلا أن طروحاته
مغايرة للفكر الإسلامي النقي مع قيامه بمحاربة أصحاب الاتجاه الصحيح بزعم عدم
معرفتهم بالدين وبدعوى ترويجهم لأفكار قادمة من خارج اليمن (كالوهابية) ! كما
يزعمون.
ويتمثل أولئك المبتدعة في اليمن في التيارين الصوفي والرافضي اللذين
يتلقيان دعماً مالياً ومعنوياً كبيراً من بعض الدول والجهات والأفراد من خارج اليمن.
هذا بالإضافة إلى الضغوط الكبيرة التي تقوم بها دول وجهات أجنبية عدة على
الرئيس اليمني لمنع الإسلاميين من الانتشار، وتطالبه بتقديم قيادات الصحوة
وشبابها في اليمن كبش فداء لنيل رضاها وكسب دعمها.
ولذا فإنه مالم يتداعى عقلاء قيادات الصحوة الإسلامية اليمن من شتى
الفصائل لإصلاح الخلل في طريق تحكيم النص وإنزاله على مجريات الواقع بعد
فقهه فقهاً صحيحاً بالإضافة إلى الاهتمام بالعلم الشرعي وتبني العقيدة الصحيحة
والعمل على نشر ذلك، والقيام بتربية شباب الصحوة والمنتسبين لها تربية عميقة
مع أخذ الأهبة وإعداد العدة ضد أعداء الإسلام في الداخل والخارج، فإن مستقبل
الصحوة الإسلامية في اليمن في السنوات القادمة قد لا يفرح.
الوضع السياسي:
حدثت مؤخراً بعد التطورات السياسة المهمة في الساحة اليمنية من أبرزها:
1- التعديلات الدستورية: تم إقرار التعديلات الدستورية من قبل مجلس
النواب، ليتم تعديل المادة الثالثة في الدستور التي ثار حولها جدلاً كبيراً إلى:
«الشريعة الإسلامية مصدر التشريع» وذلك بعد أن كانت: «الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع» كما تم تحقيق رغبة الإسلاميين في الكثير من المواد الرئيسة في الدستور التي تشير إلى توجهات الدولة.
كما تم إلغاء مجلس الرئاسة في الدستور واكتفي بدلاً منه برئيس منتخب يختار
نائباً له، ومع أن التعديلات الدستورية في الجملة تعد مكسباً للإسلاميين وضربة
للعلمانيين إلا أنها ستبقى حبراً على ورق مالم تترجم إلى واقع ملموس من خلال
ممارسات وسلوكيات الدولة ومسؤوليها في المرحلة المقبلة.
كما أن الإسلاميين في حال عدم تنفيذ تلك التعديلات على أرض الواقع
وسكوتهم أمام الشعب عن ذلك يكونون قد أعطوا النظام القائم الشرعية التي يحكم بها
مع استمراره في ممارساته وسلوكياته المخالفة للشرع.
ويجب على الإسلاميين الذين بادروا إلى الإعلان عن زوال العلمانية في اليمن
وقيام دولة الإسلام بمجرد التعديلات الدستورية ودخول بعض الإسلاميين في
الحكومة أن يعرفوا أنّ أمامهم تحديات كبيرة قادمة حتى يتحقق لهم ما أعلنوا عنه،
وتتمثل في المخالفات الضخمة للشريعة داخل الدولة التي لابد من إزالتها والقيام
بتعديل الواقع على ضوء الشرع ومن صور تلك المنكرات:
* الأحزاب العلمانية الكثيرة كالحزب الاشتراكي والتجمع الوحدوي وحزب
البعث والأحزاب الناصرية وحزب الأحرار.. إلخ، بالإضافة إلى تنفذ بعض
العلمانيين في الدولة وسيطرتهم على ما تسمى بوزارات المفاصل والكثير من
المواقع المهمة وذلك باسم المؤتمر الشعبي أو المستقلين.
* كما أن من تلك المنكرات الانحراف الكبير عن الشرع في مجالات الاقتصاد
والإعلام والتعليم الجامعي والعلاقات الدولية.
* بالإضافة إلى صور الشرك الأكبر المتواجدة في المجتمع اليمني بكثرة
بإقرار من الدولة من مثل دعاء الأموات وطلب شفاعتهم، ورجاء النفع ودفع الضر
منهم، وتقديم القرابيين والنذر لهم.. الخ، (وما أحداث الأضرحة الأخيرة في عدن
وموقف الدولة وبعض الإسلاميين منها ببعيد) ، إنه مالم يكن هناك إصلاح جذري
في التطبيق لمثل هذه المخالفات وغيرها كثير فإن الشعار يبقى شعاراً مجرداً عن
القيمة، وربما قام بدور كبيرفي مخادعة أفراد الشعب المسلم ودغدغة عواطفه
بالإضافة إلى كونه مع تصريحات بعض المسؤولين وتبريرات بعض الإسلاميين
غير المنضبطين بالنص سيفاً مصلتاً على رقاب الغيورين ودعاة العقيدة الصحيحة
فيما نحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً.
2- انتخاب رئيس للجمهورية: بعد التعديلات الدستورية تم حل مجلس
الرئاسة وانتخاب رئيس للبلاد عن طريق مجلس النواب فاز بها المرشح الوحيد
علي عبد الله صالح ليكون بذلك الرجل الأول في كامل البلاد بعد هروب نائبه
السابق علي سالم البيض إلى الخارج بعد هزيمة حزبه في الحرب الأخيرة،
ولتتكرس بيده الكثير من الصلاحيات المهمة.
وفور انتخابه أصدر قراراً جمهورياً مفاجئاً للكثيرين بتعين وزير الدفاع عبد
ربه هادي - من أبناء محافظة أبين الجنوبية - نائباً له وقد فسر هذا القرار من
كثير من المراقبين بأنه خطوة نحو رفع يديه عن وزارة الدفاع بما يشبه التكريم،
وليتخلص بأسلوب ذكي من إيكال رئاسة الحكومة لشخص تعود أصوله إلى
المحافظات الجنوبية والشرقية خشية عدم ولائه التام للرئيس.
3- تشكيل الحكومة: أصدر الرئيس اليمني قراراً جمهورياً بتكليف عبد
العزيز عبد الغني (عضو مجلس الرئاسة السابق والرجل الذي سبق له تشكيل ثلاث
حكومات سابقة) برئاسة الحكومة وتشكيلها وقد قام المذكور بتشكيل حكومة ائتلافية
من شركاء النصر على الحزب الاشتراكي - حزب المؤتمر اشعبي العام، والتجمع
اليمني للإصلاح - بنسبة (2: 1) اثنين للمؤتمر وواحد للإصلاح وذلك حسب
نسبة التمثيل في مجلس النواب، وقد حصل التجمع اليمني للإصلاح، في ضوء
ذلك على ثمان وزارات هي التربية والعدل، والأوقاف، والتجارة والتموين،
والصحة، والثروة السمكية، والإدارة المحلية، والماء والكهرباء، بالإضافة إلى
منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، ويلاحظ من خلال تلك الوزارات أن
التجمع اليمني للإصلاح لم يحصل على وزارة من وزارات المفاصل المهمة، وفور
إعلان تشكيل الحكومة وتحديد من يتولى كل وزارة أبدى كثير من اليمنيين عدم
ارتياحهم لهذا التشكيل نظراً لتطلعهم إلى أسماء جديدة ووجوه شابة لم يعرف عنها
حماية الفساد أو التستر عليه.
ولقد بادرت الحكومة إلى رفع شعار (معالجة التدهور الاقتصادي ومحاربة
الفساد الإداري) ويبدو أن الفرصة مواتية لها لتحقيق ذلك نتيجة سقوط قوة الحزب
الاشتراكي وكبار قياداته التي كانت تصر على وجود ازدواجية في المهام ووجود
جهازين في الدولة إلا أنها ستواجه صعوبات كبيرة جداً في ذلك نتيجة ارتباط كثير
من التجار بكبار المسؤولين وامتلاك بؤر الفساد في الدولة لمراكز اجتماعية أو
حزبية مرموقة، وليس أدل على ذلك من تنحية وزير التجارة والتموين السابق عبد
الرحمن بأفضل الذي استطاع إيصال السلع الأساسية إلى المواطنين في كافة أنحاء
الجمهوية بأسعار معقولة جداً من نسبة 30% فقط المعطاة له من الواردات نظراً
لعدم ارتياح التجار له نتيجة كشفه لكثير من حيلهم وألاعيبهم على الشعب.
وبتشكيل الائتلاف من ثنائي المؤتمر والإصلاح يكون الحزب الاشتراكي قد
خرج إلى المعارضة لأول مرة منذ قيامه إلا أن ذلك لا يعني انتهاءه سياسياً أو أنه
لن يعود إلى الحكومة في حال حاجة القيادة اليمنية إليه لمواجهة الإسلاميين وبخاصة
في ظل الضغوط الخارجية المتوالية على الرئيس اليمني لإرجاع الاشتراكيين إلى
الحكومة ليتم إحداث نوع من التوازن بينهم وبين الإسلاميين داخلها.
كما أن خروج الحزب الاشتراكي من الحكومة ودخول الإسلاميين الائتلاف
الحاكم بنسبة أكبر من ذي قبل لا يعني أن التشكيلة الأخيرة للحكومة اليمنية قد خلت
من أصحاب التوجهات العلمانية المعادية للتوجه الإسلامي ودعاته أو أن أعداء
الصحوة الإسلامية على اختلاف مشاربهم وأحزابهم سيتوقفون عن الكيد للحركة
الإسلامية ومحاولة إحراق المنتسبين إليها شعبياً وسياسياً على السواء في آن واحد،
وكل ما نأمله أن يكون الإسلاميون على مستوى الحدث وأن يكونوا قد أعدوا العدة
لذلك.
الوضع الإداري:
ما إن تجلس مع مجموعة من اليمنين في أي محافظة إلا ويشتكون من الوضع
الإداري، ففي المحافظات الشمالية كثيراً ما تسمع عن صور الفساد الإداري مثل:
تعيين الرجل لقرابته من صاحب القرار، إلى وضعه في مكان لا يستحقه لوجاهته
الاجتماعية، إلى شراء المناصب، إلى عدم الانتظام من قبل الموظفين في الدوام
حضوراً وانصرافاً، إلى الروتين العقيم، إلى الرشاوي وعدم القدرة على إنجاز
المواطن لمعاملاته بدونها، إلى محاربة أصحاب الذمم النظيفة من صغار الموظفين
والتضييق عليهم، إلى عدم قدرة أصحاب الغيرة من كبار المسؤولين على إحداث
التغيير المطلوب، إلى السرقة والاختلاس للمال العام، إلى بيع الرتب العسكرية..
إلخ من الأمور المخجلة والمبكية في آن واحد.
أما إذا انتقلت إلى المحافظات الجنوبية والشرقية فستجد أن الوضع فيها أكثر
سوءاً حيث تعاني بالإضافة إلى بعض ما هو موجود في المحافظات الشمالية من
فوضى إدارية كبيرة نتيجة التغيير الذي حصل بعد الحرب لجل الكوادر القيادية في
الأجهزة الحكومية الذي اضطرت إليه الحكومة نظراً لأن الحزب الاشتراكي كان
يقصرها على كوادره القيادية والمنتسبين إليه فقط.
هذا بالإضافة إلى رداءة مقار تلك الأجهزة وصغر مساحاتها (الفارق العمراني
بين ما كان يعرف باليمن الشمالي والجنوبي - باستثناء البناء الحديث من قبل
المواطنين بعد الوحدة - كالفارق بين اليمن الشمالي والدول الغنية في الخليج) .
ومما زاد الأمر سوء ما حصل من نهب وعبث بأثات ومحتويات تلك الدوائر
فور انتهاء الحرب بالإضافة إلى الإحراق المتعمد لسجلات الموظفين وملفات بعض
المحاكم من قبل قيادات الحزب الاشتراكي قبل خروجها كما حدث في عدن وغيل
باوزير في حضرموت، ولذا فإن إرث الحكومة الجديدة بعد الحرب ثقيل،
وبالأخص الإسلاميين فيها والذين أوكلت لهم أهم وأبرز وزارات الخدمات التي
تحتك بالمواطن وتلبي له احتياجاته كالتجارة والتموين والصحة والماء والكهرباء
والعدل والتربية.. الخ، وما لم يعدوا العدة اللازمة لذلك وتعطى لهم الميزانيات
والصلاحيات الكافية لتغيير أعمدة الفساد الذين شاخ بعضهم في المناصب وتلبية
احتياجات وزاراتهم وبالأخص في المحافظات الجنوبية والشرقية، فإن أوراقهم قد
تحترق في الساحة، وقد يعدهم كثير من أبناء الشعب اليمني جزء من أصحاب
الفساد وحماته.
الحرب والخسائر:
كنت أتصور من خلال متابعات وسائل الإعلام الخارجية بأنواعها أن حجم
الدمار والخراب الذي وقع من جراء الحرب كبير جداً، والواقع أن الأمر ليس كذلك
فباستثناء الدمار الذي حصل لمحطات البترول بجوار قاعدة العند الشهيرة،
والطلقات التي أصابت أبنية قريتي صبر والوهط نتيجة الكر والفر بين الجانبين
فيهما، وحي دار سعد وبعض الطلقات المعدودة في أحياء الشيخ عثمان والممدارة
والمنصورة وخور مكسر هذا في عدن بالإضافة إلى تدمير بعض المنازل في بروم
والطلقات التي أصابت بعض الأبنية في فوّة.. مدخل المكلا.. في حضرموت،
فتكاد تنحصر الخسائر في الدمار الذي لحق بالعتاد العسكري وحالات العبث والنهب
الكثيرة والإحراق المتعمدة للدوائر الحكومية ومؤسسات القطاع العام وعلى وجه
الخصوص في مدينة عدن.
هذا بالإضافة إلى ما لحق بمطار عدن ومصفاتها في البريقة، ومحطات ضخ
النفط في مأرب وخزانات وقود الكهرباء في المخا من إصابات مؤثرة، بالإضافة
إلى الخسائر التي لحقت بالبلاد من جراء شل الحركة التجارية وتوقف وهروب
الكثير من المشاريع العمرانية والاستثمارية.
ولقد تفاوتت تصريحات المسؤولين اليمنيين في تحديد قيمة الخسائر للبلاد بين
ثلاثة وثمانية مليارات من الدولارات ويبدو أن الرقم الأخير مبالغ فيه جداً وبخاصة
إذا كان المراد الخسائر التي لحقت الدولة اليمنية فقط.
ولكن الخسائر الكبيرة التي حدثت والتي لا يمكن تقديرها بثمن هي آلاف
القتلى والجرحى من الجانبين.
مواقف عامة الناس بعد الحرب:
الناس بعد الحرب في المحافظات الشمالية في الغالب الأعم يكلون ما تحقق من
هزيمة للاشتراكي إلى الله تعالى، ويقولون: هذا نصر من الله سبحانه، وتجد من
عامة الناس من يحدثك عن كرامات يذكر أنها حصلت - كما يقال - لجند الحكومة، كما أنهم وقفوا وقفة رجل واحد أثناء الحرب وبعدها مع الرئيس اليمني وحكومته
في مواجهة الحزب الاشتراكي ودحره، ويعود ذلك إلى الجهود الكبيرة التي بذلها
الإسلامّيون لإقناع العامة بمخالفة الحزب الاشتراكي للعقيدة الإسلامية التي يدين بها
الشعب، ولإعلان الحزب الاشتراكي للانفصال، ولإثبات وسائل الإعلام اليمنية
ارتباط قياداته بجهات خارجية.
والآن بعد أن أقنعت وسائل الإعلام الشارع اليمني بأن الحزب الاشتراكي كان
السبب المانع لإحداث الكثير من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية لتحسين كفاءة
الدولة واستقرارها ورفع مستوى المعيشة للشعب فإن الحكومة التي تشكلت بعد
الحرب ستوضع على المحك فإن نجحت في القيام ببعض مشاريع البنية الأساسية
وتأمين السلع الأساسية بأسعار معقولة ومحاربة الفساد الإداري فإن الرئيس اليمني
ومن حوله من القيادات التي هزمت الاشتراكي ستتحول إلى قيادات تاريخية لدى
كثير من أبناء المحافظات الشمالية، أما إذا لم تنجح الحكومة في القيام بذلك واستمر
الفساد الإداري والتدهور الاقتصادي على ما هو عليه أو تحسن تحسناً لا يلمسه
المواطن فإن من المتوقع أن يحمل الشارع في المحافظات الشمالية على القيادة
اليمنية ويحملها أخطاء الماضي والحاضر على السواء ويعتبرها تلاعبت بمشاعره
وعواطفه لا غير.
هذا بالنسبة للمحافظات الشمالية أما المحافظات الجنوبية والشرقية فإن الناس
فيها على الغالب الأعم- باستثناء شباب الصحوة الذين سامهم الحزب الاشتراكي
أثناء الحرب وقبلها سوء العذاب - كانوا مع القيادات التي أعلنت الانفصال نظراً
لنجاحها في إعطاء الحرب بعداً مناطقياً وللوعود والأماني المعسولة التي منّت بها
قيادات الانفصال أبناء تلك المناطق.
وأياً كان الموقف أثناء الحرب فقد استقرت البلاد عسكرياً وعملت القيادة
اليمنية على توحيد الجيش وانتزاع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من أيدي الأشخاص
الذين سلمهم إياها الاشتراكيون ويبدو أن نجاح القيادة اليمنية في استمالة قلوب الناس
في تلك المحافظات وزوال ما بثه قادة الانفصال من إشاعات عنها مرتبط بقدرتها
على السيطرة على الأمن ومحاربة الفساد الإداري والقيام بتنفيذ مشاريع البنية
التحتية والمشاريع التنموية التي تحتاجها تلك المحافظات هذا بالإضافة إلى القدرة
على السيطرة على الغلاء الفاحش في المعيشة والقيام بإيكال بعض المناصب القيادية
المهمة في الدولة إلى شخصيات يرتضيها الشارع في تلك المحافظات كوزير النفط
اليمني فيصل بن شملان على سبيل المثال.
وما لم يحدث ذلك فسيستمر الكثير من أبناء تلك المناطق على ولائهم للقيادات
التي أعلنت الانفصال وستستمر الحساسية تجاه أبناء المحافظات الشمالية والتي
أحدثها قادة الانفصال لديهم بدرجة كبيرة.
احتياجات اليمن:
الحديث عن احتياجات اليمن يطول وسأكتفي هنا بذكر احتياجين يعدان من
أهم الاحتياجات وأبرزها من وجهة نظر الكثيرين من اليمنيين الذين قابلتهم:
1- الاحتياج الدعوي: بزوال هيمنة الحزب الاشتراكي على الجنوب اليمني
وبتحسن سمعة الإسلاميين في الشارع اليمني وبوصول الإسلاميين إلى الحكم على
مستوى الوزراء ووكلائهم والمحافظين ومدراء العموم.. الخ، فإن أبواباً كثيرة
أصبحت مشرعة أمام الدعاة هناك بعد أن كانت مغلقة ولفترات طويلة، ولكنها
أبواب تحتاج إلى من يدخلها لينشر من خلالها العلم الشرعي النقي والعقيدة الإسلامية
الصافية بأسلوب حسن حكيم وإلا فإن مجرد فتحها لا يكفي.
ونظراً لقلة طلبة العلم الشرعي وعدم قدرة الموجود منهم على تلبية احتياجات
جميع المناطق فإنه يتعين على أبناء اليمن في الخارج والذين رزقهم الله تعالى علماً
شرعياً طيباً، وفهما جيداً للمرحلة التي تمر بها اليمن أن يبادروا إلى العودة إلى
بلدانهم للقيام بجزء من واجبهم تجاه دينهم وأمتهم، في مثل هذه الفرصة المتاحة قبل
أن تتغير الأحوال وتتبدل الأمور.
كما أن على القادرين من المسلمين أفراداً وجماعات أن يزودوا إخوانهم الدعاة
في اليمن بما يحتاجون من نصح وخبرة ودعم لتلافي الأخطاء التي يقع فيها شباب
الصحوة هناك، ولتحقيق أفضل النتائج في خدمة هذا الدين والدعوة إليه.
بالإضافة إلى أن من واجب أهل الخير من اليمنيين في الخارج - من غير
طلبة العلم - أن يبادروا إلى تزويد قراهم ومدنهم بما يمكن من المصاحف والكتب
والأشرطة الإسلامية المناسبة، كما أن عليهم أن يبادروا إلى كفالة الدعاة ومدرسي
تحفيظ القرآن الكريم وأن يقوموا بالتنسيق بينهم لتحقيق أفضل النتائج في ذلك.
2- الدعم الاقتصادي: جاءت الحرب اليمنية لتقضي على ما تبقى من مظاهر
الحركة وبوادر الأمل في انتعاش الاقتصاد اليمني بعد التأثر الكبير الذي أصابه
نتيجة إفرازات حرب الخليج الثانية.
ولذا فإن المواطن اليمني يعاني معاناة كبيرة سواء أكانت من ناحية الغلاء
وارتفاع أسعار المواد أو من ناحية قلة فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة مع
الضعف الكبير في مدخولات العاملين فكيف بالعاطلين؟ ولذا فإن الاحتياجات التي
يمكن أن تقدم لدعم هذا الجانب هي:
- مبادرة المهاجرين اليمنيين في الخارج وغيرهم من القادرين إلى استثمار
جزء من أموالهم في اليمن نظراً للمستقبل الواعد الذي يبشر به الوضع هناك ومن
أجل المساهمة في إيجاد فرص عمل لكثير من أفراد الشعب.
- قيام المؤسسات الخيرية الإسلامية في العالم بتحويل جزء من مشاريعها
الخيرية والاستثمارية إلى اليمن ومبادرتها إلى دعم الأجهزة الحكومية التي تولاها
الإسلاميون مثل وزارات التموين والتجارة والصحة والماء والكهرباء والتربية،
حتى يخدموا إخوانهم أبناء الشعب وينجحوا في المهام الموكلة إليهم، ويخيب الله
ظن من يتربص بهم الدوائر من أعدائهم.
والله نسأل أن ينصر أولياءه وأن يخذل أعداءه.. والله من وراء القصد.(83/64)
المسلمون والعالم
مستقبل المغرب العربي الكبير
وقفات مع ندوة عن واقع المغرب العربي
محمد حامد الأحمري
عقد «مركز أبحاث الجغرافيا السياسية والحدود الدولية» التابع لكلية
الدراسات الشرقية في جامعة لندن ندوة لمدة يومين في أوائل جمادى الثانية الموافق
6-7/10/94م تحت عنوان «مستقبل المغرب العربي» حضرها ممثلون عن
بعض الدول المغربية كتونس والمغرب، وممثلون عن حركات إسلامية منهم عبد
الله جاب الله من النهضة في الجزائر، والغنوشي من النهضة في تونس وعبد الإله
بن كيران من حركة التجديد والإصلاح، كما حضر عبد الحميد الإبراهيمي (رئيس
وزراء سابق في الجزائر) ومحمد مزالي وأحمد بن صالح (وزيران سابقان من
تونس) وبعض المهتمين بالمنطقة من سفراء ومثقفين ودبلوماسيين.
وكانت الندوة في غاية الحيوية في كثير من جلساتها وبخاصة تلك التي دارت
حول حقوق الإنسان في تونس التي شارك فيها مشاركة مثيرة عدد ممن حدثت لهم
حوادث تعذيب جسدي، وقد ذكرت أسماء بعض الذين أعدموا أو أصيبوا بعاهات
في سجون تونس، ولقد سأل مندوب منظمة العفو الدولية عن بعض الأسماء موجهاً
أسئلته لمندوبي الحكومة التونسية، وتحدث إسلاميون في الندوة عن نظرتهم لأحوال
بلادهم ومستقبلها، وكانت الورقة التي قرئت نيابة عن رابح كبير من جبهة الإنقاذ
قد ركزت على تاريخ جبهة الإنقاذ، ووفق كاتبها في تأكيد هوية الجبهة وكونها
معبرة عن الشعب الجزائري وطموحاته وأفكاره.
وشارك من المستشرقين فرانسوا بورجا صاحب كتاب «الإسلام السياسي»
بادئاً حديثه بسؤال مهم وهو: هل يسمح الغرب لأي شعب في العالم أن يستعمل
مصطلحاته الخاصة التي تختلف عن مصطلحات الغرب ولغته وأفكاره؟ .
ثم عقب على ذلك بأن الفكر الغربي فكر لا يسمح بوجود الآخرين ولا يسمح
بلغات وثقافات ومصطلحات أخرى، وأشار إلى الثقافات التي أبادها الغرب في
أرجاء العالم، وانتقد قومه الفرنسيين الذين لا يسمحون بالحجاب في فرنسا، وفي
الوقت نفسه اعتذر لحكومته عن بعض تصرفاتها، وذكر أنهم هم يفهمون المنطقة،
وسيتعاملون معها أكثر من غيرهم، ملمحاً إلى استبعاد الأمريكان والبريطانيين.
وتحدث المستشرق الأمريكي «مور» من جامعة أوستن بولاية تكساس عن
موقف بلاده حكومة ومستشرقين أو مثقفين تجاه المغرب العربي والحركات
الإسلامية عموماً، وذكر أن الحكومة الأمريكية يتنازعها طرفان: الطرف الذي
يخيفها من الإسلام والعمل الإسلامي، ويرى أن التحدي الأكبر للولايات المتحدة في
العقود القادمة هو الإسلام، ويستخدم أصحاب هذا الاتجاه حادثة المجمع التجاري في
نيويورك وحوادث الاغتيالات في العالم ومشكلات إيران حيث يكبرون من حجمها،
ليخيفوا المجتمع الأمريكي وليضغطوا على الحكومة لتسير في الاتجاه الذي يريدون، ويساند هؤلاء بعض الأكاديميين من أمثال صمويل هانجتون صاحب مقال «
صراع الحضارات» الذي كسب دوياً إعلامياً وأيضاً المجموعات اليهودية التي
تسير في طريق التخويف من الإسلام.
وهناك طرف معتدل يرى أن الاتجاه الإسلامي قادم لا محالة وسوف يتمكن في
العالم الإسلامي، وبين الإسلاميين متطرفون كالذين يحملون السلاح في جبال
الجزائر، والذين يقتلون الناس في مصر، وهؤلاء ليسوا الاتجاه الرئيس في
الإسلاميين، فبين الإسلاميين اتجاه آخر معتدل مهادن متعقل ومتعلم ويمكن الحوار
معه، وقال: إن بعض أعضاء الحكومة الأمريكية يميل إلى هذا التقسيم، وهذا هو
الرأي الذي طرحه - إلى حدٍ ما - جون اسبوزيتو صاحب كتاب «التهديد
الإسلامي خيال أم حقيقة» .
وفي الجانب الأوروبي تحدث «جون جرندون» من الحكومة البريطانية
وكان في بعض كلامه مستفزاً وبخاصة عندما ذكر أن الإسلام لا يبدو أنه يهتم
بالإنسان وحقوقه، وقضية حقوق الإنسان كانت جانباً من أسباب عدم ورود
المساعدات إلى مناطق في المغرب العربي، وذكر أن المشكلة الإدارية كانت من
الأسباب الأساسية للتخلف في شمال إفريقيا، ثم أعطى أرقام المساعدات للمنطقة.
ومن المغرب العربي تحدث عبد الإله بن كيران وقارئ ورقة حزب الاستقلال
وقد تحدثا عن قضايا مجمع عليها في المغرب أهمها الموقف من الملكية والصحراء، وعدم وجود تنافر حاد في عدد من القضايا كالذي يحدث في تونس والجزائر،
وتبني الإصلاح والتجديد لمفاهيم الإصلاح، وعدم المواجهة مع السلطة.
واستمع الحاضرون إلى وجهة نظر أوروبية من ألمانيا والبرتغال حول العلاقة
ما بين المغرب الكبير وهذه الدول، وذكر المتحدث الألماني أن حكومة بلاده لا
تتعامل مع المعارضة في الدول، ولكنها تتعامل مع الحاكم فقط بقطع النظر عن
موقف شعبه منه، ربما لأن الموقف السياسي الخارجي الألماني كان غالباً بأيدي
الأمريكان، وهم لا يعطون إلا هامشاً لا يكاد يذكر للألمان في القضايا الدولية.
كانت جلسات الندوة تبدأ في التاسعة صباحاً وتنتهي في حدود السادسة مساءً،
يتخلل ذلك الصلوات وجلسات الراحة والمناقشات الجانبية، وقد أقيمت صلاة
الجمعة في مقر المعهد، وخطب بالمسلمين الشيخ جاب الله، وكان أغلب الحاضرين
من المسلمين ومن المغرب العربي، وأظهر خلالها الاتجاه الإسلامي - وبخاصة في
تونس والجزائر - قدرته على شرح موقفه وقضيته بقوة ووضوح، ولم توفق
الحكومات إلى إعطاء الحاضرين موقفاً إيجابياً تجاه ما يحدث، فقد غابت الحكومة
الجزائرية عن الندوة، ولم يوفق الوفد التونسي في إقناع الحاضرين بموقفه.
وكان كثير من الحاضرين من خارج المنطقة معجبين بمدى الفائدة العلمية
التاريخية: السياسية والفكرية التي حصلوا عليها خلال يومين من النقاش عن جزء
مهم من عالمنا العربي الإسلامي، وكانت غالب المناقشات صريحة لا تخلو أحياناً
من خطابة وتهييج وإقناع للحاضرين بأسلوب لا يفهمه ولا يتعامل معه الحاضرون
في المجتمع الغربي، كما فعله بعض المتحدثين.
والذي يأسف له أحدنا أنه ليس بإمكانه أن يقيم مثل هذه الندوة في العالم
العربي، رغم اتساعه وتنوعه، وهو لن يخرج مما ألم به حتى يكون بإمكانه أن
يناقش مشكلاته بكل حرية وصراحة، ويسعى للحلول بلا خوف من عواقب ما يراه.
ومما تجدر ملاحظته أن أغلب البحوث ركزت على واقع المغرب وتاريخه
أكثر من حديثها عن المستقبل.(83/78)
المسلمون والعالم
الرافضة يغزون البوسنة
عمر أحمد مهدتش
لقد دخلت الرافضة في جميع مناطق البوسنة وكشرت عن أنيابها، وأصبح
معظم الشعب البوسني يجلهم ويجعلهم رمزاً للدولة الإسلامية لما قدموه له من خدمات
كثيرة ولما ساهم به رموزهم وموظفوهم من جهود كثيرة كما سنوضحه فيما بعد.
يا علماءنا ويا دعاتنا ويا طلبة العلم من لإخوانكم في العقيدة لقد تشيع الكثيرون
من إخوانكم وتزوج العديد من الروافض من أخواتكم - لا حول ولا قوة إلا بالله -
ألا من مغيث بعد الله يغيثنا من تلك الكارثة والمصيبة الساحقة، وهذه بعض
جهودهم في بلاد البوسنة والهرسك في الآونة الأخيرة:
- تأسيس الهلال الأحمر الإيراني: الخطر الرافضي من أهم العقبات التي
تقف في طريق الدعوة السلفية في البوسنة والهرسك، فقد قاموا بتأسيس الهلال
الأحمر الإيراني وقاموا بتوزيع الطعام على أسر الذين قتلوا من المجاهدين.
- فتح مركز العهد: وهو مركز ثقافي ديني، يقوم فيه الروافض بتدريس
المواد الدينية المختلفة (فقه - عقيدة - قرآن - لغة عربية - لغة فارسية على
منهجهم بالطبع.. الخ) وتوفر فيه المواد الغذائية والمبيت مجاناً للطلبة المغتربين،
ويشرف المركز على طباعة كتبهم الدينية، وهذ هو أخطر عمل قاموا به حتى الآن، حيث أعلنوا أن مذهبهم الرافضي هو أحد المذاهب الإسلامية كالمذاهب الأربعة،
ولقد تزوج زعيمهم الديني الإمام جعفر وكذلك رئيس وحدة التدريب العسكري
الضابط عباس من بوسنيتين.
- فتح قاعدة عسكرية تدريبية: قام الروافض بافتتاح قاعدة عسكرية بقرية
هفوة بمدينة فيسكو، يقومون فيها بتدريب الجنود على جميع أنواع الأسلحة
والتدريبات القتالية الأخرى وذلك بالترتيب مع الجيش البوسني كما يقومون بتمويل
وحدة عسكرية أصبح الآن أسمها (عبد اللطيف) بعد استمالتهم لقائدها صالكو عمر
بيقوفيتش.
- استقطاب الرؤساء والقادة: ومن أجل ذلك نظم الإيرانيون زيارة خاصة
لرؤساء مدينة فيسكو لإيران وكان فيها:
* مرساد شهانوفيتش ... - رئيس حزب الـ SDA (الحزب الديمقراطي) .
* رامزة علي اهيموفيتش - أستاذة بكلية الدعوة في زينيتسا.
* صالكو عمر بيقوفيتش - قائد كتيبة عبد اللطيف
- ملامح مخطط الرافضة وأعمالهم الحالية:
* العمل بسرية كبيرة.
* العمل بتخطيط جيد وسياسة بعيدة المدى.
