خواطر في الدعوة
مزالق الطريق
محمد العبدة
ليس المصلح من يُعَلّم الناس الخير، ويلقنهم حب الفضائل، ويتعلمون منه
أنواع العلوم فيحفظونها ويطبقونها، ولكن من يحتاط ويحترس، ويخشى من زغل
العلم ودخائل النفس وخباياها، فينبه إلى المزالق، ويقطع على تلامذته طرائق الفهم
الخاطئ، أو وضع الكلام على غير مواضعه، وذلك لأن للنفوس عاهات تعتريها
من شغف بالغرائب، وحب للظهور والتعالم، فالمربي هو الذي يحرس هذا العلم
من أن تتلاعب به الأهواء فتحمله على ما تريد وتصل به إلى مدى لا تحمد عقباه،
كما يحرسه من أنصاف المتعلمين الذين لم يرسخوا فيه.
وعندما تطلق العبارات العامة أو المجملة دون تخصيص أو تفسير فإن الناس
يحملونها على غير محملها؛ وهذا ما يربك الأفهام، وخاصة إذا تعلقت بأمر من
أصول العقائد كالولاء والبراء، أو الإيمان والكفر أو بالمفاهيم الأساسية للإسلام.
ومن هنا ينشأ التفرق والاختلاف، وتتشعب الآراء والأفكار، وذلك لنقص العملية
التربوية.
إن منهج الاحتراس وسد الكُوى منهج قرآني جاءت به آيات كثيرة، قال
تعالى: [لا يستوي القاعدون من المؤمنين، غير أولي الضرر، والمجاهدون في
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين
درجة وكلاْ وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراْ عظيماْ] [1]
وقال تعالى: [فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله
رمى] . [2]
وهو منهج نبوي، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم يعيد الكلمة ثلاثاً
لتعقل عنه ومن صفة كلامه أنه بين فصل يحفظه من جلس إليه، وقد عَلّم المسلمين
التأدب مع الأنبياء حتى لا تقع منهم الهفوة ولو كانت غير مقصودة، قال -صلى الله
عليه وسلم-: «ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن مَتى» وعندما
قال له رجل: يا رسول الله يا خير البرية، قال: «ذاك إبراهيم» .
وهذا منهج سلفي، فقد خشي التابعي الفقيه عبيدة السلماني أن يضع الناس
كتبه على غير مواضعها، فدعا عند موته إلى محوها ورعاً، وقد تكلم الحسن
البصري بكلمة حملت على أنها مغايرة لمنهج أهل السنة، قال ابن عون: «لو
علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً وأشهدنا عليه شهوداً، ولكن
قلنا: كلمة خرجت لا تحمل» .
إن في العالم الإسلامي اليوم نهضةً علميةً، وطلبة علم حريصين كل الحرص
على تلقيه وحفظه، وهم حريصون على لقاء العلماء والمربين، فإذا لم يكن العالم
ربانياً عارفاً بدخائل النفوس، يعطي طالب العلم ما يحتاجه ويعيه كان عاقبة ذلك
الغلو والتفرق، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذا أمر لا يسر من كان همه
مصلحة الدعوة وانتشار الإسلام، وإذا كانت هذه الآفات موجودة في واقعنا اليوم،
فكم نتمنى على المربين التنبه لها، وسد هذه الثغرة ليكون البناء سليماً.
__________
(1) النساء، آية (95) .
(2) الأنفال، آية (17) .(70/22)
مقال
صور من الإفك الأكاديمي
نورة السعد
لما يزل بعض أساتذة الجامعات من مثقفي هذه الأمة المنكوبة ببعض أبنائها
يزعمون أنهم سدنة في محاريب العلم، لكنهم ما فتئوا يتصرفون بعنجهية.. إنهم
يظنون أنهم وحدهم! القادرون على تحليل مجريات الأحداث وأنهم وحدهم!
المخولون بالحكم عليها، لأنهم وحدهم! أصحاب المنهجية الفذة! ! والأدوات
الإجرائية الخارقة! ! وهم يدفعون من عليائهم تلك بالأجيال المتعاقبة من شبيبة هذه
الأمة نحو المشارب المختلفة والاتجاهات المتعددة لكنهم يمنعونها عن معين الدين!
نعم يمنعونها بالتخويف والحرب النفسية والإرهاب الفكري، ألم يصوروا الأمر كله
على هيئة معركة حاسمة بين العلم والإيمان؟ ! ! وهذه هي (الليبرالية) بل قل
الهروبية! ؟ ثم هل هذه واقعية فعلاً أم تعالٍ عن الواقع؟ !
إنها ولا ريب بلاهة النخبة، إنها في الحقيقة مثالية الماديين الذين يبنون
نظرياتهم (العلمية) المزعومة على تصورات غير علمية عن الإنسان والكون والحياة.
لقد دفعت إلينا أرحام الجامعات الكبرى في العالم الإسلامي!! بعبدة
الطواغيت، فقد أخرجت تلك الجامعات أرتالاً من الأجيال التي لم تنكر الغيب
صراحة، لكنها ما فتئت تعتقد بأن إنكار عالم الغيب بالذات هو سبب تفوق الغرب،
وتقدم علومه وازدهار حضارته!! وما فتئت تدعو وتعمل على أن يلزم الإسلام
عتبات التكايا والزوايا والمشاهد البدعية وحاملي المسابح؛ لأن أوربا تحضّرت يوم
طوت سلطان الدين عن الدنيا!!
إن تلك الأجيال المتأسلمة تعيش فصاماً نكداً بين نشاط علماني في الجامعة،
وتدين منقوص في الجامع! إنهم فئة من الأدعياء وحزمة من المنافقين، تشتاط
غضباً حين تُخدش أدواتها المنطقية والمعرفية وبدهياتها العقلية! ! بيد أنها تخفق
في اجتياز اختبار العقيدة الأول.
يقولون: آمنا، بأفواههم (وكأن الإيمان ليس وراءه مقتضيات وتبعات
وتكاليف!!) . وترفض عقولهم (المنطقية) المعجزات!! ولا يدركون أن ذلك
يعني منطقياً رفض الوحي، وبالتالي رفض الإيمان بالله سبحانه وتعالى ورسله
واليوم الآخر.
كم مرة انبرى خصوم الدين أولئك، للخوض في مسائل شرعية؟ كم مرة
اشتكوا من دعوى تزمت علماء الدين زاعمين أنهم يغلقون من الأبواب أكثر مما
يفتحون!! كم مرة دبجوا المقالات المسمومة، مقروءة ومسموعة، بعد أن توسلوا
بالمصطلحات الشرعية وطعموا مقالاتهم بالآيات والأحاديث النبوية؟ بل إن منهم
من يطلق عليه بهتاناً وكذباً الكاتب والمفكر الإسلامي!! وهؤلاء على وجه
الخصوص يتبنون تفكيراً مرحلياً ذرائعياً، فبعد أن قادوا تيار (المد القومي
الاشتراكي) منذ الخمسينات وآزروه وعزروه، انقلبوا الآن على اشتراكيتهم
المهزومة وهموا بركوب صهوة المد الإسلامي المظفر، لا توبة واعتصاماً بحبل الله
فيما يظهر وإنما ليقيموا بنية (إسلامية معتدلة) !! بديلة توازي البنية الإسلامية
(السلفية الأصولية) كما يزعمون. إن مبتغاهم هو ترويض الجماعات الإسلامية،
وعرقلة العمل الإسلامي، واحتواء شباب الصحوة، إن مهمتهم هي تفريغ الإسلام
الحق من أصوله، بانتحال الدين وتحت لبوس المصلحين وباسم الاعتدال
والاستنارة والتفكير العلمي!! فتراهم يثيرون الفتن، ويروجون الأباطيل،
ويجعلون القضايا كلها خلافية، والمسائل اجتهادية ويتواصون بدعوات الضلال
وتسوؤهم دعوات الخير.
هؤلاء ينالون حظوة في أعين مجتمعاتهم، ويتلقون تلميعاً إعلامياً وصدارة
اجتماعية وتزكية سياسية، عوضاً عن محاكمتهم اجتماعياً وعزلهم إعلامياً
و (أكاديمياً) ، وتفنيد حججهم، وتسفيه أحلامهم، أو بالأحرى تجاهلهم تماماً وإبعادهم
عن التسلط على عقول النشء والسيطرة على قلوب الجهال.
إن على الأساتذة الجامعيين ومشرفي الرسائل الجامعية على وجه الخصوص
والدارسين والباحثين أن يتوخوا إخلاص الدين لله فيما يفعلون وأن يتحرروا في
بحوثهم (العلمية) كما يسمونها من أنواع الشركيات من عقائد وقوانين وخرافات ومن
سائر الآلهة المصنوعة (خرافة العلم المادي وقوى الطبيعة وفعالية العقل) .
إننا نحضكم معشر الأساتذة على توجيه جهودكم وهممكم نحو بعث المضامين
العقدية والتشريعية والفقهية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية في
الإسلام ونشرها وتعميقها في الدراسات الجامعية، وفي واقع المجتمعات المسلمة.
إننا نحضكم وننبهكم إلى أن مسؤولية الأساتذة الجامعيين هي: توجيه طلبة
العلم إلى العلم الحقيقي، العلم النافع في مصادره ومظانه، وحثهم على ترشيد
طاقاتهم وبذلها في موضوعات تهم مجتمعاتهم وفي إسهامات قادرة على دعم الانبعاثة
العقدية والحضارية المشهودة للأمة الإسلامية. إن معظم طلبة الدراسات العليا لن
يكونوا بطبيعة الحال علماء جهابذة أو نقاداً أفذاذاً ولكن الكثيرين منهم يستطيعون
بإذن الله أن يصبحوا باحثين مبرزين في مجالاتهم، إن كثيرا منهم يمكن أن
يصبحوا محققين قادرين على ابتعاث مكنون هذه الأمة من الذخائر المخطوطة
والمطبوعة، فلماذا يوجه الطلبة إلى موضوعات مائعة وقضايا قميئة؟ ! لماذا توجه
جهودهم نحو بحوث حداثية، ومناهج كفرية وجزئيات مبتورة، ودراسات مشبوهة؟! لماذا لا يجند أبناء هذه الأمة لدحض الافتراءات والأباطيل الاستشراقية عن
أمتهم؟! لماذا (يُقَولبون) ويستخدمون بوصفهم أدوات طيعة لتزكية المبادئ العلمانية
وتبني المقولات المادية؟! لماذا يرمى بطالب الدراسات وهو أعزل في مهاوي تلك
الترهات والخزعبلات (العلمية) !! دون أن يفهمها أو يستسيغها عقدياً؟! لماذا
تهدر طاقاته ومواهبه وعمره في بحوث بلا طائل، تضاف إلى مكتبة (السطو
العلمي المشروع) المختوم بمصداقية الجامعات الرسمية؟! لماذا يقسر الطلبة على
اختيار الموضوعات السهلة والحداثية!! ، وتكسر في نفوسهم الهمم العالية،
وتصدم العقيدة السليمة، وتوأد الثقة في النفس؟ فالطالب حين يفشل في استيعاب
تلك (المتطلبات والأسس العلمية) !! يسايرها ويتبناها دون فهم أو تمحيص، بل
ويروج لها ويتسلقها باعتبارها سلم النجاح والترقي في المحافل العلمية والصحفية
والإعلامية!!
لا جرم أن الصحوة الإسلامية لم تخرج من جوف هذه الجامعات بل اقتحمت
أسوارها بقوة من الخارج.
اسألوا كثيراً من مشرفي الرسائل الجامعية ومناقشيها عن مستويات الرسائل
المقدمة ومضامينها! ! بل اسألوهم عن ظروف إجازة معظم الرسائل الجامعية! !
وبعد ذلك كله فكروا ما الأثر المستفاد من هذه الأفواج المتتالية من حاملي الأسفار
(العلمية) ؟ ! لاسيما في العلوم الإنسانية والاجتماعية ... أين صداهم الاجتماعي،
ودورهم الملموس في المجتمع؟ ! ماذا قدمت جل تلك الرسائل؟ ! غير ترديد كلام
الآخرين واقتباس أفكارهم وسرقة جهدهم وانتحال مواقفهم دون نقد أو تمحيص! !
حتى عمّ الانحراف العقدي الرجال والنساء معاً! ! واستوى الجنسان في النزوع إلى
العلمانية لا الميل إلى العلمية! ! أي علم هذا الذي حصل؟ ! أي خير هذا الذي عمّ؟!
لا تعدو المسألة إذاً تحصيل الألقاب وحصد المناصب ونيل العلاوات المالية
والدرجات الوظيفية والتباهي بالمكانة المرموقة اجتماعياً! !
ينبغي على هؤلاء الأساتذة أن يراجعوا موقفهم من مناهج البحث الغربية فإن
المناهج ليست أدوات علمية محايدة! ! والإفادة من هذا المنهج أو ذاك من منظور
إسلامي نقدي أمر يختلف جوهرياً عن الارتهان الكامل للمنهجية الغربية في البحث
والنظر والتقويم! !
إن همة المثقفين المسلمين ينبغي أن تنصرف نحو إحياء المنهج الإسلامي في
البحث العلمي، وهو منهج (يرتكز على الإيمان بالله عالم الغيب والشهادة ويقر
الإرادة الإلهية ويعترف بالجوانب الروحية للإنسان ويقوم على الموازنة بين
المؤثرات الروحية والاقتصادية.. وهو بعد ذلك يراعي الفطرة والغرائز ويتسم
بالموضوعية والبعد عن العصبية والاستعلاء العنصري، وهذه السمات تميزه عن
منهج البحث الغربي وتجعله يتفوق عليه) . [1]
إن على جامعات العالم الإسلامي أن تتعهد الغراس البشرية التي استرعيت
عليها، بالنصح والإرشاد والتوجيه، وأن تسعى إلى تطبيق المنهجية التربوية
الإسلامية في كلياتها ومعاهدها ومراكز بحوثها العلمية، تلك المنهجية التي تهدف
إلى تكوين الأفراد الصالحين في أنفسهم، المصلحين لغيرهم، المنتمين لهذه الأمة
الإسلامية، الحاملين همومها الدعوية والجهادية والحضارية، المجندين لرفعتها
ورقيها وسؤددها بين الأمم، إن الجامعات الإسلامية ينبغي أن تخرج أفواجاً من
الدراسين الذين يحملون إرث الأمة العقدي والثقافي والحضاري، لا أن تخرج
خصوماً للإسلام، وأعداءً له.
والله من وراء القصد.
__________
(1) أكرم ضياء العمري التراث والمعاصرة ط1 شعبان 1405 هـ رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية (وزارة الأوقاف والشئون الدينية حاليا) دولة قطر ص 69.(70/24)
نصوص شعرية
النور وخيوط العنكبوت
علي محمد سفر
«تَرِبَتْ يداك أفِقْ»
أَتاهُ الصوت: «قُمْ
تَرِبَتْ يداك أَفِقْ
إلامَ النومُ..
تَفتَرِشُ الردى
وتظلّ تَسبَحُ في فضاء الحُلْمِ..
عُمرُك منقضٍ
مازلتَ تَتّبِعُ الهوى؟ !
تِربَت ... »
فأوصدَ أُذنَهُ
كي لا يُتِمّ سَماعها
«قُم ... »
ثم كرّسَ جُهدَهُ
لكنها بَلَغتهُ
أن تَرِبَتْ يداك فَقُمْ
وإلا سوفَ يُرديكَ الرَدَى
أتَظَلّ تَقْبَعُ في ظلامِ الكَهفِ
تَلتحَفُ الغنى؟ !
وتُصِرّ..
ترفُضُ لحظةَ الإبصارِ! ..
تحتضنُ العمى؟ !
تَقْتَاتَ من شَجَرِ الخَطيئةِ..
كلّ معصية تُباري أُختَها..
وتُصبرّ..
أن تبقى رَهينَ القَيدِ..
يُدمِي المِعّصَمَا..
وتشدّ أزر العنكبوتٍ! ..
تحثها..
لتتم حَبْكَ نسيجها..
لتخيط عينيك الخيوطُ.. خيوطُها
كي لا ترى!
أتعيشُ تُخدعُ بالسرابِ..
تظنُ بريقه ماءً..
فتركُضُ لاهثاً..
يشتد لفح القيظِ..
يُشعِلُ لهفَة الظمآن..
يبني للسراب مرابعا!
وتظلّ تركض في لهيب القفر! ..
تنشد شربةً من ماءْ..
وأنت مُرتبك الخُطى..
تربت يداك أفقْ..
أتُخدعُ من بريق الوهم؟ ! ..
تحسب أنهم صدقوا..
فنالوا المجدَ؟ ! ..
ذلك زائفٌ.
خَلَتِ الحضارة من غذاء الروحِ..
فانقلبت شقاءً..
واستبدّ الليل يقذف بالأسى!
فهناك مُنتحِرٌ ومنتَهكٌ..
وطفل لم يجد حباً..
وشيخ خانه الأبناءُ
لم يسعفه كوم قِمامةٍ
لينال منها لقمة منسيةً!
لينال منها عظمةً!
قد أغفلتها أعين الكلب الذي
قد راح ينعم بالسرير مدللا! !
وعلى رصيفِ البؤسِ
تلتحف العجوزُ البردَ
كانت تسلُبُ الأنظارَ
كانت.. إنها كانت ولكن لم تعدْ
تلك التي تتزاحمُ الخطواتُ في.. طرقاتِها
بقيت هناكَ..
فلم تجد بيتا ولا زوجاً ولا طفلاً
تسابقُ في المساء على الرصيفَ.. كلابَهُ!
بدأت تفكر في الخلاص.. فلم تجد حلاً
ولكن فجأة رأت الخلاصْ!
هناك يقبع حلّها..
وجدته في نوم عميقٍ
إنه كلب يعيش مُرَفهاً..
وجدته يأكل كل حينٍ
ثم يستلقي جوارَ الكوخِ..
لا يخشى صقيع البردِ! ..
لا يخشى رصاصا طائشا.
فأتت بسكين.. لقتل الكلبِ
واقتربت تريد الحلّ
ترغب في الخلاص من الأسى.
جلس القضاةُ..
وأُوثِقَتْ بالقيدِ..
تعلو وجهَها البسماتُ
قد نعمت بدفء السجن! ..
تشكر نعمة الجدرانْ! !
قد وجدت هنا في السجن بغيتَها
فلن تضطر بعد الآن للترحالِ
تبحثاً عن رصيفٍ آمن عند المساءْ! .
صمت الجميع وأُوثقت
نَطَقَ القضاة بأن الحكم ليس بسجنها
علموا بأن السجن تكريم لها
قالوا حكمنا أن تظلي مثلما كنتِ..
ففُكّوا القيد وانتقموا لموت الكلبْ! !
عادت إلى ذاك الرصيفِ
فلم تجد فوق الرصيف فراشَها
وجدته مسروقاً! ..
وما وجدت سوى الإنهاكِ
يسحق عظمها.
إن كانت الأيام قد أوحت بأن مروّجي الأوهام قد ظهروا علينا
وارتقوا بالعلمِ..
قد برعوا بتصنيع السلاحِ
وجيشوا كل الجيوشِ
تسابقوا في غزونا!
ورأيت أنا قلة بلهاءُ
مازالت تظن بأنها
يوماً ستقهرهم.. ستهزمهمْ..
ستحيي ذلك الماضي..
سترفع راية رُفعت هناك بأرضهمْ! !
فاعلم بأنا لم نقل هذا لنخدع ناخباً
أو أننا قلناه تخميناً وتخديراً..
لنشعر بالرضى! .
قلناه عن وعدٍ..
وُعِدنا أن نصر الله آتٍ
قاله ربي على العرش استوى
إن كنت تشعر أن هذا مستحيل
أن يتمّ النصرُ للضعفاءِ! ..
فاسأل أهل مكةَ..
حينما رفضوا ضياءَ الفجرِ
واجتهدوا لوأد النورِ..
شنوا الحربْ..
فهل ربحوا برغم عتادهم؟ !
إن كنت لا تدري فسل «بدرا»
وسل ما شئت من رومٍ
وسل في أرض كسرى..
عن رجال محمدٍ
كانوا بلا عُدد كما صرنا
ولكن نصرُهمّ لله قد أهدى إليهمْ نصرَهُ! .
إنا على ثقة
فقم والحَق بركب الحقّ..
لا تركن إلى الآثامِ
لا تُخدع بأوهامٍ
يزيد بريقها الشيطانُ
لا تُسلم زمامك للهوى
أزِل الغشاوةَ
واستمع لكلام ربكَ
واتبع هدي الرسول.
مزّق خيوطَ العنكبوت الآنَ
واستمتع بنور الحقّ
يهدي نفسك الحيرى..
إلى درب الهدى.(70/31)
نحو أدب إسلامي
أحزان الوطن في ديوان
(شموخاً أيتها المآذن)
للشاعر محمود مفلح
محمد شلال الحناحنة
هل الشعر نهر صاف من الحزن، قبّرة تؤوب إلى الضلوع، دفق من الحلم
يعج بالحنين.. لغة تتدفق من فضاء غائم؟ ! هذه الأسئلة المرفرفة هبطت علي وأنا
أستمع لصوت الشاعر محمود مفلح، ذلك الصوت الناصع المتدفق بالشعر، المشبع
بأحزان الوطن وهو يحمل أحاسيس مرهفة في ارتحاله الدائم بين المدن العربية
حيث ينبض بشجو طائر أسير، أصدر أكثر من سبعة دواوين شعرية إضافة إلى
ثلاث مجموعات قصصية، وله حضور متميز في المنابر الأدبية الإسلامية، فهو
طاقة شعرية متوقدة، ولعل طول اغترابه وشفافية نفسه فجر في شعره مواجد
اللوعة والحزن، إذ يرصد تضاريس همه الفلسطيني الإسلامي بحنين رهيف
صاف.
في ديوانه: (شموخاً أيتها المآذن) الصادر عن دار الفرقان بعمان بوح رقيق
يستحضر معاناة مشحونة برؤى الواقع المنبثق من إيمان عميق بالله، يقول في
قصيدته (موطني) :
عَطَشٌ قاَتِلٌ يعُربد في الجَفِ ... وغيرُ الإيمانِ لا يُرويني
ألفُ داءٍ سطاَ عليّ ولكن ... قطرة من دوائه تشفينِي
إنه القلعة الحصينة في عص ... تحدت به الغزاة حصوني
فخيول اليرموك منه أطلّت ... وسيوف الكماة في حطين
أيّ وطنٍ هذا الذي يغيض علينا يروي غصوننا الظمأى متلفعاً بالتحدّي؟
إن ثمة نبرة عالية في القصيدة، ثمة رؤية عيانية تحاور صفاء التاريخ
الإسلامي، وتفتح نوافذها لرموزه، فاليرموك وحطين معركتان إسلاميتان مترعتان
بالثراء الحماسي الوجداني في قلب كل مسلم، وهما تفجران حقل الدلالات المكانية
في نفس شاعرنا الملتزم بالنهج القرآني.
إن فلسطين تراكم نوعي إيماني مدهش، لمعارك بطولية منذ فجر الإسلام،
والشاعر يطل علينا من خلال هذه النافذة المشعة.
وتدخر قصيدته (معذرة..) دخيرتها الإيحائية المضيئة لمزيد من الغوص في
أعماق الزمن الرمز. وهي تستقرئ حزناً دافئاً وتعج بالسخرية المرة اللاذعة عبر
ومضات ذكية وظفها الشاعر لتغذية حواره التاريخي المكتظ بكبرياء الحكمة
الإسلامية العظيمة.
والقصيدة في بنائها العضوي تتوحد في مقاطعها مسلطة عدستها على لب
التجربة العامة من خلال تفاصيلها الواقعية الموجعة:
ما جف شعري لك جفت القيم ... ليس في عصرنا نار ولا علم
لا في السياسة تلقى من معاوية ... وليس في حربنا الشعواء معتصم
ومورد المجد قفر لا أنيس به ... ومورد الذل بالعشاق يزدحم
أليست هذه المرارة الحادة، تنخر في الذات الجماعية عند محمود مفلح شاعر
القيم والمجد الأصلي؟ ! إنه يدرك بوعي الشاعر المسلم، أن هذا المجد الموتور
يصرخ، والبلاد قفرٌ يغلفها الاستلاب والضياع! فهل نسكب العبرة للعبرة؟ ! هكذا
تبدو القصيدة تتشظى عبر وخز قاس للمرحلة بكل شموليتها:
يا سيدي إن جرحي لا ضماد له ... ... فكل شيء أراه اليوم ينهدم
تدوسنا قدم الرومان في صلف ... ونحن من تحتها نلهو ونختصم
وتسقط الدار إثر الدار منبئة ... أن الديار بأهليها ستلتهم
صرنا كبعض نمال الأرض من ضعة ... والنمل يلسع أحيانا وينتقم
كم حرة صرخت من تحت غاصبها ... فجاءها المنقذان العي والصمم
هذا هو حاضرنا المفجع المرعب، والشاعر لم يكن شاهداً على هذا الحاضر
المؤلم فقط إنما نراه يترقى في المعاناة، ليغدو المحرض الفاعل في القصيدة.
إن البؤر المتوهجة المنيرة في شعر محمود مفلح تنطلق من مأساة الجماعة
الإسلامية أينما حلت، وليست نمطاً ذاتياً مغرقاً في النرجسية. إن الفضاء الشعري
هنا يتألق ولا ينصهر، ينشد حكمته، ويكثف غيومه على أرض تتهيأ للخصب:
قد كان في أمتي أُسدٌ وعرفهم ... ضاق الغباء بهم والحقد والورمُ
فبعضهم قتلوا جهرا وبعضهم ... في القيد وهو بحبل الله معتصم
وبعضهم في بلاد الله قد ضربوا ... ومن أعز بلاد الله قد حُرموا
هذه الأنات الثرية بالصدق، المترعة بالألم، المتوحدة مع هموم الدعوة
الإسلامية، تمتشق قصائد شاعرنا عبر أصالة في الرؤى، ورهافة في الشعور
ووعي راسخ، ونظرة ثاقبة لتاريخنا الإسلامي الحافل بالأمجاد والبطولات رغم
الدسائس والمؤامرات لإجهاض الفجر القادم بإذن الله.
إن في هذا الشعر الإسلامي رغم ما يصوره من تجهم المرحلة، وسواد الواقع
روح الشباب المسلم الرافض لكل أشكال الاستعباد والتساقط المخيم على جل بلاد
المسلمين.
ولا بد أن نعانق هنا هذا النموذج الحي المجاهد عبر معاناة حادة، حيث يبزغ
من بين هذا الركام يتحدى القيد معتصما بحبل الله: (وبعضهم في القيد وهو بحبل
الله معتصم «، هكذا يمسك هذا الشعر الشامخ بعافيته ولا يتردى في دياجير الجهل
والضلال.
هذه الملامح النقية الصافية في شعر محمود مفلح ما كنا لنجدها عند شاعر
خارج عن الاتجاه الإسلامي، كما نقرأ لبعض المنحرفين المستهترين بالقيم الرفيعة
والمثل السامية مهما طبلت ورقصت لشعرهم الصحافة الرخيصة، فليس هناك وجه
مقارنة: [أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون] .
وتتمدد قصيدة (صرخة) على مساحة واسعة من الأَلَق المبشر بمجاهدة واعية
لكل ما يعطل الفعل الإسلامي المتوثب لفجر جديد، والصور في القصيدة حشد منمق
ينفذ إلى نخاع الأسى، وتأجج النَفَس الشعري يغترف مداده من نفس مؤمنة بصيرة، ووعد رباني يفيض بنعيم أزلي واقع لا محالة:
ولماذا أقضّ مضجع شعب ... هو في حلبة الرقاد سبوقُ
دعه في نومه العميق حرام ... أن يُنادى هذا السباتُ العميق
مالنا واليهود نحن بخير ... عندنا التبر وافر والعقيق
أي حق هذا الذي يفسد الحلم ... علينا، غدا تُردّ الحقوقُ
ويسترسل الشاعر في هذه اللهجة الساخرة اللاذعة، ساخطاً على المثبطين
المرجفين في الساحة العربية الذين تركوا الجهاد في فلسطين، وليس همهم سوى
العيش الرغيد، وتحقيق مصالحهم الدنيوية الزهيدة من راحة وجاه ومال؛ هؤلاء
هم المنافقون القاعدون الأذلاء الذين كشفهم الله قبل أربعة عشر قرناً فقال تعالى:
[وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله أستأذنك أولوا الطول منهم
وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم
فهم لا يفقهون] .
أين هؤلاء الساقطون المتشبثون بفتات الدنيا الذين مردوا على النفاق من
أولئك المؤمنين المجاهدين بأموالهم وأنفسهم: [لكن الرسول والذين آمنوا معه
جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون] . هذا التقابل
بين القاعدين المرتابين وبين المجاهدين الأباة الذي يتمثله الشاعر من خلال رؤية
واعية شاملة للقرآن الكريم يقوم على نهجه القويم ويبقى السؤال قائما بكل شموخ
المؤمن المتمسك بدينه فكراً وسلوكاً: هل نحن بحاجة حقاً إلى أولئك الخوالف
المترفين ليكونوا في صفوفنا المجاهدة؟ !
إنهم عناصر الفساد والفتنة في المجتمع المسلم، وهم كذلك عناصر الهدم
والتخريب وطعن المؤمنين من ظهورهم، فما أحوجنا إلى نبذهم وعزلهم وقطع
صلاتنا بهم إن لم يتوبوا، ويعودوا إلى السرب الإسلامي! وما أعظم وأصدق
تصوير الله لما يستعر في نفوسهم الشريرة: [لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاْ
يبغونكم الفتنة] .
إنه قدرنا نحن المؤمنين أن نجاهد ونموت على عقيدة صحيحة لنحيا حياة
خالدة ونرنو إلى جنان لا تعلم نفس ما أخفي فيها من قرة أعين.
فهذا هو الوعد الحق بيننا وبين الله، فدعونا نصغي لشاعرنا يحث الخطا إلى
الموت العظيم:
قدري أن أعانق الموت شدوداً ... وعيناي شب فها الحريق
غير أني على العقيدة باقٍ ... وسلاحي بكل علج يليق
والحق يقال إن شاعرنا محمود مفلح صاحب رسالة سامية، وهو ينطلق في
شعره من هذا المعتقد، وإن كان النقاد المحدثون يتبجحون بالوحدة الفنية
والموضوعية التي تميز بعض شعرائهم المبجلين على حد زعمهم، فلنقرأ هذا النمط
الفريد من الوحدة العميقة فكراً وروحاً عند شاعرنا، حيث يحس القارئ بتآلف
روحي مع قصائده مثل (شموخاً أيتها المآذن، الراية والجنود، أيها الشعب المترجم)
فيعيش معها ليصافح تلك الصور الندية والحركات الحية النابضة بالإيمان.
وفي قصيدة (الله أكبر) تلاحم رائع مع موضوعية وإيقاع متميز للعبارة
الشعرية الحديثة، حيث تأوي إلى حسٍ شاعري رهيف بوقع الكلمة، هذا الحس
الشاعري، والجرس الإيقاعي يميز كثيراً من قصائدنا الإسلامية. أما القصيدة التي
بين أيدينا فهي قراءة واعية متأنية للواقع وهي تستنير بهدي الإسلام وتبصر بنوره:
لاح يا شعبي العظيم الشهاب
وتهاوت الأصنام والأنصاب
فالميادين غضبة والتهاب
صاغها السيف والأسى والعذاب
وتلاقت يفدي الشاب الشباب
إنهم فتية دُعوا فاستجابوا
إنه فجرك الذي قد تحرر
وحداء الطريق الله أكبر
إذن هذه هي الطريق لفلسطين، طريق» الله أكبر «ولا طريق غيرها هكذا
تجوس القصيدة عبر مشاهدها الستة، مفجرة مشاعل الحرية، ملوحة برايات الجهاد
ومعطرة بأناشيد الفجر، عبر ومضاتها وأنفاسها المؤثرة، وعاطفتها الإيمانية
المشحونة بالصدق والصفاء.
وبعد ...
هل فتحت لهذا الطائر الإسلامي المترع بأحلام البسطاء الفقراء بعض نوافذ
الروح؟ ! هل اقتربت من حنينه الفلسطيني لمآذن الأقصى؟ ! هل آخيت هذا
الضياء بضياء شبيه؟ !
أتمنى أن أكون جديراً بهذا الأَلَق.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(70/35)
نصوص شعرية
كيف يشكو إلى القيود الأسير
د. صالح الزهراني
يا ضمير الأحرار.. أين الضميرُ وبلادي مجازرٌ وقبورُ!
كيفَ يخفى «يا مجلس الأمن» جرحي ... ودِمائي في الخافقين تمور!
كيف تنسى «يا مجلس الأمن» وضعي ... ولديكم عن حالتي تقريرُ!
يا ضمير الأحرار.. ما جئت أشكو كيف يشكو إلى القيود الأسير؟
وإذا كانت المبادئ أسمى فالعسير الذي ألاقي يسيرُ
ما خبا في دمي شعاع المعالي في وريدي لا ينضب «التكبير»
واقف فوق سيفكم أتلظى وقفتي رجفةٌ وهمسي سعيرُ
يا ضمير الأحرار.. ما عزّ قومٌ من قراراتكم.. ولا انهل نورُ
مسرحياتك استبانت رؤاها شاحبات، يخونها التفكير
والغلاف الذي رسمت «صليبٌ» ... والمضامين كلها «تنصيرُ»
يا ضمير الأحرار.. دهرك ظُلمٌ ودهورُ الظلام يومٌ قصير
كُلّ يومٍ تمدّ كفّ حنونٍ بالعطايا، وأنت «كلب عقورُ»
في ربوع «الصومال» فرّقت أهلي ... فأفاقوا.. ومجدهم زمهريرُ
ودخلت البلاد من ألف بابٍ وأقيمت «معابد» وجسورُ
وعلى «القدس» راعفٌ من هواكم ... شرقت منه بالمدامع «صورُ»
كلّ فجرٍ «جنازةٌ» ، ورصاصٌ ... وعليها من عدلكم منشورُ
حدّثوني عن «غزةٍ» ، عن هواها ... كيف ماتت فوق الغصون الطيورُ؟
حدّثوني عن «برتقالة صيدا» ... كيف شاخت أغصانها والجذورُ؟
حدّثوني عن «وجه لبنان» لمّا ... جف فيه الندى، وجف العبيرُ
حدّثوني عن طفلةٍ ساءلتكم عن أبيها، أين احتواه المصيرُ؟
الشهادات، والقضاة لديكم وضحايا الأسى «غيابٌ حضورُ»
كلّ دعوى لها لديك بيان ودليل، وشاهدٌ منك زُورُ
يُخنق الصوت في الحناجر ظلماً وتظلّ القلوبُ فيها زفيرُ
يخسف البدر، والنجوم تهادى والليالي بالمذهلات تدورُ
أيها المسلمون هذا خطابي عربيٌ، ما فيه حرفٌ أجيرُ
فاقرأوا سحنتي، وفحوى خطابي وافهموا ما تغضّ عنه السطورُ
أنا قلبٌ متيّمٌ بهواكُم أنا قلبٌ على أساكم غيورُ
أيها الصابرون، طال التمادي في خلافاتنا، وطال المسيرُ
وإذا لم يكن على الصدر سيفٌ فليكُن في الضلوع قلبٌ جسورُ
مجلس الأمن «لعبة أحكمتها ... كف باغ، بالموبقات خبيرُ
لكأني بكم» شياهٌ «بليلٍ ... شتويٌ، والليل ليلٌ مطيرُ
كيف يرضى الفتى، وقد كان رأساً أن تُطا أوجهٌ، وتحنى ظُهورُ
كيف يغدو للخانعين مُطيعاً وهو في ناظر الزمان» أميرُ «
نحن مليارُ لا قرارٌ جريءٌ يصطفينا، ولا بنانٌ يُشيرُ
نحن مليارُ عزّ فيه رشيدٌ عزّ فيه للمجد سرج وكورُ
عزّ فينا.. وكيف والأمر فوضى عزّ فينا وقتَ النداء النصيرُ
غير أنا» يا مجلس الأمن «فجرٌ ... أحمدي، وليس للفجر» سور «
يسقط المسرحُ الكئيب جهاراً والمغني، والمخرج المشهورُ
يسقط المبدأ الذي كان يأتي يتسلى بزيفه» الجمهورُ «
صوتنا قادمٌ.. وصعبٌ عليكم لو علمتم ... ما يحتوي التفسيرُ(70/42)
المسلمون والعالم
يا بلاد المليون شهيد
الكلاشنكوف لن يسكت الأذان
د. عبد الله عمر سلطان
«الحالة الجزائرية» تعود إلى عناوين الصحف وصور التقارير الإخبارية
وقد توشحت بهذا اللون الداكن الذي يعكس حجم الأزمة التي وصلت إليها الجزائر
تحت المظلة العسكرية التي ترى أن جذور الواقع الراهن لا تمتد سوى لمسافة
قصيرة وعوامل سطحية تستطيع أن تصفيها وتقضي على أسسها من خلال جيش
مسلح وبندقية رعناء!
إن هذه الحالة/المأزق، تكشف بوضوح أن هناك معسكرين في الجزائر آخذين
في استقطاب البنية الجماهيرية العريضة، ليستأنفا حلقة من حلقات الوجود
الحضاري والتاريخي لهذا البلد المكافح الأشم..، يبدأ تاريخ الفريق الأقوى مادياً
وعسكرياً باحتلال الجزائر عام 1831 م حيث أقام الاستعمار الفرنسي بُنى ثقافية
وعقائدية واقتصادية مرتبطة بالمشروع الفرانكفوني الاستعماري، أما الفريق الثاني
فهو مغروس في تراب الجزائر منذ عقبة بن نافع وحتى اللحظة القاسية الحاضرة،
مروراً بجهاد الأمير عبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس، ووصولاً إلى كل
جزائري يعتبر أن المواجهة الحاصلة على أرض بلده هي مشهد آخر بين «عبيد
فرنسا» و «عباد الله» .
فرنسا الاستعمارية المستبدة لجأت خلال استعمارها للجزائر إلى الطرق
الصوفية التي أصبحت في عهدها الأداة «الدينية» المطلوبة لمحاربة المشروع
الإسلامي العبقري الذي أطلقته «جمعية العلماء الجزائرية» وروادها في وجه
المستعمر، أما المؤسسة المدنية الملتحقة بهذه الشبكة الاستعمارية فقد تنوعت
وتعددت فصائلها، وإن كان هناك ثقل لبعض كوادرها كالكادر العسكري الذي التحق
بالجيش الجزائري في مرحلة متأخرة من حرب التحرير، والذي يشكل العسكريون
الذين يديرون الحياة السياسية في الجزائر اليوم طليعتهم، بالإضافة إلى التكنوقراط
الذين تغلغلوا في جسد الدولة ومفاصلها ... أما أخطر الكوادر فهو الكادر العقائدي
الذي يحاول بصورة مضحكة للغاية أن يُعطي للجيش المنبث في شوارع وأزقة
وأسطح البلد غطاءً أيدلوجياً يبدو مهلهلاً من أجل أن يستمر المشروع التغريبي بأيدٍ
«وطنية» سمراء اللون!
الأقلية الانعزالية والأكثرية المحاصرة:
نحن أمام صراع «النخب» مع قطاعها الواسع المحكوم بالحديد والنار..!
(جورج الراسي) الكاتب اللبناني النصراني عبر عنه في مرحلة الثورة بعنوان
قصير هو «علمانية القيادة وإسلام الجماهير» ، القيادة التي اتخذت من تحرير
الوطن قنطرة لسلب الجماهير معتقدها، وتكريس الثنائية المتكررة في عالمنا
الاسلامي، نخب تحكم بالحديد والنار وجماهير متمسكة برغم الحصار بهويتها
وشرعية وجودها، وهو الإسلام!
مراسل النيوزويك علّق على تشكيل حكومة رضا مالك الجديدة بقوله: إن
على الحكومة الجديدة أن تحارب على جبهتين جبهة أعدائها من الإسلاميين وجبهة
أصدقائها من العلمانيين «، وهو يشير هنا إلى أن وقوف المعسكر المعادي للحل
الإسلامي في الجزائر كان متوحداً حول قضية واحدة هي وأد» الإسلام «في
الجزائر بعد أن اختاره الشعب الجزائري مرة بعد مرة خلال أقل من سنتين خياراً
وحيداً، أما الآن فإن هذا الشعار الذي التف حوله جل العلمانيين والانتهازيين
واللصوص والمستبدين والماركسيين وغلاة البربر والفرانكفونيين لا يخدم سوى
مصالح فريق صغير ضيق الأفق» شوفيني «السلوك! هذا الفريق يظهر يوماً بعد
آخر على حقيقته ويفقد باطراد أبرز حلفائه..
لقد أثبتت الأحداث المتتالية أن هذه المجموعة المعروفة باسم» المجتمع
المدني «هي فئة من المتفرنسين والبربر المتحالفين مع طغمة عسكرية فاسدة أخذت
في تصفية أبرز واجهاتها وحلفائها كما فعلت مع» بوضياف «و» قاصدي مرباح «وأنها تسعى لتهميش البقية، كحسين آيت أحمد وأحمد بن بلا فضلاً عن
الاتجاهات الإسلامية التي حاولت أن تبدو ذكية باللعب بورقة الاعتدال ثم ظهر أنها
موغلة في السذاجة، حين وظفَتْ لضرب الفصيل الملاحق والمطارد والذي يحظى
بثقة الغالبية، مع كل حركة تهميش حكومية وكل تحرك عسكري عشوائي.
لم تعد القضية إسلام الغالبية وعلمانية القيادة، فالدائرة تضيق يوماً بعد آخر،
حيث انقلبت الأقلية العلمانية على نفسها، وأخذت كل فئة تلعن أختها وأظهرت
الأحداث الأخيرة أن الأمر قد انحصر في يد أقلية الأقلية، التي كشفت عن هول
داخلها وبشاعة برنامجها.
إذا كان أمر الإسلام لا يعنيهم.. فهل يثأرون لعروبتهم؟
التعاطي الإعلامي والتحليلات السياسية التي تعطي للحدث الجزائري بعض
الاهتمام، تحاول التركيز بصورة متكررة ومن زوايا مختلفة على صورة واحدة من
صور الصراع في الجزائر كما لو أن الصراع المتعدد الجوانب محصور في هذا
الجانب فقط.. وبالطبع فإن الدوافع الخفية لآلة الإعلام العربية المتحيزة دوماً ضد
فريق معروف بسماته وملامحه في الساحة، تعرف أن حصر القضية في تعداد
» شهداء الواجب «، ونقل أخبار» ضحايا العنف «وحده يضر بالفريق الذي اكتسب شرعية منذ البداية من نبض الشارع وأحلام الأغلبية.. هذا النمط
» الأعور «من التحليل قد يحجب حقيقة وبشاعة الواقع الحاصل الآن، لكنه لن يستطيع بالتأكيد أن يلغي بعض الأسئلة المشروعة والملحة التي لا تجد إجابة سوى لدى المنتفضين رعباً من انهيار المشروع العلماني/الفرانكفوني في المغرب العربي عامة وفي الجزائر خاصة.. وإلا.. فمن المستفيد من إلغاء رفع الأذان عبر وسائل الإعلام الجزائرية ... بالطبع لن تكون الجبهة الإسلامية للإنقاذ هي التي سنته، أو أدرجته في الهيكل البرامجي لوسائل الإعلام الجزائرية التي أصبحت تتباهى اليوم بأنها نموذج لمشروع الرجل/الصنم» كمال أتاتورك «الذي نفذه في تركيا قبل ستة عقود ... ومن المستفيد من جعل يوم العطلة الرسمي هو الأحد بدلاً من الجمعة، فليس من جعل الجمعة عيداً لهذه الأمة سوى ربها عز وجل ولا دخل لهذا بالجماعات» الإرهابية «في زعمهم.
ومن المستفيد من إلغاء برامج اللغة العربية من المناهج الدراسية وإحلال
مناهج فرنسية الروح واللغة وضيقة الأفق والانتماء.. حتماً ليس لعباس مدني الذي
لم يُرحم بسبب مرضه أو الذبحة الصدرية التي تلاحقه علاقة بالموضوع فالعربية
لغة القرآن ولغة الجزائر رغم أنف العساكر ومن يحركهم..
ومن الذي يقف وراء منع الحجاب هذه الشعيرة التي فرضها رب السماوات
والأرض، لا شك أن الأصوليين لم يخترعوه أو يفرضوه أو يجبروا الناس على
ارتدائه بقوة البندقية، كما فعل الذين رفعوه عن رؤوس آلاف الفتيات في الجزائر..
... ثم لماذا تصر الفئة المنكفئة على ذاتها وهي مرعوبة، على استبعاد
الإسلاميين من الحوار والمشاركة في رسم مستقبل البلاد المجهول رغم أن بعضهم
مستعد كما صرح كثيراً لتقديم التنازلات في سبيل الوصول إلى حل.. صحيح أن
هؤلاء لا يمثلون الأغلبية لكنهم حتماً أثقل وزناً في الميزان السياسي من شراذم
الماركسية، ومليشيات السوربون الفكرية، وأحزاب البربر الغالية في الشذوذ عن
إجماع الأمة!
هذه الأسئلة تلقي بظلها وتطرح نفسها بعنف، ولا تجد سوى تفسير وحيد
وجواب مكرر.. إن الذين يحاربون الإسلام في الجزائر اليوم يتخذون من صراعهم
مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والحركات المسلحة هناك، واجهة لحربهم التاريخية
الطويلة مع الإسلام وطرحه الشمولي الحكيم، الذي يهدد مشروع الفرانكفونيين
المتحالفين مع مافيا السلطة، التي جّرت البلاد إلى هذا المشهد» العدمي «الذي
تُسال فيه دماء البلاد والعباد من أجل ترسيخ» الاستعمار الفرنسي «بصورة جديدة
تناسب اللحظة المعاصرة، ومن أجل مزيد من الاحتكار الضيّق للفرص والمصالح.
إن ساحة الصراع بين مافيا السلطة وجنرالات النظام التي تغطي صورتها
المظلمة بهذا التحالف مع عبيد فرنسا من أبناء الجزائر، أعمق وأشمل من كونه
صراعاً سياسياً أو عسكرياً، إنه يمتد إلى الجذور ... إلى العمق، ففي ظل هذه
الهجمة تهمش حتى الصحافة الرسمية الصادرة باللغة العربية ويضّيق عليها في
الوقت الذي تدعم فيه الصحافة الجزائرية الصادرة باللغة الفرنسية والفكر الفرنسي
حتى ينسى شعب الجزائر لغته.. عسى أن يفقد هويته.. هل ستقولون إن علي
بلحاج هو زعيم» تنظيم الصحافة العربية «في الجزائر لكي تسترد انتماءها
الحقيقي الذي دفعت ثمنه مليون شهيد قبل سنوات؟
إذا كان المحلل والإعلامي العربي لا يثور لدينه أو يتخوف من الإسلاميين حقاً
أو زوراً فهل يغار هؤلاء حتى على عروبتهم يا تُرى؟
إن الإسلام والعروبة في مغرب عالمنا العربي ظلان متلازمان منذ القدم ولم
تأتِ جرثومة القومية العلمانية المنفصلة عن الإسلام بثمار بالغة كما فعلت في مشرق
العالم العربي على يد نصارى بلاد الشام بالذات وهذا يعني بالتالي أن المعركة التي
قادها بالأمس ابن باديس والإبراهيمي قد عادت تطل اليوم بلا رتوش: العروبيون
(الإسلاميون) ... والفرنكفونيين (المافيا الحاكمة) ولم يعد حتى لهؤلاء العلمانيين
العرب من عذر حين يقفون في صف أعداء لغتهم وتراثهم إلا تفسير واحد هو أنهم
مستعدون لإلغاء مشروعهم وإطاراته في سبيل ملاحقة الحل الإسلامي وأهله، ثم في
صبيحة اليوم الثاني يتحدثون عن الحوار القومي الإسلامي ... دون حياء! !
المستقبل:
مراسل محطة التلفاز الفرنسية أجرى مقابلة مع أحد» صقور «العسكريين
الذي علق على التغييرات الاجتماعية مثل نزع الحجاب بقوله:» سوف نزيل كل
هذه المظاهر الأصولية بحزم ... حتى لو لجأنا إلى البندقية «. الشريط ينتقل بعد
ذلك إلى حي باب الواد.. ومسجد السنة الذي يصفه المراسل بأنه أشبه ما يكون
بالثكنة العسكرية المحصنة وهو الذي شهدت جنباته مولد الجبهة الإسلامية للإنقاذ..
امرأة عجوز تشير إلى الحروف الأولى اللاتينية للجبهة الإسلامية للإنقاذ ... قائلة:
» كانوا يأتون للصلاة وينصرفون بهدوء ويعبرون عن ما في صدورهم في العلن ... ثم أنزلوهم الأقبية ليظهر شباب ثائر في الظلام يشعر بالحنق ... أنا أشعر بالحنق حين أحصل على لقمتي ثم تنتزعها مني وأنا أضعها في فمي ... ألا تشعر أنت بالحنق لو فعلوا بك كذلك..؟ «
شاب عاطل عن العمل يقول:» لا أدري ماذا يحمل المستقبل ... على الأقل
كان لدى الجبهة برنامج كسبت به أصوات الناخبين بجدارة ... كان هناك حلم ...
لي ... بغد أفضل ونظام أعدل، أما الآن فأنا أشتهي الموز ولا أستطيع أن أقترب
منه.. الكيلو بحوالي 10 دولارات.. لقد حرموا الموز علينا لأن الذي يستطيع
تناوله هم «المافيا» التي قتلت بوضياف.. كان لي حلم ... والآن ... حلمي كيلو
من الموز! ! «.
إن خروج الشعب الذي أصيب في كرامته وهو العزيز وأهين في الصميم
وهو المجاهد، فجر أحداثاً من العنف والعنف المضاد، أراد الذي يفهم لغة القوة أن
يسود ... ، لقد تنبأ العقلاء منذ اليوم الأول لاغتصاب السلطة وتنحية بن جديد أن
الإنقلابات العسكرية وتحكيم لغة القوة لن تحل المعضلة السياسية في الجزائر،
والتي تراكمت مشاهدها منذ ذلك الحين ... والآن وبعد أن أنزلت البلاد إلى الهاوية
بدأ العسكر في التحضير للحوار واستبدال لغة الغطرسة بلغة المفاوضات، ولكن بعد
خراب الجزائر ...
المعلق الفرنسي ينهي شريطه بالقول:» كان بإمكان الجيش أن يتحاور قبل
عامين مع قيادة الجبهة المعتدلة «كحشاني» في سبيل ضمانات كافية تكفل
الاستقرار السياسي للنظام وتحفظ للجيش هيبته وكرامته ... أما الآن وبعد أن بلغ
العنف مداه فإن التفاوض مع الجبهة سيكون أصعب بلاشك خصوصاً أن الشعب
يرى مشروعه يقبض على زمام السلطة «بالجهاد» وليس بالديموقراطية العرجاء
التي وئدت لأن هناك «مخاوف» متوقعة، دون أن يُفَكَر في الخسائر التي نجمت
عن قتل خيار الأغلبية «. يضيف جوزيف سماحة قائلا:» الذين راهنوا على
قطع المسار الانتخابي في الجزائر يفترض فيهم أن يقدموا كشف حساب اليوم، فلا
الاستقرار عم ولا الإزدهار انتشر ولا البلاد خطت في اتجاه الخروج من المأزق،
على العكس تطورت حرب أهلية مصغرة وأثبتت الحكومات المتتالية عجراً فاضحاً
ولم تتدفق المساعدات الأجنبية وهي حين وصلت ابتلعتها خدمات الدين؛ لقد بدأ هذا
الخراب ضروربا من أجل العودة إلى البديهيات القائلة بأن الحل سياسي بالدرجة
الأولى، وبأن المعالجة الأمنية لا تكفي؛ لقد رفع مسؤولون جزائريون في الأشهر
الأخيرة لواء الدعوة إلى التناقش والتحاور لكنهم عمدوا إلى استثناء القوى التي لا
مجال لأي حل سياسي من دونها وكان واضحا أن استدراج أحزاب إلى ندوات
ومشاورات لا يعدو كونه استدراجها إلى فخ لا يستطيع بلورة مخرج «.
إذا كان الكلاشنكوف يستطيع نزع الحجاب الآن فإنه بالتأكيد لن يسكت الأذان
غداً. الأذان يسمع صوته عن بعد.. مخبراً عن مصارع الغابرين وبشارة أهل هذا
الدين الذين استضعفوا ... ولوحقوا وأوذوا ... عسى أن يكون هذا تمحيصاً ... قبل
التمكين.(70/46)
المسلمون والعالم
حتى لا ننسى البوسنة والهرسك
مراجعة شاملة للقضية
د. يوسف الصغيّر
أثناء انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي في جدة، لبحث مأساة المسلمين في البوسنة، كانت قضية السلاح الذي يمنع عن المسلمين على رأس الأولويات ولهذا سارع
اللورد الانجليزي «ديفيد أوين» بالحضور إلى المؤتمر، ولا أدري هل كان
مدعواً أم لا، ولكنه لم يستح فأبدى معارضته لرفع حظر السلاح عن المسلمين لأن
هذا لا يساعد على حل الأزمة كما زعم، وهذه نظرية غريبة لم يتم تطبيقها من قبل
بل ولا يجري تطبيقها الآن إلا في البوسنة، ومع ذلك تنازل المؤتمر وأعطى
المجتمع الدولي مهلة إلى الخامس عشر من يناير الذي يلي المؤتمر لاتخاذ
الاجراءات المناسبة، وذلك حرصاً من المؤتمر على أن تكون تصرفاته منسجمة مع
الشرعية الدولية التي يمثلها أوين الذي لم يكن يتوقع أن يصمد المسلمون إلى ذلك
التاريخ، ولكن إرادة الله غالبة فقد أبلى المسلمون بلاءً حسناً ووقفوا أمام جحافل
الكفر المدججة بالسلاح طويلاً، ومر 15 يناير الموعود وتتالت الأشهر بعده والقتال
على أشده، ومازالت الأقطار الإسلامية تنتظر من الشرعية الدولية أن تغير رأيها
وتتكرم برفع حظر السلاح عن المسلمين وهو ما لا أظن أنه سيحدث لأن هذا موقف
مبدئي لكل من بريطانيا وفرنسا وروسيا حتى إن أمريكا التي تتصرف في كل مكان
بدون النظر إلى مواقف الدول الأخرى، وجدت نفسها في هذا الجزء من العالم
بالذات تسلم بوجهة نظر بريطانيا، وتترك القيادة بيد دول المجموعة الأوربية لحل
المشكلة، والتي أرى أنها من التعقيد بحيث أن ما يجري من إذلال وقهر وسلب
للمسلمين سيكون له أوخم العواقب على المنطقة حيث أنه يمكن اعتبار المسلمين
عامل توازن مهم في المنطقة، وبخاصة بعد سقوط الشيوعية وعودة التحالفات
القديمة إلى الظهور وهي التي أدت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، والتي
انطلقت شرارتها من سيراييفوا نتيجة للصراع بين الصرب ومنافسيهم على النفوذ
في المنطقة، وهم النمساويون الذين يمثلهم الكروات.
والصراع في البوسنة هو مظهر من مظاهر الصراع بين الصرب والكروات
وحل قضية البوسنة سيؤدي بالضرورة إلى اندلاع صراعات متتالية سيكون الصرب
طرفاً رئيساً فيها حيث إنهم ينتظرون الانتهاء من البوسنة، حتى يلتفتوا إلى قضايا
أخرى معلقة مثل مناطق كوسوفو وسنجق ومقدونيا وكرايينا، حتى يتم لهم حلمهم
بإقامة صربيا الكبرى.
مسلمي البوسنة بين فكي الكماشة:
من المعلوم أن الأحداث في جمهورية يوغسلافيا السابقة بدأت بانفصال
سلوفينيا وكرواتيا عن يوغسلافيا التي يسيطر عليها الصرب؛ مما أدى إلى قيام
الصرب باحتلال ثلث مساحة جمهورية كرواتيا، وقد تدخلت الأمم المتحدة وأرسلت
قواتها من أجل تثبيت الوضع على الأرض في كرواتيا، أي استمرار احتلال
الصرب لأجزاء من كرواتيا، واستمر الصراع بين الكروات والصرب ولكن على
أرض جمهورية البوسنة والهرسك الوليدة التي يشكل فيها المسلمون أغلبية السكان،
وقام الصرب بتكرار ما فعلوا في كرايينا، ولكن بوحشية فاقت كل التصورات،
لأن المسلمين أخذوا على حين غِرّة ولم يكونوا يملكون من السلاح ما يدافعون به
عن أنفسهم، وبدأ مسلسل من القتل والاغتصاب والتدمير والطرد يتناسب مع
المباديء الحضارية التي يتميز بها الأوربيون والتي ورثوها عن أسلافهم،
واستبسل المسلمون في الدفاع وقام الكروات في البداية بلعب دور الحليف مما مكّن
المسلمين من استرداد أجزاء كبيرة كانوا فقدوها في البداية، ولكن بدأت محاولة لحل
الأزمة بين الصرب والكروات وذلك بتعويض الكروات عما فقدوه في كرواتيا
بأراضي المسلمين في الهرسك، وقد بارك هذه الفكرة الشيطانية كل من زعيمي
البلدين.
وقد بدأت القوات الصربية والكرواتية تقوم بعمليات مشتركة ضد المسلمين
الذين على الرغم من الحصار عركتهم الحرب فأصبحوا أصلب عوداً وأقدر على
المواجهة.
الحرب الدبلوماسية:
لقد كانت الأمم المتحدة عاملاً مهماً في استمرار وتفاقم مأساة المسلمين في
البوسنة، ففي البداية كان بطرس غالي يرفض إرسال قوات الأمم المتحدة إلى
البوسنة وفي نفس الوقت يفرض حظراً على السلاح، لا يتضرر منه إلا المسلمون، ثم أرسلت قوات الأمم المتحدة وتصرفت كأن مهمتها تنحصر في التفرج على
المذابح، مع مرافقة قوافل الإغاثة، والموافقة على دفع الإتاوات إلى الصرب
والكروات، وتصل نسبة ما يأخذه الصرب من نصيب المسلمين أثناء مرور القوافل
على حواجزهم إلى 70% من الشحنات، مع العلم أنهم يأخذون نصيبهم كاملاً من
الإعانات حيث إنها توزع على الجميع، وإذا أراد الصرب أو الكروات منع
الإمدادات عن منطقة فلهم ذلك وعلى الأمم المتحدة إسقاط المؤن من الجو على
المحاصَرين في المدن، ومن لم تقتله الطرود أثناء سقوطها فهو معرض لنيران
المُحاصِرين أثناء محاولة البحث عنها، وإذا نسيتُ فلن أنسى أنه أثناء تلك المجازر
الرهيبة التي ارتكبها الكروات في «فيتيز» نشرت إحدى الصحف صورة جندي
من الأمم المتحدة يطل من فتحة في إحدى الخيام: بينما التعليق يقول العين بصيرة
واليد قصيرة، وقد أصبح وجود قوات الأمم المتحدة وسلامتها ذريعة لمنع قيام أي
عمل جدي ضد الصرب.
إن جمهورية البوسنة والهرسك هي الدولة الوحيدة حتى الآن التي تصبح
عضواً في الأمم المتحدة، ثم تعمل الأمم المتحدة جاهدة على وأدها في مهدها،
وبالاستعراض السريع لمجريات الأحداث من الناحية السياسية: فإننا نجد أنه على
الرغم من تتابع الوسطاء الدوليين من اللورد كارينجتون إلى اللورد أوين إلى
سايروس فانس إنتهاءً بـ شتولتنبرغ، فإن تقويض أركان الجمهورية تدريجياً كان
هو السياسة الثابتة، ففي البداية كانت المعضلة هي جمع الأطراف حيث إنه بعد
انفضاح جرائم التطهير العرقي ومعسكرات الاعتقال التي حاولت أمريكا والأمم
المتحدة التستر عليها، أعلنت أمريكا لائحة بمجرمي الحرب ومنهم «رادوفان
كاراديتش زعيم صرب البوسنة إضافة لرفض حكومة البوسنة الاعتراف بهم
واعتبارهم متمردين، وقد قامت المجموعة الأوربية والأمم المتحدة بالضغط الشديد
على المسلمين والذي يتوافق دائما مع ضغط عسكري صربي حتى رضخت
الحكومة البوسنية ودُفِعَ الرئيس» علي عزت «إلى الرضى بمقابلة كارادينش،
وحيث بدأت المفاوضات وبدأ الوسطاء يعاملون مجرم الحرب كاراديتش على قدم
المساواة مع رئيس الدولة (أي أن مجرم الحرب يمثل فئة ورئيس الدولة ينظر إليه
على أنه يمثل فئة أخرى هي المسلمون وليس الدولة البوسنية) ، وتتابعت المشاريع
التي لا يقصد منها القبول أو الرفض بل القصد منها الحصول على تنازل المسلمين
عن أرض أو مبدأ، ففي البداية عقد مؤتمر لشبونة وطرح مشروع تقسيم الجمهورية
إلى 109 من الدوائر الإدارية وتقسيمها بناءً على أغلبية السكان وحصل بموجبها
المسلمون على 49. 43 % من أراضي الجمهورية بينما حصل الصرب على
72. 43% وحصل الكروات على الباقي، ويبدو أن الهدف هو فقط إقرار مبدأ التقسيم ولهذا سرعان ما طرحت مبادرة (فانس/ أوين) التي تنص على تقسيم البوسنة إلى عشرة أقاليم ترتبط بسيراييفوا بعلاقات واهنة والأسس الدستورية الجديدة هي:» كانوا يأتون للصلاة وينصرفون بهدوء ويعبرون عن ما في صدورهم في ستكون جمهورية البوسنة والهرسك دولة ذات سيادة وحكومة مركزية محدودة الصلاحيات وذات دستور يعترف بالشعوب الثلاثة المكونة لها، إضافة إلى المجموعات الأخرى، مع انتقال غالب الصلاحيات الأساسية من الحكومة إلى إدارات المناطق «، وتنحصر مهمة الحكومة المركزية في إدارة الأمور الخارجية والحفاظ على النظام النقدي.
ورافق المحادثات حول الاتفاق دعاية كبيرة وتم الضغط على المسلمين بشدة
للتوقيع، وأظهر الصرب التمنع لأنهم يطمعون في أكثر من ذلك، وبعد أخذ ورد
ومناورة تم التوقيع، وكان أهم نتائج الاتفاق قيام الكروات بالعمل على تنفيذ الاتفاق
فيما يخصهم، أي طرد المسلمين من المناطق التي منحت لهم بينما بقيت مناطق
المسلمين في يد الصرب، وزادت حدة المعارك وبدأت أمريكا تلوح بالقيام بالتدخل
عن طريق الضربات الجوية، وبدأت تطالب برفع الحظر عن المسلمين، وجوبهت
التصريحات الأمريكية بمعارضة شديدة من بطرس غالي وبريطانيا وفرنسا وأعلنت
روسيا أنها ستستخدم حق» النقض «ضد أي قرار يسمح بتسليح المسلمين، ثم
خرجت الأمم المتحدة بقرار المناطق الآمنة وهو يعني أولاً قتل مشروع فانس أوين، وثانياً يعني حصر المسلمين في مناطق منزوعة السلاح يحيط بهم الصرب
المدججين بالسلاح مما يجعلهم مهددين على الدوام، إضافة إلى عدم إمكانية استمرار
الوضع بهذا الشكل طويلاً، حيث إنه لم يحدد من الذي سيتحمل مسؤولية الأمن فيها، وإلى متى وما هي المقومات الاقتصادية لهذه المدن المحاصرة.
وأخيراً فقد انتهز الصرب الفرصة، وبدأوا بسحب قواتهم من بعض المناطق، وتركيزها لشن هجمات جديدة تهدف إلى تأمين الممر الشمالي، وبدأ هجوم واسع
النطاق على جبهة برتشكو.
وفي النهاية تم التحول الكبير، ولا أظنه الأخير حيث أنه بعد فشل مشروع
(فانس/أوين) ، واستقالة» فانس «ممثل الأمم المتحدة وهو وزير خارجية أمريكي
سابق تم تعيين السويدي شتولتنبرغ ممثلاً للأمم المتحدة مع بقاء اللورد أوين
الإنجليزي ممثلاً للمجموعة الأوربية، مما يدل على انسحاب أمريكا من القضية
وتسليمها للأوربيين، وهنا طرح مشروع جديد وذلك بتقسيم البلاد إلى ثلاث دول
تعتمد على الأساس الديني وعرضت الخريطة الجديدة باسم الوسيطين الدوليين أوين
وشتولتنبرغ وهي في الأصل خريطة اتفق عليها أولاً رئيسا صربيا» سلوبودان
مليوسفيتش «وكرواتيا» وفرانيو توجمان «، نعم إنهما رئيسا صربيا وكرواتيا
وليسا زعيمي صرب وكروات البوسنة، وقد اعتمدت الخريطة أساساً على ما هو
واقع على الأرض مع تغييرات طفيفة إضافة لتنازل الصرب للكروات وليس
للمسلمين عن جانب من الأراضي مما يوحي بأنه تعويض لهم عن كرايينا.
وبناءً على المعلومات التي نشرت في مجلة المجتمع بقلم رئيس قسم الخرائط
في وكالة الأنباء البوسنية بَرْنَس علي حوجيتش فإن الخطة الجديدة تقسم الجمهورية
إلى ثلاث دويلات مع وضع سيراييفوا وموستار مدينتين مفتوحتين تحت إشراف
الأمم المتحدة، ويوضح الجدول المرفق مساحات الأراضي المعطاة لكل طرف
بالمقارنة مع الوضع على خطوط القتال بناءً على مصادر الجيش البوسني.
المناطق الوضع الحالي الخطة الجديدة
المسلمون 28.1% 29.90%
الصرب 59.80% 51.70%
الكروات 11.79% 15.80%
سيراييفوا تحت سيطرة المسلمين وضع خاص
موستار بين المسلمين والكروات يمثلان 2.6%
ومن الملاحظات المهمة على هذه الخطة أن الصرب يتنازلون للمسلمين عن
بعض الأراضي، وذلك مقابل تخلي المسلمين عن سيراييفوا عاصمة الجمهورية
التي عجز الصرب عن دخولها، وأيضا تبقى المناطق المحاصرة في شرق البوسنة
معزولة وتتصل ببعضها عن طريق ممر في أراضي يسيطر عليها الصرب، ولا
يوجد منفذ لدولة المسلمين ما عدا ممر يمر بأراضي الصرب إلى كرواتيا، وهذا
معناه أن الدولة ستكون تحت رحمة الصرب والكروات، وقد رفض المسلمون
الخطة بصورتها الحالية وطالبوا بمنفذ على البحر وإعادة الأراضي التي مارس فيها
الصرب سياسة التهجير القصري وهو ما سمى بالتطهير العرقي.
وأنحى أوين باللائمة على المسلمين الذين طالبوا بـ 33 % بدل 29. 9 %
من الأراضي وأعطاهم مهلة عدة أيام للموافقة، وعرض» علي عزت «المشروع
على وجهاء المسلمين الذين قبلوه بالشروط السابقة، وأيضا وافق عليه البرلمان
بنفس الشروط ومن ثم عادت المعارك من جديد، بل لقد قام الصرب بهجوم كبير
على سيراييفو استخدموا فيه الطيران الحربي بكثافة على الرغم من حظر الطيران
في البوسنة، وكانت القوات الدولية تكتفي بالتفرج على الصرب وهم يقتحمون جبل
(بيلاسنيتشا) وأجزاء من جبل إيجمان المهمين جداً، وقد تمكنت القوات البوسنية
بعد استدعاء القوات المسلمة من وقف تقدم الصرب وبدأت أمريكا بتهديد الصرب
بضرب مواقعهم، وهنا اعترض بطرس غالي وصرح أن أمر الهجوم هو من
صلاحيات الأمين العام فقط، وأيضا فقد انسحبت القوات الصربية من بعض
مواقعها وحلت محلها قوات فرنسية بدعوى الفصل بين القوات، ولكن الهدف
الرئيس هو منع ضرب مواقع الصرب، التي تداخلت مع الصرب (الزرق) وهو
الاسم الذي يطلقه المسلمون على الجنود الفرنسيين في البوسنة.
وقفات:
*يلاحظ أن الصرب والكروات يتمنون موافقة المسلمين على خطتهم
(أوين/شتولنتبرغ) وذلك بسبب ما تعانيه صربيا جراء الحظر الدولي غير المتقن
حيث إن دولاً كثيرة ومنها روسيا وبلغاريا ورومانيا واليونان لا تلتزم به ومع ذلك
فإن تكاليف الحرب قد أرهقتها، وأيضاً بسبب الهزائم المتتالية التي مني بها
الكروات أمام المسلمين بعد غدرهم ومحاولتهم الاستيلاء على مناطق المسلمين في
الهرسك ووسط البوسنة.
* على الرغم من تحالف الصرب والكروات فإن المسلمين صامدون بل
ويقومون بهجمات موفقة بخاصة ضد الكروات.
* يمثل الاتفاق الأخير فرصة لا تعوض للصرب، من أجل إقامة جمهورية
في البوسنة، والتي ستكون مع جمهورية الصرب في كرواتيا اتحاداً مع جمهورية
صربيا؛ لتكوين المرحلة الأولى من صربيا الكبرى.
* ازدياد الضغوط على الرئيس الكرواتي من أجل تحرير بقية الأراضي
الكرواتية وبالتالي فهو بحاجة إلى تعويض سريع عنها.
* يمثل كل من إقليم السنجق الذي يغلب عليه المسلمون البوسنيون وجمهورية
كوسوفو الذي يغلب عليه المسلمون الألبان الهدف الثاني في سبيل إقامة صربيا
الكبرى، ولا تستطيع صربيا تنفيذ المشروع قبل تصفية قضية البوسنة التي طالت
أكثر من المتوقع، حيث إن هناك احتمال دخول ألبانيا الحرب مما يجر اليونان
وبالتالي تركيا، وهذا سيمثل مخاطرة صربية كبيرة، وكما سيمر معنا فإن رئيس
الوزراء اليوناني الجديد صرح باحتمال قيام حرب عامة في البلقان مع دخول دول
كبرى فيها.
* تخبط السياسة الأوربية في البلقان، ففي البداية كان الحديث عن منع قيام
دولة للمسلمين في أوربا ثم أخيراً اقتراح دولة للمسلمين لا تملك مقومات الحياة
اقتصادياً واستراتيجياً.
* استمرار تماسك الصرب مع حلفائهم مع خشية تورطهم في نزاع واسع
حيث إن سعي الصرب إلى جمع صرب المنطقة في دولة واحدة يؤدي إلى سعي
الألبان لنفس الشيء، وأيضاً يوجد منطقة مجرية في صربيا وهي سلسلة من
التداخلات لا تنتهي، فهل يستمر دعم المنظومة الأرثوذكسية للصرب حتى النهاية.
*محاولة أمريكا العودة إلى منطقة البلقان، وذلك بتهديدها للصرب وانتقادها
سياسة الدول الأوربية ومنها بريطانيا وفرنسا.
*الغياب التام للعالم الإسلامي في التأثير على مجريات الأحداث ويقتصر دعم
بعض الدول الإسلامية على ما يسمى بالدعم الإنساني، ولم يتم العمل الجدي على
تسليح المسلمين على الرغم أن الصرب يحصلون على السلاح بسهولة، وليس سراً
حصول الصرب على السلاح من بعض الدول العربية، فمثلاً تم نقل أسلحة من
لبنان إلى صرب البوسنة.
*لقد أدى ثبات المسلمين في ميادين الحرب إلى محاولة شق صفوفهم، وقد
حاول كل من الصرب والكروات تشجيع بعض زعماء المسلمين المشبوهين مثل
» فكرت عبديتش «على إعلان الحكم الذاتي في مناطقهم، مع العلم أن ديفيد أوين قد
حاول خلال المحادثات الأخيرة وبعناد تفريق كلمة المجلس الرئاسي البوسني ...
ومحاولة تشجيعهم على التمرد على (علي عزت) ، وقد تخلى عن المجلس اثنان من
الكروات وانضموا إلى بني قومهم، وقد نجحت محاولة الصرب والكروات مع
عضو المجلس فكرت عبديتش فأعلن منطقته منطقة حكم ذاتي فأغدق عليه الصرب
السلاح وشجعوه على مواجهة جيش البوسنة، وهناك أيضاً بعض البوادر في مدينة
توزلا وهذا ينظر إليه من جانبين الأول: هو أن الصرب والكروات في حاجة إلى
عملاء في صفوف المسلمين نظراً لتنامي قوتهم وثباتهم، والثاني بداية تمايز
الصفوف حيث خرج رئيس الوزراء الكرواتي، بالإضافة إلى دلالة اجتماع علي
عزت مع زعماء المسلمين للتشاور حول الخطة الأخيرة قبل عرضها على البرلمان
المختلط وخروج المسلمين من قوات الدفاع الكرواتية.
*إذا كانت هيبة الأمم المتحدة قد فقدت في الصومال فإن سمعتها قد فقدت في
البوسنة، فمنذ البداية كان بطرس غالي واضح التحيز إلى إخوانه الصرب، وكان
استبدال القائد السابق لقوات الأمم المتحدة نتيجة أيضا لتواطئه مع الصرب، بل
واتهامه الصريح باغتصاب المسلمات، هذا من ناحية القادة أما الجنود فقد كان
تواطؤ القوات الفرنسية والبريطانية مع الصرب واضحاً، أما القوات الكندية فقد
كانت أغلبيتهم من ذوي الأصول الصربية وانغمس الجنود في سرقة مواد الإغاثة
وبيعها في السوق السوداء إضافة إلى حالات من وقائع الاغتصاب، وقد ابتلي
المسلمون بالصرب الأصليين وبالصرب الزرق.
*إذا كان هناك تخاذل من قبل الحكومات فإن كثيراً من الغيورين قد قاموا
ببعض ما يجب على المسلمين، فمنهم من قام منذ البداية بالجهاد مع إخوانه، وقد
كان لهم أبلغ الأثر في رفع الروح المعنوية للمسلمين هناك ومنهم من انخرط في
أعمال الدعوة والإغاثة وهي لا تقل أهمية عن سابقتها.
إنهم قادمون:
إن العالم اليوم يقف على مفترق طرق، ففي السنوات القليلة الماضية حدثت
تحولات كبيرة مع ظهور الصحوة الإسلامية وتناميها وسقوط الشيوعية حيث بدأت
تظهر علامات على بداية حروب صليبية جديدة، ففي البوسنة يطرح الصرب
أنفسهم كحماة لأوربا من الإسلام، أما بطريرك موسكو فإنه يطرح نفسه حكماً بين
الشيوعيين السابقين» يلتسن وروتسكوي ومسيولاتوف «أما ثالثة الأثافي فهي أن
رئيس وزراء اليونان الجديد ذلك الذي يرفع راية الاشتراكية بدأ يتكلم عن تطلع
الشعوب إلى الجذور ويتحدث عن التحالف المسيحي الأرثوذكسي، ولأهمية هذه
التصريحات التي أطلقها أثناء لقاء أجراه معه مراسل» جلوبال فيوبونيت «
ونشرته الشرق الأوسط في عددها (54445) فإنني أقتطع منه بعض الأسئلة
والأجوبة بنصّها كما نشرت.
س: لقد حقق الصربيون الفوز الآن على أرض المعركة في البوسنة، وفي
هذه الحالة حذر الرئيس الألباني» ساتي بيريشا «من أن الصرب سيتفرغون الآن
للتحرك جنوباً طمعاً في إقامة صربيا الكبرى، و» تطهير «كوسوفو من سكانها
المسلمين الألبان، هل تعتقد أن ثمة شيء من الصواب في هذه النظرة؟
ج: إن الحقيقة في هذا القول تكمن في الآتي: هناك جماعات سياسية
وعسكرية في صربيا تحمل ذهنية» الاندفاع جنوباً «، لكن سلوبودان ميلوسوفيتش
والذين حوله دعنا نسمي هؤلاء بلجراد يدركون بالكامل أن الاندفاع جنوباً يعني
الحرب، ليس فقط الحرب بين ألبانيا وصربيا، بل حرب في البلقان مقرونة بتدخل
من القوى العظمى؛ لذا فإن بلجراد سوف تخسر وجهتها كلية، إذا ما اندفعت جنوباً، وما أخشاه هو أن الحرب يمكن أن تنشب نتيجة استفزاز من الجانب الإسلامي في
كوسوفو الذي يريد أن يتحرر من الصرب، أو من أية قوة عظمى.
س: هل ستسعون إلى إزالة العقوبات المفروضة على الصرب إذا تسلمت
اليونان رئاسة الجماعة الأوربية؟
ج: أسمعْ: إن صربيا تتصرف اليوم في اللحظة الحالية بطريقة تبرر رفع
العقوبات، إن التوجه الرئيس الآن (أكتوبر 1993) في بلجراد هو السلام هناك قلق
من أن يحصل الصرب على حصة أكبر في البوسنة من خلال صفقة معينة، إذا
حصل ذلك فإن من الصعب عملياً رفع العقوبات.
س: إذن جزء من مسعاك الدبلوماسي سيتركز على إقناع الصربيين باعطاء
المزيد من أراضي البوسنة للمسلمين حتى يمكن رفع العقوبات؟
ج: لن أذكر بالضبط ما سنفعله، لكني سأقول: مادامت هذه هي المشكلة
فإننا سنحاول الضغط باتجاه حل سلمي بأسرع ما يمكن.
س: أشرتم إلى أن من بين نتائج تمزّق يوغسلافيا إحياء الصلات القديمة
للتحالف المسيحي الأرثوذكسي أثينا صوفيا بلجراد بوخارست ولربما حتى موسكو،
فهل أن قضايا الحرب والسلام في البلقان لن تتوقف كثيراً بعد اليوم على مؤسسات
مثل حلف الأطلسي والسوق الأوربية، بل ستعتمد على الأسس التاريخية الأعمق
في هذه المنطقة؟
ج: بالطبع أن دور حلف الأطلسي لم يحدد بعد، لذلك فإننا لا نعرف مدى
أثره في المستقبل، هناك أيضاً الجهد الذي تقوم به فرنسا لإقامة تحالف عسكري
أوربي، لكن ذلك مرهون بالمستقبل، والآن بالنسبة لحروب البلقان فإنني أعتقد أنها
أحيت الصلات الأرثوذكسية، وبالطبع فإن انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفياتي
أعاد الدين الأرثوذكسي إلى الحياة اليومية للشعب الروسي صحيح أن هذه مجرد
صلة روحية، إلا أنها تكتسب محتوى حقيقياً مع تبلور التطورات في البلقان، وفي
عالمنا السيّال الدفاق يسعى الناس إلى الهوية والأمن وتتطلع الشعوب إلى الجذور
والصلات للدفاع عن النفس ضد المجهول، وهناك كثرة من الأمور المجهولة في
أوربا اليوم فرئيس وزراء فرنسا» ادوارد بالادور «مثلاً اقترح عقد مؤتمر يعيد
فحص المعاهدات والحدود، ها أنت ترى الأمر حين يطرح رجل دولة كبيرة من
وزن فرنسا مثل هذا الاقتراح أمام السوق الأوربية فإن علينا أن نشعر بالقلق إزاء
التغيرات المرسومة لنا، في مثل هذه الظروف نتطلع إلى روحية التعاضد مع أولئك
الذين يشاطروننا الجذور، لا أقصد بذلك أن روابط المؤسسات في أوربا ما بعد
الحرب أقل شأنا من الصلات الدينية التي تنتعش الآن، إن الأمر يتوقف على
الوجهة التي ستسير فيها أوربا.
س: تتذكرك الولايات المتحدة كعدو لدود لها، دأب على التهديد بطرد القواعد
العسكرية الأمريكية من اليونان. ما رأيك الآن في الولايات المتحدة بعد انتهاء
الحرب الباردة؟
ج: أولا، دعني أذكرك أن آخر حكومة ترأستها هي أول من أبرمت اتفاقية
مع الولايات المتحدة حول القواعد في اليونان، قبل ذلك كان وجود القواعد غير
رسمي، إن أمريكا اليوم ليست مجرد قوة عظمى، إنها القوة الوحيدة العظمى، هذا
واقع قائم، فالأمريكان يصوغون استراتيجيتهم الكونية والبلدان الصغيرة مثل
اليونان لا رأي لها في ذلك، إن المشاكل التي برزت بين اليونان وأمريكا في
الماضي ناجمة عن مثلث واشنطن أنقرة أثينا، وليست بالمشاكل الثنائية، والمشكلة
كما نعرف هي أن اليونان عضو في التحالف الأمني نفسه الذي توجد فيه تركيا
» حلف الأطلسي «، مع ذلك فإن الحلف لا يحمينا من البلد الوحيد الذي يهددنا
(تركيا) . إن هذا الاحتكاك ينعكس على الولايات المتحدة، وإن الموقف الحذر
الحصين الذي اتخذه الأمريكان في البلقان قد بين أنهم يهتمون حقاً بالاستقرار، هذا
يناسبنا تماماً ونتطلع بوجه خاص إلى لعب دور بناء مع الولايات المتحدة في البلقان
مادام ثبات الحدود واستقرارها هدفنا المشترك» .
هكذا تحولت خطة 10 مقاطعات إلى ثلاث دويلات، وما يدرينا لعل الصرب
وهم كما هم أعداء حقيقيون للمسلمين فهم أيضا أعداء حقيقيون للكروات لخلافهم
المذهبي الذي لا يعرف مدى حقيقته إلا من تابع ويتابع ماذا يجري بين النصارى
في إيرلندا من عداء كبير بسبب النزاع المذهبي.
إن الصرب يخططون في النهاية لقيام صربيا الكبرى على حساب غيرهم
وعلى رأسهم المسلمون، لكن هذا بعيد المنال فالكروات لهم من يحميهم وللمسلمين
رب أكبر وأجل، فلا يجوز أن يتطرق لقلب مسلم اليأس مما جرى فإنه مع الابتلاء
والتمحيص يكون النصر والتمكين، وقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم [*] : إن المسلمين سيفتحون القسطنطينية وقد فتحوها وسيفتحون روما وسيكون ذلك بإذن الله لا محالة، ولعل الله أن يجعل في جهاد البوسنويين الطريق إلى تحقيق الأمل الموعود، وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(*) أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ص 7.(70/54)
المسلمون والعالم
نظرة عابرة على
واقع المسلمين في الهند
(2)
أحمد بن عبد العزيز أبو عامر
التعدي على قانون الأحوال الشخصية الإسلامي:
للمسلمين في الهند قوانين خاصة بأحوالهم الشخصية، منبثقة من تعاليم دينهم، والتي تشمل مسائل الزواج والنفقة والطلاق والإرث.. إلخ، يرعى تطبيقها
مصلحة خاصة يرأسها حالياً (الشيخ أبوالحسن الندوي) ، ومع أنه كانت ترتفع
أصوات علمانية من المسلمين تدعو لدمج ذلك القانون مع القانون العام للأحوال
الشخصية للدولة، إلا أن الحكومة ترفض ذلك ما لم يطالب به المسلمون أنفسهم.
وفي عام 1978 أصدرت المحكمة العليا المركزية حكماً لصالح إحدى
المسلمات بمنحها النفقة من زوجها المطلق لها إلى أن تموت أو تتزوج غيره طبقاً
للمادة (125) من القانون الهندي الذي لا يفرق بين المطلقة والزوجة في النفقة بل
واقترحت المحكمة تعديل (قانون الأحوال الشخصية الإسلامي) ليكون متساوياً مع
القانون الحكومي. يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: إن بقاء قانون الأحوال
الشخصية الإسلامي هو الضمان الوحيد لتمسك المسلمين بصبغتهم الدينية، وسيؤدي
انتهاكه إلى فقدان المسلمين لشخصيتهم شيئاً فشيئاً ومن ثم ضياعهم كما ضاع غيرهم
في بلدان أخرى.
ومما يؤسف له أنه حينما تحرج المسلمون من التحاكم للقوانين الأجنبية
واستفتوا الأزهر عن مدى صحة التحاكم لتلك القوانين.؟ جاءتهم الفتوى، بإمكانية
التحاكم إليها، والعمل بها وإن خلاف ذلك يضيع على المسلمين مصالحهم.
فأخذوا بتلك الفتوى ولا شك أن في ذلك نظراً؛ لأن التحاكم إلى تلك المحاكم
الأجنبية تحاكم إلى غير ما أنزل الله.
ولبيان مناقشة الموضوع باستفاضة يرجع لكتاب (أثر الفكر الغربي في
انحراف المجتمع المسلم بشبه القارة الهندية) د/ خادم حسين إلهي بخش، حيث
ناقش هذه الدعوى بموضوعية ووضع النقاط على الحروف.
الفرق المنتسبة للإسلام بالهند:
يوجد الكثير من تلك الفرق في الهند ومن أشهرها الشيعة الجعفرية والبهرة
الإسماعيلية والقاديانية والبريلوية والقرآنيون والصوفية ولهم مدارسهم ومنطلقاتهم
الفكرية والعقدية التي تخالف أهل السنة مخالفةً جذرية، ولتلك الفرق مواقف غير
حميدة من أهل السنة ولا يتسع المقام للتطرق لتلك الفرق والتعريف بها وبيان
منطلقاتها الفكرية.
وأحيل راغب الزيادة لمعرفة ذلك لبحث الدكتور (خادم حسين إلهي بخش)
آنف الذكر حيث تناولهم بدراسة موضوعية على ضوء واقعهم الفعلي واستناداً إلى
مصادرهم المعتبرة بعيداً عن الغلو والإجحاف ... وللعلم فإن تلك الفرق طارئة على
واقع المسلمين هناك؛ إذ وفدت عليهم في فترات الضعف التاريخي وبخاصة بعد
العصر المغولي وأثناءه؛ لأن الإسلام كما هو معروف دخل الهند في عهد الخلافة
الراشدة، وفتحت السند في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عام 93 هـ
على يد القائد المسلم (محمد بن القاسم الثقفي) وكان المسلمون هناك إلى أواخر القرن
الرابع الهجري عاملين بالكتاب والسنة على منهج أهل الحديث، بعيدين عن الجمود
الفقهي والانحرافات العقدية حكى ذلك (أبو القاسم المقدسي) في كتابه (أحسن
التقاسيم) عند زيارته للسند عام 375هـ.
مشكلات المسلمين في الهند:
عرفنا جهود المسلمين الكبيرة في الحفاظ على شخصيتهم الإسلامية وهم
يعانون المشاق من جراء الأخطار المحدقة بهم، ومن أشهر مشكلاتهم مايلي:
1 - مشكلة الدعوة إلى الله:
وهي من أخطر المشكلات التي يجب أن تعطى الأهمية؛ لدورها في توعية
المسلمين هناك، وبخاصة العامة منهم وضرورة تقريب وجهات نظر العلماء العدول
منهم؛ ليكونوا يداً واحدًة على من سواهم، ثم تأتي أهمية الدعوة لغير المسلمين
فيمن حولهم، وبذل الجهود الممكنة في ذلك؛ لأن الإسلام هو الدين الوحيد القادر
على حل مشكلات تلك الشعوب الوثنية المضطهدة والمنبوذة لما في الإسلام من
تعاليم ربانية وقيم أخلاقية هي العلاج الوحيد لواقعهم، مما يعيد لهم كرامتهم المهانة
وإنسانيتهم، المهدرة وإنقاذهم من جبروت الظلم والطغيان.
2 - مشكلة تعليم المسلمين:
ودستور الدولة الهندية علماني يتيح المجال لكل دين ويسمح بحرية الاعتقاد إلا
أن كثيراً من الولايات الشمالية وضعت مناهجها التعليمية حسب ديانة الهندوس
المضادة لدين الإسلام، التي تصور البلاد بأنها وثنية، وقام مؤخراً حزب (بهارتا
جاناتا) في أربع ولايات يحكمها بعد التنسيق مع الأحزاب العلمانية بتنفيذ سياسة
تعليمية معادية للمسلمين تحت اسم (إصلاحات في المقرارات المدرسية) ومنها:
غرس الحقد في نفوس الناشئة والعداوة للمسلمين واتهامهم بأنهم هدموا معابدهم
وأقاموا عليها مساجدهم.
ادخال نشيد وطني يحتوي على عقيدتهم الوثنية وكان قد حذف في عهد (انديرا
غاندي) لطائفيته.
فرض اللغة (السنسكريتية) لأنها لغة دينهم وفرض تعلمها على الجميع.
الإشادة بزعماء الهندوس المتطرفين واعتبارهم زعماء وطنيين.
وقد قام المسلمون ونفر من العلمانيين بالاحتجاج على تلك التعديلات الجائرة
لما تحمله من عنصرية وتطرف، وقد باشر المسلمون بإنشاء مدارس خاصة بهم
خوفاً من تأثير تلك المدارس ومناهجها الوثنية على ناشئتهم، ولابد من وقفة جادة
حيال تلك الهجمة الوثنية لإيقافها وضرورة احترام الحكومة الهندية للمسلمين
وعقيدتهم، ولن يتأتى ذلك إلا بالضغط على الحكومة الهندية من المسلمين بعامة.
3 - المشكلة اللغوية:
كانت الأردية هي لغة المسلمين في الهند، وبعد الاستعمار الإنجليزي صارت
هي اللغة الثانية في المصالح الحكومية.. لكن الإنجليز فيما بعد شجعوا اللغة
(الهندية) وأحدثوا تنافساً بين الهندية والأردية، لزرع بذور العداء بين الجانبين،
وبعد الاستقلال عام 1947 قرر الدستور الهندي أن اللغة الهندية هي اللغة الرسمية، ثم قامت الولايات الشمالية بإلغاء (الأردية) من المدارس مع انتشارها في تلك
المناطق وقررت اللغة (الهندية) لغة إجبارية وأداة وحيدة للتعليم وحينما طالب
المسلمون بتعليم (الأردية) ؛ لأنها لغتهم المعتبرة، ولغة ثقافتهم، ولكونها ذات
حروف عربية رفض ذلك حتى في عهد الرئيس المسلم الأسبق (د: ذاكر حسين)
ومع أن الدستور الهندي يكفل لرئيس الجمهورية إصدار أمر بالاعتراف بلغة يتكلم
بها عدد وجيه من أهل البلاد، إلا أن ذلك لم ينفذ ويظهر أنها سياسة عليا لمحاربة
المسلمين ولغتهم المعتبرة، ومع عناية المسلمين بالعربية إلا أنها تحتاج لعناية أكثر
واهتمام أكبر ولا سيما في أوساط العامة لأنها لغة دينهم ومنطلق عقيدتهم.
4- المشكلة الاقتصادية:
يعاني جل المسلمين من الفقر والفاقة؛ مما يؤدي بهم إلى سوء التغذية
والحرمان من التعليم، وفرص العمل التي تكفل لهم الحياة الكريمة وبخاصة وأنه بدأ
تناقص أعداد المسلمين في العمل الحكومي، لا سيما في الوظائف العليا والهامة
والتي تكاد أن تكون حكراً على غيرهم مع ما يمتاز به الكثير منهم من العلم والنبوغ، وحل هذه المشكلة لا يكون طفرة، وإنما يحتاج لدراسات علمية طويلة المدى
وقصيرة المدى، وليس هذا مجالها، وقد تطرق لها الأستاذ (أبو ذر كمال الدين) في
بحثه عن (طبيعة وحجم المشكلات الاقتصادية للمسلمين في الهند) وكيفية حلها،
لكنه ذكر أنه يتعين على المسلمين هناك أن يغيروا من أساليبهم في الفكر والعمل
وساق بعض الاقتراحات في هذا الصدد ومنها:
1- أهمية فتح فصول دراسية مزودة بكل التجهيزات في كل المدن الكبرى
لإعداد شبابها وطلابها للعمل في الخدمات في الناحيتين الإدارية والإشرافية.
2- إنشاء عدد كاف من المدارس والكليات وضرورة استصدار الموافقة
الحكومية عليها لدعمها.
3- ضرورة تشكيل هيئة من رجال الاقتصاد ورجال الأعمال والإختصاصيين
المسلمين؛ للإشراف على وضع خطة للنهوض بالصناعات التقليدية، التي يمارسها
المسلمون فيما يتعلق بمسائل التمويل والتسويق وخلافه.
4- أهمية إقامة حركة تعاونية ومشروعات مشتركة على غرار شركات
(المقاصة) وعلى أساس المشاركة في الربح.
5- يتعين على المسلمين الذين يعملون في البلدان الإسلامية، ويحصلون على
رواتب كبيرة، أن يؤسسوا صندوقاً خاصاً بهم لتقديم الدعم المالي لإخوانهم المسلمين
المواطنين في مجالات التعليم والصناعة والخدمات الاجتماعية.
6- ترشيد نظام الزكاة وإنفاقها بطريقة منظمة مما سيساهم في حل كثير من
مشكلات المسلمين الفقراء التي يعانون منها.
7- ضرورة أن يسود شعور الجماعة في المجال الاقتصادي وعلى الموسرين
أن يضعوا حداً لاستهلاكهم وتبذيرهم لضمان تحسن الأوضاع الاقتصادية لإخوانهم
في الدين والعقيدة.
هذا بعض مايلزم القيام به، مع الوقوف في وجه ممارسات الأحزاب الوثنية
من حروب عقدية وتخطيط لإقامة دولة هندوكية، وهي تقوم في سبيل تحقيق هذا
الهدف بمذابح همجية بقصد إفناء المسلمين، أو فتنتهم في دينهم (فإنا لله وإنا إليه
راجعون) ، ويلزم أن يطالب المسلمون بعامة (حكومة الهند) بإعطاء المسلمين فيها
حقوقهم المفروضة بنص دستورهم، والحفاظ على معالمهم الإسلامية وكف أي أذى
تقوم به الأحزاب الوثنية المتطرفة، وحينما يهدّدُونَ بمصالحهم مع الأمة الإسلامية
سيقومون بما يلزم حيال تنفيذ تلك الحقوق وإن تساهلنا حيال حماية إخواننا
والانتصار لهم ستزيد معاناتهم وربما يكونون لا قدر الله أثراً بعد عين كما خسرنا
الكثير من البلدان الإسلامية والواقع شاهد أن الأمم المتحضرة في هذا العصر
تنتصر لبني جنسها، ولبني عقيدتها، وتعمل كل ما يمكن لحمايتهم ونصرتهم ولم
يأتهم جزء من ألف جزء مما أصيب به المسلمون في الهند.
إن دول هذا العصر لا تحترم إلا القوة ولن يؤبه لأيٍ كان ما دام لم يعضد حقه
بالقوة بكل أبعادها، وحينما ترى حكومة الهند الاهتمام الجاد من الدول الإسلامية
وتهديدها بمصالحها فستكف آذاها وستقوم بحماية المسلمين بها وإعطائهم حقوقهم
التي كفلها الدستور.
ولتتعلم الدول الإسلامية وتنظر كيف انتصرت روسيا ودول الغرب للصرب
المعتدين وكيف وقفت روسيا في وجه القرارات الدولية انتصاراً للصرب لأنهم على
نفس مذهبهم العقائدي، وهم على باطل بينما نحن المسلمين على حق وندافع عن
حق ومع ذلك لا نعمل ما يحتمه علينا ديننا للانتصار لإخواننا في العقيدة وكل النظم
والشرائع تؤيدنا فيا لله للإسلام ويا لله للمسلمين.
والله أسأل أن يأخذ بأيدي اخواننا المسلمين في الهند إلى مافيه قوتهم ونصرهم
وعزتهم وما ذلك على الله بعزيز.
من مراجع المقالة:
(1) المسلمون في الهند لأبي الحسن الندوي.
(2) أثر الفكر الغربي في انحرافات المجتمع المسلم بالقارة الهندية د/ خادم
حسين بخش.
(3) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند لمسعود الندوي.
(4) الصراع بين الفكرة الإسلامية والغربية/ لأبي الحسن الندوي.
(5) نظرة إجمالية في تاريخ الدعوة الإسلامية بالهند وباكستان: لمسعود
الندوي
(6) مجلة البعث الإسلامي عدد شوال 1395 هـ.
(7) دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة
لصلاح الدين مقبول أحمد.
(8) دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بين مؤيديها ومعارضيها في القارة
الهندية لأبي المكرم السلفي.
(9) شيخ الإسلام ابن تيمية في علومه ومعارفه ودعوته في القارة الهندية لعبد
الرحمن الفريوائي.
(10) الأقليات المسلمة ظروفها آلامها وآمالها، من مطبوعات الندوة العالمية
للشباب الإسلامي.(70/70)
المسلمون والعالم
الصليبيون في الفلبين..
هل يحققون أهدافهم أم ينتصر المجاهدون؟
التحرير
تمهيد:
تشكر مجلة البيان لجنة الإعلام الخارجي لجبهة تحرير مورو الإسلامية
ومسؤولها الأستاذ/ محمد أمين على مواصلته إرسال بيانات الجبهة الراصدة
لنشاطاتها وجهادها ضد العدو الصليبي الفلبيني، ومن البيان رقم (25) نقتطف
الآتي:
كان العدو الصليبي الذي تمثله حكومة الفلبين وقواتها المسلحة، في جنوب
شرقي آسيا يحاول أن يقضي على شعب مورو المسلم، عن طريق المطاردة والقتل
والذبح والتعذيب حتى الموت أوالتهجير والتشريد، ولكنه أدرك بعد التجارب التي
استمرت عشرات السنين أن هذا الأسلوب لا ينجح، فقد ازداد المسلمون تمسكا
بدينهم وإيماناً بحقهم المشروع في تقرير المصير وإقامة حكم الإسلام الذي يجاهدون
من أجله.
لذلك لجأ العدو الصليبي المخادع الماكر إلى التفاوض مع العلمانيين وضعاف
النفوس من حثالة الشعب، ويأمل هذا العدو الصليبي أن يشق طريقه من خلال تلك
المفاوضات لاستمرار سيطرته على مسلمي مورو، الذين وقعوا تحت هيمنته بسبب
المؤامرات الاستعمارية، وقد استعبدهم لأكثر من خمسين عاماً، لاقوا خلالها ألوانا
من الاضطهاد والتعذيب والإهانة والإذلال طوال تلك الفترة، وحاول هذا العدو
الحاقد أن يقضي عليهم ولكنهم استماتوا دفاعاً عن أنفسهم ولجأوا إلى الجبال
والأدغال. لذلك لم يتمكن العدو من القضاء عليهم فعلياً، ولهذا يحاول الآن وبكل
جهوده أن يقضي عليهم معنوياً عن طريق التفاوض مع العلمانيين وضعاف النفوس
والجبناء منهم.
وقد أعلنت وسائل الإعلام الفلبينية الصليبية أن حكومة راموس سوف
تتفاوض مع «جبهة مسواري الوطنية» العلمانية وأن مراسم المفاوضات بدأت في
25/10/1993 م في فندق فاخر بجاكرتا عاصمة أندونيسيا، ويرأس الوفد الفلبيني
سفير صليبي سابق اسمه مانويل قان «ومسوراي» نفسه هو الذي يرأس وفد
جبهته الوطنية.
على طريق الجهاد الطويل:
يواصل مجاهدوا جبهة تحرير مورو الإسلامية عملياتهم الجهادية السريعة التي
تستهدف إضعاف العدو وتدمير مؤسساته وتحطيم معنوياته، بينما العدو يقوم
بعمليات إرهابية ضد المدنيين الآمنين والتي قابلها المجاهدون بالمزيد من العمليات
الجهادية، حيث قام مجاهدو جبهة تحرير مورو الإسلامية بتوجيه هجماتهم الخاطفة
ضد جنود العدو ومؤسساته، للحصول على الأسلحة والذخائر وتحطيم معنويات
الجنود الصليبيين، وتدمير المؤسسات الحيوية التي تخدم مصالح العدو في كل من
محافظة «بوكيدنون» ، ومحافظة «ماجيندواناو» ومحافظة «كوتباتو» ،
ومحافظة «سلطان قدرات» .
ومن جانب آخر قامت مظاهرات للطالبات المسلمات مطالبة بالسماح لهن
بارتداء الحجاب فقد كانت المؤسسات الفلبينية الصليبية للتعليم لا تسمح للطالبات
المسلمات بالحجاب، وكانت هذه المؤسسات تتحداهن قائلة: إما الدراسة بدون
حجاب وإما ترك الدراسة وقامت أكثر من ألف طالبة مسلمة بتنظيم المظاهرات في
مدينة كوتباتو مطالبات بالسماح لهن بالحجاب الذي أمرهن به دينهن الإسلامي،
واضطر المسؤولون الحكوميون أن يستجيبوا لرغبة الطالبات.
ولا شك أن إصرار الطالبات على الحجاب الذي تمنعه السلطات الصليبية كان
من النتائج الإيجابية للدعوة الإسلامية في هذا المجتمع الذي تحول من مجتمع جاهلي
بعد وقوعه تحت سيطرة الكفار إلى مجتمع مسلم محافظ. وبعد التجارب المريرة
التي مر بها مسلمو مورو تحت الحكم الصليبي، فقد عاهدوا الله أن يجاهدوا في
سبيل الله حتى النصر إن شاء الله تعالى إما النصر أو الشهادة.
والله نسأل أن يجمع شمل المجاهدين وأن يوحد صفوفهم وأن يعلي كلمته وأن
يدحر الكافرين، وما ذلك على الله بعزيز.(70/79)
رحلات ومشاهدات
المالديف..
الإسلام في أقصى الدّنيا
حسين بن علي الزومي
من جدة.. إلى دبي.. ثم إلى كولومبو.. ثم أخيراً وصلت إلى الجزر البعيدة، التي تناثرت في البحر، وشكلت أرخبيلاً من الجزر الخضراء الداكنة التي تشبه
الجنان العائمة، إنها «جمهورية المالديف الإسلامية» ، وأكاد أجزم أن كثيراً من
المسلمين لم يسمعوا بهذا البلد الإسلامي من قبل، فضلاً عن أن يعرفوا شيئاً عنه،
ولذلك سأكون مضطراً أن أعطي فكرة موجزة عنها قبل أن أدخل في صلب
الموضوع الذي يخصّنا بوصفنا دعاة إلى الله عز وجل، حتى تنطبع في ذهن
القارئ صورةُ لهذه البلاد.
الموقع:
تقع المالديف في الجنوب الغربي لشبه القارة الهندية، وبالتحّديد
جنوب غرب (سيريلانكا) ، ويمر بوسطها خط الاستواء، وعاصمتها جزيرة (مالي)
التي لا تتعدى مساحتها (6 كم2) فقط، والدولة تشكل أرخبيلاً من الجزر المتناثرة
يقارب عددها <1200> جزيرة، وتمتد بطول <800 كم>، والمأهول منها
<200> جزيرة، والبقية خالية.
السكّان:
عددهم يقارب <200 ألف نسمة>، وأكثر العّمال منهم يعملون في
صيد السمك، وتعتمد الدولة في اقتصادها على مصدرين رئيسيين:
الأول: الصّيد، وتعتمد فيه على طريقة بدائية، وقد ذكر لي رئيس الدولة
أنهم لايريدون تطوير عملية الصّيد حتى لا تحلّ الآلة محلّ الأيدي العاملة في هذا
المجال؛ إذ أكثر العمال يعتمدون على الصيد، فالأولى أن تترك على ماهي عليه.
(هذا هو رأيه) .
الثاني: السياحة، وتعتبر من أشهر الدول السياحية في العالم وتستقطب كل
عام ما يقارب [80 ألف] سائح، ويعتبر هذا العدد ضخماً إذا ماقورن بعدد السكّان.
دخول الإسلام الجزيرة:
دخل الإسلام هذه الجزر عن طريق التجّار العرب الذين استوطنوا جزر الهند
الغربية في القرن الثامن والتاسع الميلادي، وكان السكان قبل ذلك وثنيين وكان أول
من دعا إلى الإسلام في هذه الجزر كما يذكر مؤرخوهم رجل يدعى أبوالبركات
يوسف البربري المغربي، ذكر ذلك أيضاً (ابن بطوطة) في رحلته المعروفة (تحفة
النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) ، وكانت تُسمى هذه الجزر في ذلك
الوقت (ذيبة المهل) ، وقد أورد في قصة إسلام أهل هذه البلاد قصة أشبه
بالأسطورة، وقال: إنه رواها له الثّقات، وملخصها أنه كان يأتيهم في كل شهر
مركب من البحر فيه شيطان، ويضعون له في غرفة قرب الساحل فتاةً من أجمل
فتياتهم حتى يأخذها، ويرضى عنهم، ولا يمسّهم بسوء، ثم أتاهم هذا الرجل
الصالح وكان حافظاً لكتاب الله، فأخبرهم بأنه سيردّ عنهم هذا الشيطان، وأنه
سيجلس تلك الليلة بدل الفتاة، وفعلاً جعلوه هناك وذهبوا. ومكث هو يقرأ القرآن،
فأتى الشيطان ولم يستطع أن يقربه وخرج الرجل سليماً. فانبهر الناس، وأسلم ملك
البلاد بعد أن دعاه أبو البركات إلى الإسلام، وأسلم الناس وراءه.. والله أعلم
بصحّتها.
سياسة الدولة:
كانت هذه الجزر مستعمرة بريطانية منذ عام 1887م ولم تنل استقلالها إلا في
26/7/1965م، ثم أصبحت جمهورية في عام 1968م، ورئيس الدولة الحالي هو
(مأمون عبد القيّوم) ، وقد تخرّج من جامعة الأزهر بعد أن درس بها قرابة 19 عاماً
كما أخبرني وقد أخذ الماجستير في الفلسفة، وانتخب للرئاسة في عام 1978م،
ومازال رئيساً إلى الآن.
وتعتبر الطبقة الحاكمة هي أكبر طبقة مثقفة في المالديف في نظر الشعب.
وسياسة الدولة خصوصاً في سنواتها الأخيرة بدأت تسير نحو العلمنة التي هي إبعاد
الدين عن الحياة، وذلك بتثبيت دعائم ذلك المنهج، فمنعت الكلام في أيّ أمر يمسّ
الأمور الداخلية المنكرة: سواء أكان عن البنوك، أو عن الخمور، أو عن التبرّج
الذي يتزايد يوماً بعد يوم.
وأذكر أن صديقاً لي مالديفي اسمه (حسن شاكر) نشر يوماً قصيدة له بالعربيّة
ذم فيها بعض المنكرات السائدة، فما كان من الدولة إلا أن سجنته، ثم نفته لإحدى
الجزر قرابة خمسة أشهر! وقد ترون أن هذه العقوبة بسيطة وهيّنة، لكن إذا علمنا
أن هذه الجزر لا تعرف العقوبات؛ لسبب سهل وهو أنها بلاد السّلام، وأهلها هم
أهل السّلام، لعلمنا شدة هذه العقوبة عندهم.
يقول (ابن بطوطة) الذي جلس قاضياً فيها قرابة سنة ونصف: أهل هذه
الجزائر أهل صلاح وديانة وإيمان، وأبدانهم ضعيفة، ولا عهد لهم بقتال ولا
محاربة، ولقد أمرت مرة بقطع يد سارق بها فغشي على جماعة منهم كانوا بالمجلس.
طبيعة الحياة:
شعب المالديف شعب بسيط، لاتكثر بينهم الخصومات، ولا تجد بينهم
سرقات إلا نادراً، ولم تُسجّل في العام الماضي إلا حالة سرقة واحدة! ! وأكثر أهل
هذه الجزر فقراء، إلا أنني لم أجد أحداً يمدّ يده للسؤال! ولا يموت أحد عندهم من
الجوع، إن جاع سدّ رمقه بجوزة هند يقطفها، أو بسمكة بحر يصيدها، أخلاقهم
طيبة، يحترمون الكبير أيمّا احترام، قد غرس في طبعهم الحياء، وامتازوا بحب
المرح..
أما أسماؤهم فلم تزل المعلم الوحيد لحبّهم للغة العربية؛ حيث يسمون أبناءهم
بها اسماً مركباً، وأغلبهم لا يعرف معنى الاسم! .
واللغة السائدة عندهم الريفية، وهي خليط من اللغة السنهالية والأردية
والعربيّة، أما اللغة الرسمية فهي الانجليزية.!
أخطار تواجه الشعب المالديفي:
منذ أن دخل الإسلام هذه الأرض وأهلها متمسكون بإسلامهم، يسود بينهم
المذهب الشافعي، إلا أن هناك أخطاراً كثيرة تواجه هذا الشعب المسكين. أهمها:
أولاً: الجهل: هذا المرض الذي يكاد بسببه يضيع شعب المالديف، حيث إنه
لا يوجد علماء حقيقيون ربانيّون، وكل من رأيتهم هناك أشخاصاً معدودين تخّرجوا
من مصر أو السعودية أو باكستان أو غيرها، لكن هؤلاء غالباً موظفون في الدولة
يسيرون وفق رغبة الدولة.
وقد كان كثير من الخرافات والشركيّات تعشّش في أحضان هذا المجتمع.
فكانت بدع القبور خصوصاً أمام قبر (أبي البركات) منتشرة بينهم إلا أن هذه
المظاهر تلاشت في الآونة الأخيرة ولله الحمد ولم يبق إلا بعض البدع كإقامة الموالد
في كلّ شهر! .
وأغلب سكان العاصمة سرت فيهم النزعة العلمانية ويعتقدون خطأًً أن الدين
هو المسجد فقط، بخلاف الجزر الأخرى التي ما زالت متمسّكة بالدين في أغلب
أنماط الحياة ولكن مع ماهم فيه من الجهل، إلا أنهم يحبّون الإسلام.
ويختلف التعليم في هذه الجزر عن التعليم في العاصمة، إذ يركّز عندهم على
المواد الدينية أكثر من غيرها، وسيكون لنا وقفة مع التعليم في العاصمة.
أما عن العلماء فقد سمعنا أن أكثرهم ماتوا، ولم يبق إلا القليل في بعض
الجزر النائية، وهم من بقايا دارسي الكتاتيب في تلك الجزر.
ثانياً: التعليم: لقد كانت بريطانيا في يومٍ ما مُسْتَعْمِرَةً لهذه الجزر كما ذكرنا
سابقاً وقد خرجت الآن بجيوشها لكنّها لم تخرج بفكرها، فكان من بنود معاهدة
الاستقلال أن يكون التعليم تابعاً لبريطانيا، وفعلاً كان الأمر هو ما اتفق عليه!
فأغلب المناهج تقرّر هناك، ولا توثّق شهادة التخّرج إلا من (بريطانيا) ! وقد
أنشأت (بريطانيا) عدة مدارس هنا، من باب التأكيد على المعاهدة، فماذا نرجو من
مناهج تقرر في دولة صليبية؟ سوى تشويش العقيدة الإسلامية، وتمجيد النصرانية، وكان هذا ما حدث فعلاً.
إن هذه المناهج لن يظهر أثرها سريعاً الآن، لكنه سيظهر على المدى الطويل، في الأجيال القادمة.
أما عن المعلّمين فلا توجد كفاءات كافية لسدّ ثغرة التدريس في البلاد.. ولذلك
لجأت الدولة إلى استقدام المعلّمين.
ففي المدارس الإسلامية يوجدبعض المدرسين العرب الذين أرسلوا للتدريس
هناك، وعددهم لا يتجاوز ثلاثين معلماً، وسأتحدث عن بعض هذه المدارس بعد
قليل، أما المدارس العامة، فقد استقدم لها كثير من المدرسين أغلبهم مسيحيون! !
وقد حدّثني من أثق به أنهم يبثون أفكارهم وعقائدهم داخل قاعات الدّرس؛ مما أثار
البلبلة في أفكار بعض الشباب والشابات، لكن لم يحدث وأن تنصّر واحد من هؤلاء
إذ أن المجتمع المسلم هناك لا يرحم أحداً يترك دينه الإسلامي إلى دين آخر.
وهناك خطّة جديدة بتوحيد التعليم في البلاد، وتحويل مناهج الجزر الأخرى
إلى مناهج علمانيّة، كما هو الحال في العاصمة. «عرفت ذلك من خلال مناقشة
جرت لي مع وزير خارجية البلاد (فتح الله جميل) ، إلا أنه علّل تأخيرها بعدم
وجود الكفاءات اللازمة لتدريس المواد الجديدة» .
ثالثاً: السياحة. قد ذكرنا أن هذه الدولة من أشهر الدول السياحيّة، ولذلك
فإنه ليس من المدهش وأنت تمشي في أسواق العاصمة مثلاً أن تجد السّواح أكثر من
أبناء الشعب.
وبسبب الجهل فقد تأثر بهم كثير من الشباب غير الواعي، فأخذوا يقلّدونهم
في الحركات، وفي التفسّخ الغير أخلاقي، مما زرع في نفوسهم أن التمسك بالإسلام
تخلف ورجعية! ويدخل في هذا النساء، إذ الزي الرسمي لكثير من المدارس إلى
فوق الركبة، وقد تفسخت المرأة أي تفسّخ، فأصبحت تشارك الرجل في أعماله
ووظائفه، وفي المصانع، والمتاجر. وقيادة الدرّاجات.. إلخ
وكان من نتائج ذلك، أن كثر الطلاق بصورة مريعة حتى تجاوزت نسبته
(90%) من حالات الزواج!
إنهم ينظرون إلى الرجل الغربي وكأنه القدوة، ومع أنهم يحبّون إخوانهم
العرب، إلا أن العرب هناك لا يتجاوز عددهم خمسين شخصاً في جميع أنحاء
الدولة!
وهم يتقبلون من العربي كلّ ما يقوله، لأنه آتٍ من الأراضي المقدسة! ..
لكن الوجود العربي هناك لا يكاد يذكر، بل أن الكثير من العرب لا يعرفون هذه
الجزر، ولم يفكروا يوماً في زيارتها على الرغم من أن الناس يأتون إليها من كل
أجناس الأرض.
دور المؤسسات الدينية:
للمؤسسات الدينية هنا دور لا بأس به في توعية الشعب، ومن أهم المؤسسات:
معهد الدراسات الإسلامية: أنشئ هذا المعهد لتعليم اللغة العربية وتحفيظ
القرآن الكريم، والاهتمام بتعليم أحكام الدين الإسلامي، وفق المنهج (الأزهري)
تماماً، حتى إن المناهج تُطبع وتقرّر في (جمهورية مصر العربية) . وكان إنشاؤه
في عام 1401هـ، ويضم الآن قرابة (200) طالب وطالبة، ويضم مرحلتي
الإعدادي والثانوي.
وتسعى الحكومة الآن لإنشاء مبنى جديد للمعهد يستوعب عدداً أكبر من الطلبة
وهو قد قارب التمام.
المدرسة العربية الإسلامية: وهي بمثابة التمهيد لـ (معهد الدراسات) حيث
تدرّس الإبتدائي، وتركز على تعليم اللغة العربية.
المركز الإسلامي: لم يمضِ على بنائه سوى 4 سنوات تقريباً، يضم مسجداً
ضخماً يطلق عليه (مسجد السلطان محمد تكرفان الأعظم) اسم أحد سلاطينهم القدماء، ويضمّ كذلك أكبر مكتبة عربية عامة بالدولة، ويضم أيضاً قاعة للمحاضرات،
حيث تلقى فيه عدد من المحاضرات، وأغلب من يحاضر به هم مسؤولو الدولة!
وتقام بهذا المركز بعض دورات تعليم القرآن، لكن على مستوى متواضع.
هذا بالإضافة لبعض المدارس الخاصة الأهلية، التي يقوم عليها الشباب الذين
تخرجوا من جامعات (السعودية) .
وأخيراً. في الحقيقة إنه لا يخلو مكان من الصالحين الذين كان لهم الدّور
الكبير في توعية الناس، لكن حالهم مع المنكرات هو السكوت، حيث قرروا العمل
بحديث [فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] ! ! . ورأيت كثيراً ممن
يرجى فيهم الخير خصوصاً في (معهد الدراسات الإسلامية) ، ولكن لاتزال روح
الإسلام وأخلاقه العالية تسري في كيان هذا المجتمع، ولا ينقصهم إلا الموجهون
والعلماء. وكلمّا وقفت على شواطئ تلك الجنان العائمة، ورمقت طائر النورس
المُحّلق في الأفق البعيد، أدركت أن بشائر الخير قادمة؛ لتتبوأ مكانها في أقصى
جزر المحيط الهندي، لكن الأمر يحتاج إلى مزيد اهتمام من المسلمين جميعاً دعماً
ومساعدة حتى لا يكون الأعداء أرأف بأهل هذه البلاد من إخوانهم المسلمين.(70/82)
في دائرة الضوء
قراءة في فكر د/ زكي نجيب محمود
(2)
د.نعمان السامرائي
تمهيد:
في العدد الماضي عرفنا من هو د/ زكي نجيب محمود وتحدث الكاتب عن نظريته الفكرية ومفهومه للتقدم وتأثره بفلاسفة الفكر الغربي، ونواصل معاً قراءة بقية المقال.
-البيان-
ما هي الحضارة؟
إن الحضارة كما أعلم مجموعة أشياء: عقائد، أفكار، نظم أشياء مادية ...
إلخ.
ولذا فمن الجائز أن يتقدم جانب، ويتوقف آخر، ويتخلف ثالث فالحضارة
ليست هيكلاً عضويا، إما أن يتقدم كله أو يتخلف كله.
عرّف «تايلر» الحضارة بأنها: «ذلك الكيان المعقد الذي يضم المعرفة
والمعتقدات والفنون والآداب والقوانين والعادات، وجميع القدرات والتقاليد الأخرى
التي يكسبها الإنسان بصفته عضواً في المجتمع» . [1]
لقد نسي الدكتور «زكي» ما قرره قبل قليل من أن الإنسان العربي له رغبة
في التسامي على دنيا الحوادث المتغيرة، لياذاً بالثابت ليحتمي به [2] .
كذلك نسي ما سبق أن قرره من وجود إله خالق، وإنسان مكلف مخلوق يحقق
في سلوكه قيماً أخلاقية محددة، أُمليت عليه، ولم تكن من اختياره وليس من حقه
أن ينسخ بعضها أو يضيف إليها ما يناقضها. [3]
سؤال كبير:
ماذا يبقى من الأصالة إذا طرحنا الماضي كله، وحكمنا بأن الحاضر أفضل
منه؟
لقد كنا سادة نصنع الحضارة، ونقود العالم نحو الإيمان والتحضر، ثم جاءت
قرون فصرنا في ذيل القافلة، نستهلك حضارة، ولا نقوم بمساهمة فهل نعتبر
الماضي القريب أفضل لأنه قريب؟ ؟
لقد كان سكان العراق في العهد العباسي الأول وشطرٍ من الثاني ينوفون على
الثلاثين مليوناً، قل أن تجد بينهم أمي، ثم صار العدد ثلاثة ملايين في مطلع القرن
العشرين الميلادي، وصارت نسبة الأميين أكثر من 80 % فأيهما أفضل؟
يقول «ديورانت» : إن مكتبة الصاحب (ابن عباد) الشخصية، كانت تحوي
من الكتب أكثر مما تحويه جميع المكتبات العامة في أوروبا في ذلك الوقت، فهل
يؤمن الدكتور بتقدمية الحاضر ورجعية الماضى؟ ؟
طرح للمسألة:
لديّ طرح لمسألة «الأصالة والمعاصرة» ربما أعجب تلاميذ د/ زكي ومن
يهتم بالموضوع. فالإنسان حين خلقه الله تعالى حدد له هدفين كبيرين:
1- أن يعبد الله تعالى ولا يشرك به شيئا، [وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون] . [4]
2- أن يساهم في عمارة الأرض [ ... هو أنشأكم من الأرض واستعمركم
فيها] . [5]
العبادة:
والعبادة تأتي على معنيين: عام وخاص، فالعبادة بمعناها العام: أن يعمل
الإنسان «المشروعات» يبتغي بذلك وجه الله، فمن اشتغل بالطب، أو الصيدلة،
أو الكيمياء، أو علوم الحياة أو غيرها، يبتغي بعمله وجه الله تعالى هو في عبادة،
وقد نقل عن أكثر من واحد من علماء المسلمين: إن الاشتغال بالعلم أفضل من
صلاة النافلة.
أما المعنى الخاص للعبادة فيشمل الصلاة والصيام والحج والزكاة.
والأصل في العبادة: النص الصحيح، وليس من حق أحد أن يزيد أو ينتقص
منها، حتى لقد نقل أن شخصاً أخبر ابن مسعود أن جماعةً تجتمع في المسجد،
يذكرون الله ذكراً «جماعياً» ، فطلب إليه إذا اجتمعوا أن يخبره، فلما اجتمعوا
خرج إليهم مسرعاً غاضباً، فلما وقف عليهم قال: (والله الذي لا إله غيره، لقد
جئتم ببدعة ظلماً، ثم راح يسأل باستنكار: هل فَضلتم أصحاب محمد
علماً؟) . [6]
وحين سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن بعض أصحابه يلزمون
أنفسهم بالصيام وبعضهم بقيام الليل، وبعضهم بهجر النساء، استهجن ذلك، وقال:
إنه يصوم ويفطر، يقوم الليل وينام، ويقرب النساء، ثم عقب على ذلك بقوله:
(فمن رغب عن سنتي فليس مني) . [7]
ومن القواعد في هذا الصدد (مبنى العبادة على الحظر) أي المنع، فلا أحد
يملك إنشاء عبادة، أو التصرف فيها، وفي هذا الصدد نفهم كلمة الإمام علي: (لو
كان الدين بالعقل لكان مسح باطن القدم أولى من ظاهره) ، والدين هنا العبادة.
ففي ميدان العبادة يكون المسلم متبعاً، يبحث عن صحة «النص» ثم يؤدي
المطلوب، كما ورد في النص، وفي حدود الفهم السليم.
عمارة الأرض:
أما عمارة الأرض فالذي أفهمه هو إقامة الحضارة، وهذا يتطلب معرفة جيدة
بعلوم العصر، حتى قال علماؤنا: إنه متى وجد علم أو صنعة، ولم يوجد في
المسلمين من يعرفها أو يمارسها، فالأمة كلها آثمة.
ومن حق الدولة أن تعين أشخاصا لهذه المهام، وعندها يصبح الأمر بالنسبة
لهم من فروض العين، يقول الدكتور الدريني: [8] ( ... وتتجه المسئولية الخاصة
شرعاً، إلى المتخصصين من ذوي الكفاءات، وأرباب الخبرة إذا احتاجت الأمة
إلى صناعاتهم وخدماتهم، وكانت مصلحتها العامة لا تتم إلا بذلك.
ولا يعفيهم من المسؤولية، أنهم أحرار فيما يملكون، وفيما يتصرفون لأن
حريتهم وحقوقهم مقيدة بمراعاة مقتضيات الصالح العام، تكافلاً ملزماً فيجبرون
عليها؛ لأنها من الفروض العامة، واجبة الأداء) .
وجل هذه العلوم لا هوية لها، كالطب والهندسة والصناعة وعلوم الأحياء.
وهذه العلوم وأمثالها متطورة متبدلة، نرى في كل يوم فيها جديداً، فهنا
تتجلى «الحداثة» بأجلى مظاهرها، وفي العبادة والعقيدة تتمثل الأصالة بكل
أبعادها.
دائرتان:
فهناك إذن دائرتان: واحدة للحداثة وأخرى للأصالة، والعلاقة بينهما ليست
قائمة على التناقض والصراع، بل لكل ميدانه الخاص، وقد سقطت الكنيسة في
خطأ قاتل، حين جاءت إلى بعض العلوم من دائرة «الحداثة» فقامت بوضعها في
دائرة «الأصالة» ومنعت من مناقشتها أو التشكيك في صدقها، فلما قامت بواكير
النهضة، تبين للعلماء أن ما يعرف بـ «علوم الكتاب المقدس» علوم غير
صحيحة وغير سليمة؛ لأنها كانت موروثات يونانية ولم تكن من علوم الأصالة،
تذكر الكاتبة الألمانية «زغريد هونكه» [9] : إن القسس كانوا يلعنون كل من قال
بكروية الأرض، ومن تقبل التعليل بأسباب طبيعية لفيضان أو بزوغ كوكب، أو
شفاء قدم مكسور ... الخ.
وقد دفع «غاليليو» حياته ثمنا لقوله بكروية الأرض، ودورانها حول
الشمس وهناك اليوم حركة تطالب بإعادة محاكمته من جديد.
وقد اخترع رئيس بلدية في ألمانيا مصباحاً يعمل بالنفط، فحكمت الكنيسة
بكفره بحجة أن الله خلق الليل مظلماً والنهار منيراً، وهذا الرجل يبدل في خلق الله، فيجعل الليل كالنهار.
وجل من عرض على «محاكم التفتيش» السيئة السمعة، وكان متهماً بالكفر
أو الزندقة فهو ممن أنكر بعض «خرافات» الكنيسة.
وبالمثل حاولت الفلسفة في الجانب «الميتافيزيقي» الحديث عن الله تعالى
وصفاته واليوم الآخر، فلم تفلح في شيء، فما يقوله الأستاذ ينقضه تلاميذه ذلك أن
علوم الغيب وصفات الله تعالى، لا ينبغي أن تؤخذ إلا من الخبر الصحيح.
فإذا قلنا مع الدكتور محمد عمارة: [10] «بأن المقدسات، والقيم والسمات
الحضارية، المميزة للأمة، من» الأصالة «، وأن سبل النهضة والقوة وأشكال
العمران وعلومه من» الحداثة «، نكون قد وقفنا على منهج جديد سديد يسمح
للثوابت بالبقاء، وللمستجدات بالتغيير، وبذلك نحفظ كياننا من الذوبان والجمود في
وقت واحد، فلا نقول: بأن كل ما لدينا من» الثوابت «كما قالت الكنيسة ولا بأن
كل شيء متغير متطور كما تقول حضارة اليوم بل هناك ثوابت، تتمثل في العقيدة
والعبادة، والأحوال الشخصية، والحدود.
ومتغيرات تتمثل بالتعازير، والنظام السياسي، والإداري، وما بني على
العرف والعادة والمصلحة، وسائر العلوم التجريبية، دون فلسفتها.
فالقسم الأول يمثل الأصالة والقسم الثاني يمثل الحداثة، والخلط بينهما وبين
مفرداتهما مرفوض.
نحن والعبادة والعمارة:
قد مضت علينا قرون، ونحن نعمل في الميدانين دون خلط ولا خبط فلما جاء
الإستعمار وتلاميذه وحاولوا إسقاط الأصالة، ومسح مفرداتها، جاء رد الفعل من
الكثير معاكساً، فأنكروا» الحداثة «ومفرداتها.. ذاك مغرب وهذا مشرق فمتى
يلتقيان؟ ؟
ومع مرور أكثر من قرن فمازال الخبط والخلط، مازال هناك من» يقدس «
الماضي بكل سلبياته وإيجابياته، وهناك من يريد أن يهيل عليه التراب كله بكامله،
واستبداله بغيره.
ومعلوم أن الأمم لا تترك ماضيها، كما يخلع الفرد ملابسه أو يبيع داره.
والكثير من المفكرين والكتاب، لا يريد أن يفهم هذه القضية، ولا الحدود
الفاصلة، فيبقى طوال عمره، يضرب في حديد بارد، ثم ينتهي به الأمر إلى يأس
قاتل فيرمي الأمة بالعقوق أو الجمود أو التسيب.
ومن يرد العمل في ميدان» التغيير «فعليه أن يقرأ تاريخ العالم أولا ويدقق
في التحولات الكبرى، ليفرق بين الممكن والمستحيل في هذا الميدان.
ولسنا بدعاً في الأمم، وليس ثمة استثناء لأحد من سنن الله، فمن يجمد
ويتشنج، يتخطاه الركب، ومن يقبل كل تغيير وتبديل، لا تبقى له» هوية «ولا
يكون إلا قمراً صغيرا، يدور في فلك غيره، من لا يصدق هذا فليدرس النموذج
» التركي «في التغيير والحداثة، والنموذج الياباني في الأصالة، ثم ليفعل ما يشاء،
ويقرر ما يريد ...
لقد بحت منا الأصوات، وحفيت منا الأقدام، ومع ذلك مازلنا نقبع في مكاننا، ويبدو أن ثمة» مهيجين ومحرشين «كلما هدأت» النار «تطوع من ينفخ فيها،
ويقدم لها الوقود ...
فهل يعجب تلامذة الدكتور زكي هذا الطرح؟ وهل من جديد في الجيوب
والجعب؟ !
__________
(1) في معركة الحضارة، د زريق، ص 34.
(2) قصة عقل (242) .
(3) قصة عقل (240) .
(4) الذاريات، آية (4) .
(5) هود، آية (61) .
(6) حياة الصحابة: 3/247.
(7) البخاري: 9/176، مسلم: 9/175176.
(8) خصائص التشريع الإسلامي، ص 267.
(9) شمس العرب تسطع علي الغرب، ص 370.
(10) الإسلام والمستقبل، ط1، ص 93.(70/91)
كلمة في خطورة الكلمة
منى عبد الله داوود
إننا لنتساءل.. ما وقع الكلمة في حياة الأمة المعاصرة؟ كيف يتعامل المسلم
المعاصر معها؟ وكيف تعامل سلف هذه الأمة معها؟ وهل وعت الأمة حقيقة الأبعاد
الإيمانية والتربوية للكلمة في حياتها؟ هذه الأسئلة وغيرها فرضها واقعنا المعاصر، ذلك أن المفاهيم قد اختلت وضاعت المعايير، فكان التخبط في نواحٍ شتى، منها
الكلمة، ومن باب الوفاء بحقها كانت هذه المقالة، رجاء أن يجعلها الله من الكلمة
الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولا أزعم تمام الوفاء بحقها، وإنما هو
جهد أساهم به في فتح منافذ الكتابة عن الكلمة من أجل أن تعود إلى مكانتها الحقيقية
في وعي الأمة.
مدخل كلمتي آيات من كلام رب العالمين، بُغية صدق المدخل، ورجاء صدق
المخرج، فندعو بداية بـ: [رب أدخلني مٍدخل صدقُ وأخرجني مٍخرج صدقُ
واجعل لي من لدنك سلطاناْ نصيرْا] [1] ؟ ثم لنتأمل قوله تعالى: [ألم تر كيف
ضرب الله مثلاْ كلمةْ طيبةْ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي
أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة
خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار * يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويٍضل الله الظالمين ويفعل الله ما
يشاء] . [2] فمن منا لا يرجو أن يكون كلامه من الكلم الطيب؟ ! فذلك من معين
الثبات في الدنيا والآخرة، سواء أقصدنا بالكلمة الطيبة كلمة التوحيد، أو هي كل
كلمة حق في معيار الإسلام، وهذه دعوة صادقة أوجهها إلى الأمة أن تعي أن
للاختلاف بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة معايير، ينبغي التعرف عليها، وفهمها، والتزامها.. كما أن لها معطيات مثمرة ومن أبرزها: نقاء الأجواء المحيطة بها،
ومواطن غرسها، لأنها كالشجرة في حاجتها إلى التربة النقية، إذ كيف يمكن
للشجرة الطيبة أن تثمر وسط تربة مليئة بالخبث، وأجواء غير نقية ومن ثم فلنسع
في تنقية مجتمعاتنا من الفساد والخبث، رجاء أن تؤتي الكلمة الطيبة أكلها،
ولنحرص على متانة الجذور وقوتها، فهي أصل الشجرة الطيبة التي ترسي دعائمها، فلا تهن ولا تضعف، وكذلك الكلمة لابد من حماية أصولها وتقوية جذورها،
لتقف في وجه الباطل محصنة قوية خاصة أن الكلمة في الإسلام تملك أصولاً
راسخة ذات سمات ربانية، تكفل لها الاستمرارية والعطاء الفاعل بقدر صلتها
وتمسكها بها، فأصولها كتاب الله وسنة رسوله، لا تضل أبداً ما تمسكت بهما.
ونحن ندعو دعوةً خالصة أن يبارك الله كل جهد بُذل ويُبذل في سبيل
مجتمعات إسلامية نقية أصيلة، فهو لبنة في التهيئة للكلمة الطيبة، والتمكين لها في
الواقع المعاصر.
إذن ما الهدف؟ وما المقصود؟ سؤالان لابد منهما حول الموضوع، لأننا أمة
متميزة، تؤمن بـ[ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد] . [3] فالرقابة الإيمانية
واستشعار أمانة الكلمة، تفرض على المسلم حساً إيمانياً، يرقى به نحو السمو إلى
مرتبة الإحسان في الكلمة، فيكون في موقع «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن
تراه فإنه يراك» [4] ، فتتهذب نفسه تبعاً لهذا الحس والشعور، ويتربى على أن
يزن الكلمة بميزان الحق والعدل، ويميز بين الطيب والخبيث فالإسلام يحوي
ثوابت لا تتغير، يستقي المسلم منها الضوابط والمعايير لجميع شؤون حياته، ومنها
الكلمة، فكل ما حسنه الشرع فهو حسن، وكل ما قبحه الشرع فهو قبيح.
ونحن ندعو الأمة أن تتحرى موازين الشريعة الإسلامية حتى تكون المعايير
سليمة، والضوابط صحيحة، جاعلةً نصب عينيها إخلاص النية لله تعالى رجاء
البركة والتوفيق منه عز وجل، وتحري اتباع سنة المصطفى -صلى الله عليه
وسلم- بُغية الصواب ومن أعظم معطيات تحصيل ذلك، الفقه في الدين، وقوامه
التقوى إذ يقول تعالى: [واتقوا الله ويعلمكم الله] . [5] ولنحذر مما حذرنا منه -
صلى الله عليه وسلم- بقوله: «إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي
بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» . [6] ، وليكن شعارنا «من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» .
لا ريب أن كل مخلص لهذه الأمة يرجو لها العزة والتمكين، و [من كان
يريد العزة فلله العزة جميعاْ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين
يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور] . [7] ومن أسباب العزة
ووسائلها لمن يطلبها عند الله، القول الطيب والعمل الصالح القول الطيب الذي
يصعد إلى الله في علاه، والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه، ويكرمه بهذا
الارتفاع، ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء «. [8]
ونحن ندعو من استطاع أن يجود بكلمة ترقى بمسؤولية الكلمة، ألا يتوانى أو
يتردد، إذ أن من أسباب العزة ووسائلها كما رأينا الكلم الطيب، الذي يفتقر إليه
واقعنا المعاصر.
ختاماً أرجو ألا ننسى أن الكلمة في يوم الحساب لا مفر لها من أن توزن
بميزان يزن الذرة من الشيء، لذا ندعو كل مؤمن في هذه الأمة أن» يرتعش
وجدانه أمام كل عمل من أعماله وأمام كل قول من أقواله ارتعاشة ذلك الميزان
الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تطيش «. [9] [فمن يعمل مثقال ذرة خيراْ يره،
ومن يعمل مثقال ذرة شراْ يره] . [10]
__________
(1) الإسراء، آية (80) .
(2) إبراهيم، آية (227) .
(3) ق، آية (18) .
(4) صحيح البخاري ج1 ص 27، كتاب الإيمان باب (36) ، حديث 50.
(5) صحيح مسلم ج4/2290، كتاب الزهد باب (6) حديث 50.
(6) صحيح البخاري ح5/2376، كتاب الرقائق باب (23) حديث 6110.
(7) فاطر، آية (10) .
(8) في ظلال القرآن، سيد قطب 5/2930.
(9) في ظلال القرآن، سيد قطب 6/3956.
(10) الزلزلة، آية.(70/99)
منتدى القراء
وحدة الصف.. طريق النصر
خالد المسبحي
شهدت الساحة الإسلامية أنماطا من الناس، وأشكالاً من البشر.. إذ ااختلفت
معهم في الرأي تحولوا إلى وحوش كاسرة، يمتلئون بالحقد وحب الانتقام والأخذ
بالثأر؛ فكم من إنسان دفعه خلافه إلى أن يشهّر بمن خالفه، كم من إنسان دفعه
حقده إلى أن يتعاون حتى مع الأعداء لينتقم ويشفي غليله من غريمه. إنها قضية
أساسية يجب أن تكون محل الاهتمام الأكبر.. ومناط التفكير الأول على الساحة
الإسلامية..، فأكثر المشكلات والأزمات التي تعاني منها الساحة الإسلامية،
ويعاني منها العمل الإسلامي تعود إلى سوء التنظيم، وقلة التخطيط وعشوائية العمل.
وحين لا يخضع العمل لقواعد وأصول مدروسة، ولا يقوم وفق مخططات
ومناهج واضحة، وحين لا يُعرف ما ينبغي عمله اليوم وما يجب تأجيله إلى الغد..، وحين لا يُفرق بين ما هو مهم وبين ما هو أهم، ولا تُرتب الأعمال وفق ...
الأولويات.. عندئذٍ يحدث الخلل وتضطر الدعوة الإسلامية إلى ملء الشواغر
والفراغات بأعمال ضعيفة وبأسماء ليست ذات كفاءة.
إن كل فرد في الحركة الإسلامية يجب أن يشعر أنه مسؤول وأنه عضو ينتج
ويتفاعل أيّاً ما كانت مهنته أو مكانته، ويجب أن يشعر بالانصهار مع إخوانه..
وهذا الشعور لا ينشأ من فراغ، وإنما ينشأ من خلال الممارسة التي تؤكد
وباستمرار حقيقة هذا التوجه، وهذا التلاحم والترابط.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى عند قول الله تعالى: (إن الله يحب
الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) [1] ، يقول: هذه الصورة
التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق،
وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع (صفاً
كأنهم بنيان مرصوص) ... بنيان تتعاون لبناته وتتضامن وتتماسك وتؤدي كل لبنة
دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها، تقدمت
أو تأخرت ...
ويستطرد الأستاذ سيد فيقول: «إن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن
يهيمن على جماعة، وينشيء مجتمعاً متماسكاً.. متناسقاً، وصورة الفرد المنعزل
يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين،
وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة» . [2]
وانطلاقا من هذا المبدأ.. وحرصاً على تجلية هذا الهدف الذي نعمل جميعا
من أجل الوصول إليه.. وبلوغ غايته.. فإن على الدعاة إلى الله دعاة الفكرة
الإسلامية أن يتضامنوا ويتكاتفوا، وأن تجتمع قواهم بدلاً من التشتت والتفرق
فيكون السقوط أمام أي عقبة، والفشل أمام أي مشكلة ... مما يجعلنا فريسة سهلة
لأعدائنا.. أعداء الدين، الذين يتلوّنون تلون الحرباء ويتقلبون تقلب الرياح،
وينتقلون من مكيدة إلى أخرى.. حتى ينفذوا إلينا ويمزقوننا، وأن يضعوا خلالنا
الفتنة..، والأمة الإسلامية اليوم في أمس الحاجة إلى جمع الشمل ووحدة الصف
الذي بعثرته الأيدي الصهيونية والاستعمار الغربي الحاقد.. فقد دخل الاستعمار على
المسلمين من الفروع والجزئيات التي يدور الاختلاف فيها بين ما هو أولى، وما هو
خلاف الأولى فاستطاع الاستعمار بذلك التأثير على المسلمين والتفرقة بين العلماء
والدعاة.
إن وحدة المسلمين فريضة، والوقوف صفاً واحداً من أجل الدعوة على هدى
ونور وبصيرة أمرٌ واجب، أمرنا الله عز وجل به وحثنا على التمسك به [ولا
تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب
عظيم] . [3]
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) الصف، أية (4) .
(2) الظلال (6/2555) .
(3) آل عمران، آية (105) .(70/103)
منتدى القراء
أفلا يستقيم لنا كما استقام لهم! ! ؟
حسن قطامش
استوقفتني تلك الكلمة التي قالها يونس الصدفي حكاية عن الشافعي وقتاً طويلاً
متأملاً معانيها، ناظراً في مدلولها ومغزاها ...
وكان يونس رحمه الله يمتدح الإمام الشافعي فقال: ما رأيت أعقل من الشافعي! ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا
يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق! ! ؟ [1]
وقد عقب الذهبي رحمه الله على هذا بقوله: هذا يدل على كمال عقل هذا
الإمام، وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون. [2]
وقول الشافعي رحمه الله يذكرنا بقول الإمام أحمد عندما قال عن إسحاق بن
راهويه: لم يعبر هذا الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً. [3]
وإنه لمن العقل وفقه النفس إشاعة آداب الأخوة. بمفهومها العملي لا النظري
فقط، ولكن عندما نحصر هذه الأخلاق فيمن هو حقيق بها كما نظن ممن جمعنا به
تجانسٌ فكري أو إطار تربوي، فعند ذلك لا يكون لهذه الأخلاق واقعٌ ملموسٌ
ومدركٌ ... ، وإن المفهوم الحقيقي للأخوة وآدابها لابد من أن يتسع فيحتضن كل
مسلم سليم الاعتقاد، وإن خالفنا في أشياء ...
ولنا في سلفنا أسوة وقدوة فقد وسعهم الخلاف واستقام لهم أن يكونوا إخواناً
على اختلافهم ...
أفلا يستقيم لنا كما استقام لهم! ! ؟
__________
(1) سير أعلام النبلاء 10/16.
(2) سير أعام النبلاء 10/17.
(3) سير أعلام النبلاء 11/371.(70/106)
ردود قصيرة
*الأخ الكاتب الذي لم يذكر اسمه والذي كتب موضحاً خطأ الاتجاه الانهزامي
لمنظمة التحرير الفلسطينية في توجهها الأخير للاستسلام والرضا بما يسمي (خيار
غزة أريحا أولاً) .. نشكرك على طيب مشاعرك وما ذكرته تطرقت إليه المجلة في
العدد الماضي والذي قبله مع العلم أنه لا ينشر لأحد إذا لم يذكر اسمه في رسالته.
*الأخ/ سيد الهاشمي من مكة المكرمة: نشكرك على تواصلك معنا، أما
مقالك عن (التوجه الجديد للسلام) فإن المعالجة تحتاج إلى عمق أكثر ومعلومات
أوفر، لذا نعتذر عن نشره.
*الأخ/ عبد الرحمن الرشيد: يتساءل عن (البيان الصغير) وضرورة عودته
لما يحمله من توجيهات سديدة للنشء، بالنسبة للبيان الصغير فقد توقف إصداره
لظروف فنية متعلقة بطبيعة المجلة، ونرجو أن يوجد في الساحة الإسلامية ما يسد
هذه الثغرة.
*الأخ/ منصور بن درباش: ما كتبته عن (الحركة التنصيرية في أندونيسيا)
قليل جداً وغير موثق وبخاصة أن هذا الموضوع أُلّفت فيه كتب ورسائل علمية
مشهورة، لذا نعتذر عن النشر.
*الأخ/ محب الدين عبد الله: قصيدتك (عليهم السام) لم تكن واضحة بـ
(الهاتف المصور) ويلزم ذكر رقم الجهاز حتى نتمكن من إشعارك بذلك ونأمل إعادة
إرسالها مرة أخرى إرسلها بالبريد.
*الأخ/ محمد بن علي الفاهمي: نبادلك المشاعر الطيبة، ونسأل الله أن نكون
من المتحابين فيه، أما اقتراحاتك فهي محل الدراسة من أسرة التحرير.
*الأخ/ إدريس علي عبد الله: يثني على المجلة ودورها في التوعية والتوجيه
ويأمل أن تراعي المجلة ما يلي:
أ -التأكيد على العقيدة السلفية والتحذير من كل الانحرافات عن جادة التوحيد.
ب -إجراء الحوارات مع علماء الإسلام في ديار الإسلام من المشهود لهم
بالعلم والفضل والجهاد والصدع بكلمة الحق.
ج -الاهتمام بقضايا الدعوة والدعاة في مختلف أنحاء العالم ونقل نشاطاتهم
والتعريف بهم.
د -تسليط الأضواء على الدعوة في البلاد العربية وما تعانيه في بعضها من
ضغوط واضطهاد.
ونحن بدورنا نشارك الأخ الكريم مشاعره الطيبة واقتراحاته الوجيهة، فنحن
نعمل ومازلنا جاهدين لأن نتطرق لمثل هذه المواضيع الهامة ونوليها جل اهتمامنا.
*الأخ/ أبو خالد قصيدتاك (اليراع الحزين) و (وقفة بين الشياطين) ضعيفتان
فنياً وننتظر منك مشاركات قادمة أكثر نضجا.
*الأخت أم قتيبة: نأمل إرسال العنوان حتى نرسل لك رسالة خاصة حول
مشاركاتك.(70/108)
الورقة الأخيرة
معاناة من نوع آخر..
د. مالك الأحمد
تعاني الصحافة الإسلامية سواء أكانت الصادرة في البلاد الإسلامية أو في
الخارج من عقبات جمة، فالصحف - أو بالتحديد (المجلات) ، لأنه لا تكاد توجد
صحف إسلامية تصدر محلياً - فالمجلات الإسلامية الصادرة تطوقها القضايا
المحلية، وتأخذ حيزاً من صفحاتها المحدودة، وتضطرها أحياناً أن تكون هي
محورها الأساسي، كذلك تحاصرها النظم والقوانين الإعلامية مما يجعلها تخرج
أحياناً عن مصداقيتها، فقد تمدح أفراداً أو دولاً حسب ما تمليه عليها الظروف
السياسية.
أما الصحف الإسلامية الصادرة في الخارج فمعاناتها أشد، وهي وإن كانت
حرة في قول الكلمة والصدع بالحق، فإنها لا تستطيع أن تصل للقراء المعنيين
فتبقى محصورة في بلد الإصدار أو ما حوله من البلدان الغربية، وتجدها تستمر
فترة ثم تنقطع ثم تظهر أخرى وتنقطع.. وهكذا.
وفي الجملة فإن أي مطبوعة إسلامية تريد أن تصل إلى القارئ المسلم
والعربي بشكل خاص تجد نفسها أمام محاذير وخطوط حمراء كثيرة فتحاول
الاستمرار، فتحسب كلماتها بدقة ولكنها قد لا تصل إلى الكثير من البلدان على
الرغم من التحفظ في هذا الجانب أو ذاك.
والغريب أن بعض الخطوط الحمراء إنما توضع أمام المجلات الإسلامية ولا
تطبق على غيرها من الصحف والمجلات القومية والعلمانية، وإذا انتقلنا إلى
الجانب المالي نجد أن أغلب الصحف في العالم العربي إما رسمية أو شبه رسمية،
وبالطبع فهي مدعومة على كل حال.
وتبقى المجلات الإسلامية في الغالب تعتمد على التبرعات والإعانات فهي
خاسرة من ناحية التوزيع نظراً لافتقارها لسعة الانتشار، وكذلك لغياب السوق
الإعلانية عنها والتي تمثل الدخل الأساسي لأي مطبوعة.
وفي الجانب الفني والإداري هناك افتقار في الأوساط الإسلامية للمؤهلين
إعلامياً، فنحن إما أن نجد هواة دخلوا ميدان الإعلام عندما اضطرتهم الظروف
لذلك، وإن أبدع الكثير منهم، لكن تنقصهم الخبرة العملية وتبقى قلة من أصحاب
المهنة، لكنهم ضعيفوا الحس والرؤية الإسلامية.
وختاماً، نوجه دعوة حارة لأصحاب الأقلام والإعلاميين لدعم المسيرة وكذا
دعوة للقراء للمؤازرة وتفهم الظروف التي تحيط بالإعلام الإسلامي، كي لا يظن
بالقائمين عليه خلاف الحقيقة.
والله من وراء القصد،(70/110)
رجب - 1414هـ
ديسمبر - 1993م
(السنة: 8)(71/)
كلمة صغيرة
أقوال وأفعال
كانت - على العموم - كلمة منصفة تلك التي ألقاها (الأمير تشارلز) في مركز
الدراسات الإسلامية بجامعة (اكسفورد) مؤخراً حينما أشاد بدور الإسلام في نهضة
الحضارة الغربية، وكذلك دعوته للاستفادة من الإسلام في عدالته وتسامحه وشموله
وكان الأمير موضوعياً حينما طالب بإعادة النظر في القوالب الثقافية المجحفة التي
توارثها الغربيون عن الإسلام, والتي أرجعها إلى عقد تاريخية وإلى سوء فهم..
ومع تحفظنا على (الإسلام) الذي يفهمه الأمير إلا أننا نتمنى أن تعي مثل هذا
الفهم (الحكومة البريطانية) , وعلى رأسها (ميجر وأوين) المعروفان بمواقفهما
العجيبة والغريبة في (البوسنة والهرسك) والتي وصفتها (تاتشر) بأنها كارثة.
ثم حتى متى لا يكون للإسلام في بريطانيا حقه باعتباره ديناً سماوياً؛ إذ ما
يزال القانون الإنجليزي يقرر أن حق الدفاع ضد (التجديف) لا يشمل الإسلام،
ويتعرض المسلمون أحياناً لحوادث تفرقة عنصرية كما دل عليه تقرير مجلس مدينة
مانشستر عن أحداث مدرسة (إيرننج الثانوية عام 1991) بل وصل التمييز إلى
المسلمين الإنجليز أنفسهم، فقد حرمت المدارس الإسلامية من الإعانة بينما أعطيت
لغيرها.
إننا نرحب بكل كلمة منصفة ونقدرها لكننا أحوج ما نكون إلى الأفعال
المنصفة لتشمل العدالة الجميع.(71/1)
الافتتاحية
العالم العربي بين ناري
القومية والقطرية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم
بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمنذ أشرقت شمس الإسلام على بطاح مكة المكرمة مؤذنة بظهور هذا الدين
الجديد، وصاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم-يعلنها مدوية في سمع الزمان مبيناً
عالمية رسالة الإسلام حيث يقول: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي «وعَدّ
منها (وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس كافة) » وأكد ذلك القرآن
الكريم بقوله تعالى: [وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً] ، وقوله: [وما
أرسلناك إلا رحمةً للعالمين] ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وقامت دولة الإسلام
بالمدينة وصدقت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم باتساع دولة الإسلام حينما
جاءه بعض الصحابة يشكون له أذى قريش فبين لهم أن الله سيتم هذا الأمر، (حتى
يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله) ، وفي رواية: (والذئب
على غنمه) رواه البخاري.
فلم يكن للمسلم منذ صدر الإسلام وعصوره المتتالية جنسية سوى عقيدة
التوحيد، لا يعرف جواز سفر، ولا بطاقة تعريف، سوى أنه مسلم يدين بالإسلام
حتى انتهى العالم الإسلامي في عصوره المتأخرة إلى الوقوع في أتون النعرات
القومية، التي كانت بضاعة مستوردة، أدت إلى نشوء النزعات الجاهلية التي جاء
الإسلام لوأدها وهدمها، لكنها عادت يوم ضعف الدين في النفوس، ولم يعد له
الحاكمية على الناس، منذ أن دعا القوميون العرب لنعرتهم القومية خلال
العشرينات، التي كانت ردة فعل للقومية الطورانية التركية، مما أدى إلى سقوط
جل الدول العربية تحت سيطرة الاستعمار الأجنبي.. وحينما قام المجاهدون
يدافعون عن حمى الإسلام ضد التسلط الأجنبي سُرقت ثمرات الجهاد فتحول في
أواخره من جهاد في سبيل الله إلى حركات وطنية استقلالية بمنطلقات علمانية
وقومية جاهلية، أطالت من عمر الاحتلال يوم اصطنع المحتلون نفراً من أولئك
القوم مكنوا لهم، فكانوا في عدائهم للإسلام ودعاته أعظم من الأجنبي يوم كان محتلاً
لديار الإسلام.
ومن العجيب أن يكون أكثر دعاة القومية العربية من النصارى ومن العجم ويا
ليتهم اعتزوا بأخلاق العروبة وآدابها التي هي أقرب ما تكون إلى الإسلام بل إن
الإسلام أقر الصالح منها مثل: الكرم، والوفاء، بالعهد، والحفاظ على الجوار
وحماية العرض، وكان مِنْ عرب الجاهلية مَنْ لا يقر الظلم والبغي؛ لذا قام نفر من
أعيانهم بحلف الفضول، ذلك الحلف الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به
في الإسلام لأجبت «، لكنهم داسوا تلك الخلال ولم يحترموها فضلاً عن أن
يطبقوها بوحي من إيمانهم بشريعة الإسلام، فجاؤوا بدساتير أجنبية مستوردة، لا
تقيم لشريعة الإسلام أي احترام، بعد أن نَحّاها المستعمر، فلم يبق منها سوى
أطلال تتمثل في بعض قوانين الأحوال الشخصية؛ وحينما انتقدت تلك النزعة
العلمانية قال بعضهم خداعاً أو جهلاً: (الإسلام تراث من تراث القومية العربية
ومحمد -صلى الله عليه وسلم-بطل من أبطالها) ، لقد كان التوجه القومي في البلاد
العربية مظهر انحطاط وانهزامية لأمتنا، إذ كانت ثماره المرة ما يلي:
1- خسران الحروب التي دخلها العرب في تلك الحقبة.
2- تنحية شريعة الإسلام عن الحكم.
3- اضطهاد الحركات الإسلامية ورموزها ما بين قتل وسجن وتشريد.
4- لم تسلم دولة عربية مجاورة لأخرى من حروب ونزاعات على الحدود.
5- تشجيع النزعات العنصرية في جل الدول العربية من الفرعونية
والآشورية والبربرية، ونشوء أحزاب علمانية تدعو لتلك التوجهات الشعوبية
المشبوهة.
6- الانهيار الاقتصادي لاسيما الأخذ بالتوجهات الاشتراكية وما سواها من
الاتجاهات الليبرالية التي لم تذق منها الشعوب العربية سوى الجوع والمسغبة.
7- هرب كثير من العلماء التقنيين خارج العالم العربي لعدم احتوائهم من
ناحية، أو مخالفتهم لتوجهات أولئك الحكام من ناحية أخرى.
هذه بعض من نتائج ومعطيات الحقبة القومية، التي بليت بها أمتنا ومازالت.
لقد كانت القطرية موجودة في كثير من الدول العربية قبل حرب الخليج
وبعدها بكل ما أنتجته من تغيرات استراتيجية وميدانية أخذت وبشكل واضح
اتجاهات انكفائية تتلبّس لبوس الوطنية وتنظر من خلالها إلى ذاتها وأمنها نظرة
خاصة وتجعل من مصلحة النظام الحاكم المحور المعوّل عليه في بناء سياستها
وتوجهاتها، لا تنظر معها إلا لمصالحها فقط، حتى ولو كانت مع العدو نفسه.
إن تلك النزعة الانكفائية، مظهر تخلف ولا شك لأنها لا تتنافى والطموحات
القومية المزعومة فحسب، بل إنها قبل ذلك تتصادم مع حقائق الإسلام وأخلاقياته،
زيادة على ما تشكله من طعن مباشر في (عقيدة الولاء والبراء) .
إن حب الأوطان فطرة تعيش في حنايا النفوس وتعمر بها شغاف القلوب
فأوطاننا هي الأرض التي بها ولدنا وعلى أرضها درجنا ونعمنا بخيراتها وتعلمنا في
مدراسها وتظللنا بوارف ظلالها.
كان بلال رضي الله عنه يهتف شوقاً لمكة المكرمة بأبيات تسيل رقة منها:
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل (3)
إن تلك العاطفة فطرية في النفوس، لكن يجب أن تكون في إطارها لا أن
تصل إلى حد التقديس لتراب الوطن الضيق بعيداً عن الإحساس بواجب الإخاء
الإسلامي العام، وبعيداً عن الشعور بواجب النصرة لإخواننا المسلمين، وبعيداً عن
تحقيق متطلبات عقيدة الولاء والبراء.
إن أمتنا العربية نكبت مع الأسف منذ نُحّيَتْ (شريعة الله) واستعاضت عنها
بالتوجهات القومية، يوم حكمت الدساتير العلمانية وسارت على نهجها فلم تكن
ثمارها سوى الهزائم والسقوط، ولن يكون حال التوجهات القطرية الحالية بأحسن
حالاً، فحسبها أن تثير الحزازات بين الشعوب العربية حينما يكون كل شعب
مشغولاً بنفسه عن إخوانه في العقيدة والدين، فإلى متى تبقى أمتنا تذوق مرارة
الحرمان والانهزامية مع كل توجه علماني؟ لقد جربت الأمة شتى التوجهات
الجاهلية من اشتراكية وقومية وليبرالية ولم تكن نتائج ذلك سوى حصاد الهشيم
وقبض الريح.
إننا لا ندعو إلى تجريب الإسلام، بل إلى فهمه فهماً صحيحاً من مصادره
الصحيحة والعودة له شريعةً حاكمة، ثم الاعتماد على النفس وأخذ السبل الموصلة
للقوة القائمة على حشد كل الإمكانيات البشرية، وتقوية الاتجاهات العسكرية،
والعناية بالبحث العلمي بإنشاء مراكز البحوث، والاستفادة من القدرات الهائلة من
العلماء المسلمين الموزعين في شتى أنحاء العالم، وضرورة التكامل الاقتصادي،
وزيادة التعاون بين الأقطار الإسلامية، وإعادة النظر في السياسة التعليمية القائمة
ليس لصالح سياسة التطبيع وإنما لتخريج الأجيال القادرة على المواجهة ثقافياً
وعسكرياً، والمطالبة بأن يكون لنا مكانٌ أكبر في المنظومة الدولية ... ولن يتأتى
ذلك بدون الانتماء لعقيدتنا الإسلامية الصحيحة قولاً وفعلاً والصلح مع إخواننا قبل
الصلح مع أعدائنا.
إن العودة إلى الإسلام الحق ستحمينا من أخطارالاتجاهات المنحرفة وسلبياتها
سواء أكان ذلك قومياً أو قطرياً.(71/4)
في إشراقة آية..
[إن خير من استأجرت القوي الأمين]
د. عبد الكريم بكّار
قصّ الله جل وعلا علينا خبر موسى مع شعيب عليهما السلام حين جاء مدين، ووجد ابنتين لشعيب قد منعتا غنمهما من الورود بانتظار ذهاب الرعاء وفراغ
المكان، وما حدث من تطوع موسى بالسقيا لهما، وما كان من أمر شعيب حين بلغه
ما قام به موسى حيث أرسل له يطلبه ليجزيه على ذلك وذكر لنا القرآن الكريم كذلك
نصيحة ابنة شعيب لأبيها باستئجاره، وعللت ذلك بقوة موسى وأمانته، ويذكر
المفسرون أن شعيباً عليه السلام أثارت حفيظته الغيرة من كلامها، فقال: وما علمك
بقوته وأمانته؟ فذكرت له أن موسى حمل حجراً من فوق فوهة البئر، لا يحمله في
العادة إلا النفر من الناس وتلك قوته، وأنه حين ذهبت تكلمه أطرق رأسه، ولم
ينظر إليها، كما أنه أمر المرأة أن تمشي وراءه، حتى لا تصيب الريح ثيابها
فتصف ما لا تحل له رؤيته وتلك أمانته.
وقد صدق حدسها فهي ما رأت إلا نبياً من أولي العزم المؤتمنين على الوحي،
الأشداء الأقوياء! وقد قيل: إن أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب وصاحب يوسف
حين قال (عسى أن ينفعنا) [1] ، وأبو بكر حين اختار عمر لإمارة ...
المؤمنين. [2]
وقد جمعت ابنة شعيب عليه السلام في تعليلها المختصر ذاك بين أمرين
عظيمين، ينضوي تحتهما معظم الكمالات الإنسانية، وهما الأمانة والقوة، وهذه
وقفات سريعة معهما:
1- ليست الأمانة هنا إلا رمزاً لما يستلزمه الإيمان بالله تعالى من المحامد
كالإخلاص والأمانة والصدق والصبر والمروءة، وأداء الفرائض والكف عن
المحرمات؛ وقد قال أكثر المفسرين في قوله سبحانه: [إنا عرضنا الأمانة] [3]
الآية: إن المراد بها التكاليف الشرعية عامة [4] ، وقد وصفت ابنة شعيب موسى
بالأمانة لغضه طرفه، ومشيه أمامها.
أما القوة فهي رمز لمجموع الإمكانات المادية والمعنوية التي يتمتع بها الإنسان.
2- الأمانة والقوة ليستا شيئين متوازيين دائماً، فقد يتحدان، وقد يتقاطعان
فالصبر جزء من الأمانة؛ لأنه قيمة من القيم، وهو في ذات الوقت قوة نفسية
إرادية، وإذا كان العلم من جنس القوة، فإنه يولد نوعاً من الأمانة؛ إذ أهله أولى
الناس بخشية الله، [إنما يخشى اللهّ من عباده العلماء] [5] والإيمان أجل القيم
الإسلامية، فهو من جنس الأمانة، ومع ذلك فإنه يولد لدى الفرد طاقة روحية هائلة
تجعله يصمد أمام الشدائد صمود الجبال، ومن ثم كانت الظاهرة الإسلامية العالمية:
ظاهرة (المسلم لا ينتحر) ! . إن هذا التلاقي بين الأمانة والقوة يمثل بعض
الأرضية المشتركة لتلاقي أهل الأمانة وأهل القوة، كما يجعل التحقق من إحداهما
المعبر للتحقق من الأخرى.
3- سوف يظل النمط الذي يجمع بين القوة والأمانة نادراً في بني الإنسان
وكلما اقتربا من الكمال في شخص صار وجوده أكثر ندرة، والقوي الذي لا يؤتمن، والموثوق العاجز هم أكثر الناس، والذين فيهم شيء من القوة وشيء من الأمانة
كثيرون، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: «أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز
الثقة، فكل منهما لا يمثل المسلم المطلوب، ودخل عمر أيضاً على لفيف من
الصحابة في مجلس لهم فوجدهم يتمنون ضروباً من الخير، فقال: أما أنا فأتمنى أن
يكون لي ملء هذا البيت من أمثال سعيد بن عامر الجمحي، فأستعين بهم على أمور
المسلمين! .
4- العمل المقبول في المعايير الإسلامية هو ما توفر فيه الإخلاص والصواب
والإخلاص ضرب من الأمانة، والصواب وهو هنا موافقة الشريعة ضرب من القوة، هذا بصورة عامة، لكن في أحيان كثيرة يكون ما يطلب من أحدهما أكثر مما
يطلب من الآخر؛ فالثواب يتعلق بالإخلاص أكثر من تعلقه بالصواب، فالمجتهد
المؤهل ينال أجراً إذا استفرغ وسعه وإن كان اجتهاده خاطئاً، لكن لا ثواب ألبتة
على عمل لا يراد به وجه الله تعالى، أما النجاح والوصول إلى الأهداف المرسومة
في الدنيا فإنه مرتبط بالصواب أكثر من ارتباطه بالإخلاص، فكم من مؤسسة
يديرها أكفاء ليس عندهم شيء من الأمانة، ثم حققت أهدافها المادية كاملة وكم من
مؤسسة أدارها أخيار غير مؤهلين، فأعلنت إفلاسها!
وقد ذكر ابن خلدون أن للناس مذهبين في استخدام الأكفاء غير الثقات
وتقديمهم على الثقات غير الأكفاء، واختار هو استخدام غير الثقات إذا كانوا
مؤهلين؛ لأن بالإمكان وضع بعض التدابير التي تحد من سرقاتهم أما إذا كان
المستخدم لا يحسن شيئاً فماذا نعمل به؟ ! [6]
وقد ولى النبي -صلى الله عليه وسلم-أهل الكفاية الحربية مع أن في الصحابة
من هم أتقى منهم وأورع؛ لأن القوة (البسالة وحسن التخطيط) تطلب في قيادة
الجيش أكثر من الأمانة، مع أنهم كانوا بكل المقاييس من الأمناء الأخيار وطلب
بعض الصحابة ممن عرفوا بالزهادة والورع الولاية على بعض أمور المسلمين
فحجبها عنهم لضعفهم.
5- نحن في مراجعة أخطائنا نركز على جانب الأمانة، ونهمل جانب القوة
فإذا ما أخفقنا في عمل ما قلنا نحن بحاجة إلى تقوى وإخلاص، وإن اتباع الأهواء
هو السبب في ذلك، ولا ريب أن الإخلاص مفتاح القبول والتوفيق وأن التقوى
تستنزل الفرج، لكن ما هي المعايير التي تمكننا من قياس درجة التقوى ومقدار
الإخلاص الموجود إذا ما أردنا التحقق منه وكيف نستطيع التفريق بين عمل دفع
إليه الهوى وآخر دفع إليه الاجتهاد؟ ! كل ذلك مما يستحيل قياسة، وبالتالي فإنه لا
يمكن تحديده وما لا يمكن تحديده لا يصلح لأن يكون هدفاً.
وبإمكان الناس أن يقولوا: إلى ما شاء الله نحن أتباع هوى دون أن تستطيع
أن ترد على أحد منهم رداً شافياً قاطعاً! على حين أن قياس القوة ممكن، وإدراك
الخلل فيها يكون عادة ظاهراً يمكن وضع الإصبع عليه فحين يأتي خطيب ليتولى
إدارة جيش، أو التخطيط لمعركة، وحين يتولى رسم سياسات العمل رجلٌ لا
يعرف الواقع، فلا يقرأ جريدة ولا يستمع إلى نشرة أخبار، ولا يحسن قراءة أي
شيء يحيط به، فإن الخلل لا يحتاج إذ ذاك إلى شرح حيث تتولى شرحه النتائج! . وحين يتصدى للاجتهاد في أمور خطيرة أشخاص لا يملكون الحد الأدنى من
المعلومات حولها، وتترتب على اجتهاداتهم فواجع أكبر من أي جريمة ماذا تكون
الحال؟ !
لقد آن الأوان لوضع الأمور في نصابها، بتأهيل الشخص قبل إيجاد العمل
الذي سيعمله، بدلاً أن يوجد المنصب ثم يبحث عمن يسد الفراغ ليس أكثر!
6- عالمنا الإسلامي النموذج المثالي للقوى الكامنة، فكل ما عندنا (خام)
الإنسان والطبيعة والموارد، ولعل لله في ذلك حكمة بالغة؛ إذ أن تشكيل الإنسان
المسلم لو تم قبل بزوغ الصحوة المباركة لكان أكثر ضرراً من بقائه على حاله.
هذه القوى الكامنة ستظل ثغرات في حياتنا أياً كان موقعها في ظل التكالب
العالمي على الصعيد الثقافي والاقتصادي، وهذه القوى الكامنة تحتاج إلى تفجير
وإلى إخراج في شكل جديد يمنحها وزنها الحقيقي وإخراج القوة مهمة الدولة أولاً؛
فهي المسؤولة عن تفجير الطاقات كافة وتوجيهها، ومهمة صفوة الصفوة من
صانعي المبادرات الخيّرة، الذين يمتد بصرهم دائماً إلى مستوى أعلى من المستوى
الذي تعيش فيه أمتهم فيوجدون باستمرار الأفكار والأطر والأجواء والآليات التي
تُفَعّل القوى الخامدة المجهولة للناس حتى حامليها.
واليهود هم من أساتذة العالم في (إخراج القوة) وتوظيفها واستغلالها وصحيح
أن ديننا يحول بيننا وبين وسائل كثيرة استخدموها حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، لكنني أعتقد أنه مازال في هذا العالم مكان فسيح للمسلم المبصر الأريب..
وقد بدأت الأمة في امتلاك القوة، وبدأ المارد الذي نام قروناً يصحو وهو الآن
يتفقد أعضاءه وحواسه، ويحاول أن يتعلم المشي في (حارة) الكرة الأرضية، لكن
بعضاً منا بدؤوا يخبطون يمنة ويسرة قبل أن يفتحوا عيونهم وقبل أن يعقلوا الأجواء
التي يصحون فيها؛ ليغروا العدو بتوجيه الرصاصة القاتلة قبل أن يقفوا على
أقدامهم! .
إن فهم الحياة المعاصرة شرط أساسي يجب توفيره عند كل أولئك الذين
يريدون توجيهها والتأثير فيها، ولن يكون ذلك ممكناً ما لم نكن نحن من صانعي
قراراتها وخياراتها..
7- الأمانة قيد على القوة، فهي التي تحدد مجالات استخدامها وكيفياته والقوة
الآن في يد الآخرين على ما نعرف، والقيود الأخلاقية عندهم آخذة في الضعف
يوماً بعد يوم؛ لأنها لا تعتمد على إطار مرجعي أعلى يمنحها الثبات ومن ثم فإن
القوة ليست في طريقها إلى الانطلاق من أي ضابط أو حسيب، لكنها في طريقها
إلى صنع قيودها بنفسها الصناعة التي تمكنها من مزيد من الانطلاق، وهي بذلك
تجعل الآخرين يتوهمون أنها قيود؛ حتى لا يشعر أحد أن هناك فراغاً أخلاقياً يجب
ملؤه! وما النظام العالمي الجديد سوى الأحرف الأولى في أبجديات القيود الجديدة! .
وهذا يوجب علينا المزيد من التفكير والتأمل فيما يجب عمله، ونحن مع
ضعفنا قادرون في هذا المضمار على عمل الكثير الكثير إذا فهمنا لغة العصر،
وأحسنا إدارة الصراع؛ إننا نملك القيود (الأمانة) ، وهم يملكون القوة، فهل نسعى
إلى امتلاك القوة المقيدة حتى يصطلي العالم بالنار دون أن يحترق؟ ؟
__________
(1) سورة يوسف: 21.
(2) الكشاف 3: 163.
(3) الأحزاب: 72.
(4) انظر البحر المحيط 7: 253.
(5) سورة فاطر: 28.
(6) انظر مقدمة ابن خلدون 2: 279.(71/9)
من قضايا المنهج
التجرد في الحوار
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
تمهيد:
الحوار: من المصطلحات التي تتردد كثيراً في هذا الوقت، وترددها أطراف
متعددة، والمرددون لهذا المصطلح قد اختلفت مشاربهم، وتباينت أفكارهم وتنوعت
أهدافهم، فأراد منه بعضهم أعظم الحق، وأراد منه آخرون أعظم الباطل، والأصل
في ذلك هو منهج الرجل وطريقته وسيرته العلمية والعملية.
والمحاورة أو المجادلة بالتي هي أحسن وسيلة مهمة من وسائل تبليغ الحق
والهدف منها الوصول إلى الحقيقة، وهي في إطار الحركة الإسلامية أداة التصحيح
والبناء والتقويم الذاتي، فالحوار أداة وعي مشتركة تتحدد فيها الآراء وتُستعرضُ
فيها المسائل ويستخلص منها ما دل عليه الدليل الشرعي أو النظري وهو وسيلة من
وسائل الشورى والتناصح والتعاون على البر والتقوى، وهذا هو طريق النضج
وسبيل الكمال، ولن يتم تصحيح الأخطاء وتدارك النقص وتقويم المسيرة الشرعية
والدعوية إلا إذا اتسعت صدورنا معشر الدعاة إلى الحق للحوار، وروضنا أنفسنا
على قبول النقد والمراجعة وعندها تكون حواراتنا حوارات تربوية منهجية، تثري
الساحة الإسلامية بالدراسات الشرعية والطروحات العلمية.
وقد أصبحت الصحوة الإسلامية بعثاً عاماً يشمل معظم طبقات الأمة.. فلم تعد
حكراً على أحد، ومن حق الأجيال على الحركة الإسلامية أن تقدر عقولها وتوقر
قدراتها، وتوضح لها حقيقة المسيرة الدعوية سلباً أو إيجاباً فليست القضية أن ندافع
عن مواقف اتجاه من اتجاهات العمل الإسلامي أو علم من أعلامه، ثم نحاول
تسويغ الأخطاء وكتمانها، وإنما القضية أعمق من ذلك وأخطر، وطلائع الصحوة
الإسلامية تتطلع إلى المنهج الرباني بصفائه ونقائه بعيداً عن الكدر والشوائب،
ومنهج الله أبقى وأغلى من كل أحد، وليس عيباً أن ننتقد عالماً أو نخطئ تجربة،
ولكن العيب الكبير أن نخادع أنفسنا والأجيال التي وثقت بنا.
والطريف أن لدينا إقداماً عنترياً على ذكر معايب الناس، وشجاعةً على نقد
الآخرين، لكننا جبناء أمام أنفسنا نضع رؤوسنا في الرمال، وننظر بأعين مغلقة،
ولا نحب مواجهة الحقيقة، فنسخر لقاءاتنا للتمادح، واستعراض الإنجازات
وتفخيمها ولو كانت وهمية، وإذا تجرأ أحدنا على النقد فهو يتكلم باستحياء وخجل،
ولهذا أصبحت قدراتنا على التصحيح والبناء هشة هزيلة بل أصبح المحاور الذي
يريد إظهار الحق يُعدّ عند بعضهم مشاغباً، يشغل نفسه في تفاهات ثانوية، ويريد
أن يجر غيره إليها، وبرعماً مريضاً يجب اجتثاثه من أصوله.! !
ومن ثم أصبحت الأجيال الجديدة من أبناء الصحوة الإسلامية تجتر أخطاء
الآخرين، وتتوارثها بآلية ساذجة، وتتبنى أفكاراً مستعارة مستنسخة، تفكر بعقل
غيرها، وتتحدث بلسان من عداها، وتعيش على منجزات الآخرين ومكتسابتهم،
ولازالت بعض الاتجاهات الإسلامية تعتمد على مناهج حركية وقوالب فكرية، تأسر
نفسها في دوائرها، وقد مضى عليها زمن ليس بالقصير مع أن التجربة الإسلامية
تجاوزتها بمراحل.
فبغياب الحوار والمراجعة ظهر في العمل الإسلامي أكثر من هوة، وأكثر من
شرخ، أضعف من صلابته وتماسكه من جهة، ومن سلامته وصفائه من جهة
أخرى.
فغياب الحوار الجاد ما هو إلا انعكاس آلي لضعف البنية العلمية والفكرية في
العمل الإسلامي، وأرى أن مما يعين الأمة الإسلامية على الخروج من هذا المأزق، وإقامتها من هذه الكبوة، فتح أبواب الحوار والشورى، وتربية أبناء الصحوة
الإسلامية على قول كلمة الحق، صريحة بينة ولو خالفت من خالفت لا يخشون في
ذلك لومة لائم، فالمناصحة هي روح الأمة وعرقها النابض.
قال الله تعالى [والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر] [1] .
وأي عمل بشري جاد فضلا عن العمل الإسلامي يحتاج إلى دراسة وتخطيط،
ثم إلى دقة في الإنجاز والتنفيذ، وفي أثناء هاتين المرحلتين وبعدهما يحتاج هذا
العمل إلى مراجعة وتقويم يساهم فيهما كل قادر على ذلك.
إن الحوار الجاد المطلوب ما هو إلا دعوة إلى تقليب أوراق العمل الإسلامي
المعاصر، وإعادة النظر بكل تجرّد في مناهج التفكير المطروحة والوسائل الدعوية
المستهلكة، إنه كسر لطوق الرتابة والارتجال السائدين في أوساط العمل الإسلامي،
وهو دعوة إلى تحرير الأمة الإسلامية من الفلسفات الكلامية، والبدع الخرافية،
والتمزق المنهجي، والتوجهات الحزبية، والشطط الفكري بشتى ألوانه وصوره،
ثم إعادة بنائها وصياغتها من جديد، وفق الأسس والضوابط العلمية المبينة في
كتاب الله عز وجل وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-على منهج السلف الصالح
رحمهم الله.
ونحن جميعاً نتحرك في سفينة واحدة في بحر متلاطم الأمواج، وتزداد
خروق هذه السفينة يوماً بعد آخر، وقد يسهم الحوار في ترقيع هذه الخروق وحماية
هذه المسيرة المباركة من العقبات والمصاعب التي تواجهها، فالحوار تفاعل دائم
بين أطراف العمل الإسلامي وعناصره المختلفة، وتدافع الأفكار والاجتهادات
بالموازين العلمية سيضمن استقامة العمل على الصراط المستقيم.
التجرد في طلب الحق:
إذا كان التأصيل العلمي والمنهجي في الحوار ذا أهمية كبيرة، فإن الجانب
السلوكي والتربوي له أثر كبير جداً في هذا الباب، إذ إن الممارسة الناضجة
والتخلق الكريم بأخلاق القرآن العظيم، هما الترجمان الحقيقي والأثر الحي الصادق
للعلم الصحيح، فليست المشكلة في قضية الحوار علمية فحسب وإن كان لها أثر
كبير وإنما هي تربوية ونفسية كذلك.
والتجرد في طلب الحق يُعين في الوصول إليه، والهوى داء خطير يعمي
بصيرة الإنسان، فلا يرى حقاً إلا ما وافق هواه، والعلم وحده لا يكفي في ساحة
الحوار، بل لابد معه من الإخلاص والتجرد، فقد يضل المرء على علم والعياذ بالله
كما قال تعالى: [أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم] . [2]
وعلى المحاور الصادق أن يقصد بمحاورته وجه الله تعالى وحده لا شريك له، فلا يرجو الغلبة والانتصار، كما لا يرجو ثناء الناس أو حمدهم، فما عندهم ينفد
وما عند الله باق، قال الله تعالى: [فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً
ولا يشرك بعبادة ربه أحداً] . [3]
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في ذكر آداب الجدل والمناظرة:
«ويخلص النية في جداله بأن يبتغي به وجه الله تعالى ... وليكن قصده في مناظرته إيضاح الحق وتثبيته دون المغالبة للخصم» . [4]
فصاحب الهوى ليست له قواعدمطردة، أو موازين منضبطة، يعتمد عليها
في البحث عن الحق، بل تراه يدور مع هواه حيث دار، وحينما يتصف المحاور
بهذه الصفة فلا يمكن أن يصل المتحاوران إلى النتيجة المرجوة بحال.
ومن مقتضيات التجرد في طلب الحق:
أ -أن يدخل المرء ساحة الحوار باحثاً عن الحق، حتى لو كان عند خصمه،
ولا يتردد أبداً في أن يتراجع عن رأيه إذا تبين له صحة رأي غيره، قال الله تعالى: [وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين] . [5]
وينبغي أن يكون المحاور كما قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى:
«كناشد ضالة لا يُفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ أو أظهر له الحق» . [6]
ولهذا كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: «ما ناظرت أحداً قط
فأحببت أن يخطئ» [7] ، وقال أيضا: «ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق
ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بَيّنَ الله الحق على لساني أو
لسانه» . [8]
وقارن هذه النفس المخبتة الصادقة، التي تعلو على الأهواء ولا تتطلع إلا إلى
الحق، بتلك النفوس المريضة التي تراوغ هنا وهناك حتى لا يظهر ويعلو إلا قولها، سواء أكان ذلك حقاً أو باطلاً.. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: «فانظر
إلى مناظري زمانك اليوم كيف يسود وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه، وكيف يخجل به، وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قدرته، وكيف يذم من أفحمه
طول عمره..؟ [9]
وقد تؤثر على المحاور أحياناً اتجاهات فكرية ونفسية غير مرئية تعوقه عن
الوصول إلى الحقيقة العلمية التي طرحها صاحبه: فبعض الناس غفر الله لنا ولهم
يتقنع بقوالب فكرية معدة مسبقاً، ويدخل ساحة الحوار لا للبحث عن الحق، ولكن
لتقرير الرأي، والمدافعة عنه، والتعصب له، فليس عنده الاستعداد أبداً أن يتنازل
عن رأيه، حتى ولو تبين له خطؤه.
والثقة بالنفس خصلة حميدة، لكنها لا تعني الشعور بالعصمة والكمال وليس
عيباً أن يعترف المرء بالخطأ، ويسلم لمناقشه، بل هذا دليل الكمال والورع
والرجل المؤمن الصادق لا يقف ضعيفاً عاجزاً أمام نفسه، حينما يتبين له الخطأ ولا
تصور له خيالاته المريضة، أنه قد ينقص قدره أو يضعف وزنه إن اعترف بخطئه
بل يسارع جاداً إلى الأخذ بزمام الحق، ويعض عليه بنواجذه، ويعتقد جازماً: أنه
برجوعه إلى الحق أنقى وأكمل، ويحتاج ذلك بلا شك إلى عقيدة إيمانية وقوة نفسية، تتلاشى أمامها حظوظ النفوس والإحساس بالكمال وتقديس الذات.
ودعونا نتأمل في حال من حولنا؛ لنرى كيف يجر التعصب للرأي وتقديس
الاجتهادات إلى تصدع الجسور الهشة التي تربط بين المتحاورين.. وكيف يؤدي
ذلك إلى تآكل الأواصر الأخوية بين الدعاة، حتى لا يبقى منها إلا شعارات باهتة لا
حقيقة لها..؟ !
قال الفاروق عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري
رضي الله عنهما:» ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك،
فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة
الحق خير من التمادي في الباطل « [10] .
ب -أن يذكر ماله وما عليه من الحجج والأدلة والبراهين: فامتياز المنهج
الإسلامي يظهر جلياً بهذا التوازن الشامل والعدل الكامل، فلا يجوز أن يُحجب
شيء من الحقيقة، أو يدفن شيء من الأدلة التي تدعم قول المخالف فهذه صفة
ذميمة تدل على حب الذات وقلة الإنصاف والورع، ونزاهة المحاور وموضوعيته
محور أساس من محاور المنهج العلمي، وهي التي يُعبّر عنها في الاصطلاح
الحديث: بالأمانة العلمية.
وقد ذم الله سبحانه وتعالى اليهود لأنهم يتصفون بكتم الحق وتلبيسه بالباطل.
قال الله تعالى: [يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم
تعلمون] . [11]
وقال الله تعالى: [ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون] [12]
وأخذ بعض المبتدعة هذه الصفة الذميمة من اليهود، ولهذا قال الإمام وكيع بن
الجراح رحمه الله تعالى:» أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا
يكتبون إلا ما لهم «. [13]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً منهج المبتدعة في الاستدلال:
» فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الإيمان من قلبه «. ويبين رحمه الله أن هذا ليس خاصاً بالمبتدعة، بل هو أيضا عند طالبي العلو والرئاسة، حيث قال:» وطالب الرئاسة ولو بالباطل ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه، وإن كانت باطلاً، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقاً والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن الله تعالى يحب الحق والصدق والعدل، ويبغض الكذب والظلم «. [14]
ويرسم شيخ الإسلام في موضع آخر المنهج العلمي الواجب اتباعه في ذلك
فيقول:» وأما أهل العلم والدين فلا يصدقون بالنقل ويكذبون به بمجرد موافقة ما
يعتقدون، بل قد ينقل الرجل أحاديث كثيرة فيها فضائل النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأمته وأصحابه، فيردونها لعلمهم بأنها كذب، ويقبلون أحاديث كثيرة
لصحتها، وإن كان ظاهرها بخلاف ما يعتقدونه: إما لاعتقادهم أنها منسوخة أو لها
تفسير لا يخالفونه، ونحو ذلك «. [15]
وقال أيضا:» يجب أن يكون الخطاب في المسائل بطريق ذكر دليل كل قول، ... ومعارضة الآخر له، حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته «. [16]
وقال أيضا:» فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال
في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف
وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة من ورائه، فيشتغل به عن الأهم،
فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد
يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من
الأقوال فهو ناقص أيضاً.. «. [17]
وقال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تبارك وتعالى: [الذين
إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون] [18] » دلت
الآية الكريمة على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له يجب أن يعطيهم كل ما
لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في عموم هذا: الحجج والمقالات، فإنه كما
أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج،
فيجب عليه أيضاً أن يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها، وأن ينظر في أدلة
خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من
تعصبه واعتسافه وتواضعه من كبره وعقله من سفهه «. [19]
وتبين التطبيقات اللطيفة في هذا المبحث: أن ابن تيمية رحمه الله كان من
أعظم الناس نصراً لمنهج السلف الصالح، ومن أعظمهم رداً على المبتدعة بمختلف
مللهم ونحلهم، إلا أنه لتمام اتزانه وسلوكه المنهج العلمي الحق، انتقد بعض
تصرفات جهلة أهل السنة المخالفة لذلك المنهج المشار إليه آنفاً فها هو يقول:
» وفيهم نفرة عن قول المبتدعة، بسبب تكذيبهم بالحق، ونفيهم له فيعرضون عما يثبتونه من الحق أو ينفرون منه، أو يكذبون به، كما قد يصير من بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت إذا رأى أهل البدعة يغلون فيهم، بل إن بعض المسلمين يعرض عن فضائل موسى وعيسى بسبب إعراض اليهود والنصارى عن فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى يُحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب وعن بعض الجهال أنه قال:
سُبوا علياً كما سبوا عتيقكم ... كفرٌ بكفر وإيمان بإيمان [20]
وهذا انحراف لا يليق بمسلم صادق الإيمان.
ج وينبني على ما تقدم: قبول الحق من كل من قاله كائناً من كان حتى من
المبتدع، بله الكافر لأنه إن رد قوله فقد رد الحق، والإنصاف في المحاورة من
صفات الربانيين الذين لا يرجون إلا الحق، وفي هذا الباب أمثلة عديدة، أذكر منها
مثلاً واحداً فقط:
عن قتيلة بنت صيفي الجهنية قالت: أتى حَبرٌ من الأحبار رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله وماذاك!» . قال: تقولون إذا حلفتم
والكعبة. قال: فأمهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً، ثم قال: «إنه قد
قال، فمن حلف فليحلف برب الكعبة» . قال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم
تجعلون لله نداً. قال: «سبحان الله وما ذاك!» قال: تقولون: ما شاء الله وشئت، قالت: فأمهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-شيئاً، ثم قال: «إنه قد قال،
فمن قال: ما شاء الله، فليفصل بينهما ثم شئت» . [21]
وفي هذا الباب يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والله قد
أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، أمرنا بالعدل والقسط، فلا
يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه،
أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق» . [22]
قال الإمام العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في تفسير
قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن
قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما
تعملون] [23] : ... بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم، فاشهدوا له، فلو كان كافراً أو مبتدعاً، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم
للحق «. [24]
__________
(1) سورة العصر.
(2) سورة الجاثية: 23.
(3) سورة الكهف: 110.
(4) الفقيه والمتفقه (2/5) .
(5) سورة سبأ: 24.
(6) إحياء علوم الدين (1/57) .
(7) مناقب الشافعي للرازي (ص 36) والفقيه والمتفقه (2/26) .
(8) المرجعان السابقان.
(9) إحياء علوم الدين (1/44) .
(10) أعلام الموقعين (1/86) .
(11) سورة آل عمران: 71.
(12) سورة البقرة: 42.
(13) سنن الدارقطني (1/26) .
(14) مجموع الفتاوى (10/599600) 15) منهاج السنة النبوية (7/39) (16) مجموع الفتاوى (8/108) .
(17) مجموع الفتاوى (13/368) .
(18) سورة المطففين: 23.
(19) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (7/586587) .
(20) مجموع الفتاوى (6/26) .
(21) أخرجه: أحمد (6/271372) والحاكم (4/297) ، وصححه ووافقه الذهبي وأورده الألباني في الصحيحة رقم (136) .
(22) منهاج السنة النبوية (2/342) .
(23) سورة المائدة: 8.
(24) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (7/586 587)) .(71/15)
خواطر في الدعوة..
مزالق الطريق
(2)
محمد العبدة
قلت في خاطرة سابقة: إن شبكة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين واهية
ضعيفة، إن لم تكن بعض حبالها قد تقطعت، ومن الظواهر البارزة التي يعرفها
الجميع، مما يمارسه بعض العاملين في مجال الدعوة من سياسة (الإهمال) لإخوانهم، سواء أكان هذا عن عمد أو غير عمد.
وهي سياسة فاشلة من جميع الوجوه، لأن الأصل في عقد الأخوة المصارحة
والمناصحة، والأمر بالمعروف والشفقة والرحمة، وتفقد الأحوال كما كان يفعل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين وصف بأنه يتفقد أصحابه، حتى أنه يسأل
عن المرأة العجوز التي كانت تقُم المسجد حين افتقدها.
وهي سياسة فاشلة لأن الأخ (المُهمَل) سيتألم جداً، بل ربما أصيب بعقد نفسية
وإحباط شديد وهذا قد وقع إلا إذا كان قوي النفس، قوي الإيمان كما فعل كعب بن
مالك رضي الله عنه عندما هُجِرَ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة
بسبب تخلفه عن غزوة تبوك، فقد كان يحضر الجماعة، ويسلم على المسلمين
ولكن لم يكن أحد يرد عليه، وأراد ملك الروم استغلال ذلك، ولكن كعباً كان
مستعلياً بإيمانه فصبر حتى جاء الفرج من السماء.
وهي سياسة فاشلة لأنها تعني أن الدعوة لم تستطع معرفة الرجال ومعرفة
القدرات والطاقات، ووضع كل إنسان موضعه، مهما يملك من قدرات قليلة.
وهي سياسة فاشلة لأنها دليل على التخلف الحضاري والأخلاقي، ففيها روح
الأنانية والفردية، فالذي يفعل هذا لا يبقى معه أحد، وكأنه يقول: أنا ومن حولي
نكفي للدعوة.