* العمل مباشرة مع القنوات الحكومية المسؤولة.
* فتح سفارتين في سراييفو وزغرب.
* التعاقد مع حكومة كرواتيا: ليتم تصنيع سفن لهم، وبهذه الطريقة يتم تشغيل
30000 عامل في مصنع السفن الكرواتي، وبذلك يتمكن الروافض من السيطرة
على الحكومة الكرواتية، ومن هنا يسمح لهم بحرية التنقل وجلب المواد المختلفة
من طعام وأوراق.
* إنشاء مطار عسكري في منطقة فيسكو.
* تدريب الجيش البوسني في منطقة كاكان، مع إعطاء الجنود دورة دينية.
* التبرع بـ 8 طائرات مروحية للنقل.
* جلب الذخائر والمعدات العسكرية المختلفة، وحفر اسم إيران على كل
رصاصة.
* جلب أصحاب الكفاءات العالية مثل الأئمة والدعاة والمدربين العسكريين
والمخابرات الخاصة والصحفيين.
* مساعدة أصحاب مراكز الشباب المختلفة والنوادي الأدبية، وعقد الندوات
الدينية بشكل مكثف.
* ترويج فكرة زواج المتعة، بل والتزوج من فتيات أهل السنة بتلك الطريقة
المحرمة.
* بعث الأئمة وأصحاب الخبرات العالية إلى إيران.
* طباعة الكتب والمجلات التي تخدم مذهبهم الرافضي، مع مراعاة عدم
تجريح أهل السنة وعدم ذكر الاختلافات المذهبية، وقد ألفوا كتاباً في السيرة
وهمشوا كثيراً من الصحابة وذكروا دور علي رضي الله عنه فقط، ووضعوا جائزة
قدرها 1000 مارك لمن يحفظ هذا الكتاب، ووزعت المسابقة في جميع أنحاء
البوسنة.
* طباعة الكتب ذات الصيغة البدعية.
* توزيع كتب الروافض وصور الخميني وصور خامئني وكتابة عبارات مثل
روح الله تحت صورة الخميني ... الخ.
* استعطاف قلوب المسلمين بنشر القضايا الإسلامية المختلفة مثل قضية
فلسطين وقضية سلمان رشدي.
* استخدام الوسائل السمعية والمرئية من تلفاز ومذياع لنشر عقيدتهم الفاسدة
* الاستمرار في الدعم ولو بالقليل (قليل دائم خير من كثير منقطع) .
* نشر كتاب الدولة والإسلام ويتضمن هذا الكتاب الهجوم على أبي هريرة
رضي الله عنه ورد الأحاديث التي رواها، وبذلك يتم هدم صرح من صروح السنة
النبوية المطهرة.
* يا أهل السنة والجماعة يا أتباع سلف الأمة من يأتي إلينا منكم يا أهل
الخير.. يا أهل العلم.. يا أهل الصلاح.. ندعوكم بقلوب كلها حزن وأسى.. من
للإسلام غير المسلمين.. من لنصرة هذا الدين غيركم.. أدركوا الخرق قبل أن
تغرق سفينة الإسلام في بحر الرفض، فالأرض لازالت بكراً وتحتاج إلى من يزرع
فيها الخير فأين أنتم يا دعاة الإسلام ويا طلبة العلم لتقوموا بواجبكم تجاه هذا البلد
المسلم الذي تسلط عليه الأعداء من كل حدب وصوب (تقتيل وتشريد.. تغريب
وتنصير.. تعصب مذهبي مقيت.. هجمة رافضية شرسة) ، فمن يشعر بهذا
الخطر ويشارك إخوانه في رفع المعاناة وصد هذا الهجوم المنظم.(83/82)
المسلمون والعالم
ميثاق شرف المنظمات الجهادية في كشمير
تمهيد:
عانى ويعاني المسلمون في كشمير الكثير والكثير من الظلم والاضطهاد
الهندوسي ولقد استطاع الهندوس بكل خبث اصطناع بعض الرموز المشبوهة
المنسوبة للإسلام ليكونوا لهم أذناباً ولكن الشعب الكشميري المسلم عرف أولئك حق
المعرفة، ومقت صنعهم ورفض بكل إباء التعامل معهم ووضع يده في يد الجماعات
الإسلامية المجاهدة التي مع كثرتها لم تؤثر الأثر المرجو لكونها متفرقة ومختلفة،
ولما رأت تلك الجماعات أن سبيل النصر لن يكون إلا بالاتحاد والتعاون على البر
والتقوى والجهاد تحت راية إسلامية واحدة اجتمع نفر من القيادات السياسية
والجهادية الكشميرية مؤخراً، وناقشوا آخر التطورات على الساحة وأعربوا عن
قلقهم البالغ حيال مؤامرات الهند ومحاولاتها الدائبة لبث الخلافات بين الجماعات
الكشميرية المسلمة، وقرروا الاتفاق على استراتيجية موحدة لمواجهة التحديات
الهندية المعادية وفي ضوء ذلك الاجتماع تم الاتفاق على إعداد ميثاق شرف يحتكم
إليه القادة الكشميريون في عملهم الجهادي، وقد صاغ هذا الميثاق مجموعة من
المجاهدين ورموز العمل الإسلامي هناك وهم:
1- الأستاذ / غلام محمد صفي. 2- د/ أليف الدين الترابي.
3- د/ حيدر حجازي.
وقد أرسله للمجلة مشكوراً البروفيسور (اليف الدين الترابي) المدير العام
للمركز الإعلامي لكشمير المسلمة وهذا هو نص الميثاق:
بنود الميثاق:
1- يجب على جميع المنظمات الجهادية في كشمير المحتلة احترام مبادئ
الجهاد الإسلامي - بما في ذلك التزام كل منظمة - بأحكام كتاب الله وسنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم-.
2- سوف تواصل جميع المنظمات الجهادية جهادها ضد الاحتلال الهندوسي
بروح إسلامية، وفي ظل الآية الكريمة [واعتصموا بحبل الله جميعاْ ولا تفرقوا] .
3- ستهتم المنظمات الجهادية بتربية مجاهديها تربية إسلامية حسنة، وذلك
لتمكينهم من تطبيق المبادئ الإسلامية للجهاد حتى إبان المعارك.
4- تلتزم جميع المنظمات الجهادية بتطبيق المبدأ الإسلامي الذي أمر به
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه
وماله وعرضه» - أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-
5- تحترم جميع المنظمات الجهادية المبدأ الإسلامي الذي يمنع المسلمين من
التعرض لغير المسلمين الذين لا يشتركون في الحرب مباشرة، وأن على المسلمين
الحفاظ على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم.
6- سوف تقوم جميع المنظمات الجهادية بمراقبة وجود العملاء داخل صفوفها، وإذا تبين وجود العملاء في أي منظمة سوف تتخذ إجراءات صارمة ضدهم.
7- تطالب كل المنظمات أفرادها بعدم التورط في الاشتباكات بين مختلف
الفئات الجهادية، وإذا وجد أي شخص يخالف هذا المبدأ، فإن المنظمة المعنية
سوف تطبق العقوبات في حقه.
8- يجب على جميع المنظمات ألا تقبل أي شخص طُرد من منظمة أخرى
بعد أن ثبتت مخالفاته للمبادئ الجهادية.
9- لن تقوم أي منظمة جهادية بنزع سلاح أي مجاهد ينتمي إلى منظمة
أخرى.
10- تمنع المنظمات أفرادها من قبول أو طلب أي مساعدة من عامة الناس
أما بالنسبة لحاجات المجاهدين الأساسية، فإنها سوف تكون من مسؤوليات المنظمة
التي ينتمي إليها المجاهد.
11- لن يتدخل المجاهدون في شؤون الناس الشخصية أو في قضاياهم
الاجتماعية.
12- إذا ثبت أن مجاهداً دخل بيتاً من بيوت عامة الناس إجبارياً، وقام بعمل
غير مشروع، أو سرق شيئاً، فإن المنظمة التي ينتمي إليها ذلك المجاهد سوف
تطبق العقوبات الشرعية الإسلامية في حقه.
13- إذا قام شخص من منظمة ما بمخالفة ما، أو قام بعمل ينافي المبادئ
الأساسية، أو غصب سلاح الآخرين أو قام باختطاف مجاهد ينتمي إلى منظمة
جهادية أخرى، فإن الأمر سوف يرفع إلى قادة منظمته الجهادية وإذا لم تقم هذه
المنظمة بأي إجراءات ضده، فإن جميع المنظمات الجهادية سوف تقوم بالإجراءات
المشتركة ضد تلك المنظمة.
14- إذا قام أي مجاهد بارتكاب عمل يخالف مبادئ الإسلام في الجهاد فإن
منظمته الجهادية سوف تطبق العقوبات في حقه، أما المنظمات الجهادية الأخرى
فلن تقوم بأي إجراءات ضد ذلك المجاهد.
15- جميع المنظمات الجهادية ستفضل مصالح الجهاد على مصالح المنظمات.
16- سوف تهتم جميع المنظمات بتنفيذ العمليات المشتركة ضد العدو.
17- على جميع المنظمات السياسية والعسكرية واجب الاحترام والتقدير لقادة
تحالف الأحزاب الكشميرية لتحرير كشمير.
18- يجب على كل عضو في تحالف الأحزاب الكشميرية لتحرير كشمير ألا
يقوم بإصدار أي تصريح أو توجيه يخالف دستور التحالف وأهدافه وسياسته.
19- ستبذل جميع المنظمات الجهادية والأحزاب السياسية في تحالف
الأحزاب الكشميرية لتحرير كشمير جهودها لتطبيق هذه الوثيقة.
20- سوف تقوم المنظمات الجهادية بتشكيل قيادة موحدة لتطبيق مبادئ هذه
الوثيقة، وسوف تُطبق العقوبات في حق كل من يخالف مبادئ الوثيقة.
سارية العمل بها من تاريخ إعلانها، أما بالنسبة للأمور التي سبقت، فإن
الجميع سوف يتجاوز عنها.(83/86)
قراءة في كتاب
الأصول الاجتماعية والفكرية للتيارات الإسلامية المعاصرة
المؤلف: نبيل ياسين
عرض: محمود السيد الدغيم
جرى الصراع في معظم الوقائع القديمة تحت رايات الخلافات الدينية والمذهبية، فالجهاد كان في سبيل نشر الإسلام والدفاع عن حقوق المضطهدين، وذلك ما لم يرق لأعداء الإسلام الذين قاوموا الإسلام على جبهتين إحداهما خارجية والثانية داخلية.
أما على الجبهة الخارجية فأخذ الصراع شكل حروب تنوعت طرقها بين
الهجوم، والهجوم المعاكس، والدفاع الإيجابي، والدفاع السلبي ... كل ذلك ضمن
إطار الاستراتيجيات الثابتة، وأنواع التكتيك المتغير، وكان اتساع رقعة الأرض
الخاضعة لفئة ما وضيقها مرهوناً بقوتها العسكرية والمعنوية وتناسق التكتيك مع
الاستراتيجية، ولذلك أصبحت مساحة الأراضي المفتوحة بين مد أيام القوة، وجزر
أيام الضعف، ولكن عمليتي المد والجزر لم تنسحبا على المعتقدات الدينية عموماً
كما هو الحال بالنسبة للمساحات الأرضية المفتوحة، وعن ذلك نشأت دار الإسلام
ودار الحرب، وتنوعت الأحكام الشرعية والتكليفية الخاصة بالمقيمين ضمن دار
الإسلام ودار الحرب بما ينسجم مع تحقيق المصلحة الفردية للشخص مع مراعاة
مصلحة الأمة.
أما على الجبهة الداخلية فقد اتخذ الصراع نمطاً آخر اعتمد على المؤمنين
بعقيدة أو فكر الطرف المعادي، والطامحين إلى تحقيق مصالح فردية خاصة
تترواح بين الكسب المادي لقاء خدمات التجسس والولاء، والطموح إلى السلطة
ولو في ظل العدو، أو التحرر من القيم الدينية والأخلاقية التي تقف حائلاً دون
تحقيق الملذات والشذوذ، ومن هنا نشأت تيارات التبشير بالمعتقد المعادي والفكر
المعادي، والتقت مع تيارات التمرد الداخلي المكونة من الصعاليك والناقمين
والفاشلين والحاقدين على كل ما هو أصيل، والعاقدين آمالهم على العدو في تحقيق
ما يرغبونه من بدع مرفوضة.
وعلى مر العصور حافظت التيارات المعادية على المعنى ولكنها غيرت القافية، وما يعنينا هنا هو ذكر التيارات التي عادت العرب والمسلمين، وسبب ذلك العداء هو الحقد الدفين الذي كان ومازال يتأجج في صدور الفرس المجوس والروم، لأن المسلمين استطاعوا دك عرشي كسرى وقيصر منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهود الخلفاء الراشدين من بعده، ثم ازداد حقد الشعوبيين على الخليفة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - لأن أمير المؤمنين معاوية أرسى الأسس القوية لدولة إسلامية بقيادته قاعدتها دمشق وسلطانها ممتد من جنوب آسيا حتى جنوب أوروبا، متخذاً من جزيرة قبرص قاعدة بحرية تنشر هيبة دمشق في عموم سواحل البحر الأبيض المتوسط (بحر الشام) بعدما كان يسمى (بحر الروم) ، وعلى الجناح الشرقي كانت البصرة سيفاً مسلطاً على رقاب من أحرقوها فيما بعد.
ولذلك نرى الآن أعداء الأمة العربية والإسلامية يبدؤون هجومهم بنيران
حامية على أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه - مطلقين عليه صفات رخيصة
لا يجب أن تطلق إلا عليهم.
وقد تنوعت أسلحة الهجوم على الإسلام، ورفعها أعداؤه سراً وجهراً أمثال
أبي لؤلؤة المجوسي والهرمزان، وعبد الله بن سبأ ومن جاء بعدهم من الشعوبيين
والزنادقة، وأتباع الفرق العاملة على تشتيت شمل الأمة وإضعافها عن مقاومة
العدوان الخارجي، حتى آلت إلى ما آلت إليه من التمزق والتشرذم والخضوع
للأعداء بشكل مباشر أو غير مباشر، مكشوف أو مستور ديني أو سياسي.
ولقد لعب المستشرقون من مؤيدي روما الكاثوليكية أو نيويورك البروتستانتية
أو موسكو القيصرية الرومية الأرثوذكسية دوراً هداماً، وينخرط في هذا المنخرط
مبشروا الماركسية اللينينية، والماوية، والكيم ايلسنغية، وفي ذيل قائمة أعداء أمتنا
يأتي الفرس متلفعين بالجبة الخمينية، ومتعممين بعمائمها متسلحين بالمذهبية
الطائفية داعين إلى القضاء على المسلمين السنة.
في سنة 1973م صدرت الطبعة الأولى من كتاب أدونيس «الثابت
والمتحول» ، وصدرت الطبعة الثانية مع بعض الإضافات سنة 1994م، وردّ النقاد على أفكار أدونيس الهدامة التي رعاها مشرفه الخوري «بولس نويا اليسوعي» في جامعة القديس يوسف في بيروت، وقد نشر (ملحق آفاق) دراسة للأستاذ/ وليد نويهض حول الطبعة الأخيرة لكتاب أدونيس على مدى ثلاثة أسابيع ابتداء من يوم الأحد 7/8/1994م، و 14/8/1994م ثم 21/8/1994م.
لقد أوضح الأستاذ وليد نويهض أن «محاولة أدونيس في مطلع السبعينات لم
تكن جديدة، لكنها كانت مبكرة في طرح الخطوط العريضة للنقاش، كما أنها جاءت
في سياق مناخات سياسية - أيديولوجية يسارية وتغريبية حاولت السطو على
التراث من خلال إسقاطات نظرية تأثرت في جانب منها بالمستشرقين الليبراليين
في أوروبا والولايات المتحدة، وفي جانبها الآخر تأثرت بمحاولات المستشرقين
الماركسيين في قراءة الإسلام والتاريخ الإسلامي» .
وقد تطرق أدونيس في كتابه لموقف السلطة من الفقهاء والمثقفين وموقفهم منها، وقد بذل جهداً كبيراً لإثبات صحة أفكاره الهدامة، والدعاية لها، تحدوه في ذلك
نزعة مذهبية باطنية ضيقة.
وأصدر «سيد محمد القمني» عن «دار سينا» في مصر كتاباً عنوانه:
«الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، مدخل إلى قراءة الواقع الاجتماعي لعرب الجاهلية، وإفرازاته الأيدولوجية» ، والكتاب صادر سنة 1990 م على ضوء المنهج الماركسي الذي يعتبر الدين الإسلامي حزباً هاشمياً حاز السلطة حينما «أعلن النبي المنتظر» (ص 13) ، والكتاب لا يعدو أن يكون هجوماً رخيصاً على المسلمين، ولاسيما قريش بعامة وبني أمية وبني هاشم بخاصة.
كانت تلك مقدمة ضرورية ولاسيما ذكر ما كتبه أدونيس وسيد القمني لأن نبيل
ياسين لم يذكرهما رغم أنه قد سطا على أفكار الكتابين فاختزل منهما ومن بعض
المنشورات الشيوعية هذا «البيان» الذي سماه «الأصول الاجتماعية والفكرية
للتيارات الإسلامية المعاصرة» ، كما سطا على ما كتبه اليهودي المصري «أحمد
صادق سعد» عن الإنتاج الآسيوي، وهو يذكرنا بالبيانات والمنشورات الشيوعية
التي شوهت أفكار المخدوعين في هذا القرن، ورغم أن شيوعيي العالم استفاقوا من
غيبوبتهم، فإن الشيوعيين الناطقين بالعربية مازالوا يهذون بالفكر الماركسي، رغم
لجوئهم إلى البلاد الرأسمالية ومعيشتهم على حساب الرعاية الاجتماعية فيها،
وممارسة نشاطاتهم في حي سوهو وشوارع الغرام! !
يقدم الكاتب نفسه بادعاء أنه مفكر علمي مناقض للأصوليين والمتطرفين!
الذين يرفضون الشيوعية والرأسمالية، ويتقوقعون ضمن إطار الفكر القومي!
والفكر الإسلامي! ورغم حملته «العرمرمية» على تزمت القوميين والإسلاميين!
واستغرابه تشددهم، فإنه يتناول أحوالهم بشكل يدل على تزمته وتعصبه وقذفه من
يخالفه الرأي بتهم غير صحيحة ولا وجود لها إلا في مخيلة الكاتب الذي تقمص
الازدواجية في نقاشه، حيث يتضح للقارئ أن الكاتب ركز هجماته على محورين
رئيسين هما الفكر القومي، والفكر الإسلامي، ولكنه لم يكن عادلاً في هجومه على
هذين الفكرين لأنه ركز هجومه بشكل انتقائي وتجاهل التيارات التي توافق هواه،
فجاء الكتاب معبراً عن التعصب الشيعي ضد المسلمين السنة، ولاسيما السلفيين،
كما عبر الكاتب عن التعصب الشيوعي ضد القوميين ولاسيما العرب منهم، وهكذا
سقط المؤلف في بؤرة التعصب الذي يدّعي نقده، وصار كتابه أشبه ما يكون
بمنشور «نضال الشعب» الشيوعي، أو «الفتوى الإلهية» الملالية.
وكرر الكويتب نفس الكلام عدة مرات على نفس المحاور، ويمكننا تلخيص
محاور هجماته فيما يلي:
1- قال المؤلف: «بدأت العلاقة بين المثقف والسلطة الدينية تتوتر منذ نشأة
الدولة الأموية ... » (ص 10) ، ثم شن هجومه على الخليفة «عثمان بن عفان،
ومعاوية بن أبي سفيان» - رضي الله عنهما - (ص12) ، وهاجم الدولة الأموية
التي «عززت مصالح وامتيازات بني أمية أولاً ثم الفئات القبلية الموالية لها ثانياً»
(ص33) ، ثم كرر الهجوم على الخليفة عثمان - رضي الله عنه - وادعى أن
معاوية «استولى على جميع أراضي الصوافي في العراق بالذات وأقطعها لنفسه
وأفراد عائلته وعشيرته» (ص45) ، ثم ادعى أن معاوية «عمل على تحويل
الفقهاء ورواة الحديث إلى رجال دين! مرتبطين بالدولة» (ص50) وكأن علماء
المسلمين - في نظره - مثل رفاقه الذين يؤيدون من يدفع أكثر، ثم عاود الكَرّة
على معاوية فقال: «إن الملكية الاجتماعية بشكلها الذي ظهر في زمن الرسول
والخلفاء الراشدين، تدمرت نهائياً في زمن معاوية، وحل محلها نهب منظم واسع
النطاق استند إلى إرهاب الدولة ... » ، هكذا فهم الكاتب تطور الدولة الإسلامية،
فضيق أفقه وتعصبه الشيعي منعاه من رؤية مآثر معاوية الذي طور نظام الحكم
الإسلامي بشكل منفتح على قضايا عصره، وهذه مأثرة يذكرها المنصفون من أعداء
معاوية لأن إنكارها يدل على الغباء والجهل والتعصب الأعمى.
2- شن نبيل ياسين هجوماً بعد مرور 800 سنة على صلاح الدين الأيوبي،
رحمه الله، لا لشيء سوى أن صلاح الدين عزز مواقع الخلافة العباسية في مصر، وقضى على النفوذ الفاطمي الذي أصبح مرتبطاً بقوات الاحتلال الصليبي،
متجاهلاً مآثر صلاح الدين في توحيد الشام ومصر وكسر شوكة الصليبيين، ولم ير
من تاريخه المشرف سوى اصطدامه بالزنادقة العبيديين وادعى المؤلف: أن مصر
شهدت «في عهد صلاح الدين ظاهرة المساعدة على نشر التحريف الديني عن
طريق إنشاء التكايا والزوايا، وتشجيع الدراويش للقضاء على الفكر الفاطمي
الشيعي الذي ازدهر في مصر!» (ص18) هكذا يصور الكاتب الانحرافات عن
الشريعة الإسلامية بصورة الفكر، ويصور تصحيحها بصورة التحريف، وهذا ليس
بغريب أن يصدر عن شيعي وشيوعي في الوقت نفسه! ! ثم كرر نفس التهمة ضد
صلاح الدين وأضاف أن صلاح الدين «وسع الإقطاع العسكري» (ص43) ، ثم
هاجم الأيوبيين بتكرار الكلام السابق (ص58) و (ص77) ، وهكذا يتباكى على
العبيديين ويذم صلاح الدين والأيوبيين، تعصباً للشيعة وحقداً على السنة لا أكثر
ولا أقل، والتاريخ شاهد على فضل صلاح الدين، وكان من الأجدر به لو ذكر لنا
خيانة الوزير ابن العلقمي ودوره في سقوط بغداد سنة 656 هـ.
3- هاجم الكاتب المسلمين السنة السلفيين هجوماً رخيصاً يدل على حقده
وسوء عقيدته وتعصبه، حيث هاجم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فقال:
«ظهر ابن تيمية أيضاً، ذلك السلفي الذي عارض المنطق وكرّس الفكر الطائفي،
وهاجم القياس في الإسلام بالاشتراك مع ابن قيم الجوزية، مثلما هاجم الفكر الديني
للحركات السياسية والاجتماعية المعروفة في تاريخ الإسلام، والواقع أن فكر هؤلاء
المنظرين الدينيين هو الفكر الديني السائد حالياً، ومن المهم أن نذكر أن فكر هؤلاء
قد تشكل في فترات الانحطاط السياسي والاجتماعي والثقافي وظهور موجات
الاستبداد الديني بشكلها الصارخ، وفي فترة حاجة الدولة إلى جهاز أيديولوجي يبرر
استبدادها السياسي وصبغه بالصبغة الدينية ... » (ص22) .
لقد عمد المؤلف إلى التعمية والتهم الباطلة متهماً شيخ الإسلام ابن تيمية -
رحمه الله - بالهجوم على «القياس في الإسلام» ، وهذا كذب صريح لأن ابن
تيمية نقد «القياس الأرسطي» نقداً منهجياً، وشأنه في ذلك شأن علماء أصول
الفقه السنة وقد أيد قياس أصول الفقه باعتباره الميزان المستقيم، وعقد للقياس كتاباً
خاصاً في كتاب «المسودة» في أصول الفقه (ص 327-388) ، قال فيه:
«القياس العقلي حجة يجب العمل بها، ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع، ولا يجوز التقليد فيه، وقد نُقل عن الإمام أحمد الاحتجاج بدلائل العقول، وبهذا قال جماعة الفقهاء والمتكلمين من أهل الإثبات» المسودة في أصول الفقه، ص 327) .
وهذا الاستشهاد يبين لنا أن الأمر اختلط على هذا المتعالم الذي لا يفرق بين
أنواع القياس، وابن تيمية ليس وحيداً في نقد القياس الأرسطي بل هناك من نقده
قبله كأبي سعيد السيرافي (ت 368 هـ) والباقلاني (ت 403 هـ) وأبي المعالي
الجويني إمام الحرمين (ت 478 هـ) ، وكان هؤلاء العلماء قد تنبهوا إلى القصور
والخلل والعجز في القياس الأرسطي منذ قرون عديدة، ثم جاء فلاسفة أوروبا
ليكرروا نقد القياس الأرسطي وهذا واضح في كتابات: جون استيوارت مل
(1806-1873 م) ولويس كارول (1832-1898 م) وفرنسيس هربرت برادلي
(1864-1924 م) وبرتراند رسل (1872-1970 م) .
ومن الجدير بالذكر أن ابن تيمية ألف كتاباً معروف بـ «القياس في الشرع
الإسلامي، أثبت فيه أنه لم يرد في الإسلام نص يخالف القياس الصحيح» (طبع
المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1346 هـ) ، وله كتاب آخر عنوانه «الرد على
المنطقيين» (طبع في الهند بومباي 1368 هـ/1949 م) ، وله كتاب جدلي هو
«منهاج السنة النبوية» ويقع في تسعة مجلدات.
أما عن موالاة شيخ الإسلام ابن تيمية للسلطة، فهو افتراء سمج يدل على
الجهل المبرمج، لأن مواقف شيخ الإسلام ضد استبداد الحاكم مشهورة وسنواته
الطويلة في سجن قلعة دمشق خير شاهد على دحض افتراءات المدعو نبيل ياسين
وأشباهه من أعداء أهل السنة.
ويتابع المذكور هجومه على السلفيين فيقول: «وهذه الأفكار جمعت بين
أفكار أبي الأعلى المودودي وأفكار الحركة الوهابية ذات الطابع البدوي المعادي
للمدنية، والطابع السلفي الذي أعطى صفة أصولية لا تتناسب ومنطلقات الوهابية
التي تتميز بطابع طائفي ظهر في حملات الإبادة التي شنها الوهابيون على مدن
الشيعة المقدسة مثل كربلاء والنجف في القرنين الماضي والحالي، وهي جزء من
رد البداوة على المدنية ... » (ص27) ، وهكذا يسفر الكاتب عن تعصبه الشيعي
وحقده على السلفيين، وبذلك يفقد مصداقية الكاتب المحايد أو العادل أو الصادق.
ويكرر هجومه على السلفيين (ص32) ويحملهم مسؤولية التطرف حيث يقول: «تعتبر المنطلقات السنية الوهابية المهد الذي تربت فيه التيارات السنية
المتطرفة المعاصرة، وقد تميزت الدعوة الوهابية بكونها عودة إلى المحافظة
والسلفية أكثر من كونها عودة إلى الأصول، ومن غير الصائب اعتبارها فكراً
أصولياً، ولذلك ترفض الدعوة الوهابية (الأعرابية) - وهذه التسمية أَخَذْتُها من
القرآن في وصفه لفهم الأعراب للإسلام - التعايش مع العصر على ضوء معطيات
الحاضر، كانت الدعوة الوهابية نتاج مجتمع قبلي يتسم بالبداوة والأعرابية على
النقيض من الإسلام الذي فتح آفاق العرب على المدنية والحضارة خارجاً من
المجتمع التجاري المكي، وهنا يكمن التناقض بين الوهابية والأصولية
الإسلامية» ! (ص40) .
هكذا يخلط نبيل ياسين الحابل بالنابل، ويخرج عن حياد العلماء إلى صفوف
السوقة الحاقدين، ويصف السلفيين بصفة (الأعراب) ، وهو أشد كفراً ونفاقاً من
الأعراب والشاهد عليه كتابه، ويدعي أن «الدعوة الوهابية على النقيض من
الإسلام، وهذا التجديف يستحق إقامة حد الجلد بالنعل على نبيل ياسين، لأن
السلفيين» الوهابيين «أصح إسلاماً منه ومن أمثاله من أنصار السبأية اللينينية.
4- هاجم المذكور المذاهب السنية الأربعة، أي الحنفي والمالكي والشافعي،
والحنبلي، وادعى أن بقاء الحركات الدينية» في دائرة النفوذ الاجتماعي والثقافي
والسياسي للفكر الديني المحافظ فكرياً والمتطرف سياسياً يعود إلى الماضي، إلى
الالتحاق بالفكر الديني للمذاهب السنية التي ظهرت خلال القرن الثامن بعد تصفية
وتنقية لكثير من الأحكام التي ارتبطت بالدولة ولذلك ادعت أنها ترجع إلى الأصول، وفي الواقع أن الأصولية هي تقليد المذاهب الأربعة في عصر ولادتها وليس
أصولية نشأة وظهور الإسلام، ورداً من الفقه! على الدولة اتسمت هذه المذاهب
بمواقف متزمتة، لكن الدولة عادت وتكيفت مع عملية احتواء هذه المذاهب التي
أصبحت من جديد فكراً للدولة المذهبية الطائفية بعد أن التحقت الدولة بهذه المذاهب
في وقت متأخر ... « (ص42-43) .
ترى لو كان أهل السنة متطرفين كما يزعم نبيل ياسين، فهل كان من الممكن
بقاء أتباع المذاهب الأخرى بينهم في معظم أقطار الأكثرية السنية؟ ولماذا يتحدث
عن التطرف السني ويتجاهل عصابات الاغتيال الشيعية من الحشاشين وأمثالهم
وصولاً إلى ميلشيات حزب الله بفروعه التي روعت المسيحيين والسنة والشيعة
على حد سواء في لبنان وغير لبنان؟ الجواب لأن نبيل ياسين منحاز للمافيا
الباطنية.
ويتكرر الهجوم على السنة (ص51) و (ص58) و (ص77) ، ودوافع الهجوم
مذهبية بحتة، إذ ما من هجوم على السنة إلا ويلازمه نواح على حقوق
المستضعفين الشيعة! .
5- هاجم الكاتب الرموز السنية بشكل عام، فبالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً
فقد شن هجماته على العباسيين (ص19) ، والسلاجقة (ص21) و (ص57)
و (ص 65) ، والعثمانيين (ص23) و (ص36) و (ص49) و (ص50)
و (ص 57) و (ص58) و (ص60) و (ص65) ، وحسن البنا وسيد قطب (ص27) و (ص61) ، والمجاهدين الأفغان (ص39) ، والإخوان المسلمين (ص42) وجمعية الدعوة الإسلامية (ص75) .
ولم يتورع عن تحميل هؤلاء السنة مسؤولية تخلف الأمة الإسلامية لأنهم
قمعوا الفكر الشيعي التقدمي والشيوعية، على حد زعمه، فهم أعداء للماركسية
والرأسمالية، لأنهم مسلمون أصوليون قوميون معادون للثقافة والتقدم! !
6- مقابل الهجوم على أهل السنة اتخذ نبيل ياسين مواقع الدفاع عن الشيعة
والشيوعية، فهو مع الزنادقة أمثال» ابن المقفع وبشار بن برد.. الذين كانوا
ضحايا العلاقة بين المنطق والإسلام « (ص10) ، وهو مع الشيعة ضد الأمويين
(ص12) ، ومع الشيعة ضد السنة في العراق (ص57) ، ومع القدرية لأنها تعارض
الجبرية (ص13) و (ص14) ، ومع» أهم الاتجاهات الفكرية في الإسلام وهي
جمعية إخوان الصفا «! ! (ص15) حسب رأيه، وهو من مؤيدي» كتاب ألف
ليلة وليلة « (ص27) ولاسيما القسم الخاص بالشبق الجنسي بنوعيه، ومع
الشيوعيين ضد الإسلاميين (ص67) و (ص69) و (ص70) و (ص79-92) ،
وفي القسم الأخير يدعم آراءه بوقائع ندوة» عوامل نهضة القوى الدينية المنعقدة في
قبرص سنة 1987 م «والتي لخصتها مجلة النهج - الشيعية - كما يستشهد
بتقارير الأحزاب الشيوعية التالية: الحزب الشيوعي الإيراني» تودة « (ص84) ، والحزب الشيوعي التركي (ص85) ، والحزب الشيوعي البحريني (ص86) ،
والحزب الشيوعي الأردني (ص86) ، والحزب الشيوعي السوداني (ص88) ،
و» الإجماع الماركسي العربي « (ص88) .
وأتبع الكتاب بملاحق ذكر أنه نشرها في جريدة الحياة سنة 1993 م دون
تحديد تاريخ نشرها، وهي» مصائر المثقفين في عصر الخلافة الإسلامية «
(ص 93) ،» ليبرالية التراث.. أصولية المعاصرة « (ص99) ،» دراسات في الأوضاع الاقتصادية للدولة الإسلامية الأولى « (ص105) .