إن هذا (الإهمال) ليس وليد هذه الأيام، بل هو من أمراض الدعوة في العصر
الحديث، والحزبية والأنانية تغذيانه، وإن التحدي الذي يواجهه المسلمون يفرض
عليهم أن يكفوا عن هذه السياسة البلهاء، وأن يستفيدوا من كل طاقة، وإن الوسائل
الحديثة تساعد على تصنيف القدرات، وإذا لم يفعلوا فما هو إلا الهوى الذي يخفي
وراءه التخلف والضعف..(71/26)
هموم ثقافية
الثقافة والذوبان
د. محمد عبد الله الشباني
لكل أمة من الأمم، ولكل مجتمع من المجتمعات البشرية ثقافة تحدد الإطار
الذي يحكم سلوك أفرادها، ويوضح معالم فكرها الذي بدوره يحدد أنماط السلوك
الاجتماعي لأفراد هذه الأمة أو تلك، لتتميز بها عن الأمم الأخرى وهذه الخصائص
المميزة يعرف بها نوع ونهج أي أمة.
تتوقف قدرة الأمة على مواجهة التيارات الفكرية والثقافية الوافدة من
المجتمعات والأمم الأخرى، على نوعية وصلابة ووضوح المنهج الثقافي الذي تقوم
عليه لحمة نظامها الاجتماعي.
والقرآن الكريم يمثل العمود الفقري لثقافة الأمة الإسلامية، فهو النبع الذي
تستقي منه الأمة، وعلى توجيهاته وأوامره ونواهيه يقوم بناؤها الثقافي وإليه تلتجئ؛ لتستمد منه الحماية عند تكالب الأعداء، والنيل من أسسها ومتطلباتها التي يرتكز
عليها أعداء هذه الأمة بقصد إنهاكها، والقضاء على مصدر القوة الذي عليه تعتمد،
وبه تصمد ضد فك ارتباطها بمقوم وجودها.
من النعم الجزيلة التي أنعم الله بها على هذه الأمة أن الله سبحانه وتعالى تكفل
بحفظ القرآن الكريم، ولم يكل أمره إلى الناس، وإنما أوجب الله على نفسه حفظ
هذا الكتاب الكريم، حيث قال سبحانه [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون]
(الحجر: 9) ، فالقرآن الكريم الذي هو النبع الذي يمد الأمة بالقوة، ويمنحها الحياة
ويشكل إطار ثقافتها، قد حفظه الله من التحريف والتغيير والزيادة، وبالتالي بقي
وسيبقى الماء الزلال الذي يطفيء ظمأ الأمة الإسلامية على مدار تاريخها، فلا
تلتفت إلى الثقافات الأخرى الوافدة وإنما تستعلي عليها وتستوعبها بدون أن تذوب
فيها.
يُقصد بالمفهوم الاصطلاحي للثقافة: وجهة نظر كل فرد من حيث السلوك
والعلاقات الاجتماعية، واتجاهه الفكري وسلوكياته، وما يتضمنه ذلك من واجبات، وما يرتبط بذلك من محددات للذوق والأخلاق، وما يقدسه وما يظهره من ولاء،
فكل ذلك يشكل ثقافة المجتمع، فالثقافة تحدد نسق الحياة من خلال خصائصها
المتمثلة في اشتراك جميع أفراد الأمة بالخضوع لها في سلوكياتهم، وبالتالي فإن لها
دور في وضع معايير منتظمة وطبعية كقواعد مشتركة للسلوك والنظام الاجتماعي
القائم، على القواعد الأخلاقية.
وقد يتساءل القارئ ما هو دور الثقافة في تحديد سلوكيات وأنماط أفراد الأمة،
والحقيقة أن دورها يتمثل في تزويدهم بالأمور التالية:
1- تهيئة أساس التفكير والشعور.
2- تزويدهم بالتفسيرات المقنعة عن أصل الإنسان، وطبيعة العالم، ودور
الإنسان في الحياة.
3- تزويدهم بمعاني الأشياء والأحداث، وبالتالي تحديد المفاهيم الأساسية
وتحديد ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، ومنطقي وغير منطقي وعادي وشاذ،
وأخلاقي وغير أخلاقي، وجميل وقبيح، وخير وشر ... فالثقافة تعطي معنى للحياة، وهدفاً للوجود.
4- بناء الشعور لدى الأفراد بالانتماء إلى الأمة.
إن القرآن الكريم يجيب على هذه الأمور كلها، فهو يحدد الإطار الشامل
والكامل لثقافة الأمة؛ ولهذا فإن الاهتمام بالقرآن دراسة وحفظاً وتطبيقاً من أهم
الأمور التي يجب على الأمة بمجموع أفرادها أن تهتم به وتعتني به؛ ولا شك أن
السنة النبوية الصحيحة من القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت
القرآن ومثله معه) .
فقد أولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عناية خاصة بالقرآن الكريم،
باعتباره مصدر الثقافة الذي يقوم عليه البناء الاجتماعي للأمة، روى الإمام
البخاري رحمه الله عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه
وسلم-قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وفي رواية أخرى (إن أفضلكم
من تعلم القرآن وعلمه) فتعلم القرآن الكريم يتمثل في معرفة أحكامه، والتأدب
بآدابه، وفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ وتعليمه يتمثل في إرشاد الناس قولاً بتعليمه
إياهم، وسلوكاً بالالتزام به، فيكون سلوك الفرد المسلم متطابق مع أوامر ونواهي
القرآن.
والقرآن الكريم يحوي بين دفتيه نظام شامل لتنظيم حياة الأمة سواءً ما يتعلق
بتحديد وتوضيح النظرة إلى الوجود، والإجابة الكاملة على عدد من التساؤلات:
حول الوجود، والغاية منه، ومآل الإنسان الذي ينتهي إليه، أو ما يتعلق بتنظيم
الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعلاقة الأمة بالأمم الأخرى بحيث يشكل
عقل الفرد المسلم ضمن الإطار الذي يرضي الله، ويجعل الأمة المسلمة حقاً خير
أمة أخرجت للناس.
لقد أدرك الأعداء من النصارى واليهود أهمية التصاق الناس بالقرآن الكريم
والتزامهم به وبتعاليمه، وأن الأمة الإسلامية لا يمكن هزيمتها ما دامت مرتبطة في
فكرها، وسلوكها، وتشريعها به.
إن الهجمة الصليبية المعاصرة أخذت طابعاً مغايراً عما سبق، وأدركت أن
القضاء على الأمة الإسلامية لا يتم من خلال الاستيلاء العسكري على البلاد، وإنما
لابد من القضاء على البنية الثقافية للأمة، والمتمثلة في إبعاد القرآن الكريم عن
واقع حياة الناس بحيث لا يكون له تأثير على سلوكيات الأفراد، ولا على تنظيم
حياة المجتمع المسلم.
إن المنهج الذي اتبعه الغرب الصليبي لفك ارتباط المسلمين بالقرآن الكريم
يتمثل في الأمور التالية:
1- إضعاف اللغة العربية بالدعوة إلى العامية، ونشر اللغات الأجنبية بين
الناطقين باللغة العربية، من خلال المناهج التعليمية التي قللت من الاهتمام بدارسة
قواعد اللغة العربية: من حيث التراكيب النحوية، أو من حيث فقه اللغة العربية؛
ولذا شجعت القيادات الثقافية في الدول العربية والتي تربت قبل رحيل الاستعمار
العسكري في المدارس الأجنبية الاتجاه الحداثي المتأثر بالتيارات الفكرية العلمانية.
2- إضعاف النظام التربوي والتعليمي في العالم العربي، ومحاربة أية
توجهات تربوية تقوم على البناء الثقافي المرتكز على القرآن؛ وذلك بالتقليل من
المواد الدينية، ومحاربة كل توجه جماهيري لدراسة القرآن وتوسيع نطاقه.
3- إحلال القوانين والتشريعات والتنظيمات المستمدة من الفكر العلماني الوافد
محل التشريعات الإسلامية القائمة على الشريعة الإسلامية، من أجل خلخلة البنية
الثقافية للأمة، وإحلال البنية الثقافية الغربية.
4- ربط التنظيم الاقتصادي للمجتمعات الإسلامية بالأنظمة الرأسمالية
العلمانية، من خلال التشريعات والنظم الاقتصادية، مثل التمكين للفكر الربوي
المحرم؛ ليكون قاعدة بناء الاقتصاد في الدول الإسلامية، وربط هذا الاقتصاد
العربي ليكون تبعاً له ضمن دائرة الاستهلاك.
5- ضرب الوعي الإسلامي من خلال الإبقاء على القيادات الماسونية
والعلمانية؛ لتسلم القيادة في الدول الإسلامية، وتوجيهها لمحاربة أي توجه إسلامي، أو دعوة إلى الثقافة الإسلامية من خلال القضاء على القيادات السياسية والفكرية
الإسلامية، ومحاربة كل توجه للانعتاق من السيطرة الاقتصادية الغربية.
6- التمكين للسلوكيات الغربية في البيئات الإسلامية من الانتشار، وذلك
بخلخلة القيم، من خلال السيطرة بطريق مباشر، أو غير مباشر على وسائل
الإعلام من صحافة وتلفزة وإذاعة، واستخدامها قنوات للهدم الفكري والسلوكي
للأمة، بتوجيهها للتشبه في حياتها الاجتماعية بالحياة الاجتماعية الغربية؛ مما
يؤدي إلى التفسخ الاجتماعي، وذوبان المجتمع وعجزه عن مواجهة التحديات
المعاصرة.
إن مجابهة هذه الحرب العلمانية على المسلمين يقتضي من المسلمين أفراداً
وجماعات العودة إلى النبع الذي يمنح الأمة القدرة على الصمود تجاه هذه الحرب
الضارية والمدمرة، المعلنة تجاه البناء الثقافي للأمة، وذلك وفقاً للأمور التالية:
1- العمل على نشر حلقات تحفيظ القرآن الكريم وتدريسه للصغار والكبار
بحيث لا يخلو مسجد من مساجد المسلمين من حلقة تعليم للقرآن، وأن على
الموسرين إمداد القائمين على إدارة هذه الحلقات بالمال، وتشجيع الناس على وقف
جزء من أموالهم لهذا المشروع.
2- يجب أن تشتمل حلقات تحفيظ القرآن على دروس لتفسير معاني القرآن
حتى يُتَمَكّنَ من فهم معانيه، وتكوين حلق تدريس وحفظ القرآن لتعليم الناس أحكام
وتعاليم ما يقرؤونه ويحفظونه من القرآن الكريم.
3- العمل على إيجاد حلقات في المساجد؛ لتعليم السنة الصحيحة وفقهها
وتعليم اللغة العربية وتدريسها، ورفع مستوى فهم اللغة العربية سواء من ناحية
معرفة التراكيب النحوية، أو التراكيب اللغوية.
4- ضرورة مشاركة أئمة المساجد بتخصيص وقت قصير بعد أحد الصلوات
المفروضة يومياً؛ لقراءة وتفسير آيات من القرآن الكريم من أحد التفاسير المعتبرة
مباشرة بعد الصلاة؛ حتى يمكن لعامة المسلمين زيادة ثقافتهم ومعرفتهم بمعاني ما
يقرؤونه من القرآن، وبالتالي ربط عامة المسلمين بالقرآن حتى يمكن على المدى
الطويل إعادة الناس إلى الالتصاق بالنبع الذي يروي وينمي ثقافتهم.
إن الحرب على البناء الثقافي للأمة الإسلامية في هذا العصر قد بلغ مداه وإذا
لم يقم أفراد الأمة بمسئوليتهم تجاه الدفاع عن كينونتهم الثقافية، والمتمثلة في القرآن
الكريم، من خلال دراسته وحفظه وتطبيقه في واقع حياتهم الاجتماعية والسعى إلى
المطالبة بالعمل على أن يكون القرآن الكريم والسنة الصحيحة هما المصدر الذي
يستمد منه الأفراد سلوكياتهم وتنظيماتهم الاجتماعية والاقتصادية ... فإن خطر
ذوبان الأمة وتفككها، سيكون هو النهاية التي ستؤول إليها الأمة الإسلامية.(71/28)
نصوص شعرية
النشيد الأخير لصاحبي
محمد شلال الحناحنة
وردةٌ لكْ
لنسيمٍ يشاطرني فرحتي بالصديقْ
لخيامٍ تبادلني بعضَ حزني الطليقْ
للطريقْ..
للذين سَموا لقلاع التقى
للدماء التي حرست جنتي وخطايْ
للذي بّرني باعثاً بنزيف دمهِْ!
صامداً في العراءْ
واعداً بانتعاش الزنابق بين حواكيرِه اِلمثخنةْ!
ممسكاً بكتاب الهُدَى
واهباً للتراب الحزين نَوَى ليلتِهْ
قد تنفس صبحُ الغريب على قامتِهْ
نَشَر الأرزُ أمنيتهْ
شَهِدَ الفجرُ أدعيَتهْ
ورمى الله طلقتَه الصائبهْ!
***
صاحبي لم يزلْ صاحبي
لم يكن طاعناً في السياحة..
أو موفداً دولةً قاصيةْ
لم يباركْ خطا السيد المتساقِط
بين اليهودْ
لم يساومْ على قدسِهِ لضبابِ المحيطْ!
لم يكنْ (أمره فُرطا)
لم يكن أبداً باسطاً راحتيه يحومُ..
على الشقق المترفهْ..
لم يقايضْ صفيحَ المخيم بالفندق الأجنبيّ
لم ينافق رموز المذلة أو ينتهي للهُوُيّ
أو لطاولة مستديرةْ!
إنما حفظ (العصرَ) و (المائدةْ) ! !
***
يا أُخَيّ امتشقْ لغتيْ..
وامتشقْ وجعي وجهادي!
فقواك تهد الغوايةَ..
ما من قصيدٍ يُطرّزُ فكرتك الساميةْ
أنت عذتَ برب العالمينَ..
ولذت بسورتنا الحافظة!
والبلابلُ آبتْ إلى سدرةِ الروحِ..
أنت (الأصوليّ) .. والأصل لَكْ..
يا أُخَيّ لنا أُفُق الانتفاضةِ ...
وقعُ الأناشيد، والفتحُ حينَ يفِجّ النهارْ..
يا أُخَيّ لنا ساعةُ الجمعةْ..
ولنا آيةُ البقرةْ!(71/34)
مقال
صراعات الأحداث وحتمية المواقف
سليمان عبد العزيز الربعي
في حيا ة الأمم، كل الأمم، مفترقات صعبة ومصيرية، ترسم على لوحة
الأفق روانق الغد المنتظر، إنّ ذلك لا يعني هلامية بعيدة الوقوع، أو قفزة ذهنية
تميل إلى الشطط الخيالي المستحيل، كلا، فالطرق المؤثرة هي في الوقت ذاته
إفراز طبيعي لمعطيات الحاضر عينه، غير متباينة عن محيطه ولا غريبة عن
تفاصيله وملابساته الخاصة لأن تلك سنة الله جل وعز المطردة.
إنها سبيل كوني قائم، يربط في غالبه بممارسات حكام الأرض ومدافعاتهم،
التي تتشكل كيانات من آثار السنة الآنفة، وهي في صورتها غير محتاجة إلى أمثلة
يمكن ترشيحها للتدليل، فمادتها قريبة من العيان يجتهد المرء فقط في عملية الانتقاء.
وأما في قليلها الشارد فترتبط بإحداث انقلاب عارم وتغيير يجوز أن يحكيه
بعض ما جاء في القصص القرآني كقصة النبيين نوح ولوط صلى الله عليهما وسلم
مع قوميهما، وما صحب ذلك من تبدل كوني هائل ليس في مسرح الواقعتين فحسب، بل في الأرض جميعاً، وهذا السنن هو ما عناه بعض العلماء رحمهم الله عند
الحديث عن مسألة طويلة اصطلحوا على تسميتها (بسنة الخلفية) وحتمية
المداولة، وهو ما ينطبق تماماً على الإرث السلوكي والنفسي والاجتماعي والمبدئي
والمصيري في حياة الشعوب كلها.
والأمة الإسلامية تبدو لنا في حاضرها رهينة مرحلة مخاضية لا بأس أن
نطلق عليها مرحلة «التغيير والتجذير» أو «مرحلة المكاشفة» ، وهذه المرحلة
خطيرة لا شك إذ تتحدد على ضوئها المناهج وتتضح إثرها أرضيات التفاعلات
الجديدة في مدى الأحداث الساخنة في العالم.
ونحن عندما نذكر طرفي المعادلة، أو المرحلة، في مادتها فلا يمكن أن نهمل
طرفيها الحسيين اللذين ينبثق منهما بيان التجسيد للصورة حقا لقد برزت على
السطح تيارات كثيرة، وهي تيارات تصطف جميعاً حين المواجهة مع خصومها
الألداء «الإسلاميين» علي نسق واحد يبهر المرء التفافه السريع وفي ذلك الظرف
بالذات، يدل عليه تواصٍ شديد بالمواجهة وعلى كافة المحاور كل بحسبه «وما
تخفي صدورهم أكبر» .
وإذا كنا نعيش في القرن الخامس عشر الهجري، فليس بمستغرب ألبتة
اختلال موازين القوامة، وبُعد البشرية عن تلمس طريق النجاة، ومضاؤها إلى
الهوى في صلف وتعنت غريب [أفرأيت من اتخذ إلهه هواه] [1] .
في غمرة ذلك لا نستطيع أن نطالب بما لا يمكن حدوثه على وجه كوني إلا
بمعجزة ربانية.
إذن، ماذا يُطلب من المسلمين على وجه التحديد؟ إن الجواب على هذا
التساؤل المهم يكمن في استشعار المسلمين، كل المسلمين، فيما يعايشونه من
أحداث ومدلهمات، تلك التي علمتنا بأنه ليس ثمة مكان للكسالى ولا وقت للدعة
والإخلاد للراحة، بل سباق مستعر في ميادين السؤدد، أو على الأقل إلى إبداء
الرأي والبحث عن موقع للاستقلال الفكري والاختياري. إنّ مشكلة جل المسلمين
ليست في سذاجة أفكارهم، بل في أنهم لا يفكرون، وتراهم يصادرون ملكاتهم
ويتسولون فتات الآراء والتوجهات من تحت موائد اللئام.
لقد مضت الأمة تتنكب سبل المبادئ إزاء أحداثها التي تدار منذ قرون بيد
شياطين من الإنس، ويظل السؤال الكبير المؤلم: من سينبه المكلومة إلى ضرورة
الوعي بدينها ومبادئها، ومتى سيتم ذلك؟ إن من الضروري أن نضع مشكلاتنا
تحت مجهر التشريع بمعاييره المعصومة، كي ننجح في إيجاد مرجعية موقرة في
نفوس الجيل المستشرف، مؤمنين بأنه ليس من المتعين أن نشاهد نتائج ذلك بأنفسنا، فنحن في الحق متعبدون بالبلاغ فقط، وأما مترتباته فهي بيد البارئ سبحانه
يُخضعها لحكم عديدة.
لقد سئمت الأجيال المسلمة دجل المتنفذين وسكوت الصالحين بحجة العجز عن
التغيير أو الضعف في التأثير، ولست أدري بالضبط متى يفقه أولئك أن مجرد
الإصرار على المبدأ ضمانة أكيدة لثقة الجماهير ودعامة حية للاحتذاء وإيمان خالد
بعدالة قضايانا، وأهليتها في سباق التصارع من أجل النصر والتمكين.
إن الرجال مواقف، وإن الموقف سجل تاريخي يُشرق به الغد أو يظلم. لقد
مضت سنة الله تُثبتُ أن رجال الحق قليلون وأن الحق على الدوام مُحارب وأن أهله
في الدهر مُصارعون، وتثبت أيضاً، أن هذا الحق لابد سيظهر ولو بعد حين،
وهنا يتبين أن الأهمية تتجسد في التجالد عليه، والمنافحة عنه. إن من حق الجيل
أن يرى قيم الدين واضحة في الحدث الممارس يطبقها المسلمون أجمعون ويدعو
إليها الدعاة والمصلحون، أوليس من حقه أن يقف في الغد القريب موقناً مما يحدث
في محيط المسلمين على امتداد خطوط العرض والطول؟ ها نحن نعايش في
ساعتنا ما يُحاك في قضية فلسطين من تلاعب سافر بالثوابت وخضوع ذليل لليهود، ومن قبله الزعم الكبير في اختزال مسؤولية القدس في ثلة من سقط الناس وبقية
من غثاء العرب، ومعه استمرأنا السكوت كما تعودناه في البوسنة والصومال
وكشمير وكثير من بقاع الإسلام الجريح.
إننا نتساءل: أوليس من حق كل مسلم أن يخبر عن السبب في تحول
مصطلح «إرهابي» إلى كل (رافض للاستسلام) من قبل من قبلوا التوقيع ورضوا
بأن يكونوا مع الخوالف؟ أوليس من حق كل مسلم أن تُقرى الصورة أمامه وتُحسر
عن دغل ودخل سياسات الدمى؟ أوليس من حق كل مسلم أن يطلع على النسخة
الأصلية من عمليات التشكيك في ثوابت الدين لظرف مفروض ومن المسلمين
مرفوض؟ أوليس من حق كل المسلمين أن يعلموا لم كُتب على المخلصين دفع
فاتورة الرأي والكلمة الهادفة في زمن التطبيل والطنطنة؟ أوليس من حقنا جميعاً أن
ندري لم سيم الشعب في ليبيا والجزائر وتونس و ... عذاباً ومهانة؟ أوليس من
حق الجيل القادم أن يعلم على الأقل ثوابت وجوده ومعالم الإرث الثابت كيما يواصل
مسيره؟ بلى، إن ذلك حق مشاع لهم جميعاً.
لقد آن تحقيق كل ذلك من خلال التعاون الجمعي البعيد عن التفرد، فإن من
الخطل أن نظن أن تلك مهمة طائفة تخصصية بعينها أو كوكبة فكرية مُسماة لأن
الدين بلاغ الجميع وقضية كل مسلم، وإذا كنا نعتقد أن ذلك البيان يُكلف الدعوة
والصحوة ما لا طاقة لها به، فنطرح حلول سياسة النعامة، فإننا لم نزل في سوء
ظنٍ بأهل الإسلام وجماهيره. إن الأمم الكافرة تجد في قوة جماهيرها ما يشجعها
على المطالبة بحقوقها المشروعة، ورفض كل واقع لا يسرها.
لقد شاهد العالم كله كيف وقف الروس بصدورهم العارية أمام أرتال الدبابات
حينما هُدد وجودهم بالدعوة إلى الردة الشيوعية الحمراء مرة ثانية وها هم الصينيون، يصمدون أمام ثورة القوة وصولجانها الغاشم، رفضاً للمارسات الديكتاتورية، بل
ها هم تجار المخدرات ورجال العصابات يغامرون بأرواحهم لأجل هدف تافه أو لذة
عابرة، أفترى أن المسلمين أصحاب الهدف السامي النبيل يجبنون عن التضحية في
سبيل تحقيق البيان الإلهي؟ ! إن ذلك ولا شك سوء ظن أثيم، ونحن حين
ارتضيناه منهاجاً بُلينا بليل مدلهم يُجيد الحداءَ فيه نُفّاخُ الأبواق، في حين بقي
الناصح هدفاً لأسهمهم الرائشة، ينعتونه بشتى الأباطيل ويحاصرونه على جُدر
الانفراد في غياب تام عن الوعي التراص، إن البيان للجيل مهمة خطيرة يجب أن
تعنينا جميعاً مشاركة في الإصلاح وسداً للثغرات حتى تشمل الداعية في مجلس
توعيته، والأستاذ في قاعة درسه، والأب في بيته والأديب في ساحة قلمه والطبيب
في مستشفاه والصانع في مصنعه والحرفي في حرفته، والزارع في حقله، والرسام
في مرسمه، والراعي في مراعي سهله وعلى سفوح جبله فتلك صناعة الحياة.
إن من الخطورة ألا نشعر بمصيرية المرحلة وافتراق الطرق وألا نضع
الخطط للأحداث. والدراسات للتأثير وألا نجهد في إصلاح حالة الضعف المزمنة
عند كثيرٍ من المسلمين.
والسفه الأضر الأطم أن نقع في سلبية أفجع حين لا نتفاعل مع أحداثنا
المدركة بحضور مؤثر، مع كونها شامات عظمى تظهر جلية على خارطة
الممارسات المباشرة. إن من حق السالكين للطرقات الواعدة قراءة يومنا من خلال
مساحات التأمل السليم والمعالجة المخلصة والرأي المسجل والمبدأ الراسخ السديد،
فتلك هي القضية.
والله المستعان.
__________
(1) سورة (الجاثية: 23) .(71/36)
المسلمون والعالم
اليمن:
بين حلم الوحدة.. وواقع السلطة
د. عبد الله عمر سلطان
في صمت بالغ، وظروف خفية، وغرف مغلقة ... صُنعت الوحدة وأُبرمت
صفقة الدولة الجديدة/ القديمة ... ثم ها هي أعوام تمر منذ ظهورها وإذا النتائج
المُرّة تظهر على السطح وتبدو لكل عين مبصرة ... فالحديث ذو الصوت الأجش
والاتتهامات المدوية باتت حديث المجالس، ومحور اهتمام الأصدقاء قبل الأعداء،
حتى لم يعد هناك حاجة لحاسة البصر في ظل هذا الضجيج المتوالي..
ولم يكن من المستغرب أن تصل الأحداث في اليمن إلى هذا المأزق وتلك
الزاوية الحادة ... إنها إفراز طبيعي، ونتاج متوقع «للطبخة السياسية» التي
أخرجت مشروع الوحدة بسرعة ودون إنضاج كافٍ، فإذا بهتافي الأمس وراقصي
البارحة يندبون حظ اليمن التعس، ومأزق الوحدة المتفجر، ويتناقلون الحديث عن
التصفيات الجسدية المتبادلة، والتشطير القادم لا محالة، وكأنه نتيجة مقطوعة عن
أسبابها، ومولود غير شرعي لفراش الوحدة البائس ... فلكل من يتساءل عن اليمن
ومأساته الحالية: هل من خير في حُمّى الصراع القائم اليوم بين الأصدقاء
المتربصين بعضهم ببعض، وبشيء من البسط والتحليل المنطقي نستعرض بعض
الأسئلة التي لابد من الإجابة عليها إن عاجلاً أو آجلاً..
التركيبة والثمن:
قصة الوحدة لا يمكن أن نبدأها من نهايتها أو من منتصفها ... إنها تستحق أن
تُبْدأَ منذ اللحظة الأولى التي رأت فيها الفكرة النور، وحقيقة الأسباب التي أسرعت
بإنجازها ...
لاشك أن عالمنا الإسلامي والعربي خصوصاً يعيش هذه القطرية المصطنعة
بعد قرون من الانحسار العقدي، الذي أدى في النهاية إلى زوال دولة الخلافة
العثمانية، وانهيارها؛ ومن ثم بروز مشروع الدولة القطرية العلمانية الذي حقق من
خلاله الغرب العديد من الأهداف دفعة واحدة، وفي المثال اليمني ظل حكم الأئمة
الزيديين في الشمال نموذجاً فجاً لحالة التخلف والانحسار الذي أدى إلى ما أشرنا
إليه من استباحة لديار الإسلام وشريعته ودولته العادلة، كان الإمام الحاكم في
صنعاء يمثل أوضع تمثيل معاني الجمود والمذهبية والتخلف الذي لا يمت إلى
جوهر الإسلام بصلة، وإن حكم باسم شعار الدين في تلك الفترة، وإن تولى مقاليد
الحكم (آل حميد الدين) من منطلق حماية اليمن من الآخرين، أما جنوب اليمن فكان
صورة أخرى من صور الدهاء الاستعماري البريطاني حيث تحكم بريطانيا الساحل
الاستراتيجي مباشرة، وذلك في منطقة عدن، بينما يتحكم حكام ومشائخ صوريون
في بقية المناطق الداخلية التي لا يوجد فيها مصالح اقتصادية أو عسكرية مباشرة،
عملاً بمبدأ فرق تسد ... حتى إن هذه المشيخات الهزيلة كانت تتشاحن فيما بينها
على أحقية كل منها في إصدار طوابع البريد الفاخرة، التي كانت تمثل الدخل العام
الرئيس لبعضها، بينما لم تكن تملك من مقومات الدولة شيئاً، أو من مستلزمات
السيادة إبجدياتها.
لقد استعمر الإنجليز الجنوب لعقود طويلة حرصوا خلالها على امتصاص
خيرات البلاد، وتطوير مناطق التماس بمصالحهم المباشرة، والمتمثلة في ميناء
عدن وما حوله، أما الداخل أو ما يشكل أغلبية البلاد فظل يحكم بأسلوب لا يقل
تخلفاً عن شمال اليمن، وإن كان تسلط «مشيخات الطوابع» أقل بكثير من تسلط
حكم آل حميد الدين، الذين حسبوا أن الاستقلال عن الاستعمار يعني أن يمارسوا
استعماراً داخلياً، لا يقل أذاه عن الاستعمار الخارجي في ظل حالة من التردي
العقدي، حيث كان الخرافيون وطابور الصوفية ينخر في جنوب اليمن كما كانت
المذهبية والقبلية تكبلان شماله؛ ودون الخوض في تفاصيل «الاستقلال» الذي
حصل للشطر الجنوبي، فإن من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن الثورة التي
قامت في الشمال بُعَيْد الإطاحة بحكم الأئمة، ظلت تتصرف بنمط سياسي لا يبعد
كثيراً عن الأئمة وأدواتهم السياسية ... صحيح أن الآلاف من أبناء اليمن قد قتلوا
نتيجة قتال وحشي، وتدخل مصري هو أقرب للتورط، إلا أن الثورة سرعان ما
ظهرت على أنها صورة أخرى لواقع العالم الثالث المتخلف والشديد الجمود ...
فالثورة لم تكن تحمل رسالة حقيقية تنهض بالشعب اليمني، بل إنها كانت تحمل
شعاراً ضخماً وفضفاضاً يحاول أن يرضي الذين صنعوها، والذين يشكلون خطراً
عليها ... وهذا هو الفرق بين حركات إصلاحية تنبعث من صلب الأمة وذاتها،
وتلك التي لا تتعدى كونها موجة عابرة أو صدى مغشوشاً ...
قامت الثورة في الشمال وبعد عقدين من قيامها ظلت أدوات وتركيبة وتعقيدات
الوضع كما هي ... فبدلاً أن يحكم البلاد إمام زيدي ... جرى استبدال ذلك الإمام
بضابط ... زيدي هو الآخر ... ، وظلت القبيلة ووجهاؤها أهم محرك ولاعب في
الحياة السياسية اليمنية ... لكن بدلاً من أن يحكم مجلس القبيلة مباشرة استبدل ذلك
«بحزب» يحمل اسماً مستعاراً وجمع الشيخ بين المشيخة والمسؤولية الحزبية بدلاً
من أن تكون له المشيخة فقط في عهد الإمام ... أما النمو الاقتصادي فظل بطيئاً
للغاية وظلت الثورة (حتى قبيل حرب الخليج) معتمدة على دعم «الإخوة العرب»
كما كان الوضع في عهد الإمام ... أما نسبة الأمية فقد ساهمت الثورة في تخفيضها
بشكل متواضع حيث لازالت اليمن من البلدان التي تعاني من أمية طاغية.
المشكلة الحقيقية تكمن في أن الثورة اهتمت بالشكل كثيراً ... ولم تهتم
بالمضمون ... وربما كان أنصار الإمام المخلوع يؤكدون أن ما كان سيقوم به البدر
لو سنحت له الفرصة لايبتعد كثيراً عن إنجازات الثورات المتعددة التي وجدت
نفسها في النهاية تحتفل بعيد الثورة ... لكن ما هو ثمن الثورة ... الحقيقي، وما
هي إنجازاتها؟ !
صحيح إن النقلة التي تحققت في الشمال خلال حكم «الأئمة العسكر» كما
يحلو لبعضهم أن يسميهم، إتسمت بشيء من الحرية النسبية، والرضوخ لقواعد
اللعبة الجديدة، إلا أن «شعار الثورة» كان يفتقد في الحقيقة إلى رسالة إصلاحية
تبعث الشعب اليمني من سباته كما حَلُم المصلحون الأوائل الذين تصدوا للإصلاح
في عهد الإمام ... فإذا بالوحدة المعروضة من قبل الشمال تشكل مخرجاً لقيادة
طموحة تبحث عن رسالة أو «برنامج» يجمع الشعب من حولها، كما يضيق من
حجم الخلاف حول الثروة البترولية المقبلة والتي تقع على الشريط الحدودي مع
دولة الجنوب التي كانت تعاني حقاً من نتائج ما سمي «حرب القبائل الشيوعية»
التي اندلعت في يناير 1986.
لقد كان الحزب الشيوعي الجنوبي يرى في الوحدة مخرجاً من مأزق تضاؤل
شعبيته، وانحسار شعاراته وإنجازاته، مع تفكك المنظومة الشيوعية التي كانت
تمده بالدعم، كما أن الموجة الإسلامية العارمة التي بدأت تدق الديار الجنوبية
تقتضي تحالفات إقليمية ودولية جديدة ... لقد كان مأزق الشيوعيين الجنوبيين أكبر
بكثير من المأزق الذي عاشته حكومة صنعاء، لذا فقد سارعوا لركوب موجة
«الوحدة» التي أصروا على أن تصاغ تشريعاتها بأسلوب علماني مستفز لقطاع عريض من أبناء اليمن المسلم، ولكي تقع مسؤولية فشل مشروع الوحدة على عاتق «الرجعيين» من أبناء الحركة الإسلامية.
لقد كان مؤلماً أن يتحول مشروع مثل مشروع وحدة شعب واحد بعد طول
شتات إلى قنطرة تشكل مخرجاً لمأزق النظامين الشمالي والجنوبي، ويلقى بها طعماً
شهياً تلتهمه شعوب طالما تمنت التوحد بعد الشتات، والالتقاء بعد الافتراق والتكتل
بعد التشرذم، كما كان واضحاً منذ اليوم الأول أن ظمأ القابضين على مقاليد الأمور
في الشطرين، لا يطفئه إلا تقاسم النفوذ والسلطات في الدولة الجديدة، التي فصلت
في صورتها الوحدوية لتناسب مقاس الفريقين الحاكمين ولتهمش حركة المعارضة،
التي تمثلت في التيار الإسلامي الذي حاول أن يلفت النظر إلى فداحة جريمة
التلاعب بالدستور، وتحكيم غير كتاب الله لاسيما في المراحل الأولى للمشروع.
لقد بلغ الأمر بالمتفائلين واللاعبين على وتيرة العاطفة، ودغدغة المشاعر إلى
تشبيه وحدة ألمانيا بالوحدة اليمنية ... وكم كان الفرق شاسعاً بين التجربتين
والولادتين ... فالمؤسسات الدستورية عززت كلمة الشعب الألماني، ونقلت الشعار
إلى واقع وقدرت حجم النقلة وتكلفتها وانعكاسها، بل مخاطرها على مشاعر
وأحاسيس الشعوب المجاورة ... أما الوحدة اليمنية فكانت شعاراً جميلاً عززته
مطامع الحكام، وغذته طموحات الآمرين والناهين، وشكلته في نهاية المطاف
مآزق ومنطلقات حرجة، بدلاً من أن يكون مشروعاً تحميه المؤسسات والأفراد
والأحرار ...
وحتى لا نلوم اليمن وحده؛ لأن في مثاله نماذج شبيهة لحالات قائمة فإن
المجتمعات التي تفهم من الثورة أنها شعار جذاب، والوحدة أنها علم واحد والدولة
على أنها تقاسم للمناصب والثروات، والديموقراطية أنها ثرثرة سياسية وتجميع
للأزلام والمحاسيب في صورة حزب ... هذه الشعوب تملك الشعار لكنها وقت
الاختبار تعجز عن حمايته والذود عنه، فهيكلية السلطة وتوزيع القوة في هذه
المجتمعات هو رهن القوة المجردة، والتي تتمثل اليوم في اليمن في قوى رئيسية
ثلاث: الجيش (بشقيه الشمالي والجنوبي) و (القبيلة) و (مافيا) السوق المستفيدة من
الوضع القائم « ... وهي قوى تملك من خلال علاقتها وتحالفاتها أن تقول للوحدة
استمري إذا كان هذا في مصلحتها ... أو أن تقول لها انفرطي إذا كان هذا لا يخدم
مصالحها الضيقة ... إنها لغة واحدة: لغة القوة لا لغة العاطفة والأحلام هي التي
تقرر مصير ومستقبل وحدة كهذه ... أما الشعوب التي لا تملك المؤسسات والرموز
والجذور القوية القادرة على فرض إرادتها وإيصال رسالتها، فهي لا تمثل في
المحصلة النهائية إلا سوقاً استهلاكياً مشاعاً تمارس الزعامات من خلاله زعامتها،
وتطل المليشيات عليها لتلقي هتافات النصر وأهازيج الانتصار ... الانتصار إما
بحصول الوحدة أو بانقشاعها حسب ما تقرره المليشيات الحاكمة.
فتش عن الأصوليين! !
الساحة اليمنية في أحداثها المتلاحقة اليوم ساحة تملك كل عناصر الإثارة
الإعلامية والصحفية، التي يحاول جهاز الإعلام العربي ترسيخ أسبابه وتسطيح
جذوره ومكوناته في عنصر واحد لا غير ... هو سبب الشقاء الواقع والانكسار
المخيم على الديار ... إنه الإسلام ودعاته ممن يسمون بالأصوليين ... في اليمن
اليوم كل ما يذكر القاريء العربي بهذا» المارد «الذي رُسمت ملامحه في الشقق
المهاجرة التي تمارس الصحافة ... في اليمن اليوم اغتيالات وعدم استقرار، وفرار
رؤوس الأموال، وتضخم مخيف، وتحركات عسكرية وتهديدات متبادلة لا يمكن
أن تنطبق مواصفاتها إلا على الأصوليين» أعداء السلام «والاستقرار ... لكن
الذي حصل ويحصل أمر آخر، فالأصوليون لسوء حظ الجهاز الإعلامي العربي
ليسوا في الصورة، بل إنهم عامل تهدئة للأوضاع (حتى لو كانت فاسدة) وتركيز
لوحدة طالما اعترضوا عليها بالأمس لكفر تشريعاتها، ثم هم اليوم يحاولون تعديلها
بعد أن تكشف للجميع أن الذين يعملون على التشرذم والشقاق والتشطير ليسوا هم
الإسلاميون» الرجعيون «، بل إنهم التقدميون ... نعم الأخوة التقدميون شمالاً
وجنوباً ... والأمر يعود ببساطة إلى أن هذه القوى التي مارست الحكم قبل الوحدة لا
يمكن أن تستمر في جو الاستقرار، والتعددية الحقيقية، والرأي الحر المدعوم بقوة
شعبية ... لقد كانت فترة الوحدة منذ يومها الأول مرحلة استقطاب للقوى وتقاسم
للنفوذ والسيطرة ... المؤتمر الشعبي الحاكم في الشمال يمثل مصالح وطموحات
الرئيس اليمني، وحوله الرموز القبلية والبطانة التي رأت في الوحدة صفقة رابحة ...
أما الحزب الاشتراكي فهو لا يمكن أن يوصف إلا بأنه مليشيا حكمت ... بالحديد والنار شعباً أعزل، ثم لما رأت المليشيا أن سلطتها تتآكل وفطن قادة الحزب إلى أن نفوذهم يتقلص، لجأوا إلى إثارة أكثر المشاعر رجعية وتخلفاً وهمجية حين بدأوا يثيرون النعرات العرقية والمذهبية، في سبيل بقائهم في الواجهة ... إنها معركة لا تحتمل وجود طرف آخر، فالوحدة كانت وربما ستظل وسيلة لتصفية الحسابات، وإحكام القبضة على السلطة بعد حدوث المتغيرات الدولية الضخمة منذ عام 1989.
أليست السلطة الحاكمة في عالمنا العربي تطرح مأزقها اليوم في اليمن بكل
ثقله وانعكاساته وظلاله السوداء ... ألا يستحق هذا المشهد الحاضر الآن أن تُسلط
عليه الأقلام المستقلة، والصحافة الحرة، بعض الضوء حينما تناقش الانهيار في
مناطق ساخنة عديدة في عالمنا العربي تُربط بظاهرة العودة إلى الجذور ... إلى
الإسلام ... ؟
فتش عن الإسلاميين في أمثلة عديدة تجد أنهم ليسوا كما يصور أصحاب
القلوب المريضة، والأقلام المنتفشة حين يزعمون أنهم سبب كل مصيبة. وداء كل
جسد عليل ... الإسلاميون في كثير من الأمثلة عوامل استمرار لهذه الأوضاع
القائمة ... ونتاج طبيعي لعقد اجتماعي/ سياسي يمارس الفشل تلو الآخر ويتاجر
حتى بأقدس المشاعر، وأكثر الأحاسيس حرارة ...
المثال اليمني جدير بالتحليل والدراسة لأنه نسخة مكررة للنظام العربي
المأزوم اليوم، والوحدة اليمنية حلم جميل في طريق توحد الأمة، لكنه يواجه
بكابوس السلطة التي لا تعترف بالأحلام ولا تراعي المشاعر بل قد تتاجر بها ...
هنا بالضبط يكمن داء الوحدة اليمنية ... وربما يكمن غدها القلق ... هنا أيضا..(71/43)
المسلمون والعالم
كوسوفو المسلمة.. المنسيّة
عبد الله الكوسوفي
تمتد منطقة كوسوفو (والأراضي الألبانية المسلمة في يوغسلافيا سابقاً) نحو
(20) ألف كم2 تجاورها (مقدونيا) من الجنوب الشرقي، وصربيا في الشمال
الشرقي، وسنجاق والجبل الأسود من الشمال الغربي، وتحيط كوسوفو من الجنوب
ألبانيا (الدولة الأم) والمحيط الإدرياتيكي وبحيرة برسبا.
وتمثل كوسوفو بالنسبة للمسلمين الألبانيين كل الأراضي الألبانية المستولى
عليها من قبل صربيا والجبل الأسود من عام 1787م حتى 1945م، وتسكن هذه
الأراضي الغالبية العظمى من المسلمين الألبان من القديم وإلى يومنا هذا.
ومن أجل تسهيل عملية القضاء على هذا الشعب المسلم فقد جزأت السلطات
الصربية
-وبترحيب من مؤتمر لندن سنة 1913م - منطقة كوسوفو وضمت تلك
الأجزاء إلى ثلاث جمهوريات يوغسلافية: ماقدونيا والجبل الأسود وصربيا.
أصل أهل كوسوفو:
إن أصل الكوسوفيين (الألبان) من القبائل الإيليرية ذات الجنس الآري وسموا
بأكثر من اسم منها: الألبان والأرناؤوط واشكيبتار، واتفق المؤرخون على أنهم
أول من نزل شبه جزيرة البلقان في عصر ما قبل التاريخ على شواطيء البحر
الأدرياتيكي الشمالية والشرقية قبل آباء اليونان، وكان ذلك منذ أكثر من ثلاثة آلاف
سنة، ثم توسعت وانتشرت القبائل الإيليرية في أنحاء البلقان، وبعد ذلك اجتمعت
القبائل وانتخبت رئيساً لها وأنشأوا دولة لهم قبل الميلاد بثلاثة قرون؛ وجمهورية
كوسوفو اليوم تقع في الموقع الذي كان يسكن فيه أجدادهم الداردانيون والقبائل
الإيليرية الأخرى، وكانت دولتهم تسمى داردنيا، وبمرور الزمان ضعفت دولتهم
فاحتلها الرومان، وبقيت تحت احتلالهم إلى أن زالت امبراطوريتهم، وانقسمت إلى
شرقية وغربية فأصبحت بلاد الألبان تحت حكم الإمبراطورية الشرقية، حتى فتح
العثمانيون بلادهم ونعمت قروناً تحت حكمهم.
اعتناق الكوسوفيين الإسلام:
اتفق المؤرخون على أن الإسلام دخل إلى البلاد البلقانية قبل الفتح العثماني،
وذلك عن طريق التجار والدبلوماسيين والدعاة، إلا أن ذلك كان على نطاق ضيّق
ومحدود، أما انتشار الإسلام في تلك البلاد فقد كان بعد مجيء العثمانيين، ودخل
فيه الشعب الألباني أفواجاً، وحسن إسلامهم وكان منهم في الدولة العثمانية القواد
العظام مثل بالابان باشا (قائد من قواد فتح القسطنطينية) وكبار الكتاب والشعراء
(كانوا يؤلفون بلغات خمسة هي: الألبانية والبوسنوية والعربية والتركية والفارسية)
مثل محمد عاكف أرسوي رحمهم الله جميعاً.
وقد تمكن الحكم العثماني في جزيرة البلقان بصورة نهائية بعد المعركة
الشهيرة المسماة «معركة كوسوفو» ، التي قاد فيها السلطان العثماني مراد الأول
الجيش الإسلامي بنفسه، وقبيل فوز الجيش الإسلامي استشهد السلطان مراد وتسلم
القيادة السلطان بايازيد، وانتصر على الجيوش المتحالفة (الأوروبية) وقتل الملك
لازار (الصربي) وذلك سنة 792 هـ (1389 م) ، فبعد هذه المعركة الحاسمة
خضعت كوسوفو وصربيا تحت الحكم العثماني ما عدا مدينة بلغراد فإنها فتحت في
عهد السلطان سليمان القانوني، وذلك في 26 من رمضان المبارك سنة 938هـ
(1521م) .
وكانت ولاية كوسوفو إحدى أكبر الولايات العثمانية في «رومليا» (أوروبا)
وكانت أول عاصمة لها مدينة بريزرن (PRIZREN) ثم بريشتينا
(PRISHTINA) وفي الأخير مدينة اشكوب (SHKUP) عاصمة مقدونيا اليوم،
ومازال فيها إلى يومنا هذا عدد من الألبان أكبر من عددهم في تيرانا عاصمة ألبانيا.
بعد اضطهادٍ بشع في الفترة الشيوعية الأولى (بعد الحرب العالمية الثانية)
نجح المسلمون الألبان في كوسوفو بالحصول على الحكم الذاتي، وذلك في أواخر
عهد الهالك تيتو؛ وفي مستهل الثمانينات عاد الصرب من جديد إلى تعديل الدستور
وابتلاع كوسوفو مرة أخرى، الأمر الذي رفضه المسلمون وقاموا سنة 1981 م
بثورة شعبية على مستوى كوسوفو كلها يطالبون فيها باستقلال (كوسوفو) عن
(صربيا) ومنحها حكم الجمهورية داخل يوغسلافيا الفيدرالية الشيء الذي جعل
السلطات الصربية تأمر القيادات العسكرية بقمع المظاهرات السلمية حيث نزل
الجيش المدجج بالدبابات والأسلحة الحديثة وقتلوا من المسلمين في يوم واحد أكثر
من 300 شخص.
فاستمر المسلمون في المطالبة بحقوقهم إلى بداية انهيار الشيوعية حيث بدأت
كل جمهورية تأخذ مسيرتها نحو استقلالها التام عن يوغسلافيا الفيدرالية فتوقع
المسلمون الألبان في كوسوفو كإخوانهم في البوسنة والهرسك أن ظهور الديمقراطية
والحرية في أوروبا الشرقية وفي الجمهوريات اليوغسلافية نفسها ستمنح لهم حقوقهم
أيضاً، فأعلنت البوسنة استقلالها (بعد سلوفينيا وكرواتيا) إلا أن أعداء الإسلام لم
يسمحوا بقيام دولة مسلمة وسط تلك المنطقة الأوروبية بل سعوا في قتل أهلها،
وتهجيرهم، وتشريدهم فحدث ما حدث من الجرائم الوحشية والمذابح الجماعية التي
شهدها العالم بأجمعه ولم يحرك لها ساكناً.
وكذلك المسلمون الألبان في كوسوفو أجروا فيما بينهم استفتاء في طور تفكيك
الاتحاد اليوغسلافي في سبتمبر «أيلول» 1991 م أسفر عن انحياز الأغلبية
المطلقة للاستقلال، وتطور الأمر إلى انتخاب مجلس نيابي وتشكيل حكومة
وتنصيب رئيس لجمهوريتهم المستقلة: هو الدكتور إبراهيم دوغوفا ولكن الحكومة
الصربية تجاهلت كل هذه الإجراءات واعتبرتها كأن لم تكن بل بدأت بمرحلة جديدة
من الاعتقالات والتعذيب والاضطهاد فاقت سابقاتها حيث سحبوا أدنى الحقوق
الإنسانية من هذا الشعب الأعزل.
مخطط تدمير الاقتصاد الكوسوفي:
إن حكومة بلغراد لم تتورع في استخدام أية وسيلة في سبيل إرغام المسلمين
الألبان على الهجرة من كوسوفو.
ففي المجال الاقتصادي على سبيل المثال ذكرت جريدة «بويكو» الألبانية
أن حكومة صربيا ماضية في إخضاع اقتصاد كوسوفو لسلطة بلغراد المباشرة،
وذكرت أن 296 شركة عامة في كوسوفو تم دمجها بـ 173 شركة مماثلة في
صربيا، من بينها جميع منشآت الطاقة الكهربائية، وشبكة السكك الحديدية
وشركات النقل، والطيران المدني، واستخراج المعادن، وصناعات المطاط
والنسيج والجلود، والمواد الكيماوية، والانتاج الزراعي، والغذائي ومجالات
السياحة، وهذا يعني أن حكومة صربيا تسرق من كوسوفو بلايين الدولارات،
إضافة إلى سيطرة بلغراد التامة على جميع مناجم كوسوفو وتعطيلها، وتفريغها من
العمالة المسلمة ومن الخبراء المسلمين، الشيء الذي جعل منجم «تربجا» (أكبر
المناجم في يوغسلافيا السابقة والمشهور بالرصاص والذهب والفضة والمواد
الكيماوية الأخرى) في مدينة ميتروفيتا يخسر سنويا (000ر200ر57) دولار، كل
هذا بسبب عدم وجود عدد كافٍ من العمال وبسبب عمل غير المتخصصين من
الصربيين.
ومن ناحية أخرى أخذت الحكومة الصربية منذ شهور بتقطيع الأشجار في
الغابات الكوسوفية وشحنها إلى صربيا والجبل الأسود للاستفادة منها هناك ويتجاوز
هذا التقطيع (000ر500) متر مكعب.
ومن ذلك الاستيلاء على الأراضي الزراعية التابعة للمسلمين، وبناء
مستوطنات صربية عليها، وخاصة في الأماكن التي فيها كثافة المسلمين الألبان
كبيرة.
من ناحية أخرى تستمر السلطات الصربية في فصل المسلمين من العمل
بشكل كبير جداً مع أن نسبتهم في الماضي كانت ضئيلة جداً، ففي سنة 1981م
كانت نسبة العمال من جميع الشعب الألباني 11% فقط. وفي السنوات الأخيرة
تقلصت هذه البقية الباقية من المسلمين حينما طردت (520) عائلة مسلمة من
منازلهم، وهناك (000ر500) شخص تحت خطر المجاعة.
المجزرة القادمة في كوسوفو:
إن كوسوفو منذ سنة 1981 م وإلى يومنا هذا تعيش حالة الطواريء وقد بلغ
عدد الجنود الصربيين أكثر من 85 ألف جندي وظيفتهم قهر وبطش المسلمين وقد
أجروا في الأيام الأخيرة تمشيط للمدن والقرى المسلمة لمصادرة الأسلحة التي لم
توجد أساساً لدى الأهالي المسلمين بخلاف البيوت الصربية الممتلئة بأنواع من
الأسلحة المختلفة، وقد اعترف بذلك رئيس الوفد «البرلماني الأوربي» «جون
دي» ، الذي زار كوسوفو في هذا الشهر حيث يقول: «إن الصرب شددوا من
إجراءاتهم لطرد الألبان من كوسوفو وذلك بالضرب والقتل والسجن والتهديد
والسرقة وسحب الأسلحة..
كل هذه الاجراءات الصربية، ليست إلا مقدمة صريحة للمذبحة الكبيرة التي
ينويها هؤلاء المجرمون ضد المسلمين الكوسوفيين، وما جرى لإخواننا في البوسنة
تحت مرأى ومسمع من العالم بأجمعه أكبر دليل على ذلك، وقد تكون ضربة
المسلمين في كوسوفو أشد وأنكى حيث تتميز كوسوفو بالنسبة العالمية للمسلمين
وفيها مدن وقرى خالية من الصرب (بخلاف المدن البوسنية) فيسهل عليهم قصفها
وتدميرها دون أي تردد، لاسيما ونحن نرى تخاذل الموقف الدولي تجاه هذه القضية
الخطيرة التي قد تتفجر في أي لحظة، ويروح ضحيتها عشرات بل مئات الآلاف.
ملخص جرائم النظام الصربي ضد المسلمين في كوسوفو من 1981م إلى يومنا هذا:
- قتلت السلطات الصربية خلال هذه السنوات مئات المسلمين الألبان وذلك
في حالة السلم من غير إعلان حرب في كوسوفو.
- قتل أكثر من 100 جندي ألباني خلال خدمتهم العسكرية في الجيش
اليوغسلافي (الصربي) وجرح أكثر من 600.
- وضعت السلطات الصربية سنة 1990 م سماً في خزانات مياه المدارس
بمدن كوسوفو وتسمم منها أكثر من سبعة آلاف طفل.
- فصل من العمل أكثر من 150 ألف عامل مسلم، وكان عددهم الإجمالي
قبل ذلك 200 ألف عامل مسلم فقط.
- احتلت صربيا جميع مستشفيات كوسوفو وطردت جميع الأطباء
والممرضين الألبان، فليس اليوم للمسلم في كوسوفو مستشفى يتجه إليه للعلاج،
وليس للمرأة الألبانية مستشفى ولادة تلد فيها.
- أغلقت تقريبا جميع المدارس الابتدائية والثانوية الألبانية.
- أغلقت المكتبة المركزية الجامعية وجميع مكتبات المدارس الأخرى وأخذت
السلطات الصربية كثيراً من الكتب العلمية النادرة ونقلتها بواسطة الشاحنات
العسكرية إلى مصانع الورق لتصنيعها ورقاً عادياً! !
- أغلقت أكاديمية العلوم والفنون في بريشتينا، وكذلك يمكن أن يقال عن
معهد الألبانولوجي لأن الدولة لا تنفق عليه.
- أغلق معهد التاريخ.
- أغلق التلفزيون والإذاعة (باللغة الألبانية) وصودرت الجريدة الوحيدة
اليومية باللغة الألبانية (ريلينديا) .
- فصل جميع الألبان العاملون في الشرطة من وظائفهم.
- بدّلت لغة الإدارة الألبانية بالصربية وذلك في جمهورية يبلغ فيها عدد
المسلمين 93 % ويبلغ عدد الصرب فيها 7 % فقط! !
ماذا بعد هذه الحقائق الثابتة التي اعترف بها حتى ممثلوا السياسة الغربية؟
هل سيبقى المسلمون مكتوفي الأيدي دون اتخاذ أية إجراءات تساعد في إيقاف هذه
المعاناة، ومنع وقوع مجزرة بشرية جديدة في قطر جديد من العالم الإسلامي؟
أو سيطلق المسلمون كما نرجو هذه المرة المقولة الشهيرة (الوقاية خير من
العلاج) قبل انتقادهم بالمشاعر والعواطف، فيما يرون تلك الدماء البريئة
والأعراض المنتهكة وما أكثرها عند المسلمين هذه الأيام.
لذا نرفع أصواتنا إلى جميع المسلمين في العالم للقيام بواجب الاخوة الإسلامية
لمنع حدوث مذابح متوقعة ...
والله نسأل أن يعلي كلمته ويعز جنده.. والله غالب على أمره(71/51)
المسلمون والعالم
حقيقة المفاوضات
بين جبهة تحرير مورو الوطنية والحكومة الفلبينية
وموقف جبهة تحرير مورو الإسلامية
محمد أمين
وردنا من مكتب الإعلام الخارجي لجبهة تحرير مورو الإسلامية البيان رقم
(29) الصادر في غرة هذا الشهر والمتضمن موقف الجبهة بين المفاوضات الأخيرة
مع الحكومة النصرانية في الفلبين والأعمال الجهادية التي قام بها المجاهدون مؤخراً.. ويسرنا إيراد أهم ما فيه، شاكرين للجنة الإعلام الخارجي تواصلها.
- البيان -
لعل إخواننا المسلمين المهتمين بالقضايا الإسلامية ومنها قضية مسلمي مورو
في جنوب الفلبين يتساءلون عن موقف جبهة تحرير مورو الإسلامية إزاء
المفاوضات التي جرت في جاكرتا أندونيسيا من 26/10 - 6/11/1993م بين
جبهة تحرير مورو الوطنية وبين الحكومة الفلبينية الصليبية.
وقبل بيان موقف جبهة تحرير مورو الإسلامية نوضح فيما يلي بعض الأمور
التي حدثت قبل المفاوضات المذكورة:
1- بدأت مفاوضات مسواري مع مندوبي الفلبين في طرابلس ليبيا سراً
بواسطة الرئيس الليبي في العام الميلادي الماضي (1992م) واستمرت الاتصالات
السرية بين الجانبين منذ ذلك الوقت إلى أن تم الاتفاق على استئناف المفاوضات في
14-16/4/1993م في أندونيسيا وأعلنت في هذه الجولة بعد أن سادها كتمان محكم
خلال العام الماضي وأوائل هذا العام، وبعد هذه الجولة المعلنة استمرت الاتصالات
بين الجانبين إلى أن تم الاتفاق على عقد جولة ثالثة من المفاوضات في 26/10- 6
/11/1993م في جاكرتا أندونيسيا.
2- المفاوضات المذكورة التي عقدت في أندونيسيا لم تتوصل إلى أي شيء
سوى الاتفاق على وقف النزاع بين جبهة تحرير مورو الوطنية وحكومة راموس،
واستمر الحوار بين الجانبين.
3- أثناء المفاوضات السريّة بين جبهة تحرير مورو الوطنية وحكومة
راموس الصليبية اتصلت حكومة الفلبين عدة مرات بجبهة تحرير مورو الإسلامية
بقيادة أميرها الشيخ/ سلامات هاشم وعرضت عليها التفاوض معها ولكن جبهة
تحرير مورو الإسلامية رفضت، وتكررت الاتصالات ولكن بدون جدوى، وذلك
لأن دولة الفلبين لا تريد التعايش أو السلام مع المسلمين وإنما تريد استمرار
استعبادهم وسيطرتها على بلادهم لتستمر في سرقة أموالهم ونهب خيراتها.
موقف الجبهة من المفاوضات المذكورة:
1- إذا اتفق الجانبان على تنفيذ اتفاقية طرابلس المعروفة كاملةً نصاً وروحاً
دون اهمال أي بند من بنودها، فلن تعارض الجبهة هذا الحوار لأنها تعتبر الاتفاقية
المذكورة اتفاقية مقبولة.. أما إذا لم تنفذ الاتفاقية كاملة أو أهمل بند من بنودها أو
جزء من أي بند من بنودها، فستعارضها الجبهة الإسلامية معارضة شديدة،
وترفض أي اتفاق أقل أو أدنى من اتفاقية طرابلس في عام 1976م.
2- على أن تنفيذ اتفاقية طرابلس لا يتم إلا إذا طبق الحكم الإسلامي، فلا
معني لاعطاء المسلمين حرية دون أن يحكموا أنفسهم بكتاب الله وسنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، وعند عدم تطبيق الشريعة الإسلامية فإننا نعارض الاتفاقية
معارضة شديدة ونستمر في الجهاد في سبيل الله لأن هدفنا هو إعلاء كلمة الله
ونصرة دينه، وهذا لا يتم إلا إذا طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً كاملاً في جميع
شؤون الدولة وحياة المجتمع والفرد؛ علماً بأن جبهة تحرير مورو الإسلامية تعد
الآن من خلال مجلس الشورى وهو جهازها الدستوري والاستشاري تعد دستوراً
إسلامياً على ضوء الكتاب والسنة وتطبقه في كل شبر من أراضي مورو المحررة.
3- لا علاقة لجبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة أميرها الشيخ/ سلامات
هاشم وجماهير شعب مورو المسلم الذين يلتفوا حولها بالاتفاق المذكور على وقف
النزاع بين جبهة تحرير مورو الوطنية (مسواري) وحكومة راموس الصليبية الذي
توصلت إليه في مفاوضاتها بأندونيسيا في 26/10- 6/11/1993م؛ وإن مجاهدي
جبهة تحرير مورو الإسلامية ثابتون في خنادقهم في الجبهات القتالية وهم شاهرون
السلاح أمام العدو المعتدي، وبعض الفصائل الجهادية تستمر في عملياتها العسكرية
وهجومها المضاد ضد القوات المسلحة الفلبينية التي قامت وتقوم بعمليات همجية
ضد المسلمين المدنيين العزل، وقد تصاعدت المعارك بين مجاهديها وبين جنود
راموس الصليبيين أثناء المفاوضات المذكور، وذلك أن جنود العدو الماكر اعتدوا
على المسلمين الآمنين العزل ودافع مجاهدونا عن هؤلاء المسلمين الأبرياء فقاموا
بهجمات مضادة ضد أولئك المعتدين، وقد تكبدوا خسائر فادحة في الأرواح
والعتاد.
اعتداء صليبي على مجاهدي جبهة تحرير مورو الإسلامية:
بعد يوم واحد فقط من توقيع اتفاقية وقف النزاع بين الجبهة الوطنية وحكومة
راموس الصليبية، هاجم جنود راموس الصليبيون أحد مواقع مجاهدي جبهة تحرير
مورو الإسلامية في الجبهات القتالية على حدود محافظة ماجينداناو المتاخمة
لمحافظة لاناو الجنوبية، وكان ذلك يوم الاثنين 2 جمادى الأولى 11هـ ووقع
الجانبان على اتفاقهما يوم السبت 22 جمادى الأولى 11هـ؛ ورد مجاهدونا على
هذا الاعتداء بهجوم مضاد، وبعد معركة عنيفة استمرت خمس ساعات أو أكثر
تقهقر جنود العدو المهاجمون وطاردهم مجاهدونا واستولوا على أحد مواقع المعتدين
بعد أن قتل منهم ثمانية عشر جنديا صليبيا واستولى المجاهدون على أسلحتهم
وعدتهم وكان هجوم العدو أثناء اجتماع اللجنة المركزية للجبهة الإسلامية في مكان
قريب من الموقع الذي تعرض للهجوم، وكان هذا الاعتداء الغادر متوقعا فقد أعلن
الرئيس فيديل راموس يوم السبت 22 جمادى الأولى 1414هـ أي قبل يومين من
هجوم قواته على موقع مجاهدينا أن الاتفاق على وقف النزاع بين حكومته وبين
جبهة مسواري الوطنية فقط وأن جبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة سلامات هاشم
ليست طرفاً في الاتفاقية ومن ثم لا تشملها الاتفاقية على وقف النزاع، ورحبنا بذلك
التصريح.
حكومة راموس توزع الأسلحة على النصارى:
من الدلائل التي تدل على أن الحكومة ليست جادة في مفاوضاتها السلمية مع
الجبهة الوطنية، وأنها مصممة على تنفيذ خطتها لمحاولة القضاء على الإسلام
والمسلمين في بلاد مورو المحتلة: أنها وزعت ومازالت توزع أسلحة متطورة على
النصارى المستوطنين، وتم توزيع آلاف من الأسلحة خلال الأسبوعين الماضيين
على المستوطنات النصرانية المجاورة للقرى الإسلامية وهؤلاء النصارى الذين
وقعت في أيديهم الأسلحة يقتلون كل مسلم يجدونه ذكراً أو أنثى طفلاً أو شيخاً بل
حتى الرُضّع، لاعتقادهم أن الطفل المسلم الرضيع سيكبر وسيكون عدواً لهم.
ونتيجة لهذه الأعمال الهمجية قد تشرد عشرات الآلاف من المسلمين تاركين
وراءهم بيوتهم وكل ما يملكون، فضلاً عن مزارعهم وحقولهم التي هي مصدر
رزقهم اليومي، وقد نهب الصليبيون المعتدون جميع أموال المسلمين المتروكة حتى
الأواني والأدوات المنزلية، ولم يبقَ لهؤلاء المشردين شيء سوى الملابس التي
على أجسادهم، وبعد أن نهب وسرق النصارى أملاك المسلمين حرقوا بيوتهم
ودمورا قراهم، وقد تعاونوا على القيام بهذه الأعمال الهمجية مع جنود راموس
الصليبيين.
عمليات جهادية لرد عدوان المعتدين:
يقوم مجاهدونا بهجمات مضادة لرد عدوان المعتدين، وقد نفذوا عدة عمليات
جهادية ناجحة والحمد لله خلال الأسبوع الماضي، ونذكر بعضها فيما يلي:
الهجوم على مركز المليشيا النصرانية في قرية اينلابو بمحافظة يوكيدنون في
يوم الثلاثاء 25 جمادى الأولى 1414 هـ، وأسفر الهجوم عن مقتل عشرين من
رجال المليشيا وإصابة أربعة عشر منهم، وانسحب المجاهدون للفارق الكبير جداً
بين المجاهدين والمعتدين عدة وعتاداً.
وفي اليوم التالي: الأربعاء 26 جمادى الأولى 1414 هـ «هاجم مجاهدونا
مركز جنود العدو في مديرية دامولوج بنفس المحافظة، وبعد قتال شديد مستمر
استمر ست ساعات تقريباً انسحب المجاهدون تجاه مجموعة من الميليشيات التابعة
للعدو، وقد فتح رجالها النيران بمجرد شعورهم باقتراب المجاهدين، وانسحب
المجاهدون إلى اتجاه آخر دون إطلاق النار فصارت المعركة بين جنود العدو الذين
يطاردون المجاهدين وبين المليشيات الحكومية المذكورة، وترك المجاهدون رجال
العدو يقاتلون بعضهم بعضاً، وقد قتل عدد كبير من الجانبين ولم يدركوا أنهم وقعوا
في خدعة مدبرة إلا بعد أن سقط منهم الضحايا الكثيرون حيث جعل الله
بأسهم بينهم.
وفي مساء نفس اليوم هجم المجاهدون على معسكر العدو في قرية أنجاآن في
نفس المحافظة، وكان جنود العدو يدربون المليشيات النصرانية في هذا المعسكر
لإعداد رجالها في حرب المسلمين، وقد لقي عدد كبير من الجنود والمتدربين
مصرعهم ويقدر عدد المقتلوين بأكثر من ثلاثين والمصابون كثيرون.
وفي الصباح الباكر من اليوم التالي: الخميس 27 جمادى الأولى 1414هـ
وقعت دورية العدو في كمين نصبه مجاهدونا في قرية بنابونان بنفس المحافظة
(بوكيدنون) وقتل جميع جنود الدورية وهم 28 جنديا واستولى مجاهدونا على جميع
أسلحة المقتولين وأجهزتهم الحربية.
وفي نفس اليوم وقعت سيارة عسكرية للعدو في كمين نصبه مجاهدونا في
الطريق العام على حدود محافظة لاناوا الجنوبية المتاخمة لمحافظة لاناو الشمالية،
وقتل ثلاثة من جنود العدو في السيارة وأصيب ثمانية منهم.
أما في مديرية بانيسيلان التي دمر الصليبيون ستة من قراها الإسلامية
وحرقوها بعد أن سرقوا ونهبوا جميع أموال المسلمين فيها، فكانت المعارك فيها
مستمرة منذ أن ارتكب الصليبيون جرائمهم البشعة وحتى الآن، وقد تمركز جنود
راموس مع المليشيات الصليبية في مركز المديرية وحاصرها مجاهدونا ويقومون
بغارات مستمرة على هؤلاء المجرمين.
وفي بلدية أليوسان المجاورة بدأت المعارك أمس السبت 29 جمادى الأولى
1414هـ بين مجاهدينا وبين جنود العدو، وتستمر المعركة حتى الآن وجنود العدو
يستخدمون خلال هذه المعارك المدرعات والمصفحات والمدافع الثقيلة كما
يستخدمون الطائرات العمودية (الهليكوبتر) والطائرات الهجومية ضد المسلمين
المدنيين العزل وضد مجاهدينا الذين لا يملكون سوى الأسلحة الخفيفة، ولكن مع
الفارق الكبير جداً في الإمكانيات فإن مجاهدينا يقفون بوجه هؤلاء المعتدين
الظالمين..
وعموما قد اندلع لهيب المعارك في أنحاء بلاد مورو المسلمة، ففي محافظة
باسيلان التي دمر جنود العدو الصليبي عدداً كبيراً من قراها وأحرقواها منذ شهور
وفعلوا فيها مثل ما فعلوا اليوم في مديرية بانيسيلان في تلك المحافظة الجزيرة التي
تضم جزيرة كاملة تستمر المعارك أيضا؛ وفي معاركهم قبل أمس (الجمعة 28
جمادى الأولى 1414 هـ) قتل سبعة من جنود العدو وأصيب عدد منهم، وكانت هناك معارك في هذه المنطقة لم تذكر في بياناتها السابقة لعدم وصول التقارير الميدانية إلينا إلا في هذه اللحظة، ولا تتسع المجال لذكر تفاصيلها.
ويكفي أن نقول إن مجاهدي جبهة تحرير مورو الإسلامية في جميع أنحاء
بلاد مورو قد عاهدوا الله على أن يمضوا قدماً في جهادهم في سبيل الله، إما أن
يمكن الله المؤمنين ليقيموا دولة الإسلام في أرض مورو وإما أن يستشهدوا فينعموا
بنعيم جنات الخلد إن شاء الله.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(71/59)
المسلمون والعالم
العالم الإسلامي في مرآة الصحافة
أخي القاريء:
في هذه الزاوية سنحاول جاهدين اختيار مقتطفات من بعض التقارير والأنباء
واللقطات في بعض الصحف السيارة، مما له مساس بواقع أمتنا الإسلامية مع العلم
أن ما يُطرح في هذه الزاوية لا يعني بالضروة الموافقة على ما جاء فيه بل قد يقصد
منه بيان الرأي الآخر.
1- الجزائر: الإسلاميون يكسبون جولة في حرب قد تكون طويلة:
لا أحد يتجرأ على التلفّظ بالعبارة لأنها تبعث الرعب في قلوب الناس جميعاً
في الجزائر، وتشكل بداية انهيارات خطيرة على مستوى معظم بلدان المغرب
العربي: إنها «الحرب الأهلية بين العرب والبربر» أو «بين العرب
والفرانكفونيين» وقد لاحت معالمها الأولى، بل بدأت ترتسم، وكأن الجزائر
الموزعة ثقافياً بين إطلالة على الغرب بربرية في معظمها (ومفعولة في الحقبة
الاستعمارية) وبين جذور عربية إسلامية تعود إلى بداية القرن الأول الهجري.
هذه الحرب يشير إليها الناس العاديون حالياً بنوع من الهلع ويساهم فيها
نمطان من التطرف: إسلامي في الشارع وفرانكفوني غربي في موقع القرار
بالسلطة؛ وإذا كان للمتخوفين من «حكم أصولي» في الجزائر مبرراتهم الوجيهة
فذلك لا يلغي واقعاً آخر: أن الداعين إلى حرب حتى النهاية ضد العروبيين
والإسلاميين هم في معظمهم رموز بربرية في مواقع الثقافة والسياسة والمؤسسة
العسكرية معاً، والخاسر في هذه الأحوال هم المعتدلون الذين يتلقون حالياً مزيداً من
التهميش سواء في أوساط الإسلاميين أو في الحكم، وكلما تراجع الاعتدال تقدمت
الحرب الأهلية.
وفي هذه الأجواء نرى تصعيداً سياسياً بربرياً ضد كل ما هو «إسلامي»
وخصوصاً عبر «التجمع الجزائري من أجل الثقافة» (بربري) ، وعلى رأسه
أبرز المدافعين عن الفرانكفونية سعيد سعدي، الذي لا يقبل كل من يناضل دينياً من
أجل السلطة، ويأبى القيام بأي عمل مشترك مع «حماس» موضحاً أنه «لا
يعترف بعباس مدني أو علي بلحاج ولا بنحناح أو جاب الله» ، ولا شك أن هذا
الكلام ينسجم مع قناعات مبدئية علمانية غير أنه لا يساهم في تسوية سياسة تنقذ
البلاد من أتون الحرب الأهلية.
وأخيراً يختم الكاتب مقاله بقوله:
وحصيلة ذلك كله، كما يراها تقرير أمريكي شبه رسمي «تدهور الأوضاع
في الجزائر، حتى بضع سنوات مقبلة، مع تغيير دوري للرؤساء إذا لم يسبق ذلك
انقلاب عسكري صريح أو انتفاضة شعبية كاسحة في وقت قريب وربما في خريف
هذا العام» ..
إنه «خريف غضب» من نوع آخر في الجزائر، وآفاق الغلبة فيه لا تبدو
حتى الآن في صالح الحكم.
(الأسبوع العربي، العدد 1777، 17 جمادى الأولى 1414هـ)
2 -الجزائر: آخر الدواء.. الانقلاب العسكري:
«إن العارفين بخفايا الأمور، وملابسات الوضع وتعقيداته، يؤكدون أن
خيار الانقلاب العسكري هو أوفر حظاً من الحوار، ويدعم هؤلاء نظريتهم بعدة
حجج منطقية وواقعية:
أولا: إن فريق المتشددين بين الجنرالات بقيادة محمد العماري مازال يرفض
رفضاً باتاً التحاور مع الاسلاميين المتطرفين، ويعتبر ذلك خطراً على الجزائر
ومستقبلها.
ثانياً: إن دخول السلطة في عملية الحوار مع» الإنقاذ «اليوم يعني اعترافاً
بتراجع الأولى وانتصار الأخيرة، ويبدو من المؤكد أن» الإنقاذيين «سيستغلون
هذه المعادلة للمطالبة بتنازلات أقلها العودة إلى صناديق الاقتراع، والانتخابات
التشريعية الأخيرة، أي تسليم السلطة للإسلاميين.
ثالثا: ولعله العامل الأهم، أن الإيحاء بقبول انتصار الإسلاميين في الجزائر
يحمل مخاطر اقليمية مغاربية وعربية خطيرة جداً، ويهدد بانتقال العدوى إلى الدول
التي تشهد تطرفاً أصولياً! ! ، ويؤدي إلى زعزعة الاستقرار في أكثر من بلد
عربي، وهو أمر غير مقبول لا مغاربياً ولا عربياً ولا دولياً.
وأضاف الكاتب في معرض حديثه عن المرحلة التي تلت تسلم الجنرال محمد
العماري رئاسة الأركان:
» ويلاحظ أن عمليات الحكم بالإعدام قد ازدادت مع تسلم العماري مهامه
وكذلك تميزت عمليات مكافحة الإرهاب تصعيداً كبيرا حيث كثرت عمليات التمشيط
والمطاردات الدموية للإسلاميين المسلحين، ولجأت قوات الأمن إلى استخدام
الطائرات، وقنابل النابالم في قصفها لمعاقلهم في الأحراش والغابات وأكثر من ذلك
تؤكد المعلومات أن الجنرال العماري أمر بإنشاء (سرايا الموت) وهي وحدات
«كوماندوز» داخل جهاز مكافحة الإرهاب، تقوم بإعدامات جماعية وتقف وراء العثور على جثث إسلاميين في اليوم التالي لأي هجوم أو كمين يقوم به المتطرفون ضد رجال الأمن وفي المكان نفسه، وعلى الصعيد السياسي تمكن العماري من تأجيج الصراع بين المجلس الأعلى للدولة والحكومة وبالتحديد بين على كافي المؤيد للحوار ورضا مالك الداعي للحسم العسكري.
ويختتم الكاتب مقاله بقوله:
«فإذا نجح العماري في حسمه العسكري قبل نهاية ولاية المجلس الأعلى
يكون قد أنقذ البلاد من الخطر الإسلامي! ، وإذا فشل يجري اللجوء إلى خالد نزار
كرجل الحوار القوي، ولكن مفاجأة الساعات الأخيرة قد تلغي هذا الاتفاق
» الجنتلمان «بين الجنرالات، وتحسم الوضع لصالح الفريق الانقلابي الذي لا يجد في الحوار سوى تسمية بديلة للهزيمة والتراجع أمام الإسلاميين.
(الوطن العربي عدد 872-19/11/1993م)
3- حقاً إن سياستهم منافقة:
تبذل الولايات المتحدة الأمريكية جهوداً جبارة منذ سنوات طويلة؛ للحد من
تسليح كافة دول هذه المنطقة من العالم سواء أكانت عربية أو إسلامية وتمارس
وحلفاؤها الأوروبيون ضغوطاًَ لا تعرف الكلل على كل الدول التي تورد السلاح لهذه
المنطقة خاصة روسيا والصين وكوريا الشمالية وبعض دول أمريكا اللاتينية،
للمشاركة معها في الحد من تسليح دول المنطقة خاصة الأسلحة المتقدمة كالصواريخ
بعيدة المدى.
كذلك تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية كل ثقلها لإقناع دول كالباكستان
للتخلي عن برنامجها النووي، وإلا عاقبتها بإيقاف كافة أصناف المساعدات
العسكرية أو الاقتصادية، كما تهدد بمعاقبة كل من يساعد باكستان في برنامجها
النووي.
ومن وراء ذلك كله منطق أمريكي مقبول هو أن الحد من التسلح، وإيقاف
السباق نحو إنتاج أسلحة الدمار الشامل هو أنجع سبيل لإقرار السلام العالمي.
لكن هذا المنطق الأمريكي ينقلب بالنسبة لإسرائيل وبكل أسف رأساً على
عقب، إذ أن إطلاق كل قدرات إسرائيل نحو التسلح ومضاعفة إمكانياتها لإنتاج
أسلحة الدمار الشامل، والسماح لها بالسوبر كمبيوتر، إنما يتم بدعوى تدعيم
السلام؟ !
يقول ميلهولين مدير معهد مشروع ويسكونسن للحد من الأسلحة النووية في
واشنطن: (إن بيع إسرائيل هذا النوع من التكنولوجيا المتطورة يجعل من جهود
واشنطن لإزالة أسلحة الدمار الشامل من الشرق الأوسط والعالم عملية أصعب، إن
ذلك يدعم الجدل بأن سياستنا منافقة، وإننا انتقائيون في دعم عملية منع انتشار
الأسلحة، فانتشار الأسلحة جائز عبر أصدقائنا، وطالما نحن راضون عن الذين
يقومون بذالك) [الحياة 14/11/93] .
ومضى السيد ميلهولين في تصريحاته فاعتبر أن إعطاء إسرائيل السوبر
كمبيوتر سيضعف قدرة واشنطن على إقناع دول مثل باكستان بالتخلي عن برنامجها
النووي، ويعقد جهود إقناع الدول المنتجة لهذه الأسلحة مثل روسيا والصين ودول
أوروبا بعدم بيع ما تنتجه، وقال: (إذا كنا نستطيع أن نبيع لإسرائيل، فلماذا لا
تبيع الدول الأخرى إلى أصدقائها؟ !)
(محمد صلاح الدين) (المدينة 9/6/1414 هـ)(71/66)
متابعات
لقطات إخبارية
1- ماذا يعني السلام؟
أ - وساطات أمريكية /إسرائيلية بين الدول العربية!
دينيس روس منسق شؤون الشرق الأوسط في وزرارة الخارجية الأمريكية
تحدث في مؤتمر للصهاينة الأمريكيين في واشنطن عن وساطات لحل الخلافات بين
الدول العربية، وقال: «هناك وساطة بين الدول العربية وإسرائيل لكن لا يجب
أن يفاجأ أحد إذا بدأت وساطات بين الدول العربية» ! .
وقال روس: «بعد 13 سبتمبر (أيلول) يوم التوقيع على الاتفاقية
الإسرائيلية/ الفلسطينية، تغيرت كل المنطقة، فالشرق الأوسط كما كنا نعرفه انتهى، وبدأ شرق أوسط جديد» .
وأشار روس إلى احتمال إجراء وساطات أمريكية وربما إسرائيلية، أو
لمنظمات أمريكية يهودية: أولاً لرفع المقاطعة الاقتصادية العربية عن إسرائيل
وثانياً «للتنسيق» بين الدول العربية لإنهاء خلافاتها بما يخدم «الظروف النفسية
الجديدة» .
المجلة 21/11/1993 م، عدد 719
ب- ما نراه هو ليس سوى مقدمة لموجة تتمثل في قيام الدول العربية ببناء
تحالفات بينها وبين إسرائيل تستخدمها تلك الدول في صراعاتها وخلافاتها التقليدية
المعاصرة بين بعضها البعض، كما أن الكثير من الدول العربية تدرك أن مفتاحها
إلى واشنطن، موجود في إسرائيل وبالتالي عليها أن تحسن علاقاتها مع إسرائيل ما
أمكن «.
روبرت ستالوف
من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
الوطن العربي، 19/11/1993 م
ج- لكن احذر فإن..
25% سكان إسرائيل مرضى نفسانيون، وذلك وفقاً لأحدث تقرير صدر عن
وزارة الصحة الإسرائيلية.. التقرير ذكر أيضاً أن 12 % من الأطفال أيضاً
مصابون بأمراض نفسية.
(عن جريدة يدعوت أحرونوت الإسرائيلية)
روز اليوسف، عدد 3414، 1/6/114 هـ
2- روسيا من جديد:
أفادت وكالة» فرانس برس «أن وزير الدفاع البلغاري فالانتين ألكسندروف
نقل أمس إلى البرلمان تحذيراً روسياً من خطر بروز أصولية إسلامية في البلقان» .
الحياة، السبت 20/11/1993 م
3- وشهد شاهد:
نقلت الحياة من مصدر قريب من وزارة الخارجية الجزائرية أن سيد أحمد
غزالي رئيس الوزراء الجزائري السابق وسفير الجزائر في فرنسا سيعود إلى بلاده
في غضون عشرة أيام، موضحاً أن استدعاءه كان بطلب من قيادة الجيش التي يبدو
أنها انزعجت من تصريحات نسبتها إليه الصحافة الفرنسية وذكر فيها أن90%من
الشعب ليسوا مع السلطة الجزائرية.
الحياة، السبت 7/6/1414 هـ
4- قرارات دولية على الورق:
حتى عام 1992 م أصدر مجلس الأمن الدولي 69 قراراً ضد إسرائيل لم ينفذ
منها قرار واحد، وخلال 18 شهراً من أزمة البوسنة والهرسك أصدر مجلس الأمن
الدولي 63 قراراً دولياً لم ينفذ منها قرار واحد، ومنذ مأساة كشمير في عام 1947
م حتى الآن صدر في حق أهل كشمير 13 قراراً دولياً ضد الهند لم ينفذ منها قرار
واحد ... إنها مجرد قرارات على الورق حتى ولو كانت دولية..! !
الدعوة، 20/5/1414 هـ(71/71)
مراجعات
العقل العربي بين الواقع والأمل..
قراءة في فكر د/ محمد عابد الجابري
عبد العزيز بن محمد الوهيبي
هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض.. عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته،
ومفاهيمه، وتصوراته، ورُآه..؟ !
ثم لماذا لم تتطور أدوات المعرفة (مفاهيم، مناهج، رُؤى..) في الثقافة
العربية (الإسلامية) خلال نهضتها في «القرون الوسطى» إلى ما يجعلها قادرة
على إنجاز نهضة فكرية وعلمية مطردة التقدم، على غرار ما حدث في أوربا ابتداءً
من القرن الخامس عشر (الميلادي) .!
تلك هي الإشكالية التي شغلت ذهن المفكر المغربي د/ محمد عابد الجابري،
ودفعته إلى إصدار دراساته المتنوعة حول كثير من قضايا الفكر الإسلامي التي منها: «نحن والتراث» صدر عام 1980م و «الخطاب العربي المعاصر» صدر
عام 1982م و «نقد العقل العربي» الذي بدأ صدور أجزائه عام 1986م.
ولعل أهم هذه الدراسات وأكثرها ثراءً، الدراسة الأخيرة التي جاءت في ثلاثة
أجزاء، كان الأول منها عن «تكوين العقل العربي» والجزء الثاني عن «بنية
العقل العربي» والجزء الثالث عن «العقل السياسي» .
والجزء الأول والثاني، أكثر أهمية في نظري من الجزء الثالث الذي درس
نشأة الدولة في الإسلام، وتطورها ... وحاول المؤلف فيه إبراز ما أسماه المحددات
التي بقيت تحكم هذه الدولة في مختلف مراحل مسيرتها الطويلة هذه المحددات
حصرها المؤلف من وجهة نظره في ثلاثة جوانب لا تتجاوزها وهي: العقيدة،
والقبيلة، والغنيمة ... وأحسب أنه لايزال في هذا الموضوع العقل السياسي زيادة
لمستزيد ولم يكن تناول المؤلف لهذا الموضوع كافياً ولا شافياً.
لاحظ الجابري، عندما درس «بنية العقل العربي» أن التصنيف الشائع
القديم للعلوم الإسلامية بتقسيمها إلى علوم نقلية وأخرى عقلية، أو علوم دين وعلوم
لغة، أو علوم العرب وعلوم العجم، لاحظ أن هذه التصنيفات لا تقوم إلا على
اعتبار المظاهر الخارجية وحدها، والتي تذكرنا بالتصنيف القديم للحيوانات حسب
مظاهرها الخارجية وحدها: إلى حيوانات برية ومائية وبرمائية، لكننا بحاجة إلى
تصنيف جديد للعلوم الإسلامية كما ظهر التصنيف الجديد للحيوانات إلى فقريات ولا
فقريات؛ الأمر الذي فتح أمام علم البيولوجيا آفاقا جديدة خصبة وعميقةً.
لقد كان عمل الجابري في هذا البحث «نقد العقل العربي» محاولة للكشف
عن هذا التصنيف الجديد، محاولة لدراسة البنية الداخلية للفكر الإسلامي، وإعادة
التصنيف على أساس لا يؤخذ فيه بعين الاعتبار سوى البنية الداخلية للمعرفة:
آلياتها ووسائلها ومفاهيمها الأساسية.
من هذا المنطلق جاء التقسيم الجديد عند المؤلف للعلوم الإسلامية وتيارات
التفكير الإسلامي إلى ثلاثة علوم أساسية هي:
علوم البيان: وتشمل الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلوم اللغة.
علوم البرهان: وتشمل الفلسفة وخصوصاً فلسفة أرسطو!
علوم العرفان: وتشمل التشيع والتصوف والفلسفة الإشراقية.
كان الإمام الشافعي هو المؤسس للمنهج في العلوم البيانية، وكتابه «الرسالة» يعتبر «قواعد المنهج» للفكر الإسلامي، كما وضع ديكارت «قواعد المنهج»
للفكر الفرنسي والأوروبي الحديث، وقد لخص رحمه الله تلك القواعد بقوله:
«ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم:
الخبر في الكتاب أو السنة، أو الإجماع، أو القياس (الرسالة: 39) فجهة العلم بناء
على هذا النص محصورة في أحد سبيلين: النص (من كتاب أو سنة أو إجماع) أو
القياس (الذي هو إلحاق فرع بأصل لاتحادهما في العلة) فقياس التمثيل إذن هو
الآلية المفضلة عند الفقهاء، وهو الأسلوب الذي يحكم منهجهم في التفكير.. وعن
الفقهاء انتقل المنهج إلى المتكلمين وعلوم النحو والبلاغة مُشَكّلاً بذلك مدرسة
البيانيين.
أما علوم العرفان وهي العلوم التي يقدم فيها العقل استقالته فتبدأ مع بداية
الترجمة، عندما أمر خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85 هـ) بترجمة كتب الكيمياء،
والتنجيم، وكتب الطب اليونانية والقبطية، تلك الكتب التي تقدم رؤية هرمسية
غنوصية للكون والإنسان، ثم كان لجابر بن حيان دور في نشر هذه النظرة
الهرمسية، وشاركه في مثل هذا الدور الطبيب الرازي، أما في المجال العقائدي فقد
كان الشيعة أول من تهرمس في الإسلام، ولم تسلم الجهمية هي الأخرى من هذا
التلوث وكذا الصوفية، ثم جاء بعد ذلك دور التيارات الباطنية ممثلة في إخوان
الصفا وفلسفة ابن سينا، التي تزعمت التيارات الباطنية الإشراقية، ثم غدت بعد
ذلك طابعاً عاماً لكثير من التيارات المنحرفة التي كان مدار التفكير فيها والمنهج
المفضل للوصول إلى المعرفة قائماً على أساس الكشف والعرفان والإشراق الذوقي
الباطني، وبخلاف كثير من الباحثين يرى المؤلف أن هذا الاتجاه لم يكن رد فعل
ضد تشدد الفقهاء، ولا ضد جفاف الاتجاه العقلي عند المتكلمين، كلا، لقد ظهر هذا
النظام قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء، ونظريات المتكلمين إلى ما يستوجب قيام
رد فعل من هذا القبيل، لقد كان هذا التيار نتيجة لمحاولة عناصر معادية للفكر
الإسلامي وللدولة الإسلامية قادته عناصر من الزنادقة وأتباع الديانات الوثنية؛ من
أجل تقويض البناء الفكري والسياسي للدولة الإسلامية.
هذا عن البيان والعرفان ... أما عن البرهان فيذكر المؤلف تبعاً لما يراه
المستشرق كارل بروكلمان أن المأمون (198-218 هـ) إنما أمر بترجمة الفلسفة اليونانية لمواجهة العرفان المانوي الغنوصي الذي اعتمده الشيعة والزنادقة لمواجهة الدولة الإسلامية، لقد كان الكندي (185-252 هـ) هو أول فيلسوف عربي حيث أكد على أن المعرفة إنما تكون حسية أو عقلية أو إلهية أداتها الرسل المبلغة عن الله، وهو بذلك يرفض العرفان الشيعي الصوفي، ثم جاء بعده الفارابي (260- 339 هـ) الذي حاول» الجمع بين الحكيمين «، أرسطو وأفلاطون محاولا
» التوفيق «بين تيارت الفلسفة اليونانية المختلفة، متوصلاً بذلك إلى أن العرفان إنما هو ثمرة للبرهان.
لقد بقيت مدرسة بغداد كما يرى المؤلف من المأمون وحتى الخليفة القادر
(381-22 هـ) مركزاً علمياً مخلصاً لاستراتيجية المأمون الثقافية القائمة على
الارتكاز على أرسطو، ومنطقه وعلومه في الحرب ضد الإسماعيلية العرفانية
الهرمسية، ثم تسلم بعد ذلك ابن رشد الراية عنهم، وهو المفكر الذي احتفظ بصورة
فلسفة أرسطو نقية كما جاءت عنه، رافضاً إضافات الفارابي وابن سينا إلى هذه
الفلسفة.
هكذا تشكلت الدوائر الثلاث البيانية والعرفانية والبرهانية في الفكر الإسلامي، لكنها لم تدم مستقلة بعضها عن بعض طوال الوقت، لقد حصل تدريجيا تداخل
بين هذه التيارات ... فلقد حاول ابن سينا تأسيس» العرفان «على» البرهان «،
وذلك بالبحث في الفلسفة عن أسانيد للرؤية الهرمسية للكون والإنسان وعلاقتهما
بالإله.
كما حاول الغزالي تأسيس» البيان «على» العرفان «، وذلك بالتشكيك في
كل قيمة للمعرفة الحسية والتجريبية والعقلية، متوصلاً بذلك إلى تفضيل طريقة
» الكشف «والإلهام باعتبارها طريق اليقين الوحيد.
بينما حاول ابن حزم تأسيس» البيان «على» البرهان «وذلك برفض
قياس الفقهاء التمثيلي، ومحاولة اعتماد البرهان المنطقي الأرسطي المبني على
مقدمتين ينتج عنهما نتيجة ضرورية يقينية، وتابعه على ذلك الشاطبي بعض
المتابعة في محاولته لتأسيس فقه المقاصد.
أما ابن رشد، فقد سن محاولات الخلط بين هذه الحقول، ورأى أن الشريعة
صنو الحكمة وأختها الرضيعة، وأن لا سبيل للبرهنة من أحدهما على الأخرى ...
وهي نتيجة توصل إليها أبو سليمان المنطقي من قبل، لكن كان لابن رشد فضل
بلورتها وتوضيحها.
المؤسف كما يرى الجابري أن محاولة ابن رشد جاءت متأخرة فلم تلق أُذناً
صاغية ممن جاء بعده من المفكرين، بل كان النصر» للعقل المستقيل «في
الحركة الصوفية والشيعية، كما كان النصر حليفاً لاختلاط الأنهر عند المتكلمين
الذي ظهر بظهور الرازي حيث قام تلميذه (الإيجي) بعد ذلك بوضع الصورة النهائية
لعلم الكلام في كتابه» المواقف «حيث يختلط فيه» البيان «بـ» البرهان «بـ
» العرفان «وبذلك ظهرت أزمة الأسس في الفكر الإسلامي، وتشفي الحقيقة ثم
ساد بعد ذلك الجمود والتقليد، وتحريم الاجتهاد والنظر العقلي.
***
هذا عرض سريع لموضوع كتابي» بنية العقل العربي «و» تكوين العقل
العربي «نأتي بعده إلى سؤال مهم: تُرَى ما هي المدرسة التي يتبناها الجابري بين
هذه المدارس المختلفة، والتي يبشر بها ويدعو إليها؟ ! ثم ما هو المقياس الذي
اعتمده في قبول أو رفض هذه التيارات، وما هي الخلفيات الفكرية والاعتقادية التي
كانت تحكم نظرته نحو مختلف المدارس الفكرية..؟ !
قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة، لابد من الإشارة إلى ظاهرة لا
تخفى على القارئ لمختلف الإصدارات التي كتبها الجابري؛ ألا وهي رغبته الدائمة
في عدم الكشف عن توجهاته الفكرية بشكل سافر ... اتضح هذا جلياً في حواره مع
» حسن حنفي «في كتاب» حوار المشرق والمغرب «حيث سود صفحات في
بيان رغبة القراء في كشف القناع عن الخلفيات الأيديولوجية التي تحكم من يقرؤن
له، ومع ذلك فلم يحدد توجهاته بوضوح ... ! !
الذي يظهر لي أن حرص الكاتب على عدم إظهار توجهه الفكري يرجع إلى
أحد سببين هما:
*إما أنه لايزال في مرحلة التأمل والبحث والنظر، فلم يحدد بعد توجهاته
الفكرية.
*أو أن الباحث يرغب في نشر إنتاجه الفكري بين مختلف الأوساط دون
عوائق تصنيفية تلحق به الضرر عند من لا يوافق على توجهه الفكري.
على أي حال، فإنه يمكن من خلال التتبع لمختلف دراساته تَبَيّنَ خطوط
رئيسة في خياراته الفكرية نشير إلى شيء منها ها هنا:
بادئ ذي بدء، لا يخفي الكاتب انحيازه للعقلانية حيث يقول:
» ... نحن نصدر عن موقف نقدي ينشد التغيير، من التحرك من موقع
أيديولوجي واعٍ، أي لا بد من الصدور عن موقف تاريخاني (؟) ، موقف يطمح
ليس فقط في اكتساب معرفة صحيحة بما كان، بل أيضاً إلى المساهمة في صنع ما
يتبقى أن يكون، وهو بالنسبة للمجال الذي نتحرك فيه: الدفع بالفكر العربي في
اتجاه العقلنة، اتجاه تصفية الحساب مع ركام ولا نقول رواسب اللامعقول في بنيته.
(تكوين العقل العربي: ص 52) ... «لأن موضوعنا هو العقل، ولأن
قضيتنا التي ننحاز لها هي العقلانية» (التكوين: ص 7) .
تبني العقلانية، والدفاع عنها، والتنويه برموزها كان هدف الجابري الذي لا
يخفيه في عامة دراساته التي أصدرها ... لكن العقلانية بأي معنى..؟ !
انه لا يوجد صراحة من يعلن الحرب على العقل والعقلانية [1] لكن
الاختلاف يظهر عندما يتحدد المقصود بالعقلانية ... فما هي يا ترى العقلانية التي
يدعو إليها الباحث، وينافح عنها..؟
من خلال الرموز الذين دافع عنهم الجابري يمكن تلمس ملامح تلك العقلانية،
وسماتها الأساسية.
لقد عرض الباحث فكر أرسطو في «بنية العقل العربي» (ص 384) دون
أن يتحفظ على شيء مما جاء فيه، كما اعتبر الفارابي الذي يسمى «المعلم الثاني» اعتبره هو الذي أعاد تأسيس العقلانية في الإسلام؛ نظراً لكونه أول من درس
المنطق الصوري كاملاً، وقد تغافل الباحث عن الجوانب الغنوصية في فكره ولم
يعطها وزنها الذي تستحقه، نظراً لأنه كما يقول جعل «العرفان» ينتج عن
«البرهان» ، كما تبنى هجوم ابن حزم على القياس باعتباره منهجاً في البحث لا
يفضي إلى اليقين، واعتبر المنهجية الظاهرية الحزمية في الأصول أمتن من
منهجية البيانيين وأقوم، وكذا أعجب بمنهجية الشاطبي في الموافقات، حيث بنى
الأصول على المقاصد التي تعرف باستقراء أدلة الشرع ...
لكن الشخصية الإسلامية التي تحتل قيمة لا منازع لها عند الجابري هي
شخصية ابن رشد ... إن الخطاب الرشدي يبنى كله على النظر إلى الدين والفلسفة
كبناءين مستقلين، يجب أن يبحث عن الصدق فيهما داخل كل منهما وليس خارجه، والصدق المطلوب هو صدق الاستدلال، وليس صدق المقدمات، ذلك أن
المقدمات في الدين كما في الفلسفة، أصول موضوعة يجب التسليم بها دون برهان: فإذا كانت الصنائع البرهانية، في مبادئها المصادرات والأصول الموضوعة، فكم
بالحري أن يكون ذلك في الشرائع المأخوذة من الوحي والعقل. (تهافت التهافت 2/
869) ، ولذلك «فإن الحكماء من الفلاسفة لا يجوز عندهم التكلم ولا الجدال في
مبادئ الشرائع، وذلك أنه لما كانت لكل صناعة مبادئ، وواجب على الناظر في
تلك الصناعة أن يسلم لمبادئها، ولا يتعرض لها بنفي ولا إبطال؛ كانت الصناعة
العملية الشرعية أحرى بذلك ... » (التهافت 2/791) .
علامَ تدل هذه الكلمات؟ ! اعتبار الشريعة نسقاً مغلقاً لا يمكن الاستدلال عليه
من خارجه؛ ألا يعني هذا أن الدين تسليم دون استدلال؟ ! وإذا صح هذا فكيف
يمكن التمييز بين الدين الصحيح والزائف؟ ! ألا تحمل هذه الكلمات بذوراً علمانية
خطيرة؟ !
يعلق الجابري على منهج ابن رشد بقوله: «كانت الرشدية قادرة على طرق
آفاق جديدة تماماً، وهذا ما حدث بالفعل، ولكن في أوروبا حيث انتقلت وليس في
العالم العربي حيث اختنقت في مهدها، ولم يتردد لصيحتها الأولى صيحة الميلاد
أي صدى إلى اليوم..» بنية العقل العربي: ص 323) أي صدى تردد في أوروبا، إنه الصدى الذي تبنى العلمانية منهاجاً، وجعل من الدين مواضعات اجتماعية
وأخلاقية خاصة، فمن تبنى العلمانية منهاجاً وجعل من الدين مواضعات اجتماعية
وأخلاقية خاصة، فمن شاء أن يلتزم بها فله ذلك ومن لم يشأ فلا جناح عليه! ! أما
أن يتدخل الدين في صياغة المنهج السياسي أو الاقتصادي، أو العلاقات الخارجية،
فكلا، ليس ذلك للدين وإنما هو للعقل البشري المجرد..! !
هل يريد الجابري هذه النتيجة..؟ ! من العدل أن نقول إنه لم يصرح بهذا
في هذه الكتب ... لكن القارئ بسوء نية يمكنه أن يفهم ذلك. **
ملاحظات ومراجعات:
رغم الجهد الضخم الذي بذله الجابري في إعداد هذا المشروع الفكري مستفيداً
في ذلك ممن سبقه من الباحثين، مسلمين كانوا أو مستشرقين أو ماركسيين.. إلخ؛
فإن المرء لا يسعه إلا أن يتبنى موقفاً مغايراً لما تبناه المؤلف في كثير من المواضع
في تلك الكتابات، نقف في هذا العرض عند بعض منها:
*من الملفت للنظر في هذا المشروع النقدي، أنه في غمرة حماسته للفلسفة
الأرسطية، قد غض الطرف عن النقد الجوهري المتين الموجه قديماً وحديثاً لهذه
الفلسفة، سواء أكان ذلك في المنطق الذي يحكمها أو في النتائج والرؤية التي تنتج
عنها، حتى أن العلم الحديث لم يتمكن من تحقيق فتوحاته العظيمة حتى تحرر من
أسرها، والمؤلف خبير بالمنهج العلمي الحديث في البحث والتفكير، حيث وضع
فيه كتاباً في جزأين تحت عنوان «فلسفة العلوم» ، ظهر له من خلالهما البون
الشاسع بين التفكير العلمي الحديث والمنهج الأرسطي القاصر فلماذا يا تُرَى جعل
الباحث المنهج الأرسطي معياراً للحكم على فكر هذا العالم أو ذاك بالتقدم أو التخلف، بالعقلانية أو عدمها؟ !
حقيقةً.. لا يظهر لي سبب واضح وراء هذه الحماسة والاندفاع.
*رغم أن الجابري لم يبد عداءً نحو منهج البيانيين (فقهاء وأصوليين ولغويين)
فهو في ذات الوقت لم يحدد موقفاً واضحاً من القضايا التي أثاروها ولم يبد انحيازاً
مع تلك الطروحات أو ضدها، وهو موقف غريب غير مبرر. ومن المسائل ذات
الدلالة في هذا الموضوع أن ابن تيمية رغم مساهمته الثرية والعميقة في كل القضايا
التي أثارها المؤلف في كتاباته، لم يلق أي اهتمام يستحق الذكر مقارنةً بغيره من
الشخصيات التي برزت في علم الأصول أو علم الكلام أو الفلسفة ... إلخ.
ورغم عدم تحيزنا للأشخاص، فإنه يمكن اعتبار هذه الظاهرة ذات دلالة لا
تخفى، حيث أن ابن تيمية يشكل ربما الصورة الأخرى لابن رشد ... فرغم
اطلاعه الواسع على الفلسفة بمختلف تياراتها، ودخوله في جدل عميق مع مختلف
طروحاتها، إلا أنه ظل على إيمان عميق لا يتزعزع بأن العقل لا يعارض النقل
ولا يُضادّه، وأن أكمل مناهج التفكير العقلي، إنما هي تلك التي دعى إليها النقل
وحث عليها.
فهو بخلاف ابن رشد يؤمن بأن مبادئ الشرائع يمكن فحصها والاستدلال لها
بالعقل، كما أن مقدمات الفلسفة هي الأخرى تخضع للفحص العقلي والنقلي؛ وذلك
هو الموقف العلمي الصحيح، وإلا كيف لمسلم أن يتورط بالقول بأزلية العالم؟ ،
وذلك مخالف لمسلمة قطعية من مسلمات الدين وهي الاعتقاد بأن هذا العالم مخلوق
بعد أن لم يكن! !
كيف لمفكر يحترم نفسه أن يسلم بالرؤية الفلكية الأرسطية، ويبقى في ذات
الوقت محترماً للنص الشرعي مؤمناً بما فيه، بحجة أن هذه مقدمة فلسفية وتلك
مقدمة كلامية شرعية؟ !
أليس في ذلك تغييباً مقصوداً للوعي؟ ! وعودة لا تخفى إلى التناقض؟ !
*أشار المؤلف إلى أن منهجية البيانيين المفضلة هي الاستدلال بالشاهد على
الغائب، وهي دعوى غير مسلم بها، فلقد كان للأصوليين المتقدمين كلام في
الاستحسان، والمصالح، والاستقراء، والاستنباط، وهي طرائق في الفهم
والاستدلال مغايرة لقياس الشاهد على الغائب.
كما أن للعلماء المسلمين في مجال العلوم الطبيعية، منهجاً تجريبيا متقدماً حتى
إن المسلمين يعتبرون بحق وبشهادة الباحثين الغربيين أنفسهم سبّاقين إلى اكتشاف
المنهج التجريبي، وعنهم أخذته أوروبا في عصر النهضة، وهي قضية لم يعطها
الكاتب حقها من الاهتمام والتقدير الكافيين.
هذه مسألة ... والمسألة الأخرى في هذا الصدد حول قيمة المنهج في الوصول
إلى الحقيقة ... إن التقدم العلمي الهائل الذي تشهده العلوم التجريبية المعاصرة،
ليس في الحقيقة ناتجاً عن تقدم المنهج إطلاقاً ... إنما هو في الواقع ناتج عن
الإمكانات الهائلة التي أودعها الله في هذا الكون ... إنها عظمة الله تتبدى في عظمة
خلقه، وليس ذلك ناجماً عن عظمة المناهج البشرية إن العلم يكتشف الطبيعة
(الخلق) وقوانينها (السنن) ولا يخلقها من عدم ... بل إن لبعض علماء الفيزياء
المرموقين المعاصرين وهو بول ديفيس البريطاني كتاباً سماه «ضد الطريقة -
Against Method» يذكر فيه أن المنهج لم يكن في يوم من الأيام رائداً للبحث
العلمي، بل كان دوماً متخلفاً وتابعاً للبحث العلمي! !
فالدور الضخم الذي يعطيه الجابري للمنهج يحتاج إلى مراجعة وتدقيق.
*في حديث المؤلف عن مرحلة التدوين في العصر العباسي، أشار إلى ما
كتبه ابن المقفع في رسالته التي سماها «رسالة الصحابة» حيث يرى فيها كما
يرى محمد أركون إنها ذات نفس علماني واضح ... ! وحجتهم الوحيدة على ذلك:
هو أنه لم يستشهد في هذه الرسالة بالقرآن، ولا بالحديث ولا بأي عنصر آخر من
الموروث الإسلامي..! والحقيقة أن القارئ لهذه الرسالة لا يجد ذلك النفس العلماني
المزعوم، وإنما غرض ابن المقفع الدعوة لتنظيم الدولة، وتوحيد القضاء، منعاً
للاختلاط والاضطراب، وذلك باستخدام سلطة الخليفة دون أي دعوة ظاهرة أو
خفية إلى تنحية الشريعة، أو تقديم بديل عنها، وهو مطلب لا يوجد أي غبار عليه
، ولا يعتبر مطعناً في صاحبه! .
*يركز الجابري في دراساته المختلفة على البعد العربي لمناهج التفكير
والمدارس التي يحلل إنتاجها، وهو بعد ليس له مبرر، ذلك أن هذا التراث شاركت
في بنائه وتكوينه عقول مختلفة من شتى الشعوب الإسلامية، ولم ينفرد العرب في
تكوينه ولا تدوينه، وإنما هو ثمرة لتضافر جهود آلاف من الباحثين المسلمين في
شتى التخصصات، فلعل الكاتب خشي من سوء الفهم عند نقد العقل المسلم، إذ يفهم
بعضهم ذلك بأنه نقد «للمنهج الإسلامي» وليس لمناهج «المفكرين المسلمين»
والفرق بعيد بين الأمرين.
ورغم وجاهة هذا الاحتمال، فإنه لا يكفي مبرراً لإضفاء صفة «قومية»
على التراث الإسلامي، ويمكن تلافي مثل هذه المخاطر بالتنبيه عليها في مطلع أو
خاتمة مثل هذه الدراسة.
*وأخيراً ... رغم النجاح الواضح الذي حالف المؤلف في تعرية تيارات
الغنوص، والعرفان الرافضي والباطني والفلسفي والصوفي، وكذلك في الكشف
عن مناطق الضعف والخلل عند بعض التيارات الأخرى، إلا أنه في ذات الوقت لم
يبلور للقارئ الملامح النهائية للمشروع النهضوي المنشود الذي تتبناه هذه الدراسة
وتدعو إليه ... فظاهر أن المؤلف لا يقف موقف الموتور المعادي للموروث
الإسلامي، لكنه في ذات الوقت لم يبشر به، ويعتبره المخرج مما نعانيه من أزمة
على شتى الصُعُد..
إن الحلول التي قدمها المؤلف في نهاية كتابه عن العقل السياسي وهي:
«1- تحويل القبيلة: إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي: لأحزاب أو
نقابات ... الخ، وفتح الباب لقيام مجال سياسي حقيقي، تمارس فيه السياسة ويصل بين سلطة الحاكم وامتثال المحكوم.
2- تحويل الغنيمة: إلى اقتصاد ضريبة في إطار اقتصادي إقليمي جهدي
وفي إطار سوق عربية مشتركة تفسح المجال لقيام وحدة اقتصادية عربية تنموية.
3- تحويل العقيدة: إلى مجال يسمح بحرية التفكير وحق الاختلاف والتحرر
من سلطة الجماعة المغلقة والتحرر من سلطة عقل الطائفة والتعامل مع عقل
اجتهادي نقدي» (العقل السياسي: ص 37) .
هذه الحلول لا تمثل برنامجاً كافياً مبلوراً للخروج من أزمة التخلف والتبعية
والتشرذم ... ولذلك فإنني أدعو الباحث وغيره من الجادين في الرغبة بنهوض هذه
الأمة، ومحاولة استئناف مسيرتها القيادية لذاتها وللناس أدعوهم إلى مراجعة موقفهم
من الحل الإسلامي، واتخاذ موقف أكثر علمية من الموقف الهلامي الذي يتخذه كثير
منهم ... لابد لهم لكي يكونوا واقعيين مع أنفسهم أن ينحازوا للخيار الذي لا تقبل
الأمة عنه بديلاً ... ألا وهو رفع شعار الحل الإسلامي، والتبشير به والدعوة إليه
والسير الحثيث والفعلي لإنجازه ... [فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده
فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين] (المائدة: 52) ... [صبغة الله ومن
أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون] (البقرة: 138) ... [ملة أبيكم إبراهيم
هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء
على الناس] (الحج: 78) .
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) مما يؤسف له حقاً أن من بين المتمسكين بالنص في الإسلام من يتصور أن الإسلام ضد العقلانية، وأن مقتضى الوفاء للنص يعني الحرب والعداء للعقل، ولذلك يصفون المخالفين لهم بالعقلانيين، وهذا خطأ مركب، فعلماء السلف لم يكونوا يسمون أهل البدع إلا بأهل الأهواء لا أهل العقول، ولم يكونوا يحاربون العقل أبداً كيف والله تعالى يبين في كتابه الكريم أن هلاك الهالكين إنما كان بسبب ترك النص والعقل [وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير] ، وهذه العجالة لا تكفي لتوفية هذا الموضوع حقه.
(**) وفي رأينا أن ذلك الرأي ليس لسيء النية فقط وإنما يفهمه أيضاً حسن النية.
- البيان -.(71/74)
في دائرة الضوء
قراءة نقدية لمفهوم
(تصادم الحضارات)
د.أحمد محمد العيسى
مقدمة:
إن الحديث عن العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، يعتبر من أكثر
المواضيع التي احتلت حيزاً واسعاً في أدبيات الفكر الإسلامي الحديث، وذلك بسبب
أن تلك العلاقة قد أخذت بعداً جديداً منذ أن استيقظت بلاد المسلمين على صيحات
جنود نابليون الذين عادوا إلى الشرق عام 1798م، بعد انقضاء فترة ليست طويلة
حضارياً على نهاية الحملات الصليبية.
وقد أخذت العلاقة بعد تلك الحملة تتعقد كثيراً؛ لأن أهداف الحملة وما جاء
بعدها حتى انتهت بالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين قد تغيرت كثيراً عن أهداف
الحملات الصليبية التي كانت تهدف إلى «استعادة الأراضي المقدسة» من
المسلمين، لكن أهداف حملة نابليون، ثم الاستعمار من بعده نقل الصراع من
صراع عسكري إلى صراع فكري ثقافي عسكري اقتصادي..، ولم تكتف تلك
الحملات بالسيطرة المطلقة على مقدرات الشعوب الإسلامية، بل اهتمت بزعزعة
عقائد المسلمين، وتبديل أخلاقهم وربط مصيرهم بالفكر الغربي، الذي بدأ يقوده في
تلك الفترة مجموعة من المستغربين أمثال: رفاعة رافع الطهطاوي، ثم سلامة
موسى، وطه حسين، ولطفي السيد، وأدباء المهجر، وغيرهم؛ لهذا فإن هناك
تفسيران لتأثير حملة نابليون على «الشرق الإسلامي» .
الأول: أن هذه الحملة هي بداية ما سمي التنوير، والعلم، والثقافة واللحاق
بركب التقدم والحضارة، وهذا هو التفسير العلماني للعلاقة الحضارية بين العالم
الإسلامي والغربي.
الثاني: هو أنها بداية حركة التغريب، والاستلاب الحضاري، وضياع هوية
الأمة، وهذا هو التفسير الإسلامي لتلك الحملة.
ونتيجة لهذين التفسيرين انتقل الصراع الحضاري جزئياً إلى داخل العالم
الإسلامي، بين ممثلين عن الغرب يتحدثون من منطلقاته وأهدافه، وبين المؤمنين
بالتميز الحضاري والعودة إلى جذور الأمة وأصولها لبناء الأسس العقائدية
والأخلاقية والفكرية، ثم الانطلاق للتنافس عالمياً مع حضارات سادت قيمها ...
ومنظومتها الحضارية، حتى كادت أن تزيل الحضارات الأخرى من الوجود.
وبعد صراعات عديدة في الداخل والخارج، أخذت أشكالاً متعددة سقطت
الأيديلوجية الشيوعية، وظن الكثيرون أن آخر القلاع التي تقف في مواجهة
الحضارة الغربية بكل قيمها وأنظمتها قد سقطت، وتوقعوا أن القيم الغربية لن تجد
عوائق جديدة تحول دون انتشارها ودون تداعي الشعوب والأمم عليها، فبعيد
الأحداث «الدرامية» التي كانت تسجل سقوط الشيوعية ظهرت كتابات وطروحات
عديدة مثل «طروحات فوكاياما» ، تؤكد على أن الحضارة الغربية سوف تكتسح
العالم لتسجل في زعمه «نهاية التاريخ» .
ولكن هذا التفاؤل، وهذه الأفكار اتضحت سذاجتها بعد مرور وقت قصير،
حين تبين أن هناك عوائق وعوامل أكثر تجذراً وثباتاً من الأفكار الأيديلوجية أو
الصراعات الاقتصادية والسياسية، بل لقد اتضح أن نهاية الحرب الباردة قد أبرزت
هذه العوامل وساعدتها على التجذر والرسوخ، بعد أن سقط وهم القوتين العظميين،
ووهم الجبهة الشرقية والجبهة الغربية، ووهم عدم الانحياز، وهذه العوامل أو
العوائق التي نشير إليها، هي خصائص الحضارات، ومقوماتها الداخلية، ومن
أهمها: الدين، واللغة، والتاريخ وهذا يجعل من الصعوبة القضاء عليها، بل إنها
تقوى عندما تشعر الشعوب أن حضارتها التي تنتسب إليها تتعرض لخطر خارجي
كبير.
إذن: تهاوت فكرة (فوكاياما نهاية التاريخ) ، وبرزت فكرة (صامويل هنجتون
تصادم الحضارات) ، التي تقول: إن الصراع في المستقبل، سيكون بين
الحضارات الرئيسة في العالم المعاصر، و «صامويل هنجتون» هو أستاذ علم
الحكومة ومدير معهد (أولين) للدراسات الاستراتيجية بجامعة «هارفرد» في
الولايات المتحدة، وقد نشرت أفكاره حول (تصادم الحضارات) في العديد من
الصحف والمجلات الغربية، وكان مقاله الرئيس قد نشر في مجلة «الشؤون»
المتخصصة في الشؤون السياسية والدراسات الاستراتيجية في عددها (صيف
1993) ، وهذا المقال الذي سيكون (بإذن الله) مجال قراءتنا هذه، هو نتاج لدراسة
خاصة بالمعهد الذي يديره (هنجتون) حول «الظروف الأمنية المتغيرة والمصالح
القومية الأمريكية» .
أهمية الدراسة:
هناك بعض العوامل التي تعطي هذه الدراسة أهمية كبيرة في مجال العلاقات
الدولية ومستقبل العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ومنها:
1- يعتبر كاتب المقال (أو الدراسة بتعبير أصح) ذو مكانة علمية مرموقة في
الدراسات الاستراتيجية؛ إذ أنه يرأس معهداً مهماً وفي جامعة مشهورة عالمياً، فهو
إذن ليس صحفياً يهتم برصد الأخبار اليومية والمناسبات الإعلامية، كما أن الدراسة
في جوهرها نتاج مشروع عن التغيرات الأمنية ومصالح الولايات المتحدة، ومعظم
هذه الدراسات تدعمها الحكومة الأمريكية ومراكز الدراسات الاستراتيجية، وهدفها
تقديم مقترحات وتصورات حول القضايا الشائكة للحكومة الأمريكية، يتم تنفيذها
كسياسة مستقبلية للولايات المتحدة، ولعل من أهم ما جاء في هذه الدراسة،
التوصيات التي ذكرها الباحث في نهاية بحثه لأصحاب القرار في السياسة الغربية
والتي سنشير إليها في مكان آخر من هذا المقال.
2- إن الحديث عن الصراع بين الحضارات ليس جديداً في أدبيات الأمم
وخاصة الأمة الإسلامية، فكثيراً ما طرق هذا الموضوع بعض المفكرين الإسلاميين
أمثال سيد قطب رحمه الله ومحمد قطب، وأبو الأعلى المودودي، ومالك بن نبي،
وأبو الحسن الندوي وغيرهم من المفكرين الذين كتبوا عن الصراع الحضاري بين
الإسلام والغرب، كما أن كثيراً من المفكرين الغربيين كتبوا حول هذا الموضوع
مثل أرنولدتوينبي، وول ديورانت وغيرهم كثيرون، وقد أشار الكاتب نفسه إلى
هذه الحقيقة عندما قال: «وعند كلا الجانبين: فإن التفاعل بين الإسلام والغرب
يُرى على أنه صدام بين الحضارات» ، إذن الفكرة ليست جديدة، ولكن الذي
يعطيها أهمية خاصة هو التوقيت الزمني لطرحها بهذا التفصيل والزخم الإعلامي
الذي روج لها.
إن الفترة التي أعقبت سقوط الشيوعية شهدت أحداثاً عالمية مهمة مثل (حرب
الخليج الحرب في البوسنة والهرسك الحروب التي نشبت داخل جمهوريات الاتحاد
السوفيتي السابق التكتلات الاقتصادية الجديدة) ، وهذه الأحداث أكدت أن أسباب
الخلافات هي أكثر عمقاً من المصالح السياسية أو الاقتصادية التي كان يُعتقد أنها
السبب في نشر تلك الأحداث، كما أكدت للمفكرين الساسيين الغربيين أن إقامة
(النظام العالمي الجديد) على القيم والمبادئ الغربية، سوف يقابل برفض كبير من
الشعوب الأخرى التي تعتز وتحافظ على مقومات حضارتها الخاصة، وهذا قد سبب
صدمة لدى هؤلاء المفكرين، جعلهم يعيدون طرح مسألة (تصادم الحضارات)
كحقيقة سوف تبرز كثيراً في المستقبل القريب.
3- إنه لأول مرة في ما أظن يقوم مفكر سياسي غربي بتوضيح جملة من
الحقائق بوضوح تام وبعبارات سهلة، والتي طالما غُيبت في دهاليز العبارات
السياسية الفضفاضة والمقالات الأيديلوجية الموجهة لخدمة مصالح الطبقات ذات
النفوذ في السياسة الغربية، ومن هذه الحقائق التي وردت في دراسة (هنجتون) ما
يلي:
أ - إن الدين هو أهم العوامل التي تميز بين الحضارات، وهو العامل الأهم
في صراعات المستقبل.
ب - إن القرارات التي تصدر عن مجلس الأمن وعن صندوق النقد الدولي،
إنما تعكس مصالح الغرب، وهي تخرج إلى العالم على أساس أنها تعبر عن
رغبات «المجتمع الدولي» ، كما أن مصطلح «المجتمع الدولي» هوالوجه
الآخر لمصطلح «العالم الحر» ويستخدم لإعطاء الشرعية العالمية للقرارات التي
تعكس رغبات ومصالح الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.
ج - مصطلح «الحضارات العالمية» هو فكرة غربية بحتة، هدفها إبراز
أن القيم الغربية هي قيم عالمية يجب على كل الشعوب الأخذ بها والحقيقة أن أحد
الباحثين قد توصل بعد مراجعة أكثر من 100 بحث مقارن للقيم في العالم، إلى
نتيجة أن «القيم التي تعتبر أكثر أهمية في الغرب هي أقل أهمية في العالم أجمع» .
د - الحكومات الديمقراطية الحديثة كان منشؤها في الغرب، وأنها إذا وجدت
في غير المجتمعات الغربية فهي قد نتجت عن الاستعمار والفرض بالقوة من جانب
الغرب.
هـ - الهدف الأساسي من عملية التحكم في التسلح في فترة ما بعد الحرب
الباردة: هو منع الدول غير الغربية من تطوير القدرات العسكرية التي قد تهدد
مصالح الغرب.
بعض الأفكار المهمة في الدراسة:
لقد وردت في دراسة (صامويل هنجتون) العديد من الأفكار الهامة التي يمكن
ترتيبها في عدة نقاط حتى يتمكن القارئ من معرفة أهم طروحات الكاتب في مجال
(تصادم الحضارات) :
1- يعبر الكاتب عن الفكرة الرئيسية من الدراسة في المقدمة: وهي أن
المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد لن يكون أيديلوجياً أو اقتصادياً وإنما
صراعاً حضارياً، «سوف تحدث الصراعات الرئيسة في السياسة العالمية بين
المجموعات والدول من حضارات مختلفة، وإن الخطوط المتصدعة بين الحضارات
سوف تكون خطوط المعارك في المستقبل ... » .
2- الهوية الحضارية سوف تحظى بأهمية متزايدة في المستقبل، وسوف
يتشكل العالم عن طريق التفاعل بين سبع أو ثمان حضارات عالمية هي: الغربية،
الكنفوشوسية، اليابانية، الإسلامية، الهندية، الأرثوذكسية السلافية، الأمريكية
الجنوبية، وربما الإفريقية، وإن أهم صراعات المستقبل سوف تحدث على طول
الخطوط التي تفصل بين هذه الحضارات للأسباب التالية:
الأول: أن الاختلافات بين الحضارات هي اختلافات جوهرية، وذلك
لاختلاف التاريخ، واللغة، والثقافة، والتراث، وأهم من ذلك لاختلاف الدين،
وأن الناس من مختلف الحضارات، يملكون نظرات مختلفة للعلاقة بين الإنسان
والله وبين الفرد والجماعة، وبين المواطن والدولة، وبين الأطفال والآباء، وبين
الزوج والزوجة، ويملكون نظرات مختلفة حول الحقوق والواجبات، والحرية
والمسئولية والمساواة والطبقية وهذه الاختلافات هي نتاج قرون من الزمن وهي
اختلافات أصيلة إلى حد بعيد أكثر من الاختلافات بين الإيديلوجيات والأنظمة
السياسية.
الثاني: أصبح العالم الآن مكاناً صغيراً، والتفاعلات بين الناس من مختلف
الحضارات تزداد يوماً بعد يوم، وهذه التفاعلات تكثف الوعي الحضاري والمعرفة
بالفروق بين الحضارات، والأمور المشتركة داخل كل حضارة، وقد ولدت الهجرة
من شمال أفريقيا إلى فرنسا: الشعور بالعداء لدى الفرنسيين، وفي نفس الوقت
زادت من قبول الهجرة إلى فرنسا من البولنديين الكاثوليك، وكان رد الفعل لدى
الأمريكيين أكثر سلبية للاستثمار الياباني، مقارنة بالاستثمار الكبير من أوربا وكندا.
الثالث: لقد أثر التطور الاقتصادي، والتغيير الاجتماعي، في كثير من
الدول إلى إضعاف أن تكون الدولة الواحدة هي مصدر الهوية؛ ولهذا تحركت كثير
من الديانات العالمية لسد الفراغ، وجاء هذا في شكل حركات تُدعى الآن بـ
«الأصولية» ، ويشكل الشباب المتعلم في الجامعات والفنيين من الطبقات الوسطى والمهنيين ورجال الأعمال الأشخاص النشطين في الحركات الأصولية، وكما قال (جورج ويجل) : «إن رفض علمانية العالم هي واحدة من أكبر الحقائق الاجتماعية التي تسيطر على الحياة في السنوات العشرين الأخيرة من القرن العشرين» .
الرابع: إن نماء الوعي الحضاري قد ازداد بسبب الدور المزدوج للغرب فمن
جهة يعتبر الغرب حالياً في القمة من ناحية القوة العسكرية، ومن جهة أخرى فإن
ظاهرة العودة إلى الجذور تحدث بشكل أكبر في المجتمعات غير الغربية، «إن
غرباً في القمة من ناحية القوة يواجه عالماً غير غربي يملك الرغبة والإرادة
والإمكانات لتشكيل العالم بطرق غير غربية..» ، لقد كانت النخب في المجتمعات
غير الغربية تتكون من الأشخاص الذين تعلموا في جامعات الغرب، وتشربوا
المواقف والقيم الغربية، وفي نفس الوقت كان العامة يحتفظون بعمق الثقافات
المحلية أما الآن فقد انعكست العلاقة حيث أصبحت النخب تتشكل من الأشخاص
الذين رفضوا التأثر بالثقافة الغربية، وفي الوقت نفسه بدأت الثقافة الغربية وخاصة
الأمريكية تصبح مشهورة على مستوى الجمهور العريض في تلك الشعوب.
الخامس: إن خصائص الحضارات واختلافاتها هي أقل تحولاً وتقلباً كما أنها
لا تقبل الحلول الوسط والتسويات بسهولة، بعكس خصائص الاقتصاد والسياسة:
فمثلاً في الاتحاد السوفيتي السابق يمكن أن يصبح الشيوعي «ديمقراطياً» ،
والغني فقيراً، والفقير غنياً، ولكن الروسي لا يمكن أن يصبح أستونياً، والأذاري
لا يمكن أن يصبح أرمينياً، ففي الصراعات الأيديلوجية والطبقية يكون السؤال
الرئيس هو: (مع أي الجهات تقف؟) ، أما في الصراعات الحضارية فيصبح
السؤال هو: (من أنت؟) . «وكما نعلم من البوسنة إلى القوقاز، إلى السودان:
فإن الإجابة الخاطئة على ذلك السؤال قد تعني رصاصة في الرأس» .
السادس: إن «أقلمة» الاقتصاد تزداد يوماً بعد يوم، فالكتل الاقتصادية
الإقليمية سوف تزداد على ما يبدو في المستقبل، وإن «أقلمة» الاقتصاد سوف
تنجح فقط عندما تمتد جذووها في حضارة واحدة، إن المجموعة الأوربية تكون
سعيدة وهي تعمل ضمن قاعدة ثقافية متجانسة من ناحية اللغة والدين النصراني
الغربي، وإن نجاح منطقة التجارة الحرة في أمريكا الشمالية سوف تعتمد على
التقارب بين الثقافة الأمريكية الكندية وبين الثقافة المكسيكية، أما اليابان فإنها تواجه
صعوبات في إيجاد كيان اقتصادي في شرق آسيا لأن اليابان تتكون من وحدة
حضارية فريدة.
3- الصراعات العسكرية التي استمرت عدة قرون بين الحضارة الغربية
والحضارة الإسلامية سوف تستمر في المستقبل، وربما تكون أكثر قساوة وإن
العلاقات بين الحضارتين سوف تتعقد أكثر بسبب التركيبة السكانية. إن الازدياد
الهائل في نمو السكان في الدول العربية وخاصة في الشمال الأفريقي، أدى إلى
زيادة الهجرة إلى أوربا الغربية، مما أدى إلى زيادة العنف والعنصرية في إيطاليا
وفرنسا وألمانيا ضد المهاجرين العرب والأتراك، وتواجه حدود الإسلام الأخرى
حروباً طاحنة: ففي الجنوب هناك الحروب بين المسلمين والنصارى في جنوب
السودان والقرن الإفريقي ونيجيريا، وفي الشمال هناك الصراع بين المسلمين
والارثوذكس ويتمثل في الحرب بين الصرب والمسلمين، والعنف المتزايد بين
أرمينيا وأذربيجان، والحروب الأخرى التي تهدد مصالح روسيا في القوقاز وآسيا
الوسطى، وفي الشرق هناك النزاع بين باكستان والهند وبين المسلمين والبوذيين
في بورما، وبين المسلمين والكاثوليك في الفلبين، «إن الإسلام يملك حدوداً
دموية..» .
4- سوف يحصل في المستقبل نوع من التضامن داخل الحضارات وذلك
حين تدخل بعض الجماعات أو الدول في حروب مع جماعات من حضارات مختلفة، مما يعني طلب الدعم من الأعضاء الآخرين في الحضارة، ولقد حل التشابه
الحضاري محل التوازن التقليدي والتحالف بين الأيديلوجيات السياسية كقاعدة
أساسية للتعاون والتحالف، ومن الأمثلة على ذلك: الحروب في البلقان، حيث
قدمت المجموعة الأوربية مساعدات عاجلة واعتراف بكرواتيا وسلوفينيا الكاثوليكية، كما أن روسيا تقوم بدعم الأرثوذكس الصرب، ويحاول المسلمون الحصول على
الدعم من الدول الإسلامية، ومن الأمثلة أيضاً ما يحدث من حروب كثيرة بين
المسلمين والنصارى في أماكن مختلفة من الاتحاد السوفيتي السابق، وبعض
الحروب بين النصارى الغربيين وبين النصارى الأرثوذكس في جمهوريات البلطيق، ... إلا أننا لا نجد أن هناك صراعات بين الروس والأوكرانيين لأنهم ينتمون إلى
حضارة واحدة.
5- يعيش الغرب حالياً في القمة من ناحية القوة العسكرية والاقتصادية مقارنة
بالحضارات الأخرى، والغرب يسيطر على المؤسسات السياسية والأمنية الدولية،
ومع اليابان بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية الدولية ولهذا فإن الكفاح من أجل
الحصول على مصادر القوة العسكرية والاقتصادية والمؤسساتية هو واحد من
مصادر الصراع بين الغرب وبقية الحضارات كما أن الاختلافات في الثقافة وفي
القيم الأساسية تكون المصدر الثاني للصراع، ولذلك فإن محاولة الغرب لاستخدام
قوته للعمل الدعائي للأفكار الغربية سوف تقابل برد فعل ضد (إمبريالية حقوق
الإنسان) ، وسيزيد هذا العمل من التثبت بالقيم المحلية، ويمكن ملاحظة ذلك في
الدعم الذي تتلقاه الحركات (الأصولية الدينية) من الأجيال الشابة في الثقافات غير
الغربية.
6- سوف تظهر في المستقبل بعض الدول التي لديها مقدارٌ من التجانس
الثقافي، ولكنها منقسمة حول ما إذا كان مجتمعها ينتسب إلى هذه الحضارة أم تلك،
ويمكن تسمية هذه الدول بـ «الدول الممزقة» ، والتي يتمنى زعماؤها الانضمام
إلى الدول الغربية، ولكن التاريخ والثقافة والتراث في تلك الدول ليس غربياً،
وأوضح الأمثلة على ذلك تركيا التي حاول (أتاتورك) أن يجعلها دولة غربية علمانية
حديثة، وقد انضمت إلى دول حلف (الناتو) وتقدمت إلى عضوية المجموعة
الأوربية ولكن الشعوب الأوربية رفضت أن تقبلها دولة غربية، وبالتالي رُفض
انضمامها للمجموعة الأوربية.
7- إن العقبات أمام الدول غير الغربية للالتحاق بالغرب تختلف بدرجة كبيرة؛ إذ أنها أقل بالنسبة لدول شرق أوربا وأمريكا اللاتينية، وهي عقبات كبيرة للدول
الأرثوذكسية في الاتحاد السوفيتي السابق، وهي عقبات أعظم أمام المجتمعات
الإسلامية، والكنفوشوسية، والهندية والبوذية، وتلك المجتمعات تحاول تطوير
قدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية بعيداً عن النموذج الغربي، ولكن عن
طريق التطوير الداخلي، والتعاون مع مجتمعات أخرى غير غربية، وإن أقرب
شكل لهذا التعاون هو الاتصال (الإسلامي/ الكنفوشيوسي) ، الذي بدأ يتشكل لتحدي
القوة والقيم والمصالح الغربية.
وبدون استثناء فإن الدول الغربية وروسيا تخفض الآن من قوتها العسكرية،
ولكن الصين وكوريا الشمالية والعديد من دول منطقة الشرق الأوسط قد زادت من
قدراتها العسكرية بدرجة كبيرة.
إن الصراع بين الغرب وتحالف (الإسلامية/الكنفوشوسية) سوف يركز بدرجة
كبيرة على الأسلحة النووية، والكيميائية، والبيلوجية والصواريخ ذات المدى
الطويل والأسلحة المتطورة الأخرى، وكذلك القدرات في مجال الاستخبارات
والوسائل الالكترونية الأخرى، وفي هذا الشكل الجديد من التنافس لسباق التسلح
نجد أن جهة واحدة تطور أسلحتها والأخرى تحاول الحد والتخفيض وليس إحراز
التوازن في إمكاناتها العسكرية.
ماذا يجب على الغرب أن يفعله؟
في نهاية هذه الدراسة التي أشرنا لأهم الطروحات التي تناولتها، ذكر الباحث
بعض السياسات التي ينبغي على الغرب أن يتبناها لمواجهة مستقبل (صراع
الحضارات) ، وقد قسّم هذه السياسات إلى مزايا قصيرة المدى وإلى كيفية التكيف
مع هذه المتغيرات على المدى الطويل، ومن المزايا التي يمكن للغرب استغلالها
على المدى القصير ما يلي:
1- على الغرب أن يسعى إلى تعاون أوثق واتحاد بين الدول داخل الحضارة
الغربية وخاصة بين دول أوربا ودول أمريكا الشمالية.
2- ضرورة السعي لدمج شرق أوربا وأمريكا الجنوبية اللاتينية في المجتمع
الغربي، لأن هذه الدول تملك ثقافة قريبة من ثقافة الغرب.
3- السعي للدعوة والحفاظ على علاقات تعاونية أوثق مع روسيا واليابان.
4- منع تطور الصراعات المحلية داخل الحضارة الغربية إلى صراعات
كبيرة.
5- الحد من توسع القوة العسكرية للدول الإسلامية والكنفوشوسية.
6- التوسط في تخفيض القوة العسكرية الغربية والحفاظ على التفوق
العسكري في شرق وجنوب غرب آسيا.
7- استغلال الاختلافات والصراعات بين الدول الإسلامية والكنفوشوسية.
8- دعم الجماعات في الحضارات الأخرى التي تتعاطف مع القيم والمصالح
الغربية.
9- تقوية المؤسسات الدولية التي تعكس وتمنح الشرعية للمصالح والقيم
الغربية للدعوة لمشاركة دول غير غربية في هذه المؤسسات.
أما على المدى الطويل فإن الدول التي تنتمي إلى حضارات غير غربية سوف
تستمر في المحاولة للحصول على الثروة والتقنية والمهارات والأجهزة والأسلحة
حتى تكون دولاً حديثة، وسوف تحاول أيضاً أن توفق بين التحديث والثقافات والقيم
المحلية، ولهذا فإن قوتها العسكرية والاقتصادية مقارنة بالغرب سوف تزداد،
ولذلك على الغرب أن يُكيّف هذه الحضارات التي سوف تصبح قوتها قريبة من قوة
الغرب، ولكن قيمها ومصالحها تختلف بدرجة كبيرة عن الغرب، وهذا يتطلب من
الغرب أن يحافظ على قوته العسكرية والاقتصادية الضرورية لحماية مصالحه،
ويتطلب أيضاً أن يطور الغرب فهمه العميق للافتراضات الدينية والفلسفية التي تقف
عليها تلك الحضارات وينبغي معرفة الطرق التي يرى بها الناس في تلك
الحضارات مصالحهم الذاتية.
عود على بدء:
يتضح من الأسطر السابقة أن الكاتب بدأ دراسته بتشخيص حالة العالم بعد
سقوط الشيوعية، وتقهقر الصراعات الأيديلوجية، لتبرز من جديد الفروق
الجوهرية بين بني البشر، وهي الفروق التي طمرتها حقبة الحربين العالميتين
والحرب الباردة، إنها الفروق الحضارية التي يشكلها الدين والغة والتاريخ والثقافة
والتراث، وقد كان هذا التشخيص لشكل العالم الجديد في ظل ظاهرة العودة إلى
الجذور متطابقاً إلى حد بعيد مع الأحداث التي تجري على الساحة منذ بداية
الثمانينات، وهي الفترة التي شهدت مرحلة الانهيار الكبير للشيوعية وحتى اليوم،
وبالنسبة لنا نحن المسلمين فإن هذا الوضوح والتمايز بين الحضارات سوف يساعد
ولا شك في تمييز المواقف وسقوط الأقنعة والشعارات التي كان يرددها كثير من
المستغربين من أبناء الأمة، فكثيراً ما كان يُرَدَدُ مصطلح «عالمية الحضارة»
و «الهموم الإنسانية المشتركة» ، وكثيراً ما طالب أصحاب الأدب والفكر بالانفتاح
على الحضارات، وعدم الانغلاق على الذات وبالبحث عن القواسم المشتركة بين
حضارة الإسلام وحضارة الغرب وغير ذلك من الطروحات وشعار «الحضارة
العالمية» هو كما ذكر (هنجتون) : مصطلح غربي بحت، يطرح عالمياً ليكون
ستاراً لنشر القيم والمبادئ الغربية على أنها مبادئ عالمية وليست خاصة بأمة معينة.
وعلى الرغم من أن كاتب هذه الدراسة قد أكد على كثيرٍ من الخصائص التي
تميز بين الحضارات، واستطاع أن يوضح العلاقات والقوانين التي يمكن أن تتحكم
في العلاقات الدولية في ظل صراع الحضارات، إلا أنه قد وجه دراسته في النهاية
نحو ما يمكن أن يسمى بالاتجاه السائد في الغرب للبحث عن خطر عسكري جديد
بدلاً عن الشيوعية «، ولهذا نجد أن الباحث قد ركز عند حديثه عن خطورة
الاتصال بين الحضارة الإسلامية والكنفوشوسية كحلف متوقع ضد الغرب ركز على
الجانب العسكري، بل وعلى جانب التسليح فقط من التعاون الحضاري، وقد أغفل
الجوانب الرئيسة التي تكون الحضارات وتدعم التعاون بينها، مثل الدين واللغة
والتاريخ المشترك، وكان الاستشهاد على وجود نوع من التحالف بين الإسلام وبين
الحضارة الكنفوشوسية بتصدير الأسلحة إلى دول مثل ليبيا وإيران والجزائر
والعراق وباكستان، متهافتا جداً حيث إن العديد من الدول العربية والإسلامية
الأخرى تعتمد على التسلح من دول الغرب، ولم يعتبر أحداً أن هذا التعاون هو
تحالف حضاري بين الإسلام والغرب، ويبدو أن المؤلف في هذا الجزء من الدراسة
قد قام بعملية قسرية لأفكاره لتتماشى مع الحملة الكبيرة على المستوى السياسي في
الغرب لتصوير الإسلام بالخطر البديل عن الشيوعية، وذلك لأن الجمهور الغربي،
كما يقول شومسكي:» لن يختار الدرب الذي يخدم مصالح الشركات الكبرى ولن
يزيد المغامرات الخارجية لإخضاع العالم الثالث للمطالب ذاتها إلا إذا سيق إلى ذلك
عن طريق الخوف.. «.
ويمكن الاستشهاد بتهافت فكرة خطر التعاون العسكري بين الصين وبعض
البلاد الإسلامية، على الغرب بما ذكره الكاتب من أن هناك جهة (الجهة الإسلامية/
الكنفوشوسية) تطور أسلحتها وقدراتها العسكرية، وجهة أخرى (الجهة الغربية)
تخفض وتحد من إمكاناتها العسكرية، ولا شك أن الفارق عظيم بين الجهتين في
الوقت الحاضر من ناحية التفوق العسكري والتقني، كما أن الرقابة على تصدير
الأسلحة النووية وغيرها والذي تقوم به الدول الغربية يمنع إحراز البلاد الإسلامية
ولو على جزء يسير مما عند صنيعة الغرب في المنطقة» إسرائيل «.
ولهذا فإن التوصيات التي ذكرها الكاتب في نهاية مقاله والموجهة إلى الغرب
للعمل بها كاستراتيجية على المدى القصير، وعلى المدى الطويل توضح بجلاء
تركيز الكاتب على الجانب العسكري، كمخرج وحيد لحماية مصالح الغرب ونشر
قيمه وثقافته، ويبدو أن هذا التركيز يأتي متوافقاً مع مصالح أصحاب رؤوس
الأموال في بلاد الغرب من الطبقة السياسية والصناعية التي يهمها استمرار
الاستثمار في التسلح والصناعات العسكرية وعدم إغلاق مصانع الأسلحة العملاقة
في الدول الغربية، وبتعبير شومسكي أيضاً:» كان الانفراج في توترات الحرب
الباردة، بالنسبة للصفوة الأمريكية، نعمة تشوبها نقمة، صحيح أن وهن الرادع
السوفيتي سهل للولايات المتحدة لجوءها إلى العنف والقسر في العالم الثالث، وأن
انهيار المنظومة السوفياتية عبّد الطريق أمام إدخال أوربا الشرقية والوسطى في
مناطق يراد لها أن «تكمل اقتصاديات الغرب الصناعية» ، ولكن ثمة مشاكل تنشأ
بشأن السيطرة في الداخل على جمهور يتزايد خطره باستمرار، وبشأن الحفاظ على
النفوذ في أوساط الحلفاء وهم الآن منافسون حقيقيون في حقل القوة الاقتصادية، كما
أنهم سباقون في عملية تكييف العالم الثالث الجديد لخدمة حاجاتهم.. ولهذا كان
الافتراض هو أن يكون الاستثمار في مسائل الحاجات الاجتماعية بديلاً ممكناً
لمنظومة «البنتاغون» ، وهذا الخيار وإن كان ممكن الحدوث فنياً وفق القياسات
المجردة للاقتصاديين، إلا أنه خيار يتعارض مع امتيازات المالكين والمديرين،
ولهذا فهو مرفوض كخيار سياسي.. «.
وكخاتمة لهذه القراءة ينبغي التأكيد على ما بدأنا به، وهو أن مفهوم الصراع
الحضاري ليس جديداً في الساحة الفكرية، وأن الصراع موجود فعلا ولكن التركيز
عليه في مثل هذه الدراسات يمنح كثيرين من الذين قد تأثروا بالطروحات التي
تنادي بالحضارة العالمية وبامتزاج الحضارات، الفرصة لإعادة النظر والتفكير في
مواقعهم الحالية، فإن الحالة في وقت الصراع الحضاري هي أن تقف هنا أو تقف
هناك وليس هناك موقف في الوسط ...(71/89)
منتدى القراء
قاصمة الطلاسم
سعود حامد الصاعدي
هذه القصيدة التي سميتها (قاصمة الطلاسم) راجياً أن تكون شهاباً يسحق
طلاسم الشاعر (إيليا أبو ماضي) في قصيدته (الطلاسم) والتي تحمل تساؤلات كثيرة
عجز عن استيعابها، وإن كانت يسيرة يجيب عليها كل مؤمن ذي فطرة سليمة، لم
يخالطها زيف ولا باطل، فهو يقول في قصيدته تلك:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيتُ
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئت كيف أبصرت طريقي؟ !
لستُ أدري
وحيث أن تلك القصيدة مشهورة إلى حد أن وضعت في مناهج النصوص في
كثير من الدول العربية مع ما فيها من انحراف وإلحاد. فقلت هذه الأبيات رداً عليها:
أنت حي قد براك الله في هذا الوجود
أنت حر غير أن الله أعطاك الحدود
فتبصر في طريق دربه فيه السعود
لو سمعت الحق يوماً فتتبعت كلامه
سوف تدري
إن بعد الموت هولاً وظلاما للقبور
للذي قد حاد كبراً عن هتافات النذير
والذي قد قال حقاً لظلام القبر نور
أتراكم في نعيم؟ أم تراكم في جحيم؟ !
سوف تدري
فطريق الخير معروف بنور شع منه
وطريق الشر شوك من رآه فر عنه
فلماذا تهت درباً أنك قد جئت منه
أترى الإنكار غنم؟ أم ترى الإنكار جرم؟
سوف تدري
إن بعث العظم حق ستراه صار حقا
وترى ما كان يخفى وترى ما كان دقا
سوف تدري عندها أن كل شيء كان صدقا
فلماذا أنت تدري؟ ثم كبراً تتمطى
لستَ تدري
أوما بالعقل فكر أن هذا الليل يسري
ثم من بعدُ يعود وكذا فالعمر يجري
وهو حق ليس يذكر فلماذا لستَ تدري
لستَ تدري، لستَ تدري ولماذا؟
لستُ أدري(71/106)
الورقة الأخيرة
لهاث المهزومين
تركي المالكي
حيثما قلّبت نظرك في ركام الإصدارات الإعلامية المختلفة، تجد نَفَس
المهزومين ولهاثهم يفترش مساحات لا تنتهي من الورق المصقول.. إنهم جميعاً
يحاصرونك بكل ما يملكون من أدوات كتابية كي يقولوا لك في النهاية: استلقِ على
ظهرك وجهز عنقك للذبح! أوفاقبل بكل ترحيب أن تكون صلصالاً من عقل
وعاطفة يشكلهما من يسيطر عسكرياً على اللحظة الزمنية الحالية كيف شاء،
ويوجههما حيث شاءت أهدافه وثقافته! .. وهما خياران وحيدان لدى هؤلاء: إما
الاستسلام والقبول المطلق بالانضمام إلى قافلة العبيد في إقطاعيات المستعمر
الغربي! أو الموت قتلاً تحت أقدامه العسكرية، أو جوعاً وراء جدران حصاره
الاقتصادي.
وأي طرح غير هذا الطرح يُسّمرونه مباشرة في جدران التهويمات
الميتافيزيقية، وأحلام الليل غير القابلة للتحقق! أو يوسم بأنه جزء من الشعارات
التي يرفعها المتطرفون لخداع الجماهير وتسلق سلم السلطة!
هذا اللهاث المحموم الذي يدعو الأمة إلى عرض ذاتها مجاناً في مزاد
الحضارات حتى تكسب رضى الآخر الغربي، عسى أن يدخلها في قائمة
المتحضرين من الأتباع لم يكن في يوم من الأيام أكثر جرأةً (وتمكينا!) مما هو
عليه الآن، ولعل الحاجة ماسة إليه كي يمهد الأرض الثقافية والنفسية للتطبيع
القادم! .
حتى رهبان القومية السابقين دخلوا علناً (بورصة الدولار) بعد أن احترق
الروبل! ، وأصبحوا يدعون إلى (دمقرطة المجتمع) قبل (دمقرطة السياسة) ،
ويفيضون في الحديث عن نسبية الهوية، وقبولها للتغيرات المختلفة بحسب طبيعة
المرحلة التاريخية المعينة ومزاجها العام! فليس هناك ثوابت مطلقة وكل شيء قابل
للتغيير، ثم يجعلون من الارتماء في حضن العدو وإدارة الخد الآخر له حتى يستنفذ
رغبته في الصفع! إفاقةً عقلانية، تتعامل مع الواقع بلا تزييف، أو علامة صحة
زعموا تخلصت الأمة بها من أوهام الأدلجة!
إنها لغة المهزومين.. أما الأسياد فهم هناك يتحدثون عن نهاية التاريخ
ووقوفه خاشعاً عند أقدامهم الليبرالية! وحين لا يصدق الواقع أحلامهم يعودون إلى
رسم مشاهد لصراع الحضارات وإعلان النفير ضد العدو الإسلامي القادم، ولو كان
كل عتاده اليوم (شريط كاسيت) ! ! .(71/109)
شعبان - 1414هـ
يناير - 1994م
(السنة: 8)(72/)
كلمة صغيرة
دينكوشوت جديد
أصحاب المبادئ يستميتون في الدفاع عن مبادئهم والدعوة لها وإن كانوا على
باطل، فكيف إذا كانوا على الحق؟ لا شك أنهم أولى بالصمود والدعوة لمبادئهم
والدفاع عنها حتى آخر نفس وبالتي هي أحسن..
ومازال المبطلون - كعادتهم - يشيعون الشر والفاحشة في الذين آمنوا ربما
ليكونوا شيئاً مذكوراً، ومن هؤلاء (سلمان رشدي) و (علاء حامد) ، ويأتي أخيراً
(د. حامد نصر أبو زيد) ليهاجم الإسلام ساخراً من مسلماته وتاريخه وأعلامه، ويتيح له الإعلام العلماني المجال بحرية ليحارب بسيف (دينكوشوت) وقد افتضح وكشفت أوراقه الأخيرة، إلا أن مما يذكر فيشكر ما قام به الكاتب (محمد جلال كشك) من نقد لمنهجية المذكور حتى لفظ أنفاسه الأخيرة -رحمه الله- بنوبة قلبية وهو يناظره إعلامياً.
حسبنا الله ونعم الوكيل(72/1)
الافتتاحية
الصحوة الإسلامية
بين وعد الله.. وكيد العبيد
التحرير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.. وبعد:
لم تكن بدايات نهضة أمتنا هي (الحملة الفرنسية) على مصر كما يزعم ذلك
تلامذة التغريب من كتاب التاريخ المعاصر.
إنما كانت تلك حملةً صليبية تهدف إلى ضرب الأمة في الصميم يوم صبت
جام غيظها وحقدها على رمز أصالة الأمة ومعقل قيادتها، حينما دخلت خيلهم
الأزهر تغتال وتستبيح حرمة المسجد، وتنتهك دماء الأبرياء، وكانت ثورات
الشعب المصري الوطنية ذات منطلقات إسلامية، وإن فشلت في المقاومة لأسباب
معروفة لا يتسع المجال لذكرها، ولم يلبث أن قام الاستعمار الإنجليزي على أنقاض
الاستعمار الفرنسي، ليؤدي رسالته الصليبية في التغريب التي لاتزال مصر إلى
الآن تعاني من آثارها العلمانية الخطيرة في التعليم والإعلام والاقتصاد والسياسة..
ومع أن الدعوة السلفية في الجزيرة العربية التي هي مصدر من مصادر
النهضة الإسلامية المعاصرة قد أوقف مدها (محمد علي والي مصر) لأسباب سياسية
بحتة، إلا أنها تركت بصماتها وآثارها الإيجابية على كل الحركات الإسلامية فيما
بعد في جل ديار الإسلام، عودة إلى الله واعتزازاً بالإسلام منهاج حياة، مما ساهم
في بزوغ ما اصطلح عليه بالصحوة الإسلامية. وهذه الصحوة ليست على مستوى
الشباب فحسب كما يتوهم الكثيرون وإنما عمت فئات الأمة كلها.
* تأثير الصحوة الإسلامية في أعيان من الأمة ومن ذوي الشأن فيها.
*نشوء الجماعات والحركات الإسلامية في جل البلدان.
*التزام الشباب في المدارس والجامعات واعتزازهم بالهدي النبوي.
*هداية نفر من كبار الكُتّاب والمفكرين والصحفيين ممن عُرِفَ بالإلحاد
والانحراف.
*نشوء الجمعيات والمراكز الدعوية الإسلامية في داخل العالم الإسلامي
وخارجه.
*إسلام كثير من العلماء والمفكرين الأجانب.
*الدعوة إلى أسلمة المعرفة والانعتاق من هيمنة الفكر الوافد.
*كسب الإسلاميين ثقة العاملين في النقابات وجمعيات النفع العام وتسنم قيادتها
من خلال ترشيح أعضاء النقابات لهم.
ومع هذه المعطيات الكبيرة للصحوة التي أظهرت عزة المسلمين، وبينت مدى
قوتهم بالانتماء لدينهم وموالاتهم لإخوانهم ومفاصلتهم لأعدائهم، انكشفت للأمة
جمعاء حقيقة دعاة التغريب والتبعية، وظهروا أقزاماً وبانوا أذناباً لا تهمهم سوى
مصالحهم الذاتية، ولا يعنيهم سوى تنفيذ مخططات أسيادهم، فخسروا مكانتهم وهم
الذين طالما خدعوا الأمة بدعاويهم وشعاراتهم.
كل ذلك قذف الرعب في قلوب الذين كفروا فكانت حملاتهم ضد الصحوة
وضد الشباب الإسلامي، وقامت وسائل الإعلام الأجنبية بحملات غريبة متهمة
الإسلاميين بالتعصب والجمود والإرهاب والكراهية ... حتى قالوا: (إن الخطر
على الغرب ليس من الشيوعية بل من المسلمين المتعصبين الذين تعاظم نشاطهم
بشكل مذهل رغم كل ما أوقع بهم في المنطقة من محن وتنكيل) ، وقام تلامذتهم
المستغربون والأذناب في الصحافة العربية بحملات إجرامية ضد الإسلاميين تقوم
على الكذب والتزوير وترديد مقولات المستشرقين والمبشرين، وتمثلت تلك الحملة
الظالمة في عدة محاور:
أولا: الإيحاء للحكام في المنطقة الإسلامية بخطر موهوم وراء كل تحرك
إسلامي، ودعوى أن دافع أي تجمع للإصلاح إنما وراءه أهداف بعيدة أول ما تنال
نفوذ ذوي النفوذ.
ثانيا: إلصاق تهمة الإرهاب والتطرف بدعاة الفكرة الإسلامية بدون استثناء.
ثالثا: التعتيم على الحركة الإسلامية وادعاء أنها ردود أفعال متشنجة
وشعارات جوفاء ليس إلا، كما يزعم ذلك أمثال (محمد أركون) و (فؤاد زكريا)
و (زكي نجيب محمود) وأضرابهم.
وقامت وسائل الإعلام المسموع منها والمرئي والمقروء بالضرب على تلك
الأوتار من أجل تحقيق الأهداف التالية:
1- ضرب كل توجه إسلامي في البلاد العربية والإسلامية، مما يؤدي إلى
ردود أفعال يائسة يكون ضحيتها الكثيرين كما هو مشاهد ومعلوم.
2- أن تعيش الدول الإسلامية بعامة والعربية بخاصة أجواء مضطربة حينما
تنزع الثقة بين الحكام والمحكومين مما يجعل أولئك الحكام في حاجة ماسة للأجنبي.
3- فقدان الدول الإسلامية للطاقات العلمية والإصلاحية القادرة ذات التوجه
الإسلامي لاضطرارها للهجرة ومغادرة ديار الإسلام.
4- تشجيع التيارات العلمانية ليكون رموزها هم المقربين من المتنفذين
وصناع القرار ليكون أول قراراتهم ضرب أي توجه إسلامي مهما كان انتماؤه
ومنطلقاته.
الغريب أن تلك الأجواء المضطربة التي يشجعها أولئك الأعداء لا نجدها إلا
في العالم العربي والإسلامي، بينما نجد بلدان الغرب تعيش ديمقراطية نسبية حتى
اضطر كثير من الإسلاميين للهجرة إليها اضطراراً أمام كبت الحاكمين بأمرهم
ومضايقتهم لهم، أما إذا اضطهد أو أوذي أي ملحد أو علماني فإننا نجد وسائل
إعلامهم تشنع على ما يحصل ضد أولئك، بينما تصاب بالصمم والخرس حينما
يضهد ويعدم وينكل بدعاة الإسلام، وربما حصل احتجاج لطيف من جمعيات ما
يسمى بحقوق الإنسان التي نسيت أو تناست حقوقاً أهدرت لشعوب بأكملها في
البوسنة والهرسك، وكوسوفو، والسنجق، والهند والفلبين، وكشمير، وفلسطين،
وغيرها.
ورعب الغرب وخوفه من التوجه الإسلامي والصحوة الإسلامية للشعوب ناتج
من اعتبارهم الإسلام والمسلمين العدو الحقيقي الذي إن مكن له وفتحت الأبواب
أمامه ستسقط إزاءه كل الأصنام وكل الحاكمين بغير ما أنزل الله، وحينها لن يكون
للغرب ولا للشرق عملاء في المنطقة يحركونهم كقطع الشطرنج، وهذا مصدر
خوفهم.
إننا بحمد الله نعلم أنهم أعداؤنا كما يصفهم الله تعالى: [ولن ترضى عنك
اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] (البقرة: 120) ، وقوله تعالى:
[ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا] (البقرة: 217) فهذه حقيقة نعلمها ونعيها. وعزاؤنا أن ما يتعرض له التيار الإسلامي من مصادرة لفكره واستباحة لأعراضه وقتل وسجن وتشريد.. إنما هو ضريبة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله.
إننا نذكرالمناوئين للتيار الإسلامي بأن الله متم أمره لأن الله تعالى يقول:
[هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون] (الصف: 9) ، فاحذروا.. ثم احذروا.. وإلا فالموعد الله وحينها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون..(72/4)
من قضايا العقيدة
منهجية أهل السنة في دراسة العقيدة وتدريسها
خميس بن عاشور
إن من ضروريات المنهجية العلمية السليمة إدراك الموضوع قبل ... دراسة أي مسألة؛ لأن تحديد موضوع القضية من شأنه أن يمهد السبيل لتصور الطريقة الصحيحة التي تقود نحو الهدف والغاية المنشودة، والعقيدة الإسلامية باعتبارها علماً من العلوم الشرعية لا تنطبق عليه المناهج العقلية انطباقاً كلياً؛ لأننا بذلك نفقدها أهم ميزة تميزها وهي خاصية المصدرية الإلهية، ولكي نحول دون هذا الانزلاق المنهجي، فإنه يجب تطبيق المنهجية الشرعية في دراسة العقيدة الإسلامية كموضوع أولاً ثم كغاية ثانياً، وذلك لكي لا تتحول هذه العقيدة من وضع إلهي إلى وضع بشري، كما حدث فعلاً لدى الكثيرين من المهتمين بالعقيدة الإسلامية.
إن أهم خاصية كما سبق للعقيدة الإسلامية أنها إلهية المصدر ومعنى ذلك أنها
تعتمد على التوقيف موضوعاً وغاية، لذلك فإنه باكتمال الدين الإسلامي وتمامه
تكون العقيدة الإسلامية قد كملت وتمت، وينبثق عن ذلك قاعدة نجد أنفسنا مرغمين
على التسليم بها، وهذه القاعدة تقول: لا اجتهاد في العقيدة الإسلامية، باعتبار أننا
نعرف العقيدة على أنها: مجموعة من القضايا التي نؤمن بها إيماناً لا يتطرق إليه
الشك أو الريب، إن هذه القاعدة منبثقة بدورها من القاعدة العامة التي تقول: إنه لا
اجتهاد مع النص، وباعتبار أن العقيدة تعتمد على التوقيف أي على النص الشرعي، فإنه يؤول الأمر إلى الإقرار بهذه القاعدة، وقبل أن نحدد قضايا هذه العقيدة فإننا
يجب أن نسلم كذلك بأن قضايا العقيدة الإسلامية محدودة بمحدودية النصوص،
وعدم اتساع هذه القضايا عن طريق الاجتهاد؛ لأن ذلك يؤدي إلى التقدم بين يدي
النصوص الشرعية مثلما وقع فعلاً عند فئة من المتكلمين وخاصة المعتزلة الذين
تجاوزوا النصوص التي هي الإطار الثابت للعقيدة الإسلامية، وبالتالي زادت قضايا
العقيدة عندهم من وجه ونقصت أو بعبارة أدق تقلصت من وجه آخر. إن القول
بجواز الاجتهاد في العقيدة هو من جهة أخرى خرق لمضمون آية قرآنية تقول:
[يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسٍؤكم ... ] [1] وكذلك قول
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم
على أنبيائهم «، وليست العبرة هنا بخصوص السبب، ولكن بعموم اللفظ الناهي
عن السؤال في المواضع التي سكت عنها الشارع، سواءً أكانت من مسائل الأحكام
أو مسائل العقائد.
إن البحث في الناحية القيمية لأي علم إنما تكمن في التطلع نحو الغاية والعقيدة
الإسلامية علم شرعي له غايته التي تتمثل في العلم بالله سبحانه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً؛ وذلك من أجل غاية نهائية هي العبادة الخالصة المتمثلة في تحقيق توحيد الألوهية. قال تعالى: [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] [2] ولقد كانت الغاية من
بعث الرسل هي وضع أسس العقيدة التي ترضي الله عز وجل، ولقد كانت دعوة
أول رسول هي أن (اعبدوا الله مالكم من إله غيره» وكذلك كانت آخر دعوة لآخر
نبي ورسول: [ولقد بعثنا في كل أمة رسولاْ أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت] [3] ولقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بعث معاذاً إلى اليمن وقال له:
«إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله» ومن
أواخر ما ثبت عنه كذلك حين ما حضرته الوفاة: (لعن الله اليهود والنصارى
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وهذا تحذير من الشرك الذي هو نقيض التوحيد،
وبالنظر إلى ما ورد من نصوص كثيرة في هذا الموضوع أي قضية التوحيد فإننا
نقرر بوضوح أنه أول واجب على المكلف، وأنه أهم قضية من قضايا العقيدة
الإسلامية على الإطلاق ولاسيما عندما نجد التحذير شديداً عما يناقضه من الشرك
[ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين] [4] ، وقال تعالى: [إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] [5] .
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من
لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة) (متفق عليه) .
ولقد اشتملت آية الكرسي على أنواع التوحيد الثلاثة، قال تعالى: [الله لا
إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء
من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو
العلي العظيم] [6] .
ففي قوله تعالى (الله لا إله إلا هو) : توحيد الألوهية أي توحيد العبادة وفي
قوله (الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم «، وقوله (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ،
وقوله (وهو العلي العظيم) : توحيد الأسماء والصفات، وفي قوله (له ما في
السموات وما في الأرض) مع بقية الآية: توحيد الربوبية.
ومن خلال استشفاف النصوص القرآنية والحديثية نجد أن قضية التوحيد هي
القضية الرئيسة في العقيدة الإسلامية، وهي أول ما يجب على المكلف معرفته،
ولكننا عندما نبحث عن أول قضية مهمة عند أهل الكلام نجدهم يقولون إن أول
واجب على المكلف النظر والاستدلال، بل إننا نجد بعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك
حيث يقول أبو هاشم الجبائي: أول واجب على المكلف الشك في الله، وذلك لأن
المتكلمين من هذا الصنف اعتبروا قضية الربوبية هي القضية الرئيسة في العقيدة
الإسلامية، فأكثروا من الأدلة العقلية وغيرها من أجل أن يقضوا على إمكانيات
العقل في إثبات القضية العكسية كذلك، وهي الإلحاد الذي هو هنا بمعنى إنكار
الخالق، لقد اهتم أهل الكلام بقضية وجود الله اهتماماً يكاد يطغى على مباحث علم
الكلام، والناظر في كتب الكلام يحسب بادئ ذي بدء أن قضايا العقيدة الإسلامية
محصورة في مشكلة الإيمان بالخالق ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، ولكن عند الرجوع إلى
القرآن الكريم كلام الله فإننا سرعان ما نجد أهمية هذه القضية في تذكير الإنسان
بنعم الله، وكذلك جعلها دليلاً على توحيد الألوهية، وهي مركوزة في الفطرة حتى
إن القرآن ليذكر أن الأنبياء تعجبوا من أقوامهم لما ادعوا إنكار الخالق [قالت
رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم
إلى أجل مسمى ... ] [7] .
إن الفرق بين اهتمامات علم الكلام واهتمامات القرآن فرق جوهري لأن ما
يعتبره علم الكلام قضية كبرى لم يعتبره القرآن إلا قضية طارئة اتصفت بها بعض
الشخصيات الطاغوتية، كشخصية فرعون الذي أراد بذلك ترسيخ سلطته
» الثيوقراطية «عن طريق ادعائه الربوبية، وإنكار وجود إله غيره.
لقد أثبت القرآن الكريم أن الإيمان بربوبية الله تعالى أمر فطري لا تنكره
النفوس مهما تكبرت وتجبرت ظلماً وعلواً [وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماْ
وعلواْ] [8] ، وقال سبحانه في آية الميثاق: [وإذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم
القيامة إنا كنا عن هذا غافلين] [9] .
وقال: [فأقم وجهك للدين حنيفاْ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون] [10] . وفي الصحيحين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كل
مولود يولد على الفطرة» وفي رواية: (على هذه الملة فأبواه يهودانه أوينصرانه
أويمجسانه كما تولد البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) .
وبعد: فإنه يتبين أن مهمة العقيدة الإسلامية وغايتها تربوية، أساسها التزكية
عن طريق كشف الحجب، وإزالة العوائق عن الفطرة الإنسانية، وهذه العملية
كفيلة بإحياء العقيدة في نفوس البشر عامة، ولقد دأب الأنبياء والرسل على العمل
من أجل تحقيق هذه الغاية، وتزكية النفوس من أجل إرجاعها إلى فطرتها النقية
التي تقر بالله رباً وخالقاً ومعبوداً، إن أوقاتاً كثيرة أضاعها أهل الكلام ولاتزال اليوم
تضيع عبر المناهج الدراسية التي تتناول موضوع العقيدة وذلك لأن خصوم العقيدة
الإلهية أحدثوا شبهاتهم واعتبروها أدلة كافية لإنكار الخالق وفي الوقت نفسه دافع
أنصار هذه العقيدة عن عقيدتهم باستحداث مجموعة هائلة من الردود وبعد انقضاء
الفترة الذهبية للإسلام تغيرت مناهج الاعتقاد فأصبح الإسلام وعقيدته عبارة عن
شبهات وردود على تلك الشبهات، وانقلب الوضع من منهج العرض إلى منهج الرد، وهذا هو أكبر انحراف واستدراج تواجهه العقيدة الإسلامية اليوم عبر مناهج
تدريسها، إذ لايزال علم الكلام والفلسفة عمدة أقسام العقيدة وأصول الدين في كثير
من جامعات العالم الإسلامي العريقة، وأمام سيطرة المنهج الكلامي على دراسة
العقيدة فإنه لم يبقَ إلا رصيد وحيد للاعتقاد الذي يرضي الله ورسوله، وهو رصيد
الفطرة التي لم تتراكم عليها الشبهات، وبعد أن كان المسلمون ينهلون من مصدر
الكتاب ومعين السنة أصبحوا اليوم لا يعرفون من العقيدة إلا ما جاء في «العقائد
النسفية» أو «جوهرة التوحيد» وهما مثالان لما تدرسه أكبر الجامعات الإسلامية
العريقة كالأزهر والزيتونة، رغم ما فيهما من مخالفات صريحة لنصوص الكتاب
والسنة، ومتناقضات تنفر منها العقول، ولذلك فليس غريباً أن نسمع أو نرى عالماً
من كبار العلماء أو شيخاً من كبار الشيوخ ينزلق في متاهات اعتقادية خطيرة لأن
المقاييس لم تكن مأخوذة من نصوص الوحي الإلهي، بل أخذت من أقوال بشرية
غير معصومة عبر تلك المتون والشروح المطولة أو المختصرة، التي يخلو
معظمها من ذكر النصوص وخاصة الأحاديث الصحيحة منها.
إن مصداقية العقيدة فيما بعد القرون الثلاثة المفضلة قد انتابها نوع من الفتور
بسبب تدخلات العقل البشري وتمحلاته، وذلك أنه بعدما كان أساس الاعتقاد يعتمد
على رصيد الفطرة، التي لا يمكن أن يمازجها شك أو ريب المستهدية بنور الوحي، أصبح الاعتقاد عبارة عن موازين عقلية جافة لا يمكنها أن تحدث ذلك التفاعل
الوجداني الذي هو شرط لأي اعتقاد سليم، وبعبارة أخرى ما يمكن أن يكون أساساً
للعقيدة الدافعة نحو السلوك والعمل بمقتضى تلك العقيدة حيث لا تناقض بين العقل
والقلب مثلما يريد أهل الكلام عن قصد أو عن غير قصد حيث اعتمدوا على المنطق
اليوناني ومغالطاته، ومن هنا نجد أنفسنا قد ألقينا حبل السفينة في محطة أخرى هي
قضية الإيمان التي تدافع فيها العقل مع النقل بالرغم من أن هذا التدافع والتناقض
ليس ممكناً أصلاً لولا اعتداءات العقل البشري على حدود الوحي الإلهي الذي يدعم
ذلك الأصل القوي وهو الفطرة.
وهناك حقائق شرعية جعلت الحقائق اللغوية محمولة عليها طبقاً للقاعدة التي
تقول يحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، والحقيقة الشرعية خاصة أو
مقيدة ومسألة الإيمان لها جانب من هذه المعادلة، فلفظ الإيمان من الألفاظ التي قيدها
الاصطلاح الشرعي فحملت عليه، فمثلاً الحج في اللغة معناه القصد، والصلاة في
اللغة تعني الدعاء، وكذلك الإيمان معناه في اللغة التصديق، وأما بعد ورود الشرع
فقد أصبح المعنى في كل هذه الأمثلة خاصاً فالحج عبارة عن أقوال وأعمال
مخصوصة في أماكن وأزمنة مخصوصة والصلاة كذلك صارت مجموعة من
الأقوال والأعمال تبدأ بتكبيرة الإحرام وتنتهي بالتسليم، وأما الإيمان فإن مسألة
الاختلاف في تعريفه إنما ترجع إلى إمكانية تسليم المعنى اللغوي إلى المعنى
الاصطلاحي الشرعي؛ لأن الذين خالفوا تعريف أهل السنة والجماعة أي السلف
إنما تمسكوا بالمعنى اللغوي وهم بذلك أهدروا الحقائق الشرعية النصية التي أدخلت
عليه خصوصيات أصبحت ملزمة لا يمكن أن نتجاهلها، وذلك بالنظر إلى مقاييس
الكتاب والسنة الصحيحة.
إن الاختلاف في تعريف الإيمان أنتج مواقف فرعية وخاصة فيما يتعلق
بعنصر العمل الذي يراه أهل السنة جزءاً يدخل في مسمى الإيمان الاصطلاحي
وكذلك يرى المعتزلة، غير أن الفرق بين الموقفين أن المعتزلة اعتبروا العمل
جزءاً لا يتجزأ منه وفقدانه يعني بالضرورة فقدان الإيمان كله، بينما يرى أهل
السنة أن العمل جزء من الإيمان، لكن الإيمان يتبقى، فقد يزول العمل ويتبقى
أصل الإيمان؛ لأن الإيمان شعب متعددة لا شعبة واحدة، وفي مقابل ذلك يرى
المرجئة بمختلف تياراتهم من أشعرية وماتوريدية أن الإيمان هو التصديق وبالتالي
تمسكوا بالمعنى اللغوي، وقالوا إنما الأعمال هي نتيجة لذلك، وليست جزءاً من
مسمى الإيمان، ولذلك قالوا إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ومع أن هذا مصادمة
لنصوص الكتاب والسنة مصادمة مباشرة فإن سبب ذلك لاشك يرجع إلى ما فرضه
العقل الأرسطي على هذه القضية الاعتقادية، وما قد يؤدي عندهم من انعدام الإيمان
مادام عرضة للزيادة أو للنقصان.
إن تجاهل الحقائق الشرعية هو المزلق الذي انزلق فيه أهل الكلام في
دراساتهم لمسائل العقيدة، ولذلك نجد تعاريفهم لمختلف القضايا تختلف دائماً عن
تعاريف أهل السنة والجماعة الذين يستخرجون تعاريفهم بعد عملية استقراءٍ
لنصوص الوحي، وذلك لكي يتجنبوا ما قد يكون متعارضاً مع هذه النصوص
ودلالاتها، وكما سبق في تعريف التوحيد عند أهل السنة حيث نجد أنه إفراد الله
بالعبادة وإثبات صفاته التي تغاير مخلوقاته، وفي خلقه وتقديره لأفعال العباد، وذلك
وفق ما دلت عليه النصوص، بينما يرى أهل الكلام أن التوحيد هو نفي الشبيه عن
الله ولا يركزون بتاتاً على توحيد الألوهية الذي هو معنى شهادة لا إله إلا الله؛
وحتى لا تهمل كثير من نصوص الوحي، وحتى لا يضرب بعضها ببعض فإن أهل
السنة يجعلون العمل هو المتغير الذي يميز الدالة الإيمانية، فالإيمان يزيد بالعمل
الصالح من الطاعات والعبادات المختلفة وينقص بالمعاصي وترك العمل الصالح،
وهذا على وفق ما اقتضاه الشارع الحكيم واضع العقيدة الإسلامية من تفاوت
المؤمنين في إيمانهم تبعاً لتغير الدالة الإيمانية، وبالتالي كان الجزاء متناسباً مع
درجة الإيمان، فكانت الجنة دار النعيم درجات أعلاها الفردوس وهي مقام الأنبياء
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
إننا نعتبر مقياس زيادة الإيمان من ناحية مقياساً موضوعياً وذلك حينما نجعل
العمل هو المقدار والكم الذي يزداد بزيادته، ولكن في الواقع مقياس زيادة الإيمان
ونقصانه يعتمد على النسبية النفسية؛ لأن تفاعل كمية العمل الصالح والطاعات مع
الوجدان والقلب يجعل المؤمن يشعر بذلك شعوراً لا يساوره شك فيسارع إلى العمل
الصالح بمختلف أنواعه؛ لكي يرفع درجات إيمانه، وهو الميدان الشريف للتنافس
بين المؤمنين تطبيقاً لقوله تعالى: [وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
السماوات والأرض أعدت للمتقين] [11] ، فهذه المسألة إذن نسبية؛ مادام لها
علاقة وطيدة بالقلب وبالوجدان.
إن إيمان أهل الكلام يتصف بالجفاف، وعدم تفاعل العقل مع القلب ولكن
بالنظر إلى عدم الانفصال الموضوعي بينهما فإن إغفال هذه الخاصية لا شك أنه
يبعدنا عن إدراك الحكم الموضوعي الشرعي الذي أراده صاحب العقيدة وواضعها
بما بثه من نصوص الوحي التي خاطب بها الناس كافة.
ومن المفيد أيضاً في هذا الصدد أن نعرج لكي نتطرق إلى كلمة في المنهج
فهناك أسئلة قد تفرضها هذه المنهجية منها السؤال الذي مفاده: لماذا ندرس العقيدة
ونسعى إلى معرفتها؟ والسؤال الآخر وهو: كيف ندرس هذه العقيدة؟ والجواب
الذي يناسب المنهجية الشرعية المؤسسة على منهج السلف أهل السنة والجماعة هو
ما كان مدعماً بالنص الإلهي، إننا ندرس العقيدة ونعمل على اكتساب معرفتها امتثالاً
لقوله تعالى [فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك] [12] وهذا الامتثال هو العلة
التي من أجلها خلق الله الخلق جميعاً [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] [13] ، إننا إذاً نعمل على اكتساب ومعرفة العقيدة لأن ذلك أمر، وامتثال الأمر عبادة،
والعبادة الخالصة هي معنى لا إله إلا الله التي أمرنا الله أن نعلمها، من خلال ذلك
فلا شك أن منهج معرفة هذه العقيدة الإلهية قد استبان واضحاً لكل ذي لب وفكر سليم
وفطرة إيمانية نقية إن المنهج الواجب اتباعه في معرفة العقيدة التي ترضي الله
ورسوله هو الذي يستند إلى قول الله ورسوله كذلك، فلا اعتقاد خارج هذين
المجالين، وهذا ما اصطلح عليه بمنهج العرض، حيث تعرض العقيدة عرضاً أميناً
ومن شأن ذلك أن يحافظ على إلَهية المصدر الاعتقادي الذي يتمثل في الوحي (كتاباً
وسنة) .
ثم إن الباحث المتخصص في الدراسات العقدية لاشك أنه يكون قد اكتسب عن
طريق منهج العرض ما هو واجب عليه أمام ربه، ومن الموضوعية التي يتطلبها
المنهج العلمي أن يواصل هذا الدارس المتخصص فينظر في عقائد الأمم من أهل
الكتاب وغيرهم، ومن أهل الإسلام على اختلاف مصادرهم ومناهجهم الاعتقادية،
ولا يكون ذلك ميسوراً إلا باتباع منهج يعتبر وسيلة وأسلوباً هو منهج النقد والرد
والمقارنة، على أن يكون مقياس الحق هو النص الإلهي في الكتاب والسنة؛ من
أجل ألا يوثر المنهج على المضمون الأصلي للعقيدة الإلهية. والله الموفق.
__________
(1) سورة المائدة: 101.
(2) سورة الذاريات: 56.
(3) سورة النحل: 36.
(4) سورة الزمر: 65.
(5) سورة النساء: 48.
(6) سورة البقرة: 255.
(7) سورة إبراهيم: 10.
(8) سورة النمل: 14.
(9) سورة الأعراف: 172.
(10) سورة الروم: 30.
(11) سورة آل عمران.
(12) سورة محمد: 19.
(13) سورة الذاريات: 56.(72/9)
مقال
وحدة الأمة: معوقات وإمكانات
د. عبد الكريم بكّار
ظلت الوحدة المحور الذي يجذب مشاعر سلفنا أهل السنة والجماعة وأنشطتهم
على مدار التاريخ، بل إن اسمهم يدل على ذلك، فهم متوحدون على السنة، وقد
ضحوا في سبيل ذلك بتضحيات كثيرة، ليس أقلها تحمل عسف الظلمة والطغاة،
وكيفوا كثيراً من اجتهاداتهم على نحو يجعل وحدة الأمة واجتماع الكلمة هدفاً أسمى،
وحاجةً ملحة، لكن ضعف الشورى وضعف الدولة المركزية في بغداد، وعدم
تطوير نظام إداري قوي مرن يحقق التوحيد في جوانب، ويحفظ الخصوصيات في
جوانب، وأسباب أخرى أدت جميعها إلى تفتت الخلافة العباسية ووأدها على يد
التتار عام 656 هـ، وقامت بعد مدة الخلافة العثمانية، فجمعت شمل كثير من
الدول والإمارات الإسلامية مرة أخرى. ونتيجة لتآمر كبير من الخارج، وقصور
أكبر من الداخل سقطت الخلافة العثمانية، وتشتت شمل العالم الإسلامي، ووقع
كثير من بلدانه في براثن الاستعمار الأوربي، الذي لم يخرج حتى شوّه كثيراً من
البنى الفكرية والثقافية لتلك الدول المستعمرة؛ حتى لا تختلف كثيراً بعد خروجه
عما كانت عليه قبله، بل إن بعضها ازداد حاله سوءاً! .
لكن على الرغم من كل ما حصل ظلت أشواق الوحدة تضطرم في النفوس،
وظلت الأبصار مشدودة نحو مستقبل لأمة الإسلام، يسوده الوئام والتناصر، ومع
كل صدع يصيب كيان هذه الأمة على أي مستوى كانت تتصدع قلوب كثير من
المخلصين الغيورين.
فما هي العوائق التي مازالت تحول دون أي شكل واسع ذي قيمة من أشكال
الوحدة، والتنسيق بين دول وشعوب العالم الإسلامي؟
نحن ننظر ابتداء إلى أن عقيدة التوحيد قادرة على جعل من يؤمن بها أمةً من
دون الناس يحكمها منهج واحد، وتنتهي إلى غايات واحدة، كما أن تلك العقيدة بما
يتبعها من أحكام ونظم تحدد أشكال التعامل بين هذه الأمة وبين غيرها من الأمم،
وهذا كله يجعل تحقيق شكل من أشكال الوحدة بين شعوب العالم الإسلامي أمراً
طبيعياً بدهياً، ولا سيما أن غير المسلمين ينظرون إليهم على أن لهم من التجانس
والتميز ما يجعلهم جميعاً في خندق واحد.
والعالم الغربي يسير اليوم بسرعة مدهشة نحو اعتبار كل المسلمين مهما تكن
درجة التزامهم أصوليين متطرفين معادين! .
وإذا كان الأمر كذلك فإن بروز أشكال من التعاون والتوحد بين الشعوب
والدول الإسلامية قد يكون مرهوناً إلى حد بعيد بنضوج الصحوة الإسلامية المباركة
وانتشارها وتمكنها، لكن هناك من العوائق والصعوبات ما يجب تذليله أو التخفيف
من غلوائه قبل أن نتمكن من تحقيق ما نريد، ولعلنا نوجز فيما يلي أهم تلك
العقبات:
1- إن حالة السكون والركود التي يعيشها كثير من شعوب العالم الإسلامي
ستنتج دائماً التفكك والتمزق، فالانطلاق الراشد يؤمّن ترابطاً عجيباً بين سائر بُنَى
الأمة ومؤسساتها، حيث تتمكن الأمة من حل كثير من المشكلات كما أنها لا تتوهم
العناء حينئذ من مشكلات لا وجود لها.
2- هناك علاقة حساسة بين الوحدة والحرية قد تصل إلى حد التضاد في
بعض الأحيان، مع أن كلاً منهما يؤمّن حاجات أساسية للفرد والأمة، فالوحدة قيود
قد تصادر بعض الحريات، وتستلب شيئاً من المكاسب، وهذا على كل المستويات، والناس حين يتحملون أعباء الوحدة وقيودها إنما يفعلون ذلك لما توفره من حاجات
ومصالح، ولما تدفعه من مخاطر التشرذم، فإذا أحس متحدان (شعبان أو شخصان)
أن أعباء الوحدة أكبر من منافعها صاروا جميعاً إلى التخلص منها، مهما تكن
العواطف قوية نحوها! وهذا هو أكبر سبب أدى ويؤدي إلى الانفصال بين الدول
والجماعات على مدار التاريخ (وهذا هو السبب الذي يؤدي إلى الطلاق بين
الزوجين) ، وهذا يعني أن تفكيراً عميقاً ودراسات مستفيضة ينبغي أن تسبق كل
شكل من أشكال التوحد؛ حتى لا يصبح ذلك الهدف الكبير من أهداف الأمة حقلاً
للتجارب المخفقة.
3- تتطلب الوحدة الإسلامية بروز قدرة حسنة على (التكيف) عند أفراد الأمة؛ إذ إن الوحدة تتطلب التنازل عما هو هامشي وصغير ومؤقت في سبيل تحقيق ما
هو أساسي وكبير ودائم، وهذا يتطلب وعياً تاماً بمكاسب الوحدة وتكاليفها بل إن
الأمر يتطلب في بعض الأحيان موقف تضحية من قبل بعض الشعوب والجماعات
كما يضحي الشهيد بحياته، ويتنازل عنها في سبيل نصرة دينه ورفعة أمته، ولن
يقدم على هذه التضحية إلا المؤمن الذي تمكن الإيمان من قلبه؛ فالفهم العميق
والإيمان المكين شرطان لابد منهما لحصول ذلك، والنقص فيهما أو في أحدهما قد
يؤدي إلى تصارع فئتين دعواهما واحدة.
4- الفوارق الاقتصادية الكبرى بين كثير من شعوب العالم الإسلامي تجعل
تحقيق الوحدة أمراً غير يسير، ويذكر في هذا السياق أن التبادل التجاري بين الدول
الإسلامية لا يتجاوز 4% من مجمل تجارتها، أما ال 96% فهو مع دول غير
إسلامية، وسبب ذلك أن الغرب ظل على مدار ثلاثة قرون يكيف حاجات الشعوب
الإسلامية مع فوائض إنتاجه؛ حتى لا يجد المسلم شيئاً من حاجاته إلا في الغرب،
أو في بلدان استوردته من الغرب! .
5- على الصعيد الثقافي ذي الأثر الخطير في العلاقات بين الشعوب نلاحظ
أن أكثر مناطق العالم الإسلامي هي مراكز لاجتياح العواصف والأعاصير الثقافية،
فهذا بلد متأثر ببلد مجاور له غير مسلم، وهذا متأثر بمن استعمره، وآخر بمن
أرسل إليه البعثات ... وهكذا. والوحدة حين تقوم لابد أن ترتكز على عدد من
الركائز التربوية والثقافية إلى جانب الركائز العقدية والاقتصادية، وهذا ما نجده
ضامراً إلى حد بعيد في كثير من بلدان العالم الإسلامي.
6- يفتقد العالم الإسلامي اليوم النواة الصلبة القادرة على تبني الأطر
الوحدوية وتعزيزها، والتي تمتلك في الوقت ذاته القدرات والإمكانات التي تجذب
دول العالم الإسلامي وشعوبه نحوها، وإذا علمنا أن الظواهر الكبرى لا يمكن أن
تنشأ إلا حول نواة تَنْشدّ إليها وتتحدد من حولها أدركنا الصعوبات التي تواجه
الأعمال التوحيدية في العالم الإسلامي.
7- شهد أكثر بلدان العالم الإسلامي نشاط تيارات، وطنية، وقومية،
وإقليمية نبتت لتملأ الفراغ الذي خلفه انهيار الخلافة العثمانية، وهذه التيارات
أفرزت فلسفات وأدبيات تمجد الكيانات الصغيرة، وتبحث لها عن أمجاد خاصة
بعيداً عن الولاء للوطن الأكبر، مما يستدعي جهوداً فكرية وأدبية وثقافية كبرى تعيد
بناء العلاقة السوية بين عالمنا الإسلامي الكبير، وبين الأوطان الإقليمية التي نعيش
فيها، والأعراق والأجناس التي ننحدر منها.
هذه بعض المعوقات التي تقف أمام خطوات توحيد العالم الإسلامي لكن لأن
الوحدة في عمومها مطلب شرعي ومصيري فإن السعي نحو التقليل من أسباب
الشتات والفرقة، وبلورة بعض الأطر والمؤسسات التوحيدية يظل هدفاً وهاجساً لكل
الغيورين على هذه الأمة والمخلصين لهذا الدين.
وبما أن الحديث موجه أصلاً إلى هؤلاء، فإن بالإمكان أن نذكر بعض
الإمكانات المتاحة للأفراد والهيئات الشعبية والرسمية، مما يعد تمهيداً لجمع شمل
الأمة على مستوى ما، وبكيفية من الكيفيات على الوجه التالي:
1- تحتل اللغة العربية مكانة هامة بين وسائل التوحيد، ومن ثم فإن المدخل
الصحيح لكل أنواع التقريب بين المسلمين هو تعميم العربية بين الشعوب الإسلامية
التي لا تنطق بها باعتبارها لغة أولى؛ إذ إن اللغة ليست وعاء فقط، لكنها وعاء
ومضمون وقوالب للتفكير في آن واحد [*] ؛ وينظر المسلمون في بقاع الأرض إلى
العربية نظرة إجلال وتقدير لكونها لغة كتابهم ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-
وتراثهم الروحي والثقافي، وهذا يساعد كثيراً في الإقبال على تعلمها ونشرها،
ومن واجب الجماعات والمؤسسات والهيئات المختلفة أن تسعى لإدخال العربية إلى
مناهج تلك الشعوب باعتبارها لغة ثانية، كما أن من واجبها العمل على فتح المعاهد
والمراكز التي تعلم العربية.
2- من واجب الجماعات والمؤسسات الإسلامية أن تسعى إلى بلورة بعض
الأطر الوحدوية كالاتحادات الإسلامية مثل (اتحاد المدرسين المسلمين، واتحاد
التجار المسلمين) .. وهكذا، وهذا الأمر ليس باليسير إذا أدركنا أهميته، وفرغنا له
الكفاءات والطاقات المطلوبة.
كما أن من المطلوب منا أن نسعى في المنطقة العربية إلى إدخال لغة إسلامية، كالتركية، أو الأردية إلى مناهج تعليمنا، حتى نقيم جسور الأخوة والتفاهم بيننا
وبين إخواننا.
3- للدعاة الذين يجوبون العالم الإسلامي دور خطير في اكتشاف كل ما ينمي
أوجه التعاون والتكامل بين بلدان العالم الإسلامي ثم الكتابة عن ذلك ونشره، لتتعزز
معرفة المسلمين بالإمكانات التوحيدية المتاحة.
4- العالم الإسلامي بحاجة إلى عدد من مراكز المعلومات والدراسات
المرموقة التي تعنى بتثقيف الناس بهموم العالم الإسلامي، والكشف عن إمكاناته
الاقتصادية والتجارية وغيرها؛ بغية حث الناس على توجيه طاقاتهم وتحركاتهم
نحوها.
5- في زماننا هذا قد يكون الاقتصاد في كثير من الأحيان هو ما تبقى من
السياسة، بل إن السياسة تتجه لتتمحض لخدمة الاقتصاد، وفي هذا الصدد فإن من
الحيوي لنمو الصناعات في العالم الإسلامي إقبال المسلمين على استهلاكها، وسد
حاجاتهم بها، ونحن نقف في كثير من الأحيان من هذه المسألة الموقف المنكوس
حيث ننتظر تحسن الصناعة حتى نقبل على استهلاكها، مع أن من أهم سبل تنميتها
وتحسينها ارتفاع مبيعاتها، ونجد في هذا الشأن أن أبناء الصحوة لم يفعلوا شيئاً ذا
قيمة في طريق تشجيع الناس على ش'راء المصنوعات الإسلامية: لا عن طريق
الطرح في الإطار النظري ولا عن طريق القدوة الحسنة! .
6- يتطلب توحيد العالم الإسلامي المرحلية والتدرج على مستوى المؤسسات
وعلى مستوى الأقاليم، والكتل الإقليمية يمكن اعتبارها خطوات إيجابية على
الطريق إذا قامت على النهج الإسلامي، وكانت مفتوحة، تشجع الانضمام إليها،
وتنمي في الوقت ذاته أدبيات (الكل) الإسلامي المنشود.
وفي الختام فإنني أعتقد أن الطريق شاق وطويل لكنه الطريق الوحيد الذي لا
مفر منه، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وحين يتوفر الإخلاص فإن رحمة الله
قريب من المحسنين.
__________
(*) ومع التسليم بأهمية اللغة العربية إلا أننا نعتقد أن (العقيدة) الحقّة المنبثقة من التوحيد الخالص هي الخطوة الأولى لأي عمل وحدوي، وأهمية إشاعتها وتصحيحها مطلب مهم يجب البدء به، وهذا ما أشار إليه الكاتب الكريم في بدايات مقاله، ولا يُعارِض ما ذكره هنا إذ إن العربية هي الوسيلة المثلى لفهم نصوص الوحي وتعلم عقيدة الإسلام.
-البيان-(72/19)
خواطر في الدعوة
شبكة العلاقات الأخوية
محمد العبدة
ليس أغيظ للأعداء من أن يروا المسلمين المؤمنين متآلفين متآخين، وقد كان
تماسك المجتمع الإسلامي الأول مما أغاظ المنافقين الحاقدين، وهذا دأب أعداء
الإسلام في كل زمان ومكان، ولذلك مَنّ الله سبحانه وتعالى على رسوله بأن جمع
قلوب المسلمين فقال: [وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاْ ما ألَّفت
بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم إنه عزيز حكيم] [1] إن نظرة إلى الساحة
الإسلامية اليوم لابد أن ترينا ضعف العلاقات الأخوية، وما يترتب عليها من
انحسار الآمال وقلة المردود.
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شديد الحرص على الأخوة بين
الصحابة، لا يحب أن يعكر صفوها أو يضعفها كلمة جارحة، أو كلمة تُنقل، وقد
علّم المسلمين قاعدة في العلاقات الأخوية مخافة أن تقطع، فقال: «لا يبلغني أحد
منكم عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر» . ومن
حرصه -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأخوة ما قاله لأبي بكر رضي الله عنه
في كلمة بدرت منه لبعض الصحابة، فقد حدث أن مرّ أبو سفيان بن حرب بطائفة
من المسلمين فيهم صهيب وبلال، فقالوا: (ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها، فقال لهم أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ وذكر أبو بكر ذلك للنبي -صلى الله
عليه وسلم- فقال له: «لعلك أغضبتهم، لإن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك» ،
فقال لهم أبو بكر: يا إخوتي، هل أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أبا بكر) .
ويعلق ابن تيمية على هذا الحديث فيقول: لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضباً لله، لكمال ما عندهم من الموالاة لله ورسوله، والمعاداة لأعداء الله ورسوله [2] .
إن حقوق الأخوة كثيرة، ومنها: أن لا يكون في قلب الأخ سخيمة على أخيه، ولا يفشي له سراً، ولا يُماريه أو ينافسه، وأن لا ينقل له قدح غيره فيه وأن
يقضي حوائجه، قال بعض السلف: «إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها،
فذكّره ثانية فلعله أن يكون قد نسي، فإن لم يقضها فكبّر عليه واقرأ هذه الآية
[والموتى يبعثهم الله] .
ولا يكثر من العتاب، فإن كثرة العتاب سبب للقطيعة، كما أن قلته دليل على
قلة الاكتراث وكذلك الزيارة، فإن قلتها تعقب الجفوة، وتحل عقدة الإخاء.
إن تراكم الأخطاء في هذه العلاقات مما يشحن النفوس، ويوغر الصدور،
ولذلك قال بعض علماء النفس المعاصرين: إن العقد النفسية ليست من داخل الفرد
وإنما من العلاقات بين الأفراد.
فلماذا لا نحافظ على الأخوة في الله التي تذكرنا بالآخرة، والتي تخفف كثيراً
من أعباء هذه الحياة الدنيا؟ !
__________
(1) سورة الأنفال: 62.
(2) الفتاوى، 10/58.(72/26)
دراسات تاريخية
تاريخنا..
بين كيد أعدائه.. وإعراض أبنائه!
د. محمد بن صامل السّلمي
التاريخ هو الوقائع والأحداث والأعمال الصادرة من الإنسان بدوافعه المختلفة ...
أما معرفة الأسباب والبواعث والنتائج والربط بين الأحداث المختلفة فهو
تفسير التاريخ، ويختلف التفسير للأحداث والأعمال من مؤرخ لآخر حسب المنهج
الفكري الذي يسلكه، والعقيدة التي تحركه، والمعرفة الصحيحة لسنن الله في
الأنفس والآفاق ولقضائه وقدره.
وتاريخنا الإسلامي تعرض لحملات من الكيد والتشويه في تزوير الوقائع
والأحداث، وفي تفسيرها وتوجيهها.
فمن النوع الأول: الروايات المكذوبة التي لا أصل لها بالكلية، أو الأخبار
التي لها أصل ولكن أضيف إليها ما ليس منها، أو أنقص منها حتى تؤدي الغرض
المقصود من التشويه والتحريف، أو الوقائع والأخبار التي توضع في غير سياقها
الصحيح.
فمن الروايات المكذوبة التي لا أصل لها ما ذكره الطبري في تاريخه من
رواية هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف لوط بن يحى الأزدي في خبر
المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعده، حيث ذكر أن علي بن أبي طالب في
وقت المداولة في سقيفة بني ساعده: كان دائباً في جهاز رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-[1] وهذا كذب لمخالفته للخبر الذي أخرجه البخاري في صحيحه من رواية
مالك ومعمر من أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد لزم بيته [2] ، وكذا ما
ذكره من خطبة لأبي بكر في السقيفة يقول فيها مخاطباً الأنصار: «وفيكم جلة
أزواجه وأصحابه» [3] ، وهو كذب إذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج
أنصارية قط فضلاً عن أن يكون جُلّ أزواجه من الأنصار، وكذا ما نسبه لأبي
عبيدة رضي الله عنه في قوله للأنصار: «يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر
وآزر فلا تكونوا أول من بدّل وغيّر» [4] ، فقد تفرد بهذا أبو مخنف وهو رافضي
كذّاب.
وكذلك نسبته خطبة للحباب بن المنذر يقول فيها: «يا معشر الأنصار املكوا
على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه؛ فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر،
فإن أبوا عليكم ما سألتموهم، فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور،
فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن
يدين [5] .
ومن ذلك أيضاً الرواية المشهورة في التحكيم التي أوردها الطبري في تاريخه
من رواية أبي مخنف، وفيها قوله عن عمرو بن العاص يخاطب أبا موسى
الأشعري:» إنك صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت أسن مني،
فتكلم وأتكلم فكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء، قصد بذلك كله
أن يقدمه فيبدأ بخلع علي « ... إلى أن قال:» أرى أن نخلع هذين الرجلين
ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا ... فقال
عمرو: يا أبا موسى تقدم فتكلم، فتقدم أبو موسى فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نرَ أصلح لأمرها، ولا ألم لشعثها
من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل
الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت علياً ومعاوية ... ثم
تنحى، وأقبل عمرو بن العاص، فقام مقامه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم،
وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه، وأثبت صاحبي معاوية؛ فإنه وليّ عثمان بن
عفان والطالب بدمه ... الخ « [6] .
فهذه الرواية رغم شهرتها إلا أنها باطلة لضعف رواتها، وعدم اتصال إسنادها
، ولمخالفتها للأخبار الصحيحة، فمثلاً قوله إن أبا موسى أسن من عمرو بن العاص
ليس بصحيح، فقد توفي أبو موسى وعمرو في سنة واحدة وكان عمر أبي موسى
ثلاثاً وستين سنة، وعمرو بن العاص يناهز التسعين فالأسن والأكبر هو عمرو بن
العاص وليس أبا موسى، كما أن قوله بأنهما اتفقا على خلع علي ومعاوية غير
مستقيم لعدة أمور منها:
أن موضوع النزاع ليس على الخلافة بل على القصاص من قتلة عثمان
وأيضاً أن علياً قد بويع بيعة شرعية صحيحة، وإذا تم ذلك للخليفة فإنه لا أحد يملك
خلعه إلا أن يأتي بما يوجب ذلك، ولم يرتكب علي رضي الله عنه ما يوجب خلعه
من الخلافة.
وأيضا فإنه قد وردت رواية صحيحة أخرجها البخاري في التاريخ الكبير
وأخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق، تخالف هذه الرواية وهي أن الحكمين لم
يتفقا على شيء محدد فيما اجتمعا له [7] .
ومن الأمور أيضاً: أن معاوية لم يكن خليفة حتى يخلع، وإذا كان القصد من
إمارة الشام، فإن هذا أمر لا يملك الحكمان فعله، بل هو راجع إلى الخليفة فهو
الذي يولي ويعزل الولاة [8] .
ومن الأخبار التي قد يكون لها أصل، ولكن أضيف إليها، وزيد عليها بقصد
التشويه والتحريف، ما ذكره الطبري في تاريخه، قال: حُدّثْتُ عن هشام بن محمد
الكلبي قال: حدثني عوانة ابن الحكم قال: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل
أبو سفيان وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفؤها إلا دم! ! يا آل عبد مناف
فيمَ أبو بكر من أموركم! ! أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ! وقال
: أبا حسن أبسط يدك حتى أبايعك فأبى عليّ عليه فجعل يتمثل بشعر المُتَلمّس:
ولا يقم على هون يراد به ... لا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسفِ مربوط برمته ... وذا يُشَجّ فلا يبكي له أحد
قال: مزجره عليّ وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالم
بغيت للإسلام شراً! ! لا حاجة لنا في نصيحتك [9] .
هذا الخبر له أصل، ولكنه ليس بهذه الصورة، فقد أخرج الحاكم في
مستدركه وصححه ووافقه الذهبي: أن أبا سفيان لقي علياً بعد بيعة أبي بكر فقال:
» يا عليّ علامَ هذا الأمر في أقلّ من قريش؟ ! فقال علي: وما شأنك وهذا، إنا
وجدنا أبا بكر لها أهلاً، فطالما يا أبا سفيان بغيت على الإسلام وأهله «، فقد نهره
علي بهذه الكلمة، وليس فيها تلك الإضافات والزيادات الطويلة التي زادها الكلبي أو
عوانة بن الحكم، وهما من الرواة الضعاف والمتهمين في عدالتهم.
ومن الأخبار التي توضع في غير سياقها حتى تؤدي غرضاً مشوشاً، أو تُبْتَر
عن أسبابها، قصة ذلك الرجل المصري التي أخرجها البخاري في كتاب فضائل
الصحابة من صحيحه باب فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: حدثنا
موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان بن موهب قال: جاء رجل من
أهل مصر وحج البيت، فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء
قريش، قال فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: هو عبد الله بن عمر قال: يا ابن عمر إني
سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، فقال:
تعلم أنه تغيّب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال الرجل: هل تعلم أنه تغيّب عن
بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين
لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه
كانت تحته بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت مريضة، فقال له رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه وأما تغيبه
عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى
مكة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده اليمني: هذه يد عثمان فضرب
بها على يده فقال: هذه لعثمان، فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك.
فهذا الرجل كان منحرفاً على عثمان، وقد صورت له الأمور على غير
صورتها وذكرت له بعض الأعمال التي فُصِلت عن أسبابها فتصور من ذلك
حصول النقص والتقصير من عثمان رضي الله عنه، ولذلك انتبه ابن عمر لقصده
وبيّن له الأسباب الموجبة لهذه الأفعال، وقرن كل مسألة بعذر عثمان فيها ثم قال له: الآن اذهب بها معك، فقد وضح الأمر وتبين عذر عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ومن النوع الثاني: تفسير الأحداث وتوجيهها حسب الأهواء والمعتقدات،
وهو الميدان الكبير الذي عاث فيه الحاقدون على هذا الدين وأهله قديماً وحديثاً
وبخاصة المستشرقون ومن تتلمذ عليهم وتأثر بهم، ومن انحرف فهمه ولم يرجع
إلى أصول عقيدته ودينه، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً سواءً على الأفراد أو الدول
أو المفاهيم والموضوعات الإسلامية.
فمثلاً: حركة الرّدة التي وقعت بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
تفسر من قبل الرافضة بأنها خروج على سلطان أبي بكر، وليست خروجاً من
الدين والسبب كما يقولون: أنهم لم يجدو الإمام الحق بعد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولذلك لم يطيعوا وينقادوا
لأبي بكر.
وتفسر في الدوائر الاستشراقية بأنها عصيان مدني على السلطة الحكومية ولا
علاقة لها بالدين، ويتابعهم بعض القوميين العرب على هذا التفسير حتى لا يوصم
العرب بهذا العار الذي هو الردة، وكذلك حركة الجهاد والفتوح تفَسّر بتفسيرات
غريبة وبعيدة في الواقع عن الجهاد وواقع المجاهدين المسلمين وهدفهم الواضح،
وهو إعلاء كلمة الله، وإدخال الناس في دين الله، فنجد من يفسر حركة الجهاد بأنها
حركة طبيعية، فطالما خرجت هجرات من الجزيرة العربية لطلب الرزق وسعة
العيش في بلاد الهلال الخصيب، لأن طبيعة الصحراء العربية طاردة للسكان، كما
تفسّر بأنها استرداد لملك الساميين الذين يرجع العرب إليهم، أو أنها طلبُ للملك
والسلطان، أو أنها استنقاذ للقبائل العربية التي كانت قاطنة في تلك المناطق
وتخضع للرومان أو الفرس.. إلى غير ذلك من التبريرات والتفسيرات التي لا
تمت إلى واقع المجاهدين المسلمين بشيء وإنما هي تصورات نابعة من فكر
وتصور الكاتب والباحث، وبحسب ما يرى من أغراض الناس وأهوائهم وشهواتهم
المتعددة التي لا تنضبط ولا تنحصر، أما المسلم الملتزم بشريعته فإن حركاته
وأعماله وأهدافه محكومة بالشريعة الربانية ومتابعة لما جاء به النبي -صلى الله
عليه وسلم-.
وإن تاريخنا الإسلامي بحاجة إلى رجال أمناء حريصين على تاريخ أمتهم
ويعرفون خطط أعدائهم وكيدهم المستمر، ويتلقون العلم من مصادره الصحيحة
والمأمونة، ويتبعون في البحث والتحقيق منهجاً علمياً رصيناً، ولا يقبلون قولاً
بغير دليل، ويفحصون كل ما يقدم لهم؛ حتى لا يقعوا فريسة لكيد أعدائهم.
وأسأل الله أن يقيّض لهذا العلم من يخدمه، ويزيل عنه الغبش والتشويش،
ويخرجه في صورة بيضاء ناصعة، كما هو الواقع الحقيقي لتاريخ أمتنا، وخاصة
الصدر الأول والقرون المفضلة.
__________
(1) تاريخ الأمم والملوك (3/218219) .
(2) صحيح البخاري (8/8687) .
(3) تاريخ الأمم والملوك (3/220) .
(4) المصدر نفسه (3/221) .
(5) المصدر نفسه (3/220) .
(6) المصدر نفسه (3/71) .
(7) التاريخ الكبير للبخاري (5/398) .
(8) يراجع كتاب مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري، د يحيى إبراهيم اليحيى.
(9) تاريخ الأمم والملوك (3/209) .(72/28)
نصوص شعرية
ألمْ يَأنِ أنْ نصحو؟ !
د. محمد بن ظافر الشهري
عجبتُ لنا مهما يحيقُ بنا نَسلُو ولو سُلِبَتْ أرضٌ ولو هَلكَ النسلُ
ولو هتكَ الأوغادُ سترَ حريمنا ولو هُدِمَ الأقصى ولو طُرِدَ الأهلُ
ولو رسموا أمراً بلبس صليبهمْ وقرعِ نواقيسِ الكنيسةِ لم نَألُ!
كمثل غثاء السيل «مليارُ» مسلمٍ ... كما بَيّنَ المختارُ ذلك من قبلُ
أرى أمةَ الإسلام قد طال نومُها قد افترشتْ ذلاً وألحفها ذلّ
ولمّا تُحرّكها مصيبةُ طاجكٍ ولا نكبةُ البشناقِ إذ فَحُشَ القتلُ
ولا غصةُ العذراء هَدّمَ خدرها وأسلمَها للعارِ راغمةً نذل
تحاول أن تنسى ليرقَأ دمعُها ولو أنها تنسى لذكّرَها الحَمْلُ!
مصائبنا تترى فكل مصيبةٍ على نائباتِ الدهرِ من قبلها تَعلو
ولم تُنسنا كابولُ قصةَ قدسنا وجاءت سراييفو فأضحى بها الشغلُ!
ذِهِلْنَا فلم نفطن لنظرتهم لها وكم زلةٍ للعينِ تتبعها الرّجلُ
فعاث بها الأعداءُ كيف بدا لهمْ وقد فعلوا ما لا يصدقه عقلُ
ودكّ بيوتَ الله أكفَرُ كافرٍ له الويلُ والزقومُ والنارُ والمُهلُ
قد استنصرَ البشناقُ أبناءَ دينهمْ فكان جوابَ «القوم» حاصلُه الخَذْلُ!
ولما رأينا الحرب قد طال أمرها وأُكثِرت الشكوى وألحفَت الرّسْلُ
«أمَرْنا» جميع الغرب أن يأخذوا على ... يد الفيلق الباغي وإلاّ لهُ الويلُ!
تضاحكَ أهلُ الشرق والغرب عندما نطقنا وقد يُزري بقائله القولُ
نهددهمْ بالعزم فاستهزؤا بنا فهزلُهُمُ عزمٌ وعَزْمَتُنا هَزْلُ! !
وقالوا لنا كفوا عن الجهل واصبروا فمشكلةُ البشناقِ أنشأها الجهلُ!
لقدخَبرَ الكفارُ قلةَ فعلنا وما قيمةُ الأقوالِ يخذلها الفعلُ؟ !
فعدناإلى البشناق نحمل خُبزَنا وماذا عسى يغني عن الميتِ الأكلُ؟ !
عَهدْنا إلى «غالي» بجود نفوسنا ... فَنَوّلَهُ الباغي على أنه جُعْلُ
هُم طلبوا جيشاً يرابط عندهمْ ومطلبهم قوسٌ ومطلبهم نبلُ
لقد عقد الكرواتُ والصربُ حلفهم لحصرِ بني الإسلامِ كي يُحكمَ القفلُ
أرى النهرَ لا يجري إذا جَفّ نبعُهُ ولا يضربُ البتّارُ إن كُسِرَ النّصْلُ
ولكنّ أشبالاً ببسنَةَ لم تزل تُباسِلُ أوباشاً ولا ييأسُ الشّبْلُ
ألا ذَكَرَ الباغونَ موكبَ فتحنا غداةَ هزمناهم يرافقنا العدلُ
سيشهدُ أطفالٌ وشيبٌ ونسوةٌ بفضل بني قومي وهل يُنكَرُ الفضلُ؟
ظهرنا فلم نهدم بناءَ كنيسةٍ فإن سيوفَ الله شيمتُها النّبلُ
إذا برز المقدامُ نطعمه الردى ونخجلُ أن يُردَى بأسيافنا الفَسلُ
وذلك لمّا كان يَحكُم شرعُنا إذا قال في أمرٍ فقولتُه الفصلُ
فلما تحاكمنا إلى شرع غيرنا وصار إلى أعدائنا العقدُ والحَلّ
تمكن جند الكفر من رأس أمرنا وكان لنا من أمر أمتنا الذيلُ
ومهما يسوءُ الحالُ فالفألُ طيبٌ فإنّ رسول الله يعجبه الفَألُ
لقد آنَ أن نصحوا فقد طَالَ فجرُنا على ليلنا البالي ولن يَثبُتَ الليلُ
وها نحن قد عدنا إلى ديننا الذي على صفحة الحدباء ليس له مثلُ
تَخِذْنا من الوحيين منهجَ دعوةٍ نبلغها ببضاءَ منطقها جَزلُ
فإن نالنا الإيذاءُ فالصبر زادنا وكل الذي نلقاه من أجلها سهلُ
فإنّ الذي رباه دينُ محمدٍ إذ قيل جُدْ بالنفس طابَ له البذلُ
سننشرُ نورَ الدين في كل بقعةٍ ليسفرَ من أقباسه الوعرُ والسهلُ
ونحمل رايات الهداية للورى فإن هلكَ الآباءُ يحملها النّجْلُ(72/36)
متابعات
قراءة نقدية
د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي
أعترف بدءاً أنني أخضع لمزاجية عجيبة في الكتابة النثرية، حيث تمر بي
فترات طويلة وأنا أتهيأ للكتابة في موضوع ما من موضوعات الثقافة والأدب دون
أن أتمكن من البدء في الكتابة فعلاً، فإذا تجاوزت هذه المرحلة وكتبت تعاملت مع
الموضوع أو القضية تعامل الباحث الحريص على توثيق معلوماته فالحمد لله الذي
جعل هذه الإيجابية تقابل تلك السلبية، ولله في خلقه شؤون.
أذكر هذا لأقدم عذراً عن الأخوة في مجلة البيان إلى الأخوة والأخوات قراء
هذه المجلة؛ إذ أنني وعدتهم حينما عرضوا عليّ الكتابة النقدية لما نشر من أعمال
أدبية نقدية وإبداعية في أربعة أعداد من المجلة، وعدتهم بالكتابة، ثم مررت بتلك
المزاجية المزعجة التي تنشأ أثناءها وحشة بين يدي وقلمي، حتى إذا شارف هذا
الملحق الأدبي على الصدور وتوالت اتصالات الأخوة بي لإنجاز ما وعدتهم، يسّر
الله لي اقتحام حاجز تلك المزاجية فكتبت هذه الدراسة على عجلة من أمري، وإنما
أعتذر هنا عن مجلة البيان ليعلم الأخوة أنني السبب المباشر في حرمانهم من دراسة
نقدية أعمق وأشمل كان بالإمكان أن يكتبها غيري من النقاد الإسلاميين المقتدرين.
حينما قرأت البيان الأدبي في عدد (67) الصادر في شهر ربيع الأول 1414
هـ 9/1993م، واجهت أول موضوع فيه بعنوان «نحو شعر إسلامي مبدع
» للأستاذ إبراهيم بن منصور التركي، وبعد قراءة متأنية لهذا الموضوع برزت أمامي صعوبة كتابة هذه الدراسة النقدية التي يُفترض فيها أن تتناول ما نشر من أدب في أربعة أعداد من مجلة البيان، ذلك لأن موضوع «نحو شعر إسلامي مبدع» يحتاج إلى وقفات مع عدد من القضايا التي تثار بصورة مستمرة في المنتديات واللقاءات الأدبية وعلى صفحات المجلات، بل وفي بعض الكتب والدراسات النقدية، وهذه الوقفات كفيلة مع الاختصار أن تذهب بالمساحة المخصصة لهذه الدراسة النقدية، أو أن تذهب بجهد الكاتب وفورة نشاطه، فما يبقى بعد ذلك للموضوعات الأخرى مجالٌ أو نصيب من هذه الدراسة، وهذا ما جعلني أفكر في أمر هذه الدراسة النقدية ثم أصل بعد هذا التفكير إلى اقتراح أطرحه أمام الأخوة في مجلة «البيان» لعلهم ينفذونه، وهو: أن يقوم بهذه الدراسة النقدية عدد من الدارسين يختص كل واحد منهم بدراسة الإبداع الأدبي في عدد من أعداد المجلة، وفي هذا إتاحة الفرصة لعدد أكبر من النقاد، كما أن فيه تنويعاً في الدراسات النقدية، وإثراءً للملف الأدبي وتسهيلاً على الناقد، فآمل أن يعمل بذلك مستقبلاً.
وأقول للأخوة والأخوات: إنني لن أستطيع أن أدرس هنا النصوص الأدبية
شعراً ونثراً ولا الدراسات النقدية التي نشرت في الأعداد الأربعة الماضية من مجلة
البيان، وذلك لعدم إمكانية إنجاز هذه الدراسة الشاملة ونشرها في مساحة محدودة
ووقت محدود.
ولربما اقتصرت دراستي هذه على مناقشة بعض القضايا التي وردت في
المقال النقدي الذي أشرت إليه سابقاً «نحو شعر إسلامي مبدع» ، فأقول وبالله
التوفيق:
إنني أولاً أحتفل احتفالاً نفسياً كبيراً بكل دراسة نقدية إسلامية أراها، لأن
الأدب الإسلامي بحاجة ماسة إلى الدراسات النقدية الجادة التي تتصف بالموضوعية
القائمة على رؤية فنية شمولية وتصور إسلامي نزيه والإبداع الإسلامي في مجال
الأدب نثره وشعره غزير غزارة المشاعر الإسلامية التي تملأ نفوس المسلمين في
هذا العصر، ولكن المواكبة النقدية لهذا الإبداع ماتزال قاصرة عن دراسته وغربلته
وتقديمه للناس أدباً بديعاً يرتقي بالأذواق ويحرك المشاعر، ويحقق المتعة، ويؤدي
الرسالة.
وقد سرني ما ورد في هذه الدراسة النقدية التي نحن بصدد الحديث عنها من
إشارات فنية لها قيمتها في مجال الدراسات الأدبية، كما سرني ما أشار إليه الكاتب
من ضرورة وجود رؤية إسلامية في الأدب تطهر الساحة الثقافية التي «ثملت من
ماء الفكر الآسن المتلوث بمعميات العلمانية والقومية والعقلانية والتنوير وما
أشبهها» .
ولكن هذه الدراسة وقعت فيما تقع فيه كثير من الدراسات النقدية المستعجلة
من أحكام عامة، ومن اعتماد على بعض الآراء النقدية الشائعة حول فنية النص
الأدبي وجماليته ومدى مشروعية المنفعة في النص الأدبي، وتعارض هذه المنفعة
مع «المتعة الفنية» التي يحققها الأدب لقرائه.
ويحسن بنا أن نرتب القضايا التي وردت في هذه الدراسة ترتيباً يتيح لنا أن
نناقشها مناقشة موضوعية نافعة:
1- قضية الفهم الناقص لإسلامية الأدب، وقد كان الكاتب على حق فيما ذكره
من القراءات الخاطئة عند بعض نقاد الأدب الإسلامي، تلك القراءات التي
اضطربت بسببها الأحكام النقدية التي أُطلقت على بعض الأعمال الأدبية، فالحق أن
مسرحية «أهل الكهف» لا تمت إلى إسلامية التصور بصلة، ولا تتصل بالأدب
الإسلامي بسبب من الأسباب وإن كانت تحمل اسم سورة من سور القرآن الكريم،
وتُشير إلى قصة وردت موجزة في بعض آياته، وما قيل عن هذه المسرحية يقال
عن المسرحية الشعرية «مأساة الحلاج» التي كتبها الشاعر الماركسي صلاح
عبد الصبور ولكن هذه القراءات الخاطئة لا تعني اضطراب التصور الإسلامي في
الأدب في ذاته، وإنما اضطراب التصور في ذهن بعض النقاد، على أن هذا
الاضطراب قد بدأ يتلاشى بعد أن حظيت الرؤية الإسلامية في الأدب بعدد لا بأس
به من الدراسات النقدية الجادة، والحوارات الهادفة.
2- قضية فنية الأدب وجماليته وعلاقة ذلك بالمنفعة، أو بالهدف الخلقي وهنا
بدأ يضطرب قلم الأخ إبراهيم، حيث جنح إلى التعميم بصورة أفقدت دراسته في
هذه النقطة قيمتها النقدية، وقد بدأ هذا الاضطراب بقوله: «إذ لازال بعض من
منظري الأدب الإسلامي ومطبقيه يصر على تكبيل الشعر والحد من قدراته الجمالية، تارة بإلباسه عباءة الهدف الأخلاقي، أو سربلته تارة أخرى في ثياب المكاسب
النفعية المجردة» . وهذا الكلام بعيد عن حقيقة العلاقة بين جمالية النص الأدبي
ونفعيته فهو متأثر بتلك الأحكام النقدية العامة التي تُطلق من أصحاب نظرة «أدبية
الأدب» أو «شعرية الشعر» ، أو قبل ذلك جماعة الفن للفن، وهذا التأثر
المقصود أو غير المقصود نقصٌ كبير يحدث خللاً في دراسة الناقد الإسلامي الذي
يتصدى لدراسة النصوص الأدبية دراسة نقدية إسلامية وما كنت أظن أن الكاتب
سيقف هذه الوقفة المضطربة عند «غائية الأدب» ونفعيته، فالمسألة عندنا
واضحة لا تحتاج إلى أن ننقل بعض العبارات البعيدة عن حقيقة التصور الإسلامي
في الأدب، فقول الأخ إبراهيم: «أرى أن الفن بكل مفرداته ليس إلا عملاً غائياً
ينتهي عند تحقيق الإمتاع المشروع» ، إنما هي الشنشنة التي نعرفها من دعاة الفنية
الخالصة في العمل الأدبي، الذين يرون أن غاية الأدب تحقيق المتعة الفنية «لأن
الفن الخالص هو الذي يرفعنا إلى السعادة والمعرفة» على حد قول إدجار ألن بو. [1]
إن الاضطراب في هذه القضية ينشأ من عدم الإدراك الواعي لمعنى غائية
الأدب الإسلامي، تلك الغائية التي لا تدعو إلى الحد من قدرات النص الجمالية
والتي لا ترى أن «عباءة الأخلاق» تحول بين الشاعر والإبداع الفني، ولا نريد
أن ندخل في متاهات فلسفة الجمال وما يسمى بالإمتاع المشروع؛ لأن ذلك سيفتح
أمامنا نوافذ أسئلة كثيرة لا يتسع لها المقام هنا.
ولقد دفع هذا الاضطراب في الفهم الكاتب إلى أن يفصل بين الهدف الأخروي
والهدف الدنيوي، وذلك أمر عجيب، فإن النص الأدبي الذي يحقق هدفاً أخروياً،
إنما يحققه لما يحمله من هدف فيه منفعة عاجلة في الدنيا تكون هي السبيل إلى
تحقيق الهدف الأخروي، إن الشاعر الذي يجعل جمالية النص الشعري وسيلة نحو
هدف خلقي أو فكري أو إصلاحي شامل، هو الشاعر الذي يحقق غائية الأدب
الإسلامي التي ندعو إليها، ولا أدري كيف يخطر بالبال أن أدبية النص لا تتحقق
بشكلها الراقي إلا عندما يتجرد النص من النفعية، وقد كرر الكاتب كلمة «المكاسب
النفعية» وهي كلمة عامة هنا تحتاج إلى بيان، فإن كان المقصود بها المنافع
الشخصية التي يحصر الشاعر أو الأديب نفسه في إطارها، فهذه مسألة لها حديث
آخر، فإن الأدب الإسلامي بتصوره الشامل لا يقبل أن تطغى هذه المنافع الشخصية
على جمالية النص وإبداعه، بل إن هذه المنافع تقضي على القيمة الأدبية والمعنوية
للنص، وإذا كان المقصود بالمكاسب النفعية الأهداف العظمى التي يرمي إليها
الأديب من وراء أدبه، فإن هذه الأهداف هي التي تتعانق مع الجانب الفني في
النص لإعطائه القيمة الأدبية. وهذه القضية دار فيها الحوار بين النقاد واختلفت
فيها الآراء «فما مفهوم الجمال؟ وكيف يدرك؟ وما المقاييس التي ينضبط بها؟
وما نظرياته؟ وما فلسفته..؟» . لا شك أن الاختلاف في تفسير هذه المفاهيم
راجع إلى تعارض المذاهب واختلافها وخاصة أن هذا العلم حديث لا يمكن إخضاعه
للمناهج العلمية «. [2]
ومن هنا كان من الخطأ في دراسة الأخ إبراهيم أن يفرض رأيه على القضية
فيحكم بأن نفعية النص الأدبي وغائيته عائقٌ من عوائق الفنية والجمالية فيه، مع أن
الرأي الأصوب أن النص الأدبي يرقى إلى درجة النضج الفني عندما تنسجم جماليته
مع نفعيته فلا تجني إحداهما على الأخرى؛ والمتعة الفنية ليست هي الهدف
الأساسي في النص الأدبي، وإنما هي وسيلة تجعل للنص الأدبي قيمة خاصة عند
المتلقي؛ لتصل من خلاله الرسالة التي يهدف إليها الأديب.
فإذا كان» كانت «يرى أن للجمال بنية ذاتية في الفن، وأن جمال الفن يكمن
في هذه البنية الفنية دون النظر إلى المضمون والغاية» [3] ، فإن «ديدرو» يرى
أن تصور الفضائل محبوبة والرذائل مذمومة هو واجب كل إنسان كريم؛ فبين
الحق والخير والجمال وشائج، فيصير الحق جميلاً والخير جميلاً والصبر جميلاً
والنافع جميلاً «. [4]
بل إن» تولستوي «يؤكد أن الفن» يستطيع أن يقدم النفع للبشرية بمقدار ما
تقدمه أي وسيلة توصيل أخرى تكون نشطة في نفع البشر «. [5]
إن هذه الآراء التي صدرت من أدباء ونقاد بعيدين عن التصور الإسلامي
تؤكد أن القضية عندهم داخلة في دائرة الاختلاف، وما استشهدت بهذه الآراء إلا
لأذكر الأخ إبراهيم أن» نفعية الأدب «بمعنى» تحقيقه لغايات سامية «في
الرؤية الإسلامية ليست بدعاً من القول، ولم يختص الأدباء الإسلاميون بطرحها،
بل إنها قضية الفن بعامة والأدب بخاصة عند كل الأمم، وأحب أن أقول له: إن
هذه الغائية ليست هي السبب في ضعف الجانب الفني في النص الأدبي، وإنما هي
سبب من أسباب قوة هذا الجانب إذا توافر عليها أديب مبدع.
3- قضية التقريرية والوضوح والخطابية التي سماها الكاتب» إثماً «وإنما
الإثم أن نطرح الموضوعية ونلقي بها جانباً، ومسألة التقريرية والوضوح
والخطابية مسألة واضحة لا أدري متى يقف فيها الذين يثيرونها عند حد معقول،
فالوضوح والخطابية والتقريرية أمور نسبية لا تُعد في ذاتها عيباً، ولا يصح أن
تُسمى إثماً وإنما تعاب عندما تتعارض مع فنية النص الأدبي، أو تأتي بصورة فجّّة
خالية من روح الأدب وروعة تصويره وحسبنا هذا القول في هذه القضية فهي
واضحة لا تحتاج إلى بيان.
4- قضية» الوحدة العضوية «في القصيدة الإسلامية: وقد عجبت لما ذهب
إليه الكاتب من وجوب التخطيط والإعداد المسبق للقصيدة وكأنه لايعرف معنى
الشعر وكيف يكون، إن تشرذم القصيدة وشتاتها مرفوض، بل إن انضمام أبيات
القصيدة إلى بعضها وتعانقها في أداء معنى عام سمة بارزة من سمات الشعر
الإسلامي الجيد، وقد استشهد الكاتب بكلام للشاعر المبدع» محمود مفلح «قال فيه:» إنه لا يهندس القصيدة ولا يجلس لها ولا يستجديها «، وعد الكاتب هذا القول
دليلاً على فقدان التلاحم في الشعر الإسلامي، وهذا أمر عجيب، فالشاعر محمود
مفلح من أبرز الشعراء الإسلاميين، وأقدرهم على كتابة القصيدة الرائعة المتلاحمة
فنياً ومضموناً، ومع ذلك فهو صادق فيما قاله من عدم هندسته للقصيدة، ولا علاقة
بين هذا أبداً وبين تشرذم القصيدة وتشتتها، ولعل الكاتب قد خلط بين ما يصنعه
الشاعر وما يجب أن يصنعه القاص أو الكاتب المسرحي، وشتان بين الأمرين.
5- قضية الشعر الحر: والذي أعرفه أن أكثر الشعراء والنقاد الإسلاميين
يتقبلون التجديد الإيقاعي بل ويكتبون قصائد تفعيلية رائعة، ويعجبون بالجيد من
هذا الشعر، وليس الشعر» الموزون المقفى «عيباً بل هو ميزة كبرى إذا توافر له
شعراء مبدعون، وقد أشار الكاتب إلى ذلك ولكنه وقع في تعميم آخر وما أكثر
التعميمات عند الأخ إبراهيم حتى إني لأخشى عليه أن يغرق في بحر من التعميم لا
شاطئ له ويبدو أنه يعاني من» جاهزية «الفكرة والرأي والموقف، ومن خلال
هذه الجاهزية كان له موقفه التعميمي من الشعر الإسلامي، الذي أخذ يردد من
خلاله ما يردده» الآخرون «من عبارات» الجمود الشكلي والجمود الدلالي
والتسطيح «وغيرها، وربط ربطاً غريباً بين المعاني المستهلكة في شعر الغزل
من وصف الخدود والقدود وصفاً مكرراً وبين المعاني التي تدور في أكثر نماذج
الشعر الإسلامي المعاصر، حول اغتصاب أنثى: وتيتم طفل وإبادة الرجال
والشيوخ، وعدّ هذه المعاني مستهلكة وشبهها بقصيدة أبي البقاء الرندي الباكية
الحزينة. وأقول للأخ إبراهيم: قاتل الله النظرة الجزئية القاصرة إلى الأدب، كم
تجني على آراء صاحبها، فشتان بين المعاني المستهلكة في الغزل، والمعاني
المكررة في شعر القضايا الإسلامية المعاصرة، إنك تدعو إلى أن يغتال الشاعر
لحظة التفاعل عنده، حتى يحقق لك رغبتك في كتابة قصيدة قائمة على» رسم
هندسي «وتخطيط قائم على التتابع المنطقي على حسب قولك إنك تصادر رأي
غيرك وهذا أمر خطير، ولا أريد لموهبة نقدية مثل موهبتك أن تموت في بوتقة
» الجمالية الخالصة «التي تدعو إليها، إني أقرأ شعر المتنبي الذي يدور في مجمله حول قضية واحدة ألا وهي شعور المتنبي بالعظمة الذي يبرز في كل قصيدة يكتبها تقريباً، ومع ذلك فإن المتعة الأدبية تتحقق، وتشعر بالتجدد في هذا التكرار، وكذلك أقرأ ديوان محمود مفلح» حكاية الشال الفلسطيني «وديوانه الآخر» شموخاً أيتها المآذن «ومعظم قصائدهما عن فلسطين، فأجد المتعة الفنية بالرغم من تكرار الحديث عن القضية ثم من الذي قال إن الشعر الإسلامي ينحصر في الشعر المأساوي؟ ! إن دواوين الشعراء الإسلاميين تزخر بالشعر الوجداني، وشعر الغزل العفيف، وما عليك إلا أن تتصفح دواوينهم وتتابع إنتاجهم لترى الحقيقة التي تصفع التعميم وتُحرق أثواب العبارات النقدية الفضفاضة. [6]
ومع كل ذلك فإني أرى فيك شخصية ناقد، آمل أن تستقر على أرض صلبة
من الرؤية النقدية الموضوعية، وما أحوج الأدب الإسلامي إلى دراسات نقدية
تتناول نصوصه الشعرية والنثرية بالدراسة بدلاً من الدراسات القائمة على ترديد
مصطلحات وعبارات نقدية تحتاج إلى تمحيص، والله المستعان.
وأقول أخيراً، إن في العدد (67) من مجلة» البيان «قصيدة من شعر
التفعيلة للدكتور محمد بن ظافر الشهري بعنوان» برقية إلى بيقوفيتش «تتميز
بإيقاعها الجميل، وتقوم على أسلوب الرسالة المباشرة من الشاعر إلى الرئيس (علي
عزت) رئيس البوسنة والهرسك، كما أنها تعتمد أسلوب التداعي» تداعي الصورة
والفكرة «، وقد أكسبها هذا التداعي تسلسلاً في طرح المعاني التي أراد الشاعر
طرحها، مع مزاوجة بين الجدية المتمثلة في تعبير الشاعر عن الصلة الإسلامية
القوية بينه وبين الرئيس البوسني، والسخرية المتمثلة في الحديث عن موقف العالم
الإسلامي السلبي:
» خذ منا شجباً!
خذ تنديداً..
وخطاباً معتدل اللهجةْ.
سيقولون:
أطلب منا ما يطلبه المستمعون «.
وإذا كان التداعي قد أكسب القصيدة التسلسل فإنه قد أوقعها في مشكلة اللهجة
العادية في الحوار وكأن الشاعر يتحدث إلى الرئيس البوسنوي مشافهة في زيارة
شخصية:
» أعْلِنْهَا حرباً من أجل اللهْ
صدقني.. لن تخسر شيئاً يذكرْ
فسياستهم لن تتغيرْ «.
ومع ذلك ففي القصيدة إضاءات فنية تستحق الإشادة، فتحية للشاعر الدكتور
محمد بن ظافر الشهري.
أما مقال الأخت: نورة السعد بعنوان» الإفك الثقافي والأدبي «، فقد كان
بمثابة الصرخة التي تطلقها فتاة مسلمة تريد أن ترقى بذوقها الأدبي وأن يتاح لها
الاطلاع على نماذج الأدب الإسلامي التي حالت دونها وسائل النشر المختلفة
المنشغلة بنشر نماذج الآداب العالمية غثها وسمينها، والتي تأبى أن تفتح نوافذها
للأدب الإسلامي.. وهذه الصرخة جديرة بأن تهز بعض القلوب الغافلة، وأن تنبه
إلى الخطر الكبير المحدق بأذواق الأجيال المسلمة وثقافتها، والأخت الكاتبة تشير
إلى قضية» المصادرة «التي تقوم بها أكثر وسائل النشر في العالم للأدب الإسلامي
ونماذجه وأسماء مبدعيه: عشرات الصحف كتبت عن الشاعر الشيوعي التركي
» ناظم حكمت «، ولكنها تجاهلت بشكل مفزع الشاعر الإسلامي المبدع» محمد
عاكف «، لماذا هذا التجاهل؟ !
سؤال كبير تثيره الأخت نورة في مقالها، فهل من مجيب؟ !
ولقد كانت نظرة الكاتبة إلى» جمالية النص الأدبي، ونفعيته وغائيته «
نظرة موضوعية هادئة، ولعل ما كتبته في هذا الجانب يُعد بمثابة التصحيح لبعض
ما ورد في المقال السابق الذي ناقشناه في بداية هذه الدراسة.
هنا أقف، وأكرر اعتذاري إلى الأخوة في» البيان «، وإلى الأخوة القراء
لأنني لم أتمكن من تناول النصوص الأدبية المنشورة في الأعداد الأخرى (68-
69 -70) ، وذلك بسبب ضيق المساحة وطول الموضوع.
والله المستعان أولاً وأخيراً.
__________
(1) علم الجمال الاستاطيقا لـ (دنيس هويسمان) ، ترجمة د/ أميرة حلمي مطر، ص4.
(2) علم الجمال الاستاطيقا لـ (دنيس هويسمان) ، ترجمة د/ أميرة حلمي مطر، ص4.
(3) النقد الأدبي الحديث، د/ محمد غنيمي هلال، ص 305 وما بعدها.
(4) النقد الأدبي الحديث، د/ محمد غنيمي هلال، ص 305 وما بعدها.
(5) مقالات في النقد الأدبي ل (تولستوي) ، ترجمة د/ إبراهيم حمادة، ص 96.
(6) للدكتور/ عماد الدين خليل دراسات نقدية جيدة في كتابيه في النقد الإسلامي المعاصر، ومحاولات جديدة في النقد الإسلامي، وكذلك الدكتور/ محمد عادل الهاشمي، والأستاذ/ محمد حسن بريغش وغيرهما، لهم دراسات نقدية جادة، والأدب الإسلامي بحاجة إلى المزيد، وقد أقرّ مؤتمر رابطة الأدب الإسلامي الذي عقد في تركيا أخيراً توصية نصت على مسؤولية النقاد الإسلاميين في دراسة الإبداع الأدبي الإسلامي دراسات نقدية شاملة توضح مواطن القوة فيه، وتسدد خطواته وتشير إلى ما فيه من ضعف أو خلل أو تقصير، فلعل النقاد يستجيبون لذلك.(72/39)
نصوص شعرية
ينادي الجدار الجدارا
عبد الوهاب الزميلي
- أ -
ينادي الجدارُ الجدارا:
[أيُسدِلُنا (السوطُ) فوقَ الدماءِ ستارا!
وتُسحَقُ فوقَ الجباهِ..
جباهُ الحيارى؟ !
ويَلطِمُنا حسبة! إن بدا..
على الوجهِ آثارُ سيل الدماءْ..
(بغاثُ بن ظلمة وابن أُبَيّْ) !
ويركبُ فوق الظهورِ (حُيَيّْ) !]
- ب -
يَدُقّ الجدارُ الجدارا:
[ألا غضبةٌ؟ ..
نَفِرّ من الظلمةِ المبهمةْ..
ونهوي على قاعة المحكمة..
ونرفعُ راياتنِا حُرّةً..
على الرأسِ فوقَ ذُرى الملحمة]
ويبكي الجدارُ الجدارا..
ويبقى الحيارى حيارى..
ولكن جمراً.. بثوبِ الرمالِ توارى!
ويرثي الجدار الجدارا!
وقبل انقشاع الضّباب..
رأى الكونُ شيئاً تَوَارَى؟ ! !(72/50)
نصوص شعرية
سُؤرُ هَمّ!
سليمان بن عبد الرحمن العبيد
أقول لأصحابي: ثباتاً لي الدّرب ستُفرَج من بعد الشدائد والكَربِ
أقول لأصحابي: ثباتاً وإن أمُتْ فإني قتيل لليهودي والصّربي
بقيةُ حزنٍ سؤرُ هَمّ تعددتّ مصادرُ إزعاجي من البُعد والقرب
وأيّ بلادِ المسلمين نقيةٌ من الذبح والتخريب والمنهج الغربِي؟ !
لماذا بلادُ المسلمين تعودَتْ عذابَ دعاة الله بالحبس والضّرب؟ !
تسير بلادُ المسلمين بخُطّةٍ تنظمها صهيون يا خيبةَ العُربِ!
أهينوا بنيكم معشرَ العُرب بينما بنونا بنو صهيون في ساحة الحَرب
وآذوا الرجال الصامدين جميعهم ولا تتركوا غيرَ النعامة و (الخِربِ)
إلهي غَرِقْنا بالمذلةِ والأسى فقيّضْ لنا شرقاً يَفُكّ من الغربِ! !(72/52)
المسلمون والعالم
يهود.. وصريعان
(ثم ينقضون عهدهم في كل مرة)
د/ عبد الله عمر سلطان
هدأ الضجيج والصخب وجاء وقت الاستحقاق.. اختفت الابتسامات البلهاء
المريضة، وجاء دور اتساع الأحداق أمام الحقيقة المزعجة. تلاشت أغصان
الزيتون التي كان يرشق بها «أزلام» المنظمة والحالمون بسلامٍ مع يهود جنود
الصهاينة، وظهر الحجر والسكين بدلاً عنها! .
بعض الحوادث والقصص تلخص الواقع القائم بكل تفاصيله، كما لا تفعل
المقالات المدبجة والقصائد العصماء والخطب المجلجلة.. وإليكم مختصراً لقصة
موحية لهذا الواقع المطل برأسه.. إنها قصة أحمد خالد أبو الريش، هذا الشاب
الذي لم يتجاوز العشرين من العمر، كان أحد الناشطين في حركة فتح التي وقعت
اتفاق المبادئ مع الصهاينة قبل أشهر.. وحين عودته من رحلته التاريخية تاريخية
فعلاً من باب حجم الذل والانكسار صرح ياسر عرفات أن عدوه هو عدو السلام،
وأن الاتفاق هو أضخم مكسب حققه الفلسطينيون على مدى تاريخهم..!!
وصدّق أحمد خالد أبو الريش تصريحات زعيمه، أوليس هذا «الياسر» هو
رمز القضية و «راهبها» الثوري؟ !
أوليس هو القائد الذي «يفهم» ما لا يفهمه كل من اعترض على اتفاقه مع
يهود أو فكر في مناقشة بنوده؟ !
ولأن خالداً «منضبط» ، وقبل ذلك «رقم» مطيع كبقية العناصر الذين
يُضحى بهم في سبيل «النصر» الذي تسعى إليه قيادة تونس، فقد شجع قرار
«صقور فتح» (الجناح العسكري للمنظمة في المناطق «الفتحاوية» ) المحتلة الذي أوصى بإلقاء السلاح وإيقاف كل العمليات العسكرية بعد تسعة أيام فقط من توقيع اتفاق عرفات / رابين، وذلك بعد صدور قرارات زعيم السلام وعدو ... الإرهاب، الذي قال لشعبه بأن الإرهاب يضر بصحتهم؛ لذا فعليهم أن يمتنعوا عنه بناءً على نصيحة طبيب صديق اكتشفه «أبو عمار» في شارع بنسلفانيا في واشنطن يسمى «بيل كلنتون» ، لقد وصف تجربته معه بقوله: «لقد اكتشفت صديقا لنا في واشنطن» . صحيح أن العبارة «ملطوشة» من تصريح لرئيسة الوزراء اليهودية السابقة «جولدا مائير» ، لكن هل يغص الذي ابتلع دماء القضية الفلسطينية وثوابتها بعبارة مأخوذة من النبراس اليهودي الصديق؟ !
المهم أن المشكلة الوحيدة التي واجهت أحمد خالد أبو الريش، هي ملاحقة
السلطات الإسرائيلية؛ له بسبب ماضيه السابق، وضلوعه في عمليات عكرت أمن
المستوطنين الصهاينة في قطاع غزة، ولدى أول فرصة سانحة سارع أحمد خالد
أبو الريش لتسليم نفسه إلى سلطات العدو الصهيوني، وسلم سلاحه أيضاً، تعبيراً
عن «حقبة السلام» التي يهدد بتعكير صفوها مجموعة «المتطرفين الأصوليين»
الذين هم «العدو المشترك» لطرفي الاتفاق: علمانيي المنظمة ويهود إسرائيل!.. وبعد ساعات قليلة من احتجاز أحمد أبو الريش خرج محمولاً على الأعناق في
مظاهرة صاخبة طافت شوارع (خان يونس) معبرة عن بدء عصر جديد وصفحة
أخرى تقول «العهد السلمي» بدأ.. وهذا أول الغيث! ! .
وفي اليوم التالي بدأ أحمد يتصدى لكل من يشكك في «حجم الإنجاز» أو
«استسلام القيادة» أو «طبيعة يهود» التي لا ترعى العهود والمواثيق.. ولم يمضِ أسبوع واحد على تسليم أحمد خالد أبو الريش لنفسه وسلاحه إلى قيادة اليهود حتى باغته جنود الوحدات الخاصة لجيش الاحتلال فأردوه قتيلاً يتخبط في
دمه! !
صدّق خالد أن ليهود عهوداً.. وآمن أن السلام ممكن.. فدفع ثمن هذا دمَه
وروحَه.. التي رهنها بيد قيادات العجز المتهاوية، وعلى بعد آلاف الأميال هناك
في حمام الشط كان القادة الكبار يستقبلون الخبر ببرود، فدم خالد وأمثاله قربان
بسيط لا يستحق أن يزعج «آباءُ النضال» أنفسهم به؛ لأن السلام أثمن وأعظم
من أن يعكر صفوه دم شهيد آخر! ! فالشهادة في سبيل الطين والتراب ترخص أمام
حياة الأباطرة التي يتمتعون بها، وروح (درزينة) أخرى من الشهداء قدر الثورة
التي أصبحت ثروة يتمتعون ويتقلبون في أجواء الترف بسببها.
ثم هناك أمر آخر أكثر خطورة من خبر تافه كهذا: إن القوم مشغولون في
الإعداد للحل والترحال بين العواصم الإسكندنافية، وإيجاد مسالك لائقة لمقامهم في
أريحا.. فسرير الرئيس الذي أعد بعد يوم واحد من توقيع الصك دليل دامغ على أن
«النعش» الوطني هو القنطرة الوحيدة لإقامة «العرش» الذي صنعه يهود
بمواصفات دولية فائقة المواصفات دقيقة التفاصيل.
مشكلة أحمد خالد أبو الريش وأمثاله أن عليهم أن يدفعوا ثمن العرش دماً
وروحاً وجراحاً في أكفان متتالية لا تثير قيادات الدم البارد، التي تُهيئ نفسها لطور
الدولة/ الكانتون! !
قد أنبأهم ربهم:
الذين يتحدثون عن نقض بني إسرائيل للعهد لا يتحدثون من فراغ، ولا
ينطقون إلا بآيات محفوظة.. فيهود من خلال تعاملاتنا معهم منذ اليوم الأول قوم إذا
بحثت عن أبرز صفة لهم برز لك «نقض العهد» كأول معلم لتلك الأمة وهذا أول
ما يقفز إلى الذهن، الذهن النظيف واليقين المطمئن.
لقد تولوا منذ أن بعثت الرسالة فيهم: [وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا
تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناْ وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس
حسناْ وأقيمو الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاْ منكم وأنتم معرضون] [1] .
لقد كانت هذه الطبيعة ملازمة لهم عبر العصور، ورذيلة صارت طبعاً
وسلوكاً.. إنهم الذين صدق قول الله فيهم وقوله الصدق: [أوكلما عاهدوا عهداْ نبذه
فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون] [2] .
ولما كان قول الحق جل وعلا قرآناً يتلى.. ووعداً يتحقق.. جاءت الأحداث
بكلكها مرة أخرى ترسخ يقين المسلم في هذا العصر القلق، بأن اصبر وصابر
ورابط.. فبصرك ثابت وبصيرتك نافذة بحول الله!
هل رأيتم كيف يتحقق وصف يهود أمام الأنظار مرة بعد أخرى؟ . لقد جاء
موعد الانسحاب المزعوم من الأرض التي لا تساوي 3 % من مجموع ما اغتصبه
يهود من أرض فلسطين.. فإذا هم يتراجعون عن هذا الإنسحاب الطفيف التافه
ويؤكدون غدرهم وخيانتهم، فلا وفاء ولا أمانة كما هو العهد بهم.. إنهم أمة لا
تحترم قداسةً ولا تصون ميثاقاً.. كما نطق رابين بعد يوم واحد من موعد الانسحاب
فقال: «قلت قبل عشرة أيام وأكرر القول: لا موعد مقدس» .. نعم بهذا اللفظ لا
موعد مقدس.. ولا عهد مقدس! !
قال ابن جريج: (لم يكن في الأرض عهد يعاهدون إلا نقضوه.. يعاهدون
اليوم.. وينقضون غدا) [3] .. نعم عاهدوا قبل شهور ثلاثة ثم عادوا ينقضون دون
خجل أو حياء.
ولم يخفِ يهود نياتهم الخبيثة المبيتة بنقض العهد، كما هو دأبهم، فهذا
(موشي شاحال) يصرح لإذاعة جيش إسرائيل: بأن الاتفاق الإسرائيلي/ الفلسطيني
سيكون لاغياً إذا فاز المعارضون للاتفاق في انتخابات الحكم الذاتي! !
وصدق الله القائل: [أوكلما عاهدوا عهداْ نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا
يؤمنون] [4] .. هذه الآيات الرائعة تقف أمام حجج المهزومين الذين يروجون لهذا
الحل العبقري! ! حين يتحولون إلى «حرس حدود» يقوم بحفظ أمن دولة
الصهاينة وهم يراهنون أحياناً على العناصر المعتدلة و «الحضارية» ، كما
وصفها عرفات في وجه المتشددين أمثال رابين ومن أبرز هؤلاء (شمعون بيريز)
الذي شارك عرفات احتفال الأسبان في غرناطة بخروج المسلمين من الأندلس..
(ما أعظمه من احتفال ومن ذكرى تلقي بظلالها على مصير أهل فلسطين اليوم) ،
لكن بيريز من خلال كتابه الجديد «الشرق الأوسط الجديد» يؤكد جذوره اليهودية
الناقضة للعهود والمواثيق التي يوقعها مع شراذم العلمانية العربية المفلسة، ففي
حديثه عن عودة الفلسطينيين إلى ديارهم يقول: «لن نسمح مطلقاً بعودة اللاجئين
الفلسطينيين إلى ديارهم بغض النظر عما يثيره الجانبان من حجج.. ليس هناك
فرصة لقبول ذلك الآن.. أو في المستقبل..» .
وما أصدق من قال: «اليهود موسومون بنقض العهد وبالغدر، ولقد أخذ الله
تعالى الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فلم يفوا ... » .
لقد برز المراهنون على صدق اليهود وحسن نياتهم عارين تماماً إلا من
الوقاحة ومفلسين إلا من الدجل، وهذه الحقائق النافرة تثبت مرة بعد أخرى كذب
اليهود وغشهم وخداعهم، وهذا أمر مستقر في النفوس، تحركه الأيام وتثبته الوقائع، ويصدقه الحديث النبوي الشريف.
يا يهود قد أنبأنا الله بكم.. فهل تملك مناخل إعلام التطبيع حجب الحقيقة
الساطعة؟ !
والقادم أحلك:
هنا اليوم معادلة لها طرفان: طرف يزداد قوة وتجبراً، وطرف آخر يزداد
ضعفاً وتراجعاً لتظل محصلة طرفي المعادلة متساوية: كلما ازداد طرف قوة.. كان
على طرف المعادلة الآخر أن يتراجع.. وإلا اختفى نهائياً.
لقد أبرزت مهلة الثلاثة أشهر التي أعقبت الاتفاق أن الصهاينة يهدفون إلى
تحقيق أكبر قدر من المكاسب والتنازلات أمام قيادة معزولة عن شعبها، بل وحتى
عن حلفائها التاريخيين..، ولا يستبعد المراقبون أن هذا يتم عمداً حتى تحترق
أوراق المنظمة وقيادتها، ليتم استبدالها فيما بعد بقيادة تستلم هذا الحمل الثقيل الذي
لا يمكن لأحد أن يصنعه سوى القيادة الحالية.
إن نقض الاتفاق بالإنسحاب من غزة وأريحا يؤدي إلى هذا الهدف المباشر،
كما أنه يكشف عن مطالب إسرائيل وطلباتها والتي كشفت عنها الصحافة العربية
مؤخراً، وهي تتمثل في:
1- الكشف عن كافة مخابيء الأسلحة الفلسطينية في إسرائيل وقطاع غزة
والضفة الغربية، والكشف عن أسماء المشرفين عليها وبصورة خاصة في أريحا
وخان يونس وأيضاً بيان طرق إدخالها إلى تلك المناطق، وأسماء التنظيمات
الفلسطينية التي ساهمت فيها.
2- الإعلان عن حل جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة لحركة فتح
وإعلانها حركة سياسية غير مسلحة.
3- إطلاق سراح عميل الموساد (عدنان ياسين) وتسليمه لدولة أوروبية يتفق
عليها مقابل إطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين البارزين.
4- عدم المطالبة بالسيطرة الفلسطينية على المعابر والجسور.
5- الموافقة بالإبقاء على النشاط العسكري للقوات الإسرائيلية والأمن
الإسرائيلي في منطقة الحكم الذاتي.
6- الموافقة على التنسيق بين قيادة الشرطة الفلسطينية وجهاز الأمن
الإسرائيلي في كافة الأمور الأمنية.
7- الكشف عن أسماء المسؤولين عن 14 عملية قامت بها حركة فتح في
إسرائيل والضفة الغربية والقطاع، وقتل فيها إسرائيليون، ولم يتم إلقاء القبض
على مرتكبيها.
كل هذا يتم «قبل» أن يتم أي انسحاب فعلي.. فما هو ثمن أي خطوة في
طريق الانسحاب الشامل؟ !
لقد تبخرت شعارات «الواقعية» ودخولنا «مرحلة جديدة» ؛ لأن الجانب
الإسرائيلي وحلفاءه من خلال ممارستهم التفاوضية يجذرون في الأمة الصورة
الحقيقية للأمة الملعونة، التي لم تعرف سوى الغدر والخيانة.. كما أنها تمزق آخر
الأوراق الشفافة التي يتحصن بها عرابو الاتفاق المشؤوم والذي يزداد بشاعة مع
مطلع كل يوم، وظهور الحقيقة ساطعة أمام الأمة.
هذه الأمة عليها أن تستلهم مسار قدوتها، النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-
حينما خاطبه ربه بقوله: [الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم
لا يتقون] [5] .. وحين تصل إلى اليقين برسالتها ستختفي كل الخفافيش التي
تتكاثر في الظلام.. ويختفي وقت الاصباح..، وحينها لن تمر بتجربة ساذجة
ومرة، كتجربة أحمد أبو الريش الذي دفع ثمن ولائه لقيادة «الزعيم» دمه وروحه.. بلا مقابل..، وبثمن بخس في الوقت الذي سقط فلسطيني آخر برصاص الغدر
الصهيوني بعد أن ثمّن رابين سقوطه بأنه «نصر لإسرائيل» وأعني به (عماد
عقل) أحد مجاهدي سرايا عز الدين القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية
(حماس) .
وهنا بالتحديد يفترق الطريق.. وتتباين الشعب طريق يستلهم الرشد من كتاب
ربه ويعد الشهادة مغنماً وطريق سَلّم بوصلة القيادة ليهود تهوي به نحو هوة سحيقة.. لا محالة.
مرة أخرى تبرز المعادلة الجديدة في قصة الصريعين (عماد وأحمد) كلاهما
سقط برصاص الغدر الصهيوني.. أحدهما يعلن أن طريقه مسدود وبلا منافذ
والآخر يرسم للفجر خيط ضوء وحزمة شعاع تقول إن المعركة ببطلها الأصيل قد
أطلت.. فويل ليهود من فجر قد اقترب..
__________
(1) سورة البقرة: 83.
(2) سورة البقرة: 100.
(3) تفسير ابن جرير، ص 227.
(4) سورة البقرة: 100.
(5) سورة الأنفال: 8.(72/54)
المسلمون والعالم
اليمن: إلى أين تسير؟ !
عبد الله الحاشدي
تمر اليمن في هذه الفترة بأزمة حقيقية لم تعرف مثيلاً لها منذ أن أقيمت
الوحدة إلى اليوم بين حزب رئيس مجلس الرئاسة علي صالح (المؤتمر الشعبي
العام) وحزب نائب رئيس مجلس الرئاسة علي البيض (الحزب الاشتراكي) ، وهي
أزمة بالغة الخطورة، ومن الممكن استعراض خطورتها من خلال النقاط التالية:
*أنها بين حزبين قوميين أقاما الوحدة اليمنية على أنقاض دولتين، ومازال
كل حزب يسيطر على المناطق التي كان يحكمها قبل الوحدة.
*أن الحزب الاشتراكي أعطى لصراعه مع الرئيس (علي صالح) وحزبه بعداً
مناطقياً، إذ يوجه إليهم تهمة إرادة إحكام السيطرة لما كان يعرف بنظام اليمن
الشمالي على نظام ما كان يُعرف باليمن الجنوبي وخيراته وأفراده وعدم منحه
المكانة المرموقة التي كان يحظى بها من الناحية المعنوية أو المادية، بل على
العكس من ذلك فإنه نقل إلى المناطق الجنوبية والشرقية مساوئ نظامه من تسيب
أمني وإداري وتدهور اقتصادي.. الخ، مع قيامه بإزالة المعالم البارزة لدى ما كان
يعرف بنظام اليمن الجنوبي من الوجود.
*أن الأزمة تجاوزت نقد كل طرف من طرفي النزاع لمواقف الطرف الآخر، إلى تهجم قيادة كل طرف على قيادة الطرف الآخرمن خلال الخطب والكلمات
والمقابلات التلفزيونية والصحفية، وشتى وسائل الإعلام المختلفة التابعة لهما، وهذا
ما جعل الخلاف بينهما يتعمق ويتأصل، بالإضافة إلى انعدام ثقة كل طرف بالآخر
مما حصل بسببه انحسار إمكانية إقامة حوار موضوعي يزيل بؤر الصراع بين
الطرفين وقد يؤدي ذلك إلى تراجع في فرص استمرارية التعايش السلمي بينهما.
*دخول الجيش وقوات الأمن في الأزمة تبعاً لانتماءاتهما الحزبية، وخضوع
الجيش وأمن ما كان يعرف باليمن الشمالي للرئيس وخضوع جيش وأمن ما كان
يعرف باليمن الجنوبي للحزب الاشتراكي.
وقد كانت هنالك تحركات لوحدات من الجيش من معسكراتها إلى مواقع أخرى، ... بالإضافة إلى استحداث نقاط جديدة وثبوت إعلان حالة الاستنفار القصوى في
بعض معسكرات الجيش إن لم يكن كلها.
*أنها أزمة متحركة سائرة بقوة نحو التصعيد مما يعني عدم إعطاء الفرصة
لمن يريد حلها وتخفيف حدة توترها بين الطرفين.
تطورات الأزمة الأخيرة:
بعد عودة (البيض) من رحلته الاستشفائية في الولايات المتحدة الأمريكية
ومقابلته لكبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية وفي مقدمتهم نائب الرئيس الأمريكي، عاد إلى عدن بدلاً من صنعاء ولزم حالة ما سمي «الاعتكاف» منذ ذلك الوقت.
ولقد كان سبب ذلك الاعتكاف! في البداية كما صرح به أكثر من مصدر يمني
هو اعتراضه على مشروع تعديل الدستور الذي وقعته أطراف الائتلاف الثلاثي
الحاكم بما فيهم الحزب الاشتراكي ممثلاً بأمينه العام المساعد (سالم صالح محمد) ،
وكان اعتراض البيض على المشروع يتركز في قضيتين:
الأولى: تدور حول منصب نائب الرئيس وهل يكون بالتعيين من قبل
الرئيس أم بالانتخاب مع الرئيس، والفرق بينهما أن نائب الرئيس إذا كان معيناً
فإنه يحق لمن عينه عزله، كما أنه ليس من صلاحيته في حال فراغ منصب
الرئيس أن يتولى الرئاسة بقية الفترة الرئاسية، بل يقوم رئيس مجلس النواب
بتولي مهام الرئيس مدة لا تزيد عن شهرين تجري خلالهما انتخابات رئاسية جديدة
بخلاف ما لو كان منتخباً، فإن الأمر يتحول على الضد من ذلك.
الثانية: تدور حول تطبيق نظام اللامركزية الواسعة في الحكم أو عدم تطبيقها
ويلزم من ذلك كون المحافظ وكبار مسؤولي المحافظة منتخبين من أبناء المحافظة
في حال تطبيقها، ومعينين من قبل الرئيس والحكومة في حال عدم تطبيقها.
ويريد الحزب الاشتراكي من ذلك ضمان استمراريته في حكم المحافظات
الجنوبية والشرقية عن طريق انتخابات في كل محافظة لاختيار مسؤوليها، تكون
نتائجها معروفة سلفاً، كما كان الحال في الانتخابات النيابية السابقة، بالإضافة إلى
سعيه للحصول على نجاح مرشح الحزب الاشتراكي لمنصب المحافظ في بعض
المحافظات الشمالية، مما يعني في حال نجاحهم في ذلك الاستمرار في حكم ما كان
يسمى باليمن الجنوبي، بالإضافة إلى بعض المحافظات الشمالية.
وبالطبع لم يقم الرئيس (علي صالح) بتلبية هذه المطالب، مما جعل نائبه
يستمر في اعتكافه، لكن حدث تطور آخر في الأزمة إذ أعلن الحزب الاشتراكي
ثمانية عشر مطلباً تمثل جملة مطالبه من الرئيس (علي صالح) لحل الأزمة، ولن
ندخل في عرض هذه المطالب ونقاشها، لكنها في غالبها مطالب تقوي نفوذ الحزب
في الدولة وتقلص من نفوذ الرئيس (علي صالح) ، بالإضافة إلى مجموعة من
المطالب للمزايدة بها على الجماهير.. ولقد أدخل الحزب الأزمة بمطالبه تلك مرحلة
جديدة، فبدلاً من أن الاعتراض كان على نقاط في مشروع الدستور، إذا به ينقلب
إلى اعتراض على نظام الحكم القائم ووسائل تنفيذه مع أن الحزب أحد مؤسسيه
ومنفذيه والمنافحين عنه سابقاً! ولقد سعى الاشتراكيون من خلال ذلك إلى تحقيق
مكاسب عدة منها إلقاء مثالب الفترة الانتقالية وما بعدها الداخلية منها والخارجية
على الرئيس (علي صالح) وتحميله مسؤوليتها كاملة، نظراً لكونه المتنفذ الوحيد في
الحكم الساعي إلى تهميش جميع القوى من حوله.
والملاحظ أن (البيض) في هذه المرحلة حاول أن يعمق خلافه مع الرئيس
(علي صالح) شخصياً من خلال التهجم والاستهزاء بشخصيته وحديثه ووصفه
بالمراوغة وعدم تنفيذ الوعود، بالإضافة إلى وصمه بعدم القدرة على إدارة البلاد
وضبطها، ولقد التزم الرئيس (علي صالح) الصمت، واكتفى بالتهديد معلناً أنه
سيرد على ذلك بالمثل.. وعموماً فقد كان الرئيس صامتاً في الغالب وكل ما كان
يرد به هو عدم مصداقية الحزب الاشتراكي في تطبيق الديمقراطية والرضى بنتائج
الانتخابات النيابية، التي قلصت تواجدهم في البرلمان والحكومة، بالإضافة إلى
قيامه بإعلان تسعة عشر نقطة تمثل جملة مطالبه ومرئياته للخروج من الأزمة وهي
تشتمل على ما اشتملت عليه مطالب الحزب الاشتراكي، ولكن بما يحقق مصالح
الرئيس ويقلص من نفوذ الحزب الاشتراكي وطموحاته.
ولقد استمرت الأزمة على ما هي عليه رغم توسط كثير من الشخصيات
اليمنية وغير اليمنية بين الطرفين لنزع فتيل الأزمة، ولكن دون جدوى، إلى أن
أعلن الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي في خطوة مفاجئة للكثيرين اعتقاده بأن
النظام الصالح لليمن هو (الفدرالية) لا الوحدة الاندماجية، ولم يقم الحزب
الاشتراكي بالاعتراض على هذا الأمر، بل قام بتبرير هذا المطلب مدّعياً بأن
وضع اليمن الآن دون مستوى الفدرالية، مما جعل الكثير من المحللين يفسرون
تصريح (سالم صالح) بأنه موقف للحزب وليس رأياً شخصياً مجرداً.
ونحن نلاحظ من خلال ما سبق استمرارية الحزب الاشتراكي في تصعيد
الأزمة فترة بعد فترة، فيا ترى ما حقيقة مطالبه؟ .
يمكننا تلخيص حقيقة مطالب الحزب الاشتراكي بحرصه على استمرارية قوته
ونفوذه ومواصلة إعطاء المناصب والامتيازات لكبار قياداته، وفي حال تحقق ذلك
فإن لدى الحزب الاستعداد لضمان استمرارية الوحدة، وعدم مواصلة افتعال
الأزمات، وفي حال إضعاف قوة الحزب وكبت نفوذه وتقليص امتيازات قياداته فإن
لديه الاستعداد لمواصلة افتعال الأزمات والمشكلات، والسعي بجدية إلى الانفصال.
ولكن ما هي الأسباب التي شجعته على سلوك هذا المسلك؟
الأسباب كثيرة منها الخفي ومنها المعلن، ولكن ما ظهر لنا منها في الأفق هو
التالي:
*أن وضع الحزب بعد الانتخابات النيابية الماضية أصبح في خطر، فبدلاً
من كونه كان يملك ما يقارب 50% من البرلمان والحكومة، صار له أقل من
(خُمس) البرلمان فقط، بالإضافة إلى (ثلث) الحكومة تقريباً وبالتالي فإن عليه أن
يسعى إلى منافذ أخرى تمكنه من استمرارية نفوذه وسيطرته، وهو ما طرحه عن
طريق (اللامركزية) ، وإعطاء صلاحيات واسعة لنائب الرئيس.
*مجيء اعتكاف البيض بعد عودته من أمريكا ومقابلته لنائب رئيسها ومروره
على فرنسا يشير إلى إمكانية أخذه للضوء الأخضر من هناك، وذلك في محاولة من
الغرب لإجراء مزيد من التركيع للرئيس (علي صالح) الذي اتخذ موقفاً غير مرضيٍ
عنه في أزمة الخليج، بالإضافة إلى عدم اتخاذه موقفاً حاسماً من القوى المهددة
بشكل صارخ لرعايا تلك الدول ومصالحها في اليمن ومنهم الشباب اليمني العائد من
أفغانستان الذين اتهم بعضهم من قبل الحزب الاشتراكي بتفجير فندق الساحل الذهبي
في عدن أثناء نزول مجموعة من الجنود الأمريكان فيه خلال توجههم إلى الصومال، بالإضافة إلى عدم مقدرته على إحكام السيطرة الأمنية على البلاد واعتماده على
النظام القبلي الذي قد يعرض منسوبي ومصالح الشركات الغربية المنقبة عن النفط
للخطر.
*أخذه للضوء الأخضر من بعض القوى الإقليمية واستعدادها لدعمه وتأييده
بقوة.
*حصول نوع من التحسن في موقف التيار الشعبي من الحزب وبالأخص فيما
كان يعرف باليمن الجنوبي، نظراً لتدهور قيمة العملة وارتفاع الأسعار بشكل
جنوني، وانتشار الرّشوة وعدم وجود تحسن في الخدمات، وقد استطاع الحزب
الاشتراكي أن يقنع الكثيرين من أبناء تلك المناطق بأن المسؤول عن كل ذلك هو
الرئيس (علي صالح) .
*هذا بالاضافة إلى اكتشاف وجود النفط بكثرة في المناطق الجنوبية والشرقية
وزوال كابوس الرعب الغربي من الأحزاب الاشتراكية بعد سقوط المنظومة
الشيوعية، وقدرة قادة الحزب الاشتراكي على الاتصال المباشر بالغرب، وتقديم
مزيد من أوجه الطاعة والاستعداد لخدمة مصالحهم بإخلاص في اليمن.
حقيقة موقف الرئيس على صالح:
في البداية أعلن الرئيس رفضه لموقف نائبه المتمثل في الاعتكاف، ذاكراً
بأنه مسلسل سيستمر لتحقيق مزيد من المصالح والمكاسب، بالإضافة إلى رفضه
لمطالب الحزب المتمثلة في تعديل مشروع الدستور.
وبعد فترة من استمرار الحزب الاشتراكي في تصعيد الأزمة، أعلن قبوله
بمطالب الحزب الثمانية عشر، وأحال وضع آليةالتنفيذ إلى لجنة الحوار الوطني
المكونة من أغلب القوى الموجودة في الساحة، ومع ذلك الإعلان بالموافقة فإننا
نشك في مصداقيتها لأن تنفيذ المطالب يعني سلب صلاحيات مهمة من (علي صالح) ، وخير له أن يبقى حاكماً لما كان يعرف باليمن الشمالي وحده من أن يكون في ظل
الوحدة غير حاكم لما كان يعرف باليمن الجنوبي وبعض المحافظات الشمالية ومن
الممكن إرجاع تلك الموافقة إلى أحد الأمرين التاليين:
الأول: أنها محاولة لتمرير مرحلة يجد فيها أن الحزب يقوى على حسابه يوماً
بعد يوم، سواءاً أكان ذلك داخلياً من خلال ازدياد شعبيته لدى أبناء المناطق
الجنوبية والشرقية ولدى بعض أبناء المناطق الشمالية.. أم إقليمياً من خلال التقاء
البيض ببعض ممثلي الدول الاقليمية في اليمن، بل وفي أثناء رحلته الاستشفائية
في أمريكا، والتأييد الواضح بصراحة للحزب في صحف تلك الدول.. أم دولياً من
خلال عدم ممارسة نوع من الضغط على الحزب من قبل أمريكا وفرنسا وغيرهما،
لثنيه عن موقفه، بل وقيام دول أخرى مثل بريطانيا بانحياز واضح نحوه.
الثاني: أنها نوع من تبادل الأدوار مع التجمع اليمني للإصلاح والأحزاب
المحسوبة على الرئيس، وقيام التجمع ومن معه بدور الرافض لمطالب الحزب
وجعل الرئيس (علي صالح) نفسه كالواقع بين ناري الحزب الاشتراكي والتجمع
ومن معه.
والقضية وطنية لا بد فيها من حل يرضي جميع القوى الموجودة، مما يعني
إمساك الرئيس بخط رجعة له عند موافقته على مطالب الحزب الاشتراكي وهذا ما
فعله سابقاً مع مطالب الحزب نفسها التي وافق عليها قبل الانتخابات النيابية
الماضية.
موقف الإسلاميين من الأزمة:
ينظر الإسلاميون إلى الحزب الاشتراكي باعتباره عدواً أساسياً يسعى إلى
كسر شوكتهم وخنق دعوتهم، وتكفي تجربة الحزب أثناء استقلاله بالحكم فيما كان
يعرف باليمن الجنوبي، وما قام به من حرب وإزهاق لكل ما هو إسلامي بالإضافة
إلى علمانيته الصارخة ودعمه القوي لكثير من المنكرات الضخمة والواضحة
كمصنع الخمر، ومحاربته لتجربة الإسلاميين في التعليم ممثلة في المعاهد العلمية
المنتشرة في أرجاء اليمن الشمالي، مع أن البديل قوى منحرفة في نظر الإسلاميين
وبينها وبين الكثير منهم عداء سافر، إذ هي أحزاب الرافضة في الشمال والصوفية
الشديدة الغلو في الجنوب، أضف إلى ذلك أن مطالب الحزب تهدد وحدة البلاد
وسلامتها.
والإسلاميون يدركون خطورة منطلقات (سيادة الرئيس) وسلبياته الكثيرة ولكن
يقولون كما يقول المثل: «أعور ولا أعمى» ، بالإضافة إلى أن بينهم وبينه
تعايشاً سابقاً قبل الوحدة اليمنية، كما أنه لا يعتبرهم يمثلون خطراً على وجوده كما
صرح هو بنفسه، ولا مانع لديه من إعطائهم بعض ما يريدون بما لا يجعلهم
يجاوزون الخطوط الحمراء التي لا يُسمح بتجاوزها إقليمياً ودولياً.
ولقد سلك الإسلاميون في البداية طريق الإصلاح ومحاولة إخماد مواضع
الانفجار، مع ميل خفي نحو الرئيس (علي صالح) ، ولكن الميل ازداد وضوحاً فيما
بعد يوماً بعد يوم، ووصل الوضوح أشده بتحميل (ابن الأحمر) و (الآنسي) الحزب
الاشتراكي مسؤولية ابتداء الأزمة.
ولكن يبدو أن الموقف قد تغير بعد إعلان الرئيس (علي صالح) موافقته على
مطالب الحزب الاشتراكي وهو ما ذكره ابن الأحمر حيث صرح في إشارة واضحة
إلى الحزب الاشتراكي بأن التجمع اليمني للإصلاح سيسلك مسلك المعارضة لكل
من يسعى إلى تقسيم البلاد إلى 19 بلداً، وإن وافق عليه المؤتمر والحزب
الاشتراكي.. والموقف الأخير للإصلاح يحتمل أن يكون تنسيقاً مع حزب الرئيس
نظراً لكونه يخدم كلاً من أهداف الطرفين، وهو الأظه. ويحتمل أن يكون نابعاً من
منطلقات التجمع ومصالحه بشقيه (الإسلاميون منهم والقبليون) ، ولا علاقة لحزب
الرئيس به.. وأياً كان منشأ هذا الموقف فيجب على الإسلاميين ألا ينسوا التالي:
*ألا يركنوا إلى الرئيس (علي صالح) ومؤتمره، إذ هو من خلال التجربة
يميل إليهم حين يحتاجهم، ويعرض عنهم حين يكون في غير حاجة إليهم وموقفه
من الإسلاميين منذ بداية الوحدة إلى الآن خير شاهد، وليذكروا أن الذي كان يتهجم
على الخطباء في المساجد، ويتهمهم بإثارة الفتن واستخدام المنابر في غير ما
وضعت له، نجده الآن يستميلهم ويحرص على رضاهم. ورجل هذه حاله يمكن أن
يستخدمهم لمجابهة عدوه الحالي ممثلاً بالحزب الاشتراكي، وبعد القضاء عليه يلتفت
إليهم، ويقص أجنحتهم، ويكسر شوكتهم، وبخاصة إذا كان هذا مطلباً إقليمياً أو
دولياً.
*أن شركاءهم في التجمع اليمني للإصلاح من (القبائل) لهم ارتباطات قوية
بالرئيس وحزبه، بل إن ابن الأحمر على سبيل المثال عضو في اللجنة الدائمة
للمؤتمر الشعبي العام، وله اتصالات لا تخفى بقوى إقليمية معادية للإسلاميين،
وبالتالي فالواجب عليهم أن لا يسلموا زمام القيادة لذلك الشريك وألا يتركوه يتخذ
المواقف المختلفة باسمهم بل يجب عليهم حساب مواقفهم بدقة وبعد دراسة وتأمل.
*أن يستغلوا هذه الأزمة لكسب مزيد من المواقع والمصالح للعمل الدعوي
عموماً، مما يقوي مركزهم ويُعلي من مكانتهم أمام الشعب كله.
وأخيراً: إلى أين؟
قبل الإجابة على هذا السؤال نؤكد بأن جوهر الأزمة تصارعٌ على السلطة
بدون وجود ضوابط أو قيم أياً كانت يحتكم إليها، وبدون وجود مرجعية مقبولة
تَفصِل فيها، مع وصول الأزمة إلى التصعيد والعمق الذي يصعب معه التعايش بين
الطرفين، نظراً لانعدام الثقة وشعور كل طرف باستعداد الطرف الآخر وتأهبه
للانقضاض عليه وبالتالي لا علاقة لمصالح الشعب والحرص على تحقيقها من
قريب أو بعيد بكل ذلك الصراع. وكل ما يذكره الجانبان من مطالب في هذا السبيل
هي نوع من المزايدة على الشعب ودغدغة عواطفه وكسب مشاعره لا غير! .
ومع كل ما ذكر فإننا لا نتوقع أن تُجاوِز الأزمة هذا الحد ولا أن تصل إلى حد
الانفجار المسلح وبالتالي الانفصال، نظراً لكون ذلك سيجعل البلاد بؤرة صراع لا
يتمكن الغرب معها من استنزاف الخيرات الموجودة من بترول ومعادن كما أن
الشركات الغربية لن تتمكن معها من تنفيذ المشاريع الضخمة أو الحصول على
الجديد منها، وهذا لا يمكن أن يسمح به الغرب أو تجرؤ على القيام به القوى
الداخلية المتصارعة، كما أننا لا نتوقع أن تنتهي الأزمة بسهولة وأن يتفق الطرفان
على التعايش السلمي فيما بينهما قريباً، نظراً لانعدام الثقة وتخوف كل طرف من
كسر جناحه من قِبَل الآخر.. لكن قد تهدأ الأزمة فترة من الفترات ولكنها بالتأكيد
سوف تعود إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً كانتهاء رموز أحد الطرفين بموت أو
اغتيال أو نحوه، والله أعلم.(72/62)
المسلمون والعالم
الأوجادين.. الشعب والجهاد
مراسل (البيان) في الأوجادين
أوجادين أو (الصومال الغربي) كما يسمى في بعض الأحيان جزء متمم
للصومال، ويعرف جغرافياً باسم «الهضبة الصومالية» ؛ لأن الأخدود الأفريقي
يفصلها طبيعياً عن هضبة الحبشة بمنخفض تنتشر عبره مجموعة من البحيرات
العذبة أشهرها (أبايا) و (أبيتا) و (شامو) ، وتنحدر الهضبة تدريجياً نحو الأراضي
الصومالية مما يجعلها وحدة طبيعية مكملة لأرض الصومال الواقعة في جنوبها
وشرقها، وهي تحد (أثيوبيا) من الشمال والغرب، ومن الشمال الشرقي (جيبوتي)
ومن الجنوب والشرق الصومال وكينيا، وتضم أوجادين ثلاث ولايات (هرر)
و (بالي) و (سيدامو) ، وسكانها حوالي (6. 271. 700) نسمة غالبيتهم مسلمون
ولغتهم الصومالية.
ودخول الإسلام فيها مرتبط بدخوله إلى الحبشة (أثيوبيا) ؛ حيث انتشر الإسلام
هناك نتيجة تحركات التجار المسلمين، وهم من العناصر العربية من اليمن
وحضرموت، ولما انتشر الإسلام برز من أهله علماء وفقهاء وأثمرت الدعوة هناك
قيام (إمارة إسلامية) في القرن الثالث الهجري، واستمرت حتى نهاية القرن السابع
الهجري، أسسها بنو مخزوم من الحجاز، وعرفت بإمارة (شوا) ومنذ سقوطها في
نهاية القرن الثالث عشر الميلادي قامت سبع إمارات إسلامية أشار إليها (المقريزي)
في كتابه (الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام) ، وكانت الحرب
سجالاً بين ملوك الحبشة وهذه الإمارة، وكان للمسلمين النصر المؤزر على
الأحباش لاسيما في عهد الإمام (أحمد بن إبراهيم) ، حتى هزم هذا الإمام المجاهد
عندما تحالف نصارى الحبشة مع الصليبيين البرتغاليين ضده عام 950هـ ثم تدخل
العثمانيون إلى جانب الإمام أحمد، فأحرز انتصارات جديدة على التحالف الصليبي، ولكنه تعجل فأعاد القوة العثمانية؛ لاعتقاده بزوال خطر الصليبيين ولكنهم عادوا
إليه، ودارت بينه وبينهم معارك قاسية انتهت بهزيمة الإمام واستشهاده رحمه الله
وتعرض المسلمون بعدها لموجة شديدة من الانتقام، ولكنهم صمدوا فتحققت لهم
بعض الانتصارات في ظل تفكك الأحباش وتنافسهم على الحكم، لكن الأحباش
عادوا ووحدوا أنفسهم، مما أدى إلى مضايقة المسلمين مرة أخرى ودخلت (مصر)
في عدة حروب مع الحبشة استولت فيها على (هرر) ، وعلى الساحل الصومالي
المطل على خليج عدن عام 1292 هـ لكن الاحتلال الإنجليزي لمصر عام
(1800م) ضيع عليها هذه الفرصة؛ مما أدى بشرق أفريقيا للوقوع فريسة للأطماع
الاستعمارية الأوربية حيث غزت إيطاليا الحبشة ووقعت معاهدة مع (فيلك) ملك
الحبشة سنة 1307هـ، الذي استولى على الإمارات الإسلامية واحدة بعد الأخرى، وهلك (فيلك) وتولى مكانه حفيده الإمبراطور (بيج ياسو) الذي أسلم، وأخذ يعامل
المسلمين معاملة حسنة مما جر عليه غضب الكنيسة والقوى الاستعمارية، ونجحت
المؤامرة في خلعه سنة 1336 هـ، وآلت مقاليد الحكم بعده إلى (هيلاسلاسي)
فبدأت مرحلة المعاناة للمسلمين مرة أخرى، وأودع (لي ياسو) السجن حتى مات.
وقبل الحرب العالمية الثانية غزت إيطاليا الحبشة سنة 1353هـ، ونال
المسلمون قسطاً من الحرية إبان حكمهم، وبعد اشتعال الحرب العالمية الثانية عاد
الإمبراطور الهارب (هيلاسلاسي) يحض الإنجليز على غزو الحبشة، وعجز في
هذا فبدأ القتال سنة 1360هـ، ودخل (هيلاسلاسي) الحبشة بمساعدة الإنجليز
ووقع معهم معاهدة عام 1361هـ، ومن بنود هذه المعاهدة أن يكون إقليم
(أوجادين) تحت النفوذ الإنجليزي، وبقيت خارج نفوذ الحبشة، وتغيرت المعاهدة
البريطانية الحبشية بمعاهدة جديدة سنة 1364هـ مع تبعية أوجادين للإنجليز وفي
سنة 1368هـ وصلت (مقديشو) لجنة من الحلفاء لمعرفة رغبة الشعب الصومالي
في تقرير مصيره، فانتهى الأمر إلى أن تتولى الدول الأربع الكبرى إدارة شئونه
تحت إشراف الأمم المتحدة لمدة (10) سنوات ينال بعدها استقلاله ولذا قررت
بريطانيا تسليم (الأوجادين) إلى أثيوبيا بمعاهدة سنة 1375هـ، وبدون مراعاة
لرأي الشعب الصومالي، لذا ثار هذا الشعب على ذلك الوضع، وكانت حجة أثيوبيا
تلك المعاهدة الموقعة مع بريطانيا، وكان رد فعلها هجوماً عسكرياً على الصومال
عام 1384هـ (1964م) ، فتدخلت منظمة الوحدة الأفريقية لحل النزاع سلمياً،
وكان مصير هذه الجهود الفشل.
جبهة تحرير الصومال الغربي:
تأسست هذه الحركة عام 1383هـ كرد فعل لتعنت أثيوبيا، وبدأت حركة
المقاومة ضد الأثيوبيين؛ وأمام الظروف الدولية قلصت الحركة عملياتها مع دخول
الريف وبوادي الأوجادين، وأعطت أثيوبيا فرصة للمفاوضات ولكنها فشلت،
فعادت المقاومة من جديد؛ وبعد الانقلاب العسكري في أثيوبيا عام 1394هـ الذي
أطاح بهيلاسلاسي، عمّ التفاؤل أهل الصومال الغربي ولاحت آمال بقرب انفراج
أزمتهم، وتوقفت حركة المقاومة لكي تعطي النظام الجديد فرصة للحل السلمي،
ولكن الآمال خابت حيث صعّد النظام الجديد عملياته الحربية منذ عام 1396هـ،
لكنه مُنِيَ بهزائم شديدة فاستعان بحلفائه الحمر من (السوفيات والكوبيين) وقتل آلافاً
من المسلمين، ولجأ عدد كبير منهم يزيد على المليون نسمة إلى الدول الفقيرة
المجاورة، وانتشرت مخيماتهم على حدودها، وأضافوا إليها عبئاً جديداً [1] .
الأوجادين.. المأساة:
تمثل منطقة القرن الأفريقي أهمية استراتيجية تنافست عليها الدول
الاستعمارية منذ وقت مبكر، وتعد أثيوبيا أقرب حلفاء المنطقة لأمريكا، خاصة في
التسعينات الميلادية، ولهذا تمثل أثيوبيا عمقاً استراتيجياً للسياسة الأمريكية في
المنطقة.
ويحكم أثيوبيا حالياً (ميليس زيناوي) رئيس جبهة التحرير الشعبية
الديموقراطية ذات الأغلبية النصرانية التجرانية، ويوجد في أثيوبيا اتجاهات
سياسية وقبلية متعددة، منها:
1 -الأورميون في الجنوب والمنطقة الوسطى.
2 -العفريون في الشرق.
3 -الصوماليون في الأوجادين.
وتسعى معظم هذه الإتجاهات القبلية للتحرر من سلطة الحكومة التجرانية؛
ولهذا حرصت الحكومة الأمريكية على عدم تغير الأوضاع في المنطقة، ودعم
جهود المصالحة بين حكومة أديس أبابا وخصومها من المعارضة المسلحة، مع
سعيها لتثبيت الحكم النصراني في المنطقة، وساهم (هيرمان كوهين) المبعوث
الأمريكي في المنطقة بجهود كبيرة في هذا الميدان، وشارك في لقاءات متعددة مع
الحكومة والمعارضة.
يقول أحد كبار موظفي مكتب الشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية الأمريكي: «إن أثيوبيا ستظل أكثر دول المنطقة بما فيها الصومال جاذبية لنا لأسباب عديدة
منها: مقدرتها الاقتصادية، وحجمها السكاني، وطبيعة الروابط الأثيوبية /الأمريكية
التاريخية، وتمتع البيروقراطية الأثيوبية بكفاءة عالية في أداء المهمة المطلوبة منها
بدقة، وموقعها الاستراتيجي على البحر الأحمر، وميراثها النصراني الذي يمكن أن
يكون عائقاً أمام مد الحركات الإسلامية، إضافة إلى دور أثيوبيا كمقر دائم لمنظمة
الوحدة الأفريقية» . [2]
ولقد سعت الحكومة الأثيوبية بمباركة من أمريكا إلى حصار منطقة الأوجادين
لأنها تمثل أكبر تجمع إسلامي في أثيوبيا، فأهملت المنطقة إهمالاً منقطع النظير،
ولم تقدم الحكومة شيئاً يذكر لتحسين حال المنطقة خاصة في عهد (منجستو
هيلامريام) الذي حكم المنطقة بالحكم الشيوعي عشرين عاماً.. وزاد من مأساة
الشعب المسلم في الأوجادين أن جفافاً شديداً ضرب المنطقة فانقطعت الأمطار،
وجفت الآبار، وهلكت الزروع والمواشي.. مما أدى إلى انعدام مقومات المعيشة
الإنسانية، فأصبح الناس في شدة وبلاء.
والعجيب أن مأساة هذا الشعب المسلم لم تلق حقها من العناية لأسباب متعددة
منها:
1- تزامنت هذه المأساة مع تفجر الأوضاع في الصومال التي ركزت عليها
الأنظار ووسائل الإعلام.
2- حرص الحكومة الأثيوبية على التعتيم الإخباري لهذا الإقليم.
3- انتشار الدعوة الإسلامية بشكل متنامٍ في هذه المنطقة، التي كونت بعد
ذلك نواة للحركة الجهادية المسلحة.
وقد استغلت الهيئات التنصيرية والإرساليات الكنسية هذا الموقف ووسعت
أنشطتها في المنطقة، فبلغ عددها حوالي أربعين هيئة رسمية، بينما غابت الهيئات
الإسلامية عن الساحة أو كادت، مما زاد من تغلغل المنصرين في هذا الإقليم،
وانتشر الجهل والبدع بصورة كبيرة جداً، فبيئة الجهل والجوع هي التي يغتنمها
النصارى لإخراج الناس من دين الإسلام.
حركة جهاد الاتحاد الإسلامي:
لقد قامت حركة الاتحاد الإسلامي مؤخراً بجهادها لتحرير أراضيها المغتصبة
من المعتدين؛ لتعود أرضاً إسلامية يحكمها الإسلام وأهله، وقد دخل جهادها عامه
الثاني، وهو يدور بين مجاهدي شعب الأوجادين الذين يدافعون من أجل هويتهم
الإسلامية وإقامة دولتهم المسلمة وبين حكومة التيجراي الأثيوبية النصرانية، التي
تسعى جادة لكسر شوكة المجاهدين وإخماد حركتهم الجهادية، وتعد الحرب الدائرة
بين الطرفين حرب عقيدة؛ إذ هي المحور الأساس الذي يمثل سبب الصراع الأول
والأخير، فأثيوبيا من جانبها ترى أنها الوارث الشرعي للصليبية، التي ضربت
بجذورها في بلاد الأحباش ومازالت الحكومات المتعاقبة على (أثيوبيا) تخلص
العطاء للكنيسة، وتعطي ولاءها المطلق للمذهب الأرثوذكسي المتعصب، الذي
يعتبر نفسه الأصولي الوحيد الذي يسير على طريق الكنيسة الصحيح في زعمهم
وتأتي الأطماع الأثيوبية في الاستمرار في محاربة مسلمي الأوجادين والسيطرة على
منطقتهم من خلال التشجيع والدعم المتواصل الذي تجده من القوى الصليبية
الخارجية.
أما الاتحاد الإسلامي وهو الحزب الذي يقود الجهاد حالياًِ ضد الصليبية
وباعتراف من حكومة أثيوبيا بشرعيته، فهو يقود جهاده للقضاء على الصليبية في
منطقة الأوجادين، التي استلبها الاستعمار الصليبي من أرض الصومال البلد المسلم
وقلد إدارتها لأتباع الكنيسة، لتسعى بدورها لطمس اسمه الإسلامي من تلك المنطقة.
ولذا لم يكن في حسبان قوات التجراي (الأثيوبية) ذات الإمكانات المادية
الهائلة، والتأييد المطلق من قبل الصليبية العالمية لم يكن في حسبانها بأن قوات
الأوجادين ذات ثقل كبير، وعندما عزمت قوات التجراي مهاجمة معسكر طارق بن
زياد التابع لقوات الاتحاد الإسلامي كانت تظن أن الكرّة سوف تكون واحدة ومبرمة، تتفرق بعدها قوات الاتحاد الإسلامي، لكن الله خيب ظنهم. يقول الله تعالى:
[إنهم يكيدون كيداْ وأكيد كيداْ فمهل الكافرين أمهلهم رويداْ] ، فشاء الله بقدرته وعزته أن يجعل الدائرة على الكافرين ويقتل منهم سبعون قتيلاً، فلم يهدأ لهم بال منذ ذلك الحين وحتى الآن، ولقد أبلى المجاهدون بلاءً حسناً، وأذاقوا الصليبيين بأسهم ولقنوهم درساً لن ينسوه ثم استنفرت قيادة الاتحاد الإسلامي كل قوى المجاهدين في أوجادين، وقررت أن تكون المواجهات عن طريق حرب العصابات مما بث الذعر والرعب في قلوب أعداء الدين الإسلامي في المنطقة بصفة عامة.
وكانت حصيلة المواجهات العسكرية بين المجاهدين في الأوجادين والحكومة
الأثيوبية خلال (16) شهراً: 13 مواجهة ما بين معركة عنيفة وعملية خاطفة.
وفي تاريخ 15/7/1413هـ وقعت معركة عنيفة قتل فيها (95) جندياً من
جنود الحكومة ودمرت فيها خمس ناقلات للجنود، وغنم المجاهدون معدات عسكرية
كثيرة، ومن العجائب أن القوات الفرنسية المرابطة في الحدود الصومالية
الأوجادنية باسم قوات هيئة الأمم المتحدة لما رأت هزائم الجيش الأثيوبي تدخلت
بمروحياتها الهجومية، وشنت غارات متعددة على المجاهدين، فاستشهد اثنان وأسر
ثمانية أطلق سراحهم فيما بعد، وكما قال الله تعالى: [والذين كفروا بعضهم أولياء
بعض] .
ولما فشلت حكومة أديس أبابا في حسم قضية الأوجادين عن طريق الحرب
والقوة، لجأت إلى حيلة ماكرة لتدمير وحدة شعب الأوجادين، حيث طرحت
مشروع تكوين حكومة محلية في المنطقة الصومالية على أن تكون غالبية مقاعد
الادارة الجديدة لأعضاء الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين، بغرض إشعال الفتنة بين
أهل المنطقة، وليرفع أبناء المنطقة السلاح في وجه بعضهم بعضاً وتعم الفرقة
والتشتت في صفوف المجاهدين والشعب الأوجاديني، الذي اكتشف مؤخراً أن هذا
المخطط الاستعماري هو تطبيق لقاعدة فرق تسد.
وفي شهر يوليو 1993م الماضي قامت حكومة أديس أبابا بتغيير مسؤولي
الحكومة المحلية الذين رفضوا تنفيذ مخططاتها الصليبية، وطالبوا بالانفصال عن
أثيوبيا، وأن يصبح الشعب الأوجاديني حراً مستقلاً، وذلك وفقاً لما ينص عليه
الميثاق الوطني الأثيوبي من إعطاء حرية الخيار للشعب الأوجاديني في تقرير
مصيره سواء أراد الوحدة مع أثيوبيا أو اختار الانفصال والاستقلال.
وبعد عزل المسؤولين المعارضين لسياسة أديس أبابا تجاه أوجادين قامت
الحكومة بتعيين مسئولين جدد؛ لتسيير أمر المنطقة حتى لا يكون للإدارة المحلية
الجديدة حق التدخل في الشؤون المصيرية والشؤون الخارجية والدفاع والمالية
وكذلك مسألة الاستقلال والانفصال عن أثيوبيا.
وتمر منطقة أوجادين في الوقت الراهن بأوضاع متفجرة حيث استعد
المجاهدون في الآونة الأخيرة التي توقفت فيها المعارك وأعدوا العدة لأي مواجهات
قادمة مع العدو، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة] ؛ ويجيء استعداد جيش المجاهدين على إثر خروج جيوش العدو من ثكناتها
العسكرية استعداداً لبدء معارك جديدة مع المجاهدين وقد هجم التجراي على مدينة
(سجج) في 13 أكتوبر 93 وسرعان ما هزمتهم قوات المجاهدين حيث قتل منهم
سبعة وعشرون جندياً ولاذ البقية بالفرار مخلفين وراءهم غنائم كثيرة استولى عليها
المجاهدون بعد استيلائهم على قاعدة العدو، وفقد المجاهدون ستة من رجالهم رحمهم
الله.
واستطاع الاتحاد الإسلامي أن يكسب ثقة الشعب في أوجادين في الفترة التي
توقفت فيها الحرب، حيث عقدت المؤتمرات الشعبية التي حضرها زعماء العشائر
والقبائل، وتم طرح مبادئ وأهداف الإتحاد الإسلامي في هذه القاءات الشعبية،
والتي أكد فيها بأن هدفه الجهاد في سبيل الله من أجل أن تقوم دولة إسلامية في
المنطقة وتحكم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ولقد نال المجاهدون تأييد زعماء القبائل والشعب الذي كره الاستعمار الأثيوبي، ورفع شعار التخلص من العدو البغيض بعد أن اتفقت كلمته على ضرورة الجهاد
في سبيل الله وطرد والصليبيين.
والله نسأل أن يعز جنده، ويعلي كلمته.. والله غالب على أمره.
__________
(1) أنظر الأقليات المسلمة في أفريقية، ج2، للأستاذ/ سيد أبو بكر.
(2) فصلية ميدل إيست جورنال، خريف 1992م، نقلاً عن مجلة المراقب، (عدد 2) .(72/73)
المسلمون والعالم
انتصارات جديدة للمجاهدين في (مورو)
وهزائم للعدو وتبريرات ساذجة
محمد أمين
وردنا من لجنة الإعلام الخارجي بجبهة تحرير مورو الإسلامية البيان رقم
(30) الذي احتوى على مبشّرات طيبة بانتصارات جديدة للمجاهدين وانكسارات
وهزائم للعدو، فالحمد لله على توفيقه، وصدق الله العظيم القائل [أٍذنّ للذين
يقاتّلونّ بأنهم ظٍلموا وأن اللهّ على نصرهم لقدير] .. ونقتطف من البيان ما يلي:
- (البيان) -
اعتداءات واندحارات:
لقد توالت نيران الحرب في أنحاء بلاد مورو منذ الشهرين الماضيين حيث قام
الجنود الصليبيون بعمليات عسكرية همجية ضد المسلمين الآمنين العزل في بلدة «
بانيسيلان» بمحافظة «كوتاباتو» الشمالية، وقامت قوات «راموس» الجويّة
بغارات جويّة متكررة على القرى الإسلامية الست في البلدة المذكورة، كما قامت
قواته البرية بدكّها بالصواريخ والمدافع الثقيلة، ودمرت القرى، واحترقت وتشّرد
أهلها ونَهَبَ الجنود الصليبيون جميع أموال المسلمين وممتلكاتهم.
وقام مجاهدو جبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة الشيخ المجاهد/ «سلامات
هاشم» بهجوم مضاد لوقف الزحف الصليبي مستعينين بالله العلي القدير، ودارت
المعارك الشديدة والمجاهدون يتقدمون منذ يوم الاثنين الثاني من جمادى الآخرة
1414هـ وتصاعدت المعارك حيث استخدم جنود العدو مدافعهم الثقيلة تتقدمهم
الدبابات والمصفحات، وطائراتهم المقاتلة تقوم بقصف مواقع المجاهدين، ومع ذلك
فقد استطاع المجاهدون بعون الله تعالى أن يحرروا ثلاثاً من القرى الإسلامية التي
أقيمت فيها مستوطنات نصرانية بعد معارك عنيفة استمرت ثلاثة أيام ابتداءً من يوم
الثلاثاء 3 جمادى الآخرة 1414هـ.
وانسحب جنود العدو المكوّنون من عدة كتائب منها كتيبة (35) وكتيبة (36)
المشاة ومعهم عدد كبير من المليشيات النصرانية.
وقد أعلن قائد العدو الذي قاد المعركة المذكورة أنه وجنوده اضطروا
للانسحاب؛ لأن عدد أعدائهم يفوق عددهم بكثير، وأسلحتهم أقوى من أسلحتهم،
ويذكر قائد العدو أيضاً أن من بين أعدائهم أربعة من الأجانب وصفوا بأنهم طويلوا
القامة، وتميل بشرتهم إلى البياض ولحاهم طويلة، ولكن لم يصرح الجنرال
الصليبي بجنسية هؤلاء الأجانب، والواقع أن هذا الادعاء ما هو إلا لتبرير
انسحابهم فقط، فالمجاهدون قليلون، وعدد جنود العدو أضعاف عددهم، وليس
لديهم إلا أسلحة فردية خفيفة، ولا يوجد أجنبي بينهم.
وقد أعلن قائد جنود العدو أنه لن يتخلى عن القرى الثلاث وسيعيدها تحت
سيطرته، أما المجاهدون فهم يتقدمون إلى القرى المجاورة لمحاولة تحرير المزيد
منها إن شاء الله تعالى والقرى الثلاث التي استولى عليها المجاهدون هي: تايلاند -
كاروجمانان- بينامولوان وقد قتل عدد كبير من جنود العدو واستولى المجاهدون
على أسلحة كثيرة ومعدات وإمدادات عسكرية بما فيها كمية كبيرة من الأرز، كما
استولوا على مزرعة كبيرة، لتربية المواشي، وفيها عدد كبير من الأبقار
والجواميس.
إن المعارك بين مجاهدي الجبهة الإسلامية وبين جنود العدو راموس ليست
محصورة في بلدة بانيسيلان، فقد بدأ القتال بين فصائل المجاهدين وبين كتائب
جنود العدو في قرية «بالونتو» بمديرية روهاس منذ يوم الثلاثاء 3 جمادى الآخرة
1414 هـ، ومازال مستمراً، وقد حرق جنود العدو الصليبي مسجداً صغيراً في
القرية، وأثناء عودتهم إلى مركزهم وقعوا في كمين نصبه المجاهدون وكانت هذه
هي بداية القتال، وتكبد العدو خسائر كبيرة في الرجال والعتاد.
وقد تجدد القتال أيضا خلال الأسبوع الأول من شهر (جمادى الآخرة 1414
هـ) في قرية «أنجا» ببلدة «دامولوج» بمحافظة «بوكيدنون» وتستمر المعارك حتى الآن بين المجاهدين وبين جنود راموس الصليبيين، ولقي تسعة منهم مصرعهم وأصيب ثلاثة خلال المعارك المتواصلة.
وفي مديرية «بيكيت» حاول جنود العدو اقتحام مواقع المجاهدين، ولكن
المجاهدين ردوا عليهم بضربات قوية أجبرتهم على الانسحاب تاركين وراءهم 12
قتيلاً، واستولى المجاهدون على ما معهم من أسلحة.
خطف وتخريب:
لقد تكررت عمليات الخطف والتخريب خلال (الأسبوع الأول من شهر جمادى
الآخرة 1414هـ) في جميع مدن «بانجسامورو» الواقعة تحت سيطرة حكومة
راموس الصليبية، فقد حدث الخطف في مدينة جينرال سانتوس، كما حدث في
مدينة كوتاباتو وفي سولو أيضاً، كما حدثت انفجارات في جميع المدن في بلاد
مورو، ولا شك أن هذه الأحداث تدل دلالة واضحة على استياء الناس من نظام
راموس وسياسته ومن ثم يلجؤون إلى أي طريق ممكنة لإضعافها.
تعاون صليبي صهيوني:
لقد اجتمع مؤخراً الزعيمان الصهيوني والصليبي (رابين وراموس) في
نيويورك واتفق الرجلان على تعميق التعاون بين بلديهما في مختلف المجالات،
واتفقا بوجه خاص على إقامة مشروع مشترك لصناعة قطع غيار الطائرات، وهذا
المشروع يؤهل الفلبين لصناعة الطائرات أو على الأقل تركيبها ومن ثم تطوير
القوات الجوية الفلبينية.
وكان هناك تعاون قديم بين إسرائيل والفلبين منذ عهد الديكتاتور المخلوع
ماركوس، واستمر هذا التعاون عبر عهد أكينو، وتصاعد بعد أن تولى راموس
كرسي الرئاسة الفلبينية، وأصبح التعاون بين الدولتين (الصهيونية والصليبية) وثيقاً
جداً.
نداء لدعم المجاهدين:
إن إخوانكم في الله في بلاد «مورو» بجنوب الفلبين وفي مقدمتهم العلماء
والدعاة والمجاهدون ينادونكم ويستنصرونكم في الدين عبر هذا البيان. إن إخوانكم
في العقيدة في هذه المنطقة النائية يواجهون حملات صليبية شرسة وعمليات إفناء
منظم، وقد قتل في الآونة الأخيرة عشرات من المسلمين الآمنين العزل؛ وكان من
عادات هؤلاء الجنود الصليبيين الانتقام من المسلمين العزل كلما انهزموا أمام
المجاهدين، فقد دمرت وأُحرقت ست من القرى الإسلامية، وتشرّدَ عشرات الآلاف
من المسلمين، وليس معهم سوى ملابسهم التي على أجسامهم، فالله الله في إخوانكم
بالدعم والعون (من جهز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلف غازياً في
سبيل الله في أهله بخير وأنفق فله مثل أجره) ، (والله لا يضيع أجر من أحسن
عملا) .(72/82)
هموم ثقافية
نحن ولغتنا العربية
إبراهيم داود
سألني أَحَدُ الطلبة يوماً في ضيقٍ واستهجان: لِمَ يُجعَلُ للعربية في جدول
الدراسة كُلّ هذه الحصص، وهي ليست اللغة الأولى بين اللغات ولا الثانية، ولا
حتى الثالثة؟ ! وذكرتُ وأنا أحاول تفهيمه وتوعيته موقفاً للعقاد رحمه الله، فقد
سأله سائل مرةً: لِمَ تكتب؟ ! فقال: كان الأولى أن تسألني: لِمَ تعيش؟ فإنما
الحياة تعبيران: تعبيرٌ تتلقاه عن الآخرين، وتعبير يتلقاه عنك الآخرون.. كذلك
الحياة عند العقاد، وعندي أن مَن يُنكر اهتمامنا بالعربية كمن ينكر علينا كوننا
مسلمين، سيّان!
إن القرآن كما نصّت آيات عديدة عربي اللسان، والقرآن هو مصدر تشريعنا
نحن المسلمين ومنهاج حياتنا، وميزان ديننا ودنيانا وآخرتنا فكيف لا تكون العربية
التي أُنزل بها من أكبر همومنا، وملء السمع منّا والبصر والفؤاد؟ !
لقد كّرم الله تعالى هذه اللغة العربية؛ إذ أنزل كتابه الكريم بها على رجل من
أهلها -صلى الله عليه وسلم-، وكرّمها إذ حفِِظَها بحفظ ذلك الكتاب العظيم، وهذا
التكريم قطعي الدلالة على أنها خير اللغات، وما انحسار ظلها في هذا الزمن
وضيق انتشارها إلا دليل على ضعف أهلها في تعلمها وتعليمها، وتلك حقيقة لا
سبيل إلى جحدها أو المماراة فيها، وإلا فإن الإسلام الذي حكم العالم قروناً مديدة قد
نُحّيَ هو الآخر في هذا العصر الكئيب عن موقع القيادة والسلطان، أفيُحملُ الإسلام
وهو دين الله الخاتم وكلمته العليا وزر انتكاسنا وارتكاسنا؟ ! أم من يحمل ذلك
الوزر الثقيل غيرنا نحن المسلمين؟ !
إن اللسان العربي شعار الإسلام ولغة القرآن وأهله كما يقول ابن تيمية رحمه
الله تعالى وإن اللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، لكن العربية هي
وحدها لغة الدين، وأيّ دين؟ إنه الإسلام الذي أكمله الله وارتضاه «ومن يبتغ غير
الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» . [1] ولقد استفاد العدو
من الصراع الممتد بيننا وبينه، فعلم أن المسلمين يرون في القرآن العظيم منهاج
حياتهم، وقوام وجودهم وتفوقهم، وأنهم يجعلونه فوق شُبهات العقول وشهوات
الأنفس، وأن لا سبيل لهم إلى العلم بالقرآن والعمل به: إلا من طريق اللغة،
وبذلك أدرك العدو أن اقتحام حصون المسلمين إنما يتحقق بتخريب لغتهم، وتشويه
صورتها في عيونهم وعقولهم، وأن من شأن ذلك أن يضمن له الفوز عليهم بأقل
الخسائر وأرخص التكاليف، ولا شك في أن البحث عن أسباب الضعف في التعبير
اللغوي من دون إدراك هذه الحقيقة إنما هو بحث عقيم لا يفضي إلا إلى مزيد من
التخبط والضلال.
إن الأمة التي يضعف تأثيرها في حركة الحياة يدبّ الضعف في أطرافها
جميعاً، ويسري الوهن في روحها كلّه، فليس الضعف اللغوي إلا مظهراً من
مظاهر التخلف الكثيرة في هذه الأمة المغلوبة، وليس من ريب في أن معرفة الداء
الذي أركس الأمة وهو انحرافها عن منهج الله هو الخطوة الأولى على طريق شفائها، وما شفاؤها إلا في فرارها إلى ربها القادر، حتى يُعيد لها الكَرّة الأولى على
عدوّها، فتعود كما كانت خير أمة أُخرجت للناس، ويومئذٍ تعزّ لغتها كما عزّت من
قبل، ويصلح آخر أمرها كما صلح أوله، وتتوقف معاناة أبنائها من كيد أعدائهم لهم، ومكرهم بهم، إذ يأمرونهم أن يكفروا بالله ربهم، وأن يرضوا بأن يصبح الإسلام
ويُمسي غريباً بينهم، يحيا في نفوس أشتاتٍ منهم مستضعفين، تُكال لهم التهم،
وتستباح دماؤهم وأموالهم إذا هم خرجوا به عن حدود الشعائر التعبدية في المساجد
والبيوت.
ولقد كان من أكبر الكيد لنا أن يزعم أعداؤنا أن نجاحاتهم الكبيرة في ميادين
العلم مستفيدين من سنن الله الكونية في تسخير ما في الأرض جميعاً لبني آدم أنها
إنما كانت نتيجة فصلهم بين الدين والدنيا، وأن يربطوا بمكرٍ تزول منه الجبال بين
نهضتهم وكفرهم من جهة وبين تخلّف المسلمين وإسلامهم من جهة أخرى، مع أنهم
كانوا في الماضي كفاراً وكانوا أشدّ تخلفا وكان المسلمون مسلمين حقاً، وكانت لهم
السيادة والقيادة والتمكين في الأرض، على أن العدو قد نجح في كيده إلى حد كبير، وانظر بعضاً من أبناء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مفتونين بالغرب،
خواضين في مستنقعات تقليده، مطموسي الأبصار والبصائر، يصبحون ويُمسون
وهم يرون في الغرب قدوةً وإماماً! حتى إذا قال واحد ممن يُسَمّون علماء التربية
الحديثة: إن الطفل لا يصح أن يُلقّن شيئاً لا يدرك معناه، قالوا: لا ينبغي إذاً أن
يُحَفّظَ شيئاً من القرآن حتى يبلغ سن الرشد، وهم يعلمون أن ما من دولة من دول
العالم إلا ويحفظ أطفالها من الأناشيد ما لا يدركون معناه، ويعلمون أن آباءنا
وأجدادنا كانوا يبدؤون في طفولتهم الغضّة بحفظ القرآن، وكانوا خيراً منّا في
تفكيرهم وتعبيرهم مِراراً كثيرة.. وإن قال قائل من فلاسفة التربية الحديثة: إن
الفنون الأدبية ينبغي أن تكون حيّة واقعية، آثر غير قليل من أصحابنا كتّاب هذه
الفنون أن يجعلوها بالعاميّة أو يجعلوا الحوار فيها كذلك وذلك عندهم أضعف
الإيمان! ، وكذلك أصبح إعلاميّونا ومعلمونا مغرمين بالعامية حتى إذا حمل أحدهم نفسه على ما تكره، وحمّلها ما لا تطيق تكلّف الفصحى على استحياءٍ تكلّفاً، وجاء بها معجمة غير مُعرَبة!
إن أعداء الإسلام هم الذين هوّنوا من شأن هذه اللغة، وأرجعوا إليها كل
ضعف في مستوى الثقافة والتحصيل العلمي، ودعوا إلى العامية تارة وإلى اللاتينية
أخرى، ومعروف أن أول كتاب دعا إلى استعمال العامية كتبه قاضٍ إنجليزي في
مصر عام 1902 م اسمه (ولمور) سمّاه (لغة القاهرة) وضع فيه قواعد تلك اللهجة،
واقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب جميعاً، كما اقترح كتابتها بالأحرف اللاتينية، ثم
كأنما بصق القاضي الإنجليزي المذكور في فم إنجليزي آخر كان مهندساً للريّ في
مصر هو (وليم ولكوكس) الذي قام ينعق بهجر العربية سنة 1926 م، ويترجم
أجزاء من الإنجيل إلى ما سمّاه «اللغة المصرية» ، فيقوم على إثر ذلك الصليبي
(سلامة موسى) فلا يستحيي أن ينوه بالكاتب والكتاب، وأن يدعو بدوره في كتاب
سمّاه (البلاغة العصرية واللغة العربية) إلى لغة أخرى غير الفصحى، لغة جديدة!
تمتزج فيها الفصحى بالعامية؛ ليكون عندنا بزعمه لغة واحدة للكتابة والكلام.. ومع
الأيام يُقيّضُ لهذه الفكرة الخبيثة من شياطين الإنس دعاةٌ آخرون مخلصون كفخري
البارودي الذي تولّى في دمشق إصدار صحيفة أسبوعية باللهجة العامية وكسعيد عقل
في لبنان، وآخرون من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت، التي كانت وماتزال
معقلاً من معاقل الغزو الثقافي الذي اقتحم على المسلمين مجتمعاتهم وبيوتهم حتى لم
ينج من عقابيله أحد، ومَن مِن أبناء المسلمين إلا من رحم الله وقليل ما هم عُوفي
من أخطار الفن والرياضة، وأخبار الأزياء (والموضة) وشرور (الفيديو
والتلفزيون) ؟ !
وأما بعد فما السبيل؟ السبيل أن ترجع هذه الأمة إلى ربها، وتسترجع
شخصيتها وتستعيد سلطانها وهيبتها، وتُعيد النظر من ثمّ في أوضاع لغتها، مناهج
وكتباً ومعلمين ومتعلمين، عندئذ، وعندما يؤدي الإعلام أمانته، وعندما يُعدّ اللحن
في اللغة كما عدّه أسلافنا العظام في جملة العيوب والذنوب، وعندما يحرص كل
مسلم أن يكون قوياً أميناً.. عندئذ تكون أمتنا قد عرفت الداء والدواء، فمشت على
طريق العافية. يروى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعريّ:
«إنّ كاتبك الذي كتب إليّ لحَنَ لحناً فاضربه سوطاً» ، أو لسنا أحوج من الصحابة في عهد عمر إلى مثل تحرّيه رضي الله عنه؟ ! ليس في ضرب الكُتّاب ولكن في اختيار المجيدين وأهل البيان والمتخصصين في مجالاتهم ليؤدوا أدوارهم المطلوبة حتى لا تخرج علينا دعاوى إنهزامية من ذلك القبيل.
__________
(1) سورة آل عمران: 85.(72/86)
في دائرة الضوء
ملحوظات حول قضية «التأويل»
د. محمد يحيى
ظهرت في الأعوام الأخيرة في كتابات عدد من المثقفين العرب ولاسيما في
مصر قضية فكرية، يمكن تسميتها بقضية التأويل أو التفسير للنصوص. وينقسم
الطرح المحيط بهذه القضية إلى شقين: أحدهما أدبي، والآخر فلسفي إلا أن
الموضوع برمته قد نشأ نتيجة للتأثر بتيار فلسفي نقدي أوروبي عام هو تيار
«الهرمنوطيقا» أو علم التفسير الذي يرجع إلى أوائل القرن التاسع عشر في صورته الحديثة، والذي يوجد حضور له في العديد من الفلسفات الأوربية الكبرى كالهيجلية والماركسية والظواهرية والوجودية، فضلاً عن مدارس النقد الأدبي الحديثة، وقبل ذلك كله في علوم نقد وتحليل ما يسمى بالكتاب المقدس في الغرب، والصورة الحديثة التي نشأ فيها علم التفسير في أوروبا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه النقطة الأخيرة في نقد الكتاب المقدس عندهم وتأويله وبالذات بعد أن أظهرت الدراسات العلمية واللغوية في القرن الثامن عشر وقبله الكم الكبير من العيوب والنقائص والتناقضات المتضمنة في الشكل الموجود لدى الكنائس من الأناجيل والتوراة، وقد أدت هذه الدراسات إلى إسقاط مفاهيم صدق الكتاب المقدس وثباته وصحته، كما فتحت الباب واسعاً أمام من يريد الإبقاء على قدر من الإيمان والمصداقية لهذا الكتاب لكي يؤول ويفسر ويتكئ على المجاز في تعامله مع هذا النص، كذلك أدت الدراسات العالمية واللغوية إلى إسقاط المفهوم المتوارث بأن الكتاب المقدس هو كلمة الرب، وأن الطريق الوحيد للتعامل معه هو تفسيره بالأسلوب اللغوي المعتاد بالشرح والتبيين استخراجاً من معاني الألفاظ، وظهر من خلال هذا كله منهج يرى في النص أو في الكتاب المقدس مجرد وضع بشري، شأنه في ذلك شأن سائر التأليفات البشرية من أدب وقانون وسير وتواريخ، حتى وإن زعم له بعضهم: أصلاً أو إلهاماً أو إسقاطاً إلهي المصدر.
إزاء هذا التحول الحاسم في النظرة إلى كتابهم المقدس بإسقاط قدسيته في واقع
الأمر، وإسقاط طابعه الإلهي المعتاد، جاءت الدراسات الأولى أو المواضعات
الأولى في علم «الهرمنويطيقا» لكي تحاول وضع أسس وصفت بالعلمية
والموضوعية للتعامل مع «النصوص» كل النصوص تفسيراً وتأويلاً وفهماً وعلماً
وعملاً، وكانت هذه المحاولات في مطلع القرن التاسع عشر وقبله بقليل، ثم طيلة
ذلك القرن من جانب نفر من المفكرين والكتاب الألمان، وهو الأمر الذي ألقى بظله
في العهود اللاحقة، بحيث يكتسب هذا الفرع الدراسي الطابع الألماني، ويؤثر في
المدارس الفلسفية والفكرية الألمانية ويتأثر بها، وبقي هذا الطابع محفوظاً حتى فيما
بعد عندما انتقل هذا الباب من البحث إلى سائر البلدان الأوروبية وأمريكا، وبغض
النظر عن أشخاص المفكرين والفلاسفة المؤسسين لهذا العلم، والإسهام المميز الذي
كان لكل منهم في تحديد معالمه فإننا نلحظ خطوطاً عامة رئيسة تميز بها فرع
«الهرمنويطيقا» .
هناك أولاً القول بضرورة البعد عن وضع القواعد الحاكمة لتفسير النصوص، واللجوء بدلاً من ذلك إلى البحث في «الموقف التأويلي» وتناول هذا الموقف من
جوانبه المختلفة كما يقع، دون محاولة وضع القواعد والأحكام التي ينبغي على
المفسرين الامتثال لها، ثم هناك نزع طابع القدسية أو حتى الخصوصية المميزة
عن أنواع من النصوص، والنظر إلِى أي مكتوب على أنه نص، له في موقف
التأويل الوضع نفسه الذي للنصوص الأخرى فيما يجري عليه من عمليات الفهم
والشرح والتفسير، وهناك من المعالم المهمة مفهوم «تاريخية النصوص»
و «تاريخية التفسير» الذي يرى أن النصوص ومفسريها والمواقف التأويلية ... التي تندرج فيها تخضع كلها لمقتضيات التاريخ وحتمياته وتغيراته وعملياته ويرتبط بذلك سيادة مفهوم «النسبية» في النظرة إلى النصوص ومضامينها. وهناك كذلك من ملامح هذا الباب الدراسي المهمة توسيع دلالات «التأويل» و «التفسير»
و «الفهم» التي هي مصطلحات لعمليات ذهنية وبحثية؛ بحيث تشمل ظواهر وعلوماً حياتية كثيرة، ولا تقتصر فقط على التعامل اللفظي الإدراكي مع النص المكتوب، ووفق هذه الرؤية أصبح التأويل عند بعضهم من متأخري المؤسسين للنظرية (لا بأس من ذكر أسماء ديلثي وهيدجر وكلاهما مفكر وفيلسوف ألماني) أصبح يعني العملية الحياتية الجوهرية التي لا غنى لإنسان عنها في شتى مراحل حياته: من إدراك حسي، إلى إدراك فكري ومعنوي، إلى النظر في الكون والمجتمع، إلى التعامل مع الآخرين وإلى تكوين المباحث الفكرية فيما يعرف بالعلوم الإنسانية من تاريخ وفلسفة وأدب وفن وقانون ودين.... الخ وبجانب هذه الملامح الكبرى للعلم، نجد أفكاراً ومفاهيم فرعية تصبغه هي الأخرى وتحدد شكله: كالقول بانفتاح النصوص، وتعدد معانيها بتعدد قارئيها، وتعدد السياقات التي تقع فيها والقول بجوهرية دور القارئ في عملية الفهم والتفسير وإنتاج المعنى.
وإذا كانت هذه هي ملامح البحث «الهرمنويطيقي» الرئيسة، إلا أن هذا
الباب الدراسي لم يخلُ عند انتشاره في دول كأمريكا وإنجلترا من أصوات تعارض
النزعة النسبية الطاغية التي غلبت عليه في طروحاته الألمانية، لكن هذه الأصوات
(وأبرزها الباحث الأمريكي هيرشي) لم تتمكن من مقاومة النزعات النسبية
والتاريخية لمفهوم التأويل؛ لأن هذه النزعات ارتبطت بجوهر العلم في كتابات
مؤسسيه من الفلاسفة الألمان، وهو الأمر الذي كان له أبلغ الأثر عند نقل بعض
مباحث هذا الدرس إلى السياق الثقافي العربي كما سنرى، وأيا كان الحال فإن
محاور «الهرمنويطيقا» الأساسية في العقود الثلاثة الماضية تمثلت في ثلاثة
محاور كبار:
فعلى المستوى الديني بدأت من ألمانيا، وانتشرت إلى إنجلترا وأمريكا داخل
الأوساط الكنسية البروتستانتية حركةٌ واسعة من إعادة النظر في الأناجيل وفي
المفاهيم الدينية النصرانية المستمدة منها، وارتبطت هذه الحركة بأسماء قساوسة
كبار، بل وأساقفة رؤساء في هذه الكنائس، برز منهم الألمان: «بولتمان»
و «بونهوفر» و «كون» وغيرهم، وأفرزت هذه الحركة مفاهيم وأفكاراً تتردد الآن في وسائل الإعلام الغربية بعد أن أخذت طريقها إلى ساحة الظهور الشعبي، وقد كانت قبل ذلك محصورة في نطاق البحث الأكاديمي، وهي أفكار تقول بإنكار المعجزات الكونية، والخوارق المذكورة في الأناجيل، وعلى رأسها مولد المسيح من عذراء أو ألوهيته! كما تدعو إلى التأويل المجازي للأناجيل وإسقاط الاتباع الحرفي لها، وتذهب إلى تجاوز ما احتوته التوراة أو الأناجيل من أحكام شرعية، وتنادي بتفسيرات مختلفة جذرياً لجوانب عدة من هذه الكتب.
أما المحور الثاني الذي ظهر عليه علم «الهرمنويطيقا» فكان عالَم الدرس
الأدبي والفكر النقدي، حيث ظهرت مدارس أدبية ذائعة الصيت؛ نتيجة لاستعارة
بعض مفاهيم هذا العلم وأسسه وتطبيقها على النصوص والمباحث الأدبية وهكذا
ظهرت مدارس جماليات التأثير الأدبي، ونظرية استقبال النصوص الأدبية (في
أوروبا) ، ومدرسة نقد وتمحيص استجابة القراء للنصوص (في أمريكا) ، وكلها
تعنى بنقل ثقل تركيز النقاد من النص الأدبي كوعاء جامد للمعنى إلى كيفية «إنتاج
المعنى» في عمليات القراءة والمؤثرات الشخصية والنفسية والاجتماعية والتراثية
التي تفعل فعلها في ذلك، وظهرت مدارس البحث في تعدد مستويات النصوص
الأدبية وثراء معانيها، نتيجة لعمليات التفسير المختلفة وتفاعلها مع عمليات اللغة
الطبيعية.
أما المحور الثالث الذي دار حوله «علم الهرمويطيقا» فكان المحور الفلسفي
حيث تحول هذا العلم أو مفاهيمه إلى المفاتيح الرئيسة لبعض الفلسفات والفلاسفة
المعاصرين كالظواهرية والهيدجرية، وأقرب من ذلك لدى الفلاسفة الأمريكان الجدد
وأبرزهم ريتشارد رورتي وغيره.
هذه نبذة بسيطة عن النشأة الحديثة وعن الملامح الكبرى لدرس علم التأويل
والتفسير في الغرب، وفي سياقه الحضاري الحاضر، ومشاكله المتميزة وأبرزها
إن لم يكن أوحدها المشكلة مع النص الديني المتمثل في الأناجيل الموجودة بين
أيديهم، والتي ثبت لهم أنها ليست كلمات الرب ولا المسيح، بل هي سير، كتبها
بعض المؤمنين بعيسى بعد عهده بسنوات طويلة، وكان تطرق الشك إلى هذه
«الكتب المقدسة» مما يمس مصداقيتها وصحتها شكلاً وتواتراً ومضموناً هو المحك الأول الذي ساهم في النشأة الحديثة «للهرمنوطيقا» وفي الطابع النقدي الذي اصطبغت به، وفي الملامح الرئيسة لها كما استعرضناها فيما سلف، ولهذه النقطة بالذات أهمية محورية عند التعرض لنقل بعض جوانب هذا الدرس إلى المناقشات الثقافية العربية الجارية.
إن للتفاعل العربي الثقافي مع الغرب في «العصر الحديث» كما يسمى
تاريخ طويل ومعقد ليس هنا مجال تناوله، ويشمل هذا التاريخ في جوهره
«استيراد» المدارس والأفكار الفلسفية الرئيسة في الغرب؛ لتمثل في أشكال مبسطة أو محرفة العمود الفقري لطروحات النخب المثقفة العربية المتغربة والمعلمنة على مد ى قرن أو يزيد، وعملية «الاستيراد» والتجهيز للاستهلاك والطرح في الأسواق الفكرية تحتاج هي الأخرى إلى تحليل ووصف ليس هنا مجالهما، لقد جرى استجلاب الأفكار الأساسية للفلسفات الغربية تباعاً على مدى النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين وفق احتياجات واضحة: هي علمنة وتغريب الطبقات المتعلمة والقائدة ثقافياً في البلاد العربية ولذلك كان التركيز في النقل أو الاستيراد (أو الغزو الفكري) على المذاهب الفكرية صاحبة المقولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تركّز النقل على الجوانب الفعلية والحركية والعملية منها دون الجوانب «التقنية» ، أي الجوانب المنطقية والنظرية المجردة؛ وهكذا شهدنا نقل الليبرالية في نواحيها السياسية والاجتماعية، والماركسية في شقها التطبيقي الشيوعي والاشتراكي والبراجماتية الأمريكية، والوجودية في جوانبها السلوكية والفنية تماماً، كما شهدنا عمليات نقل الأنظمة القانونية والإدارية والسياسية والاقتصادية والأدبية والسلوكية ... الخ؛ وكان من شأن هذا العامل الحاكم لنقل المذاهب الفكرية الغربية بغية استعمالها في المقام الأول كأدوات لبث ودفع العلمنة والتغريب إلى المجتمعات العربية المسلمة، وليس كأدوات تفاعل وتنشيط فكري أن يؤخر نقل واستيراد فلسفات معينة اتسمت بغلبة الطابع التقني على مظاهرها وأبرزها فلسفة التأويل، وكان منها بالمناسبة الفلسفة الوضعية المنطقية التي نقلت على يد زكي نجيب محمود، ولكن مع تطويع لجوانبها التقنية بحيث يصبح لها طابع فكري اجتماعي ديني أدبي، يستخدم هو الآخر في عمليات العلمنة والتغريب.
كان الطابع «الفلسفي» التقني الغالب على علم أو درس «الهرمنويطيقا»
هو العامل المحدد وراء تأخر نقل جوانب من هذا العلم واستخدامها في سياق عملية
العلمنة والتغريب من جانب النخب الثقافية العربية المتصلة بالغرب اتصال حياة
وبقاء، أضف إلى ذلك صعوبة هذا العلم وتركز مصادره الأساسية في الثقافة
الألمانية قبل اتصال النخبة بها، وإن كان لهذا العلم وضع قوي لاحق داخل الثقافة
الفرنسية، مما أدى مثلاً إلى ظهور بعض مؤثراته على نخب شمال أفريقيا، كذلك
تأخر النقل والاستيراد في تقديري لأن الفلسفات الأخرى الطاغية في تفكير النخب
المثقفة كالليبرالية والشيوعية وبعض أشكال القومية كانت تؤدي دورها في العلمنة
والتغريب على أكمل وجه، ولا يجب أن ننسى أن التخلف الذي يميز هذه النخب
إزاء الثقافة الغربية التي يعتبرونها القدوة مسؤول هو الآخر عن تأخر نقل
«الهرمنوطيقا» ، ذلك العلم الصعب المرتبط بالسياقات الفكرية والتاريخية والحضارية للعالم الغربي، غير أن عوامل متعددة تضافرت؛ لتعوض هذا التأخر في النقل، ولتساعد على الإقبال من جانب بعض عناصر النخبة المثقفة العربية على «الهرمنويطيقا» ومفاهيمها. إن الفلسفات الرئيسة التي جُلبت من الغرب على مدى القرن الماضي وقد فشلت في الأداء العلماني التغريبي، بعد أن تعرضت لعمليات نقد وتفنيد واسعة ليس فقط في البلدان الإسلامية ولكن في مواطنها الأصلية، وفي بيئتها الفكرية ذاتها وقد تحولت بعض هذه الفلسفات ولاسيما الليبرالية والبراجماتية إلى مجرد مذاهب سياسية اجتماعية لا تسندها حجج فلسفية عميقة؛ لكي تضفي عليها مصداقية ومكانة، أما الماركسية فقد أصابها هي الأخرى ذلك التحول فضلاً عن سقوطها المدوي المعروف في المجال العملي والنظري على حد سواء، ولم يتبقَ منها إلا شذرات من مفاهيم فلسفية متفرقة، سرعان ما أعيد اندماجها في المسار العام للفكر الغربي ذي الطابع العلماني، ولم تعد هذه الفلسفات ترضي النزعات التعمقية لدى قطاعات من النخبة المثقفة التي كانت تتطلع إلى الفكر الغربي دوماً باعتباره يمثل قمة العمق والتبحر في النظر إلى الكون والأشياء.
في هذا المناخ جاء نقل «الهرمنويطيقا» أو بالأصح بعض مفاهيمها من
جانب قطاعات من النخبة قليلة العدد صاحبة التأثر بالفكر الفلسفي الألماني
والفرنسي الحديث، وجاء هذا العلم ليقدم نفسه حلاً مثالياً للمشاكل التي ألمحنا إليها
في الفقرة السابقة لدى الفلسفات الغربية الأخرى التي تبنتها النخبة، فهو بحث
فلسفي يحتفظ بمستوى من العمق، وفي الوقت نفسه من الاتساع والانفتاح على
شتى مناحي الثقافة غاب عن الفلسفات الأخرى، وهو قبل كل شيء بحث فلسفي
يدور حول محور المحور الديني هو محط تركيز عملية العلمنة والتغريب التي
أوكلت إلى النخبة المثقفة، وبجانب ذلك فهو بحث فلسفي يخلو إلى حد كبير من
وصمة النقل والتقليد و «الاستيراد» التي شابت المدارس الفلسفية الأخرى،
وسهلت كثيراً من عمليات نقدها ودحضها ذلك لأن لفلسفة التأويل دوراً بارزاً
وأصيلاً فيما تسميه النخبة بالتراث: فهناك تفسير القرآن بمدارسه، وتأويل ألفاظه
معانيه وشرحها، وهناك مقولات تأويلية مشهورة اختلفت حولها مدارس علم الكلام، بل ونشأت أساساً بسببها وهناك تعبيرات معروفة في ذلك التراث تفيض بالمغزى
التأويلي كعبارة «القرآن حمال أوجه» ، وباختصار فهذا علم له نظير كبير في
الوضعية الإسلامية الفكرية والثقافية، ولا يتطلب الأمر التحايل لإثبات أن له أصلاً
في الإسلام على الساحة العربية، وإضفاء «العالمية» عليه.
وفي الحقيقة فإن وجود علم إسلامي عربي للتأويل والتفسير بقواعده
وممارساته، كان أمراً جذاباً لنقلة «الهرمنويطيقا» يجنبهم من ناحية التعرض
لمقولة الغزو الفكري، كما يضفي عليهم من ناحية أخرى طابع الباحثين المجددين
في الوضعية الإسلامية، الذين لا يسعون إلى إغراق هذه الوضعية بأفكار غريبة
عنها، بل يحاولون إحياء علومها الأصلية مستعينين في ذلك بالتطورات والأفكار
«العالمية» حول ذلك العلم، ولكن وراء هذا التشابه الظاهري أو السطحي كان يكمن الفارق الجوهري بل والخطير بين علم للتفسير نشأ في خطى الإيمان ... والاقتناع العقلي بكتاب مقدس (القرآن) ، وبين علم آخر الهرمنويطيقا الحديثة نشأ في خضم التشكك والنقد والإلحاد العقلي بكتب أخرى يقال لها مقدسة؛ هذا الفارق الجوهري في الموقف من «الكتاب المقدس» وعقيدة كل حضارة على حدة، هو الذي يجعل من المغالطة والسفسطة القول بأن «الهرمنويطيقا» هي الامتداد المشروع والطبيعي لعلوم التفسير الإسلامية لاسيما وأن أصحاب هذا العلم الجديد ودعاته هم المبشرون المتحمسون لمقولة أن لكل علم إنساني أو حتى طبيعي أرضية أيديولوجية وعقيدة فكرية «غير علمية» تحدد محتواه بل ومنهاجه أيضاً ومنطقه.
وإذا كان نقل علم «الهرمنويطيقا» قد بدأ على استحياء وقلة في مجال
دراسات النقد الأدبي؛ لأن أحد محاوره الرئيسة في الغرب يمر كما أسلفنا عبر هذا
المجال ويدلي فيه بدلوه، وإذا كان نقل هذا العلم لم يحدث إلى درجة تذكر في مجال
المحور الفلسفي في الطرح الغربي بسبب صعوبة هذا الميدان ودقة المدارس
الفلسفية التي تبنته ومحدوديتها، فإن النقل على المحور الديني هو الذي ظهر بشدة
على مدى السنوات الأخيرة؛ ليفتح فصلاً جديداً في سجل محاولات النخبة العلمانية
المثقفة مواجهة الإسلام ومنهجه، ولعل في هذا التركيز على المحور الديني لعلم
«الهرمنويطيقا» في مقابل المحورين الأدبي والفلسفي ما يشير بوضوح إلى أن النخبة قد مارست مع هذا العلم ما مارسته من قبل مع شتى النقول الفلسفية والفكرية من أوروبا، أي التركيز على العناصر والجوانب التي يمكن أن تستخدم في تعمق عملية التغريب والعلمنة، ومواجهة الفكر الإسلامي، كل ما في الأمر أن المذاهب الفلسفية وآخرها الماركسية قد فشلت في مواصلة هذه العملية، وحان دور مذهب آخر؛ ليؤدي المهمة نفسها بكفاءة، فكان هذا المرشح الجديد هو
«الهرمنويطيقا» لجدته وأهميته وبروزه في التفكير الفلسفي الغربي المعاصر، ولوجود نظير له في التراث الإسلامي يُمَكّن من استغلال التشابه بينهما وأحياناً وحدة القضايا المطروحة كأحد أدوات التضليل والإرباك والتعمية.
هكذا إذن دخل درس التأويل والتفسير ساحة الخطاب الفكري للنخبة المثقفة
المعلمنة في عالمنا العربي في الآونة الأخيرة؛ ليؤدي مهام ثقافية محددة في
المواجهة مع الفكر الإسلامي الصاعد، وليتعامل معه بشكل يتصور أنه أفضل من
تعامل المذاهب الفلسفية الأوروبية السابقة، وتمثل مفاهيم هذا العلم الآن الخلفية
العمود الفقري الفلسفي للعديد من طروحات النخبة في مواجهة الفكر الإسلامي
وأفكار الحركات الإسلامية، فهذه المفاهيم تقف بشكل مباشر أو غير مباشر لتسند
طروحات مثل: إعادة تقويم: «التراث» ومراجعته وقراءته و «تطوير»
الشريعة الإسلامية، وتفسير القرآن بما «يتلاءم مع عصرنا» وتعددية التفاسير
والمعاني القرآنية، و «بشرية النص القرآني» ، وتاريخية القرآن ومحدودية
انطباقيته، وتجاوز «حرفية» النص القرآني إلى «اتجاهه» في التشريع بل
وفي العقيدة، ونسبية التراث ومفاهيمه (مع ملاحظة أن الإسلام بعقيدته وشريعته
ونصوصه يندرج عند النخبة تحت مفهوم التراث) .. الخ. إن الأفكار الكلية
والجزئية على كافة المستويات التي تطرحها بعض أصوات النخبة المعلمنة المتغربة
الآن في دائرة ما يسمونه التراث بدءاً من حديثهم عن «مفهوم النص القرآني»
وانتهاءاً بالحديث حول انتقاء العناصر «الإيجابية والتقدمية» من التراث ونبذ
الباقي، واتخاذ موقف نقدي من الكل، إنما تنبع كلها من أرضية مفاهيم علم
«الهرمنويطيقا» كما بدأ نقلها في الأعوام الأخيرة من بعض فلاسفة
أوروبا.
وحتى هذا الحد فإن الوضع من الناحية الثقافية يبدو وكأنه لم يتغير عما كان
يحدث من قبل من جانب النخبة العلمانية، فنحن نجد أنفسنا أمام استعارة مذهب
فلسفي غربي مع تحويره بحيث يصلح أداة لمواجهة الإسلام من ناحية وتعميق
عمليات التغريب والعلمنة من ناحية أخرى، ولكن هناك فوارق جوهرية كما ألمحنا
من قبل، فنحن لا نواجه هنا مذهباً فلسفياً أيديولوجياً تقليدياً وإنما نواجه بمنهج في
البحث والتفكير يزعم لنفسه أنه تجاوز الأنماط الأيديولوجية والطروحات السياسية
والاجتماعية ليصبح منهج العلوم كلها الإنسانية وغير الإنسانية، بل ويزعم لنفسه
أنه قد أصبح الأب المهيمن على المناهج البحثية ونحن لسنا أمام مجموعة من
النصوص الفكرية والفلسفية كما كانت الحال من قبل، بل أمام مجموعة من الأفكار
(النصوص!) تزعم لنفسها أو يُزعمُ لها أنها أصبحت تهيمن على كل النصوص
على الإطلاق من حيث إنها هي التي تحدد كيف يجري التعامل مع هذه النصوص،
وكيف يتم تفسيرها وتأويلها واستخراج معانيها والحكم عليها، وفوق ذلك فنحن أمام
تيار يزعم أن له في التيار المناظر في الوضعية الإسلامية قريناً مكافئاً، وأنه لا
يحارب هذا القرين، بل يجدده ويطوره وينميه، ويفك من جموده وسقمه المدعى.
وقد يكون من الملائم في ختام هذه الملحوظات، التي رسمنا فيها خلفية ما
يتردد الآن من أفكار حول التأويل وتوظيفه في فهم التراث والقرآن وتفسيرهما، أن
نشير في خطوط عامة إلى محاور للرد عليها.
منها: إن الذين يتحدثون الآن عن «النصوص» وتفسيرها وتأويلها يقلدون
الغربيين الذين ينقلون عنهم في الخلط بين كل أنواع النصوص وعدم التفريق بينها
لا من حيث الشكل ولا المضمون ولا الهدف ولا معاملة المجتمع ونظرته لكل منها
عندهم، فإذا كان التقديس في أوروبا قد سقط عن «الكتب المقدسة» التي ثبت أنها
حُرّفت، فإنهم هنا يحذون هذا الحذو ويسقطون القداسة أو بالأصح ينفون الأصل
الإلهي عن القرآن، وإذا كان أساتذتهم في أوروبا يعاملون كل مكتوب على أنه نص
يستوي في ذلك الديني والقانوني والأدبي، فإنهم هنا يتبعون النهج نفسه، وينتهجون
الأسلوب نفسه في التعامل مع عالم النصوص باعتبارها جميعاً متساوية متشابهة،
دون تمييز بين نوعيات وأهداف خاصة بهذه النصوص توجب لكل منها معاملة
خاصة في التأويل والتفسير والمعاملة، ولنضرب المثل على ذلك: فإذا جاز
الحديث عن النص الأدبي بالقول باستقلاليته عن مراد كاتبه، وبتعدد معانيه
وتغيرها بتغير القراء والعصور والأغراض التي تقرأ لها، ونسبية المعاني العامة
المستخلصة منه ... الخ، فإن ذلك يجوز لطبيعة النص الأدبي الخاصة أو بالأصح
لتحديد المجتمع الأدبي لهذه الطبيعة الأدبية والغرض الأدبي، أما في النص الديني
(ونحن نسميه هكذا تجاوزاً لكي نتفق فقط مع مصطلحات هذا العلم) ، فإن أمثال هذه
التعاملات لا تجوز؛ لأن هذا النص يختلف عن النص الأدبي من حيث أن القدسية
التي يضفيها عليه المؤمنون به تفترض معاملة خاصة لثبات المعاني النابع من كونها
تشريعات أو منطوقات إلهية وليست بشرية، بينما النص الأدبي هو نص بشري
الوضع، ولا يقصد به الوحي ولا التشريع، بل يلقى إلى القراء مقطوعاً عن كاتبه
حسب نظرات بعض المدارس النقدية الأوربية الحديثة وليس كلها، كذلك فإن
الأنواع الأخرى من النصوص تتطلب معاملة مختلفة عند التأويل والتفسير، ولا
يكفي هنا أن نقول كما يفعل بعض دعاة هذا الدرس إن الكل نصوص مصنوعة من
اللغة، وإن اللغة لها «آليات تفسيرية» عامة شاملة ذلك لأن اللغة تستخدم في كل
حالة أو نوع من النصوص لغرض مختلف يدخل هو أيضا في حساب آليات التفسير
اللغوي هذه، كما أن نفس الآليات التأويلية اللغوية تضمن ثبات المعنى وعلوه عن
النسبيات التاريخية التي يكثر دعاة الفكرة هذه من الإلحاح عليها؛ لهدف لا يخفى
هو هز ثبات المعنى القرآني، وإحالته إلى النسخ والتغير والضياع والتجاوز
والسقوط.
والواقع أن بعض من يرددون أفكار مستقاة من «الهرمنويطيقا» في النخبة
العربية المثقفة، يذهبون في التركيز على النسبية والتاريخية وميوعة المعنى وتغيره
مذهباً متطرفاً يجاوزون به بعيداً ما وضعه أساتذة العلم الغربيون من ضوابط علمية، وحدود تقي الشطط المدمر بكل معنى وكل قيمة، وما ذلك إلا لأنهم قد قصدوا
شيئاً محدداً من وراء ترويج هذه الأفكار، هو كما قلنا مواجهة الفكرة الإسلامية،
ولعلنا مادمنا نتحدث عن التأويل والتفسير نجد في مسلكهم هذا أو في غرضهم هذا
ما يفسر ويشرح لنا سبب تبني الغرب وبعض الدوائر النافذة لأولئك النفر،
وتصعيدهم في منابر الثقافة الرسمية العلمانية، وتحويلهم زوراً من خلال بعض
القضايا المثارة إلى شهداء رأي وأبطال فكر..(72/91)
منتدى القراء
قيمة المرء ما يحسن
عامر إبراهيم
هكذا روي عن الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، وهكذا أثبتت التجارب،
ونطق التاريخ.. فكما أن العمل أصل في بقاء الفرد وأصل في قيام الأمة، فكذلك
الإحسان أصل في رقي الفرد، ونهوض الأمة.. وبذلك يتلازم العمل والإحسان فيه.
ومن هنا يتحدد موقع الإنسان الذي يستحقه، وبالتالي تتحدد قيمته تبعاً لذلك،
فالعمل قائم بشكل أو بآخر، وهو وسيلة كل حيّ للبقاء والعيش والاستمتاع بهذه
الحياة التي وهبها الله إياه ولكن الذي مايز بين الناس، وباين بين مستوياتهم
ومواقعهم الأصلية، هو الإحسان الذي هو سبيل النجاح الذي حققوه.
ومن ثم كانت مواقع العظماء في الذروة من شعوبهم وأممهم لا لأنهم عملوا
فحسب، ولكن لأنهم أجادوا وأحسنوا.. وهناك في الذرى تحددت أماكنهم، وفي
الأفق الغائر تمكنت مواقعهم، وكانوا أحق الناس بذلك.
وهنا يحق لي أن أتساءل: هل كان الإحسان والإتقان في العمل هماً يلازمنا
أثناء قيامنا بأي عمل، وبخاصة إذا كنا نقدمه ابتغاء مرضاة الله تعالى وباسم الدين،
أم أننا مازلنا في مرحلة طلب العمل والحث عليه فحسب؟ !
إننا في حاجة ماسة إلى المطالبة بالإحسان، والمحاسبة الجادة على الخطأ
الذي يمس الأمة، والحرص الشديد على تلمس مواطن الإحسان والإجادة وتجنب
مواقع الإساءة والخلل، وبذل الجهد في ذلك.
فكم من الأموال التي أنفقت! ، وكم من الطاقات التي أهدرت؟ ، وكم من
الجهود التي ضاعت ولا حسيب، ولا رقيب؟ ! ، وكل يدعي وصلاً بليلى، وأنه
هو المحسن وغيره المسيء.
ألم يكن فقدان الإحسان في جميع هذه الأعمال سبباً رئيساً في ذلك قصداً وعمداً
حينا، وجهلاً وغباءً حيناً آخر؟ ! !
ولا يلغي هذا جوانب الإحسان المشرقة في كثير من الأعمال وبخاصة التي
تقدم في سبيل الإصلاح والدعوة: فهي ولله الحمد ظاهرة، ولا يحق لأحد أن
ينكرها، ولكن تبقى المرحلة أقل مما يطمح إليه العمل الإسلامي على المستويين
الفردي والجماعي.
وللإحسان عوامل ومقومات، تخضع للتجربة والاستقراء والاجتهاد وبالتالي
يصعب حصرها واستقصاؤها في منظومة واحدة، فالحياة وتجاربها مدرسة واسعة،
لكل طالب للحق مريد للنجاح والتفوق.
وسأذكر بعضاً منها، لعلها تساهم بشكل أو بآخر في السعي الجاد إلى طلب
الإحسان والإتقان في جميع أعمالنا الصغير منها والكبير.
1 -الإخلاص لله وحده:
والإخلاص مَرْكَبٌ يصعب العبور بدونه، ومَطِيّةٌ يصعب التخلي عنها وبذلك
كان الإخلاص ركن أساس في صحة العمل وقبوله.
ومتى ما انصرف إلى مصلحة عابرة، أو غرض مؤقت فقد العمل قيمته
وتلاشى الإحسان فيه.
ولو تأملنا الإخلاص وأثره لوجدناه يفعل فعل المعجزات التي يصعب على
العقل تصورها، وإخلاص السلف وآثاره، أبرز الشواهد وأصدقها على ذلك.
وكذا في عصرنا الحاضر، فلو تأملنا السبب في تحقيق جوانب من النجاح
المادي عند شعوب الغرب، لوجدنا أن الإخلاص الشديد لدنياهم كان له أبرز الأثر
في وصولهم إلى ما وصلوا إليه.
2 -التنظيم الدقيق، والتخطيط السليم:
وهذا عامل مهم جداً، وسبب فعّال في مسيرة النجاح والإحسان والتفوق،
فبقدر ما يكون التنظيم دقيقاً، والتخطيط سليماً، بقدر ما يحقق النجاح والإحسان؛
ولذلك كان من جوانب الاختلاف والتمايز بين مواقع الدول في عصرنا الحديث، ما
هو عائد إلى الاختلاف والتمايز في مستوى الدقة في التنظيم، والسلامة والدقة في
التخطيط.. وللتنظيم والتخطيط عوامل ومقومات يطول المقام بذكرها، يمكن أن
تندرج تحت ما سنذكره من عوامل ومقومات أخرى.
3- الاستفادة من تجارب الآخرين:
وهذه صفة تكاد تكون معدومة عندنا نحن المسلمين، فالتاريخ مليء جداً،
وزاخر بِكَمّ هائل من التجارب والأحداث لمختلف الأمم والشعوب، مما يساهم
مساهمة فعالة ومؤثرة في مستويات إحساننا في أعمالنا، إذا نحن تعاملنا معها
التعامل الصحيح، وكذلك تجارب الشعوب والمجتمعات التي تعيش معنا في هذه
الحقبة من الزمن، يمكن الاستفادة منها استفادة بالغة، لو نحن أردنا ذلك.
4 -الشمولية في النظرة:
وهذا يتعلق بجانب التخطيط السليم، لكن لأهميته أُفرد، وخاصة في الأعمال
الجماعية، فلابد قبل القيام بأي عمل يمثل الأمة عموماً، أو يمثل العمل الإسلامي
خصوصاً، من أن تسبقه رؤية شاملة ودقيقة في الوقت نفسه لطبيعة العمل الذي
يُنوَى القيام به، ومواطن القوة والضعف فيه، ومناسبته للوقت الذي يقوم فيه،
ومدى حاجة الأمة إليه في المرحلة الراهنة، والثمرات والنتائج المتوقعة له،
والإخفاقات التي يمكن أن تحدث له، والعوائق والعقبات التي تعترضه.. وحينئذ
نكون اجتهدنا وبذلنا ما في وسعنا من أجل نجاحه «فمن أصاب فله أجران ومن
أخطأ فله أجر واحد» .
5- وضع الاحتياطات الكافية:
وذلك حتى لا نفاجأ بنتائج، وسلبيات لم نكن نتوقعها أو نحسب حسابها، هذا
من جهة ومن جهة أخرى، حتى نعد العدة اللازمة لمواجهة أي طارئ يمكن أن
يحدث أو عقبة يمكن أن تعترض، وبالتالي يمكن للعمل أن يحافظ على قيمته،
وعلى مستواه في الحد الأدنى على الأقل.
6- التأني في العمل:
التأني وعدم استعجال النتائج، وقطف الثمرة قبل أن يتم نضجها والإخفاق في
هذا العامل ساهم كثيراً في النتائج الوخيمة، والسلبيات العديدة التي حدثت وماتزال
تحدث في مسيرة العمل الإسلامي، وهو بالمقابل سمة واضحة لسياسة الأعداء
وخططهم، وكما قال الإنجليز «بطيء لكن أكيد المفعول» .
هذه بعض الملامح الموجزة لعوامل النجاح والإحسان، أحببت الإشارة
لأهميتها وإن كان هناك غيرها، وهو لا يقل عنها أهمية، إلا أن التركيز على هذه
العوامل، قد يكون كفيلاً للوصول إلى الإحسان الذي نريده، والذي يريده ربنا،
ليرتقي بنا ذلك إلى ما يحبه الله منا، كما أخبر بذلك نبيه -صلى الله عليه وسلم-
«إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أحمعين..(72/104)
منتدى القراء
قارون العصر
محمد أحمد عسيري
تأتي قصة قارون في القرآن الكريم موضحة إحدى صور الطغيان والعنجهية
البشرية، وراسمة سبباً من أسباب تفاقم (الأنا) «أو حب الذات ومراحل تطورها
حتى أدت إلى التعاظم على القدرة الإلَهية المانحة والسالبة، في لوحة عنوانها
» جنون العظمة «.
تلك اللوحة القديمة في واقعها، والمتجددة في تعدد أشكالها وأنماطها نجدها
تتكرر اليوم في مشابهة ضمنية لسابقتها، ولإن كان تضخم المال طغى على بصيرة
قارون موسى، حتى جعله لا يرى فيه إلا عبقرية متناهية وجدارة مستعلية، فإن
هذا العصر يزخر بصورة أشد استعلاءاً وطغياناً، إذ إن هذا القارون الورقي أوتي
من القوة الإقتصادية ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فأصبح عند أناس
السيد المتعالي، والقوي القاهر، والعظيم المشرأبةُ إليه الأعناق، والكبير المشار
إليه بالبنان.. فأصبح لسان حال هؤلاء يقول: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه
لذو حظ عظيم، فكانوا أشباهاً صغيرة تتقمص شخصيته لتزدلف إليه بهذا التقمص،
عسى أن يمنحها شيئاً من استعلائه، ولكن أنّى لهم أن يصلوا إلى صدارة كبيرهم
الذي علمهم السحر؟ ! .
فيا ترى ما قصة هذا القارون العصري؟ !
أستطيع أن أقول إن فوح طغيانه يتقزز من استنشاقه كل فرد، ورياح زفراته
تكاد تقتلعَ من على الأرض.. كان طفلاً ربيباً فنما، حتى أضحى شاباً يافعاً ندي
المنظر تتفتق عن سواعده متانة العضلات وصلابة العظام، وكانت تنمو معه عقدة
(الأنا) حتى أمست ذروة جبل، فلبس تاج الاستبداد، ومد له بساط الطاعة
والاحترام، فصارت الدنيا في نظره سادةً وعبيداً، وآمراً ومطيعاً فتجده رأساً من
رؤوس الاستعمار، ورمزاً من رموز العبث والخراب، حتى غدت آثاره بارزة
للعيان تحدث بها أوضاع العباد، وتشكو منها البوادي والآكام، فلا أدل على آثاره
من فرض الحصار، وزعزعة الاستقرار، وتخطيط الحدود، ورؤى الحلول،
وحرق الفلول، واقتحام الدور، واستلاب الحقوق.. كل ذلك يتم على مسرح الدنيا
خلف أستار من دعاوى الحقوق زاهية الألوان، وتحت رؤى أنظار يلفتها هذا البهاء
عن حقيقة الادعاء.
إن هذا القارون يمثل الروح الباعثة لكل هذا الطغيان في جسد تلك المرأة
الشوهاء، التي استفهم عنها الشاعر في قوله:
من هذه المرأة الشوهاء، أحسبها ... وقد تراءت أمامي، شر مخلوق؟
بدت أمامي بسمت لا نظير لها ... لوجه مستحدث والعقل إغريقي
أجابني ساخراً مني: أتجهلها؟ ! ... هذه العظيمة ذات الخيل والنوق؟ !(72/109)
الصفحة الأخيرة
رسالة
جمال سلطان
وأخيراً استُقبلَ سلمان رشدي استقبال الفاتحين المغاوير في البيت الأبيض
الأمريكي، وأنعم عليه رئيس أكبر دولة في العالم اليوم، بشرف المقابلة التي تنم
عن اعتزاز وتقدير وامتنان لجهوده المتميزة في خدمة الإنسانية! وكان هذا الحدث
هو ذروة مسلسل التكريم والتبجيل الذي تلقاه شاتم الرسول ومُحَقّر أقداس الإسلام،
في مختلف الدول الغربية، وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا وفرنسا، حيث شرفته
وكرمته وقابلته قياداتها السياسية العليا، وقد صرح الرئيس الأمريكي عقب المقابلة
بأنه أراد أن يبلغ العالم الإسلامي رسالة، وهي أن أمريكا تحترم حقوق الإنسان
وفي مقدمتها حقه في حرية التعبير، وهي فروسية أمريكية لم تظهر إلا ضد الإسلام، ومع حرية من ينتهك شرف المسلمين وكرامتهم.
ومما يذكر في هذا المقام أن شعب البوسنة والهرسك ظل يذبح على مدى
عامين في أبشع جرائم العصر، وظل الرئيس البوسني يلح على مدى العامين على
مقابلة الرئيس الأمريكي، وظل البيت الأبيض يتفلت من الطلب متجاهلاً قصة
حقوق الإنسان ومن أعظمها حقه في الحياة، حتى ذهب رئيس وجاء رئيس، وظل
التجاهل، حتى فاحت رائحة التآمر والتواطؤ، فأنعم عليه الرئيس الأمريكي باثنتي
عشرة دقيقة مقابلة، أخبره فيها بلباقة أمريكية: آسف لا أستطيع أن أفعل لك شيئاً!
ومازالت الناس عاجزة عن فهم المعادلة: كيف يكون حق كاتب في السباب والقذف
أهم من حق شعب بكامله في الحياة عند أوربا المتحضرة وأمريكا المستنيرة؟ !
أعتقد أن تلك الرسالة قد وصلت، وسيظل العِرْض الإسلامي مستباحاً، عقيدة
وإنساناً، مادام وضع هذه الأمة في العالم لم يجاوز بعد: عير الحي والوتد!(72/112)
رمضان - 1414هـ
فبراير - 1994م
(السنة: 8)(73/)
كلمة صغيرة
نتيجة مرفوضة
... وتقاتل إخوة الجهاد في صراع دام مؤلم لكل مسلم مخلص، والعجيب أن
كل واحد من المتقاتلين يرفع راية الإسلام بل راية الجهاد، فهل تكون ثمرة ذلك
الجهاد المشرف لتحرير أفغانستان والذي رفع رؤوس كل المسلمين.. هل تكون
ثمرته هذه الفوضى الجسيمة، وتلك الحرب الداخلية الشرسة؟ ! إن نتيجة ذلك ليس
سوى الهدم لتلك المواقف المشرفة لذلك الجهاد والطعن في نزاهة الإسلاميين عموماً، وادعاء الشامتين بأن هذا هو مصير كل توجه إسلامي.. فهل يعلم الإخوة
المتقاتلون من المجاهدين جسامة ما أدى وسيؤدي إليه ذلك القتال؟ !
إننا ندعو إخوة الجهاد للتوقف والتأمل في خطر ما يصنعون: هل هو يرضي
الله؟ وما حكم سفك دم مسلم بغير حق؟ فكيف بالعشرات بل المئات؟ !
إن تقاتلكم -أيها المجاهدون- إساءة للإسلام وللمسلمين عموماً وانتكاسة لا
مبرر لها فحتى متى لا تجيبوا داعي الله [وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأصلحوا بينهما] ، إن من الأهمية بمكان دراسة أسباب هذه الانتكاسة وستجدون أن
السبب جوانب تساهلتم فيها من الولاء والبراء والإيثار ونكران الذات.
والله المستعان.(73/1)
الافتتاحية
رمضان بين الصورة والحقيقة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، أما بعد:
تقوم مجلة البيان انطلاقاً من رسالتها الإسلامية بالتفاعل مع واقع أمتنا
الإسلامية دعوة وتوجيهاً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، نصيحة لله ولرسوله
ولأئمة المسلمين وعامتهم. وواقع أمتنا اليوم يحفل بالكثير من المشكلات والمآسي
التي يعاني منها جل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكنا نتحين الفرص
لمعالجة بعض الأحداث والمواقف، إلا أن إطلالة هذا الشهر الكريم بإشراقاته
وأنواره حاملاً معه البركات والخيرات، جعلتنا نتوقف مع هذه المناسبة وقفة عرض
ومحاسبة لأحوالنا في هذا الشهر وواقعنا فيه بين الصورة والحقيقة، وما مدى
التزامنا فيه بالهدي النبوي، وماذا يتوجب علينا أن نقوم به لنكون فيه من المقبولين
إن شاء الله.
هذا الشهر الذي تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب جهنم وتصفد فيه
الشياطين، هو فرصة كبيرة لعودة كثير من المسلمين المسرفين على أنفسهم إلى الله
توبة وهداية والتزاماً وحسب من صامه إيماناً واحتساباً أن يغفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
فقد كان هذا الشهر المبارك غرة في جبين تاريخ أمتنا كل عام، وقد كان شهر
الفتوح والانتصارات، إذ إن كثيراً من الغزوات والمعارك الإسلامية كانت فيه من
مثل (غزوة بدر وفتح مكة وفتح الأندلس وحطين ... ) . ومما يؤسف له أن يتحول
كثير منا في هذا الشهر إلى النقيض تماماً عما كان عليه سلفنا الصالح فيكونون في
أحوال يرثى لها.
فتعالوا نتلمس آثار ذلك الشطط فيما يلي:
* من الناس من يستغل هذا الشهر للسفر والسياحة لا لطلب الجو المريح
والمناخ الجميل الذي يعينه على الصيام والقيام، وإنما للهروب من الجو الرمضاني
ليعاقر المنكرات ويبارز الله بالمعاصي والعياذ بالله وهؤلاء أحياناً قد يضطرون
لصيام قسري لعلاج أمراض معينة.
* هناك صنف آخر من الناس يأخذون الإجازات في هذا الشهر، فليلُهم سهر
ويقظتهم نوم، فأي صيام هذا الذي لا تؤدى فيه الفرائض والسنن؟ !
* من الصائمين من لا يلتزم بأخلاقيات الصيام في تعامله، فتجده وهو الصائم
عبوساً قمطريراً، وإن تحدث لا يعف لسانه عن الوقوع في الغيبة والنميمة وخلافها.
* إن أحوال كثير من المصلين وقد أشرنا إلى بعض صورها مما يؤسف لها
إذ فيها محاذير شرعية قد تصل إلى إحباط العمل، وربما ينطبق على الكثير منها ما
جاء في الحديث (رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورُبّ قائم
ليس له من قيامه إلا التعب والسهر) ، وهذا يقتضي من كل مسلم مخلص
مراجعة حساباته في بداية هذا الشهر الكريم وأن ينظر لهذا الموسم بأنه فرصة
كبرى ومجال مهم لتلافي الكثير من الأخطاء والزلات، لعل الله أن يتداركه برحمته، وأن يختم له بالحسنى [وما تدري نفس ماذا تكسب غداْ وما تدري نفس بأي
أرض تموت] .
إن قضاء هذا الشهر كما ينبغي وفقاً لسنة البشير النذير شرف عظيم لا يحظى
به ولا يوفق له إلا الربانيون المقتدون بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين، ولعل القارئ
الكريم أن يقف معنا متأملاً لهذه المعالم المهمة التي نذكر بها، والذكرى تنفع
المؤمنين، ومنها: استشعار أن الصيام عبادة لا عادة وأن ثمرته المفترضة هي
التقوى إذ أن الحكمة منه كما أشار إليها جل وعلا [ ... لعلكم تتقون] هي التقوى.
زيادة الارتباط بكتاب الله حفظاً وقراءة وتدبراً، والاطلاع على ما تيسر من
تفاسيره الموثوقة، ومن أجَلّها (تفسير العلامة ابن كثير) ، ومن أهم مختصراته
(عمدة التفسير) للشيخ أحمد شاكر.
أن يكون الصيام كما كان عليه حال سلفنا الصالح تنافساً في الطاعات وتزوداً
من النوافل والقربات، ومن أهمها أداء الفرائض مع جماعة المسلمين والحرص
على أداء صلوات التراويح والقيام وبذل الصدقات للمحتاجين، وتجنب كل ما يطعن
ويفسد الصيام من الأقوال والأفعال.
التفاعل مع واقع إخواننا المسلمين المستضعفين في أرجاء العالم الإسلامي
بالبذل والمساعدة والمشاركة ما أمكن في الإغاثة، ودعم المشاريع الخيرية التي
يعود ريعها لإخواننا المنكوبين.
إن أداء الصوم مع الصائمين من المسلمين والإحساس بالجوع والظمأ يذكرنا
بحال إخواننا المنكوبين، وما يعانونه من جوع ومسغبة، مما يدفعنا إلى بذل المزيد
من التبرعات والهبات لصالح المشاريع الخيرية، التي يعود ريعها لصالحهم.
وماذا بعد رمضان؟ !
إن حال كثير من المسلمين في رمضان تتحسن ويتضاعف العمل الصالح فيه
ولكن ما إن تبدأ أيام الشهر بالانصرام، وبعد حضور بعضهم ليلة القدر فيما
يحسبون، وحضور ختمة القرآن كما يحرصون يبدأ ذلك المشهد الفريد الذي تمتلئ
فيه المساجد بالمصلين بالانفراط، فتتناقص الصفوف وكأن القوم لا يعرفون الله إلا
في ذلك الشهر المبارك والله المستعان.
ثم من يضمن أن يختم لذلك الناكص بخاتمة حسنة حينما يعود لمعاصيه
وأخطائه وزلاته وسقوطه في دركات الخطايا؟ ! من يضمن له حسن الختام وهو لا
يدري متى تكون النهاية المحتومة؟ ! إن حياة المسلم الحق رجلاً كان أو امرأة يجب
أن تكون موصولة كل الصلة بالله تعالى كل أيام السنة، بل يجب على الجميع أن
يستشعروا أن كل ما يقومون به من أعمال شرعية، أو حتى عادية يجب أن يقصد
بها وجه الله والدار الآخرة، أداء للواجبات وعملاً للصالحات مع الحرص في أدائها
على أحسن وجه جودة وإتقاناً.
إن المسلم حقاً يشعر أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى
الإسلام من قبله، مع الحرص على أن يؤدي ما اؤتمن عليه بحماس وحيوية
وإخلاص، فلعل الله أن يختم له بخير ختام. والموفق حقاً والمقبول إن شاء الله من
استمر على نشاطه وحيويته بعد رمضان في أداء ما افترض عليه من عبادات
وواجبات والتزامات، واهتدى بهدي البشير النذير -صلى الله عليه وسلم-في
سلوكه وتعامله.
والله نسأل أن يوفق الجميع لصيام هذا الشهر وقيامه على الوجه الذي يرضيه، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته بعز عزيز أو بذل
ذليل.. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(73/4)
في إشراقة آية
[وأن تصوموا خير لكم]
د. عبد الكريم بكّار
كان من منّة الله تعالى على هذه الأمة أن شرع لها من الدين ما يصلح أمر
دنياها وآخرتها، وكان من أهم ما شرعه صوم شهر رمضان المبارك.
والعبادات في الإسلام تكاليف ابتلاء، ومقياس يكشف عن مدى تمكن الإيمان
وألقه في نفس المسلم، وهي في الوقت ذاته وسائل لتمكين ذلك الإيمان، إنها له
بمثابة الماء للشجر والنبات.
وآيات الصيام لم تعدد لنا أنواع الخيرات التي سنحصل عليها من وراء هذه
العبادة؛ ليظل عطاء هذه العبادة مفتوحاً متنوعاً تظهره التجربة التاريخية الاجتماعية، والواقع المعاش، ونستطيع الآن من خلالهما أن نتلمس وجوهاً من ذلك الخير في
المفردات التالية:
1- إن الصيام وسيلة فعالة لتربية الإرادة الحرة:
حيث لا توجد عبادة من العبادات تكف المسلم عن شهواته وملذاته مدة متصلة
من الزمان كهذه العبادة، فهي تدريب لإرادة المسلم على مقاومة الأهواء والملذات
ومغريات الحياة. والمتأمل فيما يتفاوت فيه الناس في هذا الوجود يجد أن محور
التفاوت هو الإرادة لا القدرة، فالقدرات الفطرية لدى الناس متقاربة لكن تفاوتهم
الأساس يكون في مدى صلابة الإرادة التي تُسخّر القدرة وتوجهها والتي تعين على
ضبط الوقت، وتكبح جماح الهوى والركون إلى الدعة وسفاسف الأمور، ومن هنا
فإن الصيام جاء لينمي تلك الإرادة وليُعَودْها التوجه إلى الخير ومقاومة نزوات
النفس؛ ولذا فإن تفريط المسلم في أداء هذه الشعيرة صار لدى العامة من المسلمين
مؤشراً إلى نقص في رجولته، وهذا هو تفسير قيام كثير من المسلمين بالصيام مع
تفريطهم في الصلاة، مع أن أهميتها في الإسلام أعظم! ويذكر لنا ابن الجوزي (ت
597 هـ) أن هناك صنفاً من الناس لو ضرب بالسياط على أن يفطر رمضان ما أفطره، ولو ضرب على أن يصلي ما صلى! وما ذلك إلا لأن الناس عدوا الإفطار نقصاً في الرجولة، ولم يعدوا الصلاة كذلك، وقوله سبحانه: [وأن تصوموا خير لكم] في أعقاب ذكر الرخصة للمريض والمسافر بالفطر إيماءة للمسلم بأنه من الأفضل له أن يصوم مع المرض المحتمل والسفر غير الشاق، ليكون في تحقيق إرادته نوع من المكابدة والمعاناة في سبيل الله عز وجل، وحتى لا يصير بعض الناس إلى إيجاد الرخص والتذرع بها للفرار من الواجبات.
2- الصيام عبادة سلبية، كيف؟
فهو امتناع عن أنواع المفطرات، ومن ثم فإنه بعيد عن الرياء، وخرق تلك
العبادة أمر ميسور في السر لمن أراد ذلك، ومن هنا فإن صيام رمضان فرصة
لتنمية الوازع الداخلي لدى المسلم، هذا الوازع الذي تعد تنميته محور التربية
الفردية الناجحة، والملموس أن تعاظم هذا الوازع لا يتم إلا من خلال الثقة به
والاعتماد عليه في شؤون عديدة، فهو في ذلك أشبه شيء بعضلات الجسم في أن
نموها في استخدامها وتحريكها والاعتماد عليها؛ ولذا فإننا نرى ضعف الوازع
الداخلي لدى أولئك الذين يأتون الفضائل ويقومون بالواجبات من خلال قسر الأبوين
أو المجتمع، فهم يفعلون ما يفعلونه نتيجة ضغط خارجي، فإذا ما ضعف ذلك
الضغط أو تلاشى أتوا من الرذائل والقبائح وأنواع التحلل ما يتناسب طرداً مع حجم
الضغوط التي تعرضوا لها فيما مضى؛ وهذا يجعلنا نساوق بين الرقابة الاجتماعية
وتنمية الوازع الداخلي من خلال التربية البيتية القويمة.
3- في الصيام فوائد طبية واقتصادية واضحة:
فهو يخلص الجسم من بعض ما تراكم فيه من الدهون، ويريح المعدة من
العمل الشاق الذي تقوم به على مدار السنة مع فوائد طبية أخرى معروفة.. وفي
الصيام توفير إجباري لنحو 40 % من استهلاك الأطعمة والأشربة الذي تعوده
الناس في أيام الفطر، وفي هذا نوع من التعظيم للمالية الإسلامية ونوع من
المحافظة على الموارد الغذائية للأمة المسلمة.
4- من خيرات رمضان أنه أضحى ظرفاً لأداء أنواع من القربات لله:
فقد تجاوز صيام هذا الشهر مفهوم التلبس بعبادة من العبادات ليصبح نوعاً من
الامتثال لمفردات كثيرة في المنهج الرباني، ففيه قيام الليل والإكثار من قراءة
القرآن والاعتكاف في المساجد ولزوم الجماعات من قبل كثير من المسلمين وإخراج
صدقة الفطر والاستبشار بعفو الله وكرمه بما تظهر الأمة من البهجة والسرور في
يوم عيدها، فكأن شهر رمضان مناسبة لازدحام العبادات والقربات في حياة المسلم
على نحو لا يتوفر في أي وقت آخر.
5- يمثل الصيام نوعاً من الاتصال والتواصل الاجتماعي:
حيث ترسم الظروف اليومية والمصالح والأوضاع الاجتماعية والطموحات
الخاصة مجموعة من الأطياف العازلة لكل إنسان عن غيره مما يؤدي إلى فقد
الاتصال أو ضعفه، وفقد الاتصال في مجتمع ما من أكبر المعوقات له عن النمو
والتجانس والصمود في وجه الكوارث وألوان العدوان الخارجي، ومن ثم فإن
امتناع أبناء المجتمع المسلم عن الطعام في وقت واحد مهما كانت أوضاعهم
الاجتماعية وتناولهم له في وقت آخر محدد، إلى جانب الشعائر الجماعية الأخرى
التي تعودها المسلمون في هذا الشهر المبارك من أهم ما يوحد الشعور بالتجانس،
ومن أهم ما يزيل الحواجز التي تولدها الظروف المختلفة.
الصيام اليوم:
إن مهمة المبادئ العليا أن تكيف حياة الناس وتوجهها وفق مضامينها
ومعطياتها، لكن تلك المباديء لا تعمل في فراغ، وإنما تشتبك مع أمور عديدة من
جملتها: العادات الموروثة والظروف الضاغطة والأهواء والشهوات الجامحة
والتأويلات والأفهام الخاطئة للمنهج والمباديء، وهذا كله ينتهي إلى شأن اجتماعي
معاش يلخصه ميل الناس بصورة دائمة إلى جعل النهج الرباني جزءاً من ثقافتهم،
وقد يكون جزءاً صلباً، وقد يكون جزءاً رخواً على مقدار إقبال الناس على الإسلام
وهي التي تجعل من المنهج موجهاً للثقافة ومهيمناً عليها. ومن هنا فإن أخطر علل
التدين هي تلك التي تصيب الأمة في مكانة منهجها ومبادئها من ثقافتها العامة،
فتكف المبادئ عن توجيه الفعل، أو تنحرف عن غاياتها ومقاصدها، فلا تحقق
الحكم المقصودة في تشريعها، ويكون الجهاد الدائم هو محاولة الإبقاء على المنهج
الرباني ساطعاً متألقاً متميزاً عما تواطأ عليه الناس من عادات وتقاليد.
ومازال بحمد الله في مجتمعنا المسلم من يحرص على الصيام على الوجه
الأكمل، وهم في تزايد مستمر لكن الأكثرية الكاثرة من هذه الأمة انحرفت بالصيام
عن مقاصده التي ذكرنا أهمها آنفاً، فعلى حين كان السلف يعدون رمضان فرصة
سانحة يغتنمونها في صنوف الطاعات، نجد كثيراً من المسلمين يسهرون الليل في
ضروب من اللهو المختلفة حتى إذا اقترب وقت السحر تناولوا ما لذ وطاب من
الأطعمة، ثم ناموا قبل أداء صلاة الفجر، وإذا كان هذا النائم موظفاً فإن وقت بداية
العمل في رمضان يكون متأخراً، فيقوم متثاقلاً إلى عمله ليكمل نومه هناك! وإن
كان غير موظف فإن رمضان هو شهر النوم عنده فيستغرق في نومه إلى قبيل
المغرب، فيفوت عليه أكثر من فريضة صلاة! ! ومع هذا فإن الشعار المرفوع
لدى كثير من الموظفين هو أن رمضان شهر عبادة وليس شهر عمل (العبادة التي
قدمنا صورة منها!) .
أما تهذيب النفس من خلال الجوع فحدث عن هذا ولا حرج، حيث إن التجار
يشرعون في الإعداد لمستلزمات رمضان قبل مجيئه بنحو شهرين، وتقدر بعض
الجهات أن ما يستهلكه كثير من المسلمين في رمضان يصل إلى ثلاثة أمثال ما
يستهلكونه في غير رمضان! ! وقد صار رمضان عبئاً ثقيلاً على الحكومات التي
توفر السلع المدعومة لمواطنيها!
وقد كان السلف يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا انصرم
دعوا الله ستة أشهر أخرى أن يتقبل منهم أعمالهم في رمضان. أما اليوم فإن كل
وسائل الإعلام في العالم الإسلامي تشعر الناس بأن رمضان ضيف ثقيل فكأنه شر
لابد منه، ومن ثم فإن كثيراً من البرامج ينصرف إلى الترفيه عن الناس بما يجوز
وما لا يجوز، وانقلب الشهر المبارك إلى موسم للهو واللعب!
وما يحدث لكثير من المسلمين في هذا الشهر المبارك أمر مفهوم، حيث إن
الأمة حين تمر بحالة من الركود الحضاري تكف مبادئها عن الفعل وتسيطر عليها
الشكليات والعادات، فجيوشها لا تقاتل، ومبدعوها لا يعرفون والفضائل فيها
شعارات، والعبادات عادات.. وتستمر في ذلك حتى تندثر باعتبارها أمة متميزة أو
يبعثها الله بعثاً جديداً يحيي ما اندرس من سابق عهدها، وما ذلك على الله بعزيز.(73/8)
دراسات قرآنية
نحو منهجية عملية
في حفظ القرآن الكريم
فيصل البعداني
انتشرت الصحوة الإسلامية المباركة في عصرنا، وأصبحت نتائجها ظاهرة
لكل أحد، ولعل من بعض ثمارها المباركة عودة كثير من شباب الأمة إلى القرآن
الكريم قراءة وحفظاً، ونظراً لسلوك كثير من أولئك مسلكاً غير منهجي أثناء مرحلة
الحفظ، مما يؤدي إلى سوء الحفظ سواء أكان ذلك من حيث النطق أو الاستيعاب
لكامل ما يحفظ، أو استقرار الحفظ وثباته في الذهن، بالإضافة إلى عدم مواصلة
الكثير منهم للحفظ والتوقف بعد ابتداء المشوار، أو حتى عدم الابتداء من الأصل
مع وجود رغبة صادقة، وحرص أكيد للتشرف بحفظ القرآن الكريم. ولقد بادرت
في كتابة هذه السطور علها أن تفيد الراغبين في حفظ كتاب الله الكريم، وقد حاولت
الاستفادة من أصحاب الخبرة في هذا المجال رجاء أن يكون الطرح أكثر فائدة
وواقعية، وقد قمت بتقسيم الموضوع إلى ثلاثة أقسام كالتالي:
أولاً: ما ينبغي فعله لمن أراد حفظ القرآن الكريم قبل أن يحفظ.
ثانياً: خطوات عملية مقترحة لحفظ القرآن الكريم.
ثالثاً: ما يفعله الحافظ بعد أن يحفظ.
وإليك قارئي الكريم التفصيل والبيان:
ما ينبغي فعله لمن أراد حفظ القرآن الكريم قبل أن يحفظ:
1- الإخلاص لله تعالى:
لا يخفى أن الإخلاص وإرادة وجه الله تعالى شرط لصحة العمل وقبوله إن
كان عبادياً محضاً كالصلاة والصيام والطواف.. الخ، كما أنه شرط للثواب ونيل
الأجر في الأمور المباحة كالأكل والشرب وحسن المعاشرة للناس ... الخ. وبما أن
قراءة القرآن وحفظه من الأمور العبادية المحضة فإنها لا تقبل عند الله تعالى إلا
بالإخلاص، وهي داخلة في مثل قوله تعالى [فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل
عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً] [1] ، وقوله تعالى في الحديث القدسي
(أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته
وشركه) [2] .
2- استشعار عظمة القرآن الكريم ومعرفة منزلته:
ومن الأمور التي تحقق ذلك:
* تذكر أن القرآن كلام الله تعالى [فَأجرْه حتى يسمع كلام الله] [3]
وعظمته مأخوذة من عظمة الله، ولا أعظم من الله، وبالتالي فلا أعظم ولا أقدس
من كلامه سبحانه.
* إدراك الأمر الذى نزل من أجله القرآن، وهو هداية الناس وإخراجهم من
الظلمات إلى النور [ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين] [4] ، [شهر
رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان] [5] .
* من عظمة القرآن عظمة الشهر الذي أنزل فيه القرآن (شهر رمضان) ، فهو
أفضل الشهور، وعظمة الليلة التي أنزل فيها القرآن (ليلة القدر) ، فهي خير الليالي، وعظمة الرسول الذي أنزل عليه القرآن فهو إمام الأنبياء والمرسلين وسيد ولد آدم
ولا فخر، وعظمة معلمه ومتعلمه حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
بيان أفضليتهما (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) [6] , وفي رواية (إن أفضلكم من
تعلم القرآن وعلمه) [7] .
* وصف الله تعالى له بالعظمة في مثل قوله تعالى [ولقد آتيناك سبعاً من
المثاني والقرآن العظيم) ] 8 [، ويكفي هذا في بيان مقدار عظمته وجلاله.
3- إدراك فضل أهل القرآن وعظم ثوابهم:
وقد جاء بيان ذلك في كثير من النصوص ومنها:
* ما رواه عمر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (إن الله
يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) ] 9 [.
* ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا
أقول «ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ] 10 [.
* عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ونحن في الصفة فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق
فيأتي منه بناقتين كوماوين] 11 [في غير إثم ولا قطع رحم , فقلنا: يا رسول الله،
نحب ذلك، قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلِّم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز
وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن
أعدادهن من الإبل) ] 12 [.
* عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) ] 13 [.
* عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند
آخر آية تقرؤها) ] 14 [.
* عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ] 15 [.
* عن عائشة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مثل
الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ القرآن
وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران) ] 16 [.
* عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب،
والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل
المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا
يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مر) ] 17 [.
* معرفة أن الشارع قد حث على قراءة القرآن والاستماع إليه في نصوص
منها:
(أ) في القراءة:
قوله تعالى] إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم
سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور
شكور [] 18 [، وقوله -صلى الله عليه وسلم- (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة
شفيعاً لأصحابه) ] 19 [.
(ب) في الاستماع:
قوله تعالى] وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [ (19) . قال الليث بن سعد: (يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن لقوله
تعالى] وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [، ولعل من الله
واجبة) ] 20 [.
5- إدراك من أراد الحفظ الهدف من قراءة القرآن وحفظه:
ويمكن أن يحصل ذلك عن طريق استشعار الأمور التالية:
* ما يقع من تحصيل الأجور العظيمة الواردة في النصوص، ومنها ما سبق
بيانه.
* قراءة لتنفيذ الأوامر وتطبيق التعاليم الواردة فى الآيات.
* قراءة التصورات الصحيحة الصائبة حيث أن القرآن الكريم هو المصدر
الوحيد لتصوراتنا لقوله تعالى] ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء [] 21 [.
6- التنبه إلى سهولة القرآن لمن اراد حفظه:
لقوله تعالى] ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [] 22 [، قال القرطبي
- رحمه الله تعالى - عن هذه الآية» أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه
فهل من طالب لحفظه فيعان عليه «] 23 [.
7- ضرورة وجود العزيمة الصادقة:
وذلك عند الابتداء في الحفظ والاستمرار على ذلك، إذ بدونها يخور العبد
ويتهاون ولا يتجاوز الأمر كونه مجرد أمنية وحلم يقظة، ويمكن أن يوجد الإنسان
هذه العزيمة الصادقة بمعرفته لعظمة القرآن ومكانة أهله، والفضل الجزيل لقارئه
ومستمعه إذ أن النصوص الواردة في ذلك تحث المسلم وتدفعه بشدة إلى تكوين
رغبة جادة في قرارة نفسه على الحفظ والمواصلة.
8- التقليل من المشاغل والاكتفاء بالحفظ وبذل الجهد في ذلك:
قال الله تعالى] والذين جاهدوا فينا لَنهديَنَهُم سُبُلَنَا [] 24 [، ومعروف أنه من
سار على الدرب وصل، ومن جد وجد، ومن زرع حصد، ومما يعرفه الناس عن
النملة أنها تحاول الرقي إلى مكان مرتفع وقد تفشل في الوصول إلى غايتها وتسقط، ولكنها لا تكل أو تمل وتبذل جهداً مضاعفاً إلى أن يتكلل جهدها بالنجاح، وهذا
هو ما ينبغي فعله لمن أراد حفظ القرآن.
9- تفريغ وقت يومي للحفظ:
سواء أكان ذلك بعد الفجر أو بعد العصر أو بعد المغرب ... إلخ، كل حسب
ما يناسبه. وكون مكان الحفظ في المسجد أولى لقوله -صلى الله عليه وسلم- في
الحديث الذي سبق ( ... أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد) (12) ، ومعلوم أن الجو في
المسجد مهيأ لهذا الأمر، وغيره ليس مثله. وكونه مع مجموعة أفضل لحديث أبي
هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (وما اجتمع قوم في بيت من
بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم
الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) ] 25 [، ولأن الجماعة عنصر
مساعد ومشجع والإنسان قد يصاب بكسل وفتور فتدفعه الجماعة إلى المواصلة،
ولذا قيل (الصاحب ساحب) .