وقد هاجم المؤلف الفكر القومي، والدولة القومية (ص16-17) و (ص49)
و (ص53) و (ص71) و (ص 83) و (ص84) ، لما لهذا الفكر من ارتباط بالأمويين!! وهكذا تتضح هوية موضوعية الكاتب ونزاهته.(83/90)
في دائرة الضوء
الحركة النسوية
- إطار للفهم -
د. محمد يحيى
على مدى العقدين السابقين أصبحت أفكار وطروحات وممارسات ما يطلق
عليه في الغرب الحركة النسوية أو (الفِمِنِزْم) تمثل تياراً قوياً وسائداً في الحياة
الاجتماعية والثقافية بل والسياسية، ويجد المتابع هذا الأثر في العديد من دور النشر
المخصصة لنشر هذه الأفكار في عشرات الكتب الصادرة للترويج ونشر تلك
الطروحات، كما يجده في جمعيات اجتماعية وفكرية نشطة، وفي دوائر ذات نفوذ
داخل المعترك السياسي تعمل على تحويل الأفكار والطروحات النظرية إلى واقع
عملي فعلي من خلال استصدار القوانين والتمكين الاجتماعي للممارسات النسوية
عبر وسائل الإعلام الطاغية التي تشكل الرأي العام.
وبما أن الفمنزم قد أصبحت في الغرب وفي الولايات المتحدة على وجه
الخصوص أشبه بالأيديولوجية الفكرية التي وجدت فيها الليبرالية العلمانية تجديداً
لدمائها، فقد سرت هذه الأيديولوجية بشكل واضح ومتحمس من خلال مؤتمراتها
عن المرأة والسكان والعقود التي كرستها للمرأة والطفل وكانت الصياغة اللغوية مثلاً
لوثيقة مؤتمر السكان العالمي الذي عقد بالقاهرة خلال شهر سبتمبر في العام 1994م منشوراً نسوياً خالصاً تجلت فيه - في عباراته وكلماته - معظم دعاوى ومفاهيم
تلك الحركة مما مثل وصولاً للأيدلوجية النسوية الغربية إلى مستوى الطرح العالمي، لتكون نمطاً في الأفكار والقيم والعادات والممارسات يراد فرضه وتعميمه في الدنيا
بأسرها.
مرجعية هذه الحركة في الغرب:
إن الحركة النسوية في الغرب التي يراد لها الآن أن تصدر إلى العالم كله
لتصبح نموذجاً عالمياً، ينبغي أن تفهم في إطار نشأتها الاجتماعية والفكرية والثقافية، وفي إطار الروافد الثقافية التي غذتها، والأوضاع الحضارية العامة التي أفرزتها، ذلك لأن هذا الفهم هو الذي يعصم العقل من الدعوى التي تزعم أن هذه الحركة
ليست أيديولوجية نسبية ثابتة في بيئة فكرية واجتماعية معينة وخاصة، بل إنها
فلسفة مطلقة عالمية صالحة لكل زمان ومكان، أو هي نموذج مطلق للسلوك
البشري بعامة.
والحق أن الفمنزم في هذا التطور تكرر ما حدث للأيديولوجيات الغربية
السابقة من ليبرالية واشتراكية وبراجماتية التي طرحت على العالم ليست باعتبارها
اتجاهات خاصة بالحضارة الغربية، بل باعتبارها مذاهب مثالية وعالمية ونماذج
تطبيقية تسري على كل البشر رغم اختلاف حضاراتهم وعقائدهم.
وهذا الإطار للفهم الذي نلمح إليه معقد ومتشعب، لكن أول وأهم ما يمكن أن
يقال عن الفمنزم: إنها على عكس ما يفهم بعضهم في العالم الإسلامي - وهم
يريدون من خلال هذا الفهم إحداث نوع من التمازج أو التقارب بين أفكارها وبين
التعاليم الإسلامية تحت شعارات مثل تحرير الإسلام للمرأة- ليست حركة تهتم
بحقوق المرأة أو توفير العدالة والإنصاف لها فالحديث عن حقوق المرأة والعدالة في
تحسين وتصحيح أوضاعها هو حديث جزئي بل لا معنى له في ظل أفكار الفمنزم،
ذلك لأن الحقوق والعدالة لا يمكن أن يكون لها معنى بمعزل عن إطار مرجعي
وقيمي ومفاهيمي عام، يحدد ماهية تلك الحقوق وطابع العدالة ونوعها، والفمنزم
في هذا الصدد لا تعترف طبعاً بأي إطار مرجعي عام في مجتمعها أو حضارتها،
بل هي تزعم أنها تحدد وتنشيء إطاراً مرجعياً عاماً جديداً في السياق الغربي.
ومن هذا فالحركة النسوية ليست امتداداً - كما يحاول أن يوحي بعضهم إما
بجهل أو بسوء نية - لحركات ظهرت في الغرب خلال القرن الماضي، تريد
انتزاع حق التصويت للنساء في الانتخابات، أو حقوق الملكية والتعليم والعمل.
ومن باب أولى فإن الفمنزم لا يمكن أن تكون هناك رابطة أو صلة بينها وبين
حركات ودعوات ظهرت في بلدان إسلامية في مطلع القرن الحالي لتنادي بحقوق
المرأة في ظل الإسلام، وتطالب بتحسين أوضاعها وفق القيم التي أرساها هذا الدين
الحنيف.
إن الفمنزم في جوهرها أطروحة جذرية ترفض أن تدافع عن حقوق المرأة
وفق الإطار القيمي الذكري أو الرجالي أو الأبوي السائد كما يصفونه، وهي تسعى
في أفكارها إلى طرح إطار مرجعي عام بديل هو الإطار النسوي.
هذه الحركة في إطارها الفكري:
وهنا نصل إلى كنه الفمنزم ووضعها داخل السياق الفكري والثقافي الغربي
العام، إنها سعي إلى قلب كل التصورات الاجتماعية والقيمية، بل والأدبية واللغوية
التي تسود في الغرب عبر إدخال منظور جديد أو معيار ظل في تصورهم مكبوتاً
حتى الآن ألا وهو المنظور النسوي الذي ينبغي أن يعاد تفسير وكتابة كل التاريخ
البشري الاجتماعي والفكري وحتى الاقتصادي من منطلقه وباعتماده إطاراً مرجعياً
مطلقاً.
والحق إن الفمنزم في هذا لا تختلف عن فلسفات غربية سابقة سعت إلى قلب
جذري للمفاهيم والأوضاع من خلال إدخال منظور جديد لرؤية الأمور وتحليلها،
ولعل أشهر هذه الاتجاهات هو النزعة الإنسانية (الهيومانزم) التي سادت ما يسمى
بعصر النهضة في أوروبا وأحلت الدنيوي (أو العلماني) محل الديني، أو الليبرالية
التي أحلت البورجوازي محل الأرستقراطي محوراً للتفسير، أو الماركسية
بإرجاعها كل الأمور البشرية إلى المعيار المادي الاقتصادي ... إلا أن الفمنزم تزعم
لنفسها تميزاً في هذا الصدد فكل الحركات السابقة - كالبراجماتية أو الفلسفات
الوجودية مثلاً - كانت تغيرات جذرية في المنظور، ولكن داخل إطار قيمي
مرجعي أعلى واحد لم يتغير هو الإطار الذكري، أما الفمنزم فتعتبر محاولة تتجاوز
كل محدوديات الفلسفات السالفة الذكر في أنها تغير وتبدل الإطار العام الذي حكم
تلك الفلسفات.
ولكن رغم هذه الدعوى العريضة فإن الدراسة السريعة لمحتوى أفكار الفمنزم
تكشف عن أنها استعادت وأخذت بشكل انتقائي من أفكار تلك الفلسفات الذكرية
الطابع، بحيث يمكن القول بأنه لولا تلك الفلسفات لما نشأت الفمنزم، وأنها تمثل
امتداداً للسياق العلماني العام الذي هيمن على الفكر والحضارة الغربية منذ عصر
النهضة، فعلى سبيل المثال أخذت الفمنزم من الليبرالية ذلك الإحساس المفرط
بذاتية الفرد الإنساني منعزلاً عن السياق الاجتماعي والديني، وإن كانت قد صبت
هذا الإحساس على المرأة وليس الرجل، وأخذت من الماركسية بعض الشعارات
الثورية وتحليل الاستغلال الاقتصادي مع تطبيق هذه المصطلحات والتحليلات على
المرأة في الغرب وليس على الطبقات الاجتماعية وأشكال الإنتاج المادي، وأخذت
من بعض مدارس التحليل النفسي مفاهيمها في نشأة الهوية الجنسية وتطورها،
ولكنها طورتها لكي تتخذ منها مبرراً للدفاع عن مفهوم استرجال المرأة وتخنث
الرجل، مما يمهد لظهور جنس ثالث يخرق كل المواصفات المستقرة حول طبيعة
كل من الرجل والمرأة، وأخذت كذلك من فلسفة نتشه وبعض الفلسفات المعاصرة
كالبنيوية والتفكيكية مبدأ النسبية وتحطيم المطلق لكي تتوصل من ذلك إلى نسف
وهز الأسس الفكرية للمجتمع الذكري كما تسميه، تمهيداً لإنشاء وإقامة طروحاتها
التي تريدها أطراً مطلقة، مهيمنة وسائدة.
محددات أخرى للموضوع:
وإذا كانت العلاقة مع الفلسفات الغربية الكبرى تحدد موقع الفمنزم الفكري من
خلال آليات المعارضة والاستعارة والامتداد المقلد، فإن محددات أخرى لهذه
الأطروحة لا يجب إغفالها لاسيما وأن هذه المحددات خاصة بالتجربة الغربية
العقائدية والحضارية، وأنها هي التي ترسم للفمنزم مجالها الخاص باعتبارها
أيدلوجية غربية بحتة لا يجب ولا يمكن أن تمتد لتطرح باعتبارها رؤية عالمية
شاملة لكل البشر، فمن هذه المحددات تصور الفكر الغربي العام للمرأة ذلك التصور
الذي حددته الفلسفات اليونانية والكنائس النصرانية والمفاهيم اليهودية ثم نقحته
الأفكار الإنسانية العلمانية، ومن هذه المحددات الكبرى وضع المرأة الاجتماعي
والاقتصادي على امتداد القرون وما شابه في القرون الأخيرة من مشكلات مع تعقد
أنماط الحياة الغربية بفضل الثورة الصناعية ونتائجها.
وجلي أن هذه الفلسفات والقيم والأوضاع تختلف اختلافاً جذرياً ونوعياً عن
مثيلاتها في الإسلام وفي خبرة المجتمعات الإسلامية التي حددت أوضاع المرأة،
وحتى لو تقبلنا الطرح القائل بوجود مشكلة للمرأة أو قضية للمرأة في إطار
المجتمعات الإسلامية، فإن الحقيقة تبقى أن هذه المشكلة والقضية تختلف في تكييفها
عن مشاكل وقضايا المرأة في الوسط الغربي، كما تختلف في الإطار القيمي الذي
تطرح من خلاله، والحلول التي يمكن أن توجد لها في ظل هذا الإطار كما نجده في
الغرب.
لقد طرحت الفمنزم نفسها في البداية استجابة ومخرجاً من الأوضاع التي تحكم
حياة المرأة الغربية في الأوقات المعاصرة، ورداً على ما حللته بأنه ظلم المفهوم
اليوناني - الروماني - النصراني الذي ظل يحدد كيان وهوية المرأة على مدى حياة
الحضارة الغربية، وهي في هذا أوحت في الفترة المبكرة بأنها امتداد - وإن كان
جذرياً - لبعض الحركات النسوية السابقة التي دعت إلى تحرير أو انعتاق أو حقوق
المرأة في بعض النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ولكن مع تطور واتساع الحركة فكرياً، وتزعم بعض العناصر اليهودية
والراديكالية لطروحاتها، ظهرت أبعاد الفمنزم الحقيقية التي ألمحنا إلى طرف منها
فيما سبق، كما ظهر طابعها العنصري الذي يتخذ من معاداة الرجل محور الانطلاق
الأساس، ويشعل نيران الحرب العنصرية بين الرجال والنساء في حرب مستعرة لا
ترضى بأقل من إخضاع الرجل -الذي يعامل في الفمنزم كجنس مطلق وشرير-
وتغيير طبيعته لكي يكتسب الأنثوية الرقيقة المستسلمة في الوقت الذي تسيطر فيه
المرأة باعتبارها هاجساً مطلقاً بعد أن تكتسب خصائص الاسترجال والذكورة مثل
القوة والشراسة والهيمنة.
هذا هو الهدف الأسمى للفمنزم أو الفردوس الأرضي الموعود كالفردوس
الماركسي للبروليتاريا، وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف الطوباوي وضعت
المفاهيم الجذرية للعلاقات بين الجنسين، واستعيرت الأفكار التي تنسف المطلق
وتروج للنسبية، ونشطت عملية قلب وعكس القيم تحت دعوى الانطلاق من
المنظور النسوي في مواجهة الذكري.
الفمنزم أيدلوجية تغريبية مقصودة:
انتهت الفمنزم في الغرب - أو كادت - منذ سنوات باعتبارها حركة فكرية
نشطة، ولكنها مع هذا الموت أو التجمد الفكري بقيت مترسخة هناك باعتبارها
مذهب أو أيدلوجية لها أتباع، وارتبطت بمصالح مادية وإعلامية وسياسية،
وتيارات اجتماعية تعادي الأديان والعقائد وتروج للإلحاد والإباحية والشذوذ الجنسي.
وكما هو الحال بالنسبة للفلسفات الغربية السابقة التي تحولت إلى هذا المصير، بدأت الدوائر الحاكمة ذات النفوذ في البلدان الغربية الكبرى تنظر إلى الفمنزم
على أنها سلاح أيدلوجي ضد الخصوم والقوى الحضارية التي يتوجس الغرب منها، وبدأت الفمنزم أداء هذا الدور في الثمانينات أولاً ضد الماركسية الثورية، ولكن
بعد انتهاء قوة الشيوعية ظهر دورها الأساس في المرحلة الحالية سلاحاً فكرياً يواجه
قيم وتعاليم ومفاهيم وتصورات الإسلام.
ومن هنا بدأ طرح الأيدلوجية النسوية من خلال منابر الأمم المتحدة
والمنظمات الدولية، لتجد طريقها إلى ما يسمى بدول العالم الثالث ومعظمها في
الحقيقة دول إسلامية، بل إن هذه الدول بالذات هي المستهدفة خصيصاً من ترويج
وفرض هذه الأيدلوجية باعتبارها نموذجاً اجتماعياً سلوكياً يراد له أن يسود ليدمر
قيم الإسلام وممارساته وسلوكياته.
ولكي تؤدي الفمنزم دورها بشجاعة شكلت منها - كما حدث مع الفلسفات
الغربية السابقة التي صدرت إلى العالم - نسخة تصديرية تشبه تلك النسخ
التصديرية من أنواع السلاح أو الآلات المتقدمة التي لا يصدرها الغرب إلى البلاد
الإسلامية إلا بعد أن يدخل فيها تعديلات تسلب منها فعاليتها التقنية وإن بقيت على
شكلها الخارجي البراق والمتقدم، والنسخة التصديرية للفمنزم نزعت منها دعاوى
الشذوذ الجنسي واسترجال المرأة، وتخنث الرجل وقلب الأدوار وإعادة تفسير
التاريخ من المنظور النسوي في مواجهة المنظور الرجالي، وهذه النسخة صيغت
في قالب الدعوة التي ألفها المسلمون من حقوق وحريات وإنصاف للمرأة، لكنها
في الواقع بقيت في الجوهر محتفظة بهذه المفاهيم الأصلية لها بحيث إذا تساءل
إنسان عن نوعية هذه الحقوق والحريات والإنصاف المطلوب للمرأة في ظل الفمنزم
في نسختها التصديرية بإشراف الأمم المتحدة، لوجد أنها تكمن في الحرب
العنصرية ضد الرجل وفي استهجانه، وإبعاد الهداية الدينية والتوجيهات الإسلامية،
وفي عكس الأدوار وصولاً إلى مجتمعات وثنية شائهة تشبه مجتمع قوم لوط.
أختي المؤمنة هذا ما يريدون!
ومن هذا الإطار نفهم أن ما يحدث الآن مع الفمنزم في العالم الإسلامي هو
بالضبط ما حدث مع فلسفات سابقة في إطار عمليات الإمبريالية الثقافية والغزو
الفكري والإلحاق والتبعية وتغريب وعلمنة المسلمين بالكامل ومحو هويتهم،
فالتصدير والفرض للأيدلوجية النسوية من خلال آليات المنظمات الدولية والمعونة
الغربية، يحدثان كما حدثا من قبل مع الماركسية والليبرالية، والمروجون أنفسهم
من العملاء الذين يوصفون بالمفكرين والكتاب الذين يدعون أن الفمنزم حل سحري
جديد، يروجون كما سبق أن روجوا للفلسفات الغربية الأخرى، والانبهار نفسه
والاستخذاء الذي حدث مع المذاهب الفكرية السابقة الوافدة من الغرب يظهر الآن مع
الفمنزم حيث نسمع عن اتجاهات للتلفيق والمواءمة تستعير من مصطلحات
وشعارات الفمنزم ما تحاول أن تضفي عليه الطابع والمفهوم الإسلامي.
وأصبحنا نقرأ كتباً عن تحرير المرأة المسلمة لا بتعاليم ومفاهيم الإسلام
الواسعة المرنة والإنسانية، بل من خلال أطر الفمنزم المرجعية لتصبح المرأة
المسلمة مجرد نسخة من امرأة الفمنزم المشاكسة العدوانية المحاربة لجنس الرجال،
والتي قد تقبل من الإسلام ما تراه يكرس لها حقوقاً لكنها ترفض منه ما ترى أنه
واجبات تكبلها، والمشكلة الأساسية وراء كل ذلك أن الفمنزم تحولت من أيدلوجية
غربية خاصة ذات سياق معين ومحدد إلى برنامج وخطة عمل تطبيقية يراد لها أن
تطبق على المسلمين لتحل محل دينهم، كما يراد لها أن تطبق بشكل مطلق وعام.(83/102)
الورقة الأخيرة
تعب السعداء
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
روى البخاري في قصة نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن
ورقة بن نوفل لمّا أخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى قال:
ليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله: أومُخرجي هم؟ قال: نعم،
لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.
عجيب أمر المصلحين.. يواجهون بكل أنواع الظلم والمحاربة والاستهزاء،
ومع ذلك فهم صابرون محتسبون..!!
عجيب أمر المصلحين، يخرج المصلح منهم وحيداً فريداً يقف بمفرده أمام
الأمة بمجموعها لا يضره من خذله ولا من خالفه، يتألب عليه الخاصة وينفر منه
العامة، يصفونه بأقذع الصفات ويتهمونه بأبشع الأخلاق، ومع ذلك فهو رافع
الرأس، عالي الهمة، صادق العزيمة..! ينظر المصلح إلى الناس من حوله فيجد
الانحراف والضلال والبعد عن شرع الله فيتحرك قلبه، ويهتز ضميره، ويصبح
ويمسي مفكراً في هموم الأمة وأحوالها، يظل قلق النفس حائر اللب، لا يهدأ باله
بنوم أو راحة، ولا تسكن نفسه بطعام أو شراب.. وكيف يقوى على ذلك أو
يرضى به وهو يرى أمته تسير إلى الهاوية، وفصول الهزيمة والاستكانة تتوالى
تباعاً..!!
إنّ المصلح صادق مع نفسه، صادق مع الآخرين، يجهر بالحق، ويُسمي
الأشياء بأسمائها، ويكره التدليس والخداع وتزوير الحقائق، ولا يرضى بالمداهنة
أو المداورة، وهذا ما لا يرضي العامة الذين ألهتهم شهواتهم وأهواؤهم عن ذكر الله، كما لا يرضي المتنفذين الذين يستمدون وجودهم ومكانتهم من غفلة العامة
وسكرتهم.
ينطلق المصلح مستعيناً بالله تعالى يجوب الآفاق رافعاً صوته بكلمة التوحيد
الخالص لا يعتريه فتور ولا خور، ولا يقعده عن أمانة البلاغ رغبة ولا رهبة ولا
خوف، لأن القلب العامر بنور الإيمان يكتسب قوة وثباتاً يستعلي بها على زخرف
الدنيا وبطش الجبابرة.
إن عظمة المصلح تتجلى في ثباته ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الناس، بدون كلل أو ملل، فالحق يمكن أن يصل إليه الكثيرون، ولكن الصدع به
والثبات عليه والصبر على الأذى فيه منزلة شامخة لا يصل إليها إلا المصلحون
الأفذاذ.
إن عظمة المصلح تتجلى في رعايته لهموم الأمة كبيرها وصغيرها، دينيها
ودنيويها، فهو يعيش للأمة يذب عن بيضتها ويحمى حماها، ولا يتعلق قلبه بشكر
الناس أو حمدهم، أو ترهب نفسه من غضبهم أو ظلمهم، يقولها صادقاً: [يا قوم
لا أسألكم عليه أجراْ إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون] [هود: 51] إنّ
المصلحين هم صانعو الحياة، وباعثو الأمل في الأمة هم حرسها وقادتها وحداتها
إلى كل خير، في زمن عزّ فيه الأحياء، وندر فيه الصادقون..!(83/111)
شعبان - 1415هـ
يناير - 1995م
(السنة: 9)(84/)
كلمة صغيرة
دفاع عجيب
قدم رئيس الرابطة المارونية في بيروت استدعاءات للمسؤولين مطالباً باتخاذ
الإجراءات القانونية الصارمة ضد ماذا؟ .
ضد صحيفة تعرضت بالتطاول برسم كاريكاتوري لـ (الكاردينال: صغير)
وهو مرجع ديني نصراني قائلاً: بأن ذلك يمس في العمق مشاعر النصارى بل
والمسلمين وكرامتهم.. هكذا قال.
قلت: كم مرة انتهكت حرمة علماء الإسلام ودعاته بالصوت والرسم والمقال،
كم مرة ادعي على علماء الإسلام بحبك المؤامرات ضد الدول ومحاولة إسقاطها وهم
لا يملكون سوى الكلمة والكلمة فقط.
كم مرة اعتقلوا وحوكموا محاكمات صورية ثم أعدموا؟!
مَنْ غار على علمائنا واستنكر ما يحاك ضدهم ليل نهار، إلى متى يغار أهل
الأديان الأخرى على علمائهم ومراجعهم، بينما جل وسائل الإعلام تشن حرباً
ضارية على العلماء والدعاة المسلمين بدعاوى ساذجة مكرورة.
ولا نقول سوى: حسبنا الله ونعم الوكيل..(84/1)
الافتتاحية
صناعة الإعلام الغربي
تطورت صناعة الإعلام في العقود الأخيرة تطوراً مذهلاً، فالخبر ينتقل من
أقصى المشرق إلى أقصى المغرب خلال دقائق معدودات، بل بدأت القنوات
الفضائية ووكالات الأنباء العالمية تتنافس في تغطية الأحداث على الهواء مباشرة،
حتى ظهر اصطلاح القرية الكونية تعبيراً عن سرعة وسهولة انتقال الخبر،
وصاحب ذلك تنافس وكالات الأنباء على الدقة في النقل والمصداقية في عرض
الأخبار، ممّا جعل كثيراً من الناس يتهافتون على تلقي الأخبار باطمئنان تام
وتصديق كامل، وبخاصة في دول جل العالم الإسلامي التي اعتاد الناس فيها على
الكذب الرسمي والتزوير المتعمد والتلفيق المكشوف، من إعلام استهلاكي لا يُجيد
إلا الإشادة والتطبيل لمنجزات الزعيم الملهم وإبداعاته المتجددة، حتى وإن لم تر إلا
الإنجازات الورقية..!!
ولكن هل الإعلام الغربي ووكالات الأنباء العالمية تلتزم الدقة وتحرص على
مصداقيتها حقاً..؟ !
وللإجابة على هذا السؤال لابد من إدراك الخلفيتين التاليتين:
الأولى: أنّ أكبر وكالات الأنباء والقنوات الفضائية تسيطر عليها الإدارة
اليهودية، التي لا تخفي ولاءها لإسرائيل والمنظمات الصهيونية
الثانية: أنّ هذه الوكالات وجل القنوات الفضائية مخترقة من وكالات
الاستخبارات الغربية، ومن ثم فهي تتحرك وفق استراتيجية استخبارية مدروسة.
وبناء على هاتين الخلفيتين العقدية والسياسية فإنّ النزاهة والدقة والحيادية
التي تزعم القنوات الإخبارية الحرص عليها تتلاشى تماماً حينما يكون التحقيق
الإخباري متعلقاً بالشعوب الإسلامية بعامة وبالصحوة الإسلامية بخاصة، وحينها
تنكشف الأقنعة، وتظهر الصورة الكالحة على وجه المعلق وتندفع الكلمات
الاستفزازية المتشنجة مسيطرة على تحليل المواقف السياسية فالشعوب الإسلامية لا
تستحق البقاء وليس لها حق العيش كريمة وليس لها الحق في خياراتها أسوة بغيرها
من الشعوب، والحركات الإسلامية حركات متزمتة ظلامية أصولية لا تحيا إلا بالدم
والتدمير والإرهاب، فيجب مقاومتها ووأدها وكبتها، وأما الأنظمة الدكتاتورية
القمعية فهي أنظمة وديعة مناضلة متحضرة محبة للسلام، حتى بدت نهاية هذا
القرن في نظر الرأي العام الغربي على أنها حقبة التهديد الإسلامي.. [1] ! !
وبعد سقوط الماركسية والدول التي دارت في فلكها سيطرت فكرة التهديد
الإسلامي على عقول الساسة والإعلاميين الغربيين، حتى أصبحت قاعدة رئيسة
تنطلق منها التعليقات الإخبارية والقرارات الدولية، لقد عقد الكونجرس الأمريكي
في 26 مايو 1994 ندوة بعنوان: الإسلام المنبعث من الشرق الأوسط شارك فيها:
السفير روبرت باللترو مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى،
والكاتب دانيل بابيس، والكاتب جون اسبزيتو [2] ، وقد قال الكاتب بابيس في هذه
الندوة:
إنّه لا يوجد أصولي يريد أن يعيش بهدوء، إن الأصوليين يصرون على
نقطتين: تطبيق الشريعة الإسلامية في كل البلاد الإسلامية، وتوسيع حكم المسلمين
. وكلا الهدفين يحتويان على كفاح عدواني متأصل، وهم قد يظهرون نوعاً من
المرونة، ولكنهم لا يتركون هذين الهدفين.. ثم يقترح على الحكومة الأمريكية
الاقتراحات التالية:
أولاً: دعم الحكومات والجماعات التي تحارب الأصولية.
ثانياً: على الغرب أن يضغط على الدول الأصولية، في السودان وإيران
وأفغانستان، حتى تخفف من عدوانيتها.
ثالثاً: دعم الأشخاص والمؤسسات التي تعارض الأصولية [3] .
ويفضح هذا الكلام عمق القلق الأمريكي بخاصة من تنامي الصحوة
الإسلامية..!
لقد أصبح الإعلام الغربي والأمريكي على الخصوص بإمكاناته المدهشة أداة
رئيسة في صنع وتشكيل الرأي العام المحلي والعالمي، ونجح الغرب في توظيفه
وجعله وسيلة لتعمية الشعوب الإسلامية، والاستحواذ على العقول والأبصار،
وصرفها عن الحقيقة وساعد على ذلك ما يلي:
* الفشل الإعلامي الذريع الذي تمارسه أكثر الدول المحسوبة على الإسلام
وقيامها بسياسات إعلامية معادية للإسلام، ورفعها لشعار تجفيف المنابع حيث
شوهت المنابع تبعاً لسياسات التطبيع والتغريب.
* إن الإعلام العربي في الغالب مستهلك لأسوأ ما أنتجه الإعلام الغربي على
كل الأصعدة من إذاعة وصحافة، وحتى ما يعرض للأطفال من (الصور المتحركة)
يصاغ صياغة تحاكي النمط الغربي بل هي نسخة مترجمة منه.
* إن الجهود الجديدة في الإعلام الخاص تجارية بحتة تعمل جهدها للهو
والتسلية ولإغراء المُشاهِد بالفاتنات والبرامج الساقطة وقل أن تجد فيها النافع المفيد.
كنا نود لو أن تلك الجهود قامت بشيء من واجبها لمواجهة الإعلام الأجنبي
ومحاولة ترشيد الفهم الخاطئ عن الإسلام وأهله، فقد آن لنا أن ندرك أنّ الإعلام
الغربي إعلام عنصري استعماري، وإنْ زعم الدقة والحيادية ومواقفه من أحداث
العالم الإسلامي: كالبوسنة وفلسطين والشيشان وكشمير وبورما والفلبين أكبر شاهد
على التشويش المقصود.
إن التأني والتثبت في تلقي الأخبار منهج أصيل دلّت عليه النصوص القرآنية، وتواترت فيه الأحاديث النبوية، قال الله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين]
[الحجرات: 6] فإذا كان التثبت من خبر الفاسق مأمور به شرعاً، فخبر الكافر
المظهر لعداوته من باب أولى.
__________
(1) تجربة الإسلام السياسي (ص11) تأليف أوليفيه روا دار الساقي، الطبعة الأولى 1994م.
(2) وهو مؤلف الكتاب الشهير التهديد الإسلامي خيال أم حقيقة The Islamic Treath Myth or Reality - J Esposito يعمل حالياً رئيساً لتحرير موسوعة إكسفورد للعالم الإسلامي الحديث، وهو مستشار في وزارة الخارجية الأمريكية.
(3) أنظر مجلة: Middle East Policy 1994م.(84/4)
في إشراقة آية
[ونبلوكم بالشر والخير فتنة]
د. عبد الكريم بكار
خلق الله جل وعلا الدنيا لتكون داراً للابتلاء والاختبتار، ومن ثم فإنه جعل
الإنسان يتقلب فيها بين المنشط والمكره، والرخاء والشدة، والخير والشر، ليرى
سبحانه كيف يصنع هؤلاء العباد، وكيف يطلبون مراضيه في جميع الأحوال،
[ونبلوكم بالشر والخير فتنة] [الأنبياء: من الآية35] .
ولعلنا نقبس من نور هذه الآية المباركة في الوقفات التالية:
1- الناظر في النُظُم العامة التي تحكم مسيرة الحياة يجد أن جوهر (الابتلاء)
يقوم على (التشتيت بين المتقابلات) حيث يؤدي عدم القيام بحق الحالة الراهنة أو ما
سماه القدماء بأدب الوقت إلى الإخفاق في الامتحان الذي يعني تحول الخير إلى شر
أو ارتفاع وتيرة الشر والتدهور، ولعلنا نميط اللثام عن هذا المعنى من خلال
نموذجين اثنين:
(أ) يسعى كل مجتمع إلى إيجاد أكبر قدر ممكن من التماثل بين أفراده بنية
المحافظة على قيمه وخصوصياته وزخمه الحركي، وهذا التماثل من الخير ولا
ريب لأن البديل عنه هو الشقاق والاحتراب الداخلي لكن التجربة الاجتماعية أثبتت
أن الحرص على التماثل التام بين أفراد المجتمع يؤدي إلى انقسامه على نفسه،
حيث يتشوف أعضاؤه ولاسيما الصفوة منهم إلى النفاذ إلى واقع المجتمع على نحوٍ
منفرد ومنعهم من ذلك يؤدي إلى التوتر الاجتماعي، ويجعل (التماهي) الظاهر
عبارة عن شكل فارغ من المضمون، فينتشر النفاق الاجتماعي والازدواجية في
السلوك، ومن ثم فإن المطلوب هو قدر من التنوع الاجتماعي واحترام
الخصوصيات في إطار النظم الكبرى للمجتمع وفي إطار أهدافه ومبادئه العامة.
(ب) حث الإسلام على صلة الرحم وأداء حقوق القرابة، ورتب في ذلك
أحكاماً وآداباً عديدة، والالتزام بها ورعايتها من الخير العظيم، لكن ذلك لابد أن
يوقف عند حدود رعاية مسائل أخرى لا تقل أهمية وحيوية من مثل احترام النظم
التي تتولى توزيع وترتيب الحقوق والواجبات في المجتمع، حيث لا يصح لعامل
القرابة أن يمس العدالة الاجتماعية أو يضغط عليها، الملحوظ أن ما تسمى بـ
(سيادة القانون) لم تأخذ أبعادها بشكل جيد في العصور الحديثة إلا حيث اضمحلت
العلاقات الأسرية والقرابية كما هو الشأن في المجتمعات الغربية أما في المجتمعات
الإسلامية حيث التواصل الأسري والعائلي أمتن وأفضل، فإن من الملحوظ أنه يتم
الكثير من التجاوز والتفلت من النظم العامة في سبيل إعطاء الأقرباء ما ليس لهم
من مكتسبات ظناً أن في ذلك صلة للرحم! لكن هذا يعني عدم النجاح في الابتلاء
والتشتت بين المتقابلات، إن إكرام الأقرباء لا ينبغي أن يتم على حساب الآخرين
ولا بخرق النظام العام، وإلا كان شراً وبلاءً.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن من أشد ما عاناه التمدن الإسلامي في تاريخنا الطويل
كان نقل العرب من مرحلة (القبيلة) إلى مرحلة (الدولة) حيث يتم الفصل شبه الكامل
بين العلاقات والحقوق الشخصية وغير الشخصية، ونجد إلى جانب هذا في سيرة
النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلوك أصحابه الكرام موازنة دقيقة في هذا الشأن،
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قال: يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي
ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئاً [1] وهو الذي قال:.... لو أن فاطمة
بنت محمد سرقت لقطعت يدها [2] .