10- اختيار شيخ مجيد للتلقي عليه:
ولذا قرر أهل العلم أنه لا يصح التعويل في قراءة القرآن الكريم على
المصاحف وحدها بل لابد من التلقي على حافظ متقن متلق عن شيخ، ولذا قال
سليمان بن موسى» كان يقال: لا تأخذوا القرآن من الصحفيين «] 26 [، وقال
سعيد التنوخي» كان يقال: لا تحملوا العلم عن صحفي ولا تأخذوا القرآن عن
مصحفي «] 27 [، ولكون قراءة القرآن مبناها على التلقي والسماع جاء عن ابن
مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: (والله لقد أخذت من في رسول الله بضعاً
وسبعين سورة) » ] 28 [، وذكر ابن حجر في الفتح بيان كيفية أخذ عبد الله لبقية
القرآن فقال: (زاد عاصم عن بدر عن عبد الله: «وأخذت بقية القرآن عن
أصحابه» ) ] 29 [، ولأهمية التلقي في تعلم القرآن نجد أن بعض الصحابة كانوا
يوجهون طلابهم إلى ضرورة التلقي عن المتلقي، فعن معد يكرب قال: «أتينا عبد
الله فسألناه أن يقرأ علينا: طسم المائتين فقال: ما هي معي ولكن عليكم مَن اخذها
من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خباب بن الأرت قال: فأتينا خباب بن
الأرت فقرأها علينا» ] 30 [، بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
يعارض جبريل بالقرآن كل عام مرة وعام وفاته مرتين] 31 [، وكان يأمر أصحابه
بالتلقي فيقول (اقرأوا القرآن من أربعة نفر: من ابن أم عبد ومن أبي بن كعب ومن
سالم مولى أبي حذيفة ومن معاذ بن جبل) ] 32 [.
11- اختيار مصحف معين في الحفظ حتى ترسخ مواضع الآيات في الذهن
ولا يكون هناك تشتت..
12- الحرص على الابتداء في الحفظ من آخر المصحف وبخاصة صغير
السن أو ضعيف العزيمة، حتى يشعر أنه قد أنجز شيئاً في فترة وجيزة، حيث أن
السور أكثر عدداً وأقل صعوبة ولديه خلفية عنها عن طريق مقررات القرآن في
المدارس النظامية.
13- دعاء الله تعالى بالتوفيق والتمكين من الحفظ واللجوء إليه في ذلك لأن
حفظ القرآن الكريم منة من الله وهبة.
خطوات عملية مقترحة لحفظ القرآن الكريم:
1- تحديد مقدار معين لحفظه في جلسة واحدة في حدود طاقة القارئ وينبغي
له أن لا يزيد كمية المقدار كثيراً في أيام حماسه وبخاصة في بداية الحفظ، حتى لا
يكل أو يمل أو يصاب بالإحباط حين لا يستطيع المحافظة على ذلك المقدار،
وبالتالي يؤدي ذلك إلى تركه الحفظ بالكلية، بل عليه أن يربي نفسه على المرونة
في تحديد المقدار جاعلاً نصب عينيه أن أهم قضية هي الاستمرار اليومي في الحفظ
لا غير.
2- قراءة المقدار المعين على الشيخ المختار من المصحف قبل مباشرة الحفظ
وتلزم هذه الخطوة إذا كان القارئ لا يجيد قراءة الرسم العثماني.
3- قراءة القارئ المقدار المحدد للحفظ من المصحف بينه وبين نفسه لإصلاح
النطق في الكلمات التي لم يجد قراءتها.
4- أن يحفظ القارئ المقطع آية آية، ويقوم بربط الآية الثانية بالتي تليها
وإذا كانت الآية الواحدة تقل عن سطر فآيتين آيتين بحيث لا يتم الزيادة على
سطرين أو ثلاثة في المرة الواحدة.
5- أن يرفع الصوت بتوسط أثناء الحفظ لأن خفض الصوت يكسل القارئ
ورفعه جداً يتعبه ويؤذي من حوله، هذا في الأصل أما لو كان خاشعاً، خالي الذهن
وخفض صوته فلا بأس لكن لابد من القراءة باللسان، أما إمرار العين بدون تحريك
اللسان فلا.
6- نطق الآيات أثناء الحفظ بترتيل وتمهل، والحرص على عدم إغفال
أحكام التجويد أثناء القراءة امتثالاً لقوله تعالى] ورتل القرآن ترتيلاً [] 33 [
واهتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في تركه تحريك لسانه استعجالاً به بعد
نزول قوله تعالى] لا تحرك به لسانك لتعجل به [] 34 [، ولأن هذا هو هدي
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعليمه القرآن لأصحابه، قال الله تعالى
] وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث [] 35 [. ولقد سئل أنس بن مالك: كيف كانت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «كانت مدّاً ثم قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم» ] 36 [، وهذا الأمر كان ديدن كبار الصحابة، ولذا قال ابن عباس راداً على أبي حجر حين قال له: إني سريع القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلاث: «لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدبرها
وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ كما تقول» ، وفي رواية «أحب إليَّ من أن أقرأ
القرآن أجمع هذرمةً» ] 37 [، ولا شك أن الترتيل أثناء الحفظ يعين على تدبر
الآيات والتفكر في معانيها مما يعني جمع القارئ بين حفظ الآيات والفهم مبدئياً
لمعناها، وهو مما يعمق الحفظ ويقويه أيما تقوية.
7- أن يُسمِّع على نفسه المقدار المعين حفظه بعد إنهائه له.
8- أن يقوم بقراءة المقدار المحفوظ من المصحف بعد تسميعه على نفسه
للتأكد من سلامة الحفظ وعدم تجاوزه لبعض الآيات أو الكلمات أو الخطأ في الشكل.
9- أن يقوم بتسميع ما حفظ على شيخه المختار ولا بد من ذلك.
10- يفضل ربط المقدار المحفوظ من سورة ما قسمت إلى مقاطع بما حفظ
من أول السورة يومياً ليتم الربط بين المقاطع المحفوظة، وهذا أمر لا دخل له في
برنامج الحافظ للمراجعة.
ما يفعله الحافظ بعد أن يحفظ:
1- الخوف من الوقوع في الرياء:
والرياء في موضوعنا: طلب الحافظ للجاه والمنزلة في نفوس الخلق بإظهاره
لهم إكماله لحفظ القرآن، أو جودة حفظه وحسن أدائه، وهو ضرب من الإشراك،
ولذا قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك
الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله. قال: الرياء يقول الله عز
وجل - يوم القيامة إذا جزى العباد بأعمالهم -: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في
الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء) ] 38 [، والمرائي بالقرآن معرض نفسه
للعقوبة الشديدة الواردة في حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه ... ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ
القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم
وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن
ليقال هو قارئ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار) ] 39 [.
والواجب على مريد النجاة الحرص على الإخلاص واستمرار سلامة القصد والنية.
2- الحذر من الغفلة عن العمل بالقرآن والتأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه:
لأن القرآن إنما أنزل ليعمل به، ويتخذ نبراساً ومنهاج حياة، قال ابن مسعود
رضي الله عنه «أنزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملاً، إن أحدكم ليقرأ
القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفاً، وقد أسقط العمل به» ] 40 [،
وقال بعض أهل العلم: «إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم، يقول:
ألا لعنة الله على الظالمين، وهو ظالم نفسه، ألا لعنة الله على الكاذبين، وهو
منهم» ] 40 [، وقال أنس رضي الله عنه: «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه» ] 40 [ ... 3- الخشية من العجب بالنفس والتعالي على الخلق:
فالعجب استعظام النفس لما بذلت من أسباب لتحصيل حفظ القرآن الكريم والله
تعالى هو الهادي إلى ذلك والمعين على تسهيله وتحققه، ولولا إحسانه وفضله لما
تمكن العبد من حفظ القرآن أو بعضه، والواجب بدلاً من ذلك شكر الله تعالى على
نعمته بمعرفتها حق المعرفة وإسناد الفضل إليه سبحانه وحده لا شريك له في تحققها، والتعالي على الخلق هو التكبر عليهم واعتقاد العبد بلوغه مرتبة في الكمال لم
يبلغها من حوله فيتجه إلى احتقارهم وتجهيلهم، ومن هذه حاله ينسى ما ورد من
النصوص في التحذير من مثل ذلك، ومنها قوله تعالى في الحديث القدسي:
(الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار) ] 41 [،
وقوله -صلى الله عليه وسلم- (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من
كبر) ] 42 [..
4- تذكر النصوص الآمرة بتعهد القرآن والمحذرة من نسيانه:
وردت نصوص كثيرة تحث على تعاهد القرآن وتحذر من هجره ونسيانه
ومنها:
* عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن
أطلقهما ذهبت) ] 43 [.
* وعن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (بئس ما
لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل نسي واستذكر القرآن فإنه أشد تفصياً
من صدور الرجال من النعم) ] 45 [.
* وعن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تعاهدوا القرآن
فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً] 44 [من الإبل في عقلها) ] 46 [.
وبسبب هذه النصوص ومثيلاتها تحدث أهل العلم عن الزمن الذي لا يشرع
للعبد تجاوزه سواء أكان من حيث القلة أو الكثرة في قراءة القرآن الكريم فأقل زمن
يستحب قراءة القرآن فيه على المختار ثلاثة أيام لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما
رواه عنه عبد الله بن عمرو: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) ] 47 [.
ولذا كان معاذ بن جبل يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث] 48 [وكان ابن
مسعود يقول: (اقرؤوا القرآن في سبع ولا تقرؤوه في أقل من ثلاث) ] 49 [.
والحكمة - والله أعلم - في عدم مشروعية قراءته في أقل من ثلاث أن لا
تؤدي سرعة القراءة إلى قلة الفهم والتدبر أو الملل والتضجر أو الهذرمة وعدم إتقان
النطق، وما ثبت عن السلف من قراءته في أقل من ذلك فهو محمول إما على أنه لم
يبلغهم في ذلك حديث من مثل الحديث السابق، أو أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما
يقرءونه مع هذه السرعة] 50 [، أو أن ذلك كان في فترة حماس وكثرة نشاط أو
وقت فاضل كرمضان ونحوه فأرادوا استغلاله لا أن يكون ذلك عادة لهم في سائر
العمر.
وأما أوسع زمن جاءت النصوص مبينة مشروعية قراءة القرآن فيه فأربعون
يوماً كما ورد فى حديث عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي-صلى الله عليه وسلم-:
في كم يقرأ القرآن؟ قال: (فى أربعين) ] 51 [، ولذا قال إسحاق بن راهويه: (ولا
نحب للرجل أن يأتي عليه أكثر من أربعين ولم يقرأ القرآن لهذا الحديث) ] 52 [،
وقال أيضاً: (يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوماً لا يقرأ فيها القرآن) ] 53 [.
5- نسيان القرآن سببه الذنوب والمعاصي:
جاءت الكثير من النصوص التي تجعل ذنوب العبد سبباً لما يصيبه من
مصائب وبلايا والتي من أعظمها ولا شك نسيان القرآن الكريم، ومما جاء في ذلك
قوله-صلى الله عليه وسلم-: (لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما
يعفو الله عنه أكثر) ] 54 [، وقد كان هذا الأمر جلياً في أذهان السلف، ولذا قال
الضحاك مزاحم: (ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يحدثه لأن الله تعالى يقول:] وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [] 55 [، وإن نسيان القرآن من
أعظم المصائب) ] 56 [، بل إنهم - رحمهم الله تعالى- كانوا يقفون موقفاً صارماً
ممن هذه حاله كما جاء من طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن
كيف أنهم كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولاً شديداً] 57 [، وقد ذكر القرطبي -
رحمه الله - سبب تلك الكراهية وذلك الموقف الشديد فقال: (من حفظ القرآن أو
بعضه فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه، فإذا أخل بهذه المرتبة الدينية حتى
تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك، فإن تَرْك معاهدة القرآن يفضي إلى
الرجوع إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد) ] 58 [.
بل إن بعضهم يعده ذنباً كما روى أبو العالية عن أنس موقوفاً (كنا نعد من
أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه) ] 59 [.
قال ابن كثير - رحمه الله -: (وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في
قوله تعالى] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة
أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا
فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [] 60 [، وهذا الذي قاله وإن لم يكن هو المراد جميعه
فهو بعضه، فإن الإعراض عن تلاوة القرآن، وتعريضه للنسيان، وعدم الاعتناء
به فيه تهاون كبير وتفريط شديد نعوذ بالله منه) ] 61 [.
6- كيف تكون المراجعة؟
لا شك أن الطريقة الأسلم للمراجعة هي تخصيص وقت كاف غير وقت الحفظ
يقرأ فيه المرء ما يفتح الله تعالى عليه فيه، ولكن نظراً لعدم قدرة كثير من الناس
على تخصيص وقت معين لذلك فيمكن استخدام الطرق التالية:
(أ) - القراءة في السنن الرواتب غير راتبة الفجر تكون خمسة أثمان، في
كل ركعتين ثمن.
- في ركعتي ما قبل العصر تكون ثمناً واحداً.
- في الصلوات المفروضة وقيام الليل تكون ثمنين.
وعلى هذا فالحد الأدنى في اليوم الواحد يكون جزءاً كاملاً من القرآن الكريم.] * [
(ب) القراءة في الصلاة النافلة من غير الرواتب، وفي السيارة،. وبين
الأذان والإقامة وأثناء الذهاب للدراسة أو العمل والعودة من ذلك ... إلخ من حالات
الإنسان المناسبة.
(ج) الجلوس بعد الفجر ولو قليلاً للقراءة بحيث يلزم الإنسان نفسه أن يقرأ
في ذلك الوقت شيئاً من القرآن الكريم ولو ثمناً واحداً.
(د) يمكن لأصحاب الهمم العالية استخدام طريقة (فمي مشوق) وهي طريقة
كان يستخدمها بعض مشايخ الإقراء في أرض الكنانة بحيث أن الحافظ يستطيع
مراجعة القرآن كاملاً في أسبوع واحد وبيانها كالتالي:
- الفاء من (فمي مشوق) للفاتحة والميم للمائدة والياء ليونس والميم لمريم
والشين للشعراء والواو للصافات والقاف لسورة ق.
- فيكون المقدار في اليوم الأول من أول (الفاتحة) إلى أول (المائدة) .
- وفي اليوم الثاني من أول (المائدة) إلى أول (يونس)
- وفي اليوم الثالث من أول (يونس) إلى أول (مريم) .
- وفي اليوم الرابع من أول (مريم) إلى أول (الشعراء) .
- وفي اليوم الخامس من أول (الشعراء) إلى أول (الصافات) .
- وفي اليوم السادس من أول (الصافات) إلى أول (ق) .
- وفي اليوم السابع من أول، (ق) إلى آخر المصحف الشريف.
(هـ) على من حفظ شيئاً من القرآن الكريم دون عشرة أجزاء أن لا يمر عليه خمسة عشر يوماً دون إتمام مراجعته.
والله نسأل للجميع التوفيق والسداد.
__________
(1) سورة الكهف: 110.
(2) مسلم 2289/4 ح 2985.
(3) سورة التوبة: 6.
(4) سورة البقرة: 2.
(5) سورة البقرة: 185.
(6) البخاري مع الفتح 9/ 74 ح 5527.
(7) البخاري مع الفتح 9/ 74 ح 5528.
(8) سورة الحجر: 78.
(9) مسلم 1/ 559 ح 817.
(10) الترمذي 5/ 75 ح 2915 وصححه الألباني في صحيح الجامع 5/ 345 ح 6345.
(11) كوماوين: الكوماء من الابل عظيمة السنام طويلته، قاله ابن منظور في اللسان 12/ 529.
(12) مسلم 1/ 552 ح 803.
(13) مسلم 1/ 553 ح 854.
(14) أبو داود 2/ 53 ح1464، وقال الألباني في صحيح أبي داود 275/ 1 ح 1350 (حسن صحيح) .
(15) مسلم 1 / 465 ح 673.
(16) البخاري مع الفتح 8/ 691 ح 937 4.
(17) البخاري مع الفتح 9/ 100 ح 5059.
(18) سورة فاطر: 29.
(19) سورة الأعراف: 204.
(20) التذكار في أفضل الأذكار، 91.
(21) سورة النحل: 89، قال ابن سعدي في تفسيره حولها 4/ 230 (وقوله:] ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء [في أصول الدين وفروعه وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد فهو مبين أتم تبيين بألفاظ واضحة ومعان جليلة) ولا يخفى أن السنة جاء الأمر بالأخذ بها في القرآن في نحو قوله تعالى في سورة الحشر (7) ] وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [، فالعمل بها عمل بالقرآن.
(22) سورة القمر: 17.
(23) الجامع لأحكام القرآن 17/ 134.
(24) سورة العنكبوت: 69.
(25) مسلم 4/ 2547 ح 2699.
(26) تصحيفات المحدثين للعسكري 1/6.
(27) المصدر السابق 1 / 7 البخاري مع الفتح 9/ 46 ح 5000 فتح الباري 9 / 48 (30) المسند بتحقيق شاكر 6/ 34، وقال الشيخ أحمد شاكر (إسناده صحيح) .
(28) البخاري مع الفتح 9/46ح 5000.
(29) فتح الباري 9/48.
(30) المسند بتحقيق شاكر 6/34، وقال الشيخ أحمد شاكر " إسناده صحيح ".
(31) انظر حديث أبي هريرة في البخاري مع الفتح 9/ 43 ح 4998.
(32) مسلم 4/ 1913 ح 2464.
(33) سورة المزمل: 4.
(34) سورة القيامة: 16، وانظر في الشاهد منها هنا تفسير ابن كثير.
(35) سورة الإسراء: 106.
(36) البخاري مع الفتح 9/91 ح 5046.
(37) فضائل القرآن لابن كثير (75) .
(38) أحمد5/ 428، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/ 17.
(39) مسلم 3/1513 ح 1905.
(40) تهذيب موعظة المؤمنين 1 / 75.
(41) أبو داود 4/ 350 ح 4090، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4 / 114 ح 4187.
(42) مسلم1 /93 ح 91.
(43) البخاري مع الفتح 9/ 79 ح 5031.
(44) قال ابن حجر في الفتح 9/ 81 تفصياً: أي تفلتاً وتخلصاً.
(45) البخاري مع الفتح 9/ 79 ح 5532.
(46) البخاري مع الفتح 9/ 79 ح 5033.
(47) أبو داود 2/ 116 ح 1394، وصححه الألباني في صحيح الجامع 6 / 242 ح 7620.
(48) ذكره ابن كثير في فضائل القرآن (80) وقال صحيح.
(49) ذكره ابن حجر في الفتح 9/ 97 وقال هو عند سعيد ابن منصور بإسناد صحيح.
(50) انظر فضائل القرآن لابن كثير 82.
(51) الترمذي 5/ 197 ح 2947 وحسنه الألباني في صحيح الجامع 1/ 37 ح 1165.
(52) انظر جامع الترمذي 5/ 197.
(53) فضائل القرآن لابن كثير 70.
(54) الترمذي 5/ 377 ح 3252، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 4/ 240 ح 7609.
(55) سورة الشورى: 30.
(56) فضائل القرآن (70) .
(57) فتح الباري 9 / 86.
(58) المصدر السابق 9/ 86.
(59) المصدر السابق 9/ 86، وقال ابن حجر (وإسناده جيد) .
(60) سورة طه: 124 -126.
(61) فضائل القرآن لابن كثير (69) .
(*) التقسيم المشهور في المصحف العثماني أن يقسم المصحف إلى ثلاثين جزءا، ويقسم الجزء إلى حزبين والحزب إلى أربعة أرباع، فيكون الجزء ثمانية أرباع -البيان -.(73/13)
مقال
حقوق الناس بين الأخذ والعطاء
عادل رشاد غنيم
حقوقك لدى الآخرين قضية مهمة عُني بها الإسلام، وسن الأحكام لتقريرها
وحمايتها، وبطبيعة الحال فإن حقوق الآخرين عليك هي كذلك موضع عناية الإسلام، فحقوقك هي واجبات الآخرين تجاهك، وحقوق الآخرين هي واجباتك تجاههم.
ومن منطلق العدل طالبنا الإسلام باحترام حقوق الناس بالقوة نفسها التي طالب
فيها الناس باحترام حقوقنا، لكننا نجد أناساً مرضى بالأنانية يطالبون بحقوقهم،
وفي الوقت نفسه يرفضون أداء واجباتهم! .
ولقد وصف القرآن الكريم هذا النوع من الناس بقوله: [وإن يكن لهم الحق
يأتوا إليه مذعنين] [1] ، أي أنهم لا يذعنون للحق إلا إذا كان لهم، أما إذا كان
الحق عليهم فالإعراض هو شأنهم.
وشرٌ من هؤلاء من أخذ حق غيره دون وجه مشروع، يقول رسول الله:
(من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال
رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: وإن كان قضيباً من أراك « [2] .
والمجتمع الذي تعيشه تربطك بأفراده علاقات عدة، تنشيء بينك وبينهم
منظومة من الحقوق المتبادلة، وعليك أن تنجح في هذه المعادلة الصعبة فتعطي كل
ذي حق حقه.. وهذا ما أكده حديث سلمان رضي الله عنه: (إن لربك عليك حقاً،
وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه» [3] .
فالقرابة علاقة اجتماعية يترتب عليها حقوق أسرية.. [وآتِ ذا القربى
حقه..] [4] ، والجوار ينشأ عنه حقوق، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [5] .
والإسلام علاقة مكينة تبني الأخوة التي توجب على المسلمين جملة من
الحقوق: ففي صحيح مسلم (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه،
وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا
مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) « [6] .
وهناك علاقات تنشأ نتيجة العقود، وقد أحاطها الإسلام برعاية كبرى لأنها
من أهم مصادر الالتزام، فالقرض عقد يفرض على المدين حق السداد للدائن.
عن أبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-
يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني،
فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك! ترى من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال
النبي -صلى الله عليه وسلم-:» هلا مع صاحب الحق كنتم؟ «ثم أرسل إلى
خولة بنت قيس فقال لها:» إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضي
لك «فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته فقضى الأعرابي
وأطعمه، فقال الأعرابي: أوفيت أوفى الله لك، فقال -صلى الله عليه وسلم-:
أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع» [7] .
والتوظيف عقد يوجب على الموظف أداء عمله وفق شروط العقد ويجب على
صاحب العمل دفع الأجر وسائر المستحقات للموظف (المسلمون عند شروطهم) [8] .
لقد أمرنا الله تعالى أمراً صريحاً بالوفاء بالعقود والتزاماتها: [يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود ... ] [9] .
ومن غير المقبول أن يمتنع صاحب العمل عن إعطاء عماله أجورهم مستخفاً
بها تماماً، كما هو غير مقبول من العمال التقصير في المهام المسندة إليهم.. فهل
أنت أخي القارئ ممن يعطي الحق من نفسه كما يريده من غيره؟ !
إن الإسلام لا ينتظر حتى يثور النزاع بين الخصوم ليصل إلى ساحة القضاء
لتفصل المحاكم في دعاوى الحقوق.. إنه يؤسس محكمة داخل كل نفس إنها محكمة
«تقوى الله» تصدر حكمها بالحق ولو على الذات.
ولنسمع قول رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهو يخاطب النفس المؤمنة:
(لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) [10] . ومعنى ذلك أن يبادر الإنسان برد الحقوق إلى أهلها في حياته قبل أن يقف موقفاً
لا يملك فيه شيئاً، لهذا نصحنا رسول الله: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه
أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل
صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل
عليه) [11] ، وهذا هو الإفلاس الحقيقي الذي يجب أن نحذر الوقوع فيه..
لقد أعطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- للإفلاس معنى أعم مما تعارف
عليه الناس ودعني أذكرك بهذا الحوار الذي دار بين النبي -صلى الله عليه وسلم-
وصحبه: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من
حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من
خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) « [12] .
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقائق إلا أن بعض الناس يبيع دينه بأبخس
ثمن، ويأكل حقوق الناس بالباطل وهو ذاهل عن المصير المظلم الذي ينتظره لذلك
أقر الإسلام مبدأ الحماية للحقوق عن طريق القضاء برفع دعوى من قبل الشخص
صاحب الحق..
وبالطبع لابد للدعوى من دليل أو بينة، فكما قال النبي: (لو يعطى الناس
بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى
عليه) [13] .
وفي عالم القضاء وصخب الخصوم في المحاكم قد ينجح بعض الخبثاء من
خلال إبراز بعض الحجج الملفقة، أو اليمين الفاجرة، أو شهادة الزور ويحصل
على حكم قضائي لصاحبه، ولا يعني هذا أن ما أخذه أصبح حقاً له بل هو سحت،
اقرأ بيان ذلك عن أم سلمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما أنا
بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، أقضي
له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فإنما أقطع له
قطعة من النار) [14] .
أما اليمين الفاجرة فحسب صاحبها العذاب الأكبر كما قال رسول الله: (لا
يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة، ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده
من النار) » [15] .
ونظراً لخطورة الشهادة على سير القضاء اعتبرت شهادة الزور من أكبر
الجرائم، (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ شهادة الزور «) [16] .
وينبغي أن نتنبه لمسألة الشهادة إذا دعينا إليها، فلا نشهد إلا بعلم ونلبي أداء
الشهادة حينذاك: [ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه] [17] وهكذا
نساعد في حماية حقوقنا من العدوان عليها من قبل كل مغتصب غشوم.
والله المستعان.
__________
(1) سورة النور: 49.
(2) رواه مسلم، ك الإيمان، ج2، ص 57.
(3) رواه البخاري، ج4، رقم 1968، ج10، الأدب، رقم 6139.
(4) سورة الإسراء: 26.
(5) رواه البخاري، ج10، رقم 6014، ومسلم 16، ص 176.
(6) رواه مسلم، ك السلام، ج14، ص 143.
(7) رواه ابن ماجة في ك الأحكام، رقم 2426، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة، ج2، 55، برقم 1969.
(8) رواه البخاري معلقاً، انظر الفتح، 4، ك الإجادة، ص 527، ورواه أبو داود في الأقضية، والحاكم في المستدرك، ج2، 50.
(9) سورة المائدة: 1.
(10) رواه مسلم، ج16، ص 136.
(11) رواه البخاري في المظالم، ج5، رقم 2449، وفي الرقاق، ج11، رقم 6534.
(12) رواه مسلم في البر والصلة، ج16، ص 135، وأحمد في المسند، ج2، 303.
(13) صحيح مسلم، كتاب الأقضية، ج2، ص 59، ط دار الكتب العلمية.
(14) البخاري في المظالم، ج5، رقم 3458، والشهادات، رقم 2670، ومسلم في الأقضية، ج12، ص، 5.
(15) رواه ابن ماجة في الأحكام، وأبو داود في الأيمان، ومالك في الموطأ، ك الأقضية.
(16) رواه البخاري، ج10، رقم 05976، ومسلم في الإيمان، ج2، ص 82.
(17) سورة البقرة: 283.(73/30)
حوار
لقاء مع فضيلة الدكتور:
ناصر بن عبد الكريم العقل
تمهيد:
فضيلة الدكتور/ ناصر بن عبد الكريم العقل عضو هيئة التدريس بكلية أصول
الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو باحث له اهتماماته العلمية
والدعوية وله مساهماته الفكرية بعضها منشور وبعضها لم يرَ النور بعد.
تخرّج من كلية الشريعة بالرياض، وقد قدم بحثه (التقليد والتبعية وأثرهما في
كيان الأمة الإسلامية) وكانت رسالته في الماجستير عن منهج (المدرسة العقلية في
العقيدة) والتي لم تطبع حتى الآن مع أهميتها في بابها، أما رسالته في الدكتوراه
فهي دراسة وتحقيق لكتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) وهو
مطبوع، ومن دراساته المطبوعة عدد من الرسائل في (سلسلة دراسات في منهج
أهل السنة) وله دراسة عن (الجاهلية) ودراسة عن الفرق والمذاهب بالاشتراك،
وتمتاز دراساته بالعلم والتحقيق.. هذا ما نحسبه، والله حسيبه ولا نزكي على الله
أحداً.. وقد التقت معه (البيان «وجرى معه الحوار التالي.
- البيان -
* يتقاذف الدعاة الآن تيارات مختلفة فما هو الأولى للبدء في التغيير في واقع
المسلمين اليوم، فهناك من يرى أن الأولوية في الدعوة للوعي السياسي، وآخرون
يرون البدء في إنكار المنكرات التي عمت، وطائفة ترى في تحقيق التراث أهمية
قصوى، وغيرهم يرون الجهاد، وطائفة ترى البدء بالتربية الفردية، فما هو
الترتيب الطبيعي لسلم الأولويات في الدعوة إلى الله وفق تصوركم؟
- الأولى أن يبدأ العلماء والدعاة إلى الله تعالى في أمر الدعوة والإصلاح بما
بدأ الله به وما بدأ به رسله، من تحقيق التوحيد والعبودية لله تعالى والتحذير من
الشرك والبدع والمحدثات في الدين التي تنافي التوحيد أو تخل به، ثم يثني كل
داعية بالأهم فما دونه بحسب حاجة الأمة ومقتضيات الأحوال وإمكانات الدعاة،
وهذه قاعدة شرعية عامة تقوم على النصوص ونهج السلف الصالح في الدعوة إلى
الله وعلى مقتضى الحكمة والبصيرة التي هي ركائز الدعوة وهذا هو النهج الذي
يجب أن تقوم عليه كل دعوة من حيث المبدأ وبعد ذلك لا مانع أن تتوزع جهود
الأمة بجماعاتها وأفرادها بين متطلبات الأمة مادام هذا الأصل مستصحب ومعقود
عليه العمل والغاية والولاء والبراء فتقوم طائفة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وأخرى بالجهاد، وثالثة بالعمل المؤسسي، ورابعة بالتربية، وخامسة
بالسعي للنهضة بالأمة علمياً واقتصادياً ... الخ، على أن يدور الجميع حول المحور
الأساسي وهو الاجتماع على التوحيد والسنة والجماعة وهدي السلف الصالح اعتقاداً
وعلماً وعملاً والالتفاف حول العلماء أهل الحل والعقد.. أما تنازع بعض الدعاة
والجماعات حول الأولويات فأكثره من التحريش والخصومات التي لا مبرر لها؛
لأن كل منهم في مسلكه على ثغر، ومن لديه قصور أو تقصير أو غلو يجب أن
يسدد وينصح ويعان على نفسه.
* الصحوة الإسلامية أصبحت ملء السمع والبصر، ورغم ذلك يكتنفها كثير
من الأخطار والمعوقات، فما هي أبرز معوقات الدعوة الإسلامية حالياً؟
إن أخطر المعوقات للدعوة وأبرزها في نظري ما يلي:
* النزاعات والخصومات بين الدعاة والجماعات الإسلامية (التهارش والتآكل)
لاسيما وأن أكثر مواطن النزاع والخصومات في الاجتهاديات أو فيما يعذر به
المخطئ.
* ضعف الفقه في الدين، ولا أقصد فقه الأحكام إنما فقه الأصول والمناهج
والقواعد والمصالح والمواقف، لاسيما أن أكثر القائمين على الدعوة في العالم اليوم
من طائفة المثقفين والمفكرين الذين لم يتضلعوا من العلم الشرعي أو تربوا على
مفاهيم لم تؤصل شرعاً.
* المكر الكبّار من خصوم الدعوة المتمثل في الصد عن دين الله تعالى
والإعراض عن شرعه، والفساد في الأرض، وإيذاء عباد الله ومقاومة الصحوة
المباركة من قبل شراذم العلمانية المهيمنة في أكثر العالم الإسلامي.
* التحدي العالمي من قبل المشركين والكافرين والمنافقين، وما يحمله من
وسائل وإمكانات وتخطيط.
وكل ذلك من باب الأذى، ومما تستلزمه الدعوة إلى الله، ويبتلي الله به
المؤمنين، ثم تكون لهم العاقبة [لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار
ثم لا ينصرون] [1] .
* الجاهلية مصطلح قديم أطلق على الفترة ما قبل الإسلام، والدعاة
المعاصرون يتنازعون في استخدام هذا المصطلح لوصف واقع المسلمين اليوم الذي
يحكم بغير الشريعة، فما شرعية استخدام هذا المصطلح الآن؟
استخدام مصطلح الجاهلية له مفهومات كثيرة فهو بحسب ما أطلق عليه: وهو
من العبارات الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فهو يطلق على الجاهلية
المشركية القديمة من حيث العموم.. ويطلق على بعض خصالها وأيامها وأسواقها
وأحوالها، وعلى من وقع في شيء من ذلك: كالتبرج والنياحة والدعاوى القومية
والفخر بالأنساب، وهذه الخصال وأمثالها جاهلية تطلق متى حدثت، ويقال لمن
تلبس بها» فيك جاهلية «كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابي الذي
عيّر أخاه:» إنك أمرؤ فيك جاهلية «حديث صحيح، وقال تعالى: [ولا
تّبّرَّجًن تّبّرٍَج الجاهلية الأولى] أما إطلاق الجاهلية في زماننا على العالم الإسلامي
أو مجتمعاته على وجه العموم فلا يصح، لأن الأمة لا تزال على الإسلام بمسماه
العام، ومنها الصالح والطالح، ومنها الطائفة المنصورة التي لا يحصرها مكان ولا
زمان، وإنما تطلق الجاهلية على الأحوال والأشخاص حينما نتحقق من المعارضة
الصريحة للإسلام فيها، فيقال: نظام جاهلي، ودستور جاهلي، وعيد جاهلي،
وشعار جاهلي، ودعوى جاهلية، وخلق جاهلي أو خصلة جاهلية ونحو ذلك.
* يضغط الواقع بقوة على الدعاة؛ فيدعو بعضهم إلى العزلة الكاملة عن
المجتمعات، بينما يميل آخرون إلى العزلة الشعورية (النفسية) ويرى غيرهم
ضرورة الاندماج الكامل في المجتمع جسدياً وشعورياً كي يستطيعوا التغيير، فما
هو الوضع الطبيعي للداعية حيال هذه المجتمعات الإسلامية المنحرفة عن شرع الله؟
الوضع الشرعي والطبيعي في مثل ظروفنا الراهنة: أن المسلم ينبغي أن
يخالط الناس، فيكثر سواد المؤمنين، ويرشد العصاة والمخالفين ويناصح الولاة،
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصلح بين المختلفين، ويقيم الحجة على
المعاندين والمنحرفين، بفعله أو بقوله أو بسلوكه، ويسد حاجة المسلمين فيما
يستطيع، وكل ذلك في حدود الاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ لأنه ورد
في الحديث الصحيح أن المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي
لا يخالط ولا يصبر، وأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير،
وأن اليد العليا خير من اليد السفلى.. أما العزلة فغير واردة والعزلة التي جاءت في
النصوص إنما تكون عند الفتن التي يخفى فيها الأمر على المسلم، فيعتزل الفتنة
وملابساتها، لكن لا يعتزل الجماعة ولا يقطع نفعه عن الأمة.
* للبيئة أثر ملموس على الناس، والدعاة جزء من مجتمعاتهم، وذلك في
الطباع والخصال الفردية وطرائق التفكير والسلوك الشخصي.. إلى غير ذلك؛
فهل يمكن تشخيص أثر البيئة على الدعاة في مختلف بلدانهم وأثر ذلك على الدعوة
المحلية؟
إذا قل الفقه في الدين، وضعف العلم الشرعي؛ تحكمت في الناس الأهواء
والمؤثرات ومنها البيئة بعاداتها وتقاليدها وظروفها، وللبيئة أثران: أثر طبيعي قد
يعتبر شرعاً: كالعادات والتقاليد التي لا تتعارض مع الشرع ويقع في مصادمتها
مفاسد عظمى، والأثر الآخر كالأحوال الجغرافية والمناخية والاجتماعية والقومية
والقبلية التي ليس في اعتبارها مصادمة للنصوص، إنما قد تجلب مصالح للإسلام
وللأمة، فهذا الوضع البيئي يكون له اعتباره شرعاً كما فعل النبي -صلى الله عليه
وسلم- تجاه القبائل وزعمائها من تأليف قلوبهم واعتبار انتماءاتهم القبلية في العقود
والألوية ونحو ذلك وكما فعل الصحابة والتابعون وأئمة الدين في تنظيم الأقاليم وفي
السياسة الشرعية.
* مرت الدعوة الإسلامية بصيغتها الجماعية المنظمة بمراحل طويلة بدءاً من
الإخوان المسلمين في مصر والجماعة الإسلامية في القارة الهندية وغيرهما لكن
يلمس الجميع بعد أكثر من نصف قرن من بدء ذلك العمل حصيلة محدودة لا
تتناسب مع الفترة الزمنية؛ فهل من أسباب طبيعية لذلك؟
أولاً: أمور الدعوة لا تقاس بموازين الماديات ومكاسب المؤسسات والمنظمات
والأحزاب، وثانيًا: قد لا يتفق المقوّمون للدعوة على الحصيلة وحجمها؛ فلذلك
أرى أن الذين قاموا بالدعوة إلى الله على بصيرة حصّلوا خيراً كثيراً، ونرجو أن
يكون لهم في ذلك الأجر العظيم عند الله تعالى وكفى بذلك تحصيلاً.. ونحن نعلم أن
هذه الدعوات كل منها بحسب ما وفق إليه من السنة مأجورة على ما أحسنت به،
وهي بهذا تتفاوت تفاوتاً عظيما فيما بينها، وفيما بين أتباعها وأفرادها، ومع ذلك
فالنتائج المأمولة المتطورة أقل مما يتطلع إليه المسلمون، ومن أهم أسباب تأخر
النتائج المأمولة:
* البعد عن النهج الأسلم في العقيدة والعلم والعمل والدعوة، وهو نهج السلف
الصالح أهل السنة والجماعة فإنه لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.
* ضعف الفقه في الدين، والعلم الشرعي الصافي، واعتماد الدعوة في
الغالب على مجرد دعاة، ومفكرين، ومثقفين ليسوا علماء بالمعنى الشرعي وابتعاد
كثير منهم عن العلماء ومناهل العلم الشرعي.
* التنازع والخصومات وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذه هي الحالقة التي
تحلق الدين، وتوقع في الفشل والإحباط كما أخبر الله تعالى وأخبر رسوله -صلى
الله عليه وسلم-، وكما هي سنة الله في الحياة، قال تعالى [ولا تنازعوا فتفشلوا
وتذهب ريحكم] [2] .
* كثرة البدع والمحدثات والاتجاهات العقلانية والعصرانية وأحياناً العلمانية
داخل صفوف الدعوات نفسها، فضلاً عن فئات كثيرة من الأمة ويزيد الأمر سوءاً
أن بعض الحركات الإسلامية ترسخ البدعة وتروج لها أو تقوم على أصول بدعية،
فأنى لها النجاح؟ !
* تفتقر الأمة الإسلامية حالياً إلي العلماء الربانيين والقادة المصلحين الذين
يقودون الأمة إلى الخير والرفعة فما السبيل إلى إيجادهم؟
العلماء لا يصنعون إنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهناك أسباب ترفع
من يوفقه الله إلى درجة العلماء منها:
* تحصيل العلم الشرعي على أهل العلم وبطرقه الشرعية، والاتباع وسلامة
النهج في العقيدة والتلقي والتحصيل والمواصلة والصبر في ذلك.
* التربية الإسلامية الخالصة، والعناية بالنشء، وتوفير وسائل طلب العلم
الشرعي وأجوائه، وحمايته وتحصينه من المؤثرات الشيطانية المعاصرة التي ظهر
منها الفساد في البر والبحر.
* يرتفع العالم ويعلو شأنه بعلمه وعمله وإخلاصه ونفعه.. حين يكون قدوة
وعَلَم.
* تعاني الجماعات الإسلامية على اختلاف مسمياتها أمراضاً تنخر فيها مما
يتسبب في تأخر المسيرة وتعثرها، فما أبرز هذه الأمراض وما تشخيصكم لعلاجها؟
الجماعات الإسلامية جزء من كيان الأمة، بل هي أفضلها، على ما تعانيه
من أمراض، الجماعات فيها خير كثير، ولكنها ليست على الدرجة المطلوبة شرعاً، وأهم الأمراض في نظري ما سبق ذكره والمتمثل في:
* الانحراف العقيدي، أو ضعف العقيدة، والجهل بالسنة أو التقصير في ذلك
كله.
* قلة العلماء بينهم، والجفوة بين العلماء والشباب. والعلماء لهم حق على
الجميع.
* ضعف الفقه في الدين والعلوم الشرعية وقواعد الشرع.
* الاعتماد على كتب الفكر والثقافة وحدها وإهمال الكتب الشرعية أو قلة
الاعتماد عليها.
* المبالغة في الاهتمامات السياسية إلى حد الإدمان والهوس.
* التنازع والخصومات في الدين والدعوة.
* التحزبات والشعارات والولاءات غير الشرعية.
* العاطفة وقلة الصبر، ونحو ذلك.
* التشاؤم، واليأس وضعف اليقين بنصر الله ووعده.
* الناس حيال الصحوة فريقان: أحدهما مشفق من مستقبل غائم نظراً للواقع
القاتم حالياً، وآخر مستبشر متفائل؛ فما مستقبل الصحوة بناءً على واقعها الآن في
نظركم؟
المستقبل أمره إلى الله سبحانه علاّم الغيوب، لكن القرائن والسنن الكونية
والشرعية تدل على أن المستقبل للصحوة، ومن ثم للإسلام إن شاء الله والصحوة
في حاضرها تحمل مقومات القوة والغلبة وتباشير النصر بإذن الله، وقرائن ذلك:
* الانحدار السريع لقوى الكفر والباطل، فالشيوعية سقطت والرأسمالية
تترنح، وإن لم تنهار فستخر.
* الصحوة في نمو وتكامل وقوة في جميع بقاع العالم رغم ما يعتريها من خلل
لا يسلم منه البشر.
* الشعوب الإسلامية أدركت إفلاس جميع الحلول المستوردة العلمانية، وأن
العودة لشرع الله ضرورة، ولعله من الخير أن قوى الشر لم تفقه هذه الحقيقة جيداً،
وإن كانت شعرت بخطورتها لكنها لاتزال تفسرها بتفسيرات جاهلية.
* تحزب الأحزاب في جميع الدول الإسلامية وغير الإسلامية ضد الصحوة
وعّدها التحدي الأخطر.. وهذه من علامات النصر للإسلام لو كانوا يعلمون وأظن
هذا التحزب والكيد ضد الصحوة أعظم استفزاز سيكون للمارد الخامل النائم: أعني
الشعوب الإسلامية.
لكن مع ذلك فالصحوة بحاجة إلى مزيد من الترشيد والخبرة والتصحيح فهي
بحاجة إلى العلماء والفقه الشرعي، وسلامة الاعتقاد والنهج والاعتصام بالسنة
والخروج من حالة التنازع والتهارش والتآكل والعزلة إلى العمل الجاد وتحقيق
الجماعة والتناصح والبناء العقدي والعلمي والعمل المؤسسي، والاهتمام بالمجتمعات
والشعوب بأسلوب بناء لإعداد الأمة كلها لتحمل المسؤولية، حتى يكون الإسلام همّ
الجميع.
الصحوة الإسلامية في الوقت الراهن بدأت في تخطي الأطر الحزبية والتحول
من جماعات إسلامية محدودة إلى تيار إسلامي عام يطالب بعودة الإسلام إلى مختلف
نواحي الحياة، وعودة الأمة الإسلامية لتستلم دورها في قيادة العالم، فما هو
تصوركم لهذه الظاهرة؟
أرجو أن يكون الأمر كذلك، وإن كان فإن هذا يعني النقلة من طور الطفولة
والمراهقة إلى الرشد، وأن الأمة كما أسلفت بدأت تتحسس مواطن الضعف فيها
ومكانتها بين الأمم، وأن ريح الإيمان قد هبت وغرس الله بدأ يثمر، وأرى أن هذه
الحقيقة أقوى من كل العوائق والعقبات والخير كشجرة النعناع إذا قطعت منها غصناً
أنبتت عشرة بإذن الله.
* مصطلح السلفية نسبة إلى السلف كثر استخدامه، فهل هو قصر على فئة
انتسبت إليه، أم هو منهج لا يسع أحداً الخروج عنه؟ ما هو ورأيكم.؟
السلفية تعني اتباع سبيل السلف الصالح أئمة الهدى أهل السنة والحديث الفرقة
الناجية، الطائفة المنصورة.. وهي بهذا الوصف الصراط المستقيم وسبيل المؤمنين، ... ودين الحق والهدى الذي لا يسع أحد الخروج عنه، وإلا فارق الحق والسنة
والجماعة، كما قال تعالى [ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع
غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى] [3] .
التنازع بين المسلمين يؤدي إلى الفشل، فما سبب هذا التنازع بين الداعين
إلى الله، خصوصاً عندما يستظل الجميع بمنهج واحد (منهج أهل السنة والجماعة) ، وما علاجه عملياً؟
أعظم أسباب التنازع: الأهواء، والحزبيات، والانتماءات، وتصدر قليلي
العلم الشرعي واتخاذهم رؤوساً، وهيمنة الفرق والبدع والمحدثات على كثير من
المسلمين والجماعات.. والسبيل إلى الوحدة هو بتحقيق التوحيد واتباع السنة وعقد
الجماعة على الولاء الشرعي والأخذ بأسباب الحياة والعزة والنصر كما أمر الله
وبذل النصح لله تعالى ولكتابه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولأئمة المسلمين
وعامتهم.
وأسأل الله أن يبارك في هذه الصحوة وأن يهديها سواء السبيل، ويجمع شملها، ويوحد كلمتها على الحق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة آل عمران: 111.
(2) سورة الأنفال: 46.
(3) سورة النساء: 115.(73/35)
خواطر في الدعوة
كونوا شامة في الناس
محمد العبدة
روى أبو داود بإسناد حسن من حديث ابن الحنظلية حين سأله أبو الدرداء أن
يقول له كل يوم: كلمة تنفعنا ولا تضرك، قال: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: «إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا
لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» .
أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يغرس في نفس المسلم الذوق
السليم في هيئته ورحله، وكل شؤونه؛ لأن المنظر القبيح منفر للنفس، باعث على
عدم الارتياح، وكأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أيضاً أن تكون
شخصية المسلم شخصية متكاملة، يعطي لكل حالة حقها، فهو حسن الثياب، حسن
المظهر دون إسراف ولا مخيلة عندما تستدعي الأمور ذلك، ويلبس لباس المهنة
عندما يكون في مصنعه أو متجره، ويلبس لباس الحرب عندما ترتفع راية الجهاد
ويلبس ما يناسب ذوقه وثقافته عندما يمارس الرياضة البدنية؛ ولكن التربية
القاصرة وثقافة البعد الواحد التي سيطرت على المسلمين في عصور التخلف قد
أبعدت المسلم عن هذه المرونة، فمنظره يثير الشفقة، أو يثير الاستهزاء من أعداء
الإسلام.
أعرف أحد الدعاة، وقد تمكن من كثير من العلوم النافعة له في دنياه وآخرته، وأتقن عدة مهن يدوية، فكان الناس حتى من خصومه في الفكر والمنهج يسألونه
المساعدة، فيبادر غير متوانٍ لخدمتهم، فكان لهذا أثر كبير عليهم، ومثل هذا الأخ
الذي أخذ أهبته واستعد لكل حالة هو شامة بين الناس.
هل من المبالغة أو المثالية أن تتكامل شخصية المسلم فتجمع هذه الجوانب
المتعددة: أخلاق عالية مع القريب والبعيد، مساعدة للناس، وأن يمثل الإسلام في
هيئته وكلامه وحركاته وسكناته..؟ ! كلا، ليس صورة خيالية، وإن تعذر ذلك
فوجود عدد من الشباب المسلم يكون محط أنظار أهل حيه وقريته وزملاء عمله
سيكون له تأثير كبير في تقوية الدعوة الإسلامية.
إن المسلم حقاً هو (العملة النادرة) في هذه الأيام، وفي هذا العصر الذي كثر
فيه الخبث، وكثر النفاق والمداهنة، وضُيّعَت الأمانة، وعبد الناس بطونهم
وشهواتهم، فكيف إذا كان هذا المسلم شامة بين الناس؟ !
وإذا كان العرب قبل الإسلام يقولون عن الذي تعلم القراءة والكتابة وأتقن
السباحة والرمي بأنه (كامل) ، فكيف إذا كان صاحب دعوة ورسالة قد استجمع
خلال الخير، وأتقن كثيراً من الأعمال، وبذل كل ما في وسعه لقضاء حوائج
الناس؟ !(73/45)
من فقه الدعوة
الاستبداد الدعوي!
أحمد بن عبد الرحمن الصويّان
(1)
يقال في اللغة: استبد برأيه، يعني: انفرد به.
والاستبداد صفة من صفات التسلط وفرض الرأي بالقوة، وهو يقتضي تكميم
الأفواه، وقطع الألسن؛ فلا تتحدث إلا في مجال محدود لا تتجاوزه وبطريقة معينة
لا تتغير.. بل ينطلق الاستبداد أحياناً ليحجر على أفكار الإنسان وخواطره، بل
أنفاسه وزفراته..!
واعجباً لك.. إذا كان هذا هو الاستبداد عندك، فكيف تتجرأ على وصف
الدعاة بذلك..؟ !
معاذ الله! فليس هذا حكماً عاماً يتساوى فيه جميع الدعاة، ولكن بعضنا قد
يأخذ بنصيب وافر أحياناً من هذه الصفة، وهذه الشريحة الدعوية لا ينبغي إغفالها
أو تجاهلها، والاستبداد الدعوي إن صح التعبير ممارسة تربوية ذات أبعاد خطيرة،
تقتل ملكات الإبداع والإنتاج، وتعطل الطاقات لذا كان لزاماً علينا أن نسلط الضوء
عليها بجرأة، لعلاجها والتخلص منها.
وذكر الحقيقة كاملة قد يتبعها مرارة وحزن، ولكنها تنتهي بالسعادة، وقد قال
شيخ الإسلام ابن تيمية: «المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا
ينقطع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة، ما
نحمد معه ذلك التخشين» . [1]
(2)
أرأيت إلى ذلك المربي الذي لا يُحب أن يسمع رأياً غير رأيه، ولا يرضى
باقتراح أو نصح من أحد، فإذا تكلّم؛ فَمَن حوله سكوت، وإذا أشار؛ فالناس له
تبع، أتباعه ومريدوه حقهم السمع والطاعة، في المنشط والمكره، في العسر
واليسر، في الخير والشر..! !
مفهوم الشورى عنده: إخبار الآخرين بما يرى، فإن وافقوه فبها ونعمت،
وإن خالفوه، فالشورى مُعلمة لا ملزمة.
إذا نظر إلى وجه مريده طأطأ المريد رأسه حياءً وخجلاً، واحمر وجهه
وفرقع أصابعه؛ حتى إذا اشتد عوده، واستوى ساقه، أصبح بارعاً في اجترار
الأفكار، وترديد الكلمات، لا يباريه أحد في فن التقليد، ليس له عقل يفكر فقد
ضمر وتآكل مع طول العجز، واستفحال المرض، أقرب الأمثال إلى عقله: (من
قلّد عالماً لقي الله سالماً) ، ولماذا يفكر ويجهد ذهنه، ويضيع وقته وبين يديه شيخه
الجهبذ الذي أبصر الحقائق، وأدرك الأمور، وانكشفت له المعضلات..؟ !
من أنت حتى تستشار أو تبدي رأياً..؟ !
ومن أنت أصلاً حتى تفكر وتتأمل..؟ !
أرأيتم كيف نمارس الاستبداد الدعوي..؟ !
(3)
أرأيت إلى طالب العلم الذي يظن أنّ رأيه هو عين الحق الذي لاحق غيره ولا
يحق لأحد أن يخالفه أو يعترض عليه، اجتهاده قاطع لكل اختلاف، ورأيه جامع
لكل خير، فهو البحر الذي تجتمع عنده الأنهر، والوادي الذي تصب فيه الشُعَب..!
إذا خالفه أحد ضاق صدره، واضطربت نفسه، وتزلزت أقدامه، وإذا أفاق
من هول الصدمة، سلّ سيوفه مستعداً للمبارزة والطعان، دون أن ينظر أحق هو أم
باطل.
كل مخالف له مبطل.. مهما كان دليله..!
وكل معارض له مفسد.. مهما كانت حجته..!
همه أن يتلقى عنه الأتباع، ومراده أن يستمع له الناس، كل تقليد مذموم إلا
تقليده..! أحكامه صارمة قاطعة، لا تقبل المناقشة أو المحاورة، ومن لم يقبل هذه
الأفكار فلينطح برأسه الجدار..!
جلوا صارماً، وتلوا باطلاً ... وقالوا صدقنا؟ فقلنا: نعم!
أرأيتم كيف نمارس الاستبداد العلمي..؟ !
(4)
أرأيتم كيف توأد الأفكار، وتخنق الأصوات، وتحطم ملكات الإبداع والإنتاج، ويربى الخانعون..؟ ! أخزى الله الاستبداد، فكم قتل من الطاقات وكم قطع من
طرقٍ للتصحيح والتغيير..!
كان السلف الصالح والأئمة الأخيار يختلفون فيقول قائلهم: «جائز ما قلتَ
أنت، وجائز ما قلتُ أنا، وكلانا نجم يهتدى به فلا علينا شيء من اختلافنا» [2] .
ويقول الآخر: «ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في
مسألة؟» [3] .
أما نحن إذا اختلفنا، فلسان حالنا: (ما أريكم إلا ما أرى..!) .
إن مصادرة آراء الآخرين، وغلق الأبواب في وجوههم؛ يجعل جذور الخطأ
تمتد إلى الأعماق، ثم يصعب تصحيحها أو على الأقل تخفيفها؛ ولهذا فنحن نحتاج
إلى ترويض ومتابعة؛ لكي نتعلم كيف نقدّر الرأي الآخر، وننجو من مصادرة
عقول الآخرين، والمنهج الشرعي يقتضي أن نقطع في الأمور القطعية التي قطع
بها السلف الصالح، وأما المسائل الاجتهادية في فروع العلم سواء في الفقهيات، أو
في فروع العمل الدعوي المتجددة فالأمر فيها واسع ولله الحمد والمنّة، والاختلاف
فيها أمر وارد لم يسلم منه جيل الصحابة رضي الله عنهم وما وسعهم يسعنا، وما قد
يكون واضحاً عندك، قد لا يكون كذلك عند غيرك، وما يتبيّن لك صوابه الآن قد
يتبيّن لك خطؤه غداً؛ لأمر ينقدح في ذهنك، ولهذا تواتر عن علمائنا وأئمتنا أنهم
يقولون في المسألة الفرعية الواحدة قولاً، ثم يقولون بخلافه بعد ذلك.
وها هو ذا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يريد أن يحمل الناس على
كتاب الإمام مالك بن أنس الموطأ، ويوحدهم على رأي، فيقول له الإمام مالك:
«لا تفعل فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من قبل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار كل بلد لأنفسهم» . قال الحافظ ابن عبد البر القرطبي: «وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم» [4] .
ورحم الله الإمام الشاطبي حيث يقول: «فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع
الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النُظّار أن النظريات لا يمكن
الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها لكن في الفروع دون
الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف» [5] .
إن الاستبداد خصلة لا يعجز عنها أحد في الغالب، وهو دليل على العجز
والضعف. ولكن فتح أبواب المشورة، والتراجع عن الخطأ، واتساع الصدر للرأي
المخالف، منزلة لا يرقى إليها إلا عباد الله المخلصون.
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/53) .
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/87) .
(3) سير أعلام النبلاء (10/1617) .
(4) جامع بيان العلم وفضله (1/132) .
(5) الاعتصام (2/168) .(73/47)
نصوص شعرية
عندما تعود الريح
د. محمد بن ظافر الشهري
عن زمِن الفشلْ
يسألُ من سألْ
وعن ذَهابِ الريحِْ
عن تكالبِ الدولْ
وعن دمائنا تراقْ
وعِرضنا يباحْ
وعن صغيرنا يساقْ
وشيخنا يُذَلّ
فقلت لا: تسلْ!
***
في زمن الفشلْ
يُشيّعُ القاتلُ مَن قَتَلْ!
يُعَيّرُ العادلُ أن عَدَلْ!
ويوصفُ الجائرُ بالبطلْ!
يعترفُ البريءْ
بأنه جَنَي
ويذكُر الفاعلُ ما فعلْ!
***
في زمن الفشل
يعيشُ كل كافر حراً بلا قيودْ
وكلّ من أسلمَ مُعتَقَلْ!
وينتخي اليهودْ
وأمةٌ تسودْ
وأمةٌ تشاءْ
وأمة تريدْ
وأمة واحدة فقطْ..
في قبضة القيود لم تزلْ!
***
في زمن الفشلْ
يستبدل الناس بـ «لا» : «أجل» !
فيمعن اللصوصُ في..
«إعادة الأمل» !
في وضح النهار
ودونما وجلْ..
لسانُهم كنومنا طويلْ!
وسمعهم يُطربُهُ العويلْ
وسيفهم يكفرُ بالعَذَلْ!
***
في زمن الفشلْ
كُفّنَ في جرابه الحُسامْ
وكبر الإمامْ
بأربع أعقبها السلامْ
فطاب للثعالب المقامْ..
ولم تعُد تلجأُ للحِيَلْ!
***
في زمن الفشلْ
العلمُ لا يهتفُ بالعملْ
العلم كي يُرَي
العلم للثراءْ
العلم للمراءْ
العلم للجَدَلْ!
***
في زمن الفشلْ
يكون في الدعاةْ
من لا يكون همّهُ
عبادة الإلهْ
ولا يكون همّهُ
نصيحة العصاةْ
ولا يكونُ همّهُ
صناعة الحياةْ
لكنّ كلّ همّهِ
تَصَيّدُ الزَلَلْ!
في زمن الفشلْ
يستعرُ اللهيب في البطونْ
والناس يأكلونَ..
يأكلونْ
وليس ثمّ أكْلْ!
***
في زمن الفشلْ
يُقذَفُ بالنساء للعملْ
ويصبحُ «القرارُ» للرجلْ!
وعندها تُضَيّعُ العيالْ
تسترجل النساءْ
يستنوقُ الجملْ
***
في زمن الفشلْ
ينحرفُ الكبارُ والصغارْ
فالشيخُ لا ينعم بالوقارْ
والطفلُ قد شَبّ على الصّغارْ
والأمّ في المساءْ
تلعبُ بالقمارْ
وفي النهارْ..
تعبثُ في شواطئ البحارْ
و «الزوجُ» مستعارْ..
متيمٌ يسكرهُ الغَزَلْ
***
عن زمن الفشلْ
يا أيها السائلُ لا تَسَلْ
واسأل عن العودة للمُثُلْ
عن صحوةِ الهُدى
واثقةً تمشي على مَهَلْ
تسيرُ خلفَ خاتمِ الرّسُلْ
تسيرُ لا تَمَلّ
فعندها وعدٌ بأنْ تَصِلْ
يا أيها السائلُ لا تسلْ
عليكَ بالعملْ
عليكَ بالعملْ.(73/52)
دراسات تاريخية
منهج التفسير التاريخي
قواعد منهجية في تفسير الحوادث والحكم عليها
(1)
د. محمد آمحزون
يقصد بدراسة التاريخ معرفة الروابط التي تربط الأحداث والوقائع المختلفة؛
لتبيّن دوافعها ومنطلقاتها ونتائجها، واستخلاص السنن والعبر من خلالها، ويعتبر
تعريف ابن خلدون في هذا الصدد تعريفاً جيداً، لأنه نصّ على وجوب النظر في
الأخبار وتحقيقها، كما أكد على النظر في العلل والأسباب.
ومن هذا المنطلق، فالتاريخ ليس مجرد سرد للحوادث فحسب، بل هو تفسير
لتلك الحوادث وتقويم لها، ومن ثم أصبح التاريخ أحد الأسلحة التي تستخدم في
مجال التوجيه وصياغة الأفكار ونشر المباديء وتأييدها، كما أنه أصبح يأخذ دوره
في الصراع العقائدي بين الأمم، ولهذا لابد من دراسته وفق منهج معين.
لكن يا ترى ما هو ذلك المنهج المطلوب؟
في الاصطلاح اللغوي يقال: النهج، والمنهج، والمنهاج، وكلها بمعنى واحد، وهي تعني الطريق الواضح، وبمعنى آخر: السبيل الفكري والخطوات العملية
التي يتبعها الباحث في مساره بقصد تحصيل العلم.
أما في الاصطلاح التاريخي، فالمنهج يعني في الدراسات التاريخية: القواعد
والشروط التي يجب مراعاتها عند معالجة أي حدث تاريخي سواء أكان بالكتابة
والتأليف أم بالدراسة والتعليم.
ومن الملاحظ أن المنهج في الدراسات التاريخية عندما يطلق يراد به أمران:
الأمر الأول: التوثيق وإثبات الحقائق، والأمر الثاني: التفسير التاريخي، أي معرفة مصادر تفسير الحوادث والحكم عليها.
ويستنتج من ذلك أن المنهج قسمان: منهج التوثيق وإثبات الحقائق ومنهج
التفسير التاريخي.
أما القسم الأول فيراد به دراسة سند الروايات التاريخية ومتنها بغية التثبت
من النصوص وتمحيص الأخبار، وذلك بربط دراسة التاريخ الإسلامي إلى حد ما
بما يعرف بـ «علم الجرح والتعديل» ، وهو علم جليل يقوم على دراسة
مستفيضة لأحوال الرواة والتحري عن ميولهم وصفاتهم وأخلاقهم وعقائدهم.
ومما لا شك فيه أن المصنفات في قواعد الرواية وفي علم الرجال يمكن
الاستفادة منها في حقل التاريخ الإسلامي إلى حد ما، إذ تكشف النقاب عن قواعد
التحديث وأحوال الرواة لتمييز القوي من الضعيف والصادق من الكاذب، وبذلك
يُعرف لكل خبر قيمته، فتستخرج الروايات الصحيحة والحسنة، وتستبعد الأخبار
الضعيفة والموضوعة وينبّه عليها، لاسيما وأن من أهداف الدراسات التاريخية
إبراز الحقائق التي تعتبر هدفاً منشوداً يتوخاه كل باحث نزيه.
لكن سنقتصر في هذه الدراسة على القسم الثاني من المنهج المتعلق بتفسير
الحوادث، وذلك بذكر مجموعة من القواعد والضوابط التي يمكن من خلالها الحكم
على الحوادث التاريخية، وتفسيرها تفسيراً يتماشى مع النظرة الإسلامية للكون
والإنسان والحياة.
فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ دين وعقيدة قبل أن يكون تاريخ دول ومعارك
ونظم سياسية، لأن العقيدة هي التي أنشأت تلك الكيانات من الدول والمجتمعات
بنظمها السياسية والإدارية والتعليمية والاقتصادية وغيرها.
ولأجل هذه الصفة، فإنه ينبغي دراسة التاريخ الإسلامي وفق التصور
الصحيح والموازين الشرعية، على أن خصوصية التاريخ الإسلامي تتجلى في
كونه منهجاً يوضح دور الإنسان ومسؤوليته عن التغير الاجتماعي والتاريخي في
إطار المشيئة الإلهية، لأن التاريخ البشري في المنظور الإسلامي هو تحقيق
المشيئة الربانية من خلال الفاعلية المتاحة للإنسان في الأرض بقدر الله، وبحسب
سنن معينة يجري الله بها قدره في الحياة الدنيا.
إن المنهج الإسلامي لتفسير التاريخ لا يخرج عن دائرة المعتقدات الإسلامية،
كما أنه مبني على دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي، مما جعل حركة التاريخ
الإسلامي ذات طابع متميز عن حركة التاريخ العالمي لأثر الوحي الإلهي فيه.
القاعدة الأولى: اعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر فيما
نصت عليه من أخبار وضوابط وأحكام:
ويرجع ذلك إلى اعتبارين اثنين:
الاعتبار الأول: لأنها أصدق من كل وثيقة تاريخية فيما ورد فيها من الأخبار، وذلك لصدق مصدرها وعلمه وهيمنته، كما أنها وصلتنا بأوثق منهج علمي،
حيث وصلنا القرآن الكريم بالتواتر الموجب للعلم القطعي، وصحيح السنة وصلنا
بمنهج علمي دقيق حيث اتبع علماء الحديث والرواية أرقى منهج علمي وأوثقه في
تدوين السنة.
الاعتبار الثاني: لما تدل عليه من القوانين التاريخية والسنن الربانية والنظرة
الشمولية لتاريخ البشرية كلها على مدار الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل،
مما يعطي الباحث سعة وشمولاً في النظرة التاريخية، وعمقاً في تحليل الأحداث
ومقدرة على تشخيص الداء، ووصف الدواء.
إن هذا الكون بما فيه الإنسان هو خلق الله؛ فلابد من الرجوع إلى الخالق لفهم
هذا الخلق، وإذا رجعنا إلى الوحي المنزل من الخالق لهداية البشرية، نجد السنن
واضحة والاتجاهات محددة.
ومن المعلوم أن الوحي (الكتاب والسنة) وضع لنا السنن (أي القوانين الطبيعية
والاجتماعية المبثوثة في الكون والأنفس والمجتمعات) التي تسير في إطارها
الأحداث، ويحكم من خلالها الأمم والدول والأشخاص.
ومن خلال السنن الربانية في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-
نفهم التاريخ ونفسر أحداثه، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والبقاء،
وعوامل الهدم والخوف والسقوط والتدمير، وهذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي
والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك. قال تعالى: [قد خلت
من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين] [1] . وقال
تعالى: [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم] [2] . فقانون تغير
الحال إلى الأحسن أو الأسوأ هو تابع لجهد الإنسان، وسلوكه وتصرفه.
إن القرآن والسنة يعطيان الباحث المفاهيم والمبادئ التي يمكن في ضوئها
تفسير أحداث التاريخ والحكم عليها، هذا علاوة على ذكر ما سيؤول إليه حال الأمة
الإسلامية وما يصيبها من التفرق، وما يكون فيها من حركات الإصلاح والتجديد،
والإشارة إلى عدد من الأحداث والفتن، والموقف من بعضها، وقد اعتنى أهل
السنة بجمعها ووضع أبواب لها في مصنفاتهم [3] .
ولئن كانت المادة التاريخية في كتب السنة ليست بالمقدار نفسه الموجود في
المصادر التاريخية، إلا أن لها أهميتها لعدة اعتبارات منها:
أن معظم مؤلفيها عاشوا في فترة مبكرة، وأغلبهم من رجالات القرن الثاني
والثالث الهجري، مما يميز مصادرهم بأنها كانت متقدمة.
ثم إن المحدثين يتحرون الدقة في النقل، الأمر الذي يجعل الباحث يطمئن إلى
رواياتهم أكثر من روايات الإخباريين.
على أن المحدث كان عند جمهور المسلمين أشرف موضوعاً، وأسمى منزلة
من الإخباري، ويرجع ذلك إلى ضبط المحدث ودقته وتمحيصه للروايات التاريخيه
وتحريه في القول، بينما كان الإخباري مظنة للإغراب والتلفيق والاختلاق.
القاعدة الثانية: الفهم الصحيح للإيمان ودوره في تفسير الأحداث:
إن دارس التاريخ الإسلامي إن لم يكن مدركاً للدور الذي يمثله الإيمان في
حياة المسلمين، فإنه لا يستطيع أن يعطي تقييماً علمياً وواقعياً لأحداث التاريخ
الإسلامي.
وعلى سبيل المثال: فهجرة المسلمين من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة
كانت هجرة من أجل المبدأ، يوجهها الإيمان الذي كان بالنسبة للمسلمين المهاجرين
المحرك الذي ساق الأفراد والجماعات إلى مصائرهم وإلى صنع تاريخهم، فلم تكن
هجرة من أجل الوطن أو المال أو المنصب، إذ تركوا من ورائهم وطنهم وأموالهم
ودورهم ومتاعهم فراراً بدينهم من الفتن واستمساكاً بعقيدتهم، فقدموا بذلك مثالاً عالياً
من التضحية والإخلاص في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا.
أما أهل المدينة وهم الأنصار الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم بالمال
ونصروهم، فقد قدموا بذلك المثل الصادق للأُخُوّة الإسلامية، تلك الأُخُوّة التي لم
يجعلها الإسلام لفظاً فارغاً أو تحية تثرثر بها الألسنة، وإنما عملاً مرتبطاً بالدماء
والأموال، وبعواطف الإيثار والمواساة التي ملأت المجتمع المدني بأروع الأمثال.
قال تعالى في شأن هذه المواقف الإيمانية: [للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا
من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاْ من الله ورضواناْ وينصرون الله ورسوله، أولئك
هم الصادقون * والذين تبوَّأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا
يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون] [4] .
كما أن المجاهد المسلم عندما يقاتل في سبيل الله يعلم أنه ليس وحده الذي
يقاتل الكفار، وأنه لا يقاتلهم بكثرة الجنود ولا بتفوق السلاح وحده إن توفر ذلك له
وإنما يقاتل بالإيمان الصادق الذي يحمله، وبما يعلمه من تأييد الله للمجاهدين
الصادقين، وما يمدهم به من وسائل مادية ومعنوية كقتال الملائكة إلى جانبهم أو
تسخير عوامل طبيعية لهم أو تثبيت قلوبهم بإنزال السكينة والطمأنينة عليهم، أو بما
يمدهم به من الصبر وقوة التحمل، ورباطة الجأش إلى غير ذلك من الوسائل
المنظورة وغير المنظورة.. فقد أنزل الله الملائكة يقاتلون إلى جانب المسلمين في
معركة بدر، قال تعالى: [إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من
الملائكة مردفين] [5] . وأرسل الله ريحاً شديداً فرقت الأحزاب المحاصرة للمدينة
يوم الخندق، قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم
جنود فأرسلنا عليها ريحا وجنوداْ لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراْ] [6] .
وعند البحث مثلاً عن الأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين في معركة
اليرموك سوف نجد أن عدد الروم ستة أضعاف عدد المسلمين، وجيش الروم جيش
نظامي مدرب وجيد التسليح، بينما الجيش الإسلامي أقل منه عدداً وعدة وتدريباً،
ويقاتل بعيداً عن مركز الخلافة، ومع ذلك حصل له النصر المبين.
على أن المتأمل والباحث في الأسباب المادية المنظورة بحثاً عقلياً مجرداً لا
يستطيع أن يقبل نتيجة المعركة رغم أنها متواترة حساً وواقعاً، وهذا يرجع إلى
الجهل بالعوامل الحقيقية المحركة للتاريخ الإنساني في غيبة العلم الصحيح وإلى
إغفال سنن الله في الخلق، وهي سنن ثابتة وصارمة، [فلن تجد لسنت الله تبديلاْ،
ولن تجد لسنت الله تحويلاْ] [7] ، ومن السنن التي أوضحها القرآن الكريم قانون
التدافع أو سنة الصراع بين الإيمان والكفر عبر تاريخ الإنسانية الطويل وحتى يرث
الله الأرض ومن عليها، ومن خلال هذا الصراع يختبر الله عباده المؤمنين ويميزهم
بالابتلاء [أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم
البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا
إن نصر الله قريب] [8] .
ويبين سبحانه وتعالى أن المؤمنين إذا تميزوا بالثبات على العقيدة والإيمان
وأداموا ذكر الله وطاعته ووحدوا صفوفهم واعتصموا بالصبر، فإن النصر حليفهم
وإن كانوا قلة [كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله] [9] ، [ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلاْ] [10] ، [وكان حقاْ علينا نصر المؤمنين] [11] ،
[إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم] [12] ... إلى غير ذلك من السنن
الساطعة والحقائق الثابتة.
لكن الله أمر المؤمنين بالأخذ بالأسباب وحشد الطاقات والإمكانيات المتاحة
للوصول إلى القوة اللازمة لإرهاب العدو والتمكين للإسلام [وأعدوا لهم ما
استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم] [13] . وأوضح
أن الجهد الإنساني للمؤمنين هو الذي يحسم الصراع لصالح الإيمان وعمارة الأرض
بمقتضى المنهج الرباني، لذلك شرع سبحانه الجهاد [ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراْ، ولينصرن
الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز] [14] .
وأخيراً، فإن الله أوضح أن عاقبة الصراع تكون دائماً للمؤمنين مهما طال
الطريق وعصف بهم طغيان الباطل [وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي
ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناْ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاْ] [15] .
القاعدة الثالثة أثر العقيدة في دوافع السلوك لدى المسلمين:
إن منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتفسير حوادثه يعتمد في أصوله على
التصور الإسلامي، ويجعل العقيدة الإسلامية ومقتضياتها هي الأساس في منطلقاته
المنهجية وفي تفسير حوادثه والحكم عليها، لذلك ينبغي في تفسير التاريخ الإسلامي
الرجوع إلى المصادر الشرعية لمعرفة دوافع السلوك في المجتمع الذي نشأ وتكون
على هدي الشريعة وشكل حياته ومفاهيمه وفقاً لها، وكانت تعليماتها وأوامرها
ونواهيهها موجهة لجميع شؤون حياته.
إنه لابد من إدراك البواعث الحقيقية لتصرفات الناس في صدر الإسلام
وعلاقة هذه البواعث بالحوادث والعلاقات الإنسانية والاجتماعية، ونظم الحكم
وسياسة المال، وطرق التشريع ووسائل التنفيذ في إطار المبادئ والمفاهيم والقيم
الإسلامية.
إن دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الذي تهيمن عليه العقيدة كانت في
صدر الإسلام تتأثر كثيراً بالتطلع إلى ما عند الله، إلى الجزاء الأُخرَوِي وصفوة
المؤمنين عادة لا يشركون دوافع أخرى في سلوكهم، إذ لابد من إخلاص النية لله
تعالى في كل أعمال المسلم سواءاً أكانت جهاداً بالنفس أم نشاطاً اجتماعياً أم
اقتصادياً أم سياسياً، فعمل المسلم في كل مجالات الحياة يدور حول إرضاء الله
تعالى، ويعرف المسلم أنه إذا أشرك في نيته وآثر الدنيا فإنه يحبط عمله، كما ورد
في الحديث الشريف «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وابتغي به
وجهه» [16] . وإذا كان هذا التصور يتحكم في كثير من المسلمين الملتزمين اليوم، فكيف كان أثر ذلك في جيل الصحابة والتابعين وهم خير القرون؟ !
إن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه في صدر الإسلام، وتزكية أرواحهم
والتوجه إلى الله وحده بالعبادة والمجاهدة، يجعل من البدهي التسليم بأن الدافع لهم
في تصرفاتهم وسلوكهم لم يكن دافعاً دنيوياً بقدر ما كان وازعاً دينياً وأخلاقياً يحث
على فعل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولأجل ذلك يجب استعمال الأسلوب النقدي في التعامل مع المصادر التاريخية، وعدم التسليم بكل ما تطرحه من أخبار، وإحالة رواياتها قبل القبول بها على
المجرى العام للمرحلة التاريخية لمعرفة هل يمكن أن تتجانس في سداها ولحمتها مع
نسيج تلك المرحلة أم لا؟
وهكذا توضع الوجهة العامة للمجتمع الإسلامي وطبيعته وخصوصيته في
الحسبان، وينظر إلى تعصب الراوي أو الإخباري أو المؤرخ من عدمه، فمن
لاحت عليه إمارات التعصب والتحيز بطعن أو لمز في أهل العدالة والثقة من
الصحابة، أو مخالفة لأمر معلوم في الشريعة أو عند الناس، أو معاكسة طبيعة
المجتمع وأعرافه وقيمه الثابتة، ففي هذه الأحوال لا يؤخذ منه ولا يؤبه بأخباره لأن
التحيز والتعصب حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة التاريخية.
وللحديث بقية..
__________
(1) سورة فاطر: 43.
(2) سورة الرعد: 11.
(3) أفرد لها الإمام البخاري كتابا في الجامع الصحيح سماه كتاب الفتن وكذا مسلم في الجامع الصحيح كتاب الفتن وأشراط الساعة، وأبو داود في السنن الفتن والملاحم، وغيرهم.
(4) سورة الحشر: 8، 9.
(5) سورة الأنفال: 9.
(6) سورة الأحزاب: 9.
(7) سورة فاطر: 43.
(8) سورة البقرة: 214.
(9) سورة البقرة: 249.
(10) سورة النساء: 141.
(11) سورة الروم: 47.
(12) سورة محمد: 7.
(13) سورة الأنفال: 60.
(14) سورة الحج: 40.
(15) سورة النور: 55.
(16) أخرجه النسائي في السنن، كتاب الحج، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر، ج6، ص 25.(73/55)
المسلمون والعالم
ليس دفاعاً عن السودان
قراءة هادئة في قضية طرد السفير البريطاني من السودان
د. عبد الله عمر سلطان
أوكلت القناة الرابعة في التلفاز البريطاني إلى الصحافي الشهير «روبرت
فيسك» إعداد حلقات مسلسلة عن العلاقة بين الإسلام والغرب عنوانها «من
بيروت.. إلى البوسنة إلى آخر العالم» خَلُص فيها إلى أن نظرة الغرب إلى
الإسلام قائمة على ثلاثة عوامل مشتركة: سوء النية.. وسوء الفهم.. والاتهامات
الجاهزة (المعلبة) ! !
في ثنايا الشريط التلفازي الذي يتألف من أربع حلقات، تمتد لأربع ساعات
يقف «فيسك» أمام أنقاض أحد المساجد في البوسنة وهو يقول: «الحكومات
الغربية تريدنا أن نفكر في السلام في الشرق الأوسط، وقد كانت تفضل ألا نشاهد
الدمار، وأن لا نكتب عنه.. إنها تفضل لو أننا خرس» . ويتجول فيسك في
جولته في قرية بوسنية تقع في الشمال بعد أن زارها قبل عام حيث كان المسجد
الجريح المحطم قائماً يذكر فيه اسم الله، ويرفع فيه ذكره، أما الآن فمراسل جريدة
«الإندبندنت» يستعرض لنا الخراب الذي حل ببيت الله ويعلق قائلاً: «إلى متى
سيتحمل المسلمون هذا النوع من العنف؟ ! إلى متى نردد أننا لا نفهمهم حينما
يحاولون إجهاض هذا العنف الموجه ضدهم؟ ! بل إننا (يعني قومه من الغربيين)
نحب أن نطلق عليهم وصف الإرهابيين المتطرفين.
إنني حينما أرى كل مرة هذا الدمار أتساءل بيني وبين نفسي عما يخبئ لنا
العالم الإسلامي.. ربما كان على تقاريري الصحفية أن تنتهي دائماً بالعبارة التالية:
احذروا جيداً..! ! ، لقد لمس المراسل البريطاني في برنامجه التلفازي حصاد
المرارة وشوك المعاناة التي تحاصر العالم الإسلامي شرقاً وغرباً؛ بسبب» العنف «الغربي الذي يؤله» المادة «ويعبد» القوة «، ويستخدم مصطلحات التسلط
وترسانة الأسلحة للتعامل مع عالم إسلامي ممزق ومحاصر وملاحق.. وكانت
الصور المعروضة تزيد من خوف الغربي من هذا المخلوق المُرعب والمُرعَب في
اللحظة نفسها دون تقديم تفسير عميق لحالة الغضب التي تجتاح آحاد المسلمين اليوم
كلما ذُكر الغرب أو حضرت إلى خشبة مسرح الحياة آلياته القمعية بصورها المتعددة.. إن ذلك لا يلمس إلا في لقطات خاطفة حينما يعرض فيسك بالصورة ضحايا
العربدة الإسرائيلية في لبنان منذ 1982م، ويقدم بصورة مباشرة لا لبس فيها
شخوص الحدث: مدني مسالم تلاحقه قنابل النابالم التي زرعتها قوات الغزاة في
أجساد الأطفال والنساء والشيوخ، وما غفل عنه فيسك أو مر عليه مروراً عابراً هو
تعريفه للعنف: هل هو الصورة الساذجة لإخضاع القوي للضعيف بمنطق السوط
وقانون» الدهس «؟ !
صحيح أنه يلامس مشاعر المسحوقين لكنه لا يركز على صور العنف
الدبلوماسية والمكر السياسى وقفازات الخنق الحريرية التي تستخدمها الحكومات
الغربية التي تريد من وسائل إعلامها أن تصمت! !
تصور لو أن حكومة إسلامية قوية» ومستقلة «قررت أن يقوم رأس الهيئة
الدينية فيها بزيارات إلى الهند تلبية لدعوة رسمية من قبل حكومة نيودلهي وذلك
للتخفيف من حدة النزاع الدائر بين السلطات الهندية والمسلمين في كشمير وبعد
إعداد التفاصيل من قبل سفير هذه الدولة ثبت للحكومة الهندية أن السفير المسلم لهذه
الدولة الافتراضية كان يجري اتصالات سرية بالحركة الإسلامية المسلحة في كشمير
التي تنقسم إلى عدة فصائل من أجل توحيدها لضرب الحكومة المركزية في نيودلهي، وقد استطاع إقناع تلك الشخصية الإسلامية المرموقة أن يغير خط سيره إلى
» جيب جغرافي «يسيطر عليه المجاهدون في كشمير حتى يظهر عدالة القضية الكشميرية التي أصدرت الأمم المتحدة حيالها قرارات واضحة توصي بحق سكان المنطقة في تقرير مصيرهم! !
السؤال: كيف سيكون تصرف حكومة نيودلهي تجاه مثل هذا العمل
الاستفزازي بل كيف سيكون موقف الإعلام العربى» المحايد «و» المستقل «!
تجاه تصرفات هذه الشخصية الإسلامية التي شوهت صورة التسامح وشرخت
بتآمرها» عدالة الإسلام واعتداله «! !
لكم أن تتصوروا ذلك.. كما لكم أن تتخيلوا أن هذه الشخصية هي شخصية
الشيخ ... ! ! ألن يحاضر المعتدلون والشرق أوسطيون وزعماء الجنوح إلى السلام
عن بشاعة التطرف وسوء خلق» المتاجرين بالدين «وتيار الاستفزاز الأصولي؟ !
ثم ماذا سيكون موقف الحكومات الغربية ووسائل إعلامها التي دائماً ما تحض
على ضبط النفس إذا كان الضحية بلداً مسلماً بينما تفرغ» عنفها «وتسلطها»
و «إرهابها السياسي» والإعلامي إذا كان المُستفَز دولة من دول العالم.. بل حتى
دولة أقدس رموزها حيوان يدب على أربع ... ؟
لقد قام الأسقف البريطاني «جورج كيري» بالدور الافتراضي نفسه الذي
رسمنا خطوطه العريضة حينما قرر زيارة السودان.. وبالطبع من حق أسقف
كانتربري أن يزور السودان لألف سبب أهمها رعاية أبناء معتقده، وعلى حكومة
السودان أن تكون «متحضرة» و «معتدلة» وأن تهيء له كامل وسائل الراحة
والاستجمام لأكبر رمز انجليكاني في العالم، ومن حق السفير البريطاني أن يتدخل
حتى في نوعية الحليب الذي يقدم لقداسته! ! لكن هل من حق السفير أن يسلك
سلوكاً تعتبره الدولة المضيفة تآمراً وبأسلوب مكشوف ليعلن الأسقف قبل يوم واحد
من الزيارة أنه سيزور معاقل المتمردين «الصليبين» في الجنوب وأنه لن يزور
الخرطوم التي يستعمر حكامها المسلمون رعايا الكنيسته.. في الجنوب؟ !
هل من حق «سفير» أو «خفير» يمثل دولة حضارية أن يقدم أوراق
اعتماده لرأس الدولة ثم يسحب قولاً وفعلاً الشرعية التي تعترف بها دول العالم
لحكومة السودان ليقدمها إلى فصائل التمرد الصليبي المتناحرة دون حياء أو خجل؟ !
إن هذا التصرف لا تقبله أي دولة تدعي الاستقلال فضلاً عن أن تكون مستقلة
فعلاً حتى ولو كانت إحدى دويلات جزر الكاريبي التي يطلق عليها المستعمرون
البريطانيون سخرية اسم «جزر الموز» .
وللأسف إن بريطانيا تتولى دون مواربة تجميع القوى المناوئة للحكومة
السودانية الحالية في داخل السودان وخارجه حتى أصبحت لندن بؤرة تجمع ودعم
لكل من يحاول تفتيت السودان تحت شعار إسقاط النظام الأصولي.. والسفير
البريطاني له قدم سبق في ذلك لا سيما وأن عواطف صليبية حميمة كانت تحركه
وهو المولود في جواتيمالا «أمريكا اللاتينية» والذي تربى ليكون منصراً لا
دبلوماسياً خصوصاً وأنه فيما يظهر متشبع بفكرة تحطيم كيان السودان القائم لصالح
المشروع الصليبي المنطلق من الجنوب والذي يُسوق عالمياً على أنه نظام عالمي
جديد..
أي نظام هذا؟ ! وهو يغذي الانقسام والفوضى والحرب الأهلية في القطر
الواحد.. أي عالمي؟ ! إلا إذا كان منطلقاً من المفاهييم العنصرية الاستعمارية
للقوى الغربية التي ترى أن العالم نفسها! !
وأي جديد؟ ! وهو يعيد التذكير بدور المندوب السامي البريطاني الذي كان
يحكم النمور الكارتونية المتمثلة في رؤوس الأنظمة المستعمرة. وهل تغيير مسمي
المندوب السامي إلى السفير البريطاني يحمل معطيات جديدة للعملية الاستعمارية
ومعادلة الهيمنة والغطرسة التي كانت ولا زالت سائدة في خيال صانعي القرار في
دول الغرب؟ !
ثم لا يتورعون عن إطلاق تلك التصرفات باسم النظام العالمي الجديد. ألم
يقل روبرت فيسك في نهاية شريطه عبارة تلخص هذا الإفك بقوله: إذا كنت لازلت
مؤمناً بالنظام العالمي الجديد فعليك ألا تشاهد هذا البرنامج.
ونحن نقول إذا كنت مؤمناً بالنظام العالمي الجديد فخذ أخبار السودان المطارد
عن طريق هيئة الإذاعة البريطانية التي سخرت مقدراتها الإعلامية الهائلة لمحاصرة
السودان وتلميع حراب الحملة الصليبية ورموزها الحاقدة، هذه الهيئة استطاعت أن
تسخر هذا الحادث بصورة نمطية مُعدية، انتقلت بموجبها العدوى إلى الصحف
العربية المهاجرة التي رحلت بجوارها وكأن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها في
التاريخ المعاصر، مع أن السفير البريطاني في كلومبيا قد سبق طرده في مايو
1991م دون أن يتحول ذلك التصرف إلى «ملحمة إعلامية» مشابهة لقصة
سفيرهم في السودان! ! هل عرفتم من يعنون بالنظام العالمي الجديد؟ !
لقد كان جديراً بروبرت فيسك أن يزور جنوب السودان وشماله ليسجل لقطات
موغلة في البشاعة والتآمر على كل ما يمت للإسلام والعرب بصلة من قبل القوى
الغربية، ليفهم لماذا كان المسلمون يقيمون علاقتهم بالآخر الغربي بهذه الصورة وهم
لا يرون ولا يلمسون ولا يعرفون الغرب إلا بصورة جسم يهودي مغروس في
أحشائهم حيناًً..، أو قصف وحشي يأخذ مداه المتغطرس المجنون ويقذف بالجحيم
على العزل من سكان البوسنة، أو حصار اقتصادي ودعم لحركات بربرية في
جنوب السودان تلقى كل الدعم من القوى الغربية لا لشيء إلا لأنها تريد أن تشوه
وجه السودان أكبر بوابة عربية مسلمة في قلب القارة، الخضراء.. هذا الوجه
المسلم العربي يراد أن يستبدل ببيادق مجلس الكنائس العالمي ولتشن حملتها
الصليبية دون مقاومة أو وجود فاعل! !
العقدة الصليبية هل يمكن حلها:
رفضت الخرطوم خطاب التهديد ولغة الوعيد بسحب قرارها القاضي بطرد
السفير (بيتر ستريمز) ، وذكرت إذاعة الخرطوم أن انتظار لندن رداً سودانياً
بالتراجع عن هذا القرار «مضيعة للوقت» ، وأن السودان صبر طويلاً على
ممارسات السفير والتصرفات غير المقبولة منه.. في الوقت نفسه كان الأسقف
الانجليكاني جورج كيري يكشف عن العقدة الصليبية التي تحكم العلاقة الغربية
بالعالم الإسلامي حينما اجتمع بقادة الفصائل الصليبية الجنوبية وحضهم على تناسي
خلافاتهم وتوحيد جهودهم (ضد من!) ووصف الانشقاق بين الفصيلين الرئيسيين
للحركة الصليبية في الجنوب بأنه مأساوي! ! ووصف هذا الرمز الصليبي زعيمي
عصابات النهب والقتل في الجنوب بأنهما من المدافعين عن الجنوب أي: أن هناك
جهات أخرى لم يحددها تشارك في عملية الدفاع الحضارية التاريخية هذه، لقد
تساءل وزير خارجية السودان في اليوم التالي لإطلاق الزعيم الديني تصريحاته
الذي يُفترض أن يدع السياسة لأصحابها لأن معتقده يدعوه إلى ترك ما لقيصر
لقيصر وما لله لله قائلاً: هل كانت الحكومة البريطانية لتسمح لزعيم إسلامي بزيارة
بلفاست (عاصمة إقليم إيرلندا الشمالية «) للتحدث مع زعماء الجيش الجمهوري
الإيرلندي؟
بالطبع الإجابة معروفة خصوصاً مع معطيات المناخ العالمي المتحفز لتشويه
صورة الإسلام والمسلمين في أصقاع الأرض.
إن زيارة الأسقف الانجليزي يجب أن توضع في إطار أعم وأفق أرحب
فبريطانيا التي أقامت الدنيا قبل قرن من الزمان بعد أن قتل ثوار المهدية جنرالهم
العتيد جوردن كانت تنظر إلى السودان نظرة عقائدية دينية بالدرجة الأولى حيث أن
المصالح الاقتصادية لم تكن هي الأهم، لذا فإن كنيسة انجلترا هي التي رسمت
خطوط حملة كتشنر الثأرية لتحويل السودان إلى دولة مسيحية بالكامل.. يقول
الصَّديق محمد الأمين في تعليقه على العلاقة والحدث:» لقد أشرفت تلك الكنيسة
على «حملة كتشنر ووضعت أسس التعليم عموماً والتعليم العالي خصوصاً في
السودان عبر تأسيس كلية جوردن. ولا يزال بعض وثائق الكنيسة الانكليزية
الصادرة حديثاً جداً يتحدث عن أن السودان دولة مسيحية استولى عليها المسلمون
» راجع كتيب اضطهاد المسيحيين في السودان الصادر باللغة الانكليزية عن جمعية الاخاء المسيحي مع السودان في تشرين الثاني/ نوفمبر 93) .
طبعاً لم ينجح مشروع تنصير السودان، وظل إحساس كنيسة انكلترا بأنها
راعية المسيحيين في السودان على رغم أن معظم هؤلاء لا يدينون بالانجليكانية.
لكن ذلك لا يفسر سر الارتباط الخاص بالسودان لدى الدوائر المعنية به في
بريطانيا.
ومع ذلك ظل السودان مصدراً للمفاجأت غير السارة لاصحاب تلك النظرية،
ولعل أولى المفاجأت تمثلت في رفض البرلمان السوداني. غداة الاستقلال الانضمام
إلى رابطة الشعوب البريطانية (الكومنولث) وأخرها حادثة طرد السفير بيتر
ستريمز، وبين الحدثين عناوين كثيرة أبرزها الغاء القوانين الانكليزية التي كانت
تحكم السودان حتى عام 83 وابدالها بقوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية،
وتعريب الدراسة في الجامعات العام 91 وغيرها وغيرها ...
إن بريطانيا في هذا السياق لا تتحمل استقلالاً سودانياً إذا كان خارج الإطار
المرسوم، لاسيما إذا ذكرها بالمقاومة الإسلامية وشعارات مقاومة المهدية، أما
اللاهثون وراء تجربتها التغريبية فلها معهم شأن آخر. ربما عبر الكاتب (جراهام
توماس) عن إحساس أصحاب النظرية المشار إليها في كتابه: (السودان: موت
حلم) .
على أن سودان الحلم البريطاني ليس هو السودان الذي ينتهج «ديموقراطية
وست منستر» كما يتوقع ويفهم من تصريحات المسؤولين البريطانيين. والدليل
على هذا أن بريطانيا لم تُبدِ أي اهتمام خاص بالتجربة التعددية الأخيرة في السودان
(فترة الصادق المهدي) ولم تقدم لها أي دعم حتى ولو على المستوى السياسي، مع
أن تلك التجربة التزمت قواعد الديموقراطيةالغربية في حدود خبرتها الاجتماعية.
وعلى العكس من ذلك كانت كل الإشارات الصادرة من لندن وقتها تجاه الخرطوم
سالبة منها:
الغاء رئيسة الحكومة آنذاك مارجريت تاتشر زيارة معلنة إلى السودان من
دون ذكر أسباب مفهومة للسودانيين وقتها، في حين أن السودان كان الدولة الوحيدة
في أفريقيا التي تتبع الديموقراطية الغربية.. والمفارقة أن تاتشر كانت في جولة
افريقية زارت فيها بعض دول الجوار السوداني. وكان للأمر دلالته التي أغضبت
المسؤولين السودانيين إلى درجة التفكير في سحب السفير السوداني في لندن تعبيراً
عن الاحتجاج.
لم تكن توجهات السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء السوداني آنذاك محل
ترحيب أو ارتياح في العواصم الغربية وخصوصاً لندن، لا سيما حديثه عن «نهج
الصحوة الإسلامية» أو علاقاته القوية بطهران وطرابلس الغرب في الوقت الذي
كانت المواجهة بينهما ولندن على أشدها. فيما كانت حركة التمرد المسلحة في
الجنوب تحظى بتعاطف واضح على مستويات التسلح والإعلام والسياسة على رغم
أن توجهاتهما المعلنة كانت ماركسية! !
رد الفعل البريطاني على حادثة فندق الاكربول في عام 1988 في الخرطوم
التي قتل فيها رعايا بريطانيون على ايدي فلسطينيين. فقد تبنت بريطانيا داخل
المجموعة الأوربية الدعوة لتشديد الاجراءات في حق القادمين من السودان وحملة
جوازاته، بذريعة انه صار موئلاً لكثير من الارهابيين في المنطقة.
اذن كل الخلافات البريطانية مع الحكومة الحالية في السودان تعود جذورها
إلى العهد التعددي الحزبي السابق، وحدث لها مزيد من التفريع والامتداد.
ومما فاقم تلك الخلافات أن المحكمة السودانية التي نظرت قضية المتهمين في
حادثة فندق الاكربول، وجدت نفسها أمام واقعة فريدة، إذ رفض أولياء الضحايا
(الذين تمت استشارتهم بحسب قواعد الشريعة الإسلامية) القصاص من المتهمين أو
العفو عنهم أو قبول الدية، وتلك هي الخيارات الوحيدة المتاحة لعقوبة القتل في
الشريعة، وطالبوا بأن يحاكم المتهمون وفقاً للقانون الانكليزي وهو ما لم يكن ممكناً
أو مقبولاً. وعندها اتخذت الحكومة البريطانية قراراً بوقف دعم الحكومة السودانية
حتى في المجالات الثقافية.
إذن لم يكن ينقص سوى زيارة كبير الأساقفة المثيرة إلى اجزاء من السودان
يسيطر عليها المتمردون من دون موافقة الحكومة السودانية، ودعوته لاجراءات
دولية ضد السودان لتكون الشرارة التي تشعل غضب حكومة الخرطوم اضافة إلى
أنها تقول انها رصدت تجاوزات عدة وانشطة غير مقبولة للسفير البريطاني الذي تم
طرده.
والخلاصة من هذا الرأي الذي يبين بوضوح العقدة الصليبية في التعامل مع
الشأن السوداني واحتقار استقلاله وحضارته وقضائه إذا كان مستمداً من جذوره
الإسلامية وعروقه العربية.
لقد تتالت الأحداث في الأسبوعين التاليين إقليمياً ودولياً لترسّخ من تأكيد
النظره الصليبية في تعاملها مع أحداث القرن الأفريقي، فأسياس أفورقي رئيس
الكيان الأرتيري الجديد وصاحب العلاقة الوطيدة باليهود، والذي أحسن إليه
السودان كثيراً حتى قبل وصوله للحكم أسفر عن وجهه الصليبي البشع حينما هاجم
بعد أيام من زيارة الأسقف البريطاني جاره السوداني، واتهمه بأنه معبر للأصوليين
الذين هاجموا قوات مليشياته الحكومية، وأجمع المراقبون على أن المذكور يريد أن
يحسن من صورته في الغرب كحارس صليبي آخر يقف أمام المد الأصولي! حتى
ولو كان جاره الذي أحسن إليه بالأمس، وهو الذي يواجه حرباً أهلية داخل
أرتيريا نتيجة لسياساته المتغطرسة وديكتاتوريته المتعجرفة وحربه الشعواء على
الوجود الإسلامي شعباً وحضارة في أريتريا..
وكأن العقدة الصليبية تصر على أن تقدم دليلاً آخراً عن أن الحكومة السودانية
في محاولتها استقطاب النصارى «والتميع» في تعاملهم معها، كما حصل في
زيارة (البابا) ، إنما تزيد من خلال هذه الممارسات حقد هؤلاء لهباً في الصدور
وحقداً مترجماً إلى مواقف كما حصل في استقالة نائب رئيس البرلمان السوداني
(الدو أجو دينغ) الذي طلب اللجوء السياسي لبريطانيا (هل تتصورون ملاذاً كثيراً
أمناً من الأم الصليبية الحنون) واستقال من منصبه لأنه عجز عن التأثير في سياسة
الحكومة تجاه الجنوب! !
وكأن وظيفة هؤلاء حتى في المواقع الرسمية النظر للسودان من خلال قضية
سكانه النصارى فقط. إن تلك الحوادث تؤكد أهمية التعامل مع أعدائنا من خلال
القواعد الشرعية والتأصيل العقدي الذي يستند إلى آيات الذكر الحكيم الذي أبان عن
حقد هؤلاء وكرههم لهذا الدين مهما قدم المتنازلون من تنازلات ومهما أقيمت
لرموزهم من مهرجانات أو زيارات! ! فرصيد الحقد لا يطفئه منصب أو تنازل،
لأنك متهم حتى آخر قطرة من دمك بأنك الآخر / المرعب.. وقد أحسن روبرت
فيسك تلخيص هذه النظرية لك أيها المسلم (المفْرط أو المُفرّط) بأنها محكومة بثلاث
عناصر: سوء نية.. وسوء فهم.. واتهامات جاهزة! ! ويبقى صوت الحق من
قبل ومن بعد.. [ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراْ حسداْ
من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق..] .
لقد أشار إلى هذه العقدة الأستاذ سيد قطب رحمه الله حينما قال في تفسيره لهذه
الآية: «إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان، انها هي
العقيدة، هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل
وقت ضد الجماعة المسلمة» .
نعم في كل وقت وبكل جهد وبشتى الأساليب.. هذا ديدنهم أما ديدننا فهو أن
نصبر ونصابر ونرابط ونكشف حجم العقدة الصليبية التي أقامت الدنيا وأقعدتها،
وحاصرت شعباً وجوعته لطرد سفير خرق الأعراف الدبلوماسية.. أما هتك
الأعراض من صبرا وشاتيلا إلى البوسنة إلى أحراش جنوب السودان بل إلى
روابي الأرض المباركة حول الأقصى بوابل الرصاص اليهودي النصراني فإنها
مسألة فيها نظر ... حقاً طرد سفير: جريمة لا تغتفر، وسحق أمة وانتهاك كرامتها
مسألة فيها نظر! .(73/66)
المسلمون والعالم
هذا هو الحل لقضية مسلمي مورو [*]
محمد شفيق
إن مسلمي مورو الذين ذاقوا وعاشوا ألواناً من الظلم والاضطهاد وعمليات
الإفناء المنظم المدبرة ضدهم في ظل الحكومة الفلبينية الصليبية التي ضمت بلادهم
إليها ظلماً وغدراً وطغياناً قد فقدوا الأمل في جميع الأساليب والحلول السلمية
والسياسية لحل مشكلتهم منذ عام 1975م، أي منذ ثمانية عشر عاماً.
ازدياد الأوضاع سوءاً:
ازدادت أوضاع مسلمي مورو سوءاً بعد المحاولات لإيجاد حلول سياسية
سليمة لمشكلتهم، وبعد اتفاقية طرابلس عام 1976 التي نصت على منح المسلمين
الحكم الذاتي في 13 محافظة وتسع مدن، لكن الحكومة الفلبينية الصليبية لم تلتزم
بها، بل انتهزت فرصة الهدوء النسبي بعد وقف إطلاق النار المترتب على الاتفاقية
لوضع خطة لمضاعفة قبضتها وسيطرتها على المسلمين ووزعت جنودها على
الأماكن الاستراتيجية في المناطق الاسلامية؛ مما جعل تحركات المسلمين أمراً
صعباً حيث أقيمت مئات من مراكز التفتيش على طرقهم كما انتهزت الحكومة
الصليبية الفرصة لتهجير مزيد من النصارى إلى بلاد المسلمين، وإقامة مستوطنات
لهؤلاء فيها. وباختصار كانت نتائج المبادرات والحلول السياسية السليمة ما يلي:
1- بدلاً من استرجاع المسلمين بعض أرضهم المغتصبة فقدوا المزيد منها.
2- بدلاً من استعادة المسلمين بعض حقوقهم السياسية والاجتماعية المسلوبة
فقدوا المزيد من هذه الحقوق.
3- بدلاً من وقف إقامة المستوطنات الصليبية في بلاد المسلمين ازدادت هذه
المستوطنات.
4- بدلاً من فك القمع والقبضة الحديدية على المسلمين ازداد القمع والقهر
عليهم.
5- بدلاً من إرجاع المسلمين المشردين إلى أرضهم ازداد عدد المشردين.
6- بدلاً من وقف حرق بيوت المسلمين ومساجدهم ومدارسهم ازداد عدد
المحروق منها.
7- بدلاً من إيجاد حلول لمشكلة الفقر والمشكلات الاجتماعية الأخرى ازداد
الفقر وتضاعفت المشكلات الاجتماعية.
وما ذكر ليس حصراً لجميع النتائج السلبية للحلول السياسية السلمية لقضية
مسلمي مورو، وإنما هو صور منها، وأسوأ نتيجة لها إضعاف الروح المعنوية لدى
المسلمين وإضعاف الروح الجهادية في قلوبهم؛ لأن النتيجة الحتمية للحلول
السياسية السلمية هي هزيمة الروح وكلال الهمة وإضعاف الإرادة القتالية وهي أسوأ
أنواع الهزيمة، فالهزيمة العسكرية لا تكون هزيمة حقيقية ما لم تتبعها هزيمة الروح
المعنوية.
وأقول لكم بكل صراحة وبكل إيمان وصدق إنه: لولا فضل الله على
المسلمين هنا في بلادنا، ثم الجهود المتواضعة التي بذلناها لمحو الهزيمة الروحية
التي أدت إليها الحلول السياسية السلمية، وإعادة الروح الجهادية إلى نفوس
المسلمين لحلت بهم الهزيمة المعنوية بسبب الحلول السياسية السلمية.
الحلول السياسية السلمية طرقت الأبواب:
إن المشكلة كل المشكلة أن الحلول السياسية السلمية التي تركت نتائج سلبية
كثيرة لدى المسلمين جاءت مرة أخرى وطرقت الأبواب المغلقة، لقد دعونا
المسلمين إلى النفير العام والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته والاستماتة لنصرة دين
الله، واستجاب المسلمون لدعوتنا وأعدوا العدة وجهزوا أنفسهم ووقفوا صفاً واحدً
كالبنيان المرصوص، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من الهجوم على العدو الذي احتل
البلاد هجمة رجل واحد، ولكنهم فوجئوا بإعلان المفاوضات السلمية بين مندوبي
حكومة الفلبين وجبهة مسواري الوطنية في أندونيسيا حيث استؤنفت هذه
المفاوضات مرة أخرى بعد أن فشلت عشرات المرات خلال جولاتها التي استمرت
ثمانية عشر عاماً، وتركت آثاراً سيئة في مجتمع مورو الإسلامي.
لقد تفاوضت جبهة مسواري مع مندوبي حكومة الفلبين سراً في ليبيا العام
الماضي (بواسطة العقيد معمر القذافي) واستمرت الاتصالات بين جبهة مسواري
وحكومة الفلبين إلى أن أعلنوا نقل المفاوضات إلى اندونيسيا مؤخراً ثم عقدت
المفاوضات الرسمية بين الجانبين في جاكرتا باندونيسيا مؤخراً، ولم تتوصل
المحادثات إلى أي شيء لصالح قضية المسلمين المظلومين والمضطهدين.
وقد علمنا من مصادر موثوقة أن حكومة العدو راموس الصليبية تحاول أن
تقنع جبهة مسواري بالاستسلام المشرف حسب تعبيرهم وهو أن يتخلى (مسواري)
عن قضيته مقابل منصب حكومي، كما يسند إلى زملائه أيضاً بعض المناصب
الحكومية الزائفة الزائلة مقابل تخليهم عن قضيتهم، هذا ما وصلت إليه المفاوضات
الأخيرة في جاكرتا، ومازالوا يبحثون عن الحلول لمشكلة المناصب وكيف تعطيهم
الحكومة الفلبينية المناصب في بلاد المسلمين التي وقعت تحت سيطرة الفلبين
ومعظم حكامها من الصليبيين والمنافقين.
هل القضية قضية مناصب حكومية أم قضية حزب أو جماعة قليلة من الناس؟ لا إنما هي قضية شعب مسلم أصيل بلغ تعداده 12 مليون نسمة وضمت بلاده إلى
دولة صليبية تحكمه بالحديد والنار وتكيد له بكل أنواع الكيد وتحاول القضاء عليه.
الجهاد هو الحل:
إن الحل الصحيح لمشكلة مسلمي مورو وجميع مشاكل المسلمين تحت احتلال
الكفار هو الجهاد في سبيل الله، وأي محاولة لحل المشكلة مهما كانت جادة وصادقة
في ظاهرها ما لم تتضمن دعم الجهاد أو تشجيع المجاهدين هي محاولة فارغة لا
تساهم في العمل على تخليص المسلمين من السيطرة الصليبية الاستعمارية.
لذلك اتفقت جماهير مسلمي مورو وعلماؤهم ودعاتهم وأساتذتهم ومعلمو القرآن
الكريم منهم وقراؤهم وعامتهم على أن يجاهدوا في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصر
دينه، فهم يدركون معنى قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم عذاباْ أليماْ ويستبدل قوماْ
غيركم ولا تضروه شيئا] ، وقوله جل شأنه: [وإن تتولوا يستبدل قوماْ غيركم ثم
لا يكونوا أمثالكم] ، وقد استجابوا لأمر الله حيث قال: [انفروا خفافاْ وثقالا
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون] .
ونحن حين نجاهد أعداء الإسلام الذين استولوا على بلادنا نستنصركم في
الدين بأموالكم أو نفوذكم ومساعيكم الحميدة لدى المحسنين من أغنياء الأمة الإسلامية، أو بأفكاركم وتدابيركم وخاصة في المجالات الإعلامية، أو بدعواتكم إلى الله لنا
ولجميع المجاهدين الصادقين في بقاع الأرض بالنصر والتمكين لإقامة حكم الله.
ونأمل أن تشجعوا ضعاف الإيمان والنفوس منا على الجهاد، وكذلك
المهزومين نفسياً، وإن لم تستطيعوا أن تشجعوهم على الجهاد فعلى الأقل لا
تشجعوهم على الاستسلام بواسطة المفاوضات السلمية وقبول عروض العدو من
المناصب والأموال مقابل التخلي عن القضية.
حي على الجهاد:
لقد استيقظت جماهير مسلمي مورو الآن، والذين عاهدوا الله على أن
يجاهدوا في سبيله لإعلاء كلمته ونصرة دينه، وسيمضون في جهادهم إن شاء الله
في نصب وشقاء وحرمان وتضحية واحتمال كل مشقة ومجاعة ولا يطلبون جزاءً
في هذه الأرض، وإنهم ينتظرون الآخرة وحدها موعداً للجزاء إن شاء الله وإذا
انتصروا فذلك من فضل الله على المؤمنين وعلى الأمة الإسلامية كافة، وإذا
استشهدوا فذلك أسمى أمانيهم، لذلك كان شعارهم: إما النصر أو الشهادة..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله
رب العالمين.
ومن البيان رقم (32) لجبهة تحرير مورو الإسلامية نقتطف ما يلي:
تقوم حكومة راموس الصليبية بمؤامرة خطيرة جداً ضد مسلمي مورو
وتستخدم سياسة مزدوجة بغية الوصول إلى هدفها المنشود وهو القضاء على
المسلمين الذين تعتبرهم عدوها الأول قبل الشيوعيين وغيرهم.
ذلك أن هذه الحكومة الصليبية التي استخدمت ومازالت تستخدم جميع صنوف
الكيد ضد المسلمين تتفاوض مع جبهة (مسواري) الوطنية في محافظة سولو مسقط
رأس مسواري زعيم الجبهة الوطنية التي تفاوضها حكومة الفلبين علماً بأن هذه
الجبهة ليس لها قاعدة شعبية وليس لها جناح عسكري منظم.
وفي الوقت ذاته تشن قواتها المسلحة حملات عسكرية ضد المسلمين الآمنين
العزل من السلاح، وضد جبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة أمير المجاهدين
الشيخ/ سلامات هاشم، وقد أعلن راموس رسمياً أن هذه الجبهة ليست داخلة في
الاتفاق على وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه المفاوضات بين الصليبيين ومن
فاوضهم.
__________
(*) بتصرف.(73/77)
المسلمون والعالم
المسلمون في بلغاريا
بين الاستئصال والبقاء
د. عبد الله البراهيم
مقدمة:
بلغاريا هي إحدى دول شبه جزيرة البلقان التي تشكل جزءاً من القارة
الأوروبية يخترق البحر الأبيض المتوسط في ناحيته الشرقية كما تخترقه شبه
الجزيرة الإيطالية في وسطه وشبه الجزيرة الأيبرية (أسبانيا والبرتغال) في غربه.
وقد دخل الإسلام إلى أوربا من عدة محاور، كان أقدمها من جنوبها الغربي
عبر الأندلس في القرن الأول الهجري، ومن جنوبها عبر صقلية وإيطاليا في القرن
الثالث، وتغلغل في شمالها الشرقي حول نهر الفولجا وبين جبال الأورال وبحر
قزوين فيما كان يعرف بروسيا الأوروبية، ثم عبر المسلمون إلى شبه جزيرة البلقان
منطلقين من تركيا إبان الفتح العثماني في القرن الثامن الهجري واتجهوا شمالاً حتى
المجر والنمسا. [1]
نبذة تاريخية:
البلغار إحدى الأمم السلافية التي كانت تعيش في منطقة الأورال بالاتحاد
السوفيتي سابقاً وفي حوض نهر الفولجا، وقد عبرت إلى شبه جزيرة البلقان في
القرن السابع الميلادي، ثم اتجهت جنوباً قاطعة نهر الدانوب لتستقر فيما يعرف
حالياً ببلغاريا، وتأسست المملكة البلغارية الأولى في الفترة (675-1018م)
والمملكة الثانية من 1187 حتى 1393م حيث سقطت أمام جيش الفتح العثماني
لتبقى قرابة خمسة قرون تحت الحكم الإسلامي. وكان العثمانيون قد عبروا آسيا
الصغرى (تركيا حالياً) إلى أوربا عام 1345م وجعلوا من (أدرنة) عاصمتهم الأولى
في أوربا عام 1360 م ثم اتجهوا شمالاً ليفتحوا مدينة تورنوفو (شمال بلغاريا) عام
1393م وكانت العاصمة آنذاك، ثم وصلوا عام 1396م إلى فايدن (شمال غرب
بلغاريا) ثم اتجهوا غرباً لينتصروا على الصرب 1389م، ثم توسعوا في أوربا،
فاتجهوا شمالاً قاطعين نهر الدانوب؛ ليفتحوا رومانيا وجنوب بولندا ومعظم المجر
وأجزاء من النمسا في نهاية القرن السابع عشر الميلادي.
وفي 2 ابريل 1877م أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية مدعية أن
لها الحق في حماية المسيحيين الأرثوذكس البلغار الذين كانوا يعيشون في ظل الدولة
العثمانية (تشترك روسيا مع البلغار في الأصل السلافي وفي الديانة الأرثوذكسية) .
ويدّعي الكُتّاب الغربيون [2] أن البلغار آنذاك قد تعرضوا لمذابح عام 1876م
حيث قتل العثمانيون كما يزعمون الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وأحرقوا
القرى والمدن، وبهذه الحجة عبر الجيش الروسي نهر الدانوب جنوباً، حيث هزم
الجيش العثماني بمساعدة آلاف البلغار المتطوعين وامتد الزحف حتى مشارف
إسطنبول، وتدخلت بريطانيا خوفاً من استقلال بلغاريا مما قد يؤدي إلى تقوية نفوذ
روسيا في المنطقة، وتم توقيع معاهدة برلين عام 1878م التي انسحب بموجبها
الجيش الروسي، وقسمت بلغاريا إلى خمسة أقسام أعيد بعضها للسلطان العثماني،
وأعطي غربها لصربيا، وسلمت البوسنة والهرسك للمجر والنمسا (لإدارتها) ، وبعد
إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1908م أعلنت بلغاريا استقلالها في العام نفسه، ثم
خاضت الحربين العالميتين حليفة لألمانيا، وفي عام 1946م آلت الأمور إلى
الشيوعيين وكان آخر رئيس للجنة المركزية للحزب الشيوعي هو زيفكوف الذي
حكم البلاد من 1979م حتى أسقط في 10 نوفمبر 1989م.
بلغاريا اليوم:
وتتكون بلغاريا حالياً من 28 مقاطعة، ويحدها من الشمال رومانيا ومن
الغرب ما يعرف الآن بصربيا، ومن الجنوب الشرقي تركيا، ومن الجنوب اليونان
ومن الشرق البحر الأسود، وأهم مدنها: بلوفديف، فارنا، روسي بورجاس،
ستارا زاجورا، بليفن، وعاصمتها صوفيا في الغرب.
ومن المنتجات الزراعية في بلغاريا الحبوب والفواكه والخضروات، كما
تصدر الأغنام والدواجن والأجبان وعطر الورد والزيوت النباتية وبعض المنتجات
المعدنية، وتنتج الفحم والغاز الطبيعي.
يتبع البلغار الأمم السلافية (كالروس والصرب) ويتحدثون اللغة البلغارية
(وتشبه اللغة الروسية والصربية والبولندية) وهي لهجة من اللغة السلافية القديمة،
كما يستخدمون الأبجدية الكريليكية، وهي الأبجدية نفسها المستخدمة في روسيا وفي
جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً.
يبلغ عدد السكان (حسب احصائية 1989م) قرابة تسعة ملايين [3] يشكل
البلغار الأرثوذكس 78% منهم والمسلمون 22% (قرابة 2مليون) ، ويوجد بعض
اليهود والأرمن واليونانيين.
مناطق المسلمين:
ينقسم المسلمون في بلغاريا من حيث الأصل العرقي إلى خمسة أقسام:
1- مسلمون من أصل تركي، ويبلغ عددهم مليون مسلم تقريباً، يتوزعون
على مناطق عدة في شرق وشمال شرق بلغاريا (روسي تشومن بورجاس) وفي
جبال رودوب جنوب بلغاريا، وقرب الحدود التركية ويتحدثون اللغة التركية
والبلغارية معاً.
2- مسلمون من أصل بلغاري (البوماك) وقد أسلموا في القرن السابع عشر
الميلادي [4] ، ويصل عددهم إلى سبعمائة ألف يعيشون في المناطق الجبلية كجبال
رودب وقرب بليفن ولوفك.
3- مسلمون غجر ويشكلون ثلاثة أرباع الغجر في بلغاريا (والباقي مسيحيون)
ويبلغ عددهم قرابة أربعمائة ألف، وإجمالي عدد الغجر (576. 927) حسب
احصائية 1989م، ويتحدث بعضهم اللغة التركية، وبعضهم اللغة البلغارية،
ويتركزون في صوفيا بلوفديف سليفن فايدن لور بيتريك أرمشار دونا فتسي رازلوج
فارنا وبازارجيك.
4- مسلمون من أصل مقدوني (ومقدونيا موزعة حالياً بين شمال اليونان
ويوغسلافيا السابقة) .
5- مسلمون من أصل تتري، وهم من التتر الذي فروا بدينهم إبان اضطهاد
روسيا القيصرية لهم عام 1860م، وعددهم قرابة خمسة عشر ألفاً يتوزعون على
قرى قليلة في شمال شرق بلغاريا على ساحل البحر الأسود مثل بالكيك وكافارنا.
وبالإضافة إلى ذلك توجد جالية عربية يصل عددها إلى خمسة آلاف شخص
تقريباً ويتركز معظمهم في العاصمة صوفيا.
معاناة المسلمين في بلغاريا:
عانى المسلمون في بلغاريا من الإرث التاريخي للصراعات الدامية التي جرت
في البلقان، وينسى النصارى تماماً المذابح فيما بينهم بينما لا ينسون أي حادث
جرى عليهم من المسلمين، فتقوم قائمتهم وينادي مناديهم، ومن أهم الحوادث التي
جرت على النصارى في المنطقة أحداث عام 1876م حيث يتهم الكُتّاب الغربيون
الحكام المعينين من قبل الدولة العثمانية في بلغاريا بارتكاب مذابح راح ضحيتها
(عشرات الآلاف) من سكان السفوح الشمالية لجبال رودوب، وعذب الآلاف
واعتدي على النساء وازدحمت المدن الكبيرة بآلاف المهاجرين الذين تعرضوا
لمجاعة في ذلك الوقت [5] ، وسواء أصحت هذه الأخبار أم لم تصح فإن الحقد على
المسلمين ومعاناة المسلمين من التعصب الديني في دول البلقان أمر لا يختلف عليه
اثنان.
وإبان الحكم الشيوعي مارست السلطات أقصى أنواع الحرمان للمسلمين من
حق ممارسة شعائر دينهم، فأغلقت المساجد (وكان عددها 1200) وهدمت بعضها،
ومنعت المسلمين من ممارسة أركان الإسلام كالصوم والزكاة، كما منعت ختان
الأطفال [6] بحجة أنه (تدخل إجرامي ضد صحة الأطفال) [7] ومنعت دخول
المصاحف والكتب الدينية لبلغاريا، وألغت المدارس الدينية ومنعت تدريس اللغة
التركية، وهجّرت المسلمين إلى مناطق شبه معزولة ومنعتهم من الاحتفال بأعيادهم.
في عام 1947-1948م جرى تنصير ما يقارب (150. 000) بلغاري مسلم، ... وبدأت حملة لتغيير أسماء المسلمين إلى أسماء سلافية عام 1948م ثم حملة أخرى
في الستينات، وفي 1971م بعد المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي بدأت حملة أخرى
لتغيير أسماء البوماك، وحملة لتغيير أسماء المسلمين الغجر حيث غيرت أسماء ما
يقرب من أربعمائة ألف مسلم غجري.. وفي أواخر 1984م وأوائل 1985م بدأت
الحكومة حملة عنيفة لإرغام المسلمين الأتراك على تغيير أسمائهم، حيث أحيطت
القرى ذات الأغلبية التركية بالقوات من الصباح الباكر، وأرغم المسلمون تحت
تهديد السلاح بقبول الهويات الجديدة ذات الأسماء السلافية، وتم قتل ما يقرب من
300-1500مسلم لأنهم رفضوا ذلك وسجن وجرح الآلاف [8] .
وقام المسلمون الأتراك في أواخر مايو 1989م بمظاهرات سلمية في شمال
شرق وجنوب شرق بلغاريا مطالبين بإعادة أسمائهم الحقيقية، وشارك فيها آلاف من
المسلمين، وردت السلطات الشيوعية بعنف إذ استخدمت الكلاب البوليسية والقنابل
الدخانية والدبابات والحوامات، وراح ضحية تلك الأحداث عدد كبير من المسلمين
وطرد الآلاف على إثرها من بلغاريا حتى الذين لم يتظاهروا خصوصاً من كانوا
يحملون الدرجات العلمية كالأطباء والأساتذة والاقتصاديين والمهندسين. قال رجل
شرطة يومها لأحد المسلمين: «أنت لغتك مختلفة ودينك مختلف وكنت ترغب دوماً
في الذهاب لتركيا فاذهب لها الآن!» .
وتم بذلك إرغام أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم بلغاري من أصل تركي على ترك
أراضيهم وبلادهم في فترة أقل من خمسة أشهر، ليشكل ذلك واحدة من أكبر
الهجرات التي عرفتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
أما الغجر المسلمون فيعانون من التمييز والاحتقار، ويسكنون في مجمعات
سكنية مزدحمة جداً وفي أحياء خاصة بهم في ضواحي المدن في بيوت أكثرها مبني
من الألواح الخشبية، وتعيش غالباً أسرتان أو أكثر في الوقت نفسه، وتفتقر أحياء
الغجر إلى الخدمات الأساسية كالماء والصرف الصحي أو دورات المياه.. ففي
(فايدن) مثلاً يوجد (6000) غجري اضطروا لحفر الآبار لعدم توصيل المياه لهم،
كما لا يوجد الهاتف إلا في خمسة بيوت من أصل (1100) بيت، وقد صدر قرار
عام 1962م يقضي بعدم اختلاط أبناء الغجر والبوماك المسلمين مع أبناء الأتراك،
وأن لا يعين أساتذة من أصل تركي في مدارسهم، وأكثر من نصف الغجر أعمارهم
أقل من 16 سنة، ولم يكمل الابتدائية إلا 30% من الغجر، وأكثر من نصف من
هم فوق الثلاثين أميون [9] كما يحرمون من الرتب في الجيش، وتعهد إليهم
الأعمال الشاقة والمهنية عند خدمتهم (وكذلك الأتراك) ، وفي مدينة (بازارجك)
يسكن حوالي (27. 000) مسلم غجري في إحدى ضواحيها، وقد زرت ذلك الحي
ولم أجد مسجداً واحداً، والمسلمون هناك يعرفون أنهم مسلمون فقط، وقليل منهم
من يعرف أي شيء عن الإسلام، رأيت الأطفال فرحين يمرحون في ساحة مبنى
جديد ذكروا لنا أنه جامع، وأخبرني المترجم أنه مبنى لكنيسة ستقوم في هذا الحي
الذي لا يوجد فيه مسيحي واحد، وحالياً تتصارع الإرساليات التبشيرية على هذه
(المادة الخام) ، فأين المسلمون؟ وبماذا يقابلون ربهم ويجيبونه عن هذا التفريط؟ !
واقع المسلمين في بلغاريا:
على الرغم من سقوط الشيوعية عام 1989م وانفتاح بلغاريا على العالم إلا أن
الدستور الحالي الجديد يمنع تأسيس أحزاب على أساس عرقي أو ديني، ولذا لا
يجد المسلمون من يمثلهم في البرلمان عدا (حركة الحقوق والحريات) وهي حركة
أعلنت نفسها علمانية وتدافع عن حقوق الأقليات (ومن ضمنهم الأتراك) وفازت في
انتخابات البرلمان في يونيو 1990 م بـ (6. 9%) من الأصوات، وفاز الحزب
الاشتراكي البلغاري بـ 32. 9% (الشيوعيون سابقاً) كما فاز اتحاد القوى
الديمقراطية (المعارضة) بالأغلبية.
وللمسلمين مفتٍ أكبر (في الثلاثينات من عمره) ولهم مفتون في المناطق
عددهم تسعة، والجميع أعضاء في المجلس الروحي (مجلس الشورى للمسلمين)
ويوجد معهد إسلامي في صوفيا، وتوجد حالياً ثلاث مدارس بها تعليم ديني: واحدة
في روسي شمال شرق بلغاريا، وأخرى في تشومن شمال بلغاريا، وثالثة في
كارجيلي في الجنوب الشرقي، وتشرف على هذه المدارس دار الإفتاء في بلغاريا،
وهذه المدارس هي مباني أوقاف سابقة استطاع المسلمون استردادها، وهي غالباً
للمسلمين من أصل تركي (ولكن لا يمنع المسلمون الآخرون من الالتحاق بها) ،
واهتم بها الأتراك للحفاظ على هويتهم القومية! والتعليم الديني لأبنائهم، ولا توجد
مدارس ذات طابع ديني في مناطق البوماك أو الغجر، علماً أن البوماك أكثر حفاظاً
والتزاماً بالدين من القوميات الأخرى.
وتشهد المساجد عودة طيبة ولله الحمد إلى الإسلام حيث تمتلئ بالمصلين في
صلاة الجمعة، وبدأ المسلمون في أكثر المناطق المسلمة بفتح حلقات تحفيظ القرآن
خصوصاً للأطفال.
احتياجات المسلمين في بلغاريا:
ما يحتاجه المسلمون حالياً في بلغاريا هو معرفة دينهم، ويساعد على تحقيق
ذلك ما يلي:
* بناء المساجد والمساعدة على تعيين الأئمة والدعاة المختصين بالعلم
الشرعي.
* إرسال بعثات من أبناء المسلمين البلغار إلى الدول الإسلامية للدراسة فيها.
* تأسيس المدارس الإسلامية لتبصير أبناء المسلمين بأمر دينهم.
* طباعة الكتب الإسلامية باللغة البلغارية التي يفهمها المتحدثون باللغة
الروسية أيضاً، وعسى أن تترجم بعض الكتيبات والرسائل الصغيرة في العقيدة
والعبادات والآداب والأخلاق.
ويعاني بعض المسلمين (وخصوصاً الغجر) من الفقر ويحتاجون للكساء والفحم
في الشتاء، مما يلزم عناية الجهات الخيرية بمدهم بهذه المعونات لسد احتياجاتهم
الماسة، حتى لا تكون هيئات التنصير أقرب لهم من إخوانهم مما يحملهم على ترك
الإسلام مادام المسلمون لا يحملون همهم.
الجهود الحالية:
توجد في بلغاريا حالياً عدة جمعيات خيرية هي:
- هيئة الإغاثة الإسلامية.
- جمعية الوقف الإسلامي.
- هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية.
وقد قدمت الهيئة الأولى أعمالاً بسيطة، وقامت هيئة الإغاثة الإسلامية
العالمية ببناء بعض المساجد وكفالة عدد من الأيتام، وأقامت دورة للدعاة والأئمة،
كما قامت مؤخراً بتقديم مساعدات مادية مقطوعة اقتصرت على الطالبات في مدرسة
روسي.
وتكفل جمعية الوقف الإسلامي بعض الدعاة والأئمة في بلغاريا، وقدمت
مساعدات إلى المدارس الإسلامية السابق ذكرها، كما اشترت مؤخراً مبنى من 4
طوابق في قرية (سارنيتسا) في مناطق البوماك المسلمين ليكون مدرسة وسكناً
للطلاب يتم فيها تدريسهم أمور دينهم، كما يقوم بعض المحسنين ببناء المساجد
وتقديم المعونات الإغاثية للمسلمين هناك.
وقد تم قبول 15 طالباً بلغارياً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وتسعة
طلاب في كلية الشريعة بعمان الأردن.
هذا واقع المسلمين في بلغاريا وتلك احتياجاتهم، أدركوهم بالعون والمساعدة
قبل أن تقضي عليهم الجهود الكبرى للتنصير.
(ألا هل بلغت؟ ... اللهم فاشهد) .
__________
(1) الأقليات المسلمة في أوروبا، سيد عبد المجيد بكر، إدارة الصحافة والنشر برابطة العالم الإسلامي، شوال 1405 هـ.
(2) The Bulgaians , by Christ Anastasoff, Exposition Press, New York, 1977, P 99.
(3) Cambridge Encyclopedia, 1992.
(4) حاضر العالم الإسلامي، لوزوب ستودارد، تعليق: شكيب أرسلان، ج3، ص 321، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1352 هـ.
(5) ماكجان، صحيفة نيويورك وورلد، يوليو 1876 م.
(6) مجلة المجتمع، العدد 1073، ص 38.
(7) Bulgaria, by R Mclntyre, Pinter Publishers, London, 1988, p 72.
(8) The Expulsion of the Bulgarian Turks, 1989.
(9) The Gypsies of Bulgaria, 1991.(73/83)
المسلمون والعالم
العالم الإسلامي في مرآة الصحافة
-التحرير -
أخي القارئ:
في هذه الزاوية سنحاول جاهدين اختيار مقتطفات من بعض التقارير والأنباء
واللقطات في بعض الصحف السيارة، مما له مساس بواقع أمتنا الإسلامية، مع
العلم أن ما يطرح في هذه الزاوية لا يعني بالضرورة الموافقة على ما جاء فيها بل
يقصد منه بيان الرأي الآخر.
- البيان -
أضواء على جرينوفسكي:
هذا الزعيم الروسي الذي ظهر فجأة، وأقنع الناخبين الروس الذين يعيشون
إحباطات وأوضاع لا يحسدون عليها بطروحاته الدعائية، أثار رعب الغرب
والشرق، وهذه نبذة للتعريف به وبيان لتوجهاته.
ولد جرينوفسكي من أب يهودي عانى في طفولته من البؤس والتشرد وهاجر
أقاربه إلى إسرائيل وكان قد عزم على السفر هناك عام 1983 م وكان يعمل ضابطاً
احتياطياً برتبة نقيب في الـ «كي جي بي» وبعد ظهور نظام تعدد الأحزاب في
الاتحاد السوفيتي سابقاً تم تأسيس حزبه (الليبرالي الديمقراطي) بناء على تعليمات
الحزب الشيوعي السابق إلى الـ كي جي بي، حيث قال جورباتشوف آنذاك:
«يجب أن نبادر بإنشاء حزب بديل شريطة أن نسيطر عليه» ، فتم إنشاء ذلك الحزب.
ومن الملفت للنظر أنه يدعي أن 90% من أعضاء ذلك الحزب من اليهود،
وفي الانتخابات الروسية الأخيرة تقدم هذا الحزب على غيره من الأحزاب، لما كان
يرفعه من شعارات أحيت في الشعب الروسي أحلامه السابقة بعودة الامبراطورية
الروسية، وقد كان جرينوفسكي ينادي خلال حملته الانتخابية بالأمور التالية:
* مكافحة الجريمة دون رحمة.
* العودة إلى روسيا العظمى التي تشمل أراضي في البلطيق وأوكرانيا وآسيا
الوسطى.
* الدعوة إلى احتلال كل من تركيا وإيران والوصول إلى المياه الدافئة في
الخليج!
* المناداة بأن يكون الروس وحدهم يمثلون 99% من الحكومة الجديدة.
وفي ذلك إشارة إلى عدم قبول أي من الأجناس الأخرى في الحكومة ما عدا
اليهود.
* إضافة إلى ذلك فقد كان يدعو إلى قيام وحدة اقتصادية وثقافية بين الدول
السلافية وروسيا.
تميزت شخصية ذلك الزعيم بملامح واضحة أثرت في تعامله مع الآخرين،
فمثلاً:
* في خلافه مع أعضاء البرلمان قال إن 10% من أعضاء البرلمان مجانين.
* وحين رفضت السلطات الألمانية استقباله قال أنه يتوجب على ألمانيا دفع
ثمن باهظ وستصبح بلداً فقيراً بعد احتلالها.
* وقال أيضاً أن رومانيا دولة مصطنعة وإنما تتألف من غجر إيطاليين.
* تناقضاته الكثيرة: فمرة ينفي أنه من أصل يهودي، وأخرى يصرح بأن
أباه كان يهودياً ويعلن معاداته للسامية، ولكن في حين آخر ينفي ذلك أو يحصر
معاداته في غير اليهود.
ومن المضحك أن يستبشر بعض أفراد اليسار العربي بظهور نجم ذلك
المخلص المزعوم الذي يستطيع أن يقول للغرب «لا» بكل قوة.
البوسنة:
* أكد رئيس وزراء البوسنة حارث سيلايجيتش أن اللورد أوين يتهم الحكومة
البوسنية بالإبقاء على الخيار العسكري في وقت يتم فيه تدمير مواقع مدنية،
وأضاف: يبدو أن أوين وغيره لا يستطيعون قبول البوسنة إلا كضحية من دون
موارد.
(الحياة 27/7/1414 هـ)
بدون تعليق:
حذر مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق ريتشارد بيرلي من أن يسود شعور
بالاضطهاد لدى المسلمين في البوسنة، وقال: «إذا أردنا أن نشن حرباً على
الأصولية والإرهاب، فإن مصداقيتنا تحتم علينا أن نُظهر أننا مهتمون بقضية
المسلمين الذين أظهروا استعداداً للعيش بسلام مع غير المسلمين» .
(الحياة 5/8/1414 هـ)
على الحبلين:
قدم السفير الأمريكي في اليمن صوراً من الأقمار الصناعية توضح تحركات
قوات اليمن الشمالية والجنوبية على الحدود السابقة، وذلك إلى كل من الرئيس
ونائبه.
(الأسوشيتدبرس 16/1/1994م)
تزكية من أبي عمار:
قال ياسر عرفات في مقابلة مع شبكة أنه يعتقد أن رئيس الوزراء إسحق
رابين رجل يحترم وعوده.
(الحياة 3/7/1414 هـ)
أول الغيث:
ذكرت عائلات فلسطينية أن أعضاء من حركة فتح اشتركوا مع حرس
إسرائيلي في مهاجمة سجناء فلسطينيين لإخماد شغب في سجن كيتزيعوت.
(الحياة 17/7/1414 هـ)
موقف مشرف في ظل الانهزام العربي:
... من الصعب جداً التقليل من الخطورة التي انطوت عليها «زيارة»
أسقف كانتربري في هذا الأسبوع إلى بعض المناطق التي لاتزال تحت سطوة
المتمردين في جنوب السودان، وهي «الزيارة» التي لا يمكن أن تسمى «زيارة» إلا مجازاً فحسب، وإلا فإنها كانت أشبه بعمل من أعمال التسلل، ودخول
البيوت من غير أبوابها، والدخول إلى أراضي الآخرين هكذا عنوة، من غير أدنى
مراعاة لمشاعر الدولة التي تقع هذه الأراضي تحت سيادتها، قانونياً ودولياً ومن
غير احترام حتى للشكليات الإجرائية البحتة.
التدخلات الانجليزية في شؤون السودان، في كل الفترة التي أعقبت
الاستقلال السياسي الرسمي في سنة 1956م، تكاد تكون موضوع رواية كاملة
مطولة، كثيرة الفصول، ولا يبدو أنها على وشك الانقضاء، كما لا تبدو الآن
حكاية أسقف كانتربري، التي تداخلت فجأة من الأسبوع الماضي وتشابكت مع
حكايات تدخلات السفير البريطاني لدى الخرطوم في الشأن السوداني الداخلي،
سوى مجرد آخر هذه الفصول المتلاحقة من 1956م.
الفارق الوحيد الآن بين هذا الفصل الأخير وفصول السنوات السابقة الطويلة،
هو أن هذه هي المرة الأولى غير المسبوقة على الإطلاق من سنة 1956م، التي
يسمع فيها سفير الدولة العظمي، المسيطرة على السودان سابقاً أن للسودان المستقل
كبرياءه الوطنية أيضاً، وأن في مقدوره دائماً أن يطلب من أي ضيف أو غريب
وافد مغادرة السودان، بسلامة الله وحفظه، إذا كان من العسير عليه مثلاً، لأي
سبب نفسي أو عقلي، أن يحترم كبرياء الوطن السوداني ويتقيد على الأقل
بالأعراف الدبلوماسية المعهودة والمرعية.
غي أن الانهزام العربي العام، الساحق جداً في هذه الساعة، هو وحده فقط
الذي يجعل من أمثال هذه المواقف السودانية غير مفهومة وغير مألوفة بل غير
معقولة وغير مقبولة في رأي عقلاء العرب في هذه الأيام، الذين أفرطوا في العقل
جداً، وقد أوشكت الآن أن تقتلهم التخمة العقلانية المفرطة.
(حافظ الشيخ، جريدة الوطن 22/7/1414 هـ)
منظمة العفو الدولية وتونس:
ذكرت منظمة العفو الدولية في تقرير لها صدر في 1/8/1414 هـ «أن
هناك هوة بين التصريحات الرسمية وحقيقة الإنتهاكات الخطيرة والمتكررة لهذه
الحقوق» ، وقالت المنظمة أن المؤسسات التي أنشئت أخيراً لحقوق الإنسان
تنقصها الاستقلالية وتتميز بالعجز وبطابعها السري.
وذكر التقرير أن المنظمة تجري حواراً بلا طائل مع السلطات التي تستمر في
نفي وجود انتهاكات لحقوق الإنسان وفي تبريرها.
(الشرق الأوسط 2/8/1414 هـ)
فضيحة: تزوير الأدلة ضد الإسلاميين:
تحولت قضية الوثائق التي ادعت أجهزة الأمن الفرنسية، العثور عليها في
منزل رئيس منظمة «الأخوة الجزائرية» موسى كرواشي، إلى فضيحة عندما
نشرت صحيفة (لوفيغارو) الفرنسية أن الوثائق التي عثر عليها يحتمل أن يكون
مصدرها عناصر الشرطة أنفسهم، وعندما قرر وزير الداخلية الفرنسي شارك
باسكوا فتح تحقيق بدأت الأجهزة الأمنية تتبادل التهم، فالاستخبارات اتهمت
الشرطة القضائية أن أحد عناصرها وضع الوثائق عن طريق الخطأ ضمن وثائق
أخرى وجدت في المنزل، أما الشرطة فردت بالنفي وأن الاستخبارات يحاولون
تلبيسهم خطأ ارتكبه أحد العاملين في جهازهم. والسؤال الذي يطرح نفسه هو أنه
إذا كانت أجهزة الأمن في دولة تدعي الديمقراطية ورعاية حقوق الإنسان تقوم
بتزوير أدلة واختلاق اتهامات، فماذا عساه يجري في دول العالم الثالث؟ !
(وكالات الأنباء 5/8/1414 هـ)(73/93)
دراسات اقتصادية
الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة
معالجة الأزمات الغذائية
(1)
د. محمد بن عبد الله الشباني
مقدمة:
ترتبط المشكلات والأحداث السياسية بالقضايا الاقتصادية، فالأوضاع
الاقتصادية لها تأثير في مسار الأحداث والتغيرات التي تصيب الدول والشعوب
والحضارات؛ لهذا فإن الأوضاع الاقتصادية وكيفية معالجتها تؤدي إلى التأثير سلباً
أو إيجاباً على صمود الدول والمجتمعات تجاه رياح التغيير، فكلما تمت معالجة
الأوضاع الاقتصادية وفق سنن الله ووفق قواعد العدل، فإن رياح التغيير لا تتمكن
من التأثير في أوضاع الدول والمجتمعات، ولكن إذا سارت المجتمعات في
تنظيماتها حسب الأهواء والرغبات، وخالفت سنن الله الكونية فإن مآلها إلى
الزوال.
إن الإسلام دين يجمع بين دفتيه خيري الدنيا والآخرة، ويعالج مشكلات الحياة
الدنيا بنفس القدر الذي يعالج فيه أمور العقيدة، وما يتصل بها من مسائل ذات
ارتباط بوجود الإنسان وغايته على هذا الكوكب.
يُتهم الإسلام من قبل أعدائه وجزء كبير من المنتسبين إليه ممن يدعي الثقافة
والعلم بأنه لا يمتلك تصوراً كاملاً لتنظيم شؤون الحياة الاقتصادية والاجتماعية وأن
المعطيات المعاصرة لا تتلاءم مع التنظيمات الجزئية التي أمر بها الإسلام. لهذا
فإنه ينبغي على المجتمعات الإسلامية إذا أرادت الخروج من واقعها أن تتبنى
المناهج الغربية في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ولهذا تتجه الدول الإسلامية
قِبَل البنك الدولي ليضع لها السياسات الاقتصادية، والاجتماعية التي يجب على هذه
الدول اتباعها إذا أرادت الخروج من واقعها الاقتصادي السييء.
إن هذه المقولة وتبنيها من أصحاب القرارات في العالم الإسلامي والإيمان بها
من قِبَل قادة الفكر الاقتصادي والسياسي، إنما ينبع من جهل كامل بالإسلام وتعاليمه
وقلة الفقه بالتشريع الإسلامي، ومحاربة كل توجه للأخذ بالإسلام، والتسليم الكامل
بالمقولات الغربية الناتج عن الانهزام النفسي والمادي الذي أصاب العالم الإسلامي
تجاه القوى الغربية المتسلطة.
إن من أهم مجالات الدعوة للعودة للإسلام في هذا العصر هو إبراز التصور
الإسلامي لما يمكن أن يقدمه الإسلام من حلول في المجال الاقتصادي ولهذا فإن
الغاية التي أرمي إليها من نشر هذه السلسلة من المقالات في مجلة البيان هو
المشاركة في إبراز ما يحتويه الإسلام من ثروة علمية في تنظيم الحياة الاقتصادية
المعاصرة، وما يشتمل عليه من مبادئ اقتصادية علمية ينبغي للمجتمعات الإسلامية
الأخذ بها، وتطبيقها في الواقع المعاش.
إن المنهج الذي سوف أتبعه في استعراض القضايا الاقتصادية المعاصرة هو
أخذ أي مشكلة اقتصادية أو وضع تنظيمي اقتصادي معاصر وإبراز وجهة النظر
الإسلامية من خلال دراسة الأدلة الشرعية من القرآن والسنة بإيضاح المنهج الذي
يرشد إليه الإسلام في معالجته لهذا الوضع، ومدى قابلية هذا المنهج للاسترشاد به
في حل الأوضاع الاقتصادية المعاصرة، وإبراز مدى التفرد والتميز والواقعية
للمنهج الإسلامي في معالجة الأمور الاقتصادية.
النقص المؤقت للسلع:
من المشكلات الاقتصادية التي تواجه المجتمعات المعاصرة مشكلة النقص
المؤقت للسلع التي يحتاج إليها الأفراد: هذا النقص قد يكون ناتجاً عن سوء السلوك
الإداري للمديرين الذين يتولون إدارة الاقتصاد في المجتمع، أو قد يكون ناتجاً عن
عناصر التدخل في ميكانيكية السوق بالاحتكار وحجب السلع عن السوق، أو قد
يكون ناتجاً عن نقص فعلي في السلع.
إن معالجة النقص في السلع مرتبط بمعالجة السبب المحدث للنقص والإسلام
يعالج الأسباب الجزئية، لكن علاجه لا يمكن أن يؤدي دوره الكامل والفاعل إذا لم
يكن الإطار العام للتنظيم الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي للمجتمع يخضع
لقواعد وقيم الإسلام الحاكمة للفكر والتوجيه العقائدي والسلوكي، ولهذا ينبغي إدراك
هذه الحقيقة، وان العلاج لجزئية من الجزئيات لا تنفصل عن الإطار الكلي
للعلاقات التأثيرية لمختلف الأنظمة الاجتماعية.
لقد وردت أحاديث نبوية عديدة تعالج معظم الأسباب التي تؤدي إلى وجود
وظهور النقص في السلع، وفي هذه الحلقة سوف أقتصر على كيفية معالجة الإسلام
للنقص الفعلي، أما الأسباب الأخرى لمعاجة مشكلة الأزمات الغذائية فسوف
أستعرضها في مقالة لاحقة إن شاء الله.
روى مسلم ومالك والبيهقي، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد
أنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاثة، قال عبد الله بن أبي بكر فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق
سمعت عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: دف [1] أهل أبيات من
أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: ادخروا ثلاثاً ثم تصدقوا بما بقي، فلما كان بعد ذلك
قالوا: يا رسول الله: إن الناس يتخذون الأسقبة من ضحاياهم ويحملون فيها
الودك [2] ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما ذاك؟ قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وادخروا وتصدقوا» وفي رواية من طريق آخر لدى ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عايش عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: إنما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الأضاحي لجهد الناس، ثم رخص فيها وفي رواية للبخاري عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«من ضحى منكم فلا يبقينّ بعد ثالثة وفي بيته منه شيء» فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهدٌ فأردت أن تعينوا فيها.
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة
جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم
مني وأنا منهم» .
بدراسة الأحاديث السابقة نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام عالج النقص
السلعي في المدينة بأسلوب توجيهي للأمة ليقتدي به قادة الأمة الإسلامية حيث وضع
عليه الصلاة والسلام منهجاً تطبيقياً ينبغي على الدولة المسلمة اتباعه عند حدوث
النقص في السلع التي يحتاج إليها الناس خلال فترة النقص ويتمثل هذا المنهج في
التدخل وبالمعالجة الوقتية وفق هذا التوجيه النبوي القائم على مواجهة الظروف،
فمعالجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمجاعة عندما وفدت أعداد من الأعراب
إلى المدينة في عيد الأضحى أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الاحتفاظ بلحوم
الضحايا لأكثر من ثلاثة أيام، وعندما انتهت الأزمة سمح بالادخار. هذا التوجيه
النبوي يمكن انتهاجه واعتباره استراتيجية يتم اتباعها عند مواجهة الأزمات التموينية، فعند نقص السلع يمكن تدخل الدولة بتقنين كمية الاستهلاك الفردي، ومنع الادخار. يؤكد هذا الأمر حديث أبي موسى عن الأشعريين حيث ورد في الحديث تحبيذ
الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمنهجهم في حالتين: الأولى في حالة السفر،
وعند نقص الإمدادات، والثانية في المدينة عند نقص الكميات المتوافرة، والتوجيه
النبوي تعليم للأمة وإرشاد إلى المنهج الذي ينبغي اتباعه في حالة نقص المواد
السلعية الاستهلاكية سواء أكان بسبب نقص الإنتاج أو التأخر في الحصول عليه من
خلال الجلب، أي التأخر في الاستيراد لأي سبب، فعندئذ يمكن تحديد كمية
الاستهلاك من هذه السلع الناقصة بحيث لا يزيد الشراء عن حاجة ثلاثة أيام، كما
أنه يمكن حصر الكميات المتوفرة في الأسواق وبيعها على الناس وفق حاجة الفرد
الاستهلاكية لمدة ثلاثة أيام، وعلى الجهاز الحكومي استخدام الأساليب التنفيذية
اللازمة باستخدام جميع المعطيات العلمية المتوفرة لتنفيذ هذا التوجيه النبوي. إن
هذا الإجراء ليس إجراءاً مستمراً، وليس قاعدة عامة تتبع في كل حين، بل إن هذه
المعالجة جاءت لمجابهة واقع النقص فقد أوضح حديث الأشعريين أن هذا الإجراء
مرتبط بالأزمات، حيث أشار الحديث إلى اتباع سياسة التوزيع التمويني عند
النقص الفعلي للسلع، ولكن لا يكون ذلك أسلوباً دائماً وسياسة تموينية ثابتة، ونمطاً
في ممارسة إدارة الاقتصاد التمويني، لكن هذا الأسلوب يتبع فقط عند حدوث
الأزمات، وعندما تنفرج فإن القاعدة العامة ترك الناس يتصرفون وفق رغباتهم
وقدراتهم المالية، ووفق واقع السوق الذي يوجه عملية التبادل التجاري وفق قانون
العرض والطلب.
إن أسباب النقص الفعلي للسلع تتمثل في أمرين حسب ما أشار إليه حديث أبي
موسى وهما:
الأول: عند نقص الإنتاج من السلع لظروف طبيعية خارجة عن إرادة
الإنسان فنتج عن ذلك نقص في الكمية المعروضة للبيع عن الحاجة الاستهلاكية.
والثاني: قلة الجلب (الاستيراد) وهو تأخر أو امتناع المستوردين عن الاستيراد أو
ضعف الدولة عن استيراد كامل ما تحتاجه من السلع من خارج إقليمها أو نتيجة
لحصار اقتصادي مفروض عليها من أعدائها.
المعالجة الإسلامية للأزمات الغذائية لا تخرج في إطارها العام عن المعالجة
المعاصرة، إلا أن الإسلام يتميز بعنصر لا يوجد في أي نظام من الأنظمة
الاقتصادية المعاصرة، هذا التميز يتمثل في أن امتثال القرارات الإدارية التي
تصدر عن ولاة الأمر تلقى القبول النفسي والتنفيذي الطوعي لارتباطها بالإيمان
العقائدي للأفراد، فالمسلم يقبل ما تفرضه الدولة من إجراءات باعتباره تحقيقاً
لمصلحة عامة، ولكنه قبل ذلك باعتباره مطلباً شرعياً يرتبط بمفهوم تحقيق العبادة
لله. إن نجاح هذا المنهج لا يتوقف على التنفيذ التطبيقي الجزئي لهذا الإجراء فلا
يمكن نجاح هذا الإجراء في مجتمع غالبية شعبه مسلم إذا لم تكن أنظمة هذا المجتمع
في جميع مناحي الحياة تلتزم بالتشريع الإسلامي، لهذا نجد أن عمليات تقنين
الاستهلاك في المجتمعات الإسلامية غير ناجحة بسبب أن التنظيمات الاجتماعية
الأخرى مخالفة، وبالتالي لا تجد القرارات التنظيمية التي يقرها الإسلام ويأمر بها
القبول من قبل الجماهير الإسلامية في الدول الإسلامية بسبب التناقض في توجهات
هذه الدول ومناهجها التنظيمية الأخرى التي تتصادم مع أساسيات الدين وقواعده.
إن التنظيم الإسلامي في جزئية من الجزئيات لا يمكن نجاحه إذا فصل عن
التنظيم الكلي، لهذا لا يمكن نجاح أي تنظيم اقتصادي كجزئية إذا كانت بقية
الأجزاء تتصادم معه، وأكبر دليل على ذلك ما يتم انتهاجه بتقديم حلول فقهية
لمشاكل اقتصادية أوجدها نظام اقتصادي لا يرتبط بالإسلام بل يعارضه ويعاديه.
ومثال على ذلك نجد عدم قدرة البنوك الإسلامية في تحقيق التغيير في التنظيم البنكي
ولجوءها في كثير من الأحيان إلى البحث عن الحيل الشرعية لكي توائم واقعها
التنظيمي مع الواقع التنظمي الاقتصادي للنظام الربوي السائد في تلك المجتمعات،
التي أجازت قيام مثل هذه البنوك أي البنوك الإسلامية مع إلزامها بالخضوع لفلسفة
ومنهج النظام الربوي. هذا الوضع البيئي للبنوك الإسلامية أدى إلى عجزها عن
التفرد والتميز بل أصبحت في معظم الأحيان أدلة يعتبرها المعارضون لأسلمة
الاقتصاد، فيتخذون واقع هذه البنوك حجة لعجز الإسلام عن إيجاد البديل العملي،
مما دفع ببعض من ينتسب إلى العلم الشرعي بإجازة صور عديدة من الربا وتغيير
مسمى الفائدة أو الربا إلى الربح أو العمولة..
__________
(1) دف: الدف هو السير البطيء مع تقارب الخطو.
(2) الودك: أي الشحم ويجملون أي يذيبون الدافة: قوم مساكين قدموا المدينة أقدمتهم المجاعة أرملوا أي فنيت أزوادهم إناء: وعاء.(73/99)
في دائرة الضوء
مستقبل الدعوة السلفية.. رؤية نقدية
جمال سلطان
تمهيد:
تطرح مجلة البيان هذه الرؤية النقدية للكاتب الكريم والذي له العديد من
الدراسات الفكرية والدعوية الجادة من قبيل النقد الذاتي الذي يراد منه التعاون
لدراسة واقعنا الدعوي بعلمية وموضوعية، رغبة في تلافي ما قد يوجه إليه من
ملاحظات أو سلبيات، وأملاً في الوصول به إلى الأفضل إن شاء الله والمجال
مفتوح لأي مناقشة موضوعية تلتزم بآداب الحوار.
والله من وراء القصد.
- البيان -
الدعوة السلفية هي عماد الصحوة الإسلامية المعاصرة، وهي مادتها،
وقاعدتها القوية، التي تصل ما انقطع بين الخلف وسلفهم الطيب الصالح، وتدعو
الناس إلى منهج الجيل الراشد، وهدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه،
لأن ذلك النهج وذلك الهدي، هما في الحقيقة منهاج الطائفة المنصورة والفرقة
الناجية، كما قال: «تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا
واحدة، قيل: وما هى يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي» . [1]
وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الدعوة المباركة، تتحمل تبعات جسام في
مسيرة الإحياء الإسلامى الجديد، تستدعي من أبنائها وأهلها أن يكونوا على قدر هذه
التبعات، علماً وحكمة، وسعة وإدراكاً، وجهداً وجهاداً، وأثبت عند النوازل والفتن، على مختلف أنواعها وصنوفها.
بيد أن الأمر الذى لا يسعنا تجاهله، أو تجاوزه، هو أن هذه الدعوة وأهلها
من العلماء والدعاة والمفكرين والعاملين، يبقون بشراً من البشر، وتبقى جهودهم
في هذا السبيل، جهوداً بشرية، يعتريها ما يعتري الجهد البشري من عوارض
مختلفة، منها الزلل، ومنها الخطأ، ومنها الغلو أو الإفراط أو التفريط، ومنها
الذهول عن بعض الحقائق المنهجية أو العلمية أو الواقعية، ومنها ضعف بعض
النفوس، أو ضعف بعض الهمم، وهذه كلها سلبيات تقع لكل جهد بشري، فطرة
الله، ولا عصمة لأحد من الناس بعد النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، وهذه
الحقيقة من شأن استحضارها أن ينفي الحساسية الزائدة من أى ممارسة نقدية أو
تقويمية ذاتية تتوجه إلى الجهود الدعوية المرتبطة بالمنهج السلفي، وإذا كنا نتوجه
بالنظر والتقويم والنقد والتصحيح لمجهودات إسلامية مختلفة، من فصائل وأحزاب
وجماعات، على قربها أو بعدها من المنهج الرشيد، فلماذا نستنكف نحن أن نقوم
أنفسنا، ونعيد النظر في مسار الدعوة السلفية كل حين، للكشف عن المعوقات، أو
الآفات، والسلبيات، التي تعترض مسار هذه الدعوة، أو التي تشينها، أو التي
تتسبب في فتنة الآخرين تجاهها، إن انتساب أى شخص أو حركة أو تيار إلى
المنهج السلفي لا يعني منحه صك عصمة مفتوحاً، بحيث يكون كل قول له أو فعل
أو سلوك أو تقدير حقاً لا مراء فيه، ورشاداً لا زيغ معه، واستقامة لا اعوجاج بها، فهذا كله غلو ينبغي أن تتنزه عنه الدعوة السلفية، ولابد أن نملك الجرأة والثقة
التي تجعلنا نعيد تقويم جهودنا الدعوية، بعدل وإنصاف، وتواضع وجد، حتى لا
تتراكم الأخطاء، أو تتكاتف السلبيات، أو تتضخم الهفوات، بما يهدد وجود الدعوة
ونكون عياذاً بالله فتنة للناس، في تقديرهم وحكمهم على منهج الفرقة الناجية ذاتها،
والدعوة السلفية بوجه عام.
ثلاث ملحوظات مهمة:
وفق هذا الاطار، وتلكم الرؤية، تجيء هذه الملحوظات الثلاث التي أقدمها
للقارئ المسلم، باعتبارها محاور أساسية، ألاحظ وجود الاضطراب بسببها عند
بعض الجهود الدعوية، وأرى أن ضبطها ووعيها، وترشيد المسار الدعوي فيها،
هو مطلب بالغ الأهمية، وشديد الخطورة، ومن شأن الإحاطة به وانجازه أن
يختصر الكثير من مسافات الطريق نحو التمكين لدين الله ودعوة الحق في مستقبل
البشرية إن شاء الله تعالى.
الملحوظة الأولى: وتتعلق بفهم طبيعة الدعوة، ومداها، ورسالتها العامة، إذ هناك نفر من الدعاة يظنون الدعوة إلى التوحيد، مجرد عمل «تثقيفي» أو «تعليمي» تصحح به «تصورات» الناس تجاه مفهوم «الربوبية»
و «الألوهية» ومنهج أهل السنة في «الأسماء والصفات» المتعلقة بالباري سبحانه وتعالى فحسب، دونما بيان شاف كاف عن «تجليات» هذه العقيدة في واقع الناس وسلوكهم ونظمهم الاجتماعية والقيمية والتشريعية ومشاعرهم وولائهم وجهادهم وغير ذلك، وهذا الاتجاه المحدود، لو تعززت وجهته في الدعوة السلفية، فستنتهى بنا حتماً إلى حصر الدعوة الإسلامية بشمولها في نوع من الجدل الكلامي الذى يكثر فيه تشقيق المعاني وتهويم الخواطر، وتناطح الأمثلة التجريدية، وإتاحة الفرصة تماماً أمام التيارات المنحرفة لصياغة الواقع الاجتماعى، وبنيان الأمة وفق مناهجهم الفاسدة.
وهذا الخلل في الحقيقة يقدم بصور مختلفة أخرى، منها الحديث عن أن
«تصحيح العقيدة» فقط هو مطلب هذه المرحلة، وليس من واجب الداعية وربما ليس من المشروع له أن يحدث الناس عن الانحرافات الخلقية، أو أزماتهم الاقتصادية أو مشكلاتهم التشريعية، أو تحدياتهم الدولية، أو هموم واقعهم المختلفة، فلا بد أولاً من تصحيح «عقيدة» الناس، ثم في مرحلة لاحقة نصحح باقى الانحرافات، ولا شك أن هذا انحراف كبير عن هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودعوة الإسلام قاطبة عند النبيين والمرسلين.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو قومه إلى التوحيد الخالص في
مكة، طوال ثلاث عشرة سنة، ليخرج قومه من ظلمات الجاهلية والوثنية
والإشراك بالله، إلى نور التوحيد ومع ذلك الحرص الشديد على دعوة التوحيد، فإن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد في تصحيح الانحرافات الاجتماعية كلها
في الواقع الذى يعيشه، ويقرن ذلك كله بالتوحيد، حتى لكأنهما بناء واحد لا يمكن
فصل بعضه عن بعض في دعوة الحق، وحسبنا في ذلك القرآن المتلو في مكة:
ألم يكن مما تلاه -صلى الله عليه وسلم- على قومه في مكة [ «ويل
للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين» ] [2] أرأيت كيف ترتبط الدعوة إلى العدل والقسط و «النزاهة» بالإيمان بالله
واليوم الآخر؟ ! .
أولم يكن مما تلاه -صلى الله عليه وسلم- على الناس بمكة قول الحق تعالى:
[ «أرأيت الذى يكذب بالدين، فذلك الذى يدعّ اليتيم ولا يحض على طعام
المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون» ] [3]
أرأيت كيف ارتبطت العقيدة بالسلوك الاجتماعى بالعبادة في رباط واحد
وسياق واحد!
ألم نقرأ ما نزل من آخر سورة الفرقان، وفقه الدعوة وشمولها فيه:
« [والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون» ، «والذين لا يشهدون الزور» ] [4] .
ألم يربط القرآن أذهان المسلمين بالأحداث الدولية الجارية في زمانهم وآثارها
على الجماعة المسلمة، رغم بعد المكان، وانعدام الصلة تقريباً من الناحية العملية
بين هذه الجماعة وتلك الأحداث [ «غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد
غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد * ويومئذ يفرح
المؤمنون بنصر الله» ] [5] وعلى هذا النهج فقس، وهو أمر يطول ويشغل
الصفحات العديدة، وهذا كله فيما نزل بمكة، ولا يوجد موحد آنذاك على الأرض
إلا بضع عشرات من المؤمنين بقرية من قرى كوكب الأرض، وهذا أسوقه لمن
يقابل بين واقع المسلمين الحالى، وواقع مكة: من بعد الناس عن التوحيد أو جهلهم
به، وهذا أمر لا يسلم تماماً، فأوجه الافتراق واضحة، كما أن أوجه المشابهة
موجودة أيضاً.
ثم هل جاء نبي أو رسول من رسل الله، إلا وكان يدعو إلى إصلاح المجتمع
كله، وليس فقط تصحيح العقيدة فقط، ألم يكن منهم من جمع إلى التوحيد الدعوة
إلى التنزه عن فاحشة إتيان الذكران، ومنهم من دعا إلى القسط في المعاملات
التجارية [ «أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين» ] [6] ، ومنهم من دعا إلى
إزالة التجبر والطغيان [7] [ «أتبنون بكل ريع آية تعبثون* وتتخذون مصانع
لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين* فاتقوا الله وأطيعون» ] . أولسنا
مأمورين بالاقتداء بهذه الكوكبة الرائعة من دعاة التوحيد. [ «أولئك الذين هدى
الله فبهداهم اقتده] [8] .
إن الدعوة السلفية مطالبة بمحاصرة هذه الجهود الانعزالية المنتسبة إلى المنهج
السلفي، وهي في حقيقتها لا تتعدى الصورة الجديدة للمنهج الصوفي الانعزالي
القديم، الذى عزل الدين عن الدنيا وهموم المجتمع ومقتضيات الاستخلاف في
الأرض، قبل أن تأتي العلمانية لتستثمر هذا» الانحراف «وتؤسس عليه تخريبها
الكبير في ديار الإسلام.
الملحوظة الثانية: وهى محور أساس وجوهري من محاور الدعوة الإسلامية، يذهل المرء عندما يجد دعاة منتسبين إلى المنهج السلفي، ينازعون فيه، أو يحقرون من قيمته، وذلك هو أصل معرفة الزمان، والوعي العميق بالواقع الاجتماعي الذي تتحرك فيه الدعوة، وتتنزل به الأحكام، وقديماً قال الصالحون:» رحم الله امرءاً عرف زمانه فاستقامت طريقته «. إن البصيرة النافذة بأحوال الزمان، وأحوال الناس فيه، والعلاقات التي تتحكم في سلوك الناس الاجتماعي، وتؤثر في اتجاهات هذا السلوك، والضغوط التي تفعل فعلها في الواقع، وموازين القوى، وأعراف الناس المتغيرة، وهموم المسلمين وما عمت به البلوى وما لم تعم، والأخطار المحدقة بالأمة من خارجها ومن داخلها، ومواقع القوة أو الضعف فيها وفى أعدائها، ونحو ذلك من أحوال، فهذا كله ليس مجرد جهود محمودة، بل هى مطلب شرعى لا تستقيم الدعوة، ولا تنضبط أحكام الشريعة بدون تحصيله، وبدون هذا الفقه للواقع لا يمكن لمسلم تنزيل قاعدة» المصالح والمفاسد «، ولا أصل» لا ضرر ولا ضرار «، ولا أصل» ارتكاب أخف الضررين «ولا باب» سد الذرائع «ولا باب» الضرورات العامة وما تعم به البلوى «وغير ذلك الكثير من مقتضيات الدعوة وأصول الأحكام، ومن دخل في شيء من هذا كله بدون معرفة بالزمان وبصيرة بأحوال المسلمين وفقه لواقعهم، فهو» مغامر «ولا شك، وضارب في عماية، ولا يؤمن جانب دعوته وفتواه أن تودي بالمسلمين إلى موارد الهلكة والفساد.
ولقد كان من هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، مراعاة أحوال الناس،
والبصيرة بواقعهم وظروف الزمان، وموازين السلوك الاجتماعى، وكان يوجه
دعوته -صلى الله عليه وسلم- وفق ذلك الاعتبار، فيقدم ويؤخر، ويوجه ويرشد.
روت لنا كتب السنة الصحيحان والنسائي وأحمد واللفظ لمسلم من حديث أم
المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ألم تر
أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم، قالت: فقلت يا رسول الله
أفلا تردها على قواعد إبراهيم، قال رسول الله: ولولا حدثان قومك بالكفر
لفعلت» .
لقد وعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واقع الناس، وحساسيات ذلك
الواقع ووضع ذلك كله في اعتباره وتقديره، فأخر ما كان يحب فعله مراعاة لذلك
الواقع، وقد ثبت أن ابن الزبير رضي الله عنه حقق ما أمله رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فيما بعد، بعد أن تغير الواقع واختلفت موازينه.
وروت لنا كتب السنة اللفظ لمسلم في صحيحه من حديث معاذ بن جبل رضي
الله تعالى عنه قال: كنت ردفِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حمار يقال
له عفير، قال فقال: يا معاذ تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟
قال قلت الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا
به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال قلت
يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم فيتكلوا.
وفى هذا الحديث الجليل فائدتان، الأولى هي هدي النبي -صلى الله عليه
وسلم- عندما منع إذاعة البشارة في ذلك الوقت، مراعاة لأحوال الناس، ومبلغ
فقههم وانتشار العلم فيهم، ودرجة وعيهم بوضع هذه البشارة من سياق التكليف كله، ومن لا يعرف واقع الناس لن يفهم قيمة ذلك الهدي الجليل، والفائدة الأخرى من
اجتهاد «معاذ بن جبل» رضي الله عنه، عندما أذاع هذه البشارة قبل موتته، وما
ذلك إلا لمعرفته بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن المنع كان متعلقاً «بواقع
الناس» فلما «تغير الواقع» وشاع العلم، وتمكن الإسلام في النفوس أذاع البشارة
تأثماً من كتمان العلم، ومعاذ رضي الله عنه هو من هو في معرفة الحلال والحرام،
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد اختاره لتبليغ الدعوة ونشرها في
«اليمن» وبعث معه أبا موسى الأشعري، وأوصاهما في مهمتهما الجليلة فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا» [9] واليسر والبشارة أو العسر والتنفير ليسا من الأمور النظرية المجردة، وانما هى مرتبطة «بواقع الأحكام والدعوة في المجتمع وبين الناس» فمن جهل طبيعة الواقع أو تجاهل أحوال الناس لم يدر هل يسر عليهم؟ أم عسر؟ وهل نفرهم عن الدعوة أم حببهم إليها؟ فضلاً عن متى يكون التكليف «يسراً» في الواقع، ومتى يكون «عسراً» .
وواقعة حديث معاذ رضى الله عنه نفسها تكررت مع أبى هريرة رضي الله
عنه، وروتها كتب السنة، إذ حمله الرسول -صلى الله عليه وسلم- البشارة:
«من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة» فقال عمر رضي الله عنه، لرسول الله ص: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخلهم « [10] ، وفى هذه الواقعة فائدة إضافية، وهى اجتهاد عمر رضي الله عنه في معرفة الزمان وأحوال الناس وواقعهم وبالتالي أثر البشارة في ذلك الواقع، ولا شك أن اجتهاد عمر أتى من خلال معرفته بهدي نبيه ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن ذلك الاجتهاد متوافق مع ما تعلمه منه، لأن مثل عمر لا يقدم بين يدي الله ورسوله، ثم فائدة اجتهاد» أبي هريرة «في إذاعة الحديث في زمان لاحق، بدليل أنه وصلنا الآن ودونته كتب السنة.
وروت لنا كتب السنة واللفظ للبخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من
الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمعها
الله رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: ما هذا؟ فقالوا كسع رجل من
المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا
للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها مُنْتِنة، قال جابر:
وكانت الأنصارُ حين قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر ثم كان المهاجرون بعدُ، فقال: عبد الله بن أبي: أوقد فعلوا؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز
منها الأذل فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق
هذا المنافق، قال النبي: دعهُ، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتُل أصحابه» .
فانظر إلى حكمة النبي الكريم وهديه، فالخطاب لم يتعلق برفض ما ذهب إليه
عمر رضي الله عنه من كونه يستحق القتل على فعلته، وإنما الخطاب تعلق بأثر
ذلك الفعل في «الواقع» ومدى تأثيره في حركة الدعوة ومسيرة الجماعة المسلمة
وفتنة الناس «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» ، و «ابن أبي» ليس
من أصحابه ولا شك، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتحدث عن «واقع
موضوعي» ينبغي مراعاته، بغض النظر عن «الحكم المطلق» إذ عامة العرب
لا تعرف هذه «التفصيلات» الداخلية في الجماعة المسلمة، وإنما هي تنظر إلى
مثل ابن أبي بن سلول على أنه من أصحاب محمد، فهل لنا من السير على مثل
هذا الهدي النبوى الكريم؟ ! .
والشواهد على ذلك الهدي تطول، ولعل باحثاً نابهاً يجتهد في جمعها
واستقصائها في دراسة شاملة، فهذا مما يحتاج إليه الشباب بخاصة في هذه الأيام،
وحاصل الكلام هنا أن معرفة الزمان والبصيرة بالواقع، وفقه أحوال الناس،
وهموم الأمة الداخلية والخارجية، هى مطلب شرعي ملح، ولا سيما في هذه الأيام، ولا تستقيم دعوة، ولا يهدى بيان، لا يمتلك هذا الأساس القوي الجليل، وإن من
يكابرون في ذلك ويعاندون ولا أقول يخالفون يلحقون أبلغ الضرر بالدعوة السلفية،
ويفتحون باباً واسعاً لفتنة الناس والشباب في جدية هذه الدعوة وفاعليتها ... وقيمتها.
الملحوظة الثالثة: وهى متعلقة بفقه الاختلاف، والذى تحول إلى ثغرة خطرة تهدد بنيان الدعوة، وتؤرق أبناءها، حيث أصبح كل خلاف ينشأ بين اثنين أو وجهتين من أبناء الدعوة هو بمثابة «حرب شرسة» ، لا توسط فيها ولا رحمة، والخائض فيها إما قاتل وإما مقتول، من سهام التجريح والتقريع والاتهام في النوايا والسرائر وترصد الشوارد وتلمس السقطات وغير ذلك على قاعدة «لا نجوت إن نجا» !
مسائل ثلاث:
والحديث هنا يتعلق بثلاث مسائل:
المسألة الأولى: وتتوجه إلى أدب الاختلاف، حيث يتوجب استحضار روح الأخوة والرحمة واللين وخفض الجناح وإحسان الظن في خلاف أهل الإسلام، ولا سيما أبناء المنهج السلفي الواحد، فهم أهل ذلك وهم الأولى به، وضرورة النأي عن الفظاظة والقسوة والعنف والتجريح والطعن في النوايا، وهذا هو الأصل العام للدعوة الإسلامية:
[ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى
أحسن] [11] .
والخلافات لا تنتهي في الفروع ومواطن الاجتهاد، فليس يعقل أن يصبح كل
خلاف «مشروع حرب» ، وتوطئة إلى القطيعة وربما السباب، إلى الحد الذي
أصبحت فيه الخلافات بين أبناء الدعوة السلفية تتسم في كثير من الأحيان بالشراسة
والمرارة والقسوة، فما أبعد الطريق بيننا وبين أخلاق سلفنا الصالح.
روى الذهبي في «سير أعلام النبلاء» قول يونس الصدفي رحمه الله تعالى
قال: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني،
فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في
مسألة» [12] ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى
«.. ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة» [13] .
المسألة الثانية: تتعلق بتوصيف الاختلاف، فعلى الرغم من أننا نملك
نصوصاً واضحة في بيان «السعة» في أمر الاجتهاد، من أجلاها قول الرسول
الكريم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» [14]
إلا أن كثيراً من المختلفين يضن بعضهم على بعض أن يكون له ولو أجر واحد، أو
أن يتركه في حال سبيله لا عليه ولا له! إذ أن الخطأ الاجتهادي أصبح وضعاً غير
معترف به الآن في الحوار، وحلت محله أوصاف أخرى، أشهرها «البدعة
والكفر» ، فمن خالف أخاه في مسألة فهو إما مبتدع، وإما كافر، أما أن يقول:
مخطئ في اجتهاده، فهذا وصف أصبح عزيز المنال في واقعنا الحالي ولا حول ولا
قوة إلا بالله.
المسألة الثالثة: وتتعلق بظاهرة الترصد لأخطاء الآخرين، وتلمس عثراتهم، بل، ونصب الشراك لهم، على طريقة: ماذا تقول في كذا؟ أتقصد أن تقول كذا؟ ، على أمل أن يظفر منه بهفوة أو سقطة فيطير بها، ويشنع عليه فيها، والحقيقة أن الأمر في ذلك وصل إلى حد مَرَضِي، يصعب تخيله في بعض المنتسبين إلى المنهج السلفي الراشد، وهناك من يحترف التنقيب في كتابات مخالفيه، ثم ينتقي منها فقرات يحملها على أسوأ محتملاتها ومعانيها، ليخلص منها بأن صاحبها قصد كذا وكذا، فهو إذن مبتدع أو ضال أو كافر، حسب التصنيف الذى يمن به عليه، وأحياناً يبدو للمتابع أن بعض «الناقدين» يسعد كثيراً إذا أثبت البدعة أو الكفر على أحد من المجتهدين أو الدعاة، وكأنه يبتهج بأن يتعزز صف المبتدعين والكفار بزيادة رمز جديد إليهم، هذا إذا صح ظنه وسلم طعنه، فكيف وأغلبها الأعم تحكمات في الأفهام، وتهويل في التأويل، واساءة ظن بأهل الإسلام.
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتلمس شبهات البراءة لأهل
المعاصي، فيأتيه الرجل يقول له: زنيت فطهرني فيقول إمام الهدى: لعلك فعلت
كذا، فيقول لا بل زنيت فطهرنى، فيعاود إمام الرحمة، لعلك فعلت كذا، مرات
عديدة عساه يجد له مخرجاً، وتهمته معصية [15] ، فما بالنا مع من تهمته الكفر
والابتداع في الدين، لا سيما إذا كان من أهل الفضل أوالدعاة أو العلماء أو العاملين
للإسلام، إن الأولى بالمسلم الراشد، أن يتلمس للناس المخارج، ولا سيما في التهم
الشنيعة، ويقول: لعله قصد كذا، ولعله أراد كذا، وربما لعله سها، لعله فاته
الدليل، هذا هو سبيل الراشدين، وهذا هو نهج السلف الصالح رضوان الله تعالى
عليهم، ليس فقط في ما هو محتمل، بل في ما هو وقوع في بدعة صريحة،
وعرف عمن أخطأ فيه السلامة، ولم يعرف عنه الدعوة إلى البدع والخروج على
منهاج السنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وكثير من مجتهدي
السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث
ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها مالم يرد منها، وإما لرأي رأوه
وفى المسألة نصوص لم تبلغهم، وإن اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله
[ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا] وفى الصحيح قال: قد فعلت [16] .
ويقول العلامة شمس الدين الذهبى في» سير أعلام النبلاء «في ترجمته عن
» قتادة بن دعامة السدوسي «التابعي الجليل أحد أوعية العلم» ... وكان يرى
القدر، نسأل الله العفو، ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته وحفظه،
ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا
كثر صوابه، وعلم تحرية للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه
وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطّرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا
نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك [17] .
الله أكبر، أين من هذا البيان الفذ من يتصيدون الكلمات والهفوات للدعاة،
فيطيرون بها كل مطار؟ وأين من هذا البيان الراشد، من لا تقر أعينهم إلا بأن
يثبتوا بكل سبيل وكل حيلة ضلال داعية أو ابتداع فقيه أو كفر مجاهد من
المجاهدين؟
إن هذه الظاهرة الطارئة والشاذة من بعض أبناء الدعوة السلفية، من شأنها أن
تسيء إلى الدعوة برمتها، وأن تؤسس للفتنة، وتضع منهجاً جديداً للتدمير، ولو
أخذ كل داعية أو عامل بمثل هذا المنهج الاتهامي، فسوف يأتي يوم لا يوجد فيه
على وجه الأرض سلفي واحد غير متهم، لأنك لن تعدم في أحد كائناً من كان إذا
ترصدت ما كتب وما قال، أن تظفر عنده بكلمة أو عبارة أو سطر، تحتمل احتمالاً، أو حتى تحمل سقطة أو هفوة، ونسأل الله اللطف بعباده.
هذه هى الملاحظات الثلاث التي أردت الوقوف عندها، وعرضها على
القارئ المسلم، ولا سيما الدعاة والعاملين في سلك هذه الدعوة، من باب النصيحة
لدين الله، ولدعوة الحق، وهى ملاحظات مراقب مجرد مراقب مسلم للظواهر
الطارئة في الدعوة السلفية، أو المخاطر المرتبطة بها، وهى مخاطر تتهدد مستقبل
هذه الدعوة، ومن ثم مستقبل الصحوة الإسلامية كلها، لأن الدعوة السلفية هى
قطبها ودعامتها، وروحها المحركة، أرجو أن أكون قد وفقت في بيان ما قصدت
إليه فيها، فإن أدركت الصواب فمن الله تعالى وبرحمته، وإن أدركني الخطأ فمن
نفسي وبتقصيري، والحمد لله أولاً وأخيراً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه.
__________
(1) الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه، ووافقه الألباني في صحيح الترمذي من طرق وبألفاظ قريبة.
(2) سورة المطففين: 1-6.
(3) سورة الماعون؛: 1-5.
(4) سورة الفرقان: 67، 68، 72.
(5) سورة الروم: 2-5.
(6) سورة الشعراء: 181.
(7) سورة الشعراء: 128، 131.
(8) سورة الأنعام: 90.
(9) رواه البخاري.
(10) رواه مسلم.
(11) سورة النحل: 125.
(12) سير أعلام النبلاء (10/16، 17) .
(13) مجموع الفتاوى (4/172 173) .
(14) رواه البخاري (12) سير أعلام النبلاء (10/16، 17) .
(13) مجموع الفتاوى (4/172 173) .
(14) رواه البخاري.
(15) الإشارة إلى قصة ماعز وهي في الصحيح بتمامها.
(16) ، (17) نقلاً عن كتاب أخينا الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان.
(الحوار: أصوله المنهجية وآدابه السلوكية) 118، 120، وهو من أجود ما كتبه المعاصرون حول هذه المسألة، جزى الله صاحبه خيراً.(73/106)
دراسات قرآنية
صور من الاعتداء في الدعاء [*]
خالد بن عثمان السبت
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا ريب أن اللجوء إلى الله تعالى فطرة فطر الله العباد عليها، وهو أمر
معلوم من الدين بالضرورة، كما أن الدعاء عبادة عظيمة تُعد من أجلّ الطاعات
وأفضل القربات، بل عده النبي هو العبادة كما روى ذلك أبو داود وغيره من حديث
النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعاً: «الدعاء هو العبادة، قال ربكم ادعوني
أستجب لكم» [1] .
وقد تظافرت النصوص من الكتاب والسنة في طلبه والثناء على أربابه وهذا
أمر معلوم لكل أحد. إلا أن هذه العبادة الشريفة التي تقرب العبد إلى ربه تبارك
وتعالى قد يشوبها ما يجعلها موجبة لمقت الله عز وجل وغضبه. قال الله تعالى
[ادعوا ربكم تضرعاً وخُفْيَةً إنه لا يحب المعتدين] [2] فهذه الآية تضمنت الأمر
بالدعاء بالوصفين المذكورين أولاً، كما تضمن ما يدل على النهي وذلك في قوله
(إنه لا يحب المعتدين) فهذا يدل على النهي عن الاعتداء في الدعاء.
وحقيقة الاعتداء: مجاوزة حدٍ ما. وقيل: تجاوز الحد في كل شيء [3] .
وقد تقاربت أقوال العلماء في بيان معناه هنا - أي المتعلق بالدعاء - وذلك
عند تفسيرهم لقوله تعالى (إنه لا يحب المعتدين) .
فقال ابن جرير رحمه الله: «إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حده الذي
حده لبعاده في دعائه وفي غير ذلك من الأمور» [4] .
وقال الطرطوشي: «يعني المجاوزين في الدعاء ما أُمروا به» [5] .
وقال القرطبي: «والمعتدي هو المجاوز للحد ومرتكب الحظر» [6] .
وقال ابن القيم بعد أن ذكر بعض أنواع الاعتداء في الدعاء: «فكل سؤال
يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به
فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله» [7] .
ولما كان هذا الأمر - أعني الاعتداء في الدعاء - يكثر وقوعه، رأيت أن
الحاجة ماسة للحديث عن هذه الآفة ليحذرها المسلم.
والاعتداء في الدعاء تارة يكون في الأداء والطريقة، وتارة يكون في الألفاظ
والمعاني، ويتفرع عن ذلك أمور كثيرة، وسوف أذكر في هذا المقام عشرين نوعاًً
من أنواع الاعتداء التي يدخل تحت كل نوع منها صور كثيرة:
النوع الأول: أن يشتمل الدعاء على شيء من الشرك: وهذا من أسوأ
الاعتداء وأشنعه كما لا يخفى لأن الدعاء عبادة لا يجوز صرفه لغير الله عز وجل.
النوع الثاني: أن يطلب نفي مادل السمع على ثبوته: كأن يدعو لكافرٍ أن
لايُعذب أو يُخلد في النار، أو يسأل ربه أن لا يبتليه أبداً، أو لا يبعثه، أو أن لا
يُدخل أحداً من المسلمين النار، أو أن لا تقوم الساعة ... ، ونحو ذلك.
النوع الثالث: أن يطلب ثبوت ما دل السمع على نفيه. كأن يدعو على مؤمن
أن يخلده الله في النار، أو يدعو لكافر أن يدخله الله الجنة، أو يدعوا لنفسه أو
لغيره - غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أول من تنشق عنه الأرض، أو أول من يدخل الجنة.
أو يسأل ربه الخلود إلى يوم القيامة، أو يطلب الاطلاع على الغيب، أو
يسأل العصمة من الخطأ والذنوب مطلقاً.
النوع الرابع: أن يطلب نفي ما دل العقل على ثبوته.
النوع الخامس: أن يطلب إثبات ما دل العقل على نفيه، كأن يسأل ربه أن
يجعله في مكانين في وقت واحد، أو كأن يشهد الحج وفي نفس الوقت يكون مرابطاً
في الثغور، أو يدعوا على عدوه أن يكون غير موجود ولا معدوم، أو غير حي ولا
ميت «أعني الحياة والموت الحقيقية» .
وهذا النوع والذي قبله ذكرتهما تكملة للقسمة في مقام التفصيل والتبيين الذي
يغتفر فيه ما لا يغتفر في مقام الإجمال، ولا يخفى ما بين العقل والنقل من الموافقة.
النوع السادس: أن يسأل ما هو من قبيل المُحال عادة: كأن يطلب ربه أن يرفع عنه لوازم البشرية بأن يستغنى عن الطعام والشراب، أو النفس،. أو يطلب الولد ولم يتزوج أو يتسرى، أو يسأل الثمر من غير زرع، أو يدعو ربه أن يعطيه جبلاً من ذهب، أو يمطر عليه السماء ذهباً وفضة، أو يسأل الطيران دون فعل أسبابه العادية المعروفة، أو النصر على الأعداء (وأن يجعلهم الله غنيمة للمسلمين) ولم يُعد لذلك العدة، وكأن يسأل النجاح دون دراسة.
النوع السابع: أن يطلب نفي أمر دل السمع على نفيه، فهذا من قبيل
تحصيل الحاصل.
كأن يقول: اللهم لا تهلك هذه الأمة بعامة، ولا تسلط عليها عدواً من سوى
أنفسها فيستبيح بيضتها فهذان أمران دعا بهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وأجيبت
دعوته وأخبرنا بذلك، فإن دعوت بذلك كان من قبيل ما ذكرت والله أعلم، ومن
ذلك أن يدعو ربه أن لا يدخل الكفار الجنة إن ماتوا على كفرهم.
النوع الثامن: طلب ثبوت أمرٍ دل السمع على ثبوته [8] ، وهذا مثل الذي
قبله، لكن يفرق في صور عدة بين الدعاء لمعين وبين الدعاء العام.
النوع التاسع: أن يعلق الدعاء على المشيئة [9] ، قال البخاري رحمه الله في صحيحه: «باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له» وذكر تحته حديثين:
الأول: حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا
مستكره له [10] والثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن
شئت -، ليعزم المسألة فإنه لا مستكره له [11] .
النوع العاشر: الدعاء على من لا يستحقه. (أي: يظلم في دعائه) : أخرج
الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:» لا يزال
يُستجاب للعبد مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم « [12] .
وقد جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- - كما في حديث ابن عباس
رضي الله عنهما:» رب أعني ولا تُعِن علي - إلى أن قال - وانصرني على من
بغي علي.. « [13] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» فقوله: وانصرني على من بغى
علي «دعاء عادل لا دعاء معتد يقول: انصرني على عدوى مطلقاً.
ومن الاعتداء قول الأعرابي:» اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً «فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:» لقد تحجرت واسعاً «يريد رحمة
الله» [14] .
النوع الحادي عشر: طلب تحصيل المحرم شرعاً: كأن يسأل ربه أن ييسر له خمراً يشربها، أو خنزيراً يأكله، أو امرأة يزني بها، أو مالاً يسرقه، أو وقتاً ومالاً ليسافر إلى بلاد الكفر أو الفسق بلا حاجة معتبرة.
النوع الثاني عشر: رفع الصوت فوق الحاجة [15] .
فإذا كان الإنسان يدعو بمفردة فالأصل في ذلك الإسرار بالمناجاة كما قال
تعالى: [ادعوا ربكم تضرعاً وخفية] [2] .
لكن إن كان معه من يُؤمن على دعائه، كالإمام في القنوت، أو الاستسقاء أو
نحو ذلك، فإنه يرفع صوته على قدر الحاجة، ويُؤمن من خلفه على دعائه دون
صياح ورفع زائد على القدر المُحتاج إليه؛ لأن ذلك قد يتنافى والأدب مع الله عز
وجل.
وقد فسر بعض السلف قوله تعالى: (إنه لا يحب المعتدين) [2] بالذين
يرفعون أصواتهم رفعاً زائداً على الحاجة [17] .
قال ابن المُنيّر رحمه الله: «وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه
بالتضرع في الآية، فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن
دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار
يصحبه.
فائدة: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله فوائد كثيرة
تتعلق بخفض الصوت والإسرار بالدعاء [18] .
النوع الثالث عشر: أن يدعو ربه دعاءً غير متضرع، بل دعاء مُدل
كالمستغني بما عنده المدلّ على ربه به.
قال ابن القيم رحمه الله:» وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع
الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين
متضرع خائف فهو معتد « [19] .
النوع الرابع عشر: أن يسمي الله بغير أسمائه، ويثني عليه بما لم يثن به
على نفسه ولم يأذن فيه، وهذا ظاهر لا يخفى.
النوع الخامس عشر: أن يسأل ما لا يصلح له: مثل أن يسأل منازل الأنبياء، أو أن يكون مَلَكاً لا يحتاج إلى طعام ولا شراب، أو أن يُعطى خزائن الأرض، أو يُكشف له عن الغيب، أو غير ذلك مما هو من خصائص الربوبية أو النبوة.
النوع السادس عشر: تكثير الكلام الذي لا حاجة له، والتطويل في تشقيق العبارات، والتكلف في ذكر التفاصيل، كأن يدعو ربه أن يرحمه إذا وضع في اللحد تحت التراب والثرى، وبين الصديد والدود، وأن يرحمه إذا سالت العيون وبليت اللحوم، وأن يرحمه إذا تولى الأصحاب، وقسم ماله وترك دنياه، أو يدعو على عدوه أن يخرس الله لسانه، ويشل يده، ويجمد الدم في عروقه وأن يسلب عقله فيكون مع المجانين.. إلخ.
أخرج أبو داود وغيره عن أبى نعامة عن ابن سعد» ابن ابي وقاص «أنه
قال: سمعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها، وكذا وكذا،
وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، وكذا وكذا، فقال: يابُني: إني سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:» سيكون قوم يعتدون في الدعاء «فإياك
أن تكون منهم، إن أُعطيت الجنة أُعطيتها وما فيها، وإن أعذتَ من النار أُعذت
منها وما فيها من الشر» [20] .
وأخرج أيضاً عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: «اللهم
إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بُني، سل الله
الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
» إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء « [21] .
ولا شك أن هذا مخالف لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء، فقد
كان عليه الصلاة والسلام يتخير من الدعاء أجمعه.
أخرج أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:» كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يستحب الجوامع من الدعاء، ويدعُ ما سوى ذلك « [22] .
وأخرج أيضاً عن قتادة رحمه الله أنه سأل أنساً رضي الله عنه: أي دعوة كان
يدعو بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها
» اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار « [23] .
وجاء عند البخاري من حديث أنس:» كان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» [24] .
النوع السابع عشر: أن يتقصد السجع في الدعاء ويتكلفه.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: «باب ما يكره من السجع في الدعاء»
ثم ذكر أثراً عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «حدث الناس كل
جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا
القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم
حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه. فانظر السجع في
الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون
إلا ذلك الاجتناب» [25] .
قال الحافظ: «ولا يرد على ذلك ما وقع في الأحاديث الصحيحة؛ لأن ذلك
كان يصدر من غير قصد إليه، ولأجل هذا يجيء في غاية الانسجام كقوله -صلى
الله عليه وسلم- في الجهاد:» اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم
الأحزاب «وكقوله -صلى الله عليه وسلم-:» صدق وعده، وأعز جنده «
الحديث، وكقوله:» أعوذ بك من عين لا تدمع، ونفس لا تشبع، وقلب لا يخشع «وكلها صحيحة، قال الغزالي:» المكروه من السجع هو المتكلف، لأنه لا يلائم
الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير
متكلفة « [26] .
ثم ذكر كلاماً قال بعده:» وقد تتبعت دعوات الأنبياء والمرسلين،
والمصطفين من عبادة المخبتين، واستخرجت ما وجدت في القرآن من ذلك فوجدت
جميعها: (ربنا ربنا) أو «رب» ، ثم أورد جملة من الأدعية الواردة في القرآن
ليدلل على ذكره [27]
النوع الثامن عشر: قصد التشهق كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -
رحمه الله - بحيث لا يكون ذلك بسبب غلبة البكاء وإنما هو أمر يعتمده ويطلبه.
النوع التاسع عشر: أن يتخذ دعاءً من غير الوارد في الكتاب والسنة بحيث يصير ذلك شعاراً له يداوم عليه [28] . كمن يخصص دعاء معيناً بقوله عند ختم القرآن أو غير ذلك.
النوع العشرون: التغني والتلحين والمطيط، قال المناوي: «قال الكمال ابن الهمام: ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط، والمبالغة في الصياح، والاشتغال بتحريرات النغم إظهاراً للصناعة النغمية، لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة، بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس به، فكأنه قال أعجبوا من حسن صوتي وتحريري [29] .
هذا ما تيسر انتقاؤه من كتب أهل العلم، والله أسأل أن يرزقنا جميعاً العلم
النافع والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(*) في هذا الموضوع راجع: مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية صالح 1/171 الفروع 1/458، الفتاوى 10/713 - 714، الفروق للقرافى 4/259- 265، تفسير القرطبي، والقاسمي،
والمنار للآية رقم 55 من سورة الأعراف، الدعاء للطرطوشي ص 154-155، تلخيص الاستغاثة ص 93-95، بدائع الفوائد 3/12-14.
(1) أبو داود رقم (1479) ، وانظر صحيح أبي داود رقم (1312) .
(2) الأعراف: 55.
(3) انظر الكليات للكنوي ص 150.
(4) تفسير الطبري 8/207.
(5) الدعاء للطرطوشي ص 154.
(6) تفسير القرطبي 7/226.
(7) بدائع الفوائد 3/13.
(8) ولا يشكل على ذلك بعض ما يشرع لنا طلبه كالوسيلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا الأمر قد تعبدنا الله به.
(9) انظر كتاب الدعاء للطرطوشي ص 48.
(10) البخاري رقم 6338.
(11) البخاري رقم 6339.
(12) البخاري 11/119، ومسلم 2735.
(13) أحمد 1/227، أبو داود 1510، 1511، صحيح أبي داود 1230، والترمذي 2/272، وابن ماجة 3830.
(14) تلخيص الاستغاثة 94.
(15) انظر كتاب الدعاء للطرطوشي ص 155-182، والآداب الشرعية 2 /272.
(16) الفتاوى 22/468-469.
(17) انظر: ابن جرير 8/207، الدعاء للطرطوشي 154، بدائع الفوائد 3/13، القاسمي 7/150.
(18) انظر الفتاوى 15/15 - 19، وبدائع الفوائد ج3 / 610.
(19) بدائع الفوائد 3/13.
(20) أبو داود رقم 1480، صحيح أبي داود رقم 1313.
(21) ابو داود رقم 96، صحيح أبي داود رقم 87.
(22) أبو داود رقم 1482، صحيح أبي داود رقم 1315.
(23) أبو داود رقم 1519، صحيح أبي داود رقم 1344.
(24) البخاري 6389.
(25) البخاري 6337.
(26) الفتح 11/139.
(27) الدعاء للطرطوشي 146-151.
(28) أنظر الفتاوى 22/511.
(29) فيض القدير 1/229.(73/120)
منتدى القراء
ما هو دوري؟
أحمد العجروش
إن مآسي الأمة أيها الحبيب ليست قصة خيالية تُروى في المجالس ولا حدث
يحدث في كوكب ما، بل هي أحداث صحيحة وخطيرة، وإن لم يفقه المسلمون
الموقف، فإننا بلا شك مسؤولون يوم القيامة، ومن هذه المآسي ما يحدث لإخواننا
في البوسنة والهرسك، تلك البلاد المسلمة التي اجتاحتها جحافل الظلم الصربي الذي
يقول: «سننقذ أوروبا من الإسلام» ! ! ومآسي أفريقيا التي كساها الجوع والجهل، والمرض، مما ساعد على سيطرة النصارى هناك، فدخلوا على الصومال
وأرتيريا وهدفهم الوحيد السيطرة على الأرض الغنية بكل الثروات، وإجهاض ما
بدا من توجه إسلامي هناك، وحب للإسلام بين أهله، ولا ننسى كذلك جنة الدنيا
كشمير التي يحتلها الهندوس الحاقدون على الإسلام وأهله.
وبعد هذا، قد تسأل: ما دوري في ما يحدث؟ وماذا يجب أن أعمل؟
الجواب: تستطيع أن تعمل، ولك دور بلا شك، لأنك مسلم والإسلام دين قوة
وجد وصبر على المصاعب، والحل والله أعلم كالتالي:
1- يجب العودة والتوبة إلى الله والاعتراف بالذنب، والاتصال الدائم بالله
مما يساعد على قوة القلب والصبر في طريق الدعوة، وأن نؤمن بوعد الله ونصره
للمؤمنين؛ لأنه هو الناصر المعين، قال الله تعالى: [يأيها الذين آمنوا إن
تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم] [1] .
2- تخليص القلب من الأحقاد التي زرعها المرجفون في قلوبنا حقداً على
بعضنا فأنسونا أخوة الإسلام، ونحن نقف بين يدي الله في صف واحد قال تعالى:
[إنما المؤمنون إخوة ... ] [2] .
3- إصلاح النفس ودعوتها لطريق الهدى، وذلك بالعلم النافع والعمل الصالح
لكي يسود الخير في المجتمع، ويكون للإسلام صولة وجولة في كل الميادين، قال
تعالى: [ومن أحسن قولاْ ممن دعا إلى الله وعمل صالحاْ وقال إنني من
المسلمين] [3] .
4- إصلاح المجتمع والبدء بالبيت والحي والمدرسة، وذلك بالدعوة إلى الله
بالحكمة والموعظة الحسنة والخلق الفاضل، قال الله تعالى: [واذكر في الكتاب
إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة
وكان عند ربه مرضيَا] [4] .
وأخيراً أسأل الله أن ينصر إخواننا في كل مكان وأن يثبت أقدامهم وأسأله أن
يؤلف بين قلوبنا ويجعلنا من الراشدين.
__________
(1) سورة محمد: 7.
(2) سورة الحجرات: 10.
(3) سورة فصلت: 33.
(4) سورة مريم: 54، 55.(73/130)
من ثمار المنتدى
أنشطة المنتدى الإسلامي
المنتدى الإسلامي مركز من مراكز أهل السنة والجماعة يسير على منهجهم
ويدعو إلى أصولهم ويذكر بطريقتهم السليمة من الغلو والانحراف، وهو يستقبل
بكل رحابة صدر أي مسلم مهما كان لونه أو جنسيته.
ويسرنا هنا تقديم هذا التقرير الشامل لبعض أنشطته التي تمت بعون من الله
وتوفيقه ثم بتعاونكم وتشجيعكم لنا ماديا ومعنوياً، سائلين الله أن يجعلنا جميعاً من
المتعاونين على البر والتقوى، ونحن في حاجة إلى دعائكم وآرائكم ومؤازرتكم.
أولا: الأنشطة الثقافية: وتشمل الآتي:
1 - الدورات الشرعية: تهدف هذه الدورات إلى تصحيح وترشيد العمل
الإسلامي، ورفع المستوى العلمي لدى الدعاة، وتأصيله تأصيلاً شرعياً، مبنياً
على الكتاب والسنة الصحيحة ومنهج السلف الصالح.
وقد قام المنتدى الإسلامي بتنظيم عدد من الدورات الشرعية، بلغ عددها ولله
الحمد والمنة خمس عشرة دورة، شارك فيها نخبة من العلماء وطلبة العلم،
والأساتذة والمتخصصون، وقدم فيها: دروس في العقيدة ومنهج السلف الصالح،
وعلوم القرآن، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله، والسيرة النبوية والتاريخ،
وحاضر العالم الإسلامي، والآداب الإسلامية.
وكانت الدورات موزعة كالتالي:
في لندن: ست دورات.
بنجلاديش: دورتان. استمرت كل دورة لمدة أربعة أشهر.
السودان: دورتان.
تشاد: دورتان.
مالي: دورة واحدة.
كينيا: دورة واحدة.
أوغندا: دورة واحدة.
2 - الملتقيات الدعوية: تهدف هذه الملتقيات الدعوية إلى معالجة مشكلات الدعوة والدعاة، وتنمية القدرات الدعوية والعلمية لدى المشاركين.
وتم بحمد الله تعالى عقد (18) ملتقى دعوياً في عدد من الدول، موزعة
كالتالي:
في لندن: 16 ملتقى دعوياً، كان آخرها: الملتقى السادس عشر في الفترة
من 20-21رجب 1414 هـ شارك فيه كل من: الدكتور جعفر شيخ إدريس،
والدكتور محمد بن سعيد القحطاني، والشيخ عبد الرحمن دمشقية، والاستاذ محمد
الأحمري، والاستاذ عثمان رمضان.
في غانا: ملتقى دعوياً واحداً استمر لمدة عشرة أيام ما بين 24/2 إلى 5/3/
1414 هـ شارك فيه 131 داعية من دول غرب أفريقيا وكان شعار الملتقى:
[واعتصموا بحبل الله جميعاْ ولا تفرقوا] .
في كينيا: ملتقى دعوياً واحداً استمر لمدة عشرة أيام ما بين 1/3 إلى 10/3/
1414 هـ شارك فيه (85) من الدعاة من دول شرق أفريقيا.
3 - الحلقات والدروس الأسبوعية: واظب المنتدى الإسلامي منذ إنشائه على عقد دروس أو محاضرات في كل يوم سبت في مركزه الرئيسى في لندن.
بالإضافة إلى أن كل داعية تابع للمنتدى الإسلامي يكلف بعقد حلقات لتحفيظ
القرآن الكريم، ودروس أسبوعية ثابتة في العلوم الإسلامية.
كما يقوم الدعاة التابعون للمنتدى في مختلف الدول بإلقاء الخطب
والمحاضرات، في شتى المعارف الإسلامية، في المساجد، والمدارس،
والتجمعات العامة، وإقامة حلقات لتحفيظ القرآن الكريم.
4 -مطبوعات المنتدى الإسلامي:
(1) مجلة البيان: بدأ المنتدى الإسلامي بإصدار هذه المجلة في عام
1406 هـ.
(2) نشرة المنار «وهى نشرة تصدر باللغة الانجليزية توزع في جميع
أنحاء بريطانيا، كما توزع في أمريكا، وتتناول هذه النشرة بعض البحوث المبسطة
في الدين الإسلامي، وهى تهتم بمخاطبة الناطقين باللغة الانجليزية.
(3) إصدارات المنتدى الإسلامي: يقوم المنتدى الإسلامي بطباعة الكتب
والرسائل المفيدة، مع الحرص على حسن الاختيار والالتزام بمنهج أهل السنة
والجماعة، ومن هذه الإصدارات:
- جهاد المسلمين في أفغانستان يمر بأخطر مراحله.
- التجديد في الإسلام.
- الحزن والاكتئاب في ضوء الكتاب والسنة.
- أيعيد التاريخ نفسه؟
- رؤية إسلامية للاستشراق.
- الهزيمة النفسية عند المسلمين على ضوء الكتاب والسنة.
- خواطر في الدعوة (جزءان) .
- منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين.
- اعتقاد أهل السنة في الصحابة.
- على من تعرض الصور؟ (مأساة المسلمين في البوسنة) .
- علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام.
- البدواة والحضارة (نصوص مختارة من مقدمة ابن خلدون) .
- الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي.
(4) طباعة الكتب المترجمة: قام المنتدى الإسلامي بطباعة عدد من الكتب
الإسلامية المترجمة إلى عدد من اللغات، ومنها:
(أ) الأصول الثلاثة لمحمد بن عبد الوهاب باللغة الفرنسية.
(ب) الأصول الثلاثة بلغة الهوسا.
(ج) الخطوط العريضة بلغة الهوسا.
(د) رفع الملام عن الأئمة الأعلام باللغة البنغالية.
(هـ) توجيهات إسلامية (لجميل زينو) باللغة البنغالية.
(و) عقيدة أهل السنة والجماعة (لجميل زينو) باللغة البنغالية.
(ز) مبادئ الإسلام باللغة البنغالية.
(ح) تحفة الأخيار للشيخ عبد العزيز بن باز باللغة الأندونيسية.
(ط) إلى ابنتي للشيخ علي الطنطاوي باللغة الأندونيسية.
(ي) القضاء والقدر للشيخ محمد بن عثيمين باللغة الأندونيسية.
ثانياً: برنامج تعيين الدعاة:
قام المنتدى الإسلامي بحمد الله تعالى بتعيين: خمسمائة داعية في عدد غير
قليل من الدول الإفريقية والآسيوية. مثل (كينيا، وأوغندا والصومال، وبوركينا
فاسو، وساحل العاج، وأثيوبيا، والسودان وتشاد ومالي، والنيجر، ونيجيريا،
وبنين، وغانا، وتوجو. والسنغال وبنجلاديش، وباكستان، والفلبين وأندونيسيا..
وغيرها) ليكون ذلك إن شاء الله تعالى إسهاماً في نشر منهج أهل السنة والجماعة.
ويخضع تعيين الداعية لشروط عدة، من أهمها:
1 -سلامة المنهج معتقداً وسلوكاً.
2 -الكفاءة العلمية.
3 -الكفاءة الدعوية.
وقد وضعت برامج دعوية يومية لكل داعية يسير في عمله بناء عليها، وتتم
متابعةالداعية عن طريق المشرف الدعوي في المنطقة نفسها، وعن طريق إرسال
تقارير شهرية إلى اللجنة المختصة بذلك. ومن خلال زيارات دورية يقوم بها
مسؤولو المنتدى الإسلامي إلى مناطقهم حيث يتم توجيههم وإرشادهم.
ويحرص المنتدى الإسلامي على رفع المستوى الشرعي والدعوي لهؤلاء
الدعاة عن طريق الدورات الشرعية، والملتقيات الدعوية، وتوفير المكتبات
والكتب، ونحوها.
ثالثاً: حلقات تحفيظ القرآن الكريم:
يهتم المنتدى الإسلامي اهتماماً خاصاً بكتاب الله عز وجل حفظاً وتلاوة
ودراسة، من خلال إقامته لحلقات وخلوات تحفيظ القرآن الكريم، ويبلغ عدد
الحلقات التي يشرف عليها المنتدى (418) حلقة، يستفيد منها بحمد الله تعالى:
(12540) طالباً وطالبة.
وتتوزع هذه الحلقات في عدد كبير من الدول، منها: كينيا، وأوغندا وتشاد،
ومالي، والسنغال، والصومال، وأثيوبيا، وغانا، وباكستان وبنجلاديش، والفلبين
وغيرها.
وقد أعد المنتدى خطة متكاملة للارتقاء بمستوى الحلقات، ووضع منهجاً
علمياً رديفاً في التوحيد، والفقه، والتفسير، والآداب الشرعية.
يهتم المنتدى الإسلامي بالنشاط التعليمي اهتماماً بالغاً، إذ أن العلم ركيزة
رئيسة من ركائز البناء والعطاء. ويشرف المنتدى الإسلامي بفضل الله تعالى على
27 مدرسة، يستفيد منها قرابة 5000 طالب وطالبة. وهي موزعة كالتالي:
في لندن: توجد مدرسة واحدة.
في كينيا: توجد 12 مدرسة ابتدائية.
في غانا: أقام المنتدى ثمان مدارس.
في أثيوبيا: توجد مدرستان.
في أوغندا: يوجد مركز تعليمي واحد يحتوي على الروضة، والمرحلة
الابتدائية والمتوسطة، والثانوية.
في النيجر: مدرسة متوسطة.
في باكستان: يوجد مجمعان تعليميان يضم كل منهما المرحلة الابتدائية
والمتوسطة والثانوية.
ويحرص المنتدى الإسلامي على توفير المناهج الدراسية اللازمة حيث وزعت
2000 نسخة من الكتب على بعض المدارس الإسلامية في غانا و5000 كتاب في
بنجلاديش.
رابعاً: القوافل الدعوية:
المناطق الإسلامية مناطق كبيرة مترامية الأطراف وعرة المسالك والدروب
وقد انتشر الإسلام بحمد الله تعالى في مختلف الأدغال والقرى النائية ولكن غلب
الجهل على المسلمين في المدن الرئيسة فضلاً عن القرى والهجر النائية، مما جعل
البدع والشركيات والسحر والكهانة تنتشر في أوساط المسلمين انتشاراً واسعاً. ومثل
هؤلاء الجهلة هم البيئة الخصبة غالباً للنشاط الكنسي حيث أقيمت المراكز
التنصيرية في القرى النائية، واستقر المنصرون يعملون بين المسلمين.
ولصعوبة الانتقال من منطقة إلى أخرى، ولوعورة الطرق وخطورتها في
بعض الأحيان، كلف المنتدى الإسلامي دعاته بإعداد القوافل الدعوية التي تنطلق
إلى مختلف الأماكن التي ينتشر فيها المسلمون وغيرهم من الوثنين والنصارى،
وذلك حرصاً على الوصول إلى الأماكن البعيدة والدعوة، لنشر العقيدة السلفية
الصافية، ومحاربة البدع والخرافات.
ومن أجل أن يكون تأثير القافلة على المستوى الأمثل، رأى المنتدى أن
يرسل طبيباً مع كل قافلة لعلاج المرضى وتوزيع الأدوية، كما تحمل القافلة أحياناً
بعض الملابس والمواد الغذائية، وبعض الكتب باللغات المحلية، وذلك من أجل
تأليف الناس وتقريبهم إلى الإسلام.
وقد تم بفضل الله تعالى تنفيذ (18) قافلة دعوية، موزعة كالتالي:
في الفلبين: قافلتان.
في نيجيريا: أربع قوافل.
في بنجلاديش: قافلتان.
في كينيا: أربع قوافل.
في الصومال: أربع قوافل.
في السودان: قافلة واحدة.
في أوغندا: قافلة واحدة.
وأثمرت هذه القوافل بحمد الله تعالى نتائج إيجابية مشجعة للمزيد من العطاء،
حيث أقبل الناس على العلم، وبدأوا يتعرفون على العقيدة الصحيحة، والعبادات
السليمة، إضافة إلى الوثنيين الذين يسلمون على أيدي هؤلاء الدعاة.
خامساً: بناء المساجد:
قام المنتدى الإسلامي بحمد الله تعالى ببناء 135 مسجداً وجامعاً، في أماكن
ودول مختلفة. موزعة كالتالي:
باكستان: أربعون مسجداً.
بنجلاديش: خمسة وعشرون مسجداً.
غانا: ثلاثة عشر مسجداً.
كينيا: سبعة عشر مسجداً.
الصومال: أحد عشر مسجداً.
أوغندا: سبعة مساجد.
تشاد: ستة مساجد.
أندونيسيا: خمسة مساجد.
مالي: ثلاثة مساجد.
الفلبين: ثلاثة مساجد.
السودان: مسجدان.
نيجيريا: مسجد واحد.
السنغال: مسجد واحد.
أثيوبيا: مسجد واحد.
ويحرص المنتدى الإسلامي على تعيين داعية مؤهل في كل مسجد يقوم ببنائه، ليتولى الإمامة، وإقامة الدروس الشرعية، ووعظ الناس، وتدريس كتاب الله
عز وجل.
سادساً: المراكز الإغاثية:
قام المنتدى الإسلامي بحمد الله تعالى بإنشاء 25 مركزاً إغاثياً، اثنان منها في
أثيوبيا، والباقي في كينيا في مواقع اللاجئين الصوماليين.
كما قام المنتدى الإسلامي بنشاط إغاثي واسع في وسط الصومال وشماله
ونشاط إغاثي في مواقع اللاجئين البورميين في بنجلاديش، استفاد منه حوالي
عشرة آلاف لاجئ بورمي.
كما أعد المنتدى حملات إغاثية عاجلة للمتضررين من الفيضانات في
بنجلاديش، حيث تم بناء سبعين مسكناً، ووزعت المواد الغذائية والملابس.
ويحرص المنتدى الإسلامي على أن يكون النشاط الإغاثي طريقاً للنشاط
الدعوي، بتعيين الدعاة في أوساط اللاجئين، وبناء المساجد، وافتتاح حلقات
تحفيظ القرآن الكريم، وتوزيع المصاحف والكتب.
سابعاً: حفر الآبار:
نتيجة لموسم الجفاف والقحط الذي ساد القارة الأفريقية، وحاجة المسلمين إلى
مصادر للمياه النقية، عمل المنتدى الإسلامي ولازال يعمل على سد حاجة المسلمين
في هذه المناطق وغيرها بالمياه الصالحة للشرب.
وقد حفر المنتدى الإسلامي حتى الآن 65 بئراً سطحياً، وبئرين إرتوازيين
موزعة كالتالى:
--------------------------
الدولة عدد الآبار
--------------------------
غانا 23
أثيوبياً 8
الصومال 10
بنجلاديش 8
باكستان ... 12
أوغندا 1
مالي 1
كينيا 2
--------------------------
بالإضافة إلى بئر ارتوازي في كينيا وبئر ارتوازي يعمل بالطاقة الشمسية في
تشاد.
ثامناً: مشروع مكافحة العمى:
أقام مركز السند الإسلامي بالباكستان باشراف المنتدى الإسلامي وتنظيمه
وإدارته مخيماً طبياً لمدة خمسة أيام في تشاد في الفترة من 14/6 إلى 19/6/1414
هـ لمعالجة أمراض العيون كانت حصيلته ولله الحمد والمنة ما يلي:
علاج: أكثر من 5000 مريض، مع صرف الأدوية اللازمة.
إجراء: 378 عملية.
توزيع: أكثر من 1500 نظارة.
وقد رافق هذا المخيم نشاط دعوى مكثف شارك فيه أربعون داعية، حيث تم
توزيع 000ر12 شريط، وكمية كبيرة من المصاحف والكتب باللغتين العربية
والانجليزية.
ومن حصيلة هذا المخيم المباركة: إسلام 23 نصرانياً، وسوف يأتي إن شاء
الله تعالى في العدد القادم تقرير مفصل عن هذ المخيم.
تاسعاً مشروع إفطار الصائمين:
يقوم المنتدى الإسلامي سنوياً بفضل الله تعالى بإعداد مشروع لإفطار
الصائمين في عدد من دول العالم الإسلامي، كان من آخرها برنامج إفطار صائم
في رمضان 1413 هـ وبلغ إجمالي المبالغ المصروفة على هذا البرنامج حوالي
(000ر438 دولار أمريكي) ، وكان عدد إجمالي الوجبات المقدمة 836993 وجبة
شملت (18) دولة.
وصاحب هذا البرنامج محاضرات ودروس يومية في العقيدة والصلاة والصيام
والسيرة والتفسير والآداب والرقائق.
عاشراً رحلة الحج والعمرة:
ينظم المنتدى الإسلامي سنوياً رحلة حج وعمرة لخدمة الجالية المسلمة في
بريطانيا وقد شارك في رحلة الحج السادسة لعام 1413 هـ: 100 مسلم ومسلمة
بالإضافة إلى رحلات العمرة، ويقدم في هذه الرحلات عدد من الدروس
والمحاضرات واللقاءات العلمية مع العلماء وطلاب العلم.
وبعد: فهذا بعض من الأنشطة التي قام بها المنتدى الإسلامي إضافة إلى
مشروعات متفرقة مثل كفالة الأيتام ومراكز الخياطة والمناهج الدراسية وغيرها.
ومن الجدير بالذكر أنه يجري الآن الإعداد لافتتاح أربعة معاهد لتأهيل الدعاة
في كل من أثيوبيا وغانا والسودان وكينيا وذلك من أجل تربية وإعداد الدعاة
المؤهلين لحمل راية أهل السنة والجماعة.
والله نسأل أن يبارك في هذه الجهود الخيرة، وأن يتقبل منا ومنكم صالح
الأعمال وأن يوفقنا لإكمال هذه المسيرة على المنهاج الصحيح الذي ارتضاه الله
تعالى لعباده المؤمنين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مكاتب المنتدى الإسلامي في أفريقيا(73/132)
الورقة الأخيرة
تنوير أم تزوير؟ !
أحمد العويمر
مر على أمتنا الإسلامية فترة حرجة منذ القرنين الماضيين عاشت فيها أسوأ
مراحل حياتها حينما كانت في الغالب بعيدة عن أصالة إسلامها بعقيدته الصحيحة
وأصوله الفكرية المعتبرة وحُكمَت في جل أقطارها بزعامات لا تعرف الحكم بما
أنزل الله وإنما حكمت بما توارثته من أحكام عشائرية أو أنظمة مستوردة فكان نتيجة
ذلك أن ركدت العقول وانحسر المد الإسلامي، وتضاءل أثر العلماء العدول في
التوجيه، مما انعكس على الأمة جمعاء بجهل مريع وانحطاط مزمن، بينما أوروبا
تستيقظ، وتكشّر عن أنيابها؛ لتستعمر جل ديار الإسلام حتى يعلن أحد قادتها أمام
قبر القائد المسلم (صلاح الدين) : «ها نحن عدنا يا صلاح الدين» . وحينما
دخلت الخيل الأزهر لم يجد بعض العلماء في ذلك الوقت وسيلة للتحرك ضد الغزو
القادم سوى التجمع لقراءة الأحزاب والأوراد التي لا تخلو من شركيات!
وكانت النتيجة الحتمية فشلاً ذريعاً للأمة، وبداية السقوط في معركة المواجهة
الحضارية. وحينما حز ذلك في نفوس بعض النابهين من أبناء الأمة رأوا أن
السبيل لمواجهة ذلك الغزو ليس إلا فقه العصر ومعرفة علومه وفنونه وإعداد العدة
للمواجهة وعندما اختيرت نخبة من أبناء مصر للدراسة في الغرب للتخصص في
مختلف العلوم التقنية آنذاك، كان إمام البعثة (الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي) والذي
تأثر بالواقع الفرنسي وما يعيشه من نهضة وتقدم، فنقل الشيخ ما رآه ولمسه
وأعجبه هناك من أنظمة وعادات وتقاليد في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص
باريز) داعياً لاقتفائها، وألف بعض الكتب ومنها (مناهج الألباب المصرية في
مناهج الآداب العصرية) و (المرشد الأمين في تربية البنات والبنين) .. لقد ذهب
الشيخ إماماً وعاد داعية من دعاة التغريب فيما انتهى إليه من فكر، والسر والله أعلم
أنه لم ينطلق من أسس عقدية صحيحة أو منهجية علمية، وإلا لما نقل لنا بكل
إعجاب صوراً من الدستور الفرنسي والأنظمة الغربية الكافرة داعياً لتطبيقها في بلاد
المسلمين.
إنه بتلك الروح الانهزامية نكص بالفعل عن مهمته الدعوية، وهذا ما وضحه
بجلاء العلامة (د. محمد محمد حسين) رحمه الله في (الاتجاهات الوطنية في الأدب
المعاصر) و (الإسلام والحضارة الغربية) ، ولذلك لا نعجب حينما نرى أدعياء
التنوير المعاصرين اليوم بعد فشلهم في مشروعهم العلماني لتغريب المجتمع العربي
المعاصر، ودعايتهم المتواصلة له، نجدهم يلجأون لإعادة طبع كتب رموز التغريب
القدامى الذين يسمونهم (رواد التنوير) أمثال: رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين،
وسلامة موسى، وغيرهم، والتي مع ما وضعوه لها من دعاية وطبعات شعبية
ورخص في السعر، لم تجد سوى الكساد لأن أولئك لا يمثلون الإسلام الحقيقي وإنما
هم الفئة المنهزمة الممثلة لفترة تبعية وتغريب أمتنا، وشبابنا اليوم يعرفون أولئك
حق المعرفة فهم مهما لمعوا وأقيمت لهم المؤتمرات والندوات والدعايات الساذجة،
يبقون في نظر الشباب المسلم ليسوا سوى دعاة تزوير لا دعاة تنوير.(73/143)
شوال - 1414هـ
مارس - 1994م
(السنة: 8)(74/)
كلمة صغيرة
ماذا بعد (15) عاماً من الثورة
احتفلت إيران مؤخراً بمرور خمسة عشر عاماً على ثورتها ضد الشاه والتي
تلقاها الكثيرون من الناس - حينها - بالقبول وحسن الظن لما أعلنته من إسلامية
المبدأ والهدف!
لكن تبين أن ذلك الظن ليس في محله لما يلي:
التوجه الطائفي المتطرف المخالف لأصول أهل السنة في مصدر التلقي.
العنصرية الفارسية حيث أنه لا يتأتى لغير فارسي حكم إيران حتى ولو كان
شيعياً.
النهج التآمري في مسألة (تصدير الثورة) والذي يتراوح بين القوة واللين
حسب الظروف.
الموقف المعادي لأهل السنة من شعبها إلى حد يسمح لليهود والنصارى
والمجوس بحقوقهم بينما يحرم منها أولئك , ومحاربتها لعلماء السنة معروفة.
لم تكن هذه الثورة إلا طائفية شيعية أما أن تكون إسلامية حقاً فهذا ما لا يتفق
مع حقائق الوحيين.(74/1)
الافتتاحية
الأصولية ومدى موضوعية الطرح
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد..
يلاحظ أن ما يسمى الأصولية اليوم في خضم الزخم الإعلامي الكبير الذي
أعطي لها على كل المستويات لاسيما من قبل المعادين للإسلام قد استخدمت أبشع
استخدام لمحاربة الإسلام ذاته، وإظهار المتمسكين به بأنهم هم المتطرفون
والإرهابيون، وهم الخطر القائم ضد العالم كله!
ونحن بادئ ذي بدء نؤكد على أن مصطلح الأصولية بالفهم الذي يشيعه
الغرب، ويروجه أذنابه بوسائل إعلامهم في كثير من البلاد العربية والمهجر، إنما
هو معنى طارئ على مجتمعنا الإسلامي، لأنه يعني في الأساس مفهوماً غربياً
يصور الصحوة البروستانتية النصرانية، ويعني أيضاً الالتزام الصارم بالعقيدة
الأرثوذكسية المعارضة للاتجاهات التحررية؛ لكن الغربيين الذين يعيشون هاجس
الخطر الدائم المناوئ لهم الذي صوروه سابقاً في دراساتهم وأبحاثهم وأدبياتهم متمثلاً
في (الشيوعية) ، قد حولوا ذلك الهاجس إلى الإسلام بالتحذير منه ومن الصحوة
الإسلامية التي انتشرت في طول بلاد الإسلام وعرضها ورميها بكل نقيصة،
والمتابع لطروحاتهم يلمس فيها جعلهم الإسلام ومعتنقيه العدو الجديد للحضارة
الغربية ومن أمثلة ذلك:
1- محاضرة المستشرق اليهودي الأمريكي (برنارد لويس) بعنوان (الأصولية
الإسلامية) التي كانت محل عناية الإعلام الغربي وتعليقه؛ لأنه صب فيها جام حقده
على الإسلام ودعاته.
2 -أما صاحب (انتهزوا الفرصة) فهو يقول في هلع ورعب مُفْتَعَلَين بعد
سقوط الشيوعية: أصبحت الأصولية الإسلامية هي العدو الأول.
3 -أما الصهيوني العجوز (كسينجر) فهو في أحدث المقابلات معه يقول: إن
ما يشغله حتى العشر سنوات القادمة الأصولية والهجرة الجماعية.
يتبين للمتابع لهذه الأقوال وأمثالها ما تشكله من عداء مستكن في الصدور مما
ظهر على ألسنتهم ووضحته أفعالهم، والحقيقة أن هذا العداء العنيف للإسلام وأهله
لا يستغرب لما يلي:
* أن القرآن الكريم قد وضح لنا عداء الكفار بقوله تعالى: [ولن ترضى عنك
اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] (البقرة: 120) ، وبقوله تعالى: [ود كثير
من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراْ حسداْ من عند أنفسهم]
(البقرة: 109) .
* أن العالم الإسلامي الذي ذاق الأمرين من المستعمر، ونهبت خيراته، لديه
من مقومات النهضة والقوة ما لو أتيح له المجال لنبذ التبعية للغرب، وتمرّد على
نظمه وقوانينه، وهذا ما يخيفهم.
* الموقع المهم للعالم الإسلامي، وتحكمه في كثير من الممرات الاستراتيجية
التي لها أثرها في التجارة العالمية.
أين الإنصاف؟ !
والعجيب أن الإعلام الغربي بكل اتجاهاته، وبشتى وسائله يقوم بحرب
شعواء على الإسلاميين بأساليب منها:
* المزيد من حملات التشنيع عليهم، ومهاجمتهم أحياناً بطرق تضاهي
(الأساليب البوليسية العربية) في ملاحقتها للإسلاميين.
* توريط الإسلاميين في قضايا مزورة للإيقاع بهم كما حصل وكشفت عنه
الأخبار مؤخراً.
* مضايقة اللاجئين لديهم وسن القوانين التي تحد من حريتهم وحقوقهم المدنية.
تطرف وإرهاب أيضاً، ولكن؟ !
ومما يؤكد العداء للإسلام وحده في الغرب والشرق هو التجاهل لتطرف
الأصوليات غير الإسلامية مع ما تقوم به من إرهاب ودمار ومآسي وتهديد ليس
لدول بعينها وإنما للسلام العالمي، ومع ذلك تُدَس الرؤوس في الرمال، ويتناسى
كل ذلك.
فهناك الأصولية اليهودية التي يتاح لها الحرية في العمل السياسي وربما لا
تقوم حكومة صهيونية إلا بدعم منها كما هو الحال مع (جماعة كاخ) مثلاً التي
مازالت تطالب بقتل وطرد الفلسطينيين، ومازالت تلك فلسفتهم كما سطرها زعيمهم
الهالك (كاهانا) في كتابه (شوكة في عيونكم) ، ويعني بالشوكة الشعب الفلسطيني.
ومع ذلك لا يوجه لهم أي نقد لا لشيء إلا لأنهم غير مسلمين!
وهناك الأصوليات النصرانية التي كثرت الدراسات العلمية الموضحة
لاتجاهاتها ومنها: (النبوءة والسياسة) لجريس هالسل، و (الأصولية الإنجيلية)
للأستاذ محمد السمّاك.
ولا يغيب عن البال المذابح الدامية التي أقامها متطرفو النصارى في جويانا
وفي أمريكا التي لم تنل (واحداً في المئة) من الحرب الإعلامية ضد المسلمين.
وهناك التطرف الهندوسي والتطرف البوذي اللذان لا تسلط الأضواء عليهما
ولا يحاربان، لا لشيء إلا لأنهما لا ينتسبان إلى الإسلام، أما تطرف
(جيرينوفسكي) وتهديده لأوربا بالحرب (النووية) فهو محل متابعة الإعلام الغربي،
ولم يطالب حتى بمحاكمته، أو الضغط على روسيا لكبح جماحه.
حتى أنت يا أفورقي!
وبما أن تشويه الإسلام والمسلمين ووصمهم بالتطرف هو حديث الساعة فقد
صرح الصليبي المتصهين (أسياسي أفورقي) متهماً السودان بأنه يجند الأصوليين
لحرب دولته، حتى ينال على ذلك الدعم، ويكثف من التوجه الغربي للتدخل في
السودان بزعم حماية نصارى الجنوب! .
لقد عضّ هذا الصليبي اليد التي أيدته وساعدته، بل ومنعت المجاهدين
الأريتيريين من مواصلة حربهم ضده، كما نقلت الأخبار في ذلك الوقت قوله وبكل
غطرسة حين سُئل عن المجاهدين المناوئين له: أين هؤلاء دلوني عليهم، ثم عاد
للصراخ اليوم داعياً لإنقاذ نفسه من خطرهم، ولعله ليأخذ مقابل ذلك (المعلوم) .
هذه مواقف الغرب من العداء للإسلام ودعاته، لكن ما يجب أن يفهمه الجميع
أن الموقف الإسلامي من الغرب ليس بالضرورة موقف العداء لهم ماداموا لا يعادون
الإسلام، ولا يعملون لدمار دياره، ولا يضعون المعوقات في طريق نهضته وقوته.
يقول الله تعالى: [لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم
من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين] (الممتحنة: 8) ،
وموقف الإسلام من أهل الذمة والمستأمنين مبسوط في كتب الفقه، وحسبنا قوله
صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ... » الحديث رواه
البخاري.
إننا ندعو إلى تبني الإنصاف الذي كثيراً ما يدعون إليه في وسائل إعلامهم،
أما أذنابهم في الإعلام العربي وحتى الكتاب الذين ينظّرون لوأد الاتجاه الإسلامي من
كتاب اليسار واليمين المتطرف وهم أحقر من أن يذكروا فإنهم لن يكفوا عن أساليبهم
في حرب الدعوة والدعاة حتى يكف أسيادهم عن ذلك، وحينها سيخجلون من
مواصلة الكذب بلا طائل، لأن أساليبهم إياها أصبحت محل استهجان ومقت القراء
الذين صاروا يتجنبون مطبوعاتهم التي تقوم على الكذب والتزوير والإثارة،
وستبقى تلك الأساليب ضد الإسلام ودعاته وصمة عار على من يكتبها، ومن
يدعمها.
[إنهم يكيدون كيداْ * وأكيد كيداْ * فمهل الكافرين أمهلهم رويداْ]
«الطارق: 15-17»(74/4)
مقال
دروس من حياة سلفنا الصالح
عبد العزيز آل عبد اللطيف
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه،
أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء عليهم السلام، وسبيل العلماء الربانيين،
ولذا كانت أفضل القربات، وأعظم المقامات.
قال تعالى: [ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من
المسلمين] [1]
والدعوة إلى الله تعالى لابد أن تكون صحيحة المقصد، سليمة المنهج وهذا هو
سبيل دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه بإحسان، كما قال عز
وجل: [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما
أنا من المشركين] [2]
ولقد سلك سلفنا رحمهم الله هذا الطريق، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن
المنكر وعلموا الناس الخير، وبلّغوا البلاغ المبين عبر وسائل متعددة: كالتدريس
والحسبة، والوعظ، والفتيا، والقضاء وغيرها ... لقد قام أولئك السلف بهذه
الدعوة ابتغاء وجه الله تعالى، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شكوراً وفي الوقت
نفسه التزموا بسلامة المنهج من خلال الاتباع وترك الابتداع.
والصحوة الإسلامية المعاصرة بحاجة إلى التعرف على أمثلة عملية ومشاهد
واقعية من دعوة السلف الصالح؛ لكي تكون تلك المواقف حافزاً مشجعاً للتأسي بهم، والسير على منوالهم.
قال أحد العلماء: «من نظر في سيرة السلف عرف تقصيره، وتخلفه عن
درجات الرجال» .
وهذه المقالة تحوي جملةً من المشاهد الدعوية من حياة السلف، نعرضها على
النحو التالي:
كان زاذان يشرب المسكر، ويضرب بالطنبور، ثم رزقه الله التوبة على يد
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فصار زاذان من خيار التابعين، وأحد العلماء
الكبار، ومن مشاهير العباد والزهاد. [3]
وإليك قصة توبته، كما يرويها زاذان نفسه قائلاً:
«كنت غلاماً حسن الصوت، جيد الضرب بالطنبور، فكنت مع صاحب
لي وعندنا نبيذ وأنا أغنيهم، فمر ابن مسعود فدخل فضرب الباطية (الإناء) فبددها
وكسر الطنبور، ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت
أنت أنت، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود، فأُلْقِيت
في نفسي التوبة، فسعيت أبكي، وأخذت بثوبه، فأقبل عليّ فاعتنقني وبكى وقال:
مرحباً بمن أحبه الله، اجلس، ثم دخل، وأخرج لي تمراً» . [4]
ولنا وقفة مع هذه القصة، فمن خلال هذا السياق نلمس صدق ابن مسعود
رضي الله عنه وحسن نيته، وصحة قصده في دعوته لزاذان، مما كان سبباً في
هداية الرجل وتوبته وكما قال عبد القادر الجيلاني (ت 561 هـ) رحمه الله معلقاً على
تلك القصة:
«انظر إلى بركة الصدق والطاعة وحسن النية، كيف هدى الله زاذان بعبد
الله بن مسعود لما كان صادقاً حسن السيرة، فلا يصلح بك الفاسد حتى تكون صالحاً
في ذات نفسك، خائفاً لربك إذا خلوت، مخلصاً له إذا خالطت غير مراء للخلق في
حركاتك وسكناتك، موحداً لله عز وجل في ذلك كله وحين يزاد في توفيقك وتسديدك، وتحفظ عن الهوى والإغواء من شياطين الجن والإنس والمنكرات كلها والفساق
والبدع والضلالات أجمع، فسيزال بك المنكر من غير تكليف، ومن غير أن يصير
المعروف منكراً، كما هو في زماننا، ينكر أحدهم منكراً واحداً، فيتفرع منه
منكرات جمة، وفساد عظيم..» . [5]
وأمر آخر نستفيده من هذه القصة، وهو أن ابن مسعود رضي الله عنه سلك
أُولى الوسائل الشرعية في تغيير المنكر، فلما كان قادراً على تغيير المنكر بيده،
أزاله بيده فكسر الطنبور، وأتلف وعاء النبيذ.
لقد ضرب ابن مسعود رضي الله عنه مثالاً رائعاً في الشجاعة والإقدام على
الصدع بالحق، وتغيير المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، مع كونه وحيداً، وهم
جماعة كما هو ظاهر سياق القصة، إضافة إلى قصره ونحافته رضي الله عنه.
لكن لما كان ابن مسعود معظماً لحرمات الله تعالى وشعائره أورثه ذلك مهابةً
وإجلالاً.. وصدق عامر بن عبد القيس رحمه الله حيث يقول: «من خاف الله
أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله، أخافه الله من كل شيء» . [6]
ومع هذا التغيير باليد، فإننا ندرك مدى شفقة ابن مسعود رضي الله عنه
وكمال رفقه، وتمام نصحه لزاذان، فإن زاذان لما أقبل تائباً، أقبل عليه ابن
مسعود رضي الله عنه وعانقه وبكى فرحاً بتوبة زاذان، وحياه بأجمل عبارة مرحباً
بمن أحبه الله، كما قال سبحانه: [إن الله يحبَ التوابين ويحبَ المتطهرين] [7] ، ليس هذا فحسب بل أجلسه وأدناه، وأعطاه تمراً.
وهكذا كان أهل السنة يعلمون الحق ويدعون إليه، ويرحمون الخلق
وينصحون لهم.
كما نلحظ من هذه القصة ذكاء ابن مسعود وفطنته [8] ، فانظر كيف
استجاش زاذان إلى التوبة، فإن زاذان كان مغنياً حسن الصوت، فقال له ابن
مسعود: «لو كان ما سمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن لكنت أنت أنت»
وفي رواية قال: «ما أحسن هذا الصوت! لو كان بقراءة كتاب الله تعالى كان
أحسن» .
إن التوجيه السديد للمواهب والقدرات، ووضعها في محلها الملائم شرعاً،
إضافة إلى مراعاة طبيعة النفس البشرية، والعلم بنوازعها ومشاعرها، عامل مهم
لنجاح الدعوة فإن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء فلابد من مراعاة «البديل»
المناسب، وهذا ما فقهه ابن مسعود رضي الله عنه وغاب عن الكثيرين.
يقول ابن تيمية: « ... الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا
قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويأمر بمعروف يغني عنه كما
يأمر بعبادة الله سبحانه، وينهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله
إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره» . [9]
كان حبيب العجمي من ساكني البصرة، وكان من أهل التجارة والأموال،
حتى حضر مجلساً للحسن البصري رحمه الله، وسمع موعظته فوقعت موعظته من
قلبه، فصار من أفضل زهاد أهل البصرة وعبادها.
وإليك القصة تفصيلاً:
«كان الحسن البصري يجلس في مجلسه الذي يذكر فيه كل يوم، وكان
حبيب العجمي رحمه الله يجلس في مجلسه الذي يأتيه أهل الدنيا والتجارة وهو غافل
عما فيه الحسن لا يلتفت إلى شيء من مقالته، إلى أن التفت يوماً فسأل عما يقوله
الحسن البصري، فقيل له: يذكر الجنة، ويذكر النار، ويرغب في الآخرة،
ويزهد في الدنيا، فوقر ذلك في قلبه، فقال: اذهبوا بنا إليه فأتاه، فقال جلساء
الحسن يا أبا سعيد هذا حبيب قد أقبل إليك فعظه، وأقبل عليه فأقبل عليه الحسن
فذكّره الجنة وخوّفه النار، ورغّبه في الخير، وزهده في الدنيا فتأثر حبيب بتلك
الموعظة، وتصدق بأربعين ألفا، وقنع باليسير، وعَبَدَ الله حتى أتاه
اليقين» . [10] ...
أخي القاريء: لعلك تلحظ صدق الحسن البصري رحمه الله في دعوته،
وسلامة قصده، حتى أثرت موعظته في قلب حبيب العجمي، فنقلته تلك الموعظة
الصادقة من ضجيج الأسواق، وصخب التجارة إلى أن صار عابداً زاهداً، ذا دعاء
مستجاب، وكرامات مأثورة كما صار صاحب بذل وإنفاق في سبيل الله تعالى.
وما أروع مقالة مالك بن دينار في هذا المقام:
«الصدق يبدو في القلب ضعيفاً، فيتفقده صاحبه، ويزيده الله تعالى حتى
يجعله الله بركة على نفسه، ويكون كلامه دواءً للخاطئين» .
ثم قال مالك: «أما رأيتموهم؟» ثم يرجع إلى نفسه فيقول: «بلى والله لقد
رأيناهم: الحسن البصري، وسعيد بن جبير وأشباههم، الرجل منهم يحيى الله
بكلامه الفِئام [الجماعات] من الناس» . [11]
ولما سمع زين العابدين علي بن الحسين موعظة للحسن، قال: «سبحان الله
هذا كلام صدّيق» . [12]
ولقد سئل أحد العلماء: «ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟» فقال: «
لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز
النفوس وطلباً للدنيا ورضا الخلق» . [13]
ومن أسباب الانتفاع بمواعظ الحسن البصري ومجالسه، أنه رحمه الله كان
قدوة صالحة، ولم يكن رحمه الله ممن يقولون ما لا يفعلون، «قيل لعبد الواحد
صاحب الحسن البصري:» أي شيء بلغ الحسن فيكم إلى ما بلغ؟ وكان فيكم
علماء وفقهاء «. قال:» كان الحسن إذا أمر بشيء كان أعمل الناس به وإذا نهى
عن شيء كان أترك الناس له «. [14]
وأمر آخر يسترعي الانتباه في هذه الحادثة، وهو عناية الحسن بموضوعات
الرقائق والزهد والسلوك، حتى كان للحسن البصري مجلس خاص من مجالسه، لا
يكاد يتكلم فيه إلا عن معاني الزهد والنسك، فإن سأله إنسان غيرها، تبرم وقال:
» إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر «. [15]
إن غالب مواعظ الحسن ووصاياه كانت في ذم الدنيا، والنهي عن طول الأمل، والأمر بتزكية النفوس، وتصحيح المقاصد والنيات.
وما أحوجنا إلى مثل تلك المواعظ والزواجر من أولئك الأئمة الأعلام وهكذا
كان الوعاظ في قديم الزمان» علماء فقهاء «كما قاله ابن الجوزي. [16] ...
وقال الإمام أحمد بن حنبل:» ما أحوج الناس إلى قاص صدوق «. [17]
ولقد كان الحسن في كثير من الأحيان يزهد في الدنيا ويحذر منها ويرغب في
الآخرة، وهذا مسلك نبوي مأثور، فقد قال:» إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج
لكم من بركات الأرض، قيل وما بركات الأرض قال زهرة الدنيا.. «. [18]
ولذا كان الحسن يقول:» والله ما عجبت من شيء كعجبي من رجل لا
يحسب حب الدنيا من الكبائر، وأيم الله إن حبها لمن أكبر الكبائر، وهل تشعبت
الكبائر إلا من أجلها؟ وهل عُبدت الأصنام، وعُصي الرحمن إلا لحب الدنيا،
فالعارف لا يجزع من ذلها، ولا ينافس بقربها، ولا يأسى لبعدها «. [19]
وصدق الحسن، فغالب الكبائر نابعة من حب الدنيا: فالسرقة، والزنا والحسد، والكذب، والكبر، والرياء وغيرها من أجل حب الدنيا، والتكالب عليها بل إن
الله تعالى قد أخبر في كتابه العزيز أن الكفر واستحقاق العذاب بسبب حب الدنيا
وإيثارها على الآخرة، فقال تعالى: [من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراْ فعليهم غضب من الله ولهم عذابِ
عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة] [20]
وهنا ملاحظة أخيرة: أن بعض التائبين يعتزلون الحياة من أجل العبادة وهذا
فيه نظر، إذ لا يصح أن كل تائب لابد أن يكون على ذلك المنوال: منقطعاً وزاهداً
عن الأخذ بأسباب الحياة المباحة، فتلك رهبانية حُذرنا منها. وصدق الله العظيم
القائل: [وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا] [21] .
فإن من مميزات ديننا الحنيف الوسطية: [وكذلك جعلناكم أمةْ وسطْا] [22]
لا رهبانية ولا مادية وإنما يكون المسلم عابداً لله، ساع في الأرض عاملاً أي عمل
مناسب يكفي نفسه حاجاتها، ولا يكون عالة على غيره، ولم يعرف الانقطاع للعبادة
إلا بعد القرون الفاضلة، يوم جاءت الصوفية وطقوسها المبتدعة، ومعلوم موقف
الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الثلاثة الذين سألوا عن عبادته في الصلاة
والصيام والزواج فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها فعزموا على خلافها فقال لهم عليه
الصلاة والسلام:» أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر،
وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني «. [23]
ساق أبو نعيم في» الحلية «بسنده إلى إبراهيم بن سليمان الزيات، حيث
قال: كنا عند سفيان الثوري، فجاءت امرأة فشكت ابنها وقالت: يا أبا عبد الله
أجيؤك به تعظه؟ فقال: نعم جيئي به، فجاءت به، فوعظه سفيان بما شاء الله
فانصرف الفتى، فعادت المرأة بعد ما شاء الله، فقالت: جزاك الله خيراً يا أبا عبد
الله، وذكرت بعض ما تحب من أمر ابنها، ثم جاءت بعد حين فقالت: يا أبا عبد
الله ابني ما ينام الليل ويصوم النهار، ولا يأكل ولا يشرب فقال: ويحك مم ذاك؟
قالت: يطلب الحديث، فقال: احتسبيه عند الله» . [24]
سفيان الثوري أحد الأئمة الكبار، وكان أمّاراً بالمعروف لا يخاف في الله لومة
لائم، حتى قال أحدهم: «كنت أخرج مع سفيان الثوري فما يكاد لسانه يفتر عن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً» . [25]
كما أنه رحمه الله مهتم بأحوال المسلمين، ومن ذلك ما قاله يحيى بن يمان:
«تقاوم سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم ليلة حتى الصبح فكانا يتذاكران في أمور
المسلمين» .
وفي هذه القصة نلحظ حسن تصرف تلك المرأة تجاه مشكلة ابنها، فقد ذهبت
إلى سفيان الثوري، وعرضت مشكلتها عليه، وطلبت منه أن يعظ ابنها وتجلت لنا
سرعة استجابة سفيان لطلب تلك المرأة، وحسن خلقه وتواضع، فقد بادر إلى إجابة
طلبها ووعظ ابنها، فحسن حال هذا الابن، حتى جاءت المرأة شاكرة لسفيان حسن
صنيعه، ولم يقف أثر موعظة سفيان عند هذا الحد فحسب بل إن هذا الابن ازداد
استقامة وسلوكاً واهتماماً بطلب الحديث، وتحصيل العلم الشرعي، فصار كل وقته
في طلب العلم والحديث، مما جعل المرأة تحكي حال ابنها في المرة الثالثة قائلة:
ابني ما ينام الليل ويصوم النهار.. يطلب الحديث.
وهكذا عملت تلك الموعظة في قلب هذا الفتى حتى صار من أهل الجدّ
والاجتهاد في طلب الحديث.
كما نلمس في هذه القصة شيئاً من المتابعة المستمرة من المرأة نحو ابنها
وإبلاغ سفيان بتلك المتابعات، والانتفاع بعدها برأيه وتوجيهه.
هذه ثلاثة مشاهد جلية من دعوة السلف الصالح، وفي ثنايا كتب التراجم
الكثير من تلك المشاهد الرائعة، فالله الله في التأسي بهم، فمن كان مستناً فليستن
بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
__________
(1) فصلت: 33.
(2) يونس: 108.
(3) انظر ترجمته في: حلية الأولياء 4/199، والبداية والنهاية 9/47، سير أعلام النبلاء 4/280.
(4) سير أعلام النبلاء 4/281.
(5) الغنية 1/139، 140.
(6) صفة الصفوة 3/208.
(7) البقرة: 222.
(8) قال الذهبي: كان ابن مسعود معدودا في أذكياء العلماء انظر سير أعلام النبلاء 1/462.
(9) اقتضاء الصراط المستقيم 2/617.
(10) حيلة الأولياء 6/149 بتصرف، وانظر سير أعلام النبلاء 6/144.
(11) حلية الأولياء 2/359.
(12) أخبار الحسن البصري لابن الجوزي ص 22.
(13) صفة الصفوة لابن الجوزي 4/122.
(14) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 68.
(15) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 68.
(16) أخبار الحسن البصري لابن الجوزي ص 68.
(17) أخبار الحسن البصري.
(18) جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.
(19) حلية الأولياء 6/13، وانظر سير أعلام النبلاء 7/259.
(20) النحل: 106-107.
(21) القصص: 77.
(22) البقرة: 143.
(23) متفق عليه.
(24) حلية الأولياء 4/65، 66.
(25) حلية الأولياء 6 / 50.(74/9)
من قضايا العقيدة
نظرة في مناهج المفكرين المعاصرين
في دراسة العقيدة
عثمان جمعة ضميرية
ألمحت في مقالة سابقة إلى بعض العوامل والمؤثرات التي آلت بكتب العقيدة
تحت مسمى «علم الكلام» إلى قليل أو كثير من الانحراف في المنهج والتعقيد في
الأسلوب، مما جعلها تبتعد عن المنهج القرآني في مخاطبة النفوس والعقول لإنشاء
العقيدة التي تؤثر في سلوك الإنسان وحياته، وكان لابد من مواجهة هذه الآثار،
فقام بعض المفكرين المعاصرين [*] باستجلاء الأساس الفكري العقدي للإسلام
وصياغته صياغة جديدة يرجى لها أن تكون مؤثرة، لأنها تربط المسلم بالمصدر
الأساس لهذه العقيدة وهو «القرآن الكريم» ، والتطبيق العملي له وهو «السنة
النبوية» ، فنشأ عندئذ البحث في «التصور الإسلامي ومقوماته» .
- 1 -
التصور الإسلامي هو: الفكرة العامة التي جاء بها الإسلام عن الوجود كله
(الكون، الحياة، الإنسان) ، ومقومات هذا التصور هي: مجموعة الحقائق العقدية
الأساسية التي تُنْشيء في عقل المسلم وقلبه ذلك التصور الخاص للوجود وما وراءه
من قدرة مبدعة وإرادة مدبرة، وما يقوم بين هذا الوجود وهذه الإرادة من صلات
وارتباطات [1] .
ولعل أول من استخدم هذا المصطلح التصور الإسلامي هو المفكر الإسلامي
المعروف أبو الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان رحمه الله
فكتب في ذلك كتابه: «الحضارة الإسلامية: أسسها ومبادؤها» وكتابه: «نظام
الحياة في الإسلام» ، وأقامهما على هذه الفكرة.
- 2 -
ثم أقام الأستاذ سيد قطب كتابه المعروف: «العدالة الاجتماعية في
الإسلام [**] » على هذا الأساس، فكتب فيه فصلاً عن نظرة الإسلام للوجود ليكون
قاعدة لبحث النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ووعد ببحث مفصل عن ذلك،
وكان أن أنجز وعده، فصدر أولاً: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»
(القسم الأول: الخصائص) ، وبعد سنوات من إعدامه ظلماً رحمه الله صدر القسم
الثاني من الكتاب عن «مقومات التصور الإسلامي» في عام 1406 هـ، ويحدد
المؤلف رحمه الله منهجه في البحث فيقول:
«منهجنا في البحث عن» خصائص التصور الإسلامي ومقوماته «أن
نستلهم القرآن الكريم مباشرة بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً وأن نستحضر بقدر
الإمكان الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر والملابسات الاعتقادية والاجتماعية
والسياسية التي كانت البشرية تتيه فيها وقت أن جاءها هذا الهدي، ثم التيه الذي
ضلت فيه بعد انحرافها عن الهدي الإلهي!
ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم أن لا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً لا
مقررات عقلية ولا مقررات شعورية من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن
ذاته نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات
السابقة.
ثم إننا لا نحاول استعارة» القالب الفلسفي «في عرض حقائق» التصور
الإسلامي «إقتناعاً منا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة» الموضوع «وطبيعة
» القالب «، وأن الموضوع يتأثر بالقالب، وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه،
إذا عرض في قالب في طبيعته وفي تاريخه عداء وجفوة وغربة عن طبيعته، الأمر
المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي، والذي يدركه من تذوق
حقيقة هذا التصور كما هي معروضة في النص القرآني.
وكلمة أخرى في المنهج الذي نتوخاه في هذا البحث أيضا:
إننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات الفكر الإسلامي، أو الواقع
الإسلامي، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله، بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو
المحرك الكلي لنا فيما نبذله من جهد في تقرير» خصائص التصور الإسلامي
ومقوماته «، إنما نحن نحاول تقرير حقائق هذا التصور في ذاتها كما جاء بها
القرآن الكريم كاملة شاملة، متوازنة متناسقة، تناسق هذا الكون وتوازنه، وتناسق
هذه الفطرة وتوازنها.
ذلك أن استحضار انحراف معين، أو نقص معين، والاستغراق في دفعه،
وفي صياغة حقائق التصور الإسلامي للرد عليه منهج شديد الخطر وله معقباته في
إنشاء انحراف جديد في التصور الإسلامي لدفع انحراف قديم والانحراف انحراف
على كل حال! [2] .
ولعله مما يحتم هذا المنهج أن ندرك ثلاث حقائق هامة:
الأولى: أن أول ما وصل إلى العالم الإسلامي من مخلفات الحضارة
الإغريقية واللاهوت المسيحي وكان له أثر في توجيه الجدل بين الفرق المختلفة
وتلوينه لم يكن سوى شروح متأخرة للفلسفة الإغريقية، منقولة نقلاً مشوهاً في لغة
سقيمة، مما نشأ عنه اضطراب كثير في نقل هذه الشروح!
الثانية: أن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي
كانت تنم عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية وعناصرها الوثنية
العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مما يخالف
النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة.
والثالثة: أن المشكلات الواقعية في العالم الإسلامي تلك التي أثارت ذلك
الجدل منذ مقتل عثمان» رضي الله عنه «قد انحرفت بتأويلات النصوص القرآنية
وبالمفاهيم الإسلامية انحرافاً شديداً، فلما بدأت المباحث لتأييد وجهات النظر
المختلفة، كانت تبحث عما يؤيدها من الفلسفات والمباحث اللاهوتية بحثاً مغرضاً
في الغالب، ومن ثم لم تعد تلك المصادر في ظل تلك الخلافات تصلح أساساً للتفكير
الإسلامي الخالص الذي ينبغي أن يتلقى مقوماته ومفهوماته من النص القرآني الثابت
في جو خالص من عقابيل تلك الخلافات التاريخية..» [3] .
وهذا المنهج الذي سلكه المؤلف رحمه الله يجعل النص القرآني هو الأصل
الذي يتولى تقرير الحقائق التي يتألف منها البحث، ويجعل عبارة المؤلف مجرد
عامل مساعد يجعل النص القرآني مفهوماً بقدر الإمكان للقارئ فيعقد بذلك الألفة بين
قارئ هذا البحث وبين القرآن ذاته، فيتعود التعامل مع القرآن ذاته مباشرة، ويشعر
أن في هذا القرآن غناء كاملاً وشاملاً في كل حقيقة من حقائق الوجود الأساسية [4] ، ويجب ألا ننسى مكانة السنة الصحيحة في هذا الباب لقول الرسول -صلى الله
عليه وسلم- (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أي السنة.
ومهما قلت في ذلك الكتاب الممتع، فلست ببالغ ما أريد، ولست موفيه حقه،
فحسبي هذه الإشارة إلى أهميته ومنهجه، ليكون ذلك دافعاً للقارئ أن يعود إليه
بالدراسة المتأنية العميقة، والبحث الدقيق، ليكون ذلك خطوة على طريق العمل
بهذا التصور والتفاعل مع مقتضياته ومستلزماته.
- 3 -
وأما الأستاذ محمد المبارك رحمه الله فقد قدم كتابين في هذا المجال انطلاقاً من
الفكرة السابقة، أولهما: «العقيدة في القرآن» ، وهو بحث مبتكر في العقيدة
يعرض لها على أنها نظرة شاملة مترابطة الأجزاء، ويسلك في عرضها أسلوب
العصر الحديث من حيث التعبير ومناهج البحث والاستدلال بدلاً من أن يسير في
أعقاب المتكلمين ووفقاً لطرائقهم في البحث، التي تأثروا فيها بنظريات ومفاهيم
الفلسفة القديمة، لاسيما بعد اتساع آفاق الكشف العلمي للكون أو الطبيعة. [5] .
ثم كتب أيضاً الجزء الأول من «نظام الإسلام» العقيدة والعبادة نهج فيه
المنهج نفسه، وهو أوسع من الكتاب الأول، حيث يعرض فيه لحقائق الوجود
ويضع العقيدة في موضعها من نظام الإسلام، فهي اللبنة الأساسية في بنائه، وهي
التي تمد باقي أجزائه بالحياة وتحدد اتجاهاتها ومعالمها.
وطريقة المؤلف في بحثه تعتمد على الأسس التالية:
1- نصوص القرآن والسنة، وذلك بتتبع جميع الآيات والأحاديث التي تتصل
بموضوع من الموضوعات، مراعياً في فهم الآيات تفسير الصحابة والصدر الأول
دون التأويلات الشاذة.
2- الاسترشاد بآراء السلف الأول في فهم الإسلام، والاستئناس برأي من
جاء بعدهم في مختلف العصور.
3- الربط بين الأحكام الجزئية، وجمع شتاتها، واستخراج الأفكار العامة
والقواعد الكلية التي تنتظمها، دون التزام التصنيفات والتقسيمات التي اعتمدها
المؤلفون القدامى.
4- بذل الجهد في أن يكون تعليل الآراء وحكمة الأحكام من النصوص
الأصلية نفسها، والبعد عن التعسف في التأويل والتعليل، والبعد عن الآراء الشاذة.
5- صياغة الأفكار صياغة تتناسب مع المخاطبين في هذا العصر من حيث
طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في التعبير، مع الحفاظ على المفاهيم الإسلامية دون
انتقاص أو تحريف [6] .
- 4 -
وهناك كُتّاب آخرون أيضاً عرضوا لفكرة جديدة أو منهج جديد في الكتابات
العقدية، ومن ذلك ما قام به الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه «فقه التدين فهماً
وتنزيلاً» (الجزء الثاني) ، ومقدمته لكتاب «تفصيل النشأتين» للراغب
الأصفهاني وضع فيها بين أيدي الباحثين مخططاً عاماً لما يمكن أن يكون بنية عامة
لمنظومة إسلامية في «الإنسان» تستمد مادتها من العقيدة الإسلامية [7] .
__________
(1) مقومات التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب، ص 1؛ وانظر أيضا ص 79.
(2) خصائص التصور الإسلامي، مقتطفات من ص (1619) .
(3) المرجع نفسه، ص 1314.
(4) مقومات التصور الإسلامي، ص 38.
(5) انظر: العقيدة في القرآن، طبع دار الفكر، بيروت.
(6) نظام الإسلام: العقيدة والعبادة، ص 2125.
(7) انظر: تفصيل النشأتين، تقديم المحقق، ص 9 وما بعدها، وقد أشار إلى جملة ممن كتب في موضوع الإنسان وعجبت من أنه لم يشر إلى أول من خص هذا الموضوع بكتاب رائد فريد، وهو الأستاذ سيد قطب رحمه الله، فلست أدري هل اطلع على الخصائص والمقومات أم لم يطلع عليها؟ وقد صدرا منذ أمد، وتكررت طباعتهما، وصدرت دراسات عنهما في المغرب العربي الذي يعيش فيه الدكتور النجار بعد دراسته في مصر.
(*) وقام قبلهم أئمة السلف ببيان أصول ومسائل العقيدة من الكتاب والسنة الصحيحة بعيداً عن الفلسفة وعلم الكلام والمنطق.
(**) كتاب (الإسلام والعدالة الاجتماعية) لا يمثل فكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله فيما انتهى إليه من نضج فكري، إذ أن هذا الكتاب من أولى دراساته الإسلامية وتضمن بعض الهنات والملحوظات التي لا تخفى على المتأمل - البيان -.(74/19)
دراسات تاريخية
منهج التفسير التاريخي
قواعد منهجية في تفسيرالحوادث والحكم عليها
(2)
د. محمد آمحزون
تمهيد:
في الحلقة الأولى تطرق الكاتب لبيان المقصود من دراسة التاريخ، وماذا
يعني بالمنهج وبين أنه قسمان: منهج التوثيق، ومنهج التفسير التاريخي، وهو ما
اقتصر على بيان دوره في دراسة التاريخ وفقاً للتصور الصحيح المبني على
الموازين الشرعية، ثم بدأ ببيان القواعد المنهجية لتفسير الحوادث والحكم عليها،
وذكر ثلاثاً منها وهي:
القاعدة الأولى: اعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر فيما
نصت عليه من أخبار وضوابط وأحكام.
القاعدة الثانية: الفهم الصحيح للإيمان ودوره في تفسير الأحداث.
القاعدة الثالثة: أثر العقيدة في دوافع السلوك لدى المسلمين.
ويواصل الكاتب عرض بعض منها فيما يأتي:
- البيان -
القاعدة الرابعة العوامل المؤثرة في حركة التاريخ:
إن المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ منهج شامل لكل الدوافع والقيم التي تصنع
التاريخ، وهو غير واقف أمام حدود الواقع المادي المحدود الظاهر للعيان فقط بل
إنه يتيح فرصة لرؤية بعيدة، يستطيع المؤرخ معها أن يقدم تقييماً حقيقياً وشاملاً
أكثر التحاماً مع الواقع لأحداث التاريخ الإنساني، وذلك لأنه يأخذ في الحسبان مدى
أثر العوامل المادية والنفسية المحيطة بالإنسان، مع مراعاتها والاعتراف بها كافةً،
دون تضخيم لبعضها أكثر من حجمه، وقبل هذه العوامل ومعها وبعدها قدر الله جل
وعلا وأمره النافذ، فإنه لا راد لقضائه وأمره.
وهذا سر المفارقة بين المنهج الإسلامي وبقية المناهج الأخرى الوضعية التي
تفسر التاريخ تفسيراً عرقياً أو جغرافياً أو اقتصادياً أو نفسياً، ولم تحسب حساباً
لكافة العوامل المؤثرة في حركة التاريخ، وإنما اكتفى كل واحد منها بعامل وضخمه، وفسر به تاريخ الإنسان كله.
إنه لابد من ملاحظة كل العناصر الفاعلة في الحدث التاريخي من عوامل
مادية ومعنوية، فالإنسان ذو أبعاد فسيحة وأغوار عميقة، وكل الظواهر التي
تتصل به على درجة عالية من التعقيد في الأفكار والمبادئ والمواقف والعادات وفي
الاجتماع والاقتصاد ... كل أولئك يتشكل ويتبلور نتيجة نسيج معقد من العوامل.
وإذا كان هذا هو الواقع، فإن تفسير أية ظاهرة إنسانية وتعليلها بعلة مفردة
غير صحيح ولا دقيق، ولنضرب مثالاً على ذلك بموقعة بدر الكبرى هل كان هناك
سبب أو عامل واحد أدى إلى انتصار المسلمين، أم يا تُرى تضافرت عدة عوامل
ليتوج بها المسلمون انتصاراتهم على أعدائهم الذين يفوقونهم عدداً وعدة.
مما لا شك فيه أن المتأمل في هذا الحدث الفاصل في تاريخ الإسلام يجد بعد
الاستقراء والدراسة أن عدة أسباب ساهمت في انتصار المسلمين وهي:
أولا: العقيدة الراسخة: إذ كان للمسلمين هدف معين ومحدد وهو نشر الإسلام
حتى يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا.
ثانياً: المعنويات العالية: فقد كانت معنويات المسلمين في بدر عالية جداً
نظراً لثقتهم الأكيدة بوعد الله ونصره.
ثالثاً: الشورى: وهو المبدأ الذي التزم به الرسول -صلى الله عليه وسلم-
منذ خروجه إلى بدر.
رابعاً: القيادة الموحدة: فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو القائد
العام في معركة بدر وكان المسلمون يعملون يداً واحدة تحت قيادته، وكان
انضباطهم مثالاً رائعاً للانضباط الحقيقي.
خامساً: التعبئة الجيدة: فقد طبق الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثناء
اقترابه من بدر تشكيلة لا تختلف عن التعبئة الحديثة في حرب الصحراء، حيث
كان للمسلمين مقدمة وقسم أكبر ومؤخرة، كما استفاد النبي عليه الصلاة والسلام من
دوريات الاستطلاع للحصول على المعلومات.
سادساً: معرفة طبوغرافية أرض المعركة: حيث كان الرسول -صلى الله
عليه وسلم- أشد حرصاً على دراسة أرض المعركة، والتعرف على ظاهراتها
الطبيعية قبل أن يدفع قواته إليها، وبتعرف المسلمين على تضاريس أرض بدر
سيطروا على موارد المياه ببدر وعطلوا الآبار في الجهة التي يفترض أن يقدم إليها
المشركون.
وهكذا فإن انتصار المسلمين لا يرجع إلى سبب أو عامل واحد، بل أثرت
عدة عوامل إيمانية ونفسية وتنظيمية واستراتيجية وجغرافية في نتيجة المعركة
لصالح المسلمين.
ولنعط مثالاً آخر: فلا يمكن أن يقال مثلاً: إن الشعب الأفغاني صمد في وجه
المحتلين بسبب إيمانه، أو بسبب صعوبة تضاريس أرضه من جبال وكهوف أو
بسبب رصيد الفطرة لديه، أو بسبب العون الخارجي، أو بسبب وجود قواعد خلفية
له في بلد مجاور..
إنه لم ينفرد سبب واحد من هذه الأسباب بولادة ظاهرة الصمود، بل إنها
جميعاً مع أسباب أخرى أسهمت في إيجاد وضع متميز يستمد تميزه من خصوصية
شروطه وأسبابه.
إن إدراك مقومات النفس الإنسانية جميعها روحية وفكرة وجسدية لا يتوفر في
غير المنهج الإسلامي؛ لأن التصور الصحيح عن هذه القضايا المؤثرة والفاعلة في
الحدث التاريخي لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي المعصوم من الخطأ «
الكتاب والسنة» .
فبواسطة التلقي من الوحي يعرف المسلم هذه العوامل، ويعرف قدر كل عامل
وقيمته وتأثيره في النفس، والنسب الصحيحة للعلاقات بين تلك العوامل جميعاً؛
لأن مصادر تلقيه من لدن الله جل وعلا، الحكيم الخبير الذي يعلم خبايا النفس
الإنسانية ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة في الأرض أو في السماء.
القاعدة الخامسة العلم بمقادير الناس وأحوالهم
ومنازلهم والتثبت فيما يقال عنهم:
يقول الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا الصدد: «
واحفظ لكل منزلته وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها
يصاب العدل» [1] .
وقد قعّد ابن تيمية رحمه الله بواسع علمه وعميق فهمه قاعدة جليلة في الإفتاء
في أي قضية يراد معرفة حكم الله فيها، وذلك في بداية فتواه الشهيرة عن التتار
وحكم قتالهم، فقد ذكر أن الحكم على أي طائفة أو قوم يقوم على أصلين: أحدهما
المعرفة بحالهم، والثاني معرفة حكم الله في أمثالهم، وهذان الأصلان يقومان على
الحكم المنافي للجهل، إذ الكلام في الناس لا يجوز بغير علم وبصيرة « [2] .
وعلى هذا الأساس ينبغي التحري فيما يروى عن الوقائع التي كانت بين
أعيان الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم فالمعرفة بحالهم تدل على كمال
إيمانهم وصدقهم وحسن سريرتهم وفعلهم للخيرات وتضحيتهم بالنفس والنفيس في
سبيل الحق، كل ذلك يرفع منازلهم إلى درجات عالية مما يجعلهم جميعاً من لابس
الفتن منهم ومن لم يلابسها أهلاً للاقتداء بهم، وأهلاً للرواية، تقبل أخبارهم في
أعلى درجات القبول، وتوزن أعمالهم بميزان الورع والإحسان، مما ينفي عنهم ما
نسب إليهم من أوصاف سيئة، هذا علاوة على بيان حكم الله فيهم، إذ تواترت
النصوص الشرعية في تزكيتهم وتعديلهم.
فلا جدال في أن الصحابة رضوان الله عليهم قدوة لكل مسلم فيما يتعلق بأمور
الدين، ولا مجال للطعن في تدينهم وصحة عقيدتهم وسلامة أخلاقهم، لكن ذلك لا
يمنع أن يقع منهم الخطأ، إذ ليسوا معصومين، ولذلك فإن ما وقع بينهم من خلافات
سياسية هي من قبيل الأمور الاجتهادية التي لا تقدح في مكانتهم السامية، وإذا سجل
التاريخ تلك الخلافات فلا ينبغي أن تحمل على محمل الانتقاص منهم.
وقد أمر الله جل وعلا المؤمنين بالرجوع إلى ما علموا من إيمان إخوانهم الذي
يدفع السيئات، وأن يعتبروا هذا الأصل العظيم ولا يعبؤوا بكلام المتربصين
والمغرضين الذي يناقضه ويقدح فيه، فيحسنوا الظن بإخوانهم، بل يدحضوا ما
يروج ضدهم من شائعات وافتراءات تمس كرامتهم، وتحط من أقدارهم.
يقول الله تعالى زجراً للمؤمنين عن مجاراة الشائعات التي يتقولها أهل السوء
في إخوانهم المؤمنين: [لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراْ
وقالوا هذا إفك مبين] [3] وقال تعالى: [ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن
نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم] [4] .
وقد دلت الآيتان على قاعدة مهمة وهي:» الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق
للخروج من الشبهات والتوهمات، وقد يعبر عنها بأن الموهوم لا يدفع المعلوم وأن
المجهول لا يعارض المحقق « [5] .
وبناء على هذا لابد من الرجوع إلى المصادر الأصلية الموثوقة لمعرفة
الحقيقة، فلا يؤخذ من الكذابين والفاسقين وأصحاب الأهواء لأن فسقهم وهواهم
يدفعهم إلى تصوير الأمر على خلاف حقيقته، وإن المرء المسلم مطالب شرعاً
بالتثبت والتبيّن مما يسمع، لقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقِ بنبأ
فتبينوا أن تصيبوا قوماْ بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين] [6] . ولقول
الرسول:» كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع « [7] ، وقوله:» إياكم
والظن، فإن الظن أكذب الحديث « [8] ، ولذلك كانت عناية علماء أهل السنة
موجهة إلى بيان من يحمل عنه العلم أو الخبر، ومن لا يؤخذ عنه كقول بعضهم في
هذا الباب:» باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها « [9] ،
إذ أن تقدير الرجال لا يؤخذ إلا من العالم العارف الثقة البصير بأحوال المسلمين.
وهناك مجموعة من المقاييس ينبغي الأخذ بها في هذا الشأن، وهي:
* عدم إقحام الحكم على عقائد ومواقف الرجال بغير دليل في ثنايا سرد
الأعمال، إذ أن الحكم على أقدار الناس يجب أن يكون قائماً على حسن الظن حتى
يثبت خلاف ذلك.
* عدم تجاوز النقل الثابت إلى إيراد الظنون والفرضيات، ومن فضل الإسلام
أن نهى عن ذلك، ولم يفعل هذا مؤرخ فاضل، ولم يقل أحد أن حسن الأدب هو
السكوت عن الكذب، وإنما حسن الأدب هو رده وتنقية سيرة الصدر الأول منه،
كما أن حسن الأدب يقتضي السكوت عن الظنون، والكف عن اقتفاء ما لا علم لنا
به يقيناً، وكثيراً ما تلح على المرء في هذا شهوة الاستنتاج ودعوى التحليل، وقد
أمرنا الشرع أن تكون شهادتنا يقينية لا استنتاجية فيما نشهد من حاضرنا، ففي الآية
[إلا من شهد بالحق وهم يعلمون] [10] ، فكيف بمن يشهد بالظن والهوى فيمن
أدبر من القرون؟ !
* إن الإسلام له منهجه في الحكم على الرجال والأعمال، فهو يأمر بالشهادة
بالقسط وعدم مسايرة الهوى في شنآن أو في محبة، ويأمر باتباع العلم لا الظن،
وتمحيص الخبر والتثبت فيه أن يصاب قوم بجهالة، وهذا في حق كل الناس،
فكيف بخير القرون؟ !
القاعدة السادسة الكلام في الناس يجب أن يكون
بعلم وعدل وإنصاف:
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله
شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى،
واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون] [11] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:» والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، وليس بجهل وظلم كحال أهل البدع « [12] .
ويدخل ضمن هذه القاعدة العدل في وصف الآخرين، والمقصود به هو العدل
في ذكر المساوئ والمحاسن والموازنة بينها.
فمن المعلوم أن أحداً لا يسلم من الخطأ لقول النبي:» كل بني آدم
خطاء « [13] ، ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو شحناء بينه وبين من يصفه، فالله عز وجل أدبنا بأحسن الأدب وأكمله بقوله: [ولا تبخسوا الناس أشياءهم] [14] .
وحين نجد من يذم غيره بذكر مساوئه فقط، وبغض النظر عن محاسنه فإن
ذلك يرجع في العادة إلى الحسد والبغضاء أو إلى الظنون والخلفيات والآراء المسبقة، أو إلى التنافس المذموم، ولكن المنصفين هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير
أو شر ولا يبخسونه حقه، ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد أو في
المذهب والانتماء.
ومن العلماء الذين برزوا في هذا الشأن الحافظ الذهبي رحمه الله فمن خلال
كتابه النفيس» سير أعلام النبلاء «أنصف من ترجم لهم من الأعلام فلم يبخس
أهل البدع أو الفسق ما لهم من صفات جيدة، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم،
يقول مثلاً عن الأشتر النخعي:» أحد الأشراف الأبطال المذكورين، وكان شهماً
مطاعاً زعراً [15] ألّب على عثمان وقاتله، وكان ذا فصاحة وبلاغة « [16] .
ويقول في ترجمة الحكم بن هشام:» وكان من جبابرة الملوك وفساقهم
ومتمرديهم، وكان فارساً شجاعاً، فاتكاً ذا دهاء وعتو وظلم، تملك سبعاً وعشرين
سنة « [17] .
ويقول في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي:» العلامة المتبحر ذو الفنون
وكان أحد الأذكياء، وكان ماجناً قليل الدين، له نوادر « [18] .
وقال عن عبد الوارث بن سعيد:» وكان عالماً مجوداً، ومن أهل الدين
والورع، إلا أنه قدري مبتدع « [19] .
وقال أثناء حديثه عن ثابت بن قرة:» الصابئ الشقي الحراني، فيلسوف
عصره، وكان يتوقد ذكاءً « [20] .
ومنهج الذهبي هذا في العدل والإنصاف في وصف الآخرين منهج علمي دقيق، وهو منهج أهل السنة والجماعة في حكمهم على غيرهم، ولذلك ينبغي لكل من
رام الإنصاف أن لا يحيد عن هذا المنهج السوي المعتبر، وأن يتقي الله عز وجل
في وصف من يترجم لهم، أو يتحدث عنهم من الحكام والقادة والعلماء والفقهاء
والإخباريين والمؤرخين وغيرهم، ويتكلم بعدل وإنصاف.
القاعدة السابعة العبرة بكثرة الفضائل:
فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، وكذلك من غلبت فضائله هفواته
اغتفر له ذلك، وفي هذا الصدد يقول الحافظ الذهبي:» وإنما العبرة بكثرة
المحاسن « [21] .
وهذه القاعدة جليلة تعد بمثابة منهج صحيح في الحكم على الناس؛ لأن كل
إنسان لا يسلم من الخطأ، لكن من قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير كثير،
والإنصاف يقتضي أن يغتفر للمرء الخطأ القليل في كثير صوابه.
ومنهج أهل السنة هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ
والنظر إليه بعين الإنصاف.
وهناك قاعدة أخرى يمكن اعتبارها في هذا الباب وهي» العبرة بكمال النهاية
لا بنقص البداية « [22] .
القاعدة الثامنة إحالة الحوادث على الخطأ في الاجتهاد:
أما إن المجتمع الإسلامي يسير على السنن الطبيعية لكل المجتمعات، فهذا
حق، ونحن لا نعصم فرداً أو مجتمعاً من أن تسري عليه هذه السنن، إلا أن يكون
نبياً أو رسولاً، ومن هنا يجب أن نعلم أن الذين صنعوا التاريخ رجال من البشر
يجوز عليهم الخطأ والسهو والنسيان وإن كانوا من كبار الصحابة وأجلائهم، إلا أنه
ينبغي إحالة الحوادث إلى الخطأ في الاجتهاد، ونذكر ما ورد عنه صلى الله عليه
وسلم من أن المجتهد المخطئ له أجر، والمصيب له أجران [23] فهو على كل
حال مأجور، فلا ننقصه وقد آجره الله، كما أنه قد تشهد له دلائل وفضائل أخرى،
وتشفع له مواقف ثابتة.
وعليه فإنه ينبغي للمسلم أن يرد كل خبر يطعن في عدالة الصحابة، وأن ينزه
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطمع والشح والغدر والخديعة
والغفلة واللؤم والفسق والظلم والاستبداد وأكل الأموال بالباطل، وكل الأخلاق التي
تطعن في العدالة وتعد من الفسق وخوارم المروءة، وأنهم إن كانوا غير معصومين
فهم عدول، وأن ما اجتهدوا فيه سواءً أتعلق بالدماء أم تعلق بالأموال فهم فيه
مأجورون، وأنهم إن جازت عليهم المعاصي إلا أنهم يتوبون ويستغفرون فيتوب الله
عليهم ويغفر لهم، وأن لهم فضل الصحبة التي خصوا بها، ونالوا بها من الفضل
ما لم يدركه أحد بعدهم.
__________
(1) الطبري: تاريخ الرسل، ج، ص 279.
(2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج28، ص 510.
(3) سورة النور: 12.
(4) سورة النور: 16.
(5) عبد الرحمن السعدي: القواعد الحسان لتفسير القرآن، ص 195.
(6) سورة الحجرات: 6.
(7) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، ج1، ص 72.
(8) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الأدب، ج7، ص 288.
(9) انظر صحيح مسلم، ج1، ص 76.
(10) سورة الزخرف: 86.
(11) سورة المائدة: 8.
(12) ابن تيمية: منهاج السنة، ج 4، ص 337.
(13) رواه أحمد في المسند، ج3، ص 198.
(14) سورة هود: 85.
(15) أي شرساً سيء الخلق، انظر: لسان العرب.
(16) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج4، ص 34.
(17) المصدر نفسه، ج8، ص 254.
(18) المصدر نفسه، ج11، ص 526-527.
(19) المصدر نفسه، ج8، ص 301.
(20) المصدر نفسه، ج13، ص 485.
(21) المصدر نفسه، ج20، ص 46.
(22) ابن تيمية: منهاج السنة، ج8، ص 412.
(23) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الاعتصام بالسنة، ج8، ص 157.(74/25)
خواطر في الدعوة
أنماط من التفكير!
محمد العبدة
يتهم الغربيون والمستشرقون منهم بشكل خاص يتهمون المسلمين بأنهم
أصحاب (تفكير ذري) ويعنون بهذا أن الطريقة التي يواجه بها المسلم أمور الحياة
هي أن يبحث كل قضية أو جزئية لوحدها، وبمعزل عن الجزئيات الأخرى فلا
يتسنى له الإحاطة بالموضوع، ووضع الكليات العامة التي تجمع شتاته وتوضح
علله ومقاصده، وهو ما يسمى عندهم (فلسفة العلوم) .
هذا ما يردده الغربيون والحقيقة أن هذه التهمة تدل على خبث الطوية قبل أن
تدل علىالسطحية أو السذاجة، وكأنهم يريدون تحطيم نفسية المسلم وإشعاره بأنه
ليس على شيء، وذلك لأن أي دارس لتراث المسلمين سيرى العكس تماماً، وأن
تلك الاتهامات هي محض افتراء، وإلا فمن الذي وضع أصول الفقه، وتكلم عن
مقاصده؟ ومن الذي ضبط العلوم الإسلامية بأصول وقواعد مثل أصول التفسير،
وأصول الحديث، وقواعد اللغة العربية؟
نعم إن هذا الذي قام به المسلمون كان في عصر المد الحضاري، وأما في
العصور المتأخرة، وعندما أصيبت الأمة بالجمود والضعف، وضعف العلم
والاجتهاد، فإن هذا المرض (التفكير الذري) قد تسرب إلى عقول كثير من
المسلمين، وواقعنا اليوم يشهد على ذلك، وهذه أمثلة منه:
1 -رفع المسلمون ومنذ عقود من السنين شعار إصلاح الفرد، وأنه بعد ذلك
سيتم إصلاح المجتمع والدولة، وكأن هذا الإصلاح سيتم بشكل آلي، ولكن عند
النظرة الفاحصة تجد أن الأمر ليس بهذه السهولة، لأننا لا نستطيع إصلاح الفرد
بمعزل عن التأثيرات الجانبية القوية التي تُصاغ بها شخصيته، فلابد أن تكون
التربية وخطة الإصلاح والتغيير شاملة للفرد والأسرة والمجتمع، ولابد من إحاطة
الفرد بأجواء صحية أو قريبة منها حتى تستقيم لنا عملية التغيير.
2 -بعض الشباب المسلم إذا سمع عن عالم كبير قد أتقن كثيراً من علوم
الشريعة، يظن أن هذا العالم لابد أن يجيب عن كل الأسئلة التي تدور على الساحة
الإسلامية، بل يستطيع حل كل مشكلات المسلمين المعقدة وهذا ليس بالتأكيد، فقد
يملك إجابات كثيرة وتفوته أشياء، وقد يكون متقناً لجوانب وضعيفاً في أخرى، ولا
يعني هذا الانتقاص منه بأي حال من الأحوال، فعدم الإحاطة بمثل هذا الموضوع
يجعل الشاب ينظر هذه النظرة الجزئية.
3 -يحذر أحد الدعاة تلامذته وصحبه من إهمال الدعوة إلى الله، ويرفع شعار
(لا تعطوا الدعوة فضول أعمالكم) ، وهو شعار صحيح، ولكن هؤلاء التلاميذ
يفهمون هذه النصيحة بأن يتركوا واجباتهم الأخرى، مثل الدراسة أو العمل أو بر
الوالدين، مع أن الجمع بين كل هذه الواجبات ليس بالأمر العسير.
وقد سرى هذا الداء إلى مجموع الأمة، فلا نجد نظرات بعيدة المدى، ولا
تخطيط شامل، بل كل فئة أخذت جزءاً من الإسلام وانشغلت به واستغرقت فيه،
وشنعت على الفئات الأخرى ما تقوم به، وإن الإحاطة بمفهوم هذا الدين ومقاصده
الكبرى لإصلاح البشرية، مما يسهل إنشاء الدعوة، وقبول الناس لها وإن المسلم
ليملك القابلية لأن يستوعب شمولية الإسلام، ولكن أين التربية المتكاملة؟(74/36)
دراسات اقتصادية
الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة
معالجة الأزمات الغذائية
- 2 -
د.محمد بن عبد الله الشباني
في العدد الماضي تطرقت إلى بعض من جوانب كيفية معالجة الأزمات
الغذائية على ضوء التصور الإسلامي باستعراض بعض الأحاديث التي وضحت
كيفية معالجة النقص الفعلي للمواد الغذائية أو غيرها من السلع، وفي هذا العدد
سوف أعالج جانباً آخر من الجوانب التي قد تؤدي إلى بروز ظاهرة الأزمات
الغذائية أو النقص في السلع التي يحتاج إليها الأفراد، هذا الجانب هو الجانب
الكمي للسلع وكيفية التحكم في ميكانيكية العرض والطلب، أي التحكم في حركة
السوق.
لقد جاءت أحاديث عديدة تعالج هذا الجانب بشكل يتفق مع واقع الحياة ولا
يتعارض مع ميكانيكية السوق، بل إنه يحفزها بالشكل الذي يجعل لميكانيكية السوق
دور في تنظيم العرض والطلب بالأسلوب الذي يخدم حركة التبادل التجاري.
روى البخاري عن نافع أن عبد الله بن عمر حدثه «أنهم كانوا يشترون
الطعام من الركبان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيبعث عليهم من يمنعهم
أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام» [1] ، وفي رواية للبيهقي:
كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن
نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام، وذكر البيهقي في سننه أن الغاية من منع البيع
حتى ينقلوه إلى سوقه لئلا يغلوا الطعام هناك على من يفد، وأنه في ذلك الموقع
أرخص.
كما روى البخاري وأحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله «قال: لا يبع بعضكم على بيع أخيه [2] ، كما رُوي في الموطأ وفي
السنن للبيهقي عن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أن عمر بن الخطاب خرج إلى السوق
فرأي ناساً يحتكرون بفضل أذهابهم فقال عمر لا ونعمة عين يأتينا الله عز وجل
بالرزق حتى إذا نزل بسوقنا قام أقوام فاحتكروا بفضل أذهابهم عن الأرملة
والمسكين إذ خرج الجلاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكم، ولكن جالب
جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف حتى ينزل سوقنا فذلك ضيف لعمر فليبع
كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله.
كما رُوي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة
بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له (مدّين)
لكل درهم فقال له عمر رضي الله عنه حُدثتُ بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً،
وهم يعتبرون بسعرك فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه
كيف شئت، كما روى مالك عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان
يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى
المدينة ويأخذ من القطنية العشر.
بدراسة الأحاديث والآثار السابقة نجد أن الإسلام عالج جانب العرض والطلب
للسلع باستخدام بعض الأساليب التي تساعد على تحقيق التوازن بين العرض
والطلب، وتؤدي بالتالي إلى استقرار السوق، وإبعاد الوسائل المؤثرة على منحنى
العرض والطلب، وتتمثل هذه الاجراءات العملية في الأمور التالية:
أولا: إزالة إمكانية ظاهرة التأثير الكاذب على العرض أو الطلب والذي قد
يؤدي إلى تذبذب الأسعار مما قد يسيء إلى المشترين والبائعين؛ لهذا نجد أن
المنهج الإسلامي التطبيقي يحبذ وجود الأسواق المتخصصة والتي يتم فيها البيع
والشراء في سلع معينة مع منع البيع خارج هذه الأماكن، وهو بهذا يحقق عنصراً
مهماً من عناصر فعالية ميكانيكية السوق وهو اجتماع البائعين والمشترين في مكان
واحد، والغرض من ذلك تحقيق السعر العادل، وعلى ذلك نفهم الغاية من نهي
الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الطعام قبل وصوله إلى سوق الطعام، حيث
يوجد المشترون الراغبون في الشراء والبائعون الراغبون في البيع، ويتحقق بذلك
حماية المشترين من احتكار بعض الفئات كما يحمي البائعين من حصول الغبن الذي
قد يصابون به من جراء تلقي بعض المشترين لهذه السلع قبل وصولها، ويندرج
ضمن هذا المفهوم منع احتكار بيع سلع معينة لأشخاص معينين، وهو ما يعرف
بنظام الوكالات التجارية لأنه يشبه بيع الحاضر للبادي وهذا النوع من الاحتكار
يعاني منه الناس كثيراً حيث يتحكم الوكيل في سعر بيع السلع، وسعر قطع غيارها
إذا كانت سلعة رأسمالية، وهو أمر مشاهد في النظام الرأسمالي، كما أنه يتحكم في
وجود سلع تعوّد عليها الناس واحتكرت له، فأصبح الوكيل هو البائع الوحيد للمنتج
مما يجعله يتحكم في الأسعار كيف يشاء.
ثانياً: حق الدولة في التدخل لمنع الظروف التي تجعل أصحاب رؤوس
الأموال يتحكمون في احتكار السلع بسبب قدراتهم المالية، فنجد أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه عمد إلى حماية البائعين الذين يجلبون السلع من خارج مكان
تسويقها، وذلك بتوفير ظروف وجودها لهم في السوق فأمر بأن يتم إطعام وإسكان
الجالبين للسلع من خارج المدينة بأن تتولى الدولة توفير أماكن للسكن والإقامة
والتخزين للسلع، وذلك بأن تتولى الدولة توفير مخازن عامة في كل بلدة لتخزن
فيها السلع التي ترد إلى المدينة أو القرية، وهذه المخازن تعود ملكيتها للدولة
وتؤجر بسعر زهيد أو مجاناً مع توفير مساكن يقطنها الجالبون للسلع خلال فترة
تواجدهم للبيع، إما مجاناً أو بأسعار زهيدة تشجع على البقاء لفترة كافية تساعد على
إيجاد السلع للراغبين في الشراء من أهل القرية أو المدينة، أي أن الأمر متروك
للدولة الإسلامية وفق الظروف المتاحة لها لاتخاذ الأساليب التي تشجع على استقرار
الأسعار ووجود السلع بدون احتكار لها.
ثالثا: تعمد الدولة إلى التدخل لتحقيق الاستقرار السعري للسلع، أي منع
الانهيار السعري للسلع من خلال تنظيم وجود السلع في السوق لمنع ظروف الندرة، ولا يتأتى ذلك إلا بمراعاة ظروف العرض والطلب، وما فعله عمر رضي الله
عنه مع حاطب، إنما هو دليل يمكن الأخذ به وذلك بحق الدولة في التدخل في
العمل على استقرار الأسعار؛ لما يعود على حركة التبادل التجاري بالمنفعة، حيث
أن من واجبات الدولة العمل على توفير السلع في السوق، وتشجيع حركة التبادل
التجاري بين مختلف الأقطار والأقاليم، وهذا لا يمكن تحقيقه في ظل ظروف فساد
السعر السوقي فعمل عمر مع حاطب يرشد إلى أن على الدولة التدخل لحماية
الأسعار حتى لا يؤثر ذلك مستقبلاً على حركة التبادل، وبالتالي حتى لا يحدث
نقص في السلع مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وحصول الشح أي أن على الدولة
تحقيق السعر العادل لمختلف السلع والخدمات ومنع الأفراد الذين قد يعمدون إلى
إفساد السوق من خلال تخفيض السعر مؤقتاً، ثم رفعه في فترة لاحقة بعدما يقل
توافر السلع، أي محاربة ما يعرف في هذا العصر بسياسة الإغراق المتمثلة في
تخفيض الأسعار بأقل من التكلفة الذي تعمد إليه بعض الدول أو بعض التجار عند
غزو سوق من الأسواق من أجل السيطرة عليه مستقبلاً، وتحقيق فرق السعر الذي
يتم بتخفيض أسعار السلع خلال فترة الإغراق بعد ذلك، وتحقيق السعر الذي ترغبه
بعد أن يفسد السوق ويقل العرض فيه.
رابعاً: استخدام الضرائب الجمركية كأداة لتحقيق وجود السلع في السوق،
أي أن تكون الضرائب الجمركية أداة مالية لتحقيق التوازن في حجم العرض مع
الطلب، أي أن وظيفة الضرائب الجمركية لا يقصد منها زيادة موارد الدولة المالية
كهدف، وإنما هي أداة لتحقيق كفاية وجود السلع في السوق المحلي؛ لهذا يمكن
للدولة الملتزمة بتطبيق التشريع الاقتصادي الإسلامي استخدام هذه الأداة المالية
كأسلوب من أساليب تحقيق الحجم الأمثل في وجود وتوافر السلع، وهي السياسة
التي اتبعها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سوق المدينة، وهي
سياسة يمكن انتهاجها لكن لا بد من معرفة أن الغاية من السياسة الجمركية ليس
زيادة الموارد ولا حماية فئات معينة من المنتجين المحليين على حساب المستهلكين، وإنما يكون الهدف تحقيق التوازن الكمي بين العرض والطلب وفق السعر العادل
الذي لا ضرر فيه ولا ضرار.
إن معالجة الإسلام لمشكلة الأزمات الغذائية لا يقتصر على الجانب التنظيمي
فقط، ولكن الإسلام ينظر إلى الجانب السلوكي للأفراد والذي قد يؤدي إلى إيجاد
الأزمات السلعية، فقد يكون السلوك من العوامل المؤثرة في تفاقم أزمات النقص في
السلع وارتفاع أسعارها، لهذا فقد عالج الإسلام هذا الجانب ضمن منهجه في التكامل
في معالجة المشكلات، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن التبقر [3] في المال والأهل، كما روى
مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له
فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف والرابع للشيطان [4] ، ورُوي عن
عروة بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال كلوا
واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة وسرف [5] .
وباستقراء هذه الأحاديث نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام وجه الأمة إلى
ضرورة إدراك أهمية السلوك الاستهلاكي في التأثير على وجود السلع وتوفرها،
وأن الإنفاق الزائد عن الحاجة مظهر من مظاهر التبذير التي لا يحبها الله، فهو
مسلك شيطاني قد حذر القرآن الكريم من انتهاجه كما في قوله تعالى [إن المبذرين
كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا] [6] .
إن من المشاكل التي يعاني منها المجتمع المعاصر والتي لها دور كبير في
التأثير على حركة الاقتصاد، الاتجاه المتزايد إلى الإنفاق الاستهلاكي واستخدام
جميع الوسائل الإعلامية لإيجاد هذا الاتجاه، إن تزايد الإنفاق الاستهلاكي يؤثر على
القدرة الإدخارية لأفراد المجتمع، مما يؤدي إلى ضعف توافر المال الكافي
للاستثمار، مما ينتج عن ذلك خلل في الدورة الاقتصادية.
المنهج الإسلامي في معالجة أزمات النقص في السلع بما في ذلك السلع
الغذائية، مما له علاقة بالسلوك الاجتماعي والذي يؤدي إلى إيجاد أزمات النقص
في السلع الغذائية، يتمثل في اتباع السياسات التالية:
1- ضرورة تقليص الإنفاق فيما لا تدعو الحاجة إليه، مراعاة أن يكون
الإنفاق الأسري متوازناً، فلا يكون هناك توسع إنفاقي لا تدعو إليه الحاجة ولكن
الإنفاق ينبغي أن يتقيد بمفهوم قوله تعالى [ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماْ
محسوراْ] [7] .
وعليه فإن الدولة التي تسترشد بالمنهج الإسلامي في معالجة أمورها
الاقتصادية إصدار اللوائح التنظيمية التي تحد مثلا من الإسراف في الإنفاق
الاستهلاكي الزائد عن الحاجة، ووضع الاجراءات التي تساعد على تقليص اتجاه
الإنفاق الاستهلاكي مثل وضع الضرائب المرتفعة على سلع الترف للحد من شرائها
على أن توجه حصيلة هذه الضرائب للإنفاق منها على تنمية المجتمع ومنع
الإعلانات المشجعة على شراء السلع الإستهلاكية وغير ذلك من الإجراءات التي
تحد من التوجه الإستهلاكي المخل بتوازن الدورة الاقتصادية.
2- توجيه الأفراد إلى انتهاج سياسة تقليص الرغبة في التراكم السلعي بدون
حاجة، وأن على الدولة انتهاج الأسلوب الذي يحد من الميل إلى التكالب على اقتناء
السلع بدون حاجة سواء أكان ذلك بإصدار التنظيمات الإدارية التي تدفع الأفراد إلى
الإحجام عن تملك ما يزيد عن حاجتهم، استرشاداً بالحديث النبوي الذي رواه جابر
بن عبد الله بالابتعاد عن المنهج الشيطاني في الإسراف بتملك ما لا حاجة إليه،
واتباع جميع الوسائل والطرق التي تحقق غاية ضبط السلوك الاجتماعي بما يخدم
فكرة التحكم في الميل الاستهلاكي.
3- منع المغالاة في الإنفاق بضبط السلوك الاستهلاكي، والتدخل في تحديد
رغبات الأفراد لما لذلك من تأثير في الميل الاستهلاكي والذي بدوره يؤثر على
دورة النشاط الاقتصادي، فتقليص الاستهلاك والحد منه قد يؤدي إلى التأثير على
الاستثمار مما يسبب في ضعف حركة التبادل والإنتاج ولذلك ينبغي أن لا يُفهم من
الحد من الإنفاق الاستهلاكي محاربة الإنفاق الاستهلاكي، ولكن ينبغي أن يكون
ضمن إطار عدم الإضرار بالنشاط الاقتصادي، وأن يكون الإنفاق الاستهلاكي
موجهاً نحو السلع ذات العائد الإنتاجي، أي أن يتم تشجيع الاستهلاك المعتدل الذي
يحقق التوازن في حلقات الدورة الاقتصادية.
إن معالجة الإسلام لمشكلة الأزمات الغذائية وفق ما تم استعراضه إنما ينبع من
التصور الأساسي الذي يقوم عليه الفكر الإسلامي والمتمثل في الوسطية في معالجة
الأمور، فلا إفراط ولا تفريط ضمن المفهوم الذي شرعه الله في كتابه في قوله
تعالى [وكذلك جعلناكم أمة وسطاْ لتكونوا شهداء على الناس] [8] وهذه الوسطية
هي التي يدور عليها مدار الأمر في الإسلام عند معالجته لجميع القضايا الاجتماعية
والاقتصادية.
__________
(1) البخاري، ك البدع، ج3، ص 20.
(2) البخاري، ك البدع، ج3، ص 24.
(3) التبقر: الكثرة والسعة.
(4) مسلم، ج2، ص237، ط دار الكتب العلمية.
(5) المخيلة: أي الكبر والسرف وتجاوز الحد في الإنفاق.
(6) سورة الإسراء: 27.
(7) سورة الإسراء: 29.
(8) سورة البقرة: 143.(74/38)
نصوص شعرية
خيام الغبار
تركي المالكي
(1)
(حبةُ الرملِ) عطشى.. تجوبُ القفارْ!
(حبةُ الرمل) ما زال ربانُها..
مغرماً بـ (البحارْ) ! !
خنقتها (الملوحةُ) لما تزلْ..
تتهادى على..
سافيات الغبارْ!
هي في (رحلة التّيه) .. تخزن نَسْغ النخيلْ! ..
تتقلب بين العواصف.. برقاً..
من الشوق للزمن المستقيلْ! ..
(2)
تنبِضُ الأسئلةْ! ..
في الشفاهِ التي..
أورقتْ بينها.. البسملةْ!
(3)
تهزأ المرحلةْ..
بالعيون التي..
لم تزلْ.. مسبلةْ!
تتدفأ بالزمهريرْ!
و (الجمارُ) مدى الأفْق ِ.. شلالُ نورْ!
خضَبتْ ليلَنا..
بدمٍ.. أشعلَهْ! ! ..
نثرتْهُ بذوراً.. وأوقدت الشوقَ.. بين الرمالْ!
زرعتْ جنةً مقبلِةْ! !
(4)
(الغبارُ) يمدّ أعاصيرَهُ..
خشيةَ الزلزلةْ!
بَعثر المزَقَ المُشْعلةْ!
أجلبتْ خيلُهُ..
وابتنى حصنَهُ..
وانثنى ساجداً:
«سيدي (النسرُ) .. ريحي غدتْ مثقلةْ..
وغباري تناقصَ..
والريّ يمتدّ..
أرسلْ لنا سفناً من غبارْ! ! ..
واحشِ ذراته ِ.. بالشفارْ!
سيدي (البحرُ) يا بركاتِ الشمالْ! ..
أنا بعضُ صداكَ هنا..
وبقايا حذائكَ حين نزلتَ على..
جبهات الرمالْ! !
وأنا من بني..؟ من بني..؟ ..
عجميّ الهوى.. والفعالْ! !
لم أزلْ ممسكاً (خيمةً) .. (حُرةً) ..
نسجتْها يدُكْ! ..
مُسدِلاً سترَها..
مستعيناً ولو (باسم رب الغلامْ) ! !
هاهو (الرملُ) يلفظُ أوتادَها! ..
أبحرتْ نحو شاطئ آذانه.. صرخاتُ (أحَدْ) !
جهّز الموجَ (صوتاً) .. يسدّ الشواطئَ..
(سوطاً) .. يرشّ الدماءَ رماداً! ..
على (جَمَرات البلدْ) !
(5)
(نخَلاتٌ) تقاوِِمُ.. كيدَ (الغبار) .. وموجَ (البحارْ) ..
(نخلات) تلقّى على صدرها..
حرّ تلك الشفارْ! ..
وهيَ تسحقُ أضلاعَها.. فَتَضِجّ:» أحَدْ «! ! ..
واللآلئُ خُضْرٌ..
تسَاقطُ من جنَبات العذوق/المحارْ! ..
تتحدّرُ أحلى الثمارْ..
وتعانقُها الأرضُ.. منجبةً..
زمناً من (نخيلْ) !
(6)
صرخات (أحدْ) ..
عبرت من نسيج (خيام الغبار) التي اقتسمتْ..
جسداً/أمةً.. كان نعم الجسدْ! ..
فرشتْ بالظلام سماءً لما..
كان أحلى بلدْ! ..
ثم أصبح ألف بلدْ..
وبلدْ! !
(7)
صرخات (أحَدْ) ..
ديمةٌ أسبلتْ غيثَها! ..
تهطلُ القطراتُ.. وتكنسُ شيئاً فشيئاً..
ليالي (الغبارْ) !
(حبةُالرمل) تبني كثيباً! ..
وتحتضنُ الغيثَ..
تُنجبُ عشباً..
وتغذو به الصافناتِ الجيادْ!
تتآكلُ روحُ (العبيد) .. وتفنى..
وتنبتُ روحُ (العبادْ) ! !
يتعالى (النخيلُ) .. ويملأُ كلّ النواحي..
وتخضرّ من لونه جنباتُ البلادْ! !
تستفيقُ.. بداياتُ هذا النهارْ!
(حبةُ الرمل) .. تصعَدُ مَتْنَ الرياح إلى..
حلبات الجهادْ! .(74/47)
مراجعات أدبية
قراءة نقدية في البيان الأدبي
(الأعداد من 67 إلى 70)
محمد حسن بريغش
يبدو أن شعر التفعيلة هو الغالب على القصائد التي تنشرفي المجلة وكذلك
يبدو أن الشعر له الحيز الأكبر من بين الأنواع الأدبية أيضاً، وقد لا يكون للمجلة
يد في ذلك؛ لأنها تعتمد في ملفاتها الأدبية على ما يصلها أو على ما تختاره من
النصوص التي تصلها، وعلى أي حال فإن نجاح النص قد يغطي على غياب أنواع
أخرى، والعكس صحيح أيضاً، ويتمنى القارئ أن يستمتع بالنص الجيد، ويرى
التنويع في النصوص الإبداعية أيضاً في وقت واحد.
في العدد (67) قصيدة شعرية على وزن التفعيلة بعنوان «برقية إلى
بيغوفيتش» للشاعر د. محمد بن ظافر الشهري.
اختار الشاعر تصوير المأساة التي ينفذها العالم المتحضر في البوسنة على
شكل برقية إلى رئيس جمهورية البوسنة والهرسك (علي عزت بيغوفيتش) ، عبر
فيها عن تضامنه مع شعب البوسنة، وبهذه الطريقة عرض صوراً من جرائم
الصرب ضد المسلمين، ودور (الأمين العام!) في تغطية الجريمة، ومهمة الأمم
المتحدة ومجلس الأمن في تنفيذ المؤامرة وارتكاب المجازر تحت المظلة الدولية
والرايات الإنسانية.
ويدعو من خلال برقيته رئيس البوسنة لإعلان الجهاد وترك ما عداه من سبل، ورفض مشاريع أوروبا المتآمرة، واللجوء إلى الله عز وجل ليتحقق النصربإذن
الله.
القصيدة رغم ما تثيره من صور دامية مأساوية نابعة من القضية ذاتها لكنها
ليس فيها ما يثير الانتباه، أو يدعو إلى التمعن، أو يستوقف القارئ ليتملى الصورة
أو يتأمل في طريقة التعبير.
أحياناً تقترب المقاطع من النثر العادي: «صدقني ... لن تخسر شيئاً
يذكر» «فسيساستهم لن تتغير» ، «ستعيش إذا عشت حميداً، وإذا مت
تكون شهيداً» ، «هذا نصح أخيك المسلم، لا يعرف زوراً ونفاقاً» ، وقليلاً ما
تلمح بعض العبارات أو النقاط التي فيها لمح، أو صورة تستوقف القارئ: «لا
تدخل معبد بيزنطة، لا تسأل أوثان الروم» ، «لا تُدخل كفك في الأرض
السفلى» .
أما بقية القصيدة فقد خلت من الصور التي نتمناها، والعبارات الموحية التي
تناسب هذا النوع من الشعر.
وحبذا لو يتأمل الشاعر معنا قصيدته مرة أخرى وثالثة، ثم يحاول أن يصل
إلى ما يريد عبر الصور التي تدعو القارئ للتأمل، أو الغوص، أو الانبهار، أو
التعجب، أو الشعور بأنه يكتشف جديداً، أو كأنه يقف لأول مرة أمام هذه الأحداث
لطرافة التعبير، أو القدرة على التصوير والاستثارة، وإن الاستمرار في العطاء
سبيل التجويد إن شاء الله.
في العدد (68) قصيدتان: الأولى على وزن التفعيلة (عبوس) ، والثانية على
الوزن الخليلي (مدرستي الكبرى) ، القصيدة الأولى (عبوس) للشاعر عبد الوهاب
عبد الله، تتألف من ثلاثة مقاطع، يصور فيها مشاعره إزاء الأحداث الحاضرة التي
تثير لدى المسلم مشاعر الحزن والكآبة (عبوس) .
ويستخدم الصورة التي يمتزج فيها الصوت، بالذوق، بالصورة المادية
والمعنوية، مع غلالة من الغموض لكي يتركنا نشاركه مشاعره.
وكأن الشاعر يريد تسجيل عجبه واحتجاجه على الصمت المميت الذي يخيم
على هذه الأمة رغم الأحداث الخطيرة التي تزرع أرضها بالمآسي، وتريد أن تقتلع
كل جذورها.
هذه القصيدة توميء إلى موهبة تحمل في طياتها قدرة على العطاء، وقدرة
على أن يكون لهذا العطاء لونه المثمر، وجذوره العميقة، ولكن ذلك يحتاج إلى
نوع من الوعي للتجربة التي يصورها الشاعر، هذا الوعي الذي يجعله مالكاً
لعناصرها، قادراً على استخدام هذه العناصر بشكل يبعده عن الغرق في الغموض،
أو الركون إليه حين لا تسعفه الكلمة الشاعرة، والصورة المبدعة والرمز الموحي،
أو حتى لا يقع في السرد الذي يقترب من النثر العادي.
القصيدة الثانية «مدرستي الكبرى» للشيخ عائض القرني: قارئ
القصيدة يشعر أنه مع خواطر ترد على ذهن المسلم في هذا العصر، وهو يعاني ما
يعاني من النكبات التي تنزل بالأمة، والأخطار التي تحدق بها من كل جانب
والخداع والتزوير الذين يلفان حياة هذه الأمة.
مع كل هذه الخواطر يقف المسلم عصياً على تيار الكفر، لا يذوب ولا
يتخاذل، يتذكر مسيرة الحق من لدن آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض
ومن عليها، والقصيدة جولة منظومة مع تلك الخواطر.
وفي العدد (69) ثلاثة نصوص إبداعية: اثنان من الشعر، وواحد من القصة، النص الأول قصيدة شعرية على وزن التفعيلة مختومة بأبيات خليلية للشاعر
تركي المالكي بعنوان «نجمة الاعتصام» ، وهي تتحدث عن المرحلة التي
وصلت إليها قضية الأرض المقدسة «فلسطين» في الآونة الأخيرة.
والقصيدة مقسمة إلى ستة مقاطع، تتوزع الأحداث والآثار المترتبة عليها:
ففي المقطع الأول أعلن عن الحدث، ووصفه بتعبير قرآني موجز دقيق (عارض
ممطر) : لا يغني ولا يشبع، ووصف ما يجري وصفاً لمّاحاً موحياً (رقص الحبل
بالراقصين) ، وفي المقطع الثاني وضح حقيقة الحدث وما ينطوي عليه، وأشار إلى
الزيف الذي قلب كل الحقائق التي لا يجهلها أحد، والثوابت التي لا يتنازل عنها
مسلم عاقل، فالبحر في هذا السّلْم الموهوم أصبح عذباً وأضحى الغيث العذب ساماً، وأصبح الاعتصام بشعار يهود هو المنجاة من الخطر، فهل هناك أعجب من
هذا؟ !
وفي المقطع الثالث يشير إلى من تاجروا بالقضية الفلسطينية، وباعوها باسم
الشعارات، وفي المقطع الرابع يعود للحدث ونتائجه، ويصور لقطات من لقاء
الثوار باليهود، ويسير إلى نتائج هذه الاتفاقات واللقاءات وما تبعها من مشاريع
مستقبلية تؤكد ما سبق إليه من إشارة إلى قلب كل الحقائق، ورفض كل الثوابت
لهذه الأمة حتى صارت فلسفة الواقعية هي المنهج، وهي السياسة، وهي الذكاء.
وفي المقطع الأخير يحدد طريق الخلاص الذي بيّنه الله لنا، وهو الذي سار به
أجدادنا حملة الرسالة الإسلامية، فانتصروا وطهروا أرض المقدسات من أعداء الله.
لقد آثر الشاعر منذ البداية الكلمة الموحية، والرمز الدال، والصورة المعبرة، لتحمل ما يريد، ولتنقل القارئ من صورة لأخرى، ومن موقع لآخر، عبر
أزمان وقرون، وألوان، وطعوم ...
وكان اختيار الشاعر لأكثر رموزه موفقاً، بل بارعاً في بعضها، لأنها تترك
القارئ من خلال رمزه يغوص وراء الرمز في الماضي والحاضر يقلب صفحات
التاريخ، ويتنقل بين ربوع أوطاننا الإسلامية، ويستعرض الأحداث ليدرك حقيقة
ما يجري.
فالحدث وهو الاتفاق باسم السلام ما هو إلا رقص، وإذا كان عنوانه يتصل
بالسلام فحقيقته كالعارض الممطر..
والحدث قلب للحقائق: فالبحر المالح أصبح في حلوقهم كما يعلنون عذباً،
بينما الغيث الذي ينبت به الله الزرع، ويملأ الضرع، ويحيي القلوب ... قالوا عنه
إنه سام، وطريق النجاح طريق النجاة (سفينة نوح) هجرها الواقعيون واعتصموا
ياللخسارة والعار بشعار يهود، النجمة التي لا تضام ...
هذه الرموز وغيرها لها دلالات كثيرة، وكلها دلالات تربط بين واقع اليهود
وحقيقتهم كما صورها لنا رب العالمين، وبين ما نحن فيه من تزييف وخداع،
وقلب لهذه الحقائٍق، وقتل للمثل والثوابت.
وعنوان القصيدة نوع من الرمز، أو جزء من الرمز، وهو عميق الدلالة لأنه
يشير فيه إلى الاعتصام، فكيف أصبح إرضاء اليهود والانحياز لهم هو الاعتصام
الذي يسعى إليه المضللون، بدلاً من الإعتصام بحبل الله عز وجل والتمسك بشرعه؟
وكان استخدام الشاعر للرمز موفقاً من التاريخ والتراث، والواقع والأحداث
(مسجد الضرار قبساً الغمد الذل سفينة نوح الغيث العارض الممطر واقعي
الرياح ... الخ) ، والقصيدة تشير إلى قدرة الشاعر على التصوير، وعلى اختيار الرمز الدال الذي يختصر النظم الطويل، ويركز الانتباه والإحساس على بؤرة الحدث أو مركز الصورة ... ويفسح للقارئ الطريق لكي يغوص ويجول هنا وهناك لاستجلاء الصورة والوصول إلى عمق الرمز.
وكان موفقاً في اختيار أكثر الألفاظ التي أعانته على التصوير الموحي، بل
كان يضع بعض الألفاظ في سياق التعبير الشعري فتتحول من لفظة عادية إلى كلمة
شاعرية مشعة «أنا أنت، فصغ نزف قومي حبراً، وخط به.. هيكلاً للسلام» ،
«والجذور توهج في العمق ثابتة لا ترام» ، «ها تضلعت إني أرى رغم هذا
الظلام في عروقي دم الفاتحين» ... «يتدفق بالطهر، كالورد كالجمر، يسقي
جذوع الكلم» ... وكان موفقاً في الخاتمة التي اختار فيها بيتين مشهورين من شعر
الجهاد، وأتبعهما ببيتين من شعره.
لقد دلت القصيدة على موهبة شعرية استطاعت (توظيف) الرمز والمعطيات
الثقافية، والحقائق التاريخية، والقيم الإسلامية ضمن سياق شعري يعتمد على
الرمز والتصوير والإيحاء، بدون الوقوع في دهاليز الغموض، أو الاختفاء وراء
الصياغة المعقدة كما يفعل كثير من العابثين بالشعر والذوق.
ويبقى لنا أن نشير إلى أنه خرج في بعض المقاطع عن الطريقة التي اختارها
ففي المقطع الرابع كرر المعاني التي سبق تصويرها في المقاطع السابقة، ثم
استطرد في شرح هذه المعاني حتى أصبح طعم الصورة باهت الأثر، وفقد الرمز
معناه الإيحائي، وعمقه المطلوب، وفوّت على الصورة المركزة هذه المزية التي
تحملها.
وهناك بعض العبارات التي لم يوفق فيها الشاعر، ولم تكن متسقة مع بقية
العبارات التي خرجت من إطارها المألوف إلى لغة الشعر، وإيحاءات الكلمة عن
طريق الصياغة الموفقة (يا رياح فهزي جذوع غيوث اليقين) . تبقى القصيدة تومئ
إلى شاعرية سيكون لها توهجات طيبة، وعطاءات كثيرة إن شاء الله.
النص الثاني: قصة بعنوان «للموت مليون طريقة» بقلم/ عبير عبد الله
الطنطاوي، والقصة تصور جانباً من مآسي الحرب على الناس، بل تركز على
أثر الحرب في الطفولة، وربما اختارت هذه اللقطة من آثار الحرب، لأن الأطفال
يمثلون البراءة، والطهر، والفطرة، ولا يعرفون الكره أو الانتقام ولا يدركون
معنى السياسة والاقتصاد، والصراعات على المادة ...
أحداث القصة تصور امرأة أوصلتها الحرب إلى العدم، فلم تعد تملك شيئاً
تقتات به لترضع طفلها، أو لتأتي له بالحليب الذي يُعوضُه عن ثدي أمه الذي
نضب، وبعد بحث طويل وبمساعدة صديقة وفيّة لهذه الأم، تظفر صديقتها بمرادها
عند أحد الباعة الذي يطلب ثمناً غالياً، فتتخلى عن أساورها الثمينة لتدفعها ثمناً
لحياة الطفل، أو ثمناً لحليبه، وعندما أسرعت لتبشر صديقتها الأم بحصولها على
الحليب، وجدت أن الطفل قد مات.
هذه شريحة أو لقطة من صور الحرب التي باتت تدمر كل شيء، فالقنبلة
والصاروخ والطائرة لا تميز بين الإنسان والحيوان وبين الصغير والكبير ...
لقد نجحت الكاتبة من خلال هذه الشريحة في الإشارة إلى آثار الحرب
ومآسيها ومكابدة الأطفال بخاصة والناس بعامة من جرائها، وكذلك نجحت في إثارة
الشفقة والحزن على الطفولة التي راحت ضحية الحرب.
واختارت الكاتبة أسلوب السرد المباشر، والعبارة الواضحة البسيطة في
قصتها، ولكنها كان بإمكانها أن تتخذ من الطفل الذي مات جوعاً نقطة ارتكاز لتثير
كثيراً من الأمور التي تحملها الحروب، ولتومئ إلى بعض سمات هذا العصر،
وجرائم الساسة وصنّاع الحروب.
وكم كان جيداً أن تضع كل هذا في مواجهة الفطرة البريئة لهذا الطفل المعذب، ومع كل هذه التمنيات، فالقصة خطوة على طريق طويل، وإسهام في إثراء
القصة المعاصرة.
النص الثالث: قصيدة شعرية على وزن التفعيلة بعنوان «المتحدة» للشاعر/
علي بن موسى، وهي مقسمة إلى عشرة مقاطع، تتحدث عن مأساة المسلمين في
البوسنة والهرسك، وعن الجرائم التي يقترفها الصرب ومن وراءهم من حملة
الصليب ضد الأطفال والنساء والشيوخ، وضد الحياة ذاتها.
وركز الشاعر في تصويره لهذه الجريمة على (هيئة الأمم) التي رمز إليها في
عنوان القصيدة، وعلى مجلس الأمن الذي أضحى ألعوبة، ومظلة لتنفيذ
المخططات العدوانية ضد المسلمين.
«يا مجلس الأمن المصمم للصليب وللصليب» ، «يا مجلس الأعداء: تقتلنا وتقتلنا، وتمنح خصمنا ليلاً من البارود يحرقنا وقوفاً» ، «هذي ...
سراييفو تدك سلامها نار الصليب» .
ويستمر الشاعر في تصوير ما عانته سراييفو وغيرها، وما يلقاه الناس
ولاسيما الأطفال الذين قطعوا أجسادهم وألقوهم مزقاً في الطريق، كما صور ما فعله
الصرب بالنساء والشيوخ وغيرهم، ثم صور حالة المسلمين المتخاذلين الذين «
يمضغون عجزهم» ، أو يأكلون خبزهم المعجون باللذات، ويبررون الجريمة
بكلمات تدل على فراغ ويأس ومهانة.
والشاعر يستخدم الصورة الشعرية للوصول إلى المعاني التي يريدها:
«الطفل غادر صبحه» ، «وانكفأ الشروق» ، «قلبي الطريدة،
والجموع تتابع الصياد، والصياد يقتنص الجموع!» ، «عذراً سراييفو وباقي
السرب، إنك منذ جاؤوا صامدة، ونحن هناك نأكل خبزنا المعجون باللذات» .
ولكن استخدامه للصور الشعرية لم يأخذ إلا حيزاً صغيراً، ولم تكن هذه
الصور إلا نادراً ذات إيحاءات بعيدة أو عميقة، بل كانت الصور أحياناً بسيطة
أقرب إلى الطريقة المباشرة.
وإذا كان الشاعر قد وضع القارئ أمام مسؤوليته كمسلم حيال هذه المؤامرة
الصليبية، فإنه لم ينجح كما ينبغي في اختيار الألفاظ التي تسعفه لتحقيق ما يريد،
فهناك ألفاظ عادية، وعبارات أقرب إلى النثرية البسيطة، وتراكيب ضعيفة أجبر
عليها الشاعر لإكمال المقطع «النار تأتي تحتوينا ونظنها في البعد نائية لكنها في
القلب تحرقنا» ، «يا مجلس الأعداء تقتلنا، وتقتلنا وتمنح خصمنا ليلاً من
البارود يحرقنا وقوفاً» .
ولكن هناك عبارات وفق فيها الشاعر، وكانت محققة لما ينبغي لها من
دلالات «ونحن نغط في لغط القشور» ، «وأنت المستجير ولا نصير» «هذي
سراييفو نواح لا يكف وألف ألف قذيفة زرعت هناك ولا مغيث» .
والقصيدة تبشر بعطاء شعري جاد مادامت تنم عن موهبة تتفتح وتشرئب إلى
التجويد من خلال تصور واضح.
وفي العدد (70) قصيدتان شعريتان: الأولى بعنوان «النور وخيوط
العنكبوت» للشاعر علي محمد سفر، وهي على وزن التفعيلة، والثانية بعنوان «
كيف يشكو إلى القيود الأسير» للشاعر د/ صالح الزهراني.
أما القصيدة الأولى فهي صرخة أو رسالة يخاطب فيها الشاعر المخدوعين
بمدنية الغرب، وتقدمه المادي، ممن وصل بهم الأمر إلى الانبهار والغرق في
الوهم، والتبعية العمياء باسم الحرية والتقدم، مما أدى إلى وقوعهم في المعاصي
واستسلامهم للمذلات.
يناديهم الشاعر لينظروا بأعينهم وبصائرهم، وليعوا الحقائق، ويعودوا إلى
الحق، ويتخلصوا مما هم فيه من الإثم والوهم.
ويظل الشاعر يدق على بصيرة المسلم الغافل المخدوع؛ ليصحو ويستفيق
فيكرر النداء «تربت يداك» مستخدماً هذا التعبير الإسلامي المأثور.. ثم يمضي
في عرض واقع الحضارة الغربية بطريقة الحكاية، فيعرض قصة المرأة التي
استُغلَ شبابها بما فيه من حيوية ونضارة وجمال، فإذا ذوي الشباب لفظت كالجيفة
وتركت تعاني القهر والعذاب والبؤس.
وفي هذه الحالة لا تجد من أحد شفقة ولا عوناً ولا رعاية، بل تُلقى كالأقذار
وتعيش عيشة الذل، وإلى جانب هذا المنظر يعيش الكلب المدلل يأكل ما لذ وطاب، وهنا ترى المرأة خلاصها في قتل الكلب حتى يُؤويها السجن من البرد والحر
والتشرد، ويوفر لها لقمة العيش.
وحين تفعل ذلك يكون حكم القضاء العادل هناك أن تخرج من السجن وتلقى
في الشارع عقوبة لها على جريمتها النكراء، وتفويتاً لحيلتها في التخلص من هذا
العذاب، فيضع الشاعر هذه الصورة أمام المخدوعين، ويذكر بصور أخرى كثيرة
بإشارات مختصرة، ويذكر بهذا الواقع المخدوعين من الأمة لكي يعودوا إلى
الصواب.
القصيدة تجوال هنا وهناك، فيها تلوين وتنوع في الصور والأسلوب وطريقة
التعبير، وفيها بساطة وعفوية في بعض الأحيان، وإذا كان لهذا الأسلوب محاسنه
فإنه كذلك أضعف من قدرة القصيدة على تحقيق الهدف الذي أراده الشاعر،
وأضعف الأثر الذي يمكن أن يبقى بعد القصيدة.
وكان بمقدور الشاعر أن يستغل على سبيل المثال قصة المرأة لكي تكون
تنويراً للحقائق التي يريدها، ثم يتركها بنفسها لكي تنطق بما يريد.
القصيدة في شكلها الحالي، والتجوال بين مكان وآخر من خلالها لم يترك
فرصة للقارئ لكي يتمعن في صورة أو معنى، أو ليربط بين هذا وذاك أو ليكشف
بنفسه بعض الحقائق من الإشارات أو المقارنة أو الرموز الموحية.
لقد أراد الشاعر أن يستعرض بسرعة صوراً كثيرة، وأن ينوب عن القارئ
أيضاً في شرح ما يريد، وهذا يضعف تأثير الشعر، ويذهب بكثير من جماله.
وكذلك كنت أتمنى أن يكتفي الشاعر بنصف هذا القدر من الطول مع التركيز
في التصوير والتعبير والتجويد في اختيار أدواته، ولو فعل ذلك لترك في أحاسيسنا
ووعينا أثراً أعمق، ولحقق قدراً أكبر من الجودة والإمتاع، وليس هذا صعباً على
الشاعر مادامت لديه هذه القدرة على التعبير بغزارة وعفوية.
القصيدة الثانية «كيف يشكو إلى القيود الأسير» للشاعر د/ صالح الزهراني
تذكرنا بعدد من الشعراء المعاصرين الذين تميزوا بقوة النبرة وحرارة العاطفة
وتلوين الخطاب، وامتزاج الصورة بالأسلوب المباشر، أمثال الدكتور النحوي،
والدكتور عبد الرحمن بارود، والأستاذ شريف قاسم وغيرهم يخاطب الشاعر في
قصيدته ما يسمى بالضمير «ضمير الأحرار، ويتساءل بسخرية ومرارة عن هذا
الضمير» أين الضمير؟ «.
يا ضمير الأحرار.. أين الضمير ... وبلادي مجازر وقبور! !
ويعدد الفجائع والمجازر والمظالم التي تملأ ديار المسلمين بفعل أصحاب هذا
الضمير.
هذه الجرائم تنفذ تحت علم الأمم المتحدة ومجلس الأمن، المحكوم من هؤلاء
الظالمين الذين نصبوا أنفسهم قضاة، وأتوا من بينهم بشهود الزور وحكموا على
الضحية التي هي من المسلمين.
ثم ينقل الشاعر خطابه للمسلمين لينبههم إلى ما هم فيه، ويدعوهم إلى شد
العزائم وترك الخلافات، وشحذ الهمم، والتبصر بالواقع ليعودوا إلى النهوض من
جديد. وأخيراً، ومع هذا الواقع المأساوي، يبشر الشاعر هذه الأمة بالفجر القادم،
لأنه وعد الله الذي لا يتخلف، والفجر لا يحول دونه سور أو أي حائل.
والقصيدة رغم ما فيها من نبرة خطابية قوية، فقد نجحت في تصوير واقع
المسلمين، بل واقع العصر الذي اتسم بتكالب الغرب، وتجمعه ضد الإسلام
والمسلمين، وهي لا تخلو من صور بين حين وآخر، وبعض الرموز القليلة، مع
التلوين في الأسلوب، مما يعطيها حيوية وجمالاً.
وكذلك لا تخلو القصيدة من الأبيات الجميلة التي يحلو للقارئ تردادها لما فيها
من طرافة المعنى، أو جمال التعبير، أو قوة الدلالة، مثل:
» ما خبا في دمي شعاع المعالي ... في وريدي لا ينضب التكبير «
وكذلك اعتمد الشاعر على التكرار غير الممل أو المخل، لتثبيت الصورة
التي يريدها، أو الفكرة التي يريد إيضاحها:» يا ضمير الأحرار «،» يا مجلس
الأمن «،» حدثوني «،» نحن مليار «..
والقصيدة تشير إلى قدرة الشاعر على التعبير دون تلكؤ أو افتعال وامتلاكه
لعناصر القصيدة الناجحة، ولعله في التقليل من النبرة الخطابية أحياناً واستغلال
قدرتها على التصوير، يعطي شعره عمقاً وجمالاً، ويقلل من ترف التكرار الذي لا
ضرورة له، أو الطول الذي يحكمه السرد المباشر.(74/51)
نصوص قصصية
حدث في السوق..!
د.محمد الحضيف
المكان: سوق مزدحم
أنا أشك في سلوكه ... دعنا نوقفه.
انتظر قليلاً ... فقد نكون مخطئين، ربما له غرض، أو ينتظرأحداً.
مخطئين..؟ ! بصراحة أنا ظني لا يخيب في هذا الصنف من الناس..
حليق.. والثوب طويل.. والدخان.. والنظارات الشمسية..
هذه ليست أدلة إدانة..
لكنها مؤشرات..
الهدوء أفضل..
يذهبان باتجاهه، ويقتربان منه..
السلام عليكم.
وعليكم السلام..
* يتأملهما الشاب وهما يتجاوزانه مبتعدين، ثم يخرج جهاز النداء الآلي
ويتصنع النظر إليه حينما التفت إليه أحدهما.
تُسلّم عليه..؟ !
وما المانع.. أليس هذا هو الهدي النبوي؟
إنك بهذا التصرف تشعره بالطمأنينة.
أليس هذا هو المطلوب؟
أنا لا أفهم لماذا تتصرف بهذه الطريقة ...
... ... ...
انظر ... لقد رمى بورقة على مجموعة من النساء ... دعنا نمسك به قبل أن
يختفي.
* يختفي الشاب في الزحام، التقط أحدهما الورقة، كانت تحمل رقم هاتف.
ألم أقل لك إن تصرفه مريب ... دعنا نلحق به.
لا بأس ... هات الورقة.
يسرعان في أثره، وبعد مدة يجدانه في مكان آخر من السوق، رآهما فارتبك
وأراد أن يتفاداهما، فلحق به أحدهما، وأمسك به.
ما اسمك ... وماذا تفعل هنا؟
من أنت؟
هذا ليس من شأنك ... أخبرني ماذا تريد ...
بل من شأني.
أنا من رجال الهيئة [1] .
مطوّع يعني..؟
مطوّع أو غير مطوّع.. يا فاضي.. يا قليل الأدب.
ويتجمهر الناس ويرتفع الجدال والشجار بين الاثنين، وتتعالى أصوات الناس
بين مؤيد للشاب: (حرام عليكم.. اتركوا الناس وشأنهم) وبين حامل عليه (جزاكم
الله خير.. يا جماعة نظفوا البلد من ها العينات التعبانة..) .
ثم يصل الشخص الثاني، ويتدخل، ويأخذ عقال الشاب الذي كان قد وقع
على الأرض، ويضعه على رأسه، ويمسك بيده بهدوء ...
السلام عليكم يا أخي الكريم.
... وعليكم السلام ... نعم ... ؟
أبداً ... طاحت هذه الورقة منك في الممر الآخر، ويبدو أنها تحمل معلومات
تهمك، فحرصت أن ألحقك وأعطيك إياها ...
- ... ... ...
يطالع الشاب في الشخص الذي أمامه مستغرباً، وينقل نظراته بينه وبين
الشخص الآخر اشتبك معه، غير مصدق ما يجري. يظل الشخص ممسكا بيد
الشاب بهدوء، وهو يسير به بعيداً عن الناس، ويتهامسان، حتى يصل إلى سيارة
كانت واقفة يفتحها الشاب ويركبها، ويدور بينهما حوار قصير قبل أن تتحرك
السيارة وينصرف الشاب وعلى وجهه ابتسامه.
* * *
المكان: مجلس مزدحم بعشرات الضيوف:
الأحاديث الجانبية تنبعث من كل مكان، يتكلم أحد الحضور طالباً الإنصات
إلى شخص يريد أن يقول شيئاً.
يا إخوان أريد أن أحدثكم عن حادثة شاهدتها بنفسي ... أو لأكون صادقاً معكم
شاهدها إنسان عزيز أثق به جداً! .
الحضور يرددون بصوت واحد:
تفضل.. تفضل..
قبل أسبوعين في أسواق (....) وأمام الناس كلهم هجم اثنان من رجال
الهيئات، هؤلاء الـ (....) على أحد الأشخاص وكان برفقته امرأة وطالبوه أن
يثبت صلته بها، ولما أخبرهم أنها أخته أوسعوه ضرباً حتى أغمي عليه واضطرت
المرأة التي كانت معه أن تستغيث بالناس وهي تصرخ وتقول ... لقد قتلوا أخي.
وماذا حدث بعد ذلك؟ !
لا أدري لأن الذي روى لي القصة قال إنه لم يتحمل أن يرى بقية المشهد
خصوصاً وأن أحد الشخصين أمطر المرأة بسيل من الشتائم، واتهمها في عرضها.
شخص آخر من الحضور يتدخل ويقول:
إذا كانت هي الحادثة التي وقعت أمام (أزياء الشرق) في أسواق (....) فإن
أولئك (الوحوش) طلبوا من الشاب أن يثبت لهم أن المرأة التي بصحبته هي زوجته.
يا أخي هذا شيء بشع.. لماذا لا يوقف هؤلاء الـ (....) «عند حدهم؟ !
هل تصدق أنهم طالبوه بصك الزواج؟ ! ..
إذن بهذه الطريقة علينا أن نحمل صكوك الزواج ودفتر العائلة وشهادة من
العمدة والإمارة، لنثبت أن من يسير معنا هم أبناؤنا وزوجاتنا وأخواتنا.
يا أخي لقد كان مشهداً لا يُنسى حينما وضع أحدهم قدمه على وجه الشاب
وقال له: أين لحيتك يا فاسق.. أو يا كافر على ما أظن.
.... وفجأة ينطلق صوت من بين الحضور الذين كان بعضهم يتسابق في
إيراد القصص والحوادث التي مرت به أو بصديق له أو بإحدى قريباته:
يا إخوان أين حدث كل هذا الذي تقولون..؟ ! في فيلم سينمائى أو في
خيالكم؟ ! .. أنا الذي كنت في ذلك السوق ... وأنا الذي حدث لي ذلك الموقف مع رجال الهيئة ... يا إخوان هذا الذي تقولونه غير صحيح ... ولا يجوز ... لم تسل دماء، ولم تصرخ امرأة، بل لم يكن في الموضوع كله نساء أو صكوك زواج، الأمر كله لا يحتمل كل هذه الرواية بفصولها المأساوية..! ! سوء فهم حدث وتمت تسوية الأمر بطريقة ودية ... هل عرفتم القصة الآن..؟
ما هي القصة إذن..؟ !
- ... ... ...
__________
(1) هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(74/63)
المسلمون والعالم
حين يستنطق الشهود!
«رسالة إلى الأصدقاء الجلادين»
د. عبد الله عمر سلطان
أحياناً لا يملك الراصد للحدث بداً من أن يستضيف مراقباً محايداً ليدلي برأيه
في قضية شائكة، عاطفية، معقدة، ليبتعد عن الوقوع في فخ التصنيف أو إطلاق
تهم التحيز عليه. لقد كتبت في هذه الزاوية قبل أكثر من ثلاثة أشهر مقالاً بعنوان
«الكلاشنكوف لن يسكت الأذان» ، استعرضت فيه بعض زوايا المشهد الجزائري
اللاهث، الذي عالج وضعاً شاذاً تدّعي الأقلية خلال استعراضه أن لديها حقاً مقدساً، وصكاً سرمدياً يتيح لها مصادرة رغبة شعبها وسرقة خياره، على الرغم من أن
هذا السلوك يتنافى مع أبسط ما تقتضيه المبادئ الديمقراطية التي تدّعي تيارات
العلمنة والفرانكفونية أنها تدافع عنها وتنتمي، إليها وتقاتل من أجل استمرارها على
أرض الجزائر ...
وتصاعد الحدث الجزائري منذ ذلك الوقت ليسجل مشاهد عديدة تقتضي أن
نتوقف عندها، لنعالج بعض النقاط المهمة، ولنصل إلى تأطير تسلسل الأحداث
الراهنة للخروج بتصور عام وخطوط عريضة تفسر هذا الحدث، وهذا بالضبط ما
عنيته في البداية حين أشرت إلى اختيار المراقب المحايد الذي يستند هنا إلى تجربة
تاريخية، وأعني به «جاك فيرجيس» الذي يعد من أبرز رجال القانون في فرنسا، وهو شخصية لها حضورها وتجربتها الممتدة إلى أيام حرب التحرير الجزائرية
حين وقف مدافعاً عن حق الشعب الجزائري في استقلاله ونيل كرامته بعيداً عن
قيود العبودية المتمثلةفي الاستعمار الفرنسي، وفي ذلك الوقت رُمي هذا المحامي
بأبشع التهم، وحاول الفرنسيون المتعصبون اغتياله بتهمة «العمالة» و «الخيانة
العظمى» ، وبعد أن نالت الجزائر استقلالها حصل «فيرجيس» على الجنسية
الجزائرية، وتولى مناصب مهمة في وزارة الخارجية الجزائرية، وعمل مديراً
لمجلة «الثورة الإفريقية، ثم غادر الجزائر إلى فرنسا حيث كانت له مواقف قوية
ضد القوى الصهيونية الفرنسية التي ظلت تتهمه بأنه حليف لجبهة التحرير
الجزائرية والعرب عموماً، وبعد الانتخابات» الموءودة «وتداعياتها كتب المحامي
الفرنسي كتاباً بعنوان» رسالة إلى أصدقائي الجزائريين الذين أصبحوا جلادين «
كشف فيه بجلاء عن حجم المأساة وعمق الهاوية التي سقطت فيها البلاد بقيادة مافيا
السلطة، ويستعرض الواقع القائم بقوله:» إن القوانين التي فصلها المشرع
الجزائري تشبه قوانين حكومة «فيشي» الموالية للنازية التي حكمت فرنسا خلال
فترة الاحتلال، بل إن بعض مواد القانون منقولة نصاً وروحاً من هذا القانون
السيء السمعة الذي عرفتُ من خلاله حجم الخلل الذي انتاب النظام الحاكم ... أنا لم
أقرر من البداية أن أتخذ موقفا معيناً ضد السلطة في الجزائر، لكن ما اكتشفته أثناء
أداء عملي هو الذي دفعني إلى ذلك. إن المسؤولين هناك يمارسون على غيرهم ما
مارسته عليهم فرنسا في السابق يلجأون إلى كل الوسائل لحماية مصالحهم، وأنا
أقول إن الوسائل نفسها تؤدي إلى النتيجة نفسها، ففرنسا اضطهدت «جبهة
التحرير» التي كانت تمثل أغلبية الشعب الجزائري، و «جبهة الإنقاذ» فازت
في معركة انتخابية بأغلبية الأصوات وهي تُضطهد اليوم، والنتيجة ستكون واحدة.
إن الأغلبية قد لا تساند أطروحات «الإنقاذ» لكنها تتعاطف مع أعضائها وتكره
رموز السلطة، وسفير الجزائر في فرنسا (سيد أحمد غزالي) قال بنفسه إن 90 %
من الشعب يكرهون السلطة.
خذ مثالاً آخر: القانون الاستثنائي الجزائري الذي يمنع نشر اسم رئيس
المحكمة ويعاقب بالسجن لمدة خمس سنوات من يخالف هذا المنع، وهذه بدعة
قانونية انفردت بها الجزائر. لقد قرأت في الصحافة الجزائرية أثناء محاكمة
المتهمين بتفجير مطار الجزائر أن أحدهم قال لرئيس المحكمة إنه تم خصيه أثناء
التعذيب، وقد رفض الرئيس معاينة المتهم طبياً لتأكيد أقواله أو نفيها، أليس هذا
إقراراً بحقيقة التعذيب؟ ! «
وحين يُسأل الشاهد الفرنسي عن» عنف الإسلاميين «وهو قميص عثمان
الذي يرفع لتبرير بطش السلطة يقول:» عنف السلطة هو أكثر شدة، لقد تم
قصف إحدى القرى بغاز النابالم، هل تعرفون عنفاً أشد من هذا؟ ! ثم إن عنف «
جبهة الانقاذ» هو ردّ فعل لما تعرضت له، لقد فازت في الانتخابات، ثم رُمي
بالذين فازوا في السجن وفي قاعات التعذيب، كيف يمكن بعد ذلك التحدث عن
الديمقراطية؟ ما هي شرعية السلطة اليوم؟ ليس في الجزائر رئيس منتخب ولا
برلمان منتخب ولا مجالس جبهوية منتخبة ولا بلديات منتخبة، من هنا بدأ العنف
وما حدث بعد ذلك هو نتيجة له، لقد كانت فرنسا في السابق ترفض التفاوض مع «
جبهة التحرير» متعللة بالعنف، وكنت أقول ما أقوله اليوم، وأنا أعرف الكثيرين
من المسؤولين في الجزائر، إنهم يدافعون عن نمط حياة غربي وهذا حق مشروع!
لكنهم يعارضون بذلك إرادة الأغلبية، إنهم مثل فرنسيي الجزائر الذين كانوا
يرفضون التخلي عن امتيازاتهم «.
ثم يُجْلَبُ الشاهد مرة أخرى ليقال له: إن شروط» الإنقاذ «تعجيزية للبدء
في الحوار، لاسيما شروط الناطق باسمها» رابح كبير «، فيقول:» في كل
حركة هناك وجهات نظر مختلفة، وهناك متشددون ومعتدلون، هذا الأمر طبيعي
جداً، ولا يبدو لي أن «رابح كبير» متشدد بل تبدو لي شروطه منطقية، إذ كيف
يمكن التفاوض إذا لم يُعترف مجدداً بـ «الإنقاذ» ؟ «.
ويشير إلى طلب قادة» الإنقاذ «محاكمة المسؤولين عن انجراف الجزائر
إلى دوامة العنف، خصوصاً بعض العسكرين المتشددين بقوله:» وكيف يمكن
التفاوض إذا استمر الجلادون في عملهم؟ لابد من إطلاق سراح القياديين الموقوفين، وإيقاف الحملات ضد الإسلاميين، وأنا أتحدث هنا بصفتي مراقباً ولا أنطق باسم
«الإنقاذ» ، أقول: إنه من الصعب أن يتعايش الجلاد والضحية بعد كل ما
حدث «.
وينهي الشاهد الفرنسي شهادته بقوله:» أظن أنه لا وجود لحل آخر سوى
الحوار، إنه وضع يشبه الجزائر عام 1962 م آنذاك كانت فرنسا قد نجحت
عسكرياً في التصدي لجبهة التحرير، لكنها لم تجد طريقة لحكم الجزائر. إن
الانتصار العسكري لا يساوي شيئاً أمام العجز السياسي، وفي الجزائر اليوم لم
تنجح السلطة في القضاء عسكرياً على «الإنقاذ» ، ولم تنجح في تسيير الأمور
حتى رجال السلطة يعترفون بهذا، من جهة أخرى لا يمكن مواصلة إنكار وجود «
الإنقاذ» ، وكل ما يحدث يؤكد أنها قوة فاعلة، وأن الأفضل التحاور مع قياداتها
حتى لا يتواصل العنف والعنف المضاد بين قاعدتها والسلطة، إن الحوار ليس فقط
ضرورياً بل هو المخرج الوحيد من الأزمة ... أنا لا أعلم ماذا يحدث داخل جبهة
الإنقاذ، لكن الواضح أن هناك مواقف متباينة، أعتقد أن قادة كل حركة هم دوماً
أكثر اعتدالاً من أعضائها القاعديين، لذلك أقول إنه من الحكمة أن يتم التفاوض مع
القيادة لتجنب عنف القاعدة، والقيادة وحدها قادرة على منع هذا العنف، هذه القاعدة
أثبتتها كل التجارب التاريخية، وأظن أن فرنسا تتجه اليوم نحو إدراكها، فقد أدانت
مؤخراً كل أشكال العنف، أي أنها عرّضَت بالسلطة أيضاً، وأظن أن كتابي «
رسالة مفتوحة إلى أصدقائي الجزائريين الذين أصبحوا جلادين» أسهم في تليين
الموقف الفرنسي.
هذا السطر الأخير من الشهادة ينقلنا للحديث عن الموقف الغربي من الحدث؛
لأنه ذو علاقة مباشرة بالموضوع وبتسلسل الأحداث.
فرنسا على الخط!
«إذا أردت أن تعرف موقف السلطة الحاكمة فعليك أن تعرف موقف باريس ...
قَبْلاً» ، هذا ما يقوله «كريستوفر ديكي» المحلل الأمريكي في معرض ...
استعراضه لمواقف حكومة «رضا مالك» الذي كاد أن يحصر العالم الخارجي
وعلاقته بالجزائر في فرنسا والذي قام بزيارة سرية لها طارحاً ارتباطه
الفكري/السياسي، وهو النهج نفسه الذي تتبناه الأحزاب العلمانية والشعوبية التي لا
ترى من العالم الخارجي سوى فرنسا ولا تستلهم نموذجاً سواها، مما دفع بعضهم
للتساؤل: متى تتحرر الجزائر من فرنسا ... ؟ !
وهذا السؤال ملح خصوصاً أن التحول نحو «الحوار» وتشكيل ندوة هزيلة
له كان متزامناً مع توجه فرنسي مماثل، وهو يتلو تشدداً فرنسياً تجاه الإسلاميين
الجزائريين تمثل في مسرحية 7 نوفمبر 1993 م حين قُبض على الناشطين
الإسلاميين المقيمين في فرنسا بحجة دعم الجماعات المسلحة، لاسيما بعد ثبوت هذه
التهمة على «موسى كراوشي» الذي ضُبط لديه نسخ من الرسائل المرسلة من
الجزائر تتحدث عن مسؤولية منفذيها عن اختطاف الفرنسيين، ولكن زمناً قصيراً
كشف أن هذه الوثائق «الخطيرة» و «الأدلة الدامغة» هي من دس جهاز
الاستخبارات الفرنسي وتلفيقه، مما يعطي دليلاً آخر على أن التورط الفرنسي في
أحداث الجزائر لا يصب حتماً في مصلحة «حزب فرنسا» أو المنادين بدوام
تسلطه العسكري.
إن الدور الفرنسي في أحداث الجزائر جعل من باريس وكأنها مصدر القرار
لتوجه القوى الحاكمة التي ترتبط كلها في النهاية بخيوط فرنسية تجعل من مصيرها
متعلقاً بهذه الخيوط والحبال السرية، فالصراع الذي دار داخل مؤسسة العسكر كان
بين جناحين «جناح التشدد» الذي يمثله ضباط الجيش الجزائري الذين خدموا في
الجيش الفرنسي أولاً ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الجيش الجزائري والفريق الثاني هو
الذي نشأ بين أحضان جيش التحرير الجزائري، والفريق الأول هو الذي قاد
الانقلاب الأول عام 1992 م بعد فوز جبهة «الإنقاذ» بالانتخابات الحرة وأتى
بمحمد بوضياف، ثم هو الذي استمر في تصعيد الموقف من خلال تبنيه للحل
العسكري والقبضة الأمنية لحل مشكلة حضارية وسياسية في الأساس، ثم قام هذا
التيار باغتيال «بوضياف» بعد أن حاول أن يفلت من قبضة الجنرالات، ومارس
هذا الفريق سياسة العلمنة الشاملة ومحاصرة اللغة العربية، وإحلال غلاة العلمانيين، والفرانكفونيين، وبقايا الشيوعيين، وشعوبيي البربر في الواجهة، لاسيما بعد
وصول «رضا مالك» إلى الواجهة السياسية رئيساً للوزراء.
ومع بروز صعوبة تنفيذ سياسة «الاستئصال» التي كان ينادي بها
المتشددون، برز تيار المصالحة من العسكر بعد أن انكشف ضعف حجج التيار
المتشدد وسقوط مشروعه، لقد تزامن هذا مع تراجع الدعم الفرنسي لبقية القوى
المرتبطة به كأحزاب اليسار والبربر، وإن كان الفرنسيون لا يستبعدون إثارة
المشروع البربري الانفصالي، الذي سيكون بمثابة العقبة التي توضع في مسار
المشروع الإسلامي/العربي في الجزائر. لقد أصبح حزب التجمع من أجل الثقافة
والديموقراطية البربري وحزب التحدي الشيوعي الإفراز المباشر للتيار الفرنسي
أضحوكة حتى للحزب الاشتراكي وجبهة التحرير، خصوصاً وأن هذه الأحزاب
الهامشية قد مارست دوراً متورماً خلال تسلط «المافيا العسكرية» التي داست على
كل المقدسات والثوابت التي يجمع عليها الشعب الجزائري منطلقة من تصور ساذج
مفاده أن «علمنة وفرنسة» هذا الشعب واجب مقدس حتى لو كان من خلال
التحالف المكشوف مع نظام يفقد كل مقومات الشرعية وأبسط مبادئ العدالة.
لقد خسرت فرنسا مرتين، حين تحدت إرادة الشعب الذي ثأر لكرامته ودفع
ثمناً لاستقلاله مليون شهيد، ثم خسرت حينما مارست التدخل المباشر (الاستعماري)
من خلال واجهة كالحة تجمع بين إجرام المافيا، وفئوية النخبة المثقفة، واستفزاز
الشعوبية واستثمارها..!
إن الموقف الفرنسي هو مثال صارخ للموقف الغربي عموماً من أحداث
الجزائر الذي سيترك آثاراً مهمة مستقبلاً، فأمريكا كما يقول «ماركوس مازلي»
مارست دوراً مشابهاً «حين اكتفت ببيانات وزارة الخارجية الاحتفالية التي تحض
على الحوار، وتبشر بحقوق الإنسان والديموقراطية، بينما دعمت سراً الحكم
العسكري لأنه أخف ضرراً من حكم إسلامي ... ! وفي المقابل كانت الشركات
الأمريكية الكبرى تجني أرباحاً هائلة مستغلة حاجة الحكم إلى شريك أجنبي حيث
تعمل سبع شركات نفط أمريكية لاكتشاف الغاز، كما أن شركة» بكتل «تنفذ
مشروعاً بقيمة 475 مليون دولار ... » ، وهو موقف مشابه للموقف البريطاني
الذي اكتفى بتحديد المصطلحات، والتبشير البياني بالديموقراطية وحقوق الإنسان،
وفرز الأصولي من المتنور الذي تشير إليه مجلة «الإيكونمست» البريطانية
بقولها: «الجيش يبقى آخر حصون حماية العلمانية في البلاد والقائم على نشر
قيمها، ولذا فإن صغار الضباط يمكن وصفهم بأنهم متعاطفون مع الأصولية لأنهم
درسوا المناهج باللغة العربية، وهذا بالضبط ما يُسرُ به كبار الضباط الجزائريين
لمحدثيهم حينما يقولون بأنهم لا يستطيعون أن يثقوا بالضابط من مرتبة نقيب
فأدنى ... !» ، وهكذا فالناطق بالعربية أو المعتقد بعروبة الجزائر هو أصولي متطرف حسب التصنيف البريطاني.
هذا الفزع وتلك البلبلة تكشف حجم الغطرسة الغربية وماذا تعنيه بالأصولية
كما تقول المستشرقة الإيطالية «إيزبيلا كاميرا دافيلتو» : «إن قضية الأصولية
الإسلامية واجهت تضخيماً مبالغاً فيه من قبل أجهزة الإعلام الغربي فالغرب كان
ومايزال بحاجة إلى» اختراع «عدو حتى يضمن لنفسه خطاً دفاعياً ويظل مترفعاً
ومتعالياً على ما تبقى من العالم لسنين طويلة، أو حتى لعقود كان هذا العدو متمثلاً
في الشيوعية التي يتبناها المعسكر الشرقي، وعندما انهارت الشيوعية برز لدى
الغرب التساؤل التالي: من سيكون عدونا المقبل؟ وإذا به يسحب من خزانة تراكم
عليها غبار الزمن صورة العدو التاريخي القديم المتمثل في العالم الإسلامي.
لكن الغرب كان أيضاً بحاجة إلى وسيلة لإقناع مواطنيه بمصداقية هذا
الاكتشاف» الجديد القديم «لذا كان طبيعياً أن يحاول ترسيخ ملامح» البعبع «من
خلال تقديم الأصولية الإسلامية في صورة العدو العنيف، واستغل لتقديم هذه
الصورة كل ما يمكن أن يمت إلى العالم الإسلامي بصلة.
فنحن وعلى الرغم من وجود مظاهر أصولية كثيرة في الديانة المسيحية أو
الديانات الأخرى في الغرب، لا نسمع حديثاً عن» عنف هذه المظاهر
الأصولية «، في حين نرى هذا المنطق يطبق على العالم العربي.
اطلعت أخيراً على الترجمة الإيطالية لأحد كتب المستشرق الانكليزي العجوز
» بيرنارد لويس «وهو ينتمي إلى المدرسة القديمة القريبة من المنطق الاستعماري، نشر الكتاب في طبعته الإيطالية تحت عنوان» القتلة، الإرهابيون الأوائل في
التاريخ «! وعندما تنشر دار نشر مشهورة وكبيرة في إيطاليا كتاباً بهذا العنوان،
فمن الواضح أن لديها هدفاً في تزييف الحقائق، وليس هذا إلا مثالاً مصغراً عمّا
يكمن في الغرب من استعداد لرؤية الجانب السلبي فقط من العالم العربي.
بطبيعة الحال لا أود أن يفهم من كلامي أنني لا أرى مظاهر أصولية ذات
طابع عنيف وإرهابي أحياناً في البلدان العربية، ولو كان الأمر كذلك لكنت أنا
أيضاً أسيرة الخطأ نفسه لكوني لا أرى سوى جانب واحد من الحقيقة العربية لكني
أعتقد أن هناك حاجة إلى التوازن في قراءة ما يحدث في العالم العربي ثم إن هناك
» وحوش «في بقاع العالم أجمع ونحن أيضاً لديناً» وحوشنا «.
أرى أن الظاهرة الأصولية العنيفة هي وليدة للمصاعب التي تجتازها بعض
البلاد العربية، وبالذات على الصعيد الاقتصادي؛ لكن حتى هذه المصاعب
الاقتصادية ليست وليدة اليوم، وإن كان للزعامات الحالية دور في تعميقها فهي
وليدة السياسة الاستعمارية، والإمبريالية الثقافية، والاستعمار الجديد ... لذا ففي
اعتقادي أن مسؤولية الغرب في هذا الإطار كبيرة وثقيلة.
وعلى أي حال فإن أخطاء الزعامات العربية، وغياب الديموقراطية والحرية
في العديد من البلدان العربية، من العوامل التي تساهم في شق الطريق أمام صعود
تيارات عنيفة تستفيد من غضب الناس، وتستغل هذا الغضب وأرى أنه في ظل
مناخ من الحرية والإعلام الحر، فإن غالبية الناس لن تصغي إلى شعارات
الحركات الأصولية، ولن تقتنع بمنطقها.
ومع هذا فإن الغرب لا يحاول التوصل إلى هذه القراءة الموضوعية للوضع
العربي، أو بالأحرى لا يرغب في تقديم صورة حقيقية.. يكفي أن ترى نشرات
الأخبار، فهي عندما تتحدث عن الظاهرة الأصولية ومظاهرها العنيفة، تذهب
لتصوير الناس وهم يؤدون شعائر دينية أو يصلون في المساجد ثم تربط بين هذه
الصور والحديث عن» العنف الإسلامي «!
ترى لماذا لم تفكر محطات التلفزيون في الحديث عن الظاهرة الأصولية في
الديانات الأخرى وهي موجودة بالفعل من خلال الربط بينها وبين مشهد آلاف
المؤمنين الذين يؤمون ساحة القديس بطرس! في الفاتيكان كل يوم أحد للاستماع
إلى قداس الأحد الذي يحييه البابا» يوحنا بولس الثاني «، أو أولئك الذين يقفون
أمام حائط المبكى» البُراق «في القدس؟ ! ثم من أجاز لهؤلاء الصحفيين أن
يطلقوا على بشر عاديين يؤدون شعائرهم الدينية صفة» الأصولية «؟ ! ..»
ما فات هذه المستشرقة أن الجزائر ومحنتها كشفت عن أن من يتحدث اللغة
العربية أو يطالب برفع الأذان أو يعتقد بعروبة الجزائر هو أصولي بالتعريف
الغربي الذي جر الجزائر إلى هذا الواقع المؤلم!
بين الكوليرا.. والطاعون:
الصراع المحتدم في الجزائر يمكن أن يلخص بأنه صراع عقدي حضاري لا
يمكن للمدفع أو الدبابة أو الطائرة الحربية أن تحله، لكن المطلوب هو حوار حقيقي
بين قيادات تُحمّل مسؤولية العنف وهي لا تملك حق دخول دورة المياه بحريتها!
لقد اكتشف النظام الحاكم بأجنحته الحاجة الماسة للحوار الحقيقي الذي ينصف
المطلوبين ويرجع الحقوق لأصحابها ويحد من وهج الصراع الذي زلزل البيت
الجزائري من الداخل؛ لكن السؤال هو: هل سيقدم العسكر على مصالحة حقيقية أم
يكتفون بحوار وهمي؟
الصراع اليوم أيضاً هو صراع أجيال (جيل هرم وآخر صاعد) ، الجيل
الصاعد يرى خياره الإسلامي وينحاز إلى هويته، وهذا الجيل ينبت كشجرة طيبة
داخل الوطن وخارجه في المنفى وفي فرنسا خصوصاً، حيث يقبل آلاف المهاجرين
على دينهم وهم يشعرون بالعزة، وقد يكون الصراع بين أجنحة السلطة صورة
أصغر للصراع المحتدم بين الانتماء إلى جزائر «سي محمد» كما كان يقول
بسطاء الجزائريين خلال حربهم مع فرنسا أو جزائر متفرنسة، وهو صورة بلا
شك لصراع شعب سلب اختياره وغُيب قراره وراء أقنعة «الننجا» التي يتخفى
وراءها صغار الجنود والقادة حين يواجهون شعوبهم، لقد حل الانقلاب الأول وما
لبثت عوارض السوء أن أوصلت الجزائر إلى جرف سحيق بالرغم من التخفي
وراء رموز مدنية أثبتت إفلاسها، وجرت البلاد إلى أجواء حرب أهلية (مهما
اختلفت التسمية) .
لقد شبه مسؤول فرنسي الوضع الحالي بأنه حرب أهلية سافرة ونتيجة مباشرة
لفساد نظام الحكم الذي دفع البلاد إلى الإفلاس.
«إنهم كالطاعون القاتل ببطء، لكنه أفضل من الكوليرا القاتلة بسرعة»
وهكذا نحن في أعينهم طاعون، أو جرثومة كوليرا، وهل نحن بحاجة هنا إلى
شهادة أخرى تدين الغرب الذي يكيل بأكثر من مكيال..؟ !
في البداية استشهدنا بـ «جاك فيرجسي» والآن علينا أن نسمع مفكراً غربياً
آخر هو «سلفاتوري بونو» الذي يلخص نظرة الغرب لنا بقوله: «الغرب ينظر
للمسلمين باحتقار حتى ولو كانوا عملاءه، فما بالك بالأصوليين؟ ، هذه الحركات
الأصولية تمثل مصدر إزعاج للغرب وهو غير قادر ولا راغب في مناقشة
طروحاتها ... »
الجزائر اليوم في وضع حرج وهي تشهد انقلاباً ثالثاً، وربما رابعاً،
وخامساً.. غير أنها بحاجة إلى انقلاب من نوع آخر، انقلاب تتصالح فيه القيادة المنهكة مع شعبها الأعزل الذي يرفض أن يكون جرثومة.
إن الجزائري المسلم إنسان مهما حاول المتغطرسون أن يشوهوا من سيرة أمته
الباسلة، وهذا بالضبط ما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، وهو بالتحديد ما يجب أن
يدركه الذين نسوا في غمرة التهيج أن الجزائر ستظل مغروسة في عمق العالم
الإسلامي والعربي، وأنها بأحداثها المتوالية قد سجلت لنا شهادات بالغة الأهمية
والقيمة عن لؤم أعدائنا وعدالة حق الشعوب في أن تستعيد هويتها.
تجربة سجين جزائرى: [*]
اسمه «محمد» ، لقد وصف كيف أرغموه على ابتلاع سائل تبييض
(كلوركس) مع الماء حتى التقيّؤ، وضربوه بمسدس كهربائي فجّر الحروق في قدميه، وغطسوا رأسه في قاذورات المجاري حتى الاختناق. قال: «عندما رفض أحد
الإخوة الإدلاء بمعلومات تحت التعذيب، عذبت الشرطة والدته البالغة من العمر 55
عاماً، لقد رأيتهم وهم يخرجونها من حجرة التعذيب.. كانت عارية، مغطاة بالدماء، لكنها نظرت إلينا وقالت: صبراً يا شباب!» .
من الصعب التستر على ما حدث لمحمد بعد هجوم 30 من عناصر الشرطة
الملثمين على بيته في حي «سالمبير» في العاصمة الجزائرية في الساعة الثانية
صباحاً يوم 10 أكتوبر من العام الماضي، عصبوا عينيه وألقوه في شاحنة تابعة
للشرطة وأخذوه إلى كلية الشرطة في «شاتونيف.. أسابيع من التعذيب تبعتها
أشهر من الظلام الدامس في سجن انفرادي.
ما كان محمد يخفي شيئاً من انتماءاته الإسلامية، كان إمام أحد مساجد
العاصمة الجزائرية، وهو بالتأكيد أحد مؤيدي جبهة الإنقاذ الإسلامية التي تعارض
الحكومة الجزائرية منذ أن ألغت الانتخابات التي كانت توشك الجبهة أن تفوز بها.
يقول محمد: إنهم في كلية الشرطة التي تقع في حي» البيار «في العاصمة
الجزائرية نزلوا به درجات سلم عديدة إلى سلسلة من الزنزانات، ربما أربعة
طوابق تحت الأرض وصفها بأنها (باردة كالثلج) ، كانت الزنزانات صغيرة جداً..
يقول محمد:» وكانت جدران الزنزانة التي كنت فيها ملطخة بالدماء وفيها أضواء
قوية جداً لدرجة أنها كادت تعميني، كنت أستطيع سماع الصراخ القادم من
الحجرات الأخرى.. نزعوا عني ملابسي وعصابة العينين، كان جميع أفراد
الشرطة ملثمين، بعضهم كان يتكلم بلهجة محلية من «قسنطينة» والجهة الغربية، أما الآخرون فقد كانوا من العاصمة الجزائرية، سألوني عن مكان الأسلحة فقلت
لهم: لا أعرف وهي الحقيقة، أخذوني إلى فتحة مجاري صخرية في منتصف
الحجرة ونزعوا الغطاء، كانت فتحة مجاري كبيرة، ودفعوا برأسي داخلها فاختنقت
من القاذورات واستمررت في إنكار أن لي أي علم بالبنادق، بعد ذلك قيدوني بحبل
غليظ إلى مقعد من الإسمنت في أحد أركان الحجرة، وسدوا فتحتى أنفي ليجبروني
على فتح فمي، ونقعوا قطعة من القماش في محلول من (مبيض الغسيل) وماء، ثم
جعلوا يعصرون السائل من قطعة القماش داخل فمي، وفعلوا ذلك مرات ومرات
حتى امتلأت معدتي بالمبيض والماء ثم ركلوني في بطني وجعلوني أتقيأ «.
لقد فعلوا أشياء فظيعة، في إحدى المرات وضعوا نوعاً من الغراء لمنعي من
قضاء الحاجة، ثم جاؤا بمسدس كلما أطلقوه على جلدي أعطى صدمة كهربائية
كبيرة جداً سببت لي قروحاً وحروقاً من الدرجة الثانية أو الثالثة وسقط الجلد من
قدمي» ، ونزع محمد صندله الأزرق وكشف عن قدميه، لاتزال القروح واضحة
للعيان رغم مرور ثلاثة أشهر، قطرها ثلاثة سنتيمترات، نسيج أثر الحروق باهت
وواضح مقارنة ببقية جلده.
«لقد هددوا بجلب زوجتي وتعذيبها أيضاً لما رفضت الكلام، لقد صنعوا
ذلك مع رجال آخرين.. أحدهم ( ... ) وهو شاب من» براكي «جاؤا بزوجته
الشابة إليه، ثم أخذوها إلى مكان آخر وعذبوها، فيما بعد علم أنهم اغتصبوها
فأصابه انهيار، عندما رأيته أخبرني أنها ماتت من جراء ما فعلوا بها، ثم جاؤا بعد
ذلك بأمه وعذبوها واغتصبوها أمامه وفيما بعد حكمت المحكمة بإعدام ذلك الشاب.
بعد ثمانية أيام في» شاتونيف «أخذ محمد إلى مركز شرطة في» مدانية « ...
ثم بعد ذلك إلى مركز الشرطة الرئيس، وبدأ فصل جديد من التعذيب.. يقول محمد: في الفصل الأخير من التعذيب في مركز الشرطة الرئيس كبلوا يدي وراء ظهري
وربطوا قدمي معاً ثم ضربوا رأسي بالأرض بعنف، وقفز أحد الزبانية على رأسي
فانكسر أنفي وفقدت حاسة الشم وانخلعت أسناني» ، وبالفعل فقد كان كثير من
أسنان محمد العلوية الأمامية مفقوداً «لقد عذبوني عذاباً فظيعاً حتى أنني بلّغت عن
شقيقي وقلت: إن له ضلعاً في المقاومة وجاءوا به إلي وجهاً لوجه فقلت لهم: إن
هذا غير صحيح، لكنهم كسروا أضلعه وبكى أخي وقال لي: سامحك الله» .
عند هذه النقطة انهار محمد بعد 33 يوماً من التعذيب، ووقع على اعتراف
بأنه قام بجمع الأدوية والمال للمقاومة، واشتكى إلى قاضي المحكمة بأنه لم يكن له
خيار غير توقيع الوثيقة: «يجب أن تفهم: لقد رأيت رجالاً يموتون تحت التعذيب» ، ... ويضيف محمد: «لقد عذبت في إحدى الزنزانات حيث كان الرجال يعلقون
من السقف بقيود من حديد في أيديهم، أصابهم الضعف من جراء التعذيب، ورأيت
رجلين ميتين معلقين، وأجساد ثلاثة آخرين ماتوا من جراء التعذيب بلهب جهاز
لحم المعادن، أما إمام (بومرداس) واسمه (حومي محمد) ، فإن عينيه قد اقتلعتا وهو
على قيد الحياة، وترك ليموت في حجرة التعذيب، وفيما بعد قالت الصحافة
الجزائرية عنه: كان إرهابياً قتل في معركة بالبنادق مع الشرطة..» .
__________
(*) عن صحيفة الإندبندت الإنجليزية الصادرة في 4 فبراير 1994 (البيان) .(74/68)
المسلمون والعالم
قبض الريح
من أوسلو إلى دافوس
أحمد بن عبد العزيز العويمر
لم يخرج حتى أكثر المراقبين تفاؤلاً بعملية الصلح بين (منظمة التحرير
الفلسطينية) و (العدو الصهيوني) بأي أمل في إمكانية إتمام الصلح، ولم يصدق ولن
يصدق ما كان يمني به دعاة السلام شعبهم الفلسطيني من آمال عراض نتيجة للصلح
مع العدو، وذلك على ضوء لعبة المفاوضات من أوسلو إلى دافوس مروراً
بواشنطن وجنيف وطابا، حتى القاهرة ... وهذا شيء نعرفه حق المعرفة وهو أحد
المبررات التي جعلت المعارضين «الصادقين» للسلام مع العدو يكفرون بالصلح
معه لا لمجرد المعارضة فحسب، وإنما لأسباب جوهرية سبق أن طرحت ومازالت
تطرح منذ بوارق التصريحات بمهزلة (كامب دافيد) وما بعدها، وذلك للعداوة
الصريحة التي يكنها (يهود) للإسلام والمسلمين، وهذا مسطور في القرآن الكريم في
آيات كثيرة منها: [ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل
يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين]
(البقرة: 89) ولما يمثله (يهود) من خطر على الأمة الإسلامية في مجالات الفكر
والثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقوة العسكرية [1] ، إن لم يستعد لهم
بتقوية تلك المجالات كما دل عليه قوله تعالى [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة] ،
فإنهم يعملون وبكل السبل المتاحة لغزو أمتنا الإسلامية والقضاء على مقدراتها
وإشاعة عوامل التخلف والانهزامية فيها ليتحقق ما يخططون له من أهداف بعيدة
المدى.
ولا شك أن المستفيد الأكبر من هذه العملية الاستسلامية هم الصهاينة وهذا
مشاهد وملموس للأدلة الآتية:
1 -إن للعدو الصهيوني استراتيجيته التي قامت دولته على أساسها وهو يعتبر
ما احتل من الأراضي العربية جزءاً لا يتجزأ من أرضه التي يزعم أنه موعود بها،
ولذلك سماها بأسماء عبرية، ولكنه قد يتساهل تكتيكياً لأهداف يريد تحقيقها ومنها ما
يمني نفسه به من غزو اقتصادي للمنطقة بعد بروز ما عرف بالسوق «الشرق
أوسطية» ، وبعد تهافت قومنا على السلام معه كتهافت الذباب على الشراب، بل
اتضح لنا أن منهم من له اتصالاته السابقة بالعدو زمن (اللاءات الثلاث) وزمن
(الصمود والتصدي) ! ! وهو ما كتبت فيه دراسات موثقة، تعكس حقيقة الانتماء
وتوضح من هم أولئك القوم الذين يقولون خلاف ما يبطنون! [2] .
2 -إن يهود مازالوا يعملون على إذلال الشعب العربي بعامة والفلسطيني
بوجه خاص في أساليبهم التفاوضية، وطرقهم الملتوية في تفسير بنود الاتفاق وفق
أهوائهم وبما يحقق أهدافهم المرسومة.
3 -بعد اتفاقية ما سمي خيار (غزة أريحا أولاً) وإعطاء يهود وقتاً للانسحاب
لتدير (م. ت. ف) تلك المناطق، عادوا لوضع العراقيل بدءاً من عدم الموافقة
على انسحاب جيشهم، وادعاء أن المسألة مجرد إعادة للانتشار ثم تحجيمهم للمناطق
بحدود معينة، وبعد عدة اجتماعات لم يعط الصهاينة ولا عشر ما كان يأمل به
المتفاوض الفلسطيني من آمال.
4 -جعلهم المستعمرات الصهيونية (المستوطنات) عامل عرقلة لتنفيذ الاتفاق، وكل متأمل في التاريخ الصهيوني المعاصر يعرف أن تلك المستعمرات مناطق
استراتيجية في الأماكن التي تختار فيها، وتكون مسلحة وسكانها مسلحون، فهي
بؤر سرطانية تثير الرعب وتشيع الفاحشة في أي مكان تزرع فيه، ولقد كشفت «
يائيل ديان» حقيقة هذه المستوطنات وبينت ما يمارس فيها من إباحية [3] ، وهذه
المستعمرات ستبقى تؤدي رسالتها ولن تسحب بقول «رابين» في خطاب أمام
جمع ضخم من اليهود في أمريكا: (إن إسرائيل غير مستعدة لإزالة المستعمرات في
الضفة والقطاع، ومهما كانت الاتفاقية فالمستعمرات ستبقى وسيدافع عنها الجيش) .
5-كان من معطيات هذا التوجه للسلام مع العدو وهذا ما خطط له يهود
محاصرة الرافضين للتوجه الاستسلامي، وبخاصة أصحاب التوجه الإسلامي،
وهذا ما حصل بالفعل وآثاره الخطيرة على الشعب الفلسطيني بدت واضحة للعيان.
6-إتيانهم بفكرة (الاستفتاء) على الانسحاب من المناطق المحتلة وهي أحبولة
من أحابيلهم المعروفة في الالتفاف على ما قد يبدو من نتائج إيجابية مع أن تلك
الاستفتاءات مرفوضة في القانون الدولي، إذ كيف تستفتي دولة شعبها على أراض
احتلتها وهي تعترف باحتلالها؟ ! فهم يدّعون أن فكرة الاستفتاء تلك ستلقي بذور
الشقاق في صفوف خصومهم (الليكود) والمستوطنين فإن وافقوا على الفكرة فإن هذا
لن يؤدي لاستجماعهم صفوفهم وقواهم ضد التسوية ماداموا سيحتكمون إلى الشعب،
وإذا رفضوا سيظهرون بمظهر الرافض لآراء (الشعب) لكن لو جاءت نتيجة
الاستفتاء (سلبية) ففي هذه الحالة لابد من انتخابات جديدة، وبالتالي تؤجل التسوية
لعدة أشهر إضافية وإن عاد (الليكود) للحكم فإن نتيجة العملية ستكون معروفة سلفاً
والمستوطنون الصهاينة مازالوا يقومون بتحركاتهم المكشوفة الرافضة للانسحاب،
بل يقومون ببناء المزيد من المستوطنات غير المرخصة، بل إن مجلس البلديات
في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين قد دعا لمضاعفة المستعمرات وإن عاد عن
موقفه ظاهرياً.
7- إن لعبة التمديد والتمطيط للمحادثات، ووضع العراقيل في طريقها، هي
إحدى الأساليب التي تقوم بها إسرائيل مستغلة (اللوبي الصهيوني بأمريكا) لأخذ
المزيد من الإعانات والكثير من وسائل الترضية الغالية الثمن.
8 - إن المستفيد الأول والأخير من هذه العملية هو العدو الصهيوني نفسه فقد
ظهر أمام العالم أجمع بأنه الطرف الجانح للسلام، بل استطاع بهذه العملية أن
يحظى بمكاسب دبلوماسية مهمة، فقد زار رئيس وزراء العدو (تركيا) ، وهناك 11
دولة من خمسين دولة عضو في (منظمة المؤتمر الإسلامي) ذات علاقات دبلوماسية
كاملة مع العدو الصهيوني وفي الأفق 22 دولة مسلمة لها اتصالات جارية لإقامة
علاقات دبلوماسية فضلاً عما جناه العدو من ضمانات لقروض جديدة من (أمريكا)
إضافة إلى أسلحة متطورة، واجتذاب رؤوس الأموال الأوربية لدعم اقتصاده.
9 - الضحك على الذقون بوضع وجود غير مرئي للصهاينة في المعابر
بحيث يكونون وراء زجاج عازل يَرَى ولا يُرى، وبإمكانهم منع دخول أي
فلسطيني مسافر وتفتيشه واستجوابه ولكن بحضور محام فلسطيني! !
هذه معطيات المفاوضات!
* لم يجن المتفاوض الفلسطيني شيئاً حتى الآن، ويتوقع ألا يجني شيئاً ذا بال، فمازال العدو يماطل فيما وعد به وفي الوقت نفسه يضرب بيد من حديد على
إخواننا في الأرض المحتلة، ويسوم الناشطين في مقاومته سوء العذاب، ولا يمر
يوم إلا وقد قام بقتل عدد من رجال المقاومة الإسلامية الرافضين لتطبيع العلاقات
معه.
* تناسي العملية السلمية (فلسطينيي المهجر) ، والأدهى والأمر هو المطالبة
بتوزيعهم خارج وطنهم المحتل، ولقد صرح «بيريز» مؤخراً أنهم يعارضون
إقامة فلسطينيي الخارج في غزة وأريحا.
* قوة الأمن الفلسطينية التي أعدت لتقوم بالأمن وضرب كل معارض لتوجه
(السلام) ستقوم بالدور الصهيوني نفسه وسيكون ضحيتها أبناء فلسطين فهل هذا في
مصلحة هذا الشعب، أم أنها ستأتي بالمزيد من المعاناة والمزيد من الشقاق والمزيد
من المواقف المؤدية إلى ردود الأفعال الشديدة.. والمستفيد الأول هو العدو نفسه.
* ظهور الميول الخفية للعلاقات مع اليهود بشكل سافر، حتى أن بعض الدول
العربية تستعجل تطبيع العلاقات الاقتصادية مع العدو والتبادل التجاري معه بأقصى
ما يمكن، مع وجود المقاطعة العربية التي مازالت على الأقل (شكلياً) قائمة، ولم
تلغَ رسمياً حتى الآن، وهناك دعوات لوضعها على جدول أعمال أقرب لقاء في
الجامعة العربية للمطالبة بإلغائها على ضوء الضغوط الأخيرة.
* صار للعدو الصهيوني أدوار أكثر فاعلية في العمل الاستخباراتي وصارت
جواسيسه تصول وتجول في بعض الدول العربية وذلك بدعوى أنهم وفود شعبية أو
ثقافية أو حتى ادعاء (أنهم وفود يهودية لا صهيونية) ! ! وصار من يقبض عليه
بالجرم المشهود في التجسس للعدو يعاد مكرماً معززاً، ولو حوكم وأدين بجريمته.
* عقد اليهود في المغرب ولأول مرة في دولة عربية وبمباركة رسمية
مؤتمرهم الأولى في 5/2/1994م تحت شعار (إعادة إحياء اليهودية المغربية في
أفق تنوعها وامتدادها في العالم) ، ويحضره مندوب صهيوني هو نائب رئيس
الكنيست (رافي درعي) ، وقبل هذا المؤتمر زار المغرب وفد من جماعة (بناي
برث) الصهيونية الدولية المحظورة في بعض الدول العربية لكونها مؤسسة
صهيونية، ومعلوم أن (التجمع اليهودي المغربي) ثاني أبرز تجمع صهيوني في
العالم بعد اللوبي الصهيوني (إيباك) في أمريكا، ومن المتوقع أن يكون نتيجة هذا
التوجه للسلام مع العدو والمؤتمرات الصهيونية في بعض الدول: المطالبة وبإلحاح
للإفراج عن الجواسيس الصهاينة في البلاد العربية وعلى رأسهم (عدنان ياسين)
العين الصهيونية في السفارة الفلسطينية بتونس الذي ألقي القبض عليه بالجرم
المشهود مؤخراً. وهناك تفكير صهيوني جاد يسعون لطرحه وهو اللعب بورقة
المعتقلين الفلسطينيين وطلب مقايضتهم بالمتعاونين معها! .
* مازال العدو متمسكاً بآرائه الداعية لأن تصبح نتيجة هذا الاتفاق كياناً هزيلاً
ليس إلا، بل سيكون تحت رحمته بالشروط التي تقضيها هيمنته وحتى ما نشر في
(وثيقة القاهرة) مؤخراً لا يرقى إلى مستوى ما اتفق عليه سابقاً من التحفظ على
مساحة أريحا والسيطرة الصهيونية على المستعمرات. وهناك مناطق ستقسم السلطة
فيها بين الطرفين بالإضافة إلى مسؤولية الصهاينة عن المعابر الدولية، وقد ادعت
الإذاعة الصهيونية مؤخراً أنهم سينتهون عام 1995 م من إقامة سياج حول قطاع
غزة المحتل بطول 65 كم مزوداً بجهاز إنذار كهربائي سيطوق القطاع الذي ينتظر
أن يشهد بداية تطبيق الحكم الذاتي.
فأي مكاسب سيحققها السلام المزعوم مع العدو وهو بتلك المثابة؟ !
ولا يغيب عن البال ما قاله «رابين» عن زمن الانسحاب الذي كان مقرراً
في 13 ديسمبر الماضي وأُجل إلى 13 إبريل القادم، حينما قال: «ليس هناك
تواريخ مقدسة» .
المزيد من التضليل!
يعلن دهاقنة (م. ت. ف.) تضليلاً للأمة أن المعارضة للسلام في صفوف
الشعب الفلسطيني ليست إلا وليدة الظروف الاقتصادية الصعبة للشعب الفلسطيني
في الأرض المحتلة مما جعلهم يتمسكون بالرؤية الرافضة للسلام التي تلبي رغبة
القصاص من العدو المحتل الذي طالما آذاهم، وهذا ما صرح به (عرفات) مؤخراً
بقوله: «إن المجموعات المتطرفة ستستفيد من أجواء الفقر والظلم وانعدام
الاستقرار والتوازن، وأضاف قائلاً:» إن الأساس الأهم للتوصل إلى الاستقرار
هو العدالة والعدالة والعدالة لنا جميعاً «! ولا ندري أي عدالة يمكن أن يعطيها
اللصوص ومصاصو الدماء، لاسيما وأنهم مازالوا يعرقلون التسوية التي وقّعوا
عليها، بل إنهم وبأساليبهم المعروفة يلوحون بالتهديد النووي، وقد صدر مؤخراً
كتاب (الكتلة الحرجة) الذي يكشف ما في الترسانة النووية الصهيونية من سلاح،
والذي جهز لها صاروخهم (أريحا/2) الذي يبلغ مداه 1400 ميل، وبه تكون حتى
دول أوربا الشرقية في متناول ذراعهم النووية، فأي سلام يزعمون وهم يعدون
العدد بمثل هذه الأسلحة النووية؟ !
موقف الإسلاميين والعلمانيين:
لا شك أن الأوضاع المتردية التي يعيشها الشعب الفلسطيني المسلم ومعاناته
الطويلة من جور وإذلال العدو الصهيوني مشاهدة وملموسة، ثم إن فشل العنتريات
العربية في استرداد حقوقه.. وليأسه من الأحزاب التي طالما تحدثت باسمه،
ودعت إلى استقلاله وهي المستفيد الأول لرفع حساباتها في البنوك من جراء تلك
الدعاوى، والتي ماتزال تدعو لاستغلال هذا الشعب المسلم وزيادة أرصدتها المادية
والمعنوية باسمه، كل ذلك جعله يفقد الثقة فيهم جميعاً، نعم سقطت الأحزاب المادية
والعلمانية سقوطاً ذريعاً، وانكشفت حقيقة توجهاتها وطبيعة ولاءاتها، وهي وإن
كانت ماتزال ترفع لواء المعارضة للسلام مع العدو فهي تعلم بأن هذا هو الأسلوب
الوحيد الباقي لتستجيش به العواطف.
ومادام أن هناك بعض الدول التي مازالت ترفع لواء المعارضة للسلام مع
العدو لأسباب مؤقتة فيما يبدو، فستكون تلك الأحزاب العلمانية بالفعل في مواقف لا
تحسد عليه بعد سقوط أسيادهم في وحل الاستسلام، أما الإسلاميون الذين مازالوا
منذ كتائب التحرير الأولى لا يرون الحل إلا بالجهاد [*] ، فهم يدعون الأمة إلى المزيد من الوحدة وإلى المزيد من التعاون ليكونوا يداً واحدة.
هذا نهج الإسلاميين عبر التاريخ مروراً بعزالدين القسام وفرحان السعدي
ومحمد أمين الحسيني وأحمد ياسين وغيرهم [4] .
ولا يخفى أن معارضة الأحزاب العلمانية الفلسطينية إنما لسبب أنها لم تعط
وزناً من خلال المكاسب المحددة التي ستحظى بها (م. ت. ف) والمنتمين لها،
بينما معارضة الإسلاميين معارضة في سبيل الله ثم لوجه الحق الذي يؤكد أن
فلسطين بلاد إسلامية مقدسة لا يمكن بحال أن يفرط فيها بأي حلول لا تلبي أدنى
حقوق شعبها المحتل، فضلاً عما يشكله الصلح مع العدو الغاصب من إقرار
لاحتلاله أراضي إسلامية لا يصح بحال من الأحوال إقراره عليها مهما كانت
الدوافع [**] .
فإلى أولياء الله وأحبابه من المجاهدين في سبيله الرافعين لرايته، الحذر..
الحذر من اليأس من رحمة الله، وما عليكم أن تدركوا النصر مادمتم عاملين
للوصول إليه.. هذا هو الطريق لاسترداد الأرض المقدسة، وما عداه فإنما هو
قبض الريح! [وإن تتولوا يستبدل قوماْ غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم]
(محمد: 16) ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون [5] .
مذبحة الخليل والعجز المريع حيالها:
في يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان 1414 هـ وهذا العدد ماثل للطبع
حدثت مذبحة الصهاينة في المسجد الإبراهيمي بالخليل التي نسبت إلى الصهيوني
المتطرف (جولدشتاين) أحد أنصار جماعة» كاخ «المتطرفة والتي قتل فيها
المصلون وهم سجود وقد بلغ عددهم ما ينيف على تسعين شهيداً فيما نحسبهم والله
حسبهم ولا نزكي على الله أحداً.
وقد نقلت نشرة (قدس برس) عن شهود عيان أن الجنود الصهاينة حاولوا منع
المصلين المسلمين من دخول المسجد بحجة احتفال اليهود بعيد (البوديم) وكانوا
يستفزون المسلمين منذ مساء الخميس بإطلاق الألعاب النارية تجاههم، ولما أصر
المسلمون على الدخول إلى المسجد سمحوا لهم، وعند العاشرة مساء طلب منهم
الخروج من المسجد واعتدي عليهم بالضرب.. وعند قدوم المصلين لأداء صلاة
الفجر من يوم الجمعة بأعداد كبيرة قدرت بحوالي ألف وخمسمائة مصل، وبعد إقامة
الصلاة وعند الركوع الأول ثم السجدة الأولى سمع إطلاق النار الكثيف من الخلف
وكان يقوم به جندي بزيه العسكري الرسمي والذي تحصن بأحد الأعمدة عند إطلاقه
النار، ويعتقد بأنه أطلق حوالي ثمانية مخازن من الرصاص، وأكد شاهد آخر أن
جندياً آخر أطلق النار على الملين وبصورة عشوائية.
وأكد الشهود بأن الجنود الصهاينة على غير عادتهم لم يحضروا لحراسة
المسجد، وإنما وقفوا بالقرب من الساحات الخارجية ولم يدخلوا المسجد إلا بعد
توقف إطلاق النار تماماً، مما يوحي بتواطؤهم مع الجناة، وقد قام المصلون
بالقبض على أحد المهاجمين وضربوه بطفاية الحريق حتى هلك، ولم ينتحر كما
زعمت الحكومة الصهيونية.
ومع ردود الأفعال الشديدة المستنكرة لهذه المجزرة ضد الشعب الفلسطيني،
وبعد عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الموقف والمطالبة بحماية دولية للشعب
الفلسطيني، وقفت أمريكا ضد أي إدانة للعدو الصهيوني وبكل بجاحة يقول وزير
خارجية العدو (يوسي بلين) : إن الأحداث المأساوية في الخليل يجب ألا تكون
مبرراً لأي شرط لاستئناف مفاوضاتهم مع المنظمة.