2- النجاح في الابتلاء يقتضي نوعاً من اليقظة لجميع قوانا العقلية والروحية، حتى لا نقع في أسر اللحظة الحاضرة ونستسلم لخيرها وشرها رضائها وكربها،
وهذا يعني نوعاً من الاستعلاء على الواقع وعدم الركون إليه، والذوبان فيه، وذلك
إنما يقع عند الغفلة عن (نواة) الابتلاء الكامنة فيه، على نحو ما حدث من غفلة
الرماة يوم أحد عن نواة الابتلاء في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بالبقاء
في مواقعهم مهما كان اتجاه المعركة، فأدى ذلك إلى تحويل النصر الذي كان يلوح
في مستهل المعركة إلى هزيمة! لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع المسلمين
يستسلمون لمرارة الهزيمة، ويغرقون في التلاوم والندم، وإنما اندفع بهم إلى ساحة
ابتلاء جديد بأمره لهم بالتوجه إلى حمراء الأسد حيث تحولت مشاعر الفرّ والانكسار
إلى مشاعر المبادأة والمطاردة للعدو! [3] .
ولعل مما يعصم عن الغرق في الحالة الراهنة تعود الاستبصار وتقليب النظر
في الحالة الراهنة خيرها وشرها، ومحاولة فهم المنطقية والآلية التي أدت إلى
ولادتها وتجسدها، وإذا ما تم ذلك أمكن أن نسيطر على تلك الحالة، ونتصرف إلى
اتجاهات سيرها وتطورها، فإذا كان الابتلاء عبارة عن خير أي خير أصابه
المؤمن ثمرة لجهده وكفاحه وجب عليه أن يستمر في ذلك الجهد على نفس الوتيرة
التي كان عليها، وإذا كان قد أصابه من غير تعب كمن ورث مالاً وفْراً وجب عليه
أن يشكر الله على ذلك أولاً، وأن يقوم ثانياً ببحث الأسباب والعوامل التي تؤدي
إلى المحافظة عليه وتنميته وتزكيته، حتى لا يشعر يوماً ما أن النعمة التي هبطت
عليه لم يكن يستحقها! .
وإذا كان ما أصاب المؤمن من شر ومحنة بسبب أخطائه وخطاياه، فإن
النجاح في مواجهة ذلك الابتلاء لا يكون إلا بالخلاص مما اقترفت يداه، وبذلك
يستحق تغيير الله تعالى له كما قال سبحانه: [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم] [الرعد: 11] .
وإذا كان ما أصابه بسبب ما جناه غيره فإن عليه أن يصبر، ويحاول أن
يتجاوز ما هو فيه من بلاء بتحوله من (صالح) إلى (مصلح) لأن البلاء حين يعم
بسبب انتشار الفساد لا يتأهل للنجاة منه إلا الذين يسعون إلى تحجيمه وتطهير
المجتمع منه، كما قال سبحانه: [فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن
السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون] [الأعراف: 165] ،
ولابد للتوطئة لكل ذلك من سيادة روح المفاتحة والمكاشفة والنقد المنصف البناء
حتى لا تندغم الذات في الموضوع، ونصبح كمن كان يدفع العجلة إلى أن أصبح
يجري وراءها مستسلماً لقوة اندفاعها.
3- إن مبدأ (الزوجية) ملحوظ في الكثير الكثير من المخلوقات والموجودات،
وهذا المبدأ كما أنه سبب في تكاثر الكائن الحي ونمو النوع كذلك هو سبب في
تحول حالات الرخاء والشدة، ففي رحم كل رخاء (نواة) لمحنة، كما أن في أحشاء
كل شدة نواة لرخاء ومنحة وهذا واضح في قوله جل وعلا: [فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا] (الشرح: 5، 6) إن فهم هذه المسألة يقتضي منا أن نضع
الحالة الراهنة التي نعيشها في السياق التاريخي والسببي، حتى يتبين لنا أنها ليست
أكثر من حلقة في سلسلة غير متجانسة من النجود والوهاد والنجاحات والإخفاقات.
إن هذه الدنيا ليست هي الظرف المناسب لتموضع (الأحوال النهائية) في خير
أو شر، وإنما هناك دائماً خلف الباب محنة تنتظر إذا ما نحن أسأنا التصرف
بالإمكانات التي بين أيدينا، وفي المقابل فإن الشدائد والمحن تفجّر روح المقاومة
والإصرار والعناد، تلك الروح التي كثيراً ما تظل هاجعة خامدة إلى أن تأتيها
صدمة قوية توقظها من سباتها، وهكذا فالمطلوب دائماً أن نكون في الموقع الصحيح
لمواجهة الابتلاء.
إن طبيعة الابتلاء تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة، والإنسان
المبتلى يشبه في كثير من الأحيان الذي يسير على حبل مشدود فهو يطالب حتى لا
يقع بأن يستنفذ كل قواه العقلية والجسمية على نحو دقيق ومتوازن وإلا ...
4- تمتلك أمة الإسلام بحمد الله عدداً من المنظومات المعيارية والرمزية التي
تمكنها من اختراق الحالة التي تعايشها ومعرفة أوجه الابتلاء فيها، بل وتمكن
الصفوة الممتازة من أبنائها من معرفة نسب الخير والشر وحجم الإيجابيات
والسلبيات في الواقع المعاش، وهذه المعرفة تنظم أيضاً ردود أفعالنا على الطوارئ
والوافدات الجديدة رفضاً ومدافعة وتعديلاً وتهذيباً وقبولاً وترحيباً، وهذا يعني أن
كل ابتلاء جديد لا يدخل في حياة الأمة (الحية) إلا بعد أن يمر بمصفاة قيمها
ومبادئها و (عقيدتها الاجتماعية) [4] أيضاً، وكلما كان وقع الابتلاء الجديد حاداً
ومكشوفاً استطاع أن يستفز ردود أفعال الأمة عليه بصورة قوية وسريعة، فظاهرة
الردة الأولى كانت ابتلاء كبيراً جداً واجهته دولة الخلافة الوليدة في زمان أبي بكر
رضي الله عنه بالقوة والسرعة المكافئة، لكن الابتلاء (المتدرج) الذي حصل بعد
ذلك في صورة فرق وعقائد فاسدة وانحرافات سلوكية وفي صورة تجديد أطر الدولة
وفق اتساع أمة الإسلام لم يستوفز الطاقات الكامنة في الأمة، فلم تقم بواجبها تجاهه، ولعل هذا يدفعنا إلى القول: إن أخطر ما يغيب الإحساس بالابتلاء على مستوى
الفرد والجماعة معاً ليس الكوارث الكبرى ولا الجوائح العظيمة وإنما (التغيرات
البطيئة) التي تدخل من أضيق المسام، فتتكيف الأمة معها سلبياً على سبيل التدرج، وهذا ما حصل بالنسبة لأمة الإسلام وما حدث لدول عظمى في عصرنا الحديث،
فقد بدأت بريطانيا العظمى تتراجع عن مركزها العالمي، وبدأت الشيخوخة تدب في
أوصالها منذ أكثر من قرن لكن ذلك لم يظهر إلا في الحرب العالمية الثانية.
ومن الطريف أن بعض علماء (الأحياء) جاءوا بضفدع، ووضعوه في إناء
وأوقدوا تحته ناراً هادئة، فصارت درجة حرارة الماء ترتفع بمنتهى البطء، وكان
المأمول أن يقفز الضفدع عندما يحسّ بسخونة الماء لكن حدوث التسخين على نحو
بطيء أدى إلى أن يتحول (المحرّض) إلى (مخدّر) وكانت النتيجة أن الضفدع
انسلق دون أن يبدي أية مقاومة!
وهنا تبرز مهمة العلماء الربانيين العظام والمفكرين المبدعين الذين يمتلكون
حاسة (الاستشعار عن بعد) حيث يرون عواقب الأمور قبل فوات الآوان، ويقومون
بما تستحقه من مواجهة وعمل، وفي هذا يقول سفيان الثوري رحمه الله: الفتنة إذا
أدبرت عرفها كل الناس، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم.
وحتى ننجح في مواجهة الابتلاء (التغيرات البطيئة) فإن علينا أن نقوم بأمرين:
أ- الانشداد إلى الأصول والثوابت في المنشط والمكره والتأبي على انصهار
منهجيتنا وحاستنا النقدية في المعطيات الجديدة مع محاولة استيعاب تأثير المستجدات
على تلك الأصول ومحاولة إيجاد التكييفات والتوظيفات التي ترسخها، وتجعلها
تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ب- المتابعة الجادة والدقيقة لمجمل التغيرات التي تطرأ على حياتنا لا من ...
خلال الحدس والتخمين والملاحظة العامة، وإنما من خلال (الرقم) والأساليب الكمية، حتى نتعرف بدقة على سيرورة أحوالنا المختلفة والمآلات الصائرة إليها، وهذا لن يتم إلا من خلال إعادة تنظيم حياتنا ومؤسساتنا المختلفة على أسس جديدة بحيث تخصص كل جهة أو مؤسسة قسماً أو موظفاً يتولى جمع المعلومات الخاصة بها ونشرها حتى ينمو إحساس الناس ب (الكم) وطريقة قياسه، وليس من المستفز اليوم ذلك التلازم التام والمطلق بين درجة تحضر الدولة ودرجة تقدم الإحصاء فيها.
إن على المسلم أن يظل يكافح ويجاهد في سبيل التعرف على مراضي الله
تعالى في كل حالة من أحواله، ويستشرف بعد ذلك عاقبة المتقين.
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) أخرجه البخاري.
(3) انظر الرحيق المختوم: 318.
(4) العقيدة الاجتماعية عبارة عن جماع المبادئ والمصالح ومركز التوازن بينهما.(84/8)
دراسات تربوية قرآنية
[ولا تلبسوا الحق بالباطل..]
(2)
عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد..
في الحلقة الأولى تطرق الكاتب لبيان منطلق هذه الوقفات من قوله تعالى:
[ولا تلبسوا الحق بالباطل] وأهمية الموضوع وبيان معنى اللبس والتلبيس ويواصل
الكاتب المزيد من الإيضاح حول تلك القضية.
-البيان-
إن الانحراف عن الحق والوقوع في الخطأ لا تعدوا أسبابه الفتن التالية:
1- فتنة الشبهات.
2- فتنة الشهوات.
3- فتنة الجمع بين الشبهة والشهوة لبس الحق بالباطل وكل انحراف أو
ضلال أو خطأ سواء أكان صغيراً أو كبيراً لا يخرج في دوافعه عن الأسباب الثلاثة
السابقة:
فإذا وقع العبد في مخالفة شرعية، فإما أن يكون السبب في هذه المخالفة هو
الجهل بها وعدم العلم بحرمتها، أو اشتبه الأمر عليه فحسبها مكروهة فقط، فهذا
الخطأ سبب الشبهة الناتجة من قلة العلم وضعف البصيرة.
وأما إذا كان لدى من وقع في المخالفة علم وبصيرة في دين الله بأنها محرمة
ومخالفة للشرع ومع ذلك وقع فيها عمداً، فإن الدافع لهذه المخالفة إنما هو الشهوة،
وضعف النفس، ومثل هذا يقر ويعترف بمخالفته ومجانبته للصواب كما يعترف
بذنبه وتقصيره.
أما إذا وقع في المخالفة عن شهوة وضعف ثم لم يعترف بذنبه وتقصيره،
وإنما راح يبحث عن شبهة شرعية أو تفسير خاطئ أو تأويل متعسف للأدلة ليبرر
بها خطأه ويبرر بها ضعفه وشهوته مع علمه بخطأ تصرفه هذا في قرارة نفسه فهذا
هو الهوى وهذه هي المغالطة وهذا هو لبس الحق بالباطل، وهو أشنع أنواع
الانحراف لأنه مكر وتحايل على شرع الله وخداع للناس.
إن أشد وأشر هذه الفتن من جمع بين الشبهة والشهوة وتحايل على شرع الله
بأن غطى مخالفته وانحرافه بشبهة شرعية، وهو يعلم أنه متحايل ومخادع، ومثل
هؤلاء الملبسين عقوبتهم عند الله عز وجل أشد من الذين يقعون في المخالفات
الشرعية ولكنهم يعترفون بتقصيرهم وذنوبهم، ولا يكابرون، ولا يبررون ولهذا
حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من ارتكاب الحيل فقال ولا ترتكبوا ما
ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل [1] .
وهذه هي حقيقة لبس الحق بالباطل وحقيقة المغالطة، إذ أن الدافع الحقيقي
للانحراف هو الهوى والشهوة وحب الدنيا، ولكن عوضاً عن أن يعترف بضعفه
هذا وشهوته، ويعترف بذنوبه في مخالفته للشريعة فإنه يستدل لشهوته هذه بشبهة
شرعية يعلم هو في قرارة نفسه أنها لا تصلح للاستدلال، لكن لابد من غطاء يغطى
به هذا الضعف والهوى، وإذا ذهبنا لنتعرف على وسائل التلبيس والطرق التي
ينطلق منها الملبس في أغلوطاته نجدها لا تخرج في الغالب عن الأمور التالية:
1- التأويل الفاسد واتباع المتشابه.
2- كتمان الحق وإخفاؤه.
3- تحريف الأدلة عن مواضعها، وعدم إنزالها في مناطاتها، وتفصيل ذلك
فيما يلي:
1- التأويل واتباع المتشابه:
التأويل الفاسد الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر الذي هو
أشبه بتحريف الكلم، والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى وفي ذلك يقول
الإمام ابن القيم رحمه الله: فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يرده
الله رسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائها إلا
بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل
إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟ [2] .
وعند قول الله عز وجل في اليهود: [وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب
لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون] [ال عمران: 78] يقول سيد قطب رحمه
الله تعالى عن هذه الآية: وآفة رجال الدين حين يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة
لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا
الفريق من أهل الكتاب نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا فهم كانوا يؤولون نصوص
كتابهم، ويلوونها لياً، ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه
النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها، بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين
الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين
ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي
يُلجئون إليها النصوص إلجاء [3] .
2- كتمان الحق وإخفاؤه:
وهو تحريف الأدلة عن مواضعها وتغطية الحق بالباطل، وقد ورد في كتاب
الله عز وجل وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من النصوص المحذرة من كتمان
الحق وإخفائه والمتوعده لفاعليه بالوعيد الشديد من ذلك: قوله تعالى: [إن الذين
يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم
الله ويلعنهم اللاعنون] [البقرة: 159] وقوله: [إن الذين يكتمون ما أنزل الله من
الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله
يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم] [البقرة: 174] .
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيرها: هذه الآية جارية على الرؤساء الذين
يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث
يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم
في شرع مالم يأذن به الله وإظهارخلافه سواء أكان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود
أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام
التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك، كما قال تعالى: [تجعلونه
قراطيس تبدونها وتخفون كثيراْ] [الانعام: 91] وفي حكمهم كل من يبدي بعض
العلم، ويكتم بعضه لمنفعة لا لإظهار الحق وتأييده [4] .
وبقيت كلمة أخيرة في موضوع كتمان الحق، ألا وهي أن بعض الطيبين قد
يقول: ألا يجوز كتمان العلم بل قد يجب أحياناً عند خوف الفتنة من الجهر به سواء
أكان على النفس أو على الناس؟ والجواب أن في ذلك تفصيل كما يلي:
بادئ ذي بدء فإن حديثنا ليس عن كتمان العلم وإنما هو عن كتمان الحق الذي
يجب أن يقال، وفي نظري والله أعلم أن بينهما اختلاف، وذلك أن العلم أنواع فمنه
ما هو واجب القول به وتعليمه الناس كفروض العين ونحوها ومنه ما هو مستحب
ومنه ما يجوز قوله لأناس دون أناس حسب عقولهم وأفهاهم، أما قول الحق الواجب
فأرى أنه من العلم الواجب إيصاله للناس، ولا يجوز كتمه لأن في كتمه مفسدة
تنافي مقاصد الشرع أو بعضها، وفي إخفائه فتنة للناس وليس العكس، فإذا جاز
كتمان العلم أو وجب في ضوء قواعد الشريعة المعتبرة فإنا والحالة هذه نقول: إن
الحق في هذا هو كتمان العلم، وإن الجهر بالعلم مع معرفتنا بالمفسدة المترتبة عليه
هو الباطل والفتنة وهذا والله أعلم هو الذي عناه الشاطبي رحمه الله تعالى في
الموافقات حيث قال: ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره
وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو
مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أولا
يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت أو شخص، ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه
وإن كان حقاً فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعاً بثه، ومن
ذلك علم المتشابهات والكلام فيها، فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام
فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه [5] .
3- تحريف الأدلة عن مواضعها:
وهذه الطريقة من طرق التلبيس هي ثمرة من ثمرات الطريقتين السابقتين، إذ
لابد لمحرف الأدلة من كتمان الحق، ولابد لمتبع المتشابه من تأويل كلام الله
سبحانه وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- من التأويل الفاسد الذي يؤدي إلى
صرف الأدلة عن ما أراد الله بها وأراده رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن ثم
وضعها في غير موضعها، وهذا هو نوع من أنواع التحريف للأدلة عن مواضعها،
إذ لايلزم من التحريف أن يكون لفظياً كما فعلت اليهود في التوراة بل إن تحريف
المعنى المراد إلى غير المراد هو تحريف للنصوص عن مواضعها أيضاً وهذا ما
أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى: وهو يستعرض مآخذ أهل البدع في الاستدلال: ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك
المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن
مواضعه والعياذ بالله، ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام وبأنه يذم تحريف الكلم
عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً، إلا مع اشتباه يعرض له، أو جهل يصده عن
الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك السبب مبتدعاً وبيان ذلك
أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلاً فأتى به
المكلف في الجملة أيضاً، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما
يعلم من الشارع فيها التوسعة، كان الدليل عاضداً لعلمه من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به.
فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان
مخصوص أو مقارنٍ لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية
أو الزمان أو المكان مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه، كان الدليل بمعزل
عن ذلك المعنى المستدل عليه [6] .
__________
(1) تفسير بن كثير، طبعة الشعب ج3 ص492، وجود ابن كثير إسناد هذا احديث.
(2) إعلام الموقعين 4/353.
(3) في ظلال القرآن.
(4) تفسير المنار 2/101.
(5) الموافقات ج4 ص109.
(6) الاعتصام ج1 318.(84/15)
خواطر في الدعوة
أنماط التفكير
(2)
محمد العبدة
إن من هداية القرآن للمسلمين أن يصحح لهم طرق التفكير، ويسددهم إلى
الوسائل الصحيحة للفهم والتجديد، حتى لا يسيروا في مهامه ثم ينكصون، أو
يغزلون غَزْلاً ثم ينقضون.
وجّه القرآن الطاقات الفكرية للمسلم كي يتعلم ويبحث فيما يفيده في دنياه
وآخرته، فلا يعوقه عن حركته أو يأسره عن انطلاقته أحداث جرت ومضت، يقف
عندها لا يحور ولا يكور؛ ويستغرق فيها لتشغله عن واجبه في الحاضر وتطلعه
إلى المستقبل، ومن الطبيعي بل ربما يكون من الواجب الوقوف عندها لأخذ العبرة
والتعلم من دروسها، وشيء آخر لابد من ذكره وهو أن الكلام هنا ليس عن
الماضي الذي تركه لنا علماؤنا من عصر السلف وحتى يومنا هذا من علوم شتّى،
وخاصة ما تعلق منها بشرح وفهم نصوص الوحيين، فإن بعض الناس يتكلم بخبث
ومكر، ويدعو لترك الماضي من هذا الجانب، وترك الأصول والمنهج، أو تفسيره
حسب أهوائه، وإنما نتكلم عن أحداث معينة أو أشخاص معينين، والتركيز عليهم
دون الاشتغال بما ينفع في حاضر المسلمين.
عندما يقول قائل: ما بال علي ومعاوية رضي الله عنهما، نقول كما ذكر عن
بعض العلماء: تلك أحداث لم نشهدها، وقد مضت، ولا نخوض فيما شَجَرَ بين
الصحابة، والقرآن والسنة موجودان والحمد لله بين أيدينا، أما الوقوف عند هذا
الحدث لاستخلاص الدروس فهذا شيء طيب، وقد قال تعالى: [تلك أمة قد خلت
لها ما كسبت ولكم ما كسبتم] [البقرة: 123] .
وإذا جاء الآن من يقول: ما بال سيد قطب والمودودي ورشيد رضا وابن
باديس ... الخ، نقول: أولئك دعاة وعلماء قد مضوا إلى ربهم ونأخذ ما عندهم من
صواب وندع أخطاءهم.
وإذا قرأنا عن معارك العلماء السابقين مع بعض الفرق المنحرفة فهل نتقمص
شخصياتهم ونقوم بالدور نفسه؟ أم أن هناك تيارات خطيرة جداً لم تكن موجودة في
حياة أولئك العلماء ويجب مكافحتها مثل التيار العلماني الذي يكيد للإسلام كيداً تندك
منه الجبال.
جاء في تفسير قوله تعالى: [قال: فما بال القرون الأولى، قال: علمها
عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى] [طه: 51، 52] : قول موسى عليه
السلام: [علمها عند ربي] يحتمل أن يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا
يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء، لا البحث عن أحوال
الأموات الذي أفضوا إلى عالم الجزاء.. [1] .
إنني أخشى أن تكون عملية الاستغراق في الماضي هروباً من تبعات الحاضر، أو أن يكون التمسك ببعض الآراء والأشخاص نوعاً من الاحتمال والدفاع لأننا لم
نستطع الهجوم والاستفادة من الأحداث لصنع الحاضر، مع أن الواجب التكلم عن
كل الأخطار التي تحيط بالمسلمين، ومن الواجب إرجاعهم دائماً إلى نقاء التوحيد
وفهم واستنباط القرون المفضلة، واتخاذ هذا منهجاً وطريقاً لمعالجة مشكلات
المسلمين، والعيش معهم في واقعهم، ولو كان هذا يكلفنا أكثر، أو يضع على
عاتقنا مسؤوليات أكبر.
__________
(1) الشيخ الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 8/234.(84/22)
دراسات اقتصادية
السكان والتنمية
من المنظور الإسلامي
د. محمد بن عبد الله الشباني
في اليوم الخامس من شهر سبتمبر لعام 94م افتتح في القاهرة المؤتمر العالمي
للسكان والتنمية الذي قصد من عقده كما يدّعون معالجة النمو السكاني وكيفية
مواجهة الانفجار السكاني، لقد أثار هذا المؤتمر ردود فعل معارضة من قبل علماء
المسلمين لما طرح فيه من برامج لمعالجة مشكلة التزايد السكاني تصادم القيم
الإنسانية ومبادئ وأسس الاعتقاد بالله الرب المعبود.
إن الإطار الفكري الذي قام عليه المؤتمر، وما طرح فيه من أفكار ومناهج
ووسائل للحد من النمو السكاني، يقوم على الفلسفة الجدلية المادية التي من
مقتضياتها أن الإنسان مالك لتصرفاته بشكل مطلق، وأنه المتحكم في أموره كلها
وبالتالي فهو المسؤول عن توجيه الحياة على هذا الكوكب، وعليه أن يستخدم
قدراته وما أتاحه له التقدم العلمي من وسائل لمجابهة النمو السكاني من خلال فلسفة
العبثية القائمة على إنكار وجود الخالق جلا وعلا، وأن المادة هي المُوجدة لنفسها
ولغيرها من الظواهر المادية المشاهدة، وبالتالي فإن الإنسان بحكم ماديته قادر على
أن يتحكم في الحياة ضمن إطار ما أشار إليه القرآن الكريم من وصف هذه الفئة من
البشر الذين يعتبرون أن البعد الزمني للمادة هو المتحكم في مسيرة الحياة كما في
قوله تعالى: [وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما
لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون] [الجاثية: 24] .
أهداف المؤتمر:
تمثلت المجابهة الفكرية لمؤتمر السكان في إنكار توحيد الربوبية من خلال
العمل على تأكيد أن الطبيعة المادية للكون هي المالكة لمعطيات الحياة، وهي
محدودة وذاتية التأثير، وبحكم أن الإنسان جزء من هذه الطبيعة فعليه أن يسعى إلى
تأكيد دوره في السيطرة على المعطيات المادية، فالكون محدود الموارد وبالتالي فإن
محدودية موارده بحكم الطبيعة المادية الحاكمة لذاتها سوف يتغير ميزانها، ولا
تتمكن من توفير احتياجات الإنسان الذي تزايدت أعداده، فعلى الإنسان أن يتحكم
في تكاثره بتقليص نموه حتى تتلاءم الأعداد البشرية مع المعطيات المتاحة للأرض.
هذا المفهوم للعلاقة بين الموارد المتاحة للبشر على وجه الأرض وبين التكاثر
السكاني مفهوم قائم على جحود ربوبية الله بإنكار أن للكون خالقاً يدبر شؤونه.
إن البرنامج الموضوع لمجابهة التكاثر السكاني قائم على هذه الفلسفة فجميع
الوسائل العملية المطروحة في البيان الصادر عن المؤتمر تهدف إلى خفض تزايد
السكان من خلال الدعوة إلى الإكثار من مراكز تنظيم الحمل ونشر الثقافة الجنسية،
والمطالبة بنظامية الإجهاض، بدعوى حماية حقوق المرأة وتأخير سن الزواج مع
جواز ممارسة العلاقات الجنسية خارج الزواج ... كل هذه الوسائل المطروحة
والمقرة من قبل المؤتمر بدون اعطاء أهمية لتأثيرها على بناء الأسرة وعلى فشو
الانحلال الخلقي لأفراد الأمة، لأن القيم والأخلاق خارجة عن التفكير المادي العبثي
الذي من أجله عقد المؤتمر.
إن معارضة ما ورد من طروحات في المؤتمر العالمي الثالث للسكان لأسس
العقيدة الإسلامية يتمثل في إنكار ربوبية الله للعباد، وإنكار صفات الله المرتبطة
بتوحيد الربوبية، فالله يقول في كتابه: [والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم
جعلكم أزواجاْ وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص
من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير] [فاطر: 11] ، وقوله تعالى:
[وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم]
[العنكبوت: 60] ، وقوله: [يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون] [فاطر: 3] ، وقوله: [قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون] [الأنعام: 151] ، وقوله: [ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا] [الإسراء: 31] .
إن جميع هذه الآيات ترد على أولئك المؤتمرين الذي يريدون أن يبدلوا كلام
الله، كما أنها تكشف حقيقة الترابط بين القيم الأخلاقية ومحاربتها وبين عملية
الإنجاب والرد على دعوى الخوف من عدم كفاية الموارد، وأن الخوف من الجوع
نتيجة للإنجاب إنما يعود في أصله إلى إنكار ربوبية الله للخلق، وإلى ما قذفه
الشيطان في نفوس الجاحدين من كفر بخالق الكون والإنسان.
هذه منطلقاتهم:
لقد قام المؤتمر على فكرة نبذ القيم والنظم الاجتماعية القائمة على عقيدة
الإيمان المطلق بربوبية الله للخلق، وأنه لا يعزب عن قدرته وملكوته مثقال ذرة في
السموات ولا في الأرض، وأن اقتلاع هذه العقيدة من نفوس الناس أمر غير ممكن
لمجافاتها الفطرة، لهذا تفادى المؤتمر الإعلان عن أهدافه الفكرية بشكل صريح،
ولكنه انتهج أسلوب تحطيم الخلية التي تمثل الإطار الخاص لفطرة الإنسان القائمة
على الإيمان بالله، والمتمثلة في هدم البناء الأسري وما يلزم لهذا البناء من
سلوكيات أخلاقية تحقق تلاحمه وتماسكه، بجانب هذا الهدف فإن للمؤتمر غايات
مادية أخرى يرغب في تحقيقها لصالح دول الشمال التي تمتلك القدرة العلمية
والمادية، بخلاف دول الجنوب التي تمتلك مصادر المواد الخام حيث تأخذ دول
الشمال هذه المواد بأبخس الأثمان لتعيدها بعد التصنيع إلى دول الجنوب بأغلى
الأثمان، ومن أجل هذا الهدف تزعم دول الشمال التي هي أكثر غنى في العالم أن
مشكلة العالم الثالث أو مشكلة دول الجنوب في عدم النمو إنما تعود إلى القنبلة
الديمغرافية (السكانية) ومن أجل ذلك قدمت دراسات مضللة تزعم أن الأرض لن
تستطيع أن تُطعم سبعة بلايين من السكان حسب التوقعات لسنة 2010م، وأن الماء
سينضب من العالم، وأن كثرة السكان في دول الجنوب هي السبب في تلوث الهواء
وازدياد حرارة المناخ. [*]
التكاثر السكاني لا علاقة له بالمجاعات:
إن الحقائق الإحصائية تُكذب ما يزعمه الزاعمون، فقد ذكر برنامج الأمم
المتحدة للتنمية أنه في عام (91م) كان خُمس سكان الكرة الأرضية في الدول الغنية
يسيطرون على 7. 84% من موارد العالم الطبيعية، بينما سكان قارة إفريقيا
الأكثر فقراً لا يملكون سوى 4. 1% من هذه الموارد.
إن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في حماية تجارتها قد أجبرت أوروبا
على تعطيل 15% من أراضيها الصالحة للزراعة، كما أن أوروبا تكدس جبال من
اللحم والزبدة والحليب المجفف من خلال شرائها ومنع بيعها إلا بالأسعار التي
ترغب فيها، أما في الجانب الاستهلاكي فإن الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل
5% من سكان العالم تستهلك ربع الإنتاج العالمي من الطاقة.
إن المال المهدر في إنتاج أدوات الهلاك قادر لو وجه إلى تخصيب الصحارى، وبناء السدود، وحفر الآبار، وتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي على معالجة
مشكلة الفقر في العالم وتوفير المياه اللازمة لذلك فمثلاً: تكلفة حاملة طائرات مجهزة
بست وثمانين طائرة يبلغ 5. 1 بليون دولار أمريكي وهو مبلغ يكفي لتوفير شبكة
مضخات مائية تحركها حابسات مياه تعمل بواسطة الطاقة الشمسية لدولة كالهند، أما
بالنسبة لتلوث البيئة فإن واحد من سكان الولايات المتحدة يساهم في ازدياد حرارة
الأرض ستة أضعاف مواطن واحد في المكسيك و 190 ضعف مواطن في أندونيسيا
فزيادة السكان ليست السبب في تلويث البيئة.
وعلى ضوء هذه المعلومات يتضح أن دعوى التكاثر السكاني ليست هي العلة
في المجاعات ولا في انخفاض مستوى الدخول، وإنما المشكلة تكمن في سوء
استغلال الموارد، والفكر المادي الذي يوجه السياسات الاقتصادية والاجتماعية
للدول الغنية.
إن علاقة التنمية بالسكان علاقة تلازم، فالسكان هم مصدر القوى العاملة التي
تمثل أهم عنصر من عناصر الإنتاج، ولكن مؤتمر السكان أغفل أمر النمو النوعي
للإنسان (أي تنمية قدراته وإمكانياته) واهتم بالنمو الكمي للمنتجات بدون ضوابط
أخلاقية، فالنمو حسب المفهوم السائد في المجتمعات الغربية الرأسمالية هو العمل
على تزايد الإنتاج لأي شيء سواء أكان مفيداً أو غير مفيد، مضراً أو مميتاً، مثل
إنتاج الأسلحة والمخدرات كالكحول والسجائر، وغير ذلك من المنتجات التي لا
تنفع الإنسان.
دور الإنسان المسلم في التنمية:
الإسلام يعطي أهمية كبيرة للتنمية، كما أنه لا يهمل دور الإنسان في النمو
ضمن إطار مفهوم: أن الإنسان خُلق وأسكن على هذه الأرض ليشقى ويتعب
وينصب، وأن شقاء الإنسان المادي مرتبط بسلوكه الاعتقادي، لكن حقيقة وجود ما
يكفي البشر المخلوقين من الاحتياجات المادية التي تقوم عليها حياة الإنسان مكفولة،
فالله قد تكفل برزق جميع من على وجه الأرض وليس فقط الإنسان كما في قوله
تعالى: [وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها] [هود: 6] لكن النقص
في الأموال وعدم كفايتها في فترات زمنية معينة لا يرتبط بعدم كفاية ما خلق الله،
وإنما يعود ذلك إلى أمرين:
الأمر الأول: أن النقص ناتج عن عقاب للإنسان إما بسبب الكفر أو بقصد
الابتلاء والامتحان، يقول تعالى: [ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص
من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا
لله وإنا إليه راجعون] [البقرة: 155، 156] ، وقوله تعالى: [وضرب الله مثلا
قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله
لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون] [النحل: 112] .