والعملية فيما ظهر من شهادة الشهود مخطط لها ولم تكن عملاً فردياً والخطوة
التالية يجب أن يؤكد على إلزام العدو بنزع السلاح من المستوطنين وليس
(المتطرفين) فقط.
إن الصهاينة لا يعرفون سوى أسلوب واحد فقط يوقفهم عند حدهم، فهل يفطن
له أنصار الحل السلمي الذين لم ينتج عن توجهاتهم تلك سوى السراب؟ هل يفطن
الغارقون في وحل السلام إلى الموقف الحق أم على قلوب اقفاله؟ !
__________
(1) مخاطر الوجود اليهودي على الأمة العربية، د محمد عثمان شبير.
(2) انظر (الاتصالات السرية مع إسرائيل) لجمال الدين حسين.
(3) (البيان) العدد (65) ، انظر مقالة (يائيل ديان والثوار والمبادئ) .
(4) لمزيد بيان لرأي الإسلاميين من قضية السلام مع العدو انظر (لماذا نرفض السلام مع اليهود) لمحسن عنبتاوي.
(5) رُجع إلى الكثير من قصاصات الصحف اليومية مثل: القبس 7411 في 3/2/94 الوطن 6460 في 20/8/1414هـ، الشرق الأوسط 5545 في 22/8/ 1414هـ والعدد 5547 في 4/2/94، الحياة 11285 في 6/7/1414هـ والعدد 11289 وغيرها.
(*) انظر مقالة (فهمي هويدي) في مجلة المجلة، العدد 730، عن حقائق هامة يقوم بها العدو لصالح المستوطنين ومستعمراتهم أثناء عملية السلام هذه.
(**) نحذر إخواننا الفلسطينيين من توجهات بعض الجماعات المنتسبة للإسلام مثل منظمة (الجهاد الإسلامي) ذات الأيدلوجية المشبوهة المخالفة لعقيدة الأمة، ولذلك يهدد زعيمهم بنسف التحالف للفصائل الفلسطينية العشر المعارضة للسلام لو اشتركت (حماس) في انتخابات الحكم الذاتي، لعلمه بسقوطه وأشياعه من المعارضة الصوتية لو اشتركت حماس.(74/81)
المسلمون العالم
الإنجليز: من الملك ريتشارد «قلب الأسد»
إلى اللورد ديفيد أوين
د.يوسف الصغيّر
مهما قلنا عن برود الإنجليز، وهل هو ميزة أم عيب، فإن دهاءهم السياسي
هو من الصفات التي أجمع عليها الناس منذ اليوم الأول الذي أخرجت فيه السلحفاة
رأسها أي خروجهم من جزيرتهم الصغيرة إلى أصقاع بعيدة تجاوزوا فيها
مستعمراتهم على الساحل الفرنسي المقابل لهم فإن وجهتهم كانت المشاركة الفعالة في
الحروب الصليبية، وذلك بعد أن استرد صلاح الدين بيت المقدس وطهرها من
رجس الصليبيين، وكان الصراع السياسي والعسكري الذي جرى بين صلاح الدين
الأيوبي رحمه الله وريتشارد «قلب الأسد» ملك الإنجليز هو أول اللبنات في
علاقة الإنجليز مع العالم الإسلامي، وإذا علمنا مدى تقديس الإنجليز لملوكهم، فإننا
لا نستغرب ثبات السياسة الخارجية للإنجليز وعملها المستمر على إضعاف
المسلمين بالطريقة الإنجليزية المعتادة، وهو العمل على إيجاد آثار مستديمة
للاستعمار، أو بالأحرى عاهات مستديمة. وإليك بعض الأمثلة على سبيل المثال لا
الحصر:
1- تسلل الإنجليز إلى الهند بدعوى التجارة، وكان الحكم فيها للمسلمين
وخرجوا منها بعدما قسمت قسمة ضيزى إلى قسمين أحدهما يحكمه الهندوس والثاني
يحكمه المسلمون مع مشكلات لا حصر لها، فالمنطقة لم تستقر منذ خروج الإنجليز
عام 1947م.
2- وأيضاً تسللوا إلى مصر بدعوى التحالف مع الدولة العثمانية ضد
الفرنسيين، فحكموا مصر، وضموا إليها السودان، ثم فصلوا السودان، وابتكروا
نظام المناطق المعزولة، مما أورث السودان مشكلة الجنوب الحالية.
3- استولوا على عدن بدعوى الحفاظ على خطوط الملاحة، وعندما خرجوا
منها سلموا الحكم فيها للشيوعيين الذين مازالوا يفسدون في البلد إلى الآن.
دورهم في إنشاء دولة إسرائيل:
وللتشابه الكبير بين ما جرى في فلسطين وما يجري في البوسنة، فإنه من
المناسب إلقاء بعض الضوء على بعض الملامح المهمة في طريقة الإنجليز في إقامة
دولة اليهود في فلسطين، ومنها:
أولا: أن وعد بلفور هو رسالة شخصية من وزير الخارجية البريطاني إلى
اليهودي حاييم وايزمان الذي كان من زعماء الحركة الصهيونية ومع ذلك كانت هي
قطب الرحى في سياسة الحكومات البريطانية المتعاقبة ولا أظن أن ذلك بسبب
احترام تعهد عضو في حكومة سابقة بقدر ما كان تحالف نصراني صليبي لإقامة
دولة اليهود في هذه المنطقة الحساسة «فلسطين» ، مما يحقق مصالح غربية بعيدة
المدى وفي الوقت نفسه يحقق أهداف الصهيونية النصرانية التي ترى مع قيام دولة
إسرائيل قرباً لنزول المسيح، وهو في الحقيقة (المسيخ الدجال) .
ثانيا: قيام الإنجليز بالعمل تحت غطاء عصبة الأمم التي أصدرت قراراً
يجعل فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي، وتم تعيين اليهودي هربرت صموئيل
مندوباً سامياً لهم هناك.
ثالثا: قام الإنجليز بإدارة الأمور في فلسطين بناء على مبدأ إيجاد المشكلة ثم
التظاهر بالعمل على حلها، فقاموا بتشجيع هجرة واستيطان اليهود في فلسطين،
وبعد ذلك أظهروا الحرص على حل مشكلة التعايش بين العرب واليهود مع الحرص
على الظهور بمظهر الجهة المحايدة! !
رابعاً: أنهم لا يخجلون من إرسال لجان تقصي الحقائق كأنهم لا يعرفونها
وفي إصدرار التقارير التي يطلقون عليها أسماء مثل «الكتاب الأبيض» للإيحاء
بالعدالة، ومثلاً في سنة 1992م أصدرت الحكومة البريطانية كتاباً أسمته «أبيضاً» شرحت فيه أهدافها في فلسطين، وجاء في هذه الوثيقة أن الغرض لم يكن تحويل
فلسطين بأكملها إلى وطن قومي لليهود بل أن يقام هذا الوطن في فلسطين، ويستبعد
هذا الكتاب شرق الأردن من نطاق وعد بلفور، وفي عام 1939 م وبعد القضاء
على الثورة الفلسطينية الكبرى نشرت الحكومة البريطانية كتاباً «أبيضاً» أيضاً
جاء فيه:
* إن تعهدات بريطانيا بإقامة وطن قومي يهودي قد تحققت بالفعل.
* إنشاء دولة واحدة مستقلة بعد مضي عشر سنوات شرط توفر علاقات مواتية
بين الفلسطينيين واليهود! !
خامساً: وكما حصل في فلسطين من حرص السلطات الإنجليزية آنذاك على
تجريد الفلسطينيين من السلاح، وكان يتم تنفيذ الإعدام شنقاً في الفلسطينيين الذين
تثبت عليهم تهمة حيازة السلاح، مع قيام هذه السلطات في الوقت نفسه بتسليح
وتدريب قوات اليهود تحت لافتة «شرطة المستعمرات اليهودية» ، يحدث الآن
في البوسنة منع السلاح عن المسلمين بدعاوى باطلة وحقيقتها تجريدهم من وسائل
المقاومة المشروعة ليكونوا صيداً سهلاً لأعدائهم من الصرب والكروات..
سادساً: وفي آخر مشهد من المسرحية يقوم الإنجليز بتحويل القضية إلى الأمم
المتحدة التي تكرمت بعد عدة اقتراحات صورية لحل ما يسمى بمشكلة التعايش
بإعلان قيام دولة لليهود في فلسطين، وسارعت الدول الكبرى إلى الاعتراف بها،
وضمان أمنها بدعوى أنها دولة عضو في هيئة الأمم المتحدة مع كونها دولة مغتصبة
لأراضي لا تملكها.
سابعاً: عدم الممانعة في إصدار الأمم المتحدة لقرارات كثيرة متتالية تدور
حول التقسيم، ثم وقف إطلاق النار والانسحاب من الأراضي المحتلة وعودة
اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، وينتهي عجبنا عندما يكشف بطرس «غالي»
أن هناك قرارات ملزمة وأخرى غير ملزمة، وعادة ما تكون القرارات الملزمة
علينا، والقرارات غير الملزمة لنا، فلنا قرارات المدن الآمنة وحظر الطيران في
البوسنة، وعلينا الكثير الكثير من القرارات الملزمة والتي مايزال قطاع كبير من
المسلمين يعاني من آثارها الخطيرة بدعوى تطبيق قرارات هيئة الأمم المتحدة.
وأما آخر ممثلي الامبراطورية العجوز في حياكة وتدبير المؤامرات فإنه «
ديفيد أوين» ابن الأرستقراطية الإنجليزية الذي يمثل «الجنتلمان» صاحب
الابتسامة الصفراء، الذي ينفذ سياسة بلاده بتصميم يقل نظيره، فعلى الرغم من
كثرة الانتقادات الموجهة إليه بشأن دوره في المفاوضات وتحيزه الواضح للصرب
أولاً وللكروات ثانياً، فإنه ظل يردد نفس المقولات في أن رفع حظر السلاح عن
المسلمين لن يحل القضية، بل ويطلق التهديدات ضد المسلمين بقبول طروحات
الصرب والكروات وإلا فإنهم سيواجهون الفناء، وعندما تدور الدوائر على
الكروات فإننا نجده أحرص الناس على عقد الهدن والاتفاقات الصورية، حتى يلتقط
الكروات أنفاسهم، وهناك ملاحظة مهمة تبين فضيلة الصبر التي يتحلى بها وقدرته
على تحمل تمثيل هذا الدور لمدد طويلة فإن «فانس» استقال، وأما قائد قوات
الأمم المتحدة البلجيكي فإنه لم يطق صبراً فانتقد دور الأمم المتحدة في البوسنة مما
أدى إلى إزاحته عن منصبه واستدعائه إلى بلجيكا، أما «أوين» فأنه ثابت في
مواقفه، باق في منصبه؛ لأنه يمثل سياسة بريطانيا في البوسنة التي تتبناها الدول
الأوربية على العموم، أما الموقف الأمريكي فأعتقد أن أفضل تصوير له هو
تصريح مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق في أن محاربة الأصولية والإرهاب
كما يدعي يقتضي إظهار الاهتمام بقضية المسلمين في البوسنة، وحتى الآن فإن
موقف أمريكا لا يتعدى كثيراً (المواقف الدعائية) .
وأخيراً فإن موقف دول الغرب التي ترفع راية الحياد عالياً من أحداث البوسنة، قد أفرز مواقف أخرى توضح مقدار التحول في سياسة الغرب بعد سقوط النظم
الشيوعية، فمن جهة نجد مثلاً بريطانيا تتبنى التصدي لأي محاولة لإقامة كيان
إسلامي في أوربا، وبالتالي ينبغي وأد دولة البوسنة، ومحاولة تهدئة الأوضاع في
بقية مناطق البلقان المرشحة للإنفجار في لحظة مما سيفقد الصرب القدرة على
التصدي للمد الإسلامي في أوربا، الذي لا يتناسب مع دعاوى العلمانية، ولهذا نجد
بداية تحول إدخال الكنيسة رسمياً في الصراع العقدي الذي يتوقع الإنجليز نشوبه
عاجلاً أو آجلاً، وفي هذا الإطار يكتمل الدور الإنجليزي فهم في البوسنة يحاولون
إحكام قيد الضحية المسلمة ليكمل الجلاد النصراني مهمته، أما في بلاد السودان فإن
من يمثل الكنيسة الانجليكانية وهو الدكتور (جور كيري) رئيس أساقفة كانتربري
يقوم بمحاولة مستميتة من أجل الإبقاء على حيوية التمرد في الجنوب والمدعوم من
الغرب، وقد تراوحت لهجته في التصريح بأن الهدف هو الحفاظ على جنوب
السودان تحت هيمنة الأقلية النصرانية والوقوف في وجه محاولة إدخال جماهير
الوثنيين في الإسلام، وبين المراوغة بقوله أنه يأمل أن يعيش الإسلام والنصرانية
في وئام ثم يقوم بمحاولة جادة من أجل توحيد قادة التمرد، ولا يرى بأساً في الزعم
أن جميع قادة التمرد وتوحيد جهودهم هو من أجل السلام، كما صرح «أوين»
من قبل بأن رفع حظر السلاح عن المسلمين في البوسنة لا يساعد في عملية السلام.
بريطانيا: الكنيسة والدولة:
إن ملابسات تحول الإنجليز من الكاثوليكية إلى البروتستانتية الخاصة بهم
(الإنجليكانية) ، تدل على أن الإنجليز على دين الملك وكفى، ولهذا خلافاً لجميع
دول العالم النصراني فإن الملك أو الملكة هو رئيس الكنيسة الإنجليزية ولهذا فإن
الكنيسة هي كنيسة الدولة وجزء من أجهزتها المهمة، خاصة في الميدان الخارجي،
حيث إن الكنيسة الإنجليزية تعيش حالة من الانفصام، ففي الداخل نلاحظ أن غالبية
الإنجليز لا دنيين، وتعاني الكنائس من ضعف الإقبال ومن زار بريطانيا سيلاحظ
الكثير من الكنائس معطلة، ويعرض كثير منها للبيع أما في الخارج فإنها لعبت
وتلعب دوراً كبيراً في توطيد النفوذ الإنجليزي، وعلى سبيل المثال فإن الكنيسة هي
التي تولت نشر الثقافة واللغة والعادات الإنجليزية في الدول التي رزحت فترة من
الزمن تحت نير الاستعمار عن طريق المدارس والمستشفيات الكنسية، أما في
الجانب السياسي فإن الكنيسة تلعب دوراً مساعداً ومن الأمثلة على ذلك حادثة (تيري
ويت) مبعوث الكنيسة إلى لبنان، حيث تبين أن المذكور لا يعدو كونه غطاء لعملية
سرية تقوم بها المخابرات المركزية الأمريكية في لبنان من أجل إطلاق سراح
الرهائن، وكان خطفه نتيجة لتعثر المباحثات.
أما آخر مساهمات الكنيسة فهي حادثة زيارة رئيس الأساقفة إلى السودان عن
طريق كينيا متجاوزاً سيادة الحكومة السودانية، مما أدى إلى طرد السفير البريطاني
في الخرطوم، الذي وضع الحكومة البريطانية في موقف لا تحسد عليه [*] .
__________
(*) في العدد الماضي تطرقت البيان بدراسة مستوفية لهذا الموضوع تحت عنوان (ليس دفاعاً عن السودان قراءة هادئة في قضية طرد السفير البريطاني من السودان) .(74/91)
في دائرة الضوء
الجذور التاريخية لسياسة تجفيف المنابع
د.أحمد بن محمد العيسى
لم تكن سياسة تجفيف المنابع التي تتبعها بعض الدول العربية للحد من تغلغل
عقيدة الإسلام وتعاليمه في المجتمع، ووصولها بالذات إلى عقول الناشئة من أبناء
المسلمين.. لم تكن وسيلة جديدة تفتقت عنها عقول منظري العلمانية والتغريب في
العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة. إنها سياسة لها جذور تاريخية تمتد إلى
المواجهات الأولى بين الحق والباطل منذ أن صدع رسول الله بالرسالة الخاتمة في
مكة، لقد دأبت قريش على محاولة منع وصول كلمة التوحيد إلى آذان الناس داخل
مكة أوآذان القادمين إليها، سواء أكان قدومهم للتجارة أو للحج، ولقد وجه صناديد
قريش جهودهم إلى المنبع الأول صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام لمحاولة الحد
من تأثيره، وقطع الوسائل المعينة على إيصال كلمة الحق للناس، فكانت محاولاتهم
متعددة الوسائل: منها ما كان بالترغيب أو الترهيب، أو المقاطعة الاقتصادية، أو
الاستهزاء والسخرية، أو غير ذلك من الوسائل التي لا تخفى على من قرأ السيرة
النبوية واستلهم دروسها.
ولكن الرسالة التي أراد الله لها أن تكون رسالة خاتمة، أصبحت من القوة
والمنعة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحيث فاضت منابعها علماً ودعوة
وتعليماً وحكماً بين الناس، ولم يعد بالإمكان تجفيفها في أرض الإسلام لتجذرها في
أعماق مؤسسات المجتمع آنذاك، وعلى الرغم من المحاولات العديدة من قوى
الباطل لدحر الإسلام وإلحاق الهزيمة بالمسلمين، وإثارة الفتن العقائدية والسياسية
في المجتمع، إلا أنه لم تكن هناك محاولات عميقة وجذرية لتجفيف منابع الإسلام
المتنوعة في حواضر العلم والتدريس والدعوة والجهاد. ولكن التاريخ الحديث يبرز
لنا محاولة مستميتة لتجفيف المنابع، تمثل تجربة ونموذجاً للتجارب الحديثة التي
جرت وتجري هنا وهناك في بلاد العالم الإسلامي، وهذه التجربة هي تجربة
الحزب الشيوعي السوفيتي في بدايات هذا القرن عندما قرر منظرو سياساته القضاء
على الدين الإسلامي؛ لأنه يمثل الحصن الحصين ضد هيمنة الشيوعية على البلاد
التي حكمتها.
ولعل المرحلة التاريخية المعاصرة التي بدأت منذ بداية هذا القرن العشرين
هي من أكثر الفترات غموضاً وتغييباً عن عقول المسلمين، على الرغم من أن
المسلمين اليوم يعيشون في ظل إفرازات الأحداث التي حدثت في تلك الفترة. ومما
يؤسف له أن تلك الأحداث العظيمة التي وقعت في بلاد العالم أجمع مثل الثورة
الشيوعية والحربين العالميتين، وانتهاء مرحلة الاستعمار العسكري، ونشوء الدول
القومية في البلاد العربية، ليست غائبة عن أذهان الشباب المسلم الذي يدرس في
الجامعات والمعاهد فحسب، بل هي غائبة أيضاً عن عقول كثير من الدعاة
والمفكرين الإسلاميين والعاملين للإسلام في كل مكان تقريباً.
ويحدثنا كتاب (المسلمون في الاتحاد السوفيتي) الذي ألفه الفرنسيان (بينغسن
ولمرسييه) وصدرت طبعته الإنجليزية في عام 1967 م عن صورة تاريخية
للتجربة الأم لسياسة «تجفيف المنابع» ، التي رسمها المفكر الشيوعي من أصل
مسلم «سلطان غالييف» للحزب الشيوعي، وقام الحزب بتنفيذها بلا هوادة منذ
بداية سيطرته على المنطقة الإسلامية في آسيا الوسطى وبلاد القفقاس والقوقاز،
و «سلطان غالييف» مفكر بدأ حياته بالتنظير لإسلام عصري (كما يفعل أصحاب
الفكر الإسلامي المستنير اليوم) ، وانضم إلى حزب «الجديد» في طشقند، وهو
أول منظمة سياسية مناهضة للوجود الروسي، و «للمرجعية الدينية» معاً، ثم
انضم «غالييف» للحزب الشيوعي بعد الثورة الشيوعية، وكان كما يقول الكتاب
«الزعيم المسلم المرموق بين أقرانه من الزعماء، وكان أكثر الزعماء حظاً في
الحزب الشيوعي، فقد كان عضواً في مجمع مفوضيات الشعب لشؤون القوميات،
ورئيس تحرير مجلة القوميات الموسكوفية، وأستاذاً في جامعة شعوب الشرق، ويد
ستالين اليمنى، والزعيم الشيوعي المسموعة كلمته في شؤون سياسة القوميات،
فليس من العجيب إذن أن تكون نظرياته بشأن الثورة الشيوعية موضع تقدير وقبول
من أبناء دينه الذين قبلوا بالتعاون مع النظام السوفيتي، ولذا فإن أفكاره كانت تمثل
مع اختلافات محلية نموذجاً لكل الشيوعيين الوطنيين ما بين سنتي 1920- 1923
م، لا بل استمر هذا شأنه حتى سنة 1928 م أي بعد أن حلت عليه غضبة الحزب
للمرة الأولى..» .
وقد أدرك ذلك المفكر أن طبيعة الإسلام غير طبيعة الأديان الأخرى التي
حاربتها الشيوعية، لأن الإسلام كما يقول الكتاب: «أشد خطراً من غيره من
الأديان على النظام الشيوعي لأن عمل المسلمين بأحكام الإسلام الشرعية والأخلاقية، يميز المسلمين عن غيرهم، ويقيم بينهم وبين الشعوب الروسية السوفيتية وفي
المقام الأول الروس أنفسهم حواجز نفسية من الصعب التغلب عليها ... »
ولكن «سلطان غالييف» رسم سياسة النفس الطويل للقضاء على الإسلام،
وأشار إلى الخطوط العريضة في سياسته تلك في مقال نشره في مجلة (جيزن) عام
1920م، ومن ملامح هذه السياسة وجوب «إبعاد المسلمين عن دينهم بمراحل
تدريجية لا تثير صداماً أو مقاومة قد تتخذ شكل حرب وطنية وفوق ذلك كان على
الدولة الشيوعية أن تبعد عن نفسها ظن المسلمين وهي تشن حرباً على الإسلام أنها
إنما تفعل ذلك استمراراً للحملة التي شنها عليهم المبشرون المسيحيون في القرن
التاسع عشر ... » ، ويستدرك المؤلفان بعد هذه الإشارة فيقولان: «غير أن
صرف المسلمين عن هذا التفكير، كان مستحيلاً لأسباب منها: أنهم خلعوا ثوب
الكهنوت وانضموا إلى الشيوعية، عن عقيدة أو لغاية، وكانوا يرون في عملهم
الجديد الإمكانية المنطقية لمتابعة العمل الذي بدؤوه في ظل الكنيسة الأرثوذكسية ...
ويمكن للقارئ هنا أن يتوقف برهة، ويستحضر السياسات الغربية الحالية في
البلاد العربية، التي تسعى بشتى الوسائل كي تبعد ظن المسلمين في أن سياساتها
الحالية ما هي إلا امتداد للحروب الصليبية في القرون الوسطى والاستعمار الغربي
في القرون الحديثة. وهذا يشمل بطبيعة الحال دور المبشرين بالنصرانية الذين
وجدوا في المهن التي يحتاجها المسلمون مثل الطب والهندسة وغيرها، فرصة
لمتابعة عملهم التبشيري دون اهتمام كبير من المسلمين.
وقد اقتضت» الرصانة والحكمة «التي يزعمون في محاربة الإسلام أن
بدأت الحكومة الشيوعية تنفيذ سياسة» سلطان غالييف «لتجفيف منابع الإسلام
بشكل غير مباشر: يقول المؤلفان:» ما كادت الحرب الأهلية تنتهي حتى هاجمت
الحكومة السوفيتية الإسلام بطريق غير مباشر، وذلك بالقضاء على المؤسسات
الإسلامية الثلاث، وهي: أولا: الأوقاف التي كانت تضمن القوة الاقتصادية لعلماء
الدين، ثانيا: المحاكم الشرعية التي تمنح الإسلام السيطرة على حياة المسلمين
الخاصة، وثالثاً: التعليم الديني الإسلامي، وقد شنت هذه الحملات الثلاث في وقت
واحد تقريباً «.
وكما هي سياسة تجفيف المنابع التي يجري تنفيذها في بعض البلاد العربية،
اتجهت الجهود إلى منابع الإسلام الحقيقية، ولم تتجه في البداية إلى الأحزاب
والجماعات والأشخاص الذين كان لهم دور في مقاومة الحزب الشيوعي، ذلك لأن
سياسة تجفيف المنابع لا يهمها الأشخاص أو الأحزاب في ذلك الوقت، فهم
سيصبحون صيداً سهلاً في غياب المؤسسات الداعمة لهم في المجتمع، ولكن المهم
هو تلك المنابع الحقيقية التي تضمن استمرار هيمنة تعاليم الدين في حياة السكان،
والعجيب أن الكتاب يؤكد كما تؤكد السياسات الحالية لتجفيف المنابع أن هذه السياسة
لا تجد مقاومة قوية من المسلمين بعكس السياسات التي تتجه للقضاء على الأحزاب
والأشخاص والجماعات! ! يقول الكاتب:» وفي سنة 1925م عمدت الحكومة إلى
تصفية الوقف نهائياً فأصدرت جمهورية (أوزبكستان) في 19 كانون الأول 1925م
مرسوماً يقضي بأن تتملك مفوضية الشعب للزراعة كل الأوقاف الكائنة خارج المدن
باستثناء البساتين والكروم، وبعد ذلك بقليل صادرت أوقاف المدن وأوقاف المساجد، وفي سنة 1930م قضت حكومة موسكو عملياً ونهائياً على المؤسسات الوقفية
الكائنة في طول الاتحاد السوفيتي وعرضه، وذلك بوعدها أن توزع الأرضين على
الفلاحين، وهكذا قضي على هذه المؤسسة الإسلامية في بضع سنوات، من غير
أن تثير أي مقاومة، ومنذ ذلك الحين حرم علماء الدين من أسباب رزقهم، كما
حرمت المساجد والمدارس من الوسائل المادية لدوام بقائها، وبدأت الحملة على
العادات الإسلامية وعلى التشريع الإسلامي في الوقت الذي بدأ فيه الكفاح ضد قوة
الإسلام الاقتصادية، وقد سهل هذه الحملة كونها جاءت في نطاق العلمانية، وهي
تقليد قديم تردد على الأسماع كثيراً ولم تكن محاولة إضعاف التشريع التقليدي بله
القضاء عليه نهائياً في نظر النخبة من المسلمين إلا استمراراً للكفاح الطويل الذي
قاده (الجديد) في سبيل جعل التشريع الإسلامي عصرياً، وقد بدأ الكفاح ضد الشرع
في كثير من البلدان في القرن التاسع عشر «.
وهنا لابد من وقفة أخرى للقارئ: ليتفكر في تلك القوى الشيطانية التي جعلت
مخططي سياسة تجفيف المنابع المعاصرين ينتبهون إلى سياسات أسلافهم أمثال»
سلطان غالييف «، ويحاولون تطبيق تلك السياسات بحذافيرها في مجتمعات
المسلمين، فمن الدعوة إلى جعل الإسلام (عصرياً) ، إلى الدعوة إلى» العلمانية «
صريحة، وأخيراً إلى تجفيف منابع الإسلام الاقتصادية والتعليمية والتشريعية.
ولم يكتف الحزب الشيوعي السوفيتي بالقضاء على المؤسسات الإسلامية
الثلاث، ولكنه في الوقت نفسه كما يقول الكتاب قام بحملة دعائية ضخمة ضد
علماء الدين، حيث» كانت الدعاية الرسمية تسعى، في بداية الأمر، إلى الحط
من أقدار علماء الدين فقط في نطاق عملهم وتتهمهم بالجهل وعدم فهم القرآن وعدم
معرفة أحكام الشرع، وبالتالي تتهمهم بأنهم أئمة غير صالحين، ثم تطورت حملة
التحقير رويداً رويداً، وصار علماء الدين يتهمون بعد سنة 1926 م بالرشوة
والسرقة والإجرام، وأخيراً بسوء السيرة والخلق وبعد سنة1928 م قررت
السلطات السوفيتية أن تبدل حملاتها غير المباشرة بحملات مواجهة، لا بل أن
تهاجم الإسلام في جوهره وصميمه، متناسية نصائح الحكمة والحذر التي أسداها
إليها سنة 1921م (سلطان غالييف) وغيره من الشيوعيين المسلمين ... «
ويكمل الكتاب الحديث عن آخر فصول هذه الخطة التي رسمها الحزب
الشيوعي للقضاء على الإسلام نهائياً في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق فيقول:» في سنة 1928م بلغت السياسة الحكيمة، التي لجأت إليها الحكومة في مكافحة
الدين، هدفها من غير أن تثير أية مقاومة شعبية، وذلك بتبنيها الكفاح الذي كان
(الجديد) يخوضه منذ عشرات السنين بغية جعل الإسلام عصرياً، وتطبيقه على
العالم الحديث، وبعد أن نجحت هذه السياسة بتجريد الإسلام من قوته الزمنية أصبح
بالإمكان البدء بتنفيذ المرحلة الثانية وهي الكفاح في سبيل إقامة مجتمع شيوعي بعيد
كل البعد عن الأفكار الدينية، وقد بدأ تطبيق هذه المرحلة بعنف منذ البدء بمشروع
السنوات الخمس، وذلك بحملة مجابهة على الإسلام تقرر تنفيذها في الوقت الذي
تقررت فيه مجابهة (الجديد) ، وتصفية أكثر أعضائه الذين انضموا إلى الحزب
الشيوعي أمثال «سلطان غالييف ... » .
وكما يقول الحكماء: «إن التاريخ يعيد نفسه» ، لقد أسدلت مرحلة تاريخية
خطيرة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي، وبدلا من القضاء نهائياً على الإسلام،
تمت تصفية الحزب الشيوعي نفسه، ولكن المعركة مستمرة بين قوى الحق وقوى
الباطل، إذ يجري الآن استنساخ تجربة تجفيف المنابع الشيوعية ليتم تطبيقها بعد
تعديلات طفيفة في بعض البلاد العربية، أو بالأصح قد تم تطبيقها منذ عشرات
السنوات عندما تمكنت الدول التسلطية في العالم العربي من السيطرة والتحكم في
المؤسسات الثلاث التي تحدث عنها الكاتب وهي: الأوقاف الإسلامية التي كانت
تمنح المشاريع الدعوية والعلمية الاستقلالية الاقتصادية، والتعليم الإسلامي بعد أن
ألغت أو ضمت جميع المعاهد الشرعية إلى النظام التعليمي العلماني، وقبل ذلك
ألغت المحاكم الشرعية أو كادت بعد أن أن ربطتها بمؤسسات مركزية تخضع
مباشرة للحزب أو الدولة، وبقي من سياسة تجفيف المنابع ملاحقة الشوارد التي قد
تتدخل في هذه المؤسسات الثلاث، وتحاول إعادة الصفة الإسلامية ولو قليلاً إلى
النظام التعليمي أو المحاكم، أو الأوقاف الإسلامية، وبقي منها أيضاً ملاحقة الدعاة
الذين يتهمون في وسائل الإعلام «بالجهل، والظلامية، والتطرف، والإرهاب ... » ... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(74/98)
مطالعات
مواقف العلماء تحيي الأمة
قد مات في حديدهم أقوام
حسن قطامش
حين يَدْلَهِمّ الخطب، ويجل الأمر، ويظهرالفساد، ويشيع الظلم في كثير من
البلدان التي نَحّت الحكم بما أنزل الله، حينئذ يخشى الناس على أنفسهم وأولادهم
وذويهم، فيضطرون إلى الانزواء بعيداً عن معترك الأحداث بل ويخضعون لهذا
الواقع المظلم، ويستسلمون له بعد أن ألجمت ألسنتهم تلك الأوضاع، فنجدهم قد
رضوا أن يتجرعوا مرارة الصبر، وربما شربوا كؤوس الذل والمهانة، لكن الظالم
ينسى حين بغيه وجبروته تدبير الخالق العزيز الجبار وأنه له بالمرصاد، فيتمادى
في بغيه ويزيد في طغيانه، ولكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه ويتم نوره، ويدحض
الباطل، ويعلي الحق، فيقيض لتلك الشعوب الذليلة المنكسرة من يخرجها من
خنوعها وذلتها، ويبعث فيها روح العزة والكرامة وذلك حين يضحي العلماء والدعاة
بأنفسهم، حينما يقعون تحت سياط الجلادين وسيوف الجبارين وأعواد المشانق،
لأنهم لا يخافون في الله لومة لائم ليقولوا للناس: إن الموت في سبيل الله خير من
الموت جبناً وذلاً، ويقيض الله كذلك لأولئك الظلمة الطغاة من يرهب قلوبهم،
ويزلزل كراسيهم بالصدع بكلمة الحق ابتغاء مرضاة الله، بعد أن يتخذوا كل
الوسائل المتاحة والمشروعة لذلك، وبعد أن يصر الظالم على ظلمه، ويقف من
شرع الله موقف المعارض ويقف من الدعاة إلى الله موقف المعادي والمحارب.
إن إحياء الأمة من مواتها، وبعثها من غفوتها ونومها، وإخراجها من عبادة
غير الله، وقيادتها إلى ربها وسوقها إليه سوقاً جميلاً، وحمل هذا الدين والسعي به
والجهاد في سبيله، إن هذا وغيره هو من سمات العلماء الفحول عبر تاريخنا المجيد، ونستعرض هنا صوراً من مواقف أولئك العلماء لعلها تكون إحياءاً للغافلين،
ورهبة للظالمين، إذ ضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء دين الله سبحانه، وهي
العزاء لكل مسلم يسوؤه تلك التصرفات الجائرة ضد الدين ودعاته.
ولو استرجعنا التاريخ لوجدنا الأمر لا يكاد يختلف، بل يسجل التاريخ تلك
الحقيقة الجلية ألا وهي الصراع بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، ولن تموت
أمثال هذه الكلمات الصادقة: «ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه
قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ... » ! !
فإلى أولئك الذين يسقطون ظلماً وعدواناً في الدفاع عن الإسلام ودعوته:
ليعلموا أنه قد سبقهم أقوام على الطريق نفسه، وإليك أخي صوراً من تلك المواقف. [سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاْ ولن تجد لسنة الله
تحويلا] [1] .
الإمام البويطي [2]
هو العلامة، سيد الفقهاء، يوسف أبو يعقوب بن يحيى المصري البويطي
صاحب الشافعي ولازمه مدة وفاق الأقران، وكان إماماً في العلم قدوة في العمل
زاهداً ربانياً متهجداً، دائم الذكر.. سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه
ابن أبي دُؤاد إلى والي مصر فامتحنه أي في محنة خلق القرآن فلم يجب، وكان
الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يقتدى بي مئة
ألف، ولا يدرون المعنى! ! فأمر به أن يحمل إلى بغداد.
قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغل في عنقه غلٌ، وفي رجليه قيدٌ وبينه
وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةٌ طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: «إنما خلق
الله الخلق» بكن «فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقاً خُلق بمخلوق.. ولئن دخلت
عليه لأصْدُقَنّه يعني الواثق ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد
مات في هذا الشأن قوم في حديدهم» .
وتوفي رحمه الله في قيده مسجوناً بالعراق في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من
الهجرة.
الإمام نعيم بن حماد [3]
هو العلامة صاحب التصانيف، وكان شديداً في الرد على الجهمية حُمل إلى
العراق في إبان تلك الغيمة مع البويطي مقيدين..
وكان يقول: «من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد
كفر، وليس في ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه» .
قال ابن يونس: حُمل على القول بتلك الفرية فامتنع أن يجيب فسجن ومات
في سجنه سنة تسع وعشرين ومئتين، وجر بأقياده، فألقي في حفرة، ولم يكفن ولم
يصلى عليه.. وأوصى نُعيم بن حماد أن يدفن في قيوده وقال: «إني مخاصم» .
الإمام الخزاعي [4]
هو أبو عبد الله أحمد بن نصر الخزاعي، كان أماراً بالمعروف، قوالاً بالحق
من أكابر العلماء العاملين، ومن أهل العلم والديانة.
حمل من بغداد إلى سامراء مقيداً، وجلس له الواثق فقال له: «ما تقول في
القرآن؟» قال: «كلام الله» ، ق ال: «أفمخلوق هو؟» قال: «كلام الله»
قال: «فترى ربك يوم القيامة؟» قال: «كذا جاءت الرواية» قال: «ويحك
يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه مكان، ويحصره ناظر؟ أنا كفرت بمن
هذه صفته ... » ، ما تقولون فيه؟ «
فقال قاضي الجانب الغربي:» هو حلال الدم «ووافقه فقهاء، قال الواثق:
» ما أراه إلا مؤدياً لكفره قائماً بما يعتقده «ودعا بالسيف وقام. وقال:» إني
لأحتسب خُطاي إلى هذا الكافر.. «فضرب عنقه بعد أن مدوا له رأسه بحبل وهو
مقيد.
قال الحسن بن محمد الحربي: سمعت جعفر الصائغ يقول: رأيت أحمد بن
نصر حين قتل ... قال رأسه: لا إله إلا الله والله أعلم.
وعُلق في أذن أحمد بن نصر ورقة فيها:» هذا رأس أحمد بن نصر دعاه
الإمام إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فجعله الله إلى ناره «
وبقي رأسه منصوباً ببغداد، والبدن مصلوباً بسامراء وفي رجليه زوج قيود.
هذه صور لابتلاء العلماء على مر التاريخ من الظلمة والطواغيت والنتيجة أن
أولئك العلماء يترحم عليهم حتى الآن، أما أولئك الظلمة المحادون لله ولرسول
ولشريعته، فإنهم محل المقت والكراهية.. [وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقبلون] [5] .
__________
(1) سورة فاطر: 43.
(2) سير أعلام النبلاء 12/58.
(3) سير أعلام النبلاء 10/610.
(4) سير أعلام النبلاء 11/167، والبداية والنهاية 10/318.
(5) سورة الشعراء: 227.(74/105)
الورقة الأخيرة
حكمة.. وحكمة
د. محمد بن ظافر الشهري
الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والظلم هو وضع الشيء في غير
موضعه، وعلى هذا فهما عدوان ليس بينهما إلا حد السيف، ولكنهما قد يلتقيان إذا
صبغت الحكمة «بالمساحيق الميكافيلية» ولبس الظلم ثوب «الاعتدال» فيكون
نتاج هذا «القِرَان الشاذ» مسخاً، ولابد، فإما «حكمة هجينة» أو «ظلماً
معتدلاً» وفي كل شر! !
لقد كانت الحكمة عند السلف واضحة المواصفات ثابتة المقاييس، لقد كانت «
حكمة أصيلة» أقبلوا عليها دون حاجة إلى تلوينها لكي تصبح «جذابة» أما في « ...
زمن المساحيق» فقد أصبح الإقبال شديداً على «الحكمة المترهلة» لأنها تجيد
الاصطباغ «بألوان الطيف» .
إذا علمنا هذا فلا عجب أن نرى داعية يلعب بالنرد والشطرنج مع «اللاعبين» ، أو يهيم ويغني مع «المغنين» ، أو يكذب ليضحك «الهازلين» ، وهو يزعم ...
في كل هذا أنه يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأنه إنما يريد أن
يحبب الدين إلى قلوب المعرضين، ولن نجادل في اجتهادات هذا النوع من الدعاة،
إذ هي بينة البطلان، ومخالفة للسنة والقرآن، ولكننا نقول: أي دين هذا الذي
يدعون الناس إليه؟ ! إن العجب ليس في وجود المخالفات «فكل ابن آدم خطاء..» ولكن العجب كل العجب أن ينسب الظلم إلى الحكمة واللهو واللعب إلى الدعوة! !
إن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يلجأ إلى تلك «الحكمة الهجينة»
يوم أن كان يلاقي ألوان الأذى من صناديد الكفر في مكة، وكان أصحابه مجموعة
من الضعفاء والمساكين يسامون أصناف العذاب، وينكل بهم أمام عينيه، ولكن
الأنبياء لم يؤتوا إلا حكمة «أصيلة» [يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة
فقد أوتي خيراْ كثيراْ وما يذكر إلا أولو الألباب] [1] .
لقد ارتدت الجزيرة العربية في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم
يبق معه إلا قلة بهم من اللأواء ما الله به عليم، فما كانت «الحكمة الهجينة»
لتخطر ببال الصديق أبداً، وهو الذي تلقى دروساً في الحكمة على يدي أحكم الناس
محمد.
وهذا هو إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، ناله من العذاب ما يُلَيّن الصخر فلم
يلجأ في محنته إلى «الحكمة الفضفاضة» فضلاً عن التي هي شر منها.
لقد كان السلف يتحرجون من ذكر بعض أحاديث الرجاء أمام العامة خشية
الاتكال عليها وترك العمل، وذلك من الحكمة ولا شك، ولكن أرني واحداً منهم
تَقَوّل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل بدعوى الحكمة أو الإخلاص
أوما شئت من الدعاوى! ! لقد كان أولئك الأئمة يعرفون حدود الحكمة كما يعرفون
أنفسهم، إنها حكمة قوامها التميز، وعنوانها الوضوح، ودافعها الصدق، وسبيلها
المتابعة.. إنها الحكمة الأصيلة.
__________
(1) سورة البقرة: 269.(74/111)
ذو القعدة - 1414هـ
أبريل - 1994م
(السنة: 8)(75/)
كلمة صغيرة
ديمقراطياتهم الزائفة
تدعي كثير من الدول العربية والإسلامية التوجه الديمقراطي وتخادع شعوبها
والعالم بأسره لأنها تتناقض مع ما تعيشه تلك البلدان من واقع مؤلم من كبت للرأي
ومن مصادرة لأي توجه معارض ولاسيما إن كان إسلامياً. فإنه سيوضع حينئذ مع
قائمة المواد الممنوعة فهم ما بين مسجون أو مطارد أو مشنوق، لا لشيء إلا
لمطالبتهم بتحكيم شريعة الله.
ومن العجيب أن تلك الدول يتسنم رؤساؤها زعامة الحزب الحاكم، فعند أي
انتخاب النتيجة المعروفة سلفاً 99% وربما خجلوا من المعارضة المسموعة في
العالم فأعطوا المعارضة نسبة محدودة, والويل كل والويل لمن يعارض، فأول
جزاء سحب حصانته وربما ضرب بالنعال وأخرج غير مأسوف عليه..
هذه ديمقراطيات القوم ولذلك لا يستغرب أن تكون تلك الحكومات محل رضا
العالم الغربي لا لشيء إلا لأنها وقفت وبكل صفاقة في وجه التيار الإسلامي الذي
يشكل بعبعاً لهم ولأسيادهم.
ولله الأمر من قبل ومن بعد ….(75/1)
الافتتاحية
أيها المسلمون:
إلى متى هذا الهوان..؟
واقعة مثيرة حدثت في الأسابيع الماضية لكنها تُجُوهلَتْ، لا أظنها تقل خطراً
وجلالاً عن واقعة مذبحة الخليل الشهيرة، وما أعقبها من تخاذل غير مستغرب على
هيئة الأمم ومؤسساتها، في إصدار قرار عادل يدين الجريمة ويحدد سبل حماية
المواطنين الفلسطينيين العُزل من «جنون» المستوطنين اليهود المسلحين وأعوانهم
في جهاز الشرطة وجيش الإحتلال الصهيوني.
والشعور العام، في أوساط الإعلام العربي خاصة، بحجم الخطر الذي تمثله
الواقعة الجديدة، أوقع الإعلام العربي في زلل فاحش، حين تعمد إخفاء معالم تلك
الواقعة، وحاول التعتيم على صلب موضوعها، بإثارة الكثير من الغبار حول
شكليات وملحقات لا تمت للموضوع الأصلي «الخطير» بصلة.
والشعور العام، في أوساط المؤسسات «القومية» العربية، والإسلامية
بحجم «الجريمة» التي اقترفتها الأمم المتحدة بحق الإسلام وشريعته، كان أيضاً
سبباً في التجاهل «المريب» من هذه المؤسسات وأجهزتها، لمعطيات الواقعة
رغم أنه طلب رسمياً من الجامعة العربية تحديداً إصدار بيان واضح يدين هذا
العدوان، ويطالب باعتذار علني للمسلمين، ولكن الجامعة جعلت كما يقولون أذناً
من طين وأذناً من عجين، ولا من رأى ولا من سمع.
* * *
القصة بتمامها، أن الأمم المتحدة عينت في العام الماضي، المدعو «كسبار
بيرو» مقرراً خاصاً لحقوق الإنسان في السودان، وقد نشط «بيرو» في
إعداد تقرير كامل عن أوضاع «حقوق الإنسان» في السودان، جاء مليئاً
بالاتهامات للحكومة السودانية في مختلف المجالات، وليس هذا بالمهم، فهذا شأنهم
وشأن السودان، ولكن ما هو ليس شأناً سودانياً بل هو شأن إسلامي عام يخص كل
مسلم على وجه الخصوص، أن مقرر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان كتب في تقريره
مهاجماً الشريعة الإسلامية، ومعتبراً أحكامها في الحدود والقصاص إهداراً لحقوق
الإنسان الأساسية، ثم لم يقف التقرير عند هذه الإهانة لدين الإسلام، بل ذهب إلى
الهجوم على ممارسة «الدعوة إلى الإسلام» في المناطق الوثنية وغيرها، واعتبر
ذلك «انتهاكاً» لحقوق الإنسان، إضافة إلى هجومه على استعمال اللغة العربية
لغة أولى للتعليم في السودان، معتبراً ذلك خرقاً لحقوق الإنسان.
* * *
في أعقاب هذه «الفضيحة» ناشد السودان الأمم المتحدة سحب الفقرات
الخاصة بالطعن في الإسلام وشريعته، وطلب اعتذاراً «للمسلمين» عن هذا الجرم
في حق دينهم، بيد أن الأمم المتحدة رفضت بإصرار تحقيق هذا الطلب
«البدهي» بل إن الولايات المتحدة تقدمت بمشروع قرار يوصي بقبول تقرير ... «كسبار بيرو» بل وإمعاناً في الاستهتار، يوصي بمد خدمته في السودان عاماً آخراً، أيضاً المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، دافع عن تقرير
«بيرو» واعتبر أن «الحريات الأساسية» أهم من «الخصوصيات
الإقليمية» ، ولعله استحى أن يقول «الدينية» ، وعلى كل حال فكل ما لا يقل إجراماً عن تقرير «بيرو» ، حيث يكون «مفهوم الإنسان الأوربي» عن الحريات، أقدس وأجل من دين الإسلام وشريعته بل ويلزم الإسلام بالخضوع للمقررات الأوربية في ذلك.
* * *
وكما قدمنا، الإعلام العربي تجاهل الواقعة على خطرها ومن تعاطى معها
حاول إخفاء صلب الواقعة، وجوهر الجريمة، وصور الخبر على أنه نزاع بين
السودان والأمم المتحدة في شأن إهدار حقوق الإنسان في السودان كذلك
«المؤسسات القومية» ، تجاهلت هذا العدوان على الإسلام، وكأن الإسلام وشريعته أصبحتا شأناً وطنياً خاصاً بقطر من الأقطار، وليس دين الأمة بكاملها، وما يمسه ويجرحه فهو يمس كل مسلم، ويطعنه في أعمق مشاعره «وحقوقه» الأولية.
ولنا أن نتخيل هذا الطعن الوارد في تقرير صادر عن الأمم المتحدة موجه إلى
المسيحية أو اليهودية، فماذا سيكون رد الفعل على مثل ذلك الطعن؟ بل إننا نقطع
بأن مثل هذا السؤال مجرد فرض وهمي، إذ أن أحداً في المنظمة الدولية لا يجروء
ولا يجول بخاطره أن يتعرض، ولو من بعيد، إلى اليهودية أو المسيحية، ولا
حتى عباد البقر، فهل صحيح أن الإسلام هو الدين المستباح عند المنظمة الدولية،
في عقيدته التي تطعن «بدم بارد» في أصولها، ويكابرون في مجرد تقديم اعتذار، وحتى إنسانه الذي يذبح في مسجده ومصلاه بالجملة ومع ذلك تعاند المنظمة أو
بعض كبرائها في إدانة المجرمين وحماتهم، وتتهرب من الالتزام «بحق الإنسان
الفلسطيني المسلم» في أن «يعيش» ، وتحرمه من «الحماية» ضد مسلحين
يحملون براكين مكبوتة، من الحقد والمرارة والعنصرية ضد كل ما هو عربي أو
مسلم!
هل أصبح الإسلام هو الدين المستباح في عالم اليوم؟ وهل أصبح طموح
المسلمين في كل مكان أي يطالبوا بإقامة «مناطق أمنة» لعقيدتهم التي تنتهك
بصورة شبه اعتيادية وعلى مختلف الأصعدة من المنظمات الدولية إلى كتاب
وفنانين يحظون بمباركة وحماية أكبر زعامات العالم السياسية وحتى بيوت الأزياء
والموضة؟ !
ما الذي يراد بالضبط من المسلمين هذه الأيام؟ وما معنى هذا المسلسل
المتوالي من الاستفزاز والاستثارة المدعم بتيار إعلامي لا ينقطع مدده من دعاوى
«الإرهاب الإسلامي» ! والتطرف الإسلامي! والخطر الإسلامي! وأي شراك خبيثة تلك التي تنصب للمسلمين اليوم في غير مكان وناحية؟ !
* * *
خبر.. أصدر البرلمان التركي قراراً برفع الحصانة البرلمانية عن النائب
«حسن ميزارتش» من «حزب الرفاه» الإسلامي، ثم ألقت قوات الأمن ... القبض عليه بعد صدور قرار باعتقاله، والتهمة «إهانة ذكرى مصطفى كمال أتاتورك» !
انتهى الخبر، وانتهت معه وبه افتتاحية العدد.(75/4)
في إشراقة آية
[ادخلوا في السلم كافة] [*]
د. عبد الكريم بكّار
إن المراد بـ «السّلم» هنا: (الإسلام) على ما رجّحَه عدد من المفسرين وإن (كافّة) حال من (السّلم) على ما نرجحه، ويكون المراد آنذاك: الأمر بالأخذ بتكاليف الإسلام جميعها: ما تميل إليه النفس منها، وما يخالف هواها.
وتصرح الآية الكريمة بأن في عدم الأخذ بالإسلام كاملاً نوعاً من اتباع
الشيطان، حيث إن المنهج الرباني يباين السبل الأخرى في فلسفتها العامة، وإن
التفريط بشيء من ذلك المنهج سيكون فيه اتباع (آلي) لسبيل الشيطان حيث لا يوجد
خيار ثالث.
ويمكن أن نستبصر في إشراقة هذه الآية المباركة المفردات التالية:
1- إن المنهج الرباني يتسم بسمتين أساسيتين هما: التكامل والتفرد فهو نظراً
لتكامله لا يفسح المجال لعناصر أخرى منافية لجوهره، وأما تفرده عن المناهج
الأخرى فإنه يمنحه نوعاً من الحساسية الخاصة التي تجعل أي انحراف عنه أو به
عن مقاصده وغاياته بالغ الضرر على أدائه وإصلاحه للشأن الإنساني كله، فالصفاء
الكلي ليس مطلباً من مطالب الإيمان النظري، ولكنه مطلب من مطالب توظيف
المنهج ورسم دوائر حيويته وفاعليته، وذلك نظراً للعلاقة الجدلية بين النظرية
والتطبيق، فسلامة الإيمان على مستوى الاعتقاد تتأثر إلى حد بعيد بالأخذ الجزئي
للإسلام على مستوى التطبيق! .
وقد حذّر القرآن الكريم النبي-صلى الله عليه وسلم-من مطاوعة المشركين في
الإعراض عن بعض المنهج الرباني حين قال: [وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا
تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك] [1] .
2- إن خصال الخير في هذا الدين كثيرة، وعلى مقدار ما يأخذ المسلم منها
يكون كمال إيمانه وإسلامه، لكن بما أن العمر محدود والطاقات محدودة فإن على
المسلم إذا أخذ بعُمُد الإسلام، واهتدى بهديه العام، وقبس من كمالاته، أن يبحث
عن المجال الحيوي المناسب لاستعداداته وظروفه وطاقاته كي يتخذ منه محراباً
لتعبده وتقربه إلى الله تعالى، حتى نحفظ للمجتمع الإسلامي توازنه ونسد ثغراته.
ومن هنا فإن عبادة طالب العلم محاولة النبوغ، وإتقان التخصص حتى نحقق
للأمة الاكتفاء الذاتي ولو في حده الأدنى على الصعيد العلمي والفني وعبادة علماء
الشرع القيام بالتبليغ وإحياء السنن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجديد
وظائف التدين والتبصر في واقع الأمة، وإن عبادة الحكام إقامة العدل، ورعاية
شؤون الأمة، وحماية البيضة، والتعفف عن الأموال العامة ونشر الدعوة، وعبادة
الجندي دوام التمرس بفنون القتال، واستيعاب الأسلحة الجديدة واستشراف الشهادة،
والاستعداد الدائم للبذل والفداء، وإن عبادة الأغنياء وذوي الجاه سد حاجة الفقراء
ومساعدة الضعفاء على حل مشكلاتهم والوصول إلى حقوقهم، والبذل في تشييد
المرافق العامة، وهكذا ...
وإن خروج كل واحد من هؤلاء عن مجاله الحيوي سيحرمه، ويحرم الأمة
من خير عظيم، بل قد يؤدي إلى أضرار بالغة وخيمة العواقب، فإذا صار هم
العالم امتلاك المال بنية إعمار المساجد مثلاً تقلصت جهوده في ميدانه الحقيقي الذي
ينبغي عليه المجاهدة فيه، وإذا انشغل الحاكم بأعمال خيرية أو أداء النوافل عن
واجباته الأخرى، لم يكن ذلك موضع مدح ولا نفع ذي شأن للأمة المسلمة،
وهكذا ...
وهذا كله يحتاج إلى نوع من البصيرة النافذة بغية وضع الأمور في نصابها.
3- إن أنظمة الإسلام يكمل بعضها بعضاً، كما يفعّل بعضها بعضاً ومن ثم
فإن أي خلل أو ضعف في نظام من تلك الأنظمة يؤثر بالسلب على أداء باقيها،
وهذا يعود إلى ما ذكرناه آنفاً من ميزة (التكامل) التي يمتاز بها المنهج الرباني،
ونظراً لأهمية هذه المسألة وضعف الإدراك لها سنفيض القول فيها عسى أن نشعر
أننا نقف على أرض صلبة.
وفي البداية فإن مبادئ الإسلام ومنظوماته المختلفة تنضوي تحت رؤية واحدة
مما يجعل التخلي عن أي منها هدماً لجزء من الرؤية الكونية الإسلامية ويستوي
حينئذ على الصعيد العملي على الأقل الجهل بذلك الجزء مع تجاهله أو جحده،
والنتيجة واحدة، وهي غبشٌ في الرؤية على المستوى النظري، واختلال في
التوازنات العميقة على مستوى الشعور، واضطراب أنظمة الحياة الإسلامية على
مستوى الفعل والواقع المُعَاش، وسنضرب العديد من الأمثلة لجلاء هذه الحقيقة.
أ- الزكاة جزء من النظام الاقتصادي الإسلامي، وعدم القيام بهذه الشعيرة
يؤدي إلى عدم كفاءة النظام الاقتصادي، كما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالنظام
الاجتماعي والأخلاقي أيضاً، فالمقدار المفروض من الزكاة في الأموال وعروض
التجارة هو 2. 5%، وهذا القدر كاف لسد العديد من حاجات المجتمع الإسلامي
على مقتضى الحكمة الإلهية البالغة، لكن ذلك سيكون في الأحوال العادية والطبيعية
وفي غير الأحوال الطارئة كما في حالات الزلازل والفيضانات، وذلك أيضاً فيما
إذا التزم أغنياء المسلمين بإخراجها، وإذا استمر ذلك الالتزام حقبة مناسبة من
الزمن، فلو قدرنا أن 10% من الأغنياء أخرجوا الزكاة وأن التزامهم بأدائها في
مجتمع ما لم يمض عليه سوى سنتين، فإن الزكاة آنذاك لا تقوم بمهامها على الوجه
المطلوب، حيث إن الحالتين اللتين ذكرناهما تجعلان الفقر يتراكم ويتفاقم إلى الحد
الذي لا تفي أموال الزكاة بالتخلص منه.
ثم إن نظام الزكاة يؤدي مهامه في ظل فعالية الأنظمة الأخرى، فإذا كانت
موارد القطر شحيحة جداً، أو كان النظام السياسي فيه مختلاً، وأدى ذلك إلى
انتشار البطالة والعطالة عن العمل، فإن نظام الزكاة بالتالي لا يوصلنا إلى الأهداف
المنشودة منه.
وباعتبار الزكاة جزءاً من النظام الاقتصادي الإسلامي، فإنها أيضاً لا تؤدي
وظائفها إلا بفاعلية النظام الذي تنتمي إليه، فمثلاً: (القرض الحسن) جزء من ذلك
النظام، وإعراض الدولة أو الشعب عنه يؤدي إلى نوع من تعطيل حركة المال
وتداوله، وبالتالي إلى ضعف حركة التنمية والاستثمار مما يفضي أيضاً إلى قلة
فرص العمل وكثرة الفقراء والمعوزين.
ومرة أخرى فإن فاعلية نظام الزكاة ترتبط جزئياً بقيام الدولة بواجباتها من
ضمان الحد الأدنى من المعيشة للفقير بالقدر الذي يحفظ كرامته، ويجعله في وضع
منتج مثمر، فإذا عجزت الدولة عن ذلك أو قصرت فيه، فإن آلية (نظام السوق)
ستوجد شريحة واسعة من المحتاجين الذين لا يمكن أن تقوم بهم أموال الزكوات
والنذور والكفارات ... وينفعل كل ذلك ويتأثر بقوة النظام القيمي وفاعليته، فإذا كان
نشطاً اندفع الناس إلى التطوع بكثير من الأعمال الخدمية واندفع كثير من الفقراء
إلى العمل والحركة مع حسن التدبير والتعفف عن أموال الآخرين مما يخفف من
غلواء الحاجة.
ب- الضبط الاجتماعي في الإسلام يقوم على ركنين أساسيين: الأسرة
والمجتمع العام بما فيه من وسائل تثقيف وتعليم ورقابة ... وإن الخلل في أي من
هذين الركنين سيؤدي إلى شيوع الخلل في أداء الركن الآخر. وواضح أن مهمة
الأسرة أن تصقل الفرد من داخله بما تغرسه من قيم وآداب وبما تخطه في ذهنيته
ومشاعره من خطوط عميقة، كما أن مهمة المجتمع الأرحب القيام بالرقابة على
تشجيع القيم الإيجابية وحماية أفراده من السقوط فيما يعتبر أعمالاً مشينة أو مُخلة.
والحالة النموذجية في هذا تتجلى في عموم الإيمان بالقيم والنظم، وتوحد
التربية الفردية مع معايير الضبط الاجتماعي على مقتضى ذلك الإيمان، فإذا ما
افترضنا الاختلاف بين القيم الأسرية والقيم التي يبثها الإعلام أو تلقنها المدرسة أو
يشيعها الشارع، فإن النتيجة هي تمزق شخصية الطفل بين مختلف هذه المؤثرات،
وحينئذ فإن التربية الأسرية تتعرض للخطر من قبل المجتمع الأوسع أو يأتي الخطر
مما تواضع عليه من قبلها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الطفل يُخفي في
البيت ما تلقفه من المدرسة أو الشارع، ويُخفي فيهما ما لُقنه في البيت، والنتيجة
هي الازدواجية والحيرة وانطفاء الفاعلية، أي إجهاض عمل الجهات التربوية
المختلفة، وترك الناشئ لموجات الظروف.
ج- الحدود في الإسلام وسائل للردع، وهي بمثابة العمل الجراحي الذي يأتي
ترتيبه في التطبب متأخراً، وتؤدي الحدود مهماتها في مجتمع تعمل فيه باقي
الأنظمة بكفاءة من نحو الاستقرار والعدل وتوفر فرص العمل المناسبة وانعدام
المغريات بالفاحشة وانسجام التربية البيتية مع معايير الضبط الاجتماعي وانتشار
العلم ... وإذا ما فرضنا وقوع خلل فيما سبق أو بعضه، فإن كفاءة الحدود في توفير
الأمن للمجتمع سوف تتراجع على مقدار القصور الحاصل في الأنظمة الأخرى،
وهذا كله يجعل مسؤولية أمن المجتمع واستقراره مسؤولية عامة يتحملها كل فرد في
المجتمع، كما تتحملها الدولة على مقدار المكنة والتخصص.
4- إذا كانت أنظمة الإسلام متفردة في رؤيتها الكونية وفي منطلقاتها وأهدافها، فإن مما يضر بتماسكها الداخلي إدخال العناصر البعيدة عن طبيعتها عليها، وهذا
ما يمكن أن نسميه بـ (التلفيق) ، وإن الثقافة الإسلامية تقبل من الجديد ما ينشط
وظائفها، أو يوظف مبادئها، أو يملأ فراغات وهوامش أوجدتها خاصية المرونة
فيها، فإذا تجاوز الأمر ذلك إلى الجوهر والأنظمة الأساسية، فإن النتيجة هي
ضرب التوازنات العميقة لتلك الثقافة مما يجعلها تنكمش كما هو الكائن الحي حين
يُهاجَم وتفرز نوعاً من العطالة الضرورية كيما تحافظ على وجودها وانسجامها.
وإن ثقافتنا الإسلامية تمر بمرحلة عصيبة لا سابق لها في تاريخها المديد حيث
يمتلك زمام تثقيف الأمة أناس كثيرون يجهلون ثقافة الأمة، بل إنهم رضعوا لبان
الثقافة المعادية، ولسنا هنا بصدد بيان ذلك ولا أسبابه، لكن ما نشاهده اليوم من
عمليات التلفيق والتهجين الثقافي كان حصاد مراحل الركود الفكري والحضاري
بصورة عامة، وإذا كان التجديد سنة من سنن الكائن الحي فإنه إذا لم يتوَل التجديد
أهله تولاه غيرهم، فالإنسان بطبعه لا يصبر على طعام واحد، وهو يستهلك
الشعارات والأفكار والنظم الصغرى، فإذا لم نقم بإثراء ثقافتنا بالدراسات والخبرات
وتجديدها وتحريرها من عوادي الانحراف والجمود والتقليد فعل ذلك من لا يُحسنه،
وصار الانسجام والتجديد عبارة عن سمات ظاهرة جوفاء، أما الجوهر فيشوبه
التناقض والتآكل الداخلي.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
__________
(*) من قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين] (سورة البقرة: 208) .
(1) سورة (المائدة: 49) .(75/8)
مقال
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وتثبيت الأمن بمفهومه الشامل
فهد بن ناصر الجديد
تمهيد:
الدعوة السلفية بنجد التي يرميها شانئوها زوراً الوهابية بقصد التنفير منها
وادعاء أنها دعوة مبتدعة، هي دعوة إصلاحية، ودعوة لتصحيح العقيدة الإسلامية
التي انحرفت عن النهج الحق بفعل الاتجاهات الصوفية والبدعية بوجه عام،
وبخاصة في القرون الأخيرة، ومما يؤسف له أنه مازالت بعض الاتجاهات البدعية
تناصب هذه الدعوة العداء بدون وجه حق، لكن الحق أبلج وأكبر من أن تقف في
وجهه المعوقات، فقد بُينت حقيقة هذه الدعوة وكتب عنها، وقرظها الكثير من
العلماء على مستوى العالم الإسلامي منهم (مسعود الندوي من الهند والشيخ بهجت
الأثري من العراق، والشيخ رشيد رضا من مصر، والشيخ علي الطنطاوي من
الشام وغيرهم) ، وهذه المقالة تتحدث عن جزئية خاصة من الآثار الإيجابية لهذه
الدعوة.
-البيان -
يعتبر الأمن من العناصر الأساسية التي تستقر عليها الدول، وتقوم عليها
الحضارات، ولا يمكن أن يتحقق الأمن بمفهومه الشامل إلا عندما تتحقق عبودية
الإنسان لربه، يقول الله تعالى: [ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لهدمت
صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراْ] [1] .
والجزيرة العربية وهي مهبط الوحي ومبعث الرسالة الخالدة، لا يمكن أن
تقوم بها حضارة إلا في إطار من الشريعة الإسلامية، ولا يمكن لأهلها أن ينعموا
بالأمن والاستقرار إلا تحت راية التوحيد.
ومع إشراقة العصر الحديث ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قلب
الجزيرة العربية، واستطاع بفضل الله أن يوحدها تحت قيادة إسلامية واحدة؛ لذا
جاء الاهتمام بدراسة هذه الدعوة المباركة وأثرها في جانب من أهم جوانب الحياة
الأساسية ألا وهو الأمن، وقبل البدء في هذا الموضوع لابد من ذكر لمحة موجزة
عن الحالة الأمنية قبل تلك الدعوة، ومدى ما وصلت إليه الحال من التدهور
والاضطراب آنذاك.
الحالة الأمنية قبل الدعوة:
اضطربت الحالة الأمنية في الجزيرة العربية بسبب انهيار وانحراف
الحالةالعقدية «فكانت البلاد تعيش في ظلام دامس بين عدو يأخذها بالقهر وبين
صديق يأخذها بالغزو» [2] ، ولمعرفة ما وصل إليه الحال يمكن ذكر المثالين
التاليين:
المثال الأول: ذكر المؤرخ ابن بشر عن أحداث سنة 1120هـ قوله «وفيها
قتل حسين بن مفيز صاحب (التويم) البلد المعروف في ناحية سدير، قتله ابن عمه
فايز بن محمد وتولى بعده في (التويم) ، ثم إن أهل حرمه ساروا إلى التويم، وقتلوا
فايزاً المذكور وأمروا في البلد فوزان بن مفيز [3] ، ثم غدر ناصر بن حمد بفوزان
فقتله، فتولى في (التويم) محمد بن فوزان، فتمالأ عليه رجال وقتلوه منهم المفزع
وغيره من رؤساء البلد وهم أربعة رجال، فلم تستقم ولاية لأحدهم فقسموا البلد
أربعاً كل واحد شاخ في ربعها» أي صار شيخاً [4] .
المثال الثاني: ما جرى لبلدة العيينة عندما أصابها المرض الخطير في عام
1139هـ وأفنى الكثير من أهلها، ومات أميرها عبد الله بن معمر، وتولى بعده
حفيده محمد بن أحمد، فاجتمع كلٌ من أمير الدرعية زيد بن مرخان وفايز السبيعي
ومعهم أربعون رجلاً، وليتهم قرروا تقديم المساعدة لتلك البلدة المنكوبة، لكنهم
قرروا الهجوم عليها ونهب خيراتها، فلما علم أميرها الجديد أرسل إلى زيد بن
مرخان قائلاً: «ما ينفعك نهب البوادي وغيرهم لنا، وأنا أعطيك وأرضيك وأقبل
إلى أكلمك من قريب وأناجيك» [5] . فلما قدم زيد ورجاله وجلسوا إذا برصاصة
تستقر في جسمه بتدبير من ابن معمر، فمات من فوره، وتفرق رجاله داخل البيت.
دعائم توطيد الأمن:
لقد سار الشيخ وبمؤازرة الأمير محمد بن سعود على النهج الذي سار عليه
السلف الصالح في توطيد الأمن بمفهومه الشامل في المجتمع فلم يحصر معالجة
الخطأ على الانحراف الشخصي للفرد، وإنما امتد الإصلاح إلى انحراف المجتمع
الذي مهد لانحراف الفرد؛ لذلك جاءت دعائم الأمن مرتكزة على ثلاثة أسس [6] لا
مناص عنها، وهي:
*تربية الفرد.
*إصلاح الأوضاع القائمة.
*إقامة الحدود.
تربية الفرد:
اهتم الشيخ بأن يتكون في الفرد وازع ديني يحول بينه وبين الوقوع في
الجريمة، فكان التوحيد الخالص من شوائب الشرك أول أمر دعا إليه حتى تتحقق
عبودية الفرد لربه، فإذا علم الإنسان أن الله هو الخالق الرازق (توحيد الربوبية) فلا
يفكر في الحصول على مغنم بوسائل غير مشروعة، وإذا تيقن الإنسان أن الله هو
المعبود بحق (توحيد الألوهية) فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوجه العبادة من
دعاء أو استعانة أو استغاثة أو ذبح أو نذر إلا لله وحده، وإذا علم الإنسان أن الله
العليم الخبير المطلع على سرائر الأمور (توحيد الأسماء والصفات) فلا تراوده نفسه
الإقدام على الجريمة، لذا قام الشيخ بتأليف كتابه المشهور «كتاب التوحيد» [*] .
ولم تكن التربية قاصرة على طبقة دون أخرى، بل شملت كل طبقات
المجتمع حتى كبار السن والعامة، حيث قام بتأليف رسالة موجزة في العقيدة تعرف
بالأصول الثلاثة جاءت على طريقة الحوار وهي مفيدة جداً.
وأما في مجال التربية بالقدوة فقد حرص الشيخ على التأسي بهدي المصطفى-
صلى الله عليه وسلم-في جميع أفعاله، فقام باختصار كتاب «زاد المعاد في هدي
خير العباد» لابن القيّم، مع إبراز العبر والعظات، كما قام باختصار السيرة
النبوية وربط المعتقدات الباطلة في عصره بالجاهلية الأولى.
وقد حرص الشيخ على ضرب الأمثلة بذكر قصص السابقين لما للقصة من
أثر بالغ في التربية كما ذكر في كتاب «التوحيد» قصة الرجلين الذين قدم أحدهما
قرباناً لصنم قوم عندما مروا عليهم فخلوا سبيله، وامتنع الآخر فكانت حياته ثمناً
لامتناعه فدخل الجنة، وكذلك قصة الأقرع والأبرص والأعمى.
وقد أكد الشيخ على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد المعرفة
والفهم «لأن الإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار
معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله» [7] ، ومما قال أيضاً في ذلك: «وأهل العلم
يقولون الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاثة أمور: أن يعرف
ما يأمر به وينهى عنه، وأن يكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه، صابراً على ما
جاءه من الأذى» [8] .
ومن وسائل التربية ما يلي:
* بعث الدعاة والعلماء إلى البلدان التي انضمت إلى رحاب الدعوة، مثل
إرسال الشيخ محمد بن صالح إلى بلدة منفوحة، والشيخ عيسى بن قاسم إلى بلدة
الرياض، والشيخ أحمد بن سويلم إلى بلدة ثادق والشيخ حمد العريني إلى بلدة
اليمامة، وجمع من العلماء إلى منطقة الإحساء، والشيخ عثمان أبا حسين ثم الشيخ
قرناس بن عبد الرحمن إلى بوادي حرب.
* إرسال الرسائل إلى بعض البلدان لتوضيح حقيقة دعوته، مثل رسالته إلى
أهل القصيم، ورسالته إلى فاضل بن مزيد رئيس بادية الشام، ورسالته إلى
عبد الرحمن السويدي أحد علماء العراق، ورسالته إلى البكيلي صاحب اليمن،
ورسالته إلى أهل المغرب.
* إقامة المناظرات العلمية مع علماء المسجد الحرام في مكة المكرمة عندما تم
إرسال كل من الشيخ عبد العزيز الحصين في عام 1184هـ والشيخ حمد بن معمر
في عام 1211هـ.
* تدريس كتاب «كشف الشبهات» [**] في بيت الله الحرام (بعد دخول
السعوديين مكة المكرمة) في عام 1218هـ.
إصلاح الأوضاع القائمة:
لقد فطرالله الكائن البشري على صفات عديدة منها أنه لا يمكن أن يعيش
مستقلاً بذاته، بل لابد له من العيش بين أفراد ومجتمعات، فإذا كانت تلك المجتمعات غير صالحة، فلا يمكن للفرد مهما بلغ صلاحه أن ينعم بالأمن في ظلها، لذا حرص الشيخ على إصلاح الأوضاع القائمة حتى يحافظ الفرد على صلاحه،
ومن الأوضاع التي تم إصلاحها ما يلي:
إصلاح الوضع الاجتماعي.
إصلاح الوضع السياسي.
إصلاح الوضع الاقتصادي.
إصلاح الوضع الاجتماعي:
حرص الشيخ على تقوية الترابط الأسري في المجتمع ببيان حقوق كل من
الرجل والمرأة حتى يسود الأمن الاجتماعي بينهما، فقد وجد في بعض المجتمعات
النجدية آنذاك من ينظر إلى المرأة نظرة ازدراء وتنقص، فيوقفون أوقافاً يتحايلون
بها لمنع المرأة حقها الشرعي في الميراث، ويزعمون أن ذلك قربة إلى الله، ومن
ذلك ما ذكره الشيخ في بعض رسائله قائلاً: «من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر
تغيير شرع الله ودينه والتحايل على ذلك بالتقرب إلى الله، وذلك مثل الأوقاف
هذه.. إذا أراد الرجل أن يحرم من أعطاه الله من امرأة أو ابن أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يعطي من حرمه الله أو يزيد أحداً أكثر مما فرض الله أو ينقصه من ذلك يريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعداً عن الله، فالأدلة على بطلان هذا الوقف ووجوب عودته وقسمته حسب ما قسم الله ورسوله أكثر من أن
تحصر» [9] .
إصلاح الوضع السياسي:
كانت المنازعات على السلطة بين أفراد الأسر الحاكمة من الأمور المتفشية في
بلدان الجزيرة العربية، وكان غالباً ما يصل الأمراء إلى الحكم عن طريق القوة
والاغتيال، وقليل من يصل سليماً [10] كما أسلفنا.
لذا تعين لدى الشيخ أن السياسة الشرعية في بناء البيئة الإسلامية وهدم البيئة
الجاهلية تقتضي البحث عن أمير [11] يقتنع بصحة الدعوة ويجاهد لأجلها. كما
اقتضت السياسة الشرعية لدى الشيخ أن يتم تعيين الأمير كما يتم تعيين الإمام
للصلاة لكل بلدة تنضم إلى رحاب الدعوة، ومن ذلك ما ذكره مؤرخا الدعوة ابن
غنام وابن بشر:
* تعيين مبارك بن عدوان أميراً على بلدة حريملاء في عام 1168هـ.
* تعيين دخيل بن سويلم على بلدة ثادق في عام 1170هـ.
* تعيين سليمان بن عفيصان أميراً في بلدة الدلم في عام 1190هـ.
* تعيين عبد الله بن جلاجل في منطقة سدير عام 1191هـ.
* تعيين زيد بن عريعر في منطقة الإحساء عام 1204هـ. ...
* تعيين هادي بن قرملة رئيساً على بوادي قحطان.
* تعيين كلاً من عبد الوهاب بن عامر وفهاد بن شكبان وطامي بن شعيب أمراء
في منطقة الجنوب.
* تعيين الشريف عبد المعين أميراً في مكة المكرمة عام 1218هـ، ثم تعيين
الشريف غالب في عام 1220هـ.
إصلاح الوضع الاقتصادي:
تأكد لدى الشيخ أن وقوع الجريمة ليس دائماً بسبب الفرد كما يبدو ظاهراً
وإنما هناك سبب حقيقي دفعه إلى اقترافها، «والمصادر المتوفرة عن تلك الفترة
توحي بأن الظلم كان الصفة العامة لأمراء البلدان» [12] .
لذا اهتم الشيخ بالإصلاح الاقتصادي حتى يسود الأمن الاقتصادي في الأمة،
وأعظم ما قام به في ذلك المجال المعاهدة أو البيعة التي تمت بينه وبين أمير
الدرعية (محمد بن سعود) ، حيث نص البند الثاني على التخلي عن خراج الثمار
الذي كان يؤخذ من أهلها [13] ، ولقد أثبتت الأحداث الجسام بعد تلك البيعة اقتناع
أمير الدرعية بالدعوة ودفاعه المستميت عن مبادئها
إقامة الحدود:
إن الهدف الأساسي من إقامة الحدود قائم على أساس حماية الضروريات
الخمس التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، وهي: الدين، والنفس، والعقل
والعرض، والمال، فبعد تأمين الحاجز الداخلي لدى الفرد بالتربية الصالحة، وبعد
تأمين الحاجز الخارجي المحيط بالفرد المتمثل في إصلاح الأوضاع القائمة، تأتي
المرحلة الثالثة في حماية المجتمع، وذلك بإقامة الحدود، وعلى هذا الأساس يتبين
أن العقوبة ليست قائمة على التشفي والانتقام، وإنما على الردع والزجر، يقول
رسول الله-صلى الله عليه وسلم- (حد يقام في الأرض خير من المطر لأهلها
أربعين صباحاً «رواه ابن ماجة) [14] ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:» وهذا
لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة
فإذا أقيمت الحدود وظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله حصل الرزق
والنصر « [15] .
ومن الحدود التي تم تنفيذها رجم الزانية في بلدة العيينة في عام 1157هـ.
ولم تكن الحدود مقتصرة على الأفراد فحسب بل امتدت إلى الجماعات ومن
ذلك ما ذكر ابن بشر:
* أرسل الأمير سعود على رأس قوة عسكرية إلى منطقة الإحساء في عام
1210هـ لإقامة الحدود على المخلين بالأمن.
* أرسل الأمير سعود قوة عسكرية في عام 1219هـ إلى بوادي الظفير بعد
أن تأكد تهاونهم عن الصلوات المفروضة، إضافة إلى إيوائهم لبعض المبدلين لدين
الله.
ثمار الدعوة من الناحية الأمنية:
لقد جنى أهل الجزيرة ثمار تلك الدعوة المباركة في توطيد الأمن بمفهومه
الشامل، واطمأن الناس على سلامة عقيدتهم من الأفكار المنحرفة المنتشرة في كثير
من أنحاء العالم الإسلامي، وأمنت قوافل الحجيج القادمة من مختلف بقاع العالم
الإسلامي، وكان إيراد عمال الزكاة وأخماس الغنائم الذين يقدمون إلى الدرعية،
يتخذون تلك الأموال أطناباً لخيامهم إذا جن الليل عليهم لا يخافون إلا الله [16] .
وقد اتخذ الإمام عبد العزيز بن محمد رعية إبل لحفظ الضوال منها فمن وجد إبلاً
ضالة في أي بقعة من الجزيرة أتى بها إلى الدرعية وأخذ المكافأة المعدة له [17] ،
وعلى من ضاعت له إبل أن يقدم إلى تلك الرعية فإذا عرفها أتى بشاهدين أو شاهد
ويمينه ثم يأخذها، وربما يأخذ الواحدة اثنتين بسبب التناسل والتكاثر [18] ، وذات
مرة حاول نفر من الأعراب وهم جياع أن يأخذوا عنزاً ضالة ويذبحوها ويأكلوها،
فلم يتقدم لها أحد، وعندما ألحوا على أحدهم أجاب قائلاً:» والله لا أنزل إليها،
ودعوها فإن عبد العزيز يرعاها « [19] .
__________
(*) كتاب (التوحيد) من أهم الكتب في تحقيق العبودية لله والخلوص من الشرك، وقد نال اهتمام الكثيرين من علماء الدعوة، فشرحوه بين شرح كبير ومتوسط ومختصر، ومن أهمها (فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ) و (تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله) و (قرة عيون الموحدين للشيخ عبد الرحمن بن حسن) واعتنى به حديثاً كل من الشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ مصطفى العالم والشيخ سعيد الجندول وغيرهم.
(**) كشف الشبهات كتاب حواري في التوحيد يناقش المبتدعة وعباد القبور والأضرحة ويوضح انحرافهم عن الصواب ولا يملك طالب الحق إلا التسليم للشيخ في حواره الموضوعي وهو كسابقه كتاب التوحيد جديران بأن يترجمان للغات العالم الإسلامي، لمزيد من التوعية وكشف شبهات البطلين والمرتزقة بالأضرحة والعكوف عليها والله المستعان.
(1) منير العجلاني، عهد الإمام عبد العزيز بن محمد، ص 3.
(2) بياض في الأصل ولعل الاسم كاملاً ما ذكر.
(3) عنوان المجد، طبعة وزارة المعارف، ص 418.
(4) المصدر السابق، ص 423.
(5) الرائد فهد عبد العزيز الدعيج، الأمن والإعلام في الدولة الإسلامية، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض، ص 117، بتصرف.
(6) مؤلفات الشيخ الإمام، الرسائل الشخصية، رسالة رقم 22، ص 156 بتصرف.
(7) المصدر السابق، رسالة رقم 41، ص 284.
(8) المصدر السابق، رسالة رقم 44، ص 296.
(9) المصدر السابق، رسالة رقم12، ص7879.
(10) عبد الله العثيمين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره، ص 16، بتصرف.
(11) صالح عبد الله العبود، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1408هـ.
(12) عبد الله العثيمين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره، ص 16، بتصرف.
(13) حسين بن غنام، روضة الأفكار، تحقيق الدكتور، ناصر الدين الأسد، ص81 عثمان بشر، عنوان المجد، طبعة وزارة المعارف، ص22.
(14) وحسنة الألباني في الصحيحة ح 231.
(15) ابن تيمية، السياسة الشرعية، تحقيق محمد أيمن الشبراوي، دار الكتب العلمية ص 68.
(16) عنوان المجد، ص 122.
(17) عنوان المجد، ص 122.
(18) عنوان المجد، ص 122.
(19) عنوان المجد، ص 122.(75/14)
من فقه الدعوة
نظرات تربوية
في خلق الصدق
- 1 -
عبد العزيز بن ناصر الجليل
منزلة الصدق منزلة عظيمة ليس في دين الإسلام فقط بل في جميع الأديان،
لا لأنه خُلق من الأخلاق الحميدة فحسب، بل لأنه أصل الإيمان المقبول عند الله
عز وجل، وهو أساس النجاة من عذاب الله عز وجل، وبه يتميز أهل الإيمان
الحق من المنافقين الكاذبين، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة
الصدق: «وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين،
والطريق الأقوم، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين» ... إلى أن
يقول: «فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال،
والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين،
وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة (النبوة) التي هي أرفع درجات
العالمين» .
ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف في فضل الصدق
وخطورة أمره وعلو شأنه.
ولقد اخترت هذه الوقفات التربوية لخلق الصدق في ضوء القرآن الكريم
لمعالجة هذا الموضوع الذي يهم كل مسلم بصفة عامة، ويهم الدعاة إلى الله عز
وجل بصفة خاصة، لاسيما في واقعنا المعاصر، وتتجلى أهميته في الأمور التالية:
الأمر الأول:
لأنه أساس الإيمان، وركنه الركين، وأساس قبول الطاعات والقربات عند
الله عز وجل، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة، قال تعالى: [ليجزي الله
الصادقين بصدقهم] [1] وقال تعالى: [هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جناتِ
تجري من تحتها الأنهار ... ] [2] ولأنه أساس الطاعات وجماعها، فقد أصبح
الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الصدق أساس الحسنات وجماعها،
والكذب أساس السيئات ونظامها، ويظهر ذلك من وجوه منها:
* أن الصدق هو المميز بين المؤمن والمنافق، ففي الصحيحين عن أنس عن
النبي:» آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن
خان « [3] ، وفي حديث آخر:» على كل خلق يطبع المؤمن ليس
الخيانة « [4] وقد وصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع عدة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة، وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل منها.
* أن الصدق هو أصل البر، والكذب هو أصل الفجور، كما جاء في
الصحيحين عن النبي:» عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ... « [5] .
* أن الصادق تنزل عليه الملائكة، والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال
تعالى: [هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفَّاك أثيم يلقون السمع
وأكثرهم كاذبون] [6] [7] .
الأمر الثاني:
أن الصدق في كل الأمور يوصل صاحبه إلى مرتبة» الصديقية «، التي هي
المرتبة التالية لمرتبة النبوة، وعندما أقول في كل الأمور أريد من ذلك عدم حصر
الصدق في اللسان فقط، وإنما الصدق في النيات والأقوال والأعمال والأصل تحري
الصدق في ذلك كله.
إن مجاهدة النفس على تحري الصدق في جميع الأمور يوصلها إلى هذه
المرتبة العظيمة مرتبة» الصديقية «كما جاء في الحديث السابق الذكر:» ...
ولايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقا « [8] .
وهنيئاً لمن وصل إلى هذه المرتبة، فيا لها من رتبة، وما أشرف قدرها
وأعظم فضلها، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في وصف أهل هذه الطبقة:
» الطبقة الرابعة ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً
وعملاً ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد
الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصديقية، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال
تعالى: [ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاْ] [9] .
الأمر الثالث:
ثمرات الصدق العظيمة التي تحصل منه في الدنيا والآخرة من البركة والقبول
والإصلاح في الدنيا، والأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة وسيأتي تفصيل
كل ذلك إن شاء الله تعالى في (ثمرات الصدق) .
الأمر الرابع:
خطورة الكذب والنفاق وأثرهما على الفرد والمجتمع والأمة وبخاصة في
مجتمعاتنا اليوم التي كثر فيها الكذب والدجل والمداهنة، وقل الصدق فيها
والصادقون، ولا أعلم والعلم عند الله عصراً ظهر فيه الكذب والنفاق بوسائله
الماكرة المتطورة كما ظهر في عصرنا اليوم، حتى أصبح الكذب له مدارسه
وأساليبه التي تعلم الناس كيف يكذبون، وكيف ينافقون وكيف يدلسون ... الخ، ولا
أبالغ إذا قلت إن وسائل الإعلام اليوم المقروءة منها والمسموعة والمنظورة قد قامت
في أغلب برامجها على الكذب، وقلب الحقائق وتسمية الأمور بغير أسمائها، وقد
تجاوز الأمر حده حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وظهر الحق في
صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأصبحنا نسمع من يقول عن المسلم
الصادق الذي يتحرى الصدق بأنه ساذج وبسيط وسطحي ... الخ، في الوقت الذي
يوصف الكاذب المنافق بأنه السياسي الحكيم المحنك، إن مجتمعاً كهذا حري
بالسقوط والدمار، ولا نجاة ولا فلاح إلا بالصدق، والأمة الصادقة مع ربها سبحانه
ومع رسولها-صلى الله عليه وسلم-لا تهزم أبداً.
الأمر الخامس:
ظهور بعض علامات ضعف الصدق في صفوفنا معشر الدعاة إلى الله عز
وجل، وذلك بوجود بعض التصرفات والممارسات التي تتنافى مع الصدق في
الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله، فقلّ الصادقون الربانيون الذين
يصدقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، ويضحون في سبيل الله عز وجل بكل ما
يملكون لنيل مرضاته وحبه، نعم إنه بمحاسبة عجلى لنفوسنا يتبين لنا هذا الضعف، وأننا في أمس الحاجة إلى تقوية هذا الخُلق، ونبذ كل ما يتنافى معه من صور
الكذب والنفاق ووهن العزيمة، وضعف الهمة، وإلا فما معنى وجود هذه الجهود
الضخمة المبذولة اليوم في طرق الدعوة إلى الله عز وجل، ثم لا نرى لها إلا أثراً
ضعيفاً لا يكافئ تلك الجهود المبذولة؟ !
الأمر السادس:
إن الصراع الذي نشاهده اليوم بين الحق والباطل، بين دعاة الشر والكفر
ودعاة الخير والإصلاح، ليحتم على أهل الخير حرصهم الشديد على الصدق مع الله
سبحانه واليقين بنصره وثوابه، حتى لا تزل الأقدام، وتضعف العزائم إزاء هذا
البلاء العظيم والمعركة الشرسة بين الحق والباطل، وهذه المواطن هي التي يتميز
فيها الصادقون عمن سواهم، قال تعالى: [الم * أحسب الناس أن يتركوا أن
يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا
وليعلمن الكاذبين] [10] .
وكذلك أيام الفتن لا يثبت فيها إلا الصادقون العالمون العاملون، وهم الذين
يشرفهم الله عز وجل بنصره، ويمكن لهم في الأرض، ويجعلهم أئمة ويجعلهم
الوارثين.
حقيقة الصدق:
إن حقيقة الصدق أوسع من كونها الصدق في الحديث فقط، وإنما حقيقة
الصدق شاملة لصدق النية والعزيمة، وصدق اللسان، وصدق الأعمال، يقول
الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «ومما ينبغي أن يعرف أن الصدق والتصديق
يكون في الأقوال وفي الأعمال كقول النبي-صلى الله عليه وسلم-في الحديث
الصحيح:» كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان
تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما
البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج
يصدق ذلك أو يكذبه « [11] .
ويفصّل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى القول في هذا المعنى فيقول:»
والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا
وأحدهما محارب للآخر «.
وأخبر سبحانه: أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه
قال تعالى: [هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جناتِ تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبداْ رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوزٍ العظيم] [12] وقال تعالى: [والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون] [13] ، فالذي جاء بالصدق
هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله، والصدق إنما يكون في هذه الثلاثة:
فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على
الجسد، والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الأخلاق،
واستفراغ الوسع وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق،
وبحسب كمال هذه الأمور فيه، وقيامها به تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر
الصديق رضي الله عنه وأرضاه ذروة سنام الصديقية فسمي (الصدّيق) على الإطلاق، و (الصدّيق) أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول-صلى الله عليه وسلم- مع كمال الإخلاص للمُرْسل» [14] . ...
الفرق بين الصدق والإخلاص:
الصدق والإخلاص عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب، وأهم أصول
الإيمان، فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما الإخلاص فهو الفرقان
بين التوحيد والشرك في قول القلب واعتقاده أو في إرادته ونيته والأعمال التي
رأسها وأعظمها «شهادة أن لا إله إلا الله» لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص.
ومن هنا كان الصدق والإخلاص شرطين من شروطها، ولذلك كذّب الله
المنافقين في دعوى الإيمان، وقول الشهادة لانتفاء الصدق، فقال: [إذا جاءك
المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين
لكاذبون] [15] ، وقال: [فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين] [16] .
كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء
الإخلاص فقال: [لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى
تأتيهم البينة] [17] ، إلى أن يقول: [وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة] [18] .
والصدق والإخلاص مع تقاربهما ترادفهما أحياناً يميز بينهما بتعريف ضد كل
منهما: فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلاً، كمن آمن وصلى كاذباً ولم يرد
الإيمان والصلاة، وإنما فعل ذلك لسبب آخر، كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم
وأموالهم من السيف، وجبناً عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان.
والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه كمن آمن أو صلى صارفاً
ذلك لأحد مع الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين، وعلى قدر ما
يحقق العبد الإخلاص لربه يكون ترقيه في «المخلصين» الذين صرف الله عنهم
غواية الشياطين وأثنى عليهم في كل أمة « [19] .
وللحديث بقية..
__________
(1) الأحزاب، آية 24.
(2) المائدة، آية 119.
(3) البخاري، كتاب الإيمان، ج24 الطبعة الأولى، ص14، مسلم كتاب الإيمان، الطبعة الأولى، طبعة دار الكتب العلمية.
(4) رواه الإمام الحاكم وضعفه الألباني.
(5) البخاري، كتاب الأدب، ج3 ص59، طبعة إستانبول؛ مسلم كتاب البر، ج2 ص438، طبعة الكتب العلمية.
(6) الشعراء: 221-222.
(7) مجموع الفتاوى، 20/74.
(8) سبق تخريجه في رقم (5) .
(9) النساء، آية 69.
(10) سورة العنكبوت: 1.
(11) البخاري، 10/22 كتاب الاستئذان.
(12) سبق تخريجها في رقم (2) .
(13) مدارج السالكين، 2/269.
(14) الزمر: 33.
(15) المنافقون: 1.
(16) العنكبوت: 3.
(17) البينة: 1.
(18) البينة: 5.
(19) ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر ص 438.(75/24)
دراسات دعوية
إشكالية المناهج
في واقع الدعوة
سليمان عبد العزيز الربعي
مدخل:
سنة ربانية أن تتعدد طرق البلاغ في محاور من السبل المختارة الرامية إلى
نتاج مبارك، وهو واقع مَرْضيّ في حقيقته منه سبحانه وتعالى، شرط اتحاد
وجهات الهدف على نحو موافق لمراده ومراد رسوله-صلى الله عليه وسلم- بلا
لبس أو غبش. إن ذلك أيضاً هو ذات الحقيقة في دعوة المحجة القرآنية في غير ما
موضع، حيث اختلفت بجلاء أماكن الرسل عليهم الصلاة والسلام في دعواتهم إلى
أقوامهم، في الوقت الذي اتفقت فيه أهدافهم الكامنة في توحيده جل وعز وحده لا ند
له.
وبأقل قدر من الملاحظة يمكن للسابر أن يستجلي ما تقرر في آي الذكر الحكيم، ذلك لوضوحه وبروزه، وها نحن نصطفي سورة هود تقعيداً وتأسيساً.
إن ذلك يتجسد بمفتتح يذكر فيه تعالى «قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي-
صلى الله عليه وسلم-تنبيهاً له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله
أمرهم» [1] .
بدءاً بقصة نوح مع قومه، ثم تتابع قصص النبيين هود وصالح ولوط
وشعيب في مضامين حوارية رائعة السبك والمدلول، ولكل قوم توجيه خاص
يناسب معطيات الحدث وتركيبة العقل المخاطب، فقوم نوح مثلوا قمة البطر
العنصري والتجبر الجنسي، مقسمين المجتمع قسمين: نبلاء أشراف، وأراذل
دهماء: [وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ... ] [2] ، قال ابن
كثير رحمه الله: «وما نراك اتبعك إلا الذين هم أرذالنا كالباعة والحاكة وأشباههم،
ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا» [3] ، وهؤلاء ناسبهم خطاب التمسك بحق
هؤلاء الضعفاء في الدين، والتسليم بأن مرد ذلك إلى الله وحده فلا يستطيع نوح
طردهم، ولا يدري بما يدخره الله لهم في الآخرة، إمعاناً في التبكيت، ودحضاً
لوسائلهم المعتادة في الرفض [وما أنا بطارد الذين آمنوا] [4] [ولا أقول للذين
تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراْ، الله أعلم بما في أنفسهم، إني إذاْ لمن
الظالمين] [5] .
لقد كان فهماً فاسداً مؤداه أن الحق لا يمكن أن يتبعه إلا الأشراف دون غيرهم، الأمر ذاته الذي تبنته قريش.
وأما قوم هود، فَحُبس عنهم الغيث، وانقطع نسلهم، فكانا خطين متوازيين
يؤديان إلى الهلاك المادي والمعنوي، بانقطاع الذكر والأثر في الثاني وندرة المورد
في الأول، ومن ثم ناسبهم منهاج خطاب الوعد بالغيث ومدد القوة [ويا قوم
استغفروا ربكم يرسل السماء عليكم مدراراْ ويزدكم قوة إلى قوتكم] [6] ، وحكمة
هذا البيان الدعوي المحسوس إنما هي موافقته لواقع الحال، كما ذكر ذلك
المفسرون [7] .
واختلف الخطاب عند البيان لقوم صالح، إذ جاء مذكراً إياهم بنعمة التعمير
والاستخلاف الممتدة طوراً بعيداً، فكان الواجب آنئذ: الإعمار المبارك واستغلال
طول الأمد بالعبودية المفردة: [وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما
لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن
ربي قريب مجيب] [8] ، ومعناه أرجأكم بنسيء الأجل «وكانت أعمارهم من
ثلاثمائة إلى ألف» [9] .
ويتواصل بيان الدعوة ليمتد إلى عهد لوط عليه السلام فيعمد إلى أسلوب
التذكرة الفطرية بالتناسب الطبيعي للأجناس البشرية، من حيث كونه هداية أبدية،
يجنح بها المذكر إلى المؤنث في الأحياء كافة، وكذا في مثله في السالب والموجب
في ذرات الكون كلها [وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات
قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم
رجل رشيد] [10] ، أي راشد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما أجمع عليه
المفسرون رحمهم الله.
ثم يختلف الأسلوب تماماً في الموقف الخامس من السورة، في معرض
الحديث عن قصة شعيب مع قومه أهل مدين، فقد كانوا أصحاب تجارة وأرباب
أموال، غير أنهم معه كانوا ينقصون الناس حقوقهم في الكيل والميزان، ولذا ناسب
أن يخاطبهم شعيب عليه السلام بقوله المخبر عنه في القرآن الكريم: [ولا تنقصوا
المكيال والميزان] [11] ، ذلك لكونه لاحظ بطرهم مع غناهم فالقوم كانوا في سعة
من الرزق، يقول الإمام الطبري في معرض تفسيره للخير في قوله: «إني أراكم
بخير» : «عن الحسن قال: الغنى ورُخص السعر» [12] .
لقد عشنا في خمس جولات تباينت فيها ملامح المناهج الدعوية، فهي تأخذ في
كل جولة معالم محددة بسياقات المناخ والتركيب العقدي والفكري وذلك على النحو
التالي:
1- الأولى منها دعوة إلى المساواة وكسر حاجز البطر العنصري البغيض
الذي يمتد من عهد نوح عليه السلام مروراً باليونان فقريش إلى عصرنا المتمدن! .
2- والثانية دعوة ذات طرح إصلاحي يعد بالنماء والازدهار وحلحلة الوضع
الكاسد في البنية العددية الهيكلية، والرواء بعد قتامة التصحر والجدب الجاثم.
3- وأما الثالثة فيمكن أن يعبر عنها بأنها دعوة تعميرية ناضجة، قوامها
البناء المشيد والعقل المدرك الواعي بأهمية استغلال الاستخلاف الممتد بالصلاح
والعمل رجاء رضوان الله، وتوحيده البتة.
4- وتأخذ الرابعة تقاسيم الدعوة الأخلاقية نحو مضامين التناسب الهرمي
والمجتمعي للأمة، والدفاع عن حق المرأة في الاستقرار النفسي والزواج والأمومة
والتعبير الحي، ورفض واقع البشاعة الخلقية والتدمير الفضولي المستمر في حياتهم، الذي ينتج عنه انقلاب الفطرة وفساد الرؤية وحلول الخواء القيمي والروحي بسبب
تلك الممارسات المرفوضة شرعاً وعقلاً وفطرة. إنها باختصار: دعوة نحو الأفق
المشرق والغد السعيد والرضا النفسي الذي لا يُحد.
5- وفي الموقف الخامس تتضح أمارات الدعوة الاقتصادية المدركة، ذات
البعد الرصين والرصيد الثري من معطيات التفكير الجاد والواعي الذي يحسب لكل
شيء حسابه، تأسيساً لحقائق المعاصرة من كون الغبن الاقتصادي لا يؤدي إلا إلى
نتائج معاكسة لا تحمد عقباها: «إن المعاملات والأخلاق لابد أن تستند إلى أصل
ثابت لا تتعلق بعوامل متقلبة» [13] ، ومن ثم تصبح نتيجة التخلي عن هذا
الأصل الثابت دماراً شاملاً، إذ «يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة
المجتمع وفي حركة التجارة، وحين يذيق الناس بعضهم بأس بعض» [14] .
إننا بعد هذا التباين يجب أن ندرك حقائق مهمة تكمن في مصادر التشريع،
غير أننا عنها غافلون أو متغافلون، حين يصبح الصخب واللجاجة من أهم أدوات
«البروز» لدى البعض، ومن تلك الحقائق:
أولا: أن الأسلوب في الدعوة خاضع لواقع المدعوين وحالهم التي هم عليها
على نحو ما ذُكر آنفاً، حيث خوطب كل قوم بما ناسبهم، وبما كان أدعى لقبولهم
لو كانوا يعقلون! .
ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى رضي هذا المنهاج، بدليل حكايته في كتابه
العزيز وتصويره في أكثر من سورة بترسيخ وتثبيت، الأمر الذي يُفهم منه أن ذلك
عرض توجيهي يجب على الدعاة إلى الله تمثله والعلم به، ملتزمين اختيار الأسلوب
الأمثل في موقعه الملائم.
ثالثاً: أن شرط ذلك هو اتحاد الهدف الذي يحاول أولئك الرسل عليهم
الصلوات والسلام الوصول إليه، وهو إجماعهم على القول: «يا قوم اعبدوا الله ما
لكم من إله غيره» ، فهذا هو الأصل المبتغى والهدف المرام. ولأجل تحقيق هذا
البيان والتأكيد عليه فقد ختمت سورة (هود) بقوله: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا
على مكانتكم إنا عاملون) ، كما افتتحها بالتأكيد على: (اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره) ، وقبلها (أن لا تعبدوا إلا الله) ، فهو قد «ذكر التوحيد والإيمان بالرسل،
فهذا دين الله في الأولين والآخرين، قال أبو العالية:» كلمتان يُسأل عنهما الأولون
والآخرون ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين؟ « [15] .
رابعاً: أن في هذا البيان الإلهي إرشاداً خالداً يضعُ أساسيات العمل للدين، بل
لاتخاذ المواقف المناسبة تجاه سائر الأحداث.
إن الواجب علينا جميعاً أن نتمثل هذه الحقائق المكتنزة في سورة (هود) كيما
نُخْفتْ إن لم نلغ ذلك التلاسن النقاشي الذي قلما يُفقد في منتدياتنا ومجالسنا العامة
فضلاً عن الخاصة مع شديد الأسف حول المناهج وأهليتها الشرعية والتحصيلية في
واقعنا المعاصر، حيث بتنا نسمع بلا مقدمات صيحات الحط من فلان أو علان
بحجة التخبط في المسار أو سوء الوسيلة يصاحب ذلك أحياناً انثيال إعلامي منقطع
النظير يقف موقف الضدية منها ولست أعرف تماماً من الذي أعطى هؤلاء أو أولئك
حق النقض والغمز واللمز بل من الذي أنبأهم بأن هذا المنهج مستقيم وذاك معوج؟
إن الواقع يشهد بأن لا أحد، وعليه فيجب الكف عن مثل ذلك التصور الخاطئ
مادامت فروض المرجعية المشروطة متوفرة في الأصول لتلك المناهج، وإن كان
ثمة خلاف بين المصلحين فإننا نطالبهم بتلمس العذر بعضهم لبعض، ليس في
العقائد ولكن في فرعيات النصوص وفصول الفوائد.
لقد اندرجت سنة الله في تقسيم الإمكانات والمواهب بين الخلق تمضي على
الأولين والآخرين، ومن العبث بالعقول أن نحرم دعاتنا ومصلحينا من هذه
السنة (!) فلا ندرك تفاوتهم العلمي والإدراكي والاهتمامي، بأن نبتدع منهاجاً جديداً في الجرح والتعديل.
إن على الجميع أن يعلموا بإدراك أن ثمة معطيات جديدة برزت على السطح،
هي في تشكيلها ومضمونها متباينة مختلفة، وأن يعلموا بإدراك أيضاً أنه قد نشأت
على لوحة الأفق معالم عوالم جديدة، تبتغي أطروحات مناسبة وتنتظر أصواتاً
مكتظة بوعي جديد سديد تبدي عمقاً في التصور والفعل والممارسة والاختيار، في
وقت يُتمسك فيه بالجذور والأصول من لدن تلك الأصوات.
إن نوحاً وهوداً وصالحاً ولوطاً عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى الله جل وعز
يرتبطون مع غيرهم من سائر الدعاة بهذه الصفة، سامون عنهم بالنبوة وتشريف
الوحي والتلقي، وهنا نفهم أنهم في اختيار مناهجهم ينطلقون من رصد مضموني
ودلالي لأحوال قومهم التي تناسبها تلك المناهج، وعليه فلا عجب ولا اعتراض
حينما يختار الداعية لنفسه منهاجاً في دعوته يستشعر أنه سبيله للتأثير والإقناع
شريطة أن تتجذر فيه مرامي الأساس الكامنة في رباط القرآن الكريم والسنة
المطهرة الشريفة، لأنهم يفتقدون ميزة امتازت بها مناهج أولئك الأنبياء، ألا وهي
التزكية من الله سبحانه عن طريق الوحي والمباشرة.
إن من الدعاة إلى الله من هم ملهمون، جذلت الأمة يوم أن برزوا على الساحة، يكملون نقصاً تعتبر أهمية سداده من بدهيات الإحاطة بشمولية الصحوة وعالمية
الدعوة إلى الله، فمنهم من هو مهيأ تماماً للبيان الفقهي والإصابة في الفتيا حين
يمتلك شروطها، علماً بالكتاب وفهماً للسنة ومعرفة بالأصول والناسخ والمنسوخ
وأقوال أهل العلم وتوفر كافة متطلبات الاجتهاد وشروط التصدر للإفتاء.
ومنهم من هو مهيأ للبيان العقدي والتحذير من دجل المبتدعة، وربط المجتمع
بأصول الاعتقاد، ولفت أنظارهم إلى مداخل الشيطان في التشكيك وكيفية التعامل
معه، ودحض مزاعم المفترين، وزيادة إيمانهم بالتدارس والتعهد.
ومنهم كذلك من لا يُلْحق شأوه في المعرفة بكتاب الله قراءة وإدراكاً وفهماً
وسبراً، يسانده تعلق بالقرآن قلبي، ونهم على كتب التفسير تمثلاً ووعياً.
ومنهم اللغوي الحاذق، يشرح غريب النص، ويربط بين فقراته، ويبين
بلاغته وإعجازه ويحشد الشواهد تأييداً له، ويجعل من فقهه اللغوي خادماً لدعوته.
ومنهم الأديب، يربي الذوق، ويتلمس مواطن الجمال، ويعيد للروح نشاطها
وصفاءها وجذوتها، إن من الدعاة من ينتهج أسلوب الأدب الجمالي الفني في
محادثة طائفة من الناس ودعوتهم، لا يصلح لهم إلا ذلك، يفتح مغاليق القلوب،
ويطرق أبواباً ما كان يمكن أن تُفتح بأسلوب آخر.
ومنهم المطلع على أمور الحياة، يلحظ مجريات الحدث، ويرصد تحركات
الواقعة يحلل ويفسر ويقرر ويستنبط، ألمعي فطن يتسلح بإدراك شرعي يحثه على
المواصلة ومتابعة واقع الأمة وحالة المسلمين، انطلاقاً من:» من تعلم سياسة قوم
أحسن التعامل معهم وكشف زيفهم ورد حجتهم وذاد عن المسلمين ما وسعه
الوسع «، قياساً على:» من تعلم لغة قوم أمن مكرهم «.
ومنهم الاقتصادي الخبير، يحسن الطرح والجمع، ويفقه أحوال البورصة
وتداول الأسهم ومضاربات البنوك، يحذر من مصير اقتصادي أو يكشف زيف
تلاعب ربوي، أو يمنحه الله قوة وسموقاً فينشئ لأمته مؤسسة بديلة تُغنيها عن
جحيم تعاملي مشبوه.
هكذا يجب أن نفهم وأن نتفهم، لا أن نبقى أبداً نجادل في المسلمات ونصرخ
بالصدى المعتاد! .
لقد أمسينا نعاني من تضخم في واقع النقد، حيث نُكست سهام المواجهة لترتد
فيما بين المُحَارَبين أنفسهم، كل منهم يحاول تلمس النقص لإبدائه، وتتبع العثرة
والزلة لبيانها، الأمر الذي أثر على مستقبليات الدعوة وآمالها.
إن النقد مطلوب، وحين يوجد النقد الموضوعي توجد الأعمال المثمرة الفاعلة، غير أنه نقد ذو مواصفات خاصة قوامها النية الطيبة، والهدف الخالص الصالح،
والعمق العلمي والمنشود، فعندئذ نفرح به لأنه يقوّم ويُعمّر ويبني، في حين نرفض
كل الرفض ممارسات ثلة من الذين ابتعدوا عن منهاج الدعوة الحقة بنقدهم الجارح
الذي يتجه في كثير من الأحايين إلى الشخوص وهو إن اتجه يوماً للمناهج كان
ساذجاً إلى حد لا يمكن قبوله مليئاً بالفصل والحسم والرفض والتشريع والقبول
والرضا من غير يقين شرعي وتفصيل يفرق بين الصالح والطالح والخطأ
والصواب ... وهو نوع من الظلم لا يحق لأحد من البشر ممارسته، فهم يملكون
حق التوجيه والنقد بشروطهما المعتبرة شرعاً وعقلاً وخلقاً.
إن من أدبيات الحوار والخلاف والنقد أن يُفْسَحَ للآخر مكان ينتقد من خلاله،
لا أن تتم المعالجة من خلف الكواليس وفي عتمة الليل، ونحن نخاطب الذين زُين
لهم عملهم فرأوه حسناً، نخاطبهم بأن تكون» قاعدة الأخلاق عندهم هي إرضاء الله
وانتظار ثوابه؛ ليصبح ما يهرف به أصحاب المذاهب لغواً في ظل النظرة
الأخلاقية الإسلامية « [16] .
لقد مضت أزمان النظرة الواحدة، والمشروع الفريد، والأسلوب الأوحد لتحل
محلها النظرة السديدة الموضوعية، والمشروعات المقترحة، والأساليب المتنوعة،
وهي دعوة للجميع لأن يتمثلوها، ودعوة خاصة لأولئك الذين نصبوا من أنفسهم
الضعيفة مراجع للحكم، جاعلين على رؤوسهم تيجان التفرد بالقرار والصيغة في
حكمهم على المناهج والسبل المختارة والمرتضاة، ونحن في حقيقة الأمر نطرح
قضية كان يجب أن تكون مسلمة من الجميع وبخاصة من يُعنون بذلك، لأنهم
مازالوا مع سورة (هود) يقرؤونها صباح مساء.
أما إن كان أولئك السادة ممن يدعون الفهم والحصافة دون غيرهم، فإننا
نسارع إلى تذكيرهم بباب الاجتهاد الواسع بين أهل العلم، ليدركوا أن المنهج
الدعوي إنما هو وسيلة لهدف أسمى نبيل، يتجسد بالعبودية لله على اختلاف
صورها ومجالاتها ووسائلها، وليس يعوزنا التدليل على ذلك الأمر، فهو مبثوث
في آي الذكر الحكيم، يرتبط تمام الارتباط بحال المدعوين وماهية القضية
المطروحة، فتأخذ أشكال الاختصاص والنوعية، في حين يبقى للأصول المباركة
أهميتها وجذوتها ومشروعية بثها وتعليمها للناس، تلك الأصول التي تطالب بأن
تكون مرجعية للمناهج المختارة والوسائل المطروحة على كل حال.
إننا نطالب بهذا الفهم من الجميع بعموم، وأهل القصد بخصوص حتى»
يظهر وجه الموالاة والتحاب فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد، وحتى لا
يصيروا شيعاً ولا يتفرقوا فرقاً؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد التسارع فاختلاف
الطرق غير مؤثر، كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة كرجل تقرّبُه
الصلاة، وآخر تقرّبُه الصيام، وآخر تقرّبُه الصدقة ... إلى غير ذلك من العبادات، فهم متفقون في أصل التوجه إلى الله، وإن اختلفوا في أصناف التوجه، فكذلك
المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم
واحداً « [17] ، والله وحده المستعان.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج2، ص22، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ.
(2) سورة هود: 27.
(3) تفسير القرآن العظيم، ج2، ص442 طبعة دار الفكر.
(4) سورة هود: 29.
(5) سورة هود: 31.
(6) سورة هود: 52.
(7) الجامع لأحكام القرآن 9/51.
(8) سورة هود: 63.
(9) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للإمام الشوكاني ج2 ص733، طبعة المكتبة التجارية، مكة المكرمة.
(10) سورة هود: 78.
(11) سورة هود: 84.
(12) جامع البيان في تأويل القرآن للحافظ الطبري، ج2، ص97، طبعة دار الكتب العلمية الأولى، 1412هـ (بتصرف يسير) .
(13) في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب رحمه الله ج4، ص 1917، طبعة دار الشروق الرابعة عشرة، 1408هـ.
(14) المرجع نفسه، ص 1918.
(15) مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد رحمهما الله م15 ص104-105.
(16) في ظلال القرآن، ص 1918.
(17) الموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي، م1، ج4، ص 160، طبعة دار الكتب العلمية الأولى، 1411هـ.(75/32)
خواطر في الدعوة
أو خير هو؟ !
محمد العبدة
جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله-
صلى الله عليه وسلم-قام فخطب الناس، (فقال: لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس
إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، فقال رجل: يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ساعة ثم قال: كيف قلت، قال: قلت
يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله: إن الخير لا يأتي إلا بخير،
أوَ خيرٌ هو؟ إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يَلُم ... ) [1] ، أراد رسول
الله-صلى الله عليه وسلم-أن يحذر المسلمين من فتنة المال، وهي فتنة كبيرة، إلا
من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فالمال خير، كما سماه الله سبحانه وتعالى في
القرآن، ولكن الحريص عليه والشره في جمعه هو الذي يهلك، كما أن نبات الربيع
خير ولكن الحيوان الذي يأكل بصورة خاطئة هو الذي يُصاب بالتخمة (ويقتل
حبطاً) فالمشكلة في طريقة تناول الخير، وطريقة أخذ الأشياء بقواعدها وأصولها
السليمة إن العلم خير، ولكن إذا أُخذ كمعلومات للتكديس، ولم يتحول إلى ما ينفع
الناس في الدنيا والآخرة، ولم يتحول إلى أداة لتغيير واقع المسلمين المحزن، فإنه
سيكون وبالاً على أصحابه، وقد قال حكيم لرجل يستكثر من العلم دون العمل: يا
هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح فمن تقاتل؟ !
والعلم خير، ولكن ما الفائدة من تسويد مئات بل ألوف الصفحات حول مشكلة
انتهت ومضى عهدها، وليس لها وجود في واقعنا اليوم، وما الفائدة من تأليف
عشرات الكتب في موضوع واحد دون إضافة جديدة، أو إبداع يستحق القراءة، بل
يتهالك بعضهم على التأليف، وتأتيهم شهوة الكتابة عندما يرى مؤلفاً ناجحاً فينسج
على منواله تقليداً بحتاً، يلفقه من هنا وهناك دون عناء أو تعب، ورغم أن كمية
المقروء في العالم الإسلامي (6ر3) كيلوغرام مقابل سبعين كيلوغرام للفرد في
الغرب، وكمية المطبوعات (29) عنواناً لكل مليون من السكان في العالم العربي
مقابل (488) عنواناً في العالم الذي يسمونه متقدماً، كما جاء في إحصائيات
اليونسكو، رغم هذا الكم القليل فإن المشكلة في مضمون هذا القليل وضحالته،
فالأمية الثقافية ضاربة أطنابها، وطرق التعليم ووسائل التنفيذ لم تؤهل الفرد ليبدأ
طريق العلم الصحيح، وقد وصلتني أخيراً رسالة من صديق يشكو هذا الكم من
الكتب التي عناؤها قليل ويذكر أمثلة على ذلك «الأحوال المطلوبة في رؤية
المخطوبة» و «فصل الخطاب في رؤية الخطاب» ... الخ.
لم يؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية تفسيراً كاملاً للقرآن، لأنه لا يريد أن يكرر
شيئاً قد كُتب عنه، مع أن التفسير كان أحب علم لديه كما يذكر هو عن نفسه،
ولذلك علق واستدرك على تفسير بعض الآيات والسور التي رأى أنها بحاجة إلى
زيادة بيان، إن العلم خير، ولكن كثرة التعريفات والاختلافات وكثرة الردود
والمهابشات العلمية، مما يربك أذهان الناس ويجعلهم في حيرة من أمرهم،
وبخاصة ذلك الناشئ المقبل على الله، والمقبل على الدعوة، ولهذا كتب ابن
الجوزي (تلبيس إبليس) حتى لا يُخدع طلبة العلم، وتصيبهم آفات الطلب والتأليف.
__________
(1) مسلم، كتاب الزكاة، ج2، ص 419، طبعة دار الكتب العلمية.(75/43)
دراسات تاريخية
منهج التفسير التاريخي
قواعد منهجية في تفسير الحوادث والحكم عليها
(3)
د. محمد آمحزون
تناول الأخ الكاتب في الحلقتين السابقتين بالعرض للقواعد الثمان المنهجية في
تفسير الحوادث والحكم عليها، وتتلخص فيما يلي:
1- اعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر فيما نصت عليه من
أخبار وضوابط وأحكام.
2- الفهم الصحيح للإيمان ودوره في تفسير الأحداث.
3- أثر العقيدة في دوافع السلوك لدى المسلمين.
4- ذكر العوامل المؤثرة في حركة التاريخ.
5- العلم بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، والتثبت فيما يقال عنهم.
6- الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف.
7- العبرة بكثرة الفضائل.
- إحالة الحوادث على الخطأ في الاجتهاد.
ويواصل الحديث عن بقية القواعد في هذه الحلقة الأخيرة.
- البيان -
القاعدة التاسعة: الطريقة المثلى في معالجة
القضايا والأخطاء:
يلزم دارس التاريخ أن يدرس الظروف التي وقعت فيها أحداثه، والحالة
النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي اكتنفت تلك الأحداث، والأسباب التي دفعت
إلى ارتكاب الخطأ قبل أن يحكم عليه، حتى يكون حكمه أقرب إلى الصواب..
ونكتفي هنا بمثال واحد لبيان الطريقة المثالية في معالجة القضايا والأخطاء، ألا
وهو موقف النبي-صلى الله عليه وسلم-من صنيع حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل
كتاباً مع امرأة من المشركين ليخبرهم بمسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، ومن هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ أو الحادث:
* المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ أو وقوع الحادث، وفي
هذا الحادث تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي.
* المرحلة الثانية: مرحلة التثبت وتبين الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب
الخطأ، وهذا الأمر متمثل في قوله-صلى الله عليه وسلم-لحاطب: «ما حملك
على ما صنعت؟» [1] ، وهذه المرحلة مهمة؛ لأنه إذا تبين بعد طرح هذا
السؤال أن هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ تنتهي القضية عند هذا الحد، وإذا
لم يكن العذر مقنعاً من الناحية الشرعية فإنه يصار إلى:
* المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ ...
وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته،
وهذا الذي سلكه النبي-صلى الله عليه وسلم-مع حاطب حيث قال لعمر عندما
استأذن في قتل حاطب: «أليس من أهل بدر؟» ، ثم قال: «لعل الله قد اطلع
على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو غفرت لكم» [2] .
القاعدة العاشرة: الاستعانة بعلم الجرح والتعديل
للترجيح بين الروايات المتعارضة وبناء
الصورة التاريخية الصحيحة:
ينبغي الاستعانة بمنهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات، فهو الوسيلة
للترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنه خير معين في رفض بعض المتون
المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ صدر الإسلام.
وعلى هذا الأساس يتم اعتماد الروايات الصحيحة ثم الحسنة لبناء الصور
التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام، وعند التعارض يقدم
الأقوى دائماً، أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى فيمكن الإفادة منها في إكمال
الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة، على شرط أن تتماشى مع روح
المجتمع الإسلامي ولا تناقض جانباً عقدياً أو شرعياً، لأن القاعدة: «التشدد فيما
يتعلق بالعقيدة والشريعة» .
ومن ناحية ثانية، إذا كان أهل الحديث يتساهلون في الرواية عن الضعفاء إن
كانت روايتهم تؤيد أحاديث صحيحة موثقة، فلابأس إذن من الأخذ بهذا الجانب في
التاريخ وجعله معياراً ومقياساً إلى تحري الحقائق التاريخية ومعرفتها، ومن هذا
المنطلق تتخذ الأخبار الصحيحة قاعدة يقاس عليها ما ورد عند الإخباريين مثل
سيف بن عمر الضبي والواقدي وأبي مخنف وغيرهم.. فما اتفق معها مما أورده
هؤلاء تلقيناه بالقبول، وما خالفها تركناه ونبذناه.
القاعدة الحادية عشر: الرجوع إلى كتب السنة
كمصدر مهم لأخبار صدر الإسلام:
وكذلك من المفيد جداً في كتابة التاريخ الإسلامي الرجوع إلى كتب السنة إذ
هي مصدر موثوق وراجح لأخبار الصدر الأول، لوجود روايات تاريخية كثيرة
فيها على درجة عالية من الصحة، ونظراً لأن كتب الحديث خُدمتْ أكثر من كتب
التاريخ من قبل النقاد، فمثلاً قد تميز صحيحا البخاري ومسلم وعرف أن كل ما
فيهما صحيح بعد الدراسات النقدية التي قام بها كبار الحفاظ القدامى والدارسون
المعاصرون.
وتتضاعف كمية هذه الأخبار الموثوقة بالرجوع إلى كتب السنن والمسانيد
والمصنفات ومعاجم الصحابة، وكتب الفضائل والطبقات، والتواريخ التي صنفها
المحدثون، وكتابات العلماء الذين كانت لهم عناية بشرح كتب الحديث وذلك أن
ثقافتهم الحديثية الممحصة واقتباساتهم من كتب التاريخ المفقودة التي دونها المحدثون
الأولون، جعلت شروحهم غنية بنصوص تاريخية، فعلى سبيل المثال يعتبر كتاب
«فتح الباري، شرح صحيح البخاري» للحافظ ابن حجر مثلاً واضحاً لهذه الكتب
وهؤلاء العلماء، إذ يشمل من الفوائد التاريخية كمية لا يستهان بها.
القاعدة الثانية عشر: معرفة حدود الأخذ من كتب
أصحاب الأهواء والفرق:
من القواعد المهمة أيضاً معرفة الحدود التي تراعى عند الأخذ من كتب
أصحاب الأهواء من الفرق الضالة المبتدعة، إما استجابة لشهوة أو هوى أو بدعوى
التأويل المتعسف أو بالوقوع تحت تأثير الزندقة والكفر.
وقد اعتنى أهل السنة بضبط مذاهب الفرق وأقوالهم لتعرف أحوالهم ومواقفهم، ويكون المسلم على بيّنة منها فلا يخدع من قبلهم.
ولهذا الغرض أفرد بعضهم ذلك بمؤلفات خاصة مثل أبي الحسن الأشعري في
«مقالات الإسلاميين» ، وأبي الحسن الملطي في «التنبيه والرد على أهل
البدع» ، وابن حزم في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» .
كما أن أصحاب الفرق أنفسهم قاموا بتدوين مذاهبهم ومعتقداتهم وأخبارهم
وتراجم رجالهم وعلمائهم ومناظراتهم وردودهم على المخالفين لهم ومنهم من اشتغل
بالتاريخ فقام بتدوين الأخبار وفقاً لمعتقده الخاص أو مذهبه السياسي، فأظهر مثالب
خصومه وأخفى محاسنهم.
ولأجل هذا لابد للمؤرخ المسلم من التعرف على اتجاهات هؤلاء وعقائدهم،
لأن ذلك يمكنه من التعامل مع النصوص التي أوردوها بما يكون لديه من خلفية عن
اتجاهاتهم وآرائهم ومواقفهم، ثم يقارنها بغيرها عند المؤرخين أو العلماء العدول
الثقات.
وعلى ضوء المقابلة والمقارنة بين النصوص ينظر إلى تعصب الراوي من
عدمه؛ فمن لاحت عليه أمارات التحزب أو التحيز لنحلة أو طائفة أو مذهب لا
يؤخذ منه في هذه الحال، لأن الخصومة والتعصب حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة
أما من لا يلحظ عليه التعصب وإن كان من أهل البدع وكان صدوقاً في نفسه
معروفاً بالورع والتقوى والضبط، فتقبل روايته، فقد أخرج بعض الأئمة لنفر من
أهل البدع الذين لا يكذبون، فهذا الإمام البخاري أخرج في صحيحه لعمران بن
حطان الخارجي رغم أنه من كبار الدعاة إلى بدعة الخوارج، لكنه عرف بالورع
والتقوى وأنه لا يكذب.
وقد يجد الباحث في ثنايا الأخبار التي يرويها أهل البدع عن أهل طائفتهم
ومذهبهم ما يمكن أن يكون حجة عليهم وبمثابة الإقرار منهم كحكايتهم لبعض الأقوال
المتضاربة والمعتلة.
القاعدة الثالثة عشر: معرفة ضوابط الأخذ
من كتب غير المسلمين:
إذا كان للتاريخ الإسلامي قواعد وأصول وضوابط شرعية يجب على المؤرخ
المسلم أن يلتزم بها، ويكون بحثه واجتهاده في نطاقها، فذلك يعني الاحتياط عند
الأخذ من كتب غير المسلمين، خصوصاً وأن الحرية بلا قيود وبلا ضوابط تلقاها
العلمانيون في الغرب أو في الشرق وطبقوها على التاريخ الإسلامي بمفاهيمها
المحلية عندهم.
هذا مع الفرق الشاسع بين المنهج العلماني والمنهج الإسلامي بسبب الاختلاف
في التصورات والمفاهيم والمبادئ إذ المنهج جزء من التصور مما جعل نتائج
أبحاثهم ودراساتهم مناقضة للأحكام الإسلامية وواقع المجتمع الإسلامي؛ لهذا فإن
القضايا التي تطرحها كتب غير المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم، التي تعالج
التاريخ الإسلامي خصوصاً الصدر الإسلامي الأول ينبغي أن تدرس بعناية وحذر
شديدين، لأنهم لا يصدقون في كثير مما يقولونه عن الإسلام ونظمه ورجاله، ولا
يحل وفق ذلك للمسلم أن يروي عنهم أو يأخذ منهم، لاسيما وأن من شروط البحث
في هذه القضايا عرض الأقوال والأعمال على كتاب الله وسنة رسوله.
على أن غير المسلمين ليس لديهم من الموانع عن الكذب ما لدى المسلمين،
وبالتالي فهم لا يعرفون هذه الموانع، لأنهم لا يجدونها في مجتمعاتهم وبيئاتهم
والإنسان وليد بيئته وذلك لغلبة التيار المادي عليها وما ينتج عنه من تنافس
وصراعات دائمة. وحيث انطلقوا من واقعهم هذا للحكم على غيرهم بنفس المنظار، وقعوا في الخطأ وعمموا الأحكام وشوهوا التاريخ.
ثم إذا كان علماء الإسلام لا يثبتون الأحكام بما يرويه المسلم ضعيف الضبط،
فكيف يحق لقوم مؤمنين أن يحملوا عن كافر ساقط العدالة! بل ويضمر من الحقد
والبغضاء لهذا الدين ما لا يعلمه إلا الله.
القاعدة الرابعة عشر: مراعاة ظروف العصر
الذي وقعت فيه الحادثة:
ينبغي أن نعلم أن بعض تلك الحوادث الواقعة في صدر الإسلام لا يبررها
غير ظروفها التي وقعت فيها، فلا نحكم عليها بالعقلية أو الظروف التي نعيش فيها
نحن أو بأي ظروف يعيش فيها غير أصحاب تلك الحوادث، لأن الحكم حينئذ لن
يستند إلى مبررات موضوعية، وبالتالي تكون نظرة الحاكم إلى هذه الوقائع لم
تستكمل وسائل الحكم الصحيح، فيصدر الحكم غير مطابق للواقع.
ومن الملاحظ أن الخلط بين الواقع المأساوي الذي يعيشه المسلمون في هذا
العصر وبين واقع المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، يرجع إلى الخطأ في الفهم
الناتج في الغالب عن الصورة القاتمة والمغرضة التي يتلقاها النشء عن تاريخ
الإسلام وحضارته بواسطة المناهج المنحرفة والفلسفات الوضعية التي تعمم الأحكام
وتشوه بذلك التاريخ.
ولا شك أن مصدر الخطأ في هذه المناهج والفلسفات هو تدخل أصحابها
بالتفسير الخاطئ للحوادث التاريخية وفق مقتضيات وأحوال عصرهم الذي يعيشون
فيه، دون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة وأحوال الناس
وتوجهاتهم في ذلك الوقت، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها.. أو بعبارة أخرى:
إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على
العصور السابقة، مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي تسمى في منهج البحث
العلمي «روح العصر» .
وبناء على ذلك يمكن القول إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا
الطريق هو القياس الفاسد، إذ أنه من الخطأ لإنسان يعيش في هذا العصر عصر
الأثرة والأنانية، وتقديم المصلحة الشخصية على مصلحة الأمة، وعدم الاعتزاز
بالأخلاق والمثل والمبادئ، أن يقيس هذا العصر على عصر صدر الإسلام، عصر
تقدير المسؤولية، ومراقبة الله جل وعلا في السر والعلن وبذل النفس والمال في
سبيل المصلحة العامة للأمة.
فمادمنا في عصر تغلب فيه الصراعات السياسية والاقتصادية والتكتلات
الحزبية النفعية، فقد قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع بظلاله القاتمة وسلبياته على ذلك
العصر الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الناس فيه،
وسبب ذلك أن الكتابة التاريخية المعاصرة اصطبغت إلا النزر اليسير بالمنهج
المادي الغربي الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته، تلك البيئة التي تتمرغ في أوحال
المادية، وتعاني من مرارة الصراع النفعي، ولا تؤمن بما يسمى بالقيم والمبادئ
لكنها تؤمن بما يسمى بالمصالح، ثم فوق ذلك كله هي غارقة إلى أذنيها في النظرة
المتعصبة الحاقدة على الإسلام.
القاعدة الخامسة عشر استعمال المصطلحات الإسلامية:
تعد قضية المصطلحات من أشد العناصر أثراً وأهمية وخطورة في ثقافة
الشعوب لأنه عن طريقها يتم تثبيت المفاهيم والأفكار.
والمصطلح كلمة أو كلمتان، وقد لا تتعدى ذلك إلا في حالات نادرة لكن هذه
الكلمة قادرة على تحويل التفكير من وجهة إلى نقيضها، بل قادرة على أن تفقد
الإنسان التفكير أصلاً.
ولأن المصطلحات بهذا القدر من الأهمية، فإنه منذ أن تقرر في أوكار
الصهيونية والصليبية تدمير الخلافة الإسلامية، وأعداء الأمة الإسلامية يحرصون
على تخريب الفكر الإسلامي، وتشويه العقل المسلم من باب المصطلحات والمفاهيم.
فقد كان من تأثير الغزو الثقافي الأوربي للمسلمين أن شاعت بينهم مصطلحات
ومفاهيم غريبة عن عقيدتهم وثقافتهم حتى كادت أن تختفي المصطلحات
الإسلامية.. على أن هذا المنزلق يتمثل في عدم وعي الباحثين المعاصرين بأن المصطلحات الحديثة إنما تنبثق من رؤية خاصة للفكر الغربي فهي ذات مضامين ودلالات محلية وتاريخية لا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي والظروف التاريخية والثقافية التي لابست نشوء هذا المصطلح أو ذاك، فالمثقفون في العالم الإسلامي كانوا إلى مشارف الخمسينيات لا يدركون أن المصطلح جزء لا يتجزأ من التركيبة أو البنية الحضارية لأي مجتمع وكانوا في حالة الدفاع عن الذات يحاولون أن يوجدوا لكل عنوان براق في المدنية الغربية مثيله في الإسلام عن طريق عقد مقارنات شكلية لا تعير بالاً للارتباط الوثيق الذي يوجد بين المصطلحات والعقائد والأفكار المنبثقة من واقع مجتمع معين.
ولنذكر على سبيل المثال مصطلح اليمين واليسار، فقد نشأ هذا المصطلح
خلال الثورة الفرنسية، وذلك في اجتماع الجمعية التأسيسية المنعقدة بتاريخ الحادي
عشر من شهر أيلول (سبتمبر) عام تسع وثمانين وسبعمائة وألف ميلادية، حيث
جلس الأشراف ومؤيدو النظام الملكي على يمين الرئيس وجلس خصومهم أنصار
الثورة على يساره، حتى أصبحت قاعدة تستخدم لتصنيف الفكر السياسي [3] .
ومما لا شك فيه أن هذه الخلفية التاريخية تركت بصماتها على التعريف إلا
أنه في عصرنا هذا أصبحت كلمتا اليمين واليسار تعبيرين مطاطيين يختلف
مدلولهما حسب الدولة والمراحل التاريخية: فاليسار في دولة ما يعتبر يميناً في دولة
أخرى.
ورغم أن تصنيفات اليمين واليسار لعبة صهيونية [4] ، إلا أن بعض الباحثين
مع الأسف وظفوها بصورة آلية، حتى أن بعضهم ألفوا كتباً يصنفون فيها الصحابة
رضي الله عنهم إلى يمين ويسار، وأن قمة الصراع الطبقي في زعمهم كانت بين
زعيم اليمين معاوية بن أبي سفيان وزعيم اليسار علي بن أبي طالب، والتاريخ
الإسلامي بالنسبة إلى هؤلاء عبارة عن يسار ويمين فالمعتزلة يسار والأشاعرة يمين، والفلسفة العقلانية الطبيعية عند ابن رشد يسار، والفلسفة الإشراقية الفيضية عند
الفارابي وابن سينا يمين والمالكية الذين يقولون بالمصالح المرسلة يسار، والفقه
الافتراضي عند الحنفية يمين، والتفسير بالمعقول يسار، والتفسير بالمأثور
يمين [5] ، إلى غير ذلك من التصنيفات الغريبة.
إنه يجب الحذر من التقليد الأعمى، إذ يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي
الغربي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة وينبغي
استعمال المصطلحات الإسلامية، لأنها ذات دلالة واضحة ومحددة ولأنها معايير
شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث.. فالقرآن الكريم قسم الناس إلى:
«المؤمن» و «الكافر» و «المنافق» ، ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة
ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها.
فما ينبغي أن نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير
إسلامية كوصف الإنسان بأنه يميني أو يساري أو غير ذلك من النعوت غير
الشرعية والتي ليست محددة بصورة دقيقة وثابتة، وكذلك فإن الحكم على الأعمال
والمنجزات التاريخية والحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي
«الخير» و «الشر» و «الحق» و «الباطل» و «العدل»
و «الظلم» ، كما جاءت محددة في القرآن والسنة، ولا تستخدم معايير
الفكر الغربي كالتقدمية والرجعية.. [6] . ...
وقد تابع الباحثون العرب الغربيين في كل شيء حتى في المصطلحات ذات
العلاقة بالتوزيع الجغرافي والتوزيع التاريخي التي لا صلة لها بواقعهم أو تاريخهم،
ففي إطار التوزيع الجغرافي وضع الغربيون مصطلحات الشرق الأدنى والشرق
الأوسط والشرق الأقصى، وهي مصطلحات يستعملها العرب اليوم بلا بصيرة؛
وذلك لأن المستعمر الأوربي اعتبر نفسه في مركز الأرض فأطلق هذا التوزيع
بالنسبة لموقعه.
وكذلك التوزيع التاريخي مثل العصور القديمة والعصور الوسطى والعصور
الحديثة، فهذا التوزيع يتميز بمراحل وتقلبات تاريخية عاشتها أوربا مما يجعل لكل
فترة من هذه الفترات خصائص ومفاهيم مستقلة تبعاً للتطورات والانقلابات الفكرية
والعقائدية التي عاشتها أوربا في كل حقبة من هذه الحقب: فالعصور القديمة تميزت
بالوثنيات الإغريقية والرومانية، ثم جاءت العصور الوسطى فعرفت هيمنة الكنيسة
وتسلط البابوية، بينما كان من سمات العصور الحديثة ظهور النظم العلمانية والدول
الحديثة.. أما التاريخ الإسلامي بما فيه تاريخ الأنبياء فهو وحدة واحدة بالنظر إلى
المفاهيم والمبادئ السائدة فيه التي لا تتبدل تبعاً لتبدل الزمان والدول والحكام؛ لأنه
تاريخ أمة ذات عقيدة واحدة ثابتة لا يطرأ عليها التغيير، ولذلك ليس بلازم أخذ هذا
التوزيع الأوربي ولا متابعتهم عليه؛ لأنه يفتت تاريخنا ويوجد الحواجز بين
عصوره.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أدعو الباحثين والمؤرخين المسلمين إلى تقديم
دراسات مفصلة تكشف عن حقائق التاريخ الإسلامي، وصياغة منهج نقدي تعامل
وفقه الروايات التاريخية، والمساهمة في تصحيح الأفكار والمفاهيم والعودة بالنشء
إلى المنابع الصافية في الكتاب والسنة؛ لأن تاريخ هذه الأمة بمثابة عرضها
وشرفها، إذ هو القناة التي أوصلت لنا هذا الدين جملة وتفصيلاً وبقدر ما تتلوث
القناة يتلوث المنقول خلالها.
ومن الواضح أن إبراز المنهج الإسلامي في كتابة التاريخ، وتدوين قواعده،
وبيان ركائزه ومنطلقاته، والالتزام به من أهم وسائل التصحيح المنشود في هذا
السبيل، وأن هذا الالتزام يعد ضرورة علمية، ووظيفة شرعية وحاجة إنسانية
والإخلال بها إخلال بموازين العلم الصحيحة وبالأحكام الشرعية، كما يسبب ذلك
نقصاً كبيراً في الدراسة وتشويهاً للوقائع التاريخية بل يسبب انحرافاً خطيراً في
التفسير والفهم والسلوك تجاه الأحداث.
ومن ثم أصبح فرضاً على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام أن
يعتبر ذلك من أفضل العبادات، وأن يبادر له ويجتهد فيه ما استطاع إلى أن يكون
أمام شباب المسلمين مثال صالح من سلفهم يقتدون به ويحددون عهده ويصلحون
سيرتهم بصلاح وكمال سيرته.
ولأجل ذلك، لابد من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام
إسلامية تؤمن بالله ورسوله، وتحب صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، مع
إحساس بدور الإسلام في الحياة، كما تحس بدور القدوة الصالحة للخلافة الراشدة
في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، لاسيما وأن تاريخ الخلفاء الراشدين اختص
بصفات تميز بها الخلفاء في سلوكهم الذاتي، وفي إدارتهم لشؤون الأمة ورعايتهم
لدينها وعقيدتها، وحفاظهم على المنهج الذي جاء به رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-من الدعوة والجهاد وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك
صار عصرهم مع عصر النبوة معلماً بارزاً ونموذجاً مكتملاً ينبغي أن نسعى إلى
محاولة الوصول إليه، وجعله معلماً من معالم التأسي والقدوة الصالحة للأجيال
الإسلامية في هذا العصر.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب المغازي، ج5، ص 10.
(2) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب المغازي، ج5، ص 10.
(3) عبد الرحمن الزيد، مصطلحات سياسية، ص 139، مجلة السنة، العدد السادس، أكتوبر 1990م.
(4) انظر عماد الدين خليل: لعبة اليمين واليسار.
(5) انظر مثلاً: ماذا يعني اليسار الإسلامي، لحسن حنفي.
(6) أكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص 23.(75/45)
نصوص شعرية
الفجر الدامي
جريمة ومجزرة في المسجد الإبراهيمي
د. عدنان علي رضا النحوي
دَوّى الأذانُ! فَيَا مَنَابرُ أوّبي ... شوقاً إلى خُضُرّ الجنَان وردّدي
وكَأنّ شَقْشَقَةَ الطُيُور نَدَاوَةٌ ... رَفّت وَتَسْبيحُ الرّبى والأوهُد
وكأنّ وَسْوَسَة الزّهور تظلّ تَسأ ... لُ ما يُخَبّأ يا مَرابعُ في غَد
وتَنَفّسَ الوَرْدُ الغَنيّ كأنّهُ ... عَبَقٌ يجودُ بعطره المتورّد
يُلقي على الساحات من دَمه دَماً ... ليَقُول: يا دُنيا أطلّي واشهَدي
* * * *
وَتَنَفّسَ الصّبحُ النّديّ وحَوّمَتْ ... بَينَ الدّيار مُنى وطلعةُ شُهّد
يَسْعَون للبَيّت المنوّر بالهُدى ... مُستَبشرين بجَولة أو مَوعد
نعمَ البُكورُ، وتلكَ عَزْمَةُ مُؤمن ... والجُمعَةُ الزّهراءُ لَهْفَةُ أرشَد
والنورُ من رمضَانَ مُنْبَلحٌ على ... سَاحاتهَا فَيْضاً غَنيّ المورد
يَا للفَضَائل! كُلّها قد جُمّعَتْ ... للصّائمينَ القائمينَ السّهّد
* * * *
رُفعُ الأذَان فأقبَلُوا وصُفُوفُهم ... مَرصُوصَةٌ وَقُلُوبُهم شَوقُ الغَد
الله أكبَرُ! فانحَنَوا لركُوعهم ... والله يَسمعُ خَفقَةَ المُتَوَجّد
رَفَعوا وأهوَوا للسّجود فَلا تَرَى ... إلا خُشُوعَ العابدينَ السّجّد
دوى الّرصاص! وخَلّفَ كُلّ رصاصة ... عات تمرّسَ في الضّلال الأنكَد
دوّى الرصاصُ! فكم شَهيد فجرت ... أضلاعُه ومُجَنْدَل لم يُرفَد
تتطايَرُ الأشلاءُ! كُلّ ضَحيّة تَشكُو لبَارئهَا هَوانَ الهُجّد
وتَلاقَت الأشلاءُ عَبْرَ فَضَائها ... منَ كُلّ ناحية تُباحُ لمُعتَدي
من أرض «كشمير» نداءُ دمَائها ... من أرض بوسْنةَ صَرخَةٌ لم تُنْجَد
من كُلّ مجزَرَة بَقايا أمّة ... تُلْقَى وتُنْثَر في الفَضَاء الأربد
أضْحَت دمَاء المسلمينَ مُباحَةً ... للمُجرميينَ! لكُلّ عَات مُفْسد
وديارُنا أضْحَتْ مُفَتّحَةً لَهُم ... وقُلُوبُنَا فَتحت لفتنَة مُلحد
* * * *
يا لليَهود! وخَلفَ كُلّ مُصيبة ... فتَنٌ لَهُمْ وَيَدٌ! فَيَا شَرّ اليَد!
جَمَعُوا منَ الأحلاف بَيْنَ حبَالهم ... دُوَلاً فماجُوا بالبَلاء المُرعِد
لا! لا يُريدون السلامَ ولا يُريدُ ... الأمريكَانُ وَلا طبائع مُعتدي
جَعَلُوا السلام خَديعةً نَصَبُوا بها ... شَركاً يُمَدّ لحائر مُترَدّد
أينَ النظَامُ العالميّ وأينَ يا ... دُنيا حُقوقُ مُقَتّل ومُطَرّد؟ !
أينَ العَدَالةُ والوُعُودُ وكَيفَ يُر ... جى العَدل من ذئب يَجُولُ وأسود [1] ؟ !
يا أمّتي إن لَم تُفيقي فاشهَدي ... أموَاجَ لَيْل زَاحف مُتَمَدّد
لُمي صُفُوفك، أمة الإسلام، كَال ... بنيَان مَشْدوداً بعَهد آكد
خُوضي مَيادين الجهاد وَرَجّعي ... شَوْقَ الشّهادة دوُنَ ذلك وانهَدي
يا أمة الإسلام تلك أمانَةٌ ... وشَهَادَةٌ لله! قُومي فاشْهَدي
لا! لن يُقيمَ العَدْلَ إلا مُؤمنٌ ... صَدَقَ الإله وقالَ: يَا نَفسي ردي
* * * *
دارَ الخليل تحية من مُهجة ... عَرَفتْ جَلالَ جهادك المُتَوَقّد
قد كُنت بالأمس القريب غَنيّة ... بالبَذْل زاهيَةً بجُودك واليَد
طَهّرت أرضَك من تَدفّق رجسهم ... ورَويتها بالطّهر من دَمك النّدي [2]
واليومَ أعلَيت الوفاءَ فهذه ... زُمَرٌ تَواثَبُ للشّهادة فاسعدي
وغَداً تَرَيْنَ مَوَاكباً مَوصُولةً ... لله زاحفةَ وطلْعة رُوّد
والنصرُ كالفجر المنّور مُقبلٌ ... بُشرى إليك وآيةٌ للمُهْتَدي
ميلي إلى الأقصى! حَنيُك لم يَزَلْ ... صَفْوَاً وَعَهْدَاً لم يَزَل أمَل الغَد
ميلي هُناكَ وجَدّدي عَهداً أبرّ ... لجوْلة تُوفي بصدْق الموعد
* * * *
__________
(1) الأسود: الحية العظيمة.
(2) إشارة إلى ثورة سنة 1929م حين طَهّر أهل الخليل مدينة الخليل من اليهود وأعدم الإنجليز على إثر ذلك عطا الزير ومحمد جمجوم من الخليل وفؤاد حجازي من مدينة صَفَد، وقد نفذ الإعدام يوم الثلاثاء 17/6/1930م ابتداءً من الساعة الثامنة صباحاً، وكانوا يقدمون في كل ساعة واحداً منهم للإعدام، رحمهم الله.(75/57)
المسلمون والعالم
البوسنة على مفترق طرق
د. أحمد بن راشد بن سعيّد
منذ بدء المأساة البوسنية اجتهد الغرب في أن يفك الحلف بين المسلمين
والكروات، الحلف الذي اعتبره الغرب غير طبيعي، لأنه موجه ضد الصرب
الذين يلتقون مع الكروات في عبادة المسيح! ، وكانت الخطة الإنجليزية الخبيثة «
بتطميع» الكروات في أراضي المسلمين عبر خطة (فانس، أوين) هي إحدى
الوسائل التي انتهجها الغرب لفك هذا الحلف، وقد انقض الكروات بعد هذه الخطة
يحاصرون موستار وترافنيك وغيرهما من المدن الآهلة بالمسلمين؛ لأن الخطة
المجحفة أعطتها الكروات.. وبعد برهة أعلن الغرب أن الخطة فشلت وأن
(الملاذات الآمنة) هي الحل الوحيد الذي بقي للمسلمين في البوسنة!
ثم كرت الشهور، وقاتل المسلمون ببسالة الخونة الكروات والمعتدين الصرب، ... بل قاموا بعمليات هجومية ناجحة ضدهم، ودحروا الكروات بخاصة في عدة
مواقع، وأنزلوا بهم هزائم فادحة، وتدخل جيش كرواتيا النظامي في محاولة يائسة
لوقف التقدم الإسلامي، فلم يفلح.
وكان الموقف الغربي إزاء هذه الأحداث المصيرية في حياة المسلمين موقف
المراقب المتوتر الأعصاب، فتارة يشجب الاعتداء الصربي، وتارة يستنكر تدخل
كرواتيا، ويلوح بالعقوبات ضدها، وبين هذين الموقفين يدعو إلى عقد مفاوضات
سلام فارغة لتقنين الظلم وتكريس العدوان.
بيد أن المسلمين خيبوا آمال المعتدين وحلفاءهم الغربيين، وسيسجل التاريخ
أن أهل البوسنة المسلمين صمدوا صمود الأبطال في معركتهم الشريفة ضد القوى
الظالمة ومن وراءها الحضارة الغربية المتخلفة، وأنهم قاتلوا بعدة زهيدة صنعوها
بأيديهم جيوشاً مدججة بالسلاح، وأنهم نجحوا سياسياً وعسكرياً في إفشال مؤامرة
الإجهاز على الإسلام في قلب أوروبا.
أقول: ظل الغرب يرقب الأحداث وقد أذهله صمود المسلمين وتقدمهم إلى أن
حدثت مذبحة السوق في سراييفو يوم الخامس من شباط (فبراير) الماضي فعمقت
الشعور بالحرج لدى العالم الغربي، وأكدت الحاجة إلى عمل ما لوقف المأساة التي
لم يستطع الصرب والكروات حسمها، وقد لخص هذا الشعور الذي كان سائداً لفترة
طويلة قبل مذبحة السوق قول «مارتن وولاكوت» في صحيفة «الجارديان» أن
«رفض الضحايا المسلمين لقبول الهزيمة والموت قد حطم أسوأ الخطط
الغربية» [1] .
إستراتيجية جديدة:
بُعيد المذبحة سلكت السياسة الغربية محورين جديدين هما: محاولة احتواء
المقاومة البوسنية المتصاعدة، والسعي لإقامة فيدرالية بين المسلمين والكروات،
وقد ساهم في إحداث هذا التغير عوامل مهمة ظهرت على الأرض أبرزها تنامي
القوة العسكرية البوسنية، وقد نشر «بول بيفر» مؤلف كتاب (تقويم الأمن
الإقليمي للبلقان) مقالاً في صحيفة «الوول ستريت جورنال» الأمريكية بعنوان (ما
وراء القوة الجديدة للجيش البوسني) ذكر فيه أن هذا الجيش يتلقى الآن إمدادات
عسكرية وأسلحة حديثة، وأن جنوداً مدربين من خارج المنطقة قد انضموا إليه،
وأضاف «بيفر» أن الجيش يتكون من (80. 000) مقاتل، وينقسم إلى ستة
فيالق (كل فيلق 10. 000) ، ولواءين (كل لواء 20. 000) ، جنود اللواءين هم
الذين يقاتلون بضراوة ويحققون انتصارات حاسمة، أحد اللواءين كما يقول «
بيفر» يتألف من (إسلاميين أصوليين متطوعين) ، والآخر يتألف من لاجئي
منطقة «كرايينا» التي احتلها الصرب في كرواتيا [2] .
ويحصل الجيش على أسلحته من مصانع السلاح التي أعاد تشغيلها في وسط
البوسنة، وقد بدأ بإنتاج مدافع من عيار (105ملم) في مدينة «زينكا» [3] ، كما
يحصل على السلاح من غنائم المعارك سيما مع الكروات وتصل إليه أسلحة من
تركيا [4] ، ويذكر «مارتن دولاكوت» كاتب صحيفة «الجارديان» أن البلاد
الإسلامية تزود البوسنة بالسلاح بشكل غير مباشر حيث تقوم بتحمل أعباء مالية
معينة للحكومة البوسنية، فتقوم هذه الحكومة بتوجيه كل مواردها للمقاومة [5] .
ومن العوامل المهمة التي أحدثت تغييراً في السياسة الغربية تجاه البوسنة فشل
الكروات في تحقيق نصر على المسلمين، بل إن النصر كان بفضل الله حليف
المسلمين في معظم المعارك التي نشبت بينهم وبين الكروات، كما إن الصرب
فشلوا في اقتحام «سراييفو وتوزلا وجوراجدة وبيهاتش وماجلاي ... » ويقول
«مارتن وولاكوت» أن الذي تغير في البوسنة هو أن المسلمين رفضوا أن يؤدوا دور (الضحية) الذي خصصه الغرب لهم، واختاروا المقاومة ولذا فإن «الاستراتيجية الغربية أفلست وانهارت» [6] (تأمل!) .
ويبقى العامل الأخير والأهم لتغير الاستراتيجية الغربية في البوسنة هو
الخوف القديم الجديد من ظهور دولة إسلامية خالصة وقوية في أوروبا تقض
مضاجع الكفر وأهله، ولذلك اعتمد الغرب كما أسلفت محاولة احتواء المقاومة
الإسلامية والسعي لإنشاء اتحاد فيدرالي في البوسنة بين المسلمين والكروات يرتبط
لاحقاً باتحاد كونفدرالي مع كرواتيا.
احتواء المقاومة:
وكانت الخطوة الأولى التي قام بها الغرب في استراتيجيته الجديدة هي توجيه
إنذار بُعيد مذبحة السوق بشأن شن غارات جوية على مواقع الأسلحة الثقيلة في «
سراييفو» ، ولم يكن الهدف من هذا الإنذار ردع العدوان الصربي والكرواتي، فقد
تحدث فقط عن سراييفو، وأغفل معاناة المسلمين في الأماكن الأخرى مثل «توزلا
وماجلاي وبيهاتش» ، ولم يطلب الإنذار إنهاء حصار «سراييفو» ، ونص فقط
على سحب المدفعية الصربية مسافة (20كم) ، مع أن الصرب يملكون مدافع يتجاوز
مداها هذا الرقم، كما أنهم يملكون أسلحة أخرى فتاكة كالرشاشات والمدافع الخفيفة
وبنادق القنص، وطالب الإنذار الجميع بتسليم أسلحتهم الثقيلة مما يؤكد استمرار
الغرب في معاقبة الضحية ومكافأة وإرضاء المعتدي.
وقد اتضحت ملامح مؤامرة جديدة بانتشار بضع مئات من الجنود (الروس)
على جبال سراييفو [7] بالرغم من اعتراض الحكومة البوسنية الشرعية على
قدومهم بدعوى أن روسيا غير محايدة في الصراع، إلا أن بطرس غالي أكد موافقته
على ذلك، ولم يعر اهتماماً لاحتجاج الحكومة، كما اقترحت فرنسا وضع «
سراييفو» تحت إدارة الأمم المتحدة غير عابئة بسيادة حكومة البوسنة وقد سارع
(البطرس) إلى إبداء موافقته على الاقتراح حتى قبل مناقشته من قبل الاتحاد
الأوروبي ومجلس الأمن [8] ، ويتساءل «أنتوني لويس» كاتب «النيويورك
تايمز» قائلاً: «هل وقف البوسنيون أمام اعتداءات الإبادة خلال العامين
الماضيين ليحكمهم في النهاية» بطرس بطرس غالي «وبيروقراطيته
الحمقاء؟ !» [9] .
ولقد صُممّ الإنذار ليخدم مصالح الصرب، فالمسلمون لابد أن يسلموا أسلحتهم
الثقيلة حيث لا يوجد مكان ينسحبون إليه، والصرب سلموا مئة مدفع قديمة من بقايا
الحرب العالمية الثانية وسحبوا (400) استعلموا بعضاً منها مؤخراً في قصف «
بيهاتش وماغلاي» ، وقد صرح مسئول بوسني بأن القضية كلها «خدعة» قائلاً:
«الأمم المتحدة موجودة هنا لتساعد الصرب، فبينما يتركز الاهتمام على سراييفو
يحاول الصرب أخذ بيهاتش، إنهم يحاولون وصل كينين ببانيالوكا» [10]
إن فكرة وضع سراييفو تحت إدارة «بطرس غالي» ليست أصلاً فكرة
فرنسا بل هي فكرة الصرب، وقد صرح «يوفان زاميتيشا» أحد مستشاري
المجرم «رادوفان كاراجيتش» أن «سحب الصرب أسلحتهم أو وضعها تحت
إشراف الأمم المتحدة لم يكن نتيجة للإنذار، إن وضع سراييفو تحت الإدارة الدولية
كان مبادرة صربية طرحت قبل مذبحة السوق بوقت طويل، اهدموا سراييفو
واجعلوها نموذجاً صالحاً لبقية البلاد، هذه كانت فكرتنا» [11] .
في الحقيقة إن إبعاد المدافع الصربية (20كم) وانتشار الروس على الجبال
يعني استمرار حصار سراييفو، ولكن على بعد (20كم) بدل (5 كم) كما كان الحال
سابقاً، إنه يعني تجميد الحصار وتقنينه رسمياً من قبل الأمم المتحدة، كما يمثل
مدخلاً لتقسيم المدينة.
وإذا تم نقل هذا النموذج إلى المدن المسلمة الأخرى المحاصرة كما دعا إلى
ذلك بعض السياسيين والصحفيين الغربيين، فإنها دعوة لاحتواء المقاومة البوسنية،
وتكريس المكاسب الصربية، وتقسيم البلاد أو دعوة لخنق الشعب المسلم في
البوسنة «بخيط أزرق رفيع» وجعله فقط «سعيداً بقوافل الطحين» [12] .
الاتحاد الفيدرالي:
لقد أدرك الغرب أخيراً أنه لا مفر من قيام كيان إسلامي في البوسنة، كما
أدرك أن المسلمين لن يتخلوا عن خيار القتال حتى تتوفر لكيانهم المنتظر أسباب
البقاء والحياة، ويرى بعض المحللين مثل «سعيد عكاشة» أن أوروبا ليست على
استعداد لتحويل مسلمي البوسنة إلى مهاجرين في شتات أوروبي يتوقع توحيده في
غضون سنوات، كما يذكر أن بعض مفكري أوروبا يرون أن تشتت مسلمي
البوسنة «سيصبح دعماً لروح التمرد على الحضارة الغربية التي يقودها مهاجرو
العالم الثالث في الغرب في الآونة الأخيرة» ، ولذلك يخلص «عكاشة» إلى
القول: إن الخوف الأوروبي من القضاء على الكيان الإسلامي له ما
يسوغه [13] .
غير أن واقع الأمر يشير إلى أن الغرب لم يفكر بهذا الذكاء منذ البداية بل
دفعه الحقد الصليبي إلى محاولة إبادة الشعب البوسني وتذويبه، وهو الآن يبدو
مرغماً على الاعتراف بوجود سياسي حقيقي للمسلمين في البوسنة، بعد أن فشلت
محاولة الإبادة وصمد الشعب البوسني في ميادين القتال، وعاد بعض أبنائه إلى
(الأصولية) كما يقولون، ولم يبق أمام الغرب بعد فشل التحالف الكرواتي الصربي
ضد المسلمين إلا السعي لإقامة اتحاد فيدرالي بين الكروات والمسلمين يتحد بعد ذلك
كونفدرالياً مع كرواتيا، ويهدف الغرب من ذلك إلى عدم قيام كيان إسلامي خالص،
بل مقيد داخلياً بالفيدرالية وخارجياً بالكونفدرالية، وقد أشار «فرانيو توجمان»
رئيس كرواتيا إلى أن أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا «بذلوا جهوداً مهمة في
سبيل التوصل» إلى هذا الاتفاق وصرح أن السبب في ذلك هو أن «هذه الدول
تريد أن يتوجه المسلمون نحو النمو والتطور حسب الحضارة الأوروبية بعيداً عن
الأفكار الإسلامية الأصولية» [14] ، وهذا الكلام يدل على عدم وجود خلافات
جوهرية بين الدول الغربية فيما يتعلق بمسألة البوسنة، فالكل متفقون على مكافأة
العدوان الصربي وعلى عدم قيام دولة إسلامية.
وقد ضغطت الولايات المتحدة على الحكومة البوسنية لتقبل بهذا الاتفاق
ووعدتها بما وعدت به كرواتيا من مساعدات اقتصادية وامتيازات دبلوماسية
وانضمام إلى برنامج الشراكة من أجل السلام، كما حذرتها من أنها إذا رفضت
توقيع الاتفاق فإن أمريكا «لن تتدخل لإيقاف تدمير ما تبقى من البوسنة» . من
جهة أخرى اقتنع الكروات بأن سياسة (كرواتيا الكبرى) جلبت فشلاً ذريعاً وهزيمة
ساحقة وكارثة (علاقات عامة) في الخارج، كما جاء التلويح بالعقوبات والوعد
بالمساعدات ليحمل كرواتيا على القبول بالاتفاق، وربما يرى الكروات أن الاتفاق
فيه مصلحة مرحلية لهم فيؤجلون مشروع (كرواتيا الكبرى) إلى حين وتتساءل مجلة
«الإيكونومست» : هل يدعهم الأمريكان يفعلون ذلك ويتخلون عن
وعودهم؟ [15] ...
تجدر الإشارة إلى أنه حتى كتابة هذه السطور [*] لم يتفق الطرفان المسلم
والكرواتي على بعض النقاط الأساسية كالدستور وتقسيم الأراضي وموعد تطبيق
الكونفدرالية، على أية حال يبقى المشروع غير عادل في حق المسلمين الذين كانوا
يشكلون (44%) من مجموع سكان البوسنة والهرسك قبل الحرب وربما كان قبول
الحكومة البوسنية به كخيار تكتيكي يحقن دماء المسلمين ويهيئ قاعدة لحلول
مستقبلية أفضل، ولنا أمل في وعي مسلمي البوسنة الذي أفشل كثيراً من المؤامرات
السابقة، وقبل ذلك نحن موقنون بوعد الله بالنصر لدينه والتمكين لعباده: [إنهم
يكيدون كيداْ، وأكيد كيداْ، فمهل الكافرين أملهم رويدا]
[الطارق: 15-17] .
__________
(1) (الغارديان) ، 21يناير 1994.
(2) (الوول ستريت جورنال) ، 27يناير 1994، تتمثل القدرة التعبوية لجمهورية البوسنة في مئتي ألف عنصر مدرب، إلا أن القوة الضاربة المسلحة لا تتجاوز ثمانين ألفاً.
(3) (القبس) ، 27يناير 1994.
(4) (الوول ستريت جورنال) ، 27يناير 1994، صرح نائب القائد العام لأركان جيش البوسنة بوفان ديفياك لصحيفة الحياة أن مصانع إنتاج السلاح في وسط البوسنة تمد الجيش بثلاثين في المائة من احتياجاته، وتمثل الغنائم الحربية مصدراً ثانياً للتسليح، بينما لمح إلى وجود قنوات سرية لوصول السلاح (الحياة، 27جمادى الآخرة 1414هـ) .
(5) (الغارديان) ، 21يناير 1994.
(6) المصدر السابق.
(7) ذكرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية أن أكثر الجنود الروس الذين انتشروا على جبال سراييفو قد قاتلوا المجاهدين في أفغانستان، كما ذكرت أن صحيفة البرافدا الروسية الرسمية نشرت صورة محارب مسلم كتب تحتها البوسنة: دم يسفك، الجنود الروس سيقفون ضد المسلمين المتعصبين المتوحشين الأوبزرفر، 20فبراير 1994) .
(8) من المواقف الأخيرة الشاهدة على كون بطرس غالي أحد مجرمي الحرب في البوسنة اتهامه مؤخراً المسلمين باستغلال المناطق الآمنة كستار لشن هجمات على المواقع الصربية، وذكر غالي في تقرير قدمه لمجلس الأمن أن جيش المسلمين استخدم مدن زيبا وسربيرنتشا وجوراجدة كمواقع لتوفير الراحة وإعادة التدريب والتسليح، وأوصى بعدم إعلان أي مناطق آمنة أخرى حتى تتم تصفية هذه المشاكل في المناطق الآمنة الحالية (الأنباء، 16مارس 1994) .
(9) (انترناشونال هيرالد تريبيون) ، 12، 13فبراير 1994.
(10) الأوبزرفر، 20فبراير 1994.
(11) نيوزويك، 21مارس 1994.
(12) الأوبزرفر، 20فبراير 1994.
(13) الوفد، 19شعبان 1414هـ.
(14) الحياة، 17رمضان 1414هـ.
(15) الإيكونمست، 5مارس 1994.
(*) تم التوقيع الأولي بين الطرفين، لكن النقاط الأساسية كالدستور وتقسيم الأراضي لم تحسم بعد -
- البيان -.(75/61)
المسلمون والعالم
مجزرة الدم الأرخص ...
وزعامات الورق!
د. عبد الله عمر سلطان
في غمرة الفرح الطاغي وثنايا الانتصار الذي أعمى وأصم، خرجت يرقات
«السلام» الذليل تعلن للدنيا وتملأ الكون هتافاً أن أهلاً (بالعصر الإسرائيلي)
وأدواته، وأن عاش الذئب الصهيوني مادام أزلام القضية قد نجحوا في توقيع اتفاق
البيت الأبيض الذي ستتم بموجبه عملية جز الرقاب برعاية (الجزار الأمريكي)
«راعي السلام» ... نعم إنه السلام الذي لا حرب بعده أبداً والتعايش الذي لا يعكر صفوه «المتطرفون والأصوليون والمتعطشون للدماء» وما هي إلا بُرهة خاطفة من عمر الزمن حتى اكتسب «سلام الصَغَار» صفة القدسية وارتفع بهامته إلى مكانة المُشّرع الحكيم، فإذا فكر فلسطيني مشرد منذ نصف قرن عن موطئ قدم له في ظل (كانتون غزة أريحا) صرخ في وجهه غراب الصفقة «عدوي عدو السلام» ! وإذا ما تساءل مقدسي محروق القلب محطم الخاطر عن مصير القدس، تصدى له المتحدث الرسمي باسم معسكر السلام «إن هذا التساؤل حق يراد به باطل، يراد به تعكير جو السلام!» وإذا ما تحدثت المصادر الإسرائيلية المسيطرة على تنفيذ الاتفاق وتفسيره على هواها الضال عن تعاون مخابراتي وأمني لملاحقة كل من يعكر صفو أمن الصهاينة ونُقل هذا الاتفاق إلى العرب المنكسرين، لم يجد إنكشارية السلام الجدد من حرج في أن يبرروا هذا الاتفاق بأنه «لمصلحة العملية السلمية الجديدة» ! .
كل الخيانات وفقدان الذمة والحياء وإراقة ماء الوجه وكسر الظهور وهي
راكعة لعجل بني إسرائيل الجديد، كانت تتم في ضوء النهار بعد أن كانت حبيسة
الغرف المغلقة والاتصالات السرية، لم يعد هناك شك أو تساؤل في أن «سلام
الصهاينة» أصبح القاسم المشترك لكل من يريد أن يُطأطئ رأسه ليسير في جادة
(النظام العالمي الجديد) المشؤومة، ولم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت
«السلام» أو قضية تحدد الولاء والبراء سوى مذهب السلام العاتي، إذا كنت من المشيدين بالسلام على الطريقة (الرابينية) فأنت واقعي معتدل بعيد النظر، وإن كنت ممن يبدي حوله أي تحفظ فأنت راديكالي رجعي بشع ... إن كنت قد شاركت في «الدبكة العرفاتية» ورقصت فيها طوعاً أو كُرهاً فأنت إذاً (شرق أوسطي) متفتح وعقلاني غير مؤدلج، وإن كنت اكتفيت بمشاهدة هذا (الصَرَع السياسي) فلا بد أنك (أيدلوجي شعاري إسلاموي محنط) ! !
المرحلة لا تحتمل القسمة على اثنين، المرحلة لا تعرف إلا رقماً واحداً
وعنواناً يتيماً «السلام» وأنصاره و «التعايش» مع اليهود ومؤيديه، حتى لو
حُشر في هذا الطابور المنافقون والمرتعدون والمنهزمون والشواذ والمتاجرون
والراقصون على كل جرح من جراح شعوبهم، فأمريكا أيها السادة لها وكيل اسمة
«إسرائيل» ، وإسرائيل يا رعاكم الله قد أصبح لها وكلاء محليون، فالسند متصل
لا انقطاع فيه، من ساند سدنة السلام العرب كان له حبل مودة مع سادة صهيون،
ومن ناصر هؤلاء فله قدم سبق مع السادة الكبار هناك خلف بحر الظلمات الأطلنطي، ومن هنا تتضح معالم المرحلة، مرحلة السلام الصهيوني الصليبي الذي أصبح
عجلاً يعبد، ووثناً تحرق بخور الباطل من حوله.
لكن عروقاً تنبض بالحق، وتأبى أن تُغَلف بالدولار الأخضر، وقفت تحذر
من هذا السلام الهزيل، وتلك الهجمة الباغية، وقف صوت يقول في يوم توقيع
الصك المخزي ليرسم لوحة مبصرة في وجه ضجيج وبريق وموسيقى صهيون
ومعسكرها الناطق باللغات الثلاث: العبرية والعربية والإنكليزية وقف وهو لا يملك
سوى قلماً خط قصيدة تقول
سينبت هذا السلام الدمار
ويوقد في كل ناحية ألف نار
حذار.. حذار
فإن يهود تعاهد في الصبح عهداً
لتنبذه في المساء
وتبرم ميثاقها في المساء
لتنقضه في الصباح
وما عرفت مرة بوفاء
وما عرفت ذات يوم بحسن الجوار
حذار من الإنهيار
بزيف انتشار، ووهم انتصار [1]
لكن القائد الهرم والمنتفش بالوهم والزيف أصر، وأقسم بأن يمضي إلى نهاية
الطريق الموحش، فأنبت لنا غابة من (هتافة التهريج) ، ومروجي التطبيع الذين
خلت لهم الساحة فأطلقوا العنان لألسنتهم الجبانة، وأقلامهم المأجورة وضمائرهم
التي طالما تقلبت في ولاءاتها في سوق النخاسة، خلا لهم الجو حيناً ثم فاجأهم هول
أتى من جهة الأرض المقدسة، فأخرسهم دوي الرصاص في فجر الخامس عشر من
رمضان ليصرخ دم المصلين في محراب (المسجد الإبراهيمي) ، فإذا المأجورون
عراة إلا من الخسة، وجوعى إلا من فتات الموائد، خائفين من شعوبهم التي
مارسوا في حقها الشعوذة السياسية والعقدية.
لقد كان معسكر «سلام الصَغَار» صَغَاراً حقاً، أمام حقائق رمضان ومشاهد
السجود والركع الغارقين في دمائهم، وشموخ المساجد التي انتهكها حلفاؤهم
الصهاينة بحماية الرصاص الأمريكي.
ماذا بقي لهم أن يدافعوا عنه، هذه حليفتهم أمريكا تبدوالشريك الكامل في «
الإرهاب البشع» الذي وصل ذروته في مجزرة الخليل، فالقاتل أمريكي وسلاحه
أمريكي، وتمويله أمريكي، أما الصهاينة بقيادة رابين فقد شاركوا في المذبحة
مباشرة من خلال جيشهم الذي حصد من أرواح المسلمين هناك عشرات بل مئات
القتلى الأبرياء والصامدين، وتحصن المعتدون بصياحهم أحياناً أخرى كثيرة
يمارسون الاغتيال حتى في حق الأطفال الذين سرقوا من عيونهم الفرحة وبراءة
الطفولة، لقد شاءت إرادة الله أن تُظهر المجرمين وأيديهم ملطخة بدم المصلين
الركع السجود، وقد حمل كل ضالع في هذا المشهد المقزز جرمه أمام العالم، ثم
أمام هذه الأمة المصابرة المذبوحة كل نهار، ولم يكن رصاص (باروخ جولدشتاين)
سوى المشهد الأخير من مسرحية السلام الصهيوني ورايته السوداء الموغلة في
الخسة، وما أحرانا أن نقف أمام بعض دلالات الجريمة وتداعياتها بعد أن عرفنا
تفاصيلها السردية، وبعد أن استشعرنا حجم «الاستغفال والاستنذال» الذي مُورس
على الجماهير العربية والمسلمة والذي أطلق عليه «عملية التطبيع» ، هذه
الجريمة التي قادتها مجموعات وقوى معينة تسعى إلى تمكين الاختراق الصهيوني
من عمقنا الجغرافي والشعبي، وبدا واضحاً أن هذه القوى التي تطبعت تريد أن
ترى سواد الأمة قد تطبع وهم يمنون أنفسهم بالواقع الذي تصدق عليه المثل «بال
حمار فاستبالت أحمره» .
الدم الأرخص:
كأن النظام العالمي الجديد قد حدد تسعيرة الدم الإنساني ونجح في ذلك أيما
نجاح، الدم المسلم بلا ريب هو الأرخص والروح المسلمة هي المستهدفة في
مسلسل العدوان المحتدم منذ انهيار الحرب الباردة، ولابد للعالم المتحضر
ولحضارته الغربية أن يذرف دموع التماسيح ويتظاهر بالاهتمام حينما تقع المجازر
المروعة لتأكيد تحضره وأصوله المهذبة، فمذابح سراييفو وكشمير وفلسطين
وبورما والصومال وطاجيكستان تلقى اهتماماً صوتيا/إعلامياً قصير المدى ثم يوأد
بانتظار المجزرة المقبلة، إن هذا الاستهتار بهذا الدم المسلم يبرز من خلال ممارسة
الأمم الصليبية المتحدة التي يرأسها البطرس العربي اللسان النصراني الجنان،
ويكفي أن نستعرض آلية عمل هذه الهيئة تجاه مجزرة الخليل التي استمرت
مناقشات مجلس الأمن الظالم حولها أسابيع دون إصدار حتى قرار يدين مجزرة هي
الأبشع في التاريخ الإنساني المعاصر، ثم تَحّجُم هذه المؤسسة «الإنسانية جداً»
عن إدانة الهند عن ممارساتها في كشمير بالرغم من أن الهند دولة محتلة لهذا الإقليم
بموجب قراراتها الشكلية التي لا تعرف التطبيق الفوري والحرفي إلا على أجسادنا
وفوق أراضينا المستباحة.
أزهد الأرواح عندها أرواحنا، وأبخس الدماء دماؤنا، وأثمن الرصاص هو
المزروع في أجسادنا نبالماً وقنابل إنشطارية وأخرى «ذكية» ، أما إذا كان
المستهدف على أرضنا عصابة مسلحة ومليشيا تمنع الطعام حتى عن مناصريها،
فإن هذه الأمم المتحدة ضدنا تشمر عن ساعد الجد والنشاط فتصدر القرارات في
ظرف ساعات لأن الضحية نصراني مزروع في خاصرتنا كما هو الحال مع
الصليبي (جون جرنج) الذي أرسلت الأمم المتحدة مبعوثاً دولياً لمراقبة «حقوق
الإنسان الصليبي» فلم يجد بأساً من مهاجمة الإسلام «البربري» الذي يميز بين
البشر حسب معتقدهم (كما يرى) بينما تميز شرعة الغاب وذراعها المرعب بين
الأجساد المسلمة وتلك الكافرة فترمي الأولى بالمجازر وتلاحق أبرياءها بقرارات
الحصار والتجويع والرعب! ! وتشجع الأخرى بالمال والسلاح والدعم الإعلامي
المستمر.
لقد تحولت بوصلة الصراع في عمقنا الشعبي من صراع أوطان ونزال
عناصر إلى الحقيقة الذاهلة الشاردة حيناً من الزمن، فإذا بالشعوب تدرك مع مطلع
كل مجزرة وأنباء كل حصار أنها مستهدفة لإسلامها وعقيدتها، وأن القائمة التي
كانت تستهدف حدودها الشرقية اليوم ستنال من نواحيها الغربية غداً أو عمقها
الأوسط بعد غد، فالهجمة مستعرة ولا تعرف لدمويتها حداً، أرخص الدماء اليوم
سيكون له ثمن غداً، حينما يسيل في بقاع لم تكن تعرف من دينها سوى مظاهر
شكلية أو مناسبات موسمية، فتنقلب الدماء إلى وقود والأجساد الهائمة إلى شموع
توحيد، والمجازر المتتالية إلى صواعق كهربائية تبث في الأوصال الميتة ذرات
الإيمان المتوهج.
الغرب اليوم في ظل هجمته الشرسة يستخدم أسلحة المقاطعة الاقتصادية
والحرب النفسية، ويبرمج لإحداث زلازل سياسية وأزمات اقتصادية خانقة تصب
في النهاية في مصلحته، ولا يمكن أن نجد سائلاً أرخص من الدم المسلم هذه
اللحظة سوى «النفط العربي» الذي وصل سعره إلى أدنى مستوى منذ حرب
(73 م) ، أليس من المستغرب حقاً أن تكون ثروة الأمة البشرية والمادية هدفاً مستباحاً ومباشراً في ظل هذا التردي المفجع؟ !
كلهم جولدشتاين:
أظهرت تحقيقات (اللجنة الصهيونية المُشَكّلَة) للتحقيق في المجزرة الوجه
البشع لهذه الصهيونية المغروسة دولياً المدعومة من قبل الدول الكبرى المتكالبة على
القصعة المستباحة، حاكم الخليل «الجنرال جولدشتاين» قال: إن هناك توتراً
أمنياً متصاعداً منذ أكثر من عام وأنه نبه إلى ضرورة ضبط «المستوطنين» حتى
لا يحدث ما لا تحمد عقباه.
جميلة هذه الديموقراطية الإسرائيلية الخائفة على دماء بني الإسلام في الخليل، ورائعة هذه الشهادات الإنسانية للدولة الديموقراطية الوحيدة وسط قطيع العرب
الهمج! !
ما لا تحمد عقباه، ترجمه جنود «جولدشتاين» الثاني قائد منطقة الخليل
بأكثر من اثنتي عشر صفحة سقطوا وهم في ريعان الشباب بعد المجزرة، أما أرقام
الضحايا الذين سقطوا قبل المجزرة بقيادة «جولدشتاين العاقل» فلا تقل قطعاً عن
عدد ضحايا ذلك المأفون المجنون.
وبين «العاقل» و «المجنون» علينا أن نصالح «الجنون» اليهودي الذي
يريد رابين ومن خلال مؤسسته الصهيونية أن يصنع سلاماً معنا، بموجب «روح
السلام» وقوانينه يجوز لجيش رابين وجولدشتاين الثاني أن يمزق أجساد النساء
والشيوخ والأبرياء بلا تحفظ، فالضحايا هم من الأصوليين المتطرفين أعداء السلام، ... ويجوز لجولدشتاين الأول وزمرة المستوطنين أن يصطادوا ضحايا «جيش
الدفاع» حين يستفز المصلين في حرم الأقصى، ويطلق رصاص رشاشه تجاه أي فلسطيني لا يروق له مظهره، ويمتهن كرامة المصلين، ويقوم على تحطيم سياراتهم وقلب بسطات الخضار المتواضعة لمزارعي الخليل، وبموجب قوانين «جولدشتاين» الأول والثاني ... والعاشر، فإن إزهاق روح مستوطن مجرم جريمة تحتل عناوين الأخبار، ويندد بها العالم القذر المتواطئ، وتصبح بضاعة الدمية العرفاتية الذي شاءت الأقدار أن يكون آخر تصريحاته الاستسلامية قبل المذبحة أن يندد بقتل مستوطن إسرائيلي على أيدي المجاهدين الذين لم يزالوا يتمسكون بحقوقهم، ويدافعون عن مقدساتهم حتى ولو بسكين أو ساطور.
«قانون جولدشتاين» الذي ابتكرته الصهيونية السياسية بقيادة «جولدشتاين
الأكبر» الذي يتولى رئاسة الحكومة الإسرائيلية يقتضي توزيع الأدوار بين الحمائم
والصقور والمعتدلين والمتطرفين، ورصاص جيش يهود ورصاص المستوطنين،
وفي كل الأحوال تبقى الضحية هي الضحية والهدف هو اجتثاث الوجود العقدي
والبشري لأهل الإسلام في البقعة المباركة، ومحاصرة المد الإسلامي المنتشر مع
كل هجمة شرسة وكل سقوط درامي لقيادات العلمنة والتطبيع، هذه القيادات وخلفها
الحيات والعقارب الإعلامية التي تريد أن تفرض على الشعوب السلام مع أعداء الله
من اليهود، وتصر على أن المغضوب عليهم أبناء عمومة، وأن قتلة الأنبياء شرق
أوسطيون مثلنا، وأن أخوة القردة والخنازير شركاء لنا في الآلام والآمال.
القضية هنا أن المؤسسة الإعلامية والسياسية العربية تريد أن تمارس الكذب
وغسيل الأدمغة بمحاليل مغشوشة ومنتجات رديئة، تجعلها في نظر الساذج البسيط
قليلة الحياء، عديمة الذمة، فنص الكتاب وصحيح السنة لا ينالهما عشرات
المهرجانات التطبيعية أو الحملات المتصهينة، مهما قبض القائمون عليها من ثمن
ثم زعموا لسادتهم أنها ناجحة!
وإذا الشعوب سئلت:
ونحن نعيش هول المأساة ومع حالة الذهول التي عمت عالمنا العربي
والإسلامي، خرجت الشعوب المسلمة لتقول كلمتها دون رتوش وفي غياب مقص
الرقيب، لقد كانت الغضبة الشعبية العارمة رسالة أخرى، تؤكد هوية الصراع،
وتُذكّر بمضامين المواجهة، فالمسلمون في أقاصي الأرخبيل الأندونيسي وفي قرى
سومطرة خرجوا في تظاهرات عارمة ليقولوا أنهم لايزالون أحياء وأن ما يحركهم
هو جرح الإسلام النازف، بالرغم من كل محاولات التنويم المغناطيسي والتطبيع
الإعلامي الذي يحاول أن يمهد لعملية الاستسلام الكبير، وما كانت هذه المظاهرة إلا
واحدة من عشرات المشاهد المتتالية في أكثر من موقع وفي أكثر من بلد، وقد
خرجت لتقول وتعبر عن حجم الفاجعة، كما عبرت عن وحدة المسلمين في بقاع
الأرض وتكوينهم العقدي وأن آيات الكتاب وبشارات الرسول-صلى الله عليه
وسلم-هي التي تحرك المسلم للهم المشترك وتدعوه لرفض التطبيع وكأن قائلهم
يصرخ:
«حذار.. حذار
فإن بشارتنا في الكتاب
الذي يريدون
أن يطمسوا نوره من قلوب الصغار
ويلغوا أحكامه من حياة الكبار
فيغدو تما تم للمائعين
ويعوذ تعاويذ للخائفين
وما كان إلا العقيدة، إلا الشريعة
إلا الشعيرة.. إلا الشعار
برغم التقول، رغم التأول، رغم الحصار!»
لقد عم الشارع المسلم عموماً والعربي خصوصاً حالة من «القرف» من هذا
الوضع المزري، فقامت الشعوب لتقول كلمتها، قامت السيدة الفلسطينية لتقول
لمراسل المحطة الأمريكية: «أين عرفات؟ هل استطاع أن ينال أريحا أو غزة
كما وعدوه؟ هل يستحق أن أهتف باسمه حتى اليوم؟ لقد رأى اليهود أنه باع
القدس، وصمت في خزي فتجرأوا على الخليل، القدس والخليل لن تتحرر بعرفات
و ( ... ) إنها لن تتحرر إلا بالإسلام» .
كانت العجوز الفلسطينية تقول بلسان الحال لهذا المراسل:
حذار.. فلو أنكم للسلام دفعتم أعز ثمن
وسقتم عليه الثرى والثريا شهوداً
وأجلب إبليس بالجند ينعق:
«عشنا..
وعاشت يهود
وعاش الوطن»
ولو أنكم للسلام سعيتم
بتقتيل كل غيور وتقطيع كل أغر
بتعقيم كل النساء
بتجفيف كل البحار
ستخرج هذي المحار
جنوداً، يقدون من وهج الشمس
فجر نهار
ويعقب هذا السلام دمار
ويرقد في كل ناحية ألف نار
ويرجع للصابرين الوطن
ويصرع سيف الجهاد الوثن
ويعذب ماء
وتزهو ظلال.. بأهل ودار
نعم.. لقد خرجت جماهير فلسطين داخل حدود 1948م وهي تنادي بإسلامها
وأنها جزء من الكيان الكبير، فقتل مواطن في النقب التي ثارت لأول مرة، كما
شهدت مدن الناصرة وأم الفحم (أم النور) ومناطق الجليل أوسع انتقاضة شعبية
معبرة عن الذي يجول في نفوس الشعوب التي أقحمت في أتون التطبيع مع أعدائها، ويراد منها أن تكون الدواب التي تركبها بني إسرائيل كما هو المفهوم الصهيوني
الذي لا يوجد من ينازله ويصده سوى آيات الكتاب التي في الصدور المؤمنة والتي
ترفض هذا التعايش التعس الذي تصر قيادات العلمنة على وصفه بأنه تعايش رائع
يلخصه الكاهن الذي أبن المجرم جولدشتاين بقوله «إن مائة مليون عربي لا
يساوون ظفر يهودي واحد» ، وهذا ما ترجمه مئات من الذين شيعوا جثمانه بقولهم
«كلنا جولدشتاين» ، أما شعوبنا فقد قالت بصوت واحد «ألا لعنة الله على
المستسلمين.
زعامات الورق:
المأزق الذي تعيشه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مؤشر لمدى الإنحدار في
أسلوب القيادة وحجم القطيعة بين القمة والقاعدة، والذي يصلح للتطبيق في أكثر
النماذج العربية، وإن كان نموذج القيادة الفلسطينية جديراً بالتأمل كونها قيادة حركة
تحرير شعبي تدّعي تمثيل الدولة وممارسة شؤونها ولو من باب الإدعاء، لقد لخص
الكاتب الأمريكي (شومسكي) موقع القيادة الحالية بأنه» أسوأ وضع لحركة تحرير
وطني في العصر الحديث «، أو بعبارة معلق أمريكي آخر» إن مجزرة الخليل
مؤشر هام لمرحلتين: المرحلة الأولى كانت مشكلة قيادة المنظمة مع أمريكا
وإسرائيل، والثانية تتمثل في مشكلة المنظمة مع شعبها الفلسطيني الذي أحرق
صور عرفات وداس عليها ... «.
وهذا التوصيف بالضبط هو ما يستخدمه المحللون السياسيون للقيادات المفلسة. إن مجزرة الخليل كانت بمثابة المشهد الأخير الذي تختتم فيه هذه القيادة المتخبطة
آخر خطواتها إلى المجهول، فحتى جل كوادرها تخلت عنها، أما القيادة فقد فقدت
حتى هيبتها الشكلية، ولم يستطع عرفات أن يجمع اللجنة التنفيذية قبيل المجزرة
للمصادقة على اتفاقه مع بيريز في القاهرة، فاكتفت إسرائيل بتوقيع (الزعيم!)
عليه! !
إن المتتبع لردود فعل عرفات وقيادته يرى أن أرخص ثمن كان يفكر فيه هو
دم شعبه، لذا فقد سارع لتلبية نداء كلنتون لاستئناف المفاوضات، ودماء شهداء
المذبحة لم تجف بعد، ثم فوجئ بحجم الغضبة الشعبية وتضاؤل التأييد له فقلب له
ظهر المجن، وأصر على الحماية الدولية لسكان الأراضي المحتلة والتي كانت
إحدى المثالب الصارخة لاتفاقه المشؤوم.
لقد أيقن الشعب الفلسطيني أن هذه القيادة أعجز من أن تقود نفسها وتحل
خلافاتها الداخلية المتتالية والناتجة عن تهالك المسؤولين على المناصب والأموال
والنفوذ، وأيقن الشعب الفلسطيني عبر ما صدر عنه بُعَيد المذبحة أن اتفاق أوسلو
المر لن يحصد سوى الحصرم، وأصبح رد الفعل الشعبي بمثابة كرة الثلج التي
تكبر مع كل تدحرج، وترفض مع كل مجزرة هذه القيادة التي أحرقت كل مراكبها
على شاطئ العجز والاستسلام للعصر الصهيوني/الصليبي الذي صرح رابين بعد
الواقعة بثلاث أسابيع» أن قيادة المنظمة لم تعد قادرة على إقناع الشعب الفلسطيني
بالحل السلمي، لذا فإن وزارته ستبحث عن السلام على الجبهة السورية بدلاً من
الفلسطينية «.
إذن أين أطنان السواد الكتابي الذي سطر عن السلام؟ أين الصديق المخلص
الذي وجده عرفات في زيارته المشؤومة لواشنطن في البيت الأبيض؟ أين منظروا
السلام ودعاة وأنصار عرفات المهذب والمستسلم لقوانين النظام العالمي الجديد ... ؟
لو كان لدى الزعيم تقدير فعلي لم حدث لتوارى عن كرسي القيادة وموقع المسؤولية، فمنذ أن تسنم مقاليد الأمور والقضية الفلسطينية وهي من شفا جرف هار إلى ...
هاوية، ومعظم الانتصارات التي تحققت لها كانت من صنع أطفال الحجار ...
وجنرالات المولوتوف ويافعي الإسلام الذين يدفعون كل يوم من دمهم دفعة تذكر
بجهاد عزالدين القسام ورفاقه الأبطال.
إن المجزرة بالفعل ستمايز بين الصفوف والاتجاهات والمواقف أرادوها
مجزرة الدم الأرخص، وكانت شرارة الفجر التي لامست زعامات الورق فأحرقتها، هناك» بعل سهى الطويل «وشركاه، وهنا» إخوان أحمد ياسين « ...
وتلاميذه، وهذا الفريق يرسم وينظم المواقف البطولية. أما الفريق الأول فكان
انعكاساً لحالة الترهل والانكسار التي تترجمها الأبيات الشعرية التي تتلمس معالم
مرحلة المجزرة وما قبلها وما بعدها:
» مقتل ستين فتى في مسجد الخليل
تضارب الأنباء حول موتهم
قال.. يقال.. قيل..
حمامة السلام مرت من هنا..
هذا الرصاص بيضها
وصوته الهديل
عقد اجتماع عاجل لمجلس التنكيل
البحث ينتهي إلى ضرورة التعجيل
في طلب التأجيل
قصف مركز على أجهزة التسجيل
مستفعلاتن فاعلن مستفعل فعيل
هذا هو الموجز من أنبائنا
إليكم النشرة بالتفصيل:
تعيش إسرائيل! «
__________
(1) قصيدة سلام الدم للشاعر سعد عطية الغامدي.(75/69)
المسلمون والعالم
ماذا يبقى من دولة اليمن؟
قراءة في الأزمة اليمنية في مراحلها الأخيرة
عبد الله عبد العزيز
مرت البلاد اليمنية في الأشهر الأخيرة بعدد من الأحداث وشهدت العديد من
التطورات التي تستحق من المتابع للساحة التوقف عندها والنظر في آثارها، كما
أنها تستحق من أبناء الحركة الإسلامية دراستها واستنباط فوائدها، ولعل من أبرز
ما وقع مؤخراً الأمور التالية:
وثيقة العهد والاتفاق:
اتفق أعضاء لجنة الحوار السياسي بمن فيهم ممثلو أطراف الصراع في اليمن
(المؤتمر الشعبي العام الحزب الاشتراكي) على بنود وثيقة العهد والاتفاق بعد تلكؤٍ
من حزب الرئيس اليمني وإصرار من الحزب الاشتراكي ويعتبر ذلك الاتفاق بمثابة
الانتصار للحزب الاشتراكي إذ أنه قد استطاع أن يتجاوز البرلمان الذي لا وجود
مؤثر له فيه. كما استطاع أن يضع في هذه الوثيقة التي يسميها بعضهم «الدستور
اليمني الجديد» حيث كافة شروطه ومطالبه التي تضمن له النفوذ والبقاء في
السلطة، سواء أكان ذلك عن طريق تجريد الرئيس من كثير من مهامه وإعطائها
لرئيس الوزراء الذي ينتمي للحزب الاشتراكي نفسه أو عن طريق فرض (نظام
اللامركزية الواسعة) وإنتخاب محافظي وكبار مسؤولي (ما يسمى بالمخاليف) والتي
يضمن الحزب في كثير منها بطريقة أو بأخرى وبالأخص في مناطق نفوذه قبل
الوحدة انتخاب الناس لمرشحيه، كما أن الحزب استطاع بهذه الوثيقة نزع موافقة
طرف الصراع الآخر على تجريده من أبرز وسائل قوته عن طريق الموافقة على
إخراج وحدات الجيش من المدن وإلغاء وزارة الإعلام وإيكال مهام أعمالها إلى هيئة
وطنية مستقلة، وتقليص صلاحيات البرلمان بإنشاء مجلس للشورى يختار أعضاؤه
من أبناء المحافظات بالتساوي كما أن الحزب عن طريق هذه الوثيقة قد قطع عدة
خطوات في العمل على إضعاف نفوذ القبائل اليمنية وتجريد اليمنيين من أهم ما
يتميزون به وهو حيازتهم للسلاح وتنقلهم به عن طريق انتزاع موافقة (المنافس)
على العمل على إنهاء الوجود المسلح غير الرسمي في إشارة إلى أسلحة القبائل
والنظر في قانون حمل السلاح الحالي لجعله أكثر صرامة في إشارة إلى سلاح الفرد
العادي كما استطاع ذلك الحزب إبراز بعض القضايا التي تخدمه في صراعه
كالجانب الأمني وما يسمى بمحاربة التطرف والإرهاب الذي كان البند الأول من
بنود الوثيقة ... إلخ ومع الكسب الكبير للحزب الإشتراكي في الوثيقة وضخامة
التنازلات التي قدمت له إلا أن أبرز الملاحظات عليها لو توفرت النوايا الصادقة
لتطبيقها الجدول الزمني المحدد لتنفيذ بنودها إذ أن كثيراً من القضايا بحاجة
لإصلاحها إلى سنوات والوثيقة حددت لها أسابيع أو أشهر مما يضع الكثير والكثير
من الاستفهامات حول حقيقة مطالب الحزب المذكور.
تدويل الأزمة:
سعى الحزب الاشتراكي بقوة إلى تدويل الأزمة متخذاً ذرائع عدة لذلك ومن
أبرزها:
* إدعاء الرغبة في توفير ضمانات حقيقية لتنفيذ بنود الوثيقة عن طريق
حضور عربي ودولي واسع بعد قيامه بحملة إعلامية واسعة لإقناع المهتمين بالأزمة
اليمنية أن الطرف الآخر ليس جاداً في العمل على تنفيذ بنود الاتفاق وأنه يسعى
لوضع العقبات والعراقيل أمام ذلك، وقد حصل التدويل بالنسبة للوثيقة بالفعل إذ تم
توقيعها في الأردن في 9/8/1414 وليس في اليمن.
* أبراز خطورة الوضع الأمني والعسكري عن طريق تحريك بعض الألوية
التابعة للحزب إلى مواقع مثيرة للقوات الشمالية بالإضافة إلى تحريك بعض الأفراد
والقبائل ودفعهم إلى ممارسة بعض الأعمال المخلة بالأمن والتي تقلق الدول الغربية
كاختطاف بعض الأجانب كرهائن ونهب بعض ممتلكات الشركات الأجنبية هادفاً من
وراء ذلك إلى إثارة اهتمام القوى الغربية بالوضع وتذبيهها إلى خطورة ذلك على
مصالحها أو رعاياها أو شركاتها مما يستدعي تددخلها، وهذا ما حصل بالفعل إذ
أعلنت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي قلقهما من تفاعلات
الأزمة اليمنية وضرورة إنهائها سلمياً، كما تم تشكيل لجنة عسكرية شارك فيها إلى
جانب اللجان اليمنية لجان عسكرية عُمانية وأدنية بالإضافة إلى الملحقين العسكريين
الأمريكي والفرنسي في صنعاء من أجل وقف التداعيات العسكرية وإرجاع ألوية
الجيش المختلفة إلى مواقعها قبل الأزمة وبالأخص الموجود منها في خطوط التماس
بين الشطرين سابقاً.
* الزيارات التي قام بها مسؤولوا الحزب الاشتراكي إلى بعض الأقطار العربية
كمصر وسوريا والسعودية والكويت والإمارات تحت ذريعة اطلاع الأشقاء العرب
على حقيقة الموقف من وجهة نظر الحزب وما استدعته من زيارات مضادة من
المؤتمر الشعبي العام لكل من الرياض والقاهرة و (أبو ظبي) لعرض الأزمة من
وجهة نظره أيضاً.
* إيهامه لبعض الدول بدعوى وجود عناصر قيادية كبيرة مناوئة لها في اليمن
وأنها تقع تحت حماية طرف الصراع الآخر، وأنه لا فرصة لها لتصفية معارضيها
الموجودين في اليمن والقبض عليهم إلا عن طريق الدخول على خط الأزمة
والمطالبة بتسليم معارضيها الذين تصفهم بالتطرف والإرهاب.
التداعيات العسكرية:
في الوقت الذي كان زعماء الائتلاف الحاكم في اليمن يوقعون وثيقة العهد
والاتفاق في عمان وفي حين لم تجف بعد أحبار أقلامهم كانت المدافع تتبادل القصف
في محافظة أبين الجنوبية بين قوات لواء العمالقة الشمالي وقوات لواء مدرم
الجنوبي ولقد عزز الحزب الاشتراكي وجوده العسكري في المحافظة عن طريق أو
امر قيادته إلى ثلاثة من الألوية التابعة له وهي الوحدة في المكلا وقوات اللواء
الخامس في عدن وقوات اللواء الثلاثين مشاة في شبوة بالتوجه اليها بهدف السيطرة
على المواقع المهمة في المحافظة وتطويق لواء العمالقة الشمالي الموجود فيها
وضرب الوجود المميز في المحافظة لشباب الصحوة الإسلامية العائدين من
أفغانستان ولقد أشرك الحزب مع جنود جيشه مليشياته الشعبية كانت نتيجة تلك
التداعيات خسائر بشرية ومادية ملحوظة للطرفين ولولا رحمة الله تعالى لكانت تلك
المواجهة بداية الشرارة لتصفية الوجود العسكري لما كان يعرف بالشمال في
الجنوب ولما كان يعرف بالجنوب في الشمال مما يعني قيام المواجهة المسلحة
الشاملة بين الطرفين وبالتالي التشطير والانفصال.
محاولة تصفية وجود الشباب المسلم في أبين:
قبل الوحدة اليمنية حارب الحزب الاشتراكي الدين الإسلامي وقتل الأنفس
سحلاً ورمياً وشنقاً، وهتك الأعراض، ونهب الأموال وصادر الدور والأراضي،
وأهان العلماء والأعيان وغيرّ في القيم والبنية الاجتماعية مما أثار عليه النفوس
المؤمنة والشريفة وحرض الأيدي المتوضئة على زعمائه فسعت إلى الثأر لدينها
ولمن قتل من أفراد عوائلها أو انتهك من أعراضها أو صودر من أموالها ودورها
ومزارعها.
وكان عودة الشباب اليمني من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية من
أفغانستان بعد قيامهم بواجب النصرة لإخوانهم هناك فرصة لدى أفراد محدودين جداً
منهم للانتقام من بعض زعماء الحزب وكوادره مما أخاف الحزب وأقضّ مضجعه
فأخذ يتحين الفرصة لنشر أولئك الشباب ومطاردتهم وإيقاع القتل والتعذيب والسجن
على من تقع عليه اليد منهم ولقد كانت أضخم محاولة لذلك في شهر رمضان
الماضي في محافظة أبين تحت التذرع بمشاركة أولئك الشباب لقوات العمالقة
الشمالي في صراعه مع جيش الحزب! !
انفتاح الحزب الاشتراكي:
نتيجة العزلة التي أوقع الرئيس على صالح نفسه فيها نظراً لموقفه في حرب
الخليج الثانية وعلاقاته مع الإسلاميين في اليمن وعدم استيعابه للواقع وطبيعة البلاد
الجغرافية والاجتماعية وقيامه بارضاء بعض الدول من خلال طرد بعض رعاياها
الذين يتهمون بالإرهاب والتطرف فقد تمكن الحزب الاشتراكي من الخروج عن
عزلته التي كان يعاني منها إقليمياً ودولياً ونظراً لتبعيته القوية في السابق للمعسكر
الشرقي حيث قام أمينه العام بزيارة القاهرة ليقول لها إنه مستعد لتسليم من تريد ممن
يسمونهم بالمتطرفين في اليمن كلها لولا معارضة على صالح والإسلاميين له من
القيام بتسليم من يوجد منهم في المحافظات الشمالية وزار دمشق ليعلن وقوفه إلى
جانب حزب البعث السوري في صراعه مع حزب البعث العراقي وليس كما يفعل
الرئيس اليمني.
وزار الرياض لينشئ علاقات جديدة وقوية لم تكن موجودة من قبل في وقت
يعاني الرئيس علي صالح من تردي الأجواء في علاقاته معها.
كما قام الأمين العام المساعد بزيارة كل من الكويت والإمارات معزياً إياهما
في ضحاياهما وخسائرهما في حرب الخليج الثانية ملقياً بتبعة الموقف اليمني آنذاك
على (رئيس الدولة) وكأن الحزب كان خارج السلطة وقد تلقى الحزب الاشتراكي
من جراء ذلك الانفتاح دعماً قوياً (انظر ما صرح به مسؤول إشتراكي رفيع
المستوى لمجلة الوسط «عدد 190» ) مما دفعه إلى مزيد من التصلب في
صراعه مع الرئيس علي صالح.
دعامة الوحدة داخلية أم خارجية؟
أثبتت الأحداث في الفترة الماضية أن ضمانة استمرار الوحدة اليمنية أمريكية
أوروبية، ويظهر ذلك من خلال التصريحات الرسمية لمسؤولين أمريكين
وأوروبيين بضرورة إنهاء الأزمة سلمياً ومن خلال التحرك الواضح للسفير
الأمريكي في صنعاء ومشاركة الملحقين الأمريكي والفرنسي (الأخير ممثل
للمفوضية الأوروبية) في اللجنة المكلفة بمنع استمرار التداعيات العسكرية وأهمية
العودة إلى الثكنات العسكرية حسبما كانت عليه الأمور سابقاً.
وكل أطراف الأزمة تدرك أن الغرب لا يهمه من يبقى في الحكم من أطراف
الصراع سواء الرئيس اليمني أو أمين عام الحزب الاشتراكي ولكن الذي يهمه أن
يكون الباقي منهما أكثر قدرة وأعظم تفانياً في خدمة مصالحه.
والغرب يسعي إلى الاستقرار في اليمن وبالأخص في أماكن وجود النفط حيث
يجب أن تبقى بمنأى عن الصراع القائم كما صرح بذلك مسؤول أمريكي وسعي
الغرب إلى الدعوة للاستقرار ليس من أجل سواد عيون اليمنيين ولكن من أجل
مصلحته لكي يتمكن من تهيئة الجو الملائم للشركات الغربية المنقبة عن النفط
والغاز هناك ومن أجل استخراج خيرات البلاد المختلفة.
ولكن يبدو أن الغرب مع حرصه على الاستقرار فهو يدعم الحزب الاشتراكي
مباشرة نظراً لكون الحزب هو الأقدر على ضرب الحركة الإسلامية المتنامية في
اليمن وهو الأجدر بمحاربة الانتشار الكبير لها.
كما أن الحزب هو الأقدر على القيام بخدمة المصالح الغربية نظراً لعدم وجود
روابط ذات شأن تربطه بعقيدة الأمة وموروثها وللخبرة الطويلة في الخضوع
للأسياد التي تميز بها نتيجة تبعيته لفترة طويلة لقادة (الكرملن) في موسكو والتي
يمكن انتقالها إلى قادة البيت الأبيض إن لم تكن قد انتقلت بالفعل.
كما أن الحزب نظراً لشراسته الشديدة ودمويته الكبيرة هو الأكفأ بالقيام بتقليم
أظافر القوى الوطنية الأخرى التي قد تقف حجر عثرة في المستقبل أمام المصالح
الغربية كالقبائل مثلاً.
وصحيح أن الغرب يهمه فقط تحقيق مصالحه سواء أكان ذلك عن طريق
الوحدة أو الانفصال لكن يبدوا أنه يدرك أن الوحدة أكثر ضمانة للاستقرار وأكثر
قدرة على منع وجود تواترات قد تصل إلى تهديد مصالحه في المستقبل، كما أن
الانفصال سيعني قوة الحركة الإسلامية في الشمال عن طريق تحالف الرئيس اليمني
معها نظراً لحاجته الماسة إليها لمواجهة فلول الاشتراكيين المنتفشة.
وتجدر الإشارة إلى أن ما سبق هو قراءة للمصالح الغربية في اليمن والتي
تصنع القرار الغربي، لكنها قراءة قد تخطئ من جهة، وقد يُدخل صُناع القرار في
الغرب بعض التعديلات التي تقلب المسألة وتجعل المصلحة ليست في الوحدة بل
بالانفصال كأن يُسعى إلى تشتيت قلوب أبناء اليمن وجرهم إلى الحرب والتقاتل
خارج مواقع النفط للتخلص منهم نظراً لعدم رضوخهم لاستعمار سابق اليمن الشمالي
وعدم الخضوع والاستكانة للرجل الغربي الأبيض، ونظراً لكثرة عددهم وخطورة
أن يشكلوا في المستقبل من خلال الوحدة مع إخوانهم في الخليج والجزيرة خطراً
يعرض مصالحهم وأمن وليدهم غير الشرعي (العدو الصهوني) للخطر.
كما تجدر الاشارة إلى أن القول بأن ضمانة الوحدة خارجية لا يعني عدم وجود
قوى داخلية خيرة ترغب بالوحدة وتكافح عنها بل هي كثيرة وفي طليعتها أبناء
الصحوة الإسلامية لكن المراد أن القوى التي بيدها صنع قرار الوحدة والانفصال
يرى أحدها الحزب الإشتراكي أن مصلحته بالانفصال ولا يوجد ما يردعه عن ذلك
لولا خوف تعريض المصالح الغربية في البلاد للخطر أما ما يوجد من عقبات داخلية
أمام الانفصال ككونه قد يؤدي إلى إراقة بعض الدماء نظراً لاختلاط مواقع القوات
الحالية للطرفين في الشمال والجنوب وكون الطرف الآخر قد يتخذ موقفاً متشدداً
ويفجر الوضع فليس بأمر ذي بال لدى الراغبين في الانفصال بدليل تاريخهم الحافل
بالقتل والدماء.
من آثار الأزمة:
عانى الشعب اليمني من الأزمة معاناة كبيرة في سائر المجالات حيث اكتوى
بنارها واحترق بلهيبها في وقت يتم تصارع الطرفين على بسط النفوذ وكسب
المواقع بعيداً عن الشعور بحرقة الشعب وعظيم معاناته، ولعل من أبرز الآثار التي
ولدتها الأزمة اليمنية ما يلي:
تجاوزت الأزمة جميع ثوابت اليمن الشرعية والدستورية والقانونية وعودة
تحكيم كل من طرفي الأزمة لمصالحه وما تمليه عليه رغائبه مما سبب فشل حركة
مؤسسات الدولة الدستورية كمجلس الرئاسة والوزراء والنواب بل وشل حركة جل
مؤسسات الدولة عن طريق عودة غالب الوزراء والمحافظين وكبار المسؤولين
الاشتراكيين في الشمال إلى الجنوب وعودة غالب المحافظين والمسؤولين التابعين
لحزب الرئيس في اليمن إلى الشمال مما سبب تفككاً وفساداً إدارياً كبيراً أضف إلى
ذلك ما كان موجوداً من قبل من معاناة كبيرة لا تحفى على معظم أفراد الشعب.
الارتفاع الكبير في الأسعار حيث وصل سعر برميل الغاز في بعض المناطق
إلى 500 ريال وكيس السكر إلى أكثر من 2000 ريال وعلبة الحليب المجفف إلى
700 ريال. مع قلة دخل الفرد وازدياد في معدلات البطالة والانخفاض الكبير في
قيمة الريال الشرائية.
أضف إلى ذلك توجه طرفي الصراع إلى صرف عائدات النفط من العملات
الصعبة في شراء الأسلحة لتوزيعها على كوادرهما بدلاً من توفير السلع وتقديم
الخدمات والبدء في تنفيذ المشاريع التنموية لصالح الشعب كله.
بروز النعرات المناطقية والقبلية وانتشار الحقد والكراهية بين أبناء المناطق
والقبائل المختلفة إذ استغل طرفا الصراع أبناء المناطق التي تحت أيديهم والقبائل
الموالية لهم وسعى كل طرف إلى تحريض أتباعه على الطرف الآخر وغرس
البغض والحقد فيما بينهم والشخص الذي له اختلاط باليمنيين سيسمع ما يسوؤه من
مثل أنا شمالي وذاك جنوبي ومن مثل أنا من بكيل والآخرون من حاشد أو مذحج أو
يافع أو من الأشراف ... إلخ.
عودة الحزب الاشتراكي بقوة إلى المناطق الجنوبية والشرقية عن طريق ايذاء
وطرد المسؤولين والجيش والأمن الشمالي، وعن طريق تسليح ونشر ميليشات
الحزب وترويع الناس بها لكبت الرأي المخالف واعادة شعار الحزب المعروف (لا
صوت يعلو فوق صوت الحزب) مع زوال كل وجود لسلطة ما يسمى بدولة الوحدة
في أراضيه، وقد سببت تلك العودة القوية للحزب في تلك المناطق أموراً كثيرة من
أهمها ندرة إن لم نقل توقف قوافل الدعوة إلى الله من الشمال إلى الجنوب وقلة
حركة التنقل لكسب الرزق والبحث عن العمل ... إلخ.
تجميد العمليات والحركات الاستشارية الداخلية والخارجية وتعطيل الاقتصاد
وشل حركات البيع والشراء والعمران انتظاراً من أصحاب رؤوس المال لما ستسفر
عنه الأزمة.
تشجيع قُطّاع الطرق من الأفراد وشراء ذمم بعض القبائل من أجل قطع
الإمدادات من الغذاء والغاز عن بعض المدن.
غرس الحزب الاشتراكي الروح الانفصالية لدى كثير من أبناء المناطق
الجنوبية والشرقية عن طريق نسبة أسباب معاناة الناس وأخطاء المرحلة الانتقالية
إلى الشماليين وتجريد الحزب نفسه منها، بل إن الحزب ليقوم بارتكاب بعض
الأخطاء كالقتل ويقوم بنسبتها إلى خصمه ثم تقول كوادره للناس: هل تريدون هذا
الوضع السيئ الذي جاء به الآخر أم ترغبون بالأمن والاستقرار الذي كنتم تنعمون
به قبل الوحدة؟ ! بالإضافة إلى بث الأماني المعسولة بمستقبل واعد نظراً لظهور
النفط والدعم اللذين يحلم بهما الحزب ويتوقعهما.
فوائد وعبر من هذه الأزمة:
تستحق الأزمة اليمنية من المصلحين والدعاة إلى الله عز وجل التوقف عندها
لاستلهام عبرها واستنباط دروسها وأخذ فوائدها ولعل من أبرز الدروس والعبر ما
يلي:
* في الأزمة اليمنية سقوط آخر لدعاوي الديمقراطية في العالم الإسلامي بعد
السقوط الكبير في الجزائر، وثبوت أن المتشدقين بتطبيقها من أبناء المسلمين هم
ألد أعدائها ما لم توافق مصالحهم التي يبيتونها ورغبائهم التي يطمحون إليها هذا من
ناحية ومن ناحية أخرى فإن الأزمة اليمنية تسقط دعاوي الغرب في السعي إلى
تطبيق الديمقراطية في العالم الإسلامي إذ أنه وحلفاءه يدعمون بقوة الحزب
الاشتراكي الرافض لنتائج الانتخابات النيابية ومبدأ حكم الأكثرية للأقلية.
* تقلب حال السياسيين في التعامل مع شباب الصحوة الإسلامية بين مد وجزر
حسب مصالحهم واحتياجهم العملي فإن أرادوهم أو خافوهم قربوهم وأعطوهم بعض
المكاسب التي لا تؤثر على مواقفهم وإن استغنوا عنهم ولم يخشوهم لفظوهم وآذوهم
حساً ومعنى.
* خطورة استعجال شباب الصحوة وعلمائها في اتخاذ المواقف والحكم على
الآخرين ويبرز هذا الأمر جلياً في موقف بعض قيادات الإسلاميين في التجمع
اليمني للإصلاح من الحزب الاشتراكي فبعد أن أعلنت انتهاء الخلاف العقدي
والفكري وبقاء الخلاف السياسي مع الحزب الاشتراكي فقط إذا بالحزب يطلق العنان
لكوادره لمهاجمة الإسلام وشرائعه كتعدد الزوجات والمعاهد الإسلامية، وإذا به
يشتد في مطاردة الإسلاميين وقتلهم وسجنهم وتهجيرهم، وإذا به يمنع قوافل الدعاة
إلى الله ويعرقل أنشطتهم في الجنوب ويخيفهم، وإذا به يصم حتى أولئك الدعاة
بالإرهاب والتطرف والسعي إلى الفتنة وعدم فهم الدين على حقيقته. إن الاستعجال
آفة خطيرة برزت في تعامل أولئك الإخوة مع الحزب ولو أنهم تأنوا وثبتوا مطالبتهم
الحزب بالتوبة والإقلاع عما هو عليه من كفر وردة لكان خيراً لهم. إن دعوة الناس
إلى الحق لا يبرر أبداً مداهنتهم ووصفهم بما هم ليسوا عليه من الحق.
* عدم جدوى السعي إلى كسب تغييرات دستورية وقانونية نظرية تصب في
مصلحة الشريعة الإسلامية عن طريق دخول الانتخابات النيابية لأن الدساتير
والقوانين في عالمنا الإسلامي جلها سائر على رغبة المتنفذين ومحققة لمصالحهم
وبالتالي فإن على الدعاة إلى الله أن يبحثوا عن وسائل أخرى للتغيير مع الحرص
على الاتباع وتجنب الابتداع.
* إن الإسلاميين مهما أظهروا من مرونة واعتدال وتنازل عن بعض القيم
والمبادئ وسكوت عن أخرى من أجل إرضاء العلمانيين في بلدانهم ومن خلفهم من
قوى الشر القريب منها والبعيد فلن يغنى عنهم ذلك شيئاً أمام أولئك الأعداء
وسيستمر أولئك في الكيد لهم ومحاولة إزهاق أرواحهم والعمل على محاولات
تجفيف منابعهم.
هذه بعض من الفوائد والعبر من هذه الأزمة، والله نسأل أن يصلح الأحوال
وأن يجمع القلوب على الحق وأن يبصر الجميع بصراطه المستقيم حتى تتلافى في
تلك الأخطاء والسلبيات ولعله يتضح للجميع وبخاصة الإخوة أصحاب التوجه
الإسلامي الفوائد والعبر مما حدث وأهمية استيعابها وتصحيح المسار في الدعوة
والإصلاح والجهاد بالطرق الشرعية القويمة فهل نعي ذلك عسى؟ ولعل والله من
وراء القصد.(75/81)
المسلمون والعالم
أضواء على
مذبحة المسلمين في «غانا»
مندوب «البيان»
تمهيد:
قد يخفى على كثير من المسلمين ما يتعرض له إخواننا المسلمون في غانا من
محنة بتواطؤ من أعداء الإسلام، وما يؤسَف له أن الإعلام العربي لم يتطرق لها.
وقد وافانا مندوب «البيان» بهذا التقرير عنها.
- البيان -
اندلعت الحرب يوم الثلاثاء 2/2/1994م بقرية (بمبلا) الواقعة بالمنطقة
الشمالية التي تبعد عن العاصمة (أكرا) بحوالي 960 كم، ويسكن هذه المنطقة عدد
من القبائل المسلمة والوثنية، ولكن أكبر قبيلة فيها عدداً وإسلاماً هي قبيلة (داغومبا)
96%، ثم أربع قبائل أخرى تتراوح نسبة المسلمين فيها ما بين 70% إلى 88%
وهي تحت أربعة ملوك.
وتعيش معها قبائل أخرى وثنية ونصرانية من بينها قبيلة (كونكمبا) النصرانية
وهي قبيلة فاسدة متوحشة تعيث في الأرض فساداً وقد شاركت في هذه الحرب بكل
شراسة وقسوة ضد المسلمين.
أما سبب إندلاع هذه الفتنة فهي مكيدة من أعداء الإسلام النصارى وتعود
بدايتها إلى 12 سنة خلت، وذلك أن القبائل المسلمة المذكورة وهم الغالبية في
الإقليم لم تستطع جهود التنصير أن تؤثر فيهم مع ما بذلت من أموال طائلة
وإغراءات بالأغذية والملابس للسيطرة على هذا الإقليم وتنصيره. فلجأت إلى
أسلوب المكر والتحرش، وراحت تعبئ قبيلة (كونكمبا) المذكورة وتحرضها على
المطالبة بأرض من أراض (داغومبا) المسلمة لتستقل بها. ولما رفض الملك خطط
النصارى لهم عملوا على أخذ الأرض قهرا، وراحوا يجمعون لهم الأسلحة
ويدربونهم عليها، ولما تمت قوتهم هجموا على المسلمين هجوماً شرساً واسعاً
ليخرجوهم من الأرض المذكورة بعد احتلالها حتى يبنوا عليها كنائسهم ومدارسهم،
فأحرقوا البيوت والمزارع، وهدموا المساجد وروعوا النساء والأطفال والشيوخ،
وكانوا يستعملون الأسلحة الحديثة المختلفة. وقد اشترك مع النصارى الوثنيون في
القتال ووقفوا بجانبهم ويساعدونهم بالرجال والسهام والسيوف وما لديهم من أنواع
السحر التي يتعاطونها.
حصيلة هذه المذبحة:
وأهم الأحداث البارزة في هذه الحرب أنهم هجموا على 150 قرية وفعلوا
بأهلها ومنازلها الأفاعيل، ويلاحظ التركيز على هدم وإحراق المساجد على
المصلين بها بكل قساوة وعنف، ويقدر عدد المساجد المحروقة والمهدمة بحوالي
100 مسجد حسب الإحصاء الأخير الذي حصلنا عليه من الحكومة.
ففي قرية (سامبو) دمروا المسجد بما فيه من المصلين ويقدر عددهم بـ 70
شخصاً من بينهم إمام المسجد، وفي قرية (سوسن) اقتحموا المسجد وقتلوا أكثر
المصلين فيه، وفي قرية (زيزغو) أيضاً أحرقوا المسجد وقتلوا المصلين فيه وكذلك
فعلوا (بساباتي ومكييلي) وغيرها من القرى.
وأما عدد البيوت المحروقة والمهدومة فتقدر بستمائة بيت، أما المزارع التي
أحرقت فتقدر بأكثر من ألف مزرعة.
ويقدر عدد الموتى حسب إحصاء الحكومة الأخير بما يزيد عن (8000) قتيل
ممن عثر على جثثهم، ولاتزال فرق التفتيش تواصل عملها لدفن الجثث هنا وهناك.
أما المشردون من اللاجئين فيقدر العدد بـ (20.000) شخص، وقد وصل
منهم إلى (تمالي) حوالى (4000) شخص، أما الشيوخ والأطفال والنساء الذين لم
يصلوا بعد فلا يعلم مصيرهم في الأدغال إلا الله.
وأما النازحون لحدود (التوجو) فيقدر عددهم بحوالي (5000) لاجئ وهؤلاء
اللاجئون يعيشون ظروفاً صعبة جداً من جميع النواحي وحاجتهم ماسة للغذاء
واللباس، ومن بينهم جرحى كثيرون محتاجون إلى علاج وغذاء.
الدعم الحاصل لا يكفي:
وقد حاولت بعض الجهات الإغاثية دعم المسلمين وخاصة المشردين منهم من
جمعيات محلية وهيئات خارجية ببعض المال، لكنه كان قليلاً جداً لا يكفي شيئاً،
ومنها:
1- المجلس الأعلى للدعوة والبحوث الإسلامية بمالي.
2- جماعة الهدى بأكرا.
3- مجلس التنمية بيت الزكاة الكويتي.
4- جمعية إحياء التراث الإسلامي الكويت.
وقد حاول المهاجمون من النصارى والوثنيين احتلال مدينة (ياندي) المسلمة
وحاصروها لأكثر من أسبوع، وركزوا كل قوتهم عليها، ولكن المسلمين بعون الله
تعالى دافعوا عنها ببسالة وردوا الكفار على أعقابهم خاسئين.
وفي هذه الأيام تحسن الوضع وخفت حدة القتال بعدما تدخل الجيش وضرب
الوثنيين بالطائرات فتراجعوا، وقد صادر أكثر من (200) بندقية حربية
(كلاشنكوف) ومدفعية (آر. بي. جيه) وغيرها، وأعلنت حالة الطوارئ بالمنطقة
لمدة ثلاثة أشهر بعد أن سقط من أفراد الجيش عدد غير معروف.
والحقيقة المُرّة هي أن النصارى والوثنيين قد بلغوا هدفهم، فقضوا على عدد
كبير من المسلمين وشردوهم وأحرقوا وهدموا وخربوا مساجدهم ومنازلهم
ومزارعهم، واحتلوا جزءاً كبيراً من أراضيهم ...
وهكذا فالمسلمون هنا يعانون كما هم يعانون في كل مكان وزمان من مآسي
وكوارث من أعدائهم، فإلى الله المشتكى.(75/93)
قراءة في كتاب
ليس غبياً ومع ذلك مسلم!
قراءة في مذكرات «مراد هوفمان» [*]
محمد حامد الأحمري
كانت السيارتان وهما من طراز «شيفروليه» قد تصادمتا بمقدمتيهما ...
بسرعة إجمالية تبلغ (95) ميلاً في الساعة تقريباً، وكانت فرصتي ...
للنجاة من هذا الحادث تعادل تلك التي كان يمكن أن أحظى بها فيما لو أني قفزت من الطابق الخامس في مبنى مرتفع.
وعندما كان الجراح يحاول إعادة وجهي الممزق إلى ما كان عليه، تساءل
بصوت مرتفع عمّا كان عليه شكلي قبل الحادث، وتمكنت بحركة من رأسي أن
أشير إلى أنه يمكنه أن يعثر على جواز سفري في طقم ملابسي المخضبة بالدماء
وأخذ الطبيب لبعض الوقت يجيل بصره على التوالي بين صورتي في جواز سفري
وتقاطيع وجهي الممزقة، ثم همهم مردداً بأنه يمكنني أن أجري جراحة تجميل بعد
بضع سنوات.
وأضاف بتحفظ وهو يحقنني بجرعة تخدير في أول ليلة لي بالمستشفى: «يا
عزيزي إن المرء لا ينجو في مثل هذه الحوادث! لعل الله قد ادّخَر لك شيئاً في
المستقبل» ! .
وبعد تسعة وعشرين عاماً، أي في 25 (أيلول) عام 1980م استطعت أن
أدرك معنى هذا « (ص 20-21) .
هكذا يبدأ» مراد هوفمان «مذكراته في سياق ممتع يبهج القارئ المسلم في
زمن قل فيه أن يقرأ شيئاً يفرحه، والمسلمون يفرحون بهذا النوع من الكتب
لأسباب عديدة: أولها فرحة المسلم بمهتد جديد ينقذه الله من النار، فنفرح له بالهداية
والنجاة، والسبب الآخر أننا نفرح عندما يُعترف بنا، فنحن في عالم النكران
والتجاهل، يصب علينا الرصاص من جانب، والإعلام الساخر المستهزئ
بالمسلمين من جانب آخر، فإذا سمعنا همسة إنصاف أو اعتراف طرنا بها فرحاً.
وأخيراً فإن المشهور من قصص الذين كتبوا مذكرات إسلامهم أو حياتهم بعد
هدايتهم تكشف لنا كثيراً من جوانب عظمة ديننا التي قد لا ندركها، ولكنها تقدم حلاً
لعدد من المشكلات التي يعانونها وعايشوا مرارتها، وضاقت السبل بهم في البحث
عن حل لها، ثم يجدون في الإسلام خير حل لها. إن في احترام العقل ويقظة
الروح واعتدالها عند المسلم الحق وفي مصادر المسلمين السنة، ما خلب عقل»
مراد هوفمان «وهو المثقف القانوني الفيلسوف المتمرس بالسياسة وصاحب الميول
الروحية، لقد جذبه الإسلام بإعجازه الرباني فاندفع له بكل اهتمام وعمق يقين.
يقدم» مراد «قصة التثليث في المسيحية بكل سخرية، وينقدها ويذكر بعض
علماء اللاهوت من أمثال» هانزكونج «الذين بدا لهم أن التثليث خرافة ويتمنى لهم
الإسلام إذ يراهم على أبوابه يقفون، و» كونج «هو مدير معهد الأبحاث
المسكونية في» توبنجن «بألمانيا، وقد اعترف أن الرسول محمد-صلى الله عليه
وسلم - نبي حقيقي بمعنى الكلمة، واشتعل الخلاف بينه وبين رؤوس الفاتيكان الذين
يعتقدون» الخلاص فقط في النصرانية «، وأنه لا أنبياء من خارج الكنيسة.
وقال» كونج «: إن الإسلام طريق حقيقي للخلاص، وإن الكنيسة لا يمكنها
أن تستمر بعد ذلك في إنكار أن محمداً-صلى الله عليه وسلم-المرشد والقائد على
هذا الطريق يعد نبياً حقيقياً بكل معنى الكلمة، ويعتقد» كونج «أن الإنجيل قد بشر
بمجئ نبي آخر» (ص223-224) .
وينقل في نصوص عديدة أنه لو طبق منهج النقد التاريخي على عدد من
الأديان لما صمدت للنقد التاريخي، ولكن الإسلام لا يخشى تطبيق هذه المناهج عليه، ويتمنى «مراد» لـ «هانزكونج» أن يسلم، فقد وضع قدميه على الطريق.
إن سعة أفق المؤلف، وتنوع ثقافته جعلت من الكتاب درساً ثقافياً جيداً
وجعلت من عمل المترجم عملاً صعباً، فقد وفق كثيراً ووقعت له في الترجمة هنات
هنا وهناك، مما لا يعزب عن فطنة القارئ.
وكما أن في الكتاب مناقشات وسيرة حياة، فإن فيه سيرة قارئ وتجربته مع
الكتب والثقافة والشعوب، فمرة تجدك في بعض الفصول تقرأ عرضاً لكتاب، وفي
أخرى تقرأ نقداً اجتماعياً لمجتمعه الغربي، ومرة ثالثة في خلاف مع الصوفية،
ورابعة يشيد بأخلاق المجتمع الإسلامي الذي تعمقت فيه أخلاق الإسلام رغم العمل
الدائب من أنصار التغريب الذين يحاولون تدمير أخلاق الشعوب الإسلامية،
ويسخر «هوفمن» من هذه الطائفة التي بدأها «أتاتورك» ومسخت أخلاق
الشعب التركي وحضارته وأبعدته عن الدين الحق، ويقص قصصاً مؤلمة لبعد
الأتراك عن الدين، حتى أصبحت الحروف العربية عند الجيل الجديد كالحروف
الصينية، والتي جعلت أحدهم يرد عليه وهو يسأله عن بعض العادات الحسنة في
تركيا عندما يطرق الباب ألا يزيد على ثلاث طرقات، ويبعد يده حتى لا يطرق
الرابعة، فتقول له حماته زكية: «إنها عادة تركية» ولا تعرف أنها سنة
الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وكذا الأمانة في البيع وبعض ما ورثه تجار أتراك
أصلاء يعدونه عادة تركية وهي في الأصل خُلق إسلامي، ثم تحدث عن دور
الإسلام في إصلاح التجارة، وأساليب التعامل من خلال إصلاح الإنسان.
«مراد هوفمان» عايش الحقبة الأخيرة من الحرب الجزائرية الفرنسية،
وآلمته مشاهد إحراق الفرنسيين لأحياء كاملة في الجزائر بقنابل النابالم، وآلمته
كلمات جارته في الجزائر لأطفالها وقد شاهدوا قتل النساء الجزائريات الذاهبات إلى
السوق فقد خففت الأم الفرنسية الروع والهلع الذي استولى على الأطفال من قتل
جمع من النساء بلا سبب بأن قالت لهم: «إنهم ليسوا سوى عرب» ! !
يقول: بحثت مراراً عن ذلك السر الذي مكن هؤلاء الجزائريين الملتزمين من
احتمال كل هذا الاحتقار وسوء المعاملة والعقاب، وأخيراً وجدت مفتاح هذا السر
وأنا أعود لقراءة الآية (153) من سورة البقرة: [يا أيها الذين آمنوا استعينوا
بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين] .
ولا ننسى هنا إعجابه الشديد بأستاذه «محمد أسد» ، وقد ذهب لزيارته في
لشبونة وناقشه، ويرى أنه ما من شخص آخر استطاع خلال المائة عام الأخيرة أن
يبز النمساوي «محمد أسد» في إسهامه العظيم في شرح الإسلام ونشره في الغرب
(ص 65) ، ويبدو «هوفمان» أقوم منهجاً من أستاذه «أسد» الذي كان مغرقاً في
عقلانيته في مواضع عديدة من كتبه، وله هفوات وغرائب مشهورة، ولكنها لا
تقدح في إسلامه وحسن نيته رحمه الله، وما تركه من أعمال باللغة الإنجليزية تدل
على اهتمامه بالقرآن وتفسيره وبصحيح البخاري بخاصة، وقد ظلمه من شكك فيه، وكتاباته تحتاج إلى نقد علمي وليس إلى حقد، ويكفيه وصف «مراد» له وقد
أنصفه في قوله «والله أعلم» ، وأما «مراد» فما سبق من تزكية لكتابه فقد كان
ذلك في العموم، ولكنه لم يسلم من هنات في فهمه للدين الإسلامي ولبعض أحكامه،
وقد أشار ودل قوله في مواضع من كتابه على عدم وضوح في الفهم، مثال ذلك
قوله عن الجهاد «إنه لا يعدو في أصله أن يكون جهاداً معنوياً» (ص 176) ،
وكلام له عن الحقيقة الأرحب في نص موهم (ص 121) .
وأمثال هذه الكلمة مما يروغ عن التحديد العلمي، أو تغلب عليه نفسية
الاعتذار في بعض المواقع، والحديث عن فكره وبقية آرائه العقائدية والسلوكية
مكانه في دراسة عن كتابه «الإسلام كبديل» الذي خرج بعد هذا الكتاب مدار
حديثنا.
لقد أحسنت يا «مراد» كتابة مذكراتك الإسلامية، ونرجو أن نقرأ قريباً
مذكرات أخرى لأفواج من المثقفين وعلماء اللاهوت الذين يسلمون ما بين وقت
وأخر، وقد لاحظ المؤلف عن وعي جوع الغربيين للإسلام، ولكن عدم وجود قدوة، حيث لم يسمح للغربيين أن يسلموا، وهم يبحثون عن دليل مادي عن قدوة
يتبعونها، وأوضاع الفقر والجهل والخوف والفساد والخصام لا تسمح لأحد أن
يتبعها إلا قلة ممن يفضلون موقف النبل، يقول المؤلف: «ومن ثم فقد فضلت
موقف النبل المتواضع على موقف الكبرياء الغبي الذي يتخذه اللاأدريون المفترض
فيهم الجرأة والاكتفاء الذاتي، والذين غالباً ما يعيشون في عزلة نفسية جليدية
وضيقة، وبكامل وعيي أسلمت نفسي وفكري لمن هو أكبر من كل كبير» الله أكبر
كبيراً « [1] (ص 121) .
لقد كان» مراد «شجاعاً وجريئاً عندما عرض على مؤتمر الناتو لمديري
الإعلام بوزارات الدفاع عام 1984 م في» بروكسل «: أن الإسلام فيه حل
لمشكلاتهم الدينية والأخلاقية، وتساءل الحاضرون وهمسوا: هل رئيس المؤتمر
جاد فيما يقول أم يمزح؟ !
وأقام لقاءات ومناقشات في الجامعات والتلفزيون الألماني يدعو فيها إلى
الإسلام ويصرح بقناعاته، وفي المؤتمرات الدولية التي يرأسها يخبر معدي الطعام
مسبقاً بدينه، ويحضرون له طعامه وموقعه على مائدة ليس فيه خمر ولا خنزير،
ويتعجب من أحد أثرياء العرب وقد دعاه إلى الخمر فقال له» مراد «:» وأين ...
الله؟ ! «فرد عليه العربي الذي قال له من قبل إنه من ذرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال العربي الثري وهو سكران:» لقد تركت الله في ...
المطار! ! « [2] ، لقد تجاوز» هوفمان «هذه العقبات والسلوكيات التي تمنع ... غيرنا من قبول ديننا والتي صنعت حاجزاً بينهم وبين الإسلام، إن الذين يتعاملون مع الغربيين من المسلمين كثيراً ما يكونون نماذج مكروهة ومنفرة عن الإسلام، بتهتكها وخلاعتها وانعدام أخلاقياتها، حتى كان لسان حال الذين ناقشوه يقول:» ليس غبياً ومع ذلك مسلم « (ص 175) . لقد وصم المتغربون الإسلام
بما يليق بهم.
مذكرات (هوفمان) كتاب يناسب عامة المثقفين وتحتاجه جداً طائفة المثقفين
المخدوعين أو الذين استولت عليهم أوهام العالم النصراني القوي مادياً الذي أفقدنا
بريقه ولمعانه القدرة على رؤية الحق الذي عندنا، إنه نقاش ثقافي يعالج قضية
المتطرفين من النصارى في الغرب، ويعالج مشكلة المتطرفين للنصارى إلى درجة
التشنج في العالم الإسلامي.
__________
(*) صدرت ترجمتها باسم (يوميات ألماني مسلم) ، ترجمة عباس رشدي العماري، طبع بمركز الأهرام للترجمة والنشر، 1993 م، ويقع الكتاب في (238) صفحة.
(1) أشار هوفمان إلى قسيسين فرنسيين أسلما مؤخراً (ص 224) وإلى قسيس ألماني سوى من سبق ذكره كان يقول: إذا اختلف الإنجيل والقرآن فالقرآن أوثق وهو مقدم.
(2) (ص 135) من كتاب الإسلام كبديل.(75/97)
مقالة
المرأة بين تفكيرين
إعداد:نورة السعد
لم تعِ المرأة المسلمة بعد أنها الخاسرة في هذه الصفقة العصرية المسماة «
تعليم البنات» في كثير من البلدان، وهي خسارة لم تطلها وحدها بل انسحبت
بآثارها المدمرة على المجتمع بأكمله.. ماذا جنت المرأة عندما دفعوها دفعاً إلى
صعود مراقي التعليم العلماني؟ ! غير أنها جنت على نفسها وعلى من سواها؟ لقد
أخرجوا المرأة من بيت وليّها: أباً أو زوجاً، بشتى الحيل وأهونها فكان ذلك بداية
المحذورات جميعاً، وتركت المرأة جهادها الكريم في بيتها وانصرفت إلى نضال
مدنّس أو على الأقل ثانوي في الخارج؛ سعياً وراء تحصيل العلم بزعمهم! !
وتحقيق الكيان الاجتماعي! ! والوظيفة المرموقة، وباسم العلم والنور والتقدم! !
أخرجوا لنا نماذج نسويّة تمرست وتقلبت في معتركات التعليم ومجالات العمل
ومسارح الاختلاط المختلفة، نماذج (رائدة) خلّفَت وراءها رسالتها وبخاصة هموم
البيت، ومشاكل الزوج والأولاد! ! فضلاً عن تخلّى الرجل عن ولايته وقوامته
على المرأة، فلم يعد يأمر في أهل بيته ولا ينهى وانسحبت المرأة من البيت،
وتفككت الأسرة وضاعت المسؤوليات.
لماذا تتعلم المرأة، وماذا تتعلم؟
تتعلم المرأة لتنير عقلها وقلبها، وبماذا تنيره يا ترى؟ بالمناهج الدراسية
الرجّالية التي لا تنفع المرأة، ولا تستقيم مع فطرتها، ولا مع دورها الحقيقي في
المجتمع! أم بالمناهج التعليمية إياها في شتى المراحل المملوءة بالأفكار اللادينية بل
المناوئة للدين أحياناً.. تلك المناهج التي تكرس الازدواجية في الأذهان (تعليم ديني
ومدني، قديم وحديث) وتعرض المفاهيم الدخيلة وتزكيها وتطمس على المفاهيم
الإسلامية وتشوهها (لاسيما مناهج التاريخ والتربية والاجتماع، وخصوصاً مناهج
الدين! !) . [1]
وما ضرورة الدراسات العليا للمرأة المسلمة؟ في كثير من الأحيان هل حقاً
هو التحصيل العلمي! ! أم صرعة المساواة مع الرجل؟ إذن فما الآثار المترتبة
على تخريج تلك الأفواج من حاملي الإجازات (العلمية) ؟ ! أين فاعليتهم الاجتماعية؟ وماذا قدموا للمجتمع؟ ! ماذا قدمت تلك الرسائل الجامعية في معظمها غير انتحال
أفكار الآخرين واقتباس كلامهم، وتبني مناهجهم الضالة دون فهم أو تمحيص؟
حتى أصيب كثير من الرجال والنساء بالخلل العقدي! !
فأجيبوني ما ضرورة الدراسات العليا للمرأة؟ لاسيما إذا جرها ذلك إلى
التغرّب وحدها؟ ! فإن سفر المرأة يعني: سفراً دون محرم، وإقامة دون ولي
واختلاطاً ومنكرات لا تعد ولا تحصى، خصوصاً في هذا العصر، وعند فتيات
اليوم، اللاتي لا يبالين بركوب الصعاب، وخوض غمار التجارب، برغم قلة الزاد.
وحتى عندما ترافق المرأة زوجها المبتعث إلى الخارج، يتفتق الذهن التجاري
للزوجين في كثير من الأحيان عن فكرة إكمال المرأة للدراسة أيضاً، لا من أجل
سواد عيون العلم، ولكن تجميعاً للمرتبات (مرتب دراسي هنا ومرتب وظيفي هناك)
أما الأولاد فيحصلون على الحشف وسوء الكيلة، ففوق التغريب يلاقون الإهمال،
فيرمى بهم إلى جليسات السوء (baby setters) والمدارس الأجنبية، وإلى خضم
الحياة الغربية الموبوءة ذاتها.
ويدّعي الجهلة والمضللون: بأن الاختلاط أقل كلفة من إنشاء كليات للبنين
وأخرى للبنات، ولكن ما الداعي أصلاً إلى تعلم المرأة لعلوم الذرة والهندسة
والزراعة! ! والإعلام والصحافة! ! والآداب والفنون! ! وغير ذلك؟ هل
ليستوي الرجل والمرأة، في الخضوع للغزو الثقافي وغسيل الأمخاخ والتناقضات
العقدية، ولماذا كل هذا الحرص على إخراج المرأة وإفسادها؟ لماذا تمجّد وتلمّع
النماذج الشاذة في المجتمعات الإسلامية من شويعرات ومتأدبات وفنانات ومفكرات
ومتحزبات ومستوزرات! ! لماذا جعلوا المرأة التقدمية بزعمهم تمشي تحت هالة
من الأضواء والتعاطف، وصوروا المجتمع الشرقي المتخلف كما يحبون أن يطلقوا
عليه يكمن مترصداً وراء الجدار على هيئة رجل ملتحٍ بيده خنجر؟ ! هل الإسلام
عدو للمرأة؟ ! سيقولون لك: لا، لكن الإسلاميين كذلك! فالإسلام الموجود بين
دفتي المصحف ليس خصماً لهم مادام القرآن مهجوراً! !
ولكن أين هي المرأة المسلمة؟ ! هل هي تلك الخيمة المتحركة كما يدعون!! المرأة الجاهلة المتخلفة! تلك التي أورثتها جدران البيت قصر النظر وبلادة الحس، وسُقم التفكير! ! هل هي تلك التي لا تعرف من الحياة سوى الطبخ والنفخ، «
واسكت يا ولد» ، وهات أيها الزوج؟ ! أم أنها تلك المرأة العصرية (الواعية) ! !
التي تتمتع باستقلالية اقتصادية وفكرية! ! تلك التي تدفع بأبنائها إلى المدارس
الخاصة أو المدارس الأجنبية! ! تلك التي تختار بلداً أجنبياً لتمضية الإجازة
الصيفية، لينعم أطفالها «بكورسات» اللغة الإنجليزية ويمارس أفراد العائلة
حرياتهم بعيداً عن أعين الرقباء! ! تلك الأم العصرية التي اهتدت (! !) إلى
تطبيق التربية الحديثة الفذّة فألبست صغيرتها ذات الاثني عشر ربيعاً (! !) «
البنطال» و «التي شيرت» وتركتها تقص شعرها كالصبي، وتمارس الهوايات
الرياضية، وتتلقى دروساً في الموسيقى، ولأنها تتفوق في الفيزياء والرياضيات
الحديثة، فليس عليها بعد ذلك ألا تحسن شأناً نسوياً واحداً وألا تعرف من القرآن
والدين إلا ما تجتاز به امتحاناً، دون ممارسة أو تطبيق، ولماذا تتحجب هذه الفتاة ...
وأمها لا تلتزم كثيراً بالحجاب الشرعي! ! ولماذا تتحجب والحجاب مسألة
شخصية! ! ولماذا تكره على الصلاة؟ وليس لديها وقت لذلك! ! فالوقت مزدحم بالدراسة والنادي والأتاري والفيديو والفسح ... الخ عندما تبلغ الفتاة سن الرشد فإنها ستختار (أو لن تختار) لنفسها الحجاب والصلاة وبقية الأمور المؤجلة! ! أما الآن فالأم تسلح ابنتها بأساسيات الحياة وبما ينفعها حقاً في حياتها العملية! !
هذا جانب من التربية الحديثة التي تفتخر بها الأمهات العصريات في المجالس
النسوية، ويفضلن الحديث فيما أنفقنه على المدارس الخاصة، ودورات المهارات
الالكترونية، وملابس الصيحات الحديثة، والسفريات هنا وهناك فسينفقون أموالهم
ثم تكون عليهم حسرة.
إن المرأة المسلمة حقاً هي التي بايعت الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم-على
السمع والطاعة: فصانت نفسها، وحصنت بيتها، وجعلت همها الأول في حمل
الأمانة التي استحفظت عليها: تربية الأجيال الربانية المحمدية، وعرفت حق
المجتمع عليها، فانطلقت تتفقه في دينها، وتدعو قريناتها، وتنصح لأخواتها.
إنها تلك التي طالبت بنصيبها من الهدي الرباني لما غلبها الرجال عليه
فاستجيب لها، لأنها شقيقة الرجل، أي شريكته لا نده، فإن اختلاف الطبائع
الجسدية والنفسية، عند كل من الرجل والمرأة يعني بالضرورة اختلافاً حاسماً في
الوظائف والأدوار، وإلا فإنه من المجافي للمنطق أن يخلق الإنسان ذكراً وأنثى
دون أن يترتب على ذلك أمرٌ ما.
ولقد خرجت المرأة المسلمة في خير القرون، مجاهدة في ظل القرآن لكن ذلك
لا يعني أنها هجرت بيتها، وحملت السيف وجالدت الرجال، فإن النماذج المعروفة
لنا لا تمثل صوراً عامة، لكنها نماذج معدودة فحسب لنساء مسلمات، استجبن
بشجاعة منقطعة النظير لدوافع إيمانية بحتة، فقد شهدت نسيبة بنت كعب مع
زوجها وابنتها أُحداً، وشهدت أيضاً الحديبية ويوم حُنين ويوم اليمامة، وشهدت
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما اليرموك مع زوجها الزبير، وشهدت أم سُلَيم
حنيناً مع زوجها أبي طلحة، وابنها أنس بن مالك، وحمل عبادة بن الصامت زوجه
أم حرام معه لما غزا قبرص في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.. ويتجاهل
الكثيرون أن هاتيك النسوة المسلمات، وعلى رأسهن أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها قد شاركت في الأحداث المهمة في عصرهن، وخُضنَ المعارك، ومع ذلك كله
فلم تكن إحداهن تكلم الرجال إلا من راء حجاب.
إذا كان الرجل نصف المجتمع فإن المرأة هي نصفه وحاضنة نصفه الآخر
فهذا الرجل نفسه قد تعرض لتربية المرأة أماً وتأثيراتها أختاً وابنةً وزوجاً، وإذا
كان في وسع الرجل أن يتنصل قليلاً أو كثيراً من مهامه داخل بيته، فإن المرأة لا
يسعها من ذلك أقله، فهي المربية المدبرة المسؤولة، شاءت أم أبت، فإذا صلحت
صلح الأمر كله وإن غاب الرجل وإذا فسدت لم يُجْدِ مع ذلك دواء.
إن صلاح الرجل والمرأة، مرتبط أساساً بعودة المجتمع إلى نظام الإسلام،
إنه في بلوغنا القيم الإيمانية التي تجعلنا نحيا في سبيل الله حياة ربانية كاملة، في
أقوالنا وأفعالنا ومشاعرنا وأذواقنا، وخلجات صدورنا وآفاق تصوراتنا، وغايات
آمالنا، إنطلاقاً من غاية التربية الإسلامية ومناهجها المبنية على تكوين الفرد
الصالح في نفسه المصلح لما اسّتُرّعي عليه.. وقد اسّتُرّعيت المرأة على البيت
المسلم الذي يمثل بحق نواة مصغرة للمجتمع كله، بل الحياة بأسرها.
__________
(1) انظر د يوسف القرضاوي الحل الإسلامي فريضة وضرورة ط 3 - 1397 هـ مكتبة وهبة القاهرة ص 44-45.(75/103)
في دائرة الضوء
«قضية الآخر»
في كتابات المثقفين العرب
د. محمد يحيى
أصبحت قضية ما يسمى «بالآخر» تشغل حيّزاً واضحاً في الطروحات
الثقافية على الساحة العربية في الآونة الأخيرة، لاسيما في مجال مواجهة الفكر
الإسلامي ونقده، حيث توجه تهمة رئيسة الآن إلى هذا الفكر بأنه لا يعترف بالآخر، ولا يفقه التعامل معه، بل لا يضع قضية الآخر برمتها في الحسبان ويرمى الفكر
الإسلامي بهذه التهمة من قِبَل رموز العلمانية على امتداد ساحة العالم العربي الفكرية، كما تبنى على هذه التهمة اتهامات فرعية، تتعلق بدعوى ضيق الأفق، والانغلاق، والتعصب وما شابه ذلك وتقترن بهذه القضية أو هذا الطرح مسائل أخرى،
أصبحت مشهورة ثقافياً في الفترة الأخيرة كقضية التعددية، والتفاعل الفكري
الحضاري، وإسقاط مفهوم الهوية والذاتية، وتجنب الحديث عن الغزو الفكري
والثقافي، باعتبار أن كل هذه المسائل تعالج قضية الآخر وتحلها، وفي الوقت نفسه
ينشغل بعض المثقفين الإسلاميين بالرد على الطروحات الدائرة في فلك قضية
الآخر، بتوضيح انفتاحية الإسلام، وقدرته على التواصل الحضاري،
وسماحته الدينية، وعدم تبنيه مفاهيم ضيقة حول الهوية، والذات ... الخ.
ولكن في خضم هذه الطروحات والطروحات المضادة، تغيب حقائق
واعتبارات مهمة يغفلها عمداً أو سهواً من أتوا بقضية الآخر إلى الساحة الفكرية كما
إن عدم تعرض من يتصدون بالرد من الجانب الإسلامي لها يضعف من فاعلية
دورهم ويجعلها أشبه بالضربات المضادة «الروتينية» التي توجه في لعبة كرة
المضرب حتى تستقر الأمور إلى أن يتناول الطرفان الكرة في رتابة، حتى يسجل
أحدهما نقطة، ثم تعود المباراة إلى وتيرتها، حتى يسجل الآخر نقطة.. وهكذا،
ومثلما هي الحال في كثير من القضايا الثقافية المطروحة، ولاسيما في مجال
المواجهة بين الإسلام والفكر العلماني، فإن المطلوب هو كسر حلقة الرتابة في
طرح القضية وإدارتها بدلاً من الاندماج الطوعي غير الواعي في داخل هذه الحلقة، مما ينتهي إلى العقم، وعدم الجدوى حيث يسجل الطرفان النقاط كل أمام جمهوره، ويفوز أحدهما في النهاية لكي يواجه الهزيمة في المباراة أو القضية التالية.
المطلوب إذن هو الخروج من دائرة التبادل الرتيب للحجج والحجج المضادة داخل
حلقة المباراة القضية المطروحة إلى فحص وكشف قواعد المباراة، ومن الذي
فرض هذه المباراة القضية وحدد أطرها الفكرية؟ ! والمطلوب أيضاً تسليط الضوء
على هذه الأمور الواقعة خارج إطار ساحة اللعب؛ لأن ذلك أكثر فائدة لفهم القضايا، والتعامل معها، وكذلك للعلم والوعي بحقيقتها، وهذا هو المطلوب تجاه قضية
«الآخر» برمتها.
لعل أول الأسئلة التي ينبغي أن توضع في هذا السياق هو: من الذي يطرح
قضية الآخر؟ وهو سؤال يفتح الباب لأسئلة حيوية أخرى مثل: ما هو هدف
إدراج هذه القضية؟ ، وهل تطرح هذه القضية بهدف ثقافي محض هو المعرفة
المجردة؟ أم تطرح بهدف سياسي/ثقافي هو توجيه ضربة، أو إثارة عقبة أمام تيار
خصم؟ .. هناك سؤال أخطر حول ما الذي يعنيه بالضبط من يطلقون مصطلح
«الآخر» ؟ وما هي أبعاد القضية وما هي المصطلحات المتصلة بها؟ .. هذه هي الأسئلة التي يجب أن تطرح قبل الإجابات والحجج والأسانيد التي تثبت أن الإسلام يعترف بالآخر، ويتعامل معه ويتفاعل ويفكر.
إن مفهوم أو مسألة «الآخر» تستند أساساً إلى تراث أوروبي فكري وفلسفي
بعيد الغور وطويل التاريخ، فهو متأصل مثلاً في النزعة «الإنسانية» أو بالأصح
الفردية، التي غلبت على الفكر الغربي فيما يسمى عصر النهضة وما تلاه من
عصور فلسفية، حيث تضخم إحساس الإنسان الفرد بذاته وشخصيته وكيانه
ومشاعره ورغباته وتطوره ومصالحه، إلى حد أصبح معه هو وليس الرب أو الإله
أو الأمة أو المجموع البشري محور التفكير والهم الأول والأسبق، وإزاء هذا
التضخم والمحورية للذات المفردة، وتحولها إلى عالم واسع من الأفكار والمشاعر
والرغبات والمصالح تدور حول نفسها في أنانية طاغية أصبح «الآخر» وهو
الأفراد، أو الكيانات، أو الذوات الأخرى مشكلة أو قضية تفرض نفسها من حيث
كيفية التعامل مع هؤلاء، وتحقيق الذات في مواجهتهم أو على الأقل بتنسيق معهم،
أو دون الدخول في صراع معهم، أو بالدخول في صراع معهم والفوز في هذا
الصراع.. باختصار شديد فإن قضية الآخر نشأت فقط في ظل تضخم وتمدد
الإحساس «بالأنا» المفردة، أو بالذات والكيان والشخصية الفردية إلى حد أصبح
معه إيجاد مجال لما هو خارج الفرد أو لما هو غير الذات مشكلة تتطلب الحل،
وتتطلب التفكير في أبعادها ومضامينها.
النزعة الفردية الغربية المسماة أحياناً أو في أصلها «بالإنسانية» هي الرحم
الأول الذي ظهرت فيه قضية الآخر، والتي ظهرت تجلياتها تباعاً في الفلسفات
والمذاهب الفكرية الغربية المختلفة حتى العصر الحالي، ففي فلسفة هيجل المنطقية، وفي مفهوم الحد والذات غير المطلقة في كلامه عن النفس والروح والتاريخ
يصبح الآخر ضرورة حتمية تلازم الذات المفردة، وتحتم عليها التعامل معها، وإذا
كانت الذات والآخر هنا أفراداً أو مفاهيم، فإن الذات والآخر في فلسفته عن التاريخ
تصبح أمماً وجماعات ودولاً يجري التصارع والتناقض بينها على هذه الأسس، وقد
انعكس هذا المفهوم الهيجلي عن الذات والآخر على أفكار ومذاهب سياسية وقانونية
كثيرة طيلة القرن التاسع عشر والعشرين، رأت في غلبة الأنا، وإطلاقها بالتغلب
على الآخر، أو استيعابه من خلال «الجدلية» الهيجلية المشهورة، الحل الأكيد،
والهدف الأسمى الذي تسعى إليه.
والفلسفة النفعية الإنجليزية الشهيرة في منتصف القرن التاسع عشر، وما
تمخض عنها بعد ذلك من مذاهب في علم النفس والاجتماع والسياسة، وقبل كل
ذلك في الأخلاق والسلوكيات، قدمت هي الأخرى طرحها الخاص لقضية «الآخر» ، أو «الأنا» التي لا يشغلها شيء سوى «حساب اللذة» والحصول عليها
بأعظم درجة، حيث تصبح المشكلة هنا هي كيفية إجراء هذا الحساب للذة والتعظيم
للفرد وللأنا في وجه الآخر، أو بالتنسيق معه وحيث تصبح المشكلة الكبرى في هذا
المذهب وما تفرع عنه من مذاهب ليبرالية وبراجماتية، هي تحقيق مصالح ولذات
وسعادة الأفراد والذوات المادية داخل مجتمع مكون من «ذوات» فردية متضخمة
الإحساس بكياناتها، وكل منها هو «الأنا» لنفسه و «الآخر» بالنسبة لغيره،
وتظهر قضية الآخر في مباحث الإدراك المعرفي عند (الظواهرية) في مطلع القرن
العشرين حيث رأت هذه الفلسفة أن عملية اكتساب المعرفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً
بذات العارف الفردية، التي تسعى لاستكشاف الآخر المعرفي أو النفسي أو
الشخصي، وكذلك تظهر قضية الآخر في بعض الفلسفات الوجودية، ولاسيما في
فلسفة (سارتر) ومن لف لفه من الفلاسفة الفرنسيين والأمريكيين وغيرهم، وهي
تظهر هنا على المستوى الفردي البحت حيث يكون هدف الذات المفردة هو «
تحقيق الذات» في إطار يكون فيه «الجحيم هو الآخرون» وفق عبارة (سارتر)
المشهورة والتي ترى في الآخر (الغريب) الذي ينبغي الدخول في علاقة ما معه،
ولكن فقط في إطار أو سياق تحقيق الأنا لذاتها.
وأخيراً وعلى مدى العقدين الماضيين تبرز قضية «الآخر» في الفكر
الأوروبي الثقافي بعامة، وعلى كل المستويات الفلسفية والاجتماعية وحتى «
الأنثروبولوجية» لتعالج قضية الحضارة الغربية في مواجهة المشكلات المترتبة
على العهد الاستعماري القديم والإمبريالي الجديد من تعاملات مع شعوب وثقافات ما
يسمى بالعالم الثالث، ومع الأقليات الكبيرة العرقية والدينية واللغوية والثقافية التي
نشأت داخل الدول الأوروبية ثم الأمريكية؛ بسبب عوامل عديدة كالهجرة والعلاقة
الاستعمارية، وهذا الطرح الأخير هو الذي نقله إلى الساحة الفكرية العربية عناصر
النخبة العلمانية في إطار سياستهم الدائبة في المحاكاة والنقل والاستيراد لما يروج
في ساحات الفكر الغربي، وكذلك في إطار استخدام هذه النخبة لأدوات فكرية
غربية كأسلحة في حرب المواجهة مع الإسلام ومنهجه.
والخلاصة هي أن مسألة «الآخر» لا تقوم بل ولا يكون لها معنى إلا في
ظل حالة من تضخم الشعور بالأنا أو بالذات الفردية أو الجمعية أو المعنوية إلى حد
تصبح معه علاقاتها مع أي كيان خارجها (الآخر) سواء أكان فردياً أو جمعياً مشكلة ...
من حيث أنه قد يعرقل، أو يحد من أهم وقائع هذه الأنا أو الذات في تحقيق نفسها
بالمعنى الشامل معنوياً أو مادياً، مما يستتبع أن يكون هناك مشكلة «الآخر» ، وقد
تفرقت أنواع الحلول والاتجاهات الغربية في مشكلة الآخر بين ما سمي «بنفي
الآخر» أو سحقه والقضاء عليه (وهذا في حالات الصراع بين القوميات، وبين
الثقافة الاستعمارية النصرانية العلمانية والثقافات المستعمرة) ، وبين محاولات
الحوار والاستيعاب بالتعددية على درجات داخل كيان موحد أوسع ... الخ.
* * * * *
إن المشكلة الحقيقية مع قضية «الآخر» تختلف عن المشكلة التي تواجهنا
نحن المسلمين مع قضايا فكرية أخرى فرضتها النخبة المتغربة: كقضية العلمانية،
ففي هذه القضايا تكون المشكلة الأولية هي كون هذه القضايا غربية المنشأ أي أنها
قضايا تتصل اتصالاً عضوياً لا ينفصم بالسياق الحضاري والثقافي والسياسي
والاجتماعي للتجربة التاريخية الأوربية، حيث إن انتزاعها من هذا السياق
وتحويلها إلى مجرد مبادئ نظرية عامة مجردة ذات انطباقية عمومية يصبح هو
المشكلة الأولى التي يتحتم مواجهتها وكشفها قبل الدخول في مناقشات أخرى لتلك
القضايا، أما بالنسبة لقضية «الآخر» ومع التأكيد أيضاً على خصوصيتها الثقافية
السياقية الأوروبية فإن الوضع يختلف لأن المشكلة الأولية التي تواجهنا معها هي في
تطبيقها، وإدخالها بشكل معكوس من قبل أصوات النخبة العلمانية.
لقد قلنا: إن قضية الآخر تنشأ أو قد نشأت في ظروف كان فيها تضخم الذات
أو الأنا بمستوياتها المختلفة وأشكالها المتنوعة فردي، أو ثقافي أو سياسي/اجتماعي
يصل إلى حد هائل، يتحتم معه معالجة وضع «الآخر» بمستوياته وأشكاله
المختلفة في إطار عملية تحقيق الأنا لذاتها، هذا هو السياق الذي ظهرت فيه قضية
الآخر في الغرب داخل الإطار الفردي العام للحضارة هناك، وداخل فلسفاتها من
الهيجلية إلى النفعية إلى الليبرالية إلى الوجودية إلى فلسفات الثقافة والمعرفة والنقد
الحضاري والأنثروبولوجيا، ولكن عند نقل هذه القضية إلى الساحة الثقافية العربية
نلاحظ أنها تحولت من قضية ذات أبعاد فلسفية/اجتماعية متعددة، وذات منظور
واسع عميق، إلى مجرد تهمة توجه ضد خصم ثقافي على سبيل تشويه صورته،
ولفتح الباب أمام توجيه اتهامات أخرى له تشبه السباب الدارج، ولا تخلو من
مسحات الغلو والعصبية كاتهامات التعصب والانغلاق وما أشبه ذلك.
إلا أن الوضع المعكوس الذي أشرت إليه يتجلى في أن تهمة العداء للآخر
توجه إلى الذات، أوالأنا أو الهوية أو الكيان الإسلامي في وقت هو فيه في أشد
حالات الضعف والهزال والتراجع، بل وفقدان الوعي والتماسك، بحيث إن قضيته
الحقيقية ليست في حل مشكلة الآخر، بل في مجرد ضمان استمرارية ذاتيته وكيانه
هو. نحن لسنا أمام ذاتية فردية أو جماعية تعاني من التضخم والغرور والتوسع
والابتلاع والاستعلاء المجنون، كما كانت الحال مع الذاتية الفردية أو الجمعية في
عصور النهضة والكشوف الجغرافية وإحياء العلوم الفلسفية والطبيعية، ثم عهود ما
سمي بالتنوير والفتوح الاستعمارية وتكوين الامبراطوريات والدول القومية الكبرى،
وما صاحب ذلك كله من تأليه للفرد والذات وإخضاع كل شيء من دين وقيم
وشعوب أخرى لهما وجمعها فيهما، بل نحن عندما نتحدث عن الذاتية الإسلامية
فردية أو جمعية في الفترة الراهنة نتحدث عن ذاتية هي في حالة من الضعف
والخمول لأسباب عديدة تاريخية وفعلية ليس هنا مجال الحديث عنها بحيث بات
يخشى عليها أن تفقد وجودها نفسه وبالتحديد من جراء سطوة هذا «الآخر» الذي
يجري الحديث عنه كما لو كان هو المهدد من جانب الذات الإسلامية، نحن لسنا
أمام ذات جامحة طامحة، متوسعة، عدوانية، شرسة، نهمة تمضي لاستعمار الدنيا، بحيث يصح أن ترفع في وجهها دعوات الحفاظ على «الآخر» من عدوانها
واجتياحها، وبحيث يصح أن تحذر من الدوس على هذا الآخر بالأقدام، والقضاء
عليه ونفيه، أو على الأقل مناصبته العداء.
إن الذات الإسلامية التي ترفع في وجهها الآن تهمة العداء للآخر ورفضه
ليست هي الذات الأوروبية الاستعمارية التاريخية، أو الذات النظرية المصبوغة
بالنزعة الإنسانية العلمانية اللتين سعتا وتسعيان إلى محو أو إدماج أو نفي أو
استيعاب «الآخر» ، وهذه الذات لم يعرف عنها هذا النزع الإنساني الاستعماري
العلماني أو الصليبي المهدد، والنافي «للآخر» سواء أكان من ناحية تجربتها
التاريخية أو المعاصرة، أو من ناحية مكوناتها العقدية، وبصرف النظر عن هذا
وذاك فإن وضعها الحالي من التفكك وضعف الإحساس والوعي بالهوية يهددها هي
وليس الآخر بالضياع، وهذا الواقع يجعلنا نفهم التهمة الموجهة لها بالعداء «للآخر» على أنها في حقيقتها ليست تهمة مبنية على تفكير ونظر جدي متعمق في الأمور، بقدر ما هي تهمة تقوم على تشويه الصورة وتقديم الغطاء لما يتردد الآن بفجاجة
في الإعلام الغربي وغيره حول دعوى «الخطر الإسلامي الجديد» و «خطر
الأصولية الصاعد» ، وما شابه ذلك من أنواع الدعاية الإعلامية، فتهمة العداء «
للآخر» لا تكشف عن نظرة جادة لمحتوى الثقافة الإسلامية، أو لتجربة الذات
الإسلامية التاريخية والمعاصرة، وإنما هي مجرد شعار من شعارات تشويه الصورة
والدعاية السوداء، وإلا لما كان من أبسط الأخطاء أن توضع الذات المتأزمة موضع
الذات المستعلية الغربية.
إذن قضية الآخر تبدأ بداية مقلوبة عندما تطرح عندنا، وهي بداية تخالف
تماماً البداية المنطقية والمعقولة والطبيعية لها في سياقها الغربي، ويكفي أننا لسنا
أمة مُستَعْمِرَة أو عدوانية، حتى تكون لهذه القضية انطباقية علينا من ناحية تهديدنا
للآخر، كما يكفي أننا نحن الذين نتعرض لعداء الآخر ومحاولته نفينا واستعبادنا
واستبعادنا.
وهنا يطرح سؤال آخر من تلك الأسئلة التي لاحظناها فيما سبق نفسه: فمن
هو ذلك الآخر الذي يتهدده الإسلام ويتباكى عليه المتباكون؟ هل هو الغرب
بنزعاته من صليبية إلى استعمارية جديدة وقديمة إلى صهيونية وعلمانية؟ أم هو
غير المسلمين في خارج وداخل البلدان الإسلامية ومعهم النخب الحاكمة والمثقفة
(اللادينية) ؟ أم هو اليهودية العالمية والإسرائيلية؟ وهل هذا الآخر أفراد ودول، أم
أفكار ومذاهب وفلسفات، أم حركات سياسية واجتماعية ودولية، أم تيارات
اقتصادية ومادية كبرى ... الخ؟ ثم من هو الذي يتحدث عن العداء للآخر متباكياً
عليه، وقائماً على حقوقه التي يزعم تعرضها للخطر؟ إنه نخب وأقليات متغربة
ومعلمنة داخل عالمنا العربي المسلم وكأنهم بهذا الحديث المشفق على «الآخر»
يهاجمون بني جلدتهم المعترضين متهمين إياهم بالعدوانية والتوسع الاستعماري
والجهل الثقافي، وهل تكون هذه النخب والعناصر قد وضعت نفسها بذلك في زمرة
الآخر هذا، بحيث ينطبق عليها ما تقوله بعض الحركات الإسلامية من أنها انخلعت
من ربقة الدين؟
إن البداية الحقيقية للتعامل مع قضية الآخر، تكون بفهمها وفهم سياقها
الحضاري الفكري الأصلي وتتبع هوية وهدف من يطرحونها، لاسيما وهم يجعلون
من أنفسهم تابعاً لذلك الآخر الذي يتحدثون عنه، وليس جزءاً أو مكوناً من الأمة
الإسلامية التي يوجهون الاتهام إليها، ولا يمكن أن يكون هناك طرح لقضية الآخر
مع تجاهل قضية الأنا أو «الذات» أو الهوية، وهذا من طبيعة الأشياء المنطقية
لأنه إذا جاز لنا أن نتصور وفق المنطق الهيجلي مثلاً أنه لا يمكن أن توجد ذات
(غير مطلقة) بدون الآخر، فإنه في الوقت نفسه لا يمكن وجود آخر وأيضاً من
الناحية المنطقية والفعلية بدون الأنا والذات، ولذلك فعندما يصرح بعض عناصر
النخبة مثلاً من أن قضية إثبات الهوية الحضارية والعقدية هو أمر بات مرفوضاً
وبائداً، وبأنه لا يجوز الحديث عن الغزو الفكري فإن المرء يستغرب أن يصدر هذا
ممن يتحدثون في الوقت نفسه عن احترام الآخر واعتباره والتعامل معه من موقع
التفاعل، وليس العداء، إذ كيف يكون ذلك إذا كانت الأنا أو الذات (الحضارية
الدينية) التي ستقوم بذلك هي عندهم مرفوضة من موقع رفض الحديث عن الهوية
والذاتية الثقافية؟ إن وجود الهوية والأنا الثابتة الواضحة هو الشرط الأول للحديث
بعد ذلك عن الآخر وعن أي نوع من أنواع العلاقة معه، وليس هذا فحسب بل لابد
أن تكون هذه الأنا قوية صاعدة ولابد كذلك أن تكون فاعلة داخل ثقافة فردية تعلي
من شأن الذات وتجعل من تحققها أي تحقق الذات بمعنى بسطها وامتدادها في
الزمان والمكان والعمق الحضاري والفني والإشباع والقوة المادية أهم أحد أهدافها،
ولكن عندما تكون الأنا مهددة بالتفتت والضياع وعدم الوجود وعندما لا تتحقق فيها
الشروط التي توفرت في الأنا الغربية، وحتّمت طرح قضية الآخر فإن طرح هذه
القضية والإعلاء من شأنها يصبح عملاً مشبوهاً، وغير منطقي، ويحق عندئذ
توجيه تهمة مضادة من أن هذا الطرح وبالذات في شكل الاتهام هو طرح مغرض لا
يأتي لوجه الحقيقة بل لمجرد إحراج الخصم الفكري، ووضعه في موضع الدفاع
بقذفه بالاتهام وراء الآخر ليس لغرض سوى إشغاله بالرد، أو إحاطة مواقفه
بالشكوك والظنون، وفض الناس من ورائه وقبل كل شيء إجباره على اتخاذ
مواقف يرحب فيها بالأفكار والمذاهب المخالفة وإلا تعرض لتهمة أنه ينفي الآخر
ويعاديه.
ولا يمكن كذلك طرح قضية الآخر بإلحاح وخطورة وفي شكل الاتهام الحاد في
ظل وضع تتعرض فيه الذات أو الأنا أو الهوية إلى عدوان مستمر وشرس من
جانب ذلك الآخر ضد كل مظاهرها، سواء أتخذ هذا العدوان شكل الغزو الفكري،
أو الاجتياح الإعلامي أو الهيمنة السياسية والاقتصادية أو الهجوم العسكري المباشر، أو حتى الإبادة والإفناء، كما يحدث الآن على امتداد ساحة العالم الإسلامي.
إن الآخر هو الذي ينبغي أن يوجه إليه النصح والتحذير بأن ينهي عداءه
ونفيه للأنا (وهي تعتبر الآخر بالنسبة له) قبل أن توجه للأنا الضعيفة والمحاصرة
تهمة العداء للآخر، والحق أن طرح تهمة العداء للآخر بهذا الشكل المعكوس يكشف
غرضاً آخر من أغراض الإلحاح عليها من جانب النخبة ألا وهو الإرهاب الفكري
وتمييع المواقف الإسلامية، فتحت شعار التفاعل والتقارب مع الآخر والتعرف عليه
يجري الإلحاح على كبت وإسكات العديد من المواقف والأحكام الشرعية بحجة أنها
تعادي الآخر، وتعوق التعامل معه، وتشعره بالحرج وحتى تشوه صورة الإسلام
لديه، ومنها قضايا الجهاد والحكم الإسلامي ورفض الربا، وأحكام المرأة والأسرة،
بل وحتى الموقف الشرعي من عقائد النصارى، وسلوك اليهود.
وبنظرة فاحصة إلى الواقع نجد أن الطرح الفعلي لقضية الآخر في عدد من
البلدان العربية، قد فرض بالفعل من أجل هذا الهدف دون غيره، حيث يقال من
جانب عناصر النخب العلمانية: إن الطروحات الإسلامية في المجال السياسي
والاجتماعي ينبغي تغييرها لأنها تسئ إلى الآخر وهو هنا الغرب والدوائر السائرة
في ركابه وهكذا يصبح مفهوم الآخر هنا ذا طبيعة قمعية واضحة فالآخر هو الكيان
الحضاري المخالف الذي تصبح للعلاقة معه أولوية قصوى تفوق حتى أولوية أن
يكون للذات أو للأنا وجود مستقل، أو أن يكون لها حوار مع نفسها هي أولاً. إن
الآخر وفق هذا المفهوم يصبح هو الكيان الأكثر أهمية من الذات التي يتحتم أن
تضحي بنفسها، أو تعدل من طبيعتها؛ لكي تتوافق معه وتندمج فيه ولا تغضبه! !
وهكذا تنقلب قضية العداء للآخر من معناها الظاهر إلى النقيض، فالمطلوب ليس
تخفيف الغلواء ضد الآخر، بل الاندماج فيه تدريجياً، والتوافق معه تحت شعار
إقامة العلاقة معه والتكيف والتفاعل في ظروف تكون فيها الذات الحضارية ضعيفة، ويكون الآخر عدوانياً متوسعاً ولا يقبل بأقل من الاستيعاب والهضم، وليس غريباً
والأمر كذلك أن يتوافق طرح قضية الآخر مع فرض ما يسمى بالنظام العالمي
الجديد، كأحدث طروحات الغرب لتحقيق الهيمنة العالمية على كل الأصعدة.
إن تعاملنا مع القضايا الفكرية التي تطرح ينبغي أن يسير على الخطوط التي
سعينا إلى رسمها هنا من التعمق في الخلفيات والأهداف المرغوبة، وحقيقة المفاهيم
المطروحة والسياقات الحاكمة بدل الانشغال بتبادلات سطحية للحجج لا تغني ولا
تفيد.(75/108)
تعريف بأنشطة المنتدى الإسلامي
في العدد قبل الماضي سبق التعريف بالمنتدى الإسلامي وأنه أحد مراكز أهل
السنة والجماعة، يسير على منهجهم، ويدعو إلى أصولهم، ويذكر بطريقتهم
السلفية الخالية من الغلو والانحراف، وهو يستقبل وبكل ترحاب أي مسلم مهما كان
لونه أو جنسه.
ووضحنا في تقرير موجز ألوانا من الأنشطة الدعوية والثقافية والمشاريع
الخيرية، التي تمت بعون الله ثم بدعمكم ومؤازرتكم والتي لا تزال بحاجة إلى ذلك
الدعم، انطلاقا من قوله تعالى [وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم
والعدوان] ، وكانت ولله الحمد محل إعجاب وتقدير القراء والمتابعين لأنشطة
المنتدى.
وقد رأينا البدء بإيضاح المزيد من التعريف لكل مشروع على حدة تحدثا بنعمة
الله، سيكون الحديث هنا أولا عن مشروع كفالة الدعاة وبرامج تعيينهم، ثم بيان
لبرنامج شهر رمضان المبارك الماضي، وكذلك تفصيل لمشروع مكافحة العمى
بدولة تشاد، بالإضافة إلى بيان إجمالي لمشروعات المنتدى القائمة والمستقبلية.
أولا: مشروع كفالة الدعاة وبرامج تعيينهم:
وإيمانا من المنتدى الإسلامي بعالمية رسالة الإسلام، فقد تم افتتاح عدد من
المكاتب الفرعية للمنتدى الإسلامي في بعض الدول وتعيين مندوبين يتابعون أنشطة
المنتدى في دول أخرى، وبعد طول بحث ودراسة رسمت خطة العمل وحددت
الأهداف والوسائل، وذلك من أجل أن يكون العمل إن شاء الله عملا مدروسا،
معروفة أبعاده ومعالمه، بعيدا عن الارتجال والعشوائية.
تم تعيين خمسمائة من الدعاة في عدد غير قليل من الدول الإفريقية والآسيوية
مثل: كينيا، أوغندا، الصومال، أثيوبيا، الأوجادين، السودان، تشاد، مالي،
النيجر، نيجيريا، غانا، التوجو، بنين، السنغال، بنجلاديش، باكستان، الفلبين، إندونيسيا ... ليكون ذلك إن شاء الله تعالى إسهاما في نشر منهج السلف الصالح.
ويخضع تعيين الداعية لشروط عدة من أهمها:
1- سلامة المنهج معتقدا وسلوكا.
2- الكفاية العلمية.
3- الكفاية الدعوية.
وقد وضعت برامج دعوية يومية لكل داعية يسير في عمله بناء عليها وتشمل
هذه البرامج:
1-حلقة واحدة على الأقل لتحفيظ القرآن الكريم.
2-دروس ومحاضرات عامة.
3-دروس ومحاضرات في المدارس والتجمعات العامة.
4-جولات دعوية في القرى المجاورة، وغيرها.
ثم تتم متابعة الداعية عن طريق المشرف الدعوي في المنطقة نفسها، وعن
طريق إرسال تقارير شهرية إلى اللجنة المختصة بذلك.
ويحرص المنتدى الإسلامي على رفع الكفاءة العلمية الشرعية والدعوية لهؤلاء
الدعاة عن طريق الدورات العلمية الشرعية والملتقيات الدعوية والإمداد بالكتب
والمراجع ونحوها.
تكلفة كفالة داعية:
يقدم المنتدى الإسلامي راتبا شهريا لكل داعية، ومقدار هذا المرتب يخضع
في أغلب الأحوال لمستوى المعيشة في بلد الداعية ولمؤهله العلمي ومدى الجهد
الذي يقدمه، وبشكل عام تتراوح الرواتب بين 65240 دولار ومتوسط المرتبات
كما يلي:
متوسط كفالة الداعية 100 دولار شهريا، و 1.200 دولار سنويا.
الكفالة تشمل: المكافأة الشهرية بالإضافة إلى مصاريف الجولات الدعوية التي
يقوم بها الداعية من نقل ومأكل ومسكن ... الخ.
ثانيا: برنامج شهر رمضان المبارك:
بفضل الله تعالى تمكن المنتدى الإسلامي من القيام بتنفيذ برامجه المعدة لشهر
رمضان الماضي، وذلك من خلال برنامج تفطير صائم صاحبتها الأنشطة العلمية
والدعوية والتعبدية، حيث تم بعون الله عز وجل إعداد 326. 677 وجبة إفطار
وعشاء بتكلفة إجمالية قدرها 187. 35 دولار خلال هذا العام.
ولقد حرص المنتدى الإسلامي أن تكون المناطق المستفيدة من البرامج هي
الأكثر فقرا والأشد حاجة كمواقع اللاجئين المسلمين في كثير من البلدان كالصومال
وبنجلاديش وليبريا، ولقد تمت إقامة سنة التراوح والقيام والكثير من الخطب
والمحاضرات والندوات والدروس التي تصحح العقيدة وترفع الجهل عند العامة
وتفقههم في أمور دينهم المختلفة وبالأخص في أحكام الصيام والقيام والاعتكاف،
وزكاة الفطر، وذلك عن طريق دعاة المنتدى الإسلامي الموجودين في تلك البلدان.
ولقد كان لهذا البرنامج أكبر الأثر في نفوس الناس ونفع الله به خلقا كثيرا
وبالأخص في جوانب العقيدة وأحكام الدين، فلله الحمد والمنة.
وستجد أخي القارئ الكريم أدناه جدولا يبين البلدان المستفيدة من المشروع
وعدد الوجبات في كل بلد والتكلفة بالدولار.
جدول مشروع إفطار صائم لعام 1414هـ:
---------------------------------------------
م ... المبلغ الإجمالي عدد الوجبات التكلفة بالدولار
---------------------------------------------
1 ... كينيا (اللاجئون الصوماليون) 35.973 19.166
2 ... السنغال 5.000 ... 9.333 ... ...
3 ... بنجلاديش:
... أـ البنجلاديشيون. 10.000 5.333
... ب ـ اللاجئون البورميون. 90.000 48.000
4 ... غانا 60.000 16.000
5 ... نيجيريا 10.089 8.071
6 ... أثيوبيا ... ... 8.333 6.667
7 ... إندونسيا 21.500 11.467
8 ... الفلبين 11.667 9.333
9 ... السودان ... 12.500 13.333
10 ... إريتريا 3.846 6.666
11 ... الصومال 10.000 5.333
12 ... مالي 8.750 9.333
13 ... أوغندا 4.886 3.909
14 ... تشاد 6.000 4.000
15 ... ليبيريا 5.333 5.333
16 ... ساحل العاج 22.800 8.080
---------------------------------------------
إجمالي المصروفات ... ... ... 326.677 ... 187.357
ثالثا: برنامج مكافحة العمى في تشاد:
بفضل من الله تعالى قام المركز الإسلامي في السند بتنظيم برنامجه الطبي
(برنامج مكافحة العمى) في جمهورية تشاد بالتعاون مع المنتدى الإسلامي الذي تولى
مهمة الإعداد والتنسيق والإشراف للبرنامج، ومع جماعة أنصار السنة المحمدية
بتشاد التي زودت البرنامج بالطاقة التشرية العاملة في حقل الأمن والتنظيم والنقل
والتغذية.
وقد استمر البرنامج الطبي خمسة أيام أنجز خلالها ما يلي:
1- الكشف على ما يزيد عن خمسة آلاف مراجع.
2- صرف الأدوية اللازمة للمراجعين.
3- صرف النظارات الطبية للمحتاجين وقد تجاوزت (1500) نظارة.
4- إجراء 378 عملية جراحية للمصابين بالماء الأبيض الذي يؤدي إلى
فقد البصر، وكانت جميع العمليات بحمد الله ناجحة وموفقة.
وكان الفريق الطبي العامل في البرنامج مكونا من ثمانية أطباء واستشاريين
وأربعة عشر فنيا. وقد رافق البرنامج الطبي برنامج دعوي متكامل شارك فيه ما
يقارب 40 داعية، وتضمن:
1- إلقاء المحاضرات العامة في العقيدة والشريعة على جميع المراجعين في
المستشفى.
2- تنظيم الحلقات التعليمية للمرضى لتعليمهم أمور دينهم.
3- إقامة المحاضرات والندوات العامة في مساجد العاصمة (أنجمينا)
ومنتدياتها.
4- توزيع كميات كبيرة من الكتب والأشرطة باللغتين العربية والفرنسية
وقد شمل هذا التوزيع جميع المرضى والمراجعين والمشاركين، وكذلك المساجد
والجمعيات الإسلامية والمكتبات العامة.
5- إقامة مسابقة القرآن الكريم التي كانت على خمسة مستويات تبدأ من
حفظ القرآن كاملا وإلى حفظ خمسة أجزاء، وقد شارك فيها ما يزيد على 40
شخصا.
6- إقامة مسابقة السنة التي كانت على أربعة مستويات، وقد شارك فيها
قريب من 30 شخصا.
7- إقامة دورتين دعويتين شارك في كل منهما نخبة من الدعاة، وكانت
فترة إقامة كل واحدة ثلاثة أيام، وكان عدد المستفيدين من الدورتين 50 داعية.
8- توزيع بعض الكتب المنهجية على المدارس العربية.
9- نفذ المنتدى الإسلامي خلال البرنامج مشروع العقائق الذي تم فيه ذبح
200 عقيقة وزعت لحومها على الفقراء والمرضى وطلاب العلم المحتاجين.
هذا وقد كان فرح الناس بهذا المشروع عظيما، كما أنه ولأول مرة يقام في
تاريخ تشاد كلها برنامج طبي بهذا المستوى الكمي والكيفي، على أيدي أطباء
مسلمين، وشعر الناي بالفارق العظيم بين هذا البرنامج والبرامج الطبية التي تقيمها
المنظمات التنصيرية التي تأخذ من الدعاية أكثر من حجمها بكثير.
لذا فقد كان غيظ الأعداء من البرامج كبيرا مما حملهم على وضع العوائق دون
إقامته والعراقيل التي تقلل من نفعه أو أثره، ولكن الله سبحانه سلم فباءت
محاولاتهم بالفشل، وأثبت البرنامج بجدارة نجاحا منقطع النظير.
وكان هذا البرنامج فرصة طيبة لأن ينفذ الدعاة بما عندهم من اعلم إلى الناس
إذ العلم صار مقرونا بالعلاج والدعوة مصحوبة بالطعام والهدي بالهدايا، لقد تعرف
الكثيرون على أركان الإسلام والإيمان بعد أن لم يكونوا يعرفونها.
ومع كل هذا فقد خرج عشرات العميان مبصرين بعد أن ذاقوا مرارة العمى
عشرات السنين يضجون بالدعاء، ويلهجون بالثناء لكل من كان سببا في عود
أبصارهم إليهم، وقد أسلم ولله الحمد 23نصرانيا.
فالحمد لله أولا وأخيرا وظاهرا وباطنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين..(75/119)
الورقة الأخيرة
الهم الأدبي
تركي المالكي
الإنتاج الأدبي الإسلامي المعاصر لا يكاد يمثل غير رف واحد مضئ في
مكتبة متخمة بالإصدارات، مسترخية على مد البصر من الأرض طولاً وعرضاً..
ومايزال النص الأدبي الذي تنبض في جنباته ومضات الخيال وفجاءاته وجماله
ووقده المعنى وخلوصُه من غبار التهويمات المصادمة لجوانب من الرؤية
الإسلامية.. مايزال حجم هذا النص وعمقه غير متوازن مع هدير هذا البحر الممتد في طول العالم الإسلامي وعرضه من العائدين إلى حياض الإسلام بعد طول غياب، بالرغم مما تحقق في السنوات الأخيرة وبخاصة في ميدان النصوص الشعرية.
إن ركن الأدب في المكتبة الأدبية المعاصرة يكاد يمثل جانباً من المنجز
الغربي الذي نجح في بناء عقل ثقافي لا يرى إلا من خلال (العيون الزرق) !
ويُعجب حتى بالديدان التي تم (تعميدها) في بطون أصحاب البشرة البيضاء والشَعَر
الأشقر! مثلما يقبل كل الأقواس الغربية من الرومانسية إلى (ما بعد الحداثة) ، لكنه
يصاب بالشلل حين يرى قوساً إسلامياً واحداً ولو كان القوسَ الأخير الذي يُبقي
الإنسان في أحسن تقويم.
ولو فتشت في عالم الرواية العربية مثلاً عن نموذج واحد مشرق يمكن أن
يكون معبراً عن شخصية الإنسان المسلم وهويته الحضارية في أبعادها المختلفة أو
معالجاً بعمق لمشكلاته الحقيقية، لجف عزمك في طريق البحث الذي لا ينتهي بينما
يزدحم الطريق بنماذج الكادحين الذين يصارعون الفقر ويحاولون صناعة الفجر
الشيوعي الكاذب، أو أولئك الذين يسكنون (شقة الحرية) وينقلون ما تضج به من
العلاقات الغرامية مع التفصيل الذي يلاحق الحركة والكلمة حتى يجسم الصورة في
خيال القارئ بكل تفصيلاتها! ويصفون التنقل في عالم المبادئ المزيفة حتى وهو
يتم أحياناً بحسب فتاة الغلاف التي تفتح الطريق لقبول الدعوة أو تغلقه! ! .
وبين جبال الرماد هذه تكاد تختفي تلك الجمرات المعدودات من أمثال روايتي
(الثعابيني) و (ملكة العنب) ، فلا يُحس بها أحد، وهي التي تحمل نسغ الجمال
ملتحماً بهم صادق، تجري دماء الأمة الحقيقية في عروقه.
من هنا يصبح الهم الأدبي لزاماً بعضاً من خارطة الهموم الثقافية للخطاب
الإسلامي، وهل يمكن لدعوة إسلامية أن تهمّش البعد الأدبي أو تلغيه من اهتماماتها
وتحتفظ مع ذلك بمسيرتها الإصلاحية في بقية أبعاد الإنسان الحضارية؟ .. أظن أن
ذلك غير مقبول في المنهج الإسلامي من جهة ولا ممكن التحقق في الواقع الإنساني
المعاش من جهة أخرى؛ لأن الهاجس الأدبي والشوق إلى رواء الجمال وعذوبته
جزء من البناء النفسي في الإنسان يغذوه الأدب الحقيقي ويعمقه، ولا تكاد تكتمل
الشخصية الإنسانية إلا به، فضلاً عن بقاء الكلمة سلاحاً متعدد الاستخدامات في
الصراع الطويل بين الحق والباطل.
فهل تكون (مجلة الأدب الإسلامي) التي صدر عددها الأول قطرة في أول
الغيث، تقدم النص الفني الجميل، ملتحماً بالرؤية الإسلامية، بعيداً عن أدب
الأعطيات من جهة، ونصوص الترجمة لمتاهات الفكر الغربي المقدّمة في أشكال
فنية جميلة من جهة أخرى؟
نرجو أن تكون كذلك ونطمح أن ينهمر من بعدها القطر.(75/125)
ذو الحجة - 1414هـ
مايو - 1994م
(السنة: 8)(76/)
كلمة صغيرة
على صوت مدافع الصرب وهي تقصف مدينة (غوراجدة) يتم تصميم
مخطط التدخل العسكري في المنطقة الجغرافية المرشحة لاحتضان العدو القادم..
تلك التي يلونها الدين الإسلامي وإن تباينت فيما عداه.
هكذا تفكر النخب السياسية الغربية من روسيا إلى أمريكا، بالرغم من
اختلاف الرؤى وصراع الأطماع فيما بينها.
ويبقى حل مأساة البوسنة مرتبطاً بإبقاء النزيف محصوراً في المنطقة المحددة، إذ لو تعداها لاختلطت الأوراق بصورة قد تفسد جوانب من خطط استراتيجية أبعد
مدى في الزمان والمكان، لذا فإنه لا مانع من تقديم المهدئات ذات الصوت الضخم
إعلامياً والأثر الهزيل واقعياً.
إن لنا أن نطرح هنا سؤالاً صغيراً بحجم هذه الكلمة الصغيرة: ماذا بقي
للجوقة الإعلامية في العالم العربي من شروحات وتحليلات كي تقدمها وتفسر بها
إغراق الأصوليين (زعموا) في وهم ضخم اسمه (نظرية المؤامرة) ؟ !(76/1)
الافتتاحية
أما آن للسيوف أن تغمد..!
رسالة لإخوة الجهاد في أفغانستان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما
بعد..
حينما انطلقت شعلة الجهاد الأولى ولم يُلق أحد لكم بالاً، بل عده بعضهم
طيشاً وتهوراً، فكيف يستطيع همج رعاع من رجال البوادي والجبال أن يقفوا أمام
قوة نووية كبرى..؟ ! وما هي إلا أشهر يسيرة حتى سارت الركبان بأخبار
انتصاراتكم وبطولاتكم، التي أدهشت جميع المراقبين والمحللين وأصبحت الشغل
الشاغل للساسة والإعلاميين ورجال الاستخبارات.
كانت هذه الشعلة المباركة روحاً جديدة سرت في العالم الإسلامي من أدناه إلى
أقصاه، دبت الحياة في نفوس كثير من المسلمين، فراية الجهاد التي ظلت منكسة
عقوداً متتابعة في ظل أنظمة العجز والتبعية، شمخت بكل إباء وشمم على ربى
أفغانستان، لتثبت للعالم أجمع أن الإسلام لازال حياً، ولازال قوياً قادراً على
العطاء. التفت جموع المسلمين على رايتكم، وتقاطر الشباب من كل مكان إلى
أرضكم، يتربى على روابيكم وجبالكم، تاركاً وراءه النساء والأولاد والأموال ومن
حبسه العذر منهم، ظل قلبه معلقاً بكم، تحدثه نفسه بالجهاد يوماً بعد يوم.
كل انتصار لكم كان يهز قلوب المسلمين، ويزيد من حميتهم وأملهم في الله
العظيم، فقد أصبحتم ملء بصر العالم وسمعه، وأصبحتم «قضية المسلمين
الأولى» . ألوف من الشهداء نحتسبهم عند الله تعالى.. ألوف من الجرحي والمعاقين.. ألوف من الأيتام والأرامل.. لقد كانت التضحيات جسيمة، والأرواح العبقة الطاهرة التي نحسبها استشهدت في سبيل الله ما كانت في يوم من الأيام عقبة تحد من عزائمكم، بل كانت حادياً إلى مزيد من العطاء والبذل والتضحية، ومازالت تلك القبور المتناثرة على الهضاب والجبال رمزاً من رموز الشهامة والكرامة، ومازالت تلك الدماء الزكية تلون الصخور ورؤوس الجبال بأزهى الألوان وأعطرها.
كنا نسمع أخبار الشهداء وتضحيات الأبطال، ثم نرى دموع الشباب، بل
والشيوخ تتساقط شوقاً إلى الشهادة، كلهم يتمنى أن يكون ذلك الشهيد. ثم.. كانت
الثمرة بحمد الله وفضله نصراً مؤزراً، حينما سقطت كابل بأيدي المجاهدين،
وتفرقت فلول الشيوعيين، وتعالت تكبيرات المسلمين فرحاً بنصر الله تعالى، وجاء
البشير يعطر أسماعنا بهذا الفتح المبارك، حتى أصبحت آثار السعادة والفرح تُرى
على الوجوه، وضجت مساجد المسلمين بالدعاء والثناء على الله، وحمده والشكر له.
بدأت جموع المهاجرين في بيشاور وغيرها تحزم الأمتعة، وتعود إلى وطنها
فرحة بنصر الله، استيقظ الأمل في نفوسهم، فما أحلى العودة إلى الدور التي
هجرت، والمزارع التي أقفرت.. فضلاً عن حنين الصبية الذين ولدوا في المهجر
يشدهم إلى المنزل الأول الذي طالما سمعوا عنه من آبائهم وأمهاتهم. نعم فتحت
كابل وتحررت من أسر الشيوعيين، ولكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ !
هل قامت دولة الإسلام الموعودة، وحكمت بالكتاب والسنة..؟ ! هل
ارتفعت راية التوحيد، وتساقطت رايات الجاهلية..؟ هل اندحر الشيوعيون
والعلمانيون والنفعيون، وشمخت رؤوس الموحدين الأبرار..؟ ! هل تساقطت
الأحزاب والتجمعات القبلية، واجتمع الناس على كلمة سواء..؟ ! هل رسم
المجاهدون خططهم لترسيخ الإسلام في بلادهم، وتعليم الناس أصوله وقواعده
العامة..؟ ! هل ضمدت الجراح، وجفت الدماء، وبدأت رحلة الإعمار والبناء..
؟ ! هل.. وهل.. أسئلة تتلاحق، ولكن إجابتها جميعها مع الأسف الشديد واحدة لا
تتغير: لم يحدث شيء من هذا على الإطلاق..! !
إذاً ما الذي حدث..؟ ! تحولت مدافع المجاهدين إلى إخوانهم يقتل بعضها
بعضاً، ويسفك بعضهم دماء بعض..! بنيت تحالفات جديدة مدارها على المصالح
الحزبية، والمنافع القبلية..! أصبح المتصارعون لا يجيدون إلا لغة الرصاص..
والتدمير! .. كان النداء الكريم الذي يشحذ الهمم ويقوي العزائم هو: الله أكبر..
الله أكبر، ولكن أخشى أن نداء الغنيمة أصبح أرفع صوتاً..!
لم يستطع الشيوعيون أن يعتدوا على المساجد خوفاً من غضبة الشعب أما
صراعات الإخوة فقد وصلت إلى المساجد فدمرت بعضها..! ! عند ذلك عادت
فلول المهاجرين تحمل متاعها ثانية هاربة من كابل، ولكنها هذه المرة لا تهرب من
الشيوعيين، بل من تقاتل «المجاهدين» ! !
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةعلى الحرّ من وقع الحسام المهنّد
عاد الشيوخ والعجزة والنساء ثانية إلى مهاجرهم، بقلوب امتلأت خيبة
وحسرة وإحباطاً.. أهذه ثمرة الجهاد التي نتطلع إليها..؟ ! أهذا هو ثمن النفوس
الزكية والجراحات الندية..؟ ! أهذا هو ثمن الدموع والدماء والأشلاء المتناثرة هنا
وهناك..؟ ! أربعة عشر عاماً من اللأواء والعنت وألوان المصاعب والأهوال..
أتضيع وتتآكل أمام النعرات القبلية والأهواء الحزبية والحظوظ الشخصية..!
أيها المجاهدون:
كنا نتابع أخباركم يوماً بيوم، وننصت سامعين لمن يُحدّثنا عن أحوالكم
وانتصاراتكم بكل فخر، وتلهج ألسنتنا بالدعاء لكم، ثم ها نحن اليوم نستحي ونتألم
حينما نسمع صراعاتكم وتنافسكم على اقتسام السلطة.. إي والله نستحي لأنكم
أصبحتم مادة لسخرية العلمانيين وتهكمهم..!
لقد حاول كثير من الإعلاميين استغلال هذا الحدث لإثبات فشل تجربة الجهاد
الأفغاني برمته، بل أرادوا التسلق بذلك إلى القدح في كل عمل إسلامي في أي
مكان كان..!
والذي ينبغي تأكيده أن للجهاد الأفغاني فوائد إيجابية كثيرة، وكثيرة جداً،
منها إحياء تلك الفريضة التي أريد إماتتها في النفوس قروناً طويلة، وظهر أن
المسلمين يمكن أن يكونوا قوة تُهاب متى ما استغلت مشاعرهم الإسلامية وقادهم
أناس صالحون مصلحون، وإثبات أن ديننا الحنيف هو الطريق المستقيم لإعادة
مجد القوة والمنعة لأمتنا، ولا طريق آخر غيره، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام
ومهما طلبنا العزة في غيره أذلنا الله. وهذه المحن الأخيرة يجب أن يستفيد منها
المسلمون، وعليهم أن يدرسوا المحاسن والمساوىء بموازين منهجية متجردة،
لتكون رصيداً فاعلاً يُضاف لرصيد التجربة الإسلامية المعاصرة.
ولهذا نقول لكم أيها المجاهدون بكل صدق:
اتقوا الله في الفتوح المباركة التي فتحها الله على المسلمين.. اتقوا الله في
الأرواح التي استشهدت.. اتقوا الله في الشيوخ والعجزة والنساء والصبيان.. اتقوا
الله.. اتقوا الله.. اتقوا الله..! !
[ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم] . [وإن تتولوا يستبدل قوماْ
غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم] .(76/4)
بحوث شرعية
التفسير بالمأثور
نقد للمصطلح وتأصيل
مساعد سليمان الطيّار
إن المصطلحات العلمية يلزم أن تكون دقيقة في ذاتها ونتائجها، وإلا وقع فيها
وفي نتائجها الخلل والقصور، ومن هذه المصطلحات التي حدث فيها الخلل
مصطلح (التفسير بالمأثور) ، وفي هذا المصطلح أمران: أنواعه، وحكمه.
أما أنواعه، فقد حدّها من ذكر هذا المصطلح من المعاصرين بأربعة، هي:
(تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة، وبأقوال التابعين) . [1]
وغالباً ما يحكي هؤلاء الخلاف في جعل تفسير التابعي من قبيل المأثور. [2]
وأما حكمه، فبعض من درج على هذا المصطلح ينتهي إلى وجوب الأخذ
به. [3] ...
وأقدم من رأيته نص على كون هذه الأربعة هي التفسير بالمأثور الشيخ محمد
بن عبد العظيم الزرقاني، حيث ذكر تحت موضوع (التفسير بالمأثور) ما يلي: «
هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة تبايناً لمراد الله من كتابه» ثم قال: «وأما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور
لأنهم تلقوه من الصحابة غالباً ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي» . [4] ...
ثم جاء بعده الشيخ محمد حسين الذهبي (ت: 1977 م) فذكر هذه الأنواع
الأربعة تحت مصطلح (التفسير المأثور) ، وقد علل لدخول تفسير التابعي في
المأثور بقوله: «وإنما أدرجنا في التفسير المأثور ما روي عن التابعين وإن كان
فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي؟ لأننا وجدنا كتب التفسير
المأثور كتفسير ابن جرير وغيره لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- وما روي عن الصحابة، بل ضمنت ذلك ما نقل عن التابعين في
التفسير» [5] .
منشأ الخطأ في هذا المصطلح:
إنه فيما يظهر قد وقع نقل بالمعنى عمن سبق أن كتب في هذا الموضوع وبدلاً
من أن يؤخذ عنه مصطلحه استبدل به هذا المصطلح الذي لم يتواءم مع هذه الأنواع، ولا مع حكمها كما سيأتي.
والمصدر الذي يظهر أن هذه الأنواع نُقلت منه هو رسالة شيخ الإسلام ابن
تيمية المسماة (مقدمة في أصول التفسير) .
وقد وردت هذه الأنواع الأربعة تحت موضوع (أحسن طرق التفسير) [6]
فهي عند شيخ الإسلام (طرق) وليست (مأثوراً) .
ولو تأملت النقلين السابقين، فإنك ستجد أنهما يحكيان الخلاف في كون تفسير
التابعي مأثوراً أم لا.
وستجد هذا موجوداً في رسالة شيخ الإسلام، ولكن البحث فيه ليس عن كونه
مأثوراً أم لا، بل عن كونه حجة أم لا؟
وبين الأمرين فرق واضحٌ، إذ لم يرد عن العلماء هل هو مأثور أم لا؟ لأن
هذا المصطلح نشأ متأخراً، بل الوارد هل هو حجة أم لا؟
وإن كان هذا التأصيل صحيحاً، فإن اصطلاح شيخ الإسلام أدق من اصطلاح
المعاصرين، وأصح حكماً.
فهذه التقسيمات الأربعة لا إشكال في كونها طرقاً، كما لا إشكال في أنها
أحسن طرق التفسير، فمن أراد أن يفسر فعليه الرجوع إلى هذه الطرق.
نقد مصطلح (التفسير المأثور) :
مصطلح المعاصرين عليه نقد حيث يتوجه النقد إلى أمرين وإليك بيانه:
1- ما يتعلق بصحة دخول هذه الأنواع في مسمى (المأثور) .
2- ما يتعلق بالنتيجة المترتبة عليه، وهي (الحكم) .
أما الأول: فإنه يظهر أن هذا المصطلح غير دقيق في إدخال هذه الأنواع
الأربعة فيه، فهو لا ينطبق عليها جميعاً، بل ويخرج ما هو منها، فهذا المصطلح
غير جامع ولا مانع لسببين:
أ- أن المأثور هو ما أثر عمن سلف، ويطلق في الاصطلاح على ما أُثر عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم.
فهل ينطبق هذا على تفسير القرآن بالقرآن؟
إن تفسير القرآن بالقرآن لا نقل فيه حتى يكون طريقه الأثر، بل هو داخل
ضمن تفسير من فسر به.
* فإن كان المفسر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو من التفسير النبوي.
* وإن كان المفسر به الصحابي، فله حكم تفسير الصحابي.
* وإن كان المفسر به التابعي، فله حكم تفسير التابعي.
وهكذا كل من فسر آية بآية فإن هذا التفسير ينسب إليه.
ب- أن المأثور في التفسير يشمل ما أُثر عن تابعي التابعين كذلك ومن دوّن
التفسير المأثور فإنه ينقل أقوالهم، كالطبري (310) وابن أبي حاتم (ت: 327) ،
وغيرهما.
بل قد ينقلون أقوال من دونهم في الطبقة، كمالك بن أنس، وغيره. ولو
اطلعت على أوسع كتاب جمع التفسير المأثور، وهو (الدر المنثور في التفسير
بالمأثور) لرأيت من ذلك شيئاً كثيراً.
ولو قُبلت العلة التي ذكرها الشيخ محمد حسين الذهبي في إدخاله تفسير
التابعين في المأثور، لصح تنزيلها على المأثور عن تابعي التابعين ومن دونهم.
وقد نشأ الخطأ في تصور ونقل الخلاف في تفسير التابعي، وهل يندرج تحت
التفسير بالمأثور، أم لا يصح أن يوصف بأنه تفسير مأثور؟ ونزّل كلام العلماء
خطأ في حكم تفسير التابعي على قضية كونه تفسيراً مأثوراً أم غير مأثور، ولم
يكن حديث العلماء على كونه مأثوراً أم غير مأثور، إذ لم يكن ذلك المصطلح
معروفاً ولا شائعاً في وقتهم.
وأما الثاني وهو ما يتعلق بالحكم فإن بعض من درج على هذا المصطلح نصّ
على وجوب اتباعه والأخذ به [7] ، وهو مستوحى من كلام آخرين [8] .
ومما يلحظ على هذا الحكم أنهم يحكون الخلاف في تفسير التابعي من حيث
الاحتجاج، بل قد حكى بعضهم الخلاف في تفسير الصحابي [9] .
ثم يحكمون في نهاية الأمر بوجوب اتباعه والأخذ به، فكيف يتفق هذا مع
حكاية الخلاف الوارد عن الأئمة دون استناد يرجح وجوب الأخذ بق ول التابعي،
فهم يمرون على هذا الخلاف مروراً عاماً بلا تحقيق.
ثم إن كان ما ورد عن الصحابة والتابعين مأثوراً يجب الأخذ به على
اصطلاحهم فما العمل فيما ورد عنهم من خلاف محقق في التفسير؟ وكيف يقال:
يجب الأخذ به؟
ومن نتائج عدم دقة هذا المصطلح نشأ خطأ آخر، وهو جعل التفسير بالرأي
مقابلاً للتفسير بالمأثور وهو الأنواع الأربعة السابقة حتى صار في هذه المسألة خلط
وتخبط، وبنيت على هذا التقسيم معلومات غير صحيحة، ومنها:
1- أن بعضهم يقررون في تفسير الصحابة والتابعين أنهم اجتهدوا وقالوا فيه
برأيهم، ثم يجعلون ما قالوه بهذا الرأي من قبيل المأثور ناسين ما مرروه من قول
بأنهم قالوا بالرأي، فيجعل قولهم مأثوراً وقول من بعدهم رأياً، فكيف هذا؟ وإذا
كان الصحابة قالوا في التفسير برأيهم فلا معنى لتفضيلهم على غيرهم ممن بعدهم
في هذه المسألة، وهذا لا يعني مساواة من بعدهم بهم.
2- كما تجد أن كتب التفسير تُقسّم إلى كتب التفسير بالمأثور وكتب التفسير
بالرأي، وعلى سبيال المثال يجعلون تفسير ابن جرير من قبيل التفسير بالمأثور،
ولو أردت تطبيق مصطلح التفسير بالمأثور، فإنك ستجد اختيارات ابن جرير
وترجماته، فهل هذه من قبيل الرأي أم من قبيل المأثور؟ فإن كان الأول فكيف
يحكم عليه بأنه مأثور؟ ! وإن كان الثاني فإنه غير منطبق لوجود اجتهادات ابن
جرير، وفرق بين أن نقول: فيه تفسير بالمأثور، أو نقول هو تفسير بالمأثور.
3- وقد فهم بعض العلماء أن من فسر بالأثر فإنه لا اجتهاد ولا رأي له بل
هو مجرد ناقل، لا عمل له غير النقل، ويظهر أن هذا مبني على ما سبق من أن
التفسير بالمأثور الذي يشمل الأربعة السابقة يقابله التفسير بالرأي.
ومن ذلك ما قاله الشيخ الطاهر بن عاشور [*] : «أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور، فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها، ولم يوضحوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر ... » . ثم قال: «وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها، وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزاً لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور، وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد، ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، فلله درّ الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور، مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم من سلكوا طريقهم، مثل الزمخشري وابن عطية» . [10] ...
وها هنا وقفات ناقدة لهذا الكلام:
الأولى: لم يصرح الطاهر بن عاشور بأولئك الذين «جمدوا على القول بأن
تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور» وفي ظني أن هذا لم يُقَل به ولكنه تأوّلٌ
لكلام من يرى وجوب الأخذ بما أثر عن السلف.
الثانية: لم يورد الشيخ دليلاً من كلام الطبري يدلّ على التزامه بما روي عن
الصحابة والتابعين فقط، ولم يرد عن الطبري أنه يقتصر عليهم ولا يتعدى ذلك إلى
الترجيح.
الثالثة: أنه جعل منهج الطبري كمنهج ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم،
وشتان بين منهج الطبري الناقد المعتمد على روايات السلف ومنهج هؤلاء الذين
اعتمدوا النقل فقط دون التعقيب والتعليق، وهذا المنهج الذي سلكوه لا يُعاب عليهم؛ لأنهم لم يشترطوا التعليق على الآيات والتعقيب على المرويات، بل كانوا
يوردون ما وصلهم من تفاسير السلف، وهم بهذا لا يُعدون مفسرين، بل هم ناقلو
تفسير.
ومن هنا ترى أن الشيخ بن عاشور يرى أن من التزم بالمأثور فإنه لا يكون
له رأي كالطبري. وأنّ من لم يلتزم بالمأثور فلله دره! كما قال.
وقد سبق أن ذكرت لك أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم اعتمدوا التفسير
بالرأي وقالوا به، وإن من الأخطاء التي وقعت مقابلة أقوالهم التي هي من قبيل
الرأي بأقوال أبي عبيدة والفراء وغيرهم، بل الأعجب من ذلك أن تفاسيرهم اللغوية
تجعل من المأثور وتُقابل بتفاسير أبي عبيدة والفراء والزجاج اللغوية، وتجعل هذه
لغوية.
كل هذه النتائج حصلت لعدم دقة مصطلح التفسير بالمأثور.
ما هو التفسير بالمأثور:
بعد هذا العرض، وتجلية مصطلح التفسير بالمأثور المعتمد في كتب بعض
المعاصرين يتجه سؤال، وهو: هل يوجد تفسير يسمى مأثوراً؟
والجواب عن هذا (نعم) ، ولكن لا يرتبط بحكم من حيث وجوب الاتباع
وعدمه، بل له حكم غير هذا.
فالمأثور هو ما أثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته
وعن التابعين وعن تابعيهم ممن عُرفوا بالتفسير، وكانت لهم آراء مستقلة مبنية
على اجتهادهم.
وعلى هذا درج من ألف في التفسير المأثور؛ كبقي بن مخلد، وابن أبي حاتم
والحاكم، وغيرهم.
وقد حاول السيوطي جمع المأثور في كتابه (الدر المنثور في التفسير بالمأثور)
وذكر الروايات الواردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وتابعيهم
وتابعي تابعيهم ومن بعدهم.
وهذا لا يبنى عليه حكم من حيث القبول والرد، ولكن يقال: إن هذه الطرق
هي أحسن طرق التفسير، وإن من شروط المفسر معرفة هذه الطرق.
أما ما يجب اتباعه والأخذ به في التفسير فيمكن تقسيمه إلى أربعة أنواع:
الأول: ما صح من تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الثاني: ما صح مما روي عن الصحابة مما له حكم المرفوع كأسباب النزول
والغيبيات.
الثالث: ما أجمع عليه الصحابة أو التابعون؛ لأن إجماعهم حجة يجب الأخذ
به.
الرابع: ما ورد عن الصحابة خصوصاً أو عن التابعين ممن هم في عصر
الاحتجاج اللغوي من تفسير لغوي، فإن كان مجمعاً عليه فلا إشكال في قبوله،
وحجيته، وإن ورد عن واحد منهم ولم يعرف له مخالف فهو مقبول كما قال
الزركشي: «ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان،
فلا شك في اعتمادهم» . [11] .
وإن اختلفوا في معنى لفظة لاحتمالها أكثر من معنى، فهذا يعمد فيه إلى
المرجحات.
أما ما رووه عن التابعي فهو أقل في الرتبة مما رووه عن الصحابي، ومع
ذلك فإنه يعتمد ويقدم على غيره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: مناهل العرفان للزرقاني 2/1213، التفسير والمفسرون للذهبي 1/154 مباحث في علوم القرآن لمناع القطان.
(2) انظر مثلاً: مناهل العرفان 2/13، التفسير والمفسرون 1/154 لمناع القطان 347.
(3) انظر مثلاً: مباحث في علوم القرآن، 350، وهذا ما يتوحى من عبارة الزرقاني.
(4) مناهل العرفان 2/1213.
(5) التفسير والمفسرون 1/15.
(6) مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عدنان زرزور، ص 93.
(7) انظر: مباحث في علوم القرآن للقطان، 350.
(8) كالزرقاني، والذهبي، والصباغ (لمحات في علوم القرآن، 177 وما بعدها) .
(9) لمحات في علوم القرآن، 180.
(10) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، 1/32، 33.
(11) البرهان في علوم القرآن، 2/172.
(*) تفسير الطاهر بن عاشور المعروف (بالتحرير والتنوير) بالرغم من شموله واستقصائه لما يفسره من آيات، إلا أن منهجه العقدي أشعري يؤول آيات الصفات وللمزيد انظر الكتاب القيم (المفسرون والتأويل) للشيخ محمد المغراوي المغربي، من مطبوعات دار طيبة بالرياض.(76/8)
من فقه الدعوة
نظرات تربوية
في خلق الصدق
-2-
عبد العزيز بن ناصر الجليل
في الحلقة الأولى، تطرق الكاتب إلى منزلة الصدق العظيمة، ومبررات
تناول هذا الموضوع، وحقيقة الصدق والفرق بين الصدق والإخلاص، ونواصل
مع الكاتب نظرات أخرى في الموضوع.
-البيان-
وعلى ضوء ما سبق يتضح للقارىء الكريم أن الصدق أنواع ومراتب تتجلى
فيما يلي:
1- صدق النية:
وذلك بأن تكون النية خالصة لله عز وجل وابتغاء مرضاته، وأن لا يكون
هناك باعث في الحركات والسكنات إلا مرضاة الله عز وجل، فإن شاب النية شيء
من حظوظها لم تكن صادقة، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضاً
دليل على عدم الصدق في النية، والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله تعالى في وصف
المنافقين: [يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم] [الفتح: 1] وقوله تعالى: [من
كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون]
[هود: 15، 16] .
ومن الصدق في النية: الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه، لأن
النية قد تكون صادقة، لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد، وقد تكون
العزيمة صادقة، لكن إذا جد الجد، وعزم الأمر، وهاجت الشهوات خارت
وضعفت، ولم يحصل الوفاء بالعزيمة، وقد لا تضعف في البداية لكن إذا باشرت
الفعل وذاقت مرارته ضعفت وخارت، والموفق من وفقه الله تعالى وأمده بعونه
ورحمته، ولو وكل العبد إلى نفسه ضاع وهلك، فيا حي يا قيوم برحمتك نستغيث،
أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً.
2- الصدق في الأقوال:
وذلك لا يكون إلا في الأخبار، أو ما يتضمن الإخبار، والخبر إما أن يتعلق
بالماضي فلا يخبر عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، أو بالمستقبل كالوفاء
بالوعد والعهد [1] .
وهذه المرتبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها، ولا
يتجاوزونها إلى غيرها، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها
على النفس، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه، وجاهد نفسه في تحقيقها.
صور من الصدق في الأقوال:
والصدق في الأقوال له صور عديدة منها:
أ- الصدق في نقل الأخبار:
فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة، وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت
فيما يقال، واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يُسْمَعُ، فمن حفظ
لسانه من الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، فهو صادق في خبره وهذا
يقتضي الابتعاد عن الظنون والإشاعات. قال -صلى الله عليه وسلم-: «إياكم
والظن فإن الظن أكذب الحديث» [2] ، وقال: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل
ما سمع» [3] .
ب- الصدق في الوعد:
لأن إعطاء الوعد غالباً ما يكون بالقول، فالوفاء بالوعد من الصدق في
الأقوال، وإخلافه يعد كذباً، إلا إذا كانت النية عند إعطاء الوعد صادقة ثم حال
بينه وبين تنفيذ الوعد أمر خارج عن إرادته، فإن هذا لا يعد إخلافاً للوعد وبالتالي
لا يعتبر كذباً، والوعد قد يكون على مكان معين أو في زمن معين أو على أعطية
أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه، فإن الإخلاف في هذه الأمور وأمثالها
بدون مبرر شرعي يعتبر كذباً لقوله تعالى: [واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان
صادق الوعد وكان رسولاْ نبياْ] [مريم: 54] .
ج -الوفاء بالعقود والعهود:
وهذا أيضاً من الصدق في الأقوال، فإخلاف العهد والغدر فيه من أشد أنواع
الكذب. قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود] [المائدة: 1] وقال تعالى: [والموفون بعهدهم إذا عاهدوا] [البقرة: 177] . ومن الوفاء بالعهد حفظ
الأسرار وكتمانها، ولعل قوله -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من صفات
المنافقين خير شاهد لما سبق ذكره، يقول صلى الله عليه وسلم: «أربع من كُنّ
فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق: إذا
حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» [4] .
3- الصدق في الأعمال:
وهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، وأن يجاهد العبد نفسه في أن تكون
سريرته وعلانتيه واحدة، وأن لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف
به حقيقة: كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر والقلب ليس كذلك أو يتظاهر بالحرقة
على الدين والغيرة على المحارم وهو في الباطن ليس كذلك والصور كثيرة جداً
فمنها صور الرياء المختلفة، والقول باللسان ما ليس في القلب، وهذا لا يعني أن
يترك المرء الأعمال الصالحة حتى يصلح باطنه، كلا ولكن يجاهد نفسه في أن
يستحيل باطنه إلى تصديق ظاهره، يقول صاحب الإحياء: «إن مخالفة الظاهر
للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص، وإن كانت عن غير
قصد فيفوت بها الصدق» ، وقال يزيد بن الحارث: «إذا استوت سريرة العبد
وعلانيته فذلك النّصَفُ، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن
كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور» ، وقال معاوية بن مرة: «من
يدلني على بكّاء في الليل بسّام في النهار؟» أ. هـ.
4- الصدق في مقامات الدين:
وهو أعلى الدرجات وأعزها، الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف
والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور فإن هذه
الأمور مباديء ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من
نال حقيقتها، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه، كما يقال:
فلان صدق القتال، ويقال: هذا هو الخوف الصادق وهذه هي الشهوة الصادقة ...
وقال الله تعالى: [إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا] إلى قوله
[أولئك هم الصادقون] [الحجرات: 15] وقال: [ولكن البر من آمن بالله واليوم
الآخر] إلى قوله: [أولئك الذين صدقوا] [البقرة: 177] .
من علامات الصدق:
إن للصدق علامات ومظاهر تنفي ضدها، وإذا لم توجد أو كانت ضعيفة فإن
ذلك دليل على ضعف الصدق، وتسلط العوائق عليه، ومن هذه العلامات ما يلي:
1- طمأنينة القلب واستقراره:
إن الصدق في جميع الأحوال باطنها وظاهرها يورث الطمأنينة والسكينة في
القلب، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد إلا في حالات الشك
وضعف الصدق أو عدمه، يقول صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة» [5] .
2- الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله عز وجل:
ومن علامة طمأنينة القلب النابعة من الصدق انشراحه وزهده في الدنيا
والتأهب للآخرة، قال تعالى: [فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن
يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاْ كأنما يصعد في السماء] [الأنعام: 125] ، لما
نزلت هذه الآية سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن شرح الصدر فقال: «
نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح» ، قيل فهل لذلك أمارة؟ قال:
نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل
نزول الموت « [6] .
فالصادق مع الله عز وجل لا تراه إلا متأهباً للقاء ربه، مستعداً لذلك بالأعمال
الصالحة، والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه، يريد بذلك وجه الله
عز وجل متبعاً في ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
3- سلامة القلب:
إن من علامة الصدق سلامة القلب، وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلاً للمؤمنين ولا شراً، بل إن
حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته، وهذه الحالة القلبية تظهر علاماتها
على الأعمال، وذلك بتجنب الظلم والعدوان والاستطالة على الأعراض، والحرص
على العدل والقسط مع الناس، والانطلاق بما في الوسع لقضاء حاجات المسلمين
وإغاثة ملهوفهم ودفع الظلم عنهم والحزن على مصابهم والفرح لفرحهم. إن كل هذه
الخلال تفرزها سلامة القلب الذي يترتب عليه أيضاً مظهر من مظاهر الصدق ألا
وهو محبة الناس لمن هذه حاله، فيصبح مألوفاً لهم لأنه صدق معهم؛ فألفهم وألفوه، وتواضع لهم فأحبوه، وهذا مصداق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:»
المؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف « [7] .
4- حفظ الوقت وتدارك العمر:
إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظاً على وقته شحيحاً به، لا ينفقه إلا
فيما يرجو نفعه في الآخرة، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار وإلى الدنيا
كأنها ظل شجرة نزل تحتها، ثم قام وتركها، فبادر بالأعمار الصالحة فراغه
وصحته، وشبابه، وحياته، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه، وتضيع عليه
وقته، وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع.
5- الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل وكراهة ذلك:
ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس، والقناعة بما كتب الله عز وجل، وهذه
الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص، وهي تنبع أصلاً من صحة
المعتقد، وكمال التوحيد لله عز وجل، وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول
الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:» لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح
والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار «.
6- إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور:
إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله عز وجل حرصه على إخفاء عمله
وكراهة اطلاع الناس عليه، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات
الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق، فكلما كان العبد
صادقاً مع ربه عز وجل كلما كان حريصاً على إخفاء أعماله حيث لا يطلع عليها إلا
الله عز وجل، الذي يسمع ويرى ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها، وإن حياة
سلفنا الصالح مليئة بهذه النماذج الوضيئة نذكر منها ما يلي:
* عن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على
ظهره بالليل فيتصدق به ويقول:» إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز
وجل « [8] . ...
* وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان
الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه وما يشعر
به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما
يشعرون به.
7- الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين:
إن من أخطر ما على النفوس أن ينشغل العبد بغيره بالنقد والتقويم وينسى
نفسه والتفتيش عن عيوبها، وهذا للأسف كثير عندنا في زماننا هذا، وإن من
علامات صدق العبد مع ربه ومع نفسه أن ينشغل بنفسه وإصلاحها وتقويمها أكثر
مما يعطيه لغيرها، وإذا وجدت هذه الصفة نتج عنها المحاسبة للنفس والتربية
والتزكية لها، كما ينتج عن ذلك أيضاً احتقار النفس في ذات الله عز وجل والنظر
إليها بالتقصير في جنب الله، وبالتالي تنتفي صفات العجب والغرور والاعتداد
بالنفس، وعلى هذا فلا يجتمع الصدق والعجب في قلب مؤمن أبداً، كما إن هذه
الصفة تطهر القلب من الحقد على المسلمين، وتصيّد أخطائهم وعثراتهم والتفكه
بذلك في المجالس بحجة الدعوة وبيان الأخطاء والتحذير منها.
8- الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل:
إن الصدق في محبة الله عز وجل ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين
هو شغل المؤمن الشاغل، حيث لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال وهو يرى دين الله
عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان
الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم. إن المؤمن الصادق لا يقدّم على هذا
الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية، ولكن إلى الله نشكو حالنا، وضعف
إيماننا وركوننا إلى دنيانا حيث إننا إذا رجعنا إلى قلوبنا وما هي الاهتمامات التي
تملؤها، لم نجد عند أكثرنا وياللأسف إلا اهتمامات دنيوية بحتة هي التي تحتل
الأرقام الأولِى في تفكيرنا، فمنا من همه الأول منصب يحصل عليه، أو شهادة
يستلمها ليعيش بها، ومنا من همه زوجته وأولاده أو تجارته وأمواله ... الخ. هذه
الاهتمامات الفانية، ثم إن كان هناك فضول تفكير واهتمامات جاء أمر هذا الدين
والدعوة إليه بعد الاهتمامات السابقة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف
الصدق عندنا في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله، يقول الإمام ابن القيم
رحمه الله تعالى» وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع
ودينه يترك وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يرغب عنها، وهو بارد القلب،
ساكت اللسان، شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق «.
9- التميز:
إن التميز في حياة المؤمن أمر ضروري جداً خاصة في عصور الغربة، وإن
المسلم الصادق يُعرف بتميزه وإصراره على دينه بين الناس، فيعرف بصحة معتقده
عند فساد المعتقدات، وبالتزامه بالسنة عند فشوا المبتدعات، وبصدق إيمانه إذا فشا
الكذب والنفاق، وبعبادته إذا الناس يلهون ويلعبون، وبأخلاقه إذا هدرت الأخلاق
وضيعت.
هذه بعض صفات الغرباء الذين قال فيهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
» طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن
يطيعهم « [9] .
10- قبول الحق والتسليم له:
إن من علامات الصدق لدى المسلم إذعانه للحق وقبوله من أي أحد كان
فالصادق لا تراه إلا باحثاً عن الحق الذي يتعبد به لربه عز وجل ويقربه إلى مولاه، وإذا بان له الدليل ولا ح له الحق فرح به ووجد فيه بغيته، ولا يرده إبداً سواء
أكان قائله صغيراً أو كبيراً، أكان عدواً أو صديقاً، وإذا وجدت هذه الصفة الكريمة
عند المسلم، وصارت من عاداته وأخلاقه فإنها تنفي كثيراً من الصفات الذميمة مثل
الكبر والاستعلاء والتعصب للآراء والتحزب للأشخاص والهيئات، كما أنها تورث
المحبة والألفة بين أهل العلم والدين، وتورث الاجتماع والائتلاف وتنفي الفرقة
والاختلاف، كما أن قبول الحق والتمسك به يقتضي القول به والدعوة إليه دون
لبس أو تردد، فالصادق لا تراه إلا صادعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، ولا
يجامل ولا يداهن.
هذه بعض صفات الصادقين.. والله نسأل أن يجعلنا من الصادقين قولاً
وفعلاً.. والله المستعان.
__________
(1) إحياء علوم الدين 4/533.
(2) البخاري 9/171.
(3) صحيح مسلم، المقدمة.
(4) متفق عليه.
(5) رواه أحمد 1/201، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح1/637.
(6) هذا الحديث قواه ابن كثير لتعدد طرقه 2/176.
(7) رواه الإمام أحمد، ج2 9187.
(8) صفة الصفوة 3/61.
(9) رواه الإمام أحمد، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 3921.(76/17)
خواطر في الدعوة
نشأة أخرى
محمد العبدة
احتار المصلحون في أمر هذه الأمة، فمنذ قرن ونيف والسؤال يتكرر: أين
الخلل؟ وما هي العلة؟ ومن أين يبدأ الإصلاح؟ ووصل الحال بأحد زعماء
المسلمين في أول هذا القرن - وقد استقر به المقام في المدينة النبوية - أن يجأر
بالشكوى ويقول: «لا يتحرك المسلمون حتى يتحرك جبل أحد من مكانه» .
إن هذه الشكوى لها ما يبررها، فهذه الأمة ليست أمة مستأنفة تبدأ طريقها من
جديد، بل هي امتداد لأمة بدأت في عصر الرسالة، فهي تحمل بذور نهضتها،
ولكنها تحمل أيضا أعباء سنين متطاولة من التخلف والضعف والتفرق، وجاءت
آثار التغريب في العصر الحديث فزادت الأمور تعقيداً فكيف نخلّص الفرد المسلم
من هذه الأدواء، وننشئه نشأة أخرى ليعود إنساناً فعالاً صالحاً مصلحاً؟
لقد حام حول هذا الموضوع كثير من المصلحين الذين يريدون بالأمة خيراً،
فمن مقرب ومن مبعد، ورفعت شعارات صحيحة، ولكنها تصف أعراض الداء ولم
تكشف عن العلة، فعندما يقال: إن الخلل جاء من البعد عن شريعة الله، فهذا
صحيح، ولكن لماذا يسكت المسلم عندما يطبق شرع غير شرع الله؟ ولماذا
يستسهل هدا الأمر، ولا يدافعه مع خطورته الشديدة؟ ما سبب ضعف شخصيته
حتى يقبل بما هو واقع؟
لا شك أن العطب جاء من قبل ضعف العقيدة، وعدم وضوحها، ومن ضعف
الإيمان وخلل في تصور الولاء والبراء، ذلك لأن حرارة الإيمان هي التي تدفع
بالسلوك والخلق إلى أعلى مراتبه، وهي التي تساعد على قوة الصعود وعدم
التنازل عن تطبيق شرع الله مهما كلف الأمر، بل هي التي تحرق المراحل وتذيب
العقبات من طريق الدعوة.
وأن قوة الإيمان، وفهم العقيدة السليمة، هو الذي ينتشل المسلم من أوضار
الجاهلية بشتى أصنافها ومسمياتها، إلى آفاق الرشد والشهادة على الناس وعالمية
الإسلام، وهو الذي جعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: «بلال
سيدنا وأعتقه سيدنا» ، بينما نجد العصبية والحزبية تنخر في صفوف المسلمين
الذين يريدون حمل الدعوة، فكيف بغيرهم؟
قد تعيش أمم بعقائد واهية سخيفة، وقد يعتريها أزمات في هويتها ومبادئها ثم
تستأنف حياتها، ولكن الأمة الإسلامية أمة نشأت على الدين وقامت بالدين وهو
الذي صنعها وحضَّرها، وعندما يحدث خلل في الدين تقع الكارثة، وتحدث
الشروخ في جميع مناحي الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتصبح الأمة حائرة بائرة مرعى لكل راع، يسومها الخسف وسوء العذاب.
كيف نرفع من وتيرة هذا الإيمان حتى يعود إلى اتقاده وفعاليته؟ ويكون
كالآتي الذي لا يقف أمامه شيء؟ وكيف يعود إلى العقيدة صفاؤها وأثرها العملي
ولا تكون مماحكات في الكتب والأذهان؟ هذا ما يجب أن تتجه إليه الهمم، وهذا ما
يجب أن تربى عليه جماهير المسلمين.(76/27)
هموم ثقافية
التنمية في المجتمع الإسلامي
بين الأصالة والمعاصرة
د. خلف خلاف الشاذلي
تُعرّف التنمية بأنها عملية تهدف إلى رفع مستوى معيشة أفراد مجتمع معين
على المدى الطويل، معتمدة بالدرجة الأولى على الإمكانيات الذاتية لهذا المجتمع،
مع تقدير واع للعوامل الخارجية، وذلك عن طريق دعم مقدرة المجتمع على القيام
بوظائفه الإنتاجية، وتحقيق أفضل استثمار لإمكانياتها المحلية.
ولقد انبهرت الدول النامية، ومنها الدول العربية والإسلامية بالتجربة الغربية
في التنمية، وما حققته هذه التجربة من إنجازات سريعة، ومن ثم فإنها رأت
ضرورة أن تحذو حذو هذه الدول إذا ما أرادت تحقيق التنمية المرجوة وظلت تعتقد
في صلاحية النماذج والنظريات الغربية لفترة طويلة، لتكتشف في آخر الأمر أن
النماذج التنموية الخارجية، شرقية أكانت أو غربية، لم تكن تهدف إلى خدمة هذه
المجتمعات، ومنها المجتمع العربي المسلم، بقدر ما كانت تهدف إلى استمرار
استنزاف تلك المجتمعات، وتؤكد تبعيتها لتلك الدول الأجنبية.
وأمام انهيار مصداقية عمومية وثبات النماذج التنموية والنظريات الغربية
وعدم تمتعها بالقدسية من ناحية، والأزمات التي أخذت تتعرض لها عمليات التنمية
في بعض الدول ذاتها التي أخذت تطبق تلك النماذج لسنوات طويلة من ناحية أخرى، بات من المؤكد عدم وجود نموذج للتنمية معد سلفاً في جملته وتفاصيله يصلح لكل
الأزمنة ولكل المجتمعات، وذلك أن التنمية عملية مجتمعية تخضع لظروف كل
مجتمع وخصائصه المميزة.
وقد ركزت استراتيجيات ومداخل التنمية في معظم الدول النامية، ومنها
الدول العربية، على أهمية التحول من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث وكان
الاتجاه السائد في هذه الدول قائماً على محاكاة النموذج الغربي في التنمية دون فهم
لأسس بناء هذه النماذج، ومدى ملاءمتها للواقع والظروف الموضوعية التي تعيشها
هذه المجتمعات.
وتبلورت على الساحة الفكرية في مجتمعنا المسلم تيارات ثلاثة هي:
1- تيار التغريب الذي انبهر أنصاره بالغرب، وتبنوا الدعوة إلى ضرورة أن
نصبح غربيين في كل شيء، وراحوا يدافعون عن قيمة الثقافة الغربية بل والتغني
بصلاحيتها، وفي الوقت نفسه ينظرون إلى الثقافة الأصيلة على أنها «موضة»
قديمة لم يعد لها قيمة جمالية، على الرغم من أنه كثيراً ما تعود «الموضة»
القديمة لتصبح «موضة» جديدة في حقبة تالية.
2- تيار الرفض لكل جديد أياً كان، تحت تأثير العصبية للموروث، وذلك
من خلال العمل على إحياء التراث والتمسك به لضمان الوجود المتميز والمستقل.
3- أما التيار الثالث، فهو تيار الوسط، الذي يرفض أنصاره التقليد الأعمى
والنقل الحرفي عن الحضارة الغربية، وفي الوقت نفسه يرفضون الجمود والانغلاق.
ويقوم منهج هذا التيار على المزج بين القديم والحديث، أو بين الأصالة
والمعاصرة: أصالة عصر ازدهار الحضارة الإسلامية والمعاصرة التي يحكمها
واقع الأمة، والاستفادة من حضارات الآخرين، استفادة الراشد الذي يُميز بين ما
يتسق مع تميزه الحضاري، وبين ما يؤدي إلى طمس الهوية الحضارية وانطلاقاً
من الثقة بقدرة هذا التراث على استيعاب معطيات الحديث من ناحية والتفاعل معه
من ناحية أخرى.
وفي هذا الإطار طرحت قضية الأصالة والمعاصرة نفسها على بساط البحث
والمناقشة، وترددت أسئلة كثيرة في هذا الشأن، وتعددت حيث إن كلاً من الأصالة
والمعاصرة تظلان مفهومين محايدين حتى تصبحان إطاراً مرجعياً للتنمية في مجتمع
من المجتمعات، فبينما تشير الأصالة إلى الارتباط بالتراث المحلي، نجد أن مفهوم
المعاصرة يشير إلى الارتباط بمناهج عصر الصناعة ومنجزاته.
... وعموماً فإن مفهوم التحديث يرتبط بفكرة الصياغة الغربية للثقافات
المحلية دون اعتبار لمضامين تلك الثقافات، وهو بذلك يعتبر مفهوماً منحازاً لثقافة
المجتمع الغربي.
مخاطر التحديث:
تقوم فكرة التحديث على إحلال الثقافة، والنظم الاجتماعية والاقتصادية
الغربية محل الثقافة والنظم الأصيلة، وقد سيطرت توجهات التحديث على معظم
سياسات التنمية، في الدول النامية، ومنها المجتمع العربي الإسلامي باعتباره في
زعمهم الحل الوحيد والأمثل لمشكلات التخلف، وهو تفسير عنصري وقاصر
للتخلف، ويغفل جانباً كبيراً من الأسباب الحقيقية للتخلف وأخذت عمليات التحديث
تمتد إلى جميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بل والتربوية والثقافية
أيضاً، لتأخذ شكل الغربية أو التغريب.
والتحديث على النمط الغربي علاوة على ما فيه من مخاطر على الدين هو
كارثة في شؤون الدنيا، حيث يجعل من المجتمع العربي الإسلامي مجتمعاً هامشياً،
ويُكرس من تبعيته للخارج، وتلك هي الغزوة الاستعمارية الحديثة فلقد أصبحت
عملية التنمية من خلال محاكاة النموذج الغربي بمثابة أداة لنقل ثقافة المجتمعات
الصناعية المتقدمة إلى المجتمعات الأقل تقدماً، مؤدية بذلك نفس الدور الذي سبق
وأن أدته أيدلوجية التقدم في القرن التاسع عشر في كل من أمريكا اللاتينية وبعض
دول الشرق الأوسط وإفريقيا، عندما حاولت هذه الدول تبني أساليب وسياسات
اقتصادية تهدف إلى تحقيق نمو اقتصادي، متجاهلة بذلك الموروثات الثقافية
والتراث الحضاري القائم.
* إنه في ظل التحديث، على النموذج الغربي، قد يصبح المجتمع متقدماً من
ناحية استهلاكه للسلع والخدمات، دون أن يتحول إلى مجتمع متقدم من الناحية
الإنتاجية، ويؤدي ذلك إلى الازدواجية الخطيرة على مستقبل التنمية في هذه
المجتمعات، وهي ما نراها اليوم في كثير من المجتمعات النامية، من حياة
إستهلاكية على الطراز المتقدم، وحياة إنتاجية على نمط التخلف، حيث تقدمت هذه
المجتمعات في مجال الاستهلاك، بينما تخلفت أو بقيت على حالها في مجال الإنتاج.
* إن التحديث على النموذج الغربي يشكل خطراً على الثقافة المحلية والتراث
الأصيل والأبنية الاجتماعية والاقتصادية القائمة، حيث تصبح تلك المجتمعات
أسيرة للقيم والأنساق الثقافية، وكذا الحلول التكنولوجية والأبنية الاجتماعية
والاقتصادية الدخيلة، كما أنها تصبح أيضاً أسيرة لتطلعاتها الاستهلاكية وعجزها
الإنتاجي.
* إن الدعوة إلى التطوير والتحديث، القائم على محاكاة النموذج الغربي في
التنمية، لا تعد أن تكون دعوة للاحتواء والتبعية، وتجسيداً للتشوه الحضاري الذي
يهدد مجتمعاتنا، وفقداناً للثقة بالقدرة على الابتكار والتجديد.
* إن التحديث على النموذج الغربي ينطوي على مضامين أيدلوجية، مادية
وعلمانية، ووجودية وبرجماتية، تشكل خطراً على المجتمع الإسلامي بخاصة
حيث تبدو في ظاهرها الرحمة وفي باطنها يكون العذاب.
* وأخيراً فإن قضية الفكر الهدام ليست قضية محدودة بوقت معين، ولكنها
كانت وستظل مطروحة طالما أن هناك صراعاً بين الحق والباطل، وقد يختلف
الطرح في صوره وأشكاله، ولكنه ثابت في أهدافه وغاياته والتحديث على طريقة
النموذج الغربي في التنمية إنما هو شكل آخر من أشكال الفكر الهدام.
لا للتغريب:
لم تكن المشكلة تكمن بالكامل في المداخل أو النماذج التنموية المستوردة ذاتها، والتي ربما تكون قد نجحت في الدول التي نشأت فيها، بل تمثل القصور
الأساسي في أن عمليات التحديث في مجتمعاتنا لم تكن نابعة من الواقع الاجتماعي
والثقافي الأصيل، فعلى عكس التنمية في كثير من المجتمعات الغربية، نجد أن
العوامل الأساسية التي دفعت إلى التغيير في مجتمعاتنا بدأت مع اختلال التوازن
التقليدي الأصيل، بفعل عوامل خارجية متضمنة في عملية التحديث والتحضر
والتصنيع على غرار النموذج الغربي في التنمية، وأصبحت عمليات التنمية بذلك
أسيرة عوامل خارجية غير متأصلة، حيث أخذت عمليات التحديث شكل التغريب،
وأصبحت هذه المجتمعات تسير بوعي أو بغير وعي نحو التبعية، التي طالما تسعى
هذه المجتمعات إلى التحرر من إسارها.
والحقيقة أن التبعية أصبحت تمثل واقعاً بسبب ما نحن فيه من تأخر وشقاق
فقد كنا متبوعين أيام كنا أقوياء، ونحن نتهم الغرب بأنه يجرنا إلى التبعية والحقيقة
أننا نتبعه لأننا نشعر بأننا بحاجة إلى تقدمه وعلومه، وصار أخشى ما نخشاه أن
يؤدي ذلك إلى تغلغل أشكال التبعية إلى مجتمعاتنا نتيجة النقل الحرفي، وعمليات
المحاكاة العمياء لكل ما تهب به رياح الغرب دون إمعان النظر فيما أكان هذا مناسباً
لنا أم لا.
هل نقول (لا) للمعاصرة؟ !
... لا تعني الأصالة في ارتباطها بالتراث المحلي، الجمود والتقوقع ذلك أن
التراث يضم الموروث الحضاري بأجمعه، ويحتوي على جانبين:
الأول: ثابت ويجب الحفاظ عليه، ويتضمن اللغة والدين والقيم والتنشئة
الاجتماعية، والثاني: متغير يمكن التعامل معه كجزء من الحياة الحاضرة.
فالأصالة بذلك لا تعني مطلقاً كما قد يتصور بعضهم الانغلاق على الذات في
العلوم أو التقنية التي أصبحت ضرورية، ولكنها تعني إعادة النظر في النماذج التي
لقنها الغرب تلقيناً والتعامل معها بوعي، بل ومحاولة تجاوزها بمعطيات جديدة،
ولا تعني أن ندير ظهورنا تماماً للتطور الحادث بالفعل من حولنا، ولكن تعني
الدراسة المتأنية لاختيار ما يناسبنا ويدعم الهوية الحضارية والخصوصية الثقافية
لمجتمعنا العربي الإسلامي، ويؤكد أهمية التواصل الحضاري والتاريخي بالنسبة
لهذا المجتمع.
فهل نقول الحضارة قذارة، بحجة أنها حضارة الغرب، ونغمض أعيننا تماماً
عن ما يحدث من حولنا من تطور؟ ! إن القول بنعم للمعاصرة يعني التفاعل مع
الحضارة ويعني أيضا الحرص على امتلاك القوة بكل الصور، وهذا أمر مهم
لإقرار الحق والعدل في الكون، وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، فالحق يحتاج إلى
قوة تحميه وتفرضه. وحضارة اليوم هي حضارة مادية بكل المقاييس، تقوم
بالدرجة الأولى على العلم التجريبي.
وعلينا باعتبارنا مجتمعاً إسلامياً أن نأخذ بناصية العلم الذي هو السبيل إلى
امتلاك عوامل القوة المادية، وبخاصة تلك العلوم التي تتجاوز الحدود الدولية التي
ليست حكراً على مجتمع بعينه، وهي تلك العلوم الطبيعية التي تتعلق بدراسة المادة
وخواصها، وقد أخذ الغرب نفسه الكثير من النظريات العلمية عن العرب
والمسلمين الأوائل أمثال: ابن الهيثم والرازي ... فلماذا لا نأخذ عنهم في هذا
المجال؟ ! ذلك أن التقنية في حد ذاتها ليست موجبة أو سالبة، ولكن طبيعة
المجتمع ومدي تماسك مؤسساته هما العاملان اللذان يجعلانها سالبة أو موجبة في
تأثيرها، ومن ثم فإن الحل لا يكون عن طريق الانغلاق على الذات، ولكن يكون
عن طريق العمل على سد الثغرات ونقاط الضعف التي قد تظهر في المؤسسات
الاجتماعية والتي تفرزها التقنية الحديثة أو الانفتاح على العالم الخارجي.(76/29)
مقال
واجبنا في زمن الانهزام
د. محمد بن عبد الله الشباني
تمر الأمة الإسلامية في هذا العصر بمرحلة من الذُل والهزيمة لم تبلغها في أي
حقبة من حقب التاريخ الإسلامي، فقد اجتمعت قوى الشر من يهود ونصارى فرمت
بسهامها عن قوس واحدة، فأصابت الأمة في مَقاتل عدة، ومن أهم المَقاتل التي
أصابت الأمة التخلخل والنكوص والانهزام والاستسلام لرغبات العدو والإذعان
بتنفيذ أوامره، فأصبحت الأمة لا تملك من أمرها شيئاً.
إن الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام قد تعطل، بل إن الدعوة إليه أصبحت
أمراً نشازاً، وأصبحت الدعوة إلى الاستسلام للأعداء بكل ما يطلبونه هي النغمة
السائدة التي يتولى الإعلام غرسها وتثبيتها والتأكيد على أنها الطريق الأفضل لأخذ
الحقوق، فلا جدوى لما عداها من وسائل للحصول على الحقوق، كما أنها الركيزة
التي يقوم عليها البناء السياسي في العالم الإسلامي وتتولى القيادات السياسية تنفيذها
بحماسة وجدية.
إن السؤال الذي ينبغي طرحه ومناقشته هو: ما دور الفرد المسلم في مجابهة
هذا الواقع المؤلم؟ وكيف يمكن للفرد المسلم المجرد من جميع القوى المساندة
ممارسة دور فاعل ومؤثر في مقاومة هذه الغارة التي تعددت أشكالها وأنواعها؟
وهل يمكن للفرد أن يمارس دوراً مؤثراً في ظل هذا الواقع؟ وكيف لهذا الفرد أن
يمارس دوره الجهادي؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة ترتبط بمدى فهم الفرد المسلم لأهمية دوره في
إحداث التغيير في المجتمع، وإن الدور السلبي الذي يمارسه كل فرد من أفراد
المسلمين إنما يعود في أساسه إلى الجهل المطلق لما يوجبه الإسلام على المسلم من
مسؤولية تجاه مجتمعه.
لقد وردت أحاديث كثيرة تحدد دور الفرد في المجتمع المسلم، وترتبط معرفة
هذا الدور بفهم هذه الأحاديث وربطها بالواقع، فمن تلك الأحاديث التي حددت دور
الفرد في المجتمع ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وقف على ناس جلوس فقال: (ألا أخبركم بخيركم من شركم، قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا وشرنا، قال: خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره) [1] ، وما رواه البخاري في الأدب المفرد
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المؤمن
مرآة أخيه والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضعفه ويحوطه من ورائه) [2] وما رواه
ابن حبّان والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه
الناس على دمائهم وأموالهم) [3] .
إن المعنى العام لهذه الأحاديث يؤكد أن دور الفرد المسلم دور إيجابي يتفاعل
مع قضايا المسلمين، ويكون عوناً للمسلمين، فيعمل بكل جهده على تقوية ومساندة
إخوانه ممن يعانون الظلم والاضطهاد من الأعداء، فعلى المسلم أن يؤمن شره عن
المسلمين، وأن يحوط إخوانه، ويكف يده عن مساعدة أعدائهم وكف اللسان واليد
يأخذ أشكالاً عدة إذا أحسنَ استعمالها، فإن تأثيرها على الأعداء كبير كما إنها نصرة
للمسلمين. والسؤال هنا: كيف يمكن للمسلم أن يمارس هذا الدور المؤثر لصالح
المسلمين في هذا العصر الذي أصبحت المناصرة الجهادية باليد والمال محظورة،
وباللسان ممنوعة في معظم الأقطار؟ !
إن الفرد المسلم الواعي قادر على ممارسة دوره الجهادي إذا استشعر
المسؤولية تجاه أمته، وعزم على أن يُمارس دوره الفردي مجرداً من كل أنواع
القدرة على المجابهة، وإن أول خطوة لممارسة هذا الدور تتمثل في معرفة أعداء
الأمة الذين يحملون الحقد والضغينة على المسلمين وعلى الإسلام، إن هذه المعرفة
وتعمقها في نفس الفرد تمثل الخطوة الأولى في المجابهة، ولهذا نجد أن من ركائز
الإيمان الولاء والبراء، ومن رحمة الله بالمسلمين أنه لم يدع أمر اكتشاف أعدائهم
لقدراتهم، ولكنه سبحانه أوضح أولئك الأعداء بجلاء ووضوح لا لبس فيهما، فقد
أشار القرآن الكريم إلى ذلك بصريح العبارة في قوله تعالى: [لتجدن أشد الناس
عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا] [4] ، وقوله تعالى: [ولن ترضى عنك
اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] [5] ، وقوله تعالى: [ود كثير من أهل
الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراْ] [6] ، فاليهود وأنصارهم من النصارى
الذين تتركز قوتهم المعاصرة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا ودول أوروبا في
الغالب، هم الأعداء الذين حذر الرسول منهم، والذين ينبغي على كل فرد مسلم أن
يَحذرهم على أساس أنهم أعداء لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، إن التاريخ القديم
والمعاصر أكبر شاهد على ذلك، بل إن المصائب المعاصرة التي حلت بالمسلمين
من احتلال لأراضيهم، وانتهاك لحرماتهم ونهب لخيراتهم، ومساندة لأعدائهم من
اليهود والوثنيين من الهندوس والسيخ، والسعي بكل جهد على إيجاد الظروف
السياسية والاقتصادية المعيقة لانعتاق بلاد المسلمين من قبضتهم من خلال التمكين
للمنافقين والمرتدين من العلمانيين والمستغربين والانتهازيين بتسلم زمام الأمور في
البلاد الإسلامية، والعمل على القضاء على أي توجه شعبي للعودة إلى منابع القوة
للأمة الإسلامية من خلال محاربة القيادات السياسية والفكرية ذات التوجه الإسلامي، التي تطالب بأن يكون شرع الله هو الحاكم والموجه لشؤون الحياة لاشك أن لهم
دوراً فيه.
إن هذا الواقع السيىء للأمة أدى إلى بروز ظاهرة الانهزام والشعور بالعجز
عن مقاومة الهجمة الصليبية اليهودية والوثنية من الهندوس وغيرهم.
إن الفرد المسلم يستطيع لو تم إنماء الوعي الإيماني لديه أن يمارس دوراً
فاعلاً ومؤثراً لصالح المسلمين من خلال الجهاد الاقتصادي والجهاد العقدي والثقافي
بتحصين الأمة من خطر الغزو الثقافي الذي يمثل الخطر الأكبر على جهاز المناعة
لدى الأمة.
من مظاهر الجهاد الفردي:
يستطيع الفرد المسلم ممارسة الجهاد الفردي في زمن الانهزام من خلال
ممارسة دوره الاقتصادي، وتنمية الوعي الثقافي لأفراد الأمة الآخرين من خلال
موقعه مستهلكاً للسلع، وموجهاً لأسرته وممارساً لحقه الطبيعي في إبداء التعبير
وإزالة المنكر والأمر بالمعروف من خلال أداء واجب الكلمة في محيطه الاجتماعي
وتتمثل الوسائل التي يمكن للفرد أن يمارس دوره الجهادي في محاربة أعداء الأمة
من خلال موقعه في المجتمع في عدة أمور يمكن تلخيصها في الآتي:
الأمر الأول: المقاطعة الاقتصادية بالامتناع عن شراء السلع سواء أكان
الشراء للاستهلاك أو الاقتناء، والتي تنتج وتُصَدّر إلى بلاد المسلمين من الدول
الغربية بعامة والعدو الصهيوني بخاصة، والاستعاضة عنها بشراء السلع المنتجة
في البلاد الإسلامية، فهذه المقاطعة الفردية لا تكلف الفرد المسلم أي جهد ما عدا
تغيير نمط الاستهلاك، وإحلال سلع منتجة ومصنعة في البلاد الإسلاميةمحل السلع
المنتجة في بلاد أعداء الإسلام، وبهذه المقاطعة يتحقق أمران الأول: تشجيع
منتجات البلاد الإسلامية وتقوية اقتصادياتها، والثاني: محاربة العدو اقتصادياً
بالامتناع عن شراء السلع المنتجة في تلك البلاد ومحاربة كل تاجر مسلم يستورد
السلع الاستهلاكية من بلاد أعداء المسلمين وعلى كل فرد رفع شعار «قاطعوا
الأعداء» بالامتناع عن شراء أي سلعة منتجة وموردة من بلاد النصارى،
وبالأخص الدول التي تتولى قيادة دول النصارى في عصرنا الحالي وتفضيل الدول
الأخرى من غير الدول الإسلامية في حالة عدم وجود تلك السلع لديها بشراء السلع
المنتجة مثلاً من الصين واليابان وجنوب شرق آسيا مثلاً وإن امتناع كل فرد مسلم
عن شراء أي سلعة منتجة أو ذات علاقة تجارية أو اسم تجاري مرتبط بالشركات
الغربية، سوف يؤدي إلى وجود غضب شعبي تجاه ما تمارسه القوى الصليبية
الحاقدة، إن على كل فرد مسلم الامتناع عن شراء هذه السلع ودعوة الآخرين لذلك.
الأمر الثاني: أن يقوم كل فرد إذا كان صاحب شركة أو مؤسسة تمارس
الأعمال التجارية بالامتناع عن الاستيراد من الدول الغربية والاستعاضة بالاستيراد
من الدول الإسلامية، أو الدول التي يمكن أن تكون يوماً عدواً للدول النصرانية،
كما أن على كل فرد يمتلك القدرة على الاستقدام للأيدي العاملة أن يمتنع عن
الاستقدام من تلك الدول، وأن يمارس كل فرد إذا لم يكن صاحب شركة أو مؤسسة
الضغط الاجتماعي من خلال النقد وإثارة الإحساس الديني لدى أصحاب هذه
الشركات.
الأمر الثالث: أن يقوم كل فرد وبخاصة العاملين في حقل التعليم باستخدام
التعليم وسيلة للجهاد بالكلمة بغرس القيم والمبادىء والأفكار الإسلامية التي تحمي
أفراد الأمة وبخاصة الطلبة والطالبات من الغزو الثقافي، فالدول النصرانية تسعى
إلى طمس الهوية الإسلامية، فقد تكالب الأعداء وسخروا جميع الإمكانيات من أجل
هدم مقومات الأمة بإضعاف مفهوم الولاء والبراء من خلال الدعوة إلى التقارب بين
الأديان، الذي أصبح مصيدة وقع فيها كثير ممن ينتسبون إلى العلم والثقافة،
فالقصد من التقارب بين الأديان هو الاعتراف بالديانتين اليهودية والنصرانية
المحرفتين وكأنهما صحيحتان، مع أن الله أخبر أنه لا يقبل غير الإسلام ديناً في
قوله تعالى: [ومن يبتغ غير الإسلام ديناْ فلن يقبل منه] [7] ، وإن مبدأ الحوار
مع الأديان المحرفة قد حدده الله، فلا يجوز الحوار إلا وفق القاعدة القرآنية في قوله
تعالى: [قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا
نشرك به شيئاْ ولا يتخذ بعضنا بعضاْ أرباباْ من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا
بأنا مسلمون] [8] ، كما إن الغرب النصراني يسعى إلى إبعاد الأمة عن تحكيم
شرع الله في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وتبني سلوكيات الغرب النصراني من
حرية مزعومة، وإباحية وإلحاد وكفر بالله، ولهذا فإن للمعلم أو المعلمة دوراً كبيراً
في الجهاد من خلال جهاد الكلمة، وتزويد الطلبة والطالبات بالقيم السليمة،
ومحاربة جميع المظاهر السلوكية المنافية لقيم الإسلام وتعاليمه.
الأمر الرابع: أن يمارس الفرد المسلم من موقع عمله في غير حقل التعليم
دوره في محاربة الخطط التي تسعى لتقويض مقومات المجتمع، وبخاصة في حقل
الأمن والإعلام، فالدور الجهادي للفرد المسلم الذي يعمل في هذه الأعمال كبير
وخطير، وبخاصة ما يتعلق بمحاربة المفسدين الذين يعملون على إفساد الشباب من
خلال نشر الرذيلة بينهم، فإن هدف الأعداء هو نشر المخدرات والزنا وغير ذلك
من الإفساد الأخلاقي، وبالتالي فإن على المسلم الذي يعمل في الأمن مسؤولية
تفويت الفرصة على الأعداء من خلال القضاء على أوكار الفساد، وكذلك بالنسبة
لمن يعمل في حقل الإعلام فإن عليه واجب نقل الصورة الصحيحة عن واقع
المسلمين واستخدام المنبر الإعلامي بقصد توعية المسلمين بواقعهم وكشف أساليب
الأعداء ومنع كل وسائل الهدم والتخريب لعقائد الأمة وقيمها، وبالتالي فلو أن كل
صحفي أو كاتب في جريدة أو صاحب دار نشر امتنع عن نشر أي كتاب أو مقالة
فيها إساءة للإسلام أو تساهم بنشر فكرة إلحادية، أو تسويغ الفاحشة، فإنه بهذا
يمارس دوره الجهادي في حماية الأمة والمجتمع الإسلامي من الوقوع في مصيدة
الأعداء، وتوفير الأرضية لاتساع الصحوة الإسلامية.
إن للفرد دوراً كبيراً في محاربة الأعداء وإفشال خططهم، وبالتالي فالجهاد
الذي هو ذروة سنام الإسلام لا يقتصر على حمل السلاح فقط، بل يشمل جميع
أوجه الجهاد، فالتفاعل مع هموم الأمة وقضاياها يمثل لوناً مهماً من ألوان الجهاد
فالمسؤولية الفردية هي مناط التكليف في الشريعة الإسلامية ففي الحديث المشهور:
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) «، فقد شملت المسؤولية جمع أفراد الأمة،
ويؤكد هذا المفهوم حديث ابن عباس الذي رواه البخاري، فقد قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيه وإذا استنفرتم
فانفروا) [9] والاستنفار في زمن الانهزام يتمثل في قيام كل فرد بواجبه الفردي تجاه حماية الأمة من خلال استخدام الإمكانات المتاحة له لصالح الأمة، وأن يكون قدوة للآخرين بممارسة دوره الفعال، ودعوة الآخرين للاقتداء به.
__________
(1) رواه الترمذي، كتاب الفتن ح76.
(2) رواه أبو داوود، كتاب الأدب ح49.
(3) رواه البخاري، كتاب الإيمان ح514، الرقاق ح36؛ مسلم، كتاب الإيمان ح12.
(4) سورة المائدة: 82.
(5) سورة البقرة: 120.
(6) سورة البقرة: 64.
(7) سورة آل عمران: 85.
(8) سورة آل عمران: 64.
(9) رواه البخاري، كتاب الصيد ج10، كتاب الجهاد ح19227؛ مسلم، كتاب الإمارة ح86.(76/36)
الملف الأدبي
(نصوص شعرية)
.. رتابة..
د. صالح الزهراني
منذ تسعينَ حجّةً..
ثورة الوعي خامدة
يبدأ العرض ميّتاً! ..
فوق أشلاء صامدة..
البدايات واحدة!
والنهايات واحدة!
بطل العرض واحدٌ..
قصة العرض واحدة..
مخرج العرض واحدٌ..
والجماهير راقدة!
بعد يوم من الضنى
والوجوه المزايدة! ..
.. أعلن الفاتح الأبي..
والزغاريد شاهدة..
عن فتوحات جيشه..
عن قواه المجاهدة..
أنها شقت المدى..
واستباحت وسائده! !
وأراقت دمَ الدجى! ..
وأضاءت فراقده..
كذّبت كلّ خائن..
فهي بالنصر عائدة..
وبدا شاعر الهوى..
يتهجّى قصائده!
وانتهى الفتح رقصة..
وغناءً، ومائدة!
والجماهير لم تزل..
تشهد العرض جامدة..
عرفت كيف ينتهي..
عرفت كيف يبتدي..
أصبح الزيف قاعده! !(76/44)
نقد على نقد
نقد ظالم.. ونقد نائم
محمود مفلح
يبدو أن صوت النقد في صحافتنا الأدبية الإسلامية وعلى أقلام كتابنا خافتٌ
جداً، ومهما حاولت أن تُصغي إلى هذا الصوت فإنك لن تظفر بشيء ذي بال،
على أن هذا الصوت لدى الآخرين قويٌ، واضح النبرات، شديد التأثير حيث
تبلورت خطوطه، وتحددت توجهاته، واستقرت كذلك رموزه.
ولا أبالغ إذا قلت ومن خلال متابعتي المتواضعة لما يصدر هنا وهناك من
صحافة أدبية أقول لا أبالغ إذا قلت: إن المرحلة الراهنة هي مرحلة النقد، وإن
القوم جادون في تأسيس نظرية نقدية تناسب رؤيتهم ومنطلقاتهم، وهم مشغولون
بتأصيلها، يقيمون تنظيراتهم على ضوئها، ويُجرُون كذلك التطبيقات اللازمة على
نصوص يختارونها من أجل دعم هذا التوجه النقدي وترسيخه.
حتى ظهرت أسماء نقدية مهمة لا نستطيع أن نتجاوزها، أو نقفز فوقها أو
نستهين بمجهوداتها الدؤوبة في مشرق الوطن العربي ومغربه، وإن المتأمل كذلك
فيما يُكتب من نقد هنا وهناك لابد وأن يلاحظ أن ثمة اتفاقاً وإجماعاً على توجه نقدي
معين، وأن ثمة جسوراً تقام بين هذا الناقد وذاك، فكأن هذا هو الصوت، وذاك
هو الصدى في تناغم عجيب، واتفاق يبعث على الدهشة!
وإن النصوص التي يختارها هؤلاء النقاد تدور كلها في فلك الحداثة والتغريب، والأشكال التعبيرية الجديدة، التي يكتنفها الغموض، ويُشكل لحمتها وسُداها اللغز
والأسطورة والسحر، و «يفلسفون» لها ويؤولونها ويحاولون جاهدين أن يُقنعوا
القارىء بأهميتها وريادتها.
حتى أصبحنا نسمع بأسماء شعراء وقصاصين وروائيين ظهروا على الساحة
فجأة، بجهود هذه الأقلام النقدية الدؤوبة في التلميع والترصيع..!
وظهرت على الساحة كتب تحمل سمات هذا الاتجاه النقدي، تُبشر بها
الصحافة، ويكتب بعضها عن بعض، وكلها تنويعات على وتر واحد، إلا أن
طابعها الإصرار والالتزام.
وكل النصوص التي تتناولها هذه الدراسات إبداعية ومعاصرة ومهمة وجديرة
بالقراءة ... إلا النصوص الإسلامية! ! أو ما يقترب منها، فإنها في زعمهم فقيرة، متخلفة، فجة، تغلب عليها الخطابية والسطحية وهي تجافي روح الفن، وتتنافى
مع الحساسية الجديدة، والرؤية المعاصرة! !
إنه حصارٌ محكم، سبق التخطيط له، والاتفاق عليه، في لقاءات أدبية تمت
وتتم هنا وهناك.
وهو واقع نقدي مؤثر حفر مجراه، وظهرت نتائجه، قَبلْنَا ذلك أم رفضناه،
فرض نفسه على الساحة الأدبية بقوة، ولا تكاد تخلو مطبوعة أدبية واسعة الانتشار
من هذا التوجه النقدي الحديث.
حتى أصبح القارىء يُردد عن وعي ودون وعي مقولات هؤلاء النقاد ويتأثر
بالنصوص التي يعرضونها، ويعرف الكثير من الأسماء التي تمارس هذا النقد،
وتشتغل به.
وفي الجانب الآخر ترى النقد الإسلامي وللأسف البالغ مازال يحبو وليته يحبو
بنشاط وحيوية.
واستعرض إذا شئت الصفحات الأدبية الإسلامية في أي مطبوعة تشاء فإنك
قلّ ما تجد دراسة أدبية جادة عميقة ذات رؤية نقدية واضحة، تنسجم مع قيمنا
الحضارية وتعطي لهذا العمل أو ذاك حقه، ولن تجد كذلك توجهاً نقدياً عاماً واضح
المعالم، ولن تجد أيضاً وأقولها بمرارة، أسماء نقاد جادين دؤوبين مخلصين لهذا
الفن أو ذاك، رغم أن النتاج الأدبي الإسلامي معافى ومقروء ولا يخلو من جماليات
تستحق أن يتوقف عندها النقد.
ورغم أن الأساتذة الجامعيين الذين يحملون شهادات عليا في النقد الأدبي كُثر
والحمد لله وفيهم القادر على النهوض بهذا العبء، لو نفض عنه غبار الكسل
وتجرد لهذه المهمة، وإن تجربتي في هذا الصدد مع بعض هؤلاء الأساتذة الأفاضل
للأسف غير مشجعة، إذ قمت عندما صدر ديواني الجديد «نقوش إسلامية على
الحجر الفلسطيني» بإرسال نسخ منه إلى خمسة من هؤلاء الأساتذة، وطلبت منهم
في عبارة رقيقة أن يتفضلوا بالكتابة عن هذا العمل سلباً أو إيجاباً، إذ أن الشاعر لا
يطمئن على تجربته الإبداعية حتى يسمع قول النقد فيها.
وانتظرت شهوراً وشهوراً، ولم يصلني من أحد منهم وريقة تشعر أن الديوان
قد وصل فضلاً عن القيام بالكتابة عنه، رغم أن حظي أفضل من غيري في هذا
الصدد.
وأنا أعرف عشرات الأعمال الأدبية الإسلامية قد صدرت هذا العام والعام
الذي قبله، ولم ينهض لها النقد، ولم يقترب منها رغم أهميتها.
فالإبداع في واد والنقد في واد، ومازال بعض نقادنا مشغولين بتنظيراتهم،
ورؤاهم، وتعريفاتهم ومصطلحاتهم، ولم يكلفوا أنفسهم مقاربة النصوص الإبداعية، أو الحديث عنها، حتى نهض بهذه المهمة أخيراً أو ببعضها الشعراء أنفسهم
تعريفاً وتطبيقاً.
ولا أريد أن أدلل على أهمية النقد برواية «الذئب» ، التي كتبها أديب
إيطالي مغمور، ورفضت جميع دور النشر في إيطاليا طباعتها مما جعل صاحبها
يتأثر تأثراً عميقاً أدى به إلى أن أصيب بنوبة قلبية مات على إثرها، حتى سمع
بالرواية ناقد شهير، أعجب بها فكتب لها مقدمة ضافية، ودفعها إلى دور النشر
فلاقت رواجاً كبيراً، وإقبالاً من القراء عجيباً، وترجمت إلى جميع لغات العالم،
وصدرت منها حتى الآن الطبعة الخامسة والأربعون..
فالنقد هو الذي يعطي العمل الأدبي قيمته، ويضيء أبعاده ويخط له مساراته
الإبداعية الجديدة، بالإضافة إلى أن الناقد يمارس عملاً إبداعياً جديداً لا يقل متعة
وأهمية عن العمل المنقود.
وما لم تكن هناك حركة نقدية جادة ومستمرة، تواكب الأعمال الأدبية وتعلن
عن ولادتها، وتمنحها شرعية القبول، فإن الأدب الإسلامي عندنا سوف يظل يسير
على قدم واحدة.(76/45)
نصوص شعرية
ذكرى العبور
محمد البراهيم
عندما حلت به ذكرى العبورْ
أنف الشامخ من صمت الجموعْ
ساقها روادها سوق الأمةْ
رهن الشامخ للسيف دمهْ
حطم الأوهام فيما حطمهْ
باع أمناً.. ورخاءً سئمهْ
واشترى خوفاً ورعباً..
حيثما دار يدورْ
واشترى حبراً.. وغذّى قلمهْ
وامتطى الفارس ظهر الكلمةْ
ومضى ينشد ما بين السطورْ..
وطناً ضيّع يوماً رقمهْ
* * *
تلكمُ جملة ما قال الشهودْ..
ومضى.. مثلما النجم يغورْ
غير أني..
أعلم اليوم تمام الملحمةْ
فلقد برّ بوعدهْ
ومشى الدرب لوحدهْ
لكأني..
أسمع الآن وجيبَ الحمحمةْ
وأرى الفارس يعلو فرسهْ
نسج العز لجاماً ألجمهْ
هتف المخبرُ.. إذ كان معهْ:
ويحه.. ما أقدمهْ؟ !
حدثته النفسُ: «ماذا لو يحورْ؟ !
أتُرى يُبدي أسيفاً ندمهْ؟»
فأجاب العزم في عزم وقورْ:
«إن يك الموت قضي..
فلم الخوف لمهْ؟
أفراراً من قضاء لزمهْ؟ !
* * *
أبصر الشامخُ أمراً نكره..
أبصر السادنَ يعلي صنمهْ
ناكرَ الأصل ربيبَ الدونمةْ!
يطمس الحق.. ويفري أممهْ
حسب الحق.. كما الماء يغورْ..
إنما يتبع فهماً فهمهْ
* * *
سمع الشامخ أمراً نكرهْ..
إذ بعيداً..
حيث لا ثمّ سوى همس الطيورْ
يسكن الشيخ الذي ظل خفياً..
وسميراً للنجومْ
يزرع الحقل ويرعى غنمهْ
يعشق الليل ويهوى نسمهْ
يذكر الله ويرجو كرمهْ
رجع الشيخ.. إلى الكوخ الصغيرْ
متعباً ذات مساءْ
فرأى الكوخ هباءْ!
عسكر الظالم غَدراً هدمهْ
إذ وشى بالشيخ كيد العملاءْ
أي جرم أجرمهْ؟ !
» أي جرم؟ ! «..
وعلى الوجه تفاصيل ذهول وخفاءْ!
فأتى الرد نسيئاً..
من سفيه لطمهْ:
(أتظن السيد الوالي يجورْ؟ !)
ضحك الكل ... وأنشدْ:
يسقط الصبح.. وتحيا العتمهْ!
يسقط العدل.. وتحيا الظلمةْ!
رمق الشيخ بعينيه السماءْ..
سأل الله سؤالاً كتمهْ
سمع الشامخ.. والتذّ الفداء
ومضى يسعرُ حربَ الكلمةْ
* * *
قرأ القارىء سطراً ...
في بقايا صفحة مهترئةْ:
» غيلَ بالأمس عدو الأنظمةْ! «
* * *
أيها الشامخ.. عذراً..
لم يزل يدهمنا سيل الفجورْ
لم تزل تسكننا عدوى الجحورْ
غير أنّا.. سنصلي..
كلما مرت بنا ذكرى العبورْ:
» رحم الله قتيل الكلمةْ «
» رحم الله قتيل الكلمةْ «(76/49)
قصة قصيرة
شيء لم يحدث..! !
عبد الحليم البراك
يرقب جدار صمت قد امتدت قامته حتى الأفق البعيد.. لونٌ أشهب وبرودة
قاسية.. تجعله يحس بشيء من الانتشاء.. طعمهما الحلو في شفتيه اليابستين..
هذه الفتحة العلوية التي تكاد تختفي في ثنايا هذا الجدار الشامخ.. ثمة نور ضئيل
منها.. كأمل ينتظره من بعيد.. الجدار يعانق الجدار.. وهذه السلسلة الحديدية لا
تثقل أنفاسه الحرة داخله.. لا تمنعها من الفرحة.. وكأن شيئاً.. لم يحدث..
* * *
طريق مستطيل.. ينتهي بأفق حقله الصغير.. ثمة جموع وقحة.. قادمة..
ألقها.. هيا..
انتظر..
ألقها.. قبل أن يرونا..
أريد أكبر عدد منهم..
أنت تقودنا نحو الحديد.. معاً..
اذهب أنت..
ولكن..
إني آمرك.. هيا..
ولكن..
ولكن اذهب.. هل سمعت؟ !
حاضر! ! ..
غضب أحمر يتمخض عن انفجار مدو يحصد أربعة من ذوي الأكتاف
المذهبة.. وأكثر من عشرة قد زينت أذرعهم الوقحة بشرائط خضراء.. ثمة عين لمحته.. لا محالة.. أمسكوا به.. أحس بشيء من اللذة.. وكأن شيئاً.. لم يحدث..
* * *
يرقب حلقات من حديد متراصة ومترابطة.. «ستحاكم! ! ..»
(لم أقترف جرماً.. أرادوا سرقة أنفاسي من أضلعي) .
... يرقب باباً حديدياً أمامه.. أسود.. وعليه كتابات ثائرة..
صوت حذاء عسكري يرن.. يقطع مسافات من كهوف الصمت الداكنة..
حركة غليظة تهز هذا الباب المترس.. رجل ضخم الجثة مكتنز الخطوات
كجسمه..:
موعد المحاكمة اليوم..
اجتاحت صدى كلماته أرجاء الفضاء الموحشة.. لم يعلق.. قام.. مشى..
خرج.. شم هواءً عفناً.. تفل عن يساره.. أحس وكأن شيئاً.. لم يحدث..
* * *
دلف إلى القاعة.. ثمة أشياء ميتة.. مسح القاعة بعينيه.. الهواء العفن أيضاً
يتكوم في وسطها.. جهة المنضدة اللامعة.. يرقد عليها ثلاثة أشخاص.. هم
أنفسهم الذين راحوا جراء القذيفة.. «يبدو أنهم سينتقمون الآن..»
طلبوا منه أن يقترب من أوسطهم.. نظرة ممددة ألقاها عليهم..:
- أنت مدان! !
- بماذا؟ ! ! ..
- بقتل أربع حمامات..! !
- ... ؟ ؟ ! !
تذكر طفولته الممزقة.. وأحس وكأن شيئاً.. لم يحدث..(76/51)
نصوص شعرية
.. دمعة..
على أطلال سربنتسا
فيصل بن محمد الحجي
سربنتسا.. مدينة بوسنية مسلمة، صبرت تحت وطأة الحصار والقصف
الصربي الشديدين عاماً كاملاً، وهي تنتظر نجدة أحفاد طارق وصلاح الدين. كان
يكفيها الإمداد بالسلاح دون الرجال، فلم يطلع عليها وجه نصير إلا قلة من شباب
الصحوة الذين زرعوا قبورهم في أنحاء الأرض من أجل أن يورق الأمل، أما من
بقي منهم حياً فهو ينتظر الاعتقال والمحاكمة إن عاد إلى بلده بتهمة (البوسنيين
العرب!) فما أمر (الأفغان العرب) عنا ببعيد.
واضطرت المدينة البطلة بعد نفاذ الذخيرة إلى الاستسلام المهين لقوات الأمم
المتحدة التي قامت بتنفيذ شروط (الصرب) ، وذلك بتدمير ما تبقى من سلاح المدينة
لتقف عارية أمام عدوها الفاجر.. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سربنتسا.. ما حفظناك كما ... يحفظ الحرّةَ حرّ بالدما
عَظُمَ الخَطبُ ولم نرفع له ... رايةً تغزو العدا أو علما
لم يَثُر (هارونُ) من علج غزا ... وسبى (فاطمةً) أو (مريما)
عاث كلبُ الروم في أقداسنا ... ودفعنا جزيةً كي نَسْلما!
صوفنا أو قطننا أو زيتنا ... ناله (نقفور) منا كرما! !
جزية (الكربون) من يجهلها؟ ! ... جشع يمتص منا الدسما!
سربنتسا.. أي جرح راعف ... مَلأ الآفاقَ حُزناً معتما؟ !
هذه صلبانهم ... نعرفها ... حقدها يكسو رُبانا عدما
* * * *
سربنتسا.. أي ذل قاهر ... لطخ الهامات عاراً مؤلما
نحن أسلمناك للعار وما ... أغضب العارُ بنا (معتصما)
جهرةً.. تلمس كفّ المعتدي ... موضعَ العفة لمساً مجرما!
وأخو النخوة يرنو صامتاً ... كالذي يحجب عينيه العمى
كم أنين.. كم صُراخ ضارع! .. ... فهل الأسماع تشكو صمما؟ !
يا جيوشاً أُتخمَت أسلحةً ... لم تدع في بيت مال درهما!
سمنت من جوعنا.. وانتفخت ... وغدا المغنمُ فيها مغرما!
جثمت فوق تراقينا وقد ... كتمت إصرارنا فانكتما
سمنت.. حتى حسبناها إذا ... دوهمت أوطانُنا.. تحمي الحمى
كم تحدت خصمَها هادرةً ... وأتى الخصمُ ضحىً.. فالتحما
وانجلى الموقفُ عن مهزلة: ... جبهة ديست.. وأنف رُغما
جرت الخذلانَ.. وانسلت إلى ... مجلس الأمن.. تنادي الأمما! !(76/54)
مراجعات أدبية
رؤية في
القراءة النقدية
د. مصطفى بكري السيد
القراءة النقدية: هي نظرية القواعد التي تحكم تفسير نص من النصوص
الأدبية، يتأكد فيها دور القارىء بوصفه أحد منتجي النص عبر علاقة تفاعلية تصل
القارىء بالمقروء لتثمر إنتاج معرفة جديدة تتيح للقارىء توظيفها في إغناء ذاته أو
في إعادة بنائها.
هذه القراءة الإنتاجية هي نقيض للقراءة الاستهلاكية، والقراءة الإنتاجية فعل
حضاري، وهي بعد توفيق الله السبب القوي لتفسير المواقع والواقع ومن ثم
تطويرهما، وهي معيار الحكم في الخلاف في كثير من القضايا التي لا يكون سبب
الاختلاف فيها راجعاً إلى الموضوع بل يعود إلى الكم والكيف القرائي حول هذا
الموضوع.
ومثل هذه القراءة وهي قراءة «التدبر» بحسب المصطلح القرآني لم ولن
تموت في العالم الإسلامي، ولكن الذي مات بل في الحقيقة ولد ميتاً وجمهوره آخذ
في التناقص هو اجترار الكلام والفكر المعلب، والرؤى القَبْلية، وإخضاع التعامل
مع الإبداع إلى قوالب جامدة منغلقة لتصبح ذات صيغة سلطوية وتسلطية على الفكر
الموضوعي، ويكون سقف الفن عندها هو المقنن الجاهز والسلبي المستهلكم،
والمثال الذي أسوقه على هذه القراءة تلكم القراءة اللغوية التي تتعامل مع كل علم
من علوم اللغة تعاملاً مستقلاً دون أن تتمكن من سبكها في سبيكة معرفية تستدرج
النص إلى الحكي والقول، وتكاد تحصر النقد بمرجعية معجمية ويكون اهتمامها
اهتماماً معجمياً في المفردة والتركيب لا اهتماماً بنائياً ودلالياً.
في هذه القراءة تغيب عن القارىء أوليات التعامل مع الشعر والأثر الفني
عامة، فهي تمكنه من الإحاطة بالمستوى الإخباري للنص، ولكنها تحجب عنه
المستوى الإشاري، وهو ما تزخر به اللغة الشعرية فيما وراء المؤدى المباشر
والذي يُكوّن نظام العلاقات الدلالية والإيقاعية في النص، وهو الذي يجعل النص
يُفلت من الظرف المحدد، ويمتلك القدرة على البث المتجدد بحيث يخاطب أجيالاً
عديدة.
تستهدف القراءة النقدية وضع النص في موضع البحث المعرفي استكشافاً
لجمالياته وطاقاته الإبداعية وما يحمله من رؤِى تحول وتحويل، هذه القراءة يحجب
نور شمسها أو يكاد التضخم في الدراسة الاجتماعية أو التاريخية الأدبية التي تجعل
الأدب ملحقاً بالحياة لاحقاً بالأحداث، هل هناك أكثر اغتيالاً للأدب من أن يكون
تاريخ الأدب أوفر حظاً في ساعات التدريس من النصوص، وفي تاريخ الأدب
يغيب النص أو يُغيّب لا فرق، ويصبح شهيداً لا شاهداً، قتيلاً لا مقاتلاً، ويكف
عن البحث المتجدد والدور المتعدد، ولا أمل في استنقاذ النص الأدبي من تقزيمه
وتحطيمه المتمثل بالبحث في ثناياه عن كل شيء إلا أدبيته. لا أمل إلابأن نبذل
جهداً مقابلاً لقراءة الاغتيال ابتغاء بلورة مفهوم ونهج جديدين في قراءة الأثر الأدبي، دون ذلك لن يتم اللقاء بين المبدع والقارىء، وهذه القراءة هي قراءة الكشف لا
الوصف، وبالمناسبة لنتذكر أن الزمخشري أطلق على قراءته للقرآن الكريم اسم «
الكشاف» .
مقتل القراءة الأولى وخطورتها أن تكون أخيرة، وهي تلك التي يتكلس فيها
فهم الأدب كتكلس الشعب المرجانية حيث تُخْضعُ الأدب لطفولية الفهم الذي يكتسبه
الطالب في المرحلتين المتوسطة والثانوية أو تلزمه به البيئة المحلية.
القراءة الأدبية هي التي تَسْتغور النص كما لو كان منجماً، تبحث عما هو
ثمين ومحجوب في طياته، فتعمل على استخراجه، القراءة الأدبية لا تخرج إلينا
قبل أن تدخل هي من خلال الناقد، تدخل إلى العمل الأدبي لتعايشه وتنفذ إلى باطنه، فتكشف عن الأدب قبل الفكرة، فإن لم يكن ثمة أدب فليس بشافع له أدبياً أن
يحتوي على أدق الأفكار.
القراءة الأدبية تتم على مستويين:
في القراءة الأولى يسلم الناقد نفسه للعمل، أي أنه يمارس قراءة النص
بوصفه قارئاً متذوقاً للأدب ومدرباً على هذا التذوق، وعادة ما يخرج من هذه
القراءة بانطباعات تختلف من عمل إلى آخر، فقد يخرج بالشعور باكتمال المتعة،
أو بالشعور بأن شيئاً ما خطأ أو لم يكتمل يحول بين شعور المتعة والاكتمال.
وفي القراءة الثانية يقيد انطباعاته مطبقاً للمنهج التحليلي على العمل الفني
ومتبيناً للعلاقات التي تجمع الجزئيات في كلية فنية.
ومما يساعد على القراءة الأدبية أن يحرص الناقد على الإحساس بالأثر الفني
بعد معايشته والالتصاق به التصاقاً كاملاً، يمكن أن نسميه كمال الاتصال، ذلك
الذي يتم فيه استغراق يُوحد بين القارىء والموضوع، بحيث يصبح الموضوع أي
الأثر الفني ذاتاً وتصبح الذات موضوعاً. بذلك يستطيع القارىء أن يخرج انطباعه
من حيز الخصوص إلى نطاق العموم، وتبيت قراءته وسيلة من وسائل المعرفة
عندما تأطرت بأطروحة ممنهجة تفيد كل مُتَلَق ومُتَلَقّى.
يجب أن يتذكر القارىء الأدبي أن ثمة فرقاً بين أن يقرأ صامتاً لنفسه وبين أن
يقرأ ناطقاً لغيره.
وأخيراً فإن مشكلة النقد ليست معزولة عن مشكلة الفكر عندنا، بل إن مشكلة
النقد هي مشكلة هذا الفكر أو هي وجه من وجوهها.
ونحن نمارس قتل روح النص في حق النصوص الحديثة والتراثية على
السواء، هكذا ما نزال ندرس المتنبي، المادح، ومايزال الموضوع أي سيف
الدولة وحروبه محور شاعريته، ويغيب عنا مناخ القمم الذي يكشف عنه نظام
العلاقات اللغوية في شعره، يغيب عنا جواب المتنبي على عصر تقهقر فيه العنصر
العربي المسلم، يغيب عنا رفعه للصوت العربي في مقابل هيمنة العجم والعجمي
في الفعل والقول، رفعه لهذا الصوت أخاذاً في سماء أخذت فيه النجوم العربية
الإسلامية بالأفول، وآذنت شمسها بغياب العرب المسلمين عن قيادة الأمة التي
سلبتهم إياها، عناصر أعجمية عملت لحسابها أكثر مما عملت لحساب تواصل
الدور الإسلامي وحضوره الدائم.
إن الولوج إلى عالم المتنبي وأمثاله من الشعراء العظام لا يتحقق بقراءة
سكونية سلبية مغلقة، بل بقراءة متحركة فعالة، لأنها تعامل حركي مع أثر يتميز
بالحياة وقابليته للنمو والتوهج، وقدرته على العطاء، إن هذه القراءة تحقق اتصال
الإبداع بالإبداع أي اتصال الإبداع النقدي بالإبداع النصي وتتسع لكلمة الآخر
وسؤالاته.
ومع أننا نعتقد أن المتنبي قد أفرز مكتبة قرائية كاملة، فإن كل قراءة لاحقة
إضاءة للقراءة السابقة، وكشف عن قارة من الطموحات انطوت عليها عبقريته الفذة.
إن النص الأدبي يستحضر إلى ساحته قراءات بعدد الاتجاهات القائمة في
المجتمع، فهناك القراءة المثالية التي تستحضر معها مسطرة القيم المجردة المطلقة
وتريد من الأدب أن يكون موعظة أخلاقية لا يعدوها إلى غيرها، فإن لم تجد فيه
بغيتها أعرضت ونأت بجانبها.