الأمر الثاني: الابتعاد عن منهج الله سبب للشقاء المادي سواء أكان بعدم
الامتثال لما أمر الله به أو بعدم اتباع شرعه الذي شرعه في تنظيم حياة البشر يقول
تعالى: [ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون] [الأعراف: 96] .
يعترف الإسلام بالعلاقة التي تربط التنمية حسب المفهوم الاقتصادي وبين
السكان، فالتنمية هي عملية تفاعل مجموعة من القوى خلال فترة من الزمن ينتج
عن هذا التفاعل حدوث تغيرات جوهرية بقصد إحداث تغيرات معينة في الاقتصاد
القومي، ويقصد بتلك المتغيرات ما يحدث في عرض عوامل الإنتاج لذلك فالتنمية
هي عملية المساعدة في إيجاد التفاعل بين المصادر الإنتاجية والقوى العاملة للمجتمع
فتجعل منها طاقة محركة فاعلة ومتفاعلة.
إن مكونات التنمية والعوامل الفاعلة فيها تتمثل في حصيلة التفاعل بين
الإنسان والموارد الطبيعية واستخدام الزمن في استغلال عنصري الإنتاج (الإنسان
والموارد الطبيعية) ، فحصيلة التنمية تتمثل في الوصول إلى التفاعل بين عنصري
الإنتاج والزمن، وهذا التفاعل لا يتم إلا بوجود المحرك المتمثل في الفكر الفاعل.
إن علاقة التنمية بالسكان تتمثل في أن الإنسان يأخذ مركز الثقل، فإما أن
يدفع بحركة التغيير إلى الأفضل وإما أن يعيق ويعطل حركة التغيير، وإن حركة
التغيير للإنسان تمر من خلال عملية توجيهه من خلال الثقافة والعمل ورأس المال،
فما هو موقف الإسلام من هذا الجانب؟ ! .
هذا ما سيكون محور الحديث في الحلقة القادمة إن شاء الله.
__________
(*) هذه المعلومات مستقاة من مقالة للفيلسوف الفرنسي المسلم رجاء جارودي، وقد نشرت ضمن مقالة في جريدة الحياة بتاريخ 11 سبتمبر 94م تحت عنوان القنبلة الديمغرافية خدعة لترسيخ الاستغلال.(84/24)
قراءة في كتاب
يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة [*]
تأليف/ جيمس باترسون وبيتر كيم
ترجمة: د. محمد بن سعود البشر
عرض: د. مالك الأحمد
توطئة:
يقرأ الإنسان في حياته الكثير من الكتب، لكن يغلب على القراءات أنها
انتقائية بمعنى أنه يقرأ فصولاً وأجزاء من الكتاب مما يثير في نفسه الفضول
والشوق لمعرفة شيء ما، لكن قلما يقرأ الإنسان كتاباً من الجلدة إلى الجلدة كما
يقولون وهذا ينطبق على الكتاب الذي بين أيدينا والذي يتميز بتوفر كمٍ من
المعلومات ذات الطبيعة الميدانية، إذ إن محور الكتاب المجتمع الأمريكي الذي يعد
نموذجاً من المجتمعات الغربية بصفة عامة.
أهمية الكتاب:
يعتبر الكتاب من المراجع القليلة ذات الطبيعة الاجتماعية التحليلية للمجتمع
الأمريكي، وذلك بناءاً على دراسات علمية وإحصاءات ميدانية ومقابلات شخصية،
ولقد نال الكتاب رواجاً كبيراً في أمريكا لأنه كشف بشكل كاف عن واقع المجتمع
الأمريكي كما يراه أبناؤه وأوضح الكثير من القضايا غير الظاهرة، وحصل على
تقريظ الكثيرين من الكتّاب ودور النشر والصحافيين البارزين، وقد استقى المؤلفان
معلوماتهما من دراسات سابقة متعددة إضافة إلى استبانات كثيرة، ومقابلات
شخصية مع آلاف من الناس من طبقات وأجناس وأعمار مختلفة مما يعطي نتائجه
مصداقية معقولة وبخاصة وأن شخصيات الناس بقيت مجهولة كي تعطى الفرصة
للتحدث بصراحة كاملة، وقد قالت عنه مجلة (Busiess week) الأمريكية: إنه
بمثابة رحلة فكرية مزعجة في عقول الأمريكيين وقال عنه الأديب الأمريكي
المعروف (اليكس هيلي) : أنه يعرض الحقائق عن أنفسنا مما لم أشاهده في أي
دراسة أو في استطلاعات الرأي ولا حتى في الأحاديث الشخصية.
منهج المترجم:
سعى المترجم د. محمد البشر أستاذ الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود إلى
الترجمة الكاملة والأمينة لمحتويات الكتاب كاملة لكنه لدواع إسلامية اضطر إلى
الترجمة الانتقائية في بعض الأحايين خصوصاً عندما يستخدم المؤلفان ألفاظاً سوقية
أو عند الكلام على قضايا جنسية بطريقة تخدش الحياء فيعمد المترجم حينئذ إلى
الحذف اضطراراً أو الترجمة بالمعنى، وذلك دون الإخلال بالمعاني العامة المرادة
وبما لا ينقص من المادة العلمية للموضوع.
ولم يعلق المترجم على المادة، إلا في حالات نادرة لتوضيح مبهم أو شرح
اصطلاح، مما يضفي على الكتاب المترجم قيمة علمية.
محتوى الكتاب:
الكتاب مكون من مقدمة وتسعة فصول وخاتمة في حدود مئتي صفحة.
المقدمة: يبين المؤلفان فيها نظرة الأمريكيين إلى الأشياء التي تهمهم في
الحياة، إضافة إلى حقائق توصلا إليها من خلال الكتاب.
الفصل الأول: الأقاليم الأخلاقية في أمريكا حيث يرى المؤلفان أن هناك
تمايزاً أخلاقياً في أمريكا تبعاً للمواقع الجغرافية.
الفصل الثاني: السلطة الأخلاقية الحقيقية في أمريكا حيث يشير الكتاب إلى
عدم وجود مرجع أخلاقي ديني أو اجتماعي للناس.
الفصل الثالث: مأزق الأخلاق والقيم حيث يُفَصّل الكتاب الحديث في أخلاق
الناس وانحرافاتهم وأسبابها.
الفصل الرابع: الرجال والنساء في عقد التسعينات حيث يبين الكتاب مدى
الخصام بين الجنسين والصورة السلبية للجنسين حيال بعضهما، ونتائج ذلك على
الأسرة والأطفال.
الفصل الخامس: العنف في أمريكا ويبحث فيه المؤلفان العنف والسلام
والاغتصاب والانتحار والإيدز والجريمة باعتبارها قضايا مرتبطة ببعضها بشكل أو
بآخر.
الفصل السادس: العمل: يتحدث الكتاب عن العمل والإخلاص فيه والعلاقات
بين أفراده وعن أخلاقيات العمل.
الفصل السابع: الحياة الاجتماعية: حيث يقارن المؤلفان بين أفقر حي في
نيويورك وأغنى حي في لوس أنجلوس، ثم يعرجان على غياب مفهوم القرية
الواحدة ثم أرقام الجريمة الحقيقية ويعرجان على الفقر والعنصرية والإدمان
باعتبارها ظواهر اجتماعية عامة.
الفصل الثامن: الله، والسلطة الأخرى: يبين الكتاب من الذين يؤمنون بالله
وهل هو مصدر التعاليم ومن هم قادة أمريكا الحقيقيون.
الفصل التاسع: أمريكا والعالم: يبين موقع أمريكا من العالم في نظر أبنائها،
ومستقبل الصراع الاقتصادي والحضاري.
الخاتمة: أربعة وخمسون حقيقة توصل إليها المؤلفان من مجمل ما توصلا
إليه في دراستهما هذه.
ماذا نستفيد من الكتاب:
لا شك أن الكتاب مكتوب للشعب الأمريكي ولذا فطريقة البحث ونتائجه تهم
ذلك الشعب، لكن بالنسبة للمسلمين فإن دراسة واقع المجتمعات الغربية التي لها
علاقات متشابكة مع العالم الإسلامي لها أهمية بالغة من عدة جوانب لعل أبرزها
ظاهرة تأثر الضعيف بالقوي، وظاهرة التقليد عموماً إضافة إلى استشراف مستقبل
هذه الأمم وتوقعات زمن الأفول لهذه الحضارات، مما يشجع ويدفع المسلمين
وبخاصة المقيمين في الغرب إلى الاستفادة من هذا الواقع المتردي لعرض الدين
الإسلامي عليهم كي ينجوا من واقعهم الحالي بعد التفكير في مآلهم ومصيرهم.
نتائج الكتاب:
لعلي أشير إلى ما لخصه المؤلفان وما استطعت تلخيصه من خلال استعراض
الكتاب فيما يلي:
* النساء أفضل خلقاً من الرجال مما يؤهلهن لتسلم مهمات قيادية في مجتمعهن.
* تفتقر أمريكا للقيادة الأخلاقية، أما قادتها الحاليون فهم مصدر الإخفاق في
كل المجالات.
* الشباب الأمريكي هم أكبر مآسي المجتمع.
* ما يصل إلى 60% من مجموع السكان هم ضحايا الجرائم.
* فقدت نسبة كبيرة من الأطفال معاني الطفولة، وأصبحوا ضحايا ظواهر
سلبية جديدة، ومنها على سبيل المثال الاغتصاب، حيث إن نسبة كبيرة من
الصغيرات (تحت ثلاثة عشرة سنة) تعرضن للاغتصاب، وبشكل عام فإن واحداً
من سبعة أطفال تعرض لاعتداء جنسي.
* الانحراف الخلقي والتحلل من القيم هي المشكلة الأولى في البلاد.
* الزواج لم يعد حصانة للمجتمع فالمشكلات الأسرية متفاقمة لدرجة أن ثلث
الأزواج يخونون بعضهم بعضاً.
* غياب الأمن الاجتماعي من ظواهر السنوات الأخيرة، وانتشار الفردية في
كافة نواحي الحياة.
* 20% من النساء تعرضن للاغتصاب وفي أكثر الأحيان يكون ذلك من
أصدقاء ومعارف.
* السلطة الأخلاقية في المجتمع مصدرها الإنسان نفسه والتبرير لذلك السلوك
المنحرف يكون عادة ببساطة غيري يفعله.
* ثلثا الناس يعتقدون أن الكذب لا حرج فيه رغم شعور الكثيرين بالخزي
تجاهه وتجاه السلوكيات الأخرى المنحرفة.
* أكثر من 50% من الناس لا ترى مبرراً للزواج وبالنسبة لأكثر المتزوجات
فإن الإحصان الجنسي وإنجاب الأولاد ليسا السبب الرئيس للزواج، وما يدعى أنه
أكبر مبررات الزواج (الحب) هو من أكبر أسباب الطلاق فيما بعد.
* العلاقات الزوجية ليست جيدة في العموم، وطبيعة الحياة ونظرة الزوجين
لبعضهم بعضاً من أهم أسبابها.
* العنف من أبرز أمراض المجتمع الأمريكي ومعدلاته تفوق جميع البلدان
الأخرى بمراحل، وهو لا يقتصر على فئات معينة. ولوسائل الإعلام دور رئيس
في انتشار العنف، إضافة إلى واقع الحياة وظروف النشأة.
* 14% من سكان أمريكا يحملون سلاحاً، والحصول على السلاح رغم
القيود الإضافية متيسر خصوصاً لمن يدفع نقداً.
* الانتحار مستفحل في أمريكا والرقم الرسمي (30.000) ، لا يقل الرقم
الحقيقي عدداً عن آلاف من محاولات الانتحار الفاشلة فضلاً عن الأعداد الضخمة
التي تفكر في الانتحار وهذه الظاهرة تكثر في أوساط الرجال والشاذين والشباب.
* 2.2 مليون أمريكي مصاب بالإيدز، وسبعة ملايين يعتقدون باحتمال
إصابتهم به.
* هناك رغبة عامة في تدريس المبادئ والقيم الاخلاقية في المجتمع الأمريكي.
* الفساد والرذيلة والمخدرات أكثر انتشاراً في الأوساط الغنية منه في
الأوساط الفقيرة.
* نسبة 90% من الأمريكيين يؤمنون بالإله، لكن الالتزام بأوامره ضعيف
للغاية.
* اليابان تمثل تحدياً اقتصادياً كبيراً لأمريكا حالياً، ويعتقد أكثر الأمريكان
بأفول أمريكا في القرن القادم لصالح اليابان.
* عضو الكونجرس الأمريكي لا يختلف أخلاقياً عن قادة الجريمة وتجار
المخدرات.
* المال هو العامل الرئيس لدى الأمريكي كي يكذب أو يغش أو يسرق أو
يقتل.
* 20% من الأمريكان يتعاطون المخدرات بشكل أو بآخر.
* الجشع والأنانية من الصفات البارزة للمجتمع الأمريكي الحالي.
هذه الخصائص آنفة الذكر تمثل صورة قريبة جداً من الواقع لأنها نتاج
مقابلات شخصية مع آلاف من الناس، وفي الحقيقة ليست هي المقياس الوحيد لكنها
إضافة إلى ما ينشر من أخبار ودراسات وتحليلات للواقع الاجتماعي الحالي لأمريكا
تمثل صورة واقعية يمكن من خلالها رسم صورة معقولة والوصول إلى نتائج مقبولة.
هذا واقع الشعب الذي ما يزال نفر من بني أمتنا يرى فيه (نموذجاً) ويدعون
بكل صفاقة لتقليده واحتذاء أساليبه الحياتية وهو يعيش في جاهلية وانحراف وسقوط، لكن أولئك المقلدة علموا أو جهلوا إنما يدعون لهوان أمتهم وانحرافها، وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وياليتهم يدعوننا إلى تقليدهم في العلوم والتقنية
والأبحاث ولكن المشكلة أنهم يريدون السير وراء ذلك الشعب بحضارته وثقافته كما
قال كبيرهم الذي علمهم السحر لنأخذ الحضارة حلوها ومرها، خيرها وشرها.
وحينها نعلم إلى أي مدى يريد أولئك بأمتنا من شرور وفتن، وفاقد الشيء لا
يعطيه..
__________
(*) صدر الكتاب عام 1414 هـ/1994 م بعد ترجمته للعربية ويعتبر في طبعته الأصلية أحد الكتب التي احتلت الصدارة في قائمة المبيعات في أمريكا.(84/31)
المسلمون والعالم
نوبل الباردة.. ولغة الحيوان
عبد الله عمر سلطان
كان منظر الثلاثة وهم يقفون على منصة الاحتفال يبعث في النفس الشعور
بالتقزز وتتداعى معه مصطلحات راجت في الفترة الأخيرة في مقدمتها: العصر
الإسرائيلي، المعايير المزدوجة، النفاق الرخيص. أكثرهم تصنعاً وقلقاً، كان
أولهم في استلام جائزته من الراعي للحفل، فعندما تقدم عرفات لاستلام جائزة نوبل
للسلام ظهرت مواهبه المعروفة، كما ظهر بشكل قاطع أن سيل الأحداث وضغط
الواقع القائم قد خفف من قدرته على إخفاء إحباطه وفشله رغم الضحكة الصفراء
والسرور المصطنع الذي غطى معالم وجهه أما بيريز فعندما تقدم إلى استلام جائزته
وإلقاء كلمته كان يحاضر بعقلية الإستراتيجي الذي خطط أسلافه قبل أكثر من نصف
قرن بعض تفاصيل حاصل ما يجري اليوم من أحداث، وبعقلية المستشرف لمستقبل
المنطقة وتفاصيل المشروع الصهيوني القائم من خلال الدراسات العلمية، أما رابين
فكان أكثرهم استكباراً وتضايقاً من حشره في مقعد مجاور لعرفات، هذه الشخصية
التي طالما احتقرها بالأمس ومارس معها منذ اتفاق أوسلو عملية تحطيم شخصية
وسياسية بشكل مهين.
مر الاحتفال بارداً، برودة الاتفاق الذي أفضى إلى نيل الثلاثة هذه الجائزة،
كما عكس بشكل قاطع أن الاتفاق رغم المناورات والمحادثات السياسية الأسبوعية
بين حكومة رابين وسلطة عرفات يعيش في غرفة الإنعاش ويرفض مغادرتها.
قال صحفي نرويجي غطى الاحتفال قائلا: من كان يصدق أن يقف عرفات
في منصة التتويج لولا هذا الانقلاب الهائل الذي جعله يتحدث إلى ضيوف الحفل
كما يتحدث رئيس جمعية حماية حقوق حيوانات في بلد أوربي؟ ! ، ورغم كل هذه
العبارات المليئة بالحديث عن الإنسانية والسلام والبيئة والتحضر فإن عرفات كان
غير صادق وكان جمهوره يعرف ذلك لكنه اضطر إلى مجاملته إلى النهاية طالما أن
الزعيم الفلسطيني قد أدرك ولو في سن الشيخوخة أن عليه أن يتصرف وفق الفكر
الإنساني الديموقراطي وأن اللغة الوحيدة التي سمحت له أن يقف في هذا المحفل
هي لغة المتحضرين..! .
لغة المتحضرين ... ؟
ما لغة المتحضرين؟ هل هي اكتشاف نجهله أم همهمات بالغة الصعوبة أم
وصفة دوائية علينا أن نتناولها بانتظام؟ ربما كانت جواز سفر سحري يسمح
للكهول أن يدركوا سفههم ولأصحاب القضايا الخاسرة أن يعوضوا شيئاً مما فُقد. لغة
المتحضرين.. ما هي يا ترى هذه اللغة؟
والجواب أن جائزة نوبل هي في الحقيقة عبارة موحية وهامة في هذه اللغة
التي أحس الكاتب النرويجي في استخدامه لهذا المصطلح الذي يختصرحالة الحصار
الغربي للمنطقة، لإشكالية الهوية الإسلامية والتعامل معها بالتحديد، والإطار
الغربي للتعامل مع الآخرين ... وفي مقدمة الركب بالطبع المسلمون!
هذه الإشكالية عبر عنها بكل صراحة المستشرق الفرنسي فرانسوا بورجا
بقوله الحضارة الغربية المعاصرة وفي نشوة قوتها الحالية لا تسمح بوجود ثقافات أو
حضارات أو لغات أخرى وهذا السلوك المعاصر يتكئ على مخزون تاريخي يمتد
إلى وقت بداية: الاستعمار الأوربي للعالم حيث كان مبدأ الغربيين (الصليبيين) منذ
البداية إلغاء الثقافات والأجناس الأخرى حتى ولو كان ذلك بأسلوب التطهير العرقي
الذي يمارسه الصرب الأوربيون اليوم على مرأى ومسمع من العالم.
وليم فان الكاتب في الـ لوس أنجلوس تايم يقيم الوضع من زاوية أخرى
بقوله: إن العالم الغربي يجب أن يعترف بوجود مشكلة له مع العالم الإسلامي وهي
أن هذه الشعوب ترفض أن تتخلى عن الفكرة القائلة بأن الدين ينظم كافة مناحي
الحياة، ويرفض بشكل قاطع أن ما لقيصر لقيصر وأن ما لله لله، وهذا ما أدركته
الشعوب المسيحية (المتحضرة) حتى في أوج حماسها الديني، ويكفي أن نذكّر بأن
شارلمان الذي قُلد منصب الإمبراطور المقدس لأوربا عام 800م من قبل بابا روما
قد سلك هذا المسلك، لقد توج شارلمان من قبل البابا لكنه لم يكن تحت سلطته،
وهذا ما أتاح أن يكون شارلمان رأس الدولة ومُصّرف أمور الدولة، بينما كان البابا
راعي الآخرة وزعيم الكنيسة. هذا الانفصام لم يحصل في تاريخ الإسلام، وظل
المفكرون المسلمون عبر العصور يرون الدين والدولة وحدة واحدة مما أسقط فكرة
الدولة المدنية (العلمانية) من تاريخ المسلمين حتى بداية هذا القرن.
إنها مشكلة حاول الصليبي المستعمر منذ قرون أن يجد لها حلاً ومرت تجربته
خلال هذا القرن بمراحل ومشاهد وتجارب متعددة.
خبرة قرن:
في بداية هذا القرن، وفي ظل الاستعمار الغربي المباشر وتخلف المسلمين
على كافة الأصعدة، كانت الدعوة العلمانية الصريحة واضحة وقوية ومنتشرة
مستفيدة من وجود الاستعمار الذي هو تفوق الآخر الأوربي على المسلم المتخلف
حينما قيل: أن ليس أمام المسلم من طريق للوقوف سوى الاستناد إلى التجربة
الأوربية العلمانية التي فصلت بين الدين والدولة بشكل قاطع، ويمكن القول: إن
دعاة التغريب والعلمنة كانوا هم المتمتعين بوضع هجومي وبخاصة أن الغرب
المستعمر قد رأى في هذه النخب بروز أول ظاهرة علمانية في تاريخ المسلمين
وظهور أول جيل يطالب بتنحية الشريعة عن مظاهر الحياة.
لكن فشل الظاهرة الليبرالية في إيصال رسالتها وتعميقها شعبياً مع ظهور بداية
حركات إسلامية مناهضة إضافة إلى تفاقم الغضب الشعبي من الاستعمار وممارساته
قد أدى إلى انحسار الفكر الليبرالي لاسيما المتطرف منه وانحصار هذه الظاهرة
بالأحزاب التي تبنت جزئياً مناهضة المستعمر واستقلال بلدان العالم الإسلامي من
نير احتلاله.
وأما المرحلة التالية فقد تزامنت مع انهيار القوى الاستعمارية الأوربية
التقليدية وظهور القوتين المنتصرتين أمريكا والاتحاد السوفياتي واشتعال الحرب
الباردة في مناطق النفوذ لاسيما رقعة العالم الإسلامي، وقد شهدت هذه الفترة تراجعاً
جديداً للأحزاب والشخصيات والرموز المرتبطة بالليبرالية الغربية يقابله صعود المد
اليساري الذي رأى من خلال تبني الماركسية والاشتراكية والقومية سبيلاً للخلاص
من الامتداد الاستعماري الأوروبي المتمثل في الولايات المتحدة، لاسيما مع بروز
دولة الكيان الصهيوني ووقوف الغرب بانحياز تام نحو مشروع إضعاف واستنزاف
العالم العربي من خلال قاعدة استعمارية تمثل أسلوباً جديداً من أشكال الاحتلال
المرتكز على أسس دينية وعقدية تكرس الهيمنة الاقتصادية والسياسية التي كانت
ولا تزال سائدة.
وتمثل المرحلة الثالثة والتي بدأت بانهيار جدار برلين واندحار الشيوعية
الحالة الراهنة لإطار المواجهة مع العالم الإسلامي وإن كانت هذه الحقبة قد تميزت
بارتفاع موجة الليبرالية العلمانية من جديد. وهذه الموجة قد ظهرت في ظل بروز
معطيات جديدة منها:
* تصاعد موجة الصحوة الدينية في العالم بشكل عام وفي العالمين الإسلامي
والغربي بشكل خاص ومع بروز هذه الظاهرة استطاع الغرب أن يستوعب هذا
التيار ضمن بوتقة القوى الفاعلة فيه بينما حوربت هذه الظاهرة بلا هوادة من قبل
النخب السياسية والثقافية في العالم الإسلامي.
* انهيار الخطر الشيوعي وتقديم الخطر الإسلامي عدواً أوحداً للحضارة
الغربية وإبراز النظريات الداعمة لتضخيم الإسلام عدواً ومصارعاً للحضارات.
* بروز قوى اقتصادية جديدة في العالم تشكل نواة حضارية مرتبطة بالغرب
في إطارها العام لا سيما في اليابان وجنوب شرق آسيا مع محدودية التجربة الفكرية
التي تقدمها تلك الشعوب للعالم عموماً وللغرب خصوصاً.
*اتساع شبكة الاتصالات ووسائلها بصورة مذهلة مما نقل المعركة الحضارية
إلى أرجاء المعمورة بصورة فاعلة وفورية وإمساك الغرب بوسائل وأدوات الثورة
الاتصالية والإعلامية الحالية وإدارة المعركة من خلالها بثقة وذكاء.
*بروز العامل الاقتصادي الاستعماري في صورة الشركات المتعددة الجنسية
وتطويع الموارد الرخيصة في العالم لخدمة الاستعمار الجديد ورموزه الحالية وهيئته
الجديدة.
*كل هذه العوامل تجعل الغرب وحضارته الصليبية المعاصرة في وضع
يسمح له بأن يضرب بالمبادئ والمثل بل وبالمنطق والعقل عرض الحائط في سبيل
تكريس لغته الحضارية التي يتحدث بها باستعلاء تجاه الآخر لا سيما إذا كان الآخر
هو العالم الإسلامي ويتحدث بلا حياء عنها وكأنها الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه رغم أنه أي الغرب يعرف حقاً كذب وبهتان هذه اللغة.
أحداث متفرقة.. وخيط رفيع:
دعونا نلقي نظرة إلى بعض أحداث الأسابيع الماضية، ثم ننظر إلى المحصلة
النهائية لهذه الأحداث ... ففي البوسنة مارس الصرب ولازالوا أبشع أنواع الجرائم
الإنسانية، ووقف الغرب المتمدن ينظر إلى جنود بطرس غالي وهم يؤخذون أسرى، ومدرعات الأمم المتحدة تؤخذ عنوة دون أن يكون هناك رد فعل ولو نفاقاً لإسكات
أفواه المدافع الأرثوذكسية ... والسبب أن الصرب في امتدادهم الديني والحضاري
يتكلمون (اللغة المتحضرة) ... لغة عبادة القوة التي يمارسها الغرب في حق
الضعفاء من أمثال البوسنيين..
أما في الشيشان فهناك دولة تنتهك حدودها يرمي شعبها الأعزل أجساده النحيلة
وعظامه الهشة لتشكّل في وجه الدبابات الروسية الصليبية المتغطرسة سداً. بينما
يقف وزراء خارجية الدول الغربية موقف غير المبالي من الحدث وكأنه يشهد جولة
من جولات المصارعة الحرة بين أسد وقط.
أما إذا كنا قد بدأنا بجائزة نوبل فلنا أن ننتهي بجائزة كورت توخولسكي التي
أعطيت للمرتدة تسليمه نسرين من قِبل نادي القلم السويدي وقامت مارجريت أون
جلاس وزيرة الثقافة السويدية بتسليم الجائزة لهذه المرتدة عرفاناً من مثقفي الغرب
بإنجازات هذه الكاتبة المتحضرة التي وقفت ضد الإسلام والأصولية الهمجية! ثم ما
هي إلا أسابيع وتزور المذكورة باريس عاصمة الظلام الفكري والحقد الذي ليس له
حد في حراسة 1200 جندي لتعلن هناك وبصراحة أنها ملحدة ولا تؤمن بالإسلام
جملة وتفصيلا. فيصفق لها الغرب المتحضر ويكتب وليم فان في 13 ديسمبر
1994 قائلاً إن قضية تسليمه نسرين يجب أن تلقي بالضوء على التحدي الذي
يواجه المثقفين في العالم الإسلامي وهم يسعون إلى تكريس مبدأ حرية المعتقد
ونقاش الحريات بشكل واضح، وليست تسليمه وحدها تعاني من التعصب، فهناك
أمثلة أخرى: كسلمان رشدي والكتاب الجزائرين المرتبطين بالمدرسة الفرنسية،
كل هؤلاء ظواهر قوية تحظى باحترام غربي ومن المؤمنين بالحرية والديموقراطية
في العالم، وعلى الغرب أن يعمل ما في وسعه لبقاء مثل هذه الأصوات داخل العالم
الإسلامي بدلاً من هروب هؤلاء عن الساحة ولجوئهم إلى الغرب ... إن من السهل
أن يرفض المثقف الإسلامي ويرحل ... ! ! لكن الأهم أن يبقي هؤلاء داخل
المجتمعات الإسلامية حتى تصل هذه المجتمعات إلى مرحلة القبول بمصطلحات
العالم المتطور ... إنه دور ضخم ومطلوب، لكنه في هذه الأيام دور محفوف
بالمخاطر ...
هكذا يلخص الكاتب القضية بكل صراحة ووقاحة ... الجوائز تنتظر أولئك
الذين يفتحون الجبهات الساخنة في المجتمعات المسلمة، وجائزة ك نوبل سترتبط
في الذاكرة العربية المسلمة بكل ما من شأنه اغتصاب الحقوق وإهدار قيم ومبادئ
هذه المجتمعات الملاحقة، ترتبط باتفاق الشؤم في كامب ديفيد أو بتوقيع إتفاق بيع
الحقوق والمقدسات كماحدث في أوسلو، وهذا بالضبط ما جعل الجمهور المحاصر
من التلال الشيشانية إلى الأصقاع البوسنية يعي أن الحرب على الإسلام ثمنها
القبول في مجتمع التحضر الصليبي ولو كانت عضوية من الدرجة الثانية والمكافأة
على الدور المطلوب حتى ولو كان سمجاً وفجاً ومحمياً من قبل ألف ومائتي جندي! !
المرحلة الحاضرة مثقلة بتناقضات شتى، أبرزها: لغة الغرب المتباكي على
حقوق الحيوانات والرافض لبشر حملوا حضارة العالم قروناً وحقهم في أن يقرروا
ما يريدون، وأن يعيشوا ضمن مبادئهم التي تشع مع كل ضربة موجهة إليهم ومع
كل حصار يَحشده الغرب يحاول من ورائه أن يستأصل هذه الأمة كما استأصل
الهنود الحمر وكمحاصرته سكان الغابات الاسترالية. والشعوب المسلمة تؤكد مع
كل موجة صليبية جديدة أن فيها عروقاً تنتفض وتزيد حيوية كلما رأت خائناً يجرح
كرامتها بأقدامه التي تدوس على البسط الحمراء في طريقه إلى نيل أعطية يحاول
من خلالها أن يثبت أنه مهتم بقضية الحفاظ على حقوق الحيتان الزرقاء في العيش
بحرية في المحيط الهادي بينما الأحرار الأبرار يعيشون حصاراً أشبه ما يكون بـ
(حصار الشعب) المكي الشهير.(84/39)
المسلمون والعالم
في الشيشان هل يعيد التاريخ نفسه؟
عرض ومتابعة للعلاقات الروسية الشيشانية
أحمد العويمر
تمهيد:
تقع بلاد الشيشان في السفوح الشمالية لجبال القوقاز، وتتدفق إليها المياه من
الجبال مشكلة أنهاراً كبيرة ترفد نهر ترك الذي يعد أهم أنهارها؛ ولذا اشتهرت
بخصوبة أراضيها وكثرة غاباتها الكثيفة، وقد سكن الشيشان هذه الأرض على
ضفاف الأنهار وكان للغابات أثرها في حمايتهم من الأعداء، يقول (جون ماديلي) :
مادامت الغابات موجودة لم يكن من سبيل لقهرهم، ولم يؤثر الروس في مقاومتهم
إلا بعد قطع أشجار الغابات حتى قال: إنه يمكن القول بلا مبالغة إن الذي هزم
الشيشان لم يكن السيف بل البلطة.
وتشتهر الشيشان بثرواتها البترولية والمعدنية بالقرب من عاصمتها
(جروزني) ومساحتها تبلغ (000ر19كم2) وسكانها (500ر1) مليون نسمة ويشكل
المسلمون فيها نسبة 74% وبسبب الاستعمار الروسي أصبح المسلمون في العاصمة
أقلية؟ .
مقاومة الاستعمار الروسي:
بدأ احتكاك الروس بشعب الشيشان المسلم عام 1722م، عندما قام (بطرس
الأكبر) بغزو القفقاس بجيش جرار يقوده بنفسه، فتعرض لهجوم شيشاني أنزل
بجيشه ضربة قوية، نزلت عليه نزول الصاعقة، مما جعله يغير خططه العسكرية
للغزو، فكانت خطته الجديدة أن يترك هؤلاء ولا يحل بهم إلى أن يتم إحكام
الحصار عليهم من كافة الجهات، ووجه جيوشه لنواحي القفقاس الأخرى وبخاصة
الأراضي المنبسطة، وفي سفوح الجبال العارية من الغابات ولم يكن الأمر هيناً أو
نزهة كما توهم ولم يدر بخلده أنه سيذهب إلى الجحيم، وأن أحد عشر قيصراً بعده
سيواجهون حرباً ضروساً من عام 1722 إلى عام 1917م حيث اضطر خَلَفُهُ
الحادي عشر (نقولا الثاني) إلى التنازل عن العرش في 5/3/1917م منهياً حكم
الروس البيض وجرائمهم ومظالمهم.