وهناك القراءة الخيالية التي تريد من النص أن يكون ركوباً يحملها بعيداً عن
الواقع والوقائع، لا تريد لغة مفهومة ولا قضية مخدومة، بل تريد هروباً واختباء
بالكلمات وتترساً بالمبهمات، وهناك القراءة السياسية التي لا تبتغي من النص أكثر
من أن يكون نشرة أخبار جوية عفواً بل سياسية.
أما مستويات القراءة فمنها ما يكون استكشافياً، ومنها ما يكون استرجاعياً،
ومنها ما يكون عمودياً، ومنها ما يكون أفقياً، ومنها ما يكون استنطاقياً يقول فيها
النص ولا يُقوّل.
هذه القراءات كلها تشكل مراجع ثانوية للقراءة الأدبية التي هي القراءة
الأساس للنص، والتي تعتمد على منظومة العلاقات الداخلية للبنية اللغوية وغيابها
يعني إفقار النص واختزاله، وبالتالي إلغاءه.
إن هذه القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارىء، ومن
القارىء إلى النص، فبقدر ما يقدم النص للقارىء، يضفي القارىء على النص
أبعاداً جديدة قد لا يكون لها وجود في النص، وعندما تنتهي العملية بإحساس
القارىء بالإشباع النفسي والنصي، عندئذ تكون عملية القراءة قد أدت دورها.
إن من أكبر مهام ومسؤوليات القراءة النقدية أن تؤصل وتؤثل وتوسع من
أمداء قراءة النقد التساؤلي الذي يضيف بالسؤال المهموم أكثر مما يعطي بالجواب
المحفوظ.
وهذه مقاربة لاستنطاق النص القصصي الموجود في العدد (74) من مجلة
البيان والمعنون بـ «حدث في السوق» بقلم د/ محمد الحضيف.
1- تلخيص النص:
ليس بمكنة أحد أن يختزل لغة النص، فإذا كانت علامات الاستفهام والتعجب
مقصودة ومن الدوال فما بالك بالكلمات بَله الجمل؟ إذن سأختصر الحدث.
المكان: سوق مزدحم (عنوان الجزء الأول من النص) ، رجلان من رجال
الحسبة هيئة الأمر بالمعروف يؤديان واجبهما في مراقبة السوق، يشك الأول منهما
برجل ذي مظهر مريب، فيقف منه موقف المتهم، الرجل الآخر يرفض التهم
المعلبة. يتمسك كل من عضوي الهيئة برأيه بعد حوار مقتضب. يتابع الثلاثة
سيرهم، يلقي الرجل ذو المظهر المريب برقم هاتف على عنقود من النساء،
تتحقق رؤية الأول في الرجل المريب، ويمسك بالرجل، ويدور بينهما حوار،
ويجتمع الناس، منهم من يريد الدنيا فيقول: (حرام عليكم اتركوا الناس وشأنهم) ،
ومنهم من يريد الآخرة، ويوافق على اعتقال المريب: (جزاكم الله خيراً) ، الرجل
الثاني يحاول أن يمحو صورة العنف في نفس المتهم يحاوره ويناوله شيئاً سقط منه، ولا يتركه إلا بابتسامة تضيء وجهه.
المكان: مجلس مزدحم بعشرات الضيوف: انتهى الحدث في السوق، يبدأ
التعليق عليه في مجلس واسع (مزدحم بعشرات الضيوف) .. يجمع الحاضرون على
فظاظة بعض رجال الهيئة، ويصفونهم بنعوت قاسية (.... .) أو (وحوش) ،
ويتفنن الحاضرون في السرد والقص وإلقاء التهم جزافاً. صوت واحد في المجلس
إن الكرام قليل يقطع على الحاضرين حديثهم مفاجئاً إياهم بالرواية الصحيحة عما
حدث. وهكذا يفاجأ الحاضرون بمن يقلب سحرهم عليهم، ويرد سهمهم إليهم فيكون
هذا السؤال: ما هي القصة إذن؟ إنه سؤال يعيد الحدث إلى درجة الصفر.
الصراع في النص: الصراع بين عضو الهيئة وزميله حول مدى اتهام الرجل، وما إمكان براءته. عضو الهيئة الأول يقول عن الرجل المريب: (حليق،
والثوب طويل ... والدخان، والنظارة الشمسية) .
العضو الثاني: (هذه ليست أدلة إدانة) .. (الحكم الأول) .
الصراع بين الجمهور والمشاهدين: بعضهم وقد رأى الصراع والاشتباك
بالكلام والأيدي بين عضو الهيئة والمتهم يقول: حرام عليكم اتركوا الناس وشأنهم.
البعض الآخر: (جزاكم الله خير، يا جماعة نظفوا البلد من ها العينات) .
مسافة واسعة بين الدعوة إلى حرية العبث ووصف التعرض لهؤلاء العابثين
(بحرام) ، والدعوة إلى تطهير البلد من هؤلاء (الحكم الثاني) .
الصراع في منزل (مجلس مزدحم) : حيث يرمي الحاضرون وهم (عشرات)
يرمون الهيئة عن قوس واحدة، وذلك بنسج (إسرائيليات) عن تجاوز رجال الهيئة،
وإخراج قصة من لا شيء، ثم تنويع السرد في القصة الملفقة: (قبل أسبوعين في
أسواق.... .) وأمام الناس كلهم هجم اثنان من رجال الهيئات) (إن أولئك الوحوش
طلبوا من الشاب أن يثبت أن المرأة التي بصحبته هي زوجته) (كان مشهداً لا ينسى
حينما وضع أحدهم قدمه على وجه الشاب وقال له: أين لحيتك يا فاسق، أو يا
كافر على ما أظن! !) . تقابل هذه النصوص والشهادات المعنعنة بشهادة من شهد
الوقيعة، فيرد الأمر إلى نصابه ولعل المتحدث الأخير (هو الذي يمثل الكاتب) ،
وهو ليس بعيداً أن يكون الرجل المتهم الذي يظهر في أول النص، فهو يقول
للحاضرين الذين لا يهضمون طعامهم إلا بهاضوم من الباطل: (أنا الذي كنت في
السوق، وأنا الذي حدث لي ذلك الموقف مع رجال الهيئة.. سوء فهم حدث وتمت
تسوية القصة بطريقة ودية) .
2 -القضية التي تموضع النص حولها:
يطرح النص الهيئة موضوعاً لمناقشته قصصياً، الهيئة دوراً لا خلاف عليها
نفى الخلاف ظاهراً على الأقل ولكن الخلاف على أداء هذا الدور.
فعضو الهيئة الأول أشعل معركة أكبر من طاقة القضية، ولقد استعمل «
مطرقة» لكسر «جوزة» ، أما الثاني فقد التزم الحوار وسار بالشوط إلى آخر
المشوار، فهو قد طيب خاطر المتهم، ليقلب الطاولة في وجوه عصبة الإفك في
نهاية القصة عندما جعل من خصم الهيئة رجلاً يدفع عنها حجج الحشرات التي
اعتادت أن تمضغ أعراض الطيبين، وإعمال مبضع النقد في ممارسات أهل
الحسبة ظلماً وباطلاً. لقد أدان النص تسرع عضو الهيئة الأول وتشنجه وأظهر
التعقل حلاً مطلوباً وطريقاً آمنة للوصول إلى أفضل النتائج، ممثلاً بعضو الهيئة
الثاني.
كما يطرح النص موقف خصوم الهيئة، فهي لا تتحرك في فراغ إنها تصطدم
بشهوات جامحة، وشخصيات لا تتورع عن إنتاج الكذب وترويجه ومواجهة هؤلاء
كما أشار النص أجدى ما تكون من داخل صفوفهم فصاحب العلاقة تكلم فسكت
الجميع، هل يمكن أن نقول إن نوعاً من التناص (تداخل النصوص) قد حصل بين
هذا النص وشخصية امرأة العزيز في سورة يوسف عليه السلام عندما قالت (أنا
راودته عن نفسه) والرجل هنا أيضاً يقول بملء فيه: (أنا الذي حدث لي ذلك
الموقف مع رجال الهيئة، سوء فهم حدث، وتمت تسوية الأمر بطريقة ودية) .
ينتهي النص بالسؤال: ما هي القصة إذن؟
لم يجب الكاتب، لأن قوة النص ليست فيما يقوله فقط، بل وفيما لم يقله
أيضاً. هل يحق للمرء أن يسأل هل الهيئة هنا رمز للدعوة الإسلامية؟ وهل إن
السوق والمجلس المزدحمين رمز للمجتمع؟ وهل يتعين على الإسلاميين أن يعتبروا
أو يصلحوا بعض أدواتهم (عضو) الهيئة الأول؟ وهل اقتنعوا بأن الحوار وإن طال
أسلم عاقبة وأرخص تكاليف من منازلة (دينكوشوتيه) تؤذي الدعوة، وتحرج الدولة؟ وهل تكون أساليب الدعوة جامدة في عالم متغير؟
أعتقد جازماً أن الحل في الإسلام فقط، ولكن المشكلة في المسلمين كأدوات
لهذا الحل ما مقدرتهم على تحقيقه؟ لا بأس أن تعيد قراءة القصة. وشكراً.(76/56)
المسلمون والعالم
أقدم التجارب العلمانية تترنح!
قراءة في الانتخابات البلدية التركية الأخيرة
د. عبد الله عمر سلطان
بعد أيام من ظهور نتائج الانتخابات البلدية في تركيا، التي انتهت بتقدم
ملموس لحزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي، زار وزير خارجية الكيان الصهيوني «
شمعون بيريز» تركيا والتقى برئيسة الوزراء «تشيلر» ، وأجرى مباحثات
تركزت على إحياء محور التعاون بين الدولتين في مجالات متعددة وصفتها المحللة
الأمريكية «كاثي دافيس» بأنها ستغير من ملامح المنطقة إذا وجدت طريقها إلى
التنفيذ، حيث إنها ترمي فعلاً إلى قيام كيان شرق أوسطي فاعل، يرتكز على
التكامل بين الدولة اليهودية وأقدم حكومة علمانية في المنطقة، وبخاصة أن الزيارة
جاءت بعد اهتزاز الثقة في قدرة النظام العلماني في أنقرة على الاستمرار كنموذج
أمثل لبقية الكيانات العلمانية التي تتفاوض مع «إسرائيل» .
لقد قررت الصهيونية ممثلة في رمزها الفكري/السياسي «شمعون بيريز»
القيام بخطوة أكثر جسارة، حينما سارع إلى زيارة أنقرة عارضاً عليها ملامح
مشروعه «الشرق أوسطي» ، الذي طرحه بالتفصيل في كتابه الأخير، وركز
خلال هذا الطرح على أهمية وجود ركائز مشتركة بين «إسرائيل» قطب الرحى
في المعادلة، والنظم والكيانات السياسية المرتبطة والمندمجة معها «حضارياً» ،
وهذا الشرط الحضاري يقتضي وجود حد أدنى من التبعية للغرب والولاء لنظامه
السياسي العلماني، هذا النظام الذي تُعتبر تركيا أبرز وأقدم وأقسى أمثلته الراهنة.
خطان متقابلان:
إن خط الصهيونية مع تركيا قديم، ويمتد إلى ما قبل وجود كيان الصهاينة في
فلسطين، ففي الذهن الصهيوني هناك مثالان متقابلان لتركيا، أحدهما مثله السلطان
عبد الحميد الذي رفض «التطبيع» مع مشروع هرتزل الصهيوني الذي كان يمثل
مخرجاً «واقعياً» لمحنة السلطان والدولة المريضة في حالة موافقته على مشروع
الاغتصاب لأرض فلسطين ... ، وتلك تجربة لا ينساها الصهاينة أبداً لرمز الخلافة
الإسلامية التي شمخت رغم ضعفها، ورفعت جبينها والمهالك تسن أنيابها وأظافرها
لتقتلعها وتزيلها من الوجود ... ، أما الصورة الأخرى لتركيا فهي التي يسارع «
بيريز» وأي صهيوني آخر لمد الجسور معها والتحالف والتعاون مع القائمين عليها، وتلك هي تركيا العلمانية الأتاتوركية التي كانت دوماً بمثابة النافذة التي يتسلل منها
المشروع الصهيوني إلى المنطقة، ومنذ وقت طويل ... ، لذا فإن زيارة «بيريز»
وكلامه أمام الأقلية اليهودية التركية عن تعاون عسكري وأمني واستراتيجي مع
تركيا العلمانية «البعيدة عن التعصب» يؤخذ في إطار المحور الذي شهد تحسناً
كبيراً في الآونة الأخيرة حيث تعد النخب العلمانية التركية جماهيرها لمرحلة «
شرق أوسطية» يكون لليهود والأتراك العلمانيين قصب السبق والريادة فيها،
خصوصاً في ظل خصوصية العلاقة مع الغرب وأمريكا بالذات.
وفي كلام معلق الإذاعة الإسرائيلية تلخيص لخصوصية العلاقة بين العلمانية
الطورانية والصهيونية البشعة، حيث يقول: ظلت تركيا الرئة الوحيدة التي نتنفس
من خلالها في المنطقة، وظل النظام الحاكم في أنقرة صديقاً وحيداً لإسرائيل منذ
البداية انطلاقاً من علمانيته الصادقة، وتحالفه الجدي مع المشروع الإسرائيلي
التقدمي، لذا فإسرائيل تشعر بالقلق حتماً من تنامي التيار الأصولي في هذا المركز
الاستراتيجي المهم، وهي مستعدة للدخول في شراكة حقيقية للحفاظ على مكتسبات
سبعة عقود من التجربة الأتاتوركية.
الأواني المستطرقة:
فوز حزب الرفاه بنسبة 6. 18 % من الأصوات والحصول على المناصب
البلدية في ست مدن كبرى و 22 بلدية في مراكز الولايات و 92 بلدية من بلديات
الأقضية و 203 بلدية من بلديات البلدات، مؤشر على تنامي العاطفة الإسلامية
لدى الشعب التركي، وصعود التيار الإسلامي ممثلاً في هذا الحزب في بلد مورست
فيه العلمانية بقوة الحديد والنار ولأطول فترة في عالمنا الإسلامي، فتجربة تركيا
العلمانية هي الأقوى، وهي الأكثر خبثاً وتلوناً وثقلاً فهي تجربة بدأت عام 1923 م
على يد الهالك «كمال أتاتورك» الذي أتى بمشروع تغريبي إلحادي متكامل يبدأ
باللغة وينتهي بلباس الرأس مروراً بالقوانين والأنظمة والتهميش القسري لهوية
تركيا المسلمة.
لقد تدخلت الآلة العسكرية الثقيلة ثلاث مرات على مدى سبعة عقود كلما
شعرت أن «مبادىء أتاتورك» ومشروع العلمنة التركي في خطر: حدث هذا عام
1960 م حينما أعدم العسكر الهمج «عدنان مندريس» الذي كانت جريمته عودة
الأذان باللغة العربية بعد أن حُرم المسلمون من صوت «الله أكبر» لأربعين عاماً
ثم ما لبثوا أن خرجوا من ثكناتهم مرة أخرى عام 1971 م بعد أن تعرض حزب
الشعب الذي أسسه «أتاتورك» لنكسة انتخابية، أما في انقلاب «كنعان أفرين»
الأخير عام 1980 م، فالسبب كان أكثر إلحاحاً، بعد أن جاءت تحركات شعبية
بالهوية الإسلامية وأعادتها إلى الواجهة والمناقشة، وهو أمر يرفضه العسكر
الأتراك الذين يشكلون العصا الغليظة لحزب الناتو «الأطلسي» ، الذي يصر على
تخلي تركيا عن إسلامها مقابل أن يقوم الجيش التركي «بالواجب» الملقى على
عاتقه، وهو حماية البوابة الشرقية والجنوبية لدول أوروبا النصرانية.
الغرب وتركيا العلمانية:
إن دول أوروبا إضافة إلى الولايات المتحدة، ينظرون إلى تركيا العلمانية
نظرة صغار واحتقار، فبالرغم من الطرق المستمر لباب السوق الأوربية المشتركة
ظل الباب مغلقاً أمام تركيا، التي تريد أن تكافأ على خدماتها وانضباطها العلماني
وسلخها لهويتها الإسلامية، كما ظل الغرب ينظر إلى الجمهورية الأتاتوركية على
أنها نموذج «جيد» يستحق الاستنساخ في بقية المناطق العربية والإسلامية، فهذه
الملايين السبعين تعيش منذ تفجير المشروع العلماني دون هوية أو هدف أو رسالة،
بعد أن كانت هذه الأمة قبل قرنين تهدد قلب أوروبا وهي تحمل شيئاً من روح العزة
الإسلامية، وهذا العملاق الأناضولي قد تم استئناسه بطريقة عبقرية جعلته مسخاً لا
هو بالمسلم الشرقي المعتز بأصوله، ولا هو بالعلماني الأوروبي المفتخر بانتسابه
إلى نادي أوروبا النصراني والمسمى بالسوق الأوربية المشتركة. وما أقسى أن
يعيش الإنسان دون هوية، وما أفظع أن تكون الأمة بلا نسب أو حدود ... ، ولابد
هنا أن تمر الأمة بمرحلة البحث عن الذات والعودة إلى الأصول، وهذه مرحلة
انتقالية تمر بها أي أمة وهي تبحث عن هويتها، وخلال عملية البحث تبرز
المفارقات وتفرض المسلمات نفسها لاسيما بعد أن تأخذ التجربة أي تجربة مداها
وزمنها والمساحة التي لابد بعدها من التوقف للتفكير، وإعادة طرح الأسئلة البدهية
التي غيبت عن هذه الشعوب بقوة الحديد والنار، أو بوعود الرفاه الاقتصادي
والتقدم الاجتماعي الذي كان أشبه ما يكون بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً.
صحيفة «الوول ستريت جرنال» الأمريكية كتبت عن أزمة الهوية هذه بعد بروز
نتائج الانتخابات التركية قائلة: «يمكن القول بكلمات قليلة إن تركيا تمر الآن في
مرحلة انتقالية غير أن هذا الانتقال يحدث وسط فراغ أيديولوجي يتعين على البلاد
من خلاله أن تحدد هويتها في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
والواقع أن هذا الفراغ، الذي زادت من حدته الأزمة الاقتصادية العميقة
والحرب الشاقة ضد الأكراد، هو الذي دفع الأتراك نحو الإسلام لتحديد الاتجاه.
ومن الواضح أن أزمة الهوية هذه كانت تتفاعل منذ وقت طويل، ذلك أن
أيديولوجية تركيا المشتقة من تصميم» أتاتورك «على تحويل خرائب
الامبراطورية العثمانية إلى بلد عصري على النمط الغربي، غير قادرة في حقيقة
الأمر على توفير الإجابات لعدد كبير من الأسئلة التي تواجه الأتراك اليوم.
إذ بعكس الماركسية والديمقراطية الليبرالية، لا تملك» الكمالية «
الأيديولوجية الشاملة التي تفسر المجتمع والتاريخ، وهي ليست نظاماً أخلاقياً
اجتماعياً في شكل ديانة تقليدية، كما أن ظهورها وهيمنتها خلال القرن الماضي
حرم المجتمع التركي من الجذور الأخلاقية والاجتماعية التي يوفرها الإسلام وتجعل
الناس يشعرون بالأمان.
لقد كان إنجاز» الكمالية «الرئيس هو تثبيت وتعزيز القومية التركية، لكن
ما إن ضربت القومية التركية جذورها في المجتمع حتى فقدت سبب وجودها، هذا
ما قاله الكاتب» ديليب هيرو «في كتابه الأخير الذي تناول فيه تركيا وآسيا
الوسطى.
ومما لا شك فيه أن الإسلام يوفر الحل بالنسبة للكثيرين من الأتراك، ففي كل
سنة يتدفق مئات الآلاف من المهاجرين المتدينين غير المثقفين من منطقة الأناضول
إلى الضواحي الفقيرة في أنقرة واسطنبول، ولعدم استعداد هؤلاء لفهم متع الحياة
في اسطنبول، ولذهولهم من الفساد المستشري في كل مكان، يتحول معظم هؤلاء
المهاجرين إلى حزب الرفاه، بأمل أن يقيهم من السقوط الأخلاقي» .
إن ما شهدته تركيا تشهده بقية بقاع العالم الإسلامي، فهذا البعث الإسلامي
أصبح هو الرقم الصعب والعامل المشترك لأي أمل قائم للخروج من نفق الواقع
الملبد بالإحباط والتدهور، إن انتخابات تركيا أكدت أن الصحوة الإسلامية تعيش
حالة تشبه الظاهرة الفيزيائية المعروفة بظاهرة الأواني المستطرقة، فأنت حينما
تضع مجموعة من الأواني المختلفة الحجم والشكل وتربط بينها بقاعدة مفتوحة
ومشتركة، تجد أن الماء المصبوب في آنية منها ينعكس تلقائياً على مستوى المياه
في الأواني الأخرى، وهكذا فالحالة الإسلامية اليوم تشبه مجموعة الأواني
المستطرقة التي تستفيد من كل قطرة ماء تسكب في قالب مع اختلاف نوعي بين
القوالب، نصر المسلمين في تركيا ينعكس على الحالة المعنوية لدعاة الإسلام في
أندونيسيا، وارتفاع راية الإسلام في أقصى طاجيكستان تحس بإيجابيته شوارع
سارييفو، والخلاصة أن عودة المسلمين إلى جذورهم في بلد الخلافة الإسلامية
يعطي أملاً للعاملين من أجل الإسلام. إن أعتى وأبشع النماذج العلمانية بدأ يتحول
إلى خندق الدفاع، بعد أن ظل يطارد أهل الإيمان من مواقع الهجوم ملوحاً بالرخاء
والتقدم والاندماج مع الغرب المنتصر والمحارب لهذه الأمة، لاسيما بعد غروب
شمس دولة الخلافة.
التحدي لا يزال ضخماً:
بالرغم من النتائج المفرحة لأداء حزب الرفاه التركي في الانتخابات، فإن
بصمات العلمانية المنفرة لاتزال ملموسة على كافة الأصعدة، في الوقت الذي يظل
اليسار الملحد واليمين الأمريكي يحظى بثقل وتأثير على الساحة السياسية
والاجتماعية في تركيا، وأمام هذا التحدي تبرز نقاط لابد من التوقف أمامها:
* أمام حزب الرفاه تحد عقدي يتمثل في قرون طويلة من التصوف والخرافة
التي تسللت إلى الحياة التعبدية لقواعد واسعة من الحزب، كما يشكو الحزب من
جانب آخر من ضعف في الجانب الفكري والتجديد في طروحاته العقدية، وما
يتفرع عنها من مواقف سياسية واقتصادية واجتماعية، وفي الوقت الذي يعتبر فيه
الحزب صاحب صوت ضخم حالياً، فإن هذا الصوت بحاجة إلى حنجرة قوية وفكر
متجدد ودورة دموية نشطة تساعده على تكوين قاعدة صلبة تجمع الرموز الإسلامية
في تركيا على منهجية واضحة، ولابأس أن يبدأ الحزب بالاهتمام بهذا الجانب من
الآن، خصوصاً أن في تجربته بعداً عن الحزبية الضيقة التي جعلته متعاطفاً مع
قطاع عريض من الحركات الإسلامية.
إن التحدي القائم أمام الإسلاميين في تركيا أكبر من حجم المنافسة السياسية،
إنه تحد حضاري شامل، وما لم يكن الشمول المتسلح بمنهجية سليمة حاضراً، فإن
دور الحزب سيظل جزئياً، كما أن تكوينه العقدي والمنهجي سيظلان نقطتي ضعف
واضحتين.
* أمام الرفاه تربص من قبل أحزاب الإلحاد والعلمانية والقومية المتطرفة كما
أن العلمانية التركية تتمثل في شخصيات ورموز ومؤسسات تعيش على الإرهاب
العلماني القائم، هذه الأحزاب والشخصيات ستركز على البلديات التي يحكمها
الإسلاميون، وستتجنى في الحكم عليها، وستضخم أخطاءها وستحاربها بالشائعات
والقصص المختلفة، وهذا ما يحتم على الحزب اليقظة والحذر وممارسة أساليب
النقد الذاتي، فالعلمانية التركية تظل أقدم تجارب العلمنة تاريخاً وجذوراً إذا ما
قورنت بالتجارب العلمانية الأخرى في عالمنا الإسلامي.
* أما أكبر الدروس التي نخرج بها، فهي قوة هذا الدين الذاتية التي صمدت
وتصمد أمام أعتى الحروب وأقسى المواقف والظروف، ويوماً بعد يوم يصلب عود
هذه الأمة وتعود إلى نبعها الصافي، وحين نقارن بضعف الجهود وكثرة الأخطاء
وقلة ذات اليد، فإننا لابد أن نخرج بمُسَلّمَة تصرخ وتقول: إن هذا الأمر هو أمر
الله، وإن ضعف الداعي، وحورب المبلغ، وتكالب العدو.
* هناك المؤسسة العسكرية التي صرح مسؤول المخابرات فيها بُعيد ظهور
النتائج: أنها ستتدخل في أي ظرف تشعر أن مبادىء «أتاتورك» مهددة أو أن
العلمنة تتعرض للخطر، هذا التصريح أمامنا تتناقله وسائل الإعلام، وبين أيدينا
تاريخ العسكر الطورانيين يؤكد انحياز العلمنة إلى التسلط وفرض خياراتها بالقوة أو
الديموقراطية التي توافق مكاييلهم.
* الصحافة التركية وكر من أوكار الملاحدة والعلمانيين، مارست وتمارس
التحرش بالإسلام وأهله، كما أن قنوات الإفساد التي تنتشر في تركيا وبتشجيع من
أهل الفساد والإضلال ستزيد من نشاطاتها، مما يحتم بروز قنوات إعلامية ملتزمة
بالدفاع عن المشروع والهوية الإسلامية في تركيا.
* النزاع العرقي كشف أن الأكراد وغيرهم من الأقليات المسلمة المضهدة قد
أعطت صوتها لحزب الرفاه، لأنه دعا إلى رفع الاضطهاد الطوراني عنها ووعدها
بعدل الإسلام وسماحته، والمطلوب الأن أكبر من شعار حيث إن انتشار الدعوة بين
هذه الأقليات وتعريفها بكينونتها الإسلامية وهويتها، أمر مطلوب بل بالغ الأهمية
في هذه المرحلة.
* الغرب الخائف المذعور من كل نصر للإسلام سيمارس حرباً ضروساً ضد
الإسلام وأهله، سواء أكان عن طريق مباشر أو بواسطة حلفائه وفي مقدمتهم اليهود، وهذا يقتضي الكياسة والبعد عن الاستعراض الخطابي والعمل بجد وإخلاص على
أرض الواقع بشمولية، وعدم قصر النشاط الإسلامي على الجانب السياسي الذي هو
أكثر النشاطات إثارة وغيظاً للقوى الدولية، وأمامي الآن مثال لهذه الحرب السافرة، يتمثل في مقال لمجلة «الإيكونمست» البريطانية التي تبث الذعر في قلوب
الغربيين من حكم حزب الرفاه الذي سيحظر أهم إنجازات «أتاتورك» في
إسطانبول وهي: الخمارات ودور الدعارة، وتتهكم بوعد رئيس البلدية الجديد الذي
وعد بالقضاء على الدعارة والفساد وتحويل نشاط المدينة كمركز للمؤتمرات الدولية، ولم تجد المجلة تعليقاً سوى: كيف سيحضر النساء المؤتمرات وهن بالعباءة؟ !
* ويبقى الاقتصاد المنهار تحدياً آخر يمثل نتائج التخبط الذي مارسته
الحكومات العلمانية المتعاقبة، وهو يحتاج إلى إصلاح جذري وانفتاح على العالم
الإسلامي الذي هو الامتداد الطبيعي لتركيا.
إن تنوع هذه التحديات وضخامتها يجعلنا ندعو لإخواننا المسلمين في تركيا
بالنصر والتمكين والمبادرة إلى استخلاص الدروس والعبر من تجارب إسلامية
مشابهة، على أن تكون ذخيرة في معركة الصراع بين الإلحاد والإيمان ما بين الكفر
والإسلام، ما بين العلمنة والحل الإسلامي ... وهي معركة ضخمة نؤمن أنها طويلة
وقديمة قدم الحق والباطل، والعاقبة للمتقين والبشائر هي علامات الترنح التي
نشاهدها تعتري أقدم تجربة علمانية ...(76/66)
المسلمون والعالم
أحفاد صلاح الدين
بين مؤامرة الأعداء وخذلان الأصدقاء
أحمد العويمر
لم يتعرض شعب من شعوب الدنيا للظلم والمحن وهضم حقوقه بعد الشعب
الفلسطيني مثل الشعب الكردي المسلم، وملف هذه القضية، بل المأساة الكبرى لهذا
الشعب كما يراه خبراء الاستراتيجية الغربيون مطروح وبقوة على طاولة القضايا
الكبرى في المنطقة، وإن هذا الملف مرشح للعديد من التطورات والتفاعلات خلال
السنوات القادمة لأكثر من سبب، مما يمكن إجماله فيما يلي:
* ازدياد الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان ومشاكل الأقليات في العالم.
* مطالبة الأكراد بحل تاريخي على غرار «حل الصراع العربي
الإسرائيلي» و «الصراع بين البيض والسود» في جنوب افربقيا.
* تنامي وعي الأكراد وتحولهم إلى قوى سياسية في كل تركيا والعراق
وإيران.
* شعور الغرب بوجود فراغ استراتيجي في المنطقة يمكن أن يخترق من قبل
ما يسمونة بالأصولية الإسلامية.
* محاولة الغرب استغلال هذه الورقة وتأسيس المناطق الآمنة للأكراد شمال
العراق، هو الخطوة الأولى لتوتير الصراع الدائم في المنطقة [1] وسيكون هذا
المقال فرصة لإعطاء فكرة موجزة عن هذا الشعب المسلم تاريخاً وواقعاً وعن
معاناته وأسبابها والمؤامرة ضده والحل لمشكلته على النحو التالي:
لمحة جغرافية وتاريخية:
بلاد الأكراد أو «كردستان» منطقة واسعة تبلغ مساحتها (000ر500) كم2
يعيش فيها ما بين (25 - 30) مليون كردي مسلم، وهم أكبر شعب في العالم ممن
لا يملك السيادة على أرضه، ولا إدارة بلاده بنفسه، إذ أنهم موزعون على خمس
دول هي: تركيا حيث يعيش فيها حوالي (800ر000ر10) نسمة وفي العراق
(400ر000ر10) نسمة، وفي سوريا (مليون) ، وفي إيران (500ر000ر5)
نسمة، والأكراد شعب عريق دخل الإسلام بعد فتح بلاده على يد الصحابي الجليل
«عياض بن غُنْم» سنة (18 هـ) ، وكان «القعقاع بن عمرو» قد فتح قلعة حلوان
جنوبي بلادهم سنة (16 هـ) ، فدخلوا في دين الله أفواجاً وحسن إسلامهم وبقوا
موالين للدولة الإسلامية حتى بعد سقوطها في حمأة النعرات القومية من عربية
وطورانية، وشارك الأكراد في كثير من الأحداث التاريخية الإسلامية، ومن
أبرزها نصرتهم للعباسيين في قيام دولتهم وإعادة الخلافة العباسية إلى مصر على يد
القائد المظفر «صلاح الدين الأيوبي» ثم كانت لهم حكوماتهم المستقلة في ظل
الخلافتين العباسية والعثمانية، ومن أهمها الحكومة الروادية في تبريز: 260-
618 هـ، والحكومة الشدادية بآران: 340-465 هـ، الحكومة الدوستكية في
ديار بكر، والحكومة الأيوبية في مصر والشام وغيرها، ونبغ من الأكراد علماء
مشهورون، أثروا الفكر الإسلامي أمثال (ابن خلكان، وأبناء الأثير الثلاثة، وابن
الحاجب، وابن الصلاح، والحافظ العراقي) ، ومن أبرز دعاتهم وعلمائهم
المعاصرين (أمجد الزهاوي ود/ علي محيي الدين القره داغي، ود/ مصطفى مسلم، والشيخ علي عبد العزيز، ود/ حمدي السلفي وغيرهم) .
مأساة الأكراد البداية والمقاومة:
نشأت هذه القضية وفقاً لاتفاقية «سايكس بيكو» عام 1919 م، حيث
وزعت مناطقهم على خمس دول كما سبق الإشارة، وذلك حينما عرف المستعمرون
إصرار هذا الشعب المسلم على رفض التجاوب معهم، والسير في ركابهم، مما
أدى إلى معاناتهم ممن حكمهم بالتمييز العنصري وتعرضهم للمجازر الوحشية
وحملات الإبادة المنظمة كلما بدرت منهم بادرة مقاومة فأصبحت مناطقهم مرتعاً
للجهل والتخلف ومسرحاً لتطبيق الأحكام العرفية فحدثت عدة انتفاضات في أجزاء
عديدة من كردستان، ففي تركيا قامت ثورة الشيخ «سعيد بيران» عام 1925 م،
وأخرى قادها الجنرال «إحسان نوري باشا» 1927-1930 م وثالثة في إقليم «
دسيم» عام 1937 م، عدا الانتفاضات التي مازالت قائمة حتى الآن التي يغلب
عليها النزعات القومية البحتة، وفي إيران حينما قامت دولتهم (مهاباد) عام 1946 م نسّق الشاه مع السوفيات آنذاك وبعد وقف دعمها سقطت الدولة عام 1947 م.
وفي العراق لم تهدأ ثورتهم بدءاً بثورة الشيخ «محمود الحفيد» 1920-
1930 م، مروراً بالثورات البرزانية الثلاث [2] ، التي كان آخرها عام 1961-
1975 م حيث انطفأت بعد اتفاقية الجزائر بين شاه إيران البهلوي وشاه العراق
صدام، لكن الثورة استمرت ولم يوقفها إلا الغازات السامة التي راح ضحيتها ألوف
من النساء والشيوخ والأطفال، ومازال الأكراد يتعرضون لبطش طاغوت العراق
حتى الآن.
لهذا تآمر الغرب عليهم!
يؤكد علماء الأكراد ومفكروهم المعاصرون أن شعبهم تعرض لمؤامرة دولية
قام بها المستعمر الغربي بتوزيعهم في مناطق متناثرة، وهذا التقسيم من أهم مظاهر
مأساتهم، يقول الشيخ «القره داغي» [3] إن ذلك التقسيم لم يأت اعتباطاً، بل هو
مقصود وبخطة استعمارية مرسومة تهدف إلى ما يلي:
* الثأر من أحفاد صلاح الدين الذين هزموا الغزاة لصليبين في معركة حطين.
* إن الصليبيين لم ينسوا صلاح الدين حينما قام قائدهم وركل قبره برجله
قائلاً: «ها نحن عدنا يا صلاح الدين» .
* تمزيق هذا الشعب وإعطاء كل جزء منه لدولة، لجعل المنطقة بؤرة
صراع دائم، وهذا ما حدث بالفعل.
وتعرض الأكراد لحروب طاحنة وإفناء بمختلف الأسلحة المحرمة دولياً ولعل
أشهرها مذبحة «حلبجة» ، ومما يؤسف له أن كثيراً من الدول العربية ساعدت في
إبادة هذا الشعب بتعتيمها إعلامياً على هذا الظلم والطغيان ثم حصل اهتمام مفاجيء
بعد حرب الخليج الثانية بالقضية الكردية حيث فتح الباب على مصراعيه أمام عدد
من الباحثين والدارسين والإعلاميين، فنقلت معاناة هذا الشعب ونشرت في وسائل
الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، وصدر الكثير من الكتب والمجلات عن
الشعب الكردي لبيان تاريخه ودوره الإسلامي ومعاناته من ظلم الظالمين، وإبراز
ذلك بعد أن كان معتماً عليه، ولكن كما قيل «بعد خراب البصرة» [*] .
المأساة مستمرة:
تضمنت اتفاقية الجزائر آنفة الذكرضمان العراق لأمن الأكراد واستقلالهم إلا
أنهم تعرضوا للبطش، وزادت معاناتهم بعد حرب الخليج الثانية، ومازالوا يعيشون
في ضيق وحرمان، وقد ضيق الخناق عليهم سياسياً واجتماعياً وهُجّرُوا من مناطقهم، وكان ذلك مقدمة لحصارهم وتصفيتهم جسدياً، كل ذلك لم يحرك ساكناً لدى ما
يسمى بالضمير العالمي والأمم المتحدة ومنظماتها، وتشرد الشعب الكردي عن دياره، ولجأ إلى تركيا وإيران حيث الجوع والبرد والضياع.
لماذا فشلت انتفاضتهم الأخيرة؟
حينما ثار الأكراد على حكم طاغوت العراق مؤخراً بعد تنفس الصعداء
وتشجيع الغرب لهم، فشلوا في استثمار انتفاضتهم لأسباب منها:
* لم يعرف مقاتلوهم استعمال الأسلحة الثقيلة التي استولوا عليها من جيش
العراق، واستمروا في استخدام أسلحتهم الخفيفة.
* النقص في وقود الدبابات وتموين المقاتلين.
* مواطن العجز في القيادة والتحكم والاتصالات بين القادة، وما وجد من
وسائل لم يكن فعالاً.
* فشلهم في حرب المدن حيث لم يتعودوا إلا على حرب العصابات.
* تردد الغرب في مساعدتهم حتى لا تقوم لهم دولة، ربما يكون لها أبعاد
أخرى غير مرغوب فيها [4] .
* التحرك من خلال رؤية قومية.
ومما يؤسف له أن هذه الألوف من المهاجرين كانت مكاناً مهيأ للغزو
النصراني بكافة جمعياته ومنظماته [**] ، أما المسلمون فلم يكن لهم أي دور يذكر سوى
جهود بعض الجمعيات الخيرية والشعبية، وحينما زار الأمين العام لمنظمة حقوق
الإنسان «إسلام أباد» في باكستان قال في تقريره عنهم بأنه قام بجولة في مخيم «
ديار بكر» التركي، ووجد الخدمات المقدمة للمهاجرين محدودة ولا تكفي حاجاتهم
الضرورية، وبخاصة أثناء فصل الشتاء ونزول الثلوج فالمهاجرون أعطوا خيمة
واحدة لكل أسرة مهما كان عددها، وبعض الفرش التي لا تؤدي الغرض مع تقديم
القليل من الخبز والعلاج، وقد تحدث المهاجرون للمندوب عن مأساتهم، وكيف
ضربوا بالغازات السامة بواسطة الطائرات، مما اضطرهم للهرب من الموت
المحقق، تاركين موتاهم وجرحاهم وممتلكاتهم وأراضيهم.
ثم قدمت منظمة حقوق الإنسان مشروعاً عاجلاً للإغاثة بعدما وعدت الحكومة
التركية بتقديم التسهيلات لإيصال المساعدات للمنكوين، ولكن المأساة مازالت
مستمرة وواقعهم مايزال بائساً، ومازالوا تحت الحماية الدولية من الناحية الأمنية مع
اختراقها أحياناً من قبل حاكم العراق، لكن معاناتهم الاقتصادية والاجتماعية كبيرة،
وحتى تؤدي المعونات دورها لابد أن تعاش مأساتهم المروعة التي نقلت بعضها
وكالات الأنباء مع التجاهل للكثير منها لاسيما بعد تحركات الحكومة التركية
واضطهادها للأكراد فيها والضغط عليهم وتجريدهم من حقوقهم الإنسانية، وبخاصة
بعد الصراع بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردي، الذي تسبب في إيجاد
المزيد من المعاناة لهذا الشعب المغلوب على أمره [5] .
لماذا تسيد العلمانيون الأكراد؟
الملاحظ أن العلمانيين الأكراد هم أولوا قوة وسلطة وبروز، وذلك لأن الأكراد
منذ بداية هذا القرن ابتلوا بما ابتلي به كثير من الشعوب العربية والإسلامية من
الجهل بالإسلام الصحيح، والغزو الثقافي فكثرت فيهم الاتجاهات المنحرفة وعلى
رأسها الأحزاب العلمانية والقوميات والتوجهات الصوفية، التي عزلت الدين عن
الحياة، وعاشت طقوسها بعيداً عن واقع شعبها وضرورة النهوض به.
وأسباب التوجهات العلمانية يمكن أن ترجع إلى ما يلي:
* أن الدول التي عاشوا فيها قامت على نزعات قومية كما في العراق وتركيا
مثلاً، مما دفعهم إلى الدعوة إلى القومية الكردية، مع ملاحظة أن الأكراد من أواخر
الشعوب المسلمة التي أخذت بهذه النعرة، إذ بقيت انتفاضاتهم حتى العشرينيات وهم
ينادون بالإسلام كما في ثورة الشيخ «محمود الحفيد» .
* قيام الدول والأنظمة الحاكمة بإيقاع أشد أنواع الظلم لهم وهضم حقوقهم مما
جعلهم في حالة ثورة وغضب دائمين، فجاء القوميون ورفعوا شعاراتهم البراقة
بدعوى الإنقاذ مع دعايات كاذبة ضد الإسلام، من هنا جاءت شعبية أولئك
العلمانيين من قبَل الأكراد، مع جهلهم بحقيقة هؤلاء وانحرافاتهم الفكرية.
* الدعم الضخم الذي حصلت عليه تلك الأحزاب القومية من الشرق والغرب، بينما لم يحصل الإسلاميون على شيء وجهودهم المحدودة تقوم على مواردهم
الذاتية الضعيفة.
* وسائل الإعلام الغربية والشرقية أبرزت العلمانيين، وضخمت صورتهم
واعتنت بهم ودعمتهم.
* إن الحركات الإسلامية لم تولي عنايتها بكردستان، ولم تقم بواجبها نحوها
في البلاد العربية وتركيا، ولذلك تأخر قيام كيان خاص بالجماعة الإسلامية
هناك [6] .
* محاولة إيجاد فرقة وصراع بين الأكراد والعرب عن طريق إحياء القوميات.
الحركة الإسلامية الكردية:
انتبه العلماء والمفكرون الأكراد إلى واقع شعبهم واستغلال العلمانيين لمعاناته، فقامت جهود دعوية مشكورة منها الجماعة الإسلامية الكردية «بارتيا إسلاميا
كردستاني» ، التي تأسست في 11/12/1400 هـ، وقام المؤسسون بإعلان
دستورهم الإسلامي بعنوان «يا شباب كردستان اتحدوا» ، داعين للالتفاف حول
الإسلام، وأن الغاية المنشودة توجيه ضربة قاصمة للاستعمار وأعوانه، ولها مجلة
هي لسان حال الجماعة والناطق الرسمي لها، وشعارها «الله ربنا والإسلام ديننا
ومحمد نبينا» ، وتستلهم مواقفها من واقع الشعب الكردي وفق تصور إسلامي بعيد
عن القوميات والعنصريات [7] .
ومع انتشار التوجهات الصوفية السائدة في المجتمع الكردي مثل «الطريقة
النقشبندية» والطريقة «القادرية» ، إلا أنه برز عدد من العلماء الأكراد المتميزين
بعيداً عن التوجهات الصوفية السائدة، فدعوا إلى الإسلام الصحيح، وقاموا بجهود
علمية وإعلامية، وأسسوا المجلات الإسلامية المعروفة، ومن أبرزها:
1- نداء الحق: التي يشرف عليها الشيخ «علي القره داغي» .
2- حلبجة: والتي يرأس تحريرها «الأستاذ محسن جوامير» .
3- جودي: لسان حال الحركة الإسلامية
وفي نظري أن على إخواننا علماء الأكراد بذل المزيد من التوعية للشعب
الكردي، ومحاولة إيقاظه من الجهل بإسلامه، لاسيما ما ينتشر فيه من اتجاهات
عقدية منحرفة وعلى رأسها «اليزيدية» و «العلوية» و «والصوفية، وكذلك
فضح الاتجاهات القومية والعلمانية السائدة المرتزقة باسم هذه القضية، التي كثيراً
ما لمزت الإسلاميين ووصفتهم بالتطرف والإرهاب زوراً وعدواناً، ومن ذلك ما
ذكره الصحفي الكردي» هيلكوت حكيم «الذي يقول بكل صفاقه: إنه لا يوجد
قرية كردية يفهم سكانها بوجود حزب إسلامي سياسي [الحياة العدد 11352] .
والأكراد ولله الحمد أكثرية سنية اشتهروا بالشجاعة والكرم، يحبون الإسلام
ويعتزون به، ويحترمون رموزه الإسلامية قديماً وحديثاً، ولو وجد الإسلام
الصحيح لما تَسَيّد أمثال البرزاني والطالباني في صفوف الأكراد، ومن قبل حاول
القياصرة والروس استغلال هذا الشعب المسلم والاستعانة به ضد العثمانيين، ولكن
محاولاتهم باءت بالفشل.
إن غياب الإسلام الصحيح اليوم هناك جعل بغاث الطير يستنسر، أليس من
المخجل أن يسبقنا الشيوعيون والعلمانيون واليهود والنصارى إلى إخواننا الأكراد
الذين عاشوا بالإسلام وللإسلام طوال تاريخهم؟
أين الدعاة إلى الله في مناطق الأكراد؟
أين الطلاب الأكراد في المعاهد والجامعات الإسلامية؟
أين الكتب والرسائل والصحف والمجلات المترجمة لكل ما ينفهم بلغتهم؟
أين الجهود لإنشاد الجمعيات الخيرية التي تهتم بهم وتعينهم على أعباء الحياة
بدلاً من جمعيات التنصير؟ !
ليت الدعاة المسلمون يدركون خطورة الموقف، ويفتحون قلوبهم لإخوانهم
هناك، وليت التجار يتنادون إلى فتح المدارس والمستشفيات والمساجد في مناطق
الأكراد [8] .
الحل لمشكلة الأكراد:
هل الأكراد يريدون دولة مستقلة؟ هل هم انفصاليون؟ الحقيقة أن الأكراد
يريدون أن يعيشوا في ظل عزة وكرامة كبقية الشعوب الأخرى، يريدون أن
يعترف بوجودهم وبلسانهم وحقوقهم.. هذا ما يريدونه، وحتى المشروع الذي قدمه
الأكراد ليس فيه الرغبة للانفصال وكل ما فيه المطالبة بالحكم الذاتي ليس إلا.
وليس من مصلحتهم المطالبة بإقامة دولة مستقلة لهم في ظل الأوضاع الحالية، وذلك لما يلي:
* كونهم موزعين على أكثر من دولة ولا يمكن أن تسمح تلك الدول بقيام
دولتهم.
* ومع تشجيع ما يسمى النظام العالمي الجديد لحق تقرير المصير لكثير من
الشعوب إلا أن مصالح الغرب مع دول المنطقة تجعله لا يؤيد قيام تلك الدولة.
* موقع الدولة الداخلي لا يشجع على استقرارها لكونها محاطة بأعدائها مما
يطيل معانات شعبها.
* لو قامت تلك الدولة فإن زعماءها سيكونون من العلمانيين اليوم، الذين
نادوا بالتعاون مع الصهاينة جهاراً نهاراً.
ولو قدر جدلاً قيام دولة كردية لأي ظرف طارىء فإنها لضمان قيامها ستنفذ
المطلوب منها كما يلي [9] :
* إقامة علاقات وثيقة مع العدو الصهيوني، وستكون منطلقاً له ضد أي
نهوض عربي أو إسلامي قادم.
* ستنسق مع تركيا للسيطرة على موارد المياه لنهري دجلة والفرات مما قد
يؤثر على المدى الطويل على إمداد المنطقة العربية بالمياه.
* ليس من المستبعد أن يعرض العلمانيون الأكراد خدماتهم على الغرب
لضرب التوجه الإسلامي في المنطقة وبخاصة وأن موقفهم من الإسلاميين سيء جداً
وضربهم لهم مؤخراً معروف.
* فضلاً عن أن تجارب الأكراد المعاصرة في محاولة إقامة دولتهم غير
مشجعة وسلبياتها أكثر من إيجابياتها.
إن حل مشكلتهم في الإسلام والإسلام وحده لو طبق. فعلى إخواننا الأكراد في
ضوء هذا الواقع المؤلم أن يعطوا ثقتهم للعلماء والمفكرين الإسلاميين بعد فشل
العلمانيين في مشاريعهم المعتادة، وعلى الدعاة والعلماء أن يقوموا بواجب الدعوة
للإسلام الصحيح ونبذ الاتجاهات المنحرفة، والتربية لشعبهم المسلم وتحذيره من
الأحزاب العلمانية المرتزقة، وألا يستعجلوا الصراع مع تلك الأحزاب كما حصل
في الآونة الأخيرة، لأن النتائج معروفة سلفاً فهم أقل عدة وعتاداً من تلك الأحزاب
العلمانية. فهل يفطن أحبتنا الأكراد لهذه المسألة ويقوموا بواجباتهم المفترضة؟ !
عسى ولعل.
والله نسأل لهم النصر والعز والتمكين تحت راية التوحيد، والله غالب على
أمره.
__________
(1) الإصلاح، العدد 271، بتصرف من مقال عن القضية الكردية للأستاذ عبد الله عبد الرحمن.
(2) اتهم الملا (مصطفى البرزاني) باتهامات كثيرة، وهناك رأي آخر منصف، انظر (علماء الأكراد) .
(3) مجلة المجتمع لقاء مع الشيخ الدكتور/ علي محيي الدين القره داغي، العدد 1052 (بتصرف) .
(4) مجلة قراءات سياسية، العدد 1/3 عام 93، بتصرف من مقالة المسألة الكردية.
(5) الشعب الكردي المسلم (بتصرف) .
(6) المجتمع، العدد 1052 (بتصرف) .
(7) المجتمع، العدد 739 بتصرف، وانظر تقويم لهذه الجماعة في كتاب المذاهب والأفكار المعاصرة للأستاذ محمد الحسن.
(8) مؤامراة الدويلات الطائفية، محمد عبد الغني النواوي (بتصرف) .
(9) مجلة قراءات سياسية (بتصرف) .
(*) انظر حواشي المقالين المنشورين في مجلة قراءات سياسية السابقة الذكر وما يحفلان به من مراجع أجنية كثيرة، وكذلك كتاب الأكراد شعب مهضوم لديفيد داول، انظر عرضآً له في مجلة المجلة العدد 639، وبعض المراجع المشار لها في هذا المقال، لتعطي فكرة عن الأكراد والواجب حيالهم.
(**) انظر ما يتعرض له أطفال الأكراد من تنصير، وكذلك دور المرأة الكردية وحاجتها للتوعية الإسلامية في كتاب من للأكراد؟ لأحمد إسلام.(76/75)
اعرف عدوك
دولة يهود من الداخل
صالح العويشق
لقد كان محور تفكير «يهود» على مر القرون ينصب على أمرين مهمين
الأول المال حيث إنهم قد أشربوا حبه كما قال تعالى: [وأشربوا في قلوبهم العجل
بكفرهم] [1] ، أما الثاني فهو العودة إلى أرض كنعان، وإذا كانت الأفكار
الصهيونية الداعية للعودة قد ظهرت ممثلة في حركة سياسية في القرن التاسع عشر
الميلادي، فإن جذورها الفكرية تعود إلى أيام النفي إلى بابل، ولقد نجحت الحركة
الصهيونية في تجميع «يهود» وإقامة دولة لهم في فلسطين، ولكن آثار فترة
الشتات الطويلة تبدو واضحة للعيان في التركيبة الاجتماعية والدينية والسياسية
لمجتمعهم اليوم.
وفيما يلي نبذة موجزة توضح التناقضات التي يعيشها «يهود» مصداقاً لقوله
تعالى:
[لا يقاتلونكم جميعاْ إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد
تحسبهم جميعاْ وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون] [2] .
النظام الاجتماعي:
المجتمع اليهودي: مكون من خليط متنافر من الجماعات ذات الاتجاهات
المتنافرة، والأصول المتباعدة، والفروقات الثقافية والعنصرية؛ لذا كان من
الطبيعي أن يكون لكل جماعة منها تأثيرها على الواقع السياسي للعدو.
والهدف من هذه الدراسة هو تسليط الضوء على تلك الفروقات والتناقضات
التي تضرب أطنابها في تركيبة ذلك المجتمع [*] .
ويمكن تقسيم المجتمع في دولة يهود إلى قسمين رئيسين:
1- الإشكناز: وهم يهود استقروا في شمال أوروبا وشرقها، وقد تأثروا بنمط
الحياة الغربية، ويختلفون عن غيرهم في بعض نصوص الصلاة وبعض طقوس
الأعياد، وهم أقطاب الصهيونية الحديثة. [3] .
2- السفارديم (السفارد) : وهم اليهود الذين استقروا في حوض البحر
المتوسط وفي الوطن العربي وإيران، وكان للغة العربية تأثير قوي على لغتهم
الأم [4] .
ويمثل الإشكناز أقلية إلا أنهم هم المتنفذون في الكيان الصهيوني، فنظرة إلى
أعضاء الكنيست (البرلمان) أو أعضاءالحكومة، أو حتى رؤسائها تجد هذا الأمر
واضحاً:
* حكومات العدو حتى 1984م قد ضمت 6 وزراء شرقيين من بين 58
وزيراً، حيث شغلوا وزارتي البوليس والبريد غالباً [5] .
* لم يرأس الحكومة قط يهودي من السفارديم.
* أما رؤساء الدولة فكانوا كلهم إشكناز ما عدا واحد من السفارديم، مع العلم
أن منصب رئيس الدولة شرفي.
* لا يمثل السفارد سوى 9 % فقط من الوظائف القيادية في المجال
الاقتصادي [6] .
وعلى الرغم من أن اليهود الشرقيين يشكلون غالبية السكان، إلا أن اليهود
الإشكناز يحاولون منذ زمن بعيد المحافظة على الوجه الغربي الحضاري للدولة.
يقول «إسحاق دويتشر» : «يوجد نوع من العداوة بين اليهود الشرقيين
والغربيين، إلا أنني أعتقد شخصياً أن اليهود الغربيين سوف يصهرون في النهاية
الشرقيين؛ لأنهم يمثلون الحضارة الأرقى التي تنتصر في العادة على الحضارة
الأدنى» [7] .
ومع أن الهوة بين المجتمعين واسعة جداً، إلا أنها تزداد اتساعاً عند الحديث
عن يهود «الفلاشا» [8] ، فإننا نجد معظمهم يعاني من العزلة والوحدة في
المجتمع الصهيوني، ويتعمد اليهود الآخرون استخدام لفظ (كوشي) بمعنى (العبيد)
في التعامل مع الفلاشا، مما يزيد من عمق الهوة الفاصلة بين هاتين الطبقتين.
ويصور بعض ما يعانيه يهود الفلاشا قول أحدهم: «لقد كُنا في أثيوبيا بشراً
أما هنا فلسنا سوى حمير» [9] ، وفي الجهة المقابلة يقول رئيس وزراء إسرائيل
سابقاً (ليفي أشكول) : «إن كل المهاجرين متساوون، إنما هنالك مهاجرون
متساوون أكثر» [10] .
أما الحديث عن الاختلافات المذهبية بين اليهود فهو حديث ذو شجون وسآخذ
بطرف منه هنا مع الإشارة إلى أن بعض تلك المذاهب قد اندثر وفيما يلي أهم
المذاهب اليهودية:
1- الغريزيون: وهم (الربانيون) يلقبون أنفسهم «الحسيديم» أي الأتقياء
ويعتقدون بأن عيسى عليه السلام زنديق! وإن كانوا معتقدين بظهور مسيح منتظر،
كما أنهم يوجهون العامة إلى احتقار الأمم والأديان والأجناس الأخرى [11] .
2- القناؤون: شعبة من الغريزيين إلا أنهم يمتازون بالتطرف والعنف
ويتمسكون بفكرة الوطن اليهودي الحر المستقل، وهم يفضلون الموت على أن
يبايعوا حاكماً أجنبياً، ومع أنها اندثرت كجماعة إلا أن أفكارها تسربت إلى الفكر
الصهيوني الحديث [12] .
3- القراؤون: من أشد أعداء الغريزيين، ويرون أن الربانيين قد استولوا
على مقدسات إسرائيل، ومن الملفت للنظر وجود التشابه بين المنحى الفلسفي لهذه
الطائفة مع المنحى الفلسفي عند المعتزلة [13] .
4- الإصلاحيون: يميلون إلى التساهل في أخذ الأحكام، وينكرون التوراة
كمصدر، وقد صرفوا النظر عن إعادة بناء الهيكل المزعوم، كما أنهم أنكروا أن
يكون الخلاص معناه إقامة دولة في فلسطين، ومما يرونه أن اليهودية دين فقط،
وليست جنسية [14] .
5- المارانوس: يعتبرهم المتأخرون من علماء اليهود خارجين عن الدين
اليهودي، وكانوا في أسبانيا مدة عيشهم يظهرون النصرانية، ويبطنون
اليهودية [15] .
6- الصهيونية: هي حركة التحرر الوطني اليهودي، ومن مضامينها العودة
إلى «أرض الميعاد» وإقامة الدولة اليهودية عليها، ويمكن اعتبارها حركة سياسية
ترفع شعاراً دينياً مع تبني العلمانية في نظم الدولة، ومن أهم أهدافها:
* المحافظة على تميز العنصر اليهودي.
* العمل من أجل العودة إلى «أرض الميعاد» .
* السيطرة على جميع شعوب الأرض وتسخيرها لخدمة الجنس
اليهودي [16] .
7 -الفلاشا: طائفة من اليهود على أساس مذهبي وعرقي، حيث إنهم
يسكنون شرق القارة الإفريقية وفي الحبشة بخاصة، كما أنهم لا يعرفون اللغة
العبرية ولا يؤمنون بالمشنا ولا بالتلمود، إلا أنهم يؤمنون برسالة موسى عليه
السلام ومن بعده وبالكتاب المقدس، والجدير بالذكر أنه لا يوجد أي دليل قوي يبين
مبدأ نشأتهم، وسبب اعتناقهم للدين اليهودي [17] .
النظام السياسي لدولة يهود:
إن من الأمور الملفتة للانتباه في النظام السياسي عندهم هو ذلك العدد الهائل
من الأحزاب السياسية (28) حزباً تجتمع فيما بينها في تكتلات ذات أهداف قد
تتوافق في بعض خطوطها العريضة، ويرجع بعض الباحثين ذلك التعدد إلى
الأسباب التالية:
1- عدم انتمائهم إلى تراث تاريخي واحد.
2- وجود اختلافات عقائدية بين الصهيونيين أنفسهم، تتفاوت من أقصى
اليمين إلى أقصى اليسار.
3- نزعة كل فريق منهم إلى التكتل مع أبناء وطنة القديم الذي هاجر
منه [18] .
والواقع أن تعدد الأحزاب ليس إلا انعكاساً للتركيبة المتناقضة لذلك المجتمع
والتفاوت الظاهر بين مختلف فئاته.
ويمكن تصنيف الأحزاب عندهم على النحو التالي: «التجمع العمالي» وفيه
حزب العمل، الأحزاب اليمينية (الليكود) ، الأحزاب الدينية، الأحزاب الشيوعية.
وهناك بعض الكتاب يرى تقسيمات وتصنيفات أخرى للأحزاب السابقة،
وسأكتفي هنا بالإشارة إلى أهم برامج وأهداف بعض الأحزاب والتجمعات السياسية
اليهودية الرئيسة.
أهداف حزب العمل:
السلام الحقيقي والدائم بين دولتهم وجاراتها، تجميع الشعب اليهودي في «
بلاده» ، القدس الموحدة هي عاصمة دولتهم، معارضة قيام دولة فلسطينية في
المنطقة الواقعة بين إسرائيل والأردن.
أهداف حزب الليكود:
منع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، القدس عاصمة
دولتهم الموحدة، ضمان قوة الدولة وتعزيز أمنها وإقرار السلام مع جيرانها شرق
الأردن هو جزء من أرض دولتهم التاريخية.
الأحزاب الدينية:
بالرغم من أن كثيراً من اليهود غير متبعين لأحكام الدين اليهودي، إلا أنهم
يتأثرون بالمطالب ذات الصبغة الدينية التي تطالب بها هذه الأحزاب [19] .
والأحزاب الدينية قديمة ومن تطلعاتها:
* يولي حزب (أغودات) المسائل الدينية الاهتمام الأساس في نشاطه السياسي، ويربط تأييده للحكومة بمدى استعدادها لتطبيق بعض القوانين الدينية اليهودية.
* أما حزب (المفدال) فهو لن يُسَلّم أي جزء من «أرض إسرائيل»
المزعومة إلى حكم أجنبي، وبين النهر والبحر تقوم دولة واحدة هي إسرائيل
وعاصمتها الموحدة القدس، كما يسعى إلى سلام بين إسرائيل وجيرانها.
الأحزاب الشيوعية:
ومنها حزب (حداش) الذي يتكون من حزب (راكاح) ومنظمة الفهود السود،
ومما يدعو إليه تحقيق السلام العادل في نظره، وذلك بانسحاب إسرائيل من جميع
المناطق التي احتلت عام 1967م بالإضافة إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني
في تقرير المصير، وإقامة دولة له في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس
الشرقية [20] .
ومن إفرازات الصراع الطائفي اليهودي ظهر حزب (حركة شاس) المسمى
اتحاد السفارديم حراس التوراة، وتركز هذه الحركة اهتمامها على المجالات الدينية
كما أن هذه الحركة ترى أن فلسطين كلها (لشعب إسرائيل) بحكم وعد التوراة.
ونستطيع ملاحظة مدى التشابه بين برامج الأحزاب الإسرائيلية وبخاصة فيما
يخص العلاقة مع الدول العربية.
والجدير بالذكر أن تلك الأحزاب السياسية تتجه دائماً إلى التكتل في وجه أي
خطر خارجي بغض النظر عن الاختلافات الموجودة حال السلم [21] .
وفي ختام الحديث عن الأحزاب الإسرائيلية أشير إلى ما قاله عضو حزب
العمل السابق (أبا إيبان) : «إن إسرائيل الآن في مفترق الطرق، فإما أن تتفاوض
وتبادل الأرض بالسلام، وتحافظ على حلم إقامة الدولة اليهودية، وإما أن تتخلى
عن هذا الحلم، وتصبح دولة قمعية مستبدة يحكم مصيرها صراع داخلي
رهيب» [22] .
__________
(1) سورة البقرة: 93.
(2) سورة الحشر: 14.
(3) الفكر اليهودي ص 202.
(4) الفكر اليهودي ص 202 204.
(5) حكم الإشكنازيين، نقلاً عن إسرائيل من الداخل ص 57.
(6) الأيدلوجية الصهيونية، ج2 ص32 36.
(7) اليهودي واللايهودي ص 77.
(8) وهم يهود الحبشة ويختلفون عن الآخرين بعباداتهم وبعض معتقداتهم.
(9) يهود الفلاشا ص 190، 191.
(10) إسرائيل من الداخل ص 57.
(11) الفكر الديني اليهودي ص210-213، اليهود تاريخ وعقيدة ص 204- 205.
(12) الفكر الديني اليهودي ص 217 -220.
(13) الفكر الديني اليهودي ص 237 -256، اليهود تاريخ وعقيدة ص 208.
(14) الفكر الديني اليهودي ص 264 -269.
(15) الفكر الديني اليهودي ص 259 -260.
(16) الصهيونية: نشأتها وتنظيماتها ص 26- 30.
(17) انظر يهود الفلاشا، الفكر الديني اليهودي ص 270.
(18) النظام السياسي الإسرائيلي ص335 -347، الصهيونية جذورها ص 131- 132، نظام الحكم في إسرائيل ص 71.
(19) رسالة د مونيه، نقلاً عن نظام الحكم في إسرائيل ص 119.
(20) انظر: النظام السياسي الإسرائيلي ص 357 -499، نظام الحكم في إسرائيل ص 81 -148.
(21) نظام الحكم في إسرائيل ص 80.
(22) إسرائيل من الداخل ص 5.
(*) انظر إلى كتاب التمييز ضد اليهود الشرقيين في إسرائيل، بحث هلدا الصايغ رقم 85 من دراسات فلسطينية، مركز أبحاث م ت ف، 1971 م، والذي يشكل فضحاً للمساواة المزعومة عندهم وأنه لا أمل في حل هذه المشكلة
- البيان -.(76/85)
مقال
«الاستغراب» [*]
محاولة جادة لتحصين الهوية
د. أحمد بن محمد العيسى
ليس هناك حاجة كبيرة لايضاح طبيعة العلاقة القائمة بين الشرق الإسلامي،
والغرب (النصراني العلماني) من الناحية العسكرية والسياسية منذ أن تمكنت الدولة
الإسلامية الوليدة من تهديد وجود الدولة الرومانية في الشام ومصر وشمال أفريقيا،
ومن ثم تهديد أوربا ذاتها. لقد كان أساس هذه العلاقة ولايزال، الصراع والصدام
العسكري. وعلى الرغم من أن أهداف الفريقين لم تكن واحدة، إلا أن كل فريق
يرى في الفريق الآخر منافساً قوياً وعدواً لدوداً يسعى إلى فرض سيطرته، وفرض
نظامه العقدي والحضاري في منطقته وبين سكانه. والمسلمون في عصورهم
الزاهية كانوا يرون الامتداد الطبيعي للدعوة والجهاد يسير في الاتجاهين: الشرق
من بلاد فارس والهند وآسيا الوسطى إلى جنوب شرق آسيا، وفي الغرب من
المغرب العربي والأندلس إلى جنوب أوربا وشرقها. والغرب كان يرى الامتداد
الطبيعي لمصالحه وسيطرة مملكاته النصرانية (في العصور الوسطى) ثم دوله
الاستعمارية وشركاته المتعددة الجنسيات، في العصور الحديثة يسير في اتجاه
الشرق، ولابد أن يخترق العالم الإسلامي بأكمله حتى يصل إلى الشرق الأقصى.
ورافق علاقة الصدام العسكري والسياسي، بعدٌ حضاري وثقافي شديد
الوضوح والاستقطاب، فكل فريق منتصر يقوم بتثبيت أركان نظامه العقائدي ورؤاه
الحضارية للكون والإنسان في المناطق «المحررة» ، وغالباً ما يقوم الفريق
المنهزم كما يقرر ابن خلدون بتقليد الفريق المنتصر «ولذلك ترى المغلوب يتشبه
أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر
أحواله..» [1] .
ولهذا فلو تتبعنا العلاقة الثقافية بين المعسكرين منذ عصر صدر الإسلام،
وحتى اليوم نجد أنها تميزت بمراحل ثقافية وتاريخية متميزة:
1- في أول عصور الاصطدام الحضاري بين الشرق الإسلامي والغرب
النصراني، لم يكن للدولة الرومانية المنهزمة أي فعل حضاري متميز، عدا بعض
ما نقله المسلمون من أدواتهم الثقافية مثل حركة تعريب الدواوين وسك العملات..
ولهذا فقد دخل سكان البلاد التي فتحها المسلمون في الدين الحنيف دون مقاومة
كبيرة.. ولكن حصل بُعيد ذلك وفي أواخر عهد الدولة الأموية، ثم تطور في عهد الدولة العباسية، ماسمي في التاريخ الإسلامي «بحركة الترجمة» ، حيث تُرجمت العلوم اليونانية، مثل الفلسفة والرياضيات والفلك، إلى العربية. وعلى الرغم من أن هذه الحركة قد أثرت تأثيراً مهماً في الفكر الإسلامي حيث ظهرت بعض المذاهب «العقلانية» المتأثرة بالفلسفة اليونانية مثل مذهب المعتزلة، إلا أن هذا التأثير كان تأثيراً ذاتياً تم بمبادرة من المسلمين، ولم يكن فعلاً ثقافياً مفروضاً من
الخارج.
2- وعندما كان المسلمون يمثلون القمة في الفعل الحضاري والتفوق العسكري، ... كان لزاماً أن ينتقل التأثير إلى مراكز الضعف الثقافي في مختلف البلاد التي
احتكت بالعالم الإسلامي، وكان الغرب أحد هذه المراكز، فحدث أن حصل بعد
الحروب الصليبية، رد فعل قوي في الغرب من جراء الاصطدام بالحضارة
الإسلامية ومنجزاتها سواءاً أكان ذلك في الشرق الإسلامي أم في بلاد الأندلس التي
كانت تعيش في الناحية الأخرى أزهى عصورها حضارياً.. ولهذا حدث ما يسمى
بالاستيقاظ والانتباه الغربي، قبل ما يسمى «بعصر النهضة» الأوربية. وبدأت
تسير بعد ذلك عملية البناء الثقافي في الغرب في اتجاهين: الأول: ببعث التراث
الثقافي اليوناني والروماني بشكل مكثف، حتى يكون الركيزة الأساسية للنهضة،
والثاني: كان لابد من صد هذا الفكر الغازي وجعله غريباً بين الناس، إما بتجاهله، أو بإيجاد المراجع العلمية التي تستطيع تفسير هذا الفكر (الغريب) وتصويره
للناس بما لا يتعارض مع المقومات الأساسية التي سار بها الإتجاة الأول. أما كيف
يتم تجاهل حدثاً ثقافياً بارزاً، وفعلاً حضارياً يطرق الباب، فتحدثنا عنه المستشرقة
«زيغريد هونكة» بقولها: «أما أن تكون ثمة شعوباً أخرى، وأطراف من
الأرض لها شأن عظيم في التاريخ، بل وفي تاريخنا الغربي خاصة، فذلك أمرٌ لم
يعد بالإمكان تجاهله في حاضر قد طاول النجوم عظمة. لأجل ذلك، يخيل إلي أن
الوقت قد حان للتحدث عن شعب قد أثر بقوة على مجرى الاحداث العالمية، ويدين
له الغرب، كما تدين له الإنسانية كافة بالشيء الكثير. وعلى الرغم من ذلك فإن
من يتصفح مئة كتاب تاريخي، لا يجد اسماً لذلك الشعب في ثمانية وتسعين منها.
وحتى هذا اليوم، فإن تاريخ العالم، بل وتاريخ الآداب والفنون والعلوم لا يبدأ
بالنسبة إلى الإنسان الغربي وتلميذ المدرسة إلا بمصر القديمة وبابل بدءاً خاطفاً
وسريعاً، ثم يتوسع ويتشعب ببلاد الاغريق ورومة، ماراً مروراً عابراً ببيزنطية،
ومنتقلاً إلى القرون الوسطى المسيحية، لينتهي منها آخر الأمر، بالعصور
الحديثة..» [2] .
كان هذا التجاهل جزءاً من الاستراتيجية الغربية في صد الفكر الإسلامي أما
إذا اضطر الغرب إلى التعامل مع بلاد الإسلام وخاصة منذ عصر «النهضة»
الغربية، فكان لابد من إيجاد وسيلة أخرى، وكانت هذه الوسيلة هي ما يسمى اليوم
بـ «الاستشراق» . لقد كان للإستشراق مهمة تاريخية واضحة، وهي تحصين
الهوية الثقافية اأوربية عن طريق تكوين المراجع العلمية الغربية التي تستطيع أن
تحدث وتناقش بطريقة علمية لا تدع مجالاً للاختراق الثقافي من الخارج. (يمكن
الاطلاع على ما كتبه الأستاذ محمود محمد شاكر في بحثه المتميز: «رسالة في
الطريق إلى ثقافتنا» عن تاريخ الاستشراق وأهدافه) . ويؤكد إدوارد سعيد في
كتابه الهام «الاستشراق» حقيقة أن الدراسات الاستشراقية لم يكن هدفها في
الأساس معرفة الشرق على حقيقته، ولهذا فهو يقول: «أنا شخصياً أعتقد أن قيمة
الاستشراق على وجه الخصوص، هي في كونه علامة على السلطة الأوربية
الأطلنطية على الشرق، أكثر من كونه بحث حقيقي عن الشرق، (وهذا ما يدعيه
شكله الأكاديمي) ... ولذلك فإن الاستشراق هو بعد هام للثقافة الفكرية السياسية
الحديثة، ولهذا فليس له علاقة كبيرة بالشرق، أكثر من علاقته بعالمنا» نحن «..
وبطريقة ثابتة فإن الاستشراق يعتمد في استراتيجيته على التفوق المركزي الذي
يضع الغربي في مجموعة من العلاقات المحتملة مع الشرق، ولكن بدون أن تفقده
دائماً اليد العليا ... » [3] .
وأصبح «الاستشراق» من هذا المنطلق يمثل رأس الحربة في توجه
سياسات الغرب الاستعمارية منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وحتى الآن
حيث لايزال يمارس نفس الدور تقريباً من خلال مراكز الدراسات الإسلامية في
الجامعات الغربية، ومن خلال مراكز الدراسات الاستراتيجية التي ترسم السياسات
الغربية في مجالات متعددة.
3- أما المرحلة الثقافية الثالثة التي تميز العلاقة الحضارية بين الغرب
والشرق الإسلامي فتتمثل في مرحلة «التغريب» التي بدأت منذ بداية عصر
الاستعمار الحديث للعالم الإسلامي من قبل أوربا، وبالتحديد من غزو نابليون مصر
عام 1798 م. وقد استمر «التغريب» سمة ثقافية بارزة حتى بعد أن اضطر
الغرب إلى تقويض خيامه العسكرية والرحيل. أما كيف حدث هذا؟ فيحدثنا الكاتب
الفرنسي (ك موريل) بسخرية عن تلك الفترة فترة تصفية الاستعمار: «إذا أرخنا
للمعارك فقد أخفق الاستعمار. ويكفي أن نؤرخ للعقليات لنتبين أننا إزاء أعظم نجاح
في كل العصور. إن أروع ما حققه الاستعمار هو مهزلة تصفية الاستعمار.. لقد
انتقل البيض إلى الكواليس، لكنهم لايزالون مخرجي العرض المسرحي ... » [4] .
ويشير المؤرخ الأمريكي (دافيد فرومكين) عن تلك الحقيقة في كتابه (سلام ما
بعد سلام) بقوله: «كان أمراً مألوفاً في بدايات القرن العشرين، عندما كان
تشرشل وضيوفه يمضون الوقت في رحلتهم على متن اليخت أنشانترس، أن
يفترض المرء أن الشعوب الأوربية ستواصل القيام بدور السيطرة الذي تمارسه في
الشؤون العالمية إلى أبعد ما تستطيع البصيرة أن ترى. وكان من الشائع أيضاً
الافتراض أن الشعوب الأوربية بعد أن أنجزت معظم ما اعتبره كثيرون رسالة
الغرب التاريخية أي تحديد المصير السياسي للشعوب الأخرى على الكرة الأرضية
فلا بد أنها متممة هذه الرسالة. وكانت بلدان الشرق الأوسط بارزة بين البلدان التي
كان على الأوربيين التعامل معها، إذ هي بين قلة من المناطق المتبقية على كوكبنا
دون أن يعاد تكوين شكلها اجتماعياً وثقافياً وسياسياً على صورة أوروبا
ومثالها ... » [5] . إذن كان التغريب الثقافي والفكري (على صورة أوروبا ومثالها) هدف من أهداف الاستعمار العسكري والسيبريالية على الشرق الإسلامي. وبالفعل تمكنت أوروبا من تحويل اتجاه طلائع «المثقفين العرب» إلى الفكر والفلسفة الأوربية لتبدأ «حركة الترجمة» الثانية، ولكنها هذه المرة حركة مفروضة من الخارج ترى في أوروبا المثال النموذج، وترى في التراث الإسلامي التأخر والرجعية، وأصبحت تنظر للحضارة والثقافة من منظار غربي لا أثر فيه للتميز الحضاري، بل أن «نسير سيرة الأوربيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يُعاب، وأن نشعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوم الأشياء كما يقومها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها ... » [6] .
الحقيقة أن التغريب يجري على دم وساق، ويواجه العالم الإسلامي وبقية دول
ما يسمى (بالعالم الثالث) ، بشكل لم يسبق له مثيل، خطر تفتيت الهوية الثقافية
والاجتماعية. وعلى الرغم من أن مسيرة التغريب قد بدأت منذ وقت طويل، إلا
أنها بدأت تأخذ أشكالاً مختلفة وأكثر خطورة منذ سقوط الشيورعية، وانفراد القوة
الأخرى بالمسرح العالمي. فقد سيطرت المنظومة الليبرالية الرأسمالية على
المنظمات الدولية (الأمم المتحدة، صندوق، اليونسكو، منظمات الإغاثة العالمية،
وأخيراً منظمة التجارة العالمية «الجات» ..) وتمكنت عن طريق هذه السيطرة
من فرض القوانين الدولية التي تراعي نظامها ومصالحها. كما سيطرت المنظومة
الليبرالية الرأسمالية على وسائل الإتصال الحديثة وتمكنت بفضل التقدم التقني
الهائل من الوصول بقيمها ومعتقداتها إلى جميع بقاع العالم تقريباً. (ينطلق فيض «
ثقافي» بمعنى فريد من بلدان المركز الغرب ويجتاح الكرة الأرضية) . تتدفق
صور، كلمات، قيم أخلاقية، قواعد قانونية، اصطلاحات سياسية، معايير كفاءة، من الوحدات المبدعة إلى بلدان العالم الثالث من خلال وسائل الإعلام (صُحف،
إذاعات، تلفزيونات، أفلام، كتب، أسطوانات، فيدو) . ويتركز الجانب الأكبر
من الإنتاج العالمي «للعلامات» في الشمال، أو يصنع في معامل يسيطر عليها،
أو حسب معاييره وموضاته. وسوق المعلومات شبه احتكار لاربع وكالات:
أسوشيتيد برسس وينايتد برس (الولايات المتحدة) ، رويتر (بريطانيا العظمى) ،
فرانس برس. وتشترك في هذه الوكالات كافة إذاعات العالم، كافة شبكات تلفزيون
العالم، كافة صحف العالم. ويتدفق 65% من المعلومات العالمية من الولايات
المتحدة. ومن 30 إلى 70% من البث التلفزيوني مستورد من المركز.. وهذا
الفيض من المعلومات لا يمكنه إلا أن «يشكل» رغبات وحاجات المستهلكين،
أشكال سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط حياتهم « [7] .
ولعل من مظاهر هذه السيطرة تفشي الأنماط الثقافية الاستهلاكية في
المجتمعات الإسلامية، ومنها طغيان النزعة الفردية وحب الذات في التعمل مع
الآخرين، وأيضاً الاستسلام للعامل الدعائي في ترويج المنتجات، وكذلك إتجاه
الأفراد وخاصة الشباب إلى الثقافة السطحية السهلة، فتجد الشاب لا يستطيع أن
يجلس ليقرز كتاباً كاملاً، بل يريد الكتاب مختصراً في صفحة أو صفحتين..
وهكذا، فنحن كما يقولون في (زمن السرعة) ومنها أيضاً تفشي ظاهرة المأكولات
السريعة، نتيجة لانتشار هذه النوعية من المطاعم والمتاجر، وكل هذا يعكس
الانماط الاجتماعية السائدة في بلاد الغرب وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وربما كان من أخطر مظاهر التغريب في العلاقات الولية أن أصبح الاقتصاد
والقوة المالية هي العامل الأساسي في علاقات وتحالفات الدول، فلا قيم ولا ثقافة،
ولا مبادىء. وهذا يؤكده المفكر والاقتصادي الفرنسي (جاك أتالي) بقوله:» إن
البشرية تدخل في مرحلة من الزمن جديدة تماماًك التاريخ يتسارع، التكتلات تتفكك، الديمقراطية تحقق انتصارات جديدة، ممثلون ورهانات جديدة تبرز على المسرح، أمام هذه التحولات التي تبدو في ظاهرها مبعثرة لا يربط فيما بينها أي رابط،
يسود لدى المراقبين الحذر من النماذج الموجودة، ويغلب الاستسلام لمزاج القوى
العديدة التي تحرك كوكبنا، كما يغلب الميل إلى إعطاء السوق دورً حاسماً في كل
شيء بما في ذلك دور الحكم في مصير الثقافات.. « [8] .
الاستغراب: هل يكون المحطة الرابعة؟
ولمواجهة هذا المد التغريبي الهائل، لابد أولاً من إدراك خطورة العلاقات
الغير متكافئة بين الفريقين، ثم بإتخاذ استراتيجية تعتمد على محورين أساسيين،
أولهما: بعث العقيدة الإسلامية الصحيحة والفكر الإسلامي الأصيل ونشره بين
الناس ليكون الركيزة الأساسية للنهضة، ثم قيام مراجع علمية إسلامية تدرس
الغرب، وتفهم منطلقاته وأهدافه ونظم حياته الثقافية والفكرية، لتكون الحاجز الأول
لتحصين الهوية الإسلامية، وهذا ما نسميه بـ» الاستغراب «. (وهذين
المحورين شبيهين بالطريقتين اللتين سلكهما الغرب عند مواجهته للحضارة الإسلامية، ... وعندما كان في بداية نهضته الحالية. وليس في هذا تقليداً للغرب، بل هما فيما
أحسب سنة من سنن الله في الكون) .
وعلى الرغم من أن الصحوة الإسلامية المعاصرة قد أدركت أهمية الشق
الأول من هذه الاستراتيجية، فبدأت بالاهتمام بالعلم الشرعي، وتصحيح المعتقدات، ونشر كتب العقيدة والعلوم الإسلامية، بل لا يزال كثير من المفكرين والمنظرين
للصحوة، لا يدركون خطورة المرحلة الحالية، ويحتفظون بأفكار سطحية عن
الغرب، وعن علاقاته بالمجتمعات الإسلامية، وذلك لغياب المراجع التي يتستطيع
أن تشكل الرؤية الإسلامية عن الغرب، بعيداً عن تنظيرات فلاسفة» التغريب «
المعاصرين (ولا تقل عنها سواً تنظيرات احجاب الفكر الإسلامي المستنير! عن
طبيعة العلاقة بين الغرب في ظل ظروف التغريب الشامل) .
إن الاستغراب الذي نشير إليه هنا، ينبغي أن ينطلق من أسس واضحة ليحقق
بعض الأهداف الهامة:
1- استثمار نجاح الصحوة الإسلامية في كسر حدة الانبهار بالغرب، حيث
بدأ كثير من الشباب المسلم يعيد تقويمه للتقدم التقني الغربي. وحتى يتم تعميق
الاعتداد بالنفس، والشعور بالانتماء للأمة والتميز الحضاري والفكري، ينبغي
نقض وتعرية مفاهيم الغرب وقيمه التي يبثها في العالم (الديمقراطية، الحداثة،
الثقافة العالمية.. الخ) ولن يتم هذا النقض إلا بمعرفة أسس هذه المفاهيم وتناقضاتها
على مستوى التنظير، وعلى مستوى التطبيق.
2- عند إيجاد المراجع الإسلامية الذين يمكن أن نطلق عليهم بـ»
المشتغربين «سوف يتظاءل تأثير (المتغربين) من أبناء المسلمين، الذين يرون في
الغرب، النموذج والمثال، في الفكر والأدب والاقتصاد وقيم العمل، وقيم السياحة، والعلاقات الاجتماعية.. الخ، ولن تحتاج الأمة إلى عناء كبير لكشف شبهاتهم
التنظيرية، إذ أن لديها من يعرف فكر (القوم) ومصالحه ومخططاته.
3- وعندما نتمكن من دراسة الغرب دراسة واعية في سبيل تحصين هوية
الأمة، والحفاظ على مصالحها، سوف نستطيع دراسة تأثير التطورات التي تحدث
في الغرب في جميع المستويات السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والاجتماعية،
على ثقافة الأمة وعلى مصالحها ومستقبلها. إن غياب الروية الحقيقية لما يجري في
الغرب تجعلنا نعيش في ظروف وأحوال ليست من صنعنا، ولا نعرف كيف حدثت، ولماذا، ومن المستفيد منها؟
إن الاستغراب هو محاولة جادة لدراسة الغرب، ليس بهدف الترف الثقافي
والفكري كما حصل عندما ترجمت الفلسفة اليونانية في القرون الإسلامية الزاهية
وإنماا لتحقيق مصالح في غاية الأهمية ومنها في المقام الأول تحصين الهوية
الإسلامية في ظل ظروف التغريب الجامح الذي يجري تطبيقه علي أكثر من صعيد. ...
__________
(*) تناول مصطلح الاستغراب بالبحث والدراسة د/ حسن حنفي في كتابه المعنون بـ (مقدمة في علم الاستغراب) ، وهذا المقال لا يعتمد على ما طرح في الكتاب المذكور بل هو طرح مستقل كما ترى للموضوع، وكاتب المقال لا يتفق مع د/ حسن حنفي في كثير من منطلقاته الفكرية سواءً ما هو مقروء منها في كتابه المشار إليه أو في كتبه الأخرى.
(1) بن خلدون، المقدمة، دار القلم بيروت 1878، ص 147.
(2) زيغريد هونكة، شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة: فاروق بيضون، وكما دسوقي، منشورات دار الآفاق الحديثة بيروت، الطبعة الخامسة 1401هـ / 1981م ص 11.
(3) ادوارد سعيد، الاستشراق، (الطبعة الانجليزية) ، 1979، ص6 وما بعدها.
(4) ك موريك، 1985 م نقلاً من كتاب سيرج لاتوش، تغريب العالم، ترجمة: خليل كلفت، دار العالم الثالث، 1992م، ص7.
(5) دافيد فرومكين، سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط، ترجمة: أسعد كامل الياس، رياض الريس للكتب والنشر، 1992م، ص22.
(6) طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، ص44.
(7) سيرج لاتوش، تغريب العالم، ترجمة: خليل كلفت، دار العالم الثالث، 1992م، ص27.
(8) جاك أتالي، آفاق المستقبل، ترجمة: محمد زكريا إسماعيل، دار العلم للملايين، 1991م، ص35.(76/93)
من ثمار المنتدى
أنشطة المنتدى الإسلامي
التحرير
سبق الحديث عن بعض مشاريع «المنتدى الإسلامي» مثل: «كفالة الدعاة،
وبرنامج شهر رمضان الماضي، ومشروع مكافحة العمى بدولة تشاد» ، وفي هذا
العدد نواصل الحديث عن مزيد من المشاريع كما يلي:
- البيان -
رابعاً - الدورات والملتقيات العلمية:
ينتشر الدعاة المحليون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتختلف قدراتهم
الدعوية، ومستوياتهم العلمية، وبسبب غياب العلماء وطلاب العلم وانهماك كثير
من الدعاة في أمورهم الخاصة، أصبح الضعف العلمي سمة سائدة عند كثير من
الدعاة.
والعلم الشرعي هو الأساس في العمل الدعوي، فإذا غاب العلم حصل
الاضطراب عند الدعاة، قال الله تعالى: [أفمن يمشي مكباْ على وجهه أهدى أمن
يمشي سوياْ على صراط مستقيم] [الملك: 22] .
ومن أجل ربط الدعاة بالعلوم الشرعية، وتنمية قدراتهم العلمية، سعى
المنتدى الإسلامي إلى إقامة الدورات الشرعية والملتقيات الدعوية التي بلغ عددها
حتى إصدار هذا العدد (18) ملتقى دعوي و (16) دورة شرعية، وهي أربعة
أنواع:
1- دورات شرعية متخصصة قصيرة:
يشترك فيها الدعاة المتخرجون من الجامعات أو الدعاة المتميزون في المنطقة، وتقوم اللجنة العلمية في المنتدى الإسلامي بإعداد برنامج تفصيلي لهذه الدورات
حسب حاجة الدعاة المستفيدين بالتشاور مع بعض العلماء وطلاب العلم، ثم يتكفل
المنتدى الإسلامي بإرسال عدد من طلاب العلم إلى مقر الدورة، ويقوم مكتب
المنتدى في المنطقة بالترتيب والإعداد لهذه الدورة ويتراوح عدد المستفيدين في
الدورة الواحدة من 50 إلى 100 داعية.
2- دورات شرعية متخصصة طويلة:
يشترك فيها الدعاة المتخرجون من الجامعات الإسلامية، وهي دورات مركزة
يشترك فيها حوالي 30 داعية لمدة ثلاثة أشهر، وتقام فيها الدروس المتتابعة يومياً
بعد الفجر إلى المساء في العقيدة والفقه وأصوله والتفسير والحديث ومصطلحه وفقه
الدعوة، بالإضافة إلى بعض التطبيقات الميدانية.
3- ملتقيات دعوية إقليمية:
ويدعى إليها الدعاة من دول مختلفة، ومن أماكن متفرقة، ويرسل المنتدى
الإسلامي عدداً من الدعاة المؤهلين شرعياً ودعوياً لإلقاء الدروس والمحاضرات في
هذه الملتقيات، ويستمر انعقاد الملتقى من عشرة أيام إلى خمسة عشر يوماً،
ويتراوح عدد المستفيدين من الملتقى الدعوي من 80 إلى 150 داعية.
4- دورات شرعية محلية:
يشترك فيها الدعاة المحليون بمختلف المستويات، حيث يقوم الدعاة المحليون
الأكفاء التابعون للمنتدى الإسلامي بالتدريس في هذه الدروات، ويتم إعداد المنهج
العام من قبل اللجنة العلمية بالمنتدى.
ويعتزم المنتدى إقامة عدد من الملتقيات الدعوية والدورات الشرعية في
الصيف القادم إن شاء الله.
وتهدف هذه الدورات والملتقيات الدعوية إلى:
1- نشر وترسيخ العقيدة الصحيحة.
2- تنشيط وتقوية الدعاة.
3- نشر العلم الشرعي بين أوساط الدعاة.
4- تواصل الدعاة وطلاب العلم.
5- ترشيح الدعاة المتميزين لكفالتهم ضمن دعاة المنتدى الإسلامي (إن لم
يكونوا مكفولين من أي جهة أخرى) .
6- جمع معلومات عن المناطق التي ينتمي إليها المشاركون.
7- معالجة المشكلات الدعوية الميدانية التي يعاني منها الدعاة.
تكاليف هذه الدورات:
* التكلفة التقديرية لدورة شرعية متخصصة 300. 5 دولار.
* التكلفة التقديرية لدورة شرعية محلية 350. 1 دولار.
* التكلفة التقديرية لملتقى دعوي إقليمي 000ر8 دولار.
وهذه التكلفة شاملة لمصاريف السفر والإقامة ومقر الدورة والتغذية والكتب
ونحوها.
خامساً - حلقات تحفيظ القرآن الكريم:
أنزل الله عز وجل كتابه العزيز لكي يكون نوراً وهدى للناس، وحث
الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قراءته وحفظه وتدبر آياته، وجعل الله عز وجل أهل القرآن هم خاصته وأحباءه، فهم خير الناس وأعلاهم منزلة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) .
وتعلم القرآن وحفظه في الصغر مما يفيد المسلم ويعينه، وتربية النشء على
تلاوة الكتاب العزيز وحفظه وتفهمه مطلب أساس من المطالب التربوية.
ويسعى المنتدى الإسلامي ولله الحمد والمنة إلى تكوين المحاضن التربوية
لأبناء المسلمين، عن طريق افتتاح حلقات تحفيظ القرآن الكريم.
وقد أعدت اللجنة العلمية في المنتدى خطة متكاملة لهذه الحلقات يحفظ فيها
الطالب كتاب الله عز وجل كاملاً في ثلاث سنوات، كما أعدت اللجنة منهجاً مبسطاً
لتعليم العقيدة الإسلامية وأصول الإسلام العامة، ليشب الطفل ويترعرع منذ نعومة
أظفاره على العلم الصحيح والعقيدة السليمة.
يُدَرّسُ في كل حلقة داعية، أو معلم قرآن، ويشرف عليه أحد الدعاة ويقدم
المدرس بعض الهدايا والجوائز التشجيعية للطلاب لجذبهم وتقريبهم إلى الحلقة،
وبخاصة المتفوقين منهم، ويبلغ عدد الدارسين في الحلقة من 20 إلى 50 طالباً.
وحيث إن المصاحف غير متوفرة في كثير من البلاد الإسلامية، فإن الطلاب
يستخدمون غالباً الكتابة على الألواح، ولهذا فإن المنتدى سوف يقوم إن شاء الله
تعالى بتوفير نسخ من القرآن الكريم لجميع الطلاب.
كما سوف يطبع المنتدى الإسلامي إن شاء الله المنهج العلمي المعد لتوزيعه
على المعلمين.
ويبلغ متوسط التكلفة الشهرية لحلقة تحفيظ القرآن الكريم 80 دولار،
والمتوسط السنوي يبلغ 960 دولار، وذلك يشمل: مكافأة المعلم، والمصاحف،
والمنهج العلمي، والجوائز التشجيعية، والمستلزمات الأخرى.(76/103)
منتدى القراء
الاعتذار من العلم! !
جمال الحوشبي
مع كل يوم تشرق شمسه.. تقذف المطابع بالآف الكتب والرسائل العلمية التي
تُعنى بقضية (الردود) بين العلماء، أو قضية (النقد) للأطروحات أو المطبوعات،
طمعاً في التعديل أو التبديل.
كل ذلك أضحى سمة من سمات العصر اكتسحت الساحة الإسلامية كغيرها من
القضايا، وأخذت هذه الردود بالفعل (حيزاً) لابأس به من المكتبة الإسلامية الخاصة
لدى كثير من الأفراد.
لم تعد وسائل نشر تلك الردود هي الأوراق، فقد تعدت ذلك النطاق إلى
وسائل أخرى مسموعة ومرئية، وحتى نتبين حقيقة الأمر علينا أن نرجع قليلاً إلى
الوراء!
لقد مر على الأمة الإسلامية حقبة من الزمن ليست بالبعيدة كان الفقه فيها
أحكاماً بلا أدلة، والفقيه راوية بلا اجتهاد، والنحوي حافظاً بلا ملكة، كل ذلك
يسير في رتابة عجيبة لم تتبدل، وعلى طريقة شوهت صفاء الشريعة ونقائها ولما
أراد الله أن تعود للشريعة مكانتها، ويعود الفقه الإسلامي دفاقاً زاخراً متحرراً من
ربقة (التعصب) المذهبي والجمود الذي قضى على روح البحث والاجتهاد يُسرَ
سبيل مثل تلك الردود العلمية المجرّدة من الهوى، ومثل ذلك النقد الهادف بين
العلماء. إن التجّرد (للحق) لا للأشخاص والدعوة إلى نبع الكتاب والسنة ونبذ ما
خالفهما هي السمة التي يجب أن تُصبغ بها تلك الردود.
واليوم وفي غمرة انشغال بعضهم بمثل هذه الردود التي أخذت تطفو على
السطح أكثر من أي وقت مضى، تبقى الحاجة ماسة إلى التذكير بضوابط مثل تلك
الردود والانتقادات.
إن من أهم تلك الضوابط وأولاها بالطّرْق والتذكير قضية التأدب مع العلماء
المجتهدين والدعاة المخلصين من أهل السنة في شتى بقاع الأرض وتتأكد أهمية تلك
القضية إذا علمنا أن بعض القضايا قد يتصدى لها من لا يحسنها، كما أن الأمر قد
يوسد أحياناً إلى غير أهله! ! وقبل هذا وذاك الحذر من خطرات النفس والهوى
وتزيين الشيطان وحزبه، فإنهما يؤديان إلى تزييف الحقائق، وإلى اتهام النوايا
بغير برهان!
لقد زاد من غربة العمل الإسلامي اليوم فئام من الناس مادت بهم سفينة العمل
الإسلامي، وهم مع من يدّعون الإصلاح: يقولون ما لا يعملون ويعملون ما لا
يحسنون، يرصدون الزلة، ولا يبصرون شوامخ الصواب ويتتبعون الهفوة، ولا
يرجون لمجتهد ثواباً! ؟
إنه وإن ولى زمان كان يُستحى فيه من الجهل، فقد أطل زمان احتاج فيه
علماؤه ودعاته إلى أن يعتذروا مما عندهم من العلم إذا قاموا بحقه واجتهدوا في
نشره وتبليغه للناس، كل ذلك حتى لا تتهم النوايا، ولا تحمل على غير محاملها
الطوايا! وكأني بهم يرددون مقالة عبد الله بن مسلم بن قتيبة لمّا أخرج كتاباً استدرك
فيه على (أستاذه) أبي عبيد القاسم بن سلام أسماه (إصلاح الغلط في غريب الحديث
لأبي عبيد) ، فقال رحمه الله بعد أن كثر عاذلوه وتصدى له شانئوه ومبغضوه من
جملة ما قاله:
« ... وقد كنا زماناً نعتذر من الجهل، فقد صرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار
من العلم، وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة، فصرنا نرضى بالسلامة،
وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولا ينكر مع تغير الزمان وفي الله خلف
وهو المستعان» ، إنه لسان حال كثير من دعاة الإسلام وعلمائه في ظل تكالب
الأعداء، وكيد الحساد، وظلم ذوي القربى، وتواطؤ السواد على الصمت والرضى
بالسلامة، ونقل الأخبار من غير توثيق أو تمحيص.
أناس أمِنّاهم فبثوا حديثنا ... فلما قصرنا السير عنهم تقوّلوا(76/107)
الورقة الأخيرة
الدعاة بين رجل ورويجل
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
الأحداث في العالم الإسلامي تتلاحق، والمتغيرات السياسية تتابع والصراع
بين الإسلام والكفر ينتقل من طور إلى طور ومن دائرة إلى أخرى والمسلمون في
جميع الأحوال كالأيتام على موائد اللئام!
ولقد ورثت الصحوة الإسلامية المعاصرة تركة مهترئة من الانحراف والتخلف
الذي أصاب الأمة الإسلامية بعامة، نتيجة قرون متتابعة من العجز والضعف، ولن
ينهض بها من هذه الكبوة جهود أفراد معدودين مهما بلغت إمكاناتهم وقدراتهم، بل
هي في حاجة لكل الطاقات والجهود يُكمل بعضها بعضاً، ويُسدّد بعضها بعضاً ...
والعمل الإسلامي بفضل الله تعالى سائر بكل ثقة واطمئنان، يشق طريقه على
الرغم من كثرة العراقيل والعقبات، ولكن ألم يسأل الواحد منا نفسه في يوم من
الأيام: ما هو دوري في هذه المسيرة؟ ! وماذا قدّمت لخدمة هذا الدين؟ !
هل يكفي أن يبقى الإنسان متفرجاً، متابعاً لمسيرة الصحوة الإسلامية من بُعد
لا يتجاوز دوره التشجيع والتعاطف ... ؟ ! هل يكفي أن يكون دور الإنسان تكثير
سواد الصالحين فحسب ... ؟ ! أيجوز أن يقتصر الدور على الحوقلة والاسترجاع
إذا أصاب الدعوة ما أصابها؟ !
لا شك بأن هذه سلبية مفرطة، أقعدت كثيراً من الناس عن الإنتاج والعطاء،
وإننا نملك طاقات هائلة بحمد الله تعالى ولكنها طاقات كامنة خاملة، لتم تُسخر
التسخير الأمثل لخدمة الأمة، ولقد كُبلت كثير من هذه الطاقات بآسار من العجز
والضعف، حتى أصبحنا نرى جموعاً غفيرة من الصالحين، ولكن مع الأسف
الشديد حالهم كما وصفهم الشاعر:
يُثقلون الأرض من كثرتهم ... ثم لا يُغنون في أمر جلل
إن الثروة الحقيقية التي تملكها الأمة ليس في الأموال أو الأجهزة والمعدات
ونحوها، وإنما هي في الإنسان الجاد الذي يشعر بالمسؤولية وعظم الأمانة.
وإننا في مرحلة تقتضي أن يُفكر الإنسان كيف يستطيع أن ينتج، بل كيف
ينتج بأكثر من طاقته..! ولن يكون ذلك ممكنا إلا إذا وجدت الهمّة العالية والعزيمة
الصادقة، التي تتطلع إلى أفق عال وقمّة سامقة من العطاء والإبداع ولا ترضى
بالقليل من العمل.
فلا يقتل الطموحات إلا استصغار الإنسان نفسه، يُكبلها بالعجز، حتى يصل
إلى حد الشلل الذي يعوقه عن الحركة والإنتاج، وإن طاقة الإنسان تتآكل غالباً
حينما يزدري الإنسان نفسه، ويشعر أنه ضعيف لا يستطيع أن ينجز عملاً أو يبدع
أمراً. وفي كثير من الأحيان لا يكتشف الإنسان طاقاته ومواهبه إلا من خلال
التجارب.
وإنتاج المرء غالباً يعتمد على مقدار طموحه وهمته، فالإنسان الطموح هو
الذي يجعل أمامه هدفاً عالياً، حتى ولو كانت قدراته لا تؤهله لذلك الآن لأنه سوف
يحرص على تنمية قدراته للوصول إلى هدفه، فإذا نمت القدرات فإنه لن يبقى عند
هدفه الأول، بل سوف تنمو طموحاته وتزداد، وما أجمل قول شيخ الإسلام ابن
تيمية: «العامة تقول: قيمة كل امريء ما يُحسن والخاصة تقول: قيمة كل
امريء ما يطلب» [1] .
__________
(1) نقله عنه ابن القيم في مدارج السالكين (3/3) .(76/111)
المحرم - 1415هـ
يونيو - 1994م
(السنة: 9)(77/)
كلمة صغيرة
أعلنت الإدارة الأمريكية مؤخراً قائمة بالدول المتهمة بالإرهاب أو التي تدعمه
وبغض النظر عن مدى صحة أو عدم صحة الاتهام لتلك الدول، إلا أننا - ومعنا
كل منصف -وبنظرة موضوعية نؤكد أن ذلك التصنيف ناقص وغير موضوعي
حيث لم يذكر فيه ما يلي:
1- دول غربية لها باع كبير في الإرهاب وعلى رأسها صربيا وكرواتياً.
2- العدو لصهيوني أكبر دولة إرهابية مسؤولة عما يتعرض له الشعب
الفلسطيني من اضطهاد.
3- دول عربية لا يكاد يمر يوم إلا ويقتل رجال الأمن فيه أفرادا من شعوبها، ولا يمر شهر دون أن تعلق الرقاب فيها ظلماً وعدوانا!
4- دول أخرى تمارس الإرهاب ضد المسلمين مثل الهند وبورما والفلبين
وتايلاند وطاجكستان!
إننا نعلم أن حقد الغرب وعداوته لأمتنا وديننا لن يجتمع مع العدل في سلة
واحدة، وستظل قائمة الإرهاب تلك يداً تهز سنوياَ أكتاف المخدوعين بعدالة الغرب!
وستبقى القائمة نفسها ناقصة يخرج منه كل إرهابي حقيقي مادام إرهابه لا
يختلف مع سياسات ذوي العيون الزرق ومصالحهم من جهة أخرى؟ !(77/1)
الافتتاحية
ولكنه ضحك كالبكاء!
شهور طويلة متتابعة منذ مسرح مدريد حين انكمش الزعيم وتقبل صفعات
الأسياد بكل امتنان، إلى احتفال واشنطن حيث كان يتنفس نسمات الفرح ويرش
الابتسامات يميناً وشمالاً، وحتى لحظات العبوس وقسمات الذل التي حملتها عدسات
المصورين في لقاء التوقيع الأخير في القاهرة.
هذه الشهور الطويلة كانت عند صناع الحدث ضرورية للغاية كي تكسر باباً
نسيجه الدماء والأشلاء، يغذيه نزيف عمره نصف قرن، وذاكرة تاريخية تمتد
جذورها إلى متون أربعة عشر قرناً من حركة التاريخ، حيث تتخللها صفحات
عديدة سود، تحكي عن حقد ممتد من خيانات بني قريظة وحتى كيد بني جنسهم من
«يهود» الدونمة، ويوقد جذوة ذلك كله آيات الكتاب المتلوة إلى قيام الساعة.
لقد كان هذا جميعه سداً منتصباً واقفاً، يمنع عابدي ذواتهم وعروشهم من
الولوج إلى الحضن الإسرائيلي، وتوقيع صكوك البيع بلا ثمن، الذي قال عنه
شاعر عربي يوماً:
ترقى العار من بيع ... إلى بيع بلا ثمن!
ومن مستعمر غاز ... إلى مستعمر وطني!
لقد بدأ البيع بثمن بخس في «كامب ديفيد» حين ابتلعت ثمنَه «القططُ
السمان» سريعاً، وكان من بعض آثاره التنموية أن يعم رفاه العيش تحت مستوى
الفقر! أكثر من 50 % من الشعب المصري، ويستوطن المقابر مليونان ممن
أدركهم الرفاه! واليوم انتهى القوم إلى بيع بلا ثمن في القاهرة.. بلى كان الثمن
توكيلاً رسمياً لمستعمر وطني قادم، سيطلق رصاصاً حياً بالنيابة عن جيش إسرائيل
وسينشيء دولة شرطة خالصة، تضيف رقماً جديداً في سجل عام اسمه «الدولة
ضد الأمة» وشعاره «إذا اختلف رأي الشعب مع حماقات الدولة وخياناتها فلا بد
من تغيير.. الشعب» ! .
ومع ذلك فليس ما تم إلا نموذجاً مُجسّداً لما هو قادم، حين تنتقل «الدولة»
في المنطقة من دور الممانعة السلبية للعدو الإسرائيلي إلى دور الشريك الأمني
والاقتصادي، الذي يقوم بمهمته في قمع الأمة، وتجفيف منابع هويتها الحقيقية كي
تموت روح المقاومة فيها، وتقبل بعيش العبيد في ظل العصر الإسرائيلي المرتقب، وستنتصب بالنيابة عن الصديق اليهودي في إنهاك كل عناصر الممانعة وتفكيكها
والقيام بدور الوكيل الأمني في «صراع الحضارات» القادم! .
وكما تم سحق محاولات الشعوب لاستعادة هويتها الإسلامية زمن الحرب ثم
المقاطعة من بعد باسم التفرغ لمواجهة إسرائيل، ومن خلال لغة: «لا صوت يعلو
فوق صوت المعركة» ؛ فإن الزمن القادم ينذر بوحشية أشد وإرهاب أعتى تمارسه
الدولة ضد الأمة، ولكن تحت لافتة جديدة وباسم: «لا صوت يعلو فوق صوت
السلام» ! ، ولا عجب فقد لحقت الحظيرة كلها بالثور الهارب الذي شجبت هربه
في الأزمنة الخوالي! .
وها هي أقلام «مرتزقة السلام» تحدثنا عن انفراج الصراع، بل يطالبنا
بعضها بالتخلي عن الحقد والبغضاء! والنظر إلى الآخر «الإسرائيلي» بعين
الرضا العمياء، ولم لا؟ ! أليس شقيقَنا القادم في أسرتنا الجديدة «الشرق
أوسطية» ؟ !
غير أن «الشقيق» لا يقبل المنطق نفسه، بل يزرع عيون السخط في كل
زاوية، ومن بين مطامعه التي يسعى إليها بجد في الحقبة القادمة ما صرح به «
رابين» أمام أركان اللوبي اليهودي في أمريكا حول ضرورة تحويل الـ 20 دولة
عربية إلى 40 دولة على الأقل في غضون السنوات العشر الآتية.
هذا الحلم.. يسعى «الشقيق» إلى تنفيذه على الأرض بدءاً من جنوب
السودان حيث يدعم التمرد النصراني بكميات من صواريخ «ستنجر» ، ويستقبل
بعض قوات «قرنق» لتدريبها في إسرائيل، ومروراً بالجزائر حيث اكتشفت
شحنة من الأسلحة مرسلة من إسرائيل في طريقها إلى الحزب البربري الأمازيغي
الذي يدعو الناس إلى حمل السلاح ومقاتلة دعاة الإسلام في الجزائر، وحتى تمويل
الدراسات والمؤتمرات التي تنبش عن الأقليات العرقية والدينية في أرجاء العالم
العربي، وتؤجج فيها نوازع الانفصال باسم الدفاع عن حقوقها المهضومة! !
إنه بعض من «السلام» الذي لم يكن يعني في قاموس «يهود» إلا
«السام» ! أما اللام الزائدة فحسبها أن تكون طلاءً يخفي عورة العصر الإسرائيلي القادم ويعطي لأبناء سلول وابن العلقمي فسحة في الترويج لبضاعة الوهم، وأحلام السراب عند أبناء أمتهم، حتى وهم يرقصون على دماء الضحايا وأشلاء المصلين! .. وبنو «يهود» هناك يطّاير بهم الفرح لما حققوه من سلام تحرسه قوتهم النووية، ومستعمرون بالنيابة يغسلون أذى التطرف من طريق الهيمنة الإسرائيلية وأسواق تصدر خاماتها إلى «الشقيق» القادم بثمن بخس، ومن ثم تستورد بقيمة الألف طن من خاماتها ما يعادل طناً واحداً تم «تعميده» في مصانع إسرائيل! .
ماذا بقي للأمة إذن؟ ! لقد بقي لها الكثير، بقي لها أولو الأمر من علمائها
الربانيين، وذوي الرأي من صالحيها المدعوين إلى جمع أمورهم، فلا تكون شتى
وأمر العدو مجتمع، وإلى وعي الكيد، فلا يكونون غائبين وعيون العدو تتقد بشرر
اليقظة والمكر، وإلى أن يكونوا فاعلين قادرين على المبادرة، فلا يقعد بهم اليأس
وبين أيديهم بشارة الله بالتمكين ولو بعد حين.
ثم يبقى من بعدُ دور الأمة كلها في الخروج من ربقة الغفلة، وإسار الخوف،
وقيود الشهوات.. أما الصراع فسيظل بعد ذلك وقبله صراع وجود لا يلغيه زمن
السلام الممتد، ولا عقود القران الاحتفالية المعلنة بين كفر أبي جهل ونفاق ابن
سلول وتسيّد حيي بن أخطب! .. حتى وإن توالت توقيعات عابدي الذوات، وشهد
عليها عمالقة القوة العسكرية في العالم.(77/4)
محاضرات إسلامية
فقه النوازل والواقعات
دليل على ارتباط الفقه بالحياة
- 1 -
د. عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ
فضيلة الدكتور عبد العزيز القارئ أحد العلماء المعروفين عقيدة وعلماً ومنهجاً، وهو عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وله العديد من
الدراسات العلمية الجادة. وقد اخترنا له هذه المحاضرة المهمة في بابها مع تصرف
بسيط يقتضيه مقام أن تكون مقروءة، وقد أذن لنا فضيلته بذلك ونأمل من فضيلته
المساهمة في هذه المجلة ببعض دراساته ومقالاته العلمية التي هي محل اهتمام
ومتابعة الكثير من القراء.
- البيان -
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد:
فقه النوازل والواقعات أحد موضوعات الساعة أبدأه بقول الرب عز وجل:
[يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراْ كثيراْ وما يذَّكر إلا أولو
الألباب] [سورة البقرة: 269] ، قال مجاهد رحمه الله: «الحكمة: العلم والفقه
والقرآن» ، وقال الإمام مالك رحمه الله: «وقع في قلبي أنه الفقه في الدين» ،
ومما يدل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله
مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها) [1] ،
ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في
الدين) [2] ، فالخير كل الخير في الفقه في الدين، ومن أوتي الفقه فحري به أن يعرف كتاب الله عز وجل، وأن يعرف سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يَذّكر فإن التذكّر من شيم أهل العلم والفقه والفهم، والفقه هو الفهم: فهم مرامي الكلام ومرادات الحديث، قال تعالى في ذم المنافقين: [فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاْ] [سورة النساء: 78] ، وقال سبحانه وتعالى منبهاً المؤمنين: [قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون] [سورة الأنعام] .
فهذا القرآن قد أحكمت وفصلت آياته، وهذه سنة النبي -صلى الله عليه
وسلم- قد ثبتت ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولا يفقهون، فكم من مرتل لآيات
القرآن الكريم لا يفقه كثيراً مما يُرتل، وكم من حافظ لحديث الرسول -صلى الله
عليه وسلم- لا يفقه ما يحفظ والفقه مراتب، والفقهاء مراتب بعضهم أفقه من بعض
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه
إلى من هو أفقه منه) [3] .
وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم أصدق هذه الأمة إيماناً وأنقاها
قلوباً وأغزرها علماً كانوا يتفاوتون في الفقه، وهم في الجملة رضوان الله عليهم
أفقه ممن جاء بعدهم، يقول مسروق رحمه الله: «جالست أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم فكانوا كالإخاذ جمع إخاذة، والإخاذة الغدير يقول: الإخاذة تروي
الراكب والإخاذة تروي الراكبين، والإخاذة تروي العشرة والإخاذة لو نزل بها أهل
الأرض جميعاً لأصدرتهم» ، وكان عبد الله من هذه الإخاذ، يعني عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه، أي من تلك الإخاذ التي تروي أهل الأرض جميعاً لو نزلوا
بها، وقال أيضاً: شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى
إلى ستة: علي وابن مسعود وعمر وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي بن كعب، ثم
وجدت علم هؤلاء الستة انتهى إلى اثنين: إلى علي وعبد الله بن مسعود «فالفقه
درجات والله سبحانه وتعالى يؤتي الحكمة من يشاء.
والمقصود من هذه المقدمة حث شباب الصحوة على العناية بالفقه في الدين،
فإن الفقه هو الواجب وما عداه من العلوم أكثره نافلة.
حقيقة الفقه:
الفقه في الدين بنوعيه فقه العقيدة وفقه الأحكام هذا هو الواجب وما عداه من
العلوم أكثره نافلة. قال تعالى: [فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون] [سورة التوبة: 122] ، فهذه
الآية دلت على مسألتين أولاهما: أن الناس جميعاً بأمس الحاجة إلى الفقه لقوله
(لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، فإذاً كل قوم هم بأمس الحاجة إلى فقهاء في الدين
يبينون لهم وينذرونهم، والأخرى: أنه ينبغي أو يجب أن يَنْتَدب أناسٌ أنفسهم، أو
يُنْتَدَبُونَ للتفقه في الدين وبقصد أن يعلّموا غيرهم (لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ،
فالتفقه بقصد تعليم الآخرين واجب كفائي بدليل أول الآية وهو قوله تعالى: [وما
كان المؤمنون لينفروا كافة] ، فالتفقه بذلك القصد واجب كفائي، أما التفقه بقصد
معرفة الأحكام للامتثال فهذا واجب عيني على كل مسلم بقدر طاقته ووسعه.
وقفة مع ظاهرة جديدة:
أقول هذا ونحن نشاهد أبناء الصحوة المباركة قد انشغلوا عن الفقه بعلوم
الصناعة الحديثية، من مصطلح وأسانيد وتخريج وعلم رجال ونحو ذلك، ولا شك
أن علم الصناعة الحديثية علم شريف جليل الشأن والمقدار، ولكنه من علوم
الخواص ليس الخواص بالمعني الصوفي حاشا وكلا التي لا يشتغل بها العوام ولا
صغار طلبة العلم ولا المبتدئون، فإذا اشتغلوا بها عن الفقه فإنهم في الغالب يَضلّون
ويُضلون، فلابد من التفقه قبل ذلك، وبخاصة أنه واجب قبل الاشتغال بمثل هذه
العلوم على شرفها وقدرها، وهذا ليس تقليلاً من قيمتها أبداً لكنني أشفق على
المبتدئين من تبعتها، فالأمور مرتبة والواجبات مرتبة، فالفقه أولاً في العقيدة وفي
الأحكام الشرعية، ومن نتائج الخوض في غير الأولويات أننا نشاهد نوعاً من
الفوضى الفكرية تتخلل هذه الصحوة المباركة، وإن كانت لن تؤثر فيها إن شاء الله.
نشاهد مثلاً أقواماً وإن كانوا قلة اشتغلوا بالجرح والتعديل لا لنصرة الدين ولا
للذب عن السنة النبوية، وإنما لزرع الشقاق بين أبناء العقيدة الواحدة.
ونرى أقواماً حملوا أختاماً يختمون بها على ظهور المسلمين ولا يتورعون في
إصدار الأحكام مع قلة بضاعتهم، وغلبة الأهواء عليهم.
نعود إلى مقصودنا وهو الفقه، فمقصودنا بالفقه اليوم تحت هذا العنوان
المذكور سلفاً، هو ما قاله العلماء في تعريفه أنه:» الأحكام الشرعية العملية
المكتسبة من أدلتها التفصيلية «، أي فقه الأحكام.
والمراد بالأدلة التفصيلية كما يعرف غالب المتفقهين: الكتاب والسنة فهما
المصدران الأساسيان، ويلحق بهما الإجماع والقياس فإن لهما قوة إثبات الأحكام
باعتبار أنهما يستندان إلى دلالات المصدرين الأساسيين: الكتاب والسنة، ثم يأتي
بعد ذلك الاجتهاد، والاجتهاد أوسع مدلولاً من القياس فإنه قد ينحل إلى قياس سواء
أكان جلياً أو خفياً، أو ينحل إلى غير ذلك من أنواع الأدلة المعروفة عند العلماء
كالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع ونحو ذلك، وهذه الأنواع وإن كانت لم
تعرف بهذه المسميات في جيل الصحابة لكنها مقتبسة ومستنبطة من فتاويهم
واجتهاداتهم، فمعانيها متشبعة بها عقولهم مغروسة في نفوسهم وملموسة من فتاويهم
رضوان الله عليهم أجمعين.
مسألة مهمة حول الاجتهاد:
ولأن نصوص الكتاب والسنة محدودة والنوازل والوقائع والحوادث غير
محدودة، فمن هنا تأتي أهمية الاجتهاد.
وهنا مسألة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الاجتهاد في حقيقة الأمر ليس
تشريعاً، بمعنى أنه ليس منشئاً للحكم، لكنه مظهر له، فالاجتهاد فهم لنصوص
الكتاب والسنة، أو إظهار لحكم مسألة لم يجد فيها المجتهد نصاً فيجتهد في استخراج
الحكم الشرعي لها بفهم نصوص المصدرين الأساسيين ولذلك كما سيأتي فإنه مقيد
بأن يكون ضمن القواعد الكلية والأصول والضوابط الشرعية المستنبطة من الكتاب
والسنة، وأن يكون بواسطة إحدى دلالات الكتاب أو السنة المعتبرة لدى العلماء،
وذلك الاجتهاد حث عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه والأمة من بعده،
بل ودرب أصحابه عليه، وأشرف عليهم مصوباً ومقوماً، فمثلاً قال -صلى الله
عليه وسلم- لمعاذ بن جبل وهو واحد من أشهر وأفقه أصحاب رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- لما أرسله إلى اليمن، (قال له: ماذا تصنع إن عرض لك قضاء؟
قال معاذ: أحكم بما في كتاب الله، فقال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال أحكم بما
في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟
قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال معاذ: فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في صدري بيده وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله
ورسوله) ، وقد تكلم بعضهم في سند هذا الحديث من جهة الجهالة في بعض
أصحاب معاذ، ولكنها جهالة لا تضر، فقد روي موصولاً من طرق أخرى ومن
أراد التفصيل فليراجع» أعلام الموقعين « [*] .
وهكذا سن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وللأمة من بعده منهج
الاجتهاد، بل درّب أصحابه على الاجتهاد وأشرف عليهم، وقد اجتهدوا مثلاً بين
يديه في فهم أمره صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني
قريظة) [4] في غزوة بني قريظة، وكان اختلافهم مؤثراً فبعضهم صلاها في وقتها
في الطريق وبعضهم أخرها وصلاها في بني قريظة ولم يكن اختلافهم في هذا الأمر
لفظياً كما يقال في بعض الاختلافات، ومع ذلك سكت النبي -صلى الله عليه وسلم-
عن الفريقين، ولم ينكر على أي منهما، فقلنا بذلك: إن من أدب الاختلاف أن لا
ينكر أحد المجتهدين على صاحبه إذا كان النص محتملاً لفهمين، نعم قد يكون أحد
الفهمين أرجح أو أصوب، ومع ذلك مادام ظاهر النص يحتمل الوجهين، فلا يجوز
أن ينكر أحد المجتهدين على صاحبه، لكن عندما يشتط الفهم بمجتهد إلى فهم بعيد
عن النص، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوب له فهمه، وقد يلومه
بأسلوب لطيف كما حدث مع عدي بن حاتم رضي الله عنه لما وضع خيطين أسود
وأبيض تحت وسادته يفسر بذلك قول الله عز وجل: [وكلوا واشربوا حتى يتبين
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر] [سورة البقرة: 187] ، فقال له
النبي:» إن وسادك إذاً لعريض) [5] .
فالاجتهاد إذاً مهم جداً، وعظيم الأثر في حياة الناس، وعظيم الأثر في بيان
الأحكام الشرعية، لكنه يحتاج إلى ذكاء وإلى قريحة فقهية قوية، وإلى فراسة وإلى
فهم للواقع وإدراك للوقائع.. فمن لم يفهم الواقع ولم يدرك الوقائع وإن فهم الحكم قد
يعجز عن التطبيق، فالفقه في حقيقة الأمر في مجال الأحكام الشرعية فقه للحكم
الشرعي وفقه للتطبيق، وكان من أفقه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في التطبيق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله
عنهم أجمعين، هؤلاء كانوا أفقه وأبرز الصحابة في الفقه بعامة وفي فقه التطبيق
بخاصة.
هذا هو فقه التطبيق:
وحتى نفهم فقه التطبيق إليكم هذه الواقعة، التي هي من أوضح الأمثلة على
فقه التطبيق، واقعة تسمى واقعة (زبية الأسد) ، وقعت لعلي بن أبي طالب رضي
الله عنه لما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن: روى الإمام أحمد في
مسنده [6] عن حنش بن المعتمر قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنوا «زبية» للأسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ
سقط رجل، فتعلق بآخر، ثم تعلق رجل بآخر، حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم
الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحهم كلهم، فقاموا، أولياء
الأول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي على تفيئة ذلك، فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حي؟ ! إني أقضي بينكم
قضاء إن رضيتم فهو القضاء وإلا حجز بعضكم عن بعض حتى تأتوا النبي -صلى
الله عليه وسلم- فيكون هو الذي يقضي بينكم فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا
من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية وثلث الدية ونصف الدية والدية كاملة، للأول
الربع، لأنه هلك من فوقه وللثاني ثلث الدية، وللثالث نصف الدية، فأبوا أن
يرضوا، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه
القصة، فقال: أنا أقضي بينكم، واحتبى فقال رجل من القوم: إن علياً قضى فينا، فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد حكم علي
رضي الله عنه في تلك النازلة بفقه عجيب دقيق: للأول ربع الدية؛ لأن ديته حسم
منها دية الثلاثة الذين تسبب في قتلهم لأنه لما تعلق برجل وتعلق الرجل برجل
وتعلق ذاك برجل، وقع الثلاثة بسببه في الحفرة فحسم من ديته نصيب الثلاثة وبقي
له الربع، والثاني تسبب في قتل اثنين فبقي له الثلث والثالث تسبب في قتل واحد
فبقي من ديته النصف، والرابع لم يتسبب في قتل أحد فاستحق الديّة كاملة.
هل هناك مثال أوضح من هذا المثال في فقه التطبيق على أهمية معرفة
الوقائع ومعرفة الواقع حتى ينجح المجتهد في التطبيق؟ !
ولما تعلم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الفقه في مدرسة النبوة بإشراف
النبي -صلى الله عليه وسلم-، واجهوا النوازل والحوادث والواقعات المستجدة
بعقلية فقهية راقية وممتازة تدل ليس فقط على علم بكتاب الله عز وجل وسنة
النبيص وعلم بأحكام الشريعة فحسب، بل تدل على بصر نافذ وبصيرة ممتازة
بواقع الحياة الذي كانوا يعيشونه، وبحقيقة الوقائع التي كانوا يواجهونها فبصرهم
في ذلك بصر نافذ وبصيرتهم صحيحة، ولذلك برعوا رضوان الله عليهم أجمعين
في فقه التطبيق مؤسساً على معرفة الواقع وكيف يطبق الفقه عليه، وإدراك لحقيقة
الوقائع وكيف يستخرج الحكم لها.
فقه الصحابة ومعرفتهم بالواقع:
قبل أن أسوق بعض الأمثلة من فقه الصحابة بالوقائع والنازلات التي استجدت
عندهم، أمهد بهذه الحقيقة وهي أن الفقه مرتبط بالحياة بل الشريعة نفسها مرتبطة
بالحياة، لأننا في هذا الصدد وفي هذا المجال أمام أمرين: أمام شريعة منزلة وأمام
فقه يمثل فهم العلماء والمجتهدين لهذه الشريعة، وكلاهما يكونان ثروة من الأحكام لا
يستغني عنهما أحد أبدا، فالفقه مرتبط بالحياة. الحياة يجب أن ترتبط بالفقه ولا
يزدهر الفقه إلا إذا كان مرتبطاً بالحياة، كما أن الحياة لا تزدهر إلا إذا كانت تحت
سلطة الفقه والفقهاء، فأما إذا كان هناك خصام نكد بينهما فإنهما يفقدان الازدهار،
فالفقه يصيبه الشلل وقد يموت كما حصل في عصور الجمود والانحطاط، والحياة
يصيبها الفساد، والمجتمع قد ينهار بل ينهار فعلاً ويتفكك، فالارتباط بين الفقه
وبين الحياة ارتباط وثيق ... ثم حقيقة أخرى: وهي أن الفقه الإسلامي لا يؤتي
ثمرته المرجوة إلا إذا كانت جوانب الحياة كلها مرتبطة به خاضعة لسلطته. في أي
مجتمع إذا كانت هناك جوانب من الحياة أو بعض مرافق المجتمع خرجت عن
سلطة الفقه، فإن الفقه لا يؤتي ثمرته المرجوة، كما هو الحال اليوم في أكثر
مجتمعات المسلمين، إذ أن هناك جوانب من الحياة لا تخضع للفقه وبخاصة الجانب
السياسي، والإعلامي وفي بعض المجتمعات لا يخضع التعليم أيضاً للفقه، فإذا
خرجت مثل هذه الجوانب الأساسية في المجتمع عن سلطة الفقه يفسد المجتمع،
ولكن الحقيقة الأخرى أن الفقه أيضاً ينقص ولا يؤتي ثمرته المرجوة لأن الفقه لا
يزدهر إلا بالتطبيق.
الفقه ليس نظريات فقط:
والفقه الإسلامي ليس مجرد نظريات ميتة في الكتب فقط كنظريات الفلاسفة،
بل هو فقه للحياة لأن الشريعة التي أنزلها الله عز وجل أنزلها قانوناً للحياة، فالفقه
يواكب الحياة دائما مرتبطاً بحركتها، ويزدهر بهذا الارتباط يزدهر على أيدي
القضاة وأيدي المفتين وأيدي المجتهدين الذين يتقون الله عز وجل في بيان الأحكام،
من أراد أن يتلمس أمثلة لهذا الازدهار في الكتب فليقرأ كتب النوازل وكتب
الواقعات وكتب الفتاوى، فعندما تقرأ مختصرالفتاوى أو مجموعها لشيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله لو قدر لك أن تقرأ هذا المجموع كله فإنك تقرأ حياة كاملة بكل
نواحيها السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية ... بل حتى الجغرافية،
ففي بعض الأجزاء جغرف شيخ الإسلام ابن تيمية المناطق السياسية للعالم الإسلامي
في وقته، ما رأيت أعجب من كتابته تلك في تصوير حالة العالم الإسلامي من
الناحية العقدية والسياسية والاجتماعية في عصره: بين حال العراق وحال الشام
وحال الحجاز، وغير ذلك من الأقطار. فهذا كتاب من الكتب إذا قرأته ترى كيف
يرتبط الفقه بالحياة، كيف يواكب الفقه الحياة، وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم
كان الفقه مرتبطاً بالحياة بالواقع لو سميناه فقهاً واقعياً أو فقه الواقع بهذا المعنى،
لصحت هذه التسمية، ما كان الفقهاء يفترضون مسألة من المسائل أبداً بل كانت
الواقعة تقع، والنازلة تنزل فيسألون فتصدر الفتوى وإذا لم يجدوا نصاً في النازلة
اجتهدوا في استخراج الحكم لها، وربما كان الاجتهاد جماعياً.
وللحديث بقية ...
__________
(*) انظر أعلام الموقعين، ج1، ص154، تحقيق محمد عبد السلام إبراهيم.
(1) البخاري، كتاب العلم، ج1، ص26، ح 15.
(2) البخاري، كتاب العلم، ج1، ص 25، ح10، 13.
(3) أبو داود، كتاب العلم، ج2، ص 696؛ صحيح أبي داود، السلسلة الصحيحة، ح404.
(4) البخاري، كتاب المغازي، ج7، ص 471، ح/4119.
(5) البخاري، كتاب التفسير؛ مسلم، كتاب الصيام.
(6) مسند أحمد، تحقيق أحمد شاكر، ج1، حديث 573.(77/8)
مقال
من عوارض الإخلاص:
عبادة الذات
هيثم الحداد
إن من أشد الأمراض فتكاً بالأفراد والجماعات المسلمة، انعدام الإخلاص،
بل يمكننا أن نقول: إنه سبب رئيس لتأخر النصر والتمكين، وإنه السبب الرئيس
كذلك لتفرق المسلمين وبعدهم عن الألفة والمحبة ووحدة الكلمة التي هي من أهم
مقاصد الشريعة الإسلامية.
ذلك أن عدم الإخلاص نوع من أنواع الشرك، فهو إشراك غير الله مع الله في
نوع من أنواع العبادة، وقد يكون هذا الشريك بشراً كما هو الحال في الرياء، وقد
يكون غير ذلك.
وتكمن الخطورة الشديدة لهذا المرض في عدة أسباب منها:
أن عدم الإخلاص محبط للعمل، فلا يجني العامل من عمله إلا الحسرة
والندامة، قال تعالى: [وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراْ] [1] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش،
ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب) [2] ، فبذلك يخسر الإنسان الخسران
المبين.
كما أن عدم الإخلاص في كثير من الأحيان مرض خفي، بل خفي جداً:
(إياكم وشرك السرائر، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر
الرجل إليه، فذلك شرك السرائر) [3] ، وصاحبه قد لا يتفطن إلى أنه مصاب به،
بل إن صاحبه يظن أنه يحسن صنعاً، وهو من الأخسرين أعمالاً.
ومن أظهر عوارض الإخلاص وأشهرها الرياء الذي يمكن أن نُعرّفه: بأنه
العمل لأجل البشر، وهناك عارض آخر يطرأ على الإخلاص لا يقل خطورة عن
سابقه وربما يكون قسيماً له لكن قل من يتفطن له وهو عبادة النفس بأن يعمل العامل
العمل لأجل نفسه.
فالمرائي يعمل العمل لأجل أن يقول عنه الآخرون ما يحب من الثناء
وصاحبنا يعمل لأجل أن يقول هو عن نفسه ... لأجل أن يرضي نفسه، حتى يحقق
الصفة التي يصفه الناس بها.
فهذا الإنسان يأخذ من الليل، ويصوم الهواجر، ويكثر من الصدقة ويحسن
معاملة بعض الناس، ويبذل من وقته وماله الكثير في الدعوة، وقد ترى عليه
مسحة من الزهد متزيناً بالورع لأجل من؟ لأجل أنه فلان ابن فلان الداعية أو
المربي أو الشيخ، لا لأجل الله وحده، ولا لأجل أن يلقى ثواب ذلك عند الله.
قد يكون هذا غريباً لا يمكن تخيله، ولكنه عند التأمل واقع، وواقع وللأسف
بين صفوف بعض المتصدين للدعوة وطائفة من المتعالمين، ولكن كيف يمكن
تشخيص هذا المرض؟
بادىء ذي بدء نقول: إن العلماء يعّرفون الإخلاص بعدة تعاريف منها: أن
يستوي حال الإنسان في الظاهر والباطن، فالمخلص لله وحده يعمل العمل سواء
أرآه الناس أو لم يروه، أكان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن له، أكان له ميزة
معينة أو لم تكن، فليس له توجه إلا لله، وليس له هم إلا الهرب من النار والفوز
بالجنة، فمهما تغيرت الظروف التي حوله فلن يزيد من عمله لأجلها وكذلك لن
ينقص، فالمخلص يعمل الطاعات سواء أكان هو فلاناً المربي أو الشيخ، أو لم يكن
(إن كان في الساقة فهو في الساقة، وإن كان في الحراسة فهو في الحراسة) وهذا
معيار لمن أراد الكشف عن وجود هذا المرض الخفي في نفسه.
ولا يظن ظان أن العمل الدعوي هو المعرض للإصابة بهذا المرض فقط بل
إن كل أعمال الإنسان من دعوة وغيرها معرضة للإصابة بهذا المرض، لأنه يغزو
القلب الذي هو منبع الأعمال وأساسها، فمتى ما أصيب القلب أثر ذلك على جميع
أعمال الإنسان البدنية وغيرها، حتى في عبادته الخاصة من صلاة وصيام وذكر،
فالمصاب بهذا المرض قد يؤدي كثيراً من العبادات، وقد خلى قلبه من نية التعبد
والتقرب إلى الله بها، وحقيقة نيته وأصل دافعه لها أن هذه العبادات من صفات
طالب العلم أو الداعية، فلابد من الإتيان بها لأجل أن تكتمل صورة هذا الداعية أو
طالب العلم أمام نفسه، كمن حصل على منصب ديني، فإنه يبدأ بالإتيان بلوازم
هذا المنصب من عبادات وغيرها، فمن عُيّنَ قاضياً مثلاً لا بد أن تكون هيئته هيئة
طلبة العلم وسيماه سيماء العلماء، فإن أتى ببعض السنن بناء على ذلك فإن دافعه
ربما كان لتحقيق لوازم هذا المنصب لا نية التقرب إلى الله بتلك السنن.
قد يقول قائل إن ما تتحدث عنه أمر لا يكاد يعرف، بل قد لا يظهر لكل أحد، فعلاجه من الصعوبة بمكان، فلا داعي للدخول في هذه التفاصيل ولنأخذ الأمر
بكل يسر وسهولة.
وجواباً على ذلك يقال: موضوع النيات موضوع خطير جداً، إذ هو أساس
قبول الأعمال وردها، فهو أساس الفوز أو الخسران المبين، أي أنه طريق الجنة
أو النار، والجميع مقرون بأن أمره شاق، بل شاق جداً، وكما قال سفيان الثوري:
«ما عالجت شيئاً أشد من نيتي فإنها تتقلب علي» ، وعن يوسف بن أسباط أنه
قال: «تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد» [4] . وقد
نقل عن بعض العلماء أنه قال: وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا
أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا،
فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك [5] .
وقد تكلم الأستاذ «عبد الجليل حسن» عن هذا المرض في لمحاته التربوية
من السيرة النبوية، وأجد من نسبة الفضل لأهله أن أقتطف من كلامه ما يناسب
الموضوع وإن طال لأنه أجاد فيه وأفاد.
يقول: «ولمحتنا التربوية التي نشتمها من هنا هي التفرقة بين عبادة الله
وحده الذي لا شريك له، وبين عبادة أنا، التفرقة بين الحق الذي لا مرية فيه سواء
أكان هذا الحق الذي أتى على يدي أو على يد غيري، سواء أكنت أنا فيه أو كان
غيري، وبين الحق الزائف الذي يكون فيه أنا وأنا فقط، فإن كان غيري فهي الردة
والنكوص والهلاك والخسران، إنها التفرقة بين عبادة الله وعبادة أنا، أو بين عبادة
الله وعبادة النفس من دون الله.
إن كثيراً جداً ممن ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية اليوم يتعاملون مع الدعوة
ورجالها بمنطق أبي عامر [6] ، فهو لا ينشط في دعوته إلا إذا كان هو صاحب
الإمارة وصاحب المنزلة، صاحب التوجيه، صاحب المقام في قلوب الخلق هو
القائل، وهو المتحدث، هو القائد ... المهم أن يكون هو وهو فقط، فإذا كان الأمر
كذلك كان النشاط والحركة، والدعوة والهمة العالية، العمل الدائب وربما يغلف كل
ما سبق من عمل وحركة بشيء من التواضع، والزهد الزائفين فإذا اهتزت في
نفس هذا النمط من الدعاة (أنا) فوجد نفسه نزل من موضع إلى موضع، أو سبقه
من هو دونه، أو لم يحز ما ترنو إليه نفسه، انقلبت الأمور وهدأت الحركة،
وانطفأت شعلة النشاط، وبردت جذوة الأمل، وانكفأ إلى بيته، وعلى أحسن
الأحوال أخذ إجازة من الدعوة، تنم عن غضب ومشاحنة ينطوي عليها الصدر،
وقد يسوء الحال عن ذلك، فتكون الردة والنكوص عن الطريق كله، بحجة أن
الجماعة قد انحرفت عن خطها الصحيح، وهو لا يرضى هذا الانحراف، ثم يبدأ
البحث كما يزعم عن طريق آخر فيه أنا وأنا فقط» .
«أخي الحبيب: إن لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة،
فلابد لنا من وقفة صادقة مع النفس لتتوجه من جديد إلى الله، إلى الله وحده لا
شريك له، إنه صفاء الابتداء، فمن خانه ذلك وكان في النفس شيء فليبدأ من جديد، بتوبة صادقة، ونية صادقة، على ألا يكون في القلب والنفس إلا الله وحده لا
شريك له، إن كل ما سوى الله من غايات إنما هي أقذار وأوحال وعفن وعطب
يصيب القلوب فَتَهْلَك وتُهْلكْ، فيبعد النصر ويطول الطريق، فمن كان يريد السير
إلى الله عز وجل في دعوته المباركة فلا يتطلع إلى شيء، ولا يعمل بشرط أن
يكون كذا وكذا، ولا ينظر إلى تقدم أو تأخر ولا يرسم لهدف في النفس لا يعلمه إلا
الله» .
( «إن السعادة والسداد والفوز في الدارين، والتقدم والفلاح إنما هما في
توجه النية دائماً إلى الله وحده لا شريك له، دونما التفات إلى ما سواه، ولو كنت
ذَنَباً في الحق وأنت على ذلك خير لك من كونك أميراً مطاعاً ورأساً مرموقاً وأنت
على غير ذلك [كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون] [7] » ) [8] .
إذاً فمن أنجع أساليب علاج هذا المرض والكشف عن الإصابة به المحاسبة
والمراقبة الدائمتين، ليسأل الإنسان نفسه دائماً، ويفتش عن حقيقة دافعه للعمل أي
عمل ولا يتسامح أو يتساهل مع نفسه، وبخاصة في أمر النية والباعث على العمل، إذ مدار الثواب والعقاب على صلاح النية وفسادها وليعلم أن معالجة أمر النية من
أصعب وأدق الأمور كما تقدم.
لكن هنا ينبغي لنا أن ننبه على أمر قد يقع خلط بينه وبين ما نحن بصدده فقد
يفعل الإنسان أموراً لا يفعلها إلا لأجل أن الناس يقتدون به، ولو لم يكن في موضع
القدوة لم يفعلها، وهذا أكثر ما يكون في باب التروك، وقد تحدث العلماء عن هذا
فرغبوا لمن يقتدى به أن يترك بعض الأمور خشية أن يعتقد الناس فيها ما ليس
بصحيح.
وما نحن فيه ليس من هذا الباب وإن كان الفرق بينهما دقيقاً، فمن يقتدى به،
إذا فعل أو ترك أمراً كي يقتدي به الناس فعلاً أو تركاً إنما يفعل ذلك حتى لا يكون
هو سبباً لوقوع الناس في الحرام، أو سبباً لترك الناس المستحب أو الواجب فيعاقبه
الله على ذلك كما يعاقب فاعل المحرم، إذ الوسائل لها أحكام الغايات.
فالغاية النهائية لمثل هذا هي الدلالة على الخير لأنه سبب لمرضاة الله ونيل
ثوابه، والتحذير من الشر، لأنه من أسباب سخطه ونيل عقابه.
لكن صاحبنا الذي سبق الكلام عنه هنا لم ينظر إلى الآخرة، ولا إلى الثواب
أو العقاب، وإنما غايته النهائية تحقيق منزلته عند الناس.
وكذلك نيته هنا إلى الفرق بين الشعور بالمسؤولية إذا ألقيت على الإنسان ومن
ثم النهوض بأعبائها، وبين هذا الذي نتحدث عنه، فعمر بن عبد العزيز كان غاية
في التنعم والترفه، حتى إذا ولي أمر المسلمين أبدل غاية ما فيه من تنعم وترفه
بغاية الزهد والتقشف، فالفرق كبير، فإن الذي دفع عمر بن عبد العزيز لذلك القيام
بالمسؤولية التي امتحنه الله بها، ذلك أن القيام بها كما أراد الله يستلزم انشغالاً
بمصالح المسلمين عن مصالح نفسه، وورعاً في المال الذي وكله الله عليه، وعبادة
يستعين بها على القيام بأعباء هذا الواجب الثقيل، فمقصده النهائي طلب مرضاة الله
بالنهوض بما أوجبه الله عليه، والقيام به على أتم وجه.
فإذا حُمّل أحد من الناس أعباء أو تكاليف منصب ما، فالواجب أن يبذل غاية
ما في وسعه للقيام بهذا الواجب الذي تحتم عليه، فما من شك أن ما أوجبه الله عز
وجل على من يتحمل أمراً من أمور المسلمين، ليس كما أوجبه على آحاد المسلمين، وعليه فلابد أن يكون عمل ونشاط وحركة الأول أكثر من عمل ونشاط وحركة
الثاني بكثير، إذ لا يتم له القيام بذلك الواجب إلا بهذا الكم من العمل والحركة،
فعلى كليهما أن يقوم بواجباته طلباً لمرضاة الله، وتخلصاً من إثم الإخلال بحقوق
الله وحقوق الناس.
إخواني الدعاة وطلبة العلم: إن أخشى ما أخشاه على أنفسنا أن نأتي يوم
القيامة، وقد أخذ كل مكانه من الجنة بمن فيهم من كنا نظن أنه أقل رتبة منا، ثم لا
نجد مكانا لنا لأننا لم نمهد لهذا المكان بعملنا، ولم يكن الهرب من النار وطلب
مرضاة الله حادينا إلى العمل، بل كانت دوافعنا إما حزبية من باب تكثير الأتباع،
أو من أجل التصدر، أو غير ذلك، فالله الله في أنفسنا وفي قلوبنا ولندعُ الله أن
يجعل همنا في أعمالنا الصالحة التقرب إليه إنه سميع مجيب.
__________
(1) سورة الفرقان: 33.
(2) رواه ابن ماجة، وهو صحيح، صحيح الجامع 3488.
(3) رواه ابن خزيمة في صحيحه.
(4) جامع العلوم والحكم، ص 1009، طبع مصر.
(5) عن مقاصد المكلفين للدكتور عمر الأشقر، ص 5.
(6) أبو عامر هو عبد بن صيفي بن النعمان، وهو والد أبي حنظلة غسيل الملائكة، وكان أبو عامر ترهب في الجاهلية وكان يقال له أبو عامر الراهب لكثرة عبادته، وكان سبب ترهبه أنه سمع بأن زمانه زمان نبي فأراد أن يهيء نفسه للرسالة، لمحات تربوية من السيرة النبوية، ص 8؛ وانظر السيرة النبوية لابن هشام، 584586، طبع مصر.
(7) سورة القصص: 88.
(8) لمحات تربوية من السيرة النبوية، ص 810.(77/18)
دراسات في الدعوة
حتى لا يتوقف عطاء الدعاة
فيصل البعداني
يشاهد المطلع على أحوال الدعاة إلى الله تعالى ممن يعانون من الفقر وقلة
ذات اليد وهم كثر في عالمنا الإسلامي ظاهرة انتكاس بعضهم عن الطريق ووجود
فتور كبير لدى عدد ليس بالقليل منهم.
ونظراً لخطورة هذه الظاهرة على مسيرة العمل الدعوي، وما تدل عليه من
ضعف الثقة بالله عز وجل، وعدم الرضا بالقضاء والقدر، بالإضافة إلى الجهل
بسنن الله عز وجل في المنع والإعطاء ... بادرت مستعيناً بالله تعالى في كتابة هذه
السطور محاولاً إلقاء الضوء عليها، راجياً أن تتضح الرؤية لأولئك فيعود من ضاع
منه الطريق، ويقوى على السير من لبث في مكانه وفتر عزمه ولم يواصل المضي، عسى أن تكون كلماتي عامل تقوية وتثبيت لبعض من تتحرش بهم شياطين الجن
والإنس، وتكاد ضغوط المعاناة وشدة الواقع أن تأتي عليهم، فتقعدهم عن مواصلة
المسيرفي سبيل الدعوة إلى الله.
وسيكون الحديث بالأصالة متجهاً إلى من يعيش الأزمة ويكتوي بنارها كما أن
جزءاً منه سيكون موجهاً لإخوانهم الموسرين الذين يشاطرونهم حمل هم هذا الدين،
وهم على معرفة بأحوالهم وشدة معاناتهم.
من تلك حاله كيف يصنع؟
وبما أن الأمر في ذلك وارد على كل داعية إلى الله، فلابد أن يوطن الداعية
نفسه على الآتي:
1- أن يتذكر أن الله يبتلي عباده بالغنى والفقر، فيوسع على بعضهم في
الرزق، ويهبهم من عظيم خيراته الشيء الكثير؛ لكي يقوموا بواجب الحمد والشكر
له، ويمنع سبحانه بعضهم من تلك السعة، ويقدر عليهم رزقه؛ لكي يقوموا بواجب
الصبر وكمال الرضى، فيوفق للحمد والشكر من الأغنياء فريق، ويتجبر الفريق
الآخر منهم ويطغى كما قال تعالى [كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى]
[العلق: 56] كذلك حال الفقراء حيث يوفق للصبر والتسليم والرضى بالقضاء
طائفة منهم، وتتجه الأخرى إلى التسخط والجزع، بل وربما إلى ممارسة كسب
المال من طرق غير مشروعة.
2- معرفة أن الله عز وجل قد تكفّل برزق الخلائق كما قال تعالى: [وما من
دابة في الأرض إلا على الله رزقها] [هود: 6] ، وما تكفل الله به فلا خوف من
تأخره أو ضياعه وعدم وصوله؛ ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لأصحابه الذين تعرضوا له بالمسألة رجاء التوسعة عليهم: « ... فو الله ما الفقر
أخشى عليكم ... [1] ، وهذا راجع إلى كمال اطمئنانه وعظيم ثقته بموعود ربه،
ويقينه التام بأن ما قدره الله للعبد من رزق فهو آتيه لا محالة.
3- العلم بأن لهذا الابتلاء فوائد جَمة متى استطاع المرء تحقيقها تحول الأمر
في حقه من محنة إلى منحة، ومن نقمة إلى نعمة، ومن تلك الفوائد:
*أن العبد بصبره على الابتلاء ينال ما ذكره تعالى في سورة البقرة في قوله:
[ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر
الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم
صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون] [البقرة: 155-157] .
*أن العبد المبتلى بذلك يتقلب بين مقامات العبودية المختلفة من صبر وتسليم
ورضا وتوكل ورجاء وورع ولجوء وتضرع وسكينة وثقة ... إلى غير ذلك من
المقامات العالية لذلك التي قد يحرمها لو لم يُصَب بذلك.
بالإضافة إلى المقامات الأخرى من حمد وشكر وإحسان إلى الآخرين ... الى
غير ذلك مما يناسب النعم التي أعطيها العبد كنعم الإيمان والصحة والأخلاق الحميدة
والاشتغال بما ينفع في الآخرة ... الخ.
*أن من ابتلي بذلك من الدعاة وصبر يصلب عوده ويقوى ويصبح أكثر قدرة
على الثبات في مواجهة المحن والأزمات [2] ، وبخاصة إذا كان السبب المباشر
لمعاناته من الفقر وقلة ذات اليد تَمَسّكُه بدينه وثباته على دعوته وقيامه بواجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
*أن المصيبة والابتلاء في الدنيا لا في الدين، ومن عرف حقيقة الدنيا والدين
وابتلي وكانت مصيبته في دنياه، عرف أنه قد سلم وعوفي وأن واجبه الشكر
والثناء لا السخط وعدم الرضا [3] .
*أن كل مصيبة سببها المعاصي والذنوب كما قال تعالى: [وما أصابكم من
مصيبة فبما كسبت أيديكم] [الشورى: 30] ، والمصائب والبلايا تُكَفّر الذنوب،
ولولا رحمة الله تعالى بإيقاعها عليه في الدنيا لأجلت عقوبة ما اقترف من ذنوب الى
الآخرة، وعقوبة الآخرة ليست كعقوبة الدنيا مهما عظمت وجلّت، وعند ذلك يجب
في حق العبد الشكر والثناء على الله تعالى.
*أن المصيبة واقعة لا محالة لكونها مكتوبة على العبد، قال صلى الله عليه
وسلم: (وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك) [4] ...
وكونها قد وقعت فقد استراح منها إن انتهت ومن بعضها إن بقيت وهذه نعمة
وتوفيق وفضل من الباري سبحانه [5] .
4- استشعار حقيقة الدنيا والآخرة والنظر في النصوص الكثيرة من قرآن
وسنة التي تزهد في الدنيا، وتخبر بمصيرها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها وشدة
فتنتها من جهة، وتُرغّب في الآخرة وتخبر بشرفها ودوامها ومن ذلك قوله تعالى:
[قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى] [النساء: 77] ، وقوله عز وجل:
[بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى] [الأعلى: 16، 17] ، وقوله
سبحانه: [ما عندكم ينفذ وما عند الله باق] [النحل: 96] ، وقوله صلى الله عليه
وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة
ماء) [6] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم) [7] .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كلام له جميل حول هذا الموضوع:» ...
فإذا أراد الله بعبد خيراً أقام في قلبه شاهداً يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة، ويؤثر
منهما ما هو أولى بالإيثار « [8] .
5- إدراك أن الدنيا لا يقوم عليها ميزان التفاضل في الدار الآخرة، بل ذلك
يقوم على التقوى فمن أكرمه الله وفقه لطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والدعوة
إليه وتحمل الأذى في سبيله، ومن أهانه سلبه ذلك قال يحيى بن معاذ رحمه الله:
» لا يوزن غداً الفقر والغنى وإنما يوزن الصبر والشكر « [9] ، وقال ابن القيم
رحمه الله ناقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية:» ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل
بالتقوى، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة « [10] .
وبالتالي فلا غضاضة على العبد أن يكون فقيراً في هذه الدنيا إذا كان الفقر لا
يعني دناءة المنزلة عند الله عز وجل، بل إن لله أولياء من خلقه شعثاً غبراً
مدفوعين في الأبواب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث مدفوعاً في
الأبواب لو أقسم على الله لأبره) [11] ، وكما قال -صلى الله عليه وسلم- للصحابة
حين مر رجل من أشراف الناس فقالوا: هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن
شفع أن يشفع، ومر رجل من فقراء المسلمين فقالوا هذا حري إن خطب أن لا
ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال صلى الله عليه وسلم
(هذا خير من ملء الأرض من هذا) [12] .
حتى تكون راضياً مطمئناً:
من أجل أن يخفف الداعية عن نفسه القلق الناتج عن المعاناة من قلة ذات اليد، وينقلب توتره وضجره إن كان موجوداً إلى هدوء واطمئنان ورضا، عليه التأمل
فيما يأتي:
*النظر في حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في سيرته»
حيث توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير « [13] ، وكان
ص» يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه « [14] ، وتوفي ص»
وما شبع ثلاثة أيام تباعاً من خبز حنطة « [15] ،» وكانت تمر عليه ثلاثة أهلّة
في شهرين دون أن يوقد في بيته نار، إنما طعامهم الأسودان التمر والماء « [16] ، وكان -صلى الله عليه وسلم- يأكل ومن معه في صدر الإسلام ورق الشجر كما
قال عتبة بن غزوان: (لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ما طعامنا إلا ورق الحُبْلَة حتى قرحت أشداقنا) [17] ، إلى غير ذلك من
الصور الكثيرة التي نقلها لنا مَنْ دَوّنَ سيرته -صلى الله عليه وسلم- وسير صحابته
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، على الداعية الحق أن ينظر في ذلك، ويتذكر
أنه ليس الوحيد الذي يسير في قافلة الدعوة، ويعاني من قلة ذات اليد، فهذا
قائدها - صلى الله عليه وسلم - وكبار أعلامها قد عانوا ما يعاني وله بهم أسوة كما قال تعالى: [لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراْ] [الأحزاب: 21] .
*عليه أن ينظر إلى من حوله من إخوانه، الذين هم أكثر فاقة وأشد معاناة
ويرى عظم مصيبتهم وضخامة حاجتهم، فيواسي نفسه بمقارنة مصيبته بمصيبتهم،
وخفة حاجته عند عظيم فاقتهم، فيحمد الله على التخفيف والرحمة بأن لم يبتله كما
ابتلاهم، ولم يمتحنه كما امتحنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نظر
أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل
عليه) وفي رواية (فهو أجدر ألا تزدروا نعمة من الله عليكم) [18] .
*وعليه أن ينظر إلى نفسه بشمول في وقته السابق واللاحق، وسيجد عند
ذلك عظم نعم الله تعالى عليه في سائر أحواله الماضية والحاضرة، وأن الله عز
وجل إن كان قد منعه في وقت فقد أعطاه في أوقات، وإن كان قد حرمه في جانب
فقد منحه الشيء الكثير في جوانب إخرى، وعليه أن يقوم بتعداد نعم الله، وسيجد
أن لا قدرة له على حصرها وتقصيها ليعلم عند ذلك مدى كفرانه بنعم الله، وجحوده
بها من جهة، وواسع رحمة الله ولطفه وعظم تجاوزه عنه ومغفرته من جهة أخرى، ... قال تعالى: [وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار]
[ابراهيم: 34] وقال عز وجل: [وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم] [النحل: 18] ، مع أنه ليس للعبد من ذاته في الحقيقة سوى العدم وكل ما فيه وله من خير فهو محض جود الله تعالى وإحسانه.
*عليه التأمل في حال أصحاب الأموال الذين لم يرد الله لهم خيراً، وجعل ما
آتاهم من رزق سبب شقاوتهم في الدنيا، فلا هم يهنأون بعيش ولا يشعرون
بطمأنينة واستقرار أو بسكينة وهدوء بال، بل قد يُودي ببعضهم إلى قتل النفس
والانتحار، وسبب شقاوة بعضهم في الآخرة حيث قادهم إلى الكفر بالله والجحود،
وبالتالي قادهم إلى النار كقارون الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء
بالعصبة أولي القوة، فطغى وتجبر وجحد وقال إنما أوتيته على علم عندي، فكانت
عاقبته كما قال تعالى [فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من
دون الله وما كان من المنتصرين] [القصص: 81] .
7- العلم بأن الفقر بلاء عام بين الخلق يبلتي به الله تعالى من شاء من عباده
الدعاة وغيرهم ولا علاقة لوجوده بالاشتغال بالدعوة إلى الله تعالى والقيام بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي فإن التذرع عن ترك الاشتغال بالدعوة
وحمل هم هذا الدين بطلب الرزق والسعي إلى كسب المال خطأ فاحش إذ لا علاقة
لهذا العمل الجليل بوجود الفقر، بل إن الأمر على العكس من ذلك، فإن القيام
بطاعة الله تعالى وتقواه من خلال نشر هذا الدين بين الناس ومحاربة الكفر والبدع
والمعاصي في الأمة، من أعظم أسباب جلب الرزق كما قال تعالى: [ومن يتق
الله يجعل له مخرجاْ * ويرزقه من حيث لا يحتسب] [الطلاق: 23] .
مع أن تارك السير في قافلة الدعوة لأجل ذلك أضاف إلى معاناته من الفقر
وعدم سلوك الأسباب الجالبة للرزق حرمان نفسه من الأجر والثواب عند الله تعالى
وما عنده خير وأبقى وقيامه بتعريضها للعقوبة لعدم قيامه بزكاة العلم الذي آتاه الله
إياه، وتتمثل بنشره بين الناس وتعليمهم إياه.
8- أن يعلم أن الخير له فيما اختاره الله عز وجل، وأن الفقر قد يكون هو
الخير له لأن من عباد الله أناساً من لو أغناهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان
والكفر بالرحمن والتجبر على الخلان أشراً منهم وبطراً، كما قال تعالى: [ولو
بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير
بصير] [الشورى: 27] ، قال العلامة ابن سعدي مفسراً لهذه الآية: [ولو
بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض] أي لغفلوا عن طاعته وأقبلوا على
التمتع بشهوات الدنيا، فأوجبت لهم الانكباب على ما تشتهيه نفوسهم ولو كان
معصية وظلماً» ولكن ينزل بقدر ما يشاء «بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته» إنه
بعباده خبير بصير «، كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول:» إن من عبادي
من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح
إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ... «) [19] .
9- الحذر من القيام بالتعرض للآخرين للحاجة والتنبه إلى عدم طرق أبواب
المسألة، والعلم بأن ذلك وإن جاز لأناس رخص لهم الشارع بذلك، فإنه مما لا
ينبغي للدعاة سلوكه بحال لأن سبيلهم التعفف والتجمل وعدم إظهار الشكوى والفقر،
بل ستره وكتمانه اتصافاً بقوله تعالى: [يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف]
[البقرة: 273] ، ورجاء تحقيق الامتثال لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن
يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله) [20] .
10- ليعلم الداعية الذي هذا حاله أن ما سبق بيانه ليست بدعوة إلى ترك
العمل، وتعطيل أسباب تحصيل الرزق، فإن ذلك في الحقيقة نقص في العقل
وجهل بالشرع ومخالفة له، كما قال تعالى آمراً بالأخذ بالأسباب مع عدم الركون
إليها: [فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه] [الملك: 15] .
بل إن تعريض الإنسان نفسه للفقر حتى يضطر إلى الآخرين مع قدرته على
الكسب غير اقتراف الإثم له آفات ومفاسد كثيرة منها:
*تعلق القلب بما يقيم أوده ويعيشه وما هو محتاج إليه في هذه الدنيا، فيبقى
في تفكير عميق ومجاهدة شديدة مع نفسه لترك حظه منها وهذا من قلة الفقه وعدم
الرشد، والعاقل في تعامله مع نفسه من يقوم بإعطائها حقها ويطالبها بما عليها،
وهذه هي طريقة وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في قول سلمان
الفارسي لأبي الدرداء والذي صدّقه فيه صلى الله عليه وسلم:» إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً فاعط كل ذي حق حقه « [21] .
وعلى العبد القادر على الكسب أن يستبدل مجاهدته لنفسه في شهوة مباحة
مجاهدته لأعداء الله وشرعه من شياطين الجن والإنس، وأن يقوم بواجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله على بصيرة.
*تطلع النفس إلى ما في أيدي الناس، وتعريضها للحاجة والسؤال إذا مسته
الحاجة إلى المال. ولا شك أن استدامة طلب الرزق الحلال لمن هذه حاله أنفع له
من ترك ذلك.
*مع التسليم جدلاً بأن من هذه حالته سيقطع تعلق قلبه بحاجات نفسه ويقوم
بمنع نفسه من المسألة، فإنه يخشى عليه أن يداخله من الكبر والعجب والزهو
والغرور ما يفسد عليه قلبه ويمرضه إن لم يميته، وتلك والله القاصمة [22] .
كما أن هذه الأسطر ليست دعوة إلى الإعراض عن نعم الله المتيسرة من
الحلال ونبذها وإضاعتها، لأن تلك النعم في نظر الأخيار عوناً على الإيمان والعمل
الصالح، ولكنها نداء إلى استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب، والسعي إلى عدم
تعلقه بها وحرصه عليها واشتغاله بأجمعه بها حتى يصل إلى مرحلة عدم الفرح
بموجود فيها وعدم الأسف على مفقود منها كما قال تعالى: [لكيلا تأسوا على ما
فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم] [الحديد: 23] .
إنها دعوة إلى أن يربي العبد نفسه على غنى النفس، وأن يكبح جماحها ويقوم
بتهذيبها حتى تصل إلى مرحلة القناعة بأنه لن يفوتها شيء من الرزق قسمه الله
تعالى لها في الأزل، وأن يقوم بتوطينها على الرضا باليسير حتى يصل بها إلى
درجة الاستغناء عن الخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وارض بما قسم الله لك
تكن أغنى الناس) [23] .
11- ومع الدعوة إلى طرق أسباب الرزق الحلال من تجارة وزراعة
وصناعة ... الخ، فإنه لابد من التذكير بأن العبد لا ينبغي له ترك ما بيّنَه الشرع
من أمور جالبة للرزق ومنها:
*التقوى كما في قوله تعالى: [ومن يتق الله يجعل له مخرجاْ * ويرزقه من
حيث لا يحتسب] .
*الاستغفار كما في قوله تعالى: [فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراْ *
يرسل السماء عليكم مدراراْ * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم
أنهاراْ] [نوح: 10-12] .
*الإنفاق والصدقة كما في قوله تعالى: [وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو
خير الرازقين] [سبأ: 39] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من
مال) [24] ، وقوله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم أنفق أنفق عليك) (43) .
*الشكر للنعم وعدم كفرانها كما قال تعالى: [لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن
كفرتم إن عذابي لشديد] [ابراهيم: 7] .
*الاستغناء عن الخلق والتعفف عما في أيديهم كما في قوله صلى الله عليه
وسلم: (ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله) [20] .
*صلة الرحم كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه
وينسأ له في عمره فليصل رحمه» [25] .
*الدعاء كما قال تعالى: [وقال ربكم ادعوني أستجب لكم] [غافر: 60] ،
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) [26] .
نداء إلى الأغنياء:
1- لابد للأغنياء من إدراك خطورة الفقر حيث إنه كما قيل قرين الكفر، وأن
خطورته تزداد على الدعاة إلى الله عز وجل، والعلم بأنه من شدة خطورته كان -
صلى الله عليه وسلم- يدعو الله تعالى بأن يغنيه منه ويستعيذ بالله من فتنته كما في
قوله -صلى الله عليه وسلم- (اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) [27] ، وقوله:
(اللهم فإني أعوذ بك ... ومن شر فتنة الفقر) [28] .
ولذا كان لابد لمن يسر الله تعالى عليه من الدعاة وكذلك الموسرين الصالحين
أن يتفقدوا حال إخوانهم فإن لهم عليهم حقاً، وما لم يصل الأمر إلى ذلك فإن الأخوة
لن تنعقد في الحقيقة والموجود منها مجرد مخالطة ليس إلا، لا حقيقة لها في العقل
والدين [29] ، وليعلم الموسرون بأن لهم بالأنصار من صحابة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة حيث واسوا إخوانهم من المهاجرين وقاسموهم
الأموال.
2- وأن يتذكروا أيضاً ما جاء من نصوص في الأمر بالإنفاق وبيان فضله
والتحذير من عدمه، ومن ذلك قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون]
[البقرة: 254] ، وقوله سبحانه: [الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون
ما أنفقوا مَنَّاً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون]
[البقرة: 262] ، وقوله عز وجل: [وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقوا إلا
ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون] [البقرة: 272] ،
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من
مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟) [30] ، وفي
رواية (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس) [31] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيراً فنفخ فيه يمينه وشماله
وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيراً) [32] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما
تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن
كانت تمرة فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فُلوَه
أو فصيله) [33] .
ولا شك أن الصدقة على الإخوان أفضل من الصدقة على الفقراء كما قال علي
رضي الله عنه «لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله أحب إليّ من أن أتصدق مئة
درهم على المساكين» [34] .
3 -ولا يكفي تفقد الإخوان والإنفاق على المحتاج منهم فحسب، بل لابد من
سلوك أفضل السبل لإيصال ذلك إليهم بما يحفظ لهم ماء وجوههم ويصونهم من الذل
والمهانة أمام إخوانهم المنفقين، وبما يمنع من تسليط الآخرين ألسنتهم الحداد عليهم
أو غيبتهم أو سوء الظن بهم، وبما لا يساعد المعوزين على ترك الحياء أو التشجع
على طرق أبواب المسألة والخروج عن هيئة التعفف والاستغناء عن الآخرين.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) البخاري مع الفتح 7/371 ج 4015.
(2) انظر الظلال 1/145.
(3) انظر موعظة المؤمنين 2/336.
(4) المسند 5/185 وصححه األباني في رياض الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم 1/109.
(5) انظر موعظة المؤمنين 2/336.
(6) الترمذي 4/560 ح 2320 وصححه الألباني في صحيح الجامع 5292.
(7) الترمذي 4/561 ح 2322 وحسنه الألباني في صحيح الجامع 3414.
(8) تهذيب مدارج السالكين 283.
(9) المصدر السابق 271.
(10) المصدر نفسه.
(11) مسلم 4/2024 ح 2622.
(12) البخاري مع الفتح 11/278 ح 6447.
(13) البخاري مع الفتح 6/116 ح 2916.
(14) مسلم 4/2285 ح 2978.
(15) مسلم 4/2284 ح 2976.
(16) مسلم 4/2283 ح 2976.
(17) مسلم 4/2279 ح 2972.
(18) مسلم 4/2275 ح 2963.
(19) تفسير العلامة ابن سعدي 6/616.
(20) البخاري مع الفتح 3/345 ح 1427.
(21) البخاري مع الفتح 4/236 ح 1968.
(22) انظر تهذيب مدارج السالكين 472، 473.
(23) المسند تحقيق الشيخ أحمد شاكر 15/228 ح 8081 وقال المحقق في إسناده ضعف ولكن يكون صحيحاً بغيره.
(24) مسلم 4/2001 ح 2588.
(25) البخاري مع الفتح 10/429، ح 5986.
(26) الترمذي 4/448 ح 2139 وصححه الألباني في صحيح الجامع ح 7687.
(27) مسلم 4/2084 ح 2713.
(28) مسلم 4/2078 ح 2705.
(29) انظر موعظة المؤمنين 1/139.
(30) مسلم 4/2273 ح 2958.
(31) مسلم 4/2273 ح 2959.
(32) مسلم 2/688 ح 991.
(33) مسلم 2/702 ح 1014.
(34) موعظة المؤمنين 1/139.(77/25)
خواطر في الدعوة
نشأة أخرى
- 2 -
محمد العبدة
الإيمان الغامر، والتوحيد الخالص، الذي يملأ النفس يقيناً، فلا تتفرق ولا
تتهافت أو تضطرب، هو الذي يرفع المسلم ليكون (صاحب رسالة) ، وهو الذي
يدفعه لاستصغار الأهوال والخطوب، ويعطيه قدرة على الصبر والاحتمال،
ويستكبر على الشهوات، ويعلو على العصبيات، فيكون همه الذي يقيمه ويقعده،
هو انتصار هذا الدين.
المؤمنون حقاً هم الذين دفعوا بالمد الإسلامي الأول قوياً، حتى كاد أن يغطي
المعمور من الأرض، وعاشت أجيال من بعدهم على قوة هذا الدفع عاشت أجيال
بقوة إيمان مثل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الذي لا يعبأ بنفسه وإنما كان
همه الأول هو هذا الدين، ولذلك قبل بإمرة عمرو بن العاص في غزوة (ذات
السلاسل) ؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له: «تطاوعا ولا تختلفا» .
وإيمان خالد بن الوليد هو الذي جعله يقبل بأن يكون تحت إمرة أبي عبيدة بعد
أن كان القائد العام للجيوش الإسلامية في الشام، والحرص على الدعوة ووحدة
الصف هو الذي جعل الصحابي الجليل أبا برزة الأسلمي يتألم من القتال الواقع بين
بني أمية وعبد الله بن الزبير ويقول: «إني أحتسب عند الله أني أصبحت ساخطاً
على أحياء قريش، وإن هذه الدنيا هي التي أفسدت بينكم» .
ونحن والله قد أصبحنا ساخطين على هذا الذي يجري في أفغانستان حيث لم
تراعَ مصلحة المسلمين وسمعة الإسلام، ولم يقبل صلح أو تعاون أو مشورة، وأما
ما يجري من القتال بين المسلمين من القتال بالكتب لا بالكتائب من الذم والثلب
وتصنيف الناس، والولوغ في أعراض الدعاة الصادقين، وما يجري من الشقاق
والبغضاء لأتفه الأسباب، فلا شك أنه من الأهواء والأنانيات.
ما الذي يقضي على آفات النفس، من الحسد والبغي، وحب العلو والرئاسة،
أو الوقوع في سفاسف الأمور وترك معاليها؟ ليس غير الإيمان الذي يملأ الجوانح
هو الذي يقضي على هذه الآفات الإيمان بالله الذي يعلم هذه النزغات، والإيمان
باليوم الآخر، حيث يلاقي الإنسان ربه، وليس غير حب هذا الدين والرغبة في أن
يطبق في الأرض، وأن يهيمن ويعلو، ويستظل الناس بخيره وعدله.
ومن هنا ندرك مدى دلالة وعظمة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( «
إنما الأعمال بالنيات» ) ، فإنه من الجدير بالتأمل أن العمل الذي يقوم من بداياته
على نية صادقة وسنة ماضية، فإنه يكون قوياً مستمراً بإذن الله، وإن كان غير
ذلك فإنه مُنبتٌ يعود لأصله وجذره ولا يبارك فيه، ولهذا قال عالم الأمة عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه: «أنتم أكثر أعمالاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
وهم أفضل منكم ذلك لأنهم كانوا أبر قلوباً ... » ، فالحياة هي حياة القلب، والموت
هو موت القلب: [يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم] .(77/37)
نص شعري
مناجاة.. للعام الجديد
محمد العتيق
صاح في الناس المنادي:
«أيها الناس استفيقوا..
شيعوا العام الطريدْ
واحضنوا العام الجديدْ
واحتسوا من غير لأي خمرة العام السعيدْ
كي تظل النفس سكرى..
في مدى العام المديدْ»
«أيها العابث فينا..
ما نداءاتك إلا صرخة..
في مسمع الوادي السحيقْ»
هكذا.. ردد صمت السامعينْ!
وانبرى صوت المناجي:
أيها العام الجديدْ.. يا ترى ما قد تكون؟
أترى نتلوك سطراً..
في كتاب البؤس من عيش العبيدْ؟
أم ترى نرويك شعراً..
في رثاء العز والمجد التليدْ؟
أيها العام الجديد..
طال عمر لجفاف الريق والأرض هنا
وارتوت من دمعها مليون عينْ
واشتكى الضيم سوادُ الثقلينْ
وارتدى الناس من الإملاق أخفاف حُنينْ
بدل الواحد شدوا محزمين!
ويطول الحزن في مأتمهم..
ويفك الدين دينْ!
أيها العام الجديد
بلغ الأولاد عشراً من سني العمر
في ظل حياة الفقر لا يدرون ما معنى «المطرْ»
قال لي أكبرهم:
حدثتنا أمنا ذات مساءْ
أن شيئاً كان من مهد السماءْ
كان يهمي فوق أجساد البشرْ
وتسميه العبارات «مطر» !
صارت الأمطار ذكرى..
أصبحت محض خبرْ!
أيها العام الجديدْ..
أترى فيك نرى..
نشوة الأطفال من تحت المطرْ؟
وانتشاء الروض من عبق الزهرْ؟
وابتهاج العيد في أحلى الصور؟
في بلادي من جديد!
أترى يوماً يعود..
منتدى الأرواح في عذب السمر..
وحديث الحب في صمت السحر..
في رياض ضاءها نور القمر..
في بلادي من جديد؟ !
واختفى صوت المناجي..
حيث لا ثَمّ سوى همس الظلامْ!(77/39)
دراسات اقتصادية
المشكلة الاقتصادية
وعلاجها من المنظور الإسلامي
- 1 -
د.محمد عبد الله الشباني
تمثل المشكلة الاقتصادية محور الاهتمام لدى علماء الاقتصاد، كما أنها محور
اهتمام الدول عند معالجتها لقضاياها الاقتصادية، فالمشكلة الاقتصادية مرتبطة
بوجود الإنسان على الأرض، وهي من العوامل المؤثرة في المسيرة التاريخية
للإنسان، بل إن أحد أنبياء الله المرسلين وهو النبي شعيب عليه الصلاة والسلام
قامت دعوته لقومه على تأكيد الجانب الاقتصادي وأهمية الإصلاح الاقتصادي
المرتبط بسلامة العقيدة، فقد حكى الله في القرآن الكريم قصة شعيب مع قومه،
وأبرز أهم نقاط إنكاره عليه السلام على قومه المتمثلة في عملية البخس في التبادل
التجاري، وأكل أموال الناس بالباطل من خلال التأثير في عملية التوزيع، التي
تمثل أهم جوانب المشكلة الاقتصادية يقول الله تعالى مخبراً عن واقع قوم شعيب
وسلوكياتهم الاقتصادية المرتبطة بسوء التوزيع: [وإلى مدين أخاهم شعيباْ قال يا
قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير
وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا
تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين] إلى قوله: [قالوا يا شعيب
أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت
الحليم الرشيد، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاْ
حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما
توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب] [1] .
ولعل في الآيات إشارة إلى تأثير عدم العدل في التوزيع وفي التبادل التجاري، وأكل أموال الناس بالباطل، وأن ذلك من أسباب سوء الأوضاع الاقتصادية للفرد
والمجتمع، فقد وصف نبي الله شعيب واقعه باعتباره تاجراً يلتزم بأوامر الله بأن الله
قد رزقه رزقاً حسناً بسبب التزامه بما يأمر به قومه من العدل في التعامل.
تتمثل المشكلة الاقتصادية في جوانب ثلاثة هي:
1- ندرة الموارد الطبيعية وقلتها ومحدوديتها، وبالتالي فإن المشكلة في هذا
الجانب تتمثل في الاختيار بين ما ينتج وما لا ينتج لاختلاف وكثرة حاجات الإنسان، وكيفية تخصيص الموارد المتاحة للاستخدام، أي تحديد الموارد التي يمكن
استخدامها، وأسلوب الإنتاج الذي ينبغي اتباعه وبالتالي فإن المشكلة تمتد لدراسة
نظرية الائتمان لهذه الموارد ونوعية السلع وكمياتها، وأولويات إنتاجها، والبدائل
بينها.
2- الطريقة التي يتم بها توزيع الدخل العام على عناصر الإنتاج المختلفة أي
نمطية ونوعية توزيع عناصر الإنتاج على أفراد المجتمع، وأنصبة عناصر الإنتاج
في ذلك الدخل على أساس الوظيفة التي أداها كل عنصر في تحقيق هذا الدخل،
فهذا الجانب من المشكلة الاقتصادية يتعلق بتحديد مصادر الدخول الفردية وقواعد
اكتسابها وتوزيعها، وكذلك تحديد أنصبة عناصر الإنتاج في الدخل وهي الربح
للأرض والأجر للعمل والعائد على رأس المال والربح للمنظم أي للمضارب بالعمل.
3- الأهمية النسبية لعناصر الإنتاج ودور كل عنصر وأهميته في العملية
الإنتاجية، والأهمية النسبية مرتبطة بالمفهوم الفلسفي الذي يعتنقه المجتمع، فإن
للنظام الاجتماعي بما يحتويه من تنظيمات اقتصادية تأثيراً في تحديد مقدار الإنتاج
ونوعه سواء أكان من حيث مدى اتساع وضيق حرية التملك أو حرية العمل
والاستهلاك، أو تشجيع التقدم الفني والتقني لتحسين وزيادة الإنتاج بقصد الاستفادة
من عناصر الإنتاج الأساسية المتمثلة في الموارد الطبيعية ورأس المال والعمل.
إن هذه الجوانب الثلاثة للمشكلة الاقتصادية هي محور الدراسات الاقتصادية،
كما أن لها دورها في الصراع بين مختلف الشعوب والمجتمعات بجانب أنها من
العوامل المسببة لنشوء الحروب وسقوط الحضارات.
إن وجود المشكلة الاقتصادية هو جزء من سنة الله الكونية، وابتلائه وامتحانه
للبشر حتى يتميز الخبيث من الطيب، والصالح من الفاسد، والمؤمن من الكافر.
إن الإسلام يقر بوجود المشكلة الاقتصادية، ويعتبرها من الظواهر الكونية
ومن السنن الإلهية المصاحبة لوجود الإنسان على الأرض، وجزء من امتحان الله
له حتى يمكن تحديد مصيره في الحياة الآخرة.
إن النقص والندرة في الموارد الطبيعية جزء من إرادة الله الكونية، كما إنها
أحياناً تكون نوعاً من العقاب الإلهي لطغيان الإنسان في الأرض وإفساده فيها.
لقد حدد الله في كتابه العزيز العلة لوجود هذه الظاهرة، أي ظاهرة ندرة
الموارد وقلتها، بأنها تعود إلى طبيعة الإنسان التي خلقه الله عليها، تلك الطبيعة
المتمردة الطاغية التي تستغني عندما تشبع، يقول الله تعالى موضحاً هذه الحقيقة:
[ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء] [2] ،
ويقول تعالى واصفاً طبيعة النفس البشرية عندما تصل إلى الرفاه وتحقق متطلبات
وحاجات الإنسان، بأنها تصبح طاغية مستبدة: [كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه
استغنى] [3] ، كما إن المجتمع الذي يستغني فإنه يمارس ما يمارسه الفرد، وهذه
الحقيقة أوضحها القرآن الكريم في قوله تعالى: [لقد كان لسبأ في مسكنهم آية
جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور،
فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل
وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور] [4] ،
وقوله تعالى: [وضرب الله مثلاْ قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداْ من
كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا
يصنعون] [5] .
إن للندرة في الموارد الطبيعية حكمة تقتضيها، فالنقص في الموارد يوجد
الحافز على عمران الأرض واستمرارية البشر عليها حتى الأجل المحتوم بالعمل
حسب الطاقات والإمكانيات الفعلية والعقلية الموزعة بين البشر، مما يؤدي إلى قيام
عنصر العمل بدوره في الاستفادة من الموارد الطبيعية، ومساهمته في استخراج
الكنوز المودعة في الأرض، ولن يتم ذلك إذا انعدمت وزالت المشكلة الاقتصادية،
لقد حدد القرآن الكريم هذه الحكمة بأنها جزء من سنة الله الكونية وآية من آيات
ربوبيته في قوله تعالى: [ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاْ
سخرياْ] [6] .
يحدد القرآن الكريم المنهج الذي يمكن للإنسان عند اختياره له تحقيق الرخاء
والحصول على رغد العيش وكفايته، فقد تكفل الله بتوفير احتىاجات الإنسان
المرتبطة بمقومات وجوده، حيث تكفل الله بإشباعها، هذا المنهج الذي أوضحه الله
سبباً موجباً لكفاية الاحتياجات، هو إيمان الإنسان بالله قولاً وعملاً وسلوكاً وتشريعاً، إن انحراف المجتمعات الإنسانية يعتبر سبباً في تحقيق النقص في الإنتاج سواء
أكان ذلك بسبب تسليط الله لبعض مخلوقاته بإفساد وتحطيم الإنتاج، أو بنزع بركة
الخير والرزق الذي يبسطه الله لعباده، يقول الله تعالى: [ولو أن أهل القرى آمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا
يكسبون] [7] .
إن معالجة الإسلام للمشكلة الاقتصادية، والأسلوب الذي يأمر باتباعه لتجنب
الوقوع في المشكلة بالشكل الذي يخل بتوازن المجتمع، يقوم على معالجة جميع
جوانب المشكلة الاقتصادية بشكل متكامل بحيث تتكاتف جميع العناصر المؤثرة في
التنظيم الاجتماعي بالعمل في تناسق وتكامل لتحقيق المجتمع الفاضل الذي تسير
الحياة فيه وفق منهج الله الذي أوضحه سبحانه في كتابه على لسان نبيه -صلى الله
عليه وسلم-، فإذا تحقق هذا الأمر باليسر وفق شريعة الله عقيدة وشريعة، فإن
المشكلة الاقتصادية بمختلف جوانبها لا تصبح معوقاً لاستقرار الفرد وتحقيق الغاية
التي من أجلها خلقه الله وأهبطه إلى الأرض، ليعمرها فترة زمنية محددة، حيث
ينتهي به المطاف إلى الحياة الأخرى التي لا نصب فيها ولا تعب، وإنما هي دار
جزاء على ما قدمه خلال الفترة الزمنية التي مكثها على وجه الأرض.
إن دراسة المنهج والأسلوب الذي يعالج به الإسلام حل المشكلة الاقتصادية
يقتضي دراسة جميع جزئيات وكليات النظام الاقتصادي من المنظور الإسلامي، أي
دراسة كاملة وشاملة لمنهجية وأسلوب الإسلام في تنظيم المجتمع من الناحية
الاقتصادية، وبالتالي فليس من مهمة هذه المقالة وما يتبعها من مقالات طرح كامل
لكافة الحلول التي يطرحها الإسلام لعلاج المشكلة الاقتصادية باعطاء تصور كامل
لمنهج الإسلام، فهذا يحتاج إلى دراسات مطولة ومتنوعة لمختلف فروع الاقتصاد،
ولكن سوف نحاول في هذه المقالة وما بعدها من مقالات ترتبط بالمشكلة الاقتصادية
إعطاء القارىء تصوراً عاماً للحلول التي يأمر بها الإسلام لحل المشكلة الاقتصادية
بجوانبها الثلاثة التي أشرت إليها في بداية هذه المقالة، وتأصيل فكرة أن الإسلام لا
يقتصر على معالجة العلاقة بالله تعالى فقط، وإنما يعالج مشاكل البشر المادية بما
يتفق مع الطبيعة البشرية والسنن الكونية التي اقتضتها حكمته من خلق الإنسان على
هذه الأرض.
إن الندرة في الموارد الطبيعية مرتبط بحكمة خلق الإنسان، حيث إن الأرض
التي خلقها الله للإنسان ليسكن فيها لم تخلق لتكون مكان راحة وسعادة ونعيم، وقد
أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى عندما أهبط أبا البشر آدم عليه السلام: [وقلنا
اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين] [8] ، فلم
يفض الله أنعمه على الأرض كما أفاضها في الجنة بل جعل متاعها قليل وجعل
مواردها محدودة، ولكن الله الذي خلق الأرض وخلق البشر عليها، قد أوجد فيها
من الخيرات والموارد التي تكفي حاجة الناس إذا قاموا على الطريق السوي وامتثلوا
لأمر الله، ولكن إذا انحرفوا فإن قانون الندرة يؤدي إلى استفحال المشكلة
الاقتصادية وإصابة الناس بالألم والعذاب والشقاء والفقر والجوع والخوف..
إن منهج الإسلام في معالجة الندرة في الموارد الطبيعية يتمثل في توجيه
المجتمع إلى استغلال جميع الموارد الطبيعية، وبذل الجهد في سبيل الحصول عليها
والاستفادة منها، فاستغلال هذه الموارد يحتاج إلى بذل الجهد، فمن أراد أن يستفيد
مما أوجده الله على الأرض أو في السماء، فإن عليه بذل الجهد فالموارد الطبيعية
التي هي أحد المصادر المسببة للمشكلة الاقتصادية، سواء أكان ذلك من ناحية
القصور في استغلالها، أو من ناحية الأسلوب والتقنية المتبعة من قبل الإنسان عند
استغلاله لهذه الموارد، لهذا فإن معالجة واقع الندرة للمواد الطبيعية يأتي من كيفية
استغلال هذه الموارد وبذل الجهد لاكتشافها، فالأرض هي مصدر أساس من مصادر
الرزق، وهي تكتنز في باطنها المواد الأولية لإنتاج المنتجات التي يحتاج إليها
الإنسان في حياته، كما إنها تحتفظ على ظهرها بمصادر الإنماء من تربة وماء
فيتحقق باجتماعهما انتاج حاجة الإنسان من الغذاء ولهذا فإن معالجة الإسلام لجانب
قلة الموارد وندرتها يأتي من خلال استغلال الأرض وتوجيه انتباه الإنسان إلى
الأرض، وضرورة استغلالها باستصلاح الأرض والعمل على استغلالها وخلق
الحافز للإنسان لتحقيق ذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من
أعمر أرضاً ليست لأحد فهو حق) [9] ، فيتضح من هذا الحديث جانب من جوانب
معالجة الإسلام لكيفية التعامل مع الندرة، وذلك بالحث على استغلال الأرض
واستثمارها من خلال تشجيع الإنسان على استغلال الأرض من خلال الاستفادة من
غريزة التملك لدى الإنسان بحثّ الأفراد القادرين على استغلال الأرض المعطلة،
وبالتالي فإن الإسلام يحرص على دفع عوامل الإنتاج في التفاعل من أجل تخفيف
آثار الندرة في الموارد في استفحال المشكلة الاقتصادية فعدم استغلال الأرض يؤدي
إلى تعطيل مصدرين من مصادر الإنتاج وهما الأرض والعمل، ولهذا فقد وجه
الإسلام الاهتمام إلى هذا الجانب من جوانب معالجة الندرة بتوفير المناخ المساعد
على استغلال المتاح من الموارد الطبيعية فأوجد السياج النظامي لحماية الفئة النشطة
من بني الإنسان، بتوفير الحافز على استغلال الأرض من خلال إعطاء حق التملك
لمن يستثمر الأرض، وحماية هذا التملك بإهدار أحقية أي مغتصب فعبارة: وليس
لعرق ظالم حق التي وردت في بعض الروايات يقصد منها أنه لا يحق لرجل يأتي
إلى أرض قد أحياها رجل قبله فيغرس فيها غرساً غصباً ليستوجب بهذا الغرس
تملك الأرض، فقد أهدر حقه ومنعه من ذلك الحق، وتقع حماية التملك على ولي
الأمر المسلم الذي يتولى رئاسة الدولة الإسلامية.
إن مشكلة الدول المتخلفة هي في عجزها عن استغلال مصادر الطبيعة المتاحة
للإنسان، إما بسبب التشريعات الظالمة التي تعيق الحافز على العمل والتاريخ
المعاصر يقدم الدليل على أن التشريعات الظالمة، وتبني الأفكار المنحرفة أدى إلي
انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي الذي قام تنظيمه الاقتصادي على
تقليص دور الفرد في استغلال الموارد الطبيعية بكبح غريزة حب التملك، وبالتالي
إبعاد الحافز عن العمل بمنعه من أداء دوره في التأثير بعدم الاستفادة القصوى من
الموارد الطبيعية.
لقد وجه الإسلام الانتباه إلى أن الموارد الطبيعية لا تقتصر على ما يظهر على
وجه الأرض، وأن الندرة قد تكون بسبب عدم بذل الجهد الفكري والعضلي، وأن
الندرة يمكن حلها إذا بذل الإنسان الجهد، وعمد إلى البحث عن مصادر الرزق بعدم
الركون إلى المصادر الظاهرة، لقد روى أبو يعلى في مسنده حديث عائشة رضي
الله عنها أنها قالت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اطلبوا الرزق في
خبايا الأرض) [10] ، ففي هذا الحديث إظهار لحقيقة أن الأرض تخبىء كثيراً من
الخيرات، وأن الله الذي خلق الإنسان قد تكفل بأن يوفر له احتىاجاته ولكن بشرط
أن يعمل على البحث والتنقيب، فالحديث فيه إشارة صريحة على أن الرزق مخبؤ
في باطن الأرض، لكنه يحتاج إلى طلب.
إن من سنن الله الكونية أن الله قد أوجب على الإنسان السعي في الأرض
وبذل الجهد والتعب، أما التمتع بدون تعب فهو في الحياة الأخرى، وهذا من
الأسرار التي جعلها الله في قلة الموارد، ولكن ليس الانعدام الكلي وعدم إمكانية
توفير الاحتىاجات، فالندرة حسب المفهوم الإسلامي نسبية وليست مطلقة، أي أن
الندرة تحدث إذا عطل الإنسان ملكاته وقدراته ولم يعمل على استغلال طاقاته
الذهنية.
إن من واجب الإنسان أن يمارس عملية التفكير والاختراع، فما يصنعه
الإنسان أو يكتشفه هو من صنع الله، لهذا ينبغي فهم قول الله تعالى على حقيقته
[والله خلقكم وما تعملون] [11] ، فإن ما يتوصل إليه الإنسان من مخترعات، وما يلهمه الله من معرفة للأسرار الكونية، إنما أذن الله بها في هذا العصر مع كثرة الناس، ولم يأذن بها فيما سبق من تاريخ البشرية ليؤكد حقيقة ثابتة لا جدال حولها أن الله قد تكفل بتوفير احتياجات الإنسان وأن الموارد المتاحة كفيلة بتوفير احتىاجات الإنسان بشرط أن يسعى وفق سنن الله وضمن نطاق العبودية له تعالى، ولهذا فإن الانحراف عن هذا المنهج سيكون سبباً في ندرة الموارد حيث يصبح ذلك أداة لإنزال عقاب الله تعالى على ظلم الإنسان.
__________
(1) سورة هود: 84، 85، 87، 88.
(2) سورة الشورى: 27.
(3) سورة العلق، الآيتان 6، 7.
(4) سورة سبأ، الآيات 15-17.
(5) سورة النحل، آية 112.
(6) سورة الزخرف، آية 32.
(7) سورة الأعراف، آية 96.
(8) سورة البقرة، آية 36.
(9) البخاري، كتاب الحرث والزراعة، حديث رقم 2335.
(10) ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد أن ابن حبان ضعفه لأن فيه هشام بن عكرمة، وإن كان المعنى يمكن أن يؤخذ من عموم نصوص أخرى.
(11) سورة الصافات، آية 96.(77/41)