تقول المؤرخة الأمريكية (لزلي بلانتي) في كتابها سيوف الجنة إن خسائر
القوات القيصرية في حرب القوقاز الأولى بلغت نصف مليون جندي وضابط سقط
معظمهم في قتال الشيشان والداغستان الذين اتحدوا معاً لمقاومة الروس المستعمرين
لمدة 40 سنة، وفي معركة دارغو وحدها لم ينج من 30 ألف جندي روسي سوى
خمسة آلاف بعد وصول نجدة كبيرة لهم وفي مقاومة الشيشان على يد الشيخ منصور
والشيخ شامل والإمام غازي محمد صفحات جليلة من ملاحم الجهاد يعتز بها كل
مسلم وهي جديرة بالاطلاع لما فيها من صور للبطولة والشجاعة [*] .
وبتنازل نقولا الثاني انتهى الاستعمار الروسي الأبيض، ليبدأ استعمار أشد
هو الاستعمار الشيوعي للروس الحمر، حيث استولت القوات الشيوعية على
القفقاس عام 1314هـ، (1922م) ، وقد أعطى لينين الشيشان حكماً ذاتياً، ثم
دمجت مع (الأنجوش) عام 1353 (1934) لتكونا جمهورية واحدة. ...
نفي الشيشان عن موطنهم:
وضمن قرارات ستالين العشوائية الحاقدة على المسلمين أصدر أمره بنفي
الشيشان وإخوانهم المسلمين حولهم إلى سيبريا، وألغى جمهوريتهم وأعطى أراضيها
لجورجيا، وقد مات عشرات الألوف منهم أثناء رحلة الموت تلك ولكن المسلمين
الشيشانيين لم تزدهم تلك المحنة التي بقوا فيها 15 عاماً سوى تمسكاً بدينهم وهويتهم
حتى ألغى مجلس السوفيت الأعلى ذلك القرار الجائر وبرأ الشعوب المسلمة من
تهمة التعاون مع النازي، وسمح للشيشان والأنجوش بالعودة إلى وطنهم عام
1377هـ (1957م) لكنهم لم يجدوا بلادهم إلا قاعاً صفصفاً، حيث هدمت ... ... المنازل والمدارس والمساجد في محاولة لإلغاء الدين الإسلامي من نفوسهم، وقد فشلت المحاولة، ولم تزدهم المحنة إلا قوة وإيماناً.
بقيت الشيشان جمهورية بحكم ذاتي تحت إشراف روسيا حتى نهاية الحرب
الباردة والانقلاب الذي أطاح بالرئيس السوفيتي الأخير (جورباتشوف) عام 1991م
وفي تلك الظروف قام الشعب الشيشاني المسلم بمسيرة كبرى في شوارع (جروزني)
مرددين لا إله إلا الله محمد رسول الله , ثم تجمعوا في عدد هائل وزكوا أحد ...
الجنرالات المسلمين المتقاعدين وهو (جوهر داوديف) ثم اختاروه رئيساً لبلادهم
التي أعلنوا استقلالها، وقرأ القسم الذي حدده العلماء أقسم بالله العظيم أن أحارب من
أجل استقلال شعب الشيشان حتى آخر قطرة من دمي وتألفت حكومة شيشانية،
وتقاطر الناس في الشوارع بسلاحهم وأقسموا بأن ينتهزوا الفرصة لعودة الإسلام إلى
بلادهم وتداعوا على قلب رجل واحد بأن يلتسن لو تحرك ضدهم أو لم يعترف
باستقلالهم فإنهم:
1- سيقطعون الطريق بين موسكو وباكو.
2- ويقومون بعمليات انتحارية ضد المؤسسات الاستراتيجية في داخل روسيا
وأعلنت الجمهوريات المسلمة تأييدها لاستقلال الشيشان، وعارض البرلمان
الروسي إرسال قوات إلى الشيشان، وعاد 800 جندي روسي بل سلموا الطائرات
التسع التي جاءت لنقلهم هدية للجنرال (داوديف) .
وأكد علماء الشيشان على عدم تعريض الروس لأي اعتداء بل تركوا الباب
مفتوحاً لخمسة عشر ألف روسي في الداخل لمغادرة البلاد إن أرادوا.
ويتكون الجيش الشيشاني من المسلمين الذي كانوا ضمن الجيش السوفيتي
السابق وممن دربهم داوديف سراً ودخل بهم العاصمة (جروزني) في 9/9/1991،
وبقيت موسكو حائرة حيال ما حدث بل إن بعض المصادر أشارت إلى أن يلتسين
كان يشجع (داوديف) على الاستقلال لإحراج الرئيس السابق (جورباتشوف)
وتعجيل الإطاحة به، وبعد إعلان الاستقلال وتنصيب داوديف رئيساً، وبعد
زياراته لعدد من الدول المجاورة أثار ذلك حفيظة موسكو لاستقباله كرئيس دولة.
المؤامرات الروسية بعد الاستقلال:
قامت روسيا بإرسال قوات حكومية لإقصائه، ودعمت معارضيه الذين
يتزعمهم الشيوعي السابق (عمر افترخانوف) مدير الإدارة المحلية السابق ورئيس
البوليس السري السابق في (نادقيرشني) الشاشانية، ومده بالسلاح لمحاولة إسقاط
الرئيس واحتلال الإذاعة والتلفزيون لكنهم فشلوا.
في الآونة الأخيرة أعادت المعارضة هجومها لإسقاط الرئيس داوديف بزعامة
(افترخانوف) عسكرياً وبزعامة حسب الله توف سياسياً بدعم عسكري روسي مع
غطاء جوي قصف المطارات ودور الحكومة وقصر الرئاسة ونفت روسيا في البداية
أي دور لها في دعم المتمردين الشيوعيين، لكنها اعترفت بذلك فيما بعد.
لماذا يحاول الروس إسقاط داوديف: يرجع هذا إلى دافعين رئيسين هما:
أولاً: الدافع السياسي: ويتمثل في خوف روسيا أن يدفع انفصال الشيشان بقية الشعوب المسلمة إلى طلب الاستقلال، وبالتالي انفراط عقد الاتحاد الروسي كما انفرط الاتحاد السوفياتي البائد، وحتى لا يُشَكل فيما بعد اتحادٌ يضم شعوب شمال القوقاز بقيادة (داوديف) ، مع أنها شعوب تعاني من الفقر وسوء الأحوال الاقتصادية، وهذا الهاجس المفزع لمستقبل روسيا الاتحادية يرعب أيضاً المجتمع
الدولي الذي يخشى قيام كيان سياسي إسلامي في هذه المنطقة الاستراتيجية: لكونها ملتقى قارات آسيا وأوروبا وأمريكا ولكونها ملتقى الملاحة الدولية في هذه المناطق.
ثانياً: الدافع الاقتصادي: حيث تعتبر جمهورية الشيشان ثاني مصدر
احتياطي لنفط روسيا بعد أذربيجان المستقلة التي وقع رئيسها (علييف) اتفاقيات
نفطية مع مجموعة من الشركات الأجنبية، فضلاً عن كون منطقة القوقاز غنية
بالزراعة ذات المحاصيل المتنوعة التي تذهب جلها إلى موسكو مما يشكل فقدانها
خسارة اقتصادية كبيرة لهم.
الاستراتيجية الروسية لإسقاط داوديف:
تتمثل في الآتي:
أولاً: سد الطرق التي يأتي منها الدعم للشيشان:
- بدأت هذه الاستراتيجية بإسقاط الرئيس السابق لجورجيا (زفياد جمسا
خورديا) ليحل مكانه شيفارنادزة بسبب تأييده استقلال الشيشان ومدهم بالسلاح
والمتطوعين، وكانت جورجيا في عهده مفتوحة لاتصاله بالدول الأخرى، وكان
بقاؤه يشكل عمقاً سياسياً واقتصادياً لداوديف ولذا أُسقط نظامه.
إشغال أذربيجان بحربها مع أرمينيا حتى لا تتمكن من مساعدة الشعوب
القوقازية عسكرياً واقتصادياً بحكم كون الجميع مسلمين ولقد شارك الآذاريون
الشيشان الاحتفال بالاستقلال بوفود رسمية وشعبية.
ثانياً: الحصار الاقتصادي وتشجيع المعارضة الشيشانية:
وهما ورقتان لا يمكن فصلهما لسبب بسيط وهو كون الحصار الاقتصادي من
أهم وسائل المعارضة في كسب المؤيدين لهم ضد الدولة، وكذلك تجييش رجال
عصابات المخدرات وعلى رأسهم (روسلان لابزانوف) لارتكاب سلسلة من
الحوادث مثل خطف القطارات والطائرات واحتجاز الرهائن في مناطق مختلفة من
القوقاز وروسيا الاتحادية مع انتحال صفة وهوية رجال داوديف ولقد سلط الإعلام
الروسي وبعض وسائل الإعلام العربي المشبوهة الأضواء عليهم بتلك الصفة
للإساءة إلى نظام داوديف وإظهاره على أنه نظام إرهابي.
ولكون زعيم المعارضة (افترخانوف) غير معروف دولياً فقد تم العفو عن
(حسب الله توف) المعروف دولياً، الذي ظهر فجأة رمزاً للمعارضة وسلطت
الأضواء عليه بشكل ملفت للنظر.
منطلق هذه الاستراتيجية الروسية:
1- تمزيق الشعب الشيشاني واختلاف ولاءاته مما يسهل التدخل الروسي
لإسقاط داوديف.
2- تحييد شعوب شمال القوقاز على اعتبار أن ما يجري هناك مسألة داخلية
وليس نزاعاً روسياً شيشانياً.
3- استخدام المعارضة قناعاً للقوات الروسية العسكرية التي ستهاجم الدولة
في المرحلة اللاحقة بعد فشلها المتكرر مع دعمهم بالسلاح الروسي الذي اعترفت به
روسيا بعد إنكار سابق وبعد تحقق أهدافها بتعطيل المطارات لمنع أي مساعدات
خارجية سواء أكانت من دول البلطيق التي توالي إلى حدٍ ما داوديف للمواقف
المشرفة له حينما كان حاكماً عسكرياً لها حيث رفض أوامر القمع ضد هذه الشعوب
أو أي مساعدة من الدول الإسلامية الأخرى في الجنوب.
رفض تهديدات يلتسين:
وجه يلتسين تهديدات للأطراف المتنازعة في الشيشان بأنه سيعلن حالة
الطوارئ، ويرسل قوات عسكرية إذا لم تحل الفصائل العسكرية نفسها وتكف عن
القتال وتطلق سراح الأسرى خلال 48 ساعة لوضع نهاية لإراقة الدماء وإعلان ما
سماه (الشرعية الدستورية) والقانون والسلام في الإقليم الذي وصفه بأنه جزء من
روسيا وكان (داوديف) قد قال أنه أسر 60 مقاتلاً من المعارضة وإذا لم تعترف
الحكومة الروسية بأنهم روس فسوف يتعرضون للقتل باعتبارهم مرتزقة أو
الاعتراف بكونهم روساً، وسيعاملون كأسرى حرب مع رفض تهديد يلتسين، وجدد
داوديف اتهامه لروسيا بأنها مسؤولة عن تفشي الجريمة في الجمهورية وأنها هي
التي تدعم عصابات القتلة وتجار المخدرات وتزودهم بالأسلحة وأن هذه السياسة
سوف ترتد على أصحابها، وأن محاولة إيجاد معارضة داخلية فشلت وتم سحقها،
فضلاً عن فشل مخطط اغتيال داوديف في يوم 23/2/1994 وتجهيز 20 طائرة
مدربة عسكرياً بأربعين مقاتل من قوات أمن الدولة الروسية الخاصة التي خطط بأن
تقوم بعلميات الكوماندوز وتتلوها فوراً عملية اقتحام الجيش الروسي للدولة ولكنها
فشلت.
هل يسقط الروس داوديف؟
لاشك أن روسيا عسكرياً أقوى من دولة الشيشان عدة وعتاداً، وهي مرشحة
لهزيمته عسكرياً على ضوء ميزان القوة، ولكن ذلك لن يكون سهلاً بل سيكون
وراءه مآسٍ ومشكلات لا حد لها للروس لو جرؤوا على القيام بذلك وسيتحدد التدخل
الروسي على ضوء الاعتبارات التالية:
1- مدى موقف كونفدرالية شعوب شمال القوقاز وهل ستقف موقف المتفرج
أم ستتدخل لصالح الشيشان، وهو ما صرح به رئيس الرابطة في جمهورية
(القبرطاي) المجاورة للشيشان، مما يعني أن في انتظار الروس أفغانستان ثانية بل
أشد.
2- هل سيهب الشعب الشيشاني من الجبال لنصرة رئيسه الرمز كما فعل في
الهجوم السابق الذي شنته المعارضة على العاصمة مؤخراً وتم دحره بتدخل رجال
القبائل وحينها سينتج عن الحرب البرية خسائر جمة للروس وإن كانوا متفوقين عدة
وعتاداً.
3- موقف بقية الدول الأخرى بعد الهجوم الروسي على الشيشان وهل
تستجيب لنداء داوديف حينما يطلب نصرة (ما يسمى بالشرعية الدولية) أم تذهب
نداءاته عبر الريح، كما ذهبت نداءات (على عزت) في البوسنة، ثم ما هو موقف
هيئة الأمم من تلك الأحداث وهل ستطبق عليها معاييرالتدخل الدولي كما في
الصومال وراوندا أم لا يحصل شيء من ذلك وهذا هو المتوقع، لخوفها وعلى
رأسها سكرتيرها العام من قيام كيان إسلامي في تلك المنطقة المهمة.
4- هل ستنفذ باكستان وأفغانستان وعدهما بإرسال المجاهدين للدفاع عن
الشيشان عبر البلاد الإسلامية أم لا.
5- النتائج المتوقعة للمواجهة بين روسيا وداوديف ومدى قدرته على ضرب
العمق الروسي. كما أن لذوي اليسار من الشيشان في موسكو مكانتهم الاقتصادية
فهل سيكون لهم ضغوط على الحكومة الروسية، وتفاعل تلك العوامل آنفة الذكر
سيحدد إلى درجة كبيرة لمن ستكون الغلبة هل ليلتسن أم لداوديف وبخاصة وأن
القوة العسكرية وحدها وكما اتسمت حرب القوقاز الأولى ليست كافية لإرغام هذا
الشعب على عبودية الروس.
هل يتورط الروس بتصرف أحمق؟
حينما جاء وزير الدفاع الروسي للحوار مع داوديف صرح قائلاً بغطرسة إن
كتيبة مظليين واحدة كافية لاحتلال العاصمة خلال ساعتين، والحقيقة أن ذلك ادعاء
وعنجهية وإلا لماذا أحجموا عن اجتياح الشيشان منذ أعلن استقلالها منذ 3 سنوات
وبخاصة وأن الكتيبة الروسية التي دخلت الشيشان لأول مرة بعد الاستقلال كادت
تباد لولا تدخل الرئيس الذي أمر خمسين ألف مقاتل شيشاني بعدم الفتك بهم وإبادتهم
في أقل من ساعتين، واكتفى الرئيس بتحميل الطائرة بالكتيبة وإعادتها بعد نزع
سلاحها ليصبح غنيمة شرعية للشعب الشيشاني، فهل يتورط الروس في عملية
أخرى مستغلين تفوقهم في العدد والعتاد، وهذا ماحصل بالفعل كما سنشير إليه فيما
بعد.
حقيقة إسلام الشيشان:
الشيشان شعب مسلم يعتز بالإسلام، وممن ساهم في ساهم في نشر الإسلام
بينهم بعض دعاة من الصوفية ولا يخفى ما عليه أولئك الدعاة من الانحرافات
العقدية، ولا شك أن الواجب يدعو إلى بذل جهود متواصلة لتوعية الكثير من
إخواننا هناك بعقيدة الإسلام الصحيحة، وتعريفهم بالإسلام الحق بعيداً عن الغلو في
الصالحين والفهم الصوفي للدين وهذا يحتم على كل المخلصين اتخاذ الوسائل التالية:
1- بعث الدعاة الذين يوثق بصحة عقائدهم لبث العقيدة السلفية هناك.
2- اختيار عدد من أبناء هذه البلاد للدراسة في الجامعات الإسلامية الموثوقة
حتى لا تقوم بهذه المهمة الطوائف المنحرفة كما هوحاصل اليوم.
3- ترجمة الكتب الإسلامية في التفسير والحديث والعقيدة والأحكام بلغاتهم
وإشاعتها فيما بينهم.
4- فتح مراكز إغاثة وتوعية للمسلمين هناك تهتم بالتعليم والتربية والتثقيف
والإغاثة.
ما مدى إسلامية داوديف:
حينما سأل الرئيس داوديف عن نصيبه من الإسلام والإيمان رد قائلاً: إن
على كل مسلم أن يحفظ إيمانه في صدره وألا يكون هذا الإيمان دعاية وأنا شخصياً
لم أقم بأي خطوة مخالفة لأوامر الله تعالى.
وإنه كان لي دعائي الخاص أثناء الطيران وفي أي مهمة حرجة وأضاف قائلاً: إنه حافظ ضمنياً وروحياً على كل تعاليم الإسلام، وقد قدم التسهيلات للمجندين
المسلمين داخل الجيش خلال خدمته وإنه كان يشجع المسلمين على أداء الصلاة
خمس مرات، وكان لا يسمح بأن يزعج المصلين أحد، وكان المسلمون يلجؤون
إليه لإخفاء ما لديهم، ولم يكن ذلك بالشيء القليل إبان وجود الاتحاد السوفياتي.
أما عن رؤيته باعتباره رئيساً مسلماً حول قيام دولة مسلمة أجاب: إن الله
حينما حدد لنا القوانين لكي نعيش بها فإن عدم الاعتراف بها أمر مرفوض وقيام
دولة مسلمة يحكمها القرآن أمل أرجو أن يتحقق ولكن المصارحة هنا واجبة فالشعب
اليوم غير جاهز لمثل هذه الدولة بسبب ما عاناه من تأثير ضد دينه ونفسيته طوال
استعماره ولابد من إعداد جيل مثقف إسلامياً وسيكون قادراً على إجبار أي حكومة
على إقامة هذه الدولة، إن الجيل الكبير وأنا واحد منه يعتبر جيلاً فاسداً، ونحن
مهتمون بإصلاح أنفسنا وتربية الجيل الناشيء، ويجب عدم إغفال أن الشعب
الشيشاني قناعاته تامة بأن طريقه هو الإسلام، ولقد أفسحنا المجال لتدريس الصغار، وأسست المدارس لتؤدي رسالتها بجوار المسجد. والشعب مستعد من الناحية
الروحية لتقبل الشريعة الإسلامية، ولكن علينا أن نوفق دائماً بين الوعي والعاطفة! !
ونتمنى جميعاً ألا يكون ذلك مجرد مناورات سياسية فقط كما هو الحاصل من
كثير من زعماء هذا الزمان والله المستعان.
أخر الأحداث:
وبمرسوم رئاسي تم اجتياح الجيش الروسي دولة الشيشان فجر يوم الأحد
الموافق 8/7/1415 ودخلوها من ثلاثة محاور، وقاومهم الشيشان ببسالة وأسروا
47 جندياً واستولوا على العديد من الدبابات وحاملات الجنود وحرقوا بعضها،
وأسقطوا بعض الطائرات وقد اعترف الروس بذلك.
ولقد رفض البرلمان الروسي هذا التدخل ودعا النائب (يوشينكوف) الذي قاد
المفاوضات مؤخراً في (جروزني) إلى تظاهرات شعبية وسط موسكو وحذر رئيس
الوزراء الروسي السابق (جيدار) من حدوث أفغانستان أخرى في الشيشان داعياً
يلتسن إلى التراجع عن استعمال القوة، وكانت ردود الفعل الغربية على هذا التدخل
باردة وعلى استحياء بدعوى أن الأمر شأن داخلي أما العدوان وانتهاك حقوق
الإنسان فلا قيمة لها مادام الأمر يخص المسلمين فقد قال وزير خارجية أمريكا: إنه
يؤيد التدخل الروسي وهو شأن داخلي أما وزير الخارجية البريطاني فقد قال زيادة
عن ذلك: إن وجود الشيشان مستقلةً فيه تهديد للأمن الأوربي، مع الأمل بتسوية
سلمية سريعة! ولا أستبعد أن الروس قد أخذوا إشارة خضراء من الاجتماعات
الأوربية الأخيرة بخصوص هذا الاجتياح.
وما يؤسف له أن ردود الفعل الإسلامية الرسمية كالعادة ربما لا تتجاوز سوى
الشجب والاستنكار، وأضعف الإيمان هو الضغط على روسيا بعدم التدخل في
الشيشان والاعتراف بها دولة مستقلة أسوة بغيرها من دول الاتحاد السوفيتي السابق.
وما زالت الأحداث ساخنة تنذر بعواقب وخيمة ولعل مسلمي الشيشان يلقنون
الروس دروساً يعيدون بها التاريخ حينما أدبوا الجيش القيصري وأذاقوه سوء العقاب
مما ألمحنا إلى شيء منه، ولعله يكون بإذن الله بادرة هزائم وخسائر وسقوط ذريع
لروسيا وتفتتها وانهيار شامل لاقتصادها المتداعي مما تقر به العيون إن شاء الله.
ولعله يتسنى فيما بعد رصد المستجدات للأحداث مما تكون معه العواقب نصراً
مؤزراً للمسلمين وهزائم موجعة للعدو، وما ذلك على الله بعزيز.
المراجع:
1- المسلمون في الاتحاد السوفياتي د/ محمد على البار.
2- سلسلة مقالات شمس الدين طاش عن جهاد الشيشان في مجلة المجتمع
بدءاً من العدد 933.
3- المسلمون في آسيا والبلقان د/ محمد حرب.
4- مقالا د / أحمد الشيشاني الوثائقيان في (الجزيرة) العدد 8106 وفي
الرياض العدد 9662 وهما من أحسن ما كتب حول تحليل أحداث الشيشان مؤخراً.
5- المقابلة مع الرئيس جوهر داوديف في مجلة المجتمع العدد 1128.
__________
(*) سجل الأدب الإسلامي المعاصر جهاد المسلمين في تلك المناطق في (ليالي تركستان) لنجيب الكيلاني و (صقور القوقاز) ترجمة د/ محمد حرب.(84/47)
معنويات الصليبين المنهارة في الفلبين
أمام طرقات المجاهدين المتوالية [*]
التحرير
قام راموس رئيس دولة الفلبين الصليبية مؤخراً بزيارة تشجيعية لجنوده في
جبهاتهم القتالية في كل من بلدة كارمين وأليوسان وبانيسيلان في محافظة كوتباتو، وكان ذلك في طائرة عمودية حلقت قريباً من مواقع جنوده لمحاولة رفع معنوياتهم
المنهارة، وتشجيعاً لهم لمضاعفة حملتهم الشرسة على المسلمين.
وقد بدأت المعركة بين المجاهدين وجنود العدو في محافظة كوتباتو الشمالية
منذ أكثر من شهر، حيث هاجم الجنود الصليبيون مواقع المجاهدين في المحافظة
واتسعت المعركة فشملت عدداً من البلدات المجاورة، ومازالت الحرب مستمرة حتى
الآن، وقد مضى عليها أكثر من شهر وقتل خلالها أكثر من مائة جندي من جنود
قوات راموس المسلحة وأصيب عدد كثير منهم، ودمر بعض دباباتهم وسياراتهم
المصفحة، واستولى المجاهدون على كثير من معداتهم الحربية، وانهارت معنويات
الجنود الصليبيين، وكان النصارى المستوطنون يشجعونهم ويلحون عليهم في
مواصلة الهجوم على المجاهدين الذين احتلوا منذ أكثر من شهر ثلاثاً من القرى التي
استوطن فيها النصارى، ولم يتحرك الجنود النصارى بسبب معنوياتهم المنهارة،
لذا كانت تلك الزيارة لهم في مواقعهم أملاً في رفع معنوياتهم المحطمة وتشجيعاً لهم
على حرب المجاهدين، الذين مازالو ولله الحمد ثابتون في خنادقهم، وقد تمركز
بعضهم في القرى الثلاث التي استولوا عليها، وهم على استعداد للقيام بهجوم مضاد
وينتظرون الإشارة فقط من القيادة، وسوف تندلع نيران المعركة قريباً لأن العدو
يعزز جبهاته والمجاهدون يعززون مواقعهم أيضاً.
الأنشطة الجهادية المتقطعة والمتفرقة مستمرة:
أما أنشطة المجاهدين العملية المتقطعة والمتفرقة في المحافظات الأخرى فهى
مستمرة وفيما يلي بعض الأمثلة لهذه الأنشطة:
مدينة كوتباتو:
من الوسائل التي يستخدمها المجاهدون للحصول على السلاح الاستيلاء على
سلاح العدو، وقد تمكنت الفرقة الخاصة المكلفة بذلك من انتزاع بعض أسلحة جنود
العدو كما حصل في سرانجاني، وفي قرية مكابارا بمحافظة كوتباتو الشمالية.
محافظة زامبوانجا الجنوبية:
ألقى المجاهدون قنبلة يدوية على مجموعة من الجنود الصليبيين أثناء شربهم
الخمرفي إحدى الحانات، وقتل ثلاثة منهم في الحال وأصيب خمسة بجروح.
محافظة ماجيندانو:
وقعت دورية الميلشيات النصرانية في كمين نصبه المجاهدون في إحدى
القرى في هذه المحافظة ولقي ستة من النصارى مصرعهم وأصيب ثلاثة منهم وتم
الإستيلاء على أسلحة المقتولين.
محافظة كوتباتو الجنوبية:
وقع ثلاثة من عملاء راموس في كمين نصبه المجاهدون في بلدية سورالا
وقتل العملاء كلهم واستولى المجاهدون على مسدساتهم وأجهزتهم الاستخباراتية.
محافظة كوتباتوا الشمالية:
يستمر تبادل إطلاق النار بين المجاهدين وبين جنود العدو في الجبهات القتالية
في مدينة كارمين، وقد قتل وجرح الكثير منهم في مدينة كارمين وفي بلدية اليوسان.
ردود أفعالهم على المجاهدين:
لقد أصدر رئيس أركان القوات المسلحة الفلبينية أوامر صارمة لقوات
الحكومة البرية والجوية والبحرية بشن هجوم مكثف على الجماعة الإسلامية في
باسيلان للقضاء عليها وتدمير مواقعها، ويسمي العدو أفراد هذه الجماعة الأصوليين
أحياناً والإرهابيين أحياناً أخرى والقراصنة في بعض الأحيان أو المجرمين،
والسبب في تسميته هؤلاء الإخوة بالأسماء المذكورة أنهم يحافظون على سمتهم
الإسلامي، وأن نساءهم محجبات وأنهم يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله -صلى
الله عليه وسلم- ويدافعون عن حقهم المشروع وأعلنوا مقاومتهم للمعتدي المستعمر،
والواقع أنهم مجاهدو في جبهة تحرير مورو الإسلامية في باسيلان تحت إمارة
الشيخ / سلامات هاشم، وهم مسلمون سائرون وفقاً للسنة النبوية.
ولقد دارت معركة عنيفة بين المجاهدين في باسلان وبين جنود العدو وأسفرت
عن مقتل عشرة من الجنود الصليبيين، واستولى المجاهدون على سبع قطع أسلحة
فردية من أحسن الأسلحة التي يستخدمها العدو.
كما استولوا على جهاز اتصال لاسلكي، وتستمر عملية العدو العسكرية
لمحاولة القضاء على الجماعة الإسلامية التي يصفها بأوصاف سيئة بسبب تمسكها
بدينها ودفاعها عن عقيدتها وشرفها ومطالبتها بحقها المشروع في تقرير المصير.
والمجاهدون يواجهون تلك العملية العسكرية الوحشية بهجمات سريعة
وضربات خاطفة لإلحاق الخسائر بجنود العدو والإستيلاء على أسلحتهم في كل من:
مدينة كوتباتو، ومدينة جينرال سانتوس، ومحافظة ماجيندالو، محافظة
سرانجاني ...
الأنشطة الدعوية التربوية الجهادية:
يتجمع الناس في قواعد ومعسكرات جبهة تحرير مورو الإسلامية تحت إمارة
الشيخ / سلامات هاشم للاشتراك في اللقاءات الدعوية التربوية الجهادية التي تقام
وتنظم في هذه القواعد والمعسكرات وكان يحضر هذه اللقاءات آلاف بل عشرات
الآلاف من المسلمين شيوخاً وشباباً وللنساء أيضاً لقاءات خاصة في تجمعات دعوية
وتربوية لم يسبق لها مثيل في هذه البلاد فالحمد لله.
وبالإضافة إلى هذه الأنشطة الدعوية تنظم أجهزة الجبهة مخيمات وقوافل
دعوية في المدن والمراكز، وفي هذه الأيام بالذات يقام مخيم إسلامي في مدينة داباو
وهي كبرى المدن في منطقة مورو ذات الأغلبية الساحقة من سكانها النصارى
المستوطنين، وبعون الله يعتنق الإسلام عدد كبير من هؤلاء، وبعض المشتركين
في المخيم المذكور من هؤلاءالأخوة الجدد.
نسأل الله لنا ولهم التوفيق والسداد.
__________
(*) هذا الموضوع ملخص من البيانين 56، 57 اللذين وردا إلى المجلة من الشيخ محمد أمين من لجنة الإعلام الخارجي لجبهة مورو الإسلامية فجزاه الله خيراً.(84/60)
مقال
عام الحزن.. عام الفرج
محمد بن عبد الله الأحمد
مدخل:
بعد حادث تفجير الباص في تل أبيب قال كلينتون: أدعو زعماء الشرق
الأوسط والعالم إلى إدانة هذا العمل، والتأكد من أن الفاعلين لن يحصلوا على الملجأ
أو الدعم (الخميس 15/5/1415هـ) ، وقال أيضاً: سنحمي السلام ونحارب أعداءه
(الأربعاء 21/5/1415هـ) وقال وزير خارجيته: علينا أن نعمل معاً على إقفال كل
قنوات التمويل الخارجية العامة والخاصة للإرهاب والانتهاء بذلك من المنظمات
الخارجية المرتبطة بالإرهابيين (الثلاثاء 20/5/1415هـ) .
- تداعى إلى فكري وأنا أقرأ الأخبار ثلاثة أحداث مرت برسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه في أقل من أربعة أشهر، كادت تعصف بهم وبالدعوة
الإسلامية، وكانت في نظر المرجفين ومحدودي الرؤية، أحداث مؤذنة بنهاية دعوة
الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ وانتصار معسكر قريش، على معسكر الإيمان.
- مات أبو طالب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ثم ماتت خديجة
بنت خويلد رضي الله عنها زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فماذا كان أثر
وفاتهما؟
قال ابن اسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد،
فتتابعت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المصائب، بهلاك خديجة، وكانت
له معيناً في دعوته إلى الإسلام.
وبهُلك عمه أبي طالب، وكان له عضداً وحرزاً في أمره، ومَنَعَة وناصراً
على قومه، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
من الأذى مالم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء
قريش فنثر على رأسه تراباً [1] وقال ابن كثير: وعندي أن غالب ما روي من
طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي ... ، وكذلك ما أخبر به عبد الله بن
عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقاً شديد حتى حال دونه أبو بكر
الصديق، وكذلك عزم أبي جهل لعنه الله على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل
بينه وبين ذلك، مما أشبه ذلك، كان بعد وفاة أبي طالب [2] .
نعم لقد فقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عضده وحاميه من قريش،
فاجترأت عليه، وزادت في إيذائه؛ حتى روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب [3] .
- وفقد -صلى الله عليه وسلم- أول من آمن به أعني من النساء، وسلوته
وملاذه، وأم أولاده (خديجة رضي الله عنها) .
روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني
الله ولدها وحرمني ولد غيرها [4] .
وقال ابن اسحاق: وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه،
فخفف الله بذلك عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-، لا يسمع شيئاً مما يكرهه، من
ردٍ عليه، وتكذيبٍ له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها؟ إذا رجع إليها، تثبته
وتخفف عليه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى [5] .
فعلاً: إنها أحداث تهز الكيان البشري، وتزلزل الأرض من تحت أقدام
الضعفاء، أما من قوي إيمانه بالله ويقينه بوعده ونصره، فلا تزيده هذه الأحداث إلا
تصميماً وعزماً على مواصلة الطريق.
- خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة بعد أن أحس أنها لم تعد
بيئة صالحة للدعوة خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام وإلى أن يكونوا أنصاره
وحماته؛ وكان ذلك بعد وفاة خديجة بقليل فماذا كان جوابهم؟
لقد قابلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسوأ مقابلة، وردوا عليه أقبح ردٍ، وعاملوه بما لم تعامله به قريش.
لقد رفضوا الداعي -صلى الله عليه وسلم- والدعوة، ورجع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إلى مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه، وفراق دينه،
حتى إنه لم يدخل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي.
إذاً ما العمل؟ ذهب السند الداخلي؛ الذي كان يمد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بالراحة والطمأنينة، والمشاركة والمواساة، وهلك المدافع أمام قومه، الذي
كان يوفر له مساحة يتحرك فيها لدعوة الناس وإبلاغ رسالة الله.
وسُدَ أقرب منفذ للدعوة يمكن أن تنتقل إليه، وتنطلق منه ... هل تنتهي
الدعوة؟ هل يقف الداعية؟ هل كانت هذه الأحداث إيذاناً بانتصار الكفر؟ لا وكلا.
بل كانت علامة قرب انتصار الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته،
وفتح أبواب أكبر، وآفاق أوسع [فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا]
[الشرح: 5] قد ضاقت مكة بالدعوة، ورفضت الطائف استقبالها، وأخذت
بعض القبائل التي تأتي في الموسم تساوم عليها.
لقد ضاقت الأرض، ففتحت السماء، لم تتأخر البشارة بهذا النصر كثيراً ففي
ذي القعدة من السنة العاشرة، يسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت
المقدس، فيؤم هناك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يعرج به إلى السموات
السبع.
يقول المباركفوري في بيان هذه البشارة: الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس
لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم
يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلاً إلى
رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما.
ولكن كيف تنتقل هذه القيادة، والرسول يطوف في جبال مكة مطروداً بين
الناس؟ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن طوراً من هذه
الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام وسيبدأ طور آخر يختلف عن الأول
في مجراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد إلى
المشركين [وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها فحق عليها القول،
فدمرناها تدميراْ] [الإسراء: 16] .
وإضافة إلى هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها
ومبادئها التي ينبني عليها مجتمعهم الإسلامي، كأنهم آووا إلى الأرض وتملكوا فيها
أمورهم من جميع النواحي، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع،
ففيها إشارة إلى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيجد ملجأ ومأمناً يستقر فيه
أمره، ويصير مركزاً لبث دعوته إلى أرجاء الدنيا [6] .
ثم لم يتأخر النصر الموعود، فبعد ثلاث سنوات فقط، من تلك الأحداث
المحزنة؛ التي بلغت قمتها بالمؤامرة الدنيئة لاغتيال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- عند ذلك ولد الفجر وظهرت تباشير النصر، وانطلق رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- مهاجراً إلى المدينة ليؤسس هناك دولة الإسلام، ويعلن انتصار الإيمان، وهزيمة الكفر، [والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون]
[يوسف: 12] . إن أحداث عام الحزن بما فيها من ألم ومرارة، تغرس في قلوب الأتباع روح التفاؤل والإيمان، والتطلع إلى غدٍ مشرق، وقطع العلائق بالخلائق، والالتجاء إلى رب الأرض والسماء، والاعتماد عليه وحده.
[لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر]
ولا شك أن في السيرة النبوية سلوى لكل الدعاة حيال ما قد يتعرضون له من مشاق
واضطهاد ومضايقات فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
وأخيراً: ورغم كل المؤامرات المتوالية التي يحبكها أعداء الإسلام ضد
الدعوة والدعاة في كثير من البلدان والإساءة إليهم بالاتهامات الباطلة من دعوى
الإرهاب والتطرف بمناسبة وبغير مناسبة، محاولة منهم لإجهاض الدعوة والإساءة
للدعاة، وهيهات أن ينجحوا مادام الدعاة مستمسكين بالوحيين وسائرين على سنة
الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وليثقوا كل الثقة بنصر الله الذي لا يتأخر عن عباده
الصالحين والخسارة والخزي لأعداء الدين، فإلى الأمام بعزم لا يلين [اصبروا
وصابروا ورابطوا] اللهم أرزقنا حب نبيك -صلى الله عليه وسلم- وحسن الاقتداء
به والفهم عنه.
__________
(1) سيرة ابن هشام: 2/442 ط دار الشكر.
(2) البداية والنهاية: 3/165 ط دار إحياء التراث العربي.
(3) ابن هشام: 2/442 مرسلاً عن عروة بن الزبير.
(4) مسند أحمد: 6/118 والاستيعاب لابن عبد البر: 4/278 279 بهامش الإصابات.
(5) ابن هشام: 1/258.
(6) الرحيق المختوم: 167.(84/64)
الملف الأدبي (نصوص شعرية)
قلق المنطلق
مشتاق شبير حسين
خيولك حيرى اعِتلاها القلق! ... تُفتّشُ في الكونِ عنْ مُنْطَلقْ
وترقبُ في لهفةٍ فَارساً ... غُبارُ جحافِلِهِ لا يُشَقْ
فأسدلْ على الجبنِ سِترَ الوغِى ... وفَجّرْ وراءَ الظلامِ الفلَقْ!
وَسِرْ في مراقي الكمالِ وما الكمالُ ... لِمَنْ نامَ أو مَنْ فَسَقْ
بوارقُ نصرك أحرقتها ... ومازلتَ بعدُ تخافُ الغرق! !
ولم أر مثلك من سَيّد ... عتيقٌ ويرضى بأن يُسْترقْ!
وتُهزمُ علماً بفَرِقْ تَسُدْ ... فما زادنا العلمُ إلا فِرَقْ!
سماؤكَ مِنْ نَصْرِها قَلَمٌ ... وأرضُكِ مِنْ عصر مَجْدِكَ رَقْ
يَراعي قتيلٌ يسيلُ دماً ... تخثر فاسْودّ نطعُ الوَرَقْ
تموتُ القصائدُ في مَهْدِها ... وينعمُ بالعيش مِنيّ الأرقْ
سوايَ بأشعارهِ عاشقٌ ... يَجُرّ القوافي إلى مَنْ عَشِقْ
سوايَ رهينٌ لأفكارهِ ... وأفكارُ شعري تجوبُ الأفقْ
أتتك القصائدُ منقادةً ... إليكِ معَ الشوقِ عبرَ الطّرُقْ
ألستِ أيا أُمّتِي مُنجِباً؟ ! ... ومنجبةُ العِزّ ليستْ تُعَقْ!
عجبتُ ببدر نفاهُ الدّجى ... وَفَجْرٍ أَسِير بسجْنِ الغَسَقْ
وشمس تُقَتّل في مَغْرِب ... فيزهُو بثوبِ الدّماءِ الشَفَقْ!
هناك وراءَ المدى قوّةٌ ... ستَزْحَفُ نحو قلاعِ الرّهَقْ
فيرجعُ للكونِ حَقٌ مضى ... ويحيا بِعِزتِهِ من مُحِقْ
وفي ذاك ما حدثتني الرّؤى ... وما خان سَمعي ولم يَسترقْ
أتانا بذاك الكِتَابُ هُدَىً ... وعن ربنا قاله من صَدَقْ
وينطِقُهُ الكونُ إلا الجَمَادُ ... لو أمّتي اسْتَنْطَقتهُ نَطَقْ!(84/70)
نصوص شعرية
معالم (؟ !)
تركي المالكي
أسرجَ الشوقَ وأقدمْ!
يُتبِعُ البسمةَ بالدمْ!
حين أُعدِم..
قيل: ما كان سوى نبتة سوءْ
كان فينا يتطهرْ! !
أخرِجوهُ من فضاءات حشوناها..
بنصر.. كالنتوءْ!
ثم قولوا:
كان يغتال الطفولة..
كان يهذي فيرى أعماقَنا..
بركانَ سوءْ!
ويرى الأرضَ بأثقال من الإفكِ
تنوءْ..
وتنوءْ!
هو مجنونٌ! ومنكرْ!
نحن أقدرْ! ..
نحن أكبرْ..
وسنُنصَرْ
يدعمُ الاكبرَ (قيصرْ! !
...............
نفَضَ الموتَ! فأَحجمْ!
والتقى السهمُ مع النحر! فتمتمْ!
لحظةً.. فانفجرَ الصمتُ! ودمدم:
عاش بالطهر! .. هنيئا ...
كلنا من بعده.. جندُ وُضُوءْ! !
كلنا من بعده.. جندُ وُضُوء! !(84/72)
نقد أدبي
الغموض الشعري
إبراهيم بن منصور التركي
يعتبر النقد الجديد الأدب شكلاً متفرداً قيمته في شكله وحسب، وهو يغرق
لذلك في دراسة شكل الأدب وبنائه دون أن تستوقفه دراسة معانيه، مكثر هو حتى
الانتفاخ في تناول معنى البناء، لكنه مقل إلى حد الضمور في تناول بناء المعنى.
وقد يبدو الأمران شبيهين أول وهلة، لكنهما عند التمحيص يفترقان ذلك أن
معنى البناء يمكن اكتناهه حتى في الشعر الذي لا يحمل أي معنى ذهني ولا حتى
عند قائله، كالشعر السريالي مثلاً، بخلاف بناء المعنى فإن تناوله لا يتأتى إلا بعد
وجود معنى أولي يُفهم من النص.
ويمكن توضيح الفرق بمقياس الوحدة العضوية، حيث لا يحكم لها بالوجود أو
عليها بالعدم إلا بعد الظفر بمعان شتى من النص يمكن من خلالها الحكمُ بالترابط أو
التخلخل، أما حينما يغدو النص غامضاً مطلسماً يتأبى على التشكل الذهني فلا يمكن
فعل ذلك، وعلى هذا فمقياس الوحدة العضوية يبحث في بناء المعاني من جهة
تلاحمها وتماسكها، وشدة اقتضاء كل وحدة للأخرى، ولا يمكن أن يحقق الشعر
الدرجات العلى من السموق والسمو إلا بتوافر الأمرين معاً: بناء المعنى ومعنى
البناء.
على أن هناك من يتذرع لفقدان الدلالة وغياب المعنى بأن ذلك إشارة إلى أن
القصيدة تعنى أكثر مما يقوى الكلام على نقله [1] هكذا يقرر أدونيس أو أن الأدب
يقوم على حالات الغياب وليس على حالات الحضور [2] ، وهو ما يعني أن
الجانب المعمى في النص هو ما يجب علينا أن نبحث عنه في التجربة الأدبية [3] ...
كما يقرر د. عبد الله الغذامي.
هذا الغياب أو التعمية في جانب المعنى هو ما يخشى أن ينزلق إليه الشعر،
وهو ما سينعكس بالضرورة على النقد، فبالنظر إلى غالب الإبداع والنقد الحداثي
كما يعترف أدونيس مؤخراً يبدو تضخم في النتاج الكتابي، كل يدعي الكتابة الأدبية
الفنية، وكل يدعي النقد والتقويم، والنتيجة هي فوضى وتخبط في الإنتاج الكلامي
يؤديان إلى أن تتساوى النصوص كلها، وأن يغيب التمييز بين الجيد والرديء،
وبين المتفرد والمبتذل [4] ، إلى هنا يمكن أن يوصلنا التفريط في جنب المعنى،
وإلى هذا يؤدي بنا التحيز ضد المدلول (المعنى) في صف الدال (اللفظ) .
بل قد يطال ضررُ الغموض المظاهر الشعرية الحديثة، كالتضمين الأسطوري
أو التناص (تداخل النصوص) أو حتى الصورة، في هذه المظاهر يتم اجتذاب
الخارج المعاين إلى الداخل الشعري، استدعاء هو للدلالة الناجزة لتساهم في دفع
الحركة الشعرية إلى الأمام، وفي مثل هذه المظاهر الفنية لا يمكن أن يحكم لأي
منها بالجودة وبالأخص التضمين الأسطوري إلا عندما لا يصبح ظاهرة مردها تدخل
الشاعر في نصه من خارجه، وإجبار الأسطورة على الحلول فيه قهراً وعنوة، بل
إن الكلام الشعري هو الذي يستدعيها بعد أن يكون قد هيأ الأديم الذي عليه ستغرس
والأبعاد التي معها ستتماهى [5] أي أن تتواشج الدلالة الأسطورية مع المعنى الكلي
للقصيدة تشده إليها ويجذبها إليه، وحينها يمكن الحكم لها بالتواصل والترابط مع
البؤرة الدلالية التي تشع منها القصيدة، وهو ما لن يحدث إلا حينما لا يستعصى
النص المؤسطر على الفهم ولا يستغلق فيه المعنى.
ولا يمكن للأسطورة أن تحقق ذلك التواشج في روع المتلقي إلا إذا كانت من
صادرات سياقه الثقافي الذي يشكل ذهنيته، أي أن تتجافى جنوبها عن الاقتراض
المعرفي من سياق ثقافي آخر، وإلا فهي غموض جديد لا يختلف عن غموض مَنْ
يستدني المعاجم والقواميس ليضمن كلماته الجافية قصائده الشعرية، يجب على
الشعر أن يكون نائياً عن أي نتوءات ناشزة تخدش ملاسة السطح الشعري، وهو ما
يفعله استدعاء الآخر الأسطوري في الأنا الشعري.
بيد أن هذا لا يعني رفض الغموض جملة وتفصيلاً، فقد يكون في الغموض
الذي يغيّب ملابسات القصيدة شيء من جمال، وقد يكون في غياب الغرض
الشعري جمال آخر، كما لا يُرفض الغموض الذي يأتي في النص المفتوح، ذلك
أن العمل الأدبي يتجلى في نفس متلقيه بمقدار ما يكون مفتوحاً، بحيث يعطي كل
قارئ للعمل بعداً يتفق مع مستوى قدراته الثقافية والنفسية [6] حيث النص مفتوح،
ومطلق للخروج، والقارئ ينتج النص في تفاعل متجاوب، لا في تقبل
استهلاكي [7] ، وهنا الفارق بين النص المغلق والنص المفتوح، هما كلوحين من زجاج، يشف الأول عما تحته ويصفه، تستطيع رؤية باطنه وكشف غوره بلا كثير عناء، والآخر زجاج عاكس ترى فيه صورتك أنت، مشاعرك وانفعالاتك، حركاتك وسكناتك، هو أنت وأنت هو.
ومثل هذا النص لا تتكشف دلالاته من القراءة الأولى للنص، إنما ينطبق
عليه الغموض الذي يدعو إليه عبد القاهر الجرجاني، الغموض حيث يزيدك الطلب
فرحاً بالمعنى، وأنساً به، وسروراً بالوقوف عليه [8] ، ذلك أن لو كانت المعاني
جميعاً مما لا يحوجك إلى الفكر ولا يحرك من حرصك على طلبه.. لسقط تفاضل
السامعين في الفهم والتصور والتبين، وكان كل من روى الشعر عالماً به، وكل من
حفظه.. ناقداً في تمييز جيده من رديئه [9] .
وغموضه غموض رمزي يستبطن دلالة ما، وهو ما يُحوِج إلى طلعة
استكشافية لمقاربة ذاك الأفق الرمزي، بشرط أن لا ترمز القصيدة إلى ما هو
شخصي، وإنما تتجاوز ذلك إلى الرمز الذي يؤدي وظيفة نفطن إليها ونعترف بها.
يُشَخّص خبرة عامة يتردد صداها من ضمير إلى ضمير في أزمان
متطاولة [10] ، إنه ليس في وسع الرمز الشخصي أن ينقل عاماً كونياً، لأنه لا يرتبط بتقاليد وثقافة وروح مشتركة. بل على العكس يأسر الشاعر الجزئيُ المحدد ويتغلب عليه، فيعود لا يغني للناس، وإنما يغني لنفسه وأذنه [11] .
إن مثل هذا الغموض المدروس هو ما يمكن أن تتقبله الأذواق السوية التي
تنأى بأوقاتها عن القراءة في كتابات عبثية لا تحمل أي فكرة أو هدف. إن الشعر
يجب أن يحافظ على أبرز خصائصه الفنية التي تعتمد على الإيحاء والإيماء
والغموض الدال، مع عدم فقدانه للمعطيات الفكرية التي تكون روحاً خفية تسري
بين أوصال النص.
__________
(1) زمن الشعر ص 21 دار العودة بيروت 1983م.
(2) الخطيئة والتكفير ص 121 ط/ نادي جدة الأدبي 1405/1985.
(3) السابق نفس الصفحة.
(4) النص القرآني وآفاق الكتابة ص 92 دار الآداب بيروت 1993.
(5) كتاب المتاهات والتلاشي في الشعر والنقد ص 181 د محمد لطفي اليوسفي دار سيراس تونس 1992م.
(6) الخطيئة والتكفير د عبد الله الغذامي ص 123.
(7) السابق ص 63.
(8) أسرار البلاغة تحقيق: محمود شاكر ص 142 دار المدني جدة 1412/ 1991م.
(9) السابق ص 146.
(10) الصورة الأدبية ص 183 د مصطفى ناصف دار الأندلس بيروت دون تاريخ.
(11) السابق ص 184.(84/74)
نصوص شعرية
الاكتشاف الأخير
د. ظافر بن علي القرني
هي في الحقيقة، نزهة الشيطان ... مزجت دم الإنسان بالشطّانِ
أقبلت في موج المحيط وإن يكن ... برداً فقلبك ثابت الغليانِ
هو جذوة أعيا المحيط لهيبها ... لهب ولكن ليس كالنيرانِ
من حرها هجر الطيور سماءها ... وتجنبتها أمة الحيتانِ
فتدحرجت في الشط تحرق كل ... من تدنو إليه ويا عذاب الداني
هي لم تفرق بين من عصفت بهم ... فالناس والحيوان كالعيدانِ
ما هكذا شأن الكشوف وشأن ... من يسمو بها بل ذاك شأن الجاني
ما كنت ثمة فاتحاً بل كنت ... ثم مدمراً لعشيرة وكيانِ
أَوَ ما قتلت رجالها ونساءها ... وعبثت بالفتيات والغلمان
وكتبت ما فعلت يداك مفاخراً ... وكأنه نصر لكل زمانِ
هذا الذي صدح الأنام باسمه ... ورأوه رمز تطلع وتفانِ
كهل تمرس في العلوم جميعها ... متولياً إرث الكيان الفاني
حتى إذا عبر المحيط بصحبه ... مزج العلوم بخفة الصبيان
همجية لا زال يلحق زخمها ... بالآخرين بأبعد الأوطان
ونتاجها مازال كل رذيلةٍ ... تأتي على الإنسان في الإنسان
أمم يسمون الهوى حرية ... ومهارة ويمجدون الزاني
المفسدون إذا تكشف أمرهم ... عبروا البلاد بفرحةٍ وآمان
والمجرمون إذا دنوا لعدالةٍ ... عدلت إليهم كفة الميزان
ويبررون فعالهم وإذا الذي ... عبثوا به يصغي بكل حنان
فيسرحون كما أتوا بمهابةٍ ... تدعو ذوي الإحسانِ للطغيانِ
وتزيد من حفظ الأمان مذلةً ... والناس عصياناً على العصيانِ
حرية الخوف التي يَحيونها ... فكر يُحار به ذوو الأذهانِ
الكل يرعد من سفاهة طائش ... تأتي على سنواته بثوان
والكل يوقن أن كل الأرض إلا ... أرضه في الرعب والتيهانِ
أكذوبة جبلوا على تصديقها ... يتبجحون بها بكل مكان
أو من تعج بلاده في مشكلٍ ... يقوى على ضبط المكان الثانيني(84/79)
رسالة
عرض حال
فاطمة محمد أديب الصالح
نحن الموقعين أدناه أبناء /1948/ وما بعدها، أبناء أحلام العودة، أبناء
الثورة والصمود و (الغضب الساطع آتٍ) و (البيت لنا والقدس لنا) .. أبناء (أصبح
عندي الآن بندقية) و (أنا صامد، صامد) .. و (عبس الخطب فابتسم..) [1] في
وصف الفدائي.. نحن العرب في كل ديار عاشت النكبة والنكبات ...
نحن أبناء الدموع والدماء والعرق تحت شمس المخيمّات.. يسلينا المذياع في
انتظار العودة فنسمع رسائل الشوق والعبث والبث منّا وإلينا في كل المحطات
العربية، تحاول أن تصل بيننا وقد ذُرِرنا كقبضة من رمل في كل أرض يابسة من
الكرة الصامتة..
نريد أن نوضح لكم، بناء على ما سبق، ولحيثيات أخرى كثيرة تقتضي
الحكمة الصمت عنها، أننا أصبحنا بحاجة إلى تغيير لخلايانا المعجونة بحبّ
التضحية والفداء والإباء، حتى ونحن قاعدون عنها، وبحاجة إلى غسيل لأدمغتنا
العنيدة التي لا تريد أن تفهم (لغة العصر المتمدن الساعي إلى السلام عن طريق
الحوار حول الموائد العامرة) .. وبحاجة إلى تغيير لدمائنا التي حقنتموها بغضاً
لليهود، وذلك كله حتى نتقبل فكرة مصافحة يهودي والانحناء له، ثم تسليمه
مستندات ملكية أرضنا وبحرنا وسمائنا، وليس أمامكم لتخليصنا من ذلك الإرث
المتخلف الذي ندمتم عليه، وتراجعتم عنه بعد أربعين سنة إلا الصبر.. فإذا كان
هذا صعباً لأنكم فيما يبدو على عجلة من أمركم، فثمة حلول أسرع: الخلايا يمكن
كيها بالنار فتغدو دون معالم.. الأدمغة يمكن غسلها بالبترول الخام أو المكرر.. الدم
يمكن تجديده بزرع قلوب جديدة. والمستورد منها أفضل.. ولكم الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عنهم
... ... ... ... مذهول بن مظلوم آل مصدوم ...
__________
(1) ما بين القوسين عبارات في قصائد مغنّاة، رددتها الألسنة العربية في تلك الحقبة، ومن أمثاله: الله أكبر يا بلادي كبّري/ وخذي بناصية المغير ودمري ومنها: يا أهلاً بالمعارك.(84/81)
مراجعات نقدية
وقفات مع النصوص الأدبية
في العددين (81-82)
محمد حسن بريغش
جمع العددان (81-82) من مجلة البيان عدداً من النصوص الشعرية التي
تدور حول موضوع عام يشغل عالمنا الإسلامي كله، وهو حالة المسلمين
والمؤامرات العالمية التي تحاك ضدهم، وكل نص من هذه النصوص أضاء جانباً
من جوانب الموضوع.
والملحوظ أن العددين المذكورين لم يضما غير الشعر، فلم يكن هناك أثر
للقصة أو غيرها من الفنون الأخرى [1] ، وكنت أتمنى أن تعنى المجلة بكل الفنون
الأدبية، وتحرص على تنويع النصوص.
وأول النصوص الشعرية نص وحيد في العدد (81) بعنوان رؤى خارج القيد
للشاعر تركي المالكي [2] .
والقصيدة تتردد بين عالمين يحاول الشاعر تصويرهما، وهما يتجاذبانه بقوة
إلى حد الشعور بالقهر والاختناق والتمزق بينهما.
العالم الأول هو الواقع الذي يعيشه المسلمون في شتى بقاع العالم، عالم يقوده
صُنّاع القهر من أعداء الإسلام والإنسانية، الذين يحيكون المؤامرات باسم الإنسان
وحقوقه، وباسم الدفاع عن الحرية، والنظام العالمي و....
ويُلْحظ أن هذا الواقع شكل ثقلاً مخيفاً في القصيدة التي تعكس الهموم التي
يعانيها الشاعر، ولا تلبث أن تنتقل عبر مقاطع القصيدة إلى القارئ.
وعبر الشاعر عن هذا العالم (الواقع) بالقيد، وخنق الأفكار والأعناق ثم
الإحساس بالخوف، وجوف القبر، وحالة الحصار، والجراح، وأسر التشيّؤ،
ولسع السياط، وقساوة الجلاد، وأصوات الأبواق المرعبة، والظلماء، والليل،
والأسوار، والجدب، والنار، والإعصار، والأصنام، وكل ما أشارت إليه
القصيدة، بمثل هذه الألفاظ رمزاً لهذ العالم.
والعالم الثاني: هو عالمه الداخلي المكبوت، عالم المظلومين والمقهورين عالم
المؤمنين المحاصرين الذين ينظرون من خلال الشقوق إلى الغد، الذين يدافعون
القهر، ويحاربون الظلم: بالصبر والثبات واليقين بالنصر، ويتطلعون إلى الضياء، والخير، يتطلعون إلى عالم العقيدة، إلى الآفاق البعيدة الرحبة المليئة بالخير
والضياء والأمل، عبر طريق التضحية والجهاد والعطاء حتى الشهادة أو الانتصار
على الأصنام وحملة القيد، وصناع القهر.
واستطاع الشاعر بشفافية أن يصور هذين العالمين، وأن يصور صمود
المسلم وثباته الذي لا يستسلم، بل يصبر ويصابر حتى يصل إلى ما وعد الله وما
بين الحصار همى على جرحي.. همى ترياقْ ورغم لفائف الظلماء! ... أبصر
أنجماً شقّت ستار الليل
برغم ما يحيطه من مؤامرات، وما يحس به من اختناق، كيف لا يحس بذلك
وهو يرى عبّاد الصليب وقتلة الأنبياء، وعبدة الأوثان يلاحقون المسلم في كل مكان، يحددون له ما يحل وما يحرم، وما يجوز وما لا يجوز؟ !
لقد تألّهوا باسم النظام، والإنسانية، وراحوا يتآمرون على الإسلام والمسلمين
في كل بقاع العالم، وينهبون خيراته ويمنعونه من أن يعبد الله.
القصيدة تصور ذلك عن طريق الإيحاء، وتصور أيضاً ثبات المسلم على
دينه، ويقينه بالنصر الموعود.
يرف الآن في سمعي صهيل الخيل
وتمتزج الدماء بشوقها والليل..
يضج منادياً بالويل..
ورغم الجدب والإعصار تَبْسُقُ بيننا شجّرة
تمد فروعها في الأفق.. منتشرة
إنه الأمل الذي لا يفارق المسلم مهما اشتد البلاء.
القصيدة مجموعة من الصور المتشابكة التي تحكي الواقع المتداخل، والحيرة
التي يعيشها المسلم إزاء ما يرى وما يحدث في شتى ديار الإسلام، ويبدو ذلك في
الألفاظ التي استعملها الشاعر كرموز بنجاح في أكثر الأحايين، وبدت عليه حالة
الاختناق، وصعوبة الاختيار في أحيان أخرى.
ففي الحالة الأولى نرى أمثال الألفاظ التالية التي ساعدت على رسم الصورة،
ونقل الحالة الشعورية والفكرية بنجاح.
تخنق الأفكار والأعناق أشواق القبر مصباحاً ترياق الأبواق صهيل الخيل
الدماء الليل أسوار الجفاف الجدب الإعصار الطيور الهاجرات القيد، تبسق..
وفي الحالة الثانية نرى ألفاظاً متعثرة لم تفصح عما يريد الشاعر، أو لم
تتناسب مع الصورة، فضلاً عن غربتها وبعدها عن اللفظ الشاعري، أو الدلالة
المقصودة مثل:
لفائف الظلماء فاللفائف لا تعكس المعنى المقصود من تكاثف الظلام وشدته
وثقله، بل فيها بعض الرقة والشفافية المتنافرة مع الظلماء.
ورشّت في المدى حزماً من الأضواء الأضواء لا ترش، الأضواء ترمز إلى
العزم والثبات، والإصرار على النفاذ، فهي لا ترش وليست حزماً يمكن أن تنثني
ويطاح بها.
تعين على غيار الصمت غيار لا تدل من حيث المعنى على التغيير بل على
الغيرة، فأي معنى أراد لها الشاعر؟ [*]
أسر التشيؤ ما هو التشيؤ؟ هل يراد بذلك الأشياء الجامدة، أو التكيف مع
إرادة الآخرين؟
لا أظن أن هذا الاستعمال يؤدي المعنى المطلوب.
ومع ذلك فالقصيدة لوحة فنية جميلة مؤثرة، تُبرز قدرة الشاعر على استخدام
الصور، بل استخدامها بطريقة ناجحة، ومركبة، وإعطاء الألفاظ بعداً جديداً، عند
وضعها في سياق الصورة على طريقة الرمز، لتحمل بشكل متآلف معاناة الشاعر
إلى قرائه، فإلى مزيد من التجويد والعطاء.
وفي العدد (82) خمسة نصوص شعرية، أولها نص بعنوان كائن بلا هوية
للشاعر الدكتور صالح الزهراني [3] .
وهذا النص يلتقي مع النص السابق، وما يليه في الموضوع العام، ولكنه
يركز على شخصية المسلم في هذا العصر الذي غدا كائن بلا هوية نسي تراثه
وماضيه، نسي تاريخه ومنهجه، وراح يأخذ من هنا وهناك، ويتربى على موائد
الآخرين، وأفكارهم، ومنهاجهم، ويأخذ عاداتهم وأذواقهم حتى نسي صبغته، ولم
يكسب ما يغنيه من الآخرين وأصبح ذليلاً تتناهشه الأمم، وتلتف الأكلة حوله كما
يلتفون على القصعة [4] .
النص لوحة فنية، اختار الشاعر لها أسلوب التساؤل المتكرر، والتعجب
الحائر لرسم هذه اللوحة، وتصوير أوضاع المسلمين:
من أي نهر شربت الصمت؟ من أين عممت هذا الذلّ؟
من أنت؟ كيف انحنى فيك هذا الرأس؟
أو طريقة الاستنكار: كأنه ما أتاك الكون مبتهلاً ...
واستخدام الشاعر أيضاً عدداً من الأسماء والألفاظ كرموز لها دلالتها
وإيحاءاتها التاريخية المعروفة التي ترمز للنصر، والقوة، والجهاد، والفتح،
والإباء.... . مثل سعد، البيرق، الفيلق، صلاح الدين، الخيول،.... العبسي،
ومع تصويره لحال المسلم هذه فإننا نلمح دعوة خفية تستنهضه لرفض الذل،
والنهوض من جديد:
من أنت؟ أقرأ في كفيك ملحمة ... موؤودة، وخيولاً كفنت بطلاً
كأنه ما آتاك الكون مبتهلاً ... يوماً، ولا حف بالنجوى ولا احتفلا
وهذه المقطوعة التي استخدمت كل هذه الألوان اللفظية والأسلوبية لتصوير ما
يريده الشاعر، أكثر أثراً في حس القارئ من قصيدة طويلة تخلو من التلوين
والصوير، أو من الإيحاءات والدلالات التاريخية والفكرية.
وهي محاولة جادة للشاعر في أن يرتاد الآفاق الشعرية الناجحة، ويقدم المزيد
من العطاء الجيد مادام يمتلك الحس الشاعري، والقدرة على التصوير، والخروج
من أسر الرتابة الأسلوبية.
المقطوعة الثابتة بعنوان (الأسماء) للشاعر فيصل بن محمد الحجي [5] وهي
لا تعدو أن تكون صياغة لمثلٍ عامي معروف، أو واقعة اجتماعية مألوفة، فالناس
يطلقون على أبنائهم الأسماء، والألقاب المناسبة وغير المناسبة، أو المجلوبة، كل
ذلك لأن اختيار الاسم لا يكلف صاحبه مالاً ولا تعباً.
ولو كان وراء الأسماء تبعات لعاش كثير من الناس بلا أسماء، أو اختاروا
أقلها كلفة وعناءً.
وهكذا ينطبق مثل هذا على كثير من الأمور التي تمر في حياة الناس،
فيتباهون بها ويتفاخرون لأنهم لم يدفعوا ثمنها، ولو سئلوا الثمن لتنازلوا عنها
وزهدوا فيها، وهربوا من تبعاتها، هذه المقطوعة نوع من النظم لبعض الأفكار
الطريفة، أو الأمثال المعروفة.
أما المقطوعة الثالثة التيه للشاعر محمد عبد القادر الفقي [6] فهي أيضاً تلتقي
مع بقية النصوص في الموضوع العام، وتتناول جانباً مهماً منه، هذا الجانب
يتصل بالإنسان المسلم كفرد، والأمة المسلمة كجماعة، والروح التي سرت في هذه
الأمة فتواكلت، وضعفت وتفرقت، فأصابها العذاب، وتشير المقطوعة إلى أن
سبب ذلك كله من أنفسنا أولاً:
عشش فينا الخوار وها نحن والرجز إلفان
ونصرخ ... نصرخ: يا من يجيء إلينا بسبع سنابل خضرٍ
يفيض علينا من الماء والزيت
ثم مِنْ تآمر الأعداء، من يهود ونصارى وأتباعهم، باسم العلم، والتقدم
والعمران، والتطور، والتقنية، والمساعدات ... الخ.
ويقبل جون بسنبلة في اليسار!
ومُديته ... في اليمين
ولكن العدو لا يستطيع أن يدخل الديار لو لم يجد منا ترحاباً وقبولاً، أو
(قابلية) كما يقول مالك بن نبي رحمه الله [7] :
وتمضي السنون ونحن نقبّل كفيه، والنعلَ
نلعق ما كان بالأمس عارا!
ويختصر الشاعر السببين في الآية القرآنية التي وضحت ناموس التغيرات في
المجتمعات والأمم:
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا [8]
لفاضت على البعد أنهارُ خير
وصار المواتُ رُبى من زروع وزهر
وأمطرت السّحب سمناً وشهداً
ويوضح المقطع الأخير النتيجة التي صار إليها المسلمون بعدما أعرضوا عن
الذكر، وصموا، وساروا في طريق الشياطين، وتركوا سبل المرسلين.
المقطوعة تحكي لنا قصة الواقع الإسلامي، كيف بدأ، ولماذا وصل إلى هذه
النتيجة عبر صور متتالية، موحية، تتعاقب مع مرور الزمن، وأحداث التاريخ.
وميزات هذا النص الذي آثر الطريقة الحديثة أنه يتسم بالوضوح والبساطة،
مع الحيوية والتدفق، وحسن اختيار الألفاظ الدالة الموحية التي ترسم بعداً مقصوداً
للصورة.
وكذلك فإن الشاعر في تصويره لواقعه الإسلامي كان يعيش في ظلال القرآن
الكريم، يقتبس من أنواره صوراً، ومعاني، وألفاظاً فتزداد الصورة وضوحاً،
وتألقاً وجمالاً.
فعلى سبيل المثال نراه منذ البدء يستخدم الألفاظ القرآنية، أو المستوحاة من
بعض الآيات القرآنية: التيه، الرجز، النار، تشوي، السماوات، تخر، تنشق،
سنبلة، المن والسلوى ...
أما الصور المقتبسة فهي على سبيل المثال والنار تشوي الوجوه، تكاد
السماوات من فوقنا تخر علينا، وتنشق من تحتنا الأرض، والموج يطغى، يا من
يجيء إلينا بسبع سنابل خضر، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا، ولكنهم ما وعوا
الذكر، ما كان أكثرهم مؤمنين [9] فحل عليهم عذاب مهين، ولو أنهم صدّقوا
المرسلين، وكانوا جميعاً من المفلحين.
فالمقطوعة نموذج أدبي جميل للنص الذي يعيش في ظلال القرآن، يمنح منه، ويستضيء بأنواره، ويتفيأ ظلاله فيزداد رسوخاً وقوة وجمالاً، ولو أن هناك
بعض الألفاظ التي تنبو عن الذوق الشاعري، أو لا تتوافق مع الصورة المبتغاة.
والنص الرابع في العدد (82) تحت عنوان دخان الصمت للشاعر عبد الوهاب
الزميلي [10] ، والنص يتصل ببقية النصوص السابقة في الموضوع العام:
(أوضاع المسلمين، ومكابدتهم في ظل النظام العالمي الجديد)
وهو يبشر بشاعرية مُجيدة، تحاول الغوص عن طريق استخدام الصورة
والرمز، وتفتح للقارئ أبواب التأمل والاستمتاع بجمال النص، وغموضه أحياناً.
والشاعر في هذا النص يتحدث عن حالة القهر والكبت التي يعيشها المسلمون
في بقاع الدنيا عن طريق الصورة الموحية، والألفاظ المختارة التي يود الشاعر أن
تشع بين يدي القارئ في عدة اتجاهات، فالمسلم من خلال الصورة الشعرية أصبح
هيكلاً جامداً فارغاً له مظهر دون مضمون، تختنق داخله المشاعر، وتموت
الأحاسيس، ويغرق كما أرادوا بالصمت، وعدم القدرة على أي شيء:
يد النحات تحفر في ... جماجمنا فماً حراً
ترقش في عظام الصدر ... ليلاً يقضم الفجرا
بل وتعدى اعتداء المتأمرين إلى الجيل القادم الأطفال رمز الأمل، وعدة
المستقبل.
تسرّب في رؤى الأطفال ... شهماً يخنق الطهرا
والصورة التي يتظاهرون بها أنهم يدافعون عن الإسلام، ويعلمون الجيل
الدين بعيداً عن كذا.. وكذا.. ولذلك استخدم الشاعر بعض الألفاظ بطريقة تدعوا
إلى السخرية من هذا المنطق، وتوحي بالخداع والغدر (فماً حراً) (شهماً) بهذه
الطريقة يصل إلى ما يريد، يبرز الصورة الحقيقية التي عملوا على إبرازها،
صورة داخلها خواء، وليل مظلم، وطهر مخنوق، وخمر باسم الماء.. وظاهرها
براق وشعارات خادعة.
والشاعر يستخدم الرمز عبر صور متعاقبة، بل تكاد القطعة أن تتحول إلى
رموز متتالية (الأحداق، نقشوا، الدم، الحبر، النحات، حراً، ليلاً، الفجر،
معاطس، يغوث، نسراً ... الخ) وهذه مزية واضحة للشاعر في استخدام الصورة
والرمز للتعبير عن فكره ومشاعره، ولكن الرمز قد يؤدي الغرض في جمال
القصيدة وعمقها ومنحها أبعاداً جديدة ورؤى طريفة، ويكون ذلك حين يحاور الرمز
قارئه، ويطاوعه ولو بعد حين في الإفصاح عن بعض مكنوناته أو كلها، أو حين
يضيء للقارئ شيئاً من الفهم، أو التأويل المقبول والتذوق السائغ، أما حين يستغلق
هذا الرمز على قارئه، أو يغرق في الإبهام ويحيط العبارة بالبعد والغربة، حينها
يتحول الرمز إلى عتمة تظلل القصيدة، إلى حد النفور منها أحياناً، أو عوارض
تمنع التواصل بين الشاعر والمتذوق.
وشاعرنا يقف في هذا بين بين، ففي المقطعين الأولين كان الرمز ناجحاً،
أسهم في تعميق الفكرة، ولوّن الصورة ولكنه في المقطعين الأخيرين بدأ يغرق في
الإبهام الذي تعوده بعض الناس، لغرض أو أغراض.
ولا نريد لشاعرنا أن يماثل هذه الصورة، ولو بطريقة غير واعية، لأنه ولا
شك يجب أن يمنح القارئ بعض مكنونات عقله وفكره، وأن يظل قارئه موصولاً
به عبر طريق الفهم والتذوق، ولو كان ذلك من خلال برقيات قصيرة.
والنص الأخير (أنواء) للشاعر محمد البراهيم [11] لوحة فنية جميلة، تلتقي
مع النصوص السابقة في الموضوع العام، ولكنه يضيء جانباً آخر من الموضوع،
وهو جانب الذين تخلوا عن مجتمعاتهم الإسلامية خدمة للآخرين، ففتحوا لأعداء
هذه الأمة أبواباً ومداخل ليعبثوا بمقدراتها، ما كانوا ليستطيعوا الوصول إليها لولا
تطوع هؤلاء لخدمتهم.
لقد استطاع أعداء الإسلام الوصول إلى عقولنا وأفكارنا، وأذواقنا ليغرسوا
فيها الأفكار الدخيلة باسم العلم، والتطور والتقدم، والمدنية، و ...
لقد أعطيناهم قيادنا حين تركنا لهم قيادة التربية، فربوا الأجيال على النفور
من الدين، وحب الدنيا، والشغف بالمطامع والحرص على الدنيا إلى درجة العبادة، والإعجاب بالأعداء، وتقليدهم بطريقة مخيفة، حتى صار في أمتنا من يحمل
أفكارهم وأضاليلهم، وعاداتهم، وأذواقهم، وبات هؤلاء يدافعون عنهم وينفّذون ما
يريدون.
أشار الشاعر إلى هذا من خلال رموزه التاريخية، وسرده للأحداث: يمضي
عام ويجيء عام، وتظل رعاة الأزلام تزرع عذراً، في عيني غدنا الأحلام..
وأصبح الطوسي (محمد بن الحسن الطوسي) الذي والى التتار وكان مستشار
هولاكو، ودليله لاحتلال بغداد وقتل أهلها، وتخريب مكتباتها، أصبح هذا رمزاً
لكل من يفعل هذا على مدار الأزمان، فالطوسي أصبح له مئات الأسماء والألوان،
وأصبح لديه مدرسة كاملة من الأعوان، وليس لقب (الغازي) الذي أعطى لأتاتورك
عند محاربته للإسلام وإلغاء الخلافة، وإعدام مئات العلماء إلا صورة من صور
الطوسي، وهناك عبرة من الأسماء والأعوان.
المقطوعة على قصرها وبساطتها، ووضوحها تحكي لنا قصة عالمنا
الإسلامي الذي وقع فريسة للأعداء بسبب الذين يوطئون خيل التتر، ويستدعون
حجر الأطهار.
لقد استخدم الشاعر أحداث التاريخ، فأخذ منها بعض الرموز، وأشار إلى
بعض الأحداث التي تضيء الفكرة، وتوحي بدلالات أرادها الشاعر لتساعده على
رسم الصورة، وإضاءة الواقع الذي نعيشه، لنفتش عن الطوسي فينا، ونتعرف
إلى منابع الخراب، والقصيدة جيدة، والرموز تخدم الصورة وتبشر بعطاء جيد إن
شاء الله.
__________
(1) أورد الملف الأدبي في العدد (82) تعقيباً على قراءة سابقة لصاحب المقال انظر الصفحات 50- 55، ومقالاً عن (مأزق النقد في الفكر الحداثي، الصفحات 94- 103.
(2) البيان العدد (81) جمادى الأولى 1415هـ اكتوبر نوفمبر 1994م الصفحات 57- 59.
(3) البيان (82) جمادى الآخرة 1415هـ نوفمبر 1994م الصفحات 44، 45.
(4) مصداقاً لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها إلى أخر الحديث.
(5) البيان (82) صفحة 46.
(6) البيان (82) الصفحات 47- 49.
(7) انظر كتاب شروط النهضة لمالك بن نبي.
(8) إشارة إلى الآية القرآنية [ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون] [الأعراف: 96] .
(9) ترددت هذه الآية، أو هذه العبارة من الآية في سورة الشعراء في الآيات 8، 67، 103، 121، 139، 158، 174، 190، وكان تكرارها تعقيباً على ما حصل للأقوام التي كفرت بأنعم الله، وصدت عن دعوة الأنبياء واختارت الضلال فنزل العذاب وحينها يجيء التعقيب [وما كان أكثرهم مؤمنين] .
(10) البيان (82) الصفحات 56، 57.
(11) البيان (82) صفحة 58.
(*) الكلمة تصحَّفت في الطباعة إلى غيار في العدد (81) والأصل غبار وقد علق عليها الناقد من خلال اللفظة المصحّفة البيان.(84/82)
في دائرة الضوء
الفكر الإسلامي والمستقبل
د. محمد عز الدين توفيق
ليس الهدف من هذا العرض هو مناقشة موقف الفكر الإسلامي من الدراسات
المستقبلية، فهذا جزء من الموضوع، ولكن هدف العرض هو مناقشة موقف الفكر
الإسلامي إزاء المستقبل وعلم المستقبل؟ .
وبعبارة أخرى فالموضوع هو إشراك الفكر الإسلامي في الصراع الحضاري
عن طريق لفت النظر إلى ضرورة الاهتمام بالتحديات المتوقعة إلى جانب التحديات
الحاصلة والواقعة.
والاهتمام بالمستقبل قبل مجيئه ليس أمراً جديداً يميز القرن العشرين، فقد كان
الاهتمام بالمستقبل واستشرافه منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، فإن الله تعالى خلقه
يوم خلقه عاقلاً ناطقاً، ومن صفات العقل قدرته على التحرر من سلطة الحاضر
الذي يسجن الجسم في إطاره، فالإنسان يستطيع أن يتحرر بعقله من حاضره،
فيغوص في الماضي متذكراً أحداثه أو يحلق في المستقبل متخيلاً وقائعه، ولقد
استجاب آدم لوسوسة الشيطان وأكل من الشجرة والله أعلم بناء على تفكير مستقبلي، فقد وعده إن أكل منها أن يخلد في الجنة، وكان هذا أول تفكير مستقبلي مارسه
الإنسان لكنه لم يكن في موضعه، لأنه أغفل الشرط الأساس ليكون التفكير سليماً
وهو كفاية المعطيات وسلامتها وصحة مصادرها، وإذا كانت دراسة المستقبل قبل
مجيئه قديمة قدم الإنسان فما الذي يميز عصرنا عن غيره؟ والجواب أن الجديد في
عصرنا هو أن دراسة المستقبل أصبحت علماً قائماً بذاته، له موضوعه ومناهجه
وإطاره العام.
استشراف المستقبل تعامل مع سنن الله في الخلق:
استشراف المستقبل لإعداد ما يكافئ تحدياته من صميم الإسلام، وقد قص
علينا القرآن الكريم قصة الرؤيا التي رآها عزيز مصر وفسرها يوسف عليه السلام
تفسيراً تضمن التخطيط لخمس عشرة سنة مقبلة، ورغم أن الدراسات المستقبلية لا
تنبثق عن تعبير لرؤى وأحلام ولا تنطلق من حدس وحديث نفس ولكن هذا المثال
يصلح الاستناد إليه في بيان موقف الإسلام من الاهتمام بالمستقبل، ويسجل للإسلام
سبقه إلى إبطال الطرق غير العلمية التي كان الأفراد والدول يلجؤون إليها لمعرفة
المستقبل، وتدور كلها حول الشعوذة وقراءة الطالع والاستعانة بالعرافين والكهنة.
لقد ضحى الإسلام بذلك الجزء الضئيل الذي يكون فيه هؤلاء الكهنة والعرافين
على حق وهدف؛ لأنه ضئيل ولا يتميز من بين كذب كثير، ولم يبق من سبيل بعد
أن حرم الإسلام إتيان العرافين وتصديقهم بما يقولون، إلا الدراسة العلمية التجريبية
أو الميدانية فهذه الدنيا قائمة على سنن، منها ما يسير به الكون ومنها ما يسير به
التاريخ، سنن في الطبيعة وسنن في المجتمع، والذي يتعرف إلى هذه السنن
يستطيع أن يتنبأ بالنتائج إذا وجدت أسبابها دون أن يكون ذلك علماً بالغيب أو
مزاحمة لله في علمه، فالله الذي أذن للإنسان أن يتعرف على الكون وعلى نفسه هو
الذي أذن له أن يتعرف على حركته ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وتبقى الفروق ثابتة
بين علم الله المحيط وعلم الإنسان المحدود، بين علم الله المطلق وعلم الإنسان
النسبي.
ولا يعكر على هذا أن يقال: إن المستقبل يعلمه الله، وإن كثيراً من التنبؤات
تضل وتفشل فيما تنبأت به، فالكلام الآن ليس عن دقة هذه التنبؤات أو عدم دقتها
ولكن الكلام عن مشروعية الدراسة المستقبلية أو عدم مشروعيتها.
وإذا علمنا أن التاريخ في هذه السنوات الأخيرة يسير بسرعة كبيرة والكل
يستعد للدخول إلى القرن الواحد والعشرين دخولاً راسخاً يحفظ له حقوقه ومصالحه، وأن الشغل الشاغل للدول المتقدمة هو المستقبل، لأن الحاضر حصيلة دراسات
تمت في الماضي وتجني تفاصيلها الآن.
إذا علمنا ذلك وعلمنا أن الإسلام يأبى على أمته أن تكون بدون موقع في هذا
التدافع الحضاري علمنا أن الاهتمام بالمستقبل بهذه الطريقة الجديدة من باب الأخذ
بالأسباب، ومدافعة القدر بالقدر.
إن قيام الحضارات وسقوطها وتقدم الأمم وتخلفها والنصر والهزيمة، والقوة
والضعف كل ذلك خاضع لسنة الله ومشيئته مبثوثة في الوحي وفي الواقع، والبحث
عنها في عصرٍ كلّ شيء فيه يسير بعلم من صميم الإسلام.
طبيعة الواقع الراهن للأمة الإسلامية وخصوصياته:
حين وقعت الحروب الصليبية الأولى التي استغرقت حوالي مئتي عام
(1096-1291م) ، كان المسلمون قد انحرفوا عن الإسلام الصحيح ببدع ومعاص،
ولكن الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع نقاش، لا بوصفه عقيدة، ولا بوصه
نظام حياة، وحتى عندما انهزموا أمام الصليبيين والتتار لم يكن أثر الهزيمة هو
الشك في الإسلام والتطلع إلى دين الغزاة وفكرهم وتقاليدهم وقوانينهم، ولم يقع
تفضيل ذلك على الإسلام وبعبارة أخرى لم تتزعزع الثقة في كمال الإسلام وأفضليته
على غيره، وكان الرضى بالإسلام أمراً مستقلاً عن هزيمة عسكرية مؤقتة سرعان
ما اجتمعت للمسلمين الشروط المادية لإزالة آثارها.
أما الواقع الراهن للعالم الإسلامي فيتميز بأن هذه المسلمات تعرضت للاهتزاز، ... وهذه أهم ميزة لموجة الانحراف الراهنة فلم تتم تنحية الإسلام من الواقع فقط بل
ومن الفكر أيضاً، وأصبحت اللادينية أو العلمانية فكراً وممارسة.
حاضر الأمة الإسلامية متشابه:
إذا وعينا هذه الميزة البارزة لموجة البعد الحالية وأدركنا الفرق بين الصورة
الحالية للانحراف عن الإسلام والصور المتقدمة سنرى أن حاضر العالم الإسلامي
من هذه الناحية متشابه، فمشكلته واحدة، تتمثل في كونه يعيش مرحلة ما بعد
الاستعمار.
لقد اشتغل الغرب لفترة قصيرة بمناوشة جانبية عندما كان الغرب الرأسمالي
في مواجهة الشرق الشيوعي، ولكن العالم الإسلامي ظل طيلة هذه الفترة مصنفاً
ضمن العالم الثالث الذي تتقاسم المعسكرات النفوذ فيه، واليوم وبعد انهيار المعسكر
الشيوعي وتوحد الحضارة الغربية بوجهيها عاد الصراع إلى أهله وعادت المواجهة
كما كانت بين نموذجين في الحياة: نموذج قائم على الإيمان بالله والاستعداد للقائه،
ونموذج قائم على الكفر بالله وجحود لقائه.
وقد كثر الكلام عن طبيعة النظام الدولي الجديد، ولكنه ببساطة استفراد
للولايات المتحدة بزعامة العالم والهيمنة عليه.
ومهما اختلفنا فلن نختلف حول ثلاث نقاط أساسية هي:
الأولى: أن أمريكا في ظل هذا النظام الجديد تريد أن تكون الدولة الأولى في
العالم.
الثانية: أن أمريكا تعتبر نفسها ممثلة لحضارة قائمة بذاتها وليس لنظام سياسي
فحسب.
الثالثة: أن العالم العربي والإسلامي يمثلان بالنسبة لأمريكا أول منطقة يجب
تطويعها لهذا النظام الجديد، وذلك لسببين:
أ- خيرات العالم الإسلامي، فهذا العالم الذي يمتد في وحدة جغرافية من
المحيط إلى المحيط يملك ثروة زراعية وحيوانية وبحرية ومعدنية هائلة، كما يمتلك
مقومات التصنيع والتقدم كاملة من أرض وبحار وموانئ ومواقع استراتيجية وعقول
وأيدٍ عاملة وأموال وطاقة ومعادن.
ب- ما يملكه هذا العالم من بديل حضاري مستقل، يستند إلى مرجعية مختلفة
هي الإسلام.
هناك إذن إرادة سياسية لا هوادة فيها لمواجهة أي نظرية دولية مستقلة عن
النظرية الأمريكية، وهذه الإرادة أكدتها كل الأحداث والتحركات السياسية التي
عرفها العالم في الفترة الأخيرة، وإذا أردنا أن نتكلم بوضوح أكثر نستطيع أن نقول
بأن ما يراد بالعالم العربي والإسلامي في المستقبل أسوأ من الذي فُعل به في
الماضي ويُفعل به في الحاضر.
فالغرب قام في حضارته على القهر والغزو وتسخير الشعوب لخدمة الأقلية
البيضاء، وعندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي فإن الروح الصليبية لا تفارقه حتى
وهو غير متدين.
يلخص الاستاذ (منير شفيق) [*] السياسة الأمريكية الحاضرة والمقبلة في
المنطقة العربية والإسلامية في أربع نقاط ذكرها في كتابه (النظام الدولي الجديد
وخيار المواجهة) وهي:
1- تشجيع الهجرة المليونية من روسيا وأوروبا الشرقية إلى إسرائيل.
2- تجريد المنطقة من السلاح غير التقليدي والقدرات العلمية والصناعية
والتقنية.
3- التحكم في السياسة النفطية وسياسات التنمية بصفة عامة.
4- الحفاظ على التفوق العسكري والتقني لإسرائيل على مجموع الدول
الإسلامية.
علاقة النظام الدولي بالمشروع الصهيوني في المرحلة القادمة:
لا يمكن الحديث عن النظام الدولي الجديد دون الحديث عن علاقته بالمشروع
الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية، وقد تميزت أولى ملامح هذا النظام
بالتغييرات السياسية التي وقعت في الشرق العربي.
فإذا أخذنا القضية الفلسطينية مثالاً نرى أن مسلسل الأحداث سار في كل مرة
في صالح العدو، فمن فلسطين ولاية من ولايات الدولة العثمانية إلى فلسطين تحت
الانتداب البريطاني، إلى فلسطين مقسمة في عام 1948م، إلى هزيمة في عام
1967م وضياع القدس، إلى اتفاقات كامب ديفيد واعتراف أكبر دولة عربية
بإسرائيل والقيام بالخطوات الأولى نحو تطبيع العلاقات، إلى إخراج المنظمة من
لبنان، إلى اتفاق أوسلو واتفاق القاهرة وخيار غزة/أريحا الذي اعترف فيه رئيس
المنظمة بإسرائيل، وقبل بحكم ذاتي محدود على مساحة صغيرة من أرض فلسطين
لا تتجاوز اثنين في المائة من الأراضي المحتلة.
والمرحلة المقبلة هي استكمال المفاوضات لتطبيع العلاقات السياسية بين
إسرائيل وبقية الدول المجاورة والمرور بعد ذلك إلى مرحلة العلاقات الدبلوماسية مع
سائر دول العرب والمسلمين ومن وراء تلك العلاقات التطبيع الثقافي والسياسي
والتجاري..، حتى تجهز الثقافة اليهودية والنصرانية على البقية الباقية من الثقافة
الإسلامية.
مهمة الفكر الإسلامي إزاء هذا الحاضر ومسؤوليته تجاه المستقبل:
المهمة الثابتة للفكر الإسلامي في هذا العصر وفي غيره هي الدفاع المستمر
عن كمال الإسلام وأنه الحق الوحيد بين المذاهب والعقائد حتى يتجدد الرضى به في
الأجيال ولا يتعرض هذا الرضى للقطيعة في عصر من العصور، فينشأ جيل من
الأجيال على رفض الإسلام والتنكر له والبحث عن السعادة والكرامة في غيره.
مهمة الفكر الإسلامي الثابتة في كل عصر هي ملاحقة الشبهات والطعون التي
تسعى للتشكيك في صلاحية الإسلام للتطبيق وقدرته على القيادة وتحقيقه للسعادة
الدنيوية والأخروية.
وبعبارة أخرى فإن مهمة الفكر الإسلامي تتلخص في الآية الكريمة التي قال
الله تعالى فيها: [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا] [المائدة: من الآية 3] .
فالفكر الإسلامي في كل عصر سيستأنف مهمة البلاغ المبين ويقوم على
حراسة الجبهة الفكرية من الصراع الحضاري كما يقوم بإظهار دين الله على غيره
بالحجة والبرهان.
وفي إظهار هذه المهمة الثابتة للفكر الإسلامي ستبدو مهمته في المرحلة القادمة
صعبة وعسيرة، ذلك أنه سيتصدى لنموذج حضاري على النقيض من النموذج
الإسلامي الذي يدافع عنه، لكنه نموذج يملك كل الوسائل التي تعينه على الانتشار
بل وتعينه على الهيمنة رغم إرادة الشعوب.
هكذا ينهض الفكر الإسلامي بالمهمة:
إن مهمة الفكر الإسلامي في المرحلة المقبلة هي مواجهة هذا النموذج القديم
الجديد، وهو نموذج ثقافي أساساً وله وجه اقتصادي وسياسي فكيف ينهض الفكر
الإسلامي المعاصر بهذه المهمة؟ .
أولاً: على مستوى الموضوع:
لابد أن يتخلص الفكر الإسلامي من جميع صور التضييق التي مورست عليه
في الموضوع , وجعلته في حس الكثير من المثقفين والطلاب يرادف النقاشات الكلامية والفلسفية لبعض الفرق الإسلامية.
فالفكر الإسلامي في موضوعه رحب واسع يستمد سعته وشموله من شمول
الإسلام الذي يتحدث باسمه ومن تعقد الواقع الذي يعالج هذا الفكرُ قضاياه.
مجالات الفكر الإسلامي عديدة منها المجال الفلسفي والمجال العلمي والمجال
التاريخي والمجال الحضاري والمجال اللغوي والمجال الأدبي والفني، والمجال
السياسي والاقتصادي والمجال التربوي والدعوي.
ليس بمعنى أن الفكر الإسلامي فلسفة وعلم وتاريخ وأدب ... ولكن الفلسفة
والعلم والتاريخ والأدب والاقتصاد وغيرها من اهتماماته، ونعتقد أن القضايا التالية
يجب أن تنال مزيداً من العناية في المرحلة المقبلة حتى يكون الفكر الإسلامي
حاضراً في المعركة.
*مسألة الديموقراطية وبأي معنى يمكن قبول هذا المصطلح في المجتمع
الإسلامي وهل يمكن أن تأخذ معنى مشتقاً من الشورى في الإسلام إذا علمنا أن
الشورى في الإسلام مبدأ عام تتغير الأساليب التي تحققه في المجتمع الإسلامي.
*مسألة حقوق الإنسان، وما هو التأهيل الإسلامي لهذا المصطلح الذي
يتصدر المصطلحات السياسية للنظام الدولي الجديد.
*مشكلة البيئة وقضايا التلوث الجوي والصوتي والمائي والاستخدام السيء
للعلم والتقنية.
*نموذج الدولة المدنية أو الدولة الحديثة، وكيف تنسجم في الدولة صفة
الإسلامية وصفة الحداثة.
*التعددية الفكرية والسياسية وبأي معنى يمكن أن تمارس هذه التعددية في
المجتمع الإسلامي.
*مفهوم الأصولية والتطرف والمعاني الجاهلة والمغرضة التي تستعمل لها
هاتان الكلمتان، وما هو التطرف الذي نهى عنه الإسلام، وما هي آثاره السلبية
على مستقبل الإسلام في العالم.
*الإعلام والمشكلة التربوية: كيف تقوم التربية الإسلامية بدورها في عالم
مفتوح وفي ظل تواصل ثقافي واقتصادي وإعلامي متشابك.
*قضية المرأة: حقوقها وحريتها في المجتمع والفروق بين أحكام الإسلام
الثابتة وبين التقاليد والعادات التي نشأت حول المرأة في المجتمع الإسلامي.
*الفكر الإسلامي في خدمة الدعوة الإسلامية ونشر الإسلام في العالم غير
المسلم والقيام بالحوار الحضاري المطلوب مع الأمم الأخرى.
*التأصيل الإسلامي للعلوم الإنسانية، ودعم التجارب الحاصلة في الميدان.
* تعميق الدراسات في فقه الموازنات وفقه الأولويات على ضوء الواقع
الحاضر مع الاستعانة بمباحث الفقه والأصول وبخاصة القواعد الفقهية والأصولية،
وتطبيق هذه القواعد في مجالات الفكر والتربية.
وعندما نقول إن المرحلة المقبلة تستلزم اهتمام الفكر الإسلامي بهذه القضايا لا
نعني أن هذه الموضوعات لم تطرق بعد، ولكنها تحتاج إلى تعميق واستكمال حتى
ترى الأجيال الصاعدة الإسلام بديلاً حضارياً شاملاً، ثم تتمكن البشرية كلها بعد ذلك
من التقاط صورة حقيقية عن الإسلام لا بوصفه أحكاماً فقهية فردية فقط، بل
بوصفه ديناً عالمياً قادراً على تأطير الحياة الإنسانية على الأرض واستلام القيادة من
أي نقطة انتهى إليها شعب من الشعوب في رقيه وتقدمه وحضارته.
ثانياً: على مستوى المنهج:
وبالنسبة للمنهج فإن المستقبل يستدعي أن يتخلص الفكر الإسلامي من منهجين
تسلطا عليه في المرحلة السابقة فحرفاه عن مهمته الحضارية:
الأول: المنهج الاستشراقي الذي بدأه المستشرقون من غير المسلمين:
ونشأ عليه جمع من تلاميذهم، وحصيلته التشكيك في الإسلام وفي التاريخ الإسلامي وتعميق نقط الخلاف وتلميع مناطق الضعف في التجربة التاريخية للإسلام وطمس مواطن القوة فيها.
الثاني: المنهج العلماني أو اللاديني بوجهه الليبرالي والاشتراكي:
الذي يستعمل النصوص والوقائع لتمجيد التجربة الليبرالية أو الاشتراكية ولا ينطلق من الإسلام لتنفيذ التجربتين.
بهذا التحرر في الموضوع والمنهج يمكن للفكر الإسلامي أن يدخل في مواجهة
المستقبل ويتولى إظهار الدين الحق في جبهة الفكر أو في جبهة الكلمة، [يريدون
ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون] [الصف: 7، 8] .
لقد كتب فرانسيس فوكوياما وهو مستشار وزارة الخارجية الأمريكية كتابه
نهاية التاريخ مدعياً في هذا الكتاب أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر
الشرقي لم يبق أمام العالم في المستقبل إلا النموذج الأمريكي، وتنبأ بأن العالم
سيتبع هذا النموذج وتلك نهاية التاريخ! ! .
والحقيقة أن نهاية التاريخ مقرونة بنهاية الحياة الإنسانية على الأرض، أما
الصراع بين الحق والباطل فهو باق ما بقيت الحياة، وإذا كان هذا المستشار قد
اعتقد أننا قربنا من نهاية التاريخ بعد انهيار المعسكر الشرقي فلأنه لم يدرس البديل
الحضاري الذي يملكه العالم الإسلامي، والذي سيكون النموذج المقابل للنموذج
الأمريكي في المرحلة القادمة.
كما كان من قبل نموذجا ثالثاً ... يقف في وجه النموذج الأمريكي والسوفيتي
معاً، وإذا علمنا أن النموذج الأمريكي ليس عنده ما يقدمه للبشرية علمنا أن نهاية
التاريخ حقاً هي عودة البشرية إلى النموذج الإسلامي.
إن النموذج الأمريكي لا يملك ما يقدمه أكثر من لبس الجينز، وتدخين
المارلبورو، وشرب الكوكاكولا، وأكل الماكدونالد، ثم الحرية الجنسية، والإلحاد
والعبث والقلق.
وقد كتب السفير الألماني بالرباط الأستاذ مراد هوفمان كتابه الإسلام كبديل
يرد فيه على كتاب فرانسيس فوكوياما ويتحدث عن البديل الإسلامي القادر على
تجاوز سلبيات النموذج الأمريكي الذي تسعى أمريكا الآن لتعميمه على العالم، حتى
تكون الحضارة الأمريكية هي حضارة القرن الواحد والعشرين يقول إن هناك بشائر
تدل على أن هذا النموذج المبعد والمحارب ستكون له الغلبة في المستقبل، لكن
منطق الأسباب يفرض على الفكر الإسلامي أن ينهض بمهمته في بناء الرضى
بالإسلام في نفوس المسلمين وبخاصة في نفوس النخبة المثقفة التي تأثرت بالعلمانية
الغربية، ونمط الحياة الأوربي.
وأمريكا ليست قدراً غالباً، والله غالب على أمره، وتستطيع الأمة الإسلامية
أن تسير وفق نموذجها الحضاري دون أن تراهن على سقوط أمريكا باعتبارها دولة
عظمى.
ولا شك أن الذي يمثل هذا المشروع المستقبلي الذي يُنَظّر له الفكر الإسلامي
ويؤصل هو الصحوة الإسلامية المعاصرة، فهي الممثل الشرعي لهذا المشروع،
ولذلك فإن من أولويات النظام الدولي الجديد: القضاء على هذه الصحوة تحت
مسميات مختلفة كمحاربة التطرف ومقاومة الإرهاب وإجهاض جميع المبادرات التي
تحاول الاستفادة من التراث النظري للعقل الإسلامي لإخراج التجارب الواقعية،
سواء أكانت في صورة دولة إسلامية حديثة تجربة السودان مثلاً أو في صورة
حركات إسلامية شمولية تسعى في أقطارها لإقامة الدين في مختلف مجالات الحياة.
إن الجهود الكبيرة التي يبذلها الغرب لتشويه الصحوة الإسلامية والحركة
الإسلامية التي
تمثلها، والتحريض والضغط الذي تمارسه على الأنظمة للإيقاع بينها وبين
هذه الحركات، هو امتداد للغزو الفكري الذي كانت تمارسه فلول المستشرقين
والمبشرين قبل الاستعمار والهدف واحد هو تنحية الإسلام عن قيادة المجتمع،
وعزله عن النخبة والجمهور، وتكريس التبعية للنموذج الغربي وكأنه قدر لازم،
وقوة غالبة.
ورغم السلبيات التي تظهر أحياناً في ممارسات هذه الحركات فإنها في النهاية
تحمل مشروع المستقبل بالنسبة للعالم بعامة والعالم الإسلامي بخاصة وإذا كان الفكر
الإسلامي فيه اجتهادات تصحح نفسها باستمرار، فإن تنزيل هذه الاجتهادات على
الواقع يجب أن يعرف نفس التصحيح، حتى تكون الصحوة الإسلامية في مستوى
المسؤولية العالمية التي تتحملها، وتكون في مستوى الدين الإسلامي الذي تتحدث
باسمه وتستند إليه وتعده المرجعية العليا في الفهم والتطبيق.
__________
(*) منير شفيق مفكر فلسطيني هدته رحلته الفكرية لتبني الاتجاه الإسلامي، وله العديد من الدراسات الفكرية الجيدة منها الرد على أطروحات علمانية.(84/94)